الكتاب : المغني
المؤلف : أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد ، الشهير بابن قدامة المقدسي

( 6697 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَالْأُنْثَيَانِ بِالْأُنْثَيَيْنِ ) وَيَجْرِي الْقِصَاصُ فِي الْأُنْثَيَيْنِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ النَّصِّ وَالْمَعْنَى .
وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا ، فَإِنْ قَطَعَ إحْدَاهُمَا ، وَقَالَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ ، إنَّهُ مُمْكِنٌ أَخْذُهَا مَعَ سَلَامَةِ الْأُخْرَى جَازَ .
فَإِنْ قَالُوا : لَا يُؤْمَنُ تَلَفُ الْأُخْرَى .
لَمْ تُؤْخَذْ خَشْيَةَ الْحَيْفِ ، وَيَكُونُ فِيهَا نِصْفُ الدِّيَةِ .
وَإِنْ أُمِنَ تَلَفُ الْأُخْرَى ، أُخِذَتْ الْيُمْنَى بِالْيُمْنَى ، وَالْيُسْرَى بِالْيُسْرَى ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي غَيْرِهِمَا .

( 6698 ) فَصْلٌ : وَفِي الْقِصَاصِ فِي شَفْرَيْ الْمَرْأَةِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا : لَا قِصَاصَ فِيهِمَا ؛ لِأَنَّهُ لَحْمٌ لَا مَفْصِلَ لَهُ يَنْتَهِي إلَيْهِ ، فَلَمْ يَجِبْ فِيهِ قِصَاصٌ ، كَلَحْمِ الْفَخِذَيْنِ .
هَذَا قَوْلُ الْقَاضِي .
وَالثَّانِي : فِيهِمَا الْقِصَاصُ ؛ لِأَنَّ انْتِهَاءَهُمَا مَعْرُوفٌ ، فَأَشْبَهَا الشَّفَتَيْنِ وَجَفْنَيْ الْعَيْنِ .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الْخَطَّابِ .
وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ ، كَهَذَيْنِ .

( 6699 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَطَعَ ذَكَرَ خُنْثَى مُشْكِلٍ ، أَوْ أُنْثَيَيْهِ ، أَوْ شَفْرَيْهِ ، فَاخْتَارَ الْقِصَاصَ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ قِصَاصٌ فِي الْحَالِ ، وَيَقِفُ الْأَمْرُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ حَالُهُ ؛ لِأَنَّنَا لَا نَعْلَمُ أَنَّ الْمَقْطُوعَ عُضْوٌ أَصْلِيٌّ .
وَإِنْ اخْتَارَ الدِّيَةَ ، وَكَانَ يُرْجَى انْكِشَافُ حَالِهِ ، أَعْطَيْنَاهُ الْيَقِينَ ، فَيَكُونُ لَهُ حُكُومَةٌ فِي الْمَقْطُوعِ .
وَإِنْ كَانَ قَدْ قَطَعَ جَمِيعَهَا ، فَلَهُ دِيَةُ امْرَأَةٍ فِي الشَّفْرَيْنِ ، وَحُكُومَةٌ فِي الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ .
وَإِنْ يَئِسَ مِنْ انْكِشَافِ حَالِهِ ، أُعْطِيَ نِصْفَ دِيَةِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ ، وَنِصْفَ دِيَةِ الشَّفْرَيْنِ ، وَحُكُومَةً فِي نِصْفِ ذَلِكَ كُلِّهِ .

( 6700 ) فَصْلٌ : يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْأَلْيَتَيْنِ النَّاتِئَتَيْنِ بَيْنَ الْفَخِذَيْنِ وَالظَّهْرِ بِجَانِبَيْ الدُّبُرِ .
وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ الْمُزَنِيّ : لَا قِصَاصَ فِيهِمَا ؛ لِأَنَّهُمَا لَحْمٌ مُتَّصِلٌ بِلَحْمِ ، فَأَشْبَهَ لَحْمَ الْفَخِذِ .
وَلَنَا ، قَوْله تَعَالَى : { وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ } .
وَلِأَنَّ لَهُمَا حَدًّا يَنْتَهِيَانِ إلَيْهِ ، فَجَرَى الْقِصَاصُ فِيهِمَا ، كَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ .

( 6701 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَتُقْلَعُ الْعَيْنُ بِالْعَيْنِ ) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى الْقِصَاصِ فِي الْعَيْنِ ، وَمِمَّنْ بَلَغَنَا قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ مَسْرُوقٌ ، وَالْحَسَنُ ، وَابْنُ سِيرِينَ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ } .
وَلِأَنَّهَا تَنْتَهِي إلَى مَفْصِلٍ ، فَجَرَى الْقِصَاصُ فِيهَا كَالْيَدِ .
وَتُؤْخَذُ عَيْنُ الشَّابِّ بِعَيْنِ الشَّيْخِ الْمَرِيضَةِ ، وَعَيْنُ الْكَبِيرِ بِعَيْنِ الصَّغِيرِ وَالْأَعْمَشِ ، وَلَا تُؤْخَذُ صَحِيحَةٌ بِقَائِمَةٍ ؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ .

( 6702 ) فَصْلٌ : فَإِنْ قَلَعَ عَيْنَهُ بِإِصْبَعِهِ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْتَصَّ بِإِصْبَعِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْمُمَاثَلَةُ فِيهِ .
وَإِنْ لَطَمَهُ فَذَهَبَ ضَوْءُ عَيْنِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهُ بِاللَّطْمَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ فِيهَا غَيْرُ مُمْكِنَةٍ ؛ وَلِهَذَا لَوْ انْفَرَدَتْ مِنْ إذْهَابِ الضَّوْءِ ، لَمْ يَجِبْ فِيهَا قِصَاصٌ ، وَيَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْبَصَرِ ، فَيُعَالَجُ بِمَا يَذْهَبُ بِبَصَرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْلَعَ عَيْنَهُ ، كَمَا رَوَى يَحْيَى بْنُ جَعْدَةَ ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَدِمَ بِحَلُوبَةٍ لَهُ إلَى الْمَدِينَةِ ، فَسَاوَمَهُ فِيهَا مَوْلًى لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَنَازَعَهُ ، فَلَطَمَهُ ، فَفَقَأَ عَيْنَهُ ، فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ : هَلْ لَك أَنْ أُضَعِّفَ لَك الدِّيَةَ ، وَتَعْفُوَ عَنْهُ ؟ فَأَبَى ، فَرَفَعَهُمَا إلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَدَعَا عَلِيٌّ بِمِرْآةِ فَأَحْمَاهَا ، ثُمَّ وَضَعَ الْقُطْنَ عَلَى عَيْنِهِ الْأُخْرَى ، ثُمَّ أَخَذَ الْمِرْآةَ بِكَلْبَتَيْنِ ، فَأَدْنَاهَا مِنْ عَيْنِهِ حَتَّى سَالَ إنْسَانُ عَيْنِهِ .
وَإِنْ وَضَعَ فِيهَا كَافُورًا يَذْهَبُ بِضَوْئِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجْنِيَ عَلَى الْحَدَقَةِ ، جَازَ .
وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ إلَّا بِالْجِنَايَةِ عَلَى الْعُضْوِ ، سَقَطَ الْقِصَاصُ ؛ لِتَعَذُّرِ الْمُمَاثَلَةِ .
وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ يَقْتَصُّ مِنْهُ بِاللَّطْمَةِ ، فَيَلْطِمُهُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مِثْلَ لَطْمَتِهِ ، فَإِنْ ذَهَبَ ضَوْءُ عَيْنِهِ ، وَإِلَّا كَانَ لَهُ أَنْ يُذْهِبَهُ بِمَا ذَكَرْنَا .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَهَذَا لَا يَصِحُّ ؛ فَإِنَّ اللَّطْمَةَ لَا يُقْتَصُّ مِنْهَا مُنْفَرِدَةً ، فَلَا يُقْتَصُّ مِنْهَا إذَا سَرَتْ إلَى الْعَيْنِ ، كَالشَّجَّةِ إنْ كَانَتْ دُونَ الْمُوضِحَةِ ، وَلِأَنَّ اللَّطْمَةَ إذَا لَمْ تَكُنْ فِي الْعَيْنِ ، لَا يُقْتَصُّ مِنْهَا بِمِثْلِهَا مَعَ الْأَمْنِ مِنْ إفْسَادِ الْعُضْوِ ، فِي الْعَيْنِ فَمَعَ خَوْفِ ذَلِكَ أَوْلَى ؛ وَلِأَنَّهُ قِصَاصٌ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ ، فَلَمْ يَجُزْ بِغَيْرِ الْآلَةِ الْمُعَدَّةِ كَالْمُوضِحَةِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ ، إلَّا

أَنْ تَكُونَ اللَّطْمَةُ تَذْهَبُ بِذَلِكَ غَالِبًا ، فَإِنْ كَانَتْ لَا تَذْهَبُ بِهِ غَالِبًا فَذَهَبَ ، فَهُوَ شِبْهُ عَمْدٍ لَا قِصَاصَ فِيهِ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ فِعْلٌ لَا يُفْضِي إلَى الْفَوَاتِ غَالِبًا ، فَلَمْ يَجِبْ بِهِ الْقِصَاصُ ، كَشِبْهِ الْعَمْدِ فِي النَّفْسِ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : يَجِبُ الْقِصَاصُ بِكُلِّ حَالٍ ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ : { وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ } .
وَلِأَنَّ اللَّطْمَةَ إذَا أَسَالَتْ إنْسَانَ الْعَيْنِ ، كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الْجُرْحِ ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِي الْجُرْحِ الْإِفْضَاءُ إلَى التَّلَفِ غَالِبًا .

( 6703 ) فَصْلٌ : فَلَوْ لَطَمَ عَيْنَهُ ، فَذَهَبَ بَصَرُهَا ، وَابْيَضَّتْ ، وَشَخَصَتْ ، فَإِنْ أَمْكَنَ مُعَالَجَةُ عَيْنِ الْجَانِي حَتَّى يَذْهَبَ بَصَرُهَا وَتَبْيَضَّ وَتَشْخَصَ ، مِنْ غَيْرِ جِنَايَةٍ عَلَى الْحَدَقَةِ ، فَعَلَ ذَلِكَ ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ إلَّا ذَهَابُ بَعْضِ ذَلِكَ ، مِثْلَ أَنْ يَذْهَبَ الْبَصَرُ دُونَ أَنْ تَبْيَضَّ وَتَشْخَصَ ، فَعَلَيْهِ حُكُومَةٌ لِلَّذِي لَمْ يُمْكِنْ الْقِصَاصُ فِيهِ ، كَمَا لَوْ جَرَحَ هَاشِمَةً ، فَإِنَّهُ يَقْتَصُّ مُوضِحَةً ، وَيَأْخُذُ أَرْشَ بَاقِي جُرْحِهِ .
وَعَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ ، لَا يُسْتَحَقُّ مَعَ الْقِصَاصِ أَرْشٌ .
وَقَالَ الْقَاضِي : إذَا اقْتَصَّ مِنْهُ يَعْنِي لَطَمَهُ مِثْلَ لَطْمَتِهِ فَذَهَبَ ضَوْءُ عَيْنِهِ ، وَلَمْ تَبْيَضَّ ، وَلَمْ تَشْخَصْ ، فَإِنْ أَمْكَنَ مُعَالَجَتُهَا حَتَّى تَبْيَضَّ وَتَشْخَصَ ، مِنْ غَيْرِ ذَهَابِ الْحَدَقَةِ ، فَعَلَهُ ، وَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، كَمَا لَوْ انْدَمَلَتْ مُوضِحَةُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَحْشَةً قَبِيحَةً ، وَمُوضِحَةُ الْجَانِي حَسَنَةً جَمِيلَةً ، لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ ، كَذَلِكَ هَاهُنَا ، وَهَذَا بَنَاهُ عَلَى أَنَّ اللَّطْمَةَ حَصَلَ بِهَا الْقِصَاصُ ، كَمَا حَصَلَ بِجُرْحِ الْمُوضِحَةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ هَذَا .

( 6704 ) فَصْلٌ : وَإِنْ شَجَّهُ شَجَّة دُون الْمُوضِحَةِ ، فَأَذْهَبَ ضَوْءَ عَيْنِهِ ، لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ مِثْلَ شَجَّتِهِ ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ ؛ لِأَنَّهَا لَا قِصَاصَ فِيهَا إذَا لَمْ يَذْهَبْ ضَوْءُ الْعَيْنِ ، فَكَذَلِكَ إذَا ذَهَبَ ، وَيُعَالَجُ ضَوْءُ الْعَيْنِ بِمِثْلِ مَا ذَكَرْنَا فِي اللَّطْمَةِ .
وَإِنْ كَانَتْ الشَّجَّةُ فَوْقَ الْمُوضِحَةِ ، فَلَهُ أَنْ يَقْتَصَّ مُوضِحَةً .
وَهَلْ لَهُ أَرْشُ الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا ؟ فِيهِ وَجْهَانِ .
وَإِنْ ذَهَبَ ضَوْءُ الْعَيْنِ ، وَإِلَّا اسْتَعْمَلَ فِيهِ مَا يُزِيلُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجْنِيَ عَلَى الْحَدَقَةِ .
وَإِنْ شَجَّهُ مُوضِحَةً ، فَلَهُ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهَا .
وَحُكْمُ الْقِصَاصِ فِي الْبَصَرِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ .
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقِصَاصِ فِي الْبَصَرِ ، فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ كُلِّهَا ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا قِصَاصَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ بِالسِّرَايَةِ ، كَمَا لَوْ قَطَعَ إصْبَعَهُ ، فَسَرَى الْقَطْعُ إلَى الَّتِي تَلِيهَا ، فَأَذْهَبَهَا عِنْدهمْ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَجِبُ الْقِصَاصُ هَاهُنَا ، قَوْلًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّ ضَوْءَ الْعَيْنِ لَا تُمْكِنُ مُبَاشَرَتُهُ بِالْجِنَايَةِ ، فَيَقْتَصُّ مِنْهُ بِالسِّرَايَةِ ، كَالنَّفْسِ ، فَيَقْتَصُّ مِنْ الْبَصَرِ كَمَا ذَكَرْنَا فِيمَا قَبْلَ هَذَا .

( 6705 ) فَصْلٌ : إذَا قَلَعَ الْأَعْوَرُ عَيْنَ صَحِيحٍ ، فَلَا قَوَدَ ، وَعَلَيْهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ ، وَعُثْمَانَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا .
وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَعَطَاءٌ .
وَقَالَ الْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ : إنْ شَاءَ اقْتَصَّ وَأَعْطَاهُ نِصْفَ دِيَةٍ .
وَقَالَ مَالِكٌ : إنْ شَاءَ اقْتَصَّ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ دِيَةً كَامِلَةً .
وَقَالَ مَسْرُوقٌ وَالشَّعْبِيُّ ، وَابْنُ سِيرِينَ ، وَابْنُ مُغَفَّلٍ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ : لَهُ الْقِصَاصُ ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ .
وَإِنْ عَفَا ، فَلَهُ نِصْفُ الدِّيَةِ ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ } .
وَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةَ .
وَلِأَنَّهَا إحْدَى شَيْئَيْنِ فِيهِمَا الدِّيَةُ ، فَوَجَبَ الْقِصَاصُ مِمَّنْ لَهُ وَاحِدَةٌ ، أَوْ نِصْفُ الدِّيَةِ ، كَمَا لَوْ قَطَعَ الْأَقْطَعُ يَدَ مَنْ لَهُ يَدَانِ .
وَلَنَا ، قَوْلُ عُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُمَا مُخَالِفًا فِي عَصْرِهِمَا ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ بِجَمِيعِ بَصَرِهِ ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ الِاقْتِصَاصُ مِنْهُ بِجَمِيعِ بَصَرِهِ ، كَمَا لَوْ كَانَ ذَا عَيْنَيْنِ .
وَأَمَّا إذَا قَطَعَ يَدَ الْأَقْطَعِ ، فَلَنَا فِيهِ مَنْعٌ ، وَمَعَ التَّسْلِيمِ ، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ يَدَ الْأَقْطَعِ لَا تَقُومُ مَقَامَ الْيَدَيْنِ فِي النَّفْعِ الْحَاصِلِ بِهِمَا ، بِخِلَافِ عَيْنِ الْأَعْوَرِ ، فَإِنَّ النَّفْعَ الْحَاصِلَ بِالْعَيْنَيْنِ حَاصِلٌ بِهَا ، وَكُلُّ حُكْمٍ يَتَعَلَّقُ بِصَحِيحِ الْعَيْنَيْنِ ، يَثْبُتُ فِي الْأَعْوَرِ مِثْلُهُ ؛ وَلِهَذَا صَحَّ عِتْقُهُ فِي الْكَفَّارَةِ دُونَ الْأَقْطَعِ .
فَأَمَّا وُجُوبُ الدِّيَةِ كَامِلَةً عَلَيْهِ ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، فَلِأَنَّهُ لَمَّا دُفِعَ عَنْهُ الْقِصَاصُ مَعَ إمْكَانِهِ لِفَضِيلَتِهِ ، ضُوعِفَتْ الدِّيَةُ عَلَيْهِ ، كَالْمُسْلِمِ إذَا قَتَلَ ذِمِّيًّا عَمْدًا .
وَلَوْ قَلَعَ الْأَعْوَرُ إحْدَى عَيْنَيْ الصَّحِيحِ خَطَأً ، لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا نِصْفُ الدِّيَةِ ، بِغَيْرِ اخْتِلَافٍ ؛ لِعَدَمِ

الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي لِتَضْعِيفِ الدِّيَةِ .

( 6706 ) فَصْلٌ : وَلَوْ قَلَعَ الْأَعْوَرُ عَيْنَ مِثْلِهِ ، فَفِيهِ الْقِصَاصُ ، بِغَيْرِ خِلَافٍ ؛ لِتَسَاوِيهِمَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، إذَا كَانَتْ الْعَيْنُ مِثْلَ الْعَيْنِ ، فِي كَوْنِهَا يَمِينًا أَوْ يَسَارًا .
وَإِنْ عَفَا إلَى الدِّيَةِ ، فَلَهُ جَمِيعُهَا ، وَكَذَلِكَ إنْ قَلَعَهَا خَطَأً ، أَوْ عَفَا بَعْضُ مُسْتَحِقِّي الْقِصَاصِ ؛ لِأَنَّهُ ذَهَبَ بِجَمِيعِ بَصَرِهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَلَعَ عَيْنَيْ صَحِيحٍ .

( 6707 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَلَعَ الْأَعْوَرُ عَيْنَيْ صَحِيحٍ ، فَقَالَ الْقَاضِي : هُوَ مُخَيَّرٌ ، إنْ شَاءَ اقْتَصَّ وَلَا شَيْءَ لَهُ سِوَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَخَذَ جَمِيعَ بَصَرِهِ ، فَإِنْ اخْتَارَ الدِّيَةَ ، فَلَهُ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ } .
وَلِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَذَّرْ الْقِصَاصُ ، فَلَمْ تَتَضَاعَفْ الدِّيَةُ ، كَمَا لَوْ قَطَعَ الْأَشَلُّ يَدَ صَحِيحٍ ، أَوْ كَانَ رَأْسُ الشَّاجِّ أَصْغَرَ ، أَوْ يَدُ الْقَاطِعِ أَنْقَصَ .
وَقَالَ الْقَاضِي : يَقْتَضِي الْفِقْهُ أَنْ يَلْزَمَهُ دِيَتَانِ ، إحْدَاهُمَا لِلْعَيْنِ الَّتِي تُقَابِلُ عَيْنَهُ ، وَالدِّيَةُ الثَّانِيَة لِأَجْلِ الْعَيْنِ النَّاتِئَةِ ؛ لِأَنَّهَا عَيْنُ أَعْوَرَ .
وَالصَّحِيحُ مَا قُلْنَا ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَأَشَدُّ مُوَافَقَةً لِلنُّصُوصِ ، وَأَصَحُّ فِي الْمَعْنَى .

( 6708 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَلَعَ صَحِيحُ الْعَيْنَيْنِ عَيْنَ أَعْوَرَ ، فَلَهُ الْقِصَاصُ مِنْ مِثْلِهَا ، وَيَأْخُذُ نِصْفَ الدِّيَةِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ؛ لِأَنَّهُ ذَهَبَ بِجَمِيعِ بَصَرِهِ ، وَأَذْهَبَ الضَّوْءَ الَّذِي بَدَلُهُ دِيَةٌ كَامِلَةٌ ، وَقَدْ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ جَمِيعِ الضَّوْءِ ، إذْ لَا يُمْكِنُ أَخْذُ عَيْنَيْنِ بِعَيْنٍ وَاحِدَةٍ ، وَلَا أَخْذُ يَمِينٍ بِيُسْرَى ، فَوَجَبَ الرُّجُوعُ بِبَدَلِ نِصْفِ الضَّوْءِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إلَّا الْقِصَاصُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ ، أَوْ الْعَفْوُ عَلَى الدِّيَةِ ، كَمَا لَوْ قَطَعَ الْأَشَلُّ يَدًا صَحِيحَةً ، وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ هَاهُنَا غَيْرُ مُتَمَيِّزَةٍ ، فَلَمْ يَكُنْ لَهَا بَدَلٌ ، كَزِيَادَةِ الصَّحِيحَةِ عَلَى الشَّلَّاءِ ، هَذَا مَعَ عُمُومِ قَوْله تَعَالَى : { وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ } .

فَصْلٌ : وَإِنْ قَطَعَ الْأَقْطَعُ يَدَ مَنْ لَهُ يَدَانِ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ ، وَإِنْ قُطِعَتْ رِجْلُ الْأَقْطَعِ أَوْ يَدُهُ ، فَلَهُ الْقِصَاصُ أَوْ نِصْفُ الدِّيَةِ ، لِأَنَّ يَدَ الْأَقْطَعِ لَا تَقُومُ مَقَامَ يَدَيْهِ فِي الِانْتِفَاعِ وَالْبَطْشِ ، وَلَا يُجْزِئُ فِي الْعِتْقِ عَنْ الْكَفَّارَةِ ، بِخِلَافِ عَيْنِ الْأَعْوَرِ ، فَإِنَّهَا تَقُومُ مَقَامَ عَيْنَيْهِ جَمِيعًا وَقَالَ الْقَاضِي : إنْ كَانَتْ الْمَقْطُوعَةُ أَوَّلًا قُطِعَتْ ظُلْمًا أَوْ قِصَاصًا ، فَفِي الْبَاقِيَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ ، رِوَايَةً وَاحِدَةً ، وَإِنْ كَانَتْ الْأُولَى قُطِعَتْ فِي سَبِيلِ اللَّه فَفِي الثَّانِيَةِ رِوَايَتَانِ ، إحْدَاهُمَا : نِصْفُ الدِّيَةِ ، وَالثَّانِيَةُ دِيَةٌ كَامِلَةٌ ، لِأَنَّهُ عَطَّلَ مَنَافِعَهُ مِنْ الْعُضْوَيْنِ جُمْلَةً ، وَأَمَّا إنْ قَطَعَ الْأَقْطَعُ يَدَ مَنْ لَيْسَ بِأَقْطَعَ ، فَإِنْ قُلْنَا : إنَّ فِي يَدِ الْأَقْطَعِ دِيَةً كَامِلَةً فَلَا قِصَاصَ ، وَإِنْ قُلْنَا : لَا تَكْمُلُ فِيهَا الدِّيَةُ فَالْقِصَاصُ وَاجِبٌ فِيهَا ، وَاللَّائِقُ بِالْفِقْهِ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا ، وَالتَّعْلِيلُ بِتَفْوِيتِ مَنْفَعَةِ الْعُضْوَيْنِ يَنْتَقِضُ بِمَا إذَا قُطِعَتْ الْأُولَى قِصَاصًا ، وَالْقِيَاسُ عَلَى عَيْنِ الْأَعْوَرِ غَيْرُ صَحِيحٍ ، لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْفَرْقِ ، فَأَمَّا إنْ قُطِعَتْ أُذُنُ مَنْ قُطِعَتْ إحْدَى أُذُنَيْهِ ، فَلَيْسَ لَهُ إلَّا نِصْفُ الدِّيَةِ ، رِوَايَةً وَاحِدَةً ، وَإِنْ قَطَعَ هُوَ أُذُنَ ذِي أُذُنَيْنِ ، وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ ، بِغَيْرِ خِلَافٍ عَلِمْنَاهُ ، لَا فِي الْمَذْهَبِ وَلَا فِي غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ نَفْعَ كُلِّ أُذُنٍ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْأُخْرَى .

( 6710 ) فَصْلٌ : وَيُؤْخَذُ الْجَفْنُ بِالْجَفْنِ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ } وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ الْقِصَاصُ فِيهِ ، لِانْتِهَائِهِ إلَى مَفْصِلٍ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَيُؤْخَذُ جَفْنُ الْبَصِيرِ بِجَفْنِ الْبَصِيرِ وَالضَّرِيرِ ، وَجَفْنُ الضَّرِيرِ ، بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، لِأَنَّهُمَا تَسَاوَيَا فِي السَّلَامَةِ مِنْ النَّقْصِ ، وَعَدَمُ الْبَصَرِ نَقْصٌ فِي غَيْرِهِ ، لَا يَمْنَعُ أَخْذَ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ كَالْأُذُنِ إذَا عَدِمَ السَّمْعَ مِنْهَا .

( 6711 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ ) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى الْقِصَاصِ فِي السِّنِّ لِلْآيَةِ وَحَدِيثِ الرُّبَيِّعِ ، وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ فِيهَا مُمْكِنٌ ، لِأَنَّهَا مَحْدُودَةٌ فِي نَفْسِهَا ، فَوَجَبَ فِيهَا الْقِصَاصُ كَالْعَيْنِ .
، وَتُؤْخَذُ الصَّحِيحَةُ بِالصَّحِيحَةِ ، وَتُؤْخَذُ الْمَكْسُورَةُ بِالصَّحِيحَةِ ، لِأَنَّهُ يَأْخُذُ بَعْضَ حَقِّهِ ، وَهَلْ يَأْخُذُ مَعَ الْقِصَاصِ أَرْشَ الْبَاقِي ؟ فِيهِ وَجْهَانِ ، ذَكَرْنَاهُمَا فِيمَا مَضَى .

( 6712 ) فَصْلٌ : وَلَا يُقْتَصُّ إلَّا مِنْ سِنِّ مَنْ أَثْغَرَ ، أَيْ سَقَطَتْ رَوَاضِعُهُ ، ثُمَّ نَبَتَتْ ، يُقَالُ لِمَنْ سَقَطَتْ رَوَاضِعُهُ : ثَغْرٌ ، فَهُوَ مَثْغُورٌ ، فَإِذَا نَبَتَتْ قِيلَ : أَثْغَرَ وَأُثْغَرَ .
لُغَتَانِ ، وَإِنْ قُلِعَ سِنُّ مَنْ لَمْ يُثْغِرْ ، لَمْ يُقْتَصَّ مِنْ الْجَانِي فِي الْحَالِ ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ ، لِأَنَّهَا تَعُودُ بِحُكْمِ الْعَادَةِ ، فَلَا يُقْتَصُّ مِنْهَا كَالشَّعْرِ ، ثُمَّ إنَّ عَادَ بَدَلُ السِّنِّ فِي مَحَلِّهَا مِثْلُهَا عَلَى صِفَتِهَا ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الْجَانِي ، كَمَا لَوْ قَلَعَ شَعْرَةً ثُمَّ نَبَتَتْ ، وَإِنْ عَادَتْ مَائِلَةً عَنْ مَحَلِّهَا ، أَوْ مُتَغَيِّرَةً عَنْ صِفَتِهَا ، كَانَ عَلَيْهِ حُكُومَةٌ ، لِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تَعُدْ ضَمِنَ السِّنَّ ، فَإِذَا عَادَتْ نَاقِصَةً ضَمِنَ مَا نَقَصَ .
مِنْهَا بِالْحِسَابِ ، فَفِي ثُلُثِهَا ثُلُثُ دِيَتِهَا ، وَفِي رُبْعِهَا رُبْعُهَا وَعَلَى هَذَا ، وَإِنْ عَادَتْ وَالدَّمُ يَسِيلُ ، فَفِيهَا حُكُومَةٌ ، لِأَنَّهُ نَقْصٌ حَصَلَ بِفِعْلِهِ ، وَإِنْ مَضَى زَمَنُ عَوْدِهَا وَلَمْ تَعُدْ ، سُئِلَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالطِّبِّ ، فَإِنْ قَالُوا : قَدْ يَئِسَ مِنْ عَوْدِهَا .
فَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْقِصَاصِ أَوْ دِيَةِ السِّنِّ ، فَإِنْ مَاتَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ قَبْلَ الْإِيَاسِ مِنْ عَوْدِهَا ، فَلَا قِصَاصَ ، لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ لَهُ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي دَرْئِهِ ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ ، لِأَنَّ الْقَلْعَ مَوْجُودٌ ، وَالْعَوْدَ مَشْكُوكٌ فِيهِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ إذَا مَاتَ قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتِ عَوْدِهَا ، أَنْ لَا يَجِبَ شَيْءٌ ، لِأَنَّ الْعَادَةَ عَوْدُهَا ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ حَلَقَ شَعْرَهُ فَمَاتَ قَبْلَ نَبَاتِهِ ، فَأَمَّا إنْ قَلَعَ سِنَّ مَنْ قَدْ أَثْغَرَ ، وَجَبَ الْقِصَاصُ لَهُ فِي الْحَالِ ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ عَدَمُ عَوْدِهَا ، وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ، وَقَالَ الْقَاضِي : يُسْأَلُ أَهْلُ الْخِبْرَةِ ، فَإِنْ قَالُوا : لَا تَعُودُ ، فَلَهُ الْقِصَاصُ فِي الْحَالِ ، وَإِنْ قَالُوا : يُرْجَى عَوْدُهَا إلَى وَقْتٍ ذَكَرُوهُ

، لَمْ يُقْتَصَّ حَتَّى يَأْتِيَ ذَلِكَ الْوَقْتُ ، وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهَا تَحْتَمِلُ الْعَوْدَ ، فَأَشْبَهَتْ سِنَّ مَنْ لَمْ يُثْغِرْ ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّهَا إنْ لَمْ تَعُدْ بَعْدُ ، فَلَا كَلَامَ ، وَإِنْ عَادَتْ ، لَمْ يَجِبْ قِصَاصٌ وَلَا دِيَةٌ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ فِي الْآخَرِ : لَا يَسْقُطُ الْأَرْشُ ، لِأَنَّ هَذِهِ السِّنَّ لَا تَسْتَخْلِفُ عَادَةً ، فَإِذَا عَادَتْ كَانَتْ هِبَةً مُجَدَّدَةً ؛ وَلِذَلِكَ لَا يُنْتَظَرُ عَوْدُهَا فِي الضَّمَانِ وَلَنَا ، أَنَّهَا سِنٌّ عَادَتْ ، فَسَقَطَ الْأَرْشُ ، كَسِنِّ مَنْ لَمْ يُثْغِرْ ، وَنُدْرَةُ وُجُودِهَا لَا يَمْنَع ثُبُوتَ حُكْمِهَا إذَا وُجِدَتْ ، فَعَلَى هَذَا إنْ كَانَ أَخَذَ الْأَرْشَ ، رَدَّهُ ، وَإِنْ كَانَ اسْتَوْفَى الْقِصَاصَ ، لَمْ يَجُزْ قَلْعُ هَذِهِ قِصَاصًا ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ الْعُدْوَانَ ، وَإِنْ عَادَتْ سِنُّ الْجَانِي دُونَ سِنِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ، أَحَدُهُمَا : لَا ، تُقْلَعُ ، لِئَلَّا يَأْخُذَ سِنَّيْنِ بِسِنٍّ وَاحِدَةٍ ، وَإِنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { السِّنَّ بِالسِّنِّ } وَالثَّانِي ، تُقْلَعُ وَإِنْ عَادَتْ مَرَّاتٍ ، لِأَنَّهُ قَلَعَ سِنَّهُ وَأَعْدَمَهَا ، فَكَانَ لَهُ إعْدَامُ سِنِّهِ ، وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ ، كَهَذَيْنِ .

( 6713 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَلَعَ سِنًّا ، فَاقْتُصَّ مِنْهُ ، ثُمَّ عَادَتْ سِنُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ، فَقَلَعَهَا الْجَانِي ثَانِيَةً فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ سِنَّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لَمَّا عَادَتْ ، وَجَبَ لِلْجَانِي عَلَيْهِ دِيَةُ سِنِّهِ ، فَلَمَّا قَلَعَهَا ، وَجَبَ عَلَى الْجَانِي دِيَتُهَا لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ، فَقَدْ وَجَبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دِيَةُ سِنٍّ ، فَيَتَقَاصَّانِ .

( 6714 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( وَإِنْ كَسَرَ بَعْضَهَا ، بَرَدَ مِنْ سِنِّ الْجَانِي مِثْلَهُ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْقِصَاصَ جَارٍ فِي بَعْضِ السِّنِّ لِأَنَّ الرُّبَيِّعَ كَسَرَتْ سِنَّ جَارِيَةٍ ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِصَاصِ ؛ وَلِأَنَّ مَا جَرَى الْقِصَاصُ فِي جُمْلَتِهِ ، جَرَى فِي بَعْضِهِ إذَا أَمْكَنَ كَالْأُذُنِ ، فَيُقَدَّرُ ذَلِكَ بِالْأَجْزَاءِ ، فَيُؤْخَذُ النِّصْفُ بِالنِّصْفِ وَالثُّلُثُ بِالثُّلُثِ ، وَكُلُّ جُزْءٍ بِمِثْلِهِ ، وَلَا يُؤْخَذُ ذَلِكَ بِالْمِسَاحَةِ ، كَيْ لَا يُفْضِيَ إلَى أَخْذِ جَمِيعِ سِنِّ الْجَانِي بِبَعْضِ سِنِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ، وَيَكُونُ الْقِصَاصُ بِالْمِبْرَدِ ، لِيُؤْمَنَ أَخْذُ الزِّيَادَةِ ، فَإِنَّا لَوْ أَخَذْنَاهَا بِالْكَسْرِ ، لَمْ نَأْمَنْ أَنْ تَنْصَدِعَ ، أَوْ تَنْقَلِعَ ، أَوْ تَنْكَسِرَ مِنْ غَيْرِ مَوْضِعِ الْقِصَاصِ ، وَلَا يُقْتَصُّ حَتَّى يَقُولَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ : إنَّهُ يُؤْمَنُ انْقِلَاعُهَا ، أَوْ السَّوَادُ فِيهَا لِأَنَّ تَوَهُّمَ الزِّيَادَةِ يَمْنَعُ الْقِصَاصَ فِي الْأَعْضَاءِ ، كَمَا لَوْ قُطِعَتْ يَدُهُ مِنْ غَيْرِ مَفْصِلٍ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ أَجَزْتُمْ الْقِصَاصَ فِي الْأَطْرَافِ مَعَ تَوَهُّمِ سِرَايَتهَا إلَى النَّفْسِ ، فَلِمَ مَنَعْتُمْ مِنْهُ لِتَوَهُّمِ السِّرَايَةِ إلَى بَعْضِ الْعُضْوِ ؟ قُلْنَا : وَهْمُ السِّرَايَةِ إلَى النَّفْسِ لَا سَبِيلَ إلَى التَّحَرُّزِ مِنْهُ ، فَلَوْ اعْتَبَرْنَاهُ فِي الْمَنْعِ ، لَسَقَطَ الْقِصَاصُ فِي الْأَطْرَافِ بِالْكُلِّيَّةِ ، فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ ، وَأَمَّا السِّرَايَةُ إلَى بَعْضِ الْعُضْوِ ، فَتَارَةً نَقُولُ إنَّمَا مَنَعَ الْقِصَاصَ فِيهَا احْتِمَالُ الزِّيَادَةِ فِي الْفِعْلِ ، لَا فِي السِّرَايَةِ ، مِثْلُ مَنْ يَسْتَوْفِي بَعْضَ الذِّرَاعِ ، فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَفْعَلَ أَكْثَرَ مِمَّا فُعِلَ بِهِ ، وَكَذَلِكَ مَنْ كَسَرَ سِنًّا وَلَمْ يَصْدَعْهَا ، فَكَسَرَ الْمُسْتَوْفِي سِنَّهُ وَصَدَعَهَا ، أَوْ قَلَعَهَا ، أَوْ كَسَرَ أَكْثَرَ مِمَّا كَسَرَ ، فَقَدْ زَادَ عَلَى الْمِثْلِ ، وَالْقِصَاصُ يَعْتَمِدُ الْمُمَاثَلَةَ ، وَتَارَةً نَقُولُ : إنَّ السِّرَايَةَ فِي بَعْضِ الْعُضْوِ إنَّمَا

تَمْنَعُ إذَا كَانَتْ ظَاهِرَةً ، وَمِثْلُ هَذَا يَمْنَعُ فِي النَّفْسِ ، وَلِهَذَا مَنَعْنَاهُ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ بِآلَةٍ كَالَّةٍ ، أَوْ مَسْمُومَةٍ ، وَفِي وَقْتِ إفْرَاطِ الْحَرَارَةِ أَوْ الْبُرُودَةِ ، تَحَرُّزًا مِنْ السِّرَايَة .

( 6715 ) فَصْلٌ : وَمَنْ قَلَعَ سِنًّا زَائِدَةً وَهِيَ الَّتِي تَنْبُتُ فَضْلَةً فِي غَيْرِ سَمْتِ الْأَسْنَانِ ، خَارِجَةً عَنْهَا ، إمَّا إلَى دَاخِلِ الْفَمِ ، وَإِمَّا إلَى الشَّفَةِ ، وَكَانَتْ لِلْجَانِي مِثْلُهَا فِي مَوْضِعهَا ، فَلِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ، الْقِصَاصُ ، أَوْ أَخْذُ حُكُومَةٍ فِي سِنِّهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلُهَا فِي مَحَلِّهَا ، فَلَيْسَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إلَّا الْحُكُومَةُ ، وَإِنْ كَانَتْ إحْدَى الزَّائِدَتَيْنِ أَكْبَرَ مِنْ الْأُخْرَى ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا لَا تُؤْخَذُ الْكُبْرَى بِالصُّغْرَى ، لِأَنَّ الْحُكُومَةَ فِيهَا أَكْبَرُ ، فَلَا يُقْلَعُ بِهَا مَا هُوَ أَقَلُّ قِيمَةً مِنْهَا وَالثَّانِي ، تُؤْخَذُ بِهَا ، لِأَنَّهُمَا سِنَّانِ مُتَسَاوِيَانِ فِي الْمَوْضِعِ ، فَتُؤْخَذُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِالْأُخْرَى ، كَالْأَصْلِيَّتَيْنِ ، وَلِأَنَّ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى : { وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ } عَامٌ فَيَدْخُلُ فِيهِ مَحَلُّ النِّزَاعِ ، وَإِنْ قُلْنَا : يَثْبُتُ الْقِيَاسُ فِي الزَّائِدَتَيْنِ بِالِاجْتِهَادِ ، فَالثَّابِتُ بِالِاجْتِهَادِ مُعْتَبَرٌ بِمَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ ، وَاخْتِلَافُ الْقِيمَةِ لَا يَمْنَعُ الْقِصَاصَ ، بِدَلِيلِ جَرَيَانِهِ بَيْنَ الْعَبِيدِ ، وَبَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى ، فِي النَّفْسِ وَالْأَطْرَافِ ، عَلَى أَنَّ كِبَرَ السِّنِّ لَا يُوجِبُ كَثْرَةُ قِيمَتِهَا ، فَإِنَّ السِّنَّ الزَّائِدَةَ نَقْصٌ وَعَيْبٌ ، وَكَثْرَةُ الْعَيْبِ زِيَادَةٌ فِي النَّقْصِ ، لَا فِي الْقِيمَةِ ، وَلِأَنَّ كِبَرَ السِّنِّ الْأَصْلِيَّةِ لَا يَزِيدُ قِيمَتَهَا ، فَالزَّائِدَةُ كَذَلِكَ .

( 6716 ) فَصْلٌ : وَيُؤْخَذُ اللِّسَانُ بِاللِّسَانِ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ } .
وَلِأَنَّ لَهُ حَدًّا يَنْتَهِي إلَيْهِ ، فَاقْتُصَّ مِنْهُ كَالْعَيْنِ ، وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا ، وَلَا يُؤْخَذُ لِسَانُ نَاطِقٍ بِلِسَانِ أَخْرَسَ ، لِأَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْهُ ، وَيُؤْخَذُ الْأَخْرَسُ بِالنَّاطِقِ ، لِأَنَّهُ بَعْضُ حَقِّهِ ، وَيُؤْخَذُ بَعْضُ اللِّسَانِ بِبَعْضٍ ، لِأَنَّهُ أَمْكَنَ الْقِصَاصُ فِي جَمِيعِهِ ، فَأَمْكَنَ فِي بَعْضِهِ ، كَالسِّنِّ ، وَيُقَدَّرُ ذَلِكَ بِالْأَجْزَاءِ ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ بِالْحِسَابِ

( 6717 ) فَصْلٌ : وَتُؤْخَذُ الشَّفَةُ بِالشَّفَةِ وَهِيَ مَا جَاوَزَ الذَّقَنَ وَالْخَدَّيْنِ عُلْوًا وَسُفْلًا ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ } .
وَلِأَنَّ لَهُ حَدًّا يَنْتَهِي إلَيْهِ ، يُمْكِنُ الْقِصَاصُ مِنْهُ فَوَجَبَ ، كَالْيَدَيْنِ .

( 6718 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( وَلَا تُؤْخَذُ يَمِينٌ بِيَسَارٍ ، وَلَا يَسَارٌ بِيَمِينٍ ) هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، مِنْهُمْ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ، وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ ، وَشَرِيكٍ أَنَّ إحْدَاهُمَا تُؤْخَذُ بِالْأُخْرَى ، لِأَنَّهُمَا يَسْتَوِيَانِ فِي الْخِلْقَةِ وَالْمَنْفَعَةِ .
وَلَنَا ، أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَخْتَصُّ بَاسِمٍ ، فَلَا تُؤْخَذُ إحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى ، كَالْيَدِ مَعَ الرِّجْلِ .
فَعَلَى هَذَا كُلُّ مَا انْقَسَمَ إلَى يَمِينٍ وَيَسَارٍ ، كَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ وَالْأُذُنَيْنِ وَالْمَنْخِرَيْنِ وَالثَّدْيَيْنِ وَالْأَلْيَتَيْنِ وَالْأُنْثَيَيْنِ ، لَا تُؤْخَذُ إحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى ( 6719 ) فَصْلٌ : وَمَا انْقَسَمَ إلَى أَعْلَى وَأَسْفَلِ ، كَالْجَفْنَيْنِ وَالشَّفَتَيْنِ ، لَا يُؤْخَذُ الْأَعْلَى بِالْأَسْفَلِ ، وَلَا الْأَسْفَلُ بِالْأَعْلَى لِمَا ذَكَرْنَا ، وَلَا تُؤْخَذُ إصْبَعٌ بِإِصْبَعِ ، إلَّا أَنْ يَتَّفِقَا فِي الِاسْمِ وَالْمَوْضِعِ ، وَلَا تُؤْخَذُ أُنْمُلَةٌ بِأُنْمُلَةِ ، إلَّا أَنَّ يَتَّفِقَا فِي ذَلِكَ ، وَلَا تُؤْخَذُ عُلْيَا بِسُفْلَى وَلَا وُسْطَى ، وَالْوُسْطَى وَالسُّفْلَى لَا تُؤْخَذَانِ بِغَيْرِهِمَا ، وَلَا تُؤْخَذُ السِّنُّ بِالسِّنِّ إلَّا أَنْ يُتَّفَقَ مَوْضِعُهُمَا وَاسْمُهُمَا .
وَلَا تُؤْخَذُ إصْبَعٌ وَلَا سِنٌّ أَصْلِيَّةٌ بِزَائِدَةِ ، وَلَا زَائِدَةٌ بِأَصْلِيَّةٍ ، وَلَا زَائِدَةٌ بِزَائِدَةٍ فِي غَيْرِ مَحَلِّهَا ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ .

( 6720 ) فَصْلٌ : وَمَا لَا يَجُوزُ أَخْذُهُ قِصَاصًا ، لَا يَجُوزُ بِتَرَاضِيهِمَا وَاتِّفَاقِهِمَا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الدِّمَاءَ لَا تُسْتَبَاحُ بِالِاسْتِبَاحَةِ وَالْبَذْلِ ، وَلِذَلِكَ لَوْ بَذَلَهَا لَهُ ابْتِدَاءً ، لَا يَحِلُّ أَخْذُهَا ، وَلَا يَحِلُّ لَأَحَدٍ قَتْلُ نَفْسِهِ ، وَلَا قَطْعُ طَرَفِهِ ، فَلَا يَحِلُّ لِغَيْرِهِ بِبَذْلِهِ ، فَلَوْ تَرَاضَيَا عَلَى قَطْعِ إحْدَى الْيَدَيْنِ بَدَلًا عَنْ الْأُخْرَى ، فَقَطَعَهَا الْمُقْتَصُّ ، سَقَطَ الْقَوَدُ ، لِأَنَّ الْقَوَدَ سَقَطَ فِي الْأُولَى بِإِسْقَاطِ صَاحِبِهَا ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِإِذْنِ صَاحِبِهَا فِي قَطْعِهَا ، وَدِيَاتُهُمَا مُتَسَاوِيَةٌ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَلِذَلِكَ قَالَ : لَوْ قَطَعَ الْمُقْتَصُّ الْيَدَ الْأُخْرَى عُدْوَانًا ، لَسَقَطَ الْقِصَاصُ ، لِأَنَّهُمَا تَسَاوَيَا فِي الْأَلَمِ وَالدِّيَةِ وَالِاسْمِ ، فَتُقَاصَّا وَتَسَاقَطَا ، وَلِأَنَّ إيجَابَ الْقِصَاصِ يُفْضِي إلَى قَطْعِ يَدَيْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَإِذْهَابِ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ ، وَإِلْحَاقِ الضَّرَرِ الْعَظِيمِ بِهِمَا جَمِيعًا .
وَلَا تَفْرِيعَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَوُضُوحِهِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَطْعَيْنِ مَضْمُونٌ بِسِرَايَتِهِ لِأَنَّهُ عُدْوَانٌ .
وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ : إنْ كَانَ أَخَذَهَا عُدْوَانًا ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْقِصَاصُ عَلَى صَاحِبِهِ ، وَإِنْ أَخَذَهَا بِتَرَاضِيهِمَا ، فَلَا قِصَاصَ فِي الثَّانِيَةِ ، لِرِضَا صَاحِبِهَا بِبَذْلِهَا ، وَإِذْنِهِ فِي قَطْعِهَا ، وَفِي وُجُوبِهِ فِي الْأُولَى وَجْهَانِ ، أَحَدُهُمَا : يَسْقُطُ ، لِمَا ذَكَرْنَا .
وَالثَّانِي ، لَا يَسْقُطُ ، لِأَنَّهُ رَضِيَ بِتَرْكِهِ بِعِوَضٍ لَمْ يَثْبُتْ ، فَكَانَ لَهُ الرُّجُوعُ إلَى حَقِّهِ ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ سِلْعَةً بِخَمْرٍ وَقَبَّضَهُ إيَّاهُ .
فَعَلَى هَذَا ، لَهُ الْقِصَاصُ إلَّا أَنَّهُ لَا يَقْتَصُّ إلَّا بَعْدَ انْدِمَال الْأُخْرَى ، وَلِلْجَانِي دِيَةُ يَدِهِ ، فَإِذَا وَجَبَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ دِيَةُ يَدِهِ ، وَكَانَتْ الدِّيَتَانِ وَاحِدَةً ، تَقَاصَّا ، وَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا أَكْبَرَ مِنْ الْأُخْرَى ، كَالرَّجُلِ مَعَ الْمَرْأَةِ ، وَجَبَ الْقِصَاصُ لِصَاحِبِهِ .

( 6721 ) فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَ الْمُقْتَصُّ لِلْجَانِي : أَخْرِجْ يَمِينَك لِأَقْطَعْهَا .
فَأَخْرَجَ يَسَارَهُ ، فَقَطَعَهَا ، فَعَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ يُجْزِئُ ذَلِكَ ، سَوَاءٌ قَطَعَهَا عَالِمًا بِهَا أَوْ غَيْرَ عَالِمٍ ، وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ حَامِدٍ إنْ أَخْرَجَهَا عَمْدًا عَالِمًا بِأَنَّهَا يَسَارُهُ ، وَأَنَّهَا لَا تُجْزِئُ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى قَاطِعِهَا وَلَا قَوَدَ .
لِأَنَّهُ بَذَلَهَا بِإِخْرَاجِهِ لَهَا لَا عَلَى سَبِيلِ الْعِوَضِ ، وَقَدْ يَقُومُ الْفِعْلُ فِي ذَلِكَ مَقَامَ النُّطْقِ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ : خُذْ هَذَا فَكُلْهُ ، وَبَيْنَ اسْتِدْعَاءِ ذَلِكَ مِنْهُ ، فَيُعْطِيه إيَّاهُ ، وَيُفَارِقُ هَذَا مَا لَوْ قَطَعَ يَدَ إنْسَانٍ ، وَهُوَ سَاكِتٌ ، لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْبَذْلُ ، وَيُنْظَرُ فِي الْمُقْتَصِّ ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَالِمًا بِالْحَالِ عُزِّرَ ، لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْهُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ، وَهَلْ يَسْقُطُ الْقِصَاصُ فِي الْيَمِينِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَسْقُطُ ، لِأَنَّ قَاطِعَ الْيَسَارِ تَعَدَّى بِقَطْعِهَا ؛ وَلِأَنَّهُ قَطَعَ إحْدَى يَدَيْهِ ، فَلَمْ يَمْلِكْ قَطْعَ الْيَدِ الْأُخْرَى ، كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَ السَّارِقِ الْيُسْرَى مَكَانَ يَمِينِهِ ، فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ قَطْعَ يَمِينِهِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي ، أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْقِصَاصِ وَقَطْعِ السَّارِقِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ ، أَحَدُهَا : أَنَّ الْحَدَّ مَبْنِيٌّ عَلَى الْإِسْقَاطِ ، بِخِلَافِ الْقِصَاصِ وَالثَّانِي ، أَنَّ الْيَسَارَ لَا تُقْطَعُ فِي السَّرِقَةِ ، وَإِنْ عَدِمَتْ يَمِينُهُ ، لِأَنَّهُ يُفَوِّتُ مَنْفَعَةَ الْجِنْسِ فِي الْحَدِّ ، بِخِلَافِ الْقِصَاصِ ، وَالثَّالِثُ : أَنَّ الْيَدَ لَوْ سَقَطَتْ بِأَكَلَةٍ أَوْ قِصَاصٍ سَقَطَ الْقَطْعُ فِي السَّرِقَةِ ، فَجَازَ أَنْ يَسْقُطَ بِقَطْعِ الْيَسَارِ ، بِخِلَافِ الْقِصَاصِ ، فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ ، وَيَنْتَقِلُ إلَى الْبَدَلِ ، لَكِنْ لَا تُقْطَعُ يَمِينُهُ حَتَّى تَنْدَمِلَ يَسَارُهُ ، لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى ذَهَابِ نَفْسِهِ ، فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ لَوْ قَطَعَ يَمِينَ رَجُلٍ وَيَسَارَ

آخَرَ ، لَمْ يُؤَخَّرْ أَحَدُهُمَا إلَى انْدِمَالِ الْآخَرِ ؟ قُلْنَا : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْقَطْعَيْنِ مُسْتَحَقَّانِ قِصَاصًا ؛ فَلِهَذَا جَمَعْنَا بَيْنَهُمَا ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا أَحَدُهُمَا غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ ، فَلَمْ نَجْمَعْ بَيْنَهُمَا ، فَإِذَا انْدَمَلَتْ الْيَسَارُ قَطَعْنَا الْيَمِينَ ، فَإِنْ سَرَى قَطْعُ الْيَسَارِ إلَى نَفْسِهِ ، كَانَتْ هَدْرًا ، وَيَجِبُ فِي تَرِكَتِهِ دِيَةُ الْيَمِينِ ؛ لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ فِيهَا بِمَوْتِهِ .
وَإِنْ قَالَ الْمُقْتَصُّ مِنْهُ : لَمْ أَعْلَمْ أَنَّهَا الْيَسَارُ ، أَوْ ظَنَنْت أَنَّهَا تُجْزِئُ عَنْ الْيَمِينِ ، نَظَرْت فِي الْمُسْتَوْفِي ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهَا يَسَارُهُ ، وَأَنَّهَا لَا تَكُونُ قِصَاصًا ، ضَمِنَهَا بِدِيَتِهَا وَيُعَزَّرُ .
وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ : عَلَيْهِ الْقِصَاصُ ، لِأَنَّهُ قَطَعَهَا مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ قَطْعُهَا .
وَلَنَا ، أَنَّهُ قَطَعَهَا بِبَذْلِ صَاحِبِهَا ، فَلَمْ يُجِبْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ ، كَمَا لَوْ عَلِمَ بَاذِلُهَا .
وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا ، فَلَا تَعْزِيرَ عَلَيْهِ ، وَعَلَيْهِ الضَّمَانُ بِالدِّيَةِ ، لِأَنَّهُ بَذَلَهَا لَهُ عَلَى وَجْهِ الْبَدَل ، فَكَانَتْ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّهَا مَضْمُونَةٌ لَوْ كَانَ الْقَاطِعُ عَالِمًا بِهَا ، وَمَا وَجَبَ ضَمَانُهُ فِي الْعَمْدِ ، وَجَبَ فِي الْخَطَأ ، كَإِتْلَافِ الْمَالِ ، وَالْقِصَاصُ بَاقٍ لَهُ فِي الْيَمِينِ ، وَلَا تُقْطَعُ حَتَّى تَنْدَمِلَ الْيَسَارُ ، فَإِذَا انْدَمَلَتْ ، فَلَهُ قَطْعُ الْيَمِينِ ، فَإِنْ عَفَا ، وَجَبَ بَدَلُهَا ، وَيَتَقَاصَّانِ ، وَإِنْ سَرَتْ الْيَسَارُ إلَى نَفْسِهِ ، كَانَتْ مَضْمُونَةً بِالدِّيَةِ الْكَامِلَةِ ، وَقَدْ تَعَذَّرَ قَطْعُ الْيَمِينِ ، وَوَجَبَ لَهُ نِصْفُ الدِّيَةِ ، فَيَتَقَاصَّانِ بِهِ ، وَيَبْقَى نِصْفُ الدِّيَةِ لِوَرَثَةِ الْجَانِي .
وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي بَذْلِهَا فَقَالَ الْجَانِي : إنَّمَا بَذَلْتهَا بَدَلًا عَنْ الْيَمِينِ ، وَقَالَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ : بَذَلْتهَا فِي غَيْرِ عِوَضٍ ، أَوْ قَالَ : أَخْرَجْتهَا دَهْشَةً ، فَقَالَ : بَلْ عَالِمًا .
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْجَانِي ، لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِنِيَّتِهِ ، وَلِأَنَّ

الظَّاهِرَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَبْذُلُ طَرَفَهُ لِلْقَطْعِ تَبَرُّعًا ، مَعَ أَنَّ عَلَيْهِ قَطْعًا مُسْتَحَقًّا ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَإِنْ كَانَ بَاذِلُ الْيَسَارِ مَجْنُونًا مِثْلَ أَنْ يُجَنَّ بَعْدَ وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ ، فَعَلَى قَاطِعِهَا ضَمَانُهَا بِالْقِصَاصِ إنْ كَانَ عَالِمًا ، وَبِالدِّيَةِ إنْ كَانَ مُخْطِئًا لِأَنَّ بَذْلَ الْمَجْنُونِ لَيْسَ بِشُبْهَةِ ، وَإِنْ كَانَ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ مَجْنُونًا وَمَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ عَاقِلًا ، فَأَخْرَجَ إلَيْهِ يَسَارَهُ أَوْ يَمِينِهِ فَقَطَعَهَا ذَهَبَتْ هَدْرًا ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ الِاسْتِيفَاءُ ، وَلَا يَجُوزُ الْبَدَلُ لَهُ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُ أَتْلَفَهَا بِبَذْلِ صَاحِبِهَا ، لَكِنْ إنْ كَانَ الْمَقْطُوعُ الْيُمْنَى ، وَقَدْ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ فِيهَا لِتَلَفِهَا ، فَيَكُونُ لِلْمَجْنُونِ دِيَتُهَا .
وَإِنْ وَثَبَ الْمَجْنُونُ عَلَيْهِ فَقَطَعَ يَدَهُ الَّتِي لَا قِصَاصَ فِيهَا ، فَعَلَى عَاقِلَتِهِ دِيَتُهَا ، وَلَهُ الْقِصَاصُ فِي الْأُخْرَى ، وَإِنْ قَطَعَ الْأُخْرَى ، فَهُوَ مُسْتَوْفٍ حَقَّهُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ، لِأَنَّ حَقَّهُ مُتَعَيِّنٌ فِيهَا ، فَإِذَا أَخَذَهَا قَهْرًا ، سَقَطَ حَقُّهُ ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَ وَدِيعَتَهُ ، وَالثَّانِي ، لَا يَسْقُطُ حَقُّهُ ، وَلَهُ عَقْلُ يَدِهِ ، وَعَقْلُ يَدِ الْجَانِي عَلَى عَاقِلَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَجْنُونَ لَا يَصِحُّ مِنْهُ الِاسْتِيفَاءُ وَيُفَارِقُ الْوَدِيعَةَ إذَا أَتْلَفْهَا ؛ لِأَنَّهَا تَلِفَتْ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ ، وَلَيْسَ لَهَا بَدَلٌ إذَا تَلِفَتْ بِذَلِكَ ، وَالْيَدُ بِخِلَافِهِ فَإِنَّهَا لَوْ تَلِفَتْ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ كَانَتْ عَلَيْهِ دِيَتُهَا ، وَكَذَلِكَ الصَّغِيرُ ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِيهِمَا إذَا قَتَلَا قَاتِلَ أَبِيهِمَا عَمْدًا ، وَإِنْ اقْتَصَّا مِنْ الْجَانِي مَا لَا تَحْمِلُهُ عَاقِلَتُهُ ، كَمَا دُونَ الثُّلُثِ ، كَقَطْعِ إصْبَعٍ وَنَحْوِهَا ، سَقَطَ حَقُّهُمَا ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي الدِّيَةَ فِي ذِمَّتِهِمَا ، وَلَهُمَا فِي ذِمَّةِ الْجَانِي مِثْلُ ذَلِكَ ، فَيَتَقَاصَّانِ ، وَإِنْ كَانَتْ دِيَتُهُمَا مُخْتَلِفَةً ، كَالْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ ،

وَالرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ .
فَإِنْ قُلْنَا : يَكُونَانِ مُسْتَوْفِيَيْنِ ، لِحَقِّهِمَا بِالْقَطْعِ ، لَمْ يَبْقَ لَهُمَا حَقٌّ ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَا وَدِيعَتَهُمَا ، وَإِنْ قُلْنَا : لَا يَكُونَانِ مُسْتَوْفِيَيْنِ ، يُقَاصُّ مِنْ الدِّيَتَيْنِ بِقَدْرِ الْأَدْنَى مِنْهُمَا ، وَوَجَبَ الْفَضْلُ لِلصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ ، وَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَيْهِمَا أَوْ عَلَى وَلِيِّهِمَا خَطَأً تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ ، فَاسْتَوْفَيَا الْقِصَاصَ ، لَمْ يَسْقُطْ حَقُّهُمَا ، وَجْهًا وَاحِدًا ، وَكَانَتْ دِيَةُ مَنْ اسْتَوْفَيَا مِنْهُ عَلَى عَاقِلَتِهِمَا مُؤَجَّلَةً ، وَدِيَةُ الْجِنَايَة عَلَيْهِمَا أَوْ عَلَى وَلِيِّهِمَا عَلَى عَاقِلَةِ الْجَانِي مُؤَجَّلَةً .

( 6722 ) فَصْلٌ : وَسِرَايَةُ الْقَوَدِ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ إذَا قَطَعَ طَرَفًا يَجِبُ الْقَوَدُ فِيهِ فَاسْتَوْفَى مِنْهُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ ، ثُمَّ مَاتَ الْجَانِي بِسِرَايَةِ الِاسْتِيفَاءِ ، لَمْ يَلْزَمْ الْمُسْتَوْفِيَ شَيْءٌ ، وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ ، وَابْنُ سِيرِينَ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ ، وَعُمَرَ ، وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
وَقَالَ عَطَاءٌ ، وَطَاوُسٌ ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ ، وَالْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ : عَلَيْهِ الضَّمَانُ .
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : عَلَيْهِ كَمَالُ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ .
وَقَالَ غَيْرُهُ : هِيَ عَلَى عَاقِلَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ نَفْسَهُ ، وَلَا يَسْتَحِقُّ إلَّا طَرَفَهُ فَلَزِمَتْهُ دِيَتُهُ ، كَمَا لَوْ ضَرَبَ عُنُقَهُ ، وَلِأَنَّهَا سِرَايَةُ قَطْعٍ مَضْمُونٍ ، فَكَانَتْ مَضْمُونَةً ، كَسِرَايَةِ الْجِنَايَةِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ مَضْمُونٌ ، أَنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْقَطْعِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَتِهِ .
وَلَنَا ، أَنَّ عُمَرَ وَعَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، قَالَا : مَنْ مَاتَ مِنْ حَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ لَا دِيَةَ لَهُ ، الْحَقُّ قَتَلَهُ رَوَاهُ سَعِيدٌ بِمَعْنَاهُ .
وَلِأَنَّهُ قَطْعٌ مُسْتَحَقٌّ مُقَدَّرٌ ، فَلَا تُضْمَنَ سِرَايَتُهُ ، كَقَطْعِ السَّارِقِ .
وَفَارَقَ مَا قَاسُوا عَلَيْهِ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مَا فَعَلَهُ مُسْتَحَقًّا .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ سِرَايَتِهِ إلَى النَّفْسِ ، بِأَنْ يَمُوتَ مِنْهَا ، أَوْ إلَى مَا دُونَهَا ، مِثْلَ أَنْ يَقْطَعَ إصْبَعًا فَتَسْرِيَ إلَى كَفِّهِ .

( 6723 ) فَصْلٌ : وَسِرَايَةُ الْجِنَايَةِ مَضْمُونَةٌ بِلَا خِلَافٍ ؛ لِأَنَّهَا أَثَرُ الْجِنَايَةِ ، وَالْجِنَايَةُ مَضْمُونَةٌ ، فَكَذَلِكَ أَثَرُهَا .
ثُمَّ إنْ سَرَتْ إلَى النَّفْسِ ، وَمَا لَا يُمْكِنُ مُبَاشَرَتُهُ بِالْإِتْلَافِ ، مِثْلَ أَنْ يُهَشِّمَهُ فِي رَأْسِهِ فَيَذْهَبَ ضَوْءُ عَيْنَيْهِ ، وَجَبَ الْقِصَاصُ فِيهِ ، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ فِي النَّفْسِ ، وَفِي ضَوْءِ الْعَيْنِ خِلَافٌ قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ وَإِنْ سَرَتْ إلَى مَا يُمْكِنُ مُبَاشَرَتُهُ بِالْإِتْلَافِ ، مِثْلَ إنْ قَطَعَ إصْبَعًا ، فَتَآكَلَتْ أُخْرَى وَسَقَطَتْ مِنْ مَفْصِلٍ ، فَفِيهِ الْقِصَاصُ أَيْضًا ، فِي قَوْلِ إمَامِنَا وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَقَالَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ : لَا قِصَاصَ فِي الثَّانِيَةِ ، وَتَجِبُ دِيَتُهَا ؛ لِأَنَّ مَا أَمْكَنَ مُبَاشَرَتُهُ بِالْجِنَايَةِ لَا يَجِبُ الْقَوَدُ فِيهِ بِالسِّرَايَةِ ، كَمَا لَوْ رَمَى سَهْمًا فَمَرَقَ مِنْهُ إلَى آخَرَ .
وَلَنَا ، أَنَّ مَا وَجَبَ فِيهِ الْقَوَدُ بِالْجِنَايَةِ وَجَبَ بِالسِّرَايَةِ ، كَالنَّفْسِ وَضَوْءِ الْعَيْنِ ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْ الْقِصَاصِ ، فَأَشْبَهَ مَا ذَكَرْنَا ، وَفَارَقَ مَا ذَكَرُوهُ ، فَإِنَّ ذَلِكَ فِعْلٌ وَلَيْسَ بِسِرَايَةٍ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ قَصَدَ ضَرْبَ رَجُلٍ فَأَصَابَ آخَرَ ، لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ ، وَلَوْ قَصَدَ قَطْعَ إبْهَامِهِ فَقَطَعَ سَبَّابَتَهُ وَجَبَ الْقِصَاصُ ، وَلَوْ ضَرَبَ إبْهَامَهُ فَمَرَقَ إلَى سَبَّابَتِهِ ، وَجَبَ الْقِصَاصُ فِيهِمَا ، فَافْتَرَقَا ؛ وَلِأَنَّ الثَّانِيَةَ تَلِفَتْ بِفِعْلٍ أَوْجَبَ الْقِصَاصَ ، فَوَجَبَ الْقِصَاصُ فِيهَا ، كَمَا لَوْ رَمَى إحْدَاهُمَا فَمَرَقَ إلَى الْأُخْرَى .
فَأَمَّا إنْ قَطَعَ إصْبَعًا ، فَشُلَّتْ إلَى جَانِبِهَا أُخْرَى ، وَجَبَ الْقِصَاصُ فِي الْمَقْطُوعَةِ وَحَسْبُ وَالْأَرْشُ فِي الشَّلَّاءِ ، وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا قِصَاصَ فِيهِمَا وَيَجِبُ أَرْشُهُمَا جَمِيعًا ، لِأَنَّ حُكْمَ السِّرَايَةِ لَا يَنْفَرِدُ عَنْ الْجِنَايَةِ ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ سَرَتْ إلَى النَّفْسِ ، فَإِذَا لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ فِي إحْدَاهُمَا ، لَمْ يَجِبْ فِي

الْأُخْرَى ، وَلَنَا أَنَّهَا جِنَايَةٌ مُوجِبَةٌ لِلْقِصَاصِ لَوْ لَمْ تَسْرِ ، فَأَوْجَبَتْهُ إذَا سَرَتْ ، كَاَلَّتِي تَسْرِي إلَى سُقُوطِ أُخْرَى ، وَكَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَ حُبْلَى فَسَرَى إلَى جَنِينِهَا .
وَبِهَذَا يَبْطُلُ مَا ذَكَرَهُ .
وَفَارَقَ الْأَصْلَ ؛ لِأَنَّ السِّرَايَةَ مُقْتَضِيَةٌ لِلْقِصَاصِ ، كَاقْتِضَاءِ الْفِعْلِ لَهُ ، فَاسْتَوَى حُكْمُهُمَا ، وَهَا هُنَا بِخِلَافِهِ ، وَلِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ فَإِنَّ الْقَطْعَ إذَا سَرَى إلَى النَّفْسِ ، سَقَطَ الْقِصَاصُ فِي الْقَطْعِ ، وَوَجَبَ فِي النَّفْسِ ، فَخَالَفَ حُكْمُ الْجِنَايَةِ حُكْمَ السِّرَايَةِ ، فَسَقَطَ مَا قَالَهُ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّ الْأَرْشَ يَجِبُ فِي مَالِهِ ، وَلَا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ ، لِأَنَّهُ جِنَايَةُ عَمْدٍ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ فِيهِ لِعَدَمِ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْقَطْعِ وَالشَّلَلِ ، فَإِذَا قَطَعَ إصْبَعَهُ فَشُلَّتْ أَصَابِعُهُ الْبَاقِيَةُ وَكَفُّهُ ، فَعَفَا عَنْ الْقِصَاصِ ، وَجَبَ لَهُ نِصْفُ الدِّيَةِ ، وَإِنْ اقْتَصَّ مِنْ الْإِصْبَعِ ، فَلَهُ فِي الْأَصَابِعِ الْبَاقِيَةِ أَرْبَعُونَ مِنْ الْإِبِلِ ، وَيَتْبَعُهَا مَا حَاذَاهَا مِنْ الْكَفِّ ، وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ ، فَيَدْخُلُ أَرْشُهُ فِيهَا ، وَيَبْقَى خُمْسُ الْكَفِّ فِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا يَتْبَعُهَا فِي الْأَرْشِ ، وَلَا شَيْءَ فِيهِ .
وَالثَّانِي ، فِيهِ الْحُكُومَةُ ؛ لِأَنَّ مَا يُقَابِلُ الْأَرْبَعَ تَبِعَهَا فِي الْأَرْشِ ، لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْحُكْمِ ، وَحُكْمُ الَّتِي اقْتَصَّ مِنْهَا مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الْأَرْشِ ، فَلَمْ يَتْبَعْهَا .

( 6724 ) فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ الْقِصَاصُ فِي الطَّرَفِ إلَّا بَعْدَ انْدِمَالِ الْجُرْحِ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، مِنْهُمْ ؛ النَّخَعِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٌ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ ، وَالْحَسَنِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَى الِانْتِظَارَ بِالْجُرْحِ حَتَّى يَبْرَأَ .
وَيَتَخَرَّجُ لَنَا ، أَنَّهُ يَجُوزُ الِاقْتِصَاصُ قَبْلَ الْبُرْءِ ، بِنَاءً عَلَى قَوْلِنَا : إنَّهُ إذَا سَرَى إلَى النَّفْسِ ، يَفْعَلُ كَمَا فَعَلَ ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، قَالَ : وَلَوْ سَأَلَ الْقَوَدَ سَاعَةَ قُطِعَتْ إصْبَعُهُ ، أَقَدْتُهُ ، لِمَا رَوَى جَابِرٌ ، { أَنَّ رَجُلًا طَعَنَ رَجُلًا بِقَرْنٍ فِي رُكْبَتِهِ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَقِدْنِي .
قَالَ : حَتَّى تَبْرَأَ .
فَأَبَى ، وَعَجَّلَ ، فَاسْتَقَادَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَيِيَتْ رِجْلُ الْمُسْتَقِيدِ ، وَبَرَأَتْ رِجْلُ الْمُسْتَقَادِ مِنْهُ .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَيْسَ لَك شَيْءٌ عَجَّلَتْ } رَوَاهُ سَعِيدٌ مُرْسَلًا .
وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ مِنْ الطَّرَفِ لَا يَسْقُطُ بِالسِّرَايَةِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَمْلِكَهُ فِي الْحَالِ ، كَمَا لَوْ بَرَأَ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى جَابِرٌ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : نَهَى أَنْ يُسْتَقَادَ مِنْ الْجُرُوحِ حَتَّى يَبْرَأَ الْمَجْرُوحُ .
} وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَلِأَنَّ الْجُرْحَ لَا يُدْرَى أَقَتْلٌ هُوَ أَمْ لَيْسَ بِقَتْلٍ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُنْتَظَرَ لِيُعْلَمَ مَا حُكْمُهُ ؟ فَأَمَّا حَدِيثُهُمْ ، فَقَدْ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ ، وَفِي سِيَاقِهِ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، عَرَجْت .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " قَدْ نَهَيْتُك فَعَصَيْتنِي ، فَأَبْعَدَك اللَّهُ ، وَبَطَلَ عَرَجُك " .
ثُمَّ نَهَى أَنْ يُقْتَصَّ مِنْ جُرْحٍ حَتَّى يَبْرَأَ صَاحِبُهُ .
وَهَذِهِ زِيَادَةٌ يَجِبُ قَبُولُهَا ،

وَهِيَ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ الِاقْتِصَاصِ ، فَتَكُونُ نَاسِخَةً لَهُ .
وَفِي نَفْسِ الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْتِقَادَتَهُ قَبْلَ الْبُرْءِ مَعْصِيَةٌ ؛ لِقَوْلِهِ : " قَدْ نَهَيْتُك فَعَصَيْتنِي " .
وَمَا ذَكَرُوهُ مَمْنُوعٌ ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ .

( 6725 ) فَصْلٌ : فَإِنْ اقْتَصَّ قَبْلَ الِانْدِمَالِ ، هُدِرَتْ سِرَايَةُ الْجِنَايَةِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ : بَلْ هِيَ مَضْمُونَةٌ ؛ لِأَنَّهَا سِرَايَةُ جِنَايَةٍ ، فَكَانَتْ مَضْمُونَةً ، كَمَا لَوْ لَمْ يُقْتَصَّ .
وَلَنَا ، الْخَبَرُ الْمَذْكُورُ ، وَلِأَنَّهُ اسْتَعْجَلَ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ اسْتِعْجَالُهُ ، فَبَطَلَ حَقُّهُ ، كَقَاتِلِ مَوْرُوثِهِ ، وَبِهَذَا فَارَقَ مَنْ لَمْ يَقْتَصَّ .
فَعَلَى هَذَا ، لَوْ سَرَى الْقَطْعَانِ جَمِيعًا ، فَمَاتَ الْجَانِي وَالْمُسْتَوْفِي ، فَهُمَا هَدْرٌ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجِبُ ضَمَانُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، لِأَنَّ سِرَايَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَضْمُونَةٌ ، ثُمَّ يَتَقَاصَّانِ فَيَسْقُطَانِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إنَّ مَاتَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ أَوَّلًا ، ثُمَّ مَاتَ الْجَانِي ، كَانَ قِصَاصًا ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ سِرَايَةِ الْقَطْعِ ، فَقَدْ مَاتَ بِفِعْلِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ، وَإِنْ مَاتَ الْجَانِي ، فَكَذَلِكَ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ، وَفِي الْآخَرِ ، يَكُونُ مَوْتُ الْجَانِي هَدْرًا ، وَلِوَلِيِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ .
فَأَمَّا إنْ سَرَى أَحَدُ الْقَطْعَيْنِ دُونَ صَاحِبِهِ ، فَعِنْدَنَا هُوَ هَدْرٌ ، لَا ضَمَانَ فِيهِ .
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، يَجِبُ ضَمَانُ سِرَايَتِهِ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ ، إنْ سَرَتْ الْجِنَايَةُ فَهِيَ مَضْمُونَةٌ ، وَإِنْ سَرَى الِاسْتِيفَاءُ ، لَمْ يَجِبْ ضَمَانُهُ .
وَمَبْنَى ذَلِكَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْخِلَافِ .

( 6726 ) فَصْلٌ : وَإِنْ انْدَمَلَ جُرْحُ الْجِنَايَةِ ، فَاقْتُصَّ مِنْهُ ، ثُمَّ انْتَقَضَ فَسَرَى ، فَسِرَايَتُهُ مَضْمُونَةٌ ، وَسِرَايَةُ الِاسْتِيفَاءِ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ ؛ لِأَنَّهُ اقْتَصَّ بَعْدَ جَوَازِ الِاقْتِصَاصِ .
فَعَلَى هَذَا ، لَوْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ ، فَبَرَأَ ، فَاقْتُصَّ ، ثُمَّ انْتَقَضَ جُرْحُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ، فَمَاتَ ، فَلِوَلِيِّهِ قَتْلُ الْجَانِي ، لِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ جِنَايَتِهِ ، وَإِنْ عَفَا إلَى الدِّيَةِ ، فَلَا شَيْءَ لَهُ ، لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى بِالْقَطْعِ مَا قِيمَتُهُ دِيَةٌ ، وَهُوَ يَدَاهُ ، وَإِنْ سَرَى الِاسْتِيفَاءُ ، لَمْ يَجِبْ أَيْضًا شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ قَدْ سَقَطَ بِمَوْتِهِ ، وَالدِّيَةُ لَا يُمْكِنُ إيجَابُهَا ؛ لِمَا ذَكَرْنَا .
وَإِنْ كَانَ الْمَقْطُوعُ بِالْجِنَايَةِ يَدًا ، فَوَلِيُّهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ وَبَيْنَ الْعَفْوِ إلَى نِصْفِ الدِّيَةِ ، وَمَتَى سَقَطَ الْقِصَاصُ بِمَوْتِ الْجَانِي أَوْ غَيْرِهِ ، وَجَبَ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي تَرِكَةِ الْجَانِي ، أَوْ مَالِهِ إنْ كَانَ حَيًّا .

( 6727 ) فَصْلٌ : وَلَوْ قَطَعَ كِتَابِيٌّ يَدَ مُسْلِمٍ ، فَبَرَأَ أَوْ اقْتَصَّ ، ثُمَّ انْتَقَضَ جُرْحُ الْمُسْلِمِ فَمَاتَ ، فَلِوَلِيِّهِ قَتْلُ الْكِتَابِيِّ ، وَالْعَفْوُ إلَى أَرْشِ الْجُرْحِ ، وَفِي قَدْرِهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا : نِصْفُ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَوْفَى بَدَلَ يَدِهِ بِالْقِصَاصِ ، وَبَدَلُهَا نِصْفُ دِيَتِهِ ، فَبَقِيَ لَهُ نِصْفُهَا ، كَمَا لَوْ كَانَ الْقَاطِعُ مُسْلِمًا .
وَالثَّانِي ، لَهُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا ؛ لِأَنَّ يَدَ الْيَهُودِيِّ تَعْدِلُ نِصْفَ دِيَتِهِ ، وَذَلِكَ رُبْعُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ ، فَقَدْ اسْتَوْفَى رُبْعَ دِيَتِهِ ، وَبَقِيَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا .
وَإِنْ كَانَ قَطَعَ يَدَيْ الْمُسْلِمِ ، فَاقْتَصَّ مِنْهُ ، ثُمَّ مَاتَ الْمُسْلِمُ ، فَعَفَا وَلِيُّهُ إلَى مَالٍ ، انْبَنَى عَلَى الْوَجْهَيْنِ ؛ إنَّ قُلْنَا : تُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْيَهُودِيِّ .
فَلَهُ هَاهُنَا نِصْفُ الدِّيَةِ ، وَإِنْ قُلْنَا : الِاعْتِبَارُ بِقِيمَةِ يَدِ الْمُسْلِمِ .
فَلَا شَيْءَ لَهُ هَاهُنَا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَوْفَى بَدَلَ يَدَيْهِ ، وَهُمَا جَمِيعُ دِيَتِهِ .
وَلَوْ كَانَ الْقَطْعُ فِي يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ ، فَعَفَا إلَى الدِّيَةِ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ ، وَجْهًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّ دِيَةَ ذَلِكَ دِيَةُ مُسْلِمٍ .
وَلَوْ كَانَ الْجَانِي امْرَأَةً عَلَى رَجُلٍ ، فَالْحُكْمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ دِيَتَهَا نِصْفُ دِيَةِ الرَّجُلِ .

( 6728 ) فَصْلٌ : إذَا قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ مِنْ الْكُوعِ ، ثُمَّ قَطَعَهَا آخَرُ مِنْ الْمَرْفِقِ ، فَمَاتَ بِسِرَايَتِهِمَا ، فَلِوَلِيِّهِ قَتْلُ الْقَاطِعَيْنِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْطَعَ طَرَفَيْهِمَا ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ، وَفِي الْآخَرِ ، لَهُ قَطْعُ يَدِ الْقَاطِعِ مِنْ الْكُوعِ .
فَإِنْ قَطَعَهَا ، ثُمَّ عَفَا عَنْهُ ، فَلَهُ نِصْفُ الدِّيَةِ ، وَأَمَّا الْآخَرُ ، فَإِنْ كَانَتْ يَدُهُ مَقْطُوعَةً مِنْ الْكُوعِ ، فَقَطَعَهَا مِنْ الْمَرْفِقِ ، ثُمَّ عَفَا ، فَلَهُ دِيَةٌ ، إلَّا قَدْرَ الْحُكُومَةِ فِي الذِّرَاعِ .
وَلَوْ كَانَتْ يَدُ الْقَاطِعِ مِنْ الْمَرْفِقِ صَحِيحَةً ، لَمْ يَجُزْ قَطْعُهَا ، رِوَايَةً وَاحِدَةً ؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ صَحِيحَةً بِمَقْطُوعَةٍ .
وَإِنْ قَطَعَ أَيْدِيَهُمَا ، وَهُمَا صَحِيحَتَانِ ، أَوْ قَطَعَ رَجُلَانِ يَدَيْهِ ، فَقَطَعَ يَدَيْهِمَا ، ثُمَّ سَرَتْ الْجِنَايَةُ ، فَمَاتَ مِنْ قَطْعِهِمَا ، فَلَيْسَ لِوَلِيِّهِ الْعَفْوُ عَلَى الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَوْفَى مَا قِيمَتُهُ دِيَةٌ .
وَإِنْ اخْتَارَ قَتْلَهُمَا ، فَلَهُ ذَلِكَ .

( 6729 ) فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْتَصَّ مِنْ حَامِلٍ قَبْلَ وَضْعِهَا ، سَوَاءٌ كَانَتْ حَامِلًا وَقْتَ الْجِنَايَة ، أَوْ حَمَلَتْ بَعْدَهَا قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ أَوْ فِي الطَّرَفِ ؛ أَمَّا فِي النَّفْسِ فَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ } .
وَقَتْلُ الْحَامِلِ قَتْلٌ لِغَيْرِ الْقَاتِلِ ، فَيَكُونُ إسْرَافًا .
وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غُنْمٍ ، قَالَ : ثنا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ ، وَعُبَادَةَ بْنُ الصَّامِتِ ، وَشَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ ، قَالُوا : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : إذَا قَتَلَتْ الْمَرْأَةُ عَمْدًا ، لَمْ تُقْتَلْ حَتَّى تَضَعَ مَا فِي بَطْنِهَا إنْ كَانَتْ حَامِلًا ، وَحَتَّى تَكْفُلَ وَلَدَهَا ، وَإِنْ زَنَتْ ، لَمْ تُرْجَمْ حَتَّى تَضَعَ مَا فِي بَطْنِهَا ، وَحَتَّى تَكْفُلَ وَلَدَهَا } وَهَذَا نَصٌّ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْغَامِدِيَّةِ الْمُقِرَّةِ بِالزِّنَى { : ارْجِعِي حَتَّى تَضَعِي مَا فِي بَطْنِك .
ثُمَّ قَالَ لَهَا : ارْجِعِي حَتَّى تُرْضِعِيهِ } .
وَلِأَنَّ هَذَا إجْمَاعٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا نَعْلَمُ بَيْنَهُمْ فِيهِ اخْتِلَافًا .
وَأَمَّا الْقِصَاصُ فِي الطَّرَفِ ، فَلِأَنَّنَا مَنَعْنَا الِاسْتِيفَاءَ فِيهِ خَشْيَةَ السِّرَايَةِ إلَى الْجَانِي ، أَوْ إلَى زِيَادَةٍ فِي حَقِّهِ ، فَلَأَنْ تُمْنَعَ مِنْهُ خَشْيَةَ السِّرَايَةِ إلَى غَيْرِ الْجَانِي ، وَتَفْوِيتِ نَفْسٍ مَعْصُومَةٍ ، أَوْلَى وَأَحْرَى ، وَلِأَنَّ فِي الْقِصَاصِ مِنْهَا قَتْلًا لِغَيْرِ الْجَانِي ، وَهُوَ حَرَامٌ .
وَإِذَا وَضَعَتْ ، لَمْ تُقْتَلْ حَتَّى تَسْقِيَ الْوَلَدَ اللِّبَأَ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَا يَعِيشُ إلَّا بِهِ فِي الْغَالِبِ ، ثُمَّ إنْ لَمْ يَكُنْ لِلْوَلَدِ مَنْ يُرْضِعُهُ ، لَمْ يَجُزْ قَتْلُهَا حَتَّى يَجِيءَ أَوَانُ فِطَامِهِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْخَبَرَيْنِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا أُخِّرَ الِاسْتِيفَاءُ لَحِفْظِهِ وَهُوَ حَمْلٌ ، فَلَأَنْ يُؤَخَّرَ لِحِفْظِهِ بَعْدَ وَضْعِهِ أَوْلَى ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْقِصَاصُ فِيمَا

دُونَ النَّفْسِ ، وَيَكُونَ الْغَالِبُ بَقَاءَهَا ، وَعَدَمَ ضَرَرِهِ بِالِاسْتِيفَاءِ مِنْهَا ، فَيُسْتَوْفَى .
وَإِنْ وُجِدَ لَهُ مُرْضِعَةٌ رَاتِبَةٌ ، جَازَ قَتْلُهَا ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَغْنِي بِلَبَنِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَرَدِّدَةً ، أَوْ جَمَاعَةً يَتَنَاوَبْنَهُ ، أَوْ أَمْكَنَ أَنْ يُسْقَى مِنْ لَبَنِ شَاةٍ أَوْ نَحْوِهَا ، جَازَ قَتْلُهَا .
وَيُسْتَحَبُّ لِلْوَلِيِّ تَأْخِيرُهَا ؛ لِمَا عَلَى الْوَلَدِ ، مِنْ الضَّرَرِ ، لِاخْتِلَافِ اللَّبَنِ عَلَيْهِ ، وَشُرْبِ لَبَنِ الْبَهِيمَةِ ( 6730 ) فَصْلٌ : وَإِذَا ادَّعَتْ الْحَمْلَ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا : تُحْبَسُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ حَمْلُهَا ؛ لِأَنَّ لِلْحَمْلِ أَمَارَاتٌ خَفِيَّةً ، تَعْلَمُهَا مِنْ نَفْسِهَا ، وَلَا يَعْلَمُهَا غَيْرُهَا ، فَوَجَبَ أَنْ يُحْتَاطَ لِلْحَمْلِ ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ انْتِفَاءُ مَا ادَّعَتْهُ ، وَلِأَنَّهُ أَمْرٌ يَخْتَصُّهَا ، فَقُبِلَ قَوْلُهَا فِيهِ ، كَالْحَيْضِ .
وَالثَّانِي ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي ، أَنَّهَا تُرَى أَهْلَ الْخِبْرَةِ ، فَإِنْ شَهِدْنَ بِحَمْلِهَا أُخِّرَتْ ، وَإِنْ شَهِدْنَ بِبَرَاءَتِهَا لَمْ تُؤَخَّرْ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ حَالٌ عَلَيْهَا ، فَلَا يُؤَخَّرُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهَا .

( 6731 ) فَصْلٌ : وَإِنْ اقْتَصَّ مِنْ حَامِلٍ فَقَدْ أَخْطَأَ ، وَأَخْطَأَ السُّلْطَانُ الَّذِي مَكَّنَهُ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ ، وَعَلَيْهِمَا الْإِثْمُ إنْ كَانَا عَالِمَيْنِ ، أَوْ كَانَ مِنْهُمَا تَفْرِيطٌ ، وَإِنْ عَلِمَ أَحَدُهُمَا أَوْ فَرَّطَ ، فَالْإِثْمُ عَلَيْهِ ، ثُمَّ نَنْظُرُ ؛ فَإِنْ لَمْ تُلْقِ الْوَلَدَ ، فَلَا ضَمَانَ فِيهِ ؛ لِأَنَّا لَمْ نَتَحَقَّقْ وُجُودَهُ وَحَيَاتَهُ ، وَإِنْ انْفَصَلَ مَيِّتًا أَوْ حَيًّا لَوَقْتٍ لَا يَعِيشُ فِي مِثْلِهِ ، فَفِيهِ غُرَّةٌ ، وَإِنْ انْفَصَلَ حَيًّا لَوَقْتٍ يَعِيشُ مِثْلُهُ ، ثُمَّ مَاتَ مِنْ الْجِنَايَةِ ، وَجَبَتْ فِيهِ دِيَةٌ .
وَعَلَى مَنْ يَجِبُ ضَمَانُهُ ؟ نَنْظُرُ ؛ فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ وَالْوَلِيُّ عَالِمَيْنِ بِالْحَمْلِ وَتَحْرِيمِ الِاسْتِيفَاءِ ، أَوْ جَاهِلَيْنِ بِالْأَمْرَيْنِ ، أَوْ بِأَحَدِهِمَا ، أَوْ كَانَ الْوَلِيُّ عَالِمًا بِذَلِكَ دُونَ الْمُمَكَّنِ لَهُ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ ، فَالضَّمَانُ عَلَيْهِ وَحْدَهُ ؛ لِأَنَّهُ مُبَاشِرٌ ، وَالْحَاكِمُ الْمُمَكِّنُ لَهُ صَاحِبُ سَبَبٍ ، وَمَتَى اجْتَمَعَ الْمُبَاشِرُ مَعَ الْمُتَسَبِّبِ ، كَانَ الضَّمَانُ عَلَى الْمُبَاشِرِ دُونَ الْمُتَسَبِّبِ ، كَالْحَافِرِ مَعَ الدَّافِعِ ، وَإِنْ عَلِمَ الْحَاكِمُ دُونَ الْوَلِيِّ ، فَالضَّمَانُ عَلَى الْحَاكِمِ وَحْدَهُ ؛ لِأَنَّ الْمُبَاشِرَ مَعْذُورٌ ، فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَى الْمُتَسَبِّبِ ، كَالسَّيِّدِ إذَا أَمَرَ عَبْدَهُ بِالْقَتْلِ ، وَالْعَبْدُ أَعْجَمِيٌّ لَا يَعْرِفُ تَحْرِيمَ الْقَتْلِ ، وَكَشُهُودِ الْقِصَاصِ إذَا رَجَعُوا عَنْ الشَّهَادَةِ بَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : إنْ كَانَ أَحَدُهُمَا عَالِمًا وَحْدَهُ ، فَالضَّمَانُ عَلَيْهِ وَحْدَهُ ، وَإِنْ كَانَا عَالِمَيْنِ ، فَالضَّمَانُ عَلَى الْحَاكِمِ ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي يَعْرِفُ الْأَحْكَامَ ، وَالْوَلِيُّ إنَّمَا يَرْجِعُ إلَى حُكْمِهِ وَاجْتِهَادِهِ ، وَإِنْ كَانَا جَاهِلَيْنِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا : الضَّمَانُ عَلَى الْإِمَامِ ، كَمَا لَوْ كَانَا عَالِمَيْنِ .
وَالثَّانِي ، عَلَى الْوَلِيِّ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : الضَّمَانُ عَلَى الْحَاكِمِ ، وَلَمْ يُفَرِّقْ .
وَقَالَ

الْمُزَنِيّ : الضَّمَانُ عَلَى الْوَلِيِّ فِي كُلِّ حَالٍ ؛ لِأَنَّهُ الْمُبَاشِرُ ، وَالسَّبَبُ ، غَيْرُ مُلْجِئٍ ، فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ ، كَالْحَافِرِ مَعَ الدَّافِعِ ، وَكَمَا لَوْ أَمَرَ مِنْ يَعْلَمُ تَحْرِيمَ الْقَتْلِ بِهِ فَقَتَلَ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا يَقْتَضِي التَّفْرِيقَ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( 6732 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِذَا كَانَ الْقَاطِعُ سَالِمَ الطَّرَفِ ، وَالْمَقْطُوعَةُ شَلَّاءُ ، فَلَا قَوَدَ ) لَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَ بِوُجُوبِ قَطْعِ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ أَوْ لِسَانٍ صَحِيحٍ بِأَشَلَّ ، إلَّا مَا حُكِيَ عَنْ دَاوُد ، أَنَّهُ أَوْجَبَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسَمًّى بِاسْمِ صَاحِبِهِ ، فَيُؤْخَذُ بِهِ كَالْأُذُنَيْنِ .
وَلَنَا ، أَنَّ الشَّلَّاءَ لَا نَفْعَ فِيهَا سِوَى الْجَمَالِ ، فَلَا يُؤْخَذُ بِهَا مَا فِيهِ نَفْعُ ، كَالصَّحِيحَةِ لَا تُؤْخَذُ بِالْقَائِمَةِ ، وَمَا ذُكِرَ لَهُ قِيَاسٌ ، وَهُوَ لَا يَقُولُ بِالْقِيَاسِ ، وَإِذَا لَمْ يُوجِبْ الْقِصَاصَ فِي الْعَيْنَيْنِ مَعَ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ } .
لِأَجْلِ تَفَاوُتِهِمَا فِي الصِّحَّةِ وَالْعَمَى ، فَلَأَنْ لَا يَجِبَ ذَلِكَ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ أَوْلَى .

( 6733 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَطَعَ أُذُنًا شَلَّاءَ ، أَوْ أَنْفًا أَشَلَّ ، فَهَلْ يُؤْخَذُ بِهِ الصَّحِيحُ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا ، لَا يُؤْخَذُ بِهِ ، كَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ .
وَالثَّانِي ، يُؤْخَذُ بِهِ ؛ لِأَنَّ نَفْعَهُ لَا يَذْهَبُ بِشَلَلِهِ ، فَإِنَّ نَفْعَ الْأُذُنِ جَمْعُ الصَّوْتِ ، وَرَدُّ الْهَوَامِّ ، وَسَتْرُ مَوْضِعِ السَّمْعِ ، وَنَفْعَ الْأَنْفِ جَمْعُ الرِّيحِ ، وَرَدُّ الْهَوَاءِ أَوْ الْهَوَامِّ ، فَقَدْ سَاوَى الصَّحِيحَ فِي الْجَمَالِ وَالنَّفْعِ ، فَوَجَبَ أَخْذُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ ، كَالصَّحِيحِ بِالصَّحِيحِ ، بِخِلَافِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ ، وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ كَالْوَجْهَيْنِ .

( 6734 ) فَصْلٌ : وَلَا تُؤْخَذُ يَدٌ كَامِلَةُ الْأَصَابِعِ بِنَاقِصَةِ الْأَصَابِعِ ، فَلَوْ قَطَعَ مَنْ لَهُ خَمْسُ أَصَابِعَ يَدَ مَنْ لَهُ أَرْبَعٌ أَوْ ثَلَاثٌ ، أَوْ قَطَعَ مَنْ لَهُ أَرْبَعُ أَصَابِعَ يَدَ مَنْ لَهُ ثَلَاثٌ ، لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ ؛ لِأَنَّهَا فَوْقَ حَقِّهِ .
وَهَلْ لَهُ أَنْ يَقْطَعَ مِنْ أَصَابِعِ الْجَانِي بِعَدَدِ أَصَابِعِهِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ ، ذَكَرْنَاهُمَا فِيمَا إذَا قَطَعَ مِنْ نِصْفِ الْكَفِّ .
وَإِنْ قَطَعَ ذُو الْيَدِ الْكَامِلَةِ يَدًا فِيهَا إصْبَعٌ شَلَّاءُ وَبَاقِيهَا صِحَاحٌ ، لَمْ يَجُزْ أَخْذُ الصَّحِيحَةِ بِهَا ؛ لِأَنَّهُ أَخْذُ كَامِلٍ بِنَاقِصِ ، وَفِي الِاقْتِصَاصِ مِنْ الْأَصَابِعِ الصِّحَاحِ وَجْهَانِ ، فَإِنْ قُلْنَا : لَهُ أَنْ يَقْتَصَّ .
فَلَهُ الْحُكُومَةُ فِي الشَّلَّاءِ ، وَأَرْشُ مَا تَحْتَهَا مِنْ الْكَفِّ .
وَهَلْ يَدْخُلُ مَا تَحْتَ الْأَصَابِعِ الصِّحَاحِ فِي قِصَاصِهَا ، أَوْ تَجِبُ فِيهِ حُكُومَةٌ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ .

( 6735 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَطَعَ الْيَدَ الْكَامِلَةَ ذُو يَدٍ فِيهَا إصْبَعٌ زَائِدٌ ، وَجَبَ الْقِصَاصُ فِيهَا .
ذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ لِأَنَّ الزَّائِدَةَ عَيْبٌ وَنَقْصٌ فِي الْمَعْنَى ، يُرَدُّ بِهَا الْمَبِيعُ ، فَلَمْ يَمْنَعْ وُجُودُهَا الْقِصَاصَ مِنْهَا ، كَالسِّلْعَةِ فِيهَا وَالْخُرَاجِ .
وَاخْتَارَ الْقَاضِي أَنَّهَا لَا تُقْطَعُ بِهَا .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ .
فَعَلَى هَذَا ، إنْ كَانَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَيْضًا إصْبَعٌ زَائِدَةٌ فِي مَحَلِّ الزَّائِدَةِ مِنْ الْجَانِي ، وَجَبَ الْقِصَاصُ ؛ لِاسْتِوَائِهِمَا ، وَإِنْ كَانَتْ فِي غَيْرِ مَحَلِّهَا ، أَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إصْبَعٌ زَائِدَةٌ ، لَمْ تُؤْخَذْ يَدُ الْجَانِي .
وَهَلْ يَمْلِكُ قَطْعَ الْإِصْبَعِ ؟ نَنْظُرُ ؛ فَإِنْ كَانَتْ الزَّائِدَةُ مُلْصَقَةً بِأَحَدِ الْأَصَابِعِ ، فَلَيْسَ لَهُ قَطْعُ تِلْكَ الْأَصَابِعِ ، لِأَنَّ فِي قَطْعِهَا إضْرَارًا بِالزَّائِدَةِ .
وَهَلْ لَهُ قَطْعُ الْأَصَابِعِ الْأَرْبَعِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ .
وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُلْصَقَةً بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ، فَهَلْ لَهُ قَطْعُ الْخَمْسِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ .
وَإِنْ كَانَتْ الزَّائِدَةُ ثَابِتَةً فِي إصْبَعٍ فِي أُنْمُلَتِهَا الْعُلْيَا ، لَمْ يَجُزْ قَطْعُهَا ، وَإِنْ كَانَتْ نَابِتَةً فِي السُّفْلَى أَوْ الْوُسْطَى ، فَلَهُ قَطْعُ مَا فَوْقَهَا مِنْ الْأَنَامِلِ ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ .
وَيَأْخُذُ أَرْشَ الْأُنْمُلَةِ الَّتِي تَعَذَّرَ قَطْعُهَا ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ، وَيَتْبَعُ ذَلِكَ خُمُسُ الْكَفِّ .

( 6736 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَطَعَ ذُو يَدٍ لَهَا أَظْفَارٌ يَدَ مَنْ لَا أَظْفَارَ لَهُ لَمْ يَجُزْ الْقِصَاصُ ؛ لِأَنَّ الْكَامِلَةَ لَا تُؤْخَذُ بِالنَّاقِصَةِ .
وَإِنْ كَانَتْ الْمَقْطُوعَةُ ذَاتَ أَظْفَارٍ ، إلَّا أَنَّهَا خَضْرَاءُ ، أَوْ مُسْتَحْشِفَةٌ ، أَخَذْنَا بِهَا السَّلِيمَةَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عِلَّةٌ وَمَرَضٌ ، وَالْمَرَضُ لَا يَمْنَعُ الْقِصَاصَ ، بِدَلِيلِ أَنَّا نَأْخُذُ الصَّحِيحَ بِالسَّقِيمِ .

( 6737 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِنْ كَانَ الْقَاطِعُ أَشَلَّ ، وَالْمَقْطُوعَةُ سَالِمَةً ، فَشَاءَ الْمَظْلُومُ أَخْذَهَا ، فَذَلِكَ لَهُ ، وَلَا شَيْءَ لَهُ غَيْرُهَا ، وَإِنْ شَاءَ عَفَا ، وَأَخَذَ دِيَةَ يَدِهِ ) أَمَّا إذَا اخْتَارَ الدِّيَةَ ، فَلَهُ دِيَةُ يَدِهِ ، لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا ؛ لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ عَلَى الْكَمَالِ بِالْقِصَاصِ ، فَكَانَتْ لَهُ الدِّيَةُ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْقَاطِعِ يَدٌ .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ .
وَإِنْ اخْتَارَ الْقِصَاصَ ، سُئِلَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ ، فَإِنْ قَالُوا : إنَّهُ إذَا قُطِعَ لَمْ تَنْسَدَّ الْعُرُوقُ ، وَدَخَلَ الْهَوَاءُ إلَى الْبَدَنِ فَأَفْسَدَهُ .
سَقَطَ الْقِصَاصُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَخْذُ نَفْسٍ بِطَرَفٍ .
وَإِنْ أُمِنَ هَذَا ، فَلَهُ الْقِصَاصُ ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِدُونِ حَقِّهِ ، فَكَانَ لَهُ ذَلِكَ ، كَمَا لَوْ رَضِيَ الْمُسْلِمُ بِالْقِصَاصِ مِنْ الذِّمِّيِّ ، وَالرَّجُلُ مِنْ الْمَرْأَةِ ، وَالْحُرُّ مِنْ الْعَبْدِ ، وَلَيْسَ لَهُ مَعَ الْقِصَاصِ أَرْشٌ ؛ لِأَنَّ الشَّلَّاءَ كَالصَّحِيحَةِ فِي الْخِلْقَةِ ، وَإِنَّمَا نَقَصَتْ فِي الصِّفَةِ ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَرْشٌ ، كَالصُّوَرِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : عِنْدِي لَهُ أَرْشٌ مَعَ الْقِصَاصِ .
عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ فِي عَيْنِ الْأَعْوَرِ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ فَإِنَّ إلْحَاقَ هَذَا الْفَرْعِ بِالْأُصُولِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا ، أَوْلَى مِنْ إلْحَاقِهِ بِفَرْعٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ ، خَارِجٍ عَنْ الْأُصُولِ ، مُخَالِفٍ لِلْقِيَاسِ .

( 6738 ) فَصْلٌ : وَتُؤْخَذُ الشَّلَّاءُ بِالشَّلَّاءِ ، إذَا أُمِنَ فِي الِاسْتِيفَاءِ الزِّيَادَةُ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ ، لَا تُؤْخَذُ بِهَا ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّ الشَّلَلَ عِلَّةٌ ، وَالْعِلَلُ يَخْتَلِفُ تَأْثِيرُهَا فِي الْبَدَن ، فَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُمَاثَلَةُ بَيْنَهُمَا .
وَلَنَا ، أَنَّهُمَا مُتَمَاثِلَانِ فِي ذَاتِ الْعُضْوِ وَصِفَتِهِ ، فَجَازَ أَخْذُ إحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى ، كَالصَّحِيحَةِ بِالصَّحِيحَةِ .

( 6739 ) فَصْلٌ : وَتُؤْخَذُ النَّاقِصَةُ بِالنَّاقِصَةِ ، إذَا تَسَاوَتَا فِيهِ ، بِأَنْ يَكُونَ الْمَقْطُوعُ مِنْ يَدِ الْجَانِي كَالْمَقْطُوعِ مِنْ يَدِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُمَا تَسَاوَتَا فِي الذَّاتِ وَالصِّفَةِ .
فَأَمَّا إنْ اخْتَلَفَا ، فَكَانَ الْمَقْطُوعُ مِنْ يَدِ أَحَدِهِمَا الْإِبْهَامَ ، وَمِنْ الْأُخْرَى إصْبَعَ غَيْرِهَا ، لَمْ يَجُزْ الْقِصَاصُ ؛ لِأَنَّ فِيهِ أَخْذَ إصْبَعٍ بِغَيْرِهَا .
وَإِنْ كَانَتْ يَدُ أَحَدِهِمَا نَاقِصَةً إصْبَعًا ، وَالْأُخْرَى نَاقِصَةً تِلْكَ الْإِصْبَعُ وَأُخْرَى ، جَازَ أَخْذُ النَّاقِصَةِ إصْبَعَيْنِ بِالنَّاقِصَةِ إصْبَعًا .
وَهَلْ لَهُ أَرْشُ إصْبَعِهِ الزَّائِدَةِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ .
وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْأُخْرَى بِهَا ؛ لِأَنَّ الْكَامِلَةَ لَا تُؤْخَذُ بِالنَّاقِصَةِ .

( 6740 ) فَصْلٌ : وَيَجُوزُ أَخْذُ النَّاقِصَةِ بِالْكَامِلَةِ ؛ لِأَنَّهَا دُونَ حَقِّهِ .
وَهَلْ لَهُ أَخْذُ دِيَةٍ لِأَصَابِعِ النَّاقِصَةِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا : لَهُ ذَلِكَ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، وَاخْتِيَارُ ابْنِ حَامِدٍ .
وَالثَّانِي ، لَيْسَ لَهُ مَعَ الْقِصَاصِ أَرْشٌ .
وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَقِيَاسُ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ ؛ لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى الْجَمْعِ بَيْن قِصَاصٍ وَدِيَةٍ فِي عُضْوٍ وَاحِدٍ .
وَقَالَ الْقَاضِي : قِيَاسُ قَوْلِهِ سُقُوطُ الْقِصَاصِ ، كَقَوْلِهِ فِي مَنْ قُطِعَتْ يَدُهُ مِنْ نِصْفِ الذِّرَاعِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَصُّ مِنْ مَوْضِعِ الْجِنَايَةِ ، وَيَضَعُ الْحَدِيدَةَ فِي مَوْضِعٍ وَضَعَهَا الْجَانِي ، فَمَلَكَ ذَلِكَ ، كَمَا لَوْ جَنَى عَلَيْهِ فَوْقَ الْمُوضِحَةِ ، أَوْ كَانَ رَأْسُ الشَّاجِّ أَصْغَرَ ، أَوْ أَخَذَ الشَّلَّاءَ بِالصَّحِيحَةِ .
وَيُفَارِقُ الْقَاطِعَ مِنْ نِصْفِ الذِّرَاعِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْقِصَاصُ مِنْ مَوْضِعِ الْجِنَايَةِ .
هَكَذَا حَكَاهُ الشَّرِيفُ ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ .

( 6741 ) فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَتْ يَدُ الْقَاطِعِ وَالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ كَامِلَتَيْنِ ، [ وَ ] فِي يَدِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إصْبَعٌ زَائِدَةٌ ، فَعَلَى قَوْلِ ابْنِ حَامِدٍ ، لَا عِبْرَةَ بِالزَّائِدَةِ ؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْخَرَاجِ وَالسِّلْعَةِ .
وَعَلَى قَوْلِ غَيْرِهِ ، لَهُ قَطْعُ يَدِ الْجَانِي .
وَهَلْ لَهُ حُكُومَةٌ فِي الزَّائِدَةِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ .
، وَإِنْ قَطَعَ مَنْ لَهُ خَمْسُ أَصَابِعَ أَصْلِيَّةٍ ، كَفَّ مَنْ لَهُ أَرْبَعُ أَصَابِعَ أَصْلِيَّةٍ وَإِصْبَعٌ زَائِدَةٌ ، أَوْ قَطَعَ مَنْ لَهُ أَرْبَعُ أَصَابِعَ وَإِصْبَعٌ زَائِدَةٌ ، كَفَّ مَنْ لَهُ خَمْسُ أَصَابِعَ أَصْلِيَّةٍ ، فَلَا قِصَاصَ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى ؛ لِأَنَّ الْأَصْلِيَّةَ لَا تُؤْخَذُ بِالزَّائِدَةِ .
وَلَهُ الْقِصَاصُ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ ، فِي قَوْلِ ابْنِ حَامِدٍ ؛ لِأَنَّ الزَّائِدَةَ لَا عِبْرَةَ بِهَا .
وَقَالَ غَيْرُهُ : إنْ لَمْ تَكُنْ الزَّائِدَةُ فِي مَحَلِّ الْأَصْلِيَّةِ ، فَلَا قِصَاصَ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْإِصْبَعَيْنِ مُخْتَلِفَانِ .
وَإِنْ كَانَتْ فِي مَحَلِّ الْأَصْلِيَّةِ ، فَقَالَ الْقَاضِي : يَجْرِي الْقِصَاصُ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَلَا شَيْءَ لَهُ لِنَقْصِ الزَّائِدَةِ .
وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ ؛ فَإِنَّهَا مَتَى كَانَتْ فِي مَحَلِّ الْأَصْلِيَّةِ ، كَانَتْ أَصْلِيَّةً ، لِأَنَّ الزَّائِدَةَ هِيَ الَّتِي زَادَتْ عَنْ عَدَدِ الْأَصَابِع ، أَوْ كَانَتْ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْأَصَابِعِ ، وَهَذَا لَهُ خَمْسُ أَصَابِعَ فِي مَحَلِّهَا ، فَكَانَتْ كُلُّهَا أَصْلِيَّةً .
فَإِنْ قَالُوا : مَعْنَى كَوْنِهَا زَائِدَةً ، أَنَّهَا ضَعِيفَةٌ مَائِلَةٌ عَنْ سَمْتِ الْأَصَابِعِ .
قُلْنَا : ضَعْفُهَا لَا يُوجِبُ كَوْنَهَا زَائِدَةً ، كَذَكَرِ الْعِنِّينِ ، وَأَمَّا مَيْلُهَا عَنْ الْأَصَابِعِ ، فَإِنَّهَا إنْ لَمْ تَكُنْ نَابِتَةً فِي مَحَلِّ الْإِصْبَعِ الْمَعْدُومَةِ ، فَسَدَ قَوْلُهُمْ إنَّهَا فِي مَحَلِّهَا ، وَإِنْ كَانَتْ نَابِتَةً فِي مَوْضِعِهَا ، وَإِنَّمَا مَالَ رَأْسُهَا وَاعْوَجَّتْ ، فَهَذَا مَرَضٌ لَا يُخْرِجُهَا عَنْ كَوْنِهَا أَصْلِيَّةً .

( 6742 ) فَصْلٌ : وَإِذَا قَطَعَ إصْبَعَهُ ، فَأَصَابَهُ مِنْ جُرْحِهَا أَكَلَةٌ فِي يَدِهِ ، وَسَقَطَتْ مِنْ مَفْصِلٍ ، فَفِيهَا الْقِصَاصُ .
وَإِنْ بَادَرَهَا صَاحِبُهَا ، فَقَطَعَهَا مِنْ الْكُوعِ ، لِئَلَّا تَسْرِيَ إلَى سَائِرِ جَسَدِهِ ، ثُمَّ انْدَمَلَ جُرْحُهُ ، فَعَلَى الْجَانِي الْقِصَاصُ فِي الْإِصْبَعِ ، وَالْحُكُومَةُ فِيمَا تَآكَلَ مِنْ الْكَفِّ ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِيمَا قَطَعَهُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ تَلِفَ بِفِعْلِهِ .
وَإِنْ لَمْ يَنْدَمِلْ ، وَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ ، فَالْجَانِي شَرِيكُ نَفْسِهِ ، فَيَحْتَمِلُ وُجُوبَ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجِبَ بِحَالٍ ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ، إنَّمَا قَصَدَ بِهِ الْمَصْلَحَةَ ، فَهُوَ عَمْدُ الْخَطَأِ ، وَشَرِيكُ الْخَاطِئِ لَا قِصَاصِ عَلَيْهِ ، وَيَكُونُ عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ .
وَإِنْ قَطَعَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مَوْضِعَ الْأَكَلَةِ ، نَظَرْت ؛ فَإِنَّ قَطَعَ لَحْمًا مَيِّتًا ، ثُمَّ سَرَتْ الْجِنَايَةُ ، فَالْقِصَاصُ عَلَى الْجَانِي ؛ لِأَنَّهُ سِرَايَةُ جُرْحِهِ خَاصَّةً ، وَإِنْ كَانَ فِي لَحْمٍ حَيٍّ ، فَمَاتَ ، فَالْحُكْمُ فِيهِ كَمَا لَوْ قَطَعَهَا خَوْفًا مِنْ سِرَايَتهَا .

( 6743 ) فَصْلٌ : وَإِذَا قَطَعَ أُنْمُلَةً لَهَا طَرَفَانِ ، إحْدَاهُمَا : زَائِدَةٌ وَالْأُخْرَى أَصْلِيَّةٌ ، فَإِنْ كَانَتْ أُنْمُلَةُ الْقَاطِعِ ذَاتَ طَرَفَيْنِ أَيْضًا ، أُخِذَتْ بِهَا ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ ذَاتَ طَرَفَيْنِ .
قُطِعَتْ ، وَعَلَيْهِ حُكُومَةٌ فِي الزَّائِدَةِ .
وَإِنْ كَانَتْ الْمَقْطُوعَةُ ذَاتَ طَرَفٍ وَاحِدٍ ، وَأُنْمُلَةُ الْقَاطِعِ ذَاتُ طَرَفَيْنِ ، أُخِذَتْ بِهَا ، فِي قَوْلِ ابْنِ حَامِدٍ ، وَعَلَى قَوْلِ غَيْرِهِ ؛ لَا قِصَاصَ فِيهَا ، وَلَهُ دِيَةُ أُنْمُلَتِهِ .
وَإِنْ ذَهَبَ الطَّرَفُ الزَّائِدُ ، فَلَهُ الِاسْتِيفَاءُ .
وَإِنْ قَالَ : أَنَا أَصْبِرُ حَتَّى يَذْهَبَ الزَّائِدُ ثُمَّ أَقْتَصُّ .
فَلَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ حَقُّهُ ، فَلَا يُجْبَرُ عَلَى تَعْجِيلِ اسْتِيفَائِهِ .

( 6744 ) فَصْلٌ : وَلَوْ قَطَعَ أُنْمُلَةَ رَجُلٍ الْعُلْيَا ، ثُمَّ قَطَعَ أُنْمُلَةَ آخَرَ الْوُسْطَى ، ثُمَّ قَطَعَ السُّفْلَى مِنْ ثَالِثٍ ، فَلِلْأَوَّلِ الْقِصَاصُ مِنْ الْعُلْيَا ، ثُمَّ لِلثَّانِي أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ الْوُسْطَى ، ثُمَّ لِلثَّالِثِ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ السُّفْلَى ، سَوَاءٌ جَاءُوا دَفْعَةً وَاحِدَةً ، أَوْ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا قِصَاصَ إلَّا فِي الْعُلْيَا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ فِي غَيْرِهَا حَالَ الْجِنَايَةِ ، لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَائِهِ ، فَلَمْ يَجِبْ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا لَوْ كَانَ غَيْرَ مُكَافِئٍ حَالَ الْجِنَايَةِ ، ثُمَّ صَارَ مُكَافِئًا بَعْدَهُ .
وَلَنَا ، أَنَّ تَعَذُّرَ الْقِصَاصِ لِاتِّصَالِ مَحَلِّهِ بِغَيْرِهِ لَا يَمْنَعُهُ إذَا زَالَ الِاتِّصَالُ ، كَمَا لَوْ جَنَتْ الْحَامِلُ .
وَيُفَارِقُ عَدَمَ التَّكَافُؤِ ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ لِمَعْنًى فِيهِ ، وَهَا هُنَا تَعَذَّرَ لِاتِّصَالِ غَيْرِهِ بِهِ .
فَأَمَّا إنْ جَاءَ صَاحِبُ الْوُسْطَى أَوْ السُّفْلَى يَطْلُبُ الْقِصَاصَ قَبْلَ صَاحِبِ الْعُلْيَا ، لَمْ يُعْطِهِ ؛ لِأَنَّ فِي اسْتِيفَائِهِ إتْلَافَ أُنْمُلَةٍ لَا يَسْتَحِقُّهَا ، وَقِيلَ لَهُمَا : إمَّا أَنْ تَصْبِرَا حَتَّى تَعْلَمَا مَا يَكُونُ مِنْ الْأَوَّلِ ، فَإِنْ اقْتَصَّ فَلَكُمَا الْقِصَاصُ ، وَإِنْ عَفَا فَلَا قِصَاصَ لَكُمَا ، وَإِمَّا أَنْ تَرْضَيَا بِالْعَقْلِ .
فَإِذَا جَاءَ صَاحِبُ الْعُلْيَا فَاقْتَصَّ ، فَلِلثَّانِي الِاقْتِصَاصُ ، وَحُكْمُ الثَّالِثِ مَعَ الثَّانِي كَحُكْمِ الثَّانِي مَعَ الْأَوَّلِ ، وَإِنْ عَفَا ، فَلَهُمَا الْعَقْلُ ، فَإِنْ قَالَا : نَحْنُ نَصْبِرُ وَنَنْظُرُ بِالْقِصَاصِ أَنْ تَسْقُطَ الْعُلْيَا بِمَرَضٍ أَوْ نَحْوِهِ ، ثُمَّ نَقْتَصُّ .
لَمْ يُمْنَعَا مِنْ ذَلِكَ .
وَإِنْ قَطَعَ صَاحِبُ الْوُسْطَى الْوُسْطَى وَالْعُلْيَا ، فَعَلَيْهِ دِيَةُ الْعُلْيَا ، تُدْفَعُ إلَى صَاحِبِ الْعُلْيَا .
وَإِنْ قَطَعَ الْإِصْبَعَ كُلَّهَا ، فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي الْأُنْمُلَةِ الثَّالِثَةِ ، وَعَلَيْهِ أَرْشُ الْعُلْيَا لِلْأَوَّلِ ، وَأَرْشُ السُّفْلَى عَلَى الْجَانِي لَصَاحِبِهَا ، وَإِنْ عَفَا الْجَانِي عَنْ قِصَاصِهَا ، وَجَبَ

أَرْشُهَا ، يَدْفَعُهُ إلَيْهِ ، لِيَدْفَعَهُ إلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ .

( 6745 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَطَعَ أُنْمُلَةَ رَجُلٍ الْعُلْيَا ، ثُمَّ قَطَعَ أُنْمُلَتَيْ آخَرَ الْعُلْيَا وَالْوُسْطَى مِنْ تِلْكَ الْإِصْبَعِ ، فَلِلْأَوَّلِ قَطْعُ الْعُلْيَا ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ أَسْبَقُ ، ثُمَّ يَقْطَعُ الثَّانِي الْوُسْطَى ، وَيَأْخُذُ أَرْشَ الْعُلْيَا مِنْهُ .
فَإِنْ بَادَرَ الثَّانِي فَقَطَعَ الْأُنْمُلَتَيْنِ ، فَقَدْ اسْتَوْفَى حَقَّهُ ، وَتَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ لِلْأَوَّلِ ، وَلَهُ الْأَرْشُ عَلَى الْجَانِي .
وَإِنْ كَانَ قَطَعَ الْأُنْمُلَتَيْنِ أَوَّلًا ، قَدَّمْنَا صَاحِبَهُمَا فِي الْقِصَاصِ ، لِلْأَوَّلِ ، وَلَهُ الْأَرْشُ عَلَى الْجَانِي .
وَإِنْ بَادَرَ صَاحِبُهَا فَقَطَعَهَا ، فَقَدْ اسْتَوْفَى حَقَّهُ ، وَتُقْطَعُ الْوُسْطَى لِلْأَوَّلِ ، وَيَأْخُذُ الْأَرْشَ لِلْعُلْيَا .
وَلَوْ قَطَعَ أُنْمُلَةَ رَجُلٍ الْعُلْيَا ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْقَاطِعِ عُلْيَا ، فَاسْتَوْفَى الْجَانِي مِنْ الْوُسْطَى ، فَإِنْ عَفَا إلَى الدِّيَةِ ، تَقَاصَّا وَتَسَاقَطَا ؛ لِأَنَّ دِيَتَهُمَا وَاحِدَةٌ ، وَإِنْ اخْتَارَ الْجَانِي الْقِصَاصَ ، فَلَهُ ذَلِكَ ، وَيَدْفَعُ أَرْشَ الْعُلْيَا .
وَيَجِيءُ عَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ ، أَنْ لَا يَجِبَ الْقِصَاصَ ؛ لِأَنَّ دِيَتَهُمَا وَاحِدَةٌ ، وَاسْمُ الْأُنْمُلَةِ يَشْمَلُهُمَا ، فَتَسَاقَطَا ، كَقَوْلِهِ فِي إحْدَى الْيَدَيْنِ بَدَلًا عَنْ الْأُخْرَى .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِذَا قُتِلَ وَلَهُ وَلِيَّانِ ؛ بَالِغٌ ، وَطِفْلٌ أَوْ غَائِبٌ ، لَمْ يَقْتُلْ ، حَتَّى يَقْدَمَ الْغَائِبُ وَيَبْلُغَ الطِّفْلُ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ وَرَثَةَ الْقَتِيلِ إذَا كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ ، لَمْ يَجُزْ لَبَعْضِهِمْ اسْتِيفَاءُ الْقَوَدِ إلَّا بِإِذْنِ الْبَاقِينَ ، فَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ غَائِبًا ، اُنْتُظِرَ قُدُومُهُ ، وَلَمْ يَجُزْ لِلْحَاضِرِ الِاسْتِقْلَالُ بِالِاسْتِيفَاءِ ، بِغَيْرِ خِلَافٍ عَلِمْنَاهُ ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا ، فَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَيْسَ لَغَيْرِهِمَا الِاسْتِيفَاءُ حَتَّى يَبْلُغَ الصَّغِيرُ وَيُفِيقَ الْمَجْنُونُ .
وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو يُوسُفَ ، وَإِسْحَاقُ ، وَيُرْوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَعَنْ أَحْمَدَ ، رِوَايَةٌ أُخْرَى : لِلْكِبَارِ الْعُقَلَاءِ اسْتِيفَاؤُهُ .
وَبِهِ قَالَ حَمَّادٌ ، وَمَالِكٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَاللَّيْثُ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، قَتَلَ ابْنَ مُلْجِمٍ ، قِصَاصًا ، وَفِي الْوَرَثَةِ صِغَارٌ ، فَلَمْ يُنْكَرْ ذَلِكَ ، وَلِأَنَّ وِلَايَةَ الْقِصَاصِ هِيَ اسْتِحْقَاقُ اسْتِيفَائِهِ ، وَلَيْسَ لِلصَّغِيرِ هَذِهِ الْوِلَايَةُ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ قِصَاصٌ غَيْرُ مُتَحَتِّمٍ ، ثَبَتَ لَجَمَاعَةٍ مُعَيَّنِينَ ، فَلَمْ يَجُزْ لِأَحَدِهِمْ اسْتِيفَاؤُهُ اسْتِقْلَالًا ، كَمَا لَوْ كَانَ بَيْنَ حَاضِرٍ وَغَائِبٍ ، أَوْ أَحَدُ بَدَلَيْ النَّفْسِ ، فَلَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ بَعْضُهُمْ كَالدِّيَةِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ لِلصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ فِيهِ حَقًّا أَرْبَعَةُ أُمُورٍ ؛ أَحَدُهَا ، أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُنْفَرِدًا لَاسْتَحَقَّهُ ، وَلَوْ نَافَاهُ الصِّغَرُ مَعَ غَيْرِهِ لَنَافَاهُ مُنْفَرِدًا ، كَوِلَايَةِ النِّكَاحِ .
وَالثَّانِي ، أَنَّهُ لَوْ بَلَغَ لَاسْتَحَقَّ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا عِنْدَ الْمَوْتِ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا بَعْدَهُ ، كَالرَّقِيقِ إذَا عَتَقَ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ .
وَالثَّالِث : أَنَّهُ لَوْ صَارَ الْأَمْرُ إلَى الْمَالِ ،

لَاسْتَحَقَّ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا لِلْقِصَاصِ لَمَا اسْتَحَقَّ بَدَلَهُ ، كَالْأَجْنَبِيِّ .
وَالرَّابِعُ : أَنَّهُ لَوْ مَاتَ الصَّغِيرُ لَاسْتَحَقَّهُ وَرَثَتُهُ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ حَقًّا لَمْ يَرِثْهُ ، كَسَائِرِ مَا لَمْ يَسْتَحِقَّهُ ، فَأَمَّا ابْنُ مُلْجِمٍ ، فَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ قَتَلَهُ بِكُفْرِهِ ، لِأَنَّهُ قَتَلَ عَلِيًّا مُسْتَحِلًّا لِدَمِهِ ، مُعْتَقِدًا كُفْرَهُ ، مُتَقَرِّبًا بِذَلِكَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى .
وَقِيلَ : قَتَلَهُ لِسَعْيِهِ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ ، وَإِظْهَارِ السِّلَاحِ ، فَيَكُونُ كَقَاطِعِ الطَّرِيقِ إذَا قَتَلَ .
وَقَتْلُهُ مُتَحَتِّمٌ ، وَهُوَ إلَى الْإِمَامِ ، وَالْحَسَنُ هُوَ الْإِمَامُ ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَنْتَظِرْ الْغَائِبِينَ مِنْ الْوَرَثَةِ .
وَلَا خِلَافَ بَيْننَا فِي وُجُوبِ انْتِظَارِهِمْ ، وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُ قَتَلَهُ قِصَاصًا ، فَقَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى خِلَافِهِ ، فَكَيْفَ يَحْتَجُّ بِهِ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ .

( 6747 ) فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الْوَارِثُ وَاحِدًا صَغِيرًا ، كَصَبِيٍّ قُتِلَتْ أُمُّهُ ، وَلَيْسَتْ زَوْجَةً لِأَبِيهِ ، فَالْقِصَاصُ لَهُ ، وَلَيْسَ لِأَبِيهِ وَلَا غَيْرِهِ اسْتِيفَاؤُهُ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٌ : لَهُ اسْتِيفَاؤُهُ .
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْوَصِيِّ وَالْحَاكِمِ ، فِي الطَّرَفِ دُونَ النَّفْسِ .
وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي مَوْضِعٍ فِي الْأَبِ رِوَايَتَيْنِ ، وَفِي مَوْضِعٍ وَجْهَيْنِ ، أَحَدُهُمَا : كَقَوْلِنَا ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ أَحَدُ بَدَلَيْ النَّفْسِ ، فَكَانَ لِلْأَبِ اسْتِيفَاؤُهُ ، كَالدِّيَةِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إيقَاعَ الطَّلَاقِ بِزَوْجَتِهِ ، فَلَا يَمْلِكُ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ لَهُ ، كَالْوَصِيِّ ؛ وَلِأَنَّ الْقَصْدَ التَّشَفِّي وَدَرْكُ الْغَيْظِ ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِاسْتِيفَاءِ الْوَلِيِّ .
وَيُخَالِفُ الدِّيَةَ ، فَإِنَّ الْغَرَضَ يَحْصُلُ بِاسْتِيفَاءِ الْأَبِ لَهُ ، فَافْتَرَقَا ؛ وَلِأَنَّ الدِّيَةَ إنَّمَا يَمْلِكُ اسْتِيفَاءَهَا إذَا تَعَيَّنَتْ ، وَالْقِصَاصُ لَا يَتَعَيَّنُ ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ الْعَفْوُ إلَى الدِّيَةِ ، وَالصُّلْحُ عَلَى مَالٍ أَكْثَرُ مِنْهَا وَأَقَلُّ ، وَالدِّيَةُ بِخِلَافِ ذَلِكَ .

فَصْلٌ : وَكُلُّ مَوْضِعٍ وَجَبَ تَأْخِيرُ الِاسْتِيفَاءِ ، فَإِنْ الْقَاتِلَ يُحْبَسُ حَتَّى يَبْلُغَ الصَّبِيُّ ، وَيَعْقِلَ الْمَجْنُونُ ، وَيَقْدَمَ الْغَائِبُ ، وَقَدْ حَبَسَ مُعَاوِيَةُ هُدْبَةَ بْنِ خَشْرَمٍ فِي قِصَاصٍ حَتَّى بَلَغَ ابْنُ الْقَتِيلِ ، فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ ، فَلَمْ يُنْكَرْ ذَلِكَ ، وَبَذَلَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ وَسَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ لِابْنِ الْقَتِيلِ سَبْعَ دِيَاتٍ ، فَلَمْ يَقْبَلْهَا .
فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَ لَا يُخْلَى سَبِيلُهُ كَالْمُعْسِرِ بِالدَّيْنِ ؟ قُلْنَا : لِأَنَّ فِي تَخَلَّيْتِهِ تَضْيِيعًا لِلْحَقِّ ، فَإِنَّهُ لَا يُؤْمَنُ هَرَبُهُ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُعْسِرِ مِنْ وُجُوهٍ ؛ أَحَدُهَا : أَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ لَا يَجِبُ مَعَ الْإِعْسَارِ ، فَلَا يُحْبَسُ بِمَا لَا يَجِبُ ، وَالْقِصَاصُ هَاهُنَا وَاجِبٌ ، وَإِنَّمَا تَعَذَّرَ الْمُسْتَوْفِي .
الثَّانِي ، أَنَّ الْمُعْسِرَ إذَا حَبَسْنَاهُ تَعَذَّرَ الْكَسْبُ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ ، فَلَا يُفِيدُ ، بَلْ يَضُرُّ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، وَهَا هُنَا الْحَقُّ نَفْسُهُ يَفُوتُ بِالتَّخْلِيَةِ لَا بِالْحَبْسِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ قَدْ اُسْتُحِقَّ قَتْلُهُ ، وَفِيهِ تَفْوِيتُ نَفْسِهِ وَنَفْعِهِ ، فَإِذَا تَعَذَّرَ تَفْوِيتُ نَفْسِهِ ، جَازَ تَفْوِيتُ نَفْعِهِ لِإِمْكَانِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَ يُحْبَسُ مِنْ أَجْلِ الْغَائِبِ ، وَلَيْسَ لِلْحَاكِمِ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ إذَا كَانَ مُكَلَّفًا رَشِيدًا ؛ وَلِذَلِكَ لَوْ وَجَدَ بَعْضَ مَالِهِ مَغْصُوبًا لَمْ يَمْلِكْ انْتِزَاعَهُ ؟ قُلْنَا : لِأَنَّ فِي الْقِصَاصِ حَقًّا لِلْمَيِّتِ ، وَلِلْحَاكِمِ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ ، وَلِهَذَا تَنْفُذُ وَصَايَاهُ مِنْ الدِّيَةِ ، وَتُقْضَى دُيُونُهُ مِنْهَا ، فَنَظِيرُهُ أَنْ يَجِدَ الْحَاكِمُ مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ فِي يَدِ إنْسَانٍ شَيْئًا غَصْبًا ، وَالْوَارِثُ غَائِبٌ ، فَإِنَّهُ يَأْخُذُهُ .
وَلَوْ كَانَ الْقِصَاصُ لِحَيِّ فِي طَرَفِهِ ، لَمْ يَتَعَرَّضْ لِمَنْ هُوَ عَلَيْهِ .
فَإِنْ أَقَامَ الْقَاتِلُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ لِيُخَلِّيَ سَبِيلَهُ ، لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ لَا تَصِحُّ فِي الْقِصَاصِ ، فَإِنَّ فَائِدَتَهَا اسْتِيفَاءُ الْحَقِّ مِنْ الْكَفِيلِ إنْ

تَعَذَّرَ إحْضَارُ الْمَكْفُولِ بِهِ ، وَلَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ غَيْرِ الْقَاتِلِ ، فَلَمْ تَصِحَّ الْكَفَالَةُ بِهِ كَالْحَدِّ ، وَلِأَنَّ فِيهِ تَغْرِيرًا بِحَقِّ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا خَلَّى سَبِيلَهُ فَهَرَبَ ، فَضَاعَ الْحَقُّ .

( 6749 ) فَصْلٌ : فَإِنْ قَتَلَهُ بَعْضُ الْأَوْلِيَاءِ بِغَيْرِ إذْنِ الْبَاقِينَ ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ قِصَاصٌ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ ، وَالْقَوْلُ الْأَخِيرُ ، عَلَيْهِ الْقِصَاصُ ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ قَتْلِهِ ، وَبَعْضُهُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ لَهُ ، وَقَدْ يَجِبُ الْقِصَاصُ بِإِتْلَافِ بَعْضِ النَّفْسِ ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ اشْتَرَكَ الْجَمَاعَةُ فِي قَتْلِ وَاحِدٍ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ مُشَارِكٌ فِي اسْتِحْقَاقِ الْقَتْلِ ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ ، كَمَا لَوْ كَانَ مُشَارِكًا فِي مِلْكِ الْجَارِيَةِ وَوَطْئِهَا ، وَلِأَنَّهُ مَحَلٌّ يَمْلِكُ بَعْضَهُ ، فَلَمْ تَجِبْ الْعُقُوبَةُ الْمُقَدَّرَةُ بِاسْتِيفَائِهِ كَالْأَصْلِ .
وَيُفَارِقُ إذَا قَتَلَ الْجَمَاعَةُ وَاحِدًا ، فَإِنَّا لَا نُوجِبُ الْقِصَاصَ بِقَتْلِ بَعْضِ النَّفْسِ ، وَإِنَّمَا نَجْعَلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتِلًا لِجَمِيعِهَا ، وَإِنْ سَلَّمْنَا وُجُوبَهُ عَلَيْهِ لِقَتْلِهِ بَعْضَ النَّفْسِ ، فَمِنْ شَرْطِهِ الْمُشَارَكَةُ لِمَنْ فَعَلَهُ ، كَفِعْلِهِ فِي الْعَمْدِ وَالْعُدْوَانِ ، وَلَا يَتَحَقَّقُ هَاهُنَا .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّ لِلْوَلِيِّ الَّذِي لَمْ يَقْتُلْ قِسْطَهُ مِنْ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ مِنْ الْقِصَاصِ سَقَطَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ مَاتَ الْقَاتِلُ أَوْ عَفَا بَعْضُ الْأَوْلِيَاءِ .
وَهَلْ يَجِبُ ذَلِكَ عَلَى قَاتِلِ الْجَانِي ، أَوْ فِي تَرِكَةِ الْجَانِي ؟ فِيهِ وَجْهَانِ .
وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ ؛ أَحَدُهُمَا : يَرْجِعُ عَلَى قَاتِلِ الْجَانِي ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَحَلَّ حَقِّهِ ، فَكَانَ الرُّجُوعُ عَلَيْهِ بِعِوَضٍ نَصِيبَهُ ، كَمَا لَوْ كَانَتْ لَهُ وَدِيعَةٌ فَأَتْلَفَهَا .
وَالثَّانِي ، يَرْجِعُ فِي تَرِكَةِ الْجَانِي ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ أَجْنَبِيٌّ ، أَوْ عَفَا شَرِيكُهُ عَنْ الْقِصَاصِ ، وَقَوْلُنَا : أَتْلَفَ مَحَلَّ حَقِّهِ ، يَبْطُلُ بِمَا إذَا أَتْلَفَ مُسْتَأْجَرَهُ أَوْ غَرِيمَهُ أَوْ امْرَأَتَهُ ، أَوْ كَانَ الْمُتْلَفُ أَجْنَبِيًّا ، وَيُفَارِقُ الْوَدِيعَةَ ، فَإِنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لَهُمَا ، فَوَجَبَ عِوَضُ مِلْكِهِ ، أَمَّا الْجَانِي فَلَيْسَ بِمَمْلُوكٍ

لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا لَهُ عَلَيْهِ حَقٌّ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَتَلَ غَرِيمَهُ .
فَعَلَى هَذَا ، يَرْجِعُ وَرَثَةُ الْجَانِي عَلَى قَاتِلِهِ بِدِيَةِ مُوَرِّثِهِمْ إلَّا قَدْرَ حَقِّهِ مِنْهَا .
فَعَلَى هَذَا ، لَوْ كَانَ الْجَانِي أَقَلَّ دِيَةً مِنْ قَاتِلِهِ ، مِثْلَ امْرَأَةٍ قَتَلَتْ رَجُلًا لَهُ ابْنَانِ ، فَقَتَلَهَا أَحَدُهُمَا بِغَيْرِ إذْنِ الْآخَرِ ، فَلِلْآخَرِ نِصْفُ دِيَةِ أَبِيهِ فِي تَرِكَةِ الْمَرْأَةِ الَّتِي قَتَلَتْهُ ، وَيَرْجِعُ وَرَثَتُهَا بِنِصْفِ دِيَتِهَا عَلَى قَاتِلِهَا ، وَهُوَ رُبْعُ دِيَةِ الرَّجُلِ .
وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ، يَرْجِعُ الِابْنُ الَّذِي لَمْ يَقْتُلْ عَلَى أَخِيهِ بِنِصْفِ دِيَةِ الْمَرْأَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُفَوِّتْ عَلَى أَخِيهِ إلَّا نِصْفَ الْمَرْأَةِ ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى وَرَثَةِ الْمَرْأَةِ بِشَيْءِ ؛ لِأَنَّ أَخَاهُ الَّذِي قَتَلَهَا أَتْلَفَ جَمِيعَ الْحَقِّ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ هَذَا الْوَجْهِ وَمِنْ فَوَائِدِهِ أَيْضًا ، صِحَّةُ إبْرَاءِ مَنْ حَكَمْنَا بِالرُّجُوعِ عَلَيْهِ ، وَمِلْكُ مُطَالَبَتِهِ ، فَإِنْ قُلْنَا : يَرْجِعُ عَلَى وَرَثَةِ الْجَانِي .
صَحَّ إبْرَاؤُهُمْ ، وَمَلَكُوا الرُّجُوعَ عَلَى قَاتِلِ مَوْرُوثِهِمْ بِقِسْطِ أَخِيهِ الْعَافِي .
وَإِنْ قُلْنَا : يَرْجِعُ عَلَى تَرِكَةِ الْجَانِي .
وَلَهُ تَرِكَةٌ ، فَلَهُ الْأَخْذُ مِنْهَا ، سَوَاءٌ أَمْكَنَ وَرَثَتَهُ أَنْ يَسْتَوْفُوا مِنْ الشَّرِيكِ ، أَوْ لَمْ يُمْكِنْهُمْ .
وَإِنْ قُلْنَا : يَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ .
لَمْ يَكُنْ لَهُ مُطَالَبَةُ وَرَثَةِ الْجَانِي ، سَوَاءٌ كَانَ شَرِيكُهُ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا .

( 6750 ) مَسْأَلَةٌ : ؛ قَالَ : ( وَمَنْ عَفَا مِنْ وَرَثَةِ الْمَقْتُولِ عَنْ الْقِصَاصِ ، لَمْ يَكُنْ إلَى الْقِصَاصِ سَبِيلٌ ، وَإِنْ كَانَ الْعَافِي زَوْجًا أَوْ زَوْجَةً ) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى إجَازَةِ الْعَفْو عَنْ الْقِصَاصِ ، وَأَنَّهُ أَفْضَلُ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ ؛ أَمَّا الْكِتَابُ ، فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِي سِيَاقِ قَوْلِهِ : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } وَقَالَ تَعَالَى { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } .
إلَى قَوْله : { وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ } .
قِيلَ فِي تَفْسِيرِهِ : فَهُوَ كَفَّارَةٌ لِلْجَانِي ، يَعْفُو صَاحِبُ الْحَقِّ عَنْهُ .
وَقِيلَ : فَهُوَ كَفَّارَةٌ لِلْعَافِيَّ بِصَدَقَتِهِ وَأَمَّا السُّنَّةُ ، فَإِنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ : { مَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُفِعَ إلَيْهِ شَيْءٌ فِيهِ قِصَاصٌ ، إلَّا أَمَرَ فِيهِ بِالْعَفْوِ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَفِي حَدِيثِهِ فِي قِصَّةِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ النَّضْرِ ، حِينَ كَسَرَتْ سِنَّ جَارِيَةٍ ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِصَاصِ ، فَعَفَا الْقَوْمُ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَالْقِصَاصُ حَقٌّ لِجَمِيعِ الْوَرَثَةِ مِنْ ذَوِي الْأَنْسَابِ وَالْأَسْبَابِ ، وَالرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ ، وَالصِّغَارِ وَالْكِبَارِ ، فَمَنْ عَفَا مِنْهُمْ صَحَّ عَفْوُهُ ، وَسَقَطَ الْقِصَاصُ ، وَلَمْ يَبْقَ لَأَحَدٍ إلَيْهِ سَبِيلٌ .
هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ مِنْهُمْ عَطَاءٌ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَالْحَكَمُ ، وَحَمَّادٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَرُوِيَ مَعْنَى ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ ، وَطَاوُسٍ ، وَالشَّعْبِيِّ .
وَقَالَ الْحَسَنُ ، وَقَتَادَةُ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ ، وَاللَّيْثُ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ : لَيْسَ لِلنِّسَاءِ عَفْوٌ ، وَالْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ ، أَنَّهُ مَوْرُوثٌ لِلْعَصَبَاتِ خَاصَّةً .
وَهُوَ وَجْهٌ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ لِدَفْعِ

الْعَارِ ، فَاخْتَصَّ بِهِ الْعَصَبَاتُ .
كَوِلَايَةِ النِّكَاحِ .
وَلَهُمْ وَجْهٌ ثَالِثٌ ، أَنَّهُ لِذَوِي الْأَنْسَابِ دُونَ الزَّوْجَيْنِ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ ، فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ ؛ بَيْنَ أَنْ يَقْتُلُوا أَوْ يَأْخُذُوا الْعَقْلَ } .
وَأَهْلُهُ ذَوُو رَحِمِهِ .
وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ إلَى أَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَسْقُطُ بِعَفْوِ بَعْضِ الشُّرَكَاءِ ، وَقِيلَ : هُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ ؛ لِأَنَّ حَقَّ غَيْرِ الْعَافِي لَا يَرْضَى بِإِسْقَاطِهِ ، وَقَدْ تُؤْخَذُ النَّفْسُ بِبَعْضِ النَّفْسِ ، بِدَلِيلِ قَتْلِ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ .
وَلَنَا ، عُمُومُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : " فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ " .
وَهَذَا عَامٌ فِي جَمِيعِ أَهْلِهِ ، وَالْمَرْأَةُ مِنْ أَهْلِهِ ، بِدَلِيلِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ يَعْذُرُنِي مِنْ رَجُلٍ يَبْلُغُنِي أَذَاهُ فِي أَهْلِي ، وَمَا عَلِمْت عَلَى أَهْلِي إلَّا خَيْرًا ، وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا مَا عَلِمْت عَلَيْهِ إلَّا خَيْرًا ، وَمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إلَّا مَعِي .
يُرِيدُ عَائِشَةَ .
وَقَالَ لَهُ أُسَامَةُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَهْلَك وَلَا نَعْلَمُ إلَّا خَيْرًا } .
وَرَوَى زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ ، أَنَّ عُمَرَ أُتِيَ بِرَجُلِ قَتَلَ قَتِيلًا ، فَجَاءَ وَرَثَةُ الْمَقْتُولِ لِيَقْتُلُوهُ ، فَقَالَتْ امْرَأَةُ الْمَقْتُولِ ، وَهِيَ أُخْتُ الْقَاتِلِ : قَدْ عَفَوْت عَنْ حَقِّي .
فَقَالَ عُمَرُ : اللَّهُ أَكْبَرُ ، عَتَقَ الْقَتِيلُ .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ زَيْدٍ ، قَالَ : دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى امْرَأَتِهِ ، فَوَجَدَ عِنْدَهَا رَجُلًا ، فَقَتَلَهَا ، فَاسْتَعْدَى إخْوَتُهَا عُمَرَ ، فَقَالَ بَعْضُ إخْوَتِهَا : قَدْ تَصَدَّقْت .
فَقَضَى لِسَائِرِهِمْ بِالدِّيَةِ .
وَرَوَى قَتَادَةُ ، أَنَّ عُمَرَ رُفِعَ إلَيْهِ رَجُلٌ قَتَلَ رَجُلًا ، فَجَاءَ أَوْلَادُ الْمَقْتُولِ ، وَقَدْ عَفَا بَعْضُهُمْ ، فَقَالَ عُمَرُ لِابْنِ مَسْعُودٍ : مَا تَقُولُ ؟ قَالَ : إنَّهُ قَدْ أُحْرِزَ مِنْ الْقَتْلِ .
فَضَرَبَ عَلَى كَتِفِهِ ، وَقَالَ : كَنِيفٌ مُلِئَ عِلْمًا .

وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْقِصَاصَ لِجَمِيعِ الْوَرَثَةِ ، مَا ذَكَرْنَاهُ فِي مَسْأَلَةِ الْقِصَاصِ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ ، وَلِأَنَّ مِنْ وَرِثَ الدِّيَةَ وَرِثَ الْقِصَاصَ كَالْعُصْبَةِ ، فَإِذَا عَفَا بَعْضُهُمْ ، صَحَّ عَفْوُهُ ، كَعَفْوِهِ عَنْ سَائِرِ حُقُوقِهِ ، وَزَوَالُ الزَّوْجِيَّةِ لَا يَمْنَعُ اسْتِحْقَاقَ الْقِصَاصِ ، كَمَا لَمْ يَمْنَعْ اسْتِحْقَاقَ الدِّيَةِ ، وَسَائِرِ حُقُوقِهِ الْمَوْرُوثَةِ .
وَمَتَى ثَبَتَ أَنَّهُ حَقٌّ مُشْتَرَكٌ بَيْن جَمِيعِهِمْ ، سَقَطَ بِإِسْقَاطِ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْقَاطِ مِنْهُمْ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ مِنْهُ لَهُ ، فَيَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِيهِ ، فَإِذَا سَقَطَ سَقَطَ جَمِيعُهُ ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يَتَبَعَّضُ ، كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ ، وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ حَقٌّ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمْ لَا يَتَبَعَّضُ ، مَبْنَاهُ عَلَى الدَّرْءِ وَالْإِسْقَاطِ ، فَإِذَا أَسْقَطَ بَعْضُهُمْ ، سَرَى إلَى الْبَاقِي كَالْعِتْقِ ، وَالْمَرْأَةُ أَحَدُ الْمُسْتَحِقِّينَ ، فَسَقَطَ بِإِسْقَاطِهَا كَالرَّجُلِ .
وَمَتَى عَفَا أَحَدُهُمْ ، فَلِلْبَاقِينَ حَقُّهُمْ مِنْ الدِّيَةِ سَوَاءٌ عَفَا مُطْلَقًا أَوْ إلَى الدِّيَةِ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَلَا أَعْلَمُ لَهُمَا مُخَالِفًا مِمَّنْ قَالَ بِسُقُوطِ الْقِصَاصِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ حَقَّهُ مِنْ الْقِصَاصِ سَقَطَ بِغَيْرِ رِضَاهُ ، فَثَبَتَ لَهُ الْبَدَلُ كَمَا لَوْ وَرِثَ الْقَاتِلُ بَعْضَ دَمِهِ أَوْ مَاتَ ، وَلِمَا ذَكَرْنَا مِنْ خَبَرِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .

( 6751 ) فَصْلٌ : فَإِنْ قَتَلَهُ الشَّرِيكُ الَّذِي لَمْ يَعْفُ عَالِمًا بِعَفْوِ شَرِيكِهِ ، وَسُقُوطِ الْقِصَاصِ بِهِ ، فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ ، سَوَاءٌ حَكَمَ بِهِ الْحَاكِمُ أَوْ لَمْ يَحْكُمْ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَبُو ثَوْرٍ .
وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ .
وَقِيلَ : لَهُ قَوْلٌ آخَرُ ، لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ ؛ لِأَنَّ لَهُ فِيهِ شُبْهَةً ، لِوُقُوعِ الْخِلَافِ وَلَنَا .
أَنَّهُ قَتَلَ مَعْصُومًا مُكَافِئًا لَهُ عَمْدًا ، يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ ، كَمَا لَوْ حَكَمَ بِالْعَفْوِ حَاكِمٌ ، وَالِاخْتِلَافُ لَا يُسْقِطُ الْقِصَاصَ ، فَإِنَّهُ لَوْ قَتَلَ مُسْلِمًا بِكَافِرٍ ، قَتَلْنَاهُ ، بِهِ مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي قَتْلِهِ .
وَأَمَّا إنْ قَتَلَهُ قَبْلَ الْعِلْمِ بِالْعَفْوِ ، فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ .
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ : عَلَيْهِ الْقِصَاصُ ؛ لِأَنَّهُ قَتْلٌ عَمْدٌ عُدْوَانٌ لِمَنْ لَا حَقَّ لَهُ فِي قَتْلِهِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ قَتَلَهُ مُعْتَقِدًا ثُبُوتَ حَقِّهِ فِيهِ ، مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهُ ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ قِصَاصٌ ، كَالْوَكِيلِ إذَا قَتَلَ بَعْدَ عَفْوِ الْمُوَكِّلِ قَبْلَ عِلْمِهِ بِعَفْوِهِ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْحَاكِمُ قَدْ حَكَمَ بِالْعَفْوِ أَوْ لَمْ يَحْكُمْ بِهِ ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ مَوْجُودَةٌ مَعَ انْتِفَاءِ الْعِلْمِ مَعْدُومَةٌ عِنْدَ وُجُودِهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : مَتَى قَتَلَهُ بَعْدَ حُكْمِ الْحَاكِمِ ، لَزِمَهُ الْقِصَاصُ ، عَلِمَ بِالْعَفْوِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ .
وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا .
وَمَتَى حَكَمْنَا عَلَيْهِ بِوُجُوبِ الدِّيَةِ ؛ إمَّا لِكَوْنِهِ مَعْذُورًا ، وَإِمَّا لِلْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ مِنْهَا مَا قَابَلَ حَقَّهُ عَلَى الْقَاتِلِ قِصَاصًا ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْبَاقِي ، فَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ عَفَا إلَى غَيْرِ مَالٍ ، فَالْوَاجِبُ لِوَرَثَةِ الْقَاتِلِ ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ ، وَإِنْ كَانَ عَفَا إلَى الدِّيَةِ ، فَالْوَاجِبُ لِوَرَثَةِ الْقَاتِلِ ، وَعَلَيْهِمْ نَصِيبُ الْعَافِي مِنْ الدِّيَةِ .
وَقِيلَ فِيهِ :

إنَّ حَقَّ الْعَافِي ، مِنْ الدِّيَةِ عَلَى الْقَاتِلِ .
لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَمْ يَبْقَ مُتَعَلِّقًا بِعَيْنِهِ ، وَإِنَّمَا الدِّيَةُ وَاجِبَةٌ فِي ذِمَّتِهِ ، فَلَمْ تَنْتَقِلْ إلَى الْقَاتِلِ ، كَمَا لَوْ قَتَلَ غَرِيمَهُ .

( 6752 ) فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ هُوَ الْعَافِي ، فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ سَوَاءٌ عَفَا مُطْلَقًا أَوْ إلَى مَالٍ .
وَبِهَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ : تُؤْخَذْ مِنْهُ الدِّيَةُ ، وَلَا يُقْتَلُ .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ : الْحُكْمُ فِيهِ إلَى السُّلْطَانِ .
وَلَنَا ، قَوْله تَعَالَى : { فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَعَطَاءٌ ، وَالْحَسَنُ ، وَقَتَادَةُ فِي تَفْسِيرِهَا : أَيْ بَعْدَ أَخْذِهِ الدِّيَةَ .
وَعَنْ الْحَسَنِ ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا أُعْفِي مَنْ قَتَلَ بَعْدَ أَخْذِهِ الدِّيَةَ } .
وَلِأَنَّهُ قَتَلَ مَعْصُومًا مُكَافِئًا ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ قَتَلَ .

( 6753 ) فَصْلٌ : وَإِذَا عَفَا عَنْ الْقَاتِلِ مُطْلَقًا ، صَحَّ ، وَلَمْ تَلْزَمْهُ عُقُوبَةٌ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ ، وَأَبُو ثَوْرٍ .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَاللَّيْثُ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ : يُضْرَبُ ، وَيُحْبَسُ سَنَةً .
وَلَنَا ، أَنَّهُ ، إنَّمَا كَانَ عَلَيْهِ حَقٌّ وَاحِدٌ ، وَقَدْ أَسْقَطَهُ مُسْتَحِقُّهُ ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ ، كَمَا لَوْ أَسْقَطَ الدِّيَةَ عَنْ الْقَاتِلِ خَطَأً .

( 6754 ) فَصْلٌ : وَإِذَا وَكَّلَ مَنْ يَسْتَوْفِي الْقِصَاصَ ، صَحَّ تَوْكِيلُهُ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، رَحِمَهُ اللَّهُ .
فَإِنْ وَكَّلَهُ ، ثُمَّ غَابَ ، وَعَفَا عَنْ الْقِصَاصِ ، وَاسْتَوْفَى الْوَكِيلُ ، نَظَرْنَا ؛ فَإِنْ كَانَ عَفْوُهُ بَعْدَ الْقَتْلِ ، لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ قَدْ اسْتَوْفِي ، وَإِنْ كَانَ قَتَلَهُ وَقَدْ عَلِمَ الْوَكِيلُ بِهِ ، فَقَدْ قَتَلَهُ ظُلْمًا ، فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ ، كَمَا لَوْ قَتَلَهُ ابْتِدَاءً .
وَإِنْ قَتَلَهُ قَبْلَ الْعِلْمِ بِعَفْوِ الْمُوَكِّلِ .
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : لَا ضَمَانَ عَلَى الْوَكِيلِ ؛ لِأَنَّهُ لَا تَفْرِيطَ مِنْهُ ، فَإِنَّ الْعَفْوَ حَصَلَ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمَكِّنُ الْوَكِيلَ اسْتِدْرَاكَهُ ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانٌ ، كَمَا لَوْ عَفَا بَعْدَ مَا رَمَاهُ .
وَهَلْ يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ الضَّمَانُ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ ؛ أَحَدُهُمَا : لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ عَفْوَهُ غَيْرُ صَحِيحٍ ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حُصُولِهِ فِي حَالٍ لَا يُمْكِنُهُ اسْتِدْرَاكُ الْفِعْلِ ، فَوَقَعَ الْقَتْلُ مُسْتَحَقًّا لَهُ ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانٌ ؛ وَلِأَنَّ الْعَفْوَ إحْسَانٌ ، فَلَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الضَّمَانِ .
وَالثَّانِي ، عَلَيْهِ الضَّمَانُ ؛ لِأَنَّ قَتْلَ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ حَصَلَ بِأَمْرِهِ وَتَسْلِيطِهِ ، عَلَى وَجْهٍ لَا ذَنْبَ لِلْمُبَاشِرِ فِيهِ ، فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَى الْآمِرِ ، كَمَا لَوْ أَمَرَ عَبْدَهُ الْأَعْجَمِيَّ بِقَتْلِ مَعْصُومٍ .
وَقَالَ غَيْرُ أَبِي بَكْرٍ : فِي صِحَّةِ الْعَفْوِ وَجْهَانِ ؛ بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْوَكِيلِ ، هَلْ يَنْعَزِلُ بِعَزْلِ الْمُوَكِّلِ أَوْ لَا ؟ وَلِلشَّافِعَيَّ قَوْلَانِ ، كَالْوَجْهَيْنِ .
فَإِنْ قُلْنَا : لَا يَصِحُّ الْعَفْوُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى أَحَدٍ ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ مَنْ يَجِبُ قَتْلُهُ بِأَمْرٍ يَسْتَحِقُّهُ .
وَإِنْ قُلْنَا : يَصِحُّ الْعَفْوُ .
فَلَا قِصَاصَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ قَتَلَ مَنْ يَعْتَقِدُ إبَاحَةَ قَتْلِهِ بِسَبَبٍ هُوَ مَعْذُورٌ فِيهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَتَلَ فِي دَارِ الْحَرْبِ مَنْ يَعْتَقِدُهُ حَرْبِيًّا .
وَتَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى الْوَكِيلِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ عَلِمَ لَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ ،

فَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ تَعَلَّقَ بِهِ الضَّمَانُ ، كَمَا لَوْ قَتَلَ مُرْتَدًّا قَدْ أَسْلَمَ قَبْلَ عِلْمِهِ بِإِسْلَامِهِ ، وَيَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْمُوَكِّلِ ؛ لِأَنَّهُ غَرَّهُ بِتَسْلِيطِهِ عَلَى الْقَتْلِ بِتَفْرِيطِهِ فِي تَرْكِ إعْلَامِهِ بِالْعَفْوِ ، فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ ، كَالْغَارِ فِي النِّكَاحِ بِحُرِّيَّةِ أُمِّهِ ، أَوْ تَزَوُّجِ مَعِيبَةٍ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَرْجِعَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ إحْسَانٌ مِنْهُ ، فَلَا يَقْتَضِي الرُّجُوعَ عَلَيْهِ .
فَعَلَى هَذَا ، تَكُونُ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْوَكِيلِ .
وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي الْخَطَّابِ ؛ لِأَنَّ هَذَا جَرَى مَجْرَى الْخَطَأِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَتَلَ فِي دَارِ الْحَرْبِ مُسْلِمًا يَعْتَقِدُهُ حَرْبِيًّا .
وَقَالَ الْقَاضِي : هُوَ فِي مَالِ الْوَكِيلِ ؛ لِأَنَّهُ عَنْ عَمْدٍ مَحْضٍ .
وَهَذَا لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَمْدًا مَحْضًا لَأَوْجَبَ الْقِصَاصَ ، وَلِأَنَّهُ يَشْتَرِطُ فِي الْعَمْدِ الْمَحْضِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِحَالِ الْمَحَلِّ ، وَكَوْنِهِ مَعْصُومًا ، وَلَمْ يُوجَدْ هَذَا .
وَإِنْ قَالَ : هُوَ عَمْدُ الْخَطَأِ .
فَعَمْدُ الْخَطَأِ تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ .
ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ وَدَلَّ عَلَيْهِ خَبَرُ الْمَرْأَةِ الَّتِي قَتَلَتْ جَارِيَتهَا وَجَنِينَهَا بِمُسَطَّحِ ، فَقَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ ، فَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي ، إنْ كَانَ الْمُوَكِّلُ عَفَا إلَى الدِّيَةِ ، فَلَهُ الدِّيَةُ فِي تَرِكَةِ الْجَانِي ، وَلِوَرَثَةِ الْجَانِي مُطَالَبَةُ الْوَكِيلِ بِدِيَتِهِ ، وَلَيْسَ لِلْمُوَكِّلِ مُطَالَبَةُ الْوَكِيلِ بِشَيْءٍ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قُلْتُمْ فِيمَا إذَا كَانَ الْقِصَاصُ لِأَخَوَيْنِ فَقَتَلَهُ أَحَدُهُمَا فَعَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ ، وَلِأَخِيهِ مُطَالَبَتُهُ بِهِ ، فِي وَجْهٍ .
قُلْنَا : ثُمَّ أَتْلَفَ حَقَّهُ ، فَرَجَعَ بِبَدَلِهِ عَلَيْهِ ، وَهَا هُنَا أَتْلَفَهُ بَعْدَ سُقُوطِ حَقِّ الْمُوَكِّلِ عَنْهُ ، فَافْتَرَقَا .
وَإِنْ قُلْنَا : إنَّ الْوَكِيلَ يَرْجِعُ عَلَى الْمُوَكِّلِ .
احْتَمَلَ أَنْ تَسْقُطَ

الدِّيَتَانِ ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي أَنْ يَأْخُذَهَا الْوَرَثَةُ مِنْ الْوَكِيلِ ، ثُمَّ يَدْفَعُونَهَا إلَى الْمُوَكِّلِ ، ثُمَّ يَرُدُّهَا الْمُوَكِّلُ إلَى الْوَكِيلِ ، فَيَكُونُ تَكْلِيفًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِغَيْرِ فَائِدَةٍ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَجِبَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ الْوَاجِبَةَ فِي ذِمَّةِ الْوَكِيلِ لِغَيْرِ مِنْ لِلْوَكِيلِ الرُّجُوعُ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا تَتَسَاقَطُ الدِّيَتَانِ إذَا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْغَرِيمَيْنِ عَلَى صَاحِبِهِ مِثْلُ مَا لَهُ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّهُ قَدْ تَكُونُ الدِّيَتَانِ مُخْتَلِفَتَيْنِ ، بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْمَقْتُولَيْنِ رَجُلًا وَالْآخَرُ امْرَأَةً ، فَعَلَى هَذَا يَأْخُذُ وَرَثَةُ الْجَانِي دِيَتَهُ مِنْ الْوَكِيلِ ، وَيَدْفَعُونَ إلَى الْمُوَكِّلِ دِيَةَ وَلِيِّهِ ، ثُمَّ يَرُدُّ الْمُوَكِّلُ إلَى الْوَكِيلِ قَدْرَ مَا غَرِمَهُ ، وَإِنْ أَحَالَ وَرَثَةُ الْجَانِي الْمُوَكِّلَ عَلَى الْوَكِيلِ بِدِيَةِ وَلِيِّهِمْ ، صَحَّ فَإِنْ كَانَ الْجَانِي أَقَلَّ دِيَةً ، مِثْلَ أَنْ تَكُونَ امْرَأَةٌ قَتَلَتْ رَجُلًا ، فَقَتَلَهَا الْوَكِيلُ ، فَلِوَرَثَتِهَا إحَالَةُ الْمُوَكَّلِ بِدِيَتِهَا ؛ لِأَنَّهُ الْقَدْرُ الْوَاجِبُ لَهُمْ عَلَى الْوَكِيلِ ، فَيَسْقُطُ عَنْ الْوَكِيلِ وَالْمُوَكِّلِ جَمِيعًا ، وَيَرْجِعُ الْمُوَكِّلُ عَلَى وَرَثَتِهَا بِنِصْفِ دِيَةِ وَلِيِّهِ ، وَإِنْ كَانَ الْجَانِي رَجُلًا قَتَلَ امْرَأَةً ، فَقَتَلَهُ الْوَكِيلُ ، فَلِوَرَثَةِ الْجَانِي إحَالَةُ الْمُوَكِّلِ بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِمْ أَكْثَرَ مِنْ دِيَتِهَا ، وَيُطَالِبُونَ الْوَكِيلَ بِنِصْفِ دِيَةِ الْجَانِي ، ثُمَّ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمُوَكِّلِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا جَنَى عَلَى الْإِنْسَانِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ جِنَايَةً تُوجِبُ الْقِصَاصَ ، فَعَفَا عَنْ الْقِصَاصِ ، ثُمَّ سَرَتْ الْجِنَايَةُ إلَى نَفْسِهِ ، فَمَاتَ ، لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ ، أَنَّ الْقِصَاصَ وَاجِبٌ ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ صَارَتْ نَفْسًا ، وَلَمْ يَعْفُ عَنْهَا .
وَلَنَا ، أَنَّهُ يَتَعَذَّرُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ دُونَ مَا عَفَا عَنْهُ ، فَسَقَطَ فِي النَّفْسِ ، كَمَا لَوْ عَفَا بَعْضُ الْأَوْلِيَاءِ ، وَلِأَنَّ الْجِنَايَةَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا قِصَاصٌ مَعَ إمْكَانِهِ ، لَمْ يَجِبْ فِي سِرَايَتهَا ، كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَ مُرْتَدٍّ ثُمَّ أَسْلَمَ ثُمَّ مَاتَ مِنْهَا نَظَرْنَا ، فَإِنْ كَانَ عَفَا عَلَى مَالٍ ، فَلَهُ الدِّيَةُ كَامِلَةً ، وَإِنْ عَفَا عَلَى غَيْرِ مَالٍ ، وَجَبَتْ الدِّيَةُ إلَّا أَرْشَ الْجُرْحِ الَّذِي عَفَا عَنْهُ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ تَجِبُ الدِّيَةُ كَامِلَةً ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ صَارَتْ نَفْسًا ، وَحَقُّهُ فِي النَّفْسِ لَا فِيمَا عَفَا عَنْهُ ، وَإِنَّمَا سَقَطَ الْقِصَاصُ لِلشُّبْهَةِ .
وَإِنْ قَالَ : عَفَوْت عَنْ الْجِنَايَةِ .
لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ لَا تَخْتَصُّ بِالْقَطْعِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : فِيمَا إذَا عَفَا عَنْ الْقَطْعِ : ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ شَيْءٌ .
وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ ؛ لِأَنَّهُ قَطْعٌ غَيْرُ مَضْمُونٍ ، فَكَذَلِكَ سِرَايَتُهُ .
وَلَنَا ، أَنَّهَا سِرَايَةُ جِنَايَةٍ أَوْجَبَتْ الضَّمَانَ ، فَكَانَتْ مَضْمُونَةً ، كَمَا لَوْ لَمْ يَعْفُ ، وَإِنَّمَا سَقَطَتْ دِيَتُهَا بِعَفْوِهِ عَنْهَا ، فَيَخْتَصُّ السُّقُوطُ بِمَا عَفَا عَنْهُ دُونَ غَيْرِهِ ، وَالْمَعْفُوُّ عَنْهُ نِصْفُ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ أَوْجَبَتْ نِصْفَ الدِّيَةِ ، فَإِذَا عَفَا ، سَقَطَ مَا وَجَبَ دُونَ مَا لَمْ يَجِبْ ، فَإِذَا صَارَتْ نَفْسًا ، وَجَبَ بِالسِّرَايَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ ، وَلَمْ يَسْقُطْ أَرْشُ الْجُرْحِ فِيمَا إذَا لَمْ يَعْفُ ، وَإِنَّمَا تَكَمَّلْت الدِّيَةُ بِالسِّرَايَةِ .

( 6756 ) فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ الْجُرْحُ لَا قِصَاصَ فِيهِ ، كَالْجَائِفَةِ ، وَنَحْوِهَا ، فَعَفَا عَنْ الْقِصَاصِ فِيهِ ، فَسَرَى إلَى النَّفْسِ ، فَلِوَلِيِّهِ الْقِصَاصُ ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَمْ يَجِبْ فِي الْجُرْحِ ، فَلَمْ يَصِحَّ الْعَفْوُ عَنْهُ ، وَإِنَّمَا وَجَبَ الْقِصَاصُ بَعْدَ عَفْوِهِ ، وَلَهُ الْعَفْوُ عَنْ الْقِصَاصِ ، وَلَهُ كَمَالُ الدِّيَةِ .
وَإِنْ عَفَا عَنْ دِيَةِ الْجُرْحِ ، صَحَّ ، وَلَهُ بَعْدَ السِّرَايَةِ دِيَةُ النَّفْسِ إلَّا أَرْشَ الْجُرْحِ .
وَلَا يَمْتَنِعُ وُجُوبُ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ كَمَالُ الدِّيَةِ بِالْعَفْوِ عَنْهُ ، كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدًا ، فَانْدَمَلَتْ وَاقْتَصَّ مِنْهَا ، ثُمَّ انْتَقَضَتْ وَسَرَتْ إلَى النَّفْسِ ، فَلَهُ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ ، وَلَيْسَ لَهُ الْعَفْوُ إلَّا عَلَى نِصْفِ الدِّيَةِ .
وَإِنْ قَطَعَ يَدَهُ مِنْ نِصْفِ السَّاعِدِ ، فَعَفَا عَنْ الْقِصَاصِ ، ثُمَّ سَرَى فَعَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ ، لَا يَسْقُطُ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَمْ يَجِبْ ، فَهُوَ كَالْجَائِفَةِ .
وَمَنْ جَوَّزَ لَهُ الْقِصَاصَ مِنْ الْكُوعِ ، أَسْقَطَ الْقِصَاصَ فِي النَّفْسِ ، كَمَا لَوْ كَانَ الْقَطْعُ مِنْ الْكُوعِ .
وَقَالَ الْمُزَنِيّ : لَا يَصِحُّ الْعَفْوُ عَنْ دِيَةِ الْجُرْحِ قَبْلَ انْدِمَالِهِ ، فَلَوْ قَطَعَ يَدًا ، فَعَفَا عَنْ دِيَتِهَا وَقِصَاصِهَا ، ثُمَّ انْدَمَلَتْ ، لَمْ تَسْقُطْ دِيَتُهَا ، وَسَقَطَ قِصَاصُهَا ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ قَدْ وَجَبَ فِيهَا ، فَصَحَّ الْعَفْوُ عَنْهُ ، بِخِلَافِ الدِّيَةِ .
وَلَيْسَ بِصَحِيحِ ؛ لِأَنَّ دِيَةَ الْجُرْحِ إنَّمَا وَجَبَتْ بِالْجِنَايَةِ ، إذْ هِيَ السَّبَبُ ، وَلِهَذَا لَوْ جَنَى عَلَى طَرَفِ عَبْدٍ ثُمَّ بَاعَهُ قَبْلَ بُرْئِهِ ، كَانَ أَرْشُ الطَّرَفِ لِبَائِعِهِ لَا لِمُشْتَرِيهِ ، وَتَأْخِيرُ الْمُطَالَبَةِ بِهِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ عَدَمُ الْوُجُوبِ ، وَامْتِنَاعُ صِحَّةِ الْعَفْوِ ، كَالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ لَا تُمْلَكُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ ، وَيَصِحُّ الْعَفْوُ عَنْهُ ، كَذَا هَاهُنَا .

( 6757 ) فَصْلٌ : فَإِنْ قَطَعَ يَدَهُ ، فَعَفَا عَنْهُ ، ثُمَّ عَادَ الْجَانِي فَقَتَلَهُ فَلِوَلِيِّهِ الْقِصَاصُ .
وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ بَعْضِهِمْ : لَا قِصَاصَ ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ حَصَلَ عَنْ بَعْضِهِ ، فَلَا يُقْتَلُ بِهِ ، كَمَا لَوْ سَرَى الْقَطْعُ إلَى نَفْسِهِ .
وَلَنَا ، أَنَّ الْقَتْلَ انْفَرَدَ عَنْ الْقَطْعِ ، فَعَفْوُهُ عَنْ الْقَطْعِ لَا يَمْنَعُ مَا يَلْزَمُ بِالْقَتْلِ ، كَمَا لَوْ كَانَ الْقَاطِعُ غَيْرَهُ .
وَإِنْ اخْتَارَ الدِّيَةَ ، فَقَالَ الْقَاضِي : إنْ كَانَ الْعَفْوُ عَنْ الطَّرَفِ إلَى غَيْرِ دِيَةٍ ، فَلَهُ بِالْقَتْلِ نِصْفُ الدِّيَةِ .
وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ، وَلِأَنَّ الْقَتْلَ إذَا تَعَقَّبَ الْجِنَايَةَ قَبْلَ الِانْدِمَالِ ، كَانَ كَالسِّرَايَةِ ، وَلِذَلِكَ لَوْ لَمْ يَعْفُ لَمْ يَجِبْ أَكْثَرُ مِنْ دِيَةٍ ، وَالْقَطْعُ يَدْخُلُ فِي الْقَتْلِ فِي الدِّيَةِ دُونَ الْقِصَاصِ ؛ وَلِذَلِكَ لَوْ أَرَادَ الْقِصَاصَ كَانَ لَهُ أَنْ يَقْطَعَ ثُمَّ يَقْتُلَ ، وَلَوْ صَارَ الْأَمْرُ إلَى الدِّيَةِ لَمْ يَجِبْ إلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : لَهُ الْعَفْوُ إلَى دِيَةٍ كَامِلَةٍ .
وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ مُنْفَرِدٌ عَنْ الْقَتْلِ ، فَلَمْ يَدْخُلْ حُكْمُ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ ، كَمَا لَوْ انْدَمَلَ ، وَلِأَنَّ الْقَتْلَ مُوجِبٌ لِلْقَتْلِ ، فَأَوْجَبَ الدِّيَةَ كَامِلَةً ، كَمَا لَوْ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ عَفْوٌ .
وَفَارَقَ السِّرَايَةَ ، فَإِنَّهَا لَمْ تُوجِبْ قَتْلًا ، وَلِأَنَّ السِّرَايَةَ عُفِيَ عَنْ سَبَبِهَا ، وَالْقَتْلُ لَمْ يُعْفَ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ ، وَلَا عَنْ سَبَبِهِ ، سَوَاءٌ فِيمَا ذَكَرْنَا كَانَ الْعَافِي عَنْ الْجُرْحِ أَخَذَ دِيَةَ طَرَفِهِ أَوْ لَمْ يَأْخُذْهَا .

( 6758 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَطَعَ إصْبَعًا ، فَعَفَا الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَنْ الْقِصَاصِ ، ثُمَّ سَرَتْ الْجِنَايَةُ إلَى الْكَفِّ ، ثُمَّ انْدَمَلَ الْجُرْحُ ، لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي النَّفْسِ ، وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ سَقَطَ فِي الْإِصْبَعِ بِالْعَفْوِ ، فَصَارَتْ الْيَدُ نَاقِصَةً لَا تُؤْخَذُ بِهَا الْكَامِلَةُ .
ثُمَّ إنْ كَانَ الْعَفْوُ إلَى الدِّيَةِ ، وَجَبَتْ دِيَةُ الْيَدِ كُلُّهَا ، وَإِنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ مَالٍ ، خُرِجَ فِيهِ مِنْ الْخِلَافِ مَا ذَكَرْنَا فِيمَا إذَا قَطَعَ يَدًا فَعَفَا الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ ، ثُمَّ سَرَى إلَى نَفْسِهِ .
فَعَلَى هَذَا ، تَجِبُ هَاهُنَا دِيَةُ الْكَفِّ إلَّا دِيَةَ الْإِصْبَعِ .
ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ الْقَاضِي : ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ ، أَنْ لَا يَجِبُ شَيْءٌ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ عَنْ الْجِنَايَةِ عَفْوٌ عَمَّا يَحْدُثُ مِنْهَا ، وَقَدْ قَالَ الْقَاضِي : إنَّ الْقِيَاسَ فِيمَا إذَا قَطَعَ الْيَدَ ، ثُمَّ سَرَى إلَى النَّفْسِ ، أَنْ يَجِبَ نِصْفُ الدِّيَةِ ، فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَقُولَ مِثْلَ ذَلِكَ هَاهُنَا .
.

( 6759 ) فَصْلٌ : فَإِنْ قَالَ : عَفَوْت عَنْ الْجِنَايَةِ ، وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا ، صَحَّ عَفْوُهُ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِي سِرَايَتِهَا قِصَاصٌ وَلَا دِيَةٌ فِي ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ .
وَسَوَاءٌ عَفَا بِلَفْظِ الْعَفْوِ أَوْ الْوَصِيَّةِ ، وَمِمَّنْ قَالَ بِصِحَّةِ عَفْوِ الْمَجْرُوحِ عَنْ دَمِهِ ؛ مَالِكٌ ، وَطَاوُسٌ ، وَالْحَسَنُ ، وَقَتَادَةُ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : إذَا قَالَ : عَفَوْت عَنْ الْجِنَايَةِ ، وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا .
فَفِيهِ قَوْلَانِ ؛ أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ وَصِيَّةٌ ، فَيُبْنَى عَلَى الْوَصِيَّةِ لِلْقَاتِلِ ، وَفِيهَا قَوْلَانِ ؛ أَحَدُهُمَا : لَا يَصِحُّ ، فَتَجِبُ دِيَةُ النَّفْسِ إلَّا دِيَةَ الْجُرْحِ .
وَالثَّانِي ، يَصِحُّ ، فَإِنْ خَرَجَتْ مِنْ الثُّلُثِ سَقَطَ ، وَإِلَّا سَقَطَ مِنْهَا مَا خَرَجَ مِنْ الثُّلُثِ ، وَوَجَبَ الْبَاقِي .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي ، لَيْسَ بِوَصِيَّةِ ؛ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ فِي الْحَيَاةِ ، فَلَا يَصِحُّ ، وَتَلْزَمُهُ دِيَةُ النَّفْسِ إلَّا دِيَةَ الْجُرْحِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ بَعْدَ انْعِقَادِ سَبَبِهِ ، فَسَقَطَ ، كَمَا لَوْ أَسْقَطَ الشُّفْعَةَ بَعْدَ الْبَيْعِ ، إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ الثُّلُثِ أَوْ لَمْ يَخْرُجْ ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الْعَمْدِ الْقَوَدُ ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ ، أَوْ أَحَدُ شَيْئَيْنِ ، فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى ، فَمَا تَعَيَّنَتْ الدِّيَةُ ، وَلَا تَعَيَّنَتْ الْوَصِيَّةُ بِمَالٍ ، ؛ وَلِذَلِكَ صَحَّ الْعَفْوُ مِنْ الْمُفْلِسِ إلَى غَيْرِ مَالٍ .
وَأَمَّا جِنَايَةُ الْخَطَأِ ، فَإِذَا عَفَا عَنْهَا وَعَمَّا يَحْدُثُ مِنْهَا ، اُعْتُبِرَ خُرُوجُهَا مِنْ الثُّلُثِ ، سَوَاءٌ عَفَا بِلَفْظِ الْعَفْوِ أَوْ الْوَصِيَّةِ أَوْ الْإِبْرَاءِ أَوْ غَيْرِهَا ، فَإِنْ خَرَجَتْ مِنْ الثُّلُثِ ، صَحَّ عَفْوُهُ فِي الْجَمِيعِ ، وَإِنْ لَمْ تَخْرُجْ مِنْ الثُّلُثِ ، سَقَطَ عَنْهُ مِنْ دِيَتِهَا مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَنَحْوَهُ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ هَاهُنَا بِمَالٍ .

( 6760 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَطَعَ إصْبَعًا ، فَعَفَا الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَنْ الْقِصَاصِ ، ثُمَّ سَرَتْ الْجِنَايَةُ إلَى الْكَفِّ ، ثُمَّ انْدَمَلَ الْجُرْحُ فَصْلٌ : وَإِنْ قَطَعَ إصْبَعًا ، فَعَفَا الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَنْ الْقِصَاصِ ، ثُمَّ سَرَتْ الْجِنَايَةُ إلَى الْكَفِّ ، ثُمَّ انْدَمَلَ الْجُرْحُ فَصْلٌ : فَإِنْ اخْتَلَفَ الْجَانِي وَالْوَلِيُّ أَوْ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ .
، فَقَالَ الْجَانِي : عَفَوْت مُطْلَقًا .
وَقَالَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ : بَلْ عَفَوْت إلَى مَالٍ .
أَوْ قَالَ : عَفَوْت عَنْ الْجِنَايَةِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا .
قَالَ : بَلْ عَفَوْت عَنْهَا دُونَ مَا يَحْدُثُ مِنْهَا .
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَوْ وَلِيِّهِ إنْ كَانَ الْخِلَافُ مَعَهُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْعَفْوِ عَنْ الْجَمِيعِ ، وَقَدْ ثَبَتَ الْعَفْوُ عَنْ الْبَعْضِ بِإِقْرَارِهِ ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ فِي عَدَمِ سُقُوطِهِ قَوْلَهُ .
.

( 6761 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِذَا اشْتَرَكَ الْجَمَاعَةُ فِي الْقَتْلِ ، فَأَحَبَّ الْأَوْلِيَاءُ أَنْ يَقْتُلُوا الْجَمِيعَ ، فَلَهُمْ ذَلِكَ ، وَإِنْ أَحَبُّوا أَنْ يَقْتُلُوا الْبَعْضَ ، وَيَعْفُوا عَنْ الْبَعْضِ ، وَيَأْخُذُوا الدِّيَةَ مِنْ الْبَاقِينَ ، فَلَهُمْ ذَلِكَ ) أَمَّا قَتْلُهُمْ لِلْجَمِيعِ ، فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا مَضَى ، وَأَمَّا إنْ أَحَبُّوا قَتْلَ الْبَعْضِ فَلَهُمْ ذَلِكَ ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَهُمْ قَتْلُهُ فَلَهُمْ الْعَفْوُ عَنْهُ ، كَالْمُنْفَرِدِ ، وَلَا يَسْقُطُ الْقِصَاصُ عَنْ الْبَعْضِ بِعَفْوِ الْبَعْضِ ؛ لِأَنَّهُمَا شَخْصَانِ ، فَلَا يَسْقُطُ الْقِصَاصُ عَنْ أَحَدِهِمَا بِإِسْقَاطِهِ عَنْ الْآخَرِ ، كَمَا لَوْ قَتَلَ كُلُّ وَاحِدٍ رَجُلًا .
وَأَمَّا إذَا اخْتَارُوا أَخْذَ الدِّيَةِ مِنْ الْقَاتِلِ ، أَوْ مِنْ بَعْضِ الْقَتَلَةِ ، فَإِنَّ لَهُمْ هَذَا مِنْ غَيْرِ رِضَى الْجَانِي .
وَبِهَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَابْنُ سِيرِينَ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَعَطَاءٌ ، وَمُجَاهِدٌ وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ .
وَقَالَ النَّخَعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ : لَيْسَ لِلْأَوْلِيَاءِ إلَّا الْقَتْلُ ، إلَّا أَنْ يَصْطَلِحَا عَلَى الدِّيَةِ بِرِضَى الْجَانِي .
وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَةٌ أُخْرَى ، كَقَوْلِنَا ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ } .
وَالْمَكْتُوبُ لَا يَتَخَيَّر فِيهِ ، وَلِأَنَّهُ مُتْلَفٌ يَجِبُ بِهِ الْبَدَلُ ، فَكَانَ بَدَلُهُ مُعَيَّنًا ، كَسَائِرِ أَبْدَالِ الْمُتْلَفَاتِ .
وَلَنَا ، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : كَانَ فِي بَنِي إسْرَائِيلَ الْقِصَاصُ ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ الدِّيَةُ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةُ : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } .
الْآيَة ، { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } .
فَالْعَفْوُ أَنْ تُقْبَلَ فِي الْعَمْدِ الدِّيَةُ { فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ } يَتْبَعُ الطَّالِبُ بِالْمَعْرُوفِ ، وَيُؤَدِّي إلَيْهِ الْمَطْلُوبُ { بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ

وَرَحْمَةٌ } .
مِمَّا كَتَبَ عَلَى مَنْ قَبْلَكُمْ .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : مَنْ { قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ ، فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ ، إمَّا أَنْ يُودَى ، وَإِمَّا يُقَادُ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَرَوَى أَبُو شُرَيْحٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { ثُمَّ أَنْتُمْ يَا خُزَاعَةُ ، قَدْ قَتَلْتُمْ هَذَا الْقَتِيلَ ، وَأَنَا وَاَللَّهِ عَاقِلُهُ ، فَمَنْ قَتَلَ بَعْدَهُ قَتِيلًا فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ ؛ إنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا ، وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الدِّيَةَ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَغَيْرُهُ .
وَلِأَنَّ الْقَتْلَ الْمَضْمُونَ إذَا سَقَطَ فِيهِ الْقِصَاصُ مِنْ غَيْرِ إبْرَاءٍ ، ثَبَتَ الْمَالُ ، كَمَا لَوْ عَفَا بَعْضُ الْوَرَثَةِ ، وَيُخَالِفُ سَائِرَ الْمُتْلَفَاتِ ؛ لِأَنَّ بَدَلَهَا يَجِبُ مِنْ جِنْسِهَا ، وَهَا هُنَا يَجِبُ فِي الْخَطَأِ وَعَمْدِ الْخَطَأِ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ ، فَإِذَا رَضِيَ فِي الْعَمْدِ بِبَدَلِ الْخَطَأِ ، كَانَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ بَعْضَ حَقِّهِ ، وَلِأَنَّ الْقَاتِلَ أَمْكَنَهُ إحْيَاءُ نَفْسِهِ بِبَذْلِ الدِّيَةِ ، فَلَزِمَهُ وَيَنْتَقِضُ مَا ذَكَرُوهُ بِمَا إذَا كَانَ رَأْسُ الشَّاجِّ أَصْغَرَ ، أَوْ يَدُ الْقَاطِعِ أَنْقَصَ ، فَإِنَّهُمْ سَلَّمُوا فِيهِمَا .

( 6762 ) فَصْلٌ : وَاخْتَلَفْت الرِّوَايَةُ فِي مُوجَبِ الْعَمْدِ ، فَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ مُوجَبَهُ الْقِصَاصُ عَيْنًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { مَنْ قَتَلَ عَمْدًا ، فَهُوَ قَوَدٌ } .
وَلِمَا ذَكَرُوهُ فِي دَلِيلِهِمْ .
وَرُوِيَ أَنَّ مُوجَبَهُ أَحَدُ شَيْئَيْنِ ؛ الْقِصَاصِ ، أَوْ الدِّيَةِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلَ هَذَا ، وَلِأَنَّ الدِّيَةَ أَحَدُ بَدَلَيْ النَّفْسِ ، فَكَانَتْ بَدَلًا عَنْهَا ، لَا عَنْ بَدَلِهَا ، كَالْقِصَاصِ .
وَأَمَّا الْخَبَرُ ، فَالْمُرَادُ بِهِ وُجُوبُ الْقَوَدِ ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ ، وَيُخَالِفُ الْقَتْلُ سَائِرَ الْمُتْلَفَات ؛ لِأَنَّ بَدَلَهَا لَا يَخْتَلِفُ بِالْقَصْدِ وَعَدَمِهِ ، وَالْقَتْلُ بِخِلَافِهِ .
وَلِلشَّافِعِي قَوْلَانِ ، كَالرِّوَايَتَيْنِ .
فَإِذَا قُلْنَا مُوجَبُهُ الْقِصَاصُ عَيْنًا ، فَلَهُ الْعَفْوُ إلَى الدِّيَةِ ، وَالْعَفْوُ مُطْلَقًا ، فَإِذَا عَفَا مُطْلَقًا ، لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ .
وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : تَجِبُ الدِّيَةُ ؛ لِئَلَّا يُطَلَّ الدَّمُ .
وَلَيْسَ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ عَفَا عَنْ الدِّيَةِ بَعْدَ وُجُوبِهَا ، صَحَّ عَفْوُهُ ، وَإِنْ عَفَا عَنْ الْقِصَاصِ بِغَيْرِ مَالٍ ، لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ ، فَأَمَّا إنْ عَفَا عَنْ الدِّيَةِ ؛ لَمْ يَصِحَّ عَفْوُهُ ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَجِبْ .
وَإِنْ قُلْنَا : الْوَاجِبُ أَحَدُ شَيْئَيْنِ لَا بِعَيْنِهِ .
فَعَفَا عَنْ الْقِصَاصِ مُطْلَقًا ، أَوْ إلَى الدِّيَةِ ، وَجَبَتْ الدِّيَةُ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ غَيْرُ مُعَيَّنٍ ، فَإِذَا تَرَكَ أَحَدَهُمَا وَجَبَ الْآخَرُ ، وَإِنْ اخْتَارَ الدِّيَةَ ، سَقَطَ الْقِصَاصُ ، وَإِنْ اخْتَارَ الْقِصَاصَ ، تَعَيَّنَ .
وَهَلْ لَهُ بَعْد ذَلِكَ الْعَفْوُ عَلَى الدِّيَةِ ؟ قَالَ الْقَاضِي : لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ أَعْلَى ، فَكَانَ لَهُ الِانْتِقَالُ إلَى الْأَدْنَى ، وَيَكُونُ بَدَلًا عَنْ الْقِصَاصِ ، وَلَيْسَتْ الَّتِي وَجَبَتْ بِالْقَتْلِ ، كَمَا قُلْنَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى : إنَّ الْوَاجِبَ الْقِصَاصُ عَيْنًا ، وَلَهُ الْعَفْوُ إلَى الدِّيَةِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَهَا بِاخْتِيَارِهِ الْقَوَدَ فَلَمْ

يَعُدْ إلَيْهَا .

( 6763 ) فَصْلٌ : وَإِذَا جَنَى عَبْدٌ عَلَى حُرٍّ جِنَايَةً مُوجِبَةً لِلْقِصَاصِ ، فَاشْتَرَاهُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ ، سَقَطَ الْقِصَاصُ ؛ لِأَنَّ عُدُولَهُ إلَى الشِّرَاءِ اخْتِيَارٌ لِلْمَالِ ، وَلَا يَصِحُّ الشِّرَاءُ ؛ لِأَنَّهُمَا إنْ لَمْ يَعْرِفَا قَدْرَ الْأَرْشِ فَالثَّمَنُ مَجْهُولٌ ، وَإِنْ عَرَفَا عَدَدَ الْإِبِلِ وَأَسْنَانَهَا فَصِفَتُهَا مَجْهُولَةٌ ، وَالْجَهْلُ بِالصِّفَةِ كَالْجَهْلِ بِالذَّاتِ فِي فَسَادِ الْبَيْعِ ؛ وَلِذَلِكَ لَوْ بَاعَهُ شَيْئًا بِجَمَلٍ جَذْعٍ غَيْرِ مَعْرُوفِ الصِّفَةِ ، لَمْ يَصِحَّ ، وَإِنْ قَدَّرَ الْأَرْشَ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ وَبَاعَهُ بِهِ صَحَّ .

( 6764 ) فَصْلٌ : إذَا وَجَبَ الْقِصَاصُ لَصَغِيرٍ ، لَمْ يَجُزْ لِوَلِيِّهِ الْعَفْوُ إلَى غَيْرِ مَالٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إسْقَاطَ حَقِّهِ .
وَإِنْ أَحَبَّ الْعَفْوَ إلَى مَالٍ ، وَلِلصَّبِيِّ كِفَايَةٌ مِنْ غَيْرِهِ ، لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَفْوِيتُ حَقِّهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ .
فَإِنْ كَانَ فَقِيرًا مُحْتَاجًا ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا : لَهُ ذَلِكَ ؛ لِحَاجَتِهِ إلَى الْمَالِ لِحِفْظِهِ .
قَالَ الْقَاضِي : هَذَا أَصَحُّ .
وَالثَّانِي ، لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إسْقَاطَ قِصَاصِهِ ، وَأَمَّا حَاجَتُهُ فَإِنَّ نَفَقَتَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ .
وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ ؛ فَإِنَّ وُجُوبَ النَّفَقَةِ فِي بَيْتِ الْمَالِ لَا يُغْنِيه إذَا لَمْ يَحْصُلْ ، فَأَمَّا إنْ كَانَ مُسْتَحِقُّ الْقِصَاصِ مَجْنُونًا فَقِيرًا فَلِوَلِيِّهِ الْعَفْوُ عَلَى الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَتْ حَالَةً مُعْتَادَةً يُنْتَظَرُ فِيهَا إفَاقَتُهُ .
.

فَصْلٌ : وَيَصِحُّ عَفْوُ الْمُفْلِسِ وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لَسَفَهٍ عَنْ الْقِصَاصِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ .
وَإِنْ أَرَادَ الْمُفْلِسُ الْقِصَاصَ ، لَمْ يَكُنْ لِغُرَمَائِهِ إجْبَارُهُ عَلَى تَرْكِهِ .
وَإِنْ أَحَبَّ الْعَفْوَ عَنْهُ إلَى مَالٍ ، فَلَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ فِيهِ حَظًّا لِلْغُرَمَاءِ .
وَإِنْ أَرَادَ الْعَفْوَ عَلَى غَيْرِ مَالٍ ، انْبَنَى عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ ؛ إنَّ قُلْنَا الْوَاجِبُ الْقِصَاصُ ، فَلَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ مَالٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغُرَمَاءِ .
وَإِنْ قُلْنَا : الْوَاجِبُ أَحَدُ شَيْئَيْنِ .
لَمْ يَمْلِكْ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ يَجِبُ بِقَوْلِهِ : عَفَوْت عَنْ الْقِصَاصِ .
فَقَوْلُهُ : عَلَى غَيْرِ مَالٍ .
إسْقَاطٌ لَهُ بَعْدَ وُجُوبِهِ وَتَعْيِينِهِ ، وَلَا يَمْلِكُ ذَلِكَ .
وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي السَّفِيهِ وَوَارِثِ الْمُفْلِسِ .
وَإِنْ عَفَا الْمَرِيضُ عَلَى غَيْرِ مَالٍ ، فَذَكَرَ الْقَاضِي فِي مَوْضِعٍ ، أَنَّهُ يَصِحُّ ، سَوَاءٌ خَرَجَ مِنْ الثُّلُثِ أَوْ لَمْ يَخْرُجْ .
وَذَكَر أَنَّ أَحْمَدَ نَصَّ عَلَى هَذَا .
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ : يُعْتَبَرُ خُرُوجُهُ مِنْ ثُلُثِهِ ، وَلَعَلَّهُ يَنْبَنِي عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي مُوجَبِ الْعَمْدِ عَلَى مَا مَضَى .

( 6766 ) فَصْلٌ : وَإِذَا قُتِلَ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ ، فَالْأَمْرُ إلَى السُّلْطَانِ ؛ فَإِنْ أَحَبَّ الْقِصَاصَ فَلَهُ ذَلِكَ ، وَإِنْ أَحَبَّ الْعَفْوَ عَلَى مَالٍ فَلَهُ ذَلِكَ ، وَإِنْ أَحَبَّ الْعَفْوَ إلَى غَيْرِ مَالٍ لَمْ يَمْلِكْهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لِلْمُسْلِمِينَ وَلَا حَظَّ لَهُمْ فِي هَذَا .
وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ ، إلَّا أَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ الْعَفْوَ عَلَى مَالٍ إلَّا بِرِضَى الْجَانِي .

( 6767 ) فَصْلٌ : وَإِذَا اشْتَرَكَ الْجَمَاعَةُ فِي الْقَتْل ، فَعَفَا عَنْهُمْ إلَى الدِّيَةِ ، فَعَلَيْهِمْ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَإِنْ عَفَا عَنْ بَعْضِهِمْ ، فَعَلَى الْمَعْفُوِّ عَنْهُ قِسْطُهُ مِنْ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ بَدَلُ الْمَحَلِّ ، وَهُوَ وَاحِدٌ ، فَتَكُونُ دِيَتُهُ وَاحِدَةً ، سَوَاءٌ أَتْلَفَهُ وَاحِدٌ أَوْ جَمَاعَةٌ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى : فِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ دِيَةً كَامِلَةً لِأَنَّ لَهُ قَتْلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ، فَكَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ دِيَةُ نَفْسٍ كَامِلَةٍ ، كَمَا لَوْ قَلَعَ الْأَعْوَرُ عَيْنَ صَحِيحٍ ، فَإِنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِ دِيَةُ عَيْنِهِ ، وَهُوَ دِيَةٌ كَامِلَةٌ .
وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ بَدَلُ الْمُتْلَفِ ، فَلَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُتْلَفِ ، وَلِذَلِكَ لَوْ قَتَلَ عَبْدٌ قِيمَتُهُ أَلْفَانِ حُرًّا ، لَمْ يَمْلِكْ الْعَفْوَ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ الدِّيَةِ ، وَأَمَّا الْقِصَاصُ ، فَإِنَّهُ عُقُوبَةٌ عَلَى الْفِعْلِ ، فَيَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِهِ .

( 6768 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِنْ قُتِلَ مَنْ لِلْأَوْلِيَاءِ أَنْ يَقِيدُوا بِهِ ، فَبَذَلَ الْقَاتِلُ أَكْثَرَ مِنْ الدِّيَةِ عَلَى أَنْ لَا يُقَادَ ، فَلِلْأَوْلِيَاءِ قَبُولُ ذَلِكَ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ ، لَهُ أَنْ يُصَالِحَ عَنْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ الدِّيَةِ ، وَبِقَدْرِهَا وَأَقَلِّ مِنْهَا ، لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا ؛ لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ قَتَلَ عَمْدًا دُفِعَ إلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ ؛ فَإِنْ شَاءُوا قَتَلُوا ، وَإِنْ شَاءُوا أَخَذُوا الدِّيَةَ ، ثَلَاثِينَ حِقَّةً ، وَثَلَاثِينَ جَذَعَةً ، وَأَرْبَعِينَ خَلِفَةً ، وَمَا صُولِحُوا عَلَيْهِ فَهُوَ لَهُمْ .
وَذَلِكَ لِتَشْدِيدِ الْقَتْلِ } .
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ ، وَرَوَيْنَا أَنَّ هُدْبَةَ بْن خَشْرَمٍ قَتَلَ قَتِيلًا ، فَبَذَلَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ لِابْنِ الْمَقْتُولِ سَبْعَ دِيَاتٍ ، لِيَعْفُوَ عَنْهُ ، فَأَبَى ذَلِكَ ، وَقَتَلَهُ .
وَلِأَنَّهُ عِوَضٌ عَنْ غَيْرِ مَالٍ ، فَجَازَ الصُّلْحُ عَنْهُ بِمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ ، كَالصَّدَاقِ ، وَعِوَضِ الْخُلْعِ ، وَلِأَنَّهُ صُلْحٌ عَمَّا لَا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا ، فَأَشْبَهَ الصُّلْحَ عَنْ الْعُرُوضِ .

( 6769 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِذَا أَمْسَكَ رَجُلًا وَقَتَلَهُ آخَرُ ، قُتِلَ الْقَاتِلُ ، وَحُبِسَ الْمَاسِكُ حَتَّى يَمُوتَ ) يُقَالُ أَمْسَكَ وَمَسَكَ وَمَسَّكَ .
وَقَدْ جَمَعَ الْخِرَقِيِّ بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ ، فَقَالَ : إذَا أَمْسَكَ ، وَحُبِسَ الْمَاسِكُ .
وَهُوَ اسْمُ الْفَاعِلِ مِنْ مَسَكَ مُخَفَّفًا .
وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْقَاتِلَ يُقْتَلُ ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ مَنْ يُكَافِئُهُ عَمْدًا بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَأَمَّا الْمُمْسِكُ ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْقَاتِلَ يَقْتُلُهُ ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مُتَسَبِّبٌ ، وَالْقَاتِلُ مُبَاشِرٌ ، فَسَقَطَ حُكْمُ الْمُتَسَبِّبِ بِهِ .
وَإِنْ أَمْسَكَهُ لَهُ لِيَقْتُلهُ ، مِثْلَ إنْ ضَبَطَهُ لَهُ حَتَّى ذَبَحَهُ لَهُ .
فَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِيهِ عَنْ أَحْمَدَ ؛ فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يُحْبَسُ حَتَّى يَمُوتَ .
وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ وَرَبِيعَة .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ .
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ يُقْتَلُ أَيْضًا .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي مُوسَى : الْإِجْمَاعُ فِينَا أَنْ يُقْتَلَ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُمْسِكْهُ ، مَا قَدَرَ عَلَى قَتْلِهِ ، وَبِإِمْسَاكِهِ تَمَكَّنَ مِنْ قَتْلِهِ ، فَالْقَتْلُ حَاصِلٌ بِفِعْلِهِمَا ، فَيَكُونَانِ شَرِيكَيْنِ فِيهِ ، فَيَجِبُ عَلَيْهِمَا الْقِصَاصُ ، كَمَا لَوْ جَرَحَاهُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ : يُعَاقَبُ ، وَيَأْثَمُ ، وَلَا يُقْتَلُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إنَّ أَعْتَى النَّاسِ عَلَى اللَّهِ ، مَنْ قَتَلَ غَيْرَ قَاتِلِهِ " .
وَالْمُمْسِكُ غَيْرُ قَاتِلٍ ، وَلِأَنَّ الْإِمْسَاكَ سَبَبٌ غَيْرُ مُلْجِئٍ ، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ مَعَهُ الْمُبَاشَرَةُ ، كَانَ الضَّمَانُ عَلَى الْمُبَاشِرِ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَعْلَمْ الْمُمْسِكُ أَنَّهُ يَقْتُلُهُ ، وَلَنَا ، مَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إذَا أَمْسَكَ الرَّجُلَ ، وَقَتَلَهُ الْآخَرُ ، يُقْتَلُ الَّذِي قَتَلَ ، وَيُحْبَسُ الَّذِي أَمْسَكَ } وَلِأَنَّهُ حَبَسَهُ إلَى الْمَوْتِ ، فَيُحْبَسُ

الْآخَرُ إلَى الْمَوْتِ ، كَمَا لَوْ حَبَسَهُ عَنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ حَتَّى مَاتَ ، فَإِنَّنَا نَفْعَلُ بِهِ ذَلِكَ حَتَّى يَمُوتَ .

( 6770 ) فَصْلٌ : وَإِنْ اتَّبَعَ رَجُلًا لِيَقْتُلَهُ ، فَهَرَبَ مِنْهُ ، فَأَدْرَكَهُ آخَرُ ، فَقَطَعَ رِجْلَهُ ، ثُمَّ أَدْرَكَهُ الثَّانِي فَقَتَلَهُ ، نَظَرْت ؛ فَإِنْ كَانَ قَصْدُ الْأَوَّلِ حَبْسَهُ بِالْقَطْعِ لِيَقْتُلَهُ الثَّانِي ، فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي الْقَطْعِ ، وَحُكْمُهُ فِي الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ حُكْمُ الْمُمْسِكِ ؛ لِأَنَّهُ حَبَسَهُ عَلَى الْقَتْلِ ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ حَبْسَهُ ، فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ دُونَ الْقَتْلِ ، كَاَلَّذِي أَمْسَكَهُ غَيْرَ عَالِمٍ .
وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ ، لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا الْقَطْعُ بِكُلِّ حَالٍ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّهُ الْحَابِسُ لَهُ بِفِعْلِهِ ، فَأَشْبَهَ الْحَابِسَ بِإِمْسَاكِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَ اعْتَبَرْتُمْ قَصْدَ الْإِمْسَاكِ هَاهُنَا وَأَنْتُمْ لَا تَعْتَبِرُونَ إرَادَةَ الْقَتْلِ فِي الْجَارِحِ ؟ قُلْنَا إذَا مَاتَ مِنْ الْجُرْحِ ، فَقَدْ مَاتَ مِنْ سِرَايَتِهِ وَأَثَرِهِ ، فَنَعْتَبِرُ قَصْدَ الْجُرْحِ الَّذِي هُوَ السَّبَبُ دُونَ قَصْدِ الْأَثَرِ ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا إنَّمَا كَانَ مَوْتُهُ بِأَمْرِ غَيْرِ السِّرَايَةِ ، وَالْفِعْلُ مُمَكِّنٌ لَهُ عَلَيْهِ ، فَاعْتُبِرَ قَصْدُهُ لِذَلِكَ الْفِعْلِ ، كَمَا لَوْ أَمْسَكَهُ .

( 6771 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَمَنْ ( أَمَرَ عَبْدَهُ أَنْ يَقْتُلَ رَجُلًا ، وَكَانَ الْعَبْدُ أَعْجَمِيًّا ، لَا يَعْلَمُ أَنَّ الْقَتْلَ مُحَرَّمٌ قُتِلَ السَّيِّدُ ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ خَطَرَ الْقَتْلِ ، قُتِلَ الْعَبْدُ ، وَأُدِّبَ السَّيِّدُ ) إنَّمَا ذَكَرَ الْخِرَقِيِّ كَوْنَهُ أَعْجَمِيًّا ، وَهُوَ الَّذِي لَا يُفْصِحُ ، لِيَتَحَقَّقَ مِنْهُ الْجَهْلُ ، وَإِنَّمَا يَكُنْ الْجَهْلُ فِي حَقِّ مِنْ نَشَأَ فِي غَيْرِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ ، فَأَمَّا مَنْ أَقَامَ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ بَيْنَ أَهْلِهِ ، فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ تَحْرِيمُ الْقَتْلِ ، وَلَا يَعْذِرُ فِي فِعْلِهِ ، وَمَتَى كَانَ الْعَبْدُ يَعْلَمُ تَحْرِيمَ الْقَتْلِ ، فَالْقِصَاصُ عَلَيْهِ ، وَيُؤَدَّبُ سَيِّدُهُ ؛ لِأَمْرِهِ بِمَا أَفْضَى إلَى الْقَتْلِ ، بِمَا يَرَاهُ الْإِمَامُ مِنْ الْحَبْسِ وَالتَّعْزِيرِ .
وَإِنْ كَانَ غَيْرَ عَالِمٍ بِخَطَرِهِ ، فَالْقِصَاصُ عَلَى سَيِّدِهِ ، وَيُؤَدَّبُ الْعَبْدُ .
قَالَ أَحْمَدُ يُضْرَبُ وَيُؤَدَّبُ .
وَنَقَلَ عَنْهُ أَبُو طَالِبٍ ، قَالَ : يُقْتَلُ الْوَلِيُّ وَيُحْبَسُ الْعَبْدُ حَتَّى يَمُوتَ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ سَوْطُ الْمَوْلَى وَسَيْفُهُ .
كَذَا قَالَ عَلِيٌّ ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُسْتَوْدَعُ السِّجْنَ ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ الشَّافِعِيُّ وَمِمَّنْ قَالَ : إنَّ السَّيِّدَ يُقْتَلُ عَلِيٌّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ .
وَقَالَ قَتَادَةُ : يُقْتَلَانِ جَمِيعًا .
وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى : لَأَنْ يُقْتَلَ الْآمِرُ ، وَلَكِنْ يَدَيْهِ ، وَيُعَاقَبُ وَيُحْبَسُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُبَاشِرْ الْقَتْلَ ، وَلَا أَلْجَأَ إلَيْهِ ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ قِصَاصٌ ، كَمَا لَوْ عَلِمَ الْعَبْدُ خَطَرَ الْقَتْلِ .
وَلَنَا ، أَنَّ الْعَبْدَ إذَا كَانَ غَيْرَ عَالِمٍ بِخَطَرِ الْقَتْلِ ، فَهُوَ مُعْتَقِدٌ إبَاحَتَهُ ، وَذَلِكَ شُبْهَةٌ تَمْنَعُ الْقِصَاصَ كَمَا لَوْ اعْتَقَدَهُ صَيْدًا فَرَمَاهُ ، فَبَانَ إنْسَانًا ، وَلِأَنَّ حِكْمَةَ الْقِصَاصِ الرَّدْعُ وَالزَّجْرُ ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ فِي مُعْتَقِدِ الْإِبَاحَةِ ، وَإِذَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ ، وَجَبَ عَلَى السَّيِّدِ ، لِأَنَّهُ آلَةٌ لَهُ ، لَا يُمْكِنُ

إيجَابُ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ ، فَوَجَبَ عَلَى الْمُتَسَبِّبِ بِهِ ، كَمَا لَوْ أَنْهَشَهُ حَيَّةً أَوْ كَلْبًا أَوْ أَلْقَاهُ فِي زُبْيَةِ أَسَدٍ فَأَكَلَهُ .
وَيُفَارِقُ هَذَا مَا إذَا عَلِمَ خَطَرَ الْقَتْلِ ، فَإِنَّ الْقِصَاصَ عَلَى الْعَبْدِ ؛ لِإِمْكَانِ إيجَابِهِ عَلَيْهِ ، وَهُوَ مُبَاشِرٌ لَهُ ، فَانْقَطَعَ حُكْمُ الْآمِرِ ، كَالدَّافِعِ مَعَ الْحَافِرِ ، وَيَكُونُ عَلَى السَّيِّدِ الْأَدَبُ ؛ لِتَعَدِّيهِ بِالتَّسَبُّبِ إلَى الْقَتْلِ .

( 6772 ) فَصْلٌ : وَلَوْ أَمَرَ صَبِيًّا لَا يُمَيِّزُ ، أَوْ مَجْنُونًا ، أَوْ أَعْجَمِيًّا لَا يَعْلَمُ خَطَرَ الْقَتْلِ ، فَقَتَلَ ، فَالْحُكْمُ فِيهِ كَالْحُكْمِ فِي الْعَبْدِ ، يُقْتَلُ الْآمِرُ دُونَ الْمُبَاشِرِ .
وَلَوْ أَمَرَهُ بِزِنًى ، أَوْ سَرِقَةٍ ، لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ عَلَى الْآمِرِ ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ لَا يَجِبُ إلَّا عَلَى الْمُبَاشِرِ ، وَالْقِصَاصُ يَجِبُ بِالتَّسَبُّبِ ، وَلِذَلِكَ وَجَبَ عَلَى الْمُكْرَهِ وَالشُّهُودِ فِي الْقِصَاصِ .

( 6773 ) فَصْلٌ : وَلَوْ أَمَرَ السُّلْطَانُ رَجُلًا ، فَقَتَلَ آخَرَ ، فَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ قَتْلَهُ ، فَالْقِصَاصُ عَلَيْهِ دُونَ الْآمِرِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْذُورٍ فِي فِعْلِهِ ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ } .
وَعَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ أَمَرَكُمْ مِنْ الْوُلَاةِ بِغَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَلَا تُطِيعُوهُ } .
فَلَزِمَهُ الْقِصَاصُ ، كَمَا لَوْ أَمَرَهُ غَيْرُ السُّلْطَانِ .
وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ ، فَالْقِصَاصُ عَلَى الْآمِرِ دُونَ الْمَأْمُورِ ؛ لِأَنَّ الْمَأْمُورِ ؛ مَعْذُورٌ ، لِوُجُوبِ طَاعَةِ الْإِمَامِ فِيمَا لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَأْمُرُ إلَّا بِالْحَقِّ .
وَإِنْ أَمَرَهُ غَيْرُ السُّلْطَانِ مِنْ الرَّعِيَّةِ بِالْقَتْلِ ، فَقَتَلَ ، فَالْقَوَدُ عَلَى الْمَأْمُورِ بِكُلِّ حَالٍ ، عَلِمَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ طَاعَتُهُ ، وَلَيْسَ لَهُ الْقَتْلُ بِحَالٍ ، بِخِلَافِ السُّلْطَانِ ، فَإِنَّ إلَيْهِ الْقَتْلَ لِلرِّدَّةِ ، وَالزِّنَى وَقَطْعِ الطَّرِيقِ إذَا قَتَلَ الْقَاطِعُ ، وَيَسْتَوْفِي الْقِصَاصَ لِلنَّاسِ ، وَهَذَا لَيْسَ إلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ .
وَإِنْ أَكْرَهَهُ السُّلْطَانُ عَلَى قَتْلِ أَحَدٍ ، أَوْ جَلْدِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ ، فَمَاتَ ، فَالْقِصَاصُ عَلَيْهِمَا .
وَإِنْ وَجَبَتْ الدِّيَةُ ، كَانَتْ عَلَيْهِمَا فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ يَعْتَقِدُ جَوَازَ الْقَتْلِ دُونَ الْمَأْمُورِ ، كَمُسْلِمٍ قَتَلَ ذِمِّيًّا ، أَوْ حُرٍّ قَتَلَ عَبْدًا ، فَقَتَلَهُ ، فَقَالَ الْقَاضِي : الضَّمَانُ عَلَيْهِ دُونَ الْإِمَامِ ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ ؛ أَمَرَهُ بِمَا أَدَّى اجْتِهَادُهُ إلَيْهِ ، وَالْمَأْمُورُ لَا يَعْتَقِدُ جَوَازَهُ ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْبَلَ أَمْرَهُ ، فَإِذَا قَتَلَهُ ، لَزِمَهُ الضَّمَانُ ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ قَتْلُهُ .
وَيَنْبَغِي أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الْعَامِّيِّ وَالْمُجْتَهِدِ ؛ فَإِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا ، فَالْحُكْمُ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرَ الْقَاضِي ، وَإِنْ كَانَ مُقَلِّدًا ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛

لِأَنَّ لَهُ تَقْلِيدَ الْإِمَامِ فِيمَا رَآهُ .
وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ ، وَالْقَاتِلُ يَعْتَقِدُ حِلَّهُ فَالضَّمَانُ عَلَى الْآمِرِ ، كَمَا لَوْ أَمَرَ السَّيِّدَ الَّذِي لَا يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَ الْقَتْلِ بِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

كِتَابُ الدِّيَاتِ الْأَصْلُ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ ؛ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ إلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا } الْآيَة .
وَأَمَّا السُّنَّةُ ، فَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ كِتَابًا إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ ، فِيهِ الْفَرَائِضُ وَالسُّنَنُ وَالدِّيَاتُ ، وَقَالَ فِيهِ : { وَإِنَّ فِي النَّفْسِ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ } رَوَاهُ النَّسَائِيّ ، فِي سُنَنِهِ ، وَمَالِكٌ ، فِي " مُوَطَّئِهِ " .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : وَهُوَ كِتَابٌ مَشْهُورٌ عِنْد أَهْلِ السِّيَرِ ، وَمَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مَعْرِفَةً يَسْتَغْنِي بِشُهْرَتِهَا عَنْ الْإِسْنَادِ ؛ لِأَنَّهُ أَشْبَهَ الْمُتَوَاتِرَ ، فِي مَجِيئِهِ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ .
تَأْتِي فِي مَوَاضِعِهَا مِنْ الْبَابِ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ .
وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى وُجُوبِ الدِّيَةِ فِي الْجُمْلَةِ .

( 6774 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ رَحِمَهُ اللَّهُ : ( وَدِيَةُ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ ) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْإِبِلَ أَصْلٌ فِي الدِّيَةِ ، وَأَنَّ دِيَةَ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ .
وَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ ؛ مِنْهَا حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ ، وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي دِيَةِ خَطَأِ الْعَمْدِ ، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي دِيَةِ الْخَطَأِ ، وَسَنَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ .
وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الدِّيَةِ الْإِبِلُ لَا غَيْرُ .
وَهَذَا إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو الْخَطَّابِ .
وَهُوَ قَوْلُ طَاوُسٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَقَالَ الْقَاضِي : لَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّ أُصُولَ الدِّيَةِ الْإِبِلُ وَالذَّهَبُ وَالْوَرِقُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ ، فَهَذِهِ خَمْسَةٌ لَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ فِيهَا .
وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ ، وَعَطَاءٍ ، وَطَاوُسٍ ، وَفُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ السَّبْعَةِ .
وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى ، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ ؛ لِأَنَّ عَمْرَو بْنَ حَزْمٍ رَوَى فِي كِتَابِهِ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إلَى أَهْلِ الْيُمْنِ : { وَأَنَّ فِي النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ ، وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ أَلْفُ دِينَارٍ } رَوَاهُ النَّسَائِيّ .
وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ { أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي عَدِيٍّ قُتِلَ ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِيَتَهُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا .
} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَابْنُ مَاجَهْ .
وَرَوَى الشَّعْبِيُّ ، أَنَّ عُمَرَ جَعَلَ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفَ دِينَارٍ .
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّ عُمَرَ قَامَ خَطِيبًا ، فَقَالَ : أَلَا إنَّ الْإِبِلَ قَدْ غَلَتْ .
: فَقَوَّمَ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفَ دِينَارٍ ، وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا ، وَعَلَى أَهْلِ الْبَقَرِ مِائَتَيْ بَقَرَةٍ ، وَعَلَى أَهْلِ الشَّاةِ أَلْفَيْ شَاةٍ ، وَعَلَى أَهْلِ الْحُلَلِ مِائَتِي

حُلَّةٍ .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَلَنَا ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَلَا إنَّ فِي قَتِيلِ عَمْدِ الْخَطَأِ ، قَتِيلِ السَّوْطِ وَالْعَصَا ، مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ } وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَّقَ بَيْنَ دِيَةِ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ ، فَغَلَّظَ بَعْضَهَا ، وَخَفَّفَ بَعْضَهَا ، وَلَا يَتَحَقَّقُ هَذَا فِي غَيْرِ الْإِبِلِ ، وَلِأَنَّهُ بَدَلُ مُتْلَفٍ حَقًّا لِآدَمِيٍّ ، فَكَانَ مُتَعَيِّنًا كَعِوَضِ الْأَمْوَالِ .
وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ يَحْتَمِلُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْجَبَ الْوَرِقَ بَدَلًا عَنْ الْإِبِلِ ، وَالْخِلَافُ فِي كَوْنِهَا أَصْلًا .
وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ الْإِبِلُ ، فَإِنَّ إيجَابَهُ لِهَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ عَلَى سَبِيلِ التَّقْوِيمِ ، لِغَلَاءِ الْإِبِلِ ، وَلَوْ كَانَتْ أُصُولًا بِنَفْسِهَا ، لَمْ يَكُنْ إيجَابُهَا تَقْوِيمًا لِلْإِبِلِ ، وَلَا كَانَ لِغَلَاءِ الْإِبِلِ أَثَرٌ فِي ذَلِكَ ، وَلَا لِذِكْرِهِ مَعْنًى .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يُقَوِّمُ الْإِبِلَ قَبْلَ أَنْ تَغْلُوَ بِثَمَانِيَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ ، وَلِذَلِكَ قِيلَ : إنَّ دِيَةَ الذِّمِّيِّ أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ ، وَدِيَتُهُ نِصْفُ الدِّيَةِ ، فَكَانَ ذَلِكَ أَرْبَعَةَ آلَافٍ حِينَ كَانَتْ الدِّيَةُ ثَمَانِيَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ .
( 6775 ) فَصْلٌ : فَإِذَا قُلْنَا هِيَ خَمْسَةُ أُصُولٍ ، فَإِنَّ قَدْرَهَا مِنْ الذَّهَبِ أَلْفُ مِثْقَالٍ ، وَمِنْ الْوَرِقِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ ، وَمِنْ الْبَقَرِ وَالْحُلَلِ مِائَتَانِ ، وَمِنْ الشَّاءِ أَلْفَانِ ، وَلَمْ يَخْتَلِفْ الْقَائِلُونَ بِهَذِهِ الْأُصُولِ فِي قَدْرِهَا مِنْ الذَّهَبِ ، وَلَا مِنْ سَائِرِهَا ، إلَّا الْوَرِقِ ، فَإِنَّ الثَّوْرِيَّ وَأَبَا حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ قَالُوا : قَدْرُهَا عَشَرَةُ آلَافٍ مِنْ الْوَرِقِ .
وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ شُبْرُمَةَ ؛ لِمَا رَوَى الشَّعْبِيُّ ، أَنَّ عُمَرَ جَعَلَ عَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ عَشَرَةَ آلَافٍ .
وَلِأَنَّ الدِّينَارَ مَعْدُولٌ فِي الشَّرْعِ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ ، بِدَلِيلِ أَنَّ نِصَابَ الذَّهَبِ عِشْرُونَ مِثْقَالًا ، وَنِصَابَ

الْفِضَّةِ مِائَتَانِ .
وَبِمَا ذَكَرْنَاهُ قَالَ الْحَسَنُ ، وَعُرْوَةُ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ ، وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، عَنْ عُمَرَ ، وَلِأَنَّ الدِّينَارَ مَعْدُولٌ بِاثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا ، بِدَلِيلِ أَنَّ عُمَرَ فَرَضَ الْجِزْيَةَ عَلَى الْغَنِيِّ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ أَوْ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا ، وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ دِينَارَيْنِ ، أَوْ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا ، وَعَلَى الْفَقِيرِ دِينَارًا أَوْ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا .
وَهَذَا أَوْلَى مِمَّا ذَكَرُوهُ فِي نِصَابِ الزَّكَاةِ ، وَلِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ نِصَابُ أَحَدِهِمَا مَعْدُولًا بِنِصَابِ الْآخَرِ ، كَمَا أَنَّ السَّائِمَةَ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ لَيْسَ نِصَابُ شَيْءٍ مِنْهَا مَعْدُولًا بِنِصَابِ غَيْرِهِ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : لَيْسَ مَعَ مَنْ جَعَلَ الدِّيَةَ عَشَرَةَ آلَافٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَدِيثٌ مُسْنَدٌ وَلَا مُرْسَلٌ ، وَحَدِيثُ الشَّعْبِيِّ عَنْ عُمَرَ ، يُخَالِفُهُ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْهُ .

( 6776 ) فَصْلٌ : وَعَلَى هَذَا ، أَيُّ شَيْءٍ أَحْضَرَهُ مَنْ عَلَيْهِ الدِّيَةُ مِنْ الْقَاتِلِ أَوْ الْعَاقِلَةِ مِنْ هَذِهِ الْأُصُولِ ، لَزِمَ الْوَلِيَّ أَخْذُهُ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِغَيْرِهِ ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ النَّوْعِ ، أَوْ لَمْ يَكُنْ ؛ لِأَنَّهَا أُصُولٌ فِي قَضَاءِ الْوَاجِبِ ، يُجْزِئُ وَاحِدٌ مِنْهَا ، فَكَانَتْ الْخِيَرَةُ إلَى مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ ، كَخِصَالِ الْكَفَّارَةِ ، وَكَشَاتَيْ الْجُبْرَانِ فِي الزَّكَاةِ مَعَ الدَّرَاهِمِ .
وَإِنْ قُلْنَا : الْأَصْلُ الْإِبِلُ خَاصَّةً .
فَعَلَيْهِ تَسْلِيمُهَا إلَيْهِ سَلِيمَةً مِنْ الْعُيُوبِ ، وَأَيُّهُمَا أَرَادَ الْعُدُولَ عَنْهَا إلَى غَيْرِهَا ، فَلِلْآخَرِ مَنْعُهُ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ مُتَعَيِّنٌ فِيهَا ، فَاسْتُحِقَّتْ ، كَالْمِثْلِ فِي الْمِثْلِيَّاتِ الْمُتْلَفَةِ .
وَإِنْ أَعْوَزَتْ الْإِبِلُ ، وَلَمْ تُوجَدْ إلَّا بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ ، فَلَهُ الْعُدُولُ إلَى أَلْفِ دِينَارٍ ، أَوْ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ .
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ الْقَدِيمُ .
وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ : تَجِبُ قِيمَةُ الْإِبِلِ ، بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ ؛ لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ عُمَرَ فِي تَقْوِيمِ الْإِبِلِ ، وَلِأَنَّ مَا ضَمِنَ بِنَوْعٍ مِنْ الْمَالِ ، وَجَبَتْ قِيمَتُهُ ، كَذَوَاتِ الْأَمْثَالِ ، وَلِأَنَّ الْإِبِلَ إذَا أَجْزَأَتْ إذَا قَلَّتْ قِيمَتُهَا ، يَنْبَغِي أَنْ تُجْزِئَ وَإِنْ كَثُرَتْ قِيمَتُهَا ، كَالدَّنَانِيرِ إذَا غَلَتْ أَوْ رَخُصَتْ .
وَهَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ نَقُولَ إذَا غَلَتْ الْإِبِلُ كُلُّهَا ، فَأَمَّا إنْ كَانَتْ الْإِبِلُ مَوْجُودَةً بِثَمَنِ مِثْلِهَا ، إلَّا أَنَّ هَذَا لَمْ يَجِدْهَا ، لِكَوْنِهَا فِي غَيْرِ بَلَدِهِ ، وَنَحْوَ ذَلِكَ ، فَإِنَّ عُمَرَ قَوَّمَ الدِّيَةَ مِنْ الدَّرَاهِمِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا وَأَلْفَ دِينَارٍ .
( 6777 ) فَصْلٌ : وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ ، أَنَّهُ لَا تُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْإِبِلِ ، بَلْ مَتَى وُجِدَتْ عَلَى الصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ ، وَجَبَ أَخْذُهَا ، قَلَّتْ قِيمَتُهَا أَوْ كَثُرَتْ ، وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ .
وَذَكَرَ أَصْحَابُنَا أَنَّ ظَاهِرَ مَذْهَبِ أَحْمَدَ ، أَنْ

تُؤْخَذَ مِائَةٌ ، قِيمَةُ كُلِّ بَعِيرٍ مِنْهَا مِائَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ ، أَدَّى اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ ، أَوْ أَلْفَ دِينَارٍ ؛ لِأَنَّ عُمَرَ قَوَّمَ الْإِبِلَ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفَ مِثْقَالٍ ، وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ قِيمَتُهَا ، وَلِأَنَّ هَذِهِ إبْدَالُ مَحَلٍّ وَاحِدٍ ، فَيَجِبُ أَنْ تَتَسَاوَى فِي الْقِيمَةِ ، كَالْمِثْلِ وَالْقِيمَةِ فِي بَدَلِ الْقَرْضِ ، وَالْمُتْلَفِ فِي الْمِثْلِيَّاتِ .
وَلَنَا ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { فِي النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ } .
وَهَذَا مُطْلَقٌ فَتَقْيِيدُهُ يُخَالِفُ إطْلَاقَهُ ، فَلَمْ يَجُزْ إلَّا بِدَلِيلِ ؛ وَلِأَنَّهَا كَانَتْ تُؤْخَذُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِيمَتُهَا ثَمَانِيَةُ آلَافٍ ، وَقَوْلُ عُمَرَ فِي حَدِيثِهِ : إنَّ الْإِبِلَ قَدْ غَلَتْ .
فَقَوْمهَا عَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا فِي حَالِ رُخْصِهَا أَقَلُّ قِيمَة مِنْ ذَلِكَ ، وَقَدْ كَانَتْ تُؤْخَذُ فِي عَصْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرٍ مِنْ وِلَايَةِ عُمَرَ ، مَعَ رُخْصِهَا وَقِلَّةِ قِيمَتِهَا وَنَقْصِهَا عَنْ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ ، فَإِيجَابُ ذَلِكَ فِيهَا خِلَافُ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَّقَ بَيْنَ دِيَةِ الْخَطَأِ وَالْعَمْدِ ، فَغَلَّظَ دِيَةَ الْعَمْدِ ، وَخَفَّفَ دِيَةَ الْخَطَأِ ، وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ ، وَاعْتِبَارُهَا بِقِيمَةٍ وَاحِدَةٍ تَسْوِيَةٌ بَيْنَهُمَا ، وَجَمْعٌ بَيْنَ مَا فَرَّقَهُ الشَّارِعُ ، وَإِزَالَةٌ لِلتَّخْفِيفِ وَالتَّغْلِيظِ جَمِيعًا ، بَلْ هُوَ تَغْلِيظٌ لِدِيَةِ الْخَطَأِ ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ ابْنِ مَخَاضٍ بِقِيمَةِ ثَنِيَّةٍ أَوْ جَذَعَةٍ ، يَشُقُّ جِدًّا ، فَيَكُونُ تَغْلِيظًا لِلدِّيَةِ فِي الْخَطَأِ ، وَتَخْفِيفًا لِدِيَةِ الْعَمْدِ ، وَهَذَا خِلَافُ مَا قَصَدَهُ الشَّارِعُ ، وَوَرَدَ بِهِ ، وَلِأَنَّ الْعَادَةَ نَقْصُ قِيمَةِ

بَنَاتِ الْمَخَاضِ عَنْ قِيمَةِ الْحِقَاقِ وَالْجَذَعَاتِ ، فَلَوْ كَانَتْ تُؤَدَّى عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِيمَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِيهَا لَنُقِلَ ، وَلَمْ يَجُزْ الْإِخْلَالُ بِهِ ؛ لِأَنَّ مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ مُطْلَقًا إنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ ، فَإِذَا أُرِيدَ بِهِ مَا يُخَالِفُ الْعَادَةَ ، وَجَبَ بَيَانُهُ وَإِيضَاحُهُ ؛ لِئَلَّا يَكُونَ تَلْبِيسًا فِي الشَّرِيعَةِ وَإِيهَامَهُمْ أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ خِلَافُ مَا هُوَ حُكْمُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ لِلْبَيَانِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ } .
فَكَيْفَ يُحْمَلُ قَوْلُهُ عَلَى الْإِلْبَاسِ وَالْإِلْغَازِ ، هَذَا مِمَّا لَا يَحِلُّ .
ثُمَّ لَوْ حُمِلَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ لَكَانَ الْأَسْنَانُ عَبَثًا غَيْرَ مُفِيدٍ ، فَإِنَّ فَائِدَة ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ كَوْنُ اخْتِلَافِ أَسْنَانِهَا مَظِنَّةَ اخْتِلَافِ الْقِيَمِ ، فَأُقِيمَ مُقَامَهُ ؛ وَلِأَنَّ الْإِبِلَ أَصْلٌ فِي الدِّيَةِ ، فَلَا تُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا بِغَيْرِهَا ، كَالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ ، وَلِأَنَّهَا أَصْلٌ فِي الْوُجُوبِ ، فَلَا تُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا ، كَالْإِبِلِ فِي السِّلْمِ وَشَاةِ الْجُبْرَانِ ، وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ حُجَّةٌ لَنَا ؛ فَإِنَّ الْإِبِلَ كَانَتْ تُؤْخَذُ قَبْلَ أَنْ تَغْلُوَ وَيُقَوِّمَهَا عُمَرُ ، وَقِيمَتُهَا أَقَلُّ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا ، وَقَدْ قِيلَ : إنَّ قِيمَتَهَا كَانَتْ ثَمَانِيَةَ آلَافٍ .
وَلِذَلِكَ قَالَ عُمَرُ : دِيَةُ الْكِتَابِيِّ أَرْبَعَةُ آلَافٍ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّهَا أَبْدَالُ مَحَلٍّ وَاحِدٍ .
فَلَنَا أَنْ نَمْنَعَ ، وَنَقُولَ : الْبَدَلُ إنَّمَا هُوَ الْإِبِلُ ، وَغَيْرُهَا مُعْتَبَرٌ بِهَا .
وَإِنْ سَلَّمْنَا ، فَهُوَ مُنْتَقِضٌ بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ ، فَإِنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ تَسَاوِيهِمَا ، وَيَنْتَقِضُ أَيْضًا بِشَاةِ الْجُبْرَانِ مَعَ الدَّرَاهِمِ .
وَأَمَّا بَدَلُ الْقَرْضِ وَالْمُتْلَفِ ، فَإِنَّمَا هُوَ الْمِثْلُ خَاصَّةً ، وَالْقِيمَةُ بَدَلٌ عَنْهُ ؛ وَلِذَلِكَ لَا تَجِبُ إلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهُ

بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ ؛ لِقَوْلِكُمْ : إنَّ الْإِبِلَ هِيَ الْأَصْلُ ، وَغَيْرُهَا بَدَلٌ عَنْهَا فَيَجِبُ أَنْ يُسَاوِيَهَا كَالْمِثْلِ وَالْقِيمَةِ .
قُلْنَا : إذَا ثَبَتَ لَنَا هَذَا ، يَنْبَغِي أَنْ يُقَوَّمَ غَيْرُهَا بِهَا ، وَلَا تُقَوَّمُ هِيَ بِغَيْرِهَا ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ يَتْبَعُ الْأَصْلَ ، وَلَا يَتْبَعُ الْأَصْلُ الْبَدَلَ ، عَلَى أَنَّا نَقُولُ : إنَّمَا صَيَّرَ إلَى التَّقْدِيرِ بِهَذَا ؛ لِأَنَّ عُمَرَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَوَّمَهَا فِي وَقْتِهِ بِذَلِكَ ، فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ ، كَيْلًا يُؤَدِّيَ التَّنَازُعِ وَالِاخْتِلَافِ فِي قِيمَةِ الْإِبِلِ الْوَاجِبَةِ ، كَمَا قُدِّرَ لَبَنُ الْمُصَرَّاةِ بِصَاعٍ مِنْ التَّمْرِ ، نَفْيًا لِلتَّنَازُعِ فِي قِيمَتِهِ ، فَلَا يُوجِبُ هَذَا أَنْ يُرَدَّ الْأَصْلَ إلَى التَّقْوِيمِ ، فَيُفْضِيَ إلَى عَكْسِ حِكْمَةِ الشَّرْعِ ، وَوُقُوعِ التَّنَازُعِ فِي قِيمَةِ الْإِبِلِ مَعَ وُجُوبِهَا بِعَيْنِهَا ، عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي بَدَلَيْ الْقَرْضِ مُسَاوَاةُ الْمَحَلِّ الْمُقْرَضِ ، فَاعْتُبِرَ مُسَاوَاةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ بَدَلَيْهِ لَهُ .
وَالدِّيَةُ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ بِقِيمَةِ الْمُتْلَفِ ؛ وَلِهَذَا لَا تُعْتَبَرُ صِفَاتُهُ .
وَهَكَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا فِي تَقْوِيمِ الْبَقَرِ وَالشَّاةِ وَالْحُلَلِ ، يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَبْلَغُ الْوَاجِبِ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنْهَا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا ، فَتَكُونُ قِيمَةُ كُلِّ بَقَرَةٍ أَوْ حُلَّةٍ سِتِّينَ دِرْهَمًا ، وَقِيمَةُ كُلِّ شَاةٍ سِتَّةَ دَرَاهِمَ ، لِتَتَسَاوَى الْأَبْدَالُ كُلُّهَا ، وَكُلُّ حُلَّةٍ بُرْدَتَانِ ، فَيَكُونَ أَرْبَعمِائَةِ بُرْدٍ .

( 6778 ) فَصْلٌ : وَلَا يُقْبَلُ فِي الْإِبِلِ مَعِيبٌ ، وَلَا أَعْجَفُ ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهَا أَنْ تَكُونَ مِنْ جِنْسِ إبِلِهِ ، وَلَا إبِلِ بَلَدِهِ .
وَقَالَ الْقَاضِي ، وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : الْوَاجِبُ عَلَيْهِ مِنْ جِنْسِ إبِلِهِ ، سَوَاءٌ كَانَ الْقَاتِلَ أَوْ الْعَاقِلَةَ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا عَلَى سَبِيلِ الْمُوَاسَاةِ ، فَيَجِبُ كَوْنُهَا مِنْ جِنْسِ مَالِهِمْ ، كَالزَّكَاةِ ، فَإِذَا كَانَ عِنْدَ بَعْضِ الْعَاقِلَةِ عِرَابٌ ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ بَخَاتِي ، أُخِذَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ جِنْسِ مَا عِنْدَهُ ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَ وَاحِدٍ صِنْفَانِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا : يُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ بِقِسْطِهِ .
وَالثَّانِي ، يُؤْخَذُ مِنْ الْأَكْثَرِ ، فَإِنْ اسْتَوَيَا ، دَفَعَ مِنْ أَيِّهِمَا شَاءَ .
فَإِنْ دَفَعَ مِنْ غَيْرِ إبِلِهِ خَيْرًا مِنْ إبِلِهِ أَوْ مِثْلَهَا ، جَازَ كَمَا لَوْ أَخْرَجَ فِي الزَّكَاةِ خَيْرًا مِنْ الْوَاجِبِ ، وَإِنْ كَانَ أَدْوَنَ ، لَمْ يُقْبَلْ ، إلَّا أَنْ يَرْضَى الْمُسْتَحِقُّ .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إبِلٌ ، فَمِنْ غَالِبِ إبِلِ الْبَلَدِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ إبِلٌ ، وَجَبَ مِنْ غَالِبِ إبِلِ أَقْرَبِ الْبِلَادِ إلَيْهِ .
فَإِنْ كَانَتْ إبِلُهُ عِجَافًا أَوْ مِرَاضًا ، كُلِّفَ تَحْصِيلَ صِحَاحٍ مِنْ جِنْسِ مَا عِنْدَهُ ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ مُتْلَفٍ ، فَلَا تُؤْخَذُ فِيهِ مَعِيبَةٌ ، كَقِيمَةِ الثَّوْبِ الْمُتْلَفِ ، وَنَحْوَ هَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا فِي الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ .
وَلَنَا ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { فِي النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ } .
أَطْلَقَ الْإِبِلَ ، فَمَنْ قَيَّدَهَا احْتَاجَ إلَى دَلِيلٍ وَلِأَنَّهَا بَدَلُ الْمُتْلَفِ ، فَلَمْ يَخْتَصَّ بِجِنْسِ مَالِهِ ، كَبَدَلِ سَائِرِ الْمُتْلَفَاتِ ؛ وَلِأَنَّهَا حَقٌّ لَيْسَ سَبَبُهُ الْمَالَ ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ كَوْنُهُ مِنْ جِنْسِ مَالِهِ ، كَالْمُسْلَمِ فِيهِ وَالْقَرْضِ ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالدِّيَةِ جَبْرُ الْمَفُوتِ ، وَالْجَبْرُ لَا يَخْتَصُّ بِجِنْسِ مَالِ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ .
وَفَارَقَ الزَّكَاةَ ؛ فَإِنَّهَا وَجَبَتْ عَلَى سَبِيلِ الْمُوَاسَاةِ ، لِيُشَارِكَ

الْفُقَرَاءُ الْأَغْنِيَاءَ فِيمَا أَنْعَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عَلَيْهِمْ ، فَاقْتَضَى كَوْنَهُ مِنْ جِنْسِ أَمْوَالِهِمْ ، وَهَذَا بَدَلُ مُتْلَفٍ ، فَلَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِهِ بِمَالِهِ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّهَا مُوَاسَاةٌ .
غَيْرُ صَحِيحٍ ، وَإِنَّمَا وَجَبَتْ جَبْرًا لِلْفَائِتِ كَبَدَلِ الْمَالِ الْمُتْلَفِ ، وَإِنَّمَا الْعَاقِلَةُ تُوَاسِي الْقَاتِلَ فِيمَا وَجَبَ بِجِنَايَتِهِ ، وَلِهَذَا لَا يَجِبُ مِنْ جِنْسِ أَمْوَالِهِمْ إذَا لَمْ يَكُونُوا ذَوِي إبِلٍ ، وَالْوَاجِبُ بِجِنَايَتِهِ إبِلٌ مُطْلَقَةٌ ، فَتُوَاسِيه فِي تَحَمُّلِهَا ، وَلِأَنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ مِنْ جِنْسِ مَالِهِمْ ، لَوَجَبَتْ الْمَرِيضَةُ مِنْ الْمِرَاضِ ، وَالصَّغِيرَةُ مِنْ الصِّغَارِ ، كَالزَّكَاةِ .

( 6779 ) مَسْأَلَةٌ : ( قَالَ : وَإِنْ كَانَ الْقَتْلُ عَمْدًا ، فَهِيَ فِي مَالِ الْقَاتِلِ ، حَالَّةً أَرْبَاعًا ؛ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ بَنَاتِ مَخَاضٍ ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ بَنَاتِ لَبُونٍ ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ حِقَّةً ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ جَذَعَةً ) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ دِيَةَ الْعَمْدِ تَجِبُ فِي مَالِ الْقَاتِلِ ، لَا تَحْمِلُهَا الْعَاقِلَةُ .
وَهَذَا قَضِيَّةُ الْأَصْلِ ، وَهُوَ أَنَّ بَدَلَ الْمُتْلَفِ ، يَجِبُ عَلَى الْمُتْلِفِ ، وَأَرْشُ الْجِنَايَةِ عَلَى الْجَانِي ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا يَجْنِي جَانٍ إلَّا عَلَى نَفْسِهِ } .
وَقَالَ لِبَعْضِ أَصْحَابه ، حِينَ رَأَى مَعَهُ وَلَدَهُ : " ابْنُك هَذَا ؟ " .
قَالَ : نَعَمْ .
قَالَ : { أَمَّا إنَّهُ لَا يَجْنِي عَلَيْك ، وَلَا تَجْنِي عَلَيْهِ } وَلِأَنَّ مُوجِبَ الْجِنَايَةِ أَثَرُ فِعْلِ الْجَانِي ، فَيَجِبُ أَنْ يَخْتَصَّ بِضَرَرِهَا ، كَمَا يَخْتَصُّ بِنَفْعِهَا ، فَإِنَّهُ لَوْ كَسَبَ كَانَ كَسْبُهُ لَهُ دُونَ غَيْرِهِ ، وَقَدْ ثَبَتَ حُكْمُ ذَلِكَ فِي سَائِرِ الْجِنَايَاتِ وَالْأَكْسَابِ ، وَإِنَّمَا خُولِفَ هَذَا الْأَصْلُ فِي قَتْلِ الْمَعْذُورِ فِيهِ ، لِكَثْرَةِ الْوَاجِبِ ، وَعَجْزِ الْجَانِي فِي الْغَالِبِ عَنْ تَحَمُّلِهِ ، مَعَ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ ، وَقِيَامِ عُذْرِهِ ، تَخْفِيفًا عَنْهُ ، وَرِفْقًا بِهِ ، وَالْعَامِدُ لَا عُذْرَ لَهُ ، فَلَا يَسْتَحِقُّ التَّخْفِيفَ ، وَلَا يُوجَدُ فِيهِ الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي لِلْمُوَاسَاةِ فِي الْخَطَأِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهَا تَجِبُ حَالَّةً .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ تَجِبُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ؛ لِأَنَّهَا دِيَةُ آدَمِيٍّ ، فَكَانَتْ مُؤَجَّلَةً ، كَدِيَةِ شِبْهِ الْعَمْدِ .
وَلَنَا ، أَنَّ مَا وَجَبَ بِالْعَمْدِ الْمَحْضِ كَانَ حَالًّا ، كَالْقِصَاصِ ، وَأَرْشُ أَطْرَافِ الْعَبْدِ ، وَلَا يُشْبِهُ شِبْهَ الْعَمْدِ ؛ لِأَنَّ الْقَاتِلَ مَعْذُورٌ ، لِكَوْنِهِ لَمْ يَقْصِدْ الْقَتْلَ ، وَإِنَّمَا أَفْضَى إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ مِنْهُ ، فَأَشْبَهَ الْخَطَأَ ؛ وَلِهَذَا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ ، وَلِأَنَّ الْقَصْدَ التَّخْفِيفُ عَلَى

الْعَاقِلَة الَّذِينَ لَمْ تَصْدُرْ مِنْهُمْ جِنَايَةٌ ، وَحَمَلُوا أَدَاءَ مَالٍ مُوَاسَاةً ، فَالْأَرْفَقُ بِحَالِهِمْ التَّخْفِيفُ عَنْهُمْ ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي الْخَطَأِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ عَلَى السَّوَاءِ ، وَأَمَّا الْعَمْدُ ، فَإِنَّمَا يَحْمِلُهُ الْجَانِي فِي غَيْرِ حَالِ الْعُذْرِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُلْحَقًا بِبَدَلِ سَائِرِ الْمُتْلَفَاتِ ، وَيُتَصَوَّرُ الْخِلَافُ مَعَهُ ، فِيمَا إذَا قَتَلَ ابْنَهُ ، أَوْ قَتَلَ أَجْنَبِيًّا ، وَتَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ ، لِعَفْوِ بَعْضِهِمْ ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ .
وَاخْتَلَفْت الرِّوَايَةُ فِي مِقْدَارِهَا ، فَرَوَى جَمَاعَةٌ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهَا أَرْبَاعٌ ، كَمَا ذَكَرَ الْخِرَقِيِّ ، وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ ، وَرَبِيعَةَ وَمَالِكٍ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَرَوَى جَمَاعَةٌ عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهَا ثَلَاثُونَ حِقَّةً ، وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً ، وَأَرْبَعُونَ خَلِفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا .
وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَالشَّافِعِيُّ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ ، وَزَيْدٍ ، وَأَبِي مُوسَى ، وَالْمُغِيرَةِ ؛ لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إنَّ : { مَنْ قَتَلَ مُتَعَمِّدًا ، دُفِعَ إلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ فَإِنْ شَاءُوا قَتَلُوهُ ، وَإِنْ شَاءُوا أَخَذُوا الدِّيَةَ ، وَهِيَ ثَلَاثُونَ حِقَّةً ، وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً ، وَأَرْبَعُونَ خَلِفَةً ، وَمَا صُولِحُوا عَلَيْهِ فَهُوَ لَهُمْ } .
وَذَلِكَ لِتَشْدِيدِ الْقَتْلِ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ .
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَلَا إنَّ فِي قَتِيلِ عَمْدِ الْخَطَأِ ، قَتِيلِ السَّوْطِ وَالْعَصَا ، مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ ، مِنْهَا أَرْبَعُونَ خَلِفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا } .
رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، وَأَبُو دَاوُد ، وَغَيْرُهُمْ وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ : قَتَادَةَ حَذَفَ ابْنَهُ

بِالسَّيْفِ ، فَقَتَلَهُ فَأَخَذَ عُمَرُ مِنْهُ الدِّيَةَ ؛ ثَلَاثِينَ حِقَّةً ، وَثَلَاثِينَ جَذَعَةً ، وَأَرْبَعِينَ خَلِفَةً رَوَاهُ مَالِكٌ فِي " مُوَطَّئِهِ " وَوَجْهُ الْأَوَّلِ مَا رَوَى الزُّهْرِيُّ ، عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ ، قَالَ : كَانَتْ الدِّيَةُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَاعًا خَمْسًا وَعُشْرِينَ جَذَعَةً ، وَخَمْسًا وَعُشْرِينَ حِقَّةً ، وَخَمْسًا وَعُشْرِينَ بِنْتَ لَبُونٍ ، وَخَمْسًا وَعُشْرِينَ بِنْتَ مَخَاضٍ .
وَلِأَنَّهُ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَلِأَنَّهُ حَقٌّ يَتَعَلَّقُ بِجِنْسِ الْحَيَوَانِ ، فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْحَمْلُ ، كَالزَّكَاةِ وَالْأُضْحِيَّةِ .
( 6780 ) فَصْلٌ : وَالْخَلِفَةُ : الْحَامِلُ وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا } تَأْكِيدٌ ، وَقَلَّمَا تَحْمِلُ إلَّا ثَنِيَّةٌ ، وَهِيَ الَّتِي لَهَا خَمْسُ سِنِينَ وَدَخَلَتْ فِي السَّادِسَةِ ، وَأَيُّ نَاقَةٍ حَمَلَتْ فَهِيَ خَلِفَةً ، تُجْزِئُ فِي الدِّيَةِ ، وَقَدْ قِيلَ : لَا تُجْزِئُ إلَّا ثَنِيَّةٌ ؛ لِأَنَّ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ : { أَرْبَعُونَ خَلِفَةً ، مَا بَيْنَ ثَنِيَّةِ عَامِهَا إلَى بَازِلٍ } .
وَلِأَنَّ سَائِرَ أَنْوَاعِ الْإِبِلِ مُقَدَّرَةُ السِّنِّ ، فَكَذَلِكَ الْخَلِفَةُ .
وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي هُوَ الْأَوْلَى ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَطْلَقَ الْخَلِفَةَ ، وَالْخَلِفَةُ هِيَ الْحَامِلُ ، فَيَقْتَضِي أَنْ تُجْزِئَ كُلُّ حَامِلٍ .
وَلَوْ أَحْضَرَهَا خَلِفَةً ، فَأَسْقَطَتْ قَبْلَ قَبْضِهَا ، فَعَلَيْهِ بَدَلُهَا ، فَإِنْ أَسْقَطَتْ بَعْدَ قَبْضِهَا أَجْزَأَتْ ؛ لِأَنَّهُ بَرِئَ مِنْهَا بِدَفْعِهَا .

( 6781 ) فَصْلٌ : فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي حَمْلِهَا ، رُجِعَ إلَى أَهْلِ الْخِبْرَةِ ، كَمَا يُرْجَعُ فِي حَمْلِ الْمَرْأَةِ إلَى الْقَوَابِلِ .
وَإِنْ تَسَلَّمْهَا الْوَلِيُّ ، ثُمَّ قَالَ : لَمْ تَكُنْ حَوَامِلَ ، وَقَدْ ضَمَرَتْ أَجْوَافُهَا ، فَقَالَ الْجَانِي بَلْ قَدْ وَلَدَتْ عِنْدَك .
نَظَرْت ؛ فَإِنْ قَبَضَهَا بِقَوْلِ أَهْلِ الْخِبْرَةِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْجَانِي ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ إصَابَتُهُمْ ، وَإِنْ قَبَضَهَا بِغَيْرِ قَوْلِهِمْ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَلِيِّ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْحَمْلِ .

( 6782 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَإِنْ كَانَ الْقَتْلُ شِبْهَ عَمْدٍ فَكَمَا وَصَفْت فِي أَسْنَانِهَا ، إلَّا أَنَّهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ، فِي كُلِّ سَنَةٍ ثُلُثُهَا .
وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْقَوْلَ فِي أَسْنَانِ دِيَةِ شِبْهِ الْعَمْدِ ، كَالْقَوْلِ فِي دِيَةِ الْعَمْدِ ، سَوَاءٌ فِي اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ فِيهَا ، وَاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِيهَا ، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ ، إلَّا أَنَّهَا تُخَالِفُ الْعَمْدَ فِي أَمْرَيْنِ ؛ أَحَدِهِمَا أَنَّهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ ، فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ .
وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ ، وَالْحَكَمُ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَالْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ وَابْنُ شُبْرُمَةَ ، وَقَتَادَةُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ : هِيَ عَلَى الْقَاتِلِ فِي مَالِهِ .
وَاخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ ؛ لِأَنَّهَا مُوجِبُ فِعْلٍ قَصَدَهُ ، فَلَمْ تَحْمِلْهُ الْعَاقِلَةُ ، كَالْعَمْدِ الْمَحْضِ ، وَلِأَنَّهَا دِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ ، فَأَشْبَهَتْ دِيَةَ الْعَمْدِ .
وَهَكَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبُ مَالِكٍ ؛ لِأَنَّ شِبْهَ الْعَمْدِ عِنْدَهُ مِنْ بَابِ الْعَمْدِ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، قَالَ : اقْتَتَلَتْ امْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ ، فَرَمَتْ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِحَجَرٍ ، فَقَتَلَتْهَا وَمَا فِي بَطْنِهَا ، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلِأَنَّهُ نَوْعُ قَتْلٍ لَا يُوجِبُ قِصَاصًا فَوَجَبَتْ دِيَتُهُ عَلَى الْعَاقِلَةِ ، كَالْخَطَأِ ، وَيُخَالِفُ الْعَمْدَ الْمَحْضَ ؛ لِأَنَّهُ يُغَلَّظُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، لِقَصْدِهِ الْفِعْلَ ، وَإِرَادَتِهِ الْقَتْلَ ، وَعَمْدُ الْخَطَأِ يُغَلَّظُ مِنْ وَجْهٍ ، وَهُوَ قَصْدُهُ الْفِعْلَ ، وَيُخَفَّفُ مِنْ وَجْهٍ ، وَهُوَ كَوْنُهُ لَمْ يُرِدْ الْقَتْلَ ، فَاقْتَضَى تَغْلِيظَهَا مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ الْأَسْنَانُ ، وَتَخْفِيفَهَا مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ حَمْلُ الْعَاقِلَةِ لَهَا وَتَأْجِيلُهَا .
وَلَا أَعْلَمُ فِي أَنَّهَا تَجِبُ مُؤَجَّلَةً خِلَافًا بَيْنَ

أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ ، وَعَلِيٍّ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ .
وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَقَتَادَةُ ، وَأَبُو هَاشِمٍ ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَقَدْ حُكِيَ عَنْ قَوْمٍ مِنْ الْخَوَارِجِ ، أَنَّهُمْ قَالُوا : الدِّيَةُ حَالَّةٌ ؛ لِأَنَّهَا بَدَلُ مُتْلَفٍ .
وَلَمْ يُنْقَلْ إلَيْنَا ذَلِكَ عَنْ مَنْ يُعَدُّ خِلَافُهُ خِلَافًا .
وَتُخَالِفُ الدِّيَةُ سَائِرَ الْمُتْلَفَاتِ ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ عَلَى غَيْرِ الْجَانِي عَلَى سَبِيلِ الْمُوَاسَاة لَهُ فَاقْتَضَتْ الْحِكْمَةُ تَخْفِيفهَا عَلَيْهِمْ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ ، وَعَلِيٍّ أَنَّهُمَا قَضَيَا بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ .
وَلَا مُخَالِفَ لَهُمَا فِي عَصْرِهِمَا ، فَكَانَ إجْمَاعًا .

( 6783 ) فَصْلٌ : وَيَجِبُ فِي آخِرِ كُلِّ حَوْلٍ ثُلُثُهَا ، وَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ السَّنَةِ مِنْ حِينِ وُجُوبِ الدِّيَةِ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : ابْتِدَاؤُهَا مِنْ حِينِ حَكَمَ الْحَاكِمُ ؛ لِأَنَّهَا مُدَّةٌ مُخْتَلَفٌ فِيهَا ، فَكَانَ ابْتِدَاؤُهَا مِنْ حِينِ حَكَمَ الْحَاكِمُ ، كَمُدَّةِ الْعُنَّةِ .
وَلَنَا أَنَّهُ مَالٌ مُؤَجَّلٌ ، فَكَانَ ابْتِدَاءُ أَجَلِهِ مِنْ حِينِ وُجُوبِهِ ، كَالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ وَالسَّلَمِ ، وَلَا نُسَلِّمُ الْخِلَافَ فِيهَا ، فَإِنَّ الْخَوَارِجَ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِمْ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ دِيَةَ نَفْسٍ ، فَابْتِدَاءُ حَوْلِهَا مِنْ حِينِ الْمَوْتِ ، سَوَاءٌ كَانَ قَتْلًا مُوجِبًا ، أَوْ عَنْ سِرَايَةِ جُرْحٍ ، وَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ دِيَةَ جُرْحٍ ، نَظَرْت ؛ فَإِنْ كَانَ عَنْ جُرْحٍ انْدَمَلَ مِنْ غَيْرِ سِرَايَةٍ ، مِثْلَ أَنْ قَطَعَ يَدَهُ فَبَرَأَتْ بَعْدَ مُدَّةٍ ، فَابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ مِنْ حِينِ الْقَطْعِ ؛ لِأَنَّ تِلْكَ حَالَةُ الْوُجُوبِ ، وَلِهَذَا لَوْ قَطَعَ يَدَهُ وَهُوَ ذِمِّيٌّ ، فَأَسْلَمَ ، ثُمَّ انْدَمَلَتْ ، وَجَبَ نِصْفُ دِيَةِ يَهُودِيٍّ .
وَأَمَّا إنْ كَانَ الْجُرْحُ سَارِيًا ، مِثْلَ أَنْ قَطَعَ إصْبَعَهُ فَسَرَى ذَلِكَ إلَى كَفِّهِ ، ثُمَّ انْدَمَلَ ، فَابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ مِنْ حِينِ الِانْدِمَالِ ؛ لِأَنَّهَا إذَا سَرَتْ ، فَمَا اسْتَقَرَّ الْأَرْشُ إلَّا عِنْدَ الِانْدِمَالِ .
هَكَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي ، وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ : أَبُو الْخَطَّابِ تُعْتَبَرُ الْمُدَّةُ مِنْ حِينِ الِانْدِمَالِ فِيهِمَا لِأَنَّ الْأَرْشَ لَا يَسْتَقِرُّ إلَّا بِالِانْدِمَالِ فِيهِمَا .

( 6784 ) فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ الْوَاجِبُ دِيَةً فَإِنَّهَا تُقْسَمُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ، كُلِّ سَنَةٍ ثُلُثُهَا ، سَوَاءٌ كَانَتْ دِيَةَ النَّفْسِ أَوْ دِيَةَ الطَّرَفِ ، كَدِيَةِ جَدْعِ الْأَنْفِ أَوْ الْأُذُنَيْنِ ، أَوْ قَطْعِ الذَّكَرِ أَوْ الْأُنْثَيَيْنِ .
وَإِنْ كَانَ دُونَ الدِّيَةِ نَظَرْنَا ؛ فَإِنْ كَانَ ثُلُثَ الدِّيَةِ ، كَدِيَةِ الْمَأْمُومِ أَوْ الْجَائِفَةِ ، وَجَبَ فِي آخِرِ السَّنَةِ الْأُولَى ، وَلَمْ يَجِبُ مِنْهُ شَيْءٌ حَالًّا لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَحْمِلُ حَالًّا وَإِنْ كَانَ نِصْفَ الدِّيَة أَوْ ثُلُثَهَا ، كَدِيَةِ الْيَدِ أَوْ دِيَةِ الْمَنْخِرَيْنِ ، وَجَبَ الثُّلُثُ فِي آخِرِ السَّنَةِ الْأُولَى ، وَالْبَاقِي فِي آخِرِ السَّنَةِ الثَّانِيَة .
وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثَيْنِ كَدِيَةِ ثَمَانِ أَصَابِعَ ، وَجَبَ الثُّلُثَانِ فِي السَّنَتَيْنِ ، وَالْبَاقِي فِي آخِرِ الثَّالِثَةِ .
وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ دِيَةٍ مِثْلَ أَنْ ذَهَبَ سَمْعُ إنْسَانٍ وَبَصَرُهُ ، فَفِي كُلِّ سَنَةٍ ثُلُثٌ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ لَوْ كَانَ دُونَ الدِّيَةِ ، لَمْ يَنْقُصْ فِي السَّنَةِ عَنْ الثُّلُثِ ، فَكَذَلِكَ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ إذَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ .
وَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ الْجِنَايَةِ عَلَى اثْنَيْنِ ، وَجَبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ ثُلُثٌ فِي كُلِّ سَنَةٍ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ لَهُ دِيَةٌ ، فَيَسْتَحِقُّ ثُلُثَهَا ، كَمَا لَوْ انْفَرَدَ حَقُّهُ .
وَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ دُونَ ثُلُثِ الدِّيَةِ ، كَدِيَةِ الْإِصْبَعِ ، لَمْ تَحْمِلْهُ الْعَاقِلَةُ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَحْمِلُ مَا دُونَ الثُّلُثِ ، وَيَجِبُ حَالًّا ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ مُتْلَفٍ لَا تَحْمِلُهُ ، فَكَانَ حَالًّا ؛ كَالْجِنَايَةِ عَلَى الْمَالِ .

( 6785 ) فَصْلٌ : وَفِي الدِّيَةِ النَّاقِصَةِ ، كَدِيَةِ الْمَرْأَةِ وَالْكِتَابِيِّ ، وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا : تُقْسَمُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ؛ لِأَنَّهَا بَدَلُ النَّفْسِ ، فَأَشْبَهْت الدِّيَةَ الْكَامِلَةَ .
وَالثَّانِي ، يَجِبُ مِنْهَا فِي الْعَامِ الْأَوَّلِ قَدْرُ ثُلُثِ الدِّيَةِ الْكَامِلَةِ ، وَبَاقِيهَا فِي الْعَامِ الثَّانِي ؛ لِأَنَّ هَذِهِ تَنْقُصُ عَنْ الدِّيَةِ ، فَلَمْ تُقْسَمْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ، كَأَرْشِ الطَّرَفِ .
وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَلِلشَّافِعِي كَالْوَجْهَيْنِ .
وَإِنْ كَانَتْ الدِّيَةُ لَا تَبْلُغُ ثُلُثَ الدِّيَةِ الْكَامِلَةِ ، كَدِيَةِ الْمَجُوسِيِّ ، وَهُوَ ثَمَانمِائَةِ دِرْهَمٍ ، وَدِيَةِ الْجَنِينِ ، وَهِيَ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ ، لَمْ تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَحْمِلُ مَا دُونَ الثُّلُثِ ، فَأَشْبَهَ دِيَةَ السِّنِّ وَالْمُوضِحَةِ ، إلَّا أَنْ يُقْتَلَ الْجَنِينُ مَعَ أُمِّهِ ، فَتَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ ؛ لِأَنَّهَا جِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَتَكُونُ دِيَةُ الْأُمِّ عَلَى الْوَجْهَيْنِ ، فَإِنْ قُلْنَا : هِيَ فِي عَامَيْنِ .
كَانَتْ دِيَةُ الْجَنِينِ وَاجِبَةً مَعَ ثُلُثِ دِيَةِ الْأُمِّ فِي الْعَامِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهَا دِيَةٌ أُخْرَى .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَجِبَ مَعَ بَاقِي دِيَةِ الْأُمِّ فِي الْعَامِ الثَّانِي .
وَإِنْ قُلْنَا دِيَةُ الْأُمِّ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ .
فَهَلْ يَجِبُ دِيَةُ الْجَنِينِ فِي ثَلَاثَةِ أَعْوَامٍ أَوْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ؛ فَإِذَا قُلْنَا بِوُجُوبِهَا فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ، وَجَبَتْ فِي السِّنِينَ الَّتِي وَجَبَتْ فِيهَا دِيَةُ الْأُمِّ ؛ لِأَنَّهُمَا دِيَتَانِ لِمُسْتَحِقَّيْنِ ، فَيَجِبُ فِي كُلِّ سَنَةٍ ثُلُثُ دِيَتِهَا وَثُلُثُ دِيَتِهِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَجِبَ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ أُخْرَى ؛ لِأَنَّ تَلَفَهَا مُوجِبُ جِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ .
.

( 6786 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَإِنْ كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً ، كَانَ عَلَى الْعَاقِلَةِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ ، تُؤْخَذُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ أَخْمَاسًا ، عِشْرُونَ بَنَاتِ مَخَاضٍ ، وَعِشْرُونَ بَنِي مَخَاضٍ ، وَعِشْرُونَ بَنَاتِ لَبُونٍ ، وَعِشْرُونَ حِقَّةً ، وَعِشْرُونَ جَذَعَةً لَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ فِي أَنَّ دِيَةَ الْخَطَأِ أَخْمَاسًا ، كَمَا ذَكَرَ الْخِرَقِيِّ .
وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَالنَّخَعِيِّ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ وَالزُّهْرِيُّ ، وَاللَّيْثُ ، وَرَبِيعَةُ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ : هِيَ أَخْمَاسٌ ، إلَّا أَنَّهُمْ جَعَلُوا مَكَانِ بَنِي مَخَاضٍ بَنِي لَبُونٍ .
وَهَكَذَا رَوَاهُ سَعِيدٌ ، فِي " سُنَنِهِ " ، عَنْ النَّخَعِيِّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَقَالَ : الْخَطَّابِيُّ رُوِيَ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَى الَّذِي قُتِلَ بِخَيْبَرَ بِمِائَةٍ مِنْ إبِلِ الصَّدَقَة .
وَلَيْسَ فِي أَسْنَانِ الصَّدَقَةِ ابْنُ مَخَاضٍ } .
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَالْحَسَنِ ، وَالشَّعْبِيِّ ، وَالْحَارِثِ الْعُكْلِيُّ وَإِسْحَاقَ ، أَنَّهَا أَرْبَاعٌ ، كَدِيَةِ الْعَمْدِ سَوَاءً .
وَعَنْ زَيْدٍ ، أَنَّهَا ثَلَاثُونَ حِقَّةً ، وَثَلَاثُونَ بِنْتَ لَبُونٍ ، وَعِشْرُونَ ابْنَ لَبُونٍ ، وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ .
وَقَالَ طَاوُسٌ : ثَلَاثُونَ حِقَّةً ، وَثَلَاثُونَ بِنْتَ لَبُونٍ ، وَثَلَاثُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ ، وَعِشْرُونَ بَنِي لَبُونٍ ذُكُورٍ ؛ لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، أَنَّ { رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى أَنَّ مَنْ قُتِلَ خَطَأً ، فَدِيَتُهُ مِنْ الْإِبِلِ ثَلَاثُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ ، وَثَلَاثُونَ بِنْتَ لَبُونٍ ، وَثَلَاثُونَ حِقَّةً ، وَعَشَرَةٌ بَنِي لَبُونٍ ذُكُورٍ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ .
وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ : الدِّيَاتُ كُلُّهَا أَخْمَاسٌ ، كَدِيَةِ الْخَطَأِ ؛ لِأَنَّهَا بَدَلُ مُتْلَفٍ ، فَلَا تَخْتَلِفُ بِالْعَمْدِ وَالْخَطَأِ ، كَسَائِرِ الْمُتْلَفَاتِ .
وَحُكِيَ عَنْهُ ، أَنَّ دِيَةَ الْعَمْدِ مُغَلَّظَةٌ ، وَدِيَةَ شِبْهِ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ

أَخْمَاسٌ ؛ لِأَنَّ شِبْهَ الْعَمْدِ تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ ، فَكَانَ أَخْمَاسًا ، كَدِيَةِ الْخَطَأِ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فِي دِيَةِ الْخَطَأِ عِشْرُونَ حِقَّةً ، وَعِشْرُونَ جَذَعَةً ، وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ ، وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ ، وَعِشْرُونَ بَنِي مَخَاضٍ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ .
وَلِأَنَّ ابْنَ لَبُونٍ يَجِبُ عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِ عَنْ ابْنَةِ مَخَاضٍ فِي الزَّكَاةِ إذَا لَمْ يَجِدْهَا ، فَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ فِي وَاجِبٍ ، وَلِأَنَّ مُوجِبَهُمَا وَاحِدٌ ، فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ أَوْجَبَ أَرْبَعِينَ ابْنَةَ مَخَاضٍ ؛ وَلِأَنَّ مَا قُلْنَاهُ الْأَقَلُّ ، فَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِتَوْقِيفٍ ، يَجِبُ عَلَى مِنْ ادَّعَاهُ الدَّلِيلُ ، فَأَمَّا دِيَةُ قَتِيلِ خَيْبَرَ فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَدَّعُوا عَلَى أَهْلِ خَيْبَرَ قَتْلَهُ إلَّا عَمْدًا ، فَتَكُونُ دِيَتُهُ دِيَةَ الْعَمْدِ ، وَهِيَ مِنْ أَسْنَانِ الصَّدَقَةِ ، وَالْخِلَافُ فِي دِيَةِ الْخَطَأِ .
وَقَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ يُخَالِفُ الْآثَارَ الْمَرْوِيَّةَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا ، فَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ .

فَصْلٌ : وَلَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا فِي أَنَّ دِيَةَ الْخَطَأِ عَلَى الْعَاقِلَةِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ عَلَى هَذَا كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَقَدْ ثَبَتَتْ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَضَى بِدِيَةِ الْخَطَأِ عَلَى الْعَاقِلَةِ ، وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ .
وَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِيَةَ عَمْدِ الْخَطَأِ عَلَى الْعَاقِلَةِ ، بِمَا قَدْ رَوَيْنَاهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْعَاقِلَةَ تَحْمِلُ دِيَةَ الْخَطَأِ ، وَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ أَنَّ جِنَايَاتِ الْخَطَأِ تَكْثُرُ ، وَدِيَةَ الْآدَمِيِّ كَثِيرَةٌ ، فَإِيجَابُهَا عَلَى الْجَانِي فِي مَالِهِ يُجْحِفُ بِهِ ، فَاقْتَضَتْ الْحِكْمَةُ إيجَابَهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ ، عَلَى سَبِيلِ الْمُوَاسَاةِ لِلْقَاتِلِ ، وَالْإِعَانَةِ لَهُ ، تَخْفِيفًا عَنْهُ ، إذْ كَانَ مَعْذُورًا فِي فِعْلِهِ ، وَيَنْفَرِدُ هُوَ بِالْكَفَّارَةِ .

( 6788 ) فَصْلٌ : وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّهَا مُؤَجَّلَةٌ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ؛ فَإِنَّ عُمَرَ ، وَعَلِيًّا ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، جَعَلَا دِيَةَ الْخَطَأِ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ .
وَلَا نَعْرِفُ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفًا ، وَاتَّبَعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَهْلُ الْعِلْمِ ، وَلِأَنَّهُ مَالٌ يَجِبُ عَلَى سَبِيلِ الْمُوَاسَاةِ ، فَلَمْ يَجِبْ حَالًّا كَالزَّكَاةِ ، وَكُلُّ دِيَةٍ تَحْمِلُهَا الْعَاقِلَةُ ، تَجِبُ مُؤَجَّلَةً ؛ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَمَا لَا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ يَجِبُ حَالًّا ، لِأَنَّهُ بَدَلُ مُتْلَفٍ ، فَلَزِمَ الْمُتْلِفَ حَالًّا ، كَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ .
وَفَارَقَ الَّذِي تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ ؛ فَإِنَّهُ يَجِبُ مُوَاسَاةً ، فَأُلْزِمَ التَّأْجِيلُ تَخْفِيفًا عَلَى مُتَحَمِّلِهِ ، وَعَدَلَ بِهِ عَنْ الْأَصْلِ فِي التَّأْجِيلِ ، كَمَا عَدَلَ بِهِ عَنْ الْأَصْلِ فِي إلْزَامِهِ غَيْرِ الْجَانِي .

( 6789 ) فَصْلٌ : وَلَا يَلْزَمُ الْقَاتِلَ شَيْءٌ مِنْ الدِّيَةِ .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : هُوَ كَوَاحِدٍ مِنْ الْعَاقِلَةِ ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ إعَانَةً لَهُ ، فَلَا يَزِيدُونَ عَلَيْهِ فِيهَا .
وَلَنَا ، مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَضَى بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا ، } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ قَضَى بِجَمِيعِهَا عَلَيْهِمْ ، وَلِأَنَّهُ قَاتِلٌ لَمْ تَلْزَمْهُ الدِّيَةُ ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ بَعْضُهَا ، كَمَا لَوْ أَمَرَهُ الْإِمَامُ بِقَتْلِ رَجُلٍ ، فَقَتَلَهُ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ بِحَقٍّ ، فَبَانَ مَظْلُومًا ، وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ تَلْزَمُ الْقَاتِلَ فِي مَالِهِ ، وَذَلِكَ يَعْدِلُ قِسْطَهُ مِنْ الدِّيَةِ وَأَكْثَرَ مِنْهُ ، فَلَا حَاجَةَ إلَى إيجَابِ شَيْءٍ مِنْ الدِّيَةِ عَلَيْهِ .

( 6790 ) فَصْلٌ : وَالْكَفَّارَةُ فِي مَالِ الْقَاتِلِ لَا يَدْخُلُهَا تَحَمُّلٌ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ : تَكُونُ فِي بَيْتِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهَا تَكْثُرُ ، فَإِيجَابُهَا فِي مَالِهِ يُجْحِفُ بِهِ .
وَلَنَا ، أَنَّهَا كَفَّارَةٌ ، فَلَا تَجِبُ عَلَى غَيْرِ مَنْ وُجِدَ مِنْهُ سَبَبُهَا ، كَسَائِرِ الْكَفَّارَاتِ ، وَكَمَا لَوْ كَانَتْ صَوْمًا ، وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ شُرِعَتْ لِلتَّكْفِيرِ عَنْ الْجَانِي ، وَلَا يُكَفَّرُ عَنْهُ بِفِعْلِ غَيْرِهِ ، وَيُفَارِقُ الدِّيَةَ ، فَإِنَّهَا إنَّمَا شُرِعَتْ لِجَبْرِ الْمَحَلِّ ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِهَا كَيْفَمَا كَانَ ؛ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَضَى بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ ، لَمْ يُكَفِّرْ عَنْ الْقَاتِلَةِ وَمَا ذَكَرُوهُ لَا أَصْلَ لَهُ ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى الدِّيَةِ لَوُجُوهٍ ؛ أَحَدُهَا ، أَنَّ الدِّيَةَ لَمْ تَجِبْ فِي بَيْتِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا وَجَبَتْ عَلَى الْعَاقِلَةِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ حُكْمُ الْفَرْعِ مُخَالِفًا لِحُكْمِ الْأَصْلِ .
الثَّانِي : أَنَّ الدِّيَةَ كَثِيرَةٌ ، فَإِيجَابُهَا عَلَى الْقَاتِلِ يُجْحِفُ بِهِ ، وَالْكَفَّارَةُ بِخِلَافِهَا .
الثَّالِثُ : أَنَّ الدِّيَةَ وَجَبَتْ مُوَاسَاةً لِلْقَاتِلِ ، وَجُعِلَ حَظُّ الْقَاتِلِ مِنْ الْوَاجِبِ الْكَفَّارَةَ ، فَإِيجَابُهَا عَلَى غَيْرِهِ يَقْطَعُ الْمُوَاسَاةَ ، وَيُوجِبُ عَلَى غَيْرِ الْجَانِي أَكْثَرَ مِمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ .

( 6791 ) فَصْلٌ : وَذَكَرَ أَصْحَابُنَا أَنَّ الدِّيَةَ تُغَلَّظُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ ؛ إذَا قَتَلَ فِي الْحَرَمِ ، وَالشُّهُورِ الْحُرُمِ ، وَإِذَا قَتَلَ مُحْرِمًا .
وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، عَلَى التَّغْلِيظِ عَلَى مَنْ قَتَلَ مُحْرِمًا فِي الْحَرَمِ وَفِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ ، فَأَمَّا إنْ قَتَلَ ذَا رَحِمٍ ، مَحْرَمٍ ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : تَغْلُظ دِيَتُهُ .
وَقَالَ الْقَاضِي : ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهَا لَا تُغَلَّظُ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : تُغَلَّظُ بِالْحَرَمِ ، وَالْأَشْهُرِ الْحُرُمِ ، وَذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ ، وَفِي التَّغْلِيظِ بِالْإِحْرَامِ وَجْهَانِ .
وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ التَّغْلِيظُ ؛ عُثْمَانُ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَالسَّعِيدَانِ ، وَعَطَاءٌ ، وَطَاوُسٌ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ ، وَقَتَادَةُ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ .
وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِالتَّغْلِيظِ فِي صِفَتِهِ ؛ فَقَالَ أَصْحَابُنَا : تُغَلَّظُ ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْحُرُمَاتِ ثُلُثُ الدِّيَةِ ، فَإِذَا اجْتَمَعْت الْحُرُمَاتُ الثَّلَاثُ ، وَجَبَتْ دِيَتَانِ .
قَالَ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ ، فِي مَنْ قَتَلَ مُحْرِمًا فِي الْحَرَمِ ، وَفِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ : فَعَلَيْهِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا .
وَهَذَا قَوْلُ التَّابِعِينَ الْقَائِلِينَ بِالتَّغْلِيظِ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : صِفَةُ التَّغْلِيظِ ، إيجَابُ دِيَةِ الْعَمْدِ فِي الْخَطَأِ لَا غَيْرُ ، وَلَا يُتَصَوَّرُ التَّغْلِيظُ فِي غَيْرِ الْخَطَأِ ، وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ تَغْلِيظَيْنِ .
وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ ، إلَّا أَنَّهُ يُغَلَّظُ فِي الْعَمْدِ ، فَإِذَا قَتَلَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ عَمْدًا ، فَعَلَيْهِ ثَلَاثُونَ حِقَّةً وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً ، وَأَرْبَعُونَ خَلِفَةً ، وَتَغْلِيظُهَا فِي الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ أَنْ نَنْظُرَ قِيمَةَ أَسْنَانِ الْإِبِلِ غَيْرَ مُغَلَّظَةٍ ، وَقِيمَتَهَا مُغَلَّظَةً ، ثُمَّ يُحْكَمُ بِزِيَادَةِ مَا بَيْنَهُمَا ، كَانَ قِيمَتُهَا مُخَفَّفَةً سِتُّمِائَةٍ ، وَفِي الْعَمْدِ ثَمَانُمِائَةٍ ، وَذَلِكَ ثُلُثُ الدِّيَةِ

الْمُخَفَّفَةِ .
وَعِنْدَ مَالِكٍ تُغَلَّظُ عَلَى الْأَبِ وَالْأُمِّ وَالْجَدِّ ، دُونَ غَيْرِهِمْ .
وَاحْتَجَّا عَلَى صِفَةِ التَّغْلِيظِ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَخَذَ مِنْ قَتَادَةَ الْمُدْلِجِي دِيَةَ ابْنِهِ حِينَ حَذَفَهُ بِالسَّيْفِ ثَلَاثِينَ حِقَّةً ، وَثَلَاثِينَ جَذَعَةً ، وَأَرْبَعِينَ خَلِفَةً ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ فِي الْعَدَدِ شَيْئًا .
وَهَذِهِ قِصَّةٌ اشْتَهَرَتْ فَلَمْ تُنْكَرْ ، فَكَانَتْ إجْمَاعًا ، وَلِأَنَّ مَا أَوْجَبَ التَّغْلِيظَ أَوْجَبَهُ فِي الْأَسْنَانِ دُونَ الْقَدْرِ ، كَالضَّمَانِ ، وَلَا يَجْمَعُ بَيْنَ تَغْلِيظَيْنِ ؛ لِأَنَّ مَا أَوْجَبَ التَّغْلِيظَ بِالضَّمَانِ إذَا اجْتَمَعَ سَبَبَانِ تَدَاخَلَا ، كَالْحُرِّ وَالْإِحْرَامِ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ ، وَعَلَى أَنَّهُ لَا يُغَلَّظُ بِالْإِحْرَامِ ، أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِتَغْلِيظِهِ .
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِمَا رَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ ، أَنَّ امْرَأَةً وَطِئَتْ فِي الطَّوَافِ فَقَضَى عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيهَا بِسِتَّةِ آلَافٍ وَأَلْفَيْنِ تَغْلِيظًا لِلْحَرَمِ ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّهُ قَالَ : مَنْ قَتَلَ فِي الْحَرَمِ ، أَوْ ذَا رَحِمٍ ، أَوْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ ، فَعَلَيْهِ دِيَةٌ وَثُلُثٌ .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّ رَجُلًا قَتَلَ رَجُلًا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ ، وَفِي الْبَلَدِ الْحَرَامِ .
فَقَالَ : دِيَتُهُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا وَلِلشَّهْرِ الْحَرَامِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ ، وَلِلْبَلَدِ الْحَرَامِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ .
وَهَذَا مِمَّا يَظْهَرُ وَيَنْتَشِرُ .
وَلَمْ يُنْكَرْ ، فَيَثْبُتُ إجْمَاعًا .
وَهَذَا فِيهِ الْجَمْعُ بَيْنَ تَغْلِيظَاتٍ ثَلَاثٍ ؛ وَلِأَنَّهُ قَوْلُ التَّابِعِينَ الْقَائِلِينَ بِالتَّغْلِيظِ .
وَاحْتَجُّوا عَلَى التَّغْلِيظِ فِي الْعَمْدِ ، أَنَّهُ إذَا غُلِّظَ الْخَطَأُ مَعَ الْعُذْرِ فِيهِ ، فَفِي الْعَمْدِ مَعَ عَدَمِ الْعُذْرِ أَوْلَى .
وَكُلُّ مَنْ غَلَّظَ الدِّيَةَ أَوْجَبَ التَّغْلِيظَ فِي بَدَلِ الطَّرَفِ ، بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ ؛ لِأَنَّ مَا أَوْجَبَ تَغْلِيظَ دِيَةِ النَّفْسِ ، أَوْجَبَ تَغْلِيظَ دِيَةِ الطَّرَفِ ، كَالْعَمْدِ .
وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّ الدِّيَةَ

لَا تُغَلَّظُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ .
وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ ، وَالشَّعْبِيِّ ، وَالنَّخَعِيِّ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَالْجُورْجَانِيِّ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَغَيْرِهِمْ ، { لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : فِي النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ } .
لَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ .
( وَعَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفُ مِثْقَالٍ ) وَفِي حَدِيثِ أَبِي شُرَيْحٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { وَأَنْتُمْ يَا خُزَاعَةُ قَدْ قَتَلْتُمْ هَذَا الْقَتِيلَ مِنْ هُذَيْلٍ ، وَأَنَا وَاَللَّهِ عَاقِلُهُ ، مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ بَعْدَ ذَلِكَ ، فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ ؛ إنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا ، وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الدِّيَةَ } .
وَهَذَا الْقَتْلُ كَانَ بِمَكَّةَ فِي حَرَمِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَلَمْ يَزِدْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الدِّيَةِ ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْحَرَمِ وَغَيْرِهِ ، وَقَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ } يَقْتَضِي أَنَّ الدِّيَةَ وَاحِدَةٌ فِي كُلِّ مَكَان ، وَفِي كُلِّ حَالٍ ، وَلِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَخَذَ مِنْ قَتَادَةَ الْمُدْلِجِيِّ دِيَةَ ابْنِهِ ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى مِائَةٍ .
وَرَوَى الْجُوزَجَانِيُّ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبَى الزِّنَادِ ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْد الْعَزِيزِ ، كَانَ يَجْمَعُ الْفُقَهَاءِ ، فَكَانَ مِمَّا أُحْيِي مِنْ تِلْكَ السُّنَنِ بُقُولِ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ السَّبْعَةِ وَنُظَرَائِهِمْ ، أَنَّ نَاسًا كَانُوا يَقُولُونَ : إنَّ الدِّيَةَ تُغَلَّظُ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ أَرْبَعَةَ آلَافٍ ، فَتَكُونُ سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفِ دِرْهَمٍ ، فَأَلْغَى عُمَرُ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، ذَلِكَ بِقَوْلِ الْفُقَهَاءِ ، وَأَثْبَتَهَا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ ، وَالْبَلَدِ الْحَرَامِ ، وَغَيْرِهِمَا .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : وَلَيْسَ بِثَابِتٍ مَا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ فِي هَذَا .
وَلَوْ صَحَّ فَقَوْلُ عُمَرَ يُخَالِفُهُ ،

وَقَوْلُهُ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ مَنْ خَالَفَهُ ، وَهُوَ أَصَحُّ فِي الرِّوَايَةِ ، مَعَ مُوَافَقَتِهِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالْقِيَاسَ .

( 6792 ) فَصْلٌ : وَلَا تُغَلَّظُ الدِّيَةُ بِمَوْضِعٍ غَيْرِ الْحَرَمِ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : تُغَلَّظُ الدِّيَةُ بِالْقَتْلِ فِي الْمَدِينَةِ .
عَلَى قَوْلِهِ الْقَدِيمِ ؛ لِأَنَّهَا مَكَانٌ يَحْرُمُ صَيْدُهُ ، فَأَشْبَهْت الْحَرَمَ .
وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مَحَلًّا لِلْمَنَاسِكِ ، فَأَشْبَهَتْ سَائِرَ الْبُلْدَانِ ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهَا عَلَى الْحَرَمِ ؛ { لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَيُّ بَلَدٍ هَذَا ؟ أَلَيْسَتْ الْبَلْدَةَ الْحَرَامَ ؟ قَالَ : فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ حَرَامٌ ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا ، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا ، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا } .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَعْظَمُ الْبِلَادِ حُرْمَةً ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ أَعْتَى النَّاسِ عَلَى اللَّهِ رَجُلٌ قَتَلَ فِي الْحَرَمِ ، وَرَجُلٌ قَتَلَ غَيْرَ قَاتِلِهِ ، وَرَجُلٌ قَتَلَ بِدَخْلِ الْجَاهِلِيَّةِ } .
وَتَحْرِيمُ الصَّيْدِ لَيْسَ هُوَ الْعِلَّةَ فِي التَّغْلِيظِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُؤَثِّرِ فَقَدْ خَالَفَ تَحْرِيمُهُ تَحْرِيمَ الْحَرَمِ ، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ الْجَزَاءُ عَلَى مَنْ قَتَلَ فِيهِ صَيْدًا .
وَلَا يَحْرُمُ الرَّعْيُ فِيهِ ، وَلَا الِاحْتِشَاشُ مِنْهُ ، وَلَا مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الرَّحْلِ وَالْعَارِضَةِ وَالْقَائِمَةِ وَشِبْهِهِ .

( 6793 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَالْعَاقِلَةُ لَا تَحْمِلُ الْعَبْدَ ، وَلَا الْعَمْدَ ، وَلَا الصُّلْحَ ، وَلَا الِاعْتِرَافَ ، وَمَا دُونَ الثُّلُثِ .
فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خَمْسُ مَسَائِلَ : ( 6794 ) الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : أَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَحْمِلُ الْعَبْدَ .
يَعْنِي إذَا قَتَلَ الْعَبْدَ قَاتِلٌ ، وَجَبَتْ قِيمَتُهُ فِي مَالِ الْقَاتِلِ ، وَلَا شَيْءَ عَلَى عَاقِلَتِهِ ، خَطَأً كَانَ أَوْ عَمْدًا .
وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَالشَّعْبِيِّ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَمَكْحُولٍ ، وَالنَّخَعِيِّ ، وَالْبَتِّيِّ ، وَمَالِكٍ ، وَاللَّيْثِ ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى ، وَإِسْحَاقَ ، وَأَبِي ثَوْرٍ وَقَالَ عَطَاءٌ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَالْحَكَمُ ، وَحَمَّادٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ ؛ لِأَنَّهُ آدَمِيٌّ يَجِبُ بِقَتْلِهِ الْقِصَاصُ وَالْكَفَّارَةُ ، فَحَمَلَتْ الْعَاقِلَةُ بَدَلَهُ ، كَالْحُرِّ ، وَعَنْ الشَّافِعِيِّ كَالْمَذْهَبَيْنِ ، وَوَافَقَنَا أَبُو حَنِيفَةَ فِي دِيَةِ أَطْرَافِهِ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ عَمْدًا ، وَلَا عَبْدًا ، وَلَا صُلْحًا ، وَلَا اعْتِرَافًا .
} وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ ، وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفًا ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا ، وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ قِيمَةٌ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ صِفَاتِهِ ، فَلَمْ تَحْمِلْهُ الْعَاقِلَةُ ، كَسَائِرِ الْقِيَمِ ، وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ لَا تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ قِيمَةَ أَطْرَافِهِ ، فَلَمْ تَحْمِلْ الْوَاجِبَ فِي نَفْسِهِ ، كَالْفَرَسِ .
وَبِهَذَا فَارَقَ الْحُرَّ .

( 6795 ) الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : أَنَّهَا لَا تَحْمِلُ الْعَمْدَ ، سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يَجِبُ الْقِصَاصُ فِيهِ ، أَوْ لَا يَجِبُ .
وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهَا لَا تَحْمِلُ دِيَةَ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهَا لَا تَحْمِلُ الْعَمْدَ بِكُلِّ حَالٍ .
وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ ، أَنَّهَا تَحْمِلُ الْجِنَايَاتِ الَّتِي لَا قِصَاصَ فِيهَا ، كَالْمَأْمُومَةِ وَالْجَائِفَةِ .
وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ ؛ لِأَنَّهَا جِنَايَةٌ لَا قِصَاصَ فِيهَا ، أَشْبَهَتْ جِنَايَةَ الْخَطَأِ .
وَلَنَا ، حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَلِأَنَّهَا جِنَايَةُ عَمْدٍ ، فَلَا تَحْمِلُهَا الْعَاقِلَةُ ، كَالْمُوجِبَةِ لِلْقِصَاصِ ، وَجِنَايَةِ الْأَبِ عَلَى ابْنِهِ ، وَلِأَنَّ حَمْلَ الْعَاقِلَةِ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي الْخَطَأِ ، لِكَوْنِ الْجَانِي مَعْذُورًا ، تَخْفِيفًا عَنْهُ ، وَمُوَاسَاةً لَهُ ، وَالْعَامِدُ غَيْرُ مَعْذُورٍ ، فَلَا يَسْتَحِقُّ التَّخْفِيفَ وَلَا الْمُعَاوَنَةَ ، فَلَمْ يُوجَدْ فِيهِ الْمُقْتَضِي .
وَبِهَذَا فَارَقَ الْعَمْدُ الْخَطَأَ .
ثُمَّ يَبْطُلُ مَا ذَكَرُوهُ بِقَتْلِ الْأَبِ ابْنَهُ ، فَإِنَّهُ لَا قِصَاصَ فِيهِ ، وَلَا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ .

( 6796 ) فَصْلٌ : وَإِنْ اقْتَصَّ بِحَدِيدَةٍ مَسْمُومَةٍ ، فَسَرَى إلَى النَّفْسِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَمْدٍ مَحْضٍ ، أَشْبَهَ عَمْدَ الْخَطَأِ .
وَالثَّانِي : لَا تَحْمِلُهُ ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَهُ بِآلَةٍ يَقْتُلُ مِثْلُهَا غَالِبًا ، فَأَشْبَهَ مَنْ لَا قِصَاصَ لَهُ .
وَلَوْ وَكَّلَ فِي اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ ، ثُمَّ عَفَا عَنْهُ ، فَقَتَلَهُ الْوَكِيلُ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ بِعَفْوِهِ ، فَقَالَ الْقَاضِي : لَا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ ؛ لِأَنَّهُ عَمَدَ قَتْلَهُ .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِد الْجِنَايَةَ ، وَمِثْلُ هَذَا يُعَدُّ خَطَأً ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ قَتَلَ فِي دَارِ الْحَرْبِ مُسْلِمًا يَظُنُّهُ حَرْبِيًّا ، فَإِنَّهُ عَمَدَ قَتْلَهُ ، وَهُوَ أَحَدُ نَوْعَيْ الْخَطَأِ .
وَهَذَا أَصَحُّ .
وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ ، كَهَذَيْنِ .

( 6797 ) فَصْلٌ : وَعَمْدُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ خَطَأٌ تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ : لَا تَحْمِلُهُ ؛ لِأَنَّهُ عَمْدٌ يَجُوزُ تَأْدِيبُهُمَا عَلَيْهِ ، فَأَشْبَهَ الْقَتْلَ مِنْ الْبَالِغِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُمَا كَمَالُ الْقَصْدِ ، فَتَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ ، كَشِبْهِ الْعَمْدِ ، وَلِأَنَّهُ قَتْلٌ لَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ ، لِأَجْلِ الْعُذْرِ ، فَأَشْبَهَ الْخَطَأَ وَشِبْهَ الْعَمْدِ .
وَبِهَذَا فَارَقَ مَا ذَكَرُوهُ ، وَيَبْطُلُ مَا ذَكَرُوهُ بِشِبْهِ الْعَمْدِ .

( 6798 ) الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : أَنَّهَا لَا تَحْمِلُ الصُّلْحَ وَمَعْنَاهُ أَنْ يَدَّعِيَ عَلَيْهِ الْقَتْلَ ، فَيُنْكِرَهُ وَيُصَالِحَ الْمُدَّعِي عَلَى مَالٍ ، فَلَا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ ثَبَتَ بِمُصَالَحَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ ، فَلَمْ تَحْمِلْهُ الْعَاقِلَةُ ، كَاَلَّذِي ثَبَتَ بِاعْتِرَافِهِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : مَعْنَاهُ أَنْ يُصَالِحَ الْأَوْلِيَاءُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ إلَى الدِّيَةِ .
وَالتَّفْسِيرُ الْأَوَّلُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ هَذَا عَمْدٌ ، فَيُسْتَغْنَى عَنْهُ بِذِكْرِ الْعَمْدِ .
وَمِمَّنْ قَالَ : لَا تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ الصُّلْحَ .
ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَاللَّيْثُ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيهِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ حَمَلَتْهُ الْعَاقِلَةُ ، أَدَّى إلَى أَنْ يُصَالِحَ بِمَالِ غَيْرِهِ ، وَيُوجِبَ عَلَيْهِ حَقًّا بِقَوْلِهِ .

( 6799 ) الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : أَنَّهَا لَا تَحْمِلُ الِاعْتِرَافَ وَهُوَ أَنْ يُقِرَّ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بِقَتْلِ خَطَأٍ ، أَوْ شِبْهِ عَمْدٍ فَتَجِبُ الدِّيَةُ عَلَيْهِ ، وَلَا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا .
وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَالْحَسَنُ ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى وَالثَّوْرِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيهِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ ، لَوَجَبَ بِإِقْرَارِ غَيْرِهِمْ ، وَلَا يُقْبَلُ إقْرَارُ شَخْصٍ عَلَى غَيْرِهِ وَلِأَنَّهُ يُتَّهَمُ فِي أَنْ يُوَاطِئَ مَنْ يُقِرُّ لَهُ بِذَلِكَ لِيَأْخُذَ الدِّيَةَ مِنْ عَاقِلَتِهِ ، فَيُقَاسِمَهُ إيَّاهَا .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ مَا اعْتَرَفَ بِهِ ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ عَلَيْهِ حَالَّةً فِي مَالِهِ ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِهِمْ .
وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ ، وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ : لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ ، وَلَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ عَلَى غَيْرِهِ لَا عَلَى نَفْسِهِ ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ مُوجِبُ إقْرَارِهِ ، فَكَانَ بَاطِلًا ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ عَلَى غَيْرِهِ بِالْقَتْلِ .
وَلَنَا ، قَوْله تَعَالَى : { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَة وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ } .
وَلِأَنَّهُ مُقِرٌّ عَلَى نَفْسِهِ بِالْجِنَايَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْمَالِ ، فَصَحَّ إقْرَارُهُ ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِإِتْلَافِ مَالٍ ، أَوْ بِمَا لَا تَحْمِلُ دِيَتَهُ الْعَاقِلَةُ ، وَلِأَنَّهُ مَحَلٌّ مَضْمُونٌ ، فَيَضْمَنُ إذَا اعْتَرَفَ بِهِ ، كَسَائِرِ الْمَحَالِّ ، وَإِنَّمَا سَقَطَتْ عَنْهُ الدِّيَةُ فِي مَحَلِّ الْوِفَاقِ لِتَحَمُّلِ الْعَاقِلَةِ لَهَا ، فَإِذَا لَمْ تَحْمِلْهَا ، وَجَبَتْ عَلَيْهِ ، كَجِنَايَةِ الْمُرْتَدِّ .

( 6800 ) الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : أَنَّهَا لَا تَحْمِلُ مَا دُونَ الثُّلُثِ .
وَبِهَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَعَطَاءٌ ، وَمَالِكٌ ، وَإِسْحَاقُ ، وَعَبْدُ الْعَزِيز ، وَعَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ وَقَالَ : لَا تَحْمِلُ الثُّلُثَ أَيْضًا .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ : تَحْمِلُ السِّنَّ ، وَالْمُوضِحَةَ ، وَمَا فَوْقَهَا ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ الْغُرَّةَ الَّتِي فِي الْجَبِينِ عَلَى الْعَاقِلَةِ ، وَقِيمَتُهَا نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ ، وَلَا تَحْمِلُ مَا دُونَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ .
وَالصَّحِيحُ عَنْ الشَّافِعِيِّ ، أَنَّهَا تَحْمِلُ الْكَثِيرَ وَالْقَلِيلَ ؛ لِأَنَّ مَنْ حَمَلَ الْكَثِيرَ حَمَلَ الْقَلِيلَ ، كَالْجَانِي فِي الْعَمْدِ .
وَلَنَا ، مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَضَى فِي الدِّيَةِ أَنْ لَا يُحْمَلَ مِنْهَا شَيْءٌ حَتَّى تَبْلُغَ عَقْلَ الْمَأْمُومَةِ .
وَلِأَنَّ مُقْتَضَى الْأَصْلِ وُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَى الْجَانِي ؛ لِأَنَّهُ مُوجَبُ جِنَايَتِهِ ، وَبَدَلُ مُتْلَفِهِ ، فَكَانَ عَلَيْهِ ، كَسَائِرِ الْمُتْلَفَاتِ وَالْجِنَايَاتِ ، وَإِنَّمَا خُولِفَ فِي الثُّلُثِ فَصَاعِدًا ، تَخْفِيفًا عَنْ الْجَانِي ، لِكَوْنِهِ كَثِيرًا يُجْحَفُ بِهِ ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الثُّلُثُ كَثِيرٌ } .
فَفِي مَا دُونَهُ يَبْقَى عَلَى قَضِيَّةِ الْأَصْلِ وَمُقْتَضَى الدَّلِيلِ ، وَهَذَا حُجَّةٌ عَلَى الزُّهْرِيِّ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ الثُّلُثَ كَثِيرًا ، فَأَمَّا دِيَةُ الْجَنِينِ ، فَلَا تَحْمِلُهَا الْعَاقِلَةُ ، إلَّا إذَا مَاتَ مَعَ أُمِّهِ مِنْ الضَّرْبَةِ ؛ لِكَوْنِ دِيَتِهِمَا ، جَمِيعًا مُوجَبُ جِنَايَةٍ ، تَزِيدُ عَلَى الثُّلُثِ ، وَإِنْ سَلَّمْنَا وُجُوبَهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ ؛ فَلِأَنَّهَا دِيَةُ آدَمِيٍّ كَامِلَةٌ .

( 6801 ) فَصْلٌ : وَتَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ دِيَةَ الطَّرَفِ إذَا بَلَغَ الثُّلُثَ .
وَهُوَ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذَا .
وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ ، أَنَّهُ قَالَ فِي الْقَدِيمِ : لَا تَحْمِلُ مَا دُونَ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى ضَمَانِ الْأَمْوَالِ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا تَجِبُ فِيهِ كَفَّارَةٌ .
وَلَنَا قَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ دِيَةُ جِنَايَةٍ عَلَى حُرٍّ تَزِيدُ عَلَى الثُّلُثِ فَحَمَلَتْهَا الْعَاقِلَةُ ، كَدِيَةِ النَّفْسِ ، وَلِأَنَّهُ كَثِيرٌ يَجِبُ ضَمَانًا لَحُرٍّ أَشْبَهَ مَا ذَكَرْنَا .
وَمَا ذَكَرَهُ يَبْطُلُ بِمَا إذَا جَنَى عَلَى الْأَطْرَافِ بِمَا يُوجِبُ الدِّيَةَ ، أَوْ زِيَادَةً عَلَيْهَا .

( 6802 ) فَصْلٌ : وَتَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ دِيَةَ الْمَرْأَةِ .
بِغَيْرِ خِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِيهَا .
وَتَحْمِلُ مِنْ جِرَاحِهَا مَا بَلَغَ أَرْشُهُ ثُلُثَ دِيَةِ الرَّجُلِ كَدِيَةِ أَنْفِهَا ، وَمَا دُونَ ذَلِكَ كَدِيَةِ يَدِهَا ، لَا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ .
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي دِيَةِ الْكِتَابِيِّ .
وَلَا تَحْمِلُ دِيَةَ الْمَجُوسِيِّ ؛ لِأَنَّهَا دُونَ الثُّلُثِ ، وَلَا دِيَةَ الْجَنِينِ إنَّ مَاتَ مُنْفَرِدًا ، أَوْ مَاتَ قَبْلَ مَوْتِ أُمِّهِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ لِأَنَّهُ دُونَ الثُّلُثِ .
وَإِنْ مَاتَ مَعَ أُمِّهِ ، حَمَلَتْهُمَا الْعَاقِلَةُ .
نَصَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ دِيَتِهِمَا حَصَلَ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ ، بِجِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ ، مَعَ زِيَادَتِهِمَا عَلَى الثُّلُثِ ، فَحَمَلَتْهُمَا الْعَاقِلَةُ كَالدِّيَةِ الْوَاحِدَةِ .

( 6803 ) فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الْجَانِي ذِمِّيًّا ، فَعَقْلُهُ عَلَى عَصَبَتِهِ مِنْ أَهْلِ دِيَتِهِ الْمُعَاهَدِينَ ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ .
وَفِي الْأُخْرَى ، لَا يَتَعَاقَلُونَ ؛ لِأَنَّ الْمُعَاقَلَةَ تَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ ، تَخْفِيفًا عَنْهُ ، وَمَعُونَةً لَهُ ، فَلَا يُلْحَقُ بِهِ الْكَافِرُ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ أَعْظَمُ حُرْمَةً ، وَأَحَقُّ بِالْمُوَاسَاةِ وَالْمَعُونَةِ مِنْ الذِّمِّيِّ ، وَلِهَذَا وَجَبَتْ الزَّكَاةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مُوَاسَاةً لِفُقَرَائِهِمْ ، وَلَمْ تَجِبْ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ لِفُقَرَائِهِمْ ، فَتَبْقَى فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ عَلَى الْأَصْلِ .
وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى ، أَنَّهُمْ عَصَبَةٌ يَرِثُونَهُ ، فَيَعْقِلُونَ عَنْهُ ، كَعَصَبَةِ الْمُسْلِمِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَا يَعْقِلُ عَنْهُ عَصَبَتُهُ الْمُسْلِمُونَ ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَرِثُونَهُ ، وَلَا الْحَرْبِيُّونَ ؛ لِأَنَّ الْمُوَالَاةَ وَالنُّصْرَةَ مُنْقَطِعَةٌ بَيْنَهُمْ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَعْقِلُوا عَنْهُ ؛ إذَا قُلْنَا : إنَّهُمْ يَرِثُونَهُ .
لِأَنَّهُمْ أَهْلُ دِينٍ وَاحِدٍ ، يَرِثُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا .
وَلَا يَعْقِلُ يَهُودِيٌّ عَنْ نَصْرَانِيٍّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ ، عَنْ يَهُودِيٍّ ؛ لِأَنَّهُمْ لَا مُوَالَاةَ بَيْنهمْ ، وَهُمْ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَتَعَاقَلَا ، بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي تَوَارُثِهِمَا .

( 6804 ) فَصْلٌ : وَإِنْ تَنَصَّرَ يَهُودِيٌّ ، أَوْ تَهَوَّدَ نَصْرَانِيٌّ ، وَقُلْنَا : إنَّهُ يُقَرُّ عَلَيْهِ .
عَقَلَ عَنْهُ عَصَبَتُهُ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ الَّذِي انْتَقَلَ إلَيْهِ .
وَهَلْ يَعْقِلُ عَنْهُ الَّذِينَ انْتَقَلَ عَنْ دِينِهِمْ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ .
وَإِنْ قُلْنَا : لَا يُقَرُّ .
لَمْ يَعْقِلْ عَنْهُ أَحَدٌ ؛ لِأَنَّهُ كَالْمُرْتَدِّ ، وَالْمُرْتَدُّ لَا يَعْقِلُ عَنْهُ أَحَدٌ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُسْلِمٍ فَيَعْقِلَ عَنْهُ الْمُسْلِمُونَ ، وَلَا ذِمِّيٍّ فَيَعْقِلَ عَنْهُ أَهْلُ الذِّمَّةِ ، وَتَكُونُ جِنَايَتُهُ فِي مَالِهِ .
وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ لَا تَحْمِلُ عَاقِلَتُهُ جِنَايَتَهُ ، يَكُونُ مُوجَبُهَا فِي مَالِهِ ، كَسَائِرِ الْجِنَايَاتِ الَّتِي لَا تَحْمِلُهَا الْعَاقِلَةُ .

( 6805 ) فَصْلٌ : وَلَوْ رَمَى ذِمِّيٌّ صَيْدًا ، ثُمَّ أَسْلَمَ ، ثُمَّ أَصَابَ السَّهْمُ آدَمِيًّا فَقَتَلَهُ ، لَمْ يَعْقِلْهُ الْمُسْلِمُونَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُسْلِمًا حَالَ رَمْيِهِ ، وَلَا الْمُعَاهَدُونَ ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَهُ وَهُوَ مُسْلِمٌ ، فَيَكُونُ فِي مَالِ الْجَانِي .
وَهَكَذَا لَوْ رَمَى وَهُوَ مُسْلِمٌ ثُمَّ ارْتَدَّ ، ثُمَّ قَتَلَ السَّهْمُ إنْسَانًا ، لَمْ يَعْقِلْهُ أَحَدٌ .
وَلَوْ جَرَحَ ذِمِّيٌّ ذِمِّيًّا ، ثُمَّ أَسْلَمَ الْجَارِحُ وَمَاتَ الْمَجْرُوحُ ، وَكَانَ أَرْشُ جِرَاحِهِ يَزِيدُ عَلَى الثُّلُثِ ، فَعَقْلُهُ عَلَى عَصَبَتِهِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ ، وَمَا زَادَ عَلَى أَرْشِ الْجُرْحِ لَا يَحْمِلُهُ أَحَدٌ ، وَيَكُونُ فِي مَالِ الْجَانِي ؛ لِمَا ذَكَرْنَا .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَرْشُ الْجُرْحِ مِمَّا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ ، فَجَمِيعُ الدِّيَةِ عَلَى الْجَانِي .
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إذَا جُرِحَ مُسْلِمٌ ثُمَّ ارْتَدَّ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَحْمِلَ الدِّيَةَ كُلَّهَا الْعَاقِلَةُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ وُجِدَتْ وَهُوَ مِمَّنْ تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ جِنَايَتَهُ ؛ وَلِهَذَا وَجَبَ الْقِصَاصُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى إذَا كَانَ عَمْدًا .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَحْمِلَ الْعَاقِلَةُ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ الْأَرْشَ إنَّمَا يَسْتَقِرُّ بِانْدِمَالِ الْجُرْحِ أَوْ سِرَايَتِهِ .

( 6806 ) فَصْلٌ : إذَا تَزَوَّجَ عَبْدٌ مُعْتَقَةً ، فَأَوْلَدَهَا أَوْلَادًا ، فَوَلَاؤُهُمْ لِمَوْلَى أُمِّهِمْ ، فَإِنْ جَنَى أَحَدُهُمْ ، فَالْعَقْلُ عَلَى مَوْلَى أُمِّهِ ؛ لِأَنَّهُ عَصَبَتُهُ وَوَارِثُهُ ، فَإِنْ أُعْتِقْ أَبُوهُ ثُمَّ سَرَتْ الْجِنَايَةُ ، أَوْ رُمِيَ بِسَهْمٍ فَلَمْ يَقَعْ السَّهْمُ حَتَّى أُعْتِقَ أَبُوهُ ، لَمْ يَحْمِلْ عَقْلَهُ أَحَدٌ ؛ لِأَنَّ مَوَالِيَ الْأُمِّ قَدْ زَالَ وَلَاؤُهُمْ عَنْهُ قَبْلَ قَتْلِهِ ، وَمَوَالِي الْأَبِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَلَيْهِ وَلَاءٌ حَالَ جِنَايَتِهِ ، فَتَكُونُ الدِّيَةُ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَرْشُ الْجُرْحِ مِمَّا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ مُنْفَرِدًا ، فَيُخَرَّجُ فِيهِ مِثْلُ مَا قُلْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا .

( 6807 ) فَصْلٌ : وَإِنْ جَنَى الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِهِ خَطَأً ، أَوْ عَلَى أَطْرَافِهِ ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ .
قَالَ الْقَاضِي : أَظْهَرُهُمَا أَنَّ عَلَى عَاقِلَتِهِ دِيَتَهُ لِوَرَثَتِهِ إنْ قَتَلَ نَفْسَهُ ، أَوْ أَرْشَ جُرْحِهِ لِنَفْسِهِ إذَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ .
وَهَذَا قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ ، وَإِسْحَاقَ ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا سَاقَ حِمَارًا فَضَرَبَهُ بِعَصًا كَانَتْ مَعَهُ ، فَطَارَتْ مِنْهَا شَظِيَّةٌ ، فَأَصَابَتْ عَيْنَهُ فَفَقَأَتْهَا فَجَعَلَ عُمَرُ ، دِيَتَهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ ، وَقَالَ : هِيَ يَدٌ مِنْ أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ ، لَمْ يُصِبْهَا اعْتِدَاءٌ عَلَى أَحَدٍ .
وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُ مُخَالِفًا فِي عَصْرِهِ .
وَلِأَنَّهَا جِنَايَةُ خَطَأٍ ، فَكَانَ عَقْلُهَا عَلَى عَاقِلَتِهِ ، كَمَا لَوْ قَتَلَ غَيْرَهُ .
فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ ، إنْ كَانَتْ الْعَاقِلَةُ الْوَرَثَةَ ، لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ لِلْإِنْسَانِ شَيْءٌ عَلَى نَفْسِهِ ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ وَارِثًا ، سَقَطَ عَنْهُ مَا يُقَابِلُ نَصِيبَهُ ، وَعَلَيْهِ مَا زَادَ عَلَى نَصِيبِهِ ، وَلَهُ مَا بَقِيَ إنْ كَانَ نَصِيبُهُ مِنْ الدِّيَةِ أَكْثَرَ مِنْ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، جِنَايَتُهُ هَدْرٌ .
وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، مِنْهُمْ ؛ رَبِيعَةُ ، وَمَالِكٌ ، وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَهِيَ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ عَامِرَ بْنَ الْأَكْوَعِ بَارَزَ مَرْحَبًا يَوْمَ خَيْبَرَ ، فَرَجَعَ سَيْفُهُ عَلَى نَفْسِهِ ، فَمَاتَ ، وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِيهِ بِدِيَةٍ وَلَا غَيْرِهَا ، وَلَوْ وَجَبَتْ لَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَلِأَنَّهُ جَنَى عَلَى نَفْسِهِ ، فَلَمْ يَضْمَنْهُ غَيْرُهُ ، كَالْعَمْدِ ، وَلِأَنَّ وُجُوبَ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ إنَّمَا كَانَ مُوَاسَاةً لِلْجَانِي ، وَتَخْفِيفًا عَنْهُ ، وَلَيْسَ عَلَى الْجَانِي هَاهُنَا شَيْءٌ يَحْتَاجُ إلَى الْإِعَانَةِ وَالْمُوَاسَاةِ فِيهِ ، فَلَا وَجْهَ لِإِيجَابِهِ .
وَيُفَارِقُ هَذَا مَا إذَا كَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى غَيْرِهِ ، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ

تَحْمِلْهُ الْعَاقِلَةُ ، لَأَجْحَفَ بِهِ وُجُوبُ الدِّيَةِ لِكَثْرَتِهَا .
فَأَمَّا إنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى نَفْسِهِ شِبْهَ عَمْدٍ ، فَهَلْ تَجْرِي مَجْرَى الْخَطَأِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : هِيَ كَالْخَطَأِ ؛ لِأَنَّهَا تُسَاوِيه فِيمَا إذَا كَانَتْ عَلَى غَيْرِهِ .
وَالثَّانِي ، لَا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ ؛ لِأَنَّهُ لَا عُذْرَ لَهُ ، فَأَشْبَهَ الْعَمْدَ الْمَحْضَ .

( 6808 ) فَصْلٌ : وَأَمَّا ، خَطَأُ الْإِمَامِ وَالْحَاكِمِ فِي غَيْرِ الْحُكْمِ وَالِاجْتِهَادِ ، فَهُوَ عَلَى عَاقِلَتِهِ .
بِغَيْرِ خِلَافٍ ، إذَا كَانَ مِمَّا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ ، وَمَا حَصَلَ بِاجْتِهَادِهِ ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا : عَلَى عَاقِلَتِهِ أَيْضًا ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ بَعَثَ إلَى امْرَأَةٍ ذُكِرَتْ بِسُوءٍ ، فَأَجْهَضَتْ جَنِينَهَا ، فَقَالَ عُمَرُ لَعَلِيٍّ : عَزَمْت عَلَيْك ، لَا تَبْرَحْ حَتَّى تَقْسِمَهَا عَلَى قَوْمِك .
وَلِأَنَّهُ جَانٍ ، فَكَانَ خَطَؤُهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ ، كَغَيْرِهِ .
وَالثَّانِيَةُ ، هُوَ فِي بَيْتِ الْمَالِ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَوْزَاعِيِّ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَإِسْحَاقَ ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ يَكْثُرُ فِي أَحْكَامِهِ وَاجْتِهَادِهِ ، فَإِيجَابُ عَقْلِهِ عَلَى عَاقِلَتِهِ يُجْحِفُ بِهِمْ ، وَلِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَحْكَامِهِ وَأَفْعَالِهِ ، فَكَانَ أَرْشُ جِنَايَتِهِ فِي مَالِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ .
وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ ، كَالرِّوَايَتَيْنِ .

( 6809 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَإِذَا جَنَى الْعَبْدُ ، فَعَلَى سَيِّدِهِ أَنْ يَفْدِيَهُ أَوْ يُسَلِّمَهُ ، فَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ ، لَمْ يَكُنْ عَلَى سَيِّدِهِ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَتِهِ ) .
هَذَا فِي الْجِنَايَةِ الَّتِي تُودَى بِالْمَالِ ، إمَّا لِكَوْنِهَا لَا تُوجِبُ إلَّا الْمَالَ ، وَإِمَّا لِكَوْنِهَا مُوجِبَةً لِلْقِصَاصِ ، فَعَفَا عَنْهَا إلَى الْمَالِ ، فَإِنَّ ، جِنَايَةَ الْعَبْدِ تَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ إذْ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهِ ، أَوْ ذِمَّتِهِ ، أَوْ ذِمَّةِ سَيِّدِهِ ، أَوْ لَا يَجِبَ شَيْءٌ ، وَلَا يُمْكِنُ إلْغَاؤُهَا ؛ لِأَنَّهَا جِنَايَةُ آدَمِيٍّ ، فَيَجِبُ اعْتِبَارُهَا كَجِنَايَةِ الْحُرِّ ، وَلِأَنَّ جِنَايَةَ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ غَيْرُ مُلْغَاةٍ ، مَعَ عُذْرِهِ ، وَعَدَمِ تَكْلِيفِهِ ، فَجِنَايَةُ الْعَبْدِ أَوْلَى ، وَلَا يُمْكِنُ تَعَلُّقُهَا بِذِمَّتِهِ ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَيَّ إلْغَائِهَا ، أَوْ تَأْخِيرِ حَقِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إلَى غَيْرِ غَايَةٍ ، وَلَا بِذِمَّةِ السَّيِّدِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْنِ ، فَتَعَيَّنَ تَعَلُّقُهَا بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ ، وَلِأَنَّ الضَّمَانَ مُوجَبُ جِنَايَتِهِ ، فَتَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ ، كَالْقِصَاصِ .
ثُمَّ لَا يَخْلُو أَرْشُ الْجِنَايَةِ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِقَدْرِ قِيمَتِهِ فَمَا دُونَ ، أَوْ أَكْثَرَ ؛ فَإِنْ كَانَ بِقَدْرِهَا فَمَا دُونَ ، فَالسَّيِّدُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَفْدِيَهُ بِأَرْشِ جِنَايَتِهِ ، أَوْ يُسَلِّمَهُ إلَى الْجِنَايَةِ فَيَمْلِكَهُ .
وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ ، وَإِسْحَاقُ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الشَّعْبِيِّ ، وَعَطَاءٍ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَعُرْوَةَ ، وَالْحَسَنِ ، وَالزُّهْرِيِّ ، وَحَمَّادٍ ؛ لِأَنَّهُ إنْ دَفَعَ أَرْشَ الْجِنَايَةِ ، فَهُوَ الَّذِي وَجَبَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَمْلِكْ الْمُطَالَبَةَ بِأَكْثَرَ مِنْهُ ، وَإِنْ سَلَّمَ الْعَبْدَ ، فَقَدْ أَدَّى الْمَحَلَّ الَّذِي تَعَلَّقَ الْحَقُّ بِهِ ، وَلِأَنَّ حَقَّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لَا يَتَعَلَّقُ بِأَكْثَرَ مِنْ الرَّقَبَةِ وَقَدْ أَدَّاهَا .
وَإِنْ طَالَبَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِتَسْلِيمِهِ إلَيْهِ ،

وَأَبَى ذَلِكَ سَيِّدُهُ ، لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا .
وَإِنْ دَفَعَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ ، فَأَبَى الْجَانِي قَبُولَهُ ، وَقَالَ : بِعْهُ ، وَادْفَعْ إلَيَّ ثَمَنَهُ .
فَهَلْ يَلْزَمُ السَّيِّدَ ذَلِكَ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ .
وَأَمَّا إنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا : أَنَّ سَيِّدَهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَفْدِيَهُ بِقِيمَتِهِ أَوْ أَرْشِ جِنَايَتِهِ ، وَبَيْنَ أَنْ يُسَلِّمَهُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَدَّى قِيمَتَهُ ، فَقَدْ أَدَّى قَدْرَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ ، فَإِنَّ حَقَّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لَا يَزِيدُ عَلَى الْعَبْدِ ، فَإِذَا أَدَّى قِيمَتَهُ ، فَقَدْ أَدَّى الْوَاجِبَ عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ ، كَمَا لَوْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ بِقَدْرِ قِيمَتِهِ .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُهُ ، إلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ بِأَرْشِ جِنَايَتِهِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ .
وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا إذَا عُرِضَ لِلْبَيْعِ رَغِبَ فِيهِ رَاغِبٌ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ ، فَإِذَا أَمْسَكَهُ فَقَدْ فَوَّتَ تِلْكَ الزِّيَادَةَ عَلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ .
وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ ، كَالرِّوَايَتَيْنِ .
وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى ، أَنَّ الشَّرْعَ قَدْ جَعَلَ لَهُ فِدَاءَهُ ، فَكَانَ لَهُ فِدَاؤُهُ ، فَكَانَ الْوَاجِبُ قَدْرَ قِيمَتِهِ ، كَسَائِرِ الْمُتْلَفَاتِ .

( 6810 ) فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ مُوجِبَةً لِلْقِصَاصِ ، فَعَفَا وَلِيُّ الْجِنَايَةِ عَلَى أَنْ يَمْلِكَ الْعَبْدَ ، لَمْ يَمْلِكْهُ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَمْلِكْهُ بِالْجِنَايَةِ فَلَأَنْ لَا يَمْلِكَهُ بِالْعَفْوِ أَوْلَى ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ ، فَلَا يَمْلِكُهُ بِالْعَفْوِ ، كَالْحُرِّ ، وَلِأَنَّهُ إذَا عَفَا عَنْ الْقِصَاصِ .
انْتَقَلَ حَقُّهُ إلَى الْمَالِ ، فَصَارَ كَالْجَانِي جِنَايَةً مُوجِبَةً لِلْمَالِ .
وَفِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّهُ يَمْلِكُهُ ؛ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ اسْتَحَقَّ إتْلَافَهُ ، فَاسْتَحَقَّ إبْقَاءَهُ عَلَى مِلْكِهِ ، كَعَبْدِهِ الْجَانِي عَلَيْهِ .

فَصْلٌ : قَالَ أَبُو طَالِبٍ سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ : إذَا أَمَرَ غُلَامَهُ فَجَنَى ، فَعَلَيْهِ مَا جَنَى ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ ، إنْ قَطَعَ يَدَ حُرٍّ ، فَعَلَيْهِ دِيَةُ يَدِ الْحُرِّ ، وَإِنْ كَانَ ثَمَنُهُ أَقَلَّ ، وَإِنْ أَمَرَهُ سَيِّدُهُ أَنْ يَجْرَحَ رَجُلًا ، فَمَا جَنَى ، فَعَلَيْهِ قِيمَةُ جِنَايَتِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ ؛ لِأَنَّهُ بِأَمْرِهِ .
وَكَانَ عَلِيٌّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ يَقُولَانِ : إذَا أَمَرَ عَبْدَهُ أَنْ يَقْتُلَ ، فَإِنَّمَا هُوَ سَوْطُهُ ، وَيُقْتَلُ الْمَوْلَى ، وَيُحْبَسُ الْعَبْدُ .
وَقَالَ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا بَهْزٌ ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ ، عَنْ خِلَاسٍ ، أَنَّ عَلِيًّا قَالَ : إذَا أَمَرَ الرَّجُلُ عَبْدَهُ فَقَتَلَ ، إنَّمَا هُوَ كَسَوْطِهِ أَوْ كَسَيْفِهِ ، يُقْتَلُ الْمَوْلَى ، وَالْعَبْدُ يُسْتَوْدَعُ السِّجْنَ .
وَلِأَنَّهُ فَوَّتَ شَيْئًا بِأَمْرِهِ ، فَكَانَ عَلَى السَّيِّدِ ضَمَانُهُ ، كَمَا لَوْ اسْتَدَانَ بِأَمْرِهِ .

( 6812 ) فَصْلٌ : فَإِنْ جَنَى جِنَايَاتٍ ، بَعْضَهَا بَعْدَ بَعْضٍ ، فَالْجَانِي بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَاتِ بِالْحِصَصِ .
وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ ، وَحَمَّادٌ ، وَرَبِيعَةُ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَرُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ ، أَنَّهُ قَالَ : يُقْضَى بِهِ لِآخِرِهِمْ .
وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ ، وَقَتَادَةُ ؛ لِأَنَّهَا جِنَايَةٌ وَرَدَتْ عَلَى مَحَلٍّ مُسْتَحِقٍّ ، فَقُدِّمَ صَاحِبُهُ عَلَى الْمُسْتَحِقِّ قَبْلَهُ ، كَالْجِنَايَةِ عَلَى الْمَمْلُوكِ الَّذِي لَمْ يَجْنِ .
وَقَالَ شُرَيْحٌ ، فِي عَبْدٍ شَجَّ رَجُلًا ، ثُمَّ آخَرَ ، ثُمَّ آخَرَ ، فَقَالَ شُرَيْحٌ : يُدْفَعُ إلَى الْأَوَّلِ ، إلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ مَوْلَاهُ ، ثُمَّ يُدْفَعُ إلَى الثَّانِي ، ثُمَّ يُدْفَعُ إلَى الثَّالِثِ ، إلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ الْأَوْسَطُ .
وَلَنَا ، أَنَّهُمْ تَسَاوَوْا فِي سَبَبِ تَعَلُّقِ الْحَقِّ بِهِ ، فَتَسَاوَوْا فِي الِاسْتِحْقَاقِ ، كَمَا لَوْ جَنَى عَلَيْهِمْ دَفْعَةً وَاحِدَةً ، بَلْ لَوْ قُدِّمَ بَعْضُهُمْ ، كَانَ الْأَوَّلُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ أَسْبَقُ ، وَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَى الْمِلْكِ ، فَإِنَّ حَقَّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَقْوَى ، بِدَلِيلِ أَنَّهُمَا لَوْ وَجَدَا دَفْعَةً وَاحِدَةً ، قُدِّمَ حَقُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّ حَقَّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ثَبَتَ بِغَيْرِ رِضَى صَاحِبِهِ عِوَضًا ، وَحَقُّ الْمَالِكِ ثَبَتَ بِرِضَاهُ أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ ، فَافْتَرَقَا .

( 6813 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أَعْتَقَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ الْجَانِي ، عَتَقَ ، وَضَمِنَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ الْأَرْشِ ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَحَلَّ الْجِنَايَةِ عَلَى مَنْ تَعَلَّقَ حَقُّهُ بِهِ ، فَلَزِمَهُ غَرَامَتُهُ ، كَمَا لَوْ قَتَلَهُ .
وَيَنْبَنِي قَدْرُ الضَّمَانِ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ ، فِيمَا إذَا اخْتَارَ إمْسَاكَهُ بَعْدَ الْجِنَايَةِ ؛ لِأَنَّهُ امْتَنَعَ مِنْ تَسْلِيمِهِ بِإِعْتَاقِهِ ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ امْتِنَاعِهِ مِنْ تَسْلِيمِهِ بِاخْتِيَارِ فِدَائِهِ .
وَنَقَلَ ابْنُ مَنْصُورٍ عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ إنْ أَعْتَقَهُ ، عَالِمًا بِجِنَايَتِهِ ، فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ ، يَعْنِي دِيَةَ الْمَقْتُولِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِجِنَايَتِهِ ، فَعَلَيْهِ قِيمَةُ الْعَبْدِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إذَا أَعْتَقَهُ مَعَ الْعِلْمِ ، كَانَ مُخْتَارًا لِفِدَائِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَخْتَرْ الْفِدَاءَ ؛ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِهِ ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَةِ مَا فَوَّتَهُ .

( 6814 ) فَصْلٌ : فَإِنْ بَاعَهُ ، أَوْ وَهَبَهُ ، صَحَّ بَيْعُهُ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْبَيْعِ ، وَلَمْ يَزُلْ تَعَلُّقُ الْجِنَايَةِ عَنْ رَقَبَتِهِ ، فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي عَالِمًا بِحَالِهِ ، فَلَا خِيَارَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَى بَصِيرَةٍ ، وَيَنْتَقِلُ الْخِيَارُ فِي فِدَائِهِ وَتَسْلِيمِهِ إلَيْهِ ، كَالسَّيِّدِ الْأَوَّلِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ ، فَلَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ إمْسَاكِهِ وَرَدِّهِ ، كَسَائِرِ الْمَعِيبَاتِ .

( 6815 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَالْعَاقِلَةُ الْعُمُومَةُ ، وَأَوْلَادُهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ .
وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى ، الْأَبُ ، وَالِابْنُ ، وَالْإِخْوَةُ ، وَكُلُّ الْعَصَبَةِ مِنْ الْعَاقِلَةِ ) .
الْعَاقِلَةُ : مَنْ يَحْمِلُ الْعَقْلَ .
وَالْعَقْلُ : الدِّيَةُ ، تُسَمَّى عَقْلًا ؛ لِأَنَّهَا تَعْقِلُ لِسَانَ وَلِيِّ الْمَقْتُولِ .
وَقِيلَ : إنَّمَا سُمِّيَتْ الْعَاقِلَةُ ، لِأَنَّهُمْ يَمْنَعُونَ عَنْ الْقَاتِلِ ، وَالْعَقْلُ : الْمَنْعُ ، وَلِهَذَا سُمِّيَ بَعْضُ الْعُلُومِ عَقْلًا ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ الْإِقْدَامِ عَلَى الْمَضَارِّ .
وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنَّ الْعَاقِلَةَ الْعَصَبَاتُ ، وَأَنَّ غَيْرَهُمْ مِنْ الْإِخْوَةِ مِنْ الْأُمِّ ، وَسَائِرِ ذَوِي الْأَرْحَامِ ، وَالزَّوْجِ ، وَكُلِّ مَنْ عَدَا الْعَصَبَاتِ ، لَيْسَ هُمْ مِنْ الْعَاقِلَةِ .
وَاخْتُلِفَ فِي الْآبَاءِ وَالْبَنِينَ ، هَلْ هُمْ مِنْ الْعَاقِلَةِ أَوْ لَا .
وَعَنْ أَحْمَدَ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا : أَنَّ كُلَّ الْعَصَبَةِ مِنْ الْعَاقِلَةِ ، يَدْخُلُ فِيهِ آبَاءُ الْقَاتِلِ ، وَأَبْنَاؤُهُ ، وَإِخْوَتُهُ ، وَعُمُومَتُهُ ، وَأَبْنَاؤُهُمْ .
وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ وَالشَّرِيفِ أَبِي جَعْفَرٍ ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، قَالَ : { قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ عَقْلَ الْمَرْأَةِ بَيْنَ عَصَبَتِهَا ، مَنْ كَانُوا ، لَا يَرِثُونَ مِنْهَا شَيْئًا إلَّا مَا فَضَلَ عَنْ وَرَثَتِهَا ، وَإِنْ قُتِلَتْ فَعَقْلُهَا بَيْنَ وَرَثَتِهَا } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَلِأَنَّهُمْ عَصَبَةٌ ، فَأَشْبَهُوا الْإِخْوَةَ ، يُحَقِّقُهُ أَنَّ الْعَقْلَ مَوْضُوعٌ عَلَى التَّنَاصُرِ ، وَهُمْ مِنْ أَهْلِهِ ، وَلِأَنَّ الْعَصَبَةَ فِي تَحَمُّلِ الْعَقْلِ كَهُمْ فِي الْمِيرَاثِ ، فِي تَقْدِيمِ الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ ، وَآبَاؤُهُ وَأَبْنَاؤُهُ أَحَقُّ الْعَصَبَاتِ بِمِيرَاثِهِ ، فَكَانُوا أَوْلَى بِتَحَمُّلِ عَقْلِهِ .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، لَيْسَ آبَاؤُهُ وَأَبْنَاؤُهُ مِنْ الْعَاقِلَةِ

، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، قَالَ : { اقْتَتَلَتْ امْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ ، فَرَمَتْ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى ، فَقَتَلَتْهَا ، فَاخْتَصَمُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا ، وَوَرِثَهَا وَلَدُهَا وَمَنْ مَعَهُمْ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَفِي رِوَايَةٍ : { ثُمَّ مَاتَتْ الْقَاتِلَةُ ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِيرَاثَهَا لِبَنِيهَا ، وَالْعَقْلَ عَلَى الْعَصَبَةِ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ .
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ .
قَالَ : { فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِيَةَ الْمَقْتُولَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا ، وَبَرَّأَ زَوْجَهَا وَوَلَدَهَا .
قَالَ : فَقَالَتْ عَاقِلَةُ الْمَقْتُولَةِ : مِيرَاثُهَا لَنَا .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مِيرَاثُهَا لِزَوْجِهَا وَوَلَدِهَا } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
إذَا ثَبَتَ هَذَا فِي الْأَوْلَادِ ، قِسْنَا عَلَيْهِ الْوَالِدَ ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ ، وَلِأَنَّ مَالَ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ كَمَالِهِ ؛ وَلِهَذَا لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا لَهُ ، وَلَا شَهَادَتُهُ لَهُمَا ، وَوَجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْإِنْفَاقُ عَلَى الْآخَرِ إذَا كَانَ مُحْتَاجًا ، وَالْآخَرُ مُوسِرًا ، وَعَتَقَ عَلَيْهِ إذَا مَلَكَهُ ، فَلَا تَجِبُ فِي مَالِهِ دِيَةٌ ، كَمَا لَمْ يَجِبْ فِي مَالِ الْقَاتِلِ .
وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ ، أَنَّ فِي الْإِخْوَةِ رِوَايَتَيْنِ ، كَالْوَلَدِ وَالْوَالِدِ ، وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا يَجْعَلُونَهُمْ مِنْ الْعَاقِلَةِ بِكُلِّ حَالٍ ، وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافًا .

( 6816 ) فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ ابْنَ ابْنِ عَمٍّ ، أَوْ كَانَ الْوَالِدُ أَوْ الْوَلَدُ مَوْلَى أَوْ عَصَبَةُ مَوْلًى ، فَإِنَّهُ يَعْقِلُ ، فِي ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ قَالَهُ الْقَاضِي .
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : لَا يَعْقِلُ ؛ لِأَنَّهُ وَالِدٌ أَوْ وَلَدٌ ، فَلَمْ يَعْقِلْ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ ابْنُ ابْنِ عَمٍّ أَوْ مَوْلًى ، فَيَعْقِلُ ، كَمَا لَوْ يَكُنْ وَلَدًا ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْقَرَابَةَ أَوْ الْوَلَاءَ سَبَبٌ يَسْتَقِلُّ بِالْحُكْمِ مُنْفَرِدًا ، فَإِذَا وُجِدَ مَعَ مَا لَا يَثْبُتُ بِهِ الْحُكْمُ أَثْبَتَهُ ، كَمَا لَوْ وُجِدَ مَعَ الرَّحِمِ الْمُجَرَّدِ ، وَلِأَنَّهُ يَثْبُتُ حُكْمُهُ مَعَ الْقَرَابَةِ الْأُخْرَى ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَلِي نِكَاحَهَا ، مَعَ أَنَّ الِابْنَ لَا يَلِي النِّكَاحَ عِنْدَهُمْ .

( 6817 ) فَصْلٌ : وَسَائِرُ الْعَصَبَاتِ مِنْ الْعَاقِلَةِ بَعُدُوا أَوْ قَرُبُوا مِنْ النَّسَبِ ، وَالْمَوْلَى وَعَصَبَتُهُ ، وَمَوْلَى الْمَوْلَى وَعَصَبَتُهُ ، وَغَيْرُهُمْ .
وَبِهَذَا قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَحَمَّادُ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَلَا أَعْلَمُ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافَهُمْ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ عَصَبَةٌ يَرِثُونَ الْمَالَ إذَا لَمْ يَكُنْ وَارِثٌ أَقْرَبَ مِنْهُمْ ، فَيَدْخُلُونَ فِي الْعَقْلِ كَالْقَرِيبِ ، وَلَا يُعْتَبَرُ أَنْ يَكُونُوا وَارِثِينَ فِي الْحَالِ ، بَلْ مَتَى كَانُوا يَرِثُونَ لَوْلَا الْحَجْبُ عَقَلُوا ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالدِّيَةِ بَيْنَ عَصَبَةِ الْمَرْأَةِ مَنْ كَانُوا ، لَا يَرِثُونَ مِنْهَا إلَّا مَا فَضَلَ عَنْ وَرَثَتِهَا ؛ وَلِأَنَّ الْمَوَالِيَ مِنْ الْعَصَبَاتِ ، فَأَشْبَهُوا الْمُنَاسِبِينَ .

( 6818 ) فَصْلٌ : وَلَا يَدْخُلُ فِي الْعَقْلِ مَنْ لَيْسَ بِعَصَبَةٍ ، وَلَا يَعْقِلُ الْمَوْلَى مِنْ أَسْفَلَ .
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَصْحَابُ مَالِكٍ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ : يَعْقِلُ ؛ لِأَنَّهُمَا شَخْصَانِ يَعْقِلُ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ ، فَيَعْقِلُ الْآخَرُ عَنْهُ ، كَالْأَخَوَيْنِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ لَيْسَ بِعَصَبَةٍ لَهُ وَلَا وَارِثٍ ، فَلَمْ يَعْقِلْ عَنْهُ ، كَالْأَجْنَبِيِّ .
وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِالذَّكَرِ مَعَ الْأُنْثَى ، وَالْكَبِيرِ مَعَ الصَّغِيرِ ، وَالْعَاقِلِ مَعَ الْمَجْنُونِ .

( 6819 ) فَصْلٌ : وَلَا يَعْقِلُ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ ، وَهُوَ الَّذِي يُوَالِي رَجُلًا يَجْعَلُ لَهُ وَلَاءَهُ وَنُصْرَتَهُ ، وَلَا الْحَلِيفُ ، وَهُوَ الرَّجُلُ يُحَالِفُ الْآخَرَ عَلَى أَنْ يَتَنَاصَرَا عَلَى دَفْعِ الظُّلْمِ ، وَيَتَضَافَرَا عَلَى مَنْ قَصَدَهُمَا أَوْ قَصَدَ أَحَدَهُمَا ، وَلَا الْعَدِيدُ ، وَهُوَ الَّذِي لَا عَشِيرَةَ لَهُ ، يَنْضَمُّ إلَى عَشِيرَةٍ ، فَيَعُدُّ نَفْسَهُ مَعَهُمْ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَعْقِلُ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ وَيَرِثُ .
وَقَالَ مَالِكٌ : إذَا كَانَ الرَّجُلُ فِي غَيْرِ عَشِيرَتِهِ ، فَعَقْلُهُ عَلَى الْقَوْمِ الَّذِي هُوَ مَعَهُمْ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ مَعْنًى يَتَعَلَّقُ بِالْعَصَبَةِ ، فَلَا يُسْتَحَقُّ بِذَلِكَ ، كَوِلَايَةِ النِّكَاحِ .

( 6820 ) فَصْلٌ : وَلَا مَدْخَلَ لِأَهْلِ الدِّيوَانِ فِي الْمُعَاقَلَةِ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَتَحَمَّلُونَ جَمِيعَ الدِّيَةِ ، فَإِنْ عَدِمُوا فَالْأَقَارِبُ حِينَئِذٍ يَعْقِلُونَ ؛ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَعَلَ الدِّيَةَ عَلَى أَهْلِ الدِّيوَانِ فِي الْأُعْطِيَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ .
وَلَنَا ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ ؛ وَلِأَنَّهُ مَعْنًى لَا يُسْتَحَقُّ بِهِ الْمِيرَاثُ ، فَلَمْ يُحْمَلْ بِهِ الْعَقْلُ كَالْجِوَارِ وَاتِّفَاقُ الْمَذَاهِبِ ، وَقَضَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى مِنْ قَضَاءِ عُمَرَ ، عَلَى أَنَّهُ إنْ صَحَّ مَا ذُكِرَ عَنْهُ ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ كَانُوا عَشِيرَةَ الْقَاتِلِ .

( 6821 ) فَصْلٌ : وَيَشْتَرِكُ فِي الْعَقْلِ الْحَاضِرُ وَالْغَائِبُ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ مَالِكٌ : يَخْتَصُّ بِهِ الْحَاضِرُ ؛ لِأَنَّ التَّحَمُّلَ بِالنُّصْرَةِ ، وَإِنَّمَا هِيَ بَيْن الْحَاضِرِينَ ، وَلِأَنَّ فِي قِسْمَتِهِ عَلَى الْجَمِيعِ مَشَقَّةٌ .
وَعَنْ الشَّافِعِيِّ كَالْمَذْهَبَيْنِ .
وَلَنَا ، الْخَبَرُ ، وَأَنَّهُمْ اسْتَوَوْا فِي التَّعْصِيبِ وَالْإِرْثِ ، فَاسْتَوَوْا فِي تَحَمُّلِ الْعَقْلِ ، كَالْحَاضِرِينَ ، وَلِأَنَّهُ مَعْنًى يَتَعَلَّقُ بِالتَّعْصِيبِ ، فَاسْتَوَى فِيهِ الْحَاضِرُ وَالْغَائِبُ ، كَالْمِيرَاثِ وَالْوِلَايَةِ .

( 6822 ) فَصْلٌ : وَيَبْدَأُ فِي قِسْمَتِهِ بَيْن الْعَاقِلَةِ بِالْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ ، يُقْسَمُ عَلَى الْإِخْوَةِ وَبَنِيهِمْ ، وَالْأَعْمَامِ وَبَنِيهِمْ ، ثُمَّ أَعْمَامِ الْأَبِ ثُمَّ بَنِيهِمْ ، ثُمَّ أَعْمَامِ الْجَدِّ ، ثُمَّ بَنِيهِمْ ، كَذَلِكَ أَبَدًا ، حَتَّى إذَا انْقَرَضَ الْمُنَاسِبُونَ ، فَعَلَى الْمَوْلَى الْمُعْتِقِ ، ثُمَّ عَلَى عَصَبَاته ، ثُمَّ عَلَى مَوْلَى الْمَوْلَى ، ثُمَّ عَلَى عَصَبَاته ، الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ ، كَالْمِيرَاثِ سَوَاءً .
وَإِنْ قُلْنَا : الْآبَاءُ وَالْأَبْنَاءُ مِنْ الْعَاقِلَةِ ، بُدِئَ بِهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ أَقْرَبُ .
وَمَتَى اتَّسَعَتْ أَمْوَالُ قَوْمٍ لِلْعَقْلِ ، لَمْ يَعْدُهُمْ إلَى مَنْ بَعْدَهُمْ ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ يُسْتَحَقُّ بِالتَّعْصِيبِ ، فَيُقَدَّمُ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ ، كَالْمِيرَاثِ وَوِلَايَةِ النِّكَاحِ .
وَهَلْ يُقَدَّمُ مَنْ يُدْلِي بِالْأَبَوَيْنِ عَلَى مَنْ يُدْلِي بِالْأَبِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُقَدَّمُ ؛ لِأَنَّهُ يُقَدَّمُ فِي الْمِيرَاثِ ، فَقُدِّمَ فِي الْعَقْلِ ، كَتَقْدِيمِ الْأَخِ عَلَى ابْنِهِ .
وَالثَّانِي ، يَسْتَوِيَانِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُسْتَفَادُ بِالتَّعْصِيبِ ، وَلَا أَثَرَ لِلْأُمِّ فِي التَّعْصِيبِ .
وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ قَرَابَةَ الْأُمِّ تُؤَثِّرُ فِي التَّرْجِيحِ وَالتَّقْدِيمِ وَقُوَّةِ التَّعْصِيبِ ، لِاجْتِمَاعِ الْقَرَابَتَيْنِ عَلَى وَجْهٍ لَا تَنْفَرِدُ كُلُّ وَاحِدَةٍ بِحُكْمٍ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَرَابَتَيْنِ تَنْقَسِمُ إلَى مَا تَنْفَرِدُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِحُكْمٍ ، كَابْنِ الْعَمِّ إنْ كَانَ أَخًا مِنْ أُمٍّ ، فَإِنَّهُ يَرِثُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْقَرَابَتَيْنِ مِيرَاثًا مُنْفَرِدًا ، يَرِثُ السُّدُسَ بِالْأُخُوَّةِ ، وَيَرِثُ بِالتَّعْصِيبِ بِبُنُوَّةِ الْعَمِّ ، وَحَجْبُ إحْدَى الْقَرَابَتَيْنِ لَا يُؤَثِّرُ فِي حَجْبِ الْأُخْرَى ، فَهَذَا لَا يُؤَثِّرُ فِي قُوَّةٍ وَلَا تَرْجِيحٍ ، وَلِذَلِكَ لَا يُقَدَّمُ ابْنُ الْعَمِّ الَّذِي هُوَ أَخٌ مِنْ أُمٍّ عَلَى غَيْرِهِ ، وَمَا لَا يَنْفَرِدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحُكْمٍ ، كَابْنِ الْعَمِّ مِنْ أَبَوَيْنِ مَعَ ابْنِ عَمٍّ مِنْ أَبٍ ، لَا

تَنْفَرِدُ إحْدَى الْقَرَابَتَيْنِ بِمِيرَاثٍ عَنْ الْأُخْرَى ، فَتُؤَثِّرُ فِي التَّرْجِيحِ وَقُوَّةِ التَّعْصِيبِ ؛ وَلِذَلِكَ أَثَّرَتْ فِي التَّقْدِيمِ فِي الْمِيرَاثِ ، فَكَذَلِكَ فِي غَيْرِهِ .
وَبِمَا ذَكَرْنَاهُ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُسَوَّى بَيْنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ ، وَيُقْسَمُ عَلَى جَمِيعِهِمْ ؛ { لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ دِيَةَ الْمَقْتُولَةِ عَلَى عَصَبَةِ الْقَاتِلَةِ } .
وَلَنَا ، أَنَّهُ حُكْمٌ تَعَلَّقَ بِالتَّعْصِيبِ ، فَوَجَبَ أَنْ يُقَدَّمَ فِيهِ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ ، كَالْمِيرَاثِ ، وَالْخَبَرُ لَا حُجَّةَ فِيهِ ؛ لِأَنَّنَا نَقْسِمُهُ عَلَى الْجَمَاعَةِ إذَا لَمْ يَفِ بِهِ الْأَقْرَبُ ، فَنَحْمِلُهُ عَلَى ذَلِكَ .

( 6823 ) فَصْلٌ : وَلَا يَحْمِلُ الْعَقْلَ إلَّا مَنْ يُعْرَفُ نَسَبُهُ مِنْ الْقَاتِلِ ، أَوْ يُعْلَمُ أَنَّهُ مِنْ قَوْمٍ يَدْخُلُونَ كُلُّهُمْ فِي الْعَقْلِ ، وَمَنْ لَا يُعْرَفُ ذَلِكَ مِنْهُ لَا يَحْمِلُ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ قَبِيلَتِهِ ، فَلَوْ كَانَ الْقَاتِلُ قُرَشِيًّا ، لَمْ يَلْزَمْ قُرَيْشًا كُلَّهُمْ التَّحَمُّلُ ، فَإِنَّ قُرَيْشًا وَإِنْ كَانُوا كُلُّهُمْ يَرْجِعُونَ إلَى أَبٍ وَاحِدٍ ، إلَّا أَنَّ قَبَائِلَهُمْ تَفَرَّقَتْ ، وَصَارَ كُلُّ قَوْمٍ يَنْتَسِبُونَ إلَى أَبٍ يَتَمَيَّزُونَ بِهِ ، فَيَعْقِلُ عَنْهُمْ مَنْ يُشَارِكُهُمْ فِي نَسَبِهِمْ إلَى الْأَبِ الْأَدْنَى ، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ بَنُو آدَمَ ، فَهُمْ رَاجِعُونَ إلَى أَبٍ وَاحِدٍ ، لَكِنَّ إنْ كَانَ مِنْ فَخِذٍ وَاحِدٍ ، يُعْلَمُ أَنَّ جَمِيعَهُمْ يَتَحَمَّلُونَ ، وَجَبَ أَنْ يَحْمِلَ جَمِيعُهُمْ ، سَوَاءٌ عَرَفَ أَحَدُهُمْ نَسَبَهُ أَوْ لَمْ يَعْرِفْ ؛ لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُ مُتَحَمِّلٌ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ .
وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُ الْقَاتِلِ مِنْ أَحَدٍ ، فَالدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَرِثُونَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ ، بِمَعْنَى أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِيرَاثُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ ، فَكَذَلِكَ يَعْقِلُونَهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ .
وَإِنْ وُجِدَ لَهُ مَنْ يَحْمِلُ بَعْضَ الْعَقْلِ ، فَالْبَاقِي فِي بَيْتِ الْمَالِ كَذَلِكَ .

( 6824 ) فَصْلٌ : وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ ، فِي أَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تُكَلَّفُ مِنْ الْمَالِ مَا يُجْحِفُ بِهَا ، وَيَشُقُّ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّهُ لَازِمٌ لَهَا مِنْ غَيْرِ جِنَايَتِهَا عَلَى سَبِيلِ الْمُوَاسَاةِ لِلْقَاتِلِ ، وَالتَّخْفِيفِ عَنْهُ ، فَلَا يُخَفِّفُ عَنْ الْجَانِي بِمَا يُثْقِلُ عَلَى غَيْرِهِ ، وَيُجْحِفُ بِهِ ، كَالزَّكَاةِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْإِجْحَافُ مَشْرُوعًا ، كَانَ الْجَانِي أَحَقَّ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ مُوجَبُ جِنَايَتِهِ ، وَجَزَاءُ فِعْلِهِ ، فَإِذَا لَمْ يُشْرَعْ فِي حَقِّهِ ، فَفِي حَقِّ غَيْرِهِ أَوْلَى .
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَا يَحْمِلُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَقَالَ أَحْمَدُ : يَحْمِلُونَ عَلَى قَدْرِ مَا يُطِيقُونَ .
فَعَلَى هَذَا لَا يَتَقَدَّرُ شَرْعًا ، وَإِنَّمَا يُرْجَعُ فِيهِ إلَى اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ ، فَيَفْرِضُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ قَدْرًا يَسْهُلُ وَلَا يُؤْذِي .
وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِتَوْقِيفٍ ، وَلَا يَثْبُتُ بِالرَّأْيِ وَالتَّحَكُّمِ ، وَلَا نَصَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، فَوَجَبَ الرُّجُوعُ فِيهَا إلَى اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ ، كَمَقَادِيرِ النَّفَقَاتِ .
وَعَنْ أَحْمَدَ ، رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّهُ يَفْرِضُ عَلَى الْمُوسِرِ نِصْفَ مِثْقَالٍ ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ مَالٍ يَتَقَدَّرُ فِي الزَّكَاةِ ، فَكَانَ مُعْتَبَرًا بِهَا ، وَيَجِبُ عَلَى الْمُتَوَسِّطِ رُبْعُ مِثْقَالٍ ؛ لِأَنَّ مَا دُونَ ذَلِكَ تَافِهٌ ، لِكَوْنِ الْيَدِ لَا تُقْطَعُ فِيهِ ، وَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : لَا تُقْطَعُ الْيَدُ فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ ، وَمَا دُونَ رُبْعِ دِينَارٍ لَا قَطْعَ فِيهِ .
وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : أَكْثَرُ مَا يُجْعَلُ عَلَى الْوَاحِدِ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ ، وَلَيْسَ لِأَقَلِّهِ حَدٌّ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَالٌ يَجِبُ عَلَى سَبِيلِ الْمُوَاسَاةِ لِلْقَرَابَةِ ، فَلَمْ يَتَقَدَّرْ أَقَلُّهُ ، كَالنَّفَقَةِ .
قَالَ : وَيُسَوَّى بَيْنَ الْغَنِيِّ وَالْمُتَوَسِّطِ لِذَلِكَ .
وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ التَّقْدِيرَ إنَّمَا يُصَارُ إلَيْهِ

بِتَوْقِيفٍ ، وَلَا تَوْقِيفَ فِيهِ ، وَأَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِالْغِنَى وَالتَّوَسُّطِ ، كَالزَّكَاةِ وَالنَّفَقَةِ ، وَلَا يَخْتَلِفُ بِالْقُرْبِ وَالْبُعْدِ كَذَلِكَ .
وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِالتَّقْدِيرِ بِنِصْفِ دِينَارٍ وَرُبْعِهِ ؛ قَالَ بَعْضُهُمْ : يَتَكَرَّرُ الْوَاجِبُ فِي الْأَعْوَامِ الثَّلَاثَةِ ، فَيَكُونُ الْوَاجِبُ فِيهَا عَلَى الْغَنِيِّ دِينَارًا وَنِصْفًا ، وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ دِينَارٍ ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ يَتَعَلَّقُ بِالْحَوْلِ عَلَى سَبِيلِ الْمُوَاسَاةِ ، فَيَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الْحَوْلِ ، كَالزَّكَاةِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يَتَكَرَّرُ ؛ لِأَنَّ فِي إيجَابِ زِيَادَةٍ عَلَى النِّصْفِ ، إيجَابًا لَزِيَادَةٍ عَلَى أَقَلِّ الزَّكَاةِ ، فَيَكُونُ مُضِرًّا .
وَيُعْتَبَرُ الْغِنَى وَالتَّوَسُّطُ عِنْدَ رَأْسِ الْحَوْلِ ؛ لِأَنَّهُ حَالُ الْوُجُوبِ ، فَاعْتُبِرَ الْحَالُ عِنْدَهُ ، كَالزَّكَاةِ .
وَإِنْ اجْتَمَعَ مِنْ عَدَدِ الْعَاقِلَةِ فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ عَدَدٌ كَثِيرٌ ، قُسِمَ الْوَاجِبُ عَلَى جَمِيعِهِمْ .
فَيُلْزِمُ الْحَاكِمُ كُلَّ إنْسَانٍ عَلَى حَسْبِ مَا يَرَاهُ وَإِنْ قَلَّ .
وَعَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ ، يَجْعَلُ عَلَى الْمُتَوَسِّطِ نِصْفَ مَا عَلَى الْغَنِيِّ ، وَيَعُمُّ بِذَلِكَ جَمِيعَهُمْ .
وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ فِي الْآخَرِ : يَخُصُّ الْحَاكِمُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ ، فَيَفْرِضُ عَلَيْهِمْ هَذَا الْقَدْرَ الْوَاجِبَ ، لِئَلَّا يَنْقُصَ عَنْ الْقَدْرِ الْوَاجِبِ ، وَيَصِيرَ إلَى الشَّيْءِ التَّافِهِ ، وَلِأَنَّهُ يَشُقُّ ، فَرُبَّمَا أَصَابَ كُلَّ وَاحِدٍ قِيرَاطٌ ، فَيَشُقُّ جَمْعُهُ .
وَلَنَا ، أَنَّهُمْ اسْتَوَوْا فِي الْقَرَابَةِ فَكَانُوا سَوَاءً ، كَمَا لَوْ قَلُّوا ، وَكَالْمِيرَاثِ .
وَأَمَّا التَّعَلُّقُ بِمَشَقَّةِ الْجَمْعِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ مَشَقَّةَ زِيَادَةِ الْوَاجِبِ أَعْظَمُ مِنْ مَشَقَّةِ الْجَمْعِ ، ثُمَّ هَذَا تَعَلُّقٌ بِالْحِكْمَةِ مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ يَشْهَدُ لَهَا ، فَلَا يُتْرَكُ لَهَا الدَّلِيلُ ، ثُمَّ هِيَ مُعَارَضَةٌ بِخِفَّةِ الْوَاجِبِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ ، وَسُهُولَةِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ ، ثُمَّ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَخُصَّ الْحَاكِمُ

بَعْضَهُمْ بِالِاجْتِهَادِ أَوْ بِغَيْرِ اجْتِهَادٍ ، فَإِنْ خَصَّهُ بِالِاجْتِهَادِ فَعَلَيْهِ فِيهِ مَشَقَّةٌ ، وَرُبَّمَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مَعْرِفَةُ الْأَوْلَى مِنْهُمْ بِذَلِكَ ، فَيَتَعَذَّرُ الْإِيجَابُ ، وَإِنْ خَصَّهُ بِالتَّحَكُّمِ أَفْضَى إلَى أَنَّهُ يُخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يُوجِبَ عَلَى إنْسَانٍ شَيْئًا بِشَهْوَتِهِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ ، وَبَيْنَ أَنْ لَا يُوجِبَ عَلَيْهِ ، وَلَا نَظِيرَ لَهُ ، وَرُبَّمَا ارْتَشَى مِنْ بَعْضِهِمْ وَاتُّهِمَ ، وَرُبَّمَا امْتَنَعَ مَنْ فُرِضَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَدَائِهِ ؛ لِكَوْنِهِ يَرَى مِثْلَهُ لَا يُؤَدِّي شَيْئًا مَعَ التَّسَاوِي مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ .

( 6825 ) فَصْلٌ : وَمَنْ مَاتَ مِنْ الْعَاقِلَةِ ، أَوْ افْتَقَرَ ، أَوْ جُنَّ قَبْلَ الْحَوْلِ ، لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ .
لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ يَجِبُ فِي آخِرِ الْحَوْلِ عَلَى سَبِيلِ الْمُوَاسَاةِ ، فَأَشْبَهَ الزَّكَاةَ ، وَإِنْ وُجِدَ ذَلِكَ بَعْدَ الْحَوْلِ ، لَمْ يَسْقُطْ الْوَاجِبُ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ مَاتَ قَبْلَ الْحَوْلِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ حَقٌّ تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ ، لَا يَمْلِكُ إسْقَاطَهُ فِي حَيَاتِهِ ، فَأَشْبَهَ الدُّيُونَ ، وَفَارَقَ مَا قَبْلَ الْحَوْلِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ ، وَلَمْ يَسْتَمِرَّ الشَّرْطُ إلَى حِينِ الْوُجُوبِ .
فَأَمَّا إنْ كَانَ فَقِيرًا حَالَ الْقَتْلِ ، فَاسْتَغْنَى عِنْدَ الْحَوْلِ ، فَقَالَ الْقَاضِي : يَجِبُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ وَقْتَ الْوُجُوبِ ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِهِ .
وَيُخَرَّجُ عَلَى هَذَا مَنْ كَانَ صَبِيًّا فَبَلَغَ ، أَوْ مَجْنُونًا فَأَفَاقَ ، عِنْدَ الْحَوْلِ ، وَجَبَ عَلَيْهِ كَذَلِكَ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجِبَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْوُجُوبِ حَالَةَ السَّبَبِ ، فَلَمْ يَثْبُتْ الْحُكْمُ فِيهِ حَالَةَ الشَّرْطِ ، كَالْكَافِرِ إذَا مَلَكَ مَالًا ثُمَّ أَسْلَمَ عِنْدَ الْحَوْلِ ، لَمْ تَلْزَمْهُ الزَّكَاةُ فِيهِ .

( 6826 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَلَيْسَ عَلَى فَقِيرٍ مِنْ الْعَاقِلَةِ ، وَلَا امْرَأَةٍ ، وَلَا صَبِيٍّ ، وَلَا زَائِلِ الْعَقْلِ ، حَمْلُ شَيْءٍ مِنْ الدِّيَةِ ) أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ ، عَلَى أَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لَأَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ فِي تَحَمُّلِ الْعَقْلِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ ، وَالصَّبِيَّ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ ، لَا يَعْقِلَانِ مَعَ الْعَاقِلَةِ ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْفَقِيرَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ .
وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَحَكَى بَعْضُ أَصْحَابِنَا ، عَنْ مَالِكٍ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ ، أَنَّ لِلْفَقِيرِ مَدْخَلًا فِي التَّحَمُّلِ .
وَذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النُّصْرَةِ ، فَكَانَ مِنْ الْعَاقِلَةِ كَالْغَنِيِّ .
وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّ تَحَمُّلَ الْعَقْلِ مُوَاسَاةٌ ، فَلَا يَلْزَمُ الْفَقِيرَ كَالزَّكَاةِ ، وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ عَلَى الْعَاقِلَةِ تَخْفِيفًا عَنْ الْقَاتِلِ ، فَلَا يَجُوزُ التَّثْقِيلُ بِهَا عَلَى مَنْ لَا جِنَايَةَ مِنْهُ ، وَفِي إيجَابِهَا عَلَى الْفَقِيرِ تَثْقِيلٌ عَلَيْهِ ، وَتَكْلِيفٌ لَهُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّنَا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يُكَلَّفُ أَحَدٌ مِنْ الْعَاقِلَةِ مَا يَثْقُلُ عَلَيْهِ ، وَيُجْحِفُ بِهِ ، وَتَحْمِيلُ الْفَقِيرِ شَيْئًا مِنْهَا يَثْقُلُ عَلَيْهِ ، وَيُجْحِفُ بِمَالِهِ ، وَرُبَّمَا كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ جَمِيعَ مَالِهِ ، أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ ، أَوْ لَا يَكُونُ لَهُ شَيْءٌ أَصْلًا .
وَأَمَّا الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ وَالْمَرْأَةُ ، فَلَا يَحْمِلُونَ مِنْهَا ؛ لِأَنَّ فِيهَا مَعْنَى التَّنَاصُرِ ، وَلَيْسَ هُمْ مِنْ أَهْلِ النُّصْرَةِ .

( 6827 ) فَصْلٌ : وَيَعْقِلُ الْمَرِيضُ إذَا لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ الزَّمَانَةِ ، وَالشَّيْخُ إذَا لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ الْهَرَمِ ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ النُّصْرَةِ وَالْمُوَاسَاةِ ، وَفِي الزَّمِنِ وَالشَّيْخِ الْفَانِي وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا : لَا يَعْقِلَانِ ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ النُّصْرَةِ ؛ وَلِهَذَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا الْجِهَادُ ، وَلَا يُقْتَلَانِ إذَا كَانَا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ ، وَكَذَلِكَ يُخَرَّجُ فِي الْأَعْمَى ؛ لِأَنَّهُ مِثْلُهُمَا فِي هَذَا الْمَعْنَى .
وَالثَّانِي ، يَعْقِلُونَ ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمُوَاسَاةِ ؛ وَلِهَذَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ الزَّكَاةُ .
وَهَذَا يُنْتَقَضُ بِالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ .
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْفَصْلِ كُلِّهِ كَمَذْهَبِنَا .

( 6828 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَاقِلَةٌ ، أَخَذَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ ، فَلَيْسَ عَلَى الْقَاتِلِ شَيْءٌ ) الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي فَصْلَيْنِ : ( 6829 ) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ : أَنَّ مَنْ لَا عَاقِلَةَ لَهُ ، هَلْ يُؤَدِّي مِنْ بَيْتِ الْمَالِ أَوْ لَا ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ .
إحْدَاهُمَا ، يُؤَدَّى عَنْهُ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الزُّهْرِيِّ ، وَالشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَى الْأَنْصَارِيَّ الَّذِي قُتِلَ بِخَيْبَرَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ .
وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قُتِلَ فِي زِحَامٍ فِي زَمَنِ عُمَرَ ، فَلَمْ يُعْرَفْ قَاتِلُهُ ، فَقَالَ عَلِيٌّ لَعُمَرَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَا يُطَلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ .
فَأَدَّى دِيَتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ .
وَلِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَرِثُونَ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ ، فَيَعْقِلُونَ عَنْهُ عِنْدَ عَدَمِ عَاقِلَتِهِ ، كَعَصَبَاتِهِ وَمَوَالِيهِ .
وَالثَّانِيَةُ ، لَا يَجِبُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ بَيْتَ الْمَالِ فِيهِ حَقٌّ لِلنِّسَاءِ وَالصَّبِيَّانِ وَالْمَجَانِينِ وَالْفُقَرَاءِ وَلَا عَقْلَ عَلَيْهِمْ ، فَلَا يَجُوزُ صَرْفُهُ فِيمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ ، وَلِأَنَّ الْعَقْلَ عَلَى الْعَصَبَاتِ ، وَلَيْسَ بَيْتُ الْمَالِ عَصَبَةً ، وَلَا هُوَ كَعَصَبَةِ هَذَا ، فَأَمَّا قَتِيلُ الْأَنْصَارِ ، فَغَيْرُ لَازِمٍ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَتِيلُ الْيَهُودِ ، وَبَيْتُ الْمَالِ لَا يَعْقِلُ عَنْ الْكُفَّارِ بِحَالٍ ، وَإِنَّمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّهُمْ يَرِثُونَهُ .
قُلْنَا : لَيْسَ صَرْفُهُ إلَى بَيْتِ الْمَالِ مِيرَاثًا ، بَلْ هُوَ فَيْءٌ ، وَلِهَذَا يُؤْخَذُ مَالُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ إلَى بَيْتِ الْمَالِ ، وَلَا يَرِثُهُ الْمُسْلِمُونَ ، ثُمَّ لَا يَجِبُ الْعَقْلُ عَلَى الْوَارِثِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَصَبَةً ، وَيَجِبُ عَلَى الْعَصَبَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَارِثًا فَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى ، إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَاقِلَةٌ ، أُدِّيَتْ الدِّيَةُ عَنْهُ كُلُّهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ عَاقِلَةٌ لَا تَحْمِلُ

الْجَمِيعَ ، أُخِذَ الْبَاقِي مِنْ بَيْتِ الْمَالِ .
وَهَلْ تُؤَدَّى مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فِي دَفْعَةٍ وَاحِدَةٍ ، أَوْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا : فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ، عَلَى حَسْبِ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْعَاقِلَةِ .
وَالثَّانِي ، يُؤَدِّي دَفْعَةً وَاحِدَةً .
وَهَذَا أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَدَّى دِيَةَ الْأَنْصَارِيِّ دَفْعَةً وَاحِدَةً ، وَكَذَلِكَ عُمَرُ ، وَلِأَنَّ الدِّيَةَ بَدَلُ مُتْلَفٍ لَا تُؤَدِّيه الْعَاقِلَةُ ، فَيَجِبُ كُلُّهُ فِي الْحَالِ ، كَسَائِرِ بَدَلِ الْمُتْلَفَاتِ ، وَإِنَّمَا أَجَّلَ عَلَى الْعَاقِلَةِ تَخْفِيفًا عَنْهُمْ ، وَلَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ فِي بَيْتِ الْمَالِ ، وَلِهَذَا يُؤَدَّى الْجَمِيعُ ( 6830 ) الْفَصْلُ الثَّانِي : إذَا لَمْ يُمْكِنْ الْأَخْذُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ، فَلَيْسَ عَلَى الْقَاتِلِ شَيْءٌ .
وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ لَزِمَتْ الْعَاقِلَةَ ابْتِدَاءً ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُطَالَبُ بِهَا غَيْرُهُمْ ، وَلَا يُعْتَبَرُ تَحَمُّلُهُمْ وَلَا رِضَاهُمْ بِهَا ، وَلَا تَجِبُ عَلَى غَيْرِ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ ، كَمَا لَوْ عَدِمَ الْقَاتِلُ ، فَإِنَّ الدِّيَةَ لَا تَجِبُ عَلَى أَحَدٍ ، كَذَا هَاهُنَا .
فَعَلَى هَذَا ، إنَّ وُجِدَ بَعْضُ الْعَاقِلَةِ ، حُمِّلُوا بِقِسْطِهِمْ ، وَسَقَطَ الْبَاقِي ، فَلَا يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ ، وَيَتَخَرَّجُ أَنْ تَجِبَ الدِّيَةُ عَلَى الْقَاتِلِ إذَا تَعَذَّرَ حَمْلُهَا عَنْهُ .
وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ ؛ لِعُمُومِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ } .
وَلِأَنَّ قَضِيَّةَ الدَّلِيلِ وُجُوبُهَا عَلَى الْجَانِي جَبْرًا لِلْمَحَلِّ الَّذِي فَوَّتَهُ ، وَإِنَّمَا سَقَطَ عَنْ الْقَاتِلِ لِقِيَامِ الْعَاقِلَةِ مَقَامَهُ فِي جَبْرِ الْمَحَلِّ ، فَإِذَا لَمْ يُؤْخَذْ ذَلِكَ ، بَقِيَ وَاجِبًا عَلَيْهِ بِمُقْتَضَى الدَّلِيلِ ، وَلِأَنَّ الْأَمْرَ دَائِرٌ بَيْنَ أَنْ يُطَلَّ دَمُ الْمَقْتُولِ ، وَبَيْنَ إيجَابِ دِيَتِهِ عَلَى الْمُتْلِفِ ، لَا يَحُوزُ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّ فِيهِ مُخَالَفَةَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَقِيَاسِ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ ، فَتَعَيَّنَ

الثَّانِي ، وَلِأَنَّ إهْدَارَ الدَّمِ الْمَضْمُونِ لَا نَظِيرَ لَهُ ، وَإِيجَابُ الدِّيَةِ عَلَى قَاتِلِ الْخَطَأِ لَهُ نَظَائِرُ ، فَإِنَّ الْمُرْتَدَّ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَاقِلَةٌ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ ، وَالذِّمِّيَّ الَّذِي لَا عَاقِلَةَ لَهُ تَلْزَمُهُ الدِّيَةُ ، وَمَنْ رَمَى سَهْمًا ثُمَّ أَسْلَمَ ، أَوْ كَانَ مُسْلِمًا فَارْتَدَّ ، أَوْ كَانَ عَلَيْهِ الْوَلَاءُ لِمَوَالِي أُمِّهِ فَانْجَرَّ إلَى مَوَالِي أَبِيهِ ، ثُمَّ أَصَابَ بِسَهْمٍ إنْسَانًا فَقَتَلَهُ ، كَانَتْ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ ؛ لِتَعَذُّرِ حَمْلِ عَاقِلَتِهِ عَقْلَهُ ، كَذَلِكَ هَاهُنَا ، فَنُحَرِّرُ مِنْهُ قِيَاسًا فَنَقُولُ : قَتِيلٌ مَعْصُومٌ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، تَعَذَّرَ حَمْلُ عَاقِلَتِهِ عَقْلَهُ ، فَوَجَبَ عَلَى قَاتِلِهِ ، كَهَذِهِ الصُّورَةِ .
وَهَذَا أَوْلَى مِنْ إهْدَارِ دِمَاءِ الْأَحْرَارِ فِي أَغْلَبِ الْأَحْوَالِ ، فَإِنَّهُ لَا يَكَادُ يُوجَدُ عَاقِلَةٌ تَحْمِلُ الدِّيَةَ كُلَّهَا ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الْأَخْذِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ، فَتَضِيعُ الدِّمَاءُ ، وَيَفُوتُ حُكْمُ إيجَابِ الدِّيَةِ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ ابْتِدَاءً .
مَمْنُوعٌ ، وَإِنَّمَا تَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ ، ثُمَّ تَتَحَمَّلُهَا الْعَاقِلَةُ عَنْهُ .
وَإِنْ سَلَّمْنَا وُجُوبَهَا عَلَيْهِمْ ابْتِدَاءً ، لَكِنَّ مَعَ وُجُودِهِمْ ، أَمَّا مَعَ عَدَمِهِمْ ، فَلَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِوُجُوبِهَا عَلَيْهِمْ .
ثُمَّ مَا ذَكَرُوهُ مَنْقُوضٌ بِمَا أَبْدَيْنَاهُ مِنْ الصُّوَرِ .
فَعَلَى هَذَا ، تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى الْقَاتِلِ إنْ تَعَذَّرَ حَمْلُ جَمِيعِهَا ، أَوْ بَاقِيهَا إنْ حَمَلَتْ الْعَاقِلَةُ بَعْضَهَا .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( 6831 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَدِيَةُ الْحُرِّ الْكِتَابِيِّ نِصْفُ دِيَةِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ ، وَنِسَاؤُهُمْ ، عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَاتِهِمْ ) هَذَا ظَاهِرُ الْمَذْهَبُ .
وَهُوَ مَذْهَبُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَعُرْوَةَ ، وَمَالِكٍ ، وَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ .
وَعَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهَا ثُلُثُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ .
إلَّا أَنَّهُ رَجَعَ عَنْهَا ، فَإِنَّ صَالِحًا رُوِيَ عَنْهُ ، أَنَّهُ قَالَ : كُنْت أَقُولُ : دِيَةَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ أَرْبَعَةُ آلَافٍ ، وَأَنَا الْيَوْمَ أَذْهَبُ إلَى نِصْفِ دِيَةِ الْمُسْلِمِ ، حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، وَحَدِيثُ عُثْمَانَ الَّذِي يَرْوِيه الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ .
وَهَذَا صَرِيحٌ فِي الرُّجُوعِ عَنْهُ .
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ ، أَنَّ دِيَتَهُ أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ .
وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَعَطَاءٌ ، وَالْحَسَنُ ، وَعِكْرِمَةُ ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ؛ لِمَا رَوَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { دِيَةُ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ ، أَرْبَعَةُ آلَافٍ ، أَرْبَعَةُ آلَافٍ } .
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَعَلَ دِيَةَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ أَرْبَعَةَ آلَافٍ ، وَدِيَةَ الْمَجُوسِيِّ ثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ .
وَقَالَ عَلْقَمَةُ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ : دِيَتُهُ كَدِيَةِ الْمُسْلِمِ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ ، وَعُثْمَانَ ، وَابْنِ مَسْعُودٍ ، وَمُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : هُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالزُّهْرِيِّ ؛ لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { دِيَةُ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ مِثْلُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ .
} وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ دِيَةَ الْمُسْلِمِ ، فَقَالَ : { وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ } .
وَقَالَ فِي الذِّمِّيِّ مِثْلُ ذَلِكَ ، وَلَمْ يُفَرِّقْ ، فَدَلَّ عَلَى

أَنَّ دِيَتَهُمَا وَاحِدَةٌ ، وَلِأَنَّهُ ذَكَرٌ حُرٌّ مَعْصُومٌ ، فَتَكْمُلُ دِيَتُهُ كَالْمُسْلِمِ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { دِيَةُ الْمُعَاهَدِ نِصْفُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ } .
وَفِي لَفْظٍ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى أَنَّ عَقْلَ الْكِتَابِيِّ نِصْفُ عَقْلِ الْمُسْلِم } .
رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ .
وَفِي لَفْظٍ : { دِيَةُ الْمُعَاهَدِ نِصْفُ دِيَةِ الْحُرِّ } .
قَالَ الْخَطَّابِيُّ : لَيْسَ فِي دِيَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ شَيْءٌ أَثْبَتُ مِنْ هَذَا ، وَلَا بَأْسَ بِإِسْنَادِهِ .
وَقَدْ قَالَ بِهِ أَحْمَدُ ، وَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى ، وَلِأَنَّهُ نَقْصٌ مُؤَثِّرٌ فِي الدِّيَةِ ، فَأَثَّرَ فِي تَنْصِيفِهَا كَالْأُنُوثَةِ .
وَأَمَّا حَدِيثُ عُبَادَةَ ، فَلَمْ يَذْكُرْهُ أَهْلُ السُّنَنِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَيْسَ بِصَحِيحِ .
وَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ ، فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ حِينَ كَانَتْ الدِّيَةُ ثَمَانِيَةَ آلَافٍ ، فَأَوْجَبَ فِيهِ نِصْفَهَا أَرْبَعَةَ آلَافٍ ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ مَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، قَالَ : كَانَتْ قِيمَةُ الدِّيَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَمَانِمِائَةِ دِينَارٍ ، أَوْ ثَمَانِيَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ ، وَدِيَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ يَوْمَئِذٍ النِّصْفُ .
فَهَذَا بَيَانٌ وَشَرْحٌ مُزِيلٌ لِلْإِشْكَالِ ، فَفِيهِ جَمْعٌ لِلْأَحَادِيثِ ، فَيَكُونُ دَلِيلًا لَنَا ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ ، لَكَانَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقَدَّمًا عَلَى قَوْلِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ ، بِغَيْرِ إشْكَالٍ ، فَقَدْ كَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا بَلَغَهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُنَّةٌ ، تَرَكَ قَوْلَهُ ، وَعَمِلَ بِهَا ، فَكَيْفَ ، يَسُوغُ لَأَحَدٍ أَنْ يَحْتَجَّ بِقَوْلِهِ فِي تَرْكِ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَمَّا مَا احْتَجَّ بِهِ الْآخَرُونَ ، فَإِنَّ الصَّحِيحَ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ مَا

رَوَيْنَاهُ ، أَخْرَجَهُ الْأَئِمَّةُ فِي كُتُبِهِمْ ، دُونَ مَا رَوَوْهُ .
وَأَمَّا مَا رَوَوْهُ مِنْ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُمْ خِلَافُهُ فَنَحْمِلُ قَوْلَهُمْ فِي إيجَابِ الدِّيَةِ كَامِلَةً عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيظِ .
قَالَ أَحْمَدُ : إنَّمَا غَلَّظَ عُثْمَانُ الدِّيَةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ عَمْدًا ، فَلَمَّا تَرَكَ الْقَوَدَ غَلَّظَ عَلَيْهِ .
وَكَذَلِكَ حَدِيثُ مُعَاوِيَةَ ، وَمِثْلُ هَذَا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ نَحَرَ رَقِيقُ حَاطِبٍ نَاقَةً لَرَجُلٍ مُزَنِيٍّ ، فَقَالَ لَحَاطِبٍ : إنِّي أَرَاك تُجِيعُهُمْ ، لَأُغَرِّمَنَّك غُرْمًا يَشُقُّ عَلَيْك .
فَأَغْرَمَهُ مِثْلَيْ قِيمَتِهَا .
فَأَمَّا دِيَاتُ نِسَائِهِمْ ، فَعَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَاتِهِمْ ، لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ دِيَةَ الْمَرْأَةِ نِصْفُ دِيَةِ الرَّجُلِ .
وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ دِيَةُ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَاتِهِمْ ، كَذَلِكَ نِسَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَاتِهِمْ .

( 6832 ) فَصْلٌ : وَجِرَاحَاتُهُمْ مِنْ دِيَاتِهِمْ كَجِرَاحِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ دِيَاتِهِمْ ، وَتُغَلَّظُ دِيَاتُهُمْ بِاجْتِمَاعِ الْحُرُمَاتِ ، عِنْدَ مَنْ يَرَى تَغْلِيظَ دِيَاتِ الْمُسْلِمِينَ ، بِهَا كَتَغْلِيظِ دِيَاتِ الْمُسْلِمِينَ .
قَالَ حَرْبٌ : قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : فَإِنْ قَتَلَ ذِمِّيًّا فِي الْحَرَمِ ؟ قَالَ : يُزَادُ أَيْضًا عَلَى قَدْرِهِ ، كَمَا يُزَادُ عَلَى الْمُسْلِمِ .
وَقَالَ الْأَثْرَمُ : قِيلَ لِأَبِي عَبْدَ اللَّهِ : جَنَى عَلَى مَجُوسِيٍّ فِي عَيْنِهِ وَفِي يَدِهِ ؟ قَالَ : يَكُونُ بِحِسَابِ دِيَتِهِ ، كَمَا أَنَّ الْمُسْلِمَ يُؤْخَذُ بِالْحِسَابِ ، فَكَذَلِكَ هَذَا .
قِيلَ : قَطَعَ يَدَهُ ؟ قَالَ : بِالنِّصْفِ مِنْ دِيَتِهِ .

( 6833 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( فَإِنْ قَتَلُوهُ عَمْدًا ، أُضْعِفَتْ الدِّيَةُ عَلَى قَاتِلِهِ الْمُسْلِمِ ؛ لِإِزَالَةِ الْقَوَدِ ) هَكَذَا حَكَمَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
هَذَا يُرْوَى عَنْ عُثْمَانَ رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ ، عَنْ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ ، أَنَّ رَجُلًا قَتَلَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ ، فَرُفِعَ إلَى عُثْمَانَ ، فَلَمْ يَقْتُلْهُ ، وَغَلَّظَ عَلَيْهِ أَلْفَ دِينَارٍ .
فَصَارَ إلَيْهِ أَحْمَدُ اتِّبَاعًا وَلَهُ .
نَظَائِرُ فِي مَذْهَبِهِ ؛ فَإِنَّهُ أَوْجَبَ عَلَى الْأَعْوَرِ لَمَّا قَلَعَ عَيْنَ الصَّحِيحِ دِيَةً كَامِلَةً ، حِينَ دَرَأَ الْقِصَاصَ عَنْهُ ، وَأَوْجَبَ عَلَى سَارِقِ التَّمْرِ مِثْلَيْ قِيمَتِهِ ، حِينَ دَرَأَ عَنْهُ الْقَطْعَ .
وَهَذَا حُكْمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَارِقِ التَّمْرِ .
فَيَثْبُتُ مِثْلُهُ هَاهُنَا .
وَلَوْ كَانَ الْقَاتِلُ ذِمِّيًّا ، أَوْ قَتَلَ ذِمِّيٌّ مُسْلِمًا ، لَمْ تُضَعَّفْ الدِّيَةُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ عَلَيْهِ وَاجِبٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ .
وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ دِيَةَ الذِّمِّيِّ لَا تُضَاعَفُ بِالْعَمْدِ ؛ لِعُمُومِ الْأَثَرِ فِيهَا ، وَلِأَنَّهَا دِيَةٌ وَاجِبَةٌ ، فَلَمْ تُضَاعَفْ ، كَدِيَةِ الْمُسْلِمِ ، أَوْ كَمَا لَوْ كَانَ الْقَاتِلُ ذِمِّيًّا .
وَلَا فَرْقَ فِي الدِّيَةِ بَيْن الذِّمِّيِّ وَبَيْنَ الْمُسْتَأْمِنِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كِتَابِيٌّ مَعْصُومُ الدَّمِ .
وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ وَالْحَرْبِيُّ ، فَلَا دِيَةَ لَهُمَا ؛ لِعَدَمِ الْعِصْمَةِ فِيهِمَا .

( 6834 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَدِيَةُ الْمَجُوسِيِّ ثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ ، وَنِسَاؤُهُمْ عَلَى النِّصْفِ ) وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
قَالَ أَحْمَدُ : مَا أَقَلَّ مَا اُخْتُلِفَ فِي دِيَةِ الْمَجُوسِيِّ .
وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ عُمَرُ ، وَعُثْمَانُ ، وَابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ ، وَعَطَاءٌ ، وَعِكْرِمَةُ ، وَالْحَسَنُ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ .
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، أَنَّهُ قَالَ : دِيَتُهُ نِصْفُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ ، كَدِيَةِ الْكِتَابِيِّ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ } .
وَقَالَ النَّخَعِيُّ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ : دِيَتُهُ كَدِيَةِ الْمُسْلِمِ ؛ لِأَنَّهُ آدَمِيٌّ حُرٌّ مَعْصُومٌ ، فَأَشْبَهَ الْمُسْلِمَ .
وَلَنَا ، قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ ، وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُمْ فِي عَصْرِهِمْ مُخَالِفًا ، فَكَانَ إجْمَاعًا .
وَقَوْلُهُ : { سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ } .
يَعْنِي فِي أَخْذِ جِزْيَتِهِمْ ، وَحَقْنِ دِمَائِهِمْ ، بِدَلِيلِ أَنَّ ذَبَائِحَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ لَا تَحِلُّ لَنَا ، وَلَا يَجُوزُ اعْتِبَارُهُ بِالْمُسْلِمِ وَلَا الْكِتَابِيِّ ، لِنُقْصَانِ دِيَتِهِ وَأَحْكَامِهِ عَنْهُمَا ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَنْقُصَ دِيَتُهُ ، كَنَقْصِ الْمَرْأَةِ عَنْ دِيَةِ الرَّجُلِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَجُوسِيُّ ذِمِّيًّا أَوْ مُسْتَأْمِنًا ؛ لِأَنَّهُ مَحْقُونُ الدَّمِ .
وَنِسَاؤُهُمْ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَاتِهِمْ بِإِجْمَاعٍ .
وَجِرَاحُ كُلِّ وَاحِدٍ مُعْتَبَرَةٌ مِنْ دِيَتِهِ .
وَإِنْ قُتِلُوا عَمْدًا ، أُضْعِفَتْ الدِّيَةُ عَلَى الْقَاتِلِ الْمُسْلِمِ ؛ لِإِزَالَةِ الْقَوَدِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، قِيَاسًا عَلَى الْكِتَابِيِّ .

( 6835 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ ، وَسَائِرِ مَنْ لَا كِتَابَ لَهُ ، كَالتُّرْكِ ، وَمَنْ عَبَدَ مَا اسْتَحْسَنَ ، فَلَا دِيَةَ لَهُمْ وَإِنَّمَا تُحْقَنُ دِمَاؤُهُمْ بِالْأَمَانِ ، فَإِذَا قُتِلَ مَنْ لَهُ أَمَانٌ مِنْهُمْ ، فَدِيَتُهُ دِيَةُ مَجُوسِيٍّ ؛ لِأَنَّهَا أَقَلُّ الدِّيَاتِ ، فَلَا تَنْقُصُ عَنْهَا ، وَلِأَنَّهُ كَافِرٌ ذُو عَهْدٍ لَا تَحِلُّ مُنَاكَحَتُهُ ، فَأَشْبَهَ الْمَجُوسِيَّ .

( 6836 ) فَصْلٌ : وَمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ مِنْ الْكُفَّارِ إنْ وُجِدَ ، لَمْ يَجُزْ قَتْلُهُ حَتَّى يُدْعَى ، فَإِنْ قُتِلَ قَبْلَ الدَّعْوَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْطَى أَمَانًا ، فَلَا ضَمَانَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا عَهْدَ لَهُ وَلَا أَيْمَانَ ، فَأَشْبَهَ امْرَأَةَ الْحَرْبِيِّ وَابْنَهُ الصَّغِيرَ ، وَإِنَّمَا حَرُمَ قَتْلُهُ لِتَبْلُغَهُ الدَّعْوَةُ .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : يَضْمَنُ بِمَا يَضْمَنُ بِهِ أَهْلُ دِينِهِ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ مَحْقُونُ الدَّمِ ، أَشْبَهَ مَنْ لَهُ أَمَانٌ .
وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ؛ فَإِنَّ هَذَا يَنْتَقِضُ بِصِبْيَانِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَمَجَانِينِهِمْ ، وَلِأَنَّهُ كَافِرٌ لَا عَهْدَ لَهُ ، فَلَمْ يَضْمَنْ ، كَالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ .
فَأَمَّا إذَا كَانَ لَهُ عَهْدٌ ، فَلَهُ دِيَةُ أَهْلِ دِينِهِ ، فَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ دِينُهُ ، فَفِيهِ دِيَةُ الْمَجُوسِيِّ ؛ لِأَنَّهُ الْيَقِينُ ، وَمَا زَادَ مَشْكُوكٌ فِيهِ .

( 6837 ) مَسْأَلَةٌ : ؛ قَالَ : ( وَدِيَةُ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ ، نِصْفُ دِيَةِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ ) قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ دِيَةَ الْمَرْأَةِ نِصْفُ دِيَةِ الرَّجُلِ .
وَحَكَى غَيْرُهُمَا عَنْ ابْنِ عُلَيَّةَ ، وَالْأَصَمِّ ، أَنَّهُمَا قَالَا : دِيَتُهَا كَدِيَةِ الرَّجُلِ ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { فِي نَفْسِ الْمُؤْمِنَةِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ } .
وَهَذَا قَوْلٌ شَاذٌّ ، يُخَالِفُ إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ ، وَسُنَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ فِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ : { دِيَةُ الْمَرْأَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ } .
وَهِيَ أَخَصُّ مِمَّا ذَكَرُوهُ ، وَهُمَا فِي كِتَابٍ وَاحِدٍ ، فَيَكُونُ مَا ذَكَرْنَا مُفَسِّرًا لِمَا ذَكَرُوهُ ، مُخَصَّصًا لَهُ ، وَدِيَةُ نِسَاءِ كُلِّ أَهْلِ دِينٍ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ رِجَالِهِمْ ، عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فِي مَوْضِعه .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71