الكتاب : المغني
المؤلف : أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد ، الشهير بابن قدامة المقدسي

( 7198 ) فَصْلٌ : إذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ ، وَشَهِدَ أَرْبَعَةٌ آخَرُونَ عَلَى الشُّهُودِ أَنَّهُمْ هُمْ الزُّنَاةُ بِهَا ، لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلِينَ قَدْ جَرَحَهُمْ الْآخَرُونَ بِشَهَادَتِهِمْ عَلَيْهِمْ ، وَالْآخَرُونَ تَتَطَرَّقُ إلَيْهِمْ التُّهْمَةُ .
وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ وُجُوبَ الْحَدِّ عَلَى الشُّهُودِ الْأَوَّلِينَ ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْآخَرِينَ صَحِيحَةٌ فَيَجِبُ الْحُكْمُ بِهَا .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ ، وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي صَدْرِ الْمَسْأَلَةِ كَلَامًا مَعْنَاهُ : لَا يُحَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ حَدَّ الزِّنَا .
وَهَلْ يُحَدُّ الْأَوَّلُونَ حَدَّ الْقَذْفِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ، بِنَاءً عَلَى الْقَاذِفِ إذَا جَاءَ مَجِيءَ الشَّاهِدِ هَلْ يُحَدُّ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ .

فَصْلٌ : وَكُلُّ زِنًا أَوْجَبَ الْحَدَّ ، لَا يُقْبَلُ فِيهِ إلَّا أَرْبَعَةُ شُهُودٍ ، بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ ؛ لِتَنَاوُلِ النَّصِّ لَهُ ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } .
وَيَدْخُلُ فِيهِ اللِّوَاطُ ، وَوَطْءُ الْمَرْأَةِ فِي دُبُرِهَا ؛ لِأَنَّهُ زِنًا .
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، يَثْبُتُ بِشَاهِدَيْنِ ، بِنَاءٍ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ .
وَقَدْ بَيَّنَّا وُجُوبَ الْحَدِّ بِهِ ، وَيُخَصُّ هَذَا بِأَنَّ الْوَطْءَ فِي الدُّبُرِ فَاحِشَةٌ ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى : { أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْعَالَمِينَ } .
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَاَللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ } .
فَإِذَا وُطِئَتْ فِي الدُّبُرِ ، دَخَلَتْ فِي عُمُومِ الْآيَةِ .
وَوَطْءُ الْبَهِيمَةِ إنْ قُلْنَا بِوُجُوبِ الْحَدِّ بِهِ ، لَمْ يَثْبُتْ إلَّا بِشُهُودٍ أَرْبَعَةٍ .
وَإِنْ قُلْنَا لَا يُوجِبُ إلَّا التَّعْزِيرَ فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا : يَثْبُتُ بِشَاهِدَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ ، فَيَثْبُتُ بِشَاهِدَيْنِ ، كَسَائِرِ الْحُقُوقِ .
وَالثَّانِي : لَا يَثْبُتُ إلَّا بِأَرْبَعَةٍ .
وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي ؛ لِأَنَّهُ فَاحِشَةٌ ؛ وَلِأَنَّهُ إيلَاجٌ فِي فَرْجٍ مُحَرَّمٍ ، فَأَشْبَهَ الزِّنَا .
وَعَلَى قِيَاسِ هَذَا ، كُلُّ وَطْءٍ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَيُوجِبُ التَّعْزِيرَ ، كَوَطْءِ الْأَمَةِ الْمُشْتَرَكَةِ ، وَأَمَتِهِ الْمُزَوَّجَةِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَطْئًا كَالْمُبَاشَرَةِ دُونَ الْفَرْجِ وَنَحْوِهَا ، ثَبَتَ بِشَاهِدَيْنِ ، وَجْهًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَطْءٍ ، فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْحُقُوقِ .

( 7200 ) فَصْلٌ : وَلَا يُقِيمُ الْإِمَامُ الْحَدَّ بِعِلْمِهِ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ ، وَقَالَ فِي الْآخَرِ : لَهُ إقَامَتُهُ بِعِلْمِهِ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَازَتْ لَهُ إقَامَتُهُ بِالْبَيِّنَةِ وَالِاعْتِرَافِ الَّذِي لَا يُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ ، فَبِمَا يُفِيدُ الْعِلْمَ أَوْلَى ، وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ } .
وقَوْله تَعَالَى : { فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ الْكَاذِبُونَ } .
وَقَالَ عُمَرُ : أَوْ كَانَ الْحَبَلُ أَوْ الِاعْتِرَافُ .
وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ ، وَلَوْ رَمَاهُ بِمَا عَلِمَهُ مِنْهُ لَكَانَ قَاذِفًا ، يَلْزَمُهُ حَدُّ الْقَذْفِ ، فَلَمْ تَجُزْ إقَامَةُ الْحَدِّ بِهِ ، كَقَوْلِ غَيْرِهِ ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا حَرُمَ النُّطْقُ بِهِ ، فَالْعَمَلُ بِهِ أَوْلَى .
فَأَمَّا السَّيِّدُ إذَا عَلِمَ مِنْ عَبْدِهِ أَوْ جَارِيَتِهِ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ عَلَيْهِ ، فَهَلْ لَهُ إقَامَتُهُ عَلَيْهِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا : لَا يَمْلِكُ إقَامَتَهُ عَلَيْهِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْإِمَامِ ؛ وَلِأَنَّ الْإِمَامَ إذَا لَمْ يَمْلِكْ إقَامَتَهُ بِعِلْمِهِ ، مَعَ قُوَّةِ وِلَايَتِهِ ، وَالِاتِّفَاقِ عَلَى تَفْوِيضِ الْحَدِّ إلَيْهِ ، فَغَيْرُهُ أَوْلَى .
الثَّانِي : يَمْلِكُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ السَّيِّدَ يَمْلِكُ تَأْدِيبَ عَبْدِهِ بِعِلْمِهِ ، وَهَذَا يَجْرِي مَجْرَى التَّأْدِيبِ ؛ وَلِأَنَّ السَّيِّدَ أَخَصُّ بِعَبْدِهِ ، وَأَتَمُّ وِلَايَةً عَلَيْهِ ، وَأَشْفَقُ مِنْ الْإِمَامِ عَلَى سَائِرِ النَّاسِ .

( 7201 ) فَصْلٌ : وَإِذَا أُحْبِلَتْ امْرَأَةٌ لَا زَوْجَ لَهَا ، وَلَا سَيِّدَ ، لَمْ يَلْزَمْهَا الْحَدُّ بِذَلِكَ ، وَتُسْأَلُ فَإِنْ ادَّعَتْ أَنَّهَا أُكْرِهَتْ ، أَوْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ ، أَوْ لَمْ تَعْتَرِفْ بِالزِّنَا ، لَمْ تُحَدَّ .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ مَالِكٌ : عَلَيْهَا الْحَدُّ إذَا كَانَتْ مُقِيمَةً غَيْرَ غَرِيبَةٍ ، إلَّا أَنْ تَظْهَرَ أَمَارَاتُ الْإِكْرَاهِ ، بِأَنْ تَأْتِيَ مُسْتَغِيثَةً أَوْ صَارِخَةً ؛ لِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَالرَّجْمُ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مَنْ زَنَى مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إذَا كَانَ مُحْصَنًا ، إذَا قَامَتْ بَيِّنَةٌ ، أَوْ كَانَ الْحَبَلُ أَوْ الِاعْتِرَافُ .
وَرُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ أُتِيَ بِامْرَأَةٍ وَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ ، فَأَمَرَ بِهَا عُثْمَانُ أَنْ تُرْجَمَ ، فَقَالَ عَلِيٌّ : لَيْسَ لَك عَلَيْهَا سَبِيلٌ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا } .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَرْجُمُهَا بِحَمْلِهَا ، وَعَنْ عُمَرَ نَحْوٌ مِنْ هَذَا وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ الزِّنَا زِنَاءَانِ ؛ زِنَا سِرٍّ وَزِنَا عَلَانِيَةٍ ، فَزِنَا السِّرِّ أَنْ يَشْهَدَ الشُّهُودُ ، فَيَكُونَ الشُّهُودُ أَوَّلَ مَنْ يَرْمِي ، وَزِنَا الْعَلَانِيَةِ أَنْ يَظْهَرَ الْحَبَلُ أَوْ الِاعْتِرَافُ ، فَيَكُونَ الْإِمَامُ أَوَّلَ مَنْ يَرْمِي ، وَهَذَا قَوْلُ سَادَةِ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُمْ فِي عَصْرِهِمْ مُخَالِفٌ ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا .
وَلَنَا أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مِنْ وَطْءِ إكْرَاهٍ أَوْ شُبْهَةٍ ، وَالْحَدُّ يَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ .
وَقَدْ قِيلَ : إنَّ الْمَرْأَةَ تَحْمِلُ مِنْ غَيْرِ وَطْءٍ بِأَنْ يَدْخُلَ مَاءُ الرَّجُلِ فِي فَرْجِهَا ، إمَّا بِفِعْلِهَا أَوْ فِعْلِ غَيْرِهَا .
وَلِهَذَا تُصُوِّرَ حَمْلُ الْبِكْرِ ، فَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ .
وَأَمَّا قَوْلُ الصَّحَابَةِ : فَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْهُمْ ، فَرَوَى سَعِيدٌ ، حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ خَلِيفَةَ ، حَدَّثَنَا هَاشِمٌ ، أَنَّ امْرَأَةً رُفِعَتْ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، لَيْسَ لَهَا زَوْجٌ ،

وَقَدْ حَمَلَتْ ، فَسَأَلَهَا عُمَرُ ، فَقَالَتْ : إنِّي امْرَأَةٌ ثَقِيلَةُ الرَّأْسِ ، وَقَعَ عَلَيَّ رَجُلٌ وَأَنَا نَائِمَةٌ ، فَمَا اسْتَيْقَظْت حَتَّى فَرَغَ .
فَدَرَأَ عَنْهَا الْحَدَّ .
وَرَوَى الْبَرَاءُ بْنُ صَبِرَةَ ، عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ أُتِيَ بِامْرَأَةٍ حَامِلٍ ، فَادَّعَتْ أَنَّهَا أُكْرِهَتْ ، فَقَالَ : خَلِّ سَبِيلَهَا .
وَكَتَبَ إلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ ، أَنْ لَا يُقْتَلَ أَحَدٌ إلَّا بِإِذْنِهِ .
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّهُمَا قَالَا : إذَا كَانَ فِي الْحَدِّ لَعَلَّ وَعَسَى ، فَهُوَ مُعَطَّلٌ .
وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ ، وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ ، أَنَّهُمْ قَالُوا : إذَا اشْتَبَهَ عَلَيْك الْحَدُّ ، فَادْرَأْ مَا اسْتَطَعْت .
وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْحَدَّ يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ ، وَهِيَ مُتَحَقِّقَةٌ هَاهُنَا .

( 7202 ) فَصْلٌ : وَإِذَا اسْتَأْجَرَ امْرَأَةً لِعَمَلِ شَيْءٍ ، فَزَنَى بِهَا ، أَوْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَزْنِيَ بِهَا ، وَفَعَلَ ذَلِكَ ، أَوْ زَنَى بِامْرَأَةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا أَوْ اشْتَرَاهَا ، فَعَلَيْهِمَا الْحَدُّ .
وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا حَدَّ عَلَيْهِمَا فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ لِمَنْفَعَتِهَا شُبْهَةٌ دَارِئَةٌ ، وَلَا يُحَدُّ بِوَطْءِ امْرَأَةٍ هُوَ مَالِكٌ لَهَا .
وَلَنَا عُمُومُ الْآيَةِ ، وَالْأَخْبَارِ ، وَوُجُودُ الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي لِوُجُوبِ الْحَدِّ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّ مِلْكَهُ مَنْفَعَتَهَا شُبْهَةٌ .
لَيْسَ بِصَحِيحٍ ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْحَدُّ بِبَذْلِهَا نَفْسَهَا لَهُ ، وَمُطَاوَعَتِهَا إيَّاهُ ، فَلَأَنْ لَا يَسْقُطَ بِمِلْكِهِ نَفْعُ مَحَلٍّ آخَرَ أَوْلَى ، وَمَا وَجَبَ الْحَدُّ عَلَيْهِ بِوَطْءِ مَمْلُوكَتِهِ ، وَإِنَّمَا وَجَبَ بِوَطْءِ أَجْنَبِيَّةٍ ، فَتَغَيُّرُ حَالِهَا لَا يُسْقِطُهُ ، كَمَا لَوْ مَاتَتْ .

( 7203 ) فَصْلٌ : وَإِذَا وَطِئَ امْرَأَةً لَهُ عَلَيْهَا الْقِصَاصُ ، وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهُ عَلَيْهَا ، فَلَا يَسْقُطُ الْحَدُّ عَنْهُ ، كَالدَّيْنِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ ( وَلَوْ رُجِمَ بِإِقْرَارٍ ، فَرَجَعَ قَبْلَ أَنْ يُقْتَلَ ، كُفَّ عَنْهُ ، وَكَذَلِكَ إنْ رَجَعَ بَعْدَ أَنْ جُلِدَ ، وَقَبْلَ كَمَالِ الْحَدِّ خُلِّيَ ) قَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، وَذَكَرْنَا أَنَّ الْمُقِرَّ بِالْحَدِّ مَتَى رَجَعَ عَنْ إقْرَارِهِ تُرِكَ ، وَكَذَلِكَ إنْ أَتَى بِمَا يَدُلُّ عَلَى الرُّجُوعِ ، مِثْلِ الْهَرَبِ ، لَمْ يُطْلَبْ ؛ { لِأَنَّ مَاعِزًا لَمَّا هَرَبَ ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ ؟ } .
وَلِأَنَّ مَنْ قُبِلَ رُجُوعُهُ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْحَدِّ ، قُبِلَ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ ، كَالْبَيِّنَةِ .

( 7205 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ ، أَوْ الْحَاكِمِ ، الَّذِي يَثْبُتُ عِنْدَهُ الْحَدُّ بِالْإِقْرَارِ ، التَّعْرِيضُ لَهُ بِالرُّجُوعِ إذَا تَمَّ ، وَالْوُقُوفُ عَنْ إتْمَامِهِ إذَا لَمْ يُتِمَّ ، كَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَعْرَضَ عَنْ مَاعِزٍ ، حِينَ أَقَرَّ عِنْدَهُ ، ثُمَّ جَاءَهُ مِنْ النَّاحِيَةِ الْأُخْرَى ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ ، حَتَّى تَمَّمَ إقْرَارَهُ أَرْبَعًا ، ثُمَّ قَالَ : { لَعَلَّك قَبَّلْت ، لَعَلَّك لَمَسْت } .
وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لِلَّذِي أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ : { مَا إخَالُك فَعَلْت } .
رَوَاهُ سَعِيدٌ ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ خَصِيفَةَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَانَ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَالَ : حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ ، عَنْ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي كَبْشَةَ ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ ، أَنَّهُ أُتِيَ بِجَارِيَةٍ سَوْدَاءَ سَرَقَتْ ، فَقَالَ لَهَا : أَسَرَقْت ؟ قُولِي : لَا .
فَقَالَتْ : لَا .
فَخَلَّى سَبِيلَهَا .
وَلَا بَأْسَ أَنْ يَعْرِضَ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ لَهُ بِالرُّجُوعِ أَوْ بِأَنْ لَا يُقِرَّ .
وَرَوَيْنَا عَنْ الْأَحْنَفِ أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا عِنْدَ مُعَاوِيَةَ ، فَأُتِيَ بِسَارِقٍ ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ : أَسَرَقْت ؟ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الشُّرْطَةِ : اُصْدُقْ الْأَمِيرَ .
فَقَالَ الْأَحْنَفُ : الصِّدْقُ فِي كُلِّ الْمَوَاطِنِ مُعْجِزَةٌ .
فَعَرَّضَ لَهُ بِتَرْكِ الْإِقْرَارِ وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ قَالَ : لَا يُقْطَعُ ظَرِيفٌ .
يَعْنِي بِهِ أَنَّهُ إذَا قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ ، ادَّعَى شُبْهَةً تَدْفَعُ عَنْهُ الْقَطْعَ .
فَلَا يُقْطَعُ .
وَيُكْرَهُ لِمَنْ عَلِمَ ، أَنْ يَحُثَّهُ عَلَى الْإِقْرَارِ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ قَالَ لِهَزَّالٍ ، وَقَدْ كَانَ قَالَ لِمَاعِزٍ : بَادِرْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ فِيك قُرْآنٌ : أَلَّا سَتَرْتَهُ بِثَوْبِك كَانَ خَيْرًا لَك ، } رَوَاهُ سَعِيدٌ .
وَرَوَى بِإِسْنَادِهِ أَيْضًا ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، قَالَ :

{ جَاءَ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، فَقَالَ لَهُ : إنَّهُ أَصَابَ فَاحِشَةً .
فَقَالَ لَهُ : أَخْبَرْت بِهَذَا أَحَدًا قَبْلِي .
قَالَ : لَا .
قَالَ : فَاسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ ، وَتُبْ إلَى اللَّهِ ، فَإِنَّ النَّاسَ يُعَيِّرُونَ وَلَا يُغَيِّرُونَ ، وَاَللَّهُ يُغَيِّرُ وَلَا يُعَيِّرُ ، فَتُبْ إلَى اللَّهِ ، وَلَا تُخْبِرْ بِهِ أَحَدًا .
فَانْطَلَقَ إلَى أَبِي بَكْرٍ ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ عُمَرُ ، فَلَمْ تُقِرَّهُ نَفْسُهُ ، حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ .
}

( 7206 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَمَنْ زَنَى مِرَارًا وَلَمْ يُحَدَّ ، فَحَدٌّ وَاحِدٌ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ مِنْ الزِّنَا ، وَالسَّرِقَةِ ، وَالْقَذْفِ ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ ، إذَا تَكَرَّرَ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ ، أَجْزَأَ حَدٌّ وَاحِدٌ .
بِغَيْرِ خِلَافٍ عَلِمْنَاهُ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ عَلَى هَذَا كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، مِنْهُمْ عَطَاءٌ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَحْمَدُ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَبُو يُوسُفَ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَإِنْ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ ، ثُمَّ حَدَثَتْ مِنْهُ جِنَايَةٌ أُخْرَى ، فَفِيهَا حَدُّهَا .
لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا .
وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَمَّنْ يَحْفَظُ عَنْهُ .
وَقَدْ { سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْأَمَةِ تَزْنِي قَبْلَ أَنْ تُحْصِنَ فَقَالَ : إنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا ، ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا ، ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا .
} وَلِأَنَّ تَدَاخُلَ الْحُدُودِ ، إنَّمَا يَكُونُ مَعَ اجْتِمَاعِهَا ، وَهَذَا الْحَدُّ الثَّانِي وَجَبَ بَعْدَ سُقُوطِ الْأَوَّلِ بِاسْتِيفَائِهِ .
وَإِنْ كَانَتْ الْحُدُودُ مِنْ أَجْنَاسٍ ، مِثْلِ الزِّنَا ، وَالسَّرِقَةِ ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ ، أُقِيمَتْ كُلُّهَا ، إلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهَا قَتْلٌ ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا قَتْلٌ ، اُكْتُفِيَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ مَعَهُ إلَى الزَّجْرِ بِغَيْرِهِ .
وَقَدْ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : مَا كَانَتْ حُدُودٌ فِيهَا قَتْلٌ ، إلَّا أَحَاطَ الْقَتْلُ بِذَلِكَ كُلِّهِ .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا قَتْلٌ ، اُسْتُوْفِيَتْ كُلُّهَا ، وَبُدِئَ بِالْأَخَفِّ فَالْأَخَفِّ ، فَيُبْدَأُ بِالْجَلْدِ ، ثُمَّ بِالْقَطْعِ ، وَيُقَدَّمُ الْأَخَفُّ فِي الْجَلْدِ عَلَى الْأَثْقَلِ ، فَيُبْدَأُ فِي الْجَلْدِ بِحَدِّ الشُّرْبِ ، ثُمَّ بِحَدِّ الْقَذْفِ ، إنْ قُلْنَا : إنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى ، ثُمَّ بِحَدِّ الزِّنَا وَإِنْ قُلْنَا : إنَّ حَدَّ الْقَذْفِ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ قَدَّمْنَاهُ ، ثُمَّ بِحَدِّ الشُّرْبِ ، ثُمَّ بِحَدِّ الزِّنَا .

( 7207 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِذَا تَحَاكَمَ إلَيْنَا أَهْلُ الذِّمَّةِ ، حَكَمْنَا عَلَيْهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا تَحَاكَمَ إلَيْنَا أَهْلُ الذِّمَّةِ ، أَوْ اسْتَعْدَى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ، فَالْحَاكِمُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ إحْضَارِهِمْ وَالْحُكْمِ بَيْنَهُمْ ، وَبَيْنَ تَرْكِهِمْ ، سَوَاءٌ كَانُوا مِنْ أَهْلِ دِينٍ وَاحِدٍ ، أَوْ مِنْ أَهْلِ أَدْيَانٍ .
هَذَا الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ .
وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ .
وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ ، عَنْ أَحْمَدَ ، رِوَايَةً أُخْرَى ، أَنَّهُ يَجِبُ الْحُكْمُ بَيْنَهُمْ .
وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ ، وَاخْتِيَارُ الْمُزَنِيّ ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } .
وَلِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ دَفْعُ مَنْ قَصَدَ وَاحِدًا مِنْهُمَا بِغَيْرِ حَقٍّ ، فَلَزِمَهُ الْحُكْمُ بَيْنَهُمَا ، كَالْمُسْلِمِينَ .
وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } .
فَخَيَّرَهُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيمَنْ وَادَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ يَهُودِ الْمَدِينَةِ ؛ وَلِأَنَّهُمَا كَافِرَانِ ، فَلَا يَجِبُ الْحُكْمُ بَيْنَهُمَا كَالْمُعَاهَدَيْنِ ، وَالْآيَةُ الَّتِي احْتَجُّوا بِهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى مَنْ اخْتَارَ الْحُكْمَ بَيْنَهُمْ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَإِنْ حَكَمْت فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ } .
جَمْعًا بَيْنَ الْآيَتَيْنِ ، فَإِنَّهُ لَا يُصَارُ إلَى النَّسْخِ مَعَ إمْكَانِ الْجَمْعِ .
فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّهُ إذَا حَكَمَ بَيْنَهُمْ ، لَمْ يَجُزْ لَهُ الْحُكْمُ إلَّا بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ ؛ لِلْآيَتَيْنِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْحُكْمُ ، إلَّا بِالْقِسْطِ ، كَمَا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ ، وَمَتَى حَكَمَ بَيْنَهُمَا ، أَلْزَمَهُمَا حُكْمُهُ ، وَمَنْ امْتَنَعَ مِنْهُمَا ، أَجْبَرَهُ عَلَى قَبُولِ حُكْمِهِ ، وَأَخْذِهِ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا دَخَلَ فِي الْعَهْدِ بِشَرْطِ الْتِزَامِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ .
قَالَ أَحْمَدُ : لَا

يُبْحَثُ عَنْ أَمْرِهِمْ ، وَلَا يُسْأَلُ عَنْ أَمْرِهِمْ ، إلَّا أَنْ يَأْتُوا هُمْ ، فَإِنْ ارْتَفَعُوا إلَيْنَا ، أَقَمْنَا عَلَيْهِمْ الْحَدَّ ، عَلَى مَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَالَ أَيْضًا : حُكْمُنَا يَلْزَمُهُمْ ، وَحُكْمُنَا جَائِزٌ عَلَى جَمِيعِ الْمِلَلِ ، وَلَا يَدْعُوهُمَا الْحَاكِمُ ، فَإِنْ جَاءُوا ، حَكَمْنَا بِحُكْمِنَا .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّهُ إذَا رُفِعَ إلَى الْحَاكِمِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ مَنْ فَعَلَ مُحَرَّمًا ، يُوجِبُ عُقُوبَةً ، مِمَّا هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِمْ فِي دِينِهِمْ ، كَالزِّنَا ، وَالسَّرِقَةِ ، وَالْقَذْفِ ، وَالْقَتْلِ ، فَعَلَيْهِ إقَامَةُ حَدِّهِ عَلَيْهِ ؛ فَإِنْ كَانَ زَنَى جُلِدَ إنْ كَانَ بِكْرًا وَغُرِّبَ عَامًا ، وَإِنْ كَانَ مُحْصَنًا رُجِمَ .
لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِيَهُودِيَّيْنِ ، فَجَرَا بَعْدَ إحْصَانِهِمَا ، فَأَمَرَ بِهِمَا فَرُجِمَا .
} وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ ، { أَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا لَهُ : إنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ وَامْرَأَةً زَنَيَا .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ فِي شَأْنِ الرَّجْمِ ؟ .
فَقَالُوا : نَفْضَحُهُمْ وَيُجْلَدُونَ .
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ : كَذَبْتُمْ إنَّ فِيهَا الرَّجْمَ .
فَأَتَوْا بِالتَّوْرَاةِ فَنَشَرُوهَا ، فَوَضَعَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ ، فَقَرَأَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ : ارْفَعْ يَدَك .
فَرَفَعَ يَدَهُ ، فَإِذَا فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ ، فَقَالُوا : صَدَقَ يَا مُحَمَّدُ ، فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ .
فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُجِمَا .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَرَوَى أَنَسٌ ، { أَنَّ يَهُودِيًّا قَتَلَ جَارِيَةً عَلَى أَوْضَاحٍ لَهَا بِحَجَرٍ ، فَقَتَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ حَجَرَيْنِ .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَإِنْ كَانَ يَعْتَقِدُ إبَاحَتَهُ ، كَشُرْبِ الْخَمْرِ ، لَمْ يُحَدَّ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ ،

فَلَمْ يَلْزَمْهُ عُقُوبَتُهُ ، كَالْكُفْرِ .
وَإِنْ تَظَاهَرَ بِهِ ، عُزِّرَ ؛ لِأَنَّهُ أَظْهَرَ مُنْكَرًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، فَعُزِّرَ عَلَيْهِ ، كَالْمُسْلِمِ .

( 7208 ) فَصْلٌ : وَإِنْ تَحَاكَمَ مُسْلِمٌ وَذِمِّيٌّ ، وَجَبَ الْحُكْمُ بَيْنَهُمَا .
بِغَيْرِ خِلَافٍ ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ دَفْعُ ظُلْمِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ .

( 7209 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِذَا قَذَفَ بَالِغٌ حُرًّا مُسْلِمًا ، أَوْ حُرَّةً مُسْلِمَةً ، جُلِدَ الْحَدَّ ثَمَانِينَ ) الْقَذْفُ : هُوَ الرَّمْيُ بِالزِّنَا .
وَهُوَ مُحَرَّمٌ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ ، وَالْأَصْلُ فِي تَحْرِيمِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ ؛ أَمَّا الْكِتَابُ : فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ } .
وَقَالَ سُبْحَانَهُ : { إنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } .
وَأَمَّا السُّنَّةُ : فَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ .
قَالُوا : وَمَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : الشِّرْكُ بِاَللَّهِ ، وَالسِّحْرُ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ ، وَأَكْلُ الرِّبَا ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلَاتِ .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَالْمُحْصَنَاتُ هَاهُنَا الْعَفَائِفُ .
وَالْمُحْصَنَاتُ فِي الْقُرْآنِ جَاءَتْ بِأَرْبَعَةِ مَعَانٍ ؛ أَحَدُهَا هَذَا .
وَالثَّانِي : بِمَعْنَى الْمُزَوَّجَاتِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ إلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } .
وقَوْله تَعَالَى : { مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ } .
وَالثَّالِثُ : بِمَعْنَى الْحَرَائِرِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ } .
وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } .
وَقَوْلِهِ : { فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ } .
وَالرَّابِعُ : بِمَعْنَى الْإِسْلَامِ ، كَقَوْلِهِ : { فَإِذَا أُحْصِنَّ } .
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : إحْصَانُهَا إسْلَامُهَا .
وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ قَذَفَ الْمُحْصَنَ ، إذَا كَانَ مُكَلَّفًا .

وَشَرَائِطُ الْإِحْصَانِ الَّذِي يَجِبُ الْحَدُّ بِقَذْفِ صَاحِبِهِ ، خَمْسَةٌ : الْعَقْلُ ، وَالْحُرِّيَّةُ ، وَالْإِسْلَامُ ، وَالْعِفَّةُ عَنْ الزِّنَا ، وَأَنْ يَكُونَ كَبِيرًا يُجَامِعُ مِثْلُهُ .
وَبِهِ يَقُولُ جَمَاعَةُ الْعُلَمَاءِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا ، سِوَى مَا رُوِيَ عَنْ دَاوُد ، أَنَّهُ أَوْجَبَ الْحَدَّ عَلَى قَاذِفِ الْعَبْدِ .
وَعَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى ، قَالُوا : إذَا قَذَفَ ذِمِّيَّةً ، وَلَهَا وَلَدٌ مُسْلِمٌ ، يُحَدُّ .
وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ مَنْ لَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ ، لَا يُحَدُّ وَلَهُ وَلَدٌ ، كَالْمَجْنُونَةِ .
وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ ، فِي اشْتِرَاطِ الْبُلُوغِ ، فَرُوِيَ عَنْهُ ، أَنَّهُ شَرْطٌ .
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ شَرْطَيْ التَّكْلِيفِ ، فَأَشْبَهَ الْعَقْلَ ؛ وَلِأَنَّ زِنَا الصَّبِيِّ لَا يُوجِبُ حَدًّا ، فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ بِالْقَذْفِ بِهِ ، كَزِنَا الْمَجْنُونِ .
وَالثَّانِيَةُ : لَا يُشْتَرَطُ ؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ عَاقِلٌ عَفِيفٌ يَتَعَيَّرُ بِهَذَا الْقَوْلِ الْمُمْكِنِ صِدْقُهُ ، فَأَشْبَهَ الْكَبِيرَ .
وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ ، وَإِسْحَاقَ .
فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ ، لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ كَبِيرًا يُجَامِعُ مِثْلُهُ ، وَأَدْنَاهُ أَنْ يَكُونَ لِلْغُلَامِ عَشْرٌ ، وَلِلْجَارِيَةِ تِسْعٌ .
( 7210 ) فَصْلٌ : وَيَجِبُ الْحَدُّ عَلَى قَاذِفِ الْخَصِيِّ ، وَالْمَجْبُوبِ ، وَالْمَرِيضِ الْمُدْنِفِ ، وَالرَّتْقَاءِ ، وَالْقَرْنَاءِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ لَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِ مَجْبُوبٍ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : وَكَذَلِكَ الرَّتْقَاءُ .
وَقَالَ الْحَسَنُ : لَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِ الْخَصِيِّ ؛ لِأَنَّ الْعَارَ مُنْتَفٍ عَنْ الْمَقْذُوفِ بِدُونِ الْحَدِّ ، لِلْعِلْمِ بِكَذِبِ الْقَاذِفِ ، وَالْحَدُّ إنَّمَا يَجِبُ لِنَفْيِ الْعَارِ .
وَلَنَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } .
وَالرَّتْقَاءُ دَاخِلَةٌ فِي عُمُومِ هَذَا ؛ وَلِأَنَّهُ

قَاذِفٌ لِمُحْصَنٍ ، فَيَلْزَمُهُ الْحَدُّ ، كَقَاذِفِ الْقَادِرِ عَلَى الْوَطْءِ ؛ وَلِأَنَّ إمْكَانَ الْوَطْءِ أَمْرٌ خَفِيٌّ ، لَا يَعْلَمُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ ، فَلَا يَنْتَفِي الْعَارُ عِنْدَ مَنْ لَمْ يَعْلَمْهُ بِدُونِ الْحَدِّ ، فَيَجِبُ ، كَقَذْفِ الْمَرِيضِ .

( 7211 ) فَصْلٌ : وَيَجِبُ الْحَدُّ عَلَى الْقَاذِفِ فِي غَيْرِ دَارِ الْإِسْلَامِ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ : لَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ فِي دَارٍ لَا حَدَّ عَلَى أَهْلِهَا .
وَلَنَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ } .
الْآيَةَ .
وَلِأَنَّهُ مُسْلِمٌ مُكَلَّفٌ ، قَذَفَ مُحْصَنًا ، فَأَشْبَهَ مَنْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ .

( 7212 ) فَصْلٌ : وَقَدْرُ الْحَدِّ ثَمَانُونَ ، إذَا كَانَ الْقَاذِفُ حُرًّا ؛ لِلْآيَةِ وَالْإِجْمَاعِ ، رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً .
وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلًا غَيْرَ مُكْرَهٍ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ مُشْتَرَطَةٌ لِكُلِّ حَدٍّ .

( 7213 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( إذَا طَالَبَ الْمَقْذُوفُ ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْقَاذِفِ بَيِّنَةٌ .
) وَجُمْلَتُهُ أَنْ يُعْتَبَرَ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ بَعْدَ تَمَامِ الْقَذْفِ بِشُرُوطِهِ شَرْطَانِ ؛ أَحَدُهُمَا : مُطَالَبَةُ الْمَقْذُوفِ ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهُ ، فَلَا يُسْتَوْفَى قَبْلَ طَلَبِهِ ، كَسَائِرِ حُقُوقِهِ .
الثَّانِي : أَنْ لَا يَأْتِيَ بِبَيِّنَةٍ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ } .
فَيُشْتَرَطُ فِي جَلْدِهِمْ عَدَمُ الْبَيِّنَةِ ، وَكَذَلِكَ يُشْتَرَطُ عَدَمُ الْإِقْرَارِ مِنْ الْمَقْذُوفِ ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْبَيِّنَةِ .
إنْ كَانَ الْقَاذِفُ زَوْجًا ، اُعْتُبِرَ شَرْطٌ ثَالِثٌ ، وَهُوَ امْتِنَاعُهُ مِنْ اللِّعَانِ .
وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي هَذَا كُلِّهِ .
وَتُعْتَبَرُ اسْتِدَامَةُ الطَّلَبِ إلَى إقَامَةِ الْحَدِّ ، فَلَوْ طَلَبَ ثُمَّ عَفَا عَنْ الْحَدِّ ، سَقَطَ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ .
وَقَالَ الْحَسَنُ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ : لَا يَسْقُطُ بِعَفْوِهِ ؛ لِأَنَّهُ حَدٌّ فَلَمْ يَسْقُطْ بِالْعَفْوِ ، كَسَائِرِ الْحُدُودِ .
وَلَنَا أَنَّهُ حَقٌّ لَا يُسْتَوْفَى إلَّا بَعْدَ مُطَالَبَةِ الْآدَمِيِّ بِاسْتِيفَائِهِ ، فَسَقَطَ بِعَفْوِهِ ، كَالْقِصَاصِ ، وَفَارَقَ سَائِرَ الْحُدُودِ ، فَإِنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِي إقَامَتِهَا الطَّلَبُ بِاسْتِيفَائِهَا ، وَحَدُّ السَّرِقَةِ إنَّمَا تُعْتَبَرُ فِيهِ الْمُطَالَبَةُ بِالْمَسْرُوقِ ، لَا بِاسْتِيفَاءِ الْحَدِّ ؛ وَلِأَنَّهُمْ قَالُوا تَصِحُّ دَعْوَاهُ ، وَيَسْتَحْلِفُ فِيهِ ، وَيَحْكُمُ الْحَاكِمُ فِيهِ بِعِلْمِهِ ، وَلَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ عَنْهُ بَعْدَ الِاعْتِرَافِ .
فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ .

( 7214 ) فَصْلٌ : وَإِذَا قُلْنَا بِوُجُوبِ الْحَدِّ بِقَذْفِ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ ، لَمْ تَجُزْ إقَامَتُهُ حَتَّى يَبْلُغَ وَيُطَالِبَ بِهِ بَعْدَ بُلُوغِهِ ؛ لِأَنَّ مُطَالَبَتَهُ قَبْلَ الْبُلُوغِ لَا تُوجِبُ الْحَدَّ ؛ لِعَدَمِ اعْتِبَارِ كَلَامِهِ ، وَلَيْسَ لِوَلِيِّهِ الْمُطَالَبَةُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ شُرِعَ لِلتَّشَفِّي ، فَلَمْ يَقُمْ غَيْرُهُ مَقَامَهُ فِي اسْتِيفَائِهِ ، كَالْقِصَاصِ ، فَإِذَا بَلَغَ وَطَالَبَ ، أُقِيمُ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ .
وَلَوْ قَذَفَ غَائِبًا ، لَمْ يُقَمْ عَلَيْهِ الْحَدُّ حَتَّى يَقْدَمَ وَيُطَالِبَ ، إلَّا أَنْ يَثْبُتَ أَنَّهُ طَالَبَ فِي غَيْبَتِهِ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا تَجُوزَ إقَامَتُهُ فِي غَيْبَتِهِ بِحَالٍ ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَعْفُوَ بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ ، فَيَكُونَ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ ؛ لِكَوْنِهِ يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ .
وَلَوْ قَذَفَ عَاقِلًا ، فَجُنَّ بَعْدَ قَذْفِهِ وَقَبْلَ طَلَبِهِ ، لَمْ تَجُزْ إقَامَتُهُ حَتَّى يُفِيقَ وَيَطْلُبَ ، وَكَذَلِكَ إنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ ، فَإِنْ كَانَ قَدْ طَالَبَ بِهِ قَبْلَ جُنُونِهِ وَإِغْمَائِهِ ، جَازَتْ إقَامَتُهُ ، كَمَا لَوْ وَكَّلَ فِي اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ ، ثُمَّ جُنَّ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ قَبْلَ اسْتِيفَائِهِ .

( 7215 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِنْ كَانَ الْقَاذِفُ عَبْدًا أَوْ أَمَةً ، جُلِدَ أَرْبَعِينَ ، بِأَدْوَنَ مِنْ السَّوْطِ الَّذِي يُجْلَدُ بِهِ الْحُرُّ ) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الْعَبْدِ إذَا قَذَفَ الْحُرَّ الْمُحْصَنَ ؛ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ الْآيَةِ ، وَحَدُّهُ أَرْبَعُونَ ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ ؛ أَنَّهُ قَالَ : أَدْرَكْت أَبَا بَكْرٍ ، وَعُمَرَ ، وَعُثْمَانَ ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْخُلَفَاءِ ، فَلَمْ أَرَهُمْ يَضْرِبُونَ الْمَمْلُوكَ إذَا قَذَفَ إلَّا أَرْبَعِينَ .
وَرَوَى خِلَاسٌ ، أَنَّ عَلِيًّا قَالَ فِي عَبْدٍ قَذَفَ حُرًّا : نِصْفُ الْجَلْدِ .
وَجَلَدَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَبْدًا قَذَفَ حُرًّا ثَمَانِينَ .
وَبِهِ قَالَ قَبِيصَةُ ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ .
وَلَعَلَّهمْ ذَهَبُوا إلَى عُمُومِ الْآيَةِ .
وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ ؛ لِلْإِجْمَاعِ الْمَنْقُولِ عَنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ؛ وَلِأَنَّهُ حَدٌّ يَتَبَعَّضُ ، فَكَانَ الْعَبْدُ فِيهِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ الْحُرِّ ، كَحَدِّ الزِّنَا ، وَهُوَ يَخُصُّ عُمُومَ الْآيَةِ ، وَقَدْ عِيبَ عَلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ جَلْدُهُ الْعَبْدَ ثَمَانِينَ ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ : مَا رَأَيْنَا أَحَدًا قَبْلَهُ جَلَدَ الْعَبْدَ ثَمَانِينَ .
وَقَالَ سَعِيدٌ : حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : حَضَرْت عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، جَلَدَ عَبْدًا ثَمَانِينَ ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ مَنْ حَضَرَهُ مِنْ النَّاسِ ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ ، فَقَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ : إنِّي رَأَيْت وَاَللَّهِ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ، مَا رَأَيْت أَحَدًا جَلَدَ عَبْدًا فِي فِرْيَةٍ فَوْقَ أَرْبَعِينَ .
إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ أَرْبَعُونَ ، فَإِنَّهُ يَكُونُ بِأَدْوَنَ مِنْ السَّوْطِ الَّذِي يُجْلَدُ بِهِ الْحُرُّ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا خُفِّفَ فِي قَدْرِهِ ، خُفِّفَ فِي سَوْطِهِ ، كَمَا أَنَّ الْحُدُودَ فِي أَنْفُسِهَا كَمَا قَلَّ مِنْهَا ، كَانَ

سَوْطُهُ أَخَفَّ ، فَالْجَلْدُ فِي الشُّرْبِ أَخَفُّ مِنْهُ فِي الْقَذْفِ ، وَفِي الْقَذْفِ أَخَفُّ مِنْهُ فِي الزِّنَا .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُسَاوِيَ الْعَبْدُ الْحُرَّ فِي السَّوْطِ ؛ لِأَنَّهُ عَلَى النِّصْفِ ، وَلَا يَتَحَقَّقُ التَّنْصِيفُ إلَّا مَعَ الْمُسَاوَاةِ فِي السَّوْطِ .

( 7216 ) فَصْلٌ : وَإِذَا قَذَفَ وَلَدَهُ ، وَإِنْ نَزَلَ ، لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ عَلَيْهِ ، سَوَاءٌ كَانَ الْقَاذِفُ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً .
وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ ، وَالْحَسَنُ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَمَالِكٌ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ : عَلَيْهِ الْحَدُّ ؛ لِعُمُومِ الْآيَةِ ؛ وَلِأَنَّهُ حَدٌّ ، فَلَا تَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِهِ قَرَابَةُ الْوِلَادَةِ ، كَالزِّنَا .
وَلَنَا أَنَّهُ عُقُوبَةٌ تَجِبُ حَقًّا لِآدَمِيٍّ ، فَلَا يَجِبُ لِلْوَلَدِ عَلَى الْوَالِدِ ، كَالْقِصَاصِ ، أَوْ نَقُولُ : إنَّهُ حَقٌّ لَا يُسْتَوْفَى إلَّا بِالْمُطَالَبَةِ بِاسْتِيفَائِهِ ، فَأَشْبَهَ الْقِصَاصَ .
وَلِأَنَّ الْحَدَّ يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ ، فَلَا يَجِبُ لِلِابْنِ عَلَى أَبِيهِ كَالْقِصَاصِ ؛ وَلِأَنَّ الْأُبُوَّةَ مَعْنًى يُسْقِطُ الْقِصَاصَ ، فَمَنَعَتْ الْحَدَّ ، كَالرِّقِّ وَالْكُفْرِ ، وَهَذَا يَخُصُّ عُمُومَ الْآيَةِ .
وَمَا ذَكَرُوهُ يُنْتَقَضُ بِالسَّرِقَةِ ، فَإِنَّ الْأَبَ لَا يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ مَالِ ابْنِهِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقَذْفِ وَالزِّنَا : أَنَّ حَدَّ الزِّنَا خَالِصٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ، لَا حَقَّ لِلْآدَمِيِّ فِيهِ ، وَحَدَّ الْقَذْفِ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ ، فَلَا يَثْبُتُ لِلِابْنِ عَلَى أَبِيهِ ، كَالْقِصَاصِ ، وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ زَنَى بِجَارِيَةِ ابْنِهِ ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ حَدٌّ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّهُ لَوْ قَذَفَ أُمَّ ابْنِهِ ، وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ مِنْهُ ، فَمَاتَتْ قَبْلَ اسْتِيفَائِهِ ، لَمْ يَكُنْ لِابْنِهِ الْمُطَالَبَةُ بِالْحَدِّ ؛ لِأَنَّ مَا مَنَعَ ثُبُوتَهُ ابْتِدَاءً ، أَسْقَطَهُ طَارِئًا كَالْقِصَاصِ .
وَإِنْ كَانَ لَهَا ابْنٌ آخَرُ مِنْ غَيْرِهِ ، كَانَ لَهُ اسْتِيفَاؤُهُ إذَا مَاتَتْ بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ يَمْلِكُ بَعْضُ الْوَرَثَةِ اسْتِيفَاءَهُ كُلَّهُ ، بِخِلَافِ الْقِصَاصِ ، وَأَمَّا قَذْفُ سَائِرِ الْأَقَارِبِ ، فَيُوجِبُ الْحَدَّ عَلَى الْقَاذِفِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا .

( 7217 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِذَا قَالَ لَهُ : يَا لُوطِيُّ .
سُئِلَ عَمَّا أَرَادَ ، فَإِنْ قَالَ : أَرَدْت أَنَّك مِنْ قَوْمِ لُوطٍ .
فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ قَالَ أَرَدْت أَنَّك تَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ ، فَهُوَ كَمَنْ قَذَفَ بِالزِّنَا ) فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَصْلَانِ ( 7218 ) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ : أَنَّ مَنْ قَذَفَ رَجُلًا بِعَمَلِ قَوْمِ لُوطٍ ، إمَّا فَاعِلًا وَإِمَّا مَفْعُولًا ، فَعَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ .
وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَأَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ ، وَأَبُو ثَوْرٍ .
وَقَالَ عَطَاءٌ ، وَقَتَادَةُ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ : لَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ قَذَفَ بِمَا لَا يُوجِبُ الْحَدَّ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَنَا هُوَ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِيمَا مَضَى .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَذَفَ امْرَأَةً أَنَّهَا وُطِئَتْ فِي دُبُرِهَا ، أَوْ قَذَفَ رَجُلًا بِوَطْءِ امْرَأَةٍ فِي دُبُرِهَا ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، لَا حَدَّ عَلَيْهِ .
وَمَبْنَى الْخِلَافِ هَاهُنَا عَلَى الْخِلَافِ فِي وُجُوبِ حَدِّ الزِّنَا عَلَى فَاعِلِ ذَلِكَ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ ، فَأَمَّا إنْ قَذَفَهُ بِإِتْيَانِ بَهِيمَةٍ ، انْبَنَى ذَلِكَ عَلَى وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى فَاعِلِهِ ، فَمَنْ أَوْجَبَ الْحَدَّ عَلَى فَاعِلِهِ ، أَوْجَبَ حَدَّ الْقَذْفِ عَلَى الْقَاذِفِ بِهِ ، وَمَنْ لَا فَلَا .
وَكُلُّ مَا لَا يَجِبُ الْحَدُّ بِفِعْلِهِ ، لَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى الْقَاذِفِ بِهِ ، كَمَا لَوْ قَذَفَ إنْسَانًا بِالْمُبَاشَرَةِ دُونَ الْفَرْجِ ، أَوْ بِالْوَطْءِ بِالشُّبْهَةِ ، أَوْ قَذَفَ امْرَأَةً بِالْمُسَاحَقَةِ ، أَوْ بِالْوَطْءِ مُسْتَكْرَهَةً ، لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ عَلَى الْقَاذِفِ ؛ وَلِأَنَّهُ رَمَاهُ بِمَا لَا يُوجِبُ الْحَدَّ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَذَفَهُ بِاللَّمْسِ وَالنَّظَرِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : يَا كَافِرُ ، يَا فَاسِقُ ، يَا سَارِقُ ، يَا مُنَافِقُ ، يَا فَاجِرُ ، يَا خَبِيثُ ، يَا أَعْوَرُ ، يَا أَقْطَعُ ، يَا أَعْمَى ابْنَ الزَّمَنِ الْأَعْمَى الْأَعْرَجِ .
فَلَا حَدَّ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ ؛ لِأَنَّهُ قَذْفٌ بِمَا لَا يُوجِبُ الْحَدَّ

، فَلَمْ يُوجِبْ الْحَدَّ ، كَمَا لَوْ قَالَ يَا كَاذِبُ .
يَا نَمَّامُ .
وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَلَكِنَّهُ يُعَزَّرُ ؛ لِسَبِّ النَّاسِ وَأَذَاهُمْ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَذَفَ مَنْ لَا يُوجِبُ قَذْفُهُ الْحَدَّ .

( 7219 ) الْفَصْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ إذَا قَالَ : أَرَدْت أَنَّك مِنْ قَوْمِ لُوطٍ .
فَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ ؛ فَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ ، بِقَوْلِهِ : يَا لُوطِيُّ .
وَلَا يُسْمَعُ تَفْسِيرُهُ بِمَا يُحِيلُ الْقَذْفَ .
وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ ، وَنَحْوُهُ قَالَ الزُّهْرِيُّ ، وَمَالِكٌ .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ : أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ .
نَقَلَهَا الْمَرُّوذِيُّ .
وَنَحْوُ هَذَا قَالَ الْحَسَنُ ، وَالنَّخَعِيُّ .
قَالَ الْحَسَنُ : إذَا قَالَ : نَوَيْت أَنَّ دِينَهُ دِينُ لُوطٍ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ .
وَإِنْ : قَالَ أَرَدْت أَنَّك تَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ .
فَعَلَيْهِ الْحَدُّ .
وَوَجْهُ ذَلِكَ ، أَنَّهُ فَسَّرَ كَلَامَهُ بِمَا لَا يُوجِبُ الْحَدَّ ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ حَدٌّ ، كَمَا لَوْ فَسَّرَهُ بِهِ مُتَّصِلًا بِكَلَامِهِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ ، رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ : أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي غَضَبٍ ، قَالَ : إنَّهُ لَأَهْلٌ أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ ؛ لِأَنَّ قَرِينَةَ الْغَضَبِ تَدُلُّ عَلَى إرَادَةِ الْقَذْفِ .
بِخِلَافِ حَالِ الرِّضَا .
وَالصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ الرِّوَايَةُ الْأُولَى ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ لَا يُفْهَمُ مِنْهَا إلَّا الْقَذْفُ بِعَمَلِ قَوْمِ لُوطٍ ، فَكَانَتْ صَرِيحَةً فِيهِ ، كَقَوْلِهِ : يَا زَانِي .
وَلِأَنَّ قَوْمَ لُوطٍ لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ ، فَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ يُنْسَبَ إلَيْهِمْ .
( 7220 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَالَ : أَرَدْت أَنَّك عَلَى دِينِ لُوطٍ ، أَوْ أَنَّك تُحِبُّ الصِّبْيَانَ ، أَوْ تُقَبِّلَهُمْ ، أَوْ تَنْظُرُ إلَيْهِمْ ، أَوْ أَنَّك تَتَخَلَّقُ بِأَخْلَاقِ قَوْمِ لُوطٍ فِي أَنْدِيَتِهِمْ ، غَيْرَ إتْيَانِ الْفَاحِشَةِ ، أَوْ أَنَّك تَنْهَى عَنْ الْفَاحِشَةِ كَنَهْيِ لُوطٍ عَنْهَا ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ ، خُرِّجَ فِي هَذَا كُلِّهِ وَجْهَانِ ؛ بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ الْمَنْصُوصَتَيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ ؛ لِأَنَّ هَذَا فِي مَعْنَاهُ .

( 7221 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ : يَا مَعْفُوجُ ) الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ ، فِيمَنْ قَالَ : يَا مَعْفُوجُ .
أَنَّ عَلَيْهِ الْحَدَّ .
وَكَلَامُ الْخِرَقِيِّ يَقْتَضِي أَنَّهُ يُرْجَعُ إلَى تَفْسِيرِهِ ، فَإِنْ فَسَّرَهُ بِغَيْرِ الْفَاحِشَةِ ، مِثْلِ أَنْ قَالَ : أَرَدْت يَا مَفْلُوجُ أَوْ يَا مُصَابًا دُونَ الْفَرْجِ .
وَنَحْوَ هَذَا ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ فَسَّرَهُ بِمَا لَا حَدَّ فِيهِ .
وَإِنْ فَسَّرَهُ بِعَمَلِ قَوْمِ لُوطٍ ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ ، كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِهِ ، وَوَجْهُ الْقَوْلَيْنِ مَا تَقَدَّمَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا .

( 7222 ) فَصْلٌ : وَكَلَامُ الْخِرَقِيِّ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجِبَ الْحَدُّ عَلَى الْقَاذِفِ إلَّا بِلَفْظٍ صَرِيحٍ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ الْقَذْفِ ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ : يَا زَانِي .
أَوْ يَنْطِقَ بِاللَّفْظِ الْحَقِيقِيِّ فِي الْجِمَاعِ ، فَأَمَّا مَا عَدَاهُ مِنْ الْأَلْفَاظِ ، فَيُرْجَعُ فِيهِ إلَى تَفْسِيرِهِ ، لِمَا ذَكَرْنَا فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ ، فَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ : يَا مُخَنَّثُ .
أَوْ لِامْرَأَةٍ : يَا قَحْبَةُ .
وَفَسَّرَهُ بِمَا لَيْسَ بِقَذْفٍ ، مِثْلِ أَنْ يُرِيدَ بِالْمُخَنَّثِ أَنَّ فِيهِ طِبَاعَ التَّأْنِيثِ وَالتَّشَبُّهَ بِالنِّسَاءِ ، وَبِالْقَحْبَةِ أَنَّهَا تَسْتَعِدُّ لِذَلِكَ ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ .
وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : يَا فَاجِرَةُ ، يَا خَبِيثَةُ .
وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ فِي هَذَا رِوَايَةً أُخْرَى ، أَنَّهُ قَذْفٌ صَرِيحٌ ، وَيَجِبُ بِهِ الْحَدُّ .
وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ .
قَالَ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ : لَا أَرَى الْحَدَّ إلَّا عَلَى مَنْ صَرَّحَ بِالْقَذْفِ وَالشَّتِيمَةِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : الْحَدُّ عَلَى مَنْ نَصَبَ الْحَدَّ نَصْبًا .
وَلِأَنَّهُ قَوْلٌ غَيْرُ الزِّنَا ، فَلَمْ يَكُنْ صَرِيحًا فِي الْقَذْفِ ، كَقَوْلِهِ : يَا فَاسِقُ .
وَإِنْ فَسَّرَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِالزِّنَا ، فَلَا شَكَّ فِي كَوْنِهِ قَذْفًا .

( 7223 ) فَصْلٌ : وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ ، فِي التَّعْرِيضِ بِالْقَذْفِ ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ لِمَنْ يُخَاصِمُهُ : مَا أَنْتَ بِزَانٍ ، مَا يَعْرِفُك النَّاسُ بِالزِّنَا ، يَا حَلَالُ ابْنَ الْحَلَالِ .
أَوْ يَقُولَ : مَا أَنَا بِزَانٍ ، لَا أُمِّي بِزَانِيَةٍ .
فَرَوَى عَنْهُ حَنْبَلٌ : لَا حَدَّ عَلَيْهِ ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ ، وَاخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ .
وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ ، وَقَتَادَةُ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ يُعَرِّضُ بِنَفْيِهِ ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ بِذَلِكَ حَدٌّ وَلَا غَيْرُهُ .
وَقَدْ فَرَّقَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ التَّعْرِيضِ بِالْخِطْبَةِ وَالتَّصْرِيحِ بِهَا ، فَأَبَاحَ التَّعْرِيضَ فِي الْعِدَّةِ ، وَحَرَّمَ التَّصْرِيحَ ، فَكَذَلِكَ فِي الْقَذْفِ ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ كَلَامٍ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ لَمْ يَكُنْ قَذْفًا ، كَقَوْلِهِ : يَا فَاسِقُ .
وَرَوَى الْأَثْرَمُ وَغَيْرُهُ عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّ عَلَيْهِ الْحَدَّ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ ؛ لِأَنَّ عُمَرَ حِينَ شَاوَرَهُمْ فِي الَّذِي قَالَ لِصَاحِبِهِ : مَا أَنَا بِزَانٍ ، وَلَا أُمِّي بِزَانِيَةٍ .
فَقَالُوا : قَدْ مَدَحَ أَبَاهُ وَأُمَّهُ .
فَقَالَ عُمَرُ : قَدْ عَرَّضَ بِصَاحِبِهِ .
فَجَلَدَهُ الْحَدَّ .
وَقَالَ مَعْمَرٌ : إنَّ عُمَرَ كَانَ يَجْلِدُ الْحَدَّ فِي التَّعْرِيضِ .
وَرَوَى الْأَثْرَمُ ، أَنَّ عُثْمَانَ جَلَدَ رَجُلًا قَالَ لِآخَرَ : يَا ابْنَ شَامَّةِ الْوَذْرِ .
يُعَرِّضُ لَهُ بِزِنَا أُمِّهِ .
وَالْوَذْرُ : قِدْرُ اللَّحْمِ .
يُعَرِّضُ لَهُ بِكَمَرِ الرِّجَالِ وَلِأَنَّ الْكِنَايَةَ مَعَ الْقَرِينَةِ الصَّارِفَةِ إلَى أَحَدِ مُحْتَمَلَاتِهَا ، كَالصَّرِيحِ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ إلَّا ذَلِكَ الْمَعْنَى ، وَلِذَلِكَ وَقَعَ الطَّلَاقُ بِالْكِنَايَةِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي حَالِ الْخُصُومَةِ ، وَلَا وُجِدَتْ قَرِينَةٌ تَصْرِفُ إلَى الْقَذْفِ ، فَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ

لَا يَجُوزُ قَذْفًا .
وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ مِنْ صُوَرِ التَّعْرِيضِ ، أَنْ يَقُولَ لِزَوْجَةِ آخَرَ : قَدْ فَضَحْته ، وَغَطَّيْت رَأْسَهُ ، وَجَعَلْت لَهُ قُرُونًا ، وَعَلَّقْت عَلَيْهِ أَوْلَادًا مِنْ غَيْرِهِ ، وَأَفْسَدْت فِرَاشَهُ ، وَنَكَّسْت رَأْسَهُ .
وَذَكَرَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ رِوَايَتَيْنِ .
وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ ، أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ رَجَعَ عَنْ الْقَوْلِ بِوُجُوبِ الْحَدِّ فِي التَّعْرِيضِ .

( 7224 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَالَ لِرَجُلٍ يَا دَيُّوثُ ، يَا كَشْخَانُ .
فَقَالَ أَحْمَدُ : يُعَزَّرُ .
قَالَ إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ : الدَّيُّوثُ الَّذِي يُدْخِلُ الرِّجَالَ عَلَى امْرَأَتِهِ .
وَقَالَ ثَعْلَبُ : الْقَرْطَبَانُ الَّذِي يَرْضَى أَنْ يَدْخُلَ الرِّجَالُ عَلَى امْرَأَتِهِ .
وَقَالَ : الْقَرْنَانُ وَالْكَشْحَانُ ، لَمْ أَرَهُمَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ ، وَمَعْنَاهُمَا عِنْدَ الْعَامَّةِ مِثْلُ مَعْنَى الدَّيُّوثِ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ .
فَعَلَى الْقَاذِفِ بِهِ التَّعْزِيرُ ، عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ فِي الدَّيُّوثِ ؛ لِأَنَّهُ قَذَفَهُ بِمَا لَا حَدَّ فِيهِ .
وَقَالَ خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ أَبِيهِ ، فِي الرَّجُلِ يَقُولُ لِلرَّجُلِ : يَا قَرْنَانُ : إذَا كَانَ لَهُ أَخَوَاتٌ أَوْ بَنَاتٌ فِي الْإِسْلَامِ ، ضُرِبَ الْحَدَّ .
يَعْنِي أَنَّهُ قَاذِفٌ لَهُنَّ .
وَقَالَ خَالِدٌ ، عَنْ أَبِيهِ الْقَرْنَانُ عِنْدَ الْعَامَّةِ : مَنْ لَهُ بَنَاتٌ .
وَالْكَشْحَانُ : مَنْ لَهُ أَخَوَاتٌ .
يَعْنِي - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - إذَا كَانَ يُدْخِلُ الرِّجَالَ عَلَيْهِنَّ .
وَالْقَوَّادُ عِنْدَ الْعَامَّةِ : السِّمْسَارُ فِي الزِّنَا .
وَالْقَذْفُ بِذَلِكَ كُلِّهِ يُوجِبُ التَّعْزِيرَ ؛ لِأَنَّهُ قَذْفٌ بِمَا لَا يُوجِبُ الْحَدَّ .

( 7225 ) فَصْلٌ : وَإِذَا نَفَى رَجُلًا عَنْ أَبِيهِ ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
وَكَذَلِكَ إذَا نَفَاهُ عَنْ قَبِيلَتِهِ .
وَبِهَذَا قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ .
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَحَمَّادٌ ، إذَا نَفَاهُ عَنْ أَبِيهِ وَكَانَتْ أُمُّهُ مُسْلِمَةً ، وَإِنْ كَانَتْ ذِمِّيَّةً أَوْ رَقِيقَةً ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ لَهَا .
وَوَجْهُ الْأَوَّلِ مَا رَوَى الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ { لَا أُوتَى بِرَجُلٍ يَقُولُ : إنَّ كِنَانَةَ لَيْسَتْ مِنْ قُرَيْشٍ .
إلَّا جَلَدْتُهُ } وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ، أَنَّهُ قَالَ لَا جَلْدَ إلَّا فِي اثْنَيْنِ ؛ رَجُلٍ قَذَفَ مُحْصَنَةً أَوْ نَفَى رَجُلًا عَنْ أَبِيهِ .
وَهَذَا لَا يَقُولُهُ إلَّا تَوْقِيفًا .
فَأَمَّا إنْ نَفَاهُ عَنْ أُمِّهِ ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْذِفْ أَحَدًا بِالزِّنَا .
وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ : إنْ لَمْ تَفْعَلْ كَذَا ، فَلَسْت بِابْنِ فُلَانٍ .
فَلَا حَدَّ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ ، وَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجِبَ الْحَدُّ بِنَفْيِ الرَّجُلِ عَنْ قَبِيلَتِهِ ؛ وَلِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَعَيَّنُ فِيهِ الرَّمْيُ بِالزِّنَا ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ لِلْأَعْجَمِيِّ : إنَّك عَرَبِيُّ .
وَلَوْ قَالَ لِلْعَرَبِيِّ : أَنْتَ نَبَطِيٌّ .
أَوْ فَارِسِيٌّ .
فَلَا حَدَّ فِيهِ ، وَعَلَيْهِ التَّعْزِيرُ .
نَصَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّك نَبَطِيُّ اللِّسَانِ أَوْ الطَّبْعِ .
وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ ، رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّ عَلَيْهِ الْحَدَّ ، كَمَا لَوْ نَفَاهُ عَنْ أَبِيهِ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ غَيْرَ الْقَذْفِ احْتِمَالًا كَثِيرًا ، فَلَا يَتَعَيَّنُ صَرْفُهُ إلَيْهِ .
وَمَتَى فَسَّرَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِالْقَذْفِ ، فَهُوَ قَاذِفٌ .

( 7226 ) فَصْلٌ : وَإِذَا قَذَفَ رَجُلٌ رَجُلًا ، فَقَالَ آخَرُ : صَدَقْت ، فَالْمُصَدِّقُ قَاذِفٌ أَيْضًا فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّ تَصْدِيقَهُ يَنْصَرِفُ إلَى مَا قَالَهُ ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ قَالَ لِي عَلَيْك أَلْفٌ ، فَقَالَ : صَدَقْت .
كَانَ إقْرَارًا بِهَا .
وَلَوْ قَالَ : أَعْطِنِي ثَوْبِي هَذَا .
فَقَالَ : صَدَقْت .
كَانَ إقْرَارًا .
وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ ، لَا يَكُونُ قَاذِفًا .
وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِتَصْدِيقِهِ فِي غَيْرِ الْقَذْفِ .
وَلَوْ قَالَ أَخْبَرَنِي فُلَانٌ أَنَّك زَنَيْت .
لَمْ يَكُنْ قَاذِفًا ، سَوَاءٌ كَذَّبَهُ الْمُخْبَرُ عَنْهُ أَوْ صَدَّقَهُ .
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ ، أَنَّهُ يَكُونُ قَاذِفًا إذَا كَذَّبَهُ الْآخَرُ .
وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ ، وَمَالِكٌ .
وَنَحْوُهُ عَنْ الزُّهْرِيِّ ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِزِنَاهُ .
وَلَنَا أَنَّهُ إنَّمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ قَدْ قُذِفَ ، فَلَمْ يَكُنْ قَذْفًا ، كَمَا لَوْ شَهِدَ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَدْ قَذَفَ رَجُلًا .

( 7227 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَالَ : أَنْتِ أَزْنَى مِنْ فُلَانٍ ، أَوْ أَزْنَى النَّاسِ ، فَهُوَ قَاذِفٌ لَهُ .
وَهَلْ يَكُونُ قَاذِفًا لِلثَّانِي ؟ فِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا : يَكُونُ قَاذِفًا لَهُ اخْتَارَهُ الْقَاضِي ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الزِّنَا إلَيْهِمَا ، وَجَعَلَ أَحَدَهُمَا فِيهِ أَبْلَغَ مِنْ الْآخَرِ ، فَإِنَّ لَفْظَةَ أَفْعَلَ لِلتَّفْضِيلِ ، فَيَقْتَضِي اشْتِرَاكَ الْمَذْكُورَيْنِ فِي أَصْلِ الْفِعْلِ ، وَتَفْضِيلَ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ فِيهِ ، كَقَوْلِهِ : أَجْوَدُ مِنْ حَاتِمٍ .
وَالثَّانِي : يَكُونُ قَاذِفًا لِلْمُخَاطَبِ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّ لَفْظَةَ أَفْعَلَ قَدْ تُسْتَعْمَلُ لِلْمُنْفَرِدِ بِالْفِعْلِ ، كَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { أَفَمَنْ يَهْدِي إلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إلَّا أَنْ يُهْدَى } .
وَقَالَ تَعَالَى : { فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ } .
وَقَالَ لُوطٌ : { بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ } .
أَيْ : مِنْ أَدْبَارِ الرِّجَالِ ، وَلَا طَهَارَةَ فِيهِمْ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ : لَيْسَ بِقَذْفٍ لِلْأَوَّلِ وَلَا لِلثَّانِي ، إلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْقَذْفَ .
وَلَنَا أَنَّ مَوْضُوعَ اللَّفْظِ يَقْتَضِي مَا ذَكَرْنَاهُ ، فَحُمِلَ عَلَيْهِ ، كَمَا لَوْ قَالَ : أَنْتَ زَانٍ .

( 7228 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَالَ : زَنَأْت .
مَهْمُوزًا .
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ ، وَأَبُو الْخَطَّابِ : هُوَ قَذْفٌ ؛ لِأَنَّ عَامَّةَ النَّاسِ لَا يَفْهَمُونَ مِنْ ذَلِكَ إلَّا الْقَذْفَ ، فَكَانَ قَذْفًا ، كَمَا لَوْ قَالَ : زَنَيْت .
وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ : إنْ كَانَ عَامِّيًّا ، فَهُوَ قَذْفٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُرِيدُ بِهِ إلَّا الْقَذْفَ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ ، لَمْ يَكُنْ قَذْفًا ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ ، طَلَعْت ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُرِيدُ مَوْضُوعَهُ .
وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي كَوْنِهِ قَذْفًا وَجْهَانِ .
وَإِنْ قَالَ زَنَأْت فِي الْجَبَلِ .
فَالْحُكْمُ فِيهِ ، كَمَا لَوْ قَالَ : زَنَأْت .
وَلَمْ يَقُلْ : فِي الْجَبَلِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ ، لَيْسَ بِقَذْفٍ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَيُسْتَحْلَفُ عَلَى ذَلِكَ .
وَلَنَا أَنَّهُ إذَا كَانَ عَامِّيًّا لَا يَعْرِفُ مَوْضُوعَهُ فِي اللُّغَةِ ، تَعَيَّنَ مُرَادُهُ فِي الْقَذْفِ ، وَلَمْ يُفْهَمْ مِنْهُ سِوَاهُ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَذْفًا ، كَمَا لَوْ فَسَّرَهُ بِالْقَذْفِ ، أَوْ لَحَنَ لَحْنًا غَيْرَ هَذَا .

( 7229 ) فَصْلٌ : فَإِنْ قَالَ لِرَجُلٍ : يَا زَانِيَةُ .
أَوْ لِامْرَأَةٍ : يَا زَانٍ ، فَهُوَ صَرِيحٌ فِي قَذْفِهِمَا .
اخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَاخْتَارَ ابْنُ حَامِدٍ أَنَّهُ لَيْسَ بِقَذْفٍ ، إلَّا أَنْ يُفَسِّرَهُ بِهِ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ : يَا زَانِيَةُ أَيْ : يَا عَلَّامَةُ فِي الزِّنَا ، كَمَا يُقَالُ لِلْعَالِمِ : عَلَّامَةٌ .
وَلِكَثِيرِ الرِّوَايَةِ : رَاوِيَةٌ .
وَلِكَثِيرِ الْحِفْظِ : حَفَظَةٌ .
وَلَنَا أَنَّ مَا كَانَ قَذْفًا لِأَحَدِ الْجِنْسَيْنِ ، كَانَ قَذْفًا لِلْآخَرِ ، كَقَوْلِهِ : زَنَيْت .
بِفَتْحِ التَّاءِ وَبِكَسْرِهَا لَهُمَا جَمِيعًا ؛ وَلِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ خِطَابٌ لَهُمَا ، وَإِشَارَةٌ إلَيْهِمَا بِلَفْظِ الزِّنَا ، وَذَلِكَ يُغْنِي عَنْ التَّمْيِيزِ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ وَحَذْفِهَا .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لِلْمَرْأَةِ : يَا شَخْصًا زَانِيًا : أَوْ لِلرَّجُلِ : يَا نَسَمَةً زَانِيَةً .
كَانَ قَاذِفًا .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّهُ يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّهُ عَلَّامَةٌ فِي الزِّنَا ، لَا يَصِحُّ ، فَإِنَّ مَا كَانَ اسْمًا لِلْفِعْلِ إذَا دَخَلَتْهُ الْهَاءُ كَانَتْ لِلْمُبَالَغَةِ ، كَقَوْلِهِمْ : حَفَظَةٌ .
لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْحِفْظِ ، وَرَاوِيَةٌ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الرِّوَايَةِ .
وَكَذَلِكَ هُمَزَةٌ وَلُمَزَةٌ وَصُرَعَةٌ .
وَلِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يُذَكِّرُ الْمُؤَنَّثَ ، وَيُؤَنِّثُ الْمُذَكَّرَ ، وَلَا يَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِ الْمُخَاطَبِ بِهِ مُرَادًا بِمَا يُرَادُ بِاللَّفْظِ الصَّحِيحِ .

( 7230 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَالَ لِرَجُلٍ : زَنَيْت بِفُلَانَةَ .
كَانَ قَاذِفًا لَهُمَا .
وَقَدْ نُقِلَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِرَجُلٍ : يَا نَاكِحَ أُمِّهِ .
مَا عَلَيْهِ ؟ قَالَ : إنْ كَانَتْ أُمُّهُ حَيَّةً ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ لِلرَّجُلِ .
وَلِأُمِّهِ حَدٌّ .
وَقَالَ مُهَنَّا : سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ : إذَا قَالَ الرَّجُلُ لِرَجُلٍ : يَا زَانِي ابْنَ الزَّانِي .
، قَالَ عَلَيْهِ حَدَّانِ قُلْت : أَبَلَغَك فِي هَذَا شَيْءٌ ؟ قَالَ : مَكْحُولٌ قَالَ : فِيهِ حَدَّانِ .
وَإِنْ أَقَرَّ إنْسَانٌ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ ، فَهُوَ قَاذِفٌ لَهَا ، سَوَاءٌ أَلَزِمَهُ حَدُّ الزِّنَا بِإِقْرَارِهِ أَوْ لَمْ يَلْزَمْهُ .
وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ ، وَأَبُو ثَوْرٍ .
وَيُشْبِهُ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَلْزَمُهُ حَدُّ الْقَذْفِ ؛ لِأَنَّهُ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الزِّنَا بِهَا مِنْ غَيْرِ زِنَاهَا ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ مُكْرَهَةً ، أَوْ مَوْطُوءَةً بِشُبْهَةٍ .
وَلَنَا مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ ، { أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَكْرِ بْنِ لَيْثٍ ، أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقَرَّ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ ، فَجَلَدَهُ مِائَةً ، وَكَانَ بِكْرًا ، ثُمَّ سَأَلَهُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمَرْأَةِ ، فَقَالَتْ : كَذَبَ وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ .
فَجَلَدَهُ حَدَّ الْفِرْيَةِ ثَمَانِينَ } .
وَالِاحْتِمَالُ الَّذِي ذَكَرَهُ لَا يَنْفِي الْحَدَّ ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ قَالَ : يَا نَائِكَ أُمِّهِ .
فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ ، مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ فَعَلَ ذَلِكَ بِشُبْهَةٍ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّهُ جُلِدَ رَجُلٌ قَالَ لِرَجُلٍ ذَلِكَ .
وَيَتَخَرَّجُ لَنَا مِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، بِنَاءً عَلَى مَا إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ : يَا زَانِيَةُ .
فَقَالَتْ : بِك زَنَيْت .
فَإِنَّ أَصْحَابَنَا قَالُوا : لَا حَدَّ عَلَيْهَا فِي قَوْلِهَا : بِك زَنَيْت ؛ لِاحْتِمَالِ وُجُودِ الزِّنَا بِهِ مَعَ كَوْنِهِ وَاطِئًا بِشُبْهَةٍ ، وَلَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَيْهِ ؛ لِتَصْدِيقِهَا إيَّاهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : عَلَيْهِ الْحَدُّ دُونَهَا ،

وَلَيْسَ هَذَا بِإِقْرَارٍ صَحِيحٍ .
وَلَنَا أَنَّهَا صَدَّقَتْهُ ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ حَدٌّ ، كَمَا لَوْ قَالَتْ : صَدَقْت .
وَلَوْ قَالَ : يَا زَانِيَةُ .
قَالَتْ : أَنْتَ أَزْنَى مِنِّي .
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : هِيَ كَاَلَّتِي قَبْلَهَا فِي سُقُوطِ الْحَدِّ عَنْهُ .
وَيَلْزَمُهَا لَهُ هَاهُنَا حَدُّ الْقَذْفِ ، بِخِلَافِ الَّتِي قَبْلَهَا ؛ لِأَنَّهَا أَضَافَتْ إلَيْهِ الزِّنَا ، وَفِي الَّتِي قَبْلَهَا أَضَافَتْهُ إلَى نَفْسِهَا .

( 7231 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَمَنْ قَذَفَ رَجُلًا ، فَلَمْ يُقَمْ الْحَدُّ حَتَّى زَنَى الْمَقْذُوفُ ، لَمْ يَزُلْ الْحَدُّ عَنْ الْقَاذِفِ ) وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَالْمُزَنِيُّ ، وَدَاوُد .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ : لَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الشُّرُوطَ تُعْتَبَرُ اسْتِدَامَتُهَا إلَى حَالَةِ إقَامَةِ الْحَدِّ ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ ارْتَدَّ أَوْ جُنَّ ، لَمْ يُقَمْ الْحَدُّ ؛ وَلِأَنَّ وُجُودَ الزِّنَا مِنْهُ يُقَوِّي قَوْلَ الْقَاذِفِ ، وَيَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ هَذَا الْفِعْلِ مِنْهُ ، فَأَشْبَهَ الشَّهَادَةَ إذَا طَرَأَ الْفِسْقُ بَعْدَ أَدَائِهَا قَبْلَ الْحُكْمِ بِهَا .
وَلَنَا أَنَّ الْحَدَّ قَدْ وَجَبَ وَتَمَّ بِشُرُوطِهِ ، فَلَا يَسْقُطُ بِزَوَالِ شَرْطِ الْوُجُوبِ ، كَمَا لَوْ زَنَى بِأَمَةٍ ثُمَّ اشْتَرَاهَا ، أَوْ سَرَقَ عَيْنًا ، فَنَقَصَتْ قِيمَتُهَا أَوْ مَلَكَهَا ، وَكَمَا لَوْ جُنَّ الْمَقْذُوفُ بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّ الشُّرُوطَ تُعْتَبَرُ اسْتِدَامَتُهَا .
لَا يَصِحُّ ؛ فَإِنَّ الشُّرُوطَ لِلْوُجُوبِ ، فَيُعْتَبَرُ وُجُودُهَا إلَى حِينِ الْوُجُوبِ ، وَقَدْ وَجَبَ الْحَدُّ ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ مَلَكَ الْمُطَالَبَةَ ، وَيَبْطُلُ بِالْأُصُولِ الَّتِي قِسْنَا عَلَيْهَا .
وَأَمَّا إذَا جُنَّ مَنْ وَجَبَ لَهُ الْحَدُّ ، فَلَا يَسْقُطُ الْحَدُّ ، وَإِنَّمَا يَتَأَخَّرُ اسْتِيفَاؤُهُ ؛ لِتَعَذُّرِ الْمُطَالَبَةِ بِهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ غَابَ مَنْ لَهُ الْحَدُّ .
وَإِنْ ارْتَدَّ مَنْ لَهُ الْحَدُّ لَمْ يَمْلِكْ الْمُطَالَبَةَ ؛ لِأَنَّ حُقُوقَهُ وَأَمْلَاكَهُ تَزُولُ أَوْ تَكُونُ مَوْقُوفَةً .
وَفَارَقَ الشَّهَادَةَ ، فَإِنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطٌ لِلْحُكْمِ بِهَا ، فَيُعْتَبَرُ وُجُودُهَا إلَى حِينِ الْحُكْمِ بِهَا ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا ، فَإِنَّ الْعِفَّةَ شَرْطٌ لِلْوُجُوبِ ، فَلَا تُعْتَبَرُ إلَّا إلَى حِينِ الْوُجُوبِ .

( 7232 ) فَصْلٌ : وَلَوْ وَجَبَ الْحَدُّ عَلَى ذِمِّيٍّ ، أَوْ مُرْتَدٍّ ، فَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ، ثُمَّ عَادَ ، لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَسْقُطُ .
وَلَنَا أَنَّهُ حَدٌّ وَجَبَ ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِدُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ ، كَمَا لَوْ كَانَ مُسْلِمًا دَخَلَ بِأَمَانٍ .

( 7233 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَمَنْ قَذَفَ مُشْرِكًا أَوْ عَبْدًا ، أَوْ مُسْلِمًا لَهُ دُونَ الْعَشْرِ سِنِينَ ، أَوْ مُسْلِمَةً لَهَا دُونَ التِّسْعِ سِنِينَ ، أُدِّبَ ، وَلَمْ يُحَدَّ ) قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْحُرِّيَّةَ ، وَإِدْرَاكَ سِنٍّ يُجَامِعُ مِثْلُهُ فِي مِثْلِهِ شُرُوطٌ لِوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى قَاذِفِهِ ، فَإِذَا انْتَفَى أَحَدُهَا ، لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ عَلَى قَاذِفِهِ وَلَكِنْ يَجِبُ تَأْدِيبُهُ ، رَدْعًا لَهُ عَنْ أَعْرَاضِ الْمَعْصُومِينَ ، وَكَفًّا لَهُ عَنْ أَذَاهُمْ ، وَحَدُّ الصَّبِيِّ الَّذِي لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ بِقَذْفِهِ ، أَنْ يَبْلُغَ الْغُلَامُ عَشْرًا ، وَالْجَارِيَةُ تِسْعًا ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ .
وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ ذَلِكَ .

( 7234 ) فَصْلٌ : فَإِنْ اخْتَلَفَ الْقَاذِفُ وَالْمَقْذُوفُ ، فَقَالَ الْقَاذِفُ : كُنْت صَغِيرًا حِينَ قَذَفْتُك .
وَقَالَ الْمَقْذُوفُ : كُنْت كَبِيرًا .
فَذَكَرَ الْقَاضِي ، أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْقَاذِفِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الصِّغَرُ وَبَرَاءَةُ الذِّمَّةِ مِنْ الْحَدِّ .
فَإِنْ أَقَامَ الْقَاذِفُ بَيِّنَةً أَنَّهُ قَذَفَهُ صَغِيرًا ، وَأَقَامَ الْمَقْذُوفُ بَيِّنَةً أَنَّهُ قَذَفَهُ كَبِيرًا ، وَكَانَتَا مُطْلَقَتَيْنِ ، أَوْ مُؤَرَّخَتَيْنِ تَارِيخَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ ، فَهُمَا قَذْفَانِ ؛ مُوجَبُ أَحَدِهِمَا التَّعْزِيرُ ، وَالثَّانِي الْحَدُّ ، وَإِنْ بَيَّنَتَا تَارِيخًا وَاحِدًا ، وَقَالَتْ إحْدَاهُمَا : وَهُوَ صَغِيرٌ .
وَقَالَتْ الْأُخْرَى : وَهُوَ كَبِيرٌ تَعَارَضَتَا وَسَقَطَتَا .
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ تَارِيخُ بَيِّنَةِ الْمَقْذُوفِ قَبْلَ تَارِيخِ بَيِّنَةِ الْقَاذِفِ .

( 7235 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَمَنْ قَذَفَ مَنْ كَانَ مُشْرِكًا ، وَقَالَ : أَرَدْت أَنَّهُ زَنَى وَهُوَ مُشْرِكٌ .
لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى قَوْلِهِ ، وَحُدَّ الْقَاذِفُ ، إذَا طَلَبَ الْمَقْذُوفُ .
وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ عَبْدًا ) .
إنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ قَذَفَهُ فِي حَالِ كَوْنِهِ مُسْلِمًا مُحْصَنًا ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْحَدِّ عَلَيْهِ ؛ لِعُمُومِ الْآيَةِ وَوُجُودِ الْمَعْنَى ، فَإِذَا ادَّعَى مَا يُسْقِطُ الْحَدَّ عَنْهُ ، لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ ، كَمَا لَوْ قَذَفَ كَبِيرًا ، ثُمَّ قَالَ : أَرَدْت أَنَّهُ زَنَى وَهُوَ صَغِيرٌ ، فَأَمَّا إنْ قَالَ لَهُ : زَنَيْت فِي شِرْكِك .
فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ .
وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ ، عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةً أُخْرَى .
وَعَنْ مَالِكٍ ، أَنَّهُ يُحَدُّ .
وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ ؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ وُجِدَ فِي حَالِ كَوْنِهِ مُحْصَنًا .
وَلَنَا أَنَّهُ أَضَافَ الْقَذْفَ إلَى حَالٍ نَاقِصَةٍ ، أَشْبَهَ مَا لَوْ قَذَفَهُ فِي حَالِ الشِّرْكِ ؛ وَلِأَنَّهُ قَذَفَهُ بِمَا لَا يُوجِبُ الْحَدَّ عَلَى الْمَقْذُوفِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَذَفَهُ بِالْوَطْءِ دُونَ الْفَرْجِ .
وَهَكَذَا الْحُكْمُ لَوْ قَذَفَ مَنْ كَانَ رَقِيقًا ، فَقَالَ : زَنَيْت فِي حَالِ رِقِّك .
أَوْ قَالَ زَنَيْت وَأَنْتَ طِفْلٌ .
وَإِنْ قَالَ : زَنَيْت وَأَنْتَ صَبِيٌّ أَوْ صَغِيرٌ .
سُئِلَ عَنْ الصِّغَرِ ، فَإِنْ فَسَّرَهُ بِصِغَرٍ لَا يُجَامِعُ فِي مِثْلِهِ ، فَهِيَ كَاَلَّتِي قَبْلَهَا ، وَإِنْ فَسَّرَهُ بِصِغَرٍ يُجَامِعُ فِي مِثْلِهِ ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ .
وَإِنْ قَالَ : زَنَيْت إذْ كُنْت مُشْرِكًا .
أَوْ : إذْ كُنْت رَقِيقًا .
فَقَالَ الْمَقْذُوفُ : مَا كُنْت مُشْرِكًا وَلَا رَقِيقًا .
نَظَرْنَا ، فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ مُشْرِكًا أَوْ رَقِيقًا ، فَهِيَ كَاَلَّتِي قَبْلَهَا ، وَإِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ رَقِيقًا كَذَلِكَ ، وَجَبَ الْحَدُّ عَلَى الْقَاذِفِ ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا : يَجِبُ الْحَدُّ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الشِّرْكِ وَالرِّقِّ ؛ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ

الْحُرِّيَّةُ ، وَإِسْلَامُ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ .
وَالثَّانِيَةُ : الْقَوْلُ قَوْلُ الْقَاذِفِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّةِ الْقَاذِفِ .
وَإِنْ قَالَ : زَنَيْت وَأَنْتَ مُشْرِكٌ .
فَقَالَ الْمَقْذُوفُ أَرَدْت قَذْفِي بِالزِّنَا وَالشِّرْكِ مَعًا .
وَقَالَ الْقَاذِفُ : بَلْ أَرَدْت قَذْفَك بِالزِّنَا إذْ كُنْت مُشْرِكًا .
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَاذِفِ .
اخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ .
وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ ؛ لِأَنَّ الْخِلَافَ فِي بَيِّنَتِهِ ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِهَا .
وَقَوْلُهُ : وَأَنْتَ مُشْرِكٌ ، مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ ، وَهُوَ حَالٌ لِقَوْلِهِ : زَنَيْت .
كَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { إلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ } .
وَقَالَ الْقَاضِي : يَجِبُ الْحَدُّ ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ : زَنَيْت .
خِطَابٌ فِي الْحَالِ ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ زِنَاهُ فِي الْحَالِ .
وَهَكَذَا إنْ قَالَ : زَنَيْت وَأَنْتَ عَبْدٌ .
وَإِنْ قَذَفَ مَجْهُولًا ، وَادَّعَى أَنَّهُ رَقِيقٌ أَوْ مُشْرِكٌ .
فَقَالَ الْمَقْذُوفُ : بَلْ أَنَا حُرٌّ مُسْلِمٌ .
فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : الْقَوْلُ قَوْلُ الْقَاذِفِ فِي الرِّقِّ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ مِنْ الْحَدِّ ، وَهُوَ يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ ، وَمَا ادَّعَاهُ مُحْتَمَلٌ ، فَيَكُونُ شُبْهَةً .
وَعَنْ الشَّافِعِيِّ ، كَالْوَجْهَيْنِ .
وَلَنَا أَنَّ الْأَصْلَ الْحُرِّيَّةُ ، وَهُوَ الظَّاهِرُ ، فَلَمْ يُلْتَفَتْ إلَى مَا خَالَفَهُ ، كَمَا لَوْ فَسَّرَ صَرِيحَ الْقَذْفِ بِمَا يُحِيلُهُ ، وَكَمَا لَوْ ادَّعَى أَنَّهُ مُشْرِكٌ .
فَإِنْ قِيلَ : الْإِسْلَامُ يَثْبُتُ بِقَوْلِهِ : أَنَا مُسْلِمٌ .
بِخِلَافِ الْحُرِّيَّةِ .
قُلْنَا : إنَّمَا يَثْبُتُ الْإِسْلَامُ بِقَوْلِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، وَأَمَّا الْمَاضِي ، فَلَا يَثْبُتُ بِمَا جَاءَ بَعْدَهُ ، فَلَا يَثْبُتُ كَوْنُهُ مُسْلِمًا حَالَ الْقَذْفِ بِقَوْلِهِ فِي حَالِ النِّزَاعِ ، فَاسْتَوَيَا .

( 7236 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَيُحَدُّ مَنْ قَذَفَ الْمُلَاعِنَةَ ) .
نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذَا .
وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَالْحَسَنِ ، وَالشَّعْبِيِّ ، وَطَاوُسٍ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَمَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ .
وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي الْمُلَاعِنَةِ ، أَنْ لَا تُرْمَى ، وَلَا يُرْمَى وَلَدُهَا .
، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَلِأَنَّ حَصَانَتَهَا لَمْ تَسْقُطْ بِاللِّعَانِ ، وَلَا يُبَتُّ الزِّنَا بِهِ ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهَا بِهِ حَدٌّ .
وَمَنْ قَذَفَ ابْنَ الْمُلَاعِنَةِ ، فَقَالَ : هُوَ وَلَدُ زِنًا .
فَعَلَيْهِ الْحَدُّ لِلْخَبَرِ وَالْمَعْنَى .
وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ : هُوَ مِنْ الَّذِي رُمِيَتْ بِهِ .
فَأَمَّا إنْ قَالَ : لَيْسَ هُوَ ابْنُ فُلَانٍ .
يَعْنِي الْمُلَاعِنَ ، وَأَرَادَ أَنَّهُ مَنْفِيٌّ عَنْهُ شَرْعًا ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ صَادِقٌ .

( 7237 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا إنْ ثَبَتَ زِنَاهُ بِبَيِّنَةٍ ، أَوْ إقْرَارٍ ، أَوْ حَدٍّ بِالزِّنَا ، فَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ ؛ لِأَنَّهُ صَادِقٌ ؛ وَلِأَنَّ إحْصَانَ الْمَقْذُوفِ قَدْ زَالَ بِالزِّنَا .
وَلَوْ قَالَ لِمَنْ زَنَى فِي شِرْكِهِ ، أَوْ لِمَنْ كَانَ مَجُوسِيًّا تَزَوَّجَ بِذَاتِ مَحْرَمِهِ بَعْدَ أَنْ أَسْلَمَ : يَا زَانِي .
فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ، إذَا فَسَّرَهُ بِذَلِكَ .
وَقَالَ مَالِكٌ : عَلَيْهِ الْحَدُّ ؛ لِأَنَّهُ قَذَفَ مُسْلِمًا لَمْ يَثْبُتْ زِنَاهُ فِي إسْلَامِهِ .
وَلَنَا أَنَّهُ قَذَفَ مَنْ ثَبَتَ زِنَاهُ ، أَشْبَهَ مَا لَوْ ثَبَتَ زِنَاهُ فِي الْإِسْلَامِ ؛ وَلِأَنَّهُ صَادِقٌ .
وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ كَلَامُ الْخِرَقِيِّ ، وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَيْهِ ؛ لِقَوْلِهِ : وَمَنْ قَذَفَ مَنْ كَانَ مُشْرِكًا ، وَقَالَ أَرَدْت أَنَّهُ زَنَى وَهُوَ مُشْرِكٌ ، لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى قَوْلِهِ وَحُدَّ .

( 7238 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِذَا قُذِفَتْ الْمَرْأَةُ ، لَمْ يَكُنْ لِوَلَدِهَا الْمُطَالَبَةُ ، إذَا كَانَتْ الْأُمُّ فِي الْحَيَاةِ ) .
وَإِنْ قُذِفَتْ أُمُّهُ وَهِيَ مَيِّتَةٌ ، مُسْلِمَةً كَانَتْ أَوْ كَافِرَةً ، حُرَّةً أَوْ أَمَةً ، حُدَّ الْقَاذِفُ إذَا طَالَبَ الِابْنُ ، وَكَانَ حُرًّا مُسْلِمًا .
أَمَّا إذَا قُذِفَتْ وَهِيَ فِي الْحَيَاةِ ، فَلَيْسَ لِوَلَدِهَا الْمُطَالَبَةُ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهَا ، فَلَا يُطَالِبُ بِهِ غَيْرُهَا ، وَلَا يَقُومُ غَيْرُهَا مَقَامَهَا ، سَوَاءٌ كَانَتْ مَحْجُورًا عَلَيْهَا أَوْ غَيْرَ مَحْجُورٍ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ يَثْبُتُ لِلتَّشَفِّي ، فَلَا يَقُومُ فِيهِ غَيْرُ الْمُسْتَحِقِّ مَقَامَهُ ، كَالْقِصَاصِ ، وَتُعْتَبَرُ حَصَانَتُهَا ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهَا ، فَتُعْتَبَرُ حَصَانَتُهَا ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ .
وَأَمَّا إنْ قُذِفَتْ وَهِيَ مَيِّتَةٌ ، فَإِنَّ لِوَلَدِهَا الْمُطَالَبَةَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْحٌ فِي نَسَبِهِ ؛ وَلِأَنَّهُ بِقَذْفِ أُمِّهِ يَنْسُبُهُ إلَى أَنَّهُ مِنْ زِنًا ، وَلَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ ، وَلِذَلِكَ تُعْتَبَرُ الْحَصَانَةُ فِيهِ ، وَلَا تُعْتَبَرُ الْحَصَانَةُ فِي أُمِّهِ ؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ لَهُ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : لَا يَجِبُ الْحَدُّ بِقَذْفِ مَيِّتَةٍ بِحَالٍ .
وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ ؛ لِأَنَّهُ قَذْفٌ لِمَنْ لَا تَصِحُّ مِنْهُ الْمُطَالَبَةُ ، فَأَشْبَهَ قَذْفَ الْمَجْنُونِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إنْ كَانَ الْمَيِّتُ مُحْصَنًا ، فَلِوَلِيِّهِ الْمُطَالَبَةُ ، وَيَنْقَسِمُ بِانْقِسَامِ الْمِيرَاثِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْصَنًا ، فَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُحْصَنٍ ، فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ بِقَذْفِهِ ، كَمَا لَوْ كَانَ حَيًّا .
وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا يَرَوْنَ الْحَدَّ عَلَى مَنْ يَقْذِفُ غَيْرَ مُحْصَنٍ حَيًّا وَلَا مَيِّتًا ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُحَدَّ بِقَذْفِ غَيْرِ الْمُحْصَنِ إذَا كَانَ حَيًّا ، فَلَأَنْ لَا يُحَدَّ بِقَذْفِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ أَوْلَى .
وَلَنَا ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُلَاعِنَةِ : { وَمَنْ رَمَى وَلَدَهَا ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ } .
يَعْنِي : مَنْ

رَمَاهُ بِأَنَّهُ وَلَدُ زِنًا .
وَإِذَا وَجَبَ بِقَذْفِ ابْنِ الْمُلَاعِنَةِ بِذَلِكَ ، فَبِقَذْفِ غَيْرِهِ أَوْلَى ، وَلِأَنَّ أَصْحَابَ الرَّأْيِ أَوْجَبُوا الْحَدَّ عَلَى مَنْ نَفَى رَجُلًا عَنْ أَبِيهِ ، إذَا كَانَ أَبَوَاهُ حُرَّيْنِ مُسْلِمَيْنِ أَوْ كَانَا مَيِّتَيْنِ ، وَالْحَدُّ إنَّمَا وَجَبَ لِلْوَلَدِ ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ لَا يُورَثُ عِنْدَهُمْ .
فَأَمَّا إنْ قُذِفَتْ أُمُّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ، وَهُوَ مُشْرِكٌ أَوْ عَبْدٌ ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ، فِي ظَاهِرِ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ ، سَوَاءٌ كَانَتْ الْأُمُّ حُرَّةً مُسْلِمَةً أَوْ لَمْ تَكُنْ .
وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ : إذَا قَالَ لِكَافِرٍ أَوْ عَبْدٍ : لَسْت لِأَبِيكَ ، وَأَبَوَاهُ حُرَّانِ مُسْلِمَانِ ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ .
وَإِنْ قَالَ لِعَبْدٍ ، أُمُّهُ حُرَّةٌ وَأَبُوهُ عَبْدٌ : لَسْت لِأَبِيك .
فَعَلَيْهِ الْحَدُّ ، وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ لِلْقَاذِفِ عِنْدَ أَبِي ثَوْرٍ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ : يَصِحُّ أَنْ يُحَدَّ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ هَذَا قَذْفٌ لِأُمِّهِ ، فَيُعْتَبَرُ إحْصَانُهَا دُونَ إحْصَانِهِ ؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ حَيَّةً ، كَانَ الْقَذْفُ لَهَا ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ مَيِّتَةً ؛ وَلِأَنَّ مَعْنَى هَذَا أَنَّ أُمَّك زَنَتْ ، فَأَتَتْ بِك مِنْ الزِّنَا ، فَإِذَا كَانَ مِنْ الزِّنَا مَنْسُوبًا إلَيْهَا ، كَانَتْ هِيَ الْمَقْذُوفَةَ دُونَ وَلَدِهَا .
وَلَنَا ، مَا ذَكَرْنَاهُ ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْقَذْفُ لَهَا ، لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ ؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمَ ، وَالْعَبْدَ لَا يَرِثُ الْحُرَّ ؛ وَلِأَنَّهُمْ لَا يُوجِبُونَ الْحَدَّ بِقَذْفِ مَيِّتَةٍ بِحَالٍ ، فَيَثْبُتُ أَنَّ الْقَذْفَ لَهُ ، فَيُعْتَبَرُ إحْصَانُهُ دُونَ إحْصَانِهَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - .

( 7239 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قُذِفَتْ جَدَّتُهُ ، فَقِيَاسُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ ، أَنَّهُ كَقَذْفِ أُمِّهِ ، إنْ كَانَتْ حَيَّةً ، فَالْحَقُّ لَهَا ، وَيُعْتَبَرُ إحْصَانُهَا ، وَلَيْسَ لِغَيْرِهَا الْمُطَالَبَةُ عَنْهَا ، وَإِنْ كَانَتْ مَيِّتَةً ، فَلَهُ الْمُطَالَبَةُ إذَا كَانَ مُحْصَنًا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْحٌ فِي نَسَبِهِ .
فَأَمَّا إنْ قَذَفَ أَبَاهُ أَوْ جَدَّهُ ، أَوْ أَحَدًا مِنْ أَقَارِبِهِ غَيْرَ أُمَّهَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ ، لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ بِقَذْفِهِ فِي ظَاهِرِ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَوْجَبَ بِقَذْفِ أُمِّهِ حَقًّا لَهُ ، لِنَفْيِ نَسَبِهِ ، لَا حَقًّا لِلْمَيِّتِ ، وَلِهَذَا لَمْ يُعْتَبَرْ إحْصَانُ الْمَقْذُوفَةِ ، وَاعْتُبِرَ إحْصَانُ الْوَلَدِ ، وَمَتَى كَانَ الْمَقْذُوفُ مِنْ غَيْرِ أُمَّهَاتِهِ ، لَمْ يَتَضَمَّنْ نَفْيَ نَسَبِهِ ، فَلَمْ يَجِبْ الْحَدُّ .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إنْ كَانَ الْمَيِّتُ مُحْصَنًا ، فَلِوَلِيِّهِ الْمُطَالَبَةُ بِهِ ، وَيَنْقَسِمُ انْقِسَامَ الْمِيرَاثِ ؛ لِأَنَّهُ قَذَفَ مُحْصَنًا ، فَيَجِبُ الْحَدُّ عَلَى قَاذِفِهِ ، كَالْحَيِّ .
وَلَنَا أَنَّهُ قَذْفُ مَنْ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْمُطَالَبَةُ ، فَلَمْ يَجِبْ الْحَدُّ بِقَذْفِهِ ، كَالْمَجْنُونِ ، أَوْ نَقُولُ : قَذَفَ مَنْ لَا يَجِبُ الْحَدُّ لَهُ ، فَلَمْ يَجِبْ ، كَقَذْفِ غَيْرِ الْمُحْصَنِ ، وَفَارَقَ قَذْفَ الْحَيِّ ، فَإِنَّ الْحَدَّ يَجِبُ لَهُ .

( 7240 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَمَنْ قَذَفَ أُمَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُتِلَ ، مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا ) يَعْنِي أَنَّ حَدَّهُ الْقَتْلُ ، وَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ .
نَصَّ عَلَيْهِ .
أَحْمَدُ .
وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ رِوَايَةً أُخْرَى ، أَنَّ تَوْبَتَهُ تُقْبَلُ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ ، مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْهُ رِدَّةٌ ، وَالْمُرْتَدُّ يُسْتَتَابُ ، وَتَصِحُّ تَوْبَتُهُ .
وَلَنَا أَنَّ هَذَا حَدُّ قَذْفٍ ، فَلَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ ، كَقَذْفِ غَيْرِ أُمِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ ، وَسَقَطَ حَدُّهُ ، لَكَانَ أَخَفَّ حُكْمًا مِنْ قَذْفِ آحَادِ النَّاسِ ؛ لِأَنَّ قَذْفَ غَيْرِهِ لَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ إقَامَتِهِ .
وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ ، فِيمَا إذَا كَانَ الْقَاذِفُ كَافِرًا فَأَسْلَمَ ، فَرُوِيَ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِإِسْلَامِهِ ؛ لِأَنَّهُ حَدُّ قَذْفٍ ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِالْإِسْلَامِ ، كَقَذْفِ غَيْرِهِ .
وَرُوِيَ أَنَّهُ يَسْقُطُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ سَبَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي كُفْرِهِ ، ثُمَّ أَسْلَمَ ، سَقَطَ عَنْهُ الْقَتْلُ ، فَسَبُّ نَبِيِّهِ أَوْلَى ؛ وَلِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ ، وَالْخِلَافُ فِي سُقُوطِ الْقَتْلِ عَنْهُ ، فَأَمَّا تَوْبَتُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَمَقْبُولَةٌ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ مِنْ الذُّنُوبِ كُلِّهَا ، وَالْحُكْمُ فِي قَذْفِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَالْحُكْمِ فِي قَذْفِ أُمِّهِ ؛ لِأَنَّ قَذْفَ أُمِّهِ إنَّمَا أَوْجَبَ الْقَتْلَ ؛ لِكَوْنِهِ قَذْفًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْحًا فِي نَسَبِهِ .
( 7241 ) فَصْلٌ : وَقَذْفُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَذْفُ أُمِّهِ ، رِدَّةٌ عَنْ الْإِسْلَامِ ، وَخُرُوجٌ عَنْ الْمِلَّةِ ، وَكَذَلِكَ سَبُّهُ بِغَيْرِ الْقَذْفِ ، إلَّا أَنَّ سَبَّهُ بِغَيْرِ الْقَذْفِ يَسْقُطُ بِالْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّ سَبَّ اللَّهِ تَعَالَى يَسْقُطُ بِالْإِسْلَامِ ، فَسَبُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْأَثَرِ { ، إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : شَتَمَنِي ابْنُ آدَمَ ، وَمَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَشْتُمَنِي ، أَمَّا شَتْمُهُ إيَّايَ فَقَوْلُهُ إنِّي اتَّخَذْت وَلَدًا ، وَأَنَا الْأَحَدُ الصَّمَدُ لَمْ أَلِدْ وَلَمْ أُولَدْ } .
وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ إسْلَامَ النَّصْرَانِيِّ الْقَائِلِ لِهَذَا الْقَوْلِ يَمْحُو ذَنْبَهُ .

( 7242 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِذَا قَذَفَ الْجَمَاعَةَ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ ، فَحَدٌّ وَاحِدٌ إذَا طَالَبُوا ، أَوْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ ) وَبِهَذَا قَالَ طَاوُسٌ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَقَتَادَةُ ، وَحَمَّادٌ ، وَمَالِكٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَصَاحِبَاهُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى ، وَإِسْحَاقُ .
وَقَالَ الْحَسَنُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ : لِكُلِّ وَاحِدٍ حَدٌّ كَامِلٌ .
وَعَنْ أَحْمَدَ مِثْلُ ذَلِكَ .
وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ ، كَالرِّوَايَتَيْنِ .
وَوَجْهُ هَذَا أَنَّهُ قَذَفَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ، فَلَزِمَهُ لَهُ حَدٌّ كَامِلٌ ، كَمَا لَوْ قَذَفَهُمْ بِكَلِمَاتٍ .
وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } .
وَلَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَ قَذْفِ وَاحِدٍ أَوْ جَمَاعَةٍ ؛ وَلِأَنَّ الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَى الْمُغِيرَةِ قَذَفُوا امْرَأَةً ، فَلَمْ يَحُدَّهُمْ عُمَرُ إلَّا حَدًّا وَاحِدًا ؛ وَلِأَنَّهُ قَذْفٌ وَاحِدٌ فَلَمْ يَجِبْ إلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ ، كَمَا لَوْ قَذَفَ وَاحِدًا ؛ وَلِأَنَّ الْحَدَّ إنَّمَا وَجَبَ بِإِدْخَالِ الْمَعَرَّةِ عَلَى الْمَقْذُوفِ بِقَذْفِهِ ، وَبِحَدٍّ وَاحِدٍ يَظْهَرُ كَذِبُ هَذَا الْقَاذِفِ ، وَتَزُولُ الْمَعَرَّةُ ، فَوَجَبَ أَنْ يُكْتَفَى بِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَذَفَ كُلَّ وَاحِدٍ قَذْفًا مُفْرَدًا ، فَإِنَّ كَذِبَهُ فِي قَذْفٍ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ كَذِبُهُ فِي آخَرَ ، وَلَا تَزُولُ الْمَعَرَّةُ عَنْ أَحَدِ الْمَقْذُوفِينَ بِحَدِّهِ لِلْآخَرِ .
فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّهُمْ إنْ طَلَبُوهُ جُمْلَةً ، حُدَّ لَهُمْ ، وَإِنْ طَلَبَهُ وَاحِدٌ ، أُقِيمَ الْحَدُّ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ ثَابِتٌ لَهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ ، فَأَيُّهُمْ طَالَبَ بِهِ اسْتَوْفَى وَسَقَطَ ، فَلَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ الطَّلَبُ بِهِ ، كَحَقِّ الْمَرْأَةِ ، عَلَى أَوْلِيَائِهَا تَزْوِيجُهَا ، إذَا قَامَ بِهِ وَاحِدٌ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ .
وَإِنْ أَسْقَطَهُ أَحَدُهُمْ ، فَلِغَيْرِهِ الْمُطَالَبَةُ بِهِ وَاسْتِيفَاؤُهُ ؛ لِأَنَّ الْمَعَرَّةَ عَنْهُ لَمْ تَزُلْ بِعَفْوِ صَاحِبِهِ ، وَلَيْسَ

لِلْعَافِي الطَّلَبُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ مِنْهُ .
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّهُمْ إنْ طَلَبُوهُ دَفْعَةً وَاحِدَةً ، فَحَدٌّ وَاحِدٌ ، وَكَذَلِكَ إنْ طَلَبُوهُ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ ، إلَّا أَنَّهُ إنْ لَمْ يُقَمْ حَتَّى طَلَبَهُ الْكُلُّ ، فَحَدٌّ وَاحِدٌ وَإِنْ طَلَبَهُ وَاحِدٌ ، فَأُقِيمَ لَهُ ، ثُمَّ طَلَبَهُ آخَرُ أُقِيمَ لَهُ ، وَكَذَلِكَ جَمِيعُهُمْ ، وَهَذَا قَوْلُ عُرْوَةَ ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا اجْتَمَعُوا عَلَى طَلَبِهِ ، وَقَعَ اسْتِيفَاؤُهُ بِجَمِيعِهِمْ ، وَإِذَا طَلَبَهُ وَاحِدٌ مُنْفَرِدًا كَانَ اسْتِيفَاؤُهُ لَهُ وَحْدَهُ ، فَلَمْ يَسْقُطْ حَقُّ الْبَاقِينَ بِغَيْرِ اسْتِيفَائِهِمْ وَلَا إسْقَاطِهِمْ .

( 7243 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَذَفَ الْجَمَاعَةَ بِكَلِمَاتٍ ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ حَدٌّ .
وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَقَتَادَةُ ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ وَقَالَ حَمَّادٌ ، وَمَالِكٌ : لَا يَجِبُ إلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ ؛ لِأَنَّهَا جِنَايَةٌ تُوجِبُ حَدًّا ، فَإِذَا تَكَرَّرَتْ كَفَى حَدٌّ وَاحِدٌ ، كَمَا لَوْ سَرَقَ مِنْ جَمَاعَةٍ ، أَوْ زَنَى بِنِسَاءٍ ، أَوْ شَرِبَ أَنْوَاعًا مِنْ الْمُسْكِرِ .
وَلَنَا أَنَّهَا حُقُوقٌ لِآدَمِيِّينَ ، فَلَمْ تَتَدَاخَلْ ، كَالدُّيُونِ وَالْقِصَاصِ .
وَفَارَقَ مَا قَاسُوا عَلَيْهِ .
فَإِنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى .

( 7244 ) فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَ لِرَجُلٍ : يَا ابْنَ الزَّانِيَيْنِ .
فَهُوَ قَاذِفٌ لَهُمَا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ ، فَإِنْ كَانَا مَيِّتَيْنِ ، ثَبَتَ الْحَقُّ لِوَلَدِهِمَا ، وَلَمْ يَجِبْ إلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ ، وَجْهًا وَاحِدًا .
وَإِنْ قَالَ : يَا زَانِي ابْنَ الزَّانِي .
فَهُوَ قَذْفٌ لَهُمَا بِكَلِمَتَيْنِ ، فَإِنْ كَانَ أَبُوهُ حَيًّا ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدٌّ ، وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا ، فَالظَّاهِرُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْحَدُّ بِقَذْفِهِ .
وَإِنْ قَالَ : يَا زَانِي ابْنَ الزَّانِيَةِ .
وَكَانَتْ أُمُّهُ فِي الْحَيَاةِ ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ حَدٌّ ، وَإِنْ كَانَتْ مَيِّتَةً ، فَالْقَذْفَانِ جَمِيعًا لَهُ .
وَإِنْ قَالَ : زَنَيْت بِفُلَانَةَ .
فَهُوَ قَذْفٌ لَهُمَا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ .
وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : يَا نَاكِحَ أُمِّهِ .
وَيُخَرَّجُ فِيهِ الرِّوَايَاتُ الثَّلَاثُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - .

( 7245 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَذَفَ رَجُلًا مَرَّاتٍ ، فَلَمْ يُحَدَّ ، فَحَدٌّ وَاحِدٌ ، رِوَايَةً وَاحِدَةً ، سَوَاءٌ قَذَفَهُ بِزِنًا وَاحِدٍ ، أَوْ بِزَنْيَاتٍ .
وَإِنْ قَذَفَهُ فَحُدَّ ، ثُمَّ أَعَادَ قَذْفَهُ ، نَظَرْت ، فَإِنْ قَذَفَهُ بِذَلِكَ الزِّنَا الَّذِي حُدَّ مِنْ أَجْلِهِ ، لَمْ يُعَدْ عَلَيْهِ الْحَدُّ ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ ، أَنَّهُ أَوْجَبَ حَدًّا ثَانِيًا .
وَهَذَا يُخَالِفُ إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ ، فَإِنَّ أَبَا بَكْرَةَ لَمَّا حُدَّ بِقَذْفِ الْمُغِيرَةِ ، أَعَادَ قَذْفَهُ فَلَمْ يَرَوْا عَلَيْهِ حَدًّا ثَانِيًا ، فَرَوَى الْأَثْرَمُ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ظَبْيَانَ بْنِ عُمَارَةَ ، قَالَ : شَهِدَ عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ أَنَّهُ زَانٍ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ ، فَكَبُرَ عَلَيْهِ ، وَقَالَ : شَاطَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ ، وَجَاءَ زِيَادٌ ، فَقَالَ : مَا عِنْدَك ؟ فَلَمْ يَثْبُتْ ، فَأَمَرَ بِهِمْ فَجُلِدُوا ، وَقَالَ : شُهُودُ زُورٍ .
فَقَالَ أَبُو بَكْرَةَ : أَلَيْسَ تَرْضَى أَنْ أَتَاك رَجُلٌ عَدْلٌ يَشْهَدُ بِرَجْمِهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ .
قَالَ أَبُو بَكْرَةَ : فَأَنَا أَشْهَدُ أَنَّهُ زَانٍ .
فَأَرَادَ أَنْ يُعِيدَ عَلَيْهِ الْجَلْدَ ، فَقَالَ عَلِيٌّ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، إنَّك إنْ أَعَدْت عَلَيْهِ الْجَلْدَ ، أَوْجَبْت عَلَيْهِ الرَّجْمَ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ : فَلَا يُعَادُ فِي فِرْيَةٍ جَلْدٌ مَرَّتَيْنِ .
قَالَ الْأَثْرَمُ : قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : قَوْلَ عَلِيٍّ : إنْ جَلَدْتَهُ فَارْجُمْ صَاحِبَك ؟ قَالَ : كَأَنَّهُ جَعَلَ شَهَادَتَهُ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ .
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : وَكُنْت أَنَا أُفَسِّرُهُ عَلَى هَذَا ، حَتَّى رَأَيْته فِي الْحَدِيثِ ، فَأَعْجَبَنِي .
ثُمَّ قَالَ : يَقُولُ إذَا جَلَدْتَهُ ثَانِيَةً ، فَكَأَنَّك جَعَلْتَهُ شَاهِدًا آخَرَ فَأَمَّا إنْ حُدَّ لَهُ ، ثُمَّ قَذَفَهُ بِزِنًا ثَانٍ ، نَظَرْت ؛ فَإِنْ قَذَفَهُ بَعْدَ طُولِ الْفَصْلِ ، فَحَدٌّ ثَانٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا تَسْقُطُ حُرْمَةُ الْمَقْذُوفِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْقَاذِفِ أَبَدًا ، بِحَيْثُ يُمَكَّنُ مِنْ قَذْفِهِ

بِكُلِّ حَالٍ .
وَإِنْ قَذَفَهُ عَقِيبَ حَدِّهِ ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا : يُحَدُّ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ قَذْفٌ لَمْ يَظْهَرْ كَذِبُهُ فِيهِ بِحَدٍّ ، فَيَلْزَمُ فِيهِ حَدٌّ ، كَمَا لَوْ طَالَ الْفَصْلُ ؛ وَلِأَنَّ سَائِرَ أَسْبَابِ الْحَدِّ إذَا تَكَرَّرَتْ بَعْدَ أَنْ حُدَّ لِلْأَوَّلِ ، ثَبَتَ لِلثَّانِي حُكْمُهُ ، كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ ، وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَسْبَابِ .
وَالثَّانِيَةُ : لَا يُحَدُّ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ حُدَّ لَهُ مَرَّةً ، فَلَمْ يُحَدَّ لَهُ بِالْقَذْفِ عَقِبَهُ ، كَمَا لَوْ قَذَفَهَا بِالزِّنَا الْأَوَّلِ .

( 7246 ) فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَ : مَنْ رَمَانِي فَهُوَ ابْنُ الزَّانِيَةِ .
فَرَمَاهُ رَجُلٌ ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَكَذَلِكَ إنْ اخْتَلَفَ رَجُلَانِ فِي شَيْءٍ ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا : الْكَاذِبُ هُوَ ابْنُ الزَّانِيَةِ .
فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْ أَحَدًا بِالْقَذْفِ ، وَكَذَلِكَ مَا أَشْبَهَ هَذَا .
وَلَوْ قَذَفَ جَمَاعَةً لَا يُتَصَوَّرُ صِدْقُهُ فِي قَذْفِهِمْ ، مِثْلُ أَنْ يَقْذِفَ أَهْلَ بَلْدَةٍ كَثِيرَةٍ بِالزِّنَا كُلَّهُمْ ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَدٌّ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُلْحِقْ الْعَارَ بِأَحَدٍ غَيْرِ نَفْسِهِ ، لِلْعِلْمِ بِكَذِبِهِ .

( 7247 ) فَصْلٌ : وَإِنْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَذَفَهُ ، فَأَنْكَرَ ، لَمْ يُسْتَحْلَفْ .
وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ ، وَحَمَّادٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَعَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يُسْتَحْلَفُ ، حَكَاهَا ابْنُ الْمُنْذِرِ ، وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ ، وَمَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَإِسْحَاقَ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ } .
وَلِأَنَّهُ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ ، فَيُسْتَحْلَفُ فِيهِ كَالدَّيْنِ .
وَوَجْهُ الْأُولَى : أَنَّهُ حَدٌّ ، فَلَا يُسْتَحْلَفُ فِيهِ ، كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ .
فَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ ، لَمْ يُقَمْ عَلَيْهِ الْحَدُّ ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ ، فَلَا يُقْضَى فِيهِ بِالنُّكُولِ ، كَسَائِرِ الْحُدُودِ .

( 7248 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَمَنْ قَتَلَ ، أَوْ أَتَى حَدًّا خَارِجَ الْحَرَمِ ، ثُمَّ لَجَأَ إلَى الْحَرَمِ ، لَمْ يُبَايَعْ وَلَمْ يُشَارَ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ الْحَرَمِ ، فَيُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ جَنَى جِنَايَةً تُوجِبُ قَتْلًا خَارِجَ الْحَرَمِ ، ثُمَّ لَجَأَ إلَيْهِ ، لَمْ يُسْتَوْفَ مِنْهُ فِيهِ .
وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَعَطَاءٍ ، وَعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ ، وَالزُّهْرِيِّ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَإِسْحَاقَ ، وَالشَّعْبِيِّ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَصْحَابِهِ .
وَأَمَّا غَيْرُ الْقَتْلِ مِنْ الْحُدُودِ كُلِّهَا وَالْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ ، فَعَنْ أَحْمَدَ فِيهِ رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا : لَا يُسْتَوْفَى مِنْ الْمُلْتَجِئِ إلَى الْحَرَمِ فِيهِ .
وَالثَّانِيَةُ : يُسْتَوْفَى .
وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ الْمَرْوِيَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّهْيُ عَنْ الْقَتْلِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { فَلَا يُسْفَكْ فِيهَا دَمٌ .
} وَحُرْمَةُ النَّفْسِ أَعْظَمُ ، فَلَا يُقَاسُ غَيْرُهَا عَلَيْهَا ؛ وَلِأَنَّ الْحَدَّ بِالْجَلْدِ جَرَى مَجْرَى التَّأْدِيبِ ، فَلَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ ، كَتَأْدِيبِ السَّيِّدِ عَبْدَهُ .
وَالْأَوْلَى ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ ، وَهِيَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ : هَذِهِ مَسْأَلَةٌ وَجَدْتهَا مُفْرَدَةً لِحَنْبَلٍ عَنْ عَمِّهِ ، أَنَّ الْحُدُودَ كُلَّهَا تُقَامُ فِي الْحَرَمِ ، إلَّا الْقَتْلَ .
وَالْعَمَلُ عَلَى أَنَّ كُلَّ جَانٍ دَخَلَ الْحَرَمَ ، لَمْ يُقَمْ عَلَيْهِ حَدُّ جِنَايَتِهِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ .
وَإِنْ هَتَكَ حُرْمَةَ الْحَرَمِ بِالْجِنَايَةِ فِيهِ ، هُتِكَتْ حُرْمَتُهُ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ فِيهِ .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ : يُسْتَوْفَى مِنْهُ فِيهِ ؛ لِعُمُومِ الْأَمْرِ بِجَلْدِ الزَّانِي ، وَقَطْعِ السَّارِقِ ، وَاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ بِمَكَانٍ دُونَ مَكَان ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْحَرَمُ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا ، وَلَا فَارًّا بِخَرْبَةٍ وَلَا دَمٍ } { .
وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِ ابْنِ حَنْظَلٍ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ } .
حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ أُبِيحَ دَمُهُ لِعِصْيَانِهِ ، فَأَشْبَهَ الْكَلْبَ الْعَقُورَ .
وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا } .
يَعْنِي الْحَرَمَ ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إبْرَاهِيمَ } .
وَالْخَبَرُ أُرِيدَ بِهِ الْأَمْرُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ بِهِ الْخَبَرُ ، لَأَفْضَى إلَى وُقُوعِ الْخَبَرِ خِلَافَ الْمُخْبَرِ .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ ، فَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ مُسْلِمٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، أَنْ يَسْفِكَ فِيهَا دَمًا ، وَلَا يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً ، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُولُوا : إنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ .
وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ، وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ ، فَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ، ثُمَّ عَادَتْ إلَى حُرْمَتِهَا ، فَلَا يُسْفَكُ فِيهَا دَمٌ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا .
فَالْحُجَّةُ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ حَرَّمَ سَفْكَ الدَّمِ بِهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ ، وَتَخْصِيصُ مَكَّةَ بِهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ الْعُمُومَ ، فَإِنَّهُ لَوْ أَرَادَ سَفْكَ الدَّمِ الْحَرَامِ ، لَمْ يَخْتَصَّ بِهِ مَكَّةَ ، فَلَا يَكُونُ التَّخْصِيصُ مُفِيدًا .
وَالثَّانِي : قَوْلُهُ : { وَإِنَّمَا حَلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ، ثُمَّ عَادَتْ حُرْمَتُهَا .
} وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إنَّمَا أُحِلَّ لَهُ سَفْكُ دَمٍ حَلَالٍ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ ، فَحَرَّمَهَا الْحَرَمُ ، ثُمَّ أُحِلَّتْ لَهُ سَاعَةً ، ثُمَّ عَادَتْ الْحُرْمَةُ ، ثُمَّ أَكَّدَ هَذَا بِمَنْعِهِ قِيَاسَ غَيْرِهِ عَلَيْهِ .
وَالِاقْتِدَاءُ بِهِ فِيهِ بِقَوْلِهِ : { فَإِنْ أَحَدٌ

تَرَخَّصَ لِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُولُوا : إنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ .
} وَهَذَا يَدْفَعُ مَا احْتَجُّوا بِهِ مِنْ قَتْلِ ابْنِ حَنْظَلٍ ؛ فَإِنَّهُ مِنْ رُخْصَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يَقْتَدُوا بِهِ فِيهَا ، وَبَيَّنَ أَنَّهَا لَهُ عَلَى الْخُصُوصِ ، وَمَا رَوَوْهُ مِنْ الْحَدِيثِ ، فَهُوَ مِنْ كَلَامِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ الْأَشْدَقِ يَرُدُّ بِهِ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَوَى لَهُ أَبُو شُرَيْحٍ هَذَا الْحَدِيثَ ، وَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ .
وَأَمَّا جَلْدُ الزَّانِي ، وَقَطْعُ السَّارِقِ ، وَالْأَمْرُ بِالْقِصَاصِ ، فَإِنَّمَا هُوَ مُطْلَقٌ فِي الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ ، فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ مَكَانًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مَكَان ، فَيُمْكِنُ إقَامَتُهُ فِي مَكَان غَيْرِ الْحَرَمِ ، ثُمَّ لَوْ كَانَ عُمُومًا ، فَإِنَّ مَا رَوَيْنَاهُ خَاصٌّ يُخَصُّ بِهِ ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ خُصَّ مِمَّا ذَكَرُوهُ الْحَامِلُ ، وَالْمَرِيضُ الْمَرْجُوُّ بُرْؤُهُ ، فَتَأَخَّرَ الْحَدُّ عَنْهُ ، وَتَأَخَّرَ قَتْلُ الْحَامِلِ ، فَجَازَ أَنْ يُخَصَّ أَيْضًا بِمَا ذَكَرْنَاهُ .
وَالْقِيَاسُ عَلَى الْكَلْبِ الْعَقُورِ غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ طَبْعُهُ الْأَذَى ، فَلَمْ يُحَرِّمْهُ الْحَرَمُ لِيُدْفَعَ أَذَاهُ عَنْ أَهْلِهِ ، فَأَمَّا الْأَذَى ، فَالْأَصْلُ فِيهِ الْحُرْمَةُ ، وَحُرْمَتُهُ عَظِيمَةٌ ، وَإِنَّمَا أُبِيحَ لِعَارِضٍ ، فَأَشْبَهَ الصَّائِلَ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ الْمُبَاحَةِ مِنْ الْمَأْكُولَاتِ ، فَإِنَّ الْحَرَمَ يَعْصِمُهَا .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّهُ لَا يُبَايَعُ وَلَا يُشَارَى وَلَا يُطْعَمُ وَلَا يُؤْوَى ، وَيُقَالُ لَهُ : اتَّقِ اللَّهَ وَاخْرُجْ إلَى الْحِلِّ ؛ لِيُسْتَوْفَى مِنْك الْحَقُّ الَّذِي قِبَلَك .
فَإِذَا خَرَجَ اُسْتُوْفِيَ حَقُّ اللَّهِ مِنْهُ .
وَهُوَ قَوْلُ جَمِيعِ مَنْ ذَكَرْنَاهُ .
وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أُطْعِمَ وَأُوِيَ ، لَتَمَكَّنَ مِنْ الْإِقَامَةِ دَائِمًا ،

فَيَضِيعَ الْحَقُّ الَّذِي عَلَيْهِ ، وَإِذَا مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ ، كَانَ وَسِيلَةً إلَى خُرُوجِهِ ، فَيُقَامَ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى .
وَلَيْسَ عَلَيْنَا إطْعَامُهُ ، كَمَا أَنَّ الصَّيْدَ لَا يُصَادُ فِي الْحَرَمِ ، وَلَيْسَ عَلَيْنَا الْقِيَامُ بِهِ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : مَنْ أَصَابَ حَدًّا ، ثُمَّ لَجَأَ إلَى الْحَرَمِ ، فَإِنَّهُ لَا يُجَالَسُ ، وَلَا يُبَايَعُ ، وَلَا يُؤْوَى ، وَيَأْتِيهِ مَنْ يَطْلُبُهُ ، فَيَقُولُ : أَيْ فُلَانُ ، اتَّقِ اللَّهَ .
فَإِذَا خَرَجَ مِنْ الْحَرَمِ ، أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ .
رَوَاهُ الْأَثْرَمُ .
فَإِنْ قَتَلَ مَنْ لَهُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي الْحَرَمِ ، وَأَقَامَ حَدًّا بِجَلْدٍ أَوْ قَتْلٍ أَوْ قَطْعِ طَرَفٍ ، أَسَاءَ ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى حَقَّهُ فِي حَالٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ اسْتِيفَاؤُهُ فِيهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اقْتَصَّ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ أَوْ بَرْدٍ مُفْرِطٍ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَمَنْ قَتَلَ ، أَوْ أَتَى حَدًّا فِي الْحَرَمِ ، أُقِيمَ عَلَيْهِ فِي الْحَرَمِ .
) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ انْتَهَكَ حُرْمَةَ الْحَرَمِ ، بِجِنَايَةٍ فِيهِ تُوجِبُ حَدًّا أَوْ قِصَاصًا فَإِنَّهُ يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّهَا ، لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا .
وَقَدْ رَوَى الْأَثْرَمُ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّهُ قَالَ : مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا فِي الْحَرَمِ ، أُقِيمَ عَلَيْهِ مَا أَحْدَثَ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ .
وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِقِتَالِ مَنْ قَاتَلَ فِي الْحَرَمِ .
فَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ } .
فَأَبَاحَ قَتْلَهُمْ عِنْدَ قِتَالِهِمْ فِي الْحَرَمِ ؛ وَلِأَنَّ أَهْلَ الْحَرَمِ يَحْتَاجُونَ إلَى الزَّجْرِ عَنْ ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي كَغَيْرِهِمْ ، حِفْظًا لِأَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ ، فَلَوْ لَمْ يُشْرَعْ الْحَدُّ فِي حَقِّ مَنْ ارْتَكَبَ الْحَدَّ فِي الْحَرَمِ ، لَتَعَطَّلَتْ حُدُودُ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ ، وَفَاتَتْ هَذِهِ الْمَصَالِحُ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا ، وَلَا يَجُوزُ الْإِخْلَالُ بِهَا ؛ وَلِأَنَّ الْجَانِيَ فِي الْحَرَمِ هَاتِكٌ لِحُرْمَتِهِ ، فَلَا يَنْتَهِضُ الْحَرَمُ لِتَحْرِيمِ ذِمَّتِهِ وَصِيَانَتِهِ ، بِمَنْزِلَةِ الْجَانِي فِي دَارِ الْمَلِكِ ، لَا يُعْصَمُ لِحُرْمَةِ الْمَلِكِ ، بِخِلَافِ الْمُلْتَجِئِ إلَيْهَا بِجِنَايَةٍ صَدَرَتْ مِنْهُ فِي غَيْرِهَا .

( 7250 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا حَرَمُ مَدِينَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَمْنَعُ إقَامَةَ حَدٍّ وَلَا قِصَاصٍ ؛ لِأَنَّ النَّصَّ إنَّمَا وَرَدَ فِي حَرَمِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَحَرَمُ الْمَدِينَةِ دُونَهُ فِي الْحُرْمَةِ ، فَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَيْهِ .
وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْبِقَاعِ ، لَا تَمْنَعُ مِنْ اسْتِيفَاءِ حَقٍّ ، وَلَا إقَامَةِ حَدٍّ ؛ لِأَنَّ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى بِاسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ ، وَإِقَامَةِ الْحَدِّ مُطْلَقٌ فِي الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ ، خَرَجَ مِنْهَا الْحَرَمُ لِمَعْنًى لَا يَكْفِي فِي غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَحَلُّ الْأَنْسَاكِ وَقِبْلَةُ الْمُسْلِمِينَ ، وَفِيهِ بَيْتُ اللَّهِ الْمَحْجُوجُ ، وَأَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ ، وَمَقَامُ ، إبْرَاهِيمَ ، وَآيَاتٌ بَيِّنَاتٌ ، فَلَا يُلْتَحَقُ بِهِ سِوَاهُ ، وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ مَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - .

بَابُ الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ وَالْأَصْلُ فِيهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ ؛ أَمَّا الْكِتَابُ ، فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } .
وَأَمَّا السُّنَّةُ ، فَرَوَتْ عَائِشَةُ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَالَ { تُقْطَعُ الْيَدُ فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا } .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ، بِأَنَّهُمْ كَانُوا إذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ قَطَعُوهُ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا .
فِي أَخْبَارٍ سِوَى هَذَيْنِ ، نَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَوَاضِعِهَا ، وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وُجُوبِ قَطْعِ السَّارِقِ فِي الْجُمْلَةِ .

( 7251 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : ( وَإِذَا سَرَقَ رُبْعَ دِينَارٍ مِنْ الْعَيْنِ ، أَوْ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ مِنْ الْوَرِقِ ، أَوْ قِيمَةَ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ ، طَعَامًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ الْحِرْزِ ، قُطِعَ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْقَطْعِ لَا يَجِبُ إلَّا بِشُرُوطٍ سَبْعَةٍ ؛ أَحَدُهَا : السَّرِقَةُ ، وَمَعْنَى السَّرِقَةِ : أَخْذُ الْمَالِ عَلَى وَجْهِ الْخِفْيَةِ وَالِاسْتِتَارِ .
وَمِنْهُ اسْتِرَاقُ السَّمْعِ ، وَمُسَارَقَةُ النَّظَرِ ، إذَا كَانَ يَسْتَخْفِي بِذَلِكَ ، فَإِنْ اخْتَطَفَ أَوْ اخْتَلَسَ ، لَمْ يَكُنْ سَارِقًا ، وَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَحَدٍ عَلِمْنَاهُ غَيْرَ إيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ ، قَالَ : أَقْطَعُ الْمُخْتَلِسَ ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَخْفِي بِأَخْذِهِ ، فَيَكُونُ سَارِقًا ، وَأَهْلُ الْفِقْهِ وَالْفَتْوَى مِنْ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى خِلَافِهِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَيْسَ عَلَى الْخَائِنِ وَلَا الْمُخْتَلِسِ قَطْعٌ } .
وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَيْسَ عَلَى الْمُنْتَهِبِ قَطْعٌ } .
رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد .
وَقَالَ : لَمْ يَسْمَعْهُمَا ابْنُ جُرَيْجٍ مِنْ أَبِي الزُّبَيْرِ .
وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ قَطْعُ السَّارِقِ ، وَهَذَا غَيْرُ سَارِقٍ ؛ وَلِأَنَّ الِاخْتِلَاسَ نَوْعٌ مِنْ الْخَطْفِ وَالنَّهْبِ ، وَإِنَّمَا يَسْتَخْفِي فِي ابْتِدَاءِ اخْتِلَاسِهِ ، بِخِلَافِ السَّارِقِ .
وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ ، عَنْ أَحْمَدَ ، فِي جَاحِدِ الْعَارِيَّةِ ، فَعَنْهُ : عَلَيْهِ الْقَطْعُ .
وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ ، { أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تَسْتَعِيرُ الْمَتَاعَ وَتَجْحَدُهُ ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَطْعِ يَدِهَا ، فَأَتَى أَهْلُهَا أُسَامَةَ فَكَلَّمُوهُ ، فَكَلَّمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا أَرَاك تُكَلِّمُنِي فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى .
ثُمَّ قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطِيبًا ، فَقَالَ : إنَّمَا

هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِأَنَّهُ إذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ قَطَعُوهُ ، وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لَوْ كَانَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَطَعْت يَدَهَا .
قَالَتْ : فَقَطَعَ يَدَهَا } .
قَالَ أَحْمَدُ : لَا أَعْرِفُ شَيْئًا يَدْفَعُهُ .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَعَنْهُ : لَا قَطْعَ عَلَيْهِ ، وَهُوَ قَوْلُ الْخِرَقِيِّ ، وَأَبِي إِسْحَاقَ بْنِ شَاقِلَا ، وَأَبِي الْخَطَّابِ ، وَسَائِرِ الْفُقَهَاءِ .
وَهُوَ الصَّحِيحُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا قَطْعَ عَلَى الْخَائِنِ } .
وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ قَطْعُ السَّارِقِ ، وَالْجَاحِدُ غَيْرُ سَارِقٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ خَائِنٌ ، فَأَشْبَهَ جَاحِدَ الْوَدِيعَةِ ، وَالْمَرْأَةُ الَّتِي كَانَتْ تَسْتَعِيرُ الْمَتَاعَ إنَّمَا قُطِعَتْ لِسَرِقَتِهَا ، لَا بِجَحْدِهَا ، أَلَا تَرَى قَوْلَهُ : { إذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ قَطَعُوهُ } .
وَقَوْلَهُ : { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ ، لَقَطَعْت يَدَهَا } .
وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِ رِوَايَةِ هَذِهِ الْقِصَّةِ عَنْ عَائِشَةَ ، أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ ، وَذَكَرَتْ الْقِصَّةَ .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَفِي حَدِيثٍ أَنَّهَا سَرَقَتْ قَطِيفَةً ، فَرَوَى الْأَثْرَمُ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ مَسْعُودِ بْنِ الْأَسْوَدِ قَالَ : { لَمَّا سَرَقَتْ الْمَرْأَةُ تِلْكَ الْقَطِيفَةَ مِنْ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمْنَا ذَلِكَ ، وَكَانَتْ امْرَأَةً مِنْ قُرَيْشٍ ، فَجِئْنَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْنَا : نَحْنُ نَفْدِيهَا بِأَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً .
قَالَ : تُطَهَّرَ خَيْرٌ لَهَا .
فَلَمَّا سَمِعْنَا لِينَ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ ، أَتَيْنَا أُسَامَةَ ، فَقُلْنَا : كَلِّمْ لَنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
} وَذَكَرَ الْحَدِيثَ نَحْوَ سِيَاقِ عَائِشَةَ .
وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْقِصَّةَ وَاحِدَةٌ ، وَأَنَّهَا

سَرَقَتْ فَقُطِعَتْ بِسَرِقَتِهَا ، وَإِنَّمَا عَرَّفَتْهَا عَائِشَةُ بِجَحْدِهَا لِلْعَارِيَّةِ ؛ لِكَوْنِهَا مَشْهُورَةً بِذَلِكَ ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا ، كَمَا لَوْ عَرَّفَتْهَا بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهَا ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا جَمْعٌ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ ، وَمُوَافَقَةٌ لِظَاهِرِ الْأَحَادِيثِ وَالْقِيَاسِ وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ ، فَيَكُونُ أَوْلَى .
فَأَمَّا جَاحِدُ الْوَدِيعَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَمَانَاتِ ، فَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا يَقُولُ بِوُجُوبِ الْقَطْعِ عَلَيْهِ .

الشَّرْطُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْمَسْرُوقُ نِصَابًا ، وَلَا قَطْعَ فِي الْقَلِيلِ ، فِي قَوْلِ الْفُقَهَاءِ كُلِّهِمْ ، إلَّا الْحَسَنَ ، وَدَاوُد ، وَابْنَ بِنْتِ الشَّافِعِيِّ ، وَالْخَوَارِجَ ، قَالُوا : يُقْطَعُ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ ؛ لِعُمُومِ الْآيَةِ ، وَلِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ ، يَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ ، وَيَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلِأَنَّهُ سَارِقٌ مِنْ حِرْزٍ ، فَتُقْطَعُ يَدُهُ ، كَسَارِقِ الْكَثِيرِ .
وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا قَطْعَ إلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ .
وَهَذَا يَخُصُّ عُمُومَ الْآيَةِ ، وَالْحَبْلُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُسَاوِيَ ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ الْبَيْضَةُ ، يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهَا بَيْضَةُ السِّلَاحِ ، وَهِيَ تُسَاوِي ذَلِكَ .
وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي قَدْرِ النِّصَابِ الَّذِي يَجِبُ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ ، فَرَوَى عَنْهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْجُوزَجَانِيُّ ، أَنَّهُ رُبْعُ دِينَارٍ مِنْ الذَّهَبِ ، أَوْ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ مِنْ الْوَرِقِ ، أَوْ مَا قِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ مِنْ غَيْرِهِمَا .
وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ ، وَإِسْحَاقَ .
وَرَوَى عَنْهُ الْأَثْرَمُ ، أَنَّهُ إنْ سَرَقَ مِنْ غَيْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ، مَا قِيمَتُهُ رُبْعُ دِينَارٍ ، أَوْ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ قُطِعَ .
فَعَلَى هَذَا يُقَوَّمُ غَيْرُ الْأَثْمَانِ بِأَدْنَى الْأَمْرَيْنِ ، مِنْ رُبْعِ دِينَارٍ ، أَوْ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ .
وَعَنْهُ ، أَنَّ الْأَصْلَ الْوَرِقُ ، وَيُقَوَّمُ الذَّهَبُ بِهِ ، فَإِنْ نَقَصَ رُبْعُ دِينَارٍ عَنْ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ ، لَمْ يُقْطَعْ سَارِقُهُ .
وَهَذَا يُحْكَى عَنْ اللَّيْثِ ، وَأَبِي ثَوْرٍ .
وَقَالَتْ عَائِشَةُ : لَا قَطْعَ إلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا .
وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ ، وَعُثْمَانَ ، وَعَلِيٍّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
وَبِهِ قَالَ الْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ،

وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ ؛ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا قَطْعَ إلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا .
} وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ : تُقْطَعُ الْيَدُ فِي دِرْهَمٍ ، فَمَا فَوْقَهُ .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَأَبِي سَعِيدٍ ، أَنَّ الْيَدَ تُقْطَعُ فِي أَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ فَصَاعِدًا .
وَعَنْ عُمَرَ أَنَّ الْخَمْسَ لَا تُقْطَعُ إلَّا فِي الْخَمْسِ .
وَبِهِ قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ .
وَقَالَ أَنَسٌ : قَطَعَ أَبُو بَكْرٍ فِي مِجَنٍّ قِيمَتُهُ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ .
رَوَاهُ الْجُوزَجَانِيُّ بِإِسْنَادِهِ .
وَقَالَ عَطَاءٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَصْحَابُهُ : لَا تُقْطَعُ الْيَدُ إلَّا فِي دِينَارٍ ، أَوْ عَشْرَةِ دَرَاهِمَ ؛ لِمَا رَوَى الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا قَطْعَ إلَّا فِي عَشْرَةِ دَرَاهِمَ } .
وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ .
قَالَ : { قَطَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَ رَجُلٍ فِي مِجَنٍّ ، قِيمَتُهُ دِينَارٌ ، أَوْ عَشْرَةُ دَرَاهِمَ } .
وَعَنْ النَّخَعِيِّ : لَا تُقْطَعُ الْيَدُ إلَّا فِي أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا .
وَلَنَا مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ ، { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَطَعَ فِي مِجَنٍّ ثَمَنُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : هَذَا أَصَحُّ حَدِيثٍ يُرْوَى فِي هَذَا الْبَابِ ، لَا يَخْتَلِفُ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ .
وَحَدِيثُ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَوَّلُ يَرْوِيهِ الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ ، وَهُوَ ضَعِيفٌ ، وَاَلَّذِي يَرْوِيهِ عَنْ الْحَجَّاجِ ضَعِيفٌ أَيْضًا .
وَالْحَدِيثُ الثَّانِي لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ بِمَا دُونَهُ ، فَإِنَّ مَنْ أَوْجَبَ الْقَطْعَ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ ، أَوْجَبَهُ بِعَشْرَةٍ ، وَيَدُلُّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الْعَرْضَ يُقَوَّمُ بِالدَّرَاهِمِ ؛ لِأَنَّ الْمِجَنَّ قُوِّمَ بِهَا ؛ وَلِأَنَّ مَا كَانَ

الذَّهَبُ فِيهِ أَصْلًا ، كَانَ الْوَرِقُ فِيهِ أَصْلًا ، كَنُصُبِ الزَّكَاةِ ، وَالدِّيَاتِ وَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ .
وَقَدْ رَوَى أَنَسٌ ، أَنَّ سَارِقًا سَرَقَ مِجَنًّا مَا يَسُرُّنِي أَنَّهُ لِي بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ ، أَوْ مَا يُسَاوِي ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ ، فَقَطَعَهُ أَبُو بَكْرٍ .
وَأُتِيَ عُثْمَانُ بِرَجُلٍ قَدْ سَرَقَ أُتْرُجَّةً ، فَأَمَرَ بِهَا عُثْمَانُ فَأُقِيمَتْ ، فَبَلَغَتْ قِيمَتُهَا رُبْعَ دِينَارٍ ، فَأَمَرَ بِهِ عُثْمَانُ فَقُطِعَ .

( 7252 ) فَصْلٌ : وَإِذَا سَرَقَ رُبْعَ دِينَارٍ مِنْ الْمَضْرُوبِ الْخَالِصِ ، فَفِيهِ الْقَطْعُ .
وَإِنْ كَانَ فِيهِ غِشٌّ أَوْ تِبْرٌ يَحْتَاجُ إلَى تَصْفِيَةٍ ، لَمْ يَجِبْ الْقَطْعُ حَتَّى يَبْلُغَ مَا فِيهِ مِنْ الذَّهَبِ رُبْعَ دِينَارٍ ؛ لِأَنَّ السَّبْكَ يَنْقُصُهُ .
وَإِنْ سَرَقَ رُبْعَ دِينَارٍ قُرَاضَةً ، أَوْ تِبْرًا خَالِصًا ، أَوْ حُلِيًّا ، فَفِيهِ الْقَطْعُ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ الْجُوزَجَانِيِّ ، قَالَ قُلْت لَهُ : كَيْفَ يَسْرِقُ رُبْعَ دِينَارٍ ؟ فَقَالَ : قِطْعَةَ ذَهَبٍ ، أَوْ خَاتَمًا ، أَوْ حُلِيًّا .
وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ .
وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي وُجُوبِ الْقَطْعِ احْتِمَالَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا : لَا قَطْعَ عَلَيْهِ .
وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ الدِّينَارَ اسْمٌ لِلْمَضْرُوبِ .
وَلَنَا أَنَّ ذَلِكَ رُبْعُ دِينَارٍ ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ : دِينَارٌ قُرَاضَةٌ ، وَمُكَسَّرٌ ، أَوْ دِينَارٌ خَالِصٌ .
وَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ سَرِقَةُ رُبْعِ دِينَارٍ مُفْرَدٍ فِي الْغَالِبِ إلَّا مَكْسُورًا .
وَقَدْ أُوجِبَ عَلَيْهِ الْقَطْعُ بِذَلِكَ ؛ وَلِأَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى تَعَلَّقَ بِالْمَضْرُوبِ ، فَتَعَلَّقَ بِمَا لَيْسَ بِمَضْرُوبٍ ، كَالزَّكَاةِ ، وَالْخِلَافُ فِيمَا إذَا سَرَقَ مِنْ الْمَكْسُورِ وَالتِّبْرِ مَا لَا يُسَاوِي رُبْعَ دِينَارٍ صَحِيحٍ ، فَإِنْ بَلَغَ ذَلِكَ فَفِيهِ الْقَطْعُ .
وَالدِّينَارُ هُوَ الْمِثْقَالُ مِنْ مَثَاقِيلِ النَّاسِ الْيَوْمَ ، وَهُوَ الَّذِي كُلُّ سَبْعَةٍ مِنْهَا عَشْرَةُ دَرَاهِمَ ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَبْلَهُ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ ، وَإِنَّمَا كَانَتْ الدَّرَاهِمُ مُخْتَلِفَةً ، فَجُمِعَتْ وَجُعِلَتْ كُلُّ عَشْرَةٍ مِنْهَا سَبْعَةَ مَثَاقِيلَ ، فَهِيَ الَّتِي يَتَعَلَّقُ الْقَطْعُ بِثَلَاثَةٍ مِنْهَا ، إذَا كَانَتْ خَالِصَةً ، مَضْرُوبَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مَضْرُوبَةٍ ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الذَّهَبِ .
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ النِّصَابَ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَضْرُوبِ مِنْهَا ، وَقَدْ ذَكَرَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ ، وَيُحْتَمَلُ مَا قَالَهُ فِي الدَّرَاهِمِ ؛

لِأَنَّ إطْلَاقَهَا يَتَنَاوَلُ الصِّحَاحَ الْمَضْرُوبَةَ ، بِخِلَافِ رُبْعِ الدِّينَارِ ، عَلَى أَنَّنَا قَدْ ذَكَرْنَا فِيهَا احْتِمَالًا مُتَقَدِّمًا ، فَهَاهُنَا أَوْلَى .
وَمَا قُوِّمَ مِنْ غَيْرِهِمَا بِهِمَا ، فَلَا قَطْعَ فِيهِ ، حَتَّى يَبْلُغَ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ صِحَاحًا ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَهَا يَنْصَرِفُ إلَى الْمَضْرُوبِ دُونَ الْمُكَسَّرِ .

الشَّرْطُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ الْمَسْرُوقُ مَالًا ، فَإِنْ سَرَقَ مَا لَيْسَ بِمَالٍ ، كَالْحُرِّ ، فَلَا قَطْعَ فِيهِ ، صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا .
وَبِهَذَا قَالَ ، الشَّافِعِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَقَالَ الْحَسَنُ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَإِسْحَاقُ : يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ الْحُرِّ الصَّغِيرِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُمَيِّزٍ ، أَشْبَهَ الْعَبْدَ .
وَذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ .
وَلَنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ ، فَلَا يُقْطَعُ بِسَرِقَتِهِ ، كَالْكَبِيرِ النَّائِمِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّهُ إنْ كَانَ عَلَيْهِ حُلِيٌّ أَوْ ثِيَابٌ تَبْلُغُ نِصَابًا ، لَمْ يُقْطَعْ .
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ .
وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ وَجْهًا آخَرَ ، أَنَّهُ يُقْطَعُ .
وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ ؛ لِظَاهِرِ الْكِتَابِ ؛ وَلِأَنَّهُ سَرَقَ نِصَابًا مِنْ الْحَلْيِ ، فَوَجَبَ فِيهِ الْقَطْعُ ، كَمَا لَوْ سَرَقَهُ مُنْفَرِدًا .
وَلَنَا أَنَّهُ تَابِعٌ لِمَا لَا قَطْعَ فِي سَرِقَتِهِ ، أَشْبَهَ ثِيَابَ الْكَبِيرِ ؛ وَلِأَنَّ يَدَ الصَّبِيِّ عَلَى مَا عَلَيْهِ ؛ بِدَلِيلِ أَنَّ مَا يُوجَدُ مَعَ اللَّقِيطِ يَكُونُ لَهُ .
وَهَكَذَا لَوْ كَانَ الْكَبِيرُ نَائِمًا عَلَى مَتَاعٍ ، فَسَرَقَهُ وَمَتَاعَهُ ، لَمْ يُقْطَعْ ؛ لِأَنَّ يَدَهُ عَلَيْهِ .

( 7253 ) فَصْلٌ : وَإِنْ سَرَقَ عَبْدًا صَغِيرًا ، فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ عَلَى هَذَا كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ مِنْهُمْ الْحَسَنُ ، وَمَالِكٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَمُحَمَّدٌ .
وَالصَّغِيرُ الَّذِي يُقْطَعُ بِسَرِقَتِهِ ، هُوَ الَّذِي لَا يُمَيِّزُ ، فَإِنْ كَانَ كَبِيرًا لَمْ يُقْطَعْ سَارِقُهُ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ نَائِمًا ، أَوْ مَجْنُونًا ، أَوْ أَعْجَمِيًّا لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ سَيِّدِهِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فِي الطَّاعَةِ ، فَيُقْطَعُ سَارِقُهُ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا يُقْطَعُ سَارِقُ الْعَبْدِ وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا ؛ لِأَنَّ مَنْ لَا يُقْطَعُ بِسَرِقَتِهِ كَبِيرًا ، لَا يُقْطَعُ بِسَرِقَتِهِ صَغِيرًا ، كَالْحُرِّ .
وَلَنَا أَنَّهُ سَرَقَ مَالًا مَمْلُوكًا تَبْلُغُ قِيمَتُهُ نِصَابًا ، فَوَجَبَ الْقَطْعُ عَلَيْهِ ، كَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ .
وَفَارَقَ الْحُرَّ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ وَلَا مَمْلُوكٍ .
وَفَارَقَ الْكَبِيرَ ؛ لِأَنَّ الْكَبِيرَ لَا يُسْرَقُ ، وَإِنَّمَا يُخْدَعُ بِشَيْءٍ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي حَالِ زَوَالِ عَقْلِهِ ، بِنَوْمٍ ، أَوْ جُنُونٍ ، فَتَصِحُّ سَرِقَتُهُ ، وَيُقْطَعُ سَارِقُهُ .
فَإِنْ كَانَ الْمَسْرُوقُ فِي حَالِ نَوْمِهِ أَوْ جُنُونِهِ أُمَّ وَلَدٍ ، فَفِي قَطْعِ سَارِقِهَا وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا : لَا يُقْطَعُ ؛ لِأَنَّهَا لَا يَحِلُّ بَيْعُهَا ، وَلَا نَقْلُ الْمِلْكِ فِيهَا ، فَأَشْبَهَتْ الْحُرَّةَ .
وَالثَّانِي : يُقْطَعُ ؛ لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ تُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ ، فَأَشْبَهَتْ الْقِنَّ .
وَحُكْمُ الْمُدَبَّرِ حُكْمُ الْقِنِّ ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ ، وَيُضْمَنُ بِقِيمَتِهِ .
فَأَمَّا الْمُكَاتَبُ : فَلَا يُقْطَعُ سَارِقُهُ ؛ لِأَنَّ مِلْكَ سَيِّدِهِ لَيْسَ بِتَامٍّ عَلَيْهِ ، لِكَوْنِهِ لَا يَمْلِكُ مَنَافِعَهُ ، وَلَا اسْتِخْدَامَهُ ، وَلَا أَخْذَ أَرْشِ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ ، وَلَوْ جَنَى السَّيِّدُ عَلَيْهِ ، لَزِمَهُ لَهُ الْأَرْشُ ، وَلَوْ اسْتَوْفَى مَنَافِعَهُ كَرْهًا ، لَزِمَهُ عِوَضُهَا ، وَلَوْ حَبَسَهُ لَزِمَهُ أُجْرَةُ مِثْلِهِ

مُدَّةَ حَبْسِهِ ، أَوْ إنْظَارُهُ مِقْدَارَ مُدَّةِ حَبْسِهِ .
وَلَا يَجِبُ الْقَطْعُ لِأَجْلِ مِلْكِ الْمُكَاتَبِ فِي نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ ، فَأَشْبَهَ الْحُرَّ .
وَإِنْ سَرَقَ مِنْ مَالِ الْمُكَاتَبِ شَيْئًا ، فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُكَاتَبِ ثَابِتٌ فِي مَالِ نَفْسِهِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ السَّارِقُ سَيِّدَهُ ، فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ لَهُ فِي مَالِهِ حَقًّا وَشُبْهَةً تَدْرَأُ الْحَدَّ ، وَلِذَلِكَ لَوْ وَطِئَ جَارِيَتَهُ لَمْ يُحَدَّ .

فَصْلٌ : وَإِنْ سَرَقَ مَاءً ، فَلَا قَطْعَ فِيهِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ ، وَأَبُو إِسْحَاقَ بْنُ شَاقِلَا ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يَتَمَوَّلُ عَادَةً وَلَا أَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا .
وَإِنْ سَرَقَ كَلَأً أَوْ مِلْحًا ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : لَا قَطْعَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا وَرَدَ الشَّرْعُ بِاشْتِرَاكِ النَّاسِ فِيهِ ، فَأَشْبَهَ الْمَاءَ .
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ شَاقِلَا : فِيهِ الْقَطْعُ ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَوَّلُ عَادَةً ، فَأَشْبَهَ التِّبْنَ وَالشَّعِيرَ .
وَأَمَّا الثَّلْجُ : فَقَالَ الْقَاضِي : هُوَ كَالْمَاءِ ؛ لِأَنَّهُ مَاءٌ جَامِدٌ ، فَأَشْبَهَ الْجَلِيدَ ، وَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ كَالْمِلْحِ ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَوَّلُ عَادَةً ، فَهُوَ كَالْمِلْحِ الْمُنْعَقِدِ مِنْ الْمَاءِ .
وَأَمَّا التُّرَابُ : فَإِنْ كَانَ مِمَّا تَقِلُّ الرَّغَبَاتُ فِيهِ ، كَاَلَّذِي يُعَدُّ لِلتَّطْيِينِ وَالْبِنَاءِ ، فَلَا قَطْعَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَوَّلُ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَهُ قِيمَةٌ كَثِيرَةٌ ، كَالطِّينِ الْأَرْمَنِيِّ ، الَّذِي يُعَدُّ لِلدَّوَاءِ ، أَوْ الْمُعَدِّ لِلْغَسْلِ بِهِ ، أَوْ الصَّبْغِ كَالْمَغْرَةِ ، احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا : لَا قَطْعَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ مَا لَا يَتَمَوَّلُ ، أَشْبَهَ الْمَاءَ .
وَالثَّانِي : فِيهِ الْقَطْعُ ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَوَّلُ عَادَةً ، وَيُحْمَلُ إلَى الْبُلْدَانِ لِلتِّجَارَةِ فِيهِ ، فَأَشْبَهَ الْعُودَ الْهِنْدِيَّ .
وَلَا يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ السِّرْجِينِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ نَجِسًا فَلَا قِيمَةَ لَهُ ، وَإِنْ كَانَ طَاهِرًا ، فَلَا يَتَمَوَّلُ عَادَةً ، وَلَا تَكْثُرُ الرَّغَبَاتُ فِيهِ ، فَأَشْبَهَ التُّرَابَ الَّذِي لِلْبِنَاءِ ، وَمَا عُمِلَ مِنْ التُّرَابِ كَاللَّبِنِ وَالْفَخَّارِ ، فَفِيهِ الْقَطْعُ ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَوَّلُ عَادَةً .

( 7255 ) فَصْلٌ : وَمَا عَدَا هَذَا مِنْ الْأَمْوَالِ ، فَفِيهِ الْقَطْعُ ، سَوَاءٌ كَانَ طَعَامًا ، أَوْ ثِيَابًا ، أَوْ حَيَوَانًا ، أَوْ أَحْجَارًا ، أَوْ قَصَبًا ، أَوْ صَيْدًا ، أَوْ نُورَةً ، أَوْ جِصًّا ، أَوْ زِرْنِيخًا ، أَوْ تَوَابِلَ ، أَوْ فَخَّارًا ، أَوْ زُجَاجًا ، أَوْ غَيْرَهُ .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا قَطْعَ عَلَى سَارِقِ الطَّعَامِ الرَّطْبِ الَّذِي يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ ، كَالْفَوَاكِهِ ، وَالطَّبَائِخِ ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَلِأَنَّ هَذَا مُعَرِّضٌ لِلْهَلَاكِ ، أَشْبَهَ مَا لَمْ يُحْرَزْ .
وَلَا قَطْعَ فِيمَا كَانَ أَصْلُهُ مُبَاحًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، كَالصَّيُّودِ ، وَالْخَشَبِ ، إلَّا فِي السَّاجِ وَالْآبُنُوسِ ، وَالصَّنْدَلِ ، وَالْقَنَا ، وَالْمَعْمُولِ مِنْ الْخَشَبِ ، فَإِنَّهُ يُقْطَعُ بِهِ .
وَمَا عَدَا هَذَا لَا يُقْطَعُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ يُوجَدُ كَثِيرًا مُبَاحًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، فَأَشْبَهَ التُّرَابَ .
وَلَا قَطْعَ فِي الْقُرُونِ ، وَإِنْ كَانَتْ مَعْمُولَةً ؛ لِأَنَّ الصَّنْعَةَ لَا تَكُونُ غَالِبَةً عَلَيْهَا ، بَلْ الْقِيمَةُ لَهَا ، بِخِلَافِ مَعْمُولِ الْخَشَبِ .
وَلَا قَطْعَ عِنْدَهُ فِي التَّوَابِلِ ، وَالنُّورَةِ ، وَالْجِصِّ ، وَالزِّرْنِيخِ ، وَالْمِلْحِ وَالْحِجَارَةِ ، وَاللَّبِنِ ، وَالْفَخَّارِ ، وَالزُّجَاجِ .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ : مَا يَفْسُدُ فِي يَوْمِهِ ، كَالثَّرِيدِ وَاللَّحْمِ ، لَا قَطْعَ فِيهِ .
وَلَنَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } .
وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ ، ثُمَّ قَالَ : وَمَنْ سَرَقَ مِنْهُ شَيْئًا بَعْدَ أَنْ يُؤْوِيَهُ الْجَرِينُ ، فَبَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ ، فَفِيهِ الْقَطْعُ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَغَيْرُهُ .
وَرُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ سَرَقَ أُتْرُجَّةً ،

فَأَمَرَ بِهَا عُثْمَانُ فَأُقِيمَتْ ، فَبَلَغَتْ قِيمَتُهَا رُبْعَ دِينَارٍ ، فَأَمَرَ بِهِ عُثْمَانُ فَقُطِعَ .
رَوَاهُ سَعِيدٌ .
وَلِأَنَّ هَذَا مَالٌ يَتَمَوَّلُ فِي الْعَادَةِ ، وَيُرْغَبُ فِيهِ ، فَيُقْطَعُ سَارِقُهُ إذَا اجْتَمَعْت الشُّرُوطُ ، كَالْمُجَفَّفِ ؛ وَلِأَنَّ مَا وَجَبَ الْقَطْعُ فِي مَعْمُولِهِ ، وَجَبَ فِيهِ قَبْلَ الْعَمَلِ ، كَالذَّهَبِ ، وَالْفِضَّةِ ، وَحَدِيثُهُمْ أَرَادَ بِهِ الثَّمَرَ الْمُعَلَّقَ ؛ بِدَلِيلِ حَدِيثِنَا ، فَإِنَّهُ مُفَسِّرٌ لَهُ ، وَتَشْبِيهُهُ بِغَيْرِ الْمُحْرَزِ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْمُحْرَزِ مُضَيَّعٌ ، وَهَذَا مَحْفُوظٌ ، وَلِهَذَا افْتَرَقَ سَائِرُ الْأَمْوَالِ بِالْحِرْزِ وَعَدَمِهِ .
وَقَوْلُهُمْ : يُوجَدُ مُبَاحًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ .
يُنْتَقَضُ بِالذَّهَبِ ، وَالْفِضَّةِ ، وَالْحَدِيدِ ، وَالنُّحَاسِ ، وَسَائِرِ الْمَعَادِنِ .
وَالتُّرَابُ قَدْ سَبَقَ الْقَوْلُ فِيهِ .

( 7256 ) فَصْلٌ : فَإِنْ سَرَقَ مُصْحَفًا ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ ، وَالْقَاضِي : لَا قَطْعَ فِيهِ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ مَا فِيهِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَهُوَ مِمَّا لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ .
وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ وُجُوبَ قَطْعِهِ ، وَقَالَ : هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ ، فَإِنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ سَرَقَ كِتَابًا فِيهِ عِلْمٌ لِيَنْظُرَ فِيهِ ، فَقَالَ : كُلُّ مَا بَلَغَتْ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ فِيهِ الْقَطْعُ .
وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ ؛ لِعُمُومِ الْآيَةِ فِي كُلِّ سَارِقٍ ؛ وَلِأَنَّهُ مُتَقَوِّمٌ ، تَبْلُغُ قِيمَتُهُ نِصَابًا ، فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ ، كَكُتُبِ الْفِقْهِ ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي وُجُوبِ الْقَطْعِ بِسَرِقَةِ كُتُبِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَسَائِرِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ .
فَإِنْ كَانَ الْمُصْحَفُ مُحَلًّى بِحِلْيَةٍ تَبْلُغُ نِصَابًا ، خُرِّجَ فِيهِ وَجْهَانِ ، عِنْدَ مَنْ لَمْ يَرَ الْقَطْعَ بِسَرِقَةِ الْمُصْحَفِ ، أَحَدُهُمَا : لَا يُقْطَعُ .
وَهَذَا قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ بْنِ شَاقِلَا ، وَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ الْحُلِيَّ تَابِعَةٌ لِمَا لَا يُقْطَعُ بِسَرِقَتِهِ ، أَشْبَهَتْ ثِيَابَ الْحُرِّ .
وَالثَّانِي : يُقْطَعُ .
وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي ؛ لِأَنَّهُ سَرَقَ نِصَابًا مِنْ الْحُلِيِّ ، فَوَجَبَ قَطْعُهُ ، كَمَا لَوْ سَرَقَهُ مُنْفَرِدًا .
وَأَصْلُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ مَنْ سَرَقَ صَبِيًّا عَلَيْهِ حَلْيٌ .

( 7257 ) فَصْلٌ : وَإِنْ سَرَقَ عَيْنًا مَوْقُوفَةً ، وَجَبَ الْقَطْعُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يُقْطَعَ ، بِنَاءً عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقُولُ : إنَّ الْمَوْقُوفَ لَا يَمْلِكُهُ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ .

الشَّرْطُ الرَّابِعُ : أَنْ يَسْرِقَ مِنْ حِرْزٍ ، وَيُخْرِجَهُ مِنْهُ .
وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَهَذَا مَذْهَبُ عَطَاءٍ ، وَالشَّعْبِيِّ ، وَأَبِي الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَالزُّهْرِيِّ ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَمَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَلَا نَعْلَمُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافَهُمْ ، إلَّا قَوْلًا حُكِيَ عَنْ عَائِشَةَ ، وَالْحَسَنِ ، وَالنَّخَعِيِّ ، فِيمَنْ جَمَعَ الْمَتَاعَ ، وَلَمْ يَخْرُجْ بِهِ مِنْ الْحِرْزِ ، عَلَيْهِ الْقَطْعُ .
وَعَنْ الْحَسَنِ مِثْلُ قَوْلِ الْجَمَاعَةِ .
وَحُكِيَ عَنْ دَاوُد أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ الْحِرْزُ ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ لَا تَفْصِيلَ فِيهَا .
وَهَذِهِ أَقْوَالٌ شَاذَّةٌ ، غَيْرُ ثَابِتَةٍ عَمَّنْ نُقِلَتْ عَنْهُ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : وَلَيْسَ فِيهِ خَبَرٌ ثَابِتٌ ، وَلَا مَقَالٌ لِأَهْلِ الْعِلْمِ ، إلَّا مَا ذَكَرْنَاهُ ، فَهُوَ كَالْإِجْمَاعِ ، وَالْإِجْمَاعُ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ .
وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ { ، أَنَّ رَجُلًا مِنْ مُزَيْنَةَ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الثِّمَارِ ، فَقَالَ : مَا أُخِذَ فِي غَيْرِ أَكْمَامِهِ فَاحْتُمِلَ ، فَفِيهِ قِيمَتُهُ وَمِثْلُهُ مَعَهُ ، وَمَا كَانَ فِي الْخَزَائِنِ ، فَفِيهِ الْقَطْعُ إذَا بَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَابْنُ مَاجَهْ ، وَغَيْرُهُمَا .
وَهَذَا الْخَبَرُ يَخُصُّ الْآيَةَ ، كَمَا خَصَّصْنَاهَا فِي اعْتِبَارِ النِّصَابِ .
إذَا ثَبَتَ اعْتِبَارُ الْحِرْزِ ، وَالْحِرْزُ مَا عُدَّ حِرْزًا فِي الْعُرْفِ ، فَإِنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ اعْتِبَارُهُ فِي الشَّرْعِ مِنْ غَيْرِ تَنْصِيصٍ عَلَى بَيَانِهِ ، عُلِمَ أَنَّهُ رَدَّ ذَلِكَ إلَى أَهْلِ الْعُرْفِ ؛ لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ إلَى مَعْرِفَتِهِ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ ، فَيُرْجَعُ إلَيْهِ ، كَمَا رَجَعْنَا إلَيْهِ ، فِي مَعْرِفَةِ الْقَبْضِ وَالْفُرْقَةِ فِي الْبَيْعِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّ مِنْ حِرْزِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْجَوَاهِرِ الصَّنَادِيقُ تَحْتَ الْأَغْلَاقِ وَالْأَقْفَالِ الْوَثِيقَةِ فِي

الْعُمْرَانِ ، وَحِرْزُ الثِّيَابِ ، وَمَا خَفَّ مِنْ الْمَتَاعِ ، كَالصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ وَالرَّصَاصِ ، فِي الدَّكَاكِينِ ، وَالْبُيُوتِ الْمُقْفَلَةِ فِي الْعُمْرَانِ ، أَوْ يَكُونُ فِيهَا حَافِظٌ ، فَيَكُونُ حِرْزًا ، وَإِنْ كَانَتْ مَفْتُوحَةً .
وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُغْلَقَةً وَلَا فِيهَا حَافِظٌ ، فَلَيْسَتْ بِحِرْزٍ .
وَإِنْ كَانَتْ فِيهَا خَزَائِنُ مُغْلَقَةٌ ، فَالْخَزَائِنُ حِرْزٌ لِمَا فِيهَا ، وَمَا خَرَجَ عَنْهَا فَلَيْسَ بِمُحْرَزٍ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ ، فِي الْبَيْتِ الَّذِي لَيْسَ عَلَيْهِ غَلَقٌ ، يُسْرَقُ مِنْهُ : أَرَاهُ سَارِقًا .
وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ أَهْلَهُ فِيهِ ، فَأَمَّا الْبُيُوتُ الَّتِي فِي الْبَسَاتِينِ أَوْ الطُّرُقِ أَوْ الصَّحْرَاءِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا أَحَدٌ فَلَيْسَتْ حِرْزًا ، سَوَاءٌ كَانَتْ مُغْلَقَةً أَوْ مَفْتُوحَةً ؛ لِأَنَّ مَنْ تَرَكَ مَتَاعَهُ فِي مَكَان خَالٍ مِنْ النَّاسِ وَالْعُمَرَانِ ، وَانْصَرَفَ عَنْهُ لَا يُعَدُّ حَافِظًا لَهُ ، وَإِنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ .
وَإِنْ كَانَ فِيهَا أَهْلُهَا أَوْ حَافِظٌ ، فَهِيَ حِرْزٌ ، سَوَاءٌ كَانَتْ مُغْلَقَةً أَوْ مَفْتُوحَةً .
وَإِذَا كَانَ لَابِسًا لِلثَّوْبِ ، أَوْ مُتَوَسِّدًا لَهُ ، نَائِمًا ، أَوْ مُسْتَيْقِظًا ، أَوْ مُفْتَرِشًا لَهُ ، أَوْ مُتَّكِئًا عَلَيْهِ ، فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنْ الْبَلَدِ ، أَوْ بَرِّيَّةٍ ، فَهُوَ مُحْرَزٌ ؛ بِدَلِيلِ أَنَّ رِدَاءَ صَفْوَانَ سُرِقَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ لَهُ ، فَقَطَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَارِقَهُ .
وَإِنْ تَدَحْرَجَ عَنْ الثَّوْبِ ، زَالَ الْحِرْزُ إنْ كَانَ نَائِمًا ، وَإِنْ كَانَ الثَّوْبُ بَيْنَ يَدَيْهِ ، أَوْ غَيْرُهُ مِنْ الْمَتَاعِ ، كَبَزِّ الْبَزَّازِينَ ، وَقُمَاشِ الْبَاعَةِ ، وَخُبْزِ الْخَبَّازِينَ ، بِحَيْثُ يُشَاهِدُهُ ، وَيَنْظُرُ إلَيْهِ ، فَهُوَ مُحْرَزٌ ، وَإِنْ نَامَ ، أَوْ كَانَ غَائِبًا عَنْ مَوْضِعِ مُشَاهَدَتِهِ ، فَلَيْسَ بِمُحْرَزٍ .
وَإِنْ جَعَلَ الْمَتَاعَ فِي الْغَرَائِرِ ، وَعَلَّمَ عَلَيْهَا ، وَمَعَهَا حَافِظٌ يُشَاهِدُهَا ، فَهِيَ مُحْرَزَةٌ ، وَإِلَّا فَلَا .

( 7258 ) فَصْلٌ : وَالْخَيْمَةُ والخركاه إنْ نُصِبَتْ ، وَكَانَ فِيهَا أَحَدٌ نَائِمًا أَوْ مُنْتَبِهًا ، فَهِيَ مُحْرَزَةٌ وَمَا فِيهَا ؛ لِأَنَّهَا هَكَذَا تُحْرَزُ فِي الْعَادَةِ ، وَإِنْ [ لَمْ ] يَكُنْ فِيهَا أَحَدٌ ، وَلَا عِنْدَهَا حَافِظٌ ، فَلَا قَطْعَ عَلَى سَارِقِهَا .
وَمِمَّنْ أَوْجَبَ الْقَطْعَ فِي السَّرِقَةِ مِنْ الْفُسْطَاطِ ؛ الثَّوْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ، إلَّا أَنَّ أَصْحَابَ الرَّأْيِ قَالُوا : يُقْطَعُ السَّارِقُ مِنْ الْفُسْطَاطِ ، دُونَ سَارِقِ الْفُسْطَاطِ .
وَلَنَا أَنَّهُ مُحْرَزٌ بِمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ ، أَشْبَهَ مَا فِيهِ .

( 7259 ) فَصْلٌ : وَحِرْزُ الْبَقْلِ ، وَقُدُورِ الْبَاقِلَاءِ ، وَنَحْوِهَا بِالشَّرَائِحِ مِنْ الْقَصَبِ أَوْ الْخَشَبِ ، إذَا كَانَ فِي السُّوقِ حَارِسٌ ، وَحِرْزُ الْخَشَبِ وَالْحَطَبِ وَالْقَصَبِ فِي الْحَظَائِرِ ، وَتَعْبِئَةُ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ ، وَتَقْيِيدُهُ بِقَيْدٍ ، بِحَيْثُ يَعْسُرُ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْهُ ، عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي فُنْدُقٍ مُغْلَقٍ عَلَيْهِ ، فَيَكُونُ مُحْرَزًا وَإِنْ لَمْ يُقَيَّدْ .

( 7260 ) فَصْلٌ : وَالْإِبِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرَابٍ ؛ بَارِكَةٌ ، وَرَاعِيَةٌ ، وَسَائِرَةٌ ، فَأَمَّا الْبَارِكَةُ : فَإِنْ كَانَ مَعَهَا حَافِظٌ لَهَا ، وَهِيَ مَعْقُولَةٌ ، فَهِيَ مُحْرَزَةٌ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَعْقُولَةً ، وَكَانَ الْحَافِظُ نَاظِرًا إلَيْهَا ، أَوْ مُسْتَيْقِظًا بِحَيْثُ يَرَاهَا ، فَهِيَ مُحْرَزَةٌ ، وَإِنْ كَانَ نَائِمًا ، أَوْ مَشْغُولًا عَنْهَا ، فَلَيْسَتْ مُحْرَزَةً ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ الرُّعَاةَ إذَا أَرَادُوا النَّوْمَ عَقَلُوا إبِلَهُمْ ؛ وَلِأَنَّ حَلَّ الْمَعْقُولَةِ يُنَبِّهُ النَّائِمَ وَالْمُشْتَغِلَ .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا أَحَدٌ ، فَهِيَ غَيْرُ مُحْرَزَةٍ ، سَوَاءٌ كَانَتْ مَعْقُولَةً أَوْ لَمْ تَكُنْ .
وَأَمَّا الرَّاعِيَةُ : فَحِرْزُهَا بِنَظَرِ الرَّاعِي إلَيْهَا ، فَمَا غَابَ عَنْ نَظَرِهِ ، أَوْ نَامَ عَنْهُ ، فَلَيْسَ بِمُحْرَزٍ ؛ لِأَنَّ الرَّاعِيَةَ إنَّمَا تُحْرَزُ بِالرَّاعِي وَنَظَرِهِ ، وَأَمَّا السَّائِرَةُ : فَإِنْ كَانَ مَعَهَا مَنْ يَسُوقُهَا ، فَحِرْزُهَا نَظَرُهُ إلَيْهَا ، سَوَاءٌ كَانَتْ مُقَطَّرَةً أَوْ غَيْرَ مُقَطَّرَةٍ .
وَمَا كَانَ مِنْهَا بِحَيْثُ لَا يَرَاهُ ، فَلَيْسَ بِمُحْرَزٍ .
وَإِنْ كَانَ مَعَهَا قَائِدٌ ، فَحِرْزُهَا أَنْ يُكْثِرَ الِالْتِفَاتَ إلَيْهَا ، وَالْمُرَاعَاةَ لَهَا ، وَيَكُونَ بِحَيْثُ يَرَاهَا إذَا الْتَفَتَ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُحْرِزُ الْقَائِدُ إلَّا الَّتِي زِمَامُهَا بِيَدِهِ ؛ لِأَنَّهُ يُوَلِّيهَا ظَهْرَهُ ، وَلَا يَرَاهَا إلَّا نَادِرًا ، فَيُمْكِنُ أَخْذُهَا مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ .
وَلَنَا أَنَّ الْعَادَةَ فِي حِفْظِ الْإِبِلِ الْمُقَطَّرَةِ بِمُرَاعَاتِهَا ، بِالِالْتِفَاتِ ، وَإِمْسَاكِ زِمَامِ الْأَوَّلِ ، فَكَانَ ذَلِكَ حِرْزًا لَهَا ، كَاَلَّتِي زِمَامُهَا فِي يَدِهِ .
فَإِنْ سَرَقَ مِنْ أَحْمَالِ الْجِمَالِ السَّائِرَةِ الْمُحْرَزَةِ مَتَاعًا قِيمَتُهُ نِصَابٌ ، قُطِعَ ، وَكَذَلِكَ إنْ سَرَقَ الْجَمَلَ ، وَإِنْ سَرَقَ الْجَمَلَ بِمَا عَلَيْهِ ، وَصَاحِبُهُ نَائِمٌ عَلَيْهِ ، لَمْ يُقْطَعْ ؛ لِأَنَّهُ فِي يَدِ صَاحِبِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ نَائِمًا عَلَيْهِ ، قُطِعَ وَبِهَذَا قَالَ

الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا قَطْعَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ مَا فِي الْحِمْلِ مُحْرَزٌ بِهِ ، فَإِذَا أَخَذَ جَمِيعَهُ ، لَمْ يَهْتِكْ حِرْزَ الْمَتَاعِ ، فَصَارَ كَمَا لَوْ سَرَقَ أَجْزَاءَ الْحِرْزِ .
وَلَنَا أَنَّ الْجَمَلَ مُحْرَزٌ بِصَاحِبِهِ ، وَلِهَذَا لَوْ لَمْ يَكُنْ مُحْرَزًا ، فَقَدْ سَرَقَهُ مِنْ حِرْزِ مِثْلِهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ سَرَقَ الْمَتَاعَ .
وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ سَرِقَةَ الْحِرْزِ مِنْ حِرْزِهِ لَا تُوجِبُ الْقَطْعَ ، فَإِنَّهُ لَوْ سَرَقَ الصُّنْدُوقَ بِمَا فِيهِ مِنْ بَيْتٍ هُوَ مُحْرَزٌ فِيهِ ، وَجَبَ قَطْعُهُ .
وَهَذَا التَّفْصِيلُ فِي الْإِبِلِ الَّتِي فِي الصَّحْرَاءِ ، فَأَمَّا الَّتِي فِي الْبُيُوتِ وَالْمَكَانِ الْمُحْصَنِ ، عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الثِّيَابِ ، فَهِيَ مُحْرَزَةٌ .
وَالْحُكْمُ فِي سَائِرِ الْمَوَاشِي كَالْحُكْمِ فِي الْإِبِلِ ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ التَّفْصِيلِ فِيهَا .

( 7261 ) فَصْلٌ : وَإِذَا سَرَقَ مِنْ الْحَمَّامِ ، وَلَا حَافِظَ فِيهِ ، فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ ، فِي قَوْلِ عَامَّتِهِمْ ، وَإِنْ كَانَ ثَمَّ حَافِظٌ .
فَقَالَ أَحْمَدُ : لَيْسَ عَلَى سَارِقِ الْحَمَّامِ قَطْعٌ .
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ : لَا يُقْطَعُ سَارِقُ الْحَمَّامِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى الْمَتَاعِ قَاعِدٌ ، مِثْلَ مَا صُنِعَ بِصَفْوَانَ .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ لِلنَّاسِ فِي دُخُولِهِ ، فَجَرَى مَجْرَى سَرِقَةِ الضَّيْفِ مِنْ الْبَيْتِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي دُخُولِهِ ؛ وَلِأَنَّ دُخُولَ النَّاسِ إلَيْهِ يَكْثُرُ ، فَلَا يَتَمَكَّنُ الْحَافِظُ مِنْ حِفْظِ مَا فِيهِ .
قَالَ الْقَاضِي : وَفِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى : أَنَّهُ يَجِبُ الْقَطْعُ إذَا كَانَ فِيهِ حَافِظٌ .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَإِسْحَاقَ ، وَأَبِي ثَوْرٍ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ ؛ لِأَنَّهُ مَتَاعٌ لَهُ حَافِظٌ ، فَيَجِبُ قَطْعُ سَارِقِهِ ، كَمَا لَوْ كَانَ فِي بَيْتٍ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ .
وَهَذَا يُفَارِقُ مَا فِي الْبَيْتِ مِنْ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا .
فَأَمَّا إنْ كَانَ صَاحِبُ الثِّيَابِ قَاعِدًا عَلَيْهَا ، أَوْ مُتَوَسِّدًا لَهَا ، أَوْ جَالِسًا وَهِيَ بَيْنَ يَدَيْهِ يَحْفَظُهَا ، قُطِعَ سَارِقُهَا بِكُلِّ حَالٍ ، كَمَا قُطِعَ سَارِقُ رِدَاءِ صَفْوَانَ مِنْ الْمَسْجِدِ ، وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ لَهُ .
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ نَائِبُ صَاحِبِ الثِّيَابِ ، إمَّا الْحَمَّامِيُّ وَإِمَّا غَيْرُهُ حَافِظًا لَهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ، قُطِعَ سَارِقُهَا ؛ لِأَنَّهَا مُحْرَزَةٌ .
وَإِنْ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ ، فَقَالَ الْقَاضِي : إنْ نَزَعَ الدَّاخِلُ ثِيَابَهُ ، عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ ، وَلَمْ يَسْتَحْفِظْهَا لِأَحَدٍ فَلَا قَطْعَ عَلَى سَارِقِهَا ، وَلَا غُرْمَ عَلَى الْحَمَّامِيِّ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُودَعٍ فَيَضْمَنَ ، وَلَا هِيَ مُحْرَزَةٌ فَيُقْطَعَ سَارِقُهَا ، وَإِنْ اسْتَحْفَظَهَا الْحَمَّامِيَّ ، فَهُوَ مُودَعٌ يَلْزَمُهُ مُرَاعَاتُهَا بِالنَّظَرِ وَالْحِفْظِ ، فَإِنْ تَشَاغَلَ عَنْهَا ، أَوْ تَرَكَ النَّظَرَ إلَيْهَا ، فَسُرِقَتْ ، فَعَلَيْهِ الْغُرْمُ لِتَفْرِيطِهِ ، وَلَا قَطْعَ عَلَى السَّارِقِ ؛

لِأَنَّهُ لَمْ يَسْرِقْ مِنْ حِرْزٍ .
وَإِنْ تَعَاهَدَهَا الْحَمَّامِيُّ بِالْحِفْظِ وَالنَّظَرِ ، فَسُرِقَتْ ، فَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ ؛ لِعَدَمِ تَفْرِيطِهِ ، وَعَلَى السَّارِقِ الْقَطْعُ ؛ لِأَنَّهَا مُحْرَزَةٌ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا قَطْعَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ ؛ لِمَا تَقَدَّمَ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : قَالَ أَحْمَدُ : أَرْجُو أَنْ لَا قَطْعَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ لِلنَّاسِ فِي دُخُولِهِ .
وَلَوْ اسْتَحْفَظَ رَجُلٌ آخَرَ مَتَاعَهُ فِي الْمَسْجِدِ ، فَسُرِقَ ، فَإِنْ كَانَ قَدْ فَرَّطَ فِي مُرَاعَاتِهِ وَنَظَرِهِ إلَيْهِ ، فَعَلَيْهِ الْغُرْمُ إذَا كَانَ الْتَزَمَ حِفْظَهُ ، وَأَجَابَهُ إلَى مَا سَأَلَهُ ، وَإِنْ لَمْ يُجِبْهُ ، لَكِنْ سَكَتَ ، لَمْ يَلْزَمْهُ غُرْمٌ ؛ لِأَنَّهُ مَا قَبِلَ الِاسْتِيدَاعَ ، وَلَا قَبَضَ الْمَتَاعَ ، وَلَا قَطْعَ عَلَى السَّارِقِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْرَزٍ .
وَإِنْ حَفِظَ الْمَتَاعَ بِنَظَرِهِ إلَيْهِ ، وَقُرْبِهِ مِنْهُ ، فَسُرِقَ فَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ ، وَعَلَى السَّارِقِ الْقَطْعُ ؛ لِأَنَّهُ سَرَقَ مِنْ حِرْزٍ .
وَيُفَارِقُ الْمَتَاعَ فِي الْحَمَّامِ ، فَإِنَّ الْحِفْظَ فِيهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَضَعُ بَعْضُهُمْ ثِيَابَهُ عِنْدَ ثِيَابِ بَعْضٍ وَيَشْتَبِهُ عَلَى الْحَمَّامِيِّ صَاحِبُ الثِّيَابِ ، فَلَا يُمْكِنُهُ مَنْعُ أَخْذِهَا ؛ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِمَالِكِهَا .

( 7262 ) فَصْلٌ : وَحِرْزُ حَائِطِ الدَّارِ كَوْنُهُ مَبْنِيًّا فِيهَا ، إذَا كَانَتْ فِي الْعُمْرَانِ ، أَوْ كَانَتْ فِي الصَّحْرَاءِ وَفِيهَا حَافِظٌ ، فَإِنْ أَخَذَ مِنْ أَجْزَاءِ الْحَائِطِ أَوْ خَشَبِهِ نِصَابًا فِي هَذِهِ الْحَالِ ، وَجَبَ قَطْعُهُ ؛ لِأَنَّ الْحَائِطَ حِرْزٌ لِغَيْرِهِ ، فَيَكُونُ حِرْزًا لِنَفْسِهِ .
وَإِنْ هَدَمَ الْحَائِطَ وَلَمْ يَأْخُذْهُ ، فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ فِيهِ ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَ الْمَتَاعَ فِي الْحِرْزِ وَلَمْ يَسْرِقْهُ .
وَإِنْ كَانَتْ الدَّارُ بِحَيْثُ لَا تَكُونُ حِرْزًا لِمَا فِيهَا ، كَدَارٍ فِي الصَّحْرَاءِ ، لَا حَافِظَ فِيهَا ، فَلَا قَطْعَ عَلَى مَنْ أَخَذَ مِنْ حَائِطِهَا شَيْئًا ؛ لِأَنَّهَا إذَا لَمْ تَكُنْ حِرْزًا لِمَا فِيهَا ، فَلِنَفْسِهَا أَوْلَى .
وَأَمَّا بَابُ الدَّارِ : فَإِنْ كَانَ مَنْصُوبًا فِي مَكَانِهِ ، فَهُوَ مُحْرَزٌ ، سَوَاءٌ كَانَ مُغْلَقًا أَوْ مَفْتُوحًا ؛ لِأَنَّهُ هَكَذَا يُحْفَظُ ، وَعَلَى سَارِقِهِ الْقَطْعُ إذَا كَانَتْ الدَّارُ مُحْرَزَةً بِمَا ذَكَرْنَاهُ .
وَأَمَّا أَبْوَابُ الْخَزَائِنِ فِي الدَّارِ ، فَإِنْ كَانَ بَابُ الدَّارِ مُغْلَقًا ، فَهِيَ مُحْرَزَةٌ ، سَوَاءٌ كَانَتْ مَفْتُوحَةً أَوْ مُغْلَقَةً ، وَإِنْ كَانَ مَفْتُوحًا ، لَمْ تَكُنْ مُحْرَزَةً ، إلَّا أَنْ تَكُونَ مُغْلَقَةً ، أَوْ يَكُونَ فِي الدَّارِ حَافِظٌ .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ بَابِ الدَّارِ وَبَابِ الْخِزَانَةِ ، أَنَّ أَبْوَابَ الْخَزَائِنِ تُحْرَزُ بِبَابِ الدَّارِ ، وَبَابُ الدَّارِ لَا يُحْرَزُ إلَّا بِنَصْبِهِ ، وَلَا يُحْرَزُ بِغَيْرِهِ .
وَأَمَّا حَلْقَةُ الْبَابِ : فَإِنْ كَانَتْ مَسْمُورَةً ، فَهِيَ مُحْرَزَةٌ ، وَإِلَّا فَلَا ؛ لِأَنَّهَا تُحْرَزُ بِتَسْمِيرِهَا .

( 7263 ) فَصْلٌ : وَإِنْ سَرَقَ بَابَ مَسْجِدٍ مَنْصُوبًا ، أَوْ بَابَ الْكَعْبَةِ الْمَنْصُوبَ ، أَوْ سَرَقَ مِنْ سَقْفِهِ شَيْئًا ، أَوْ تَأْزِيرِهِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا : عَلَيْهِ الْقَطْعُ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَابْنِ الْقَاسِمِ ، صَاحِبِ مَالِكٍ ، وَأَبِي ثَوْرٍ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ ؛ لِأَنَّهُ سَرَقَ نِصَابًا مُحْرَزًا يُحْرَزُ مِثْلُهُ ، لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ ، فَلَزِمَهُ الْقَطْعُ ، كَبَابِ بَيْتِ الْآدَمِيِّ .
وَالثَّانِي : لَا قَطْعَ عَلَيْهِ .
وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ ؛ لِأَنَّهُ لَا مَالِكَ لَهُ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ ، فَلَا يُقْطَعُ فِيهِ ، كَحُصْرِ الْمَسْجِدِ وَقَنَادِيلِهِ ، فَإِنَّهُ لَا يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ ذَلِكَ ، وَجْهًا وَاحِدًا ؛ لِكَوْنِهِ مِمَّا يَنْتَفِعُ بِهِ ، فَيَكُونُ لَهُ فِيهِ شُبْهَةٌ ، فَلَمْ يُقْطَعْ بِهِ ، كَالسَّرِقَةِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ .
وَقَالَ أَحْمَدُ : لَا يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ سِتَارَةِ الْكَعْبَةِ الْخَارِجَةِ مِنْهَا .
وَقَالَ الْقَاضِي : هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا لَيْسَتْ بِمَخِيطَةٍ ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تُحْرَزُ بِخِيَاطَتِهَا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا قَطْعَ فِيهَا بِحَالٍ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْبَابِ .

( 7264 ) فَصْلٌ : وَإِذَا أَجَّرَ دَارِهِ ، ثُمَّ سَرَقَ مِنْهَا مَالِ الْمُسْتَأْجِرِ ، فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ صَاحِبَاهُ : لَا قَطْعَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ تَحْدُثُ فِي مِلْكِ الْآجِرِ ، ثُمَّ تَنْتَقِلُ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ .
وَلَنَا أَنَّهُ هَتَكَ حِرْزًا ، وَسَرَقَ مِنْهُ نِصَابًا لَا شُبْهَةَ لَهُ ، فَوَجَبَ الْقَطْعُ ، كَمَا لَوْ سَرَقَ مِنْ مِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ .
وَمَا قَالَاهُ لَا نُسَلِّمُهُ .
وَلَوْ اسْتَعَارَ دَارًا فَنَقَبَهَا الْمُعِيرُ ، وَسَرَقَ مَالَ الْمُسْتَعِيرِ مِنْهَا ، قُطِعَ أَيْضًا .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا قَطْعَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ مِلْكٌ لَهُ ، فَمَا هَتَكَ حِرْزَ غَيْرِهِ ؛ وَلِأَنَّ لَهُ الرُّجُوعَ مَتَى شَاءَ ، وَهَذَا يَكُونُ رُجُوعًا .
وَلَنَا مَا تَقَدَّمَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا ، وَلَا يَصِحُّ مَا ذَكَرَهُ ، لِأَنَّ هَذَا قَدْ صَارَ حِرْزًا لِمَالِ غَيْرِهِ ، لَا يَجُوزُ لَهُ الدُّخُولُ إلَيْهِ ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ لَهُ الرُّجُوعُ فِي الْعَارِيَّةِ ، وَالْمُطَالَبَةُ بِرَدِّهِ إلَيْهِ .

( 7265 ) فَصْلٌ : وَإِنْ غَصَبَ بَيْتًا ، فَأَحْرَزَ فِيهِ مَالَهُ ، فَسَرَقَهُ مِنْهُ أَجْنَبِيٌّ ، أَوْ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ ، فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ بِحِرْزِهِ إذَا كَانَ مُتَعَدِّيًا بِهِ ، ظَالِمًا فِيهِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا سَرَقَ الضَّيْفُ مِنْ مَالِ مُضِيفِهِ شَيْئًا ، نَظَرْت ، فَإِنْ سَرَقَهُ مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَنْزَلَهُ فِيهِ ، أَوْ مَوْضِعٍ لَمْ يُحْرِزْهُ عَنْهُ ، لَمْ يُقْطَعْ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْرِقْ مِنْ حِرْزٍ ، وَإِنْ سَرَقَ مِنْ مَوْضِعٍ مُحْرَزٍ دُونَهُ ، نَظَرْت ؛ فَإِنْ كَانَ مَنَعَهُ قِرَاهُ ، فَسَرَقَ بِقَدْرِهِ ، فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ أَيْضًا ، وَإِنْ لَمْ يَمْنَعْهُ قِرَاهُ ، فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا قَطْعَ عَلَى الضَّيْفِ .
وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى إحْدَى الْحَالَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا قَطْعَ عَلَيْهِ بِحَالٍ ؛ لِأَنَّ الْمُضِيفَ بَسَطَهُ فِي بَيْتِهِ وَمَالِهِ ، فَأَشْبَهَ ابْنَهُ .
وَلَنَا أَنَّهُ سَرَقَ مَالًا مُحْرَزًا عَنْهُ ، لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ ، فَلَزِمَهُ الْقَطْعُ ، كَالْأَجْنَبِيِّ .
وَقَوْلُهُ : إنَّهُ بَسَطَهُ فِيهِ .
لَا يَصِحُّ ، فَإِنَّهُ أَحْرَزَ عَنْهُ هَذَا الْمَالَ ، وَلَمْ يَبْسُطْهُ فِيهِ ، وَتَبَسُّطُهُ فِي غَيْرِهِ لَا يُوجِبُ تَبَسُّطَهُ فِيهِ ، كَمَا لَوْ تَصَدَّقَ عَلَى مِسْكِينٍ بِصَدَقَةٍ ، أَوْ أَهْدَى إلَى صَدِيقِهِ هَدِيَّةً ، فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْقَطْعُ بِالسَّرِقَةِ مِنْ غَيْرِ مَا تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ ، أَوْ أَهْدَى إلَيْهِ .

( 7267 ) فَصْلٌ : وَإِذَا أَحْرَزَ الْمُضَارِبُ مَالَ الْمُضَارَبَةِ ، أَوْ الْوَدِيعَةِ ، أَوْ الْعَارِيَّةِ ، أَوْ الْمَالَ الَّذِي وُكِّلَ فِيهِ ، فَسَرَقَهُ أَجْنَبِيٌّ ، فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ ، لَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا ؛ لِأَنَّهُ يَنُوبُ مَنَابَ الْمَالِكِ فِي حِفْظِ الْمَالِ وَإِحْرَازِهِ ، وَيَدُهُ كَيَدِهِ .
وَإِنْ غَصَبَ عَيْنًا وَأَحْرَزَهَا ، أَوْ سَرَقَهَا وَأَحْرَزَهَا ، فَسَرَقَهَا سَارِقٌ ، فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : عَلَيْهِ الْقَطْعُ ؛ لِأَنَّهُ سَرَقَ نِصَابًا مِنْ حِرْزِ مِثْلِهِ ، لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ ، وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ ، كَالْمَذْهَبَيْنِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ كَقَوْلِنَا فِي السَّارِقِ ، وَكَقَوْلِهِمْ فِي الْغَاصِبِ .
وَلَنَا أَنَّهُ لَمْ يَسْرِقْ الْمَالَ مِنْ مَالِكِهِ ، وَلَا مِمَّنْ يَقُومُ مَقَامَهُ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وَجَدَهُ ضَائِعًا فَأَخَذَهُ ، وَفَارَقَ السَّارِقَ مِنْ الْمَالِكِ أَوْ نَائِبِهِ ، فَإِنَّهُ أَزَالَ يَدَهُ ، وَسَرَقَ مِنْ حِرْزِهِ .

( 7268 ) فَصْلٌ : وَإِنْ سَرَقَ نِصَابًا ، أَوْ غَصَبَهُ فَأَحْرَزَهُ ، فَجَاءَ الْمَالِكُ ، فَهَتَكَ الْحِرْزَ ؛ وَأَخَذَ مَالَهُ ، فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَحَدٍ ، سَوَاءٌ أَخَذَهُ سَرِقَةً أَوْ غَيْرَهَا ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ مَالَهُ .
وَإِنْ سَرَقَ غَيْرَهُ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا : لَا قَطْعَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ لَهُ شُبْهَةً فِي هَتْكِ الْحِرْزِ ، وَأَخْذِ مَالِهِ ، فَصَارَ كَالسَّارِقِ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ ؛ وَلِأَنَّ لَهُ شُبْهَةً فِي أَخْذِ قَدْرِ مَالِهِ ، لِذَهَابِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ إلَى جَوَازِ أَخْذِ الْإِنْسَانِ قَدْرَ دَيْنِهِ مِنْ مَالِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ .
وَالثَّانِي : عَلَيْهِ الْقَطْعُ ؛ لِأَنَّهُ سَرَقَ نِصَابًا مِنْ حِرْزِهِ لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ قَدْرِ مَالِهِ إذَا عَجَزَ عَنْ أَخْذِ مَالِهِ ، وَهَذَا أَمْكَنَهُ أَخْذُ مَالِهِ ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ أَخْذُ غَيْرِهِ .
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إذَا أَخَذَ مَالَهُ ، وَأَخَذَ مِنْ غَيْرِهِ نِصَابًا مُتَمَيِّزًا عَنْ مَالِهِ ، فَإِنْ كَانَ مُخْتَلِطًا بِمَالِهِ غَيْرَ مُتَمَيِّزٍ مِنْهُ ، فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ مَالَهُ الَّذِي لَهُ أَخْذُهُ ، وَحَصَّلَ غَيْرَهُ مَأْخُوذًا ضَرُورَةَ أَخْذِهِ ، فَيَجِبُ أَنْ لَا يُقْطَعَ فِيهِ ؛ وَلِأَنَّ لَهُ فِي أَخْذِهِ شُبْهَةً ، وَالْحَدُّ يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ .
فَأَمَّا إنْ سَرَقَ مِنْهُ مَالًا آخَرَ مِنْ غَيْرِ الْحِرْزِ الَّذِي فِيهِ مَالُهُ ، أَوْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ عَلَى إنْسَانٍ ، فَسَرَقَ مِنْ مَالِهِ قَدْرَ دَيْنِهِ مِنْ حِرْزِهِ ، نَظَرْت ، فَإِنْ كَانَ الْغَاصِبُ أَوْ الْغَرِيمُ بَاذِلًا لِمَا عَلَيْهِ ، غَيْرَ مُمْتَنِعٍ مِنْ أَدَائِهِ ، أَوْ قَدَرَ الْمَالِكُ عَلَى أَخْذِ مَالِهِ فَتَرَكَهُ وَسَرَقَ مَالَ الْغَاصِبِ أَوْ الْغَرِيمِ ، فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ ؛ لِأَنَّهُ لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ اسْتِيفَاءِ دَيْنِهِ ، أَوْ أَرْشِ جِنَايَتِهِ ، فَسَرَقَ قَدْرَ دَيْنِهِ ، أَوْ حَقِّهِ ، فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : عَلَيْهِ الْقَطْعُ ، بِنَاءً عَلَى أَصْلِنَا فِي أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَخْذُ قَدْرِ دَيْنِهِ .
وَلَنَا أَنَّ هَذَا مُخْتَلَفٌ فِي حِلِّهِ ، فَلَمْ يَجِبْ

الْحَدُّ بِهِ ، كَمَا لَوْ وَطِئَ فِي نِكَاحٍ مُخْتَلَفٍ فِي صِحَّتِهِ ، وَتَحْرِيمُ الْأَخْذِ لَا يَمْنَعُ الشُّبْهَةَ النَّاشِئَةَ عَنْ الِاخْتِلَافِ ، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ .
فَإِنْ سَرَقَ أَكْثَرَ مِنْ دَيْنِهِ ، فَهُوَ كَالْمَغْصُوبِ مِنْهُ إذَا سَرَقَ أَكْثَرَ مِنْ مَالِهِ ، عَلَى مَا مَضَى .

( 7269 ) فَصْلٌ : وَلَا بُدَّ مِنْ إخْرَاجِ الْمَتَاعِ مِنْ الْحِرْزِ ؛ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ الْإِجْمَاعِ عَلَى اشْتِرَاطِهِ ، فَمَتَى أَخْرَجَهُ مِنْ الْحِرْزِ ، وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَطْعُ ، سَوَاءٌ حَمَلَهُ إلَى مَنْزِلِهِ ، أَوْ تَرَكَهُ خَارِجًا مِنْ الْحِرْزِ ، وَسَوَاءٌ أَخْرَجَهُ بِأَنْ حَمَلَهُ ، أَوْ رَمَى بِهِ إلَى خَارِجِ الْحِرْزِ ، أَوْ شَدَّ فِيهِ حَبْلًا ثُمَّ خَرَجَ فَمَدَّهُ بِهِ ، أَوْ شَدَّهُ عَلَى بَهِيمَةٍ ثُمَّ سَاقَهَا بِهِ حَتَّى أَخْرَجَهَا ، أَوْ تَرَكَهُ فِي نَهْرٍ جَارٍ ، فَخَرَجَ بِهِ ، فَفِي هَذَا كُلِّهِ يَجِبُ الْقَطْعُ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُخْرِجُ لَهُ ، إمَّا بِنَفْسِهِ ، وَإِمَّا بِآلَتِهِ ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقَطْعُ ، كَمَا لَوْ حَمَلَهُ ، فَأَخْرَجَهُ ، وَسَوَاءٌ دَخَلَ الْحِرْزَ فَأَخْرَجَهُ ، أَوْ نَقَبَهُ ثُمَّ أَدْخَلَ إلَيْهِ يَدَهُ أَوْ عَصًا لَهَا شُجْنَةٌ فَاجْتَذَبَهُ بِهَا .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا قَطْعَ عَلَيْهِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْبَيْتُ صَغِيرًا لَا يُمْكِنُهُ دُخُولُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَهْتِكْ الْحِرْزَ بِمَا أَمْكَنَهُ ، فَأَشْبَهَ الْمُخْتَلِسَ .
وَلَنَا أَنَّهُ سَرَقَ نِصَابًا مِنْ حِرْزِ مِثْلِهِ ، لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْقَطْعِ ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ ، كَمَا لَوْ كَانَ الْبَيْتُ ضَيِّقًا ، وَيُخَالِفُ الْمُخْتَلِسَ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَهْتِكْ الْحِرْزَ .
وَإِنْ رَمَى الْمَتَاعَ ، فَأَطَارَتْهُ الرِّيحُ فَأَخْرَجَتْهُ ، فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ ؛ لِأَنَّهُ مَتَى كَانَ ابْتِدَاءُ الْفِعْلِ مِنْهُ ، لَمْ يُؤَثِّرْ فِعْلُ الرِّيحِ ، كَمَا لَوْ رَمَى صَيْدًا ، فَأَعَانَتْ الرِّيحُ السَّهْمَ حَتَّى قَتَلَ الصَّيْدَ ، حَلَّ ، وَلَوْ رَمَى الْجِمَارَ ، فَأَعَانَتْهَا الرِّيحُ حَتَّى وَقَعَتْ فِي الْمَرْمَى ، اُحْتُسِبَ بِهِ ، وَصَارَ هَذَا كَمَا لَوْ تَرَكَ الْمَتَاعَ فِي الْمَاءِ فَجَرَى بِهِ فَأَخْرَجَهُ ، وَلَوْ أَمَرَ صَبِيًّا لَا يُمَيِّزُ ، فَأَخْرَجَ الْمَتَاعَ ، وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَطْعُ ؛ لِأَنَّهُ آلَةٌ لَهُ ، فَأَمَّا إنْ تَرَكَ الْمَتَاعَ عَلَى دَابَّةٍ ، فَخَرَجَتْ بِنَفْسِهَا مِنْ غَيْرِ سَوْقِهَا ، أَوْ تَرَكَ الْمَتَاعَ فِي مَاءٍ رَاكِدٍ ،

فَانْفَتَحَ فَخَرَجَ الْمَتَاعُ ، أَوْ عَلَى حَائِطٍ فِي الدَّارِ ، فَأَطَارَتْهُ الرِّيحُ ، فَفِي ذَلِكَ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا : عَلَيْهِ الْقَطْعُ ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ سَبَبُ خُرُوجِهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ سَاقَ الْبَهِيمَةَ ، أَوْ فَتْحَ الْمَاءَ ، وَحَلَّقَ الثَّوْبَ فِي الْهَوَاءِ .
وَالثَّانِي : لَا قَطْعَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ لَمْ يَكُنْ آلَةً لِلْإِخْرَاجِ ، وَإِنَّمَا خَرَجَ الْمَتَاعُ بِسَبَبٍ حَادِثٍ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ ، وَالْبَهِيمَةُ لَهَا اخْتِيَارٌ لِنَفْسِهَا .

( 7270 ) فَصْلٌ : وَإِذَا أَخْرَجَ الْمَتَاعَ مِنْ بَيْتٍ فِي الدَّارِ ، أَوْ الْخَانِ إلَى الصَّحْنِ ، فَإِنْ كَانَ بَابُ الْبَيْتِ مُغْلَقًا ، فَفَتَحَهُ أَوْ نَقَبَهُ ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْمَتَاعَ مِنْ الْحِرْزِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُغْلَقًا ، فَمَا أَخْرَجَهُ مِنْ الْحِرْزِ .
وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ : إذَا أَخْرَجَ الْمَتَاعَ مِنْ الْبَيْتِ إلَى الدَّارِ ، يُقْطَعُ .
وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الصُّورَةِ الْأُولَى .

( 7271 ) فَصْلٌ : قَالَ أَحْمَدُ الطَّرَّارُ سِرًّا يُقْطَعُ ، وَإِنْ اخْتَلَسَ لَمْ يُقْطَعْ .
وَمَعْنَى الطَّرَّارِ : الَّذِي يَسْرِقُ مِنْ جَيْبِ الرَّجُلِ أَوْ كُمِّهِ ، أَوْ صُفْنِهِ ، وَسَوَاءٌ بَطَّ مَا أَخَذَ مِنْهُ الْمَسْرُوقَ ، أَوْ قَطَعَ الصُّفْنَ فَأَخَذَهُ ، أَوْ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الْجَيْبِ فَأَخَذَ مَا فِيهِ ، فَإِنَّ عَلَيْهِ الْقَطْعَ .
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي الَّذِي يَأْخُذُ مِنْ جَيْبِ الرَّجُلِ وَكُمِّهِ : لَا قَطْعَ عَلَيْهِ .
فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ .

( 7272 ) فَصْلٌ : وَإِذَا دَخَلَ السَّارِقُ حِرْزًا ، فَاحْتَلَبَ لَبَنًا مِنْ مَاشِيَةٍ ، وَأَخْرَجَهُ ، فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ .
بِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا قَطْعَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْأَشْيَاءِ الرَّطْبَةِ .
وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِي هَذَا .
وَإِنْ شَرِبَهُ فِي الْحِرْزِ ، أَوْ شَرِبَ مِنْهُ مَا يُنْقِصُ النِّصَابَ ، فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُخْرِجْ مِنْ الْحِرْزِ نِصَابًا .
وَإِنْ ذَبَحَ الشَّاةَ فِي الْحِرْزِ ، أَوْ شَقَّ الثَّوْبَ ، ثُمَّ أَخْرَجَهُمَا ، وَقِيمَتُهُمَا بَعْدَ الشَّقِّ وَالذَّبْحِ نِصَابٌ ، فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ .
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا قَطْعَ عَلَيْهِ فِي الشَّاةِ ؛ لِأَنَّ اللَّحْمَ لَا يُقْطَعُ عِنْدَهُ بِسَرِقَتِهِ ، وَالثَّوْبُ إنْ شُقَّ أَكْثَرُهُ ، فَلَا قَطْعَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَةَ جَمِيعِهِ ، فَيَكُونَ قَدْ أَخْرَجَهُ وَهُوَ مِلْكٌ لَهُ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ فِي هَذِهِ الْأُصُولِ .
وَإِنْ دَخَلَ الْحِرْزَ فَابْتَلَعَ جَوْهَرَةً وَخَرَجَ ، فَلَمْ تَخْرُجْ ؛ فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَهَا فِي الْحِرْزِ ، وَإِنْ خَرَجَتْ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا : يَجِبُ ؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَهَا فِي وِعَائِهَا ، فَأَشْبَهَ إخْرَاجَهَا فِي كُمِّهِ .
وَالثَّانِي : لَا يَجِبُ ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَهَا بِالْبَلْعِ ، فَكَانَ إتْلَافًا لَهَا ؛ وَلِأَنَّهُ مُلْجَأٌ إلَى إخْرَاجِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ بِدُونِهَا .
وَإِنْ تَطَيَّبَ فِي الْحِرْزِ بِطِيبٍ ، وَخَرَجَ ، وَلَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ مِنْ الطِّيبِ ، مَا إذَا جُمِعَ كَانَ نِصَابًا ، فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَجْتَمِعُ قَدْ أَتْلَفَهُ بِاسْتِعْمَالِهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَكَلَ الطَّعَامَ ، وَإِنْ كَانَ يَبْلُغُ نِصَابًا ، فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ ؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَ نِصَابًا .
وَذُكِرَ فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ ، فِيمَا إذَا كَانَ مَا تَطَيَّبَ بِهِ يَبْلُغُ نِصَابًا ، فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ وَإِنْ نَقَصَ مَا يَجْتَمِعُ عَنْ النِّصَابِ ؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَ نِصَابًا .
وَالْأَوَّلُ أَوْلَى .
وَإِنْ جَرَّ خَشَبَةً

فَأَلْقَاهَا بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَ بَعْضَهَا مِنْ الْحِرْزِ ، فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ ، سَوَاءٌ خَرَجَ مِنْهَا مَا يُسَاوِي نِصَابًا أَوْ لَمْ يَكُنْ ؛ لِأَنَّ بَعْضَهَا لَا يَنْفَرِدُ عَنْ بَعْضٍ .
وَكَذَلِكَ لَوْ أَمْسَكَ الْغَاصِبُ طَرَفَ عِمَامَتِهِ ، وَالطَّرَفُ الْآخَرُ فِي يَدِ مَالِكِهَا ، لَمْ يَضْمَنْهَا .
وَكَذَلِكَ إذَا سَرَقَ ثَوْبًا أَوْ عِمَامَةً فَأَخْرَجَ بَعْضَهُمَا .

( 7273 ) فَصْلٌ : وَإِذَا نَقَبَ الْحِرْزَ ، ثُمَّ دَخَلَ فَأَخْرَجَ مَا دُونَ النِّصَابِ ، ثُمَّ دَخَلَ فَأَخْرَجَ مَا يَتِمُّ بِهِ النِّصَابُ ، نَظَرْت ؛ فَإِنْ كَانَ فِي وَقْتَيْنِ مُتَبَاعِدَيْنِ ، أَوْ لَيْلَتَيْنِ ، لَمْ يَجِبْ الْقَطْعُ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا سَرِقَةٌ مُفْرَدَةٌ لَا تَبْلُغُ نِصَابًا .
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَا فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَبَيْنَهُمَا مُدَّةٌ طَوِيلَةٌ .
وَإِنْ تَقَارَبَا ، وَجَبَ قَطْعُهُ ؛ لِأَنَّهَا سَرِقَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَإِذَا بُنِيَ فِعْلُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى فِعْلِ شَرِيكِهِ ، فَبِنَاءُ فِعْلِ الْوَاحِدِ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ أَوْلَى .

الشَّرْطُ الْخَامِسُ وَالسَّادِسُ وَالسَّابِعُ : كَوْنُ السَّارِقِ مُكَلَّفًا ، وَثَبَتَتْ السَّرِقَةُ ، وَيُطَالِبُ بِهَا الْمَالِكُ بِالْمَعْرُوفِ ، وَتَنْتَفِي الشُّبُهَاتُ .
وَيُذْكَرُ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعِهِ .

( 7274 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَسْرُوقُ ثَمَرًا أَوْ كَثَرًا ، فَلَا قَطْعَ فِيهِ ) يَعْنِي بِهِ الثَّمَرَ فِي الْبُسْتَانِ قَبْلَ إدْخَالِهِ الْحِرْزَ ، فَهَذَا لَا قَطْعَ فِيهِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ .
كَذَلِكَ الْكَثَرُ الْمَأْخُوذُ مِنْ النَّخْلِ ، وَهُوَ جُمَّارُ النَّخْلِ .
رُوِيَ مَعْنَى هَذَا الْقَوْلِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ .
وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ ، وَمَالِكٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ : إنْ كَانَ مِنْ ثَمَرٍ أَوْ بُسْتَانٍ مُحْرَزٍ ، فَفِيهِ الْقَطْعُ .
وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ إنْ لَمْ يَصِحَّ خَبَرُ رَافِعٍ .
قَالَ : وَلَا أَحْسَبُهُ ثَابِتًا .
وَاحْتَجَّا بِظَاهِرِ الْآيَةِ ، وَبِقِيَاسِهِ عَلَى سَائِرِ الْمُحْرَزَاتِ .
وَلَنَا مَا رَوَى رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ } .
أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد ، وَابْنُ مَاجَهْ .
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ، { عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ ، فَقَالَ : مَنْ أَصَابَ بِفِيهِ مِنْ ذِي حَاجَةٍ ، غَيْرَ مُتَّخِذٍ خُبْنَةً ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَمَنْ خَرَجَ بِشَيْءٍ مِنْهُ ، فَعَلَيْهِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ وَالْعُقُوبَةُ ، وَمَنْ سَرَقَ مِنْهُ شَيْئًا بَعْدَ أَنْ يُؤْوِيَهُ الْجَرِينُ ، فَبَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ ، فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ } .
وَهَذَا يَخُصُّ عُمُومَ الْآيَةِ ؛ وَلِأَنَّ الْبُسْتَانَ لَيْسَ بِحِرْزٍ لِغَيْرِ الثَّمَرِ ، فَلَا يَكُونُ حِرْزًا لَهُ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ مَحُوطًا ، فَأَمَّا إنْ كَانَتْ نَخْلَةٌ أَوْ شَجَرَةٌ فِي دَارٍ مُحْرِزَةٍ ، فَسَرَقَ مِنْهَا نِصَابًا ، فَفِيهِ الْقَطْعُ ؛ لِأَنَّهُ سَرَقَ مِنْ حِرْزٍ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - .

( 7275 ) فَصْلٌ : وَإِنْ سَرَقَ مِنْ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ ، فَعَلَيْهِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ .
وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ ؛ لِلْخَبَرِ الْمَذْكُورِ .
وَقَالَ أَحْمَدُ : لَا أَعْلَمُ سَبَبًا يَدْفَعُهُ .
وَقَالَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ : لَا يَجِبُ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ مِثْلِهِ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ الْفُقَهَاءِ قَالَ بِوُجُوبِ غَرَامَةِ مِثْلَيْهِ .
وَاعْتَذَرَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ عَنْ هَذَا الْخَبَرِ ، بِأَنَّهُ كَانَ حِينَ كَانَتْ الْعُقُوبَةُ فِي الْأَمْوَالِ ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ .
وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ حُجَّةٌ لَا تَجُوزُ مُخَالَفَتُهُ ، إلَّا بِمُعَارَضَةِ مِثْلِهِ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ ، وَهَذَا الَّذِي اعْتَذَرَ بِهِ هَذَا الْقَائِلُ دَعْوَى لِلْفَسْخِ بِالِاحْتِمَالِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ عَلَيْهِ ، وَهُوَ فَاسِدٌ بِالْإِجْمَاعِ ، ثُمَّ هُوَ فَاسِدٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ؛ لِقَوْلِهِ : " وَمَنْ سَرَقَ مِنْهُ شَيْئًا بَعْدَ أَنْ يُؤْوِيَهُ الْجَرِينُ ، فَبَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ ، فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ " .
فَقَدْ بَيَّنَ وُجُوبَ الْقَطْعِ مَعَ إيجَابِ غَرَامَةِ مِثْلَيْهِ ، وَهَذَا يُبْطِلُ مَا قَالَهُ .
وَقَدْ احْتَجَّ أَحْمَدُ بِأَنَّ عُمَرَ أَغْرَمَ حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ حِينَ انْتَحَرَ غِلْمَانُهُ نَاقَةَ رَجُلٍ مِنْ مُزَيْنَةَ ، مِثْلَيْ قِيمَتِهَا .
وَرَوَى الْأَثْرَمُ الْحَدِيثَيْنِ فِي " سُنَنِهِ " ، قَالَ أَصْحَابُنَا : وَفِي الْمَاشِيَةِ تُسْرَقُ مِنْ الْمَرْعَى ، مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ مُحْرَزَةً ، مِثْلَا قِيمَتِهَا ؛ لِلْحَدِيثِ ، وَهُوَ مَا جَاءَ فِي سِيَاقِ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، { أَنَّ السَّائِلَ قَالَ : الشَّاةُ الْحَرِيسَةُ مِنْهُنَّ يَا نَبِيَّ اللَّهِ ؟ قَالَ : ثَمَنُهَا وَمِثْلُهُ مَعَهُ ، وَالْفِكَاكُ ، وَمَا كَانَ فِي الْمُرَاحِ ، فَفِيهِ الْقَطْعُ إذَا كَانَ مَا يَأْخُذُهُ مِنْ ذَلِكَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ } .
وَهَذَا لَفْظُ رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ .
وَمَا عَدَا هَذَيْنِ لَا يُغْرَمُ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ ، أَوْ مِثْلِهِ إنْ كَانَ مِثْلِيًّا .
هَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ ، إلَّا أَبَا بَكْرٍ .
فَإِنَّهُ ذَهَبَ إلَى إيجَابِ

غَرَامَةِ الْمَسْرُوقِ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ بِمِثْلَيْهِ ، قِيَاسًا عَلَى الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ وَحَرِيسَةِ الْجَبَلِ ، وَاسْتِدْلَالًا بِحَدِيثِ حَاطِبٍ .
وَلَنَا أَنَّ الْأَصْلَ وُجُوبُ غَرَامَةِ الْمِثْلِيِّ بِمِثْلِهِ ، وَالْمُتَقَوَّمِ بِقِيمَتِهِ بِدَلِيلِ الْمُتْلَفِ وَالْمَغْصُوبِ ، وَالْمُنْتَهَبِ وَالْمُخْتَلَسِ ، وَسَائِرِ مَا تَجِبُ غَرَامَتُهُ ، خُولِفَ فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ لِلْأَثَرِ ، فَفِيمَا عَدَاهُ يَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ .

( 7276 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَابْتِدَاءُ قَطْعِ السَّارِقِ ، أَنْ تُقْطَعَ يَدُهُ الْيُمْنَى مِنْ مَفْصِلِ الْكَفِّ ، وَيُحْسَمَ ، فَإِنْ عَادَ قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى مِنْ مَفْصِلِ الْكَعْبِ ، وَحُسِمَتْ ) لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنَّ السَّارِقَ أَوَّلُ مَا يُقْطَعُ مِنْهُ ، يَدُهُ الْيُمْنَى ، مِنْ مَفْصِلِ الْكَفِّ ، وَهُوَ الْكُوعُ .
وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ : " فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمَا " .
وَهَذَا إنْ كَانَ قِرَاءَةً وَإِلَّا فَهُوَ تَفْسِيرٌ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، أَنَّهُمَا قَالَا : إذَا سَرَقَ السَّارِقُ ، فَاقْطَعُوا يَمِينَهُ مِنْ الْكُوعِ .
وَلَا مُخَالِفَ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ ؛ وَلِأَنَّ الْبَطْشَ بِهَا أَقْوَى ، فَكَانَتْ الْبِدَايَةُ بِهَا أَرْدَعَ ؛ وَلِأَنَّهَا آلَةُ السَّرِقَةِ ، فَنَاسَبَ عُقُوبَتَهُ بِإِعْدَامِ آلَتِهَا .
وَإِذَا سَرَقَ ثَانِيًا ، قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى .
وَبِذَلِكَ قَالَ الْجَمَاعَةُ إلَّا عَطَاءً ، حُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُسْرَى ؛ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : { فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } .
وَلِأَنَّهَا آلَةُ السَّرِقَةِ وَالْبَطْشِ ، فَكَانَتْ الْعُقُوبَةُ بِقَطْعِهَا أَوْلَى .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ رَبِيعَةَ ، وَدَاوُد .
وَهَذَا شُذُوذٌ ، يُخَالِفُ قَوْلَ جَمَاعَةِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْأَثَرِ ، مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي السَّارِقِ { إذَا سَرَقَ فَاقْطَعُوا يَدَهُ ، ثُمَّ إنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ } .
وَلِأَنَّهُ فِي الْمُحَارَبَةِ الْمُوجِبَةِ قَطْعَ عُضْوَيْنِ ، إنَّمَا تُقْطَعُ يَدُهُ وَرِجْلُهُ ، وَلَا تُقْطَعُ يَدَاهُ ، فَنَقُولُ : جِنَايَةٌ أَوْجَبَتْ قَطْعَ عُضْوَيْنِ ، فَكَانَا رِجْلًا وَيَدًا ، كَالْمُحَارَبَةِ ؛ وَلِأَنَّ قَطْعَ يَدَيْهِ يُفَوِّتُ مَنْفَعَةَ الْجِنْسِ ، فَلَا تَبْقَى لَهُ يَدٌ يَأْكُلُ بِهَا ، وَلَا يَتَوَضَّأُ ، وَلَا يَسْتَطِيبُ ، وَلَا يَدْفَعُ

عَنْ نَفْسِهِ ، فَيَصِيرُ كَالْهَالِكِ ، فَكَانَ قَطْعُ الرِّجْلِ الَّذِي لَا يَشْتَمِلُ عَلَى هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ أَوْلَى .
وَأَمَّا الْآيَةُ : فَالْمُرَادُ بِهَا قَطْعُ يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا تُقْطَعُ الْيَدَانِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى .
وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ : ( فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمَا ) .
وَإِنَّمَا ذُكِرَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ ، لِأَنَّ الْمُثَنَّى إذَا أُضِيفَ إلَى الْمُثَنَّى ذُكِرَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّهُ تُقْطَعُ رِجْلُهُ الْيُسْرَى ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ } .
وَلِأَنَّ قَطْعَ الْيُسْرَى أَرْفَقُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْمَشْيُ عَلَى خَشَبَةٍ ، وَلَوْ قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُمْنَى لَمْ يُمْكِنْهُ الْمَشْيُ بِحَالٍ .
وَتُقْطَعُ الرِّجْلُ مِنْ مَفْصِلِ الْكَعْبِ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَفَعَلَ ذَلِكَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَكَانَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقْطَعُ مِنْ نِصْفِ الْقَدَمِ مِنْ مَعْقِدِ الشِّرَاكِ ، وَيَدَعُ لَهُ عَقِبًا يَمْشِي عَلَيْهَا .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ .
وَلَنَا أَنَّهُ أَحَدُ الْعُضْوَيْنِ الْمَقْطُوعَيْنِ فِي السَّرِقَةِ ، فَيُقْطَعُ مِنْ الْمَفْصِلِ كَالْيَدِ .
وَإِذَا قُطِعَ حُسِمَ ، وَهُوَ أَنْ يُغْلَى الزَّيْتُ ، فَإِذَا قُطِعَ غُمِسَ عُضْوُهُ فِي الزَّيْتِ ؛ لِتَنْسَدَّ أَفْوَاهُ الْعُرُوقِ ؛ لِئَلَّا يَنْزِفَ الدَّمَ فَيَمُوتَ .
وَقَدْ رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِسَارِقٍ سَرَقَ شَمْلَةً ، فَقَالَ اقْطَعُوهُ وَاحْسِمُوهُ } .
وَهُوَ حَدِيثٌ فِيهِ مَقَالٌ .
قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَمِمَّنْ اسْتَحَبَّ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَيَكُونُ الزَّيْتُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِهِ الْقَاطِعَ ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ، فَإِنْ لَمْ يَحْسِمْ ، فَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ الْقَطْعَ ، لَا مُدَاوَاةَ

الْمَحْدُودِ .
وَيُسْتَحَبُّ لِلْمَقْطُوعِ حَسْمُ نَفْسِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ لَمْ يَأْثَمْ ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ التَّدَاوِيَ فِي الْمَرَضِ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ

( 7277 ) فَصْلٌ وَيُقْطَعُ السَّارِقُ بِأَسْهَلِ مَا يُمْكِنُ ، فَيَجْلِسُ وَيُضْبَطُ لِئَلَّا يَتَحَرَّكَ فَيَجْنِيَ عَلَى نَفْسِهِ ، وَتُشَدُّ يَدُهُ بِحَبْلٍ ، وَتُجَرُّ حَتَّى يَبِينَ مَفْصِلُ الْكَفِّ مِنْ مَفْصِلِ الذِّرَاعِ ، ثُمَّ يُوضَعُ بَيْنَهُمَا سِكِّينٌ حَادٌّ ، وَيُدَقُّ فَوْقَهُمَا بِقُوَّةٍ لِيُقْطَعَ فِي مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ ، أَوْ تُوضَعُ السِّكِّينُ عَلَى الْمَفْصِلِ وَتُمَدَّى مَدَّةً وَاحِدَةً .
وَإِنْ عُلِمَ قَطْعٌ أَوْحَى مِنْ هَذَا ، قُطِعَ بِهِ .

( 7278 ) فَصْلٌ : وَيُسَنُّ تَعْلِيقُ الْيَدِ فِي عُنُقِهِ ؛ لِمَا رَوَى فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِسَارِقٍ ، فَقُطِعَتْ يَدُهُ ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَعُلِّقَتْ فِي عُنُقِهِ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ .
وَفَعَلَ ذَلِكَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ وَلِأَنَّ فِيهِ رَدْعًا وَزَجْرًا .

( 7279 ) فَصْلٌ : وَلَا تُقْطَعُ فِي شِدَّةِ حَرٍّ وَلَا بَرْدٍ ؛ لِأَنَّ الزَّمَانَ رُبَّمَا أَعَانَ عَلَى قَتْلِهِ ، وَالْغَرَضُ الزَّجْرُ دُونَ الْقَتْلِ .
وَلَا تُقْطَعُ حَامِلٌ حَالَ حَمْلِهَا ، وَلَا بَعْدَ وَضْعِهَا حَتَّى يَنْقَضِيَ نِفَاسُهَا ؛ لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى تَلَفِهَا وَتَلَفِ وَلَدِهَا .
وَلَا يُقْطَعُ مَرِيضٌ فِي مَرَضِهِ ؛ لِئَلَّا يَأْتِيَ عَلَى نَفْسِهِ .
وَلَوْ سَرَقَ فَقُطِعَتْ يَدُهُ ، ثُمَّ سَرَقَ قَبْلَ انْدِمَالِ يَدِهِ ، لَمْ يُقْطَعْ ثَانِيًا حَتَّى يَنْدَمِلَ الْقَطْعُ الْأَوَّلُ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قُطِعَتْ رِجْلُهُ قِصَاصًا ، لَمْ تُقْطَعْ الْيَدُ فِي السَّرِقَةِ حَتَّى تَبْرَأَ الرِّجْلُ .
فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ قِصَاصٌ فِي الْيَدِ الْأُخْرَى لَقُطِعَتْ قَبْلَ الِانْدِمَالِ ، وَالْمُحَارِبُ تُقْطَعُ يَدُهُ وَرِجْلُهُ دَفْعَةً وَاحِدَةً ، وَقَدْ قُلْتُمْ فِي الْمَرِيضِ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ : لَا يُنْتَظَرُ بُرْؤُهُ .
فَلِمَ خَالَفْتُمْ ذَلِكَ هَاهُنَا ؟ قُلْنَا : الْقِصَاصُ حَقُّ آدَمِيٍّ ، يُخَافُ فَوْتُهُ ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الضِّيقِ لِحَاجَتِهِ إلَيْهِ ؛ وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ قَدْ يَجِبُ فِي يَدٍ ، وَيَجِبُ فِي يَدَيْنِ وَأَكْثَرَ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ ؛ فَلِهَذَا جَازَ أَنْ نُوَالِيَ بَيْنَ قِصَاصَيْنِ ، وَنُخَالِفَ ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَعْصِيَةٍ لَهَا حَدٌّ مُقَدَّرٌ ، لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ ، فَإِذَا وَالَى بَيْنَ حَدَّيْنِ ، صَارَ كَالزِّيَادَةِ عَلَى الْحَدِّ ، فَلَمْ يَجُزْ .
وَأَمَّا قُطَّاعُ الطَّرِيقِ ، فَإِنَّ قَطْعَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ حَدٌّ وَاحِدٌ ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ .
وَأَمَّا تَأْخِيرُ الْحَدِّ لِلْمَرِيضِ ، فَفِيهِ مَنْعٌ ، وَإِنْ سَلَّمْنَا ، فَإِنَّ الْجَلْدَ يُمْكِنُ تَخْفِيفُهُ ، فَيَأْتِي بِهِ فِي الْمَرَضِ عَلَى وَجْهٍ يُؤْمَنُ مَعَهُ التَّلَفُ ، وَالْقَطْعُ لَا يُمْكِنُ تَخْفِيفُهُ .

( 7280 ) فَصْلٌ : وَإِذَا سَرَقَ مَرَّاتٍ قَبْلَ الْقَطْعِ ، أَجْزَأَ قَطْعٌ وَاحِدٌ عَنْ جَمِيعِهَا ، وَتَدَاخَلَتْ حُدُودُهَا ؛ لِأَنَّهُ حَدٌّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ أَسْبَابُهُ تَدَاخَلَ ، كَحَدِّ الزِّنَا .
وَذَكَرَ الْقَاضِي فِيمَا إذَا سَرَقَ مِنْ جَمَاعَةٍ ، وَجَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ ، رِوَايَةً أُخْرَى ، أَنَّهَا لَا تَتَدَاخَلُ .
وَلَعَلَّهُ يَقِيسُ ذَلِكَ عَلَى حَدِّ الْقَذْفِ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا تَتَدَاخَلُ ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَتَتَدَاخَلُ ، كَحَدِّ الزِّنَا وَالشُّرْبِ ، وَفَارَقَ حَدَّ الْقَذْفِ ، فَإِنَّهُ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ ، وَلِهَذَا يُتَوَقَّفُ عَلَى الْمُطَالَبَةِ بِاسْتِيفَائِهِ ، وَيَسْقُطُ بِالْعَفْوِ عَنْهُ .
فَأَمَّا إنْ سَرَقَ فَقُطِعَ ، ثُمَّ سَرَقَ ثَانِيًا ، قُطِعَ ثَانِيًا ، سَوَاءٌ سَرَقَ مِنْ الَّذِي سَرَقَ مِنْهُ أَوَّلًا أَوْ مِنْ غَيْرِهِ ، وَسَوَاءٌ سَرَقَ تِلْكَ الْعَيْنَ الَّتِي قُطِعَ بِهَا أَوْ غَيْرَهَا .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إذَا قُطِعَ بِسَرِقَةِ عَيْنٍ مَرَّةً ، لَمْ يُقْطَعْ بِسَرِقَتِهَا مَرَّةً ثَانِيَةً ، إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ قُطِعَ بِسَرِقَةِ غَزْلٍ ، ثُمَّ سَرَقَهُ مَنْسُوجًا ، أَوْ قُطِعَ بِسَرِقَةِ رُطَبٍ ، ثُمَّ سَرَقَهُ تَمْرًا .
وَاحْتُجَّ بِأَنَّ هَذَا يَتَعَلَّقُ اسْتِيفَاؤُهُ بِمُطَالَبَةِ آدَمِيٍّ ، فَإِذَا تَكَرَّرَ سَبَبُهُ فِي الْعَيْنِ الْوَاحِدَةِ ، لَمْ يَتَكَرَّرْ ، كَحَدِّ الْقَذْفِ .
وَلَنَا أَنَّهُ حَدٌّ يَجِبُ بِفِعْلٍ فِي عَيْنٍ ، فَتَكَرُّرُهُ فِي عَيْنٍ وَاحِدَةٍ كَتَكَرُّرِهِ فِي الْأَعْيَانِ ، كَالزِّنَا ، وَمَا ذَكَرَهُ يَبْطُلُ بِالْغَزْلِ إذَا نُسِجَ ، وَالرُّطَبِ إذَا أَتْمَرَ ، وَلَا نُسَلِّمُ حَدَّ الْقَذْفِ ، فَإِنَّهُ مَتَى قَذَفَهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ الزِّنَا حُدَّ ، وَإِنْ قَذَفَهُ بِذَلِكَ الزِّنَا عَقِيبَ حَدِّهِ ، لَمْ يُحَدَّ ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ إظْهَارُ كَذِبِهِ وَقَدْ ظَهَرَ ، وَهَا هُنَا الْغَرَضُ رَدْعُهُ عَنْ السَّرِقَةِ ، وَلَمْ يَرْتَدِعْ بِالْأَوَّلِ ، فَيُرْدَعُ بِالثَّانِي : كَالْمُودَعِ إذَا سَرَقَ عَيْنًا أُخْرَى .

فَصْلٌ : وَمَنْ سَرَقَ وَلَا يُمْنَى لَهُ ، قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى ، كَمَا يُقْطَعُ فِي السَّرِقَةِ الثَّانِيَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ يُمْنَاهُ شَلَّاءَ ، فَفِيهَا رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا : تُقْطَعُ رِجْلُهُ الْيُسْرَى ؛ لِأَنَّ الشَّلَّاءَ لَا نَفْعَ فِيهَا وَلَا جَمَالَ ، فَأَشْبَهَتْ كَفًّا لَا أَصَابِعَ عَلَيْهِ .
قَالَ إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ ، عَنْ أَحْمَدَ ، فِيمَنْ سَرَقَ وَيُمْنَاهُ جَافَّةٌ : تُقْطَعُ رِجْلُهُ .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ : أَنَّهُ يُسْأَلُ أَهْلُ الْخِبْرَةِ ، فَإِنْ قَالُوا : إنَّهَا إذَا قُطِعَتْ رَقَأَ دَمُهَا ، وَانْحَسَمَتْ عُرُوقُهَا .
قُطِعَتْ ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ قَطْعُ يَمِينِهِ فَوَجَبَ ، كَمَا لَوْ كَانَتْ صَحِيحَةً .
وَإِنْ قَالُوا : لَا يَرْقَأُ دَمُهَا .
لَمْ تُقْطَعْ ؛ لِأَنَّهُ يُخَافُ تَلَفُهُ ، وَقُطِعَتْ رِجْلُهُ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَإِنْ كَانَتْ أَصَابِعُ الْيُمْنَى كُلُّهَا ذَاهِبَةً فَفِيهَا وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا : لَا تُقْطَعُ وَتُقْطَعُ الرِّجْلُ ؛ لِأَنَّ الْكَفَّ لَا تَجِبُ فِيهِ دِيَةُ الْيَدِ ، فَأَشْبَهَ الذِّرَاعَ .
وَالثَّانِي : تُقْطَعُ ؛ لِأَنَّ الرَّاحَةَ بَعْضُ مَا يُقْطَعُ فِي السَّرِقَةِ ، فَإِذَا كَانَ مَوْجُودًا قُطِعَ ، كَمَا لَوْ ذَهَبَ الْخِنْصَرُ أَوْ الْبِنْصِرُ .
وَإِنْ ذَهَبَ بَعْضُ الْأَصَابِعِ ، نَظَرْنَا ؛ فَإِنْ ذَهَبَ الْخِنْصَرُ وَالْبِنْصِرُ ، أَوْ ذَهَبَتْ وَاحِدَةٌ سِوَاهُمَا ، قُطِعَتْ ؛ لِأَنَّ مُعْظَمَ نَفْعِهَا بَاقٍ ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ إلَّا وَاحِدَةٌ ، فَهِيَ كَاَلَّتِي ذَهَبَ جَمِيعُ أَصَابِعِهَا ، وَإِنْ بَقِيَ اثْنَتَانِ ، فَهَلْ تُلْحَقُ بِالصَّحِيحَةِ ، أَوْ بِمَا قُطِعَ جَمِيعُ أَصَابِعِهَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ .
وَالْأَوْلَى قَطْعُهَا ؛ لِأَنَّ نَفْعَهَا لَمْ يَذْهَبْ بِالْكُلِّيَّةِ .

( 7282 ) فَصْلٌ : وَمَنْ سَرَقَ وَلَهُ يُمْنَى ، فَقُطِعَتْ فِي قِصَاصٍ ، أَوْ ذَهَبَتْ بِأَكِلَةٍ ، أَوْ تَعَدَّى عَلَيْهِ مُتَعَدٍّ فَقَطَعَهَا ، سَقَطَ الْقَطْعُ ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْعَادِي إلَّا الْأَدَبُ .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَقَالَ قَتَادَةُ : يُقْتَصُّ مِنْ الْقَاطِعِ ، وَتُقْطَعُ رِجْلُ السَّارِقِ .
وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ فَإِنَّ يَدَ السَّارِقِ ذَهَبَتْ ، وَالْقَاطِعُ قَطَعَ عُضْوًا غَيْرَ مَعْصُومٍ ، وَإِنْ قَطَعَهَا قَاطِعٌ بَعْدَ السَّرِقَةِ ، وَقَبْلَ ثُبُوتِ السَّرِقَةِ وَالْحُكْمِ بِالْقَطْعِ ، ثُمَّ ثَبَتَ ذَلِكَ ، فَكَذَلِكَ ، وَلَوْ شُهِدَ بِالسَّرِقَةِ ، فَحَبَسَهُ الْحَاكِمُ لِيُعَدِّلَ الشُّهُودَ ، فَقَطَعَهُ قَاطِعٌ ، ثُمَّ عُدِّلُوا ، فَكَذَلِكَ ، وَإِنْ لَمْ يُعَدَّلُوا ، وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى الْقَاطِعِ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ : لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ صِدْقَهُمْ مُحْتَمَلٌ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ شُبْهَةً .
وَلَنَا أَنَّهُ قَطَعَ طَرَفًا مِمَّنْ يُكَافِئُهُ عَمْدًا بِغَيْرِ حَقٍّ ، فَلَزِمَهُ الْقَطْعُ ، كَمَا لَوْ قَطَعَهُ قَبْلَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ .

( 7283 ) فَصْلٌ : وَإِنْ سَرَقَ فَقَطَعَ الْجَذَّاذُ يَسَارَهُ بَدَلًا عَنْ يَمِينِهِ ، أَجْزَأَتْ ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْقَاطِعِ إلَّا الْأَدَبُ .
وَبِهَذَا قَالَ قَتَادَةُ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَذَلِكَ لِأَنَّ قَطْعَ يُمْنَى السَّارِقِ يُفْضِي إلَى تَفْوِيتِ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ ، وَقَطْعَ يَدَيْهِ بِسَرِقَةٍ وَاحِدَةٍ ، فَلَا يُشْرَعُ ، وَإِذَا انْتَفَى قَطْعُ يَمِينِهِ ، حَصَلَ قَطْعُ يَسَارِهِ مُجْزِئًا عَنْ الْقَطْعِ الْوَاجِبِ ، فَلَا يَجِبُ عَلَى فَاعِلِهِ قِصَاصٌ .
وَقَالَ أَصْحَابُنَا : فِي وُجُوبِ قَطْعِ يَمِينِ السَّارِقِ وَجْهَانِ .
وَلِلشَّافِعِيِّ فِيمَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ الْقَاطِعُ كَوْنَهَا يَسَارًا ، أَوْ ظَنَّ أَنَّ قَطْعَهَا يُجْزِئُ قَوْلَانِ ؛ أَحَدُهُمَا : لَا تُقْطَعُ يَمِينُ السَّارِقِ ، كَيْ لَا تُقْطَعَ يَدَاهُ بِسَرِقَةٍ وَاحِدَةٍ .
وَالثَّانِي : تُقْطَعُ ، كَمَا لَوْ قُطِعَتْ يُسْرَاهُ قِصَاصًا .
فَأَمَّا الْقَاطِعُ : فَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا وَالشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّهُ إنْ قَطَعَهَا عَنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ مِنْ السَّارِقِ ، أَوْ كَانَ السَّارِقُ أَخْرَجَهَا دَهْشَةً أَوْ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهَا تُجْزِئُ ، وَقَطَعَهَا الْقَاطِعُ عَالِمًا بِأَنَّهَا يُسْرَاهُ ، وَأَنَّهَا لَا تُجْزِئُ ، فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا يُسْرَاهُ ، أَوْ ظَنَّ أَنَّهَا مُجْزِئَةٌ ، فَعَلَيْهِ دِيَتُهَا .
وَإِنْ كَانَ السَّارِقُ أَخْرَجَهَا مُخْتَارًا عَالِمًا بِالْأَمْرَيْنِ ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الْقَاطِعِ ؛ لِأَنَّهُ أَذِنَ فِي قَطْعِهَا ، فَأَشْبَهَ غَيْرَ السَّارِقِ .
وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا مَا ذَكَرْنَاهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - .

( 7284 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( فَإِنْ عَادَ ، حُبِسَ ، وَلَا يُقْطَعُ غَيْرُ يَدٍ وَرِجْلٍ ) يَعْنِي إذَا عَادَ فَسَرَقَ بَعْدَ قَطْعِ يَدِهِ وَرِجْلِهِ ، لَمْ يُقْطَعْ مِنْهُ شَيْءٌ آخَرُ وَحُبِسَ .
وَبِهَذَا قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالْحَسَنُ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَحَمَّادٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَعَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ تُقْطَعُ فِي الثَّالِثَةِ يَدُهُ الْيُسْرَى ، وَفِي الرَّابِعَةِ رِجْلُهُ الْيُمْنَى ، وَفِي الْخَامِسَةِ يُعَزَّرُ وَيُحْبَسُ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ ، وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، أَنَّهُمَا قَطَعَا يَدَ أَقْطَعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ .
وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ ، وَمَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَبِي ثَوْرٍ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ .
وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ ، وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُسْرَى فِي الثَّالِثَةِ ، وَالرِّجْلُ الْيُمْنَى فِي الرَّابِعَةِ ، وَيُقْتَلُ فِي الْخَامِسَةِ ؛ لِأَنَّ جَابِرًا قَالَ : { جِيءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَارِقٍ ، فَقَالَ : اُقْتُلُوهُ .
فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنَّمَا سَرَقَ .
فَقَالَ : اقْطَعُوهُ .
قَالَ : فَقُطِعَ ، ثُمَّ جِيءَ بِهِ الثَّانِيَةَ ، فَقَالَ : اُقْتُلُوهُ .
قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنَّمَا سَرَقَ .
قَالَ : اقْطَعُوهُ فَقُطِعَ ، ثُمَّ جِيءَ بِهِ الثَّالِثَةَ ، فَقَالَ : اُقْتُلُوهُ .
فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنَّمَا سَرَقَ .
قَالَ : اقْطَعُوهُ .
قَالَ : ثُمَّ أُتِيَ بِهِ الرَّابِعَةَ ، فَقَالَ : اُقْتُلُوهُ .
قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنَّمَا سَرَقَ .
قَالَ : اقْطَعُوهُ .
ثُمَّ أُتِيَ بِهِ الْخَامِسَةَ ، قَالَ : اُقْتُلُوهُ .
قَالَ : فَانْطَلَقْنَا بِهِ ، فَقَتَلْنَاهُ ، ثُمَّ اجْتَرَرْنَاهُ فَأَلْقَيْنَاهُ فِي بِئْرٍ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي السَّارِقِ : وَإِنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوا يَدَهُ ، ثُمَّ إنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ ، ثُمَّ إنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوا يَدَهُ ، ثُمَّ إنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوا

رِجْلَهُ } .
وَلِأَنَّ الْيَسَارَ تُقْطَعُ قَوَدًا ، فَجَازَ قَطْعُهَا فِي السَّرِقَةِ ، كَالْيُمْنَى ؛ وَلِأَنَّهُ فِعْلُ أَبِي بَكْرٍ ، وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { اقْتَدُوا بِاَلَّذِينَ مِنْ بَعْدِي ؛ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ } .
وَلَنَا مَا رَوَى سَعِيدٌ ، حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : حَضَرْت عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أُتِيَ بِرَجُلٍ مَقْطُوعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ قَدْ سَرَقَ ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ : مَا تَرَوْنَ فِي هَذَا ؟ .
قَالُوا : اقْطَعْهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ .
قَالَ قَتَلْتُهُ إذًا ، وَمَا عَلَيْهِ الْقَتْلُ ، بِأَيِّ شَيْءٍ يَأْكُلُ الطَّعَامَ ؟ بِأَيِّ شَيْءٍ يَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ ؟ بِأَيِّ شَيْءٍ يَغْتَسِلُ مِنْ جَنَابَتِهِ ؟ بِأَيِّ شَيْءٍ يَقُومُ عَلَى حَاجَتِهِ ؟ فَرَدَّهُ إلَى السِّجْنِ أَيَّامًا ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ ، فَاسْتَشَارَ أَصْحَابَهُ ، فَقَالُوا مِثْلَ قَوْلِهِمْ الْأَوَّلِ ، وَقَالَ لَهُمْ مِثْلَ مَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ ، فَجَلَدَهُ جَلْدًا شَدِيدًا ، ثُمَّ أَرْسَلَهُ .
وَرُوِيَ عَنْهُ ، أَنَّهُ قَالَ : إنِّي لَأَسْتَحِي مِنْ اللَّهِ أَنْ لَا أَدَعَ لَهُ يَدًا يَبْطِشُ بِهَا ، وَلَا رِجْلًا يَمْشِي عَلَيْهَا .
وَلِأَنَّ فِي قَطْعِ الْيَدَيْنِ تَفْوِيتَ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ ، فَلَمْ يُشْرَعْ فِي حَدٍّ ، كَالْقَتْلِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ قَطْعُ الْيَدَيْنِ ، لَقُطِعَتْ الْيُسْرَى فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ ؛ لِأَنَّهَا آلَةُ الْبَطْشِ كَالْيُمْنَى ، وَإِنَّمَا لَمْ تُقْطَعْ لِلْمَفْسَدَةِ فِي قَطْعِهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْإِهْلَاكِ ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ ، وَلَا يَغْتَسِلَ ، وَلَا يَسْتَنْجِيَ ، وَلَا يَحْتَرِزَ مِنْ نَجَاسَةٍ ، وَلَا يُزِيلَهَا عَنْهُ ، وَلَا يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ ، وَلَا يَأْكُلَ ، وَلَا يَبْطِشَ ، وَهَذِهِ الْمَفْسَدَةُ حَاصِلَةٌ بِقَطْعِهَا فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ ، فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ قَطْعَهَا ، كَمَا مَنَعَهُ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ .
وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ ، فَفِي حَقِّ شَخْصٍ اسْتَحَقَّ

الْقَتْلَ ، بِدَلِيلِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِهِ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ ، وَفِي كُلِّ مَرَّةٍ ، وَفَعَلَ ذَلِكَ فِي الْخَامِسَةِ .
وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ ، وَقَالَ : حَدِيثٌ مُنْكَرٌ .
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ ، وَفِعْلُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ : فَقَدْ عَارَضَهُ قَوْلُ عَلِيٍّ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ رَجَعَ إلَى قَوْلِ عَلِيٍّ .
فَرَوَى سَعِيدٌ ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَابِدٍ ، قَالَ : أُتِيَ عُمَرُ بِرَجُلٍ أَقْطَعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ قَدْ سَرَقَ ، فَأَمَرَ بِهِ عُمَرُ أَنْ تُقْطَعَ رِجْلُهُ ، فَقَالَ عَلِيٌّ : إنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا } الْآيَةَ .
وَقَدْ قُطِعَتْ يَدُ هَذَا وَرِجْلُهُ ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَقْطَعَ رِجْلَهُ فَتَدَعَهُ لَيْسَ لَهُ قَائِمَةٌ يَمْشِي عَلَيْهَا ، إمَّا أَنْ تُعَزِّرَهُ ، وَإِمَّا أَنْ تَسْتَوْدِعَهُ السِّجْنَ .
فَاسْتَوْدَعَهُ السِّجْنَ .

( 7285 ) فَصْلٌ : وَإِنْ سَرَقَ مَنْ يَدُهُ الْيُسْرَى مَقْطُوعَةٌ ، أَوْ شَلَّاءُ ، أَوْ مَقْطُوعَةُ الْأَصَابِعِ ، أَوْ كَانَتْ يَدَاهُ صَحِيحَتَيْنِ فَقُطِعَتْ الْيُسْرَى ، أَوْ شُلَّتْ قَبْلَ قَطْعِ يُمْنَاهُ ، لَمْ تُقْطَعْ يُمْنَاهُ ، عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى ، وَتُقْطَعُ عَلَى الثَّانِيَةِ .
وَإِنْ قَطَعَ يُسْرَاهُ قَاطِعٌ مُتَعَمِّدًا ، فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ ؛ لِأَنَّهُ قَطَعَ طَرَفًا مَعْصُومًا .
وَإِنْ قَطَعَهُ غَيْرَ مُتَعَمِّدٍ ، فَعَلَيْهِ دِيَتُهُ .
وَلَا تُقْطَعَ يَمِينُ السَّارِقِ .
وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَفِي قَطْعِ رِجْلِ السَّارِقِ وَجْهَانِ ؛ أَصَحُّهُمَا : لَا يَجِبُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ بِالسَّرِقَةِ ، وَسُقُوطُ الْقَطْعِ عَنْ يَمِينِهِ لَا يَقْتَضِي قَطْعَ رِجْلِهِ ، كَمَا لَوْ كَانَ الْمَقْطُوعُ يَمِينَهُ .
وَالثَّانِي : تُقْطَعُ رِجْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ قَطْعُ يَمِينِهِ ، فَقُطِعَتْ رِجْلُهُ ، كَمَا لَوْ كَانَتْ الْيُسْرَى مَقْطُوعَةً حَالَ السَّرِقَةِ .
وَإِنْ كَانَتْ يُمْنَاهُ صَحِيحَةً ، وَيُسْرَاهُ نَاقِصَةً نَقْصًا يَذْهَبُ بِمُعْظَمِ نَفْعِهَا ، مِثْلَ أَنْ يَذْهَبَ مِنْهَا الْإِبْهَامُ أَوْ الْوُسْطَى أَوْ السَّبَّابَةُ ، اُحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ كَقَطْعِهَا ، وَيُنْتَقَلُ إلَى رِجْلِهِ .
وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَاحْتُمِلَ أَنْ تُقْطَعَ يُمْنَاهُ ؛ لِأَنَّ لَهُ يَدًا يَنْتَفِعُ بِهَا ، أَشْبَهَ مَا لَوْ قُطِعَتْ خِنْصَرُهَا .
وَإِنْ كَانَتْ يَدَاهُ صَحِيحَتَيْنِ ، وَرِجْلُهُ الْيُمْنَى شَلَّاءَ أَوْ مَقْطُوعَةً ، فَلَا أَعْلَمُ فِيهَا قَوْلًا لِأَصْحَابِنَا ، وَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا : تُقْطَعُ يَمِينُهُ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ سَارِقٌ لَهُ يُمْنَى ، فَقُطِعَتْ عَمَلًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؛ وَلِأَنَّهُ سَارِقٌ لَهُ يَدَانِ ، فَتُقْطَعُ يُمْنَاهُ .
كَمَا لَوْ كَانَتْ الْمَقْطُوعَةُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى .
وَالثَّانِي : لَا يُقْطَعُ مِنْهُ شَيْءٌ .
وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ ؛ لِأَنَّ قَطْعَ يُمْنَاهُ يَذْهَبُ بِمَنْفَعَةِ الْمَشْيِ مِنْ الرِّجْلَيْنِ .
فَأَمَّا إنْ كَانَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى شَلَّاءَ ، وَيَدَاهُ صَحِيحَتَانِ ، قُطِعَتْ

يَدُهُ الْيُمْنَى ؛ لِأَنَّهُ لَا يُخْشَى تَعَدِّي ضَرَرِ الْقَطْعِ إلَى غَيْرِ الْمَقْطُوعِ ، وَعَلَى قِيَاسِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : لَوْ سَرَقَ وَيَدُهُ الْيُسْرَى مَقْطُوعَةٌ ، أَوْ شَلَّاءُ لَمْ يُقْطَعْ مِنْهُ شَيْءٌ ؛ لِذَلِكَ .
وَأَنْكَرَ هَذَا ابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ : بِقَوْلِهِمْ هَذَا خَالَفُوا كِتَابَ اللَّهِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ .

( 7286 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَالْحُرُّ وَالْحُرَّةُ ، وَالْعَبْدُ ، وَالْأَمَةُ ، فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ ) .
أَمَّا الْحُرُّ وَالْحُرَّةُ : فَلَا خِلَافَ فِيهِمَا .
وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } .
وَلِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي سَائِرِ الْحُدُودِ ، فَكَذَلِكَ فِي هَذَا ، وَقَدْ قَطَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَارِقَ رِدَاءِ صَفْوَانَ ، وَقَطَعَ الْمَخْزُومِيَّةَ الَّتِي سَرَقَتْ الْقَطِيفَةَ .
فَأَمَّا الْعَبْدُ وَالْأَمَةُ : فَإِنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلَ الْفَتْوَى عَلَى أَنَّهُمَا يَجِبُ قَطْعُهُمَا بِالسَّرِقَةِ ، إلَّا مَا حُكِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّهُ قَالَ : لَا قَطْعَ عَلَيْهِمَا ؛ لِأَنَّهُ حَدٌّ لَا يُمْكِنُ تَنْصِيفُهُ ، فَلَمْ يَجِبْ فِي حَقِّهِمَا كَالرَّجْمِ ؛ وَلِأَنَّهُ حَدٌّ فَلَا يُسَاوِي الْعَبْدُ فِيهِ الْحُرَّ كَسَائِرِ الْحُدُودِ .
وَلَنَا عُمُومُ الْآيَةِ .
وَرَوَى الْأَثْرَمُ ، أَنَّ رَقِيقًا لِحَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ سَرَقُوا نَاقَةً لِرَجُلٍ مِنْ مُزَيْنَةَ ، فَانْتَحَرُوهَا ، فَأَمَرَ كَثِيرُ بْنُ الصَّلْتِ أَنْ تُقْطَعَ أَيْدِيهِمْ ، ثُمَّ قَالَ عُمَرُ : وَاَللَّهِ إنِّي لَأَرَاك تُجِيعُهُمْ ، وَلَكِنْ لَأُغَرِّمَنَّك غُرْمًا يَشُقُّ عَلَيْك .
ثُمَّ قَالَ لِلْمُزَنِيِّ : كَمْ ثَمَنُ نَاقَتِك ؟ قَالَ : أَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ .
قَالَ عُمَرُ : أَعْطِهِ ثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ .
وَرَوَى الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَبْدًا أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ عِنْدَ عَلِيٍّ ، فَقَطَعَهُ .
وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ : كَانَ عَبْدًا .
يَعْنِي الَّذِي قَطَعَهُ عَلِيٌّ .
رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، بِإِسْنَادِهِ .
وَهَذِهِ قِصَصٌ تَنْتَشِرُ وَلَمْ تُنْكَرْ ، فَتَكُونُ إجْمَاعًا .
وَقَوْلُهُمْ : لَا يُمْكِنُ تَنْصِيفُهُ .
قُلْنَا : وَلَا يُمْكِنُ تَعْطِيلُهُ ، فَيَجِبُ تَكْمِيلُهُ ، وَقِيَاسُهُمْ نَقْلِبُهُ عَلَيْهِمْ ، فَنَقُولُ : حَدٌّ فَلَا يَتَعَطَّلُ فِي حَقِّ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ ، كَسَائِرِ الْحُدُودِ ، وَفَارَقَ الرَّجْمَ ، فَإِنَّ حَدَّ الزَّانِي لَا يَتَعَطَّلُ بِتَعْطِيلِهِ ، بِخِلَافِ

الْقَطْعِ ، فَإِنَّ حَدَّ السَّرِقَةِ يَتَعَطَّلُ بِتَعْطِيلِهِ .

( 7287 ) فَصْلٌ وَيُقْطَعُ الْآبِقُ بِسَرِقَتِهِ ، وَغَيْرُهُ .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ مَرْوَانُ ، وَسَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُقْطَعُ ؛ لِأَنَّ قَطْعَهُ قَضَاءٌ عَلَى سَيِّدِهِ ، وَلَا يُقْضَى عَلَى الْغَائِبِ .
وَلَنَا عُمُومُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَأَنَّهُ مُكَلَّفٌ سَرَقَ نِصَابًا مِنْ حِرْزِ مِثْلِهِ ، فَيُقْطَعُ ، كَغَيْرِ الْآبِقِ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّهُ قَضَاءٌ عَلَى سَيِّدِهِ .
لَا يُسَلَّمُ ، فَإِنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ إقْرَارُ السَّيِّدِ ، وَلَا يَضُرُّ إنْكَارُهُ .
وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ مِنْ الْعَبْدِ ، ثُمَّ الْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ بِالْبَيِّنَةِ جَائِزٌ ، عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ .

( 7288 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أَقَرَّ الْعَبْدُ بِسَرِقَةِ مَالٍ فِي يَدِهِ ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ سَيِّدُهُ ، وَقَالَ : هَذَا مَالِي .
فَالْمَالُ لِسَيِّدِهِ ، وَيُقْطَعُ الْعَبْدُ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا قَطْعَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَثْبُتْ سَرِقَتُهُ لِلْمَالِ ، فَلَمْ يَجِبْ قَطْعُهُ ، كَمَا لَوْ أَنْكَرَهُ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُهُ فِي الْمَالِ ، فَفِي الْحَدِّ الَّذِي يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ أَوْلَى .
وَلَنَا أَنَّهُ أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ ، وَصَدَّقَهُ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ ، فَقُطِعَ ، كَالْحُرِّ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَجِبَ الْقَطْعُ ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ ، وَكَوْنُ الْمَالِ مَحْكُومًا بِهِ لِسَيِّدِهِ شُبْهَةٌ .

( 7289 ) فَصْلٌ : وَيُقْطَعُ الْمُسْلِمُ بِسَرِقَةِ مَالِ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ ، وَيُقْطَعُ الذِّمِّيُّ بِسَرِقَةِ مَالِهِمَا .
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا .
فَأَمَّا الْحَرْبِيُّ إذَا دَخَلَ إلَيْنَا مُسْتَأْمَنًا ، فَسَرَقَ ، فَإِنَّهُ يُقْطَعُ أَيْضًا .
وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ : لَا يُقْطَعُ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ؛ لِأَنَّهُ حَدٌّ لِلَّهِ تَعَالَى ، فَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ ، كَحَدِّ الزِّنَا .
وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ الزِّنَا .
وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ ، كَالْمَذْهَبَيْنِ .
وَلَنَا أَنَّهُ حَدٌّ يُطَالَبُ بِهِ فَوَجَبَ عَلَيْهِ ، كَحَدِّ الْقَذْفِ ، يُحَقِّقُهُ أَنَّ الْقَطْعَ يَجِبُ صِيَانَةً لِلْأَمْوَالِ ، وَحَدُّ الْقَذْفِ يَجِبُ صِيَانَةٍ لِلْأَعْرَاضِ ، فَإِذَا وَجَبَ فِي حَقِّهِ أَحَدُهُمَا وَجَبَ الْآخَرُ ، فَأَمَّا حَدُّ الزِّنَا : فَلَمْ يَجِبْ ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ بِهِ قَتْلُهُ لِنَقْضِهِ الْعَهْدَ ، وَلَا يَجِبُ مَعَ الْقَتْلِ حَدٌّ سِوَاهُ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّ الْمُسْلِمَ يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ مَالِهِ .
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ : لَا يَجِبُ .
وَلَنَا أَنَّهُ سَرَقَ مَالًا مَعْصُومًا مِنْ حِرْزِ مِثْلِهِ ، فَوَجَبَ قَطْعُهُ ، كَسَارِقِ مَالِ الذِّمِّيِّ .
وَيُقْطَعُ الْمُرْتَدُّ إذَا سَرَقَ ؛ لِأَنَّ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ جَارِيَةٌ عَلَيْهِ .

( 7290 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَيُقْطَعُ السَّارِقُ وَإِنْ وُهِبَتْ لَهُ السَّرِقَةُ بَعْدَ إخْرَاجِهَا ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ السَّارِقَ إذَا مَلَكَ الْعَيْنَ الْمَسْرُوقَةَ بِهِبَةٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ ، لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَمْلِكَهَا قَبْلَ رَفْعِهِ إلَى الْحَاكِمِ ، وَالْمُطَالَبَةِ بِهَا عِنْدَهُ ، أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ ، فَإِنْ مَلَكَهَا قَبْلَهُ ، لَمْ يَجِبْ الْقَطْعُ ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِهِ الْمُطَالَبَةَ بِالْمَسْرُوقِ وَبَعْدَ مِلْكِهِ لَهُ لَا تَصِحُّ الْمُطَالَبَةُ ، وَإِنْ مَلَكَهَا بَعْدَهُ ، لَمْ يَسْقُطْ الْقَطْعُ .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ : يَسْقُطُ ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مِلْكَهُ ، فَلَا يُقْطَعُ فِي عَيْنٍ هِيَ مِلْكُهُ ، كَمَا لَوْ مَلَكَهَا قَبْلَ الْمُطَالَبَةِ بِهَا ؛ وَلِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ شَرْطٌ ، وَالشُّرُوطُ يُعْتَبَرُ دَوَامُهَا ، وَلَمْ يَبْقَ لِهَذِهِ الْعَيْنِ مُطَالِبٌ .
وَلَنَا مَا رَوَى الزُّهْرِيُّ ، عَنْ { ابْنِ صَفْوَانَ ، عَنْ أَبِيهِ ، أَنَّهُ نَامَ فِي الْمَسْجِدِ ، وَتَوَسَّدَ رِدَاءَهُ ، فَأُخِذَ مِنْ تَحْتِ رَأْسِهِ ، فَجَاءَ بِسَارِقِهِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقْطَعَ ، فَقَالَ صَفْوَانُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ أُرِدْ هَذَا ، رِدَائِي عَلَيْهِ صَدَقَةٌ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَهَلَّا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ ، } .
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ ، وَالْجُوزَجَانِيُّ .
وَفِي لَفْظٍ قَالَ : { فَأَتَيْتُهُ ، فَقُلْت : أَتَقْطَعُهُ مِنْ أَجْلِ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا ؟ أَنَا أَبِيعُهُ وَأُنْسِئُهُ ثَمَنَهَا .
قَالَ : فَهَلَّا كَانَ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ ، } .
رَوَاهُ الْأَثْرَمُ ، وَأَبُو دَاوُد .
فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ وُجِدَ قَبْلَ رَفْعِهِ إلَيْهِ ، لَدَرَأَ الْقَطْعَ ، وَبَعْدَهُ لَا يُسْقِطُهُ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّ الْمُطَالَبَةَ شَرْطٌ .
قُلْنَا : هِيَ شَرْطُ الْحُكْمِ لَا شَرْطُ الْقَطْعِ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ اسْتَرَدَّ الْعَيْنَ لَمْ يَسْقُطْ الْقَطْعُ ، وَقَدْ زَالَتْ

الْمُطَالَبَةُ .

( 7291 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أَقَرَّ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ أَنَّ الْمَسْرُوقَ كَانَ مِلْكًا لِلسَّارِقِ ، أَوْ قَامَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ ، أَوْ أَنَّ لَهُ فِيهِ شُبْهَةً ، أَوْ أَنَّ الْمَالِكَ أَذِنَ لَهُ فِي أَخْذِهَا ، أَوْ أَنَّهُ سَبَّلَهَا ، لَمْ يُقْطَعْ ؛ لِأَنَّنَا تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَمْ يَجِبْ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ وَهَبَهُ إيَّاهَا ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ كَوْنَ الْحَدِّ وَاجِبًا .
وَإِنْ أَقَرَّ لَهُ بِالْعَيْنِ ، سَقَطَ الْقَطْعُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ مِلْكِهِ لَهَا ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لَهُ حَالَ أَخْذِهَا .
وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّ الْقَطْعَ لَا يَسْقُطُ ؛ لِأَنَّهُ مِلْكٌ تَجَدَّدَ سَبَبُهُ بَعْدَ وُجُوبِ الْقَطْعِ ، أَشْبَهَ الْهِبَةَ ؛ وَلِأَنَّ ذَلِكَ حِيلَةٌ عَلَى إسْقَاطِ الْقَطْعِ بَعْدَ وُجُوبِهِ ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِهَا ، كَالْهِبَةِ .

( 7292 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَلَوْ أَخْرَجَهَا وَقِيمَتُهَا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ ، فَلَمْ يُقْطَعْ حَتَّى نَقَصَتْ قِيمَتُهَا ، قُطِعَ ) .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَسْقُطُ الْقَطْعُ ؛ لِأَنَّ النِّصَابَ شَرْطٌ ، فَتُعْتَبَرُ اسْتِدَامَتُهُ .
وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } .
وَلِأَنَّهُ نَقْصٌ حَدَثَ فِي الْعَيْنِ ، فَلَمْ يَمْنَعْ الْقَطْعَ ، كَمَا لَوْ حَدَثَ بِاسْتِعْمَالِهِ ، وَالنِّصَابُ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْقَطْعِ ، فَلَا تُعْتَبَرُ اسْتِدَامَتُهُ كَالْحِرْزِ .
وَمَا ذَكَرَهُ يَبْطُلُ بِالْحِرْزِ ، فَإِنَّهُ لَوْ زَالَ الْحِرْزُ أَوْ مِلْكُهُ ، لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْقَطْعُ .
وَسَوَاءٌ نَقَصَتْ قِيمَتُهَا قَبْلَ الْحُكْمِ أَوْ بَعْدَهُ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ السَّرِقَةُ ، فَيُعْتَبَرُ النِّصَابُ حِينَئِذٍ .
فَأَمَّا إنْ نَقَصَ النِّصَابُ قَبْلَ الْإِخْرَاجِ ، لَمْ يَجِبْ الْقَطْعُ ؛ لِعَدَمِ الشَّرْطِ قَبْلَ تَمَامِ السَّبَبِ ، وَسَوَاءٌ نَقَصَتْ بِفِعْلِهِ ، أَوْ بِغَيْرِ فِعْلِهِ .
وَإِنْ وُجِدَتْ نَاقِصَةً ، وَلَمْ يُدْرَ هَلْ كَانَتْ نَاقِصَةً حِينَ السَّرِقَةِ أَوْ حَدَثَ النَّقْصُ بَعْدَهَا ؟ لَمْ يَجِبْ الْقَطْعُ ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ لَا يَثْبُتُ مَعَ الشَّكِّ فِي شَرْطِهِ ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ .

( 7293 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِذَا قُطِعَ ، فَإِنْ كَانَتْ السَّرِقَةُ بَاقِيَةً ، رُدَّتْ إلَى مَالِكِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ تَالِفَةً ، فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا ، مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا ) لَا يَخْتَلِفُ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي وُجُوبِ رَدِّ الْعَيْنِ الْمَسْرُوقَةِ عَلَى مَالِكِهَا إذَا كَانَتْ بَاقِيَةً ، فَأَمَّا إنْ كَانَتْ تَالِفَةً ، فَعَلَى السَّارِقِ رَدُّ قِيمَتِهَا ، أَوْ مِثْلِهَا إنْ كَانَتْ مِثْلِيَّةً ، قُطِعَ أَوْ لَمْ يُقْطَعْ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا .
وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ ، وَالنَّخَعِيِّ ، وَحَمَّادٍ ، وَالْبَتِّيِّ ، وَاللَّيْثِ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَإِسْحَاقَ ، وَأَبِي ثَوْرٍ .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجْتَمِعُ الْغُرْمُ وَالْقَطْعُ ، إنْ غَرِمَهَا قَبْلَ الْقَطْعِ سَقَطَ الْقَطْعُ ، وَإِنْ قُطِعَ قَبْلَ الْغُرْمِ سَقَطَ الْغُرْمُ .
وَقَالَ عَطَاءٌ ، وَابْنُ سِيرِينَ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَمَكْحُولٌ : لَا غُرْمَ عَلَى السَّارِقِ إذَا قُطِعَ .
وَوَافَقَهُمْ مَالِكٌ فِي الْمُعْسِرِ ، وَوَافَقَنَا فِي الْمُوسِرِ .
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي رَجُلٍ سَرَقَ مَرَّاتٍ ، ثُمَّ قُطِعَ : يَغْرَمُ الْكُلَّ ، إلَّا الْأَخِيرَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لَا يَغْرَمُ شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُ قُطِعَ بِالْكُلِّ ، فَلَا يَغْرَمُ شَيْئًا مِنْهُ ، كَالسَّرِقَةِ الْأَخِيرَةِ ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا أُقِيمَ الْحَدُّ عَلَى السَّارِقِ ، فَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ } وَلِأَنَّ التَّضْمِينَ يَقْتَضِي التَّمْلِيكَ ، وَالْمِلْكُ يَمْنَعُ الْقَطْعَ ، فَلَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا .
وَلَنَا أَنَّهَا عَيْنٌ يَجِبُ ضَمَانُهَا بِالرَّدِّ لَوْ كَانَتْ بَاقِيَةً ، فَيَجِبُ ضَمَانُهَا إذَا كَانَتْ تَالِفَةً ، كَمَا لَوْ لَمْ يُقْطَعْ ؛ وَلِأَنَّ الْقَطْعَ وَالْغُرْمَ حَقَّانِ يَجِبَانِ لِمُسْتَحِقَّيْنِ ، فَجَازَ اجْتِمَاعُهُمَا ، كَالْجَزَاءِ وَالْقِيمَةِ فِي الصَّيْدِ الْحَرَمِيِّ الْمَمْلُوكِ .
وَحَدِيثُهُمْ يَرْوِيهِ سَعْدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ ، عَنْ مَنْصُورٍ ، وَسَعْدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ مَجْهُولٌ .
قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَقَالَ ابْنُ

عَبْدِ الْبَرِّ : الْحَدِيثُ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ .
وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ ، لَيْسَ عَلَيْهِ أُجْرَةُ الْقَاطِعِ .
وَمَا ذَكَرُوهُ فَهُوَ بِنَاءً عَلَى أُصُولِهِمْ ، وَلَا نُسَلِّمُهَا لَهُمْ .

( 7294 ) ( فَصْلٌ ) : وَإِذَا فَعَلَ فِي الْعَيْنِ فِعْلًا نَقَصَهَا بِهِ ، كَقَطْعِ الثَّوْبِ وَنَحْوِهِ ، وَجَبَ رَدُّهُ وَرَدُّ نَقْصِهِ ، وَوَجَبَ الْقَطْعُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنْ كَانَ نَقْصًا لَا يَقْطَعُ حَقَّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ إذَا فَعَلَهُ الْغَاصِبُ ، رَدَّ الْعَيْنَ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ يَقْطَعُ حَقَّ الْمَالِكِ ، كَقَطْعِ الثَّوْبِ وَخِيَاطَتِهِ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، وَيَسْقُطُ حَقُّ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ مِنْ الْعَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ زِيَادَةً فِي الْعَيْنِ ، كَصَبْغِهِ أَحْمَرَ أَوْ أَصْفَرَ ، فَلَا تُرَدُّ الْعَيْنُ ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهَا .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ : تُرَدُّ الْعَيْنُ .
وَبَنَى هَذَا عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الْغُرْمَ يُسْقِطُ عَنْهُ الْقَطْعَ .
وَأَمَّا إذَا صَبَغَهُ ، فَقَالَ : لَا يَرُدُّهُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ رَدَّهُ لَكَانَ شَرِيكًا فِيهِ بِصَبْغِهِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْطَعَ فِيمَا هُوَ شَرِيكٌ فِيهِ .
وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ صَبْغَهُ كَانَ قَبْلَ الْقَطْعِ ، فَلَوْ كَانَ شَرِيكًا بِالصَّبْغِ لَسَقَطَ الْقَطْعُ ، وَإِنْ كَانَ يَصِيرُ شَرِيكًا بِالرَّدِّ ، فَالشَّرِكَةُ الطَّارِئَةُ بَعْدَ الْقَطْعِ لَا تُؤَثِّرُ ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى نِصْفَهُ مِنْ مَالِكِهِ بَعْدَ الْقَطْعِ .
وَقَدْ سَلَّمَ أَبُو حَنِيفَةَ ، أَنَّهُ لَوْ سَرَقَ فِضَّةً ، فَضَرَبَهَا دَرَاهِمَ ، قُطِعَ ، وَلَزِمَهُ رَدُّهَا .
وَقَالَ صَاحِبَاهُ : لَا يُقْطَعُ وَيَسْقُطُ حَقُّ صَاحِبِهَا مِنْهَا بِضَرْبِهَا .
وَهَذَا شَيْءٌ بَنَيَاهُ عَلَى أُصُولِهِمَا فِي أَنَّ تَغْيِيرَ اسْمِهَا يُزِيلُ مِلْكَ صَاحِبِهَا ، وَأَنَّ مِلْكَ السَّارِقِ لَهَا يُسْقِطُ الْقَطْعَ عَنْهُ ، وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ لَهُمَا .

( 7295 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَإِذَا أَخْرَجَ النَّبَّاشُ مِنْ الْقَبْرِ كَفَنًا قِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ قُطِعَ ) رُوِيَ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ قَطَعَ نَبَّاشًا .
وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَقَتَادَةُ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَحَمَّادٌ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالثَّوْرِيُّ : لَا قَطْعَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْقَبْرَ لَيْسَ بِحِرْزٍ ؛ لِأَنَّ الْحِرْزَ مَا يُوضَعُ فِيهِ الْمَتَاعُ لِلْحِفْظِ ، وَالْكَفَنُ لَا يُوضَعُ فِي الْقَبْرِ لِذَلِكَ ؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِحِرْزٍ لِغَيْرِهِ ، فَلَا يَكُونُ حِرْزًا لَهُ ، وَلِأَنَّ الْكَفَنَ لَا مَالِكَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مِلْكًا لِلْمَيِّتِ أَوْ لِوَارِثِهِ ، وَلَيْسَ مِلْكًا لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا ، وَلَمْ يَبْقَ أَهْلًا لِلْمِلْكِ ، وَالْوَارِثُ إنَّمَا مَلَكَ مَا فَضَلَ عَنْ حَاجَةِ الْمَيِّتِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقَطْعُ إلَّا بِمُطَالَبَةِ الْمَالِكِ أَوْ نَائِبِهِ ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ .
وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } .
وَهَذَا سَارِقٌ ، فَإِنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : سَارِقُ أَمْوَاتِنَا كَسَارِقِ أَحْيَائِنَا .
وَمَا ذَكَرُوهُ لَا يَصِحُّ ، فَإِنَّ الْكَفَنَ يُحْتَاجُ إلَى تَرْكِهِ فِي الْقَبْرِ دُونَ غَيْرِهِ ، وَيُكْتَفَى بِهِ فِي حِرْزِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُتْرَكُ الْمَيِّتُ فِي غَيْرِ الْقَبْرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحْفَظَ كَفَنُهُ ، وَيُتْرَكُ فِي الْقَبْرِ وَيُنْصَرَفُ عَنْهُ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّهُ لَا مَالِكَ لَهُ .
مَمْنُوعٌ ، بَلْ هُوَ مَمْلُوكٌ لِلْمَيِّتِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَالِكًا لَهُ فِي حَيَاتِهِ ، وَلَا يَزُولُ مِلْكُهُ إلَّا عَمَّا لَا حَاجَةَ بِهِ إلَيْهِ ، وَوَلِيُّهُ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي الْمُطَالَبَةِ ، كَقِيَامِ وَلِيِّ الصَّبِيِّ فِي الطَّلَبِ بِمَالِهِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَلَا بُدَّ مِنْ إخْرَاجِ الْكَفَنِ مِنْ الْقَبْرِ ؛ لِأَنَّهُ الْحِرْزُ ، فَإِنْ أَخْرَجَهُ مِنْ اللَّحْدِ

وَوَضَعَهُ فِي الْقَبْرِ فَلَا قَطْعَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ الْحِرْزِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَقَلَ الْمَتَاعَ فِي الْبَيْتِ مِنْ جَانِبٍ إلَى جَانِبٍ { فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّى الْقَبْرَ بَيْتًا } .

( 7296 ) فَصْلٌ : وَالْكَفَنُ الَّذِي يُقْطَعُ بِسَرِقَتِهِ مَا كَانَ مَشْرُوعًا ، فَإِنْ كُفِّنَ الرَّجُلُ فِي أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ لَفَائِفَ ، أَوْ الْمَرْأَةُ فِي أَكْثَرَ مِنْ خَمْسٍ ، فَسُرِقَ الزَّائِدَ عَنْ ذَلِكَ ، أَوْ تَرَكَهُ فِي تَابُوتٍ ، فَسُرِقَ التَّابُوتُ ، أَوْ تَرَكَ مَعَهُ طِيبًا مَجْمُوعًا ، أَوْ ذَهَبًا ، أَوْ فِضَّةً ، أَوْ جَوَاهِرَ ، لَمْ يُقْطَعْ بِأَخْذِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِكَفَنٍ مَشْرُوعٍ ، فَتَرْكُهُ فِيهِ سَفَهٌ وَتَضْيِيعٌ ، فَلَا يَكُونُ مُحْرَزًا ، وَلَا يُقْطَعُ سَارِقُهُ .

( 7297 ) ( فَصْلٌ ) : وَهَلْ يُفْتَقَرُ فِي قَطْعِ النَّبَّاشِ إلَى الْمُطَالَبَةِ ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا : يُفْتَقَرُ إلَى الْمُطَالَبَةِ كَسَائِرِ الْمَسْرُوقَاتِ .
فَعَلَى هَذَا الْمُطَالِبُ الْوَرَثَةُ ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُومُونَ مَقَامَ الْمَيِّتِ فِي حُقُوقِهِ .
وَهَذَا مِنْ حُقُوقِهِ .
وَالثَّانِي : لَا يُفْتَقَرُ إلَى طَلَبٍ ؛ لِأَنَّ الطَّلَبَ فِي السَّرِقَةِ مِنْ الْأَحْيَاءِ شُرِعَ لِئَلَّا يَكُونَ الْمَسْرُوقُ مَمْلُوكًا لِلسَّارِقِ وَقَدْ يُئِسَ مِنْ ذَلِكَ هَاهُنَا .

( 7298 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ ( وَلَا يُقْطَعُ فِي مُحَرَّمٍ ، وَلَا فِي آلَةِ لَهْوٍ ) .
يَعْنِي لَا يُقْطَعُ فِي سَرِقَةِ مُحَرَّمٍ ؛ كَالْخَمْرِ ، وَالْخِنْزِيرِ ، وَالْمَيْتَةِ ، وَنَحْوِهَا ، سَوَاءٌ سَرَقَهُ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَحُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّ سَارِقَ خَمْرِ الذِّمِّيِّ يُقْطَعُ ، وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ لَهُمْ ، أَشْبَهَ مَا لَوْ سَرَقَ دَرَاهِمَهُمْ .
وَلَنَا أَنَّهَا عَيْنٌ مُحَرَّمَةٌ ، فَلَا يُقْطَعُ بِسَرِقَتِهَا ، كَالْخِنْزِيرِ ؛ وَلِأَنَّ مَا لَا يُقْطَعُ بِسَرِقَتِهِ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِ ، لَا يُقْطَعُ بِسَرِقَتِهِ مِنْ مَالِ الذِّمِّيِّ ، كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ .
وَمَا ذَكَرُوهُ يُنْتَقَضُ بِالْخِنْزِيرِ ، وَلَا اعْتِبَارَ بِهِ ، فَإِنَّ الِاعْتِبَارَ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ ، وَهُوَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ دُونَ أَحْكَامِهِمْ .
وَهَكَذَا الْخِلَافُ مَعَهُ فِي الصَّلِيبِ إذَا بَلَغَتْ قِيمَتُهُ مَعَ تَأْلِيفِهِ نِصَابًا .
وَأَمَّا آلَةُ اللَّهْوِ كَالطُّنْبُورِ ، وَالْمِزْمَارِ ، وَالشَّبَّابَةِ ، فَلَا قَطْعَ فِيهِ ، وَإِنْ بَلَغَتْ قِيمَتُهُ مُفَصَّلًا نِصَابًا .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : إنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ بَعْدَ زَوَالِ تَأْلِيفِهِ نِصَابًا ، فَفِيهِ الْقَطْعُ ، وَإِلَّا فَلَا ؛ لِأَنَّهُ سَرَقَ مَا قِيمَتُهُ نِصَابٌ ، لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ ، مِنْ حِرْزِ مِثْلِهِ ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْقَطْعِ ، فَوَجَبَ قَطْعُهُ ، كَمَا لَوْ كَانَ ذَهَبًا مَكْسُورًا .
وَلَنَا أَنَّهُ آلَةٌ لِلْمَعْصِيَةِ بِالْإِجْمَاعِ ، فَلَمْ يُقْطَعْ بِسَرِقَتِهِ ، كَالْخَمْرِ ؛ وَلِأَنَّ لَهُ حَقًّا فِي أَخْذِهَا لِكَسْرِهَا ، فَكَانَ ذَلِكَ شُبْهَةً مَانِعَةً مِنْ الْقَطْعِ ، كَاسْتِحْقَاقِهِ مَالَ وَلَدِهِ .
فَإِنْ كَانَتْ عَلَيْهِ حِلْيَةٌ تَبْلُغُ نِصَابًا ، فَلَا قَطْعَ فِيهِ أَيْضًا ، فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ ؛ لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِمَا لَا قَطْعَ فِيهِ ، فَأَشْبَهَ الْخَشَبَ وَالْأَوْتَارَ .
وَقَالَ الْقَاضِي : فِيهِ الْقَطْعُ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ سَرَقَ نِصَابًا مِنْ حِرْزِهِ ،

فَأَشْبَهَ الْمُنْفَرِدَ .

( 7299 ) فَصْلٌ : وَإِنْ سَرَقَ صَلِيبًا مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ ، يَبْلُغُ نِصَابًا مُتَّصِلًا ، فَقَالَ الْقَاضِي : لَا قَطْعَ فِيهِ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : يُقْطَعُ سَارِقُهُ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَوَجْهُ الْمَذْهَبَيْنِ مَا تَقَدَّمَ .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ الَّتِي قَبْلَهَا ، أَنَّ الَّتِي قَبْلَهَا لَهُ كَسْرُهُ بِحَيْثُ لَا تَبْقَى لَهُ قِيمَةٌ تَبْلُغُ نِصَابًا ، وَهَا هُنَا لَوْ كُسِرَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ بِكُلِّ وَجْهٍ لَمْ تَنْقُصْ قِيمَتُهُ عَنْ النِّصَابِ ؛ وَلِأَنَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ جَوْهَرُهُمَا غَالِبٌ عَلَى الصَّنْعَةِ الْمُحَرَّمَةِ ، فَكَانَتْ الصِّنَاعَةُ فِيهِمَا مَغْمُورَةً بِالنِّسْبَةِ إلَى قِيمَةِ جَوْهَرِهِمَا ، وَغَيْرُهُمَا بِخِلَافِهِمَا ، فَتَكُونُ الصِّنَاعَةُ غَالِبَةً عَلَيْهِ ، فَيَكُونُ تَابِعًا لِلصِّنَاعَةِ الْمُحَرَّمَةِ ، فَأَشْبَهَ الْإِنَاءَ .
وَلَوْ سَرَقَ إنَاءً مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ ، قِيمَتُهُ نِصَابٌ إذَا كَانَ مُتَكَسِّرًا ، فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُجْمَعٍ عَلَى تَحْرِيمِهِ ، وَقِيمَتُهُ بِدُونِ الصِّنَاعَةِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا نِصَابٌ .
وَإِنْ سَرَقَ إنَاءً مُعَدًّا لِحَمْلِ الْخَمْرِ ، وَوَضْعِهِ فِيهِ ، فَفِيهِ الْقَطْعُ ؛ لِأَنَّ الْإِنَاءَ لَا تَحْرِيمَ فِيهِ ، وَإِنَّمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ بِنِيَّتِهِ وَقَصْدِهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ سَرَقَ سِكِّينًا مُعَدَّةً لِذَبْحِ الْخَنَازِيرِ ، أَوْ سَيْفًا يُعِدُّهُ لِقَطْعِ الطَّرِيقِ .
وَإِنْ سَرَقَ إنَاءً فِيهِ خَمْرٌ يَبْلُغُ نِصَابًا ، فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : يُقْطَعُ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ سَرَقَ نِصَابًا مِنْ حِرْزِ مِثْلِهِ ، لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ .
وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا : لَا يُقْطَعُ ؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِمَا لَا قَطْعَ فِيهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ سَرَقَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ .
قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ شَاقِلَا : وَلَوْ سَرَقَ إدَاوَةً أَوْ إنَاءً فِيهِ مَاءٌ ، فَلَا قَطْعَ فِيهِ كَذَلِكَ .
وَلَوْ سَرَقَ مِنْدِيلًا فِي طَرَفِهِ دِينَارٌ مَشْدُودٌ ، فَعَلِمَ بِهِ ، فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ ، وَإِنْ لَمْ

يَعْلَمْ بِهِ ، فَلَا قَطْعَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ سَرِقَتَهُ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ تَعَلَّقَ بِثَوْبِهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُقْطَعُ ؛ لِأَنَّهُ سَرَقَ نِصَابًا ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ سَرَقَ مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ قِيمَتَهُ نِصَابٌ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ عَلِمَ بِالْمَسْرُوقِ هَاهُنَا ، وَقَصَدَ سَرِقَتَهُ ، بِخِلَافِ الدِّينَارِ ، فَإِنَّهُ لَمْ يُرِدْهُ ، وَلَمْ يَقْصِدْ أَخْذَهُ ، فَلَا يُؤَاخَذُ بِهِ بِإِيجَابِ الْحَدِّ عَلَيْهِ .

( 7300 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَلَا يُقْطَعُ الْوَالِدُ فِيمَا أَخَذَ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ مَا لَهُ أَخْذُهُ ، وَلَا الْوَالِدَةُ فِيمَا أَخَذَتْ مِنْ مَالِ وَلَدِهَا ، وَلَا الْعَبْدُ فِيمَا سَرَقَ مِنْ مَالِ سَيِّدِهِ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْوَالِدَ لَا يُقْطَعُ بِالسَّرِقَةِ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ ، وَإِنْ سَفَلَ وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْأَبُ وَالْأُمُّ وَالِابْنُ وَالْبِنْتُ ، وَالْجَدُّ وَالْجَدَّةُ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ وَالْأُمِّ ، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ مِنْهُمْ مَالِكٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ : الْقَطْعُ عَلَى كُلِّ سَارِقٍ ، بِظَاهِرِ الْكِتَابِ ، إلَّا أَنْ يُجْمِعُوا عَلَى شَيْءٍ فَيُسْتَثْنَى .
وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك } .
وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ ، وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ } .
وَفِي لَفْظٍ : " فَكُلُوا مِنْ كَسْبِ أَوْلَادِكُمْ " .
وَلَا يَجُوزُ قَطْعُ الْإِنْسَانِ بِأَخْذِ مَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَخْذِهِ ، وَلَا أَخْذِ مَا جَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَالًا لَهُ مُضَافًا إلَيْهِ ؛ وَلِأَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ ، وَأَعْظَمُ الشُّبُهَاتِ أَخْذُ الرَّجُلِ مِنْ مَالٍ جَعَلَهُ الشَّرْعُ لَهُ ، وَأَمَرَهُ بِأَخْذِهِ وَأَكْلِهِ

وَأَمَّا الْعَبْدُ إذَا سَرَقَ مِنْ مَالِ سَيِّدِهِ ، فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ ، فِي قَوْلِهِمْ ، جَمِيعًا ، وَوَافَقَهُمْ أَبُو ثَوْرٍ فِيهِ .
وَحُكِيَ عَنْ دَاوُد أَنَّهُ يُقْطَعُ ؛ لِعُمُومِ الْآيَةِ .
وَلَنَا مَا رَوَى السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ قَالَ : شَهِدْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ، وَقَدْ جَاءَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْحَضْرَمِيِّ بِغُلَامٍ لَهُ ، فَقَالَ : إنَّ غُلَامِي هَذَا سَرَقَ ، فَاقْطَعْ يَدَهُ .
فَقَالَ عُمَرُ : مَا سَرَقَ ؟ قَالَ : سَرَقَ مِرْآةَ امْرَأَتِي ، ثَمَنُهَا سِتُّونَ دِرْهَمًا .
فَقَالَ : أَرْسِلْهُ ، لَا قَطْعَ عَلَيْهِ ، خَادِمُكُمْ أَخَذَ مَتَاعَكُمْ .
وَلَكِنَّهُ لَوْ سَرَقَ مِنْ غَيْرِهِ قُطِعَ .
وَفِي لَفْظٍ قَالَ : مَالُكُمْ سَرَقَ بَعْضُهُ بَعْضًا ، لَا قَطْعَ عَلَيْهِ .
رَوَاهُ سَعِيدٌ .
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ، أَنَّ رَجُلًا جَاءَهُ ، فَقَالَ : عَبْدٌ لِي سَرَقَ قَبَاءً لِعَبْدٍ لِي آخَرَ .
فَقَالَ : لَا قَطْعَ ، مَالُكَ سَرَقَ مَالَكَ .
وَهَذِهِ قَضَايَا تَشْتَهِرُ ، وَلَمْ يُخَالِفْهَا أَحَدٌ ، فَتَكُونُ إجْمَاعًا ، وَهَذَا يَخُصُّ عُمُومَ الْآيَةِ ؛ وَلِأَنَّ هَذَا إجْمَاعٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ لِأَنَّهُ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الْأَئِمَّةِ ، وَلَمْ يُخَالِفْهُمْ فِي عَصْرِهِمْ أَحَدٌ ، فَلَا يَجُوزُ خِلَافُهُ بِقَوْلِ مَنْ بَعْدَهُمْ ، كَمَا لَا يَجُوزُ تَرْكُ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ بِقَوْلِ وَاحِدٍ مِنْ التَّابِعِينَ ( 7301 ) فَصْلٌ : وَالْمُدَبَّرُ ، وَأُمُّ الْوَلَدِ ، وَالْمُكَاتَبُ ، كَالْقِنِّ فِي هَذَا .
وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَلَا يُقْطَعُ سَيِّدُ الْمُكَاتَبِ بِسَرِقَةِ مَالِهِ ؛ لِأَنَّهُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ .
وَكُلُّ مَنْ لَا يُقْطَعُ الْإِنْسَانُ بِسَرِقَةِ مَالِهِ ، لَا يُقْطَعُ عَبْدُهُ بِسَرِقَةِ مَالِهِ ، كَآبَائِهِ ، وَأَوْلَادِهِ ، وَغَيْرِهِمْ .
وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ ، وَالشَّافِعِيِّ ، كُلٌّ عَلَى أَصْلِهِ .
وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ : يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ مَالِ مَنْ عَدَا سَيِّدِهِ .
وَنَحْوُهُ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ .
وَلَنَا حَدِيثُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ وَلِأَنَّ مَالَهُمْ

يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ مَالِهِ فِي قَطْعِهِ ، فَكَذَلِكَ فِي قَطْعِ عَبْدِهِ .

( 7302 ) فَصْلٌ : وَلَا يُقْطَعُ الِابْنُ وَإِنْ سَفَلَ ، بِسَرِقَةِ مَالٍ وَالِدِهِ وَإِنْ عَلَا .
وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَظَاهِرُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ يُقْطَعُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ فِيمَنْ لَا قَطْعَ عَلَيْهِ .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَأَبِي ثَوْرٍ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ ؛ لِظَاهِرِ الْكِتَابِ ؛ وَلِأَنَّهُ يُحَدُّ بِالزِّنَا بِجَارِيَتِهِ ، وَيُقَادُ بِقَتْلِهِ ، فَيُقْطَعُ بِسَرِقَةِ مَالِهِ ، كَالْأَجْنَبِيِّ .
وَوَجْهُ الْأَوَّلِ : أَنَّ بَيْنَهُمَا قَرَابَةً تَمْنَعُ قَبُولَ شَهَادَةِ أَحَدِهِمَا لِصَاحِبِهِ ، فَلَمْ يُقْطَعْ بِسَرِقَةِ مَالِهِ كَالْأَبِ ؛ وَلِأَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ فِي مَالِ الْأَبِ لِابْنِهِ حِفْظًا لَهُ ، فَلَا يَجُوزُ إتْلَافُهُ حِفْظًا لِلْمَالِ ، وَأَمَّا الزِّنَا بِجَارِيَتِهِ ، فَيَجِبُ بِهِ الْحَدُّ ؛ لِأَنَّهُ لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهَا ، بِخِلَافِ الْمَالِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا سَائِرُ الْأَقَارِبِ ، كَالْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ ، وَمَنْ عَدَاهُمْ ، فَيُقْطَعُ بِسَرِقَةِ مَالِهِمْ ، وَيُقْطَعُونَ بِسَرِقَةِ مَالِهِ .
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُقْطَعُ بِالسَّرِقَةِ مِنْ ذِي رَحِمٍ ؛ لِأَنَّهَا قَرَابَةٌ تَمْنَعُ النِّكَاحَ ، وَتُبِيحُ النَّظَرَ ، وَتُوجِبُ النَّفَقَةَ ، أَشْبَهَ قَرَابَةَ الْوِلَادَةِ .
وَلَنَا أَنَّهَا قَرَابَةٌ لَا تَمْنَعُ الشَّهَادَةَ ، فَلَا تَمْنَعُ الْقَطْعَ كَقَرَابَةِ غَيْرِهِ ، وَفَارَقَ قَرَابَةَ الْوِلَادَةِ بِهَذَا .

( 7304 ) فَصْلٌ : وَإِنْ سَرَقَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مِنْ مَالِ الْآخَرِ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَيْسَ مُحْرَزًا عَنْهُ ، فَلَا قَطْعَ فِيهِ ، وَإِنْ سَرَقَ مِمَّا أَحْرَزَهُ عَنْهُ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا : لَا قَطْعَ عَلَيْهِ .
وَهِيَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَضْرَمِيِّ ، حِينَ قَالَ لَهُ : إنَّ غُلَامِي سَرَقَ مِرْآةَ امْرَأَتِي : أَرْسِلْهُ ، لَا قَطْعَ عَلَيْهِ ، خَادِمُكُمْ أَخَذَ مَتَاعَكُمْ .
وَإِذَا لَمْ يُقْطَعْ عَبْدُهُ بِسَرِقَةِ مَالِهَا ، فَهُوَ أَوْلَى ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَرِثُ صَاحِبَهُ بِغَيْرِ حَجْبٍ ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ ، وَيَتَبَسَّطُ فِي مَالِ الْآخَرِ عَادَةً ، فَأَشْبَهَ الْوَالِدَ وَالْوَلَدَ .
وَالثَّانِيَةُ : يُقْطَعُ .
وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ ، وَأَبِي ثَوْرٍ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ .
وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ ؛ لِعُمُومِ الْآيَةِ ؛ وَلِأَنَّهُ سَرَقَ مَالًا مُحْرَزًا عَنْهُ ، لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ ، أَشْبَهَ الْأَجْنَبِيَّ .
وَلِلشَّافِعِيِّ كَالرِّوَايَتَيْنِ .
وَقَوْلٌ ثَالِثٌ : أَنَّ الزَّوْجَ يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ مَالِ الزَّوْجَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ ، وَلَا تُقْطَعُ بِسَرِقَةِ مَالِهِ ؛ لِأَنَّ لَهَا النَّفَقَةَ فِيهِ .

( 7305 ) فَصْلٌ : وَلَا قَطْعَ عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ إذَا كَانَ مُسْلِمًا ، وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ ، وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا .
وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَالْحَكَمُ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَقَالَ حَمَّادٌ ، وَمَالِكٌ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ : يُقْطَعُ ؛ لِظَاهِرِ الْكِتَابِ .
وَلَنَا مَا رَوَى ابْنُ مَاجَهْ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، { أَنَّ عَبْدًا مِنْ رَقِيقِ الْخُمُسِ ، سَرَقَ مِنْ الْخُمُسِ ، فَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَقْطَعْهُ ، وَقَالَ : مَالُ اللَّهِ سَرَقَ بَعْضُهُ بَعْضًا .
} وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَسَأَلَ ابْنُ مَسْعُودٍ عُمَرَ عَمَّنْ سَرَقَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ، فَقَالَ : أَرْسِلْهُ ، فَمَا مِنْ أَحَدٍ إلَّا وَلَهُ فِي هَذَا الْمَالِ حَقٌّ .
وَقَالَ سَعِيدٌ : حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ ، أَخْبَرَنَا مُغِيرَةُ ، عَنْ الشَّعْبِيِّ ، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : لَيْسَ عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ قَطْعٌ .
وَلِأَنَّ لَهُ فِي الْمَالِ حَقًّا ، فَيَكُونُ شُبْهَةً تَمْنَعُ وُجُوبَ الْقَطْعِ ، كَمَا لَوْ سَرَقَ مِنْ مَالٍ لَهُ فِيهِ شَرِكَةٌ .
وَمَنْ سَرَقَ مِنْ الْغَنِيمَةِ مِمَّنْ لَهُ فِيهَا حَقٌّ ، أَوْ لِوَلَدِهِ ، أَوْ لِسَيِّدِهِ ، أَوْ لِمَنْ لَا يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ مَالِهِ ، لَمْ يُقْطَعْ لِذَلِكَ .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْغَانِمِينَ ، وَلَا أَحَدًا مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرْنَا ، فَسَرَقَ مِنْهَا قَبْلَ إخْرَاجِ الْخُمُسِ ، لَمْ يُقْطَعْ ؛ لِأَنَّ لَهُ فِي الْخُمُسِ حَقًّا .
وَإِنْ أُخْرِجَ الْخُمُسُ ، فَسَرَقَ مِنْ الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ ، قُطِعَ ، وَإِنْ سَرَقَ مِنْ الْخُمُسِ ، لَمْ يُقْطَعْ .
وَإِنْ قُسِّمَ الْخُمُسُ خَمْسَةَ أَقْسَامٍ ، فَسَرَقَ مِنْ خُمُسِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ ، لَمْ يُقْطَعْ ، وَإِنْ سَرَقَ مِنْ غَيْرِهِ ، قُطِعَ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْخُمُسِ .

( 7306 ) فَصْلٌ : وَإِنْ سَرَقَ مِنْ الْوَقْفِ ، أَوْ مِنْ غَلَّتِهِ ، وَكَانَ مِنْ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ مِسْكِينًا سَرَقَ مِنْ وَقْفِ الْمَسَاكِينِ ، أَوْ مِنْ قَوْمٍ مُعَيَّنِينَ عَلَيْهِمْ وَقْفٌ ، فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ شَرِيكٌ .
وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِهِمْ ، قُطِعَ ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قُلْتُمْ : لَا يُقْطَعُ بِالسَّرِقَةِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ .
مِنْ غَيْرِ تَفْرِيقٍ بَيْنَ غَنِيٍّ وَفَقِيرٍ ، فَلِمَ فَرَّقْتُمْ هَاهُنَا ؟ قُلْنَا : لِأَنَّ لِلْغَنِيِّ فِي بَيْتِ الْمَالِ حَقًّا ، وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَا مِنْ أَحَدٍ إلَّا وَلَهُ فِي هَذَا الْمَالِ حَقٌّ .
بِخِلَافِ وَقْفِ الْمَسَاكِينِ ، فَإِنَّهُ لَا حَقَّ لِلْغَنِيِّ فِيهِ .

( 7307 ) فَصْلٌ : قَالَ أَحْمَدُ : لَا قَطْعَ فِي الْمَجَاعَةِ .
يَعْنِي أَنَّ الْمُحْتَاجَ إذَا سَرَقَ مَا يَأْكُلُهُ ، فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ كَالْمُضْطَرِّ .
وَرَوَى الْجُوزَجَانِيُّ ، عَنْ عُمَرَ ، أَنَّهُ قَالَ : لَا قَطْعَ فِي عَامِ سَنَةٍ .
وَقَالَ : سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْهُ ، فَقُلْت : تَقُولُ بِهِ ؟ قَالَ : إي لَعَمْرِي ، لَا أَقْطَعُهُ إذَا حَمَلَتْهُ الْحَاجَةُ ، وَالنَّاسُ فِي شِدَّةٍ وَمَجَاعَةٍ .
وَعَنْ الْأَوْزَاعِيِّ مِثْلُ ذَلِكَ .
وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ لَا يَجِدُ مَا يَشْتَرِيهِ ، أَوْ لَا يَجِدُ مَا يَشْتَرِي بِهِ ، فَإِنَّ لَهُ شُبْهَةً فِي أَخْذِ مَا يَأْكُلُهُ ، أَوْ مَا يَشْتَرِي بِهِ مَا يَأْكُلُهُ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ غِلْمَانَ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ انْتَحَرُوا نَاقَةً لِلْمُزَنِيِّ ، فَأَمَرَ عُمَرُ بِقَطْعِهِمْ ، ثُمَّ قَالَ لِحَاطِبٍ : إنِّي أَرَاك تُجِيعُهُمْ .
فَدَرَأَ عَنْهُمْ الْقَطْعَ لَمَّا ظَنَّهُ يُجِيعُهُمْ .
فَأَمَّا الْوَاجِدُ لِمَا يَأْكُلُهُ ، أَوْ الْوَاجِدُ لِمَا يَشْتَرِي بِهِ وَمَا يَشْتَرِيهِ ، فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ ، وَإِنْ كَانَ بِالثَّمَنِ الْغَالِي .
ذَكَرَهُ الْقَاضِي ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَلَا قَطْعَ عَلَى الْمَرْأَةِ إذَا مَنَعَهَا الزَّوْجُ قَدْرَ كِفَايَتِهَا ، أَوْ كِفَايَةِ وَلَدِهَا ، فَأَخَذَتْ مِنْ مَالِهِ ، سَوَاءٌ أَخَذَتْ قَدْرَ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهَا تَسْتَحِقُّ قَدْرَ ذَلِكَ ، فَالزَّائِدُ يَكُونُ مُشْتَرَكًا بِمَا يُسْتَحَقُّ أَخْذُهُ ، وَلَا عَلَى الضَّيْفِ إذَا مُنِعَ قِرَاهُ ، فَأَخَذَ أَيْضًا مِنْ مَالِ الْمُضِيفِ ؛ لِذَلِكَ .

( 7308 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَلَا يُقْطَعُ إلَّا بِشَهَادَةِ عَدْلَيْنِ ، أَوْ اعْتِرَافٍ مَرَّتَيْنِ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْقَطْعَ إنَّمَا يَجِبُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ ؛ بَيِّنَةٍ ، أَوْ إقْرَارٍ ، لَا غَيْرُ ، فَأَمَّا الْبَيِّنَةُ ، فَيُشْتَرَطُ فِيهَا أَنْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ مُسْلِمَيْنِ حُرَّيْنِ عَدْلَيْنِ ، سَوَاءٌ كَانَ السَّارِقُ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي الشَّهَادَةِ فِي الزِّنَا بِمَا أَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ هَاهُنَا ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَصِفَا السَّرِقَةَ وَالْحِرْزَ ، وَجِنْسَ النِّصَابِ ، وَقَدْرَهُ ، لِيَزُولَ الِاخْتِلَافُ فِيهِ ، فَيَقُولَانِ : نَشْهَدُ أَنَّ هَذَا سَرَقَ كَذَا ، قِيمَتُهُ كَذَا ، مِنْ حِرْزٍ .
وَيَصِفَانِ الْحِرْزَ .
وَإِنْ كَانَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ غَائِبًا ، فَحَضَرَ وَكِيلُهُ ، وَطَالَبَ بِالسَّرِقَةِ ، احْتَاجَ الشَّاهِدَانِ أَنْ يَرْفَعَا فِي نَسَبِهِ ، فَيَقُولَانِ : مِنْ حِرْزِ فُلَانِ بْنِ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ ، بِحَيْثُ يَتَمَيَّزُ مِنْ غَيْرِهِ ، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ ، وَجَبَ الْقَطْعُ فِي قَوْلِ عَامَّتِهِمْ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، عَلَى أَنَّ قَطْعَ السَّارِقِ يَجِبُ ، إذَا شَهِدَ بِالسَّرِقَةِ شَاهِدَانِ حُرَّانِ مُسْلِمَانِ ، وَوَصَفَا مَا يُوجِبُ الْقَطْعَ .
وَإِذَا وَجَبَ الْقَطْعُ بِشَهَادَتِهِمَا ، لَمْ يَسْقُطْ بِغَيْبَتِهِمَا ، وَلَا مَوْتِهِمَا ، عَلَى مَا مَضَى فِي الشَّهَادَةِ بِالزِّنَا .
وَإِذَا شَهِدَا بِسَرِقَةِ مَالٍ غَائِبٍ ، فَإِنْ كَانَ لَهُ وَكِيلٌ حَاضِرٌ ، فَطَالَبَ بِهِ ، قُطِعَ السَّارِقُ ، وَإِلَّا فَلَا .
( 7309 ) فَصْلٌ : وَإِذَا اخْتَلَفَ الشَّاهِدَانِ فِي الْوَقْتِ ، أَوْ الْمَكَانِ ، أَوْ الْمَسْرُوقِ ، فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ سَرَقَ يَوْمَ الْخَمِيسِ ، وَالْآخَرُ أَنَّهُ سَرَقَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، أَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ سَرَقَ مِنْ هَذَا الْبَيْتِ ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ سَرَقَ مِنْ هَذَا الْبَيْتِ ، أَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا : سَرَقَ ثَوْرًا .
وَقَالَ الْآخَرُ : سَرَقَ بَقَرَةً .
أَوْ قَالَ : سَرَقَ ثَوْرًا .
وَقَالَ الْآخَرُ : سَرَقَ حِمَارًا .
لَمْ

يُقْطَعْ .
فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا .
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَإِنْ قَالَ أَحَدُهُمَا : سَرَقَ ثَوْبًا أَبْيَضَ .
وَقَالَ الْآخَرُ : أَسْوَدَ .
أَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا : سَرَقَ هَرَوِيًّا .
فَقَالَ الْآخَرُ : مَرَوِيًّا .
لَمْ يُقْطَعْ أَيْضًا .
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَتَّفِقَا عَلَى الشَّهَادَةِ بِشَيْءٍ وَاحِدٍ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي الذُّكُورِيَّةِ وَالْأُنُوثِيَّةِ .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : يُقْطَعُ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ لَمْ يَرْجِعْ إلَى نَفْسِ الشَّهَادَةِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ أَحَدَهُمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ هَرَوِيٌّ ، وَالْآخَرَ أَنَّهُ مَرْوِيٌّ ، أَوْ كَانَ الثَّوْبُ فِيهِ سَوَادٌ وَبَيَاضٌ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : اللَّوْنُ أَقْرَبُ إلَى الظُّهُورِ مِنْ الذُّكُورِيَّةِ وَالْأُنُوثِيَّةِ ، فَإِذَا كَانَ اخْتِلَافُهُمَا فِيمَا يَخْفَى يُبْطِلُ شَهَادَتَهُمَا ، فَفِيمَا يَظْهَرُ أَوْلَى .
وَيُحْتَمَلُ أَنَّ أَحَدَهُمَا ظَنَّ الْمَسْرُوقَ ذَكَرًا ، وَظَنَّهُ الْآخَرُ أُنْثَى ، وَقَدْ أَوْجَبَ هَذَا رَدَّ شَهَادَتِهِمَا ، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا .
الثَّانِي : الِاعْتِرَافُ ، وَيُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَعْتَرِفَ مَرَّتَيْنِ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى ، وَأَبُو يُوسُفَ ، وَزُفَرُ ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ .
وَقَالَ عَطَاءٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : يُقْطَعُ بِاعْتِرَافِ مَرَّةٍ ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ يَثْبُتُ بِالْإِقْرَارِ ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ التَّكْرَارُ ، كَحَقِّ الْآدَمِيِّ .
وَلَنَا مَا رَوَى أَبُو دَاوُد ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ الْمَخْزُومِيِّ { ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِلِصٍّ قَدْ اعْتَرَفَ ، فَقَالَ لَهُ : مَا إخَالُك سَرَقْت .
قَالَ : بَلَى .
فَأَعَادَ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ، فَأَمَرَ بِهِ ، فَقُطِعَ } .
وَلَوْ وَجَبَ الْقَطْعُ بِأَوَّلِ مَرَّةٍ ، لَمَا أَخَّرَهُ .
وَرَوَى سَعِيدٌ ، عَنْ

هُشَيْمٍ ، وَسُفْيَانَ ، وَأَبِي الْأَحْوَصِ ، وَأَبِي مُعَاوِيَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ شَهِدْت عَلِيًّا ، وَأَتَاهُ رَجُلٌ ، فَأَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ ، فَرَدَّهُ ، وَفِي لَفْظٍ : فَانْتَهَرَهُ .
وَفِي لَفْظٍ : فَسَكَتَ عَنْهُ .
وَقَالَ غَيْرُ هَؤُلَاءِ : فَطَرَدَهُ .
ثُمَّ عَادَ بَعْدَ ذَلِكَ ، فَأَقَرَّ ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ : شَهِدْت عَلَى نَفْسِك مَرَّتَيْنِ .
فَأَمَرَ بِهِ ، فَقُطِعَ ، وَفِي لَفْظٍ : قَدْ أَقْرَرْت عَلَى نَفْسِك مَرَّتَيْنِ .
وَمِثْلُ هَذَا يَشْتَهِرُ ، فَلَمْ يُنْكَرْ .
وَلِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ إتْلَافًا فِي حَدٍّ ، فَكَانَ مِنْ شَرْطِهِ التَّكْرَارُ ، كَحَدِّ الزِّنَا .
وَلِأَنَّهُ أَحَدُ حُجَّتَيْ الْقَطْعِ ، فَيُعْتَبَرُ فِيهِ التَّكْرَارُ ، كَالشَّهَادَةِ .
وَقِيَاسُهُمْ يُنْتَقَضُ بِحَدِّ الزِّنَا عِنْدَ مَنْ اعْتَبَرَ التَّكْرَارَ ، وَيُفَارِقُ حَقَّ الْآدَمِيِّ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الشُّحِّ ، وَالتَّضْيِيقِ ، وَلَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ عَنْهُ ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا .
( 7310 ) فَصْلٌ : وَيُعْتَبَرُ أَنْ يَذْكُرَ فِي إقْرَارِهِ شُرُوطَ السَّرِقَةِ ، مِنْ النِّصَابِ وَالْحِرْزِ ، وَإِخْرَاجِهِ مِنْهُ ( 7311 ) فَصْلٌ : وَالْحُرُّ وَالْعَبْدُ فِي هَذَا سَوَاءٌ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ؛ وَذَلِكَ لِعُمُومِ النَّصِّ فِيهِمَا ، وَلِمَا رَوَى الْأَعْمَشُ ، عَنْ الْقَاسِمِ ، عَنْ أَبِيهِ ، : أَنَّ عَلِيًّا قَطَعَ عَبْدًا أَقَرَّ عِنْدَهُ بِالسَّرِقَةِ .
وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ : كَانَ عَبْدًا .
يَعْنِي الَّذِي قَطَعَهُ عَلِيٌّ .
وَيُعْتَبَرُ أَنْ يُقِرَّ مَرَّتَيْنِ .
وَرَوَى مُهَنَّا ، عَنْ أَحْمَدَ : إذَا أَقَرَّ الْعَبْدُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ أَنَّهُ سَرَقَ ، قُطِعَ .
وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ اعْتَبَرَ إقْرَارَهُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ ، لِيَكُونَ عَلَى النِّصْفِ مِنْ الْحُرِّ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِخَبَرِ عَلِيٍّ ؛ وَلِأَنَّهُ إقْرَارٌ بِحَدٍّ ، فَاسْتَوَى فِي عَدَدِهِ الْحُرُّ وَالْعَبْدُ ، كَسَائِرِ الْحُدُودِ .

( 7312 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَلَا يَنْزِعُ عَنْ إقْرَارِهِ حَتَّى يُقْطَعَ ) هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى ، وَدَاوُد : لَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ لِآدَمِيٍّ بِقِصَاصٍ أَوْ حَقٍّ ، لَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُ عَنْهُ .
وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلسَّارِقِ : " مَا إخَالُك سَرَقْت .
عَرَّضَ لَهُ لِيَرْجِعَ ؛ وَلِأَنَّهُ حَدٌّ لِلَّهِ تَعَالَى ، ثَبَتَ بِالِاعْتِرَافِ ، فَقُبِلَ رُجُوعُهُ عَنْهُ ، كَحَدِّ الزِّنَا ؛ وَلِأَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ ، وَرُجُوعُهُ عَنْهُ شُبْهَةٌ ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ كَذَبَ عَلَى نَفْسِهِ فِي اعْتِرَافِهِ ؛ وَلِأَنَّهُ أَحَدُ حُجَّتَيْ الْقَطْعِ ، فَيَبْطُلُ بِالرُّجُوعِ عَنْهُ ، كَالشَّهَادَةِ ؛ وَلِأَنَّ حُجَّةَ الْقَطْعِ زَالَتْ قَبْلَ اسْتِيفَائِهِ ، فَسَقَطَ ، كَمَا لَوْ رَجَعَ الشُّهُودُ .
وَفَارَقَ حَقَّ الْآدَمِيِّ ، فَإِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الشُّحِّ وَالضِّيقِ ، وَلَوْ رَجَعَ الشُّهُودُ عَنْ الشَّهَادَةِ بَعْدَ الْحُكْمِ ، لَمْ يَبْطُلْ بِرُجُوعِهِمْ ، وَلَمْ يَمْنَعْ اسْتِيفَاءَهَا .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّهُ إذَا رَجَعَ قَبْلَ الْقَطْعِ ، سَقَطَ الْقَطْعُ ، وَلَمْ يَسْقُطْ غُرْمُ الْمَسْرُوقِ ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ آدَمِيٍّ ، وَلَوْ أَقَرَّ مَرَّةً وَاحِدَةً ، لَزِمَهُ غَرَامَةُ الْمَسْرُوقِ دُونَ الْقَطْعِ .
وَإِنْ كَانَ رُجُوعُهُ وَقَدْ قُطِعَ بَعْضُ الْمَفْصِلِ ، لَمْ يُتْمِمْهُ إنْ كَانَ يُرْجَى بُرْؤُهُ ؛ لِكَوْنِهِ قَطَعَ قَلِيلًا ، وَإِنْ قَطَعَ الْأَكْثَرَ ، فَالْمَقْطُوعُ بِالْخِيَارِ ، إنْ شَاءَ تَرَكَهُ وَإِنْ شَاءَ قَطَعَهُ ؛ لِيَسْتَرِيحَ مِنْ تَعْلِيقِ كَفِّهِ ، وَلَا يَلْزَمُ الْقَاطِعَ قَطْعُهُ ؛ لِأَنَّ قَطْعَهُ تَدَاوٍ ، وَلَيْسَ بِحَدٍّ .

( 7313 ) فَصْلٌ : قَالَ أَحْمَدُ لَا بَأْسَ بِتَلْقِينِ السَّارِقِ لِيَرْجِعَ عَنْ إقْرَارِهِ .
وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ .
رُوِيَ عَنْ عُمَرَ ، أَنَّهُ أُتِيَ بِرَجُلٍ ، فَسَأَلَهُ : أَسَرَقْت ؟ قُلْ : لَا .
فَقَالَ : لَا .
فَتَرَكَهُ .
وَرُوِيَ مَعْنَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ ، وَابْنِ مَسْعُودٍ ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ .
وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ .
وَقَدْ رَوَيْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلسَّارِقِ : " مَا أَخَالُك سَرَقْت " .
وَقَالَ لِمَاعِزٍ : " لَعَلَّك قَبَّلْت ، أَوْ لَمَسْت " .
وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا أَقَرَّ عِنْدَهُ بِالسَّرِقَةِ فَانْتَهَرَهُ .
وَرُوِيَ أَنَّهُ طَرَدَهُ .
وَرُوِيَ أَنَّهُ رَدَّهُ .

وَلَا بَأْسَ بِالشَّفَاعَةِ فِي السَّارِقِ مَا لَمْ يَبْلُغْ الْإِمَامَ ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { تَعَافُوا الْحُدُودَ فِيمَا بَيْنَكُمْ ، فَمَا بَلَغَنِي مِنْ حَدٍّ وَجَبَ } .
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ فِي الشَّفَاعَةِ فِي الْحَدِّ : يَفْعَلُ ذَلِكَ دُونَ السُّلْطَانِ ، فَإِذَا بَلَغَ الْإِمَامَ ، فَلَا أَعْفَاهُ اللَّهُ إنْ أَعْفَاهُ .
وَمِمَّنْ رَأَى ذَلِكَ الزُّبَيْرُ ، وَعَمَّارٌ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَالزُّهْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ .
وَقَالَ مَالِكٌ : إنْ لَمْ يُعْرَفْ بِشَرٍّ ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يُشْفَعَ لَهُ ، مَا لَمْ يَبْلُغْ الْإِمَامَ ، وَأَمَّا مَنْ عُرِفَ بِشَرٍّ وَفَسَادٍ ، فَلَا أُحِبُّ أَنْ يَشْفَعَ لَهُ أَحَدٌ ، وَلَكِنْ يُتْرَكُ حَتَّى يُقَامَ الْحَدُّ عَلَيْهِ .
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إذَا بَلَغَ الْإِمَامَ لَمْ تَجُزْ الشَّفَاعَةُ فِيهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إسْقَاطُ حَقٍّ وَجَبَ لِلَّهِ تَعَالَى ، وَقَدْ غَضِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ شَفَعَ أُسَامَةُ فِي الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ وَقَالَ : { أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى ، } وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ، فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ فِي حُكْمِهِ .

( 7314 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَإِذَا اشْتَرَكَ الْجَمَاعَةُ فِي سَرِقَةٍ قِيمَتُهَا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ ، قُطِعُوا ) وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَأَبُو ثَوْرٍ .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ : لَا قَطْعَ عَلَيْهِمْ إلَّا أَنْ تَبْلُغَ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصَابًا ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ لَمْ يَسْرِقْ نِصَابًا ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ قَطْعٌ ، كَمَا لَوْ انْفَرَدَ بِدُونِ النِّصَابِ .
وَهَذَا الْقَوْلُ أَحَبُّ إلَيَّ ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ هَاهُنَا لَا نَصَّ فِيهِ ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ وَالْمُجْمَعِ عَلَيْهِ ، فَلَا يَجِبُ ، وَالِاحْتِيَاطُ بِإِسْقَاطِهِ أَوْلَى مِنْ الِاحْتِيَاطِ بِإِيجَابِهِ ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ النِّصَابَ أَحَدُ شَرْطَيْ الْقَطْعِ ، فَإِذَا اشْتَرَكَ الْجَمَاعَةُ فِيهِ كَانُوا كَالْوَاحِدِ ، قِيَاسًا عَلَى هَتْكِ الْحِرْزِ ؛ وَلِأَنَّ سَرِقَةَ النِّصَابِ فِعْلٌ يُوجِبُ الْقَطْعَ ، فَاسْتَوَى فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمَاعَةُ ، كَالْقِصَاصِ ، وَلَمْ يُفَرِّقْ أَصْحَابُنَا بَيْنَ كَوْنِ الْمَسْرُوقِ ثَقِيلًا يَشْتَرِكُ الْجَمَاعَةُ فِي حَمْلِهِ ، وَبَيْنَ أَنْ يُخْرِجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُ جُزْءًا ، وَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذَا .
وَقَالَ مَالِكٌ : إنْ انْفَرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ بِجُزْءٍ مِنْهُ ، لَمْ يُقْطَعْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ ، كَمَا لَوْ انْفَرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ قَاطِعِي الْيَدِ بِقَطْعِ جُزْءٍ مِنْهَا ، لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ .
وَلَنَا أَنَّهُمْ اشْتَرَكُوا فِي هَتْكِ الْحِرْزِ ، وَإِخْرَاجِ النِّصَابِ ، فَلَزِمَهُمْ الْقَطْعُ ، كَمَا لَوْ كَانَ ثَقِيلًا فَحَمَلُوهُ ، وَفَارَقَ الْقِصَاصَ ، فَإِنَّهُ تُعْتَمَدُ الْمُمَاثَلَةُ ، وَلَا تُوجَدُ الْمُمَاثَلَةُ إلَّا أَنْ تُوجَدَ أَفْعَالُهُمْ فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْيَدِ ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا الْقَصْدُ الزَّجْرُ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ مُمَاثَلَةٍ ، وَالْحَاجَةُ إلَى الزَّجْرِ عَنْ إخْرَاجِ الْمَالِ ، وَسَوَاءٌ دَخَلَا الْحِرْزَ مَعًا ، أَوْ دَخَلَ أَحَدُهُمَا فَأَخْرَجَ بَعْضَ النِّصَابِ ، ثُمَّ دَخَلَ الْآخَرُ فَأَخْرَجَ بَاقِيَهُ ؛ لِأَنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِي هَتْكِ الْحِرْزِ

وَإِخْرَاجِ النِّصَابِ ، فَلَزِمَهُمَا الْقَطْعُ ، كَمَا لَوْ حَمَلَاهُ مَعًا .

( 7315 ) فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ مِمَّنْ لَا قَطْعَ عَلَيْهِ ، كَأَبِي الْمَسْرُوقِ مِنْهُ ، قُطِعَ شَرِيكُهُ ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ، كَمَا لَوْ شَارَكَهُ فِي قَطْعِ يَدِ ابْنِهِ .
وَالثَّانِي : لَا يُقْطَعُ .
وَهُوَ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ سَرِقَتَهُمَا جَمِيعًا صَارَتْ عِلَّةً لِقَطْعِهِمَا ، وَسَرِقَةُ الْأَبِ لَا تَصْلُحُ مُوجِبَةً لِلْقَطْعِ ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ مَا لَهُ أَخْذُهُ ، بِخِلَافِ قَطْعِ يَدِ ابْنِهِ ، فَإِنَّ الْفِعْلَ تَمَحَّضَ عُدْوَانًا ، وَإِنَّمَا سَقَطَ الْقِصَاصُ لِفَضِيلَةِ الْأَبِ ، لَا لِمَعْنًى فِي فِعْلِهِ ، وَهَا هُنَا فِعْلُهُ قَدْ تَمَكَّنَتْ الشُّبْهَةُ مِنْهُ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجِبَ الْقَطْعُ بِهِ ، كَاشْتِرَاكِ الْعَامِدِ وَالْخَاطِئِ .
وَإِنْ أَخْرَجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصَابًا ، وَجَبَ الْقَطْعُ عَلَى شَرِيكِ الْأَبِ ؛ لِأَنَّهُ انْفَرَدَ بِمَا يُوجِبُ الْقَطْعَ .
وَإِنْ أَخْرَجَ الْأَبُ نِصَابًا ، وَشَرِيكُهُ دُونَ النِّصَابِ ، فَفِيهِ الْوَجْهَانِ .
وَإِنْ اعْتَرَفَ اثْنَانِ بِسَرِقَةِ نِصَابٍ ، ثُمَّ رَجَعَ أَحَدُهُمَا ، فَالْقَطْعُ عَلَى الْآخَرِ ؛ لِأَنَّهُ اخْتَصَّ بِالْإِسْقَاطِ فَيَخْتَصُّ بِالسُّقُوطِ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَسْقُطَ عَنْ شَرِيكِهِ ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ السَّرِقَةُ مِنْهُمَا ، وَقَدْ اخْتَلَّ أَحَدُ جُزْأَيْهَا .
وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ بِمُشَارَكَةِ آخَرَ فِي سَرِقَةِ نِصَابٍ ، وَلَمْ يُقِرَّ الْآخَرُ فَفِي الْقَطْعِ وَجْهَانِ .

( 7316 ) فَصْلٌ : قَالَ أَحْمَدُ ، فِي رَجُلَيْنِ دَخَلَا دَارًا ، أَحَدُهُمَا فِي سُفْلِهَا جَمَعَ الْمَتَاعَ وَشَدَّهُ بِحَبْلٍ ، وَالْآخَرُ فِي عُلُوِّهَا مَدَّ الْحَبْلَ فَرَمَى بِهِ وَرَاءُ الدَّارِ ، فَالْقَطْعُ عَلَيْهِمَا ؛ لِأَنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِي إخْرَاجِهِ .
وَإِنْ دَخَلَا جَمِيعًا ، فَأَخْرَجَ أَحَدُهُمَا الْمَتَاعَ وَحْدَهُ ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا : الْقَطْعُ عَلَيْهِمَا .
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ ، إذَا أَخْرَجَ نِصَابَيْنِ .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ : الْقَطْعُ عَلَى الْمُخْرِجِ وَحْدَهُ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ السَّارِقُ .
وَإِنْ أَخْرَجَ أَحَدُهُمَا دُونَ النِّصَابِ ، وَالْآخَرُ أَكْثَرَ مِنْ نِصَابٍ فَتَمَّا نِصَابَيْنِ ، فَعِنْدَ أَصْحَابِنَا وَأَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ : يَجِبُ الْقَطْعُ عَلَيْهِمَا .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَمُوَافِقِيهِ : لَا قَطْعَ عَلَى مَنْ لَمْ يُخْرِجْ نِصَابًا .
وَإِنْ أَخْرَجَ أَحَدُهُمَا نِصَابًا ، وَالْآخَرُ دُونَ النِّصَابِ ، فَعِنْدَ أَصْحَابِنَا عَلَيْهِمَا الْقَطْعُ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ : الْقَطْعُ عَلَى مُخْرِجِ النِّصَابِ وَحْدَهُ .
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ : لَا قَطْعَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّ الْمُخْرَجَ لَمْ يَبْلُغْ نُصُبًا بِعَدَدِ السَّارِقِينَ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ مَا قُلْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ .

وَإِنْ نَقَبَا حِرْزًا ، وَدَخَلَ أَحَدُهُمَا ، فَقَرَّبَ الْمَتَاعَ مِنْ النَّقْبِ ، وَأَدْخَلَ الْخَارِجُ يَدَهُ فَأَخْرَجَهُ ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا : قِيَاسُ قَوْلِ أَحْمَدَ ، أَنَّ الْقَطْعَ عَلَيْهِمَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : الْقَطْعُ عَلَى الْخَارِجِ ؛ لِأَنَّهُ مُخْرِجُ الْمَتَاعِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا قَطْعَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا .
وَلَنَا أَنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِي هَتْكِ الْحِرْزِ ، وَإِخْرَاجِ الْمَتَاعِ ، فَلَزِمَهُمَا الْقَطْعُ ، كَمَا لَوْ حَمَلَاهُ مَعًا فَأَخْرَجَاهُ .
وَإِنْ وَضَعَهُ فِي النَّقْبِ ، فَمَدَّ الْآخَرُ يَدَهُ فَأَخَذَهُ ، فَالْقَطْعُ عَلَيْهِمَا .
وَنُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ ، كَالْمَذْهَبَيْنِ فِي الصُّورَةِ الَّتِي قَبْلَهَا .

( 7317 ) فَصْلٌ : وَإِنْ نَقَبَ أَحَدُهُمَا وَحْدَهُ ، وَدَخَلَ الْآخَرُ وَحْدَهُ ، فَأَخْرَجَ الْمَتَاعَ ، فَلَا قَطْعَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَسْرِقْ ، وَالثَّانِي لَمْ يَهْتِكْ الْحِرْزِ ، وَإِنَّمَا سَرَقَ مِنْ حِرْزٍ هَتَكَهُ غَيْرُهُ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَقَبَ رَجُلٌ وَانْصَرَفَ ، وَجَاءَ آخَرُ فَصَادَفَ الْحِرْزَ مَهْتُوكًا فَسَرَقَ مِنْهُ .
وَإِنْ نَقَبَ رَجُلٌ ، وَأَمَرَ غَيْرَهُ فَأَخْرَجَ الْمَتَاعَ ، فَلَا قَطْعَ أَيْضًا عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا .
وَإِنْ كَانَ الْمَأْمُورُ صَبِيًّا مُمَيِّزًا ؛ لِأَنَّ الْمُمَيِّزَ لَهُ اخْتِيَارٌ فَلَا يَكُونُ آلَةً لِلْآمِرِ ، كَمَا لَوْ أَمَرَهُ بِقَتْلِ إنْسَانٍ فَقَتَلَهُ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُمَيِّزٍ ، وَجَبَ الْقَطْعُ عَلَى الْآمِرِ ؛ لِأَنَّهُ آلَتُهُ .
وَإِنْ اشْتَرَكَ رَجُلَانِ فِي النَّقْبِ ، وَدَخَلَ أَحَدُهُمَا فَأَخْرَجَ الْمَتَاعَ وَحْدَهُ ، أَوْ أَخَذَهُ وَنَاوَلَهُ لِلْآخَرِ خَارِجًا مِنْ الْحِرْزِ ، أَوْ رَمَى بِهِ إلَى خَارِجِ الْحِرْزِ ، فَأَخَذَهُ الْآخَرُ ، فَالْقَطْعُ عَلَى الدَّاخِلِ وَحْدَهُ ؛ لِأَنَّهُ مُخْرِجُ الْمَتَاعِ وَحْدَهُ مَعَ الْمُشَارَكَةِ فِي النَّقْبِ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا قَطْعَ عَلَيْهِمَا ؛ لِأَنَّ الدَّاخِلَ لَمْ يَنْفَصِلْ عَنْ الْحِرْزِ وَيَدُهُ عَلَى السَّرِقَةِ ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ الْقَطْعُ ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ دَاخِلَ الْحِرْزِ وَلَنَا أَنَّ الْمَسْرُوقَ خَرَجَ مِنْ الْحِرْزِ وَيَدُهُ عَلَيْهِ ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقَطْعُ ، كَمَا لَوْ خَرَجَ بِهِ ، وَيُخَالِفُ إذَا أَتْلَفَهُ ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ الْحِرْزِ .

( 7318 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَلَا يُقْطَعُ وَإِنْ اعْتَرَفَ أَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ ، حَتَّى يَأْتِيَ مَالِكُ الْمَسْرُوقِ يَدَّعِيهِ ) وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : يُقْطَعُ ، وَلَا يُفْتَقَرُ إلَى دَعْوَى وَلَا مُطَالَبَةٍ .
وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ ، وَأَبِي ثَوْرٍ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ ؛ لِعُمُومِ الْآيَةِ ؛ وَلِأَنَّ مُوجِبَ الْقَطْعِ ثَبَتَ ، فَوَجَبَ مِنْ غَيْرِ مُطَالَبَةٍ ، كَحَدِّ الزِّنَا .
وَلَنَا أَنَّ الْمَالَ يُبَاحُ بِالْبَذْلِ وَالْإِبَاحَةِ ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّ مَالِكَهُ أَبَاحَهُ إيَّاهُ ، أَوْ وَقَفَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، أَوْ عَلَى طَائِفَةٍ السَّارِقُ مِنْهُمْ ، أَوْ أَذِنَ لَهُ فِي دُخُولِ حِرْزِهِ ، فَاعْتُبِرَتْ الْمُطَالَبَةُ لِتَزُولَ هَذِهِ الشُّبْهَةُ ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ الزِّنَا ، فَإِنَّهُ لَا يُبَاحُ بِالْإِبَاحَةِ ؛ وَلِأَنَّ الْقَطْعَ أَوْسَعُ فِي الْإِسْقَاطِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا سَرَقَ مَالَ أَبِيهِ لَمْ يُقْطَعْ ، وَلَوْ زَنَى بِجَارِيَتِهِ حُدَّ ؟ وَلِأَنَّ الْقَطْعَ شُرِعَ لِصِيَانَةِ مَالِ الْآدَمِيِّ ، فَلَهُ بِهِ تَعَلُّقٌ ، فَلَمْ يُسْتَوْفَ مِنْ غَيْرِ حُضُورِ مُطَالِبٍ بِهِ ، وَالزِّنَا حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى مَحْضٌ ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ إلَى طَلَبٍ بِهِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّ وَكِيلَ الْمَالِكِ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي الطَّلَبِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : إذَا أَقَرَّ بِسَرِقَةِ مَالٍ غَائِبٍ ، حُبِسَ حَتَّى يَحْضُرَ الْغَائِبُ ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَبَاحَهُ ، وَلَوْ أَقَرَّ بِحَقٍّ مُطْلَقٍ لِغَائِبٍ لَمْ يُحْبَسْ ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ عَلَيْهِ لِغَيْرِ الْغَائِبِ ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِحَبْسِهِ ، فَلَمْ يُحْبَسْ ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى ، وَحَقُّ الْآدَمِيِّ ، فَحُبِسَ ؛ لِمَا عَلَيْهِ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ، فَإِنْ كَانَتْ الْعَيْنُ فِي يَدِهِ ، أَخَذَهَا الْحَاكِمُ ، وَحَفِظَهَا لِلْغَائِبِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ شَيْءٌ ، فَإِذَا جَاءَ الْغَائِبُ كَانَ الْخَصْمَ فِيهَا .

( 7319 ) فَصْلٌ : وَلَوْ أَقَرَّ بِسَرِقَةٍ مِنْ رَجُلٍ ، فَقَالَ الْمَالِكُ : لَمْ تَسْرِقْ مِنِّي ، وَلَكِنْ غَصَبْتنِي .
أَوْ كَانَ لِي قِبَلَك وَدِيعَةٌ فَجَحَدْتنِي .
لَمْ يُقْطَعْ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ لَمْ يُوَافِقْ دَعْوَى الْمُدَّعِي .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ سَرَقَ نِصَابًا مِنْ رَجُلَيْنِ ، فَصَدَّقَهُ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ ، أَوْ قَالَ الْآخَرُ : بَلْ غَصَبْتنِيهِ أَوْ جَحَدْتنِيهِ ، لَمْ يُقْطَعْ .
وَبِهِ قَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ : إذَا قَالَ الْآخَرُ : غَصَبْتنِيهِ أَوْ جَحَدْتنِيهِ .
قُطِعَ .
وَلَنَا أَنَّهُ لَمْ يُوَافِقْ عَلَى سَرِقَةِ نِصَابٍ ، فَلَمْ يُقْطَعْ ، كَاَلَّتِي قَبْلَهَا ، وَإِنْ وَافَقَاهُ جَمِيعًا ، قُطِعَ .
وَإِنْ حَضَرَ أَحَدُهُمَا ، فَطَالَبَ ، وَلَمْ يَحْضُرْ الْآخَرُ ، لَمْ يُقْطَعْ ؛ لِأَنَّ مَا حَصَلَتْ الْمُطَالَبَةُ بِهِ لَا يُوجِبُ الْقَطْعَ بِمُفْرَدِهِ .
وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ سَرَقَ مِنْ رَجُلٍ شَيْئًا ، فَقَالَ الرَّجُلُ : قَدْ فَقَدْتُهُ مِنْ مَالِي .
فَيَنْبَغِي أَنْ يُقْطَعَ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَعْلَبَةَ الْأَنْصَارِيِّ ، عَنْ أَبِيهِ ، أَنَّ عَمْرَو بْنَ سَمُرَةَ بْنِ حَبِيبٍ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ { ، جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنِّي سَرَقْت جَمَلًا لِبَنِي فُلَانٍ فَطَهِّرْنِي .
فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِمْ ، فَقَالُوا : إنَّا افْتَقَدْنَا جَمَلًا لَنَا .
فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُطِعَتْ يَدُهُ .
قَالَ ثَعْلَبَةُ : أَنَا أَنْظُرُ إلَيْهِ حِينَ وَقَعَتْ يَدُهُ ، وَهُوَ يَقُولُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي طَهَّرَنِي مِنْك ، أَرَدْت أَنْ تُدْخِلِي جَسَدِي النَّارَ } .
أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ .

( 7320 ) فَصْلٌ : وَمَنْ ثَبَتَتْ سَرِقَتُهُ بِبَيِّنَةٍ عَادِلَةٍ ، فَأَنْكَرَ ، لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى إنْكَارِهِ .
وَإِنْ قَالَ : أَحْلِفُوهُ لِي أَنِّي سَرَقْت مِنْهُ .
لَمْ يُحْلَفْ ؛ لِأَنَّ السَّرِقَةَ قَدْ ثَبَتَتْ بِالْبَيِّنَةِ ، وَفِي إحْلَافِهِ عَلَيْهَا قَدْحٌ فِي الشَّهَادَةِ .
وَإِنْ قَالَ : الَّذِي أَخَذْتُهُ مِلْكٌ لِي ، كَانَ لِي عِنْدَهُ وَدِيعَةً ، أَوْ رَهْنًا ، أَوْ ابْتَعْتُهُ مِنْهُ ، أَوْ وَهَبَهُ لِي ، أَوْ أَذِنَ لِي فِي أَخْذِهِ ، أَوْ غَصَبَهُ مِنِّي ، أَوْ مِنْ أَبِي ، أَوْ بَعْضُهُ لِي .
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ الْيَدَ ثَبَتَتْ لَهُ ، فَإِنْ حَلَفَ سَقَطَتْ دَعْوَى السَّارِقِ ، وَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ مَا قَالَ ، وَلِهَذَا أَحْلَفْنَا الْمَسْرُوقَ مِنْهُ ، وَإِنْ نَكَلَ ، قَضَيْنَا عَلَيْهِ بِنُكُولِهِ .
وَهَذِهِ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ ، وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ .
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّهُ يُقْطَعُ ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ الْقَطْعِ بِدَعْوَاهُ يُؤَدِّي إلَى أَنْ لَا يَجِبَ قَطْعُ سَارِقٍ ، فَتَفُوتَ مَصْلَحَةُ الزَّجْرِ .
وَعَنْهُ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ ، أَنَّهُ إنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالسَّرِقَةِ قُطِعَ ؛ لِأَنَّهُ يُعْلَمُ كَذِبُهُ ، وَإِلَّا سَقَطَ عَنْهُ الْقَطْعُ .
وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ ، وَإِفْضَاؤُهُ إلَى سُقُوطِ الْقَطْعِ لَا يَمْتَنِعُ اعْتِبَارُهُ ، كَمَا أَنَّ الشَّرْعَ اعْتَبَرَ فِي شَهَادَةِ الزِّنَا شُرُوطًا لَا يَقَعُ مَعَهَا إقَامَةُ حَدٍّ بِبَيِّنَةٍ أَبَدًا ، عَلَى أَنَّهُ لَا يُفْضِي إلَيْهِ لَازِمًا ، فَإِنَّ الْغَالِبَ مِنْ السُّرَّاقِ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ هَذَا ، وَلَا يَهْتَدُونَ إلَيْهِ ، وَإِنَّمَا يَخْتَصُّ بِعِلْمِ هَذَا الْفُقَهَاءُ الَّذِينَ لَا يَسْرِقُونَ غَالِبًا .
وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ ، قُضِيَ عَلَيْهِ ، وَسَقَطَ الْحَدُّ ، وَجْهًا وَاحِدًا .

كِتَابُ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ الْأَصْلُ فِي حُكْمِهِمْ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنْ الْأَرْضِ } .
وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَكَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ ، نَزَلَتْ فِي قُطَّاعِ الطَّرِيقِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ .
وَبِهِ يَقُولُ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْمُرْتَدِّينَ .
وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ ، وَعَطَاءٍ ، وَعَبْدِ الْكَرِيمِ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا قِصَّةُ الْعُرَنِيِّينَ ، وَكَانُوا ارْتَدُّوا عَنْ الْإِسْلَامِ ، وَقَتَلُوا الرُّعَاةَ ، فَاسْتَاقُوا إبِلَ الصَّدَقَةِ ، فَبَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ جَاءَ بِهِمْ ، فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ ، وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ ، وَأَلْقَاهُمْ فِي الْحَرَّةِ حَتَّى مَاتُوا .
قَالَ أَنَسٌ : فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ : { إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ } الْآيَةَ .
أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ .
وَلِأَنَّ مُحَارَبَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إنَّمَا تَكُونُ مِنْ الْكُفَّارِ لَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ .
وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ } .
وَالْكُفَّارُ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُمْ بَعْدَ الْقُدْرَةِ ، كَمَا تُقْبَلُ قَبْلَهَا ، وَيَسْقُطُ عَنْهُمْ الْقَتْلُ وَالْقَطْعُ فِي كُلِّ حَالٍ ، وَالْمُحَارَبَةُ قَدْ تَكُونُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ؛ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ .
} ( 7321 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَالْمُحَارِبُونَ الَّذِينَ يَعْرِضُونَ لِلْقَوْمِ بِالسِّلَاحِ فِي الصَّحْرَاءِ ، فَيَغْصِبُونَهُمْ الْمَالَ مُجَاهَرَةً ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْمُحَارِبِينَ الَّذِينَ تَثْبُتُ لَهُمْ أَحْكَامُ

الْمُحَارَبَةِ الَّتِي نَذْكُرُهَا بَعْدُ ، تُعْتَبَرُ لَهُمْ شُرُوطٌ ثَلَاثَةٌ ؛ أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي الصَّحْرَاءِ ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ فِي الْقُرَى وَالْأَمْصَارِ ، فَقَدْ تَوَقَّفَ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيهِمْ وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُمْ غَيْرُ مُحَارِبِينَ .
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ يُسَمَّى حَدَّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ ، وَقَطْعُ الطَّرِيقِ إنَّمَا هُوَ فِي الصَّحْرَاءِ ؛ وَلِأَنَّ مَنْ فِي الْمِصْرِ يَلْحَقُ بِهِ الْغَوْثُ غَالِبًا ، فَتَذْهَبُ شَوْكَةُ الْمُعْتَدِينَ ، وَيَكُونُونَ مُخْتَلِسِينَ ، وَالْمُخْتَلِسُ لَيْسَ بِقَاطِعٍ ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ .
وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا : هُوَ قَاطِعٌ حَيْثُ كَانَ .
وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ ، وَاللَّيْثُ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو يُوسُفَ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ؛ لِتَنَاوُلِ الْآيَةِ بِعُمُومِهَا كُلَّ مُحَارِبٍ ؛ وَلِأَنَّ ذَلِكَ إذَا وُجِدَ فِي الْمِصْرِ كَانَ أَعْظَمَ خَوْفًا ، وَأَكْثَرَ ضَرَرًا ، فَكَانَ بِذَلِكَ أَوْلَى .
وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ هَذَا إنْ كَانَ فِي الْمِصْرِ ، مِثْلَ أَنْ كَبَسُوا دَارًا ، فَكَانَ أَهْلُ الدَّارِ بِحَيْثُ لَوْ صَاحُوا أَدْرَكَهُمْ الْغَوْثُ ، فَلَيْسَ هَؤُلَاءِ بِقُطَّاعِ طَرِيقٍ ؛ لِأَنَّهُمْ فِي مَوْضِعٍ يَلْحَقُهُمْ الْغَوْثُ عَادَةً ، وَإِنْ حَصَرُوا قَرْيَةً أَوْ بَلَدًا فَفَتَحُوهُ وَغَلَبُوا عَلَى أَهْلِهِ ، أَوْ مَحَلَّةً مُنْفَرِدَةً ، بِحَيْثُ لَا يُدْرِكُهُمْ الْغَوْثُ عَادَةً ، فَهُمْ مُحَارِبُونَ ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَلْحَقُهُمْ الْغَوْثُ ، فَأَشْبَهَ قُطَّاعَ الطَّرِيقِ فِي الصَّحْرَاءِ .
الشَّرْطُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مَعَهُمْ سِلَاحٌ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ سِلَاحٌ ، فَهُمْ غَيْرُ مُحَارِبِينَ ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَمْنَعُونَ مَنْ يَقْصِدُهُمْ .
وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا .
فَإِنْ عَرَضُوا بِالْعِصِيِّ وَالْحِجَارَةِ ، فَهُمْ مُحَارِبُونَ .
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَيْسُوا مُحَارِبِينَ ؛ لِأَنَّهُ لَا سِلَاحَ مَعَهُمْ .
وَلَنَا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ السِّلَاحِ الَّذِي يَأْتِي عَلَى

النَّفْسِ وَالطَّرَفِ ، فَأَشْبَهَ الْحَدِيدَ .
الشَّرْطُ الثَّالِثُ : أَنْ يَأْتُوا مُجَاهَرَةً ، وَيَأْخُذُوا الْمَالَ قَهْرًا فَأَمَّا إنْ أَخَذُوهُ مُخْتَفِينَ ، فَهُمْ سُرَّاقٌ ، وَإِنْ اخْتَطَفُوهُ وَهَرَبُوا فَهُمْ مُنْتَهِبُونَ ، لَا قَطْعَ عَلَيْهِمْ .
وَكَذَلِكَ إنْ خَرَجَ الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ عَلَى آخِرِ قَافِلَةٍ ، فَاسْتَلَبُوا مِنْهَا شَيْئًا ، فَلَيْسُوا بِمُحَارِبِينَ ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ إلَى مَنَعَةٍ وَقُوَّةٍ .
وَإِنْ خَرَجُوا عَلَى عَدَدٍ يَسِيرٍ فَقَهَرُوهُمْ ، فَهُمْ قُطَّاعُ طَرِيقٍ .

( 7322 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( فَمَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ وَأَخَذَ الْمَالَ ، قُتِلَ وَإِنْ عَفَا صَاحِبُ الْمَالِ ، وَصُلِبَ حَتَّى يُشْتَهَرَ ، وَدُفِعَ إلَى أَهْلِهِ ، وَمَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ ، وَلَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ ، قُتِلَ ، وَلَمْ يُصْلَبْ ، وَإِنْ أَخَذَ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ ، قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى وَرِجْلُهُ الْيُسْرَى ، فِي مَقَامٍ وَاحِدٍ ، ثُمَّ حُسِمَتَا وَخُلِّيَ ) رَوَيْنَا نَحْوَ هَذَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَبِهِ قَالَ قَتَادَةُ ، وَأَبُو مِجْلَزٍ ، وَحَمَّادٌ ، وَاللَّيْثُ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَعَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ إذَا قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ ، قُتِلَ وَقُطِعَ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْجِنَايَتَيْنِ تُوجِبُ حَدًّا مُنْفَرِدًا ، فَإِذَا اجْتَمَعَا ، وَجَبَ حَدُّهُمَا مَعًا ، كَمَا لَوْ زَنَى ، وَسَرَقَ .
وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إلَى أَنَّ الْإِمَامَ مُخَيَّرٌ فِيهِمْ بَيْنَ الْقَتْلِ وَالصَّلْبِ ، وَالْقَطْعِ وَالنَّفْيِ ؛ لِأَنَّ " أَوْ " تَقْتَضِي التَّخْيِيرَ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } .
وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، وَعَطَاءٍ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَالْحَسَنِ ، وَالضَّحَّاكِ ، وَالنَّخَعِيِّ ، وَأَبِي الزِّنَادِ ، وَأَبِي ثَوْرٍ ، وَدَاوُد .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : مَا كَانَ فِي الْقُرْآنِ " أَوْ " فَصَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ : إنْ قَتَلَ قُتِلَ ، وَإِنْ أَخَذَ الْمَالَ قُطِعَ ، وَإِنْ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ ، فَالْإِمَامُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ قَتْلِهِ وَصَلْبِهِ ، وَبَيْنَ قَتْلِهِ وَقَطْعِهِ ، وَبَيْنَ أَنْ يَجْمَعَ لَهُ ذَلِكَ كُلَّهُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وُجِدَ مِنْهُ مَا يُوجِبُ الْقَتْلَ وَالْقَطْعَ ، فَكَانَ لِلْإِمَامِ فِعْلُهُمَا ، كَمَا لَوْ قَتَلَ وَقَطَعَ فِي غَيْرِ قَطْعِ طَرِيقٍ .
وَقَالَ مَالِكٌ : إذَا قَطَعَ الطَّرِيقَ ، فَرَآهُ الْإِمَامُ جَلْدًا ذَا رَأْيٍ ، قَتَلَهُ ، وَإِنْ كَانَ جَلْدًا لَا رَأْيَ لَهُ ، قَطَعَهُ ، وَلَمْ يَعْتَبِرْ فِعْلَهُ .
وَلَنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ إذَا لَمْ يَقْتُلْ ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ ؛ كُفْرٍ بَعْدَ إيمَانٍ ، أَوْ زِنًا بَعْدَ إحْصَانٍ ، أَوْ قَتْلِ نَفْسٍ بِغَيْرِ حَقٍّ .
} فَأَمَّا " أَوْ " فَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِثْلَ قَوْلِنَا ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَوْقِيفًا ، أَوْ لُغَةً ، وَأَيُّهُمَا كَانَ ، فَهُوَ حُجَّةٌ ، يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ بَدَأَ بِالْأَغْلَظِ فَالْأَغْلَظِ ، وَعُرْفُ الْقُرْآنِ فِيمَا أُرِيدَ بِهِ التَّخْيِيرُ الْبِدَايَةُ بِالْأَخَفِّ ، كَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ ، وَمَا أُرِيدَ بِهِ التَّرْتِيبُ بُدِئَ فِيهِ بِالْأَغْلَظِ فَالْأَغْلَظِ ، كَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا ، أَنَّ الْعُقُوبَاتِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَجْرَامِ ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ حُكْمُ الزَّانِي وَالْقَاذِفِ وَالسَّارِقِ ، وَقَدْ سَوَّوْا بَيْنَهُمْ مَعَ اخْتِلَافِ جِنَايَاتِهِمْ ، وَهَذَا يَرُدُّ عَلَى مَالِكٍ ، فَإِنَّهُ إنَّمَا اعْتَبَرَ الْجَلْدَ وَالرَّأْيَ دُونَ الْجِنَايَاتِ ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا .
وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ : فَلَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ لَوْ وَجَبَ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ، لَمْ يُخَيَّرْ الْإِمَامُ فِيهِ ، كَقَطْعِ السَّارِقِ ، وَكَمَا لَوْ انْفَرَدَ بِأَخْذِ الْمَالِ ؛ وَلِأَنَّ الْحُدُودَ لِلَّهِ تَعَالَى إذَا كَانَ فِيهَا قَتْلٌ ، سَقَطَ مَا دُونَهُ ، كَمَا لَوْ سَرَقَ وَزَنَى وَهُوَ مُحْصَنٌ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : { وَادَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيَّ ، فَجَاءَ نَاسٌ يُرِيدُونَ الْإِسْلَامَ ، فَقَطَعَ عَلَيْهِمْ أَصْحَابُهُ ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْحَدِّ فِيهِمْ ، أَنَّ مَنْ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ قُتِلَ وَصُلِبَ ، وَمَنْ قَتَلَ وَلَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ ، قُتِلَ ، وَمَنْ أَخَذَ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ ، قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ } .
وَقِيلَ : إنَّهُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَهَذَا كَالْمُسْنَدِ ، وَهُوَ نَصٌّ .
فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّ قَاطِعَ الطَّرِيقِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحْوَالٍ خَمْسٍ الْأُولَى : إذَا قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ ، فَإِنَّهُ يُقْتَلُ

وَيُصْلَبُ ، فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ ، وَقَتْلُهُ مُتَحَتِّمٌ لَا يَدْخُلُهُ عَفْوٌ .
أَجْمَعَ عَلَى هَذَا كُلُّ أَهْلِ الْعِلْمِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ عَلَى هَذَا كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ .
وَبِهِ قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَلِأَنَّهُ حَدٌّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِالْعَفْوِ ، كَسَائِرِ الْحُدُودِ .
وَهَلْ يُعْتَبَرُ التَّكَافُؤُ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَالْمَقْتُولِ ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا : لَا يُعْتَبَرُ ، بَلْ يُؤْخَذُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ ، وَالْمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ ، وَالْأَبُ بِالِابْنِ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَتْلَ حَدٌّ لِلَّهِ تَعَالَى ، فَلَا تُعْتَبَرُ فِيهِ الْمُكَافَأَةُ ، كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ .
وَالثَّانِيَةُ : تُعْتَبَرُ الْمُكَافَأَةُ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ } .
وَالْحَدُّ فِيهِ انْحِتَامُهُ ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ تَابَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ ، سَقَطَ الِانْحِتَامُ ، وَلَمْ يَسْقُطْ الْقِصَاصُ .
فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ ، إذَا قَتَلَ الْمُسْلِمُ ذِمِّيًّا ، أَوْ الْحُرُّ عَبْدًا ، أَوْ أَخَذَ مَالَهُ ، قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ ، لِأَخْذِهِ الْمَالَ ، وَغَرِمَ دِيَةَ الذِّمِّيِّ وَقِيمَةَ الْعَبْدِ ، وَإِنْ قَتَلَهُ وَلَمْ يَأْخُذْ مَالًا غَرِمَ دِيَتَهُ وَنُفِيَ .
وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ إنَّمَا يَتَحَتَّمُ قَتْلُهُ إذَا قَتَلَهُ لِيَأْخُذَ الْمَالَ ، وَإِنْ قَتَلَهُ لِغَيْرِ ذَلِكَ ، مِثْلَ أَنْ يَقْصِدَ قَتْلَهُ لِعَدَاوَةٍ بَيْنَهُمَا ، فَالْوَاجِبُ قِصَاصٌ غَيْرُ مُتَحَتِّمٍ ، وَإِذَا قَتَلَ صُلِبَ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { أَوْ يُصَلَّبُوا } .
وَالْكَلَامُ فِيهِ فِي ثَلَاثَةِ أُمُورٍ ؛ أَحَدُهَا : فِي وَقْتِهِ ، وَوَقْتُهُ بَعْدَ الْقَتْلِ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَاللَّيْثُ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَبُو يُوسُفَ : يُصْلَبُ حَيًّا ، ثُمَّ يُقْتَلُ مَصْلُوبًا ، يُطْعَنُ بِالْحَرْبَةِ ؛ لِأَنَّ الصَّلْبَ عُقُوبَةٌ ،

وَإِنَّمَا يُعَاقَبُ الْحَيُّ لَا الْمَيِّتُ ؛ وَلِأَنَّهُ جَزَاءٌ عَلَى الْمُحَارَبَةِ ، فَيُشْرَعُ فِي الْحَيَاةِ كَسَائِرِ الْأَجْزِيَةِ ؛ وَلِأَنَّ الصَّلْبَ بَعْدَ قَتْلِهِ يَمْنَعُ تَكْفِينَهُ وَدَفْنَهُ ، فَلَا يَجُوزُ .
وَلَنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّمَ الْقَتْلَ عَلَى الصَّلْبِ لَفْظًا ، وَالتَّرْتِيبُ بَيْنَهُمَا ثَابِتٌ بِغَيْرِ خِلَافٍ ، فَيَجِبُ تَقْدِيمُ الْأَوَّلِ فِي اللَّفْظِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } وَلِأَنَّ الْقَتْلَ إذَا أُطْلِقَ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ ، كَانَ قَتْلًا بِالسَّيْفِ .
وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقَتْلَ } .
وَأَحْسَنُ الْقَتْلِ هُوَ الْقَتْلُ بِالسَّيْفِ ، وَفِي صَلْبِهِ حَيًّا تَعْذِيبٌ لَهُ ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّهُ جَزَاءٌ عَلَى الْمُحَارَبَةِ .
قُلْنَا : لَوْ شُرِعَ لِرَدْعِهِ ، لَسَقَطَ بِقَتْلِهِ ، كَمَا يَسْقُطُ سَائِرُ الْحُدُودِ مَعَ الْقَتْلِ وَإِنَّمَا شُرِعَ الصَّلْبُ رَدْعًا لِغَيْرِهِ ، لِيَشْتَهِرَ أَمْرُهُ ، وَهَذَا يَحْصُلُ بِصَلْبِهِ بَعْدَ قَتْلِهِ .
وَقَوْلُهُمْ : يَمْنَعُ تَكْفِينَهُ وَدَفْنَهُ .
قُلْنَا : هَذَا لَازِمٌ لَهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ يَتْرُكُونَهُ بَعْدَ قَتْلِهِ مَصْلُوبًا .
الثَّانِي : فِي قَدْرِهِ وَلَا تَوْقِيتَ فِيهِ ، إلَّا قَدْرَ مَا يَشْتَهِرُ أَمْرُهُ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : لَمْ يُوَقِّتْ أَحْمَدُ فِي الصَّلْبِ ، فَأَقُولُ : يُصْلَبُ قَدْرَ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ .
وَالصَّحِيحُ تَوْقِيتُهُ بِمَا ذَكَرَ الْخِرَقِيِّ مِنْ الشُّهْرَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُصْلَبُ ثَلَاثًا .
وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَهَذَا تَوْقِيتٌ بِغَيْرِ تَوْقِيفٍ ، فَلَا يَجُوزُ ، مَعَ أَنَّهُ فِي الظَّاهِرِ يُفْضِي إلَى تَغَيُّرِهِ ، وَنَتِنِهِ ، وَأَذَى الْمُسْلِمِينَ بِرَائِحَتِهِ وَنَظَرِهِ ، وَيَمْنَعُ تَغْسِيلَهُ وَتَكْفِينَهُ وَدَفْنَهُ ، فَلَا يَجُوزُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ .
الثَّالِثُ : فِي وُجُوبِهِ ،

وَهَذَا وَاجِبٌ حَتْمٌ فِي حَقِّ مَنْ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ ، لَا يَسْقُطُ بِعَفْوٍ وَلَا غَيْرِهِ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ : إنْ شَاءَ الْإِمَامُ صَلَبَ ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَصْلُبْ .
وَلَنَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ بِأَنَّ مَنْ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ صُلِبَ .
وَلِأَنَّهُ شُرِعَ حَدًّا ، فَلَمْ يَتَخَيَّرْ بَيْنَ فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ ، كَالْقَتْلِ وَسَائِرِ الْحُدُودِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّهُ إذَا اُشْتُهِرَ أُنْزِلَ ، وَدُفِعَ إلَى أَهْلِهِ ، فَيُغَسَّلُ ، وَيُكَفَّنُ ، وَيُصَلَّى عَلَيْهِ ، وَيُدْفَنُ .
( 7323 ) " فَصْلٌ : وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ قَتْلِهِ ، لَمْ يُصْلَبْ ؛ لِأَنَّ الصَّلْبَ مِنْ تَمَامِ الْحَدِّ ، وَقَدْ فَاتَ الْحَدُّ بِمَوْتِهِ ، فَيَسْقُطُ مَا هُوَ مِنْ تَتِمَّتِهِ .
وَإِنْ قَتَلَ فِي الْمُحَارَبَةِ بِمُثَقَّلٍ قُتِلَ ، كَمَا لَوْ قَتَلَ بِمُحَدَّدِ لِأَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ بِهِمَا .
وَإِنْ قَتَلَ بِآلَةٍ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ بِالْقَتْلِ بِهَا ، كَالسَّوْطِ وَالْعَصَا وَالْحَجَرِ الصَّغِيرِ ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ ، أَنَّهُمْ يُقْتَلُونَ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُمْ دَخَلُوا فِي الْعُمُومِ .

الْحَالُ الثَّانِي : قَتَلُوا وَلَمْ يَأْخُذُوا الْمَالَ فَإِنَّهُمْ يُقْتَلُونَ وَلَا يُصْلَبُونَ .
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّهُمْ يُصْلَبُونَ ؛ لِأَنَّهُمْ مُحَارِبُونَ يَجِبُ قَتْلُهُمْ ، فَيُصْلَبُونَ ، كَاَلَّذِينَ أَخَذُوا الْمَالَ .
وَالْأُولَى أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ الْمَرْوِيَّ فِيهِمْ قَالَ فِيهِ : وَمَنْ قَتَلَ وَلَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ ، قُتِلَ " .
وَلَمْ يَذْكُرْ صَلْبًا ؛ وَلِأَنَّ جِنَايَتَهُمْ بِأَخْذِ الْمَالِ مَعَ الْقَتْلِ تَزِيدُ عَلَى الْجِنَايَةِ بِالْقَتْلِ وَحْدَهُ ، فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ عُقُوبَتُهُمْ أَغْلَظَ ، وَلَوْ شُرِعَ الصَّلْبُ هَاهُنَا لَاسْتَوَيَا ، وَالْحُكْمُ فِي تَحَتُّمِ الْقَتْلِ وَكَوْنِهِ حَدًّا هَاهُنَا ، كَالْحُكْمِ فِيهِ إذَا قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ .
( 7324 ) فَصْلٌ : وَإِذَا جَرَحَ الْمُحَارِبُ جُرْحًا فِي مِثْلِهِ الْقِصَاصُ ، فَهَلْ يَتَحَتَّمُ فِيهِ الْقِصَاصُ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ ؛ إحْدَاهُمَا : لَا يَتَحَتَّمُ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِشَرْعِ الْحَدِّ فِي حَقِّهِ بِالْجِرَاحِ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ فِي حُدُودِ الْمُحَارِبِينَ الْقَتْلَ وَالصَّلْبَ وَالْقَطْعَ وَالنَّفْيَ ، فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْمُحَارَبَةِ غَيْرُهَا فَلَا يَتَحَتَّمُ ، بِخِلَافِ الْقَتْلِ ، فَإِنَّهُ حَدٌّ ، فَتَحَتَّمَ ، كَسَائِرِ الْحُدُودِ ، فَحِينَئِذٍ لَا يَجِبُ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ الْقِصَاصِ .
وَالثَّانِيَةُ : يَتَحَتَّمُ ؛ لِأَنَّ الْجِرَاحَ تَابِعَةٌ لِلْقَتْلِ ، فَيَثْبُتُ فِيهَا مِثْلُ حُكْمِهِ ؛ وَلِأَنَّهُ نَوْعُ قَوَدٍ ، أَشْبَهَ الْقَوَدَ فِي النَّفْسِ .
وَالْأُولَى أَوْلَى .
وَإِنْ جَرَحَهُ جُرْحًا لَا قِصَاصَ فِيهِ ، كَالْجَائِفَةِ ، فَلَيْسَ فِيهِ إلَّا الدِّيَةُ .
وَإِنْ جَرَحَ إنْسَانًا وَقَتَلَ آخَرَ ، اُقْتُصَّ مِنْهُ لِلْجِرَاحِ ، وَقُتِلَ لِلْمُحَارَبَةِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَسْقُطُ الْجِرَاحُ ؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ إذَا اجْتَمَعَتْ وَفِيهَا قَتْلٌ ، سَقَطَ مَا سِوَى الْقَتْلِ .
وَلَنَا أَنَّهَا جِنَايَةٌ يَجِبُ بِهَا الْقِصَاصُ فِي غَيْرِ الْمُحَارَبَةِ ، فَيَجِبُ بِهَا فِي الْمُحَارَبَةِ ، كَالْقَتْلِ ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْقِصَاصَ فِي الْجِرَاحِ حَدٌّ ، وَإِنَّمَا هُوَ

قِصَاصٌ مُتَمَحِّضٌ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ الْجُرْحُ فِي غَيْرِ الْمُحَارَبَةِ ، وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ حَدٌّ ، فَإِنَّهُ مَشْرُوعٌ مَعَ الْقَتْلِ ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِهِ ، كَالصَّلْبِ ، وَكَقَطْعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ عِنْدَهُمْ .

الْحَالُ الثَّالِثُ : أَخَذَ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ ، فَإِنَّهُ تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُمْنَى وَرِجْلُهُ الْيُسْرَى ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : { مِنْ خِلَافٍ } .
وَإِنَّمَا قَطَعْنَا يَدَهُ الْيُمْنَى لِلْمَعْنَى الَّذِي قَطَعْنَا بِهِ يُمْنَى السَّارِقِ ، ثُمَّ قَطَعْنَا رِجْلَهُ الْيُسْرَى لِتَتَحَقَّقَ الْمُخَالَفَةُ ، وَلِيَكُونَ أَرْفَقَ بِهِ فِي إمْكَانِ مَشْيِهِ .
وَلَا يُنْتَظَرُ انْدِمَالُ الْيَدِ فِي قَطْعِ الرِّجْلِ ، بَلْ يُقْطَعَانِ مَعًا ، يُبْدَأُ بِيَمِينِهِ فَتُقْطَعُ وَتُحْسَمُ ، ثُمَّ بِرِجْلِهِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَدَأَ بِذِكْرِ الْأَيْدِي .
وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ ، فِي أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ مِنْهُ غَيْرُ يَدٍ وَرِجْلٍ ، إذَا كَانَتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ صَحِيحَتَيْنِ ، فَأَمَّا إنْ كَانَ مَعْدُومَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ ، إمَّا لِكَوْنِهِ قَدْ قُطِعَ فِي قَطْعِ طَرِيقٍ أَوْ سَرِقَةٍ أَوْ قِصَاصٍ ، أَوْ لِمَرَضٍ ، فَمُقْتَضَى كَلَامِ الْخِرَقِيِّ سُقُوطُ الْقَطْعِ عَنْهُ ، سَوَاءٌ كَانَتْ الْيَدَ الْيُمْنَى وَالرِّجْلَ الْيُسْرَى أَوْ بِالْعَكْسِ ؛ لِأَنَّ قَطْعَ زِيَادَةٍ عَلَى ذَلِكَ يَذْهَبُ بِمَنْفَعَةِ الْجِنْسِ ، إمَّا مَنْفَعَةُ الْبَطْشِ أَوْ الْمَشْيِ أَوْ كِلَيْهِمَا .
وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَعَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تَسْتَوْفِي أَعْضَاءَ السَّارِقِ الْأَرْبَعَةَ ، يُقْطَعُ مَا بَقِيَ مِنْ أَعْضَائِهِ ، فَإِنْ كَانَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى مَقْطُوعَةً ، قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى وَحْدَهَا ، وَلَوْ كَانَتْ يَدَاهُ صَحِيحَتَيْنِ ، وَرِجْلُهُ الْيُسْرَى مَقْطُوعَةً ، قُطِعَتْ يُمْنَى يَدَيْهِ ، وَلَمْ يُقْطَعْ غَيْرُ ذَلِكَ .
وَجْهًا وَاحِدًا .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ فِي مَحَلِّ الْحَدِّ مَا يُسْتَوْفَى ، فَاكْتُفِيَ بِاسْتِيفَائِهِ ، كَمَا لَوْ كَانَتْ الْيَدُ نَاقِصَةً ، بِخِلَافِ الَّتِي قَبْلَهَا .
وَإِنْ كَانَ مَا وَجَبَ قَطْعُهُ أَشَلَّ ، فَذَكَرَ أَهْلُ الطِّبِّ أَنَّ قَطْعَهُ يُفْضِي إلَى تَلَفِهِ ، لَمْ يُقْطَعْ ، وَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمَعْدُومِ .
وَإِنْ قَالُوا : لَا يُفْضِي إلَى تَلَفِهِ .
فَفِي قَطْعِهِ رِوَايَتَانِ .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71