الكتاب : المغني
المؤلف : أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد ، الشهير بابن قدامة المقدسي

( 2704 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَإِذَا أَحْرَمَتْ الْمَرْأَةُ لِوَاجِبِ ، لَمْ يَكُنْ لِزَوْجِهَا مَنْعُهَا ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا أَحْرَمَتْ بِالْحَجِّ الْوَاجِبِ ، أَوْ الْعُمْرَةِ الْوَاجِبَةِ ، وَهِيَ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ وَعُمْرَتُهُ ، أَوْ الْمَنْذُورُ مِنْهُمَا ، فَلَيْسَ لِزَوْجِهَا مَنْعُهَا مِنْ الْمُضِيِّ فِيهَا ، وَلَا تَحْلِيلُهَا ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ مِنْهُمْ أَحْمَدُ وَالنَّخَعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ لَهُ ، وَقَالَ فِي الْآخَرِ : لَهُ مَنْعُهَا .
لِأَنَّ الْحَجَّ عِنْدَهُ عَلَى التَّرَاخِي ، فَلَمْ يَتَعَيَّنْ فِي هَذَا الْعَامِ .
وَلَيْسَ هَذَا بِصَحِيحٍ ، فَإِنَّ الْحَجَّ الْوَاجِبَ يَتَعَيَّنُ بِالشُّرُوعِ فِيهِ ، فَيَصِيرُ كَالصَّلَاةِ إذَا أَحْرَمْت بِهَا فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا وَقَضَاءِ رَمَضَانَ إذَا شَرَعْت فِيهِ ، وَلِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ مُسْتَمِرٌّ عَلَى الدَّوَامِ ، فَلَوْ مَلَكَ مَنْعَهَا فِي هَذَا الْعَامِ لَمَلَكَهُ فِي كُلِّ عَامٍ ، فَيُفْضِي إلَى إسْقَاطِ أَحَدِ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ ، بِخِلَافِ الْعِدَّةِ ، فَإِنَّهَا لَا تَسْتَمِرُّ .
فَأَمَّا إنْ أَحْرَمْت بِتَطَوُّعِ ، فَلَهُ تَحْلِيلُهَا وَمَنْعُهَا مِنْهُ ، فِي ظَاهِرِ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ .
وَقَالَ الْقَاضِي : لَيْسَ لَهُ تَحْلِيلُهَا ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ فِيهِ ، فَلَا يَمْلِكُ الزَّوْجُ تَحْلِيلَهَا ، كَالْحَجِّ الْمَنْذُورِ .
وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ ، فِي امْرَأَةٍ تَحْلِفُ بِالصَّوْمِ أَوْ بِالْحَجِّ ، وَلَهَا زَوْجٌ : لَهَا أَنْ تَصُومَ بِغَيْرِ إذْنِ زَوْجِهَا ، مَا تَصْنَعُ ، قَدْ اُبْتُلِيَتْ وَابْتُلِيَ زَوْجُهَا .
وَلَنَا ، أَنَّهُ تَطَوُّعٌ يُفَوِّتُ حَقَّ غَيْرِهَا مِنْهَا ، أَحْرَمَتْ بِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، فَمَلَكَ تَحْلِيلَهَا مِنْهُ ، كَالْأَمَةِ تُحْرِمُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهَا ، وَالْمَدِينَةِ تُحْرِمُ بِغَيْرِ إذْنِ غَرِيمِهَا عَلَى وَجْهٍ يَمْنَعُهُ إيفَاءَ دَيْنِهِ الْحَالِّ عَلَيْهَا ، وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ تَمْنَعُ الْمُضِيَّ فِي الْإِحْرَامِ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ، فَحَقُّ الْآدَمِيِّ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ أَضْيَقُ ،

لِشُحِّهِ وَحَاجَتِهِ ، وَكَرَمِ اللَّهِ تَعَالَى وَغِنَاهُ .
وَكَلَامُ أَحْمَدَ لَا يَتَنَاوَلُ مَحِلَّ النِّزَاعِ ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا ، أَنَّهُ فِي الصَّوْمِ ، وَتَأْثِيرُ الصَّوْمِ فِي مَنْعِ حَقِّ الزَّوْجِ يَسِيرٌ ، فَإِنَّهُ فِي النَّهَارِ دُونَ اللَّيْلِ .
وَلَوْ حَلَفَتْ بِالْحَجِّ فَلَهُ مَنْعُهَا ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ لَا يَتَعَيَّنُ فِي نَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ ، بَلْ هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ فِعْلِهِ وَالتَّكْفِيرِ ، فَلَهُ مَنْعُهَا مِنْهُ قَبْلَ إحْرَامِهَا بِكُلِّ حَالٍ ، بِخِلَافِ الصَّوْمِ .
وَالثَّانِي ، أَنَّ الصَّوْمَ إذَا وَجَبَ صَارَ كَالْمَنْذُورِ ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ ، وَالشُّرُوعُ هَاهُنَا عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ حُرْمَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى صَاحِبِ الْحَقِّ .
فَأَمَّا إنْ كَانَتْ الْحَجَّةُ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ ، لَكِنْ لَمْ تَكْمُلْ شُرُوطُهَا لِعَدَمِ الِاسْتِطَاعَةِ ، فَإِنَّ لَهُ مَنْعَهَا مِنْ الْخُرُوجِ إلَيْهَا وَالتَّلَبُّسِ بِهَا ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَيْهَا .
وَإِنْ أَحْرَمَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَمْ يَمْلِكْ تَحْلِيلَهَا ؛ لِأَنَّ مَا أَحْرَمَتْ بِهِ يَقَعُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ الْوَاجِبَةِ بِأَصْلِ الشَّرْعِ ، كَالْمَرِيضِ إذَا تَكَلَّفَ حُضُورَ الْجُمُعَةِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّ لَهُ تَحْلِيلَهَا ؛ لِأَنَّهُ فَقَدَ شَرْطَ وُجُوبِهَا ، فَأَشْبَهَتْ حَجَّةَ الْأَمَةِ وَالصَّغِيرَةِ ، فَإِنَّهُ لَمَّا فَقَدَتْ الْحُرِّيَّةَ أَوْ الْبُلُوغَ ، مَلَكَ مَنْعَهَا ، وَلِأَنَّهَا لَيْسَتْ وَاجِبَةً عَلَيْهَا ، فَأَشْبَهَتْ سَائِرَ التَّطَوُّعِ .
( 2705 ) فَصْلٌ : وَأَمَّا قَبْلَ الْإِحْرَامِ ، فَلَيْسَ لِلزَّوْجِ مَنْعُ امْرَأَتِهِ مِنْ الْمُضِيِّ إلَى الْحَجِّ الْوَاجِبِ عَلَيْهَا ، إذَا كَمَّلَتْ شُرُوطَهُ ، وَكَانَتْ مُسْتَطِيعَةً ، وَلَهَا مَحْرَمٌ يَخْرُجُ مَعَهَا ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ ، وَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا مِنْ الْوَاجِبَاتِ ، كَمَا لَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا مِنْ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ .
وَإِنْ لَمْ تَكْمُلْ شُرُوطُهُ ، فَلَهُ مَنْعُهَا مِنْ الْمُضِيِّ إلَيْهِ وَالشُّرُوعِ فِيهِ ، وَلِأَنَّهَا تُفَوِّتُ حَقَّهُ بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبِ عَلَيْهَا ،

فَمَلَكَ مَنْعَهَا ، كَمَنْعِهَا مِنْ صِيَامِ التَّطَوُّعِ .
وَلَهُ مَنْعُهَا مِنْ الْخُرُوجِ إلَى حَجِّ التَّطَوُّع وَالْإِحْرَامِ بِهِ ، بِغَيْرِ خِلَافٍ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ قَوْلَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، عَلَى أَنَّ لِلرَّجُلِ مَنْعَ زَوْجَتِهِ مِنْ الْخُرُوجِ إلَى حَجِّ التَّطَوُّعِ .
وَلِأَنَّهُ تَطَوُّعٌ يُفَوِّتُ حَقَّ زَوْجِهَا ، فَكَانَ لِزَوْجِهَا مَنْعُهَا مِنْهُ ، كَالِاعْتِكَافِ .
فَإِنْ أُذْنَ لَهَا فِيهِ ، فَلَهُ الرُّجُوعُ مَا لَمْ تَتَلَبَّسْ بِإِحْرَامِهِ ، فَإِنْ تَلَبَّسَتْ بِالْإِحْرَامِ ، أَوْ أَذِنَ لَهَا ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهِ ، وَلَا تَحْلِيلُهَا مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ ، فَصَارَ كَالْوَاجِبِ الْأَصْلِيِّ .
فَإِنْ رَجَعَ قَبْلَ إحْرَامِهَا ، ثُمَّ أَحْرَمَتْ بِهِ ، فَهُوَ كَمَنْ لَمْ يَأْذَنْ .
وَإِذَا قُلْنَا : بِتَحْلِيلِهَا .
فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْمُحْصَرِ ، يَلْزَمُهَا الْهَدْيُ ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ صَامَتْ ، ثُمَّ حَلَّتْ .

( 2706 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أَحْرَمَتْ بِوَاجِبِ ، فَحَلَفَ زَوْجُهَا بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ أَنْ لَا تَحُجَّ الْعَامَ ، فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَحِلَّ ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ مُبَاحٌ ، فَلَيْسَ لَهَا تَرْكُ فَرَائِضِ اللَّهِ خَوْفًا مِنْ الْوُقُوعِ فِيهِ .
وَنَقَلَ مُهَنَّا عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، فَقَالَ : قَالَ عَطَاءٌ : الطَّلَاقُ هَلَاكٌ ، هِيَ بِمَنْزِلَةِ الْمُحْصَرِ .
وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ مَنْصُورٍ ، أَنَّهُ أَفْتَى السَّائِلَ أَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْمُحْصَرِ .
وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ عَطَاءٍ ، فَرَوَاهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
ذَهَبَ إلَى هَذَا لِأَنَّ ضَرَرَ الطَّلَاقِ عَظِيمٌ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ خُرُوجِهَا مِنْ بَيْتِهَا ، وَمُفَارَقَةِ زَوْجِهَا وَوَلَدِهَا ، وَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ أَعْظَمَ عِنْدَهَا مِنْ ذَهَابِ مَالِهَا ، وَهَلَاكِ سَائِرِ أَهْلِهَا ، وَلِذَلِكَ سَمَّاهُ عَطَاءٌ هَلَاكًا .
وَلَوْ مَنَعَهَا عَدُوٌّ مِنْ الْحَجِّ إلَّا أَنْ تَدْفَعَ إلَيْهِ مَالَهَا ، كَانَ ذَلِكَ حَصْرًا ، فَهَاهُنَا أَوْلَى .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

( 2707 ) فَصْلٌ : وَلَيْسَ لِلْوَالِدِ مَنْعُ وَلَدِهِ مِنْ الْحَجِّ الْوَاجِبِ ، وَلَا تَحْلِيلُهُ مِنْ إحْرَامِهِ ، وَلَيْسَ لِلْوَلَدِ طَاعَتُهُ فِي تَرْكِهِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى } وَلَهُ مَنْعُهُ مِنْ الْخُرُوجِ إلَى التَّطَوُّعِ ، فَإِنَّ لَهُ مَنْعَهُ مِنْ الْغَزْوِ ، وَهُوَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ ، فَالتَّطَوُّعُ أَوْلَى .
فَإِنْ أَحْرَمَ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، لَمْ يَمْلِكْ تَحْلِيلَهُ ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ بِالدُّخُولِ فِيهِ ، فَصَارَ كَالْوَاجِبِ ابْتِدَاءً ، أَوْ كَالْمَنْذُورِ .

مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَمَنْ سَاقَ هَدْيًا وَاجِبًا ، فَعَطِبَ دُونَ مَحِلِّهِ ، صَنَعَ بِهِ مَا شَاءَ ، وَعَلَيْهِ مَكَانَهُ ) الْوَاجِبُ مِنْ الْهَدْيِ قِسْمَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، وَجَبَ بِالنَّذْرِ فِي ذِمَّتِهِ .
وَالثَّانِي ، وَجَبَ بِغَيْرِهِ ، كَدَمِ التَّمَتُّعِ ، وَالْقِرَانِ ، وَالدِّمَاءِ الْوَاجِبَةِ بِتَرْكِ وَاجِبٍ ، أَوْ فِعْلِ مَحْظُورٍ .
وَجَمِيعُ ذَلِكَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا ، أَنْ يَسُوقَهُ يَنْوِي بِهِ الْوَاجِبَ الَّذِي عَلَيْهِ ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعَيِّنَهُ بِالْقَوْلِ ، فَهَذَا لَا يَزُولُ مِلْكُهُ عَنْهُ إلَّا بِذَبْحِهِ ، وَدَفْعِهِ إلَى أَهْلِهِ ، وَلَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِمَا شَاءَ مِنْ بَيْعٍ ، وَهِبَةٍ ، وَأَكْلٍ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ حَقُّ غَيْرِهِ بِهِ ، وَلَهُ نَمَاؤُهُ ، وَإِنْ عَطِبَ تَلِفَ مِنْ مَالِهِ ، وَإِنْ تَعَيَّبَ لَمْ يُجْزِئْهُ ذَبْحُهُ ، وَعَلَيْهِ الْهَدْيُ الَّذِي كَانَ وَاجِبًا ، فَإِنَّ وُجُوبَهُ فِي الذِّمَّةِ ، فَلَا يَبْرَأُ مِنْهُ إلَّا بِإِيصَالِهِ إلَى مُسْتَحِقِّهِ ، بِمَنْزِلَةِ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَحَمَلَهُ إلَى مُسْتَحِقِّهِ ، يَقْصِدُ دَفْعَهُ إلَيْهِ فَتَلِفَ قَبْلَ أَنْ يُوصِلَهُ إلَيْهِ .
الضَّرْبُ الثَّانِي ، أَنْ يُعَيِّنَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ بِالْقَوْلِ ، فَيَقُولَ : هَذَا الْوَاجِبُ عَلَيَّ .
فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ الْوُجُوبُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَبْرَأَ الذِّمَّةُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَوْجَبَ هَدْيًا وَلَا هَدْيَ عَلَيْهِ لَتَعَيَّنَ ، فَإِذَا كَانَ وَاجِبًا فَعَيَّنَهُ فَكَذَلِكَ ، إلَّا أَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ ، فَإِنْ عَطِبَ ، أَوْ سُرِقَ ، أَوْ ضَلَّ ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ ، لَمْ يُجْزِهِ ، وَعَادَ الْوُجُوبُ إلَى ذِمَّتِهِ ، كَمَا لَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَيْهِ دَيْنٌ ، فَاشْتَرَى بِهِ مِنْهُ مَكِيلًا ، فَتَلِفَ قَبْلَ قَبْضِهِ ، انْفَسَخَ الْبَيْعُ ، وَعَادَ الدَّيْنُ إلَى ذِمَّتِهِ ، وَلِأَنَّ ذِمَّتَهُ لَمْ تَبْرَأْ مِنْ الْوَاجِبِ بِتَعْيِينِهِ ، وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ الْوُجُوبُ بِمَحَلٍّ آخَرَ ، فَصَارَ كَالدِّينِ يَضْمَنُهُ ضَامِنٌ ، أَوْ يَرْهَنُ بِهِ رَهْنًا ، فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ الْحَقُّ بِالضَّامِنِ وَالرَّهْنِ مَعَ بَقَائِهِ فِي ذِمَّةِ

الْمَدِينِ ، فَمَتَى تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الضَّامِنِ ، أَوْ تَلِفَ الرَّهْنُ ، بَقِيَ الْحَقُّ فِي الذِّمَّةِ بِحَالِهِ .
وَهَذَا كُلُّهُ لَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا .
وَإِنْ ذَبَحَهُ ، فَسُرِقَ ، أَوْ عَطِبَ ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ .
قَالَ أَحْمَدُ : إذَا نَحَرَ فَلَمْ يُطْعِمْهُ حَتَّى سُرِقَ ، لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، فَإِنَّهُ إذَا نَحَرَ فَقَدْ فَرَغَ .
وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ وَابْنُ الْقَاسِمِ صَاحِبُ مَالِكٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوصِلْ الْحَقَّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَذْبَحْهُ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ أَدَّى الْوَاجِبَ عَلَيْهِ ، فَبَرِئَ مِنْهُ ، كَمَا لَوْ فَرَّقَهُ .
وَدَلِيلُ أَنَّهُ أَدَّى الْوَاجِبَ ، أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ إلَّا التَّفْرِقَةُ ، وَلَيْسَتْ وَاجِبَةً ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ خَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفُقَرَاءِ أَجْزَأَهُ ، وَلِذَلِكَ { لَمَّا نَحَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَدَنَاتِ ، قَالَ : مَنْ شَاءَ اقْتَطَعَ } .
وَإِذَا عَطِبَ هَذَا الْمُعَيَّنُ ، أَوْ تَعَيَّبَ عَيْبًا يَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ ، لَمْ يُجْزِهِ ذَبْحُهُ عَمَّا فِي الذِّمَّةِ ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ هَدْيًا سَلِيمًا وَلَمْ يُوجَدْ ، وَعَلَيْهِ مَكَانَهُ ، وَيَرْجِعُ هَذَا الْهَدْيُ إلَى مِلْكِهِ ، فَيَصْنَعُ بِهِ مَا شَاءَ ، مِنْ أَكْلٍ ، أَوْ بَيْعٍ وَهِبَةٍ ، وَصَدَقَةٍ ، وَغَيْرِهِ .
هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَحْمَدَ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَإِسْحَاقَ ، وَأَبِي ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَنَحْوِهِ عَنْ عَطَاءٍ .
وَقَالَ مَالِكٌ : يَأْكُلُ ، وَيُطْعِمُ مَنْ أَحَبَّ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ وَالْفُقَرَاءِ ، وَلَا يَبِيعُ مِنْهُ شَيْئًا .
وَلَنَا ، مَا رَوَى سَعِيدٌ ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسِ ، قَالَ : إذَا أَهْدَيْت هَدْيًا تَطَوُّعًا ، فَعَطِبَ ، فَانْحَرْهُ ، ثُمَّ اغْمِسْ النَّعْلَ فِي دَمِهِ ، ثُمَّ اضْرِبْ بِهَا صَفْحَتَهُ ، فَإِنْ أَكَلْت أَوْ أَمَرْت بِهِ عَرَّفْت ، وَإِذَا أَهْدَيْت هَدْيًا وَاجِبًا فَعَطِبَ فَانْحَرْهُ ، ثُمَّ كُلْهُ إنْ شِئْت

، وَأَهْدِهِ إنْ شِئْت ، وَبِعْهُ إنْ شِئْت ، وَتَقَوَّ بِهِ فِي هَدْيٍ آخَرَ .
وَلِأَنَّهُ مَتَى كَانَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ وَيُطْعِمَ الْأَغْنِيَاءَ ، فَلَهُ أَنْ يَبِيعَ ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ .
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ يَذْبَحُ الْمَعِيبَ وَمَا فِي ذِمَّتِهِ جَمِيعًا ، وَلَا يَرْجِعُ الْمُعَيَّنَ إلَى مِلْكِهِ ؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِحَقِّ الْفُقَرَاءِ بِتَعْيِينِهِ ، فَلَزِمَ ذَبْحُهُ ، كَمَا لَوْ عَيَّنَهُ بِنَذْرِهِ ابْتِدَاءً .

فَصْلٌ : وَإِنْ ضَلَّ الْمُعَيَّنُ ، فَذَبَحَ غَيْرَهُ ، ثُمَّ وَجَدَهُ ، أَوْ عَيَّنَ غَيْرَ الضَّالِّ بَدَلًا عَمَّا فِي الذِّمَّةِ ، ثُمَّ وَجَدَ الضَّالَّ ، ذَبَحَهُمَا مَعًا .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ ، وَابْنِهِ وَابْنِ عَبَّاسِ ، وَفَعَلَتْهُ عَائِشَةُ .
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ .
وَيَتَخَرَّجُ عَلَى قَوْلِنَا فِيمَا إذَا تَعَيَّبَ الْهَدْيُ ، فَأَبْدَلَهُ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَصْنَعَ بِهِ مَا شَاءَ .
أَوْ يَرْجِعَ إلَى مِلْكِ أَحَدِهِمَا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ذَبَحَ مَا فِي الذِّمَّةِ ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ آخَرُ ، كَمَا لَوْ عَطِبَ الْمُعَيَّنُ .
وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَوَجْهُ الْأَوَّلِ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا أَهْدَتْ هَدْيَيْنِ ، فَأَضَلَّتْهُمَا ، فَبَعَثَ إلَيْهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ هَدْيَيْنِ ، فَنَحَرَتْهُمَا ، ثُمَّ عَادَ الضَّالَّانِ ، فَنَحَرَتْهُمَا ، وَقَالَتْ : هَذِهِ سُنَّةُ الْهَدْيِ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ .
وَهَذَا يَنْصَرِفُ إلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلِأَنَّهُ تَعَلَّقَ حَقُّ اللَّهِ بِهِمَا بِإِيجَابِهِمَا ، أَوْ ذَبْحِ أَحَدِهِمَا وَإِيجَابِ الْآخَرِ .
( 2710 ) فَصْلٌ : وَإِنْ عَيَّنَ مَعِيبًا عَمَّا فِي ذِمَّتِهِ ، لَمْ يُجْزِهِ ، وَلَزِمَهُ ذَبْحُهُ ، عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ فِي الْأُضْحِيَّةِ ، إذَا عَيَّنَهَا مَعِيبَةً لَزِمَهُ ذَبْحُهَا ، وَلَمْ يُجْزِهِ .
وَإِنْ عَيَّنَ صَحِيحًا فَهَلَكَ ، أَوْ تَعَيَّبَ بِغَيْرِ تَفْرِيطِهِ ، لَمْ يَلْزَمْهُ أَكْثَرُ مِمَّا كَانَ وَاجِبًا فِي الذِّمَّةِ ؛ لِأَنَّ الزَّائِدَ لَمْ يَجِبْ فِي الذِّمَّةِ ، وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ ، فَسَقَطَ بِتَلَفِهَا لِأَصْلِ الْهَدْيِ ، إذَا لَمْ يَجِبْ بِغَيْرِ التَّعْيِينِ .
وَإِنْ أَتْلَفَهُ ، أَوْ تَلِفَ بِتَفْرِيطِهِ ، لَزِمَهُ مِثْلُ الْمُعَيَّنِ ؛ لِأَنَّ الزَّائِدَ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى ، وَإِذَا فَوَّتَهُ لَزِمَهُ ضَمَانُهُ ، كَالْهَدْيِ الْمُعَيَّنِ ابْتِدَاءً .

( 2711 ) فَصْلٌ : وَيَحْصُلُ الْإِيجَابُ بِقَوْلِهِ : هَذَا هَدْيٌ .
أَوْ بِتَقْلِيدِهِ وَإِشْعَارِهِ نَاوِيًا بِهِ الْهَدْيَ وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَإِسْحَاقُ .
وَلَا يَجِبُ بِالشِّرَاءِ مَعَ النِّيَّةِ ، وَلَا بِالنِّيَّةِ الْمُجَرَّدَةِ ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجِبُ بِالشِّرَاءِ مَعَ النِّيَّةِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ إزَالَةُ مِلْكٍ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ ، فَلَمْ يَجِبْ بِالنِّيَّةِ ، كَالْعِتْقِ وَالْوَقْفِ .

( 2712 ) فَصْلٌ : إذَا غَصَبَ شَاةً ، فَذَبَحَهَا عَنْ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ ، لَمْ يُجْزِهِ ، سَوَاءٌ رَضِيَ مَالِكُهَا أَوْ لَمْ يَرْضَ ، أَوْ عَوَّضَهُ عَنْهَا أَوْ لَمْ يُعَوِّضْهُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُجْزِئُهُ إنَّ رَضِيَ مَالِكُهَا .
وَلَنَا ، أَنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ قُرْبَةً فِي ابْتِدَائِهِ ، فَلَمْ يَصِرْ قُرْبَةً فِي أَثْنَائِهِ ، كَمَا لَوْ ذَبَحَهُ لِلْأَكْلِ ثُمَّ نَوَى بِهِ التَّقْرِيبَ ، وَكَمَا لَوْ أَعْتَقَ ثُمَّ نَوَاهُ عَنْ كَفَّارَتِهِ .

( 2713 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَإِنْ كَانَ سَاقَهُ تَطَوُّعًا ، نَحَرَهُ فِي مَوْضِعِهِ ، وَخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَسَاكِينِ ، وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ رُفْقَتِهِ ، وَلَا بَدَلَ عَلَيْهِ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ تَطَوَّعَ بِهَدْيِ غَيْرِ وَاجِبٍ ، لَمْ يَخْلُ مِنْ حَالَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا ، أَنْ يَنْوِيَهُ هَدْيًا ، وَلَا يُوجِبُ بِلِسَانِهِ وَلَا بِإِشْعَارِهِ وَتَقْلِيدِهِ ، فَهَذَا لَا يَلْزَمُهُ إمْضَاؤُهُ ، وَلَهُ أَوْلَادُهُ وَنَمَاؤُهُ وَالرُّجُوعُ فِيهِ مَتَى شَاءَ ، مَا لَمْ يَذْبَحْهُ ؛ لِأَنَّهُ نَوَى الصَّدَقَةَ بِشَيْءِ مِنْ مَالِهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَوَى الصَّدَقَةَ بِدِرْهَمٍ .
الثَّانِي ، أَنْ يُوجِبَهُ بِلِسَانِهِ ، فَيَقُولَ : هَذَا هَدْيٌ .
أَوْ يُقَلِّدَهُ أَوْ يُشْعِرَهُ ، يَنْوِي بِذَلِكَ إهْدَاءَهُ ، فَيَصِيرُ وَاجِبًا مُعَيَّنًا ، يَتَعَلَّقُ الْوُجُوبُ بِعَيْنِهِ دُونَ ذِمَّةِ صَاحِبِهِ ، وَيَصِيرُ فِي يَدَيْ صَاحِبِهِ كَالْوَدِيعَةِ ، يَلْزَمُهُ حِفْظُهُ وَإِيصَالُهُ إلَى مَحِلِّهِ ، فَإِنْ تَلِفَ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْهُ ، أَوْ سَوْقٍ ، أَوْ ضَلَّ ، لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ فِي الذِّمَّةِ ، إنَّمَا تَعَلَّقَ الْحَقُّ بِالْعَيْنِ ، فَسَقَطَ بِتَلَفِهَا ، كَالْوَدِيعَةِ .
وَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { مَنْ أَهْدَى تَطَوُّعًا ، ثَمَّ ضَلَّتْ ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ الْبَدَلُ ، إلَّا أَنْ يَشَاءَ ، فَإِنْ كَانَ نَذْرًا ، فَعَلَيْهِ الْبَدَلُ } .
وَفِي رِوَايَةٍ ، قَالَ : { مَنْ أَهْدَى تَطَوُّعًا ، ثَمَّ عَطِبَ فَإِنْ شَاءَ أَبْدَلَ ، وَإِنْ شَاءَ أَكَلَ ، وَإِنْ كَانَ نَذْرًا فَلْيُبْدِلْ } .
فَأَمَّا إنْ أَتْلَفَهُ ، أَوْ تَلِفَ بِتَفْرِيطِهِ ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ وَاجِبًا لِغَيْرِهِ ، فَضَمِنَهُ ، كَالْوَدِيعَةِ .
وَإِنْ خَافَ عَطَبَهُ ، أَوْ عَجَزَ عَنْ الْمَشْيِ وَصُحْبَةِ الرِّفَاقِ ، نَحَرَهُ مَوْضِعَهُ ، وَخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَسَاكِينِ ، وَلَمْ يُبَحْ لَهُ أَكْلُ شَيْءٍ مِنْهُ ، وَلَا لَأَحَدٍ مِنْ

صَحَابَتِهِ ، وَإِنْ كَانُوا فُقَرَاءً ، وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَضَعَ نَعْلَ الْهَدْيِ الْمُقَلَّدَ فِي عُنُقِهِ فِي دَمِهِ ، ثُمَّ يَضْرِبَ بِهِ صَفْحَتَهُ ، لِيُعَرِّفَهُ الْفُقَرَاءَ ، فَيَعْلَمُوا أَنَّهُ هَدْيٌ ، وَلَيْسَ بِمَيِّتَةٍ ، فَيَأْخُذُوهُ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَكَلَ مِنْ هَدْيِهِ الَّذِي عَطِبَ ، وَلَمْ يَقْضِ مَكَانَهُ .
وَقَالَ مَالِكٌ : يُبَاحُ لِرُفْقَتِهِ ، وَلِسَائِرِ النَّاسِ ، غَيْرِ صَاحِبِهِ أَوْ سَائِقِهِ ، وَلَا يَأْمُرُ أَحَدًا يَأْكُلُ مِنْهُ ، فَإِنْ أَكَلَ ، أَوْ أَمَرَ مِنْ أَكَلَ ، أَوْ حَزَّ شَيْئًا مِنْ لَحْمِهِ ، ضَمِنَهُ .
وَاحْتَجَّ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لِذَلِكَ ، بِمَا رَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ نَاجِيَةَ بِنْتِ كَعْبٍ ، صَاحِبِ بُدْنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَا رَسُولَ اللَّهِ ، كَيْفَ أَصْنَعُ بِمَا عَطِبَ مِنْ الْهَدْيِ ؟ قَالَ : انْحَرْهُ ، ثُمَّ اغْمِسْ قَلَائِدَهُ فِي دَمِهِ ، ثُمَّ اضْرِبْ بِهَا صَفْحَةَ عُنُقِهِ ، ثُمَّ خَلِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ } .
قَالَ : وَهَذَا أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسِ ، وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ .
وَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ : " وَخَلِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ " .
رُفْقَتِهِ وَغَيْرِهِمْ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ ، أَنَّ ذُؤَيْبًا أَبَا قَبِيصَةَ حَدَّثَهُ { ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَبْعَثُ مَعَهُ الْبُدْنَ ، ثُمَّ يَقُولُ : إنْ عَطِبَ مِنْهَا شَيْءٌ ، فَخَشِيتَ عَلَيْهَا ، فَانْحَرْهَا ، ثُمَّ اغْمِسْ نَعْلَهَا فِي دَمِهَا ، ثُمَّ اضْرِبْ بِهِ صَفْحَتَهَا ، وَلَا تَطْعَمْهَا أَنْتَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ رُفْقَتِك } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَفِي لَفْظٍ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : { وَيُخَلِّيهَا وَالنَّاسَ ، وَلَا يَأْكُلُ مِنْهَا هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ } .
وَقَالَ سَعِيدٌ حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ ، عَنْ مُوسَى بْنِ سَلَمَةَ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ، أَنَّهُ بَعَثَ بِثَمَانِي

عَشْرَةَ بَدَنَةً مَعَ رَجُلٍ ، وَقَالَ : إنْ ازْدَحَفَ عَلَيْكَ مِنْهَا شَيْءٌ ، فَانْحَرْهَا ، ثُمَّ اُصْبُغْ نَعْلَهَا فِي دَمِهَا ، ثُمَّ اضْرِبْ بِهَا فِي صَفْحَتِهَا ، وَلَا تَأْكُلْ أَنْتَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ رُفْقَتِكَ } .
وَهَذَا صَحِيحٌ مُتَضَمِّنٌ لِلزِّيَادَةِ ، وَمَعْنًى خَاصٍّ ، فَيَجِبُ تَقْدِيمُهُ عَلَى عُمُومِ مَا خَالَفَهُ .
وَلَا تَصِحُّ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ رُفْقَتِهِ وَبَيْنَ سَائِرِ النَّاسِ ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُشْفِقُ عَلَى رُفْقَتِهِ ، وَيُحِبُّ التَّوْسِعَةُ عَلَيْهِمْ ، وَرُبَّمَا وَسَّعَ عَلَيْهِمْ مِنْ مُؤْنَتِهِ .
وَإِنَّمَا مُنِعَ السَّائِقُ وَرُفْقَتُهُ مِنْ الْأَكْلِ مِنْهَا ؛ لِئَلَّا يُقَصِّرَ فِي حِفْظِهَا ، فَيُعْطِبَهَا لِيَأْكُلَ هُوَ وَرُفْقَتُهُ مِنْهَا ، فَتَلْحَقَهُ التُّهْمَةُ فِي عَطَبِهَا لِنَفْسِهِ وَرُفْقَتِهِ ، فَحُرِمُوهَا لِذَلِكَ .
فَإِنْ أَكَلَ مِنْهَا ، أَوْ بَاعَ أَوْ أَطْعَمَ غَنِيًّا ، أَوْ رُفْقَتَهُ ، ضَمِنَهُ بِمِثْلِهِ لَحْمًا .
وَإِنْ أَتْلَفَهَا ، أَوْ تَلِفَتْ بِتَفْرِيطِهِ ، أَوْ خَافَ عَطَبَهَا ، فَلَمْ يَنْحَرْهَا حَتَّى هَلَكَتْ ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُهَا بِمَا يُوصِلُهُ إلَى فُقَرَاءِ الْحَرَمِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ إيصَالُ الضَّمَانِ إلَيْهِمْ ، بِخِلَافِ الْعَاطِبِ .
وَإِنْ أَطْعَمَ مِنْهَا فَقِيرًا ، أَوْ أَمَرَهُ بِالْأَكْلِ مِنْهَا ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَلَهُ إلَى الْمُسْتَحِقِّ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَطْعَمَ فَقِيرًا بَعْدَ بُلُوغِهِ مَحِلَّهُ ، وَإِنْ تَعَيَّبَ ذَبْحُهُ أَجْزَأَهُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُجْزِئُهُ ، إلَّا أَنْ يَحْدُثَ الْعَيْبُ بِهِ بَعْدَ إضْجَاعِهِ لِلذَّبْحِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ لَوْ عَطِبَ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ ، فَالْعَيْبُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْعَطَبَ يَذْهَبُ بِجَمِيعِهِ ، وَالْعَيْبُ يَنْقُصُهُ .
وَلِأَنَّهُ عَيْبٌ حَدَثَ بَعْدَ وُجُوبِهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ حَدَثَ بَعْدَ إضْجَاعِهِ .
وَإِنْ تَعَيَّبَ بِفِعْلِ آدَمِيٍّ ، فَعَلَيْهِ مَا نَقَصَهُ مِنْ الْقِيمَةِ ، يَتَصَدَّقُ بِهِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُبَاعُ جَمِيعُهُ ، وَيُشْتَرَى هَدْيٌ .
وَبَنَى ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ

مُجْزِئٌ .

فَصْلٌ : وَإِذْ أَوْجَبَ هَدْيًا فَلَهُ إبْدَالُهُ بِخَيْرِ مِنْهُ ، وَبَيْعُهُ لِيَشْتَرِيَ بِثَمَنِهِ خَيْرًا مِنْهُ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
وَهُوَ اخْتِيَارُ أَكْثَرِ الْأَصْحَابِ ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : يَزُولُ مِلْكُهُ عَنْهُ ، وَلَيْسَ لَهُ بَيْعُهُ وَلَا إبْدَالُهُ .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ مُتَعَلِّقٌ بِالرَّقَبَةِ ، وَيَسْرِي إلَى الْوَلَدِ ، فَمُنِعَ الْبَيْعُ ، كَالِاسْتِيلَاءِ ، وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ إبْدَالُهُ بِمِثْلِهِ ، فَلَمْ يَجُزْ بِخَيْرِ مِنْهُ ، كَسَائِرِ مَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ .
وَوَجْهُ الْأَوَّلِ ، أَنَّ النُّذُورَ مَحْمُولَةٌ عَلَى أُصُولِهَا فِي الْفَرْضِ ، وَهُوَ الزَّكَاةُ ، يَجُوزُ فِيهَا الْإِبْدَالُ ، كَذَلِكَ هَذَا ، وَلِأَنَّهُ لَوْ زَالَ مِلْكُهُ لَمْ يَعُدْ إلَيْهِ بِالْهَلَاكِ ، كَسَائِرِ الْأَمْلَاكِ إذَا زَالَتْ .
وَقِيَاسُهُمْ يَنْتَقِضُ بِالْمُدَبَّرَةِ يَجُوزُ بَيْعُهَا ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاعَ مُدَبَّرًا .
أَمَّا إبْدَالُهَا بِمِثْلِهَا أَوْ دُونِهَا ، فَلَمْ يَجُزْ ؛ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي ذَلِكَ .

( 2715 ) فَصْلٌ : إذَا وَلَدَتْ الْهَدِيَّةُ فَوَلَدُهَا بِمَنْزِلَتِهَا إنْ أَمْكَنَ سَوْقُهُ وَإِلَّا حَمَلَهُ عَلَى ظَهْرِهَا ، وَسَقَاهُ مِنْ لَبَنِهَا ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ سَوْقُهُ وَلَا حَمْلُهُ ، صَنَعَ بِهِ مَا يَصْنَعُ بِالْهَدْيِ إذَا عَطِبَ ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَا عَيَّنَهُ ابْتِدَاءً وَبَيْنَ مَا عَيَّنَهُ بَدَلًا عَنْ الْوَاجِبِ فِي ذِمَّتِهِ .
وَقَالَ الْقَاضِي ، فِي الْمُعَيَّنِ بَدَلًا عَنْ الْوَاجِبِ : يَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَتْبَعَهَا وَلَدُهَا ؛ لِأَنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ وَاحِدٌ ، فَلَا يَلْزَمُهُ اثْنَانِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَتْبَعُ أُمَّهُ فِي الْوُجُوبِ ؛ لِأَنَّهُ وَلَدُ هَدْيٍ وَاجِبٍ ، فَكَانَ وَاجِبًا ، كَالْمُعَيَّنِ ابْتِدَاءً .
وَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ حَذْفٍ : أَتَى رَجُلٌ عَلِيًّا بِبَقَرَةٍ قَدْ أَوْلَدَهَا ، فَقَالَ لَهُ : لَا تَشْرَبْ مِنْ لَبَنِهَا إلَّا مَا فَضَلَ عَنْ وَلَدِهَا ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْأَضْحَى ضَحَّيْت بِهَا وَوَلَدِهَا عَنْ سَبْعَةٍ رَوَاهُ سَعِيدٌ ، وَالْأَثْرَمُ .
وَإِنْ تَعَيَّنَتْ الْمُعَيَّنَةُ عَنْ الْوَاجِبِ فِي الذِّمَّةِ ، وَقُلْنَا : يَذْبَحُهَا .
ذَبَحَ وَلَدَهَا مَعَهَا ؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لَهَا .
وَإِنْ قُلْنَا : يَبْطُلُ تَعْيِينُهَا ، وَتَعُودُ إلَى مَالِكِهَا .
احْتَمَلَ أَنْ يَبْطُلَ التَّعْيِينُ فِي وَلَدِهَا تَبَعًا ، كَنَمَائِهَا الْمُتَّصِلِ بِهَا ، وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يَبْطُلَ ، وَيَكُونَ لِلْفُقَرَاءِ ؛ لِأَنَّهُ تَبِعَهَا فِي الْوُجُوبِ حَالَ اتِّصَالِهِ بِهَا ، وَلَمْ يَتْبَعْهَا فِي زَوَالِهِ ؛ لِأَنَّهُ مُنْفَصِلٌ عَنْهَا ، كَوَلَدِ الْمَبِيعِ الْمَعِيبِ إذَا وَلَدَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي ، ثُمَّ رَدَّهُ لَمْ يَبْطُلْ الْبَيْعُ فِي وَلَدِهِ ، وَالْمُدَبَّرَةُ إذَا قَتَلَتْ سَيِّدَهَا ، فَبَطَلَ تَدْبِيرُهَا ، لَا يَبْطُلُ فِي وَلَدِهَا .

( 2716 ) فَصْلٌ : وَلِلْمُهْدِي شُرْبُ لَبَنِ الْهَدْيِ ؛ لِأَنَّ بَقَاءَهُ فِي الضَّرْعِ يَضُرُّ بِهِ ، فَإِذَا كَانَ ذَا وَلَدٍ ، لَمْ يَشْرَبْ إلَّا مَا فَضَلَ عَنْ وَلَدِهِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ خَبَرِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
فَإِنْ شَرِبَ مَا يَضُرُّ بِالْأُمِّ ، أَوْ مَا لَا يَفْضُلُ عَنْ الْوَلَدِ ، ضَمِنَهُ ؛ لِأَنَّهُ تَعَدَّى بِأَخْذِهِ .
وَإِنْ كَانَ صُوفُهَا يَضُرُّ بِهَا بَقَاؤُهُ ، جَزَّهُ وَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ .
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّبَنِ ، أَنَّ الصُّوفَ كَانَ مَوْجُودًا حَالَ إيجَابِهَا ، فَكَانَ وَاجِبًا مَعَهَا ، وَاللَّبَنَ مُتَجَدِّدٌ فِيهَا شَيْئًا فَشَيْئًا ، فَهُوَ كَنَفْعِهَا وَرُكُوبِهَا .
( 2717 ) فَصْلٌ وَلَهُ رُكُوبُهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ ، عَلَى وَجْهٍ لَا يَضُرُّ بِهِ .
قَالَ : أَحْمَدُ : لَا يَرْكَبُهُ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ ؛ { لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ارْكَبْهَا بِالْمَعْرُوفِ إذَا أُلْجِئْت إلَيْهَا ، حَتَّى تَجِدَ ظَهْرًا } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَلِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ الْمَسَاكِينِ ، فَلَمْ يَجُزْ رُكُوبُهَا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ ، كَمِلْكِهِمْ .
فَأَمَّا مَعَ عَدَمِ الْحَاجَةِ ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا ، لَا يَجُوزُ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا .
وَالثَّانِيَةُ ، يَجُوزُ ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، وَأَنَسٌ ، { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً ، فَقَالَ : ارْكَبْهَا .
فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنَّهَا بَدَنَةٌ .
فَقَالَ : ارْكَبْهَا ، وَيْلَك .
فِي الثَّانِيَةِ أَوْ فِي الثَّالِثَةِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .

( 2718 ) فَصْلٌ : وَلَا يَبْرَأُ مِنْ الْهَدْيِ إلَّا بِذَبْحِهِ أَوْ نَحْرِهِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحَرَ هَدْيَهُ .
فَإِنْ نَحَرَهُ بِنَفْسِهِ ، أَوْ وَكَّلَ مَنْ نَحَرَهُ ، أَوْ نَحَرَهُ إنْسَانٌ بِغَيْرِ إذْنِهِ فِي وَقْتِهِ ، أَجْزَأَ عَنْهُ .
وَإِنْ دَفَعَهُ إلَى الْفُقَرَاءِ سَلِيمًا فَنَحَرُوهُ ، أَجْزَأَ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِفِعْلِهِمْ ، فَأَجْزَأَهُ ، كَمَا لَوْ ذَبَحَهُ غَيْرُهُمْ ، وَإِنْ لَمْ يَنْحَرُوهُ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مِنْهُمْ وَيَنْحَرَهُ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أَوْ لَمْ يَقْدِرْ ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَهُ بِتَفْرِيطِهِ فِي دَفْعِهِ إلَيْهِمْ سَلِيمًا .

( 2719 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُهْدِي أَنْ يَتَوَلَّى نَحْرَ الْهَدْيِ بِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحَرَ هَدْيَهُ بِيَدِهِ ، وَرُوِيَ عَنْ غُرْفَةَ بْنِ الْحَارِثِ الْكِنْدِيِّ ، قَالَ : { شَهِدْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ ، وَأُتِيَ بِالْبُدْنِ ، فَقَالَ : اُدْعُ لِي أَبَا الْحَسَنِ .
فَدُعِيَ لَهُ عَلِيٌّ ، فَقَالَ لَهُ : خُذْ بِأَسْفَلِ الْحَرْبَةِ .
وَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَعْلَاهَا ، ثُمَّ طَعَنَا بِهَا الْبُدْنَ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَإِنَّمَا فَعَلَا ذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْرَكَ عَلِيًّا فِي بُدْنِهِ .
وَقَالَ جَابِرٌ : { نَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بَدَنَةً بِيَدِهِ ، ثُمَّ أَعْطَى عَلِيًّا فَنَحَرَ مَا غَبَّرَ } .
وَرُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحَرَ خَمْسَ بَدَنَاتٍ ، ثُمَّ قَالَ : مَنْ شَاءَ اقْتَطَعَ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
فَإِنْ لَمْ يَذْبَحْ بِيَدِهِ ، فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَشْهَدَ ذَبْحَهَا ؛ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِفَاطِمَةَ : اُحْضُرِي أُضْحِيَّتَكِ يُغْفَرْ لَك بِأَوَّلِ قَطْرَةٍ مِنْ دَمِهَا } .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَوَلَّى تَفْرِيقَ اللَّحْمِ بِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَحْوَطُ وَأَقَلُّ لِلضَّرَرِ عَلَى الْمَسَاكِينِ ، وَإِنْ خَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَسَاكِينِ جَازَ ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { مَنْ شَاءَ اقْتَطَعَ .
}

( 2720 ) فَصْلٌ : وَيُبَاحُ لِلْفُقَرَاءِ الْأَخْذُ مِنْ الْهَدْيِ إذَا لَمْ يَدْفَعْهُ إلَيْهِمْ بِأَحَدِ شَيْئَيْنِ ؛ أَحَدِهِمَا ، الْإِذْنُ فِيهِ لَفْظًا ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ شَاءَ اقْتَطَعَ } .
وَالثَّانِي ، دَلَالَةٌ عَلَى الْإِذْنِ ، كَالتَّخْلِيَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ : لَا يُبَاحُ إلَّا بِاللَّفْظِ .
وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَائِقِ الْبُدْنِ : { اُصْبُغْ نَعْلَهَا فِي دَمِهَا ، وَاضْرِبْ بِهِ صَفْحَتَهَا } .
دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ وَشِبْهَهُ كَافٍ مِنْ غَيْرِ لَفْظٍ ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ هَذَا مُفِيدًا .

( 2721 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَلَا يَأْكُلُ مِنْ كُلِّ وَاجِبٍ إلَّا مِنْ هَدْيِ التَّمَتُّعِ ) الْمَذْهَبُ أَنَّهُ يَأْكُلُ مِنْ هَدْيِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ دُونَ مَا سِوَاهُمَا .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
وَلَعَلَّ الْخِرَقِيِّ تَرَكَ ذِكْرَ الْقِرَانِ ؛ لِأَنَّهُ مُتْعَةٌ ، وَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْمُتْعَةِ لِأَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي الْمَعْنَى ، فَإِنَّ سَبَبَهُمَا غَيْرُ مَحْظُورٍ ، فَأَشْبَهَا هَدْيَ التَّطَوُّعِ .
وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَعَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ لَا يَأْكُلُ مِنْ الْمَنْذُورِ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ ، وَيَأْكُلُ مِمَّا سِوَاهُمَا .
وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ ، وَعَطَاءٍ ، وَالْحَسَنِ ، وَإِسْحَاقَ ؛ لِأَنَّ جَزَاءَ الصَّيْدِ بَدَلٌ ، وَالنَّذْرُ جَعَلَهُ لِلَّهِ تَعَالَى بِخِلَافِ غَيْرِهِمَا .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى : لَا يَأْكُلُ أَيْضًا مِنْ الْكَفَّارَةِ ، وَيَأْكُلُ مِمَّا سِوَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ .
وَنَحْوُهُ مَذْهَبُ مَالِكٍ ؛ لِأَنَّ مَا سِوَى ذَلِكَ لَمْ يُسَمِّهِ لِلْمَسَاكِينِ ، وَلَا مَدْخَلَ لِلْإِطْعَامِ فِيهِ ، فَأَشْبَهَ التَّطَوُّعَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَأْكُلُ مِنْ وَاجِبٍ ؛ لِأَنَّهُ هَدْيٌ وَجَبَ بِالْإِحْرَامِ ، فَلَمْ يَجُزْ الْأَكْلُ مِنْهُ ، كَدَمِ الْكَفَّارَةِ .
وَلَنَا ، أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمَتَّعْنَ مَعَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَأَدْخَلَتْ عَائِشَةُ الْحَجَّ عَلَى الْعُمْرَةِ ، فَصَارَتْ قَارِنَةً ، ثُمَّ ذَبَحَ عَنْهُنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَقَرَةَ ، فَأَكَلْنَ مِنْ لُحُومِهَا .
قَالَ أَحْمَدُ قَدْ أَكَلَ مِنْ الْبَقَرَةِ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ خَاصَّةً .
وَقَالَتْ عَائِشَةُ : إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ ، إذَا طَافَ بِالْبَيْتِ ، أَنْ يَحِلَّ ، فَدَخَلَ عَلَيْنَا يَوْمَ النَّحْرِ بِلَحْمِ بَقَرٍ ، فَقُلْت : مَا هَذَا ؟ فَقِيلَ : ذَبَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَزْوَاجِهِ .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد ، وَابْنُ مَاجَهْ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

ذَبَحَ عَنْ آلِ مُحَمَّدٍ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بَقَرَةً .
} وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ { : تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ ، فَسَاقَ الْهَدْيَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَقَدْ ثَبَتَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِبِضْعَةٍ ، فَجُعِلَتْ فِي قِدْرٍ ، فَأَكَلَ هُوَ وَعَلِيٌّ مِنْ لَحْمِهَا ، وَشَرِبَا مِنْ مَرَقِهَا } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَلِأَنَّهُمَا دَمَا نُسُكٍ ، فَأَشْبَهَا التَّطَوُّعَ ، وَلَا يُؤْكَلُ مِنْ غَيْرِهِمَا ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ بِفِعْلٍ مَحْظُورٍ ، فَأَشْبَهَ جَزَاءَ الصَّيْدِ .
( 2722 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا هَدْيُ التَّطَوُّعِ ، وَهُوَ مَا أَوْجَبَهُ بِالتَّعْيِينِ ابْتِدَاءً ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عَنْ وَاجِبٍ فِي ذِمَّتِهِ ، وَمَا نَحَرَهُ تَطَوُّعًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُوجِبَهُ ، فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : ( فَكُلُوا مِنْهَا ) .
وَأَقَلُّ أَحْوَالِ الْأَمْرِ الِاسْتِحْبَابُ .
وَلِأَنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَلَ مِنْ بُدْنِهِ .
وَقَالَ جَابِرٌ { كُنَّا لَا نَأْكُلُ مِنْ بُدْنِنَا فَوْقَ ثَلَاثٍ فَرَخَّصَ لَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : كُلُوا وَتَزَوَّدُوا .
فَأَكَلْنَا وَتَزَوَّدْنَا } .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَإِنْ لَمْ يَأْكُلْ فَلَا بَأْسَ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَحَرَ الْبَدَنَاتِ الْخَمْسَ .
قَالَ : { مَنْ شَاءَ اقْتَطَعَ } .
وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُنَّ شَيْئًا .
وَالْمُسْتَحَبُّ ، أَنْ يَأْكُلَ الْيَسِيرَ مِنْهَا ، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَهُ الْأَكْلُ كَثِيرًا وَالتَّزَوُّدُ ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ .
وَتُجْزِئُهُ الصَّدَقَةُ بِالْيَسِيرِ مِنْهَا ، كَمَا فِي الْأُضْحِيَّةِ ، فَإِنْ أَكَلَهَا ضَمِنَ الْمَشْرُوعَ لِلصَّدَقَةِ مِنْهَا ، كَمَا فِي الْأُضْحِيَّةِ .
( 2723 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أَكَلَ مِنْهَا مَا مُنِعَ مِنْ أَكْلِهِ ، ضَمِنَهُ بِمِثْلِهِ لَحْمًا ؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ بِمِثْلِهِ حَيَوَانًا ، فَكَذَلِكَ أَبْعَاضُهُ .

وَكَذَلِكَ إنْ أَعْطَى الْجَازِرَ مِنْهَا شَيْئًا ضَمِنَهُ بِمِثْلِهِ .
وَإِنْ أَطْعَمَ غَنِيًّا مِنْهَا ، عَلَى سَبِيلِ الْهَدِيَّةِ ، جَازَ ، كَمَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ فِي الْأُضْحِيَّةِ ؛ لِأَنَّ مَا مَلَكَ أَكْلَهُ مَلَكَ هَدِيَّتَهُ .
وَإِنْ بَاعَ شَيْئًا مِنْهَا ، أَوْ أَتْلَفَهُ ، ضَمِنَهُ بِمِثْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ ذَلِكَ ، فَأَشْبَهَ عَطِيَّتَهُ لِلْجَازِرِ .
وَإِنْ أَتْلَفَ أَجْنَبِيٌّ مِنْهُ شَيْئًا ، ضَمِنَهُ بِقِيمَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُتْلَفَ مِنْ غَيْرِ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ ، فَلَزِمَتْهُ قِيمَتُهُ ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَ لَحْمًا لِآدَمِيٍّ مُعَيَّنٍ .

( 2724 ) فَصْلٌ : وَالْهَدْيُ الْوَاجِبُ بِغَيْرِ النَّذْرِ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ ؛ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ ، وَمَقِيسٌ عَلَى الْمَنْصُوصِ .
فَأَمَّا الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فَأَرْبَعَةٌ ، اثْنَانِ عَلَى التَّرْتِيبِ ، وَالْوَاجِبُ فِيهِمَا مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ ، وَأَقَلُّهُ شَاةٌ ، أَوْ سُبْعُ بَدَنَةٍ ، أَحَدُهُمَا دَمُ الْمُتْعَةِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ } .
وَالثَّانِي ، دَمُ الْإِحْصَارِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ } .
وَهُوَ عَلَى التَّرْتِيبِ أَيْضًا ، إنْ لَمْ يَجِدْهُ انْتَقَلَ إلَى صِيَامِ عَشَرَةِ أَيَّامٍ .
وَإِنَّمَا وَجَبَ تَرْتِيبُهُ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِهِ مُعَيَّنًا مِنْ غَيْرِ تَخْيِيرٍ ، فَاقْتَضَى تَعْيِينُهُ الْوُجُوبَ ، وَأَنْ لَا يَنْتَقِلَ عَنْهُ إلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ ، كَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ الْمُعَيَّنَةِ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ ، انْتَقَلَ إلَى صِيَامِ عَشَرَةِ أَيَّامٍ بِالْقِيَاسِ عَلَى دَمِ الْمُتْعَةِ ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَصُومَهَا .
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا بَدَلَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْقُرْآنِ .
وَهَذَا لَا يَلْزَمُ ، فَإِنَّ عَدَمَ ذِكْرِهِ لَا يَمْنَعُ قِيَاسَهُ عَلَى نَظِيرِهِ .
وَاثْنَانِ مُخَيَّرَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، فِدْيَةُ الْأَذَى ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } .
الثَّانِي ، جَزَاءُ الصَّيْدِ ، وَهُوَ عَلَى التَّخْيِيرِ أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا } .
الْقِسْمُ الثَّانِي ، مَا لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَيْهِ ، فَيُقَاسُ عَلَى أَشْبَهِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ بِهِ ، فَهَدْيُ الْمُتْعَةِ وَجَبَ لِلتَّرَفُّهِ بِتَرْكِ أَحَدِ

السَّفَرَيْنِ ، وَقَضَائِهِ النُّسُكَيْنِ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ ، وَيُقَاسُ عَلَيْهِ أَيْضًا دَمُ الْفَوَاتِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ مِثْلُ دَمِ الْمُتْعَةِ .
وَبَدَلُهُ مِثْلُ بَدَلِهِ ، وَهُوَ صِيَامُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ثَلَاثَةً قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ ، لِأَنَّ الْفَوَاتَ إنَّمَا يَكُونُ بِفَوَاتِ لَيْلَةِ النَّحْرِ ، لِأَنَّهُ تَرَكَ بَعْضَ مَا اقْتَضَاهُ إحْرَامُهُ ، فَصَارَ كَالتَّارِكِ لِأَحَدِ السَّفَرَيْنِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا أَلْحَقْتُمُوهُ بِهَدْيِ الْإِحْصَارِ ، فَإِنَّهُ أَشْبَهُ بِهِ ، إذْ هُوَ حَلَالٌ مِنْ إحْرَامِهِ قَبْلَ إتْمَامِهِ ؟ قُلْنَا : أَمَّا الْهَدْيُ فَهُمَا فِيهِ سَوَاءٌ ، وَأَمَّا الْبَدَلُ فَإِنَّ الْإِحْصَارَ لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَى الْبَدَلِ فِيهِ ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ قِيَاسًا ، فَقِيَاسُ هَذَا عَلَى الْأَصْلِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ أَوْلَى مِنْ قِيَاسِهِ عَلَى فَرْعِهِ ، عَلَى أَنَّ الصِّيَامَ هَاهُنَا مِثْلُ الصِّيَامِ عَنْ دَمِ الْإِحْصَارِ ، وَهُوَ عَشْرَةُ أَيَّامٍ أَيْضًا ، إلَّا أَنَّ صِيَامَ الْإِحْصَارِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ حِلِّهِ ، وَهَذَا يَجُوزُ فِعْلُهُ قَبْلَ حِلِّهِ وَبَعْدَهُ ، وَهُوَ أَيْضًا مُقَارِنٌ لِصَوْمِ الْمُتْعَةِ ؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَةَ فِي الْمُتْعَةِ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ آخِرُهَا يَوْمَ عَرَفَةَ ، وَهَذَا يَكُونُ بَعْدَ فَوَاتِ عَرَفَةَ .
وَالْخِرَقِيُّ إنَّمَا جَعَلَ الصَّوْمَ عَنْ هَدْيِ الْفَوَاتِ مِثْلَ الصَّوْمِ عَنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا .
وَالْمَرْوِيُّ عَنْ عُمَرَ وَابْنِهِ مِثْلُ مَا ذَكَرْنَا .
وَيُقَاسُ عَلَيْهِ أَيْضًا كُلُّ دَمٍ وَجَبَ لِتَرْكِ وَاجِبٍ ، كَدَمِ الْقِرَانِ ، وَتَرْكِ الْإِحْرَامِ مِنْ الْمِيقَاتِ ، وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ ، وَالْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ ، وَالرَّمْيِ ، وَالْمَبِيتِ لَيَالِي مِنًى بِهَا ، وَطَوَافِ الْوَدَاعِ ، فَالْوَاجِبُ فِيهِ مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ عَشْرَةِ أَيَّامٍ .
وَأَمَّا مَنْ أَفْسَدَ حَجَّهُ بِالْجِمَاعِ فَالْوَاجِبُ فِيهِ بَدَنَةٌ ؛ بِقَوْلِ الصَّحَابَةِ الْمُنْتَشِرِ الَّذِي لَمْ يَظْهَرْ خِلَافُهُ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ

فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعَ ، كَصِيَامِ الْمُتْعَةِ .
كَذَلِكَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو .
رَوَاهُ عَنْهُمْ الْأَثْرَمُ .
وَلَمْ يَظْهَرْ فِي الصَّحَابَةِ خِلَافُهُمْ ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا ، فَيَكُونُ بَدَلُهُ مَقِيسًا عَلَى بَدَلِ دَمِ الْمُتْعَةِ .
وَقَالَ أَصْحَابُنَا : يُقَوِّمُ الْبَدَنَةَ بِدَرَاهِمَ ، ثُمَّ يَشْتَرِي بِهَا طَعَامًا فَيُطْعِمُ كُلَّ مِسْكِينٍ مُدًّا ، وَيَصُومُ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا ، فَتَكُونُ مُلْحَقَةً بِالْبَدَنَةِ الْوَاجِبَةِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ .
وَيُقَاسُ عَلَى فِدْيَةِ الْأَذَى مَا وَجَبَ بِفِعْلٍ مَحْظُورٍ يَتَرَفَّهُ بِهِ ، كَتَقْلِيمِ الْأَظَافِرِ ، وَاللُّبْسِ ، وَالطِّيبِ .
وَكُلُّ اسْتِمْتَاعٍ مِنْ النِّسَاءِ يُوجِبُ شَاةً كَالْوَطْءِ فِي الْعُمْرَةِ أَوْ فِي الْحَجِّ بَعْدَ رَمْيِ الْجَمْرَةِ ، فَإِنَّهُ فِي مَعْنَى فِدْيَةِ الْأَذَى مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ ، فَيُقَاسُ عَلَيْهِ ، وَيُلْحَقُ بِهِ ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِامْرَأَةٍ وَقَعَ عَلَيْهَا زَوْجُهَا قَبْلَ أَنْ تُقَصِّرَ : عَلَيْك فِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ رَوَاهُ الْأَثْرَمُ .

( 2725 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَكُلُّ هَدْيٍ أَوْ إطْعَامٍ فَهُوَ لِمَسَاكِينِ الْحَرَمِ ، إنْ قَدَرَ عَلَى إيصَالِهِ إلَيْهِمْ ، إلَّا مَنْ أَصَابَهُ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ ، فَيُفَرِّقُهُ عَلَى الْمَسَاكِينِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي حَلَقَ فِيهِ ) أَمَّا فِدْيَةُ الْأَذَى ، فَتَجُوزُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي حَلَقَ فِيهِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا تَجُوزُ إلَّا فِي الْحَرَمِ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } .
وَلَنَا { ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ بِالْفِدْيَةِ بِالْحُدَيْبِيَةِ ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِبَعْثِهِ إلَى الْحَرَمِ } .
وَرَوَى الْأَثْرَمُ وَإِسْحَاقُ وَالْجُوزَجَانِيُّ ، فِي " كِتَابَيْهِمَا " عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ ، قَالَ : كُنْت مَعَ عُثْمَانَ ، وَعَلِيٍّ ، وَحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، حُجَّاجًا ، فَاشْتَكَى حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ بِالسُّقْيَا ، فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إلَى رَأْسِهِ ، فَحَلَقَهُ عَلِيٌّ ، وَنَحَرَ عَنْهُ جَزُورًا بِالسُّقْيَا .
هَذَا لَفْظُ رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ .
وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُمْ مُخَالِفٌ .
وَالْآيَةُ وَرَدَتْ فِي الْهَدْيِ ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ اخْتِصَاصُ ذَلِكَ بِفِدْيَةِ الشَّعْرِ ، وَمَا عَدَاهُ مِنْ الدِّمَاءِ فَبِمَكَّةَ .
وَقَالَ الْقَاضِي ، فِي الدِّمَاءِ الْوَاجِبَةِ بِفِعْلِ مَحْظُورٍ ، كَاللِّبَاسِ وَالطِّيبِ : هِيَ كَدَمِ الْحَلْقِ .
وَفِي الْجَمِيعِ رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا ، يَفْدِي حَيْثُ وُجِدَ سَبَبُهُ .
وَالثَّانِيَةُ ، مَحِلُّ الْجَمِيعِ الْحَرَمُ .
وَأَمَّا جَزَاءُ الصَّيْدِ فَهُوَ لِمَسَاكِينِ الْحَرَمِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، فَقَالَ : أَمَّا مَا كَانَ بِمَكَّةَ ، أَوْ كَانَ مِنْ الصَّيْدِ ، فَكُلٌّ بِمَكَّةَ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ } .
وَمَا كَانَ مِنْ فِدْيَةِ الرَّأْسِ فَحَيْثُ حَلَقَهُ .
وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي قَتْلِ الصَّيْدِ رِوَايَةً أُخْرَى ، أَنَّهُ يَفْدِي حَيْثُ قَتَلَهُ .
وَهَذَا يُخَالِفُ نَصَّ الْكِتَابِ ، وَنَصَّ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ

حَلْقِ الرَّأْسِ ، فَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ .
وَمَا وَجَبَ لِتَرْكِ نُسُكٍ أَوْ فَوَاتٍ ، فَهُوَ لِمَسَاكِينِ الْحَرَمِ دُونَ غَيْرِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ هَدْيٌ وَجَبَ لِتَرْكِ نُسُكٍ ، فَأَشْبَهَ هَدْيَ الْقُرْآنِ .
وَإِنْ فَعَلَ الْمَحْظُورَ لِغَيْرِ سَبَبٍ يُبِيحُهُ ، فَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ أَنَّهُ يَخْتَصُّ ذَبْحُهُ وَتَفْرِقَةُ لَحْمِهِ بِالْحَرَمِ ، كَسَائِرِ الْهَدْيِ .

( 2726 ) فَصْلٌ : وَمَا وَجَبَ نَحْرُهُ بِالْحَرَمِ ، وَجَبَ تَفْرِقَةُ لَحْمِهِ بِهِ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ : إذَا ذَبَحَهَا فِي الْحَرَمِ ، جَازَ تَفْرِقَةُ لَحْمِهَا فِي الْحِلِّ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ أَحَدُ مَقْصُودَيْ النُّسُكِ ، فَلَمْ يَجُزْ فِي الْحِلِّ ، كَالذَّبْحِ ، وَلِأَنَّ الْمَعْقُولَ مِنْ ذَبْحِهِ بِالْحَرَمِ التَّوْسِعَةُ عَلَى مَسَاكِينِهِ ، وَهَذَا لَا يَحْصُلُ بِإِعْطَاءِ غَيْرِهِمْ ، وَلِأَنَّهُ نُسُكٌ يَخْتَصُّ بِالْحَرَمِ ، فَكَانَ جَمِيعُهُ مُخْتَصًّا بِهِ ، كَالطَّوَافِ ، وَسَائِرِ الْمَنَاسِكِ .
( 2727 ) فَصْلٌ : وَالطَّعَامُ كَالْهَدْيِ ، يَخْتَصُّ بِمَسَاكِينِ الْحَرَمِ فِيمَا يَخْتَصُّ الْهَدْيُ بِهِ .
وَقَالَ عَطَاءٌ ، وَالنَّخَعِيُّ : مَا كَانَ مِنْ هَدْيٍ فَبِمَكَّةَ ، وَمَا كَانَ مِنْ طَعَامٍ وَصِيَامٍ فَحَيْثُ شَاءَ .
وَهَذَا يَقْتَضِيه مَذْهَبُ مَالِكٍ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ وَلَنَا ، قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ : الْهَدْيُ وَالطَّعَامُ بِمَكَّةَ ، وَالصَّوْمُ حَيْثُ شَاءَ .
وَلِأَنَّهُ نُسُكٌ يَتَعَدَّى نَفْعُهُ إلَى الْمَسَاكِينِ فَاخْتَصَّ بِالْحَرَمِ ، كَالْهَدْيِ .

( 2728 ) فَصْلٌ : وَمَسَاكِينُ أَهْلِ الْحَرَمِ مَنْ كَانَ فِيهِ مِنْ أَهْلِهِ ، أَوْ وَارِدٍ إلَيْهِ مِنْ الْحَاجِّ وَغَيْرِهِمْ وَهُمْ الَّذِينَ يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَيْهِمْ .
وَلَوْ دَفَعَ إلَى مَنْ ظَاهِرُهُ الْفَقْرُ ، فَبَانَ غَنِيًّا ، خُرِّجَ فِيهِ وَجْهَانِ كَالزَّكَاةِ .
وَلِلشَّافِعِي فِيهِ قَوْلَانِ .
وَمَا جَازَ تَفْرِيقُهُ بِغَيْرِ الْحَرَمِ ، لَمْ يَجُزْ دَفْعُهُ إلَى فُقَرَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ .
وَجَوَّزَهُ أَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ كَافِرٌ ، فَلَمْ يَجُزْ الدَّفْعُ إلَيْهِ ، كَالْحَرْبِيِّ .

( 2729 ) فَصْلٌ : وَإِذَا نَذَرَ هَدْيًا وَأَطْلَقَ ، فَأَقَلُّ مَا يُجْزِئُهُ شَاةٌ ، أَوْ سُبْعُ بَدَنَةٍ أَوْ بَقَرَةٍ ؛ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ فِي النَّذْرِ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الْمَعْهُودِ شَرْعًا ، وَالْهَدْيُ الْوَاجِبُ فِي الشَّرْعِ إنَّمَا هُوَ مِنْ النَّعَمِ ، وَأَقَلُّهُ مَا ذَكَرْنَاهُ ، فَحُمِلَ عَلَيْهِ ، وَلِهَذَا لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمُتْعَةِ : { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ } .
حُمِلَ عَلَى مَا قُلْنَا .
فَإِنْ اخْتَارَ إخْرَاجَ بَدَنَةٍ كَامِلَةٍ ، فَهُوَ أَفْضَلُ ، وَهَلْ تَكُونُ كُلُّهَا وَاجِبَةً ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا تَكُونُ وَاجِبَةً .
اخْتَارَهُ ابْنُ عَقِيلٍ ؛ لِأَنَّهُ اخْتَارَ الْأَعْلَى لِأَدَاءِ فَرْضِهِ ، فَكَانَ كُلُّهُ وَاجِبًا ، كَمَا لَوْ اخْتَارَ الْأَعْلَى مِنْ خِصَالِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ أَوْ كَفَّارَةِ الْوَطْءِ فِي الْحَيْضِ .
وَالثَّانِي ، يَكُونُ سُبْعُهَا وَاجِبًا ، وَالْبَاقِي تَطَوُّعًا ، لَهُ أَكْلُهُ وَهَدِيَّتُهُ ؛ لِأَنَّ الزَّائِدَ عَلَى السُّبْعِ يَجُوزُ تَرْكُهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ وَلَا بَدَلٍ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ ذَبَحَ شَاتَيْنِ .
فَإِنْ عَيَّنَ الْهَدْيَ بِشَيْءٍ ، لَزِمَهُ مَا عَيَّنَهُ ، وَأَجْزَأَهُ ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ أَوْ مِنْ غَيْرِهَا ، وَسَوَاءٌ كَانَ حَيَوَانًا أَوْ غَيْرَهُ ، مِمَّا يُنْقَلُ أَوْ مِمَّا لَا يُنْقَلُ ؛ فَإِنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ رَاحَ يَعْنِي إلَى الْجُمُعَةِ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً } .
فَذَكَرَ الدَّجَاجَةَ وَالْبَيْضَةَ فِي الْهَدْيِ .
وَعَلَيْهِ إيصَالُهُ إلَى فُقَرَاءِ الْحَرَمِ ؛ لِأَنَّهُ سَمَّاهُ هَدْيًا ، وَأَطْلَقَ ، فَيُحْمَلُ عَلَى مَحِلِّ الْهَدْيِ الْمَشْرُوعِ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } .
فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُنْقَلُ ، كَالْعَقَارِ ، بَاعَهُ ، وَبَعَثَ ثَمَنَهُ إلَى الْحَرَمِ ، فَيَتَصَدَّقُ بِهِ فِيهِ .
( 2730 ) فَصْلٌ : وَإِنْ نَذَرَ هَدْيًا مُطْلَقًا أَوْ مُعَيَّنًا ، وَأَطْلَقَ مَكَانَهُ ، وَجَبَ عَلَيْهِ

إيصَالُهُ إلَى مَسَاكِينِ الْحَرَمِ .
وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ ذَبْحَهُ حَيْثُ شَاءَ ، كَمَا لَوْ نَذَرَ الصَّدَقَةَ بِشَاةٍ .
وَلَنَا ، قَوْله تَعَالَى : { ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } .
وَلِأَنَّ النَّذْرَ يُحْمَلُ عَلَى الْمَعْهُودِ شَرْعًا ، وَالْمَعْهُودُ فِي الْهَدْيِ الْوَاجِبِ بِالشَّرْعِ ، كَهَدْيِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ وَأَشْبَاهِهِمَا ، أَنَّ ذَبْحَهَا يَكُونُ فِي الْحَرَمِ ، كَذَا هَاهُنَا .
وَإِنْ عَيَّنَ نَذْرَهُ بِمَوْضِعٍ غَيْرِ الْحَرَمِ ، لَزِمَهُ ذَبْحُهُ بِهِ ، وَتَفْرِقَةُ لَحْمِهِ عَلَى مَسَاكِينِ الْحَرَمِ وَإِطْلَاقُهُ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنِّي نَذَرْت أَنْ أَنْحَرَ بِبُوَانَةَ .
قَالَ : أَبِهَا صَنَمٌ ؟ قَالَ : لَا .
قَالَ : أَوْفِ بِنَذْرِك } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَإِنْ نَذَرَ الذَّبْحَ بِمَوْضِعٍ بِهِ صَنَمٌ ، أَوْ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ الْكُفْرِ أَوْ الْمَعَاصِي ، كَبُيُوتِ النَّارِ ، أَوْ الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ ، لَمْ يَصِحَّ نَذْرُهُ ، بِمَفْهُومِ هَذَا الْحَدِيثِ ، وَلِأَنَّهُ نَذْرُ مَعْصِيَةٍ ، فَلَا يُوفَى بِهِ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ } .
وَقَوْلِهِ : { مَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ } .
( 2731 ) فَصْلٌ : وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ : " إنْ قَدَرَ عَلَى إيصَالِهِ إلَيْهِمْ " .
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَاجِزَ عَنْ إيصَالِهِ لَا يَلْزَمُهُ إيصَالُهُ ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا .
فَإِنْ مُنِعَ النَّاذِرُ الْوُصُولَ بِنَفْسِهِ ، وَأَمْكَنَهُ تَنْفِيذُهُ ، لَزِمَهُ .
قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ إذَا حُصِرَ عَنْ الْخُرُوجِ خُرِّجَ فِي ذَبْحِ هَذَا الْهَدْيِ الْمَنْذُورِ فِي مَوْضِعِ حَصْرِهِ رِوَايَتَانِ ، كَدِمَاءِ الْحَجِّ وَاخْتَارَ أَنَّ الصَّحِيحَ جَوَازُ ذَبْحِهِ فِي مَوْضِعِ حَصْرِهِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحَرَ هَدْيَهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ .
وَالثَّانِيَةُ ، إنَّ أَمْكَنَ إرْسَالُهُ مَعَ غَيْرِهِ ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ ذَبْحُهُ فِي

مَوْضِعِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ إيصَالُ الْمَنْذُورِ إلَى مَحِلِّهِ ، فَلَزِمَهُ ، كَغَيْرِ الْمَحْصُورِ .

( 2732 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَأَمَّا الصِّيَامُ فَيُجْزِئُهُ بِكُلِّ مَكَان ) لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا .
كَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَعَطَاءٌ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَغَيْرُهُمْ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الصِّيَامَ لَا يَتَعَدَّى نَفْعُهُ إلَى أَحَدٍ ، فَلَا مَعْنَى لِتَخْصِيصِهِ بِمَكَانٍ ، بِخِلَافِ الْهَدْيِ وَالْإِطْعَامِ ، فَإِنَّ نَفْعَهُ يَتَعَدَّى إلَى مَنْ يُعْطَاهُ .

( 2733 ) فَصْلٌ : وَيُسَنُّ تَقْلِيدُ الْهَدْيِ ، وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ فِي أَعْنَاقِهَا النِّعَالَ ، وَآذَانَ الْقِرَبِ ، وَعُرَاهَا ، أَوْ عَلَاقَةَ إدَاوَةٍ .
وَسَوَاءٌ كَانَتْ إبِلًا ، أَوْ بَقَرًا ، أَوْ غَنَمًا .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُسَنُّ تَقْلِيدُ الْغَنَمِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ سُنَّةً لَنُقِلَ كَمَا نُقِلَ فِي الْإِبِلِ .
وَلَنَا ، أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ : { كُنْت أَفْتِلُ الْقَلَائِدَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُقَلِّدَ الْغَنَمَ ، وَيُقِيمُ فِي أَهْلِهِ حَلَالًا .
} وَفِي لَفْظٍ : { كُنْت أَفْتِلُ قَلَائِدَ الْغَنَمِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
} رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَلِأَنَّهُ هَدْيٌ ، فَيُسَنُّ تَقْلِيدُهُ كَالْإِبِلِ ، وَلِأَنَّهُ إذَا سُنَّ تَقْلِيدُ الْإِبِلِ مَعَ إمْكَانِ تَعْرِيفِهَا بِالْأَشْعَارِ ، فَالْغَنَمُ ، أَوْلَى ، وَلَيْسَ التَّسَاوِي فِي النَّقْلِ شَرْطًا لِصِحَّةِ الْحَدِيثِ ، وَلِأَنَّهُ كَانَ يُهْدِي الْإِبِلَ أَكْثَرِ ، فَكَثُرَ نَقْلُهُ .

( 2734 ) فَصْلٌ : وَيُسَنُّ إشْعَارُ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ ، وَهُوَ أَنْ يَشُقَّ صَفْحَةَ سَنَامِهَا الْأَيْمَنِ حَتَّى يُدْمِيَهَا ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : هَذَا مُثْلَةٌ غَيْرُ جَائِزٍ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ ، وَلِأَنَّهُ إيلَامٌ ، فَهُوَ كَقَطْعِ عُضْوٍ مِنْهُ .
وَقَالَ مَالِكٌ : إنْ كَانَتْ الْبَقَرَةُ ذَاتَ سَنَامٍ ، فَلَا بَأْسَ بِإِشْعَارِهَا ، وَإِلَّا فَلَا .
وَلَنَا ، مَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : { فَتَلْتُ قَلَائِدَ هَدْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَشْعَرَهَا وَقَلَّدَهَا } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَغَيْرُهُ ، وَفَعَلَهُ الصَّحَابَةُ ، فَيَجِبُ تَقْدِيمُهُ عَلَى عُمُومِ مَا احْتَجُّوا بِهِ ، وَلِأَنَّهُ إيلَامٌ لِغَرَضِ صَحِيحٍ فَجَازَ ، كَالْكَيِّ ، وَالْوَسْمِ ، وَالْفَصْدِ ، وَالْحِجَامَةِ .
وَالْغَرَضُ أَنْ لَا تَخْتَلِطَ بِغَيْرِهَا ، وَأَنْ يَتَوَقَّاهَا اللِّصُّ ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِالتَّقْلِيدِ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَنْحَلَ وَيَذْهَبَ .
وَقِيَاسُهُمْ مُنْتَقِضٌ بِالْكَيِّ وَالْوَسْمِ .
وَتُشْعَرُ الْبَقَرَةُ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ الْبُدْنِ ، فَتُشْعَرُ كَذَاتِ السَّنَامِ .
وَأَمَّا الْغَنَمُ فَلَا يُسَنُّ إشْعَارُهَا ؛ لِأَنَّهَا ضَعِيفَةٌ ، وَصُوفُهَا وَشَعْرُهَا يَسْتُرُ مَوْضِعَ إشْعَارِهَا .
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَالسُّنَّةُ الْإِشْعَارُ فِي صَفْحَتِهَا الْيُمْنَى .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَأَبُو يُوسُفَ : بَلْ تُشْعَرُ فِي صَفْحَتِهَا الْيُسْرَى .
وَعَنْ أَحْمَدَ مِثْلُهُ ؛ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ فَعَلَهُ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِذِي الْحُلَيْفَةِ ، ثُمَّ دَعَا بِبَدَنَةِ وَأَشْعَرَهَا مِنْ صَفْحَةِ سَنَامِهَا الْأَيْمَنِ ، وَسَلَتَ الدَّمَ عَنْهَا بِيَدِهِ .
} رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَأَمَّا ابْنُ عُمَرَ فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ كَمَذْهَبِنَا .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ثُمَّ فِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ ابْنِ

عُمَرَ وَفِعْلِهِ بِلَا خِلَافٍ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَانَ يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ } .
وَإِذَا سَاقَ الْهَدْيَ مِنْ قِبَلِ الْمِيقَاتِ ، اُسْتُحِبَّ إشْعَارُهُ وَتَقْلِيدُهُ مِنْ الْمِيقَاتِ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَإِنْ تَرَكَ الْإِشْعَارَ وَالتَّقْلِيدَ ، فَلَا بَأْسَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ وَاجِبٍ .

( 2735 ) فَصْلٌ : وَلَا يُسَنُّ الْهَدْيُ إلَّا مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ } .
وَأَفْضَلُهُ الْإِبِلُ ، ثُمَّ الْبَقَرُ ، ثُمَّ الْغَنَمُ ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ ، ثُمَّ رَاحَ ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِامْرَأَةٍ أَصَابَهَا زَوْجُهَا فِي الْعُمْرَةِ : عَلَيْك فِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ ، أَوْ صَدَقَةٍ ، أَوْ نُسُكٍ .
قَالَتْ : أَيُّ النُّسُكِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : إنْ شِئْت فَنَاقَةٌ ، وَإِنْ شِئْت فَبَقَرَةٌ .
قَالَتْ : أَيُّ ذَلِكَ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : انْحَرِي نَاقَةً .
رَوَاهُ الْأَثْرَمُ .
وَلِأَنَّ مَا كَانَ أَكْثَرَ لَحْمًا كَانَ أَنْفَعَ لِلْفُقَرَاءِ ، وَلِذَلِكَ أَجْزَأَتْ الْبَدَنَةُ مَكَانَ سَبْعٍ مِنْ الْغَنَمِ ، وَالشَّاةُ أَفْضَلُ مِنْ سُبْعِ بَدَنَةٍ ؛ لِأَنَّ لَحْمَهَا أَطْيَبُ ، وَالضَّأْنُ أَفْضَلُ مِنْ الْمَعْزِ لِذَلِكَ .

( 2736 ) فَصْلٌ : وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَى فِي الْهَدْيِ سَوَاءٌ .
وَمِمَّنْ أَجَازَ ذَكَرَانِ الْإِبِلِ ابْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَمَالِكٌ ، وَعَطَاءٌ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّهُ قَالَ : مَا رَأَيْت أَحَدًا فَاعِلًا ذَلِكَ ، وَأَنْ أَنْحَرَ أُنْثَى أَحَبُّ إلَيَّ .
وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } .
وَلَمْ يَذْكُرْ ذَكَرًا وَلَا أُنْثَى ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْدَى جَمَلًا لِأَبِي جَهْلٍ ، فِي أَنْفِهِ بُرَّةٌ مِنْ فِضَّةٍ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَابْنُ مَاجَهْ .
وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ مِنْ سَائِرِ أَنْوَاعِ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ " .
فَكَذَلِكَ مِنْ الْإِبِلِ ، وَلِأَنَّ الْقَصْدَ اللَّحْمُ ، وَلَحْمُ الذَّكَرِ أَوْفَرُ ، وَلَحْمُ الْأُنْثَى أَرْطَبُ ، فَيَتَسَاوَيَانِ .
قَالَ أَحْمَدُ : الْخَصِيُّ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ النَّعْجَةِ .
وَذَلِكَ لِأَنَّ لَحْمَهُ أَوْفَرُ وَأَطْيَبُ .

( 2737 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ بَدَنَةٌ ، فَذَبَحَ سَبْعًا مِنْ الْغَنَمِ ، أَجْزَأَهُ ) وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ سَبْعًا مِنْ الْغَنَمِ يُجْزِئُ عَنْ الْبَدَنَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا .
سَوَاءٌ كَانَتْ الْبَدَنَةُ وَاجِبَةً بِنَذْرٍ ، أَوْ جَزَاءِ صَيْدٍ ، أَوْ كَفَّارَةِ وَطْءٍ .
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : إنَّمَا يُجْزِئُ ذَلِكَ عَنْهَا عِنْدَ عَدَمِهَا ، فِي ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ لِأَنَّ ذَلِكَ بَدَلٌ عَنْهَا ، فَلَا يُصَارُ إلَيْهِ مَعَ وُجُودِهَا ، كَسَائِرِ الْأَبْدَالِ .
فَأَمَّا مَعَ عَدَمِهَا فَيَجُوزُ ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ ، قَالَ : { أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ ، فَقَالَ : إنَّ عَلَيَّ بَدَنَةً ، وَأَنَا مُوسِرٌ لَهَا ، وَلَا أَجِدُهَا فَأَشْتَرِيَهَا فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبْتَاعَ سَبْعَ شِيَاهٍ فَيَذْبَحَهُنَّ .
} رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
وَلَنَا ، أَنَّ الشَّاةَ مَعْدُولَةٌ بِسُبْعِ بَدَنَةٍ ، وَهِيَ أَطْيَبُ لَحْمًا ، فَإِذَا عَدَلَ عَنْ الْأَدْنَى إلَى الْأَعْلَى جَازَ ، كَمَا لَوْ ذَبَحَ بَدَنَةً مَكَانَ شَاةٍ .
( 2738 ) فَصْلٌ : وَمِنْ وَجَبَ عَلَيْهِ سَبْعٌ مِنْ الْغَنَمِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ ، لَمْ يُجْزِئْهُ بَدَنَةٌ فِي الظَّاهِرِ ؛ لِأَنَّ سَبْعًا مِنْ الْغَنَمِ أَطْيَبُ لَحْمًا ، فَلَا يَعْدِلُ عَنْ الْأَعْلَى إلَى الْأَدْنَى ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي كَفَّارَةِ مَحْظُورٍ ، أَجْزَأَهُ بَدَنَةٌ ؛ لِأَنَّ الدَّمَ الْوَاجِبَ فِيهِ مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ ، وَهُوَ شَاةٌ ، أَوْ سُبْعُ بَدَنَةٍ ، وَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَمَتَّعُونَ ، فَيَذْبَحُونَ الْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ ، قَالَ جَابِرٌ : { كُنَّا نَتَمَتَّعُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَذْبَحُ الْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ ، نَشْتَرِكُ فِيهَا } .
وَفِي لَفْظٍ { أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَشْتَرِكَ فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ ، كُلُّ سَبْعَةٍ مِنَّا فِي بَدَنَةٍ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
( 2739 ) فَصْلٌ : وَمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ بَقَرَةٌ ، أَجْزَأَتْهُ بَدَنَةٌ : لِأَنَّهَا

أَكْثَرُ لَحْمًا وَأَوْفَرُ .
وَيُجْزِئُهُ سَبْعٌ مِنْ الْغَنَمِ ؛ لِأَنَّهَا تُجْزِئُ عَنْ الْبَدَنَةِ ، فَعَنْ الْبَقَرَةِ أَوْلَى .
وَمِنْ لَزِمَهُ بَدَنَةٌ ، فِي غَيْرِ النَّذْرِ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ ، أَجْزَأَتْهُ بَقَرَةٌ ؛ لِمَا رَوَى أَبُو الزُّبَيْرِ ، عَنْ جَابِرٍ ، قَالَ : كُنَّا نَنْحَرُ الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ .
فَقِيلَ لَهُ : وَالْبَقَرَةُ ؟ فَقَالَ : وَهَلْ هِيَ إلَّا مِنْ الْبُدْنِ ، فَأَمَّا فِي النَّذْرِ فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : يَلْزَمُهُ مَا نَوَاهُ : فَإِنْ أَطَلَقَ فَعَنْهُ رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا ، تُجْزِئُهُ الْبَقَرَةُ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْخَبَرِ .
وَالْأُخْرَى ، لَا تُجْزِئُهُ إلَّا أَنْ يَعْدَمَ الْبَدَنَةَ .
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهَا بَدَلٌ ، فَاشْتُرِطَ عَدَمُ الْمُبْدَلِ .
وَالْأُولَى أَوْلَى ؛ لِلْخَبَرِ ، وَلِأَنَّ مَا أَجْزَأَ عَنْ سَبْعَةٍ فِي الْهَدَايَا وَدَمِ الْمُتْعَةِ ، أَجْزَأَ فِي النَّذْرِ بِلَفْظِ الْبَدَنَةِ ، كَالْجَزُورِ .

( 2740 ) فَصْلٌ : وَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِكَ السَّبْعَةُ فِي الْبَدَنَةِ وَالْبَقَرَةِ ، سَوَاءٌ كَانَ وَاجِبًا أَوْ تَطَوُّعًا ، وَسَوَاءٌ أَرَادَ جَمِيعُهُمْ الْقُرْبَةَ ، أَوْ بَعْضُهُمْ ، وَأَرَادَ الْبَاقُونَ اللَّحْمَ .
وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَجُوزُ الِاشْتِرَاكُ فِي الْهَدْيِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ إذَا كَانُوا مُتَفَرِّقِينَ كُلُّهُمْ ، وَلَا يَجُوزُ إذَا لَمْ يُرِدْ بَعْضُهُمْ الْقُرْبَةَ .
وَحَدِيثُ جَابِرٍ يَرُدُّ قَوْلَ مَالِكٍ .
وَلَنَا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ ، أَنَّ الْجُزْءَ الْمُجْزِيَ لَا يَنْقُصُ بِإِرَادَةِ الشَّرِيكِ غَيْرَ الْقُرْبَةِ ، فَجَازَ ، كَمَا لَوْ اخْتَلَفَتْ جِهَاتُ الْقُرْبِ ، فَأَرَادَ بَعْضُهُمْ الْمُتْعَةَ وَالْآخَرُ الْقِرَانَ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَقْتَسِمُوا اللَّحْمَ ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ إفْرَازُ حَقٍّ ، وَلَيْسَتْ بَيْعًا .

( 2741 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَمَا لَزِمَ مِنْ الدِّمَاءِ ، فَلَا يُجْزِئُ إلَّا الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ وَالثَّنِيُّ مِنْ غَيْرِهِ ) هَذَا فِي غَيْرِ جَزَاءِ الصَّيْدِ ، فَأَمَّا جَزَاءُ الصَّيْدِ ، فَمِنْهُ جَفْرَةٌ وَعَنَاقٌ وَجَدْيٌ وَصَحِيحٌ وَمَعِيبٌ ، وَأَمَّا فِي غَيْرِهِ ، مِثْلِ هَدْيِ الْمُتْعَةِ وَغَيْرِهِ ، فَلَا يُجْزِئُ إلَّا الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ ، وَهُوَ الَّذِي لَهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ ، وَالثَّنِيُّ مِنْ غَيْرِهِ ، وَثَنِيُّ الْمَعْزِ مَا لَهُ سَنَةٌ ، وَثَنِيُّ الْبَقَرِ مَا لَهُ سَنَتَانِ ، وَثَنِيُّ الْإِبِلِ مَا لَهُ خَمْسُ سِنِينَ .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَاللَّيْثُ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ ، وَالزُّهْرِيُّ : لَا يُجْزِئُ إلَّا الثَّنِيُّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ .
وَقَالَ عَطَاءٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ : يُجْزِئُ الْجَذَعُ مِنْ الْكُلِّ ، إلَّا الْمَعْزَ .
وَلَنَا عَلَى الزُّهْرِيِّ ، مَا رُوِيَ عَنْ أُمِّ بِلَالِ بِنْتِ هِلَالٍ ، عَنْ أَبِيهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا يَجُوزُ إلَّا الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ أُضْحِيَّةً } .
وَعَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ ، قَالَ : { كُنَّا مَعَ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَالُ لَهُ مُجَاشِعٌ ، مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ ، فَعَزَّتْ الْغَنَمُ ، فَأَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ : إنَّ الْجَذَعَ يُوفِي مَا تُوفِي مِنْهُ الثَّنِيَّةُ } .
وَعَنْ جَابِرٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تَذْبَحُوا إلَّا مُسِنَّةً ، إلَّا أَنْ يَعْسُرَ عَلَيْكُمْ فَتَذْبَحُوا جَذَعًا مِنْ الضَّأْنِ } .
رَوَاهُنَّ ابْنُ مَاجَهْ .
وَرَوَى حَدِيثَ جَابِرٍ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد .
وَهَذَا حُجَّةٌ عَلَى عَطَاءٍ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ .
وَحَدِيثُ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ ، حِينَ { قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنَّ عِنْدِي عَنَاقًا جَذَعًا ، هِيَ خَيْرٌ مِنْ شَاتَيْ لَحْمٍ .
فَقَالَ : تُجْزِئُكَ ، وَلَا تُجْزِئُ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَك } .
أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ .

وَفِي لَفْظٍ : إنَّ عِنْدِي دَاجِنًا جَذَعَةً مِنْ الْمَعْزِ .
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْهَرَوِيُّ ، قَالَ إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ : إنَّمَا يُجْزِئُ الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ فِي الْأَضَاحِيِّ ؛ لِأَنَّهُ يَنْزُو فَيُلَقِّحُ ، فَإِذَا كَانَ مِنْ الْمَعْزِ لَمْ يُلَقِّحْ حَتَّى يَصِيرَ ثَنِيًّا .

فَصْلٌ : وَيَمْنَعُ مِنْ الْعُيُوبِ فِي الْهَدْيِ مَا يَمْنَعُ فِي الْأُضْحِيَّةِ .
قَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ : { قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَرْبَعٌ لَا تَجُوزُ فِي الْأَضَاحِيِّ : الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا ، وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا ، وَالْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ ظَلْعُهَا ، وَالْكَسِيرَةُ الَّتِي لَا تَنْقَى .
قَالَ : قُلْت : إنِّي أَكْرَهُ أَنْ يَكُونَ فِي السِّنِّ نَقْصٌ .
قَالَ : مَا كَرِهْت فَدَعْهُ ، وَلَا تُحَرِّمْهُ عَلَى أَحَدٍ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ .
وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ ، قَالَ : أَمَّا الَّذِي سَمِعْنَاهُ فَالْأَرْبَعُ ، وَكُلُّ شَيْءٍ سِوَاهُنَّ جَائِزٌ .
وَمَعْنَى قَوْلِهِ : " الْبَيِّنُ عَوَرُهَا " .
أَيْ انْخَسَفَتْ عَيْنُهَا وَذَهَبَتْ ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُنْقِصُهَا ؛ لِأَنَّ شَحْمَةَ الْعَيْنِ عُضْوٌ مُسْتَطَابٌ ، فَلَوْ كَانَ عَلَى عَيْنِهَا بَيَاضٌ وَلَمْ تَذْهَبْ الْعَيْنُ ، جَازَتْ التَّضْحِيَةُ بِهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُنْقِصُهَا فِي اللَّحْمِ .
وَالْعَرْجَاءُ الْبَيْنُ عَرَجُهَا : الَّتِي عَرَجُهَا مُتَفَاحِشٌ يَمْنَعُهَا السَّيْرَ مَعَ الْغَنَمِ ، وَمُشَارَكَتَهُنَّ فِي الْعَلَفِ ، وَيُهْزِلُهَا .
وَاَلَّتِي لَا تَنْقَى : الَّتِي لَا مُخَّ فِيهَا لِهُزَالِهَا .
وَالْمَرِيضَةُ : قِيلَ هِيَ الْجَرْبَاءُ ؛ لِأَنَّ الْجَرَبَ يُفْسِدُ اللَّحْمَ .
وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ كُلَّ مَرِيضَةٍ مَرَضًا يُؤَثِّرُ فِي هُزَالِهَا ، أَوْ فِي فَسَادِ لَحْمِهَا ، يَمْنَعُ التَّضْحِيَةَ بِهَا ، وَهَذَا أَوْلَى ، لِتَنَاوُلِ اللَّفْظِ لَهُ وَالْمَعْنَى .
فَهَذِهِ الْأَرْبَعُ لَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا فِي مَنْعِهَا .
وَيَثْبُتُ الْحُكْمُ فِيمَا نَقْصٌ أَكْثَرُ مِنْ هَذِهِ الْعُيُوبِ بِطَرِيقِ التَّنْبِيهِ ، فَلَا تَجُوزُ الْعَمْيَاءُ ؛ لِأَنَّ الْعَمَى أَكْثَرُ مِنْ الْعَوَرِ ، وَلَا يُعْتَبَرُ مَعَ الْعَمَى انْخِسَافُ الْعَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ يُخِلُّ بِالْمَشْيِ مَعَ الْغَنَمِ ، وَالْمُشَارَكَةِ فِي الْعَلَفِ أَكْثَرَ مِنْ إخْلَالِ الْعَرَجِ .
وَلَا يَجُوزُ مَا قُطِعَ مِنْهَا عُضْوٌ مُسْتَطَابٌ ، كَالْأَلْيَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي الْإِخْلَالِ

بِالْمَقْصُودِ مِنْ ذَهَابِ شَحْمَةِ الْعَيْنِ .
فَأَمَّا الْعَضْبَاءُ ، وَهِيَ مَا ذَهَبَ نِصْفُ أُذُنِهَا أَوْ قَرْنِهَا ، فَلَا تُجْزِئُ .
وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فِي عَضْبَاءِ الْأُذُنِ .
وَعَنْ أَحْمَدَ : لَا تُجْزِئُ مَا ذَهَبَ ثُلُثُ أُذُنِهَا .
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ ، وَعَمَّارٍ ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، وَالْحَسَنِ ، تُجْزِئُ الْمَكْسُورَةُ الْقَرْنِ ؛ لِأَنَّ ذَهَابَ ذَلِكَ لَا يُؤَثِّرُ فِي اللَّحْمِ ، فَأَجْزَأَتْ ، كَالْجَمَّاءِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : إنْ كَانَ يَدْمَى ، لَمْ يَجُزْ ، وَإِلَّا جَازَ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُضَحَّى بِأَعْضَبِ الْأُذُنِ وَالْقَرْنِ } .
رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَابْنُ مَاجَهْ قَالَ قَتَادَةُ : فَسَأَلْت سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ ، فَقَالَ : نَعَمْ ، الْعَضَبُ النِّصْفُ فَأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ .
وَيُحْمَلُ قَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَنْ وَافَقَهُ ، عَلَى أَنَّ كَسْرَ مَا دُونَ النِّصْفِ لَا يَمْنَعُ .

( 2743 ) فَصْلٌ : وَيُجْزِئُ الْخَصِيُّ ، سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا قُطِعَتْ خُصْيَتَاهُ أَوْ مَسْلُولًا ، وَهُوَ الَّذِي سُلَّتْ بَيْضَتَاهُ ، أَوْ مَوْجُوءًا ، وَهُوَ الَّذِي رُضَّتْ بَيْضَتَاهُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ مَوْجُوءَيْنِ .
وَالْمَرْضُوضُ كَالْمَقْطُوعِ .
وَلِأَنَّ ذَلِكَ الْعُضْوَ غَيْرُ مُسْتَطَابٍ ، وَذَهَابُهُ يُؤَثِّرُ فِي سِمَنِهِ ، وَكَثْرَةِ اللَّحْمِ وَطِيبِهِ ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ .
وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا .
وَتُجْزِئُ الْجَمَّاءُ ، وَهِيَ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ لَهَا قَرْنٌ .
وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ حَامِدٍ أَنَّهَا لَا تُجْزِئُ ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْقَرْنِ أَكْثَرُ مِنْ ذَهَابِ نِصْفِهِ .
وَالْأَوْلَى أَنَّهَا تُجْزِئُ ؛ لِأَنَّ الْقَرْنَ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ ، وَلَا وَرَدَ النَّهْيُ عَمَّ عُدِمَ فِيهِ .
وَتُجْزِئُ الصَّمْعَاءُ ، وَهِيَ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ لَهَا أُذُنٌ ، أَوْ خُلِقَتْ لَهَا أُذُنٌ صَغِيرَةٌ كَذَلِكَ .
وَتُجْزِئُ الْبَتْرَاءُ ، وَهِيَ الْمَقْطُوعَةُ الذَّنَبِ كَذَلِكَ .

( 2744 ) فَصْلٌ : وَيُكْرَهُ أَنْ يُضَحِّيَ بِمَشْقُوقَةِ الْأُذُنِ ، أَوْ مَا قُطِعَ مِنْهَا شَيْءٌ ، أَوْ مَا فِيهَا عَيْبٌ مِنْ هَذِهِ الْعُيُوبِ الَّتِي لَا تَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ ؛ لِقَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أُمِرْنَا أَنْ نَسْتَشْرِفَ الْعَيْنَ وَالْأُذُنَ .
وَلَا يُضَحِّي بِمُقَابَلَةٍ ، وَلَا مُدَابَرَةٍ ، وَلَا خَرْقَاءَ ، وَلَا شَرْقَاءَ قَالَ زُهَيْرٌ : قُلْت لِأَبِي إِسْحَاقَ : مَا الْمُقَابَلَةُ ؟ قَالَ : يُقْطَعُ طَرَفُ الْأُذُنِ .
قُلْت : فَمَا الْمُدَابَرَةُ ؟ قَالَ : يُقْطَعُ مُؤْخَرُ الْأُذُنِ .
قُلْت : فَمَا الْخَرْقَاءُ ؟ قَالَ : يُشَقُّ الْأُذُنُ .
قُلْت : فَمَا الشَّرْقَاءُ ؟ قَالَ : يُشَقُّ أُذُنُهَا لِلسِّمَةِ .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ .
قَالَ الْقَاضِي : الْخَرْقَاءُ الَّتِي انْثَقَبَتْ أُذُنُهَا .
وَالشَّرْقَاءُ الَّتِي تُشَقُّ أُذُنُهَا وَتَبْقَى كَالشَّاخَّتَيْنِ .
وَهَذَا نَهْيُ تَنْزِيهٍ .
وَيَحْصُلُ الْإِجْزَاءُ بِهَا ، لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا .

( 2745 ) فَصْلٌ : يُسْتَحَبُّ لِمَنْ أَتَى مَكَّةَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ ؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ ، وَالطَّوَافُ أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ ، وَالصَّلَاةُ بَعْدَ ذَلِكَ .
يُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : الطَّوَافُ لَكُمْ يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ ، وَالصَّلَاةُ لِأَهْلِ مَكَّةَ .
وَقَالَ عَطَاءٌ : الطَّوَافُ لِلْغُرَبَاءِ ، وَالصَّلَاةُ لِأَهْلِ الْبَلَدِ .
قَالَ : وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : يَزُورُ الْبَيْتَ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ مِنًى .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَخْتَارُ الْإِقَامَةَ بِمِنًى ؛ لِأَنَّهَا أَيَّامُ مِنًى .
وَاحْتَجَّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بِحَدِيثِ أَبِي حَسَّانَ ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُفِيضُ كُلَّ لَيْلَةٍ .
}

( 2746 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ حَجَّ أَنْ يَدْخُلَ الْبَيْتَ ، وَيُصَلِّي فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ بِنَعْلَيْهِ ، وَلَا خُفَّيْهِ ، وَلَا الْحِجْرَ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْحِجْرَ مِنْ الْبَيْتِ .
وَلَا يَدْخُلُ الْكَعْبَةَ بِسِلَاحٍ .
قَالَ : وَثِيَابُ الْكَعْبَةِ إذَا نُزِعَتْ يُتَصَدَّقُ بِهَا .
وَقَالَ : إذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَشْفِيَ بِشَيْءِ مِنْ طِيبِ الْكَعْبَةِ ، فَلْيَأْتِ بِطِيبٍ مِنْ عِنْدِهِ ، فَلْيَلْزِقْهُ عَلَى الْبَيْتِ ، ثُمَّ يَأْخُذْهُ ، وَلَا يَأْخُذْ مِنْ طِيبِ الْبَيْتِ شَيْئًا ، وَلَا يُخْرِجْ مِنْ تُرَابِ الْحَرَمِ ، وَلَا يُدْخِلْ فِيهِ مِنْ الْحِلِّ .
كَذَلِكَ قَالَ عُمَرُ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَلَا يُخْرِجْ مِنْ حِجَارَةِ مَكَّةَ وَتُرَابِهَا إلَى الْحِلِّ ، وَالْخُرُوجُ أَشَدُّ إلَّا أَنَّ مَاءَ زَمْزَمَ أَخْرَجَهُ كَعْبٌ .

( 2747 ) فَصْلٌ : قَالَ أَحْمَدُ كَيْفَ لَنَا بِالْجِوَارِ بِمَكَّةَ ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّكِ لَأَحَبُّ الْبِقَاعِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْت مِنْك مَا خَرَجْت } .
وَإِنَّمَا كُرِهَ الْجِوَارُ بِمَكَّةَ لِمَنْ هَاجَرَ مِنْهَا ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ جَاوَرَ بِمَكَّةَ ، وَجَمِيعُ أَهْلِ الْبِلَادِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْيَمِينِ لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَخْرُجُ وَيُهَاجِرُ .
أَيْ لَا بَأْسَ بِهِ .
وَابْنُ عُمَرَ كَانَ يُقِيمُ بِمَكَّةَ .
قَالَ : وَالْمُقَامُ بِالْمَدِينَةِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الْمُقَامِ بِمَكَّةَ لِمَنْ قَوِيَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهَا مُهَاجَرُ الْمُسْلِمِينَ .
.
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا يَصْبِرُ أَحَدٌ عَلَى لَأْوَائِهَا وَشِدَّتِهَا إلَّا كُنْت لَهُ شَفِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ .
}

( 2748 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ زِيَارَةُ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ لِمَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ حَجَّ ، فَزَارَ قَبْرِي بَعْدَ وَفَاتِي ، فَكَأَنَّمَا زَارَنِي فِي حَيَاتِي } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { مَنْ زَارَ قَبْرِي وَجَبَتْ لَهُ شَفَاعَتِي } .
رَوَاهُ بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ سَعِيدٌ .
حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ سُلَيْمَانَ ، عَنْ لَيْثٍ عَنْ مُجَاهِدٍ ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ .
وَقَالَ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ قُسَيْطٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ عِنْدَ قَبْرِي ، إلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِيِّ ، حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ } : وَإِذَا حَجَّ الَّذِي لَمْ يَحُجَّ قَطُّ - يَعْنِي مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الشَّامِ - لَا يَأْخُذُ عَلَى طَرِيقِ الْمَدِينَةِ ، لِأَنِّي أَخَافُ أَنْ يَحْدُثَ بِهِ حَدَثٌ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَقْصِدَ مَكَّةَ مِنْ أَقْصَرِ الطُّرُقِ ، وَلَا يَتَشَاغَلَ بِغَيْرِهِ .
وَيُرْوَى عَنْ الْعُتْبِيِّ ، قَالَ : كُنْت جَالِسًا عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ ، فَقَالَ : السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ ، سَمِعْت اللَّهَ يَقُولُ : { وَلَوْ أَنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا } .
وَقَدْ جِئْتُك مُسْتَغْفِرًا لِذَنْبِي ، مُسْتَشْفِعًا بِك إلَى رَبِّي ، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ : يَا خَيْرَ مَنْ دُفِنَتْ بِالْقَاعِ أَعْظُمُهُ فَطَابَ مِنْ طِيبِهِنَّ الْقَاعُ وَالْأَكَمُ نَفْسِي الْفِدَاءُ لِقَبْرِ أَنْتَ سَاكِنُهُ فِيهِ الْعَفَافُ وَفِيهِ الْجُودُ وَالْكَرَمُ ثُمَّ انْصَرَفَ الْأَعْرَابِيُّ ، فَحَمَلَتْنِي عَيْنِي ، فَنِمْت ، فَرَأَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ ، فَقَالَ : يَا عُتْبِيُّ ، الْحَقْ الْأَعْرَابِيَّ ، فَبَشِّرْهُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَهُ .
وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ أَنْ يُقَدِّمَ

رِجْلَهُ الْيُمْنَى ، ثُمَّ يَقُولَ : { بِسْمِ اللَّهِ ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ ، وَاغْفِرْ لِي ، وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِك .
وَإِذَا خَرَجَ ، قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ .
وَقَالَ : وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ فَضْلِكَ } لِمَا رُوِيَ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِي اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَهَا أَنْ تَقُولَ ذَلِكَ ، إذَا دَخَلَتْ الْمَسْجِدَ .
ثُمَّ تَأْتِي الْقَبْرَ فَتُوَلِّي ظَهْرَكَ الْقِبْلَةَ ، وَتَسْتَقْبِلُ وَسَطَهُ ، وَتَقُولُ : السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ ، السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ ، وَخِيرَتَهُ مِنْ خَلْقِهِ وَعِبَادِهِ ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، أَشْهَدُ أَنَّك قَدْ بَلَّغْت رِسَالَاتِ رَبِّك ، وَنَصَحْت لِأُمَّتِك ، وَدَعَوْت إلَى سَبِيلِ رَبِّك بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ، وَعَبَدْت اللَّهَ حَتَّى أَتَاك الْيَقِينُ ، فَصَلَّى اللَّهُ عَلَيْك كَثِيرًا ، كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى ، اللَّهُمَّ اجْزِ عَنَّا نَبِيَّنَا أَفْضَلَ مَا جَزَيْت أَحَدًا مِنْ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ ، وَابْعَثْهُ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ الَّذِي وَعَدْته ، يَغْبِطُهُ بِهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخَرُونَ ، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ ، كَمَا صَلَّيْت عَلَى إبْرَاهِيمَ وَآلِ إبْرَاهِيمَ ، إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ ، كَمَا بَارَكْت عَلَى إبْرَاهِيمَ وَآلِ إبْرَاهِيمَ ، إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ ، اللَّهُمَّ إنَّك قُلْت وَقَوْلُك الْحَقُّ : { وَلَوْ أَنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا } .
وَقَدْ أَتَيْتُك مُسْتَغْفِرًا مِنْ ذُنُوبِي ، مُسْتَشْفِعًا بِك إلَى رَبِّي ، فَأَسْأَلُك يَا رَبِّ أَنْ تُوجِبَ لِي الْمَغْفِرَةَ ، كَمَا أَوْجَبْتهَا لِمَنْ أَتَاهُ فِي

حَيَاتِهِ ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ أَوَّلَ الشَّافِعِينَ ، وَأَنْجَحَ السَّائِلِينَ ، وَأَكْرَمَ الْآخَرِينَ وَالْأَوَّلِينَ ، بِرَحْمَتِك يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ .
ثُمَّ يَدْعُو لِوَالِدَيْهِ وَلِإِخْوَانِهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ قَلِيلًا ، وَيَقُولُ : السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ ، السَّلَامُ عَلَيْك يَا عُمَرَ الْفَارُوقَ ، السَّلَامُ عَلَيْكُمَا يَا صَاحِبَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَجِيعَيْهِ وَوَزِيرَيْهِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ ، اللَّهُمَّ اجْزِهِمَا عَنْ نَبِيِّهِمَا وَعَنْ الْإِسْلَامِ خَيْرًا : ( سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ ، فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ) .
اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْهُ آخِرَ الْعَهْدِ مِنْ قَبْرِ نَبِيِّك صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ حَرَمِ مَسْجِدِك يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ .

( 2749 ) فَصْلٌ : وَلَا يُسْتَحَبُّ التَّمَسُّحُ بِحَائِطِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا تَقْبِيلُهُ ، قَالَ أَحْمَدُ : مَا أَعْرِفُ هَذَا .
قَالَ الْأَثْرَمُ : رَأَيْت أَهْلَ الْعِلْمِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَا يَمَسُّونَ قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُومُونَ مِنْ نَاحِيَةٍ فَيُسَلِّمُونَ .
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : وَهَكَذَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُ .
قَالَ : أَمَّا الْمِنْبَرُ فَقَدْ جَاءَ فِيهِ .
يَعْنِي مَا رَوَاهُ إبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِئُ ، أَنَّهُ نَظَرَ إلَى ابْنِ عُمَرَ ، وَهُوَ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى مَقْعَدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمِنْبَرِ ثُمَّ يَضَعُهَا عَلَى وَجْهِهِ .

( 2750 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ رَجَعَ مِنْ الْحَجِّ أَنْ يَقُولَ مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ { ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا قَفَلَ مِنْ غَزْوٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ ، يُكَبِّرُ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ مِنْ الْأَرْضِ ، ثُمَّ يَقُولُ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ ، لِرَبِّنَا حَامِدُونَ ، صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ .
}

الْبَيْعُ : مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ ، تَمْلِيكًا ، وَتَمَلُّكًا .
وَاشْتِقَاقُهُ : مِنْ الْبَاعِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ يَمُدُّ بَاعَهُ لِلْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ يُبَايِعُ صَاحِبَهُ ، أَيْ يُصَافِحُهُ عِنْدَ الْبَيْعِ ؛ وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْبَيْعُ صَفْقَةً .
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : هُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ ، إذَا تَضَمَّنَ عَيْنَيْنِ لِلتَّمْلِيكِ .
وَهُوَ حَدٌّ قَاصِرٌ ؛ لِخُرُوجِ بَيْعِ الْمُعَاطَاةِ مِنْهُ ، وَدُخُولِ عُقُودٍ سِوَى الْبَيْعِ فِيهِ .
وَالْبَيْعُ جَائِزٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ .
أَمَّا الْكِتَابُ ، فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ } .
وقَوْله تَعَالَى : { وَأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ } وقَوْله تَعَالَى : { إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } .
وقَوْله تَعَالَى : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ } .
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : كَانَتْ عُكَاظٌ ، وَمَجَنَّةُ ، وَذُو الْمَجَازِ ، أَسْوَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، فَلَمَّا كَانَ الْإِسْلَامُ تَأَثَّمُوا فِيهِ ، فَأُنْزِلَتْ : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ } .
يَعْنِي فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ .
وَعَنْ الزُّبَيْرِ نَحْوُهُ .
وَأَمَّا السُّنَّةُ ، فَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَرَوَى رِفَاعَةُ ، أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمُصَلَّى ، فَرَأَى النَّاسَ يَتَبَايَعُونَ ، فَقَالَ : { يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ .
فَاسْتَجَابُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَفَعُوا أَعْنَاقَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ إلَيْهِ ، فَقَالَ : إنَّ التُّجَّارَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فُجَّارًا ، إلَّا مَنْ بَرَّ وَصَدَقَ } .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الْأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ

وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ } .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ .
فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ سِوَى هَذِهِ .
وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ الْبَيْعِ فِي الْجُمْلَةِ ، وَالْحِكْمَةُ تَقْتَضِيهِ ؛ لِأَنَّ حَاجَةَ الْإِنْسَانِ تَتَعَلَّقُ بِمَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ ، وَصَاحِبُهُ لَا يَبْذُلُهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ ، فَفِي شَرْعِ الْبَيْعِ وَتَجْوِيزِهِ شَرْعُ طَرِيقٍ إلَى وُصُولِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى غَرَضِهِ ، وَدَفْعِ حَاجَتِهِ .

( 2751 ) فَصْلٌ : وَالْبَيْعُ عَلَى ضَرْبَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا ، الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ .
فَالْإِيجَابُ ، أَنْ يَقُولَ : بِعْتُك أَوْ مَلَّكْتُك ، أَوْ لَفْظٌ يَدُلُّ عَلَيْهِمَا .
وَالْقَبُولُ ، أَنْ يَقُولَ : اشْتَرَيْت ، أَوْ قَبِلْت ، وَنَحْوَهُمَا .
فَإِنْ تَقَدَّمَ الْقَبُولُ عَلَى الْإِيجَابِ بِلَفْظِ الْمَاضِي ، فَقَالَ : ابْتَعْت مِنْك .
فَقَالَ : بِعْتُك .
صَحَّ ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وُجِدَ مِنْهُمَا عَلَى وَجْهٍ تَحْصُلُ مِنْهُ الدَّلَالَةُ عَلَى تَرَاضِيهِمَا بِهِ ، فَصَحَّ ، كَمَا لَوْ تَقَدَّمَ الْإِيجَابُ .
وَإِنْ تَقَدَّمَ بِلَفْظِ الطَّلَبِ ، فَقَالَ : بِعْنِي ثَوْبَك .
فَقَالَ : بِعْتُك .
فَفِيهِ رِوَايَتَانِ ، إحْدَاهُمَا ، يَصِحُّ كَذَلِكَ .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ .
وَالثَّانِيَةُ ، لَا يَصِحُّ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَأَخَّرَ عَنْ الْإِيجَابِ ، لَمْ يَصِحَّ بِهِ الْبَيْعُ ، فَلَمْ يَصِحَّ إذَا تَقَدَّمَ ، كَلَفْظِ الِاسْتِفْهَامِ ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ عَرِيَ عَنْ الْقَبُولِ ، فَلَمْ يَنْعَقِدْ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَطْلُبْ .
وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ فِيمَا إذَا تَقَدَّمَ بِلَفْظِ الْمَاضِي ، رِوَايَتَيْنِ أَيْضًا ، فَأَمَّا إنْ تَقَدَّمَ بِلَفْظِ الِاسْتِفْهَامِ ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : أَتَبِيعُنِي ثَوْبَك بِكَذَا ؟ فَيَقُولُ : بِعْتُك .
لَمْ يَصِحَّ بِحَالٍ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَبِهِ يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَلَا نَعْلَمُ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافَهُمْ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِقَبُولٍ وَلَا اسْتِدْعَاءٍ .
الضَّرْبُ الثَّانِي ، الْمُعَاطَاةُ ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ : أَعْطِنِي بِهَذَا الدِّينَارِ خُبْزًا .
فَيُعْطِيهِ مَا يُرْضِيهِ ، أَوْ يَقُولَ : خُذْ هَذَا الثَّوْبَ بِدِينَارٍ .
فَيَأْخُذُهُ ، فَهَذَا بَيْعٌ صَحِيحٌ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، فِي مَنْ قَالَ لِخَبَّازٍ : كَيْفَ تَبِيعُ الْخُبْزَ ؟ قَالَ : كَذَا بِدِرْهَمٍ .
قَالَ : زِنْهُ ، وَتَصَدَّقْ بِهِ .
فَإِذَا وَزَنَهُ فَهُوَ عَلَيْهِ .
وَقَوْلُ مَالِكٍ نَحْوٌ مِنْ هَذَا ، فَإِنَّهُ قَالَ : يَقَعُ الْبَيْعُ بِمَا يَعْتَقِدُهُ النَّاسُ بَيْعًا .
وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ : يَصِحُّ فِي خَسَائِسِ

الْأَشْيَاءِ .
وَحُكِيَ عَنْ الْقَاضِي مِثْلُ هَذَا ، قَالَ : يَصِحُّ فِي الْأَشْيَاءِ الْيَسِيرَةِ دُونَ الْكَبِيرَةِ .
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، أَنَّ الْبَيْعَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِالْإِيجَابِ ، وَالْقَبُولِ .
وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ إلَى مِثْلِ قَوْلِنَا .
وَلَنَا ، أَنَّ اللَّهَ أَحَلَّ الْبَيْعَ ، وَلَمْ يُبَيِّنْ كَيْفِيَّتَهُ ، فَوَجَبَ الرُّجُوعُ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ ، كَمَا رُجِعَ إلَيْهِ فِي الْقَبْضِ وَالْإِحْرَازِ وَالتَّفَرُّقِ ، وَالْمُسْلِمُونَ فِي أَسْوَاقِهِمْ وَبِيَاعَاتِهِمْ عَلَى ذَلِكَ ، وَلِأَنَّ الْبَيْعَ كَانَ مَوْجُودًا بَيْنَهُمْ ، مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ ، وَإِنَّمَا عَلَّقَ الشَّرْعُ عَلَيْهِ أَحْكَامًا ، وَأَبْقَاهُ عَلَى مَا كَانَ ، فَلَا يَجُوزُ تَغْيِيرُهُ بِالرَّأْيِ وَالتَّحَكُّمِ ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ ، مَعَ كَثْرَةِ وُقُوعِ الْبَيْعِ بَيْنَهُمْ ، اسْتِعْمَالُ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ ، وَلَوْ اسْتَعْمَلُوا ذَلِكَ فِي بِيَاعَاتِهِمْ لَنُقِلَ نَقْلًا شَائِعًا ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ شَرْطًا ، لَوَجَبَ نَقْلُهُ ، وَلَمْ يُتَصَوَّرْ مِنْهُمْ إهْمَالُهُ وَالْغَفْلَةُ عَنْ نَقْلِهِ ، وَلِأَنَّ الْبَيْعَ مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى ، فَلَوْ اُشْتُرِطَ لَهُ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ لَبَيَّنَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَانًا عَامًّا ، وَلَمْ يَخْفَ حُكْمُهُ ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى وُقُوعِ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ كَثِيرًا ، وَأَكَلِهِمْ الْمَالَ بِالْبَاطِلِ ، وَلَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فِيمَا عَلِمْنَاهُ ، وَلِأَنَّ النَّاسَ يَتَبَايَعُونَ فِي أَسْوَاقِهِمْ بِالْمُعَاطَاةِ فِي كُلِّ عَصْرٍ ، وَلَمْ يُنْقَلْ إنْكَارُهُ مِنْ قِبَلِ مُخَالِفِينَا ، فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ ، فِي الْهِبَةِ ، وَالْهَدِيَّةِ ، وَالصَّدَقَةِ ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ اسْتِعْمَالُ ذَلِكَ فِيهِ ، وَقَدْ أُهْدِيَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْحَبَشَةِ وَغَيْرِهَا ، وَكَانَ النَّاسُ يَتَحَرَّوْنَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْمَ عَائِشَةَ .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أُتِيَ بِطَعَامٍ سَأَلَ عَنْهُ : أَهَدِيَّةٌ أَمْ صَدَقَةٌ ؟ .
فَإِنْ قِيلَ : صَدَقَةٌ .
قَالَ لِأَصْحَابِهِ : كُلُوا .
وَلَمْ يَأْكُلْ ، وَإِنْ قِيلَ : هَدِيَّةٌ .
ضَرَبَ بِيَدِهِ ، وَأَكَلَ مَعَهُمْ .
} وَفِي حَدِيثِ سَلْمَانَ ، حِينَ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَمْرٍ ، فَقَالَ : هَذَا شَيْءٌ مِنْ الصَّدَقَةِ ، رَأَيْتُك أَنْتَ وَأَصْحَابَك أَحَقَّ النَّاسِ بِهِ .
{ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ : كُلُوا .
وَلَمْ يَأْكُلْ ، } ثُمَّ أَتَاهُ ثَانِيَةً بِتَمْرٍ ، فَقَالَ : رَأَيْتُك لَا تَأْكُلُ الصَّدَقَةَ ، وَهَذَا شَيْءٌ أَهْدَيْتُهُ لَك .
{ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : بِسْمِ اللَّهِ .
وَأَكَلَ .
} وَلَمْ يُنْقَلْ قَبُولٌ وَلَا أَمْرٌ بِإِيجَابٍ .
وَإِنَّمَا سَأَلَ لِيَعْلَمَ ، هَلْ هُوَ صَدَقَةٌ ، أَوْ هَدِيَّةٌ ، وَفِي أَكْثَرِ الْأَخْبَارِ لَمْ يُنْقَلْ إيجَابٌ وَلَا قَبُولٌ ، وَلَيْسَ إلَّا الْمُعَاطَاةُ ، وَالتَّفَرُّقُ عَنْ تَرَاضٍ يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ ، وَلَوْ كَانَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ شَرْطًا فِي هَذِهِ الْعُقُودِ لَشَقَّ ذَلِكَ ، وَلَكَانَتْ أَكْثَرُ عُقُودِ الْمُسْلِمِينَ فَاسِدَةً ، وَأَكْثَرُ أَمْوَالِهِمْ مُحَرَّمَةً .
وَلِأَنَّ الْإِيجَابَ وَالْقَبُولَ إنَّمَا يُرَادَانِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّرَاضِي ، فَإِذَا وُجِدَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ، مِنْ الْمُسَاوَمَةِ وَالتَّعَاطِي ، قَامَ مَقَامَهُمَا ، وَأَجْزَأَ عَنْهُمَا ؛ لِعَدَمِ التَّعَبُّدِ فِيهِ .

( خِيَارُ الْمُتَبَايِعَيْنِ ) أَيْ بَابُ خِيَارِ الْمُتَبَايِعَيْنِ ، فَحُذِفَ اخْتِصَارًا .
( 2752 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ رَحِمَهُ اللَّهُ : ( وَالْمُتَبَايِعَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا بِأَبْدَانِهِمَا ) فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ فُصُولٍ : ( 2753 ) فَصْلٌ : أَحَدُهَا أَنَّ الْبَيْعَ يَقَعُ جَائِزًا ، وَلِكُلٍّ مِنْ الْمُتَبَايِعَيْنِ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ ، مَا دَامَا مُجْتَمِعَيْنِ ، لَمْ يَتَفَرَّقَا ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ ، وَأَبِي بَرْزَةَ ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَشُرَيْحٌ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَعَطَاءٌ ، وَطَاوُسٌ ، وَالزُّهْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو عُبَيْدٍ ، وَأَبُو ثَوْرٍ .
وَقَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ : يَلْزَمُ الْعَقْدُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ ، وَلَا خِيَارَ لَهُمَا ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : الْبَيْعُ صَفْقَةٌ أَوْ خِيَارٌ .
وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ ، فَلَزِمَ بِمُجَرَّدِهِ ، كَالنِّكَاحِ وَالْخُلْعِ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا تَبَايَعَ الرَّجُلَانِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ ، مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا ، وَكَانَا جَمِيعًا ، أَوْ يُخَيِّرُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ ، فَإِنْ خَيَّرَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ ، فَتَبَايَعَا عَلَى ذَلِكَ ، فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ ، وَإِنْ تَفَرَّقَا بَعْدَ أَنْ تَبَايَعَا ، وَلَمْ يَتْرُكْ أَحَدُهُمَا الْبَيْعَ ، فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا } .
رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ كُلُّهُمْ .
وَرَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو ، وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ ، وَأَبُو بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيُّ .
وَاتُّفِقَ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ ، وَحَكِيمٍ ، وَرَوَاهُ عَنْ نَافِعٍ ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، مَالِكٌ ، وَأَيُّوبُ ،

وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ، وَابْنُ جُرَيْجٍ ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ ، وَغَيْرُهُمْ .
وَهُوَ صَرِيحٌ فِي حُكْمِ الْمَسْأَلَةِ .
وَعَابَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى مَالِكٍ مُخَالَفَتَهُ لِلْحَدِيثِ ، مَعَ رِوَايَتِهِ لَهُ ، وَثُبُوتِهِ عِنْدَهُ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا أَدْرِي هَلْ اتَّهَمَ مَالِكٌ نَفْسَهُ أَوْ نَافِعًا ؟ وَأُعْظِمُ أَنْ أَقُولَ : عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ : يُسْتَتَابُ مَالِكٌ فِي تَرْكِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ .
فَإِنْ قِيلَ : الْمُرَادُ بِالتَّفَرُّقِ هَاهُنَا التَّفَرُّقُ بِالْأَقْوَالِ ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً } .
أَيْ بِالْأَقْوَالِ وَالِاعْتِقَادَاتِ .
قُلْنَا : هَذَا بَاطِلٌ لِوُجُوهٍ : مِنْهَا ، أَنَّ اللَّفْظَ لَا يَحْتَمِلُ مَا قَالُوهُ ؛ إذْ لَيْسَ بَيْنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ تَفَرُّقٌ بِلَفْظٍ وَلَا اعْتِقَادٍ ، إنَّمَا بَيْنَهُمَا اتِّفَاقٌ عَلَى الثَّمَنِ وَالْمَبِيعِ بَعْدَ الِاخْتِلَافِ فِيهِ .
الثَّانِي ، أَنَّ هَذَا يُبْطِلُ فَائِدَةَ الْحَدِيثِ ؛ إذْ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُمَا بِالْخِيَارِ قَبْلَ الْعَقْدِ فِي إنْشَائِهِ وَإِتْمَامِهِ ، أَوْ تَرْكِهِ .
الثَّالِثُ ، أَنَّهُ قَالَ فِي الْحَدِيثِ : { إذَا تَبَايَعَ الرَّجُلَانِ ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ } .
فَجَعَلَ لَهُمَا الْخِيَارَ بَعْدَ تَبَايُعِهِمَا ، وَقَالَ : { وَإِنْ تَفَرَّقَا بَعْدَ أَنْ تَبَايَعَا ، وَلَمْ يَتْرُكْ أَحَدُهُمَا الْبَيْعَ ، فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ } .
الرَّابِعُ ، أَنَّهُ يَرُدُّهُ تَفْسِيرُ ابْنِ عُمَرَ لِلْحَدِيثِ بِفِعْلِهِ ، فَإِنَّهُ كَانَ إذَا بَايَعَ رَجُلًا مَشَى خُطُوَاتٍ ؛ لِيَلْزَمَ الْبَيْعُ ، وَتَفْسِيرُ أَبِي بَرْزَةَ لَهُ ، بِقَوْلِهِ عَلَى مِثْلِ قَوْلِنَا ، وَهُمَا رَاوِيَا الْحَدِيثِ ، وَأَعْلَمُ بِمَعْنَاهُ ، وَقَوْلُ عُمَرَ : الْبَيْعُ صَفْقَةٌ أَوْ خِيَارٌ .
مَعْنَاهُ ، أَنَّ الْبَيْعَ يَنْقَسِمُ إلَى بَيْعٍ شُرِطَ فِيهِ الْخِيَارُ ، وَبَيْعٍ لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ

، سَمَّاهُ صَفْقَةً لِقِصَرِ مُدَّةِ الْخِيَارِ فِيهِ ، فَإِنَّهُ قَدْ رَوَى عَنْهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْجُوزَجَانِيُّ مِثْلَ مَذْهَبِنَا ، وَلَوْ أَرَادَ مَا قَالُوهُ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَارَضَ بِهِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا حُجَّةَ فِي قَوْلِ أَحَدٍ مَعَ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ كَانَ عُمَرُ إذَا بَلَغَهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ ، فَكَيْف يُعَارَضُ قَوْلُهُ بِقَوْلِهِ ؟ عَلَى أَنَّ قَوْلَ عُمَرَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ إذَا خَالَفَهُ بَعْضُ الصَّحَابَةِ ، وَقَدْ خَالَفَهُ ابْنُهُ ، وَأَبُو بَرْزَةَ ، وَغَيْرُهُمَا ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ الْبَيْعِ عَلَى النِّكَاحِ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَقَعُ غَالِبًا إلَّا بَعْدَ رَوِيَّةٍ وَنَظَرٍ وَتَمَكُّثٍ ، فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْخِيَارِ بَعْدَهُ ، وَلِأَنَّ فِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ فِيهِ مَضَرَّةً ، لِمَا يَلْزَمُ مِنْ رَدِّ الْمَرْأَةِ بَعْدَ ابْتِذَالِهَا بِالْعَقْدِ ، وَذَهَابِ حُرْمَتِهَا بِالرَّدِّ ، وَإِلْحَاقِهَا بِالسِّلَعِ الْمَبِيعَةِ ، فَلَمْ يَثْبُتْ فِيهِ خِيَارٌ لِذَلِكَ ، وَلِهَذَا لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ خِيَارُ الشَّرْطِ ، وَلَا خِيَارُ الرُّؤْيَةِ ، وَالْحُكْمُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ظَاهِرٌ ؛ لِظُهُورِ دَلِيلِهِ ، وَوَهَاءِ مَا ذَكَرَهُ الْمُخَالِفُ فِي مُقَابَلَتِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( 2754 ) الْفَصْلُ الثَّانِي ، أَنَّ الْبَيْعَ يَلْزَمُ بِتَفَرُّقِهِمَا ؛ لِدَلَالَةِ الْحَدِيثِ عَلَيْهِ ، وَلَا خِلَافَ فِي لُزُومِهِ بَعْدَ التَّفَرُّقِ ، وَالْمَرْجِعُ فِي التَّفَرُّقِ إلَى عُرْفِ النَّاسِ وَعَادَتِهِمْ ، فِيمَا يَعُدُّونَهُ تَفَرُّقًا ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ عَلَّقَ عَلَيْهِ حُكْمًا ، وَلَمْ يُبَيِّنْهُ ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ مَا يَعْرِفُهُ النَّاسُ ، كَالْقَبْضِ ، وَالْإِحْرَازِ ، فَإِنْ كَانَا فِي فَضَاءٍ وَاسِعٍ ، كَالْمَسْجِدِ الْكَبِيرِ ، وَالصَّحْرَاءِ ، فَبِأَنْ يَمْشِيَ أَحَدُهُمَا مُسْتَدْبِرًا لِصَاحِبِهِ خُطُوَاتٍ ، وَقِيلَ : هُوَ أَنْ يَبْعُدَ مِنْهُ بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُ كَلَامَهُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ فِي الْعَادَةِ .
قَالَ أَبُو الْحَارِثِ : سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ تَفْرِقَةِ الْأَبْدَانِ ؟ فَقَالَ : إذَا أَخَذَ هَذَا كَذَا ، وَهَذَا كَذَا ، فَقَدْ تَفَرَّقَا .
وَرَوَى مُسْلِمٌ ، عَنْ نَافِعٍ ، قَالَ : فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا بَايَعَ ، فَأَرَادَ أَنْ لَا يُقِيلَهُ ، مَشَى هُنَيْهَةً ، ثُمَّ رَجَعَ .
وَإِنْ كَانَا فِي دَارٍ كَبِيرَةٍ ، ذَاتِ مَجَالِسٍ وَبُيُوتٍ ، فَالْمُفَارَقَةُ أَنْ يُفَارِقَهُ مِنْ بَيْتٍ إلَى بَيْتٍ ، أَوْ إلَى مَجْلِسٍ ، أَوْ صِفَةٍ ، أَوْ مِنْ مَجْلِسٍ إلَى بَيْتٍ ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ .
فَإِنْ كَانَا فِي دَارٍ صَغِيرَةٍ ، فَإِذَا صَعِدَ أَحَدُهُمَا السَّطْحَ ، أَوْ خَرَجَ مِنْهَا ، فَقَدْ فَارَقَهُ .
وَإِنْ كَانَا فِي سَفِينَةٍ صَغِيرَةٍ ، خَرَجَ أَحَدُهُمَا مِنْهَا وَمَشَى ، وَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً صَعِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى أَعْلَاهَا ، وَنَزَلَ الْآخَرُ فِي أَسْفَلِهَا .
وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي هُوَ الْبَائِعَ ، مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِيَ لِنَفْسِهِ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ ، أَوْ اشْتَرَى لِوَلَدِهِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ ، لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ خِيَارُ الْمَجْلِسِ ؛ لِأَنَّهُ تَوَلَّى طَرَفَيْ الْعَقْدِ ، فَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ خِيَارٌ ، كَالشَّفِيعِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَثْبُتَ فِيهِ ، وَيُعْتَبَرَ مُفَارَقَةُ مَجْلِسِ الْعَقْدِ لِلُزُومِهِ ؛ لِأَنَّ الِافْتِرَاقَ لَا يُمْكِنُ هَاهُنَا ، لِكَوْنِ الْبَائِعِ هُوَ الْمُشْتَرِي ، وَمَتَى حَصَلَ التَّفَرُّقُ لَزِمَ

الْعَقْدُ ، قَصَدَا ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَقْصِدَاهُ ، عَلِمَاهُ أَوْ جَهِلَاهُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّقَ الْخِيَارَ عَلَى التَّفَرُّقِ ، وَقَدْ وُجِدَ .
وَلَوْ هَرَبَ أَحَدُهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ ، لَزِمَ الْعَقْدُ ؛ لِأَنَّهُ فَارَقَهُ بِاخْتِيَارِهِ ، وَلَا يَقِفُ لُزُومُ الْعَقْدِ عَلَى رِضَاهُمَا ، وَلِهَذَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُفَارِقُ صَاحِبَهُ لِيَلْزَمَ الْبَيْعُ .
وَلَوْ أَقَامَا فِي الْمَجْلِسِ ، وَسَدَلَا بَيْنَهُمَا سِتْرًا ، أَوْ بَنَيَا بَيْنَهُمَا حَاجِزًا ، أَوْ نَامَا ، أَوْ قَامَا فَمَضَيَا جَمِيعًا وَلَمْ يَتَفَرَّقَا ، فَالْخِيَارُ بِحَالِهِ ، وَإِنْ طَالَتْ الْمُدَّةُ لِعَدَمِ التَّفَرُّقِ .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد ، وَالْأَثْرَمُ ، بِإِسْنَادِهِمَا عَنْ أَبِي الْوَضِيءِ ، قَالَ : غَزَوْنَا غَزْوَةً لَنَا ، فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا ، فَبَاعَ صَاحِبٌ لَنَا فَرَسًا بِغُلَامٍ ، ثُمَّ أَقَامَا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمَا وَلَيْلَتِهِمَا ، فَلَمَّا أَصْبَحَا مِنْ الْغَدِ ، وَحَضَرَ الرَّحِيلُ ، قَامَ إلَى فَرَسِهِ يُسْرِجُهُ ، فَنَدِمَ ، فَأَتَى الرَّجُلُ ، وَأَخَذَهُ بِالْبَيْعِ ، فَأَبَى الرَّجُلُ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَيْهِ ، فَقَالَ : بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَبُو بَرْزَةَ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَأَتَيَا أَبَا بَرْزَةَ فِي نَاحِيَةِ الْعَسْكَرِ ، فَقَالَا لَهُ هَذِهِ الْقِصَّةَ .
فَقَالَ : أَتَرْضَيَانِ أَنْ أَقْضِيَ بَيْنَكُمَا بِقَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا .
} مَا أَرَاكُمَا افْتَرَقْتُمَا .
فَإِنْ فَارَقَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ مُكْرَهًا ، احْتَمَلَ بُطْلَانَ الْخِيَارِ ؛ لِوُجُودِ غَايَتِهِ ، وَهُوَ التَّفَرُّقُ ، وَلِأَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ رِضَاهُ فِي مُفَارَقَةِ صَاحِبِهِ لَهُ ، فَكَذَلِكَ فِي مُفَارَقَتِهِ لِصَاحِبِهِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : لَا يَنْقَطِعُ الْخِيَارُ ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ عُلِّقَ عَلَى التَّفَرُّقِ ، فَلَمْ يَثْبُتْ مَعَ الْإِكْرَاهِ ، كَمَا لَوْ عُلِّقَ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ .
وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ كَهَذَيْنِ .
فَعَلَى قَوْلِ

مَنْ لَا يَرَى انْقِطَاعَ الْخِيَارِ ، إنْ أُكْرِهَ أَحَدُهُمَا عَلَى فُرْقَةِ صَاحِبِهِ ، انْقَطَعَ خِيَارُ صَاحِبِهِ ، كَمَا لَوْ هَرَبَ مِنْهُ ، وَفَارَقَهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ ، وَيَكُونُ الْخِيَارُ لِلْمُكْرَهِ مِنْهُمَا فِي الْمَجْلِسِ الَّذِي يَزُولُ عَنْهُ فِيهِ الْإِكْرَاهُ ، حَتَّى يُفَارِقَهُ .
وَإِنْ أُكْرِهَا جَمِيعًا انْقَطَعَ خِيَارُهُمَا ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْقَطِعُ خِيَارُهُ بِفُرْقَةِ الْآخَرِ لَهُ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أُكْرِهَ صَاحِبُهُ دُونَهُ .
وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ مِنْ صُوَرِ الْإِكْرَاهِ ، مَا لَوْ رَأَيَا سَبْعًا أَوْ ظَالِمًا خَشِيَاهُ ، فَهَرَبَا فَزَعًا مِنْهُ ، أَوْ حَمَلَهُمَا سَيْلٌ أَوْ فَرَّقَتْ رِيحٌ بَيْنَهُمَا .
( 2755 ) فَصْلٌ : وَإِنْ خَرِسَ أَحَدُهُمَا ، قَامَتْ إشَارَتُهُ مَقَامَ لَفْظِهِ ، فَإِنْ لَمْ تُفْهَمْ إشَارَتُهُ ، أَوْ جُنَّ ، أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ ، قَامَ وَلِيُّهُ مِنْ الْأَبِ ، أَوْ وَصِيُّهُ ، أَوْ الْحَاكِمُ ، مَقَامَهُ ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا بَطَلَ خِيَارُهُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَعَذَّرَ مِنْهُ الْخِيَارُ ، وَالْخِيَارُ لَا يُوَرَّثُ .
وَأَمَّا الْبَاقِي مِنْهُمَا فَيَبْطُلُ خِيَارُهُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ يَبْطُلُ بِالتَّفَرُّقِ ، وَالتَّفَرُّقُ بِالْمَوْتِ أَعْظَمُ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَبْطُلَ ؛ لِأَنَّ التَّفَرُّقَ بِالْأَبْدَانِ لَمْ يَحْصُلْ .
فَإِنْ حُمِلَ الْمَيِّتُ بَطَلَ الْخِيَارُ ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ حَصَلَتْ بِالْبَدَنِ وَالرُّوحِ مَعًا .
( 2756 ) فَصْلٌ : وَقَدْ رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْبَائِعُ وَالْمُبْتَاعُ بِالْخِيَارِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا ، إلَّا أَنْ تَكُونَ صَفْقَةَ خِيَارٍ ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَ صَاحِبَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ } .
رَوَاهُ النَّسَائِيّ ، وَالْأَثْرَمُ ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَقَوْلُهُ : " إلَّا أَنْ تَكُونَ صَفْقَةَ خِيَارٍ " .
يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ الْبَيْعَ الْمَشْرُوطَ فِيهِ الْخِيَارُ ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ بِتَفَرُّقِهِمَا ، وَلَا يَكُونُ تَفَرُّقُهُمَا غَايَةً

لِلْخِيَارِ فِيهِ ؛ لِكَوْنِهِ ثَابِتًا بَعْدَ تَفَرُّقِهِمَا .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ الْبَيْعَ الَّذِي شَرَطَا فِيهِ أَنْ لَا يَكُونَ بَيْنَهُمَا فِيهِ خِيَارٌ ، فَيَلْزَمُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ تَفَرُّقٍ .
وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ تَحْرِيمُ مُفَارَقَةِ أَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ لِصَاحِبِهِ خَشْيَةً مِنْ فَسْخِ الْبَيْعِ ، وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ ، فَإِنَّهُ ذُكِرَ لَهُ فِعْلُ ابْنِ عُمَرَ ، وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، فَقَالَ : هَذَا الْآنَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ .
وَذَكَرَ الْقَاضِي ، أَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ أَحْمَدَ ، جَوَازُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إذَا اشْتَرَى شَيْئًا يُعْجِبُهُ فَارَقَ صَاحِبَهُ .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَدَّمُ عَلَى فِعْلِ ابْنِ عُمَرَ .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ لَمْ يَبْلُغْهُ هَذَا ، وَلَوْ عَلِمَهُ لَمَا خَالَفَهُ .
( 2757 ) الْفَصْلُ الثَّالِثُ : أَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّ الْخِيَارَ يَمْتَدُّ إلَى التَّفَرُّقِ ، وَلَا يَبْطُلُ بِالتَّخَايُرِ قَبْلَ الْعَقْدِ وَلَا بَعْدَهُ ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ الرِّوَايَاتِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا } .
مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ ، وَلَا تَخْصِيصٍ ، هَكَذَا رَوَاهُ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ ، وَأَبُو بَرْزَةَ ، وَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ أَنَّ الْخِيَارَ يَبْطُلُ بِالتَّخَايُرِ .
اخْتَارَهَا الشَّرِيفُ بْنُ أَبِي مُوسَى ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَهُوَ أَصَحُّ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ : { فَإِنْ خَيَّرَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ ، فَتَبَايَعَا عَلَى ذَلِكَ ، فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ } .
يَعْنِي لَزِمَ .
وَفِي لَفْظٍ : { الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ كَانَ عَنْ خِيَارٍ ، فَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ

عَنْ خِيَارٍ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَالْأَخْذُ بِالزِّيَادَةِ أَوْلَى .
وَالتَّخَايُرُ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ وَبَعْدَهُ فِي الْمَجْلِسِ وَاحِدٌ ، فَالتَّخَايُرُ فِي ابْتِدَائِهِ أَنْ يَقُولَ : بِعْتُك وَلَا خِيَارَ بَيْنَنَا .
وَيَقْبَلُ الْآخَرُ عَلَى ذَلِكَ ، فَلَا يَكُونُ لَهُمَا خِيَارٌ .
وَالتَّخَايُرُ بَعْدَهُ أَنْ يَقُولَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَ الْعَقْدِ : اخْتَرْت إمْضَاءَ الْعَقْدِ ، أَوْ إلْزَامَهُ ، أَوْ اخْتَرْت الْعَقْدَ ، أَوْ أَسْقَطْت خِيَارِي .
فَيَلْزَمُ الْعَقْدُ مِنْ الطَّرَفَيْنِ ، وَإِنْ اخْتَارَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ ، لَزِمَ فِي حَقِّهِ وَحْدَهُ ، كَمَا لَوْ كَانَ خِيَارُ الشَّرْطِ لَهُمَا ، فَأَسْقَطَ أَحَدُهُمَا خِيَارَهُ دُونَ الْآخَرِ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : فِي التَّخَايُرِ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ قَوْلَانِ ، أَظْهَرُهُمَا لَا يُقْطَعُ الْخِيَارُ ؛ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ لِلْحَقِّ قَبْلَ سَبَبِهِ ، فَلَمْ يَجُزْ ، كَخِيَارِ الشُّفْعَةِ .
فَعَلَى هَذَا ، هَلْ يَبْطُلُ الْعَقْدُ بِهَذَا الشَّرْطِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ، بِنَاءً عَلَى الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ .
وَلَنَا ، قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { فَإِنْ خَيَّرَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ ، فَتَبَايَعَا عَلَى ذَلِكَ ، فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ } .
وَقَوْلُهُ : { إلَّا أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ كَانَ عَنْ خِيَارٍ ، فَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ عَنْ خِيَارٍ وَجَبَ الْبَيْعُ } .
وَهَذَا صَرِيحٌ فِي الْحُكْمِ ، فَلَا يُعَوَّلُ عَلَى مَا خَالَفَهُ .
وَلِأَنَّ مَا أَثَّرَ فِي الْخِيَارِ فِي الْمَجْلِسِ ، أَثَّرَ فِيهِ مُقَارِنًا لِلْعَقْدِ ، كَاشْتِرَاطِ الْخِيَارِ .
وَلِأَنَّهُ أَحَدُ الْخِيَارَيْنِ فِي الْبَيْعِ ، فَجَازَ إخْلَاؤُهُ عَنْهُ ، كَخِيَارِ الشَّرْطِ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّهُ إسْقَاطٌ لِلْخِيَارِ قَبْلَ سَبَبِهِ .
لَيْسَ كَذَلِكَ ، فَإِنَّ سَبَبَ الْخِيَارِ الْبَيْعُ الْمُطْلَقُ ، فَأَمَّا الْبَيْعُ مَعَ التَّخَايُرِ فَلَيْسَ بِسَبَبِ لَهُ .
ثُمَّ لَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ سَبَبُ الْخِيَارِ ، لَكِنَّ الْمَانِعَ مُقَارِنٌ لَهُ ، فَلَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهُ ، وَأَمَّا الشَّفِيعُ ، فَإِنَّهُ أَجْنَبِيٌّ مِنْ الْعَقْدِ ، فَلَمْ يَصِحَّ اشْتِرَاطُ إسْقَاطِ

خِيَارِهِ فِي الْعَقْدِ ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا .
فَإِنْ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ : اخْتَرْ .
وَلَمْ يَقُلْ الْآخَرُ شَيْئًا ، فَالسَّاكِتُ مِنْهُمَا عَلَى خِيَارِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ مَا يُبْطِلُ خِيَارَهُ .
وَأَمَّا الْقَائِلُ ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَبْطُلَ خِيَارُهُ ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا ، أَوْ يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ : اخْتَرْ } .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ، وَأَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ ، وَلِأَنَّهُ جَعَلَ لِصَاحِبِهِ مَا مَلَكَهُ مِنْ الْخِيَارِ ، فَسَقَطَ خِيَارُهُ ، وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَبْطُلَ خِيَارُهُ ؛ لِأَنَّهُ خَيَّرَهُ ، فَلَمْ يَخْتَرْ ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ ، كَمَا لَوْ جَعَلَ لِزَوْجَتِهِ الْخِيَارَ ، فَلَمْ تَخْتَرْ ، شَيْئًا ، وَيُحْمَلُ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّهُ خَيَّرَهُ فَاخْتَارَ ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ؛ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ .
وَلِأَنَّهُ جَعَلَ الْخِيَارَ لِغَيْرِهِ ، وَيُفَارِقُ الزَّوْجَةَ ؛ لِأَنَّهُ مَلَّكَهَا مَا لَا تَمْلِكُ ، فَإِذَا لَمْ تَقْبَلْ ، سَقَطَ ، وَهَا هُنَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمْلِكُ الْخِيَارَ ، فَلَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ تَمْلِيكًا ، إنَّمَا كَانَ إسْقَاطًا ، فَسَقَطَ .

( 2758 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( فَإِنْ تَلِفَتْ السِّلْعَةُ ، أَوْ كَانَ عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي ، أَوْ مَاتَ ، بَطَلَ الْخِيَارُ ) أَمَّا إذَا تَلِفَتْ السِّلْعَةُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ ، فَلَا يَخْلُو ، إمَّا أَنْ تَكُونَ قَبْلَ الْقَبْضِ ، أَوْ بَعْدَهُ ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَكَانَ مَكِيلًا ، أَوْ مَوْزُونًا ، انْفَسَخَ الْبَيْعُ ، وَكَانَ مِنْ مَالِ الْبَائِعِ ، وَلَا أَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا ، إلَّا أَنْ يُتْلِفَهُ الْمُشْتَرِي ، فَيَكُونَ مِنْ ضَمَانِهِ ، وَيَبْطُلَ خِيَارُهُ .
وَفِي خِيَارِ الْبَائِعِ رِوَايَتَانِ .
وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ غَيْرَ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ ، وَلَمْ يَمْنَعْ الْبَائِعُ الْمُشْتَرِيَ مِنْ قَبْضِهِ ، فَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي ، وَيَكُونُ كَتَلَفِهِ بَعْدَ الْقَبْضِ .
وَأَمَّا إنْ تَلِفَ الْمَبِيعُ بَعْدَ الْقَبْضِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ ، فَهُوَ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي ، وَيَبْطُلُ خِيَارُهُ .
وَفِي خِيَارِ الْبَائِعِ رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا ، يَبْطُلُ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْخِرَقِيِّ ، وَأَبِي بَكْرٍ ؛ لِأَنَّهُ خِيَارُ فَسْخٍ ، فَبَطَلَ بِتَلَفِ الْمَبِيعِ ، كَخِيَارِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ إذَا تَلِفَ الْمَعِيبُ .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، لَا يَبْطُلُ ، وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَفْسَخَ وَيُطَالِبَ الْمُشْتَرِيَ بِقِيمَتِهِ ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الْقَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا } .
وَلِأَنَّهُ خِيَارُ فَسْخٍ ، فَلَمْ يَبْطُلْ بِتَلَفِ الْمَبِيعِ ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا بِثَوْبٍ ، فَتَلِفَ أَحَدُهُمَا ، وَوَجَدَ الْآخَرُ بِالثَّوْبِ عَيْبًا ، فَإِنَّهُ يَرُدُّهُ ، وَيَرْجِعُ بِقِيمَةِ ثَوْبِهِ ، كَذَا هَاهُنَا .
وَأَمَّا إذَا أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي ، فَإِنَّ خِيَارَهُ يَبْطُلُ ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَهُ ، وَفِي بُطْلَانِ خِيَارِ الْبَائِعِ رِوَايَتَانِ ، كَمَا لَوْ تَلِفَ الْمَبِيعُ .
وَخِيَارُ الْمَجْلِسِ ، وَخِيَارُ الشَّرْطِ فِي هَذَا كُلِّهِ سَوَاءٌ .

( 2759 ) فَصْلٌ : وَمَتَى تَصَرَّفَ الْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ تَصَرُّفًا يَخْتَصُّ الْمِلْكَ ، بَطَلَ خِيَارُهُ ، كَإِعْتَاقِ الْعَبْدِ ، وَكِتَابَتِهِ ، وَبَيْعِهِ ، وَهِبَتِهِ ، وَوَطْءِ الْجَارِيَةِ ، أَوْ مُبَاشَرَتِهَا ، أَوْ لَمْسِهَا لِشَهْوَةِ ، وَوَقْفِ الْمَبِيعِ ، وَرُكُوبِ الدَّابَّةِ لِحَاجَتِهِ ، أَوْ سَفَرٍ ، أَوْ حَمْلِهِ عَلَيْهَا ، أَوْ سُكْنَى الدَّارِ ، وَرَمِّهَا ، وَحَصَادِ الزَّرْعِ ، وَقَصْلٍ مِنْهُ ، فَمَا وُجِدَ مِنْ هَذَا فَهُوَ رِضَاءٌ بِالْمَبِيعِ ، وَيَبْطُلُ بِهِ خِيَارُهُ ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ يَبْطُلُ بِالتَّصْرِيحِ بِالرِّضَاءِ ، وَبِدَلَالَتِهِ ، وَلِذَلِكَ يَبْطُلُ خِيَارُ الْمُعْتَقَةِ بِتَمْكِينِهَا الزَّوْجَ مِنْ وَطْئِهَا ، { وَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنْ وَطِئَك فَلَا خِيَارَ لَك .
} وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيِّ .
فَأَمَّا رُكُوبُ الدَّابَّةِ لِيَنْظُرَ سَيْرَهَا ، وَالطَّحْنُ عَلَى الرَّحَى لِيَعْلَمَ قَدْرَ طَحْنِهَا ، وَحَلْبُ الشَّاةِ لِيَعْلَمَ قَدْرَ لَبَنِهَا ، وَنَحْوُ ذَلِكَ ، فَلَيْسَ بِرِضَا بِالْبَيْعِ ، وَلَا يَبْطُلُ خِيَارُهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْخِيَارِ ، وَهُوَ اخْتِبَارُ الْمَبِيعِ ، وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ وَجْهًا فِي أَنَّ تَصَرُّفَ الْمُشْتَرِي لَا يُبْطِلُ خِيَارَهُ ، وَلَا يَبْطُلُ إلَّا بِالتَّصْرِيحِ بِالرِّضَا .
وَلَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ هَذَا يَتَضَمَّنُ إجَازَةَ الْبَيْعِ ، وَيَدُلُّ عَلَى الرِّضَا بِهِ ، فَبَطَلَ بِهِ الْخِيَارُ كَصَرِيحِ الْقَوْلِ .
وَلِأَنَّ التَّصْرِيحَ إنَّمَا أَبْطَلَ الْخِيَارَ لِدَلَالَتِهِ عَلَى الرِّضَا بِهِ ، فَمَا دَلَّ عَلَى الرِّضَا بِهِ يَقُومُ مَقَامَهُ ، كَكِنَايَاتِ الطَّلَاقِ ، تَقُومُ مَقَامَ صَرِيحِهِ .
وَإِنْ عَرَضَهُ عَلَى الْبَيْعِ ، أَوْ بَاعَهُ بَيْعًا فَاسِدًا ، أَوْ عَرَضَهُ عَلَى الرَّهْنِ ، أَوْ غَيْرِهِ مِنْ التَّصَرُّفَات ، أَوْ وَهَبَهُ ، فَلَمْ يَقْبَلْ الْمَوْهُوبُ لَهُ ، بَطَلَ خِيَارُهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا بِهِ .
قَالَ أَحْمَدُ : إذَا اشْتَرَطَ الْخِيَارَ ، فَبَاعَهُ قَبْلَ ذَلِكَ بِرِبْحٍ ، فَالرِّبْحُ لِلْمُبْتَاعِ ؛

لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ حِينَ عَرَضَهُ .
وَإِنْ اسْتَخْدَمَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا ، لَا يَبْطُلُ خِيَارُهُ ، وَقَالَ أَبُو الصَّقْرِ : قُلْت لِأَحْمَدَ : رَجُلٌ اشْتَرَى جَارِيَةً ، وَلَهُ الْخِيَارُ فِيهَا يَوْمَيْنِ ، فَانْطَلَقَ بِهَا ، فَغَسَلَتْ رَأْسَهُ ، أَوْ غَمَزَتْ رِجْلَهُ ، أَوْ طَحَنَتْ لَهُ ، أَوْ خَبَزَتْ ، هَلْ يَسْتَوْجِبُهَا بِذَلِكَ ؟ قَالَ : لَا ، حَتَّى يَبْلُغَ مِنْهَا مَا لَا يَحِلُّ لِغَيْرِهِ .
قُلْت : فَإِنْ مَشَطَهَا ، أَوْ خَضَّبَهَا ، أَوْ حَفَّهَا ، هَلْ يَسْتَوْجِبُهَا بِذَلِكَ ؟ قَالَ : قَدْ بَطَلَ خِيَارُهُ ؛ لِأَنَّهُ وَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا .
وَذَلِكَ لِأَنَّ الِاسْتِخْدَامَ لَا يَخْتَصُّ الْمِلْكَ ، وَيُرَادُ لِتَجْرِبَةِ الْمَبِيعِ ، فَأَشْبَهَ رُكُوبَ الدَّابَّةِ لِيَعْلَم سَيْرَهَا .
وَنَقَلَ حَرْبٌ ، عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ يَبْطُلُ خِيَارُهُ ؛ لِأَنَّهُ انْتِفَاعٌ بِالْمَبِيعِ ، أَشْبَهَ لَمْسَهَا لِشَهْوَةِ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : مَا قُصِدَ بِهِ مِنْ الِاسْتِخْدَامِ ، تَجْرِبَةُ الْمَبِيعِ ، لَا يُبْطِلُ الْخِيَارَ ، كَرُكُوبِ الدَّابَّةِ لِيَعْلَمَ سَيْرَهَا ، وَمَا لَا يُقْصَدُ بِهِ ذَلِكَ يُبْطِلُ الْخِيَارَ ، كَرُكُوبِ الدَّابَّةِ لِحَاجَتِهِ ، وَإِنْ قَبَّلَتْ الْجَارِيَةُ الْمُشْتَرِيَ لَمْ يَبْطُلْ خِيَارُهُ ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : يَحْتَمِلُ أَنْ يَبْطُلَ خِيَارُهُ إذَا لَمْ يَمْنَعْهَا ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ لَهَا عَلَى ذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى اسْتِمْتَاعِهِ بِهَا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنَّ قَبَّلَتْهُ لِشَهْوَةِ بَطَلَ خِيَارُهُ ، لِأَنَّهُ اسْتِمْتَاعٌ يَخْتَصُّ الْمِلْكَ ، فَأَبْطَلَ خِيَارَهُ ، كَقُبْلَتِهِ لَهَا .
وَلَنَا : أَنَّهَا قُبْلَةٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ ، فَلَمْ يَبْطُلْ خِيَارُهُ ، كَمَا لَوْ قَبَّلَتْ الْبَائِعَ .
وَلِأَنَّ الْخِيَارَ لَهُ ، لَا لَهَا ، فَلَوْ أَلْزَمْنَاهُ بِفِعْلِهَا لَأَلْزَمْنَاهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ ، وَلَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ ، وَفَارَقَ مَا إذَا قَبَّلَهَا ؛ فَإِنَّهُ وُجِدَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا بِهَا .
وَمَتَى بَطَلَ خِيَارُ الْمُشْتَرِي بِتَصَرُّفِهِ ، فَخِيَارُ

الْبَائِعِ بَاقٍ بِحَالِهِ ؛ لِأَنَّ خِيَارَهُ لَا يَبْطُلُ بِرِضَا غَيْرِهِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ تَصَرُّفُ الْمُشْتَرِي بِإِذْنِ الْبَائِعِ ، فَإِنَّهُ يَبْطُلُ خِيَارُهُمَا مَعًا ؛ لِوُجُودِ الرِّضَا مِنْهُمَا بِإِبْطَالِهِ .
وَإِنْ تَصَرَّفَ الْبَائِعُ فِي الْمَبِيعِ بِمَا يَفْتَقِرُ إلَى الْمِلْكِ ، كَانَ فَسْخًا لِلْبَيْعِ ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيِّ ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمُشْتَرِي .
وَلِأَنَّهُ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ ، فَتَصَرُّفُهُ فِي الْمَبِيعِ اخْتِيَارٌ لَهُ ، كَالْمُشْتَرِي .
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّهُ لَا يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ انْتَقَلَ عَنْهُ ، فَلَمْ يَكُنْ تَصَرُّفُهُ فِيهِ اسْتِرْجَاعًا لَهُ ، كَمَنْ وَجَدَ مَالَهُ عِنْدَ مُفْلِسٍ ، فَتَصَرَّفَ فِيهِ .

( 2760 ) فَصْلٌ : وَيَنْتَقِلُ الْمِلْكُ إلَى الْمُشْتَرِي فِي بَيْعِ الْخِيَارِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْخِيَارِ لَهُمَا ، أَوْ لَأَحَدِهِمَا ، أَيَّهُمَا كَانَ ، وَهَذَا أَحَدُ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ .
وَعَنْ أَحْمَدَ : أَنَّ الْمِلْكَ لَا يَنْتَقِلُ حَتَّى يَنْقَضِيَ الْخِيَارُ ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِي ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إذَا كَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا وَلِلْبَائِعِ ، وَإِنْ كَانَ لِلْمُشْتَرِي خَرَجَ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ ، فَلَمْ يَدْخُلْ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ الَّذِي فِيهِ الْخِيَارُ عَقْدٌ قَاصِرٌ ، فَلَمْ يَنْقُلْ الْمِلْكَ ، كَالْهِبَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ .
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ لِلشَّافِعِي : أَنَّ الْمِلْكَ مَوْقُوفٌ مُرَاعًى ، فَإِنْ أَمْضَيَا الْبَيْعَ تَبَيَّنَّا أَنَّ الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي ، وَإِلَّا تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَمْ يَنْتَقِلْ عَنْ الْبَائِعِ .
وَلَنَا ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ ، فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ ، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَقَوْلُهُ : { مَنْ بَاعَ نَخْلًا بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّرَ فَثَمَرَتُهُ لِلْبَائِعِ ، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
فَجَعَلَهُ لِلْمُبْتَاعِ بِمُجَرَّدِ اشْتِرَاطِهِ ، وَهُوَ عَامٌ فِي كُلِّ بَيْعٍ .
وَلِأَنَّهُ بَيْعٌ صَحِيحٌ ، فَنَقَلَ الْمِلْكَ عَقِيبَهُ ، كَاَلَّذِي لَا خِيَارَ لَهُ .
وَلِأَنَّ الْبَيْعَ تَمْلِيكٌ ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : مَلَّكْتُكَ .
فَيَثْبُتُ بِهِ الْمِلْكُ ، كَسَائِرِ الْبَيْعِ .
يُحَقِّقُهُ أَنَّ التَّمْلِيكَ يَدُلُّ عَلَى نَقْلِ الْمِلْكِ إلَى الْمُشْتَرِي ، وَيَقْتَضِيهِ لَفْظُهُ ، وَالشَّرْعُ قَدْ اعْتَبَرَهُ وَقَضَى بِصِحَّتِهِ ، فَيَجِبُ أَنْ يَعْتَبِرَهُ فِيمَا يَقْتَضِيهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُهُ ، وَثُبُوتُ الْخِيَارِ فِيهِ لَا يُنَافِيهِ ، كَمَا لَوْ بَاعَ عَرْضًا بِعَرْضِ ، فَوَجَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا اشْتَرَاهُ عَيْبًا .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّهُ قَاصِرٌ .
غَيْرُ صَحِيحٍ ، وَجَوَازُ فَسْخِهِ لَا يُوجِبُ قُصُورَهُ ، وَلَا

يَمْنَعُ نَقْلَ الْمِلْكِ كَبَيْعِ الْمَعِيبِ ، وَامْتِنَاعُ التَّصَرُّفِ إنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ حَقِّ الْغَيْرِ ، فَلَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ ، كَالْمَرْهُونِ ، وَالْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ مِلْكِ الْبَائِعِ ، وَلَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي .
لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى وُجُودِ مِلْكٍ لَا مَالِكَ لَهُ ، وَهُوَ مُحَالٌ ، وَيُفْضِي أَيْضًا إلَى ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْبَائِعِ فِي الثَّمَنِ مِنْ غَيْرِ حُصُولِ عِوَضِهِ لِلْمُشْتَرِي ، أَوْ إلَى نَقْلِ مِلْكِهِ عَنْ الْمَبِيعِ مِنْ غَيْرِ ثُبُوتِهِ فِي عِوَضِهِ ، وَكَوْنُ الْعَقْدِ مُعَاوَضَةً يَأْبَى ذَلِكَ .
وَقَوْلُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ : إنَّ الْمِلْكَ مَوْقُوفٌ ، إنْ أَمْضَيَا الْبَيْعَ تَبَيَّنَّا أَنَّهُ انْتَقَلَ ، وَإِلَّا فَلَا .
غَيْرُ صَحِيحٍ أَيْضًا ؛ فَإِنَّ انْتِقَالَ الْمِلْكِ إنَّمَا يَنْبَنِي عَلَى سَبَبِهِ النَّاقِلِ لَهُ ، وَهُوَ الْبَيْعُ ، وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ بِإِمْضَائِهِ وَفَسْخِهِ ، فَإِنَّ إمْضَاءَهُ لَيْسَ مِنْ الْمُقْتَضِي وَلَا شَرْطًا فِيهِ ، إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا ثَبَتَ الْمِلْكُ قَبْلَهُ ، وَالْفَسْخُ لَيْسَ بِمَانِعٍ ؛ فَإِنَّ الْمَنْعَ لَا يَتَقَدَّمُ الْمَانِعَ ، كَمَا أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَسْبِقُ سَبَبَهُ وَلَا شَرْطَهُ .
وَلِأَنَّ الْبَيْعَ مَعَ الْخِيَارِ سَبَبٌ يَثْبُتُ الْمِلْكُ عَقِيبَهُ فِيمَا إذَا لَمْ يُفْسَخْ ، فَوَجَبَ أَنْ يُثْبِتُهُ وَإِنْ فُسِخَ ، كَبَيْعِ الْمَعِيبِ ، وَهَذَا ظَاهِرٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ .

( 2761 ) فَصْل : وَمَا يَحْصُلُ مِنْ غَلَّاتِ الْمَبِيعِ ؛ وَنَمَائِهِ الْمُنْفَصِلِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ ، فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي ، أَمْضَيَا الْعَقْدَ ، أَوْ فَسَخَاهُ ، قَالَ أَحْمَدُ فِي مَنْ اشْتَرَى عَبْدًا ، فَوُهِبَ لَهُ مَالٌ قَبْلَ التَّفَرُّقِ ، ثُمَّ اخْتَارَ الْبَائِعُ الْعَبْدَ : فَالْمَالُ لِلْمُشْتَرِي .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إنْ أَمْضَيَا الْعَقْدَ ، وَقُلْنَا : الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي ، أَوْ مَوْقُوفٌ .
فَالنَّمَاءُ الْمُنْفَصِلُ لَهُ ، وَإِنْ قُلْنَا : الْمِلْكُ لِلْبَائِعِ .
فَالنَّمَاءُ لَهُ .
وَإِنْ فَسَخَا الْعَقْدَ ، وَقُلْنَا : الْمِلْكُ لِلْبَائِعِ ، أَوْ مَوْقُوفٌ .
فَالنَّمَاءُ لَهُ ، وَإِلَّا فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي .
وَلَنَا ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ } .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ .
وَهَذَا مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ خَرَاجُهُ لَهُ .
وَلِأَنَّ الْمِلْكَ يَنْتَقِلُ بِالْبَيْعِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ نَمَاؤُهُ لَهُ ، كَمَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْخِيَارِ .
وَيَتَخَرَّجُ أَنْ يَكُونَ النَّمَاءُ الْمُنْفَصِلُ لِلْبَائِعِ إذَا فَسَخَا الْعَقْدَ ، بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي قُلْنَا : إنَّ الْمِلْكَ لَا يَنْتَقِلُ .
فَأَمَّا النَّمَاءُ الْمُتَّصِلُ فَهُوَ تَابِعٌ لِلْمَبِيعِ ، أَمْضَيَا الْعَقْدَ ، أَوْ فَسَخَاهُ ، كَمَا يَتْبَعُهُ فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَالْمُقَايَلَةِ .

( 2762 ) فَصْلٌ : وَضَمَانُ الْمَبِيعِ عَلَى الْمُشْتَرِي إذَا قَبَضَهُ ، وَلَمْ يَكُنْ مَكِيلًا ، وَلَا مَوْزُونًا .
فَإِنْ تَلِفَ ، أَوْ نَقَصَ ، أَوْ حَدَثَ بِهِ عَيْبٌ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ ، فَهُوَ مِنْ ضَمَانِهِ ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ ، وَغَلَّتُهُ لَهُ ، فَكَانَ مِنْ ضَمَانِهِ ، كَمَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْخِيَارِ ، وَمُؤْنَتُهُ عَلَيْهِ .
وَإِنْ كَانَ عَبْدًا ، فَهَلَّ هِلَالُ شَوَّالٍ ، فَفِطْرَتُهُ عَلَيْهِ لِذَلِكَ .
فَإِنْ اشْتَرَى حَامِلًا ، فَوَلَدَتْ عِنْدَهُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ ، ثُمَّ رَدَّهَا عَلَى الْبَائِعِ ، لَزِمَهُ رَدُّ وَلَدِهَا ؛ لِأَنَّهُ مَبِيعٌ حَدَثَتْ فِيهِ بِزِيَادَةِ مُتَّصِلَةٌ ، فَلَزِمَهُ رَدُّهُ بِزِيَادَتِهِ ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ ، فَسَمِنَ أَحَدُهُمَا عِنْدَهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ : لَا يَرُدُّ الْوَلَدَ ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ لَا حُكْمَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مُتَّصِلٌ بِالْأُمِّ ، فَلَمْ يَأْخُذْ قِسْطًا مِنْ الثَّمَنِ ، كَأَطْرَافِهَا .
وَلَنَا ، أَنَّ كُلَّ مَا يُقَسَّطُ عَلَيْهِ الثَّمَنُ إذَا كَانَ مُنْفَصِلًا ، يُقَسَّطُ عَلَيْهِ إذَا كَانَ مُتَّصِلًا ، كَاللَّبَنِ .
وَمَا قَالُوهُ يَبْطُلُ بِالْجُزْءِ الْمُشَاعِ ، كَالثُّلُثِ ، وَالرُّبْعِ ، وَالْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ مَمْنُوعٌ ، ثُمَّ يُفَارِقُ الْحَمْلُ الْأَطْرَافَ ؛ لِأَنَّهُ يَئُولُ إلَى الِانْفِصَالِ ، وَيُنْتَفَعُ بِهِ مُنْفَصِلًا ، وَيَصِحُّ إفْرَادُهُ بِالْعِتْقِ ، وَالْوَصِيَّةُ بِهِ ، وَلَهُ ، وَيَرِثُ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمِيرَاثِ ، وَيُفْرَدُ بِالدِّيَةِ ، وَيَرِثُهَا وَرَثَتُهُ .
وَلَا يَصِحُّ قَوْلُهُمْ : إنَّهُ لَا حُكْمَ لِلْحَمْلِ .
لِهَذِهِ الْأَحْكَامِ وَغَيْرِهَا مِمَّا ذَكَرْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .

( 2763 ) فَصْلٌ : وَإِنْ تَصَرَّفَ أَحَدُ الْمُتَبَايِعَيْنِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ فِي الْمَبِيعِ تَصَرُّفًا يَنْقُلُ الْمَبِيعَ ، كَالْبَيْعِ ، وَالْهِبَةِ ، وَالْوَقْفِ ، أَوْ يَشْغَلُهُ ، كَالْإِجَارَةِ ، وَالتَّزْوِيجِ ، وَالرَّهْنِ ، وَالْكِتَابَةِ ، وَنَحْوِهَا ، لَمْ يَصِحَّ تَصَرُّفُهُ ، إلَّا الْعِتْقُ ، سَوَاءٌ وُجِدَ مِنْ الْبَائِعِ ، أَوْ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ تَصَرَّفَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ ، وَالْمُشْتَرِي يُسْقِطُ حَقَّ الْبَائِعِ مِنْ الْخِيَارِ ، وَاسْتِرْجَاعِ الْمَبِيعِ ، فَلَمْ يَصِحَّ تَصَرُّفُهُ فِيهِ ، كَالتَّصَرُّفِ فِي الرَّهْنِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي وَحْدَهُ ، فَيَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ ، وَيَبْطُلُ خِيَارُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِغَيْرِهِ فِيهِ ، وَثُبُوتُ الْخِيَارِ لَهُ لَا يَمْنَعُ تَصَرُّفَهُ فِيهِ ، كَالْمَعِيبِ .
قَالَ أَحْمَدُ : إذَا اشْتَرَطَ الْخِيَارَ ، فَبَاعَهُ قَبْلَ ذَلِكَ بِرِبْحٍ ، فَالرِّبْحُ لِلْمُبْتَاعِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ حِينَ عَرَضَهُ .
يَعْنِي بَطَلَ خِيَارُهُ ، وَلَزِمَهُ .
وَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ فِيمَا إذَا شَرَطَ الْخِيَارَ لَهُ وَحْدَهُ ، وَكَذَلِكَ إذَا قُلْنَا : إنَّ الْبَيْعَ لَا يَنْقُلُ الْمِلْكَ ، وَكَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا ، أَوْ لِلْبَائِعِ وَحْدَهُ ، فَتَصَرَّفَ فِيهِ الْبَائِعُ ، نَفَذَ تَصَرُّفُهُ ، وَصَحَّ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ ، وَلَهُ إبْطَالُ خِيَارِ غَيْرِهِ ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى : فِي تَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا ، لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ فِي صِحَّتِهِ إسْقَاطَ حَقِّ الْبَائِعِ مِنْ الْخِيَارِ .
وَالثَّانِيَةُ ، هُوَ مَوْقُوفٌ ؛ فَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ الْفَسْخِ صَحَّ ، وَإِنْ اخْتَارَ الْبَائِعُ الْفَسْخَ بَطَلَ بَيْعُ الْمُشْتَرِي .
قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ : إذَا اشْتَرَى ثَوْبًا بِشَرْطٍ ، فَبَاعَهُ بِرِبْحٍ قَبْلَ انْقِضَاءِ الشَّرْطِ ، يَرُدُّهُ إلَى صَاحِبِهِ إنْ طَلَبَهُ ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى رَدِّهِ ، فَلِلْبَائِعِ قِيمَةُ الثَّوْبِ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَهْلَكَ ثَوْبَهُ ، أَوْ يُصَالِحُهُ .
فَقَوْلُهُ : يَرُدُّهُ إنْ طَلَبَهُ .
يَدُلُّ

عَلَى أَنَّ وُجُوبَ رَدِّهِ مَشْرُوطٌ بِطَلَبِهِ .
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ ، عَنْ { ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ ، فَكَانَ عَلَى بَكْرٍ صَعْبٍ ، وَكَانَ يَتَقَدَّمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُ لَهُ أَبُوهُ : لَا يَتَقَدَّمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدٌ .
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : بِعْنِيهِ .
فَقَالَ عُمَرُ : هُوَ لَك يَا رَسُولَ اللَّهِ .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هُوَ لَك يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ ، فَاصْنَعْ بِهِ مَا شِئْت } .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّصَرُّفَ قَبْلَ التَّفَرُّقِ جَائِزٌ ، وَذَكَرَ أَصْحَابُنَا فِي صِحَّةِ تَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي بِالْوَقْفِ وَجْهًا آخَرَ ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ يُبْطِلُ الشُّفْعَةَ ، فَأَشْبَهَ الْعِتْقَ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْبَائِعِ تَعَلُّقًا يَمْنَعُ جَوَازَ التَّصَرُّفِ ، فَمَنَعَ صِحَّتَهُ ، كَالرَّهْنِ .
وَيُفَارِقُ الْوَقْفُ الْعِتْقَ ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّغْلِيبِ وَالسِّرَايَةِ ، بِخِلَافِ الْوَقْفِ .
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ ، فَلَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِالْبَيْعِ ، فَإِنَّ قَوْلَ عُمَرَ : هُوَ لَك .
يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ هِبَةً ، وَهُوَ الظَّاهِرُ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ ثَمَنًا ، وَالْهِبَةُ لَا يَثْبُتُ فِيهَا الْخِيَارُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : تَصَرُّفُ الْبَائِعِ فِي الْمَبِيعِ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَنَحْوِهِمَا صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى مِلْكِهِ فَيُمْلَكُ بِالْعَقْدِ عَلَيْهِ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْمُشْتَرِي ، وَالْبَائِعُ يَمْلِكُ فَسْخَهُ ، فَجَعَلَ الْبَيْعَ وَالْهِبَةَ فَسْخًا .
وَأَمَّا تَصَرُّفُ الْمُشْتَرِي ، فَلَا يَصِحُّ إذَا قُلْنَا : الْمِلْكُ لِغَيْرِهِ .
وَإِنْ قُلْنَا : الْمِلْكُ لَهُ .
فَفِي صِحَّةِ تَصَرُّفِهِ وَجْهَانِ .
وَلَنَا ، عَلَى إبْطَالِ تَصَرُّفِ الْبَائِعِ ، أَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ وِلَايَةٍ شَرْعِيَّةٍ ، وَلَا نِيَابَةٍ

عُرْفِيَّةٍ ، فَلَمْ يَصِحُّ ، كَمَا بَعْدَ الْخِيَارِ .
وَقَوْلُهُمْ : يَمْلِكُ الْفَسْخَ .
قُلْنَا : إلَّا أَنَّ ابْتِدَاءَ التَّصَرُّفِ لَمْ يُصَادِفْ مِلْكَهُ ، فَلَمْ يَصِحَّ ، كَتَصَرُّفِ الْأَبِ فِيمَا وَهَبَ لِوَلَدِهِ قَبْلَ اسْتِرْجَاعِهِ ، وَتَصَرُّفِ الشَّفِيعِ فِي الشِّقْصِ الْمَشْفُوعِ قَبْلَ أَخْذِهِ .

( 2764 ) فَصْلٌ : وَإِنْ تَصَرَّفَ الْمُشْتَرِي بِإِذْنِ الْبَائِعِ ، أَوْ الْبَائِعِ بِوِكَالَةِ الْمُشْتَرِي ، صَحَّ التَّصَرُّفُ ، وَانْقَطَعَ خِيَارُهُمَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى تَرَاضِيهِمَا بِإِمْضَاءِ الْبَيْعِ ، فَيُقْطَعُ بِهِ خِيَارُهُمَا ، كَمَا لَوْ تَخَايَرَا ، وَيَصِحُّ تَصَرُّفُهُمَا ؛ لِأَنَّ قَطْعَ الْخِيَارِ حَصَلَ بِالْإِذْنِ فِي الْبَيْعِ ، فَيَقَعُ الْبَيْعُ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْخِيَارِ .
وَإِنْ تَصَرَّفَ الْبَائِعُ بِإِذْنِ الْمُشْتَرِي ، احْتَمَلَ أَنْ يَقَعَ صَحِيحًا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى فَسْخِ الْبَيْعِ ، أَوْ اسْتِرْجَاعِ الْمَبِيعِ ، فَيَقَعُ تَصَرُّفُهُ بَعْدَ اسْتِرْجَاعِهِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَصِحَّ ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ لَا يَحْتَاجُ إلَى إذْنِ الْمُشْتَرِي فِي اسْتِرْجَاعِ الْمَبِيعِ ، فَيَصِيرُ كَتَصَرُّفِهِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمُشْتَرِي ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ ، كَذَا هَاهُنَا .
وَكُلُّ مَوْضِعٍ قُلْنَا : إنَّ تَصَرُّفَ الْبَائِعِ لَا يَنْفُذُ ، وَلَكِنْ يَنْفَسِخُ بِهِ الْبَيْعُ .
فَإِنَّهُ مَتَى أَعَادَ ذَلِكَ التَّصَرُّفَ ، أَوْ تَصَرَّفَ تَصَرُّفًا سِوَاهُ ، صَحَّ ؛ لِأَنَّهُ بِفَسْخِ الْبَيْعِ عَادَ إلَيْهِ الْمِلْكُ ، فَصَحَّ تَصَرُّفُهُ فِيهِ ، كَمَا لَوْ فَسَخَ الْبَيْعَ بِصَرِيحِ قَوْلِهِ ، ثُمَّ تَصَرَّفَ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ إنْ تَقَدَّمَ تَصَرُّفَهُ مَا يَنْفَسِخُ بِهِ الْبَيْعُ ، صَحَّ تَصَرُّفُهُ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا .
( 2765 ) فَصْلٌ : وَإِنْ تَصَرَّفَ أَحَدُهُمَا بِالْعِتْقِ ، نَفَذَ عِتْقُ مَنْ حَكَمْنَا بِالْمِلْكِ لَهُ ، وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي ، فَيَنْفُذُ عِتْقُهُ ، سَوَاءٌ كَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا ، أَوْ لَأَحَدِهِمَا ؛ لِأَنَّهُ عِتْقٌ مِنْ مَالِكِ جَائِزِ التَّصَرُّفِ ، فَنَفَذَ ، كَمَا بَعْدَ الْمُدَّةِ .
وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا عِتْقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ } .
يَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّهُ يَنْفُذُ فِي الْمِلْكِ ، وَمِلْكُ الْبَائِعِ لِلْفَسْخِ لَا يَمْنَعُ نُفُوذَ الْعِتْقِ ، كَمَا لَوْ بَاعَ عَبْدًا بِجَارِيَةٍ مُعَيَّنَةٍ ، فَإِنَّ مُشْتَرِيَ الْعَبْدِ يَنْفُذُ عِتْقُهُ ، مَعَ أَنَّ

لِلْبَائِعِ الْفَسْخَ .
وَلَوْ وَهَبَ رَجُلٌ ابْنَهُ عَبْدًا ، فَأَعْتَقَهُ ، نَفَذَ عِتْقُهُ ، مَعَ مِلْكِ الْأَبِ لِاسْتِرْجَاعِهِ .
وَلَا يَنْفُذُ عِتْقُ الْبَائِعِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَمَالِكٌ يَنْفُذُ عِتْقُهُ ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ ، وَإِنْ كَانَ الْمِلْكُ انْتَقَلَ فَإِنَّهُ يَسْتَرْجِعُهُ بِالْعِتْقِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ إعْتَاقٌ مِنْ غَيْرِ مَالِكٍ ، فَلَمْ يَنْفُذْ ، كَعِتْقِ الْأَبِ عَبْدَ ابْنِهِ الَّذِي وَهَبَهُ إيَّاهُ ، وَقَدْ دَلَلْنَا عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ انْتَقَلَ إلَى الْمُشْتَرِي .
وَإِنْ قُلْنَا بِالرِّوَايَةِ الْأُخْرَى ، وَأَنَّ الْمِلْكَ لَمْ يَنْتَقِلْ إلَى الْمُشْتَرِي ، نَفَذَ عِتْقُ الْبَائِعِ دُونَ الْمُشْتَرِي .
وَإِنْ أَعْتَقَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي جَمِيعًا ، فَإِنْ تَقَدَّمَ عِتْقُ الْمُشْتَرِي ، فَالْحُكْمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَإِنْ تَقَدَّمَ عِتْقُ الْبَائِعِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَنْفُذَ عِتْقُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ ؛ لِكَوْنِهِ أَعْتَقَ غَيْرَ مَمْلُوكِهِ ، وَلَكِنْ حَصَلَ بِإِعْتَاقِهِ فَسْخُ الْبَيْعِ ، وَاسْتِرْجَاعُ الْعَبْدِ ، فَلَمْ يَنْفُذْ عِتْقُ الْمُشْتَرِي .
وَمَتَى أَعَادَ الْبَائِعُ الْإِعْتَاقَ مَرَّةً ثَانِيَةً ، نَفَذَ إعْتَاقُهُ ؛ لِأَنَّهُ عَادَ الْعَبْدُ إلَيْهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اسْتَرْجَعَهُ بِصَرِيحِ قَوْلِهِ .
وَلَوْ اشْتَرَى مَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ ، جَرَى مَجْرَى إعْتَاقِهِ بِصَرِيحِ قَوْلِهِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَهُ .
وَإِنْ بَاعَ عَبْدًا بِجَارِيَةٍ ، بِشَرْطِ الْخِيَارِ ، فَأَعْتَقَهُمَا ، نَفَذَ عِتْقُ الْأَمَةِ دُونَ الْعَبْدِ .
وَإِنْ أَعْتَقَ أَحَدَهُمَا ، ثُمَّ أَعْتَقَ الْآخَرَ ، نَظَرْت ، فَإِنْ أَعْتَقَ الْأَمَةَ أَوَّلًا ، نَفَذَ عِتْقُهَا ، وَبَطَلَ خِيَارُهُ ، وَلَمْ يَنْفُذْ عِتْقُ الْعَبْدِ ، وَإِنْ أَعْتَقَ الْعَبْدَ أَوَّلًا ، انْفَسَخَ الْبَيْعُ ، وَرَجَعَ إلَيْهِ الْعَبْدُ ، وَلَمْ يَنْفُذْ إعْتَاقُهُ ، وَلَا يَنْفُذُ عِتْقُ الْأَمَةِ ؛ لِأَنَّهَا خَرَجَتْ بِالْفَسْخِ عَنْ مِلْكِهِ ، وَعَادَتْ إلَى سَيِّدِهَا الْبَائِعِ لَهَا .

( 2766 ) فَصْلٌ : إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ : إذَا بِعْتُك فَأَنْتَ حُرٌّ .
ثُمَّ بَاعَهُ ، صَارَ حُرًّا ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَسَوَاءٌ شَرَطَا الْخِيَارَ أَوْ لَمْ يَشْرِطَاهُ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالثَّوْرِيُّ : لَا يَعْتِقُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَمَّ بَيْعُهُ زَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ .
فَلَمْ يَنْفُذْ إعْتَاقُهُ لَهُ .
وَلَنَا ، أَنَّ زَمَنَ انْتِقَالِ الْمِلْكِ زَمَنُ الْحُرِّيَّةِ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ سَبَبٌ لِنَقْلِ الْمِلْكِ ، وَشَرْطٌ لِلْحُرِّيَّةِ .
فَيَجِبُ تَغْلِيبُ الْحُرِّيَّةِ ، كَمَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ : إذَا مِتُّ فَأَنْتَ حُرٌّ ، وَلِأَنَّهُ عَلَّقَ حُرِّيَّتَهُ عَلَى فِعْلِهِ لِلْبَيْعِ .
وَالصَّادِرُ مِنْهُ فِي الْبَيْعِ إنَّمَا هُوَ الْإِيجَابُ ، فَمَتَى قَالَ لِلْمُشْتَرِي : بِعْتُك .
فَقَدْ وُجِدَ شَرْطُ الْحُرِّيَّةِ ، فَيَعْتِقُ قَبْلَ قَبُولِ الْمُشْتَرِي ، وَعَلَّلَهُ الْقَاضِي بِأَنَّ الْخِيَارَ ثَابِتٌ فِي كُلِّ بَيْعٍ ، فَلَا يَنْقَطِعُ تَصَرُّفُهُ فِيهِ .
فَعَلَى هَذَا لَوْ تَخَايَرَا ثُمَّ بَاعَهُ لَمْ يَعْتِقْ ، وَلَا يَصِحُّ هَذَا التَّعْلِيلُ عَلَى مَذْهَبنَا .
فَإِنَّنَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْبَائِعَ لَوْ أَعْتَقَ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ لَمْ يَنْفُذْ إعْتَاقُهُ .

( 2767 ) فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي وَطْءُ الْجَارِيَةِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ إذَا كَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا أَوْ لِلْبَائِعِ وَحْدَهُ ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّ الْبَائِعِ ، فَلَمْ يُبَحْ لَهُ وَطْؤُهَا كَالْمَرْهُونَةِ ، وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا اخْتِلَافًا ، فَإِنْ وَطِئَهَا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ يُدْرَأُ بِشُبْهَةِ الْمِلْكِ فَبِحَقِيقَتِهِ أَوْلَى ، وَلَا مَهْرَ لَهَا ؛ لِأَنَّهَا مَمْلُوكَتُهُ ، وَإِنْ عَلِقَتْ مِنْهُ ، فَالْوَلَدُ حُرٌّ يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَمَتِهِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ ، وَتَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ، وَإِنْ فَسَخَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ رَجَعَ بِقِيمَتِهَا ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ الْفَسْخُ فِيهَا ، وَلَا يَرْجِعُ بِقِيمَةِ وَلَدِهَا ؛ لِأَنَّهُ حَدَثَ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي .
وَإِنْ قُلْنَا : إنَّ الْمِلْكَ لَا يَنْتَقِلُ إلَى الْمُشْتَرِي ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ لَهُ فِيهَا شُبْهَةً لِوُجُودِ سَبَبِ نَقْلِ الْمِلْكِ إلَيْهِ ، وَاخْتِلَافِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي ثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُ ، وَالْحَدُّ يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ ، وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ ، وَقِيمَةُ الْوَلَدِ يَكُونُ حُكْمُهَا حُكْمَ نَمَائِهَا ، وَإِنْ عَلِمَ التَّحْرِيمَ ، وَأَنَّ مِلْكَهُ غَيْرُ ثَابِتٍ ، فَوَلَدُهُ رَقِيقٌ .
وَأَمَّا الْبَائِعُ فَلَا يَحِلُّ لَهُ الْوَطْءُ قَبْلَ فَسْخِ الْبَيْعِ .
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ : لَهُ وَطْؤُهَا ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَنْفَسِخُ بِوَطْئِهِ ، فَإِنْ كَانَ الْمِلْكُ انْتَقَلَ رَجَعَتْ إلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ انْتَقَلَ انْقَطَعَ حَقُّ الْمُشْتَرِي مِنْهَا ، فَيَكُونُ وَاطِئًا لِمَمْلُوكَتِهِ الَّتِي لَا حَقَّ لِغَيْرِهِ فِيهَا .
وَلَنَا أَنَّ الْمِلْكَ انْتَقَلَ عَنْهُ فَلَمْ يَحِلَّ لَهُ وَطْؤُهَا ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { إلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ } ، وَلِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْوَطْءِ يَقَعُ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ ، فَيَكُونُ حَرَامًا .
وَلَوْ انْفَسَخَ الْبَيْعُ قَبْلَ وَطْئِهِ ، لَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا ، وَلَا

يَلْزَمُهُ حَدٌّ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : إنْ عَلِمَ التَّحْرِيمَ ، وَأَنَّ مِلْكَهُ قَدْ زَالَ ، وَلَا يَنْفَسِخُ بِالْوَطْءِ ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ .
وَذَكَرَ أَنَّ أَحْمَدَ نَصَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ وَطْأَهُ لَمْ يُصَادِفْ مِلْكًا وَلَا شُبْهَةَ مِلْكٍ .
وَلَنَا ، أَنَّ مِلْكَهُ يَحْصُلُ بِابْتِدَاءِ وَطْئِهِ ، فَيَحْصُلُ تَمَامُ الْوَطْءِ فِي مِلْكِهِ ، مَعَ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي كَوْنِ الْمِلْكِ لَهُ ، وَحِلَّ الْوَطْءُ لَهُ ، وَلَا يَجِبُ الْحَدُّ مَعَ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الشُّبُهَاتِ ، فَكَيْفَ إذَا اجْتَمَعَتْ ، مَعَ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَحْصُلَ الْفَسْخُ بِالْمُلَامَسَةِ قَبْلَ الْوَطْءِ ، فَيَكُونُ الْمِلْكُ قَدْ رَجَعَ إلَيْهِ قَبْلَ وَطْئِهِ ، وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَدُ فِي الْمُشْتَرِي : إنَّهَا قَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ حِينَ وَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا .
فِيمَا إذَا مَشَطَهَا ، أَوْ خَضَّبَهَا ، أَوْ حَفَّهَا ، فَبِوَضْعِ يَدِهِ عَلَيْهَا لِلْجِمَاعِ وَلَمْسِ فَرْجِهَا بِفَرْجِهِ أَوْلَى .
فَعَلَى هَذَا يَكُونُ وَلَدُهُ مِنْهَا حُرًّا ، وَنَسَبُهُ لَاحِقٌ بِهِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ ، وَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ ، وَتَصِيرُ الْأَمَةُ أُمَّ وَلَدِهِ .
وَقَالَ أَصْحَابُنَا : إنْ عَلِمَ التَّحْرِيمَ فَوَلَدُهُ رَقِيقٌ ، وَلَا يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ .
فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ لَحِقَهُ النَّسَبُ ، وَوَلَدُهُ حُرٌّ ، وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْوِلَادَةِ ، وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ ، وَلَا تَصِيرُ الْأَمَةُ أُمَّ وَلَدِهِ ، لِأَنَّهُ وَطِئَهَا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ .

( 2768 ) فَصْلٌ : وَلَا بَأْسَ بِنَقْدِ الثَّمَنِ وَقَبْضِ الْمَبِيعِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيِّ وَكَرِهَهُ مَالِكٌ .
قَالَ : لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى بَيْعٍ وَسَلَفٍ إذَا أَقْبَضَهُ الثَّمَنَ ثُمَّ تَفَاسَخَا الْبَيْعَ ، صَارَ كَأَنَّهُ أَقْرَضَهُ إيَّاهُ .
وَلَنَا ، أَنَّ هَذَا حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الْبَيْعِ ، فَجَازَ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ ، كَالْإِجَارَةِ ، وَمَا ذَكَرَهُ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّنَا لَمْ نُجِزْ لَهُ التَّصَرُّفَ فِيهِ ( 2769 ) فَصْلٌ : قَوْلُ الْخِرَقِيِّ : " أَوْ مَاتَ " الظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ الْعَبْدَ ، وَرَدَّ الضَّمِيرَ إلَيْهِ ، وَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ : " أَوْ تَلِفَتْ السِّلْعَةُ " .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ رَدَّ الضَّمِيرَ إلَى الْمُشْتَرِي ، وَأَرَادَ إذَا مَاتَ الْمُشْتَرِي بَطَلَ الْخِيَارُ ؛ لِأَنَّ مَوْتَ الْعَبْدِ قَدْ تَنَاوَلَهُ بِقَوْلِهِ : " أَوْ تَلِفَتْ السِّلْعَةُ " .
وَالْحُكْمُ فِي مَوْتِ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي وَاحِدٌ .
وَالْمَذْهَبُ أَنَّ خِيَارَ الْمَيِّتِ مِنْهُمَا يَبْطُلُ بِمَوْتِهِ ، وَيَبْقَى خِيَارُ الْآخَرِ بِحَالِهِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَيِّتُ قَدْ طَالَبَ بِالْفَسْخِ قَبْلَ مَوْتِهِ فِيهِ ، فَيَكُونُ لِوَرَثَتِهِ .
وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ .
وَيَتَخَرَّجُ أَنَّ الْخِيَارَ لَا يَبْطُلُ ، وَيَنْتَقِلُ إلَى وَرَثَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ مَالِيٌّ ، فَيَنْتَقِلُ إلَى الْوَارِثِ ، كَالْأَجَلِ وَخِيَارِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ ، وَلِأَنَّهُ حَقُّ فَسْخٍ لِلْبَيْعِ ، فَيَنْتَقِلُ إلَى الْوَارِثِ ، كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ ، وَالْفَسْخِ بِالتَّحَالُفِ ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ وَلَنَا ، أَنَّهُ حَقُّ فَسْخٍ لَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ ؛ فَلَمْ يُورَثْ كَخِيَارِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ .

( 2770 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَإِذَا تَفَرَّقَا مِنْ غَيْرِ فَسْخٍ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا رَدُّهُ إلَّا بِعَيْبٍ أَوْ خِيَارٍ ) لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْبَيْعَ يَلْزَمُ بَعْدَ التَّفَرُّقِ ، مَا لَمْ يَكُنْ سَبَبٌ يَقْتَضِي جَوَازَهُ ، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَإِنْ تَفَرَّقَا بَعْدَ أَنْ تَبَايَعَا وَلَمْ يَتْرُكْ أَحَدُهُمَا الْبَيْعَ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ } ، وَقَوْلُهُ : { الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا } .
جَعَلَ التَّفَرُّقَ غَايَةً لِلْخِيَارِ .
وَمَا بَعْدَ الْغَايَةِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا لِمَا قَبْلَهَا ، إلَّا أَنْ يَجِدَ بِالسِّلْعَةِ عَيْبًا فَيَرُدَّهَا بِهِ ، أَوْ يَكُونَ قَدْ شَرَطَ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ مُدَّةً مَعْلُومَةً ، فَيَمْلِكُ الرَّدَّ أَيْضًا .
وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي ثُبُوتِ الرَّدِّ بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ .
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمُؤْمِنُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ } .
اسْتَشْهَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ .
وَفِي مَعْنَى الْعَيْبِ أَنَّ يُدَلِّسَ الْمَبِيعَ بِمَا يَخْتَلِفُ بِهِ الثَّمَنُ ، أَوْ يَشْتَرِطَ فِي الْمَبِيعِ صِفَةً يَخْتَلِفُ بِهَا الثَّمَنُ ، فَيَتَبَيَّنُ بِخِلَافِهِ ، فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ أَيْضًا .
وَيَقْرُبُ مِنْهُ مَا لَوْ أَخْبَرَهُ فِي الْمُرَابَحَةِ فِي الثَّمَنِ أَنَّهُ حَالٌّ ، فَبَانَ مُؤَجَّلًا ، وَنَحْوَ هَذَا ، وَنَذْكُرُ هَذَا فِي مَوَاضِعِهِ .
( 2771 ) فَصْلٌ : وَلَوْ أَلْحَقَا فِي الْعَقْدِ خِيَارًا بَعْدَ لُزُومِهِ لَمْ يَلْحَقْهُ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ : يَلْحَقُهُ ؛ لِأَنَّ لَهُمَا فَسْخَ الْعَقْدِ ، فَكَانَ لَهُمَا إلْحَاقُ الْخِيَارِ بِهِ كَحَالَةِ الْمَجْلِسِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ عَقْدٌ لَازِمٌ فَلَمْ يَصِرْ جَائِزًا بِقَوْلِهِمَا ، كَالنِّكَاحِ .
وَفَارَقَ حَالَ الْمَجْلِسِ ؛ لِأَنَّهُ جَائِزٌ .

( 2772 ) فَصْلٌ : وَكَلَامُ الْخِرَقِيِّ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ بُيُوعَ الْأَعْيَانِ الْمَرْئِيَّةِ ، فَلَا يَكُونُ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِبَيْعِ الْغَائِبِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ كُلَّ مَا يُسَمَّى خِيَارًا ، فَيَدْخُلُ فِيهِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ وَغَيْرُهُ .
وَفِي بَيْعِ الْغَائِبِ رِوَايَتَانِ ؛ أَظْهَرُهُمَا ، أَنَّ الْغَائِبَ الَّذِي لَمْ يُوصَفْ ، وَلَمْ تَتَقَدَّمْ رُؤْيَتُهُ لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّعْبِيُّ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَالْحَسَنُ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَإِسْحَاقُ .
وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ .
وَفِي رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّهُ يَصِحُّ .
وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِي .
وَهَلْ يَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي خِيَارُ الرُّؤْيَةِ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ ؛ أَشْهَرُهُمَا ثُبُوتُهُ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَاحْتَجَّ مَنْ أَجَازَهُ بِعُمُومِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ } .
وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ ، وَطَلْحَةَ ، أَنَّهُمَا تَبَايَعَا دَارَيْهِمَا بِالْكُوفَةِ ، وَالْأُخْرَى بِالْمَدِينَةِ ، فَقِيلَ لِعُثْمَانَ : إنَّك قَدْ غَبِنْت ، فَقَالَ : مَا أُبَالِي ؛ لِأَنِّي بِعْت مَا لَمْ أَرَهُ .
وَقِيلَ لِطَلْحَةَ ، فَقَالَ : لَيّ الْخِيَارُ ؛ لِأَنَّنِي اشْتَرَيْت مَا لَمْ أَرَهُ .
فَتَحَاكَمَا إلَى جُبَيْرٍ ، فَجَعَلَ الْخِيَارَ لِطَلْحَةَ .
وَهَذَا اتِّفَاقٌ مِنْهُمْ عَلَى صِحَّةِ الْبَيْعِ ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ ، فَلَمْ تَفْتَقِرْ صِحَّتُهُ إلَى رُؤْيَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، كَالنِّكَاحِ .
وَلَنَا ، مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَنَّهُ { نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَلِأَنَّهُ بَاعَ مَا لَمْ يَرَهُ وَلَمْ يُوصَفُ لَهُ ، فَلَمْ يَصِحَّ ، كَبَيْعِ النَّوَى فِي التَّمْرِ ، وَلِأَنَّهُ نَوْعُ بَيْعٍ فَلَمْ يَصِحَّ مَعَ الْجَهْلِ بِصِفَةِ الْمَبِيعِ ، كَالسَّلَمِ ، وَالْآيَةُ مَخْصُوصَةٌ بِالْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ .
وَأَمَّا حَدِيثُ عُثْمَانَ وَطَلْحَةَ ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُمَا تَبَايَعَا بِالصِّفَةِ ، عَلَى أَنَّهُ قَوْلُ صَحَابِيٍّ ، وَفِي كَوْنِهِ حُجَّةً خِلَافٌ ، وَلَا

يُعَارَضُ بِهِ حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنِّكَاحُ لَا يُقْصَدُ مِنْهُ الْمُعَاوَضَةُ ، وَلَا يَفْسُدُ بِفَسَادِ الْعِوَضِ ، وَلَا يُتْرَكُ ذِكْرُهُ ، وَلَا يَدْخُلُهُ شَيْءٌ مِنْ الْخِيَارَات .
وَفِي اشْتِرَاطِ الرُّؤْيَةِ مَشَقَّةٌ عَلَى الْمُخَدَّرَات وَإِضْرَارٌ بِهِنَّ .
عَلَى أَنَّ الصِّفَات الَّتِي تُعْلَمُ بِالرُّؤْيَةِ لَيْسَتْ هِيَ الْمَقْصُودَةَ بِالنِّكَاحِ ، فَلَا يَضُرُّ الْجَهْلُ بِهَا بِخِلَافِ الْبَيْعِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ اشْتَرَى مَا لَمْ يَرَهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إذَا رَآهُ } .
وَالْخِيَارُ لَا يَثْبُتُ إلَّا فِي عَقْدٍ صَحِيحٍ .
قُلْنَا : هَذَا يَرْوِيهِ عُمَرُ بْنُ إبْرَاهِيم الْكُرْدِيُّ ، وَهُوَ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْعَقْدِ عَلَيْهِ وَتَرْكِهِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ رُؤْيَةُ مَا هُوَ مَقْصُودٌ بِالْبَيْعِ ، كَدَاخِلِ الثَّوْبِ ، وَشَعْرِ الْجَارِيَةِ ، وَنَحْوِهِمَا .
فَلَوْ بَاعَ ثَوْبًا مَطْوِيًّا ، أَوْ عَيْنًا حَاضِرَةً ، لَا يُشَاهَدُ مِنْهَا مَا يَخْتَلِفُ الثَّمَنُ لِأَجْلِهِ ، كَانَ كَبَيْعِ الْغَائِبِ .
وَإِنْ حَكَمْنَا بِالصِّحَّةِ ، فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْمَبِيعِ فِي الْفَسْخِ وَالْإِمْضَاءِ ، وَيَكُونُ عَلَى الْفَوْرِ ، فَإِنْ اخْتَارَ الْفَسْخَ فَلَهُ ذَلِكَ ، وَإِنْ لَمْ يَفْسَخْ لَزِمَ الْعَقْدُ ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهَا .
وَقِيلَ : يَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ الَّذِي وُجِدَتْ الرُّؤْيَةُ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ خِيَارٌ ثَبَتَ بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ ، فَتَقَيَّدَ بِالْمَجْلِسِ كَخِيَارِ الْمَجْلِسِ .
وَإِنْ اخْتَارَ الْفَسْخَ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ انْفَسَخَ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ غَيْرُ لَازِمٍ فِي حَقِّهِ ، فَمَلَكَ الْفَسْخَ ، كَحَالَةِ الرُّؤْيَةِ .
وَإِنْ اخْتَارَ إمْضَاءَ الْعَقْدِ ، لَمْ يَلْزَمْ ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ يَتَعَلَّقُ بِالرُّؤْيَةِ ، وَلِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى إلْزَامِ الْعَقْدِ عَلَى الْمَجْهُولِ ، فَيُفْضِي إلَى الضَّرَرِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَبَايَعَا

بِشَرْطِ أَنْ لَا يَثْبُتَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي ، لَمْ يَصِحَّ الشَّرْطُ لِذَلِكَ .
وَهَلْ يَفْسُدُ الْبَيْعُ بِهَذَا الشَّرْطِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ، بِنَاءً عَلَى الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فِي الْبَيْعِ .

( 2773 ) فَصْلٌ : وَيُعْتَبَرُ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ الرُّؤْيَةُ مِنْ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي جَمِيعًا ، وَإِنْ قُلْنَا بِصِحَّةِ الْبَيْعِ مَعَ عَدَمِ الرُّؤْيَةِ ، فَبَاعَ مَا لَمْ يَرَهُ ، فَلَهُ الْخِيَارُ عِنْدَ الرُّؤْيَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَرَهُ الْمُشْتَرِي أَيْضًا ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْخِيَارُ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَيْسَ لَهُ الْخِيَارُ ؛ لِحَدِيثِ عُثْمَانَ وَطَلْحَةَ ، وَلِأَنَّنَا لَوْ جَعَلْنَا لَهُ الْخِيَارَ لَثَبَتَ لِتَوَهُّمِ الزِّيَادَةِ ، وَالزِّيَادَةُ فِي الْمَبِيعِ لَا تُثْبِتُ الْخِيَارَ .
وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ شَيْئًا عَلَى أَنَّهُ مَعِيبٌ ، فَبَانَ غَيْرَ مَعِيبٍ ، لَمْ يَثْبُتْ لَهُ الْخِيَارُ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ جَاهِلٌ بِصِفَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَأَشْبَهَ الْمُشْتَرِيَ ، فَأَمَّا الْخَبَرُ ، فَإِنَّهُ قَوْلُ جُبَيْرٍ وَطَلْحَةَ ، وَقَدْ خَالَفَهُمَا عُثْمَانُ ، وَقَوْلُهُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يُعْتَبَرُ فِيهِ الرِّضَى مِنْهُمَا ، فَتُعْتَبَرُ الرُّؤْيَةُ الَّتِي هِيَ مَظِنَّةُ الرِّضَى مِنْهُمَا .

( 2774 ) فَصْلٌ : وَإِذَا وَصَفَ الْمَبِيعَ لِلْمُشْتَرِي ، فَذَكَرَ لَهُ مِنْ صِفَاتِهِ مَا يَكْفِي فِي صِحَّةِ السَّلَمِ ، صَحَّ بَيْعُهُ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ .
وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَعَنْ أَحْمَدَ ، لَا يَصِحُّ حَتَّى يَرَاهُ ؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ لَا تَحْصُلُ بِهَا مَعْرِفَةُ الْمَبِيعِ ، فَلَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ بِهَا كَاَلَّذِي لَا يَصِحُّ السَّلَمُ فِيهِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ بَيْعٌ بِالصِّفَةِ ، فَصَحَّ كَالسَّلَمِ ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا تَحْصُلُ بِهِ مَعْرِفَةُ الْمَبِيعِ ، فَإِنَّهَا تَحْصُلُ بِالصِّفَاتِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي يَخْتَلِفُ بِهَا الثَّمَنُ ظَاهِرًا ، وَهَذَا يَكْفِي ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَكْفِي فِي السَّلَمِ ، وَأَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِي الرُّؤْيَةِ الِاطِّلَاعُ عَلَى الصِّفَاتِ الْخَفِيَّةِ ، وَأَمَّا مَا لَا يَصِحُّ السَّلَمْ فِيهِ ، فَلَا يَصِحُّ بَيْعُهُ بِالصِّفَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ ضَبْطُهُ بِهَا .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّهُ مَتَى وَجَدَهُ عَلَى الصِّفَةِ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الْفَسْخُ .
وَبِهَذَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ ، وَأَيُّوبُ ، وَمَالِكٌ ، وَالْعَنْبَرِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَصْحَابُهُ : لَهُ الْخِيَارُ بِكُلِّ حَالٍ ؛ لِأَنَّهُ يُسَمَّى بَيْعَ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ ، وَلِأَنَّ الرُّؤْيَةَ مِنْ تَمَامِ الْعَقْدِ ، فَأَشْبَهَ غَيْرَ الْمَوْصُوفِ .
وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ كَالْمَذْهَبَيْنِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ سَلَّمَ لَهُ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ بِصِفَاتِهِ ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ الْخِيَارُ كَالْمُسْلَمِ فِيهِ ، وَلِأَنَّهُ مَبِيعٌ مَوْصُوفٌ ، فَلَمْ يَكُنْ لِلْعَاقِدِ فِيهِ الْخِيَارُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ ، كَالسَّلَمِ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّهُ يُسَمَّى بَيْعَ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ .
لَا نَعْرِفُ صِحَّتَهُ ، فَإِنْ ثَبَتَ ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يُسَمِّيَهُ مَنْ يَرَى ثُبُوتَ الْخِيَارِ ، وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ ، فَأَمَّا إنْ وَجَدَهُ بِخِلَافِ الصِّفَةِ فَلَهُ الْخِيَارُ ، وَيُسَمَّى خِيَارَ الْخَلْفِ فِي الصِّفَةِ ؛ لِأَنَّهُ وَجَدَ الْمَوْصُوفَ بِخِلَافِ الصِّفَةِ ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ

كَالسَّلَمِ .
وَإِنْ اخْتَلَفَا ، فَقَالَ الْبَائِعُ : لَمْ تَخْتَلِفْ الصِّفَةُ .
وَقَالَ الْمُشْتَرِي : قَدْ اخْتَلَفَتْ .
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ ، فَلَا يَلْزَمُهُ ، مَا لَمْ يُقِرَّ بِهِ ، أَوْ يَثْبُتُ بِبَيِّنَةٍ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا .

( 2775 ) فَصْلٌ : وَالْبَيْعُ بِالصِّفَةِ نَوْعَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، بَيْعُ عَيْنٍ مُعَيَّنَةٍ ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ : بِعْتُك عَبْدِي التُّرْكِيَّ .
وَيَذْكُرُ سَائِرَ صِفَاتِهِ ، فَهَذَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ عَلَيْهِ بِرَدِّهِ عَلَى الْبَائِعِ ، وَتَلَفِهِ قَبْلَ قَبْضِهِ ؛ لِكَوْنِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مُعَيَّنًا ، فَيَزُولُ الْعَقْدُ بِزَوَالِ مَحِلِّهِ ، وَيَجُوزُ التَّفَرُّقُ قَبْلَ قَبْضِ ثَمَنِهِ ، وَقَبْضِهِ ، كَبَيْعِ الْحَاضِرِ .

الثَّانِي ، بَيْعُ مَوْصُوفٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ : بِعْتُك عَبْدًا تُرْكِيًّا ، ثُمَّ يَسْتَقْصِي صِفَاتِ السَّلَمِ ، فَهَذَا فِي مَعْنَى السَّلَمِ ، فَمَتَى سَلَّمَ إلَيْهِ عَبْدًا ، عَلَى غَيْرِ مَا وَصَفَ ، فَرَدَّهُ ، أَوْ عَلَى مَا وَصَفَ ، فَأَبْدَلَهُ ، لَمْ يَفْسُدْ الْعَقْدُ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَقَعْ عَلَى غَيْرِ هَذَا ، فَلَمْ يَنْفَسِخْ الْعَقْدُ بِرَدِّهِ ، كَمَا لَوْ سَلَّمَ إلَيْهِ فِي السَّلَمِ غَيْرَ مَا وَصَفَ لَهُ ، فَرَدَّهُ .
وَلَا يَجُوزُ التَّفَرُّقُ عَنْ مَجْلِسِ الْعَقْدِ قَبْلَ قَبْضِ الْمَبِيعِ ، أَوْ قَبْضِ ثَمَنِهِ .
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ فِي الذِّمَّةِ ، فَلَمْ يَجُزْ التَّفَرُّقُ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ ، كَالسَّلَمِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : يَجُوزُ التَّفَرُّقُ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ ؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ حَالٌّ ، فَجَازَ التَّفَرُّقُ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، كَبَيْعِ الْعَيْنِ .

( 2776 ) فَصْلٌ : إذَا رَأَيَا الْمَبِيعَ ، ثُمَّ عَقَدَا الْبَيْعَ بَعْدَ ذَلِكَ بِزَمَنٍ لَا تَتَغَيَّرُ الْعَيْنُ فِيهِ ، جَازَ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى ، لَا يَجُوزُ حَتَّى يَرَيَاهَا حَالَةَ الْعَقْدِ .
وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَكَمِ ، وَحَمَّادٍ ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ ، يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا حَالَ الْعَقْدِ ، كَالشَّهَادَةِ فِي النِّكَاحِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ مَعْلُومٌ عِنْدَهُمَا ، أَشْبَهَ مَا لَوْ شَاهِدَاهُ حَالَ الْعَقْدِ ، وَالشَّرْطُ إنَّمَا هُوَ الْعِلْمُ ، وَإِنَّمَا الرُّؤْيَةُ طَرِيقٌ لِلْعِلْمِ ، وَلِهَذَا اُكْتُفِيَ بِالصِّفَةِ الْمُحَصِّلَةِ لِلْعِلْمِ ، وَالشَّهَادَةُ فِي النِّكَاحِ تُرَادُ لِحِلِّ الْعَقْدِ وَالِاسْتِيثَاقِ عَلَيْهِ ، فَلِهَذَا اُشْتُرِطَتْ حَالَ الْعَقْدِ .
وَيُقَرِّرُ مَا ذَكَرْنَاهُ مَا لَوْ رَأَيَا دَارًا ، وَوَقَفَا فِي بَيْتٍ مِنْهَا ، أَوْ أَرْضًا ، وَوَقَفَا فِي طَرِيقِهَا ، وَتَبَايَعَاهَا ، صَحَّ بِلَا خِلَافٍ مَعَ عَدَمِ الْمُشَاهَدَةِ لِلْكُلِّ فِي الْحَالِ .
وَلَوْ كَانَتْ الرُّؤْيَةُ الْمَشْرُوطَةُ لِلْبَيْعِ مَشْرُوطَةً حَالَ الْعَقْدِ لَاشْتُرِطَ رُؤْيَةُ جَمِيعِهِ ، وَمَتَى وَجَدَ الْمَبِيعَ بِحَالِهِ ، لَمْ يَتَغَيَّرْ ، لَزِمَ الْبَيْعُ ، وَإِنْ كَانَ نَاقِصًا ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَحُدُوثِ الْعَيْبِ .
وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي التَّغَيُّرِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ الثَّمَنُ ، فَلَا يَلْزَمُهُ مَا لَمْ يَعْتَرِفْ بِهِ .
فَأَمَّا إنْ عُقِدَ الْبَيْعُ بَعْدَ رُؤْيَةِ الْمَبِيعِ بِمُدَّةٍ يَتَحَقَّقُ فِيهَا فَسَادُ الْمَبِيعِ ، لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ ، وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ فِيهَا ، لَمْ يَصِحَّ بَيْعُهُ ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ .
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الظَّاهِرُ تَغَيُّرَهُ .
فَأَمَّا إنْ كَانَ يَحْتَمِلُ التَّغَيُّرَ وَعَدَمَهُ ، وَلَيْسَ الظَّاهِرُ تَغَيُّرَهُ ، صَحَّ بَيْعُهُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ السَّلَامَةُ ، وَلَمْ يُعَارِضْهُ ظَاهِرٌ ، فَصَحَّ بَيْعُهُ ، كَمَا لَوْ كَانَتْ الْغَيْبَةُ يَسِيرَةً ، وَهَذَا ظَاهِرُ

مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ .

( 2777 ) فَصْلٌ : وَيَثْبُتُ الْخِيَارُ فِي الْبَيْعِ لِلْغَبْنِ فِي مَوَاضِعَ : أَحَدُهَا ، تَلَقِّي الرُّكْبَانِ ، إذَا تَلَقَّاهُمْ فَاشْتَرَى مِنْهُمْ وَبَاعَهُمْ وَغَبَنَهُمْ .
الثَّانِي : بَيْعُ النَّجْشِ .
وَيُذْكَرَانِ فِي مَوَاضِعِهِمَا .
الثَّالِثُ : الْمُسْتَرْسِلُ إذَا غُبِنَ غَبْنًا يَخْرُجُ عَنْ الْعَادَةِ ، فَلَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالْإِمْضَاءِ .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى ، وَقَدْ قِيلَ : قَدْ لَزِمَهُ الْبَيْعُ وَلَيْسَ لَهُ فَسْخُهُ .
وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ نُقْصَانَ قِيمَةِ السِّلْعَةِ مَعَ سَلَامَتِهَا لَا يَمْنَعُ لُزُومَ الْعَقْدِ ، كَبَيْعِ غَيْرِ الْمُسْتَرْسِلِ ، وَكَالْغَبْنِ الْيَسِيرِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ غَبْنٌ حَصَلَ لِجَهْلِهِ بِالْمَبِيعِ ، فَأَثْبَتِ الْخِيَارَ ، كَالْغَبْنِ فِي تَلَقِّي الرُّكْبَانِ ، فَأَمَّا غَيْرُ الْمُسْتَرْسِلِ ، فَإِنَّهُ دَخَلَ عَلَى بَصِيرَةٍ بِالْغَبْنِ ، فَهُوَ كَالْعَالِمِ بِالْعَيْبِ ، وَكَذَا لَوْ اسْتَعْجَلَ ، فَجَهِلَ مَا لَوْ تَثَبَّتَ لَعَلِمَهُ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ خِيَارٌ ؛ لِأَنَّهُ انْبَنَى عَلَى تَقْصِيرِهِ وَتَفْرِيطِهِ .
وَالْمُسْتَرْسِلُ هُوَ الْجَاهِلُ بِقِيمَةِ السِّلْعَةِ ، وَلَا يُحْسِنُ الْمُبَايَعَةَ .
قَالَ أَحْمَدُ : الْمُسْتَرْسِلُ ، الَّذِي لَا يُحْسِنُ أَنْ يُمَاكِسَ .
وَفِي لَفْظٍ ، الَّذِي لَا يُمَاكِسُ .
فَكَأَنَّهُ اسْتَرْسَلَ إلَى الْبَائِعِ ، فَأَخَذَ مَا أَعْطَاهُ مِنْ غَيْرِ مُمَاكَسَةٍ ، وَلَا مَعْرِفَةٍ بِغَبْنِهِ .
فَأَمَّا الْعَالِمُ بِذَلِكَ ، وَاَلَّذِي لَوْ تَوَقَّفَ لَعَرَفَ ، إذَا اسْتَعْجَلَ فِي الْحَالِ فَغُبِنَ ، فَلَا خِيَارَ لَهُمَا .
وَلَا تَحْدِيدَ لِلْغَبْنِ فِي الْمَنْصُوصِ عَنْ أَحْمَدَ ، وَحَدَّهُ أَبُو بَكْرٍ فِي " التَّنْبِيهِ " ، وَابْنُ أَبِي مُوسَى فِي " الْإِرْشَادِ " بِالثُّلُثِ .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ؛ لِأَنَّ الثُّلُثَ كَثِيرٌ ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ } .
وَقِيلَ : بِالسُّدُسِ ، وَقِيلَ : مَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِهِ فِي الْعَادَةِ ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَرِدُ الشَّرْعُ بِتَحْدِيدِهِ يُرْجَعُ فِيهِ إلَى

الْعُرْفِ .

( 2778 ) فَصْلٌ : وَإِذَا وَقَعَ الْبَيْعُ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ ، كَقَفِيزٍ مِنْ صُبْرَةٍ ، وَرِطْلِ زَيْتٍ مِنْ دَنٍّ ، فَمُقْتَضَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ ، إذَا تَفَرَّقَا مِنْ غَيْرِ فَسْخٍ ، لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا رَدُّهُ ، إلَّا بِعَيْبٍ أَوْ خِيَارٍ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ هَاهُنَا يَلْزَمُ بِالتَّفَرُّقِ ، سَوَاءٌ تَقَابَضَا أَوْ لَمْ يَتَقَابَضَا .
وَقَالَ الْقَاضِي : الْبَيْعُ لَا يَلْزَمُ إلَّا بِالْقَبْضِ ، كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ .
وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ قَبْلَ قَبْضِهِ .
وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ، مَنْ اشْتَرَى قَفِيزَيْنِ مِنْ صُبْرَتَيْنِ ، فَتَلِفَتْ إحْدَاهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ ، بَطَلَ الْعَقْدُ فِي التَّالِفِ دُونَ الْبَاقِي ، رِوَايَةً وَاحِدَةً ، وَلَا خِيَارَ لِلْبَائِعِ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى اللُّزُومِ فِي حَقِّ الْبَائِعِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ جَائِزًا كَانَ لَهُ الْخِيَارُ ، سَوَاءٌ تَلِفَتْ إحْدَاهُمَا أَوْ لَمْ تَتْلَفْ ، وَوَجْهُ الْجَوَازِ ، أَنَّهُ مَبِيعٌ لَا يَمْلِكُ بَيْعَهُ ، وَلَا التَّصَرُّفَ فِيهِ ، فَكَانَ الْبَيْعُ فِيهِ جَائِزًا كَمَا قَبْلَ التَّفَرُّقِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ تَلِفَ لَكَانَ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ .
وَوَجْهُ الْأَوَّلِ ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَإِنْ تَفَرَّقَا بَعْدَ أَنْ تَبَايَعَا ، وَلَمْ يَتْرُكْ أَحَدُهُمَا الْبَيْعَ ، فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ } .
وَمَا ذَكَرْنَاهُ لِلْقَوْلِ الْآخَرِ يَنْتَقِضُ بِبَيْعِ مَا تَقَدَّمَتْ رُؤْيَتُهُ ، وَبَيْعِ الْمَوْصُوفِ ، وَالسَّلَمِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَازِمٌ مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمَبِيعِ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ .

( 2779 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَالْخِيَارُ يَجُوزُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ ) يَعْنِي ثَلَاثَ لَيَالٍ بِأَيَّامِهَا .
وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّيَالِي ؛ لِأَنَّ التَّارِيخَ يَغْلِبُ فِيهِ التَّأْنِيثُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } .
وَقَالَ تَعَالَى : { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } .
وَفِي حَدِيثِ حِبَّانَ : { وَلَك الْخِيَارُ ثَلَاثًا } .
وَيَجُوزُ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ مَا يَتَّفِقَانِ عَلَيْهِ مِنْ الْمُدَّةِ الْمَعْلُومَةِ ، قَلَّتْ مُدَّتُهُ أَوْ كَثُرَتْ ، وَبِذَلِكَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ ، وَالْعَنْبَرِيِّ ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى ، وَإِسْحَاقَ ، وَأَبِي ثَوْرٍ ، وَأَجَازَهُ مَالِكٌ فِيمَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ ، مِثْلُ قَرْيَةٍ لَا يَصِلُ إلَيْهَا فِي أَقَلِّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ لِحَاجَتِهِ ، فَيُقَدَّرُ بِهَا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثٍ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : مَا أَجِدُ لَكُمْ أَوْسَعَ مِمَّا جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحِبَّانَ ، جَعَلَ لَهُ الْخِيَارَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، إنْ رَضِيَ أَخَذَ ، وَإِنْ سَخِطَ تَرَكَ .
وَلِأَنَّ الْخِيَارَ يُنَافِي مُقْتَضَى الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الْمِلْكَ وَاللُّزُومَ وَإِطْلَاقَ التَّصَرُّفِ ، وَإِنَّمَا جَازَ لِمَوْضِعِ الْحَاجَةِ ، فَجَازَ الْقَلِيلُ مِنْهُ ، وَآخِرُ حَدِّ الْقِلَّةِ ثَلَاثٌ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ } بَعْدَ قَوْلِهِ : { فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ } .
وَلَنَا ، أَنَّهُ حَقٌّ يَعْتَمِدُ الشَّرْطَ ، فَرُجِعَ فِي تَقْدِيرِهِ إلَى مُشْتَرِطِهِ ، كَالْأَجَلِ ، أَوْ نَقُولُ : مُدَّةٌ مُلْحَقَةٌ بِالْعَقْدِ ، فَكَانَتْ إلَى تَقْدِيرِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ كَالْأَجَلِ .
وَلَا يَثْبُتُ عِنْدَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ

أَنَسٍ خِلَافُهُ .
وَتَقْدِيرُ مَالِكٍ بِالْحَاجَةِ لَا يَصِحُّ ؛ فَإِنَّ الْحَاجَةَ لَا يُمْكِنُ رَبْطُ الْحُكْمِ بِهَا ، لِخَفَائِهَا وَاخْتِلَافِهَا ، وَإِنَّمَا يُرْبَطُ بِمَظِنَّتِهَا ، وَهُوَ الْإِقْدَامُ ، فَإِنَّهُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ ضَابِطًا ، وَرَبْطُ الْحُكْمِ بِهِ فِيمَا دُونَ الثَّلَاثِ وَفِي السَّلَمِ وَالْأَجَلِ .
وَقَوْلُ الْآخَرِينَ : إنَّهُ يُنَافِي مُقْتَضَى الْبَيْعِ .
لَا يَصِحُّ ؛ فَإِنَّ مُقْتَضَى الْبَيْعِ نَقْلُ الْمِلْكِ ، وَالْخِيَارُ لَا يُنَافِيهِ ، وَإِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ ، لَكِنْ مَتَى خُولِفَ الْأَصْلُ لِمَعْنًى فِي مَحِلٍّ وَجَبَ تَعْدِيَةُ الْحُكْمِ ؛ لِتَعَدِّي ذَلِكَ الْمَعْنَى .

( 2780 ) فَصْلٌ : وَيَجُوزُ شَرْطُ الْخِيَارِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ ، وَيَجُوزُ لِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَشْرُطَا لِأَحَدِهِمَا مُدَّةً وَلِلْآخَرِ دُونَهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَقُّهُمَا ، وَإِنَّمَا جُوِّزَ رِفْقًا بِهِمَا ، فَكَيْفَمَا تَرَاضَيَا بِهِ جَازَ .
وَلَوْ اشْتَرَى شَيْئَيْنِ وَشَرَطَ الْخِيَارَ فِي أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ دُونَ الْآخَرِ ، صَحَّ ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ مَبِيعٍ فِيهِ الْخِيَارُ ، وَمَبِيعٍ لَا خِيَارَ فِيهِ ، وَذَلِكَ جَائِزٌ ، بِالْقِيَاسِ عَلَى شِرَاءِ مَا فِيهِ شُفْعَةٌ ، وَمَا لَا شُفْعَةَ فِيهِ ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ ، وَيَحْصُلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَبِيعًا بِقِسْطِهِ مِنْ الثَّمَنِ .
فَإِنْ فَسَخَ الْبَيْعَ مِمَّا فِيهِ الْخِيَارُ ، رَجَعَ بِقِسْطِهِ مِنْ الثَّمَنِ ، كَمَا لَوْ وَجَدَ أَحَدَهُمَا مَعِيبًا فَرَدَّهُ ، وَإِنْ شَرَطَ الْخِيَارَ فِي أَحَدِهِمَا لَا بِعَيْنِهِ ، أَوْ شَرَطَ الْخِيَارَ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لَا بِعَيْنِهِ ، لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اشْتَرَى وَاحِدًا مِنْ عَبْدَيْنِ لَا بِعَيْنِهِ .
وَلِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى التَّنَازُعِ ، وَرُبَّمَا طَلَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ ضِدَّ مَا يَطْلُبُهُ الْآخَرُ ، وَيَدَّعِي أَنَّنِي الْمُسْتَحِقُّ لِلْخِيَارِ ، أَوْ يَطْلُبُ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ رَدَّ أَحَدِ الْمَبِيعَيْنِ ، وَيَقُولُ الْآخَرُ : لَيْسَ هَذَا الَّذِي شَرَطْت لَك الْخِيَارَ فِيهِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَصِحَّ شَرْطُ الْخِيَارِ فِي أَحَدِ الْمَبِيعَيْنِ بِعَيْنِهِ ، كَمَا لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ بِقِسْطِهِ مِنْ الثَّمَنِ ، وَهَذَا الْفَصْلُ كُلُّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .

( 2781 ) فَصْلٌ : وَإِنْ شَرَطَ الْخِيَارَ لِأَجْنَبِيٍّ ، صَحَّ ، وَكَانَ اشْتِرَاطًا لِنَفْسِهِ ، وَتَوْكِيلًا لِغَيْرِهِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٍ .
وَلِلشَّافِعِي فِيهِ قَوْلَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، لَا يَصِحُّ ، وَكَذَلِكَ قَالَ الْقَاضِي : إذَا أَطْلَقَ الْخِيَارَ لِفُلَانِ ، أَوْ قَالَ لِفُلَانٍ دُونِي .
لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ شَرْطُ لِتَحْصِيلِ الْحَظِّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بِنَظَرِهِ ، فَلَا يَكُونُ لِمَنْ لَا حَظَّ لَهُ فِيهِ .
وَإِنْ جَعَلَ الْأَجْنَبِيَّ وَكِيلًا ، صَحَّ .
وَلَنَا ، أَنَّ الْخِيَارَ يَعْتَمِدُ شَرْطَهُمَا ، وَيُفَوِّضُ إلَيْهِمَا ، وَقَدْ أَمْكَنَ تَصْحِيحُ شَرْطِهِمَا ، وَتَنْفِيذُ تَصَرُّفِهِمَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ ، فَلَا يَجُوزُ إلْغَاؤُهُ مَعَ إمْكَانِ تَصْحِيحِهِ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ } .
فَعَلَى هَذَا ، يَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُشْتَرِطِ وَوَكِيلِهِ الَّذِي شَرَطَ الْخِيَارَ لَهُ الْفَسْخُ .
وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ عَبْدًا ، فَشَرَطَ الْخِيَارَ لَهُ ، صَحَّ ، سَوَاءٌ شَرَطَهُ لَهُ الْبَائِعُ ، أَوْ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ .
وَإِنْ كَانَ الْعَاقِدُ وَكِيلًا ، فَشَرَطَ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ ، صَحَّ ، فَإِنَّ النَّظَرَ فِي تَحْصِيلِ الْحَظِّ مُفَوَّضٌ إلَيْهِ .
وَإِنْ شَرَطَهُ لِلْمَالِكِ ، صَحَّ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَالِكُ ، وَالْحَظُّ لَهُ .
وَإِنْ شَرَطَهُ لِأَجْنَبِيٍّ ، لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ ، وَيَحْتَمِلُ الْجَوَازَ ، بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تَقُولُ : لِلْوَكِيلِ التَّوْكِيلُ .

( 2782 ) فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ : بِعْتُك عَلَى أَنْ أَسْتَأْمِرَ فُلَانًا .
وَحَدَّدَ ذَلِكَ بِوَقْتٍ مَعْلُومٍ ، فَهُوَ خِيَارٌ ، صَحِيحٌ ، وَلَهُ الْفَسْخُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَأْمِرَهُ ؛ لِأَنَّا جَعَلْنَا ذَلِكَ كِنَايَةً عَلَى الْخِيَارِ ، وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ .
وَإِنْ لَمْ يَضْبِطْهُ بِمُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ ، فَهُوَ خِيَارٌ مَجْهُولٌ ، حُكْمُهُ حُكْمُهُ .

( 2783 ) فَصْلٌ : وَإِنْ شَرَطَ الْخِيَارَ يَوْمًا أَوْ سَاعَاتٍ مَعْلُومَةً ، اُعْتُبِرَ ابْتِدَاءُ مُدَّةِ الْخِيَارِ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ .
وَالْآخَرُ ، مِنْ حِينِ التَّفَرُّقِ ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ ثَابِتٌ فِي الْمَجْلِسِ حُكْمًا ، فَلَا حَاجَةَ إلَى إثْبَاتِهِ بِالشَّرْطِ .
وَلِأَنَّ حَالَةَ الْمَجْلِسِ كَحَالَةِ الْعَقْدِ ، لِأَنَّ لَهُمَا فِيهِ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ ، فَكَانَ كَحَالَةِ الْعَقْدِ فِي ابْتِدَاءِ مُدَّةِ الْخِيَارِ بَعْدَ انْقِضَائِهِ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّهَا مُدَّةٌ مُلْحَقَةٌ بِالْعَقْدِ ، فَكَانَ ابْتِدَاؤُهَا مِنْهُ ، كَالْأَجَلِ .
وَلِأَنَّ الِاشْتِرَاطَ سَبَبُ ثُبُوتِ الْخِيَارِ ، فَيَجِبُ أَنْ يَتَعَقَّبَهُ حُكْمُهُ ، كَالْمِلْكِ فِي الْبَيْعِ .
وَلِأَنَّنَا لَوْ جَعَلْنَا ابْتِدَاءَهُ مِنْ حِينِ التَّفَرُّقِ ، أَدَّى إلَى جَهَالَتِهِ ؛ لِأَنَّنَا لَا نَعْلَمُ مَتَى يَتَفَرَّقَانِ ، فَلَا نَعْلَمُ مَتَى ابْتِدَاؤُهُ ، وَلَا مَتَى انْتِهَاؤُهُ .
وَلَا يُمْنَعُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ بِسَبَبَيْنِ ، كَتَحْرِيمِ الْوَطْءِ بِالصِّيَامِ وَالْإِحْرَامِ وَالظِّهَارِ ، وَعَلَى هَذَا ، لَوْ شَرَطَا ابْتِدَاءَهُ مِنْ حِينِ التَّفَرُّقِ ، لَمْ يَصِحَّ لِذَلِكَ ، إلَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تَقُولُ بِصِحَّةِ الْخِيَارِ الْمَجْهُولِ .
وَإِنْ قُلْنَا : ابْتِدَاؤُهُ مِنْ حِينِ التَّفَرُّقِ .
فَشَرَطَا ثُبُوتَهُ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ ، صَحَّ ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومُ الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَصِحَّ ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ فِي الْمَجْلِسِ يُغْنِي عَنْ خِيَارٍ آخَرَ ، فَيَمْنَعُ ثُبُوتَهُ ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى .
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْفَصْلِ كُلِّهِ كَمَا ذَكَرْنَا .

( 2784 ) فَصْلٌ : وَإِنْ شَرَطَا الْخِيَارَ إلَى اللَّيْلِ أَوْ الْغَدِ ، لَمْ يَدْخُلْ اللَّيْلُ وَالْغَدُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَيَتَخَرَّجُ أَنْ يَدْخُلَ ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ " إلَى " تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى " مَعَ " ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ } ، { وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إلَى أَمْوَالِكُمْ } ، وَالْخِيَارُ ثَابِتٌ بِيَقِينِ ، فَلَا نُزِيلُهُ بِالشَّكِّ .
وَلَنَا ، أَنَّ مَوْضُوعَ " إلَى " لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ ، فَلَا يَدْخُلُ مَا بَعْدَهَا فِيمَا قَبْلَهَا ، كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ } .
وَكَالْأَجَلِ .
وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى ثَلَاثٍ .
أَوْ : لَهُ عَلَيَّ مِنْ دِرْهَمٍ إلَى عَشَرَةٍ .
لَمْ يَدْخُلْ الدِّرْهَمُ الْعَاشِرُ ، وَالطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ ، وَلَيْسَ هَاهُنَا شَكٌّ ؛ فَإِنَّ الْأَصْلَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى مَوْضُوعِهِ ، فَكَأَنَّ الْوَاضِعَ قَالَ : مَتَى سَمِعْتُمْ هَذِهِ اللَّفْظَةَ ، فَافْهَمُوا مِنْهَا انْتِهَاءَ الْغَايَةِ .
وَفِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي اسْتَشْهَدُوا بِهَا ، حُمِلَتْ عَلَى مَعْنَى " مَعَ " بِدَلِيلِ ، أَوْ لِتَعَذُّرِ حَمْلِهَا عَلَى مَوْضُوعِهَا ، كَمَا تُصْرَفُ سَائِرُ حُرُوفِ الصِّلَاتِ عَنْ مَوْضُوعِهَا لِدَلِيلٍ ، وَالْأَصْلُ حَمْلُهَا عَلَى مَوْضُوعِهَا .
وَلِأَنَّ الْأَصْلَ لُزُومُ الْعَقْدِ ، وَإِنَّمَا خُولِفَ فِيمَا اقْتَضَاهُ الشَّرْطُ ، فَيَثْبُتُ مَا يُتَيَقَّنُ مِنْهُ ، وَمَا شَكَكْنَا فِيهِ رَدَدْنَاهُ إلَى الْأَصْلِ .

( 2785 ) فَصْلٌ : وَإِنْ شَرَطَ الْخِيَارَ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ ، أَوْ إلَى غُرُوبِهَا ، صَحَّ .
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : لَا يَصِحُّ تَوْقِيتُهُ بِطُلُوعِهَا ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَتَغَيَّمُ ، فَلَا يُعْلَمُ وَقْتُ طُلُوعِهَا .
وَلَنَا ، أَنَّهُ تَعْلِيقٌ لِلْخِيَارِ بِأَمْرٍ ظَاهِرٍ مَعْلُومٍ ، فَصَحَّ ، كَتَعْلِيقِهِ بِغُرُوبِهَا .
وَطُلُوعُ الشَّمْسِ ، بُرُوزُهَا مِنْ الْأُفُقِ ، كَمَا أَنَّ غُرُوبَهَا سُقُوطُ الْقُرْصِ .
وَلِذَلِكَ لَوْ عَلَّقَ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ ، أَوْ عِتْقَ عَبْدِهِ ، بِطُلُوعِ الشَّمْسِ ، وَقَعَ بِبُرُوزِهَا مِنْ الْأُفُقِ .
وَإِنْ عَرَضَ غَيْمٌ يَمْنَعُ الْمَعْرِفَةَ بِطُلُوعِهَا ، فَالْخِيَارُ ثَابِتٌ حَتَّى يُتَيَقَّنَ طُلُوعُهَا ، كَمَا لَوْ عَلَّقَهُ بِغُرُوبِهَا ، فَمَنَعَ الْغَيْمُ الْمَعْرِفَةَ بِوَقْتِهِ .
وَلَوْ جَعَلَ الْخِيَارَ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ تَحْتِ السَّحَابِ ، أَوْ إلَى غَيْبَتِهَا تَحْتَهُ ، كَانَ خِيَارًا مَجْهُولًا ، لَا يَصِحُّ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ .

( 2786 ) فَصْلٌ : وَإِذَا شَرَطَا الْخِيَارَ أَبَدًا ، أَوْ مَتَى شِئْنَا ، أَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا : وَلِي الْخِيَارُ .
وَلَمْ يَذْكُرْ مُدَّتَهُ ، أَوْ شَرَطَاهُ إلَى مُدَّةٍ مَجْهُولَةٍ ، كَقُدُومِ زَيْدٍ ، أَوْ هُبُوبِ رِيحٍ ، أَوْ نُزُولِ مَطَرٍ ، أَوْ مُشَاوَرَةِ إنْسَانٍ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ، لَمْ يَصِحَّ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ .
وَهَذَا اخْتِيَارُ الْقَاضِي ، وَابْنِ عَقِيلٍ ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَعَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ يَصِحُّ ، وَهُمَا عَلَى خِيَارِهِمَا أَبَدًا ، أَوْ يَقْطَعَاهُ ، أَوْ تَنْتَهِي مُدَّتُهُ إنْ كَانَ مَشْرُوطًا إلَى مُدَّةٍ .
وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ شُبْرُمَةَ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ } .
وَقَالَ مَالِكٌ يَصِحُّ ، وَتُضْرَبُ لَهُمَا مُدَّةٌ يُخْتَبَرُ الْمَبِيعُ فِي مِثْلِهَا فِي الْعَادَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُقَدَّرٌ فِي الْعَادَةِ ، فَإِذَا أَطْلَقَا ، حُمِلَ عَلَيْهِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنْ أَسْقَطَا الشَّرْطَ قَبْلَ مُضِيِّ الثَّلَاثِ ، أَوْ حَذَفَا الزَّائِدَ عَلَيْهَا وَبَيَّنَا مُدَّتَهُ ، صَحَّ لِأَنَّهُمَا حَذَفَا الْمُفْسِدَ قَبْلَ اتِّصَالِهِ بِالْعَقْدِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَصِحَّ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَشْرُطَاهُ .
وَلَنَا ، أَنَّهَا مُدَّةٌ مُلْحَقَةٌ بِالْعَقْدِ ، فَلَا تَجُوزُ مَعَ الْجَهَالَةِ ، كَالْأَجَلِ .
وَلِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْخِيَارِ أَبَدًا يَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنْ التَّصَرُّفِ عَلَى الْأَبَدِ ، وَذَلِكَ يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ ، فَلَمْ يَصِحَّ ، كَمَا لَوْ قَالَ : بِعْتُك بِشَرْطِ أَنْ لَا تَتَصَرَّفَ .
وَقَوْلُ مَالِكٍ : إنَّهُ يُرَدُّ إلَى الْعَادَةِ .
لَا يَصِحُّ ، فَإِنَّهُ لَا عَادَةَ فِي الْخِيَارِ يُرْجَعُ إلَيْهَا .
وَاشْتِرَاطُهُ مَعَ الْجَهَالَةِ نَادِرٌ .
وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَصِحُّ ، فَإِنَّ الْمُفْسِدَ هُوَ الشَّرْطُ ، وَهُوَ مُقْتَرِنٌ بِالْعَقْدِ .
وَلِأَنَّ الْعَقْدَ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا ، أَوْ فَاسِدًا ، فَإِنْ كَانَ صَحِيحًا مَعَ الشَّرْطِ ، لَمْ يَفْسُدْ بِوُجُودِ مَا شَرَطَاهُ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا ، لَمْ يَنْقَلِبْ صَحِيحًا ، كَمَا لَوْ بَاعَ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ ، ثُمَّ

حَذَفَ أَحَدَهُمَا .
وَعَلَى قَوْلِنَا : الشَّرْطُ فَاسِدٌ .
هَلْ يَفْسُدُ بِهِ الْبَيْعُ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا ، يَفْسُدُ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ قَارَنَهُ شَرْطٌ فَاسِدٌ ، فَأَفْسَدَهُ ، كَنِكَاحِ الشِّغَارِ ، وَالْمُحَلِّلِ .
وَلِأَنَّ الْبَائِعَ إنَّمَا رَضِيَ بِبَذْلِهِ بِهَذَا الثَّمَنِ ، مَعَ الْخِيَارِ فِي اسْتِرْجَاعِهِ ، وَالْمُشْتَرِي إنَّمَا رَضِيَ بِبَذْلِ هَذَا الثَّمَنِ فِيهِ ، مَعَ الْخِيَارِ فِي فَسْخِهِ ، فَلَوْ صَحَّحْنَاهُ لَأَزَلْنَا مِلْكَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ ، وَأَلْزَمْنَاهُ مَا لَمْ يَرْضَ بِهِ .
وَلِأَنَّ الشَّرْطَ يَأْخُذُ قِسْطًا مِنْ الثَّمَنِ ، فَإِذَا حَذَفْنَاهُ وَجَبَ رَدُّ مَا سَقَطَ مِنْ الثَّمَنِ مِنْ أَجْلِهِ ، وَذَلِكَ مَجْهُولٌ ، فَيَكُونُ الثَّمَنُ مَجْهُولًا ، فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ .
وَالثَّانِيَةُ ، لَا يَفْسُدُ الْعَقْدُ بِهِ ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى ؛ لِحَدِيثِ بَرِيرَةَ .
وَلِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ تَمَّ بِأَرْكَانِهِ ، وَالشَّرْطُ زَائِدٌ ، فَإِذَا فَسَدَ وَزَالَ ، سَقَطَ الْفَاسِدُ ، وَبَقِيَ الْعَقْدُ بِرُكْنَيْهِ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ .

( 2787 ) فَصْلٌ : وَإِنْ شَرَطَهُ إلَى الْحَصَادِ ، أَوْ الْجِذَاذِ ، احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ كَتَعْلِيقِهِ عَلَى قُدُومِ زَيْدٍ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ ، وَيَتَقَدَّمُ ، وَيَتَأَخَّرُ ، فَكَانَ مَجْهُولًا .
وَاحْتَمَلَ أَنْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَقَارَبُ فِي الْعَادَةِ ، وَلَا يَكْثُرُ تَفَاوُتُهُ .
وَإِنْ شَرَطَهُ إلَى الْعَطَاءِ ، وَأَرَادَ وَقْتَ الْعَطَاءِ ، وَكَانَ مَعْلُومًا ، صَحَّ ، كَمَا لَوْ شَرَطَهُ إلَى يَوْمٍ مَعْلُومٍ .
وَإِنْ أَرَادَ نَفْسَ الْعَطَاءِ ، فَهُوَ مَجْهُولٌ ؛ لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ .

( 2788 ) فَصْلٌ : وَإِنْ شَرَطَ الْخِيَارَ شَهْرًا ، يَوْمٌ يَثْبُتُ ، وَيَوْمٌ لَا يَثْبُتُ .
فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : يَصِحُّ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ ؛ لِإِمْكَانِهِ ، وَيَبْطُلُ فِيمَا بَعْدَهُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَزِمَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي لَمْ يَعُدْ إلَى الْجَوَازِ .
وَيَحْتَمِلُ بُطْلَانَ الشَّرْطِ كُلِّهِ ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ وَاحِدٌ ، تَنَاوَلَ الْخِيَارَ فِي أَيَّامٍ ، فَإِذَا فَسَدَ فِي بَعْضِهِ ، فَسَدَ جَمِيعُهُ ، كَمَا لَوْ شَرَطَ إلَى الْحَصَادِ .

( 2789 ) فَصْلٌ : وَيَجُوزُ لِمَنْ لَهُ الْخِيَارُ الْفَسْخُ مِنْ غَيْرِ حُضُورِ صَاحِبِهِ وَلَا رِضَاهُ .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو يُوسُفَ ، وَزُفَرُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَيْسَ لَهُ الْفَسْخُ إلَّا بِحَضْرَةِ صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ ، فَلَمْ يَمْلِكْ أَحَدُهُمَا فَسْخَهُ بِغَيْرِ حُضُورِ صَاحِبِهِ ، كَالْوَدِيعَةِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ رَفْعُ عَقْدٍ لَا يَفْتَقِرُ إلَى رِضَا صَاحِبِهِ ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ إلَى حُضُورِهِ ، كَالطَّلَاقِ .
وَمَا قَالُوهُ يَنْتَقِضُ بِالطَّلَاقِ ، الْوَدِيعَةُ لَا حَقَّ لِلْمُودِعِ فِيهَا ، وَيَصِحُّ فَسْخُهَا مَعَ غَيْبَتِهِ .

( 2790 ) فَصْلٌ : وَإِذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الْخِيَارِ ، وَلَمْ يَفْسَخْ أَحَدُهُمَا ، بَطَلَ الْخِيَارُ ، وَلَزِمَ الْعَقْدُ .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ الْقَاضِي : لَا يَلْزَمُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ؛ لِأَنَّ مُدَّةَ الْخِيَارِ ضُرِبَتْ لِحَقٍّ لَهُ ، لَا لِحَقٍّ عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَلْزَمْ الْحُكْمُ بِنَفْسِ مُرُورِ الزَّمَانِ ، كَمُضِيِّ الْأَجَلِ فِي حَقِّ الْمُولِي .
وَلَنَا ، أَنَّهَا مُدَّةٌ مُلْحَقَةٌ بِالْعَقْدِ ، فَبَطَلَتْ بِانْقِضَائِهَا كَالْأَجَلِ .
وَلِأَنَّ الْحُكْمَ بِبَقَائِهَا يُفْضِي إلَى بَقَاءِ الْخِيَارِ فِي غَيْرِ الْمُدَّةِ الَّتِي شَرَطَاهُ فِيهَا .
وَالشَّرْطُ سَبَبُ الْخِيَارِ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِهِ مَا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ ، وَلِأَنَّهُ حُكْمٌ مُؤَقَّتٌ ، فَفَاتَ بِفَوَاتِ وَقْتِهِ ، كَسَائِرِ الْمُؤَقَّتَات ، وَلِأَنَّ الْبَيْعَ يَقْتَضِي اللُّزُومَ ، وَإِنَّمَا تَخَلَّفَ مُوجِبُهُ بِالشَّرْطِ ، فَفِيمَا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الشَّرْطُ يَجِبُ أَنْ يَثْبُتَ مُوجِبُهُ ؛ لِزَوَالِ الْمُعَارِضِ ، كَمَا لَوْ أَمْضُوهُ .
وَأَمَّا الْمُولِي ، فَإِنَّ الْمُدَّةَ إنَّمَا ضُرِبَتْ لِاسْتِحْقَاقِ الْمُطَالَبَةِ ، وَهِيَ تُسْتَحَقُّ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ .
وَالْحُكْمُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ظَاهِرٌ .

( 2791 ) فَصْلٌ : فَإِنْ قَالَ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ عِنْدَ الْعَقْدِ : لَا خِلَابَةَ فَقَالَ أَحْمَدُ : أَرَى ذَلِكَ جَائِزًا ، وَلَهُ الْخِيَارُ إنْ كَانَ خَلَبَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ خَلَبَهُ فَلَيْسَ لَهُ خِيَارٌ .
وَذَلِكَ { لِأَنَّ رَجُلًا ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يُخْدَعُ فِي الْبُيُوعِ ، فَقَالَ : إذَا بَايَعْت فَقُلْ لَا خِلَابَةَ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلِمُسْلِمٍ : { مَنْ بَايَعْت فَقُلْ لَا خِلَابَةَ } .
{ فَكَانَ إذَا بَايَعَ يَقُولُ : لَا خِلَابَةَ } .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ الْخِيَارُ .
وَيَكُونُ هَذَا الْخَبَرُ خَاصًّا لِحِبَّانَ ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ عَاشَ إلَى زَمَنِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَكَانَ يُبَايِعُ النَّاسَ ، ثُمَّ يُخَاصِمُهُمْ ، فَيَمُرُّ بِهِمْ بَعْضُ الصَّحَابَةِ ، فَيَقُولُ لِمَنْ يُخَاصِمُهُ : وَيْحَكَ ، إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ لَهُ الْخِيَارَ ثَلَاثًا .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِهَذَا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِلنَّاسِ عَامَّةً لَقَالَ لِمَنْ يُخَاصِمُهُ : إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ الْخِيَارَ لِمَنْ قَالَ : لَا خِلَابَةَ .
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ : إنْ كَانَا عَالِمَيْنِ أَنَّ ذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ خِيَارِ الثَّلَاثِ ، ثَبَتَ ، وَإِنْ عَلِمَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ حِبَّانَ بْنَ مُنْقِذِ بْنِ عَمْرٍو ، كَانَ لَا يُزَالُ يُغْبَنَ ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ ، فَقَالَ لَهُ : { إذَا أَنْتَ بَايَعْت فَقُلْ : لَا خِلَابَةَ ، ثُمَّ أَنْتَ فِي كُلِّ سِلْعَةٍ ابْتَعْتهَا بِالْخِيَارِ ثَلَاثَ لَيَالٍ ، فَإِنْ رَضِيت أَمْسَكْت ، وَإِنْ سَخِطْت فَارْدُدْهَا عَلَى صَاحِبِهَا } .
وَمَا ثَبَتَ فِي حَقِّ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ يَثْبُتُ فِي حَقِّ سَائِرِ النَّاسِ ، مَا لَمْ يَقُمْ عَلَى تَخْصِيصِهِ دَلِيلٌ .
وَلَنَا ، أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَا يَقْتَضِي الْخِيَارَ مُطْلَقًا ، وَلَا يَقْتَضِي تَقْيِيدَهُ بِثَلَاثٍ ، وَالْأَصْلُ اعْتِبَارُ اللَّفْظِ فِيمَا يَقْتَضِيهِ ، وَالْخَبَرُ عَلَى

الْوَجْهِ الَّذِي احْتَجُّوا بِهِ إنَّمَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مُرْسَلًا ، وَهُمْ لَا يَرَوْنَ الْمُرْسَلَ حُجَّةً ، ثُمَّ لَمْ يَقُولُوا بِالْحَدِيثِ عَلَى وَجْهِهِ ، إنَّمَا قَالُوا بِهِ فِي حَقِّ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ مُقْتَضَاهُ ثُبُوتُ الْخِيَارِ ثَلَاثًا ، وَلَا يَعْلَمُ ذَلِكَ أَحَدٌ ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَا يَقْتَضِيهِ ، فَكَيْفَ يَعْلَمُ أَنَّ مُقْتَضَاهُ مَا لَيْسَ بِمُقْتَضَاهُ ، وَعَلَى أَنَّهُ إنَّمَا كَانَ خَاصًّا لِحِبَّانَ ؛ بِدَلِيلِ مَا رَوَيْنَاهُ ، وَلِأَنَّهُ كَانَ يُثْبِتُ لَهُ الرَّدَّ عَلَى مَنْ لَمْ يَعْلَمْ مُقْتَضَاهُ .

( 2792 ) فَصْلٌ : إذَا شَرَطَ الْخِيَارَ حِيلَةً عَلَى الِانْتِفَاعِ بِالْقَرْضِ ، لِيَأْخُذَ غَلَّةَ الْمَبِيعِ وَنَفْعَهُ فِي مُدَّةِ انْتِفَاعِ الْمُقْتَرِضِ بِالثَّمَنِ ، ثُمَّ يَرُدُّ الْمَبِيعَ بِالْخِيَارِ عِنْدَ رَدِّ الثَّمَنِ ، فَلَا خَيْرَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْحِيَلِ .
وَلَا يَحِلُّ لِآخِذِ الثَّمَنِ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ ، وَلَا التَّصَرُّفُ فِيهِ .
قَالَ الْأَثْرَمُ : سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ الرَّجُلِ يَشْتَرِي مِنْ الرَّجُلِ الشَّيْءَ ، وَيَقُولُ : لَك الْخِيَارُ إلَى كَذَا وَكَذَا مِثْلُ الْعَقَارِ ؟ قَالَ : هُوَ جَائِزٌ إذَا لَمْ يَكُنْ حِيلَةً ؛ أَرَادَ أَنْ يُقْرِضَهُ ، فَيَأْخُذَ مِنْهُ الْعَقَارَ ، فَيَسْتَغِلُّهُ ، وَيَجْعَلُ لَهُ فِيهِ الْخِيَارَ ، لِيَرْبَحَ فِيمَا أَقْرَضَهُ بِهَذِهِ الْحِيلَةِ .
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَرَادَ هَذَا ، فَلَا بَأْسَ .
قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : فَإِنْ أَرَادَ إرْفَاقَهُ ، أَرَادَ أَنْ يُقْرِضَهُ مَالًا يَخَافُ أَنْ يَذْهَبَ ، فَاشْتَرَى مِنْهُ شَيْئًا ، وَجَعَلَ لَهُ الْخِيَارَ ، وَلَمْ يُرِدْ الْحِيلَةَ ؟ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : هَذَا جَائِزٌ ، إلَّا أَنَّهُ إذَا مَاتَ انْقَطَعَ الْخِيَارُ ، لَمْ يَكُنْ لِوَرَثَتِهِ .
وَقَوْلُ أَحْمَدَ بِالْجَوَازِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَبِيعِ الَّذِي لَا يُنْتَفَعُ بِهِ إلَّا بِإِتْلَافِهِ ، أَوْ عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَنْتَفِعُ بِالْمَبِيعِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ ؛ لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى أَنَّ الْقَرْضَ جَرَّ مَنْفَعَةً .

( 2793 ) فَصْلٌ : فَإِنْ قَالَ : بِعْتُك عَلَى أَنْ تَنْقُدَنِي الثَّمَنَ إلَى ثَلَاثٍ ، أَوْ مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ ، وَإِلَّا فَلَا بَيْعَ بَيْنَنَا .
فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ .
نَصَّ عَلَيْهِ .
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ .
وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ ، إذَا كَانَ الشَّرْطُ إلَى ثَلَاثٍ .
وَحُكِيَ مِثْلُ قَوْلِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ .
وَقَالَ مَالِكٌ : يَجُوزُ فِي الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ وَنَحْوِهَا ، وَإِنْ كَانَ عِشْرِينَ لَيْلَةً فُسِخَ الْبَيْعُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَزُفَرُ : الْبَيْعُ فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ فَسْخَ الْبَيْعِ عَلَى غَرَرٍ ، فَلَمْ يَصِحَّ ، كَمَا لَوْ عَلَّقَهُ بِقُدُومِ زَيْدٍ .
وَلَنَا ، أَنَّ هَذَا يُرْوَى عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلِأَنَّهُ عَلَّقَ رَفْعَ الْعَقْدِ بِأَمْرِ يَحْدُثُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ ، فَجَازَ ، كَمَا لَوْ شَرَطَ الْخِيَارَ ، وَلِأَنَّهُ نَوْعُ بَيْعٍ ، فَجَازَ أَنْ يَنْفَسِخَ بِتَأْخِيرِ الْقَبْضِ ، كَالصَّرْفِ ، وَلِأَنَّ هَذَا بِمَعْنَى شَرْطِ الْخِيَارِ ؛ لِأَنَّهُ كَمَا يَحْتَاجُ إلَى التَّرَوِّي فِي الْبَيْعِ ، هَلْ يُوَافِقُهُ أَوْ لَا ؟ يَحْتَاجُ إلَى التَّرَوِّي فِي الثَّمَنِ ، هَلْ يَصِيرُ مَنْقُودًا أَوْ لَا ؟ فَهُمَا سِيَّانِ فِي الْمَعْنَى ، مُتَغَايِرَانِ فِي الصُّورَةِ ، إلَّا أَنَّهُ فِي الْخِيَارِ يَحْتَاجُ إلَى الْفَسْخِ ، وَهَا هُنَا يَنْفَسِخُ إذَا لَمْ يَنْقُدْ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ كَذَلِكَ .

( 2794 ) فَصْلٌ : وَالْعُقُودُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا ، عَقْدٌ لَازِمٌ ، يُقْصَدُ مِنْهُ الْعِوَضُ ، وَهُوَ الْبَيْعُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ ، وَهُوَ نَوْعَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، يَثْبُتُ فِيهِ الْخِيَارَانِ : خِيَارُ الْمَجْلِسِ ، وَخِيَارُ الشَّرْطِ ، وَهُوَ الْبَيْعُ فِيمَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ ، وَالصُّلْحُ بِمَعْنَى الْبَيْعِ ، وَالْهِبَةُ بِعِوَضٍ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ ، وَالْإِجَارَةُ فِي الذِّمَّةِ ، نَحْوَ أَنْ يَقُولَ أَسْتَأْجَرْتُك لِتَخِيطَ لِي هَذَا الثَّوْبَ وَنَحْوَهُ ، فَهَذَا يَثْبُتُ فِيهِ الْخِيَارُ ، لِأَنَّ الْخِيَارَ وَرَدَ فِي الْبَيْعِ ، وَهَذَا فِي مَعْنَاهُ .
فَأَمَّا الْإِجَارَةُ الْمُعَيَّنَةُ ، فَإِنْ كَانَتْ مُدَّتُهَا مِنْ حِينِ الْعَقْدِ ، دَخَلَهَا خِيَارُ الْمَجْلِسِ دُونَ خِيَارِ الشَّرْطِ ؛ لِأَنَّ دُخُولَهُ يُفْضِي إلَى فَوْتِ بَعْضِ الْمَنَافِعِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا ، أَوْ إلَى اسْتِيفَائِهَا فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ ، وَكِلَاهُمَا لَا يَجُوزُ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَذَكَرَهُ الْقَاضِي مَرَّةً مِثْلَ هَذَا ، وَمَرَّةً قَالَ : يَثْبُتُ فِيهَا الْخِيَارَانِ قِيَاسًا عَلَى الْبَيْعِ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا يَقْتَضِي الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا .
وَأَمَّا الشُّفْعَةُ ، فَلَا خِيَارَ فِيهَا ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يُؤْخَذُ مِنْهُ الْمَبِيعُ قَهْرًا ، وَالشَّفِيعُ يَسْتَقِلُّ بِانْتِزَاعِ الْمَبِيعِ مِنْ غَيْرِ رِضَا صَاحِبِهِ ، فَأَشْبَهَ فَسْخَ الْبَيْعِ بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ ، وَنَحْوِهِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَثْبُتَ لِلشَّفِيعِ خِيَارُ الْمَجْلِسِ ؛ لِأَنَّهُ قَبِلَ الْمَبِيعَ بِثَمَنِهِ ، فَأَشْبَهَ الْمُشْتَرِيَ .
النَّوْعُ الثَّانِي ، مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ ، كَالصَّرْفِ ، وَالسَّلَمِ ، وَبَيْعِ مَالِ الرِّبَا بِجِنْسِهِ ، فَلَا يَدْخُلُهُ خِيَارُ الشَّرْطِ ، رِوَايَةً وَاحِدَةً ؛ لِأَنَّ مَوْضُوعَهَا عَلَى أَنْ لَا يَبْقَى بَيْنَهَا عَلَقَةٌ بَعْدَ التَّفَرُّقِ ، بِدَلِيلِ اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ ، وَثُبُوتُ الْخِيَارِ يُبْقِي بَيْنَهُمَا عَلَقَةً ، وَيُثْبِتُ فِيهَا خِيَارَ الْمَجْلِسِ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ ؛ لِعُمُومِ الْخَبَرِ ، وَلِأَنَّ

مَوْضُوعَهُ لِلنَّظَرِ فِي الْحَظِّ فِي الْمُعَاوَضَةِ ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِيهَا .
وَعَنْهُ لَا يَثْبُتُ فِيهَا الْخِيَارُ إلْحَاقًا بِخِيَارِ الشَّرْطِ .
الضَّرْبُ الثَّانِي ، لَازِمٌ ، لَا يُقْصَدُ بِهِ الْعِوَضُ ، كَالنِّكَاحِ وَالْخُلْعِ .
فَلَا يَثْبُتُ فِيهِمَا خِيَارٌ ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ إنَّمَا يَثْبُتُ لِمَعْرِفَةِ الْحَظِّ فِي كَوْنِ الْعِوَضِ جَائِزًا ، لِمَا يَذْهَبُ مِنْ مَالِهِ .
وَالْعِوَضُ هَاهُنَا لَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودَ ، وَكَذَلِكَ الْوَقْفُ وَالْهِبَةُ ، وَلِأَنَّ فِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ فِي النِّكَاحِ ضَرَرًا ذَكَرْنَاهُ قَبْلَ هَذَا .
الضَّرْبُ الثَّالِثُ ، لَازِمٌ مِنْ أَحَدِ طَرَفَيْهِ دُونَ الْآخَرِ ، كَالرَّهْنِ ، لَازِمٌ فِي حَقِّ الرَّاهِنِ ، جَائِزٌ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ ، فَلَا يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارٌ ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ يَسْتَغْنِي بِالْجَوَازِ فِي حَقِّهِ عَنْ ثُبُوتِ خِيَارٍ آخَرَ ، وَالرَّاهِنُ يَسْتَغْنِي بِثُبُوتِ الْخِيَارِ لَهُ إلَى أَنْ يَقْبِضَ ، وَكَذَلِكَ الضَّامِنُ وَالْكَفِيلُ ، لَا خِيَارَ لَهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا دَخَلَا مُتَطَوِّعَيْنِ رَاضِيَيْنِ بِالْغَبْنِ ، وَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبُ .
الضَّرْبُ الرَّابِعُ ، عَقْدٌ جَائِزٌ مِنْ الطَّرَفَيْنِ ، كَالشَّرِكَةِ ، وَالْمُضَارَبَةِ ، وَالْجَعَالَةِ ، وَالْوَكَالَةِ ، الْوَدِيعَةِ ، وَالْوَصِيَّةِ ، فَهَذِهِ لَا يَثْبُتُ فِيهَا خِيَارٌ ، اسْتِغْنَاءً بِجَوَازِهَا ، وَالتَّمَكُّنِ مِنْ فَسْخِهَا بِأَصْلِ وَضْعِهَا .
الضَّرْبُ الْخَامِسُ ، وَهُوَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْجَوَازِ وَاللُّزُومِ ، كَالْمُسَاقَاةِ ، وَالْمُزَارَعَةِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا جَائِزَانِ ، فَلَا يَدْخُلُهُمَا خِيَارٌ .
وَقَدْ قِيلَ : هُمَا لَازِمَانِ ، فَفِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ فِيهِمَا وَجْهَانِ ، وَالسَّبْقِ وَالرَّمْيِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا جَعَالَةٌ ، فَلَا يَثْبُتُ فِيهِمَا خِيَارٌ .
وَقِيلَ : هُمَا إجَارَةٌ ، وَقَدْ مَضَى ذِكْرُهَا .
الضَّرْبُ السَّادِسُ ، لَازِمٌ يَسْتَقِلُّ بِهِ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ ، كَالْحَوَالَةِ ، وَالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ ، فَلَا خِيَارَ فِيهِمَا ؛ لِأَنَّ مَنْ لَا يُعْتَبَرُ رِضَاهُ لَا خِيَارَ لَهُ .
وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ فِي أَحَدِ طَرَفَيْهِ لَمْ يَثْبُتْ

فِي الْآخَرِ ، كَسَائِرِ الْعُقُودِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَثْبُتَ الْخِيَارُ لِلْمُحِيلِ وَالشَّفِيعِ ؛ لِأَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ يُقْصَدُ فِيهَا الْعِوَضُ ، فَأَشْبَهَتْ سَائِرَ الْبَيْعِ .

بَابُ الرِّبَا وَالصَّرْفِ الرِّبَا فِي اللُّغَةِ : هُوَ الزِّيَادَةُ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ } .
وَقَالَ : { أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ } .
أَيْ أَكْثَرُ عَدَدًا ، يُقَالُ : أَرْبَى فُلَانٌ عَلَى فُلَانٍ ، إذَا زَادَ عَلَيْهِ .
وَهُوَ فِي الشَّرْعِ : الزِّيَادَةُ فِي أَشْيَاءَ مَخْصُوصَةٍ .
وَهُوَ مُحَرَّمٌ بِالْكِتَابِ ، وَالسُّنَّةِ ، وَالْإِجْمَاعِ ؛ أَمَّا الْكِتَابُ ، فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى { : وَحَرَّمَ الرِّبَا } .
وَمَا بَعْدَهَا مِنْ الْآيَاتِ .
وَأَمَّا السُّنَّةُ ، فَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ .
قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هِيَ ؟ قَالَ : الشِّرْكُ بِاَللَّهِ ، وَالسِّحْرُ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ ، وَأَكْلُ الرِّبَا ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلَاتِ } .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَعَنَ آكِلَ الرِّبَا ، وَمُوكِلَهُ ، وَشَاهِدَيْهِ ، وَكَاتِبَهُ .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا فِي أَخْبَارٍ سِوَى هَذَيْنِ كَثِيرَةٍ ، وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الرِّبَا مُحَرَّمٌ .

( 2795 ) فَصْلٌ : وَالرِّبَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : رِبَا الْفَضْلِ ، وَرِبَا النَّسِيئَةِ .
وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى تَحْرِيمِهِمَا .
وَقَدْ كَانَ فِي رِبَا الْفَضْلِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ ؛ فَحُكِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ ، وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ ، أَنَّهُمْ قَالُوا : إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ .
لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا رِبَا إلَّا فِي النَّسِيئَةِ } .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَالْمَشْهُورُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، ثُمَّ إنَّهُ رَجَعَ إلَى قَوْلِ الْجَمَاعَةِ ، رَوَى ذَلِكَ الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ ، وَقَالَهُ التِّرْمِذِيُّ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ ، وَغَيْرُهُمْ .
وَقَالَ سَعِيدٌ بِإِسْنَادِهِ ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ ، قَالَ : صَحِبْت ابْنَ عَبَّاسٍ حَتَّى مَاتَ ، فَوَاَللَّهِ مَا رَجَعَ عَنْ الصَّرْفِ .
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، قَالَ : سَأَلْت ابْنَ عَبَّاسٍ قَبْلَ مَوْتِهِ بِعِشْرِينَ لَيْلَةً عَنْ الصَّرْفِ ؟ فَلَمْ يَرَ بِهِ بَأْسًا ، وَكَانَ يَأْمُرُ بِهِ .
وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ ؛ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ، قَالَ : لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ ، وَلَا تَشْفُوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ ، وَلَا تَبِيعُوا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ ، وَلَا تَشْفُوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ ، وَلَا تَبِيعُوا غَائِبًا بِنَاجِزٍ } .
وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ أَيْضًا ، قَالَ : { جَاءَ بِلَالٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَمْرٍ بَرْنِيِّ ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مِنْ أَيْنَ هَذَا يَا بِلَالُ ؟ .
قَالَ : كَانَ عِنْدَنَا تَمْرٌ رَدِيءٌ ، فَبِعْت صَاعَيْنِ بِصَاعٍ ، لِيُطْعِمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَوَّهْ ، عَيْنُ الرِّبَا ، عَيْنُ الرِّبَا ، لَا تَفْعَلْ ، وَلَكِنْ إنْ أَرَدْت أَنْ تَشْتَرِيَ فَبِعْ التَّمْرَ بِبَيْعٍ آخَرَ ، ثُمَّ اشْتَرِ بِهِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ عَلَى حَدِيثِ أَبِي

سَعِيدٍ الْعَمَلُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِمْ .
وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : لَا رِبَا إلَّا فِي النَّسِيئَةِ } مَحْمُولٌ عَلَى الْجِنْسَيْنِ .

( 2796 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ ، رَحِمَهُ اللَّهُ : ( وَكُلُّ مَا كِيلَ أَوْ وُزِنَ مِنْ سَائِرِ الْأَشْيَاءِ ، فَلَا يَجُوزُ التَّفَاضُلُ فِيهِ إذَا كَانَ جِنْسًا وَاحِدًا ) قَوْلُهُ : " مِنْ سَائِرِ الْأَشْيَاءِ " .
يَعْنِي مِنْ جَمِيعِهَا .
وَضَعَ سَائِرَ مَوْضِعَ جَمِيعٍ تَجَوُّزًا ، وَمَوْضُوعُهَا الْأَصْلِيُّ لِبَاقِي الشَّيْءِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرِّبَا أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ ، وَمِنْ أَتَمَّهَا مَا رَوَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلًا بِمِثْلٍ ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ مِثْلًا بِمِثْلٍ ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ مِثْلًا بِمِثْلٍ ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ مِثْلًا بِمِثْلٍ ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ مِثْلًا بِمِثْلٍ ، فَمَنْ زَادَ أَوْ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى ، بِيعُوا الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ ، وَبِيعُوا الْبُرَّ بِالتَّمْرِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ ، وَبِيعُوا الشَّعِيرَ بِالتَّمْرِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
فَهَذِهِ الْأَعْيَانُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهَا يَثْبُتُ الرِّبَا فِيهَا بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ .
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَا سِوَاهَا ، فَحُكِيَ عَنْ طَاوُسٍ وَقَتَادَةَ أَنَّهُمَا قَصَرَا الرِّبَا عَلَيْهَا ، وَقَالَا : لَا يَجْرِي فِي غَيْرِهَا .
وَبِهِ قَالَ دَاوُد وَنُفَاة الْقِيَاسِ ، وَقَالُوا : مَا عَدَاهَا عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { : وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ } .
وَاتَّفَقَ الْقَائِلُونَ بِالْقِيَاسِ عَلَى أَنَّ ثُبُوتَ الرِّبَا فِيهَا بِعِلَّةٍ ، وَأَنَّهُ يَثْبُتُ فِي كُلِّ مَا وُجِدَتْ فِيهِ عِلَّتُهَا ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ ، فَيَجِبُ اسْتِخْرَاجُ عِلَّةِ هَذَا الْحُكْمِ ، وَإِثْبَاتُهُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ وُجِدَتْ عِلَّتُهُ فِيهِ .
وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَحَرَّمَ الرِّبَا } .
يَقْتَضِي تَحْرِيمَ كُلِّ زِيَادَةٍ ، إذْ الرِّبَا فِي اللُّغَةِ الزِّيَادَةُ ، إلَّا مَا أَجْمَعْنَا عَلَى تَخْصِيصِهِ .
وَهَذَا يُعَارِضُ مَا

ذَكَرُوهُ .
ثُمَّ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ رِبَا الْفَضْلِ لَا يَجْرِي إلَّا فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ ، إلَّا سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ ، فَإِنَّهُ قَالَ : كُلُّ شَيْئَيْنِ يَتَقَارَبُ الِانْتِفَاعُ بِهِمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مُتَفَاضِلًا ، كَالْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ ، وَالتَّمْرِ بِالزَّبِيبِ ، وَالذُّرَةِ بِالدُّخْنِ ؛ لِأَنَّهُمَا يَتَقَارَبُ نَفْعُهُمَا ، فَجَرَيَا مَجْرَى نَوْعَيْ جِنْسٍ وَاحِدٍ .
وَهَذَا يُخَالِفُ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : بِيعُوا الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ ، وَبِيعُوا الْبُرَّ بِالتَّمْرِ كَيْفَ شِئْتُمْ } .
فَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ .
ثُمَّ يَبْطُلُ بِالذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ التَّفَاضُلُ فِيهِمَا مَعَ تَقَارُبِهِمَا .
وَاتَّفَقَ الْمُعَلِّلُونَ عَلَى أَنَّ عِلَّةَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَاحِدَةٌ ، وَعِلَّةَ الْأَعْيَانِ الْأَرْبَعَةِ وَاحِدَةٌ ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي عِلَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛ فَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي ذَلِكَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ ، أَشْهَرُهُنَّ أَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ كَوْنُهُ مَوْزُونَ جِنْسٍ ، وَعِلَّةُ الْأَعْيَانِ الْأَرْبَعَةِ مَكِيلُ جِنْسٍ .
نَقَلَهَا عَنْ أَحْمَدَ الْجَمَاعَةُ ، وَذَكَرَهَا الْخِرَقِيِّ ، وَابْنُ أَبِي مُوسَى ، وَأَكْثَرُ الْأَصْحَابِ .
وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ ، وَالزُّهْرِيِّ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَإِسْحَاقَ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْي .
فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَجْرِي الرِّبَا فِي كُلِّ مَكِيلٍ ، أَوْ مَوْزُونٍ بِجِنْسِهِ ، مَطْعُومًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَطْعُومٍ ، كَالْحُبُوبِ ، وَالْأُشْنَانِ ، وَالنُّورَةِ ، وَالْقُطْنِ ، وَالصُّوفِ ، وَالْكَتَّانِ ، وَالْوَرْسِ ، وَالْحِنَّاءِ ، وَالْعُصْفُرِ ، وَالْحَدِيدِ ، وَالنُّحَاسِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ .
وَلَا يَجْرِي فِي مَطْعُومٍ لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ قَالَ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : لَا تَبِيعُوا الدِّينَارَ بِالدِّينَارَيْنِ ، وَلَا الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ ، وَلَا الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ ، فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ الرَّمَاءَ .
وَهُوَ الرِّبَا

، فَقَامَ إلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَرَأَيْت الرَّجُلَ يَبِيعُ الْفَرَسَ بِالْأَفْرَاسِ ، وَالنَّجِيبَةَ بِالْإِبِلِ ؟ فَقَالَ : لَا بَأْسَ إذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ } .
رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ ، عَنْ ابْنِ حِبَّانَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ .
وَعَنْ أَنَسٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَا وُزِنَ مِثْلًا بِمِثْلٍ إذَا كَانَ نَوْعًا وَاحِدًا ، وَمَا كِيلَ مِثْلًا بِمِثْلٍ إذَا كَانَ نَوْعًا وَاحِدًا .
} رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ ، وَرَوَاهُ عَنْ ابْنِ صَاعِدٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَيُّوبَ ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشِ ، عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ صَبِيحٍ ، عَنْ الْحَسَنِ ، عَنْ عُبَادَةَ ، وَأَنَسٍ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : لَمْ يَرْوِهِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ هَكَذَا غَيْرُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ أَيُّوبَ ، وَخَالَفَهُ غَيْرُهُ فَرَوَاهُ بِلَفْظٍ آخَرَ .
وَعَنْ عَمَّارٍ أَنَّهُ قَالَ { : الْعَبْدُ خَيْرٌ مِنْ الْعَبْدَيْنِ ، وَالثَّوْبُ خَيْرٌ مِنْ الثَّوْبَيْنِ .
فَمَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ ، إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسَاءِ ، إلَّا مَا كِيلَ أَوْ وُزِنَ .
} وَلِأَنَّ قَضِيَّةَ الْبَيْعِ الْمُسَاوَاةُ ، وَالْمُؤَثِّرُ فِي تَحْقِيقِهَا الْكَيْلُ ، وَالْوَزْنُ ، وَالْجِنْسُ ، فَإِنَّ الْوَزْنَ أَوْ الْكَيْلَ يُسَوِّي بَيْنَهُمَا صُورَةً ، وَالْجِنْسُ يُسَوِّي بَيْنَهُمَا مَعْنًى ، فَكَانَا عِلَّةً ، وَوَجَدْنَا الزِّيَادَةَ فِي الْكَيْلِ مُحَرَّمَةً دُونَ الزِّيَادَةِ فِي الطَّعْمِ ؛ بِدَلِيلِ بَيْعِ الثَّقِيلَةِ بِالْخَفِيفَةِ ، فَإِنَّهُ جَائِزٌ إذَا تُسَاوَيَا فِي الْكَيْلِ .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْأَثْمَانِ الثَّمَنِيَّةُ ، وَفِيمَا عَدَاهَا كَوْنُهُ مَطْعُومَ جِنْسٍ ، فَيَخْتَصُّ بِالْمَطْعُومَاتِ ، وَيَخْرُجُ مِنْهُ مَا عَدَاهَا ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ : رَوَى ذَلِكَ عَنْ أَحْمَدَ جَمَاعَةٌ ، وَنَحْوَ هَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، فَإِنَّهُ قَالَ : الْعِلَّةُ الطَّعْمُ ، وَالْجِنْسُ شَرْطٌ .
وَالْعِلَّةُ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ

جَوْهَرِيَّةُ الثَّمَنِيَّةِ غَالِبًا ، فَيَخْتَصُّ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ؛ لِمَا رَوَى مَعْمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَلِأَنَّ الطَّعْمَ وَصْفُ شَرَفٍ ، إذْ بِهِ قِوَامُ الْأَبْدَانِ ، وَالثَّمَنِيَّةُ وَصْفُ شَرَفٍ ، إذْ بِهَا قِوَامُ الْأَمْوَالِ ، فَيَقْتَضِي التَّعْلِيلَ بِهِمَا ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ الْعِلَّةُ فِي الْأَثْمَانِ الْوَزْنَ لَمْ يَجُزْ إسْلَامُهُمَا فِي الْمَوْزُونَاتِ ؛ لِأَنَّ أَحَدَ وَصْفَيْ عِلَّةِ رِبَا الْفَضْلِ يَكْفِي فِي تَحْرِيمِ النَّسَاءِ .
وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ ؛ الْعِلَّةُ فِيمَا عَدَا الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ كَوْنُهُ مَطْعُومَ جِنْسٍ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا ، فَلَا يَجْرِي الرِّبَا فِي مَطْعُومٍ لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ ، كَالتُّفَّاحِ وَالرُّمَّانِ ، وَالْخَوْخِ ، وَالْبِطِّيخِ ، وَالْكُمَّثْرَى ، وَالْأُتْرُجِّ ، وَالسَّفَرْجَلِ ، وَالْإِجَّاصِ ، وَالْخِيَارِ ، وَالْجَوْزِ ، وَالْبَيْضِ ، وَلَا فِيمَا لَيْسَ بِمَطْعُومٍ ، كَالزَّعْفَرَانِ ، وَالْأُشْنَانِ ، وَالْحَدِيدِ ، وَالرَّصَاصِ ، وَنَحْوِهِ .
وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، وَهُوَ قَدِيمُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا رِبَا إلَّا فِيمَا كِيلَ أَوْ وُزِنَ ، مِمَّا يُؤْكَلُ أَوْ يُشْرَبُ } .
أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ ، وَقَالَ : الصَّحِيحُ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ سَعِيدٍ ، وَمَنْ رَفَعَهُ فَقَدْ وَهِمَ .
وَلِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَوْصَافِ أَثَرًا ، وَالْحُكْمُ مَقْرُونٌ بِجَمِيعِهَا فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ ، فَلَا يَجُوزُ حَذْفُهُ .
وَلِأَنَّ الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ وَالْجِنْسَ لَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الْمُمَاثَلَةِ ، وَإِنَّمَا أَثَرُهُ فِي تَحْقِيقِهَا فِي الْعِلَّةِ مَا يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْحُكْمِ لَا مَا تَحَقَّقَ شَرْطُهُ ، وَالطَّعْمُ بِمُجَرَّدِهِ لَا تَتَحَقَّقُ الْمُمَاثَلَةُ بِهِ ؛ لِعَدَمِ الْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ فِيهِ .
وَإِنَّمَا تَجِبُ الْمُمَاثَلَةُ فِي

الْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ وَهُوَ الْكَيْلُ ، وَالْوَزْنُ ، وَلِهَذَا وَجَبَتْ الْمُسَاوَاةُ فِي الْمَكِيلِ كَيْلًا ، وَفِي الْمَوْزُونِ وَزْنًا ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الطَّعْمُ مُعْتَبَرًا فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ ، دُونَ غَيْرِهِمَا .
وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي هَذَا الْبَابِ يَجِبُ الْجَمْعُ بَيْنَهَا ، وَتَقْيِيدُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِالْآخَرِ ، فَنَهْيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ يَتَقَيَّدُ بِمَا فِيهِ مِعْيَارٌ شَرْعِيٌّ ، وَهُوَ الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ ، وَنَهْيُهُ عَنْ بَيْعِ الصَّاعِ بِالصَّاعَيْنِ يَتَقَيَّدُ بِالْمَطْعُومِ الْمَنْهِيِّ عَنْ التَّفَاضُلِ فِيهِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : الْعِلَّةُ الْقُوتُ ، أَوْ : مَا يَصْلُحُ بِهِ الْقُوتُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ مِنْ الْمُدَّخَرَاتِ .
وَقَالَ رَبِيعَةُ : يَجْرِي الرِّبَا فِيمَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ دُونَ غَيْرِهِ .
وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ : الْجِنْسُ الْوَاحِدُ عِلَّةٌ .
وَهَذَا الْقَوْلُ لَا يَصِحُّ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْعِ الْفَرَسِ بِالْأَفْرَاسِ ، وَالنَّجِيبَةِ بِالْإِبِلِ { : لَا بَأْسَ بِهِ إذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ } .
وَرُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْتَاعَ عَبْدًا بِعَبْدَيْنِ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَقَوْلُ مَالِكٍ يَنْتَقِضُ بِالْحَطَبِ وَالْإِدَامِ يُسْتَصْلَحُ بِهِ الْقُوتُ وَلَا رِبَا فِيهِ عِنْدَهُ ، وَتَعْلِيلُ رَبِيعَةَ يَنْعَكِسُ بِالْمِلْحِ ، وَالْعَكْسُ لَازِمٌ عِنْدَ اتِّحَادِ الْعِلَّةِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا اجْتَمَعَ فِيهِ الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ وَالطَّعْمُ ، مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ ، فَفِيهِ الرِّبَا رِوَايَةً وَاحِدَةً ، كَالْأُرْزِ ، وَالدُّخْنِ ، وَالذُّرَةِ ، وَالْقُطْنِيَّاتِ ، وَالدُّهْنِ ، وَالْخَلِّ ، وَاللَّبَنِ ، وَاللَّحْمِ ، وَنَحْوِهِ .
وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : هَذَا قَوْلُ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ ، سِوَى قَتَادَةَ ، فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّهُ شَذَّ عَنْ جَمَاعَةِ النَّاسِ ، فَقَصَرَ تَحْرِيمَ

التَّفَاضُلِ عَلَى السِّتَّةِ الْأَشْيَاءِ .
وَمَا انْعَدَمَ فِيهِ الْكَيْلُ ، وَالْوَزْنُ ، وَالطَّعْمُ ، وَاخْتَلَفَ جِنْسُهُ ، فَلَا رِبَا فِيهِ ، رِوَايَةً وَاحِدَةً .
وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، كَالتِّينِ ، وَالنَّوَى ، وَالْقَتِّ ، وَالْمَاءِ ، وَالطِّينِ الْأَرْمَنِيِّ ، فَإِنَّهُ يُؤْكَلُ دَوَاءً ، فَيَكُونُ مَوْزُونًا مَأْكُولًا ، فَهُوَ إذًا مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ ، وَمَا عَدَاهُ إنَّمَا يُؤْكَلُ سَفَهًا ، فَجَرَى مَجْرَى الرَّمْلِ وَالْحَصَى .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِعَائِشَةَ : { لَا تَأْكُلِي الطِّينَ ، فَإِنَّهُ يُصَفِّرُ اللَّوْنَ } .
وَمَا وُجِدَ فِيهِ الطَّعْمُ وَحْدَهُ ، أَوْ الْكَيْلُ أَوْ الْوَزْنُ ، مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ ، وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيهِ ، وَالْأَوْلَى إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى حِلُّهُ ؛ إذْ لَيْسَ فِي تَحْرِيمِهِ دَلِيلٌ مَوْثُوقٌ بِهِ ، وَلَا مَعْنًى يُقَوِّي التَّمَسُّكَ بِهِ ، وَهِيَ مَعَ ضَعْفِهَا يُعَارِضُ بَعْضُهَا بَعْضًا ، فَوَجَبَ اطِّرَاحُهَا ، أَوْ الْجَمْعُ بَيْنَهَا ، وَالرُّجُوعُ إلَى أَصْلِ الْحِلِّ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْكِتَابُ ، وَالسُّنَّةُ ، وَالِاعْتِبَارُ .
وَلَا فَرْقَ فِي الْمَطْعُومَاتِ بَيْنَ مَا يُؤْكَلُ قُوتًا ، كَالْأُرْزِ ، وَالذُّرَةِ ، وَالدُّخْنِ ، أَوْ أُدْمًا كَالْقُطْنِيَّاتِ ، وَاللَّبَنِ ، وَاللَّحْمِ ، أَوْ تَفَكُّهًا كَالثِّمَارِ ، أَوْ تَدَاوِيًا كَالْإِهْلِيلَجِ ، وَالسَّقَمُونْيَا ، فَإِنَّ الْكُلَّ فِي بَابِ الرِّبَا وَاحِدٌ .

( 2797 ) فَصْلٌ ، وَقَوْلُهُ : مَا كِيلَ ، أَوْ وُزِنَ .
أَيْ : مَا كَانَ جِنْسُهُ مَكِيلًا ، أَوْ مَوْزُونًا ، وَإِنْ لَمْ يَتَأَتَّ فِيهِ كَيْلٌ ، وَلَا وَزْنٌ ، إمَّا لِقِلَّتِهِ كَالْحَبَّةِ وَالْحَبَّتَيْنِ ، وَالْحَفْنَةِ وَالْحَفْنَتَيْنِ ، وَمَا دُونَ الْأُرْزَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ، أَوْ لِكَثْرَتِهِ كَالزُّبْرَةِ الْعَظِيمَةِ ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ ، إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ ، وَيَحْرُمُ التَّفَاضُلُ فِيهِ .
وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَرَخَّصَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي بَيْعِ الْحَفْنَةِ بِالْحَفْنَتَيْنِ ، وَالْحَبَّةِ بِالْحَبَّتَيْنِ ، وَسَائِرِ الْمَكِيلِ الَّذِي لَا يَتَأَتَّى كَيْلُهُ ، وَوَافَقَ فِي الْمَوْزُونِ ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ الْعِلَّةَ الْكَيْلُ ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي الْيَسِيرِ .
وَلَنَا ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : التَّمْرُ بِالتَّمْرِ مِثْلًا بِمِثْلٍ ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ مِثْلًا بِمِثْلٍ ، مَنْ زَادَ أَوْ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى } .
وَلِأَنَّ مَا جَرَى الرِّبَا فِي كَثِيرِهِ جَرَى فِي قَلِيلِهِ ، كَالْمَوْزُونِ .
( 2798 ) فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ تَمْرَةٍ بِتَمْرَةٍ ، وَلَا حَفْنَةٍ بِحَفْنَةٍ .
وَهَذَا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ ، وَلَا أَعْلَمُهُ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ ، وَلَكِنَّهُ قِيَاسُ قَوْلِهِمْ ؛ لِأَنَّ مَا أَصْلُهُ الْكَيْلُ لَا تَجْرِي الْمُمَاثَلَةُ فِي غَيْرِهِ ( 2799 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا مَا لَا وَزْنَ لِلصِّنَاعَةِ فِيهِ ، كَمَعْمُولِ الْحَدِيدِ ، وَالرَّصَاصِ ، وَالنُّحَاسِ ، وَالْقُطْنِ ، وَالْكَتَّانِ ، وَالصُّوفِ ، وَالْإِبْرَيْسَمِ ، فَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ فِي الثِّيَابِ وَالْأَكْسِيَةِ أَنَّهُ لَا يَجْرِي فِيهَا الرِّبَا ، فَإِنَّهُ قَالَ : لَا بَأْسَ بِالثَّوْبِ بِالثَّوْبَيْنِ ، وَالْكِسَاءِ بِالْكِسَاءَيْنِ .
وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَقَالَ : لَا يُبَاعُ الْفَلْسُ بِالْفَلْسَيْنِ ، وَلَا السِّكِّينُ بِالسِّكِّينَيْنِ ، وَلَا إبْرَةٌ بِإِبْرَتَيْنِ ، أَصْلُهُ الْوَزْنُ .
وَنَقَلَ الْقَاضِي حُكْمَ إحْدَى الْمَسْأَلَتَيْنِ إلَى الْأُخْرَى ، فَجَعَلَ فِيهِمَا جَمِيعًا رِوَايَتَيْنِ

؛ إحْدَاهُمَا ، لَا يَجْرِي فِي الْجَمِيعِ .
وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْزُونِ وَلَا مَكِيلٍ ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ .
إذْ لَا مَعْنَى لِثُبُوتِ الْحُكْمِ مَعَ انْتِفَاءِ الْعِلَّةِ ، وَعَدَمِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ فِيهِ .
وَالثَّانِيَةُ ، يَجْرِي الرِّبَا فِي الْجَمِيعِ .
اخْتَارَهَا ابْنُ عَقِيلٍ ؛ لِأَنَّ أَصْلَهُ الْوَزْنُ ، فَلَا يَخْرُجُ بِالصِّنَاعَةِ عَنْهُ كَالْخُبْزِ ، وَذَكَرَ أَنَّ اخْتِيَارَ الْقَاضِي ؛ أَنَّ مَا كَانَ يُقْصَدُ وَزْنُهُ بَعْدَ عَمَلِهِ كَالْأَسْطَالِ فَفِيهِ الرِّبَا ، وَمَالًا فَلَا .
( 2800 ) فَصْلٌ : وَيَجْرِي الرِّبَا فِي لَحْمِ الطَّيْرِ ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ : لَا يَجْرِي فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ يُبَاعُ بِغَيْرِ وَزْنٍ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ لَحْمٌ فَجَرَى فِيهِ الرِّبَا ، كَسَائِرِ اللُّحْمَانِ .
وَقَوْلُهُ : لَا يُوزَنُ .
قُلْنَا : هُوَ مِنْ جِنْسِ مَا يُوزَنُ ، وَيُقْصَدُ ثِقَلُهُ ، وَتَخْتَلِفُ قِيمَتُهُ بِثِقَلِهِ وَخِفَّتِهِ ، فَأَشْبَهَ مَا يُبَاعُ مِنْ الْخُبْزِ بِالْعَدَدِ .

( 2801 ) فَصْلٌ : وَالْجَيِّدُ وَالرَّدِيءُ ، وَالتِّبْرُ وَالْمَضْرُوبُ ، وَالصَّحِيحُ وَالْمَكْسُورُ ، سَوَاءٌ فِي جَوَازِ الْبَيْعِ مَعَ التَّمَاثُلِ ، وَتَحْرِيمِهِ مَعَ التَّفَاضُلِ .
وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، مِنْهُمْ ؛ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ جَوَازُ بَيْعِ الْمَضْرُوبِ بِقِيمَتِهِ مِنْ جِنْسِهِ ، وَأَنْكَرَ أَصْحَابُهُ ذَلِكَ ، وَنَفَوْهُ عَنْهُ .
وَحَكَى بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةً ، لَا يَجُوزُ بَيْعُ الصِّحَاحِ بِالْمُكَسَّرَةِ .
وَلِأَنَّ لِلصِّنَاعَةِ قِيمَةً ؛ بِدَلِيلِ حَالَةِ الْإِتْلَافِ ، فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ ضَمَّ قِيمَةَ الصِّنَاعَةِ إلَى الذَّهَبِ .
وَلَنَا ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلًا بِمِثْلٍ ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ } .
وَعَنْ عُبَادَةَ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ تِبْرُهَا وَعَيْنُهَا ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ تِبْرُهَا وَعَيْنُهَا } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَرَوَى مُسْلِمٌ ، عَنْ أَبِي الْأَشْعَثِ ، أَنَّ مُعَاوِيَةَ أَمَرَ بِبَيْعِ آنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ فِي أَعْطِيَاتِ النَّاسِ ، فَبَلَغَ عُبَادَةَ فَقَالَ : { إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ ، وَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ ، وَالْبُرِّ بِالْبُرِّ ، وَالشَّعِيرِ بِالشَّعِيرِ ، وَالْمِلْحِ بِالْمِلْحِ ، إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ ، عَيْنًا بِعَيْنٍ ، فَمَنْ زَادَ أَوْ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى } .
وَرَوَى الْأَثْرَمُ ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ ، أَنَّ مُعَاوِيَةَ بَاعَ سِقَايَةً مِنْ ذَهَبٍ أَوْ وَرِقٍ بِأَكْثَرَ مِنْ وَزْنِهَا ، فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ : { سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَنْ مِثْلِ هَذَا إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ } .
ثُمَّ قَدِمَ أَبُو الدَّرْدَاءِ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ ، فَكَتَبَ عُمَرُ إلَى مُعَاوِيَةَ ، لَا تَبِعْ ذَلِكَ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ ، وَزْنًا بِوَزْنٍ .
وَلِأَنَّهُمَا تُسَاوَيَا فِي الْوَزْنِ ، فَلَا

يُؤَثِّرُ اخْتِلَافُهُمَا فِي الْقِيمَةِ ، كَالْجَيِّدِ وَالرَّدِيءِ .
فَأَمَّا إنْ قَالَ لِصَائِغٍ : صُغْ لِي خَاتَمًا وَزْنُهُ دِرْهَمٌ ، وَأُعْطِيكَ مِثْلَ وَزْنِهِ ، وَأُجْرَتَك دِرْهَمًا .
فَلَيْسَ ذَلِكَ بِبَيْعِ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ .
وَقَالَ أَصْحَابُنَا : لِلصَّائِغِ أَخْذُ الدِّرْهَمَيْنِ ؛ أَحَدِهِمَا فِي مُقَابَلَةِ الْخَاتَمِ ، وَالثَّانِي أُجْرَةً لَهُ .

( 2802 ) فَصْلٌ : وَكُلُّ مَا حَرُمَ فِيهِ التَّفَاضُلُ حَرُمَ فِيهِ النَّسَاءُ ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ .
وَيَحْرُمُ التَّفَرُّقُ قَبْلَ الْقَبْضِ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { عَيْنًا بِعَيْنٍ } .
وَقَوْلِهِ : { يَدًا بِيَدٍ } .
وَلِأَنَّ تَحْرِيمَ النَّسَاءِ آكَدُ ، وَلِذَلِكَ جَرَى فِي الْجِنْسَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ ، فَإِذَا حَرُمَ التَّفَاضُلُ ، فَالنَّسَاءُ أَوْلَى بِالتَّحْرِيمِ .

قَالَ ( 2803 ) مَسْأَلَةٌ : ( وَمَا كَانَ مِنْ جِنْسَيْنِ فَجَائِزٌ التَّفَاضُلُ فِيهِ يَدًا بِيَدٍ ، وَلَا يَجُوزُ نَسِيئَةً ) لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ التَّفَاضُلِ فِي الْجِنْسَيْنِ نَعْلَمُهُ ، إلَّا عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ : مَا يَتَقَارَبُ الِانْتِفَاعُ بِهِمَا لَا يَجُوزُ التَّفَاضُلُ فِيهِمَا .
وَهَذَا يَرُدُّهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { بِيعُوا الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ ، وَبِيعُوا الْبُرَّ بِالتَّمْرِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ ، وَبِيعُوا الشَّعِيرَ بِالتَّمْرِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ } .
وَفِي لَفْظٍ : { إذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَأَبُو دَاوُد .
وَلِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ ، فَجَازَ التَّفَاضُلُ فِيهِمَا ، كَمَا لَوْ تَبَاعَدَتْ مَنَافِعُهُمَا .
وَلَا خِلَافَ فِي إبَاحَةِ التَّفَاضُلِ فِي الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ ، مَعَ تَقَارُبِ مَنَافِعِهِمَا .
فَأَمَّا النَّسَاءُ ؛ فَكُلُّ جِنْسَيْنِ يَجْرِي فِيهِمَا الرِّبَا بِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ ، كَالْمَكِيلِ بِالْمَكِيلِ ، وَالْمَوْزُونِ بِالْمَوْزُونِ ، وَالْمَطْعُومِ بِالْمَطْعُومِ ، عِنْدَ مَنْ يُعَلِّلُ بِهِ ، فَإِنَّهُ يَحْرُمُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْأُخَرِ نَسَاءً ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ ؛ وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ } .
وَفِي لَفْظٍ : { لَا بَأْسَ بِبَيْعِ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ وَالْفِضَّةُ أَكْثَرُهُمَا يَدًا بِيَدٍ ، وَأَمَّا نَسِيئَةً فَلَا ، وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ الْبُرِّ بِالشَّعِيرِ وَالشَّعِيرُ أَكْثَرُهُمَا يَدًا بِيَدٍ ، وَأَمَّا النَّسِيئَةُ فَلَا } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
إلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ ثَمَنًا ، وَالْآخَرُ مُثْمَنًا ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ النَّسَاءُ بَيْنَهُمَا بِغَيْرِ خِلَافٍ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَرْخَصَ فِي السَّلَمِ ، وَالْأَصْلُ فِي رَأْسِ الْمَالِ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ ، فَلَوْ حَرُمَ النَّسَاءُ هَاهُنَا لَانْسَدَّ بَابُ السَّلَمِ فِي الْمَوْزُونَاتِ فِي الْغَالِبِ .
فَأَمَّا إنَّ اخْتَلَفَتْ عِلَّتُهُمَا

كَالْمَكِيلِ بِالْمَوْزُونِ ، مِثْلُ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْبُرِّ ، فَفِيهِمَا رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا ، يَحْرُمُ النَّسَاءُ فِيهِمَا ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ هَاهُنَا ؛ لِأَنَّهُمَا مَالَانِ مِنْ أَمْوَالِ الرِّبَا ، فَحَرُمَ النَّسَاءُ فِيهِمَا ، كَالْمَكِيلِ بِالْمَكِيلِ .
وَالثَّانِيَةُ ، يَجُوزُ النَّسَاءُ فِيهِمَا .
وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَجْتَمِعَا فِي أَحَدِ وَصْفَيْ عِلَّةِ رِبَا الْفَضْلِ ، فَجَازَ النَّسَاءُ فِيهِمَا ، كَالثِّيَابِ بِالْحَيَوَانِ .

( 2804 ) فَصْلٌ : وَإِذَا بَاعَ شَيْئًا مِنْ مَالِ الرِّبَا بِغَيْرِ جِنْسِهِ ، وَعِلَّةُ رِبَا الْفَضْلِ فِيهِمَا وَاحِدَةٌ ، لَمْ يَجُزْ التَّفَرُّقُ قَبْلَ الْقَبْضِ ، فَإِنْ فَعَلَا بَطَلَ الْعَقْدُ ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُشْتَرَطُ التَّقَابُضُ فِيهِمَا كَغَيْرِ أَمْوَالِ الرِّبَا ، وَكَبَيْعِ ذَلِكَ بِأَحَدِ النَّقْدَيْنِ .
وَلَنَا ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ ، مِثْلًا بِمِثْلٍ ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ ، يَدًا بِيَدٍ } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ } .
وَرَوَى مَالِكُ بْنُ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ ، أَنَّهُ الْتَمَسَ صَرْفًا بِمِائَةِ دِينَارٍ .
قَالَ : فَدَعَانِي طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ فَتَرَاوَضْنَا حَتَّى اصْطَرَفَ مِنِّي ، فَأَخَذَ الذَّهَبَ يُقَلِّبُهَا فِي يَدَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ : حَتَّى يَأْتِيَ خَازِنِي مِنْ الْغَابَةِ .
وَعُمَرُ يَسْمَعُ ذَلِكَ ، فَقَالَ : لَا وَاَللَّهِ لَا تُفَارِقْهُ حَتَّى تَأْخُذَ مِنْهُ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : الذَّهَبُ بِالْوَرِقِ رِبًا إلَّا هَاءَ وَهَاءَ ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ رِبًا إلَّا هَاءَ وَهَاءَ ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ رِبًا إلَّا هَاءَ وَهَاءَ ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ رِبًا إلَّا هَاءَ وَهَاءَ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَالْمُرَادُ بِهِ الْقَبْضُ ؛ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ ذَلِكَ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ؛ وَلِهَذَا فَسَّرَهُ عُمَرُ بِهِ ، وَلِأَنَّهُمَا مَالَانِ مِنْ أَمْوَالِ الرِّبَا عِلَّتُهُمَا وَاحِدَةٌ ، فَحَرُمَ التَّفَرُّقُ فِيهِمَا قَبْلَ الْقَبْضِ كَالذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ .
فَأَمَّا إنْ اخْتَلَفَتْ عِلَّتُهُمَا ، كَالْمَكِيلِ بِالْمَوْزُونِ عِنْدَ مَنْ يُعَلِّلُ بِهِمَا ، فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : يَجُوزُ التَّفَرُّقُ فِيهِمَا قَبْلَ الْقَبْضِ رِوَايَةً وَاحِدَةً ؛ لِأَنَّ عِلَّتَهُمَا مُخْتَلِفَةٌ ، فَجَازَ التَّفَرُّقُ قَبْلَ

الْقَبْضِ ، كَالثَّمَنِ بِالْمُثْمَنِ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ عِنْدَهُ ذَلِكَ إلَّا فِي بَيْعِ الْأَثْمَانِ بِغَيْرِهَا ، وَيَحْتَمِلُ كَلَامُ الْخِرَقِيِّ وُجُوبَ التَّقَابُضِ عَلَى كُلِّ حَالٍ ؛ لِقَوْلِهِ : { يَدًا بِيَدٍ } .

( 2805 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَمَا كَانَ مِمَّا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ فَجَائِزٌ التَّفَاضُلُ فِيهِ يَدًا بِيَدٍ ، وَلَا يَجُوزُ نَسِيئَةً ) اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي تَحْرِيمِ النَّسَاءِ فِي غَيْرِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ ، عَلَى أَرْبَعِ رِوَايَاتِ ؛ إحْدَاهُنَّ ، لَا يَحْرُمُ النَّسَاءُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، سَوَاءٌ بِيعَ بِجِنْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ ، مُتَسَاوِيًا أَوْ مُتَفَاضِلًا ، إلَّا عَلَى قَوْلِنَا : إنَّ الْعِلَّةَ الطَّعْمُ .
فَيَحْرُمُ النَّسَاءُ فِي الْمَطْعُومِ ، وَلَا يَحْرُمُ فِي غَيْرِهِ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَاخْتَارَ الْقَاضِي هَذِهِ الرِّوَايَةَ ؛ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَمَرَهُ أَنْ يُجَهِّزَ جَيْشًا ، فَنَفِدَتْ الْإِبِلُ ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ فِي قِلَاصِ الصَّدَقَةِ ، فَكَانَ يَأْخُذُ الْبَعِيرَ بِالْبَعِيرَيْنِ إلَى إبِلِ الصَّدَقَةِ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد " وَرَوَى سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ ، عَنْ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ : أَنَّ عَلِيًّا بَاعَ بَعِيرًا لَهُ يُقَالُ لَهُ : عُصَيْفِيرٌ ، بِأَرْبَعَةِ أَبْعِرَةٍ إلَى أَجَلٍ .
وَلِأَنَّهُمَا مَالَانِ لَا يَجْرِي فِيهِمَا رِبَا الْفَضْلِ ، فَجَازَ النَّسَاءُ فِيهِمَا كَالْعَرْضِ بِالدِّينَارِ ، وَلِأَنَّ النَّسَاءَ أَحَدُ نَوْعَيْ الرِّبَا ، فَلَمْ يَجُزْ فِي الْأَنْوَاعِ كُلِّهَا ، كَالنَّوْعِ الْآخَرِ .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، يَحْرُمُ النَّسَاءُ فِي كُلِّ مَالٍ بِيعَ بِجِنْسِهِ ، كَالْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ ، وَالثِّيَابِ بِالثِّيَابِ ، وَلَا يَحْرُمُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ .
وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَمِمَّنْ كَرِهَ بَيْعَ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نِسَاءً ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَيْرٍ ، وَعَطَاءٌ ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ خَالِدٍ ، وَابْنُ سِيرِينَ ، وَالثَّوْرِيُّ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَمَّارٍ ، وَابْنِ عُمَرَ ؛ لِمَا رَوَى سَمُرَةُ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً .
} قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا

حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ، وَلِأَنَّ الْجِنْسَ أَحَدُ وَصْفَيْ عِلَّةِ رِبَا الْفَضْلِ ، فَحَرُمَ النَّسَاءُ ، كَالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ .
وَالثَّالِثَةُ ، لَا يَحْرُمُ النَّسَاءُ إلَّا فِيمَا بِيعَ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا ، فَأَمَّا مَعَ التَّمَاثُلِ فَلَا ؛ لِمَا رَوَى جَابِرٌ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْحَيَوَانُ اثْنَانِ بِوَاحِدٍ لَا يَصْلُحُ نَسَاءً ، وَلَا بَأْسَ بِهِ يَدًا بِيَدٍ } ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ : { أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَرَأَيْت الرَّجُلَ يَبِيعُ الْفَرَسَ بِالْأَفْرَاسِ وَالنَّجِيبَةَ بِالْإِبِلِ ؟ فَقَالَ : لَا بَأْسَ إذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ } .
مِنْ الْمُسْنَدِ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى إبَاحَةِ النَّسَاءِ مَعَ التَّمَاثُلِ بِمَفْهُومِهِ .
وَالرَّابِعَةُ ، يَحْرُمُ النَّسَاءُ فِي كُلِّ مَالٍ بِيعَ بِمَالٍ آخَرَ ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ جِنْسِهِ أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ .
وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ الرِّوَايَةَ الثَّالِثَةَ ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ عَرْضٍ بِعَرْضِ ، فَحَرُمَ النَّسَاءُ بَيْنَهُمَا كَالْجِنْسَيْنِ مِنْ أَمْوَالِ الرِّبَا ، قَالَ الْقَاضِي : فَعَلَى هَذَا لَوْ بَاعَ عَرْضًا بِعَرْضٍ ، وَمَعَ أَحَدِهِمَا دَرَاهِمُ ، الْعُرُوض نَقْدًا وَالدَّرَاهِمُ نَسِيئَةً ، جَازَ ، وَإِنْ كَانَتْ الدَّرَاهِمُ نَقْدًا وَالْعُرُوضُ نَسِيئَةً ، لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى النَّسِيئَةِ فِي الْعُرُوضِ .
وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ ضَعِيفَةٌ جِدًّا ؛ لِأَنَّهُ إثْبَاتُ حُكْمٍ يُخَالِفُ الْأَصْلَ بِغَيْرِ نَصٍّ وَلَا إجْمَاعٍ وَلَا قِيَاسٍ صَحِيحٍ ، فَإِنَّ فِي الْمَحِلِّ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ أَوْ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ أَوْصَافًا لَهَا أَثَرٌ فِي تَحْرِيمِ الْفَضْلِ ، فَلَا يَجُوزُ حَذْفُهَا عَنْ دَرَجَةِ الِاعْتِبَارِ ، وَمَا هَذَا سَبِيلُهُ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُ الْحُكْمِ فِيهِ ، وَإِنْ لَمْ يُخَالِفْ أَصْلًا ، فَكَيْفَ يَثْبُتُ مَعَ مُخَالَفَةِ الْأَصْلِ فِي حِلِّ الْبَيْعِ ، وَأَصَحُّ الرِّوَايَاتِ هِيَ الْأُولَى ؛ لِمُوَافَقَتِهَا الْأَصْلَ .
وَالْأَحَادِيثُ الْمُخَالِفَةُ لَهَا ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ :

لَيْسَ فِيهَا حَدِيثٌ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ ، وَيُعْجِبُنِي أَنْ يَتَوَقَّاهُ .
وَذُكِرَ لَهُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ فِي هَذَا ، فَقَالَ : هُمَا مُرْسَلَانِ .
وَحَدِيثُ سَمُرَةَ يَرْوِيهِ الْحَسَنُ عَنْ سَمُرَةَ ، قَالَ الْأَثْرَمُ ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : لَا يَصِحُّ سَمَاعُ الْحَسَنِ مِنْ سَمُرَةَ .
وَحَدِيثُ جَابِرٍ ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : هَذَا حَجَّاجٌ زَادَ فِيهِ : " نَسَاءً " ، وَلَيْثُ بْنُ سَعْدٍ سَمِعَهُ مِنْ أَبِي الزُّبَيْرِ ، وَلَا يَذْكُرُ فِيهِ : " نِسَاءً " ، وَحَجَّاجٌ هَذَا هُوَ حَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ ، قَالَ يَعْقُوبُ بْنُ شَيْبَةَ : هُوَ وَاهِي الْحَدِيثِ ، وَهُوَ صَدُوقٌ .
وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الْمَبِيعَيْنِ مِمَّا لَا رِبَا فِيهِ ، وَالْآخَرُ فِيهِ رِبَا كَالْمَكِيلِ بِالْمَعْدُودِ ، فَفِيهِمَا رِوَايَتَانِ ، إحْدَاهُمَا : يَحْرُمُ النَّسَاءُ فِيهِمَا .
وَالثَّانِيَةُ : لَا يَحْرُمُ ، كَمَا لَوْ بَاعَ مَعْدُودًا بِمَعْدُودٍ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ .

مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَلَا يُبَاعُ شَيْءٌ مِنْ الرَّطْبِ بِيَابِسِ مِنْ جِنْسِهِ إلَّا الْعَرَايَا ) أَرَادَ الرَّطْبَ مِمَّا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا ، كَالرُّطَبِ بِالتَّمْرِ ، وَالْعِنَبِ بِالزَّبِيبِ ، وَاللَّبَنِ بِالْجُبْنِ ، وَالْحِنْطَةِ الْمَبْلُولَةِ أَوْ الرَّطْبَةِ بِالْيَابِسَةِ ، أَوْ الْمَقْلِيَّةِ بِالنِّيئَةِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ .
وَبِهِ قَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَاللَّيْثُ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : جُمْهُورُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ بَيْعَ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ لَا يَجُوزُ بِحَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو ، إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِهِ ، فَيَجُوزُ ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { التَّمْرُ بِالتَّمْرِ مِثْلًا بِمِثْلٍ } .
أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ ، فَيَجُوزُ ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ } .
وَلَنَا ، قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { لَا تَبِيعُوا التَّمْرَ بِالتَّمْرِ } .
وَفِي لَفْظٍ ، { نَهَى عَنْ بَيْعِ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ ، وَرَخَّصَ فِي الْعَرِيَّةِ أَنْ تُبَاعَ بِخَرْصِهَا يَأْكُلُهَا أَهْلُهَا رُطَبًا } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَعَنْ سَعْدٍ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { سُئِلَ عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ فَقَالَ : أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إذَا يَبِسَ قَالُوا : نَعَمْ .
فَنَهَى عَنْ ذَلِكَ .
} .
رَوَاهُ مَالِكٌ ، وَأَبُو دَاوُد ، وَالْأَثْرَمُ ، وَابْنُ مَاجَهْ .
وَلَفْظُ رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ ، قَالَ : { فَلَا إذَنْ } .
نَهَى وَعَلَّلَ بِأَنَّهُ يَنْقُصُ إذَا يَبِسَ .
وَرَوَى مَالِكٌ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ الْمُزَابَنَةِ } .
وَالْمُزَابَنَةُ بَيْعُ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ كَيْلًا ، وَبَيْعُ الْعِنَبِ بِالزَّبِيبِ كَيْلًا ؛ وَلِأَنَّهُ جِنْسٌ فِيهِ الرِّبَا بِيعَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ عَلَى وَجْهٍ يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِالنُّقْصَانِ ، فَلَمْ يَجُزْ ، كَبَيْعِ

الْمَقْلِيَّةِ بِالنِّيئَةِ ، وَلَا يَلْزَمُ الْحَدِيثُ بِالْعَتِيقِ ؛ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ يَسِيرٌ .
قَالَ الْخَطَّابِيُّ : وَقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُ النَّاسِ فِي إسْنَادِ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فِي بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ .
وَقَالَ : زَيْدٌ أَبُو عَيَّاشٍ رَاوِيهِ ضَعِيفٌ .
وَلَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى مَا تَوَهَّمَهُ ، وَأَبُو عَيَّاشٍ مَوْلَى بَنِي زُهْرَةَ مَعْرُوفٌ ، وَقَدْ ذَكَرَهُ مَالِكٌ فِي " الْمُوَطَّأِ " ، وَهُوَ لَا يَرْوِي عَنْ مَتْرُوكِ الْحَدِيثِ .

( 2807 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا بَيْعُ الرُّطَبِ بِالرُّطَبِ ، وَالْعِنَبِ بِالْعِنَبِ وَنَحْوِهِ مِنْ الرُّطَبِ بِمِثْلِهِ ، فَيَجُوزُ مَعَ التَّمَاثُلِ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَمَنَعَ مِنْهُ الشَّافِعِيُّ فِيمَا يَيْبَسُ .
أَمَّا مَا لَا يَيْبَسُ كَالْقِثَّاءِ ، وَالْخِيَارِ ، وَنَحْوِهِ ، فَعَلَى قَوْلَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ تَسَاوِيهِمَا حَالَةَ الِادِّخَارِ ، فَأَشْبَهَ الرُّطَبَ بِالتَّمْرِ .
وَذَهَبَ أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا إلَى هَذَا ، وَحَمَلَ كَلَامَ الْخِرَقِيِّ عَلَيْهِ ؛ لِقَوْلِهِ فِي اللَّحْمِ : لَا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ رَطْبًا ، وَيَجُوزُ إذَا تَنَاهَى جَفَافُهُ مِثْلًا بِمِثْلٍ .
وَمَفْهُومُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ هَاهُنَا : إبَاحَةُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مَفْهُومَ نَهْيِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ بَيْعِ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ إبَاحَةُ بَيْعِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمِثْلِهِ ، وَلِأَنَّهُمَا تَسَاوَيَا فِي الْحَالِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِالنُّقْصَانِ ، فَجَازَ ، كَبَيْعِ اللَّبَنِ بِاللَّبَنِ ، وَالتَّمْرِ بِالتَّمْرِ ، وَلِأَنَّ قَوْله تَعَالَى : { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ } عَامٌ خَرَجَ مِنْهُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ ، وَهُوَ بَيْعُ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ ، وَلَيْسَ هَذَا فِي مَعْنَاهُ ، فَبَقِيَ عَلَى الْعُمُومِ ، وَمَا ذَكَرَهُ لَا يَصِحُّ ، فَإِنَّ التَّفَاوُتَ كَثِيرٌ ، وَيَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِالنُّقْصَانِ ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا .
وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ الْحَدِيثِ بِالْعَتِيقِ ؛ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ فِي ذَلِكَ يَسِيرٌ ، وَلَا يُمْكِنُ ضَبْطُهُ ، فَعُفِيَ عَنْهُ .

( 2808 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَلَا يُبَاعُ مَا أَصْلُهُ الْكَيْلُ بِشَيْءٍ مِنْ جِنْسِهِ وَزْنًا ، وَلَا مَا أَصْلُهُ الْوَزْنُ كَيْلًا ) لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي وُجُوبِ الْمُمَاثَلَةِ فِي بَيْعِ الْأَمْوَالِ الَّتِي يَحْرُمُ التَّفَاضُلُ فِيهَا ، وَأَنَّ الْمُسَاوَاةَ الْمَرْعِيَّةَ هِيَ الْمُسَاوَاةُ فِي الْمَكِيلِ كَيْلًا وَفِي الْمَوْزُونِ وَزْنًا ، وَمَتَى تَحَقَّقَتْ هَذِهِ الْمُسَاوَاةُ ، لَمْ يَضُرَّ اخْتِلَافُهُمَا فِيمَا سِوَاهَا .
وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ ، لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ ، وَإِنْ تَسَاوَيَا فِي غَيْرِهَا ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَجُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، لَا نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَهُمْ إلَّا مَالِكًا قَالَ : يَجُوزُ بَيْعُ الْمَوْزُونَاتِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ جُزَافًا .
وَلَنَا ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَزْنًا بِوَزْنٍ ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ وَزْنًا بِوَزْنٍ ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ كَيْلًا بِكَيْلٍ ، وَالشَّعِيرِ بِالشَّعِيرِ كَيْلًا بِكَيْلٍ } .
رَوَاهُ الْأَثْرَمُ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَلَفْظُهُ { : الْبُرُّ بِالْبُرِّ مُدْيٌ بِمُدْيٍ ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ مُدْيٌ بِمُدْيٍ ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ مُدْيٌ بِمُدْيٍ ، فَمَنْ زَادَ أَوْ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى } .
فَأَمَرَ بِالْمُسَاوَاةِ فِي الْمَوْزُونَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْوَزْنِ ، كَمَا أَمَرَ بِالْمُسَاوَاةِ فِي الْمَكِيلَاتِ فِي الْكَيْلِ ، وَمَا عَدَا الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ مِنْ الْمَوْزُونَاتِ مَقِيسٌ عَلَيْهِمَا وَمُشَبَّهٌ بِهِمَا ؛ وَلِأَنَّهُ جِنْسٌ يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ جُزَافًا كَالْمَكِيلِ ، وَلِأَنَّهُ مَوْزُونٌ مِنْ أَمْوَالِ الرِّبَا ، فَأَشْبَهَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ، وَلِأَنَّ حَقِيقَةَ الْفَضْلِ مُبْطِلَةٌ لِلْبَيْعِ ، وَلَا نَعْلَمُ عَدَمَ ذَلِكَ إلَّا بِالْوَزْنِ ، فَوَجَبَ ذَلِكَ ، كَمَا فِي الْمَكِيلِ وَالْأَثْمَانِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَكِيلِ بِالْمَكِيلِ وَزْنًا ، وَلَا بَيْعُ الْمَوْزُونِ بِالْمَوْزُونِ كَيْلًا ؛ لِأَنَّ التَّمَاثُلَ فِي الْكَيْلِ

مُشْتَرَطٌ فِي الْمَكِيلِ ، وَفِي الْوَزْنِ فِي الْمَوْزُونِ ، فَمَتَى بَاعَ رِطْلًا مِنْ الْمَكِيلِ بِرِطْلٍ حَصَلَ فِي الرِّطْلِ مِنْ الْخَفِيفِ أَكْثَرُ مِمَّا يَحْصُلُ مِنْ الثَّقِيلِ ، فَيَخْتَلِفَانِ فِي الْكَيْلِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْفَضْلَ ، لَكِنْ يَجْهَلُ التَّسَاوِي ، فَلَا يَصِحُّ ، كَمَا لَوْ بَاعَ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ جُزَافًا ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ الْمَوْزُونَ بِالْمَوْزُونِ بِالْكَيْلِ ، فَلَا يَتَحَقَّقُ التَّمَاثُلُ فِي الْوَزْنِ ، فَلَمْ يَصِحَّ ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَكِيلِ .

( 2809 ) فَصْلٌ : وَلَوْ بَاعَ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ جُزَافًا أَوْ كَانَ جُزَافًا مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ ، لَمْ يَجُزْ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ إذَا كَانَا مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ ؛ وَذَلِكَ لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ ، عَنْ جَابِرٍ ، قَالَ : { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الصُّبْرَةِ مِنْ التَّمْرِ ، لَا يُعْلَمُ مَكِيلُهَا ، بِالْكَيْلِ الْمُسَمَّى مِنْ التَّمْرِ } .
وَفِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَزْنًا بِوَزْنٍ } إلَى تَمَامِ الْحَدِيثِ ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ إلَّا كَذَلِكَ ، وَلِأَنَّ التَّمَاثُلَ شَرْطٌ ، وَالْجَهْلُ بِهِ يُبْطِلُ الْبَيْعَ ، كَحَقِيقَةِ التَّفَاضُلِ ( 2810 ) فَصْلٌ : وَمَا لَا يُشْتَرَطُ التَّمَاثُلُ فِيهِ كَالْجِنْسَيْنِ ، وَمَا لَا رِبَا فِيهِ ، يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ كَيْلًا وَوَزْنًا وَجُزَافًا ، وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ ؛ لِتَخْصِيصِهِ مَا يُكَالُ بِمَنْعِ بَيْعِهِ بِشَيْءِ مِنْ جِنْسِهِ وَزْنًا ، وَمَا يُوزَنُ بِمَنْعِ بَيْعِهِ مِنْ جِنْسِهِ كَيْلًا .
وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ بَيْعَ الصُّبْرَةِ مِنْ الطَّعَامِ بِالصُّبْرَةِ ، لَا يُدْرَى كَمْ كَيْلُ هَذِهِ ، وَلَا كَيْلُ هَذِهِ ، مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ ، غَيْرُ جَائِزٍ ، وَلَا بَأْسَ بِهِ مِنْ صِنْفَيْنِ ؛ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { فَإِذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ } .
وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا إلَى مَنْعِ بَيْعِ الْمَكِيلِ بِالْمَكِيلِ جُزَافًا ، وَبَيْعِ الْمَوْزُونِ بِالْمَوْزُونِ جُزَافًا .
وَقَالَ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ : أَكْرَهُ ذَلِكَ .
قَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى : لَا خَيْرَ فِيمَا يُكَالُ بِمَا يُكَالُ جُزَافًا ، وَلَا فِيمَا يُوزَنُ بِمَا يُوزَنُ جُزَافًا ، اتَّفَقَتْ الْأَجْنَاسُ أَوْ اخْتَلَفَتْ ، وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ الْمَكِيلِ بِالْمَوْزُونِ جُزَافًا ، وَقَالَ ذَلِكَ الْقَاضِي وَالشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ

النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ مُجَازَفَةً } .
وَلِأَنَّهُ بَيْعُ مَكِيلٍ بِمَكِيلٍ ، أَشْبَهَ الْجِنْسَ الْوَاحِدَ .
وَلَنَا ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ } .
وَلِأَنَّ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى { : وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ } .
عَامٌ خَصَّصْنَاهُ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ الَّذِي يَجِبُ التَّمَاثُلُ فِيهِ ، فَفِيمَا عَدَاهُ يَجِبُ الْبَقَاءُ عَلَى الْعُمُومِ ، وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ التَّفَاضُلُ فِيهِ ، فَجَازَ جُزَافًا مِنْ الطَّرَفَيْنِ كَالْمَكِيلِ بِالْمَوْزُونِ ، يُحَقِّقُهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ حَقِيقَةُ الْفَضْلِ لَا يَمْنَعُ ، فَاحْتِمَالُهُ أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ مَانِعًا ، وَحَدِيثُهُمْ أَرَادَ بِهِ الْجِنْسَ الْوَاحِدَ ؛ وَلِهَذَا جَاءَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ : { نَهَى أَنْ تُبَاعَ الصُّبْرَةُ لَا يُعْلَمُ مَكِيلُهَا مِنْ التَّمْرِ ، بِالصُّبْرَةِ لَا يُعْلَمُ مَكِيلُهَا مِنْ التَّمْرِ } .
ثُمَّ هُوَ مَخْصُوصٌ بِالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ ، فَنَقِيسُ عَلَيْهِ مَحِلَّ النِّزَاعِ ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ الْقِيَاسِ غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ الْمَكِيلَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ ، يَجِبُ التَّمَاثُلُ فِيهِ ، فَمُنِعَ مِنْ بَيْعِهِ مُجَازَفَةً ؛ لِفَوَاتِ الْمُمَاثَلَةِ الْمَشْرُوطَةِ ، وَفِي الْجِنْسَيْنِ لَا يُشْتَرَطُ التَّمَاثُلُ ، وَلَا يُمْنَعُ حَقِيقَةُ التَّفَاضُلِ ، فَاحْتِمَالُهُ أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ مَانِعًا .
( 2811 ) فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ : بِعْتُك هَذِهِ الصُّبْرَةَ بِهَذِهِ الصُّبْرَةِ .
وَهُمَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ ، وَلَا يَعْلَمَانِ كَيْلَهُمَا ، لَمْ يَصِحَّ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا .
وَإِنْ عَلِمَا كَيْلَهُمَا وَتُسَاوِيهِمَا ، صَحَّ الْبَيْعُ ؛ لِوُجُودِ التَّمَاثُلِ الْمُشْتَرَطِ .
وَإِنْ قَالَ : بِعْتُك هَذِهِ الصُّبْرَةَ بِهَذِهِ الصُّبْرَةِ ، مِثْلًا بِمِثْلٍ .
فَكِيلَتَا فَكَانَتَا سَوَاءٌ ، صَحَّ الْبَيْعُ ، وَإِلَّا فَلَا .
وَإِنْ بَاعَ صُبْرَةً بِصُبْرَةٍ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا ، صَحَّ عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُ بَيْعَ الْمَكِيلِ بِالْمَكِيلِ جُزَافًا .
وَإِنْ قَالَ : بِعْتُك هَذِهِ

الصُّبْرَةَ بِهَذِهِ ، مِثْلًا بِمِثْلٍ .
فَكِيلَتَا فَكَانَتَا سَوَاءً ، صَحَّ الْبَيْعُ ، وَإِنْ زَادَتْ إحْدَاهُمَا فَرَضِيَ صَاحِبُ النَّاقِصَةِ بِهَا مَعَ نَقْصِهَا ، أَوْ رَضِيَ صَاحِبُ الزَّائِدَةِ بِرَدِّ الْفَضْلِ عَلَى صَاحِبِهِ ، جَازَ ، وَإِنْ امْتَنَعَا فُسِخَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا .
ذَكَرَ هَذَا الْفَصْلَ الْقَاضِي ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .

( 2812 ) فَصْلٌ : وَيَجُوزُ قَسْمُ الْمَكِيلِ وَزْنًا ، وَقَسْمُ الْمَوْزُونِ كَيْلًا ، وَقَسْمُ الثِّمَارِ خَرْصًا ، وَقَسْمُ مَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ إفْرَازُ حَقٍّ ، وَلَيْسَتْ بَيْعًا .
وَنُقِلَ عَنْ ابْنِ بَطَّةَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا بَيْعٌ ، فَيَثْبُتُ فِيهَا أَحْكَامُ الْبَيْعِ ، وَيُمْنَعُ فِيهَا مَا ذَكَرْنَاهُ ؛ لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ ذَلِكَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا ، فَإِذَا تَعَيَّنَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقٌّ ، فَقَدْ اشْتَرَى نَصِيبَ شَرِيكِهِ مِمَّا تَعَيَّنَ لَهُ بِنَصِيبِهِ فِيمَا تَعَيَّنَ لِشَرِيكِهِ .
وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ ، كَالْمَذْهَبَيْنِ .
وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا إفْرَازُ حَقٍّ ؛ بِدَلِيلِ اعْتِبَارِ تَعْدِيلِ السِّهَامِ ، وَدُخُولِ الْقُرْعَةِ فِيهَا ، وَلُزُومِهَا بِهَا ، وَالْإِجْبَارِ عَلَيْهَا ، وَأَنَّهَا لَا تَفْتَقِرُ إلَى لَفْظِ بَيْعٍ وَلَا تَمْلِيكٍ ، وَلَا يَدْخُلُهَا خِيَارٌ ، وَلَا تَجُوزُ إلَّا بِقَدْرِ الْحَقَّيْنِ ، وَلَا يَثْبُتُ فِيهَا شُفْعَةٌ ، وَتَخْتَصُّ بِاسْمٍ .
وَتَغَايُرُ الْأَحْكَامِ وَالْأَسْمَاءِ دَلِيلٌ عَلَى اخْتِلَافِهِمَا .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّهُ قَالَ : قَسَمَتْ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ الْغَنَائِمَ بالحجف .
وَذَلِكَ كَيْلُ الْأَثْمَانِ بِمَحْضَرٍ مِنْ جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ مِنْهُمْ ، وَانْتَشَرَ فِي بَقِيَّتِهِمْ فَلَمْ يُنْكَرْ ، فَصَارَ إجْمَاعًا عَلَى مَا قُلْنَاهُ .

( 2813 ) فَصْلٌ : فِي مَعْرِفَةِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ ، وَالْمَرْجِعُ فِي ذَلِكَ إلَى الْعُرْفِ بِالْحِجَازِ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي كُلِّ بَلَدٍ بِعَادَتِهِ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْمِكْيَالُ مِكْيَالُ الْمَدِينَةِ ، وَالْمِيزَانُ مِيزَانُ مَكَّةَ } .
وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا يُحْمَلُ كَلَامُهُ عَلَى بَيَانِ الْأَحْكَامِ ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ مَكِيلًا بِالْحِجَازِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْصَرَفَ التَّحْرِيمُ فِي تَفَاضُلِ الْكَيْلِ إلَيْهِ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَغَيَّرَ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَهَكَذَا الْمَوْزُونُ ، وَمَا لَا عُرْفَ لَهُ بِالْحِجَازِ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا ، يُرَدُّ إلَى أَقْرَبِ الْأَشْيَاءِ شَبَهًا بِهِ بِالْحِجَازِ ، كَمَا أَنَّ الْحَوَادِثَ تُرَدُّ إلَى أَشْبَهِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ بِهَا ، وَهُوَ الْقِيَاسُ .
وَالثَّانِي ، يُعْتَبَرُ عُرْفُهُ فِي مَوْضِعِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الشَّرْعِ حَدٌّ كَانَ الْمَرْجِعُ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ ، كَالْقَبْضِ ، وَالْإِحْرَازِ ، وَالتَّفَرُّقِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَعَلَى هَذَا إنْ اخْتَلَفَتْ الْبِلَادُ ، فَالِاعْتِبَارُ بِالْغَالِبِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ غَالِبٌ بَطَلَ هَذَا الْوَجْهُ ، وَتَعَيَّنَ الْأَوَّلُ .
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ ، فَالْبُرُّ ، وَالشَّعِيرُ مَكِيلَانِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِمَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْبُرُّ بِالْبُرِّ كَيْلًا بِكَيْلٍ ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ كَيْلًا بِكَيْلٍ .
} وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْحُبُوبِ ، وَالْأَبَازِيرِ ، وَالْأُشْنَانِ ، وَالْجِصِّ ، وَالنُّورَةِ ، وَمَا أَشْبَهَهَا .
وَالتَّمْرُ مَكِيلٌ ، وَهُوَ مِنْ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ تَمْرِ النَّخْلِ مِنْ الرُّطَبِ وَالْبُسْرِ وَغَيْرِهِمَا ، وَسَائِرُ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ مِنْ الثِّمَارِ ، مِثْلِ الزَّبِيبِ ،

وَالْفُسْتُقِ ، وَالْبُنْدُقِ ، وَالْعُنَّابِ ، وَالْمِشْمِشِ ، وَالْبُطْمِ ، وَالزَّيْتُونِ ، وَاللَّوْزِ .
وَالْمِلْحُ مَكِيلٌ ، وَهُوَ مِنْ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { الْمِلْحُ بِالْمِلْحِ مُدْيٌ بِمُدْيٍ } .
وَالذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ مَوْزُونَانِ .
ثَبَتَ ذَلِكَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَزْنًا بِوَزْنٍ ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ وَزْنًا بِوَزْنٍ } وَكَذَلِكَ مَا أَشْبَهَهُمَا مِنْ جَوَاهِرِ الْأَرْضِ كَالْحَدِيدِ ، وَالنُّحَاسِ ، وَالصُّفْرِ ، وَالرَّصَاصِ ، وَالزُّجَاجِ ، وَالزِّئْبَقِ .
وَمِنْهُ الْإِبْرَيْسَمُ ، وَالْقُطْنُ ، وَالْكَتَّانُ ، وَالصُّوفُ ، وَغَزْلُ ذَلِكَ ، وَمَا أَشْبَهَهُ .
وَمِنْهُ الْخُبْزُ ، وَاللَّحْمُ ، وَالشَّحْمُ ، وَالْجُبْنُ ، وَالزُّبْدُ ، وَالشَّمْعُ ، وَمَا أَشْبَهَهُ ، وَكَذَلِكَ الزَّعْفَرَانُ ، وَالْعُصْفُرُ ، وَالْوَرْسُ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ .
( 2814 ) فَصْلٌ : وَالدَّقِيقُ وَالسَّوِيقُ مَكِيلَانِ ؛ لِأَنَّ أَصْلَهُمَا مَكِيلٌ ، وَلَمْ يُوجَدْ مَا يَنْقُلُهُمَا عَنْهُ ، وَلِأَنَّهُمَا يُشْبِهَانِ مَا يُكَالُ ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي الدَّقِيقِ ، أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ بِالْوَزْنِ ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ مَكِيلًا وَهُوَ مَوْزُونٌ ، كَالْخُبْزِ .
وَلَنَا ، مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَلِأَنَّهُ يُقَدَّرُ بِالصَّاعِ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُخْرَجُ فِي الْفِطْرَةِ صَاعٌ مِنْ دَقِيقٍ ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ .
وَالصَّاعُ إنَّمَا يُقَدَّرُ بِهِ الْمَكِيلَاتُ ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْأَقِطُ مَكِيلًا ؛ لِأَنَّ فِي حَدِيثِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ : { صَاعٌ مِنْ أَقِطٍ } .
( 2815 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا اللَّبَنُ ، وَغَيْرُهُ مِنْ الْمَائِعَاتِ ، كَالْأَدْهَانِ مِنْ الزَّيْتِ ، وَالشَّيْرَجِ ، وَالْعَسَلِ ، وَالْخَلِّ ، وَالدِّبْسِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا مَكِيلَةٌ .
قَالَ الْقَاضِي فِي الْأَدْهَانِ : هِيَ مَكِيلَةٌ .
وَفِي اللَّبَنِ : يَصِحُّ السَّلَمُ فِيهِ كَيْلًا .
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : لَا يُبَاعُ اللَّبَنُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ إلَّا كَيْلًا .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ

السَّلَفِ فِي اللَّبَنِ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ كَيْلًا ، أَوْ وَزْنًا .
وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَاءَ مُقَدَّرٌ بِالصَّاعِ ، وَلِذَلِكَ { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ ، وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ ، وَيَغْتَسِلُ هُوَ وَبَعْضُ نِسَائِهِ مِنْ الْفَرَقِ } .
وَهَذِهِ مَكَايِيلُ قُدِّرَ بِهَا الْمَاءُ ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمَائِعَاتِ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا فِي ضُرُوعِ الْأَنْعَامِ إلَّا بِالْكَيْلِ .
} رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
وَأَمَّا غَيْرُ الْمَكِيلِ ، وَالْمَوْزُونِ ، فَمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ بِالْحِجَازِ فِي كَيْلٍ وَلَا وَزْنٍ ، وَلَا يُشْبِهُ مَا جَرَى فِيهِ الْعُرْفُ بِذَلِكَ ، كَالثِّيَابِ ، وَالْحَيَوَانِ ، وَالْمَعْدُودَاتِ مِنْ الْجَوْزِ ، وَالْبَيْضِ ، وَالرُّمَّانِ ، وَالْقِثَّاءِ ، وَالْخِيَارِ ، وَسَائِرِ الْخَضْرَاوَاتِ ، وَالْبُقُولِ ، وَالسَّفَرْجَلِ ، وَالتُّفَّاحِ ، وَالْكُمَّثْرَى ، وَالْخَوْخِ ، وَنَحْوِهَا ، فَهَذِهِ الْمَعْدُودَاتُ إذَا اعْتَبَرْنَا التَّمَاثُلَ فِيهَا ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ التَّمَاثُلُ فِي الْوَزْنِ ؛ لِأَنَّهُ أَخْصَرُ .
ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي الْفَوَاكِهِ الرَّطْبَةِ ، وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ، وَالْآخَرُ ، قَالُوا : يُعْتَبَرُ مَا أَمْكَنَ كَيْلُهُ بِالْكَيْلِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْأَعْيَانُ الْأَرْبَعَةُ ، وَهِيَ مَكِيلَةٌ ، وَمِنْ شَأْنِ الْفَرْعِ أَنْ يُرَدَّ إلَى أَصْلِهِ .
بِحُكْمِهِ ، وَالْأَصْلُ حُكْمُهُ تَحْرِيمُ التَّفَاضُلِ بِالْكَيْلِ ، فَكَذَلِكَ يَكُونُ حُكْمُ فُرُوعِهَا .
وَلَنَا ، أَنَّ الْوَزْنَ أَخْصَرُ ، فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ فِي غَيْرِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ ، كَاَلَّذِي لَا يُمْكِنُ كَيْلُهُ ، وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَ الْكَيْلُ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ يُقَدَّرُ بِهِ فِي الْعَادَةِ ، وَهَذَا بِخِلَافِهِ .

( 2816 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَالتُّمُورُ كُلُّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ أَنْوَاعُهَا ) الْجِنْسُ : هُوَ الشَّامِلُ لِأَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةٍ بِأَنْوَاعِهَا .
وَالنَّوْعُ : الشَّامِلُ لِأَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةٍ بِأَشْخَاصِهَا .
وَقَدْ يَكُونُ النَّوْعُ جِنْسًا بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا تَحْتَهُ ، نَوْعًا بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا فَوْقَهُ ، وَالْمُرَادُ هُنَا ؛ الْجِنْسُ الْأَخَصُّ ، وَالنَّوْعُ الْأَخَصُّ .
فَكُلُّ نَوْعَيْنِ اجْتَمَعَا فِي اسْمٍ خَاصٍّ ، فَهُمَا جِنْسٌ ، كَأَنْوَاعِ التَّمْرِ ، وَأَنْوَاعِ الْحِنْطَةِ .
فَالتُّمُورُ كُلُّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ الْخَاصَّ يَجْمَعُهَا ، وَهُوَ التَّمْرُ ، وَإِنْ كَثُرَتْ أَنْوَاعُهُ ، كَالْبَرْنِيِّ ، وَالْمَعْقِلِيِّ ، وَالْإِبْرَاهِيمِيّ ، والخاستوي ، وَغَيْرِهَا .
وَكُلُّ شَيْئَيْنِ اتَّفَقَا فِي الْجِنْسِ ثَبَتَ فِيهِمَا حُكْمُ الشَّرْعِ بِتَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ الْأَنْوَاعُ .
لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { التَّمْرُ بِالتَّمْرِ مِثْلًا بِمِثْلٍ ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ مِثْلًا بِمِثْلٍ } .
الْحَدِيثُ بِتَمَامِهِ .
فَاعْتَبَرَ الْمُسَاوَاةَ فِي جِنْسِ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ ، وَالْبُرِّ بِالْبُرِّ ، ثُمَّ قَالَ : { فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ } .
وَفِي لَفْظٍ { : فَإِذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ } .
وَفِي لَفْظٍ : { إلَّا مَا اخْتَلَفَتْ أَلْوَانُهُ } .
وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلِمْنَاهُ فِي وُجُوبِ الْمُسَاوَاةِ فِي التَّمْرِ بِالتَّمْرِ ، وَسَائِرِ مَا ذُكِرَ فِي الْخَبَرِ ، مَعَ اتِّفَاقِ الْأَنْوَاعِ ، وَاخْتِلَافِهَا .

( 2817 ) فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِكَانِ فِي الِاسْمِ الْخَاصِّ مِنْ أَصْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ ، فَهُمَا جِنْسَانِ ؛ كَالْأَدِقَّةِ ، وَالْأَخْبَازِ ، وَالْخُلُولِ ، وَالْأَدْهَانِ ، وَعَصِيرِ الْأَشْيَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ ، كُلُّهَا أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ بِاخْتِلَافِ أُصُولِهَا .
وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّ خَلَّ التَّمْرِ ، وَخَلَّ الْعِنَبِ ، جِنْسٌ .
وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ الْخَاصَّ يَجْمَعُهُمَا .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا جِنْسَانِ ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَصْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ ، فَكَانَا جِنْسَيْنِ ، كَدَقِيقِ الْحِنْطَةِ ، وَدَقِيقِ الشَّعِيرِ .
وَمَا ذُكِرَ لِلرِّوَايَةِ الْأُخْرَى مُنْتَقِضٌ بِسَائِرِ فُرُوعِ الْأُصُولِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا .
وَكُلُّ نَوْعٍ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلِهِ ، فَإِذَا كَانَ شَيْئَانِ مِنْ أَصْلَيْنِ فَهُمَا جِنْسَانِ ، فَزَيْتُ الزَّيْتُونِ ، وَزَيْتُ الْبُطْمِ ، وَزَيْتُ الْفُجْلِ ، أَجْنَاسٌ .
وَدُهْنُ السَّمَكِ وَالشَّيْرَجِ ، وَدُهْنُ الْجَوْزِ ، وَدُهْنُ اللَّوْزِ وَالْبِزْرِ أَجْنَاسٌ .
وَعَسَلُ النَّحْلِ ، وَعَسَلُ الْقَصَبِ ، جِنْسَانِ .
وَتَمْرُ النَّخْلِ ، وَتَمْرُ الْهِنْدِ جِنْسَانِ .
وَكُلُّ شَيْئَيْنِ أَصْلُهُمَا وَاحِدٌ فَهُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ مَقَاصِدُهُمَا ؛ فَدُهْنُ الْوَرْدِ ، وَالْبَنَفْسَجِ ، وَالزِّئْبَقِ ، وَدُهْنُ الْيَاسَمِينِ ، إذَا كَانَتْ مِنْ دُهْنٍ وَاحِدٍ ، فَهِيَ جِنْسٌ وَاحِدٌ .
وَهَذَا الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ، وَلَهُ قَوْلٌ آخَرُ : لَا يَجْرِي الرِّبَا فِيهَا ؛ لِأَنَّهَا لَا تُقْصَدُ لِلْأَكْلِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : هِيَ أَجْنَاسٌ ؛ لِأَنَّ مَقَاصِدَهَا مُخْتَلِفَةٌ .
وَلَنَا ، أَنَّهَا كُلَّهَا شَيْرَجٌ ، وَإِنَّمَا طُيِّبَتْ بِهَذِهِ الرَّيَاحِينِ ، فَنُسِبَتْ إلَيْهَا ، فَلَمْ تَصِرْ أَجْنَاسًا ، كَمَا لَوْ طُيِّبَ سَائِرُ أَنْوَاعِ الْأَجْنَاسِ .
وَقَوْلُهُمْ : لَا تُقْصَدُ الرَّيَاحِينُ لِلْأَكْلِ .
قُلْنَا : هِيَ صَالِحَةٌ لِلْأَكْلِ ، وَإِنَّمَا تُعَدُّ لِمَا هُوَ أَعْلَى مِنْهُ ، فَلَا تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا مَأْكُولَةً بِصَلَاحِهَا لِغَيْرِهِ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّهَا أَجْنَاسٌ .
لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ أَصْلٍ

وَاحِدٍ ، وَيَشْمَلُهَا اسْمٌ وَاحِدٌ ، فَكَانَتْ جِنْسًا ، كَأَنْوَاعِ التَّمْرِ ، وَالْحِنْطَةِ .
( 2818 ) فَصْلٌ : وَقَدْ يَكُونُ الْجِنْسُ الْوَاحِدُ مُشْتَمِلًا عَلَى جِنْسَيْنِ ، كَالتَّمْرِ ، يَشْتَمِلُ عَلَى النَّوَى وَغَيْرِهِ ، وَهُمَا جِنْسَانِ ، وَاللَّبَنُ ، يَشْتَمِلُ عَلَى الْمَخِيضِ وَالزُّبْدِ ، وَهُمَا جِنْسَانِ ، فَمَا دَامَا مُتَّصِلَيْنِ اتِّصَالَ الْخِلْقَةِ فَهُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ ، فَإِذَا مُيِّزَ أَحَدُهُمَا مِنْ الْآخَرِ ، صَارَا جِنْسَيْنِ ، حُكْمُهُمَا حُكْمُ الْجِنْسَيْنِ الْأَصْلِيَّيْنِ .

( 2819 ) فَصْلٌ : فِي بَيْعُ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ وَفُرُوعِهِ ، يَجُوزُ بَيْعُ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ كَيْلًا بِكَيْلٍ بِغَيْرِ خِلَافٍ ، وَسَوَاءٌ تُسَاوَيَا فِي الْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ ، وَفِي كَوْنِهِمَا يَنْكَبِسَانِ فِي الْمِكْيَالِ ، أَوْ اخْتَلَفَا فِي ذَلِكَ ، قِيلَ لِأَحْمَدَ : صَاعُ تَمْرٍ بِصَاعِ تَمْرٍ ، وَأَحَدُ التَّمْرَيْنِ يَدْخُلُ فِي الْمِكْيَالِ مِنْهُ أَكْثَرُ ؟ فَقَالَ : إنَّمَا هُوَ صَاعٌ بِصَاعٍ .
وَذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { التَّمْرُ بِالتَّمْرِ مُدْيٌ بِمُدْيٍ ثُمَّ قَالَ : مَنْ زَادَ ، أَوْ ازْدَادَ ، فَقَدْ أَرْبَى } .
فَإِنْ كَانَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَوَاهُ ، جَازَ بَيْعُهُ مُتَسَاوِيًا بِغَيْرِ خِلَافٍ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَلِمَ أَنَّ التَّمْرَ يَكُونُ فِيهِ النَّوَى .
وَإِنْ نُزِعَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَوَاهُ ، جَازَ أَيْضًا .
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : لَا يَجُوزُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَتَسَاوَيَا فِي حَالِ الْكَمَالِ .
وَلِأَنَّهُ يَتَجَافَى فِي الْمِكْيَالِ .
وَلَنَا ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { التَّمْرُ بِالتَّمْرِ مُدْيٌ بِمُدْيٍ } .
وَلِأَنَّهُمَا تَسَاوَيَا فِي الْحَالِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِالنُّقْصَانِ ، فَجَازَ ، كَمَا لَوْ كَانَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَوَاهُ .
وَيَجُوزُ بَيْعُ النَّوَى بِالنَّوَى كَيْلًا لِذَلِكَ .
وَإِذَا بَاعَ تَمْرًا مَنْزُوعَ النَّوَى بِتَمْرٍ نَوَاهُ فِيهِ ، لَمْ يَجُزْ ؛ لِاشْتِمَالِ أَحَدِهِمَا عَلَى مَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ دُونَ الْآخَرِ .
وَإِنْ نَزَعَ النَّوَى ، ثُمَّ بَاعَ النَّوَى وَالتَّمْرَ بِنَوًى وَتَمْرٍ ، لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ زَالَتْ التَّبَعِيَّةُ بِنَزْعِهِ ، فَصَارَ كَبَيْعِ تَمْرٍ وَحِنْطَةٍ بِتَمْرٍ وَحِنْطَةٍ .
وَإِنْ بَاعَ النَّوَى بِتَمْرٍ مَنْزُوعِ النَّوَى ، جَازَ مُتَفَاضِلًا ، وَمُتَسَاوِيًا ؛ لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ .
وَإِنْ بَاعَ النَّوَى بِتَمْرٍ نَوَاهُ فِيهِ ، فَعَلَى رِوَايَتَيْنِ ؛ مَنَعَ مِنْهُ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا ، وَأَحْمَدَ بْنِ الْقَاسِمِ ؛ لِأَنَّ التَّمْرَ نَوًى ، فَيَصِيرُ

كَمُدِّ عَجْوَةٍ ، وَكَمَا لَوْ بَاعَ تَمْرًا فِيهِ نَوَاهُ ، بِتَمْرٍ مَنْزُوعِ النَّوَى .
وَأَجَازَ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ ؛ لِأَنَّ النَّوَى فِي التَّمْرِ غَيْرُ مَقْصُودٍ ، وَلِذَلِكَ جَازَ بَيْعُ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَوَاهُ ، وَصَارَ هَذَا كَبَيْعِ دَارٍ مُمَوَّهٍ سَقْفُهَا بِالذَّهَبِ بِذَهَبٍ فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مُتَفَاضِلًا وَمُتَسَاوِيًا ؛ لِأَنَّ النَّوَى الَّذِي فِي التَّمْرِ لَا عِبْرَةَ بِهِ ، فَصَارَ كَبَيْعِ النَّوَى بِمَنْزُوعِ النَّوَى .
( 2820 ) فَصْلٌ : وَيُصْنَعُ مِنْ التَّمْرِ الدِّبْسُ ، وَالْخَلُّ ، وَالنَّاطِفُ ، وَالْقَطَّارَةُ .
وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ التَّمْرِ بِشَيْءِ مِنْهَا ؛ لِأَنَّ مَعَ بَعْضِهَا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ ، وَبَعْضُهَا مَائِعٌ ، وَالتَّمْرُ جَامِدٌ .
وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ النَّاطِفِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ ، وَلَا بِغَيْرِهِ مِنْ الْمَصْنُوعِ مِنْ التَّمْرِ ؛ لِأَنَّ مَعَهَا شَيْئًا مَقْصُودًا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِمَا ، فَيَنْزِلُ مَنْزِلَةَ مُدِّ عَجْوَةٍ .
وَيَجُوزُ بَيْعُ الْقَطَّارَةِ ، وَالدِّبْسِ ، وَالْخَلِّ ، كُلِّ نَوْعٍ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ مُتَسَاوِيًا .
قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا ، فِي خَلِّ الدَّقَلِ : يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ مُتَسَاوِيًا .
وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَاءَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ مَقْصُودٍ ، وَهُوَ مِنْ مَصْلَحَتِهِ ، فَلَمْ يَمْنَعْ جَوَازَ الْبَيْعِ ، كَالْخُبْزِ بِالْخُبْزِ ، وَالتَّمْرِ بِالتَّمْرِ ، فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَوَاهُ .
وَلَا يُبَاعُ نَوْعٌ بِنَوْعٍ آخَرَ ؛ لِأَنَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ يَقِلُّ وَيَكْثُرُ ، فَيُفْضِي إلَى التَّفَاضُلِ .

( 2821 ) فَصْل : وَالْعِنَبُ كَالتَّمْرِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُبَاعُ خَلُّ الْعِنَبِ بِخَلِّ الزَّبِيبِ ؛ لِانْفِرَادِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ .
وَيَجُوزُ بَيْعُ خَلِّ الزَّبِيبِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ ، كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ خَلِّ التَّمْرِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ .

( 2822 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَالْبُرُّ وَالشَّعِيرُ جِنْسَانِ ) هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ ، وَبِهِ يَقُولُ الثَّوْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَعَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ .
وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأُسُودِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ ، وَابْنِ مُعَيْقِيبٍ الدَّوْسِيِّ ، وَالْحَكَمِ ، وَحَمَّادٍ ، وَمَالِكٍ ، وَاللَّيْثِ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، أَنَّهُ أَرْسَلَ غُلَامَهُ بِصَاعِ قَمْحٍ ، فَقَالَ : بِعْهُ ، ثُمَّ اشْتَرِ بِهِ شَعِيرًا .
فَذَهَبَ الْغُلَامُ ، فَأَخَذَ صَاعًا وَزِيَادَةً بَعْضَ صَاعٍ ، فَلَمَّا جَاءَ مَعْمَرًا ، أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ ، فَقَالَ لَهُ مَعْمَرٌ : لِمَ فَعَلْت ذَلِكَ ؟ انْطَلِقْ فَرُدَّهُ ، وَلَا تَأْخُذَنَّ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ ، فَإِنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ } ، وَكَانَ طَعَامُنَا يَوْمَئِذٍ الشَّعِيرَ .
قِيلَ : فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمِثْلِهِ .
قَالَ : إنِّي أَخَافُ أَنْ يُضَارِعَ .
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ .
وَلِأَنَّ أَحَدَهُمَا يُغَشُّ بِالْآخَرِ ، فَكَانَا كَنَوْعَيْ الْجِنْسِ وَلَنَا ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { بِيعُوا الْبُرَّ بِالشَّعِيرِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ } .
وَفِي لَفْظٍ : { لَا بَأْسَ بِبَيْعِ الْبُرِّ بِالشَّعِيرِ ، وَالشَّعِيرُ أَكْثَرُهُمَا ، يَدًا بِيَدٍ ، وَأَمَّا نَسِيئَةً فَلَا } ، وَفِي لَفْظٍ : { فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ } .
وَهَذَا صَرِيحٌ صَحِيحٌ ، لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ بِغَيْرِ مُعَارِضٍ مِثْلِهِ ، وَلِأَنَّهُمَا لَمْ يَشْتَرِكَا فِي الِاسْمِ الْخَاصِّ ، فَلَمْ يَكُونَا جِنْسًا وَاحِدًا ، كَالتَّمْرِ ، وَالْحِنْطَةِ ، وَلِأَنَّهُمَا مُسَمَّيَانِ فِي الْأَصْنَافِ السِّتَّةِ ، فَكَانَا جِنْسَيْنِ ، كَسَائِرِهَا .
وَحَدِيثُ مَعْمَرٍ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ إضْمَارِ الْجِنْسِ ، بِدَلِيلِ سَائِرِ أَجْنَاسِ الطَّعَامِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ الطَّعَامَ الْمَعْهُودَ عِنْدَهُمْ ، وَهُوَ الشَّعِيرُ ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي

الْخَبَرِ : وَكَانَ طَعَامُنَا يَوْمئِذٍ الشَّعِيرَ ، ثُمَّ لَوْ كَانَ عَامًّا لَوَجَبَ تَقْدِيمُ الْخَاصِّ الصَّرِيحِ عَلَيْهِ ، وَفِعْلُ مَعْمَرٍ وَقَوْلُهُ لَا يُعَارَضُ بِهِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِيَاسُهُمْ يَنْتَقِضُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ .

( 2823 ) فَصْلٌ : فِي الْحِنْطَةِ وَفُرُوعِهَا ، وَفُرُوعُهَا نَوْعَانِ ، أَحَدُهُمَا ، مَا لَيْسَ فِيهِ غَيْرُهُ ، كَالدَّقِيقِ ، وَالسَّوِيقِ .
وَالثَّانِي ، مَا فِيهِ غَيْرُهُ ، كَالْخُبْزِ ، وَالْهَرِيسَةِ ، وَالْفَالُوذَجِ ، وَالنَّشَاءِ ، وَأَشْبَاهِهَا .
وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِشَيْءِ مِنْ فُرُوعِهَا وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامِ : أَحَدُهَا السَّوِيقُ ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِالْحِنْطَةِ ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ ، وَأَبِي ثَوْرٍ جَوَازُ ذَلِكَ ، مُتَمَاثِلًا ، وَمُتَفَاضِلًا .
وَلَنَا ، أَنَّهُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِبَعْضٍ أَجْزَائِهَا مُتَفَاضِلًا ، فَلَمْ يَجُزْ ، كَبَيْعِ مَكُّوكِ حِنْطَةٍ بِمَكُّوكَيْ دَقِيقٍ ، وَلَا سَبِيلَ إلَى التَّمَاثُلِ ؛ لِأَنَّ النَّارَ قَدْ أَخَذَتْ مِنْ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ ، فَأَشْبَهَتْ الْمَقْلِيَّةَ .
الْقَسَمُ الثَّانِي ، مَا مَعَهُ غَيْرُهُ ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا بِهِ أَيْضًا .
وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ : يَجُوزُ ذَلِكَ ، بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةِ مُدِّ عَجْوَةٍ .
وَسَنَذْكُرُ الدَّلِيلَ عَلَى ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْقَسَمُ الثَّالِثُ ، الدَّقِيقُ ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا بِهِ فِي الصَّحِيحِ .
وَهُوَ مَذْهَبُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، وَالْحَسَنِ ، وَالْحَكَمِ ، وَحَمَّادٍ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَمَكْحُولٍ .
وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ الشَّافِعِيِّ .
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّهُ جَائِزٌ .
وَبِهَذَا قَالَ رَبِيعَةُ ، وَمَالِكٌ .
وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ النَّخَعِيِّ ، وَقَتَادَةَ ، وَابْنِ شُبْرُمَةَ ، وَإِسْحَاقَ ، وَأَبِي ثَوْرٍ ؛ لِأَنَّ الدَّقِيقَ نَفْسُ الْحِنْطَةِ ، وَإِنَّمَا تَكَسَّرَتْ أَجْزَاؤُهَا ، فَجَازَ بَيْعُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ ، كَالْحِنْطَةِ الْمُكَسَّرَةِ بِالصِّحَاحِ ، فَعَلَى هَذَا إنَّمَا تُبَاعُ الْحِنْطَةُ بِالدَّقِيقِ وَزْنًا ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَفَرَّقَتْ أَجْزَاؤُهَا بِالطَّحْنِ وَانْتَشَرَتْ ، فَتَأْخُذُ مِنْ الْمِكْيَالِ مَكَانًا كَبِيرًا ، وَالْحِنْطَةُ تَأْخُذُ مَكَانًا صَغِيرًا ، وَالْوَزْنُ يُسَوِّي بَيْنَهُمَا .
وَبِهَذَا قَالَ إِسْحَاقُ .
وَلَنَا ، أَنَّ بَيْعَ الْحِنْطَةِ بِالدَّقِيقِ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71