كتاب : فتح القدير
المؤلف : كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي

لَكِنْ تُبْعِدُهُ رِوَايَةُ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهِيَ مِنْ طُرُقِهِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي لَا رَيْبَ فِيهَا طَرِيقُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ قَالَ { خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ قَبْلَ يَوْمِ الْفِطْرِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ ، فَقَالَ : أَدُّوا صَاعًا مِنْ بُرٍّ أَوْ قَمْحٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ } وَهَذَا سَنَدٌ صَحِيحٌ .
وَفِي غَيْرِ هَذِهِ مِنْ أَيْنَ يُجَاءُ بِالرَّاءِ ، وَهَذَا عَلَى أَنَّ مَقْصُودَ الْمُصَنِّفِ الِاسْتِدْلَال بِهِ عَلَى نَفْسِ الْوُجُوبِ لَا عَلَى قَدْرِ الْوَاجِبِ ، وَهُوَ حَاصِلٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ ؛ وَسَيَأْتِي اسْتِدْلَالُهُ فِي قَدْرِهِ بِحَدِيثٍ آخَرَ ، وَمِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الْوُجُوبِ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى الِافْتِرَاضِ وَهُوَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ عَلَى النَّاسِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى كُلِّ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ } فَإِنَّ حَمْلَ اللَّفْظِ عَلَى الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ مُتَعَيِّنٌ مَا لَمْ يَقُمْ صَارِفٌ عَنْهُ ، وَالْحَقِيقَةُ الشَّرْعِيَّةُ فِي الْفَرْضِ غَيْرُ مُجَرَّدِ التَّقْدِيرِ خُصُوصًا وَفِي لَفْظِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَرَ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ } قَالَ ابْنُ عُمَرَ : فَجَعَلَ النَّاسُ عَدْلَهُ مُدَّيْنِ مِنْ حِنْطَةٍ وَمَعْنَى لَفْظِ " فَرَضَ " هُوَ مَعْنَى " أَمَرَ " أَمْرَ إيجَابٍ ، وَالْأَمْرُ الثَّابِتُ بِظَنِّي إنَّمَا يُفِيدُ الْوُجُوبَ فَلَا خِلَافَ فِي الْمَعْنَى ، فَإِنَّ الِافْتِرَاضَ الَّذِي يُثْبِتُونَهُ لَيْسَ عَلَى وَجْهٍ يَكْفُرُ جَاحِدُهُ فَهُوَ مَعْنَى الْوُجُوبِ الَّذِي نَقُولُ بِهِ ، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْفَرْضَ فِي اصْطِلَاحِهِمْ أَعَمُّ مِنْ الْوَاجِبِ فِي

عُرْفِنَا فَأَطْلَقُوهُ عَلَى أَحَدِ جُزْأَيْهِ وَمِنْهُ مَا فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَصَحَّحَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَرَ صَارِخًا بِبَطْنِ مَكَّةَ يُنَادِي : أَنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ حُرٍّ أَوْ مَمْلُوكٍ } الْحَدِيثَ .
فَإِنْ قُلْت : يَنْبَغِي أَنْ يُرَادَ بِالْفَرْضِ مَا هُوَ عُرْفُنَا لِلْإِجْمَاعِ عَلَى الْوُجُوبِ .
فَالْجَوَابُ : أَنَّ ذَلِكَ إذَا نُقِلَ الْإِجْمَاعُ تَوَاتُرًا لِيَكُونَ إجْمَاعًا قَطْعِيًّا أَوْ أَنْ يَكُونَ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الدِّينِ كَالْخَمْسِ عِنْدَ كَثِيرٍ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ إنَّمَا يَظُنُّ الْإِجْمَاعَ ظَنًّا فَلَا ، وَلِذَا صَرَّحُوا بِأَنَّ مُنْكِرَ وُجُوبِهَا لَا يُكَفَّرُ فَكَانَ الْمُتَيَقَّنُ الْوُجُوبَ بِالْمَعْنَى الْعُرْفِيِّ عِنْدَنَا ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

وَشَرْطُ الْحُرِّيَّةِ لِيَتَحَقَّقَ التَّمْلِيكُ وَالْإِسْلَامُ لِيَقَعَ قُرْبَةً ، وَالْيَسَارُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا صَدَقَةَ إلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى } وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ : تَجِبُ عَلَى مَنْ يَمْلِكُ زِيَادَةً عَنْ قُوتِ يَوْمِهِ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ ، وَقَدْرُ الْيَسَارِ بِالنِّصَابِ لِتَقْدِيرِ الْغِنَى فِي الشَّرْعِ بِهِ فَاضِلًا عَمَّا ذُكِرَ مِنْ الْأَشْيَاءِ لِأَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ بِالْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ ، وَالْمُسْتَحَقُّ بِالْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ كَالْمَعْدُومِ وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ النُّمُوُّ ، وَيَتَعَلَّقُ بِهَذَا النِّصَابِ حِرْمَانُ الصَّدَقَةِ وَوُجُوبُ الْأُضْحِيَّةِ وَالْفِطْرَةِ .

( قَوْلُهُ : وَشَرَطَ الْحُرِّيَّةَ لِيَتَحَقَّقَ التَّمْلِيكُ ) إذْ لَا يَمْلِكُ إلَّا الْمَالِكُ وَلَا مِلْكَ لِغَيْرِ الْحُرِّ فَلَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ الرُّكْنُ .
وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ إنَّهَا عَلَى الْعَبْدِ وَيَتَحَمَّلُهُ السَّيِّدُ ، لَيْسَ بِذَاكَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَصْلِيَّ مِنْ التَّكْلِيفِ أَنْ يَصْرِفَ الْمُكَلَّفُ نَفْسَ مَنْفَعَتِهِ لِمَالِكِهِ وَهُوَ الرَّبُّ تَعَالَى ابْتِلَاءً لَهُ لِتَظْهَرَ طَاعَتُهُ مِنْ عِصْيَانِهِ ، وَلِذَا لَا يَتَعَلَّقُ التَّكْلِيفُ إلَّا بِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ ، فَإِذَا فُرِضَ كَوْنُ الْمُكَلَّفِ لَا يَلْزَمُهُ شَرْعًا صَرْفُ تِلْكَ الْمَنْفَعَةِ الَّتِي هِيَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فِعْلُ الْإِعْطَاءِ ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ شَخْصًا آخَرَ لَزِمَ انْتِفَاءُ الِابْتِلَاءِ الَّذِي هُوَ مَقْصُودُ التَّكْلِيفِ فِي حَقِّ ذَلِكَ الْمُكَلَّفِ ، وَثُبُوتُ الْفَائِدَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى ذَلِكَ الْآخَرِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِيجَابِ عَلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ الَّذِي لَهُ وِلَايَةُ الْإِيجَابِ وَالْإِعْدَامِ تَعَالَى يُمْكِنُ أَنْ يُكَلِّفَ ابْتِدَاءً السَّيِّدَ بِسَبَبِ عَبْدِهِ الَّذِي مَلَّكَهُ لَهُ مِنْ فَضْلِهِ ، فَوَجَبَ لِهَذَا الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ ، وَهُوَ لُزُومُ انْتِفَاءِ مَقْصُودِ التَّكْلِيفِ الْأَوَّلِ أَنْ يُحْمَلَ مَا وَرَدَ مِنْ لَفْظِ " عَلَى " فِي نَحْوِ قَوْلِهِ عَلَى كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ عَلَى مَعْنَى كَقَوْلِهِ : إذَا رَضِيَتْ عَلَيَّ بَنُو قُشَيْرٍ لَعَمْرُ اللَّهِ أَعْجَبَنِي رِضَاهَا وَهُوَ كَثِيرٌ ، وَيَطَّرِدُ بَعْدَ أَلْفَاظٍ وَهِيَ خَفِيَ عَلَيَّ ، وَبَعُدَ عَلَيَّ ، وَاسْتَحَالَ عَلَيَّ ، وَغَضِبَ عَلَيَّ ، كُلُّهَا بِمَعْنَى عَنِّي هَذَا لَوْ لَمْ يَجِئْ شَيْءٌ مِنْ أَلْفَاظِ الرِّوَايَاتِ بِلَفْظِ " عَنْ " كَيْ لَا يُنَافِيه الدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ ، فَكَيْفَ وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ صَرَّحَ بِهَا عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ بِالسَّنَدِ الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ ثَعْلَبَةَ ، عَلَى أَنَّ الْمُتَأَمِّلَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ : كُلِّفَ بِكَذَا ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِعْلُهُ يَجُرُّ إلَى التَّنَاقُضِ فَضْلًا عَنْ انْتِفَاءِ الْفَائِدَةِ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ ( قَوْلُهُ

لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا صَدَقَةَ إلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى } ) رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ حَدَّثَنَا يَعْنِي ابْنَ عُبَيْدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا صَدَقَةَ إلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى ، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ } وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ تَعْلِيقًا فِي كِتَابِ الْوَصَايَا مُقْتَصِرًا عَلَى الْجُمْلَةِ الْأُولَى فَقَالَ : وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا صَدَقَةَ إلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى } وَتَعْلِيقَاتُهُ الْمَجْزُومَةُ لَهَا حُكْمُ الصِّحَّةِ .
وَرَوَاهُ مَرَّةً مُسْنَدًا بِغَيْرِ هَذَا اللَّفْظِ ، وَلَفْظَةُ الظَّهْرِ مَقْحَمَةٌ كَظَهْرِ الْقَلْبِ ، وَظَهْرِ الْغَيْبِ فِي الْمُغْرِبِ ( وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ تَجِبُ عَلَى مَنْ يَمْلِكُ زِيَادَةً عَلَى قُوتِ يَوْمِهِ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ ) .
وَمَا رَوَى أَحْمَدُ حَدَّثَنَا عَفَّانَ قَالَ : سَأَلْتُ حَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ عَنْ صَدَقَةِ الْفِطْرِ ، فَحَدَّثَنِي عَنْ نُعْمَانَ بْنِ رَاشِدٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِي صُعَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { أَدُّوا صَاعًا مِنْ قَمْحٍ أَوْ صَاعًا مِنْ بُرٍّ شَكَّ حَمَّادٌ عَنْ كُلِّ اثْنَيْنِ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى حُرٍّ أَوْ مَمْلُوكٍ غَنِيٍّ أَوْ فَقِيرٍ ، وَأَمَّا غَنِيُّكُمْ فَيُزَكِّيهِ اللَّهُ ، وَأَمَّا فَقِيرُكُمْ فَيَرُدُّ اللَّهُ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِمَّا يُعْطِي } فَقَدْ ضَعَّفَهُ أَحْمَدُ بِالنُّعْمَانِ بْنِ رَاشِدٍ وَجَهَالَةِ ابْنِ أَبِي صُعَيْرٍ ، وَلَوْ صَحَّ لَا يُقَاوَمُ مَا رَوَيْنَاهُ فِي الصِّحَّةِ مَعَ أَنَّ مَا لَا يَنْضَبِطُ كَثْرَةً مِنْ الرِّوَايَاتِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى التَّقْسِيمِ الْمَذْكُورِ لَيْسَ فِيهَا الْفَقِيرُ فَكَانَتْ تِلْكَ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ فَلَا تُقْبَلُ خُصُوصًا مَعَ نُبُوٍّ عَنْ قَوَاعِدِ الصَّدَقَاتِ وَالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْهَا (

قَوْلُهُ وَيَتَعَلَّقُ بِهَذَا النِّصَابِ إلَخْ ) وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ أَيْضًا وُجُوبُ نَفَقَةِ ذَوِي الْأَرْحَامِ ، وَتَقَدَّمَ تَحْقِيقُ هَذَا النِّصَابِ ، وَحَدِيثُ فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ قَدَّمْنَاهُ أَوَّلَ الْبَابِ .

قَالَ ( يُخْرِجُ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ ) لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ { فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى } الْحَدِيثَ ( وَ ) يُخْرِجُ عَنْ ( أَوْلَادِهِ الصِّغَارِ ) لِأَنَّ السَّبَبَ رَأْسٌ يُمَوِّنُهُ وَيَلِي عَلَيْهِ لِأَنَّهَا تُضَافُ إلَيْهِ يُقَالُ زَكَاةُ الرَّأْسِ ، وَهِيَ أَمَارَةُ السَّبَبِيَّةِ ، وَالْإِضَافَةُ إلَى الْفِطْرِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ وَقْتُهُ ، وَلِهَذَا تَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الرَّأْسِ مَعَ اتِّحَادِ الْيَوْمِ ، وَالْأَصْلُ فِي الْوُجُوبِ رَأْسُهُ وَهُوَ يُمَوِّنُهُ وَيَلِي عَلَيْهِ فَيَلْحَقُ بِهِ مَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ كَأَوْلَادِهِ الصِّغَارِ لِأَنَّهُ يُمَوِّنُهُمْ وَيَلِي عَلَيْهِمْ ( وَمَمَالِيكِهِ ) لِقِيَامِ الْوِلَايَةِ وَالْمُؤْنَةِ ، وَهَذَا إذَا كَانُوا لِلْخِدْمَةِ وَلَا مَالَ لِلصِّغَارِ ، فَإِنْ كَانَ لَهُمْ مَالٌ يُؤَدِّي مِنْ مَالِهِمْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَجْرَاهُ مَجْرَى الْمُؤْنَةِ فَأَشْبَهَ النَّفَقَةَ .

( قَوْلُهُ وَالسَّبَبُ رَأْسٌ يَمُونُهُ وَيَلِي عَلَيْهِ ) الْمُفِيدُ لِسَبَبِيَّةِ الرَّأْسِ الْمَذْكُورِ لَفْظُ " عَنْ " فِي قَوْلِهِ { عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى } وَكَذَا لَفْظُ " عَلَى " بَعْدَ مَا قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَعْنَى عَنْ اسْتَفَدْنَا مِنْهُ أَنَّ هَذِهِ الصَّدَقَةَ تَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ بِسَبَبِ هَؤُلَاءِ ، وَالْقَطْعُ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَمَّنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَؤُلَاءِ فِي مُؤْنَتِهِ وَوِلَايَتِهِ ، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ بِسَبَبِ عَبْدِ غَيْرِهِ وَوَلَدِهِ ، وَفِي رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ قَالَ فِي آخِرِهِ { مِمَّنْ تَمُونُونَ } وَلَوْ مَانَ صَغِيرًا لِلَّهِ تَعَالَى لَا لِوِلَايَةٍ شَرْعِيَّةٍ لَهُ عَلَيْهِ لَمْ يَجِبْ أَنْ يُخْرِجَ عَنْهُ إجْمَاعًا فَلَزِمَ أَنَّهُمْ السَّبَبُ إذَا كَانُوا بِذَلِكَ الْوَصْفِ ، وَالْمُصَنِّفُ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِالْإِضَافَةِ فِي قَوْلِهِمْ زَكَاةُ الرَّأْسِ وَتَمَامُهُ مَوْقُوفٌ عَلَى كَوْنِ هَذَا التَّرْكِيبِ مَسْمُوعًا مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ ؛ لِأَنَّ السَّبَبِيَّةَ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِوَضْعِهِ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ ، وَبِمَا ذُكِرَ فِي ضِمْنِ تَأْوِيلِ الْإِضَافَةِ فِي قَوْلِهِمْ : زَكَاةُ الرَّأْسِ أَوْ صَدَقَةُ الْفِطْرِ بِأَنَّهَا إلَى الشَّرْطِ لِمَا أَوْجَبَهُ مِنْ تَعَدُّدِ الْوَاجِبِ عِنْدَ اتِّحَادِ الْيَوْمِ وَتَعَدُّدِ الرَّأْسِ ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي اعْتِبَارُ الشَّارِعِ السَّبَبِيَّةَ لِلرَّأْسِ ، وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِتَعَدُّدِ الْوَاجِبِ مَعَ اتِّحَادِ الرَّأْسِ وَتَعَدُّدِ الْوَقْتِ بِاعْتِبَارِ تَكَرُّرِ السِّنِينَ ، فَلَوْ كَانَ السَّبَبُ الرَّأْسَ لَمْ يَتَكَرَّرْ عِنْدَ تَكَرُّرِهَا ، كَالْحَجِّ لَمَّا اتَّحَدَ سَبَبُهُ وَهُوَ الْبَيْتُ لَمْ يَتَكَرَّرْ بِتَكَرُّرِ السِّنِينَ .
وَأُجِيبَ بِمَنْعِهِ وَإِسْنَادِهِ بِتَكَرُّرِ الْوَاجِبِ مَعَ اتِّحَادِ السَّبَبِ وَتَكَرُّرِ الْوَقْتِ فِي الزَّكَاةِ ، فَإِنَّ السَّبَبَ فِيهَا الْمَالُ .
وَالْجَوَابُ : أَنَّ الْمَالَ لَمْ يُعْتَبَرْ سَبَبًا إلَّا بِاعْتِبَارِ النَّمَاءِ وَلَوْ

تَقْدِيرًا ، وَالنَّمَاءُ مُتَكَرِّرٌ نَظَرًا إلَى دَلِيلِهِ وَهُوَ الْحَوْلُ ، فَكَانَ السَّبَبُ وَهُوَ الْمَالُ النَّامِي مُتَكَرِّرًا لِأَنَّهُ بِنَمَاءِ هَذَا الْحَوْلِ غَيَّرَهُ بِالنَّمَاءِ الْآخَرِ فِي الْحَوْلِ الْآخَرِ ، بَلْ الْحَقُّ فِي الْجَوَابِ أَنَّ الْمُدَّعِي أَنَّ تَضَاعُفَ الْوَاجِبِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ عِنْدَ تَعَدُّدِ شَيْءٍ دَلِيلُ سَبَبِيَّةِ الْمُتَعَدِّدِ ، وَأَيْنَ هُوَ مِنْ التَّكَرُّرِ فِي أَوْقَاتٍ مُتَكَرِّرَةٍ فَالثَّابِتُ هُنَاكَ وَاجِبٌ وَاحِدٌ فِي الْوَقْتِ الْوَاحِدِ مَعَ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ ، فَأَنَّى يَكُونُ هَذَا نَقْضًا مُحْوِجًا لِلْجَوَابِ ؟ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ إثْبَاتُ سَبَبِيَّةِ شَيْءٍ لِهَذَا مِثْلُ الِاسْتِدْلَالِ بِالدَّوَرَانِ عَلَى عِلِّيَّةِ شَيْءٍ بِلَا فَرْقٍ ، وَهُوَ غَيْرُ مَرْضِيٍّ عِنْدَنَا فِي مَسَالِكِ الْعِلَّةِ .
فَكَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هُنَا إذْ لَا فَرْقَ ، فَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي إثْبَاتِ السَّبَبِيَّةِ حِينَئِذٍ مَا سَلَكْنَاهُ مِنْ إفَادَةِ السَّمْعِ ، ثُمَّ إعْطَاءِ الضَّابِطِ بِأَنَّهُ رَأْسٌ يَمُونُهُ وَيَلِي عَلَيْهِ ، يَلْزَمُ عَلَيْهِ تَخَلُّفُ الْحُكْمِ عَنْ السَّبَبِ فِي الْجَدِّ إذَا كَانَتْ نَوَافِلُهُ صِغَارًا فِي عِيَالِهِ ، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِخْرَاجُ عَنْهُمْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَدَفَعَهُ بِادِّعَاءِ انْتِفَاءِ جُزْءِ السَّبَبِ بِسَبَبِ أَنَّ وِلَايَةَ الْجَدِّ مُنْتَقِلَةٌ مِنْ الْأَبِ إلَيْهِ ، فَكَانَتْ كَوِلَايَةِ الْوَصِيِّ غَيْرِ قَوِيٍّ إذْ الْوَصِيُّ لَا يَمُونُهُ إلَّا مِنْ مَالِهِ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ ، بِخِلَافِ الْجَدِّ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلصَّبِيِّ مَالٌ فَكَانَ كَالْأَبِ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا مُجَرَّدُ انْتِقَالِ الْوِلَايَةِ وَلَا أَثَرَ لَهُ كَمُشْتَرِي الْعَبْدِ ، وَلَا مُخَلِّصَ إلَّا بِتَرْجِيحِ رِوَايَةِ الْحَسَنِ ، أَنَّ عَلَى الْجَدِّ صَدَقَةَ فِطْرِهِمْ .
وَهَذِهِ مَسَائِلُ يُخَالِفُ فِيهَا الْجَدُّ الْأَبَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَلَا يُخَالِفُهُ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ هَذِهِ وَالتَّبَعِيَّةُ فِي الْإِسْلَامِ وَجَرُّ الْوَلَاءِ وَالْوَصِيَّةِ لِقَرَابَةِ فُلَانٍ ( قَوْلُهُ فَيَلْحَقُ بِهِ ) هَذَا بَيَانُ حُكْمِهِ الْمَنْصُوصِ

يَعْنِي إنَّمَا أَمَرَ الشَّارِعُ بِالْإِخْرَاجِ عَنْ هَؤُلَاءِ لِأَنَّهُمْ فِي مَعْنَاهُ بِمَا قُلْنَا لَا أَنَّهُ إلْحَاقٌ لِإِفَادَةِ حُكْمِهِمْ ، إذْ حُكْمُهُمْ ذَلِكَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ ( قَوْلُهُ يُؤَدِّي مِنْ مَالِهِمْ ) الْأَبُ كَالْوَصِيِّ ، وَكَذَا يُؤَدِّي عَنْ مَمَالِيكِ ابْنِهِ الصَّغِيرِ مِنْ مَالِهِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يُؤَدِّي عَنْ مَمَالِيكِهِ أَصْلًا ، وَالْمَجْنُونُ كَالصَّغِيرِ ( قَوْلُهُ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَجْرَاهُ مَجْرَى الْمُؤْنَةِ فَأَشْبَهَ النَّفَقَةَ ) هَذَا دَلِيلُ قَوْلِهِمَا وَنَفَقَةُ الصَّغِيرِ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ فِي مَالِهِ فَكَذَا هَذَا ، وَالْأَوْلَى كَوْنُ الْمُرَادِ نَفَقَةَ الْأَقَارِبِ لِأَنَّ وَجْهَ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهَا عِبَادَةٌ وَالصَّبِيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا كَالزَّكَاةِ ، وَقَدْ وَجَبَ إخْرَاجُ الْأَبِ عَنْهُ فَيَكُونُ فِي مَالِهِ ، فَيَقُولَانِ فِي جَوَابِهِ ، هِيَ عِبَادَةٌ فِيهَا مَعْنَى الْمُؤْنَةِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَدُّوا عَمَّنْ تَمُونُونَ } إذْ قَدْ قَبِلْنَا هَذَا الْحَدِيثَ ، أَوْ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مِمَّنْ تَمُونُونَ } فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فَأَلْحَقَهَا بِالْمُؤْنَةِ فَكَانَتْ كَنَفَقَةِ الْأَقَارِبِ تَجِبُ فِي مَالِ الصَّغِيرِ إذَا كَانَ غَنِيًّا لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْمُؤْنَةِ وَإِنْ كَانَتْ عِبَادَةً .

( وَلَا يُؤَدِّي عَنْ زَوْجَتِهِ ) لِقُصُورِ الْوِلَايَةِ وَلَا فِي غَيْرِ حُقُوقِ النِّكَاحِ وَلَا يُمَوِّنُهَا فِي غَيْرِ الرَّوَاتِبِ كَالْمُدَاوَاةِ .
( وَلَا عَنْ أَوْلَادِ الْكِبَارِ وَإِنْ كَانُوا فِي عِيَالِهِ ) لِانْعِدَامِ الْوِلَايَةِ وَلَوْ أَدَّى عَنْهُمْ أَوْ عَنْ زَوْجَتِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِمْ أَجْزَأَهُ اسْتِحْسَانًا لِثُبُوتِ الْإِذْنِ عَادَةً .
( قَوْلُهُ أَجْزَأَهُ اسْتِحْسَانًا ) وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ الْعَادَةُ .
وَالثَّابِتُ عَادَةً كَالثَّابِتِ بِالنَّصِّ فِيمَا فِيهِ مَعْنَى الْمُؤْنَةِ .
بِخِلَافِ مَا هُوَ عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ كَالزَّكَاةِ لَا تَسْقُطُ عَنْهَا إلَّا بِإِذْنِهَا صَرِيحًا إذْ لَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الطَّاعَةِ وَالِابْتِلَاءِ إلَّا بِهِ .
وَفِيهِ نَظَرٌ .
فَإِنَّ مَعْنَى الْمُؤْنَةِ لَا يَنْفِي مَا فِيهِ الْعِبَادَةُ الْمُتَفَرِّعَةُ عَنْ الِابْتِلَاءِ وَاخْتِيَارِ الطَّاعَةِ مِنْ الْمُخَالَفَةِ ، فَإِنْ ادَّعَى أَنَّ ذَلِكَ تَابِعٌ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ مَنَعْنَاهُ ، وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْغَالِبَ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ .
نَعَمْ إنْ أَمْكَنَ أَنْ يُوَجَّهَ هَكَذَا بِأَنَّ الثَّابِتَ عَادَةً لَمَّا كَانَ كَالثَّابِتِ نَصًّا كَانَ أَدَاؤُهُ مُتَضَمِّنًا اخْتِيَارَهَا وَنِيَّتَهَا ، وَبِخِلَافِ الزَّكَاةِ فَإِنَّهَا لَا عَادَةَ فِيهَا ، وَلَوْ قُدِّرَ فِيهَا عَادَةٌ قُلْنَا بِالْإِجْزَاءِ فِيهَا أَيْضًا لَكِنَّهَا مُنْتَفِيَةٌ فِيهَا ثُمَّ الْوَجْهُ وَإِلَّا فَلَا

( وَلَا ) يُخْرِجُ ( عَنْ مُكَاتَبِهِ ) لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ وَلَا الْمُكَاتَبِ عَنْ نَفْسِهِ لِفَقْرِهِ .
وَفِي الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ وِلَايَةُ الْمَوْلَى ثَابِتَةٌ فَيُخْرِجُ عَنْهُمَا .

( وَلَا ) يُخْرِجُ ( عَنْ مَمَالِيكِهِ لِلتِّجَارَةِ ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّ عِنْدَهُ وُجُوبَهَا عَلَى الْعَبْدِ وَوُجُوبَ الزَّكَاةِ عَلَى الْمَوْلَى فَلَا تَنَافِي ، وَعِنْدَنَا وُجُوبُهَا عَلَى الْمَوْلَى بِسَبَبِهِ كَالزَّكَاةِ فَيُؤَدِّي إلَى الثَّنْيِ
( قَوْلُهُ فَيُؤَدِّي إلَى الثَّنْيِ ) هُوَ مَكْسُورُ الْمُثَلَّثَةِ مَقْصُورًا ، وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّ الثَّنْيَ عِبَارَةٌ عَنْ تَثْنِيَةِ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ ، وَهُوَ مُنْتَفٍ لِاخْتِلَافِ الْوَاجِبِينَ كَمًّا وَسَبَبًا فَإِنَّهُ فِي الْفِطْرِ الرَّأْسُ ، وَفِي الزَّكَاةِ مَالِيَّتُهَا لَا هِيَ نَفْسُهَا وَمَحَلًّا ، فَفِي الْفِطْرِ الذِّمَّةُ حَتَّى لَا تَسْقُطَ بِعُرُوضِ الْفَقْرِ بَعْدَ الْوُجُوبِ ، وَفِي الزَّكَاةِ الْمَالُ حَتَّى تَسْقُطَ بِهِ بِأَنْ هَلَكَ الْمَالُ فَلَا ثَنْيَ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَزِمَ قَبُولُهُ بَعْدَ لُزُومِهِ شَرْعًا بِثُبُوتِهِ بِالدَّلِيلِ الْمُوجِبِ لِلزَّكَاةِ مُطْلَقًا ، وَالدَّلِيلُ الْمُوجِبُ لِلْفِطْرَةِ مُطْلَقًا وَعَدَمِ ثُبُوتِ نَافِيهِ .
وَقِيلَ فِي الْوَجْهِ غَيْرُ مَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ وَهُوَ أَنَّ الِانْتِفَاءَ لِانْتِفَاءِ السَّبَبِ لِأَنَّهُ لَيْسَ رَأْسًا أُعِدَّ لِلْمُؤْنَةِ بَلْ مِنْ ضَرُورَةِ بَقَائِهِ فَيَحْصُلُ مَقْصُودُهُ مِنْ الرِّبْحِ فِي التِّجَارَةِ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَمْ يَقُمْ الدَّلِيلُ سِوَى عَلَى أَنَّ السَّبَبَ رَأْسٌ يَمُونُهُ .
.
.
إلَخْ لَا يُفِيدُ كَوْنَهُ أُعِدَّ لَأَنْ يُمَانَ ، غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ الرَّأْسَ الْوَاحِدَ جُعِلَتْ سَبَبًا فِي الزَّكَاةِ بِاعْتِبَارِ مَالِيَّتِهَا وَفِي صَدَقَةٍ أُخْرَى بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْمُؤْنَةِ وَالْوِلَايَةِ عَلَيْهِ وَلَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ .

( وَالْعَبْدُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ لَا فِطْرَةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا ) لِقُصُورِ الْوِلَايَةِ وَالْمُؤْنَةِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ( وَكَذَا الْعَبِيدُ بَيْنَ اثْنَيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) وَقَالَا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا يَخُصُّهُ مِنْ الرُّءُوسِ دُونَ الْأَشْقَاصِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يَرَى قِسْمَةَ الرَّقِيقِ وَهُمَا يَرَيَانِهِمَا ، وَقِيلَ : هُوَ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ النَّصِيبُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَلَمْ تَتِمَّ الرَّقَبَةُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ( وَيُؤَدِّي الْمُسْلِمُ الْفِطْرَةَ عَنْ عَبْدِهِ الْكَافِرِ ) لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ أَوْ مَجُوسِيٍّ } الْحَدِيثَ وَلِأَنَّ السَّبَبَ قَدْ تَحَقَّقَ وَالْمَوْلَى مِنْ أَهْلِهِ ، وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ الْوُجُوبَ عِنْدَهُ عَلَى الْعَبْدِ ، وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ ، وَلَوْ كَانَ عَلَى الْعَكْسِ فَلَا وُجُوبَ بِالِاتِّفَاقِ .

( قَوْلُهُ لِقُصُورِ الْوِلَايَةِ وَالْمُؤْنَةِ ) يَعْنِي أَنَّ السَّبَبَ هُوَ رَأْسٌ عَلَيْهِ مُؤْنَتُهُ ، لِأَنَّ الْمُفَادَ بِالنَّصِّ مِنْ قَوْلِهِ { مِمَّنْ تَمُونُونَ } مِمَّنْ عَلَيْكُمْ مُؤْنَتُهُ ، وَلَيْسَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا مُؤْنَتُهُ ، بَلْ بَعْضُهَا وَبَعْضُ الشَّيْءِ لَيْسَ إيَّاهُ ، وَلَا سَبَبَ إلَّا هَذَا فَعِنْدَ انْتِفَائِهِ يَبْقَى عَلَى الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ لَا أَنَّ الْعَدَمَ يُؤَثِّرُ شَيْئًا .
( قَوْلُهُ وَقَالَا ) هَذَا بِنَاءً عَلَى كَوْنِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ كَقَوْلِ مُحَمَّدٍ بَلْ الْأَصَحُّ أَنَّ قَوْلَهُ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ ، ثُمَّ أَبُو حَنِيفَةَ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ مِنْ عَدَمِ جَوَازِ قِسْمَةِ الرَّقِيقِ جَبْرًا وَلَمْ يَجْتَمِعْ لِوَاحِدٍ مَا يُسَمَّى رَأْسًا ، وَمُحَمَّدٌ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ مِنْ جَوَازِ ذَلِكَ ، وَأَبُو يُوسُفَ مَعَ مُحَمَّدٍ فِي الْقِسْمَةِ ، وَمَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ ، لِأَنَّ ثُبُوتَ الْقِسْمَةِ بِنَاءً عَلَى الْمَالِكِ ، وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ بِاعْتِبَارِ الْمُؤْنَةِ عَنْ وِلَايَةٍ لَا بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ ، وَلِذَا تَجِبُ عَنْ الْوَالِدِ وَلَا مِلْكَ وَلَا تَجِبُ عَنْ الْآبِقِ مَعَ الْمِلْكِ فِيهِ ، وَلَوْ سُلِّمَ فَجَوَازُ الْقِسْمَةِ لَيْسَ عِلَّةً تَامَّةً لِثُبُوتِهَا ، وَكَلَامُنَا فِيمَا قَبْلَهَا وَقَبْلَهَا لَمْ يَجْتَمِعْ فِي مِلْكِ أَحَدٍ رَأْسٌ كَامِلٌ .
وَقَدْ قِيلَ : إنَّ الْوُجُوبَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ عَلَى الْعَبْدِ وَفِيهِ نَظَرٌ .
فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ لَمْ يَخْتَلِفْ الْحَالُ بَيْنَ الْعَبِيدِ وَالْعَبْدِ الْوَاحِدِ فَكَانَ يَجِبُ عَلَى سَيِّدَيْ الْعَبْدِ الْوَاحِدِ ، وَلَا يَجِبُ عَلَى سَيِّدِ الْعَبْدِ الْكَافِرِ ، كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ .
وَعَنْ هَذَا قِيلَ : هُوَ أَعْنِي عَدَمَ الْوُجُوبِ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ فِي الْعَبِيدِ بِالْإِجْمَاعِ أَيْ بِالِاتِّفَاقِ ، وَلَوْ كَانَ لَهُمَا جَارِيَةٌ مُشْتَرَكَةٌ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَيَاهُ أَوْ ادَّعَيَا لَقِيطًا لَا تَجِبُ عَلَيْهِمَا عَنْ الْأُمِّ لِمَا قُلْنَا وَتَجِبُ عَنْ الْوَلَدِ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا فِطْرَةٌ كَامِلَةٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ الْبُنُوَّةَ ثَابِتَةٌ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا

كَمُلَا إذْ ثُبُوتُ النَّسَبِ لَا يَتَجَزَّأُ ، وَلِهَذَا لَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا كَانَ وَلَدًا لِلْبَاقِي مِنْهُمَا .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : عَلَيْهِمَا صَدَقَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ لَهُمَا وَالْمُؤْنَةَ عَلَيْهِمَا فَكَذَا الصَّدَقَةُ لِأَنَّهَا قَابِلَةٌ لِلتَّجَزُّؤِ وَالْمُؤْنَةِ ، وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُوسِرًا وَالْآخَرُ مُعْسِرًا أَوْ مَيِّتًا فَعَلَى الْآخَرِ صَدَقَةٌ تَامَّةٌ عِنْدَهُمَا ، وَلَوْ كَانَ لَهُ عَبْدٌ آبِقٌ أَوْ مَأْسُورٌ أَوْ مَغْصُوبٌ مَجْحُودٌ وَلَا بَيِّنَةَ فَحَلَفَ لِلْغَاصِبِ فَعَادَ الْآبِقُ ، وَرُدَّ الْمَغْصُوبُ بَعْدَ يَوْمِ الْفِطْرِ كَانَ عَلَيْهِ صَدَقَةُ مَا مَضَى ، وَيُؤَدِّي عَنْ عَبْدِهِ الْمَرْهُونِ إذَا كَانَ فِيهِ وَفَاءٌ : يَعْنِي وَلَهُ نِصَابٌ ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ حَتَّى يَفْتَكَّهُ فَإِذَا افْتَكَّهُ أَعْطَى لِمَا مَضَى ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ فِطْرَةُ عَبْدِهِ الْمُسْتَأْجَرِ وَالْمَأْذُونِ ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَغْرَقًا بِالدَّيْنِ ، وَلَا تَجِبُ عَنْ عَبْدِ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ عَلَى الْمَأْذُونِ دَيْنٌ لَا يَمْلِكُ الْمَوْلَى عَبْدَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَهُوَ لِلتِّجَارَةِ ، فَلَوْ اشْتَرَاهُ الْمَأْذُونُ لِلْخِدْمَةِ وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ فَعَلَى الْمَوْلَى فِطْرَتُهُ ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَعَلَى الْخِلَافِ فِي مِلْكِ الْمَوْلَى لِلْإِكْسَابِ وَعَدَمِهِ وَفِي الْعَبْدِ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ عَلَى مَالِكِ الرَّقَبَةِ ، وَكَذَا الْعَبْدُ الْمُسْتَعَارُ الْوَدِيعَةُ وَالْجَانِي عَمْدًا أَوْ خَطَأً ، وَمَا وَقَعَ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ ، وَالْعَبْدُ الْمُوصَى بِرَقَبَتِهِ لِإِنْسَانٍ لَا تَجِبُ فِطْرَتُهُ مِنْ سَهْوِ الْقَلَمِ ، وَلَوْ بِيعَ الْعَبْدُ بَيْعًا فَاسِدًا فَمَرَّ يَوْمُ الْفِطْرِ قَبْلَ قَبْضِهِ ثُمَّ قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي وَأَعْتَقَهُ فَالْفِطْرَةُ عَلَى الْبَائِعِ ، وَكَذَا لَوْ مَرَّ يَوْمُ الْفِطْرِ وَهُوَ مَقْبُوضُ الْمُشْتَرِي ، ثُمَّ اسْتَرَدَّهُ الْبَائِعُ ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَرِدَّهُ وَأَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي أَوْ بَاعَهُ فَالصَّدَقَةُ عَلَى الْمُشْتَرِي لِتَقَرُّرِ مِلْكِهِ .
( قَوْلُهُ لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا ) اسْتَدَلَّ

بِأَمْرَيْنِ ثَانِيهِمَا ضَعِيفٌ عِنْدَ أَهْلِ النَّقْلِ فَيَبْقَى الْأَوَّلُ سَالِمًا ، أَمَّا الْحَدِيثُ ، فَهُوَ مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَدُّوا صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَنْ كُلِّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ حُرٍّ أَوْ مَمْلُوكٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ } وَهُوَ ضَعِيفٌ بَلْ عُدَّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ مِنْ قِبَلِ سَلَّامٍ الطَّوِيلِ فَإِنَّهُ مَتْرُوكٌ مَرْمِيٌّ بِالْوَضْعِ وَقَدْ تَفَرَّدَ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ وَلَفْظُهُ مَجُوسِيٌّ لَمْ تُعْلَمْ مَرْوِيَّةٌ ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَإِنَّ الْإِطْلَاقَ فِي الْعَبْدِ فِي الصَّحِيحِ يُوجِبُهَا فِي الْكَافِرِ وَالتَّقْيِيدُ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا بِقَوْلِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَا يُعَارِضُهُ لِمَا عُرِفَ مِنْ عَدَمِ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي الْأَسْبَابِ لِأَنَّهُ تَزَاحُمٌ فِيهَا فَيُمْكِنُ بِهِمَا فَيَكُونُ كُلٌّ مِنْ الْمُقَيَّدِ وَالْمُطْلَقِ سَبَبًا بِخِلَافِ وُرُودِهِمَا فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ ، وَكُلُّ مَنْ قَالَ بِأَنَّ إفْرَادَ فَرْدٍ مِنْ الْعَامِّ لَا يُوجِبُ التَّخْصِيصَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَقُولَ إنَّ تَعْلِيقَ حُكْمٍ بِمُطْلَقٍ ثُمَّ تَعْلِيقَهُ بِعَيْنِهِ بِمُقَيَّدٍ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ الْمُطْلَقَ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ ، نَعَمْ إذَا لَمْ يُمْكِنْ الْعَمَلُ بِهِمَا صُيِّرَ إلَيْهِ ضَرُورَةً .

( وَمَنْ بَاعَ عَبْدًا وَأَحَدُهُمَا بِالْخِيَارِ فَفِطْرَتُهُ عَلَى مَنْ يَصِيرُ لَهُ ) مَعْنَاهُ إذَا مَرَّ يَوْمُ الْفِطْرِ وَالْخِيَارُ بَاقٍ ، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ : عَلَى مَنْ لَهُ الْخِيَارُ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ لَهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : عَلَى مَنْ لَهُ الْمِلْكُ لِأَنَّهُ مِنْ وَظَائِفِهِ كَالنَّفَقَةِ ، وَلَنَا أَنَّ الْمِلْكَ مَوْقُوفٌ لِأَنَّهُ لَوْ رُدَّ إلَى قَدِيمِ مِلْكِ الْبَائِعِ وَلَوْ أُجِيزَ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ فَيَتَوَقَّفُ مَا يَبْتَنِي عَلَيْهِ بِخِلَافِ النَّفَقَةِ لِأَنَّهَا لِلْحَاجَةِ النَّاجِزَةِ فَلَا تَقْبَلُ التَّوَقُّفَ ، وَزَكَاةُ التِّجَارَةِ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ .

( قَوْلُهُ : وَأَحَدُهُمَا بِالْخِيَارِ ) أَوْ كَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا وَمَرَّ يَوْمُ الْفِطْرِ وَالْخِيَارُ بَاقٍ تَجِبُ عَلَى مَنْ يَصِيرُ الْعَبْدُ لَهُ فَإِنْ تَمَّ الْبَيْعُ فَعَلَى الْمُشْتَرِي ، وَإِنْ فُسِخَ فَعَلَى الْبَائِعِ ، وَقَالَ زُفَرُ : تَجِبُ عَلَى مَنْ لَهُ الْخِيَارُ كَيْفَمَا كَانَ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ لَهُ ، وَالزَّوَالَ فِي اخْتِيَارِهِ فَلَا يُعْتَبَرُ فِي حُكْمٍ عَلَيْهِ كَالْمُقِيمِ إذَا سَافَرَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ حَيْثُ لَا يُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِأَنَّ إنْشَاءَهُ بِاخْتِيَارِهِ فَلَا يُعْتَبَرُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : عَلَى مَنْ لَهُ الْمِلْكُ لِأَنَّهُ مِنْ وَظَائِفِهِ كَالنَّفَقَةِ .
وَلَنَا أَنَّ الْمِلْكَ وَالْوِلَايَةَ مَوْقُوفَانِ فَيَتَوَقَّفُ مَا يُبْنَى عَلَيْهِمَا ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ فُسِخَ يَعُودُ إلَى قَدِيمِ مِلْكِ الْبَائِعِ ، وَلَوْ أُجِيزَ يَسْتَنِدُ الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي إلَى وَقْتِ الْعَقْدِ حَتَّى يَسْتَحِقَّ بِهِ الزَّوَائِدَ الْمُتَّصِلَةَ وَالْمُنْفَصِلَةَ ، وَزَكَاةُ التِّجَارَةِ عَلَى هَذَا بِأَنْ اشْتَرَاهُ لِلتِّجَارَةِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ فَتَمَّ الْحَوْلُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ فَعِنْدَنَا يُضَمُّ إلَى مَنْ يَصِيرُ لَهُ إنْ كَانَ عِنْدَهُ نِصَابٌ فَيُزَكِّيهِ مَعَ نِصَابِهِ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَيْعِ خِيَارٌ ، وَلَمْ يَقْبِضْهُ الْمُشْتَرِي حَتَّى مَضَى يَوْمُ الْفِطْرِ فَقَبَضَهُ فَالْفِطْرَةُ عَلَى الْمُشْتَرِي ، وَلَوْ مَاتَ قَبْلَ قَبْضِهِ لَا صَدَقَةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِقُصُورِ مِلْكِ الْمُشْتَرِي ، وَعَوْدُهُ إلَى الْبَائِعِ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ فَكَانَ كَالْآبِقِ بَلْ أَشَدَّ ، وَلَوْ رَدَّهُ قَبْلَ الْقَبْضِ بِخِيَارِ عَيْبٍ أَوْ رُؤْيَةٍ بِقَضَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ فَعَلَى الْبَائِعِ لِأَنَّهُ عَادَ إلَيْهِ قَدِيمُ مِلْكِهِ مُنْتَفِعًا بِهِ وَبَعْدَ الْقَبْضِ عَلَى الْمُشْتَرِي ، لِأَنَّهُ زَالَ مِلْكُهُ بَعْدَ تَمَامِهِ وَتَأَكُّدِهِ .

فَصْلٌ فِي مِقْدَارِ الْوَاجِبِ وَوَقْتِهِ ( الْفِطْرَةُ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ دَقِيقٍ أَوْ سَوِيقٍ أَوْ زَبِيبٍ أَوْ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، الزَّبِيبُ بِمَنْزِلَةِ الشَّعِيرِ ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَالْأَوَّلُ رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ صَاعٌ لِحَدِيثِ { أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : كُنَّا نُخْرِجُ ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
وَلَنَا مَا رَوَيْنَا وَهُوَ مَذْهَبُ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فِيهِمْ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ ، وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى الزِّيَادَةِ تَطَوُّعًا .
وَلَهُمَا فِي الزَّبِيبِ أَنَّهُ وَالتَّمْرُ يَتَقَارَبَانِ فِي الْمَقْصُودِ ، وَلَهُ أَنَّهُ وَالْبُرُّ يَتَقَارَبَانِ فِي الْمَعْنَى لِأَنَّهُ يُؤْكَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كُلُّهُ ، بِخِلَافِ الشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُؤْكَلُ وَيُلْقَى مِنْ التَّمْرِ النَّوَاةُ وَمِنْ الشَّعِيرِ النُّخَالَةُ ، وَبِهَذَا ظَهَرَ التَّفَاوُتُ بَيْنَ الْبُرِّ وَالتَّمْرِ ، وَمُرَادُهُ مِنْ الدَّقِيقِ وَالسَّوِيقِ مَا يُتَّخَذُ مِنْ الْبُرِّ ، أَمَّا دَقِيقُ الشَّعِيرِ فَكَالشَّعِيرِ ، الْأَوْلَى أَنْ يُرَاعَى فِيهِمَا الْقَدْرُ وَالْقِيمَةُ احْتِيَاطًا ، وَإِنْ نَصَّ عَلَى الدَّقِيقِ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ ، وَلَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ اعْتِبَارًا لِلْغَالِبِ .

( فَصْلٌ فِي مِقْدَارِ الْوَاجِبِ وَوَقْتِهِ ) .
( قَوْلُهُ : أَوْ دَقِيقٍ أَوْ سَوِيقٍ ) أَيْ دَقِيقِ الْبُرِّ وَسَوِيقِهِ ، أَمَّا دَقِيقُ الشَّعِيرِ وَسَوِيقُهُ فَمُعْتَبَرٌ بِالشَّعِيرِ ( قَوْلُهُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ) رَوَاهَا الْحَسَنُ عَنْهُ وَصَحَّحَهَا أَبُو الْيُسْرِ لِمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ تَقْدِيرِهَا بِصَاعٍ كَمَا سَتَقِفُ عَلَيْهِ عَنْ قَرِيبٍ ، وَدَفْعُ الْخِلَافِ بَيْنَهُمْ بِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِعِزَّةِ الزَّبِيبِ فِي زَمَانِهِ كَالْحِنْطَةِ لَا يَقْوَى لِأَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَى قَدْرٍ فِيهِ لَا يَنْقُصُ عَنْ ذَلِكَ الْقَدْرِ فِيهِ نَفْسِهِ بِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ .
( قَوْلُهُ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ ) اعْلَمْ أَنَّ الْأَحَادِيثَ وَالْآثَارَ تَعَارَضَتْ فِي مِقْدَارِ الْحِنْطَةِ وَلَا بَأْسَ بِسَوْقِ نُبْذَةٍ مِنْهَا لِنُطْلِعكَ عَلَى الْحَالِ ، أَمَّا مَا مِنْ طَرَفِنَا فَسَيَأْتِي مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ ، وَأَمَّا مَا مِنْ طَرَفِ الْمُخَالِفِ لَنَا فَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ كُنَّا نَخْرُجُ إذْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ عَنْ كُلِّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ حُرٍّ أَوْ مَمْلُوكٍ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ .
أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ .
فَلَمْ نَزَلْ نُخْرِجُهُ حَتَّى قَدِمَ مُعَاوِيَةُ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا ، فَكَلَّمَ النَّاسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَكَانَ فِيمَا كَلَّمَ بِهِ النَّاسَ أَنْ قَالَ : إنِّي أَرَى أَنَّ مُدَّيْنِ مِنْ سَمْرَاءِ الشَّامِ تَعْدِلُ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ ، فَأَخَذَ النَّاسُ بِذَلِكَ .
قَالَ أَبُو سَعِيدٍ : أَمَّا أَنَا فَلَا أَزَالُ أُخْرِجُهُ كَمَا كُنْت أُخْرِجُهُ .
رَوَاهُ السِّتَّةُ مُخْتَصَرًا وَمُطَوَّلًا .
وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِلَفْظَةِ طَعَامٍ فَإِنَّهَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَتَبَادَرُ مِنْهَا الْبُرُّ ، وَأَيْضًا فَقَدْ عُطِفَ عَلَيْهِ هُنَا التَّمْرُ وَالشَّعِيرُ وَغَيْرُهُمَا فَلَمْ يَبْقَ مُرَادُهُ مِنْهُ إلَّا الْحِنْطَةُ ، وَلِأَنَّهُ أَبَى أَنْ يُخْرِجَ نِصْفَ صَاعٍ مِنْهُ وَقَالَ : لَا أَزَالُ أُخْرِجُهُ كَمَا كُنْت أُخْرِجُهُ ، فَدَلَّ أَنَّهُ كَانَ

يُخْرِجُ مِنْهُ صَاعًا ، وَأَيْضًا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْحَاكِمِ عَنْهُ { صَاعًا مِنْ حِنْطَةٍ } ، وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ أَيْضًا عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : قَالَ أَبُو سَعِيدٍ : وَذَكَرَ عِنْدَهُ وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ فَقَالَ : لَا أُخْرِجُ إلَّا مَا كُنْتُ أُخْرِجُهُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : أَوْ مُدَّيْنِ مِنْ قَمْحٍ ، فَقَالَ : لَا تِلْكَ قِيمَةُ مُعَاوِيَةَ لَا أَقْبَلُهَا وَلَا أَعْمَلُ بِهَا وَصَحَّحَهُ .
وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ بُرٍّ } الْحَدِيثَ وَصَحَّحَهُ .
وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ مُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ عَنْ أَيُّوبَ إلَى ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَرَضَ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالْحُرِّ وَالْعَبْدِ صَدَقَةَ رَمَضَانَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ وَأَخْرَجَ الطَّحَاوِيُّ فِي الْمُشْكِلِ عَنْ ابْنِ شَوْذَبٍ عَنْ أَيُّوبَ يَبْلُغُ بِهِ إلَى ابْنِ عُمَرَ فَرَضَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَدَقَةَ الْفِطْرِ إلَى أَنْ قَالَ : أَوْ صَاعًا مِنْ بُرٍّ ، قَالَ : ثُمَّ عَدَلَ النَّاسُ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ بِصَاعٍ مِمَّا سِوَاهُ .
وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَضَّ عَلَى صَدَقَةِ رَمَضَانَ عَلَى كُلِّ إنْسَانٍ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعٍ مِنْ شَعِيرٍ أَوْ صَاعٍ مِنْ قَمْحٍ } وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ { ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ أُمِرْنَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ نُعْطِيَ صَدَقَةَ رَمَضَانَ عَنْ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ وَالْحُرِّ وَالْمَمْلُوكِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ ، مَنْ أَدَّى بُرًّا قُبِلَ مِنْهُ ، وَمَنْ أَدَّى شَعِيرًا قُبِلَ مِنْهُ } الْحَدِيثَ ، وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ { فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ ، وَفِيهِ

أَوْ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ } .
وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَخْرِجُوا زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ } قَالَ : وَطَعَامُنَا يَوْمَئِذٍ الْبُرُّ وَالتَّمْرُ وَالزَّبِيبُ وَالْأَقِطُ .
وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ عَنْ كُلِّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ صَاعُ بُرٍّ أَوْ صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ } ( قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَلَنَا مَا رَوَيْنَا إلَخْ ) يُرِيدُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ ، وَقَدْ قَدَّمْنَا بَعْضَ طُرُقِهِ الصَّحِيحَةِ ، وَأَنَّهُ يُفِيدُ أَنَّ الْوَاجِبَ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ .
وَالْجَوَابُ عَمَّا أَوْرَدَ ، أَمَّا الْأَخِيرُ فَالْحَارِثُ لَا يُحْتَجُّ بِهِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ ، فَفِي رِوَايَتِهِ { أَوْ نِصْفَ صَاعٍ } وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالطَّحَاوِيُّ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ : صَدَقَةُ الْفِطْرِ عَلَى مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ نَفَقَتُك نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ أَوْ تَمْرٍ فَانْدَفَعَ .
وَأَمَّا مَا يَلِيهِ فَضَعِيفٌ جِدًّا بِعُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ صَهْبَانَ مَتْرُوكٌ ، قَالَهُ النَّسَائِيّ وَالرَّازِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيّ .
وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ : لَا يُسَاوِي فَلْسًا ، وَقَالَ أَحْمَدُ : لَيْسَ بِشَيْءٍ فَانْدَفَعَ .
وَأَمَّا مَا يَلِيهِ فَضَعِيفٌ جِدًّا بِكَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مَجْمَعٌ عَلَى تَضْعِيفِهِ .
وَنَفْسُ الشَّافِعِيِّ قَالَ : فِيهِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْكَذِبِ فَانْدَفَعَ ، وَأَمَّا مَا يَلِيهِ فَمُنْقَطِعٌ لِأَنَّ ابْنَ سِيرِينَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ شَيْئًا ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ فِيهِ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ وَهُمْ يُضَعِّفُونَ بِمِثْلِ هَذَا .
وَأَمَّا مَا يَلِيهِ فَفِيهِ سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ اُخْتُلِفَ فِيهِ ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ : وَالْأَكْثَرُ عَلَى تَضْعِيفِهِ فِي الرِّوَايَةِ عَنْ الزُّهْرِيِّ ، وَقَدْ رَوَى هَذَا

الْحَدِيثَ عَنْ الزُّهْرِيِّ .
وَأَمَّا مَا يَلِيهِ فَقَالَ الطَّحَاوِيُّ : لَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ أَيُّوبَ تَابَعَ بْنَ شَوْذَبٍ عَلَى زِيَادَةِ الْبُرِّ فِيهِ ، وَقَدْ خَالَفَهُ حَمَّادُ بْنُ زَيْدِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ أَيُّوبَ وَكُلٌّ مِنْهُمَا حُجَّةٌ عَلَيْهِ فَكَيْفَ وَقَدْ اجْتَمَعَا ، وَأَيْضًا فَفِي حَدِيثِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى خَطَئِهِ وَهُوَ قَوْلُ : ثُمَّ عَدَلَ النَّاسُ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ بِصَاعٍ مِمَّا سِوَاهُ ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَعْدِلُوا صِنْفًا مَفْرُوضًا بِبَعْضِ صِنْفٍ مَفْرُوضٍ مِنْهُ ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يُعْدَلَ الْمَفْرُوضُ بِمَا لَيْسَ بِمَفْرُوضٍ ا هـ .
لَكِنْ قَدْ تَابَعَهُ مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ عَنْ أَيُّوبَ فِي رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ ، وَهِيَ الَّتِي تَلِي رِوَايَةَ الطَّحَاوِيِّ فِيمَا كَتَبْنَاهُ مَعَ عَدَمِ ذِكْرِ تِلْكَ الزِّيَادَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْفَسَادِ ، لَكِنَّ مُبَارَكًا لَا يَعْدِلُ حَمَّادَ بْنَ سَلَمَةَ فَإِنَّهُ اُخْتُلِفَ فِيهِ ، ضَعَّفَهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ ، وَوَثَّقَهُ عَفَّانَ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ ، وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ : يُدَلِّسُ كَثِيرًا فَإِذَا قَالَ : حَدَّثَنَا فَهُوَ ثِقَةٌ ، وَاَلَّذِي رَأَيْته هَكَذَا عَنْ مُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ عَنْ أَيُّوبَ .
وَأَمَّا مَا يَلِيهِ : أَعْنِي رِوَايَةَ الْحَاكِمِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فَفِيهِ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، ضَعَّفَهُ ابْنُ حِبَّانَ ، لَكِنْ وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ ، وَأَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ إلَّا أَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ كَانَ يَهِمُ فِي الشَّيْءِ كَمَا قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ ، وَحَدِيثُهُ ، هَذَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ يَدُلُّ عَلَى الْخَطَأِ فِيهِ ، لَا أَعْنِي خَطَأَهُ هُوَ بَلْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمُنْشِئِهِ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالْحُرِّ وَالْمَمْلُوكِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ } فَعَدَلَ النَّاسُ بِهِ مُدَّيْنِ مِنْ حِنْطَةٍ .
فَصَرَّحَ بِأَنَّ مُدَّيْنِ مِنْ قَمْحٍ إنَّمَا عَلِمَهُ ابْنُ عُمَرَ مِنْ تَعْدِيلِ النَّاسِ بِهِ بَعْدَ رَسُولِ

اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلَّا لَرَفَعَهُ ، وَبِنَفْسِ هَذَا رَدَّ الْبَيْهَقِيُّ عَلَى مَا رَوَاهُ هُوَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ { أَمَرَ عَمْرَو بْنَ حَزْمٍ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ بِنِصْفِ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ أَوْ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ } فَقَالَ كَيْفَ يَصِحُّ ؟ وَرِوَايَةُ الْجَمَاعَةِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ تَعْدِيلَ الصَّاعِ بِمُدَّيْنِ مِنْ حِنْطَةٍ إنَّمَا كَانَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فَرِوَايَةُ الْحَاكِمِ فِيهِ صَاعًا مِنْ حِنْطَةٍ لَيْسَتْ صَحِيحَةً ، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهَا أَبُو دَاوُد حَيْثُ قَالَ : وَذُكِرَ فِيهِ رَجُلٌ وَاحِدٌ عَنْ ابْنِ عُلَيَّةَ أَوْ صَاعٌ مِنْ حِنْطَةٍ وَلَيْسَ بِمَحْظُوظٍ ، وَذَكَرَ مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ وَهُوَ وَهْمٌ مِنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ هِشَامٍ أَوْ مِمَّنْ رَوَاهُ عَنْهُ ا هـ .
وَقَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ فَذِكْرُ الْحِنْطَةِ فِي هَذَا الْخَبَرِ غَيْرُ مَحْفُوظٍ ، وَلَا أَدْرِي مِمَّنْ الْوَهْمُ ، وَقَوْلُ الرَّجُلِ لَهُ أَوْ مُدَّيْنِ مِنْ قَمْحٍ دَالٌّ عَلَى أَنَّ ذِكْرَ الْحِنْطَةِ أَوَّلَ الْخَبَرِ خَطَأٌ إذْ لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ أَوْ مُدَّيْنِ مِنْ قَمْحٍ مَعْنًى ا هـ .
وَأَمَّا بِدُونِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ كَمَا هُوَ رِوَايَةُ الْجَمَاعَةِ فَدَلِيلٌ لَنَا فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي مُوَافَقَةِ النَّاسِ لِمُعَاوِيَةَ وَالنَّاسُ إذْ ذَاكَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ ، فَلَوْ كَانَ عِنْدَ أَحَدِهِمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقْدِيرُ الْحِنْطَةِ بِصَاعٍ لَمْ يَسْكُتْ ، وَلَمْ يُعَوِّلْ عَلَى رَأْيِهِ أَحَدٌ ، إذْ لَا يُعَوَّلُ عَلَى الرَّأْيِ مَعَ مُعَارِضَةِ النَّصِّ لَهُ فَدَلَّ أَنَّهُ لَمْ يَحْفَظْ أَحَدٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّنْ حَضَرَهُ خِلَافَهُ ، وَيَلْزَمُهُ أَنَّ مَا ذَكَرَ أَبُو سَعِيدٍ مَا ذَكَرَ مِنْ قَوْلِهِ " مَعَ بَعْضِهِمْ " مِنْ إخْرَاجِ صَاعٍ مِنْ طَعَامٍ لَمْ يَكُنْ عَنْ أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ وَلَا مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُمْ

يَفْعَلُونَهُ عَلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ ، بَلْ إمَّا مَعَ عَدَمِ عِلْمِهِ أَوْ مَعَ وُجُودِهِ وَعِلْمِهِ بِأَنْ فَعَلَ الْبَعْضُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الزِّيَادَةِ تَطَوُّعًا ، هَذَا بَعْدَ تَسْلِيمِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُخْرِجُونَ الْحِنْطَةَ فِي زَمَانِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ .
فَقَدْ رَوَى ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي مُخْتَصَرِ الْمُسْنَدِ الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ فُضَيْلٍ بْنِ غَزْوَانَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : { لَمْ تَكُنْ الصَّدَقَةُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ وَالشَّعِيرُ وَلَمْ تَكُنْ الْحِنْطَةُ } وَمِمَّا يُنَادِي بِهِ مَا عِنْدَ الْبُخَارِيِّ { عَنْ أَبِي سَعِيدٍ نَفْسِهِ كُنَّا نُخْرِجُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ .
قَالَ أَبُو سَعِيدٍ : وَكَانَ طَعَامُنَا يَوْمَئِذٍ الشَّعِيرُ وَالزَّبِيبُ وَالْأَقِطُ وَالتَّمْرُ } ، فَلَوْ كَانَتْ الْحِنْطَةُ مِنْ طَعَامِهِمْ الَّذِي يُخْرَجُ لَبَادَرَ إلَى ذِكْرِهِ قَبْلَ الْكُلِّ إذْ فِيهِ صَرِيحُ مُسْتَنَدِهِ فِي خِلَافِ مُعَاوِيَةَ ، وَعَلَى هَذَا يَلْزَمُ كَوْنُ الطَّعَامِ فِي حَدِيثِهِ الْأَوَّلِ مُرَادًا بِهِ الْأَعَمَّ لَا الْحِنْطَةَ بِخُصُوصِهَا فَيَكُونُ الْأَقِطُ وَمَا بَعْدَهُ فِيهِ عَطْفُ الْخَاصِرِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ دَعَا إلَيْهِ .
وَإِنْ كَانَ خِلَافُ الظَّاهِرِ هَذَا الصَّرِيحَ عَنْهُ ، وَيَلْزَمُهُ كَوْنُ الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ لَا أَزَالُ أُخْرِجُهُ إلَخْ لَا أَزَالُ أُخْرِجُ الصَّاعَ : أَيْ كُنَّا إنَّمَا نُخْرِجُ مِمَّا ذَكَرْته صَاعًا وَحِينَ كَثُرَ هَذَا الْقُوتُ الْآخَرُ فَإِنَّمَا أُخْرِجُ مِنْهُ أَيْضًا ذَلِكَ الْقَدْرُ .
وَحَاصِلُهُ فِي التَّحْقِيقِ أَنَّهُ لَمْ يَرَ ذَلِكَ التَّقْوِيمَ بَلْ أَنَّ الْوَاجِبَ صَاعٌ ، غَيْرَ أَنَّهُ اُتُّفِقَ أَنَّ مَا مِنْهُ الْإِخْرَاجُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ غَيْرَ الْحِنْطَةِ ، وَأَنَّهُ لَوْ وَقَعَ الْإِخْرَاجُ مِنْهَا لَأُخْرِجَ صَاعٌ ، ثُمَّ يَبْقَى بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ

جَدِّهِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مُنَادِيًا يُنَادِي فِي فِجَاجِ مَكَّةَ : أَلَا إنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ مُدَّانِ مِنْ قَمْحٍ أَوْ صَاعٌ مِمَّا سِوَاهُ مِنْ الطَّعَامِ } وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ ا هـ .
وَهُوَ مُرْسَلٌ ، فَإِنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ فِيهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ ، وَهُوَ حُجَّةٌ عِنْدَنَا بَعْدَ ثُبُوتِ الْعَدَالَةِ وَالْأَمَانَةِ فِي الْمُرْسَلِ .
وَمَا رَوَى الْحَاكِمُ عَنْ عَطَاءٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ صَارِخًا بِمَكَّةَ : إنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ حَقٌّ وَاجِبٌ مُدَّانِ مِنْ قَمْحٍ أَوْ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ وَتَمْرٍ } وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ بِلَفْظِ : { أَوْ صَاعٌ مِمَّا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الطَّعَامِ } صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَأَعَلَّهُ غَيْرُهُ بِيَحْيَى بْنِ عَبَّادٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ ضَعَّفَهُ الْعُقَيْلِيُّ .
وَقَالَ الْأَزْدِيُّ : مُنْكَرُ الْحَدِيثِ جِدًّا عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ ، وَهُوَ يَرْوِي هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ .
وَمَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ صَائِحًا فَصَاحَ أَنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ مُدَّانِ مِنْ قَمْحٍ أَوْ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ أَوْ تَمْرٍ } وَإِعْلَانُ ابْنِ الْجَوْزِيِّ لَهُ بِعَلِيِّ بْنِ صَالِحٍ ، قَالَ : ضَعَّفُوهُ .
قَالَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ : هَذَا خَطَأٌ مِنْهُ لَا نَعْلَمُ أَحَدًا ضَعَّفَهُ ، لَكِنَّهُ غَيْرُ مَشْهُورِ الْحَالِ عِنْدَ أَبِي حَاتِمٍ ، وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّهُ مَكِّيٌّ مَعْرُوفٌ أَحَدُ الْعُبَّادِ وَكُنْيَتُهُ أَبُو الْحَسَنِ ، وَذَكَرَ جَمَاعَةٌ رَوَوْا عَنْهُ مِنْهُمْ الثَّوْرِيُّ وَمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي كِتَابِ الثِّقَاتِ وَقَالَ : يُعْرَفُ ا هـ .
فَلَمْ يَبْقَ فِيهِ إلَّا إرْسَالٌ وَهُوَ حُجَّةٌ بِانْفِرَادِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ إذَا اعْتَضَدَ

بِمُرْسَلٍ آخَرَ يَرْوِي مِنْ غَيْرِ شُيُوخِ الْآخَرِ كَانَ حُجَّةً ، وَقَدْ اعْتَضَدَ بِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ ، وَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ الْحَسَنِ { عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ خَطَبَ فِي آخِرِ رَمَضَانَ بِالْبَصْرَةِ إلَى أَنْ قَالَ فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الصَّدَقَةَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ أَوْ نِصْفَ صَاعِ قَمْحٍ } الْحَدِيثَ رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ مَشْهُورُونَ ، إلَّا أَنَّ الْحَسَنَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فَهُوَ مُرْسَلٌ فَإِنَّهُ يَعْرِفُ أَهْلُ الْأُصُولِ يَعُمُّ نَحْوَ هَذَا ، وَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي مَرَاسِيلِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ { فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مُدَّيْنِ مِنْ حِنْطَةٍ } رَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا الْمُزَنِيّ حَدَّثَنَا الشَّافِعِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ حَسَّانَ عَنْ اللَّيْثِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عُقَيْلِ بْنِ خَالِدٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدِ بْنِ مُسَافِرٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مُدَّيْنِ مِنْ حِنْطَةٍ } قَالَ فِي التَّنْقِيحِ : إسْنَادُهُ صَحِيحٌ كَالشَّمْسِ ، وَكَوْنُهُ مُرْسَلًا لَا يَضُرُّ فَإِنَّهُ مُرْسَلُ سَعِيدٍ وَمَرَاسِيلُهُ حُجَّةٌ ا هـ .
وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ حَدِيثُ مُدَّيْنِ خَطَأٌ حَمَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْأَخْبَارَ الثَّابِتَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّعْدِيلَ بِمُدَّيْنِ كَانَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ا هـ .
وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ رَجَّحَ غَيْرَهُ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا ، وَهُوَ لَيْسَ بِلَازِمٍ بَلْ الْقَدْرُ اللَّازِمُ أَنَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ كَمُعَاوِيَةَ أَوْ حَضَرَ وَقْتَ خُطْبَتِهِ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ فَرْضِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحِنْطَةِ ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ عِلْمِ أُولَئِكَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَدَمُهُ عَنْهُ فِي الْوَاقِعِ ، نَعَمْ قَدْ يَكُونُ مَظِنَّةُ ذَلِكَ لَكِنْ لَيْسَ بِلَازِمٍ أَلْبَتَّةَ ،

بَلْ يَجِبُ الْبَقَاءُ مَعَ عَدَمِهِ مَا لَمْ يُنْقَلْ وُجُودُهُ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ فَيَجِبُ قَبُولُهُ وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ فَإِنَّ الْأَخْبَارَ تُفِيدُ أَنَّ فَرْضَهُ فِي الْحِنْطَةِ كَانَ بِمَكَّةَ بِإِرْسَالِ الْمُنَادَى بِهِ ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْفَتْحِ ، وَمِنْ الْجَائِزِ غَيْبَتُهُ فِي وَقْتِ النِّدَاءِ أَوْ شُغْلُهُ عَنْهُ خُصُوصًا وَهُمْ إنَّمَا كَانُوا فِيهَا عَلَى جَنَاحِ سَفَرٍ آخِذِينَ فِي أُهْبَتِهِ .
وَمِمَّا رُوِيَ فِيهِ مِمَّا يَصْلُحُ لِلِاسْتِشْهَادِ بِهِ مَا أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ { عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَنْهَا قَالَتْ : كُنَّا نُؤَدِّي زَكَاةَ الْفِطْرِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُدَّيْنِ مِنْ قَمْحٍ بِالْمُدِّ الَّذِي يَقْتَاتُونَ بِهِ } .
وَحَدِيثُ ابْنِ لَهِيعَةَ صَالِحٌ لِلْمُتَابَعَاتِ سِيَّمَا وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ إمَامٍ عَنْهُ وَهُوَ أَنَّ ابْنَ الْمُبَارَكِ ، ثُمَّ قَدْ رَوَى عَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَغَيْرِهِمْ فَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ : عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ أَخْرَجَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مُدَّيْنِ مِنْ حِنْطَةٍ ، وَأَنَّ رَجُلًا أَدَّى إلَيْهِ صَاعًا بَيْنَ اثْنَيْنِ .
وَهُوَ مُنْقَطِعٌ .
وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ : { كَانَ النَّاسُ يُخْرِجُونَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ تَمْرٍ أَوْ سُلْتٍ أَوْ زَبِيبٍ .
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَثُرَتْ الْحِنْطَةُ جَعَلَ عُمَرُ نِصْفَ صَاعِ حِنْطَةٍ مَكَانَ صَاعٍ مِنْ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ } .
وَأُعِلَّ سَنَدُهُ بِابْنِ أَبِي رَوَّادٍ تَكَلَّمَ فِيهِ ابْنُ حِبَّانَ ، وَمَتْنُهُ بِمَا تَقَدَّمَ

مِنْ أَنَّ التَّعْدِيلَ بِذَلِكَ إنَّمَا كَانَ فِي زَمَنِ مُعَاوِيَةَ ، وَأَخْرَجَ أَيْضًا هُوَ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ : عَلَى مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ نَفَقَتُك نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ أَوْ تَمْرٍ .
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ : زَكَاةُ الْفِطْرِ مُدَّانِ مِنْ قَمْحٍ أَوْ صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ .
وَرَوَى أَيْضًا حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : زَكَاةُ الْفِطْرِ عَلَى كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ فَقِيرٍ أَوْ غَنِيٍّ صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ أَوْ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ قَمْحٍ ، قَالَ مَعْمَرُ : بَلَغَنِي أَنَّ الزُّهْرِيَّ كَانَ يَرْفَعُهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَالَ صَاحِبُ الْإِمَامِ : هَذَا الْخَبَرُ الْوَقْفُ فِيهِ مُتَحَقِّقٌ ، وَأَمَّا الرَّفْعُ فَإِنَّهُ بَلَاغٌ لَمْ يُبَيِّنْ مَعْمَرٌ فِيهِ مَنْ حَدَّثَهُ فَهُوَ مُنْقَطِعٌ ، وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ : كُلُّ شَيْءٍ سِوَى الْحِنْطَةِ فَفِيهِ صَاعٌ وَفِي الْحِنْطَةِ نِصْفُ صَاعٍ ، وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ عَنْ طَاوُسٍ ، وَابْنِ الْمُسَيِّبِ ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، وَأَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ عَنْ جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ وَقَالَ : مَا عَلِمْنَا أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رَوَى عَنْهُ خِلَافَ ذَلِكَ ا هـ .
كَأَنَّ إخْرَاجَ أَبِي سَعِيدٍ ظَاهِرٌ فَلَمْ يَحْتَرِزْ عَنْهُ ، وَلَوْ تَنَزَّلْنَا إلَى ثُبُوتِ التَّكَافُؤِ فِي السَّمْعِيَّاتِ كَانَ ثُبُوتُ الزِّيَادَةِ عَلَى مُدَّيْنِ مُنْتَفِيًا إذْ لَا يُحْكَمُ بِالْوُجُوبِ مَعَ الشَّكِّ ( قَوْلُهُ يَتَقَارَبَانِ فِي الْمَقْصُودِ ) وَهُوَ التَّفَكُّهُ وَالِاسْتِحْلَاءُ ، وَقَوْلُهُ : يَتَقَارَبَانِ فِي الْمَعْنَى : هُوَ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُؤْكَلُ كُلُّهُ ( قَوْلُهُ وَالْأَوْلَى أَنْ يُرَاعَى فِيهِمَا ) أَيْ فِي الدَّقِيقِ ( الْقَدْرُ وَالْقِيمَةُ جَمِيعًا احْتِيَاطًا وَإِنْ نَصَّ عَلَى

الدَّقِيقِ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ ) وَهُوَ مَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ : خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : { مَنْ كَانَ عِنْدَهُ شَيْءٌ فَلْيَتَصَدَّقْ بِنِصْفِ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعٍ مِنْ شَعِيرٍ أَوْ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعٍ مِنْ دَقِيقٍ أَوْ صَاعٍ مِنْ زَبِيبٍ أَوْ صَاعٍ مِنْ سُلْتٍ } وَالْمُرَادُ دَقِيقُ الشَّعِيرِ .
قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ : لَمْ يَرْوِهِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ غَيْرُ سُلَيْمَانَ بْنِ أَرْقَمَ وَهُوَ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ ، فَوَجَبَ الِاحْتِيَاطُ بِأَنْ يُعْطِيَ نِصْفَ صَاعٍ دَقِيقَ حِنْطَةٍ أَوْ صَاعًا دَقِيقَ شَعِيرٍ يُسَاوِيَانِ نِصْفَ صَاعِ بُرٍّ وَصَاعِ شَعِيرٍ لَا أَقَلَّ مِنْ نِصْفٍ يُسَاوِي نِصْفَ صَاعِ بُرٍّ أَوْ أَقَلَّ مِنْ صَاعٍ يُسَاوِي صَاعَ شَعِيرٍ ، وَلَا نِصْفٌ لَا يُسَاوِي نِصْفَ صَاعِ بُرٍّ أَوْ صَاعٌ لَا يُسَاوِي صَاعَ شَعِيرٍ ( قَوْلُهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ ) أَيْ وُجُوبَ الِاحْتِيَاطِ فِيهِمَا كَمَا ذَكَرْنَاهُ ( فِي الْكِتَابِ ) يَعْنِي فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ اعْتِبَارٌ لِلْغَالِبِ ، فَإِنَّ الْغَالِبَ كَوْنُ نِصْفِ صَاعِ دَقِيقٍ لَا يُنْقِصُ قِيمَتَهُ نِصْفَ صَاعٍ مَا هُوَ دَقِيقُهُ بَلْ يَزِيدُ حَتَّى لَوْ فُرِضَ نَقْصُهُ كَمَا قَدْ يَتَّفِقُ فِي أَيَّامِ الْبِدَارِ كَانَ الْوَاجِبُ مَا قُلْنَا .

وَالْخُبْزُ تُعْتَبَرُ فِيهِ الْقِيمَةُ هُوَ الصَّحِيحُ ، ثُمَّ يُعْتَبَرُ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ وَزْنًا فِيمَا يُرْوَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ كَيْلًا وَالدَّقِيقُ أَوْلَى مِنْ الْبُرِّ ، وَالدَّرَاهِمُ أَوْلَى مِنْ الدَّقِيقِ فِيمَا يُرْوَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ أَدْفَعُ لِلْحَاجَةِ وَأَعْجَلُ بِهِ ، وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الْأَعْمَشِ تَفْضِيلُ الْحِنْطَةِ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ مِنْ الْخِلَافِ إذْ فِي الدَّقِيقِ وَالْقِيمَةِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ ( وَالصَّاعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ بِالْعِرَاقِيِّ ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثُ رِطْلٍ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { صَاعُنَا أَصْغَرُ الصِّيعَانِ } .
وَلَنَا مَا رُوِيَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ رِطْلَيْنِ وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ } وَهَكَذَا كَانَ صَاعُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ أَصْغَرُ مِنْ الْهَاشِمِيِّ ، وَكَانُوا يَسْتَعْمِلُونَ الْهَاشِمِيَّ .

( قَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ ) احْتِرَازً كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ ، يُرَاعَى فِيهِ الْقَدْرُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَنَوَيْنِ مِنْ الْخُبْزِ ، لِأَنَّهُ لَمَّا رُوعِيَ الْقَدْرُ فِيمَا هُوَ أَصْلُهُ فَفِيهِ ، وَأَنَّهُ يَزْدَادُ ذَلِكَ الْقَدْرُ صَنْعَةً وَقِيمَةً أَوْلَى ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ لَمَّا أَنَّ الْقَدْرَ لَا يُعْرَفُ إلَّا مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ ، وَلَمْ يَرِدْ إلَّا فِي الْمَكِيلِ ، وَالْخُبْزُ لَيْسَ مِنْهُ فَكَانَ إخْرَاجُهُ بِطَرِيقِ الْقِيمَةِ .
( وَقَوْلُهُ ثُمَّ يُعْتَبَرُ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ مِنْ حَيْثُ الْوَزْنُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) وَجْهُهُ أَنَّ الْعُلَمَاءَ لَمَّا اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الصَّاعَ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ أَوْ خَمْسَةٌ وَثُلُثٌ كَانَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ بِالْوَزْنِ ، إذْ لَا مَعْنَى لِاخْتِلَافِهِمْ فِيهِ إلَّا إذَا اُعْتُبِرَ بِهِ ، وَرَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ : إنَّمَا يُعْتَبَرُ بِالْكَيْلِ لَوْ وَزَنَ أَرْبَعَةَ أَرْطَالٍ فَدَفَعَهَا إلَى الْقَوْمِ لَا يَجْزِيهِ لِجَوَازِ كَوْنِ الْحِنْطَةِ ثَقِيلَةً لَا تَبْلُغُ نِصْفَ صَاعٍ وَإِنْ وُزِنَتْ أَرْبَعَةُ أَرْطَالٍ ( قَوْلُهُ لِأَنَّهَا أَبْعَدُ عَنْ الْخِلَافِ ) أُجِيبَ : بِأَنَّ الْخِلَافَ فِي الْحِنْطَةِ لِثُبُوتِ الْخِلَافِ فِي قَدْرِهَا أَيْضًا لَكِنْ فِيهِ أَنَّهُ أَقَلُّ شُبْهَةً .
( قَوْلُهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ ) وَالرِّطْلُ زِنَةُ مِائَةٍ وَثَلَاثِينَ دِرْهَمًا وَيُعْتَبَرُ وَزْنُ ذَلِكَ بِمَا لَا يَخْتَلِفُ كَيْلُهُ وَوَزْنُهُ وَهُوَ الْعَدَسُ وَالْمَاشُّ ، فَمَا وَسِعَ ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ أَوْ خَمْسَةً وَثُلُثًا مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ الصَّاعُ كَذَا قَالُوا .
وَعَلَى هَذَا يَرْتَفِعُ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ آنِفًا فِي تَقْدِيرِ الصَّاعِ كَيْلًا أَوْ وَزْنًا إذَا تُؤُمِّلَ .
( قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { صَاعُنَا أَصْغَرُ الصِّيعَانِ } ) وَلَمْ يُعْلَمْ خِلَافٌ فِي قَدْرِ صَاعِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَّا مَا قَالَهُ الْحِجَازِيُّونَ وَالْعِرَاقِيُّونَ وَمَا قَالَهُ الْحِجَازِيُّونَ أَصْغَرُ فَهُوَ الصَّحِيحُ ، إذْ هُوَ أَصْغَرُ الصِّيعَانِ ، لَكِنَّ الشَّأْنَ فِي

صِحَّةِ الْحَدِيثِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ ، غَيْرَ أَنَّ ابْنَ حِبَّانَ رَوَى بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيلَ لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ صَاعُنَا أَصْغَرُ الصِّيعَانِ وَمُدُّنَا أَكْبَرُ الْأَمْدَادِ ، فَقَالَ : اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا وَبَارِكْ لَنَا فِي قَلِيلِنَا وَكَثِيرِنَا وَاجْعَلْ لَنَا مَعَ الْبَرَكَةِ بَرَكَتَيْنِ } ا هـ .
ثُمَّ قَالَ ابْنُ حِبَّانَ : وَفِي تَرْكِهِ إنْكَارُ كَوْنِهِ أَصْغَرَ الصِّيعَانِ بَيَانُ أَنَّ صَاعَ الْمَدِينَةِ كَذَلِكَ ا هـ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ مَوَاضِعِ كَوْنِ السُّكُوتِ حُجَّةً لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي حُكْمٍ شَرْعِيٍّ حَتَّى يَلْزَمَ رَدُّهُ إنْ كَانَ خَطَأً ، وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ الْوَلِيدِ الْقُرَشِيِّ وَهُوَ ثِقَةٌ قَالَ : قَدِمَ عَلَيْنَا أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ الْحَجِّ فَقَالَ : إنِّي أُرِيدُ أَنْ أَفْتَحَ عَلَيْكُمْ بَابًا مِنْ الْعِلْمِ أَهَمَّنِي ، فَفَحَصْت عَنْهُ فَقَدِمْت الْمَدِينَةَ فَسَأَلْت عَنْ الصَّاعِ فَقَالُوا : صَاعُنَا هَذَا صَاعُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قُلْت لَهُمْ : مَا حُجَّتُكُمْ فِي ذَلِكَ ؟ فَقَالُوا : نَأْتِيك بِالْحُجَّةِ غَدًا ، فَلَمَّا أَصْبَحْت أَتَانِي نَحْوٌ مِنْ خَمْسِينَ شَيْخًا مِنْ أَبْنَاءِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ مَعَ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ الصَّاعُ تَحْتَ رِدَائِهِ ، كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ يُخْبِرُ عَنْ أَبِيهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ أَنَّ هَذَا صَاعُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَنَظَرْت فَإِدَا هِيَ سَوَاءُ ، قَالَ فَعَيَّرْته فَإِذَا هُوَ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ وَنُقْصَانٌ يَسِيرٌ .
قَالَ : فَرَأَيْت أَمْرًا قَوِيًّا فَتَرَكْت قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الصَّاعِ .
وَرُوِيَ أَنَّ مَالِكًا نَاظَرَهُ وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِالصِّيعَانِ الَّتِي جَاءَ بِهَا أُولَئِكَ فَرَجَعَ أَبُو يُوسُفَ إلَى قَوْلِهِ .
وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ : أَنَّهُمْ كَانُوا يُخْرِجُونَ زَكَاةَ الْفِطْرِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمُدِّ يَقْتَاتُونَ بِهِ يَفْعَلُ ذَلِكَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ كُلُّهُمْ ا هـ وَصَحَّحَهُ ( وَلَنَا مَا رُوِيَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ رِطْلَيْنِ وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ } ) هَكَذَا وَقَعَ مُفَسَّرًا عَنْ أَنَسٍ وَعَائِشَةَ فِي ثَلَاثَةِ طُرُقٍ رَوَاهَا الدَّارَقُطْنِيُّ وَضَعَّفَهَا .
وَعَنْ جَابِرٍ أَسْنَدَ ابْنُ عَدِيٍّ عَنْهُ وَضَعَّفَهُ بِعُمَرَ بْنِ مُوسَى وَالْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ لَيْسَ فِيهِ الْوَزْنُ ، وَأَمَّا كَوْنُ صَاعِ عُمَرَ كَذَلِكَ ، فَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ قَالَ : سَمِعْت حَسَنَ بْنَ صَالِحٍ يَقُولُ : صَاعُ عُمَرَ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ .
وَقَالَ شَرِيكٌ : أَكْثَرُ مِنْ سَبْعَةٍ وَأَقَلُّ مِنْ ثَمَانِيَةٍ ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ عَلِيِّ بْنِ صَالِحٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ قَالَ : الْحَجَّاجِيُّ صَاعُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَهَذَا الثَّانِي أَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ ، ثُمَّ أَخْرَجَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ : عَيَّرْنَا صَاعًا فَوَجَدْنَاهُ حَجَّاجِيًّا ، وَالْحَجَّاجِيُّ عِنْدَهُمْ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ بِالْبَغْدَادِيِّ .
وَعَنْهُ قَالَ : وَضَعَ الْحَجَّاجُ قَفِيزَهُ عَلَى صَاعِ عُمَرَ .
قَالُوا : كَانَ الْحَجَّاجُ يَفْتَخِرُ بِإِخْرَاجِ صَاعِ عُمَرَ ، وَبِتَقْدِيرِ تَسْلِيمِ مَا رَوَوْهُ أَوَّلًا لَا يَلْزَمُ كَوْنُ خَمْسَةِ أَرْطَالٍ وَثُلُثٍ صَاعَهُ الَّذِي هُوَ أَصْغَرُ ، بَلْ الْحَاصِلُ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ صَاعَهُ كَانَ أَصْغَرَ الصِّيعَانِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَعْمِلُونَ الْهَاشِمِيَّ ، وَهُوَ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ رِطْلًا .
ثُمَّ الْخِلَافُ فِي أَنَّ الْأَصْغَرَ مَا قَدْرُهُ ثَابِتٌ فَلَا يَلْزَمُ صِحَّةُ قَوْلِ مَنْ قَالَ : تَقْدِيرُهُ أَقَلُّ ، إذْ خَصْمُهُ يُنَازِعُهُ فِي أَنَّ ذَلِكَ التَّقْدِيرَ هُوَ الَّذِي كَانَ الصَّاعُ الْأَصْغَرُ إذْ ذَاكَ ، وَلَا أَعْجَبَ مِنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ شَيْءٌ ، وَالْجَمَاعَةُ الَّذِينَ لَقِيَهُمْ أَبُو يُوسُفَ لَا تَقُومُ بِهِمْ حُجَّةٌ لِكَوْنِهِمْ نَقَلُوا عَنْ مَجْهُولِينَ ، وَقِيلَ

: لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ ، فَإِنَّ أَبَا يُوسُفَ لَمَّا حَرَّرَهُ وَجَدَهُ خَمْسَةً وَثُلُثًا بِرِطْلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْ رِطْلِ أَهْلِ بَغْدَادَ لِأَنَّهُ ثَلَاثُونَ إسْتَارًا ، وَالْبَغْدَادِيُّ عِشْرُونَ ، وَإِذَا قَابَلْت ثَمَانِيَةً بِالْبَغْدَادِيِّ بِخَمْسَةٍ وَثُلُثٍ بِالْمَدَنِيِّ وَجَدْتهمَا سَوَاءً ، وَهُوَ أَشْبَهُ لِأَنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافَ أَبِي يُوسُفَ ، وَلَوْ كَانَ لِذِكْرِهِ عَلَى الْمُعْتَادِ ، وَهُوَ أَعْرَفُ بِمَذْهَبِهِ ، وَحِينَئِذٍ فَالْأَصْلُ كَوْنُ الصَّاعِ الَّذِي كَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ هُوَ الَّذِي كَانَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلًا بِالِاسْتِصْحَابِ إلَى أَنْ يَثْبُتَ خِلَافًا ، وَلَمْ يَثْبُتْ ، وَعِنْدَ ذَلِكَ تَكُونُ تِلْكَ الزِّيَادَةُ الَّتِي فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ وَهِيَ لَفْظُ ثَمَانِيَةِ أَرْطَالٍ وَرِطْلَانِ صَحِيحَةٌ اجْتِهَادًا .
وَإِنْ كَانَ فِيمَنْ فِي طَرِيقِهَا ضَعْفٌ إذْ لَيْسَ يَلْزَمُ مِنْ ضَعْفِ الرَّاوِي سِوَى ضَعْفِهَا ظَاهِرًا لَا الِانْتِفَاءُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ، إذْ لَيْسَ كُلُّ مَا يَرْوِيهِ الضَّعِيفُ خَطَأً .
وَهَذَا لِتَأَيُّدِهَا بِمَا ذُكِرَ مِنْ الْحُكْمِ الِاجْتِهَادِيِّ بِكَوْنِ صَاعِ عُمَرَ هُوَ صَاعُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، هَذَا وَلَا يَخْفَى مَا فِي تَضْعِيفِ وَاقِعَةِ أَبِي يُوسُفَ بِكَوْنِ النَّقْلِ عَنْ مَجْهُولِينَ مِنْ النَّظَرِ بَلْ الْأَقْرَبُ مِنْهُ عَدَمُ ذِكْرِ مُحَمَّدٍ لِخِلَافِهِ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلَ ضَعْفِ أَصْلِ وُقُوعِ الْوَاقِعَةِ لِأَبِي يُوسُفَ وَلَوْ كَانَ رَاوِيهَا ثِقَةً لِأَنَّ وُقُوعَ ذَلِكَ مِنْهُ لِعَامَّةِ النَّاسِ وَمُشَافَهَتِهِ إيَّاهُمْ بِهِ مِمَّا يُوهِمُ شُهْرَةَ رُجُوعِهِ ، وَلَوْ كَانَ لَمْ يَعُمَّهُ مُحَمَّدٌ فَهُوَ عِلَّةٌ بَاطِنَةٌ .

قَالَ ( وَوُجُوبُ الْفِطْرَةِ يَتَعَلَّقُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : بِغُرُوبِ الشَّمْسِ فِي الْيَوْمِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى إنَّ مَنْ أَسْلَمَ أَوْ وُلِدَ لَيْلَةَ الْفِطْرِ تَجِبُ فِطْرَتُهُ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَهُ لَا تَجِبُ ، وَعَلَى عَكْسِهِ مَنْ مَاتَ فِيهَا مِنْ مَمَالِيكِهِ أَوْ وَلَدِهِ .
لَهُ أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْفِطْرِ وَهَذَا وَقْتُهُ .
وَلَنَا أَنَّ الْإِضَافَةَ لِلِاخْتِصَاصِ ، وَالِاخْتِصَاصُ الْفِطْرُ بِالْيَوْمِ دُونَ اللَّيْلِ ( وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُخْرِجَ النَّاسُ يَوْمَ الْفِطْرِ قَبْلَ الْخُرُوجِ إلَى الْمُصَلَّى ) { لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يُخْرِجُ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ لِلْمُصَلَّى } ، وَلِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِغْنَاءِ كَيْ لَا يَتَشَاغَلَ الْفَقِيرُ بِالْمَسْأَلَةِ عَنْ الصَّلَاةِ ، وَذَلِكَ بِالتَّقْدِيمِ ( فَإِنْ قَدَّمُوهَا عَلَى يَوْمِ الْفِطْرِ جَازَ ) لِأَنَّهُ أَدَّى بَعْدَ تَقَرُّرِ السَّبَبِ فَأَشْبَهَ التَّعْجِيلَ فِي الزَّكَاةِ ، وَلَا تَفْصِيلَ بَيْنَ مُدَّةٍ وَمُدَّةٍ هُوَ الصَّحِيحُ وَقِيلَ يَجُوزُ تَعْجِيلُهَا فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ وَقِيلَ فِي الْعُشْرِ الْأَخِيرِ ( وَإِنْ أَخَّرُوهَا عَنْ يَوْمِ الْفِطْرِ لَمْ تَسْقُطْ وَكَانَ عَلَيْهِمْ إخْرَاجُهَا ) لِأَنَّ وَجْهَ الْقُرْبَةِ فِيهَا مَعْقُولٌ فَلَا يَتَقَدَّرُ وَقْتُ الْأَدَاءِ فِيهَا بِخِلَافِ الْأُضْحِيَّةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّ الْإِضَافَةَ لِلِاخْتِصَاصِ ) يَعْنِي إضَافَةَ صَدَقَةٍ إلَى الْفِطْرِ ، وَالشَّافِعِيُّ أَيْضًا يَقُولُ كَذَلِكَ .
لَكِنَّ إضَافَةَ الصَّدَقَةِ إلَى الْفِطْرِ إنَّمَا تُفِيدُ اخْتِصَاصَ الْفِطْرِ بِهَا ، أَمَّا كَوْنُ ذَلِكَ الْفِطْرِ فِطْرَ الْيَوْمِ لَا فِطْرَ لَيْلَتِهِ فَلَا دَلَالَةَ لِهَذِهِ الْإِضَافَةِ عَلَيْهِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ ضَمِّ أَمْرٍ آخَرَ فَيُقَالُ : لَمَّا أَفَادَتْ اخْتِصَاصًا بِالْفِطْرِ وَتَعَلُّقَهَا بِهِ كَانَ جَعْلُ ذَلِكَ الْفِطْرِ الْفِطْرَ الْمُخَالِفِ لِلْعَادَةِ ، وَهُوَ فِطْرُ النَّهَارِ أَوْلَى مِنْ جَعْلِهِ الْمُوَافِقَ لَهَا لِأَنَّ فِطْرَ اللَّيْلِ لَمْ يُعْهَدْ فِيهِ زَكَاةٌ وَلِذَا لَمْ يَجِبْ فِي فِطْرِ اللَّيَالِي السَّابِقَةِ صَدَقَةٌ ، وَقَدْ يُفَرَّقُ بِأَنَّ فِطْرَ آخِرِ لَيْلَةٍ يَتِمُّ بِهِ صَوْمُ الشَّهْرِ وَوُجُوبُ الْفِطْرَةِ إنَّمَا كَانَ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ عَمَّا عَسَاهُ يَقَعُ فِي صَوْمِهِ مِنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَذَلِكَ يَتِمُّ بِتَعْلِيقِهَا بِفِطْرِ لَيْلَةِ شَوَّالٍ إذْ بِهِ يَتِمُّ الصَّوْمُ بِخِلَافِ مَا قَبْلَهَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( قَوْلُهُ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يُخْرِجُ الْفِطْرَةَ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ الْمُصَلَّى ، وَلِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِغْنَاءِ كَيْ لَا يَتَشَاغَلَ الْفَقِيرُ بِالْمَسْأَلَةِ عَنْ الصَّلَاةِ ) يَتَضَمَّنُ فِعْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَوْلُهُ ، وَكُلُّ ذَلِكَ فِيمَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي كِتَابِهِ [ عُلُومُ الْحَدِيثِ فِي بَابِ الْأَحَادِيثِ ] الَّتِي انْفَرَدَ بِزِيَادَةٍ فِيهَا رَاوٍ وَاحِدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْجَهْمِ السَّمُرِيُّ ، حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ حَمَّادٍ ، حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ { ابْنِ عُمَرَ قَالَ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُخْرِجَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَنْ كُلِّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ قَمْحٍ ، وَكَانَ يَأْمُرُنَا أَنْ

نُخْرِجَهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَسِّمُهَا قَبْلَ أَنْ يَنْصَرِفَ إلَى الْمُصَلَّى وَيَقُولُ : أَغْنُوهُمْ عَنْ الطَّوَافِ فِي هَذَا الْيَوْمِ } ( قَوْلُهُ فَإِنْ قَدَّمُوهَا عَلَى يَوْمِ الْفِطْرِ جَازَ لِأَنَّهُ أَدَّى بَعْدَ تَقَرُّرِ السَّبَبِ ) يَعْنِي الرَّأْسَ الَّذِي يَمُونُهُ وَيَلِي عَلَيْهِ .
( فَأَشْبَهَ تَعْجِيلَ الزَّكَاةِ ) يَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ هَذَا الْقِيَاسُ ، فَإِنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ ، فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّقْدِيمَ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ السَّبَبِ هُوَ قَبْلَ الْوُجُوبِ وَسُقُوطِ مَا سَيَجِبُ إذَا وَجَبَ بِمَا يُعْمَلُ قَبْلَ الْوُجُوبِ خِلَافُ الْقِيَاسِ فَلَا يَتِمُّ فِي مِثْلِهِ إلَّا السَّمْعُ ، وَفِيهِ حَدِيثُ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ إلَى أَنْ قَالَ فِي آخِرِهِ وَكَانُوا يُعْطُونَ قَبْلَ الْفِطْرِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ } وَهَذَا مِمَّا لَا يَخْفَى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ بِإِذْنٍ سَابِقٍ فَإِنَّ الْإِسْقَاطَ قَبْلَ الْوُجُوبِ مِمَّا لَا يُعْقَلُ فَلَمْ يَكُونُوا يُقْدِمُونَ عَلَيْهِ إلَّا بِسَمْعٍ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
( قَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ خَلَفٍ يَجُوزُ تَعْجِيلُهَا بَعْدَ دُخُولِ رَمَضَانَ لَا قَبْلَهُ لِأَنَّهُ صَدَقَةُ الْفِطْرِ ، وَلَا فِطْرَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ ، وَعَمَّا قِيلَ فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ لَا قَبْلَهُ ، وَمَا قِيلَ فِي الْعُشْرِ الْأَخِيرِ لَا قَبْلَهُ .
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ : لَا يَجُوزُ التَّعْجِيلُ أَصْلًا ( قَوْلُهُ لِأَنَّ وَجْهَ الْقُرْبَةِ فِيهَا مَعْقُولٌ إلَخْ ) ظَاهِرٌ ، وَبِهِ يَبْطُلُ قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ أَنَّهَا تَسْقُطُ كَالْأُضْحِيَّةِ بِمُضِيِّ يَوْمِ النَّحْرِ ، وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ ، وَمَا قِيلَ مِنْ مَنْعِ سُقُوطِ الْأُضْحِيَّةِ بَلْ يَنْتَقِلُ إلَى التَّصْدِيقِ بِمَا لَيْسَ بِشَيْءٍ ، إذْ لَا يَنْتَفِي بِذَلِكَ كَوْنُ نَفْسِ الْأُضْحِيَّةِ وَهُوَ

إرَاقَةُ دَمٍ سِنٌّ مُقَدَّرٌ قَدْ سَقَطَ ، وَهَذَا شَيْءٌ آخَرُ ، وَرُبَّمَا يُؤْخَذُ سُقُوطُهَا بِبَادِئِ الرَّأْيِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّمِ أَوَّلَ الْبَابِ حَدِيثُ قَالَ : { مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مَقْبُولَةٌ ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنْ الصَّدَقَاتِ } لَكِنْ قَدْ يُدْفَعُ بِاتِّحَادِ مَرْجِعِ ضَمِيرِ أَدَّاهَا فِي الْمَرَّتَيْنِ إذْ يُفِيدُ أَنَّهَا هِيَ الْمُؤَدَّاةُ بَعْدَ الصَّلَاةِ غَيْرَ أَنَّهُ نَقَصَ الثَّوَابَ فَصَارَتْ كَغَيْرِهَا مِنْ الصَّدَقَاتِ ، عَلَى أَنَّ اعْتِبَارَ ظَاهِرِهِ يُؤَدِّي إلَى سُقُوطِهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ وَإِنْ كَانَ فِي بَاقِي الْيَوْمِ ، وَلَيْسَ هَذَا قَوْلُهُ فَهُوَ مَصْرُوفٌ عَنْهُ عِنْدَهُ .
[ فَرْعٌ ] اُخْتُلِفَ فِي جَوَازِ إعْطَاءِ فِطْرَةِ كُلِّ شَخْصٍ إلَى أَكْثَرَ مِنْ شَخْصٍ ، فَعِنْدَ الْكَرْخِيِّ : يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهَا لِجَمَاعَةٍ ، لَوْ عِنْدَ غَيْرِهِ لَا يُجْزِئُ أَنْ يُعْطِيَهَا إلَّا وَاحِدًا ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ وَاحِدًا صَدَقَةَ جَمَاعَةٍ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

كِتَابُ الصَّوْمِ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( الصَّوْمُ ضَرْبَانِ : وَاجِبٌ وَنَفْلٌ ، وَالْوَاجِبُ ضَرْبَانِ : مِنْهُ مَا يَتَعَلَّقُ بِزَمَانٍ بِعَيْنِهِ كَصَوْمِ رَمَضَانَ وَالنَّذْرِ الْمُعَيَّنِ فَيَجُوزُ صَوْمُهُ بِنِيَّةٍ مِنْ اللَّيْلِ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ حَتَّى أَصْبَحَ أَجْزَأَهُ النِّيَّةُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الزَّوَالِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يُجْزِيهِ .
اعْلَمْ أَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ فَرِيضَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ } وَعَلَى فَرْضِيَّتِهِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ وَلِهَذَا يَكْفُرُ جَاحِدُهُ ، وَالْمَنْذُورُ وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ } وَسَبَبُ الْأَوَّلِ الشَّهْرُ وَلِهَذَا يُضَافُ إلَيْهِ وَيَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهِ وَكُلُّ يَوْمٍ سَبَبٌ لِوُجُوبِ صَوْمِهِ ، وَسَبَبُ الثَّانِي النَّذْرُ

كِتَابُ الصَّوْمِ هَذَا ثَالِثُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ، شَرَعَهُ سُبْحَانَهُ لِفَوَائِدَ أَعْظَمُهَا كَوْنُهُ مُوجِبًا شَيْئَيْنِ : أَحَدَهُمَا عَنْ الْآخَرِ سُكُونَ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ ، وَكَسْرَ سَوْرَتِهَا فِي الْفُضُولِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِجَمِيعِ الْجَوَارِحِ مِنْ الْعَيْنِ وَاللِّسَانِ وَالْأُذُنِ وَالْفَرْجِ ، فَإِنَّ بِهِ تَضْعُفُ حَرَكَتُهَا فِي مَحْسُوسَاتِهَا ، وَلِذَا قِيلَ : إذَا جَاعَتْ النَّفْسُ شَبِعَتْ جَمِيعُ الْأَعْضَاءِ وَإِذَا شَبِعَتْ جَاعَتْ كُلُّهَا ، وَمَا عَنْ هَذَا صَفَاءُ الْقَلْبِ مِنْ الْكَدَرِ ، فَإِنَّ الْمُوجِبَ لِكُدُورَاتِهِ فُضُولُ اللِّسَانِ وَالْعَيْنِ وَبَاقِيهَا ، وَبِصَفَائِهِ تُنَاطُ الْمَصَالِحُ وَالدَّرَجَاتُ ، وَمِنْهَا : كَوْنُهُ مُوجِبًا لِلرَّحْمَةِ وَالْعَطْفِ عَلَى الْمَسَاكِينِ فَإِنَّهُ لَمَّا ذَاقَ أَلَمَ الْجُوعِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ ذَكَرَ مَنْ هَذَا فِي عُمُومِ الْأَوْقَاتِ فَتُسَارِعُ إلَيْهِ الرِّقَّةُ عَلَيْهِ ، وَالرَّحْمَةُ حَقِيقَتُهَا فِي حَقِّ الْإِنْسَانِ نَوْعُ أَلَمٍ بَاطِنٍ فَيُسَارِعُ لِدَفْعِهِ عَنْهُ بِالْإِحْسَانِ إلَيْهِ فَيَنَالُ مَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حُسْنِ الْجَزَاءِ .
وَمِنْهَا مُوَافَقَةُ الْفُقَرَاءِ بِتَحَمُّلِ مَا يَتَحَمَّلُونَ أَحْيَانًا وَفِي ذَلِكَ رَفْعُ حَالِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى ، كَمَا حَكَى بِشْرٌ الْحَافِيُّ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فِي الشِّتَاءِ فَوَجَدَهُ جَالِسًا يَرْعُدُ وَثَوْبُهُ مُعَلَّقٌ عَلَى الْمِشْجَبِ .
فَقَالَ لَهُ : فِي مِثْلِ هَذَا الْوَقْتِ يُنْزَعُ الثَّوْبُ ؟ وَمَعْنَاهُ ، فَقَالَ : يَا أَخِي الْفُقَرَاءُ كَثِيرٌ ، وَلَيْسَ لِي طَاقَةُ مُوَاسَاتِهِمْ بِالثِّيَابِ فَأُوَاسِيهِمْ بِتَحَمُّلِ الْبَرْدِ كَمَا يَتَحَمَّلُونَ .
وَالصَّوْمُ لُغَةً : الْإِمْسَاكُ مُطْلَقًا ، صَامَ عَنْ الْكَلَامِ وَغَيْرِهِ ، قَالَ النَّابِغَةُ : خَيْلٌ صِيَامٌ وَخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ تَحْتَ الْعَجَاجِ وَأُخْرَى تَعْلُك اللُّجُمَا وَفِي الشَّرْعِ : إمْسَاكٌ عَنْ الْجِمَاعِ ، وَعَنْ إدْخَالِ شَيْءٍ بَطْنًا لَهُ حُكْمُ الْبَاطِنِ مِنْ الْفَجْرِ إلَى الْغُرُوبِ عَنْ نِيَّةٍ ، وَذَكَرْنَا

الْبَطْنَ وَوَصَفْنَاهُ لِأَنَّهُ لَوْ أَوْصَلَ إلَى بَاطِنِ دِمَاغِهِ شَيْئًا فَسَدَ وَإِلَى بَاطِنِ فَمِهِ وَأَنْفِهِ لَا يَفْسُدُ ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي تَعْرِيفِ الْقُدُورِيِّ ، وَذَلِكَ الْإِمْسَاكُ رُكْنُهُ وَسَبَبُهُ مُخْتَلِفٌ ، فَفِي الْمَنْذُورِ النَّذْرُ ، وَلِذَا قُلْنَا : لَوْ نَذَرَ صَوْمَ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ كَرَجَبٍ ، أَوْ يَوْمٍ بِعَيْنِهِ ، فَصَامَ عَنْهُ جُمَادَى وَيَوْمًا آخَرَ أَجْزَأَ عَنْ الْمَنْذُورِ ، لِأَنَّهُ تَعْجِيلٌ بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ وَيَلْغُو تَعْيِينُ الْيَوْمِ لِأَنَّ صِحَّةَ النَّذْرِ وَلُزُومَهُ عَمَّا بِهِ يَكُونُ الْمَنْذُورُ عِبَادَةً إذْ لَا نَذْرَ بِغَيْرِهَا ، وَالْمُتَحَقِّقُ لِذَلِكَ الصَّوْمُ لَا خُصُوصُ الزَّمَانِ وَلَا بِاعْتِبَارِهِ ، وَسَبَبُ صَوْمِ الْكَفَّارَاتِ أَسْبَابُهَا مِنْ الْحِنْثِ وَالْقَتْلِ ، وَسَبَبُ الْقَضَاءِ هُوَ سَبَبُ وُجُودِ الْأَدَاءِ ، وَسَبَبُ رَمَضَانَ شُهُودُ جُزْءٍ مِنْ الشَّهْرِ لَيْلِهِ أَوْ نَهَارِهِ ، وَكُلُّ يَوْمٍ سَبَبُ وُجُوبِ أَدَائِهِ لِأَنَّهَا عِبَادَاتٌ مُتَفَرِّقَةٌ كَتَفَرُّقِ الصَّلَوَاتِ فِي الْأَوْقَاتِ ، بَلْ أَشَدُّ لِتَخَلُّلِ زَمَانٍ لَا يَصْلُحُ لِلصَّوْمِ وَهُوَ اللَّيْلُ ، وَجَمَعَ الْمُصَنِّفُ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ فَشُهُودُ جُزْءٍ مِنْهُ سَبَبٌ لِكُلِّهِ ثُمَّ كُلُّ يَوْمٍ سَبَبٌ لِصَوْمِهِ ، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ تَكَرَّرَ سَبَبُ وُجُوبِ صَوْمِ الْيَوْمِ بِاعْتِبَارِ خُصُوصِهِ وَدُخُولِهِ فِي ضِمْنِ غَيْرِهِ ، وَشَرْطُ وُجُوبِهِ الْإِسْلَامُ ، وَالْبُلُوغُ ، وَالْعَقْلُ .
وَشَرْطُ وُجُوبِ أَدَائِهِ : الصِّحَّةُ ، وَالْإِقَامَةُ .
وَشَرْطُ صِحَّتِهِ : الطَّهَارَةُ عَنْ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ ، وَالنِّيَّةُ .
وَيَنْبَغِي أَنْ يُزَادَ فِي الشُّرُوطِ : الْعِلْمُ بِالْوُجُوبِ ، أَوْ الْكَوْنُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَيُرَادُ بِالْعِلْمِ الْإِدْرَاكُ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحَرْبِيَّ إذَا أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ عَلَيْهِ صَوْمَ رَمَضَانَ ثُمَّ عَلِمَ لَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا مَضَى ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ الْعِلْمُ الْمُوجِبُ بِإِخْبَارِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ أَوْ وَاحِدٍ عَدْلٍ وَعِنْدَهُمَا لَا

تُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ وَلَا الْبُلُوغُ وَلَا الْحُرِّيَّةُ ، وَلَوْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا مَضَى بَعْدَ الْإِسْلَامِ عَلِمَ بِالْوُجُوبِ أَوْ لَا ، وَحُكْمُهُ سُقُوطُ الْوَاجِبِ ، وَنَيْلُ ثَوَابِهِ ، وَإِنْ كَانَ صَوْمًا لَازِمًا وَإِلَّا فَالثَّانِي .
وَأَقْسَامُهُ : فَرْضٌ ، وَوَاجِبٌ ، وَمَسْنُونٌ ، وَمَنْدُوبٌ ، وَنَفْلٌ ، وَمَكْرُوهٌ تَنْزِيهًا وَتَحْرِيمًا .
فَالْأَوَّلُ رَمَضَانُ ، وَقَضَاؤُهُ ، وَالْكَفَّارَاتُ لِلظِّهَارِ وَالْقَتْلِ وَالْيَمِينِ ، وَجَزَاءِ الصَّيْدِ ، وَفِدْيَةِ الْأَذَى فِي الْإِحْرَامِ لِثُبُوتِ هَذِهِ بِالْقَاطِعِ سَنَدًا وَمَتْنًا وَالْإِجْمَاعِ عَلَيْهَا .
وَالْوَاجِبُ : الْمَنْذُورُ وَالْمَسْنُونُ عَاشُورَاءَ مَعَ التَّاسِعِ ، وَالْمَنْدُوبُ : صَوْمُ ثَلَاثَةٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَيَنْدُبُ فِيهَا كَوْنُهَا الْأَيَّامَ الْبِيضَ ، وَكُلُّ صَوْمٍ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ طَلَبُهُ وَالْوَعْدُ عَلَيْهِ كَصَوْمِ دَاوُد عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَنَحْوِهِ .
وَالنَّفَلُ : مَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا لَمْ تَثْبُتْ كَرَاهَتُهُ .
وَالْمَكْرُوهُ تَنْزِيهًا : عَاشُورَاءُ مُفْرَدًا عَنْ التَّاسِعِ وَنَحْوَ يَوْمِ الْمِهْرَجَانِ .
وَتَحْرِيمًا : أَيَّامُ التَّشْرِيقِ وَالْعِيدَيْنِ ، وَسَنَعْقِدُ بِذَيْلِ هَذَا الْبَابِ فُرُوعًا لِتَفْصِيلِ هَذِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : لِمَ كَانَ الْمَنْذُورُ وَاجِبًا مَعَ أَنَّ ثُبُوتَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ } ؟ أُجِيبُ : بِأَنَّهُ عَامٌّ دَخَلَهُ الْخُصُوصُ فَإِنَّهُ خَصَّ النَّذْرَ بِالْمَعْصِيَةِ وَبِمَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبٌ كَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ ، أَوْ كَانَ لَكِنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِنَفْسِهِ بَلْ لِغَيْرِهِ حَتَّى لَوْ نَذَرَ الْوُضُوءَ لِكُلِّ صَلَاةٍ لَمْ يَلْزَمْ فَصَارَتْ ظَنِّيَّةً كَالْآيَةِ الْمُؤَوَّلَةِ فَيُفِيدُ الْوُجُوبَ ، وَقَدْ عُلِمَ مِمَّا ذَكَرْنَا شُرُوطُ لُزُومِ النَّذْرِ وَهِيَ : كَوْنُ الْمَنْذُورِ مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبٌ لَا لِغَيْرِهِ ، عَلَى هَذَا تَضَافَرَتْ كَلِمَاتُ الْأَصْحَابِ ، فَقَوْلُ صَاحِبِ الْمَجْمَعِ تَبَعًا لِصَاحِبِ الْبَدَائِعِ : يُفْتَرَضُ صَوْمُ رَمَضَانَ وَصَوْمُ الْمَنْذُورِ وَالْكَفَّارَةِ عَلَى

غَيْرِ مَا يَنْبَغِي عَلَى هَذَا لَكِنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّهُ فَرْضٌ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى لُزُومِهِ .

وَالنِّيَّةُ مِنْ شَرْطِهِ وَسَنُبَيِّنُهُ وَتَفْسِيرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَجْهُ قَوْلِهِ فِي الْخِلَافِيَّةِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يَنْوِ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ } وَلِأَنَّهُ لَمَّا فَسَدَ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ لِفَقْدِ النِّيَّةِ فَسَدَ الثَّانِي ضَرُورَةً أَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ بِخِلَافِ النَّفْلِ لِأَنَّهُ مُتَجَزِّئٌ عِنْدَهُ .
وَلَنَا { قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَمَا شَهِدَ الْأَعْرَابِيُّ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ أَلَا مَنْ أَكَلَ فَلَا يَأْكُلَنَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ ، وَمَنْ لَمْ يَأْكُلْ فَلْيَصُمْ } وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى نَفْيِ الْفَضِيلَةِ وَالْكَمَالِ ، أَوْ مَعْنَاهُ لَمْ يَنْوِ أَنَّهُ صَوْمٌ مِنْ اللَّيْلِ ، وَلِأَنَّهُ يَوْمُ صَوْمٍ فَيَتَوَقَّفُ الْإِمْسَاكُ فِي أَوَّلِهِ عَلَى النِّيَّةِ الْمُتَأَخِّرَةِ الْمُقْتَرِنَةِ بِأَكْثَرِهِ كَالنَّفْلِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الصَّوْمَ رُكْنٌ وَاحِدٌ مُمْتَدٌّ وَالنِّيَّةُ لِتَعْيِينِهِ لِلَّهِ تَعَالَى فَتَتَرَجَّحُ بِالْكَثْرَةِ جَنْبَةُ الْوُجُودِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ لِأَنَّ لَهُمَا أَرْكَانًا فَيُشْتَرَطُ قِرَانُهَا بِالْعَقْدِ عَلَى أَدَائِهِمَا ، وَبِخِلَافِ الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى صَوْمِ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَهُوَ النَّفَلُ وَبِخِلَافِ مَا بَعْدَ الزَّوَالِ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ اقْتِرَانُهَا بِالْأَكْثَرِ فَتَرَجَّحَتْ جَنْبَةُ الْفَوَاتِ ، ثُمَّ قَالَ فِي الْمُخْتَصَرِ : مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الزَّوَالِ ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَبْلَ نِصْفِ النَّهَارِ وَهُوَ الْأَصَحُّ ، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ النِّيَّةِ فِي أَكْثَرِ النَّهَارِ وَنِصْفِهِ مِنْ وَقْتِ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى وَقْتِ الضَّحْوَةِ الْكُبْرَى لَا إلَى وَقْتِ الزَّوَالِ ، فَتُشْتَرَطُ النِّيَّةُ قَبْلَهَا لِتَتَحَقَّقَ فِي الْأَكْثَرِ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ عِنْدَنَا ، خِلَافًا لِزُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، لِأَنَّهُ لَا تَفْصِيلَ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلِيلِ وَهَذَا الضَّرْبُ مِنْ الصَّوْمِ يَتَأَدَّى بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ وَبِنِيَّةِ النَّفْلِ وَبِنِيَّةِ وَاجِبٍ آخَرَ .
وَقَالَ

الشَّافِعِيُّ : فِي نِيَّةِ النَّفْلِ عَابِثٌ ، وَفِي مُطْلَقِهَا لَهُ قَوْلَانِ : لِأَنَّهُ بِنِيَّةِ النَّفْلِ مُعْرِضٌ عَنْ الْفَرْضِ فَلَا يَكُونُ لَهُ الْفَرْضُ .
وَلَنَا أَنَّ الْفَرْضَ مُتَعَيَّنٌ فِيهِ ، فَيُصَابُ بِأَصْلِ النِّيَّةِ كَالْمُتَوَحِّدِ فِي الدَّارِ يُصَابُ بِاسْمِ جِنْسِهِ ، وَإِذَا نَوَى النَّفَلَ أَوْ وَاجِبًا آخَرَ فَقَدْ نَوَى أَصْلَ الصَّوْمِ وَزِيَادَةَ جِهَةٍ ، وَقَدْ لَغَتْ الْجِهَةُ فَبَقِيَ الْأَصْلُ وَهُوَ كَافٍ .

، وَلَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ فِي الْكُلِّ وَالْكَلَامِ فِي وَقْتِهَا الَّذِي يُعْتَبَرُ فِيهِ فَقُلْنَا فِي رَمَضَانَ وَالْمَنْذُورِ الْمُعَيَّنِ وَالنَّفَلِ تَجْزِيهِ النِّيَّةُ مِنْ بَعْدِ الْغُرُوبِ إلَى مَا قَبْلَ نِصْفِ النَّهَارِ فِي صَوْمِ ذَلِكَ النَّهَارِ وَفِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَاتِ ، وَالْمَنْذُورِ الْمُطْلَقِ كَنَذْرِ صَوْمِ يَوْمٍ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهَا فِي اللَّيْلِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا تَجْزِي فِي غَيْرِ النَّفْلِ إلَّا مِنْ اللَّيْلِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : لَا تَجْزِي إلَّا مِنْ اللَّيْلِ فِي النَّفْلِ وَغَيْرِهِ .
وَالْمُصَنِّفُ ذَكَرَ خِلَافَ الشَّافِعِيِّ .
( وَقَوْلُهُ وَجْهٌ فِي الْخِلَافِيَّةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا صِيَامَ لِمَنْ إلَخْ ) اسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ وَالْمَعْنَى .
أَمَّا الْحَدِيثُ فَمَا ذَكَرَهُ رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ ، وَاخْتَلَفُوا فِي لَفْظِهِ { لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يَنْوِ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ } يُجْمَعُ بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ يُبَيِّتْ { وَلَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يَفْرِضْهُ مِنْ اللَّيْلِ } رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
وَاخْتَلَفُوا فِي رَفْعِهِ وَوَقْفِهِ ، وَلَمْ يَرْوِهِ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ إلَّا مِنْ كَلَامِ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ زَوْجَيْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالْأَكْثَرُ عَلَى وَقْفِهِ ، وَقَدْ رَفَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ الزُّهْرِيِّ يَبْلُغُ بِهِ حَفْصَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ لَمْ يَجْمَعْ قَبْلَ الْفَجْرِ فَلَا صِيَامَ لَهُ } وَوَقَفَهُ عَنْهُ عَلَى حَفْصَةَ مَعْمَرٌ وَالزُّبَيْرِيُّ وَابْنُ عُيَيْنَةَ وَيُونُسُ الْأَيْلِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ ثِقَةٌ ، وَالرَّفْعُ زِيَادَةٌ وَهِيَ مِنْ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ ، وَلَفْظُ " يُبَيِّتْ " عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ لَمْ يُبَيِّتْ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ فَلَا صِيَامَ لَهُ } .
قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ : تَفَرَّدَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ

بْنُ عَبَّادٍ عَنْ الْفَضْلِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَكُلُّهُمْ ثِقَاتٌ ، وَأَقَرَّهُ الْبَيْهَقِيُّ عَلَيْهِ .
وَنَظَرَ فِيهِ : بِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّادٍ غَيْرُ مَشْهُورٍ وَيَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ ، وَهُوَ مِنْ رِجَالِهِ .
وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ : عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّادٍ الْبَصْرِيُّ يُقَلِّبُ الْأَخْبَارَ .
قَالَ : رَوَى عَنْهُ رَوْحُ بْنُ الْفَرَجِ نُسْخَةً مَوْضُوعَةً ، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَهُوَ قَوْلُهُ : وَلِأَنَّهُ لَمَّا فَسَدَ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ لِفَقْدِ النِّيَّةِ فِيهِ إذْ الْفَرْضُ اشْتِرَاطُهَا فِي صِحَّةِ الصَّوْمِ ، وَلَمْ تُوجَدْ فِي الْأَجْزَاءِ الْأُوَلِ مِنْ النَّهَارِ فَسَدَ الْبَاقِي ، وَإِنْ وُجِدَتْ النِّيَّةُ فِيهِ ضَرُورَةُ عَدَمِ انْقِلَابِ الْفَاسِدِ صَحِيحًا ، وَعَدَمُ تَجَزِّي الصَّوْمِ صِحَّةً وَفَسَادًا ، لَا يُقَالُ لِمَا لَمْ يَتَجَزَّأْ صِحَّةً وَفَسَادًا وَقَدْ صَحَّ مَا اُقْتُرِنَ بِالنِّيَّةِ صَحَّ الْكُلُّ ضَرُورَةً ذَاكَ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ مُقَدَّمٌ ، وَهَذَا بِخِلَافِ النَّفْلِ لِأَنَّهُ مُنَجَّزٌ عِنْدِي لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى النَّشَاطِ وَقَدْ يَنْشَطُ فِي بَعْضِ الْيَوْمِ ، أَوْ نَقُولُ : تَتَوَقَّفُ الْإِمْسَاكَاتُ فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ عَلَى وُجُودِ النِّيَّةِ فِي بَاقِيهِ فِي النَّفْلِ اعْتِبَارًا لَهُ أَخَفُّ حَالًا مِنْ الْفَرْضِ ، حَتَّى جَازَتْ صَلَاتُهُ قَاعِدًا وَرَاكِبًا غَيْرَ مُسْتَقْبِلٍ الْقِبْلَةَ ، بِخِلَافِ الْفَرْضِ ، ثُمَّ يَدُلُّ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ { عَائِشَةَ قَالَتْ : دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ : هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ ؟ فَقُلْنَا : لَا ، فَقَالَ : إنِّي إذًا صَائِمٌ ، ثُمَّ أَتَى يَوْمًا آخَرَ فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ أُهْدِيَ لَنَا حَيْسٌ ، فَقَالَ : أَرِنِيهِ فَلَقَدْ أَصْبَحْتُ صَائِمًا فَأَكَلَ } .
( قَوْلُهُ وَلَنَا ) حَاصِلُ اسْتِدْلَالِهِ بِالنَّصِّ وَالْقِيَاسِ عَلَى النَّفْلِ ثُمَّ تَأْوِيلِ مَرْوِيِّهِ بِدَلِيلٍ يُوجِبُ ذَلِكَ ، أَمَّا النَّصُّ فَمَا ذَكَرَهُ وَهُوَ مُسْتَغْرَبٌ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ بَلْ الْمَعْرُوفُ أَنَّهُ { شَهِدَ عِنْدَهُ

بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ فَأَمَرَ أَنْ يُنَادَى فِي النَّاسِ أَنْ يَصُومُوا غَدًا } رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِلَفْظٍ صَرِيحٍ فِيهِ ، وَمَا رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ { جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنِّي رَأَيْت الْهِلَالَ قَالَ الْحَسَنُ فِي حَدِيثِهِ يَعْنِي رَمَضَانَ فَقَالَ : أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : يَا بِلَالُ أَذِّنْ فِي النَّاسِ فَلْيَصُومُوا } مُحْتَمَلٌ لِكَوْنِهِ شَهِدَ فِي النَّهَارِ أَوْ اللَّيْلِ فَلَا يُحْتَجُّ بِهِ ، وَاسْتَدَلَّ الطَّحَاوِيُّ بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَرَ رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ أَنْ أَذِّنْ فِي النَّاسِ أَنَّ مَنْ أَكَلَ فَلْيَصُمْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَكَلَ فَلْيَصُمْ فَإِنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ } .
فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ أَمْرَ إيجَابٍ قَبْلَ نَسْخِهِ بِرَمَضَانَ ، إذْ لَا يُؤْمَرُ مَنْ أَكَلَ بِإِمْسَاكِ بَقِيَّةِ الْيَوْمِ إلَّا فِي يَوْمٍ مَفْرُوضِ الصَّوْمِ بِعَيْنِهِ ابْتِدَاءً ، بِخِلَافِ قَضَاءِ رَمَضَانَ إذَا أَفْطَرَ فِيهِ فَعَلِمَ أَنَّ مَنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ صَوْمُ يَوْمٍ وَلَمْ يَنْوِهِ لَيْلًا أَنَّهُ يَجْزِيهِ نِيَّتُهُ نَهَارًا ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ عَاشُورَاءَ كَانَ وَاجِبًا ، وَقَدْ مَنَعَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { هَذَا يَوْمُ عَاشُورَاءَ لَمْ يُفْرَضْ عَلَيْنَا صِيَامُهُ فَمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَصُومَ فَلْيَصُمْ فَإِنِّي صَائِمٌ فَصَامَ النَّاسُ } قَالَ : وَبِدَلِيلِ أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ مَنْ أَكَلَ بِالْقَضَاءِ ، وَيُدْفَعُ بِأَنَّ مُعَاوِيَةَ مِنْ مُسْلِمَةِ الْفَتْحِ فَإِنْ كَانَ سَمِعَ هَذَا بَعْدَ إسْلَامِهِ فَإِنَّمَا يَكُونُ سَمِعَهُ سَنَةَ تِسْعٍ أَوْ عَشْرٍ فَيَكُونُ ذَلِكَ بَعْدَ نَسْخِهِ بِإِيجَابِ رَمَضَانَ ، وَيَكُونُ

الْمَعْنَى لَمْ يُفْرَضْ بَعْدَ إيجَابِ رَمَضَانَ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَدِلَّةِ الصَّرِيحَةِ فِي وُجُوبِهِ أَيْ فَرِيضَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ سَمِعَهُ قَبْلَهُ فَيَجُوزُ كَوْنُهُ قَبْلَ افْتِرَاضِهِ ، وَنَسَخَ عَاشُورَاءَ رَمَضَانُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : { كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ يَوْمًا يَصُومُهُ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُهُ ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ صَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ قَالَ : مَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ } وَكَوْنُ لَفْظِ " أَمَرَ " مُشْتَرَكًا بَيْنَ الصِّيغَةِ الطَّالِبَةِ نَدْبًا وَإِيجَابًا مَمْنُوعٌ ، وَلَوْ سُلِّمَ فَقَوْلُهَا : فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ قَالَ : مَنْ شَاءَ إلَخْ : دَلِيلٌ أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ هُنَا فِي الصِّيغَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْقَطْعِ بِأَنَّ التَّخْيِيرَ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ النَّدْبِ لِأَنَّهُ مَنْدُوبٌ إلَى الْآنِ بَلْ مَسْنُونٌ فَكَانَ بِاعْتِبَارِ الْوُجُوبِ ، وَكَذَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ ، وَأَمْرُهُ مَنْ أَكَلَ بِالْإِمْسَاكِ فَثَبَتَ أَنَّ الِافْتِرَاضَ لَا يَمْنَعُ اعْتِبَارَ النِّيَّةِ مُجْزِئَةً مِنْ النَّهَارِ شَرْعًا .
وَيَلْزَمُهُ عَدَمُ الْحُكْمِ بِفَسَادِ الْجُزْءِ الَّذِي لَمْ يَقْتَرِنْ بِهَا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ مِنْ الشَّارِعِ ، بَلْ اعْتِبَارُهُ مَوْقُوفًا إلَى أَنْ يَظْهَرَ الْحَالُ مِنْ وُجُودِهَا بَعْدَهُ أَوَّلًا فَإِذَا وُجِدَتْ ظَهَرَ اعْتِبَارُهُ عِبَادَةً لَا أَنَّهُ انْقَلَبَ صَحِيحًا بَعْدَ الْحُكْمِ بِالْفَسَادِ فَبَطَلَ ذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي عَيَّنَهُ لِقِيَامِ مَا رَوَيْنَاهُ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِهِ شَرْعًا ، ثُمَّ يَجِبُ تَقْدِيمُ مَا رَوَيْنَاهُ عَلَى مَرْوِيِّهِ لِقُوَّةِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا رَوَاهُ بَعْدَ نَقْلِنَا فِيهِ مِنْ الِاخْتِلَافِ فِي صِحَّةِ رَفْعِهِ فَيَلْزَمُ ، إذْ قُدِّمَ كَوْنُ الْمُرَادِ بِهِ نَفْيَ الْكَمَالِ كَمَا فِي أَمْثَالِهِ مِنْ نَحْوِ : لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يُسَمِّ وَغَيْرُهُ كَثِيرٌ ، أَوْ الْمُرَادُ لَمْ

يَنْوِ كَوْنَ الصَّوْمِ مِنْ اللَّيْلِ فَيَكُونُ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ وَهُوَ مِنْ اللَّيْلِ مُتَعَلِّقًا بِصِيَامِ الثَّانِي لَا " بيَنْوِ " أَوْ يَجْمَعُ فَحَاصِلُهُ : لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يَقْصِدْ أَنَّهُ صَائِمٌ مِنْ اللَّيْلِ أَيْ مِنْ آخِرِ أَجْزَائِهِ فَيَكُونُ نَفْيًا لِصِحَّةِ الصَّوْمِ مِنْ حِينِ نَوَى مِنْ النَّهَارِ كَمَا قَالَ بِهِ الشَّافِعِيُّ .
وَلَوْ تَنَزَّلْنَا إلَى صِحَّتِهِ وَكَوْنِهِ لِنَفْيِ الصِّحَّةِ وَجَبَ أَنْ يَخُصَّ عُمُومَهُ بِمَا رَوَيْنَاهُ عِنْدَهُمْ مُطْلَقًا وَعِنْدَنَا لَوْ كَانَ قَطْعِيًّا خَصَّ بَعْضَهُ خُصِّصَ بِهِ ، فَكَيْفَ وَقَدْ اجْتَمَعَ فِيهِ الظَّنِّيَّةُ وَالتَّخْصِيصُ : إذْ قَدْ خَصَّ مِنْهُ النَّفَلَ وَيَخُصُّ أَيْضًا بِالْقِيَاسِ ، ثُمَّ الْكَلَامُ فِي تَعْيِينِ أَصْلِ ذَلِكَ الْقِيَاسِ فَجَعَلَهُ الْمُصَنِّفُ النَّفَلَ ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ قِيَاسٌ مَعَ الْفَارِقِ ، إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ التَّخْفِيفِ فِي النَّفْلِ بِذَلِكَ ثُبُوتُ مِثْلِهِ فِي الْفَرْضِ ، أَلَا يَرَى إلَى جَوَازِ النَّافِلَةِ جَالِسًا بِلَا عُذْرٍ ، وَعَلَى الدَّابَّةِ بِلَا عُذْرٍ مَعَ عَدَمِهِ فِي الْفَرْضِ ، وَالْحَقُّ أَنَّ صِحَّتَهُ فَرْعُ ذَلِكَ النَّصِّ ، فَإِنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ جَوَازُ الصَّوْمِ فِي الْوَاجِبِ الْمُعَيَّنِ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ عَلِمَ عَدَمَ اعْتِبَارِ فَرْقٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّفْلِ فِي هَذَا الْحُكْمِ ، وَالْقِيَاسُ الَّذِي لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى ذَلِكَ قِيَاسُ النِّيَّةِ الْمُتَأَخِّرَةِ عَلَى الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ أَوَّلِ الْغُرُوبِ بِجَامِعِ التَّيْسِيرِ وَدَفْعِ الْحَرَجِ بَيَانُهُ أَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ النِّيَّةَ لَا تَصِحُّ إلَّا بِالْمُقَارَنَةِ أَوْ مُقَدَّمَةً مَعَ عَدَمِ اعْتِرَاضِ مَا يُنَافِي الْمَنْوِيَّ بَعْدَهَا قَبْلَ الشُّرُوعِ فِيهِ ، فَإِنَّهُ يَقْطَعُ اعْتِبَارَهَا عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فِي شُرُوطِ الصَّلَاةِ ، وَلَمْ يَجِبْ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ إلَّا الْمُقَارَنَةُ وَهُوَ ظَاهِرٌ ، فَإِنَّهُ لَوْ نَوَى عِنْدَ الْغُرُوبِ أَجْزَأَهُ ، وَلَا عَدَمُ تَخَلُّلِ الْمُنَافِي لِجَوَازِ الصَّوْمِ بِنِيَّةٍ يَتَخَلَّلُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالْجِمَاعُ مَعَ انْتِفَاءِ

حُضُورِهَا بَعْدَ ذَلِكَ إلَى انْقِضَاءِ يَوْمِ الصَّوْمِ ، وَالْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ صَحَّتْ الْمُتَقَدِّمَةُ لِذَلِكَ التَّيْسِيرِ وَدَفْعِ الْحَرَجِ اللَّازِمِ لَوْ أَلْزَمَ أَحَدُهُمَا .
وَهَذَا الْمَعْنَى يَقْتَضِي تَجْوِيزَهَا مِنْ النَّهَارِ لِلُزُومِ الْحَرَجِ لَوْ أُلْزِمَتْ مِنْ اللَّيْلِ فِي كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ كَاَلَّذِي نَسِيَهَا لَيْلًا ، وَفِي حَائِضٍ طَهُرَتْ قَبْلَ الْفَجْرِ وَلَمْ تَعْلَمْ إلَّا بَعْدَهُ ، وَهُوَ كَثِيرٌ جِدًّا ، فَإِنَّ عَادَتَهُنَّ وَضْعُ الْكُرْسُفِ عِشَاءً ثُمَّ النَّوْمُ ، ثُمَّ رَفْعُهُ بَعْدَ الْفَجْرِ ، وَكَثِيرٌ مِمَّنْ يَفْعَلُ كَذَا تُصْبِحُ فَتَرَى الطُّهْرَ وَهُوَ مَحْكُومٌ بِثُبُوتِهِ قَبْلَ الْفَجْرِ ، وَلِذَا تَلْزَمُهَا بِصَلَاةِ الْعِشَاءِ وَفِي صَبِيٍّ بَلَغَ بَعْدَهُ وَمُسَافِرٍ أَقَامَ وَكَافِرٍ أَسْلَمَ فَيَجِبُ الْقَوْلُ بِصِحَّتِهَا نَهَارًا ، وَتَوَهَّمَ أَنَّ مُقْتَضَاهُ قَصْرُ الْجَوَازِ عَلَى هَؤُلَاءِ أَوْ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يُكْثِرُونَ كَثْرَةَ غَيْرِهِمْ بَعِيدٌ عَنْ النَّظَرِ إذْ لَا يُشْتَرَطُ اتِّحَادُ كَمِّيَّةِ الْمَنَاطِ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ ، فَلَا يَلْزَمُ ثُبُوتُ الْحَرَجِ فِي الْفَرْعِ وَهُوَ الْمُتَأَخِّرَةُ بِقَدْرِ ثُبُوتِهِ فِي الْأَصْلِ ، وَهُوَ الْمُتَقَدِّمَةُ بَلْ يَكْفِي ثُبُوتُهُ فِي جِنْسِ الصَّائِمِينَ ، وَكَيْفَ وَالْوَاقِعُ أَنَّهُ لَمْ يَعْتَبِرْ الْمُصَحِّحُ الْحَرَجَ الزَّائِدَ وَلَا ثُبُوتَهُ فِي أَكْثَرِ الصَّائِمِينَ فِي الْأَصْلِ ، فَكَذَا يَجِبُ فِي الْفَرْعِ ، وَهَذَا لِأَنَّ أَكْثَرَ الصَّائِمِينَ يَكُونُونَ مُفِيقِينَ قَرِيبِ الْفَجْرِ فَقَوْمٌ لِتَهَجُّدِهِمْ وَقَوْمٌ لِسُحُورِهِمْ ، فَلَوْ أُلْزِمَتْ النِّيَّةُ قَبْلَ الْفَجْرِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَخَلَّلُ الْمُنَافِي بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ لَمْ يَلْزَمْ بِذَلِكَ حَرَجٌ فِي كُلِّ الصَّائِمِينَ وَلَا فِي أَكْثَرِهِمْ ، بَلْ فِيمَنْ لَا يُفِيقُ إلَّا بَعْدَ الْفَجْرِ وَهُمْ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِمْ بِخِلَافِ الْبَاقِينَ قَبْلَهُ إذْ يُمْكِنُهُمْ تَأْخِيرُ النِّيَّةِ إلَى مَا بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْحَاجَةِ مِنْ الْأَكْلِ وَالْجِمَاعِ فَتَحْصُلُ بِذَلِكَ نِيَّةٌ سَابِقَةٌ لَمْ يَتَخَلَّلْ

بَيْنَهَا وَبَيْنَ الشُّرُوعِ مَا يُنَافِي الصَّوْمَ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ بِهِمْ ، فَلَمَّا لَمْ يَجِبْ عُلِمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ التَّيْسِيرُ بِدَفْعِ الْحَرَجِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَعَنْ كُلِّ صَائِمٍ وَيَلْزَمُ الْمَطْلُوبُ مِنْ شَرْعِيَّتِهِ الْمُتَأَخِّرَةِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا لَا يَخُصُّ الْمُعَيَّنَ ، بَلْ يَجْرِي فِي كُلِّ صَوْمٍ لَكِنَّ الْقِيَاسَ إنَّمَا يَصْلُحُ مُخَصِّصًا لِلْخَبَرِ لَا نَاسِخًا ، وَلَوْ جَرَيْنَا عَلَى تَمَامِ لَازِمِ هَذَا الْقِيَاسِ كَانَ نَاسِخًا لَهُ إذْ لَمْ يَبْقَ تَحْتَهُ شَيْءٌ حِينَئِذٍ فَوَجَبَ أَنْ يُحَاذِيَ بِهِ مَوْرِدَ النَّصِّ ، وَهُوَ الْوَاجِبُ الْمُعَيَّنُ مِنْ رَمَضَانَ وَنَظِيرُهُ مِنْ النَّذْرِ الْمُعَيَّنِ ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُلْغِيَ قَيْدَ التَّعْيِينِ فِي مَوْرِدِ النَّصِّ الَّذِي رَوَيْنَاهُ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ إبْطَالًا لِحُكْمِ لَفْظٍ بِلَا لَفْظٍ يَنُصُّ فِيهِ فَلْيُتَأَمَّلْ وَانْتَظَمَ مَا ذَكَرْنَاهُ جَوَابُ مَالِكٍ أَيْضًا .
فَإِنْ قِيلَ : فَمِنْ أَيْنَ اخْتَصَّ اعْتِبَارُهَا بِوُجُودِهَا فِي أَكْثَرِ النَّهَارِ وَمَا رَوَيْتُمْ لَا يُوجِبُهُ ؟ قُلْنَا : لَمَّا كَانَ مَا رَوَيْنَاهُ وَاقِعَةَ حَالٍ لَا عُمُومَ لَهَا فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ النَّهَارِ احْتَمَلَ كَوْنَ إجَازَةِ الصَّوْمِ فِي تِلْكَ الْوَاقِعَةِ لِوُجُودِ النِّيَّةِ فِيهَا فِي أَكْثَرِهِ بِأَنْ يَكُونَ أَمَرَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْأَسْلَمِيُّ بِالنِّدَاءِ كَانَ الْبَاقِي مِنْ النَّهَارِ أَكْثَرَهُ ، وَاحْتَمَلَ كَوْنُهَا لِلتَّجْوِيزِ مِنْ النَّهَارِ مُطْلَقًا فِي الْوَاجِبِ ، فَقُلْنَا بِالِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ أَحْوَطُ خُصُوصًا ، وَمَعْنَاهُ نَصٌّ يَمْنَعُهَا مِنْ النَّهَارِ مُطْلَقًا وَعَضَّدَهُ الْمَعْنَى ، وَهُوَ أَنَّ لِلْأَكْثَرِ مِنْ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ حُكْمَ الْكُلِّ فِي كَثِيرٍ مِنْ مَوَارِدِ الْفِقْهِ ، فَعَلَى اعْتِبَارِ هَذَا يَلْزَمُ اعْتِبَارُ كُلِّ النَّهَارِ بِلَا نِيَّةٍ لَوْ اكْتَفَى بِهَا فِي أَقَلِّهِ ، فَوَجَبَ الِاعْتِبَارُ الْآخَرُ ، وَإِنَّمَا اخْتَصَّ بِالصَّوْمِ فَلَمْ يَجُزْ مِثْلُهُ فِي الْحَجِّ وَالصَّلَاةِ لِأَنَّهُ رُكْنٌ وَاحِدٌ مُمْتَدٌّ فَبِالْوُجُودِ فِي أَكْثَرِهِ

يُعْتَبَرُ قِيَامُهَا فِي كُلِّهِ بِخِلَافِهِمَا ، فَإِنَّهُمَا أَرْكَانٌ فَيُشْتَرَطُ قِرَانُهَا بِالْعَقْدِ عَلَى أَدَائِهِمَا .
وَإِلَّا خَلَتْ بَعْضُ الْأَرْكَانِ عَنْهَا فَلَمْ يَقَعْ ذَلِكَ الرُّكْنُ عِبَادَةً ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ .
( قَوْلُهُ خِلَافًا لِزُفَرِ ) فَإِنَّهُ يَقُولُ : لَا يَجُوزُ رَمَضَانُ مِنْ الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ إلَّا بِنِيَّةٍ مِنْ اللَّيْلِ لِأَنَّهُ فِي حَقِّهِمَا كَالْقَضَاءِ لِعَدَمِ تَعَيُّنِهِ عَلَيْهِمَا .
قُلْنَا لَا تَفْصِيلَ فِيمَا ذَكَرْنَا فِي الْوَاجِبِ الْمُعَيَّنِ ، ثُمَّ هُمَا إنَّمَا خُولِفَ بِهِمَا الْغَيْرُ شَرْعًا فِي التَّخْفِيفِ لَا التَّغْلِيظِ ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ مُتَعَيِّنٌ بِنَفْسِهِ عَلَى الْكُلِّ غَيْرَ أَنَّهُ جَازَ لَهُمَا تَأْخِيرُهُ تَخْفِيفًا لِلرُّخْصَةِ ، فَإِذَا صَامَا وَتَرَكَا التَّرْخِيصَ الْتَحَقَا بِالْمُقِيمِ .
( قَوْلُهُ وَهَذَا الضَّرْبُ ) أَيْ مَا يَتَعَلَّقُ بِزَمَانٍ مِنْ الْوَاجِبِ ( يَتَأَدَّى بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ وَبِنِيَّةِ النَّفْلِ وَبِنِيَّةِ وَاجِبٍ آخَرَ ) وَهَذَا الْإِطْلَاقُ لَا يَتِمُّ فِي الْمَنْذُورِ الْمُعَيَّنِ ، فَإِنَّهُ يَتَأَدَّى بِالنِّيَّةِ الْمُطْلَقَةِ وَبِنِيَّةِ النَّفْلِ ، أَمَّا لَوْ نَوَى وَاجِبًا آخَرَ كَكَفَّارَةٍ يَقَعُ عَمَّا نَوَى ، وَعَلَّلَ بِأَنَّ تَعْيِينَ النَّاذِرِ الْيَوْمَ يُعْتَبَرُ فِي إبْطَالِ مَحَلِّيَّتِهِ لِحَقٍّ لَهُ وَهُوَ النَّفَلُ لَا مَحَلِّيَّتِهِ فِي حَقٍّ حُقَّ عَلَيْهِ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ لَا تَتَجَاوَزُ حَقَّهُ ، وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ : بِأَنَّ التَّعْيِينَ بِإِذْنِ صَاحِبِ الْحَقِّ وَهُوَ الشَّارِعُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَعَدَّى إلَى حَقِّهِ لِإِذْنِهِ بِإِلْزَامِهِ عَلَى نَفْسِهِ ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ أَذِنَ مُقْتَصِرًا عَلَى أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ أَعْنِي الْعَبْدَ ، وَأَوْرَدَ لَمَّا لَمْ يَتَعَدَّ إلَى حَقِّ صَاحِبِ الشَّرْعِ بَقِيَ مُحْتَمِلًا لِصَوْمِ الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَشْتَرِطَ التَّعْيِينَ ، وَلَا يَتَأَدَّى بِإِطْلَاقِ النِّيَّةِ كَالظُّهْرِ عِنْدَ ضِيقِ الْوَقْتِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ صَوْمَ الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ

الْوَقْتِ ، وَأَصْلُ الْمَشْرُوعِ فِيهِ النَّفَلُ الَّذِي صَارَ وَاجِبًا بِالنَّذْرِ ، وَهُوَ وَاحِدٌ فَيَنْصَرِفُ الْمُطْلَقُ إلَيْهِ ، وَكَذَا نِيَّةُ النَّفْلِ بِخِلَافِ الظُّهْرِ الْمَضِيقِ فَإِنَّ تَعْيِينَ الْوَقْتِ يُعَارِضُ التَّقْصِيرَ بِتَأْخِيرِ الْأَدَاءِ فَلَا يَتَعَيَّنُ الْوَقْتُ بَعْدَهُ لَهُ بَعْدَمَا كَانَ غَيْرَ مُتَعَيَّنٍ لَهُ قَوْلُهُ كَالْمُتَوَحِّدِ فِي الدَّارِ يَنَالُ بِاسْمِ جِنْسِهِ ) عُلِمَ مِنْ وَجْهِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي اشْتِرَاطِ تَعْيِينِ النِّيَّةِ أَنَّ الثَّابِتَ عَنْ الشَّارِعِ تَعْيِينُ الْمَحَلِّ وَهُوَ الزَّمَانُ لِقَبُولِ الْمَشْرُوعِ الْمُعَيَّنِ ، وَلَازِمُهُ نَفْيُ صِحَّةِ غَيْرِهِ ، وَهَذَا لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ لُزُومِ التَّعْيِينِ عَنْ الْمُكَلَّفِ ، لِأَنَّ إلْزَامَ التَّعْيِينِ لَيْسَ لِتَعْيِينِ الْمَشْرُوعِ لِلْمَحَلِّ بَلْ لِيَثْبُتَ الْوَاجِبُ عَنْ اخْتِيَارٍ مِنْهُ فِي أَدَائِهِ لَا جَبْرًا .
وَتَعَيُّنُ الْمَحَلِّ شَرْعًا لَيْسَ عِلَّةً لِاخْتِيَارِ الْمُكَلَّفِ وَنِيَّةُ مُطْلَقِ الصَّوْمِ كَذَلِكَ قَوْلُكُمْ ، الْمُتَوَحِّدُ يَنَالُ بِاسْمِ جِنْسِهِ كَزَيْدٍ يُنَادَى بِيَا حَيَوَانُ وَيَا رَجُلُ ، قُلْنَا : إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ : يَا حَيَوَانُ زَيْدًا مَثَلًا فَهُوَ صَحِيحٌ ، وَلَيْسَ نَظَرُهُ إلَّا أَنْ يُرِيدَ بِمُطْلَقِ الصَّوْمِ الَّذِي هُوَ مُتَعَلِّقُ النِّيَّةِ صَوْمَ رَمَضَانَ ، وَحِينَئِذٍ لَيْسَ هُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ لِأَنَّهُ قَصَدَ صَوْمَ رَمَضَانَ بِذَلِكَ ، وَإِنْ لَمْ يُرِدْهُ بِعَيْنِهِ بِهِ بَلْ أَرَادَ فَرْدًا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ لَمْ يَخْطِرْ بِخَاطِرِهِ سِوَى ذَلِكَ ، كَمَا هُوَ حَقِيقَةُ إرَادَةِ الْمُطْلَقِ مِثْلَ قَوْلِ الْأَعْمَى : يَا رَجُلًا خُذْ بِيَدِي ، فَلَيْسَ هُوَ إرَادَةُ ذَلِكَ الْمُتَعَيَّنِ ، فَإِنَّهُ لَمْ يُقْصَدْ ، بَلْ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ أَوْ غَيْرُهُ ، فَلُزُومُ ثُبُوتِ ذَلِكَ بِعَيْنِهِ يَكُونُ لَا عَنْ قَصْدٍ إلَيْهِ إذْ الْفَرْضُ أَنَّهُ لَمْ يُقْصَدْ بِعَيْنِهِ فَيَكُونُ حِينَئِذٍ جَبْرًا .
لَكِنْ لَا بُدَّ فِي أَدَاءِ الْفَرْضِ مِنْ الِاخْتِيَارِ ، وَاخْتِيَارُ الْأَعَمِّ لَيْسَ اخْتِيَارُ الْأَخَصِّ

بِخُصُوصِهِ ، وَإِذَا بَطَلَ فِي الْمُطْلَقِ بَطَلَ فِي إرَادَةِ النَّفْلِ وَوَاجِبٍ آخَرَ ، لِأَنَّ الصِّحَّةَ بِهِمَا إنَّمَا هِيَ بِاعْتِبَارِ الصِّحَّةِ بِالْمُطْلَقِ بِنَاءً عَلَى لَغْوِ الزَّائِدِ عَلَيْهِ فَيَبْقَى هُوَ بِهِ يَتَأَدَّى ، بَلْ الْبُطْلَانُ هُنَا أَوْلَى لِأَنَّهُ يُمْكِنُ اعْتِبَارُ قَصْدِ الْمُتَعَيَّنِ بِقَصْدِ الْأَعَمِّ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ قَصَدَ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ ، وَهُوَ مِنْهَا بِخِلَافِ هَذَا إذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ قَصْدُ تَعْيِينِ ذَلِكَ الْمُعَيَّنِ ، ثُمَّ اعْتِبَارُ ذَلِكَ الْمُطْلَقِ الَّذِي فِي ضِمْنِهِ بَعْدَمَا لَغَا مُصَابًا بِهِ ذَلِكَ الْمُعَيَّنِ مَعَ تَصْرِيحِهِ بِأَنِّي لَمْ أُرِدْ الْمُطْلَقَ بَلْ الْكَائِنَ بِقَيْدِ كَذَا جُبِرَ عَلَى إيقَاعِهِ ، وَهُوَ النَّافِي لِلصِّحَّةِ ، فَكَيْفَ يُسْقِطُ صَوْمَ رَمَضَانَ وَهُوَ يُنَادِي وَيَقُولُ : لَمْ أُرِدْهُ بَلْ صَوْمُ كَذَا وَأَرَدْت عَدَمَهُ ، فَإِنَّهُ مَعَ إرَادَةِ عَدَمِهِ إذَا أَرَادَ صَوْمًا آخَرَ يَقَعُ عَنْ رَمَضَانَ عِنْدَكُمْ .

وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ وَالصَّحِيحِ وَالسَّقِيمِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، لِأَنَّ الرُّخْصَةَ كَيْ لَا تَلْزَمَ الْمَعْذُورَ مَشَقَّةٌ فَإِذَا تَحَمَّلَهَا اُلْتُحِقَ بِغَيْرِ الْمَعْذُورِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : إذَا صَامَ الْمَرِيضُ وَالْمُسَافِرُ بِنِيَّةِ وَاجِبٍ آخَرَ يَقَعُ عَنْهُ لِأَنَّهُ شَغَلَ الْوَقْتَ بِالْأَهَمِّ لِتَحَتُّمِهِ لِلْحَالِ وَتَخَيُّرِهِ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ إلَى إدْرَاكِ الْعِدَّةِ .
وَعَنْهُ فِي نِيَّةِ التَّطَوُّعِ رِوَايَتَانِ ، وَالْفَرْقُ عَلَى إحْدَاهُمَا أَنَّهُ مَا صَرَفَ الْوَقْتَ إلَى الْأَهَمِّ .
قَالَ ( وَالضَّرْبُ الثَّانِي مَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ كَقَضَاءِ رَمَضَانَ وَالنَّذْرِ الْمُطْلَقِ وَصَوْمِ الْكَفَّارَةِ فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِنِيَّةٍ مِنْ اللَّيْلِ ) لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعْيِينِ مِنْ الِابْتِدَاءِ ( وَالنَّفَلُ كُلُّهُ يَجُوزُ بِنِيَّةٍ قَبْلَ الزَّوَالِ ) خِلَافًا لِمَالِكٍ ، فَإِنَّهُ يَتَمَسَّكُ بِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا .
وَلَنَا { قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَمَا كَانَ يُصْبِحُ غَيْرَ صَائِمٍ إنِّي إذًا لَصَائِمٌ } وَلِأَنَّ الْمَشْرُوعَ خَارِجَ رَمَضَانَ هُوَ النَّفَلُ فَيَتَوَقَّفُ الْإِمْسَاكُ فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ عَلَى صَيْرُورَتِهِ صَوْمًا بِالنِّيَّةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَلَوْ نَوَى بَعْدَ الزَّوَالِ لَا يَجُوزُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَجُوزُ وَيَصِيرُ صَائِمًا مِنْ حِينِ نَوَى إذْ هُوَ مُتَجَزِّئٌ عِنْدَهُ لِكَوْنِهِ مَبْنِيًّا عَلَى النَّشَاطِ ، وَلَعَلَّهُ يَنْشَطُ بَعْدَ الزَّوَالِ إلَّا أَنَّ مِنْ شَرْطِهِ الْإِمْسَاكَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ ، وَعِنْدَنَا يَصِيرُ صَائِمًا مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ لِأَنَّهُ عِبَادَةُ قَهْرِ النَّفْسِ ، وَهِيَ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ بِإِمْسَاكٍ مُقَدَّرٍ فَيُعْتَبَرُ قِرَانُ النِّيَّةِ بِأَكْثَرِهِ .

( قَوْلُهُ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ وَالصَّحِيحِ وَالسَّقِيمِ ) أَيْ أَنَّهُ يَتَأَدَّى رَمَضَانُ مِنْهُمَا بِالْمُطْلَقَةِ وَنِيَّةِ وَاجِبٍ آخَرَ وَالنَّفَلِ عِنْدَهُمَا ، وَالْوَجْهُ ظَاهِرٌ مِنْ الْكِتَابِ .
( قَوْلُهُ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا صَامَ الْمَرِيضُ وَالْمُسَافِرُ ) جَمَعَ بَيْنَهُمَا وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْهُ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ إخْرَاجَ أَبِي حَنِيفَةَ الْمُسَافِرَ إذَا نَوَى وَاجِبًا آخَرَ بِلَا اخْتِلَافٍ فِي الرِّوَايَةِ .
وَلَهُ فِيهِ طَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ نَفْسَ الْوُجُوبِ وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ لِوُجُودِ سَبَبِهِ إلَّا أَنَّ الشَّارِعَ أَثْبَتَ لَهُ التَّرْخِيصَ بِتَرْكِ الصَّوْمِ تَخْفِيفًا عَلَيْهِ لِلْمَشَقَّةِ ، وَمَعْنَى التَّرْخِيصِ أَنْ يَدَعَ مَشْرُوعَ الْوَقْتِ بِالْمَيْلِ إلَى الْأَخَفِّ ، فَإِذَا اشْتَغَلَ بِوَاجِبٍ آخَرَ كَانَ مُتَرَخِّصًا لِأَنَّ إسْقَاطَهُ مِنْ ذِمَّتِهِ أَهَمُّ مِنْ إسْقَاطِ فَرْضِ الْوَقْتِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُدْرِكَ عِدَّةً مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ لَمْ يُؤَاخَذْ بِفَرْضِ الْوَقْتِ ، وَيُؤَاخَذُ بِوَاجِبٍ آخَرَ ، وَهَذَا يُوجِبُ أَنَّهُ إذَا نَوَى النَّفَلَ يَقَعُ عَنْ رَمَضَانَ ، وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْهُ ، إذْ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ مَعْنَى التَّرَخُّصِ بِهَذِهِ النِّيَّةِ ، لِأَنَّ الْفَائِدَةَ فِي النَّفْلِ لَيْسَ إلَّا الثَّوَابُ ، وَهُوَ فِي الْفَرْضِ أَكْثَرُ ، فَكَانَ هَذَا مَيْلًا إلَى الْأَثْقَلِ فَيَلْغُو وَصْفُ النَّفْلِيَّةِ وَيَبْقَى مُطْلَقُ الصَّوْمِ فَيَقَعُ عَنْ فَرْضِ الْوَقْتِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ انْتِفَاءَ شَرْعِيَّةِ الصِّيَامَاتِ لَيْسَ مِنْ حُكْمِ الْوُجُوبِ ، فَإِنَّ الْوُجُوبَ مَوْجُودٌ فِي الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ بَلْ هُوَ مِنْ حُكْمِ تَعْيِينِ هَذَا الزَّمَانِ لِأَدَاءِ الْفَرْضِ ، وَلَا تَعَيُّنَ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ ، لِأَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْأَدَاءِ وَالتَّأْخِيرِ فَصَارَ هَذَا الْوَقْتُ فِي حَقِّهِ كَشَعْبَانَ فَيَصِحُّ مِنْهُ أَدَاءُ وَاجِبٍ آخَرَ كَمَا فِي شَعْبَانَ .
وَهَذَا الطَّرِيقُ يُوجِبُ أَنَّهُ إذَا نَوَى النَّفَلَ يَقَعُ عَمَّا نَوَى ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْهُ ، وَهَاتَانِ

الرِّوَايَتَانِ اللَّتَانِ حَكَاهُمَا الْمُصَنِّفُ .
وَأَمَّا إخْرَاجُ الْمَرِيضِ إذَا نَوَى وَاجِبًا آخَرَ وَجَعْلُهُ كَالْمُسَافِرِ ، فَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْهُ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ وَأَكْثَرِ مَشَايِخِ بُخَارَى لِأَنَّ رُخْصَتَهُ مُتَعَلِّقَةٌ بِخَوْفِ ازْدِيَادِ الْمَرَضِ لَا بِحَقِيقَةِ الْعَجْزِ ، فَكَانَ كَالْمُسَافِرِ فِي تَعَلُّقِ الرُّخْصَةِ فِي حَقَّةِ بِعَجْزٍ مُقَدَّرٍ ، وَذَكَرَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ يَقَعُ عَمَّا نَوَى لِأَنَّ رُخْصَتَهُ مُتَعَلِّقَةٌ بِحَقِيقَةِ الْعَجْزِ .
قِيلَ : مَا قَالَاهُ خِلَافُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
وَقَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْعَزِيزِ : وَكَشَفَ هَذَا أَنَّ الرُّخْصَةَ لَا تَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ الْمَرَضِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ يَتَنَوَّعُ إلَى مَا يَضُرُّ بِهِ الصَّوْمُ نَحْوَ الْحُمَّيَاتِ وَوَجَعِ الرَّأْسِ وَالْعَيْنِ وَغَيْرِهَا ، وَمَا لَا يَضُرُّ بِهِ كَالْأَمْرَاضِ الرُّطُوبِيَّةِ وَفَسَادِ الْهَضْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَالتَّرَخُّصُ إنَّمَا يَثْبُتُ لِلْحَاجَةِ إلَى دَفْعِ الْمَشَقَّةِ فَيَتَعَلَّقُ فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ بِخَوْفِ ازْدِيَادِ الْمَرَضِ ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ فِيهِ الْعَجْزَ الْحَقِيقِيَّ دَفْعًا لِلْحَرَجِ ، وَفِي الثَّانِي بِحَقِيقَتِهِ فَإِذَا صَامَ هَذَا الْمَرِيضُ عَنْ وَاجِبٍ آخَرَ أَوْ النَّفَلَ وَلَمْ يَهْلَك ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَاجِزًا فَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ التَّرَخُّصُ فَيَقَعُ عَنْ فَرْضِ الْوَقْتِ ، وَإِذَا صَامَ ذَلِكَ الْمَرِيضُ كَذَلِكَ يَقَعُ عَمَّا نَوَى لِتَعَلُّقِهَا بِعَجْزٍ مُقَدَّرٍ ، وَهُوَ ازْدِيَادُ الْمَرَضِ كَالْمُسَافِرِ ، فَيَسْتَقِيمُ جَوَابُ الْفَرِيقَيْنِ ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ حَيْثُ قَالَ : وَذَكَرَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ : أَنَّ الْجَوَابَ فِي الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ سَوَاءٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَهَذَا سَهْوٌ أَوْ مُؤَوَّلٌ وَمُرَادُهُ مَرِيضٌ يُطِيقُ الصَّوْمَ وَيَخَافُ مِنْهُ ازْدِيَادَ الْمَرَضِ ، فَهَذَا يَدُلُّك عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا .
( قَوْلُهُ فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِنِيَّةٍ مِنْ اللَّيْلِ ) لَيْسَ بِلَازِمٍ ، بَلْ إنْ نَوَى مَعَ طُلُوعِ

الْفَجْرِ جَازَ لِأَنَّ الْوَاجِبَ قِرَانُ النِّيَّةِ بِالصَّوْمِ لَا تَقْدِيمُهَا ، كَذَا فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ ( قَوْلُهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ ) وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ ثُبُوتَ التَّوَقُّفِ إنَّمَا كَانَ بِالنَّصِّ وَمَوْرِدُهُ كَانَ الْوَاجِبُ الْمُعَيَّنُ فَعَقَلَ أَنَّ ثُبُوتَ التَّوَقُّفِ بِوَاسِطَةِ التَّعَيُّنِ مَعَ لُزُومِ النِّيَّةِ وَاشْتِرَاطِهَا فِي أَدَاءِ الْعِبَادَةِ إذْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُخَلِّي الزَّمَنَ الَّذِي وَجَبَتْ فِيهِ الْعِبَادَةُ عَنْ النِّيَّةِ وَكَانَ هَذَا رِفْقًا بِالْمُكَلَّفِ كَيْ لَا يَتَضَرَّرَ فِي دِينِهِ وَدَفْعًا لِلْحَرَجِ عَنْهُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَقْرِيرِهِ ، وَغَيْرُ الْمُعَيَّنِ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ اعْتِبَارِ خُلُوِّهِ عَنْ النِّيَّةِ لِلْخُلُوِّ الْخَالِي عَنْهَا وَهُوَ الْأَصْلُ أَعْنِي اعْتِبَارَ الْخُلُوِّ لِلْخُلُوِّ الْخَالِي ضَرَرٌ دِينِيٌّ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي فَلَا يَأْثَمُ بِعَدَمِ صِحَّتِهِ لِعَدَمِ النِّيَّةِ فِيهِ فَلَا مُوجِبَ لِلتَّوَقُّفِ ، لَا يُقَالُ تَوَقَّفَ فِي النَّفْلِ ، وَلَيْسَ فِيهِ الْمُوجِبُ الَّذِي ذَكَرْت بَلْ مُجَرَّدُ طَلَبِ الثَّوَابِ وَهُوَ مَعَ إسْقَاطِ الْفَرْضِ ثَابِتٌ فِي كُلِّ يَوْمٍ فِي حَقِّ هَذِهِ الصِّيَامَاتِ فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ فِيهَا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا بَلْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّا نَقُولُ : يَمْنَعُ مِنْهُ لُزُومُ كَوْنِ الْمَعْنَى نَاسِخًا بِالنَّصِّ ، أَعْنِي قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتْ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ } إذْ قَدْ خَرَجَ مِنْهُ الْوَاجِبُ الْمُعَيَّنُ بِالنَّصِّ مُقَارِنًا لِلْمَعْنَى الَّذِي عَيَّنَاهُ ، وَهُوَ لَا يَتَعَدَّاهُ فَلَوْ أَخْرَجَ غَيْرَ الْمُعَيَّنِ أَيْضًا مَعَ أَنَّ النَّفَلَ قَدْ خَرَجَ أَيْضًا بِالنَّصِّ بِمَا ذَكَرْت مِمَّا عَقَلْت فِي إخْرَاجِ النَّفْلِ لَمْ يَبْقَ تَحْتَ الْعَامِّ شَيْءٌ بِالْمَعْنَى الَّذِي عَيَّنْته وَهُوَ مَمْنُوعٌ ، وَلَازِمُهُ كَوْنِ مَا عَيَّنْته فِي النَّفْلِ لَيْسَ مَقْصُودَ الشَّارِعِ مِنْ شَرْعِيَّةِ الصِّحَّةِ فِي النَّفْلِ بَلْ مَقْصُودُهُ زِيَادَةُ تَخْفِيفِ النَّفْلِ عَلَى تَخْفِيفِ الْوَاجِبِ حَيْثُ اُعْتُبِرَ التَّوَقُّفُ فِيهِ

لِمُجَرَّدِ تَحْصِيلِ الثَّوَابِ كَمَا هُوَ الْمَعْهُودُ فِي الصَّلَاةِ حَيْثُ جَازَتْ نَافِلَتُهَا عَلَى الدَّابَّةِ وَجَالِسًا بِلَا عُذْرٍ ، بِخِلَافِ فَرِيضَتِهَا لِلْمَعْنَى الَّذِي قُلْنَا .
لَا يُقَالُ مَا عَلَّلْتُمْ بِهِ فِي الْمُعَيَّنِ قَاصِرٌ ، وَأَنْتُمْ تَمْنَعُونَ التَّعْلِيلَ بِالْقَاصِرَةِ .
لِأَنَّا نَقُولُ ذَلِكَ لِلْقِيَاسِ لَا مُجَرَّدِ إبْدَاءِ مَعْنًى هُوَ حِكْمَةُ الْمَنْصُوصِ لِأَنَّهُ إجْمَاعٌ ، وَالنِّزَاعُ فِي الْمَسْأَلَةِ لَفْظِيٌّ مَبْنِيٌّ عَلَى تَفْسِيرِ التَّعْلِيلِ بِمَا يُسَاوِي الْقِيَاسَ أَوْ أَعَمَّ مِنْهُ لَا يُشَكُّ فِي هَذَا ، وَقَدْ أَوْضَحْنَاهُ فِيمَا كَتَبْنَاهُ [ عَلَى الْبَدِيعِ ] وَمِنْ فُرُوعِ لُزُومِ التَّبْيِيتِ فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ : لَوْ نَوَى الْقَضَاءَ مِنْ النَّهَارِ فَلَمْ يَصِحَّ هَلْ يَقَعُ عَنْ النَّفْلِ : فِي فَتَاوَى النَّسَفِيِّ نَعَمْ ، وَلَوْ أَفْطَرَ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ ؟ قِيلَ : هَذَا إذَا عَلِمَ أَنَّ صَوْمَهُ عَنْ الْقَضَاءِ لَمْ يَصِحَّ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ أَمَّا إذَا لَمْ يَعْلَمْ فَلَا يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ كَمَا فِي الْمَظْنُونِ ( قَوْلُهُ فَإِنَّهُ يَتَمَسَّكُ بِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا ) وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يَنْوِ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ } وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ فِيهِ فَارْجِعْ إلَيْهِ .
وَمِنْ فُرُوعِ النِّيَّةِ أَنَّ الْأَفْضَلَ النِّيَّةُ مِنْ اللَّيْلِ فِي الْكُلِّ ، وَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاءُ يَوْمَيْنِ مِنْ رَمَضَانَ وَاحِدٍ الْأَوْلَى أَنْ يَنْوِيَ أَوَّلَ يَوْمٍ وَجَبَ عَلَيَّ قَضَاؤُهُ مِنْ هَذَا الرَّمَضَانِ ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ الْأَوَّلُ جَازَ وَكَذَا لَوْ كَانَا مِنْ رَمَضَانَيْنِ عَلَى الْمُخْتَارِ ، حَتَّى لَوْ نَوَى الْقَضَاءَ لَا غَيْرُ جَازَ ، وَلَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ فِطْرٍ فَصَامَ أَحَدًا وَسِتِّينَ يَوْمًا عَنْ الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ يَوْمُ الْقَضَاءِ جَازَ ، وَهَلْ يَجُوزُ تَقْدِيمُ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْقَضَاءِ ؟ قِيلَ : يَجُوزُ وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاءُ رَمَضَانَ سَنَةَ كَذَا فَصَامَ شَهْرًا يَنْوِي الْقَضَاءَ عَنْ الشَّهْرِ

الَّذِي عَلَيْهِ ، غَيْرَ أَنَّهُ نَوَى أَنَّهُ رَمَضَانُ سَنَةَ كَذَا لِغَيْرِهِ .
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَجْزِيهِ .
وَلَوْ صَامَ شَهْرًا يَنْوِي الْقَضَاءَ عَنْ سَنَةِ كَذَا عَلَى الْخَطَإِ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ أَفْطَرَ ذَلِكَ قَالَ : لَا يَجْزِيهِ ، وَلَوْ نَوَى بِاللَّيْلِ أَنْ يَصُومَ غَدًا ثُمَّ بَدَا لَهُ فِي اللَّيْلِ وَعَزَمَ عَلَى الْفِطْرِ لَمْ يُصْبِحْ صَائِمًا فَلَوْ أَفْطَرَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَكُنْ رَمَضَانُ ، وَلَوْ مَضَى عَلَيْهِ لَا يَجْزِيهِ لِأَنَّ تِلْكَ النِّيَّةَ انْتَقَضَتْ بِالرُّجُوعِ ، وَلَوْ قَالَ : نَوَيْت صَوْمَ غَدٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، فَعَنْ الْحَلْوَانِيِّ : يَجُوزُ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّ الْمَشِيئَةَ إنَّمَا تُبْطِلُ اللَّفْظَ ، وَالنِّيَّةُ فِعْلُ الْقَلْبِ ، وَلَوْ جَمَعَ فِي نِيَّةٍ وَاحِدَةٍ بَيْنَ صَوْمَيْنِ نَذْكُرُهُ عَنْ قَرِيبٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَإِذَا اشْتَبَهَ عَلَى الْأَسِيرِ الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ رَمَضَانُ تَحَرَّى وَصَامَ ، فَإِنْ ظَهَرَ صَوْمُهُ قَبْلَهُ لَمْ يُجْزِهِ لِأَنَّ صِحَّةَ الْإِسْقَاطِ لَا تَسْبِقُ الْوُجُوبَ ، وَإِنْ ظَهَرَ بَعْدَهُ جَازَ فَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ شَوَّالًا فَعَلَيْهِ قَضَاءُ يَوْمٍ ، فَلَوْ كَانَ نَاقِصًا فَقَضَاءُ يَوْمَيْنِ ، أَوْ ذَا الْحِجَّةِ قَضَى أَرْبَعَةً لِمَكَانِ أَيَّامِ النَّحْرِ وَالتَّشْرِيقِ فَإِنْ اتَّفَقَ كَوْنُهُ نَاقِصًا عَنْ ذَلِكَ الرَّمَضَانِ قَضَى خَمْسَةً ثُمَّ قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمَشَايِخِ : هَذَا إذَا نَوَى أَنْ يَصُومَ مَا عَلَيْهِ مِنْ رَمَضَانَ ، أَمَّا إذَا نَوَى صَوْمَ أَدَاءً لِصِيَامِ رَمَضَانَ فَلَا يَصِحُّ إلَّا أَنْ يُوَافِقَ رَمَضَانَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَ الْجَوَازَ وَهُوَ حَسَنٌ .

فَصْلٌ فِي رُؤْيَةِ الْهِلَالِ قَالَ ( وَيَنْبَغِي لِلنَّاسِ أَنْ يَلْتَمِسُوا الْهِلَالَ فِي الْيَوْمِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ ، فَإِنْ رَأَوْهُ صَامُوا ، وَإِنْ غُمَّ عَلَيْهِمْ أَكْمَلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ صَامُوا ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ الْهِلَالُ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا } وَلِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الشَّهْرِ فَلَا يُنْقَلُ عَنْهُ إلَّا بِدَلِيلٍ وَلَمْ يُوجَدْ .

فَصْلٌ ) ( قَوْلُهُ وَيَنْبَغِي لِلنَّاسِ ) أَيْ يَجِبُ عَلَيْهِمْ وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ ( قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ) فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا } .
وَقَوْلُهُ فِي الْيَوْمِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ فِيهِ تَسَاهُلٌ ، فَإِنَّ التَّرَائِيَ إنَّمَا يَجِبُ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ لَا فِي الْيَوْمِ الَّذِي هِيَ عَشِيَّتُهُ ، نَعَمْ لَوْ رُئِيَ فِي التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ بَعْدَ الزَّوَالِ كَانَ كَرُؤْيَتِهِ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ بِالِاتِّفَاقِ ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي رُؤْيَتِهِ قَبْلَ الزَّوَالِ مِنْ الْيَوْمِ الثَّلَاثِينَ ، فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : هُوَ مِنْ اللَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ فَيَجِبُ صَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَفِطْرُهُ إنْ كَانَ ذَلِكَ فِي آخِرِ رَمَضَانَ .
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : هُوَ لِلْمُسْتَقْبَلَةِ هَكَذَا حَكَى الْخِلَافَ فِي الْإِيضَاحِ ، وَحَكَاهُ فِي الْمَنْظُومَةِ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَقَطْ ، وَفِي التُّحْفَةِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : إذَا كَانَ قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ بَعْدَهُ إلَى الْعَصْرِ فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْعَصْرِ فَهُوَ لِلْمُسْتَقْبَلَةِ بِلَا خِلَافٍ ، وَفِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ ، رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَقَوْلِهِمَا ، وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِثْلَ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ا هـ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ : إنْ كَانَ مَجْرَاهُ أَمَامَ الشَّمْسِ ، وَالشَّمْسُ تَتْلُوهُ فَهُوَ لِلْمَاضِيَةِ ، وَإِنْ كَانَ خَلْفَهَا فَلِلْمُسْتَقْبِلَةِ ، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ : إذَا غَابَ بَعْدَ الشَّفَقِ فَلِلْمَاضِيَةِ ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ فَلِلرَّاهِنَةِ .
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ : أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يُرَى قَبْلَ الزَّوَالِ إلَّا وَهُوَ لِلَيْلَتَيْنِ فَيُحْكَمُ

بِوُجُوبِ الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ عَلَى اعْتِبَارِ ذَلِكَ ، وَلَهُمَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ } فَوَجَبَ سَبْقُ الرُّؤْيَةِ عَلَى الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ ، وَالْمَفْهُومُ الْمُتَبَادَرُ مِنْهُ الرُّؤْيَةُ عِنْدَ عَشِيَّةِ آخِرِ كُلِّ شَهْرٍ عِنْدَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الزَّوَالِ مِنْ الثَّلَاثِينَ ، وَالْمُخْتَارُ قَوْلُهُمَا ، وَهُوَ كَوْنُهُ لِلْمُسْتَقْبَلَةِ قَبْلَ الزَّوَالِ وَبَعْدَهُ ، إلَّا أَنَّ وَاحِدًا لَوْ رَآهُ فِي نَهَارِ الثَّلَاثِينَ مِنْ رَمَضَانَ فَظَنَّ انْقِضَاءَ مُدَّةِ الصَّوْمِ وَأَفْطَرَ عَمْدًا يَنْبَغِي أَنْ لَا تَجِبَ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ ، وَإِنْ رَآهُ بَعْدَ الزَّوَالِ ذَكَرَهُ فِي الْخُلَاصَةِ .
هَذَا وَتُكْرَهُ الْإِشَارَةُ إلَى الْهِلَالِ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ ، لِأَنَّهُ فِعْلُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ ، وَإِذَا ثَبَتَ فِي مِصْرَ لَزِمَ سَائِرَ النَّاسِ فَيَلْزَمُ أَهْلَ الْمَشْرِقِ بِرُؤْيَةِ أَهْلِ الْمَغْرِبِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ وَقِيلَ : يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَطَالِعِ لِأَنَّ السَّبَبَ الشَّهْرُ ، وَانْعِقَادُهُ فِي حَقِّ قَوْمٍ لِلرُّؤْيَةِ لَا يَسْتَلْزِمُ انْعِقَادَهُ فِي حَقِّ آخَرِينَ مَعَ اخْتِلَافِ الْمَطَالِعِ ، وَصَارَ كَمَا لَوْ زَالَتْ أَوْ غَرَبَتْ الشَّمْسُ عَلَى قَوْمٍ دُونَ آخَرِينَ وَجَبَ عَلَى الْأَوَّلِينَ الظُّهْرُ وَالْمَغْرِبُ دُونَ أُولَئِكَ ، وَجْهُ الْأَوَّلِ عُمُومُ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ " صُومُوا " مُعَلَّقًا بِمُطْلَقِ الرُّؤْيَةِ فِي قَوْلِهِ لِرُؤْيَتِهِ ، وَبِرُؤْيَةِ قَوْمٍ يَصْدُقُ اسْمُ الرُّؤْيَةِ فَيَثْبُتُ مَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ عُمُومِ الْحُكْمِ ، فَيَعُمُّ الْوُجُوبَ بِخِلَافِ الزَّوَالِ وَالْغُرُوبِ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ تَعَلُّقُ عُمُومِ الْوُجُوبِ بِمُطْلَقِ مُسَمَّاهُ فِي خِطَابٍ مِنْ الشَّارِعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
ثُمَّ إنَّمَا يَلْزَمُ مُتَأَخِّرِي الرُّؤْيَةِ إذَا ثَبَتَ عِنْدَهُمْ رُؤْيَةُ أُولَئِكَ بِطَرِيقٍ مُوجِبٍ ، حَتَّى لَوْ شَهِدَ جَمَاعَةٌ أَنَّ أَهْلَ بَلَدِ كَذَا رَأَوْا هِلَالَ رَمَضَانَ قَبْلَكُمْ بِيَوْمٍ فَصَامُوا وَهَذَا الْيَوْمُ ثَلَاثُونَ

بِحِسَابِهِمْ ، وَلَمْ يَرَ هَؤُلَاءِ الْهِلَالَ لَا يُبَاحُ لَهُمْ فِطْرُ غَدٍ ، وَلَا تُتْرَكُ التَّرَاوِيحُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ ، لِأَنَّ هَذِهِ الْجَمَاعَةَ لَمْ يَشْهَدُوا بِالرُّؤْيَةِ ، وَلَا عَلَى شَهَادَةِ غَيْرِهِمْ ، وَإِنَّمَا حَكَوْا رُؤْيَةَ غَيْرِهِمْ ، وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّ قَاضِيَ بَلَدِ كَذَا شَهِدَ عِنْدَهُ اثْنَانِ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ فِي لَيْلَةِ كَذَا ، وَقَضَى بِشَهَادَتِهِمَا جَازَ لِهَذَا الْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ بِشَهَادَتِهَا لِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي حُجَّةٌ وَقَدْ شَهِدُوا بِهِ ، وَمُخْتَارُ صَاحِبِ التَّجْرِيدِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَشَايِخِ اعْتِبَارُ اخْتِلَافِ الْمَطَالِعِ ، وَعُورِضَ لَهُمْ بِحَدِيثِ كُرَيْبٌ أَنَّ أُمَّ الْفَضْلِ بَعَثَتْهُ إلَى مُعَاوِيَةَ بِالشَّامِ قَالَ : فَقَدِمْت الشَّامَ فَقَضَيْت حَاجَتَهَا ، وَاسْتَهَلَّ عَلَيَّ رَمَضَانُ وَأَنَا بِالشَّامِ فَرَأَيْت الْهِلَالَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، ثُمَّ قَدِمْت الْمَدِينَةَ فِي آخِرِ الشَّهْرِ فَسَأَلَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ثُمَّ ذَكَرَ الْهِلَالَ ، فَقَالَ : مَتَى رَأَيْتُمُوهُ ؟ فَقُلْت : رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ ، فَقَالَ : أَنْتَ رَأَيْتَهُ ؟ فَقُلْت : نَعَمْ وَرَآهُ النَّاسُ وَصَامُوا وَصَامَ مُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَقَالَ : لَكِنَّا رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ فَلَا نَزَالُ نَصُومُ حَتَّى نُكْمِلَ ثَلَاثِينَ أَوْ نَرَاهُ فَقُلْت : أَوْ لَا تَكْتَفِي بِرُؤْيَةِ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَصَوْمِهِ ، فَقَالَ : لَا هَكَذَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، شَكَّ أَحَدُ رُوَاتِهِ فِي تَكْتَفِي بِالنُّونِ أَوْ بِالتَّاءِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا أَوْلَى لِأَنَّهُ نَصٌّ وَذَلِكَ مُحْتَمَلٌ لِكَوْنِ الْمُرَادِ أَمْرَ كُلِّ أَهْلِ مَطْلَعٍ بِالصَّوْمِ لِرُؤْيَتِهِمْ ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَدْ يُقَالُ : إنَّ لِلْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ هَكَذَا إلَى نَحْوِ مَا جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ أُمِّ الْفَضْلِ ، وَحِينَئِذٍ لَا دَلِيلَ فِيهِ لِأَنَّ مِثْلَ مَا وَقَعَ مِنْ كَلَامِهِ لَوْ وَقَعَ لَنَا لَمْ نَحْكُمْ بِهِ ، لِأَنَّهُ لَمْ

يَشْهَدْ عَلَى شَهَادَةِ غَيْرِهِ وَلَا عَلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ .
فَإِنْ قِيلَ : إخْبَارُهُ عَنْ صَوْمِ مُعَاوِيَةَ يَتَضَمَّنُهُ لِأَنَّهُ الْإِمَامُ يُجَابُ بِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِلَفْظَةِ الشَّهَادَةِ ، وَلَوْ سُلِّمَ فَهُوَ وَاحِدٌ لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى الْقَاضِي ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وَالْأَخْذُ بِظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَحْوَطُ .

( وَلَا يَصُومُونَ يَوْمَ الشَّكِّ إلَّا تَطَوُّعًا ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يُصَامُ الْيَوْمُ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ إلَّا تَطَوُّعًا } وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَنْوِيَ صَوْمَ رَمَضَانَ وَهُوَ مَكْرُوهٌ لِمَا رَوَيْنَا ، وَلِأَنَّهُ تَشَبُّهٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ لِأَنَّهُمْ زَادُوا فِي مُدَّةِ صَوْمِهِمْ ثُمَّ إنْ ظَهَرَ أَنَّ الْيَوْمَ مِنْ رَمَضَانَ يَجْزِيهِ لِأَنَّهُ شَهِدَ الشَّهْرَ وَصَامَهُ وَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ مِنْ شَعْبَانَ كَانَ تَطَوُّعًا ، وَإِنْ أَفْطَرَ لَمْ يَقْضِهِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمَظْنُونِ .
وَالثَّانِي : أَنْ يَنْوِيَ عَنْ وَاجِبٍ آخَرَ وَهُوَ مَكْرُوهٌ أَيْضًا لِمَا رَوَيْنَا إلَّا أَنَّ هَذَا دُونَ الْأَوَّلِ فِي الْكَرَاهَةِ ثُمَّ إنْ ظَهَرَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ يَجْزِيهِ لِوُجُودِ أَصْلِ النِّيَّةِ ، وَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ مِنْ شَعْبَانَ فَقَدْ قِيلَ : يَكُونُ تَطَوُّعًا لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَلَا يَتَأَدَّى بِهِ الْوَاجِبُ ، وَقِيلَ : يَجْزِيهِ عَنْ الَّذِي نَوَاهُ وَهُوَ الْأَصَحُّ لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ وَهُوَ التَّقَدُّمُ عَلَى رَمَضَانَ بِصَوْمِ رَمَضَانَ لَا يَقُومُ بِكُلِّ صَوْمٍ ، بِخِلَافِ يَوْمِ الْعِيدِ لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ وَهُوَ تَرْكُ الْإِجَابَةِ بِلَازِمِ كُلِّ صَوْمٍ ، وَالْكَرَاهِيَةُ هَهُنَا لِصُورَةِ النَّهْيِ .
وَالثَّالِثُ : أَنْ يَنْوِيَ التَّطَوُّعَ وَهُوَ غَيْرُ مَكْرُوهٍ لِمَا رَوَيْنَا وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ عَلَى سَبِيلِ الِابْتِدَاءِ ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَتَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلَا بِصَوْمِ يَوْمَيْنِ } الْحَدِيثَ ، التَّقَدُّمُ بِصَوْمِ رَمَضَانَ لِأَنَّهُ يُؤَدِّيهِ قَبْلَ أَوَانِهِ ، ثُمَّ إنْ وَافَقَ صَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ فَالصَّوْمُ أَفْضَلُ بِالْإِجْمَاعِ : وَكَذَا إذَا صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ آخِرِ الشَّهْرِ فَصَاعِدًا ، وَإِنْ أَفْرَدَهُ فَقَدْ قِيلَ : الْفِطْرُ أَفْضَلُ احْتِرَازًا عَنْ ظَاهِرِ النَّهْيِ وَقَدْ قِيلَ : الصَّوْمُ أَفْضَلُ اقْتِدَاءً بِعَلِيٍّ وَعَائِشَةَ رَضِيَ

اللَّهُ عَنْهُمَا فَإِنَّهُمَا كَانَا يَصُومَانِهِ ، وَالْمُخْتَارُ أَنْ يَصُومَ الْمُفْتِي بِنَفْسِهِ أَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ ، وَيُفْتِي الْعَامَّةَ بِالتَّلَوُّمِ إلَى وَقْتِ الزَّوَالِ ثُمَّ بِالْإِفْطَارِ نَفْيًا لِلتُّهْمَةِ .
وَالرَّابِعُ : أَنْ يُضْجَعَ فِي أَصْلِ النِّيَّةِ بِأَنْ يَنْوِي أَنْ يَصُومَ غَدًا إنْ كَانَ مِنْ رَمَضَانَ وَلَا يَصُومُهُ إنْ كَانَ مِنْ شَعْبَانَ ، وَفِي هَذَا الْوَجْهِ لَا يَصِيرُ صَائِمًا لِأَنَّهُ لَمْ يَقْطَعْ عَزِيمَتَهُ فَصَارَ كَمَا إذَا نَوَى أَنَّهُ إنْ وَجَدَ غَدًا غَدَاءً يُفْطِرُ ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ يَصُومُ .
وَالْخَامِسُ : أَنْ يُضْجَعَ فِي وَصْفِ النِّيَّةِ بِأَنْ يَنْوِيَ إنْ كَانَ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ يَصُومُ عَنْهُ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ شَعْبَانَ فَعَنْ وَاجِبٍ آخَرَ ، وَهَذَا مَكْرُوهٌ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ مَكْرُوهَيْنِ .
ثُمَّ إنْ ظَهَرَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ أَجْزَأَهُ لِعَدَمِ التَّرَدُّدِ فِي أَصْلِ النِّيَّةِ ، وَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ مِنْ شَعْبَانَ لَا يَجْزِيهِ عَنْ وَاجِبٍ آخَرَ لِأَنَّ الْجِهَةَ لَمْ تَثْبُتْ لِلتَّرَدُّدِ فِيهَا ، وَأَصْلُ النِّيَّةِ لَا يَكْفِيهِ لَكِنَّهُ يَكُونُ تَطَوُّعًا غَيْرَ مَضْمُونٍ بِالْقَضَاءِ لِشُرُوعِهِ فِيهِ مُسْقِطًا ، وَإِنْ نَوَى عَنْ رَمَضَانَ إنْ كَانَ غَدًا مِنْهُ وَعَنْ التَّطَوُّعِ إنْ كَانَ مِنْ شَعْبَانَ يُكْرَهُ لِأَنَّهُ نَاوٍ لِلْفَرْضِ مِنْ وَجْهٍ ، ثُمَّ إنْ ظَهَرَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ أَجْزَأَهُ عَنْهُ لِمَا مَرَّ ، وَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ مِنْ شَعْبَانَ جَازَ عَنْ نَفْلِهِ لِأَنَّهُ يَتَأَدَّى بِأَصْلِ النِّيَّةِ ، وَلَوْ أَفْسَدَهُ يَجِبُ أَنْ لَا يَقْضِيَهُ لِدُخُولِ الْإِسْقَاطِ فِي عَزِيمَتِهِ مِنْ وَجْهٍ .

( قَوْلُهُ وَلَا يَصُومُونَ يَوْمَ الشَّكِّ إلَّا تَطَوُّعًا ) الْكَلَامُ هُنَا فِي تَصْوِيرِ يَوْمِ الشَّكِّ وَبَيَانِ حُكْمِهِ وَبَيَانِ الِاخْتِلَافِ فِيهِ ، أَمَّا الْأَوَّلُ قَالَ هُوَ اسْتِوَاءُ طَرَفَيْ الْإِدْرَاكِ مِنْ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ ، وَمُوجِبُهُ هُنَا أَنْ يُغَمَّ الْهِلَالُ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ فَيَشُكُّ فِي الْيَوْمِ الثَّلَاثِينَ أَمِنْ رَمَضَانَ هُوَ أَوْ مِنْ شَعْبَانَ ؟ أَوْ يُغَمَّ مِنْ رَجَبٍ هِلَالُ شَعْبَانَ فَأُكْمِلَتْ عِدَّتُهُ ، وَلَمْ يَكُنْ رُئِيَ هِلَالُ رَمَضَانَ فَيَقَعُ الشَّكُّ فِي الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ أَهُوَ الثَّلَاثُونَ أَوْ الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ ، وَمِمَّا ذُكِرَ فِيهِ مِنْ كَلَامِ غَيْرِ أَصْحَابِنَا مَا إذَا شَهِدَ مَنْ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ ، وَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَعْتَبِرُوا ذَلِكَ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ فِي الصَّحْوِ فَهُوَ مَحْكُومٌ بِغَلَطِهِ عِنْدَنَا لِظُهُورِهِ ، فَمُقَابِلُهُ مَوْهُومٌ لَا مَشْكُوكٌ .
وَإِنْ كَانَ فِي غَيْمٍ فَهُوَ شَكٌّ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ بِهِ أَحَدٌ ، وَهَذَا لِأَنَّ الشَّهْرَ لَيْسَ الظَّاهِرُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ ثَلَاثِينَ ، حَتَّى أَنَّهُ إذَا كَانَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَكُونُ مَجِيئًا عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ ، بَلْ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ كَمَا يَكُونُ ثَلَاثِينَ تَسْتَوِي هَاتَانِ الْحَالَتَانِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ كَمَا يُعْطِيهِ الْحَدِيثُ الْمَعْرُوفُ فِي الشَّهْرِ ، فَاسْتَوَى الْحَالُ حِينَئِذٍ فِي الثَّلَاثِينَ أَنَّهُ مِنْ الْمُنْسَلِخِ أَوْ الْمُسْتَهَلِّ إذَا كَانَ غَيْمٌ فَيَكُونُ مَشْكُوكًا ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ الْمُسْتَهَلِّ لَرُئِيَ عِنْدَ التَّرَائِيِ ، فَلَمَّا لَمْ يُرَ كَانَ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُنْسَلِخَ ثَلَاثُونَ ، فَيَكُونُ هَذَا الْيَوْمُ مِنْهُ غَيْرَ مَشْكُوكٍ فِي ذَلِكَ ، وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ بَيَانُ حُكْمِ صَوْمِهِ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَقْطَعَ النِّيَّةَ أَوْ يُرَدِّدَهَا ، وَعَلَى الْأَوَّلِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَنْوِيَ بِهِ صَوْمَ رَمَضَانَ أَوْ وَاجِبٍ آخَرَ أَوْ التَّطَوُّعِ ابْتِدَاءً أَوْ لِاتِّفَاقِ يَوْمٍ كَانَ يَصُومُهُ أَوْ أَيَّامٍ ، بِأَنْ كَانَ يَصُومُ مَثَلًا

ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ آخِرِ كُلِّ شَهْرٍ ، وَعَلَى الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يُضْجَعَ فِيهَا ، فَأَمَّا فِي أَصْلِ النِّيَّةِ بِأَنْ يَنْوِيَ مِنْ رَمَضَانَ إنْ كَانَ مِنْهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ فَلَا يَصُومُ ، أَوْ فِي وَصْفِهَا بِأَنْ يَنْوِيَ صَوْمَ رَمَضَانَ إنْ كَانَ مِنْهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ فَعَنْ وَاجِبٍ كَذَا قَضَاءٌ أَوْ كَفَّارَةٌ أَوْ نَذْرٌ أَوْ رَمَضَانُ إنْ كَانَ مِنْهُ ، وَإِلَّا فَعَنْ النَّفْلِ وَالْكُلُّ مَكْرُوهٌ إلَّا فِي التَّرَدُّدِ فِي أَصْلِهَا ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ صَائِمًا وَإِلَّا فِي النَّفْلِ بِلَا إضْجَاعٍ بَلْ فِي صُورَةِ قَطْعِ النِّيَّةِ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ لِمُوَافَقَةِ صَوْمٍ كَانَ يَصُومُهُ أَوْ ابْتِدَاءٍ ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَفْضَلِ إذَا لَمْ يُوَافِقْ صَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ قِيلَ : الْفِطْرُ ، وَقِيلَ : الصَّوْمُ ، ثُمَّ فِيمَا يُكْرَهُ تَتَفَاوَتُ الْكَرَاهَةُ ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ ظَاهِرٌ مِنْ الْكِتَابِ .
وَهَذَا فِي عَيْنِ يَوْمِ الشَّكِّ ، فَأَمَّا صَوْمُ مَا قَبْلَهُ فَفِي التُّحْفَةِ قَالَ : وَالصَّوْمُ قَبْلَ رَمَضَانَ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ مَكْرُوهٌ أَيُّ صَوْمٍ كَانَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلَا يَوْمَيْنِ إلَّا أَنْ يُوَافِقَ صَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ } .
قَالَ : وَإِنَّمَا كَرِهَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَوْفًا مِنْ أَنْ يُظَنَّ أَنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَى صَوْمِ رَمَضَانَ إذَا اعْتَادُوا ذَلِكَ ، وَعَنْ هَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ يُكْرَهُ وَصْلُ رَمَضَانَ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ ، وَذَكَرَ قَبْلَهُ بِأَسْطُرٍ عَدَمَ كَرَاهَةِ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ تَطَوُّعًا ، ثُمَّ قَيَّدَهُ بِكَوْنِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَعْلَمُ الْعَوَامُّ ذَلِكَ كَيْ لَا يَعْتَادُوا صَوْمَهُ فَيَظُنُّهُ الْجُهَّالُ زِيَادَةً فِي رَمَضَانَ ا هـ .
وَظَاهِرُ الْكَافِي فِي خِلَافِهِ قَالَ : إنْ وَافَقَ يَعْنِي يَوْمَ الشَّكِّ صَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ فَالصَّوْمُ أَفْضَلُ ، وَكَذَا إذَا صَامَ كُلَّهُ أَوْ نِصْفَهُ أَوْ ثَلَاثَةً مِنْ آخِرِهِ ا هـ .
وَلَمْ يُقَيِّدْ بِكَوْنِ صَوْمِ الثَّلَاثَةِ عَادَةً وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَيْضًا ،

حَيْثُ حَمَلَ حَدِيثَ التَّقَدُّمِ عَلَى التَّقَدُّمِ بِصَوْمِ رَمَضَانَ ، مَعَ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَحْمِلَهُ عَلَيْهِ وَيُكْرَهُ صَوْمُهَا لِمَعْنَى مَا فِي التُّحْفَةِ فَتَأَمَّلْ .
وَمَا فِي التُّحْفَةِ أَوْجَهُ .
وَأَمَّا الثَّالِثُ : فَقَدْ عَلِمْت أَنَّ مَذْهَبَنَا إبَاحَتُهُ وَمَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ كَرَاهَتُهُ وَإِنْ لَمْ يُوَافِقْ صَوْمًا لَهُ ، وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ وُجُوبُ صَوْمِهِ بِنِيَّةِ رَمَضَانَ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي التَّحْقِيقِ .
وَلْنَأْتِ الْآنَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ الْأَحَادِيثِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ اسْتِدْلَالُ الْمَذَاهِبِ لِيَظْهَرَ مُطَابَقَتُهَا لِأَيِّ الْمَذَاهِبِ .
وَالْأَوَّلُ : حَدِيثُ { لَا يُصَامُ الْيَوْمُ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ إلَّا تَطَوُّعًا } لَمْ يُعْرَفْ قِيلَ : وَلَا أَصْلَ لَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسَيَأْتِي ثُبُوتُ الْمَقْصُودِ وَهُوَ إبَاحَةُ الصَّوْمِ بِوَجْهٍ آخَرَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الثَّانِي : { لَا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ إلَّا رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمًا فَيَصُومُهُ } رَوَاهُ السِّتَّةُ فِي كُتُبِهِمْ .
الثَّالِثُ : مَا أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا بَقِيَ النِّصْفُ مِنْ شَعْبَانَ فَلَا تَصُومُوا } وَقَالَ : حَسَنٌ صَحِيحٌ .
لَا يُعْرَفُ إلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ ، وَمَعْنَاهُ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يُفْطِرَ الرَّجُلُ حَتَّى إذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ أَخَذَ فِي الصَّوْمِ .
الرَّابِعُ : مَا ذَكَرَهُ مِنْ قَوْلِهِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ فَقَدْ عَصَا أَبَا الْقَاسِمِ } وَإِنَّمَا ثَبَتَ مَوْقُوفًا عَلَى عَمَّارٍ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا عَنْهُ ، فَقَالَ : وَقَالَ : صِلَةُ عَنْ عَمَّارٍ { مَنْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ } إلَخْ وَأَصْلُ الْحَدِيثِ مَا رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ فِي كُتُبِهِمْ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ صِلَةَ بْنِ زُفَرَ قَالَ : كُنَّا عِنْدَ عَمَّارٍ

فِي الْيَوْمِ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ فَأُتِيَ بِشَاةٍ مَصْلِيَّةٍ فَتَنَحَّى بَعْضُ الْقَوْمِ فَقَالَ عَمَّارٌ : مَنْ صَامَ هَذَا الْيَوْمَ فَقَدْ عَصَا أَبَا الْقَاسِمِ رَوَاهُ الْخَطِيبُ فِي تَارِيخِ بَغْدَادَ فِي تَرْجَمَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْآدَمِيِّ .
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ الْوَكِيعِيُّ : حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ " ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ مَنْ صَامَ الْيَوْمَ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ " ثُمَّ قَالَ : تَابَعَ الْآدَمِيُّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ بْنُ عَاصِمٍ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ وَكِيعٍ الْخَامِسُ : مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ } وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ .
وَعِنْدَ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَهُ { فَإِنْ حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ سَحَابٌ فَكَمِّلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ وَلَا تَسْتَقْبِلُوا الشَّهْرَ اسْتِقْبَالًا } .
السَّادِسُ : مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى وُجُوبِ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ لِرَجُلٍ هَلْ صُمْتَ مِنْ سَرَرِ شَعْبَانَ ؟ قَالَ : لَا قَالَ : فَإِذَا أَفْطَرْتَ فَصُمْ يَوْمًا مَكَانَهُ وَفِي لَفْظٍ فَصُمْ يَوْمًا } .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا فَإِنَّهُ صَوْمُ دَاوُد } وَسِرَارُ الشَّهْرِ آخِرُهُ سُمِّيَ بِهِ لِاسْتِسْرَارِ الْقَمَرِ فِيهِ ، قَالَهُ الْمُنْذِرِيُّ وَغَيْرُهُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ السِّرَارَ قَدْ يُقَالُ عَلَى الثَّلَاثِ الْأَخِيرَةِ مِنْ لَيَالِيِ الشَّهْرِ ، لَكِنْ دَلَّ قَوْلُهُ " صُمْ يَوْمًا " عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ صُمْ آخِرَهَا لَا كُلَّهَا ، وَإِلَّا قَالَ : صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مَكَانَهَا ، وَكَذَا قَوْلُهُ مِنْ سَرَرِ الشَّهْرِ لِإِفَادَةِ التَّبْعِيضِ وَعِنْدَنَا هَذَا يُفِيدُ اسْتِحْبَابَ صَوْمِهِ لَا وُجُوبَهُ ، لِأَنَّهُ مُعَارَضٌ بِنَهْيِ التَّقَدُّمِ بِصِيَامِ يَوْمٍ أَوْ

يَوْمَيْنِ فَيُحْمَلُ عَلَى كَوْنِ الْمُرَادِ التَّقَدُّمَ بِصَوْمِ رَمَضَانَ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ ، وَهُوَ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ ، وَيَصِيرُ حَدِيثُ السَّرَرِ لِلِاسْتِحْبَابِ ، وَلِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي يُعْقَلُ فِيهِ هُوَ أَنْ يَخْتِمَ شَعْبَانَ بِالْعِبَادَةِ كَمَا يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ كُلَّ شَهْرٍ .
فَهُوَ بَيَانُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ وَهُوَ خَتْمُ الشَّهْرِ بِعِبَادَةِ الصَّوْمِ لَا يَخْتَصُّ بِغَيْرِ شَعْبَانَ كَمَا قَدْ يُتَوَهَّمُ بِسَبَبِ اتِّصَالِ الصَّوْمِ الْوَاجِبِ بِهِ بِخِلَافِ حَمْلِ حَدِيثِ التَّقَدُّمِ عَلَى صَوْمِ النَّفْلِ ، فَيُجْعَلُ هُوَ الْمَمْنُوعُ ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ هُوَ الْوَاجِبُ بِحَدِيثِ السَّرَرِ ، فَيَكُونُ مَنْعُ النَّفْلِ بِسَبَبِ الْإِخْلَالِ بِالْوَاجِبِ الْمُفَادِ بِحَدِيثِ السَّرَرِ ، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى فَتْحِ مَفْسَدَةِ ظَنِّ الزِّيَادَةِ فِي رَمَضَانَ عِنْدَ تَكَرُّرِهِ مَعَ غَلَبَةِ الْجَهْلِ ، وَهُوَ مُكَفِّرٌ لِأَنَّهُ كَذِبٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا شَرَعَ كَمَا فَعَلَ أَهْلُ الْكِتَابِ حَيْثُ زَادُوا فِي مُدَّةِ صَوْمِهِمْ ، فَيَثْبُتُ بِذَلِكَ مَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ مِنْ حِلِّ صَوْمِهِ مُخْفِيًا عَنْ الْعَوَامّ ، وَكُلُّ مَا وَافَقَ حَدِيثَ التَّقَدُّمِ فِي مَنْعِهِ كَحَدِيثِ إكْمَالِ الْعِدَّةِ فَهُوَ مِثْلُهُ فِي وُجُوبِ حَمْلِهِ عَلَى صَوْمِ رَمَضَانَ ، لِأَنَّ صَوْمَهُ تَطَوُّعًا إكْمَالٌ لِعِدَّةِ شَعْبَانَ ، وَحَدِيثُ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِتَقْدِيرِ تَسْلِيمِهِ مَوْقُوفٌ لَا يُعَارَضُ بِهِ حَدِيثُ السَّرَرِ ، وَالْأَوْلَى حَمْلُهُ عَلَى إرَادَةِ صَوْمِهِ عَنْ رَمَضَانَ ، وَكَأَنَّهُ فَهِمَ مِنْ الرَّجُلِ الْمُتَنَحِّي قَصْدَ ذَلِكَ فَلَا تَعَارُضَ حِينَئِذٍ أَصْلًا .
وَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ لَا يُكْرَهُ صَوْمُ وَاجِبٍ آخَرَ فِي يَوْمِ الشَّكِّ ، لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ صَوْمُ رَمَضَانَ لَيْسَ غَيْرُ إذْ لَمْ يَثْبُتْ غَيْرُهُ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ التُّحْفَةِ حَيْثُ قَالَ : أَمَّا الْمَكْرُوهُ فَأَنْوَاعٌ ، إلَى أَنْ قَالَ : وَصَوْمُ يَوْمِ الشَّكِّ بِنِيَّةِ رَمَضَانَ أَوْ بِنِيَّةٍ مُتَرَدِّدَةٍ ثُمَّ ذَكَرَ صُورَتَهُ ، ثُمَّ قَالَ : وَقَدْ

قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ فِيهِ عَنْ وَاجِبٍ آخَرَ ، وَعَنْ التَّطَوُّعِ مُطْلَقًا لَا يُكْرَهُ ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمَكْرُوهَ مَا قُلْنَا ، يَعْنِي صَوْمَ رَمَضَانَ وَهُوَ غَيْرُ بَعِيدٍ مِنْ كَلَامِ الشَّارِحِينَ ، وَالْكَافِي وَغَيْرِهِمْ ، حَيْثُ ذَكَرُوا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ حَدِيثِ التَّقَدُّمِ التَّقَدُّمُ بِصَوْمِ رَمَضَانَ ، قَالُوا : وَمُقْتَضَاهُ أَنْ لَا يُكْرَهَ وَاجِبٌ آخَرُ أَصْلًا وَإِنَّمَا كُرِهَ لِصُورَةِ النَّهْيِ فِي حَدِيثِ الْعِصْيَانِ ، وَحَقِيقَةُ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى وَجْهٍ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنْ يَتْرُكَ صَوْمُهُ عَنْ وَاجِبٍ آخَرَ تَوَرُّعًا وَإِلَّا فَبَعْدَ تَأَدِّي الِاجْتِهَادِ إلَى وُجُوبِ كَوْنِ الْمُرَادِ مِنْ النَّهْيِ عَنْ التَّقَدُّمِ صَوْمَ رَمَضَانَ كَيْفَ يُوجِبُ حَدِيثُ الْعِصْيَانِ مَنْعَ غَيْرِهِ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ حَدِيثِ التَّقَدُّمِ وَبَيْنَهُ ، فَمَا وَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ وَجَبَ حَمْلُ الْآخَرِ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ إذْ لَا فَرْقَ فِي الْمَعْنَى سِوَى تَعَدُّدِ السَّنَدِ هَذَا بَعْدَ حَمْلِهِ عَلَى السَّمَاعِ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
( قَوْلُهُ : لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمَظْنُونِ ) وَلَمْ يَقُلْ مَظْنُونٌ لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ تَتَوَقَّفُ عَلَى تَيَقُّنِ الْوُجُوبِ ، ثُمَّ الشَّكِّ فِي إسْقَاطِهِ وَعَدَمِهِ ، وَهُوَ مُنْتَفٍ لَكِنَّ هَذَا فِي مَعْنَاهُ حَيْثُ ظَنَّ أَنَّ عَلَيْهِ صَوْمًا ( قَوْلُهُ : وَهُوَ مَكْرُوهٌ أَيْضًا لِمَا رَوَيْنَا ) يَعْنِي لَا يُصَامُ الْيَوْمُ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ إلَّا تَطَوُّعًا ، وَقَدْ عَرَفْت أَنَّهُ لَا أَصْلَ لَهُ ( قَوْلُهُ : إلَّا أَنَّ هَذَا دُونَ الْأَوَّلِ فِي الْكَرَاهَةِ ) لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِ رَمَضَانَ الَّذِي هُوَ مَثَارُ النَّهْيِ .
( قَوْلُهُ وَهُوَ الْأَصَحُّ ) لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ وَهُوَ التَّقَدُّمُ بِصَوْمِ رَمَضَانَ لَا يَقُومُ بِكُلِّ صَوْمٍ بَلْ بِصَوْمِ رَمَضَانَ فَقَطْ ، وَعَنْ هَذَا لَا يُكْرَهُ أَصْلًا إلَّا أَنَّهُ كُرِهَ لِصُورَةِ النَّهْيِ : أَيْ النَّهْيِ الْمَحْمُولِ عَلَى رَمَضَانَ فَإِنَّهُ وَإِنْ حُمِلَ عَلَيْهِ فَصُورَتُهُ اللَّفْظِيَّةُ قَائِمَةٌ

فَالتَّوَرُّعُ أَنْ لَا يَحِلَّ بِسَاحَتِهَا أَصْلًا .
وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّهَا كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ الَّتِي مَرْجِعُهَا إلَى خِلَافِ الْأَوْلَى لَا غَيْرُ لَا لِمَعْنًى فِي نَفْسِ الصَّوْمِ ، فَلَا يُوجِبُ نُقْصَانًا فِي ذَاتِهِ لِيَمْنَعَ مِنْ وُقُوعِهِ عَنْ الْكَامِلِ وَلَا يَكُونُ كَالصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ ، بَلْ دُونَ ذَلِكَ عَلَى مَا حَقَّقْنَاهُ آنِفًا ( قَوْلُهُ : وَقَدْ قِيلَ الصَّوْمُ أَفْضَلُ اقْتِدَاءً بِعَائِشَةَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَإِنَّهُمَا كَانَ يَصُومَانِهِ ) قَالَ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ لَا دَلَالَةَ فِيهِ لِأَنَّهُمَا كَانَا يَصُومَانِهِ بِنِيَّةِ رَمَضَانَ ، وَقَالَ فِي الْغَايَةِ رَدًّا عَلَى صَاحِبِ الْهِدَايَةِ إنَّ مَذْهَبَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خِلَافُ ذَلِكَ ، وَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ يُنَازِعُ فِيمَا ذَكَرَهُ شَارِحُ الْكَنْزِ ، لِأَنَّ الْمَنْقُولَ مِنْ قَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي صَوْمِهَا لَأَنْ أَصُومَ يَوْمًا مِنْ شَعْبَانَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُفْطِرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ ، فَهَذَا الْكَلَامُ يُفِيدُ أَنَّهَا تَصُومُهُ عَلَى أَنَّهُ يَوْمٌ مِنْ شَعْبَانَ كَيْ لَا تَقَعَ فِي إفْطَارِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ ، وَيَبْعُدُ أَنْ تَقْصِدَ بِهِ رَمَضَانَ بَعْدَ حُكْمِهَا بِأَنَّهُ مِنْ شَعْبَانَ ، وَكَوْنُهُ مِنْ رَمَضَانَ احْتِمَالٌ ، وَالْأَوْلَى فِي التَّمَسُّكِ عَلَى الْأَفْضَلِيَّةِ حَدِيثُ السَّرَرِ فَإِنَّهُ يُفِيدُ بَعْدَ الْجَمْعِ الَّذِي وَجَبَ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ الِاسْتِحْبَابَ لَا الْإِبَاحَةَ ، وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ سَبَبًا لِلْمَفْسَدَةِ فِي الِاعْتِقَادِ ، فَلِذَا كَانَ الْمُخْتَارُ أَنْ يَصُومَ الْمُفْتِي بِنَفْسِهِ أَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ ، وَيُفْتِي الْعَامَّةَ بِالتَّلَوُّمِ إلَى وَقْتِ الزَّوَالِ ثُمَّ بِالْإِفْطَارِ حَسْمًا لِمَادَّةِ اعْتِقَادِ الزِّيَادَةِ ، وَيَصُومُ فِيهِ الْمُفْتِي سِرًّا لِئَلَّا يُتَّهَمَ بِالْعِصْيَانِ فَإِنَّهُ أَفْتَاهُمْ بِالْإِفْطَارِ بَعْدَ التَّلَوُّمِ لِحَدِيثِ الْعِصْيَانِ وَهُوَ مُشْتَهِرٌ بَيْنَ الْعَوَامّ .
فَإِذَا خَالَفَ إلَى الصَّوْمِ اتَّهَمُوهُ بِالْمَعْصِيَةِ ، وَقِصَّةُ أَبِي يُوسُفَ صَرِيحَةٌ فِي

أَنَّ مَنْ صَامَهُ مِنْ الْخَاصَّةِ لَا يُظْهِرُهُ لِلْعَامَّةِ وَهِيَ مَا حَكَاهُ أَسَدُ بْنُ عَمْرٍو ، قَالَ : أَتَيْت بَابَ الرَّشِيدِ فَأَقْبَلَ أَبُو يُوسُفَ الْقَاضِي وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ وَمِدْرَعَةٌ سَوْدَاءُ وَخُفٌّ أَسْوَدُ وَرَاكِبٌ عَلَى فَرَسٍ أَسْوَدَ ، وَمَا عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْبَيَاضِ إلَّا لِحْيَتَهُ الْبَيْضَاءُ ، وَهُوَ يَوْمُ شَكٍّ فَأَفْتَى النَّاسَ بِالْفِطْرِ فَقُلْت لَهُ : أَمُفْطِرٌ أَنْتَ ؟ فَقَالَ : اُدْنُ إلَيَّ ، فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَقَالَ فِي أُذُنِي : أَنَا صَائِمٌ ، وَقَوْلُهُ الْمُفْتِي لَيْسَ بِقَيْدٍ بَلْ كُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ الْخَاصَّةِ وَهُوَ يَتَمَكَّنُ مِنْ ضَبْطِ نَفْسِهِ عَنْ الْإِضْجَاع فِي النِّيَّةِ وَمُلَاحَظَةِ كَوْنِهِ عَنْ الْفَرْضِ إنْ كَانَ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ ( قَوْلُهُ أَجْزَأَهُ لِعَدَمِ التَّرَدُّدِ فِي أَصْلِ النِّيَّةِ ) وَعَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ : لَا يَجْزِيهِ عَنْ رَمَضَانَ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مُحَمَّدٍ ، وَأَصْلُهُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ مُحَمَّدٌ مِنْ أَنَّهُ إذَا كَبَّرَ يَنْوِي الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ ، عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يَصِيرُ شَارِعًا فِي الظُّهْرِ ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ لَا يَصِيرُ شَارِعًا فِي الصَّلَاةِ أَصْلًا لَكِنَّ الْمَسْطُورَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ لَوْ نَوَى الْقَضَاءَ وَالتَّطَوُّعَ كَانَ عَنْ الْقَضَاءِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ أَقْوَى ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ عَنْ التَّطَوُّعِ لِأَنَّ النِّيَّتَيْنِ تَدَافَعَتَا فَبَقِيَ مُطْلَقُ النِّيَّةِ فَيَقَعُ عَنْ التَّطَوُّعِ ، وَلِأَبِي يُوسُفَ مَا قُلْنَا ، وَلِأَنَّ نِيَّةَ التَّطَوُّعِ لِلْمُتَطَوِّعِ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهَا فَلَغَتْ وَتَعَيَّنَتْ نِيَّةُ الْقَضَاءِ فَيَقَعُ عَنْ الْقَضَاءِ .
وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَقَعَ عَنْ رَمَضَانَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ ، لِأَنَّ التَّدَافُعَ لَمَّا أَوْجَبَ بَقَاءَ مُطْلَقِ النِّيَّةِ حَتَّى وَقَعَ عَنْ التَّطَوُّعِ ، وَجَبَ أَنْ يَقَعَ عَنْ رَمَضَانَ لِتَأَدِّيهِ بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ ، وَنَظِيرُهُ مِنْ الْفُرُوعِ الْمَنْقُولَةِ أَيْضًا لَوْ نَوَى قَضَاءَ رَمَضَانَ ، وَكَفَّارَةَ الظِّهَارِ كَانَ عَنْ الْقَضَاءِ اسْتِحْسَانًا ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ .
وَفِي الْقِيَاسِ

وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ : يَكُونُ تَطَوُّعًا لِتَدَافُعِ النِّيَّتَيْنِ فَصَارَ كَأَنَّهُ صَامَ مُطْلَقًا .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ : أَنَّ الْقَضَاءَ أَقْوَى لِأَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَكَفَّارَةُ الظِّهَارِ فِيهِ حَقٌّ لَهُ فَيَتَرَجَّحُ الْقَضَاءُ ، وَلَوْ نَذَرَ صَوْمَ يَوْمٍ بِعَيْنِهِ فَنَوَى النَّذْرَ وَكَفَّارَةَ الْيَمِينِ يَقَعُ عَنْ النَّذْرِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ ، وَفِي هَذِهِ كُلِّهَا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ عَدَمِ بُطْلَانِ مُطْلَقِ النِّيَّةِ عِنْدَهُ وَصِحَّةِ النَّذْرِ لِأَنَّهُ نَفْلٌ فِي حَدِّ ذَاتِهِ ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ ، فَإِنَّهُ لَوْ بَقِيَ أَصْلُ النِّيَّةِ فِي نِيَّةِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ لَكَانَ شَارِعًا فِي صَلَاةِ نَفْلٍ ، وَهُوَ يَمْنَعُهُ عَلَى مَا عُرِفَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ مِنْ أَنَّهُ إذَا بَطَلَ وَصْفُ الْفَرْضِيَّةِ لَا يَبْقَى أَصْلُ الصَّلَاةِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، وَهُوَ مُطَالَبٌ بِالْفَرْقِ أَوْ يَجْعَلُ مَا ذَكَرْنَا عَنْهُ فِي الصَّوْمِ رِوَايَةً تُوَافِقُ قَوْلَهُمَا فِي الصَّلَاةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ

قَالَ ( وَمَنْ رَأَى هِلَالَ رَمَضَانَ وَحْدَهُ صَامَ وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ الْإِمَامُ شَهَادَتَهُ ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ } وَقَدْ رَأَى ظَاهِرًا وَإِنْ أَفْطَرَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ إنْ أَفْطَرَ بِالْوِقَاعِ لِأَنَّهُ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ حَقِيقَةً لِتَيَقُّنِهِ بِهِ وَحُكْمًا لِوُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَيْهِ وَلَنَا أَنَّ الْقَاضِيَ رَدَّ شَهَادَتَهُ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ وَهُوَ تُهْمَةُ الْغَلَطِ ، فَأَوْرَثَ شُبْهَةً وَهَذِهِ الْكَفَّارَةُ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ ، وَلَوْ أَفْطَرَ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّ الْإِمَامُ شَهَادَتَهُ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ ، وَلَوْ أَكْمَلَ هَذَا الرَّجُلُ ثَلَاثِينَ ، يَوْمًا لَمْ يُفْطِرْ إلَّا مَعَ الْإِمَامِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ عَلَيْهِ لِلِاحْتِيَاطِ ، وَالِاحْتِيَاطُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي تَأْخِيرِ الْإِفْطَارِ وَلَوْ أَفْطَرَ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ اعْتِبَارًا لِلْحَقِيقَةِ الَّتِي عِنْدَهُ .

( قَوْلُهُ وَقَدْ رَأَى ظَاهِرًا ) فَصَارَ شَاهِدًا لِلشَّهْرِ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ هَذَا الرَّجُلِ مِنْ عَرَضِ النَّاسِ أَوْ كَانَ الْإِمَامُ فَلَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ إذَا رَآهُ وَحْدَهُ أَنْ يَأْمُرَ النَّاسَ بِالصَّوْمِ ، وَكَذَا الْفِطْرُ بَلْ حُكْمُهُ حُكْمُ غَيْرِهِ ( قَوْلُهُ : وَهَذِهِ الْكَفَّارَةُ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ ) لِأَنَّهَا اُلْتُحِقَتْ بِالْعُقُوبَاتِ بِدَلِيلِ عَدَمِ وُجُوبِهَا عَلَى الْمَعْذُورِ وَالْمُخْطِئِ ( قَوْلُهُ : اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ ) وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ : لِأَنَّ الشُّبْهَةَ قَائِمَةٌ قَبْلَ رَدِّ شَهَادَتِهِ .
رَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { الصَّوْمُ يَوْمَ تَصُومُونَ وَالْفِطْرُ يَوْمَ تُفْطِرُونَ } فَقَامَ دَلِيلًا مَانِعًا مِنْ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِيمَا إذَا أَفْطَرَ الرَّائِي وَحْدَهُ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي بِهِ تَسْتَقِيمُ الْأَخْبَارُ أَنَّ الصَّوْمَ الْمَفْرُوضَ يَوْمَ يَصُومُ النَّاسُ ، وَالْفِطْرُ الْمَفْرُوضُ يَوْمَ يُفْطِرُ النَّاسُ ، أَعْنِي بِقَيْدِ الْعُمُومِ .
( قَوْلُهُ : اعْتِبَارًا لِلْحَقِيقَةِ الَّتِي عِنْدَهُ ) فَالْحَاصِلُ أَنَّ رُؤْيَتَهُ مُوجِبَةٌ عَلَيْهِ الصَّوْمَ ، وَعَدَمُ صَوْمِ النَّاسِ الْمُتَفَرِّعِ عَنْ تَكْذِيبِ الشَّرْعِ إيَّاهُ قَامَ فِيهِ شُبْهَةٌ مَانِعَةٌ مِنْ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ إنْ أَفْطَرَ لِحُكْمِ النَّصِّ مِنْ الصَّوْمِ يَوْمَ يَصُومُ النَّاسُ ، وَعَدَمُ فِطْرِ النَّاسِ الْيَوْمَ الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ مِنْ صَوْمِهِ مُوجِبٌ لِلصَّوْمِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ النَّصِّ أَيْضًا ، وَالْحَقِيقَةُ الَّتِي عِنْدَهُ وَهُوَ شُهُودُ الشَّهْرِ ، وَكَوْنُهُ لَا يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ بِالنَّصِّ شُبْهَةٌ فِيهِ مَانِعَةٌ مِنْ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ إنْ أَفْطَرَ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَبِلَ الْإِمَامُ شَهَادَتَهُ وَهُوَ فَاسِقٌ وَأَمَرَ النَّاسَ بِالصَّوْمِ فَأَفْطَرَ هُوَ أَوْ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ ، وَبِهِ قَالَ عَامَّةُ

الْمَشَايِخِ ، خِلَافًا لِلْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ لِأَنَّهُ يَوْمُ صَوْمِ النَّاسِ ، فَلَوْ كَانَ عَدْلًا لَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ خِلَافًا لِأَنَّ وَجْهَ النَّفْيِ كَوْنُهُ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ الْقَضَاءُ بِشَهَادَتِهِ وَهُوَ مُنْتَفٍ هُنَا .

قَالَ ( وَإِذَا كَانَ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ قَبِلَ الْإِمَامُ شَهَادَةَ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ فِي رُؤْيَةِ الْهِلَالِ رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا ) لِأَنَّهُ أَمْرٌ دِينِيٌّ ، فَأَشْبَهَ رِوَايَةَ الْإِخْبَارِ وَلِهَذَا لَا يَخْتَصُّ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ ، وَتُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ لِأَنَّ قَوْلَ الْفَاسِقِ فِي الدِّيَانَاتِ غَيْرُ مَقْبُولٍ ، وَتَأْوِيلُ قَوْلِ الطَّحَاوِيِّ عَدْلًا كَانَ أَوْ غَيْرَ عَدْلٍ أَنْ يَكُونَ مَسْتُورًا وَالْعِلَّةُ غَيْمٌ أَوْ غُبَارٌ أَوْ نَحْوُهُ ، وَفِي إطْلَاقِ جَوَابِ الْكِتَابِ يَدْخُلُ الْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ بَعْدَمَا تَابَ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ لِأَنَّهُ خَبَرٌ دِينِيٌّ ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ مِنْ وَجْهٍ ، وَكَانَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ يَشْتَرِطُ الْمَثْنَى وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَا ، وَقَدْ صَحَّ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبِلَ شَهَادَةَ الْوَاحِدِ فِي رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ } ثُمَّ إذَا قَبِلَ الْإِمَامُ شَهَادَةَ الْوَاحِدِ وَصَامُوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا لَا يُفْطِرُونَ فِيمَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِلِاحْتِيَاطِ ، وَلِأَنَّ الْفِطْرَ لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُمْ يُفْطِرُونَ وَيَثْبُتُ الْفِطْرُ بِنَاءً عَلَى ثُبُوتِ الرَّمَضَانِيَّةِ بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَثْبُتُ بِهَا ابْتِدَاءً كَاسْتِحْقَاقِ الْإِرْثِ بِنَاءً عَلَى النَّسَبِ الثَّابِتِ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ .
قَالَ ( وَإِذَا لَمْ تَكُنْ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ لَمْ تُقْبَلْ الشَّهَادَةُ حَتَّى يَرَاهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ يَقَعُ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ ) لِأَنَّ التَّفَرُّدَ بِالرُّؤْيَةِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ يُوهِمُ الْغَلَطَ فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ فِيهِ حَتَّى يَكُونَ جَمْعًا كَثِيرًا ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ لِأَنَّهُ قَدْ يَنْشَقُّ الْغَيْمُ عَنْ مَوْضِعِ الْقَمَرِ فَيَتَّفِقُ لِلْبَعْضِ النَّظَرُ ، ثُمَّ قِيلَ فِي حَدِّ الْكَثِيرِ أَهْلُ الْمَحَلَّةِ ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ خَمْسُونَ

رَجُلًا اعْتِبَارًا بِالْقَسَامَةِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَهْلِ الْمِصْرِ وَمَنْ وَرَدَ مِنْ خَارِجِ الْمِصْرِ ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَاحِدِ إذَا جَاءَ مِنْ خَارِجِ الْمِصْرِ لِقِلَّةِ الْمَوَانِعِ ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ فِي كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ ، وَكَذَا إذَا كَانَ عَلَى مَكَان مُرْتَفِعٍ فِي الْمِصْرِ .

( قَوْلُهُ لِأَنَّ قَوْلَ الْفَاسِقِ فِي الدِّيَانَاتِ غَيْرُ مَقْبُولٍ ) أَيْ فِي الَّتِي يَتَيَسَّرُ تَلَقِّيهَا مِنْ الْعُدُولِ كَرِوَايَاتِ الْأَخْبَارِ ، بِخِلَافِ الْأَخْبَارِ بِطَهَارَةِ الْمَاءِ وَنَجَاسَتِهِ وَنَحْوِهِ ، حَيْثُ يَتَحَرَّى فِي خَبَرِ الْفَاسِقِ فِيهِ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَلَقِّيهَا مِنْ جِهَةِ الْعُدُولِ إذْ قَدْ لَا يَطَّلِعُ عَلَى الْحَالِ فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ الْخَاصِّ عَدْلٌ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَقْبَلْ خَبَرَ الْفَاسِقِ بِمُفْرَدِهِ ، بَلْ مَعَ الِاجْتِهَادِ فِي صِدْقِهِ ، وَلَا يُعَسِّرُ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ عَامَّتَهُمْ مُتَوَجِّهُونَ إلَى طَلَبِهِ وَفِي عُدُولِهِمْ كَثْرَةٌ فَلَمْ تَمَسَّ الْحَاجَةُ إلَى قَبُولِ خَبَرِ الْفَاسِقِ مَعَ الِاجْتِهَادِ فِيهِ ( قَوْلُهُ وَتَأْوِيلُ قَوْلِ الطَّحَاوِيِّ إلَخْ ) الْمُرَادُ أَنَّ بِهَذَا التَّأْوِيلِ يَرْجِعُ قَوْلُهُ إلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْمَذْهَبِ لَا أَنَّهُ يَرْتَفِعُ بِهِ خِلَافٌ فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْعَدْلِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مَنْ ثَبَتَتْ عَدَالَتُهُ وَأَنَّ الْحُكْمَ بِقَوْلِهِ فَرْعُ ثُبُوتِهَا ، وَلَا ثُبُوتَ فِي الْمَسْتُورِ .
وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ : تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمَسْتُورِ وَبِهِ أَخَذَ الْحَلْوَانِيُّ فَصَارَ بِهَذَا التَّأْوِيلِ أَنَّ شَهَادَةَ الْوَاحِدِ أَمَّا مَعَ تَبَيُّنِ الْفِسْقِ فَلَا قَائِلَ بِهِ عِنْدَنَا ، وَعَلَى هَذَا تَفَرَّعَ مَا لَوْ شَهِدُوا فِي تَاسِعَ عَشَرَ رَمَضَانَ أَنَّهُمْ رَأَوْا هِلَالَ رَمَضَانَ قَبْلَ صَوْمِهِمْ بِيَوْمٍ إنْ كَانُوا فِي هَذَا الْمِصْرِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ ، لِأَنَّهُمْ تَرَكُوا الْحِسْبَةَ وَإِنْ جَاءُوا مِنْ خَارِجٍ قُبِلَتْ ( قَوْلُهُ : وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَا ) مِنْ أَنَّهُ أَمْرٌ دِينِيٌّ ( قَوْلُهُ وَقَدْ صَحَّ إلَخْ ) يَعْنِي بِهِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ رِوَايَةِ أَصْحَابِ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ { جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنِّي رَأَيْتُ الْهِلَالَ ، فَقَالَ : أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ؟ قَالَ

: نَعَمْ ، قَالَ : أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ يَا بِلَالُ أَذِّنْ فِي النَّاسِ فَلْيَصُومُوا } .
وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ يَتَمَسَّكُ بِهِ لِرِوَايَةِ النَّوَادِرِ فِي قَبُولِ الْمَسْتُورِ ، لَكِنَّ الْحَقَّ لَا يَتَمَسَّكُ بِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى هَذَا الزَّمَانِ لِأَنَّ ذِكْرَهُ الْإِسْلَامَ بِحَضْرَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حِينَ سَأَلَهُ عَنْ الشَّهَادَتَيْنِ إنْ كَانَ هَذَا أَوَّلَ إسْلَامِهِ فَلَا شَكَّ فِي ثُبُوتِ عَدَالَتِهِ ، لِأَنَّ الْكَافِرَ إذَا أَسْلَمَ أَسْلَمَ عَدْلًا إلَّا أَنْ يَظْهَرَ خِلَافُهُ مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَ إخْبَارًا عَنْ حَالِهِ السَّابِقِ فَكَذَلِكَ لِأَنَّ عَدَالَتَهُ قَدْ ثَبَتَتْ بِإِسْلَامِهِ فَيَجِبُ الْحُكْمُ بِبَقَائِهَا مَا لَمْ يَظْهَرْ الْخِلَافُ ، وَلَمْ يَكُنْ الْفِسْقُ غَالِبًا عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ فِي زَمَانِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، فَتُعَارِضُ الْغَلَبَةُ ذَلِكَ الْأَصْلَ فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ إلَى ظُهُورِهَا ( قَوْلُهُ : ثُمَّ إذَا قَبِلَ الْإِمَامُ إلَخْ ) هَكَذَا الرِّوَايَةُ عَلَى الْإِطْلَاقِ سَوَاءٌ قَبِلَهُ لِغَيْمٍ أَوْ فِي صَحْوٍ وَهُوَ مِمَّنْ يَرَى ذَلِكَ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُرَادَ مَا إذَا لَمْ يَرَ الْهِلَالَ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ ، ثُمَّ خَصَّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَفِي الْخُلَاصَةِ وَالْكَافِي وَالْفَتَاوَى أَضَافُوا مَعَهُ أَبَا يُوسُفَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ اسْتَحْسَنَ ذَلِكَ فِي قَبُولِهِ فِي صَحْوٍ ، وَفِي قَبُولِهِ لِغَيْمٍ أَخَذَ بِقَوْلِ مُحَمَّدٍ ، فَأَمَّا لَوْ صَامُوا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ فَإِنَّهُمْ يُفْطِرُونَ إذَا صَامُوا ثَلَاثِينَ وَلَمْ يَرَوْا ، ذَكَرَهُ فِي التَّجْرِيدِ .
وَعَنْ الْقَاضِي أَبِي عَلِيٍّ السُّغْدِيِّ لَا يُفْطِرُونَ ، وَهَكَذَا فِي مَجْمُوعِ النَّوَازِلِ وَصَحَّحَ الْأَوَّلَ فِي الْخُلَاصَةِ ، وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ : إنْ قَبِلَهَا فِي الصَّحْوِ لَا يُفْطِرُونَ أَوْ فِي غَيْمٍ أَفْطَرُوا لِتَحَقُّقِ زِيَادَةِ الْقُوَّةِ فِي الثُّبُوتِ فِي الثَّانِي وَالِاشْتِرَاكِ فِي عَدَمِ الثُّبُوتِ أَصْلًا فِي الْأَوَّلِ فَصَارَ كَالْوَاحِدِ لَمْ يَبْعُدْ ( قَوْلُهُ : بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ ) مُتَّصِلٌ

بِثُبُوتِ الرَّمَضَانِيَّةِ لَا بِثُبُوتِ الْفِطْرِ فَهُوَ مَعْنَى مَا أَجَابَ بِهِ مُحَمَّدَ بْنَ سِمَاعَةَ حِينَ قَالَ لَهُ : يَثْبُتُ الْفِطْرُ بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ فَقَالَ : لَا بَلْ بِحُكْمِ الْوَاحِدِ بِثُبُوتِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ لَمَّا حَكَمَ الْحَاكِمُ بِثُبُوتِهِ ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِالصَّوْمِ فَبِالضَّرُورَةِ يَثْبُتُ الْفِطْرُ بَعْدَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ( قَوْلُهُ كَاسْتِحْقَاقِ الْإِرْثِ بِنَاءً عَلَى النَّسَبِ الثَّابِتِ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ ) فَإِنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهَا عَلَى النَّسَبِ فَيَثْبُتُ بِهِ مَعَ الْمُؤَيِّدِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا مُطْلَقًا ، ثُمَّ يَثْبُتُ اسْتِحْقَاقُ الْإِرْثِ بِنَاءً عَلَى ثُبُوتِ النَّسَبِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَثْبُتُ الْإِرْثُ ابْتِدَاءً بِشَهَادَتِهَا وَحْدَهَا .
[ فَرْعٌ ] إذَا صَامَ أَهْلُ مِصْرٍ رَمَضَانَ عَلَى غَيْرِ رُؤْيَةٍ بَلْ بِإِكْمَالِ شَعْبَانَ ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا ، ثُمَّ رَأَوْا هِلَالَ شَوَّالٍ إنْ كَانُوا أَكْمَلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ عَنْ رُؤْيَةِ هِلَالِهِ إذَا لَمْ يَرَوْا هِلَالَ رَمَضَانَ قَضَوْا يَوْمًا وَاحِدًا حَمْلًا عَلَى نُقْصَانِ شَعْبَانَ ، غَيْرَ أَنَّهُ اتَّفَقَ أَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ ، وَإِنْ أَكْمَلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ عَنْ غَيْرِ رُؤْيَةٍ قَضَوْا يَوْمَيْنِ احْتِيَاطًا لِاحْتِمَالِ نُقْصَانِ شَعْبَانَ مَعَ مَا قَبْلَهُ فَإِنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يَرَوْا هِلَالَ شَعْبَانَ كَانُوا بِالضَّرُورَةِ مُكَمِّلِينَ رَجَبَ ( قَوْلُهُ : يُوهِمُ الْغَلَطَ ) الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ ظَاهِرٌ فِي الْغَلَطِ فَإِنَّ مُجَرَّدَ الْوَهْمِ مُتَحَقِّقٌ فِي الْبَيِّنَاتِ الْمُوجِبَةِ لِلْحُكْمِ ، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ قَبُولَهَا بَلْ التَّفَرُّدُ مِنْ بَيْنِ الْجَمِّ الْغَفِيرِ بِالرُّؤْيَةِ مَعَ تَوَجُّهِهِمْ طَالِبِينَ لِمَا تَوَجَّهَ هُوَ إلَيْهِ مَعَ فَرْضِ عَدَمِ الْمَانِعِ وَسَلَامَةِ الْأَبْصَارِ ، وَإِنْ تَفَاوَتَتْ الْأَبْصَارُ فِي الْحِدَّةِ ظَاهِرٌ فِي غَلَطِهِ كَتَفَرُّدِ نَافِلِ زِيَادَةٍ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ أَهْلِ مَجْلِسٍ مُشَارِكِينَ لَهُ فِي السَّمَاعِ ، فَإِنَّهَا تُرَدُّ وَإِنْ كَانَ ثِقَةً مَعَ أَنَّ التَّفَاوُتَ فِي حِدَّةِ السَّمْعِ أَيْضًا

وَاقِعٌ كَمَا هُوَ فِي الْبِصَارِ مَعَ أَنَّهُ لَا نِسْبَةَ لِمُشَارِكِيهِ فِي السَّمَاعِ بِمُشَارِكِيهِ فِي التَّرَائِيِ كَثْرَةً ، وَالزِّيَادَةُ الْمَقْبُولَةُ مَا عُلِمَ فِيهِ تَعَدُّدُ الْمَجَالِسِ أَوْ جُهِلَ فِيهِ الْحَالُ مِنْ الِاتِّحَادِ وَالتَّعَدُّدِ ، وَقَوْلُهُ : لِأَنَّ التَّفَرُّدَ ، لَا يُرِيدُ تَفَرُّدَ الْوَاحِدِ وَإِلَّا لَأَفَادَ قَبُولَ الِاثْنَيْنِ وَهُوَ مُنْتَفٍ بَلْ الْمُرَادُ تَفَرُّدُ مَنْ لَمْ يَقَعْ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ مِنْ بَيْنِ أَضْعَافِهِمْ مِنْ الْخَلَائِقِ ، ثُمَّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ : أَنَّ الَّذِينَ يُوجِبُ خَبَرُهُمْ الْحُكْمَ فِي خُصُوصِ هَذِهِ الْحَالَةِ خَمْسُونَ اعْتِبَارًا بِالْقَسَامَةِ .
وَعَنْ خَلَفٍ خَمْسُمِائَةٍ بِبَلْخَ قَلِيلٌ ، فَبُخَارَى لَا تَكُونُ أَدْنَى مِنْ بَلْخَ فَلِذَا قَالَ الْبَقَّالِيُّ : الْأَلْفُ بِبُخَارَى قَلِيلٌ ، وَالْحَقُّ مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ وَأَبِي يُوسُفَ أَيْضًا أَنَّ الْعِبْرَةَ لِتَوَاتُرِ الْخَبَرِ وَمَجِيئِهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ، وَهِلَالُ الْفِطْرِ فِي الصَّحْوِ كَرَمَضَانَ وَفِي غَيْرِهِ بِخِلَافٍ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِاثْنَيْنِ وَرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ .
( قَوْلُهُ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَهْلِ الْمِصْرِ وَمَنْ وَرَدَ مِنْ خَارِجِ الْمِصْرِ ) يَعْنِي فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَمَا عَنْ الطَّحَاوِيِّ مِنْ الْفَرْقِ خِلَافُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَكَذَا مَا يُشِيرُ إلَيْهِ كِتَابُ الِاسْتِحْسَانِ حَيْثُ قَالَ : فَإِنْ كَانَ الَّذِي يَشْهَدُ بِذَلِكَ فِي الْمِصْرِ وَلَا عِلَّةَ فِي السَّمَاءِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ لِأَنَّ الَّذِي يَقَعُ فِي الْقَلْبِ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ بَاطِلٌ ، فَإِنَّ الْقُيُودَ الْمَذْكُورَةَ تُفِيدُ بِمَفْهُومَاتِهَا الْمُخَالِفَةِ الْجَوَازَ عِنْدَ عَدَمِهَا .

قَالَ ( وَمَنْ رَأَى هِلَالَ الْفِطْرِ وَحْدَهُ لَمْ يُفْطِرْ ) احْتِيَاطًا ، وَفِي الصَّوْمِ الِاحْتِيَاطُ فِي الْإِيجَابِ .
قَالَ ( وَإِذَا كَانَ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ لَمْ يَقْبَلْ فِي هِلَالِ الْفِطْرِ إلَّا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ ) لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ نَفْعُ الْعَبْدِ وَهُوَ الْفِطْرُ فَأَشْبَهَ سَائِرَ حُقُوقِهِ ، وَالْأَضْحَى كَالْفِطْرِ فِي هَذَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَهُوَ الْأَصَحُّ ، خِلَافًا لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَنَّهُ كَهِلَالِ رَمَضَانَ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ نَفْعُ الْعِبَادِ وَهُوَ التَّوَسُّعُ بِلُحُومِ الْأَضَاحِيِّ ( وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ لَمْ يَقْبَلْ إلَّا شَهَادَةَ جَمَاعَةٍ يَقَعُ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ ) كَمَا ذَكَرْنَا .

( قَوْلُهُ لَمْ يُفْطِرْ ) قِيلَ : مَعْنَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُفْطِرُ لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ .
وَلَكِنْ لَا يَنْوِي الصَّوْمَ وَالتَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ يَوْمُ عِيدٍ فِي حَقِّهِ لِلْحَقِيقَةِ الَّتِي عِنْدَهُ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ التَّعْلِيلَ بِالِاحْتِيَاطِ يُنَافِي تَأْوِيلَ قَوْلِهِ بِذَلِكَ .
وَقِيلَ : إنْ أَيْقَنَ أَفْطَرَ وَيَأْكُلُ سِرًّا وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَا يُفْطِرُ لَوْ أَفْطَرَ يَقْضِي ، ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ بِلَا خِلَافٍ ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَكَى فِي لُزُومِهَا الْخِلَافَ بَعْدَ رَدِّ شَهَادَتِهِ وَقَبْلَهُ ، وَالصَّحِيحُ عَدَمُ لُزُومِهَا فِيهَا ، وَلَوْ شَهِدَ هَذَا الرَّجُلُ عِنْدَ صَدِيقٍ لَهُ فَأَكَلَ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ صَدِيقَهُ .
( قَوْلُهُ فَأَشْبَهَ سَائِرَ حُقُوقِهِ ) وَعَنْ هَذَا شَرْطُ الْعَدَدِ وَالْحُرِّيَّةِ فِي الرَّأْيِ ، وَأَمَّا لَفْظَةُ الشَّهَادَةِ فَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ : يَنْبَغِي أَنْ تُشْتَرَطَ كَمَا تُشْتَرَطُ الْحُرِّيَّةُ وَالْعَدَدُ ، وَأَمَّا الدَّعْوَى فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تُشْتَرَطَ كَمَا فِي عِتْقِ الْأَمَةِ وَطَلَاقِ الْحُرَّةِ عِنْدَ الْكُلِّ ، وَعِتْقِ الْعَبْدِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ ، وَأَمَّا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ : فَيَنْبَغِي أَنْ تُشْتَرَطَ الدَّعْوَى فِي هِلَالِ الْفِطْرِ وَهِلَالِ رَمَضَانَ ا هـ .
وَعَلَى هَذَا فَمَا ذَكَرُوا مِنْ أَنَّ مَنْ رَأَى هِلَالَ رَمَضَانَ فِي الرُّسْتَاقِ وَلَيْسَ هُنَاكَ وَالٍ وَلَا قَاضٍ ، فَإِنْ كَانَ ثِقَةً يَصُومُ النَّاسُ بِقَوْلِهِ ، وَفِي الْفِطْرِ إنْ أَخْبَرَ عَدْلَانِ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ لَا بَأْسَ بِأَنْ يُفْطِرُوا يَكُونُ الثُّبُوتُ فِيهِ دَعْوَى ، وَحُكْمٌ لِلضَّرُورَةِ ، أَرَأَيْت لَوْ لَمْ يُنَصَّبْ فِي الدُّنْيَا إمَامٌ وَلَا قَاضٍ حَتَّى عَصَوْا بِذَلِكَ أَمَا كَانَ يُصَامُ بِالرُّؤْيَةِ فَهَذَا الْحُكْمُ فِي مُحَالِ وُجُودِهِ .
( قَوْلُهُ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ نَفْعُ الْعِبَادِ ) تَعْلِيلٌ لِظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَفِي التُّحْفَةِ رَجَّحَ رِوَايَةَ النَّوَادِرِ فَقَالَ : وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْوَاحِدِ

لِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْخَبَرِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ الْمُخْبِرَ أَوَّلًا ثُمَّ يَتَعَدَّى مِنْهُ إلَى غَيْرِهِ ا هـ .
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ أَمْرٌ دِينِيٌّ وَهُوَ وُجُوبُ الْأُضْحِيَّةَ وَهُوَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى ، فَصَارَ كَهِلَالِ رَمَضَانَ فِي تَعَلُّقِ حَقِّ اللَّهِ فَيُقْبَلُ فِي الْغَيْمِ الْوَاحِدُ الْعَدْلُ ، وَلَا يُقْبَلُ فِي الصَّحْوِ إلَّا التَّوَاتُرُ .

قَالَ ( وَوَقْتُ الصَّوْمِ مِنْ حِينِ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ } إلَى أَنْ قَالَ { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ } وَالْخَيْطَانِ بَيَاضُ النَّهَارِ وَسَوَادُ اللَّيْلِ ( وَالصَّوْمُ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ نَهَارًا مَعَ النِّيَّةِ ) لِأَنَّهُ فِي حَقِيقَةِ اللُّغَةِ : هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ لِوُرُودِ الِاسْتِعْمَالِ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ زِيدَ عَلَيْهِ النِّيَّةُ فِي الشَّرْعِ لِتَتَمَيَّزَ بِهَا الْعِبَادَةُ مِنْ الْعَادَةِ ، وَاخْتَصَّ بِالنَّهَارِ لِمَا تَلَوْنَا ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ الْوِصَالُ كَانَ تَعْيِينُ النَّهَارِ أَوْلَى لِيَكُونَ عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ ، وَعَلَيْهِ مَبْنَى الْعِبَادَةِ ، وَالطَّهَارَةُ عَنْ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ شَرْطٌ لِتَحَقُّقِ الْأَدَاءِ فِي حَقِّ النِّسَاءِ .

( قَوْلُهُ : وَالصَّوْمُ هُوَ الْإِمْسَاكُ إلَخْ ) نُقِضَ طَرْدُهُ بِإِمْسَاكِ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ لِذَلِكَ ، فَإِنَّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ وَلَا يَصْدُقُ الْمَحْدُودُ ، وَبِمَنْ أَمْسَكَ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ كَذَلِكَ بَعْدَمَا أَكَلَ بَعْدَ الْفَجْرِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ النَّهَارَ اسْمٌ لِمَا مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إلَى الْغُرُوبِ ، وَعَكْسُهُ يَأْكُلُ النَّاسِي فَإِنَّهُ يَصْدُقُ مَعَهُ الْمَحْدُودُ ، وَهُوَ الصَّوْمُ الشَّرْعِيُّ وَلَا يَصْدُقُ الْحَدُّ وَهَذَا فَسَادُ الْعَكْسِ ، وَجَعَلَ فِي النِّهَايَةِ إمْسَاكَ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ مُفْسِدًا لِلْعَكْسِ ، وَجَعَلَ أَكْلَ النَّاسِي مُفْسِدًا لِلطَّرْدِ وَالتَّحْقِيقِ مَا أَسْمَعْتُك .
وَأُجِيبُ : بِأَنَّ الْإِمْسَاكَ مَوْجُودٌ مَعَ أَكْلِ النَّاسِي ، فَإِنَّ الشَّرْعَ اعْتَبَرَ أَكْلَهُ عَدَمًا وَالْمُرَادُ مِنْ النَّهَارِ الْيَوْمُ فِي لِسَانِ الْفُقَهَاءِ ، وَبِالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ خَرَجَتْ عَنْ الْأَهْلِيَّةِ لِلصَّوْمِ شَرَفًا ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذِهِ الْأَجْوِبَةِ مِنْ الْعِنَايَةِ ، وَالْحَدُّ الصَّحِيحُ إمْسَاكٌ عَنْ الْمُفْطِرَاتِ مَنْوِيٌّ لِلَّهِ تَعَالَى بِإِذْنِهِ فِي وَقْتِهِ وَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي أَوَّلِ الْبَابِ مَعْنَاهُ وَهُوَ تَفْصِيلُ هَذَا .

بَابُ مَا يُوجِبُ الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ قَالَ ( وَإِذَا أَكَلَ الصَّائِمُ أَوْ شَرِبَ أَوْ جَامَعَ نَهَارًا نَاسِيًا لَمْ يُفْطِرْ ) وَالْقِيَاسُ أَنْ يُفْطِرَ ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ لِوُجُودِ مَا يُضَادُّ الصَّوْمَ فَصَارَ كَالْكَلَامِ نَاسِيًا فِي الصَّلَاةِ ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ { قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلَّذِي أَكَلَ وَشَرِبَ نَاسِيًا تِمَّ عَلَى صَوْمِكَ فَإِنَّمَا أَطْعَمَكَ اللَّهُ وَسَقَاكَ } وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ ثَبَتَ فِي الْوِقَاعِ لِلِاسْتِوَاءِ فِي الرُّكْنِيَّةِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ لِأَنَّ هَيْئَةَ الصَّلَاةِ مُذَكِّرَةٌ فَلَا يَغْلِبُ النِّسْيَانُ وَلَا مُذَكِّرَ فِي الصَّوْمِ فَيَغْلِبُ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ لِأَنَّ النَّصَّ لَمْ يُفَضِّلْ وَلَوْ كَانَ مُخْطِئًا أَوْ مُكْرَهًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، فَإِنَّهُ يَعْتَبِرُهُ بِالنَّاسِي ، وَلَنَا أَنَّهُ لَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ وَعُذْرُ النِّسْيَانِ غَالِبٌ وَلِأَنَّ النِّسْيَانَ مِنْ قِبَلِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ وَالْإِكْرَاهَ مِنْ قِبَلِ غَيْرِهِ فَيَفْتَرِقَانِ كَالْمُقَيَّدِ وَالْمَرِيضِ فِي قَضَاءِ الصَّلَاةِ .

بَابُ مَا يُوجِبُ الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ ) ( قَوْلُهُ نَاسِيًا لَمْ يُفْطِرْ ) إلَّا فِيمَا إذَا أَكَلَ نَاسِيًا فَقِيلَ لَهُ : أَنْتَ صَائِمٌ فَلَمْ يَتَذَكَّرْ وَاسْتَمَرَّ ثُمَّ تَذَكَّرَ ، فَإِنَّهُ يُفْطِرُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ أُخْبِرَ بِأَنَّ الْأَكْلَ حَرَامٌ عَلَيْهِ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ حُجَّةٌ فِي الدِّيَانَاتِ فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَلْتَفِتَ إلَى تَأَمُّلِ الْحَالِ ، وَقَالَ زُفَرُ وَالْحَسَنُ : لَا يُفْطِرُ لِأَنَّهُ نَاسٍ .
( قَوْلُهُ فَصَارَ كَالْكَلَامِ نَاسِيًا فِي الصَّلَاةِ ) وَكَتَرْكِ النِّيَّةِ فِيهِ وَكَالْجِمَاعِ فِي الْإِحْرَامِ وَالِاعْتِكَافِ نَاسِيًا فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ يَفْسُدُ مَعَ النِّسْيَانِ ( قَوْلُهُ : وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَخْ ) فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ } وَحَمَلَهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّوْمِ اللُّغَوِيِّ فَيَكُونُ أَمْرًا بِالْإِمْسَاكِ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ كَالْحَائِضِ إذَا طَهُرَتْ فِي أَثْنَاءِ الْيَوْمِ ، وَنَحْوُهُ مَدْفُوعٌ أَوَّلًا بِأَنَّ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّ الْحَمْلَ عَلَى الْمَفْهُومِ الشَّرْعِيِّ حَيْثُ أَمْكَنَ فِي لَفْظِ الشَّارِعِ وَاجِبٌ .
فَإِنْ قِيلَ : يَجِبُ ذَلِكَ لِلدَّلِيلِ عَلَى الْبُطْلَانِ وَهُوَ الْقِيَاسُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ .
قُلْنَا : حَقِيقَةُ النَّصِّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ لَوْ تَمَّ فَكَيْفَ وَهُوَ لَا يَتِمُّ ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ الْبُطْلَانِ مَعَ النِّسْيَانِ فِيمَا لَهُ هَيْئَةٌ مُذَكِّرَةٌ الْبُطْلَانَ مَعَهُ فِيمَا لَا مُذَكِّرَ فِيهِ ، وَهَيْئَةُ الْإِحْرَامِ وَالِاعْتِكَافِ وَالصَّلَاةِ مُذَكِّرَةٌ ، فَإِنَّهَا تُخَالِفُ الْهَيْئَةَ الْعَادِيَّةَ وَلَا كَذَلِكَ الصَّوْمُ ، وَالنِّسْيَانُ غَالِبٌ لِلْإِنْسَانِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ عُذْرِهِ بِالنِّسْيَانِ مَعَ تِلْكَ عَدَمُ عُذْرِهِ بِهِ مَعَ الصَّوْمِ ، وَثَانِيًا : بِأَنَّ نَفْسَ اللَّفْظِ يَدْفَعُهُ وَهُوَ

قَوْلُهُ " فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ " وَصَوْمُهُ إنَّمَا كَانَ الشَّرْعِيَّ ، فَإِتْمَامُ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِالشَّرْعِيِّ .
وَثَالِثًا : بِأَنَّ فِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ وَسُنَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ { أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنِّي كُنْتُ صَائِمًا فَأَكَلْتُ وَشَرِبْتُ نَاسِيًا فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : أَتِمَّ صَوْمَكَ فَإِنَّ اللَّهَ أَطْعَمَكَ وَسَقَاكَ وَفِي لَفْظٍ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْكَ } وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ بِلَفْظِ الْجَمَاعَةِ وَزَادَ فِيهِ " وَلَا تُفْطِرْ " .
وَفِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ : مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ نَاسِيًا فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَةَ } وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ .
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ : تَفَرَّدَ بِهِ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو ، وَكُلُّهُمْ ثِقَاتٌ ( قَوْلُهُ : لِلِاسْتِوَاءِ فِي الرُّكْنِيَّةِ ) الرُّكْنُ وَاحِدٌ وَهُوَ الْكَفُّ عَنْ كُلٍّ مِنْهَا ، فَتَسَاوَتْ كُلُّهَا فِي أَنَّهَا مُتَعَلِّقُ الرُّكْنِ لَا يَفْضُلُ وَاحِدٌ مِنْهَا عَلَى أَخَوَيْهِ بِشَيْءٍ فِي ذَلِكَ ، فَإِذَا ثَبَتَ فِي فَوَاتِ الْكَفِّ عَنْ بَعْضِهَا نَاسِيًا عُذْرُهُ بِالنِّسْيَانِ وَإِبْقَاءُ صَوْمِهِ كَانَ ثَابِتًا أَيْضًا فِي فَوَاتِ الْكَفِّ نَاسِيًا عَنْ أَخَوَيْهِ .
يَحْكُمُ بِذَلِكَ كُلُّ مَنْ عَلِمَ ذَلِكَ الِاسْتِوَاءَ ، ثُمَّ عَلِمَ ذَلِكَ الثُّبُوتَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ ، هَذَا وَمَنْ رَأَى صَائِمًا يَأْكُلُ نَاسِيًا إنْ رَأَى قُوَّةً تُمْكِنُهُ أَنْ يُتِمَّ صَوْمَهُ بِلَا ضَعْفٍ الْمُخْتَارُ أَنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ لَا يُخْبِرَهُ وَإِنْ كَانَ بِحَالٍ يَضْعُفُ بِالصَّوْمِ ، وَلَوْ أَكَلَ يَتَقَوَّى عَلَى سَائِرِ الطَّاعَاتِ يَسَعُهُ أَنْ لَا يُخْبِرَهُ ، وَلَوْ بَدَأَ بِالْجِمَاعِ نَاسِيًا فَتَذَكَّرَ إنْ نَزَعَ مِنْ سَاعَتِهِ لَمْ يُفْطِرْ وَإِنْ دَامَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى أَنْزَلَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ ، ثُمَّ قِيلَ : لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَقِيلَ : هَذَا إذَا لَمْ يُحَرِّكْ نَفْسَهُ بَعْدَ

التَّذَكُّرِ حَتَّى أَنْزَلَ ، فَإِنْ حَرَّكَ نَفْسَهُ بَعْدَهُ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ ، كَمَا لَوْ نَزَعَ ثُمَّ أَدْخَلَ ، وَلَوْ جَامَعَ عَامِدًا قَبْلَ الْفَجْرِ وَطَلَعَ وَجَبَ النَّزْعُ فِي الْحَالِ ، فَإِنْ حَرَّكَ نَفْسَهُ بَعْدَهُ فَهُوَ عَلَى هَذَا نَظِيرُهُ مَا لَوْ أَوْلَجَ ثُمَّ قَالَ لَهَا : إنْ جَامَعْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ أَوْ حُرَّةٌ إنْ نَزَعَ أَوْ لَمْ يَنْزِعْ وَلَمْ يَتَحَرَّكْ حَتَّى أَنْزَلَ لَا تَطْلُقُ وَلَا تَعْتِقُ ، وَإِنْ حَرَّكَ نَفْسَهُ طَلُقَتْ وَعَتَقَتْ وَيَصِيرُ مُرَاجِعًا بِالْحَرَكَةِ الثَّانِيَةِ ، وَيَجِبُ لِلْأَمَةِ الْعُقْرُ وَلَا حَدَّ عَلَيْهِمَا ( قَوْلُهُ فَإِنَّهُ يَعْتَبِرُهُ بِالنَّاسِي ) يُجَامِعْ أَنَّهُ غَيْرُ قَاصِدٍ لِلْجِنَايَةِ فَيُعْذَرُ بَلْ هُوَ أَوْلَى لِأَنَّهُ غَيْرُ قَاصِدٍ لِلشُّرْبِ وَلَا لِلْجِنَايَةِ ، وَالنَّاسِي قَاصِدٌ لِلشُّرْبِ غَيْرُ قَاصِدٍ لِلْجِنَايَةِ ، وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ } لِلْحَدِيثِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الصَّلَاةِ تَخْرِيجُهُ وَالْجَوَابُ عَنْهُ .
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ إلْحَاقِهِ فَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ ( وَلَنَا أَنَّهُ ) أَيْ عُذْرُ الْخَطَأِ وَالْإِكْرَاهِ ( لَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ ) أَمَّا الْإِكْرَاهُ فَظَاهِرٌ ، وَكَذَا الْخَطَأُ إذْ مَعَ التَّذَكُّرِ وَعَدَمِ قَصْدِ الْجِنَايَةِ الِاحْتِرَازُ عَنْ الْإِفْسَادِ قَائِمٌ بِقَدْرِ الْوُسْعِ ، وَقَلَّمَا يَحْصُلُ الْفَسَادُ مَعَ ذَلِكَ بِخِلَافِ حَالَةِ عَدَمِ التَّذَكُّرِ مَعَ قِيَامِ مُطَالَبَةِ الطَّبْعِ بِالْمُفْطِرَاتِ فَإِنَّهُ يَكْثُرُ مَعَهُ الْإِفْسَادُ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ عُذِرَ فِيمَا يَكْثُرُ وُجُودُهُ مِثْلُهُ فِيمَا لَا يَكْثُرُ ، وَلِأَنَّ الْوُصُولَ إلَى الْجَوْفِ مَعَ التَّذَكُّرِ فِي الْخَطَأِ لَيْسَ إلَّا لِتَقْصِيرِهِ فِي الِاحْتِرَازِ فَيُنَاسِبُ الْفَسَادَ إذْ فِيهِ نَوْعُ إضَافَةٍ إلَيْهِ بِخِلَافِ النِّسْيَانِ ، فَإِنَّهُ بِرُمَّتِهِ مُنْدَفِعٌ إلَيْهِ مِنْ قِبَلِ مَنْ الْإِمْسَاكُ حَقُّهُ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ ، فَكَانَ صَاحِبُ الْحَقِّ هُوَ الْمُفَوِّتُ لِمَا يَسْتَحِقُّهُ عَلَى الْخُلُوصِ ، وَلِذَا

أَضَافَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَيْهِ تَعَالَى حَيْثُ قَالَ { أَتِمَّ عَلَى صَوْمِكَ فَإِنَّمَا أَطْعَمَكَ اللَّهُ وَسَقَاكَ } وَحَقِيقَةُ هَذَا التَّعْلِيلِ يَقْطَعُ نِسْبَتَهُ إلَى الْمُكَلَّفِ فَلَا يَكُونُ مُلْزِمًا عَلَيْهِ شَيْئًا إذْ لَمْ يَقَعْ مِنْ جِهَتِهِ تَفْوِيتٌ ، فَظَهَرَ ظُهُورًا سَاطِعًا عَدَمُ لُزُومِ اعْتِبَارِ الصَّوْمِ قَائِمًا مَعَ الْخَطَأِ وَالْإِكْرَاهِ لِاعْتِبَارِهِ قَائِمًا مَعَ النِّسْيَانِ ، وَصَارَ مَعَ النَّاسِي كَالْمُقَيَّدِ مَعَ الْمَرِيضِ فِي قَضَاءِ الصَّلَاةِ الَّتِي صَلَّيَاهَا قَاعِدَيْنِ حَيْثُ يَجِبُ الْقَضَاءُ عَلَى الْمُقَيَّدِ لَا الْمَرِيضِ ، وَحُكْمُ النَّائِمِ إذَا صُبَّ فِي حَلْقِهِ مَا يُفْطِرُ حُكْمُ الْمُكْرَهِ فَيُفْطِرُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ كَانَ يَقُولُ أَوَّلًا : فِي الْمُكْرَهِ عَلَى الْجِمَاعِ : عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا بِانْتِشَارِ الْآلَةِ وَذَلِكَ إمَارَةُ الِاخْتِيَارِ ، ثُمَّ رَجَعَ .
وَقَالَ : لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ، وَهُوَ قَوْلُهُمَا لِأَنَّ فَسَادَ الصَّوْمِ يَتَحَقَّقُ بِالْإِيلَاجِ وَهُوَ مُكْرَهٌ فِيهِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَنْ انْتَشَرَ آلَتُهُ يُجَامِعُ .

قَالَ ( فَإِنْ نَامَ فَاحْتَلَمَ لَمْ يُفْطِرْ ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ثَلَاثٌ لَا يُفْطِرْنَ الصِّيَامَ الْقَيْءُ وَالْحِجَامَةُ وَالِاحْتِلَامُ } ، وَلِأَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ صُورَةُ الْجِمَاعِ وَلَا مَعْنَاهُ وَهُوَ الْإِنْزَالُ عَنْ شَهْوَةٍ بِالْمُبَاشَرَةِ ( وَكَذَا إذَا نَظَرَ إلَى امْرَأَةٍ فَأَمْنَى ) لِمَا بَيَّنَّا فَصَارَ كَالْمُتَفَكِّرِ إذَا أَمْنَى وَكَالْمُسْتَمْنِي بِالْكَفِّ عَلَى مَا قَالُوا ( وَلَوْ ادَّهَنَ لَمْ يُفْطِرْ ) لِعَدَمِ الْمُنَافِي ( وَكَذَا إذَا احْتَجَمَ ) لِهَذَا وَلِمَا رَوَيْنَا ( وَلَوْ اكْتَحَلَ لَمْ يُفْطِرْ ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الْعَيْنِ وَالدِّمَاغِ مَنْفَذٌ وَالدَّمْعُ يَتَرَشَّحُ كَالْعَرَقِ وَالدَّاخِلُ مِنْ الْمَسَامِّ لَا يُنَافِي كَمَا لَوْ اغْتَسَلَ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ ( وَلَوْ قَبَّلَ لَا يَفْسُدُ صَوْمٌ ) يُرِيدُ بِهِ إذَا لَمْ يُنْزِلْ لِعَدَمِ الْمُنَافِي صُورَةً وَمَعْنًى بِخِلَافِ الرَّجْعَةِ وَالْمُصَاهَرَةِ لِأَنَّ الْحُكْمَ هُنَاكَ أُدِيرَ عَلَى السَّبَبِ عَلَى مَا يَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
( وَإِنْ أَنْزَلَ بِقُبْلَةٍ أَوْ لَمْسٍ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ ) لِوُجُودِ مَعْنَى الْجِمَاعِ وَوُجُودِ الْمُنَافِي صُورَةً أَوْ مَعْنًى يَكْفِي لِإِيجَابِ الْقَضَاءِ احْتِيَاطًا ، أَمَّا الْكَفَّارَةُ فَتَفْتَقِرُ إلَى كَمَالِ الْجِنَايَةِ لِأَنَّهَا تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ كَالْحُدُودِ ( وَلَا بَأْسَ بِالْقُبْلَةِ إذَا أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ ) أَيْ الْجِمَاعَ أَوْ الْإِنْزَالَ ( وَيُكْرَهُ إذَا لَمْ يَأْمَنْ ) لِأَنَّ عَيْنَهُ لَيْسَ بِمُفْطِرٍ وَرُبَّمَا يَصِيرُ فِطْرًا بِعَاقِبَتِهِ فَإِنْ أَمِنَ يُعْتَبَرُ عَيْنُهُ وَأُبِيحَ لَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَأْمَنْ تُعْتَبَرُ عَاقِبَتُهُ وَكُرِهَ لَهُ ، وَالشَّافِعِيُّ أَطْلَقَ فِيهِ فِي الْحَالَيْنِ وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَا وَالْمُبَاشَرَةُ الْفَاحِشَةُ مِثْلُ التَّقْبِيلِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ كَرِهَ الْمُبَاشَرَةَ الْفَاحِشَةَ لِأَنَّهَا قَلَّمَا تَخْلُو عَنْ الْفِتْنَةِ .

( قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { ثَلَاثٌ لَا يُفْطِرْنَ الصِّيَامَ } ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ { ثَلَاثٌ لَا يُفْطِرْنَ الصَّائِمَ : الْحِجَامَةُ ، وَالْقَيْءُ ، وَالِاحْتِلَامُ } وَفِيهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ وَهُوَ ضَعِيفٌ ، وَذَكَرَهُ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ أَخِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَهُوَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ مُسْنَدًا ، وَضَعَّفَهُ أَيْضًا أَحْمَدُ كَابْنِ مَعِينٍ لِسُوءِ حِفْظِهِ ، وَإِنْ كَانَ رَجُلًا صَالِحًا ، وَقَالَ النَّسَائِيّ : لَيْسَ بِالْقَوِيِّ ، وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِطَرِيقٍ آخَرَ فِيهِ هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، وَهِشَامٌ هَذَا ضَعَّفَهُ النَّسَائِيّ وَأَحْمَدُ وَابْنُ مَعِينٍ وَلَيَّنَهُ ابْنُ عَدِيٍّ وَقَالَ : يُكْتَبُ حَدِيثُهُ ، وَقَالَ عَبْدُ الْحَقِّ : يُكْتَبُ حَدِيثُهُ ، وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ ، لَكِنْ قَدْ احْتَجَّ بِهِ مُسْلِمٌ ، وَاسْتَشْهَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ .
وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ثَلَاثٌ لَا يُفْطِرْنَ الصَّائِمَ : الْقَيْءُ ، وَالْحِجَامَةُ ، وَالِاحْتِلَامُ } .
قَالَ : وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِهَا إسْنَادًا وَأَصَحِّهَا ا هـ .
وَفِيهِ سُلَيْمَانُ بْنُ حِبَّانَ قَالَ ابْنُ مَعِينٍ : صَدُوقٌ وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ .
وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ ، وَقَالَ : لَا يُرْوَى عَنْ ثَوْبَانَ إلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ ، تَقَرَّدَ بِهِ ابْنُ وَهْبٍ .
فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَجِبُ أَنْ يَرْتَقِيَ إلَى دَرَجَةِ الْحَسَنِ لِتَعَدُّدِ طُرُقِهِ ، وَضَعْفُ رُوَاتِهِ إنَّمَا هُوَ مِنْ قِبَلِ الْحِفْظِ لَا الْعَدَالَةِ فَالتَّضَافُرُ دَلِيلُ الْإِجَادَةِ فِي خُصُوصِهِ ، وَالْمُرَادُ مِنْ الْقَيْءِ مَا ذَرَعَ الصَّائِمَ عَلَى مَا سَيَظْهَرُ ( قَوْلُهُ وَكَذَا إذَا نَظَرَ إلَى امْرَأَةً ) بِشَهْوَةٍ إلَى وَجْهِهَا أَوْ فَرْجِهَا كَرَّرَ النَّظَرَ أَوْ لَا لَا يُفْطِرُ إذَا أَنْزَلَ ( لِمَا بَيَّنَّا ) أَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ صُورَةُ الْجِمَاعِ وَلَا مَعْنَاهُ وَهُوَ لِلْإِنْزَالِ

عَنْ مُبَاشَرَةٍ وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ : إذَا كَرَّرَهُ فَأَنْزَلَ أَفْطَرَ .
وَمَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تُتْبِعْ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فَإِنَّمَا لَكَ الْأُولَى } وَالْمُرَادُ بِهِ الْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ مِنْ الْحَظْرِ الْإِفْطَارُ بَلْ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِفَوَاتِ الرُّكْنِ ، وَهُوَ بِالْجِمَاعِ لَا بِكُلِّ إنْزَالٍ لِعَدَمِ الْفِطْرِ فِيمَا إذَا أَنْزَلَ بِالتَّفَكُّرِ فِي جَمَالِ امْرَأَةٍ فَإِنَّهُ لَمْ يُفْطِرْ .
وَغَايَةُ مَا يَجِبُ أَنْ يُعْتَبَرَ مَعْنَى الْجِمَاعِ كَالْجِمَاعِ .
وَهُوَ أَيْضًا مُنْتَفٍ لِأَنَّهُ الْإِنْزَالُ عَنْ مُبَاشَرَةٍ لَا مُطْلَقًا لِمَا ذَكَرْنَا ( قَوْلُهُ عَلَى مَا قَالُوا ) عَادَتُهُ فِي مِثْلِهِ إفَادَةُ الضَّعْفِ مَعَ الْخِلَافِ .
وَعَامَّةُ الْمَشَايِخِ عَلَى الْإِفْطَارِ .
وَقَالَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّجْنِيسِ : أَنَّهُ الْمُخْتَارُ كَأَنَّهُ اُعْتُبِرَتْ الْمُبَاشَرَةُ الْمَأْخُوذَةُ فِي مَعْنَى الْجِمَاعِ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهَا مُبَاشَرَةَ الْغَيْرِ أَوَّلًا بِأَنْ يُرَادَ مُبَاشَرَةٌ هِيَ سَبَبُ الْإِنْزَالِ سَوَاءٌ كَانَ مَا بُوشِرَ مِمَّا يُشْتَهَى عَادَةً أَوْ لَا ، وَلِهَذَا أَفْطَرَ بِالْإِنْزَالِ فِي فَرْجِ الْبَهِيمَةِ وَالْمَيْتَةِ وَلَيْسَ مِمَّا يُشْتَهَى عَادَةً ، هَذَا وَلَا يَحِلُّ الِاسْتِمْنَاءُ بِالْكَفِّ ذَكَرَ الْمَشَايِخُ فِيهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { نَاكِحُ الْيَدِ مَلْعُونٌ ، فَإِنْ غَلَبَتْهُ الشَّهْوَةُ فَفَعَلَ إرَادَةَ تَسْكِينِهَا بِهِ فَالرَّجَاءُ أَنْ لَا يُعَاقَبَ } ( قَوْلُهُ لِهَذَا ) أَيْ عَدَمِ الْمُنَافِي ( وَلِمَا رَوَيْنَا ) مِنْ حَدِيثِ { ثَلَاثٌ لَا يُفْطِرْنَ الصَّائِمَ } وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ أَنَّ الْحِجَامَةَ تُفَطِّرُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ ، وَهُوَ مُعَارَضٌ بِمَا رَوَيْنَاهُ ، وَبِمَا رُوِيَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَاحْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ .
وَقِيلَ لِأَنَسٍ : أَكُنْتُمْ تَكْرَهُونَ الْحِجَامَةَ لِلصَّائِمِ عَلَى

عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالَ : لَا إلَّا مِنْ أَجْلِ الضَّعْفِ .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَقَالَ أَنَسٌ : { أَوَّلُ مَا كُرِهَتْ الْحِجَامَةُ لِلصَّائِمِ أَنَّ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ فَمَرَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَفْطَرَ هَذَا ثُمَّ رَخَّصَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْحِجَامَةِ بَعْدُ لِلصَّائِمِ } ، وَكَانَ أَنَسٌ يَحْتَجِمُ وَهُوَ صَائِمٌ .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ : كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ وَلَا أَعْلَمُ لَهُ عِلَّةً ( قَوْلُهُ وَلَوْ اكْتَحَلَ لَمْ يُفْطِرْ ) سَوَاءٌ وَجَدَ طَعْمَهُ فِي حَلْقِهِ أَوْ لَا لِأَنَّ الْمَوْجُودَ فِي حَلْقِهِ أَثَرُهُ دَاخِلًا مِنْ الْمَسَامِّ وَالْمُفْطِرُ الدَّاخِلُ مِنْ الْمَنَافِذِ كَالْمُدْخَلِ وَالْمُخْرَجِ لَا مِنْ الْمَسَامِّ الَّذِي هُوَ خَلَلُ الْبَدَنِ لِلِاتِّفَاقِ فِيمَنْ شَرَعَ فِي الْمَاءِ يَجِدُ بَرْدَهُ فِي بَطْنِهِ وَلَا يُفْطِرُ .
وَإِنَّمَا كَرِهَ أَبُو حَنِيفَةَ ذَلِكَ أَعْنِي الدُّخُولَ فِي الْمَاءِ وَالتَّلَفُّفَ بِالثَّوْبِ الْمَبْلُولِ لِمَا فِيهِ مِنْ إظْهَارِ الضَّجَرِ فِي إقَامَةِ الْعِبَادَةِ لَا لِأَنَّهُ قَرِيبٌ مِنْ الْإِفْطَارِ وَلَوْ بَزَقَ فَوَجَدَ لَوْنَ الدَّمِ فِيهِ الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُفْطِرُ .
وَقِيلَ : يُفْطِرُ لِتَحَقُّقِ وُصُولِ دَمٍ إلَى بَطْنٍ مِنْ بُطُونِهِ ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَسَنَذْكُرُ الْخِلَافَ فِيهَا ( قَوْلُهُ بِخِلَافِ الرَّجْعَةِ إلَخْ ) أَيْ لَوْ قَبَّلَ الْمُطَلَّقَةَ الرَّجْعِيَّةَ صَارَ مُرَاجِعًا وَبِالْقُبْلَةِ أَيْضًا مَعَ شَهْوَةٍ يَنْتَشِرُ لَهَا الذَّكَرُ تَثْبُتُ حُرْمَةُ أُمَّهَاتِ الْمُقَبَّلَةِ وَبَنَاتِهَا ( لِأَنَّ الْحُكْمَ ) وَهُوَ ثُبُوتُ الرَّجْعَةِ وَحُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ ( أَدْبَرَ عَلَى السَّبَبِ ) لِأَنَّهُ يُؤْخَذُ فِيهِمَا بِالِاحْتِيَاطِ فَتَعَدَّى مِنْ الْحَقِيقَةِ إلَى الشُّبْهَةِ فَأُقِيمَ السَّبَبُ فِيهِ مَقَامَ الْمُسَبَّبِ أَعْنِي الْوَطْءَ ( قَوْلُهُ أَمَّا الْكَفَّارَةُ فَتَفْتَقِرُ إلَى كَمَالِ الْجِنَايَةِ لِأَنَّهَا تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ ) فَكَانَتْ عُقُوبَةً وَهُوَ أَعْلَى عُقُوبَةٍ

لِلْإِفْطَارِ فِي الدُّنْيَا فَيَتَوَقَّفُ لُزُومُهَا عَلَى كَمَالِ الْجِنَايَةِ ، وَلَوْ قَالَ بِالْوَاوِ كَانَا تَعْلِيلَيْنِ وَهُوَ أَحْسَنُ وَيَكُونُ نَفْسُ قَوْلِهِ تَفْتَقِرُ إلَى كَمَالِ الْجِنَايَةِ تَعْلِيلًا أَيْ لَا تَجِبُ لِأَنَّهَا تَفْتَقِرُ إلَى كَمَالِ الْجِنَايَةِ إذْ كَانَتْ أَعْلَى الْعُقُوبَاتِ فِي هَذَا الْبَابِ ، وَلِأَنَّهَا تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَفِي كَوْنِ ذَلِكَ مُفَطِّرًا شُبْهَةٌ حَيْثُ كَانَ مَعْنَى الْجِمَاعِ لَا صُورَتُهُ فَلَا تَجِبُ ( قَوْلُهُ : لِأَنَّ عَيْنَهُ ) ذَكَرَ عَلَى مَعْنَى التَّقْبِيلِ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : كَانَ يُقَبِّلُ وَيُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ } { وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يُقَبِّلُهَا .
وَهُوَ صَائِمٌ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَالْمَسُّ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا كَالتَّقْبِيلِ قَوْلُهُ مِثْلُ التَّقْبِيلِ ) وَرَوَى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ الْمُبَاشَرَةِ لِلصَّائِمِ فَرَخَّصَ لَهُ .
وَأَتَاهُ آخَرُ فَنَهَاهُ .
فَإِذَا الَّذِي رَخَّصَ لَهُ شَيْخٌ ، وَاَلَّذِي نَهَاهُ شَابٌّ } وَهَذَا يُفِيدُ التَّفْصِيلَ الَّذِي اعْتَبَرْنَاهُ ( وَالْمُبَاشَرَةُ كَالتَّقْبِيلِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ فِي الْمُبَاشَرَةِ الْفَاحِشَةِ ) وَهِيَ تَجَرُّدُهُمَا مُتَلَازِقَيْ الْبَطْنَيْنِ ، وَهَذَا أَخَصُّ مِنْ مُطْلَقِ الْمُبَاشَرَةِ وَهُوَ الْمُفَادُ فِي الْحَدِيثِ ، فَجَعْلُ الْحَدِيثِ دَلِيلًا عَلَى مُحَمَّدٍ مَحَلُّ نَظَرٍ ، إذْ لَا عُمُومَ لِلْفِعْلِ الْمُثْبِتِ فِي أَقْسَامِهِ بَلْ وَلَا فِي الزَّمَانِ وَفَهْمُهُ فِيهِ مِنْ إدْخَالِ الرَّاوِي لَفْظَ كَانَ عَلَى الْمُضَارِعِ .
وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ( قَوْلُهُ : لِأَنَّهَا قَلَّمَا تَخْلُو عَنْ الْفِتْنَةِ ) قُلْنَا : الْكَلَامُ فِيمَا إذَا كَانَ بِحَالٍ يَأْمَنُ .
فَإِنْ خَافَ قُلْنَا بِالْكَرَاهَةِ وَالْأَوْجَهُ الْكَرَاهَةُ لِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ سَبَبًا غَالِبًا تَنْزِلُ سَبَبًا فَأَقَلُّ

الْأُمُورِ لُزُومُ الْكَرَاهَةِ مِنْ غَيْرِ مُلَاحَظَةِ تَحَقُّقِ الْخَوْفِ بِالْفِعْلِ .
كَمَا هُوَ قَوَاعِدُ الشَّرْعِ

( وَلَوْ دَخَلَ حَلْقَهُ ذُبَابٌ وَهُوَ ذَاكِرٌ لِصَوْمِهِ لَمْ يُفْطِرْ ) وَفِي الْقِيَاسِ يَفْسُدُ صَوْمُهُ لِوُصُولِ الْمُفْطِرِ إلَى جَوْفِهِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَتَغَذَّى بِهِ كَالتُّرَابِ وَالْحَصَاةِ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ لَا يُسْتَطَاعُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فَأَشْبَهَ الْغُبَارَ وَالدُّخَانَ ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَطَرِ وَالثَّلْجِ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَفْسُدُ لِإِمْكَانِ الِامْتِنَاعِ عَنْهُ إذَا آوَاهُ خَيْمَةٌ أَوْ سَقْفٌ ( وَلَوْ أَكَلَ لَحْمًا بَيْنَ أَسْنَانِهِ فَإِنْ كَانَ قَلِيلًا لَمْ يُفْطِرْ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا يُفْطِرُ ) وَقَالَ زُفَرُ : يُفْطِرُ فِي الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّ الْفَمَ لَهُ حُكْمُ الظَّاهِرِ حَتَّى لَا يَفْسُدَ صَوْمُهُ بِالْمَضْمَضَةِ .
وَلَنَا أَنَّ الْقَلِيلَ تَابِعٌ لِأَسْنَانِهِ بِمَنْزِلَةِ رِيقِهِ بِخِلَافِ الْكَثِيرِ لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى فِيمَا بَيْنَ الْأَسْنَانِ ، وَالْفَاصِلُ مِقْدَارُ الْحِمَّصَةِ وَمَا دُونَهَا قَلِيلٌ ( وَإِنْ أَخْرَجَهُ وَأَخَذَهُ بِيَدِهِ ثُمَّ أَكَلَهُ يَنْبَغِي أَنْ يَفْسُدَ صَوْمُهُ ) لِمَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ : أَنَّ الصَّائِمَ إذَا ابْتَلَعَ سِمْسِمَةً بَيْنَ أَسْنَانِهِ لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ وَلَوْ أَكَلَهَا ابْتِدَاءً يَفْسُدُ صَوْمُهُ وَلَوْ مَضَغَهَا لَا يَفْسُدُ لِأَنَّهَا تَتَلَاشَى وَفِي مِقْدَارِ الْحِمَّصَةِ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ زُفَرَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ أَيْضًا لِأَنَّهُ طَعَامٌ مُتَغَيِّرٌ ، وَلِأَبِي يُوسُفَ : أَنَّهُ يَعَافُهُ الطَّبْعُ .

( قَوْلُهُ فَأَشْبَهَ الْغُبَارَ وَالدُّخَانَ ) إذَا دَخَلَا فِي الْحَلْقِ فَإِنَّهُ لَا يُسْتَطَاعُ الِاحْتِرَازُ عَنْ دُخُولِهِمَا لِدُخُولِهِمَا مِنْ الْأَنْفِ إذَا طَبَّقَ الْفَمَ وَصَارَ أَيْضًا كَبَلَلٍ يَبْقَى فِي فِيهِ بَعْدَ الْمَضْمَضَةِ .
وَنَظِيرُهُ فِي الْخِزَانَةِ إذَا دَخَلَ دُمُوعُهُ أَوْ عَرَقُهُ حَلْقَهُ وَهُوَ قَلِيلٌ كَقَطْرَةٍ أَوْ قَطْرَتَيْنِ لَا يُفْطِرُ ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ بِحَيْثُ يَجِدُ مُلُوحَتَهُ فِي الْحَلْقِ فَسَدَ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْقَطْرَةَ يَجِدُ مُلُوحَتَهَا ، فَالْأَوْلَى عِنْدِي الِاعْتِبَارُ بِوِجْدَانِ الْمُلُوحَةِ لِصَحِيحِ الْحِسِّ ، لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ فِي أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ الْقَدْرِ ، وَمَا فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ : لَوْ دَخَلَ دَمْعُهُ أَوْ عَرَقُ جَبِينِهِ أَوْ دَمُ رُعَافِهِ حَلْقَهُ فَسَدَ صَوْمُهُ يُوَافِقُ مَا ذَكَرْتُهُ ، فَإِنَّهُ عَلَّقَ بِوُصُولِهِ إلَى الْحَلْقِ وَمُجَرَّدُ وُجْدَانِ الْمُلُوحَةِ دَلِيلُ ذَلِكَ ( قَوْلُهُ : إذَا أَوَاهُ خَيْمَةٌ أَوْ سَقْفٌ ) يَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ كَانَ سَائِرًا مُسَافِرًا لَمْ يَفْسُدْ ، فَالْأَوْلَى تَعْلِيلُ الْإِمْكَانِ بِتَيَسُّرِ طَبْقِ الْفَمِ وَفَتْحِهِ أَحْيَانًا مَعَ الِاحْتِرَازِ عَنْ الدُّخُولِ ، وَلَوْ دَخَلَ فَمَهُ الْمَطَرُ فَابْتَلَعَهُ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ ، وَلَوْ خَرَجَ دَمٌ مِنْ أَسْنَانِهِ فَدَخَلَ حَلْقَهُ إنْ سَاوَى الرِّيقَ فَسَدَ وَإِلَّا لَا ، وَلَوْ اسْتَشَمَّ الْمُخَاطَ مِنْ أَنْفِهِ حَتَّى أَدْخَلَهُ إلَى فَمِهِ وَابْتَلَعَهُ عَمْدًا لَا يُفْطِرُ ، وَلَوْ خَرَجَ رِيقُهُ مِنْ فِيهِ فَأَدْخَلَهُ وَابْتَلَعَهُ إنْ كَانَ لَمْ يَنْقَطِعْ مِنْ فِيهِ بَلْ مُتَّصِلٌ بِمَا فِي فِيهِ كَالْخَيْطِ فَاسْتَشْرَبَهُ لَمْ يُفْطِرْ ، وَإِنْ كَانَ انْقَطَعَ فَأَخَذَهُ وَأَعَادَهُ أَفْطَرَ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ ابْتَلَعَ رِيقَ غَيْرِهِ .
وَلَوْ اجْتَمَعَ فِي فِيهِ ثُمَّ ابْتَلَعَهُ يُكْرَهُ وَلَا يُفْطِرُ ، وَلَوْ اخْتَلَطَ بِالرِّيقِ لَوْنُ صَبْغِ إبْرَيْسَمٍ يَعْمَلُهُ لِلْخَيْطِ مِنْ فِيهِ فَابْتَلَعَ هَذَا الرِّيقَ ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ أَفْطَرَ ( قَوْلُهُ : لَهُ حُكْمٌ ظَاهِرٌ ) فَالْإِدْخَالُ

مِنْهُ كَالْإِدْخَالِ مِنْ خَارِجِهِ وَلَوْ شَدَّ الطَّعَامَ بِخَيْطٍ فَأَرْسَلَهُ فِي حَلْقِهِ وَطَرَفُهُ بِيَدِهِ لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ إلَّا إذَا انْفَصَلَ مِنْهُ شَيْءٌ ( قَوْلُهُ : وَلَنَا أَنَّ الْقَلِيلَ تَابِعٌ لِأَسْنَانِهِ بِمَنْزِلَةِ رِيقِهِ ) كَمَا لَا يَفْسُدُ بِالرِّيقِ ، وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا تَابِعًا لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِامْتِنَاعُ عَنْ بَقَاءِ أَثَرٍ مَا مِنْ الْمَآكِلِ حَوَالَيْ الْأَسْنَانِ وَإِنْ قَلَّ ، ثُمَّ يَجْرِي مَعَ الرِّيقِ التَّابِعِ مِنْ مَحَلِّهِ إلَى الْحَلْقِ ، فَامْتَنَعَ تَعْلِيقُ الْإِفْطَارِ بِعَيْنِهِ فَيُعَلَّقُ بِالْكَثِيرِ وَهُوَ مَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ لِأَنَّهُ اُعْتُبِرَ كَثِيرًا فِي فَصْلِ الصَّلَاةِ ، وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ جَعَلَ الْفَاصِلَ كَوْنَ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُ فِي ابْتِلَاعِهِ إلَى الِاسْتِعَانَةِ بِالرِّيقِ أَوْ لَا .
الْأَوَّلُ قَلِيلٌ ، وَالثَّانِي كَثِيرٌ ، وَهُوَ حَسَنٌ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْحُكْمِ بِالْإِفْطَارِ بَعْدَ تَحَقُّقِ الْوُصُولِ كَوْنُهُ لَا يَسْهُلُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ ، وَذَلِكَ فِيمَا يَجْرِي بِنَفْسِهِ مَعَ الرِّيقِ إلَى الْجَوْفِ لَا فِيمَا يَتَعَمَّدْ فِي إدْخَالِهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُضْطَرٍّ فِيهِ ( قَوْلُهُ ثُمَّ أَكَلَهُ يَنْبَغِي أَنْ يُفْسِدَ ) الْمُتَبَادَرُ مِنْ لَفْظَةِ أَكَلَهُ الْمَضْغُ وَالِابْتِلَاعُ أَوْ الْأَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ .
وَمِنْ مُجَرَّدِ الِابْتِلَاعِ فَيُفِيدُ حِينَئِذٍ خِلَافَ مَا فِي شَرْحِ الْكَنْزِ أَنَّهُ إذَا مَضَغَ مَا أَدْخَلَهُ وَهُوَ دُونَ الْحِمَّصَةِ لَا يُفَطِّرُهُ ، لَكِنَّ تَشْبِيهَهُ بِمَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ عَدَمِ الْفَسَادِ فِي ابْتِلَاعِ سِمْسِمَةٍ بَيْنَ أَسْنَانِهِ ، وَالْفَسَادُ إذَا أَكَلَهَا مِنْ خَارِجٍ وَعَدَمُهُ إذَا مَضَغَهَا يُوجِبُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَكْلِ الِابْتِلَاعُ فَقَطْ وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ لِعَطَاءِ النَّظِيرِ ، وَفِي الْكَافِي فِي السِّمْسِمَةِ قَالَ : إنْ مَضَغَهَا لَا يَفْسُدُ إلَّا أَنْ يَجِدَ طَعْمَهُ فِي حَلْقِهِ .
وَهَذَا حَسَنٌ جِدًّا فَلْيَكُنْ الْأَصْلَ فِي كُلِّ قَلِيلٍ مَضَغَهُ ، وَإِذَا ابْتَلَعَ السِّمْسِمَةَ حَتَّى فَسَدَ هَلْ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ ؟ قِيلَ : لَا ،

وَالْمُخْتَارُ وُجُوبُهَا لِأَنَّهَا مِنْ جِنْسِ مَا يَتَغَذَّى بِهِ .
وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ .
( قَوْلُهُ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَعَافُهُ الطَّبْعُ ) فَصَارَ نَظِيرَ التُّرَابِ ، وَزُفَرُ يَقُولُ : بَلْ نَظِيرُ اللَّحْمِ الْمُنْتِنِ ، وَفِيهِ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْمُفْتِيَ فِي الْوَقَائِعِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ ضَرْبِ اجْتِهَادٍ وَمَعْرِفَةٍ بِأَحْوَالِ النَّاسِ ، وَقَدْ عَرَفَ أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَفْتَقِرُ إلَى كَمَالِ الْجِنَايَةِ فَيَنْظُرُ فِي صَاحِبِ الْوَاقِعَةِ إنْ كَانَ مِمَّنْ يَعَافُ طَبْعُهُ ذَلِكَ أَخَذَ بِقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا أَثَرَ لِذَلِكَ عِنْدَهُ أَخَذَ بِقَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَلَوْ ابْتَلَعَ حَبَّةَ عِنَبٍ لَيْسَ مَعَهَا تَفْرُوقُهَا فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ ، وَإِنْ كَانَ مَعَهَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنْ مَضَغَهَا وَهُوَ مَعَهَا فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ .

( فَإِنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ لَمْ يُفْطِرْ ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ قَاءَ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَمَنْ اسْتَقَاءَ عَامِدًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ } وَيَسْتَوِي فِيهِ مِلْءُ الْفَمِ فَمَا دُونَهُ فَلَوْ عَادَ وَكَانَ مِلْءَ الْفَمِ فَسَدَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ خَارِجٌ حَتَّى انْتَقَضَ بِهِ الطَّهَارَةُ وَقَدْ دَخَلَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَفْسُدُ لِأَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ صُورَةُ الْفِطْرِ وَهُوَ الِابْتِلَاعُ وَكَذَا مَعْنَاهُ لِأَنَّهُ لَا يَتَغَذَّى بِهِ عَادَةً ، إنْ أَعَادَهُ فَسَدَ بِالْإِجْمَاعِ لِوُجُودِ الْإِدْخَالِ بَعْدَ الْخُرُوجِ فَتَتَحَقَّقُ صُورَةُ الْفِطْرِ .
وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ مِلْءِ الْفَمِ فَعَادَ لَمْ يَفْسُدْ صَوْمُهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ خَارِجٍ وَلَا صُنْعَ لَهُ فِي الْإِدْخَالِ ، وَإِنْ أَعَادَهُ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِعَدَمِ الْخُرُوجِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَفْسُدُ صَوْمُهُ لِوُجُودِ الصُّنْعِ مِنْهُ فِي الْإِدْخَالِ ( فَإِنْ اسْتَقَاءَ عَمْدًا مِلْءَ فِيهِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ ) لِمَا رَوَيْنَا وَالْقِيَاسُ مَتْرُوكٌ بِهِ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِعَدَمِ الصُّورَةِ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ مِلْءِ الْفَمِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَفْسُدُ لِعَدَمِ الْخُرُوجِ حُكْمًا ثُمَّ إنْ عَادَ لَمْ يَفْسُدْ عِنْدَهُ لِعَدَمِ سَبْقِ الْخُرُوجِ ، وَإِنْ أَعَادَهُ فَعَنْهُ : أَنَّهُ لَا يَفْسُدُ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَعَنْهُ : أَنَّهُ يَفْسُدُ فَأَلْحَقَهُ بِمِلْءِ الْفَمِ لِكَثْرَةِ الصُّنْعِ .

( قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ) أَخْرَجَ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ وَاللَّفْظُ لِلتِّرْمِذِيِّ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ وَهُوَ صَائِمٌ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ وَمَنْ اسْتَقَاءَ عَمْدًا فَلْيَقْضِ } .
وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا مِنْ حَدِيثِ عِيسَى بْنِ يُونُسَ .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ : لَا أَرَاهُ مَحْفُوظًا لِهَذَا ، يَعْنِي لِلْغَرَابَةِ وَلَا يَقْدَحُ فِي ذَلِكَ بَعْدَ تَصْدِيقِهِ الرَّاوِي فَإِنَّهُ هُوَ الشَّاذُّ الْمَقْبُولُ وَقَدْ صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَكُلٌّ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَابْنُ حِبَّانَ وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ .
وَقَالَ : رُوَاتُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ ، ثُمَّ قَدْ تَابَعَ عِيسَى بْنَ يُونُسَ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانٍ عَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ ، وَسَكَتَ عَلَيْهِ وَرَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عُمَرَ .
وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ مِنْ حَدِيثِ الْأَوْزَاعِيِّ مَوْقُوفًا عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَقَفَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَلِيٍّ أَيْضًا .
وَمَا رُوِيَ فِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَرَجَ فِي يَوْمٍ كَانَ يَصُومُهُ فَدَعَا بِإِنَاءٍ فَشَرِبَ ، فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ هَذَا يَوْمٌ كُنْتَ تَصُومُ ، قَالَ : أَجَلْ وَلَكِنِّي قِئْتُ } مَحْمُولٌ عَلَى مَا قَبْلَ الشُّرُوعِ أَوْ عُرُوضِ الضَّعْفِ ، ثُمَّ الْجَمْعُ بَيْنَ آثَارِ الْفِطْرِ مِمَّا دَخَلَ وَبَيْنَ آثَارِ الْقَيْءِ أَنَّ فِي الْقَيْءِ يَتَحَقَّقُ رُجُوعُ شَيْءٍ مِمَّا يَخْرُجُ وَإِنْ قَلَّ فَلِاعْتِبَارِهِ يُفْطِرُ وَفِيمَا إذَا ذَرَعَهُ إنْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ أَيْضًا لَكِنْ لَا صُنْعَ لَهُ فِيهِ وَلَا لِغَيْرِهِ مِنْ الْعِبَادِ فَكَانَ كَالنِّسْيَانِ لَا الْإِكْرَاهِ وَالْخَطَأِ ( قَوْلُهُ فَلَوْ عَادَ ) أَيْ الْقَيْءُ الَّذِي ذَرَعَهُ .
وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إمَّا إنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ أَوْ

اسْتِقَاءَ وَكُلٌّ مِنْهُمَا إمَّا مِلْءُ الْفَمِ أَوْ دُونَهُ .
وَالْكُلُّ إمَّا أَنْ خَرَجَ أَوْ عَادَ أَوْ أَعَادَهُ ، فَإِنْ ذَرَعَهُ وَخَرَجَ لَا يُفْطِرُ قَلَّ أَوْ كَثُرَ لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا وَإِنْ عَادَ بِنَفْسِهِ وَهُوَ ذَاكِرٌ لِلصَّوْمِ إنْ كَانَ مِلْءَ الْفَمِ فَسَدَ صَوْمُهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ خَارِجٌ شَرْعًا حَتَّى انْتَقَضَتْ بِهِ الطَّهَارَةُ وَقَدْ دَخَلَ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَفْسُدُ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ صُورَةُ الْإِفْطَارِ وَهُوَ الِابْتِلَاعُ وَلَا مَعْنَاهُ إذْ لَا يَتَغَذَّى بِهِ .
فَأَصْلُ أَبِي يُوسُفَ فِي الْعَوْدِ وَالْإِعَادَةِ اعْتِبَارُ الْخُرُوجِ وَهُوَ بِمِلْءِ الْفَمِ ، وَأَصْلُ مُحَمَّدٍ فِيهِ الْإِعَادَةُ قَلَّ أَوْ كَثُرَ وَإِنْ أَعَادَ فَسَدَ بِالِاتِّفَاقِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِلدُّخُولِ بَعْدَ تَحَقُّقِ الْخُرُوجِ شَرْعًا ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لِلصُّنْعِ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ مِلْءِ الْفَمِ فَعَادَ لَمْ يَفْسُدْ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ أَعَادَهُ لَمْ يَفْسُدْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَهُوَ الْمُخْتَارُ ، لِعَدَمِ الْخُرُوجِ شَرْعًا ، وَيَفْسُدُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِوُجُودِ الصُّنْعِ ، وَإِنْ اسْتَقَاءَ عَمْدًا وَخَرَجَ إنْ كَانَ مِلْءَ الْفَمِ فَسَدَ صَوْمُهُ بِالْإِجْمَاعِ لِمَا رَوَيْنَا وَلَا يَتَأَتَّى فِيهِ تَفْرِيعُ الْعَوْدِ وَالْإِعَادَةُ لِأَنَّهُ أَفْطَرَ بِمُجَرَّدِ الْقَيْءِ قَبْلَهُمَا ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ مِلْءِ فِيهِ أَفْطَرَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَاهُ وَلَا يَتَأَتَّى فِيهِ التَّفْرِيعُ أَيْضًا عِنْدَهُ ، وَلَا يُفْطِرُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ .
لَكِنَّ ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ كَقَوْلِ مُحَمَّدٍ ذَكَرَهُ فِي الْكَافِي ، ثُمَّ إنْ عَادَ بِنَفْسِهِ لَمْ يُفْطِرْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَلَا يَتَحَقَّقُ الدُّخُولُ لِعَدَمِ الْخُرُوجِ ، وَإِنْ أَعَادَهُ فَعَنْهُ رِوَايَتَانِ : فِي رِوَايَةٍ لَا يُفْطِرُ لِعَدَمِ الْخُرُوجِ .
وَفِي رِوَايَةٍ يُفْطِرُ لِكَثْرَةِ الصُّنْعِ ، وَزُفَرُ مَعَ مُحَمَّدٍ فِي أَنَّ قَلِيلَهُ يُفْسِدُ الصَّوْمَ جَرْيًا عَلَى أَصْلِهِ فِي انْتِقَاضِ الطَّهَارَةِ بِقَلِيلِهِ (

قَوْلُهُ : وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَفْسُدُ ) ذَكَرْنَا أَنَّهُ الصَّحِيحُ ( قَوْلُهُ عَادَةً ) قَيَّدَ بِهِ لِأَنَّهُ مِمَّا يَتَغَذَّى بِهِ فَإِنَّهُ بِحَسَبِ الْأَصْلِ مَطْعُومٌ ، فَإِذَا اسْتَقَرَّ فِي الْمَعِدَةِ يَحْصُلُ بِهِ التَّغَذِّي ، بِخِلَافِ الْحَصَى وَنَحْوِهِ ، لَكِنَّهُ لَمْ يَعْتَدَّ فِيهِ ذَلِكَ لِعَدَمِ الْحِلِّ وَنُفُورِ الطَّبْعِ ( قَوْلُهُ : فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ) تَقَدَّمَ أَنَّهُ الْمُصَحَّحُ ( قَوْلُهُ فَإِنْ اسْتَقَاءَ عَمْدًا ) قَيَّدَ بِهِ لِيُخْرِجَ مَا إذَا اسْتَقَى نَاسِيًا لِصَوْمِهِ فَإِنَّهُ لَا يَفْسُدُ بِهِ كَغَيْرِهِ مِنْ الْمُفْطِرَاتِ ( قَوْلُهُ : وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَفْسُدُ ) صَحَّحَهُ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ ، وَعَلِمْت أَنَّهُ خِلَافُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ : أَعْنِي مِنْ حَيْثُ الْإِطْلَاقُ فِيهَا ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ الْقَيْءُ طَعَامًا أَوْ مَاءً أَوْ مُرَّةً ، فَإِنْ كَانَ بَلْغَمًا غَيْرَ مُفْسِدٍ لِلصَّوْمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ إذَا مَلَأَ الْفَمَ بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ إنَّهُ نَاقِضٌ .
وَيَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُ هُنَا أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِهِمَا بِخِلَافِ نَقْضِ الطَّهَارَةِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِفْطَارَ إنَّمَا نِيطَ بِمَا يَدْخُلُ أَوْ بِالْقَيْءِ عَمْدًا ، إمَّا نَظَرًا إلَى أَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ عَادَةً دُخُولَ شَيْءٍ أَوْ لَا بِاعْتِبَارِهِ بَلْ ابْتِدَاءِ شَرْعِ تَفْطِيرِهِ بِشَيْءٍ آخَرَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُلْحَظَ فِيهِ تَحَقُّقَ كَوْنِهِ خَارِجًا نَجَسًا أَوْ طَاهِرًا ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْبَلْغَمِ وَغَيْرِهِ حِينَئِذٍ ، بِخِلَافِ نَقْضِ الطَّهَارَةِ ، وَلَوْ اسْتَقَاءَ مِرَارًا فِي مَجْلِسٍ مِلْءَ فِيهِ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ وَإِنْ كَانَ فِي مَجَالِسَ أَوْ غَدْوَةٍ ثُمَّ نِصْفِ النَّهَارِ ثُمَّ عَشِيَّةٍ لَا يَلْزَمُهُ ، كَذَا نَقَلَ مِنْ خِزَانَةِ الْأَكْمَلِ .

قَالَ : ( وَمَنْ ابْتَلَعَ الْحَصَاةَ أَوْ الْحَدِيدَ أَفْطَرَ ) لِوُجُودِ صُورَةِ الْفِطْرِ ( وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ) لِعَدَمِ الْمَعْنَى .

( قَوْلُهُ : لِعَدَمِ الْمَعْنَى ) أَيْ مَعْنَى الْفِطْرِ وَهُوَ إيصَالُ مَا فِيهِ نَفْعُ الْبَدَنِ إلَى الْجَوْفِ سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يُتَغَذَّى بِهِ أَوْ يُتَدَاوَى بِهِ فَقَصُرَتْ الْجِنَايَةُ فَانْتَفَتْ الْكَفَّارَةُ ، وَكُلُّ مَا لَا يُتَغَذَّى بِهِ وَلَا يُتَدَاوَى بِهِ عَادَةً كَالْحَجَرِ وَالتُّرَابِ ، كَذَلِكَ لَا تَجِبُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ .
وَلَا تَجِبُ فِي الدَّقِيقِ وَالْأُرْزِ وَالْعَجِينِ إلَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَلَا فِي الْمِلْحِ إلَّا إذَا اعْتَادَ أَكْلَهُ وَحْدَهُ .
وَقِيلَ : تَجِبُ فِي قَلِيلِهِ دُونَ كَثِيرِهِ ، وَلَا فِي النَّوَاةِ وَالْقُطْنِ وَالْكَاغِدِ وَالسَّفَرْجَلِ إذَا لَمْ يُدْرِكْ ، وَلَا هُوَ مَطْبُوخٌ .
وَلَا فِي ابْتِلَاعِ الْجَوْزَةِ الرَّطْبَةِ ، وَتَجِبُ لَوْ مَضَغَهَا وَبَلَعَ الْيَابِسَةَ وَمَضَغَهَا عَلَى هَذَا ، وَكَذَا يَابِسُ اللَّوْزِ وَالْبُنْدُقِ وَالْفُسْتُقِ .
وَقِيلَ : هَذَا إنْ وَصَلَ الْقِشْرُ أَوَّلًا إلَى حَلْقِهِ ، أَمَّا إذَا وَصَلَ اللُّبُّ أَوَّلًا كَفَّرَ ، وَفِي ابْتِلَاعِ اللَّوْزَةِ الرَّطْبَةِ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّهَا تُؤْكَلُ كَمَا هِيَ ، بِخِلَافِ الْجَوْزَةِ فَلِذَا افْتَرَقَا ، وَابْتِلَاعُ التُّفَّاحَةِ كَاللَّوْزَةِ وَالرُّمَّانَةِ وَالْبَيْضَةِ كَالْجَوْزَةِ .
وَفِي ابْتِلَاعِ الْبِطِّيخَةِ الصَّغِيرَةِ وَالْخَوْخَةِ الصَّغِيرَةِ ، وَالهَلَيْلَجَةِ .
رَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ ، وَتَجِبُ بِأَكْلِ اللَّحْمِ النِّيءِ ، وَإِنْ كَانَ مَيْتَهً مُنْتِنًا إلَّا إنْ دَوَّدَ فَلَا تَجِبُ .
وَاخْتُلِفَ فِي الشَّحْمِ ، وَاخْتَارَ أَبُو اللَّيْثِ الْوُجُوبَ ، فَإِنْ كَانَ قَدِيدًا وَجَبَتْ بِلَا خِلَافٍ ، وَتَجِبُ بِأَكْلِ الْحِنْطَةِ وَقَضْمِهَا لَا إنْ مَضَغَ قَمْحَةً لِلتَّلَاشِي وَتَجِبُ بِالطِّينِ الْأَرْمَنِيِّ وَبِغَيْرِهِ عَلَى مَنْ يَعْتَادُ أَكْلَهُ كَالْمُسَمَّى بِالطِّفْلِ لَا عَلَى مَنْ لَمْ يَعْتَدْهُ ، وَلَا بِأَكْلِ الدَّمِ إلَّا عَلَى رِوَايَةٍ ، وَلَوْ مَضَغَ لُقْمَةً نَاسِيًا فَتَذَكَّرَ فَابْتَلَعَهَا قِيلَ تَجِبُ ، وَقِيلَ لَا ، وَقِيلَ ، إنْ ابْتَلَعَهَا قَبْلَ أَنْ يُخْرِجَهَا إلَّا إنْ أَخْرَجَهَا ثُمَّ ابْتَلَعَهَا ، وَقِيلَ بِالْعَكْسِ

.
وَصَحَّحَهُ أَبُو اللَّيْثِ لِأَنَّهَا بَعْدَ إخْرَاجِهَا تُعَافُ وَقَبْلَهُ تُلَذُّ ، وَقِيلَ إنْ كَانَتْ سُخْنَةً بَعْدُ فَعَلَيْهِ لَا إنْ تَرَكَهَا بَعْدَ الْإِخْرَاجِ حَتَّى بَرَدَتْ لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ تُعَافُ لَا قَبْلَهُ ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَنْظُورَ إلَيْهِ عِنْدَ الْكُلِّ فِي السُّقُوطِ الْعِيَافَةُ غَيْرَ أَنَّ كُلًّا وَقَعَ عِنْدَهُ أَنَّ الِاسْتِكْرَاهَ إنَّمَا يَثْبُتُ عِنْدَ كَذَا لَا كَذَا .

( وَمَنْ جَامَعَ فِي أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ عَامِدًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ ) اسْتِدْرَاكًا لِلْمَصْلَحَةِ الْفَائِتَةِ ( وَالْكَفَّارَةُ ) لِتَكَامُلِ الْجِنَايَةِ وَلَا يُشْتَرَطُ الْإِنْزَالُ فِي الْمَحَلَّيْنِ اعْتِبَارًا بِالِاغْتِسَالِ ، وَهَذَا لِأَنَّ قَضَاءَ الشَّهْوَةِ يَتَحَقَّقُ دُونَهُ وَإِنَّمَا ذَلِكَ شِبَعٌ ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَنَّهُ لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِالْجِمَاعِ فِي الْمَوْضِعِ الْمَكْرُوهِ اعْتِبَارًا بِالْحَدِّ عِنْدَهُ .
وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا تَجِبُ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ مُتَكَامِلَةٌ لِقَضَاءِ الشَّهْوَةِ ( وَلَوْ جَامَعَ مَيْتَةً أَوْ بَهِيمَةً فَلَا كَفَّارَةَ أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ تَكَامُلُهَا بِقَضَاءِ الشَّهْوَةِ فِي مَحَلٍّ مُشْتَهًى وَلَمْ يُوجَدْ ، ثُمَّ عِنْدَنَا كَمَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِالْوِقَاعِ عَلَى الرَّجُلِ تَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي قَوْلٍ : لَا تَجِبُ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالْجِمَاعِ وَهُوَ فِعْلُهُ وَإِنَّمَا هِيَ مَحَلُّ الْفِعْلِ ، وَفِي قَوْلٍ : تَجِبُ ، وَيَتَحَمَّلُ الرَّجُلُ عَنْهَا اعْتِبَارًا بِمَاءِ الِاغْتِسَالِ .
وَلَنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ فَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُظَاهِرِ } وَكَلِمَةُ مَنْ تَنْتَظِمُ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ ، وَلِأَنَّ السَّبَبَ جِنَايَةُ الْإِفْسَادِ لَا نَفْسُ الْوِقَاعِ وَقَدْ شَارَكْته فِيهَا وَلَا يَتَحَمَّلُ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ أَوْ عُقُوبَةٌ ، وَلَا يَجْرِي فِيهَا التَّحَمُّلُ .

( قَوْلُهُ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ اسْتِدْرَاكًا لِلْمَصْلَحَةِ الْفَائِتَةِ وَالْكَفَّارَةِ ) فَلَوْ كَفَّرَ بِالصَّوْمِ فَصَامَ أَحَدًا وَسِتِّينَ يَوْمًا عَنْ الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ يَوْمِ الْقَضَاءِ مِنْهَا قَالُوا يُجْزِئُهُ ، وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ .
وَفِي تَصْوِيرِهِ عِنْدِي ضَرْبُ إشْكَالٍ لِأَنَّهُ يَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ لِكُلِّ يَوْمٍ ، فَإِذَا كَانَ الْوَاقِعُ نِيَّتَهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ فَإِنَّمَا يَصِحُّ بِالتَّرْجِيحِ عَلَى مَا عُرِفَ فِيمَا إذَا نَوَى الْقَضَاءَ ، وَكَفَّارَةُ الظِّهَارِ أَنَّهُ يَقَعُ عَنْ الْقَضَاءِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَأَبِي حَنِيفَةَ ، فَإِنَّهُمَا يُرَجِّحَانِ فِي مِثْلِهِ وَرَجَّحَا فِي هَذِهِ الْقَضَاءَ بِأَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى ، بِخِلَافِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ فَإِنَّهَا يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى حَقِّ نَفْسِهِ فَيُرَجَّحُ الْقَضَاءُ هُنَا عَلَى كَفَّارَةِ الْفِطْرِ بِقُوَّةِ ثُبُوتِهِ وَلُزُومِهِ ، بِخِلَافِ كَفَّارَةِ الْفِطْرِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَقَعُ الْيَوْمُ الْأَوَّلُ عَنْ الْقَضَاءِ وَمَا بَعْدَهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ فَيَلْغُوا جَمْعُ الْقَضَاءِ مَعَ الْكَفَّارَةِ ، وَلَوْ كَانَ الْوَاقِعُ نِيَّةَ ذَلِكَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ فَقَطْ فَهَكَذَا ، أَوْ فِي الْأَخِيرِ فَقَطْ تَعَيَّنَ الْأَخِيرُ لِلْقَضَاءِ لِلَغْوِ جَمْعِ الْكَفَّارَةِ إذْ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ ، وَلَوْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ تَعَيَّنَ الْيَوْمُ الَّذِي نَوَى كَذَلِكَ لِلْقَضَاءِ ، وَبَطَلَ مَا قَبْلَهُ ، وَإِنْ كَانَ تِسْعَةً وَخَمْسِينَ يَوْمًا لِانْقِطَاعِ التَّتَابُعِ فِي الْكَفَّارَةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الِاسْتِئْنَافُ .
وَلَوْ جَامَعَ مِرَارًا فِي أَيَّامٍ مِنْ رَمَضَانَ وَاحِدٍ وَلَمْ يُكَفِّرْ كَانَ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ ، فَلَوْ جَامَعَ فَكَفَّرَ ثُمَّ جَامَعَ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
وَرَوَى زُفَرُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ : إنَّمَا عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَلَوْ جَامَعَ فِي رَمَضَانَيْنِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ ، وَإِنْ لَمْ يُكَفِّرْ لِلْأَوَّلِ فِي ظَاهِرِ

الرِّوَايَةِ ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَكَذَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَتَكَرَّرُ فِي الْكُلِّ لِتَكَرُّرِ السَّبَبِ ، وَلَنَا إطْلَاقُ جَوَابِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلْأَعْرَابِيِّ بِإِعْتَاقِ رَقَبَةٍ ، وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ " وَقَعْت عَلَى امْرَأَتِي " يَحْتَمِلُ الْوَحْدَةَ وَالْكَثْرَةَ وَلَمْ يَسْتَفْسِرْهُ ، فَدَلَّ أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَخْتَلِفُ ، وَلِأَنَّ مَعْنَى الزَّجْرِ مُعْتَبَرٌ فِي هَذِهِ الْكَفَّارَةِ بِدَلِيلِ اخْتِصَاصِهَا بِالْعَمْدِ وَعَدَمِ الشُّبْهَةِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْكَفَّارَاتِ ، وَالزَّجْرُ يَحْصُلُ بِكَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ بِخِلَافِ مَا إذَا جَامَعَ فَكَفَّرَ ثُمَّ جَامَعَ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ الزَّجْرَ لَمْ يَحْصُلْ بِالْأَوَّلِ ، وَلَوْ أَفْطَرَ فِي يَوْمٍ فَأَعْتَقَ ثُمَّ أَفْطَرَ فِي آخَرَ فَأَعْتَقَ ثُمَّ فِي آخَرَ فَأَعْتَقَ ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ الرَّقَبَةُ الْأُولَى أَوْ الثَّانِيَةُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْمُتَأَخِّرَ يَجْزِيهِ ، وَلَوْ اُسْتُحِقَّتْ الرَّقَبَةُ الثَّالِثَةُ فَعَلَيْهِ إعْتَاقُ وَاحِدَةٍ لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ لَا يُجْزِي عَمَّا تَأَخَّرَ .
وَلَوْ اُسْتُحِقَّتْ الثَّانِيَةُ أَيْضًا فَعَلَيْهِ وَاحِدَةٌ لِلثَّانِي وَالثَّالِثِ ، وَلَوْ اُسْتُحِقَّتْ الْأُولَى أَيْضًا فَكَذَلِكَ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ بِالِاسْتِحْقَاقِ يُلْتَحَقُ بِالْعَدَمِ وَجُعِلَ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَقَدْ أَفْطَرَ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَمْ يُكَفِّرْ بِشَيْءٍ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَلَوْ اُسْتُحِقَّتْ الْأُولَى وَالثَّالِثَةُ دُونَ الثَّانِيَةِ أَعْتَقَ وَاحِدَةً لِلثَّالِثَةِ لِأَنَّ الثَّانِيَةَ كَفَتْ عَنْ الْأُولَى ، وَالْأَصْلُ أَنَّ الثَّانِيَ يَجْزِي عَمَّا قَبْلَهُ لَا عَمَّا بَعْدَهُ ، وَلَوْ أَفْطَرَ وَهُوَ مُقِيمٌ بَعْدَ النِّيَّةِ فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ ثُمَّ فِي يَوْمِهِ سَافَرَ لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ ، وَلَوْ مَرِضَ فِيهِ سَقَطَتْ لِأَنَّ الْمَرَضَ مَعْنًى يُوجِبُ تَغَيُّرَ الطَّبِيعَةِ إلَى الْفَسَادِ وَيَحْدُثُ أَوَّلًا فِي الْبَاطِنِ ثُمَّ يَظْهَرُ أَثَرُهُ فَلَمَّا مَرِضَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ

ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ الْمُرَخِّصُ مَوْجُودًا وَقْتَ الْفِطْرِ فَمَنَعَ انْعِقَادَهُ مُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ .
أَوْ نَقُولُ : وُجُودُ أَصْلِهِ شُبْهَةٌ ، وَهَذِهِ الْكَفَّارَةُ لَا تَجِبُ مَعَهَا ، أَمَّا السَّفَرُ فَبِنَفْسِ الْخُرُوجِ الْمَخْصُوصِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى الْحَالِ فَلَمْ يَظْهَرْ الْمَانِعُ حَالَ الْفِطْرِ ، وَلَوْ أَفْطَرَتْ ثُمَّ حَاضَتْ أَوْ نَفِسَتْ لَا كَفَّارَةَ لِأَنَّ الْحَيْضَ دَمٌ يَجْتَمِعُ فِي الرَّحِمِ شَيْئًا فَشَيْئًا حَتَّى يَتَهَيَّأَ لِلْبُرُوزِ فَلَمَّا بَرَزَ مِنْ يَوْمِهِ ظَهَرَ تَهَيُّؤُهُ وَيَجِبُ الْفِطْرُ ، أَوْ تَهَيُّؤُ أَصْلِهِ فَيُوَرِّثُ الشُّبْهَةَ ، وَلَوْ سَافَرَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مُكْرَهًا لَا تَسْقُطُ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ خِلَافًا لِزُفَرَ ، وَلَوْ جَرَحَ نَفْسَهُ فَمَرِضَ مَرَضًا مُرَخِّصًا اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ ، وَالْمُخْتَارُ لَا تَسْقُطُ لِأَنَّ الْمَرَضَ مِنْ الْجُرْحِ ، وَأَنَّهُ وُجِدَ مَقْصُورًا عَلَى الْحَالِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِي الْمَاضِي ( قَوْلُهُ : وَإِنَّمَا ذَلِكَ شِبَعٌ ) أَفَادَ تَكَامُلَ الْجِنَايَةِ قَبْلَهُ فَبِمُجَرَّدِ الْإِيلَاجِ حَصَلَ قَضَاءُ شَهْوَةِ الْفَرْجِ عَلَى الْكَمَالِ وَالْإِنْزَالِ شِبَعٌ أَكْمَلُ ، وَلَا تَتَوَقَّفُ الْكَفَّارَةُ عَلَيْهِ كَمَا بِالْأَكْلِ تَجِبُ بِلُقْمَةٍ لَا بِالشِّبَعِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَشْتَرِطْ الْإِنْزَالَ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ وَهُوَ عُقُوبَةٌ مَحْضَةٌ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ ، فَلَأَنْ لَا يَشْتَرِطَ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ وَفِيهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ الَّتِي يُحْتَاطُ فِي إثْبَاتِهَا أَوْلَى فَعَدَمُ الِاشْتِرَاطِ عَلَى هَذَا ثَابِتٌ بِدَلَالَةِ نَصِّ الْحَدِّ ( قَوْلُهُ : تَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ ) لَوْ قَالَ : عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ كَانَ أَفْيَدَ إذْ يَدْخُلُ الْمُلَاطُ بِهِ طَائِعًا ، وَفِي الْكَافِي : إنْ وَطِئَ فِي الدُّبُرِ ، فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُ لَا يَجْعَلُ هَذَا الْفِعْلَ كَامِلًا حَتَّى لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ وَلَا شُبْهَةَ فِي جَانِبِ الْمَفْعُولِ بِهِ إذْ لَيْسَ فِيهِ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ .
وَعَنْهُ أَنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ ، وَهُوَ

قَوْلُهُمَا وَهُوَ الْأَصَحُّ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ مُتَكَامِلَةٌ ، وَإِنَّمَا ادَّعَى أَبُو حَنِيفَةَ النُّقْصَانَ فِي مَعْنَى الزِّنَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يُفْسِدُ الْفِرَاشَ وَلَا عِبْرَةَ فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ بِهِ .
( قَوْلُهُ وَفِي قَوْلٍ يَتَحَمَّلُ ) يَعْنِي إذَا كَفَّرَ بِالْمَالِ ( قَوْلُهُ : وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ فَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُظَاهِرِ } ) اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ ، وَهُوَ غَيْرُ مَحْفُوظٍ .
وَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَرَ رَجُلًا أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ أَنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً أَوْ يَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ أَوْ يُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا } عَلَّقَ الْكَفَّارَةَ بِالْإِفْطَارِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَا يُفِيدُ الْمَطْلُوبَ لِأَنَّهُ حِكَايَةُ وَاقِعَةِ حَالٍ لَا عُمُومَ لَهَا فَيَجِبُ كَوْنُ ذَلِكَ الْمُفْطِرِ .
بِأَمْرٍ خَاصٍّ لَا بِالْأَعَمِّ فَلَا دَلِيلَ فِيهِ أَنَّهُ بِالْجِمَاعِ أَوْ بِغَيْرِهِ فَلَا مُتَمَسِّكَ بِهِ لِأَحَدٍ ، بَلْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ جِمَاعُ الرَّجُلِ وَهُوَ السَّائِلُ لِمَجِيئِهِ مُفَسَّرًا كَذَلِكَ بِرِوَايَةٍ مِنْ نَحْوِ عِشْرِينَ رَجُلًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
قُلْنَا : وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ تَعْلِيقُهَا بِالْإِفْطَارِ فِي عِبَارَةِ الرَّاوِي أَعْنِي أَبَا هُرَيْرَةَ ، إذْ أَفَادَ أَنَّهُ فَهِمَ مِنْ خُصُوصِ الْأَحْوَالِ الَّتِي يُشَاهِدُهَا فِي قَضَائِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، أَوْ سَمِعَ مَا يُفِيدُ أَنَّ إيجَابَهَا عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ إفْطَارٌ لَا بِاعْتِبَارِ خُصُوصِ الْإِفْطَارِ فَيَصِحُّ التَّمَسُّكُ ، وَهَذَا كَمَا قَالُوا فِي أُصُولِهِمْ فِي مَسْأَلَةِ مَا إذَا نَقَلَ الرَّاوِي بِلَفْظٍ ظَاهِرُهُ الْعُمُومُ فَإِنَّهُمْ اخْتَارُوا اعْتِبَارَهُ وَمَثَّلُوهُ بِقَوْلِ الرَّاوِي قُضِيَ بِالشُّفْعَةِ لِلْجَارِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى فَهَذَا مِثْلُهُ بِلَا تَفَاوُتٍ لِمَنْ تَأَمَّلَ ، وَلِأَنَّ الْحَدَّ يَجِبُ عَلَيْهَا إذَا طَاوَعَتْهُ فَالْكَفَّارَةُ أَوْلَى عَلَى نَظِيرِ مَا

ذَكَرْنَاهُ آنِفًا فَتَكُونُ ثَابِتَةً بِدَلَالَةِ نَصِّ حَدِّهَا .

( وَلَوْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ مَا يَتَغَذَّى بِهِ أَوْ يَتَدَاوَى بِهِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ فِي الْوِقَاعِ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِارْتِفَاعِ الذَّنْبِ بِالتَّوْبَةِ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ .
وَلَنَا أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَعَلَّقَتْ بِجِنَايَةِ الْإِفْطَارِ فِي رَمَضَانَ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ وَقَدْ تَحَقَّقَتْ ، وَبِإِيجَابِ الْإِعْتَاقِ تَكْفِيرًا عُرِفَ أَنَّ التَّوْبَةَ غَيْرُ مُكَفِّرَةٍ لِهَذِهِ الْجِنَايَةِ .

( قَوْلُهُ : وَلَنَا أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَعَلَّقَتْ بِجِنَايَةِ الْإِفْطَارِ ) مَأْخُوذٌ ذَلِكَ مِنْ الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ { مَنْ أَفْطَرَ رَمَضَانَ } الْحَدِيثَ ، وَمِمَّا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ رَجُلًا أَكَلَ فِي رَمَضَانَ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعْتِقَ } الْحَدِيثَ وَأَعَلَّهُ بِأَبِي مَعْشَرٍ ، وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا فِي كِتَابِ الْعِلَلِ فِي حَدِيثِ الَّذِي وَقَعَ عَلَى امْرَأَتِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ { أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفْطَرْتَ فِي رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا } الْحَدِيثَ وَهَذَا مُرْسَلُ سَعِيدٍ ، وَهُوَ مَقْبُولٌ عِنْدَ كَثِيرٍ مِمَّنْ لَا يَقْبَلُ لِلْمُرْسَلِ ، وَعِنْدَنَا هُوَ حُجَّةٌ مُطْلَقًا .
وَأَيْضًا دَلَالَةُ نَصِّ الْكَفَّارَةِ بِالْجِمَاعِ تُفِيدُهُ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ مَنْ عَلِمَ اسْتِوَاءَ الْجِمَاعِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي أَنَّ رُكْنَ الصَّوْمِ الْكَفُّ عَنْ كُلِّهَا ، ثُمَّ عَلِمَ لُزُومَ عُقُوبَةٍ عَلَى مَنْ فَوَّتَ الْكَفَّ عَنْ بَعْضِهَا جَزَمَ بِلُزُومِهَا عَلَى مَنْ فَوَّتَ الْكَفَّ عَنْ الْبَعْضِ الْآخَرِ حُكْمًا لِلْعِلْمِ بِذَلِكَ الِاسْتِوَاءِ غَيْرَ مُتَوَقِّفٍ فِيهِ عَلَى أَهْلِيَّةِ الِاجْتِهَادِ ، أَعْنِي بَعْدَ حُصُولِ الْعِلْمَيْنِ يَحْصُلُ الْعِلْمُ الثَّالِثُ ، وَيَفْهَمُ كُلُّ عَالِمٍ بِهِمَا أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي لُزُومِهَا تَفْوِيتُ الرُّكْنِ لَا خُصُوصُ رُكْنٍ ( قَوْلُهُ : وَبِإِيجَابِ الْإِعْتَاقِ إلَخْ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ فِي وَجْهِ مُخَالَفَةِ الْقِيَاسِ لِارْتِفَاعِ الذَّنْبِ بِالتَّوْبَةِ ، وَهُوَ غَيْرُ دَافِعٍ لِكَلَامِهِ لِأَنَّهُ يُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا الذَّنْبَ لَا يَرْتَفِعُ بِمُجَرَّدِ التَّوْبَةِ ، وَلِهَذَا يَثْبُتُ كَوْنُهَا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ يَعْنِي الْقَاعِدَةَ الْمُسْتَمِرَّةَ فِي الشَّرْعِ .

ثُمَّ قَالَ ( وَالْكَفَّارَةُ مِثْلُ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ ) لِمَا رَوَيْنَا ، وَلِحَدِيثِ { الْأَعْرَابِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكْتُ وَأَهْلَكْتُ .
فَقَالَ : مَاذَا صَنَعْتَ .
قَالَ : وَاقَعْتُ امْرَأَتِي فِي نَهَارِ رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَعْتِقْ رَقَبَةً .
فَقَالَ : لَا أَمْلِكُ إلَّا رَقَبَتِي هَذِهِ ، فَقَالَ : صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ .
فَقَالَ : وَهَلْ جَاءَنِي مَا جَاءَنِي إلَّا مِنْ الصَّوْمِ فَقَالَ : أَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا .
فَقَالَ : لَا أَجِدُ ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُؤْتَى بِفَرْقٍ مِنْ تَمْرٍ .
وَيُرْوَى بِعَرَقٍ فِيهِ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا ، وَقَالَ : فَرِّقْهَا عَلَى الْمَسَاكِينِ فَقَالَ : وَاَللَّهِ مَا بَيْنَ لَابَتَيْ الْمَدِينَةِ أَحَدٌ أَحْوَجُ مِنِّي وَمِنْ عِيَالِي ، فَقَالَ : كُلْ أَنْتَ وَعِيَالُكَ ، يَجْزِيكَ وَلَا يَجْزِي أَحَدًا بَعْدَكَ } ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ يُخَيَّرُ لِأَنَّ مُقْتَضَاهُ التَّرْتِيبُ وَعَلَى مَالِكٍ فِي نَفْيِ التَّتَابُعِ لِلنَّصِّ عَلَيْهِ .

( قَوْلُهُ : وَلِحَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ ) فِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : هَلَكْتُ ، قَالَ : مَا شَأْنُكَ ؟ قَالَ : وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ ، قَالَ : فَهَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا ؟ قَالَ : لَا .
قَالَ : فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ؟ قَالَ لَا .
قَالَ : فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا قَالَ : لَا ، قَالَ اجْلِسْ ، فَأُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ فَقَالَ : تَصَدَّقْ بِهِ ، قَالَ : عَلَى أَفْقَرَ مِنِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَوَاَللَّهِ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا يُرِيدُ الْحَرَّتَيْنِ ، أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي ، فَضَحِكَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَتَّى بَدَتْ ثَنَايَاهُ وَفِي لَفْظٍ أَنْيَابُهُ وَفِي لَفْظٍ نَوَاجِذُهُ ، ثُمَّ قَالَ : خُذْهُ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ } وَفِي لَفْظٍ لِأَبِي دَاوُد زَادَ الزُّهْرِيُّ : وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا رُخْصَةً لَهُ خَاصَّةً ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ ذَلِكَ الْيَوْمَ لَمْ تَكُنْ لَهُ بُدٌّ مِنْ التَّكْفِيرِ .
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ : قَوْلُ الزُّهْرِيِّ ذَلِكَ دَعْوَى لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا ، وَعَنْ ذَلِكَ ذَهَبَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ إلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ بِأَيِّ شَيْءٍ أَفْطَرَ .
قَالَ : لِانْتِسَاخِهِ بِمَا فِي آخِرِ الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ { كُلْهَا أَنْتَ وَعِيَالُكَ } ا هـ .
وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى قَوْلِ الزُّهْرِيِّ ، وَمَا رَفَعَ الْمُصَنِّفُ قَوْلَهُ { يَجْزِيكَ وَلَا يَجْزِي أَحَدًا بَعْدَكَ } فَلَمْ يُرَ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِهِ ، وَكَذَا لَمْ يُوجَدْ فِيهَا لَفْظُ الْفَرْقِ بِالْفَاءِ بَلْ بِالْعَيْنِ .
وَهُوَ مِكْتَلٌ يَسَعُ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا عَلَى مَا قِيلَ .
قُلْنَا : وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ فَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ أَخَّرَ عَنْهُ إلَى الْمَيْسَرَةِ إذْ كَانَ فَقِيرًا فِي الْحَالِ عَاجِزًا عَنْ الصَّوْمِ بَعْدَمَا ذَكَرَ لَهُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ .
كَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ .
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ

خُصُوصِيَّةٌ لِأَنَّهُ وَقَعَ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ { فَقَدْ كَفَّرَ اللَّهُ عَنْكَ } ، وَلَفْظُ وَأَهْلَكْت لَيْسَ فِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ ، لَكِنْ أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَبِي ثَوْرٍ : حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ مَنْصُورٍ .
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : هَلَكْتُ وَأَهْلَكْتُ } الْحَدِيثَ .
قَالَ : تَفَرَّدَ أَبُو ثَوْرٍ عَنْ مُعَلَّى بْنِ مَنْصُورٍ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ بِقَوْلِهِ " وَأَهْلَكْت " وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ جَمَاعَةٍ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَفِيهِ " وَأَهْلَكْت " .
وَقَالَ : ضَعَّفَ شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَاكِمُ هَذِهِ اللَّفْظَةَ ، وَكَافَّةُ أَصْحَابِ الْأَوْزَاعِيِّ رَوَوْهُ عَنْهُ دُونَهَا .
وَاسْتَدَلَّ الْحَاكِمُ عَلَى أَنَّهَا خَطَأٌ بِأَنَّهُ نَظَرَ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ تَصْنِيفِ ابْنِ مَنْصُورٍ فَوَجَدَ فِيهِ هَذَا الْحَدِيثَ دُونَ هَذِهِ اللَّفْظَةِ وَأَنَّ كَافَّةَ أَصْحَابِ سُفْيَانَ رَوَوْهُ دُونَهَا

( وَمَنْ جَامَعَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ فَأَنْزَلَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ ) لِوُجُودِ الْجِمَاعِ مَعْنًى ( وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ) لِانْعِدَامِهِ صُورَةً
( قَوْلُهُ وَمَنْ جَامَعَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ ) أَرَادَ بِالْفَرْجِ كُلًّا مِنْ الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ فَمَا دُونَهُ حِينَئِذٍ التَّفْخِيذُ وَالتَّبْطِينُ ، وَعَمَلُ الْمَرْأَتَيْنِ أَيْضًا كَعَمَلِ الرِّجَالِ جِمَاعٌ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ لَا قَضَاءَ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إلَّا إذَا أَنْزَلَتْ ، وَلَا كَفَّارَةَ مَعَ الْإِنْزَالِ

( وَلَيْسَ فِي إفْسَادِ صَوْمِ غَيْرِ رَمَضَانَ كَفَّارَةٌ ) لِأَنَّ الْإِفْطَارَ فِي رَمَضَانَ أَبْلَغُ فِي الْجِنَايَةِ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ غَيْرُهُ .
( قَوْلُهُ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ غَيْرُهُ ) فِي لُزُومِ الْكَفَّارَةِ بِإِفْسَادِهِ إذْ الْقِيَاسُ مُمْتَنِعٌ ، وَكَذَا الدَّلَالَةُ لِأَنَّ إفْسَادَ صَوْمِ غَيْرِ رَمَضَانَ لَيْسَ فِي مَعْنَى إفْسَادِ صَوْمِ رَمَضَانَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بَلْ ذَاكَ أَبْلَغُ فِي الْجِنَايَةِ لِوُقُوعِهِ فِي شَرَفِ الزَّمَانِ ، وَلُزُومُ إفْسَادِ الْحَجِّ النَّفْلِ وَالْقَضَاءِ بِالْجِمَاعِ لَيْسَ إلْحَاقًا بِفَسَادِ الْحَجِّ الْفَرْضِ ، بَلْ هُوَ ثَابِتٌ ابْتِدَاءً بِعُلُومِ نَصِّ الْقَضَاءِ وَالْإِجْمَاعِ

( وَمَنْ احْتَقَنَ أَوْ اسْتَعَطَ أَوْ أَقْطَرَ فِي أُذُنِهِ أَفْطَرَ ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْفِطْرُ مِمَّا دَخَلَ } وَلِوُجُودِ مَعْنَى الْفِطْرِ ، وَهُوَ وُصُولُ مَا فِيهِ صَلَاحُ الْبَدَنِ إلَى الْجَوْفِ ( وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ) لِانْعِدَامِهِ صُورَةً .
( وَلَوْ أَقْطَرَ فِي أُذُنِهِ الْمَاءَ أَوْ دَخَّلَهُ لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ ) لِانْعِدَامِ الْمَعْنَى وَالصُّورَةِ .
بِخِلَافِ مَا إذَا دَخَلَهُ الدُّهْنُ ( وَلَوْ دَاوَى جَائِفَةً أَوْ آمَّةً بِدَوَاءٍ فَوَصَلَ إلَى جَوْفِهِ أَوْ دِمَاغِهِ أَفْطَرَ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَاَلَّذِي يَصِلُ هُوَ الرَّطْبُ ، وَقَالَا : لَا يُفْطِرُ لِعَدَمِ التَّيَقُّنِ بِالْوُصُولِ لِانْضِمَامِ الْمَنْفَذِ مَرَّةً وَاتِّسَاعِهِ أُخْرَى ، كَمَا فِي الْيَابِسِ مِنْ الدَّوَاءِ .
وَلَهُ أَنَّ رُطُوبَةَ الدَّوَاءِ تَلَاقِي رُطُوبَةَ الْجِرَاحَةِ فَيَزْدَادُ مَيْلًا إلَى الْأَسْفَلِ فَيَصِلُ إلَى الْجَوْفِ ، بِخِلَافِ الْيَابِسِ لِأَنَّهُ يُنَشِّفُ رُطُوبَةَ الْجِرَاحَةِ فَيَنْسَدُّ فَمُهَا ( وَلَوْ أَقْطَرَ فِي إحْلِيلِهِ لَمْ يُفْطِرْ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يُفْطِرُ ، وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ : مُضْطَرِبٌ فِيهِ فَكَأَنَّهُ وَقَعَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَوْفِ مَنْفَذًا ، وَلِهَذَا يَخْرُجُ مِنْهُ الْبَوْلُ ، وَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمَثَانَةَ بَيْنَهُمَا حَائِلٌ وَالْبَوْلُ يَتَرَشَّحُ مِنْهُ ، وَهَذَا لَيْسَ مِنْ بَابِ الْفِقْهِ

( قَوْلُهُ أَوْ أَقْطَرَ فِي أُذُنِهِ ) سَيُقَيِّدُهُ بِمَا إذَا كَانَ دُهْنًا ( قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْفِطْرُ مِمَّا دَخَلَ } ) رَوَى أَبُو يَعْلَى الْمُوصِلِيُّ فِي مُسْنَدِهِ : حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ ؛ حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ عَنْ رَزِينٍ الْبَكْرِيِّ قَالَ : حَدَّثَتْنَا مَوْلَاةٌ لَنَا يُقَالُ لَهَا سَلْمَى مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ أَنَّهَا سَمِعَتْ { عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَقُولُ : دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا عَائِشَةُ هَلْ مِنْ كِسْرَةٍ ؟ فَأَتَيْتُهُ بِقُرْصٍ فَوَضَعَهُ عَلَى فِيهِ ، فَقَالَ : يَا عَائِشَةُ هَلْ دَخَلَ بَطْنِي مِنْهُ شَيْءٌ ؟ كَذَلِكَ قُبْلَةُ الصَّائِمِ .
إنَّمَا الْإِفْطَارُ مِمَّا دَخَلَ وَلَيْسَ مِمَّا خَرَجَ } وَلِجَهَالَةِ الْمَوْلَاةِ لَمْ يُثْبِتْهُ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ .
وَلَا شَكَّ فِي ثُبُوتِهِ مَوْقُوفًا عَلَى جَمَاعَةٍ .
فَفِي الْبُخَارِيِّ تَعْلِيقًا : وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ الْفِطْرُ مِمَّا دَخَلَ وَلَيْسَ مِمَّا خَرَجَ وَأَسْنَدَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فَقَالَ : حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : الْفِطْرُ مِمَّا دَخَلَ وَلَيْسَ مِمَّا خَرَجَ وَأَسْنَدَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَقَالَ : إنَّمَا الْوُضُوءُ مِمَّا خَرَجَ وَلَيْسَ مِمَّا دَخَلَ وَالْفِطْرُ فِي الصَّوْمِ مِمَّا دَخَلَ وَلَيْسَ مِمَّا خَرَجَ .
وَرُوِيَ أَيْضًا مِنْ قَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَهُ الْبَيْهَقِيُّ ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ يَكُونُ مَخْصُوصًا بِحَدِيثِ الِاسْتِقَاءِ أَوْ الْفِطْرِ فِيهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يَعُودُ شَيْءٌ وَإِنْ قَلَّ حَتَّى لَا يُحِسَّ بِهِ ، كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَرِيبٍ ( قَوْلُهُ وَلِوُجُودِ مَعْنَى الْفِطْرِ ) قَدْ عَلِمْت أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ الْفِطْرُ إلَّا بِصُورَتِهِ أَوْ مَعْنَاهُ .
وَقَدْ مَرَّ أَنَّ صُورَتَهُ الِابْتِلَاعُ .
وَذَكَرَ أَنَّ مَعْنَاهُ وُصُولُ مَا فِيهِ صَلَاحُ الْبَدَنِ إلَى الْجَوْفِ فَاقْتَضَى فِيمَا لَوْ طُعِنَ بِرُمْحٍ أَوْ رُمِيَ بِسَهْمٍ

فَبَقِيَ الْحَدِيدُ فِي بَطْنِهِ ، أَوْ أَدْخَلَ خَشَبَةً فِي دُبُرِهِ وَغَيَّبَهَا ، أَوْ احْتَشَتْ الْمَرْأَةُ فِي الْفَرْجِ الدَّاخِلِ أَوْ اسْتَنْجَى فَوَصَلَ الْمَاءُ إلَى دَاخِلِ دُبُرِهِ لِمُبَالَغَتِهِ فِيهِ عَدَمُ الْفِطْرِ لِفُقْدَانِ الصُّورَةِ وَهُوَ ظَاهِرٌ .
وَالْمَعْنَى وَهُوَ وُصُولُ مَا فِيهِ صَلَاحُ الْبَدَنِ مِنْ التَّغْذِيَةِ أَوْ التَّدَاوِي ، لَكِنَّ الثَّابِتَ فِي مَسْأَلَتَيْ الطَّعْنَةِ وَالرَّمْيَةِ اخْتِلَافٌ ، وَصَحَّحَ عَدَمَ الْإِفْطَارِ جَمَاعَةٌ .
وَلَا أَعْلَمُ خِلَافًا فِي ثُبُوتِ الْإِفْطَارِ فِيمَا بَعْدَهُمَا .
بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ طَرَفُ الْخَشَبَةِ بِيَدِهِ وَطَرْفُ الْحَشْوَةِ فِي الْفَرْجِ الْخَارِجِ وَالْمَاءُ لَمْ يَصِلْ إلَى كَثِيرِ دَاخِلٍ فَإِنَّهُ لَا يَفْسُدُ .
وَالْحَدُّ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالْوُصُولِ إلَيْهِ الْفَسَادُ قَدْرُ الْمِحْقَنَةِ ، قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ : وَقَلَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ ا هـ .
نَعَمْ لَوْ خَرَجَ سُرْمُهُ فَغَسَلَهُ ثَبَتَ ذَلِكَ الْوُصُولُ بِلَا اسْتِبْعَادٍ .
فَإِنْ قَامَ قَبْلَ أَنْ يُنَشِّفَهُ فَسَدَ صَوْمُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا نَشَّفَهُ .
لِأَنَّ الْمَاءَ اتَّصَلَ بِظَاهِرٍ ثُمَّ زَالَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى الْبَاطِنِ بِعَوْدِ الْمَقْعَدَةِ .
لَا يُقَالُ : الْمَاءُ فِيهِ صَلَاحُ الْبَدَنِ .
لِأَنَّا نَقُولُ : ذَكَرُوا أَنَّ إيصَالَ الْمَاءِ إلَى هُنَاكَ يُوَرِّثُ دَاءً عَظِيمًا .
لَا يُقَالُ : يُحْمَلُ قَوْلُهُمْ مَا فِيهِ صَلَاحُ الْبَدَنِ عَلَى مَاءِ بِحَيْثُ يَصْلُحُ بِهِ وَتَنْدَفِعُ بِهِ حَاجَتُهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَحْصُلُ عِنْدَهُ ضَرَرٌ أَحْيَانًا فَيَنْدَفِعُ إشْكَالُ الِاسْتِنْجَاءِ .
لِأَنَّا نَقُولُ : قَدْ عَلَّلَ الْمُصَنِّفُ مَا اخْتَارَهُ مِنْ عَدَمِ الْفَسَادِ فِيمَا إذَا دَخَلَ الْمَاءُ أُذُنَهُ أَوْ أَدْخَلَهُ بِقَوْلِهِ لِانْعِدَامِ الْمَعْنَى وَالصُّورَةِ ، وَذَلِكَ إفَادَةُ أَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَى جَوْفِ دِمَاغِهِ مَا فِيهِ صَلَاحُ الْبَدَنِ ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِمَا فِيهِ صَلَاحُ الْبَدَنِ مَا ذَكَرْت لَمْ يَصِحَّ هَذَا التَّعْلِيلُ .
وَبَسَطَهُ فِي الْكَافِي فَقَالَ : لِأَنَّ الْمَاءَ يَفْسُدُ بِمُخَالَطَةِ خَلْطٍ دَاخِلِ الْأُذُنِ فَلَمْ يَصِلْ إلَى

الدِّمَاغِ شَيْءٌ يَصْلُحُ لَهُ فَلَا يَحْصُلُ مَعْنَى الْفِطْرِ فَلَا يَفْسُدُ ، فَالْأَوْلَى تَفْسِيرُ الصُّورَةِ بِالْإِدْخَالِ بِصُنْعِهِ كَمَا هُوَ فِي عِبَارَة الْإِمَامِ قَاضِي خَانْ فِي تَعْلِيلِ مَا اخْتَارَهُ مِنْ ثُبُوتِ الْفَسَادِ إذَا أَدْخَلَ الْمَاءَ أُذُنَهُ لَا إذَا دَخَلَ بِغَيْرِ صُنْعِهِ كَمَا إذَا خَاضَ نَهْرًا حَيْثُ قَالَ : إذَا خَاضَ الْمَاءَ فَدَخَلَ أُذُنَهُ لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ .
وَإِنْ صَبَّ الْمَاءَ فِيهَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَالصَّحِيحُ هُوَ الْفَسَادُ لِأَنَّهُ مُوَصِّلٌ إلَى الْجَوْفِ بِفِعْلِهِ فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ صَلَاحُ الْبَدَنِ ، كَمَا لَوْ أَدْخَلَ خَشَبَةً وَغَيَّبَهَا إلَى آخِرِ كَلَامِهِ ، وَبِهِ تَنْدَفِعُ الْإِشْكَالَاتُ ، وَيَظْهَرُ أَنَّ الْأَصَحَّ فِي الْمَاءِ التَّفْصِيلُ الَّذِي اخْتَارَهُ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ فَعَلَى هَذَا فَاعْتِبَارُ مَا بِهِ مِنْ الصَّلَاحِ فِي تَفْسِيرِ مَعْنَى الْفِطْرِ إمَّا عَلَى مَعْنَى مَا بِهِ فِي نَفْسِهِ كَمَا أَوْرَدْنَاهُ فِي السُّؤَالِ ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ تَعْلِيلُ الْمُصَنِّفِ لِتَعْمِيمِ عَدَمِ الْإِفْسَادِ فِي دُخُولِ الْمَاءِ الْأُذُنَ فَيَصِحُّ التَّفْصِيلُ الْمَذْكُورُ فِيهِ .
وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَازِمٌ فِيمَا لَوْ احْتَقَنَ بِحُقْنَةٍ ضَارَّةٍ بِخُصُوصِ مَرَضِ الْمُحْتَقِنِ أَوْ أَكَلَ بَعْدَ الْفَجْرِ وَهُوَ فِي غَايَةِ الشِّبَعِ وَالِامْتِلَاءِ قَرِيبًا مِنْ التُّخَمَةِ ، فَإِنَّ الْأَكْلَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مُضِرٌّ وَمَعَ ذَلِكَ يَلْزَمُهُ فَضْلًا عَنْ الْقَضَاءِ الْكَفَّارَةُ ، وَأَمَّا عَلَى حَقِيقَةِ الْإِصْلَاحِ كَمَا يُفِيدُهُ كَلَامُ الْكَافِي وَالْمُصَنِّفِ ، وَعَلَى الْأَوَّلِ يَلْزَمُ تَعْمِيمُ الْفَسَادِ فِي الْمَاءِ الدَّاخِلِ فِي الْأُذُنِ ، وَعَلَى الثَّانِي يَلْزَمُ تَعْمِيمُ عَدَمِهِ فِيهِ .
وَهَذَا وَلَوْ أَدْخَلَ الْإِصْبَعَ فِي دُبُرِهِ أَوْ فَرْجِهَا الدَّاخِلِ لَا يَفْسُدُ الصَّوْمُ إلَّا أَنْ تَكُونَ مَبْلُولَةً بِمَاءٍ أَوْ دُهْنٍ عَلَى الْمُخْتَارِ ، وَقِيلَ : يَجِبُ عَلَيْهِ الْغُسْلُ وَالْقَضَاءُ .
( قَوْلُهُ : فَوَصَلَ ) أَيْ الدَّوَاءُ ( إلَى جَوْفِهِ ) يَرْجِعُ إلَى الْجَائِفَةِ لِأَنَّهَا الْجِرَاحَةُ فِي الْبَطْنِ ( أَوْ دِمَاغِهِ )

يَرْجِعُ إلَى الْآمَّةِ لِأَنَّهَا الْجِرَاحَةُ فِي الرَّأْسِ مِنْ أَمَمْته بِالْعَصَا ضَرَبْت أُمَّ رَأْسِهِ وَهِيَ الْجِلْدَةُ الَّتِي هِيَ مَجْمَعُ الرَّأْسِ ، وَحِينَئِذٍ فَلَا تَحْرِيرَ فِي الْعِبَارَةِ لِأَنَّهُ بَعْدَ أَنْ أَخَذَ الْوُصُولَ فِي صُورَةِ الْمَسْأَلَةِ يَمْتَنِعُ نَقْلُ الْخِلَافِ فِيهِ ، وَإِذًا لَا خِلَافَ فِي الْإِفْطَارِ عَلَى تَقْدِيرِ الْوُصُولِ ، إنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا كَانَ الدَّوَاءُ رَطْبًا فَقَالَ : يُفْطِرُ لِلْوُصُولِ عَادَةً ، وَقَالَا : لَا لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ فَلَا يُفْطِرُ بِالشَّكِّ ، وَهُوَ يَقُولُ : سَبَبُ الْوُصُولِ قَائِمٌ وَتَقْرِيرُهُ ظَاهِرٌ مِنْ الْكِتَابِ ، وَهُوَ دَلِيلُ الْوُصُولِ فَيَحْكُمُ بِهِ نَظَرًا إلَى الدَّلِيلِ إذْ قَدْ يَخْفَى حَقِيقَةُ الْمُسَبَّبِ بِخِلَافِ الْيَابِسِ ، إذْ لَمْ يَثْبُتْ دَلِيلُ الْوُصُولِ فِيهِ لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ .
وَإِذَا حَقَّقْت هَذَا التَّصْوِيرَ عَلِمْت أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ لَا يُنَافِي مَا ذَكَرَهُ أَكْثَرُ مَشَايِخِ بُخَارَى ، كَمَا يُعْطِيهِ ظَاهِرُ عِبَارَةِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ حَيْثُ قَالَ : فَرَّقَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بَيْنَ الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ ، وَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا عَلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْوُصُولِ حَتَّى إذَا عَلِمَ أَنَّ الْيَابِسَ وَصَلَ فَسَدَ ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ الطَّرِيَّ لَمْ يَصِلْ لَمْ يَفْسُدْ إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ الرَّطْبَ وَالْيَابِسَ بِنَاءً عَلَى الْعَادَةِ ، فَإِنَّهُ لَمَّا بَنَى الْفَسَادَ فِي الرَّطْبِ عَلَى الْوُصُولِ نَظَرًا إلَى دَلِيلِهِ عَلِمَ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ إذَا عَلِمَ عَدَمَ الْوُصُولِ لَا يَفْسُدُ لِتَحَقُّقِ خِلَافِ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ وَلَا امْتِنَاعَ فِيهِ ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالدَّلِيلِ الْأَمَارَةُ وَهِيَ مَا قَدَّمَ يَجْزِمُ بِتَخَلُّفِ مُتَعَلِّقِهَا مَعَ قِيَامِهَا ، كَوُقُوفِ بَغْلَةِ الْقَاضِي عَلَى بَابِهِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي دَارِهِ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِيمَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ خِلَافَ مُقْتَضَاهُ ، فَإِنَّ الظَّنَّ حِينَئِذٍ بِثُبُوتِهِ فَالْقِسْمَانِ اللَّذَانِ ذَكَرُوهُمَا لَا خِلَافَ فِيهِمَا ،

وَالْحَصْرُ فِيهِمَا مُنْتَفٍ إذْ بَقِيَ مَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ يَقِينًا أَحَدَهُمَا ، وَهُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ فَأَفْسَدَهُ حُكْمًا بِالْوُصُولِ نَظَرًا إلَى دَلِيلِهِ وَنَفَيَاهُ .
( قَوْلُهُ : وَلَوْ أَقَطَرَ فِي إحْلِيلِهِ لَمْ يُفْطِرْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يُفْطِرُ ، وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ مُضْطَرَبٌ فِيهِ ) وَالْإِفْطَارُ فِي أَقْبَالِ النِّسَاءِ ، قَالُوا أَيْضًا هُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَفْسُدُ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّهُ شَبِيهٌ بِالْحُقْنَةِ قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ : وَهُوَ الْأَصَحُّ ( قَوْلُهُ : فَكَأَنَّهُ وَقَعَ إلَخْ ) يُفِيدُ أَنَّهُ لَا خِلَافَ لَوْ اتَّفَقُوا عَلَى تَشْرِيحِ هَذَا الْعُضْوِ فَإِنَّ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ بِالْإِفْسَادِ إنَّمَا هُوَ بِنَاءً عَلَى قِيَامِ الْمَنْفَذِ بَيْنَ الْمَثَانَةِ وَالْجَوْفِ ، فَيَصِلُ إلَى الْجَوْفِ مَا يَقْطُرُ فِيهَا ، وَقَوْلُهُ بِعَدَمِهِ بِنَاءً عَلَى عَدَمِهِ ، وَالْبَوْلُ يَتَرَشَّحُ مِنْ الْجَوْفِ إلَى الْمَثَانَةِ فَيَجْتَمِعُ فِيهَا ، أَوْ الْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ هُنَاكَ مَنْفَذًا مُسْتَقِيمًا أَوْ شِبْهَ الْحَاءِ فَيُتَصَوَّرُ الْخُرُوجُ وَلَا يُتَصَوَّرُ الدُّخُولُ لِعَدَمِ الدَّافِعِ الْمُوجِبِ لَهُ ، بِخِلَافِ الْخُرُوجِ ، وَهَذَا اتِّفَاقٌ مِنْهُمْ عَلَى إنَاطَةِ الْفَسَادِ بِالْوُصُولِ إلَى الْجَوْفِ .
وَيُفِيدُ أَنَّهُ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَصِلْ بَعْدُ بَلْ هُوَ فِي قَصَبَةِ الذَّكَرِ لَا يَفْسُدُ ، وَبِهِ صَرَّحَ غَيْرُ وَاحِدٍ .
قَالَ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ : وَبَعْضُهُمْ جَعَلَ الْمَثَانَةَ نَفْسَهَا جَوْفًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ .
وَحَكَى بَعْضُهُمْ الْخِلَافَ مَا دَامَ فِي قَصَبَةِ الذَّكَرِ وَلَيْسَا بِشَيْءٍ ا هـ .
وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ بَيْنَ ثُبُوتِ الْفِطْرِ بِاعْتِبَارِ وُصُولِهِ إلَى الْجَوْفِ أَوْ إلَى جَوْفِ الْمَثَانَةِ ، بَلْ يَصِحُّ إنَاطَتُهُ بِالثَّانِي بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يَصِلُ إذْ ذَاكَ إلَى الْجَوْفِ لَا بِاعْتِبَارِ نَفْسِهِ .
وَمَا نُقِلَ عَنْ خِزَانَةِ الْأَكْمَلِ فِيمَا إذَا حَشَا ذَكَرَهُ بِقُطْنَةٍ فَغَيَّبَهَا أَنَّهُ يَفْسُدُ كَاحْتِشَائِهَا مِمَّا يَقْضِي

بِبُطْلَانِ حِكَايَةِ الِاتِّفَاقِ عَلَى عَدَمِ الْفَسَادِ فِي الْإِفْطَارِ مَا دَامَ فِي قَصَبَةِ الذَّكَرِ .
وَلَا شَكَّ فِي ذَلِكَ ، أَلَا تَرَى إلَى التَّعْلِيلِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ كَيْفَ هُوَ بِالْوُصُولِ إلَى الْجَوْفِ وَعَدَمِهِ بِنَاءً عَلَى وُجُودِ الْمَنْفَذِ أَوْ اسْتِقَامَتِهِ وَعَدَمِهِ ، لَكِنْ هَذَا يَقْتَضِي فِي حَشْوِ الدُّبُرِ وَفَرْجِهَا الدَّاخِلِ عَدَمَ الْفَسَادِ وَلَا مُخَلِّصَ إلَّا بِإِثْبَاتِ أَنَّ الدَّاخِلَ فِيهِمَا تَجْتَذِبُهُ الطَّبِيعَةُ فَلَا يَعُودُ إلَّا مَعَ الْخَارِجِ الْمُعْتَادِ .
وَهُوَ فِي الدُّبُرِ مَعْلُومٌ لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِفَتِيلَةِ دَوَاءٍ أَوْ صَابُونَةٍ ، غَيْرَ أَنَّا لَا نَعْلَمُ فِي غَيْرِهِ أَنَّ شَأْنَ الطَّبِيعَةِ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَدْخَلٍ كَالْخَشَبَةِ .
أَوْ فِيمَا يَتَدَاوَى بِهِ لِقَبُولِ الطَّبِيعَةِ إيَّاهُ فَتَجْتَذِبُهُ لِحَاجَتِهَا إلَيْهِ .
وَفِي الْقُبُلِ ذَكَرْت لَنَا مَنْ تَضَعُ مِثْلَ الْحِمَّصَةِ لِتَسُدَّ بِهَا فِي الدَّاخِلِيِّ تَحَرُّزًا مِنْ الْحَبَلِ أَنَّهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى إخْرَاجِهَا حَتَّى تَخْرُجَ هِيَ بَعْدَ أَيَّامٍ مَعَ الْخَارِجِ .
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( وَمَنْ ذَاقَ شَيْئًا بِفَمِهِ لَمْ يُفْطِرْ ) لِعَدَمِ الْفِطْرِ صُورَةً وَمَعْنًى ( وَيُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ ) لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْرِيضِ الصَّوْمِ عَلَى الْفَسَادِ .
( قَوْلُهُ : وَيُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ ) قَيَّدَهُ الْحَلْوَانِيُّ بِمَا إذَا كَانَ فِي الْفَرْضِ ، أَمَّا فِي النَّفْلِ فَلَا لِأَنَّهُ يُبَاحُ الْفِطْرُ فِيهِ بِعُذْرٍ وَبِلَا عُذْرٍ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَبِي يُوسُفَ أَيْضًا ، فَالذَّوْقُ أَوْلَى بِعَدَمِ الْكَرَاهَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِإِفْطَارٍ بَلْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَصِيرَ إيَّاهُ .
وَقِيلَ : لَا بَأْسَ فِي الْفَرْضِ لِلْمَرْأَةِ إذَا كَانَ زَوْجُهَا سَيِّئَ الْخُلُقِ أَنْ تَذُوقَ الْمَرَقَةَ بِلِسَانِهَا .

( وَيُكْرَهُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَمْضُغَ لِصَبِيِّهَا الطَّعَامَ إذَا كَانَ لَهَا مِنْهُ بُدٌّ ) لِمَا بَيَّنَّا ( وَلَا بَأْسَ إذَا لَمْ تَجِدْ مِنْهُ بُدًّا ) صِيَانَةً لِلْوَلَدِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ لَهَا أَنْ تُفْطِرَ إذَا خَافَتْ عَلَى وَلَدِهَا ( وَمَضْغُ الْعَلْكِ لَا يُفَطِّرُ الصَّائِمَ ) لِأَنَّهُ لَا يَصِلُ إلَى جَوْفِهِ .
وَقِيلَ : إذَا لَمْ يَكُنْ مُلْتَئِمًا يَفْسُدُ لِأَنَّهُ يَصِلُ إلَيْهِ بَعْضُ أَجْزَائِهِ .
وَقِيلَ : إذَا كَانَ أَسْوَدَ يَفْسُدُ وَإِنْ كَانَ مُلْتَئِمًا لِأَنَّهُ يَفُتْ ( إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلصَّائِمِ ) لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْرِيضِ الصَّوْمِ لِلْفَسَادِ ، وَلِأَنَّهُ يُتَّهَمُ بِالْإِفْطَارِ وَلَا يُكْرَهُ لِلْمَرْأَةِ إذَا لَمْ تَكُنْ صَائِمَةً لِقِيَامِهِ مَقَامَ السِّوَاكِ فِي حَقِّهِنَّ ، وَيُكْرَهُ لِلرِّجَالِ عَلَى مَا قِيلَ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ غَلَّةٍ ، وَقِيلَ : لَا يُسْتَحَبُّ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّشَبُّهِ : بِالنِّسَاءِ .

( قَوْلُهُ : إذَا كَانَ لَهَا مِنْهُ بُدٌّ ) فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَنْ لَمْ تَجِدْ مَنْ يَمْضُغْ لَهُ مِمَّنْ لَيْسَ عَلَيْهِ صَوْمٌ وَلَمْ تَجِدْ طَعَامًا لَا يَحْتَاجُ إلَى مَضْغِهِ لَا يُكْرَهُ لَهَا ( قَوْلُهُ : لِمَا بَيَّنَّا ) مِنْ أَنَّهُ تَعْرِيضٌ لِلصَّوْمِ عَلَى الْفَسَادِ إذْ قَدْ يَسْبِقُ شَيْءٌ مِنْهُ إلَى الْحَلْقِ ، فَإِنَّ مَنْ حَامَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ .
وَفِي الْفَتَاوَى : يُكْرَهُ لِلصَّائِمِ أَنْ يَذُوقَ بِلِسَانِهِ الْعَسَلَ أَوْ الدُّهْنَ لِيَعْرِفَ الْجَيِّدَ مِنْ الرَّدِيءِ عِنْدَ الشِّرَاءِ ( قَوْلُهُ : وَقِيلَ إذَا لَمْ يَكُنْ مُلْتَئِمًا ) بِأَنْ لَمْ يَمْضُغْهُ أَحَدٌ وَإِنْ كَانَ أَبْيَضَ .
وَكَذَا إذَا كَانَ أَسْوَدَ وَإِنْ مَضَغَهُ غَيْرُهُ لِأَنَّهُ يَتَفَتَّتُ وَإِنْ مُضِغَ وَالْأَبْيَضُ يَتَفَتَّتُ قَبْلَ الْمَضْغِ فَيَصِلُ إلَى الْجَوْفِ .
وَإِطْلَاقُ مُحَمَّدٍ عَدَمَ الْفَسَادِ مَعَ مَحْمُولٍ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لِلْقَطْعِ بِأَنَّهُ مُعَلَّلٌ بِعَدَمِ الْوُصُولِ .
فَإِذَا فَرَضَ فِي بَعْضِ الْعِلْكِ مَعْرِفَةَ الْوُصُولِ مِنْهُ عَادَةً وَجَبَ الْحُكْمُ فِيهِ بِالْفَسَادِ لِأَنَّهُ كَالْمُتَيَقِّنِ ( قَوْلُهُ : إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ ) اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ أَيْ لَكِنَّهُ يُكْرَهُ لِلتَّعْرِيضِ عَلَى الْفَسَادِ .
وَتُهْمَةِ الْإِفْطَارِ .
وَعَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَقِفَنَّ مَوَاقِفَ التُّهَمِ } .
وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إيَّاكَ وَمَا يَسْبِقُ إلَى الْقُلُوبِ إنْكَارُهُ وَإِنْ كَانَ عِنْدَك اعْتِذَارُهُ ( قَوْلُهُ لِقِيَامِهِ مَقَامَ السِّوَاكِ فِي حَقِّهِنَّ ) فَإِنَّ بِنْيَتَهُنَّ ضَعِيفَةٌ قَدْ لَا تَحْتَمِلُ السِّوَاكَ ، فَيَخْشَى عَلَى اللِّثَةِ وَالسِّنِّ مِنْهُ .
وَهَذَا قَائِمٌ مَقَامَهُ فَيَفْعَلَنهُ ( قَوْلُهُ : لَا يُسْتَحَبُّ ) أَيْ وَلَا يُكْرَهُ فَهُوَ مُبَاحٌ بِخِلَافِ النِّسَاءِ .
فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُنَّ ؛ لِأَنَّهُ سِوَاكُهُنَّ .
وَقَوْلُهُ : لِمَا فِيهِ مِنْ التَّشْبِيهِ مِنْ النِّسَاءِ إنَّمَا يُنَاسِبُ التَّعْلِيلَ الْكَرَاهَةُ ، وَلِذَا وُضِعَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ

فَيَكُونُ قَدْ تَرَكَ تَعْلِيلَ الثَّانِي ، وَالْأَوْلَى الْكَرَاهَةُ لِلرِّجَالِ إلَّا لِحَاجَةٍ لِأَنَّ الدَّلِيلَ أَعْنِي التَّشْبِيهَ يَقْتَضِيهَا فِي حَقِّهِمْ خَالِيًا عَنْ الْمُعَارِضِ .

( وَلَا بَأْسَ بِالْكُحْلِ وَدَهْنِ الشَّارِبِ ) لِأَنَّهُ نَوْعُ ارْتِفَاقٍ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الصَّوْمِ ، وَقَدْ نَدَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الِاكْتِحَالِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَإِلَى الصَّوْمِ فِيهِ ، وَلَا بَأْسَ بِالِاكْتِحَالِ لِلرِّجَالِ إذَا قَصَدَ بِهِ التَّدَاوِي دُونَ الزِّينَةِ ، وَيُسْتَحْسَنُ دَهْنُ الشَّارِبِ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ قَصْدِهِ الزِّينَةُ لِأَنَّهُ يَعْمَلُ عَمَلَ الْخِضَابِ ، وَلَا يُفْعَلُ لِتَطْوِيلِ اللِّحْيَةِ إذَا كَانَتْ بِقَدْرِ الْمَسْنُونِ وَهُوَ الْقُبْضَةُ .

( قَوْلُهُ : وَدَهْنُ الشَّارِبِ ) بِفَتْحِ الدَّالِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ وَبِضَمِّهَا عَلَى إقَامَةِ اسْمِ الْعَيْنِ مَقَامَ الْمَصْدَرِ ، وَفِي الْأَمْثِلَةِ : عَجِبْت مِنْ دُهْنِك لِحْيَتَك بِضَمِّ الدَّالِ وَفَتْحِ التَّاءِ عَلَى هَذِهِ الْإِقَامَةِ ( قَوْلُهُ : نَدَبَ النَّبِيُّ إلَى الِاكْتِحَالِ إلَخْ ) أَمَّا نَدْبُهُ إلَى صَوْمِ عَاشُورَاءَ فَأَشْهَرُ مِنْ أَنْ يُبْدَى ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الصَّوْمِ أَحَادِيثَ ، وَأَمَّا نَدْبُهُ إلَى الْكُحْلِ فِيهِ فَفِي حَدِيثَيْنِ رَوَى أَحَدَهُمَا الْبَيْهَقِيُّ عَنْ الضَّحَّاكِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ { مَنْ اكْتَحَلَ بِالْإِثْمِدِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ لَمْ يَرَ رَمَدًا أَبَدًا } وَضَعَّفَهُ بِجُوَيْبِرٍ وَالضَّحَّاكُ لَمْ يَلْقَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَمِنْ طَرِيقٍ آخَرَ رَوَاهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ اكْتَحَلَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ لَمْ تَرْمَدْ عَيْنُهُ تِلْكَ السَّنَةَ } وَقَالَ : فِي رِجَالِهِ مَنْ يُنْسَبُ إلَى التَّغْفِيلِ ، وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي عَاتِكَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ { جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : اشْتَكَتْ عَيْنِي أَفَأَكْتَحِلُ وَأَنَا صَائِمٌ ؟ قَالَ نَعَمْ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ : وَإِسْنَادُهُ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ ، وَلَا يَصِحُّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ وَأَبُو عَاتِكَةَ مُجْمَعٌ عَلَى ضَعْفِهِ .
وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ بَقِيَّةَ : حَدَّثَنَا الزُّبَيْدِيُّ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ { اكْتَحَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ صَائِمٌ } وَظَنَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الزُّبَيْدِيَّ فِي مُسْنَدِ ابْنِ مَاجَهْ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ الثِّقَةُ الثَّبْتُ ، وَهُوَ وَهْمٌ ، وَإِنَّمَا هُوَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الزُّبَيْدِيُّ الْحِمْصِيُّ كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي مُسْنَدِ الْبَيْهَقِيّ ،

وَلَكِنَّ الرَّاوِيَ دَلَّسَهُ ، قَالَ فِي التَّنْقِيحِ : لَيْسَ هُوَ بِمَجْهُولٍ ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَدِيٍّ وَالْبَيْهَقِيُّ بَلْ هُوَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ الزُّبَيْدِيُّ الْحِمْصِيُّ وَهُوَ مَشْهُورٌ ، وَلَكِنَّهُ مُجْمَعٌ عَلَى ضَعْفِهِ .
وَابْنُ عَدِيٍّ فِي كِتَابِهِ فَرَّقَ بَيْنَ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ وَسَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ وَهُمَا وَاحِدٌ ، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ قَالَ : وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَكْتَحِلُ وَهُوَ صَائِمٌ } وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد مَوْقُوفًا عَلَى أَنَسٍ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَاذٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ " أَنَّهُ كَانَ يَكْتَحِلُ ، وَهُوَ صَائِمٌ " قَالَ فِي التَّنْقِيحِ : إسْنَادُهُ مُقَارِبٌ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ عُتْبَةُ بْنُ حُمَيْدٍ الضَّبِّيُّ : أَبُو مُعَاذٍ الْبَصْرِيُّ صَالِحُ الْحَدِيثِ ، فَهَذِهِ عِدَّةُ طُرُقٍ إنْ لَمْ يُحْتَجَّ بِوَاحِدٍ مِنْهَا فَالْمَجْمُوعُ يَحْتَجُّ بِهِ لِتَعَدُّدِ الطُّرُقِ ، وَأَمَّا مَا فِي أَبِي دَاوُد عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ مَعْبَدِ بْنِ هَوْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ أَمَرَ بِالْإِثْمِدِ عِنْدَ النَّوْمِ ، وَقَالَ : لِيَتَّقِهِ الصَّائِمُ } فَقَالَ أَبُو دَاوُد : قَالَ لِي يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ : هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ .
قَالَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ : وَمَعْبَدٌ وَابْنُهُ النُّعْمَانُ كَالْمَجْهُولَيْنِ إذْ لَا يُعْرَفُ لَهُمَا غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ .
وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ النُّعْمَانِ قَالَ : ابْنُ مَعِينٍ ضَعِيفٌ ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ : صَدُوقٌ .
وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ كَلَامَيْهِمَا إذْ الصِّدْقُ لَا يَنْفِي سَائِرَ وُجُوهِ الضَّعْفِ ( قَوْلُهُ : دُونَ الزِّينَةِ ) لِأَنَّهُ مَعْرُوفٌ مِنْ زِينَةِ النِّسَاءِ ثُمَّ قَيَّدَ دُهْنَ الشَّارِبِ بِذَلِكَ أَيْضًا ، وَلَيْسَ فِيهِ ذَلِكَ ، وَفِي الْكَافِي : يُسْتَحَبُّ دَهْنُ شَعْرِ الْوَجْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ قَصْدِهِ الزِّينَةُ بِهِ وَرَدَتْ

السُّنَّةُ فَقَيَّدَ بِانْتِفَاءِ هَذَا الْقَصْدِ ، فَكَأَنَّهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لِأَنَّهُ تَبَرُّجٌ بِالزِّينَةِ .
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْرَهُ عَشْرَ خِلَالٍ ذَكَرَ مِنْهَا التَّبَرُّجَ بِالزِّينَةِ لِغَيْرِ مَحَلِّهَا } وَسَنُورِدُهُ بِتَمَامِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ الْكَرَاهِيَةِ .
وَمَا فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ { أَبِي قَتَادَةَ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ لِي جَمَّةً أَفَأُرَجِّلُهَا ؟ قَالَ : نَعَمْ ، وَأَكْرِمْهَا } فَكَانَ أَبُو قَتَادَةَ رُبَّمَا دَهَنَهَا فِي الْيَوْمِ مَرَّتَيْنِ مِنْ أَجْلِ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَعَمْ ، وَأَكْرِمْهَا } فَإِنَّمَا هُوَ مُبَالَغَةٌ مِنْ أَبِي قَتَادَةَ فِي قَصْدِ الِامْتِثَالِ لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا لِحَظِّ النَّفْسِ الطَّالِبَةِ لِلزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِكْرَامَ وَالْجَمَالَ الْمَطْلُوبَ يَتَحَقَّقُ مَعَ دُونِ هَذَا الْمِقْدَارِ ، وَفِي سُنَنِ النَّسَائِيّ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَالُ لَهُ عُبَيْدٌ قَالَ { : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنْهَى عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الْإِرْفَاهِ } فَسُئِلَ ابْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ الْإِرْفَاهِ قَالَ : التَّرْجِيلُ ، وَالْمُرَادُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ التَّرْجِيلُ الزَّائِدُ الَّذِي يَخْرُجُ إلَى حَدِّ الزِّينَةِ لَا مَا كَانَ لِقَصْدِ دَفْعِ أَذَى الشَّعْرِ وَالشُّعْثِ ، هَذَا وَلَا تَلَازُمَ بَيْنَ قَصْدِ الْجَمَالِ ، وَقَصْدِ الزِّينَةِ ، فَالْقَصْدُ الْأَوَّلُ لِدَفْعِ الشَّيْنِ وَإِقَامَةِ مَا بِهِ الْوَقَارُ وَإِظْهَارُ النِّعْمَةِ شُكْرًا لَا فَخْرًا ، وَهُوَ أَثَرُ أَدَبِ النَّفْسِ وَشَهَامَتِهَا ، وَالثَّانِي أَثَرُ ضَعْفِهَا ، وَقَالُوا : بِالْخِضَابِ وَرَدَتْ السُّنَّةُ ، وَلَمْ يَكُنْ لِقَصْدِ الزِّينَةِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ إنْ حَصَلَتْ زِينَةٌ فَقَدْ حَصَلَتْ فِي ضِمْنِ قَصْدِهِ مَطْلُوبٌ فَلَا يَضُرُّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُلْتَفِتًا إلَيْهِ

( قَوْلُهُ : وَهُوَ ) أَيْ الْقَدْرُ الْمَسْنُونُ فِي اللِّحْيَةِ ( الْقُبْضَةُ ) بِضَمِّ الْقَافِ ، قَالَ فِي النِّهَايَةِ : وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ يَجِبُ قَطْعُهُ هَكَذَا عَنْ { رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ مِنْ اللِّحْيَةِ مِنْ طُولِهَا وَعَرْضِهَا } أَوْرَدَهُ أَبُو عِيسَى يَعْنِي التِّرْمِذِيَّ فِي جَامِعِهِ ، رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ .
فَإِنْ قُلْتَ : يُعَارِضُهُ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَحْفُوا الشَّوَارِبَ وَأَعْفُوا اللِّحْيَةَ } فَالْجَوَابُ : أَنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَاوِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ الْفَاضِلَ عَنْ الْقُبْضَةِ ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي كِتَابِ الْآثَارِ : أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا " أَنَّهُ كَانَ يَقْبِضُ عَلَى لِحْيَتِهِ ثُمَّ يَقُصُّ مَا تَحْتَ الْقُبْضَةِ " وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ وَاقِدٍ عَنْ مَرْوَانَ بْنِ سَالِمٍ الْمُقَنَّعِ قَالَ : رَأَيْت ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقْبِضُ عَلَى لِحْيَتِهِ فَيَقْطَعُ مَا زَادَ عَلَى الْكَفِّ وَقَالَ : { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَفْطَرَ قَالَ : ذَهَبَ الظَّمَأُ وَابْتَلَّتْ الْعُرُوقُ وَثَبَتَ الْأَجْرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى } وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا فَقَالَ : " وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا حَجَّ أَوْ اعْتَمَرَ قَبَضَ عَلَى لِحْيَتِهِ فَمَا فَضَلَ أَخَذَهُ " وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَيْضًا أَسْنَدَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ : حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ أَيُّوبَ مِنْ وَلَدِ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ قَالَ " كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقْبِضُ عَلَى لِحْيَتِهِ فَيَأْخُذُ مَا فَضَلَ عَنْ الْقُبْضَةِ " فَأَقَلُّ مَا فِي الْبَابِ إنْ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى النَّسْخِ كَمَا هُوَ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78