كتاب : فتح القدير
المؤلف : كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي

الْمَذْكُورِ قُلْنَا : نَعَمْ إذَا كَانَ التَّفَاوُتُ بِسَبَبٍ حِسِّيٍّ كَالشَّلَلِ وَفَوَاتِ بَعْضِ الْأَصَابِعِ فَهُوَ كَمَا قُلْت : يَعْنِي يُمْنَعُ اسْتِيفَاءُ الْأَكْمَلِ بِالْأَنْقَصِ دُونَ الْعَكْسِ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ التَّفَاوُتُ بِمَعْنًى حُكْمِيٍّ فَإِنَّهُ يُمْنَعُ اسْتِيفَاءُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِصَاحِبِهِ كَالْيَمِينِ مَعَ الْيَسَارِ وَهَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ التَّفَاوُتَ إذَا كَانَ لِمَعْنَى حِسِّيٍّ فَمَنْ لَهُ الْحَقُّ إذَا رَضِيَ بِالِاسْتِيفَاءِ يُجْعَلُ مُبْرِئًا لِبَعْضِ حَقِّهِ مُسْتَوْفِيًا لِمَا بَقِيَ وَذَلِكَ جَائِزٌ ، وَلِهَذَا لَا يُسْتَوْفَى الْأَكْمَلُ بِالْأَنْقَصِ وَإِنْ رَضِيَ بِهِ الْقَاطِعُ ، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ بِالرِّضَا بَاذِلًا لِلزِّيَادَةِ ، وَلَا يَحِلُّ اسْتِيفَاءُ الطَّرَفِ بِالْبَذْلِ .
فَأَمَّا إذَا كَانَ التَّفَاوُتُ بِمَعْنًى حُكْمِيٍّ فَلَا وَجْهَ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ مِنْهَا بِطَرِيقِ إسْقَاطِ الْبَعْضِ وَلَا بِطَرِيقِ الْبَذْلِ انْتَهَى .
وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ وَصَاحِبُ الْعِنَايَةِ .
أَقُولُ : وَفِيهِ أَيْضًا بَحْثٌ ، إذْ الْفَرْقُ بَيْنَ التَّفَاوُتِ الْحِسِّيِّ وَبَيْنَ التَّفَاوُتِ الْحُكْمِيِّ فِي اسْتِيفَاءِ الْأَنْقَصِ بِالْأَكْمَلِ تَحَكُّمٌ أَيْضًا ، فَإِنَّهُ إذَا تَقَرَّرَ التَّفَاوُتُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ بِالْكَمَالِ وَالنُّقْصَانِ فَصَاحِبُ الْأَكْمَلِ إنْ رَضِيَ بِأَنْ يَسْتَوْفِيَ فِي الْأَنْقَصِ مِنْ صَاحِبِ الْأَنْقَصِ بِمُقَابِلَةِ الْأَكْمَلِ يَصِيرُ مُسْقِطًا لِبَعْضِ حَقِّهِ مُسْتَوْفِيًا لِمَا بَقِيَ بِالضَّرُورَةِ ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ التَّفَاوُتُ أَمْرًا حِسِّيًّا أَوْ أَمْرًا حُكْمِيًّا .
وَأَمَّا صَاحِبُ الْأَنْقَصِ ، فَإِنْ رَضِيَ بِأَنْ يَسْتَوْفِيَ مِنْهُ صَاحِبُ الْأَنْقَصِ الْأَكْمَلَ بِمُقَابَلَةَ الْأَنْقَصِ يَصِيرُ بَاذِلًا لِزِيَادَةِ حَقِّهِ بِالضَّرُورَةِ أَيْضًا بِلَا تَفَاوُتٍ بَيْنَ كَوْنِ سَبَبِ التَّفَاوُتِ حِسِّيًّا أَوْ حُكْمِيًّا ، وَالْبَذْلُ فِي الْأَطْرَافِ غَيْرُ جَائِزٍ بِلَا خِلَافٍ .
وَأَمَّا إسْقَاطُ الْحَقِّ بِالرِّضَا وَالِاخْتِيَارِ فَجَائِزٌ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ ، فَلَا مَجَالَ لِلْفَرْقِ

الْمَزْبُورِ .
فَإِنْ قُلْتَ : السَّبَبُ الْحُكْمِيُّ لَا يُفِيدُ التَّفَاوُتَ الْحَقِيقِيَّ ، وَإِسْقَاطُ الْبَعْضِ وَبَذْلُ الزِّيَادَةِ فَرْعُ التَّفَاوُتِ الْحَقِيقِيِّ فَهَذَا مَدَارُ الْفَرْقِ الْمَذْكُورِ .
قُلْتُ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّ إسْقَاطَ بَعْضِ الْحَقِّ وَبَذْلِ زِيَادَتِهِ فَرْعُ التَّفَاوُتِ الْحِسِّيِّ الْحَقِيقِيِّ ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْحُقُوقِ الشَّرْعِيَّةِ الْغَيْرِ الْحِسِّيَّةِ يَجْرِي فِيهَا الْكَمَالُ وَالنُّقْصَانُ ، فَلَا جَرَمَ يَكُونُ الرِّضَا بِالنَّاقِصِ مِنْهَا عِنْدَ اسْتِحْقَاقِهِ الْكَامِلَ إسْقَاطًا لِبَعْضِ الْحَقِّ ، وَيَكُونُ إيفَاءُ الْكَامِلِ مِنْهَا بَدَلَ النَّاقِصِ بَذْلًا لِلزِّيَادَةِ ، كَيْفَ وَلَوْ سَلَّمَ ذَلِكَ لَزِمَ أَنْ لَا يَتِمَّ أَصْلُ دَلِيلِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا ، فَإِنَّ مَدَارَ ذَلِكَ عَلَى انْعِدَامِ التَّمَاثُلِ فِي الْأَطْرَافِ بِتَحَقُّقِ التَّفَاوُتِ الْحُكْمِيِّ بَيْنَهَا .
وَقَالَ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ فِي دَفْعِ ذَلِكَ الْإِشْكَالِ قُلْنَا : شَرْعُ الْقِصَاصِ فِي الْأَصْلِ يَعْتَمِدُ الْمُسَاوَاةَ ، فَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ ثَابِتًا بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ كَنُقْصَانِ طَرَفِ الْأُنْثَى وَالْعَبْدِ مِنْ طَرَفِ الذَّكَرِ وَالْحُرِّ مُنِعَ شَرْعُ الْقِصَاصِ لِانْتِفَاءِ مَحَلِّهِ ، وَإِنْ كَانَ التَّسَاوِي فِي الْأَصْلِ ثَابِتًا وَالتَّفَاوُتُ بِاعْتِبَارِ أَمْرٍ عَارِضٍ كَانَ الْقِصَاصُ مَشْرُوعًا فَيُمْنَعُ اسْتِيفَاءُ الْكَامِلِ بِالنَّاقِصِ دُونَ عَكْسِهِ إذَا رَضِيَ بِهِ صَاحِبُ الْحَقِّ انْتَهَى .
وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا رَأْيُ تَاجِ الشَّرِيعَةِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ .
أَقُولُ : وَفِيهِ أَيْضًا بَحْثٌ ، لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ أَنَّ شَرْعَ الْقِصَاصِ يَعْتَمِدُ الْمُسَاوَاةَ بِحَسَبِ الْأَصْلِ وَلَا اعْتِبَارَ لِلتَّفَاوُتِ بِحَسْبِ أَمْرٍ عَارِضٍ يَلْزَمُ أَنْ يَجُوزَ اسْتِيفَاءُ الْكَامِلِ وَهُوَ الصَّحِيحُ بِالنَّاقِصِ وَهُوَ الْأَشَلُّ ، كَمَا يَجُوزُ عَكْسُهُ لِأَنَّهُمَا مُتَسَاوِيَانِ بِحَسَبِ أَصْلِ الْخِلْقَةِ ، وَالتَّفَاوُتُ بَيْنَهَا بِحَسَبِ أَمْرٍ عَارِضٍ وَهُوَ الشَّلَلُ مَعَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِيفَاءُ الْكَامِلِ بِالنَّاقِصِ بِلَا

رَيْبٍ ، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّ شَرْعَ الْقِصَاصِ يَعْتَمِدُ الْمُسَاوَاةَ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ لَكِنْ يَجُوزُ اسْتِيفَاءُ النَّاقِصِ بِالْكَامِلِ إذَا رَضِيَ صَاحِبُ الْحَقِّ بِهِ لِرِضَا صَاحِبِ الْحَقِّ بِإِسْقَاطِ بَعْضِ حَقِّهِ لَا لِتَحَقُّقِ الْمُسَاوَاةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي شَرْعِ الْقِصَاصِ فَمَعَ إبَاءِ عِبَارَةِ الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ عَنْهُ جِدًّا يَلْزَمُ أَنْ يَجُوزَ اسْتِيفَاءُ طَرَفِ الْمَرْأَةِ بِطَرَفِ الرَّجُلِ أَيْضًا إذَا رَضِيَ الرَّجُلُ بِهِ لِوُجُودِ رِضَا صَاحِبِ الْحَقِّ بِإِسْقَاطِ بَعْضِ حَقِّهِ فِي هَاتِيَكَ الصُّورَةِ أَيْضًا مَعَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا أَصْلًا فَتَأَمَّلْ حَقَّ التَّأَمُّلِ ، فَلَعَلَّ حَلَّ هَذَا الْمَقَامِ عَلَى وَجْهٍ يَرْتَفِعُ بِهِ الْإِشْكَالُ عَنْهُ بِالْمَرَّةِ مِمَّا تُسْكَبُ فِيهِ الْعَبَرَاتُ .

( وَيَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْأَطْرَافِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ ) لِلتَّسَاوِي بَيْنَهُمَا فِي الْأَرْشِ .
.

قَالَ : ( وَمَنْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ مِنْ نِصْفِ السَّاعِدِ أَوْ جَرَحَهُ جَائِفَةٌ فَبَرَأَ مِنْهَا فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ ) لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْمُمَاثَلَةِ فِيهِ ، إذْ الْأَوَّلُ كَسْرُ الْعَظْمِ وَلَا ضَابِطَ فِيهِ ، وَكَذَا الْبُرْءُ نَادِرٌ فَيُفْضِي الثَّانِي إلَى الْهَلَاكِ ظَاهِرًا .
قَالَ : ( وَإِذَا كَانَتْ يَدُ الْمَقْطُوعِ صَحِيحَةً وَيَدُ الْقَاطِعِ شَلَّاءَ أَوْ نَاقِصَةَ الْأَصَابِعِ فَالْمَقْطُوعُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَطَعَ الْيَدَ الْمَعِيبَةَ وَلَا شَيْءَ لَهُ غَيْرُهَا وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَرْشَ كَامِلًا ) لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْحَقِّ كَامِلًا مُتَعَذَّرٌ فَلَهُ أَنْ يَتَجَوَّزَ بِدُونِ حَقِّهِ وَلَهُ أَنْ يَعْدِلَ إلَى الْعِوَضِ كَالْمِثْلِيِّ إذَا انْصَرَمَ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ بَعْدَ الْإِتْلَافِ ثُمَّ إذَا اسْتَوْفَاهَا نَاقِصًا فَقَدْ رَضِيَ بِهِ فَيَسْقُطُ حَقُّهُ كَمَا إذَا رَضِيَ بِالرَّدِيءِ مَكَانَ الْجَيِّدِ ( وَلَوْ سَقَطَتْ الْمُؤْنَةُ قَبْلَ اخْتِيَارِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَوْ قُطِعَتْ ظُلْمًا فَلَا شَيْءَ لَهُ ) عِنْدَنَا لِأَنَّ حَقَّهُ مُتَعَيِّنٌ فِي الْقِصَاصِ ، وَإِنَّمَا يَنْتَقِلُ إلَى الْمَالِ بِاخْتِيَارِهِ فَيَسْقُطُ بِفَوَاتِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قُطِعَتْ بِحَقٍّ عَلَيْهِ مِنْ قِصَاصٍ أَوْ سَرِقَةٍ حَيْثُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْأَرْشُ لِأَنَّهُ أَوْفَى بِهِ حَقًّا مُسْتَحَقًّا فَصَارَتْ سَالِمَةً لَهُ مَعْنًى .
.

قَالَ : ( وَمَنْ شَجَّ رَجُلًا فَاسْتَوْعَبَتْ الشَّجَّةُ مَا بَيْنَ قَرْنَيْهِ وَهِيَ لَا تَسْتَوْعِبُ مَا بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّاجِّ فَالْمَشْجُوجُ بِالْخِيَارِ ، إنْ شَاءَ اقْتَصَّ بِمِقْدَارِ شَجَّتِهِ يَبْتَدِئُ مِنْ أَيِّ الْجَانِبَيْنِ شَاءَ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَرْشَ ) لِأَنَّ الشَّجَّةَ مُوجِبَةٌ لِكَوْنِهَا مَشِينَةٌ فَقَطْ فَيَزْدَادُ الشَّيْنُ بِزِيَادَتِهَا ، وَفِي اسْتِيفَائِهِ مَا بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّاجِّ زِيَادَةٌ عَلَى مَا فَعَلَ ، وَلَا يَلْحَقُهُ مِنْ الشَّيْنِ بِاسْتِيفَائِهِ قَدْرَ حَقِّهِ مَا يَلْحَقُ الْمَشْجُوجَ فَيَنْتَقِصُ فَيُخَيَّرُ كَمَا فِي الشَّلَّاءِ وَالصَّحِيحَةِ ، وَفِي عَكْسِهِ يُخَيَّرُ أَيْضًا لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ الِاسْتِيفَاءُ كَامِلًا لِلتَّعَدِّي إلَى غَيْرِ .
حَقِّهِ ، وَكَذَا إذَا كَانَتْ الشَّجَّةُ فِي طُولِ الرَّأْسِ وَهِيَ تَأْخُذُ مِنْ جَبْهَتِهِ إلَى قَفَاهُ وَلَا تَبْلُغُ إلَى قَفَا الشَّاجِّ فَهُوَ بِالْخِيَارِ لِأَنَّ الْمَعْنَى لَا يَخْتَلِفُ .
.

قَالَ : ( وَلَا قِصَاصَ فِي اللِّسَانِ وَلَا فِي الذَّكَرِ ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا قُطِعَ مِنْ أَصْلِهِ يَجِبُ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْمُسَاوَاةِ .
وَلَنَا أَنَّهُ يَنْقَبِضُ وَيَنْبَسِطُ فَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْمُسَاوَاةِ ( إلَّا أَنْ تُقْطَعَ الْحَشَفَةُ ) لِأَنَّ مَوْضِعَ الْقَطْعِ مَعْلُومٌ كَالْمَفْصِلِ ، وَلَوْ قَطَعَ بَعْضَ الْحَشَفَةِ أَوْ بَعْضَ الذَّكَرِ فَلَا قِصَاصَ فِيهِ لِأَنَّ الْبَعْضَ لَا يُعْلَمُ مِقْدَارُهُ ، بِخِلَافِ الْأُذُنِ إذَا قُطِعَ كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ لِأَنَّهُ لَا يَنْقَبِضُ وَلَا يَنْبَسِطُ وَلَهُ حَدٌّ يُعْرَفُ فَيُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْمُسَاوَاةِ ، وَالشَّفَةُ إذَا اسْتَقْصَاهَا بِالْقَطْعِ يَجِبُ الْقِصَاصُ لِإِمْكَانِ اعْتِبَارِ الْمُسَاوَاةِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قُطِعَ بَعْضُهَا لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ اعْتِبَارُهَا .
.

فَصْلٌ قَالَ : ( وَإِذَا اصْطَلَحَ الْقَاتِلُ وَأَوْلِيَاءُ الْقَتِيلِ عَلَى مَالٍ سَقَطَ الْقِصَاصُ وَوَجَبَ الْمَالُ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } الْآيَةُ عَلَى مَا قِيلَ نَزَلَتْ الْآيَةُ فِي الصُّلْحِ .
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
{ مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ } الْحَدِيثُ ، وَالْمُرَادُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الْأَخْذُ بِالرِّضَا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ وَهُوَ الصُّلْحُ بِعَيْنِهِ ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ ثَابِتٌ لِلْوَرَثَةِ يَجْرِي فِيهِ الْإِسْقَاطُ عَفْوًا فَكَذَا تَعْوِيضًا لِاشْتِمَالِهِ عَلَى إحْسَانِ الْأَوْلِيَاءِ وَإِحْيَاءِ الْقَاتِلِ فَيَجُوزُ بِالتَّرَاضِي .
وَالْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ فِيهِ سَوَاءٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ مُقَدَّرٌ فَيُفَوَّضُ إلَى اصْطِلَاحِهِمَا كَالْخُلْعِ وَغَيْرِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرُوا حَالًّا وَلَا مُؤَجَّلًا فَهُوَ حَالٌّ لِأَنَّهُ مَالٌ وَاجِبٌ بِالْعَقْدِ ، وَالْأَصْلُ فِي أَمْثَالِهِ الْحُلُولُ نَحْوُ الْمَهْرِ وَالثَّمَنِ ، بِخِلَافِ الدِّيَةِ لِأَنَّهَا مَا وَجَبَتْ بِالْعَقْدِ .
.

( فَصْلٌ ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ : لَمَّا كَانَ تَصَوُّرُ الصُّلْحِ بَعْدَ تَصَوُّرِ الْجِنَايَةِ وَمُوجِبِهَا أَتْبَعَهُ ذَلِكَ فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ كَلَامٌ أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الصُّلْحَ عَنْ الْقِصَاصِ مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ مَسَائِلِ هَذَا الْفَصْلِ ، وَبَيَانُ وَجْهِ اتِّبَاعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَحْدَهَا لَا يَكْفِي فِي اتِّبَاعِ جَمِيعِ مَا شَمِلَهُ هَذَا الْفَصْلُ مِنْ الْمَسَائِلِ الْكَثِيرَةِ الْمُخْتَلِفَةِ كَمَا تَرَى وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ كَوْنَ تَصَوُّرِ الصُّلْحِ عَنْ الْجِنَايَةِ بَعْدَ تَصَوُّرِ الْجِنَايَةِ وَمُوجِبِهَا إنَّمَا يَقْتَضِي مُجَرَّدَ اتِّبَاعِهِ ذَلِكَ وَتَأْخِيرِهِ عَنْهُ لَا ذِكْرُهُ فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ ، فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ فِي تَالِي الشَّرْطِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ أَتْبَعَهُ ذَلِكَ فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ ( قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ حَقٌّ ثَابِتٌ لِلْوَرَثَةِ يَجْرِي فِيهِ الْإِسْقَاطُ عَفْوًا فَكَذَلِكَ تَعْوِيضًا ) أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : لَا يَلْزَمُ مِنْ جَرَيَانِ الْإِسْقَاطِ عَفْوًا فِي شَيْءٍ جَرَيَانُهُ تَعْوِيضًا أَيْضًا فِيهِ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ لِلشَّفِيعِ إسْقَاطَ حَقِّ شُفْعَتِهِ بِلَا عِوَضٍ بَعْدَ أَنْ ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الشُّفْعَةِ ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُصَالِحَ عَنْ حَقِّ شُفْعَتِهِ عَلَى مَالٍ كَمَا مَرَّ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ فَلْيُتَأَمَّلْ فِي الدَّفْعِ

قَالَ : ( وَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ حُرًّا وَعَبْدًا فَأَمَرَ الْحُرُّ وَمَوْلَى الْعَبْدِ رَجُلًا بِأَنْ يُصَالِحَ عَنْ دَمِهِمَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَفَعَلَ فَالْأَلْفُ عَلَى الْحُرِّ وَالْمَوْلَى نِصْفَانِ ) لِأَنَّ عَقْدَ الصُّلْحِ أُضِيفَ إلَيْهِمَا .

( وَإِذَا عَفَا أَحَدُ الشُّرَكَاءِ مِنْ الدَّمِ أَوْ صَالَحَ مِنْ نَصِيبِهِ عَلَى عِوَضٍ سَقَطَ حَقُّ الْبَاقِينَ عَنْ الْقِصَاصِ وَكَانَ لَهُمْ نُصِيبُهُمْ مِنْ الدِّيَةِ ) .
وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ الْقِصَاصَ حَقُّ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ ، وَكَذَا الدِّيَةَ خِلَافًا لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي الزَّوْجَيْنِ .
لَهُمَا أَنَّ الْوِرَاثَةَ خِلَافَةٌ وَهِيَ بِالنَّسَبِ دُونَ السَّبَبِ لِانْقِطَاعِهِ بِالْمَوْتِ ، وَلَنَا { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَرَ بِتَوْرِيثِ امْرَأَةِ أَشْيَمَ الضَّبَابِيِّ مِنْ عَقْلِ زَوْجِهَا أَشْيَمَ } ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ يَجْرِي فِيهِ الْإِرْثُ ، حَتَّى أَنَّ مَنْ قُتِلَ وَلَهُ ابْنَانِ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا عَنْ ابْنٍ كَانَ الْقِصَاصُ بَيْنَ الصُّلْبِيِّ وَابْنِ الِابْنِ فَيَثْبُتُ لِسَائِرِ الْوَرَثَةِ ، وَالزَّوْجِيَّةُ تَبْقَى بَعْدَ الْمَوْتِ حُكْمًا فِي حَقِّ الْإِرْثِ أَوْ يَثْبُتُ بَعْدَ الْمَوْتِ مُسْتَنِدًا إلَى سَبَبِهِ وَهُوَ الْجُرْحُ ، وَإِذَا ثَبَتَ لِلْجَمِيعِ فَكُلٌّ مِنْهُمْ يَتَمَكَّنُ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ وَالْإِسْقَاطِ عَفْوًا وَصُلْحًا وَمِنْ ضَرُورَةِ سُقُوطِ حَقِّ الْبَعْضِ فِي الْقِصَاصِ سُقُوطُ حَقِّ الْبَاقِينَ فِيهِ ، لِأَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قُتِلَ رَجُلَيْنِ وَعَفَا أَحَدُ الْوَلِيَّيْنِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُنَاكَ قِصَاصَانِ مِنْ غَيْرِ شُبْهَةٍ لِاخْتِلَافِ الْقَتْلِ وَالْمَقْتُولِ وَهَاهُنَا وَاحِدٌ لِاتِّحَادِهِمَا ، وَإِذَا سَقَطَ الْقِصَاصُ يَنْقَلِبُ نَصِيبُ الْبَاقِينَ مَالًا لِأَنَّهُ امْتَنَعَ لِمَعْنًى رَاجِعٍ إلَى الْقَاتِلِ ، وَلَيْسَ لِلْعَافِي شَيْءٌ مِنْ الْمَالِ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ بِفِعْلِهِ وَرِضَاهُ ، ثُمَّ يَجِبُ مَا يَجِبُ مِنْ الْمَالِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ وَقَالَ زُفَرُ : يَجِبُ فِي سَنَتَيْنِ فِيمَا إذَا كَانَ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ وَعَفَا أَحَدُهُمَا ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ نِصْفُ الدِّيَةِ فَيُعْتَبَرُ بِمَا إذَا قُطِعَتْ يَدُهُ خَطَأً .
وَلَنَا أَنَّ هَذَا بَعْضُ بَدَلِ الدَّمِ وَكُلَّهُ مُؤَجَّلٌ إلَى ثَلَاثِ سِنِينَ فَكَذَلِكَ بَعْضُهُ ، وَالْوَاجِبُ فِي الْيَدِ كُلُّ بَدَلِ الطَّرَفِ وَهُوَ فِي سَنَتَيْنِ فِي الشَّرْعِ وَيَجِبُ فِي مَالِهِ

لِأَنَّهُ عَمْدٌ .
.

( قَوْلُهُ وَإِذَا عَفَا أَحَدُ الشُّرَكَاءِ مِنْ الدَّمِ أَوْ صَالَحَ مِنْ نَصِيبِهِ عَلَى عِوَضٍ سَقَطَ حَقُّ الْبَاقِينَ مِنْ الْقِصَاصِ وَكَانَ لَهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنْ الدِّيَةِ ) أَقُولُ : فِي عِبَارَةِ الْكِتَابِ هَاهُنَا فُتُورٌ مِنْ وُجُوهٍ : الْأَوَّلُ أَنَّ كَلِمَةَ عَفَا تُعَدَّى بِعَنْ وَقَدْ عَدَّاهَا فِي الْكِتَابِ بِمِنْ حَيْثُ قَالَ : مِنْ الدَّمِ .
وَالثَّانِي أَنَّهُ يُقَالُ صَالَحَ عَنْ كَذَا عَلَى عِوَضٍ ، وَذَكَرَ فِي الْكِتَابِ كَلِمَةَ مِنْ مَوْضِعَ كَلِمَةِ عَنْ حَيْثُ قَالَ : أَوْ صَالَحَ مِنْ نَصِيبِهِ عَلَى عِوَضٍ وَالثَّالِثُ أَنَّ عِبَارَةَ النَّصِيبِ فِي قَوْلِهِ أَوْ صَالَحَ مِنْ نَصِيبِهِ تُوهِمُ تَجَزُّؤَ الْقِصَاصِ لِأَنَّ النَّصِيبَ هُوَ الْحِصَّةُ ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ أَنَّ الْقِصَاصَ غَيْرُ مُتَجَزِّئ فَيَثْبُتُ كَامِلًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ ، فَالْأَظْهَرُ فِي وَضْعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يُقَالَ : وَإِذَا عَفَا أَحَدُ الشُّرَكَاءِ عَنْ الدَّمِ أَوْ صَالَحَ عَنْ حَقِّهِ عَلَى عِوَضٍ سَقَطَ حَقُّ الْبَاقِينَ فِي الْقِصَاصِ وَكَانَ لَهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنْ الدِّيَةِ ، وَالتَّعْبِيرُ بِالنَّصِيبِ إنَّمَا أَصَابَ الْمُجَزَّءَ فِي قَوْلِهِ وَكَانَ لَهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنْ الدِّيَةِ لِأَنَّ الدِّيَةَ مُتَجَزِّئَةٌ لِكَوْنِهَا مِنْ قَبِيلِ الْأَمْوَالِ فَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نَصِيبٌ مِنْهَا بِقَدْرِ حَقِّهِ مِنْ الْإِرْثِ .
وَأَمَّا حَقُّ التَّعْبِيرِ فِي شَأْنِ الْقِصَاصِ فَأَنْ يَذْكُرَ لَفْظَ الْحَقِّ بَدَلَ لَفْظِ النَّصِيبِ كَمَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ وَعَنْ هَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ عِنْدَ تَقْرِيرِ دَلِيلِنَا عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ .
وَمِنْ ضَرُورَةِ سُقُوطِ حَقِّ الْبَعْضِ فِي الْقِصَاصِ سُقُوطُ حَقِّ الْبَاقِينَ فِيهِ لِأَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ .
قَوْلُهُ ( وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ الْقِصَاصَ حَقُّ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ وَكَذَا الدِّيَةُ خِلَافًا لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي الزَّوْجَيْنِ ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : هَذَا اللَّفْظُ كَمَا تَرَى يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلزَّوْجَيْنِ حَقٌّ فِي الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ جَمِيعًا عِنْدَهُمَا ، وَنُقِلَ عَنْ الْمَبْسُوطِ

وَالْإِيضَاحِ وَالْأَسْرَارِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خِلَافَ مَالِكٍ فِي الزَّوْجَيْنِ فِي الدِّيَةِ خَاصَّةً .
وَأَمَّا فِي حَقِّ الْقِصَاصِ فَفِيهِ خِلَافُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى فِي الزَّوْجَيْنِ ، وَنُقِلَ عَنْ الْأَسْرَارِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ : لَا حَظَّ لِلنِّسَاءِ فِي اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ وَلَهُنَّ حَقُّ الْعَفْوِ .
ثُمَّ قَالَ : وَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ مِنْ أَنَّهُ لَا حَظَّ لِلزَّوْجَيْنِ فِي الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ مُخَالِفٌ لِرِوَايَةِ الْمَبْسُوطِ وَالْإِيضَاحِ وَالْأَسْرَارِ .
أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ إنَّمَا يَكُونُ مُخَالِفًا لِرِوَايَةِ تِلْكَ الْكُتُبِ لَوْ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا حَقَّ لِلزَّوْجَيْنِ فِي الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ جَمِيعًا عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ ، وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ خِلَافًا لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي الزَّوْجَيْنِ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ وَكَذَا الدِّيَةُ وَحْدَهُ لَا بِمَجْمُوعِ قَوْلِهِ وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ الْقِصَاصَ حَقُّ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ وَكَذَا الدِّيَةُ ، وَلَا يَخْلُو عَنْ نَوْعِ إرْشَادٍ إلَيْهِ فَصَّلَ قَوْلَهُ وَكَذَا الدِّيَةُ بِذِكْرِ لَفْظَةِ كَذَا ، إذْ لَوْ كَانَ مُرَادُهُ الْجَمْعَ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ فِي بَيَانِ الْخِلَافِ أَيْضًا لَقَالَ : وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ الْقِصَاصَ وَالدِّيَةَ حَقُّ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ خِلَافًا لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي الزَّوْجَيْنِ .
وَعَنْ هَذَا قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ خِلَافًا لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي الزَّوْجَيْنِ : فَعِنْدَهُمَا لَا يَرِثُ الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ مِنْ الدِّيَةِ شَيْئًا لِأَنَّ وُجُوبَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالزَّوْجِيَّةُ تَنْقَطِعُ بِهِ انْتَهَى .
حَيْثُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْقِصَاصِ فِي شَرْحِ ذَلِكَ ، وَيُوَافِقُهُ تَحْرِيرُ صَاحِبِ الْكَافِي هَاهُنَا حَيْثُ قَالَ : وَالْأَصْلُ أَنَّ الْقِصَاصَ حَقُّ الْوَرَثَةِ وَكَذَا الدِّيَةُ .
وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ : لَا يَرِثُ الزَّوْجَانِ مِنْ الدِّيَةِ شَيْئًا انْتَهَى .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ

مَا فِي النِّهَايَةِ : وَهُوَ مُؤَاخَذَةٌ ضَعِيفَةٌ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ الْمُخَالِفَةِ لَهَا عَدَمُ صِحَّةِ مَا نَقَلَهُ ، وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِهِمَا مَا نَقَلَهُ انْتَهَى .
أَقُولُ : بَلْ مَا ذَكَرَهُ نَفْسُهُ ضَعِيفٌ ، لِأَنَّ صَاحِبَ النِّهَايَةِ لَمْ يَدَعْ عَدَمَ صِحَّةِ مَا فِي الْكِتَابِ بِالْكُلِّيَّةِ ، بَلْ أَرَادَ بَيَانَ مُخَالَفَتِهِ لِمَا فِي الْكُتُبِ الثَّلَاثَةِ الْمُعْتَبَرَةِ الْمَقْبُولَةِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ لَا سِيَّمَا الْمَبْسُوطِ وَالْأَسْرَارِ فَإِنَّ صَاحِبَيْهِمَا مِنْ أَسَاطِينِ الْأَئِمَّةِ ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَشْهُورَ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ أَنْ لَيْسَ لِلزَّوْجَيْنِ حَقٌّ فِي الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ جَمِيعًا ، بَلْ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِهِمَا مَا ذُكِرَ فِي تِلْكَ الْكُتُبِ ، فَالْأَوْجَهُ التَّوْفِيقُ بَيْنَ مَا ذُكِرَ فِيهَا وَبَيْنَ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ بِمَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ آنِفًا ( قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَرَ بِتَوْرِيثِ امْرَأَةِ أَشْيَمَ الضَّبَابِيِّ مِنْ عَقْلِ زَوْجِهَا أَشْيَمَ ) أَقُولُ : فِيهِ شَيْءٌ ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا الدَّلِيلَ لَا يُفِيدُ تَمَامَ الْمُدَّعِي هَاهُنَا ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الِاسْتِحْقَاقِ بِالزَّوْجِيَّةِ فِي حَقِّ الدِّيَةِ ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْقِصَاصِ ، وَالْعُمْدَةِ هَاهُنَا هُوَ الثَّانِي ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْآخِرَ اسْتِطْرَادًا كَمَا تَرَى .
( قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ حَقٌّ يَجْرِي فِيهِ الْإِرْثُ ، حَتَّى أَنْ مَنْ قُتِلَ وَلَهُ ابْنَانِ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا عَنْ ابْنٍ كَانَ الْقِصَاصُ بَيْنَ الصُّلْبِيِّ وَابْنِ الِابْنِ فَيَثْبُتُ لِسَائِرِ الْوَرَثَةِ ) أَقُولُ : فِيهِ أَيْضًا شَيْءٌ ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ وَإِنْ كَانَ يَتَمَشَّى فِي الْقِصَاصِ أَيْضًا إلَّا أَنَّهُ لَا يَتَمَشَّى فِيهِ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَإِنَّمَا يَتَمَشَّى فِيهِ عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ ، فَإِنَّهُ سَيَجِيءُ فِي أَوَّلِ بَابِ الشَّهَادَةِ فِي الْقَتْلِ أَنَّ الْقِصَاصَ طَرِيقُهُ طَرِيقُ الْوِرَاثَةِ عِنْدَهُمَا كَالدَّيْنِ وَالدِّيَةِ ، وَأَمَّا

عِنْدَهُ فَطَرِيقُهُ طَرِيقُ الْخِلَافَةِ دُونَ الْوِرَاثَةِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ مِنْ قِبَلِهِ إنَّهُ حَقٌّ يَجْرِي فِيهِ الْإِرْثُ مَعَ أَنَّ الْمُدَّعِي هَاهُنَا وَهُوَ قَوْلُهُ وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ الْقِصَاصَ حَقُّ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ وَكَذَا الدِّيَةُ مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَئِمَّتُنَا قَاطِبَةً فَكَيْفَ يَتِمُّ تَعْلِيلُ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ بِالْمُخْتَلِفِ فِيهِ .
وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِي تَتِمَّتِهِ : حَتَّى أَنَّ مَنْ قُتِلَ وَلَهُ ابْنَانِ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا عَنْ ابْنٍ كَانَ الْقِصَاصُ بَيْنَ الصُّلْبِيِّ وَابْنِ الِابْنِ لَا يُجْدِي نَفْعًا لِأَنَّهُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى جَرَيَانِ الْإِرْثِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ الْمَقْتُولِ ، وَلَا كَلَامَ فِيهِ إذْ لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَئِمَّتِنَا الثَّلَاثَةِ ، فَإِنَّ حَقَّ الْقِصَاصِ هُنَاكَ يَثْبُتُ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا لِلْمُوَرِّثِ الْغَيْرِ الْمَقْتُولِ قَبْلَ مَوْتِهِ وِرَاثَةً مِنْ الْمَقْتُولِ عِنْدَهُمَا وَخِلَافَةً عَنْهُ لَا وِرَاثَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، بِخِلَافِ الْمَقْتُولِ فَإِنَّ حَقَّ الْقِصَاصِ لَا يَثْبُتُ لَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ عِنْدَهُ ، بَلْ إنَّمَا يَثْبُتُ عِنْدَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ لِوَرَثَتِهِ ابْتِدَاءً لِتَشَفِّي الصُّدُورِ كَمَا سَتَطَّلِعُ عَلَى تَفْصِيلِهِ فِي بَابِهِ ، وَالْكَلَامُ هَاهُنَا فِي وَرَثَةِ نَفْسِ الْمَقْتُولِ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ عَلَى أَصْلِهِ فَلْيُتَأَمَّلْ .
ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ قَالَ فِي شَرْحِ هَذَا التَّعْلِيلِ : وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُمَا مَوْرُوثَانِ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ بِالِاتِّفَاقِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَا فِي حَقِّ الزَّوْجَيْنِ كَذَلِكَ لِأَنَّ وُجُوبَهُمَا أَوَّلًا لِلْمَيِّتِ ، ثُمَّ يَثْبُتُ لِلْوَرَثَةِ وَلَا يَقَعُ لِلْمَيِّتِ إلَّا بِأَنْ يُسْنِدَ الْوُجُوبَ إلَى سَبَبِهِ وَهُوَ الْجُرْحُ ، فَكَانَا كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ فِي ثُبُوتِهِمَا قَبْلَ الْمَوْتِ انْتَهَى ، أَقُولُ : قَدْ زَادَ هَذَا الشَّارِحُ هَاهُنَا نَغْمَةً فِي الطُّنْبُورِ حَيْثُ زَادَ فَسَادًا عَلَى فَسَادٍ ، لِأَنَّهُ مَعَ إتْيَانِهِ فِي تَضَاعِيفِ شَرْحِهِ بِمَا يُقَرِّرُ أَنْ لَا يَتِمَّ هَذَا التَّعْلِيلُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ

قَوْلُهُ لِأَنَّ وُجُوبَهُمَا أَوَّلًا لِلْمَيِّتِ ثُمَّ يَثْبُتُ لِلْوَرَثَةِ صَرَّحَ بِأَنَّهُمَا يَعْنِي الْقِصَاصَ وَالدِّيَةَ مَوْرُوثَانِ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ بِالِاتِّفَاقِ .
وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ الْقِصَاصَ لَيْسَ بِمَوْرُوثٍ مِنْ الْمَقْتُولِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَمْوَالِ فَالتَّصْرِيحُ بِالِاتِّفَاقِ فَسَادٌ فَوْقَ فَسَادٍ ، وَاَللَّهُ الْهَادِي إلَى سَبِيلِ الرَّشَادِ

قَالَ : ( وَإِذَا قَتَلَ جَمَاعَةٌ وَاحِدًا عَمْدًا اُقْتُصَّ مِنْ جَمِيعِهِمْ ) لِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيهِ : لَوْ تَمَالَأَ عَلَيْهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ ، وَلِأَنَّ الْقَتْلَ بِطَرِيقِ التَّغَالُبِ غَالِبٌ ، وَالْقِصَاصُ مَزْجَرَةٌ لِلسُّفَهَاءِ فَيَجِبُ تَحْقِيقًا لِحِكْمَةِ الْإِحْيَاءِ .

( قَوْلُهُ وَإِذَا قَتَلَ جَمَاعَةٌ وَاحِدًا عَمْدًا اُقْتُصَّ مِنْ جَمِيعِهِمْ لِقَوْلِ عُمَرَ فِيهِ : لَوْ تَمَالَأَ عَلَيْهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : هَذَا جَوَابُ الِاسْتِحْسَانِ .
وَفِي الْقِيَاسِ : لَا يَلْزَمُهُمْ الْقِصَاصُ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْقِصَاصِ الْمُسَاوَاةُ لِمَا فِي الزِّيَادَةِ مِنْ الظُّلْمِ عَلَى الْمُعْتَدِي وَفِي النُّقْصَانِ مِنْ الْبَخْسِ بِحَقِّ الْمُعْتَدِي عَلَيْهِ ، وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ الْعَشَرَةِ وَالْوَاحِدِ هَذَا شَيْءٌ يُعْلَمُ بِبَدَاهَةِ الْعَقْلِ ، فَالْوَاحِدُ مِنْ الْعَشَرَةِ يَكُونُ مَثَلًا لِلْوَاحِدِ فَكَيْفَ تَكُونُ الْعَشَرَةُ مَثَلًا لِلْوَاحِدِ .
وَأَيَّدَ هَذَا الْقِيَاسَ قَوْله تَعَالَى { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } وَذَلِكَ يَنْفِي مُقَابَلَةَ النُّفُوسِ بِنَفْسٍ ، وَلَكِنْ تَرَكْنَا هَذَا الْقِيَاسَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ سَبْعَةً مِنْ أَهْلِ صَنْعَاءَ قَتَلُوا رَجُلًا فَقَضَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْقِصَاصِ عَلَيْهِمْ وَقَالَ : لَوْ تَمَالَأَ عَلَيْهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتهمْ بِهِ انْتَهَى كَلَامُهُ .
أَقُولُ : فِيهِ بَحْثٌ ، لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِأَنَّ هَذَا الْقِيَاسَ مُؤَيَّدٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } وَقَالَ فِي بَيَانِهِ : وَذَلِكَ يَنْفِي مُقَابَلَةَ النُّفُوسِ بِنَفْسٍ ، فَعَلَى ذَلِكَ يَلْزَمُ مِنْ تَرْكِ هَذَا الْقِيَاسِ تَرْكُ الْعَمَلِ بِمَدْلُولِ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنْ كَانَ مُنْفَرِدًا فِي قَضَائِهِ وَقَوْلِهِ الْمَزْبُورَيْنِ فَظَاهِرٌ ، لِأَنَّ قَوْلَ صَحَابِيٍّ وَاحِدٍ وَفِعْلَهُ لَا يَصْلُحَانِ لِلْمُعَارَضَةِ لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَضْلًا عَنْ الرُّجْحَانِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ انْضَمَّ إلَيْهِ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ حَيْثُ كَانُوا مُتَوَافِرَيْنِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ فَحَلَّ مَحَلُّ الْإِجْمَاعِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا فَكَذَلِكَ ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ

لَا يَكُونُ نَاسِخًا لِلْكِتَابِ وَلَا السُّنَّةِ كَمَا لَا يَكُونُ الْقِيَاسُ نَاسِخًا لِشَيْءٍ مِنْهُمَا ، فَالْحَقُّ فِي أُسْلُوبِ تَحْرِيرِ هَذَا الْمَقَامِ أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لِحَدِيثِ كَوْنِ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ مُؤَيَّدَةً لِمَا فِي مُقْتَضَى الْقِيَاسِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَأَنْ يُبَيِّنَ عَدَمَ الْمُنَافَاةِ بَيْنَ مَدْلُولِ تِلْكَ الْآيَةِ وَبَيْنَ جَوَابِ الِاسْتِحْسَانِ هَاهُنَا ، وَسَيَجِيءُ مِنَّا الْكَلَامُ فِي التَّوْفِيقِ بَيْنَهُمَا بَعْدَ هَذَا الْقَوْلِ ( قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الْقَتْلَ بِطَرِيقِ التَّغَالُبِ غَالِبٌ وَالْقِصَاصُ مَزْجَرَةٌ لِلسُّفَهَاءِ فَيَجِبُ تَحْقِيقًا لِحِكْمَةِ الْإِحْيَاءِ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ الْمَعْقُولِ إنْ لَمْ يَكُنْ قِيَاسًا عَلَى مُجْمَعٍ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا فِي الشَّرْعِ ، وَإِنْ كَانَ فَلَا يَرْبُو عَلَى الْقِيَاسِ الْمُقْتَضِي لِعَدَمِهِ الْمُؤَيِّدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } وَالْجَوَابُ أَنَّهُ قِيَاسٌ عَلَى سَائِرِ أَبْوَابِ الْعُقُوبَاتِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى مَا يُوجِبُ الْفَسَادَ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَيَرْبُو عَلَى ذَلِكَ بِقُوَّةِ أَثَرِهِ الْبَاطِنِ وَهُوَ إحْيَاءُ حِكْمَةِ الْإِحْيَاءِ ، وقَوْله تَعَالَى { أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } لَا يُنَافِيهِ لِأَنَّهُمْ فِي إزْهَاقِ الرُّوحِ الْغَيْرِ الْمُتَجَزِّئِ كَشَخْصٍ وَاحِدٍ انْتَهَى كَلَامُهُ .
أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّ جَعْلَ الْأَشْخَاصِ الْمُتَعَدِّدَةِ الذَّوَاتِ فِي الْحَقِيقَةِ كَشَخْصٍ وَاحِدٍ بِمُجَرَّدِ صُدُورِ إزْهَاقِ الرُّوحِ الْغَيْرِ الْمُتَجَزِّئِ عَنْ مَجْمُوعِهِمْ وَجَعَلَهُمْ مُسَاوِينَ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ بِحَيْثُ يَتَحَقَّقُ بَيْنَ ذَلِكَ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ وَبَيْنَ هَؤُلَاءِ الْجَمَاعَةِ مُمَاثَلَةٌ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْقِصَاصِ بَعِيدٌ جِدًّا عَنْ مُسَاعِدَةِ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ ، وَأَيْضًا يُنَافِي هَذَا مَا سَيَأْتِي فِي تَعْلِيلِ الْمَسْأَلَةِ الْآتِيَةِ مِنْ أَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَ أَئِمَّتِنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتِلٌ بِوَصْفِ الْكَمَالِ فَكَانَ الصَّادِرُ مِنْهُمْ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ قَتْلَاتٍ

مُتَعَدِّدَةً عَلَى عَدَدِ رُءُوسهمْ فَحَصَلَتْ الْمُمَاثَلَةُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْقِصَاصِ .
وَالْحَقُّ عِنْدِي هُنَا أَنْ يُقَالَ : إنَّ قَوْله تَعَالَى { النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } لَا يُنَافِي مَا قَالُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إذْ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى اعْتِبَارِ الْوِحْدَةِ فِي النَّفْسِ ، بَلْ فِيهِ مُجَرَّدُ مُقَابِلَةِ جِنْسِ النَّفْسِ بِجِنْسِ النَّفْسِ كَمَا تَرَى ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الِاحْتِرَازُ عَنْ أَنْ يُقْتَصَّ النَّفْسُ بِغَيْرِ النَّفْسِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ } وَنَحْوَهُمَا وَأَمَّا أَنَّهُ هَلْ تَتَحَقَّقُ الْمُمَاثَلَةُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْقِصَاصِ عِنْدَ تَعَدُّدِ النَّفْسِ فِي جَانِبِ الْقَاتِلِ أَوْ الْمَقْتُولِ فَإِنَّمَا يُسْتَفَادُ ذَلِكَ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ الْعَيْنَ الْيُمْنَى لَا تُقْتَصُّ بِالْعَيْنِ الْيُسْرَى وَكَذَا الْعَكْسُ ، مَعَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى { وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ } .
لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ نَظَرًا إلَى ظَاهِرِ إطْلَاقِهِ ، بَلْ إنَّمَا يُسْتَفَادُ ذَلِكَ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ فَكَذَا هُنَا تَبَصَّرْ

( وَإِذَا قَتَلَ وَاحِدٌ جَمَاعَةً فَحَضَرَ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِينَ قُتِلَ لِجَمَاعَتِهِمْ وَلَا شَيْءَ لَهُمْ غَيْرُ ذَلِكَ ، فَإِنْ حَضَرَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ قُتِلَ لَهُ وَسَقَطَ حَقُّ الْبَاقِينَ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُقْتَلُ بِالْأَوَّلِ مِنْهُمْ وَيَجِبُ لِلْبَاقِينَ الْمَالُ ، وَإِنْ اجْتَمَعُوا وَلَمْ يُعْرَفْ الْأَوَّلُ قُتِلَ لَهُمْ وَقُسِمَتْ الدِّيَاتُ بَيْنَهُمْ ، وَقِيلَ يُقْرَعُ بَيْنَهُمْ فَيُقْتَلُ لِمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ .
لَهُ أَنَّ الْمَوْجُودَ مِنْ الْوَاحِدِ قِتْلَاتٌ وَاَلَّذِي تَحَقَّقَ فِي حَقِّهِ قَتْلُ وَاحِدٍ فَلَا تَمَاثُلَ ، وَهُوَ الْقِيَاسُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ ، إلَّا أَنَّهُ عُرِفَ بِالشَّرْعِ .
وَلَنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتِلٌ بِوَصْفِ الْكَمَالِ فَجَاءَ التَّمَاثُلُ أَصْلُهُ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ ، إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمَا وَجَبَ الْقِصَاصُ ، وَلِأَنَّهُ وُجِدَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جُرْحٌ صَالِحٌ لِلْإِزْهَاقِ فَيُضَافُ إلَى كُلٍّ مِنْهُمْ إذْ هُوَ لَا يَتَجَزَّأُ ، .
وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ شُرِعَ مَعَ الْمُنَافِي لِتَحْقِيقِ الْإِحْيَاءِ وَقَدْ حَصَلَ بِقَتْلِهِ فَاكْتَفَى بِهِ .
.

( قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتِلٌ بِوَصْفِ الْكَمَالِ فَجَاءَ التَّمَاثُلُ أَصْلُهُ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمَا وَجَبَ الْقِصَاصُ ) أَقُولُ : فِيهِ إشْكَالٌ أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ كَوْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتَلَا بِوَصْفِ الْكَمَالِ أَمْرٌ مُتَعَذِّرٌ لِاسْتِلْزَامِهِ تَوَارُدَ الْعِلَلِ الْمُسْتَقِلَّةِ بِالِاجْتِمَاعِ عَلَى مَعْلُولٍ وَاحِدٍ بِالشَّخْصِ وَهُوَ مُحَالٌ كَمَا تَقَرَّرَ فِي مَوْضِعِهِ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ شُرَّاحَ الْكِتَابِ وَغَيْرَهُمْ صَرَّحُوا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ جَوَابَ الْمَسْأَلَةِ جَوَابُ الِاسْتِحْسَانِ ، وَالْقِيَاسُ لَا يَقْتَضِيهِ ، لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْقِصَاصِ الْمُمَاثَلَةُ وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ قَطْعًا بَلْ بَدِيهَةً ، لَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى قَتْلِ جَمَاعَةٍ بِوَاحِدٍ ، فَالْقَوْلُ هَاهُنَا بِتَحَقُّقِ التَّمَاثُلِ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ أَيْضًا يُنَافِي ذَلِكَ ، إذْ يَلْزَمُ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ جَوَابُ الْمَسْأَلَةِ هُنَاكَ جَوَابَ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ مَعًا .
فَإِنْ قُلْت : لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتِلٌ بِوَصْفِ الْكَمَالِ حَقِيقَةً ، بَلْ الْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتِلٌ بِوَصْفِ الْكَمَالِ فِي اعْتِبَارِ الشَّرْعِ تَحْقِيقًا لِلْمُمَاثَلَةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْقِصَاصِ فَيَحْصُلُ الْجَوَابُ عَنْ وَجْهَيْ الْإِشْكَالِ مَعًا .
قُلْت : تَوَارُدُ الْعِلَّتَيْنِ الْمُسْتَقِلَّتَيْنِ بِالِاجْتِمَاعِ عَلَى مَعْلُولٍ وَاحِدٍ بِالشَّخْصِ مُمْتَنِعٌ عَقْلِيٌّ ، وَاعْتِبَارُ الشَّرْعِ مَا هُوَ مُمْتَنِعُ الْوُقُوعِ وَاقِعًا مِمَّا لَا وُقُوعَ لَهُ فِي شَيْءٍ ، وَلَوْ فَرَضْنَا وُقُوعَهُ لَا يَظْهَرُ لَهُ فَائِدَةٌ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لِأَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّ شَرْعَ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْقِصَاصِ لِئَلَّا يَلْزَمَ الظُّلْمُ عَلَى الْمُعْتَدِي عَلَى تَقْدِيرِ الزِّيَادَةِ ، وَلِئَلَّا يَلْزَمَ الْبَخْسُ لِحَقِّ الْمُعْتَدَى عَلَيْهِ عَلَى تَقْدِيرِ النُّقْصَانِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الظُّلْمَ وَالْبَخْسَ إنَّمَا يَنْدَفِعَانِ

بِتَحَقُّقِ الْمُمَاثَلَةِ الْحَقِيقِيَّةِ .
وَأَمَّا فِي مُجَرَّدِ اعْتِبَارِ غَيْرِ الْمُمَاثِلِ مُمَاثِلًا فَلَا يَخْلُو الْأَمْرُ عَنْ الظُّلْمِ أَوْ الْبَخْسِ حَقِيقَةً ، وَهَذَا غَيْرُ وَاقِعٍ بَلْ غَيْرُ جَائِزٍ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ ( قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ وُجِدَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جُرْحٌ صَالِحٌ لِلْإِزْهَاقِ فَيُضَافُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إذْ هُوَ لَا يَتَجَزَّأُ ) أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : حَاصِلُ هَذَا الدَّلِيلِ بَيَانُ وَجْهِ قَوْلِهِ فِي الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتِلٌ بِوَصْفِ الْكَمَالِ فَلَا وَجْهَ لِجَعْلِهِ دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا مَعْطُوفًا عَلَى الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ وَلِأَنَّهُ وُجِدَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ إلَخْ .
ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ قَالَ فِي شَرْعِ هَذَا الدَّلِيلِ : يَعْنِي أَنَّ الْقَتْلَ جُرْحٌ صَالِحٌ لِإِزْهَاقِ الرُّوحِ ، وَقَدْ وُجِدَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِحَيْثُ لَوْ انْفَرَدَ عَنْ الْبَاقِينَ كَانَ قَاتِلًا بِصِفَةِ الْكَمَالِ .
وَالْحُكْمُ إذَا حَصَلَ عَقِيبَ عِلَلٍ لَا بُدَّ مِنْ الْإِضَافَةِ إلَيْهَا ، فَإِمَّا أَنْ يُضَافَ إلَيْهَا تَوْزِيعًا أَوْ كَامِلًا ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِعَدَمِ التَّجَزِّي فَتَعَيَّنَ الثَّانِي ، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ جَمَاعَةٌ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ لَا يَقْتُلَ فُلَانًا فَاجْتُمِعُوا عَلَى قَتْلِهِ حَنِثُوا انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ أَنْ لَا يَجُوزَ إضَافَةُ الْقَتْلِ إلَى تِلْكَ الْعِلَلِ تَوْزِيعًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَتْلَ لَا يَتَجَزَّأُ تَعَيَّنَ أَنْ يُضَافَ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَامِلًا ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يُضَافَ كَامِلًا إلَى مَجْمُوعِ تِلْكَ الْعِلَلِ مِنْ حَيْثُ هِيَ مَجْمُوعٌ بَلْ هُوَ الظَّاهِرُ لِئَلَّا يَلْزَمَ تَوَارُدُ الْعِلَلِ الْمُسْتَقِلَّةِ بِالِاجْتِمَاعِ عَلَى مَعْلُولٍ وَاحِدٍ بِالشَّخْصِ فَحِينَئِذٍ لَا يَتِمُّ الْمَطْلُوبُ كَمَا لَا يَخْفَى .
وَيُمْكِنُ تَوْجِيهُ مَسْأَلَةِ الْحَلِفِ بِأَنَّ مَدَارَ الْأَيْمَانِ عَلَى الْعُرْفِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي مَحَلِّهِ ، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ جَمَاعَةٌ عَلَى قَتْلِ رَجُلٍ وَوُجِدَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ

مِنْهُمْ جُرْحٌ صَالِحٌ لِإِزْهَاقِ الرُّوحِ يُقَالُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي الْعُرْفِ أَنَّهُ قَتَلَ فُلَانًا ، وَإِنْ كَانَ الْقَتْلُ فِي الْحَقِيقَةِ كَامِلًا مُضَافًا إلَى مَجْمُوعِهِمْ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ بِنَاءَ حِنْثِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي مَسْأَلَةِ الْحَلِفِ عَلَى الْعُرْفِ .
وَأَمَّا الْقِصَاصُ فَالْمُعْتَبَرُ فِيهِ الْحَقِيقَةُ لَا غَيْرُ .
ثُمَّ أَقُولُ : كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ ذَيْنِكَ الدَّلِيلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْكِتَابِ إنَّمَا يَتَمَشَّيَانِ فِيمَا إذَا حَضَرَ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولَيْنِ وَقَتَلُوا الْقَاتِلَ جُمْلَةً ، وَأَمَّا فِيمَا إذَا حَضَرَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَقَتَلَ الْقَاتِلَ وَحْدَهُ فَسَقَطَ حَقُّ الْبَاقِينَ كَمَا ذُكِرَ أَيْضًا فِي الْكِتَابِ فَلَا تَمْشِيَةَ لِشَيْءٍ مِنْهُمَا ، إذْ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُقَالَ لِأَحَدٍ مِنْ الْبَاقِينَ الْغَيْرِ الْحَاضِرِينَ الَّذِينَ لَمْ يُبَاشِرُوا الْقَتْلَ أَصْلًا إنَّهُ قَاتِلٌ ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ قَاتِلٌ بِوَصْفِ الْكَمَالِ ، وَكَذَا لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُقَالَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ إنَّهُ وُجِدَ مِنْهُ جُرْحٌ صَالِحٌ لِلْإِزْهَاقِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ لِلْبَاقِينَ الْمَالُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ فَلْيُتَأَمَّلْ ( قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ شُرِعَ مَعَ الْمُنَافِي لِتَحْقِيقِ الْإِحْيَاءِ وَقَدْ حَصَلَ بِقَتْلِهِ فَاكْتَفَى بِهِ ) أَقُولُ : فِيهِ كَلَامٌ ، وَهُوَ أَنَّ تَحْقِيقَ الْإِحْيَاءِ حِكْمَةُ الْقِصَاصِ ، وَبِمُجَرَّدِ حُصُولِ حِكْمَتِهِ لَا يَتِمُّ أَمْرُهُ ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ حُصُولِ شَرَائِطِهِ أَيْضًا ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا الْمُمَاثَلَةُ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ وَلَا الذِّمِّيُّ بِالْمُسْتَأْمَنِ ، وَكَذَا لَا يُقْتَلُ أَحَدٌ بِوَلَدِهِ وَلَا بِوَلَدِ وَلَدِهِ وَلَا بِعَبْدِهِ وَلَا بِمُدَبَّرِهِ وَلَا بِمُكَاتَبِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، مَعَ أَنَّ حُصُولَ تَحْقِيقِ الْإِحْيَاءِ مُتَصَوَّرٌ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي تِلْكَ الصُّوَرِ لِانْتِفَاءِ بَعْضِ شَرَائِطِهِ أَوْ لِتَحَقُّقِ بَعْضِ مَوَانِعِهِ .
وَعِنْدَ أَنْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ : إنَّ

الْمَوْجُودَ مِنْ الْوَاحِدِ قَتْلَاتٌ وَاَلَّذِي تَحَقَّقَ فِي حَقِّهِ قَتْلٌ وَاحِدٌ فَلَمْ يُوجَدْ التَّمَاثُلُ الَّذِي هُوَ مَبْنَى الْقِصَاصِ ، كَيْف يَتِمُّ أَنْ يُقَالَ فِي مُقَابَلَتِهِ قَدْ حَصَلَ تَحْقِيقُ الْإِحْيَاءِ بِقَتْلِهِ فَاكْتَفَى بِهِ ، وَلَعَلَّ صَاحِبَ الْكَافِي فَهِمَ ضَعْفَ هَذَا التَّعْلِيلِ حَيْثُ تَرَكَ ذِكْرَهُ مَعَ كَوْنِ عَادَتِهِ أَنْ يَقْتَفِي أَثَرَ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ

قَالَ : ( وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ إذَا مَاتَ سَقَطَ الْقِصَاصُ ) لِفَوَاتِ مَحِلِّ الِاسْتِيفَاءِ فَأَشْبَهَ مَوْتَ الْعَبْدِ الْجَانِي ، وَيَتَأَتَّى فِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ إذْ الْوَاجِبُ أَحَدُهُمَا عِنْدَهُ .
.

قَالَ ( وَإِذَا قَطَعَ رَجُلَانِ يَدَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَلَا قِصَاصَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَعَلَيْهِمَا نِصْفُ الدِّيَةِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : تُقْطَعُ يَدَاهُمَا ، وَالْمُفْرِضُ إذَا أَخَذَ سِكِّينًا وَأَمَرَّهُ عَلَى يَدِهِ حَتَّى انْقَطَعَتْ لَهُ الِاعْتِبَارُ بِالْأَنْفُسِ ، وَالْأَيْدِي تَابِعَةٌ لَهَا فَأَخَذَتْ حُكْمَهَا ، أَوْ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِجَامِعِ الزَّجْرِ .
وَلَنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَاطِعٌ بَعْضَ الْيَدِ ، لِأَنَّ الِانْقِطَاعَ حَصَلَ بِاعْتِمَادِيِّهِمَا وَالْمَحَلُّ مُتَجَزِّئٌ فَيُضَافُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَعْضُ فَلَا مُمَاثَلَةَ ، بِخِلَافِ النَّفْسِ لِأَنَّ الِانْزِهَاقَ لَا يَتَجَزَّأُ ، وَلِأَنَّ الْقَتْلَ بِطَرِيقِ الِاجْتِمَاعِ غَالِبٌ حَذَارِ الْغَوْثِ ، وَالِاجْتِمَاعُ عَلَى قَطْعِ الْيَدِ مِنْ الْمِفْصَلِ فِي حَيِّزِ النُّدْرَةِ لِافْتِقَارِهِ إلَى مُقَدَّمَاتٍ بَطِيئَةٍ فَيَلْحَقُهُ الْغَوْثُ .
قَالَ ( وَعَلَيْهِمَا نِصْفُ الدِّيَةِ ) لِأَنَّهُ دِيَةُ الْيَدِ الْوَاحِدَةِ وَهُمَا قَطَعَاهَا .

( وَإِنْ قَطَعَ وَاحِدٌ يَمِينَيْ رَجُلَيْنِ فَحَضَرَا فَلَهُمَا أَنْ يَقْطَعَا يَدَهُ وَيَأْخُذَا مِنْهُ نِصْفَ الدِّيَةِ يَقْسِمَانِهِ نِصْفَيْنِ سَوَاءٌ قَطَعَهُمَا مَعًا أَوْ عَلَى التَّعَاقُبِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : فِي التَّعَاقُبِ يُقْطَعُ بِالْأَوَّلِ ، وَفِي الْقِرَانِ يُقْرَعُ لِأَنَّ الْيَدَ اسْتَحَقَّهَا الْأَوَّلُ فَلَا يَثْبُتُ الِاسْتِحْقَاقُ فِيهَا لِلثَّانِي كَالرَّهْنِ بَعْدَ الرَّهْنِ ، وَفِي الْقِرَانِ الْيَدُ الْوَاحِدَةُ لَا تَفِي بِالْحَقَّيْنِ فَتُرَجَّحُ بِالْقُرْعَةِ .
وَلَنَا أَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ فَيَسْتَوِيَانِ فِي حُكْمِهِ كَالْغَرِيمَيْنِ فِي التَّرِكَةِ ، وَالْقِصَاصُ مِلْكُ الْفِعْلِ يَثْبُتُ مَعَ الْمُنَافِي فَلَا يَظْهَرُ إلَّا فِي حَقِّ الِاسْتِيفَاءِ .
أَمَّا الْمَحِلُّ فَخُلُوٌّ عَنْهُ فَلَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الثَّانِي ، بِخِلَافِ الرَّهْنِ لِأَنَّ الْحَقَّ ثَابِتٌ فِي الْمَحَلِّ .
فَصَارَ كَمَا إذَا قَطَعَ الْعَبْدُ يَمِينَيْهِمَا عَلَى التَّعَاقُبِ فَتُسْتَحَقُّ رَقَبَتُهُ لَهُمَا ، وَإِنْ حَضَرَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فَقَطَعَ يَدَهُ فَلِلْآخَرِ عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ ، لِأَنَّ لِلْحَاضِرِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ لِثُبُوتِ حَقِّهِ وَتَرَدُّدِ حَقِّ الْغَائِبِ ، وَإِذَا اسْتَوْفَى لَمْ يَبْقَ مَحِلُّ الِاسْتِيفَاءِ فَيَتَعَيَّنُ حَقُّ الْآخَرِ فِي الدِّيَةِ لِأَنَّهُ أَوْفَى بِهِ حَقًّا مُسْتَحَقًّا .
.

قَالَ : ( وَإِذَا أَقَرَّ الْعَبْدُ بِقَتْلِ الْعَمْدِ لَزِمَهُ الْقَوَدُ ) وَقَالَ زُفَرُ : لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ لِأَنَّهُ يُلَاقِي حَقَّ الْمَوْلَى بِالْإِبْطَالِ فَصَارَ كَمَا إذَا أَقَرَّ بِالْمَالِ .
وَلَنَا أَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِيهِ لِأَنَّهُ مُضِرٌّ بِهِ فَيُقْبَلُ ، وَلِأَنَّ الْعَبْدَ مُبْقَى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ فِي حَقِّ الدَّمِ عَمَلًا بِالْآدَمِيَّةِ حَتَّى لَا يَصِحَّ إقْرَارُ الْمَوْلَى عَلَيْهِ بِالْحَدِّ وَالْقِصَاصِ ، وَبُطْلَانُ حَقِّ الْمَوْلَى بِطَرِيقِ الضِّمْنِ فَلَا يُبَالَى بِهِ .

( وَمَنْ رَمَى رَجُلًا عَمْدًا فَنَفَذَ السَّهْمُ مِنْهُ إلَى آخَرَ فَمَاتَا فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ لِلْأَوَّلِ وَالدِّيَةُ لِلثَّانِي عَلَى عَاقِلَتِهِ ) لِأَنَّ الْأَوَّلَ عَمْدٌ وَالثَّانِي أَحَدُ نَوْعَيْ الْخَطَأِ ، كَأَنَّهُ رَمَى إلَى صَيْدٍ فَأَصَابَ آدَمِيًّا وَالْفِعْلُ يَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْأَثَرِ .
.

( قَوْلُهُ لِأَنَّ الْأَوَّلَ عَمْدٌ وَالثَّانِي أَحَدُ نَوْعَيْ الْخَطَإِ ) قَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ : وَهُوَ خَطَأٌ فِي الْقَصْدِ .
أَقُولُ : هَذَا خَبْطٌ ظَاهِرٌ ، إذْ قَدْ مَرَّ فِي الْكِتَابِ أَنَّ الْخَطَأَ عَلَى نَوْعَيْنِ : خَطَأٌ فِي الْقَصْدِ وَهُوَ أَنْ يَرْمِي شَخْصًا يَظُنُّهُ صَيْدًا فَإِذَا هُوَ آدَمِيٌّ أَوْ يَظُنُّهُ حَرْبِيًّا فَإِذَا هُوَ مُسْلِمٌ ، وَخَطَأٌ فِي الْفِعْلِ وَهُوَ أَنْ يَرْمِي غَرَضًا فَيُصِيبُ آدَمِيًّا .
وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ قَبِيلِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ ، وَمِنْ الْبَيِّنِ فِيهِ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ هُنَا كَأَنَّهُ رَمَى إلَى صَيْدٍ فَأَصَابَ آدَمِيًّا ( قَوْلُهُ وَالْفِعْلُ يَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْأَثَرِ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : قِيلَ فَإِنَّ الرَّمْيَ إذَا أَصَابَ حَيَوَانًا وَمَزَّقَ جِلْدَهُ سُمِّيَ جُرْحًا ، وَإِنْ قَتَلَهُ سُمِّيَ قَتْلًا ، وَإِنْ أَصَابَ الْكُوزَ وَكَسَرَهُ سُمِّيَ كَسْرًا فَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَحَلٍّ عَمْدًا وَبِالنِّسْبَةِ إلَى آخَرَ خَطَأً ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ ذَلِكَ تَسْمِيَةُ الْفِعْلِ الْوَاحِدِ بِأَسَامٍ مُخْتَلِفَةٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَحَالِّ وَلَا نِزَاعَ فِيهِ ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي أَنْ يَتَعَدَّدَ الْفِعْلُ الْوَاحِدُ فَيَصِيرُ فِعْلَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ انْتَهَى .
أَقُولُ : نَظَرُهُ سَاقِطٌ ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ ذَلِكَ الْقَائِلُ تَسْمِيَةُ الْفِعْلِ الْوَاحِدِ بِحَيْثِيَّاتِ انْضِمَامِ قُيُودٍ مُخْتَلِفَةٍ وَأَوْصَافٍ مُتَضَادَّةٍ إلَيْهِ بِأَسَامٍ مُخْتَلِفَةٍ لَا تَسْمِيَةَ ذَلِكَ الْفِعْلِ الْوَاحِدِ مِنْ حَيْثُ هُوَ فِعْلٌ وَاحِدٌ بِتِلْكَ الْأَسَامِي الْمُخْتَلِفَةِ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ الرَّمْيَ مِنْ حَيْثُ أَصَابَ الْكُوزَ لَا يُسَمَّى جُرْحًا وَلَا قَتْلًا بَلْ يُسَمَّى كَسْرًا ، وَكَذَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ أَصَابَ حَيَوَانًا وَمَزَّقَ جِلْدَهُ أَوْ قَتَلَهُ لَا يُسَمَّى كَسْرًا بَلْ يُسَمَّى جُرْحًا أَوْ قَتْلًا .
وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ اخْتِلَافَ تِلْكَ الْأَسَامِي بِاخْتِلَافِ الْأَوْصَافِ الْمُنْضَمَّةِ إلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ تَقَرَّرَ اخْتِلَافُ مُسَمَّيَاتِ تِلْكَ ا لِأَسَامِي أَيْضًا

فَكَانَ مُنَاسِبًا لِمَا نَحْنُ فِيهِ مُفِيدًا لَهُ .
ثُمَّ إنَّ قَوْلَهُ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي أَنْ يَتَعَدَّدَ الْفِعْلُ الْوَاحِدُ فَيَصِيرُ فِعْلَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ إنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّ الْكَلَامَ فِي أَنْ يَتَعَدَّدَ الْفِعْلُ الْوَاحِدُ بِحَسَبِ الذَّاتِ بِحَيْثُ يَصِيرُ فِعْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي الْحَقِيقَةِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْكَلَامَ فِيهِ بَلْ لَا نُسَلِّمُ إمْكَانَ ذَلِكَ ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّ الْكَلَامَ فِي أَنْ يَتَعَدَّدَ الْفِعْلُ الْوَاحِدُ بِتَعَدُّدِ الْأَوْصَافِ الْمُتَضَادَّةِ الْمُنْضَمَّةِ إلَيْهِ فَهُوَ مُسَلَّمٌ ، لَكِنَّ هَذَا التَّعَدُّدَ يَحْصُلُ قَطْعًا بِتَعَدُّدِ الْأَسَامِي تَعَدُّدًا نَاشِئًا مِنْ تَعَدُّدِ الْمُسَمَّيَاتِ بِالْحَيْثِيَّاتِ الْمُخْتَلِفَةِ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ ، وَمُرَادُ ذَلِكَ الْقَائِلِ كَمَا عَرَفْت آنِفًا .
ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : الْخَطَأُ يَسْتَلْزِمُ إبَاحَةً لِكَوْنِهِ سَبَبًا لِلْكَفَّارَةِ ، وَهُوَ لَا يَكُونُ إلَّا أَمْرًا دَائِرًا بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ وَلَمْ يُوجَدْ هُنَا .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْخَطَأَ هُوَ تَحَقُّقُ الْجِنَايَةِ فِي إنْسَانٍ مُخَالِفٍ لِظَنِّ الْجَانِي كَمَنْ رَمَى إلَى شَيْءٍ يَظُنُّهُ صَيْدًا فَإِذَا هُوَ إنْسَانٌ ، أَوْ لِقَصْدِهِ مُطْلَقًا كَمَنْ رَمَى إلَى هَدَفٍ فَأَصَابَ إنْسَانًا وَكَاَلَّذِي نَحْنُ فِيهِ ، وَالرَّمْيُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُخَالِفِ لَهُمَا كَالرَّمْيِ لَا إلَى مُعَيَّنٍ وَذَلِكَ مُبَاحٌ لَا مَحَالَةَ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِي تَحْرِيرِ جَوَابِهِ نَوْعُ خَلَلٍ ، فَإِنَّ تَمْثِيلَ قَوْلِهِ أَوْ لِقَصْدِهِ مُطْلَقًا بِقَوْلِهِ كَمَنْ رَمَى إلَى هَدَفٍ فَأَصَابَ إنْسَانًا ، وَكَاَلَّذِي نَحْنُ فِيهِ يُشْعِرُ بِأَنْ تَكُونَ الْإِصَابَةُ لِإِنْسَانٍ عِنْدَ الرَّمْيِ إلَى هَدَفٍ وَكَذَا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ قَبِيلِ الْخَطَإِ فِي الْقَصْدِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَطْعًا إذْ كُلٌّ مِنْهُمَا مِنْ قَبِيلِ الْخَطَإِ فِي الْفِعْلِ كَمَا بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ .

فَصْل قَالَ : ( وَمَنْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ خَطَأً ثُمَّ قَتَلَهُ عَمْدًا قَبْلَ أَنْ تَبْرَأَ يَدُهُ أَوْ قَطَعَ يَدَهُ عَمْدًا ثُمَّ قَتَلَهُ خَطَأً أَوْ قَطَعَ يَدَهُ خَطَأً فَبَرَأَتْ يَدُهُ ثُمَّ قَتَلَهُ خَطَأً أَوْ قَطَعَ يَدَهُ عَمْدًا فَبَرَأَتْ ثُمَّ قَتَلَهُ عَمْدًا فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ بِالْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا ) وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْجِرَاحَاتِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ تَتْمِيمًا لِلْأَوَّلِ ، لِأَنَّ الْقَتْلَ فِي الْأَعَمِّ يَقَعُ بِضَرَبَاتٍ مُتَعَاقِبَةٍ ، وَفِي اعْتِبَارِ كُلِّ ضَرْبَةٍ بِنَفْسِهَا بَعْضُ الْحَرَجِ ، إلَّا أَنْ لَا يُمْكِنَ لِلْجَمْعِ فَيُعْطَى كُلُّ وَاحِدٍ حُكْمَ نَفْسِهِ ، وَقَدْ تَعَذَّرَ الْجَمْعُ فِي هَذِهِ الْفُصُولِ فِي الْأَوَّلَيْنِ لِاخْتِلَافِ حُكْمِ الْفِعْلَيْنِ ، وَفِي الْآخَرَيْنِ لِتَخَلُّلِ الْبُرْءِ وَهُوَ قَاطِعٌ لِلسَّرَايَةِ ، حَتَّى لَوْ لَمْ يَتَخَلَّلْ وَقَدْ تَجَانَسَا بِأَنْ كَانَا خَطَأَيْنِ يَجْمَعُ بِالْإِجْمَاعِ لِإِمْكَانِ الْجَمْعِ وَاكْتَفَى بِدِيَّةٍ وَاحِدَةٍ ( وَإِنْ كَانَ قَطَعَ يَدَهُ عَمْدًا ثُمَّ قَتَلَهُ عَمْدًا قَبْلَ أَنْ تَبْرَأَ يَدُهُ ، فَإِنْ شَاءَ الْإِمَامُ قَالَ : اقْطَعُوهُ ثُمَّ اُقْتُلُوهُ ، وَإِنْ شَاءَ قَالَ : اُقْتُلُوهُ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : يُقْتَلُ وَلَا تُقْطَعُ يَدُهُ لِأَنَّ الْجَمْعَ مُمْكِنٌ لِتَجَانُسِ الْفِعْلَيْنِ وَعَدَمِ تَخَلُّلِ الْبُرْءِ فَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا .
وَلَهُ أَنَّ الْجَمْعَ مُتَعَذِّرٌ ، إمَّا لِلِاخْتِلَافِ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ هَذَيْنِ لِأَنَّ الْمُوجِبَ الْقَوَدُ وَهُوَ يَعْتَمِدُ الْمُسَاوَاةَ فِي الْفِعْلِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ بِالْقَتْلِ وَالْقَطْعُ بِالْقَطْعِ وَهُوَ مُتَعَذِّرٌ ، أَوْ لِأَنَّ الْحَزَّ يَقْطَعُ إضَافَةَ السِّرَايَةِ إلَى الْقَطْعِ ، حَتَّى لَوْ صَدَرَ مِنْ شَخْصَيْنِ يَجِبُ .
الْقَوَدُ عَلَى الْحَازِّ فَصَارَ كَتَخَلُّلِ الْبُرْءِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَطَعَ وَسَرَى لِأَنَّ الْفِعْلَ وَاحِدٌ ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا كَانَا خَطَأَيْنِ لِأَنَّ الْمُوجَبَ الدِّيَةُ وَهِيَ بَدَلُ النَّفْسِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الْمُسَاوَاةِ ، وَلِأَنَّ أَرْشَ الْيَدِ إنَّمَا يَجِبُ عِنْدَ

اسْتِحْكَامِ أَثَرِ الْفِعْلِ وَذَلِكَ بِالْحَزِّ الْقَاطِعِ لِلسِّرَايَةِ فَيَجْتَمِعُ ضَمَانُ الْكُلِّ وَضَمَانُ الْجُزْءِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَا يَجْتَمِعَانِ .
أَمَّا الْقَطْعُ وَالْقَتْلُ قِصَاصًا يَجْتَمِعَانِ .
.

( فَصْلٌ فِي حُكْمِ الْفِعْلَيْنِ ) لَمَّا ذَكَرَ حُكْمَ الْفِعْلِ الْوَاحِدِ ذَكَرَ فِي هَذَا الْفَصْلِ حُكْمَ الْفِعْلَيْنِ لِأَنَّ الِاثْنَيْنِ بَعْدَ الْوَاحِدِ ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ ( قَوْلُهُ وَمَنْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ خَطَأً ثُمَّ قَتَلَهُ عَمْدًا قَبْلَ أَنْ تَبْرَأَ يَدُهُ إلَخْ ) أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إذَا اخْتَلَفَ حُكْمُ الْفِعْلَيْنِ بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا عَمْدًا وَالْآخَرُ خَطَأً يُعْطَى كُلُّ وَاحِدٍ حُكْمَ نَفْسِهِ سَوَاءٌ تَخَلَّلَ بَيْنَهُمَا الْبُرْءُ أَوْ لَمْ يَتَخَلَّلْ كَمَا سَيَنْكَشِفُ فِي الْأَصْلِ الْآتِي ذِكْرُهُ ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ قَبْلَ أَنْ تَبْرَأَ يَدُهُ فِي وَضْعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُسْتَدْرَكًا لِتَمَامِ جَوَابِهَا ، وَهُوَ أَنْ يُؤْخَذَ بِالْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا بِدُونِ ذِكْرِ ذَلِكَ الْقَيْدِ ، بَلْ يُوهِمُ ذِكْرُهُ أَنْ لَا يَكُونَ الْجَوَابُ كَذَلِكَ فِيمَا بَعْدَ أَنْ تَبْرَأَ يَدُهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ فِي الرِّوَايَاتِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ ، وَعَنْ هَذَا قَالَ فِي وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ أَوْ قَطَعَ يَدَهُ عَمْدًا ثُمَّ قَتَلَهُ خَطَأً بِدُونِ ذِكْرِ ذَلِكَ الْقَيْدِ .
ثُمَّ أَقُولُ : يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : فَائِدَةُ ذِكْرِ ذَلِكَ الْقَيْدِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى التَّنْبِيهُ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ عَلَى أَنَّ تَخَلُّلَ الْبُرْءِ لَيْسَ بِمُؤَثِّرٍ فِيمَا إذَا اخْتَلَفَ الْفِعْلَانِ فَإِنَّهُ إذَا أَعْطَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمَ نَفْسِهِ فِيمَا إذَا لَمْ يَتَخَلَّلْ الْبُرْءُ فَفِيمَا إذَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ أَوْلَى ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ إيهَامُ أَنْ لَا يَكُونَ الْجَوَابُ فِيمَا إذَا تَخَلَّلَ الْبُرْءُ كَالْجَوَابِ فِيمَا إذَا لَمْ يَتَخَلَّلْ ، فَإِنَّ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ إنَّمَا يَدُلُّ فِي الرِّوَايَاتِ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ إنْ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَا عَدَاهُ أَوْلَى بِثُبُوتِ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ لَهُ .
وَأَمَّا إذَا كَانَ أَوْلَى بِذَلِكَ فَيَدُلُّ عَلَى اشْتَرَاكِ مَا عَدَاهُ مَعَهُ فِي الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ بِالْأَوْلَوِيَّةِ بِطَرِيقِ دَلَالَةِ النَّصِّ بِلَا

رَيْبٍ وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ .
ثُمَّ إنَّهُ لَمَّا حَصَلَ التَّنْبِيهُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى حَصَلَ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي اخْتِلَافِ الْفِعْلَيْنِ وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ الْقَيْدَ فِيهَا .
ثُمَّ لَمَّا جَاءَ إلَى الْمَسْأَلَةِ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ .
قَيَّدَهُمَا بِتَخَلُّلِ الْبُرْءِ لِتَجَانُسِ الْفِعْلَيْنِ عَمْدًا وَخَطَأً فِيهِمَا فَلَا بُدَّ فِي الْأَخْذِ بِالْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا مِنْ تَخَلُّلِ الْبُرْءِ فِي الْبَيْنِ ( قَوْلُهُ فَصَارَ كَتَخَلُّلِ الْبُرْءِ ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : مَنْقُوضٌ بِمَا إذَا كَانَ كِلَاهُمَا خَطَأً .
أَقُولُ : كَيْفَ يَكُونُ مَنْقُوضًا بِذَلِكَ وَقَدْ تَدَارَكَهُ الْمُصَنِّفُ صَرَاحَةً فِيمَا بَعْدُ حَيْثُ قَالَ : وَبِخِلَافِ مَا إذَا كَانَا خَطَأَيْنِ ، وَعَلَّلَهُ بِتَعْلِيلَيْنِ بِإِزَاءِ تَعْلِيلَيْ أَبِي حَنِيفَةَ مَا إذَا كَانَا عَمْدَيْنِ ، وَتَعْلِيلُهُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُهُ وَلِأَنَّ أَرْشَ الْيَدِ إنَّمَا يَجِبُ عِنْدَ اسْتِحْكَامِ أَثَرِ الْفِعْلِ إلَخْ دَافِعٌ قَطْعًا لِتَوَهُّمِ انْتِقَاضِ قَوْلِهِ فَصَارَ كَتَخَلُّلِ الْبُرْءِ بِمَا إذَا كَانَا خَطَأَيْنِ تَأَمَّلْ تَفْهَمْ .
وَقَالَ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ : فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ بِمَنْزِلَةِ تَخَلُّلِ الْبُرْءِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ لِلْإِمَامِ خِيَارٌ كَمَا لَوْ تَخَلَّلَ الْبُرْءُ .
قُلْنَا : الْمَسْأَلَةُ مُجْتَهَدٌ فِيهَا ، فَالْقَاضِي يَقْضِي عَلَى مَا وَافَقَ رَأْيَهُ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِي الْجَوَابِ نَظَرٌ ، فَإِنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ بَعْدَ بَيَانِ خِيَارِ الْإِمَامِ وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَأْبَى هَذَا الْجَوَابَ جِدًّا فَإِنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُجْتَهَدِ فِيهَا عَلَى مَا وَافَقَ رَأْيَهُ لَيْسَ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَقَطْ بَلْ صَاحِبَاهُ أَيْضًا يَقُولَانِ بِهِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْعَارِفِ بِمَسَائِلِ الْفِقْهِ .
ثُمَّ إنَّ هَذَا كُلَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْخِيَارُ لِلْإِمَامِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْوَلِيِّ عِنْدَهُ كَمَا ذَكَرَهُ

شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ وَنَقَلَ عَنْهُ الشُّرَّاحُ قَاطِبَةً حَتَّى قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ عَنْهُ : فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ فَإِنْ شَاءَ الْإِمَامُ مَعْنَاهُ يُبَيِّنُ لَهُمْ أَنَّ لَهُمْ الْخِيَارَ ، فَلَا تَمْشِيَةَ رَأْسًا لِلسُّؤَالِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ .
نَعَمْ يَرِدُ أَنْ يُقَالَ : فَمَا مَعْنَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِأَنَّ لِلْوَلِيِّ الْخِيَارَ مَعَ الْجَزْمِ فِي الْمَسَائِلِ السَّابِقَةِ بِأَنْ يُؤْخَذَ بِالْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا ، وَعِلَّةُ تَعَذُّرِ الْجَمْعِ مُتَحَقِّقَةٌ فِي الْكُلِّ عِنْدَهُ بِلَا تَفَاوُتٍ كَمَا تَبَيَّنَ فِي الْكِتَابِ ؟

قَالَ ( وَمَنْ ضَرَبَ رَجُلًا مِائَةَ سَوْطٍ فَبَرِأَ مِنْ تِسْعِينَ وَمَاتَ مِنْ عَشَرَةٍ فَفِيهِ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ ) لِأَنَّهُ لَمَّا بَرَأَ مِنْهَا لَا تَبْقَى مُعْتَبَرَةٌ فِي حَقِّ الْأَرْشِ وَإِنْ بَقِيَتْ مُعْتَبَرَةٌ فِي حَقِّ التَّعْزِيرِ فَبَقِيَ الِاعْتِبَارُ لِلْعَشَرَةِ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ .
جِرَاحَةٍ انْدَمَلَتْ وَلَمْ يَبْقَ لَهَا أَثَرٌ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي مِثْلِهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ تَجِبُ أُجْرَةُ الطَّبِيبِ ( وَإِنْ ضَرَبَ رَجُلًا مِائَةَ سَوْطٍ وَجَرَحَتْهُ وَبَقِيَ لَهُ أَثَرٌ تَجِبُ حُكُومَةُ الْعَدْلِ ) لِبَقَاءِ الْأَثَرِ وَالْأَرْشِ إنَّمَا يَجِبُ بِاعْتِبَارِ الْأَثَرِ فِي النَّفْسِ .
.

قَالَ : ( وَمَنْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ فَعَفَا الْمَقْطُوعَةُ يَدُهُ عَنْ الْقَطْعِ ثُمَّ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَى الْقَاطِعِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ ، وَإِنْ عَفَا عَنْ الْقَطْعِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهُ ثُمَّ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ عَفْوٌ عَنْ النَّفْسِ ، ثُمَّ إنْ كَانَ خَطَأً فَهُوَ مِنْ الثُّلُثِ ، وَإِنْ كَانَ عَمْدًا فَهُوَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : إذَا عَفَا عَنْ الْقَطْعِ فَهُوَ عَفْوٌ عَنْ النَّفْسِ أَيْضًا ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا عَفَا عَنْ الشَّجَّةِ ثُمَّ سَرَى إلَى النَّفْسِ وَمَاتَ ، لَهُمَا أَنَّ الْعَفْوَ عَنْ الْقَطْعِ عَفْوٌ عَنْ مُوجِبِهِ ، وَمُوجِبُهُ الْقَطْعُ لَوْ اقْتَصَرَ أَوْ الْقَتْلُ إذَا سَرَى ، فَكَانَ الْعَفْوُ عَنْهُ عَفْوًا عَنْ أَحَدِ مُوجِبَيْهِ أَيُّهُمَا كَانَ ، وَلِأَنَّ اسْمَ الْقَطْعِ يَتَنَاوَلُ السَّارِيَ وَالْمُقْتَصَرَ فَيَكُونُ الْعَفْوُ عَنْ قَطْعٍ عَفْوًا عَنْ نَوْعَيْهِ وَصَارَ كَمَا إذَا عَفَا عَنْ الْجِنَايَةِ فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْجِنَايَةَ السَّارِيَةَ وَالْمُقْتَصِرَةَ .
كَذَا هَذَا .
وَلَهُ أَنَّ سَبَبَ الضَّمَانِ قَدْ تَحَقَّقَ وَهُوَ قَتْلُ نَفْسٍ مَعْصُومَةٍ مُتَقَوِّمَةٍ وَالْعَفْوُ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ بِصَرِيحِهِ لِأَنَّهُ عَفَا عَنْ الْقَطْعِ وَهُوَ غَيْرُ الْقَتْلِ ، وَبِالسِّرَايَةِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْوَاقِعَ قَتْلٌ وَحَقُّهُ فِيهِ وَنَحْنُ نُوجِبُ ضَمَانَهُ .
وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ وَهُوَ الْقِيَاسُ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُوجِبُ لِلْعَمْدِ ، إلَّا أَنَّ فِي الِاسْتِحْسَانِ تَجِبُ الدِّيَةُ ، لِأَنَّ صُورَةَ الْعَفْوِ أَوْرَثَتْ شُبْهَةً وَهِيَ دَارِئَةٌ لِلْقَوَدِ .
وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ السَّارِيَ نَوْعٌ مِنْ الْقَطْعِ ، وَأَنَّ السِّرَايَةَ صِفَةٌ لَهُ ، بَلْ السَّارِي قَتْلٌ مِنْ الِابْتِدَاءِ ، وَكَذَا لَا مُوجِبَ لَهُ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ قَطْعًا فَلَا يَتَنَاوَلُهُ الْعَفْوُ ، بِخِلَافِ الْعَفْوِ عَنْ الْجِنَايَةِ لِأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ ، وَبِخِلَافِ الْعَفْوِ عَنْ الشَّجَّةِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِي الْعَفْوِ عَنْ السِّرَايَةِ وَالْقَتْلِ ، وَلَوْ كَانَ الْقَطْعُ خَطَأً فَقَدْ أَجْرَاهُ مَجْرَى الْعَمْدِ فِي

هَذِهِ الْوُجُوهِ وِفَاقًا وَخِلَافًا ، آذَنَ بِذَلِكَ إطْلَاقَهُ ، إلَّا أَنَّهُ إنْ كَانَ خَطَأً فَهُوَ مِنْ الثُّلُثِ ، وَإِنْ كَانَ عَمْدًا فَهُوَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ ، لِأَنَّ مُوجِبَ الْعَمْدِ الْقَوَدُ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ الْوَرَثَةِ لِمَا أَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ فَصَارَ كَمَا إذَا أَوْصَى بِإِعَارَةِ أَرْضِهِ .
أَمَّا الْخَطَأُ فَمُوجِبُهُ الْمَالُ ، وَحَقُّ الْوَرَثَةِ يَتَعَلَّقُ بِهِ فَيُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ .
.

( قَوْلُهُ وَلِأَنَّ اسْمَ الْقَطْعِ يَتَنَاوَلُ السَّارِي وَالْمُقْتَصِرَ فَكَانَ الْعَفْوُ عَنْهُ عَفْوًا عَنْ نَوْعَيْهِ ) أَقُولُ : أُسْلُوبُ التَّحْرِيرِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَا سَبَقَ دَلِيلًا تَامًّا لَهُمَا وَهَذَا أَيْضًا دَلِيلًا آخَرَ مُسْتَقِلًّا لَهُمَا ، لَكِنْ لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ أَنَّ مَا سَبَقَ لَا يَتِمُّ دَلِيلًا لَهُمَا بِدُونِ انْضِمَامِ هَذَا إلَيْهِ ، لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَتَقَرَّرْ أَنَّ اسْمَ الْقَطْعِ يَتَنَاوَلُ السَّارِي وَالْمُقْتَصَرَ لَا يَتَقَرَّرُ كَوْنُ الْقَتْلِ أَحَدَ مُوجِبِي الْقَطْعِ ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَتَنَاوَلْ اسْمَ الْقَطْعِ السَّارِي أَيْضًا لَا يُتَصَوَّرُ كَوْنُ الْقَتْلِ أَحَدَ مُوجِبِي الْقَطْعِ ، إذْ لَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْقَطْعُ الْمُقْتَصَرُ مُوجِبًا لِلْقَتْلِ أَيْضًا تَدَبَّرْ .
( قَوْلُهُ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ وَهُوَ الْقِيَاسُ ) قُلْت : وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ : وَكَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ بَدَلَ قَوْلِهِ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ ، لِأَنَّ الَّذِي يَنْبَغِي هُوَ مُوجِبُ الِاسْتِحْسَانِ دُونَ مُوجِبِ الْقِيَاسِ ، إلَّا أَنَّ مُوجِبَ الْقِيَاسِ هُوَ الظَّاهِرُ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ ( قَوْلُهُ وَلَوْ كَانَ الْقَطْعُ خَطَأً فَقَدْ أَجْرَاهُ مَجْرَى الْعَمْدِ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ وِفَاقًا وَخِلَافًا ) قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ فِي بَيَانِ هَذِهِ الْوُجُوهِ : وَهِيَ الْأَرْبَعَةُ الَّتِي هِيَ الْعَفْوُ عَنْ الْقَطْعِ مُطْلَقًا ، وَالْعَفْوُ عَنْ الْقَطْعِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهُ ، وَالْعَفْوُ عَنْ الشَّجَّةِ ، وَالْعَفْوُ عَنْ الْجِنَايَةِ انْتَهَى .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِسَدِيدٍ ، لِأَنَّ مَعْنَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا أَنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ أَجْرَى الْقَطْعَ خَطَأً مَجْرَى الْعَمْدِ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَارَّةِ الَّتِي هِيَ مِنْ مَسَائِلِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، وَالْعَفْوُ عَنْ الشَّجَّةِ لَمْ يَكُنْ مَذْكُورًا فِي كَلَامِ مُحَمَّدٍ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَطُّ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ حَيْثُ قَالَ : وَكَذَلِكَ

الِاخْتِلَافُ فِي الضَّرْبِ وَالشَّجَّةِ وَالْجِرَاحَةِ فِي الْيَدِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ، وَكَذَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْهِدَايَةِ دُونَ الْبِدَايَةِ حَيْثُ قَالَ : وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ إذَا عَفَا عَنْ الشَّجَّةِ ثُمَّ سَرَّى إلَى النَّفْسِ وَمَاتَ ، وَالْمُصَنِّفُ هُنَا بِصَدَدِ بَيَانِ مَا يَتَنَاوَلُهُ كَلَامُ مُحَمَّدٍ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَارَّةِ الَّتِي هِيَ مَسْأَلَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ دَرْجُ الْعَفْوِ عَنْ الشَّجَّةِ فِي مَضْمُونِ ذَلِكَ كَمَا فَعَلَهُ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ حَيْثُ فَسَرُّوا هَذِهِ الْوُجُوهَ فِي قَوْلِهِ فَقَدْ أَجْرَاهُ مَجْرَى الْعَمْدِ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ بِمَا يَشْمَلُ الْعَفْوَ عَنْ الشَّجَّةِ أَيْضًا ، فَالْوَجْهُ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ هِيَ الْوُجُوهُ الثَّلَاثَةُ ، وَهِيَ الْعَفْوُ عَنْ الْقَطْعِ مُطْلَقًا ، وَالْعَفْوُ عَنْ الْقَطْعِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهُ ، وَالْعَفْوُ عَنْ الْجِنَايَةِ ، لِأَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي مَسْأَلَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ .
وَأَمَّا الْعَفْوُ عَنْ الشَّجَّةِ فَقَدْ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِيمَا مَرَّ اسْتِطْرَادًا وَبَيَّنَ أَنَّ حُكْمَهُ كَحُكْمِ مَا ذُكِرَ فِي مَسْأَلَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَخْذًا مِمَّا ذَكَرَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ( قَوْلُهُ آذَنَ بِذَلِكَ إطْلَاقُهُ ) أَيْ أَعْلَمَ بِذَلِكَ إطْلَاقُ لَفْظِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَمَنْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ فَعَفَا الْمَقْطُوعَةُ يَدُهُ عَنْ الْقَطْعِ حَيْثُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْعَمْدِ وَلَا لِلْخَطَإِ فَكَانَ مُتَنَاوِلًا لَهُمَا ، كَذَا فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ .
قَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ بَعْدَ أَنْ شَرَحَ الْمَقَامَ كَذَلِكَ : هَذَا تَقْرِيرُ مَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ عِنْدَنَا لِأَنَّ مُحَمَّدًا قَيَّدَهُ بِالْعَمْدِ فِي أَصْلِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ كَمَا ذَكَرْنَا رِوَايَتَهُ ، وَكَذَلِكَ قَيَّدَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ وَالصَّدْرُ الشَّهِيدُ وَغَيْرُهُمْ فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِالْعَمْدِ فَلَا يَصِحُّ حِينَئِذٍ دَعْوَى الْإِطْلَاقِ ا هـ .

وَأَمَّا مَا عَدَا صَاحِبَ الْغَايَةِ مِنْ الشُّرَّاحِ فَسَأَلُوا هَاهُنَا وَأَجَابُوا حَيْثُ قَالُوا : فَإِنْ قِيلَ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّ لَفْظَهُ مُطْلَقٌ بَلْ هُوَ مُقَيَّدٌ بِالْقَطْعِ الْعَمْدِ بِدَلِيلِ جَوَابِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ فَعَلَى الْقَاطِعِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ فَإِنَّهُ يُبَيِّنُ أَنَّ مُرَادَهُ الْعَمْدُ ، لِأَنَّ الدِّيَةَ فِي الْخَطَإِ عَلَى الْعَاقِلَةِ : قُلْنَا : وَضْعُ الْمَسْأَلَةِ مُطْلَقٌ بِلَا شَكٍّ إذْ الْقَيْدُ غَيْرُ مَلْفُوظٍ ، لَكِنَّ الْجَوَابَ إنَّمَا هُوَ لِأَحَدِ نَوْعَيْ الْقَطْعِ فَتَقْدِيرُهُ فَعَلَى الْقَاطِعِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ إنْ كَانَ الْقَطْعُ عَمْدًا ، انْتَهَى كَلَامُهُمْ .
أَقُولُ : لَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّ جَوَابَهُمْ هَذَا لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ مَقْصُودَ الْمُصَنِّفِ هُنَا بَيَانُ إجْرَاءِ مُحَمَّدٍ الْقَطْعَ خَطَأً مَجْرَى الْعَمْدِ فِي أَحْكَامِ هَذِهِ الْوُجُوهِ وِفَاقًا وَخِلَافًا ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ حُكْمَ الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ جَوَابِهَا ، وَإِذَا كَانَ الْجَوَابُ فِي لَفْظِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مَخْصُوصًا بِصُورَةِ الْعَمْدِ فَكَيْفَ يُؤْذَنُ مُجَرَّدُ إطْلَاقِ وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ بِاشْتِرَاكِ نَوْعَيْ الْقَطْعِ فِي الْحُكْمِ ، إذْ لَوْ آذَنَ ذَلِكَ بِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْحُكْمِ لَآذَنَ بِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْحُكْمِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ الْجَوَابِ ، وَقَوْلُهُ فِيمَا لَهُ مَانِعٌ عَنْ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ فَلَا مُؤْذِنَ لِلِاشْتِرَاكِ قَطُّ فَلَمْ يَتِمَّ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ آذَنَ بِذَلِكَ إطْلَاقَهُ فَتَأَمَّلْ ( قَوْلُهُ لِأَنَّ مُوجِبَ الْعَمْدِ الْقَوَدُ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ الْوَرَثَةِ لِمَا أَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ : فِيهِ بَحْثٌ ، وَهُوَ أَنَّ الْقِصَاصَ مَوْرُوثٌ بِالِاتِّفَاقِ فَكَيْفَ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ الْوَرَثَةِ .
ثُمَّ قَالَ : وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ نَفَى تَعَلُّقَ حَقِّ الْوَرَثَةِ بِهِ لَا كَوْنُهُ مَوْرُوثًا ، وَلَا تَنَافِي بَيْنَهُمَا لِأَنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ ، وَحُكْمُ الْخَلْفِ لَا يَثْبُتُ مَعَ وُجُودِ الْأَصْلِ ،

وَالْقِيَاسُ فِي الْمَالِ أَيْضًا أَلَّا يَثْبُتَ فِيهِ تَعَلُّقُ حَقِّهِمْ إلَّا بَعْدَ مَوْتِ الْمُورَثِ ، لَكِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ شَرْعًا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَأَنْ تَدَعَ وَرَثَتَك أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ } وَتَرْكُهُمْ أَغْنِيَاءَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِتَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِمَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الْغِنَى وَهُوَ الْمَالُ ، فَلَوْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ لِتَصَرُّفِهِ فِيهِ لَتَرَكَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ ، وَالْقِصَاصُ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ لَكِنَّهُ مَوْرُوثٌ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِي تَقْرِيرِ الْبَحْثِ الْمَذْكُورِ خَلَلٌ فَاحِشٌ ، وَفِي تَحْرِيرِ الْجَوَابِ الْمَزْبُورِ الْتِزَامُ ذَلِكَ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ سَيَجِيءُ فِي أَوَّلِ بَابِ الشَّهَادَةِ فِي الْقَتْلِ أَنَّ الْقِصَاصَ يَثْبُتُ لِوَرَثَةِ الْقَتِيلِ ابْتِدَاءً لَا بِطَرِيقِ الْوِرَاثَةِ مِنْ الْمَقْتُولِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَيَثْبُتُ لِلْقَتِيلِ ابْتِدَاءً ، ثُمَّ يَنْتَقِلُ بِمَوْتِهِ إلَى وَرَثَتِهِ بِطَرِيقِ الْوِرَاثَةِ مِنْهُ كَالدَّيْنِ وَالدِّيَةِ ، فَقَوْلُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّ الْقِصَاصَ مَوْرُوثٌ بِالِاتِّفَاقِ كَذِبٌ صَرِيحٌ .
وَقَدْ مَرَّ نَظِيرُ هَذَا مِنْ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ فِي الْفَصْلِ السَّابِقِ وَبَيَّنْتُ بُطْلَانَهُ هُنَاكَ أَيْضًا فَتَذَكَّرْ وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ التَّعَرُّضُ فِيهِ لِكَوْنِ الْقِصَاصِ غَيْرُ مَوْرُوثٍ مِنْ الْمَقْتُولِ عِنْدَ إمَامِنَا الْأَعْظَمِ رَحِمَهُ اللَّهُ ، بَلْ سِيقَ الْكَلَامُ فِيهِ عَلَى وَجْهٍ يُشْعِرُ بِكَوْنِهِ مَوْرُوثًا بِالِاتِّفَاقِ ؛ أَلَا يَرَى إلَى قَوْلِهِ فِي خَاتِمَتِهِ وَالْقِصَاصُ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ لَكِنَّهُ مَوْرُوثٌ ( قَوْلُهُ أَمَّا الْخَطَأُ فَمُوجِبُهُ الْمَالُ وَحَقُّ الْوَرَثَةِ يَتَعَلَّقُ بِهِ فَيُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ ) قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ : فَإِنْ قِيلَ : الْقَاتِلُ وَاحِدٌ مِنْ الْعَاقِلَةِ فَكَيْفَ جَوَّزَ الْوَصِيَّةَ بِجَمِيعِ الثُّلُثِ هَاهُنَا حَتَّى صَحَّ فِي نَصِيبِ الْقَاتِلِ أَيْضًا مَعَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ

لَا تَصِحُّ لِلْقَاتِلِ ؟ قُلْنَا : إنَّمَا جَوَّزَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَجْرُوحَ لَمْ يَقُلْ أَوْصَيْت لَك بِثُلُثِ الدِّيَةِ ، وَإِنَّمَا عَفَا عَنْهُ الْمَالَ بَعْدَ سَبَبِ الْوُجُوبِ فَكَانَ تَبَرُّعًا مُبْتَدَأً وَذَلِكَ جَائِزٌ لِلْقَاتِلِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَهَبَ لَهُ شَيْئًا وَسَلَّمَ جَازَ انْتَهَى كَلَامُهُمْ .
وَأَوْرَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى قَوْلِهِمْ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ وَهَبَ لَهُ شَيْئًا وَسَلَّمَ جَازَ بِأَنْ قَالَ : فِيهِ بَحْثٌ ، لِأَنَّ الْهِبَةَ فِي الْمَرَضِ فِي حُكْمِ الْوَصِيَّةِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ فِي كِتَابِ الْوَصِيَّةِ انْتَهَى .
أَقُولُ : إنْ أَرَادَ أَنَّ الْهِبَةَ فِي الْمَرَضِ فِي حُكْمِ الْوَصِيَّةِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ الْهِبَةَ عَقْدٌ مُنَجَّزٌ وَالْوَصِيَّةُ فِي الْمَرَضِ عَقْدٌ مُعَلَّقٌ بِالْمَوْتِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهَا فِي حُكْمِ الْوَصِيَّةِ فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ كَكَوْنِهَا مُعْتَبِرَةٌ مِنْ الثُّلُثِ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهُوَ مُسَلَّمٌ ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ لَا تَصِحَّ هِبَةُ الْمَجْرُوحِ لِلْقَاتِلِ كَعَدَمِ صِحَّةِ وَصِيَّتِهِ لَهُ فَلَا يُجْدِي قَدْحًا فِيمَا ذَكَرَهُ الشُّرَّاحُ فِي تَنْوِيرِ جَوَابِهِمْ

قَالَ : ( وَإِذَا قَطَعَتْ الْمَرْأَةُ يَدَ رَجُلٍ فَتَزَوَّجَهَا عَلَى يَدِهِ ثُمَّ مَاتَ فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا ، وَعَلَى عَاقِلَتِهَا الدِّيَةُ إنْ كَانَ خَطَأً ، وَإِنْ كَانَ عَمْدًا فَفِي مَالِهَا ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، لِأَنَّ الْعَفْوَ عَنْ الْيَدِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَفْوًا عَمَّا يَحْدُثُ مِنْهُ عِنْدَهُ فَالتَّزَوُّجُ عَلَى الْيَدِ لَا يَكُونُ تَزَوُّجًا عَلَى مَا يَحْدُثُ مِنْهُ .
ثُمَّ الْقَطْعُ إذَا كَانَ عَمْدًا يَكُونُ هَذَا تَزَوُّجًا عَلَى الْقِصَاصِ فِي الطَّرَفِ وَهُوَ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَا يَصْلُحُ مَهْرًا ، لَا سِيَّمَا عَلَى تَقْدِيرِ السُّقُوطِ فَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ ، وَعَلَيْهَا الدِّيَةُ فِي مَالِهَا لِأَنَّ التَّزَوُّجَ وَإِنْ كَانَ يَتَضَمَّنُ الْعَفْوَ عَلَى مَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لَكِنْ عَنْ الْقِصَاصِ فِي الطَّرَفِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ ، .
وَإِذَا سَرَى تَبَيَّنَ أَنَّهُ قَتْلُ النَّفْسِ وَلَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْعَفْوُ فَتَجِبُ الدِّيَةُ وَتَجِبُ فِي مَالِهَا لِأَنَّهُ عَمْدٌ .
وَالْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ .
وَإِذَا وَجَبَ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ وَعَلَيْهَا الدِّيَةُ تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ إنْ كَانَا عَلَى السَّوَاءِ ، وَإِنْ كَانَ فِي الدِّيَةِ فَضْلٌ تَرُدُّهُ عَلَى الْوَرَثَةِ ، وَإِنْ كَانَ فِي الْمَهْرِ فَضْلٌ يَرُدُّهُ الْوَرَثَةُ عَلَيْهَا ، وَإِذَا كَانَ الْقَطْعُ خَطَأً يَكُونُ هَذَا تَزَوُّجًا عَلَى أَرْشِ الْيَدِ ، وَإِذَا سَرَى إلَى النَّفْسِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا أَرْشَ لِلْيَدِ وَأَنَّ الْمُسَمَّى مَعْدُومٌ فَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ ، كَمَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى مَا فِي الْيَدِ وَلَا شَيْءَ فِيهَا .
وَلَا يَتَقَاصَّانِ لِأَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي الْخَطَأِ وَالْمَهْرُ لَهَا .
.

( قَوْلُهُ ثُمَّ الْقَطْعُ إنْ كَانَ عَمْدًا يَكُونُ هَذَا تَزَوُّجًا عَلَى الْقِصَاصِ فِي الطَّرَفِ وَهُوَ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَا يَصْلُحُ مَهْرًا ) قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ : فَإِنْ قِيلَ ؛ الْقِصَاصُ لَا يَجْرِي بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِي الْأَطْرَافِ فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا تَزَوُّجًا عَلَى الْقِصَاصِ .
قُلْنَا : الْمُوجِبُ الْأَصْلِيُّ فِي الْعَمْدِ الْقِصَاصُ قَضِيَّةً لِإِطْلَاقِ قَوْله تَعَالَى { وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ } إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ الِاسْتِيفَاءُ لِقِيَامِ الْمَانِعِ وَهُوَ التَّفَاوُتُ بَيْنَ طَرَفَيْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ انْتَهَى .
أَقُولُ فِي الْجَوَابِ نَظَرٌ ، لِأَنَّ إطْلَاقَ قَوْله تَعَالَى { وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ } لِمِثْلِ مَا نَحْنُ فِيهِ مَمْنُوعٌ ، فَإِنَّ الْقِصَاصَ يُنْبِئُ عَنْ الْمُمَاثَلَةِ ، وَمَا لَا يُمْكِنُ فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْقِصَاصُ ، وَعَنْ هَذَا إذَا قَطَعَ رَجُلٌ يَدَ رَجُلٍ عَمْدًا مِنْ غَيْرِ الْمِفْصَلِ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ لِعَدَمِ إمْكَانِ اعْتِبَارِ الْمُمَاثَلَةِ ، وَقَدْ حَقَّقَ الْمُصَنِّفُ هَذَا الْمَعْنَى فِي أَوَّلِ بَابِ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ بِصَدَدِ الِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ } عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي قَطْعِ يَدِ غَيْرِهِ عَمْدًا مِنْ الْمِفْصَلِ ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ أَنَّهُ لَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِي الْأَطْرَافِ فَلَا يَنْدَرِجُ فِي قَوْله تَعَالَى { وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ } وَلَئِنْ سُلِّمَ ذَلِكَ لَزِمَ أَنْ يَنْتَقِضَ الْجَوَابُ الْمَذْكُورُ بِمَا إذَا قَطَعَتْ الْمَرْأَةُ يَدَ رَجُلٍ فَتَزَوَّجَهَا عَلَى يَدِهِ فَاقْتَصَرَ الْقَطْعُ فَإِنَّهُ تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ فِيهِ ، وَيَصِيرُ أَرْشُ الْيَدِ وَهُوَ خَمْسَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ مَهْرًا لَهَا بِالْإِجْمَاعِ ، صَرَّحَ بِهِ الشُّرَّاحُ قَاطِبَةً فِي أَوَّلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، وَعَزَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ إلَى الْإِمَامِ قَاضِي خَانَ وَالْإِمَامِ الْمَحْبُوبِيِّ ، وَقَالُوا : أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ ثُمَّ مَاتَ ، وَلَوْ كَانَ الْمُوجِبُ الْأَصْلِيُّ هُوَ الْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ الْوَاقِعِ بَيْنَ أَطْرَافِ

الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ أَيْضًا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ التَّزَوُّجُ فِي صُورَةِ الِاقْتِصَارِ أَيْضًا تَزَوُّجًا عَلَى الْقِصَاصِ ، فَلَزِمَ أَنْ لَا يَتِمَّ مَا صَرَّحُوا بِهِ مِنْ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ وَلُزُومِ الْأَرْشِ مَهْرًا لَهَا بِالْإِجْمَاعِ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ كَمَا لَا يَخْفَى .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ وَتَاجُ الشَّرِيعَةِ : فَإِنْ قِيلَ : الْوَاجِبُ فِي الْأَطْرَافِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ هُوَ الْأَرْشُ وَأَرْشُ الْيَدِ مَعْلُومٌ وَهُوَ خَمْسُمِائَةِ دِينَارٍ فَمَا الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَهْرُ ؟ قُلْنَا : أَرْشُ الْيَدِ لَيْسَ بِمُتَعَيَّنٍ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ خَمْسَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ فَيَكُونُ مَجْهُولًا فَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِي جَوَابِ هَذَا السُّؤَالِ أَيْضًا نَظَرٌ ، فَإِنَّهُ يُنْتَقَضُ أَيْضًا قَطْعًا بِالتَّزَوُّجِ عَلَى يَدِهِ فِي صُورَةِ الِاقْتِصَارِ ، فَإِنَّ أَرْشَ الْيَدِ يَصِيرُ مَهْرًا لَهَا هُنَاكَ بِالْإِجْمَاعِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ مَعَ تَحَقُّقِ الْجَهَالَةِ النَّاشِئَةِ مِنْ عَدَمِ تَعَيُّنِ أَرْشِ الْيَدِ هُنَاكَ أَيْضًا .
ثُمَّ أَقُولُ : لَوْ قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ صُورَةِ الْعَمْدِ أَيْضًا مِنْ مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ مِثْلَ مَا قَالَهُ فِي صُورَةِ الْخَطَإِ مِنْهَا مِنْ أَنَّهُ يَكُونُ هَذَا تَزَوُّجًا عَلَى أَرْشِ الْيَدِ ، إذْ الْقِصَاصُ لَا يَجْرِي فِي الْأَطْرَافِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِي الْعَمْدِ أَيْضًا عِنْدَنَا ، وَإِذَا سَرَى إلَى النَّفْسِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا أَرْشَ لِلْيَدِ وَأَنَّ الْمُسَمَّى مَعْدُومٌ فَوَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ لَصَحَّ وَكَانَ سَالِمًا عَنْ أَنْ يَرِدَ عَلَيْهِ السُّؤَالَانِ الْمَذْكُورَانِ وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى جَوَابَيْهِمَا الْمَذْكُورَيْنِ فِي الشُّرُوحِ الْمُخْتَلَّيْنِ كَمَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا ( قَوْلُهُ وَإِذَا سَرَى تَبَيَّنَ أَنَّهُ قَتْلُ النَّفْسِ وَلَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْعَفْوُ فَيَجِبُ الدِّيَةُ ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ : فَإِنْ قُلْت : لِمَ لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ هَاهُنَا عَلَى الْمَرْأَةِ مَعَ أَنَّ الْقَطْعَ كَانَ عَمْدًا وَهُوَ قَتْلٌ مِنْ الِابْتِدَاءِ ، فَإِنَّهُ لَمَّا مَاتَ ظَهَرَ أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ

الْقِصَاصُ وَهُوَ لَمْ يَجْعَلْ الْقِصَاصَ مَهْرًا لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَصْلُحُ مَهْرًا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ وَالْمَهْرُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَالًا ، وَلَمَّا لَمْ يَصْلُحْ الْقِصَاصُ مَهْرًا صَارَ كَأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا وَلَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا وَفِيهِ الْقِصَاصُ فَكَذَا هُنَا .
قُلْت : نَعَمْ كَذَلِكَ ، إلَّا أَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ الْقِصَاصَ مَهْرًا جَعَلَ وِلَايَةَ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ لِلْمَرْأَةِ ، وَلَوْ اسْتَوْفَتْ الْمَرْأَةُ الْقِصَاصَ إنَّمَا تَسْتَوْفِي عَنْ نَفْسِهَا لِنَفْسِهَا ، وَذَلِكَ مُحَالٌ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ عَنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ ، لِأَنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُطَالِبًا لِلْقِصَاصِ وَمُطَالَبًا بِهِ فَسَقَطَ الْقِصَاصُ لِاسْتِحَالَةِ الِاسْتِيفَاءِ ، وَلَمَّا سَقَطَ الْقِصَاصُ بَقِيَ النِّكَاحُ بِلَا تَسْمِيَةٍ فَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ كَمَا إذَا لَمْ يُسَمِّ ابْتِدَاءً انْتَهَى .
أَقُولُ : لَا السُّؤَالُ شَيْءٌ وَلَا الْجَوَابُ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ وَجْهَ عَدَمِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ هَاهُنَا عَلَى الْمَرْأَةِ ظَاهِرٌ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ، فَإِنَّهُ إشَارَةٌ إلَى مَا ذَكَرَهُ فِيمَا قَبْلُ مِنْ أَنَّ وُجُوبَ الدِّيَةِ هَاهُنَا دُونَ الْقِصَاصِ عَلَى مُوجِبِ الِاسْتِحْسَانِ ، فَإِنَّ صُورَةَ الْعَفْوِ أَوْرَثَتْ شُبْهَةً وَهِيَ دَارِئَةٌ لِلْقَوَدِ فَلَمْ يَبْقَ مَحَلٌّ لِلسُّؤَالِ عَنْ لَمِّيِّةِ عَدَمِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ هَاهُنَا عَلَى الْمَرْأَةِ ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْقِصَاصَ الَّذِي جُعِلَ مَهْرًا وَجُعِلَ وِلَايَةَ اسْتِيفَائِهِ لِلْمَرْأَةِ إنَّمَا هُوَ قِصَاصُ الْيَدِ دُونَ قِصَاصِ النَّفْسِ كَمَا أَفْصَحَ عَنْهُ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِيمَا قَبْلُ يَكُونُ هَذَا تَزَوُّجًا عَلَى الْقِصَاصِ فِي الطَّرَفِ ، وَإِذَا سَرَى تَبَيَّنَ أَنَّهُ قَتْلُ النَّفْسِ فَلَمْ يَتَنَاوَلْهُ وِلَايَةُ الْمَرْأَةِ لِلْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ فِي عَدَمِ تَنَاوُلِهِ الْعَفْوَ الَّذِي تَضَمَّنَهُ التَّزَوُّجُ ، فَبَقِيَ السُّؤَالُ عَنْ وَجْهِ عَدَمِ وُجُوبِ قِصَاصِ النَّفْسِ عَلَى

الْمَرْأَةِ بَعْدَ أَنْ تَبَيَّنَ أَنَّ قَطْعَهَا صَارَ قَتْلَ النَّفْسِ وَلَغَا مَا ذُكِرَ فِي الْجَوَابِ الْمَزْبُورِ ، إذْ لَمْ يَجْعَلْ حَدَّ وِلَايَةِ اسْتِيفَاءِ قِصَاصِ النَّفْسِ لِلْمَرْأَةِ قَطُّ حَتَّى يَلْزَمَ مِنْ وُجُوبِ قِصَاصِ النَّفْسِ عَلَيْهَا اسْتِيفَاؤُهَا الْقِصَاصَ عَنْ نَفْسِهَا لِنَفْسِهَا

قَالَ : ( وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى الْيَدِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا أَوْ عَلَى الْجِنَايَةِ ثُمَّ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ وَالْقَطْعُ عَمْدٌ فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا ) لِأَنَّ هَذَا تَزَوُّجٌ عَلَى الْقِصَاصِ وَهُوَ لَا يَصْلُحُ مَهْرًا فَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ، وَصَارَ كَمَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ وَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَيْهَا ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ الْقِصَاصَ مَهْرًا فَقَدْ رَضِيَ بِسُقُوطِهِ بِجِهَةِ الْمَهْرِ فَيَسْقُطُ أَصْلًا كَمَا إذَا أَسْقَطَ الْقِصَاصَ بِشَرْطِ أَنْ يَصِيرَ مَالًا فَإِنَّهُ يَسْقُطُ أَصْلًا ( وَإِنْ كَانَ خَطَأً يُرْفَعُ عَنْ الْعَاقِلَةِ مَهْرُ مِثْلِهَا ، وَلَهُمْ ثُلُثُ مَا تَرَكَ وَصِيَّةً ) لِأَنَّ هَذَا تَزَوُّجٌ عَلَى الدِّيَةِ وَهِيَ تَصْلُحُ مَهْرًا إلَّا أَنَّهُ يُعْتَبَرُ بِقَدْرِ مَهْرِ الْمِثْلِ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ لِأَنَّهُ مَرِيضٌ مَرَضَ الْمَوْتِ وَالتَّزَوُّجُ مِنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ وَلَا يَصِحُّ فِي حَقِّ الزِّيَادَةِ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ لِأَنَّهُ مُحَابَاةٌ فَيَكُونُ وَصِيَّةً فَيُرْفَعُ عَنْ الْعَاقِلَةِ لِأَنَّهُمْ يَتَحَمَّلُونَ عَنْهَا ، فَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ تَرْجِعَ عَلَيْهِمْ بِمُوجِبِ جِنَايَتِهَا ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ وَصِيَّةٌ لَهُمْ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْوَصِيَّةِ لِمَا أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِقَتَلَةٍ ، فَإِنْ كَانَتْ تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ تَسْقُطُ ، وَإِنْ لَمْ تَخْرُجْ يَسْقُطُ ثُلُثُهُ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : كَذَلِكَ الْجَوَابُ فِيمَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى الْيَدِ ، لِأَنَّ الْعَفْوَ عَنْ الْيَدِ عَفْوٌ عَمَّا يَحْدُثُ مِنْهُ عِنْدَهُمَا فَاتَّفَقَ جَوَابُهُمَا فِي الْفَصْلَيْنِ .
.

( قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ خَطَأً يُرْفَعُ عَنْ الْعَاقِلَةِ مَهْرُ مِثْلِهَا وَلَهُمْ ثُلُثُ مَا تَرَكَ وَصِيَّةً ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَحِلِّ : قَوْلُهُ وَيُرْفَعُ عَنْ الْعَاقِلَةِ مَهْرُ مِثْلِهَا : أَيْ قَدْرُ مَهْرِ مِثْلِهَا ، وَقَوْلُهُ وَلَهُمْ ثُلُثُ مَا تَرَكَ وَصِيَّةً : أَيْ وَلِلْعَاقِلَةِ ثُلُثُ مَا زَادَ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ إلَى تَمَامِ الدِّيَةِ يَكُونُ وَصِيَّةً انْتَهَى .
أَقُولُ : فِي التَّفْسِيرِ الثَّانِي خَلَلٌ ، فَإِنَّ الْمُصَنِّفَ فَصَّلَ فِيمَا بَعْدَ حَالِ الزِّيَادَةِ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ وَجَعَلَهَا صُورَتَيْنِ حَيْثُ قَالَ : فَإِنْ كَانَتْ تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ تَسْقُطُ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَخْرُجُ يَسْقُطُ ثُلُثُهُ ، وَعَلَى ذَلِكَ التَّفْسِيرِ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَتَنَاوَلَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا الصُّورَةَ الْأُولَى مِنْ الصُّورَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرَهُمَا فِيمَا بَعْدُ ، فَإِنَّ مَا يَكُونُ وَصِيَّةً لَهُمْ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى مِنْهُمَا جَمِيعُ مَا زَادَ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ لَا إلَى تَمَامِ الدِّيَةِ ثُلُثُهُ فَقَطْ كَمَا لَا يَخْفَى .
وَقَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ : قَوْلُهُ يُرْفَعُ عَنْ الْعَاقِلَةِ مَهْرُ مِثْلِهَا : أَيْ قَدْرُ مَهْرِ مِثْلِهَا ، وَقَوْلُهُ وَلَهُمْ ثُلُثُ مَا تَرَكَ وَصِيَّةً لَهُمْ : أَيْ لِلْعَاقِلَةِ ثُلُثُ مَا تَرَكَ الْمَيِّتُ مِنْ الدِّيَةِ وَصِيَّةً انْتَهَى .
أَقُولُ : مَآلُ هَذَا أَيْضًا مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ وَإِنْ كَانَتْ الْعِبَارَةُ مُغَايِرَةً فِي التَّفْسِيرِ الثَّانِي ، فَإِنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ مَا تَرَكَ الْمَيِّتُ فِي قَوْلِهِ ثُلُثُ مَا تَرَكَ الْمَيِّتُ بِقَوْلِهِ مِنْ الدِّيَةِ تَعَيَّنَ أَنَّ مُرَادَهُ ثُلُثُ الدِّيَةِ فَيُرَدُّ عَلَيْهِ مِثْلُ مَا يُرَدُّ عَلَى مَا ذَكَرَاهُ مِنْ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَ كُلَّ الدِّيَةِ مِنْ ثُلُثِ مَالِ الْمَيِّتِ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَتَنَاوَلَهُ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا عَلَى التَّفْسِيرِ الْمَزْبُورِ .
ثُمَّ أَقُولُ : فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا احْتِمَالٌ آخَرُ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ : وَلِلْعَاقِلَةِ ثُلُثُ مَا تَرَكَ الْمَيِّتُ

مِنْ جَمِيعِ مَا لَهُ وَصِيَّةٌ لَهُمْ فَيَتَنَاوَلُ الصُّورَتَيْنِ الْآتِيَتَيْنِ فِي التَّفْصِيلِ مَعًا ، لِأَنَّ جَمِيعَ مَالِ الْمَيِّتِ يَشْمَلُ الدِّيَةَ وَغَيْرَهَا فَيَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَ الدِّيَةَ كُلَّهَا مِنْ ثُلُثِ جَمِيعِ مَا لَهُ ، لَكِنْ يُتَّجَهُ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ثُلُثُ جَمِيعِ مَا لَهُ أَكْثَرَ مِمَّا زَادَ عَلَى مَهْرِ مِثْلِهَا مِنْ الدِّيَةِ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرُ مِنْ كُلِّ الدِّيَةِ ، فَلَا يَصِحُّ حِينَئِذٍ قَوْلُهُ وَصِيَّةً لِأَنَّ مَا يَكُونُ وَصِيَّةً لِلْعَاقِلَةِ إنَّمَا هُوَ مِقْدَارُ مَا زَادَ عَلَى مَهْرِ مِثْلِهَا مِنْ الدِّيَةِ لَا غَيْرُ .
وَبِالْجُمْلَةِ عِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا لَيْسَتْ بِخَالِيَةٍ عَنْ الْقُصُورِ فِي إفَادَةِ تَمَامِ الْمُرَادِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذَوِي الرَّشَادِ ، فَالْأَوْلَى فِي تَحْرِيرِ الْمَقَامِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْوِقَايَةِ حَيْثُ قَالَ : وَفِي الْخَطَإِ رُفِعَ عَنْ الْعَاقِلَةِ مَهْرُ مِثْلِهَا وَالْبَاقِي وَصِيَّةً لَهُمْ ، فَإِنْ خَرَجَ مِنْ الثُّلُثِ سَقَطَ وَإِلَّا سَقَطَ ثُلُثُ الْمَالِ انْتَهَى تَأَمَّلْ ( قَوْلُهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : كَذَلِكَ الْجَوَابُ فِيمَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى الْيَدِ ، لِأَنَّ الْعَفْوَ عَنْ الْيَدِ عَفْوٌ عَمَّا يَحْدُثُ مِنْهُ عِنْدَهُمَا فَاتَّفَقَ جَوَابُهُمَا فِي الْفَصْلَيْنِ ) أَيْ فِي التَّزَوُّجِ عَلَى الْيَدِ ، وَفِي التَّزَوُّجِ عَلَى الْيَدِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا أَوْ عَلَى الْجِنَايَةِ ، كَذَا قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ وَهُوَ الصَّوَابُ .
وَزَادَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا فِي شَرْحِهِ حَيْثُ قَالَ : يَعْنِي فِي التَّزَوُّجِ عَلَى الْيَدِ إذَا كَانَ الْقَطْعُ خَطَأً ، وَفِي التَّزَوُّجِ عَلَى الْيَدِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا أَوْ عَلَى الْجِنَايَةِ انْتَهَى .
وَتَبِعَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ .
أَقُولُ : لَيْسَ ذَاكَ بِشَيْءٍ ، إذْ لَا وَجْهَ لِتَقْيِيدِ الْقَطْعِ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ بِالْخَطَأِ فَإِنَّ الظَّاهِرَ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا وَمِنْ قَوْلِهِ فِيمَا سَبَقَ وَلَوْ كَانَ الْقَطْعُ خَطَأً فَقَدْ أَجْرَاهُ مَجْرَى الْعَمْدِ فِي

هَذِهِ الْوُجُوهِ وِفَاقًا وَخِلَافًا ، وَكَذَا مِمَّا ذُكِرَ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ مِنْ الْمُتُونِ وَالشُّرُوحِ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ عِنْدَهُمَا فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ فِي الْفَصْلَيْنِ سَوَاءٌ ، وَلَقَدْ صَرَّحَ بِهِ هَاهُنَا صَاحِبُ الْغَايَةِ نَقْلًا عَنْ شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ حَيْثُ قَالَ : فَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَالْجَوَابُ فِيهِ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ كَالْجَوَابِ فِيمَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى الْقَطْعِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهُ ، أَوْ عَلَى الْجِنَايَةِ لِمَا ذُكِرَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، كَذَا فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ انْتَهَى

قَالَ : ( وَمَنْ قُطِعَتْ يَدُهُ فَاقْتُصَّ لَهُ مِنْ الْيَدِ ثُمَّ مَاتَ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ الْمُقْتَصُّ مِنْهُ ) لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْجِنَايَةَ كَانَتْ قَتْلَ عَمْدٍ وَحَقُّ الْمُقْتَصِّ لَهُ الْقَوَدُ ، وَاسْتِيفَاءُ الْقَطْعِ لَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْقَوَدِ كَمَنْ كَانَ لَهُ الْقَوَدُ إذَا اسْتَوْفَى طَرَفَ مَنْ عَلَيْهِ الْقَوَدُ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَسْقُطُ حَقُّهُ فِي الْقِصَاصِ ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَقْدَمَ عَلَى الْقَطْعِ فَقَدْ أَبْرَأَهُ عَمَّا وَرَاءَهُ .
وَنَحْنُ نَقُولُ : إنَّمَا أَقْدَمَ عَلَى الْقَطْعِ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ حَقَّهُ فِيهِ وَبَعْدَ السِّرَايَةِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ فِي الْقَوَدِ فَلَمْ يَكُنْ مُبْرِئًا عَنْهُ بِدُونِ الْعِلْمِ بِهِ .

( قَوْلُهُ وَمَنْ قُطِعَتْ يَدُهُ فَاقْتُصَّ لَهُ مِنْ الْيَدِ ثُمَّ مَاتَ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ الْمُقْتَصُّ مِنْهُ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : لَمْ يَذْكُرْ مَا إذَا مَاتَ الْمُقْتَصُّ مِنْهُ مِنْ الْقَطْعِ .
وَحُكْمُهُ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْمُقْتَصِّ لَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الشَّافِعِيِّ .
لَا شَيْءَ عَلَيْهِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ انْتَهَى .
أَقُولُ : هَذَا الْكَلَامُ مِنْهُ هُنَا كَلَامٌ خَالٍ عَنْ التَّحْصِيلِ ، لِأَنَّهُ إنْ كَانَ مَقْصُودُهُ مِنْهُ مُؤَاخَذَةَ الْمُصَنِّفِ بِأَنَّهُ تَرَكَ ذِكْرَ تِلْكَ الصُّورَةِ مَعَ كَوْنِ ذِكْرِهَا أَيْضًا مِمَّا يُهِمُّ فَلَا وَجْهَ لَهُ إذْ قَدْ ذَكَرَهَا أَيْضًا فِيمَا بَعْدُ ، وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُهُ مِنْهُ مُؤَاخَذَةَ الْمُصَنِّفِ بِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ تِلْكَ الصُّورَةَ هُنَا مَعَ كَوْنِ حَقِّهَا أَنْ تُذْكَرَ هُنَا فَلَيْسَ كَذَلِكَ ، فَإِنَّ تِلْكَ الصُّورَةَ مِنْ قَبِيلِ اسْتِيفَاءِ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ فِي الطَّرَفِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْكِتَابِ فِيمَا بَعْدُ ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ قَبِيلِ اسْتِيفَاءِ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ .
وَلَمَّا كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ الْمُتَّصِلَةُ بِمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ قَبِيلِ اسْتِيفَاءِ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ أَيْضًا كَمَا تَرَى ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ عَقِيبَ مَا نَحْنُ فِيهِ وَأَخَّرَ تِلْكَ الصُّورَةَ عَنْهَا ، وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُهُ مِنْهُ مُجَرَّدَ بَيَانِ حُكْمِ تِلْكَ الصُّورَةِ أَيْضًا دُونَ مُؤَاخَذَةِ الْمُصَنِّفِ بِشَيْءٍ فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ ، إذْ قَدْ بَيَّنَ الْمُصَنِّفُ حُكْمَهَا فِيمَا سَيَجِيءُ مُفَصَّلًا وَمُدَلَّلًا فَيَلْغُو بَيَانُ ذَلِكَ الشَّارِحِ إيَّاهُ هَاهُنَا ( قَوْلُهُ وَنَحْنُ نَقُولُ : إنَّمَا أَقْدَمَ عَلَى الْقَطْعِ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ حَقَّهُ فِيهِ وَبَعْدَ السِّرَايَةِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ فِي الْقَوَدِ فَلَمْ يَكُنْ مُبَرِّئًا عَنْهُ بِدُونِ الْعِلْمِ بِهِ ) قَالَ صَاحِبُ الْإِصْلَاحِ وَالْإِيضَاحِ : وَفِيهِ إشْكَالٌ لِمَا مَرَّ أَنَّ صُورَةَ الْعَفْوِ تَكْفِي فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ لِأَنَّهَا تُورِثُ شُبْهَةً وَبِذَلِكَ تَمَسَّكُوا فِي سُقُوطِهِ فِيمَا

إذَا عَفَا عَنْ الْقَطْعِ ثُمَّ مَاتَ مِنْهُ وَلَمْ يَلْتَفِتُوا ثَمَّةَ إلَى الْمُقَدِّمَةِ الْقَائِلَةِ إنَّهُ لَا يَكُونُ مُبْرِئًا عَنْهُ بِدُونِ الْعِلْمِ بِهِ انْتَهَى .
أَقُولُ : جَوَابُهُ أَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الشُّبْهَةَ مُعْتَبَرَةٌ دُونَ شُبْهَةِ الشُّبْهَةِ ، فَفِيمَ نَحْنُ فِيهِ يَكُونُ الْإِبْرَاءُ عَنْ النَّفْسِ شُبْهَةَ الشُّبْهَةِ ، لِأَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى الْقَطْعِ لَا يَقْتَضِيَ الْفَرَاغَ مِمَّا وَرَاءَهُ رَأْسًا لِجَوَازِ أَنْ يُسْتَوْفَى الْقَتْلُ أَيْضًا بَعْدَ الْقَطْعِ كَمَنْ لَهُ الْقَوَدُ يَسْتَوْفِي طَرَفَ مَنْ عَلَيْهِ الْقَوَدُ ثُمَّ يَقْتُلُهُ فَتَحَقَّقَتْ شُبْهَةٌ ، ثُمَّ إنَّ الْفَرَاغَ مِمَّا وَرَاءَ الْقَطْعِ لَا يَقْتَضِي الْإِبْرَاءَ عَنْهُ أَيْضًا لِجَوَازِ أَنْ يَفْرُغَ مِنْهُ ظَنًّا أَنَّ حَقَّهُ فِي الْقَطْعِ لَا إبْرَاءً عَمَّا وَرَاءَهُ فَتَحَقَّقَتْ شُبْهَةٌ بَعْدَ شُبْهَةٍ فَصَارَتْ شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ فَلَمْ تُعْتَبَرْ ، بِخِلَافِ مَا إذَا عَفَا عَنْ الْقَطْعِ ثُمَّ مَاتَ مِنْهُ فَإِنَّ الْعَفْوَ عَنْ الْقَطْعِ هُنَا مُقَرَّرٌ لَا شُبْهَةَ فِيهِ .
وَإِنَّمَا بَقِيَتْ شُبْهَةُ أَنْ يَكُونَ الْعَفْوُ عَنْ الْقَطْعِ عَفْوًا عَنْ الْقَتْلِ فَاعْتُبِرَتْ فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ بِهَا لِكَوْنِ الشُّبْهَةِ دَارِئَةً لَهُ فَافْتَرَقَا تَأَمَّلْ ، فَإِنَّ هَذَا مَعْنًى عَمِيقٌ وَفَرْقٌ دَقِيقٌ

قَالَ : ( وَمَنْ قَتَلَ وَلِيَّهُ عَمْدًا فَقَطَعَ يَدَ قَاتِلِهِ ثُمَّ عَفَا وَقَدْ قَضَى لَهُ بِالْقِصَاصِ أَوْ لَمْ يَقْضِ فَعَلَى قَاطِعِ الْيَدِ دِيَةُ الْيَدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ) لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى حَقَّهُ فَلَا يَضْمَنُهُ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ إتْلَافَ النَّفْسِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا ، وَلِهَذَا لَوْ لَمْ يَعْفُ لَا يَضْمَنُهُ ، وَكَذَا إذَا سَرَى وَمَا بَرَأَ أَوْ مَا عَفَا وَمَا سَرَى ، أَوْ قَطَعَ ثُمَّ حَزَّ رَقَبَتَهُ قَبْلَ الْبُرْءِ أَوْ بَعْدَهُ وَصَارَ كَمَا إذَا كَانَ لَهُ قِصَاصٌ فِي الطَّرَفِ فَقَطَعَ أَصَابِعَهُ ثُمَّ عَفَا لَا يَضْمَنُ الْأَصَابِعَ .
وَلَهُ أَنَّهُ اسْتَوْفَى غَيْرَ حَقِّهِ ، لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْقَتْلِ .
وَهَذَا قَطْعٌ وَإِبَانَةٌ ، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ لِلشُّبْهَةِ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُتْلِفَهُ تَبَعًا ، وَإِذَا سَقَطَ وَجَبَ الْمَالُ ، .
وَإِنَّمَا لَا يَجِبُ فِي الْحَالِ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَصِيرَ قَتْلًا بِالسِّرَايَةِ فَيَكُونُ مُسْتَوْفِيًا حَقَّهُ ، وَمِلْكُ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ ضَرُورِيٌّ لَا يَظْهَرُ إلَّا عِنْدَ الِاسْتِيفَاءِ أَوْ الْعَفْوِ أَوْ الِاعْتِيَاضِ لِمَا أَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِيهِ ، فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَظْهَرْ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا سَرَى لِأَنَّهُ اسْتِيفَاءٌ .
وَأَمَّا إذَا لَمْ يَعْفُ وَمَا سَرَى ، قُلْنَا : إنَّمَا يَتَبَيَّنُ كَوْنُهُ قَطْعًا بِغَيْرِ حَقٍّ بِالْبُرْءِ حَتَّى لَوْ قَطَعَ وَمَا عَفَا وَبَرَأَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ ، وَإِذَا قَطَعَ ثُمَّ حَزَّ رَقَبَتَهُ قَبْلَ الْبُرْءِ فَهُوَ اسْتِيفَاءٌ وَلَوْ حَزَّ بَعْدَ الْبُرْءِ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ هُوَ الصَّحِيحُ ، وَالْأَصَابِعُ وَإِنْ كَانَتْ تَابِعَةً قِيَامًا بِالْكَفِّ فَالْكَفُّ تَابِعَةٌ لَهَا غَرَضًا ، بِخِلَافِ الطَّرَفِ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِلنَّفْسِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ .
.

قَالَ : ( وَمَنْ لَهُ الْقِصَاصُ فِي الطَّرَفِ إذَا اسْتَوْفَاهُ ثُمَّ سَرَى إلَى النَّفْسِ وَمَاتَ يَضْمَنُ دِيَةَ النَّفْسِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا : لَا يَضْمَنُ ) لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى حَقَّهُ وَهُوَ الْقَطْعُ ، وَلَا يُمْكِنُ التَّقْيِيدُ بِوَصْفِ السَّلَامَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ سَدِّ بَابِ الْقِصَاصِ ، إذْ الِاحْتِرَازُ عَنْ السِّرَايَةِ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ فَصَارَ كَالْإِمَامِ وَالْبَزَّاغِ وَالْحَجَّامِ وَالْمَأْمُورِ بِقَطْعِ الْيَدِ .
وَلَهُ أَنَّهُ قَتْلٌ بِغَيْرِ حَقٍّ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْقَطْعِ وَهَذَا وَقَعَ قَتْلًا وَلِهَذَا لَوْ وَقَعَ ظُلْمًا كَانَ قَتْلًا .
وَلِأَنَّهُ جُرْحٌ أَفْضَى إلَى فَوَاتِ الْحَيَاةِ فِي مَجْرَى الْعَادَةِ وَهُوَ مُسَمَّى الْقَتْلِ ، إلَّا أَنَّ الْقِصَاصَ سَقَطَ لِلشُّبْهَةِ فَوَجَبَ الْمَالُ بِخِلَافِ مَا اسْتَشْهَدَا بِهِ مِنْ الْمَسَائِلِ إلَّا أَنَّهُ مُكَلَّفٌ فِيهَا بِالْفِعْلِ ، إمَّا تَقَلُّدًا كَالْإِمَامِ أَوْ عَقْدًا كَمَا فِي غَيْرِهِ مِنْهَا .
وَالْوَاجِبَاتُ لَا تَتَقَيَّدُ بِوَصْفِ السَّلَامَةِ كَالرَّمْيِ إلَى الْحَرْبِيِّ ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَا الْتِزَامَ وَلَا وُجُوبَ ، إذْ هُوَ مَنْدُوبٌ إلَى الْعَفْوِ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الْإِطْلَاقِ فَأَشْبَهَ الِاصْطِيَادَ .

( قَوْلُهُ بِخِلَافِ مَا اسْتَشْهِدَا بِهِ مِنْ الْمَسَائِلِ لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ فِيهَا بِالْفِعْلِ ، إمَّا تَقَلُّدًا كَالْإِمَامِ ، أَوْ عَقْدًا كَمَا فِي غَيْرِهِ مِنْهَا ) أَقُولُ : فِيهِ تَسَاهُلٌ ، لِأَنَّ مِنْ تِلْكَ الْمَسَائِلِ مَا لَا يَجِبُ فِعْلُهُ لَا تَقَلُّدًا وَلَا عَقْدًا وَهُوَ الْمَأْمُورُ بِقَطْعِ الْيَدِ ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا إذَا قَالَ : اقْطَعْ يَدِي فَفَعَلَ فَسَرَى إلَى النَّفْسِ فَمَاتَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْكَافِي وَعَامَّةِ الشُّرُوحِ فَلَمْ يَتِمَّ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ أَوْ عَقْدًا كَمَا فِي غَيْرِهِ مِنْهَا فَإِنَّ الْعَقْدَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي الْبَزَّاغِ وَالْحَجَّامِ مِنْهَا دُونَ الْمَأْمُورِ بِالْقَطْعِ مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ الْإِمَامِ وَأَنَّهُ مِنْ تِلْكَ الْمَسَائِلِ أَيْضًا ، وَلَا يُجْدِي التَّشَبُّثُ بِالتَّغْلِيبِ نَفْعًا هُنَا ، لِأَنَّ قَوْلَهُ بَعْدَهُ وَالْوَاجِبَاتُ لَا تَتَقَيَّدُ بِوَصْفِ السَّلَامَةِ لَا يَتَمَشَّى فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ ، إذْ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَأْمُورِ بِالْقَطْعِ الْقَطْعُ بَلْ هُوَ تَبَرُّعٌ مِنْهُ كَمَا لَا يَخْفَى ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الدَّلِيلُ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ قَاصِرًا عَنْ إفَادَةِ الْفَرْقِ فِي حَقِّ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ كَمَا تَرَى .
نَعَمْ يُمْكِنُ الْفَرْقُ فِي حَقِّهَا أَيْضًا بِأَنْ يُقَالَ لَمَّا فَعَلَ الْمَأْمُورَ بِالْقَطْعِ بِإِذْنِ الْآمِرِ انْتَقَلَ حُكْمُ الْفِعْلِ إلَى الْآمِرِ فَصَارَ كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَ نَفْسِهِ وَفِي ذَلِكَ لَا ضَمَانَ ، لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي قُصُورِ عِبَارَةِ الْكِتَابِ عَنْ إفَادَةِ تَمَامِ الْمَرَامِ وَهَذَا مِمَّا لَا رَيْبَ فِيهِ .

بَابُ الشَّهَادَةِ فِي الْقَتْلِ قَالَ : ( وَمَنْ قُتِلَ وَلَهُ ابْنَانِ حَاضِرٌ وَغَائِبٌ فَأَقَامَ الْحَاضِرُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْقَتْلِ ثُمَّ قَدِمَ الْغَائِبُ فَإِنَّهُ يُعِيدُ الْبَيِّنَةَ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : لَا يُعِيدُ ( وَإِنْ كَانَ خَطَأً لَمْ يُعِدْهَا بِالْإِجْمَاعِ ) وَكَذَلِكَ الدَّيْنُ يَكُونُ لِأَبِيهِمَا عَلَى آخَرَ .
لَهُمَا فِي الْخِلَافِيَّةِ أَنَّ الْقِصَاصَ طَرِيقُهُ طَرِيقُ الْوِرَاثَةِ كَالدَّيْنِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ عِوَضٌ عَنْ نَفْسِهِ فَيَكُونُ الْمِلْكُ فِيهِ لِمَنْ لَهُ الْمِلْكُ فِي الْمُعَوَّضِ كَمَا فِي الدِّيَةِ ، وَلِهَذَا لَوْ انْقَلَبَ مَالًا يَكُونُ لِلْمَيِّتِ ، وَلِهَذَا يَسْقُطُ بِعَفْوِهِ بَعْدَ الْجُرْحِ قَبْلَ الْمَوْتِ فَيَنْتَصِبُ أَحَدُ الْوَرَثَةِ خَصْمًا عَنْ الْبَاقِينَ .
وَلَهُ أَنَّ الْقِصَاصَ طَرِيقُهُ الْخِلَافَةُ دُونَ الْوِرَاثَةِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مِلْكَ الْقِصَاصِ يَثْبُتُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْمَيِّتُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ ، بِخِلَافِ الدَّيْنِ وَالدِّيَةِ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ فِي الْأَمْوَالِ ، كَمَا إذَا نَصَبَ شَبَكَةً فَتَعَلَّقَ بِهَا صَيْدٌ بَعْدَ مَوْتِهِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُهُ ، وَإِذَا كَانَ طَرِيقُهُ الْإِثْبَاتَ ابْتِدَاءً لَا يَنْتَصِبُ أَحَدُهُمْ خَصْمًا عَنْ الْبَاقِينَ فَيُعِيدُ الْبَيِّنَةَ بَعْدَ حُضُورِهِ ( فَإِنْ كَانَ أَقَامَ الْقَاتِلُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْغَائِبَ قَدْ عَفَا فَالشَّاهِدُ خَصْمٌ وَيَسْقُطُ الْقِصَاصُ ) لِأَنَّهُ ادَّعَى عَلَى الْحَاضِرِ سُقُوطَ حَقِّهِ فِي الْقِصَاصِ إلَى مَالٍ ، وَلَا يُمْكِنُهُ إثْبَاتُهُ إلَّا بِإِثْبَاتِ الْعَفْوِ مِنْ الْغَائِبِ فَيَنْتَصِبُ الْحَاضِرُ خَصْمًا عَنْ الْغَائِبِ ( وَكَذَلِكَ عَبْدٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ قُتِلَ عَمْدًا وَأَحَدُ الرَّجُلَيْنِ غَائِبٌ فَهُوَ عَلَى هَذَا ) لِمَا بَيَّنَّاهُ .
.

( بَابُ الشَّهَادَةِ فِي الْقَتْلِ ) لَمَّا كَانَتْ الشَّهَادَةُ فِي الْقَتْلِ أَمْرًا مُتَعَلِّقًا بِالْقَتْلِ أَوْرَدَهَا بَعْدَ ذِكْرِ حُكْمِ الْقَتْلِ لِأَنَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالشَّيْءِ كَانَ أَدْنَى دَرَجَةً مِنْ نَفْسِ ذَلِكَ الشَّيْءِ ( قَوْلُهُ وَمَنْ قُتِلَ وَلَهُ ابْنَانِ حَاضِرٌ وَغَائِبٌ فَأَقَامَ الْحَاضِرُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْقَتْلِ ثُمَّ قَدِمَ الْغَائِبُ فَإِنَّهُ يُعِيدُ الْبَيِّنَةَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَا : لَا يُعِيدُ ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ : وَالْأَصْلُ أَنَّ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ حَقُّ الْوَارِثِ عِنْدَهُ وَحَقُّ الْمُوَرِّثِ عِنْدَهُمَا .
وَقَالَ : وَلَيْسَ لِأَبِي حَنِيفَةَ تَمَسُّكٌ بِصِحَّةِ الْعَفْوِ مِنْ الْوَارِثِ حَالَ حَيَاةِ الْمُوَرِّثِ اسْتِحْسَانًا ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمَا ذَلِكَ بِصِحَّةِ الْعَفْوِ مِنْ الْمُوَرَّثِ الْمَجْرُوحِ اسْتِحْسَانًا لِلتَّدَافُعِ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ بَحْثٌ ، لِأَنَّ مَا تَمَسَّكَا بِهِ لَا يَنْتَهِضُ حُجَّةً عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ ، وَمَا تَمَسَّك بِهِ يَنْتَهِضُ حُجَّةً عَلَيْهِمَا فَكَيْفَ يَتَحَقَّقُ التَّدَافُعُ بَيْنَ ذَيْنِكَ التَّمَسُّكَيْنِ .
وَذَلِكَ أَنَّ الْقِصَاصَ وَإِنْ كَانَ حَقًّا لِلْوَارِثِ عِنْدَهُ بِاعْتِبَارِ ثُبُوتِهِ لِلْوَارِثِ ابْتِدَاءً بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْمَيِّتُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ هَذَا الْحَقُّ لِأَنَّهُ شُرِعَ لِلتَّشَفِّي ، وَدَرْكِ الثَّأْرِ وَالْمَيِّتُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِذَلِكَ لَكِنَّهُ حَقٌّ لِلْمُوَرِّثِ أَيْضًا عِنْدَهُ بِاعْتِبَارِ انْعِقَادِ سَبَبِهِ الَّذِي هُوَ الْجِنَايَةُ فِي حَقِّ الْمُوَرِّثِ ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ فِي كَثِيرِ مِنْ الشُّرُوحِ .
فَأَبُو حَنِيفَةَ رَاعَى فِيمَا نَحْنُ فِيهِ جِهَةَ كَوْنِ الْقِصَاصِ حَقًّا لِلْوَارِثِ فَقَالَ بِاشْتِرَاطِ إعَادَةِ الْبَيِّنَةِ إذَا حَضَرَ الْغَائِبُ احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ وَرَاعَى فِي مَسْأَلَةِ الْعَفْوِ مِنْ الْمُوَرِّثِ الْمَجْرُوحِ جِهَةَ كَوْنِهِ حَقًّا لِلْمُوَرِّثِ فَقَالَ بِصِحَّةِ الْعَفْوِ مِنْهُ احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ أَيْضًا .
وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَالْقِصَاصُ حَقٌّ ثَابِتٌ لِلْمُوَرِّثِ

ابْتِدَاءً مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ ، ثُمَّ يَنْتَقِلُ بَعْدَ مَوْتِهِ إلَى الْوَارِثِ بِطَرِيقِ الْوِرَاثَةِ كَسَائِرِ أَمْلَاكِهِ ، فَيُتَّجَهُ عَلَيْهِمَا الْمُؤَاخَذَةُ لِصِحَّةِ الْعَفْوِ مِنْ الْوَارِثِ حَالَ حَيَاةِ الْمُوَرِّثِ اسْتِحْسَانًا بِالْإِجْمَاعِ فَتَدَبَّرْ

قَالَ : ( فَإِنْ كَانَ الْأَوْلِيَاءُ ثَلَاثَةً فَشَهِدَ أَثْنَانِ مِنْهُمْ عَلَى الْآخَرِ أَنَّهُ قَدْ عَفَا فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ وَهُوَ عَفْوٌ مِنْهُمَا ) لِأَنَّهُمَا يَجُرَّانِ بِشَهَادَتِهِمَا إلَى أَنْفُسِهِمَا مَغْنَمًا وَهُوَ انْقِلَابُ الْقَوَدِ مَالًا ( فَإِنْ صَدَّقَهُمَا الْقَاتِلُ فَالدِّيَةُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا ) مَعْنَاهُ : إذَا صَدَّقَهُمَا وَحْدَهُ ، لِأَنَّهُ لَمَّا صَدَّقَهُمَا فَقَدْ أَقَرَّ بِثُلْثَيْ الدِّيَةِ لَهُمَا فَصَحَّ إقْرَارُهُ ، إلَّا أَنَّهُ يَدَّعِي سُقُوطَ حَقِّ الشُّهُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ يُنْكِرُ فَلَا يُصَدَّقُ وَيَغْرَمُ نَصِيبَهُ ( وَإِنْ كَذَّبَهُمَا فَلَا شَيْءَ لَهُمَا وَلِلْآخَرِ ثُلُثُ الدِّيَةِ ) وَمَعْنَاهُ : إذَا كَذَّبَهُمَا الْقَاتِلُ أَيْضًا ، وَهَذَا لِأَنَّهُمَا أَقَرَّا عَلَى أَنْفُسِهِمَا بِسُقُوطِ الْقِصَاصِ فَقِبَلَ وَادَّعَيَا انْقِلَابَ نَصِيبِهِمَا مَالًا فَلَا يُقْبَلُ إلَّا بِحُجَّةٍ ، وَيَنْقَلِبُ نَصِيبُ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ مَالًا لِأَنَّ دَعْوَاهُمَا الْعَفْوَ عَلَيْهِ وَهُوَ يُنْكِرُ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ الْعَفْوِ مِنْهُمَا فِي حَقِّ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ سُقُوطَ الْقَوَدِ مُضَافٌ إلَيْهِمَا ، وَإِنْ صَدَّقَهُمَا الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ وَحْدَهُ غَرِمَ الْقَاتِلُ ثُلُثَ الدِّيَةِ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ لِإِقْرَارِهِ لَهُ بِذَلِكَ .
.

( قَوْلُهُ وَإِنْ كَذَّبَهُمَا فَلَا شَيْءَ لَهُمَا وَلِلْآخَرِ ثُلُثُ الدِّيَةِ مَعْنَاهُ إذَا كَذَّبَهُمَا الْقَاتِلُ أَيْضًا ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ : وَإِنْ كَذَّبَهُمَا فَلَا شَيْءَ أَيْ وَإِنْ كَذَّبَهُمَا الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ ، مَعْنَاهُ : إذَا كَذَّبَهُمَا الْقَاتِلُ أَيْضًا ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِهَذَا لِأَنَّهُ إذَا صَدَّقَهُمَا الْقَاتِلُ عَنْ تَكْذِيبِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ يَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا ثُمَّ قَالَ : وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ مَعْنَاهُ : إذَا كَذَّبَهُمَا الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ أَيْضًا فَحِينَئِذٍ كَانَ مَعْنَى قَوْلِهِ وَإِنْ كَذَّبَهُمَا : أَيْ وَإِنْ كَذَّبَهُمَا الْقَاتِلُ انْتَهَى .
وَعَلَى طَرْزِهِ شَرْحُ صَاحِبِ الْغَايَةِ أَيْضًا ، إلَّا أَنَّهُ جَعَلَ النُّسْخَةَ الثَّانِيَةَ أَصْلًا عَلَى عَكْسِ مَا فِي النِّهَايَةِ ، وَقَالَ : وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ .
أَقُولُ : مَدَارُ مَا ذَكَرَا فِي شَرْحِ الْمَقَامِ عَلَى أَنَّهُمَا فَهِمَا أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ مَعْنَاهُ إذَا كَذَّبَهُمَا الْقَاتِلُ أَيْضًا وَكَذَا بِقَوْلِهِ فِي النُّسْخَةِ الْأُخْرَى مَعْنَاهُ إذَا كَذَّبَهُمَا الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ أَيْضًا بَيَانُ الْكَلَامِ الْمُقَدَّرِ فِي عِبَارَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَهِيَ قَوْلُهُ وَإِنْ كَذَّبَهُمَا فَلَا شَيْءَ لَهُمَا ، فَإِنَّهُمَا جَعَلَا فَاعِلَ كَذَّبَهُمَا فِي قَوْلِهِ وَإِنْ كَذَّبَهُمَا فَلَا شَيْءَ لَهُمَا ضَمِيرًا رَاجِعًا إلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ عَلَى نُسْخَةٍ مَعْنَاهُ إذَا كَذَّبَهُمَا الْقَاتِلُ أَيْضًا ، وَضَمِيرًا رَاجِعًا إلَى الْقَاتِلِ عَلَى نُسْخَةِ مَعْنَاهُ إذَا كَذَّبَهُمَا الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ أَيْضًا ، وَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا بِأَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ فِي النُّسْخَةِ الْأُولَى أَنَّ جُمْلَةَ إذَا كَذَّبَهُمَا الْقَاتِلُ أَيْضًا مُقَدَّرَةٌ فِي عِبَارَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فَتَقْدِيرُهَا وَإِنْ كَذَّبَهُمَا الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ فَلَا شَيْءَ لَهُمَا إذَا كَذَّبَهُمَا الْقَاتِلُ أَيْضًا ، وَفِي النُّسْخَةِ الْأُخْرَى أَنَّ جُمْلَةَ إذَا كَذَّبَهُمَا الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ أَيْضًا مُقَدَّرَةٌ فِيهَا

فَتَقْدِيرُهَا وَإِنْ كَذَّبَهُمَا الْقَاتِلُ فَلَا شَيْءَ لَهُمَا إذَا كَذَّبَهُمَا الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ أَيْضًا ، لَكِنْ لَيْسَ مَا ذَهَبَا إلَيْهِ بِسَدِيدٍ ، إذْ يَأْبَاهُ قَطْعًا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ مَعْنَاهُ لِأَنَّ الْمُقَدَّرَ لَا يَكُونُ مَعْنَى الْمَذْكُورِ .
وَالْحَقُّ عِنْدِي أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بَيَانُ اعْتِبَارِ مُجَرَّدِ قَيْدٍ أَيْضًا فِي عِبَارَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ هُنَا كَمَا أَنَّهُ بَيَّنَ قَبِيلَهُ اعْتِبَارَ قَيْدٍ وَحْدَهُ فِي عِبَارَتِهِ حَيْثُ قَالَ : مَعْنَاهُ إذَا صَدَّقَهُمَا وَحْدَهُ ، فَمُرَادُهُ عَلَى النُّسْخَةِ الْأُولَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَإِنْ كَذَّبَهُمَا إذَا كَذَّبَهُمَا الْقَاتِلُ ، أَيْضًا : أَيْ مَعَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ، كَمَا أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ فِيمَا قَبْلُ فَإِنْ صَدَّقَهُمَا الْقَاتِلُ إذَا صَدَّقَهُمَا وَحْدَهُ : أَيْ بِدُونِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَالْقَيْدَانِ مَنْوِيَّانِ بِمَعُونَةِ الْمَقَامِ ، وَمُرَادُهُ عَلَى النُّسْخَةِ الْأُخْرَى مَعْنَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَإِنْ كَذَّبَهُمَا إذَا كَذَّبَهُمَا الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ أَيْضًا : أَيْ مَعَ الْقَاتِلِ ، فَحِينَئِذٍ يَنْتَظِمُ الْكَلَامُ وَيَتَّضِحُ الْمَرَامُ

قَالَ : ( وَإِذَا شَهِدَ الشُّهُودُ أَنَّهُ ضَرَبَهُ فَلَمْ يَزَلْ صَاحِبَ فِرَاشٍ حَتَّى مَاتَ فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ إذَا كَانَ عَمْدًا ) لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالشَّهَادَةِ كَالثَّابِتِ مُعَايَنَةً ، وَفِي ذَلِكَ الْقِصَاصُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى قَتْلِ الْعَمْدِ تَتَحَقَّقُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ، لِأَنَّ الْمَوْتَ بِسَبَبِ الضَّرْبِ إنَّمَا يُعْرَفُ إذَا صَارَ بِالضَّرْبِ صَاحِبُ فِرَاشٍ حَتَّى مَاتَ ، وَتَأْوِيلُهُ إذَا شَهِدُوا أَنَّهُ ضَرَبَهُ بِشَيْءٍ جَارِحٍ .

( قَوْلُهُ وَتَأْوِيلُهُ إذَا شَهِدُوا أَنَّهُ ضَرَبَهُ بِشَيْءٍ جَارِحٍ ) قَالَ فِي الْكِفَايَةِ : وَإِنَّمَا أَوَّلَ لِتَكُونَ الْمَسْأَلَةُ مُجْمَعًا عَلَيْهَا .
وَقَالَ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ نَقْلًا عَنْ الذَّخِيرَةِ : مَا ذُكِرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إنْ كَانَ قَوْلُهُمَا فَهُوَ مُجْرَى عَلَى إطْلَاقِهِ ، وَإِنْ كَانَ قَوْلُ الْكُلِّ فَتَأْوِيلُهُ أَنْ تَكُونَ الْآلَةُ جَارِحَةً انْتَهَى .
ثُمَّ قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ : فَإِنْ قِيلَ : الشُّهُودُ شَهِدُوا عَلَى الضَّرْبِ بِشَيْءٍ جَارِحٍ وَلَكِنَّ الضَّرْبَ بِهِ قَدْ يَكُونُ خَطَأً فَكَيْفَ يَثْبُتُ الْقَوَدُ مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يَشْهَدُوا أَنَّهُ كَانَ مُتَعَمِّدًا ؟ قُلْنَا : لَمَّا شَهِدُوا أَنَّهُ ضَرَبَهُ بِسِلَاحٍ فَقَدْ شَهِدُوا أَنَّهُ قَصَدَ ضَرْبَهُ ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُخْطِئًا لَا يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا أَنَّهُ ضَرَبَهُ وَإِنَّمَا يَشْهَدُونَ أَنَّهُ قَصَدَ ضَرْبَ غَيْرِهِ فَأَصَابَهُ .
وَقَالُوا : كَذَا ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الْمَعْرُوفُ بِخُوَاهَرْ زَادَهْ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ .
وَأَقُولُ هَذَا لَيْسَ بِوَارِدٍ عَلَى صَاحِبِ الْهِدَايَةِ لِأَنَّهُ أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ إذَا كَانَ عَمْدًا نَعَمْ يُرَدُّ عَلَى عِبَارَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَلِهَذَا احْتَرَزَ عَنْهُ الْمُصَنِّفُ انْتَهَى .
وَأَنَا أَقُولُ : نَعَمْ لَا يُرَدُّ عَلَى الْمُصَنِّفِ ذَلِكَ السُّؤَالُ بَعْدَمَا قَيَّدَ مَسْأَلَةَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِقَوْلِهِ إذَا كَانَ عَمْدًا ، لَكِنْ يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ : لَيْسَ لِهَذَا التَّقْيِيدِ هَاهُنَا وَجْهٌ ، لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّ وُجُوبَ الْقَوَدِ فِي مَسْأَلَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِيمَا إذَا صَرَّحَ الشُّهُودُ بِكَوْنِ ضَرَبَهُ عَمْدًا لَا فِيمَا إذَا أَطْلَقُوا ضَرْبَهُ وَلَمْ يُقَيِّدُوا بِكَوْنِهِ عَمْدًا فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَنَقَلَ عَنْهُ شُرَّاحُ الْكِتَابِ ، فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ تَصْرِيحَ الشُّهُودِ بِذِكْرِ الْعَمْدِ لَيْسَ بِلَازِمٍ فِي وُجُوبِ الْقَوَدِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ ، وَإِنْ لَمْ يُرِدْ بِهِ

ذَلِكَ بَلْ كَانَ مُعْتَرِفًا بِمَا ذَكَرَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فَلَا حَاجَةَ إلَى تَقْيِيدِهِ الْمَزْبُورِ بَلْ لَا وَجْهَ لَهُ كَمَا لَا يَخْفَى

قَالَ : ( وَإِذَا اخْتَلَفَ شَاهِدَا الْقَتْلِ فِي الْأَيَّامِ أَوْ فِي الْبَلَدِ أَوْ فِي الَّذِي كَانَ بِهِ الْقَتْلُ فَهُوَ بَاطِلٌ ) لِأَنَّ الْقَتْلَ لَا يُعَادُ وَلَا يُكَرَّرُ ، وَالْقَتْلُ فِي زَمَانٍ أَوْ فِي مَكَان غَيْرُ الْقَتْلِ فِي زَمَانٍ أَوْ مَكَان آخَرَ ، وَالْقَتْلُ بِالْعَصَا غَيْرُ الْقَتْلِ بِالسِّلَاحِ لِأَنَّ الثَّانِيَ عَمْدٌ وَالْأَوَّلَ شِبْهُ الْعَمْدِ ، وَيَخْتَلِفُ أَحْكَامُهُمَا فَكَانَ عَلَى كُلِّ قَتْلٍ شَهَادَةٌ فَرُدَّ ( وَكَذَا إذَا قَالَ أَحَدُهُمَا : قَتَلَهُ بِعَصًا وَقَالَ الْآخَرُ لَا أَدْرِي بِأَيِّ شَيْءٍ قَتَلَهُ فَهُوَ بَاطِلٌ ) لِأَنَّ الْمُطْلَقَ يُغَايِرُ الْمُقَيَّدَ .
.
( قَوْلُهُ وَالْقَتْلُ بِالْعَصَا غَيْرُ الْقَتْلِ بِالسِّلَاحِ لِأَنَّ الثَّانِيَ عَمْدٌ وَالْأَوَّلَ شِبْهُ الْعَمْدِ وَيَخْتَلِفُ أَحْكَامُهُمَا ) أَقُولُ : لَوْ قَالَ بَدَلَ قَوْلِهِ الْمَذْكُورِ وَالْقَتْلُ بِآلَةٍ غَيْرُ الْقَتْلِ بِآلَةٍ كَمَا قَالَ فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ لَكَانَ أَجْمَلَ وَأَشْمَلَ .
أَمَّا كَوْنُهُ أَجْمَلَ فَظَاهِرٌ .
وَأَمَّا كَوْنُهُ أَشْمَلَ فَلِأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الَّذِي كَانَ بِهِ الْقَتْلُ غَيْرُ مُنْحَصِرٍ فِي الِاخْتِلَافِ فِيمَا يُوجِبُ الِاخْتِلَافَ فِي الْأَحْكَامِ كَالْعَصَا وَالسِّلَاحِ ، بَلْ يَعُمُّ الِاخْتِلَافَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ أَيْضًا كَالسَّيْفِ وَالرُّمْحِ ، فَإِنَّ الْقَتْلَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَمْدٌ يُوجِبُ الْقَوَدَ ، وَمَعَ ذَلِكَ لَوْ قَالَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ : قَتَلَهُ بِسَيْفٍ وَقَالَ الْآخَرُ : قَتَلَهُ بِرُمْحٍ كَانَتْ شَهَادَتُهَا أَيْضًا بَاطِلَةً ، نَصَّ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ فِي الْكَافِي حَيْثُ قَالَ : وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَتَلَهُ بِسَيْفٍ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ طَعَنَهُ بِرُمْحٍ أَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ ضَرَبَهُ بِسَيْفٍ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ رَمَاهُ بِسَهْمٍ أَوْ اخْتَلَفَا فِي مَكَانِ الْقَتْلِ أَوْ وَقْتِهِ أَوْ مَوَاضِعِ الْجِرَاحَةِ مِنْ بَدَنِهِ فَالشَّهَادَةُ بَاطِلَةٌ انْتَهَى .

قَالَ : ( وَإِنْ شَهِدَا أَنَّهُ قَتَلَهُ وَقَالَا : لَا نَدْرِي بِأَيِّ شَيْءٍ قَتَلَهُ فَفِيهِ الدِّيَةُ اسْتِحْسَانًا ) وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تُقْبَلَ هَذِهِ الشَّهَادَةُ لِأَنَّ الْقَتْلَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْآلَةِ فَجُهِلَ الْمَشْهُودُ بِهِ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُمْ شَهِدُوا بِقَتْلٍ مُطْلَقٍ وَالْمُطْلَقُ لَيْسَ بِمُجْمَلٍ فَيَجِبُ أَقَلُّ مُوجِبَيْهِ وَهُوَ الدِّيَةُ وَلِأَنَّهُ يُحْمَلُ إجْمَالُهُمْ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى إجْمَالِهِمْ بِالْمَشْهُودِ عَلَيْهِ سِتْرًا عَلَيْهِ .
وَأَوَّلُوا كَذِبَهُمْ فِي نَفْيِ الْعِلْمِ بِظَاهِرِ مَا وَرَدَ بِإِطْلَاقِهِ فِي إصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ وَهَذَا فِي مَعْنَاهُ ، فَلَا يَثْبُتُ الِاخْتِلَافُ بِالشَّكِّ ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْفِعْلِ الْعَمْدُ فَلَا يَلْزَمُ الْعَاقِلَةُ .
.

( قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ يُحْمَلُ إجْمَالَهُمْ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى إجْمَالِهِمْ بِالْمَشْهُودِ عَلَيْهِ سِتْرًا عَلَيْهِ ) فِيهِ صَنْعَةُ التَّجْنِيسِ التَّامِّ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ } فَالْإِجْمَالُ الْأَوَّلُ هَاهُنَا بِمَعْنَى الْإِبْهَامِ ، وَالثَّانِي بِمَعْنَى الصَّنِيعِ وَهُوَ الْإِحْسَانُ .
ثُمَّ إنَّ كَثِيرًا مِنْ الشُّرَّاحِ قَالُوا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ هَذَا جَوَابٌ عَمَّا يَرِدُ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ .
وَهُوَ أَنْ يُقَالَ : الشُّهُودُ فِي قَوْلِهِمْ لَا نَدْرِي بِأَيِّ شَيْءٍ قَتَلَهُ إمَّا صَادِقُونَ أَوْ كَاذِبُونَ ، وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ يَنْبَغِي أَنْ لَا تُقْبَلَ شَهَادَتُهُمْ ، لِأَنَّهُمْ إنْ صَدَقُوا امْتَنَعَ الْقَضَاءُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ لِاخْتِلَافِ مُوجِبِ السَّيْفِ وَالْعَصَا .
وَإِنْ كَذَبُوا صَارُوا فَسَقَةً وَشَهَادَةُ الْفَاسِقِ لَا تُقْبَلُ .
فَقَالَ فِي جَوَابِهِ : إنَّهُمْ جُعِلُوا عَالَمَيْنِ بِأَنَّهُ قَتَلَهُ بِالسَّيْفِ .
لَكِنَّهُمْ بِقَوْلِهِمْ لَا نَدْرِي اخْتَارُوا حِسْبَةَ السِّتْرِ عَلَى الْقَاتِلِ وَأَحْسَنُوا إلَيْهِ بِالْإِحْيَاءِ وَجُعِلَ كَذِبُهُمْ هَذَا مَعْفُوًّا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى لِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ { لَيْسَ بِكَذَّابٍ مَنْ يُصْلِحُ بَيْنَ اثْنَيْنِ } فَبِتَأْوِيلِهِمْ كَذِبَهُمْ بِهَذَا لَمْ يَكُونُوا فَسَقَةً فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ أَوَّلُوا كَذِبَهُمْ بِظَاهِرِ مَا وَرَدَ بِإِطْلَاقِهِ : أَيْ بِظَاهِرِ مَا وَرَدَ بِتَجْوِيزِ الْكَذِبِ انْتَهَى كَلَامُهُمْ .
أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ ، إذْ لَا وُرُودَ لِمَا ذَكَرُوهُ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ أَصْلًا حَتَّى يَرْتَكِبَ الْمُصَنِّفُ لِدَفْعِهِ هَذَا الْمَضِيقَ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْمَحْذُورِ فِي صُورَةِ إنْ صَدَقَ الشُّهُودُ هُوَ بِعَيْنِهِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي وَجْهِ الْقِيَاسِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، وَقَدْ حَصَلَ الْجَوَابُ عَنْهُ فِي وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ قَبْلِ .
تَوْضِيحُهُ هُوَ أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ شَهَادَةُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالْقَتْلِ بِآلَةٍ وَشَهَادَةُ

الْآخَرِ مِنْهُمْ بِالْقَتْلِ بِآلَةٍ أُخْرَى حَتَّى يَتَحَقَّقَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي الشَّهَادَةِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ الْفِعْلِ بِاخْتِلَافِ الْآلَةِ ، بَلْ كَانَتْ شَهَادَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِقَتْلٍ مُطْلَقٍ وَالْمُطْلَقُ لَيْسَ بِمُجْمَلٍ ، وَلِهَذَا وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ كَمَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ فَيُحْمَلُ عَلَى الْأَقَلِّ الْمُتَيَقَّنِ ، فَيَجِبُ أَقَلُّ مُوجِبَيْهِ وَهُوَ الدِّيَةُ فَيَحْصُلُ الِاتِّفَاقُ بَيْنَهُمْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ، فَلَا يُتَوَجَّهُ أَنْ يُقَالَ : إنْ صَدَقَ الشُّهُودُ امْتَنَعَ الْقَضَاءُ بِشَهَادَتِهِمْ لِوُقُوعِ الِاخْتِلَافِ بِاخْتِلَافِ الْآلَةِ ، وَأَيْضًا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِي ذَيْلِ هَذَا الْكَلَامِ : فَلَا يَثْبُتُ الِاخْتِلَافُ بِالشَّكِّ يَأْبَى كَوْنُ مُرَادِهِ بِكَلَامِهِ هَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ هَؤُلَاءِ الشُّرَّاحُ ، إذْ يَكُونُ حَاصِلُ الْجَوَابِ حِينَئِذٍ اخْتِيَارَ أَنَّهُمْ كَاذِبُونَ وَمَنْعَ فِسْقِهِمْ بِنَاءً عَلَى تَأْوِيلِهِمْ كَذِبَهُمْ بِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ فَلَا يَبْقَى الِاحْتِيَاجُ إذْ ذَاكَ إلَى قَوْلِهِ فَلَا يَثْبُتُ الِاخْتِلَافُ بِالشَّكِّ ، بَلْ لَا يَكُونُ لَهُ مِسَاسٌ بِالْجَوَابِ الْمَذْكُورِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ لَغْوًا مِنْ الْكَلَامِ .
وَالْحَقُّ عِنْدِي أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ وَلِأَنَّهُ يُحْمَلُ إجْمَالُهُمْ فِي الشَّهَادَةِ إلَخْ وَجْهٌ آخَرُ لِلِاسْتِحْسَانِ يَظْهَرُ تَقْرِيرُهُ وَتَطْبِيقُهُ لِلْمَقَامِ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ صَادِقٍ ، وَيَخْرُجُ مِنْهُ الْجَوَابُ عَنْ وَجْهٍ آخَرَ لِلْقِيَاسِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَذْكُورٌ فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ ، وَهُوَ أَنَّ الشَّهَادَةَ بِالْوَجْهِ الْمَذْكُورِ غَفْلَةٌ مِنْ الشَّاهِدَيْنِ فَلَا تُقْبَلُ ( قَوْلُهُ وَهَذَا فِي مَعْنَاهُ ) قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ : أَيْ سَتْرُ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فِي مَعْنَى إصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ بِجَامِعِ أَنَّ الْعَفْوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ هَاهُنَا كَمَا أَنَّ الْإِصْلَاحَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ هُنَاكَ فَكَانَ وُرُودُ الْحَدِيثِ هُنَاكَ وُرُودًا هَاهُنَا انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ بَحْثٌ ، لِأَنَّ الْمَنْدُوبَ إلَيْهِ فِي بَابِ

الْقَتْلِ إنَّمَا هُوَ عَفْوُ أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ دُونَ عَفْوِ الشُّهُودِ .
كَيْفَ وَلَوْ كَانَ الْعَفْوُ حَقَّ الشُّهُودِ لَكَانَ الْأَفْضَلُ لَهُمْ أَنْ لَا يَشْهَدُوا رَأْسًا بِمَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَتْلِ كَمَا فِي الْحُدُودِ فَلَزِمَ أَنْ لَا يُوجَدَ الْبَاعِثُ عَلَى ارْتِكَابِهِمْ الْكَذِبَ فِي شَهَادَتِهِمْ الْمَذْكُورَةِ هَاهُنَا ، بِخِلَافِ إصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ ، فَإِنَّهُ قَدْ يَتَوَقَّف عَلَى ارْتِكَابِ الْكَذِبِ فَيُرَخَّصُ الْكَذِبُ هُنَاكَ .
وَقَصَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ تَوْجِيهَ كَلَامِهِمْ فَقَالَ : يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْعَفْوِ دَرْءَ الْقِصَاصِ .
وَإِلَّا فَهُوَ تِلْوُ الْوُجُوبِ ، فَحَيْثُ لَا وُجُوبَ لِلْقِصَاصِ لَا عَفْوَ عَنْهُ .
ثُمَّ قَالَ : وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَقُولَ بِجَامِعِ أَنَّ السِّتْرَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ انْتَهَى .
أَقُولُ : يُرَدُّ عَلَى تَوْجِيهِهِ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ : لَوْ كَانَ دَرْءُ الْقِصَاصِ مِنْ غَيْرِ شُبْهَةٍ مَنْدُوبًا إلَيْهِ وَكَانَ دَرْؤُهُ جَائِزًا لِلشُّهُودِ بَعْدَ أَنْ عَايَنُوا الْقَتْلَ بِجَارِحٍ عَمْدًا لَكَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَشْهَدُوا بِالْقَتْلِ أَصْلًا ، فَلَا يُوجَدُ مَا يُسَوِّغُ ارْتِكَابَهُمْ الْكَذِبَ فِي طَرِيقِ شَهَادَتِهِمْ الْمَذْكُورَةِ هُنَا ، ثُمَّ إنَّ وُرُودَ هَذَا عَلَى مَا عَدَّهُ أَظْهَرُ هَاهُنَا أَظْهَرُ ، إذْ لَوْ كَانَ سِتْرُ الْقِصَاصِ مَنْدُوبًا إلَيْهِ لَكَانَ الْأَفْضَلُ لِلشُّهُودِ أَنْ يَسْتُرُوهُ طُرًّا بِأَنْ لَا يَشْهَدُوا بِالْقَتْلِ أَصْلًا كَمَا فِي الْحُدُودِ فَلَا وَجْهَ لِارْتِكَابِهِمْ الْكَذِبَ قَطُّ تَأَمَّلْ تَرْشُدْ ( قَوْلُهُ فَلَا يَثْبُتُ الِاخْتِلَافُ بِالشَّكِّ ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ : يَعْنِي إذَا احْتَمَلَ أَنْ يَكُونُوا عَالِمِينَ وَأَجْمَلُوا وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يَكُونُوا كَذَلِكَ وَقَعَ الشَّكُّ ، وَالِاخْتِلَافُ لَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ انْتَهَى .
أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : كَمَا لَا يَثْبُتُ الِاخْتِلَافُ بِالشَّكِّ لَا يَثْبُتُ الِاتِّفَاقُ بِذَلِكَ أَيْضًا ، وَمِنْ شَرَائِطِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ اتِّفَاقُ الشَّاهِدَيْنِ ، فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ الِاتِّفَاقُ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ الْقَبُولُ تَدَبَّرْ .

قَالَ : ( وَإِذَا أَقَرَّ رَجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ قَتَلَ فُلَانًا فَقَالَ الْوَلِيُّ : قَتَلْتُمَاهُ جَمِيعًا فَلَهُ أَنْ يَقْتُلَهُمَا ، وَإِنْ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَتَلَ فُلَانًا وَشَهِدَ آخَرُونَ عَلَى آخَرَ بِقَتْلِهِ وَقَالَ الْوَلِيُّ : قَتَلْتُمَاهُ جَمِيعًا بَطَلَ ذَلِكَ كُلُّهُ ) وَالْفَرْقُ أَنَّ الْإِقْرَارَ وَالشَّهَادَةَ يَتَنَاوَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وُجُودَ كُلِّ الْقَتْلِ وَوُجُوبَ الْقِصَاصِ ، وَقَدْ حَصَلَ التَّكْذِيبُ فِي الْأُولَى مِنْ الْمُقِرِّ لَهُ وَفِي الثَّانِيَةِ مِنْ الْمَشْهُودِ لَهُ ، غَيْرَ أَنَّ تَكْذِيبَ الْمُقِرِّ لَهُ الْمُقِرُّ فِي بَعْضِ مَا أَقَرَّ بِهِ لَا يُبْطِلُ إقْرَارَهُ فِي الْبَاقِي ، وَتَكْذِيبُ الْمَشْهُودِ لَهُ الشَّاهِدَ فِي بَعْضِ مَا شَهِدَ بِهِ يُبْطِلُ شَهَادَتَهُ أَصْلًا ، لِأَنَّ التَّكْذِيبَ تَفْسِيقٌ وَفِسْقُ الشَّاهِدِ يَمْنَعُ الْقَبُولَ ، أَمَّا فِسْقُ الْمُقِرِّ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ .
.

( قَوْلُهُ غَيْرَ أَنَّ تَكْذِيبَ الْمُقِرِّ لَهُ فِي بَعْضِ مَا أَقَرَّ بِهِ لَا يُبْطِلُ إقْرَارَهُ فِي الْبَاقِي ، وَتَكْذِيبَ الْمَشْهُودِ لَهُ الشَّاهِدَ فِي بَعْضِ مَا شَهِدَ بِهِ يُبْطِلُ شَهَادَتَهُ أَصْلًا ) قَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ : فَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إذَا أَقَرَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْقَتْلِ فَقَدْ أَقَرَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْإِتْلَافِ لِجَمِيعِ النَّفْسِ وَقَدْ صَدَّقَ الْوَلِيُّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِإِتْلَافِ بَعْضِ النَّفْسِ ، وَالْقِصَاصُ يَجِبُ بِإِتْلَافِ الْبَعْضِ كَمَا يَجِبُ بِإِتْلَافِ الْكُلِّ فَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُمَا .
وَأَمَّا فِي الشَّهَادَةِ فَلَمَّا كَذَّبَ كُلُّ فَرِيقٍ فِي بَعْضِ الشَّهَادَةِ بَطَلَتْ شَهَادَتُهُمَا فِي الْكُلِّ انْتَهَى .
وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ فِي بَيَانِ صُورَةِ الْإِقْرَارِ : لَمَّا أَقَرَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْقَتْلِ صَدَّقَ الْوَلِيُّ بِقَوْلِهِ قَتَلْتُمَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نِصْفِ الْقَتْلِ وَكَذَّبَهُ فِي النِّصْفِ ، وَالتَّكْذِيبُ فِي نِصْفِ مَا أَقَرَّ بِهِ لَا يُبْطِلُ الْإِقْرَارَ ، أَمَّا التَّكْذِيبُ فِي كُلِّ مَا أَقَرَّ بِهِ يُبْطِلُ الْإِقْرَارَ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ رَدًّا لِإِقْرَارِهِ .
وَالْإِقْرَارُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ انْتَهَى .
أَقُولُ : هَذَا الشَّرْحُ وَالْبَيَانُ مِنْ ذَيْنِكَ الشَّارِحَيْنِ مِمَّا لَا يَكَادُ يَصِحُّ لِمَا مَرَّ غَيْرُ مَرَّةٍ أَنَّ الْقَتْلَ لَا يَتَجَزَّأُ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ إتْلَافُ بَعْضِ النِّصْفِ وَنِصْفُ الْقَتْلِ كَمَا زَعَمَاهُ وَبَنَيَا عَلَيْهِ مَعْنَى الْمَقَامِ ، وَأَيْضًا قَدْ مَرَّ أَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَنَا فِيمَا إذَا قَتَلَ جَمَاعَةٌ وَاحِدًا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتِلٌ بِوَصْفِ الْكَمَالِ ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَحْصُلُ التَّمَاثُلُ بَيْنَ الْجَمَاعَةِ وَالْوَاحِدِ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْجَمِيعِ فَكَيْفَ يَصِحُّ الْقَوْلُ بِوُجُوبِ الْقِصَاصِ بِإِتْلَافِ بَعْضِ النَّفْسِ وَنِصْفُ الْقَتْلِ كَمَا هُوَ اللَّازِمُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ عَلَى مُقْتَضَى تَقْرِيرِهِمَا .
وَالصَّوَابُ أَنَّ مَعْنَى الْمَقَامِ هُوَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَقَرَّ بِالْقَتْلِ

بِانْفِرَادِهِ ، وَقَدْ صَدَّقَ الْوَلِيُّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَوْلِهِ قَتَلْتُمَاهُ جَمِيعًا فِي بَعْضِ مَا أَقَرَّ بِهِ وَهُوَ الْقَتْلُ ، وَكَذَّبَهُ فِي بَعْضِهِ الْآخَرَ وَهُوَ انْفِرَادُهُ ، فَعَلَى مُقْتَضَى أَنَّ تَكْذِيبَ الْمُقَرِّ لَهُ الْمُقِرَّ فِي بَعْضِ مَا أَقَرَّ بِهِ لَا يُبْطِلُ إقْرَارَهُ فِي الْبَاقِي يُؤَاخَذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِإِقْرَارِهِ بِالْقَتْلِ فَلِلْوَلِيِّ أَنْ يَقْتُلَهُمَا جَمِيعًا ، وَإِنْ رَدَّ انْفِرَادَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْقَتْلِ وَيَصِيرُ كَمَا إذَا قَتَلَ جَمَاعَةٌ وَاحِدًا عَمْدًا حَيْثُ يُقْتَصُّ مِنْ جَمِيعِهِمْ إجْمَاعًا ، بِخِلَافِ صُورَةِ الشَّهَادَةِ كَمَا بُيِّنَ فِي الْكِتَابِ .

بَابٌ فِي اعْتِبَارِ حَالَةِ الْقَتْلِ قَالَ : ( وَمَنْ رَمَى مُسْلِمًا فَارْتَدَّ الْمَرْمِيُّ إلَيْهِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ ثُمَّ وَقَعَ بِهِ السَّهْمُ فَعَلَى الرَّامِي الدِّيَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَا : لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ) لِأَنَّهُ بِالِارْتِدَادِ أَسْقَطَ تَقَوُّمَ نَفْسِهِ فَيَكُونُ مُبْرِئًا لِلرَّامِي عَنْ مُوجِبِهِ كَمَا إذَا أَبْرَأَهُ بَعْدَ الْجُرْحِ قَبْلَ الْمَوْتِ .
وَلَهُ أَنَّ الضَّمَانَ يَجِبُ بِفِعْلِهِ وَهُوَ الرَّمْيُ إذْ لَا فِعْلَ مِنْهُ بَعْدُ فَتُعْتَبَرُ حَالَةُ الرَّمْيِ وَالْمَرْمِيِّ إلَيْهِ فِيهَا مُتَقَوِّمٌ .
وَلِهَذَا تُعْتَبَرُ حَالَةُ الرَّمْي فِي حَقِّ الْحِلِّ حَتَّى لَا يَحْرُمَ بِرِدَّةِ الرَّامِي بَعْدَ الرَّمْي ، وَكَذَا فِي حَقِّ التَّكْفِيرِ حَتَّى جَازَ بَعْدَ الْجُرْحِ قَبْلَ الْمَوْتِ .
وَالْفِعْلُ وَإِنْ كَانَ عَمْدًا فَالْقَوَدُ سَقَطَ لِلشُّبْهَةِ وَوَجَبَتْ الدِّيَةُ .

( بَابٌ فِي اعْتِبَارِ حَالَةِ الْقَتْلِ ) لَمَّا كَانَتْ الْأَحْوَالُ صِفَاتٍ لِذَوِيهَا ذَكَرَهَا بَعْدَ ذِكْرِ نَفْسِ الْقَتْلِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ كَذَا فِي الشُّرُوحِ ( قَوْلُهُ وَقَالَا : لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ بِالِارْتِدَادِ أَسْقَطَ تَقَوُّمَ نَفْسِهِ فَيَكُونُ مُبْرِئًا لِلرَّامِي عَنْ مُوجِبِهِ ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ : إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : إنَّ قَوْلَهُمَا بِأَنَّهُ بِالِارْتِدَادِ صَارَ مُبْرِئًا عَنْ ضَمَانِ الْجِنَايَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ ، لِأَنَّ فِي اعْتِقَادِ الْمُرْتَدِّ أَنَّ الرِّدَّةَ لَا تُبْطِلُ التَّقَوُّمَ فَكَيْفَ يَصِيرُ مُبْرِئًا عَنْ ضَمَانِ الْجِنَايَةِ ، كَذَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِقَاضِي خَانْ والتمرتاشي وَالْمَحْبُوبِيِّ انْتَهَى .
أَقُولُ : لَهُمَا أَنْ يَقُولَا فِي الْجَوَابِ عَنْهُ : إنَّا لَا نُرِيدُ بِالْإِبْرَاءِ فِي قَوْلِنَا إنَّهُ بِالِارْتِدَادِ صَارَ مُبْرِئًا حَقِيقَةَ الْإِبْرَاءِ ، بَلْ نُرِيدُ بِذَلِكَ الْإِبْرَاءِ الْحُكْمِيِّ لِأَنَّهُ بِارْتِدَادِهِ لَمَّا أَسْقَطَ تَقَوُّمَ نَفْسَهُ شَرْعًا أَسْقَطَ حَقَّهُ مَعْنًى ، لِأَنَّ مَا لَا تَقَوُّمَ لَهُ لَا ضَمَانَ لَهُ فِي الشَّرْعِ فَصَارَ فِعْلُهُ فِي حُكْمِ الْإِبْرَاءِ شَرْعًا سَوَاءٌ طَابَقَ اعْتِقَادَهُ أَوْ لَمْ يُطَابِقْ ، وَلَعَلَّ تَفْرِيعَ الْمُصَنِّفِ قَوْلَهُ فَيَكُونُ مُبْرِئًا لِلرَّامِي عَنْ مُوجِبِهِ عَلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ بِالِارْتِدَادِ أَسْقَطَ تَقَوُّمَ نَفْسِهِ يُومِي إلَى مَا ذَكَرْنَاهُ

( وَلَوْ رَمَى إلَيْهِ وَهُوَ مُرْتَدٌّ فَأَسْلَمَ ثُمَّ وَقَعَ بِهِ السَّهْمُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ، وَكَذَا إذَا رَمَى حَرْبِيًّا فَأَسْلَمَ ) لِأَنَّ الرَّمْيَ مَا انْعَقَدَ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ لِعَدَمِ تَقَوُّمِ الْمَحِلِّ فَلَا يَنْقَلِبُ مُوجِبًا لِصَيْرُورَتِهِ مُتَقَوِّمًا بَعْدَ ذَلِكَ .

قَالَ : ( وَإِنْ رَمَى عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ ثُمَّ وَقَعَ السَّهْمُ بِهِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِلْمَوْلَى ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : عَلَيْهِ فَضْلُ مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ مَرْمِيًّا إلَى غَيْرِ مَرْمِيٍّ ، وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ مَعَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ .
لَهُ أَنَّ الْعِتْقَ قَاطِعٌ لِلسِّرَايَةِ ، وَإِذَا انْقَطَعَتْ بَقِيَ مُجَرَّدُ الرَّمْيِ وَهُوَ جِنَايَةٌ يَنْتَقِصُ بِهَا قِيمَةُ الْمَرْمِيِّ إلَيْهِ بِالْإِضَافَةِ إلَى مَا قَبْلَ الرَّمْيِ فَيَجِبُ ذَلِكَ .
وَلَهُمَا أَنَّهُ يَصِيرُ قَاتِلًا مِنْ وَقْتِ الرَّمْيِ لِأَنَّ فِعْلَهُ الرَّمْيَ وَهُوَ مَمْلُوكٌ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ فَتَجِبُ قِيمَتُهُ ، بِخِلَافِ الْقَطْعِ وَالْجُرْحِ لِأَنَّهُ إتْلَافُ بَعْضِ الْمَحِلِّ ، وَأَنَّهُ يُوجِبُ الضَّمَانَ لِلْمَوْلَى ، وَبَعْدَ السِّرَايَةِ لَوْ وَجَبَ شَيْءٌ لَوَجَبَ لِلْعَبْدِ فَتَصِيرُ النِّهَايَةُ مُخَالِفَةً لِلْبِدَايَةِ .
أَمَّا الرَّمْيُ قَبْلَ الْإِصَابَةِ لَيْسَ بِإِتْلَافِ شَيْءٍ مِنْهُ لِأَنَّهُ لَا أَثَرَ لَهُ فِي الْمَحَلِّ .
وَإِنَّمَا قَلَّتْ الرَّغَبَاتُ فِيهِ فَلَا يَجِبُ بِهِ ضَمَانٌ فَلَا تَتَخَالَفُ النِّهَايَةُ وَالْبِدَايَةُ فَتَجِبُ قِيمَتُهُ لِلْمَوْلَى .
وَزُفَرُ وَإِنْ كَانَ يُخَالِفُنَا فِي وُجُوبِ الْقِيمَةِ نَظَرًا إلَى حَالَةِ الْإِصَابَةِ فَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا حَقَقْنَاهُ .
.

.
( قَوْلُهُ وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ مَعَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ) قُلْت : لَعَلَّ وَجْهَ عُدُولِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا عَنْ التَّحْرِيرِ الْمَأْلُوفِ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ فِيمَا قَبْلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ كَمَا هُوَ الْمُعْتَادُ فِي نَظَائِرِهِ ، بَلْ قَالَ بَعْدَ بَيَانِ الْخِلَافِ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ أَنَّ كَوْنَ أَبِي يُوسُفَ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَيْسَ مِمَّا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الرِّوَايَاتُ ، لِأَنَّ الْفَقِيهَ أَبَا اللَّيْثِ ذَكَرَ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ مَعَ مُحَمَّدٍ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ .
وَذَكَرَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ الْبَزْدَوِيُّ فِي شَرْحِهِ قَوْلَهُ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا بَيَّنَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ .
فَلَوْ قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لَفُهِمَ مِنْهُ اتِّفَاقُ الرِّوَايَاتِ عَلَيْهِ بِنَاءً عَلَى مَا هُوَ الْمَأْلُوفُ فِي نَظَائِرِهِ فَغَيَّرَ الْأُسْلُوبَ إشَارَةً إلَى أَنَّ فِيهِ اخْتِلَافَ الرِّوَايَةِ وَأَنَّ الْمُخْتَارَ عِنْدَهُ كَوْنُ قَوْلِهِ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ ( قَوْلُهُ وَلَهُمَا أَنَّهُ يَصِيرُ قَاتِلًا مِنْ وَقْتِ الرَّمْيِ لِأَنَّ فِعْلَهُ الرَّمْيُ وَهُوَ مَمْلُوكٌ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ فَتَجِبُ قِيمَتُهُ ) قَالَ الشُّرَّاحُ : مَرَّ أَبُو حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَصْلِهِ ، وَأَبُو يُوسُفَ فَرَّقَ بَيْنَ هَذِهِ وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ .
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْمَرْمِيَّ إلَيْهِ خَرَجَ بِالِارْتِدَادِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعْصُومًا فَصَارَ مُبْرَأً عَنْ الْجِنَايَةِ ، إذْ الضَّمَانُ يَعْتَمِدُ الْعِصْمَةَ وَالرِّدَّةُ تُنَافِيهَا .
وَأَمَّا الْإِعْتَاقُ فَإِنَّهُ لَا يُنَافِي الْعِصْمَةَ فَيَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ قِيمَتِهِ لِلْمَوْلَى انْتَهَى .
أَقُولُ : فِي وَجْهِ الْفَرْقِ نَظَرٌ ، لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ وَإِنْ لَمْ يُنَافِ الْعِصْمَةَ إلَّا أَنَّهُ يُنَافِي كَوْنَ الْمَحِلِّ مَالًا مُتَقَوِّمًا فَيَنْبَغِي أَنْ يَصِيرَ الْمَوْلَى أَيْضًا مُبَرَّأً عَنْ ضَمَانِ قِيمَةِ

الْعَبْدِ الْمَرْمِيِّ إلَيْهِ بِإِعْتَاقِهِ إيَّاهُ قَبْلَ الْإِصَابَةِ ، لِأَنَّ ضَمَانَ الْقِيمَةِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِيمَا هُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ ، وَلَمَّا أَخْرَجَهُ الْمَوْلَى بِالْإِعْتَاقِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَالًا مُتَقَوِّمًا فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ فِي قِيمَتِهِ ؛ أَلَّا يَرَى أَنَّ الْمَغْصُوبَ مِنْهُ إذَا أَعْتَقَ الْعَبْدَ الْمَغْصُوبَ صَارَ مُبْرِئًا لِلْغَاصِبِ عَنْ الضَّمَانِ بِإِسْقَاطِ حَقِّهِ بِالْإِجْمَاعِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فَلِمَ لَمْ يَكُنْ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ؟ ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْفَرْقَ الْمَزْبُورَ مِنْ قِبَلِ أَبِي يُوسُفَ قَالَ : وَمِنْ هَذَا يُعْلَمُ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ يَعْتَبِرُ وَقْتَ الرَّمْيِ إلَّا فِي صُورَةِ الِارْتِدَادِ انْتَهَى .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِسَدِيدٍ ، لِأَنَّهُ مَعَ كَوْنِهِ ظَاهِرَ الْفَسَادِ إذْ لَوْ لَمْ يَعْتَبِرْ أَبُو يُوسُفَ وَقْتَ الرَّمْيِ فِي صُورَةِ الِارْتِدَادِ لَمَا صَحَّ مِنْهُ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ صَارَ بِالِارْتِدَادِ مُبْرَأً عَنْ الضَّمَانِ ، فَإِنَّ الْإِبْرَاءَ إنَّمَا يَصِحُّ بَعْدَ انْعِقَادِ السَّبَبِ مُخَالِفٌ لِمَا صَرَّحَ بِهِ كِبَارُ الْمَشَايِخِ فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ كَمَا ذُكِرَ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي النِّهَايَةِ : وَهُمَا يَقُولَانِ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَنَّ الْمُعْتَبَرَ حَالَةُ الرَّمْيِ وَلِهَذَا وَافَقَاهُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ : يَعْنِي الْمَسَائِلَ الْآتِيَةَ فِي الْكِتَابِ وَنَظَائِرَهَا ، إلَّا أَنَّ الْمَرْمِيَّ إلَيْهِ فِي مَسْأَلَتِنَا لَمَّا ارْتَدَّ صَارَ مُبْرِئًا لِلرَّامِي عَنْ الدِّيَةِ بِإِخْرَاجِهِ نَفْسَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعْصُومًا وَفِعْلُهُ مُعْتَبَرٌ فِي إسْقَاطِ حَقِّهِ ، كَمَا إذَا أَبْرَأَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ الْغَاصِبَ بِإِعْتَاقِ الْمَغْصُوبِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَقُولُ : إنَّ قَوْلَهُمَا إنَّهُ بِالِارْتِدَادِ صَارَ مُبْرَأً عَنْ ضَمَانِ الْجِنَايَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ ، لِأَنَّ فِي اعْتِقَادِ الْمُرْتَدِّ أَنَّ الرِّدَّةَ لَا تُبْطِلُ التَّقَوُّمَ فَكَيْفَ يَصِيرُ مُبْرَأً عَنْ ضَمَانِ الْجِنَايَةِ ،

كَذَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِقَاضِي خَانَ والتمرتاشي وَالْمَحْبُوبِيِّ انْتَهَى .
وَقَالَ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ : وَأَصْحَابُنَا اعْتَبَرُوا حَالَةَ الرَّمْيِ كَمَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، وَكَذَا مَسْأَلَةُ الرَّجْمِ عَلَى مَا يَجِيءُ ، وَكَذَا فِي مَسْأَلَةِ الرَّمْيِ ثُمَّ تَمَجَّسَ ، وَكَذَا فِي مَسْأَلَةِ الْمُحْرِمِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ ، إلَّا أَنَّهُمَا يَقُولَانِ فِي مَسْأَلَةِ إنْ رَمَى مُسْلِمًا فَارْتَدَّ أَنَّهُ بِالِارْتِدَادِ يَصِيرُ مُبْرِئًا لِلرَّامِي عَنْ الضَّمَانِ ، وَلِهَذَا قَالَا : يَصِيرُ بِالِارْتِدَادِ مُبْرَأً ، وَالْإِبْرَاءُ إنَّمَا يَصِحُّ بَعْدَ انْعِقَادِ السَّبَبِ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ بِالِارْتِدَادِ لَا يَصِيرُ مُبْرَأً ، لِأَنَّ فِي اعْتِقَادِ الْمُرْتَدِّ أَنَّ الرِّدَّةَ لَا تُبْطِلُ التَّقَوُّمَ فَكَيْفَ يَصِيرُ مُبْرَأً عَنْ الضَّمَانِ ، كَذَا فِي جَامِعِ قَاضِي خَانَ والتمرتاشي وَالْمَحْبُوبِيِّ انْتَهَى ( قَوْلُهُ أَمَّا الرَّمْيُ قَبْلَ الْإِصَابَةِ لَيْسَ بِإِتْلَافِ شَيْءٍ لِأَنَّهُ لَا أَثَرَ لَهُ فِي الْمَحَلِّ ) أَقُولُ : لِمُتَوَهِّمٍ أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يُنَافِي مَا قَالَهُ فِي صَدْرِ دَلِيلِهِمَا مِنْ أَنَّهُ يَصِيرُ قَاتِلًا مِنْ وَقْتِ الرَّمْيِ ، فَإِنَّ الْقَتْلَ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ إتْلَافِ شَيْءٍ مِنْ الْمَقْتُولِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ مَعْنَى مَا قَالَهُ فِي صَدْرِ دَلِيلِهِمَا هُوَ أَنَّهُ يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْقَاتِلِ مِنْ وَقْتِ الرَّمْيِ مِنْ جِهَةِ اسْتِنَادِ الْحُكْمِ إلَى وَقْتِ الرَّمْي عِنْدَ الِاتِّصَالِ بِالْمَحَلِّ ، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ صَاحِبُ الْغَايَةِ بِقَوْلِهِ هُنَا : وَإِنَّمَا انْقَلَبَ الرَّمْيُ عِلَّةً لِلْإِتْلَافِ عِنْدَ الِاتِّصَالِ بِالْمَحِلِّ بِطَرِيقِ اسْتِنَادِ الْحُكْمِ إلَى وَقْتِ الرَّمْيِ فَكَأَنَّهُ وُجِدَ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ انْتَهَى

قَالَ : ( وَمَنْ قُضِيَ عَلَيْهِ بِالرَّجْمِ فَرَمَاهُ رَجُلٌ ثُمَّ رَجَعَ أَحَدُ الشُّهُودِ ثُمَّ وَقَعَ بِهِ الْحَجَرُ فَلَا شَيْءَ عَلَى الرَّامِي ) لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ حَالَةُ الرَّمْيِ وَهُوَ مُبَاحُ الدَّمِ فِيهَا .

( وَإِذَا رَمَى الْمَجُوسِيُّ صَيْدًا ثُمَّ أَسْلَمَ ثُمَّ وَقَعَتْ الرَّمْيَةُ بِالصَّيْدِ لَمْ يُؤْكَلْ ، وَإِنْ رَمَاهُ وَهُوَ مُسْلِمٌ ثُمَّ تَمَجَّسَ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ أُكِلَ ) لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ حَالُ الرَّمْيِ فِي حَقِّ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ إذْ الرَّمْيُ هُوَ الذَّكَاةُ فَتُعْتَبَرُ الْأَهْلِيَّةُ وَانْسِلَابُهَا عِنْدَهُ .
.

( وَلَوْ رَمَى الْمُحْرِمُ صَيْدًا ثُمَّ حَلَّ فَوَقَعَتْ الرَّمْيَةُ بِالصَّيْدِ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ ، وَإِنْ رَمَى حَلَالٌ صَيْدًا ثُمَّ أَحْرَمَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ) لِأَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا يَجِبُ بِالتَّعَدِّي وَهُوَ رَمْيُهُ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ ، وَفِي الْأَوَّلِ هُوَ مُحْرِمٌ وَقْتَ الرَّمْيِ وَفِي الثَّانِي حَلَالٌ فَلِهَذَا افْتَرَقَا .
.

كِتَابُ الدِّيَاتِ قَالَ ( وَفِي شِبْهِ الْعَمْدِ دِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَكَفَّارَةٌ عَلَى الْقَاتِلِ ) وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي أَوَّلِ الْجِنَايَاتِ .
قَالَ : ( وَكَفَّارَتُهُ عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } الْآيَةُ ( فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ) بِهَذَا النَّصِّ ( وَلَا يُجْزِئُ فِيهِ الْإِطْعَامُ ) لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِهِ نَصٌّ وَالْمَقَادِيرُ تُعْرَفُ بِالتَّوْقِيفِ ، .
وَلِأَنَّهُ جَعَلَ الْمَذْكُورَ كُلَّ الْوَاجِبِ بِحَرْفِ الْفَاءِ ، أَوْ لِكَوْنِهِ كُلَّ الْمَذْكُورِ عَلَى مَا عُرِفَ ( وَيُجْزِئُهُ رَضِيعُ أَحَدِ أَبَوَيْهِ مُسْلِمٌ ) لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ بِهِ وَالظَّاهِرُ بِسَلَامَةِ أَطْرَافِهِ ( وَلَا يُجْزِئُ مَا فِي الْبَطْنِ ) لِأَنَّهُ لَا تُعْرَفُ حَيَاتُهُ وَلَا سَلَامَتُهُ .
.

( كِتَابُ الدِّيَاتِ ) قَالَ الشُّرَّاحُ : ذِكْرُ الدِّيَاتِ بَعْدَ الْجِنَايَاتِ ظَاهِرُ الْمُنَاسَبَةِ ، لِمَا أَنَّ الدِّيَةَ إحْدَى مُوجَبَيْ الْجِنَايَةِ فِي الْآدَمِيِّ الْمَشْرُوعَيْنِ صِيَانَةً ، لَكِنَّ الْقِصَاصَ أَشَدُّ صِيَانَةً فَقُدِّمَ انْتَهَى .
أَقُولُ : يُرَدُّ عَلَى ظَاهِرِ هَذَا الْوَجْهِ أَنَّهُ إنَّمَا يَقْتَضِي أَنْ يَذْكُرَ الدِّيَاتِ فِي كِتَابِ الْجِنَايَاتِ كَالْقِصَاصِ بِأَنْ يُوضَعَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَابٌ مُسْتَقِلٌّ مِنْ كِتَابِ الْجِنَايَاتِ لِكَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا مُوجِبَ الْجِنَايَاتِ ، لَا أَنْ يَجْعَلَ الدِّيَاتِ كِتَابًا عَلَى حِدَةٍ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي الْكِتَابِ : وَالْجَوَابُ أَنَّ مَقْصُودَهُمْ هُنَا بَيَانُ وَجْهِ مُنَاسَبَةِ ذِكْرِ الدِّيَاتِ بَعْدَ ذِكْرِ الْجِنَايَاتِ ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ يَحْصُلُ بِمَا ذَكَرُوهُ قَطْعًا .
وَأَمَّا جَعْلُ الدِّيَاتِ كِتَابًا عَلَى حِدَةٍ دُونَ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْجِنَايَاتِ فَلَهُ وَجْهٌ آخَرُ لَمْ يَذْكُرُوهُ أَصَالَةً ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا كَثُرَتْ مَسَائِلُ الدِّيَاتِ وَمَبَاحِثُهَا اسْتَحَقَّتْ أَنْ يُجْعَلَ كِتَابًا عَلَى حِدَةٍ كَكِتَابِ الطِّهَارَاتِ بِالنِّسْبَةِ إلَى سَائِرِ شُرُوطِ الصَّلَاةِ وَكِتَابِ الصَّرْفِ بِالنِّسْبَةِ إلَى سَائِرِ أَنْوَاعِ الْبَيْعِ .
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ مَا وَقَعَ فِي الْكِتَابِ وَضْعُ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ، وَأَمَّا الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ فَقَدَّمَ فِي مُخْتَصَرِهِ كِتَابَ الدِّيَاتِ عَلَى كِتَابِ الْجِنَايَاتِ ، وَالشَّيْخُ أَبُو جَعْفَرَ الطَّحَاوِيُّ قَدَّمَ الْقِصَاصَ عَلَى الدِّيَاتِ ، وَلَكِنْ جَعَلَهُمَا فِي كِتَابٍ وَاحِدٍ وَتَرْجَمَ الْكِتَابَ بِكِتَابِ الْقِصَاصِ وَالدِّيَاتِ ، وَالْإِمَامُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ ذَكَرَ أَحْكَامَ الْجِنَايَاتِ فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ وَلَمْ يُسَمِّ كِتَابَ الْجِنَايَاتِ أَصْلًا ، لِأَنَّ عَامَّةَ أَحْكَامِ الْجِنَايَاتِ هِيَ الدِّيَاتُ ، فَإِنَّ الْقِصَاصَ لَا يَجِبُ إلَّا بِالْعَمْدِ الْمَحْضِ وَالدِّيَةُ تَجِبُ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ ، وَفِي الْخَطَإِ وَفِي شَبَهِ الْخَطَإِ ، وَفِي الْقَتْلِ بِسَبَبٍ ، وَفِي الْعَمْدِ أَيْضًا إذَا تَمَكَّنَ فِيهِ

الشُّبْهَةُ فَرَجَّحَ جَانِبَ الدِّيَةِ فِي نِسْبَةِ الْكِتَابِ إلَيْهَا .
ثُمَّ إنَّ الدِّيَةَ مَصْدَرُ وَدَى الْقَاتِلُ الْمَقْتُولَ إذَا أَعْطَى وَلِيَّهُ الْمَالَ الَّذِي هُوَ بَدَلُ النَّفْسِ ، ثُمَّ قِيلَ لِذَلِكَ الْمَالِ الدِّيَةُ تَسْمِيَةٌ بِالْمَصْدَرِ ، كَذَا ذَكَرَ فِي الْمُغْرِبِ وَعَامَّةِ الشُّرُوحِ .
قَالَ فِي الْقَامُوسِ : الدِّيَةُ بِالْكَسْرِ : حَقُّ الْقَتِيلِ جَمْعُهَا دِيَاتٌ .
وَقَالَ فِي الصِّحَاحِ : وَدَيْت الْقَتِيلَ أَدِيهِ دِيَةً : إذَا أَعْطَيْت دِيَتَهُ .
وَقَالَ فِي الْكَافِي : الدِّيَةُ الْمَالُ الَّذِي هُوَ بَدَلُ النَّفْسِ ، وَالْأَرْشُ اسْمٌ لِلْوَاجِبِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ انْتَهَى .
أَقُولُ : الظَّاهِرُ مِنْ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ كُلِّهَا أَنْ تَكُونَ الدِّيَةُ مُخْتَصَّةً بِمَا هُوَ بَدَلُ النَّفْسِ ، وَيُنَافِيهِ مَا سَيَجِيءُ فِي الْفَصْلِ الْآتِي مِنْ أَنَّ فِي الْمَارِنِ الدِّيَةَ وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةَ وَفِي اللِّحْيَةِ الدِّيَةَ وَفِي شَعْرِ الرَّأْسِ الدِّيَةَ وَفِي الْحَاجِبَيْنِ الدِّيَةَ وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةَ وَفِي الْيَدَيْنِ الدِّيَةَ وَفِي الذَّكَرِ الدِّيَةَ وَفِي الرِّجْلَيْنِ الدِّيَةَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي أُطْلِقَتْ الدِّيَةُ فِيهَا عَلَى مَا هُوَ بَدَلُ مَا دُونَ النَّفْسِ ، وَكَذَا مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ وَهُوَ مَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { فِي النَّفْسِ الدِّيَةُ ، وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ ، وَفِي الْمَارِنِ الدِّيَةُ } وَهَكَذَا هُوَ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَمَا سَيَأْتِي .
فَالْأَظْهَرُ فِي تَفْسِيرِ الدِّيَةِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْغَايَةِ آخِرًا ، فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ مِثْلَ مَا ذَكَرَ فِي الْمُغْرِبِ وَعَامَّةِ الشُّرُوحِ قَالَ : وَالدِّيَةُ اسْمٌ لِضَمَانٍ يَجِبُ بِمُقَابِلَةِ الْآدَمِيِّ أَوْ طَرَفٍ مِنْهُ ، سُمِّيَ بِهَا لِأَنَّهَا تُودَى عَادَةً ، لِأَنَّهُ قَلَّمَا يَجْرِي فِيهِ الْعَفْوُ لِعِظَمِ حُرْمَةِ الْآدَمِيِّ انْتَهَى ( قَوْلُهُ وَكَفَّارَتُهُ

عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } الْآيَةُ { فَمِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } بِهَذَا النَّصِّ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ : وَكَفَّارَتُهُ عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } إلَى قَوْلِهِ { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } الْآيَةُ ، وَهُوَ نَصٌّ فِي كَوْنِهَا بِالتَّحْرِيرِ أَوْ الصَّوْمِ فَقَطْ فَلَا يُجْزِئُ فِيهِ الْإِطْعَامُ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِهِ نَصٌّ ، وَالْمَقَادِيرُ تُعْرَفُ بِالتَّوْقِيفِ انْتَهَى .
أَقُولُ : أَخَلَّ الشَّارِحُ الْمَذْكُورُ بِحَقِّ الْمَقَامِ فِي تَحْرِيرِهِ هَذَا أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ خَصَّ بِالذَّكَرِ فِي بَيَانِ كَفَّارَةِ شِبْهِ الْعَمْدِ عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ، وَجَعَلَ قَوْله تَعَالَى { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } إلَى قَوْلِهِ { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } دَلِيلًا عَلَيْهِ ، فَقَدْ قَصَّرَ فِي الْبَيَانِ حَيْثُ لَمْ يَذْكُرْ كَوْنَ كَفَّارَتِهِ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ إذَا لَمْ يَجِدْ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً ، وَلَمْ يُصِبْ فِي سَوْقِ الدَّلِيلِ حَيْثُ جَعَلَ الدَّلِيلَ عَلَى كَوْنِ كَفَّارَتِهِ عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ مَجْمُوعُ قَوْله تَعَالَى { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } إلَى قَوْلِهِ { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } مَعَ أَنَّ الدَّلِيلَ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } وَحْدَهُ ، وَإِنَّمَا قَوْله تَعَالَى { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } دَلِيلٌ عَلَى الْقِسْمِ الْآخَرِ مِنْ كَفَّارَتِهِ الَّذِي لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْمُدَّعِي ، بِخِلَافِ تَحْرِيرِ الْمُصَنِّفِ فَإِنَّهُ بَيَّنَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ قِسْمَيْ كَفَّارَتِهِ عَلَى تَرْتِيبِهِمَا حَيْثُ قَالَ : وَكَفَّارَتُهُ عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ، ثُمَّ قَالَ : فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ .
وَاسْتَدَلَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِدَلِيلٍ مُسْتَقِلٍّ حَيْثُ قَالَ فِي تَعْلِيلِ الْأَوَّلِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { : فَتَحْرِيرُ

رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } وَلَمْ يَذْكُرْ آخِرَ الْآيَةِ .
وَقَالَ فِي تَعْلِيلِ الثَّانِي بِهَذَا النَّصِّ : أَيْ بِآخِرِ هَذَا النَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ قَالَ : وَهُوَ نَصٌّ فِي كَوْنِهَا بِالتَّحْرِيرِ أَوْ الصَّوْمِ فَقَطْ ، وَفَرَّعَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ فَلَا يُجْزِئُ فِيهِ الْإِطْعَامُ ، فَإِنْ كَانَ مَدَارَ قَيْدٍ فَقَطْ فِي قَوْلِهِ وَهُوَ نَصٌّ فِي كَوْنِهَا بِالتَّحْرِيرِ أَوْ الصَّوْمِ فَقَطْ وَكَذَا مَدَارُ التَّفْرِيعِ فِي قَوْلِهِ فَلَا يُجْزِئُ فِيهِ الْإِطْعَامُ ، عَلَى أَنَّ تَخْصِيصَ التَّحْرِيرِ وَالصَّوْمِ بِالذَّكَرِ فِي الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى نَفْي مَا عَدَاهُمَا كَانَ ذَلِكَ قَوْلًا بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ ، وَهُوَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَنَا ، وَإِنْ كَانَ مَدَارُهُمَا عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِيمَا بَعْدُ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى عَدَمِ إجْزَاءِ الْإِطْعَامِ بِوَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ ، وَهُمَا قَوْلُهُ : وَلِأَنَّهُ جَعَلَ الْمَذْكُورَ كُلَّ الْوَاجِبِ بِحَرْفِ الْفَاءِ ، وَقَوْلُهُ : أَوْ لِكَوْنِهِ كُلُّ الْمَذْكُورِ عَلَى مَا عُرِفَ كَانَ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِهِ نَصٌّ إلَخْ بَعْدَ تَفْرِيعِ عَدَمِ إجْزَاءِ الْإِطْعَامِ عَلَى مَا قَبْلَهُ كَلَامًا مُخْتَلًّا ، إذْ يَكُونُ الْمُفَرَّعُ عَلَيْهِ إذْ ذَاكَ دَلِيلًا عَلَى الْمُفَرَّعِ فَيَصِيرُ قَوْلُهُ فَلَا يُجْزِئُ فِيهِ الْإِطْعَامُ مِنْ قَبِيلِ تَفْرِيعِ الْمُدَّعِي عَلَى الدَّلِيلِ فَلَا جَرَمَ يَصِيرُ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِهِ نَصٌّ إلَخْ دَلِيلًا آخَرَ عَلَى ذَلِكَ الْمُدَّعِي فَيَجِبُ فِيهِ زِيَادَةُ وَاوِ الْعَطْفِ بِأَنْ يُقَالَ : وَلِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِهِ نَصٌّ إلَخْ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ دُرْبَةٌ بِأَسَالِيبِ الْكَلَامِ ، بِخِلَافِ تَحْرِيرِ الْمُصَنِّفِ فَإِنَّهُ جَعَلَ قَوْلَهُ وَلَا يُجْزِئُ فِيهِ الْإِطْعَامُ كَلَامًا مُبْتَدَأً مَطْلُوبًا بِالْبَيَانِ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ ، وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ كَمَا تَرَى فَلَا غُبَارَ فِي أُسْلُوبِ تَحْرِيرِهِ أَصْلًا ( قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ جَعَلَ

الْمَذْكُورَ كُلَّ الْوَاجِبِ بِحَرْفِ الْفَاءِ ) قَالَ الشُّرَّاحُ : يَعْنِي أَنَّ الْوَاقِعَ بَعْدَ فَاءِ الْجَزَاءِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كُلَّ الْجَزَاءِ ، إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَالْتَبَسَ فَلَا يُعْلَمُ أَنَّهُ هُوَ الْجَزَاءُ أَوْ بَقِيَ مِنْهُ شَيْءٌ وَمِثْلُهُ مُخِلٌّ انْتَهَى .
أَقُولُ : يَشْكُلُ هَذَا بِالْحِرْمَانِ عَنْ الْمِيرَاثِ فَإِنَّهُ جَزَاءُ الْقَتْلِ أَيْضًا فِي الْعَمْدِ وَشِبْهِهِ وَالْخَطَأِ وَشِبْهِهِ كَمَا مَرَّ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْجِنَايَاتِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي الْوَاقِعِ بَعْدَ فَاءِ الْجَزَاءِ فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ فَلْيُتَأَمَّلْ ( قَوْلُهُ أَوْ لِكَوْنِهِ كُلَّ الْمَذْكُورِ عَلَى مَا عُرِفَ ) يَعْنِي لَوْ كَانَ الْغَيْرُ مُرَادًا لَذَكَرَهُ لِأَنَّهُ مَوْضِعَ الْحَاجَةِ إلَى الْبَيَانِ ، وَحَيْثُ لَمْ يَذْكُرْ دَلَّ أَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ لِأَنَّ السُّكُوتَ عَنْ الْبَيَانِ فِي مَوْضِعِ الْحَاجَةِ إلَى الْبَيَانِ بَيَانٌ كَمَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ كُلِّهَا .
قَالَ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ بَعْدَ ذَلِكَ : لَا يُقَالُ : إنَّ السُّكُوتَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَذْكُورَ كُلُّ الْوَاجِبِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَلَا إنَّ قَتِيلَ خَطَإِ الْعَمْدِ قَتِيلُ السَّوْطِ وَالْعَصَا ، وَفِيهِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ } وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الْكَفَّارَةَ ، وَمَعَ ذَلِكَ قُلْتُمْ بِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ .
لِأَنَّا نَقُولُ : ثَمَّةَ وُجِدَ بَيَانٌ بِنَصٍّ آخَرَ ؛ أَوْ نَقُولُ : لَا نُسَلِّمُ ، فَإِنَّهُ قَالَ الْجُرْجَانِيُّ : وَجَدْت رِوَايَةً عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَجِبُ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِي كُلٍّ مِنْ جَوَابَيْهِ نَظَرٌ .
أَمَّا فِي الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ التَّشَبُّثَ بِوُجُودِ نَصٍّ آخَرَ فِي مَادَّةِ النَّقْضِ وَعَدَمِ وُجُودِهِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مُصَيِّرٌ إلَى الِاسْتِدْلَالِ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِهِ نَصٌّ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ هَذَا الْوَجْهُ الَّذِي هُوَ مَوْرِدُ السُّؤَالِ دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا ، بَلْ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَدْرَكًا .

وَأَمَّا فِي الثَّانِي فَلِأَنَّ اللَّازِمَ لِلْمُجِيبِ دَفْعُ النَّقْضِ عَمَّا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُوَرِّدُ لِلسُّؤَالِ .
وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا ذُكِرَ فِيهِ مَبْنِيٌّ عَلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ ، وَأَمَّا رِوَايَةُ عَدَمِ وُجُوبِهَا فِيهِ فَبِمَعْزِلٍ عَنْهُ فَلَا وَجْهَ لِلْمُصَيَّرِ إلَيْهِ هُنَا كَمَا لَا يَخْفَى .
ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ قَالَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ أَوْ لِكَوْنِهِ كُلَّ الْمَذْكُورِ : أَيْ لِكَوْنِ الصِّيَامِ كُلَّ الْمَذْكُورِ وَتَبِعَهُ الْعَيْنِيُّ .
أَقُولُ : لَيْسَ ذَاكَ بِسَدِيدٍ ، إذْ لَا يَخْفَى أَنَّ كُلَّ الْمَذْكُورِ فِي حَقِّ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى إنَّمَا هُوَ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ لَا الصِّيَامُ وَحْدَهُ .
وَأَمَّا إطْلَاقُ الْكُلِّ عَلَى الصِّيَامِ لِكَوْنِهِ الْجُزْءَ الْأَخِيرَ الَّذِي يَتِمُّ بِهِ الْكُلُّ فَأَمْرٌ قَبِيحٌ لَا يُنَاسِبُ شَرْحَ الْكِتَابِ .
فَالْحَقُّ فِي التَّفْسِيرِ أَنْ يُقَالَ : أَيْ وَلِكَوْنِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّحْرِيرِ وَالصِّيَامِ كُلَّ الْمَذْكُورِ

قَالَ ( وَهُوَ الْكَفَّارَةُ فِي الْخَطَأِ ) لِمَا تَلَوْنَاهُ ( وَدِيَتُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ أَرْبَاعًا : خَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ حِقَّةً ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ جَذَعَةً ) وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ أَثْلَاثًا : ثَلَاثُونَ جَذَعَةً وَثَلَاثُونَ حِقَّةً ، وَأَرْبَعُونَ ثَنِيَّةً ، كُلُّهَا خَلْفَاتٌ فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَلَا إنَّ قَتِيلَ خَطَإِ الْعَمْدِ قَتِيلُ السَّوْطِ وَالْعَصَا ، وَفِيهِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ أَرْبَعُونَ مِنْهَا فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا } وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : ثَلَاثُونَ حِقَّةً وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً ، وَلِأَنَّ دِيَةَ شِبْهِ الْعَمْدِ أَغْلَظُ وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا .
وَلَهُمَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { فِي نَفْسِ الْمُؤْمِنِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ } وَمَا رَوَيَاهُ غَيْرُ ثَابِتٍ لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي صِفَةِ التَّغْلِيظِ ، وَابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بِالتَّغْلِيظِ أَرْبَاعًا كَمَا ذَكَرْنَا وَهُوَ كَالْمَرْفُوعِ فَيُعَارَضُ بِهِ .
قَالَ ( وَلَا يَثْبُتُ التَّغْلِيظُ إلَّا فِي الْإِبِلِ خَاصَّةً ) لِأَنَّ التَّوْقِيفَ فِيهِ ، فَإِنْ قَضَى بِالدِّيَةِ فِي غَيْرِ الْإِبِلِ لَمْ تَتَغَلَّظْ لِمَا قُلْنَا .

( قَوْلُهُ وَلَا يَثْبُتُ التَّغْلِيظُ إلَّا فِي الْإِبِلِ خَاصَّةً ، لِأَنَّ التَّوْقِيفَ فِيهِ ، فَإِنْ قَضَى بِالدِّيَةِ مِنْ غَيْرِ الْإِبِلِ لَمْ تَتَغَلَّظَ لِمَا قُلْنَا ) أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إذَا لَمْ يَثْبُتْ التَّغْلِيظُ إلَّا فِي الْإِبِلِ خَاصَّةً يَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ الْقَضَاءُ بِالدِّيَةِ مِنْ غَيْرِ الْإِبِلِ أَصْلًا فِي جِنَايَةِ شِبْهِ الْعَمْدِ ، إذْ قَدْ ذُكِرَ فِي أَوَّلِ هَذَا الْكِتَابِ وَمَرَّ أَيْضًا فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْجِنَايَاتِ أَنَّ مُوجِبَ شِبْهِ الْعَمْدِ دِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَكَفَّارَةٌ عَلَى الْقَاتِلِ ، فَحَيْثُ لَمْ يَثْبُتْ التَّغْلِيظُ فِي غَيْرِ الْإِبِلِ لَمْ يَصْلُحْ غَيْرُهَا أَنْ يَكُونَ دِيَةً فِي شِبْهِ الْعَمْدِ لِانْتِفَاءِ مَا هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي دِيَتِهِ وَهُوَ التَّغْلِيظُ ، فَكَيْفَ يَتِمُّ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فَإِنْ قَضَى بِالدِّيَةِ مِنْ غَيْرِ الْإِبِلِ لَمْ تَتَغَلَّظْ ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ مِنْهُ أَنْ يَصِحَّ الْقَضَاءُ بِالدِّيَةِ مِنْ غَيْرِ الْإِبِلِ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ ، وَلَكِنْ لَا يَثْبُتُ التَّغْلِيظُ فِي غَيْرِ الْإِبِلِ بِأَنْ يُزَادَ فِي الدَّرَاهِمِ عَلَى عَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ وَفِي الدَّنَانِيرِ عَلَى أَلْفِ دِينَارٍ كَمَا فَصَّلُوا فِي الشُّرُوحِ فَلْيُتَأَمَّلْ فِي التَّوْجِيهِ .

قَالَ ( وَقَتْلُ الْخَطَأِ تَجِبُ بِهِ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَالْكَفَّارَةُ عَلَى الْقَاتِلِ ) لِمَا بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ .
قَالَ : ( وَالدِّيَةُ فِي الْخَطَأِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ أَخْمَاسًا عِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ وَعِشْرُونَ ابْنَ مَخَاضٍ وَعِشْرُونَ حِقَّةً وَعِشْرُونَ جَذَعَةً ) وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَأَخَذْنَا نَحْنُ وَالشَّافِعِيُّ بِهِ لِرِوَايَتِهِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي قَتِيلٍ قُتِلَ خَطَأً أَخْمَاسًا } عَلَى نَحْوِ مَا قَالَ ، وَلِأَنَّ مَا قُلْنَاهُ أَخَفُّ فَكَانَ أَلْيَقَ بِحَالَةِ الْخَطَإِ لِأَنَّ الْخَاطِئَ مَعْذُورٌ ، غَيْرَ أَنَّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَقْضِي بِعِشْرِينَ ابْنَ لَبُونٍ مَكَانَ ابْنِ مَخَاضٍ وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَاهُ .
قَالَ ( وَمِنْ الْعَيْنِ أَلْفُ دِينَارٍ وَمِنْ الْوَرِقِ عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : مِنْ الْوَرِقِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَضَى بِذَلِكَ .
وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَضَى بِالدِّيَةِ فِي قَتِيلٍ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ } .
وَتَأْوِيلُ مَا رُوِيَ أَنَّهُ قَضَى مِنْ دَرَاهِمَ كَانَ وَزْنُهَا وَزْنَ سِتَّةٍ وَقَدْ كَانَتْ كَذَلِكَ .
قَالَ ( وَلَا تَثْبُتُ الدِّيَةُ إلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا مِنْهَا وَمِنْ الْبَقَرِ مِائَتَا بَقَرَةٍ ، وَمِنْ الْغَنَمِ أَلْفَا شَاةٍ ، وَمِنْ الْحُلَلِ مِائَتَا حُلَّةٍ كُلُّ حُلَّةٍ ثَوْبَانِ ) .
لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَكَذَا جَعَلَ عَلَى أَهْلِ كُلِّ مَالٍ مِنْهَا .
وَلَهُ أَنَّ التَّقْدِيرَ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ بِشَيْءٍ مَعْلُومِ الْمَالِيَّةِ ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ مَجْهُولَةُ الْمَالِيَّةِ وَلِهَذَا لَا يُقَدَّرُ بِهَا ضَمَانٌ ، وَالتَّقْدِيرُ بِالْإِبِلِ عُرِفَ بِالْآثَارِ الْمَشْهُورَةِ وَعَدِمْنَاهَا فِي غَيْرِهَا .
وَذُكِرَ فِي الْمُعَاقِلِ أَنَّهُ لَوْ صَالَحَ عَلَى الزِّيَادَةِ

عَلَى مِائَتَيْ حُلَّةٍ أَوْ مِائَتَيْ بَقَرَةٍ لَا يَجُوزُ ، وَهَذَا آيَةُ التَّقْدِيرِ بِذَلِكَ .
ثُمَّ قِيلَ : هُوَ قَوْلُ الْكُلِّ فَيَرْتَفِعُ الْخِلَافُ ، وَقِيلَ هُوَ قَوْلُهُمَا .

( قَوْلُهُ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَخَذْنَا نَحْنُ وَالشَّافِعِيُّ بِهِ لِرِوَايَتِهِ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَضَى فِي قَتِيلٍ قُتِلَ خَطَأً أَخْمَاسًا } عَلَى نَحْوِ مَا قَالَ ) أَقُولُ : فِيهِ شَيْءٌ ، وَهُوَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ وَإِنْ رَوَى قَضَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نَحْوِ مَا قَالَهُ إلَّا أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَقُولُ : الدِّيَةُ فِي الْخَطَإِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ أَرْبَاعًا : خَمْسٌ وَعِشْرُونَ حِقَّةً ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ جَذَعَةً ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ ابْنَةَ لَبُونٍ ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ ابْنَةَ مَخَاضٍ ، ذَكَرَهُ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الْخَرَاجِ .
وَذَكَرَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ وَغَيْرِهَا مِنْ الشُّرُوحِ ، وَالْمَقَادِيرِ لَا تُعْرَفُ إلَّا سَمَاعًا فَكَانَ كَالْمَرْفُوعِ .
فَصَارَ مَا رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ مُعَارِضًا بِهِ فَكَيْفَ يَتِمُّ جَعْلُ الْمُصَنِّفِ مُجَرَّدَ رِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَلِيلًا عَلَى مَا أَخَذْنَا نَحْنُ وَالشَّافِعِيُّ بِهِ بِدُونِ بَيَانِ الرُّجْحَانِ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ .
نَعَمْ كَوْنُ مَا رَوَاهُ أَلْيَقُ بِحَالَةِ الْخَطَأِ لِكَوْنِهِ أَخَفَّ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُرَجِّحًا لِمَا رَوَاهُ .
وَعَنْ هَذَا قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ بَعْدَ بَيَانِ اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ فِي أَسْنَانِ الْإِبِلِ فِي دِيَةِ الْخَطَأِ : وَنَحْنُ رَجَّحْنَا رِوَايَةَ ابْنِ مَسْعُودٍ لِأَنَّهُ أَوْفَقُ لِمَوْضُوعِ دِيَةِ الْخَطَإِ وَهُوَ التَّخْفِيفُ ، إلَّا أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ : وَلِأَنَّ مَا قُلْنَاهُ أَخَفُّ فَكَانَ أَلْيَقَ بِحَالَةِ الْخَطَإِ لِأَنَّ الْخَاطِئَ مَعْذُورٌ يُشْعِرُ بِأَنَّ هَذَا دَلِيلٌ مُسْتَقِلٌّ وَمَا قَبْلَهُ أَيْضًا دَلِيلٌ مُسْتَقِلٌّ ، وَهَذَا يُنَافِي ضَمَّ الثَّانِي إلَى الْأَوَّلِ لِيَحْصُلَ بِهِ الرُّجْحَانُ ، وَبِالْجُمْلَةِ فِي تَحْرِيرِ الْمُصَنِّفِ هُنَا نَوْعُ رَكَاكَةٍ ، وَكَأَنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ تَنَبَّهَ لَهُ حَيْثُ غَيَّرَ أُسْلُوبَ تَحْرِيرِ الْمُصَنِّفِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ فَقَالَ بَعْدَ بَيَانِ مَا رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَمَا

رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، لَكِنَّ مَا قُلْنَا أَخَفُّ فَكَانَ أَوْلَى بِحَالِ الْخَطَإِ لِأَنَّ الْخَاطِئَ مَعْذُورٌ انْتَهَى تَبَصَّرْ .
( قَوْلُهُ غَيْرَ أَنَّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَقْضِي بِعِشْرِينَ ابْنَ لَبُونٍ مَكَانَ ابْنِ مَخَاضٍ ) أَقُولُ : هُنَا كَلَامٌ ، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَأَخَذْنَا نَحْنُ وَالشَّافِعِيُّ بِهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا .
وَالْمَقْصُودُ بِهِ بَيَانُ الْفَرْقِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ فِي الْمَأْخَذِ ، لَكِنْ فِيهِ إشْكَالٌ ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ ضَمِيرَ بِهِ فِي قَوْلِهِ وَأَخَذْنَا نَحْنُ وَالشَّافِعِيُّ بِهِ بَعْدَ قَوْلِهِ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ رَاجِعٌ إلَى قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَيَكُونُ الْمَأْخَذُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ هُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ ، فَبَعْدَ ذَلِكَ كَيْفَ يَتِمُّ الْقَوْلُ بِأَنَّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَقْضِي بِعِشْرِينَ ابْنَ لَبُونٍ مَكَانَ ابْنِ مَخَاضٍ ، وَالْقَضَاءُ بِابْنِ لَبُونٍ مَكَانَ ابْنِ مَخَاضٍ يُنَافِي الْأَخْذَ بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ لِأَنَّ ابْنَ مَخَاضٍ مُتَعَيَّنٍ فِي قَوْلِهِ وَإِنَّمَا الَّذِي يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَأْخَذًا لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ الْقَضَاءُ بِعِشْرِينَ ابْنَ لَبُونٍ مَكَانَ ابْنِ مَخَاضٍ مَا رَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : فِي دِيَةِ الْخَطَأِ عِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ وَعِشْرُونَ ابْنَ لَبُونٍ وَعِشْرُونَ حِقَّةً وَعِشْرُونَ جَذَعَةً كَمَا ذُكِرَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ فَلْيُتَأَمَّلْ فِي التَّوْجِيهِ ( قَوْلُهُ وَلَا تَثْبُتُ الدِّيَةُ إلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَالَا : مِنْهَا وَمِنْ الْبَقَرِ مِائَتَا بَقَرَةٍ وَمِنْ الْغَنَمِ أَلْفَا شَاةٍ ، وَمِنْ الْحُلَلِ مِائَتَا حُلَّةٍ ) قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ : فَائِدَةُ هَذَا الِاخْتِلَافِ إنَّمَا تَظْهَرُ فِيمَا إذَا صَالَحَ الْقَاتِلُ مَعَ وَلِيِّ الْقَتِيلِ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ مِائَتَيْ بَقَرَةٍ أَوْ

غَيْرِهَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ : يَجُوزُ كَمَا لَوْ صَالَحَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ مِائَتَيْ فَرَسٍ ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا لَا يَجُوزُ كَمَا لَوْ صَالَحَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ مِائَةٍ مِنْ الْإِبِلِ انْتَهَى .
أَقُولُ : لَيْتَ شِعْرِي مَا بَالُهُمْ صَوَّرُوا ظُهُورَ فَائِدَةِ هَذَا الِاخْتِلَافِ فِي هَذَا الْمَضِيقِ وَحَصَرُوا فِيهِ بِكَلِمَةٍ إنَّمَا مَعَ كَوْنِ ظُهُورِ فَائِدَتِهِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الصُّورَةِ أَظْهَرُ وَأَجْلَى ، فَإِنَّ لِلْقَاتِلِ الْخِيَارُ فِي أَدَاءِ الدِّيَةِ مِنْ أَيِّ نَوْعٍ شَاءَ مِنْ أَنْوَاعِ الدِّيَةِ لَا مِنْ غَيْرِ أَنْوَاعِهَا كَمَا صَرَّحُوا بِهِ ، فَعَلَى قَوْلِهِمَا يَتَمَكَّنُ الْقَاتِلُ مِنْ أَدَائِهَا مِنْ نَوْعِ الْبَقَرِ أَوْ نَوْعِ الْغَنَمِ أَوْ نَوْعِ الْحُلَلِ كَمَا يُتَمَكَّنُ مِنْ أَدَائِهَا مِنْ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا وَهِيَ الْإِبِلُ وَالْعَيْنُ وَالْوَرِقُ ، وَعَلَى قَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ كِتَابِ الدِّيَاتِ لَا يُتَمَكَّنُ مِنْ أَدَائِهَا إلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ ( قَوْلُهُ وَذُكِرَ فِي الْمَعَاقِلِ أَنَّهُ لَوْ صَالَحَ عَلَى الزِّيَادَةِ عَلَى مِائَتَيْ حُلَّةٍ أَوْ مِائَتَيْ بَقَرَةٍ لَا يَجُوزُ ، وَهَذَا آيَةُ التَّقْدِيرِ بِذَلِكَ ، ثُمَّ قِيلَ هُوَ قَوْلُ الْكُلِّ فَيَرْتَفِعُ الْخِلَافُ وَقِيلَ : هُوَ قَوْلُهُمَا ) قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ : أَوْرَدَ قَوْلَهُ وَذُكِرَ فِي الْمَعَاقِلِ : أَيْ فِي مَعَاقِلِ الْمَبْسُوطِ شُبْهَةٌ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ أَنَّهُ لَا تَثْبُتُ الدِّيَةُ إلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ .
وَوَجْهُ وُرُودِهَا أَنَّ مُحَمَّدًا ذَكَرَ فِي الْمَعَاقِلِ أَنَّهُ لَوْ صَالَحَ الْوَلِيُّ مِنْ الدِّيَةِ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَلْفَيْ شَاةٍ أَوْ مِنْ مِائَتَيْ بَقَرَةٍ أَوْ مِنْ مِائَتَيْ حُلَّةٍ لَا يَجُوزُ وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ فِيهِ ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَصْنَافَ الثَّلَاثَةَ أَيْضًا مِنْ الْأُصُولِ الْمُقَدَّرَةِ فِي الدِّيَةِ عِنْدَهُ أَيْضًا ، وَذَكَرَ الْجَوَابُ بِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا يُصَحِّحُ الشُّبْهَةَ وَيَرْفَعُ الْخِلَافَ .

وَثَانِيهمَا يَرْفَعُ الشُّبْهَةَ بِحَمْلِ رِوَايَةِ الْمَعَاقِلِ عَلَى أَنَّهَا قَوْلُهُمَا ، ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ رَدَّ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ مِنْهُمَا حَيْثُ قَالَ : وَلَا أَرَى صِحَّتَهُ لِأَنَّهُ يُنَاقِضُ رِوَايَةَ كِتَابِ الدِّيَاتِ كَمَا مَرَّ آنِفًا انْتَهَى .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ لِأَنَّ مَدَارَ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ عَلَى عَدَمِ قَبُولِ صِحَّةِ رِوَايَةِ كِتَابِ الدِّيَاتِ وَعَدَمِ تَسْلِيمِ ثُبُوتِ الِاخْتِلَافِ بَيْنَهُمْ ، وَكَوْنُهُ مُنَاقِضًا لِرِوَايَةِ كِتَابِ الدِّيَاتِ إنَّمَا يُنَافِي صِحَّتَهُ لَوْ تَحَقَّقَتْ صِحَّةُ تِلْكَ الرِّوَايَةِ وَهِيَ فِي حَيِّزِ الْمَنْعِ عِنْدَ قَائِلِ ذَلِكَ الْوَجْهِ ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَطْعًا عِبَارَةُ صَاحِبِ النِّهَايَةِ حَيْثُ قَالَ : فَقَالَ فِي جَوَابِهِ بِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ صَحَّحَ الشُّبْهَةَ فَقَالَ : نَعَمْ تِلْكَ الرِّوَايَةُ أَعْنِي رِوَايَةَ الْخِلَافِ غَيْرُ صَحِيحٍ ، بَلْ الصَّحِيحُ رِوَايَةُ كِتَابِ الْمَعَاقِلِ .
وَالْخِلَافُ بَيْنَهُمْ غَيْرُ ثَابِتٍ ، بَلْ هَذِهِ الْأَنْوَاعُ : أَعْنِي الْبَقَرَ وَالْغَنَمَ وَالْحُلَلَ فِي الدِّيَةِ مِنْ الْأَمْوَالِ الْمُقَدَّرَةِ انْتَهَى .
وَتَصْحِيحُ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَمَنْعُ الْأُخْرَى لَيْسَ بِعَزِيزٍ فِي كَلِمَاتِ الْفُقَهَاءِ وَقَدْ مَرَّ لَهُ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ فِي الْكِتَابِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ لِدَفْعِ رَدِّ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ : الْوَجْهُ الْأَوَّلُ يَرْتَفِعُ التَّنَاقُضُ بِالْحَمْلِ عَلَى الرُّجُوعِ إلَى قَوْلِهِمَا انْتَهَى .
أَقُولُ : هَذَا لَا يَصْلُحُ لِدَفْعِ رَدِّهِ الْوَجْهَ الْمَزْبُورَ ، وَإِنَّمَا يَصْلُحُ لَأَنْ يَكُونَ جَوَابًا آخَرَ عَنْ أَصْلِ الشُّبْهَةِ لِأَنَّ مَآلَهُ إلَى أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ عَنْهُ رِوَايَتَانِ وَيَكُونُ الْمَرْوِيُّ فِي إحْدَاهُمَا قَوْلَهُ الْأَوَّلُ وَفِي الْأُخْرَى قَوْلَهُ الْآخَرُ الَّذِي رَجَعَ إلَيْهِ ، وَقَدْ ذَكَرَهُ أَيْضًا صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ بَيَانِ ذَيْنِكَ الْوَجْهَيْنِ وَرَدَّ أَحَدَهُمَا حَيْثُ قَالَ : وَحَمَلَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا عَلَى أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ عَنْهُ رِوَايَتَيْنِ انْتَهَى .
وَمَدَارُ رَدِّهِ أَحَدُ ذَيْنِك

الْوَجْهَيْنِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ تَقْرِيرَ الشُّبْهَةِ وَرَفْعَ الْخِلَافِ كَمَا ذَكَرَهُ الشُّرَّاحُ .
وَذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا بِأَنْ يَنْحَصِرَ الْقَوْلُ مِنْهُ فِي هَاتِيكَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا ذُكِرَ فِي الْمَعَاقِلِ ، وَإِلَّا لَا تَتَقَرَّرُ الشُّبْهَةُ بَلْ تَرْتَفِعُ بِالْحَمْلِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مِنْهُ تَفَكَّرْ تَفْهَمْ

قَالَ : ( وَدِيَةُ الْمَرْأَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ ) وَقَدْ وَرَدَ هَذَا اللَّفْظُ مَوْقُوفًا عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : مَا دُونَ الثُّلُثِ لَا يُتَنَصَّفُ ، وَإِمَامُهُ فِيهِ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَاهُ بِعُمُومِهِ ، وَلِأَنَّ حَالَهَا أَنْقَصُ مِنْ حَالِ الرَّجُلِ وَمَنْفَعَتُهَا أَقَلُّ ، وَقَدْ ظَهَرَ أَثَرُ النُّقْصَانِ بِالتَّنْصِيفِ فِي النَّفْسِ فَكَذَا فِي أَطْرَافِهَا وَأَجْزَائِهَا اعْتِبَارًا بِهَا وَبِالثُّلُثِ وَمَا فَوْقَهُ .
( قَوْلُهُ وَلِأَنَّ حَالَهَا أَنْقَصُ مِنْ حَالِ الرَّجُلِ وَمَنْفَعَتَهَا أَقَلُّ ) وَقَدْ ظَهَرَ أَثَرُ النُّقْصَانِ بِالتَّنْصِيفِ فِي النَّفْسِ فَكَذَا فِي أَطْرَافِهَا وَأَجْزَائِهَا اعْتِبَارًا بِهَا وَبِالثُّلُثِ وَمَا فَوْقَهُ .
أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : حَاصِلُ هَذَا التَّعْلِيلِ الْقِيَاسُ ، وَلَا مَجَالَ لَهُ فِي هَذَا الْبَابِ لِأَنَّ الدِّيَةَ مِنْ الْمُقَدَّرَاتِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَلَا يَجْرِي الْقِيَاسُ فِي الْمَقَادِيرِ مَا نَصُّوا عَلَيْهِ .
ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ قَالَ فِي تَعْلِيلِ قَوْلِهِ : فَكَذَا فِي أَطْرَافِهَا وَأَجْزَائِهَا اعْتِبَارًا بِهَا وَبِالثُّلُثِ وَمَا فَوْقَهُ لِئَلَّا يَلْزَمَ مُخَالَفَةُ التَّبَعِ لِلْأَصْلِ ، وَتَبَعَهُ الْعَيْنِيُّ .
أَقُولُ : لِمَانِعٍ أَنْ يَمْنَعَ بُطْلَانَ اللَّازِمِ إذْ لَا مَحْذُورَ فِي مُخَالَفَةِ التَّبَعِ الَّذِي هُوَ الْأَطْرَافُ لِلْأَصْلِ الَّذِي هُوَ النَّفْسُ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ الْقِصَاصَ يَجْرِي بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَلَا يَجْرِي بَيْنَهُمَا فِيمَا دُونَ النَّفْسِ عِنْدَنَا كَمَا مَرَّ فِي كِتَابِ الْجِنَايَاتِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ الْمُخَالَفَةُ بَيْنَ النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا فِي حُكْمِ الدِّيَةِ أَيْضًا .

قَالَ : ( وَدِيَةُ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ سَوَاءٌ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : دِيَةُ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ ، وَدِيَةُ الْمَجُوسِيِّ ثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ .
وَقَالَ مَالِكٌ : دِيَةُ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ سِتَّةُ آلَافِ دِرْهَمٍ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { عَقْلُ الْكَافِرِ نِصْفُ عَقْلِ الْمُسْلِمِ } وَالْكُلُّ عِنْدَهُ اثْنَا عَشْرَ أَلْفًا .
وَلِلشَّافِعِيِّ مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَعَلَ دِيَةَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ ، وَدِيَةَ الْمَجُوسِيِّ ثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ } .
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { دِيَةُ كُلِّ ذِي عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ أَلْفُ دِينَارٍ } وَكَذَلِكَ قَضَى أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمْ يُعْرَفْ رَاوِيهِ وَلَمْ يُذْكَرْ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ ، وَمَا رَوَيْنَاهُ أَشْهُرُ مِمَّا رَوَاهُ مَالِكٌ فَإِنَّهُ ظَهَرَ بِهِ عَمَلُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
.

فَصْلٌ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ قَالَ : ( وَفِي النَّفْسِ الدِّيَةُ ) وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ .
قَالَ ( وَفِي الْمَارِنِ الدِّيَةُ ، وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ ، وَفِي الذَّكَرِ الدِّيَةُ ) وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { : فِي النَّفْسِ الدِّيَةُ ، وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ ، وَفِي الْمَارِنِ الدِّيَةُ } وَهَكَذَا هُوَ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَالْأَصْلُ فِي الْأَطْرَافِ أَنَّهُ إذَا فَوَّتَ جِنْسَ مَنْفَعَةٍ عَلَى الْكَمَالِ أَوْ أَزَالَ جَمَالًا مَقْصُودًا فِي الْآدَمِيِّ عَلَى الْكَمَالِ يَجِبُ كُلُّ الدِّيَةِ لِإِتْلَافِهِ النَّفْسَ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ مُلْحَقٌ بِالْإِتْلَافِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ تَعْظِيمًا لِلْآدَمِيِّ .
أَصْلُهُ قَضَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالدِّيَةِ كُلِّهَا فِي اللِّسَانِ وَالْأَنْفِ ، وَعَلَى هَذَا تَنْسَحِبُ فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ فَنَقُولُ : فِي الْأَنْفِ الدِّيَةُ لِأَنَّهُ أَزَالَ الْجَمَالَ عَلَى الْكَمَالِ وَهُوَ مَقْصُودٌ ، وَكَذَا إذَا قَطَعَ الْمَارِنَ أَوْ الْأَرْنَبَةَ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَلَوْ قَطَعَ الْمَارِنَ مَعَ الْقَصَبَةِ لَا يُزَادُ عَلَى دِيَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّهُ عُضْوٌ وَاحِدٌ ، وَكَذَا اللِّسَانُ لِفَوَاتِ مَنْفَعَةِ مَقْصُودَةٍ وَهُوَ النُّطْقُ ، وَكَذَا فِي قَطْعِ بَعْضِهِ إذَا مَنَعَ الْكَلَامَ لِتَفْوِيتِ مَنْفَعَةٍ مَقْصُودَةٍ وَإِنْ كَانَتْ الْآلَةُ قَائِمَةً ، وَلَوْ قَدَرَ عَلَى التَّكَلُّمِ بِبَعْضِ الْحُرُوفِ قِيلَ : تُقْسَمُ عَلَى عَدَدِ الْحُرُوفِ ، وَقِيلَ : عَلَى عَدَدِ حُرُوفٍ تَتَعَلَّقُ بِاللِّسَانِ ؛ فَبِقَدْرِ مَا لَا يَقْدِرُ تَجِبُ ، وَقِيلَ : إنْ قَدَرَ عَلَى أَدَاءِ أَكْثَرِهَا تَجِبُ حُكُومَةُ عَدْلٍ لِحُصُولِ الْإِفْهَامِ مَعَ الِاخْتِلَالِ ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ أَدَاءِ الْأَكْثَرِ يَجِبُ كُلُّ الدِّيَةِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا تَحْصُلُ مَنْفَعَةُ الْكَلَامِ ، وَكَذَا الذَّكَر لِأَنَّهُ يُفَوِّتُ بِهِ مَنْفَعَةَ الْوَطْءِ وَالْإِيلَادِ وَاسْتِمْسَاكِ الْبَوْلِ

وَالرَّمْي بِهِ وَدَفْقِ الْمَاءِ وَالْإِيلَاجِ الَّذِي هُوَ طَرِيقُ الْإِعْلَاقِ عَادَةً ، وَكَذَا فِي الْحَشَفَةِ الدِّيَةُ كَامِلَةً ، لِأَنَّ الْحَشَفَةَ أَصْلٌ فِي مَنْفَعَةِ الْإِيلَاجِ وَالدَّفْقِ وَالْقَصَبَةُ كَالتَّابِعِ لَهُ .
.

( فَصْلُ الدِّيَةِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ ) لَمَّا ذَكَرَ حُكْمَ الدِّيَةِ فِي النَّفْسِ ذَكَرَ فِي هَذَا الْفَصْلِ حُكْمَهَا فِيمَا دُونَ النَّفْسِ لِأَنَّ الْأَطْرَافَ تَابِعَةٌ لِلنَّفْسِ فَأَتْبَعَ ذِكْرُ حُكْمِهَا أَيْضًا تَحْقِيقًا لِلْمُنَاسَبَةِ ( قَوْلُهُ أَصْلُهُ قَضَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالدِّيَةِ كُلِّهَا فِي اللِّسَانِ وَالْأَنْفِ ) قَالَ فِي الْكَافِي وَغَايَةِ الْبَيَانِ : فَقِسْنَا عَلَيْهِ غَيْرَهُ إذَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّ الدِّيَةَ مِنْ الْمُقَدَّرَاتِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْقِيَاسُ لَا يَجْرِي فِيهَا عَلَى مَا عُرِفَ فَالصَّوَابُ عِنْدِي هُنَا أَنْ يُقَالَ : فَأَلْحَقْنَا بِهِ غَيْرَهُ دَلَالَةً ( قَوْلُهُ وَلَوْ قَدَرَ عَلَى التَّكَلُّمِ بِبَعْضِ الْحُرُوفِ قِيلَ تُقْسَمُ عَلَى عَدَدِ الْحُرُوفِ ، وَقِيلَ عَلَى عَدَدِ حُرُوفٍ تَتَعَلَّقُ بِاللِّسَانِ فَبِقَدْرِ مَا لَا يُقَدَّرُ تَجِبُ ) قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ : وَالْحُرُوفُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِاللِّسَانِ هِيَ الْأَلْفُ وَالتَّاءُ وَالثَّاءُ وَالْجِيمُ وَالدَّالُ وَالرَّاءُ وَالزَّايُ وَالسِّينُ وَالشِّينُ وَالصَّادُ وَالضَّادُ وَالطَّاءُ وَالظَّاءُ وَاللَّامُ وَالنُّونُ انْتَهَى .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ عَنْ النِّهَايَةِ : وَفِي كَوْنِ الْأَلْفِ مِنْ ذَلِكَ نَظَرٌ ، لِأَنَّهُ مِنْ أَقْصَى الْحَلْقِ عَلَى مَا عُرِفَ انْتَهَى .
أَقُولُ : نَظَرُهُ سَاقِطٌ إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَ جُمْهُورِ الشُّرَّاحِ بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ وَالثَّاءِ وَغَيْرِهَا مِمَّا ذَكَرُوا هُوَ الْأَلْفَاظُ الَّتِي يُتَهَجَّى بِهَا لَا الْحُرُوفُ الْمَبْسُوطَةُ الَّتِي يَتَرَكَّبُ مِنْهَا الْكَلِمُ ، وَاَلَّذِي مِنْ أَقْصَى الْحَلْقِ إنَّمَا هُوَ الْحَرْفُ الَّذِي يَقَعُ جُزْءُ الْكَلِمِ كَمَا فِي أَوَّلِ أَخَذَ وَأَوْسَطِ سَأَلَ وَآخِرَ قَرَأَ ؛ لَا الْحَرْفُ الَّذِي يُتَهَجَّى بِهِ وَهُوَ لَفْظُ أَلْفٍ إذْ هُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَجْزَاءٍ مُتَعَلِّقٌ بِاللِّسَانِ بِوَاسِطَةِ جُزْئِهِ الْأَوْسَطِ الَّذِي هُوَ اللَّامُ ، فَمَنْشَأُ نَظَرِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ عَدَمُ وُقُوفِهِ عَلَى مُرَادِهِمْ ، كَيْفَ

وَلَوْ كَانَ مُرَادُهُمْ مَا تَوَهَّمَهُ لَذَكَرُوا الْهَمْزَةَ بَدَلَ الْأَلْفِ كَمَا لَا يَخْفَى .
فَإِنْ قُلْت : الْأَلْفَاظُ الَّتِي يُتَهَجَّى بِهَا أَسْمَاءُ مُسَمَّيَاتِهَا الْحُرُوفُ الْمَبْسُوطَةُ الَّتِي رُكِّبَتْ مِنْهَا الْكَلِمُ كَمَا حَقَّقَهُ صَاحِبُ الْكَشَّافِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، وَجُمْهُورُ الشُّرَّاحِ إنَّمَا عَدُوًّا الْأَلْفَ وَنَظَائِرَهُ مِنْ الْحُرُوفِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِاللِّسَانِ فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُمْ بِذَلِكَ مَا يُتَهَجَّى بِهِ مِنْ الْأَلْفَاظِ ؟ قُلْت : قَدْ وَقَعَ فِي عِبَارَاتِ الْمُتَقَدِّمِينَ إطْلَاقُ الْحُرُوفِ عَلَى تِلْكَ الْأَلْفَاظِ مُسَامَحَةً اسْتِعْمَالًا لِلْحَرْفِ فِي مَعْنَى الْكَلِمَةِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَيْضًا صَاحِبُ الْكَشَّافِ هُنَاكَ وَكَلَامُ هَؤُلَاءِ الشُّرَّاحِ هَاهُنَا ، بَلْ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ أَيْضًا جَارٍ عَلَى ذَلِكَ الِاصْطِلَاحِ الشَّائِعِ فِيمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَلِهَذَا يَقُولُونَ لَهَا حُرُوفُ التَّهَجِّي .
فَإِنْ قُلْت : لِمَ لَمْ يُرِيدُوا بِالْحُرُوفِ هَاهُنَا الْحُرُوفَ الْمَبْسُوطَةَ الَّتِي يَتَرَكَّبُ مِنْهَا الْكَلِمُ وَلَمْ يُخْرِجُوا الْأَلِفَ مِنْ عِدَادِ الْحُرُوفِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِاللِّسَانِ ؟ قُلْت : لَعَلَّ سِرَّ ذَلِكَ أَنَّ الْفَائِتَ مِنْ الْحُرُوفِ إنَّمَا يُعْرَفُ بِالِامْتِحَانِ ، وَالِامْتِحَانُ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْعَادَةِ بِحُرُوفِ التَّهَجِّي كَمَا وَقَعَ بِهَا فِي قِصَّةِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَهِيَ مَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَطَعَ طَرَفَ لِسَانِ رَجُلٍ فِي زَمَنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَمَرَهُ أَنْ يَقْرَأَ أ ب ت ث فَكُلَّمَا قَرَأَ حَرْفًا أَسْقَطَ مِنْ الدِّيَةِ بِقَدْرِ ذَلِكَ ، وَمَا لَمْ يَقْرَأْ أَوْجَبَ مِنْ الدِّيَةِ بِحِسَابِهِ وَهُوَ الْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الشُّرُوحِ وَغَيْرِهَا ، فَجَرُوا هَاهُنَا فِي الْعِبَارَةِ وَالْإِرَادَةِ عَلَى وَفْقِ ذَلِكَ تَأَمَّلْ تَقِفْ

قَالَ : ( وَفِي الْعَقْلِ إذَا ذَهَبَ بِالضَّرْبِ الدِّيَةُ ) لِفَوَاتِ مَنْفَعَةِ الْإِدْرَاكِ إذْ بِهِ يَنْتَفِعُ بِنَفْسِهِ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ ( وَكَذَا إذَا ذَهَبَ سَمْعُهُ أَوْ بَصَرُهُ أَوْ شَمُّهُ أَوْ ذَوْقُهُ ) لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ ، وَقَدْ رُوِيَ : أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَضَى بِأَرْبَعِ دِيَاتٍ فِي ضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ ذَهَبَ بِهَا الْعَقْلُ وَالْكَلَامُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ .
.

قَالَ : ( وَفِي اللِّحْيَةِ إذَا حُلِقَتْ فَلَمْ تَنْبُتُ الدِّيَةُ ) لِأَنَّهُ يُفَوِّتَ بِهِ مَنْفَعَةَ الْجَمَالِ .
قَالَ ( وَفِي شَعْرِ الرَّأْسِ الدِّيَةُ ) لِمَا قُلْنَا .
وَقَالَ مَالِكٌ : وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ تَجِبُ فِيهِمَا حُكُومَةُ عَدْلٍ ، لِأَنَّ ذَلِكَ زِيَادَةٌ فِي الْآدَمِيِّ ، وَلِهَذَا يُحْلَقُ شَعْرُ الرَّأْسِ كُلُّهُ ، وَاللِّحْيَةُ بَعْضُهَا فِي بَعْضِ الْبِلَادِ وَصَارَ كَشَعْرِ الصَّدْرِ وَالسَّاقِ وَلِهَذَا يَجِبُ فِي شَعْرِ الْعَبْدِ نُقْصَانُ الْقِيمَةِ .
وَلَنَا أَنَّ اللِّحْيَةَ فِي وَقْتِهَا جَمَالٌ وَفِي حَلْقِهَا تَفْوِيتُهُ عَلَى الْكَمَالِ فَتَجِبُ الدِّيَةُ كَمَا فِي الْأُذُنَيْنِ الشَّاخِصَتَيْنِ ، وَكَذَا شَعْرُ الرَّأْسِ جَمَالٌ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ عَدِمَهُ خِلْقَةً يَتَكَلَّفُ فِي سَتْرِهِ ، بِخِلَافِ شَعْرِ الصَّدْرِ وَالسَّاقِ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ جَمَالٌ .
وَأَمَّا لِحْيَةُ الْعَبْدِ فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجِبُ فِيهَا كَمَالُ الْقِيمَةِ ، وَالتَّخْرِيجُ عَلَى الظَّاهِرِ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْعَبْدِ الْمَنْفَعَةُ بِالِاسْتِعْمَالِ دُونَ الْجَمَالِ بِخِلَافِ الْحُرِّ .
.

قَالَ : ( وَفِي الشَّارِبِ حُكُومَةُ عَدْلٍ هُوَ الْأَصَحُّ ) لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِلِّحْيَةِ فَصَارَ كَبَعْضِ أَطْرَافِهَا .

( وَلِحْيَةُ الْكَوْسَجِ إنْ كَانَ عَلَى ذَقَنِهِ شَعَرَاتٌ مَعْدُودَةٌ فَلَا شَيْءَ فِي حَلْقِهِ ) لِأَنَّ وُجُودَهُ يَشِينُهُ وَلَا يَزِينُهُ ( وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَكَانَ عَلَى الْخَدِّ وَالذَّقَنِ جَمِيعًا لَكِنَّهُ غَيْرُ مُتَّصِلٍ فَفِيهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ ) لِأَنَّ فِيهِ بَعْضَ الْجَمَالِ ( وَإِنْ كَانَ مُتَّصِلًا فَفِيهِ كَمَالُ الدِّيَةِ ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِكَوْسَجٍ وَفِيهِ مَعْنَى الْجَمَالِ ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا فَسَدَ الْمَنْبَتُ ، فَإِنْ نَبَتَتْ حَتَّى اسْتَوَى كَمَا كَانَ لَا يَجِبُ شَيْءٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ أَثَرُ الْجِنَايَةِ وَيُؤَدَّبُ عَلَى ارْتِكَابِهِ مَا لَا يَحِلُّ ، وَإِنْ نَبَتَتْ بَيْضَاءَ فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ شَيْءٌ فِي الْحُرِّ لِأَنَّهُ يَزِيدُ جَمَالًا ، وَفِي الْعَبْدِ تَجِبُ حُكُومَةُ عَدْلٍ لِأَنَّهُ يَنْقُصُ قِيمَتُهُ ، وَعِنْدَهُمَا تَجِبُ حُكُومَةُ عَدْلٍ لِأَنَّهُ فِي غَيْرِ أَوَانِهِ يَشِينُهُ وَلَا يَزِينُهُ ، .
وَيَسْتَوِي الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ عَلَى هَذَا الْجُمْهُورِ .
.
( قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ مُتَّصِلًا فَفِيهِ كَمَالُ الدِّيَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِكَوْسَجٍ وَفِيهِ مَعْنَى الْجَمَالِ ) أَقُولُ : يُرَدُّ عَلَى ظَاهِرِ هَذَا التَّعْلِيلِ أَنَّهُ يُنَافِي سِيَاقَ كَلَامِهِ ، فَإِنَّهُ قَسَمَ لِحْيَةَ الْكَوْسَجِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ وَجَعَلَ مِنْهَا مَا كَانَ مُتَّصِلًا ؛ فَقَوْلُهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِكَوْسَجٍ فِي تَعْلِيلِ قَوْلِهِ وَإِنْ كَانَ مُتَّصِلًا فَفِيهِ كَمَالُ الدِّيَةِ يُنَافِي ذَلِكَ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ مُرَادَهُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِكَوْسَجٍ أَنَّهُ لَيْسَ بِكَوْسَجٍ حَقِيقَةً وَإِنْ كَانَ فِي صُورَةِ الْكَوْسَجِ ، وَاَلَّذِي قَسَمَ لِحْيَتَهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ فِي سِيَاقِ كَلَامِهِ أَعَمُّ مِنْ الْكَوْسَجِ الْحَقِيقِيِّ .
وَالصُّورِيِّ فَلَا مُنَافَاةَ

( وَفِي الْحَاجِبَيْنِ الدِّيَةُ وَفِي إحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ ) وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَجِبُ حُكُومَةُ عَدْلٍ ، وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ فِيهِ فِي اللِّحْيَةِ .
.

قَالَ ( وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ ، وَفِي الْيَدَيْنِ الدِّيَةُ ، وَفِي الرِّجْلَيْنِ الدِّيَةُ ، وَفِي الشَّفَتَيْنِ الدِّيَةُ ، وَفِي الْأُذُنَيْنِ الدِّيَةُ ، وَفِي الْأُنْثَيَيْنِ الدِّيَةُ ) كَذَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
قَالَ : ( وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ نِصْفُ الدِّيَةِ ) وَفِيمَا كَتَبَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ { وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ ، وَفِي إحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ } وَلِأَنَّ فِي تَفْوِيتِ الِاثْنَيْنِ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ تَفْوِيتُ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ أَوْ كَمَالِ الْجَمَالِ فَيَجِبُ كُلُّ الدِّيَةِ ، وَفِي تَفْوِيتِ إحْدَاهُمَا تَفْوِيتُ النِّصْفِ فَيَجِبُ نِصْفُ الدِّيَةِ .
.

قَالَ : ( وَفِي ثَدْيَيْ الْمَرْأَةِ الدِّيَةُ ) لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ ( وَفِي إحْدَاهُمَا نِصْفُ دِيَةِ الْمَرْأَةِ ) لِمَا بَيَّنَّا ، بِخِلَافِ ثَدْيَيْ الرَّجُلِ حَيْثُ تَجِبُ حُكُومَةُ عَدْلٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَفْوِيتُ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ وَالْجَمَالِ .

( وَفِي حَلَمَتَيْ الْمَرْأَةِ الدِّيَةُ كَامِلَةً ) لِفَوَاتِ جِنْسِ مَنْفَعَةِ الْإِرْضَاعِ وَإِمْسَاكِ اللَّبَنِ ( وَفِي إحْدَاهُمَا نِصْفُهَا ) لِمَا بَيَّنَّاهُ .
.

قَالَ ( وَفِي أَشْفَارِ الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ وَفِي إحْدَاهَا رُبْعُ الدِّيَةِ ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : يُحْتَمَلُ أَنَّ مُرَادَهُ الْأَهْدَابُ مَجَازًا كَمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ لِلْمُجَاوِرَةِ كَالرَّاوِيَةِ لِلْقِرْبَةِ وَهِيَ حَقِيقَةٌ فِي الْبَعِيرِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ يُفَوِّتُ الْجَمَالَ عَلَى الْكَمَالِ وَجِنْسَ الْمَنْفَعَةِ وَهِيَ مَنْفَعَةُ دَفْعِ الْأَذَى وَالْقَذَى عَنْ الْعَيْنِ إذْ هُوَ يَنْدَفِعُ بِالْهُدْبِ ، وَإِذَا كَانَ الْوَاجِبُ فِي الْكُلِّ كُلَّ الدِّيَةِ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ كَانَ فِي أَحَدِهَا رُبْعُ الدِّيَةِ وَفِي ثَلَاثَةٍ مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ مَنْبَتَ الشَّعْرِ وَالْحُكْمُ فِيهِ هَكَذَا .

( وَلَوْ قَطَعَ الْجُفُونَ بِأَهْدَابِهَا فَفِيهِ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ ) لِأَنَّ الْكُلَّ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ وَصَارَ كَالْمَارِنِ مَعَ الْقَصَبَةِ .
.

قَالَ ( وَفِي كُلِّ أُصْبُعٍ مِنْ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ عُشْرُ الدِّيَةِ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { فِي كُلِّ أُصْبُعٍ عَشْرٌ مِنْ الْإِبِلِ } وَلِأَنَّ فِي قَطْعِ الْكُلِّ تَفْوِيتُ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ وَفِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ وَهِيَ عَشَرٌ فَتَنْقَسِمُ الدِّيَةُ عَلَيْهَا .
قَالَ ( وَالْأَصَابِعُ كُلُّهَا سَوَاءٌ ) لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ ، وَلِأَنَّهَا سَوَاءٌ فِي أَصْلِ الْمَنْفَعَةِ فَلَا تُعْتَبَرُ الزِّيَادَةُ فِيهِ كَالْيَمِينِ مَعَ الشِّمَالِ ، وَكَذَا أَصَابِعُ الرِّجْلَيْنِ لِأَنَّهُ يُفَوِّتُ بِقَطْعِ كُلِّهَا مَنْفَعَةَ الْمَشْيِ فَتَجِبُ الدِّيَةُ كَامِلَةٌ ، ثُمَّ فِيهِمَا عَشَرُ أَصَابِعَ فَتَنْقَسِمُ الدِّيَةُ عَلَيْهَا أَعْشَارًا .

قَالَ ( وَفِي كُلِّ أُصْبُعٍ فِيهَا ثَلَاثَةُ مَفَاصِلَ ؛ فَفِي أَحَدِهَا ثُلُثُ دِيَةِ الْأُصْبُعِ وَمَا فِيهَا مِفْصَلَانِ فَفِي أَحَدِهِمَا نِصْفُ دِيَةِ الْأُصْبُعِ ) وَهُوَ نَظِيرُ انْقِسَامِ دِيَةِ الْيَدِ عَلَى الْأَصَابِعِ .
.

قَالَ : ( وَفِي كُلِّ سِنٍّ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { وَفِي كُلِّ سِنٍّ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ } وَالْأَسْنَانُ وَالْأَضْرَاسُ كُلُّهَا سَوَاءٌ لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا ، وَلِمَا رُوِيَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ : وَالْأَسْنَانُ كُلُّهَا سَوَاءٌ ، وَلِأَنَّ كُلَّهَا فِي أَصْلِ الْمَنْفَعَةِ سَوَاءٌ فَلَا يُعْتَبَرُ التَّفَاضُلُ كَالْأَيْدِي وَالْأَصَابِعِ ، وَهَذَا إذَا كَانَ خَطَأً ، فَإِنْ كَانَ عَمْدًا فَفِيهِ الْقِصَاصُ وَقَدْ مَرَّ فِي الْجِنَايَاتِ .
.

( قَوْلُهُ وَالْأَسْنَانُ وَالْأَضْرَاسُ كُلُّهَا سَوَاءٌ ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ : قَالُوا فِيهِ نَظَرٌ .
وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ : وَالْأَسْنَانُ كُلُّهَا سَوَاءٌ ، أَوْ يُقَالَ : وَالْأَنْيَابُ وَالْأَضْرَاسُ كُلُّهَا سَوَاءٌ ، لِأَنَّ السِّنَّ اسْمُ جِنْسٍ يَدْخُلُ تَحْتَهُ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ : أَرْبَعٌ مِنْهَا ثَنَايَا وَهِيَ الْأَسْنَانُ الْمُتَقَدِّمَةُ ، اثْنَتَانِ فَوْقَ وَاثْنَتَانِ أَسْفَلَ ، وَمِثْلُهَا رَبَاعِيَاتٌ وَهِيَ مَا يَلِي الثَّنَايَا ، وَمِثْلُهَا أَنْيَابٌ تَلِي الرَّبَاعِيَاتِ ، وَمِثْلُهَا .
ضَوَاحِكُ تَلِي الْأَنْيَابَ ، وَاثْنَتَا عَشَرَةَ سِنًّا تُسَمَّى بِالطَّوَاحِنِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ثَلَاثٌ فَوْقَ وَثَلَاثٌ أَسْفَلَ ، وَبَعْدَهَا سِنٌّ وَهِيَ آخِرُ الْأَسْنَانِ تُسَمَّى ضِرْسُ الْحِلْمِ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَقْتَ كَمَالِ الْعَقْلِ ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ : الْأَسْنَانُ وَالْأَضْرَاسُ سَوَاءٌ لِعَوْدِهِ ، إلَى مَعْنَى أَنْ يُقَالَ : الْأَسْنَانُ وَبَعْضُهَا سَوَاءٌ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِي هَذَا النَّظَرِ مُبَالَغَةٌ مَرْدُودَةٌ حَيْثُ قِيلَ فِي أَوَّلِهِ : وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ مَا فِي الْكِتَابِ خَطَأٌ ، وَقِيلَ فِي آخِرِهِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ الْأَسْنَانُ وَالْأَضْرَاسُ سَوَاءٌ ، وَفِيهِ تَصْرِيحٌ بِعَدَمِ صِحَّةِ مَا فِي الْكِتَابِ مَعَ أَنَّ تَصْحِيحَهُ عَلَى طَرَفِ التَّمَامِ فَإِنَّ عَطْفَ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِ طَرِيقَةٌ مَعْرُوفَةٌ قَدْ ذُكِرَتْ مِزْيَتُهُ فِي عِلْمِ الْبَلَاغَةِ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ فِي التَّنْزِيلِ مِنْهَا قَوْله تَعَالَى { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى } وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ قَبِيلِ ذَلِكَ ، وَيَعُودُ حَاصِلُ مَعْنَاهُ إلَى أَنْ يُقَالَ : الْأَضْرَاسُ وَمَا عَدَاهُ مِنْ الْأَسْنَانِ سَوَاءٌ فَإِنَّهُ إذَا عَطَفَ الْخَاصَّ عَلَى الْعَامِّ يُرَادُ بِالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ مَا عَدَا الْمَعْطُوفِ مِنْ أَفْرَادِ الْعَامِّ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فَلَا يَلْزَمُ الْمَحْذُورُ .
ثُمَّ إنَّ

قَوْلَهُ أَوْ يُقَالَ وَالْأَنْيَابُ وَالْأَضْرَاسُ كُلُّهَا سَوَاءٌ مُعَارَضٌ بِمِثْلِ مَا أَوْرَدَ عَلَى مَا فِي الْكِتَابِ ، فَإِنَّ الْأَضْرَاسَ تَعُمُّ الْأَنْيَابَ كَمَا أَفْصَحَ عَنْهُ فِي الْمَغْرِبِ حَيْثُ قَالَ : الْأَضْرَاسُ مَا سِوَى الثَّنَايَا مِنْ الْأَسْنَانِ ، وَكَذَا ذُكِرَ فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا فَيَعُودُ مَعْنَى قَوْلِهِ وَالْأَنْيَابُ وَالْأَضْرَاسُ سَوَاءٌ إلَى أَنْ يُقَالَ : وَبَعْضُ الْأَضْرَاسِ وَالْأَضْرَاسُ كُلُّهَا سَوَاءٌ لِمِثْلِ مَا ذُكِرَ فِي الْإِيرَادِ عَلَى مَا فِي الْكِتَابِ ، فَلَا مَعْنَى لَأَنْ يَكُونَ ذَاكَ صَوَابًا دُونَ مَا فِي الْكِتَابِ .
نَعَمْ الْأَظْهَرُ فِي إفَادَةِ الْمُرَادِ هَاهُنَا أَنْ يُقَالَ : وَالْأَسْنَانُ كُلُّهَا سَوَاءٌ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ لَفْظُ الْحَدِيثِ ، أَوْ أَنْ يُقَالَ : وَالْأَضْرَاسُ وَالثَّنَايَا كُلُّهَا سَوَاءٌ بِالْجَمْعِ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ كَمَا ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ .

قَالَ : ( وَمَنْ ضَرَبَ عُضْوًا فَأَذْهَب مَنْفَعَتَهُ فَفِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ كَالْيَدِ إذَا شُلَّتْ وَالْعَيْنِ إذَا ذَهَبَ ضَوْءُهَا ) لِأَنَّ الْمُتَعَلِّقَ تَفْوِيتُ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ لَا فَوَاتُ الصُّورَةِ .

( وَمَنْ ضَرَبَ صُلْبَ غَيْرِهِ فَانْقَطَعَ مَاؤُهُ تَجِبُ الدِّيَةُ ) لِتَفْوِيتِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ ( وَكَذَا لَوْ أَحْدَبَهُ ) لِأَنَّهُ فَوَّتَ جَمَالًا عَلَى الْكَمَالِ وَهُوَ اسْتِوَاءُ الْقَامَةِ ( فَلَوْ زَالَتْ الْحُدُوبَةُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ) لِزَوَالِهَا لَا عَنْ أَثَرٍ .

فَصْلٌ فِي الشِّجَاجِ قَالَ ( الشِّجَاجُ عَشْرَةٌ : الْحَارِصَةُ ) وَهِيَ الَّتِي تَحْرِصُ الْجِلْدَ : أَيْ تَخْدِشُهُ وَلَا تُخْرِجُ الدَّمَ ( وَالدَّامِعَةُ ) وَهِيَ الَّتِي تُظْهِرُ الدَّمَ وَلَا تُسِيلُهُ كَالدَّمْعِ مِنْ الْعَيْنِ ( وَالدَّامِيَةُ ) وَهِيَ الَّتِي تُسِيلُ الدَّمَ ( وَالْبَاضِعَةُ ) وَهِيَ الَّتِي تَبْضَعُ الْجِلْدَ أَيْ تَقْطَعُهُ ( وَالْمُتَلَاحِمَةُ ) وَهِيَ الَّتِي تَأْخُذُ فِي اللَّحْمِ ( وَالسِّمْحَاقُ ) وَهِيَ الَّتِي تَصِلُ إلَى السِّمْحَاقِ وَهِيَ جَلْدَةٌ رَقِيقَةٌ بَيْنَ اللَّحْمِ وَعَظْمِ الرَّأْسِ ( وَالْمُوضِحَةُ ) وَهِيَ الَّتِي تُوضِحُ الْعَظْمَ أَيْ تُبَيِّنُهُ ( وَالْهَاشِمَةُ ) وَهِيَ الَّتِي تُهَشِّمُ الْعَظْمَ : أَيْ تَكْسِرُهُ ( وَالْمُنَقِّلَةُ ) وَهِيَ الَّتِي تُنَقِّلُ الْعَظْمَ بَعْدَ الْكَسْرِ : أَيْ تُحَوِّلُهُ ( وَالْآمَّةُ ) وَهِيَ الَّتِي تَصِلُ إلَى أُمِّ الرَّأْسِ وَهُوَ الَّذِي فِيهِ الدِّمَاغُ .
قَالَ : ( فَفِي الْمُوضِحَةِ الْقِصَاصُ إنْ كَانَتْ عَمْدًا ) لِمَا رُوِيَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَضَى بِالْقِصَاصِ فِي الْمُوضِحَةِ } وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَنْتَهِيَ السِّكِّينُ إلَى الْعَظْمِ فَيَتَسَاوَيَانِ فَيَتَحَقَّقُ الْقِصَاصُ .
قَالَ : ( وَلَا قِصَاصَ فِي بَقِيَّةِ الشِّجَاجِ ) لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْمُسَاوَاةِ فِيهَا لِأَنَّهُ لَا حَدَّ يَنْتَهِي السِّكِّينُ إلَيْهِ ، وَلِأَنَّ فِيمَا فَوْقَ الْمُوضِحَةِ كَسْرَ الْعَظْمِ وَلَا قِصَاصَ فِيهِ ، وَهَذَا رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ : يَجِبُ الْقِصَاصُ فِيمَا قَبْلَ الْمُوضِحَةِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْمُسَاوَاةِ فِيهِ ، إذْ لَيْسَ فِيهِ كَسْرُ الْعَظْمِ وَلَا خَوْفُ هَلَاكٍ غَالِبٍ فَيُسْبَرُ غَوْرُهَا بِمِسْبَارٍ ثُمَّ تُتَّخَذُ حَدِيدَةٌ بِقَدْرِ ذَلِكَ فَيُقْطَعُ بِهَا مِقْدَارُ مَا قَطَعَ فَيَتَحَقَّقُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ .
قَالَ ( وَفِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ حُكُومَةُ عَدْلٍ ) لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ وَلَا يُمْكِنُ إهْدَارُهُ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ بِحُكْمِ الْعَدْلِ ، وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ النَّخَعِيِّ وَعُمَرَ بْنِ

عَبْدِ الْعَزِيزِ .
قَالَ ( وَفِي الْمُوضِحَةِ إنْ كَانَتْ خَطَأً نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ ، وَفِي الْهَاشِمَةِ عُشْرُ الدِّيَةِ ، وَفِي الْمُنَقِّلَةِ عُشْرُ الدِّيَةِ وَنِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ ، وَفِي الْآمَّةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ ، وَفِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ ، فَإِنْ نَفَذَتْ فَهُمَا جَائِفَتَانِ فَفِيهِمَا ثُلُثَا الدِّيَةِ ) لِمَا رُوِيَ فِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { وَفِي الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ ، وَفِي الْهَاشِمَةِ عَشْرٌ ، وَفِي الْمُنَقِّلَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ ، وَفِي الْآمَّةِ } وَيُرْوَى { الْمَأْمُومَةُ ثُلُثُ الدِّيَةِ } وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { فِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ } وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ حَكَمَ فِي جَائِفَةٍ نَفَذَتْ إلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ بِثُلُثَيْ الدِّيَةِ ، وَلِأَنَّهَا إذَا نَفَذَتْ نَزَلَتْ مَنْزِلَةَ جَائِفَتَيْنِ إحْدَاهُمَا مِنْ جَانِبِ الْبَطْنِ وَالْأُخْرَى مِنْ جَانِبِ الظَّهْرِ وَفِي كُلِّ جَائِفَةٍ ثُلُثُ الدِّيَةِ فَلِهَذَا وَجَبَ فِي النَّافِذَةِ ثُلُثَا الدِّيَةِ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ جَعَلَ الْمُتَلَاحِمَةَ قَبْلَ الْبَاضِعَةِ وَقَالَ : هِيَ الَّتِي يَتَلَاحَمُ فِيهَا الدَّمُ وَيَسْوَدُّ .
وَمَا ذَكَرْنَاهُ بَدْءًا مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَهَذَا اخْتِلَافُ عِبَارَةٍ لَا يَعُودُ إلَى مَعْنًى وَحُكْمٍ .
.

( فَصْلٌ فِي الشِّجَاجِ ) .
لَمَّا كَانَ الشِّجَاجُ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ مَا دُونَ النَّفْسِ وَتَكَاثَرَتْ مَسَائِلُهُ اسْمًا وَحُكْمًا ذَكَرَهُ فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ .
قُلْت : لَوْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ لَفْظَ الْبَابِ بَدَلَ لَفْظِ الْفَصْلِ فِي قَوْلِهِ فَصْلٌ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ ثُمَّ ذَكَرَ الشِّجَاجَ الَّتِي هِيَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ مَا دُونَ النَّفْسِ فِي فَصْلٍ وَذَكَرَ سَائِرَ أَنْوَاعِهِ الَّتِي سَتَجِيءُ فِي الْفَصْلِ الْآتِي فِي فَصْلٍ آخَرَ أَيْضًا لَكَانَ أَحْسَنَ وَأَوْفَقَ لِمَا هُوَ الْمُعْتَادُ فِي نَظَائِرِهِ كَمَا لَا يَخْفَى ( قَوْلُهُ وَالدَّامِعَةُ وَهِيَ الَّتِي تُظْهِرُ الدَّمَ وَلَا تُسِيلُهُ كَالدَّمْعِ مِنْ الْعَيْنِ وَالدَّامِيَةُ وَهِيَ الَّتِي تَسِيلُ الدَّمَ ) أَقُولُ : تَفْسِيرُ الدَّامِعَةِ وَالدَّامِيَةِ مِنْ الشِّجَاجِ بِهَذَا الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ ، وَإِنْ وَقَعَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْكُتُبِ الْمُعْتَبَرَةِ مِنْ الْفِقْهِ كَالْبَدَائِعِ وَالْكَافِي وَعَامَّةِ الشُّرُوحِ وَاقْتِضَاءِ تَرْتِيبِ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ حَيْثُ قَدَّمَ الدَّامِعَةَ عَلَى الدَّامِيَةِ وَصَرَّحَ بِهِ فِي شَرْحِهِ لِمُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ ، إلَّا أَنَّهُ مَنْظُورٌ فِيهِ عِنْدِي لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا ذُكِرَ فِي عَامَّةِ كُتُبِ اللُّغَةِ الْمَوْثُوقِ بِهَا ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْمُغْرِبِ : الدَّامِعَةُ مِنْ الشِّجَاجِ هِيَ الَّتِي يَسِيلُ مِنْهَا الدَّمُ كَدَمْعِ الْعَيْنِ ، وَقَبْلَهَا الدَّامِيَةُ وَهِيَ الَّتِي تُدْمِي مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسِيلَ مِنْهَا دَمٌ انْتَهَى .
وَقَالَ فِي الصِّحَاحِ : وَالدَّامِعَةُ مِنْ الشِّجَاجِ بَعْدَ الدَّامِيَةِ .
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : الدَّامِيَةُ هِيَ الَّتِي تُدْمِي مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسِيلَ مِنْهَا دَمٌ ، فَإِذَا سَالَ مِنْهَا الدَّمُ فَهِيَ الدَّامِعَةُ بِالْعَيْنِ غَيْرِ مُعْجَمَةٍ انْتَهَى .
وَقَالَ فِي الْقَامُوسِ : وَالدَّامِعَةُ مِنْ الشِّجَاجِ بَعْدَ الدَّامِيَةِ ا هـ .
إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مُعْتَبَرَاتِ كُتُبِ اللُّغَةِ ، وَسَيَجِيءُ مِنْ الْمُصَنِّفِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ الْحُكْمَ فِي الشِّجَاجِ مُرَتَّبٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ فِي

الصَّحِيحِ فَلَا مَجَالَ لِلْحَمْلِ عَلَى الِاصْطِلَاحِ الْمَحْضِ .
ثُمَّ أَقُولُ : الصَّحِيحُ الْمُطَابِقُ لِلُّغَةِ فِي تَفْسِيرِ الدَّامِيَةِ وَالدَّامِعَةِ مِنْ الشِّجَاجِ وَتَرْتِيبِهِمَا مَا ذَكَرَ فِي الْمُحِيطِ الْبُرْهَانِيُّ نَقْلًا عَنْ الطَّحَاوِيِّ حَيْثُ قَالَ فِيهِ : اعْلَمْ أَنَّ أَوَّلَ الشِّجَاجِ الْحَارِصَةُ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَهِيَ الَّتِي تَشُقُّ الْجِلْدَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ حَرَصَ الْقَصَّارُ الثَّوْبَ إذَا شَقَّهُ فِي الدَّقِّ وَلَا تُدْمِيهِ ، ثُمَّ الدَّامِيَةُ وَهِيَ الَّتِي تَخْدِشُ الْجِلْدَ وَتُدْمِيهِ وَلَا تُسِيلُ الدَّمَ ، هَكَذَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ وَذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ : هِيَ الَّتِي تُقَشِّرُ الْجِلْدَ وَتُدْمِيهِ سَوَاءٌ كَانَ سَائِلًا أَوْ غَيْرَ سَائِلٍ ، ثُمَّ الدَّامِعَةُ وَهِيَ الَّتِي تُدْمِي وَتُسِيلُ الدَّمَ ، هَكَذَا ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ فِي كِتَابِهِ .
وَذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ : هِيَ الَّتِي تُسِيلُ الدَّمَ أَكْثَرَ مِمَّا يَكُونُ فِي الدَّامِيَةِ مِنْ السَّيَلَانِ مَأْخُوذٌ مِنْ دَمْعِ الْعَيْنِ ، فَكَأَنَّهَا سُمِّيَتْ بِهَذَا الِاسْمِ لِأَنَّ الْأَلَمَ يَصِلُ إلَى صَاحِبِهَا فَتَدْمَعُ عَيْنَاهُ بِسَبَبِ مَا يَجِدُ مِنْ الْأَلَمِ ، إلَى هُنَا لَفْظُ الْمُحِيطِ فَتَبَصَّرْ ( قَوْلُهُ وَالْبَاضِعَةُ وَهِيَ الَّتِي تَبْضَعُ الْجِلْدَ : أَيْ تَقْطَعُهُ ) أَقُولُ : فِي تَفْسِيرِ الْبَاضِعَةِ بِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فُتُورٌ ، وَإِنْ تَابَعَهُ صَاحِبُ الْكَافِي وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ فِيهِ ، لِأَنَّ قَطْعَ الْجِلْدِ مُتَحَقِّقٌ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى أَيْضًا سِيَّمَا فِي الدَّامِعَةِ وَالدَّامِيَةِ ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ شَيْئًا مِنْ إظْهَارِ الدَّمِ وَإِسَالَتِهِ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ قَطْعِ الْجِلْدِ ، وَقَدْ صَرَّحَ الشُّرَّاحُ بِتَحَقُّقِ قَطْعِ الْجِلْدِ فِي كُلٍّ مِنْ الْأَنْوَاعِ الْعَشَرَةِ لِلشَّجَّةِ فَكَانَ التَّفْسِيرُ الْمَذْكُورُ شَامِلًا لِلْكُلِّ غَيْرَ مُخْتَصٍّ بِالْبَاضِعَةِ ، فَالظَّاهِرُ فِي تَفْسِيرِ الْبَاضِعَةِ مَا ذُكِرَ فِي الْمُحِيطِ وَالْبَدَائِعِ حَيْثُ قَالَ فِي الْمُحِيطِ : ثُمَّ الْبَاضِعَةُ وَهِيَ الَّتِي تَبْضَعُ اللَّحْمَ : أَيْ تَقْطَعُهُ .

وَقَالَ فِي الْبَدَائِعِ : وَالْبَاضِعَةُ هِيَ الَّتِي تَبْضَعُ اللَّحْمَ : أَيْ تَقْطَعُهُ انْتَهَى .
وَيُعَضِّدُ ذَلِكَ مَا وَقَعَ فِي مُعْتَبَرَاتِ كُتُبِ اللُّغَةِ ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْمُغْرِبِ : وَفِي الشِّجَاجِ الْبَاضِعَةُ وَهِيَ الَّتِي جَرَحَتْ الْجِلْدَ وَشَقَّتْ اللَّحْمَ انْتَهَى .
وَقَالَ فِي الصِّحَاحِ : وَالْبَاضِعَةُ : الشَّجَّةُ الَّتِي تَقْطَعُ الْجِلْدَ وَتَشُقُّ اللَّحْمَ وَتُدْمِي إلَّا أَنَّهُ لَا يَسِيلُ الدَّمُ انْتَهَى .
وَقَالَ فِي الْقَامُوسِ : وَالْبَاضِعَةُ : الشَّجَّةُ الَّتِي تَقْطَعُ الْجِلْدَ وَتَشُقُّ اللَّحْمَ شَقًّا خَفِيفًا وَتُدْمِي إلَّا أَنَّهَا تُسِيلُ انْتَهَى .
لَا يُقَالُ : فَعَلَى هَذَا تَشْتَبِهُ الْبَاضِعَةُ بِالْمُتَلَاحِمَةِ ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْكِتَابِ : وَالْمُتَلَاحِمَةُ وَهِيَ الَّتِي تَأْخُذُ فِي اللَّحْمِ ، وَهَذَا فِي الْمَآلِ عَيْنُ مَا نَقَلْتُهُ عَنْ الْمُحِيطِ وَالْبَدَائِعِ فِي تَفْسِيرِ الْبَاضِعَةِ .
لِأَنَّا نَقُولُ : مَنْ فَسَّرَ الْبَاضِعَةَ بِمَا نَقَلْنَاهُ مِنْ الْمَعْنَى الظَّاهِرِ لَا يَقُولُ بِتَفْسِيرِ الْمُتَلَاحِمَةِ بِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ حَتَّى يَلْزَمَ الِاشْتِبَاهُ بَلْ يَزِيدُ عَلَيْهِ قَيْدًا .
وَعَنْ هَذَا قَالَ فِي الْمُحِيطِ : ثُمَّ الْبَاضِعَةُ وَهِيَ الَّتِي تَبْضَعُ اللَّحْمَ : أَيْ تَقْطَعُهُ .
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ : وَلَا تَنْزِعُ شَيْئًا مِنْ اللَّحْمِ .
ثُمَّ الْمُتَلَاحِمَةُ وَهِيَ الَّتِي تَقْطَعُ اللَّحْمَ وَتَنْزِعُ شَيْئًا مِنْ اللَّحْمِ ، إلَى هُنَا لَفْظُ الْمُحِيطِ .
وَقَالَ فِي الْبَدَائِعِ : وَالْبَاضِعَةُ هِيَ الَّتِي تَبْضَعُ اللَّحْمَ : أَيْ تَقْطَعُهُ ، وَالْمُتَلَاحِمَةُ هِيَ الَّتِي تَذْهَبُ فِي اللَّحْمِ أَكْثَرَ مِمَّا تَذْهَبُ الْبَاضِعَةُ فِيهِ انْتَهَى .
وَقَالَ فِي الْمُغْرِبِ : وَالْمُتَلَاحِمَةُ مِنْ الشِّجَاجِ هِيَ الَّتِي تَشُقُّ فِي اللَّحْمِ دُونَ الْعَظْمِ ثُمَّ تَتَلَاحَمُ بَعْدَ شَقِّهَا : أَيْ تَتَلَاءَمُ وَتَتَلَاصَقُ ا هـ .
وَقَالَ فِي الصِّحَاحِ : وَالْمُتَلَاحِمَةُ : الشَّجَّةُ الَّتِي أَخَذَتْ فِي اللَّحْمِ وَلَمْ تَبْلُغْ السِّمْحَاقَ انْتَهَى .
وَقَالَ فِي الْقَامُوسِ : وَشَجَّةٌ مُتَلَاحِمَةٌ أَخَذَتْ فِيهِ وَلَمْ

تَبْلُغْ السِّمْحَاقَ انْتَهَى ( قَوْلُهُ وَفِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ ) قَالَ فِي الْإِيضَاحِ : الْجَائِفَةُ مَا تَصِلُ إلَى الْجَوْفِ مِنْ الصَّدْرِ وَالْبَطْنِ وَالظَّهْرِ وَالْجَنْبَيْنِ وَالِاسْمُ دَلِيلٌ عَلَيْهِ ، وَمَا وَصَلَ مِنْ الرَّقَبَةِ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي إذَا وَصَلَ إلَيْهِ الشَّرَابُ كَانَ مُفْطِرًا ، وَمَا فَوْقَ ذَلِكَ فَلَيْسَ بِجَائِفَةٍ انْتَهَى .
وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ : فَعَلَى هَذَا ذِكْرُ الْجَائِفَةِ هُنَا فِي مَسَائِلِ الشِّجَاجِ وَقَعَ اتِّفَاقًا ، وَكَذَا قَالَ فِي الْعِنَايَةِ نَقْلًا عَنْ النِّهَايَةِ .
أَقُولُ : نَعَمْ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْإِيضَاحِ يَكُونُ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ، إلَّا أَنَّ الْمُصَنِّفَ تَدَارَكَهُ حَيْثُ قَالَ فِيمَا بَعْدُ : وَقَالُوا الْجَائِفَةُ تَخْتَصُّ بِالْجَوْفِ جَوْفِ الرَّأْسِ أَوْ جَوْفِ الْبَطْنِ : يَعْنِي أَنَّهَا لَمَّا تَنَاوَلَتْ مَا فِي جَوْفِ الرَّأْسِ أَيْضًا كَانَتْ مِنْ الشِّجَاجِ فِيمَا إذَا وَقَعَتْ فِي الرَّأْسِ فَتَدْخُلُ فِي مَسَائِلِ الشِّجَاجِ بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ ذِكْرُهَا فِي فَصْلِ الشِّجَاجِ مِمَّا وَقَعَ اتِّفَاقًا .

وَبَعْدَ هَذَا شَجَّةٌ أُخْرَى تُسَمَّى الدَّامِغَةُ وَهِيَ الَّتِي تَصِلُ إلَى الدِّمَاغِ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْهَا لِأَنَّهَا تَقَعُ قَتْلًا فِي الْغَالِبِ لَا جِنَايَةً مُقْتَصِرَةً مُنْفَرِدَةً بِحُكْمٍ عَلَى حِدَةٍ ، ثُمَّ هَذِهِ الشِّجَاجُ تَخْتَصُّ بِالْوَجْهِ وَالرَّأْسِ لُغَةً ، وَمَا كَانَ فِي غَيْرِ الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ يُسَمَّى جِرَاحَةً ، وَالْحُكْمُ مُرَتَّبٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ فِي الصَّحِيحِ ، حَتَّى لَوْ تَحَقَّقَتْ فِي غَيْرِهِمَا نَحْوُ السَّاقِ وَالْيَدِ لَا يَكُونُ لَهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ ، وَإِنَّمَا تَجِبُ حُكُومَةُ الْعَدْلِ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ بِالتَّوْقِيفِ وَهُوَ إنَّمَا وَرَدَ فِيمَا يَخْتَصُّ بِهِمَا ، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا وَرَدَ الْحُكْمُ فِيهَا لِمَعْنَى الشَّيْنِ الَّذِي يَلْحَقُهُ بِبَقَاءِ أَثَرِ الْجِرَاحَةِ ، وَالشَّيْنُ يَخْتَصُّ بِمَا يَظْهَرُ مِنْهَا فِي الْغَالِبِ وَهُوَ الْعُضْوَانِ هَذَانِ لَا سِوَاهُمَا .
وَأَمَّا اللَّحْيَانِ فَقَدْ قِيلَ لَيْسَا مِنْ الْوَجْهِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، حَتَّى لَوْ وُجِدَ فِيهِمَا مَا فِيهِ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ لَا يَجِبُ الْمُقَدَّرُ .
وَهَذَا لِأَنَّ الْوَجْهَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْمُوَاجِهَةِ ، وَلَا مُوَاجِهَةَ لِلنَّاظِرِ فِيهِمَا إلَّا أَنَّ عِنْدَنَا هُمَا مِنْ الْوَجْهِ لِاتِّصَالِهِمَا بِهِ مِنْ غَيْرِ فَاصِلَةٍ ، وَقَدْ يَتَحَقَّقُ فِيهِ مَعْنَى الْمُوَاجِهَةِ أَيْضًا .
وَقَالُوا : الْجَائِفَةُ تَخْتَصُّ بِالْجَوْفِ : جَوْفِ الرَّأْسِ أَوْ جَوْفِ الْبَطْنِ ، وَتَفْسِيرُ حُكُومَةِ الْعَدْلِ عَلَى مَا قَالَهُ الطَّحَاوِيُّ أَنْ يُقَوَّمَ مَمْلُوكًا بِدُونِ هَذَا الْأَثَرِ وَيُقَوَّمُ وَبِهِ هَذَا الْأَثَرُ ، ثُمَّ يَنْظُرُ إلَى تَفَاوُتِ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ ، فَإِنْ كَانَ نِصْفَ عُشْرِ الْقِيمَةِ يَجِبُ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ ، وَإِنْ كَانَ رُبْعَ عُشْرِ فَرُبْعُ عُشْرٍ .
وَقَالَ الْكَرْخِيُّ : يُنْظَرُ كَمْ مِقْدَارُ هَذِهِ الشَّجَّةِ مِنْ الْمُوضِحَةِ فَيَجِبُ بِقَدْرِ ذَلِكَ مِنْ نِصْفِ عُشْرِ الدِّيَةِ ، لِأَنَّ مَا لَا نَصَّ فِيهِ يُرَدُّ إلَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ .
.
فَصْلٌ

( قَوْلُهُ ثُمَّ هَذِهِ الشِّجَاجُ تَخْتَصُّ بِالْوَجْهِ وَالرَّأْسِ لُغَةً ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ : وَكَذَلِكَ تَخْتَصُّ بِالْجَبْهَةِ وَالْوَجْنَتَيْنِ وَالذَّقَنِ أَيْضًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ رِوَايَةِ الْإِيضَاحِ انْتَهَى .
أَقُولُ : لَيْسَ لِهَذَا الْكَلَامِ وَجْهٌ ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ كُلًّا مِنْ الْجَبْهَةِ وَالْوَجْنَتَيْنِ وَالذَّقَنُ دَاخِلٌ فِي الْوَجْهِ ، لِأَنَّهُمْ صَرَّحُوا فِي أَوَّلِ كِتَابِ الطَّهَارَةِ بِأَنَّ حَدَّ الْوَجْهِ مِنْ قُصَاصِ الشَّعْرِ إلَى أَسْفَلِ الذَّقَنِ وَإِلَى شَحْمَتَيْ الْأُذُنِ ، لِأَنَّ الْمُوَاجِهَةَ تَقَعُ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْهَا ، وَقَدْ صَرَّحَ الشُّرَّاحُ فِيمَا سَيَأْتِي فِي هَذَا الْفَصْلِ حَتَّى صَاحِبَا النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ أَنْفُسُهُمَا أَيْضًا بِأَنَّ الذَّقَنَ مِنْ الْوَجْهِ بِلَا خِلَافٍ ، وَالْعَظْمُ الَّذِي تَحْتَ الذَّقَنِ وَهُوَ اللَّحْيَانِ مِنْ الْوَجْهِ أَيْضًا عِنْدَنَا خِلَافًا لَمَالِكٍ .
فَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ ثُمَّ هَذِهِ الشِّجَاجُ تَخْتَصُّ بِالْوَجْهِ وَالرَّأْسِ يَشْمَلُ الْكُلَّ ، فَبَعْدَ ذَلِكَ مَا مَعْنَى أَنْ يُقَالَ : وَكَذَلِكَ تَخْتَصُّ بِالْجَبْهَةِ وَالْوَجْنَتَيْنِ وَالذَّقَنِ أَيْضًا ، وَكُلٌّ مِنْ الْعَطْفِ وَأَدَاةِ التَّشْبِيهِ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ لَا مَحَالَةَ ( قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ إنَّمَا وَرَدَ الْحُكْمُ فِيهَا لِمَعْنَى الشَّيْنِ الَّذِي يَلْحَقُهُ بِبَقَاءِ أَثَرِ الْجِرَاحَةِ ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ إلْحَاقِ الْجِرَاحَةِ بِهَا دَلَالَةً ، فَفِي قَوْلِهِ وَلِأَنَّهُ تَسَامُحٌ انْتَهَى .
وَأَقُولُ : إنْ أَرَادَ أَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ أَصَالَةً فَهُوَ مَمْنُوعٌ ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ دَلِيلٌ أَصَالَةً عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ أَرْشٍ مُقَدَّرٍ فِي الْجِرَاحَةِ الَّتِي فِي غَيْرِ الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ وَلَكِنْ يَتَضَمَّنُ الدَّلَالَةَ أَيْضًا عَلَى عَدَمِ جَوَازِ إلْحَاقِ تِلْكَ الْجِرَاحَةِ بِالشِّجَاجِ دَلَالَةً فَهُوَ مُسَلَّمٌ ، وَلَكِنَّ قَوْلَهُ فَفِي قَوْلِهِ وَلِأَنَّهُ تَسَامُحٌ مَمْنُوعٌ ، لِأَنَّ قَوْلَهُ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ بِالتَّوْقِيفِ دَلِيلٌ

عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ أَرْشٍ مُقَدَّرٍ فِي الْجِرَاحَةِ الْكَائِنَةِ فِي غَيْرِ الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ .
وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ إنَّمَا وَرَدَ الْحُكْمُ فِيهَا إلَخْ دَلِيلًا عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا أَصَالَةً كَانَ حَقُّ الْأَدَاءِ أَنْ يُقَالَ : وَلِأَنَّهُ بِلَا تَسَامُحٍ أَصْلًا ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ الْبَعْضَ إنَّمَا غَرَّهُ تَقْرِيرُ صَاحِبِ الْكَافِي هَا هُنَا حَيْثُ قَالَ : لِأَنَّ الْأَثَرَ بِالتَّقْدِيرِ جَاءَ فِي الشِّجَاجِ فِي الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ وَغَيْرِهِمَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُمَا حَتَّى يَلْحَقَ بِهِمَا ، لِأَنَّهُ إنَّمَا وَرَدَ الْحُكْمُ فِيهِمَا لِمَعْنَى الشَّيْنِ الَّذِي يَلْحَقُهُمَا بِبَقَاءِ أَثَرِ الْجِرَاحَةِ ، وَالشَّيْنُ إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا يَظْهَرُ مِنْ الْبَدَنِ وَهُوَ الْوَجْهُ وَالرَّأْسُ انْتَهَى .
وَلَكِنْ لِتَقْرِيرِ الْمُصَنِّفِ شَأْنٌ آخَرُ كَمَا تَرَى ( قَوْلُهُ إلَّا أَنَّ عِنْدَنَا هُمَا مِنْ الْوَجْهِ لِاتِّصَالِهِمَا بِهِ مِنْ غَيْرِ فَاصِلَةٍ ، وَقَدْ يَتَحَقَّقُ فِيهِ مَعْنَى الْمُوَاجِهَةِ أَيْضًا ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ وَفِي مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ : وَيَجِبُ أَنْ يُفْتَرَضَ غَسْلُ اللَّحْيَيْنِ فِي الطَّهَارَةِ لِأَنَّهُمَا مِنْ الْوَجْهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ ، إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا هَذِهِ الْحَقِيقَةَ بِالْإِجْمَاعِ وَلَا إجْمَاعَ هَا هُنَا فَبَقِيَتْ الْعِبْرَةُ لِلْحَقِيقَةِ انْتَهَى .
وَهَكَذَا ذَكَرَ فِي الْكِفَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ أَيْضًا .
وَأَمَّا صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فَذَكَرَهُ عَلَى وَجْهِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ حَيْثُ قَالَ : قِيلَ عَلَيْهِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ غَسْلُهُمَا فَرْضًا فِي الطَّهَارَةِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّا تَرَكْنَا هَذِهِ الْحَقِيقَةَ بِالْإِجْمَاعِ وَلَا إجْمَاعَ هَا هُنَا فَبَقِيَتْ الْعِبْرَةُ لِلْحَقِيقَةِ انْتَهَى .
وَاقْتَفَى أَثَرَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ .
أَقُولُ : فِي الْجَوَابِ إشْكَالٌ عِنْدِي لِأَنَّ اللَّحْيَيْنِ إذَا كَانَا مِنْ الْوَجْهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ كَانَا دَاخِلَيْنِ تَحْتَ قَوْله تَعَالَى { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } فَيَكُونُ تَرْكُ وُجُوبِ غَسْلِهِمَا بِالْإِجْمَاعِ نَسْخًا لِلْكِتَابِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي أُصُولِ

الْفِقْهِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَنْسَخُ الْكِتَابَ وَلَا السُّنَّةَ ( قَوْلُهُ وَقَالُوا : الْجَائِفَةُ تَخْتَصُّ بِالْجَوْفِ جَوْفِ الرَّأْسِ أَوْ جَوْفِ الْبَطْنِ ) أَقُولُ : فِيهِ كَلَامٌ ، وَهُوَ أَنَّ الْجَائِفَةَ إنْ تَنَاوَلَتْ مَا فِي جَوْفِ الرَّأْسِ أَيْضًا فَاَلَّتِي فِي جَوْفِ الرَّأْسِ مِنْهَا إنْ كَانَتْ مِنْ أَحَدِ الْأَنْوَاعِ الْعَشَرَةِ لِلشِّجَاجِ فَمَا مَعْنَى ذِكْرِهَا وَبَيَانُ حُكْمِهَا بَعْدَ ذِكْرِ تِلْكَ الْأَنْوَاعِ بِأَسْرِهَا وَبَيَانُ حُكْمِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ أَحَدِ تِلْكَ الْأَنْوَاعِ بَلْ كَانَتْ مُغَايِرَةً لَهَا فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ فِي صَدْرِ الْفَصْلِ الشِّجَاجُ عَشْرَةٌ ، إذْ تَكُونُ الشِّجَاجُ حِينَئِذٍ إحْدَى عَشْرَةَ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ : هِيَ إحْدَى تِلْكَ الْأَنْوَاعِ وَهُوَ الْآمَّةُ بِدَلَالَةِ كَوْنِ حُكْمِهَا ثُلُثَ الدِّيَةِ ، وَذَكَرَهَا مَعَ حُكْمِهَا بَعْدَ ذِكْرِ تِلْكَ الْأَنْوَاعِ مَعَ أَحْكَامِهَا لِبَيَانِ حَالِ قِسْمِهَا الَّذِي فِي جَوْفِ الْبَطْنِ لَا لِبَيَانِ حَالِ قِسْمِهَا الَّذِي فِي جَوْفِ الرَّأْسِ لَكِنَّهُ تَعَسُّفٌ لَا يَخْفَى .

قَالَ ( وَفِي أَصَابِعِ الْيَدِ نِصْفُ الدِّيَةِ ) لِأَنَّ فِي كُلِّ أُصْبُعٍ عُشْرُ الدِّيَةِ عَلَى مَا رَوَيْنَا ، فَكَانَ فِي الْخَمْسِ نِصْفُ الدِّيَةِ وَلِأَنَّ فِي قَطْعِ الْأَصَابِعِ تَفْوِيتَ جِنْسِ مَنْفَعَةِ الْبَطْشِ وَهُوَ الْمُوجِبُ عَلَى مَا مَرَّ ( فَإِنْ قَطَعَهَا مَعَ الْكَفِّ فَفِيهِ أَيْضًا نِصْفُ الدِّيَةِ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَفِي الْيَدَيْنِ الدِّيَةُ ، وَفِي إحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ } وَلِأَنَّ الْكَفَّ تَبَعٌ لِلْأَصَابِعِ لِأَنَّ الْبَطْشَ بِهَا ( وَإِنْ قَطَعَهَا مَعَ نِصْفِ السَّاعِدِ فَفِي الْأَصَابِعِ وَالْكَفِّ نِصْفُ الدِّيَةِ ، وَفِي الزِّيَادَةِ حُكُومَةُ عَدْلٍ ) وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ .
وَعَنْهُ : أَنَّ مَا زَادَ عَلَى أَصَابِعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ فَهُوَ تَبَعٌ لِلْأَصَابِعِ إلَى الْمَنْكِبِ وَإِلَى الْفَخِذِ ، لِأَنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَ فِي الْيَدِ الْوَاحِدَةِ نِصْفَ الدِّيَةِ وَالْيَدُ اسْمٌ لِهَذِهِ الْجَارِحَةِ إلَى الْمَنْكِبِ فَلَا يُزَادُ عَلَى تَقْدِيرِ الشَّرْعِ .
وَلَهُمَا أَنَّ الْيَدَ آلَةٌ بَاطِشَةٌ وَالْبَطْشُ يَتَعَلَّقُ بِالْكَفِّ وَالْأَصَابِعِ دُونَ الذِّرَاعِ فَلَمْ يُجْعَلْ الذِّرَاعُ تَبَعًا فِي حَقِّ التَّضْمِينِ .
وَلِأَنَّهُ لَا وَجْهَ إلَى أَنْ يَكُونَ تَبَعًا لِلْأَصَابِعِ لِأَنَّ بَيْنَهُمَا عُضْوًا كَامِلًا ، وَلَا إلَى أَنْ يَكُونَ تَبَعًا لِلْكَفِّ لِأَنَّهُ تَابِعٌ وَلَا تَبَعَ لِلتَّبَعِ .
قَالَ : ( وَإِنْ قَطَعَ الْكَفَّ مِنْ الْمِفْصَلِ وَفِيهَا أُصْبُعٌ وَاحِدَةٌ فَفِيهِ عُشْرُ الدِّيَةِ ، وَإِنْ كَانَ أُصْبُعَيْنِ فَالْخُمُسُ ، وَلَا شَيْءَ فِي الْكَفِّ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : يُنْظَرُ إلَى أَرْشِ الْكَفِّ وَالْأُصْبُعِ فَيَكُونُ عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ ، وَيَدْخُلُ الْقَلِيلُ فِي الْكَثِيرِ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَرْشَيْنِ لِأَنَّ الْكُلَّ شَيْءٌ وَاحِدٌ ، وَلَا إلَى إهْدَارِ أَحَدِهِمْ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْلٌ مِنْ وَجْهٍ فَرَجَّحْنَا بِالْكَثْرَةِ .
وَلَهُ أَنَّ الْأَصَابِعَ أَصْلٌ وَالْكَفُّ تَابِعٌ حَقِيقَةً وَشَرْعًا ، لِأَنَّ الْبَطْشَ يَقُومُ بِهَا ، وَأَوْجَبَ الشَّرْعُ فِي

أُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ عَشْرًا مِنْ الْإِبِلِ ، وَالتَّرْجِيحُ مِنْ حَيْثُ الذَّاتُ وَالْحُكْمُ أَوْلَى مِنْ التَّرْجِيحِ مِنْ حَيْثُ مِقْدَارُ الْوَاجِبِ ( وَلَوْ كَانَ فِي الْكَفِّ ثَلَاثَةُ أَصَابِعَ يَجِبُ أَرْشُ الْأَصَابِعِ وَلَا شَيْءَ فِي الْكَفِّ بِالْإِجْمَاعِ ) لِأَنَّ الْأَصَابِعَ أُصُولٌ فِي التَّقَوُّمِ ، وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ فَاسْتَتْبَعَتْ الْكَفَّ ، كَمَا إذَا كَانَتْ الْأَصَابِعُ قَائِمَةً بِأَسْرِهَا .
قَالَ ( وَفِي الْأُصْبُعِ الزَّائِدَةِ حُكُومَةُ عَدْلٍ ) تَشْرِيفًا لِلْآدَمِيِّ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ يَدِهِ ، وَلَكِنْ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ وَلَا زِينَةَ ( وَكَذَلِكَ السِّنُّ الشَّاغِيَةُ ) لِمَا قُلْنَا .

( فَصْلٌ فِي الْأَطْرَافِ دُونَ الرَّأْسِ ) لَمَّا كَانَتْ الْأَطْرَافُ دُونَ الرَّأْسِ وَلَهَا حُكْمٌ عَلَى حِدَةٍ ذَكَرَهَا فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا .
أَقُولُ : لَا يَذْهَبُ عَلَى النَّاظِرِ فِي مَسَائِلِ هَذَا الْفَصْلِ أَنَّهَا غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ فِي الْأَطْرَافِ ، بَلْ بَعْضُهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالْأَطْرَافِ وَبَعْضُهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالشِّجَاجِ ، وَبَعْضُهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالْقَتْلِ ، فَالْوَجْهُ الْمَذْكُورُ إنَّمَا يَتَمَشَّى فِي بَعْضٍ مِنْهَا دُونَ الْكُلِّ ، فَالْأَوْجَهُ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ : لَمَّا كَانَتْ مَسَائِلُ هَذَا الْفَصْلِ مَسَائِلَ مُتَفَرِّقَةً وَلِهَذَا كَانَتْ كُلُّ مَسْأَلَةٍ مِنْهَا فِي بَابٍ عَلَى حِدَةٍ فِي مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ كَمَا ذَكَرَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ أَوْرَدَهَا الْمُصَنِّفُ فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ وَأَخَّرَهَا عَنْ الْفَصْلَيْنِ الْمَارَّيْنِ جَرْيًا عَلَى مَا هُوَ عَادَةُ الْمُصَنِّفِينَ مِنْ جَمْعِ الْمَسَائِلِ الْمُتَفَرِّقَاتِ فِي فَصْلٍ وَاحِدٍ وَتَأْخِيرِهَا عَنْ سَائِرِ الْفُصُولِ تَلَافِيًا لِمَا فَاتَ فِيهَا ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِكَوْنِهَا مَسَائِلَ مُتَفَرِّقَةً كَمَا هُوَ الْمُعْتَادُ أَيْضًا اعْتِمَادًا عَلَى فَهْمِ النَّاظِرِينَ ( قَوْلُهُ وَفِي أَصَابِعِ الْيَدِ نِصْفُ الدِّيَةِ ) أَيْ فِي أَصَابِعِ الْيَدِ الْوَاحِدَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ ، إذْ فِي أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ كَمَالُ الدِّيَةِ كَمَا مَرَّ .
أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : لِمَا ذُكِرَ فِيمَا مَرَّ أَنَّ فِي كُلِّ إصْبَعٍ مِنْ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ أَوْ الرِّجْلَيْنِ عُشْرُ الدِّيَةِ كَانَ ذِكْرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هَا هُنَا مُسْتَدْرِكًا ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ خَمْسَةَ أَعْشَارِ الدِّيَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ ، فَعُلِمَ قَطْعًا مِمَّا مَرَّ أَنَّ فِي أَصَابِعِ الْيَدِ الْوَاحِدَةِ وَهِيَ خُمْسُ أَصَابِعِ نِصْفِ الدِّيَةِ ، .
وَلَوْ لَمْ يَكْفِ الِاسْتِلْزَامُ وَالِاقْتِضَاءُ فِي حُصُولِ الْعِلْمِ بِمَسْأَلَةٍ بَلْ كَانَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ التَّصْرِيحِ بِهَا لَلَزِمَ أَنْ يَذْكُرَ أَيْضًا أَنَّ فِي الْإِصْبَعَيْنِ عُشْرَيْ الدِّيَةِ وَفِي ثَلَاثِ أَصَابِعَ ثَلَاثَةُ أَعْشَارِ الدِّيَةِ وَفِي

أَرْبَعِ أَصَابِعَ أَرْبَعَةُ أَعْشَارِ الدِّيَةِ ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ الْمَتْرُوكِ ذِكْرُهَا صَرَاحَةً فِي الْكِتَابِ .
وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْهُ بِأَنَّ ذِكْرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُنَا لَيْسَ لِبَيَانِ نَفْسِهَا أَصَالَةً حَتَّى يُتَوَهَّمَ الِاسْتِدْرَاكُ ، بَلْ لِيَكُونَ ذِكْرُهَا تَوْطِئَةً لِلْمَسْأَلَةِ الْمُعَاقِبَةِ إيَّاهَا وَهِيَ قَوْلُهُ فَإِنْ قَطَعَهَا مَعَ الْكَفِّ فَفِيهِ أَيْضًا نِصْفُ الدِّيَةِ ، فَالْمَقْصُودُ بِالْبَيَانِ هُنَا أَنَّ قَطْعَ الْأَصَابِعِ وَحْدَهَا وَقَطْعَهَا مَعَ الْكَفِّ سِيَّانِ فِي الْحُكْمِ ، وَعَنْ هَذَا قَالَ فِي الْوِقَايَةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ : وَفِي أَصَابِعِ يَدٍ بِلَا كَفٍّ وَمَعَهَا نِصْفُ الدِّيَةِ .
( قَوْلُهُ وَلِأَنَّ فِي قَطْعِ الْأَصَابِعِ تَفْوِيتُ جِنْسِ مَنْفَعَةِ الْبَطْشِ وَهُوَ الْمُوجِبُ عَلَى مَا مَرَّ ) .
يَعْنِي أَنَّ قَطْعَ كُلِّهَا تَفْوِيتُ جِنْسِ مَنْفَعَةِ الْبَطْشِ وَهُوَ يُوجِبُ الدِّيَةَ الْكَامِلَةَ عَلَى مَا مَرَّ ، فَفِي تَفْوِيتِ نِصْفِ مَنْفَعَةِ الْبَطْشِ اللَّازِمِ مِنْ قَطْعِ أَصَابِعِ الْيَدِ الْوَاحِدَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ لَا مَحَالَةَ .
ثُمَّ إنَّ جُمْهُورَ الشُّرَّاحِ قَالُوا : قَوْلُهُ عَلَى مَا مَرَّ إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ وَلِأَنَّ فِي قَطْعِ الْكُلِّ تَفْوِيتُ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ وَفِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ وَهِيَ عَشْرَةٌ فَتُقْسَمُ الدِّيَةُ عَلَيْهَا .
أَقُولُ : فِيهِ بَحْثٌ ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ عَلَى مَا مَرَّ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ وَهُوَ الْمُوجِبُ لَا بِمَا قَبْلَهُ ، وَإِلَّا لَكَانَ حَقُّ قَوْلِهِ وَهُوَ الْمُوجِبُ أَنْ يُؤَخَّرَ عَنْ قَوْلِهِ عَلَى مَا مَرَّ ، وَإِذَا كَانَ قَوْلُهُ عَلَى مَا مَرَّ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ وَهُوَ الْمُوجِبُ لَمْ يَتِمَّ أَنْ يُشَارَ بِهِ إلَى مَا قَالَهُ هَؤُلَاءِ الشُّرَّاحُ ، إذْ لَيْسَ فِي ذَلِكَ تَعَرُّضٌ لِمَا هُوَ الْمُوجِبُ لِلدِّيَةِ حَتَّى يُشَارَ إلَيْهِ هُنَا بِقَوْلِهِ كَمَا مَرَّ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ هُنَا : قَوْلُهُ وَهُوَ الْمُوجِبُ عَلَى مَا مَرَّ : أَيْ الْمُوجِبُ لِلدِّيَةِ تَفْوِيتُ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ لَا تَفْوِيتُ صُورَةِ الْآلَةِ عَلَى مَا مَرَّ فِي فَصْلٌ فِيمَا دُونَ

النَّفْسِ ا هـ .
أَقُولُ : هَذَا أَبْعَدُ مِمَّا ذَهَبَ إلَيْهِ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ .
لِأَنَّ بَيَانَ كَوْنِ الْمُوجِبِ لِلدِّيَةِ تَفْوِيتَ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ لَا تَفْوِيتَ صُورَةِ الْآلَةِ مِمَّا لَا فَائِدَةَ لَهُ أَصْلًا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ، لِأَنَّ الْمَفْرُوضَ فِيهِ قَطْعُ أَصَابِعِ الْيَدِ الْوَاحِدَةِ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ وَلِأَنَّ فِي قَطْعِ الْأَصَابِعِ تَفْوِيتُ جِنْسِ مَنْفَعَةِ الْبَطْشِ دُونَ مُجَرَّدِ إزَالَةِ مَنْفَعَتِهَا بِدُونِ الْقَطْعِ حَتَّى يُتَصَوَّرَ كَوْنُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ هَا هُنَا عَلَى مَا مَرَّ إشَارَةً إلَى مَا ذَكَرَهُ فِي فَصْلٌ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ قُبَيْلَ فَصْلِ الشِّجَاجِ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ الْمُتَعَلِّقَ تَفْوِيتُ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ لَا تَفْوِيتُ الصُّورَةِ كَمَا زَعَمَهُ صَاحِبُ الْغَايَةِ ، بِخِلَافِ مَا مَرَّ فِي ذَلِكَ الْفَصْلِ ، فَإِنَّ وَضْعَ الْمَسْأَلَةِ هُنَاكَ فِيمَنْ ضَرَبَ عُضْوًا فَأَذْهَبَ مَنْفَعَتَهُ بِدُونِ أَنْ يَقْطَعَهُ ، فَلِبَيَانِ كَوْنِ الْمُوجِبِ لِلدِّيَةِ تَفْوِيتَ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ لَا تَفْوِيتَ الصُّورَةِ تَأْثِيرٌ تَامٌّ وَفَائِدَةٌ ظَاهِرَةٌ هُنَاكَ .
ثُمَّ أَقُولُ : الْأَقْرَبُ إلَى الْحَقِّ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ هُنَا عَلَى مَا مَرَّ إشَارَةً إلَى مَا ذَكَرَهُ فِي أَوَائِلِ فَصْلٌ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مِنْ قَوْلِهِ وَالْأَصْلُ فِي الْأَطْرَافِ أَنَّهُ إذَا فَوَّتَ جِنْسَ مَنْفَعَةٍ عَلَى الْكَمَالِ أَوْ أَزَالَ جَمَالًا مَقْصُودًا فِي الْآدَمِيِّ عَلَى الْكَمَالِ يَجِبُ كُلُّ الدِّيَةِ لِإِتْلَافِهِ النَّفْسَ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ مُلْحَقٌ بِالْإِتْلَافِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ تَعْظِيمًا لِلْآدَمِيِّ .
ا هـ .
فَإِنَّ الظَّاهِرَ مِنْهُ أَنَّ الْمُوجِبَ لِلدِّيَةِ الْكَامِلَةِ فِي الْأَطْرَافِ تَفْوِيتُ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ أَوْ إزَالَةُ الْجَمَالِ الْمَقْصُودِ فِي الْآدَمِيِّ عَلَى الْكَمَالِ فَيُنَاسِبُ الْإِشَارَةَ إلَيْهِ هُنَا بِقَوْلِهِ عَلَى مَا مَرَّ فِي قَوْلِهِ وَهُوَ الْمُوجِبُ عَلَى مَا مَرَّ .
( قَوْلُهُ وَلَهُمَا أَنَّ الْيَدَ آلَةٌ بَاطِشَةٌ وَالْبَطْشَ يَتَعَلَّقُ بِالْكَفِّ وَالْأَصَابِعَ دُونَ الذِّرَاعِ ) .
أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ

يَقُولَ : الظَّاهِرُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْكَفِّ وَالْأَصَابِعِ مَدْخَلٌ فِي الْبَطْشِ ، وَمَدْلُولُ قَوْلِهِ فِيمَا قَبْلُ وَلِأَنَّ الْكَفَّ تَبَعٌ لِلْأَصَابِعِ لِأَنَّ الْبَطْشَ بِهَا أَنْ يَكُونَ الْبَاطِشُ هُوَ الْأَصَابِعُ لَا غَيْرُ ، فَبَيْنَ كَلَامَيْهِ فِي الْمَقَامَيْنِ نَوْعُ تَدَافُعٍ ، وَكَأَنَّ صَاحِبَ الْكَافِي تَفَطَّنَ لَهُ حَيْثُ غَيَّرَ تَحْرِيرَ الْمُصَنِّفِ هُنَا فَقَالَ : لَهُمَا أَنَّ أَرْشَ الْيَدِ إنَّمَا يَجِبُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ آلَةٌ بَاطِشَةٌ ، وَالْأَصْلُ فِي الْبَطْشِ الْأَصَابِعُ وَالْكَفُّ تَبَعٌ لَهَا ، أَمَّا السَّاعِدُ فَلَا يَتْبَعُهَا لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّصِلٍ بِهَا فَلَمْ يُجْعَلْ تَبَعًا لَهَا فِي حَقِّ التَّضْمِينِ انْتَهَى .
ثُمَّ أَقُولُ : يُمْكِنُ التَّوْفِيقُ بَيْنَ كَلَامَيْ الْمُصَنِّفِ أَيْضًا بِنَوْعِ عِنَايَةٍ ، وَهُوَ أَنْ يُقَدَّرَ الْمُضَافُ فِي قَوْلِهِ فِيمَا قَبْلُ لِأَنَّ الْبَطْشَ بِهَا : أَيْ لِأَنَّ أَصْلَ الْبَطْشِ بِهَا كَمَا قَالَ فِي الْكَافِي هُنَاكَ ، لِأَنَّ قِوَامَ الْبَطْشِ بِهَا فَلَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ بِالْكَفِّ أَيْضًا بَطْشٌ فِي الْجُمْلَةِ بِالتَّبَعِيَّةِ فَيَرْتَفِعُ التَّدَافُعُ

( وَفِي عَيْنِ الصَّبِيِّ وَذَكَرِهِ وَلِسَانِهِ إذَا لَمْ تُعْلَمْ صِحَّتُهُ حُكُومَةُ عَدْلٍ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : تَجِبُ فِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ ، لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيهِ الصِّحَّةُ فَأَشْبَهَ قَطْعَ الْمَارِنِ وَالْأُذُنِ .
وَلَنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ الْمَنْفَعَةُ ، فَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ صِحَّتُهَا لَا يَجِبُ الْأَرْشُ الْكَامِلُ بِالشَّكِّ ، وَالظَّاهِرُ لَا يَصْلُحُ حَجَّةً لِلْإِلْزَامِ بِخِلَافِ الْمَارِنِ وَالْأُذُنِ الشَّاخِصَةِ ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْجَمَالُ وَقَدْ فَوَّتَهُ عَلَى الْكَمَالِ ( وَكَذَا لَوْ اسْتَهَلَّ الصَّبِيُّ ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِكَلَامٍ وَإِنَّمَا هُوَ مُجَرَّدُ صَوْتٍ وَمَعْرِفَةُ الصِّحَّةِ فِيهِ بِالْكَلَامِ وَفِي الذَّكَرِ بِالْحَرَكَةِ وَفِي الْعَيْنِ بِمَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى النَّظَرِ فَيَكُونُ حُكْمُهُ بَعْدَ ذَلِكَ حُكْمَ الْبَالِغِ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ .

قَالَ : ( وَمَنْ شَجَّ رَجُلًا فَذَهَبَ عَقْلُهُ أَوْ شَعْرُ رَأْسِهِ دَخَلَ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ فِي الدِّيَةِ ) لِأَنَّ بِفَوَاتِ الْعَقْلِ تَبْطُلُ مَنْفَعَةُ جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ فَصَارَ كَمَا إذَا أَوْضَحَهُ فَمَاتَ ، وَأَرْشُ الْمُوضِحَةِ يَجِبُ بِفَوَاتِ جُزْءٍ مِنْ الشَّعْرِ ، حَتَّى لَوْ نَبَتَ يَسْقُطُ ، وَالدِّيَةُ بِفَوَاتِ كُلِّ الشَّعْرِ وَقَدْ تَعَلَّقَا بِسَبَبٍ وَاحِدٍ فَدَخَلَ الْجُزْءُ فِي الْجُمْلَةِ كَمَا إذَا قَطَعَ أُصْبُعَ رَجُلٍ فَشُلَّتْ يَدُهُ .
وَقَالَ زُفَرُ : لَا يَدْخُلُ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جِنَايَةٌ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فَلَا يَتَدَاخَلَانِ كَسَائِرِ الْجِنَايَاتِ .
وَجَوَابُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ .
قَالَ ( وَإِنْ ذَهَبَ سَمْعُهُ أَوْ بَصَرُهُ أَوْ كَلَامُهُ فَعَلَيْهِ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ مَعَ الدِّيَةِ ) قَالُوا : هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الشَّجَّةَ تَدْخُلُ فِي دِيَةِ السَّمْعِ وَالْكَلَامِ وَلَا تَدْخُلُ فِي دِيَةِ الْبَصَرِ .
وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا جِنَايَةٌ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ وَالْمَنْفَعَةُ مُخْتَصَّةٌ بِهِ فَأَشْبَهَ الْأَعْضَاءَ الْمُخْتَلِفَةَ ، بِخِلَافِ الْعَقْلِ لِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ عَائِدَةٌ إلَى جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ عَلَى مَا بَيَّنَّا .
وَوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ السَّمْعَ وَالْكَلَامَ مُبْطَنٌ فَيُعْتَبَرُ بِالْعَقْلِ ، وَالْبَصَرُ ظَاهِرٌ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ .
قَالَ ( وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : وَمَنْ شَجَّ رَجُلًا مُوضِحَةً فَذَهَبَتْ عَيْنَاهُ فَلَا قِصَاصَ فِي ذَلِكَ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
قَالُوا : وَيَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ الدِّيَةُ فِيهِمَا ( وَقَالَا : فِي الْمُوضِحَةِ الْقِصَاصُ ) قَالُوا : وَيَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ الدِّيَةُ فِي الْعَيْنَيْنِ .
.

( قَوْلُهُ لِأَنَّ بِفَوَاتِ الْعَقْلِ تَبْطُلُ مَنْفَعَةُ جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ فَصَارَ كَمَا إذَا أَوْضَحَهُ فَمَاتَ ) أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ ، إذْ لَوْ كَانَ فَوَاتُ الْعَقْلِ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ وَكَانَ هَذَا مَدَارَ دُخُولِ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ فِي الدِّيَةِ لَمَّا تَمَّ مَا سَبَقَ فِي فَصْلٍ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مِنْ أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَضَى بِأَرْبَعِ دِيَاتٍ فِي ضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ ذَهَبَ بِهَا الْعَقْلُ وَالْكَلَامُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ ، فَإِنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَوْ مَاتَ مِنْ الشَّجَّةِ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ ، فَلَوْ صَحَّ كَوْنُ فَوَاتِ الْعَقْلِ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ لَمَا لَزِمَ فِي ضَرْبَةٍ ذَهَبَ بِهَا الْعَقْلُ إلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ فَلْيُتَأَمَّلْ ( قَوْلُهُ وَأَرْشُ الْمُوضِحَةِ يَجِبُ بِفَوَاتِ جُزْءٍ مِنْ الشَّعْرِ حَتَّى لَوْ نَبَتَ يَسْقُطُ ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : أَيْ لَوْ نَبَتَ الشَّعْرُ وَالْتَأَمَتْ الشَّجَّةُ فَصَارَ كَمَا كَانَ لَا يَجِبُ شَيْءٌ فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ وُجُوبَ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ بِسَبَبِ فَوَاتِ الشَّعْرِ انْتَهَى .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : قَوْلُهُ وَأَرْشُ الْمُوضِحَةِ يَجِبُ بِفَوَاتِ جُزْءٍ مِنْ الشَّعْرِ لِبَيَانِ الْجُزْئِيَّةِ ، وَقَوْلُهُ حَتَّى لَوْ نَبَتَ يَعْنِي الشَّعْرَ يَسْقُطُ : يَعْنِي أَرْشَ الْمُوضِحَةِ لِبَيَانِ أَنَّ الْأَرْشَ يَجِبُ بِالْفَوَاتِ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ ، وَلَيْسَ بِمُفْتَقِرٍ إلَيْهِ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا ا هـ أَقُولُ : إنَّ قَوْلَهُ وَلَيْسَ بِمُفْتَقِرٍ إلَيْهِ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا لَيْسَ بِشَيْءٍ ، إذْ لَا رَيْبَ أَنَّ كَوْنَ وُجُوبِ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ بِفَوَاتِ جُزْءٍ مِنْ الشَّعْرِ لَا بِمُجَرَّدِ تَفْرِيقِ الِاتِّصَالِ ، وَالْإِيلَامُ الشَّدِيدُ أَمْرٌ خَفِيٌّ جِدًّا غَيْرُ مَعْلُومٍ بِدُونِ الْبَيَانِ وَالْإِعْلَامِ ، إذْ كَانَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ مِمَّا ذَكَرُوا فِي فَصْلِ الشِّجَاجِ أَنْ لَا يُشْتَرَطَ فِي وُجُوبِ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ فَوَاتُ جُزْءٍ مِنْ الشَّعْرِ بِالْكُلِّيَّةِ بِأَنْ لَا يَنْبُتَ بَعْدُ أَصْلًا ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا : الْمُوضِحَةُ مِنْ الشِّجَاجِ هِيَ الَّتِي

تُوضِحُ الْعَظْمَ : أَيْ تُبَيِّنُهُ ثُمَّ بَيَّنُوا حُكْمَهَا بِأَنَّهُ الْقِصَاصُ إنْ كَانَتْ عَمْدًا ، وَنِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ إنْ كَانَتْ خَطَأً ، وَلَا شَكَّ أَنَّ اسْمَ الْمُوضِحَةِ وَحَدَّهَا الْمَذْكُورَ يَتَحَقَّقَانِ فِيمَا نَبَتَ فِيهِ الشَّعْرُ أَيْضًا ، فَكَانَ اشْتِرَاطُ أَنْ لَا يَنْبُتَ الشَّعْرُ بَعْدَ الْبُرْءِ أَصْلًا فِي وُجُوبِ أَرْشِهَا أَمْرًا خَفِيًّا مُحْتَاجًا إلَى الْبَيَانِ بَلْ إلَى الْبُرْهَانِ ، وَلِهَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ : وَأَرْشُ الْمُوضِحَةِ يَجِبُ بِفَوَاتِ جُزْءٍ مِنْ الشَّعْرِ حَتَّى لَوْ نَبَتَ يَسْقُطُ .
وَقَالَ فِي الْكَافِي : وَوُجُوبُ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ بِاعْتِبَارِ ذَهَابِ الشَّعْرِ ، وَلِهَذَا لَوْ نَبَتَ الشَّعْرُ عَلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَاسْتَوَى لَا يَجِبُ شَيْءٌ .
وَقَالَ فِي الْمَبْسُوطِ : وُجُوبُ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ بِاعْتِبَارِ ذَهَابِ الشَّعْرِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ نَبَتَ الشَّعْرُ عَلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَاسْتَوَى كَمَا كَانَ لَا يَجِبُ شَيْءٌ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْبَيَانَاتِ الْوَاقِعَةِ مِنْ الثِّقَاتِ ( قَوْلُهُ وَجَوَابُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ : قِيلَ يَعْنِي بِهِ قَوْلَهُ لِأَنَّ بِفَوَاتِ الْعَقْلِ تَبْطُلُ مَنْفَعَةُ جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ ، وَقِيلَ : قَوْلُهُ وَقَدْ تَعَلَّقَا بِسَبَبٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَشْمَلُ مِنْ الْأَوَّلِ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِي قَوْلِهِ وَهُوَ أَشْمَلُ بَحْثٌ ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَقَدْ تَعَلَّقَا بِسَبَبٍ وَاحِدٍ إنَّمَا هُوَ فَوَاتُ الشَّعْرِ كَمَا يَرْشُدُ إلَيْهِ قَوْلُهُ فَدَخَلَ الْجُزْءُ فِي الْجُمْلَةِ ، لِأَنَّ الْجُزْئِيَّةَ إنَّمَا تُوجَدُ فِي صُورَةِ فَوَاتِ شَعْرِ رَأْسِهِ بِالشَّجَّةِ لَا فِي صُورَةِ ذَهَابِ عَقْلِهِ بِهَا ، وَقَدْ صَرَّحَ الشُّرَّاحُ حَتَّى صَاحِبُ الْعِنَايَةِ نَفْسُهُ بِكَوْنِ مُرَادِ الْمُصَنِّفِ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ هُنَاكَ فَوَاتُ الشَّعْرِ حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِهِ قَوْلُهُ وَقَدْ تَعَلَّقَا : يَعْنِي أَرْشَ الْمُوضِحَةِ وَالدِّيَةَ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ وَهُوَ فَوَاتُ الشَّعْرِ ، لَكِنَّ سَبَبَ الْمُوضِحَةِ الْبَعْضُ وَسَبَبُ الدِّيَةِ الْكُلُّ فَدَخَلَ الْجُزْءُ فِي الْجُمْلَةِ

انْتَهَى .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى يَخْتَصُّ بِالْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ ، وَهِيَ صُورَةُ ذَهَابِ شَعْرِ رَأْسِهِ ، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ لِأَنَّ بِفَوَاتِ الْعَقْلِ تَبْطُلُ مَنْفَعَةُ جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ مُخْتَصٌّ بِالْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَهِيَ صُورَةُ ذَهَابِ عَقْلِهِ ، فَكَيْفَ يَصِحُّ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْقَوْلَ الثَّانِي أَشْمَلُ مِنْ الْأَوَّلِ ؟ وَالْوَجْهُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي قَوْلِهِ وَجَوَابُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ مَجْمُوعَ مَا ذَكَرَهُ فِي تَعْلِيلَيْ الْمَسْأَلَتَيْنِ فَحِينَئِذٍ يُوجَدُ الشُّمُولُ بِلَا غُبَارٍ كَمَا لَا يَخْفَى ( قَوْلُهُ وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ جِنَايَةٌ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ وَالْمَنْفَعَةُ مُخْتَصَّةٌ بِهِ فَأَشْبَهَ الْأَعْضَاءَ الْمُخْتَلِفَةَ ، بِخِلَافِ الْعَقْلِ لِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ عَائِدَةٌ إلَى جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ ) قَالَ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ : قَالَ الْهِنْدُوَانِيُّ : كُنَّا نُفَرِّقُ بِهَذَا الْفَرْقِ حَتَّى رَأَيْت مَا يَنْقُضُهُ ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ يَدَهُ فَذَهَبَ عَقْلُهُ أَنَّ عَلَيْهِ دِيَةَ الْعَقْلِ وَأَرْشَ الْيَدِ بِلَا خِلَافٍ مِنْ أَحَدٍ ، فَلَوْ كَانَ زَوَالُ الْعَقْلِ كَزَوَالِ الرُّوحِ لَمَا وَجَبَ أَرْشُ الْيَدِ كَمَا لَوْ مَاتَ ، وَالصَّحِيحُ مِنْ الْفَرْقِ أَنَّ الْجِنَايَةَ وَقَعَتْ عَلَى عُضْوٍ وَاحِدٍ فِي الْعَقْلِ ، وَوَقَعَتْ فِي السَّمْعِ وَالْبَصَرِ عَلَى عُضْوَيْنِ فَلَا يَدْخُلُ انْتَهَى .
أَقُولُ : كَمَا يُنْتَقَضُ الْفَرْقُ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ بِالْمَسْأَلَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْهِنْدُوَانِيُّ كَذَلِكَ يُنْتَقَضُ مَا عَدَّهُ صَحِيحًا مِنْ الْفَرْقِ بِتِلْكَ الْمَسْأَلَةِ ، فَإِنَّ الْجِنَايَةَ وَقَعَتْ فِيهَا أَيْضًا عَلَى عُضْوٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْيَدُ ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ أَرْشُ الْيَدِ فِي الدِّيَةِ ، وَإِنْ اُعْتُبِرَ الْعَقْلُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ عُضْوًا مُغَايِرًا لِعُضْوِ الْيَدِ فَتَكُونُ الْجِنَايَةُ فِيهَا وَاقِعَةً عَلَى الْعُضْوَيْنِ بِذَلِكَ الِاعْتِبَارِ ، فَلِمَ لَمْ يُعْتَبَرْ الْعَقْلُ فِي مَسْأَلَةِ الشَّجَّةِ أَيْضًا عُضْوًا مُغَايِرًا لِمَحَلِّ الشَّجَّةِ

حَتَّى تَكُونَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ أَيْضًا بِذَلِكَ الِاعْتِبَارِ مِنْ قَبِيلِ مَا وَقَعَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى عُضْوَيْنِ فَلَا يَدْخُلُ الْأَرْشُ فِي الدِّيَةِ كَمَا فِي السَّمْعِ وَالْبَصَرِ .
وَبِالْجُمْلَةِ مَا عَدَّهُ الْهِنْدُوَانِيُّ صَحِيحًا مِنْ الْفَرْقِ هُنَا لَا يَخْلُو عَنْ الِانْتِقَاضِ أَيْضًا فَتَأَمَّلْ ( قَوْلُهُ وَوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ السَّمْعَ وَالْكَلَامَ مُبْطَنٌ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : قِيلَ يُرَادُ بِهِ الْكَلَامُ النَّفْسِيُّ بِحَيْثُ لَا تَرْتَسِمُ فِيهَا الْمَعَانِي وَلَا يَقْدِرُ عَلَى نَظْمِ التَّكَلُّمِ ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ ذَلِكَ كَانَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَهَابِ الْعَقْلِ عَسِرًا جِدًّا ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ التَّكَلُّمُ بِالْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ فَفِي جَعْلِهِ مُبْطَنًا نَظَرٌ انْتَهَى .
أَقُولُ : يُمْكِنُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هُوَ الثَّانِي ، وَالْمُرَادُ بِكَوْنِ السَّمْعِ وَالْكَلَامِ مُبْطَنًا كَوْنُ مَحِلِّهِمَا مَسْتُورًا غَائِبًا عَنْ الْحِسِّ ، بِخِلَافِ الْبَصَرِ فَإِنَّ مَحَلَّهُ ظَاهِرٌ مُشَاهَدٌ فَيَنْدَفِعُ النَّظَرُ كَمَا تَرَى

قَالَ ( وَإِنْ قَطَعَ أُصْبُعَ رَجُلٍ مِنْ الْمِفْصَلِ الْأَعْلَى فَشُلَّ مَا بَقِيَ مِنْ الْأُصْبُعِ أَوْ الْيَدِ كُلِّهَا لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ) وَيَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ الدِّيَةُ فِي الْمِفْصَلِ الْأَعْلَى وَفِيمَا بَقِيَ حُكُومَةُ عَدْلٍ ( وَكَذَلِكَ لَوْ كَسَرَ سِنَّ رَجُلٍ فَاسْوَدَّ مَا بَقِيَ ) وَلَمْ يَحْكِ خِلَافًا وَيَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ الدِّيَةُ فِي السِّنِّ كُلِّهِ ( وَلَوْ قَالَ : اقْطَعْ الْمِفْصَلَ وَاتْرُكْ مَا يَبِسَ أَوْ اكْسِرْ الْقِدْرَ الْمَكْسُورَ وَاتْرُكْ الْبَاقِيَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ) لِأَنَّ الْفِعْلَ فِي نَفْسِهِ مَا وَقَعَ مُوجِبًا لِلْقَوَدِ فَصَارَ كَمَا لَوْ شَجَّهُ مُنَقِّلَةً فَقَالَ : أَشُجُّهُ مُوضِحَةً أَتْرُكُ الزِّيَادَةَ .
لَهُمَا فِي الْخِلَافِيَّةِ أَنَّ الْفِعْلَ فِي مَحَلَّيْنِ فَيَكُونُ جِنَايَتَيْنِ مُبْتَدَأَتَيْنِ فَالشُّبْهَةُ فِي إحْدَاهُمَا لَا تَتَعَدَّى إلَى الْأُخْرَى ، كَمَنْ رَمَى إلَى رَجُلٍ عَمْدًا فَأَصَابَهُ وَنَفَذَ مِنْهُ إلَى غَيْرِهِ فَقَتَلَهُ يَجِبُ الْقَوَدُ فِي الْأَوَّلِ وَالدِّيَةُ فِي الثَّانِي .
وَلَهُ أَنَّ الْجِرَاحَةَ الْأُولَى سَارِيَةٌ وَالْجَزَاءُ بِالْمِثْلِ ، وَلَيْسَ فِي وُسْعِهِ السَّارِي فَيَجِبُ الْمَالُ ، وَلِأَنَّ الْفِعْلَ وَاحِدٌ حَقِيقَةً وَهُوَ الْحَرَكَةُ الْقَائِمَةُ ، وَكَذَا الْمَحَلُّ مُتَّحِدٌ مِنْ وَجْهِ لِاتِّصَالٍ أَحَدِهِمَا بِالْآخِرِ فَأَوْرَثَتْ نِهَايَتُهُ شُبْهَةَ الْخَطَأِ فِي الْبِدَايَةِ ، بِخِلَافِ النَّفْسَيْنِ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَيْسَ مِنْ سِرَايَةِ صَاحِبِهِ ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا وَقَعَ السِّكِّينُ عَلَى الْأُصْبُعِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِعْلًا مَقْصُودًا .
قَالَ : ( وَإِنْ قَطَعَ أُصْبُعًا فَشُلَّتْ إلَى جَنْبِهَا أُخْرَى فَلَا قِصَاصَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَا هُمَا وَزُفَرُ وَالْحَسَنُ : يُقْتَصُّ مِنْ الْأُولَى وَفِي الثَّانِيَةِ أَرْشُهَا .
وَالْوَجْهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ قَدْ ذَكَرْنَاهُ .
وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَهُوَ مَا إذَا شُجَّ مُوضِحَةً فَذَهَبَ بَصَرُهُ أَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِيهِمَا لِأَنَّ الْحَاصِلَ بِالسَّرَايَةِ مُبَاشَرَةً

كَمَا فِي النَّفْسِ وَالْبَصَرُ يَجْرِي فِيهِ الْقِصَاصُ ، بِخِلَافِ الْخِلَافِيَّةِ الْأَخِيرَةِ لِأَنَّ الشَّلَلَ لَا قِصَاصَ فِيهِ ، فَصَارَ الْأَصْلُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ سِرَايَةَ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ إلَى مَا يُمْكِنُ فِيهِ الْقِصَاصُ يُوجِبُ الِاقْتِصَاصَ كَمَا لَوْ آلَتْ إلَى النَّفْسِ وَقَدْ وَقَعَ الْأَوَّلُ ظُلْمًا .
وَوَجْهُ الْمَشْهُورِ أَنَّ ذَهَابَ الْبَصَرِ بِطَرِيقِ التَّسْبِيبِ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ الشَّجَّةَ بَقِيَتْ مُوجِبَةً فِي نَفْسِهَا وَلَا قَوَدَ فِي التَّسْبِيبِ ، بِخِلَافِ السِّرَايَةِ إلَى النَّفْسِ لِأَنَّهُ لَا تَبْقَى الْأُولَى فَانْقَلَبَتْ الثَّانِيَةُ مُبَاشَرَةً .
.
( قَوْلُهُ وَيَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ الدِّيَةُ فِي الْمِفْصَلِ الْأَعْلَى وَفِيمَا بَقِيَ حُكُومَةُ عَدْلٍ ) أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : هَذَا يُخَالِفُ وَيُنَافِي مَا ذَكَرَهُ فِيمَا قَبْلُ مِنْ قَوْلِهِ وَقَدْ تَعَلَّقَا بِسَبَبٍ وَاحِدٍ فَدَخَلَ الْجُزْءُ فِي الْكُلِّ ، كَمَا إذَا قُطِعَ أُصْبُعُ رَجُلٍ فَشُلَّتْ يَدُهُ فَإِنَّ مُقْتَضَى مَا أَسْلَفَهُ أَنْ يَجِبَ فِي الْكُلِّ الدِّيَةُ وَيَدْخُلُ الْجُزْءُ فِي الْكُلِّ عَلَى خِلَافِ مَا ذَكَرَهُ هَاهُنَا ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِنَاءُ اخْتِلَافِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْمَقَامَيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ ، وَمِمَّا يُعَضِّدُهُ كَلَامُ تَاجِ الشَّرِيعَةِ هُنَا حَيْثُ قَالَ : وَذَكَرَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ فِي الْجَامِعِ عَلَى نَحْوِ مَا ذُكِرَ هُنَا ، وَذَكَرَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ الْبَزْدَوِيُّ فِي مَبْسُوطِهِ : أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ مَفْصِلًا مِنْ أُصْبُعٍ فَشُلَّ الْبَاقِي فَإِنَّهُ يَجِبُ فِي الْكُلِّ الْأَرْشُ وَيُجْعَلُ كُلُّهُ جِنَايَةً وَاحِدَةً انْتَهَى تَدَبَّرْ .

قَالَ : ( وَلَوْ كَسَرَ بَعْضَ السِّنِّ فَسَقَطَتْ فَلَا قِصَاصَ ) إلَّا عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ ( وَلَوْ أَوْضَحَهُ مُوضِحَتَيْنِ فَتَآكَلَتَا فَهُوَ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ هَاتَيْنِ ) .

قَالَ : ( وَلَوْ قَلَعَ سِنَّ رَجُلٍ فَنَبَتَتْ مَكَانَهَا أُخْرَى سَقَطَ الْأَرْشُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَ : عَلَيْهِ الْأَرْشُ كَامِلًا ) لِأَنَّ الْجِنَايَةَ قَدْ تَحَقَّقَتْ وَالْحَادِثُ نِعْمَةٌ مُبْتَدَأَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى .
وَلَهُ أَنَّ الْجِنَايَةَ انْعَدَمَتْ مَعْنًى فَصَارَ كَمَا إذَا قَلَعَ سِنَّ صَبِيٍّ فَنَبَتَتْ لَا يَجِبُ الْأَرْشُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ لَمْ يُفْتِ عَلَيْهِ مَنْفَعَةً وَلَا زِينَةً ( وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ تَجِبُ حُكُومَةُ عَدْلٍ ) لِمَكَانِ الْأَلَمِ الْحَاصِلِ ( وَلَوْ قَلَعَ سِنَّ غَيْرِهِ فَرَدَّهَا صَاحِبُهَا فِي مَكَانِهَا وَنَبَتَ عَلَيْهِ اللَّحْمُ فَعَلَى الْقَالِعِ الْأَرْشُ بِكَمَالِهِ ) لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُعْتَدُّ بِهِ إذْ الْعُرُوقُ لَا تَعُودُ ( وَكَذَا إذَا قَطَعَ أُذُنَهُ فَأَلْصَقَهَا فَالْتَحَمَتْ ) لِأَنَّهَا لَا تَعُودُ إلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ .

( وَمَنْ نَزَعَ سِنَّ رَجُلٍ فَانْتَزَعَ الْمَنْزُوعَةُ سِنُّهُ سِنَّ النَّازِعِ فَنَبَتَتْ سِنُّ الْأَوَّلِ فَعَلَى الْأَوَّلِ لِصَاحِبِهِ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ ) لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ اسْتَوْفَى بِغَيْرِ حَقٍّ لِأَنَّ الْمُوجِبَ فَسَادُ الْمَنْبَتِ وَلَمْ يَفْسُدْ حَيْثُ نَبَتَ مَكَانَهَا أُخْرَى فَانْعَدَمَتْ الْجِنَايَةُ ، وَلِهَذَا يُسْتَأْنَى حَوْلًا بِالْإِجْمَاعِ ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُنْتَظَرَ الْيَأْسُ فِي ذَلِكَ لِلْقِصَاصِ ، إلَّا أَنَّ فِي اعْتِبَارِ ذَلِكَ تَضْيِيعَ الْحُقُوقِ فَاكْتَفَيْنَا بِالْحَوْلِ لِأَنَّهُ تَنْبُتُ فِيهِ ظَاهِرًا ، فَإِذَا مَضَى الْحَوْلُ وَلَمْ تَنْبُتْ قَضَيْنَا بِالْقِصَاصِ ، وَإِذَا نَبَتَتْ تَبَيَّنَ أَنَّا أَخْطَأْنَا فِيهِ وَالِاسْتِيفَاءُ كَانَ بِغَيْرِ حَقٍّ ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ لِلشُّبْهَةِ فَيَجِبُ الْمَالُ .
قَالَ : ( وَلَوْ ضَرَبَ إنْسَانٌ سِنَّ إنْسَانٍ فَتَحَرَّكَتْ يُسْتَأْنَى حَوْلًا ) لِيَظْهَرَ أَثَرُ فِعْلِهِ ( فَلَوْ أَجَّلَهُ الْقَاضِي سَنَةً ثُمَّ جَاءَ الْمَضْرُوبُ وَقَدْ سَقَطَتْ سِنُّهُ فَاخْتَلَفَا قَبْلَ السَّنَةِ فِيمَا سَقَطَ بِضَرْبِهِ فَالْقَوْلُ لِلْمَضْرُوبِ ) لِيَكُونَ التَّأْجِيلُ مُفِيدًا ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا شَجَّهُ مُوضِحَةً فَجَاءَ وَقَدْ صَارَتْ مُنَقِّلَةً فَاخْتَلَفَا حَيْثُ يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الضَّارِبِ لِأَنَّ الْمُوضِحَةَ لَا تُورِثُ الْمُنَقِّلَةَ ، أَمَّا التَّحْرِيكُ فَيُؤَثِّرُ فِي السُّقُوطِ فَافْتَرَقَا ( وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي ذَلِكَ بَعْدَ السَّنَةِ فَالْقَوْلُ لِلضَّارِبِ ) لِأَنَّهُ يُنْكِرُ أَثَرَ فِعْلِهِ وَقَدْ مَضَى الْأَجَلُ الَّذِي وَقَّتَهُ الْقَاضِي لِظُهُورِ الْأَثَرِ فَكَانَ الْقَوْلُ لِلْمُنْكِرِ ( وَلَوْ لَمْ تَسْقُطْ لَا شَيْءَ عَلَى الضَّارِبِ ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ تَجِبُ حُكُومَةُ الْأَلَمِ ، وَسَنُبَيِّنُ الْوَجْهَيْنِ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ( وَلَوْ لَمْ تَسْقُطْ وَلَكِنَّهَا اسْوَدَّتْ يَجِبُ الْأَرْشُ فِي الْخَطَإِ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَفِي الْعَمْدِ فِي مَالِهِ ، وَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ ) لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَضْرِبَهُ ضَرْبًا تَسْوَدُّ مِنْهُ ( وَكَذَا إذَا كَسَرَ بَعْضَهُ

وَاسْوَدَّ الْبَاقِي ) لَا قِصَاصَ لِمَا ذَكَرْنَا ( وَكَذَا لَوْ احْمَرَّ أَوْ اخْضَرَّ ) وَلَوْ اصْفَرَّ فِيهِ رِوَايَتَانِ .
.

( قَوْلُهُ وَلِهَذَا يُسْتَأْنَى حَوْلًا بِالْإِجْمَاعِ ) أَيْ يُؤَجَّلُ سَنَةً بِالْإِجْمَاعِ .
وَذَكَرَ فِي التَّتِمَّةِ أَنَّ سِنَّ الْبَالِغِ إذَا سَقَطَ يُنْتَظَرُ حَتَّى يَبْرَأَ مَوْضِعُ السِّنِّ لَا الْحَوْلَ هُوَ الصَّحِيحُ ، لِأَنَّ نَبَاتَ سِنِّ الْبَالِغِ نَادِرٌ فَلَا يُفِيدُ التَّأْجِيلُ ، إلَّا أَنَّ قَبْلَ الْبُرْءِ لَا يُقْتَصُّ وَلَا يُؤْخَذُ الْأَرْشُ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي عَاقِبَتَهُ انْتَهَى .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ إجْمَالًا : وَلَيْسَ بِظَاهِرٍ ، وَإِنَّمَا الظَّاهِرُ مَا قَالَ الْمُصَنِّفُ ، لِأَنَّ الْحَوْلَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ وَلَهَا تَأْثِيرٌ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِبَدَنِ الْإِنْسَانِ ، فَلَعَلَّ فَصْلًا مِنْهَا يُوَافِقُ مِزَاجَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فَيُؤَثِّرُ فِي إنْبَاتِهِ .
وَقَالَ : وَلَكِنَّ قَوْلَهُ بِالْإِجْمَاعِ فِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّهُ قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ : وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا قَالُوا : الِاسْتِينَاءُ حَوْلًا فِي فَصْلِ الْقَلْعِ فِي الْبَالِغِ وَالصَّغِيرِ جَمِيعًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { فِي الْجِرَاحَاتِ كُلِّهَا يُسْتَأْنَى حَوْلًا } وَهُوَ كَمَا تَرَى يُنَافِي الْإِجْمَاعَ انْتَهَى .
أَقُولُ : نَظَرُهُ سَاقِطٌ ، لِأَنَّ الَّذِي يُنَافِي الْإِجْمَاعَ مِمَّا نَقَلَهُ عَنْ الذَّخِيرَةِ إنَّمَا هُوَ مَفْهُومُ قَوْلِهِ وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا قَالُوا : أَيْ مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ ، لَكِنَّ مَفْهُومَ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ عَدَمُ إجْمَاعِ الْمَشَايِخِ لَا عَدَمُ إجْمَاعِ الْمُجْتَهِدِينَ .
وَمُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِالْإِجْمَاعِ فِي قَوْلِهِ وَلِهَذَا يُسْتَأْتَى حَوْلًا بِالْإِجْمَاعِ إنَّمَا هُوَ إجْمَاعُ الْمُجْتَهِدِينَ دُونَ إجْمَاعِ الْمَشَايِخِ ، وَانْتِفَاءُ أَحَدِ الْإِجْمَاعَيْنِ لَا يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءَ الْآخَرِ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ الْمَشَايِخَ كَثِيرًا مَا يَخْتَلِفُونَ فِي رِوَايَةِ الْمَسْأَلَةِ عَنْ الْمُجْتَهِدِينَ ، فَبَعْضُهُمْ يَرْوِي اجْتِمَاعَ الْمُجْتَهِدِينَ فِيهَا وَبَعْضُهُمْ يَرْوِي اخْتِلَافَهُمْ فِيهَا ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ ، كَمَا يُشْعِرُ بِهِ مَا ذُكِرَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ ،

فَإِنَّهُ قَالَ فِيهَا : وَنَقَلَ النَّاطِفِيِّ فِي الْأَجْنَاسِ عَنْ نَوَادِرِ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَةَ ابْنِ سِمَاعَةَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ : رَجُلٌ قَلَعَ سِنَّ رَجُلٍ لَا أَنْتَظِرُ بِهَا حَوْلًا ، وَإِنَّمَا أَنْتَظِرُ بِسِنِّ الصَّبِيِّ وَأَقْضِي عَلَيْهِ بِأَرْشِهَا ، وَذَلِكَ لِأَنَّ نَبَاتَ السِّنِّ بَعْدَ الْبُلُوغِ نَادِرٌ ، وَإِلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا مِثْلُ خُوَاهَرْ زَادَهْ وَغَيْرُهُ .
وَقَالَ النَّاطِفِيُّ أَيْضًا .
قَالَ فِي الْمُجَرَّدِ : لَوْ نَزَعَ سِنَّ صَبِيٍّ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَأْخُذَ ضَمِينًا مِنْ النَّازِعِ لِلْمَنْزُوعِ سِنُّهُ وَيُؤَجِّلَهُ سَنَةً مُنْذُ يَوْمِ نُزِعَ سِنُّهُ ، فَإِذَا مَضَتْ سَنَةٌ وَلَمْ تَنْبُتْ اقْتَصَّ لَهُ .
وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَمْ يُفَرِّقْ كَثِيرٌ مِنْ مَشَايِخِنَا بَيْنَ سِنِّ الْبَالِغِ وَالصَّغِيرِ بَلْ قَالُوا بِالِاسْتِينَاءِ فِيهِمَا جَمِيعًا .
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْقُدُورِيُّ وَالسَّرَخْسِيُّ وَغَيْرُهُمَا ، إلَى هُنَا لَفْظُ الْغَايَةِ .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ أَيْضًا ذَهَبَ إلَيْهِ فَقَالَ : وَلِهَذَا يَسْتَأْنِي حَوْلًا بِالْإِجْمَاعِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الصَّبِيِّ وَالْبَالِغِ ، وَادَّعَى الْإِجْمَاعَ أَخْذًا بِمَا ذَكَرَ فِي الْمُجَرَّدِ بِدُونِ رِوَايَةِ خِلَافِ أَحَدٍ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ .
وَالْعَجَبُ مِنْ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ أَنَّهُ جَعَلَ مَا ذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ مُنَافِيًا لِلْإِجْمَاعِ وَلَمْ يَجْعَلْ مَا ذَكَرَ فِي التَّتِمَّةِ مُنَافِيًا لَهُ حَيْثُ لَمْ يُورِدْ النَّظَرَ بِهِ مَعَ كَوْنِ مُنَافَاتِهِ إيَّاهُ أَظْهَرُ عَلَى تَقْدِيرِ حَمْلِ الْإِجْمَاعِ عَلَى إجْمَاعِ الْمَشَايِخِ كَمَا هُوَ مَدَارُ نَظَرِهِ الْمَذْكُورِ .
وَعَنْ هَذَا قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَصَاحِبَا الْكِفَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ : قَوْلُهُ وَلِهَذَا يَسْتَأْنِي حَوْلًا بِالْإِجْمَاعِ يُخَالِفُ رِوَايَةَ التَّتِمَّةِ ( قَوْلُهُ وَلَوْ لَمْ تَسْقُطْ وَلَكِنَّهَا اسْوَدَّتْ يَجِبُ الْأَرْشُ فِي الْخَطَإِ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَفِي الْعَمْدِ فِي مَالِهِ ) قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ وَالْمُحِيطِ : أَوْجَبَ مُحَمَّدٌ كَمَالَ الْأَرْشِ بِاسْوِدَادِ السِّنِّ ،

وَلَمْ يُفَصِّلْ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ السِّنُّ مِنْ الْأَضْرَاسِ الَّتِي لَا تُرَى أَوْ مِنْ الْعَوَارِضِ الَّتِي تُرَى .
قَالُوا : يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ فِيهَا عَلَى التَّفْصِيلِ إنْ كَانَ السِّنُّ مِنْ الْأَضْرَاسِ الَّتِي لَا تُرَى ، إنْ فَاتَتْ مَنْفَعَةُ الْمَضْغِ بِالِاسْوِدَادِ يَجِبُ الْأَرْشُ كَامِلًا ، وَإِلَّا يَجِبُ حُكُومَةُ الْعَدْلِ ، وَإِنْ كَانَ السِّنُّ مِنْ الْعَوَارِضِ الَّتِي تُرَى وَتَظْهَرُ يَجِبُ كَمَالُ الْأَرْشِ بِالِاسْوِدَادِ ، وَإِنْ لَمْ تَفُتْ مَنْفَعَتُهُ لِأَنَّهُ فَوَّتَ جَمَالًا عَلَى الْكَمَالِ انْتَهَى .
وَهَذَا ذَكَرَهُ الشُّرَّاحُ هُنَا وَعَزَاهُ أَكْثَرُهُمْ إلَى الذَّخِيرَةِ فَقَطْ ، وَأَوْرَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى جَوَابِ الشِّقِّ الثَّانِي مِنْ التَّفْصِيلِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا ذَكَرُوهُ قُبَيْلَ فَصْلِ الشِّجَاجِ مِنْ أَنَّ الْجَمَالَ تَابِعٌ فِي الْعُضْوِ الَّذِي يُقْصَدُ مِنْهُ الْمَنْفَعَةُ انْتَهَى .
أَقُولُ : يُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ فِي الْأَسْنَانِ الَّتِي تُرَى لَيْسَتْ بِمَقْصُودَةٍ مِنْهَا بِالذَّاتِ وَإِنْ حَصَلَتْ فِيهَا أَيْضًا فِي الْجُمْلَةِ ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مِنْهَا بِالذَّاتِ الْجَمَالُ وَالزِّينَةُ لِلْإِنْسَانِ ، وَمَا ذَكَرُوا قُبَيْلَ فَصْلِ الشِّجَاجِ مِنْ كَوْنِ الْجَمَالِ تَابِعًا إنَّمَا هُوَ فِي الْأَعْضَاءِ الَّتِي يُقْصَدُ مِنْهَا الْمَنْفَعَةُ أَصَالَةً كَالْيَدِ وَنَحْوِهَا فَلَا مُخَالَفَةَ ( قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تَعْقِلُ الْعَوَاقِلُ عَمْدًا } الْحَدِيثُ ) قَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ : فِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّهُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالشَّعْبِيِّ وَقَدْ مَرَّ آنِفًا انْتَهَى .
أَقُولُ : هَذَا النَّظَرُ فِي غَايَةِ السُّقُوطِ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ كَمَا رُوِيَ مَوْقُوفًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالشَّعْبِيِّ ، رُوِيَ أَيْضًا مَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ هُنَا صَاحِبُ الْكَافِي حَيْثُ قَالَ : وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ

الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ عَمْدًا وَلَا عَبْدًا وَلَا صُلْحًا وَلَا اعْتِرَافًا وَلَا مَا دُونَ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ } انْتَهَى .
وَكَذَا نَصَّ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ الْمَعَاقِلِ بِهَذَا الْمِنْوَالِ ، فَكَانَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا رُوِيَ مَرْفُوعًا إلَيْهِ بِلَا رَيْبٍ ، وَهَذَا يَكْفِي فِي صِحَّةِ عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ هُنَا كَمَا لَا يَخْفَى .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ عَلَى مَا رُوِيَ مَوْقُوفًا أَيْضًا يُحْمَلُ عَلَى الرِّوَايَةِ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يُعْلَمُ بِالرَّأْيِ بَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَى السَّمَاعِ ، وَمِثْلُ هَذَا يُحْمَلُ عَلَى السَّمَاعِ صِيَانَةً لِلصَّحَابِيِّ عَنْ الْكَذِبِ وَالْجُزَافِ وَيَصِيرُ الْمَوْقُوفُ فِيهِ كَالْمَرْفُوعِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ وَمَرَّ فِي الْكِتَابِ مِرَارًا ، فَصَحَّ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِي حَقِّ هَذَا الْحَدِيثِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى كُلِّ حَالٍ .
وَالْعَجَبُ مِنْ صَاحِبِ الْغَايَةِ أَنَّهُ قَالَ : وَقَدْ مَرَّ آنِفًا ، وَاَلَّذِي مَرَّ مِنْهُ آنِفًا يَصِيرُ جَوَابًا عَنْ نَظَرِهِ هَذَا فَإِنَّهُ قَالَ هُنَاكَ : رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي مُوَطَّئِهِ وَقَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ " لَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ عَمْدًا وَلَا صُلْحًا وَلَا اعْتِرَافًا وَلَا مَا جَنَى الْمَمْلُوكُ " وَهَذَا لَا يُعْلَمُ إلَّا مِنْ طَرِيقِ التَّوْقِيفِ ، فَحُمِلَ عَلَى أَنَّهُ رَوَاهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصِيَانَتِهِ عَنْ الْكَذِبِ وَالْجُزَافِ ، إلَى هُنَا لَفْظُهُ .
وَهَذَا صَرِيحٌ فِي الْجَوَابِ عَنْ نَظَرِهِ هَا هُنَا كَمَا لَا يَخْفَى

قَالَ : ( وَمَنْ شَجَّ رَجُلًا فَالْتَحَمَتْ وَلَمْ يَبْقَ لَهَا أَثَرٌ وَنَبَتَ الشَّعْرُ سَقَطَ الْأَرْشُ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِزَوَالِ الشَّيْنِ الْمُوجِبِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَجِبُ عَلَيْهِ أَرْشُ الْأَلَمِ وَهُوَ حُكُومَةُ عَدْلٍ ، لِأَنَّ الشَّيْنَ إنْ زَالَ فَالْأَلَمُ الْحَاصِلُ مَا زَالَ فَيَجِبُ تَقْوِيمُهُ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : عَلَيْهِ أُجْرَةُ الطَّبِيبِ ، لِأَنَّهُ إنَّمَا لَزِمَهُ الطَّبِيبُ وَثَمَنُ الدَّوَاءِ بِفِعْلِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ أَخَذَ ذَلِكَ مِنْ مَالِهِ ، إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَقُولُ : إنَّ الْمَنَافِعَ عَلَى أَصْلِنَا لَا تَتَقَوَّمُ إلَّا بِعَقْدٍ أَوْ بِشُبْهَةٍ ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّ الْجَانِي فَلَا يَغْرَمُ شَيْئًا .
.

قَالَ : ( وَمَنْ ضَرَبَ رَجُلًا مِائَةَ سَوْطٍ فَجَرَحَهُ فَبَرَأَ مِنْهَا فَعَلَيْهِ أَرْشُ الضَّرْبِ ) مَعْنَاهُ : إذَا بَقِيَ أَثَرُ الضَّرْبِ ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَبْقَ أَثَرُهُ فَهُوَ عَلَى اخْتِلَافٍ قَدْ مَضَى فِي الشَّجَّةِ الْمُلْتَحِمَةِ .
.

قَالَ ( وَمَنْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ خَطَأً ثُمَّ قَتَلَهُ خَطَأً قَبْلَ الْبُرْءِ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ وَسَقَطَ عَنْهُ أَرْشُ الْيَدِ ) لِأَنَّ الْجِنَايَةَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَالْمُوجَبُ وَاحِدٌ وَهُوَ الدِّيَةُ وَإِنَّهَا بَدَلُ النَّفْسِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا فَدَخَلَ الطَّرَفُ فِي النَّفْسِ كَأَنَّهُ قَتَلَهُ ابْتِدَاءً .
.

قَالَ : ( وَمَنْ جَرَحَ رَجُلًا جِرَاحَةً لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ حَتَّى يَبْرَأَ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : يُقْتَصُّ مِنْهُ فِي الْحَالِ اعْتِبَارًا بِالْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُوجِبَ قَدْ تَحَقَّقَ فَلَا يُعَطَّلُ .
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { يُسْتَأْنَى فِي الْجِرَاحَاتِ سَنَةً } وَلِأَنَّ الْجِرَاحَاتِ يُعْتَبَرُ فِيهَا مَآلُهَا لَا حَالُهَا لِأَنَّ حُكْمَهَا فِي الْحَالِ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَلَعَلَّهَا تَسْرِي إلَى النَّفْسِ فَيَظْهَرُ أَنَّهُ قَتَلَ وَإِنَّمَا يَسْتَقِرُّ الْأَمْرُ بِالْبُرْءِ .
.

قَالَ : ( وَكُلُّ عَمْدٍ سَقَطَ الْقِصَاصُ فِيهِ بِشُبْهَةٍ فَالدِّيَةُ فِي مَالِ الْقَاتِلِ ، وَكُلُّ أَرْشٍ وَجَبَ بِالصُّلْحِ فَهُوَ فِي مَالِ الْقَاتِلِ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تَعْقِلُ الْعَوَاقِلُ عَمْدًا } الْحَدِيثُ .
وَهَذَا عَمْدٌ ، غَيْرَ أَنَّ الْأَوَّلَ يَجِبُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ لِأَنَّهُ مَالٌ وَجَبَ بِالْقَتْلِ ابْتِدَاءً فَأَشْبَهَ شِبْهَ الْعَمْدِ .
وَالثَّانِي يَجِبُ حَالًّا لِأَنَّهُ مَالٌ وَجَبَ بِالْعَقْدِ فَأَشْبَهَ الثَّمَنَ فِي الْبَيْعِ .
قَالَ : ( وَإِنْ قَتَلَ الْأَبُ ابْنَهُ عَمْدًا فَالدِّيَةُ فِي مَالِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : تَجِبُ حَالَّةً لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ مَا يَجِبُ بِالْإِتْلَافِ يَجِبُ حَالًّا ، وَالتَّأْجِيلُ لِلتَّخْفِيفِ فِي الْخَاطِئِ وَهَذَا عَامِدٌ فَلَا يَسْتَحِقُّهُ ، وَلِأَنَّ الْمَالَ وَجَبَ جَبْرًا لِحَقِّهِ ، وَحَقُّهُ فِي نَفْسِهِ حَالٌّ فَلَا يَنْجَبِرُ بِالْمُؤَجَّلِ .
وَلَنَا أَنَّهُ مَالٌ وَاجِبٌ بِالْقَتْلِ فَيَكُونُ مُؤَجَّلًا كَدِيَةِ الْخَطَإِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى تَقَوُّمَ الْآدَمِيِّ بِالْمَالِ لِعَدَمِ التَّمَاثُلِ ، وَالتَّقْوِيمُ ثَبَتَ بِالشَّرْعِ وَقَدْ وَرَدَ بِهِ مُؤَجَّلًا لَا مُعَجَّلًا فَلَا يَعْدُلُ عَنْهُ لَا سِيَّمَا إلَى زِيَادَةٍ ، وَلَمَّا لَمْ يَجُزْ التَّغْلِيطُ بِاعْتِبَارِ الْعَمْدِيَّةِ قَدْرًا لَا يَجُوزُ وَصْفًا ( وَكُلُّ جِنَايَةٍ اعْتَرَفَ بِهَا الْجَانِي فَهِيَ فِي مَالِهِ وَلَا يَصْدُقُ عَلَى عَاقِلَتِهِ ) لِمَا رَوَيْنَا ، وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ لَا يَتَعَدَّى الْمُقِرَّ لِقُصُورِ وِلَايَتِهِ عَنْ غَيْرِهِ فَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْعَاقِلَةِ .
.

( قَوْلُهُ غَيْرَ أَنَّ الْأَوَّلَ يَجِبُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ لِأَنَّهُ مَالٌ وَجَبَ بِالْقَتْلِ ابْتِدَاءً فَأَشْبَهَ شِبْهَ الْعَمْدِ ) أَقُولُ : إنَّ قَيْدَ ابْتِدَاءً فِي قَوْلِهِ وَجَبَ بِالْقَتْلِ ابْتِدَاءً مُسْتَدْرَكٌ بَلْ مُفْسِدٌ ، لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ قَالَ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْجِنَايَاتِ أَثْنَاءَ بَيَانِ أَنَّ مِنْ مُوجِبَاتِ شِبْهِ الْعَمْدِ الدِّيَةُ الْمُغَلَّظَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ : وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ دِيَةٍ وَجَبَتْ بِالْقَتْلِ ابْتِدَاءً لَا بِمَعْنًى يَحْدُثُ مِنْ بَعْدُ فَهِيَ عَلَى الْعَاقِلَةِ ، فَلَوْ كَانَ الْأَوَّلُ هَا هُنَا مَا لَا وَجَبَ بِالْقَتْلِ ابْتِدَاءً لَوَجَبَ عَلَى الْعَاقِلَةِ عَلَى مُقْتَضَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ هُنَاكَ مَعَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ فِي مَالِهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ آنِفًا .
فَالْوَجْهُ أَنْ يُتْرَكَ قَيْدُ ابْتِدَاءً هَا هُنَا فَيُقَالُ : لِأَنَّهُ مَالٌ وَجَبَ بِالْقَتْلِ احْتِرَازًا بِهِ عَمَّا وَجَبَ بِالْعَمْدِ كَمَا فِي الْقِسْمِ الثَّانِي فَإِنَّهُ يَجِبُ حَالًّا ، وَلَقَدْ أَصَابَ فِيمَا بَعْدُ حَيْثُ قَالَ : وَلَنَا أَنَّهُ مَالٌ وَاجِبٌ بِالْقَتْلِ فَيَكُونُ مُؤَجَّلًا كَدِيَةِ الْخَطَإِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ ( قَوْلُهُ وَإِذَا قَتَلَ الْأَبُ ابْنَهُ عَمْدًا فَالدِّيَةُ فِي مَالِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : كَأَنَّ حُكْمَهُ قَدْ عُلِمَ مِنْ الضَّابِطَةِ الْكُلِّيَّةِ لَكِنَّهُ ذَكَرَهُ لِبَيَانِ خِلَافِ الشَّافِعِيِّ انْتَهَى .
أَقُولُ : اعْتِذَارُهُ هَذَا لَيْسَ بِسَدِيدٍ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ ذِكْرَ حُكْمِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَعْدَ ذِكْرِ تِلْكَ الضَّابِطَةِ الْكُلِّيَّةِ قَدْ وَقَعَ فِي مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ وَالْبِدَايَةِ أَيْضًا بِدُونِ بَيَانِ خِلَافِ الشَّافِعِيِّ أَصْلًا ، فَكَيْفَ يَصْلُحُ بَيَانُ الْمُصَنِّفِ فِي شَرْحِهِ خِلَافَ الشَّافِعِيِّ لَأَنْ يَكُونَ عُذْرًا مِنْ ذِكْرِهِ حُكْمَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي مَتْنِهِ قَبْلَ مُدَّةٍ مِنْ ذِكْرِ الْقُدُورِيِّ إيَّاهُ فِي مُخْتَصَرِهِ قَبْلَ سِنِينَ مُتَكَاثِرَةٍ ، وَهَلْ يَتَفَوَّهُ الْعَاقِلُ بِمِثْلِ ذَاكَ الِاعْتِذَارِ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ خِلَافَ الشَّافِعِيِّ لَيْسَ

بِمُنْحَصِرٍ فِي حُكْمِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْمُنْفَرِدَةِ بِالذِّكْرِ ، بَلْ خِلَافُهُ مُتَحَقِّقٌ فِي حُكْمِ تِلْكَ الضَّابِطَةِ الْكُلِّيَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، فَإِنَّهُ لَا يَقُولُ بِالتَّأْجِيلِ فِي الْعَمْدِ أَصْلًا بَلْ يُخَصِّصُهُ بِالْخَطَإِ كَمَا يُفْصِحُ عَنْهُ تَعْلِيلُهُ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ ، وَتِلْكَ الضَّابِطَةُ الْكُلِّيَّةُ إنَّمَا هِيَ فِي الْعَمْدِ ، وَحُكْمُهَا التَّأْجِيلُ مُطْلَقًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ غَيْرَ أَنَّ الْأَوَّلَ يَجِبُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ، فَقَصْدُ بَيَانِ خِلَافِ الشَّافِعِيِّ لَا يَقْتَضِي إفْرَادَ حُكْمِ هَاتِيكَ الْمَسْأَلَةِ بِالذِّكْرِ بَعْدَ ذِكْرِ تِلْكَ الضَّابِطَةِ الْكُلِّيَّةِ فَلَا تَمْشِيَةَ لِلِاعْتِذَارِ الْمَذْكُورِ أَصْلًا .

قَالَ : ( وَعَمْدُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ خَطَأٌ وَفِيهِ الدِّيَةُ ) عَلَى الْعَاقِلَةِ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ جِنَايَةٍ مُوجَبُهَا خَمْسُمِائَةٍ فَصَاعِدًا وَالْمَعْتُوهُ كَالْمَجْنُونِ ( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : عَمْدُهُ عَمْدٌ حَتَّى تَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ حَالَّةً ) لِأَنَّهُ عَمْدٌ حَقِيقَةً ، إذْ الْعَمْدُ هُوَ الْقَصْدُ غَيْرَ أَنَّهُ تَخَلَّفَ عَنْهُ أَحَدُ حُكْمَيْهِ وَهُوَ الْقِصَاصُ فَيَنْسَحِبُ عَلَيْهِ حُكْمُهُ الْآخَرُ وَهُوَ الْوُجُوبُ فِي مَالِهِ ، وَلِهَذَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِهِ ، وَيَحْرُمُ عَنْ الْمِيرَاثِ عَلَى أَصْلِهِ لِأَنَّهُمَا يَتَعَلَّقَانِ بِالْقَتْلِ .
وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ جَعَلَ عَقْلَ الْمَجْنُونِ عَلَى عَاقِلَتِهِ ، وَقَالَ : عَمْدُهُ وَخَطَؤُهُ سَوَاءٌ ، وَلِأَنَّ الصَّبِيَّ مَظِنَّةُ الْمَرْحَمَةِ ، وَالْعَاقِلُ الْخَاطِئُ لَمَّا اسْتَحَقَّ التَّخْفِيفَ حَتَّى وَجَبَتْ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ فَالصَّبِيُّ وَهُوَ أَعْذَرُ أَوْلَى بِهَذَا التَّخْفِيفِ .
وَلَا نُسَلِّمُ تَحَقُّقَ الْعَمْدِيَّةِ فَإِنَّهَا تَتَرَتَّبُ عَلَى الْعِلْمِ وَالْعِلْمُ بِالْعَقْلِ ، وَالْمَجْنُونُ عَدِيمُ الْعَقْلِ وَالصَّبِيُّ قَاصِرُ الْعَقْلِ فَأَنَّى يَتَحَقَّقُ مِنْهُمَا الْقَصْدُ وَصَارَ كَالنَّائِمِ .
وَحِرْمَانُ الْمِيرَاثِ عُقُوبَةٌ ، وَهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْعُقُوبَةِ وَالْكَفَّارَةُ كَاسْمِهَا سَتَّارَةٌ : وَلَا ذَنْبَ تَسْتُرُهُ لِأَنَّهُمَا مَرْفُوعَا الْقَلَمِ .
.

( فَصْلٌ فِي الْجَنِينِ ) .
قَالَ : ( وَإِذَا ضَرَبَ بَطْنَ امْرَأَةٍ فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا فَفِيهِ غُرَّةٌ وَهِيَ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَعْنَاهُ دِيَةُ الرَّجُلِ ، وَهَذَا فِي الذَّكَرِ ، وَفِي الْأُنْثَى عُشْرُ دِيَةِ الْمَرْأَةِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ .
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجِبَ شَيْءٌ لِأَنَّهُ لَمْ يُتَيَقَّنْ بِحَيَاتِهِ ، وَالظَّاهِرُ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { فِي الْجَنِينِ غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ قِيمَتُهُ خَمْسُمِائَةٍ } وَيُرْوَى " أَوْ خَمْسُمِائَةٍ " فَتَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِالْأَثَرِ ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ قَدَّرَهَا بِسِتِّمِائَةٍ نَحْوُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ ( وَهِيَ عَلَى الْعَاقِلَةِ ) عِنْدَنَا إذَا كَانَتْ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ .
وَقَالَ مَالِكٌ : فِي مَالِهِ لِأَنَّهُ بَدَلُ الْجُزْءِ .
وَلَنَا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { قَضَى بِالْغُرَّةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ } ، وَلِأَنَّهُ بَدَلُ النَّفْسِ وَلِهَذَا سَمَّاهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دِيَةً حَيْثُ قَالَ " دُوهُ " وَقَالُوا : { أَنَدِي مَنْ لَا صَاحَ وَلَا اسْتَهَلَّ } الْحَدِيثُ ، إلَّا أَنَّ الْعَوَاقِلَ لَا تَعْقِلُ مَا دُونَ خَمْسِمِائَةٍ .

( فَصْلٌ الْجِنَايَةُ فِي الْجَنِينِ ) .
لَمَّا ذَكَرَ أَحْكَامَ الْجِنَايَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْآدَمِيِّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْكَامِهَا الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْآدَمِيِّ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ وَهُوَ الْجَنِينُ .
بَيَانُ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ فِي أُصُولِهِ أَنَّ الْجَنِينَ مَا دَامَ مُجْتَنًّا فِي الْبَطْنِ لَيْسَ لَهُ ذِمَّةٌ صَالِحَةٌ لِكَوْنِهِ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْ الْآدَمِيِّ لَكِنَّهُ مُنْفَرِدٌ بِالْحَيَاةِ مُعَدٌّ لَأَنْ يَكُونَ نَفْسًا لَهُ ذِمَّةٌ ، فَبِاعْتِبَارِ هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ أَهْلًا لِوُجُوبِ الْحَقِّ لَهُ مِنْ عِتْقٍ أَوْ إرْثٍ أَوْ نَسَبٍ أَوْ وَصِيَّةٍ ، وَبِاعْتِبَارِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لَا يَكُونُ أَهْلًا لِوُجُوبِ الْحَقِّ عَلَيْهِ ، فَأَمَّا بَعْدَمَا يُولَدُ فَلَهُ ذِمَّةٌ صَالِحَةٌ ، وَلِهَذَا لَوْ انْقَلَبَ عَلَى مَالِ إنْسَانٍ فَأَتْلَفَهُ يَكُونُ ضَامِنًا لَهُ وَيَلْزَمُهُ مَهْرُ امْرَأَتِهِ بِعَقْدِ الْوَلِيِّ ( قَوْلُهُ وَهَذَا فِي الذَّكَرِ وَفِي الْأُنْثَى عُشْرُ دِيَةِ الْمَرْأَةِ ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ ) أَقُولُ : فِي هَذَا التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ وَهَذَا فِي الذَّكَرِ وَفِي الْأُنْثَى عُشْرُ دِيَةِ الْمَرْأَةِ اسْتِدْرَاكٌ بَعْدَ أَنْ قَالَ قَبْلَهُ مَعْنَاهُ دِيَةُ الرَّجُلِ ، لِأَنَّ عُشْرَ دِيَةِ الْمَرْأَةِ هُوَ نِصْفُ عُشْرِ دِيَةِ الرَّجُلِ فِي الْمِقْدَارِ بِلَا رَيْبٍ ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ أَنَّ دِيَةَ الْمَرْأَةِ نِصْفُ دِيَةِ الرَّجُلِ فَعُشْرُ دِيَتِهَا نِصْفُ عُشْرِ دِيَتِهِ لَا مَحَالَةَ ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ هُنَا بِقَوْلِهِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ ، فَمَا فَائِدَةُ هَذَا التَّفْصِيلِ الْفَارِقِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فِي مُجَرَّدِ الْعِبَارَةِ ، وَإِنَّمَا كَانَ يَظْهَرُ فَائِدَتُهُ أَنْ لَوْ لَمْ يُفَسِّرْ نِصْفَ عُشْرِ الدِّيَةِ الْوَاقِعِ فِي كَلَامِ الْقُدُورِيِّ بِقَوْلِهِ مَعْنَاهُ دِيَةُ الرَّجُلِ فَإِنَّهُ كَانَ يَحْتَمِلُ حِينَئِذٍ نِصْفَ عُشْرِ دِيَةِ الرَّجُلِ وَنِصْفَ عُشْرِ دِيَةِ الْمَرْأَةِ فَيُفِيدُ التَّفْصِيلَ الْمَذْكُورَ ، وَعَنْ هَذَا فَصَّلَ صَاحِبُ

الْكَافِي كَمَا فَصَّلَهُ الْمُصَنِّفُ ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ قَبْلَهُ لِتَقْيِيدِ عُشْرِ الدِّيَةِ بِعُشْرِ دِيَةِ الرَّجُلِ ( قَوْلُهُ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجِبَ شَيْءٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَيَقَّنْ بِحَيَاتِهِ ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ وَكَثِيرٍ مِنْ الشُّرُوحِ تَتْمِيمًا لِمَا فِي الْكِتَابِ : وَفِعْلُ الْقَتْلِ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا فِي مَحِلٍّ هُوَ حَيٌّ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ بِالشَّكِّ انْتَهَى .
أَقُولُ : يُرَدُّ عَلَى هَذَا الْبَيَانِ أَنَّهُ إنَّمَا يَتِمُّ أَنْ لَوْ ثَبَتَ كَوْنُ الْغُرَّةِ جَزَاءَ فِعْلِ الْقَتْلِ وَهُوَ مَمْنُوعٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ جَزَاءَ إتْلَافِ عُضْوٍ مِنْ الْآدَمِيِّ صَالِحٍ لِلْحَيَاةِ كَمَا يَجِبُ فِي إتْلَافِ سَائِرِ أَعْضَائِهِ شَيْءٌ مِنْ الدِّيَةِ عَلَى مَا مَرَّ تَفْصِيلُهُ .
وَالْأَظْهَرُ فِي الْبَيَانِ هُنَا مَا ذَكَرَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ ثَانِيًا بِقَوْلِهِ وَلِأَنَّ الْجَنِينَ فِي حُكْمِ الْأَعْضَاءِ بِدَلَالَةِ أَنَّهُ لَا يَكْمُلُ أَرْشُهُ وَالْأَعْضَاءُ لَوْ انْفَصَلَتْ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا تَتَقَوَّمُ انْتَهَى تَدَبَّرْ ( قَوْلُهُ وَالظَّاهِرُ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَحِلِّ : فَإِنْ قِيلَ : الظَّاهِرُ أَنَّهُ حَيٌّ أَوْ مُعَدٌّ لِلْحَيَاةِ .
قُلْنَا : الظَّاهِرُ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ ، وَلِهَذَا لَا يَجِبُ فِي جَنِينِ الْبَهِيمَةِ إلَّا نُقْصَانُ الْأُمِّ إنْ تَمَكَّنَ ا هـ .
وَرَدَّ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ قَوْلَهُ أَوْ مُعَدٌّ لِلْحَيَاةِ فِي تَقْرِيرِ السُّؤَالِ حَيْثُ قَالَ : كَوْنُهُ مُعَدًّا لِلْحَيَاةِ مُتَيَقَّنٌ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الظَّاهِرِ انْتَهَى .
أَقُولُ : لَيْسَ بِسَدِيدٍ ، فَإِنَّ تَيَقُّنَ كَوْنِهِ مُعَدًّا لِلْحَيَاةِ مَمْنُوعٌ لِجَوَازِ أَنْ يَفْسُدَ الْمَاءُ فِي الرَّحِمِ فَحِينَئِذٍ يَنْتَفِي اسْتِعْدَادُهُ لِلْحَيَاةِ ، وَلَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ فِي النِّهَايَةِ حَيْثُ قَالَ نَقْلًا عَنْ الْمَبْسُوطِ : ثُمَّ الْمَاءُ فِي الرَّحِمِ مَا لَمْ يَفْسُدْ فَهُوَ مُعَدٌّ لِلْحَيَاةِ فَيُجْعَلُ كَالْحَيِّ فِي إيجَابِ ذَلِكَ الضَّمَانِ بِإِتْلَافِهِ كَمَا يُجْعَلُ بِيضُ الصَّيْدِ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ كَالصَّيْدِ فِي

إيجَابِ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ بِكَسْرِهِ انْتَهَى تَبَصَّرْ ( قَوْلُهُ وَهِيَ عَلَى الْعَاقِلَةِ عِنْدَنَا إذَا كَانَتْ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ ) اعْلَمْ أَنَّ النَّاظِرِينَ فِي هَذَا الْمَقَامِ تَحَيَّرُوا فِي تَوْجِيهِ هَذَا الْقَيْدِ : أَعْنِي قَوْلَهُ إذَا كَانَتْ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ ، فَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : قَيَّدَ بِهَذَا احْتِرَازًا عَنْ جَنِينِ الْأَمَةِ إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ لَا تَبْلُغُ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ كَذَا وَجَدْت بِخَطِّ شَيْخِي ، لَكِنْ هَذَا لَا يَتَّضِحُ لِي لِأَنَّ مَا وَجَبَ فِي جَنِينِ الْأَمَةِ هُوَ فِي مَالِ الضَّارِبِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِالْبُلُوغِ إلَى خَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَى مَا يَجِيءُ ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
وَسَائِرُ الشُّرَّاحِ أَيْضًا ذَكَرُوا التَّوْجِيهَ الَّذِي نَقَلَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ عَنْ خَطِّ شَيْخِهِ ، وَرَدُّوهُ بِمَا رَدَّهُ بِهِ صَاحِبُ النِّهَايَةِ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ : وَقَوْلُهُ إذَا كَانَتْ خَمْسَمِائَةٍ كَأَنَّهُ سَهْوُ الْقَلَمِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ إذْ بِسُكُونِ الذَّالِ بِلَا أَلِفٍ بَعْدَهَا : يَعْنِي أَنَّهَا إنَّمَا تَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ لِأَنَّهَا مَقْدِرَةٌ بِخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ ، وَالْعَاقِلَةُ تَعْقِلُ خَمْسَمِائَةٍ وَلَا تَعْقِلُ مَا دُونَهَا انْتَهَى .
وَقَدْ نَقَلَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ هَذَا التَّوْجِيهَ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ بِرَدٍّ بَعْدَ أَنْ نَقَلَ التَّوْجِيهَ الْأَوَّلَ مَعَ رَدِّهِ حَيْثُ قَالَ : قِيلَ قَيَّدَ بِهِ احْتِرَازًا عَنْ جَنِينِ الْأَمَةِ إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ لَا تَبْلُغُ خَمْسَمِائَةٍ .
وَرُدَّ بِأَنَّ مَا يَجِبُ فِي جَنِينِ الْأَمَةِ هُوَ فِي مَالِ الضَّارِبِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَقَيُّدٍ بِالْبُلُوغِ إلَى خَمْسِمِائَةٍ عَلَى مَا يَجِيءُ .
وَقِيلَ لَعَلَّهُ وَقَعَ سَهْوًا مِنْ الْكَاتِبِ وَكَانَ فِي الْأَصْلِ إذْ كَانَ خَمْسَمِائَةٍ تَعْلِيلًا لِكَوْنِهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ انْتَهَى .
فَكَأَنَّهُ ارْتَضَى التَّوْجِيهَ الثَّانِي .
أَقُولُ : التَّوْجِيهُ الثَّانِي أَيْضًا مَرْدُودٌ عِنْدِي ، إذْ لَا مَعْنَى لِتَعْلِيلِ كَوْنِهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ بِكَوْنِهَا خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ ، فَإِنَّهُ يُنْتَقَضُ بِمَا يَجِبُ فِي

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78