كتاب : فتح القدير
المؤلف : كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي

لِاحْتِمَالٍ ضَعِيفٍ يَقْتَضِي نَفْيَهُ وَتَرْكُنَا ظَاهِرًا يَقْتَضِي ثُبُوتَهُ ، وَلَيْتَ شِعْرِي أَيُّ الِاحْتِمَالَيْنِ أَبْعَدُ ؟ الِاحْتِمَالُ الَّذِي فَرَضُوهُ لِتَصَوُّرِ الْعُلُوقِ مِنْهُ لِيُثْبِتُوا النَّسَبَ وَهُوَ كَوْنُهُ تَزَوَّجَهَا وَهُوَ يَطَؤُهَا وَسَمِعَ كَلَامَهُمَا النَّاسُ وَهُمَا عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ ثُمَّ وَافَقَ الْإِنْزَالُ الْعَقْدَ ، أَوْ احْتِمَالُ كَوْنِ الْحَمْلِ إذَا زَادَ عَلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ بِيَوْمٍ يَكُونُ مِنْ غَيْرِهِ ، وَلِاسْتِبْعَادِ هَذَا الْفَرْضِ قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ : لَا يُحْتَاجُ إلَى هَذَا التَّكَلُّفِ بَلْ قِيَامُ الْفِرَاشِ كَافٍ ، وَلَا يُعْتَبَرُ إمْكَانُ الدُّخُولِ بَلْ النِّكَاحُ قَائِمٌ مَقَامَهُ كَمَا فِي تَزَوُّجِ الْمَشْرِقِيِّ بِمَغْرِبِيَّةٍ .
وَالْحَقُّ أَنَّ التَّصَوُّرَ شَرْطٌ ، وَلِذَا لَوْ جَاءَتْ امْرَأَةُ الصَّبِيِّ بِوَلَدٍ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ ، وَالتَّصَوُّرُ ثَابِتٌ فِي الْمَغْرِبِيَّةِ لِثُبُوتِ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ وَالِاسْتِخْدَامَات فَيَكُونُ صَاحِبُ خُطْوَةٍ أَوْ جِنِّيًّا ، وَأَمَّا لُزُومُ الْمَهْرِ كَامِلًا فَلِأَنَّهُ لِثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْهُ جُعِلَ وَاطِئًا حُكْمًا فَعَلَيْهِ الْمَهْرُ .
وَمَا قِيلَ : لَا يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْهُ وَطْؤُهُ لِأَنَّ الْحَبَلَ قَدْ يَكُونُ بِإِدْخَالِ الْمَاءِ الْفَرْجَ دُونَ جِمَاعٍ فَنَادِرٌ ، وَالْوَجْهُ الظَّاهِرُ هُوَ الْمُعْتَادُ .
وَفِي النِّهَايَةِ وَفِي الْقِيَاسِ وَهُوَ رِوَايَةُ أَبِي يُوسُفَ مَهْرٌ وَنِصْفٌ ، أَمَّا النِّصْفُ فَلِلطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَأَمَّا الْمَهْرُ فَلِلدُّخُولِ انْتَهَى .
وَعِبَارَةُ أَبِي يُوسُفَ فِي الْأَمَالِي عَلَى مَا نَقَلَهُ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ : يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ أَنْ يَجِبَ عَلَى الزَّوْجِ مَهْرٌ وَنِصْفٌ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا فَوَجَبَ نِصْفُ الْمَهْرِ وَمَهْرٌ آخَرُ بِالدُّخُولِ ، قَالَ : إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ اسْتَحْسَنَ وَقَالَ : لَا يَجِبُ إلَّا مَهْرٌ وَاحِدٌ لِأَنَّا جَعَلْنَاهُ بِمَنْزِلَةِ الدُّخُولِ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ فَتَأَكَّدَ ذَلِكَ الصَّدَاقُ وَاشْتَبَهَ وُجُوبُ الزِّيَادَةِ انْتَهَى .
وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ

لِلْمُتَأَمِّلِ لَا تُوجِبُ قَوْلَهُ بِلُزُومِ مَهْرٍ وَنِصْفٍ ، بَلْ ظَاهِرَةٌ فِي نَفْيِهِ ذَلِكَ لِأَنَّ الِاسْتِحْسَانَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ فَلَا تُسَوَّغُ الرِّوَايَةُ عَنْهُ بِذَلِكَ .
وَإِنَّمَا اشْتَبَهَ وُجُوبُ الزِّيَادَةِ ؛ لِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى وُقُوعِ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَلَا يُحْكَمُ بِذَلِكَ وَإِلَّا لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ لِأَنَّ الْوَطْءَ حِينَئِذٍ فِي غَيْرِ عِصْمَةٍ وَلَا عِدَّةٍ ، بَلْ يُحْكَمُ بِأَنَّهُ مُقَارِنٌ لَهُ أَوْ لِلنِّكَاحِ ، فَأَقَلُّ الْأَمْرِ كَوْنُهُ قَبْلَهُ أَوْ لَا مُشْتَبِهٌ ذَلِكَ وَضَمِيرُ " بِهِ " فِي قَوْلِهِ فَتَأَكَّدَ الْمَهْرُ بِهِ لِثُبُوتِ النَّسَبِ .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْأَصَحُّ فِي ثُبُوتِ هَذَا النَّسَبِ إمْكَانَ الدُّخُولِ وَتَصَوُّرُهُ لَيْسَ إلَّا بِمَا ذَكَرَ مِنْ تَزَوُّجِهَا حَالَ وَطْئِهَا الْمُبْتَدَإِ بِهِ قَبْلَ التَّزَوُّجِ وَقَدْ حُكِمَ فِيهِ بِمَهْرٍ وَاحِدٍ فِي صَرِيحِ الرِّوَايَةِ يَلْزَمُ كَوْنُ مَا ذَكَرَ مُطْلَقًا وَمَنْسُوبًا وَقَدَّمْنَاهُ فِي بَابِ الْمَهْرِ مِنْ أَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَهَا فِي حَالِ مَا يَطَؤُهَا عَلَيْهِ مَهْرَانِ : مَهْرٌ بِالزِّنَا لِسُقُوطِ الْحَدِّ بِالتَّزَوُّجِ قَبْلَ تَمَامِهِ ، وَمَهْرٌ بِالنِّكَاحِ لِأَنَّ هَذَا أَكْثَرُ مِنْ الْخَلْوَةِ وَلَا يَصِيرُ بِهِ مُحْصِنًا مُشْكِلًا لِمُخَالَفَتِهِ لِصَرِيحِ الْمَذْهَبِ ، وَأَيْضًا الْفِعْلُ وَاحِدٌ ، وَقَدْ اتَّصَفَ بِشُبْهَةِ الْحِلِّ فَيَجِبُ مَهْرٌ وَاحِدٌ بِهِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ : إنْ تَزَوَّجْتهَا فَهِيَ طَالِقٌ وَنَسِيَ فَتَزَوَّجَهَا وَوَطِئَهَا حَيْثُ يَجِبُ مَهْرٌ وَنِصْفٌ ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ قَبْلَ الْوَطْءِ ، أَمَّا هُنَا الطَّلَاقُ مَعَ الْوَطْءِ الْحَلَالِ فِي فِعْلٍ مُتَّحِدٍ فَصَارَ الْفِعْلُ كُلُّهُ لَهُ شُبْهَةُ الْحِلِّ وَقَدْ وَجَبَ الْمَهْرُ فَلَا يَجِبُ غَيْرُهُ .
وَفِي شَرْحِ أَبِي الْيُسْرِ قَالَ : إنْ تَزَوَّجْتُهَا فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَتَزَوَّجَهَا وَدَخَلَ بِهَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ عَلَيْهِمَا الْحَدُّ وَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ ، وَقَالُوا : يَجِبُ عَلَيْهِمَا ، قَالَ : قَدْ كُنْت أَفْتَيْت بِالْوُجُوبِ عَلَى الْحَالِفِ وَهُوَ الظَّاهِرُ

مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا وَمَنْ مَالَ إلَيْهِ لَمْ يَكُنْ مُخْطِئًا ، وَلَوْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ وَرِثَهُ مَنْصُوصٌ عَنْ أَصْحَابِنَا وَإِنْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ بِالثَّلَاثِ فَلَمْ يَبْقَ بِنِكَاحٍ وَلَا عِدَّةٍ ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ فَصْلًا مُجْتَهَدًا فِيهِ لَمْ يَنْقَطِعْ النَّسَبُ .
( قَوْلُهُ وَيَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِ الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ إذَا جَاءَتْ بِهِ لِسَنَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ ) وَلَوْ عِشْرِينَ سَنَةً أَوْ أَكْثَرَ ( مَا لَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا ) فَإِنْ أَقَرَّتْ بِانْقِضَائِهَا وَالْمُدَّةُ تَحْتَمِلُهُ بِأَنْ تَكُونَ سِتِّينَ يَوْمًا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَتِسْعَةً وَثَلَاثِينَ يَوْمًا عَلَى قَوْلِهِمَا ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ إلَّا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْإِقْرَارِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ نَسَبُهُ لِلتَّيَقُّنِ بِقِيَامِ الْحَمْلِ وَقْتَ الْإِقْرَارِ فَيَظْهَرُ كَذِبُهَا ، وَكَذَا هَذَا فِي الْمُطَلَّقَةِ الْبَائِنَةِ وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا إذَا ادَّعَتْ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ انْقِضَاءَهَا ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِتَمَامِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ الْمَيِّتِ وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْهَا ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ .
أَمَّا ثُبُوتُ نَسَبِ وَلَدِ الرَّجْعِيَّةِ إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ فَظَاهِرٌ ، وَأَمَّا ثُبُوتُهُ إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْهُمَا فَلِاحْتِمَالِ الْعُلُوقِ فِي عِدَّةِ الرَّجْعِيِّ لِانْتِفَاءِ الْحُكْمِ بِزِنَاهَا أَوْ بِوَطْئِهَا بِشُبْهَةٍ لِجَوَازِ كَوْنِهَا مُمْتَدَّةَ الطُّهْرِ بِأَنْ امْتَدَّ إلَى مَا قَبْلَ سَنَتَيْنِ مِنْ مَجِيئِهَا بِهِ أَوْ أَقَلَّ ثُمَّ وَطِئَهَا فَحَبِلَتْ ، وَعَنْ هَذَا حَكَمْنَا بِأَنَّهَا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ تَكُونُ زَوْجَةً بِالرَّجْعَةِ الْكَائِنَةِ بِالْوَطْءِ فِي الْعِدَّةِ لِلْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ لَا تَثْبُتُ رَجْعَتُهَا ، فَإِنَّ الْعُلُوقَ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ فِي الْعِصْمَةِ كَمَا يَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ فِي الْعِدَّةِ وَإِحَالَةُ الْحَادِثِ

إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ إذَا لَمْ يُعَارِضْهُ ظَاهِرٌ آخَرُ ، وَالظَّاهِرُ الْوَطْءُ فِي الْعِصْمَةِ لَا الْعِدَّةِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُعْتَادُ ، وَمَا قَضَتْ بِهِ الْعَادَةُ أَرْجَحُ مِنْ إضَافَةِ الْحَادِثِ إلَى الزَّمَنِ الْقَرِيبِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ فِي الرَّجْعَةِ وَمُخَالَفَةِ الْعَادَةِ أَيْضًا فِيهَا ، إذْ مُعْتَادُ النَّاسِ فِي الرَّجْعَةِ أَنْ يُرَاجِعُوا بِاللَّفْظِ .
فَإِنْ قِيلَ : هُنَا احْتِمَالٌ آخَرُ وَهُوَ كَوْنُهَا تَزَوَّجَتْ وَجَاءَتْ بِهِ مِنْ الزَّوْجِ الْآخَرِ .
قُلْنَا : الْفَرْضُ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ، وَمَا لَمْ تُقِرَّ بِذَلِكَ وَمَا لَمْ يَظْهَرْ تَزَوُّجُهَا فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا فِي الْعِدَّةِ وَلِأَنَّ فِيهِ إنْشَاءُ نِكَاحٍ وَإِبْقَاءُ الْأَوَّلِ أَسْهَلُ وَأَخَفُّ .

( وَالْمَبْتُوتَةُ يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ ) لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ قَائِمًا وَقْتَ الطَّلَاقِ فَلَا يَتَيَقَّنُ بِزَوَالِ الْفِرَاشِ قَبْلَ الْعُلُوقِ فَيَثْبُتُ النَّسَبُ احْتِيَاطًا ، ( فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِتَمَامِ سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الْفُرْقَةِ لَمْ يَثْبُتْ ) لِأَنَّ الْحَمْلَ حَادِثٌ بَعْدَ الطَّلَاقِ فَلَا يَكُونُ مِنْهُ لِأَنَّ وَطْأَهَا حَرَامٌ .
قَالَ ( إلَّا أَنْ يَدَّعِيَهُ ) لِأَنَّهُ الْتَزَمَهُ .
وَلَهُ وَجْهٌ بِأَنْ وَطِئَهَا بِشُبْهَةٍ فِي الْعِدَّةِ ( فَإِنْ كَانَتْ الْمَبْتُوتَةُ صَغِيرَةً يُجَامَعُ مِثْلُهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِتِسْعَةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَلْزَمْهُ حَتَّى تَأْتِيَ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ إلَى سَنَتَيْنِ ) لِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ حَامِلًا وَلَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَأَشْبَهَتْ الْكَبِيرَةَ .
وَلَهُمَا أَنَّ لِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا جِهَةً مُتَعَيِّنَةً وَهُوَ الْأَشْهُرُ فَبِمُضِيِّهَا يَحْكُمُ الشَّرْعُ بِالِانْقِضَاءِ وَهُوَ فِي الدَّلَالَةِ فَوْقَ إقْرَارِهَا لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْخِلَافَ ، وَالْإِقْرَارُ يَحْتَمِلُهُ وَإِنْ كَانَتْ مُطَلَّقَةً طَلَاقًا رَجْعِيًّا فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَهُمَا ، وَعِنْدَهُ يَثْبُتُ إلَى سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ شَهْرًا لِأَنَّهُ يُجْعَلُ وَاطِئًا فِي آخِرِ الْعِدَّةِ وَهِيَ الثَّلَاثَةُ الْأَشْهُرُ ثُمَّ تَأْتِي لِأَكْثَرَ مُدَّةِ الْحَمْلِ وَهُوَ سَنَتَانِ ، وَإِنْ كَانَتْ الصَّغِيرَةُ ادَّعَتْ الْحَبَلَ فِي الْعِدَّةِ فَالْجَوَابُ فِيهَا وَفِي الْكَبِيرَةِ سَوَاءٌ ، لِأَنَّ بِإِقْرَارِهَا يُحْكَمُ بِبُلُوغِهَا .

( قَوْلُهُ وَالْمَبْتُوتَةُ يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ ) لِأَنَّهُ يَجُوزُ كَوْنُ الْحَمْلِ كَانَ قَبْلَ الطَّلَاقِ فَيَثْبُتُ النَّسَبُ ( وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِتَمَامِ سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الْفُرْقَةِ لَمْ يَثْبُتْ ) نَسَبُهُ لِتَيَقُّنِ الْعُلُوقِ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ وَوَطْؤُهُ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ حَرَامٌ .
قِيلَ : إنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ مُخَالِفَةٌ لِرِوَايَةِ الْإِيضَاحِ وَشَرْحِ الطَّحَاوِيِّ وَالْأَقْطَعِ ، وَالرِّوَايَةُ الَّتِي تَجِيءُ بَعْدَ هَذَا فِي الْكِتَابِ أَيْضًا وَهِيَ قَوْلُهُ وَأَكْثَرُ مُدَّةِ الْحَمْلِ سَنَتَانِ فَإِنَّ فِيهَا أُلْحِقَتْ السَّنَتَانِ بِأَقَلَّ مِنْ السَّنَتَيْنِ حَتَّى إنَّهُمْ أَثْبَتُوا النَّسَبَ إذَا جَاءَتْ بِهِ لِتَمَامِ سَنَتَيْنِ ، وَإِنَّ لَفْظَ الْحَدِيثِ يُؤَيِّدُ صِحَّةَ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ ، فَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ لَفْظَ الْحَدِيثِ إلَى آخِرِهِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ حَاصِلَهُ أَنَّهُ لَا يَمْكُثُ الْوَلَدُ فِي الْبَطْنِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ ، وَهَذَا لَا يَقْتَضِي أَنَّهَا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِتَمَامِ سَنَتَيْنِ مِنْ الطَّلَاقِ أَنْ يَثْبُتَ نَسَبُهُ إلَّا إذَا كَانَ الْعُلُوقُ حَالَ قِيَامِ الْفِرَاشِ .
وَالْوَجْهُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى تَقْرِيرِ قَاضِي خَانْ الْمُتَقَدِّمِ مِنْ أَنَّهُ يُجْعَلُ الْعُلُوقُ فِي حَالِ الطَّلَاقِ ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ قَبْلَ زَوَالِ الْفِرَاشِ .
( قَوْلُهُ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَهُ ) اسْتِثْنَاءً مِنْ قَوْلِهِ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ وَهُوَ مُفَرِّغٌ لِلْمُتَعَلِّقِ : أَيْ لَمْ يَثْبُتْ فِي حَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ إلَّا فِي الْحَالِ الَّتِي هِيَ دَعْوَاهُ لِأَنَّهُ الْتَزَمَهُ ، وَلَهُ وَجْهٌ وَهُوَ كَوْنُهُ وَطِئَهَا بِشُبْهَةٍ فِي الْعِدَّةِ ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ تَصْدِيقُ الْمَرْأَةِ فِيهِ رِوَايَتَانِ .
وَالْأَوْجَهُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لِأَنَّهُ مُمَكَّنٌ مِنْهُ وَقَدْ ادَّعَاهُ وَلَا مُعَارِضَ ، وَلِهَذَا لَمْ يُذْكَرْ الِاشْتِرَاطُ فِي رِوَايَةِ الْإِمَامِ السَّرَخْسِيِّ فِي الْمَبْسُوطِ وَالْبَيْهَقِيِّ فِي الشَّامِلِ ، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي ضَعْفِهَا وَغَرَابَتِهَا .
وَاعْتَرَضَ بِأَنَّ هَذِهِ مُنَاقَضَةً لِمَا فِي

كِتَابِ الْحُدُودِ مِنْ أَنَّ النَّسَبَ لَا يَثْبُتُ مِنْ الْمُبَانَةِ بِالْوَطْءِ فِي الْعِدَّةِ ، وَنَصَّ فِي التَّبْيِينِ أَنَّ الْمَبْتُوتَةَ بِالثَّلَاثِ إذَا وَطِئَهَا الزَّوْجُ بِشُبْهَةٍ كَانَتْ شُبْهَةُ الْفِعْلِ ، وَفِيهَا لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ وَإِنْ ادَّعَاهُ نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ .
وَأُجِيبَ بِحَمْلِ الْمَذْكُورِ هُنَاكَ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا وَالْمُطَلَّقَةِ عَلَى مَالٍ ، وَبِحَمْلِ الْمَذْكُورِ هُنَا عَلَى الْمَبْتُوتَةِ بِالْكِنَايَاتِ فَيَنْدَفِعُ التَّنَاقُضُ .
وَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْمَذْكُورِ هُنَاكَ إذَا لَمْ يَدَّعِ شُبْهَةً ، وَالْمَذْكُورُ هُنَا مَحْمُولٌ عَلَى كَوْنِهِ وَطْئًا بِشُبْهَةٍ ، وَالْمُعْتَدَّةُ عَنْ ثَلَاثٍ لَا تَكُونُ أَبْعَدَ مِنْ الْأَجْنَبِيَّةِ بِالْكُلِّيَّةِ ، وَالنَّسَبُ يَثْبُتُ بِوَطْئِهَا بِشُبْهَةٍ فَكَيْفَ بِالْمُعْتَدَّةِ فَيَجِبُ الْجَمْعُ مَثَلًا بِأَنْ يُقَالَ : يَنْبَغِي أَنْ يُصَرِّحَ بِدَعْوَى الشُّبْهَةِ الْمَقْبُولَةِ غَيْرَ مُجَرَّدِ شُبْهَةِ الْفِعْلِ ، لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْحُدُودِ عَدَمُ ثُبُوتِ النَّسَبِ إذَا وَطِئَ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا وَالْبَائِنَةَ بِالطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ ، فَجُعِلَ هَذَا حُكْمَ وَطْءِ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا إذَا جَاءَتْ بِهِ مُطْلَقًا فَيَثْبُتُ عِنْدَهُ فَيَجِبُ أَنْ لَا يَنْتَقِلَ عَنْهُ إلَّا إذَا ادَّعَى الشُّبْهَةَ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مُجَرَّدِ ظَنِّ الْحِلِّ ، وَالْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ بَلْ أَفَادَ ثُبُوتَ نَسَبِهِ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ ، غَيْرَ أَنَّ تَوْجِيهَ ذَلِكَ إمْكَانُ صِحَّتِهِ بِكَوْنِ الْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ وَالْوَجْهُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ غَيْرُ دَعْوَاهُ لِأَنَّهُ لَمْ يُشْتَرَطْ فِي الْكِتَابِ سِوَاهُ ، ثُمَّ يُحْمَلُ عَلَى ثُبُوتِ الشُّبْهَةِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مُجَرَّدِ ظَنِّ الْحِلِّ ، ثُمَّ إذَا لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ فِيمَا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ يُحْكَمُ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا قَبْلَ وِلَادَتِهَا بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَهُوَ رِوَايَةُ بِشْرٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فَيَجِبُ أَنْ تَرُدَّ نَفَقَتُهُ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ .

وَقَالَ أَبُو يُوسُفُ : لَا تَنْقَضِي إلَّا بِوَضْعِ الْحَمْلِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ ، وَلَا يَلْزَمُهَا رَدُّ شَيْءٍ .
لَهُمَا أَنَّ الْوَلَدَ مِنْ غَيْرِهِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ دُونَ الزِّنَا وَالْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ ، وَأَقَلُّ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَحَكَمْنَا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَحِينَئِذٍ أَخَذَتْ مَالًا تَسْتَحِقُّهُ لِأَنَّهَا مُنْقَضِيَةُ الْعِدَّةِ فَتَرُدُّهُ .
وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ هِيَ فِي الْعِدَّةِ وَلِذَا لَا تَتَزَوَّجُ بِغَيْرِهِ قَبْلَ وَضْعِهِ فَكَأَنَّهَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ .
وَلَوْ جَاءَتْ الْمَبْتُوتَةُ بِوَلَدَيْنِ أَحَدُهُمَا لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ وَالْآخَرُ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ ثَبَتَ نَسَبُهُمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ اعْتَبَرَاهُ بِمَنْ بَاعَ جَارِيَةً فَجَاءَتْ بِوَلَدَيْنِ أَحَدُهُمَا لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَالْآخَرُ لِأَكْثَرَ فَادَّعَاهُمَا الْبَائِعُ يَثْبُتُ نَسَبُهُمَا وَيُنْقَضُ الْبَيْعُ .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَثْبُتُ ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ مِنْ عُلُوقٍ حَادِثٍ بَعْدَ الْإِبَانَةِ فَيَتْبَعُهُ الْأَوَّلُ لِأَنَّهُمَا تَوْأَمَانِ .
قِيلَ : هُوَ الصَّوَابُ .
وَلَيْسَ وَلَدُ الْجَارِيَةِ نَظِيرَهُ لِأَنَّ الْوَلَدَ الثَّانِيَ يَجُوزُ كَوْنُهُ حَدَثَ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ قَبْلَ بَيْعِهِ ، بِخِلَافِ الْوَلَدِ الثَّانِي فِي الْمَبْتُوتَةِ .
وَلَوْ خَرَجَ بَعْضُهُ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ وَبَاقِيهِ لِأَكْثَرَ مِنْ السَّنَتَيْنِ لَا يَلْزَمُهُ حَتَّى يَكُونَ الْخَارِجُ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ نِصْفَ بَدَنِهِ ، أَوْ يَخْرُجُ مِنْ قِبَلِ الرِّجْلَيْنِ أَكْثَرُ الْبَدَنِ لِأَقَلَّ وَالْبَاقِي لِأَكْثَرَ ، ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ .
وَفِي شَرْحِ التَّكْمِلَةِ : تَزَوَّجَ أَمَةً وَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً يَلْزَمُهُ وَلَدُهَا إنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ، وَلَا يَلْزَمُهُ إنْ جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا لِأَنَّهُ وَلَدُ النِّكَاحِ فِي الْأَوَّلِ ، وَفِي الثَّانِي يُضَافُ إلَى مِلْكِ الْيَمِينِ لِأَنَّ وَطْأَهَا حَلَالٌ وَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا بِالدَّعْوَةِ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ

الطَّلْقَةُ بَائِنَةً أَوْ رَجْعِيَّةً ، وَإِنْ طَلَّقَهَا ثِنْتَيْنِ ثَبَتَ نَسَبُهُ إلَى سَنَتَيْنِ لِأَنَّ وَطْأَهَا لَا يَحِلُّ بِمِلْكِ الْيَمِينِ فَكَانَ الْوَلَدُ مِنْ النِّكَاحِ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَعْنَى الْمَسْأَلَةِ طَلَّقَهَا ثُمَّ مَلَكَهَا وَأَنْ لَا يُتَصَوَّرَ وَطْؤُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ فِيمَا ذَكَرَ مِنْ وَلَدِ الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ وَالْبَائِنَةِ مُقَيَّدٌ بِأَحَدِ أُمُورٍ : أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ إمَّا شَهَادَةٌ بِالْوِلَادَةِ ، أَوْ اعْتِرَافٌ مِنْ الزَّوْجِ بِالْحَبَلِ ، أَوْ حَبَلٌ ظَاهِرٌ كَمَا سَيَجِيءُ عَنْ قَرِيبٍ .
( قَوْلُهُ فَإِنْ كَانَتْ الْمَبْتُوتَةُ صَغِيرَةً يُجَامَعُ مِثْلُهَا إلَخْ ) قِيلَ : هُوَ مُسْتَدْرَكٌ ؛ لِأَنَّ الْحَبَلَ دَلِيلُ أَنَّهُ يُجَامَعُ مِثْلُهَا وَمَنْعَهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ ، لِأَنَّهُ إنْ كَانَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْحَبَلَ يَكُونُ بِلَا جِمَاعٍ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْبُلُوغِ ، وَبَعِيدٌ أَنْ لَا تَحْتَمِلُ الْبَالِغَةُ الْجِمَاعَ .
وَحَاصِلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الصَّغِيرَةَ إذَا طَلُقَتْ فَإِمَّا قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ثَبَتَ نَسَبُهُ لِلتَّيَقُّنِ بِقِيَامِهِ قَبْلَ الطَّلَاقِ ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لَا يَثْبُتُ ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنْ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا وَمَا جَاءَتْ بِهِ لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ قَبْلَ الطَّلَاقِ لِتَلْزَمَ الْعِدَّةُ بِنَاءً عَلَى الْحُكْمِ بِالدُّخُولِ لِلْحُكْمِ بِالْعُلُوقِ قَبْلَ الطَّلَاقِ .
وَإِنْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الدُّخُولِ ، فَأَمَّا إنْ أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ أَوْ لَمْ تُقِرَّ ، فَإِنْ أَقَرَّتْ ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْإِقْرَارِ ثَبَتَ نَسَبُهُ ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ لِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِإِقْرَارِهَا ، وَمَا جَاءَتْ بِهِ لَا يَلْزَمُ كَوْنُهُ قَبْلَهَا لِيُتَيَقَّنَ بِكَذِبِهَا ، وَإِنْ لَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَائِهَا وَلَمْ تَدَّعِ حَبَلًا فَعِنْدَ أَبِي

حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ إنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ ثَبَتَ نَسَبُهُ وَإِلَّا فَلَا ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَثْبُتُ إلَى سَنَتَيْنِ فِي الطَّلَاقِ الْبَائِنِ ، وَإِلَى سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ شَهْرًا فِي الرَّجْعِيِّ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ وَطِئَهَا فِي آخِرِ عِدَّتِهَا الثَّلَاثَةِ الْأَشْهُرِ فَعَلِقَتْ سَنَتَيْنِ ، وَإِنْ كَانَتْ ادَّعَتْ حَبَلًا فَهِيَ كَالْكَبِيرَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا لَا يَقْتَصِرُ انْقِضَاءُ عِدَّتِهَا عَلَى أَقَلَّ مِنْ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ لَا مُطْلَقًا ، فَإِنَّ الْكَبِيرَةَ يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ وَإِنْ طَالَ إلَى سِنِّ الْإِيَاسِ لِجَوَازِ امْتِدَادِ طُهْرِهَا وَوَطْئِهِ إيَّاهَا فِي آخِرِ الطُّهْرِ .
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا يَحْتَمِلُ كَوْنُهَا حَامِلًا لِفَرْضِ أَنَّهَا فِي سِنٍّ يَجُوزُ فِيهِ بُلُوغُهَا لِأَنَّهُ فَرْضُ الْمَسْأَلَةِ وَلَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا فَأَشْبَهَتْ الْكَبِيرَةَ فِي احْتِمَالِ حُدُوثِ الْعُلُوقِ سَاعَةً فَسَاعَةً فَيَثْبُتُ نَسَبُ مَا تَأْتِي بِهِ إلَى سَنَتَيْنِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ قِيَاسَ مَا قَدَّمَهُ فِي الْكَبِيرَةِ الْمَبْتُوتَةِ مِنْ أَنَّهَا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِتَمَامِ سَنَتَيْنِ لَا يَثْبُتُ أَنْ يَقُولَ إلَى أَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ هُنَا .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا وَهُوَ الْفَرْقُ أَنَّ لِانْقِضَاءِ عِدَّةِ الصَّغِيرَةِ جِهَةً وَاحِدَةً فِي الشَّرْعِ فَبِمُضِيِّهَا يَحْكُمُ الشَّرْعُ بِالِانْقِضَاءِ وَهُوَ فِي الدَّلَالَةِ فَوْقَ إقْرَارِهَا بِالِانْقِضَاءِ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْخِلْفَ وَعَدَمِ الْمُطَابَقَةِ ، بِخِلَافِ إقْرَارِهَا ، فَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنْ يُجْعَلَ انْقِضَاؤُهَا بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهَا ، وَلَوْ أَقَرَّتْ بِالِانْقِضَاءِ بَعْدَ الْأَشْهُرِ الثَّلَاثَةِ ثُمَّ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ لَا يَثْبُتُ فَكَذَلِكَ هُنَا ، فَلَزِمَ أَنْ لَا يَثْبُتَ حَتَّى تَأْتِيَ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ ، أَمَّا إذَا كَانَتْ الصَّغِيرَةُ ادَّعَتْ الْحَبَلَ فِي الْعِدَّةِ فَالْجَوَابُ فِيهَا كَالْكَبِيرَةِ ؛ لِأَنَّ بِإِقْرَارِهَا

بِالْحَبَلِ حُكِمَ بِبُلُوغِهَا .

( وَيَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا مَا بَيْنَ الْوَفَاةِ وَبَيْنَ السَّنَتَيْنِ ) وَقَالَ زُفَرُ : إذَا جَاءَتْ بِهِ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّةِ الْوَفَاةِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ لِأَنَّ الشَّرْعَ حَكَمَ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بِالشُّهُورِ لِتَعَيُّنِ الْجِهَةِ فَصَارَ كَمَا إذَا أَقَرَّتْ بِالِانْقِضَاءِ كَمَا بَيَّنَّا فِي الصَّغِيرَةِ إلَّا أَنَّا نَقُولُ لِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا جِهَةٌ أُخْرَى وَهُوَ وَضْعُ الْحَمْلِ ، بِخِلَافِ الصَّغِيرَةِ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا عَدَمُ الْحَمْلِ لَيْسَتْ بِمَحَلٍّ قَبْلَ الْبُلُوغِ وَفِيهِ شَكٌّ .
( قَوْلُهُ وَثَبَتَ نَسَبُ وَلَدِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا مَا بَيْنَ وَفَاةِ زَوْجِهَا وَبَيْنَ سَنَتَيْنِ وَقَالَ زُفَرٌ : إذَا جَاءَتْ بِهِ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّةِ الْوَفَاةِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ثَبَتَ نَسَبُهُ ) وَلِسِتَّةِ أَشْهُرٍ لَا يَثْبُتُ فَوَجْهُهُ كَوَجْهِهِمَا فِي الصَّغِيرَةِ وَهُوَ أَنَّ لِعِدَّتِهَا جِهَةً وَاحِدَةً هِيَ انْقِضَاءُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ ، فَإِذَا لَمْ تُقِرَّ قَبْلَهَا بِالْحَبْلِ فَقَدْ حَكَمَ الشَّرْعُ بِانْقِضَائِهَا بِهَا ، فَإِذَا جَاءَتْ بِالْوَلَدِ بَعْدَهَا لِتَمَامِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ عَلَى مَا عُرِفَ وَيُمْنَعُ تَعَيُّنُ الْجِهَةِ الْوَاحِدَةِ فِي حَقِّهَا بَلْ لَهَا كُلٌّ مِنْ الْجِهَتَيْنِ ، بِخِلَافِ الصَّغِيرَةِ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا عَدَمُ الْحَبَلِ فَتَسْتَمِرُّ مَا لَمْ تَعْتَرِفْ بِالْحَبَلِ .

( وَإِذَا اعْتَرَفَتْ الْمُعْتَدَّةُ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا ثُمَّ جَاءَتْ بِالْوَلَدِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ يَثْبُتُ نَسَبُهُ ) لِأَنَّهُ ظَهَرَ كَذِبُهَا بِيَقِينٍ فَبَطَلَ الْإِقْرَارُ ( وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَثْبُتْ ) لِأَنَّا لَمْ نَعْلَمْ بِبُطْلَانِ الْإِقْرَارِ لِاحْتِمَالِ الْحُدُوثِ بَعْدَهُ ، وَهَذَا اللَّفْظُ بِإِطْلَاقِهِ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مُعْتَدَّةٍ .
( قَوْلُهُ وَإِذَا اعْتَرَفَتْ ) ظَاهِرٌ وَتَقَدَّمَتْ غَيْرَ مَرَّةٍ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَثْبُتْ إذَا أَتَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْإِقْرَارِ ، وَإِنْ كَانَتْ الْمُدَّةُ تَحْتَمِلُ كَوْنَ الْحَمْلِ مِنْ الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّهُنَّ أَمِينَاتٌ شَرْعًا فِي إخْبَارِهِنَّ عَنْ عِدَّتِهِنَّ ، فَإِذَا أَخْبَرْنَ لَزِمَ إلَى أَنْ يَتَحَقَّقَ الْخِلَافُ قَطْعًا .
وَقَوْلُهُ وَهَذَا اللَّفْظُ يَتَنَاوَلُ بِإِطْلَاقِهِ كُلَّ مُعْتَدَّةٍ لِعَدَمِ التَّفْصِيلِ فِي الْمُعْتَدَّةِ عَنْ طَلَاقٍ وَوَفَاةٍ ، وَمِمَّا يَشْمَلُ أَيْضًا الْآيِسَةُ إذَا وَلَدَتْ بَعْدَ الرَّجْعِيِّ أَوْ الْبَائِنِ فَهِيَ كَذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ يَثْبُتُ نَسَبُ مَا تَأْتِي بِهِ إلَى أَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ فِي الْبَائِنِ وَأَكْثَرَ مِنْهَا فِي الرَّجْعِيِّ مَا لَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ، فَإِنْ أَقَرَّتْ بِانْقِضَائِهَا مُفَسَّرًا بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ مُطْلَقًا فِي مُدَّةٍ تَصْلُحُ لِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ ثُمَّ وَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْإِقْرَارِ ثَبَتَ النَّسَبُ وَإِلَّا فَلَا ، لِأَنَّ مُطْلَقَ إقْرَارِهَا يُحْمَلُ عَلَى الْأَقْرَاءِ لَمَّا بَطَلَ الْيَأْسُ .
هَذَا وَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ أَنَّ الْآيِسَةَ تَعْتَدُّ بِالْأَشْهُرِ ، وَإِذَا وَلَدَتْ يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا فِي الطَّلَاقِ إلَى سَنَتَيْنِ سَوَاءٌ أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَوْ لَمْ تُقِرَّ ، وَكَذَا نُقِلَ عَنْ الْمَرْغِينَانِيِّ

( وَإِذَا وَلَدَتْ الْمُعْتَدَّةُ وَلَدًا لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنْ يَشْهَدَ بِوِلَادَتِهَا رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ إلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ حَبَلٌ ظَاهِرٌ أَوْ اعْتِرَافٌ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ فَيَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْ غَيْرِ شَهَادَةٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : يَثْبُتُ فِي الْجَمِيعِ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ ) لِأَنَّ الْفِرَاشَ قَائِمٌ بِقِيَامِ الْعِدَّةِ وَهُوَ مُلْزِمٌ لِلنَّسَبِ وَالْحَاجَةُ إلَى تَعْيِينِ الْوَلَدِ أَنَّهُ مِنْهَا فَيَتَعَيَّنُ بِشَهَادَتِهَا كَمَا فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعِدَّةَ تَنْقَضِي بِإِقْرَارِهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ ، وَالْمُنْقَضِي لَيْسَ بِحُجَّةٍ فَمَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى إثْبَاتِ النَّسَبِ ابْتِدَاءً فَيُشْتَرَطُ كَمَالُ الْحُجَّةِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ ظَهَرَ الْحَبَلُ أَوْ صَدَرَ الِاعْتِرَافُ مِنْ الزَّوْجِ لِأَنَّ النَّسَبَ ثَابِتٌ قَبْلَ الْوِلَادَةِ وَالتَّعَيُّنَ يَثْبُتُ بِشَهَادَتِهَا ( فَإِنْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً عَنْ وَفَاةٍ فَصَدَّقَهَا الْوَرَثَةُ فِي الْوِلَادَةِ وَلَمْ يَشْهَدْ عَلَى الْوِلَادَةِ أَحَدٌ فَهُوَ ابْنُهُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ) وَهَذَا فِي حَقِّ الْإِرْثِ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّهِمْ فَيُقْبَلُ فِيهِ تَصْدِيقُهُمْ ، أَمَّا فِي حَقِّ النَّسَبِ هَلْ يَثْبُتُ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ .
قَالُوا : إذَا كَانُوا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ يَثْبُتُ لِقِيَامِ الْحُجَّةِ وَلِهَذَا قِيلَ : تُشْتَرَطُ لَفْظَةُ الشَّهَادَةِ ، وَقِيلَ لَا تُشْتَرَطُ لِأَنَّ الثُّبُوتَ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ تَبَعٌ لِلثُّبُوتِ فِي حَقِّهِمْ بِإِقْرَارِهِمْ ، وَمَا ثَبَتَ تَبَعًا لَا يُرَاعَى فِيهِ الشَّرَائِطُ .

( قَوْلُهُ وَإِذَا وَلَدَتْ الْمُعْتَدَّةُ وَلَدًا لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنْ يَشْهَدَ بِوِلَادَتِهَا رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ ) أَوْ يُعْلَمَ اعْتِرَافٌ مِنْ الزَّوْجِ بِالْوِلَادَةِ أَوْ يَكُونَ الْحَبَلُ ظَاهِرًا فَيَثْبُتُ النَّسَبُ بِلَا شَهَادَةٍ ، وَإِطْلَاقُ الْمُصَنِّفِ يَشْمَلُ الْمُعْتَدَّةَ عَنْ وَفَاةٍ وَعَنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ أَوْ رَجْعِيٍّ فَيُوَافِقُ تَصْرِيحَ قَاضِي خَانْ وَفَخْرِ الْإِسْلَامِ بِجَرَيَانِ الْخِلَافِ فِي الرَّجْعِيِّ ، وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ قَيَّدَ صُورَةَ الْمَسْأَلَةِ بِأَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ بَائِنًا فَقَالَ : لَوْ أَنَّ رَجُلًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا أَوْ تَطْلِيقًا بَائِنًا ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ بَعْدَ الطَّلَاقِ لِسَنَتَيْنِ أَوْ أَقَلَّ وَشَهِدَتْ امْرَأَةٌ عَلَى الْوِلَادَةِ وَالزَّوْجُ يُنْكِرُ الْوِلَادَةَ وَالْحَبَلَ لَمْ يَلْزَمْهُ النَّسَبُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ مَا لَمْ يَشْهَدْ بِهِ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ ، وَنَحْوَهُ فَعَلَ صَاحِبُ الْمُخْتَلِفِ حَيْثُ قَالَ : شَهَادَةُ الْقَابِلَةِ عَلَى الْوِلَادَةِ لَا تُقْبَلُ إلَّا بِمُؤَيِّدٍ إلَى قَوْلِهِ حَتَّى أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ عَنْ وَفَاةٍ إذَا كَذَّبَهَا الْوَرَثَةُ فِي الْوِلَادَةِ وَفِي الطَّلَاقِ الْبَائِنِ إذَا كَذَّبَهَا الزَّوْجُ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرَهُ .
وَاتَّفَقُوا عَلَى قَيْدِ إنْكَارِ الزَّوْجِ ، وَكَذَا لَوْ وَقَعَ إنْكَارُ الْوِلَادَةِ وَالْحَبَلِ مِنْ الْوَرَثَةِ ، فَعِنْدَهُمَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ حُرَّةٍ عَدْلَةٍ وَيَرِثُ بِذَلِكَ ، وَيُشْتَرَطُ لَفْظَةُ الشَّهَادَةِ عَلَى قَوْلِهِمَا عِنْدَ مَشَايِخِ خُرَاسَانَ لِأَنَّهَا مُوجِبَةٌ حَقًّا عَلَى الْغَيْرِ وَلَا يُشْتَرَطُ عِنْدَ الْعِرَاقِيِّينَ قِيَاسًا عَلَى الْعَدَدِ .
وَقَوْلُهُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ : أَيْ فِيمَا إذَا كَانَ حَبَلٌ ظَاهِرٌ أَوَّلًا أَوْ اعْتِرَافٌ مِنْ الزَّوْجِ أَوَّلًا وَهَلْ يُقْبَلُ شَهَادَةُ رَجُلٍ وَاحِدٍ عِنْدَهُمَا ؟ قِيلَ : نَعَمْ ، وَلَا يَفْسُقُ كَمَا لَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ .
وَفِي جَامِعِ قَاضِي خَانْ : وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ كُلُّ مَا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ

الرِّجَالُ وَأَجْمَعَ عُلَمَاؤُنَا عَلَى أَنَّهُ يُقْضَى بِالنَّسَبِ بِشَهَادَةِ الْوَاحِدَةِ عِنْدَ قِيَامِ النِّكَاحِ ، وَحَقِيقَةُ الْحَالِ أَنَّهُ يَثْبُتُ تَعْيِينُ الْوَلَدِ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ وَالنَّسَبُ بِقِيَامِ الْفِرَاشِ .
وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ النِّكَاحَ بَعْدَ الرَّجْعِيِّ قَائِمٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ يُتَّجَهُ تَقْيِيدُ الْخِلَافِ بِالْبَائِنِ كَمَا نَقَلَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ ، وَيَكُونُ الرَّجْعِيُّ كَالْعِصْمَةِ الْقَائِمَةِ حَتَّى حَلَّ الْوَطْءُ وَدَوَاعِيهِ ، وَالْخِلَافُ إنَّمَا هُوَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَبِالطَّلَاقِ الْبَائِنِ وَبِقَوْلِهِمَا قَالَ أَحْمَدُ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُشْتَرَطُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ عُدُولٍ .
وَعِنْدَ مَالِكٍ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى امْرَأَتَانِ .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْفِرَاشَ قَائِمٌ بِقِيَامِ الْعِدَّةِ ( وَهُوَ ) أَيْ الْفِرَاشُ ( مُلْزِمٌ لِلنَّسَبِ ) فِيمَا تَأْتِي بِهِ كَمَا قَبْلَ الطَّلَاقِ ( وَالْحَاجَةُ إلَى ) شَهَادَةِ الْمَرْأَةِ ( لِتَعْيِينِ الْوَلَدِ ) فَيَتَعَيَّنُ بِشَهَادَتِهَا عَلَى الْوِلَادَةِ كَمَا قَبْلَ الطَّلَاقِ اقْتَصَرَ الْمُصَنِّفُ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ فَيَثْبُتُ النَّسَبُ وَالْجَامِعُ قِيَامُ الْفِرَاشِ ( وَلَهُ أَنَّ الْعِدَّةَ تَنْقَضِي بِإِقْرَارِهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ ) فَصَارَتْ أَجْنَبِيَّةً ، وَالْفِرَاشُ الْمُنْقَضِي لَيْسَ بِحُجَّةٍ لِيَصْلُحَ مُؤَيِّدًا لِلْحُجَّةِ الضَّعِيفَةِ : أَعْنِي شَهَادَةَ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ فَكَانَتْ الْحَاجَةُ مَاسَةً إلَى إثْبَاتِ النَّسَبِ ابْتِدَاءً ، وَذَلِكَ بِكَمَالِ النِّصَابِ عَلَى وِلَادَتِهَا الْمُتَّصِلَةِ بِفِرَاشِيَّتِهَا الْمُسْتَلْزِمَةِ لِثُبُوتِ النَّسَبِ لِكَوْنِهَا فِي وَقْتٍ يَلْزَمُ مِنْهُ ثُبُوتُ النَّسَبِ شَرْعًا ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْحَبَلُ ظَاهِرًا قَبْلَ دَعْوَاهَا أَوْ صَدَرَ الِاعْتِرَافُ بِهِ مِنْ الزَّوْجِ أَوْ كَانَ الْفِرَاشُ قَائِمًا وَقْتَ دَعْوَاهَا الْوِلَادَةَ ، لِأَنَّ النَّسَبَ ثَابِتٌ قَبْلَ الْوِلَادَةِ لِمَا فِي الْبَطْنِ ، وَقِيَامُ الْحَمْلِ ظَاهِرًا أَوْ اعْتِرَافًا ، وَكَذَا قِيَامُ الْفِرَاشِ يُؤَيِّدُ شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ بِهِ ، وَقَوْلُهُمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ

مَمْنُوعٌ بَلْ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ فِيمَا إذَا دَخَلَتْ الْمَرْأَةُ بِحَضْرَتِهِمْ بَيْتًا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ غَيْرُهَا ثُمَّ خَرَجَتْ مَعَ الْوَلَدِ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا وَلَدَتْهُ ، وَفِيمَا إذَا لَمْ يَتَعَمَّدُوا النَّظَرَ بَلْ وَقَعَ اتِّفَاقًا ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا قَدْ أَوْرَدَ مِنْ أَنَّ شَهَادَةَ الرِّجَالِ تَسْتَلْزِمُ فِسْقَهُمْ فَلَا تُقْبَلُ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ حَقِيقَةَ مَحَلِّ الْخِلَافِ أَنَّ شَهَادَةَ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ عَادَةً كَالْوِلَادَةِ وَغَيْرِهَا هَلْ تَكْفِي لِلْإِثْبَاتِ أَوْ لَا بُدَّ أَنْ تَتَأَيَّدَ بِمُؤَيِّدٍ فَالْوَجْهُ أَنْ يُجْعَلَ الِاسْتِدْلَال عَلَيْهِ .
وَلَهُمَا فِيهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { شَهَادَةُ النِّسَاءِ جَائِزَةٌ فِيمَا لَا يَسْتَطِيعُ الرِّجَالُ النَّظَرَ إلَيْهِ } فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْوَاحِدَةَ لِأَنَّهُ جِنْسٌ .
وَأَمَّا الْوَجْهُ الَّذِي ذَكَرَاهُ فَتَمَامُهُ بِإِلْغَاءِ الْفَارِقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ مِنْ حَالِ قِيَامِ الْفِرَاشِ وَهُوَ يَدْفَعُهُ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِهَا مَعَ مُؤَيِّدٍ جَوَازُهَا بِدُونِهِ وَيَبْقَى عَلَيْهِ إطْلَاقُ الْحَدِيثِ ، وَالْمَعْرُوفُ مِنْهُ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ مُرْسَلًا : { مَضَتْ السُّنَّةُ أَنْ تَجُوزَ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ غَيْرُهُنَّ مِنْ وِلَادَاتِ النِّسَاءِ وَعُيُوبِهِنَّ .
وَتَجُوزُ شَهَادَةُ الْقَابِلَةِ وَحْدَهَا فِي الِاسْتِهْلَالِ وَامْرَأَتَانِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ } ، وَهَذَا حُجَّةٌ ؛ لِأَنَّهُ مُرْسَلٌ .
وَإِنَّمَا قُلْنَا : إنَّهُ مُرْسَلٌ لِأَنَّ قَوْلَ الرَّاوِي مَضَتْ السُّنَّةُ إنَّمَا يَكُونُ حُكْمُهُ الرَّفْعَ إذَا كَانَ صَحَابِيًّا وَهُوَ هُنَا لَيْسَ صَحَابِيًّا ، وَحَدِيثُ الدَّارَقُطْنِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ الْوَاسِطِيِّ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ حُذَيْفَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَازَ شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ } ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَ ابْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَالْأَعْمَشِ رَجُلٌ مَجْهُولٌ وَهُوَ أَبُو عَبْدِ

الرَّحْمَنِ الْمَدَايِنِيُّ فَقَدْ تَظَافَرَا وَقَوِيَ مَا هُوَ حُجَّةٌ بِهِ ، وَلَوْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً عَنْ وَفَاةٍ فَادَّعَتْ الْوِلَادَةَ فَصَدَّقَهَا الْوَرَثَةُ عَلَيْهَا وَلَمْ يَشْهَدْ بِهَا أَحَدٌ فَهُوَ ابْنُ الْمَيِّتِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ، وَهَذَا فِي حَقِّ الْإِرْثِ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّهِمْ فَيُقْبَلُ تَصْدِيقُهُمْ فِيهِ ، أَمَّا فِي حَقِّ ثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْ الْمَيِّتِ لِيَظْهَرَ فِي حَقِّ النَّاسِ كَافَّةً .
قَالُوا : إذَا كَانُوا أَيْ الْوَرَثَةُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ بِأَنْ يَكُونُوا ذُكُورًا أَوْ ذُكُورًا مَعَ إنَاثٍ وَهُمْ عُدُولٌ ثَبَتَ لِقِيَامِ الْحُجَّةِ فَيُشَارِكُ الْمُقِرِّينَ مِنْهُمْ وَالْمُنْكَرِينَ وَيُطَالِبُ غَرِيمَ الْمَيِّتِ بِدَيْنِهِ ، وَعَنْ هَذَا قِيلَ : يُشْتَرَطُ لَفْظَةُ الشَّهَادَةِ : أَيْ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ مِنْ الْوَرَثَةِ لِقِيَامِ الْحُجَّةِ .
وَقِيلَ : لَا يُشْتَرَطُ هُوَ الصَّحِيحُ ، لِأَنَّ الثُّبُوتَ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ تَبَعٌ لِلثُّبُوتِ فِي حَقِّهِمْ ، وَلَا يُرَاعَى لِلتَّبَعِ شَرَائِطُهُ إذَا ثَبَتَ أَصَالَةً ، وَعَلَى هَذَا فَلَوْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ إلَّا فِي حَقِّ الْمُقِرِّينَ مِنْهُمْ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( وَإِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ امْرَأَةً فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ يَوْمِ تَزَوَّجَهَا لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ ) لِأَنَّ الْعُلُوقَ سَابِقٌ عَلَى النِّكَاحِ فَلَا يَكُونُ مِنْهُ ( وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ اعْتَرَفَ بِهِ الزَّوْجُ أَوْ سَكَتَ ) لِأَنَّ الْفِرَاشَ قَائِمٌ وَالْمُدَّةُ تَامَّةٌ ( فَإِنْ جَحَدَ الْوِلَادَةَ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ تَشْهَدُ بِالْوِلَادَةِ حَتَّى لَوْ نَفَاهُ الزَّوْجُ يُلَاعِنُ ) لِأَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ بِالْفِرَاشِ الْقَائِمِ ، وَاللِّعَانُ إنَّمَا يَجِبُ بِالْقَذْفِ وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَتِهِ وُجُودُ الْوَلَدِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ بِدُونِهِ ( فَإِنْ وَلَدَتْ ثُمَّ اخْتَلَفَا فَقَالَ الزَّوْجُ : تَزَوَّجْتُك مُنْذُ أَرْبَعَةٍ وَقَالَتْ هِيَ : مُنْذُ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا وَهُوَ ابْنُهُ ) لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهَا فَإِنَّهَا تَلِدُ ظَاهِرًا مِنْ نِكَاحِ لَا مِنْ سِفَاحٍ وَلَمْ يَذْكُرْ الِاسْتِحْلَافَ وَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ .

( قَوْلُهُ وَإِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ امْرَأَةً فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ يَوْمِ تَزَوَّجَهَا لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ ) لِأَنَّ أَقَلَّ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَلَزِمَ كَوْنُهُ مِنْ عُلُوقٍ قَبْلَ النِّكَاحِ ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْهَا ثَبَتَ ، وَلَا إشْكَالَ سَوَاءٌ اعْتَرَفَ بِهِ الزَّوْجُ أَوْ سَكَتَ ، وَكَذَا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِتَمَامِ السِّتَّةِ بِلَا زِيَادَةٍ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا وَاطِئًا لَهَا فَوَافَقَ الْإِنْزَالُ النِّكَاحَ ، وَالنَّسَبُ يُحْتَاطُ فِي إثْبَاتِهِ ، وَهَذَا مِنْ الْمُصَنِّفِ خِلَافُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْمَبْتُوتَةِ حَيْثُ نُفِيَ نَسَبُ مَا أَتَتْ بِهِ لِتَمَامِ سَنَتَيْنِ مَعَ تَصْحِيحِهِ بِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ كَوْنِهِ طَلَّقَهَا حَالَ جِمَاعِهَا وَصَادَفَ الْإِنْزَالُ الطَّلَاقَ .
وَأُجِيبَ عَنْ الْمُصَنِّفِ بِأَنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ هُنَا لَا هُنَاكَ لِحَمْلِ أَمْرِهَا عَلَى الصَّلَاحِ ، إذْ لَوْ لَمْ يَثْبُتْ هُنَا لَزِمَ كَوْنُهُ مِنْ زِنًا أَوْ مِنْ زَوْجٍ فَتَزَوَّجَتْ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ ، وَأَمَّا عَدَمُ الثُّبُوتِ هُنَاكَ لِلشَّكِّ فَلَا يَسْتَلْزِمُ نِسْبَةَ فَسَادٍ إلَيْهَا لِجَوَازِ كَوْنِ عِدَّتِهَا انْقَضَتْ وَتَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ فَعَلِقَتْ مِنْهُ .
وَحَاصِلُ هَذَا رَفْعُ الْمَانِعِ مِنْ عَدَمِ الثُّبُوتِ هُنَاكَ وَلَيْسَ بِجَوَابٍ أَصْلًا ؛ لِأَنَّ مَعْنَى السُّؤَالِ وُجِدَ الْمُقْتَضِي وَهُوَ الْإِمْكَانُ بِالطَّرِيقِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مَعَ وُجُوبِ الِاحْتِيَاطِ فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَثْبُتَ النَّسَبُ كَمَا يَثْبُتُ هُنَا ، وَأَنْتَ عَلِمْت أَنَّ الْوَجْهَ أَنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ فِيهِ لِوُجُودِ الْمُقْتَضِي وَهُوَ الْإِمْكَانُ مَعَ الِاحْتِيَاطِ .
( قَوْلُهُ فَإِنْ جَحَدَ الْوِلَادَةَ ) يَعْنِي فِيمَا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا ثَبَتَ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ اتِّفَاقًا ، أَمَّا عِنْدَهُمَا فَظَاهِرٌ ، وَعِنْدَهُ لِتَأَيُّدِهَا بِقِيَامِ الْفِرَاشِ ، حَتَّى لَوْ نَفَاهُ بَعْدَ شَهَادَتِهَا لَاعَنَ وَلَا يَكُونُ هَذَا اللِّعَانُ لَزِمَ بِشَهَادَةِ الْوَاحِدَةِ لِيَلْزَمَ أَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْحَدِّ ،

وَالْحَدُّ لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَجِبُ أَنْ لَا يَجِبَ اللِّعَانُ هُنَا ، وَأَيْضًا يَلْزَمُ خَطَأُ أَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ لَمْ يَثْبُتْ بِهَا النَّسَبُ وَأَثْبَتَ بِهَا اللِّعَانَ ، بَلْ اللِّعَانُ إنَّمَا وَجَبَ بِالْقَذْفِ الثَّابِتِ فِي ضِمْنِ نَفْيِ الْوَلَدِ لَا بِنَفْيِ الْوَلَدِ مِنْ حَيْثُ هُوَ نَفْيُهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ لُزُومِهِ وُجُودَ الْوَلَدِ أَصْلًا فَضْلًا عَنْ نَفْيِهِ بَعْدَ وُجُودِهِ لِتَحَقُّقِهِ بِدُونِهِ ، وَإِنْ اتَّفَقَ هُنَا وُقُوعُهُ فِي ضِمْنِ النَّفْيِ .
( قَوْلُهُ وَإِنْ وَلَدَتْ ثُمَّ اخْتَلَفَا ) ، فَقَالَ : تَزَوَّجْتُك لِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَقَالَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَالْقَوْلُ لَهَا لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهَا وَهُوَ أَنَّهُ وَلَدٌ مِنْ نِكَاحٍ لَا مِنْ سِفَاحٍ وَلَا مِنْ زَوْجٍ تَزَوَّجَتْ بِهَذَا الزَّوْجِ فِي عِدَّتِهِ ، وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الظَّاهِرِ الَّذِي يَشْهَدُ لَهُ وَهُوَ إضَافَةُ الْحَادِثِ وَهُوَ النِّكَاحُ هُنَا إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ ، لِأَنَّهُ إذَا تَعَارَضَ ظَاهِرَانِ فِي ثُبُوتِ نَسَبٍ قُدِّمَ الْمُثْبِتُ لَهُ لِوُجُوبِ الِاحْتِيَاطِ فِيهِ حَتَّى أَنَّهُ يَثْبُتُ بِالْإِيمَاءِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى النُّطْقِ بِخِلَافِ سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ ، مَعَ أَنَّ ظَاهِرَهَا مُتَأَيَّدٌ بِظَاهِرِهِ وَهُوَ عَدَمُ مُبَاشَرَتِهِ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ إنْ كَانَ الْوَلَدُ مِنْ زَوْجٍ أَوْ حَبِلَتْ مِنْ زِنًا وَإِنْ صَحَّ عَلَى الْخِلَافِ فِيهِ ثُمَّ لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ بِهَذَا النَّفْيِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ تَزَوُّجُهَا حَامِلًا بِثَابِتِ النَّسَبِ لِيَكُونَ إقْرَارًا بِالْفَسَادِ كَمَا إذَا تَزَوَّجَهَا بِلَا شُهُودٍ لِجَوَازِهِ وَهِيَ حَامِلٌ مِنْ زِنًا فَإِنَّهُ صَحِيحٌ عَلَى الصَّحِيحِ ، وَلِأَنَّ الشَّرْعَ كَذَّبَهُ حَيْثُ أَثْبَتَ النَّسَبَ ، وَالشَّرْعُ إذَا كَذَّبَ الْإِقْرَارَ يَبْطُلُ .
( قَوْلُهُ وَلَمْ يَذْكُرْ ) أَيْ مُحَمَّدٌ ( الِاسْتِحْلَافَ ) أَيْ اسْتِحْلَافَهَا وَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الْمَعْرُوفِ فِي الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ فَعِنْدَهُمَا تُسْتَحْلَفُ وَعِنْدَهُ لَا تُسْتَحْلَفُ لِأَنَّ الْخِلَافَ وَاقِعٌ فِي النِّكَاحِ وَالنَّسَبِ .

( وَإِنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إذَا وَلَدْت وَلَدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَشَهِدَتْ امْرَأَةٌ عَلَى الْوِلَادَةِ لَمْ تَطْلُقْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : تَطْلُقُ ) لِأَنَّ شَهَادَتَهَا حُجَّةٌ فِي ذَلِكَ .
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { شَهَادَةُ النِّسَاءِ جَائِزَةٌ فِيمَا لَا يَسْتَطِيعُ الرِّجَالُ النَّظَرَ إلَيْهِ } وَلِأَنَّهَا لَمَّا قَبِلَتْ فِي الْوِلَادَةِ تَقْبَلُ فِيمَا يَبْتَنِي عَلَيْهَا وَهُوَ الطَّلَاقُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا ادَّعَتْ الْحِنْثَ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِحُجَّةٍ تَامَّةٍ ، وَهَذَا لِأَنَّ شَهَادَتَهُنَّ ضَرُورِيَّةٌ فِي حَقِّ الْوِلَادَةِ فَلَا تَظْهَرُ فِي حَقِّ الطَّلَاقِ لِأَنَّهُ يَنْفَكُّ عَنْهَا ( وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ قَدْ أَقَرَّ بِالْحَبَلِ طَلُقَتْ مِنْ غَيْرِ شَهَادَةٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا تُشْتَرَطُ شَهَادَةُ الْقَابِلَةِ ) لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ حُجَّةٍ لَدَعْوَاهَا الْحِنْثَ ، وَشَهَادَتُهَا حُجَّةٌ فِيهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا .
وَلَهُ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْحَبَلِ إقْرَارٌ بِمَا يُفْضِي إلَيْهِ وَهُوَ الْوِلَادَةُ ، وَلِأَنَّهُ أَقَرَّ بِكَوْنِهَا مُؤْتَمَنَةٌ فَيُقْبَلُ قَوْلُهَا فِي رَدِّ الْأَمَانَةِ .

( قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إذَا وَلَدْت فَأَنْتِ طَالِقٌ فَشَهِدَتْ امْرَأَةٌ عَلَى الْوِلَادَةِ ) وَالزَّوْجُ يُنْكِرُهَا وَلَمْ يَكُنْ حَبَلُهَا ظَاهِرًا وَلَا أَقَرَّ هُوَ بِهِ ( لَمْ تَطْلُقْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) وَلَكِنْ يَثْبُتُ النَّسَبُ .
وَقَالَا تَطْلُقُ أَيْضًا لِأَنَّ شَهَادَتَهَا حُجَّةٌ فِي ذَلِكَ أَيْ فِي ثُبُوتِ وِلَادَتِهَا لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ ، وَإِذَا كَانَتْ حُجَّةً مَقْبُولَةً فِيهَا تُقْبَلُ فِيمَا يَبْتَنِي عَلَيْهَا وَهُوَ الطَّلَاقُ الْمُعَلَّقُ بِهِ ، وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ قَوْلَهُ وَلِأَنَّهَا لَمَّا قَبِلَتْ فِي الْوِلَادَةِ إلَى آخِرِهِ لَيْسَ وَجْهًا آخَرَ بَلْ هُوَ تَمَامُ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَصَارَتْ كَثُبُوتِ الْأُمُومَةِ بِنَاءً عَلَى ثُبُوتِ النَّسَبِ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ فِيمَا إذَا قَالَ : إنْ كَانَ بِأَمَتِي هَذِهِ حَمْلٌ فَهُوَ مِنِّي ، فَوَلَدَتْ بَعْدَ هَذَا الْقَوْلِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَأَنْكَرَ وِلَادَتَهَا فَشَهِدَتْ بِهَا امْرَأَةٌ ، وَكَثُبُوتِ اللِّعَانِ بِنَاءً عَلَى ثُبُوتِ النَّسَبِ فِيمَا إذَا جَاءَتْ زَوْجَةٌ بِوَلَدٍ فَقَالَ : لَيْسَ مِنِّي وَلَا أَدْرِي أَوَلَدْتِيهِ أَمْ لَا فَشَهِدَتْ بِالْوِلَادَةِ امْرَأَةٌ فَإِنَّهُ يَجِبُ اللِّعَانُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ عَبْدًا أَوْ حُرًّا مَحْدُودًا فَيُحَدُّ لِلْقَذْفِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا ادَّعَتْ الْحِنْثَ وَزَوَالَ مِلْكِهِ الثَّابِتِ فَلَا بُدَّ مِنْ حُجَّةٍ تَامَّةٍ ، وَشَهَادَةُ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ لَيْسَتْ حُجَّةً كَذَلِكَ إلَّا فِي مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ وَهُوَ الْوِلَادَةُ وَلَازَمَهُ الْمُخْتَصُّ بِهِ فَقُبِلَتْ فِيهَا وَثَبَتَ النَّسَبُ وَأُمُومَةُ الْوَلَدِ ، وَلِأَنَّهُ حُكْمُهُ اللَّازِمُ شَرْعًا ، أَمَّا اللِّعَانُ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِالْقَذْفِ وَإِنْ اتَّفَقَ أَنَّهُ وَقَعَ فِي ضِمْنِ نَفْيِ الْوَلَدِ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَأَمَّا وُقُوعُ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَلَيْسَ حُكْمًا مُخْتَصًّا بِهِ فَلَا يَثْبُتُ عِنْدَ هَذِهِ الشَّهَادَةِ كَمَنْ اشْتَرَى لَحْمًا فَأَخْبَرَهُ مُسْلِمٌ أَنَّهُ ذَبِيحَةُ مَجُوسِيٍّ قُبِلَ فِي الْحُرْمَةِ وَلَا يَثْبُتُ تَمَجُّسُ الذَّابِحِ ،

وَكَقَوْلِهِ إذَا حِضْت فَأَنْتِ طَالِقٌ وَفُلَانَةُ ، فَقَالَتْ حِضْت طَلُقَتْ هِيَ وَلَمْ تَطْلُقْ فُلَانَةُ هُمَا حُكْمَانِ مُقْتَرِنَانِ .
وَيُمْكِنُ جَعْلَ هَذَا إشْكَالًا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّ طَلَاقَهَا هِيَ زَوَالُ مِلْكِهِ وَهُوَ لَيْسَ لَازِمًا شَرْعِيًّا لِحَيْضِهَا بَلْ لَازِمُهُ الشَّرْعِيُّ حُرْمَةُ قُرْبَانِهَا فَقَدْ ثَبَتَ بِقَوْلِهَا لَازِمُهُ الشَّرْعِيُّ وَلَازِمُهُ الْجَعْلِيُّ الْمُنْفَكُّ وَهُوَ حِنْثُهُ وَسَيَأْتِي الْفَرْقُ ، وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ قَدْ أَقَرَّ بِالْحَبَلِ طَلُقَتْ بِلَا شَهَادَةٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا يُشْتَرَطُ شَهَادَةُ الْقَابِلَةِ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْحُجَّةِ لِدَعْوَاهَا الْحِنْثَ وَشَهَادَتُهَا حُجَّةٌ فِيهِ .
( وَلَهُ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْحَبَلِ إقْرَارٌ بِمَا يُفْضِي إلَيْهِ وَهُوَ الْوِلَادَةُ ) لِلْعِلْمِ بِأَنَّ الْحُبْلَى تَلِدُ بَعْدَهُ ، وَلِأَنَّهُ أَقَرَّ بِأَنَّهَا مُؤْتَمَنَةٌ فِي إخْبَارِهَا بِالْوِلَادَةِ حَيْثُ أَقَرَّ بِأَنَّهَا حَامِلٌ فَيُقْبَلُ قَوْلُهَا فِي رَدِّ الْأَمَانَةِ كَمَا إذَا عُلِّقَ بِحَيْضِهَا فَقَالَتْ : حِضْت ، فَإِذَنْ ظَهَرَ الْفَرْقُ الدَّافِعُ لِلْإِشْكَالِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ أَنَّ التَّعْلِيقَ إنْ كَانَ بِمَا هُوَ مَعْلُومُ الْوُقُوعِ بَعْدَهُ وَعِلْمُهُ مِنْ جِهَتِهَا كَمَا بِحَيْضِهَا وَبِوِلَادَتِهَا بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِحَبَلِهَا أَوْ بِظُهُورِ حَبَلِهَا كَانَ الْتِزَامًا لِتَصْدِيقِهَا عِنْدَ إخْبَارِهَا بِهِ وَاعْتِرَافًا بِأَنَّهَا مُؤْتَمَنَةٌ فِيهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ وَهُوَ التَّعْلِيقُ بِوِلَادَتِهَا قَبْلَ الِاعْتِرَافِ بِحَبَلِهَا سَابِقًا وَلَا ظُهُورَ لِحَبَلٍ حَالَ التَّعْلِيقِ لَمْ يَسْتَلْزِمْ ذَلِكَ فَيَحْتَاجُ عِنْدَ إنْكَارِهِ إلَى الْحُجَّةِ .

قَالَ ( وَأَكْثَرُ مُدَّةِ الْحَمْلِ سَنَتَانِ ) لِقَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا الْوَلَدُ لَا يَبْقَى فِي الْبَطْنِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ وَلَوْ بِظِلِّ مِغْزَلٍ ( وَأَقَلُّهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا } ثُمَّ قَالَ { وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } فَبَقِيَ لِلْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَالشَّافِعِيُّ يُقَدِّرُ الْأَكْثَرَ بِأَرْبَعِ سِنِينَ ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَاهُ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا قَالَتْهُ سَمَاعًا إذْ الْعَقْلُ لَا يَهْتَدِي إلَيْهِ .

( قَوْلُهُ وَأَكْثَرُ مُدَّةِ الْحَمْلِ سَنَتَانِ ) وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ أَرْبَعُ سِنِينَ ، وَعَنْ اللَّيْثِ ثَلَاثُ سِنِينَ ، وَعَنْ الزُّهْرِيِّ سَبْعُ سِنِينَ .
وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : الْوَلَدُ لَا يَبْقَى فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ وَلَوْ بِظِلِّ مِغْزَلٍ .
أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِمَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْمُبَارَكِ : حَدَّثَنَا دَاوُد بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ جَمِيلَةَ بِنْتِ سَعْدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : مَا تَزِيدُ الْمَرْأَةُ فِي الْحَمْلِ عَلَى سَنَتَيْنِ قَدْرَ مَا يَتَحَوَّلُ ظِلُّ عَمُودِ الْمِغْزَلِ .
وَفِي لَفْظٍ قَالَتْ : لَا يَكُونُ الْحَمْلُ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ الْحَدِيثَ وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَمِنْ جِهَتِهِ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ : قُلْت لِمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ أَفِي حَدِيثٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : لَا تَزِيدُ الْمَرْأَةُ فِي حَمْلِهَا عَلَى سَنَتَيْنِ قَدْرَ ظِلِّ مِغْزَلٍ ، فَقَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ مَنْ يَقُولُ هَذَا ؟ هَذِهِ جَارَتُنَا امْرَأَةُ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ امْرَأَةُ صِدْقٍ وَزَوْجُهَا رَجُلُ صِدْقٍ حَمَلَتْ ثَلَاثَةَ أَبْطُنٍ فِي اثْنَيْ عَشْرَةَ سَنَةً كُلُّ بَطْنٍ فِي أَرْبَعِ سِنِينَ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ قَوْلَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مِمَّا لَا يُعْرَفُ إلَّا سَمَاعًا ، وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَحْكِيِّ عَنْ امْرَأَةِ ابْنِ عَجْلَانَ لِأَنَّهُ بَعْدَ صِحَّةِ نِسْبَتِهِ إلَى الشَّارِعِ لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ الْخَطَأُ ، بِخِلَافِ الْحِكَايَةِ فَإِنَّمَا بَعْدَ صِحَّةِ نِسْبَتِهَا إلَى مَالِكٍ وَالْمَرْأَةُ يُحْتَمَلُ خَطَؤُهَا ، فَإِنَّ غَايَةَ الْأَمْرِ أَنْ يَكُونَ انْقَطَعَ دَمُهَا أَرْبَعَ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ ، وَهَذَا لَيْسَ بِقَاطِعٍ فِي أَنَّ الْأَرْبَعَةَ بِتَمَامِهَا كَانَتْ حَامِلًا فِيهَا لِجَوَازِ أَنَّهَا امْتَدَّ طُهْرُهَا سَنَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ ثُمَّ حَبِلَتْ ، وَوُجُودُ الْحَرَكَةِ مَثَلًا فِي الْبَطْنِ لَوْ وُجِدَ لَيْسَ قَاطِعًا فِي الْحَمْلِ لِجَوَازِ كَوْنِهِ

غَيْرَ الْوَلَدِ ، وَلَقَدْ أَخْبَرَنَا عَنْ امْرَأَةٍ أَنَّهَا وَجَدَتْ ذَلِكَ مُدَّةَ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ مِنْ الْحَرَكَةِ وَانْقِطَاعِ الدَّمِ وَكِبَرِ الْبَطْنِ وَإِدْرَاكِ الطَّلْقِ فَحِينَ جَلَسَتْ الْقَابِلَةُ تَحْتَهَا أَخَذَتْ فِي الطَّلْقِ فَكُلَّمَا طُلِقَتْ اعْتَصَرَتْ مَاءً هَكَذَا شَيْئًا فَشَيْئًا إلَى أَنْ انْضَمَرَ بَطْنُهَا وَقَامَتْ عَنْ قَابِلَتِهَا عَنْ غَيْرِ وِلَادَةٍ .
وَبِالْجُمْلَةِ مِثْلُ هَذِهِ الْحِكَايَاتِ لَا يُعَارِضُ الرِّوَايَاتِ .
وَمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَثْبَتَ نَسَبَ وَلَدِ الْمَرْأَةِ الَّتِي غَابَ عَنْهَا زَوْجُهَا سَنَتَيْنِ ثُمَّ قَدِمَ فَوَجَدَهَا حَامِلًا فَهَمَّ بِرَجْمِهَا ، فَقَالَ لَهُ مُعَاذٌ : إنْ كَانَ لَك عَلَيْهَا سَبِيلٌ فَلَا سَبِيلَ لَك عَلَى مَا فِي بَطْنِهَا ، فَتَرَكَهَا حَتَّى وَلَدَتْ وَلَدًا قَدْ نَبَتَتْ ثَنِيَّتَاهُ يُشْبِهُ أَبَاهُ ، فَلَمَّا رَآهُ الرَّجُلُ قَالَ : وَلَدِي وَرَبِّ الْكَعْبَةِ ، فَإِنَّمَا هُوَ بِقِيَامِ الْفِرَاشِ وَدَعْوَى الرَّجُلِ نَسَبَهُ .
( قَوْلُهُ وَأَقَلُّهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ ) وَلَا خِلَافَ لِلْعُلَمَاءِ فِيهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا } مَعَ تَفْسِيرِ الْفِصَالِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى بِكَوْنِهِ فِي عَامَيْنِ فَيَلْزَمُ كَوْنُ الْفَاضِلِ لِلْحَمْلِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ .
وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا قَرَّرَهُ لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي الرَّضَاعِ مِنْ أَنَّ هَذِهِ الْمُدَّةَ مَضْرُوبَةٌ بِتَمَامِهَا لِكُلٍّ مِنْ الْحَمْلِ وَالْفِصَالِ ، غَيْرَ أَنَّ الْمُنْقِصَ قَامَ فِي أَحَدِهِمَا وَهُوَ الْحَمْلُ وَهُوَ حَدِيثُ عَائِشَةَ .
قُلْنَا : قَدَّمْنَا هُنَاكَ أَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ لِمَا يَلْزَمُ مِنْ أَنَّهُ يُرَادُ بِلَفْظِ الثَّلَاثِينَ فِي إطْلَاقٍ وَاحِدٍ حَقِيقَةُ ثَلَاثِينَ وَأَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ بِاعْتِبَارِ إضَافَتَيْنِ فَلَعَلَّهُ رَجَعَ إلَى الصَّحِيحِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا تَأْوِيلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ذَكَرَهُ هُنَا وَمَوْضِعُ الِاسْتِدْلَالِ فِي الْحَقِيقَةِ مَوْرِدُهُ لَا هُوَ فَنَقَلَ بَعْضَهُ لِيُنَبِّهَ بِهِ عَلَيْهِ .
وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا تَزَوَّجَ

امْرَأَةً فَوَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَهَمَّ عُثْمَانُ بِرَجْمِهَا ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : أَمَا إنَّهَا لَوْ خَاصَمَتْكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى لَخَصَمَتْكُمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا } وَقَالَ { وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } فَلَمْ يَبْقَ لِلْحَمْلِ إلَّا سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَدَرَأَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْحَدَّ عَنْهَا .
فَالتَّمَسُّكُ بِدَرْءِ عُثْمَانَ مَعَ عَدَمِ مُخَالَفَةِ أَحَدٍ فَكَانَ إجْمَاعًا ، وَهَذَا صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ وَمُفِيدٌ لِقَطْعِيَّةِ إرَادَةِ كَوْنِ الْمُدَّةِ بِمَجْمُوعِ الْحَمْلِ وَالْفِصَالِ لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى صِحَّتِهِ حَيْثُ سَكَتُوا وَرَتَّبُوا الْحُكْمَ بِاعْتِبَارِهِ وَهُوَ يَبْطُلُ تَمَسُّكُهُ فِي الرَّضَاعِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ فَلَا يَنْدَفِعُ بِهِ التَّنَاقُضُ عَلَى الْمُصَنِّفِ .

( وَمَنْ تَزَوَّجَ أَمَةً فَطَلَّقَهَا ثُمَّ اشْتَرَاهَا ، فَإِنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ يَوْمِ اشْتَرَاهَا لَزِمَهُ وَإِلَّا لَمْ يَلْزَمْهُ ) لِأَنَّهُ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَلَدُ الْمُعْتَدَّةِ فَإِنَّ الْعُلُوقَ سَابِقٌ عَلَى الشِّرَاءِ ، وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي وَلَدُ الْمَمْلُوكَةِ لِأَنَّهُ يُضَافُ الْحَادِثُ إلَى أَقْرَبِ وَقْتِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ دَعْوَةٍ ، وَهَذَا إذَا كَانَ الطَّلَاقُ وَاحِدًا بَائِنًا أَوْ خُلْعًا أَوْ رَجْعِيًّا ، أَمَّا إذَا كَانَ اثْنَتَيْنِ يَثْبُتُ النَّسَبُ إلَى سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ لِأَنَّهَا حُرِّمَتْ عَلَيْهِ حُرْمَةً غَلِيظَةً فَلَا يُضَافُ الْعُلُوقُ إلَّا إلَى مَا قَبْلَهُ ، لِأَنَّهَا لَا تَحِلُّ بِالشِّرَاءِ .

( قَوْلُهُ وَمَنْ تَزَوَّجَ أَمَةً فَطَلَّقَهَا ) أَيْ بَعْدَ الدُّخُولِ وَاحِدَةً بَائِنَةً أَوْ رَجْعِيَّةً ثُمَّ اشْتَرَاهَا قَبْلَ أَنْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ اشْتَرَاهَا لَزِمَهُ : أَيْ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ ، وَلَفْظُ يَوْمٍ بَعْدَ مُنْذُ مُسْتَغْنًى عَنْهُ ، وَقَيَّدْنَا بِبَعْدِ الدُّخُولِ وَوَاحِدَةٍ ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ لَا يَلْزَمُهُ الْوَلَدُ إلَّا أَنْ تَجِيءَ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ فَارَقَهَا لِأَنَّهُ لَا عِدَّةَ لَهَا أَوْ بَعْدَهُ وَالطَّلَاقُ ثِنْتَانِ ثَبَتَ النَّسَبُ إلَى سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ كَمَا سَيَذْكُرُهُ الْمُصَنِّفُ .
( قَوْلُهُ وَإِلَّا ) أَيْ وَإِنْ لَمْ تَجِئْ بِهِ لِأَقَلَّ بَلْ لِتَمَامِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا أَنْ يَدَّعِيهِ ( قَوْلُهُ : لِأَنَّهُ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ) وَهُوَ مَا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَلَدُ الْمُعْتَدَّةِ لِلتَّيَقُّنِ بِكَوْنِ الْعُلُوقِ سَابِقًا عَلَى الشِّرَاءِ ، وَوَلَدُ الْمُعْتَدَّةِ يَثْبُتُ نَسَبُهُ بِلَا دَعْوَةٍ .
وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي وَهُوَ مَا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا وَلَدَ الْمَمْلُوكَةِ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِدَعْوَةٍ ، وَهَذَا لِأَنَّ الطَّلَاقَ إذَا كَانَ وَاحِدَةً حَلَّ لَهُ وَطْؤُهَا بَعْدَ الشِّرَاءِ إذْ لَا يَظْهَرُ عِدَّتُهَا فِي حَقِّهِ لِأَنَّهَا مُعْتَدَّتُهُ ، وَالْمَرْأَةُ مَتَى وَلَدَتْ وَالْوَطْءُ حَلَالٌ يُقْضَى بِالْعُلُوقِ مِنْ أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ ؛ لِأَنَّ فِيمَا زَادَ عَلَيْهِ شَكًّا وَأَقْرَبُ الْأَوْقَاتِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ ، وَاعْتِبَارُهَا فِي الْأَوَّلِ يُوجِبُ أَنَّهُ وَلَدُ الْمُعْتَدَّةِ .
وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي يُوجِبُ أَنَّهُ وَلَدُ الْمَمْلُوكَةِ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِدَعْوَةٍ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ الطَّلَاقُ ثِنْتَيْنِ حَيْثُ يَثْبُتُ النَّسَبُ إلَى سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الشِّرَاءِ لِأَنَّ بِهِ تَحْرُمُ الْأَمَةُ حُرْمَةً غَلِيظَةً فَلَا يَحِلُّهَا

الشِّرَاءُ ؛ لِأَنَّ حِلَّ الْمُحَرَّمَةِ حُرْمَةً غَلِيظَةً مُغَيَّاةٌ بِنِكَاحِ زَوْجٍ آخَرَ عَلَى مَا عُرِفَ فَتَعَذَّرَ الْقَضَاءُ بِالْعُلُوقِ مِنْ أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ ؛ لِأَنَّهُ قَضَاءٌ عَلَيْهِمَا بِالْوَطْءِ الْحَرَامِ فَقَضَيْنَا بِالْعُلُوقِ مِنْ أَبْعَدِ الْأَوْقَاتِ وَهُوَ مَا قَبْلَ الطَّلَاقِ حَمْلًا لِأَمْرِهِمَا عَلَى الصَّلَاحِ وَقَبْلَ الطَّلَاقِ كَانَتْ مَنْكُوحَةً فَيَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا بِلَا دَعْوَةٍ ، ثُمَّ إذَا كَانَتْ الْوَاحِدَةُ رَجْعِيَّةً وَهُوَ وَلَدُ الْمُعْتَدَّةِ فَيَلْزَمُهُ وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِعَشْرِ سِنِينَ بَعْدَ الطَّلَاقِ فَأَكْثَرَ بَعْدَ كَوْنِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ الشِّرَاءِ ، وَإِنْ كَانَتْ بَائِنًا ثَبَتَ إلَى أَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ بَعْدَ كَوْنِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ الشِّرَاءِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ حُكْمِ الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ ثَابِتٌ عِنْدَ عَدَمِ الطَّلَاقِ ، يَعْنِي لَوْ اشْتَرَاهَا مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ كَانَ الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ لِلرَّجْعِيَّةِ ثَابِتًا .
وَلَوْ اشْتَرَى زَوْجَتَهُ الْمَوْطُوءَةَ ثُمَّ أَعْتَقَهَا فَوَلَدَتْ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ اشْتَرَاهَا لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ إلَّا أَنْ يَدَّعِيهِ الزَّوْجُ ، لِأَنَّ النِّكَاحَ بَطَلَ بِالشِّرَاءِ وَصَارَتْ بِحَالٍ لَا يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا مِنْهُ لَوْ وَلَدَتْ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الشِّرَاءِ إلَّا بِدَعْوَةٍ وَالْعِتْقُ مَا زَادَهَا إلَّا بُعْدًا مِنْهُ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَثْبُتُ النَّسَبُ إلَى سَنَتَيْنِ بِلَا دَعْوَةٍ مِنْ يَوْمِ الشِّرَاءِ لِأَنَّهُ بِالشِّرَاءِ بَطَلَ النِّكَاحُ وَوَجَبَتْ الْعِدَّةُ لَكِنَّهَا لَا تَظْهَرُ فِي حَقِّهِ لِلْمِلْكِ وَبِالْعِتْقِ ظَهَرَتْ ، وَحُكْمُ مُعْتَدَّةٍ عَنْ بَائِنٍ لَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا تِلْكَ .
وَلَوْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لَزِمَهُ لِلْعِلْمِ بِثُبُوتِهِ قَبْلَ الشِّرَاءِ وَإِنْ كَانَ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ مِنْ الْعَقْدِ ، وَكَذَا لَوْ لَمْ يَعْتِقْهَا وَلَكِنْ بَاعَهَا فَوَلَدَتْ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُذْ بَاعَهَا ؛ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا

يَثْبُتُ النَّسَبُ وَإِنْ ادَّعَاهُ إلَّا بِتَصْدِيقِ الْمُشْتَرِي لِمَا مَرَّ أَنَّ النِّكَاحَ بَطَلَ ؛ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَثْبُتُ بِلَا تَصْدِيقٍ كَمَا قَالَ فِي الْعِتْقِ إلَّا أَنَّهُ هُنَا لَا يَثْبُتُ بِلَا دَعْوَةٍ لِأَنَّ الْعِدَّةَ ظَهَرَتْ ثَمَّ وَلَمْ تَظْهَرْ هُنَا .
وَلَوْ أَسْلَمَتْ كِتَابِيَّةٌ تَحْتَ مُسْلِمٍ ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَلِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الْإِسْلَامِ فَنَفَاهُ لَاعَنَ وَيَقْطَعُ نَسَبَ الْوَلَدِ مِنْهُ ، وَإِنْ احْتَمَلَ عُلُوقَهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَهُوَ بِاعْتِبَارِهِ لَا لِعَانَ لَكِنَّ الْعُلُوقَ حَادِثٌ ، وَالْأَصْلُ فِي الْحَوَادِثِ مَا قُلْنَا .
وَكَذَا حُرٌّ تَحْتَهُ أَمَةٌ أَعْتَقَهَا مَوْلَاهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَلِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الْإِعْتَاقِ فَنَفَاهُ الزَّوْجُ لَاعَنَ وَإِنْ احْتَمَلَ الْعُلُوقُ قَبْلَ الْإِعْتَاقِ .
فَإِنْ قِيلَ مَا ذَكَرْتُمْ يُنْتَقَضُ بِمَسَائِلَ : إحْدَاهَا مَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتَيْهِ إحْدَاكُمَا طَالِقٌ ثَلَاثًا وَلَمْ يُبَيِّنْ حَتَّى وَلَدَتْ إحْدَاهُمَا لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْإِيجَابِ وَلِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ مِنْهُ فَالْإِيجَابُ عَلَى إبْهَامِهِ وَلَا تَتَعَيَّنُ ضَرَّتُهَا لِلطَّلَاقِ ذَكَرَهُ فِي الزِّيَادَاتِ .
وَثَانِيَتُهَا مَا لَوْ قَالَ لَهَا : إذَا حَبِلْت فَأَنْتِ طَالِقٌ فَوَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ التَّعْلِيقِ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ ، فَكَذَا لَوْ كَانَ هَذَا فِي تَعْلِيقِ الْعَتَاقِ بِالْحَبَلِ .
وَثَالِثَتُهَا الْمُطَلَّقَةُ الرَّجْعِيَّةُ إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ لَا يَصِيرُ مُرَاجِعًا ، وَلَوْ كَانَتْ الْحَوَادِثُ تُضَافُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ لَثَبَتَتْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ : أَعْنِي الْبَيَانَ وَالطَّلَاقَ وَالرَّجْعَةَ .
قُلْنَا : الْحَوَادِثُ إنَّمَا تُضَافُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ إذَا لَمْ تَتَضَمَّنْ إبْطَالَ مَا كَانَ ثَابِتًا بِالدَّلِيلِ أَوْ تَرْكَ الْعَمَلِ بِالْمُقْتَضَى ، أَمَّا إذَا تَضَمَّنَتْ فَلَا ، فَمَتَى عَوَّلْت عَلَى مَا قُلْنَا ثُمَّ اسْتَقْرَيْت

الْمَسَائِلَ وَجَدْت الْأَمْرَ عَلَيْهِ ، فَفِي ثُبُوتِ الطَّلَاقِ فِي الصُّورَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ إبْطَالُ مَا كَانَ ثَابِتًا بِيَقِينٍ بِلَا يَقِينٍ ، وَفِي الرَّجْعَةِ كَذَلِكَ مَعَ الْعَمَلِ بِخِلَافِ الدَّلِيلِ الدَّالِ عَلَى اسْتِكْرَاهِ الرَّجْعَةِ بِغَيْرِ الْقَوْلِ .

( وَمَنْ قَالَ لِأَمَتِهِ إنْ كَانَ فِي بَطْنِك وَلَدٌ فَهُوَ مِنِّي فَشَهِدَتْ عَلَى الْوِلَادَةِ امْرَأَةٌ فَهِيَ أُمُّ وَلَدِهِ ) لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى تَعْيِينِ الْوَلَدِ ، وَيَثْبُتُ ذَلِكَ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ بِالْإِجْمَاعِ .
( قَوْلُهُ فَهِيَ أُمُّ وَلَدِهِ ) بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُودِ النَّسَبِ قَدْ وُجِدَ وَهُوَ الدَّعْوَةُ ، وَالْحَاجَةُ إلَى تَعْيِينِ الْوَلَدِ وَشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ حُجَّةٌ فِي ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ : أَيْ بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِنَا ، هَذَا إذَا وَلَدَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْإِقْرَارِ ، وَلَوْ وَلَدَتْهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ لَا يَلْزَمُهُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا حَبِلَتْ بَعْدَ مَقَالَةِ الْمَوْلَى فَلَمْ يَكُنْ الْمَوْلَى مُدَّعِيًا هَذَا الْوَلَدَ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ لَتَيَقَّنَّا بِقِيَامِهِ فِي الْبَطْنِ وَقْتَ الْقَوْلِ فَتَيَقَّنَّا بِالدَّعْوَى .

( وَمَنْ قَالَ لِغُلَامٍ هُوَ ابْنِي ثُمَّ مَاتَ فَجَاءَتْ أُمُّ الْغُلَامِ وَقَالَتْ أَنَا امْرَأَتُهُ فَهِيَ امْرَأَتُهُ وَهُوَ ابْنُهُ يَرِثَانِهِ ) وَفِي النَّوَادِرِ جُعِلَ هَذَا جَوَابُ الِاسْتِحْسَانِ ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا الْمِيرَاثُ لِأَنَّ النَّسَبَ كَمَا يَثْبُتُ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ يَثْبُتُ بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَبِالْوَطْءِ عَنْ شُبْهَةٍ وَبِمِلْكِ الْيَمِينِ ، فَلَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ إقْرَارًا بِالنِّكَاحِ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا إذَا كَانَتْ مَعْرُوفَةً بِالْحُرِّيَّةِ وَبِكَوْنِهَا أُمَّ الْغُلَامِ وَالنِّكَاحُ الصَّحِيحُ هُوَ الْمُتَعَيِّنُ لِذَلِكَ وَضْعًا وَعَادَةً ( وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّهَا حُرَّةٌ فَقَالَتْ الْوَرَثَةُ أَنْتِ أُمُّ وَلَدٍ فَلَا مِيرَاثَ لَهَا ) لِأَنَّ ظُهُورَ الْحُرِّيَّةِ بِاعْتِبَارِ الدَّارِ حُجَّةٌ فِي دَفْعِ الرِّقِّ لَا فِي اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( قَوْلُهُ يَرِثَانِهِ إلَخْ ) فَإِنْ قِيلَ : ثُبُوتُ النِّكَاحِ هُنَا اقْتِضَائِيٌّ فَيَثْبُتُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ وَهِيَ تَصْحِيحُ النَّسَبِ دُونَ الْإِرْثِ .
قُلْنَا : النِّكَاحُ غَيْرُ مُتَنَوِّعٍ إلَى مَا هُوَ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِ الْإِرْثِ وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ مَلْزُومٌ لِاسْتِحْقَاقِهِ ، وَإِذَا ثَبَتَ الشَّيْءُ ثَبَتَ بِلَازِمِهِ الشَّرْعِيِّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَازِمًا بِخِلَافِ نِكَاحِ الْأَمَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ .
( قَوْلُهُ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَفْرُوضَةٌ فِيمَا إذَا كَانَتْ مَعْرُوفَةً بِحُرِّيَّةِ الْأَصْلِ وَأَنَّهَا أُمُّ الْوَلَدِ ) وَإِذَا ثَبَتَ كَوْنُهَا حُرَّةً هِيَ أُمُّ ابْنِهِ لَزِمَ كَوْنُهُ مِنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ عَادَةً وَعُرْفًا لِأَنَّهُ الْمَوْضُوعُ لِحُصُولِ الْأَوْلَادِ دُونَ الْفَاسِدِ وَالْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ فَهُمَا احْتِمَالَانِ لَا يُعْتَبَرَانِ فِي مُقَابَلَةِ الظَّاهِرِ الْقَوِيِّ ، وَكَذَا احْتِمَالُ كَوْنِهِ طَلَّقَهَا فِي صِحَّتِهِ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ النِّكَاحُ وَجَبَ الْحُكْمُ بِقِيَامِهِ مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ زَوَالُهُ .
( قَوْلُهُ فَلَا مِيرَاثَ لَهَا ) قَالَ التُّمُرْتَاشِيُّ : وَلَكِنَّ لَهَا مَهْرَ الْمِثْلِ لِأَنَّهُمْ أَقَرُّوا بِالدُّخُولِ بِهَا وَلَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهَا أُمَّ وَلَدٍ بِقَوْلِهِمْ .
( قَوْلُهُ لَا فِي اسْتِحْقَاقِ الْإِرْثِ ) فَلَا يُقْضَى بِهِ كَالْمَفْقُودِ يُجْعَلُ حَيًّا فِي مَالِهِ حَتَّى لَا يَرِثَ غَيْرُهُ مِنْهُ لَا بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِ حَتَّى لَا يَرِثَ مَفْقُودٌ مِنْ أَحَدٍ .

بَابُ الْوَلَدِ مَنْ أَحَقُّ بِهِ ( وَإِذَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فَالْأُمُّ أَحَقُّ بِالْوَلَدِ ) لِمَا رُوِيَ { أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ ابْنِي هَذَا كَانَ بَطْنِي لَهُ وِعَاءً وَحِجْرِي لَهُ حِوَاءً وَثَدْيِي لَهُ سِقَاءً وَزَعَمَ أَبُوهُ أَنَّهُ يَنْزِعُهُ مِنِّي ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَتَزَوَّجِي } وَلِأَنَّ الْأُمَّ أَشْفَقُ وَأَقْدَرُ عَلَى الْحَضَانَةِ فَكَانَ الدَّفْعُ إلَيْهَا أَنْظَرَ ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الصِّدِّيقُ بِقَوْلِهِ : رِيقُهَا خَيْرٌ لَهُ مِنْ شَهْدٍ وَعَسَلٍ عِنْدَك يَا عُمَرُ ، قَالَهُ حِينَ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ وَالصَّحَابَةُ حَاضِرُونَ مُتَوَافِرُونَ ( وَالنَّفَقَةُ عَلَى الْأَبِ ) عَلَى مَا نَذْكُرُ ( وَلَا تُجْبَرُ الْأُمُّ عَلَيْهِ ) لِأَنَّهَا عَسَتْ تَعْجِزُ عَنْ الْحَضَانَةِ ( فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ أُمٌّ فَأُمُّ الْأُمِّ أَوْلَى مِنْ أُمِّ الْأَبِ وَإِنْ بَعُدَتْ ) لِأَنَّ هَذِهِ الْوِلَايَةَ تُسْتَفَادُ مِنْ قِبَلِ الْأُمَّهَاتِ ( فَإِنْ لَمْ تَكُنْ أُمَّ الْأُمِّ فَأُمُّ الْأَبِ أَوْلَى مِنْ الْأَخَوَاتِ ) لِأَنَّهَا مِنْ الْأُمَّهَاتِ ، وَلِهَذَا تَحَرَّزَ مِيرَاثُهُنَّ السُّدُسُ وَلِأَنَّهَا أَوْفَرُ شَفَقَةً لِلْوِلَادِ ( فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ جَدَّةٌ فَالْأَخَوَاتُ أَوْلَى مِنْ الْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ ) لِأَنَّهُنَّ بَنَاتُ الْأَبَوَيْنِ وَلِهَذَا قُدِّمْنَ فِي الْمِيرَاثِ .
وَفِي رِوَايَةِ الْخَالَةِ أَوْلَى مِنْ الْأُخْتِ لِأَبٍ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْخَالَةُ وَالِدَةٌ } وَقِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ } أَنَّهَا كَانَتْ خَالَتَهُ ( وَتُقَدَّمُ الْأُخْتُ لِأَبٍ وَأُمٍّ ) لِأَنَّهَا أَشْفَقُ ( ثُمَّ الْأُخْتُ مِنْ الْأُمِّ ثُمَّ الْأُخْتُ مِنْ الْأَبِ ) لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُنَّ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ ( ثُمَّ الْخَالَاتُ أَوْلَى مِنْ الْعَمَّاتِ ) تَرْجِيحًا لِقَرَابَةِ الْأُمِّ ( وَيَنْزِلْنَ كَمَا نَزَلْنَا الْأَخَوَاتُ ) مَعْنَاهُ تَرْجِيحُ ذَاتِ قَرَابَتَيْنِ ثُمَّ قَرَابَةٍ الْأُمِّ ( ثُمَّ الْعَمَّاتُ يَنْزِلْنَ كَذَلِكَ ،

وَكُلُّ مَنْ تَزَوَّجَتْ مِنْ هَؤُلَاءِ يَسْقُطُ حَقُّهَا ) لِمَا رَوَيْنَا ، وَلِأَنَّ زَوْجَ الْأُمِّ إذَا كَانَ أَجْنَبِيًّا يُعْطِيهِ نَزْرًا وَيَنْظُرُ إلَيْهِ شَزْرًا فَلَا نَظَرَ .
قَالَ ( إلَّا الْجَدَّةَ إذَا كَانَ زَوْجُهَا الْجَدُّ ) لِأَنَّهُ قَامَ مَقَامَ أَبِيهِ فَيَنْظُرُ لَهُ ( وَكَذَلِكَ كُلُّ زَوْجٍ هُوَ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ ) لِقِيَامِ الشَّفَقَةِ نَظَرًا إلَى الْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ ( وَمَنْ سَقَطَ حَقُّهَا بِالتَّزَوُّجِ يَعُودُ إذَا ارْتَفَعَتْ الزَّوْجِيَّةُ ) لِأَنَّ الْمَانِعَ قَدْ زَالَ .

( بَابُ الْوَلَدِ مَنْ أَحَقُّ بِهِ ) .
لَمَّا ذَكَرَ ثُبُوتَ نَسَبِ الْوَلَدِ عَقِيبَ أَحْوَالِ الْمُعْتَدَّةِ ذَكَرَ مَنْ يَكُونُ عِنْدَهُ الْوَلَدُ .
( قَوْلُهُ وَإِذَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ إلَخْ ) هُوَ عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي غَيْرِ مَا إذَا وَقَعَتْ بِرِدَّتِهَا لَحِقَتْ أَوْ لَا لِأَنَّهَا تُحْبَسُ وَتُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ ، فَإِنْ تَابَتْ فَهِيَ أَحَقُّ بِهِ وَمَا إذَا لَمْ تَكُنْ أَهْلًا لِلْحَضَانَةِ بِأَنْ كَانَتْ فَاسِقَةً أَوْ تَخْرُجُ كُلُّ وَقْتٍ وَتَتْرُكُ الْبِنْتَ ضَائِعَةً أَوْ كَانَتْ أَمَةً أَوْ أُمَّ وَلَدٍ أَوْ مُدَبَّرَةً أَوْ مُكَاتَبَةً وَلَدَتْ ذَلِكَ الْوَلَدَ قَبْلَ الْكِتَابَةِ أَوْ مُتَزَوِّجَةً بِغَيْرِ مُحَرَّمٍ ، وَمَا إذَا كَانَ الْأَبُ مُعْسِرًا وَأَبَتْ الْأُمُّ أَنْ تُرَبِّيَ إلَّا بِأَجْرٍ وَقَالَتْ : الْعَمَّةُ أَنَا أُرَبِّي بِغَيْرِ أَجْرٍ فَإِنَّ الْعَمَّةَ أَوْلَى هُوَ الصَّحِيحُ .
( قَوْلُهُ فَالْأُمُّ أَحَقُّ بِالْوَلَدِ ) بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كَانَتْ كِتَابِيَّةً أَوْ مَجُوسِيَّةً لِأَنَّ الشَّفَقَةَ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الدِّينِ ( قَوْلُهُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً ) فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو { أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ ابْنِي هَذَا كَانَ بَطْنِي لَهُ وِعَاءً ، وَثَدْيِي لَهُ سِقَاءً ، وَحِجْرِي لَهُ حِوَاءً ، وَإِنَّ أَبَاهُ طَلَّقَنِي وَأَرَادَ أَنْ يَنْزِعَهُ مِنِّي ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي } رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ ، وَعَمْرٌو هَذَا هُوَ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، فَإِذَا أَرَادَ بِجَدِّهِ مُحَمَّدًا كَانَ مُرْسَلًا ، وَإِذَا أَرَادَ بِهِ عَبْدَ اللَّهِ كَانَ مُتَّصِلًا ، فَمَا لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ يَصِيرُ مُحْتَمِلًا لِلْإِرْسَالِ وَالِاتِّصَالِ ، وَهُنَا نَصَّ عَلَى جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ .
وَحَجْرُ الْإِنْسَانِ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ ، وَالْحِوَاءُ بِالْكَسْرِ : بَيْتٌ مِنْ الْوَبَرِ وَالْجَمْعُ الْأَحْوِيَةُ ( قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الْأُمَّ

أَشْفَقُ عَلَيْهِ ) إبْدَاءٌ لِحِكْمَةِ خُصُوصِ هَذَا الشَّرْعِ ، وَإِنَّمَا كَانَتْ أَشْفَقَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ كَانَ جَزَاءً لَهَا حَقِيقَةً حَتَّى قَدْ يُقْرَضُ بِالْمِقْرَاضِ وَأَقْدَرَ عَلَى الْحَضَانَةِ لِتَبَتُّلِهَا بِمَصَالِحِهِ ، وَالرَّجُلُ أَقْدَرُ عَلَى الِاكْتِسَابِ فَلِذَا جُعِلَتْ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ هُوَ لَهُ مَالٌ وَجُعِلَ عِنْدَهَا .
وَقَوْلُهُ وَإِلَيْهِ أَشَارَ الصِّدِّيقُ إلَخْ يُشِيرُ إلَى مَا فِي مُوَطَّإِ مَالِكٍ : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ : كَانَتْ عِنْدَ عُمَرَ امْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَوَلَدَتْ لَهُ عَاصِمًا ، ثُمَّ فَارَقَهَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَرَكِبَ يَوْمًا إلَى قُبَاءَ فَوَجَدَ ابْنَهُ يَلْعَبُ بِفِنَاءِ الْمَسْجِدِ فَأَخَذَ بِعَضُدِهِ فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَى الدَّابَّةِ ، فَأَدْرَكَتْهُ جَدَّةُ الْغُلَامِ فَنَازَعَتْهُ إيَّاهُ ، فَأَقْبَلَا حَتَّى أَتَيَا أَبَا بَكْرٍ ، فَقَالَ عُمَرُ : هَذَا ابْنِي ، وَقَالَتْ الْمَرْأَةُ : ابْنِي ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : خَلِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا ، فَمَا رَاجَعَهُ عُمَرُ الْكَلَامَ .
وَكَذَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ ، وَزَادَ : ثُمَّ قَالَ أَبُو بَكْرٍ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { لَا تُوَلَّهُ وَالِدَةٌ عَنْ وَلَدِهَا } وَفِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ : حَدَّثَنَا ابْنُ إدْرِيسَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ الْقَاسِمِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ طَلَّقَ جَمِيلَةَ بِنْتَ عَاصِمِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الْأَفْلَحْ فَتَزَوَّجَتْ فَجَاءَ عُمَرُ فَأَخَذَ ابْنَهُ ، فَأَدْرَكَتْهُ شُمُوسٌ أُمُّ ابْنَةِ عَاصِمٍ الْأَنْصَارِيَّةُ وَهِيَ أُمُّ جَمِيلَةَ فَأَخَذَتْهُ فَتَرَافَعَا إلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ : خَلِّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ ابْنِهَا فَأَخَذَتْهُ .
وَلِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَيْضًا عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ طَلَّقَ أُمَّ عَاصِمٍ ثُمَّ أَتَى عَلَيْهَا وَفِي حِجْرِهَا عَاصِمٌ فَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهَا فَتَجَاذَبَاهُ بَيْنَهُمَا حَتَّى بَكَى الْغُلَامُ فَانْطَلَقَا إلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ لَهُ مَسْحُهَا وَحِجْرُهَا

وَرِيحُهَا خَيْرٌ لَهُ مِنْك حَتَّى يَشِبَّ الصَّبِيُّ فَيَخْتَارُ لِنَفْسِهِ .
( قَوْلُهُ وَالنَّفَقَةُ عَلَى الْأَبِ عَلَى مَا نَذْكُرُ ) أَيْ فِي بَابِ النَّفَقَةِ ، وَهَذَا إنْ كَانَ حَيًّا ، فَإِنْ كَانَ مَيِّتًا فَعَلَى ذِي الرَّحِمِ الْوَارِثِ عَلَى قَدْرِ الْمَوَارِيثِ ( قَوْلُهُ وَلَا تُجْبَرُ ) يَعْنِي إذَا طَلَبَتْ الْأُمُّ فَهِيَ أَحَقُّ بِهِ وَإِنْ أَبَتْ لَا تُجْبَرُ عَلَى الْحَضَانَةِ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَالثَّوْرِيِّ وَرِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ .
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَأَبِي ثَوْرٍ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ تُجْبَرُ .
وَاخْتَارَهُ أَبُو اللَّيْثِ وَالْهِنْدُوانِيُّ مِنْ مَشَايِخِنَا لِأَنَّ ذَلِكَ حَقُّ الْوَلَدِ ، قَالَ تَعَالَى { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } وَالْمُرَادُ الْأَمْرُ وَهُوَ الْوُجُوبُ ، وَالْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ : لَا تُجْبَرُ الشَّرِيفَةُ الَّتِي لَا عَادَةَ لَهَا بِالْإِرْضَاعِ ، وَتُجْبَرُ الَّتِي هِيَ مِمَّنْ تُرْضِعُ ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهَا أَوْ لَمْ يَأْخُذْ الْوَلَدُ ثَدْيَ غَيْرِهَا أُجْبِرَتْ بِلَا خِلَافٍ .
وَيُجْبَرُ الْأَبُ عَلَى أَخْذِ الْوَلَدِ بَعْدَ اسْتِغْنَائِهِ عَنْ الْأُمِّ لِأَنَّ نَفَقَتَهُ وَصِيَانَتَهُ عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ .
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى } وَإِذَا اخْتَلَفَا فَقَدْ تَعَاسَرَا فَكَانَتْ الْآيَةُ لِلنَّدْبِ أَوْ مَحْمُولَةً عَلَى حَالَةِ الِاتِّفَاقِ وَعَدَمِ التَّعَاسُرِ وَلِأَنَّهَا عَسَى أَنْ تَعْجِزَ عَنْهُ ، لَكِنَّ فِي الْكَافِي لِلْحَاكِمِ الشَّهِيدِ الَّذِي هُوَ جَمَعَ كَلَامَ مُحَمَّدٍ : لَوْ اخْتَلَعَتْ عَلَى أَنْ تَتْرُكَ وَلَدَهَا عِنْدَ الزَّوْجِ فَالْخُلْعُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ لِأَنَّ هَذَا حَقُّ الْوَلَدِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ أُمِّهِ كَانَ إلَيْهَا مُحْتَاجًا هَذَا لَفْظُهُ ، فَأَفَادَ أَنَّ قَوْلَ الْفَقِيهَيْنِ جَوَابُ الرِّوَايَةِ .
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى } فَلَيْسَ الْكَلَامُ فِي الْإِرْضَاعِ بَلْ فِي الْحَضَانَةِ .
قَالَ فِي التُّحْفَةِ : ثُمَّ الْأُمُّ وَإِنْ كَانَتْ أَحَقَّ بِالْحَضَانَةِ

فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا إرْضَاعُهُ لِأَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ النَّفَقَةِ ، وَنَفَقَةُ الْوَلَدِ عَلَى الْوَالِدِ إلَّا أَنْ لَا يُوجَدَ مَنْ تُرْضِعُهُ فَتُجْبَرُ .
( قَوْلُهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ ) أَيْ لَمْ تَكُنْ لَهُ أُمٌّ تَسْتَحِقُّ الْحَضَانَةَ بِأَنْ كَانَتْ غَيْرَ أَهْلٍ لِلْحَضَانَةِ أَوْ مُتَزَوِّجَةً بِغَيْرِ مُحَرَّمٍ أَوْ مَاتَتْ فَأُمُّ الْأُمِّ أَوْلَى مِنْ كُلِّ أَحَدٍ وَإِنْ عَلَتْ .
وَعَنْ أَحْمَدَ أُمُّ الْأَبِ أَوْلَى وَإِنْ اسْتَضْعَفَ بِأَنَّ أُمَّ الْأُمِّ تُدْلِي بِالْأُمِّ وَهِيَ الْمُقَدَّمَةُ عَلَى الْأَبِ ، فَمَنْ يُدْلِي بِهَا وِلَادًا أَحَقُّ مِمَّنْ يُدْلِي بِهِ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لِلْأُمِّ أُمٌّ فَأُمُّ الْأَبِ أَوْلَى مِمَّنْ سِوَاهَا وَإِنْ عَلَتْ .
وَعِنْدَ زُفَرَ الْأُخْتُ الشَّقِيقَةُ أَوْ الْخَالَةُ أَوْلَى مِنْهَا .
وَعَنْ مَالِكٍ الْخَالَةُ أَوْلَى مِنْ الْجَدَّةِ لِأَبٍ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّ عَلِيًّا وَجَعْفَرَ الطَّيَّارَ وَزَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ اخْتَصَمُوا فِي بِنْتِ حَمْزَةَ فَقَالَ عَلِيٌّ : أَنَا أَحَقُّ بِهَا هِيَ ابْنَةُ عَمِّي ، وَقَالَ زَيْدٌ : بِنْتُ أَخِي ، وَقَالَ جَعْفَرٌ : بِنْتُ عَمِّي وَخَالَتُهَا تَحْتِي ، فَقَضَى بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَالَتِهَا وَقَالَ : الْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ ، وَقَالَ لِعَلِيٍّ : أَنْتَ مِنِّي وَأَنَا مِنْك ، وَقَالَ لِجَعْفَرٍ : أَشْبَهْتَ خَلْقِي وَخُلُقِي ، وَقَالَ لِزَيْدٍ : أَنْتَ أَخُونَا وَمَوْلَانَا } وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَقَالَ فِيهِ { إنَّمَا الْخَالَةُ أُمٌّ } وَرَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَقَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ { وَأَمَّا أَنْتَ يَا زَيْدُ فَأَخُونَا وَمَوْلَانَا وَالْجَارِيَةُ عِنْدَ خَالَتِهَا ، فَإِنَّ الْخَالَةَ وَالِدَةٌ } قُلْنَا : هَذَا كُلُّهُ تَشْبِيهٌ ، فَيَحْتَمِلُ كَوْنَهُ فِي ثُبُوتِ الْحَضَانَةِ أَوْ غَيْرِهِ ، إلَّا أَنَّ السِّيَاقَ أَفَادَ إرَادَةَ الْأَوَّلِ فَيَبْقَى أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ فِي ثُبُوتِ أَصْلِ الْحَضَانَةِ أَوْ كَوْنِهَا أَحَقَّ بِهِ مِنْ كُلِّ مَنْ سِوَاهَا ، وَلَا دَلَالَةَ عَلَى الثَّانِي وَالْأَوَّلُ مُتَيَقِّنٌ فَيَثْبُتُ فَلَا يُفِيدُ الْحُكْمُ بِأَنَّهَا أَحَقُّ

مِنْ أَحَدٍ بِخُصُوصِهِ أَصْلًا مِمَّنْ لَهُ حَقٌّ فِي الْحَضَانَةِ فَيَبْقَى الْمَعْنَى الَّذِي عَنَيْنَاهُ بِلَا مُعَارِضٍ وَهُوَ أَنَّ الْجَدَّةَ أُمٌّ وَلِهَذَا تَحَرَّزَ مِيرَاثُ الْأُمِّ مِنْ السُّدُسِ ، وَغَلَبَةُ الشَّفَقَةِ تَتْبَعُ الْوِلَادَ ظَاهِرًا فَكَانَتْ مُقَدَّمَةً عَلَى الْأَخَوَاتِ وَالْخَالَاتِ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ جَدَّةً سُفْلَى وَلَا عُلْيَا فَالْأَخَوَاتُ أَوْلَى مِنْ الْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ لِأَنَّهُنَّ بَنَاتُ الْأَبَوَيْنِ وَأُولَئِكَ بَنَاتُ الْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ وَالشَّقِيقَةُ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهَا ، وَاَلَّتِي لِأُمٍّ أَوْلَى مِنْ الْأُخْتِ لِأَبٍ وَبَعْدَ الْأُخْتِ لِأَبِ الْخَالَةِ .
وَفِي رِوَايَةِ كِتَابِ الطَّلَاقِ : الْخَالَةُ أَوْلَى مِنْ الْأُخْتِ لِأَبٍ لِأَنَّهَا تُدْلِي بِالْأُمِّ وَتِلْكَ بِالْأَبِ .
وَفِي رِوَايَةِ كِتَابِ النِّكَاحِ : الْأُخْتُ لِأَبٍ أَوْلَى مِنْ الْخَالَةِ اعْتِبَارًا لِقُرْبِ الْقَرَابَةِ وَتَقْدِيمِ الْمُدْلِي بِالْأُمِّ عَلَى الْمُدْلِي بِالْأَبِ عِنْدَ اتِّحَادِ مَرْتَبَتِهِمَا قُرْبًا ، فَعَلَى رِوَايَةِ كِتَابِ النِّكَاحِ تُدْفَعُ بَعْدَ الْأُخْتِ لِأَبٍ إلَى بِنْتِ الْأُخْتِ الشَّقِيقَةِ ، ثُمَّ إلَى بِنْتِ الْأُخْتِ لِأُمٍّ ، ثُمَّ إلَى بِنْتِ الْأُخْتِ لِأَبٍ ، ثُمَّ إلَى الْخَالَةِ الشَّقِيقَةِ ، ثُمَّ إلَى الْخَالَةِ لِأُمٍّ ثُمَّ لِأَبٍ ، ثُمَّ الْعَمَّاتِ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ ، ثُمَّ إلَى خَالَةِ الْأُمِّ لِأَبٍ وَأُمٍّ ، ثُمَّ لِأُمٍّ ثُمَّ لِأَبٍ ، ثُمَّ إلَى عَمَّاتِهَا عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ ، وَخَالَةُ الْأُمِّ أَوْلَى مِنْ خَالَةِ الْأَبِ عِنْدَنَا ، ثُمَّ خَالَاتُ الْأَبِ وَعَمَّاتُهُ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ .
وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ أَوْلَادَ الْأَخَوَاتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَحَقُّ مِنْ الْخَالَاتِ وَالْعَمَّاتِ ، وَأَنَّ الْأُخْتَ لِأُمٍّ أَحَقُّ مِنْ وَلَدِ الْأُخْتِ الشَّقِيقَةِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ أَوْلَى مِنْ بَنَاتِ الْأَخِ لِأَنَّ بِنْتَ الْأُخْتِ تُدْلِي إلَى مَنْ لَهُ حَقُّ الْحَضَانَةِ ، وَأَمَّا بَنَاتُ الْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ وَالْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ فَبِمَعْزِلٍ عَنْ حَقِّ الْحَضَانَةِ لِأَنَّ قَرَابَتَهُنَّ لَمْ تَتَأَكَّدْ بِالْمَحْرَمِيَّةِ .
(

قَوْلُهُ لِمَا رَوَيْنَا ) وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا لَمْ تَتَزَوَّجِي } وَالنَّزْرُ الْقَلِيلُ وَالشَّزْرُ نَظَرُ الْبُغْضِ .
وَلَوْ ادَّعَى الْأَبُ أَنَّ الْأُمَّ تَزَوَّجَتْ وَأَنْكَرَتْ فَالْقَوْلُ لَهَا ، وَلَوْ أَقَرَّتْ بِالتَّزَوُّجِ إلَّا أَنَّهَا ادَّعَتْ الطَّلَاقَ وَعَوْدَ حَقِّهَا ، فَإِنْ لَمْ تُعَيِّنْ الزَّوْجَ فَالْقَوْلُ لَهَا ، وَإِنْ عَيَّنَتْهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا فِي دَعْوَى الطَّلَاقِ حَتَّى يُقِرَّ بِهِ الزَّوْجُ .

( فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لِلصَّبِيِّ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِهِ فَاخْتَصَمَ فِيهِ الرِّجَالُ فَأَوْلَاهُمْ أَقْرَبُهُمْ تَعْصِيبًا ) لِأَنَّ الْوِلَايَةَ لِلْأَقْرَبِ وَقَدْ عُرِفَ التَّرْتِيبُ فِي مَوْضِعِهِ ، غَيْرَ أَنَّ الصَّغِيرَةَ لَا تُدْفَعُ إلَى عَصَبَةٍ غَيْرِ مُحَرَّمٍ كَمَوْلَى الْعَتَاقَةِ وَابْنِ الْعَمِّ تَحَرُّزًا عَنْ الْفِتْنَةِ .

( قَوْلُهُ فَاخْتَصَمَ ) الْمَقْصُودُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلصَّغِيرِ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِهِ أَوْ وَجَبَ الِانْتِزَاعُ مِنْ النِّسَاءِ أَخَذَهُ الرِّجَالُ ، وَأَوْلَاهُمْ أَقْرَبُهُمْ تَعْصِيبًا لِأَنَّ الْوِلَايَةَ عَلَيْهِ بِالْقُرْبِ ، وَلِذَلِكَ إذَا اسْتَغْنَى عَنْ الْحَضَانَةِ كَانَ الْأَوْلَى بِحِفْظِهِ أَقْرَبَهُمْ تَعْصِيبًا ، وَقَدْ عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ : أَيْ فِي الْفَرَائِضِ ، وَأَوْلَى الْعُصُبَاتِ الْأَبُ ثُمَّ الْجَدُّ أَبُو الْأَبِ وَإِنْ عَلَا ، ثُمَّ الْأَخُ الشَّقِيقُ ، ثُمَّ الْأَبُ لِأَبٍ ، ثُمَّ ابْنُ الْأَخِ الشَّقِيقُ ، ثُمَّ ابْنُ الْأَخِ لِأَبٍ ، وَكَذَا كُلُّ مَنْ سَفَلَ مِنْ أَوْلَادِهِمْ ، ثُمَّ الْعَمُّ شَقِيقٌ لِأَبٍ ، ثُمَّ الْأَبُ .
فَأَمَّا أَوْلَادُ الْأَعْمَامِ فَإِنَّهُ يُدْفَعُ إلَيْهِمْ الْغُلَامُ فَيُبْدَأُ بِابْنِ الْعَمِّ لِأَبٍ وَأُمٍّ ، ثُمَّ ابْنُ الْعَمِّ لِأَبٍ ، وَلَا تُدْفَعُ الصَّغِيرَةُ إلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مَحَارِمَ وَإِنَّمَا يُدْفَعُ إلَيْهِمْ الْغُلَامُ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلصَّغِيرَةِ عُصْبَةٌ تُدْفَعُ إلَى الْأَخِ لِأُمٍّ ثُمَّ إلَى وَلَدِهِ ثُمَّ إلَى الْعَمِّ لِأُمٍّ ، ثُمَّ إلَى الْخَالِ لِأَبٍ وَأُمٍّ ، ثُمَّ لِأَبٍ ثُمَّ لِأُمٍّ ، لِأَنَّ لِهَؤُلَاءِ وِلَايَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي النِّكَاحِ .
وَيُدْفَعُ الذَّكَرُ إلَى مَوْلَى الْعَتَاقَةِ لِأَنَّهُ آخِرُ الْعُصُبَاتِ ، وَلَا تُدْفَعُ الْأُنْثَى إلَيْهِ .
وَلَوْ كَانَ فِي الْمَحَارِمِ مِنْ الْإِخْوَةِ وَالْأَعْمَامِ مَنْ لَا يُؤْمَنُ عَلَى صَبِيٍّ وَصَبِيَّةٍ لِفِسْقِهِ لَيْسَ لَهُ حَقٌّ فِي الْإِمْسَاكِ ، الْكُلُّ مِنْ الْكَافِي .
وَإِذَا اجْتَمَعَ مُسْتَحِقُّو الْحَضَانَةِ فِي دَرَجَةٍ كَإِخْوَةٍ وَأَعْمَامٍ فَأَصْلَحُهُمْ أَوْلَى ، فَإِنْ تَسَاوَوْا فَأَسَنُّهُمْ .
وَفِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَصَبَةً فَإِلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ عَلَى التَّرْتِيبِ .

( وَالْأُمُّ وَالْجَدَّةُ أَحَقُّ بِالْغُلَامِ حَتَّى يَأْكُلَ وَحْدَهُ وَيَشْرَبَ وَحْدَهُ وَيَلْبَسَ وَحْدَهُ وَيَسْتَنْجِيَ وَحْدَهُ .
وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : حَتَّى يُسْتَغْنَى فَيَأْكُلُ وَحْدَهُ وَيَشْرَبُ وَحْدَهُ وَيَلْبَسُ وَحْدَهُ ) وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ لِأَنَّ تَمَامَ الِاسْتِغْنَاءِ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الِاسْتِنْجَاءِ .
وَوَجْهُهُ أَنَّهُ إذَا اسْتَغْنَى يَحْتَاجُ إلَى التَّأَدُّبِ وَالتَّخَلُّقِ بِآدَابِ الرِّجَالِ وَأَخْلَاقِهِمْ ، وَالْأَبُ أَقْدَرُ عَلَى التَّأْدِيبِ وَالتَّثْقِيفِ ، وَالْخَصَّافُ قَدَّرَ الِاسْتِغْنَاءَ بِسَبْعِ سِنِينَ اعْتِبَارًا لِلْغَالِبِ ( وَالْأُمُّ وَالْجَدَّةُ أَحَقُّ بِالْجَارِيَةِ حَتَّى تَحِيضَ ) لِأَنَّ بَعْدَ الِاسْتِغْنَاءِ تَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ آدَابِ النِّسَاءِ وَالْمَرْأَةُ عَلَى ذَلِكَ أَقْدَرُ وَبَعْدَ الْبُلُوغِ تَحْتَاجُ إلَى التَّحْصِينِ وَالْحِفْظِ وَالْأَبُ فِيهِ أَقْوَى وَأَهْدَى .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهَا تُدْفَعُ إلَى الْأَبِ إذَا بَلَغَتْ حَدَّ الشَّهْوَةِ لِتَحَقُّقِ الْحَاجَةِ إلَى الصِّيَانَةِ .
( وَمَنْ سِوَى الْأُمِّ وَالْجَدَّةِ أَحَقُّ بِالْجَارِيَةِ حَتَّى تَبْلُغَ حَدًّا تُشْتَهَى ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : حَتَّى تَسْتَغْنِيَ ) لِأَنَّهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى اسْتِخْدَامِهَا ، وَلِهَذَا لَا تُؤَاجِرُهَا لِلْخِدْمَةِ فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ ، بِخِلَافِ الْأُمِّ وَالْجَدَّةِ لِقُدْرَتِهِمَا عَلَيْهِ شَرْعًا .

( قَوْلُهُ حَتَّى يَأْكُلَ إلَخْ ) الَّذِي فِي الْأَصْلِ حَتَّى يَأْكُلَ وَحْدَهُ وَيَشْرَبَ وَحْدَهُ وَيَلْبَسَ وَحْدَهُ .
وَفِي بَعْضِ نُسَخِ النَّوَادِرِ : وَيَسْتَنْجِي وَحْدَهُ ، فَضَمَّهُ الْمُصَنِّفُ إلَى مَا تَقَدَّمَ .
وَفِي نَوَادِرِ ابْنِ رَشِيدٍ : وَيَتَوَضَّأُ وَحْدَهُ .
وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَسْتَنْجِيَ وَحْدَهُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ لِيَحْصُلَ الِاسْتِغْنَاءُ .
ثُمَّ مِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ : الْمُرَادُ مِنْ الِاسْتِنْجَاءِ تَمَامُ الطَّهَارَةِ بِأَنْ يُطَهِّرَ وَجْهَهُ وَحْدَهُ بِلَا مُعِينٍ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : بَلْ مِنْ النَّجَاسَةِ ، وَإِلَّا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَمَامِ الطَّهَارَةِ .
( قَوْلُهُ وَالْخَصَّافُ رَحِمَهُ اللَّهُ قَدَّرَ الِاسْتِغْنَاءَ بِسَبْعِ سِنِينَ ) وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى كَذَا فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ ، لَا مَا قِيلَ : إنَّهُ يُقَدَّرُ بِتِسْعٍ لِأَنَّ الْأَبَ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَأْمُرَهُ بِالصَّلَاةِ إذَا بَلَغَهَا ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ إذَا كَانَ الْوَلَدُ عِنْدَهُ ، وَلَوْ اخْتَلَفَا فَقَالَ ابْنُ سَبْعٍ وَقَالَتْ ابْنُ سِتٍّ لَا يُحَلِّفُ الْقَاضِي أَحَدَهُمَا وَلَكِنْ يَنْظُرُ إنْ كَانَ يَأْكُلُ وَحْدَهُ وَيَلْبَسُ وَحْدَهُ دَفَعَ وَإِلَّا فَلَا .
( قَوْلُهُ وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهَا تُدْفَعُ إلَى الْأَبِ إذَا بَلَغَتْ حَدَّ الشَّهْوَةِ ) وَهِيَ رِوَايَةُ هِشَامٍ عَنْهُ .
وَفِي غِيَاثِ الْمُفْتِي الِاعْتِمَادُ عَلَى رِوَايَةِ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدٍ لِفَسَادِ الزَّمَانِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ مِثْلُهُ .
وَاخْتُلِفَ فِي حَدِّ الشَّهْوَةِ لِيُبْنَى عَلَيْهَا أَخْذَ الْأَبِ وَثُبُوتُ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ ، قَالُوا : بِنْتُ تِسْعٍ مُشْتَهَاةٌ ، وَخَمْسٍ لَيْسَتْ مُشْتَهَاةً ، وَسِتٍّ وَسَبْعٍ وَثَمَانٍ إنْ كَانَتْ عَبْلَةً مُشْتَهَاةٌ وَإِلَّا فَلَا .
( قَوْلُهُ وَمَنْ سِوَى الْأُمِّ وَالْجَدَّةِ ) يَعْنِي الْجَدَّتَيْنِ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ وَالْأَبِ .
( قَوْلُهُ لِأَنَّهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى اسْتِخْدَامِهَا ) شَرْعًا ، وَتَعْلِيمُ آدَابِ النِّسَاءِ مِنْ الْخَبْزِ وَالطَّبْخِ وَالْغَزْلِ وَغَسْلِ الثِّيَابِ إنَّمَا يَحْصُلُ بِالِاسْتِخْدَامِ (

بِخِلَافِ الْأُمِّ وَالْجَدَّةِ لِقُدْرَتِهِمَا عَلَيْهِ شَرْعًا ) وَلِذَا جَازَ أَنْ تُؤَاجِرَهَا .
قَالَ الْحَاكِمُ الْجَلِيلُ الشَّهِيدُ : فَإِنْ كَانَتْ الْبِكْرُ دَخَلَتْ فِي السِّنِّ وَاجْتَمَعَ عَقْلُهَا وَرَأْيُهَا وَأَخُوهَا مَخُوفٌ عَلَيْهَا فَلَهَا أَنْ تَنْزِلَ حَيْثُ أَحَبَّتْ فِي مَكَان لَا يُتَخَوَّفُ عَلَيْهَا .

قَالَ ( وَالْأَمَةُ إذَا أَعْتَقَهَا مَوْلَاهَا وَأُمُّ الْوَلَدِ إذَا أُعْتِقَتْ كَالْحُرَّةِ فِي حَقِّ الْوَلَدِ ) لِأَنَّهُمَا حُرَّتَانِ أَوَانَ ثُبُوتَ الْحَقِّ ( وَلَيْسَ لَهُمَا قَبْلَ الْعِتْقِ حَقٌّ فِي الْوَلَدِ لِعَجْزِهِمَا ) عَنْ الْحَضَانَةِ بِالِاشْتِغَالِ بِخِدْمَةِ الْمَوْلَى ( وَالذِّمِّيَّةُ أَحَقُّ بِوَلَدِهَا الْمُسْلِمِ مَا لَمْ يَعْقِلْ الْأَدْيَانَ أَوْ يَخَفْ أَنْ يَأْلَفَ الْكُفْرَ ) لِلنَّظَرِ قَبْلَ ذَلِكَ وَاحْتِمَالِ الضَّرَرِ بَعْدَهُ ( وَلَا خِيَارَ لِلْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَهُمَا الْخِيَارُ لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَيَّرَ .
وَلَنَا أَنَّهُ لِقُصُورِ عَقْلِهِ يَخْتَارُ مَنْ عِنْدَهُ الدَّعَةُ لِتَخْلِيَتِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّعِبِ فَلَا يَتَحَقَّقُ النَّظَرُ ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يُخَيِّرُوا ، أَمَّا الْحَدِيثُ فَقُلْنَا قَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { اللَّهُمَّ اهْدِهِ } فَوُفِّقَ لِاخْتِيَارِهِ الْأَنْظَرَ بِدُعَائِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى مَا إذَا كَانَ بَالِغًا .

( قَوْلُهُ وَالْأَمَةُ إذَا أَعْتَقَهَا مَوْلَاهَا وَأُمُّ الْوَلَدِ إذَا أُعْتِقَتْ كَالْحُرَّةِ فِي حَقِّ الْوَلَدِ ) وَحَالُ الْحُرَّةِ فِيهِ أَنَّهُ إنْ كَانَ الْوَلَدُ رَقِيقًا كَانَ مَوْلَاهُ أَحَقَّ بِهِ مِنْهَا ، وَإِنْ كَانَ حُرًّا كَانَتْ أَحَقَّ بِهِ مِنْ الزَّوْجِ بَعْدَ الطَّلَاقِ ، وَمِنْ مَوْلَاهُ إنْ كَانَ لَهُ مَوْلًى أَعْتَقَهُ ، وَمِنْ مَوْلَاهَا إنْ كَانَ ابْنُهَا مِنْهُ قَبْلَ عِتْقِهَا ، وَلَوْ فَارَقَهَا زَوْجُهَا وَهِيَ أَمَةٌ فَالْوَلَدُ لِمَوْلَاهَا وَهُوَ أَوْلَى بِهِ مِنْ الْأَبِ لِأَنَّهُ مَمْلُوكُهُ ، وَكَذَا إذَا كَانَ الزَّوْجُ حُرًّا وَلَمْ يُفَارِقْ أُمَّهُ فَالْمَوْلَى أَحَقُّ بِالْوَلَدِ لَكِنْ لَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُمِّهِ لِلنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ ، ذَكَرَهُ فِي الْكَافِي .
وَفِي التُّحْفَةِ : الْمُكَاتَبَةُ إنْ وَلَدَتْ قَبْلَ الْكِتَابَةِ لَا حَقَّ لَهَا ، وَإِنْ وَلَدَتْ بَعْدَهُ فَهِيَ أَوْلَى بِهِ لِدُخُولِهِ تَحْتَ الْكِتَابَةِ .
( قَوْلُهُ وَيَخَافُ ) بِالرَّفْعِ اسْتِئْنَافًا .
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ : أَوْ يَخَفْ بِالْجَزْمِ عَطْفًا عَلَى يَعْقِلْ ، وَتُمْنَعُ أَنْ تُغَذِّيَهُ الْخَمْرَ أَوْ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ ، وَإِنْ خِيفَ ضُمَّ إلَى نَاسٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ .
وَيُرْوَى بِالنَّصْبِ أَيْضًا عَلَى مَعْنَى إلَى أَنْ يُخَافَ مِثْلُهُ فِي قَوْلِهِ لَأَلْزَمَنَّكَ أَوْ تَقْضِيَنِي حَقِّي ، وَلَكِنَّ هَذَا فِي أَوْ لَا الْوَاوِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَرِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ لَا حَضَانَةَ لَهَا ، وَالْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ كَقَوْلِنَا وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَأَبِي ثَوْرٍ .
وَقَوْلُهُ لِلنَّظَرِ قَبْلَ ذَلِكَ دَافِعٌ لِقَوْلِهِمْ .
وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْأَنْظَرَ لِلصَّغِيرِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الْأُمِّ لِوُفُورِ شَفَقَتِهَا وَزِيَادَةِ قُدْرَتِهَا عَلَى التَّبَتُّلِ بِمُلَاحَظَتِهِ وَمَصَالِحِهِ وَمَا فِيهِ مِنْ احْتِمَالِ الضَّرَرِ الدِّينِيِّ يَرْتَفِعُ بِمَا ذَكَرْنَا .
( قَوْلُهُ وَلَا خِيَارَ لِلْغُلَامِ ) يَعْنِي إذَا بَلَغَ السِّنَّ الَّذِي يَكُونُ الْأَبُ أَحَقَّ بِهِ كَسَبْعٍ مَثَلًا أَخَذَهُ الْأَبُ وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى اخْتِيَارِ الْغُلَامِ ذَلِكَ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ

يُخَيَّرُ الْغُلَامُ فِي سَبْعٍ أَوْ ثَمَانٍ .
وَعِنْدَ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ يُخَيَّرُ فِي سَبْعٍ ، فَإِذَا اخْتَارَ أَحَدُهُمَا وَسَلَّمَ إلَيْهِ ثُمَّ اخْتَارَ الْآخَرُ فَلَهُ ذَلِكَ ، فَإِنْ عَادَ وَاخْتَارَ الْأَوَّلُ أُعِيدَ إلَيْهِ هَكَذَا أَبَدًا .
قَالَ فِي الْمُغْنِي : وَهَذَا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ ، وَالْمَعْتُوهُ لَا يُخَيَّرُ وَيَكُونُ عِنْدَ الْأُمِّ .
( قَوْلُهُ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيَّرَ ) أَخْرَجَ الْأَرْبَعَةُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خَيَّرَ غُلَامًا بَيْنَ أَبِيهِ وَأُمِّهِ } .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَلِأَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ فِيهِ قِصَّةٌ لِأَبِي هُرَيْرَةَ قَبْلَ أَنْ يُرْوَى الْحَدِيثُ حَاصِلُهَا أَنَّهُ خَيَّرَ غُلَامًا فِي وَاقِعَةٍ رُفِعَتْ إلَيْهِ ثُمَّ رُوِيَ الْحَدِيثُ ، وَلَفْظَهُ { سَمِعْتُ امْرَأَةً جَاءَتْ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا قَاعِدٌ عِنْدَهُ فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ زَوْجِي يُرِيدُ أَنْ يَذْهَبَ بِابْنِي وَقَدْ سَقَانِي مِنْ بِئْرِ أَبِي عِنَبَةَ وَقَدْ نَفَعَنِي ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اسْتَهِمَا عَلَيْهِ ، فَقَالَ زَوْجُهَا : مَنْ يُحَاقُّنِي فِي وَلَدِي ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هَذَا أَبُوكَ وَهَذِهِ أُمُّكَ فَخُذْ بِيَدِ أَيِّهِمَا شِئْتَ ، فَأَخَذَ بِيَدِ أُمِّهِ فَانْطَلَقَتْ بِهِ } وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ بِالْمَعْنَى عَلَى عَدَمِ التَّخْيِيرِ وَهُوَ ظَاهِرٌ .
وَأَجَابَ عَنْ الْحَدِيثِ بِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا أَنْ يُوَفَّقَ لِاخْتِيَارِ الْأَنْظَرِ عَلَى مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي الطَّلَاقِ وَالنَّسَائِيُّ فِي الْفَرَائِضِ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رَافِعِ بْنِ سِنَانٍ { أَنَّهُ أَسْلَمَ وَأَبَتْ امْرَأَتُهُ أَنْ تُسْلِمَ ، فَجَاءَا بِابْنٍ لَهُمَا صَغِيرٍ لَمْ يَبْلُغْ فَأَجْلَسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَبَ هُنَا وَالْأُمَّ هُنَا ثُمَّ خَيَّرَهُ وَقَالَ :

اللَّهُمَّ اهْدِهِ ، فَذَهَبَ إلَى أَبِيهِ } وَفِي لَفْظٍ آخَرَ { أَنَّهُ أَسْلَمَ وَأَبَتْ امْرَأَتُهُ أَنْ تُسْلِمَ ، فَأَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ ابْنَتِي وَهِيَ فَطِيمٌ ، وَقَالَ رَافِعٌ ابْنَتِي ، فَأَقْعَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأُمَّ نَاحِيَةً وَالْأَبَ نَاحِيَةً وَأَقْعَدَ الصَّبِيَّةَ نَاحِيَةً وَقَالَ لَهُمَا اُدْعُوَاهَا ، فَمَالَتْ الصَّبِيَّةُ إلَى أُمِّهَا ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اللَّهُمَّ اهْدِهَا فَمَالَتْ إلَى أَبِيهَا فَأَخَذَهَا } وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَاصِمٍ النَّبِيلِ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ وَسَمَّى الْبِنْتَ عُمَيْرَةَ .
وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ عُلَيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَبِي سَلَمَةَ { أَنَّ أَبَوَيْنِ اخْتَصَمَا فِي وَلَدٍ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدُهُمَا كَافِرٌ ، فَخَيَّرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَوَجَّهَ إلَى الْكَافِرِ ، فَقَالَ : اللَّهُمَّ اهْدِهِ ، فَتَوَجَّهَ إلَى الْمُسْلِمِ فَقَضَى لَهُ بِهِ } قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ بَعْدَ ذِكْرِ الرِّوَايَتَيْنِ : اُخْتُلِفَ فِي أَنَّهُ غُلَامٌ أَوْ جَارِيَةٌ وَلَعَلَّهُمَا قَضِيَّتَانِ .
قَالَ : وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ أَبَوَيْهِ اخْتَصَمَا فِيهِ .
رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَرَوَاهُ غَيْرُهُ ، وَقَالَ : فِيهِ عَبْدُ الْحَمِيدِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ سَلَمَةَ ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ لِأَنَّ عَبْدَ الْحَمِيدِ بْنَ سَلَمَةَ وَأَبَاهُ وَجَدَّهُ لَا يَعْرِفُونَ ، وَلَوْ صَحَّتْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ خِلَافًا لِرِوَايَةِ أَصْحَابِ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ فَإِنَّهُمْ ثِقَاتٌ ، وَهُوَ وَأَبُوهُ ثِقَتَانِ وَجَدُّهُ رَافِعُ بْنُ سِنَانٍ مَعْرُوفٌ ، وَأَفَادَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ جَدُّ أَبِيهِ

، قَالَ : فَإِنَّهُ عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ سِنَانٍ ، وَنَحْنُ نَقُولُ : إنَّهُ إذَا اخْتَارَ مَنْ اخْتَارَهُ الشَّرْعُ دَفَعَ لَهُ ، لَكِنَّ الْوُقُوفَ عَلَى ذَلِكَ مُتَعَذَّرٌ بِتَخْيِيرِ غَيْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ دُعَائِهِ فَيَجِبُ بَعْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتِبَارُ مَظِنَّةِ الْأَنْظَرِيَّةِ وَهُوَ فِيمَا قُلْنَا .
ثَانِيهِمَا : أَنَّهُ كَانَ بَالِغًا بِدَلِيلِ الِاسْتِقَاءِ مِنْ بِئْرِ أَبِي عِنَبَةَ وَمَنْ دُونَ الْبُلُوغِ لَا يُرْسَلُ إلَى الْآبَارِ لِلِاسْتِقَاءِ لِلْخَوْفِ عَلَيْهِ مِنْ السُّقُوطِ فِيهِ لِقِلَّةِ عَقْلِهِ وَعَجْزِهِ عَنْهُ غَالِبًا ، وَنَحْنُ نَقُولُ : إذَا بَلَغَ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالسُّكْنَى وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ أَيِّهِمَا أَرَادَ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَبْلُغَ سَفِيهًا مُفْسِدًا فَحِينَئِذٍ يَضُمُّهُ إلَى نَفْسِهِ اعْتِبَارًا لِنَفْسِهِ بِمَالِهِ ، وَلَا نَفَقَةَ لَهُ عَلَى الْأَبِ إلَّا أَنْ يَتَطَوَّعَ .
أَمَّا الْجَارِيَةُ فَإِنْ بَلَغَتْ بِكْرًا ضَمَّهَا إلَى نَفْسِهِ ، وَإِنْ بَلَغَتْ ثَيِّبًا فَلَهَا أَنْ تَنْفَرِدَ بِالسُّكْنَى إلَّا أَنْ تَكُونَ غَيْرَ مَأْمُونَةٍ عَلَى نَفْسِهَا لَا يَوْثُقُ بِهَا فَلِلْأَبِ أَنْ يَضُمَّهَا إلَيْهِ ، وَكَذَا الْأَخُ ، وَلِلْعَمِّ الضَّمُّ إذَا لَمْ يَكُنْ مُفْسِدًا ، وَإِنْ كَانَ فَحِينَئِذٍ يَضَعُهَا الْقَاضِي عِنْدَ امْرَأَةٍ ثِقَةٍ ، وَلِهَذَا صَحَّ أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَمْ يُخَيِّرُوا عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قِصَّةِ عُمَرَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ ، وَمَا أَسْنَدَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ خَيَّرَ ابْنًا بَيْنَ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَاخْتَارَ أُمَّهُ فَانْطَلَقَتْ بِهِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ عَرَفَ مَيْلَ الِابْنِ إلَى أُمِّهِ وَهِيَ فِي الْوَاقِعِ أَحَقُّ بِحَضَانَتِهِ فَأَحَبَّ تَطْيِيبَ قَلْبِ الْأَبِ مِنْ غَيْرِ مُخَالَفَةٍ لِلشَّرْعِ فَخَيَّرَهُ ، يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَمْ يُرَاجِعْ أَبَا بَكْرٍ الْكَلَامَ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ عَدَمَ الْمُرَاجَعَةِ لَيْسَ دَلِيلًا لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ إمَامًا يَجِبُ نَفَاذُ مَا

يَحْكُمُ بِهِ مِنْ رَأْيِهِ وَإِنْ خَالَفَ رَأْيَ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ ، فَالْوَجْهُ مَا ذَكَرْنَا لِيُوَافِقَ الْمَرْوِيَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا قَدَّمْنَاهُ أَوَّلَ الْبَابِ .

فَصْلٌ ( وَإِذَا أَرَادَتْ الْمُطَلَّقَةُ أَنْ تَخْرُجَ بِوَلَدِهَا مِنْ الْمِصْرِ فَلَيْسَ لَهَا ذَلِكَ ) لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِالْأَبِ ( إلَّا أَنْ تَخْرُجَ بِهِ إلَى وَطَنِهَا وَقَدْ كَانَ الزَّوْجُ تَزَوَّجَهَا فِيهِ ) لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْمَقَامَ فِيهِ عُرْفًا وَشَرْعًا ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ تَأَهَّلَ بِبَلْدَةٍ فَهُوَ مِنْهُمْ } وَلِهَذَا يَصِيرُ الْحَرْبِيُّ بِهِ ذِمِّيًّا ، وَإِنْ أَرَادَتْ الْخُرُوجَ إلَى مِصْرٍ غَيْرِ وَطَنِهَا وَقَدْ كَانَ التَّزَوُّجُ فِيهِ أَشَارَ فِي الْكِتَابِ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا ذَلِكَ ، وَهَذَا رِوَايَةُ كِتَابِ الطَّلَاقِ ، وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ لَهَا ذَلِكَ لِأَنَّ الْعَقْدَ مَتَى وُجِدَ فِي مَكَان يُوجِبُ أَحْكَامَهُ فِيهِ كَمَا يُوجِبُ الْبَيْعُ التَّسْلِيمَ فِي مَكَانِهِ ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ حَقُّ إمْسَاكِ الْأَوْلَادِ .
وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ التَّزَوُّجَ فِي دَارِ الْغُرْبَةِ لَيْسَ الْتِزَامًا لِلْمُكْثِ فِيهِ عُرْفًا ، وَهَذَا أَصَحُّ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا : الْوَطَنُ وَوُجُودُ النِّكَاحِ ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ بَيْنَ الْمِصْرَيْنِ تَفَاوُتٌ ، أَمَّا إذَا تَقَارَبَا بِحَيْثُ يُمْكِنُ لِلْوَالِدِ أَنْ يُطَالِعَ وَلَدَهُ وَيَبِيتَ فِي بَيْتِهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ ، وَكَذَا الْجَوَابُ فِي الْقَرْيَتَيْنِ ، وَلَوْ انْتَقَلَتْ مِنْ قَرْيَةِ الْمِصْرِ إلَى الْمِصْرِ لَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّ فِيهِ نَظَرًا لِلصَّغِيرِ حَيْثُ يَتَخَلَّقُ بِأَخْلَاقِ أَهْلِ الْمِصْرِ وَلَيْسَ فِيهِ ضَرَرٌ بِالْأَبِ ، وَفِي عَكْسِهِ ضَرَرٌ بِالصَّغِيرِ لِتَخَلُّقِهِ بِأَخْلَاقِ أَهْلِ السَّوَادِ فَلَيْسَ لَهَا ذَلِكَ .

( فَصْلٌ ) .
إذَا ثَبَتَ حَقُّ الْحَضَانَةِ لِلْأُمِّ فَأَرَادَتْ أَنْ تَخْرُجَ بِالْوَلَدِ إلَى بَلَدٍ آخَرَ وَالنِّكَاحُ قَائِمٌ كَانَ لِلزَّوْجِ مَنْعُهَا لِأَنَّ حَقَّ السُّكْنَى لَهُ بَعْدَ إيفَاءِ مُعَجَّلِ الْمَهْرِ خُصُوصًا بَعْدَمَا خَرَجَتْ مَعَهُ ، وَإِنْ كَانَتْ بَائِنَةً وَقَدْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَلَا يَخْلُو مِنْ كَوْنِ الْبَلْدَةِ الَّتِي تُرِيدُ الْخُرُوجَ إلَيْهَا بَلَدَهَا وَقَدْ وَقَعَ الْعَقْدُ فِيهَا أَوَّلًا ، فَفِي الْأَوَّلِ لَيْسَ لِلْأَبِ مَنْعُهَا وَإِنْ بَعُدَتْ كَالْكُوفَةِ مِنْ الشَّامِّ إلَّا أَنْ تَكُونَ دَارَ حَرْبٍ وَهُوَ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ وَإِنْ كَانَتْ هِيَ حَرْبِيَّةً ، وَلَوْ كَانَ كِلَاهُمَا مُسْتَأْمَنًا جَازَ لَهَا ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا عَقَدَ النِّكَاحَ بِهِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُقِيمُ بِهِ غَيْرَ أَنَّهُ إذَا خَرَجَ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَدْ أَعْطَاهَا الْمَهْرَ وَجَبَ عَلَيْهَا الْمُتَابَعَةُ أَوْ تَابَعَتْهُ بِلَا وُجُوبٍ .
وَإِذَا زَالَتْ الزَّوْجِيَّةُ لَمْ تَجِبْ الْمُتَابَعَةُ فَيَعُودُ الْأَمْرُ إلَى الْأَوَّلِ ، وَلَوْ كَانَتْ الْأَوْلَادُ غَيْبًا بِأَنْ تَزَوَّجَهَا مَثَلًا بِالْبَصْرَةِ فَوَلَدَتْ لَهُ أَوْلَادًا فَخَرَجَ بِهِمْ إلَى الْكُوفَةِ ثُمَّ طَلَّقَهَا فَخَاصَمَتْهُ فِيهِمْ لِيَرُدَّهُمْ إلَيْهَا ، فَإِنْ أَخْرَجَهُمْ بِإِذْنِهَا لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَجِيءَ بِهِمْ إلَيْهَا وَيُقَالُ لَهَا اذْهَبِي إلَيْهِمْ فَخُذِيهِمْ ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَجِيءَ بِهِمْ إلَيْهَا .
وَفِي الثَّانِي لَهُ مَنْعُهَا سَوَاءٌ كَانَ مِصْرَهَا وَلَمْ يَعْقِدْ فِيهِ أَوْ عَقَدَ فِيهِ وَلَيْسَ مِصْرَهَا عَلَى أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ كَمَا سَيَذْكُرُهُ الْمُصَنِّفُ إلَّا أَنْ تَخْرُجَ إلَى مِصْرٍ قَرِيبٍ ، بِحَيْثُ لَوْ خَرَجَ الْأَبُ لِمُطَالَعَةِ الْوَلَدِ أَمْكَنَهُ أَنْ يَبِيتَ فِي أَهْلِهِ أَوْ قَرْيَتِهِ كَذَلِكَ وَكَانَ الْعَقْدُ فِي قَرْيَةٍ لِأَنَّهُ كَالِانْتِقَالِ مِنْ حَارَةٍ إلَى حَارَةٍ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْعَقْدُ فِي قَرْيَةٍ بَلْ مِصْرٍ فَلَيْسَ لَهَا إخْرَاجُهُ إلَى الْقَرْيَةِ الْقَرِيبَةِ ، هَذَا فِيمَا بَيْنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ .
أَمَّا لَوْ كَانَتْ الْأُمُّ مَاتَتْ

وَصَارَتْ الْحَضَانَةُ لِلْجَدَّةِ فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَنْتَقِلَ بِالْوَلَدِ إلَى مِصْرِهَا لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا عَقْدٌ ، وَكَذَا أُمُّ الْوَلَدِ إذَا أُعْتِقَتْ لَا تُخْرِجُ الْوَلَدَ مِنْ الْمِصْرِ الَّذِي فِيهِ الْغُلَامُ لِأَنَّهُ لَا عَقْدَ بَيْنَ الْأَبِ وَأُمِّ الْوَلَدِ .
وَلِنَتَكَلَّمْ عَلَى فُصُولِ الْكِتَابِ .
( قَوْلُهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) فِي مُسْنَدِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ : حَدَّثَنَا الْمُعَلَّى بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ إبْرَاهِيمَ الْأَزْدِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي ذِئَابٍ ، أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَلَّى بِمِنًى أَرْبَعًا ثُمَّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ تَأَهَّلَ فِي بَلْدَةٍ فَهُوَ مِنْ أَهْلِهَا يُصَلِّي صَلَاةَ الْمُقِيمِ } وَإِنِّي تَأَهَّلْت مُنْذُ قَدِمْت مَكَّةَ ، وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى كَذَلِكَ وَلَفْظُهُ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { إذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ بِبَلَدٍ فَهُوَ مِنْ أَهْلِهِ } وَإِنَّمَا أَتْمَمْت لِأَنِّي تَزَوَّجْت بِهَا مُنْذُ قَدِمْتهَا .
وَقَدْ ضُعِّفَ عِكْرِمَةُ الْأَزْدِيُّ .
( وَلِهَذَا يَصِيرُ الْحَرْبِيُّ بِهِ ذِمِّيًّا ) ظَاهِرُهُ أَنَّ بِالتَّزَوُّجِ يَصِيرُ الْحَرْبِيُّ ذِمِّيًّا وَدَفَعَ فِي الْكَافِي بِأَنَّهُ خِلَافُ الْمُصَرَّحِ بِهِ بَلْ لَا يَصِيرُ الْحَرْبِيُّ بِالتَّزَوُّجِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ذِمِّيًّا لِأَنَّهُ لَا يَسْتَلْزِمُ الْتِزَامَ الْمَقَامِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الطَّلَاقِ وَالْعَوْدِ ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي الْحَرْبِيَّةِ إذَا تَزَوَّجَتْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ تَصِيرُ ذِمِّيَّةً لِعَدَمِ كَوْنِ الطَّلَاقِ فِي يَدِهَا فَيَكُونُ الْتِزَامًا وَإِنَّمَا يَصِحُّ بِحَمْلِ الْحَرْبِيِّ عَلَى إرَادَةِ الشَّخْصِ الْحَرْبِيِّ فَيَصِحُّ مُرَادًا بِهِ الْحَرْبِيَّةُ وَبِتَجْوِيزِ أَنْ يَكُونَ مَرْجِعُ الضَّمِيرِ الْتِزَامَ الْمَقَامِ .
قَالَ : وَهُوَ ظَاهِرٌ لَوْ سِيقَ الْكَلَامُ لَهُ .
وَفِي النِّهَايَةِ : وَجَدْت بِخَطِّ شَيْخِي لَيْسَ فِي النُّسْخَةِ الَّتِي قُوبِلَتْ مَعَ نُسْخَةِ الْمُصَنِّفِ هَذِهِ الْجُمْلَةُ

بَلْ اتَّصَلَ قَوْلُهُ وَإِنْ أَرَادَتْ الْخُرُوجَ بِقَوْلِهِ فَهُوَ مِنْهُمْ ، وَمَا ذَكَرَ هُنَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَقَعَ سَهْوًا انْتَهَى .
وَعَلَى هَذَا لَا حَاجَةَ إلَى تَكَلُّفِ تَوْجِيهِهِ بِمَا قُلْنَا وَبِغَيْرِهِ ، وَتَحْمِيلُ الْمُصَنِّفِ إيَّاهُ مَعَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ مَرْجِعَ الضَّمِيرِ إنْ كَانَ التَّزَوُّجُ فَهُوَ تَزَوُّجُ الرَّجُلِ فَلَا يَصِحُّ الِاسْتِيضَاحُ بِتَزَوُّجِ الْمَرْأَةِ الْحَرْبِيَّةِ عَلَى صَيْرُورَتِهِ مِنْ أَهْلِهَا ، وَالْحَالُ أَنَّ صَيْرُورَتَهَا كَذَلِكَ لِأَمْرٍ يَخُصُّهَا لَا يُوجَدُ فِي حَقِّهِ ، وَإِنْ كَانَ الْتِزَامَ الْمَقَامِ فَلَيْسَ السَّوْقُ لِإِثْبَاتِهِ .
( قَوْلُهُ أَشَارَ فِي الْكِتَابِ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ وَقِيلَ الْمَبْسُوطُ ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّهُ مُعْتَادُ الْمُصَنِّفِ ، وَلَا يُسْتَفَادُ الثَّانِي لِعَدَمِ الْمَعْهُودِيَّةِ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ قَوْلَهُ إلَّا أَنْ تَخْرُجَ بِهَا إلَى وَطَنِهَا يُفِيدُ أَنَّ غَيْرَهُ دَاخِلٌ فِي الْحَظْرِ ، وَاَلَّذِي وَقَعَ فِيهِ التَّزَوُّجُ غَيْرُ وَطَنِهَا .
وَقَوْلُهُ وَهُوَ رِوَايَةُ كِتَابِ الطَّلَاقِ : أَيْ مِنْ الْأَصْلِ ، وَفِي الْعَكْسِ وَهُوَ مَا إذَا أَرَادَتْ الِانْتِقَالَ إلَى مِصْرِهَا وَلَمْ يَقَعْ فِيهِ الْعَقْدُ لَمْ يَكُنْ لَهَا الِانْتِقَالُ بِهِ بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ .
( قَوْلُهُ كَمَا يُوجِبُ الْبَيْعُ التَّسْلِيمَ فِي مَكَانِهِ ) أَيْ إذَا كَانَ الْمَبِيعُ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ لَا مُطْلَقًا ، فَإِنَّ فِي الْفَتَاوَى : مَنْ بَاعَ شَعِيرًا وَالشَّعِيرُ فِي الْقَرْيَةِ وَالْمُشْتَرِي يَعْلَمُ ذَلِكَ يَسْتَحِقُّ تَسْلِيمَهُ فِي مَكَانِهِ لَا فِي مَكَانِ الْعَقْدِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ تَسَلَّمَهُ فِي مَكَانِهِ وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ ، وَلَوْ تَعَيَّنَ مَكَانُ الْعَقْدِ لَمْ يَكُنْ لَهُ خِيَارٌ فَكَذَا حَقُّ إمْسَاكِ الْأَوْلَادِ لِأَنَّ الْأَوْلَادَ مِنْ ثَمَرَاتِ النِّكَاحِ فَيَجِبُ مُرَاعَاةُ الثَّمَرَاتِ فِي مَكَانِ الْعَقْدِ اعْتِبَارًا لِلثَّمَرَاتِ بِالْأَحْكَامِ مِنْ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ .
( قَوْلُهُ تَفَاوُتٌ ) أَيْ بُعْدٌ ، وَفِي عَكْسِهِ وَهُوَ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ الْمِصْرِ

إلَى الْقَرْيَةِ لَا يَجُوزُ ، وَإِنْ كَانَتْ الْقَرْيَةُ قَرِيبَةً إلَّا إذَا وَقَعَ الْعَقْدُ فِيهَا وَهِيَ قَرْيَتُهَا فَحِينَئِذٍ لَهَا ذَلِكَ ، ذَكَرَهُ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ .
وَفِي شَرْحِ الْبَقَّالِيِّ لَيْسَ لَهَا ذَلِكَ بِحَالٍ وَقَعَ الْعَقْدُ هُنَاكَ أَوْ لَا ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَنْصُوصُ .
ذَكَرَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ فِي الْكَافِي الَّذِي هُوَ كَلَامُ مُحَمَّدٍ : إذَا كَانَ أَصْلُ النِّكَاحِ فِي رُسْتَاقَ وَلَهُ قُرًى مُتَفَرِّقَةٌ فَأَرَادَتْ أَنْ تَخْرُجَ بِهِمْ مِنْ قَرْيَةٍ إلَى قَرْيَةٍ فَلَهَا ذَلِكَ ، إنْ كَانَتْ الْقُرَى قَرِيبَةً يَنْظُرُ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ مَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ يَقْطَعُهُ عَنْ أَبِيهِ إذَا أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهِ مِنْ يَوْمِهِ .
وَإِذَا أَرَادَتْ أَنْ تُخْرِجُهُ مِنْ مِصْرٍ جَامِعٍ إلَى قُرًى ، إنْ كَانَتْ قَرِيبَةً مِنْهَا فَلَيْسَ لَهَا ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ النِّكَاحُ وَقَعَ فِي تِلْكَ الْقُرَى .
وَفِيهِ أَيْضًا : وَلَيْسَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَشْتَرِيَ لِوَلَدِهَا وَتَبِيعَ وَإِنْ كَانَتْ أَحَقَّ بِهِ إلَّا أَنْ تَكُونَ وَصِيَّةً ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ النَّفَقَةِ قَالَ ( النَّفَقَةُ وَاجِبَةٌ لِلزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا مُسْلِمَةً كَانَتْ أَوْ كَافِرَةً إذَا سَلَّمَتْ نَفْسَهَا إلَى مَنْزِلِهِ فَعَلَيْهِ نَفَقَتُهَا وَكِسْوَتُهَا وَسُكْنَاهَا ) وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ } وقَوْله تَعَالَى { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ { وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } وَلِأَنَّ النَّفَقَةَ جَزَاءُ الِاحْتِبَاسِ فَكُلُّ مَنْ كَانَ مَحْبُوسًا بِحَقٍّ مَقْصُودٍ لِغَيْرِهِ كَانَتْ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ : أَصَّلَهُ الْقَاضِي وَالْعَامِلُ فِي الصَّدَقَاتِ .
وَهَذِهِ الدَّلَائِلُ لَا فَصْلَ فِيهَا فَتَسْتَوِي فِيهَا الْمُسْلِمَةُ وَالْكَافِرَةُ ( وَيُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ حَالُهُمَا جَمِيعًا ) قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ : وَهَذَا اخْتِيَارُ الْخَصَّافِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى ، وَتَفْسِيرُهُ أَنَّهُمَا إذَا كَانَا مُوسِرَيْنِ تَجِبُ نَفَقَةُ الْيَسَارِ ، وَإِنْ كَانَا مُعْسِرَيْنِ فَنَفَقَةُ الْإِعْسَارِ ، وَإِنْ كَانَتْ مُعْسِرَةً وَالزَّوْجُ مُوسِرًا فَنَفَقَتُهَا دُونَ نَفَقَةِ الْمُوسِرَاتِ وَفَوْقَ نَفَقَةِ الْمُعْسِرَاتِ .
وَقَالَ الْكَرْخِيُّ : يُعْتَبَرُ حَالُ الزَّوْجِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ } وَجْهُ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِهِنْدَ امْرَأَةِ أَبِي سُفْيَانَ { خُذِي مِنْ مَالِ زَوْجِكِ مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ } اعْتَبَرَ حَالَهَا وَهُوَ الْفِقْهُ فَإِنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ بِطَرِيقِ الْكِفَايَةِ ، وَالْفَقِيرَةُ لَا تَفْتَقِرُ إلَى كِفَايَةِ الْمُوسِرَاتِ فَلَا مَعْنَى لِلزِّيَادَةِ ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِمُوجَبِ النَّصِّ أَنَّهُ يُخَاطِبُ بِقَدْرِ وُسْعِهِ وَالْبَاقِي دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ بِالْمَعْرُوفِ الْوَسَطُ وَهُوَ الْوَاجِبُ وَبِهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلتَّقْدِيرِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ عَلَى الْمُوسِرِ مُدَّانِ وَعَلَى الْمُعْسِرِ مُدٌّ وَعَلَى

الْمُتَوَسِّطِ مُدٌّ وَنِصْفُ مُدٍّ ، لِأَنَّ مَا وَجَبَ كِفَايَةً لَا يَتَقَدَّرُ شَرْعًا فِي نَفْسِهِ .

( بَابُ النَّفَقَةِ ) .
النَّفَقَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ النُّفُوقِ : وَهُوَ الْهَلَاكُ ، نَفَقَتْ الدَّابَّةُ نُفُوقًا هَلَكَتْ ، أَوْ مِنْ النِّفَاقِ وَهُوَ الرَّوَاجُ ، نَفَقَتْ السِّلْعَةُ نِفَاقًا رَاجَتْ .
وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّ كُلَّ مَا فَاؤُهُ نُونٌ وَعَيْنُهُ فَاءٌ يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى الْخُرُوجِ وَالذَّهَابِ مِثْلُ نَفَقَ وَنَفَرَ وَنَفَخَ وَنَفَسَ وَنَفِيَ وَنَفِدَ .
وَفِي الشَّرْعِ الْإِدْرَارُ عَلَى الشَّيْءِ بِمَا بِهِ بَقَاؤُهُ ثُمَّ نَفَقَةُ الْغَيْرِ تَجِبُ عَلَى الْغَيْرِ بِأَسْبَابِ الزَّوْجِيَّةِ وَالْقَرَابَةِ وَالْمِلْكِ ، فَبَدَأَ بِالزَّوْجَاتِ إذْ هِيَ الْأَصْلُ فِي ثُبُوتِ النَّفَقَةِ لِلْوَلَدِ لِأَنَّهُ فَرَّعَهَا ، ثُمَّ بِالسَّبَبِ الْأَبْعَدِ .
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } مَرْجِعُ الضَّمِيرِ لِلْوَالِدَاتِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُنَّ ، قِيلَ هِيَ الزَّوْجَاتُ ، وَقِيلَ هِيَ الْمُطَلَّقَاتُ ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ ، وَقَالَ تَعَالَى { لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا مَا آتَاهَا } وَقَالَ تَعَالَى { أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ } وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ " أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ وَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ مِنْ وُجْدِكُمْ " وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُطْبَتِهِ بِعَرَفَةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي ضِمْنِ حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ فِي الْحَجِّ { فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّهُنَّ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ ، أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ ، فَإِنْ فَعَلْنَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّ هِنْدًا بِنْتَ عُتْبَةَ قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ لَا

يُعْطِينِي مِنْ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَيَكْفِي بَنِيَّ إلَّا مَا آخُذُ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : خُذِي مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ مَا يَكْفِيكِ وَيَكْفِي بَنِيكِ } وَالْأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي الْبَابِ ، وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ .
وَمَا نُقِلَ عَنْ الشَّعْبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ قَوْلِهِ : مَا رَأَيْت أَحَدًا جُبِرَ عَلَى نَفَقَةِ أَحَدٍ يَجِبُ تَأْوِيلُهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهِ .
( قَوْلُهُ وَكُلُّ مَنْ كَانَ مَحْبُوسًا بِحَقٍّ مَقْصُودٍ لِغَيْرِهِ ) أَيْ لِمَنْفَعَةٍ تَرْجِعُ إلَى غَيْرِهِ كَانَ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ ، فَخَرَجَ الرَّهْنُ فَإِنَّ نَفَقَتَهُ عَلَى الرَّاهِنِ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ حَبْسِهِ لَيْسَتْ مُتَمَحِّضَةً لَلْمُرْتَهِنِ بَلْ مُشْتَرَكَةً ، وَخَرَجَ الْمَنْكُوحَةُ نِكَاحًا فَاسِدًا حَتَّى لَوْ تَعَجَّلَتْ نَفَقَةَ شَهْرٍ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ فَاسِدٌ رَجَعَ عَلَيْهَا بِمَا أَخَذَتْ ، أَمَّا لَوْ أَنْفَقَ عَلَيْهَا بِلَا فَرْضِ الْقَاضِي فَلَا يَرْجِعُ .
وَفِي الْفَتَاوَى : رَجُلٌ اُتُّهِمَ بِامْرَأَةٍ فَظَهَرَ بِهَا حَبَلٌ فَزُوِّجَتْ مِنْهُ ، فَإِنْ لَمْ يُقِرَّ بِأَنَّ الْحَبَلَ مِنْهُ كَانَ النِّكَاحُ فَاسِدًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَهُمَا صَحِيحٌ فَتَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ .
وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ لَا تَسْتَحِقُّهَا عِنْدَهُمَا أَيْضًا لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ عَنْ وَطْئِهَا ، وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ مِنْهُ تَجِبُ النَّفَقَةُ بِالِاتِّفَاقِ لِصِحَّةِ النِّكَاحِ عِنْدَ الْكُلِّ وَحَلَّ وَطْؤُهَا وَتَقَدَّمَ أَصْلُهُ فِي الْمُحَرَّمَاتِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( قَوْلُهُ أَصْلُهُ الْعَامِلُ فِي الصَّدَقَاتِ ) وَالْمُفْتِي وَالْوَالِي وَالْقَاضِي وَالْمُضَارِبِ إذَا سَافَرَ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ وَالْمُقَاتَلَةِ إذَا قَامُوا بِدَفْعِ عَدُوِّ الْمُسْلِمِينَ وَالنِّسَاءُ مَحْبُوسَاتٌ صِيَانَةً لِلْمِيَاهِ عَنْ الِاشْتِبَاهِ فَتَجِبُ نَفَقَتُهُنَّ عَلَيْهِمْ مُسْلِمَاتٍ كُنَّ أَوْ لَا وَلَوْ غَنِيَّاتٍ .
وَقَوْلُهُ إذَا سَلَّمَتْ نَفْسَهَا فِي مَنْزِلِهِ لَيْسَ شَرْطًا لَازِمًا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بَلْ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ الصَّحِيحِ وَإِنْ لَمْ تَنْتَقِلْ إلَى

مَنْزِلِ الزَّوْجِ إذَا لَمْ يَطْلُبْ الزَّوْجُ انْتِقَالَهَا ، فَإِنْ طَلَبَهُ فَامْتَنَعَتْ لِحَقٍّ لَهَا كَمَهْرِهَا لَا تَسْقُطُ النَّفَقَةُ أَيْضًا ، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ حَقٍّ حِينَئِذٍ لَا نَفَقَةَ لَهَا لِنُشُوزِهَا .
وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ : لَا نَفَقَةَ لَهَا حَتَّى تُزَفَّ إلَى مَنْزِلِ الزَّوْجِ ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ، وَاخْتَارَهَا الْقُدُورِيُّ وَلَيْسَ الْفَتْوَى عَلَيْهِ .
وَقَوْلُ الْأَقْطَعِ الشَّيْخِ أَبِي نَصْرٍ فِي شَرْحِهِ : إنَّ تَسْلِيمَهَا نَفْسَهَا شَرْطٌ بِالْإِجْمَاعِ مَنْظُورٌ فِيهِ ، ثُمَّ قَرَّرَهُ عَلَى وَجْهٍ يَرْفَعُ الْخِلَافَ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَنْقُلْهَا إلَى بَيْتِهِ وَلَمْ تَمْتَنِعْ هِيَ تَجِبُ النَّفَقَةُ لِأَنَّهَا سَلَّمَتْ نَفْسَهَا وَلَكِنَّهُ رَضِيَ بِبُطْلَانِ حَقِّهِ حَيْثُ تَرَكَ النَّقْلَةَ فَلَا يَسْقُطُ حَقُّهَا .
( قَوْلُهُ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى ) اخْتَارَ الْمُصَنِّفُ قَوْلَ الْخَصَّافِ وَقَوْلُ الْكَرْخِيِّ هُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ ، وَقَالَ بِهِ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنْ الْمَشَايِخِ وَنَصَّ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَ فِي التُّحْفَةِ : إنَّهُ الصَّحِيحُ .
وَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ نَفَقَةِ الْيَسَارِ فِي يَسَارِهِمَا وَالْإِعْسَارِ فِي إعْسَارِهِمَا ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ الْخِلَافُ فِي الِاخْتِلَافِ كَمَا إذَا كَانَتْ مُوسِرَةً وَهُوَ مُعْسِرٌ فَعَلَى مُخْتَارِ الْمُصَنِّفِ يَجِبُ فِي الْأَوَّلِ نَفَقَةٌ فَوْقَ نَفَقَةِ الْمُعْسِرَةِ وَدُونَ نَفَقَةِ الْمُوسِرَةِ وَكَذَا فِي عَكْسِهِ ، وَعَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَجِبُ فِي الْأَوَّلِ نَفَقَةُ الْإِعْسَارِ لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ مُوسِرَةً لَمَا تَزَوَّجَتْ مُعْسِرًا فَقَدْ رَضِيَتْ بِنَفَقَةِ الْمُعْسِرِينَ ، وَفِي الثَّانِي نَفَقَةُ الْمُوسِرِينَ وَالْمُصَنِّفُ لَمْ يَذْكُرْ تَمَامَ الْأَقْسَامِ الَّتِي بِهَا يَتِمُّ تَفْسِيرُ قَوْلِ الْخَصَّافِ ، بَلْ تَرَكَ مَا إذَا كَانَتْ مُوسِرَةً وَالزَّوْجُ مُعْسِرٌ وَكَأَنَّهُ لِاتِّحَادِ جَوَابِهِ بِجَوَابِ مَا ذَكَرَهُ وَهُوَ مَا إذَا كَانَتْ مُعْسِرَةً وَهُوَ مُوسِرٌ .
وَكَانَ الْأَوْلَى حِينَئِذٍ أَنْ يَقُولَ : فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُوسِرًا وَالْآخَرُ

مُعْسِرًا وَاقْتَصَرَ فِي الِاسْتِدْلَالِ لِمَذْهَبِ الْخَصَّافِ عَلَى حَدِيثِ هِنْدٍ وَقَالَ فِيهِ اُعْتُبِرَ حَالُهَا وَوَجْهُهُ أَنَّهُ يَصْلُحُ رَدًّا لِاعْتِبَارِ حَالِهِ فَقَطْ : يَعْنِي إذَا ثَبَتَ اعْتِبَارُ حَالِهَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَطَلَ قَوْلُكُمْ يَعْتَبِرُ فَقَطْ .
ثُمَّ اعْتِبَارُ حَالِهِ ثَابِتٌ لَا بُدَّ مِنْهُ بِاتِّفَاقِ الْقَائِلِينَ الْقَائِلُ بِاعْتِبَارِ حَالِهِ وَالْقَائِلُ بِاعْتِبَارِ حَالِهِمَا .
وَيُورِدُ عَلَيْهِ أَنَّ حَدِيثَ هِنْدٍ خَبَرٌ وَاحِدٌ وقَوْله تَعَالَى { لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمِنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ } مُطْلَقٌ فِي اعْتِبَارِ ثُبُوتِ حَالِ الْمُوسِرِ مُعْسِرَةً كَانَتْ الزَّوْجَةُ أَوْ لَا وَالْمُعْسِرَةُ مُعْسِرَةً كَانَتْ أَوْ لَا ، فَاعْتِبَارُ حَالِهِمَا زِيَادَةٌ مُوجِبَةٌ لِتَغْيِيرِ حُكْمِ النَّصِّ ، إذْ تُوجَبُ الزِّيَادَةُ فِي مَوْضِعٍ يَقْتَضِي النَّصُّ فِيهِ عَدَمَهَا ، وَعَدَمُهَا فِي مَوْضِعٍ يَقْتَضِي فِيهِ وُجُودَهَا وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ .
وَأَفَادَ الْمُصَنِّفُ دَفْعَ هَذَا بِقَوْلِهِ : وَأَمَّا النَّصُّ فَنَقُولُ بِمُوجَبِهِ : إنَّهُ مُخَاطَبٌ بِقَدْرِ وُسْعِهِ وَالْبَاقِي فِي ذِمَّتِهِ ، فَإِنَّهُ يُفِيدُ أَنَّ الْمُفَادَ بِالنَّصِّ اعْتِبَارُ حَالِهِ فِي الْإِنْفَاقِ ، وَنَحْنُ نَقُولُ : إنَّ الْمُعْسِرَ لَا يُنْفِقُ فَوْقَ وُسْعِهِ وَهُوَ لَا يَنْفِي اعْتِبَارَ حَالِهَا فِي قَدْرِ مَا يَجِبُ لَهَا ، وَالْحَدِيثُ أَفَادَهُ فَلَا زِيَادَةَ عَلَى النَّصِّ ؛ لِأَنَّ مُوجِبَهُ تَكْلِيفَهُ بِإِخْرَاجِ قَدْرَ حَالِهِ ، وَالْحَدِيثُ أَفَادَ اعْتِبَارَ حَالِهَا فِي الْقَدْرِ الْوَاجِبِ لَا الْمُخْرِجِ فَيَجْتَمِعَانِ بِأَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِمَّا إذَا كَانَتْ مُوسِرَةً وَهُوَ مُعْسِرًا وَيَخْرُجُ قَدْرَ حَالِهِ فَبِالضَّرُورَةِ يَبْقَى الْبَاقِي فِي ذِمَّتِهِ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ : يَجُوزُ عِلْمُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ زَوْجَهَا كَانَ مُوسِرًا فَلَمْ يَنُصَّ عَلَى حَالِهِ وَأَطْلَقَ لَهَا أَنْ تَأْخُذَ كِفَايَتَهَا ، وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ اعْتِبَارُ حَالِهَا فَإِنَّ الْكِفَايَةَ تَخْتَلِفُ ، ثُمَّ

هَذَا الْبَحْثُ يُتَّجَهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى هَذِهِ الْآيَةِ ، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى قَوْله تَعَالَى { عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ } فَلَا لِأَنَّهُ اعْتَبَرَ فِي نَفْسِ الْوَاجِبِ الْمُفَادِ بِلَفْظٍ عَلَى حَالِهِ إلَّا أَنَّ هَذِهِ فِي الْمُتْعَةِ لَا فِي النَّفَقَةِ ، وَيَدَّعِي الْفَرْقَ بَيْنَ الْمُتْعَةِ وَالنَّفَقَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مَسْلُوكًا بِهَا مَسْلَكَ الْكِسْوَةِ بَلْ هِيَ بَدَلُ نِصْفِ الْمَهْرِ ، أَوْ أَنَّ قَوْلَهُ { مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ } الْآيَةَ يُقَيِّدُهُ بِالْقُدْرَتَيْنِ : أَيْ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ مَعَ قَدْرِهَا وَكَذَا الْآخَرُ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ أَنْ لَا يَدْفَعَ لِلْفَائِقَةِ مَا يَدْفَعُ لِلْفَقِيرَةِ .
( قَوْلُهُ وَهُوَ الْوَاجِبُ ) أَيْ الْوَسَطُ هُوَ الْوَاجِبُ بَعْدَ اعْتِبَارِ حَالِهِمَا .
وَقَدْ يُقَامُ لَا يَتَمَشَّى عَلَى جَمِيعِ أَقْسَامِ تَفْسِيرِ قَوْلِ الْخَصَّافِ رَحِمَهُ اللَّهُ بَلْ فِي أَوْسَاطِ الْحَالِ وَفِي اخْتِلَافِهِمَا بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ فَإِنَّ الْوَاجِبَ فَوْقَ الْإِعْسَارِ وَدُونَ نَفَقَةِ الْيَسَارِ وَهَذَا وَسَطٌ .
وَأَمَّا فِي يَسَارِهِمَا فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : تَجِبُ نَفَقَةٌ هِيَ وَسَطٌ فِي الْيَسَارِ ، وَأَمَّا فِي إعْسَارِهِمَا فَيَجِبُ أَيْضًا نَفَقَةُ وَسَطٍ فِي الْإِعْسَارِ وَهُوَ بَعِيدٌ ، فَإِنَّهُ إذَا فَرَضَ أَنَّ إعْسَارَهُمَا غَايَةٌ فِي الْإِعْسَارِ فَإِنَّمَا تَجِبُ الْغَايَةُ فِيهِ لِأَنَّ اعْتِبَارَ حَالِهِ أَوْ حَالِهِمَا لَا يُوجِبُ غَيْرَ ذَلِكَ .
وَالْوَجْهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَعْرُوفِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خُذِي مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ مَا يَكْفِيكَ } مَا يُقَابِلُ الْمُنْكَرَ فَيَسْتَقِيمُ ، فَإِنَّ الْمَعْرُوفَ فِي مُتَوَسِّطَةِ الْحَالِ أَنَّ كِفَايَتَهَا دُونَ كِفَايَةِ الْفَائِقَةِ فَيَجِبُ ذَلِكَ لِيَسَارِهِ وَعِنْدَ غَايَةِ إعْسَارِهَا وَإِعْسَارِهِ الْمَعْرُوفِ دُونَ التَّوَسُّطِ فِيهِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ عَلَى الْقَاضِي اعْتِبَارَ الْكِفَايَةِ بِالْمَعْرُوفِ فِيمَا فَرَضَ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَبِاعْتِبَارِ الْحَالِ مِنْ الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ ، وَكَمَا يُفْرَضُ

لَهَا قَدْرُ الْكِفَايَةِ مِنْ الطَّعَامِ كَذَلِكَ مِنْ الْإِدَامِ ؛ لِأَنَّ الْخُبْزَ لَا يُؤْكَلُ إلَّا مَأْدُومًا .
( قَوْلُهُ لِأَنَّ مَا وَجَبَ كِفَايَةً لَا يَتَقَدَّرُ شَرْعًا فِي نَفْسِهِ ) لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الطَّبَائِعِ وَأَحْوَالِ النَّاسِ وَبِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ .
وَفِي الْمَبْسُوطِ : وَكُلُّ جَوَابٍ عُرِفَ مِنْ اعْتِبَارِ حَالِهِ أَوْ حَالِهِمَا فِي النَّفَقَةِ فَفِي الْكِسْوَةِ مِثْلُهُ ، وَإِذَا اخْتَلَفَا فِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ فِي الْعُسْرَةِ ، كَذَا فِي الْأَصْلِ .
وَأَشَارَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ إلَى أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهَا إنَّهُ قَادِرٌ ، وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ .
وَمِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ قَالَ : يَنْظُرُ إلَى زِيِّهِ إلَّا فِي الْعَلَوِيَّةِ وَالْفُقَهَاءِ ، وَإِذَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَلَا بَيِّنَةَ لَهَا فَسَأَلَتْ الْقَاضِي أَنْ يَسْأَلَ عَنْ يَسَارِهِ فِي السِّرِّ فَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى الْقَاضِي ، وَإِنْ فَعَلَهُ فَأَتَاهُ عَنْهُ أَنَّهُ مُوسِرٌ لَمْ يُفْرَضْ عَلَيْهِ نَفَقَةُ الْمُوسِرِ إلَّا أَنْ يُخْبِرَهُ بِذَلِكَ عَدْلَانِ أَنَّهُمَا عَلِمَا ذَلِكَ وَيَكُونَانِ بِمَنْزِلَةِ الشَّاهِدَيْنِ : فَإِنْ أَخْبَرَاهُ مِنْ وَرَاءِ وَرَاءٍ لَمْ يُؤْخَذْ بِقَوْلِهِمَا ، فَإِنْ أَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ مُوسِرٌ فَأَقَامَ الزَّوْجُ أَنَّهُ مُحْتَاجٌ أَخَذَ بِبَيِّنَتِهَا وَفَرَضَ عَلَيْهِ نَفَقَةَ الْمُوسِرِ ، كَذَا فِي كَافِي الْحَاكِمِ

( وَإِنْ امْتَنَعَتْ مِنْ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا حَتَّى يُعْطِيَهَا مَهْرَهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ ) لِأَنَّهُ مَنْعٌ بِحَقٍّ فَكَانَ فَوْتُ الِاحْتِبَاسِ لِمَعْنًى مِنْ قِبَلِهِ فَيُجْعَلُ كَلَا فَائِتٍ .

( وَإِنْ نَشَزَتْ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا حَتَّى تَعُودَ إلَى مَنْزِلِهِ ) لِأَنَّ فَوْتَ الِاحْتِبَاسِ مِنْهَا ، وَإِنْ عَادَتْ جَاءَ الِاحْتِبَاسُ فَتَجِبُ النَّفَقَةُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا امْتَنَعَتْ مِنْ التَّمْكِينِ فِي بَيْتِ الزَّوْجِ لِأَنَّ الِاحْتِبَاسَ قَائِمٌ وَالزَّوْجُ يَقْدِرُ عَلَى الْوَطْءِ كَرْهًا .
( قَوْلُهُ حَتَّى تَعُودَ إلَى مَنْزِلِهِ ) يُفِيدُ أَنَّ النُّشُوزَ الْمُسْتَعْقِبَ لِسُقُوطِ النَّفَقَةِ مَأْخُوذٌ فِيهِ خُرُوجُهَا عَنْ مَنْزِلِهِ ، وَالتَّحْرِيرُ أَنَّ الْمَأْخُوذَ فِيهِ عَدَمُ مُوَافَقَتِهَا عَلَى الْمَجِيءِ إلَى الْمَنْزِلِ سَوَاءٌ كَانَ بَعْدَ خُرُوجِهَا أَوْ امْتَنَعَتْ عَنْ أَنْ تَجِيءَ إلَى مَنْزِلِهِ ابْتِدَاءً بَعْدَ إيفَائِهِ مُعَجَّلَ مَهْرِهَا أَوْ عَدَمِ تَمْكِينِهَا إيَّاهُ مِنْ الدُّخُولِ فِي مَنْزِلِهَا الْمَمْلُوكِ لَهَا الَّذِي كَانَتْ تَسْكُنُ مَعَهُ فِيهِ قَبْلَ أَنْ تَسْأَلَهُ أَنْ يُحَوِّلَهَا إلَى مَنْزِلِهِ أَوْ يَكْتَرِيَ لَهَا مَنْزِلًا ، فَإِنْ كَانَتْ سَأَلَتْهُ فِي ذَلِكَ لِتَنْتَفِعَ بِمِلْكِهَا فَأَبَى فَمَنَعَتْهُ الدُّخُولَ كَانَ لَهَا النَّفَقَةُ .
وَفِي الْفَتَاوَى : وَقَالَتْ إنَّمَا خَرَجْت لِأَنَّك سَاكِنٌ فِي أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ لَا تَكُونُ نَاشِزَةً .
وَفِي الْفَتَاوَى لِلنَّسَفِيِّ : لَوْ كَانَ بِسَمَرْقَنْدَ وَهِيَ بِنَسَفَ فَبَعَثَ إلَيْهَا أَجْنَبِيًّا لِيَحْمِلَهَا إلَيْهِ فَأَبَتْ لِعَدَمِ الْمَحْرَمِ لَهَا النَّفَقَةُ .

( وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً لَا يَسْتَمْتِعُ بِهَا فَلَا نَفَقَةَ لَهَا ) لِأَنَّ امْتِنَاعَ الِاسْتِمْتَاعِ لِمَعْنًى فِيهَا ، وَالِاحْتِبَاسُ الْمُوجِبُ مَا يَكُونُ وَسِيلَةً إلَى مَقْصُودٍ مُسْتَحَقٌّ بِالنِّكَاحِ وَلَمْ يُوجَدْ ، بِخِلَافِ الْمَرِيضَةِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَهَا النَّفَقَةُ لِأَنَّهَا عِوَضٌ مِنْ الْمِلْكِ عِنْدَهُ كَمَا فِي الْمَمْلُوكَةِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ .
وَلَنَا أَنَّ الْمَهْرَ عِوَضٌ عَنْ الْمِلْكِ وَلَا يَجْتَمِعُ الْعِوَضَانِ عَنْ مُعَوَّضٍ وَاحِدٍ فَلَهَا الْمَهْرُ دُونَ النَّفَقَةِ .

( قَوْلُهُ لَا يَسْتَمْتِعُ بِهَا ) أَيْ لَا تُوطَأُ .
وَصَرَّحَ فِي الذَّخِيرَةِ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ الْوَطْءُ ، وَبِهِ قَيَّدَ الْحَاكِمُ قَالَ : لَا نَفَقَةَ لِلصَّغِيرَةِ الَّتِي لَا تُجَامِعُ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا إلَى أَنْ تَصِيرَ إلَى حَالَةٍ تَحْتَمِلُ الْوَطْءَ سَوَاءٌ كَانَتْ فِي بَيْتِ الزَّوْجِ أَوْ الْأَبِ .
وَاخْتُلِفَ فِيهَا ، فَقِيلَ أَقَلُّهَا سَبْعُ سِنِينَ ، وَقَالَ الْعَتَّابِيُّ : اخْتِيَارُ مَشَايِخِنَا تِسْعُ سِنِينَ .
وَالْحَقُّ عَدَمُ التَّقْدِيرِ ، فَإِنَّ احْتِمَالَهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبِنْيَةِ ، وَعَلَى قَوْلِنَا جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلِهِ الْمُخْتَارُ عِنْدَهُمْ .
وَفِي قَوْلٍ لَهُ : تَجِبُ وَإِنْ كَانَتْ فِي الْمَهْدِ لِإِطْلَاقِ النَّصِّ وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَالظَّاهِرِيَّةِ .
قُلْنَا : أَمَّا قَوْله تَعَالَى { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ } فَمَرْجِعُ الضَّمِيرِ لِلْوَالِدَاتِ فَلَا يَتَنَاوَلُ الصَّغَائِرُ .
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ } فَإِنَّمَا فِيهِ الْأَمْرُ بِالْإِنْفَاقِ : يَعْنِي عَلَى مَنْ يَسْتَحِقُّهَا ، وَلَمْ يَنُصَّ عَلَى مَنْ يَسْتَحِقُّهَا ، فَثُبُوتُ مَنْ يَسْتَحِقُّهَا خَارِجٌ عَلَى أَنَّهُ لَوْ صَرَّحَ بِالزَّوْجَاتِ فِيهَا كَانَ الْمُرَادُ بَعْضَهُنَّ ، أَلَا تَرَى أَنْ لَيْسَ كُلُّ زَوْجَةٍ تَسْتَحِقُّهَا كَالنَّاشِزَةِ فَيَعْمَلُ فِي تَعْيِينِ ذَلِكَ الْبَعْضِ بِالدَّلِيلِ الَّذِي يُعَيِّنُهُ .
وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ { وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } فَمَرْجِعُ الضَّمِيرِ فِيهِ النِّسَاءُ اللَّاتِي حَلَّتْ فُرُوجُهُنَّ ، وَنَقُولُ : لَا يَحِلُّ فَرْجُ مَنْ لَا تُطِيقُ الْجِمَاعَ فَإِنَّهُ إهْلَاكٌ أَوْ طَرِيقُهُ .
وَلَوْ سَلَّمَ فَالْإِنْفَاقُ عَلَى أَنَّ عُمُومَهُ غَيْرُ مُرَادٍ ، فَإِنَّ النَّاشِزَةَ لَا نَفَقَةَ لَهَا وَهِيَ زَوْجَةٌ فَجَازَ تَخْصِيصُهُ بَعْدَ ذَاكَ بِالْمَعْنَى وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ فِي الْوَجْهِ .
وَحَاصِلُهُ أَنَّ الزَّوْجَةَ أَجْنَبِيَّةٌ ، فَاسْتِحْقَاقُهَا النَّفَقَةَ إمَّا أَنْ يَكُونَ لِذَلِكَ

النَّوْعِ مِنْ الْمِلْكِ الْوَارِدِ عَلَيْهَا عَلَى قُصُورِهِ إلْحَاقًا لِلْمَالِكِ الْقَاصِرِ بِالْمِلْكِ الْكَامِلِ فِي الْمَرْقُوقَةِ ، أَوْلِاحْتِبَاسِهَا لِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ الْمَقْصُودَةِ مِنْ التَّزْوِيجِ : أَعْنِي الْوَطْءَ أَوْ دَوَاعِيَهُ ، أَوْ لِاحْتِبَاسِهَا مُطْلَقًا لَا يَجُوزُ الْأَوَّلُ لِأَنَّ إيجَابَهَا بِسَبَبِ مِلْكٍ كَامِلٍ لَا يَسْتَلْزِمُ إيجَابَهَا بِسَبَبِ مِلْكٍ نَاقِصٍ ، إذْ لَيْسَ هُوَ فِي مَعْنَاهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ إيجَابُهَا فِي الْكَامِلِ لِمَعْنًى تَضَمَّنَهُ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي النَّاقِصِ فَتَجِبُ فِيهِ لِذَلِكَ الْمُشْتَرِكُ لَا لِلْمِلْكِ ، وَلَوْ عَيَّنَ ذَلِكَ الْمُشْتَرِكَ لَكَانَ احْتِبَاسُهَا عَلَى أَحَدِ الْأَوْجُهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَسَنُورِدُهَا وَجْهًا وَجْهًا ، وَأَيْضًا عِوَضُ الْمِلْكِ هُنَا الْمَهْرُ فَلَا تَكُونُ النَّفَقَةُ أَيْضًا عِوَضًا وَإِلَّا اجْتَمَعَ عَنْ الْمُعَوَّضِ الْوَاحِدِ عِوَضَانِ ، وَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ الْعِوَضِ الْوَاحِدِ مَجْمُوعَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ وَعَبْدٍ لِأَنَّ الْمِلْكَ مُعَوِّضٌ يَثْبُتُ جُمْلَةً وَهُوَ تَمَامُ الْعِلَّةِ لِعِوَضِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ عِوَضِهِ يَثْبُتُ أَيْضًا كَذَلِكَ وَذَلِكَ الْمَهْرُ دُونَ النَّفَقَةِ لِأَنَّهَا تَجِبُ شَيْئًا فَشَيْئًا ، وَلَوْ كَانَتْ جُزْءًا مِنْ الْعِوَضِ لَزِمَ جَهَالَةً أَيْ الْعِوَضَيْنِ فَإِنَّمَا تَجِبُ بِحَادِثٍ شَيْئًا فَشَيْئًا وَهُوَ الِاحْتِبَاسُ نَظَرًا إلَى بَقَائِهِ وَهَذَا طَرِيقُ الْمُصَنِّفِ ، وَعَلَى هَذَا يَجِبُ أَنْ يَقُولَ النَّفَقَةُ فِي الْمَرْقُوقَةِ أَيْضًا جَزَاءُ الِاحْتِبَاسِ لِمَا هُوَ مِنْ مَقَاصِدِ ذَلِكَ الْمِلْكِ مِنْ الِاسْتِخْدَامِ الَّذِي مِنْ جُمْلَتِهِ الْوَطْءُ إنْ أَمْكَنَ لَا لِلْمِلْكِ وَهَذَا حَقٌّ ؟ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَا نَفَقَةَ لِلْآبِقِ مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ وَلَا يَجُوزُ الْأَخِيرُ لِانْتِقَاضِهِ بِالنَّاشِزَةِ ، وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ الْعِلَّةُ لِظُهُورِ أَثَرِهِ فِي حَقِّ الْقَاضِي وَالْمُفْتِي وَالْعَامِلِ عَلَى الصَّدَقَاتِ وَمَنْ تَقَدَّمَ ، وَإِنَّمَا لَمْ نَقُلْ فَتَعَيَّنَ الثَّانِي عَقِيبَ إبْطَالِ الْأَقْسَامِ لِئَلَّا

يَكُونَ مُبَرَّأً ، فَلَمَّا أَثْبَتْنَا الْمُنَاسَبَةَ بِظُهُورِ الْأَثَرِ لَمْ يَبْقَ إلَّا صُورَةُ السَّبْرِ وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ إثْبَاتٌ عَلَيْهِ مَا عَيَّنَّاهُ بِظُهُورِ أَثَرِهِ وَإِبْطَالِ مَا عَيَّنُوهُ .
هَذَا وَقَدْ نُقِضَ بِالرَّتْقَاءِ وَالْقَرْنَاءِ وَاَلَّتِي أَصَابَهَا مَرَضٌ يَمْنَعُ الْجِمَاعَ وَالْكَبِيرَةِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ وَطْؤُهَا لِكِبَرِهَا فَإِنَّ لَهُنَّ النَّفَقَةَ وَلَا احْتِبَاسَ لِلْوَطْءِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي إيجَابِ النَّفَقَةِ احْتِبَاسٌ يَنْتَفِعُ بِهِ الزَّوْجُ انْتِفَاعًا مَقْصُودًا بِالنِّكَاحِ وَهُوَ الْجِمَاعُ أَوْ الدَّوَاعِي وَالِانْتِفَاعُ مِنْ حَيْثُ الدَّوَاعِي مَوْجُودٌ فِي هَؤُلَاءِ بِأَنْ يُجَامِعَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ ، بِخِلَافِ الصَّغِيرَةِ الَّتِي لَا يُجَامِعُ مِثْلَهَا فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ مُشْتَهَاةً أَصْلًا فَلَا تُجَامَعُ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ حَتَّى إنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يَسْتَنْكِرُ جِمَاعَ الرَّضِيعَةِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ ، وَلَا يُسْتَنْكَرُ ذَلِكَ فِي الْعَجُوزِ وَالْمَرِيضَةِ .
قَالُوا : فَعَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ إذَا كَانَتْ صَغِيرَةً مُشْتَهَاةً يُمْكِنُ جِمَاعُهَا فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ تَجِبُ النَّفَقَةُ ، كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ ، وَهَذَا عَلَى مَنْ قَيَّدَ الصَّغِيرَةَ بِكَوْنِهَا لَا تُشْتَهَى لِلْجِمَاعِ فَرْضُ مُحَالٍ ، لِأَنَّهَا إذَا لَمْ تَكُنْ بِحَيْثُ تُشْتَهَى لِلْجِمَاعِ لَا تَكُونُ مُشْتَهَاةً لِلْجِمَاعِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ .
نَعَمْ هُنَا شَيْءٌ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَنَا الصَّغِيرَةُ الَّتِي لَا يُوطَأُ مِثْلُهَا هَلْ مَعْنَاهُ لَا تُشْتَهَى لِلْوَطْءِ أَوْ لَا تُطِيقُ الْوَطْءَ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَالْمُلَازَمَةُ حَقُّهُ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَإِنْ ثَبَتَ التَّلَازُمُ بَيْنَ عَدَمِ الْإِطَاقَةِ وَعَدَمِ الِاشْتِهَاءِ فَكَذَلِكَ وَإِلَّا فَهُوَ فَرْضٌ صَحِيحٌ .
وَالظَّاهِرُ التَّلَازُمُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ ضَمُّ الْإِطَاقَةِ مُطْلَقًا وَلَا مِنْ وَاحِدٍ مِمَّنْ يُطِيقُ الْوَطْءَ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ كَانَتْ بِحَيْثُ تُشْتَهَى لِلْجِمَاعِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ فَهِيَ مُطِيقَةٌ لِلْجِمَاعِ فِي الْجُمْلَةِ ، وَإِنْ لَمْ

تُطِقْهُ مِنْ خُصُوصِ زَوْجٍ مَثَلًا فَتَجِبُ لَهَا النَّفَقَةُ ، وَمَنْ لَا فَلَا تَجِبُ لَهَا نَفَقَةٌ .
وَفِي خِزَانَةِ الْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ : عَشْرٌ مِنْ النِّسَاءِ لَا نَفَقَةَ لَهُنَّ : الصَّغِيرَةُ الَّتِي لَا تَحْتَمِلُ الْجِمَاعَ ، وَالنَّاشِزَةُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا عَلَيْهِ مَهْرٌ ، وَإِذَا اغْتَصَبَهَا ظَالِمٌ فَذَهَبَ بِهَا ، وَالْمَحْبُوسَةُ فِي دَيْنٍ ، وَالْمُسَافِرَةُ بِحَجٍّ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا زَوْجُهَا ، وَالْأَمَةُ إذَا لَمْ يُبَوِّئْهَا مَوْلَاهَا ، وَالْمَنْكُوحَةُ نِكَاحًا فَاسِدًا ، وَالْمُرْتَدَّةُ ، وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا ، وَالْمَرْأَةُ إذَا قَبَّلَتْ ابْنَ زَوْجِهَا أَوْ أَبَاهُ بِشَهْوَةٍ .

( وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ صَغِيرًا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْوَطْءِ وَهِيَ كَبِيرَةٌ فَلَهَا النَّفَقَةُ مِنْ مَالِهِ ) لِأَنَّ التَّسْلِيمَ قَدْ تَحَقَّقَ مِنْهَا ، وَإِنَّمَا الْعَجْزُ مِنْ قِبَلِهِ فَصَارَ كَالْمَجْبُوبِ وَالْعِنِّينِ .
( قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا إلَخْ ) ذَكَرَ حُكْمَ الْعَجْزِ مِنْ الطَّرَفَيْنِ مُنْفَرِدًا وَلَمْ يَذْكُرْ حُكْمَهُ مِنْ الطَّرَفَيْنِ جَمِيعًا بِأَنْ كَانَا صَغِيرَيْنِ لَا يُطِيقَانِ ، وَلَوْ اعْتَبَرَ جَانِبَهُ تَجِبُ ، وَلَوْ اعْتَبَرَ جَانِبَهَا لَا تَجِبُ ، وَفِي الذَّخِيرَةِ : لَا نَفَقَةَ لَهَا ، وَأَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُجْعَلَ الْمَنْعُ مِنْ قِبَلِهِ كَالْمَعْدُومِ فَالْمَنْعُ مِنْ جِهَتِهَا قَائِمٌ وَمَعَهُ لَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ ، وَعَنْ هَذَا قُلْنَا : إذَا تَزَوَّجَ الْمَجْبُوبُ صَغِيرَةً لَا تَصْلُحُ لِلْجِمَاعِ لَا يَفْرِضُ لَهَا نَفَقَةً ، وَلَا يَخْفَى إمْكَانُ عَكْسِ الْكَلَامِ فَيُقَالُ : يُجْعَلُ الْمَنْعُ مِنْ جِهَتِهَا كَالْمَعْدُومِ فَتَجِبُ إلَى آخِرِهِ ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ النَّفَقَةَ لَا تَجِبُ إلَّا لِتَسْلِيمِهَا لِاسْتِيفَاءِ مَنَافِعِهَا الْمَقْصُودَةِ بِذَلِكَ التَّسْلِيمِ فَيَدُورُ وُجُوبُهَا مَعَهُ وُجُودًا وَعَدَمًا فَلَا تَجِبُ فِي الصَّغِيرَيْنِ وَتَجِبُ فِي الْكَبِيرَةِ تَحْتَ الصَّغِيرِ .

( وَإِذَا حُبِسَتْ الْمَرْأَةُ فِي دَيْنٍ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا ) لِأَنَّ فَوْتَ الِاحْتِبَاسِ مِنْهَا بِالْمُمَاطَلَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهَا بِأَنْ كَانَتْ عَاجِزَةً فَلَيْسَ مِنْهُ ، وَكَذَا إذَا غَصَبَهَا رَجُلٌ كُرْهًا فَذَهَبَ بِهَا .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ لَهَا النَّفَقَةَ ، وَالْفَتْوَى عَلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ فَوْتَ الِاحْتِبَاسِ لَيْسَ مِنْهُ لِيُجْعَلَ بَاقِيًا تَقْدِيرًا ، وَكَذَا إذَا حَجَّتْ مَعَ مَحْرَمٍ لِأَنَّ فَوْتَ الِاحْتِبَاسِ مِنْهَا .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ لَهَا النَّفَقَةَ لِأَنَّ إقَامَةَ الْفَرْضِ عُذْرٌ ، وَلَكِنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَةُ الْحَضَرِ دُونَ السَّفَرِ لِأَنَّهَا هِيَ الْمُسْتَحِقَّةُ عَلَيْهِ ، وَلَوْ سَافَرَ مَعَهَا الزَّوْجُ تَجِبُ النَّفَقَةُ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ الِاحْتِبَاسَ قَائِمٌ لِقِيَامِهِ عَلَيْهَا وَتَجِبُ نَفَقَةُ الْحَضَرِ دُونَ السَّفَرِ ، وَلَا يَجِبُ الْكِرَاءُ لِمَا قُلْنَا ( فَإِنْ مَرِضَتْ فِي مَنْزِلِ الزَّوْجِ فَلَهَا النَّفَقَةُ ) وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا نَفَقَةَ لَهَا إذَا كَانَ مَرَضًا يَمْنَعُ مِنْ الْجِمَاعِ لِفَوْتِ الِاحْتِبَاسِ لِلِاسْتِمْتَاعِ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الِاحْتِبَاسَ قَائِمٌ فَإِنَّهُ يَسْتَأْنِسُ بِهَا وَيَمَسُّهَا وَتَحْفَظُ الْبَيْتَ ، وَالْمَانِعُ بِعَارِضٍ فَأَشْبَهَ الْحَيْضَ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا إذَا سَلَّمَتْ نَفْسَهَا ثُمَّ مَرِضَتْ تَجِبُ النَّفَقَةُ لِتَحَقُّقِ التَّسْلِيمِ ، وَلَوْ مَرِضَتْ ثُمَّ سَلَّمَتْ لَا تَجِبُ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ لَمْ يَصِحَّ قَالُوا هَذَا حَسَنٌ .
وَفِي لَفْظِ الْكِتَابِ مَا يُشِيرُ إلَيْهِ .

( قَوْلُهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَهَا النَّفَقَةُ ) أَيْ فِي صُورَتَيْ حَبْسِهَا وَغَصْبِهَا لِأَنَّهُ لَا مَنْعَ مِنْ جِهَتِهَا ، وَاخْتَارَهُ السُّغْدِيُّ وَالْفَتْوَى عَلَى الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ النَّفَقَةَ عَلَيْهِ عِوَضًا عَنْ احْتِبَاسِهِ إيَّاهَا ، غَيْرَ أَنَّهُ إذَا فَاتَ الِاحْتِبَاسُ لِمَعْنًى مِنْ جِهَتِهِ جُعِلَ بَاقِيًا تَقْدِيرًا فَتَجِبُ مَعَ فَوَاتِهِ ، فَإِذَا كَانَ لَا لِمَعْنًى مِنْ جِهَتِهِ لَمْ يَكُنْ تَقْدِيرًا قَائِمًا فَفَاتَ حَقِيقَةً وَحُكْمًا وَهُوَ الْمُوجِبُ لَيْسَ غَيْرُ ، فَعِنْدَ عَدَمِهِ يَنْعَدِمُ الْحُكْمُ ، وَنَظِيرُهُ مَا لَوْ غَصَبَ الْعَيْنَ مِنْ يَدِ الْمُسْتَأْجَرِ لَا يَجِبُ الْأَجْرُ عَلَيْهِ لِفَوَاتِ التَّمَكُّنِ مِنْ الِانْتِفَاعِ لَا مِنْ جِهَةِ الْمُسْتَأْجَرِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِهَةِ الْآجِرِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ حُبِسَ هُوَ ظُلْمًا أَوْ فِي حَقٍّ يَقْدِرُ عَلَى إيفَائِهِ أَوْ لَا يَقْدِرُ أَوْ هَرَبَ أَوْ ارْتَدَّ أَوْ أَسْلَمَتْ وَأَبَى هُوَ الْإِسْلَامَ أَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الدُّخُولِ ، وَكَذَا كُلُّ فُرْقَةٍ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِهَا بِحَقٍّ لَا تُسْقِطُ النَّفَقَةَ كَالْفُرْقَةِ بِخِيَارِ الْعِتْقِ وَالْبُلُوغِ وَعَدَمِ الْكَفَاءَةِ أَوْ بِسَبَبِ الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ حَيْثُ يَجِبُ لَهَا النَّفَقَةُ لِفَوَاتِهِ مِنْ جِهَتِهِ حَقِيقَةً أَوْ مَعْنًى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَعَمُّدٌ فِيهِ .
( قَوْلُهُ وَكَذَا إلَخْ ) أَيْ لَا نَفَقَةَ لَهَا إذَا حَجَّتْ مَعَ مَحْرَمٍ ، بِخِلَافِ مَا إذَا حَجَّتْ مَعَ الزَّوْجِ فَإِنَّ لَهَا النَّفَقَةُ اتِّفَاقًا .
( قَوْلُهُ لِأَنَّ إقَامَةَ الْفَرْضِ عُذْرٌ ) قُلْنَا نَعَمْ ، وَلَكِنَّهُ مِنْ جِهَتِهَا وَالِاحْتِبَاسُ الْفَائِتُ إنَّمَا يُجْعَلُ بَاقِيًا تَقْدِيرًا إذَا كَانَ الْفَوَاتُ مِنْ جِهَتِهِ ، ثُمَّ إذَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ فَالْوَاجِبُ نَفَقَةُ الْحَضَرِ بِأَنْ يَعْتَبِرَ مَا كَانَ قِيمَةَ الطَّعَامِ فِي الْحَضَرِ فَيَجِبُ دُونَ نَفَقَةِ السَّفَرِ لِأَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ لِحَقِّهَا بِإِزَاءِ مَنْفَعَةٍ تَحْصُلُ لَهَا فَلَا تَكُونُ عَلَى الزَّوْجِ كَالْمَرِيضَةِ الَّتِي لَا تَسْتَحِقُّ الْمُدَاوَاةَ عَلَيْهِ .
(

قَوْلُهُ لِمَا قُلْنَا ) أَيْ مِنْ أَنَّ نَفَقَةَ الْحَضَرِ هِيَ الْمُسْتَحَقَّةُ .
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ بِالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ لَا تَسْقُطُ النَّفَقَةُ .
( قَوْلُهُ وَيَمَسُّهَا ) أَيْ وَيَمَسُّهَا اسْتِمْتَاعًا وَيَدْخُلُ فِي مَسِّهَا كَذَلِكَ الْجِمَاعُ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ وَالْقُبْلَةِ وَغَيْرِهِمَا فَكَانَ الِاحْتِبَاسُ الْمُوجِبُ قَائِمًا ، وَكَذَلِكَ الرَّتْقَاءُ وَالْقَرْنَاءُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا لِحُصُولِ الِانْتِفَاعِ بِالدَّوَاعِي وَالِاسْتِئْنَاسِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( قَوْلُهُ قَالُوا هَذَا حَسَنٌ .
وَفِي لَفْظِ الْكِتَابِ إشَارَةٌ إلَيْهِ ) وَهُوَ قَوْلُهُ وَإِنْ مَرِضَتْ فِي مَنْزِلِ الزَّوْجِ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا صَحِيحَةً ثُمَّ طَرَأَ الْمَرَضُ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ إشَارَةَ الْكِتَابِ هَذِهِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَا اخْتَارَهُ مِنْ عَدَمِ وُجُوبِ النَّفَقَةِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فِي مَنْزِلِهِ عَلَى مَا قَدَّمَهُ مِنْ قَوْلِهِ النَّفَقَةُ وَاجِبَةٌ لِلزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا إذَا سَلَّمَتْ نَفْسَهَا فِي مَنْزِلِهِ ، وَقَدَّمْنَا أَنَّهُ مُخْتَارُ بَعْضِ الْمَشَايِخِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ، وَلَيْسَ الْفَتْوَى عَلَيْهِ ، بَلْ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ وَهُوَ الْأَصَحُّ تَعْلِيقُهَا بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ مَا لَمْ يَقَعْ نُشُوزٌ فَالْمُسْتَحْسِنُونَ لِهَذَا التَّفْصِيلِ هُمْ الْمُخْتَارُونَ لِتِلْكَ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَهَذِهِ فَرْعِيَّتُهَا ، وَالْمُخْتَارُ وُجُوبُ النَّفَقَةِ لِتَحَقُّقِ الِاحْتِبَاسِ لِاسْتِيفَاءِ مَا هُوَ مِنْ مَقَاصِدِ النِّكَاحِ مِنْ الِاسْتِئْنَاسِ وَالِاسْتِمْتَاعِ بِالدَّوَاعِي وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ .
قَالَ فِي الْأَصْلِ : نَفَقَةُ الْمَرْأَةِ وَاجِبَةٌ عَلَى الزَّوْجِ وَإِنْ مَرِضَتْ أَوْ جُنَّتْ أَوْ أَصَابَهَا بَلَاءٌ يَمْنَعُ عَنْ الْجِمَاعِ أَوْ كَبِرَ حَتَّى لَا يُسْتَطَاعَ جِمَاعُهَا .
وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ : إذَا كَبِرَتْ وَلَا تُطِيقُ الْجِمَاعَ أَوْ بِهَا رَتْقٌ يَمْنَعُ الْجِمَاعَ أَوْ قَرْنٌ كَانَ لَهَا النَّفَقَةُ .
وَقَالَ الْحَلْوَانِيُّ : قَالُوا إذَا مَرِضَتْ مَرَضًا لَا يُمَكِّنُ الِانْتِفَاعَ بِهَا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ تَسْقُطُ النَّفَقَةُ

وَإِنْ كَانَ مَرَضًا يُمَكِّنُ الِانْتِفَاعَ بِهَا بِنَوْعِ انْتِفَاعٍ لَا تَسْقُطُ وَهَذَا تَقْيِيدٌ لِلْأَوَّلِ .
قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ : لَوْ كَانَتْ مَرِيضَةً وَمَعَهَا زَوْجُهَا أَوْ لَا قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ تَجِبُ .
وَفِي الْأَقْضِيَةِ : لَوْ كَانَتْ مُحْرِمَةً أَوْ رَتْقَاءَ أَوْ قَرْنَاءَ تَجِبُ .
وَفِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ : سَوَاءٌ أَصَابَتْهَا هَذِهِ الْعَوَارِضُ بَعْدَمَا انْتَقَلَتْ إلَى بَيْتِ الزَّوْجِ أَوْ قَبْلَهُ فِيمَا إذَا لَمْ تَكُنْ مَانِعَةً نَفْسَهَا ، وَهَذَا جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ : لَا نَفَقَةَ لِلرَّتْقَاءِ وَالْمَرِيضَةِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ وَطْؤُهَا قَبْلَ أَنْ يَنْقُلَهَا ، وَإِنْ انْتَقَلَتْ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ يَرُدُّهَا إلَى أَهْلِهَا ، أَمَّا إذَا نَقَلَهَا هُوَ إلَى بَيْتِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ لَا يَرُدُّهَا إلَى أَهْلِهَا انْتَهَى ، كُلُّهُ مِنْ الْخُلَاصَةِ .
وَبِهِ يَظْهَرُ لَك مَا حَكَمْنَا بِهِ فِيمَنْ اخْتَارَ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ ، ثُمَّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الَّتِي مَرِضَتْ فِي مَنْزِلِهِ إذَا تَطَاوَلَ مَرَضُهَا تُعْتَبَرُ كَالرَّتْقَاءِ فِيهَا .

( قَالَ : وَيُفْرَضُ عَلَى الزَّوْجِ النَّفَقَةُ إذَا كَانَ مُوسِرًا وَنَفَقَةُ خَادِمِهَا ) الْمُرَادُ بِهَذَا بَيَانُ نَفَقَةِ الْخَادِمِ ، وَلِهَذَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ : وَتُفْرَضُ عَلَى الزَّوْجِ إذَا كَانَ مُوسِرًا نَفَقَةُ خَادِمِهَا .
وَوَجْهُهُ أَنَّ كِفَايَتَهَا وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ ، وَهَذَا مِنْ تَمَامِهَا إذْ لَا بُدَّ لَهَا مِنْهُ ( وَلَا يُفْرَضُ لِأَكْثَرَ مِنْ نَفَقَةِ خَادِمٍ وَاحِدٍ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : تُفْرَضُ لِخَادِمَيْنِ لِأَنَّهَا تَحْتَاجُ إلَى أَحَدِهِمَا لِمَصَالِحِ الدَّاخِلِ وَإِلَى الْآخَرِ لِمَصَالِحِ الْخَارِجِ .
وَلَهُمَا أَنَّ الْوَاحِدَ يَقُومُ بِالْأَمْرَيْنِ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى اثْنَيْنِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ تَوَلَّى كِفَايَتَهَا بِنَفْسِهِ كَانَ كَافِيًا ، فَكَذَا إذَا أَقَامَ الْوَاحِدُ مَقَامَ نَفْسِهِ ، وَقَالُوا : إنَّ الزَّوْجَ الْمُوسِرَ يَلْزَمُهُ مِنْ نَفَقَةِ الْخَادِمِ مَا يَلْزَمُ الْمُعْسِرُ مِنْ نَفَقَةِ امْرَأَتِهِ وَهُوَ أَدْنَى الْكِفَايَةِ .
وَقَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ إذَا كَانَ مُوسِرًا إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا تَجِبُ نَفَقَةُ الْخَادِمِ عِنْدَ إعْسَارِهِ وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَهُوَ الْأَصَحُّ خِلَافًا لِمَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُعْسِرِ أَدْنَى الْكِفَايَةِ وَهِيَ قَدْ تَكْتَفِي بِخِدْمَةِ نَفْسِهَا .

( قَوْلُهُ وَتُفْرَضُ عَلَى الزَّوْجِ النَّفَقَةُ .
.
.
إلَخْ ) قَالَ الْمُصَنِّفُ : وَالْمُرَادُ بِهَذَا بَيَانُ نَفَقَةِ الْخَادِمِ ، وَهُوَ اعْتِذَارٌ عَنْ تَكْرَارِ نَفَقَتِهَا وَلَا يَخْفَى عَلَى مُتَأَمِّلٍ أَنَّ التَّكْرَارَ لَيْسَ بِلَازِمٍ أَصْلًا لِيَحْتَاجَ إلَى الِاعْتِذَارِ عَنْهُ فَإِنَّ مَا تَقَدَّمَ لَيْسَ إلَّا بَيَانُ وُجُوبِ النَّفَقَةِ لِلزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا وَبَيَانُ وُجُوبِهَا وَوُجُوبُهَا لَيْسَ نَفْسَ بَيَانِ جَوَازِ الْفَرْضِ لِلْقَاضِي وَلَا جَوَازُهُ لَهُ وَلَا هُوَ مَلْزُومُهُ فَإِنَّ الْفَرْضَ قَدْ يَتَخَلَّفُ مَعَ قِيَامِ وُجُوبِ النَّفَقَةِ بِدَلِيلِ مَا فِي الْأَقْضِيَةِ .
الرَّجُلُ إذَا كَانَ صَاحِبَ مَائِدَةٍ وَطَعَامٍ كَثِيرٍ تَتَمَكَّنُ هِيَ مِنْ التَّنَاوُلِ قَدْرَ كِفَايَتِهَا لَيْسَ لَهَا أَنْ تُطَالِبَ زَوْجَهَا بِفَرْضِ النَّفَقَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ تُفْرَضُ إذَا طُلِبَتْ فَأَفَادَ مَا قُلْنَا ، ثُمَّ إذَا فُرِضَ فَالزَّوْجُ هُوَ الَّذِي يَلِي الْإِنْفَاقَ إلَّا إذَا ظَهَرَ عِنْدَ الْقَاضِي مَطْلُهُ فَحِينَئِذٍ تُفْرَضُ النَّفَقَةُ وَيَأْمُرُهُ أَنْ يُعْطِيَهَا لِتُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهَا ، فَإِنْ لَمْ يُعْطِ حَبَسَهُ ، كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ .
وَقَيَّدَ الْيَسَارُ أَثَرَهُ فِي الْمَجْمُوعِ مِنْ نَفَقَتِهَا وَنَفَقَةِ الْخَادِمِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ ، فَعِنْدَ عَدَمِهِ يَنْتَفِي الْفَرْضُ لَكِنْ بِانْتِفَاءِ فَرْضِ نَفَقَةِ الْخَادِمِ ثُمَّ يُعْتَبَرُ فِي الْفَرْضِ الْأَصْلَحُ وَالْأَيْسَرُ ، فَفِي الْمُحْتَرِفِ يَوْمًا يَوْمًا : أَيْ عَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ نَفَقَةَ يَوْمٍ بِيَوْمٍ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَعْجِيلِ نَفَقَةِ شَهْرٍ مَثَلًا دُفْعَةً ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهَا مُعَجِّلًا ، وَيُعْطِيَهَا كُلَّ يَوْمٍ عِنْدَ الْمَسَاءِ عَنْ الْيَوْمِ الَّذِي يَلِي ذَلِكَ الْمَسَاءَ لِتَتَمَكَّنَ مِنْ الصَّرْفِ فِي حَاجَتِهَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ ، وَإِنْ كَانَ تَاجِرًا يُفْرَضُ عَلَيْهِ نَفَقَةُ شَهْرٍ بِشَهْرٍ ، أَوْ مِنْ الدَّهَّاقِينَ فَنَفَقَةُ سَنَةٍ بِسَنَةٍ ، أَوْ مِنْ الصُّنَّاعِ الَّذِينَ لَا يَنْقَضِي عَمَلُهُمْ إلَّا بِانْقِضَاءِ الْأُسْبُوعِ

كَذَلِكَ .
وَلَوْ فُرِضَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ حَالِهِ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ إعْطَاءِ الزَّائِدِ ، وَفِي الْأَقْضِيَةِ يُفْرَضُ الْإِدَامُ أَيْضًا أَعْلَاهُ اللَّحْمُ وَأَدْنَاهُ الزَّيْتُ وَأَوْسَطُهُ اللَّبَنُ ، وَقِيلَ فِي الْفَقِيرَةِ : لَا يُفْرَضُ الْإِدَامُ إلَّا إذَا كَانَ خُبْزَ شَعِيرٍ ، وَالْحَقُّ الرُّجُوعُ فِي ذَلِكَ إلَى عُرْفِهِمْ ، وَيُعْتَبَرُ فِيمَا عَلَى الزَّوْجِ الْحَطَبُ وَالصَّابُونُ وَالْأُشْنَانُ وَالدُّهْنُ لِلِاسْتِصْبَاحِ وَغَيْرِهِ وَثَمَنُ مَاءِ الْوُضُوءِ عَلَيْهَا ، فَإِنْ كَانَتْ غَنِيَّةً تَسْتَأْجِرُ مَنْ يَنْقُلَهُ وَلَا تَنْقُلُهُ بِنَفْسِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ فَقِيرَةً فَإِمَّا أَنْ يَنْقُلَهُ الزَّوْجُ لَهَا أَوْ يَدَعَهَا تَنْقُلُ بِنَفْسِهَا ، وَثَمَنُ مَاءِ الِاغْتِسَالِ عَلَى الزَّوْجِ فِي الْفَتَاوَى لِأَنَّهُ مَئُونَةُ الْجِمَاعِ ، وَفِي كِتَابِ رَزِينٍ جَعَلَهُ عَلَيْهَا ، وَفَصَلَ فِي مَاءِ الطُّهْرِ مِنْ الْحَيْضِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ حَيْضُهَا عَشَرَةَ أَيَّامٍ فَعَلَيْهَا أَوْ أَقَلَّ فَعَلَيْهِ ، وَأُجْرَةُ الْقَابِلَةِ عَلَى مَنْ اسْتَأْجَرَهَا مِنْ الزَّوْجَةِ وَالزَّوْجِ ، فَإِنْ جَاءَتْ بِغَيْرِ اسْتِئْجَارٍ فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مَئُونَةُ الْجِمَاعِ ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ عَلَيْهَا كَأُجْرَةِ الطَّبِيبِ .
وَفِي الْمُحِيطِ : إذَا كَانَ لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا دَيْنٌ فَقَالَ : اُحْسُبُوا لَهَا مِنْهُ نَفَقَتَهَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ ، بِخِلَافِ سَائِرِ الدُّيُونِ حَيْثُ تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ وَإِنْ لَمْ يَتَقَاصَّاهُ .
وَتُفْرَضُ الْكِسْوَةُ كُلَّ سِتَّةِ أَشْهُرٍ إلَّا إذَا تَزَوَّجَهَا وَبَنَى بِهَا قَبْلَ أَنْ يَبْعَثَ إلَيْهَا الْكِسْوَةَ فَإِنَّ لَهَا أَنْ تُطَالِبَهُ بِهَا قَبْلَ مُضِيِّ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ، وَالْكِسْوَةُ كَالنَّفَقَةِ فِي أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ مُضِيُّ الْمُدَّةِ ، وَلِلزَّوْجِ أَنْ يَرْفَعَ إلَى الْقَاضِي لِيَأْمُرَهَا بِلُبْسِ الثَّوْبِ .
لِأَنَّ الزِّينَةَ حَقُّهُ ، وَإِذَا فُرِضَ لَهَا كِسْوَةُ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَتَخَرَّقَتْ قَبْلَ مُضِيِّهَا إنْ لَبِسَتْ لُبْسًا مُعْتَادًا تَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكْفِهَا فَتُجَدِّدُ لِتُبَيِّنَ خَطَأَهُ فِي

التَّقْدِيرِ ، وَإِنْ تَخَرَّقَتْ لِخَرْقِ اسْتِعْمَالِهَا لَا يُفْرَضُ لَهَا أُخْرَى ، وَلَوْ سُرِقَتْ الْكِسْوَةُ أَوْ هَلَكَتْ النَّفَقَةُ لَا يُفْرَضُ لَهَا أُخْرَى بِخِلَافِ الْمَحَارِمِ ، وَلَوْ لَمْ تَلْبَسْ حَتَّى مَضَتْ سِتَّةُ أَشْهُرٍ تُفْرَضُ لَهَا أُخْرَى بِخِلَافِ الْمَحَارِمِ ، كَذَا فِي الْأَقْضِيَةِ .
وَلَوْ كَانَتْ تَلْبَسُ يَوْمًا وَتَتْرُكُ يَوْمًا تَوْفِيرًا يُجَدِّدُ لَهَا الْكِسْوَةَ إذَا فَرَغَ الْفَصْلُ ، وَلَوْ لَبِسَتْ دَائِمًا وَلَمْ تَتَخَرَّقْ لَمْ يُجَدِّدْ لَهَا إذَا فَرَغَ الْفَصْلُ ، وَلَوْ فَرَضَ لَهَا دَرَاهِمَ فَبَقِيَتْ كُلُّهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ أَوْ بَقِيَ مِنْهَا شَيْءٌ فِي الشَّهْرِ الْآخَرِ أَيْضًا يُفْرَضُ وَفِي الْمَحَارِمِ لَا يُفْرَضُ .
وَفِي أَدَبِ الْقَاضِي لِلْخَصَّافِ يُفْرَضُ قَمِيصٌ وَمُقَنِّعَةٌ وَمِلْحَفَةٌ .
وَتُزَادُ فِي الشِّتَاءِ سَرَاوِيلَ وَجُبَّةً بِاعْتِبَارِ عُسْرَتِهِ وَيَسْرَتِهِ .
ذَكَرَ الْخَصَّافُ السَّرَاوِيلَ فِي كِسْوَةِ الشِّتَاءِ دُونَ الصَّيْفِ ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ مُحَمَّدٌ أَصْلًا .
قَالَ السَّرَخْسِيُّ : لَمْ يُوجِبْ مُحَمَّدٌ الْإِزَارَ لِأَنَّهُ لِلْخُرُوجِ وَلَيْسَ لَهَا ذَلِكَ ، وَلِهَذَا لَمْ يُوجِبُوا لَهَا الْمُكَعَّبَ وَالْخُفَّ انْتَهَى .
وَقِيلَ اخْتِلَافُ عُرْفٍ وَالْعُرْفُ إيجَابُ السَّرَاوِيلِ فِي الصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ لِلُبْسِهِ فِي الْبَيْتِ ، فَالْقَاضِي يَنْظُرُ إلَى عُرْفِ كُلِّ قَوْمٍ فَيَفْرِضُ بِالْعُرْفِ ، فَعَلَى الْمُعْسِرِ قَالَ مُحَمَّدٌ : دِرْعٌ يَهُودِيٌّ وَمِلْحَفَةٌ زَطِّيَةٌ وَخِمَارٌ سَابُورِيٌّ أَرْخَصُ مَا يَكُونُ مِمَّا يُدْفِئُهَا فِي الشِّتَاءِ ، وَعَلَى الْمُوسِرِ دِرْعٌ يَهُودِيٌّ أَوْ هَرَوِيٌّ وَمِلْحَفَةٌ دِينَوَرِيَّةٌ وَخِمَارٌ إبْرَيْسَمُ وَكِسَاءٌ أَذْرَبِيجَانِيُّ ، وَلَهَا فِي الصَّيْفِ دِرْعٌ سَابُورِيٌّ وَمِلْحَفَةُ كَتَّانٍ وَخِمَارٌ إبْرَيْسَمُ ، فَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ الدِّرْعَ وَالْخِصَافَ وَالْقَمِيصَ وَهُمَا سَوَاءٌ ، إلَّا أَنَّ الْقَمِيصَ يَكُونُ مُجَيَّبًا مِنْ قِبَلِ الْكَتِفِ وَالدِّرْعَ مِنْ قِبَلِ الصَّدْرِ ، وَيَجِبُ لَهَا فِي الشِّتَاءِ اللِّحَافُ وَفِرَاشُ النَّوْمِ ، وَفِي كِسْوَةِ الْخَادِمِ ذَكَرُوا

الْإِزَارَ وَالْخُفَّ وَالْمُكَعَّبَ .
وَفِي الْخُلَاصَةِ هَذَا فِي دِيَارِهِمْ بِحُكْمِ الْعُرْفِ ، أَمَّا فِي دِيَارِنَا يُفْرَضُ الْمُكَعَّبُ وَيُفْرَضُ مَا تَنَامُ عَلَيْهِ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَهَا فِرَاشٌ عَلَى حِدَةٍ ، وَلَا يَكْتَفِي بِفِرَاشٍ وَاحِدٍ لَهُمَا ، لِأَنَّهَا قَدْ تَنْفَرِدُ فِي الْحَيْضِ وَالْمَرَضِ ، وَفِي الْأَثَرِ : " فِرَاشٌ لَك وَفِرَاشٌ لِأَهْلِك وَفِرَاشٌ لِلضَّيْفِ وَالرَّابِعُ لِلشَّيْطَانِ " .
وَإِذَا أَرْسَلَ ثَوْبًا فَاخْتَلَفَا فَقَالَتْ هَدِيَّةٌ وَقَالَ مِنْ الْكِسْوَةِ فَالْقَوْلُ لَهُ ، فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى إقْرَارِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِدَعْوَى الْآخَرِ أَوْ عَلَى نَفْسِ مُدَّعَاهُ ، فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الزَّوْجِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُدَّعِي لِلْقَضَاءِ ، وَكَذَا فِي دَرَاهِمَ فَقَالَتْ هَدِيَّةٌ وَقَالَ : نَفَقَةٌ أَوْ قَالَ مِنْ الْمَهْرِ وَقَالَتْ نَفَقَةٌ ، وَكَذَا فِي جَمِيعِ قَضَاءِ الدُّيُونِ إذَا كَانَتْ مِنْ وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ .
( قَوْلُهُ وَوَجْهُهُ أَنَّ كِفَايَتَهَا إلَخْ ) ظَاهِرٌ مِنْ الْكِتَابِ ثُمَّ هَلْ يُرَادُ بِالْخَادِمِ مَمْلُوكُهَا أَوْ أَعَمُّ مِنْهُ ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ الْمَمْلُوكُ ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَا تَسْتَحِقُّ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : كُلُّ مَنْ يَخْدُمُهَا حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً لَهَا أَوْ لِغَيْرِهَا وَفِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى : لَوْ كَانَتْ الْمَنْكُوحَةُ أَمَةً لَا تَسْتَحِقُّ نَفَقَةَ الْخَادِمِ وَنَفَقَةُ الْخَادِمِ لِبَنَاتِ الْأَشْرَافِ ، وَيُوَافِقُهُ مَا قَيَّدَ بِهِ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ كَلَامَ الْخَصَّافِ حَيْثُ قَالَ فِي أَدَبِ الْقَاضِي : فَرَضَ مَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الدَّقِيقِ وَالدُّهْنِ وَاللَّحْمِ وَالْإِدَامِ فَقَالَتْ : لَا أَخْبِزُ وَلَا أَعْجِنُ وَلَا أُعَالِجُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَا تُجْبَرُ عَلَيْهِ ، وَعَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَأْتِيَ بِمَنْ يَكْفِيهَا عَمَلَ ذَلِكَ .
وَقَالَ الْفَقِيهُ : هَذَا إذَا كَانَ بِهَا عِلَّةٌ لَا تَقْدِرُ عَلَى الطَّبْخِ وَالْخَبْزِ أَوْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا تُبَاشِرُ ذَلِكَ بِنَفْسِهَا ، فَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ تَخْدُمُ نَفْسَهَا وَتَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَهَا بِمَنْ يَفْعَلُهُ .

وَفِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ تُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ .
قَالَ السَّرَخْسِيُّ : لَا تُجْبَرُ ، وَلَكِنْ إذَا لَمْ تَطْبُخْ لَا يُعْطِيهَا الْإِدَامَ وَهُوَ الصَّحِيحُ .
وَقَالُوا : إنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهَا دِيَانَةً ، وَلَا يُجْبِرُهَا الْقَاضِي عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ أَيْضًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
( قَوْلُهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لِخَادِمَيْنِ ) وَهَكَذَا ذَكَرَهُ فِي فَتَاوَى أَهْلِ سَمَرْقَنْدَ ، وَوَجْهُ الدَّفْعِ ظَاهِرٌ مِنْ الْكِتَابِ .
( قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ لَوْ تَوَلَّى ) أَيْ الزَّوْجُ كِفَايَتَهَا بِنَفْسِهِ خِدْمَةً كَانَ كَافِيًا قَدْ يُمْنَعُ هَذَا عَلَى رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْأَقْضِيَةِ لَوْ قَالَ الزَّوْجُ أَنَا أَخْدُمُهَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ ذَلِكَ وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا يُقْبَلُ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى : إذَا كَانَتْ فَائِقَةً فِي الْغِنَى زُفَّتْ إلَيْهِ مَعَ خَدَمٍ كَثِيرٍ اسْتَحَقَّتْ نَفَقَةَ الْكُلِّ عَلَيْهِ ، وَهِيَ رِوَايَةُ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدٍ وَاخْتَارَهَا الطَّحَاوِيُّ .
( قَوْلُهُ خِلَافًا لِمَا يَقُولُهُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ ) وَهُوَ أَنَّهُ إذَا كَانَ لَهَا خَادِمٌ يُفْرَضُ لَهَا لِأَنَّهَا لَمْ تَكْتَفِ بِخِدْمَةِ نَفْسِهَا فَيُفْرَضُ وَلَوْ كَانَ مُعْسِرًا .
وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّهَا بِحَيْثُ تَكْتَفِي بِخِدْمَةِ نَفْسِهَا ، وَإِنَّمَا الْخَادِمُ لِزِيَادَةِ التَّنَعُّمِ فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا حَالَةُ الْيَسَارِ لِأَنَّ الْمُعْسِرَ إنَّمَا يَلْزَمُهُ أَدْنَى الْكِفَايَةِ فَقَطْ ، وَهَذَا يُخَالِفُ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ لُزُومِ اعْتِبَارِ حَالِهِمَا ، وَأَنَّهُ عِنْدَ إعْسَارِهِ دُونَهَا يُنْفِقُ بِقَدْرِ حَالِهِ وَالْبَاقِي دَيْنٌ عَلَيْهِ وَقِيَاسُهُ أَنَّهُ تَجِبُ نَفَقَةُ الْخَادِمِ دَيْنًا عَلَيْهِ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَرْأَةِ خَادِمٌ لَا تَجِبُ لَهَا نَفَقَتُهُ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهَا لِدَفْعِ حَاجَتِهَا وَحَاجَتُهَا إلَى نَفَقَةِ الْخَادِمِ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ عِنْدَ وُجُودِهِ وَصَارَ كَالْقَاضِي إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ خَادِمٌ لَا يَسْتَحِقُّ كِفَايَةَ الْخَادِمِ فِي بَيْتِ الْمَالِ ، وَالْغَازِي إذَا شَهِدَ الْوَقْعَةَ

بِلَا فَرَسٍ وَأَغْنَى غِنَاءَ الْفَارِسِ لَا يُسْهِمُ لَهُ سَهْمَ الْفَرَسِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَلَوْ كَانَتْ لَهُ أَوْلَادٌ لَا يَكْفِيهِمْ خَادِمٌ وَاحِدٌ فَرَضَ عَلَيْهِ لِخَادِمَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ اتِّفَاقًا .
وَفِي التَّجْنِيسِ : امْرَأَةٌ لَهَا مَمَالِيكُ قَالَتْ لِزَوْجِهَا أَنْفِقْ عَلَيْهِمْ مِنْ مَهْرِي فَأَنْفَقَ فَقَالَتْ : لَا أَجْعَلُهَا مِنْ الْمَهْرِ لِأَنَّك اسْتَخْدَمْتهمْ ، فَمَا أَنْفَقَ بِالْمَعْرُوفِ مَحْسُوبٌ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ بِأَمْرِهَا .

( وَمَنْ أَعْسَرَ بِنَفَقَةِ امْرَأَتِهِ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا وَيُقَالُ لَهَا اسْتَدِينِي عَلَيْهِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُفَرَّقُ ، لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ فَيَنُوبُ الْقَاضِي مَنَابَهُ فِي التَّفْرِيقِ كَمَا فِي الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ ، بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى النَّفَقَةِ أَقْوَى .
وَلَنَا أَنَّ حَقَّهُ يَبْطُلُ وَحَقَّهَا يَتَأَخَّرُ ، وَالْأَوَّلُ أَقْوَى فِي الضَّرَرِ ، وَهَذَا لِأَنَّ النَّفَقَةَ تَصِيرُ دَيْنًا بِفَرْضِ الْقَاضِي فَتَسْتَوْفِي الزَّمَانَ الثَّانِي ، وَفَوْتُ الْمَالِ وَهُوَ تَابِعٌ فِي النِّكَاحِ لَا يَلْحَقُ بِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ التَّنَاسُلُ .
وَفَائِدَةُ الْأَمْرِ بِالِاسْتِدَانَةِ مَعَ الْفَرْضِ أَنْ يُمَكِّنَهَا إحَالَةَ الْغَرِيمِ عَلَى الزَّوْجِ ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ الِاسْتِدَانَةُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي كَانَتْ الْمُطَالَبَةُ عَلَيْهَا دُونَ الزَّوْجِ .

( قَوْلُهُ وَمَنْ أَعْسَرَ بِنَفَقَةِ امْرَأَتِهِ إلَخْ ) بِقَوْلِنَا قَالَ الزُّهْرِيُّ وَعَطَاءٌ وَابْنُ يَسَارٍ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَالظَّاهِرِيَّةُ ؛ وَمَعْنَى الِاسْتِدَانَةِ أَنْ تَشْتَرِيَ الطَّعَامَ عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَ الزَّوْجُ ثَمَنَهُ .
وَقَالَ الْخَصَّافُ : الشِّرَاءُ بِالنَّسِيئَةِ لِيَقْضِيَ الثَّمَنَ مِنْ مَالِ الزَّوْجِ ، وَبِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ فِي ظَاهِرِ قَوْلِهِ ، وَعَنْهُ رِوَايَةٌ كَقَوْلِنَا ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ الْعَجْزُ عَنْ الْكِسْوَةِ وَالْعَجْزُ عَنْ الْمَسْكَنِ ، وَهَذَا التَّفْرِيقُ فَسْخٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ، وَأَحْمَدَ طَلَاقٌ عِنْدَ مَالِكٍ .
وَلَوْ امْتَنَعَ عَنْ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا مَعَ الْيُسْرِ لَمْ يُفَرَّقْ ، وَيَبِيعُ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ مَالَهُ وَيَصْرِفُهُ فِي نَفَقَتِهَا ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَالَهُ يَحْبِسُهُ حَتَّى يُنْفِقَ عَلَيْهَا وَلَا يَفْسَخُ ، وَعَنْ هَذَا مَا ذُكِرَ فِي النِّهَايَةِ حَيْثُ قَالَ : ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ ظُهُورَ الْعَجْزِ عَنْ النَّفَقَةِ إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَ الزَّوْجُ حَاضِرًا ، أَمَّا إذَا غَابَ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً وَلَمْ يَخْلُفْ لَهَا نَفَقَةً فَرَفَعَتْ الْأَمْرَ إلَى الْقَاضِي فَكَتَبَ الْقَاضِي إلَى عَالِمٍ يَرَى التَّفْرِيقَ بِالْعَجْزِ عَنْ النَّفَقَةِ فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا هَلْ تَقَعُ الْفُرْقَةُ ؟ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ السُّغْدِيُّ : نَعَمْ إذَا تَحَقَّقَ الْعَجْزُ عَنْ النَّفَقَةِ .
قَالَ صَاحِبُ الذَّخِيرَةِ : فِي هَذَا الْجَوَابِ نَظَرٌ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ قَضَاؤُهُ لِأَنَّ الْعَجْزَ لَا يُعْرَفُ حَالَةَ الْغَيْبَةِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا فَيَكُونُ هَذَا تَرْكَ الْإِنْفَاقِ لَا الْعَجْزَ عَنْهُ ، فَإِنْ رَفَعَ هَذَا الْقَضَاءَ إلَى قَاضٍ آخَرَ فَأَمْضَاهُ جَازَ قَضَاؤُهُ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ لِأَنَّ هَذَا الْقَضَاءَ لَيْسَ فِي مُجْتَهَدٍ فِيهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْعَجْزَ لَمْ يَثْبُتْ ذِكْرُهُ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي مِنْ فُصُولِ الْإِمَامِ الْأُسْرُوشَنِيِّ فَتَكُونُ الشُّهُودُ

عَلِمَتْ مَجَازَهُ مُجَازَفَتَهُمْ فَلَا يَقْضِي بِهَا كَمَا ذَكَرَهُ ظَهِيرُ الدِّينِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْفَسْخَ إذَا غَابَ وَلَمْ يَتْرُكْ لَهَا نَفَقَةً يُمْكِنُ بِغَيْرِ طَرِيقِ إثْبَاتِ عَجْزِهِ بِمَعْنَى فَقْرِهِ لِيَجِيءَ مَا قَالَ وَهُوَ أَنْ تَتَعَذَّرَ النَّفَقَةُ عَلَيْهَا .
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ : إذَا تَعَذَّرَتْ النَّفَقَةُ عَلَيْهَا بِغَيْبَتِهِ ثَبَتَ لَهَا الْفَسْخُ .
قَالَ فِي الْحِلْيَةِ : وَهُوَ وَجْهٌ جَيِّدٌ فَلَا يَلْزَمُ مَجِيءُ مَا قَالَ ظَهِيرُ الدِّينِ .
( قَوْلُهُ لِأَنَّهُ عَجَزَ إلَخْ ) اسْتَدَلُّوا بِالْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ ، أَمَّا الْمَنْقُولُ فَمَا فِي سُنَنِ النَّسَائِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَاقَ الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ { وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ ، فَقِيلَ مَنْ أَعُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : امْرَأَتُكَ تَقُولُ أَطْعِمْنِي وَإِلَّا فَارِقْنِي ، خَادِمُكَ يَقُولُ أَطْعِمْنِي وَاسْتَعْمِلْنِي ، وَلَدُكَ يَقُولُ أَطْعِمْنِي إلَى مَنْ تَتْرُكُنِي } هَكَذَا فِي جَمِيعِ نُسَخِ النَّسَائِيّ وَهُوَ عِنْدَهُ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَسَعِيدٌ وَمُحَمَّدٌ ثِقَتَانِ .
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ : حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرِ بْنِ مَطَرٍ ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فُرُوخٍ ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { الْمَرْأَةُ تَقُولُ لِزَوْجِهَا أَطْعِمْنِي أَوْ طَلِّقْنِي } الْحَدِيثَ .
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ : حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ أَحْمَدَ السِّمَاكُ وَعَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ عَلِيٍّ قَالُوا : أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْخَزَّانُ ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ الْبَارُودِيُّ ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فِي

الرَّجُلِ لَا يَجِدُ مَا يُنْفِقُ عَلَى امْرَأَتِهِ قَالَ : يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا .
وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ إلَى حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُهُ .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ قَالَ : سَأَلْت سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ عَنْ الرَّجُلِ لَا يَجِدُ مَا يُنْفِقُ عَلَى امْرَأَتِهِ أَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قُلْت سُنَّةٌ ؟ قَالَ سُنَّةٌ .
وَهَذَا يَنْصَرِفُ إلَى سُنَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَايَتِهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَرَاسِيلِ سَعِيدٍ ، وَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ بِهَا وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ بِالْمُرْسَلِ مُطْلَقًا ، وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَالْقِيَاسُ عَلَى الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ بَلْ أَوْلَى ، لِأَنَّ الْبَدَنَ يَبْقَى بِلَا وَطْءٍ وَلَا يَبْقَى بِلَا قُوتٍ ، وَأَيْضًا مَنْفَعَةُ الْجِمَاعِ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا ؛ فَإِذَا ثَبَتَ فِي الْمُشْتَرَكِ جَوَازُ الْفَسْخِ لِعَدَمِهِ فَفِي الْمُخْتَصِّ بِهَا أَوْلَى ، وَقِيَاسًا عَلَى الْمَرْقُوقِ فَإِنَّهُ يَبِيعُهُ إذَا أَعْسَرَ بِنَفَقَتِهِ .
( قَوْلُهُ وَلَنَا ) الْمَنْقُولُ وَالْمَعْنَى ، أَمَّا الْمَنْقُولُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ } وَغَايَةُ النَّفَقَةِ أَنْ تَكُونَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ وَقَدْ أَعْسَرَ بِهَا الزَّوْجُ فَكَانَتْ الْمَرْأَةُ مَأْمُورَةً بِالْإِنْظَارِ بِالنَّصِّ ، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَهُوَ أَنَّ فِي إلْزَامِ الْفَسْخِ إبْطَالَ حَقِّهِ بِالْكُلِّيَّةِ وَفِي إلْزَامِ الْإِنْظَارِ عَلَيْهَا وَالِاسْتِدَانَةِ عَلَيْهِ تَأْخِيرَ حَقِّهَا دَيْنًا عَلَيْهِ ، وَإِذَا دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَهُمَا كَانَ التَّأْخِيرُ أَوْلَى ، وَبِهِ فَارَقَ الْجَبَّ وَالْعُنَّةَ وَالْمَمْلُوكَ لِأَنَّ حَقَّ الْجِمَاعِ لَا يَصِيرُ دَيْنًا عَلَى الزَّوْجِ ، وَلَا نَفَقَةَ الْمَمْلُوكِ تَصِيرُ دَيْنًا عَلَى الْمَالِكِ ، وَيَخُصُّ الْمَمْلُوكُ أَنَّ فِي إلْزَامِ بَيْعِهِ إبْطَالَ حَقِّ السَّيِّدِ إلَى خَلْفٍ هُوَ الثَّمَنُ ، فَإِذَا عَجَزَ عَنْ نَفَقَتِهِ كَانَ النَّظَرُ مِنْ

الْجَانِينَ فِي إلْزَامِهِ بَيْعَهُ ، إذْ فِيهِ تَخْلِيصُ الْمَمْلُوكِ مِنْ عَذَابِ الْجُوعِ وَحُصُولِ بَدَلِهِ الْقَائِمِ مَقَامَهُ لِلسَّيِّدِ ، بِخِلَافِ إلْزَامِ الْفُرْقَةِ فَإِنَّهُ إبْطَالُ حَقِّهِ بِلَا بَدَلٍ ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ بِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ عَجَزَ عَنْ نَفَقَتِهَا لَمْ يَعْتِقْهَا الْقَاضِي عَلَيْهِ .
وَأَمَّا الْمَرْوِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فِي قَوْلِهِ : إنَّهُ سُنَّةٌ فَلَعَلَّهُ لَا يُرِيدُ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ إطْلَاقُ مِثْلِ ذَلِكَ غَيْرَ مُرِيدٍ بِهِ ذَلِكَ .
قَالَ الطَّحَاوِيُّ : كَانَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ يَقُولُ الْمَرْأَةُ فِي الْأَرْشِ كَالرَّجُلِ إلَى ثُلُثِ الدِّيَةِ ، فَإِذَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ فَحَالُهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ الرَّجُلِ .
قَالَ رَبِيعَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ : قُلْت لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ : مَا تَقُولُ فِيمَنْ قَطَعَ إصْبَعَ امْرَأَةٍ ؟ قَالَ : عَشْرٌ مِنْ الْإِبِلِ ، قُلْت : فَإِنْ قَطَعَ أُصْبُعَيْنِ ، قَالَ : عِشْرُونَ مِنْ الْإِبِلِ ، قُلْت : فَإِنْ قَطَعَ ثَلَاثًا ، قَالَ : ثَلَاثُونَ مِنْ الْإِبِلِ ، قُلْت : فَإِنْ قَطَعَ أَرْبَعًا مِنْ أَصَابِعِهَا ، قَالَ : عِشْرُونَ مِنْ الْإِبِلِ ، قُلْت : سُبْحَانَ اللَّهِ لَمَّا كَثُرَ أَلَمُهَا وَاشْتَدَّ مُصَابُهَا قَلَّ أَرْشُهَا .
قَالَ : إنَّهُ السُّنَّةُ .
قَالَ الطَّحَاوِيُّ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إلَّا عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، فَسَمَّى قَوْلَهُ سُنَّةً فَيَكُونُ مَا قَالَهُ اعْتِمَادًا عَلَى مَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ ، هَذَا بَعْدَ تَسْلِيمِ صِحَّتِهِ ، وَإِلَّا فَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَعِيدٍ كَقَوْلِنَا فَاضْطَرَبَ الْمَرْوِيُّ مِنْهُ فَبَطَلَ ذَكَرَهُ ابْنُ حَزْمٍ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ ، وَأَمَّا الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا عِنْدَ النَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ فَلَا شَكَّ فِي أَنَّ رَفْعَهُ غَلَطٌ ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ .
رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {

أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ مَا تَرَكَ غِنًى } وَفِي لَفْظٍ : { مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى ، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ ، تَقُولُ الْمَرْأَةُ إمَّا أَنْ تُطْعِمَنِي وَإِمَّا أَنْ تُطَلِّقَنِي ، وَيَقُولُ الْعَبْدُ أَطْعِمْنِي وَاسْتَعْمِلْنِي ، وَيَقُولُ الْوَلَدُ أَطْعِمْنِي إلَى مَنْ تَدَعُنِي } قَالُوا : يَا أَبَا هُرَيْرَةَ سَمِعْت هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : لَا هَذَا مِنْ كِيسِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، فَثَبَتَ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ بِلَا شُبْهَةٍ ، ثُمَّ لَيْسَ فِي قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ يَلْزَمُ بِالطَّلَاقِ ، وَكَيْف وَهُوَ كَلَامٌ عَامٌّ مِنْهُ لَا يَخُصُّ الْمُعْسِرَ وَلَا الْمُوسِرَ ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْمُوسِرَ إذَا لَمْ يُطْعَمْ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْفِرَاقِ بَلْ يُحْبَسُ عَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ عَيْنًا وَهُوَ الِاتِّفَاقُ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ سَلَّمَ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ كَانَ مَعْنَاهُ الْإِرْشَادَ إلَى مَا يَنْبَغِي مِمَّا يُدْفَعُ بِهِ ضَرَرُ الدُّنْيَا ، مِثْلُ { وَأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ } يَعْنِي يَنْبَغِي أَنْ يُبْدَأَ بِنَفَقَةِ الْعِيَالِ وَإِلَّا قَالُوا لَك مِثْلَ ذَلِكَ وَشَوَّشُوا عَلَيْك إذَا اسْتَهْلَكْت النَّفَقَةَ لِغَيْرِهِمْ كَمَا ذَكَرْنَا ، وَأَمَّا مَا تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَالَ مِثْلَهُ فَلَيْسَ الْمُرَادُ مِثْلَ مَا يَلِيهِ مِنْ قَوْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ بَلْ مِثْلَ مَا قَبْلَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي سَبَقَ ذِكْرُهُ مِنْ رِوَايَةِ النَّسَائِيّ وَرِوَايَتِهِ ذَكَرَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ فِي الْوَهْمِ وَالْإِيهَامِ .
( قَوْلُهُ إحَالَةُ الْغَرِيمِ عَلَى الزَّوْجِ ) أَيْ وَإِنْ لَمْ يَرْضَ الزَّوْجُ وَفِي التُّحْفَةِ : فَائِدَةُ الْأَمْرِ بِالِاسْتِدَانَةِ أَنَّ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ أَنْ يَأْخُذَ دَيْنَهُ مِنْ الزَّوْجِ أَوْ مِنْ الْمَرْأَةِ وَبِدُونِهِ الْأَمْرُ بِالِاسْتِدَانَةِ لَيْسَ لِرَبِّ الدَّيْنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الزَّوْجِ بَلْ

عَلَيْهَا وَهِيَ تَرْجِعُ عَلَى الزَّوْجِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الِاسْتِدَانَةَ إيجَابُ الدَّيْنِ عَلَيْهِ مِنْهَا وَلَيْسَ لَهَا عَلَيْهِ هَذِهِ الْوِلَايَةُ وَفَائِدَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا فِي الصَّحِيحِ بِخِلَافِ الْقَضَاءِ وَحْدَهُ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَفِي شَرْحِ الْمُخْتَارِ : الْمَرْأَةُ الْمُعْسِرَةُ إذَا كَانَ زَوْجُهَا مُعْسِرًا وَلَهَا ابْنٌ مِنْ غَيْرِهِ مُوسِرًا وَأَخٌ فَنَفَقَتُهَا عَلَى زَوْجِهَا وَيُؤْمَرُ الِابْنُ أَوْ الْأَخُ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الزَّوْجِ إذَا أَيْسَرَ وَيُحْبَسُ الِابْنُ أَوْ الْأَخُ إنْ امْتَنَعَ لِأَنَّ هَذَا مِنْ الْمَعْرُوفِ .
قَالَ شَارِحُ الْكَنْزِ : تَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْإِدَانَةَ لِنَفَقَتِهَا إذَا كَانَ الزَّوْجُ مُعْسِرًا وَهِيَ مُعْسِرَةٌ تَجِبُ عَلَى مَنْ كَانَ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهَا لَوْلَا الزَّوْجُ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ لِلْمُعْسِرِ أَوْلَادٌ صِغَارٌ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى نَفَقَتِهِمْ تَجِبُ نَفَقَتُهُمْ عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ لَوْلَا الْأَبُ كَالْأُمِّ وَالْأَخِ وَالْعَمِّ ثُمَّ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْأَبِ .

( وَإِذَا قَضَى الْقَاضِي لَهَا بِنَفَقَةِ الْإِعْسَارِ ثُمَّ أَيْسَرَ فَخَاصَمَتْهُ تَمَّمَ لَهَا نَفَقَةَ الْمُوسِرِ ) لِأَنَّ النَّفَقَةَ تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ ، وَمَا قَضَى بِهِ تَقْدِيرٌ لِنَفَقَةٍ لَمْ تَجِبْ ، فَإِذَا تَبَدَّلَ حَالُهُ فَلَهَا الْمُطَالَبَةُ بِتَمَامِ حَقِّهَا .
( قَوْلُهُ تَمَّمَ لَهَا نَفَقَةَ الْيَسَارِ ) هَكَذَا مَشَى عَلَيْهِ أَيْضًا صَاحِبُ الْكَنْزِ بَعْدَ اعْتِبَارِ حَالِ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ فَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ شَارِحُهُ بِأَنَّهُ نَوْعُ تَنَاقُضٍ فَإِنَّ مَا ذَكَرَهُ أَوَّلَ الْبَابِ قَوْلُ الْخَصَّافِ ثُمَّ بَنَى الْحُكْمَ عَلَى قَوْلِ الْكَرْخِيِّ ، وَلَوْ كَانَ فَرَضَ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ وَحَالِهَا مِقْدَارًا ثُمَّ غَلَا السِّعْرُ كَانَ لَهَا أَنْ تُطَالِبَهُ بِأَنْ يَزِيدَ فِي الْفَرْضِ ، وَلَوْ كَانَ عَلَى قَلْبِهِ كَانَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَنْقُصَ .
( قَوْلُهُ وَمَا قَضَى بِهِ تَقْدِيرٌ لِنَفَقَةٍ لَمْ تَجِبْ ) لِأَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ شَيْئًا فَشَيْئًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَلَا يَتَقَرَّرُ حُكْمُ الْقَاضِي فِيهَا بِخُصُوصِ مِقْدَارٍ ، وَلِأَنَّهُ كَانَ بِشَرْطِ الْإِعْسَارِ وَعَلَى تَقْدِيرِهِ وَقَدْ زَالَ فَيَزُولُ بِزَوَالِهِ .

( وَإِذَا مَضَتْ مُدَّةٌ لَمْ يُنْفِقْ الزَّوْجُ عَلَيْهَا وَطَالَبَتْهُ بِذَلِكَ فَلَا شَيْءَ لَهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي فَرَضَ لَهَا النَّفَقَةَ لَوْ صَالَحَتْ الزَّوْجَ عَلَى مِقْدَارٍ فِيهَا فَيَقْضِي لَهَا بِنَفَقَةِ مَا مَضَى ) لِأَنَّ النَّفَقَةَ صِلَةٌ وَلَيْسَتْ بِعِوَضٍ عِنْدَنَا عَلَى مَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ فَلَا يُسْتَحْكَمُ الْوُجُوبُ فِيهَا إلَّا بِالْقَضَاءِ كَالْهِبَةِ لَا تُوجِبُ الْمِلْكَ إلَّا بِمُؤَكَّدٍ وَهُوَ الْقَبْضُ وَالصُّلْحُ بِمَنْزِلَةِ الْقَضَاءِ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ عَلَى نَفْسِهِ أَقْوَى مِنْ وِلَايَةِ الْقَاضِي ، بِخِلَافِ الْمَهْرِ لِأَنَّهُ عِوَضٌ .

( قَوْلُهُ لَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهَا ) بِأَنْ غَابَ عَنْهَا أَوْ كَانَ حَاضِرًا وَامْتَنَعَ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ نَفَقَتَهَا لَا تَثْبُتُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِفَرْضٍ أَوْ اصْطِلَاحِهِمَا عَلَى مِقْدَارٍ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ ذَلِكَ الْمِقْدَارُ فِي ذِمَّتِهِ دَيْنًا إذَا لَمْ يُعْطِهَا وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ .
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ تَصِيرُ دَيْنًا عَلَيْهِ إلَّا إنْ كَانَتْ أَكَلَتْ مَعَهُ بَعْدَ الْفَرْضِ فَإِنَّهَا تَسْقُطُ بِالْمُضِيِّ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْأَصَحِّ .
( قَوْلُهُ لِأَنَّهَا صِلَةٌ ) أَيْ مِنْ وَجْهٍ ( قَوْلُهُ وَلَيْسَتْ بِعِوَضٍ ) أَيْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بَلْ هِيَ عِوَضٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا جَزَاءُ الِاحْتِبَاسِ ، فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ احْتِبَاسٌ لِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ وَقَضَاءِ الشَّهْوَةِ وَإِصْلَاحِ أَمْرِ الْمَعِيشَةِ وَالِاسْتِئْنَاسِ هِيَ عِوَضٌ ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَجَبَتْ عَلَى الْمُكَاتَبِ ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ لِإِقَامَةِ حَقِّ الشَّرْعِ وَأُمُورٍ مُشْتَرَكَةٍ كَإِعْفَافِ كُلِّ الْآخَرِ وَتَحْصِينِهِ عَنْ الْمَفَاسِدِ وَحِفْظِ النَّسَبِ وَتَحْصِيلِ الْوَلَدِ لِيُقِيمَ التَّكَالِيفَ الشَّرْعِيَّةَ هِيَ صِلَةٌ كَرِزْقِ الْقَاضِي وَالْمُفْتِي فَلَا تَمْلِكُ إلَّا بِالْقَبْضِ فَلِاعْتِبَارِ أَنَّهَا عِوَضٌ قُلْنَا تَثْبُتُ إذَا قَضَى بِهَا أَوْ اصْطَلَحَا لِأَنَّ وِلَايَتَهُ عَلَى نَفْسِهِ أَعْلَى مِنْ وِلَايَةِ الْقَاضِي عَلَيْهِ ، وَلِاعْتِبَارِ أَنَّهَا صِلَةٌ قُلْنَا تَسْقُطُ إذَا مَضَتْ الْمُدَّةُ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ وَلَا اصْطِلَاحٍ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ .
وَذُكِرَ فِي الْغَايَةِ مَعْزُوًّا إلَى الذَّخِيرَةِ أَنَّ نَفَقَةَ مَا دُونَ الشَّهْرِ لَا تَسْقُطُ ، فَكَأَنَّهُ جَعَلَ الْقَلِيلَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ ، إذْ لَوْ سَقَطَتْ بِمُضِيٍّ يَسِيرٍ مِنْ الزَّمَانِ لَمَا تَمَكَّنَتْ مِنْ الْأَخْذِ أَصْلًا وَهَذَا حَقٌّ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْوَجْهُ .
وَقَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ فَلَا يُسْتَحْكَمُ الْوُجُوبُ فِيهَا إلَّا بِالْقَضَاءِ عَلَى مَا حَمَلْنَا كَلَامَهُ

فِيهِ مِنْ إثْبَاتِ أَنَّهُ صِلَةٌ مِنْ وَجْهٍ مُتَرَتِّبٌ عَلَى تَرَدُّدِهَا بَيْنَ الصِّلَةِ الْمَحْضَةِ وَالْعِوَضِ الْمَحْضِ ، وَلَوْ اخْتَلَفَا فِيمَا مَضَى مِنْ الْمُدَّةِ مِنْ وَقْتِ الْقَضَاءِ الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمَرْأَةِ ، وَمَنْ ادَّعَى عَلَى امْرَأَةٍ نِكَاحًا وَهِيَ تَجْحَدُ فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ لَا نَفَقَةَ لَهَا ، وَكَذَا إذَا كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الْمُنْكِرُ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ يَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ لِأَنَّهَا صَارَتْ مُكَذَّبَةً شَرْعًا وَكَذَا الزَّوْجُ وَإِلَّا فَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَار وَفَتْحِ بَابِ الْفَسَادِ خُصُوصًا عِنْدَ اضْطِرَارِهَا لِلنَّفَقَةِ مَعَ حَبْسِهَا .

( وَإِنْ مَاتَ الزَّوْجُ بَعْدَمَا قَضَى عَلَيْهِ بِالنَّفَقَةِ وَمَضَى شُهُورٌ سَقَطَتْ النَّفَقَةُ ) وَكَذَا إذَا مَاتَتْ الزَّوْجَةُ لِأَنَّ النَّفَقَةَ صِلَةٌ وَالصِّلَاتُ تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ كَالْهِبَةِ تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ قَبْلَ الْقَبْضِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَصِيرُ دَيْنًا قَبْلَ الْقَضَاءِ وَلَا تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ لِأَنَّهُ عِوَضٌ عِنْدَهُ فَصَارَ كَسَائِرِ الدُّيُونِ ، وَجَوَابُهُ قَدْ بَيَّنَّاهُ .

( قَوْلُهُ وَإِنْ مَاتَ الزَّوْجُ بَعْدَمَا قَضَى عَلَيْهِ بِالنَّفَقَةِ وَمَضَى شُهُورٌ سَقَطَتْ ) هَذَا تَقْيِيدٌ لِعَدَمِ السُّقُوطِ بِالْقَضَاءِ بِحَالَةِ حَيَاتِهِمَا وَأَطْلَقَهُ فَشَمَلَ مَا إذَا كَانَ الْقَاضِي أَمَرَهَا بِالِاسْتِدَانَةِ أَوْ لَمْ يَأْمُرْهَا فَوَافَقَ قَوْلَ الْخَصَّافِ ، وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ أَنَّهُ إذَا كَانَ أَمْرُهَا بِالِاسْتِدَانَةِ لَا تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِدَانَةَ بِأَمْرِ مَنْ لَهُ وِلَايَةٌ تَامَّةٌ عَلَيْهِ عِنْدَ رَفْعِ قَضِيَّتِهَا لَهُ وَهُوَ الْقَاضِي فَكَانَ كَاسْتِدَانَتِهِ : أَيْ الزَّوْجِ بِنَفْسِهِ فَلَا تَسْقُطُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ سُقُوطُهَا بَعْدَ الْأَمْرِ بِالِاسْتِدَانَةِ بِالطَّلَاقِ وَالصَّحِيحُ لَا تَسْقُطُ .
( قَوْلُهُ لِأَنَّ النَّفَقَةَ صِلَةٌ وَالصِّلَةُ تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ ) فَإِنْ قِيلَ : قَدْ قُلْتُمْ إنَّهُ اسْتَحْكَمَ هَذَا الدَّيْنَ بِحُكْمِ الْقَاضِي وَجَعَلْتُمُوهُ مُؤَكَّدًا لِلِاسْتِحْقَاقِ كَالْقَبْضِ فِي الْهِبَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَبْقَى الْوُجُوبُ بَعْدَ الْمَوْتِ كَالْهِبَةِ الْمَقْبُوضَةِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ بِالْقَضَاءِ لَا يَبْطُلُ مَعْنَى الصِّلَةِ بَلْ يُوجِبُ تَأَكُّدَ هَذِهِ الصِّلَةِ فَتَصِيرُ الصِّلَةُ كَغَيْرِ الصِّلَةِ ، وَإِذَا كَانَ مَعْنَى الصِّلَةِ بَاقِيًا أَثَّرَ الْمَوْتُ فِي سُقُوطِهِ بِسَبَبِ أَنَّهُ يُبْطِلُ الْأَهْلِيَّةَ بِالْكُلِّيَّةِ فَكَانَ أَقْوَى فِي إبْطَالِهِ الصِّلَةَ فَيَحْتَاجُ لِلِاسْتِحْكَامِ عَلَى وَجْهٍ يَلْزَمُ بَعْدَ الْمَوْتِ إلَى زِيَادَةٍ وَهُوَ الْأَمْرُ بِالِاسْتِدَانَةِ ، وَفِي حَالِ الْحَيَاةِ لَمْ تَبْطُلْ الْأَهْلِيَّةُ فَيُسْتَحْكَمُ بِمُجَرَّدِ التَّأَكُّدِ بِالْقَضَاءِ بِهَا .
.

( وَإِنْ ) ( أَسْلَفَهَا نَفَقَةَ السَّنَةِ ) أَيْ عَجَّلَهَا ( ثُمَّ مَاتَ ) ( لَمْ يُسْتَرْجَعْ مِنْهَا شَيْءٌ وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ ، يُحْتَسَبُ لَهَا نَفَقَةُ مَا مَضَى وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِلزَّوْجِ ) وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْكِسْوَةُ لِأَنَّهَا اسْتَعْجَلَتْ عِوَضًا عَمَّا تَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهِ بِالِاحْتِبَاسِ ، وَقَدْ بَطَلَ الِاسْتِحْقَاقُ بِالْمَوْتِ فَيَبْطُلُ الْعِوَضُ بِقَدْرِهِ كَرِزْقِ الْقَاضِي وَعَطَاءِ الْمُقَاتَلَةِ .
وَلَهُمَا أَنَّهُ صِلَةٌ وَقَدْ اتَّصَلَ بِهِ الْقَبْضُ وَلَا رُجُوعَ فِي الصِّلَاتِ بَعْدَ الْمَوْتِ لِانْتِهَاءِ حُكْمِهَا كَمَا فِي الْهِبَةِ ، وَلِهَذَا لَوْ هَلَكَتْ مِنْ غَيْرِ اسْتِهْلَاكٍ لَا يُسْتَرَدُّ شَيْءٌ مِنْهَا بِالْإِجْمَاعِ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهَا إذَا قَبَضَتْ نَفَقَةَ الشَّهْرِ أَوْ مَا دُونَهُ لَا يُسْتَرْجَعُ مِنْهَا شَيْءٌ لِأَنَّهُ يَسِيرٌ فَصَارَ فِي حُكْمِ الْحَالِ .

[ فَرْعٌ ] إبْرَاءُ الزَّوْجَةِ مِنْ النَّفَقَةِ هَلْ يَصِحُّ وَيَلْزَمُ ؟ إنْ كَانَتْ غَيْرَ مَفْرُوضَةٍ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ إبْرَاءٌ قَبْلَ الْوُجُوبِ ، وَإِنْ كَانَ الْقَاضِي فَرَضَهَا كُلَّ شَهْرٍ كَذَا وَكَذَا صَحَّ فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ فَقَطْ ، وَكَذَا لَوْ قَالَتْ أَبْرَأْتُك مِنْ نَفَقَةِ سَنَةٍ لَا يَبْرَأُ إلَّا مِنْ شَهْرٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ فَرَضَ لَهَا كُلَّ سَنَةٍ كَذَا لِأَنَّ الْقَاضِيَ إذَا فَرَضَ كَذَا كُلَّ شَهْرٍ فَإِنَّمَا فَرَضَ مَهْمَا يَتَجَدَّدُ الشَّهْرُ فَمَا لَمْ يَتَجَدَّدْ لَمْ يَتَجَدَّدْ الْفَرْضُ ، وَمَا لَمْ يَتَجَدَّدْ الْفَرْضُ لَمْ تَجِبْ نَفَقَةُ الشَّهْرِ فَلَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ عَنْهَا .
وَلَوْ أَبْرَأَتْهُ بَعْدَمَا مَضَى أَشْهُرٌ عَمَّا مَضَى وَعَمَّا يَسْتَقْبِلُ بَرِئَ عَمَّا مَضَى وَعَنْ شَهْرٍ ( قَوْلُهُ وَمَا بَقِيَ لِلزَّوْجِ ) فَتَرُدُّهُ ، وَكَذَا تَرُدُّ قِيمَةَ الْمُسْتَهْلَكِ وَلَا تَرُدُّ قِيمَةَ الْهَالِكِ بِالِاتِّفَاقِ وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا ، وَالْمَوْتُ وَالطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ سَوَاءٌ ، وَفِي نَفَقَةِ الْمُطَلَّقَةِ إذَا مَاتَ الزَّوْجُ اخْتَلَفُوا ، فَقِيلَ تَرُدُّ ، وَقِيلَ لَا تَسْتَرِدُّ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ الْعِدَّةَ قَائِمَةٌ فِي مَوْتِهِ كَذَا فِي الْأَقْضِيَةِ .
( قَوْلُهُ وَلَا رُجُوعَ فِي الصِّلَاتِ بَعْدَ الْمَوْتِ ) بِخِلَافِ الْقَاضِي وَنَحْوِهِ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْإِمَامِ فِي بَيْتِ الْمَالِ مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ النَّظَرِ ، وَالنَّظَرُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ وَيُعْطِي لِمَنْ يَلِي بَعْدَهُ مِنْ الْقُضَاةِ .
( قَوْلُهُ وَعَنْ مُحَمَّدٍ ) وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ رُسْتُمَ عَنْهُ : لَا تَرُدُّ نَفَقَةَ الشَّهْرِ وَمَا دُونَهُ ، فَلِهَذَا وَضَعَهَا فِي السُّنَّةِ حَتَّى لَا يَكُونَ فِيهَا خِلَافٌ عَنْ مُحَمَّدٍ ، وَلِذَا لَوْ قَبَضَتْ نَفَقَةَ أَشْهُرٍ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا وَالْبَاقِي شَهْرٌ فَأَقَلُّ لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ .
وَفِي الذَّخِيرَةِ نَفَقَةُ الْعِدَّةِ تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ كَنَفَقَةِ النِّكَاحِ ، فَلَوْ فَرَضَ لَهَا نَفَقَةً فِيهَا فَلَمْ تَقْبِضْهَا حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا لَمْ يَذْكُرْهُ مُحَمَّدٌ .
وَهَلْ يُقَاسُ عَلَى الْمَوْتِ ؟ قَالَ

الْحَلْوَانِيُّ : فِيهِ كَلَامٌ .
وَفِي الْخُلَاصَةِ مِنْ الْفَتَاوَى الصُّغْرَى عَنْ الْحُلْوَانِيِّ قَالَ : الْمُخْتَارُ عِنْدِي لَا تَسْقُطُ .
.

( وَإِذَا تَزَوَّجَ الْعَبْدُ حُرَّةً فَنَفَقَتُهَا دَيْنٌ عَلَيْهِ يُبَاعُ فِيهَا ) وَمَعْنَاهُ إذَا تَزَوَّجَ بِإِذْنِ الْمَوْلَى لِأَنَّهُ دَيْنٌ وَجَبَ فِي ذِمَّتِهِ لِوُجُودِ سَبَبِهِ وَقَدْ ظَهَرَ وُجُوبُهُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى فَيَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ كَدَيْنِ التِّجَارَةِ فِي الْعَبْدِ التَّاجِرِ ، وَلَهُ أَنْ يَفْدِيَ لِأَنَّ حَقَّهَا فِي النَّفَقَةِ لَا فِي عَيْنِ الرَّقَبَةِ ، فَلَوْ مَاتَ الْعَبْدُ سَقَطَتْ ، وَكَذَا إذَا قُتِلَ فِي الصَّحِيحِ لِأَنَّهُ صِلَةٌ .

( قَوْلُهُ فَنَفَقَتُهَا دَيْنٌ عَلَيْهِ ) أَيْ إذَا قَضَى الْقَاضِي بِهَا فَيُبَاعُ فِيهَا ، فَإِذَا اشْتَرَاهُ مَنْ عَلِمَ بِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ ثُمَّ عَلِمَ فَرَضِيَ ظَهَرَ السَّبَبُ فِي حَقِّهِ أَيْضًا ، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ مَرَّةً أُخْرَى يُبَاعُ ثَانِيًا ، وَكَذَا حَالُهُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي وَهَلُمَّ جَرًّا .
وَلَا يُبَاعُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى إلَّا فِي دَيْنِ النَّفَقَةِ لِأَنَّهَا تَتَجَدَّدُ شَيْئًا فَشَيْئًا عَلَى حَسَبِ تَجَدُّدِ الزَّمَانِ عَلَى وَجْهٍ يَظْهَرُ فِي حَقِّ السَّيِّدِ فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ دَيْنٌ حَادِثٌ عِنْدَ الْمُشْتَرِي ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَعْلَمْ الْمُشْتَرِي بِحَالِهِ أَوْ عَلِمَ بَعْدَ الشِّرَاءِ وَلَمْ يَرْضَ فَلَهُ رَدُّهُ لِأَنَّهُ عَيْبٌ اطَّلَعَ عَلَيْهِ ( قَوْلُهُ إذَنْ الْمَوْلَى ) لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا مَهْرَ لِعَدَمِ الصِّحَّةِ ، وَدَخَلَ بِهَا طُولِبَ بِالْمَهْرِ بَعْدَ الْعِتْقِ ، وَلَوْ مَاتَ الْعَبْدُ بَعْدَ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ وَالْفَرْضِ سَقَطَتْ النَّفَقَةُ وَالْمَهْرُ وَلَا يُطَالَبْ الْمَوْلَى بِشَيْءٍ لِفَوَاتِ مَحَلِّ الِاسْتِيفَاءِ ، وَلَوْ كَانَ مُدَبَّرًا أَوْ مُكَاتَبًا أَوْ وَلَدَ أُمِّ وَلَدٍ وَلَا يُبَاعُ بِالنَّفَقَةِ بِعَدَمِ جَوَازِ الْبَيْعِ ، إلَّا أَنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا عَجَزَ يُبَاعُ حِينَئِذٍ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ قَبِلَ النَّقْلَ ، هَذَا وَلَا نَفَقَةَ تَجِبُ لِوَلَدِ الْعَبْدِ عَلَيْهِ لِأَنَّ أُمَّهُ إنْ كَانَتْ أَمَةً فَالْوَلَدُ عَبْدٌ لِمَوْلَاهَا فَنَفَقَتُهُ عَلَى الْمَوْلَى ، وَإِنْ كَانَتْ حُرَّةً فَوَلَدُهُ حُرٌّ ، وَلَا تَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَى مَمْلُوكٍ وَلَا عَلَى مَوْلَاهُ لِأَنَّ وَلَدَهُ أَجْنَبِيٌّ مِنْهُ ، وَكَذَا الْمُكَاتَبُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَةُ وَلَدِهِ سَوَاءٌ كَانَتْ امْرَأَتُهُ حُرَّةً أَوْ أَمَةً لِهَذَا الْمَعْنَى ، وَإِذَا كَانَتْ امْرَأَةُ الْمُكَاتَبِ مُكَاتَبَةً وَهُمَا لِمَوْلًى وَاحِدٍ فَنَفَقَةُ الْوَلَدِ عَلَى الْأُمِّ لِأَنَّ الْوَلَدَ تَابِعٌ لِلْأُمِّ فِي كِتَابَتِهَا حَتَّى كَانَ كَسْبُ الْوَلَدِ لَهَا ، وَكَذَا أَرْشُ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ .
( قَوْلُهُ فِي الصَّحِيحِ )

احْتِرَازٌ عَمَّا عَنْ الْكَرْخِيِّ أَنَّهَا تَنْتَقِلُ إلَى قِيمَتِهِ لِأَنَّهَا خَلْفُهُ ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْقُدُورِيُّ : هَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ النَّفَقَةَ تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الصِّلَةِ وَالصِّلَاتُ تُبْطِلُ الْمَوْتَ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَالْقِيمَةُ إنَّمَا تُقَامُ مَقَامَ الرَّقَبَةِ فِي دَيْنٍ لَا يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ .

( وَإِنْ تَزَوَّجَ الْحُرُّ أَمَةً فَبَوَّأَهَا مَوْلَاهَا مَعَهُ مَنْزِلًا فَعَلَيْهِ النَّفَقَةُ ) لِأَنَّهُ تَحَقَّقَ الِاحْتِبَاسُ ( وَإِنْ لَمْ يُبَوِّئْهَا فَلَا نَفَقَةَ لَهَا ) لِعَدَمِ الِاحْتِبَاسِ ، وَالتَّبْوِئَةُ أَنْ يُخَلِّيَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ فِي مَنْزِلِهِ وَلَا يَسْتَخْدِمَهَا ، وَلَوْ اسْتَخْدَمَهَا بَعْدَ التَّبْوِئَةِ سَقَطَتْ النَّفَقَةُ لِأَنَّهُ فَاتَ الِاحْتِبَاسُ ، وَالتَّبْوِئَةُ غَيْرُ لَازِمَةٍ عَلَى مَا مَرَّ فِي النِّكَاحِ ، وَلَوْ خَدَمَتْهُ الْجَارِيَةُ أَحْيَانًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَخْدِمَهَا لَا تَسْقُطُ النَّفَقَةُ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَخْدِمْهَا لِيَكُونَ اسْتِرْدَادًا ، وَالْمُدَبَّرَةُ وَأُمُّ الْوَلَدِ فِي هَذَا كَالْأَمَةِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

( قَوْلُهُ وَإِنْ تَزَوَّجَ الْحُرُّ أَمَةً ) قَيْدُ الْحُرِّ اتِّفَاقِيٌّ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ وَالْمُدَبَّرِ وَالْمُكَاتَبِ فِي عَدَمِ وُجُوبِ النَّفَقَةِ قَبْلَ التَّبْوِئَةِ ، وَإِنَّمَا خَصَّهُ بِالذَّكَرِ لِيَعْلَمَ النَّفْيَ فِي الْبَاقِي بِطَرِيقِ الْأَوْلَى فَإِنَّهُ إذَا لَمْ تَجِبْ عَلَى الْحُرِّ الَّذِي هُوَ أَدْخَلُ فِي أَهْلِيَّةِ وُجُوبِ الْمَالِ عَلَيْهِ يَلْزَمُ أَنْ لَا تَجِبَ عَلَى مَا ذَكَرَ .
( قَوْلُهُ لِعَدَمِ الِاحْتِبَاسِ ) أَيْ مِنْ الزَّوْجِ وَالْمَنْعِ مِنْ السَّيِّدِ ، وَإِنْ كَانَ لِحَقِّهِ لَا يَثْبُتُ مَعَهُ الْمُوجِبُ وَهُوَ احْتِبَاسُ الزَّوْجِ وَلَا مُوجِبَ غَيْرُهُ ، بِخِلَافِ مَنْعِهَا لِنَفْسِهَا لِحَقِّهَا كَالْمَهْرِ فَإِنَّ فَوَاتَ الِاحْتِبَاسِ الْمُوجِبِ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ فَيَجْعَلُ ثَابِتًا وَلَيْسَ هُنَا كَذَلِكَ .
( قَوْلُهُ وَالتَّبْوِئَةُ غَيْرُ لَازِمَةٍ عَلَى مَا مَرَّ فِي النِّكَاحِ ) فِي بَابِ نِكَاحِ الرَّقِيقِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ حَقَّ الِاسْتِخْدَامِ يَتَجَدَّدُ بِتَجَدُّدِ الْمَنَافِعِ الَّتِي تَتَجَدَّدُ عَلَى مِلْكِهِ ، فَإِذَا بَوَّأَهَا فَقَدْ تَرَكَ حَقَّهُ مَا دَامَ لَمْ يَسْتَرِدَّهَا ، وَاسْتِرْدَادُهَا بَعْدَ ذَلِكَ لَيْسَ رُجُوعًا فِيمَا أَسْقَطَ بَلْ طَلَبَ حَقَّهُ فِيمَا يَسْتَقْبِلُ أَوْ الْحَالِ وَلَهُ ذَلِكَ وَلِذَا كَانَ لَهُ أَنْ يُبَوِّئَهَا ثُمَّ يَسْتَرِدُّهَا ثُمَّ يُبَوِّئُهَا ثُمَّ يَسْتَرِدُّهَا وَهَلُمَّ جَرًّا ، فَكُلَّمَا اسْتَرَدَّهَا سَقَطَتْ ، فَإِذَا رَجَعَ فَبَوَّأَهَا وَجَبَتْ ، وَلَوْ خَدَمَتْ الْمَوْلَى أَحْيَانًا مِنْ غَيْرِ اسْتِخْدَامٍ وَاسْتِرْدَادٍ لَا تَسْقُطُ نَفَقَتُهَا لِأَنَّهُ لَمْ تَبْطُلْ التَّبْوِئَةُ بِذَلِكَ لِعَدَمِ الِاسْتِرْدَادِ .
( قَوْلُهُ وَالْمُدَبَّرَةُ وَأُمُّ الْوَلَدِ فِي هَذَا ) أَيْ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ عَلَى الزَّوْجِ بِشَرْطِ التَّبْوِئَةِ ( كَالْأَمَةِ ) وَلَمْ يَذْكُرْ مَعَهَا الْمُكَاتَبَةَ لِأَنَّهَا فِي اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ إذَا تَزَوَّجَتْ بِإِذْنِ الْمَوْلَى كَالْحُرَّةِ لِاخْتِصَاصِهَا لِنَفْسِهَا وَمَنَافِعِهَا بِحُكْمِ عَقْدِ الْمُكَاتَبَةِ

فَصْلٌ ( وَعَلَى الزَّوْجِ أَنْ يُسْكِنَهَا فِي دَارٍ مُفْرَدَةٍ لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ إلَّا أَنْ تَخْتَارَ ذَلِكَ ) لِأَنَّ السُّكْنَى مِنْ كِفَايَتِهَا فَتَجِبُ لَهَا كَالنَّفَقَةِ ، وَقَدْ أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَقْرُونًا بِالنَّفَقَةِ ، وَإِذَا وَجَبَ حَقًّا لَهَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُشْرِكَ غَيْرَهَا فِيهِ لِأَنَّهَا تَتَضَرَّرُ بِهِ ، فَإِنَّهَا لَا تَأْمَنُ عَلَى مَتَاعِهَا ، وَيَمْنَعُهَا ذَلِكَ مِنْ الْمُعَاشَرَةِ مَعَ زَوْجِهَا وَمِنْ الِاسْتِمْتَاعِ ، إلَّا أَنْ تَخْتَارَ لِأَنَّهَا رَضِيَتْ بِانْتِقَاصِ حَقِّهَا ( وَإِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ مِنْ غَيْرِهَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسْكِنَهُ مَعَهَا ) لِمَا بَيَّنَّا وَلَوْ أَسْكَنَهَا فِي بَيْتٍ مِنْ الدَّارِ مُفْرَدٍ وَلَهُ غَلْقٌ كَفَاهَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ قَدْ حَصَلَ .

( فَصْلٌ ) .
( قَوْلُهُ لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ ) وَأَمَّا أَمَتُهُ فَقِيلَ أَيْضًا لَا يُسْكِنُهَا مَعَهَا إلَّا بِرِضَاهَا ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى اسْتِخْدَامِهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ ، فَإِذَا أَفْرَدَهَا فِي بَيْتٍ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَطَؤُهَا بِحَضْرَتِهَا كَمَا أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْءُ زَوْجَتِهِ بِحَضْرَتِهَا وَلَا بِحَضْرَةِ الضَّرَّةِ ( قَوْلُهُ مَقْرُونًا بِالنَّفَقَةِ ) فِي قَوْله تَعَالَى { أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ } فَإِنَّ الْمُرَادَ وَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ مِنْ وُجْدِكُمْ ، وَكَذَلِكَ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ : وَالسُّكْنَى بِالْمِلْكِ أَوْ الْإِجَارَةِ أَوْ الْعَارِيَّةِ وَاجِبَةٌ إجْمَاعًا ( وَقَوْلُهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُسْكِنَهُ مَعَهَا ) قِيلَ : إلَّا أَنْ يَكُونَ صَغِيرًا لَا يَفْهَمُ الْجِمَاعَ فَلَهُ إسْكَانُهُ مَعَهَا ( قَوْلُهُ وَلَوْ أَسْكَنَهَا فِي بَيْتٍ مِنْ الدَّارِ مُفْرَدٍ وَلَهُ غَلْقٌ كَفَاهَا ) اقْتَصَرَ عَلَى الْغَلْقِ أَفَادَ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ الْخَلَاءُ مُشْتَرَكًا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ لَهُ غَلْقٌ يَخُصُّهُ ، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُطَالِبَهُ بِمَسْكَنٍ آخَرَ ، وَبِهِ قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ لِأَنَّ الضَّرَرَ بِالْخَوْفِ عَلَى الْمَتَاعِ وَعَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ قَدْ زَالَ ، وَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ الْمُرَادِ كَوْنَ الْخَلَاءِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ غَيْرِ الْأَجَانِبِ ، وَاَلَّذِي فِي شَرْحِ الْمُخْتَارِ : وَلَوْ كَانَتْ فِي الدَّارِ بُيُوتٌ وَأَبَتْ أَنْ تَسْكُنَ مَعَ ضَرَّتِهَا أَوْ مَعَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِهِ إنْ أَخْلَى لَهَا بَيْتًا وَجَعَلَ لَهُ مَرَافِقَ وَغَلْقًا عَلَى حِدَةٍ لَيْسَ لَهَا أَنْ تَطْلُبَ بَيْتًا ، وَلَوْ شَكَتْ أَنَّهُ يَضُرُّ بِهَا أَوْ يُؤْذِيهَا إنْ عَلِمَ الْقَاضِي ذَلِكَ زَجَرَهُ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ سَأَلَ مِنْ جِيرَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَثِقْ بِهَا أَوْ كَانُوا يَمِيلُونَ إلَيْهِ أَسْكَنَهَا بَيْنَ قَوْمٍ أَخْيَارٍ يَعْتَمِدُ الْقَاضِي عَلَى خَبَرِهِمْ .

( وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَ وَالِدَيْهَا وَوَلَدَهَا مِنْ غَيْرِهِ وَأَهْلَهَا مِنْ الدُّخُولِ عَلَيْهَا ) لِأَنَّ الْمَنْزِلَ مِلْكُهُ فَلَهُ حَقُّ الْمَنْعِ مِنْ دُخُولِ مِلْكِهِ ( وَلَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ النَّظَرِ إلَيْهَا وَكَلَامِهَا فِي أَيِّ وَقْتٍ اخْتَارُوا ) لِمَا فِيهِ مِنْ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ ، وَلَيْسَ لَهُ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ ، وَقِيلَ : لَا يَمْنَعُهَا مِنْ الدُّخُولِ وَالْكَلَامِ وَإِنَّمَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ الْقَرَارِ وَالدَّوَامِ لِأَنَّ الْفِتْنَةَ فِي اللِّبَاثِ وَتَطْوِيلِ الْكَلَامِ ، وَقِيلَ : لَا يَمْنَعُهَا مِنْ الْخُرُوجِ إلَى الْوَالِدَيْنِ وَلَا يَمْنَعُهُمَا مِنْ الدُّخُولِ عَلَيْهَا فِي كُلِّ جُمُعَةٍ ، وَفِي غَيْرِهِمَا مِنْ الْمَحَارِمِ التَّقْدِيرُ بِسَنَةٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ .

( قَوْلُهُ لِمَا فِيهِ ) أَيْ الْمَنْعُ مِنْ الْمُكَالَمَةِ ( مِنْ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ ) فِي الصَّحِيحِ { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ } ، وَفِيهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الرَّحِمُ شِجْنَةٌ مِنْ الرَّحْمَنِ ، قَالَ اللَّهُ : مَنْ وَصَلَكِ وَصَلْتُهُ وَمَنْ قَطَعَكِ قَطَعْتُهُ } وَالشِّجْنَةُ بِكَسْرِ الشِّينِ وَضَمِّهَا .
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : قَرَابَةٌ مُشْتَبِكَةٌ كَاشْتِبَاكِ الْعُرُوقِ ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ : يَعْنِي بِالشِّجْنَةِ الْوَصْلَةَ ( قَوْلُهُ وَقِيلَ لَا يَمْنَعُهَا مِنْ الْخُرُوجِ إلَى الْوَالِدَيْنِ وَلَا يَمْنَعُهُمَا مِنْ الدُّخُولِ إلَيْهَا فِي كُلِّ جُمُعَةٍ ) ظَاهِرُ الْخُلَاصَةِ أَنَّ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ يَتَّصِلُ بِكُلٍّ مِنْ خُرُوجِهَا وَدُخُولِهِمَا فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْفَتَاوَى : لِلزَّوْجِ أَنْ يَضْرِبَ الْمَرْأَةَ عَلَى أَرْبَعِ خِصَالٍ ، وَمَا هُوَ فِي مَعْنَى الْأَرْبَعِ تَرْكُ الزِّينَةِ وَالزَّوْجُ يُرِيدُهَا وَتَرْكُ الْإِجَابَةِ إذَا دَعَاهَا إلَى فِرَاشِهِ وَتَرْكُ الصَّلَاةِ .
وَفِي رِوَايَةٍ : وَالْغُسْلُ وَالْخُرُوجُ مِنْ الْبَيْتِ أَمَّا مَا لَا تُمْنَعُ مِنْ زِيَارَةِ الْأَبَوَيْنِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ وَفِي زِيَارَةِ غَيْرِهِمَا مِنْ الْمَحَارِمِ فِي كُلِّ سَنَةٍ .
وَكَذَا إذَا أَرَادَ أَبُوهَا أَوْ قَرِيبُهَا أَنْ يَجِيءَ إلَيْهَا عَلَى هَذَا الْجُمُعَةِ وَالسَّنَةِ انْتَهَى .
وَقَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ احْتِرَازٌ عَمَّا ذَهَبَ إلَيْهِ ابْنُ مُقَاتِلٍ مِنْ أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ الْمَحْرَمَ مِنْ الزِّيَارَةِ فِي كُلِّ شَهْرٍ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي النَّوَادِرِ تَقْيِيدُ خُرُوجِهَا بِأَنْ لَا يَقْدِرَا عَلَى إتْيَانِهَا ، فَإِنْ كَانَا يَقْدِرَانِ عَلَى إتْيَانِهَا لَا تَذْهَبُ وَهُوَ حَسَنٌ ، فَإِنَّ بَعْضَ النِّسَاءِ لَا يَشُقُّ عَلَيْهَا مَعَ الْأَبِ الْخُرُوجُ وَقَدْ يَشُقُّ ذَلِكَ عَلَى الزَّوْجِ فَتُمْنَعُ ، وَقَدْ اخْتَارَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ مَنْعَهَا مِنْ الْخُرُوجِ إلَيْهِمَا ، وَقَدْ أَشَارَ إلَى نَقْلِهِ فِي شَرْحِ الْمُخْتَارِ ، وَالْحَقُّ الْأَخْذُ بِقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ إذَا كَانَ الْأَبَوَانِ بِالصِّفَةِ

الَّتِي ذَكَرْت ، وَإِنْ لَمْ يَكُونَا كَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَأْذَنَ لَهَا فِي زِيَارَتِهِمَا فِي الْحِينِ بَعْدَ الْحِينِ عَلَى قَدْرٍ مُتَعَارَفٍ ، أَمَّا فِي كُلِّ جُمُعَةٍ فَهُوَ بَعِيدٌ ، فَإِنَّهُ فِي كَثْرَةِ الْخُرُوجِ فَتْحُ بَابِ الْفِتْنَةِ خُصُوصًا إذَا كَانَتْ شَابَّةً وَالزَّوْجُ مِنْ ذَوِي الْهَيْئَاتِ ، بِخِلَافِ خُرُوجِ الْأَبَوَيْنِ فَإِنَّهُ أَيْسَرُ ، وَلَوْ كَانَ أَبُوهَا زَمِنًا مَثَلًا وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى خِدْمَتِهَا وَالزَّوْجُ يَمْنَعُهَا مِنْ تَعَاهُدِهِ فَعَلَيْهَا أَنْ تُغْضِبَهُ مُسْلِمًا كَانَ الْأَبُ أَوْ كَافِرًا .
وَفِي مَجْمُوعِ النَّوَازِلِ : فَإِنْ كَانَتْ قَابِلَةً أَوْ غَسَّالَةً أَوْ كَانَ لَهَا حَقٌّ عَلَى آخَرَ أَوْ لِآخَرَ عَلَيْهَا حَقٌّ تَخْرُجُ بِالْإِذْنِ وَبِغَيْرِ الْإِذْنِ ، وَالْحَجُّ عَلَى هَذَا وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ زِيَارَةِ الْأَجَانِبِ وَعِيَادَتِهِمْ وَالْوَلِيمَةِ لَا يَأْذَنُ لَهَا وَلَا تَخْرُجُ وَلَوْ أَذِنَ وَخَرَجَتْ كَانَا عَاصِيَيْنِ وَتُمْنَعُ مِنْ الْحَمَّامِ ، فَإِنْ أَرَادَتْ أَنْ تَخْرُجَ إلَى مَجْلِسِ الْعِلْمِ بِغَيْرِ رِضَا الزَّوْجِ لَيْسَ لَهَا ذَلِكَ ، فَإِنْ وَقَعَتْ لَهَا نَازِلَةٌ إنْ سَأَلَ الزَّوْجُ مَنْ الْعَالِمُ وَأَخْبَرَهَا بِذَلِكَ لَا يَسَعُهَا الْخُرُوجُ ، وَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ السُّؤَالِ يَسَعُهَا أَنْ تَخْرُجَ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهَا نَازِلَةٌ وَلَكِنْ أَرَادَتْ أَنْ تَخْرُجَ لِتَتَعَلَّمَ مَسْأَلَةً مِنْ مَسَائِلِ الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ إنْ كَانَ الزَّوْجُ يَحْفَظُ الْمَسَائِلَ وَيُذَاكِرُ مَعَهَا لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا ، وَإِنْ كَانَ لَا يَحْفَظُ الْأَوْلَى أَنْ يَأْذَنَ لَهَا أَحْيَانًا ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَلَا يَسَعُهَا الْخُرُوجُ مَا لَمْ يَقَعْ لَهَا نَازِلَةٌ .
وَفِي الْفَتَاوَى فِي بَابِ الْقِرَاءَةِ : الْمَرْأَةُ قَبْلَ أَنْ تَقْبِضَ مَهْرَهَا لَهَا أَنْ تَخْرُجَ فِي حَوَائِجِهَا وَتَزُورَ الْأَقَارِبَ بِغَيْرِ إذْنِ الزَّوْجِ ، فَإِنْ أَعْطَاهَا الْمَهْرَ لَيْسَ لَهَا الْخُرُوجُ إلَّا بِإِذْنِ الزَّوْجِ ، وَلَا تُسَافِرُ مَعَ عَبْدِهَا خَصِيًّا كَانَ أَوْ فَحْلًا ، وَكَذَا أَبُوهَا الْمَجُوسِيُّ وَالْمَحْرَمُ

غَيْرُ الْمُرَاهِقِ ، بِخِلَافِ الْمُرَاهِقِ وَحْدَهُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ أَوْ اثْنَتَا عَشَرَ سَنَةً ، وَلَا تَكُونُ الْمَرْأَةُ مَحْرَمًا لِامْرَأَةٍ ، وَحَيْثُ أَبَحْنَا لَهَا الْخُرُوجَ فَإِنَّمَا يُبَاحُ بِشَرْطِ عَدَمِ الزِّينَةِ وَتَغْيِيرِ الْهَيْئَةِ إلَى مَا لَا يَكُونُ دَاعِيَةً إلَى نَظَرِ الرِّجَالِ وَالِاسْتِمَالَةِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى } وَقَوْلُ الْفَقِيهِ : وَتُمْنَعُ مِنْ الْحَمَّامِ خَالَفَهُ فِيهِ قَاضِي خَانْ .
قَالَ فِي فَصْلِ الْحَمَّامِ مِنْ فَتَاوَاهُ : دُخُولُ الْحَمَّامِ مَشْرُوعٌ لِلنِّسَاءِ وَالرِّجَالِ جَمِيعًا خِلَافًا لِمَا قَالَهُ بَعْضُ النَّاسِ .
رُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ الْحَمَّامَ وَتَنَوَّرَ } ، وَخَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ دَخَلَ حَمَّامَ حِمْصٍ ، لَكِنْ إنَّمَا يُبَاحُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ إنْسَانٌ مَكْشُوفُ الْعَوْرَةِ انْتَهَى .
وَعَلَى ذَلِكَ فَلَا خِلَافَ فِي مَنْعِهِنَّ مِنْ دُخُولِهِ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ كَثِيرًا مِنْهُنَّ مَكْشُوفُ الْعَوْرَةِ .
وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُؤَيِّدُ قَوْلَ الْفَقِيهِ مِنْهَا فِي النَّسَائِيّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَدْخُلُ الْحَمَّامَ إلَّا بِمِئْزَرٍ ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُدْخِلُ حَلِيلَتَهُ الْحَمَّامَ } وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { الْحَمَّامُ حَرَامٌ عَلَى نِسَاءِ أُمَّتِي } رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ .
وَرَدَّ اسْتِثْنَاءَ النُّفَسَاءِ وَالْمَرِيضَةِ .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { سَتُفْتَحُ عَلَيْكُمْ أَرْضُ الْعَجَمِ وَسَتَجِدُونَ فِيهَا بُيُوتًا يُقَالُ لَهَا

الْحَمَّامَاتُ فَلَا يَدْخُلَنَّهَا الرِّجَالُ إلَّا بِالْإِزَارِ ، وَامْنَعُوهَا النِّسَاءَ إلَّا مَرِيضَةً أَوْ نُفَسَاءَ } وَفِي سَنَدِهِمَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادِ بْنِ أَنْعُمَ الْإِفْرِيقِيُّ وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ ، قَالَ أَحْمَدُ : لَيْسَ بِشَيْءٍ قَالَ ابْنُ حِبَّانَ : يَرْوِي الْمَوْضُوعَاتِ عَنْ الثِّقَاتِ ، قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ : وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ لَمْ يَذْكُرْهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الضُّعَفَاءِ ، وَكَانَ يُقَوِّي أَمْرَهُ وَيَقُولُ : وَمُقَارِبُ الْحَدِيثِ .
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ : لَيْسَ بِالْقَوِيِّ ، وَوَثَّقَهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ ، وَرَوَى عَيَّاشٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ مُعِينٍ : لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ ، وَقَالَ أَبُو دَاوُد : قُلْت لِأَحْمَدَ بْنِ صَالِحٍ أَيُحْتَجُّ بِهِ : يَعْنِي عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ زِيَادٍ ، فَقَالَ نَعَمْ .

( وَإِذَا غَابَ الرَّجُلُ وَلَهُ مَالٌ فِي يَدِ رَجُلٍ يَعْتَرِفُ بِهِ وَبِالزَّوْجِيَّةِ فَرَضَ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ الْمَالِ نَفَقَةَ زَوْجَةِ الْغَائِبِ وَوَلَدِهِ الصِّغَارِ وَوَالِدَيْهِ ، وَكَذَا إذَا عَلِمَ الْقَاضِي ذَلِكَ وَلَمْ يَعْتَرِفْ بِهِ ) لِأَنَّهُ لَمَّا أَقَرَّ بِالزَّوْجِيَّةِ الْوَدِيعَةِ فَقَدْ أَقَرَّ أَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لَهَا ؛ لِأَنَّ لَهَا أَنْ تَأْخُذَ مِنْ مَالِ الزَّوْجِ حَقَّهَا مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ ، وَإِقْرَارُ صَاحِبِ الْيَدِ مَقْبُولٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لَا سِيَّمَا هَاهُنَا فَإِنَّهُ لَوْ أَنْكَرَ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَةُ الْمَرْأَةِ فِيهِ لِأَنَّ الْمُودِعَ لَيْسَ بِخَصْمٍ فِي إثْبَاتِ الزَّوْجِيَّةِ عَلَيْهِ وَلَا الْمَرْأَةُ خَصْمٌ فِي إثْبَاتِ حُقُوقِ الْغَائِبِ ، وَإِذَا ثَبَتَ فِي حَقِّهِ تَعَدَّى إلَى الْغَائِبِ ، وَكَذَا إذَا كَانَ الْمَالُ فِي يَدِهِ مُضَارَبَةً ، وَكَذَا الْجَوَابُ فِي الدَّيْنِ ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ الْمَالُ مِنْ جِنْسِ حَقِّهَا دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ طَعَامًا أَوْ كِسْوَةً مِنْ جِنْسِ حَقِّهَا ، أَمَّا إذَا كَانَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ لَا تُفْرَضُ النَّفَقَةُ فِيهِ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الْبَيْعِ ، وَلَا يُبَاعُ مَالُ الْغَائِبِ بِالِاتِّفَاقِ ، أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَلِأَنَّهُ لَا يُبَاعُ عَلَى الْحَاضِرِ وَكَذَا عَلَى الْغَائِب ، وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّهُ إنْ كَانَ يَقْضِي عَلَى الْحَاضِرِ لِأَنَّهُ يَعْرِفُ امْتِنَاعَهُ لَا يَقْضِي عَلَى الْغَائِبِ لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ امْتِنَاعَهُ .
قَالَ ( وَيَأْخُذُ مِنْهَا كَفِيلًا بِهَا ) نَظَرًا لِلْغَائِبِ لِأَنَّهَا رُبَّمَا اسْتَوْفَتْ النَّفَقَةَ أَوْ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْمِيرَاثِ إذَا قَسَمَ بَيْنَ وَرَثَةٍ حُضُورٍ بِالْبَيِّنَةِ وَلَمْ يَقُولُوا : لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا آخَرَ حَيْثُ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْكَفِيلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ هُنَاكَ الْمَكْفُولُ لَهُ مَجْهُولٌ وَهَاهُنَا مَعْلُومٌ وَهُوَ الزَّوْجُ وَيُحَلِّفُهَا بِاَللَّهِ مَا أَعْطَاهَا النَّفَقَةَ نَظَرًا لِلْغَائِبِ .
قَالَ ( وَلَا يَقْضِي

بِنَفَقَةٍ فِي مَالٍ غَائِبٍ إلَّا لِهَؤُلَاءِ ) وَوَجْهُ الْفَرْقِ هُوَ أَنَّ نَفَقَةَ هَؤُلَاءِ وَاجِبَةٌ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي وَلِهَذَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا قَبْلَ الْقَضَاءِ فَكَانَ قَضَاءُ الْقَاضِي إعَانَةً لَهُمْ ، أَمَّا غَيْرُهُمْ مِنْ الْمَحَارِمِ فَنَفَقَتُهُمْ إنَّمَا تَجِبُ بِالْقَضَاءِ لِأَنَّهُ مُجْتَهِدٌ فِيهِ ، وَالْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ لَا يَجُوزُ ، وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ الْقَاضِي بِذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ مُقِرًّا بِهِ فَأَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ أَوْ لَمْ يَخْلُفْ مَالًا فَأَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ لِيَفْرِضَ الْقَاضِي نَفَقَتَهَا عَلَى الْغَائِبِ وَيَأْمُرَهَا بِالِاسْتِدَانَةِ لَا يَقْضِي الْقَاضِي بِذَلِكَ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ .
وَقَالَ زُفَرُ : يَقْضِي فِيهِ لِأَنَّ فِيهِ نَظَرًا لَهَا وَلَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الْغَائِبِ ، فَإِنَّهُ لَوْ حَضَرَ وَصَدَّقَهَا فَقَدْ أَخَذَتْ حَقَّهَا ، وَإِنْ جَحَدَ يَحْلِفُ ، فَإِنْ نَكَلَ فَقَدْ صَدَقَ ، وَإِنْ أَقَامَتْ بَيِّنَةً فَقَدْ ثَبَتَ حَقُّهَا ، وَإِنْ عَجَزَتْ يَضْمَنُ الْكَفِيلُ أَوْ الْمَرْأَةُ ، وَعَمَلُ الْقُضَاةِ الْيَوْمَ عَلَى هَذَا أَنَّهُ يَقْضِي بِالنَّفَقَةِ عَلَى الْغَائِبِ لِحَاجَةِ النَّاسِ وَهُوَ مُجْتَهَدٌ فِيهِ ، وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَقَاوِيلُ مَرْجُوعٌ عَنْهَا فَلَمْ يَذْكُرْهَا .

( قَوْلُهُ يَعْتَرِفُ بِهِ وَبِالزَّوْجِيَّةِ ) فِي حَقِّ الزَّوْجَةِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَزِيدَ قَوْلُهُ وَبِالنَّسَبِ فِي الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ لِأَنَّهُ رَتَّبَ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ الِاعْتِرَافِ قَوْلَهُ فَرَضَ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ الْمَالِ نَفَقَةَ زَوْجَةِ الْغَائِبِ وَوَلَدِهِ الصِّغَارِ وَوَالِدَيْهِ ( قَوْلُهُ وَكَذَا إذَا عَلِمَ الْقَاضِي ذَلِكَ ) أَيْ كِلَا الْأَمْرَيْنِ ، أَمَّا لَوْ عَلِمَ أَحَدَهُمَا احْتَاجَ فِي الْقَضَاءِ بِالدَّفْعِ إلَيْهِمْ إلَى إقْرَارِ مَنْ عِنْدَهُ أَوْ عَلَيْهِ فِي الصَّحِيحِ دُونَ الْبَيِّنَةِ ( قَوْلُهُ وَإِقْرَارُ صَاحِبِ الْيَدِ مَقْبُولٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لَا سِيَّمَا هُنَا ) فَإِنَّهُ أَوْلَى أَنْ يُقْبَلَ إقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ بِثُبُوتِ حَقِّ الْأَخْذِ لَهَا مِمَّا فِي يَدِهِ أَوْ عَلَيْهِ إذَا كَانَ دَيْنًا وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ إلَى إثْبَاتِ حَقِّ الْأَخْذِ لَهَا مِمَّا فِي يَدِهِ أَوْ عَلَيْهِ إذَا كَانَ دَيْنًا إلَّا اعْتِرَافُهُ ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ فَإِنَّ الْحَقَّ يَثْبُتُ فِيهِ بِالْبَيِّنَةِ كَمَا يَثْبُتُ بِالِاعْتِرَافِ ، وَلَا سِيَّمَا مُرَكَّبٌ مِنْ لَا النَّافِيَةِ لِلْجِنْسِ وَمَنْفِيِّهَا وَهُوَ سِيَّ وَمَعْنَاهُ الْمَثَلُ .
قَالَ الشَّاعِرُ : فَإِيَّاكُمْ وَحَيَّةَ بَطْنِ وَادِ هَمُوسُ النَّابِ لَيْسَ لَكُمْ بِسِيِّ أَيْ بِمِثْلٍ وَلَا شَبِيهٍ ، وَهُوَ وَاحِدُ سِيَّانِ مِنْ قَوْلِك هُمَا سِيَّانِ ، وَأَصْلُهُ سِوَى قُلِبَتْ الْوَاوُ يَاءً لِسُكُونِهَا بَعْدَ كَسْرَةٍ أَوْ لِاجْتِمَاعِهَا مَعَ الْيَاءِ وَسَبْقِ إحْدَاهُمَا بِالسُّكُونِ ، فَإِنْ جَرَرْت مَا بَعْدَ مَا كَزَيْدٍ مَثَلًا فِي قَوْلِك أَكْرَمَنِي الْقَوْمُ لَا سِيَّمَا زَيْدٍ فَهُوَ عَلَى أَنَّ سِيًّا مُضَافٌ إلَى زَيْدٍ وَمَا زَائِدٌ مُقْحَمٌ كَقَوْلِهِ : كُلُّ مَا حَيٍّ وَإِنْ أَمَرُوا وَارِدُو الْحَوْضِ الَّذِي وَرَدُوا وَإِنْ رَفَعْته فَعَلَى أَنَّ سِيًّا يُضَافُ إلَى مَا وَهُوَ مَوْصُولٌ اسْمِيٌّ حُذِفَ صَدْرُ صِلَتِهِ ، وَالتَّقْدِيرُ لَا مِثْلَ الَّذِي هُوَ زَيْدٌ ، وَجَازَ كَوْنُهُ مُضَافًا مَعَ أَنَّ اسْمَ لَا يَجِبُ كَوْنُهُ نَكِرَةً لِأَنَّهُ بِمَعْنَى مِثْلِ ، وَمِثْلُ لَا يَتَعَرَّفُ بِالْإِضَافَةِ وَخَبَرُ

لَا مَحْذُوفٌ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَفِي كِلَا الْوَجْهَيْنِ خُرُوجٌ عَنْ الْأَصْلِ فِي الْجَرِّ ، بِالزِّيَادَةِ بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إلَيْهِ ، وَفِي الرَّفْعِ بِحَذْفِ صَدْرِ صِلَةِ الْمَوْصُولِ ، وَهُوَ إنَّمَا يُقَاسُ إذَا طَالَتْ الصِّلَةُ .
وَاخْتَارَ الْمُحَقِّقُونَ الْجَرَّ عَلَى الرَّفْعِ لِأَنَّ زِيَادَةَ مَا أَوْسَعُ مِنْ حَذْفِ الْمُبْتَدَأ مَعَ مَا يَنْضَمُّ إلَيْهِ مِنْ كَوْنِهِ فِي خُصُوصِ ذَلِكَ الْمَوْقِعِ ، وَقَدْ يُقَالُ زِيَادَةُ مَا فِي نَفْسِهِ كَثِيرٌ وَلَكِنْ بَيْنَ الْمُتَضَايِفَيْنِ مَمْنُوعٌ فَتَكَافَآ ، وَأَمَّا نَصْبُ مَا بَعْدَ مَا فَقَالَ ابْنُ الدَّهَّانِ صَاحِبُ الْغُرَّةِ : لَا أَعْرِفُ لَهُ وَجْهًا ، وَعَنْ هَذَا لَمْ يَذْكُرْ ابْنُ مُعْطٍ فِي فُصُولِهِ فِي الْمُسْتَثْنَى بِلَا سِيَّمَا سِوَى الْجَرِّ وَالرَّفْعِ ، وَذَكَرَ بَيْتَ امْرِئِ الْقِيسِ : أَلَا رُبَّ يَوْمٍ لَك مِنْهُنَّ صَالِحٌ وَلَا سِيَّمَا يَوْمٍ بِدَارَةِ جُلْجُلِ بِالْوَجْهَيْنِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ النَّصْبَ ، لَكِنْ قَدْ رُوِيَ النَّصْبُ فِيهِ أَيْضًا فَقِيلَ عَلَى الظَّرْفِ ، وَقِيلَ عَلَى التَّشْبِيهِ بِالْمَفْعُولِ ، وَقِيلَ مَجْمُوعُ لَا سِيَّمَا بِمَنْزِلَةِ إلَّا ، وَمَعْنَى الْإِخْرَاجِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ إلَّا فِيهَا هُوَ الْإِخْرَاجُ مِنْ ذَلِكَ الْحُكْمِ بِإِثْبَاتِ مَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْهُ ، فَإِذَا قُلْت أَكْرَمَنِي الْقَوْمُ لَا سِيَّمَا زَيْدٍ فَقَدْ : أَثْبَتَ لَهُ أَبْلَغَ مِنْ إكْرَامِهِمْ وَقَدْ جَاءَ تَخْفِيفُهَا بِحَذْفِ إحْدَى الْيَاءَيْنِ فَقِيلَ الْأُولَى لِأَنَّهَا سَاكِنَةٌ وَهُوَ أَضْعَفُ مِنْ الْمُتَحَرِّكِ فَكَانَ حَذْفُهُ أَوْلَى ، وَقِيلَ الثَّانِيَةُ لِأَنَّهَا لَامٌ وَالْإِعْلَالُ فِي اللَّامِ أَوْلَى .
( قَوْلُهُ وَإِذَا ثَبَتَ فِي حَقِّهِ ) بِإِقْرَارِهِ أَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لَهَا مِمَّا فِي يَدِهِ ( تَعَدَّى إلَى الْغَائِبِ ) ضَرُورَةً .
أَوْرَدَ عَلَيْهِ طَلَبَ الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا لَوْ جَاءَ صَاحِبُ الدَّيْنِ بِمُودِعِ أَوْ بِمَدْيُونٍ لِلْغَائِبِ مُعَرِّفٍ بِالدَّيْنِ الْوَدِيعَةِ فَإِنَّهُ لَا يَقْضِي عَلَيْهِ بِالدَّفْعِ إلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْقَضَاءَ يَتْبَعُ

النَّظَرَ لِلْغَائِبِ ، فَفِي الْأَمْرِ بِالْإِنْفَاقِ نَظَرٌ لَهُ بِإِبْقَاءِ مِلْكِهِ الثَّابِتِ بِالنِّكَاحِ وَإِبْقَاءِ مَا هُوَ فِي مَعْنَى نَفْسِهِ : أَعْنِي قَرَابَةَ الْوِلَادِ وَلَيْسَ فِي قَضَاءِ دَيْنِهِ ذَلِكَ بَلْ هُوَ قَضَاءٌ عَلَيْهِ بِقَوْلِ الْغَيْرِ ( قَوْلُهُ فَإِنَّهُ لَا يُبَاعُ عَلَى الْحَاضِرِ ) حَتَّى لَوْ امْتَنَعَ عَنْ أَدَاءِ الدَّيْنِ وَعِنْدَهُ أَمْوَالٌ غَيْرُ الْأَثْمَانِ لَا يَبِيعُ عَلَيْهِ الْقَاضِي بَلْ يَأْمُرُهُ أَنْ يَبِيعَ هُوَ وَيَقْضِي ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ حَبَسَهُ أَبَدًا حَتَّى يَبِيعَ لِأَنَّ الْبَيْعَ عَلَيْهِ حَجْرٌ عَلَيْهِ وَلَا يُحْجَرُ عَلَى الْعَاقِلِ الْبَالِغِ ، وَعِنْدَهُمَا يَبِيعُ عَلَى الْحَاضِرِ إذَا امْتَنَعَ مِنْ الْبَيْعِ .
( قَوْلُهُ وَيُحَلِّفُهَا بِاَللَّهِ مَا أَعْطَاهَا النَّفَقَةَ ) ثُمَّ إذَا جَاءَ الْغَائِبُ فَهُوَ عَلَى حُجَّتِهِ فِي إعْطَاءِ النَّفَقَةِ ، وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ جَازَ الْقَضَاءُ بِالدَّفْعِ كَانَ لَهَا أَنْ تَأْخُذَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ مِنْ مَالِهِ شَرْعًا أَصْلُهُ حَدِيثُ هِنْدَ امْرَأَةِ أَبِي سُفْيَانَ الْمُتَقَدِّمِ .
وَعَنْ هَذَا قُلْنَا : لَوْ كَانَ لِلْغَائِبِ مَالٌ حَاضِرٌ فِي بَيْتِهِ وَالْقَاضِي يَعْلَمُ الزَّوْجِيَّةَ أَطْلَقَ الْأَخْذَ مِنْهُ ، وَلَا يَكُونُ هَذَا قَضَاءً بَلْ إيفَاءً ، وَالْإِيفَاءُ لَا يُمْتَنَعُ بِسَبَبِ الزَّوْجِيَّةِ ، أَلَا يَرَى أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ ثُمَّ غَابَ وَلَهُ مَالٌ حَاضِرٌ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ فَطَلَبَ الْمُقَرُّ لَهُ مِنْ الْقَاضِي الْإِيفَاءَ مِنْهُ أَجَابَهُ إلَى ذَلِكَ .
( قَوْلُهُ إلَّا لِهَؤُلَاءِ ) وَهُمْ الزَّوْجَةُ وَالْوَالِدَانِ وَالْوَلَدُ الصَّغِيرُ ، وَيُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ الْأَوْلَادُ الْكِبَارُ الْإِنَاثُ وَالذُّكُورُ الْكِبَارُ الزَّمْنَى وَنَحْوَهُمْ لِأَنَّهُمْ كَالصِّغَارِ لِلْعَجْزِ عَنْ الْكَسْبِ .
( قَوْلُهُ فَنَفَقَتُهُمْ إنَّمَا تَجِبُ بِالْقَضَاءِ ) لَا شَكَّ أَنَّ الْوُجُوبَ ثَابِتٌ بِدَلِيلِهِ قَبْلَ الْقَضَاءِ حَتَّى كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِمْ إذَا كَانُوا فُقَرَاءَ دِيَانَةً ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُجْتَهِدًا فِيهِ فَقَدْ يُمْتَنَعُ تَمَسُّكًا بِقَوْلِ مَنْ يَرَى

أَنْ لَا تَجِبَ النَّفَقَةُ فَلَا يُعَيَّنُ عَلَيْهِ قَوْلُ الْوُجُوبِ إلَّا الْقَضَاءُ بِهِ فَيَنْتَفِي تَأْوِيلُهُ وَيَتَقَرَّرُ فِي ذِمَّتِهِ وَيُجْبَرُ عَلَيْهِ إذَا امْتَنَعَ .
وَفِي الْكَافِي : لَوْ أَنْفَقَ الْمَدْيُونُ أَوْ الْمُودِعُ نَفَقَةَ هَؤُلَاءِ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي ضَمِنَ الْمُودِعُ وَلَا يَبْرَأُ الْمَدْيُونُ وَلَكِنْ لَا يَرْجِعُ عَلَى مَنْ أَنْفَقَ عَلَيْهِ ، وَلَوْ اجْتَمَعَ الدَّيْنُ الْوَدِيعَةُ فَالْقَاضِي يَأْمُرُ بِالْإِنْفَاقِ مِنْ الْوَدِيعَةِ أَوَّلًا لِأَنَّهُ أَنَظَرَ لِلْغَائِبِ فَإِنَّ الدَّيْنَ مَحْفُوظٌ لَا يَحْتَمِلُ الْهَلَاكَ بِخِلَافِ الْوَدِيعَةِ .
( قَوْلُهُ وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَقَاوِيلُ مَرْجُوعٌ عَنْهَا ) مِنْهَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَوَّلًا : إذَا جَحَدَ الْمَدْيُونُ أَوْ الْمُودَعُ الزَّوْجِيَّةَ تُسْمَعُ بَيِّنَتُهَا عَلَى الزَّوْجِيَّةِ لِأَنَّهَا تَدَّعِي حَقًّا فِيمَا فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ بِسَبَبٍ فَكَانَ خَصْمًا فِي إثْبَاتِ ذَلِكَ السَّبَبِ ، كَمَنْ ادَّعَى بَيْتًا فِي يَدِ إنْسَانٍ أَنَّهُ لَهُ اشْتَرَاهُ مِنْ فُلَانٍ الْغَائِبِ ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ مِنْهُ وَهُوَ قَوْلُهُمَا لِأَنَّهَا تُثْبِتُ النِّكَاحَ عَلَى الْغَائِبِ وَمَنْ عِنْدَهُ الْمَالُ لَيْسَ خَصْمًا فِيهِ .
وَمِنْهَا مَا قَالَ بِهِ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ سَمَاعِ بَيِّنَتِهَا عَلَى الزَّوْجِيَّةِ لِيَفْرِضَ لَهَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ حَاضِرٌ وَيَأْمُرُهَا بِالِاسْتِدَانَةِ ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى قَوْلِهِمَا ، وَقَوْلُ زُفَرَ فِي ذَلِكَ مُتَقَرِّرٌ ، وَنَقَلَ مِثْلَ قَوْلِ زُفَرَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فَقَوَّى عَمَلَ الْقُضَاةِ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَى ذَلِكَ .
[ فُرُوعٌ ] فِي الْفَتَاوَى : امْرَأَةٌ قَالَتْ : إنَّ زَوْجِي يُطِيلُ الْغَيْبَةَ عَنِّي فَطَلَبَتْ كَفِيلًا بِالنَّفَقَةِ .
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَيْسَ لَهَا ذَلِكَ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : آخُذُ كَفِيلًا بِنَفَقَةِ شَهْرٍ وَاحِدٍ اسْتِحْسَانًا ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى ، فَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ يَمْكُثُ فِي السَّفَرِ أَكْثَرَ مِنْ شَهْرٍ أَخَذَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الْكَفِيلَ بِأَكْثَرَ مِنْ شَهْرٍ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا : لَوْ كَفَلَ

بِنَفَقَتِهَا مَا عَاشَتْ أَوْ كُلَّ شَهْرٍ أَوْ مَا بَقِيَ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا صَحَّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : هُوَ عَلَى شَهْرٍ وَاحِدٍ ، وَلَوْ ضَمِنَ لَهَا نَفَقَةَ سَنَةٍ جَازَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً ، وَلَوْ طَلَّقَهَا رَجْعِيًّا أَوْ بَائِنًا وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا كَفَلَ بِنَفَقَةِ عِدَّتِهَا كُلَّ شَهْرٍ لِأَنَّ الْعِدَّةَ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ

( فَصْلٌ ) ( وَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فَلَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى فِي عِدَّتِهَا رَجْعِيًّا كَانَ أَوْ بَائِنًا ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا نَفَقَةَ لِلْمَبْتُوتَةِ إلَّا إذَا كَانَتْ حَامِلًا ، أَمَّا الرَّجْعِيُّ فَلِأَنَّ النِّكَاحَ بَعْدَهُ قَائِمٌ لَا سِيَّمَا عِنْدَنَا فَإِنَّهُ يَحِلُّ لَهُ الْوَطْءُ ، وَأَمَّا الْبَائِنُ فَوَجْهُ قَوْلِهِ مَا رُوِيَ { عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ قَالَتْ : طَلَّقَنِي زَوْجِي ثَلَاثًا فَلَمْ يَفْرِضْ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُكْنَى وَلَا نَفَقَةً } وَلِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ وَهِيَ مُرَتَّبَةٌ عَلَى الْمِلْكِ وَلِهَذَا لَا تَجِبُ لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا لِانْعِدَامِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ حَامِلًا لِأَنَّا عَرَفْنَاهُ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ } الْآيَةَ .
وَلَنَا أَنَّ النَّفَقَةَ جَزَاءُ احْتِبَاسٍ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَالِاحْتِبَاسُ قَائِمٌ فِي حَقِّ حُكْمٍ مَقْصُودٍ بِالنِّكَاحِ وَهُوَ الْوَلَدُ إذْ الْعِدَّةُ وَاجِبَةٌ لِصِيَانَةِ الْوَلَدِ فَتَجِبُ النَّفَقَةُ وَلِهَذَا كَانَ لَهَا السُّكْنَى بِالْإِجْمَاعِ وَصَارَ كَمَا إذَا كَانَتْ حَامِلًا .
وَحَدِيثُ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ رَدَّهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَإِنَّهُ قَالَ : لَا نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا بِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَا نَدْرِي صَدَقَتْ أَمْ كَذَبَتْ حَفِظَتْ أَمْ نَسِيَتْ ، سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { لِلْمُطَلَّقَةِ الثَّلَاثَ النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ } وَرَدَّهُ أَيْضًا زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَجَابِرٌ وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .

قَوْلُهُ : وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا نَفَقَةَ لِلْمَبْتُوتَةِ ) وَهِيَ الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا وَالْمُخْتَلِعَةُ إذْ لَا بَيْنُونَةَ عِنْدَهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ ( إلَّا أَنْ تَكُونَ حَامِلًا ) فَإِنَّ فِي بَطْنِهَا وَلَدَهُ ، وَحَدِيثُ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ رَوَاهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ { أَنَّ أَبَا عَمْرِو بْنَ حَفْصٍ طَلَّقَهَا أَلْبَتَّةَ وَهُوَ غَائِبٌ فَأَرْسَلَ إلَيْهَا وَكِيلُهُ بِشَعِيرٍ فَسَخِطَتْهُ فَقَالَ : وَاَللَّهِ مَا لَكِ عَلَيْنَا مِنْ سَبِيلٍ ، فَجَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : لَيْسَ لَكِ نَفَقَةٌ ، وَأَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ أُمِّ شَرِيكٍ ، ثُمَّ قَالَ : تِلْكَ امْرَأَةٌ يَغْشَاهَا أَصْحَابِي اعْتَدِّي عِنْدَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ فَإِنَّهُ رَجُلٌ أَعْمَى تَضَعِينَ ثِيَابَكِ ، فَإِذَا حَلَلْتِ فَآذِنِينِي ، قَالَتْ : فَلَمَّا حَلَلْتُ ذَكَرْتُ لَهُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ وَأَبَا جَهْمٍ خَطَبَانِي ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ ، وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ ، انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ ، فَنَكَحَتْهُ فَجَعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا وَاغْتَبَطْتُ بِهِ } .
وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا وَقَالَ فِيهِ { لَا نَفَقَةَ لَكِ وَلَا سُكْنَى } وَرَوَاهُ أَيْضًا وَقَالَ فِيهِ { إنَّ أَبَا حَفْصِ بْنَ الْمُغِيرَةِ خَرَجَ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَرْسَلَ إلَى امْرَأَتِهِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ بِتَطْلِيقَةٍ كَانَتْ بَقِيَتْ مِنْ تَطْلِيقِهَا } وَعَلَى هَذَا فَتُحْمَلُ رِوَايَةُ الثَّلَاثِ عَلَى أَنَّهُ أَوْقَعَ وَاحِدَةً هِيَ تَمَامُ الثَّلَاثِ ، وَأَمَرَ لَهَا الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ وَعَيَّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ بِنَفَقَةٍ فَسَخِطَتْهَا فَقَالَا : وَاَللَّهِ لَيْسَ لَك نَفَقَةٌ إلَّا أَنْ تَكُونِي حَامِلًا ، فَأَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَتْ لَهُ ، قَوْلَهُمَا فَقَالَ : { لَا نَفَقَةَ لَكِ } زَادَ أَبُو دَاوُد فِي هَذَا بِإِسْنَادِ مُسْلِمٍ عَقِيبَ قَوْلِ عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ وَالْحَارِثِ بْنِ

هِشَامٍ { وَلَا نَفَقَةَ لَكِ : إلَّا أَنْ تَكُونِي حَامِلًا } وَفِي شَرْحِ الْكَنْزِ نَسَبَهُ إلَى مُسْلِمٍ لَكِنَّ الْحَقَّ مَا عَلِمْت .
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ { أَنَّ أَبَا حَفْصِ بْنَ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ انْطَلَقَ إلَى الْيَمَنِ ، فَقَالَ لَهَا أَهْلُهُ : لَيْسَ لَكِ عَلَيْنَا نَفَقَةٌ ، فَانْطَلَقَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِي نَفَرٍ فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ } الْحَدِيثَ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ شَرْطَ قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ عَدَمُ طَعْنِ السَّلَفِ فِيهِ وَعَدَمُ الِاضْطِرَابِ وَعَدَمُ مُعَارِضٍ يَجِبُ تَقْدِيمُهُ ، وَالْمُتَحَقَّقُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ضِدُّ كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ ، أَمَّا طَعْنُ السَّلَفِ فَقَدْ طَعَنَ عَلَيْهَا فِيهِ أَكَابِرُ الصَّحَابَةِ مِمَّنْ سَنَذْكُرُ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَادَتِهِمْ الطَّعْنُ بِسَبَبِ كَوْنِ الرَّاوِي امْرَأَةً وَلَا كَوْنِ الرَّاوِي أَعْرَابِيًّا ، فَقَدْ قَبِلُوا حَدِيثَ فُرَيْعَةَ بِنْتِ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ أُخْتِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي اعْتِدَادِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا فِي بَيْتِ زَوْجِهَا مَعَ أَنَّهَا لَا تُعْرَفُ إلَّا فِي هَذَا الْخَبَرِ ، بِخِلَافِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فَإِنَّهَا تُعْرَفُ بِذَلِكَ الْخَبَرِ وَبِخَبَرِ الدَّجَّالِ حَفِظَتْهُ مَعَ طُولِهِ وَوَعَتْهُ وَأَدَّتْهُ ، ثُمَّ قَدْ ظَهَرَ لَهَا مِنْ الْفِقْهِ مَا أَفَادَ عِلْمًا وَجَلَالَةَ قَدْرٍ ؛ وَهُوَ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ " مِنْ أَنَّ مَرْوَانَ أَرْسَلَ إلَيْهَا قَبِيصَةَ بْنَ أَبِي ذُؤَيْبٍ يَسْأَلُهَا عَنْ الْحَدِيثِ فَحَدَّثَتْهُ بِهِ ، فَقَالَ مَرْوَانُ : لَمْ نَسْمَعْ هَذَا الْحَدِيثَ إلَّا مِنْ امْرَأَةٍ سَنَأْخُذُ بِالْعِصْمَةِ الَّتِي وَجَدْنَا النَّاسَ عَلَيْهَا ، فَقَالَتْ فَاطِمَةُ حِينَ بَلَغَهَا قَوْلُ مَرْوَانَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ الْقُرْآنُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } .
إلَى قَوْله تَعَالَى { لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } قَالَتْ : هَذَا لِمَنْ كَانَتْ لَهُ مُرَاجَعَةٌ ،

فَأَيُّ أَمْرٍ يَحْدُثُ بَعْدَ ذَلِكَ ؟ فَكَيْفَ تَقُولُونَ : لَا نَفَقَةَ لَهَا إذَا لَمْ تَكُنْ حَامِلًا فَعَلَامَ تَحْبِسُونَهَا ؟ " وَقَبِلَ عُمَرُ خَبَرَ الضَّحَّاكِ بْنِ سُفْيَانَ الْكِلَابِيِّ وَحْدَهُ وَهُوَ أَعْرَابِيٌّ ، فَجَزَمْنَا أَنَّ رَدَّ عُمَرَ وَغَيْرَهُ لِخَبَرِهَا لَيْسَ إلَّا لِمَا عَلِمُوهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخَالِفًا لَهُ ، وَقَدْ اسْتَقَرَّ الْحَالُ عَلَيْهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ السَّلَفِ إلَى أَنْ رَوَتْ فَاطِمَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا هَذَا الْخَبَرَ مَعَ أَنَّ عُمَرَ رَدَّهُ ، وَصَرَّحَ بِالرِّوَايَةِ ، بِخِلَافِهِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ : كُنْت مَعَ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ وَمَعَنَا الشَّعْبِيُّ فَحَدَّثَ الشَّعْبِيُّ بِحَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَجْعَلْ لَهَا سُكْنَى وَلَا نَفَقَةً ، فَأَخَذَ الْأَسْوَدُ كَفًّا مِنْ حَصًا فَحَصَبَهُ بِهِ وَقَالَ : وَيْلَكَ تُحَدِّثُ بِمِثْلِ هَذَا .
قَالَ عُمَرُ : لَا نَتْرُكُ كِتَابَ رَبِّنَا وَلَا سُنَّةَ نَبِيِّنَا لِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَا نَدْرِي حَفِظَتْ أَمْ نَسِيَتْ ، لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } } فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ لَهَا النَّفَقَةَ وَالسُّكْنَى .
وَلَا رَيْبَ فِي أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ مِنْ السُّنَّةِ كَذَا رَفْعٌ فَكَيْفَ إذَا كَانَ قَائِلُهُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَفِيمَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيّ زِيَادَةُ قَوْلِهِ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { لِلْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى } وَقُصَارَى مَا هُنَا أَنْ تُعَارَضَ رِوَايَتُهَا بِرِوَايَتِهِ ، فَأَيُّ الرِّوَايَتَيْنِ يَجِبُ تَقْدِيمُهَا ؟ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ : حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ : كَانَ عُمَرُ

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا ذُكِرَ عِنْدَهُ حَدِيثُ فَاطِمَةَ قَالَ " مَا كُنَّا نُغَيِّرُ فِي دِينِنَا بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ " فَهَذَا شَاهِدٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ الدِّينُ الْمَعْرُوفُ الْمَشْهُورُ وُجُوبَ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى فَيَنْزِلُ حَدِيثُ فَاطِمَةَ مِنْ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ الشَّاذِّ .
وَالثِّقَةُ إذَا شَذَّ لَا يُقْبَلُ مَا شَذَّ فِيهِ ، وَيُصَرِّحُ بِهَذَا مَا فِي مُسْلِمٍ مِنْ قَوْلِ مَرْوَانَ : سَنَأْخُذُ بِالْعِصْمَةِ الَّتِي وَجَدْنَا النَّاسَ عَلَيْهَا ، وَالنَّاسُ إذْ ذَاكَ هُمْ الصَّحَابَةُ ، فَهَذَا فِي الْمَعْنَى حِكَايَةُ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ ، وَوَصَفَهُ بِالْعِصْمَةِ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّهُ قَالَ لِعَائِشَةَ : أَلَمْ تَرَيْ إلَى فُلَانَةَ بِنْتِ الْحَكَمِ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا أَلْبَتَّةَ ، فَخَرَجَتْ فَقَالَتْ : بِئْسَ مَا صَنَعْت ، فَقَالَ : أَلَمْ تَسْمَعِي إلَى قَوْلِ فَاطِمَةَ فَقَالَتْ : أَمَا إنَّهُ لَا خَيْرَ لَهَا فِي ذِكْرِ ذَلِكَ .
فَهَذَا غَايَةُ الْإِنْكَارِ حَيْثُ نَفَتْ الْخَبَرَ بِالْكُلِّيَّةِ عَنْهُ ، وَكَانَتْ عَائِشَةُ : أَعْلَمَ بِأَحْوَالِ النِّسَاءِ فَقَدْ كُنَّ يَأْتِينَ إلَى مَنْزِلِهَا وَيَسْتَفْتِينَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَثُرَ وَتَكَرَّرَ .
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ لِفَاطِمَةَ : أَلَا تَتَّقِي اللَّهَ تَعَالَى : تَعْنِي فِي قَوْلِهَا : لَا سُكْنَى وَلَا نَفَقَةَ .
وَقَالَ الْقَاضِي إسْمَاعِيلُ : حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ ، حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ هَارُونَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ أَحْسِبُهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ : إنَّمَا أَخْرَجَك هَذَا اللِّسَانُ : يَعْنِي أَنَّهَا اسْتَطَالَتْ عَلَى أَحْمَائِهَا وَكَثُرَ الشَّرُّ بَيْنَهُمْ فَأَخْرَجَهَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِذَلِكَ .
وَيُفِيدُ ثُبُوتُهُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ قَدْ احْتَجَّ بِهِ وَهُوَ مَعَاصِرُ عَائِشَةَ ، وَأَعْظَمُ مُتَتَبِّعٍ لِأَقْوَالِ مَنْ عَاصَرَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ حِفْظًا وَدِرَاسَةً ، وَلَوْلَا أَنَّهُ عَلِمَهُ عَنْهَا مَا قَالَهُ ، وَذَلِكَ

مَا فِي أَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ : قَدِمْت الْمَدِينَةَ فَدَفَعْت إلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فَقُلْت : فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ طَلُقَتْ فَخَرَجَتْ مِنْ بَيْتِهَا ، فَقَالَ سَعِيدٌ : تِلْكَ امْرَأَةٌ فَتَنَتْ النَّاسَ كَانَتْ لِسَنَةٍ فَوَضَعَتْ عَلَى يَدِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ .
وَهَذَا هُوَ الْمُنَاسِبُ لِمَنْصِبِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَنْسُبَ إلَى صَحَابِيَّةٍ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ ، وَكَذَا هُوَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مُسْتَنَدُ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ حَيْثُ قَالَ : خُرُوجُ فَاطِمَةَ إنَّمَا كَانَ عَنْ سُوءِ الْخُلُقِ ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْهُ .
وَمِمَّنْ رَدَّهُ زَوْجُهَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ ، حَدَّثَنِي جَعْفَرٌ عَنْ أَبِي هُرْمُزَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ : كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ يَقُولُ : كَانَ أُسَامَةُ إذَا ذَكَرَتْ فَاطِمَةُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ : يَعْنِي مِنْ انْتِقَالِهَا فِي عِدَّتِهَا رَمَاهَا بِمَا فِي يَدِهِ انْتَهَى .
هَذَا مَعَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي تَزَوَّجَهَا بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَكَانَ أَعْرَفَ بِالْمَكَانِ الَّذِي نَقَلَهَا عَنْهُ إلَى مَنْزِلِهِ حَتَّى بَنَى بِهَا ، فَهَذَا لَمْ يَكُنْ قَطْعًا إلَّا لِعِلْمِهِ بِأَنَّ ذَلِكَ غَلَطٌ مِنْهَا ، أَوْ لِعِلْمِهِ بِخُصُوصِ سَبَبِ جَوَازِ انْتِقَالِهَا مِنْ اللَّسَنِ أَوْ خِيفَةَ الْمَكَانِ وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ أَيْضًا وَلَمْ يَظْفَرْ الْمُخَرِّجُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِحَدِيثِ أُسَامَةَ فَاسْتَغْرَبَهُ وَاَللَّهُ الْمُيَسِّرُ .
وَقَالَ اللَّيْثُ : حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ : أَخْبَرَنَا أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَذَكَرَ حَدِيثَ فَاطِمَةَ قَالَ : فَأَنْكَرَ النَّاسُ عَلَيْهَا مَا كَانَتْ تُحَدِّثُ مِنْ خُرُوجِهَا قَبْلَ أَنْ تَحِلَّ .
وَفِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ بِسَنَدِهِ عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَا : " الْمُطَلَّقَةُ

ثَلَاثًا لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ " .
وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ حَرْبِ بْنِ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا لَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى } قَالَ عَبْدُ الْحَقِّ : إنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ مَا ذُكِرَ فِيهِ السَّمَاعُ ، أَوْ كَانَ عَنْ اللَّيْثِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ .
وَحَرْبُ بْنُ أَبِي الْعَالِيَةِ أَيْضًا لَا يُحْتَجُّ بِهِ ضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ ، وَالْأَشْبَهُ وَقْفُهُ عَلَى جَابِرٍ ، وَهَذَا بِتَقْدِيرِ تَسْلِيمِ مَا ذَكَرَهُ مِنْ تَوْهِينِ رَفْعِهِ يَرُدُّ قَوْلَ مَنْ ذَكَرَ أَنَّ جَابِرًا عَلَى قَوْلِ فَاطِمَةَ ، وَقَدْ تَمَّ بِمَا ذَكَرْنَا بَيَانَ الْمُعَارِضِ وَالطَّعْنِ .
وَأَمَّا بَيَانُ الِاضْطِرَابِ فَقَدْ سُمِعْت فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ طَلَّقَهَا وَهُوَ غَائِبٌ ، وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ طَلَّقَهَا ثُمَّ سَافَرَ ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهَا ذَهَبَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَتْهُ .
وَفِي بَعْضِهَا أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ ذَهَبَ فِي نَفَرٍ فَسَأَلُوهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ سُمِّيَ الزَّوْجُ أَبَا عَمْرِو بْنِ حَفْصٍ ، وَفِي بَعْضِهَا أَبَا حَفْصِ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، وَالِاضْطِرَابُ مُوجِبٌ لِضَعْفِ الْحَدِيثِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ .
وَمِمَّنْ رَدَّ الْحَدِيثَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَمَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ ، وَمِنْ التَّابِعِينَ مَعَ ابْنِ الْمُسَيِّبِ شُرَيْحُ وَالشَّعْبِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ وَالْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ .
وَمِمَّنْ بَعْدَهُمْ الثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَخَلْقٌ كَثِيرٌ مِمَّنْ تَبِعَهُمْ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا الْعُذْرُ بِتَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ إنَّمَا أَسْقَطَ تِلْكَ السُّكْنَى وَالْحَالُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا : لَا نَفَقَةَ لَك وَلَا سُكْنَى ، قُلْنَا : لَيْسَ عَلَيْنَا أَوَّلًا أَنْ نَشْتَغِلَ بِبَيَانِ الْعُذْرِ عَمَّا رَوَتْ ، بَلْ يَكْفِي مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ شَاذٌّ مُخَالِفٌ لِمَا كَانَ النَّاسُ عَلَيْهِ

، وَلِمَرْوِيِّ عُمَرَ فِي تَرْكِهِ كَائِنًا هُوَ فِي نَفْسِهِ مَا كَانَ ، إلَّا أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِذَلِكَ حَسَنٌ حَمْلًا لِمَرْوِيِّهَا عَلَى الصِّحَّةِ .
وَنَقُولُ : فِيهِ أَنَّ عَدَمَ السُّكْنَى كَانَ لِمَا سَمِعَتْ .
وَأَمَّا عَدَمُ النَّفَقَةِ فَلِأَنَّ زَوْجَهَا كَانَ غَائِبًا وَلَمْ يَتْرُكْ مَالًا عِنْدَ أَحَدٍ سِوَى الشَّعِيرِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ إلَيْهَا فَطَالَبَتْ هِيَ أَهْلَهُ عَلَى مَا فِي مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ { أَنَّهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ انْطَلَقَ إلَى الْيَمَنِ فَقَالَ لَهَا أَهْلُهُ : لَيْسَ لَكِ عَلَيْنَا نَفَقَةٌ الْحَدِيثَ .
فَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا لَا نَفَقَةَ لَكِ وَلَا سُكْنَى } عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْلُفْ مَالًا عِنْدَ أَحَدٍ ، وَلَيْسَ يَجِبُ لَك عَلَى أَهْلِهِ شَيْءٌ فَلَا نَفَقَةَ لَك عَلَى أَحَدٍ بِالضَّرُورَةِ ، فَلَمْ تَفْهَمْ هِيَ الْغَرَضَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَجَعَلَتْ تَرْوِي نَفْيَ النَّفَقَةِ مُطْلَقًا فَوَقَعَ إنْكَارُ النَّاسِ عَلَيْهَا ، ثُمَّ إنَّ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ مَا نَظَرَتْ فِيهِ فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ مَا يُفِيدُ وُجُوبَ السُّكْنَى وَالنَّفَقَةِ لَهَا وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ } قَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ : وَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ مِنْ وُجْدِكُمْ ، وَبِهِ جَاءَتْ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمَرْوِيَّةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُفَسِّرَةً لَهُ ، وَهَذِهِ الْآيَةُ إنَّمَا هِيَ فِي الْبَوَائِنِ بِدَلِيلِ الْمَعْطُوفِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى عَقِيبَهُ { وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } وَلَوْ كَانَتْ الْآيَةُ فِي غَيْرِ الْمُطَلَّقَاتِ أَوْ فِي الرَّجْعِيَّاتِ كَانَ التَّقْدِيرُ : أَسْكِنُوا الزَّوْجَاتِ وَالرَّجْعِيَّاتِ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ ، وَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ مِنْ وُجْدِكُمْ .
وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا مَعْنَى حِينَئِذٍ لِجَعْلِ غَايَةِ

إيجَابِ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا الْوَضْعَ .
فَإِنَّ النَّفَقَةَ وَاجِبَةٌ لَهَا مُطْلَقًا حَمْلًا كَانَتْ أَوْ لَا ، وَضَعَتْ حَمْلَهَا أَوْ لَا ، بِخِلَافِهِ مَا إذَا كَانَتْ فِي الْبَوَائِنِ فَإِنَّ فَائِدَةَ التَّقْيِيدِ بِالْغَايَةِ دَفْعُ تَوَهُّمِ عَدَمِ النَّفَقَةِ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ الْحَامِلِ فِي تَمَامِ مُدَّةِ الْحَمْلِ لِطُولِهَا وَالِاقْتِصَارِ عَلَى ثَلَاثِ حِيَضٍ أَوْ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ ، وَكَذَا قَوْله تَعَالَى { لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } فَإِنَّهُ عَامٌّ فِي الْمُطَلَّقَاتِ وقَوْله تَعَالَى { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } يَرْجِعُ إلَى الرَّجْعِيَّاتِ مِنْهُنَّ ، وَذِكْرُ حُكْمٍ خَاصٍّ بِبَعْضِ مَا يَتَنَاوَلُهُ الصَّدْرُ لَا يُبْطِلُ عُمُومَ الصَّدْرِ .

( وَلَا نَفَقَةَ لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا ) لِأَنَّ احْتِبَاسَهَا لَيْسَ لِحَقِّ الزَّوْجِ بَلْ لِحَقِّ الشَّرْعِ فَإِنَّ التَّرَبُّصَ عِبَادَةٌ مِنْهَا .
أَلَا تَرَى أَنَّ مَعْنَى التَّعَرُّفِ عَنْ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ لَيْسَ بِمُرَاعًى فِيهِ حَتَّى لَا يُشْتَرَطَ فِيهَا الْحَيْضُ فَلَا تَجِبُ نَفَقَتُهَا عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ شَيْئًا فَشَيْئًا وَلَا مِلْكَ لَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَلَا يُمْكِنُ إيجَابُهَا فِي مِلْكِ الْوَرَثَةِ ( وَكُلُّ فُرْقَةٍ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ بِمَعْصِيَةٍ مِثْلَ الرِّدَّةِ وَتَقْبِيلِ ابْنِ الزَّوْجِ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا ) لِأَنَّهَا صَارَتْ حَابِسَةً نَفْسَهَا بِغَيْرِ حَقٍّ فَصَارَتْ كَمَا إذَا كَانَتْ نَاشِزَةً ، بِخِلَافِ الْمَهْرِ بَعْدَ الدُّخُولِ لِأَنَّهُ وُجِدَ التَّسْلِيمُ فِي حَقِّ الْمَهْرِ بِالْوَطْءِ ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا جَاءَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ قِبَلِهَا بِغَيْرِ مَعْصِيَةٍ كَخِيَارِ الْعِتْقِ وَخِيَارِ الْبُلُوغِ وَالتَّفْرِيقِ لِعَدَمِ الْكَفَاءَةِ لِأَنَّهَا حَبَسَتْ نَفْسَهَا بِحَقٍّ وَذَلِكَ لَا يُسْقِطُ النَّفَقَةَ كَمَا إذَا حَبَسَتْ نَفْسَهَا لِاسْتِيفَاءِ الْمَهْرِ .

( قَوْلُهُ أَلَا يَرَى أَنَّ مَعْنَى التَّعَرُّفِ عَنْ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ لَيْسَ مُرَاعًى فِيهَا ) اسْتِيضَاحٌ عَلَى أَنَّ وُجُوبَهَا لِحَقِّ الشَّرْعِ عِبَادَةٌ فَإِنَّهَا لَوْ لَمْ تَحِضْ فِيهَا انْقَضَتْ الْعِدَّةُ مَا لَمْ يَظْهَرْ حَمْلٌ ، وَكَذَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوبُهَا بِالْمَوْتِ قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَيُعَارِضُ ذَلِكَ انْقِضَاؤُهَا إذَا لَمْ تَعْلَمْ بِمَوْتِهِ حَتَّى مَضَتْ مُدَّةُ الْعِدَّةِ .
وَأَنْتَ إذَا أَنْعَمْت النَّظَرَ فِيمَا ذَكَرْنَا فِي بَابِ الْعِدَّةِ فِي مَسْأَلَةِ تَدَاخُلُ الْعِدَّتَيْنِ ظَهَرَ لَك جَوَابُ هَذَا فَارْجِعْ إلَيْهِ وَأَتْقِنْهُ .
( قَوْلُهُ وَكُلُّ فُرْقَةٍ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجَةِ بِمَعْصِيَةٍ ) احْتَرَزَ بِهِ عَمَّا يَجِيءُ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ مُطْلَقًا وَعَمَّا يَجِيءُ مِنْ قِبَلِهَا بِغَيْرِ مَعْصِيَةٍ فَإِنَّ لَهَا النَّفَقَةَ فِيهِمَا .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْفُرْقَةَ إمَّا مِنْ قِبَلِهِ أَوْ قِبَلِهَا ، فَفِي الْأَوَّلِ لَهَا النَّفَقَةُ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَتْ بِغَيْرِ مَعْصِيَةٍ مِثْلَ الْفُرْقَةِ بِطَلَاقِهِ أَوْ لِعَانِهِ أَوْ عُنَّتِهِ أَوْجَبِّهِ بَعْدَ الْخَلْوَةِ ، وَيُشْكِلُ عَلَى إيجَابِ النَّفَقَةِ لِلْمُلَاعَنَةِ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي بَابِ اللِّعَانِ فِي الْحَدِيثِ { مِنْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَجْعَلْ لَهَا بَيْتًا وَلَا قُوتًا عَلَيْهِ } أَوْ بِمَعْصِيَةٍ مِثْلَ الْفُرْقَةِ بِتَقْبِيلِهِ بِنْتَ زَوْجَتِهِ ، أَوْ إيلَائِهِ مَعَ عَدَمِ فَيْئِهِ حَتَّى مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ ، أَوْ إبَائِهِ الْإِسْلَامَ إذَا أَسْلَمَتْ هِيَ ، أَوْ ارْتَدَّ هُوَ فَعُرِضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ فَلَمْ يُسْلِمْ لِأَنَّ بِمَعْصِيَتِهِ لَا تُحْرَمُ هِيَ النَّفَقَةَ وَأَمَّا الثَّانِي فَإِمَّا بِمَعْصِيَةٍ مِثْلَ تَمْكِينِهَا ابْنَ الزَّوْجِ أَوْ إبَائِهَا إذَا أَسْلَمَ هُوَ وَهِيَ وَثَنِيَّةٌ أَوْ مَجُوسِيَّةٌ وَرِدَّتُهَا فَلَا تَجِبُ لَهَا نَفَقَةٌ لِأَنَّهَا وَالْحَالَةُ هَذِهِ حَابِسَةٌ نَفْسَهَا بِغَيْرِ حَقٍّ فَكَانَتْ كَالنَّاشِزَةِ ، وَإِمَّا بِغَيْرِ مَعْصِيَةٍ مِثْلَ الْفُرْقَةِ بِخِيَارِ الْبُلُوغِ وَالْعِتْقِ وَعَدَمِ الْكَفَاءَةِ وَوَطْءِ ابْنِ الزَّوْجِ لَهَا مُكْرَهَةً

تَجِبُ لِأَنَّهَا حَبَسَتْ نَفْسَهَا بِحَقٍّ لَهَا أَوْ عُذِرَتْ شَرْعًا فِيهِ ، وَلَهَا السُّكْنَى فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ لِأَنَّ الْقَرَارَ فِي مَنْزِلِ الزَّوْجِ حَقٌّ عَلَيْهَا فَلَا يَسْقُطُ بِمَعْصِيَتِهَا ، أَمَّا النَّفَقَةُ فَحَقٌّ لَهَا فَتُجَازَى بِسُقُوطِهِ بِمَعْصِيَتِهَا .
( قَوْلُهُ بِخِلَافِ الْمَهْرِ بَعْدَ الدُّخُولِ ) يَعْنِي أَنَّهُ يَجِبُ لَهَا وَإِنْ جَاءَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ جِهَتِهَا بِمَعْصِيَةٍ لِأَنَّهُ وُجِدَ الْمُوجِبُ لَهُ وَهُوَ تَسْلِيمُ نَفْسِهَا فَتَقَرَّرَ الْحَقُّ لَهَا فِيهِ قَبْلَ طُرُوُّ الْمَعْصِيَةِ .

( وَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ ارْتَدَّتْ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا ، وَإِنْ مَكَّنَتْ ابْنَ زَوْجِهَا ) مِنْ نَفْسِهَا ( فَلَهَا النَّفَقَةُ ) مَعْنَاهُ : مَكَّنَتْ بَعْدَ الطَّلَاقِ ، لِأَنَّ الْفُرْقَةَ تَثْبُتُ بِالطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ وَلَا عَمَلَ فِيهَا لِلرِّدَّةِ وَالتَّمْكِينِ ، إلَّا أَنَّ الْمُرْتَدَّةَ تُحْبَسُ حَتَّى تَتُوبَ ، وَلَا نَفَقَةَ لِلْمَحْبُوسَةِ ، وَالْمُمَكَّنَةُ لَا تُحْبَسُ فَلِهَذَا يَقَعُ الْفَرْقُ .

( قَوْلُهُ وَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ ارْتَدَّتْ سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا ) لَا لِعَيْنِ الرِّدَّةِ هُنَا لِأَنَّ الْفُرْقَةَ لَمْ تَجِئْ بِسَبَبِهَا فَهِيَ وَتَمْكِينِهَا ابْنِ الزَّوْجِ بَعْدَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ سَوَاءٌ فَكَمَا لَا تَسْقُطُ النَّفَقَةُ بِالتَّمْكِينِ هُنَا لَا تَسْقُطُ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ بِالرِّدَّةِ ، وَإِنَّمَا تَسْقُطُ فِي هَذِهِ الرِّدَّةِ إذَا أُخْرِجَتْ وَحُبِسَتْ إذْ لَا نَفَقَةَ لِلْمَحْبُوسَةِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِي التَّعْلِيلِ ، أَوْ إذَا لَحِقَتْ حَتَّى لَوْ لَمْ تَلْحَقْ بِدَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ تَخْرُجْ بَعْدَ هَذِهِ الرِّدَّةِ كَانَ لَهَا النَّفَقَةُ ، وَلَوْ حُبِسَتْ أَوْ لَحِقَتْ فَعَادَتْ إلَى الْإِسْلَامِ وَرَجَعَتْ إلَى بَيْتِهَا عَادَ اسْتِحْقَاقُهَا لِلنَّفَقَةِ ، وَمَا ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ مِنْ قَوْلِهِ وَلَوْ عَادَتْ إلَى بَيْتِهَا مُسْلِمَةً أَوْ مُرْتَدَّةً عَادَتْ نَفَقَتُهَا ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ اللِّحَاقِ ، يُخَالِفُهُ مَا ذُكِرَ فِي الذَّخِيرَةِ : لَوْ عَادَتْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى ، وَوَفَّقَ بِحَمْلِ الْمَذْكُورِ فِي الْجَامِعِ عَلَى مَا إذَا حَكَمَ بِلَحَاقِهَا ، وَمَا فِي الذَّخِيرَةِ عَلَى مَا قَبْلَ الْحُكْمِ بِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِالرِّدَّةِ ؛ فَإِنَّهَا لَوْ أَسْلَمَتْ وَعَادَتْ إلَى مَنْزِلِهِ لَا تَجِبُ لَهَا نَفَقَةٌ لِأَنَّهَا الْمُفَوِّتَةُ لِمِلْكِ النِّكَاحِ وَهُوَ لَا يَعُودُ بِعَوْدِهَا إلَى الْمَنْزِلِ مُسْلِمَةً ، وَلَوْ كَانَ تَمْكِينُهَا وَرِدَّتُهَا فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ سَقَطَتْ النَّفَقَةُ كَمَا لَوْ كَانَا قَبْلَ الطَّلَاقِ لِقِيَامِ النِّكَاحِ فِي الرَّجْعِيِّ .
وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ الْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ امْرَأَةٍ كَانَتْ لَهَا نَفَقَةٌ يَوْمَ طَلُقَتْ ثُمَّ صَارَتْ إلَى حَالٍ لَا نَفَقَةَ لَهَا فَلَهَا أَنْ تَعُودَ وَتَأْخُذَ النَّفَقَةَ ، وَكُلَّ امْرَأَةٍ لَا نَفَقَةَ لَهَا يَوْمَ طَلُقَتْ فَلَيْسَ لَهَا نَفَقَةٌ بَعْدَهُ ، فَلَوْ طَلَّقَ الْأَمَةَ بَائِنًا وَكَانَتْ مُبَوَّأَةً مَعَهُ بَيْتًا فَأَخْرَجَهَا الْمَوْلَى إلَى خِدْمَتِهِ بَعْدَ الطَّلَاقِ سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا ،

فَإِنْ أَعَادَهَا إلَى بَيْتِ الزَّوْجِ تَأْخُذُ النَّفَقَةَ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ بَوَّأَهَا الْمَوْلَى فَطَلُقَتْ فَأَرَادَ أَنْ يُبَوِّئَهَا مَعَ الزَّوْجِ فِي الْعِدَّةِ وَتَأْخُذَ نَفَقَتَهَا لَا تَجِبُ النَّفَقَةُ .
وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ مَا لَوْ كَانَتْ نَاشِزَةً يَوْمَ الطَّلَاقِ ثُمَّ عَادَتْ إلَى الْمَنْزِلِ فِي الْعِدَّةِ فَإِنَّهَا تَعُودُ نَفَقَتُهَا .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ النَّفَقَةَ كَانَتْ وَاجِبَةً إلَّا أَنَّهَا مَنَعَتْ نَفْسَهَا عَنْ حَقٍّ وَاجِبٍ لَهَا فَلَهَا أَنْ تَعُودَ فَتَأْخُذَهُ ، وَهَذَا لَا يَدْفَعُ الْوَارِدَ عَلَى لَفْظِ الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ .
وَلَوْ تَطَاوَلَتْ الْعِدَّةُ كَانَتْ لَهَا النَّفَقَةُ مَا لَمْ تَدْخُلْ فِي سِنِّ الْإِيَاسِ فَتَعْتَدَّ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ .
وَعَنْ هَذَا قُلْنَا : لَوْ صَالَحَ الْمُعْتَدَّةَ عَلَى نَفَقَةِ الْعِدَّةِ بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ ، إنْ كَانَتْ الْعِدَّةُ بِالشُّهُورِ جَازَ لِأَنَّهَا مَعْلُومَةٌ ، وَإِنْ كَانَتْ بِالْحَيْضِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهَا مَجْهُولَةٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَمْتَدَّ الطُّهْرُ بِهَا ، وَإِذَا لَمْ تُطَالِبْ بِالنَّفَقَةِ حَتَّى انْقَضَتْ الْعِدَّةُ سَقَطَتْ كَاَلَّتِي فِي الْعِصْمَةِ إلَّا أَنْ تَكُونَ مَفْرُوضَةً .
وَلَوْ أَبْرَأَتْهُ عَنْ النَّفَقَةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَهِيَ زَوْجَةٌ لَمْ يَصِحَّ ، وَلَوْ أَبْرَأَتْهُ عَنْهَا فِي عَقْدِ الْخُلْعِ صَحَّ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ فِي الْخُلْعِ إبْرَاءٌ بِعِوَضٍ وَهُوَ اسْتِيفَاءٌ وَالِاسْتِيفَاءُ قَبْلَ الْوُجُوبِ يَجُوزُ .
وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَالْإِبْرَاءُ إسْقَاطٌ وَإِسْقَاطُ الشَّيْءِ قَبْلَ وُجُوبِهِ لَا يَجُوزُ ، ثُمَّ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُطَلَّقَةِ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ مَعَ يَمِينِهَا إذَا كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْحَيْضِ .
وَلَوْ كَانَتْ ادَّعَتْ حَبَلًا وَأَنْفَقَ عَلَيْهَا إلَى سَنَتَيْنِ ، فَإِنْ قَالَتْ بَعْدَهُمَا كُنْت اعْتَقَدْته حَبَلًا فَظَهَرَ أَنَّهُ لَيْسَ إيَّاهُ وَأَنَا حَائِلٌ لَمْ أَحِضْ وَقَالَ بَلْ ادَّعَيْت الْحَبَلَ كَذِبًا وَظَهَرَ كَذِبُك فَلَا نَفَقَةَ لَك لَا يَلْتَفِتُ الْقَاضِي إلَى قَوْلِهِ وَيَأْمُرُهُ بِالْإِنْفَاقِ حَتَّى تَحِيضَ ثَلَاثَ حِيَضٍ أَوْ تَدْخُلَ فِي سِنِّ الْإِيَاسِ فَتَعْتَدَّ

بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ ، وَلَوْ كَانَتْ صَغِيرَةً يُجَامَعُ مِثْلُهَا يُنْفِقُ عَلَيْهَا إلَى ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ .
وَقَالَ الْفَضْلِيُّ : لَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِذَلِكَ بَلْ يُوقَفُ حَالُهَا لِاحْتِمَالِ حَبَلِهَا فَيُنْفِقُ عَلَيْهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا ، كَذَا ذَكَرَ هَذَا الْفَرْعَ بَعْضُهُمْ .
وَفِي الْخُلَاصَةِ : عِدَّةُ الصَّغِيرَةِ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ إلَّا إذَا كَانَتْ مُرَاهِقَةً فَيُنْفِقُ عَلَيْهَا مَا لَمْ يَظْهَرْ فَرَاغُ رَحِمِهَا هَذَا فِي الْمُحِيطِ ا هـ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ خِلَافٍ وَهُوَ حَسَنٌ .
وَفِيهَا : رَجُلٌ غَابَ فَتَزَوَّجَتْ امْرَأَتُهُ بِآخَرَ وَدَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ الثَّانِي فَحَضَرَ الزَّوْجُ الْأَوَّلُ فُرِّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الزَّوْجِ الثَّانِي وَلَا نَفَقَةَ لَهَا عَلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّةُ الثَّانِي ، فَإِنْ طَلَّقَهَا وَهِيَ فِي عِدَّةِ الثَّانِي لَمْ تَجِبْ نَفَقَةُ الْعِدَّةِ عَلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ وَلَا عَلَى الثَّانِي مَا دَامَتْ فِي عِدَّةِ الثَّانِي ، فَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّةُ الثَّانِي تَجِبُ ، وَلَوْ تَزَوَّجَتْ الْمُعْتَدَّةُ وَدَخَلَ بِهَا زَوْجُهَا لَا تَجِبُ نَفَقَةُ الْعِدَّةِ عَلَى الزَّوْجِ ، كَذَا فِي الْأَقْضِيَةِ .
وَفِي الْفَتَاوَى قَالَ : تَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ ، هَكَذَا ذَكَرَ فِي الْمُحِيطِ ، وَتَأْوِيلُهُ إذَا تَزَوَّجَتْ فِي بَيْتِ الْعِدَّةِ ، أَمَّا إذَا خَرَجَتْ فَلَا .

فَصْلٌ ( وَنَفَقَةُ الْأَوْلَادِ الصِّغَارِ عَلَى الْأَبِ لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا أَحَدٌ كَمَا لَا يُشَارِكُهُ فِي نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ } وَالْمَوْلُودُ لَهُ هُوَ الْأَبُ ( فَإِنْ كَانَ الصَّغِيرُ رَضِيعًا فَلَيْسَ عَلَى أُمِّهِ أَنْ تُرْضِعَهُ ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْكِفَايَةَ عَلَى الْأَبِ وَأُجْرَةَ الرَّضَاعِ كَالنَّفَقَةِ وَلِأَنَّهَا عَسَاهَا لَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ لِعُذْرٍ بِهَا فَلَا مَعْنَى لِلْجَبْرِ عَلَيْهِ .
وَقِيلَ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى { لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا } بِإِلْزَامِهَا الْإِرْضَاعَ مَعَ كَرَاهَتِهَا ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا بَيَانُ الْحُكْمِ ، وَذَلِكَ إذَا كَانَ يُوجَدُ مَنْ تُرْضِعُهُ ، أَمَّا إذَا كَانَ لَا تُوجَدُ مَنْ تُرْضِعُهُ تُجْبَرُ الْأُمُّ عَلَى الْإِرْضَاعِ صِيَانَةً لِلصَّبِيِّ عَنْ الضَّيَاعِ .
قَالَ ( وَيَسْتَأْجِرُ الْأَبُ مَنْ تُرْضِعُهُ عِنْدَهَا ) أَمَّا اسْتِئْجَارُ الْأَبِ فَلِأَنَّ الْأَجْرَ عَلَيْهِ ، وَقَوْلُهُ عِنْدَهَا مَعْنَاهُ إذَا أَرَادَتْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْحَجْرَ لَهَا .

( فَصْلٌ ) ( قَوْلُهُ وَنَفَقَةُ الْأَوْلَادِ الصِّغَارِ عَلَى الْأَبِ لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا أَحَدٌ ) قَيَّدَ بِالصِّغَرِ فَخَرَجَ الْبَالِغُ وَلَيْسَ هَذَا عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلْ الْأَبُ إمَّا غَنِيٌّ أَوْ فَقِيرٌ ، وَالْأَوْلَادُ إمَّا صِغَارٌ أَوْ كِبَارٌ ، فَالْأَقْسَامُ أَرْبَعَةٌ : الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ الْأَبُ غَنِيًّا وَالْأَوْلَادُ كِبَارًا ، فَإِمَّا إنَاثٌ أَوْ ذُكُورٌ ، فَالْإِنَاثُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُنَّ إلَى أَنْ يَتَزَوَّجْنَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ مَالٌ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَهُنَّ فِي عَمَلٍ وَلَا خِدْمَةٍ وَإِنْ كَانَ لَهُنَّ قُدْرَةٌ ، وَإِذَا طَلُقَتْ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا عَادَتْ نَفَقَتُهَا عَلَى الْأَبِ ، وَالذُّكُورُ إمَّا عَاجِزُونَ عَنْ الْكَسْبِ لِزَمَانَةٍ أَوْ عَمًى أَوْ شَلَلٍ أَوْ ذَهَابِ عَقْلٍ فَعَلَيْهِ نَفَقَتُهُمْ ، وَكَذَا إذَا كَانَ مِنْ أَبْنَاءِ الْكِرَامِ لَا يَجِدُ مَنْ يَسْتَأْجِرُهُ فَهُوَ عَاجِزٌ ، وَكَذَا طَلَبَةُ الْعِلْمِ إذَا كَانُوا لَا يَهْتَدُونَ إلَى الْكَسْبِ نَفَقَتُهُمْ عَلَى آبَائِهِمْ ؛ قَالَ الْحَلْوَانِيُّ : وَرَأَيْت فِي مَوْضِعٍ : هَذَا إذَا كَانَ بِهِمْ رُشْدٌ ، وَقَوْلُهُ لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا أَحَدٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي الصِّغَارِ ، أَمَّا الْكِبَارُ فَعَلَى الظَّاهِرِ كَمَا سَيَأْتِي وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا عَاجِزِينَ لَا نَفَقَةَ لَهُمْ .
الثَّانِي أَنْ يَكُونَ الْأَبُ غَنِيًّا وَهُمْ صِغَارٌ ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ مَالٌ أَوْ لَا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَعَلَيْهِ نَفَقَتُهُمْ إلَى أَنْ يَبْلُغَ الذَّكَرُ حَدَّ الْكَسْبِ وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ الْحُلُمَ ، فَإِذَا كَانَ هَذَا كَانَ لِلْأَبِ أَنْ يُؤَاجِرَهُ وَيُنْفِقَ عَلَيْهِ مِنْ أُجْرَتِهِ وَلَيْسَ لَهُ فِي الْأُنْثَى ذَلِكَ ، فَلَوْ كَانَ الْأَبُ مُبَذِّرًا يُدْفَعُ كَسْبُ الِابْنِ إلَى أَمِينٍ كَمَا فِي سَائِرِ أَمْلَاكِهِ ؛ وَإِنْ كَانَ لَهُمْ مَالٌ فَإِمَّا حَاضِرٌ أَوْ غَائِبٌ ، فَإِنْ كَانَ حَاضِرًا فَنَفَقَتُهُمْ فِي مَالِهِمْ لَا يَجِبُ عَلَى الْأَبِ شَيْءٌ مِنْهَا ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا وَجَبَتْ عَلَى الْأَبِ ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَرْجِعَ فِي مَالِهِمْ يُنْفِقُ بِإِذْنِ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ ، فَلَوْ أَنْفَقَ بِلَا

أَمْرِهِ لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ فِي الْحُكْمِ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَشْهَدَ أَنَّهُ أَنْفَقَ لِيَرْجِعَ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ أَشْهَدَ لَكِنْ أَنْفَقَ بِنِيَّةِ الرُّجُوعِ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْحُكْمِ رُجُوعٌ ، وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ .
الثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ الْأَبُ فَقِيرًا ، فَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ وَكِبَارًا قَادِرِينَ فَلَا إشْكَالَ أَنَّ نَفَقَتَهُ هُوَ عَلَيْهِمْ ، وَإِنْ كَانُوا صِغَارًا أَغْنِيَاءَ فَكَذَلِكَ أَيْضًا .
الرَّابِعُ : أَنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ وَهُمْ صِغَارٌ أَوْ كِبَارٌ عَاجِزُونَ وَالْأَبُ أَيْضًا عَاجِزٌ عَنْ الْكَسْبِ ، فَالْخَصَّافُ قَالَ : يَتَكَفَّفُ النَّاسَ وَيُنْفِقُ عَلَيْهِمْ ، وَقِيلَ نَفَقَتُهُمْ فِي بَيْتِ الْمَالِ ، وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ اكْتَسَبَ ، فَإِنْ امْتَنَعَ عَنْ الْكَسْبِ حُبِسَ بِخِلَافِ سَائِرِ الدُّيُونِ ، وَلَا يُحْبَسُ وَالِدٌ وَإِنْ عَلَا فِي دَيْنِ وَلَدٍ لَهُ وَإِنْ سَفُلَ إلَّا فِي النَّفَقَةِ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ إتْلَافُ النَّفْسِ وَلَا يَحِلُّ لِلْأَبِ ذَلِكَ ، وَكَذَا لَوْ عَدَا الْأَبُ عَلَى ابْنِهِ بِسَيْفٍ بِحَيْثُ لَا يَنْدَفِعُ عَنْهُ إلَّا بِقَتْلِهِ حَلَّ لَهُ قَتْلُهُ ، وَإِذَا لَمْ يَفِ كَسْبُهُ بِحَاجَتِهِمْ أَوْ لَمْ يَكْتَسِبْ لِعَدَمِ تَيَسُّرِ الْكَسْبِ أَنْفَقَ عَلَيْهِمْ الْقَرِيبُ وَرَجَعَ عَلَى الْأَبِ إذَا أَيْسَرَ .
وَفِي جَوَامِعِ الْفِقْهِ : إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْأَبِ مَالٌ وَالْجَدُّ أَوْ الْأُمُّ أَوْ الْخَالُ أَوْ الْعَمُّ مُوسِرٌ يُجْبَرُ عَلَى نَفَقَةِ الصَّغِيرِ وَيَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْأَبِ إذَا أَيْسَرَ ، وَكَذَا يُجْبَرُ الْأَبْعَدُ إذَا غَابَ الْأَقْرَبُ ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَيْهِ ، فَإِنْ كَانَ لَهُ أُمٌّ مُوسِرَةٌ فَنَفَقَتُهُ عَلَيْهَا ، وَكَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبٌ إلَّا أَنَّهَا تَرْجِعُ فِي الْأَوَّلِ ، وَمَا نَقَلَ ابْنُ قُدَامَةَ عَنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ عَدَمِ الرُّجُوعِ فِيهِ نَظَرٌ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ جَدٌّ وَأُمٌّ مُوسِرَانِ فَنَفَقَتُهُ عَلَيْهِمَا عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِهِمَا فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ .
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا عَلَى الْجَدِّ وَحْدَهُ

لِجَعْلِهِ كَالْأَبِ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَفِي نَفَقَاتِ الشَّهِيدِ : خَلَعَ امْرَأَتَهُ وَغَابَ عَنْهَا فَطَالَبَتْ عَمَّهُمْ فَعَلَى الْعَمِّ ثُلُثَا نَفَقَتِهِمْ وَعَلَى الْأُمِّ الثُّلُثُ إذَا كَانَا مُوسِرَيْنِ وَيَكُونُ دَيْنًا عَلَى الْأَبِ يَرْجِعَانِ عَلَيْهِ إذَا كَانَ بِأَمْرِ الْحَاكِمِ .
قَالَ الْقَاضِي : هَذَا إذَا كَانَتْ الْغَيْبَةُ مُنْقَطِعَةً .
( قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } ) وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَى الْأَبِ رِزْقَ الْوَالِدَاتِ ، وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْمَوْلُودِ لَهُ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى عِلَّةِ الْإِيجَابِ عَلَيْهِ .
وَهُوَ الْوِلَادُ لَهُ لِمَا عُرِفَ مِنْ أَنَّ تَعْلِيقَ الْحُكْمِ بِمُشْتَقٍّ يُفِيدُ كَوْنَ مَبْدَإِ الِاشْتِقَاقِ عِلَّةً لَهُ ، فَإِذَا وَجَبَ نَفَقَةُ غَيْرِهِ بِسَبَبِهِ فَوُجُوبُ نَفَقَةِ نَفْسِهِ أَوْلَى ، وَحِينَ ثَبَتَتْ نَفَقَتُهُ بِطَرِيقٍ أَوْلَى تَبَيَّنَ أَنَّ نَفَقَةَ الْوَالِدَةِ هِيَ نَفَقَةُ الْوَلَدِ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَحْتَاجُ إلَيْهَا فِي الْخِدْمَةِ وَالتَّرْبِيَةِ وَالرَّضَاعِ ، حَتَّى إنَّ اللَّبَنَ الَّذِي هُوَ مَئُونَتُهُ إنَّمَا يَسْتَحِيلُ لَبَنًا مِنْ غِذَائِهَا ، فَإِيجَابُ نَفَقَتِهَا عَلَيْهِ إيجَابُ نَفَقَتِهِ عَلَيْهِ ، إذْ لَيْسَتْ النَّفَقَةُ سِوَى إخْرَاجِ مَا يَحْتَاجُهُ الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ لِكِفَايَتِهِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْكِتَابِ مَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ نَفَقَةَ الْخَادِمِ مِنْ نَفَقَةِ الْمَرْأَةِ وَإِنْ كَانَتْ نَفَقَةُ شَخْصٍ آخَرَ بَلْ يَدْخُلُ فِيهَا الْكِسْوَةُ وَالسُّكْنَى .
فِي الْخُلَاصَةِ .
قَالَ هِشَامٌ : سَأَلْت مُحَمَّدًا عَنْ النَّفَقَةِ فَقَالَ هِيَ الطَّعَامُ وَالْكِسْوَةُ وَالسُّكْنَى وَلِأَنَّهُ جُزْؤُهُ فَكَانَ كَنَفْسِهِ ( قَوْلُهُ وَلَيْسَ عَلَى الْأُمِّ أَنْ تُرْضِعَهُ ) يَعْنِي فِي الْحُكْمِ إذَا امْتَنَعَتْ وَإِنْ كَانَتْ الزَّوْجِيَّةُ قَائِمَةً وَهُوَ مُقَيَّدٌ بِالْقَيْدِ الَّذِي سَنَذْكُرُهُ .
( قَوْلُهُ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا بَيَانُ الْحُكْمِ ) أَيْ عَدَمُ الْجَبْرِ بَيَانُ الْحُكْمِ قَضَاءً بِمَعْنَى أَنَّهَا إذَا امْطتَنَعَتْ لَا يُجْبِرُهَا

الْقَاضِي عَلَيْهِ وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهَا دِيَانَةً ، وَكَذَا غَسْلُ الثِّيَابِ وَالطَّبْخُ وَالْخَبْزُ وَكَنْسُ الْبَيْتِ وَاجِبٌ عَلَيْهَا دِيَانَةً ، وَلَا يُجْبِرُهَا الْقَاضِي عَلَيْهِ إذَا امْتَنَعَتْ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهَا بِالنِّكَاحِ تَسْلِيمُ نَفْسِهَا لِلِاسْتِمْتَاعِ .
( قَوْلُهُ وَذَلِكَ ) أَيْ عَدَمُ الْجَبْرِ إذَا وَجَدَ مَنْ تُرْضِعُهُ ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ أَوْ وُجِدَ وَلَمْ يَقْبَلْ هُوَ ثَدْيَ غَيْرِهَا أُجْبِرَتْ عَلَى إرْضَاعِهِ صِيَانَةً لَهُ عَنْ الضَّيَاعِ .
وَذَكَرَ الْحَلْوَانِيُّ أَنَّ ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ لَا تُجْبَرُ لِأَنَّ الْوَلَدَ قَدْ يَتَغَذَّى بِالدُّهْنِ وَالشَّرَابِ فَلَا يُؤَدِّي تَرْكُ إجْبَارِهَا إلَى التَّلَفِ ، وَإِلَى الْأَوَّلِ مَالَ الْقُدُورِيُّ وَالسَّرَخْسِيُّ وَهُوَ الْأَصْوَبُ ، لِأَنَّ قَصْرَ الرَّضِيعِ الَّذِي لَمْ يَأْنَسْ الطَّعَامَ عَلَى الدُّهْنِ وَالشَّرَابِ سَبَبُ تَمْرِيضِهِ وَمَوْتِهِ .
( قَوْلُهُ مَعْنَاهُ إذَا أَرَادَتْ ذَلِكَ ، لِأَنَّ الْحَجْرَ لَهَا ) أَيْ التَّرْبِيَةَ لَهَا بِحَقِّ الْحَضَانَةِ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مِنْ اخْتِيَارِ الْفَقِيهَيْنِ الْهِنْدُوَانِيُّ وَالسَّمَرْقَنْدِيّ أَنَّهَا تُجْبَرُ عَلَى الْحَضَانَةِ ، وَفِي كَلَامِ الْحَاكِمِ الشَّهِيدِ مَا يُفِيدُهُ مِمَّا قَدَّمْنَاهُ ، ثُمَّ لَا يَلْزَمُ الْمُرْضِعَةَ أَنْ تَمْكُثَ فِي بَيْتِ الْأُمِّ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ ، بَلْ لَهَا أَنْ تُرْضِعَهُ ثُمَّ تَرْجِعَ إلَى مَنْزِلِهَا فِيمَا يُسْتَغْنَى عَنْهَا فِيهِ مِنْ الزَّمَانِ أَوْ تَحْمِلَ الصَّبِيَّ مَعَهَا إلَيْهِ أَوْ تَقُولَ : أَخْرِجُوهُ فَتَرْضِعَهُ عِنْدَ فِنَاءِ الدَّارِ ثُمَّ تُدْخِلُ الصَّبِيَّ إلَى أُمِّهِ .

( وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا وَهِيَ زَوْجَتُهُ أَوْ مُعْتَدَّتُهُ لِتُرْضِعَ وَلَدَهَا ) لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ الْإِرْضَاعَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهَا دِيَانَةً .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ } إلَّا أَنَّهَا عُذِرَتْ لِاحْتِمَالِ عَجْزِهَا ، فَإِذَا أَقْدَمَتْ عَلَيْهِ بِالْأَجْرِ ظَهَرَتْ قُدْرَتُهَا فَكَانَ الْفِعْلُ وَاجِبًا عَلَيْهَا فَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْأَجْرِ عَلَيْهِ ، وَهَذَا فِي الْمُعْتَدَّةِ عَنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ رِوَايَةً وَاحِدَةً لِأَنَّ النِّكَاحَ قَائِمٌ ، وَكَذَا فِي الْمَبْتُوتَةِ فِي رِوَايَةٍ ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى : جَازَ اسْتِئْجَارُهَا لِأَنَّ النِّكَاحَ قَدْ زَالَ .
وَجْهُ الْأُولَى أَنَّهُ بَاقٍ فِي حَقِّ بَعْضِ الْأَحْكَامِ .
( قَوْلُهُ وَجْهُ الْأُولَى ) لَمَّا كَانَ التَّشْبِيهُ لَا يَسْتَلْزِمُ عُمُومَ وَجْهِ الشَّبَهِ لَمْ يَكْتَفِ بِقَوْلِهِ قَبْلَ هَذَا وَكَذَا فِي الْمَبْتُوتَةِ فِي رِوَايَةٍ بَعْدَ قَوْلِهِ : وَهَذَا يَعْنِي عَدَمَ الِاسْتِئْجَارِ فِي الْمُعْتَدَّةِ عَنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ رِوَايَةً وَاحِدَةً لِأَنَّ النِّكَاحَ قَائِمٌ ، وَإِلَّا لَوْ اُعْتُبِرَ عُمُومُ الشَّبَهِ كَانَ ذَلِكَ تَشْبِيهًا فِي الْحُكْمِ وَالْوَجْهِ ، وَأَيْضًا رُبَّمَا يَكُونُ تَأْخِيرُ ذِكْرِ وَجْهِهِ لِلْإِيمَاءِ إلَّا أَنَّهُ الْمُخْتَارُ عِنْدَهُ ، وَكَذَا ظَاهِرُ إطْلَاقِ الْقُدُورِيِّ الْمُعْتَدَّةَ فِي قَوْلِهِ أَوْ مُعْتَدَّتَهُ وَإِنْ كَانَ مُقَابِلُهُ هُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ بَعْضُهُمْ ، إذْ مِنْ عَادَتِهِ تَأْخِيرُ وَجْهِ الْقَوْلِ الْمُخْتَارِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ قِيَامَ الْعِدَّةِ هُوَ قِيَامُ نَفْسِ النِّكَاحِ مِنْ وَجْهٍ عَلَى مَا حَقَقْنَاهُ فِي فَصْلِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ كِتَابِ النِّكَاحِ فَارْجِعْ إلَيْهِ ، وَلِهَذَا وَجَبَتْ النَّفَقَةُ وَامْتَنَعَ شَهَادَتُهُ لِمُعْتَدَّتِهِ عَنْ ثَلَاثٍ أَوْ بَائِنٍ ، وَكَذَا لَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُهَا لِلْإِرْضَاعِ .

( وَلَوْ اسْتَأْجَرَهَا وَهِيَ مَنْكُوحَتُهُ أَوْ مُعْتَدَّتُهُ لِإِرْضَاعِ ابْنٍ لَهُ مِنْ غَيْرِهَا جَازَ ) لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهَا ( وَإِنْ ) ( انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَاسْتَأْجَرَهَا ) يَعْنِي لِإِرْضَاعِ وَلَدِهَا ( جَازَ ) لِأَنَّ النِّكَاحَ قَدْ زَالَ بِالْكُلِّيَّةِ وَصَارَتْ كَالْأَجْنَبِيَّةِ ( فَإِنْ قَالَ الْأَبُ لَا أَسْتَأْجِرُهَا وَجَاءَ بِغَيْرِهَا فَرَضِيَتْ الْأُمُّ بِمِثْلِ أَجْرٍ الْأَجْنَبِيَّةِ أَوْ رَضِيَتْ بِغَيْرِ أَجْرٍ ) كَانَتْ هِيَ أَحَقَّ لِأَنَّهَا أَشْفَقُ فَكَانَ نَظَرًا لِلصَّبِيِّ فِي الدَّفْعِ إلَيْهَا ( وَإِنْ الْتَمَسَتْ زِيَادَةً لَمْ يُجْبَرْ الزَّوْجُ عَلَيْهَا ) دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ } أَيْ بِإِلْزَامِهِ لَهَا أَكْثَرَ مِنْ أُجْرَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ .

( قَوْلُهُ وَإِنْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَاسْتَأْجَرَهَا ) اعْلَمْ أَنَّ حَاصِلَ كَلَامِهِمْ أَنَّ الْإِرْضَاعَ وَاجِبٌ عَلَيْهَا مُقَيَّدٌ بِعَدَمِ الضَّرَرِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا } وَالضَّرَرُ يَتَحَقَّقُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ إرْضَاعِهِ إذَا أَلْزَمَتْ وَالْعَجْزُ مُبْطِنٌ فَأُقِيمَ امْتِنَاعُهَا عَنْهُ مَقَامَ حَقِيقَتِهِ لِأَنَّ امْتِنَاعَهَا عَنْ الْإِرْضَاعِ مَعَ دَاعِيَةِ حُنُوِّ الْوَالِدَةِ ظَاهِرٌ فِي عَجْزِهَا عَنْهُ ، فَلِذَا لَمْ تُجْبَرْ عَلَيْهِ إذَا امْتَنَعَتْ ، فَإِذَا أَقْدَمَتْ عَلَيْهِ بِالْأَجْرِ وَهِيَ مَنْكُوحَةٌ أَوْ مُعْتَدَّةٌ عَنْ رَجْعِيٍّ أَوْ مُطْلَقًا عَلَى مَا هُوَ الْأَوْجَهُ ظَهَرَ عَدَمُ عَجْزِهَا فَظَهَرَ الْوُجُوبُ عَلَيْهَا وَلَا أَجْرَ يُسْتَحَقُّ فِي مُقَابَلَةِ فِعْلِ الْوَاجِبِ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ ثَابِتٌ فِيمَا إذَا اسْتَأْجَرَهَا لِإِرْضَاعِ وَلَدِهَا مِنْهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ، وَمُقْتَضَاهُ أَنْ لَا يَجُوزَ بَعْدَ الْعِدَّةِ أَيْضًا كَمَا قَبْلَهَا ، وَهَذَا لِأَنَّ الْوَالِدَاتِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ } أَعَمُّ مِنْ الْبَائِنَاتِ فَكَانَ الْإِيجَابُ عَامًّا عَلَى الْمَنْكُوحَاتِ وَالرَّجْعِيَّاتِ وَالْبَوَائِنِ قَبْلَ الْعِدَّةِ وَفِيهَا وَبَعْدَهَا ، وَالْمَانِعُ مِنْ أَخْذِ الْأُجْرَةِ وَالِاسْتِئْجَارُ هُوَ الْوُجُوبُ وَهُوَ عَامٌّ فَيَعُمُّ الْمَنْعُ الْكُلَّ إذَا ظَهَرَتْ قُدْرَتُهُنَّ وَذَلِكَ بِالْإِقْدَامِ عَلَى الْإِرْضَاعِ بِأَجْرٍ .
وَغَايَةُ مَا يُقَالُ : إنَّ الْإِرْضَاعَ مِنْ نَفَقَتِهِ وَهِيَ عَلَى الْأَبِ لَا الْأُمِّ .
وَيُدْفَعُ بِأَنَّ هَذِهِ النَّفَقَةَ أَوْجَبَهَا الَّذِي لَهُ وِلَايَةُ الْإِيجَابِ عَلَى الْأُمِّ بَعْدَ أَنْ أَوْجَبَ رِزْقَهُ لَهَا بِإِدْرَارِ الثَّدْيِ فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا سِوَى الْفِعْلِ الِاخْتِيَارِيِّ فَأَوْجَبَ عَلَيْهَا إلْقَامُهُ ثَدْيَهَا ، وَثُبُوتُ هَذَا الْإِيجَابِ بِالنَّصِّ الْمَذْكُورِ : أَعْنِي { يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ } ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَيْهَا مُقَيَّدًا بِإِيجَابِ رِزْقِهَا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ

وَكِسْوَتُهُنَّ } فَفِي حَالِ الزَّوْجِيَّةِ وَالْعِدَّةِ وَهُوَ قَائِمٌ بِرِزْقِهَا وَفِيمَا بَعْدَ الْعِدَّةِ لَا يَقُومُ بِشَيْءٍ فَتَقُومُ الْأُجْرَةُ مَقَامَهُ .

( وَنَفَقَةُ الصَّغِيرِ وَاجِبَةٌ عَلَى أَبِيهِ وَإِنْ خَالَفَهُ فِي دِينِهِ ، كَمَا تَجِبُ نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ عَلَى الزَّوْجِ وَإِنْ خَالَفَتْهُ فِي دِينِهِ ) أَمَّا الْوَلَدُ فَلِإِطْلَاقِ مَا تَلَوْنَا ، وَلِأَنَّهُ جُزْؤُهُ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى نَفْسِهِ ، وَأَمَّا الزَّوْجَةُ فَلِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْعَقْدُ الصَّحِيحُ فَإِنَّهُ بِإِزَاءِ الِاحْتِبَاسِ الثَّابِتِ بِهِ ، وَقَدْ صَحَّ الْعَقْدُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرَةِ وَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ الِاحْتِبَاسُ فَوَجَبَتْ النَّفَقَةُ .
وَفِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا إنَّمَا تَجِبُ النَّفَقَةُ عَلَى الْأَبِ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلصَّغِيرِ مَالٌ ، أَمَّا إذَا كَانَ فَالْأَصْلُ أَنَّ نَفَقَةَ الْإِنْسَانِ فِي مَالِ نَفْسِهِ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا .
فَصْلٌ .
( قَوْلُهُ وَفِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا إنَّمَا تَجِبُ النَّفَقَةُ عَلَى الْأَبِ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلصَّبِيِّ مَالٌ ) وَأَطْلَقَهُ فَعَمَّ جَمِيعَ أَصْنَافِ الْمَالِ مِنْ الْعُرُوضِ وَالْحَيَوَانِ وَالْعَقَارِ حَتَّى إذَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ فَقَطْ فَلِلْأَبِ أَنْ يَبِيعَهُ وَيُنْفِقَهُ عَلَيْهِ ، وَكَذَا يُعْطِي مِنْهُ أَجْرَ رَضَاعِهِ ، وَهَذَا لِأَنَّ إيجَابَ نَفَقَةِ أَحَدِ الْمُوسِرَيْنِ عَلَى الْآخَرِ إذَا لَمْ يَكُنْ الِاحْتِبَاسُ ذَلِكَ لَهُ لَيْسَ بِأَوْلَى مِنْ إيجَابِ نَفَقَةِ ذَلِكَ عَلَيْهِ ، بِخِلَافِ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ فَإِنَّهَا مُحْتَبِسَةٌ لِغَرَضِ الْآخَرِ فَنَفَقَتُهَا عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ غَنِيَّةً ، أَمَّا الْوَلَدُ فَنَفَقَتُهُ لِلْحَاجَةِ ، وَبِغِنَاهُ انْدَفَعَتْ حَاجَتُهُ فَلَا تَجِبُ عَلَى غَيْرِهِ كَنَفَقَةِ الْمَحَارِمِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ ( وَعَلَى الرَّجُلِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى أَبَوَيْهِ وَأَجْدَادِهِ وَجَدَّاتِهِ إذَا كَانُوا فُقَرَاءَ وَإِنْ خَالَفُوهُ فِي دِينِهِ ) أَمَّا الْأَبَوَانِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا } نَزَلَتْ الْآيَةُ فِي الْأَبَوَيْنِ الْكَافِرَيْنِ ، وَلَيْسَ مِنْ الْمَعْرُوفِ أَنْ يَعِيشَ فِي نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَتْرُكَهُمَا يَمُوتَانِ جُوعًا ، وَأَمَّا الْأَجْدَادُ وَالْجَدَّاتُ فَلِأَنَّهُمْ مِنْ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَلِهَذَا يَقُومُ الْجَدُّ مَقَامَ الْأَبِ عِنْدَ عَدَمِهِ وَلِأَنَّهُمْ سَبَّبُوا لِإِحْيَائِهِ فَاسْتَوْجَبُوا عَلَيْهِ الْإِحْيَاءَ بِمَنْزِلَةِ الْأَبَوَيْنِ .
وَشُرِطَ الْفَقْرُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَا مَالٍ ، فَإِيجَابُ نَفَقَتِهِ فِي مَالِهِ أَوْلَى مِنْ إيجَابِهَا فِي مَالِ غَيْرِهِ ، وَلَا يُمْنَعُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الدِّينِ لِمَا تَلَوْنَا ( وَلَا تَجِبُ النَّفَقَةُ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ إلَّا لِلزَّوْجَةِ وَالْأَبَوَيْنِ وَالْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ وَالْوَلَدِ وَوَلَدِ الْوَلَدِ ) أَمَّا الزَّوْجَةُ فَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهَا وَاجِبَةٌ لَهَا بِالْعَقْدِ لِاحْتِبَاسِهَا لِحَقٍّ لَهُ مَقْصُودٍ ، وَهَذَا لَا يَتَعَلَّقُ بِاتِّحَادِ الْمِلَّةِ ، وَأَمَّا غَيْرُهَا فَلِأَنَّ الْجُزْئِيَّةَ ثَابِتَةٌ وَجُزْءَ الْمَرْءِ فِي مَعْنَى نَفْسِهِ ، فَكَمَا لَا يُمْتَنَعُ نَفَقَةُ نَفْسِهِ لِكُفْرِهِ لَا يُمْتَنَعُ نَفَقَةُ جُزْئِهِ إلَّا أَنَّهُمْ إذَا كَانُوا حَرْبِيِّينَ لَا تَجِبُ نَفَقَتُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِ وَإِنْ كَانُوا مُسْتَأْمَنَيْنِ ، لِأَنَّا نُهِينَا عَنْ الْبِرِّ فِي حَقِّ مَنْ يُقَاتِلُنَا فِي الدِّينِ .

( فَصْلٌ ) ( قَوْلُهُ وَعَلَى الرَّجُلِ ) أَيْ الْمُوسِرِ ( قَوْلُهُ وَأَجْدَادُهُ ) يَدْخُلُ فِيهِ الْجَدُّ لِأَبٍ وَالْجَدُّ لِأُمٍّ وَإِنْ عَلَوْا ، وَفِي جَدَّاتِهِ جَدَّاتُهُ لِأَبِيهِ وَجَدَّاتُهُ لِأُمِّهِ وَإِنْ عَلَوْنَ .
وَقَوْلُهُ : إذَا كَانُوا فُقَرَاءَ يُوَافِقُ بِإِطْلَاقِهِ قَوْلَ السَّرَخْسِيِّ حَيْثُ قَالَ : إذَا كَانَ الْأَبُ قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ يُجْبَرُ الِابْنُ عَلَى نَفَقَتِهِ ، بِخِلَافِ قَوْلِ الْحَلْوَانِيِّ : إنَّهُ لَا يُجْبَرُ إذَا كَانَ الْأَبُ كَسُوبًا لِأَنَّهُ كَانَ غَنِيًّا بِاعْتِبَارِ الْكَسْبِ فَلَا ضَرُورَةَ فِي إيجَابِ النَّفَقَةِ عَلَى الْغَيْرِ ، وَإِذَا كَانَ الِابْنُ قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ لَا تَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَى الْأَبِ ، فَلَوْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا كَسُوبًا يَجِبُ أَنْ يَكْتَسِبَ الِابْنُ وَيُنْفِقَ عَلَى الْأَبِ فَالْمُعْتَبَرُ فِي إيجَابِ نَفَقَةِ الْوَالِدَيْنِ مُجَرَّدُ الْفَقْرِ .
قِيلَ : هُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ مَعْنَى الْأَذَى فِي إيكَالِهِ إلَى الْكَدِّ وَالتَّعَبِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي التَّأْفِيفِ الْمُحَرَّمِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } وَلَا خِلَافَ فِي اسْتِحْقَاقِ الزَّوْجَةِ الْغَنِيَّةِ لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ احْتِبَاسِهِ إيَّاهَا لِاسْتِيفَاءِ حَقٍّ مَقْصُودٍ لَهُ فَكَانَ كَاسْتِحْقَاقِ الْقَاضِي الْغَنِيِّ .
( قَوْلُهُ نَزَلَتْ فِي الْأَبَوَيْنِ الْكَافِرَيْنِ ) بِدَلِيلِ مَا قَبْلَهُ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إلَيَّ } فَفَرَضَ سُبْحَانَهُ مُصَاحَبَتَهُمَا بِالْمَعْرُوفِ ، وَلَيْسَ مِنْ الْمَعْرُوفِ أَنْ يَتْرُكَهُمَا مَعَ الْجُوعِ وَالْعُرَى وَيَتَقَلَّبَ هُوَ فِي النِّعَمِ إلَى أَنَّ مَحْمَلَهَا عَلَى غَيْرِ الْحَرْبِيَّيْنِ ، فَأَمَّا الْآبَاءُ الْحَرْبِيُّونَ وَإِنْ كَانُوا مُسْتَأْمَنِينَ فِي دَارِنَا لَا يُجْبَرُ الِابْنُ عَلَى النَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78