كتاب : فتح القدير
المؤلف : كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي

قَالَ ( وَإِنْ كَانَ جَنَى عِنْدَ الْمَوْلَى فَغَصَبَهُ رَجُلٌ فَجَنَى عِنْدَهُ جِنَايَةً أُخْرَى فَعَلَى الْمَوْلَى قِيمَتُهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ وَيَرْجِعُ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ عَلَى الْغَاصِبِ ) لِمَا بَيَّنَّا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ ، غَيْرَ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ النِّصْفِ حَصَلَ بِالْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ إذْ كَانَتْ هِيَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَيَدْفَعُهُ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى وَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ وَهَذَا بِالْإِجْمَاعِ .
ثُمَّ وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِي الْعَبْدِ فَقَالَ ( وَمَنْ غَصَبَ عَبْدًا فَجَنَى فِي يَدِهِ ثُمَّ رَدَّهُ فَجَنَى جِنَايَةً أُخْرَى فَإِنَّ الْمَوْلَى يَدْفَعُهُ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَتَيْنِ ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَى الْغَاصِبِ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ فَيَدْفَعُهُ إلَى الْأَوَّلِ وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَرْجِعُ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ فَيُسَلِّمُ لَهُ ) ، وَإِنْ جَنَى عِنْدَ الْمَوْلَى ثُمَّ غَصَبَهُ فَجَنَى فِي يَدِهِ دَفَعَهُ الْمَوْلَى نِصْفَيْنِ وَيَرْجِعُ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ فَيَدْفَعُهُ إلَى الْأَوَّلِ وَلَا يَرْجِعُ بِهِ ( وَالْجَوَابُ فِي الْعَبْدِ كَالْجَوَابِ فِي الْمُدَبَّرِ ) فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا ، إلَّا أَنَّ فِي هَذَا الْفَصْلِ يَدْفَعُ الْمَوْلَى الْعَبْدَ وَفِي الْأَوَّلِ يَدْفَعُ الْقِيمَةَ .

قَالَ ( وَمَنْ غَصَبَ مُدَبَّرًا فَجَنَى عِنْدَهُ جِنَايَةً ثُمَّ رَدَّهُ عَلَى الْمَوْلَى ثُمَّ غَصَبَهُ ثُمَّ جَنَى عِنْدَهُ جِنَايَةً فَعَلَى الْمَوْلَى قِيمَتُهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ) لِأَنَّهُ مَنَعَ رَقَبَةً وَاحِدَةً بِالتَّدْبِيرِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ ( ثُمَّ يَرْجِعُ بِقِيمَتِهِ عَلَى الْغَاصِبِ ) لِأَنَّ الْجِنَايَتَيْنِ كَانَتَا فِي يَدِ الْغَاصِبِ ( فَيَدْفَعُ نِصْفَهَا إلَى الْأَوَّلِ ) لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ كُلَّ الْقِيمَةِ ، لِأَنَّ عِنْدَ وُجُودِ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ لَا حَقَّ لِغَيْرِهِ ، وَإِنَّمَا انْتَقَصَ بِحُكْمِ الْمُزَاحِمَةِ مِنْ بُعْدٍ .
قَالَ ( وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ ) لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِسَبَبٍ كَانَ فِي يَدِهِ وَيُسَلِّمُ لَهُ ، وَلَا يَدْفَعُهُ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى ، وَلَا إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ إلَّا فِي النِّصْفِ لِسَبْقِ حَقِّ الْأَوَّلِ وَقَدْ وَصَلَ ذَلِكَ إلَيْهِ .
ثُمَّ قِيلَ : هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى الِاخْتِلَافِ كَالْأُولَى ، وَقِيلَ عَلَى الِاتِّفَاقِ .
وَالْفَرْقُ لِمُحَمَّدٍ أَنَّ فِي الْأُولَى الَّذِي يَرْجِعُ بِهِ عِوَضٌ عَمَّا سَلَّمَ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى لِأَنَّ الْجِنَايَةَ الثَّانِيَةَ كَانَتْ فِي يَدِ الْمَالِكِ ، فَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ ثَانِيًا يَتَكَرَّرُ الِاسْتِحْقَاقُ ، فَأَمَّا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ عِوَضًا عَنْ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ لِحُصُولِهَا فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَلَا يُؤَدِّي إلَى مَا ذَكَرْنَاهُ .

( بَابُ غَصْبِ الْعَبْدِ وَالْمُدَبَّرِ وَالصَّبِيِّ وَالْجِنَايَةِ فِي ذَلِكَ ) ( قَوْلُهُ وَلَا إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ إلَّا فِي النِّصْفِ لِسَبْقِ حَقِّ الْأَوَّلِ ) أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إنْ كَانَ حَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ يَتَعَلَّقُ رَأْسًا بِنِصْفِ الْقِيمَةِ لَا بِكُلِّهَا كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ إلَّا فِي النِّصْفِ يَنْبَغِي أَنْ لَا تَكُونَ الَّتِي وَجَبَتْ عَلَى الْمَوْلَى بَيْنَ وَلِيِّ الْجِنَايَتَيْنِ نِصْفَيْنِ كَمَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا : ثُلُثَاهُ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى ، وَثُلُثُهُ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ لِأَنَّ حَقَّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى قَدْ تَعَلَّقَ بِكُلِّ الْقِيمَةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ فِيمَا قَبْلُ حَيْثُ قَالَ : لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ كُلَّ الْقِيمَةِ ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَتَعَلَّقَ حَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ يَكُونُ حَقُّهُ فِي الْقِيمَةِ نِصْفَ حَقِّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَضَارَبَا فِي الْقِيمَةِ بِقَدْرِ حَقَّيْهِمَا فِيهَا ، إذْ قَدْ مَرَّ فِي الْفَصْلِ السَّابِقِ أَنَّ جِنَايَاتِ الْمُدَبَّرِ إذَا تَوَالَتْ لَا تُوجِبُ إلَّا قِيمَةً وَاحِدَةً لِأَنَّهُ لَا مَنْعَ مِنْ الْمَوْلَى إلَّا فِي رَقَبَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَأَوْلِيَاءُ الْجِنَايَاتِ يَتَضَارَبُونَ بِالْحِصَصِ فِيهَا وَإِنْ كَانَ حَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ يَتَعَلَّقُ أَيْضًا بِكُلِّ الْقِيمَةِ ، وَلَكِنْ يَسْقُطُ نِصْفُهَا بِالتَّزَاحُمِ فَيَكُونُ حَقُّهُ الْبَاقِي لَهُ نِصْفُهَا ، وَكَانَ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ لَا حَقَّ لَهُ إلَّا فِي النِّصْفِ يَنْبَغِي أَنْ يَدْفَعَ الْمَوْلَى مَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ ثَانِيًا إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ ، لِأَنَّ حَقَّهُ كَانَ فِي كُلِّ الْقِيمَةِ كَوْنُ الْجِنَايَةِ الْأُولَى ، إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ نِصْفُهَا بِالتَّزَاحُمِ ، فَلَمَّا انْدَفَعَ التَّزَاحُمُ بِوُصُولِ حَقِّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ

الْأُولَى إلَيْهِ بِتَمَامِهِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَعُودَ حَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ فِي النِّصْفِ السَّاقِطِ بِالتَّزَاحُمِ إلَيْهِ كَحَقِّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى .
ثُمَّ أَقُولُ : يُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ بِأَنْ يَخْتَارَ الشِّقَّ الثَّانِيَ ، وَيُقَالُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ وَلِيِّ الْجِنَايَتَيْنِ : إنَّ حَقَّ الْأَوَّلِ يَتَعَلَّقُ بِكُلِّ الْقِيمَةِ ثُمَّ يُنْتَقَصُ نِصْفُهَا بِتَزَاحُمِ الثَّانِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَلَكِنْ لَا يَسْقُطُ بِالْكُلِّيَّةِ وَحَقُّ الثَّانِي أَيْضًا يَتَعَلَّقُ بِكُلِّهَا وَلَكِنْ يَسْقُطُ نِصْفُهَا بِالْكُلِّيَّةِ بِتَزَاحُمِ الْأَوَّلِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِغَيْرِ الْأَوَّلِ عِنْدَ وُجُودِ الْجِنَايَةِ الْأُولَى ، فَانْعَقَدَتْ سَبَبًا مُوجِبًا لِاسْتِحْقَاقِ كُلِّ الْقِيمَةِ ، وَانْتِقَاصُ حَقِّهِ إنَّمَا كَانَ يُعَارِضُ حُدُوثَ الْمُزَاحَمَةِ بَعْدَ ذَلِكَ ، بِخِلَافِ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ فَإِنَّهَا وُجِدَتْ وَالْمُزَاحِمُ مُقَارِنٌ فَلَمْ تَنْعَقِدْ سَبَبًا مُوجِبًا لِاسْتِحْقَاقِ الزَّائِدِ عَلَى النِّصْفِ فَسَقَطَ مَا وَرَاءَ النِّصْفِ وَالسَّاقِطُ مُتَلَاشٍ فَلَا يَعُودُ كَمَا تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ ، وَمَرَّ فِي مَوَاضِعَ شَتَّى مِنْ الْكِتَابِ ، هَذَا غَايَةُ مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْكَلَامِ فِي تَوْجِيهِ الْمَقَامِ .
( قَوْلُهُ فَأَمَّا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ عِوَضًا عَنْ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ لِحُصُولِهَا فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَلَا يُؤَدِّي إلَى مَا ذَكَرْنَاهُ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : فِيهِ نَظَرٌ ، فَإِنَّ الْجِنَايَةَ الثَّانِيَةَ وَإِنْ حَصَلَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ لَكِنْ أَخَذَ الْمَوْلَى مِنْهُ حَقَّهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلَمْ يَبْقَ لِوَلِيِّهَا اسْتِحْقَاقٌ حَتَّى يَجْعَلَ الْمَأْخُوذَ مِنْ الْغَاصِبِ ثَانِيًا فِي مُقَابَلَةِ مَا أَخَذَهُ ا هـ .
أَقُولُ : هَذَا النَّظَرُ نَاشِئٌ مِنْ غَلَطٍ فِي اسْتِخْرَاجِ مُرَادِ الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ ، فَإِنَّ الشَّارِحَ الْمَذْكُورَ زَعَمَ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِمَا يُجْعَلُ عِوَضًا عَنْ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ فِي قَوْلِهِ يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ عِوَضًا عَنْ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ هُوَ

الَّذِي يَرْجِعُ بِهِ الْمَوْلَى عَلَى الْغَاصِبِ ثَانِيًا فَبَنَى نَظَرَهُ الْمَزْبُورَ عَلَيْهِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَرْجِعُ بِهِ الْمَوْلَى عَلَى الْغَاصِبِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ، وَهُوَ النِّصْفُ الَّذِي كَانَ حَقًّا لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ وَرَجَعَ بِهِ الْمَوْلَى عَلَى الْغَاصِبِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فِي ضِمْنِ رُجُوعِهِ عَلَيْهِ بِالْكُلِّ فَلَا اتِّجَاهَ أَصْلًا لِمَا قَالَ ، وَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلَّا الضَّلَالُ .

قَالَ ( وَمَنْ غَصَبَ صَبِيًّا حُرًّا فَمَاتَ فِي يَدِهِ فَجْأَةً أَوْ بِحُمَّى فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ ، وَإِنْ مَاتَ مِنْ صَاعِقَةٍ أَوْ نَهْسَةِ حَيَّةٍ فَعَلَى عَاقِلَةِ الْغَاصِبِ الدِّيَةُ ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ .
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَضْمَنَ فِي الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ ، لِأَنَّ الْغَصْبَ فِي الْحُرِّ لَا يَتَحَقَّقُ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُكَاتَبًا صَغِيرًا لَا يَضْمَنُ مَعَ أَنَّهُ حُرٌّ يَدًا ، فَإِذَا كَانَ الصَّغِيرُ حُرًّا رَقَبَةً وَيَدًا أَوْلَى .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ بِالْغَصْبِ وَلَكِنْ يَضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ ، وَهَذَا إتْلَافٌ تَسْبِيبًا لِأَنَّهُ نَقَلَهُ إلَى أَرْضٍ مَسْبَعَةٍ أَوْ إلَى مَكَانِ الصَّوَاعِقِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الصَّوَاعِقَ وَالْحَيَّاتِ وَالسِّبَاعَ لَا تَكُونُ فِي كُلِّ مَكَان ، فَإِذَا نَقَلَهُ إلَيْهِ فَهُوَ مُتَعَدٍّ فِيهِ وَقَدْ أَزَالَ حِفْظَ الْوَلِيِّ فَيُضَافُ إلَيْهِ ، لِأَنَّ شَرْطَ الْعِلَّةِ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْعِلَّةِ إذَا كَانَ تَعَدِّيًا كَالْحَفْرِ فِي الطَّرِيقِ ، بِخِلَافِ الْمَوْتِ فَجْأَةً أَوْ بِحُمَّى ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ ، حَتَّى لَوْ نَقَلَهُ إلَى مَوْضِعٍ يَغْلِبُ فِيهِ الْحُمَّى وَالْأَمْرَاضُ نَقُولُ بِأَنَّهُ يَضْمَنُ فَتَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ لِكَوْنِهِ قَتْلًا تَسْبِيبًا .

قَالَ ( وَإِذَا أُودِعَ صَبِيٌّ عَبْدًا فَقَتَلَهُ فَعَلَى عَاقِلَتِهِ الدِّيَةُ ، وَإِنْ أُودِعَ طَعَامًا فَأَكَلَهُ لَمْ يَضْمَنْ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ : يَضْمَنُ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا ، وَعَلَى هَذَا إذَا أُودِعَ الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ مَالًا فَاسْتَهْلَكَهُ لَا يُؤَاخَذُ بِالضَّمَانِ فِي الْحَالِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَيُؤَاخَذُ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ يُؤَاخَذُ بِهِ فِي الْحَالِ .
وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْإِقْرَاضُ وَالْإِعَارَةُ فِي الْعَبْدِ وَالصَّبِيِّ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي أَصْلِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : صَبِيٌّ قَدْ عَقَلَ ، وَفِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ وَضْعُ الْمَسْأَلَةِ فِي صَبِيٍّ ابْنِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْعَاقِلِ يَضْمَنُ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ التَّسْلِيطَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ وَفِعْلُهُ مُعْتَبَرٌ لَهُمَا أَنَّهُ أَتْلَفَ مَالًا مُتَقَوِّمًا مَعْصُومًا حَقًّا لِمَالِكِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ كَمَا إذَا كَانَتْ الْوَدِيعَةُ عَبْدًا وَكَمَا إذَا أَتْلَفَهُ غَيْرُ الصَّبِيِّ فِي يَدِ الصَّبِيِّ الْمُودَعِ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّهُ أَتْلَفَ مَالًا غَيْرَ مَعْصُومٍ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ كَمَا إذَا أَتْلَفَهُ بِإِذْنِهِ وَرِضَاهُ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْعِصْمَةَ تَثْبُتُ حَقًّا لَهُ وَقَدْ فَوَّتَهَا عَلَى نَفْسِهِ حَيْثُ وَضَعَ الْمَالَ فِي يَدٍ مَانِعَةٍ فَلَا يَبْقَى مُسْتَحِقًّا لِلنَّظَرِ إلَّا إذَا أَقَامَ غَيْرَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي الْحِفْظِ ، وَلَا إقَامَةَ هَاهُنَا لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ عَلَى الصَّبِيِّ وَلَا لِلصَّبِيِّ عَلَى نَفْسِهِ ، بِخِلَافِ الْبَالِغِ وَالْمَأْذُونِ لَهُ لِأَنَّ لَهُمَا وِلَايَةٌ عَلَى أَنْفُسِهِمَا وَبِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْوَدِيعَةُ عَبْدًا لِأَنَّ عِصْمَتَهُ لِحَقِّهِ إذْ هُوَ مُبْقًى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ فِي حَقِّ الدَّمِ ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا أَتْلَفَهُ غَيْرُ الصَّبِيِّ فِي يَدِ الصَّبِيِّ لِأَنَّهُ سَقَطَتْ الْعِصْمَةُ بِالْإِضَافَةِ إلَى الصَّبِيِّ الَّذِي وَضَعَ فِي

يَدِهِ الْمَالَ دُونَ غَيْرِهِ .
قَالَ ( وَإِنْ اسْتَهْلَكَ مَالًا ضَمِنَ ) يُرِيدُ بِهِ مِنْ غَيْرِ إيدَاعٍ ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ يُؤَاخَذُ بِأَفْعَالِهِ ، وَصِحَّةُ الْقَصْدِ لَا مُعْتَبَرَ بِهَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

( بَابُ الْقَسَامَةِ ) .
قَالَ ( وَإِذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي مَحَلَّةٍ وَلَا يُعْلَمُ مَنْ قَتَلَهُ اُسْتُحْلِفَ خَمْسُونَ رَجُلًا مِنْهُمْ .
يَتَخَيَّرُهُمْ الْوَلِيُّ بِاَللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ وَلَا عَلِمْنَا لَهُ قَاتِلًا ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إذَا كَانَ هُنَاكَ لَوْثٌ اسْتَحْلَفَ الْأَوْلِيَاءُ خَمْسِينَ يَمِينًا وَيَقْضِي لَهُمْ بِالدِّيَةِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَمْدًا كَانَتْ الدَّعْوَى أَوْ خَطَأً .
وَقَالَ مَالِكٌ : يَقْضِي بِالْقَوَدِ إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ ، وَالْمَوْتُ عِنْدَهُمَا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ عَلَامَةُ الْقَتْلِ عَلَى وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ أَوْ ظَاهِرٍ يَشْهَدُ لِلْمُدَّعِي مِنْ عَدَاوَةٍ ظَاهِرَةٍ أَوْ شَهَادَةِ عَدْلٍ أَوْ جَمَاعَةٍ غَيْرِ عُدُولٍ أَنَّ أَهْلَ الْمَحَلَّةِ قَتَلُوهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهُ فَمَذْهَبُهُ مِثْلُ مَذْهَبِنَا ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُكَرِّرُ الْيَمِينَ بَلْ يَرُدُّهَا عَلَى الْوَلِيِّ ، فَإِنْ حَلَفُوا لَا دِيَةَ عَلَيْهِمْ لِلشَّافِعِيِّ فِي الْبَدَاءِ بِيَمِينِ الْوَلِيِّ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلْأَوْلِيَاءِ { فَيُقْسِمُ مِنْكُمْ خَمْسُونَ أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ } وَلِأَنَّ الْيَمِينَ تَجِبُ عَلَى مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ وَلِهَذَا تَجِبُ عَلَى صَاحِبِ الْيَدِ ، فَإِذَا كَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلْوَلِيِّ يَبْدَأُ بِيَمِينِهِ وَرَدُّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي أَصْلٌ لَهُ كَمَا فِي النُّكُولِ ، غَيْرَ أَنَّ هَذِهِ دَلَالَةٌ فِيهَا نَوْعُ شُبْهَةٍ وَالْقِصَاصُ لَا يُجَامِعُهَا وَالْمَالُ يَجِبُ مَعَهَا فَلِهَذَا وَجَبَتْ الدِّيَةُ .
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ } وَفِي رِوَايَةٍ { عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ } وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَدَأَ بِالْيَهُودِ بِالْقَسَامَةِ وَجَعَلَ الدِّيَةَ عَلَيْهِمْ لِوُجُودِ الْقَتِيلِ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ } وَلِأَنَّ الْيَمِينَ حُجَّةٌ لِلدَّفْعِ دُونَ الِاسْتِحْقَاقِ وَحَاجَةُ الْوَلِيِّ إلَى الِاسْتِحْقَاقِ

وَلِهَذَا لَا يَسْتَحِقُّ بِيَمِينِهِ الْمَالَ الْمُبْتَذَلَ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ بِهِ النَّفْسَ الْمُحْتَرَمَةَ .
وَقَوْلُهُ يَتَخَيَّرُهُمْ الْوَلِيُّ إشَارَةً إلَى أَنَّ خِيَارَ تَعْيِينِ الْخَمْسِينَ إلَى الْوَلِيِّ لِأَنَّ الْيَمِينَ حَقُّهُ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَخْتَارُ مِنْ يَتَّهِمُهُ بِالْقَتْلِ أَوْ يَخْتَارُ صَالِحِي أَهْلِ الْمَحَلَّةِ لِمَا أَنَّ تَحَرُّزَهُمْ عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ أَبْلَغُ التَّحَرُّزِ فَيَظْهَرُ الْقَاتِلُ ، وَفَائِدَةُ الْيَمِينِ النُّكُولُ ، فَإِنْ كَانُوا لَا يُبَاشِرُونَ وَيَعْلَمُونَ يُفِيدُ يَمِينَ الصَّالِحِ عَلَى الْعِلْمِ بِأَبْلَغَ مِمَّا يُفِيدُ يَمِينُ الطَّالِحِ ، وَلَوْ اخْتَارُوا أَعْمَى أَوْ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ جَازَ لِأَنَّهُ يَمِينٌ وَلَيْسَ بِشَهَادَةٍ .

لَمَّا كَانَ أَمْرُ الْقَتِيلِ يَئُولُ إلَى الْقَسَامَةِ فِيمَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ قَاتِلَهُ ذَكَرَهَا فِي بَابٍ عَلَى حِدَةٍ فِي آخِرِ الدِّيَاتِ .
ثُمَّ إنَّ الْقَسَامَةَ فِي اللُّغَةِ : اسْمٌ وُضِعَ مَوْضِعَ الْإِقْسَامِ ، كَذَا فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ أَخْذًا مِنْ الْمُغْرِبِ .
وَقَالَ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ : الْقَسَامَةُ لُغَةً مَصْدَرُ أَقْسَمَ قَسَامَةً أَوْ اسْمٌ وُضِعَ مَوْضِعَ الْإِقْسَامِ انْتَهَى .
أَقُولُ : لَا يُرَى وَجْهُ صِحَّةٍ لِكَوْنِ الْقَسَامَةِ مَصْدَرَ أَقْسَمَ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ دُرْبَةٌ بِعِلْمِ الْأَدَبِ وَأَمَّا فِي الشَّرِيعَةِ فَهِيَ أَيْمَانٌ يُقْسِمُ بِهَا أَهْلُ مَحَلَّةٍ أَوْ دَارٍ وُجِدَ فِيهَا قَتِيلٌ بِهِ أَثَرُ جِرَاحَةٍ يَقُولُ كُلٌّ مِنْهُمْ بِاَللَّهِ مَا قَتَلْتُهُ وَمَا عَلِمْتُ لَهُ قَاتِلًا كَذَا فِي الْعِنَايَةِ .
أَقُولُ : فِيهِ قُصُورٌ ، فَإِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهُ مَا إذَا وَجَدَ الْقَتِيلَ لَا فِي مَحَلَّةٍ وَلَا فِي دَارٍ بَلْ فِي مَوْضِعٍ خَارِجٍ مِنْ مِصْرٍ أَوْ قَرْيَةٍ قَرِيبٍ مِنْهُ بِحَيْثُ يُسْمَعُ الصَّوْتُ مِنْهُ مَعَ أَنَّهُ يَجِبُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَيْضًا قَسَامَةٌ شَرْعِيَّةٌ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ وَيَجِيءُ فِي الْكِتَابِ .
وَلَا يُقَالُ : إنَّهُ بَنَى الْكَلَامَ عَلَى مَا هُوَ الْأَكْثَرُ وُقُوعًا ، لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ تَعْرِيفٍ لِمَعْنَى الْقَسَامَةِ فِي الشَّرِيعَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ جَامِعًا وَمَانِعًا كَمَا لَا يَخْفَى .
فَالْأَوْلَى أَنْ يُزَادَ عَلَيْهِ قُيُودٌ وَيُقَالُ : هِيَ فِي الشَّرِيعَةِ أَيْمَانٌ يُقْسِمُ بِهَا أَهْلُ مَحَلَّةٍ أَوْ دَارٍ أَوْ مَوْضِعٍ خَارِجٍ مِنْ مِصْرَ أَوْ قَرْيَةٍ قَرِيبٍ مِنْهُ بِحَيْثُ يُسْمَعُ الصَّوْتُ مِنْهُ إذَا وُجِدَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا قَتِيلٌ بِهِ أَثَرٌ لَا يُعْلَمُ مَنْ قَتَلَهُ يَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِاَللَّهِ مَا قَتَلْتُ وَلَا عَلِمْتُ لَهُ قَاتِلًا .
وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ : وَأَمَّا تَفْسِيرُهَا شَرْعًا فَمَا رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ : فِي الْقَتِيلِ يُوجَدُ فِي الْمَحَلَّةِ أَوْ دَارِ رَجُلٍ فِي الْمِصْرِ إنْ كَانَ بِهِ جِرَاحَةٌ أَوْ أَثَرُ ضَرْبٍ أَوْ أَثَرُ خَنْقٍ

وَلَا يُعْلَمُ مَنْ قَتَلَهُ يُقْسِمُ خَمْسُونَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ كُلٌّ مِنْهُمْ بِاَللَّهِ مَا قَتَلْتُهُ وَلَا عَلِمْتُ لَهُ قَاتِلًا انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ سَمَاجَةٌ لَا تَخْفَى ، فَإِنَّ مَا رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي النِّهَايَةِ إنَّمَا هُوَ مَسْأَلَةُ الْقَسَامَةِ لَا تَفْسِيرُ الْقَسَامَةِ شَرْعًا ، فَإِنَّ التَّفْسِيرَ مِنْ قَبِيلِ التَّصَوُّرَاتِ ، وَمَا ذُكِرَ فِيهَا تَصْدِيقٌ مِنْ قَبِيلِ الشَّرْطِيَّاتِ كَمَا تَرَى ، نَعَمْ يُمْكِنُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ تَفْسِيرُ الْقَسَامَةِ شَرْعًا بِتَدْقِيقِ النَّظَرِ ، لَكِنَّهُ فِي مَوْضِعِ بَيَانِ مَعْنَى الْقَسَامَةِ شَرْعًا فِي أَوَّلِ الْبَابِ تَعَسُّفٌ خَارِجٌ عَنْ سُنَنِ الصَّوَابِ .
ثُمَّ قَالَ فِي النِّهَايَةِ : وَأَمَّا شَرْطُهَا فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُقْسِمُ رَجُلًا بَالِغًا عَاقِلًا حُرًّا ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْقَسَامَةِ الْمَرْأَةُ وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ وَالْعَبْدُ ، وَأَنْ يَكُونَ فِي الْمَيِّتِ الْمَوْجُودِ أَثَرُ الْقَتْلِ ، وَأَمَّا لَوْ وُجِدَ مَيِّتًا لَا أَثَرَ بِهِ فَلَا قَسَامَةَ وَلَا دِيَةَ .
وَمِنْ شُرُوطِهَا أَيْضًا تَكْمِيلُ الْيَمِينِ بِالْخَمْسِينَ انْتَهَى .
وَفِي غَايَةِ الْبَيَانِ أَيْضًا كَذَلِكَ .
أَقُولُ : فِيهِ كَلَامٌ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ شُرُوطَهَا غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ بِمَا ذَكَرَ ، فَإِنَّ مِنْهَا أَيْضًا أَنْ لَا يُعْلَمَ قَاتِلُهُ ، فَإِنْ عُلِمَ فَلَا قَسَامَةَ فِيهِ وَلَكِنْ يَجِبُ الْقِصَاصُ أَوْ الدِّيَةُ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْقَتِيلُ مِنْ بَنِي آدَمَ فَلَا قَسَامَةَ فِي بَهِيمَةٍ وُجِدَتْ فِي مَحَلَّةِ قَوْمٍ وَلَا غُرْمَ فِيهَا .
وَمِنْهَا الدَّعْوَى مِنْ أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ لِأَنَّ الْقَسَامَةَ يَمِينٌ وَالْيَمِينُ لَا تَجِبُ بِدُونِ الدَّعْوَى كَمَا فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى .
وَمِنْهَا إنْكَارُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِأَنَّ الْيَمِينَ وَظِيفَةُ الْمُنْكِرِ ، وَمِنْهَا الْمُطَالَبَةُ بِالْقَسَامَةِ ، لِأَنَّ الْيَمِينَ حَقُّ الْمُدَّعِي وَحَقُّ الْإِنْسَانِ يُوفَى عِنْدَ طَلَبِهِ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَيْمَانِ .
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ الَّذِي وُجِدَ

فِيهِ الْقَتِيلُ مِلْكًا لِأَحَدٍ أَوْ فِي يَدِ أَحَدٍ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِلْكًا لِأَحَدٍ وَلَا فِي يَدِ أَحَدٍ أَصْلًا فَلَا قَسَامَةَ فِيهِ وَلَا دِيَةَ .
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ الْقَتِيلُ مِلْكًا لِصَاحِبِ الْمِلْكِ الَّذِي وُجِدَ فِيهِ فَلَا قَسَامَةَ وَلَا دِيَةَ فِي قِنٍّ أَوْ مُدَبَّرٍ أَوْ أُمِّ وَلَدٍ أَوْ مُكَاتَبٍ أَوْ مَأْذُونٍ وُجِدَ قَتِيلًا فِي دَارِ مَوْلَاهُ .
نَصَّ فِي الْبَدَائِعِ عَلَى هَاتِيك الشُّرُوطِ كُلِّهَا بِالْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مَعَ زِيَادَةِ تَفْصِيلٍ .
فَمَا وَجْهُ ذِكْرِ بَعْضِ الشُّرُوطِ وَتَرْكِ أَكْثَرِهَا .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ إذَا وُجِدَ قَتِيلٌ فِي دَارِ مُكَاتَبٍ فَعَلَيْهِ الْقَسَامَةُ ، وَإِذَا حَلَفَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدِّيَةِ ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْبَدَائِعِ ، وَقَالَ : ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ لِمُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ ، فَمَا مَعْنَى جَعْلِ كَوْنِ الْمُقْسِمِ حُرًّا مِنْ شُرُوطِهَا ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ : الْمُكَاتَبُ حُرٌّ يَدًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُرًّا رَقَبَةً كَمَا صَرَّحُوا بِهِ وَمَرَّ فِي الْبَابِ السَّابِقِ فَوُجِدَ فِيهِ الْحُرِّيَّةُ فِي الْجُمْلَةِ فَجَازَ اشْتِرَاطُ الْحُرِّيَّةِ فِي الْقَسَامَةِ مُطْلَقًا بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ ، لَكِنْ لَا يَخْفَى مَا فِيهِ .
وَقَالَ فِي الْعِنَايَةِ : وَشَرْطُهَا بُلُوغُ الْمُقْسِمِ وَعَقْلُهُ وَحُرِّيَّتُهُ وَوُجُودُ أَثَرِ الْقَتْلِ فِي الْمَيِّتِ وَتَكْمِيلُ الْيَمِينِ خَمْسِينَ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْإِخْلَالِ زَائِدٌ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ وَغَايَةِ الْبَيَانِ وَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ فِيهِ لِاشْتِرَاطِ الذُّكُورَةِ فِي الْمُقْسِمِ مَعَ كَوْنِهَا شَرْطًا أَيْضًا .
ثُمَّ أَقُولُ : فِي إمْكَانِ تَوْجِيهِ ذَلِكَ احْتِمَالَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ اكْتَفَى فِي إفَادَةِ ذَلِكَ الشَّرْطِ أَيْضًا بِتَذْكِيرِ لَفْظِ الْمُقْسِمِ فِي قَوْلِهِ : بُلُوغُ الْمُقْسِمِ ، وَبِتَذْكِيرِ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ وَعَقْلُهُ وَحُرِّيَّتُهُ ، وَإِنْ كَانَ تَغْلِيبُ الْمُذَكَّرِ عَلَى الْمُؤَنَّثِ شَائِعًا فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ .
وَثَانِيهِمَا أَنَّهُ تَرَكَ ذِكْرَ اشْتِرَاطِ

الذُّكُورَةِ بِنَاءً عَلَى وُجُوبِ الْقَسَامَةِ عَلَى الْمَرْأَةِ فِي مَسْأَلَةٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَهِيَ مَا سَيَجِيءُ فِي آخِرِ هَذَا الْبَابِ مِنْ أَنَّهُ لَوْ وُجِدَ قَتِيلٌ فِي قَرْيَةٍ لِامْرَأَةٍ ؛ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهَا الْقَسَامَةُ تُكَرَّرُ عَلَيْهَا الْأَيْمَانُ وَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهَا .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : الْقَسَامَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ أَيْضًا فَكَانَتْ الْمَرْأَةُ أَهْلًا لِلْقَسَامَةِ فِي الْجُمْلَةِ عِنْدَهُمَا .
( قَوْلُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهُ فَمَذْهَبُهُ مِثْلُ مَذْهَبِنَا ) أَقُولُ : فِي تَحْرِيرِ الْمُصَنِّفِ هُنَا قُصُورٌ بَلْ اخْتِلَالٌ : أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ مَذْهَبَ الْخَصْمِ مِثْلُ مَذْهَبِنَا إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ لَوْثٌ : أَيْ قَرِينَةٌ حَالَ تَوَقُّعٍ فِي الْقَلْبِ صَدَقَ الْمُدَّعِي سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ اللَّوْثُ مِنْ قِبَلِ عَلَامَةِ الْقَتْلِ عَلَى وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ كَالدَّمِ ، أَمْ مِنْ قِبَلِ ظَاهِرٍ يَشْهَدُ لِلْمُدَّعِي كَعَدَاوَةٍ ظَاهِرَةٍ وَنَحْوِهَا فَلَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِهِ بِالثَّانِي كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهُ بَعْدَ عَطْفِ قَوْلِهِ أَوْ ظَاهِرٍ يَشْهَدُ لِلْمُدَّعِي فِيمَا قُبِلَ عَلَى قَوْلِهِ عَلَامَةُ الْقَتْلِ عَلَى وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ ، فَحَقُّ الْعِبَارَةِ أَنْ يُقَالَ : وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ لَوْثٌ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ إيرَادَ الضَّمِيرِ الْمُفْرَدِ فِي قَوْلِهِ فَمَذْهَبُهُ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ فِيمَا قَبْلُ مَذْهَبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَإِنْ قَالَ : اللَّوْثُ عِنْدَهُمَا إلَخْ مِنْ قَبِيلِ الْإِغْلَاقِ حَيْثُ لَا يُفْهَمُ أَنَّ مَرْجِعَهُ أَيٌّ مِنْهُمَا ، وَعَنْ هَذَا حَمَلَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ عَلَى الشَّافِعِيِّ وَبَعْضُهُمْ عَلَى مَالِكٍ فَحَقُّ الْمَقَامِ الْإِظْهَارُ دُونَ الْإِضْمَارِ كَمَا لَا يَخْفَى ( قَوْلُهُ وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي ، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ } وَفِي رِوَايَةٍ { عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ } ) أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ

: إنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ } إنْ أَفَادَ قَصْرَ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِنَاءً عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ فِي عِلْمِ الْأَدَبِ مِنْ أَنَّ الْمُعَرَّفَ فَاللَّامُ الْجِنْسِ إذَا جُعِلَ مُبْتَدَأً فَهُوَ مَقْصُورٌ عَلَى الْخَبَرِ نَحْوُ " الْكَرَمُ التَّقْوَى وَالتَّوَكُّلُ عَلَى اللَّهِ " وَ { الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ } وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِي بَابِ الْيَمِينِ مِنْ كِتَابِ الدَّعْوَى حَيْثُ اسْتَدَلَّ فِيهِ عَلَى أَنْ لَا يُرَدَّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي عِنْدَنَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي ، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ } وَقَالَ : فِي وَجْهِهِ جَعْلُ جِنْسِ الْأَيْمَانِ عَلَى الْمُنْكَرِينَ وَلَيْسَ وَرَاءَ الْجِنْسِ شَيْءٌ انْتَهَى .
لَزِمَ أَنْ لَا يَصِحَّ تَحْلِيفُ غَيْرِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ فِيمَا إذَا ادَّعَى الْوَلِيُّ الْقَتْلَ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ مَعَ أَنَّهُ يُسْتَحْلَفُ خَمْسُونَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَيْضًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ فِيمَا سَيَجِيءُ ، وَجَعَلَ إطْلَاقَ جَوَابِ الْكِتَابِ دَلِيلًا عَلَيْهِ وَقَالَ : وَهَكَذَا الْجَوَابُ فِي الْمَبْسُوطِ وَإِنْ لَمْ يُفِدْ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ } قَصْرَ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا يُثْبِتُ الْمُدَّعَى هَاهُنَا بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فَلَا يَصِحُّ التَّعْلِيلُ بِهِ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ : يَجُوزُ أَنْ يُثْبِتَ بِهِ الْمُدَّعَى هُنَا بِوَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ذَكَرَ قَوْلَهُ الْمَزْبُورَ بِطَرِيقِ الْقِسْمَةِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ وَالْقِسْمَةُ تُنَافِي الشَّرِكَةَ ، وَقَدْ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَيْهِ أَيْضًا فِي بَابِ الْيَمِينِ مِنْ كِتَابِ الدَّعْوَى حَيْثُ قَالَ : وَلَا تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي ، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ } قَسْمٌ وَالْقِسْمَةُ تُنَافِي

الشَّرِكَةَ ، وَجَعَلَ جِنْسَ الْأَيْمَانِ عَلَى الْمُنْكِرِينَ وَلَيْسَ وَرَاءَ الْجِنْسِ شَيْءٌ انْتَهَى .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ مُنَافَاةَ الْقِسْمَةِ الشَّرِكَةَ إنَّمَا تَقْتَضِي أَنْ لَا يَحْلِفَ الْمُدَّعِي لَا أَنْ لَا يَحْلِفَ غَيْرُ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَمَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فِي صُورَةِ إنْ ادَّعَى الْوَلِيُّ الْقَتْلَ عَلَى بَعْضٍ مُعَيَّنٍ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ .
نَعَمْ يَلْزَمُ أَنْ يُنْتَقَضَ بِهَذِهِ الصُّورَةِ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِي بَابِ الْيَمِينِ وَجُعِلَ جِنْسُ الْأَيْمَانِ عَلَى الْمُنْكِرِينَ وَلَيْسَ وَرَاءَ الْجِنْسِ شَيْءٌ تَأَمَّلْ تَقِفْ .
( قَوْلُهُ وَفَائِدَةُ الْيَمِينِ النُّكُولُ ، فَإِذَا كَانُوا لَا يُبَاشِرُونَ وَيَعْلَمُونَ يُفِيدُ يَمِينَ الصَّالِحِ عَلَى الْعِلْمِ بِأَبْلَغَ مِمَّا يُفِيدُ يَمِينُ الطَّالِحِ ) أَقُولُ : لَا فَائِدَةَ هُنَا لِذِكْرِ الْمُقَدِّمَةِ الْقَائِلَةِ وَفَائِدَةُ الْيَمِينِ النُّكُولُ ، بَلْ فِيهِ خَلَلٌ لِأَنَّ مُوجَبَ النُّكُولِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ حَبْسُ النَّاكِلِ حَتَّى يَحْلِفَ لَا الْقَضَاءُ بِمَا ادَّعَاهُ الْوَلِيُّ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ ، فَإِنَّمَا يَظْهَرُ فَائِدَةُ الْيَمِينِ عَلَى الصَّالِحِ فِي إظْهَارِهِ الْقَاتِلَ تَحَرُّزًا عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبِ لَا فِي مُجَرَّدِ نُكُولِهِ حَتَّى يَلْزَمَ الْمَصِيرُ إلَى ذِكْرِ الْمُقَدِّمَةِ الْمَزْبُورَةِ ، ثُمَّ إنَّ كَوْنَ فَائِدَةِ الْيَمِينِ النُّكُولُ إنَّمَا هُوَ فِي الْأَمْوَالِ لَا فِي بَابِ الْقَسَامَةِ لِأَنَّ الْيَمِينَ فِيهِ مُسْتَحَقَّةٌ لِذَاتِهَا تَعْظِيمًا لِأَمْرِ الدَّمِ وَلِهَذَا يَجْمَعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الدِّيَةِ ، بِخِلَافِ النُّكُولِ فِي الْأَمْوَالِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْكِتَابِ ، فَلَا مَعْنَى لِذِكْرِ تِلْكَ الْمُقَدِّمَةِ هَاهُنَا ، وَلَقَدْ أَصْلَحَ صَاحِبُ الْكَافِي تَقْرِيرَ هَذَا الْمَحَلِّ حَيْثُ قَالَ : وَلَهُ أَنَّ مُخْتَارَ الْمَشَايِخِ وَالصُّلَحَاءِ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ يَتَحَرَّزُونَ عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ أَكْثَرَ مِمَّا يَتَحَرَّزُ الْفَسَقَةُ ، فَإِذَا عَلِمُوا الْقَاتِلَ فِيهِمْ أَظْهَرُوهُ وَلَمْ يَحْلِفُوا انْتَهَى ، بَقِيَ فِي هَذَا الْمَقَامِ

إشْكَالٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ أَخْبَرَ بَعْضٌ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ بِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ الْقَاتِلَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ بِعَيْنِهِ أَوْ أَحَدٌ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ وَلَا يُعْمَلُ بِهِ لِكَوْنِهِمْ مُتَّهَمِينَ بِدَفْعِ الْخُصُومَةِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ وَسَيَجِيءُ فِي الْكِتَابِ تَفْصِيلُهُ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي اسْتِحْلَافِهِمْ عَلَى الْعِلْمِ رَأْسًا ، وَلَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ الثِّقَاتِ حَامَ حَوْلَ حَلِّ هَذَا الْإِشْكَالِ سِوَى صَاحِبِ الْبَدَائِعِ فَإِنَّهُ قَالَ : فَإِنْ قِيلَ : أَيَّةُ فَائِدَةٍ فِي الِاسْتِحْلَافِ عَلَى الْعِلْمِ وَهُمْ لَوْ عَلِمُوا الْقَاتِلَ فَأَخْبَرُوا بِهِ لَكَانَ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُمْ لِأَنَّهُمْ يُسْقِطُونَ بِهِ الضَّمَانَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ فَكَانُوا مُتَّهَمِينَ دَافِعِينَ الْغُرْمَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ .
وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا شَهَادَةَ لِلْمُتَّهَمِ } وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا شَهَادَةَ لِجَارِّ الْمَغْنَمِ وَلَا لِدَافِعِ الْمَغْرَمِ } قِيلَ : إنَّمَا اُسْتُحْلِفُوا عَلَى الْعِلْمِ اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ ، لِأَنَّ السُّنَّةَ هَكَذَا وَرَدَتْ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْأَخْبَارِ فَاتُّبِعْتِ السُّنَّةُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْقَلَ فِيهِ الْمَعْنَى .
ثُمَّ فِيهِ فَائِدَةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ عَبْدًا لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ فَيُقِرُّ عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ فَيُقْبَلُ إقْرَارُهُ ، لِأَنَّ إقْرَارَ الْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ بِالْقَتْلِ الْخَطَإِ صَحِيحٌ فَيُقَالُ لَهُ : ادْفَعْهُ أَوْ افْدِهِ وَيَسْقُطُ الْحُكْمُ عَنْ غَيْرِهِ فَكَانَ التَّحْلِيفُ عَلَى الْعِلْمِ مُفِيدًا ، وَجَائِزٌ أَنْ يُقِرَّ عَلَى عَبْدِ غَيْرِهِ فَصَدَّقَهُ مَوْلَاهُ فَيُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ وَيَسْقُطُ الْحُكْمُ عَنْ غَيْرِهِ فَكَانَ مُفِيدًا فَجَازَ أَنْ يَكُونَ التَّحْلِيفُ عَلَى الْعِلْمِ لِهَذَا الْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ ، ثُمَّ بَقِيَ هَذَا الْحُكْمُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْ الْحَالِفِينَ عَبْدٌ كَالرَّمَلِ فِي الطَّوَافِ {

فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ رَمَلَ فِي الطَّوَافِ إظْهَارًا لِلْجَلَادَةِ وَالْقُوَّةِ لِلْكَفَرَةِ وَيَقُولُ : رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً أَظْهَرَ الْيَوْمَ الْجَلَادَةَ مِنْ نَفْسِهِ } ثُمَّ زَالَ ذَلِكَ الْيَوْمُ وَبَقِيَ الرَّمَلُ فِي الطَّوَافِ كَذَا هَذَا .
وَالثَّانِي أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ أَمَرَ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ عَبْدًا مَحْجُورًا بِالْقَتْلِ ، فَلَوْ أَقَرَّ بِهِ يَلْزَمُهُ فِي مَالِهِ فَيَحْلِفُ بِاَللَّهِ مَا عَلِمْتُ لَهُ قَاتِلًا ، لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ عَلِمْتُ لَهُ قَاتِلًا وَهُوَ الصَّبِيُّ الَّذِي أَمَرَهُ بِقَتْلِهِ لَكَانَ حَاصِلُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ وَيَسْقُطُ الْحُكْمُ عَنْ غَيْرِهِ فَكَانَ مُفِيدًا ، إلَى هُنَا لَفْظُ الْبَدَائِعِ فَلْيَكُنْ هَذَا عَلَى ذِكْرٍ مِنْك

قَالَ ( وَإِذَا حَلَفُوا قَضَى عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ بِالدِّيَةِ وَلَا يُسْتَحْلَفُ الْوَلِيُّ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا تَجِبُ الدِّيَةُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { تُبَرِّئُكُمْ الْيَهُودُ بِأَيْمَانِهَا } وَلِأَنَّ الْيَمِينَ عُهِدَ فِي الشَّرْعِ مُبَرِّئًا لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا مُلْزِمًا كَمَا فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى .
وَلَنَا أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَمَعَ بَيْنَ الدِّيَةِ وَالْقَسَامَةِ فِي حَدِيثِ ابْنِ سَهْلٍ وَفِي حَدِيثِ زِيَادِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ ، وَكَذَا جَمَعَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَيْنَهُمَا عَلَى وَادِعَةَ .
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { تُبَرِّئُكُمْ الْيَهُودُ } مَحْمُولٌ عَلَى الْإِبْرَاءِ عَنْ الْقِصَاصِ وَالْحَبْسِ ، وَكَذَا الْيَمِينُ مُبَرِّئَةٌ عَمَّا وَجَبَ لَهُ الْيَمِينُ وَالْقَسَامَةُ مَا شُرِعَتْ لِتَجِبَ الدِّيَةُ إذَا نَكَلُوا ، بَلْ شُرِعَتْ لِيَظْهَرَ الْقِصَاصُ بِتَحَرُّزِهِمْ عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ فَيُقِرُّوا بِالْقَتْلِ ، فَإِذَا حَلَفُوا حَصَلَتْ الْبَرَاءَةُ عَنْ الْقِصَاصِ .
ثُمَّ الدِّيَةُ تَجِبُ بِالْقَتْلِ الْمَوْجُودِ مِنْهُمْ ظَاهِرًا لِوُجُودِ الْقَتِيلِ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ لَا بِنُكُولِهِمْ ، أَوْ وَجَبَتْ بِتَقْصِيرِهِمْ فِي الْمُحَافَظَةِ كَمَا فِي الْقَتْلِ الْخَطَإِ ( وَمَنْ أَبَى مِنْهُمْ الْيَمِينَ حُبِسَ حَتَّى يَحْلِفَ ) لِأَنَّ الْيَمِينَ فِيهِ مُسْتَحَقَّةٌ لِذَاتِهَا تَعْظِيمًا لِأَمْرِ الدَّمِ وَلِهَذَا يُجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدِّيَةِ ، بِخِلَافِ النُّكُولِ فِي الْأَمْوَالِ لِأَنَّ الْيَمِينَ بَدَلٌ عَنْ أَصْلِ حَقِّهِ وَلِهَذَا يَسْقُطُ بِبَذْلِ الْمُدَّعِي وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَا يَسْقُطُ بِبَذْلِ الدِّيَةِ ، هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إذَا ادَّعَى الْوَلِيُّ الْقَتْلَ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ ، وَكَذَا إذَا ادَّعَى عَلَى الْبَعْضِ لَا بِأَعْيَانِهِمْ وَالدَّعْوَى فِي الْعَمْدِ أَوْ الْخَطَإِ لِأَنَّهُمْ لَا يَتَمَيَّزُونَ عَنْ الْبَاقِي ، وَلَوْ ادَّعَى عَلَى الْبَعْضِ بِأَعْيَانِهِمْ أَنَّهُ قَتَلَ وَلِيَّهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً فَكَذَلِكَ

الْجَوَابُ ، يَدُلُّ عَلَيْهِ إطْلَاقُ الْجَوَابِ فِي الْكِتَابِ ، وَهَكَذَا الْجَوَابُ فِي الْمَبْسُوطِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّ فِي الْقِيَاسِ تَسْقُطُ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَنْ الْبَاقِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ ، وَيُقَالُ لِلْوَلِيِّ أَلَكَ بَيِّنَةٌ ؟ فَإِنْ قَالَ لَا يُسْتَحْلَفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَمِينًا وَاحِدَةً .
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَاهُ لِاحْتِمَالِ وُجُودِ الْقَتْلِ مِنْ غَيْرِهِمْ ، وَإِنَّمَا عُرِفَ بِالنَّصِّ فِيمَا إذَا كَانَ فِي مَكَان يُنْسَبُ إلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ وَالْمُدَّعِي يَدَّعِي الْقَتْلَ عَلَيْهِمْ ، وَفِيمَا وَرَاءَهُ بَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ وَصَارَ كَمَا إذَا ادَّعَى الْقَتْلَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِهِمْ .
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ تَجِبُ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ لِأَنَّهُ لَا فَصْلَ فِي إطْلَاقِ النُّصُوصِ بَيْنَ دَعْوًى وَدَعْوًى فَنُوجِبُهُ بِالنَّصِّ لَا بِالْقِيَاسِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا ادَّعَى عَلَى وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِهِمْ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ ، فَلَوْ أَوْجَبْنَاهُمَا لَأَوْجَبْنَاهُمَا بِالْقِيَاسِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ ، ثُمَّ حُكْمُ ذَلِكَ أَنْ يُثْبِتَ مَا ادَّعَاهُ إذَا كَانَ لَهُ بَيِّنَةٌ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ اسْتَحْلَفَهُ يَمِينًا وَاحِدَةً لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقَسَامَةٍ لِانْعِدَامِ النَّصِّ وَامْتِنَاعِ الْقِيَاسِ .
ثُمَّ إنْ حَلَفَ بَرِئَ وَإِنْ نَكَلَ وَالدَّعْوَى فِي الْمَالِ ثَبَتَ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ فِي الْقِصَاصِ فَهُوَ عَلَى اخْتِلَافٍ مَضَى فِي كِتَابِ الدَّعْوَى .
قَالَ ( وَإِنْ لَمْ يُكْمِلْ أَهْلُ الْمَحَلَّةِ كُرِّرَتْ الْأَيْمَانُ عَلَيْهِمْ حَتَّى تَتِمَّ خَمْسِينَ ) لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا قَضَى فِي الْقَسَامَةِ وَافَى إلَيْهِ تِسْعَةٌ وَأَرْبَعُونَ رَجُلًا فَكَرَّرَ الْيَمِينَ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ حَتَّى تَمَّتْ خَمْسِينَ ثُمَّ قَضَى بِالدِّيَةِ .
وَعَنْ شُرَيْحٍ وَالنَّخَعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ مِثْلُ ذَلِكَ ، وَلِأَنَّ الْخَمْسِينَ وَاجِبٌ بِالسُّنَّةِ فَيَجِبُ إتْمَامُهَا مَا أَمْكَنَ ، وَلَا يُطْلَبُ فِيهِ الْوُقُوفُ عَلَى الْفَائِدَةِ لِثُبُوتِهَا بِالسُّنَّةِ ،

ثُمَّ فِيهِ اسْتِعْظَامُ أَمْرِ الدَّمِ ، فَإِنْ كَانَ الْعَدَدُ كَامِلًا فَأَرَادَ الْوَلِيُّ أَنْ يُكَرِّرَ عَلَى أَحَدِهِمْ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ، لِأَنَّ الْمَصِيرَ إلَى التَّكْرَارِ ضَرُورَةُ الْإِكْمَالِ .
قَالَ ( وَلَا قَسَامَةَ عَلَى صَبِيٍّ وَلَا مَجْنُونٍ ) لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْقَوْلِ الصَّحِيحِ وَالْيَمِينُ قَوْلٌ صَحِيحٌ .
قَالَ ( وَلَا امْرَأَةٍ وَلَا عَبْدٍ ) لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ النُّصْرَةِ وَالْيَمِينُ عَلَى أَهْلِهَا .
قَالَ ( وَإِنْ وُجِدَ مَيِّتًا لَا أَثَرَ بِهِ فَلَا قَسَامَةَ وَلَا دِيَةَ ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقَتِيلٍ ، إذْ الْقَتِيلُ فِي الْعُرْفِ مَنْ فَاتَتْ حَيَاتُهُ بِسَبَبٍ يُبَاشِرُهُ حَيٌّ وَهَذَا مَيِّتٌ حَتْفَ أَنْفِهِ ، وَالْغَرَامَةُ تَتْبَعُ فِعْلَ الْعَبْدِ وَالْقَسَامَةُ تَتْبَعُ احْتِمَالَ الْقَتْلِ ثُمَّ يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْقَسَمُ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِهِ أَثَرٌ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى كَوْنِهِ قَتِيلًا ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ بِهِ جِرَاحَةٌ أَوْ أَثَرُ ضَرْبٍ أَوْ خَنْقٍ ، وَكَذَا إذَا كَانَ خَرَجَ الدَّمُ مِنْ عَيْنِهِ أَوْ أُذُنِهِ لِأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا إلَّا بِفِعْلٍ مِنْ جِهَةِ الْحَيِّ عَادَةً ، بِخِلَافِ مَا إذَا خَرَجَ مِنْ فِيهِ أَوْ دُبُرِهِ أَوْ ذَكَرِهِ لِأَنَّ الدَّمَ يَخْرُجُ مِنْ هَذِهِ الْمَخَارِجِ عَادَةً بِغَيْرِ فِعْلِ أَحَدٍ ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الشَّهِيدِ .

( قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَمَعَ بَيْنَ الدِّيَةِ وَالْقَسَامَةِ فِي حَدِيثِ ابْنِ سَهْلٍ ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : فِيهِ بَحْثٌ ، فَإِنَّهُ لَمْ يُجْرِ الْقَسَامَةَ بَيْنَهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ ، { وَإِنَّمَا وَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِنْدِهِ } ، وَفِي رِوَايَةٍ { مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ } عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا وَنَقَلَهُ الشُّرَّاحُ هُنَا انْتَهَى .
أَقُولُ : أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى وُجُوبِ الْقَسَامَةِ عَلَى الْيَهُودِ بِقَوْلِهِ { تُبَرِّئُكُمْ الْيَهُودُ بِأَيْمَانِهَا } وَإِنَّمَا لَمْ يُجْرِ الْقَسَامَةَ بَيْنَهُمْ لِعَدَمِ طَلَبِ أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ إيَّاهَا حَيْثُ قَالُوا : لَا نَرْضَى بِأَيْمَانِ قَوْمٍ كُفَّارٍ لَا يُبَالُونَ مَا حَلَفُوا عَلَيْهِ ، وَمُطَالَبَةُ وَلِيِّ الْقَتِيلِ بِالْقَسَامَةِ شَرْطٌ لِإِجْرَائِهَا عَلَى الْخُصُومِ كَمَا عَرَفْته فِيمَا مَرَّ أَثْنَاءَ أَنْ ذَكَرْنَا شُرُوطَ الْقَسَامَةِ عَلَى التَّفْصِيلِ نَقْلًا عَنْ الْبَدَائِعِ ، وَإِنَّمَا وَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِمِائَةٍ مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ عَلَى سَبِيلِ الْحَمَالَةِ عَنْهُمْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ مِنْ أَهْلِ الْبِرِّ إلَيْهِمْ ، وَقَدْ أَفْصَحَ عَنْهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ هُنَا حَيْثُ قَالَا بَعْدَ نَقْلِ الْحَدِيثِ : إنَّمَا وَدَى رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَنَّهُ تَجُوزُ الْحَمَالَةُ عَنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ ، فَإِنَّ قَضَاءَ دَيْنِ الْغَيْرِ بِرٌّ لَهُ ، وَأَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ أَهْلِ الْبِرِّ إلَيْهِمْ حَتَّى جَازَ عِنْدَنَا صَرْفُ الْكَفَّارَاتِ إلَيْهِمْ ، وَلَا يَجُوزُ مِنْ مَالِ الزَّكَاةِ إلَّا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْرَاضِ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ انْتَهَى .
ثُمَّ إنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ التَّوْجِيهِ إنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ عَلَى مَا رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حُثْمَةَ كَمَا وَقَعَ فِي الصَّحِيحَيْنِ ، وَأَمَّا مَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ كَمَا وَقَعَ فِي شَرْحِ

الْآثَارِ لِلطَّحَاوِيِّ قَصْرًا عَلَى الزُّهْرِيِّ وَأَخْرَجَهُ كَثِيرٌ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ مِنْهُمْ عَبْدُ الرَّزَّاقِ رَوَاهُ فِي مُصَنَّفِهِ ، وَمِنْهُمْ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ رَوَاهُ أَيْضًا فِي مُصَنَّفِهِ ، وَمِنْهُمْ الْوَاقِدِيُّ رَوَاهُ فِي مَغَازِيهِ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ .
فَإِيجَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَسَامَةَ وَالدِّيَةَ عَلَى الْيَهُودِ صَرِيحٌ بَيِّنٌ وَقَدْ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ إجْمَالًا مِنْ قَبْلُ حَيْثُ قَالَ : وَرَوَى ابْنُ الْمُسَيِّبِ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَدَأَ بِالْيَهُودِ فِي الْقَسَامَةِ وَجَعَلَ الدِّيَةَ عَلَيْهِمْ لِوُجُودِ الْقَتِيلِ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ } وَفَصَّلَهُ الشُّرَّاحُ حَيْثُ قَالُوا : رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ الْقَسَامَةَ كَانَتْ مِنْ أَحْكَامِ الْجَاهِلِيَّةِ فَقَرَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَتِيلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ وُجِدَ فِي جُبِّ الْيَهُودِ بِخَيْبَرَ ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ { فَأَلْزَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَهُودَ الدِّيَةَ وَالْقَسَامَةَ } انْتَهَى .
وَكَذَا أَمْرُ إيجَابِ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ مَعًا عَلَى الْيَهُودِ ظَاهِرٌ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إلَى أَهْلِ خَيْبَرَ : إنَّ هَذَا قَتِيلٌ وُجِدَ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ فَمَا الَّذِي يُخْرِجُهُ عَنْكُمْ ؟ فَكَتَبُوا لَهُ إنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْحَادِثَةِ وَقَعَتْ فِي بَنِي إسْرَائِيلَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمْرًا ، فَإِنْ كُنْت نَبِيًّا فَاسْأَلْ اللَّهَ تَعَالَى مِثْلَ ذَلِكَ ، فَكَتَبَ إلَيْهِمْ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَانِي أَنْ أَخْتَارَ مِنْكُمْ خَمْسِينَ رَجُلًا يَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ مَا قَتَلْنَا وَلَا عَلِمْنَا لَهُ قَاتِلًا ثُمَّ تَغْرَمُونَ الدِّيَةَ ، قَالُوا : لَقَدْ قَضَيْت فِينَا بِالنَّامُوسِ : أَيْ بِالْوَحْيِ } كَذَا ذُكِرَ الْحَدِيثُ فِي الْكَافِي وَالْبَدَائِعِ وَغَيْرِهِمَا ،

فَظَهَرَ أَنَّ مَنْشَأَ الْبَحْثِ الْمَزْبُورِ عَدَمُ الْإِحَاطَةِ بِجَوَانِبِ الْمَقَامِ خَبَرًا .
( قَوْلُهُ وَكَذَا الْيَمِينُ تُبَرِّئُ عَمَّا وَجَبَ لَهُ الْقِصَاصُ وَالْقَسَامَةُ مَا شُرِعَتْ لِتَجِبَ الدِّيَةُ إذَا نَكَلُوا بَلْ شُرِعَتْ لِيَظْهَرَ الْقِصَاصُ بِتَحَرُّزِهِمْ عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ فَيُقِرُّوا بِالْقَتْلِ ، فَإِذَا حَلَفُوا حَصَلَتْ الْبَرَاءَةُ عَنْ الْقِصَاصِ ) أَقُولُ : الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْجَوَابِ هُوَ عَنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ ، وَلِأَنَّ الْيَمِينَ عُهِدَ فِي الشَّرْعِ مُبَرِّئًا لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، لَكِنْ يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إنَّمَا يَتِمُّ فِيمَا إذَا ادَّعَى وَلِيُّ الْقَتِيلِ الْقَتْلَ الْعَمْدَ ، فَإِنَّ الْمُوجَبَ حِينَئِذٍ هُوَ الْقِصَاصُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يُقِرُّوا بِذَلِكَ ، فَإِنْ حَلَفُوا حَصَلَتْ الْبَرَاءَةُ عَنْهُ ، وَأَمَّا فِيمَا إذَا ادَّعَى الْقَتْلَ خَطَأً فَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ ، لِأَنَّ الْمُوجَبَ حِينَئِذٍ هُوَ الدِّيَةُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يُقِرُّوا بِهِ ، فَإِذَا حَلَفُوا لَا تَحْصُلُ الْبَرَاءَةُ عَنْهَا بَلْ تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَيْهِمْ أَيْضًا عِنْدَنَا .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : وَلِيُّ الْقَتِيلِ وَإِنْ ادَّعَى الْقَتْلَ الْخَطَأَ يَحْلِفُ أَهْلُ الْمَحَلَّةِ بِأَنَّا مَا قَتَلْنَاهُ وَلَا عَلِمْنَا لَهُ قَاتِلًا بِإِطْلَاقِ الْقَتْلِ عَنْ قَيْدِ الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ فَيَجُوزُ إنْ وَقَعَ الْقَتْلُ مِنْهُمْ عَمْدًا وَلَمْ يَعْلَمْهُ الْوَلِيُّ بَلْ ظَنَّ أَنَّهُمْ قَتَلُوا قَرِيبَهُ خَطَأً .
فَلَوْ أَقَرُّوا فِي مِثْلِ ذَلِكَ بِالْقَتْلِ الْعَمْدِ تَحَرُّزًا عَنْ الْأَيْمَانِ الْكَاذِبَةِ بِنَاءً عَلَى إطْلَاقِ الْقَتْلِ فِي تَحْلِيفِهِمْ لَظَهَرَ الْقِصَاصُ ، فَإِذَا حَلَفُوا حَصَلَتْ الْبَرَاءَةُ عَنْهُ قَطْعًا .
فَإِنْ قُلْت : إذَا كَانَتْ دَعْوَى الْوَلِيِّ مَخْصُوصَةً بِالْقَتْلِ الْخَطَأِ كَيْفَ يَصِحُّ إطْلَاقُ الْقَتْلِ عِنْدَ التَّحْلِيفِ وَهَلْ لَهُ نَظِيرٌ فِي الشَّرْعِ ؟ قُلْت : لَا غَرْوَ فِي ذَلِكَ ، وَلَهُ نَظِيرٌ فِي الشَّرْعِ ، أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى الْوَلِيُّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ بِعَيْنِهِ قَتْلَ قَرِيبِهِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً

اُسْتُحْلِفَ خَمْسُونَ مِنْهُمْ بِاَللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ وَلَا عَلِمْنَا لَهُ قَاتِلًا كَمَا اُسْتُحْلِفَ كَذَلِكَ لَوْ ادَّعَاهُ عَلَى جَمِيعِهِمْ عَلَى مَا سَيَجِيءُ فِي الْكِتَابِ فَتَأَمَّلْ ، فَإِنْ حَلَّ هَذَا الْمَحَلُّ بِهَذَا الْوَجْهِ مِمَّا يُضْطَرُّ إلَيْهِ فِي تَصْحِيحِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هُنَا وَإِنْ كَانَ يَرَى تَعَسُّفًا فِي بَادِئِ الرَّأْيِ .
( قَوْلُهُ ثُمَّ الدِّيَةُ تَجِبُ بِالْقَتْلِ الْمَوْجُودِ مِنْهُمْ ظَاهِرًا لِوُجُودِ الْقَتِيلِ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ لَا بِنُكُولِهِمْ ) أَقُولُ : لَا وَجْهَ لِذِكْرِ قَوْلِهِ لَا بِنُكُولِهِمْ هُنَا ، بَلْ الْحَقُّ أَنْ يَذْكُرَ بَدَلَهُ لَا بِأَيْمَانِهِمْ لِأَنَّا الْآنَ بِصَدَدِ بَيَانِ مُوجَبِ أَيْمَانِهِمْ ، وَأَمَّا مُوجَبُ نُكُولِهِمْ فَإِنَّمَا يَأْتِي بَيَانُهُ مِنْ بَعْدُ بِقَوْلِهِ وَمَنْ أَبَى مِنْهُمْ الْيَمِينَ حُبِسَ حَتَّى يَحْلِفَ فَلَا ارْتِبَاطَ لِقَوْلِهِ لَا بِنُكُولِهِمْ بِمَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ ، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ قَوْلَهُ ثُمَّ الدِّيَةُ تَجِبُ بِالْقَتْلِ الْمَوْجُودِ مِنْهُمْ ظَاهِرًا إلَخْ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ لَا مُلْزِمًا كَمَا فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى : يَعْنِي مَا عُهِدَ الْيَمِينُ فِي الشَّرْعِ مُلْزِمًا كَمَا فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى ، فَالدَّافِعُ لَهُ أَنْ يُقَالَ : الدِّيَةُ إنَّمَا تَجِبُ بِالْقَتْلِ الْمَوْجُودِ مِنْهُمْ ظَاهِرًا لَا بِأَيْمَانِهِمْ ، فَلَمْ يَكُنْ الْيَمِينُ مُلْزِمًا هُنَا كَمَا فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى ، فَقَوْلُهُ لَا بِنُكُولِهِمْ حَشْوٌ مَحْضٌ فِي دَفْعِ ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا اللَّازِمُ أَنْ يُقَالَ بَدَلَهُ لَا بِأَيْمَانِهِمْ كَمَا لَا يَخْفَى .
( قَوْلُهُ وَمَنْ أَبَى مِنْهُمْ الْيَمِينَ حُبِسَ حَتَّى يَحْلِفَ ) قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ : هَذَا إذَا ادَّعَى الْوَلِيُّ الْقَتْلَ عَمْدًا ، أَمَّا إذَا ادَّعَاهُ خَطَأً فَنَكَلَ أَهْلُ الْمَحَلَّةِ فَإِنَّهُ يَقْضِي بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَلَا يُحْبَسُونَ لِيَحْلِفُوا انْتَهَى .
وَأَمَّا سَائِرُ الشُّرَّاحِ فَلَمْ يُقَيِّدْ أَحَدٌ مِنْهُمْ هَاهُنَا مِثْلَ مَا قَيَّدَهُ تَاجُ الشَّرِيعَةِ ، إلَّا أَنَّ صَاحِبَيْ النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ قَالَا فِي صَدْرِ هَذَا

الْبَابِ : حُكْمُ الْقَسَامَةِ الْقَضَاءُ بِوُجُوبِ الدِّيَةِ إنْ حَلَفُوا ، وَالْحَبْسُ حَتَّى يَحْلِفُوا إنْ أَبَوْا لَوْ ادَّعَى الْوَلِيُّ الْعَمْدَ ، وَلَوْ ادَّعَى الْخَطَأَ فَالْقَضَاءُ بِالدِّيَةِ عِنْدَ النُّكُولِ انْتَهَى .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ ظَاهِرَ مَا ذَكَرَاهُ هُنَاكَ يُطَابِقُ مَا ذَكَرَهُ تَاجُ الشَّرِيعَةِ هُنَا .
أَقُولُ : لَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ إطْلَاقِ جَوَابِ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ هُنَا وَمِنْ اقْتِضَاءِ دَلِيلِهَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَمِنْ دَلَالَةِ قَوْلِهِ فِيمَا بَعْدُ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ إذَا ادَّعَى الْوَلِيُّ الْقَتْلَ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ ، وَكَذَا إذَا ادَّعَى عَلَى الْبَعْضِ لَا بِأَعْيَانِهِمْ ، وَالدَّعْوَى فِي الْعَمْدِ أَوْ الْخَطَأِ أَنْ يَكُونَ الْحَبْسُ إلَى أَنْ يَحْلِفَ النَّاكِلُ مُوجَبَ النُّكُولِ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ صُورَتَيْ دَعْوَى الْعَمْدِ وَدَعْوَى الْخَطَإِ ، وَعَنْ هَذَا تَرَى أَصْحَابَ الْمُتُونِ قَاطِبَةً أَطْلَقُوا جَوَابَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، وَكَذَا أَطْلَقَهُ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ فِي فَتَاوَاهُ حَيْثُ قَالَ : وَإِنْ امْتَنَعُوا عَنْ الْيَمِينِ حُبِسُوا حَتَّى يَحْلِفُوا انْتَهَى .
وَكَذَا حَالُ سَائِرِ ثِقَاتِ الْأَئِمَّةِ فِي تَصَانِيفِهِمْ ، وَكَأَنَّ صَاحِبَ الْغَايَةِ تَنَبَّهَ لِهَذَا حَيْثُ قَالَ فِي صَدْرِ هَذَا الْبَابِ : حُكْمُ الْقَسَامَةِ الْقَضَاءُ بِوُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ إذَا حَلَفُوا بَرِئُوا ، وَأَمَّا إذَا أَبَوْا الْقَسَامَةَ فَيُحْبَسُونَ حَتَّى يَحْلِفُوا أَوْ يُقِرُّوا انْتَهَى فَإِنَّهُ جَرَى فِي بَيَانِ حُكْمِهَا أَيْضًا عَلَى الْإِطْلَاقِ كَمَا تَرَى .
ثُمَّ أَقُولُ : التَّحْقِيقُ هَاهُنَا هُوَ أَنَّ فِي جَوَابِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَيْنِ إحْدَاهُمَا أَنَّهُمْ إنْ نَكَلُوا حُبِسُوا حَتَّى يَحْلِفُوا عَلَى الْإِطْلَاقِ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَئِمَّتِنَا الثَّلَاثَةِ ، وَالْأُخْرَى أَنَّهُمْ إنْ نَكَلُوا لَا يُحْبَسُونَ بَلْ يُقْضَى بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِمْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ بِلَا تَقْيِيدٍ بِدَعْوَى الْخَطَإِ ، وَهُوَ رِوَايَةُ

الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ .
وَقَدْ أَفْصَحَ عَنْهُ فِي الْمُحِيطِ الْبُرْهَانِيِّ حَيْثُ قَالَ : ثُمَّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ وَجَبَتْ الْقَسَامَةُ وَحَلَّفَ الْقَاضِي خَمْسِينَ رَجُلًا فَنَكَلُوا عَنْ الْحَلِفِ حُبِسُوا حَتَّى يَحْلِفُوا ، هَكَذَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ .
وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ : لَا يُحْبَسُونَ ، وَلَكِنْ يُقْضَى بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِمْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي مَالِكٍ : هَذَا قَوْلُهُ الْآخَرُ ، وَكَانَ مَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ ، إلَى هُنَا لَفْظُ الْمُحِيطِ .
ثُمَّ أَقُولُ : بَقِيَ هَاهُنَا إشْكَالٌ ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ مَرَّ فِي بَابِ الْيَمِينِ مِنْ كِتَابِ الدَّعْوَى أَنَّ مَنْ ادَّعَى قِصَاصًا عَلَى غَيْرِهِ فَجَحَدَ اُسْتُحْلِفَ بِالْإِجْمَاعِ ، ثُمَّ إنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ ، وَإِنْ نَكَلَ فِي النَّفْسِ حُبِسَ حَتَّى يَحْلِفَ أَوْ يُقِرَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : لَزِمَهُ الْأَرْشُ فِي النَّفْسِ وَفِيمَا دُونَهَا انْتَهَى ، فَمُقْتَضَى إطْلَاقِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مُوجَبُ النُّكُولِ فِي الْقَسَامَةِ أَيْضًا هُوَ الْقَضَاءُ بِالدِّيَةِ دُونَ الْحَبْسِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَإِنْ ادَّعَى وَلِيُّ الْقَتِيلِ الْقِصَاصَ مَعَ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ أَنْ يَكُونَ مُوجَبُ النُّكُولِ فِي الْقَسَامَةِ هُوَ الْحَبْسُ إلَى الْحَلِفِ بِلَا خِلَافٍ فِيهِ مِنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ ، نَعَمْ قَدْ ذُكِرَ أَيْضًا فِي الْمُحِيطِ وَالذَّخِيرَةِ أَنَّهُ رَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَقْضِي بِالدِّيَةِ فِي الْقَسَامَةِ أَيْضًا عِنْدَ النُّكُولِ ، لَكِنْ يَبْقَى إشْكَالُ التَّنَافِي بَيْنَ مَا ذُكِرَ فِي الْمَقَامَيْنِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ مُطْلَقًا فَتَأَمَّلْ فِي الدَّفْعِ .
( قَوْلُهُ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ تَجِبُ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ

لِأَنَّهُ لَا فَصْلَ فِي إطْلَاقِ النُّصُوصِ بَيْنَ دَعْوَى وَدَعْوَى فَنُوجِبُهُ بِالنَّصِّ لَا بِالْقِيَاسِ ) أَقُولُ : فِيهِ بَحْثٌ ، لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِإِطْلَاقِ النُّصُوصِ إطْلَاقَهَا بِحَسَبِ لَفْظِهَا فَهُوَ مُسَلَّمٌ ، لَكِنْ لَا يُجْدِي هُنَا نَفْعًا ، إذْ مِنْ الْقَوَاعِدِ الْمُقَرَّرَةِ عِنْدَهُمْ أَنَّ النَّصَّ الْوَارِدَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ يَخْتَصُّ بِمَوْرِدِهِ ، وَالنُّصُوصُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ وَارِدَةٌ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ مَخْصُوصَةً بِمَوْرِدِهَا ، وَهُوَ مَا إذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي مَكَان يُنْسَبُ إلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ وَالْمُدَّعِي يَدَّعِي الْقَتْلَ عَلَيْهِمْ كَمَا ذُكِرَ فِي وَجْهِ الْقِيَاسِ ، وَإِنْ أَرَادَ بِإِطْلَاقِهَا إطْلَاقَهَا بِحَسَبِ الْمَوْرِدِ أَيْضًا فَهُوَ مَمْنُوعٌ إذْ لَمْ يُسْمَعْ فِي حَقِّ الْقَسَامَةِ نَصٌّ وَرَدَ فِيمَا إذَا ادَّعَى الْوَلِيُّ الْقَتْلَ عَلَى بَعْضٍ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ بِعَيْنِهِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ تَتَبَّعَ النُّصُوصَ الْوَارِدَةَ فِي هَذَا الْبَابِ .
( قَوْلُهُ وَلَا امْرَأَةٍ وَلَا عَبْدٍ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ النُّصْرَةِ وَالْيَمِينُ عَلَى أَهْلِهَا ) أَقُولُ : يُشْكِلُ إطْلَاقُ هَذَا بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ فِي مَسْأَلَةٍ تَجِيءُ فِي آخِرِ هَذَا الْبَابِ ، وَهِيَ أَنَّهُ لَوْ وُجِدَ قَتِيلٌ فِي قَرْيَةٍ لِامْرَأَةٍ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهَا الْقَسَامَةُ يُكَرَّرُ عَلَيْهَا الْأَيْمَانُ وَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهَا .
وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَالْقَسَامَةُ أَيْضًا عَلَى الْعَاقِلَةِ انْتَهَتْ ، وَسَيَجِيءُ فِي كِتَابِ الْمَعَاقِلِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا مِنْ الْجَوَابِ وَمَا فِيهِ مِنْ الْخَلَلِ .

( وَلَوْ وُجِدَ بَدَنُ الْقَتِيلِ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ الْبَدَنِ أَوْ النِّصْفُ وَمَعَهُ الرَّأْسُ فِي مَحَلَّةٍ فَعَلَى أَهْلِهَا الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ ، وَإِنْ وُجِدَ نِصْفُهُ مَشْقُوقًا بِالطُّولِ أَوْ وُجِدَ أَقَلُّ مِنْ النِّصْفِ وَمَعَهُ الرَّأْسُ أَوْ وُجِدَ يَدُهُ أَوْ رِجْلُهُ أَوْ رَأْسُهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ ) لِأَنَّ هَذَا حُكْمٌ عَرَفْنَاهُ بِالنَّصِّ وَقَدْ وَرَدَ بِهِ فِي الْبَدَنِ ، إلَّا أَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ تَعْظِيمًا لِلْآدَمِيِّ ، بِخِلَافِ الْأَقَلِّ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِبَدَنٍ وَلَا مُلْحَقٍ بِهِ فَلَا تَجْرِي فِيهِ الْقَسَامَةُ ، وَلِأَنَّا لَوْ اعْتَبَرْنَاهُ تَتَكَرَّرُ الْقَسَامَتَانِ وَالدِّيَتَانِ بِمُقَابَلَةِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَلَا تَتَوَالَيَانِ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْمَوْجُودَ الْأَوَّلَ إنْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ وُجِدَ الْبَاقِي تَجْرِي فِيهِ الْقَسَامَةُ لَا تَجِبُ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ وُجِدَ الْبَاقِي لَا تَجْرِي فِيهِ الْقَسَامَةُ تَجِبُ ، وَالْمَعْنَى مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ ، وَصَلَاةُ الْجِنَازَةِ فِي هَذَا تَنْسَحِبُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ لِأَنَّهَا لَا تَتَكَرَّرُ .

( قَوْلُهُ لِأَنَّ هَذَا حُكْمٌ عَرَفْنَاهُ بِالنَّصِّ وَقَدْ وَرَدَ بِهِ فِي الْبَدَنِ إلَّا أَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ تَعْظِيمًا لِلْآدَمِيِّ ، بِخِلَافِ الْأَقَلِّ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِبَدَنٍ وَلَا مُلْحَقَ بِهِ فَلَا تَجْرِي فِيهِ الْقَسَامَةُ ) يَعْنِي أَنَّ وُجُوبَ الْقَسَامَةِ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ وَوُجُوبَ الدِّيَةِ عَلَى عَوَاقِلِهِمْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ ، وَالنَّصُّ وَرَدَ فِي كُلِّ الْبَدَنِ وَأَكْثَرُ الْبَدَنِ كُلٌّ حُكْمًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كُلًّا حَقِيقَةً ، فَأُلْحِقَ أَكْثَرُ الْبَدَنِ بِالْبَدَنِ فِي وُجُوبِ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ تَعْظِيمًا لِأَمْرِ الدَّمِ وَمَا سِوَاهُ لَيْسَ بِكُلٍّ أَصْلًا لَا حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ فَلَمْ تَجِبْ فِيهِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ ، كَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ .
أَقُولُ : فِي هَذَا التَّعْلِيلِ شَيْءٌ ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ فِي وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ لَوْ وُجِدَ بَدَنُ الْقَتِيلِ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ الْبَدَنِ أَوْ النِّصْفُ وَمَعَهُ الرَّأْسُ فِي مَحَلَّةٍ فَعَلَى أَهْلِهَا الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ .
وَالتَّعْلِيلُ الْمَذْكُورُ إنَّمَا يُفِيدُ وُجُوبَ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ فِيمَا إذَا وُجِدَ بَدَنُ الْقَتِيلِ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ الْبَدَنِ فِي هَاتِيكَ الْمَحَلَّةِ لَا فِيمَا إذَا وُجِدَ النِّصْفُ وَمَعَهُ الرَّأْسُ فِيهَا ، فَإِنَّ الْمَوْجُودَ فِيهَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَيْسَ كُلُّ الْبَدَنِ وَلَا أَكْثَرُهُ ، فَلَمْ يَكُنْ مَا وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ وَلَا مُلْحَقًا بِهِ فَلَمْ يَتِمَّ التَّقْرِيبُ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ : النِّصْفُ إذَا كَانَ مَعَهُ الرَّأْسُ يَصِيرُ فِي حُكْمِ أَكْثَرِ الْبَدَنِ بِنَاءً عَلَى شَرَفِ الرَّأْسِ وَكَوْنِهِ أَصْلًا كَمَا صَرَّحُوا بِهِ ، فَيَصِيرُ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ : إلَّا أَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ تَعْظِيمًا لِلْآدَمِيِّ شَامِلًا لِمَا هُوَ الْأَكْثَرُ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا فَيَتِمُّ التَّقْرِيبُ بِهَذَا التَّأْوِيلِ .
ثُمَّ بَقِيَ شَيْءٌ آخَرُ ، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ بِخِلَافِ الْأَقَلِّ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِبَدَنٍ

وَلَا مُلْحَقٍ بِهِ فَلَا تَجْرِي فِيهِ الْقَسَامَةُ قَاصِرٌ عَنْ إفَادَةِ تَمَامِ الْمَقْصُودِ ، إذْ قَدْ ذَكَرَ مِنْ قَبْلُ أَنَّهُ إنْ وُجِدَ نِصْفُهُ مَشْقُوقًا بِالطُّولِ أَوْ وُجِدَ أَقَلُّ مِنْ النِّصْفِ وَمَعَهُ الرَّأْسُ أَوْ وُجِدَ يَدُهُ أَوْ رِجْلُهُ أَوْ رَأْسُهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ قَوْلَهُ بِخِلَافِ الْأَقَلِّ إلَخْ لَا يَشْمَلُ مَا وُجِدَ نِصْفُهُ مَشْقُوقًا بِالطُّولِ فَلَا يَحْصُلُ تَمَامُ التَّقْرِيبِ ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ : بِخِلَافِ الْأَقَلِّ وَالنِّصْفِ الَّذِي لَيْسَ مَعَهُ الرَّأْسُ إلَخْ ، وَكَأَنَّ صَاحِبَ الْغَايَةِ ذَاقَ هَذِهِ الْبَشَاعَةَ حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِهِ بَدَلَ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ بِخِلَافِ الْأَقَلِّ إلَخْ وَمَا سِوَاهُ لَيْسَ بِكُلٍّ أَصْلًا لَا حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ فَلَمْ تَجِبْ فِيهِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ ا هـ .
وَأَوْرَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ إلَّا أَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ تَعْظِيمًا لِلْآدَمِيِّ حَيْثُ قَالَ فِيهِ بَحْثٌ ، لِأَنَّ هَذَا قِيَاسٌ انْتَهَى .
أَقُولُ : لَيْسَ ذَاكَ بِوَارِدٍ ، فَإِنَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ لَيْسَ بِقِيَاسٍ بَلْ هُوَ إلْحَاقٌ بِدَلَالَةِ النَّصِّ كَمَا يُرْشِدُ إلَيْهِ قَوْلُهُ وَلَا مُلْحَقٍ بِهِ فِي قَوْلِهِ بِخِلَافِ الْأَقَلِّ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِبَدَنٍ وَلَا مُلْحَقٍ بِهِ ، وَاَلَّذِي لَا يَجُوزُ فِي هَذَا الْبَابِ هُوَ الْقِيَاسُ لَا دَلَالَةُ النَّصِّ كَمَا لَا يَخْفَى .
( قَوْلُهُ وَلِأَنَّا لَوْ اعْتَبَرْنَاهُ تَتَكَرَّرُ الْقَسَامَتَانِ وَالدِّيَتَانِ بِمُقَابَلَةِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَلَا تَتَوَالَيَانِ ) يَعْنِي لَوْ وَجَبَتْ بِالْأَقَلِّ لَوَجَبَتْ بِالْأَكْثَرِ أَيْضًا إذَا وُجِدَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَجَبَتْ بِالنِّصْفِ لَوَجَبَتْ بِالنِّصْفِ الْآخَرِ أَيْضًا إذَا وُجِدَ ، فَيَلْزَمُ أَنْ تَتَكَرَّرَ الْقَسَامَتَانِ وَالدِّيَتَانِ فِي مُقَابَلَةِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إذْ لَمْ تُشْرَعَا مُكَرَّرَتَيْنِ قَطُّ .
قَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ : كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ : يَتَكَرَّرُ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ بِلَفْظِ الْمُفْرَدِ وَلَا

يَذْكُرُهُمَا بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ الْقَسَامَتَيْنِ وَالدِّيَتَيْنِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، وَقَصَدَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ تَوْجِيهَ عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ نَقْلِ مَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ : وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ الْقَسَامَتَانِ وَالدِّيَتَانِ عَلَى الْقِطْعَتَيْنِ يَتَكَرَّرَانِ فِي خَمْسِينَ نَفْسًا انْتَهَى .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْقَسَامَةَ فِي الشَّرْعِ اسْمٌ لِمَجْمُوعِ أَيْمَانٍ يَقْسِمُ بِهَا خَمْسُونَ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ وَكَذَا الدِّيَةُ اسْمٌ لِمَجْمُوعِ مَا وَجَبَ مِنْ الْمَالِ بِمُقَابَلَةِ دَمِ إنْسَانٍ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَتَحَقَّقَا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ خَمْسِينَ نَفْسًا حَتَّى يَصِحَّ تَوْجِيهُ تَكَرُّرِ الْقَسَامَتَيْنِ وَالدِّيَتَيْنِ عَلَى الْقِطْعَتَيْنِ بِتَكَرُّرِهِمَا فِي خَمْسِينَ نَفْسًا ، وَإِنَّمَا الْمَوْجُودُ فِي آحَادِ خَمْسِينَ نَفْسًا بَعْضُ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ لِأَنْفُسِهِمَا ، وَالْكَلَامُ فِي إسْنَادِ التَّكَرُّرِ إلَى نَفْسِ الْقَسَامَتَيْنِ وَالدِّيَتَيْنِ فَلَا مَسَاغَ لِذَلِكَ التَّوْجِيهِ .
( قَوْلُهُ وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْمَوْجُودَ الْأَوَّلَ إنْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ وُجِدَ الْبَاقِي تَجْرِي فِيهِ الْقَسَامَةُ لَا تَجِبُ إلَخْ ) أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْبَاقِي نِصْفَ الْقَتِيلِ مَشْقُوقًا بِالطُّولِ مَثَلًا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ بِحَالٍ لَوْ وُجِدَ لَا تَجْرِي فِيهِ الْقَسَامَةُ ، إذْ قَدْ صَرَّحَ فِيمَا قَبْلُ بِأَنَّهُ إنْ وَجَدَ نِصْفَهُ مَشْقُوقًا بِالطُّولِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ مَعَ أَنَّهُ لَا تَجِبُ الْقَسَامَةُ حِينَئِذٍ فِي الْمَوْجُودِ الْأَوَّلِ أَيْضًا بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ الْمُصَرَّحِ بِهِ فِيمَا قَبْلُ فَانْتَقَضَ بِمِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ قَوْلُهُ : وَإِنْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ وَجَدَ الْبَاقِي لَا تَجْرِي فِيهِ الْقَسَامَةُ تَجِبُ كَمَا لَا يَخْفَى

( وَلَوْ وُجِدَ فِيهِمْ جَنِينٌ أَوْ سِقْطٌ لَيْسَ بِهِ أَثَرُ الضَّرْبِ فَلَا شَيْءَ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ ) لِأَنَّهُ لَا يَفُوقُ الْكَبِيرُ حَالًّا ( وَإِنْ كَانَ بِهِ أَثَرُ الضَّرْبِ وَهُوَ تَامُّ الْخَلْقِ وَجَبَتْ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَيْهِمْ ) لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ تَامَّ الْخَلْقِ يَنْفَصِلُ حَيًّا ( وَإِنْ كَانَ نَاقِصَ الْخَلْقِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ ) لِأَنَّهُ يَنْفَصِلُ مَيِّتًا لَا حَيًّا .

( قَوْلُهُ وَلَوْ وُجِدَ فِيهِمْ جَنِينٌ أَوْ سَقْطٌ لَيْسَ بِهِ أَثَرُ الضَّرْبِ فَلَا شَيْءَ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ ) أَقُولُ : فِي تَحْرِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِهَذَا الْأَدَاءِ فُتُورٌ مِنْ وُجُوهٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ الْجَنِينَ عَلَى مَا صُرِّحَ بِهِ فِي عَامَّةِ كُتُبِ اللُّغَةِ الْوَلَدُ مَا دَامَ فِي الْبَطْنِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يُوجَدَ فِيهِمْ جَنِينٌ وَحْدَهُ وَهُوَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ ؟ أَمَّا وُجُودُهُ مَعَ أُمِّهِ فَهُوَ بِمَعْزِلٍ عَمَّا نَحْنُ فِيهِ لِكَوْنِ الْحُكْمِ هُنَاكَ لِلْأُمِّ دُونَ الْجَنِينِ .
وَالثَّانِي أَنَّ ذِكْرَ الْجَنِينِ يُغْنِي عَنْ ذِكْرِ السِّقْطِ ، لِأَنَّ السِّقْطَ عَلَى مَا صُرِّحَ بِهِ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ الْوَلَدُ الَّذِي سَقَطَ قَبْلَ تَمَامِهِ ، وَالْجَنِينُ يَعُمُّ تَامَّ الْخَلْقِ وَغَيْرَ تَامِّهِ .
وَالثَّالِثُ أَنَّ قَوْلَهُ لَيْسَ بِهِ أَثَرُ الضَّرْبِ غَيْرُ كَافٍ فِي جَوَابِ الْمَسْأَلَةِ ، إذْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ أَثَرُ الْجِرَاحَةِ وَالْخَنْقِ أَيْضًا كَمَا تَقَرَّرَ فِيمَا سَبَقَ .
فَالِاقْتِصَارُ هُنَا عَلَى نَفْيِ أَثَرِ الضَّرْبِ تَقْصِيرٌ ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ : وَلَوْ وُجِدَ فِيهِمْ وَلَدٌ صَغِيرٌ سَاقِطٌ لَيْسَ بِهِ أَثَرُ الْقَتْلِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ تَدَبَّرْ .
( قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ بِهِ أَثَرُ الضَّرْبِ وَهُوَ تَامُّ الْخَلْقِ وَجَبَتْ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَيْهِمْ ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ تَامَّ الْخَلْقِ يَنْفَصِلُ حَيًّا ) فَإِنْ قِيلَ : الظَّاهِرُ يَصْلُحُ لِلدَّفْعِ دُونَ الِاسْتِحْقَاقِ وَلِهَذَا قُلْنَا فِي عَيْنِ الصَّبِيِّ وَلِسَانِهِ وَذَكَرِهِ إذَا لَمْ تُعْلَمْ صِحَّتُهُ حُكُومَةٌ عَدْلٌ عِنْدَنَا وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ سَلَامَتُهَا .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يَجِبْ فِي الْأَطْرَافِ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ صِحَّتَهَا مَا يَجِبُ فِي السَّلِيمِ لِأَنَّ الْأَطْرَافَ يُسْلَكُ بِهَا مَسْلَكُ الْأَمْوَالِ وَلَيْسَ لَهَا تَعْظِيمٌ كَتَعْظِيمِ النُّفُوسِ فَلَمْ يَجِبْ فِيهَا قَبْلَ الْعِلْمِ بِالصِّحَّةِ قِصَاصٌ أَوْ دِيَةٌ ، بِخِلَافِ الْجَنِينِ فَإِنَّهُ نَفْسٌ مِنْ وَجْهٍ عُضْوٌ مِنْ وَجْهٍ ، فَإِذَا انْفَصَلَ تَامَّ الْخَلْقِ

وَبِهِ أَثَرُ الضَّرْبِ وَجَبَ فِيهِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ تَعْظِيمًا لِلنُّفُوسِ ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ قَتِيلٌ لِوُجُودِ دَلَالَةِ الْقَتِيلِ وَهُوَ الْأَثَرُ ، إذْ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِ تَامِّ الْخَلْقِ أَنْ يَنْفَصِلَ حَيًّا ، وَأَمَّا إذَا وُجِدَ مَيِّتًا وَلَا أَثَرَ بِهِ فَلَا يَجِبُ فِيهِ شَيْءٌ لِأَنَّ لَا تَفُوقُ حَالَ الْكَبِيرِ ، وَإِذَا وُجِدَ الْكَبِيرُ مَيِّتًا وَلَا أَثَرَ بِهِ لَا يَجِبُ فِيهِ شَيْءٌ فَكَذَا هَذَا ، كَذَا قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ .
وَرَدَّ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ جَوَابَهُمْ الْمَزْبُورَ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابُ : وَهَذَا كَمَا تَرَى مَعَ تَطْوِيلِهِ لَمْ يَرُدَّ السُّؤَالَ وَرُبَّمَا قَوَّاهُ ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ إذَا لَمْ يَكُنْ حُجَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ فِي الْأَمْوَالِ وَمَا يُسْلَكُ بِهَا مَسْلَكُهَا فَلَأَنْ لَا يَكُونَ فِيمَا هُوَ أَعْظَمُ خَطَرًا أَوْلَى انْتَهَى .
أَقُولُ : لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمَهُ ، فَإِنَّ حَاصِلَ جَوَابِهِمْ مَنْعُ عَدَمِ كَوْنِ الظَّاهِرِ حُجَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ فِي بَابِ الْقَسَامَةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ حُجَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ فِيهِ تَعْظِيمًا لِأَمْرِ النُّفُوسِ وَصِيَانَةً لَهَا عَنْ الْإِهْدَارِ .
وَعَنْ هَذَا قَالُوا : يَجِبُ الدِّيَةُ بِالْقَتْلِ الْمَوْجُودِ مِنْهُمْ ظَاهِرًا لِوُجُودِ الْقَتِيلِ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ ، فَقَوْلُهُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ إذَا لَمْ يَكُنْ حُجَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ فِي الْأَمْوَالِ وَمَا يُسْلَكُ بِهَا مَسْلَكُهَا فَلَأَنْ لَا يَكُونَ فِيمَا هُوَ أَعْظَمُ خَطَرًا أَوْلَى مَمْنُوعٌ ، فَإِنَّ مَا لَزِمَ مِنْ عَدَمِ كَوْنِ الظَّاهِرِ حُجَّةً فِي الْأَمْوَالِ وَمَا يُسْلَكُ بِهِ مَسْلَكُهَا إهْدَارُ أَمْرٍ حَقِيرٍ ، وَمَا لَزِمَ مِنْ عَدَمِ كَوْنِهِ حُجَّةً فِي النُّفُوسِ إهْدَارُ أَمْرٍ خَطِيرٍ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ إهْدَارَ الْحَقِيرِ أَهْوَنُ وَأَوْلَى مِنْ إهْدَارِ الْخَطِيرِ .
ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ : الظَّاهِرُ هُنَا اُعْتُبِرَ دَافِعًا لِمَا عَسَى يَدَّعِي الْقَاتِلُ عَدَمَ حَيَاتِهِ .
وَأَمَّا دَلِيلُ الِاسْتِحْقَاقِ فَهُوَ حَدِيثُ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ { أَسَجْعٌ كَسَجْعِ الْكُهَّانِ ، قُومُوا فَدُوهُ } انْتَهَى .
أَقُولُ يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ حَدِيثَ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ وَرَدَ فِي جَنِينٍ انْفَصَلَ مَيِّتًا ، وَمُوجَبُهُ الْغُرَّةُ وَهِيَ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ ، وَإِنَّمَا سَمَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِيَةً حَيْثُ قَالَ فَدُوهُ لِكَوْنِهَا بَدَلَ النَّفْسِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي بَابِ الْجَنِينِ ، وَالْكَلَامُ هُنَا فِي جَنِينٍ انْفَصَلَ حَيًّا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ تَامَّ الْخَلْقِ يَنْفَصِلُ حَيًّا وَالْمُوجَبُ فِيهِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ كَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ ، فَأَيْنَ هَذَا مِنْ ذَلِكَ .
وَقَدْ كَانَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ ذَكَرَ حَدِيثَ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ فِي بَابِ الْجَنِينِ عَلَى التَّفْصِيلِ حَيْثُ قَالَ : وَهَذَا الْحَدِيثُ حَدِيثُ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمِيمِ الْمَفْتُوحَتَيْنِ ، قَالَ { كُنْت بَيْنَ جَارِيَتَيْنِ لِي فَضَرَبَتْ إحْدَاهُمَا بَطْنَ صَاحِبَتِهَا بِعَمُودِ فُسْطَاطٍ أَوْ بِمِسْطَحِ خَيْمَةٍ فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا فَاخْتَصَمَ أَوْلِيَاؤُهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَوْلِيَاءِ الضَّارِبَةِ : دُوهُ ، فَقَالَ أَخُوهَا : أَنَدِي مَنْ لَا صَاحَ وَلَا اسْتَهَلَّ وَلَا شَرِبَ وَلَا أَكَلَ وَمِثْلُ دَمِهِ يَطِلْ ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : أَسَجْعٌ كَسَجْعِ الْكُهَّانِ } وَفِي رِوَايَةٍ { دَعْنِي وَأَرَاجِيزِ الْعَرَبِ ، قُومُوا فَدُوهُ } الْحَدِيثُ انْتَهَى فَكَأَنَّهُ نَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ

قَالَ ( وَإِذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ عَلَى دَابَّةٍ يَسُوقُهَا رَجُلٌ فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ دُونَ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ ) لِأَنَّهُ فِي يَدِهِ فَصَارَ كَمَا إذَا كَانَ فِي دَارِهِ ، وَكَذَا إذَا كَانَ قَائِدَهَا أَوْ رَاكِبَهَا ( فَإِنْ اجْتَمَعُوا فَعَلَيْهِمْ ) لِأَنَّ الْقَتِيلَ فِي أَيْدِيهِمْ فَصَارَ كَمَا إذَا وُجِدَ فِي دَارِهِمْ .

قَالَ ( وَإِنْ مَرَّتْ دَابَّةٌ بَيْنَ الْقَرْيَتَيْنِ وَعَلَيْهَا قَتِيلٌ فَهُوَ عَلَى أَقْرَبِهِمَا ) لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أُتِيَ بِقَتِيلٍ وُجِدَ بَيْنَ قَرْيَتَيْنِ فَأَمَرَ أَنْ يُذْرَعَ } .
وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا كُتِبَ إلَيْهِ فِي الْقَتِيلِ الَّذِي وُجِدَ بَيْنَ وَدَاعَةَ وَأَرْحَبَ كَتَبَ بِأَنْ يَقِيسَ بَيْنَ قَرْيَتَيْنِ ، فَوُجِدَ الْقَتِيلُ إلَى وَادِعَةَ أَقْرَبَ فَقَضَى عَلَيْهِمْ بِالْقَسَامَةِ .
قِيلَ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا كَانَ بِحَيْثُ يَبْلُغُ أَهْلَهُ الصَّوْتُ ، لِأَنَّهُ إذَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يَلْحَقُهُ الْغَوْثُ فَتُمْكِنُهُمْ النُّصْرَةُ وَقَدْ قَصَّرُوا .

قَالَ ( وَإِذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي دَارِ إنْسَانٍ فَالْقَسَامَةُ عَلَيْهِ ) لِأَنَّ الدَّارَ فِي يَدِهِ ( وَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ ) لِأَنَّ نُصْرَتَهُ مِنْهُمْ وَقُوَّتَهُ بِهِمْ .

قَالَ ( وَلَا تَدْخُلُ السُّكَّانُ فِي الْقَسَامَةِ مَعَ الْمُلَّاكِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ ( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ هُوَ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا ) لِأَنَّ وِلَايَةَ التَّدْبِيرِ كَمَا تَكُونُ بِالْمِلْكِ تَكُونُ بِالسُّكْنَى أَلَا تَرَى { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَعَلَ الْقَسَامَةَ وَالدِّيَةَ عَلَى الْيَهُودِ وَإِنْ كَانُوا سُكَّانًا بِخَيْبَرَ } .
وَلَهُمَا أَنَّ الْمَالِكَ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِنُصْرَةِ الْبُقْعَةِ دُونَ السُّكَّانِ لِأَنَّ سُكْنَى الْمُلَّاكِ أَلْزَمُ وَقَرَارَهُمْ أَدْوَمُ فَكَانَتْ وِلَايَةُ التَّدْبِيرِ إلَيْهِمْ فَيَتَحَقَّقُ التَّقْصِيرُ مِنْهُمْ .
وَأَمَّا أَهْلُ خَيْبَرَ فَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَقَرَّهُمْ عَلَى أَمْلَاكِهِمْ فَكَانَ يَأْخُذُ مِنْهُمْ عَلَى وَجْهِ الْخَرَاجِ .
قَالَ ( وَهِيَ عَلَى أَهْلِ الْخُطَّةِ دُونَ الْمُشْتَرِينَ ) وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : الْكُلُّ مُشْتَرِكُونَ لِأَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا يَجِبُ بِتَرْكِ الْحِفْظِ مِمَّنْ لَهُ وِلَايَةُ الْحِفْظِ وَبِهَذَا الطَّرِيقِ يُجْعَلُ جَانِبًا مُقَصِّرًا ، وَالْوِلَايَةُ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ وَقَدْ اسْتَوَوْا فِيهِ .
وَلَهُمَا أَنَّ صَاحِبَ الْخُطَّةِ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِنُصْرَةِ الْبُقْعَةِ هُوَ الْمُتَعَارَفُ ، وَلِأَنَّهُ أَصِيلٌ وَالْمُشْتَرِي دَخِيلٌ وَوِلَايَةُ التَّدْبِيرِ إلَى الْأَصِيلِ ، وَقِيلَ : أَبُو حَنِيفَةَ بَنَى ذَلِكَ عَلَى مَا شَاهَدَ بِالْكُوفَةِ .
قَالَ ( وَإِنْ بَقِيَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَكَذَلِكَ ) يَعْنِي مِنْ أَهْلِ الْخُطَّةِ لِمَا بَيَّنَّا ( وَإِنْ لَمْ يَبْقَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِأَنْ بَاعُوا كُلُّهُمْ فَهُوَ عَلَى الْمُشْتَرِينَ ) لِأَنَّ الْوِلَايَةَ انْتَقَلَتْ إلَيْهِمْ أَوْ خَلَصَتْ لَهُمْ لِزَوَالِ مَنْ يَتَقَدَّمُهُمْ أَوْ يُزَاحِمُهُمْ .

( وَإِذَا وُجِدَ قَتِيلٌ فِي دَارِ فَالْقَسَامَةُ عَلَى رَبِّ الدَّارِ وَعَلَى قَوْمِهِ وَتَدْخُلُ الْعَاقِلَةُ فِي الْقَسَامَةِ إنْ كَانُوا حُضُورًا ، وَإِنْ كَانُوا غُيَّبًا فَالْقَسَامَةُ عَلَى رَبِّ الدَّارِ يُكَرِّرُ عَلَيْهِ الْأَيْمَانَ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا قَسَامَةَ عَلَى الْعَاقِلَةِ ؛ لِأَنَّ رَبَّ الدَّارِ أَخَصُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ فَلَا يُشَارِكُهُ غَيْرُهُ فِيهَا كَأَهْلِ الْمَحَلَّةِ لَا يُشَارِكُهُمْ فِيهَا عَوَاقِلُهُمْ .
وَلَهُمَا أَنَّ الْحُضُورَ لَزِمَتْهُمْ نُصْرَةُ الْبُقْعَةِ كَمَا تَلْزَمُ صَاحِبَ الدَّارِ فَيُشَارِكُونَهُ فِي الْقَسَامَةِ .

( قَوْلُهُ وَإِذَا وُجِدَ قَتِيلٌ فِي دَارٍ فَالْقَسَامَةُ عَلَى رَبِّ الدَّارِ وَعَلَى قَوْمِهِ وَتَدْخُلُ الْعَاقِلَةُ فِي الْقَسَامَةِ إذَا كَانُوا حُضُورًا ، وَإِنْ كَانُوا غُيَّبًا فَالْقَسَامَةُ عَلَى رَبِّ الدَّارِ يُكَرَّرُ عَلَيْهِ الْأَيْمَانُ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ : يَعْنِي إذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي دَارٍ فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ صَاحِبِهَا بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ .
وَفِي الْقَسَامَةِ رِوَايَتَانِ : فَفِي إحْدَاهُمَا تَجِبُ عَلَى صَاحِبِ الدَّارِ وَفِي الْأُخْرَى عَلَى عَاقِلَتِهِ ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا يُرَى مِنْ التَّدَافُعِ بَيْنَ قَوْلِهِ قَبْلَ هَذَا وَإِنْ وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي دَارِ إنْسَانٍ فَالْقَسَامَةُ عَلَيْهِ ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ هُنَا فَالْقَسَامَةُ عَلَى رَبِّ الدَّارِ وَعَلَى قَوْمِهِ يُحْمَلُ ذَاكَ عَلَى رِوَايَةٍ وَهَذَا عَلَى أُخْرَى انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ بَحْثٌ ؛ أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ فِيمَا قَبْلُ وَإِنْ وُجِدَ الْقَتْلُ فِي دَارِ إنْسَانٍ فَالْقَسَامَةُ عَلَيْهِ وَإِنْ جَازَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرَهُمَا صَاحِبُ الْعِنَايَةِ إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ هَاهُنَا فَالْقَسَامَةُ عَلَى رَبِّ الدَّارِ وَعَلَى قَوْمِهِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْأُخْرَى مِنْهُمَا ، فَإِنَّ الْقَسَامَةَ فِيهَا عَلَى عَاقِلَةِ صَاحِبِ الدَّارِ لَا عَلَى صَاحِبِ الدَّارِ وَعَلَى عَاقِلَتِهِ جَمِيعًا ، وَفِيمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هَاهُنَا عَلَى رَبِّ الدَّارِ وَعَلَى قَوْمِهِ جَمِيعًا فَتَغَايَرَا .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ فَتَدْخُلُ الْعَاقِلَةُ فِي الْقَسَامَةِ إنْ كَانُوا حُضُورًا ، وَإِنْ كَانُوا غُيَّبًا فَالْقَسَامَةُ عَلَى رَبِّ الدَّارِ يُكَرَّرُ عَلَيْهِ الْأَيْمَانُ صَرِيحٌ فِي التَّوْفِيقِ بَيْنَ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا هُنَا وَبَيْنَ الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ فِيمَا قَبْلُ ، حَيْثُ كَانَ وُجُوبُ الْقَسَامَةِ عَلَى رَبِّ الدَّارِ وَعَلَى قَوْمِهِ فِيمَا إذَا كَانَ قَوْمُهُ حُضُورًا وَوُجُوبُهَا عَلَى رَبِّ الدَّارِ وَحْدِهِ فِيمَا إذَا كَانُوا غُيَّبًا ، وَالْمَصِيرُ إلَى الْحَمْلِ عَلَى

الرِّوَايَتَيْنِ إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا لَا يُمْكِنُ التَّوْفِيقُ ، وَهُوَ خِلَافُ مَدْلُولِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ صَرَاحَةً فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ شَرْحًا لِمُرَادِهِ

قَالَ ( وَإِنْ وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي دَارٍ مُشْتَرَكَةٍ نِصْفُهَا لِرَجُلٍ وَعُشْرُهَا لِرَجُلٍ وَلِآخَرَ مَا بَقِيَ فَهُوَ عَلَى رُءُوسِ الرِّجَالِ ) لِأَنَّ صَاحِبَ الْقَلِيلِ يُزَاحِمُ صَاحِبَ الْكَثِيرِ فِي التَّدْبِيرِ فَكَانُوا سَوَاءً فِي الْحِفْظِ وَالتَّقْصِيرِ فَيَكُونُ عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ بِمَنْزِلَةِ الشُّفْعَةِ .

قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى دَارًا وَلَمْ يَقْبِضْهَا حَتَّى وُجِدَ فِيهَا قَتِيلٌ فَهُوَ عَلَى عَاقِلَةِ الْبَائِعِ وَإِنْ كَانَ فِي الْبَيْعِ خِيَارٌ لِأَحَدِهِمَا فَهُوَ عَلَى عَاقِلَةِ الَّذِي فِي يَدِهِ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا : إنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ خِيَارٌ فَهُوَ عَلَى عَاقِلَةِ الْمُشْتَرِي وَإِنْ كَانَ فِيهِ خِيَارٌ فَهُوَ عَلَى عَاقِلَةِ الَّذِي تَصِيرُ لَهُ ، لِأَنَّهُ إنَّمَا أَنْزَلَ قَاتِلًا بِاعْتِبَارِ التَّقْصِيرِ فِي الْحِفْظِ وَلَا يَجِبُ إلَّا عَلَى مَنْ لَهُ وِلَايَةُ الْحِفْظِ ، وَالْوِلَايَةُ تُسْتَفَادُ بِالْمِلْكِ وَلِهَذَا كَانَتْ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ صَاحِبِ الدَّارِ دُونَ الْمُودِعِ ، وَالْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي قَبْلَ الْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ الْبَاتِّ ، وَفِي الْمَشْرُوطِ فِيهِ الْخِيَارُ يُعْتَبَرُ قَرَارُ الْمِلْكِ كَمَا فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ .
وَلَهُ أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْحِفْظِ بِالْيَدِ لَا بِالْمِلْكِ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ يَقْتَدِرُ عَلَى الْحِفْظِ بِالْيَدِ دُونَ الْمِلْكِ وَلَا يَقْتَدِرُ بِالْمِلْكِ دُونَ الْيَدِ ، وَفِي الْبَاتِّ الْيَدُ لِلْبَائِعِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَكَذَا فِيمَا فِيهِ الْخِيَارُ لِأَحَدِهِمَا قَبْلَ الْقَبْضِ ؛ لِأَنَّهُ دُونَ الْبَاتِّ ، وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي وَالْخِيَارُ لَهُ فَهُوَ أَخَصُّ النَّاسِ بِهِ تَصَرُّفًا ، وَلَوْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَهُوَ فِي يَدِهِ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ كَالْمَغْصُوبِ فَتُعْتَبَرُ يَدُهُ إذْ بِهَا يَقْدِرُ عَلَى الْحِفْظِ .

( قَوْلُهُ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَنْزَلَ قَاتِلًا بِاعْتِبَارِ التَّقْصِيرِ فِي الْحِفْظِ ، وَلَا يَجِبُ إلَّا عَلَى مَنْ لَهُ وِلَايَةُ الْحِفْظِ وَالْوِلَايَةُ تُسْتَفَادُ بِالْمِلْكِ ) أَقُولُ : هَذَا التَّعْلِيلُ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ مُشْكِلٌ ، لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ وَالْوِلَايَةُ تُسْتَفَادُ بِالْمِلْكِ الْحَصْرَ بِمَعْنَى أَنَّ الْوِلَايَةَ تُسْتَفَادُ بِالْمِلْكِ لَا بِغَيْرِهِ ، وَيُنْتَقَضُ ذَلِكَ بِمَا مَرَّ مِنْ أَنَّ السُّكَّانَ يَدْخُلُونَ فِي الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ مَعَ الْمُلَّاكِ عِنْدَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ وِلَايَةَ التَّدْبِيرِ كَمَا تَكُونُ بِالْمِلْكِ تَكُونُ بِالسُّكْنَى ، وَإِنْ لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ مَعْنَى الْحَصْرِ لَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ فِي إثْبَاتِ مُدَّعَاهُمَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَمَا لَا يَخْفَى .
( قَوْلُهُ وَلَهُ أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْحِفْظِ بِالْيَدِ دُونَ الْمِلْكِ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ يَقْتَدِرُ عَلَى الْحِفْظِ بِالْيَدِ دُونَ الْمِلْكِ وَلَا يَقْتَدِرُ بِالْمِلْكِ دُونَ الْيَدِ ) أَقُولُ : هَذَا التَّنْوِيرُ غَيْرُ وَاضِحٍ ، لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِالْيَدِ الْيَدَ مُطْلَقًا : أَيْ سَوَاءٌ كَانَتْ يَدَ أَصَالَةٍ أَوْ يَدَ نِيَابَةٍ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ، إذْ لَا يَجِبُ شَيْءٌ مِنْ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ عَلَى الْمُودِعِ وَنَحْوِهِ بِالِاتِّفَاقِ لِكَوْنِ يَدِهِ يَدَ نِيَابَةٍ لَا يَدَ أَصَالَةٍ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ قَاطِبَةً ، فَلَوْ أَمْكَنَ الِاقْتِدَارُ عَلَى الْحِفْظِ بِيَدِ النِّيَابَةِ أَيْضًا لَمَا صَحَّ ذَلِكَ ، وَإِنْ أَرَادَ بِهَا يَدَ الْأَصَالَةِ فَقَطْ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ فَالْخَصْمُ وَهُوَ صَاحِبَاهُ لَا يُسَلِّمُ أَنَّهُ يَقْتَدِرُ عَلَى الْحِفْظِ بِيَدِ الْأَصَالَةِ فَقَطْ بِدُونِ الْمِلْكِ ، وَلَا أَنَّهُ لَا يَقْتَدِرُ عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ بِدُونِ تِلْكَ الْيَدِ ، بَلْ يَقُولُ : وِلَايَةُ الْحِفْظِ إنَّمَا تُسْتَفَادُ بِالْمِلْكِ دُونَ الْيَدِ كَمَا فِي مَسْأَلَتِنَا الْمُتَنَازَعِ فِيهَا .
وَبِالْجُمْلَةِ مَا ذُكِرَ فِي هَذَا التَّنْوِيرِ لَيْسَ بِأَجْلَى مِنْ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ

قَالَ ( وَمَنْ كَانَ فِي يَدِهِ دَارٌ فَوُجِدَ فِيهَا قَتِيلٌ لَمْ تَعْقِلْهُ الْعَاقِلَةُ حَتَّى تَشْهَدَ الشُّهُودُ أَنَّهَا لِلَّذِي فِي يَدِهِ ) لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْمِلْكِ لِصَاحِبِ الْيَدِ حَتَّى تَعْقِلَ الْعَوَاقِلُ عَنْهُ ، وَالْيَدُ وَإِنْ كَانَتْ دَلِيلًا عَلَى الْمِلْكِ لَكِنَّهَا مُحْتَمِلَةٌ فَلَا تَكْفِي لِإِيجَابِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ كَمَا لَا تَكْفِي لِاسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ بِهِ فِي الدَّارِ الْمَشْفُوعَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ .

( قَوْلُهُ وَمَنْ كَانَ فِي يَدِهِ دَارٌ فَوُجِدَ فِيهَا قَتِيلٌ لَمْ تَعْقِلْهُ الْعَاقِلَةُ حَتَّى يَشْهَدَ الشُّهُودُ أَنَّهَا لِلَّذِي فِي يَدِهِ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَلَا يَخْتَلِجَنَّ فِي وَهْمِك صُورَةٌ تُنَاقِضُ فِي عَدَمِ الِاكْتِفَاءِ بِالْيَدِ مَعَ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِلْيَدِ ، لِأَنَّ الْيَدَ الْمُعْتَبَرَةَ عِنْدَهُ وَهِيَ الَّتِي تَكُونُ بِالْأَصَالَةِ وَالْعَاقِلَةُ تُنْكِرُ ذَلِكَ انْتَهَى .
أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : هَبْ أَنَّ الْيَدَ الْمُعْتَبَرَةَ عِنْدَهُ هِيَ الَّتِي تَكُونُ بِالْأَصَالَةِ لَكِنْ كَيْفَ يَتِمُّ عَلَى أَصْلِهِ التَّعْلِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْمِلْكِ لِصَاحِبِ الْيَدِ حَتَّى تَعْقِلَ الْعَوَاقِلُ عَنْهُ ، وَهَلَّا يُنَاقِضُ هَذَا مَا مَرَّ مِنْ أَنَّ الِاعْتِبَارَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِلْيَدِ دُونَ الْمِلْكِ كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ آنِفًا ، فَإِنَّ الْمِلْكَ هُنَاكَ لِلْمُشْتَرِي مَعَ أَنَّ الدِّيَةَ عِنْدَهُ لِعَاقِلَةِ الْبَائِعِ لِكَوْنِهِ صَاحِبَ الْيَدِ قَبْلَ الْقَبْضِ كَمَا مَرَّ تَفْصِيلُهُ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ هُنَا : وَلَا يَلْزَمُ أَبَا حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَعْتَبِرُ الْيَدَ فِي اسْتِحْقَاقِ الدِّيَةِ حَتَّى قَالَ فِي الدَّارِ الْمَبِيعَةِ فِي يَدِ الْبَائِعِ يُوجَدُ فِيهَا قَتِيلٌ أَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ عَلَى عَاقِلَةِ الْبَائِعِ لِأَنَّهُ يَعْتَبِرُ يَدَ الْمِلْكِ لَا مُجَرَّدَ الْيَدِ فَلَمْ يَثْبُتْ هُنَا يَدُ الْمِلْكِ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ انْتَهَى .
وَذَكَرَ فِي مِعْرَاجِ الدَّارِيَةِ مَا يُوَافِقُهُ حَيْثُ قَالَ : وَفِي جَامِعِ الْكَرَابِيسِيِّ اعْتَبَرَ أَبُو حَنِيفَةَ يَدَ الْمِلْكِ لَا مُجَرَّدَ الْيَدِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، وَهُنَا لَا يَثْبُتُ ذَلِكَ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ فَلَا يَرِدُ نَقْضًا عَلَيْهِ انْتَهَى .
أَقُولُ : هَذَا التَّوْجِيهُ مُشْكِلٌ ، لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ كَانَ لِلْمُشْتَرِي لَا مَحَالَةَ ، وَعَنْ هَذَا نَشَأَ النِّزَاعُ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ ، إذْ لَوْ كَانَ الْمِلْكُ

أَيْضًا لِلْبَائِعِ لَمَا صَارَ مَحَلَّ الْخِلَافِ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ ، فَإِذَا كَانَ الْمِلْكُ هُنَاكَ لِلْمُشْتَرِي فَكَيْفَ يَتَحَقَّقُ لِلْبَائِعِ إذْ ذَاكَ يَدُ الْمِلْكِ ، إذْ ثُبُوتُ يَدِ الْمِلْكِ لَهُ يَقْتَضِي ثُبُوتَ نَفْسِ الْمِلْكِ أَيْضًا فَيَلْزَمُ أَنْ يَجْتَمِعَ عَلَى الدَّارِ الْمَبِيعَةِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ مِلْكَانِ وَهُمَا مِلْكُ الْبَائِعِ وَمِلْكُ الْمُشْتَرِي وَهُوَ مُحَالٌ ، وَإِنْ أُرِيدَ بِيَدِ الْمِلْكِ غَيْرُ مَعْنَاهُ الظَّاهِرِ : أَيْ الْيَدِ الَّتِي كَانَ لِصَاحِبِهَا مِلْكٌ فِي الْأَصْلِ ، وَإِنْ زَالَ ذَلِكَ الْمِلْكُ فِي الْحَالِ بِالْبَيْعِ فَمَا مَعْنَى اعْتِبَارِ مِثْلِ ذَلِكَ الْأَمْرِ الزَّائِلِ فِي تَرَتُّبِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ ، وَهَلْ يَلِيقُ أَنْ يَعُدَّ ذَلِكَ أَصْلًا لِإِمَامِنَا الْأَعْظَمِ فَعَلَيْك بِالتَّأَمُّلِ الصَّادِقِ

قَالَ ( وَإِنْ وُجِدَ قَتِيلٌ فِي سَفِينَةٍ فَالْقَسَامَةُ عَلَى مَنْ فِيهَا مِنْ الرُّكَّابِ وَالْمَلَّاحِينَ ) لِأَنَّهَا فِي أَيْدِيهِمْ وَاللَّفْظُ يَشْمَلُ أَرْبَابَهَا حَتَّى تَجِبُ عَلَى الْأَرْبَابِ الَّذِينَ فِيهَا وَعَلَى السُّكَّانِ ، وَكَذَا عَلَى مَنْ يُمِدُّهَا وَالْمَالِكُ فِي ذَلِكَ وَغَيْرُ الْمَالِكِ سَوَاءٌ ، وَكَذَا الْعَجَلَةُ ، وَهَذَا عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ظَاهِرٌ .
وَالْفَرْقُ لَهُمَا أَنَّ السَّفِينَةَ تُنْقَلُ وَتُحَوَّلُ فَيُعْتَبَرُ فِيهَا الْيَدُ دُونَ الْمِلْكِ كَمَا فِي الدَّابَّةِ ، بِخِلَافِ الْمَحَلَّةِ وَالدَّارِ لِأَنَّهَا لَا تُنْقَلُ .

قَالَ ( وَإِنْ وُجِدَ فِي مَسْجِدِ مَحَلَّةٍ فَالْقَسَامَةُ عَلَى أَهْلِهَا ) لِأَنَّ التَّدْبِيرَ فِيهِ إلَيْهِمْ ( وَإِنْ وُجِدَ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ أَوْ الشَّارِعِ الْأَعْظَمِ فَلَا قَسَامَةَ فِيهِ وَالدِّيَةُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ ) لِأَنَّهُ لِلْعَامَّةِ لَا يَخْتَصُّ بِهِ وَاحِدٌ مِنْهُمْ ، وَكَذَلِكَ الْجُسُورُ الْعَامَّةُ وَمَالُ بَيْتِ الْمَالِ مَالُ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ .

( وَلَوْ وُجِدَ فِي السُّوقِ إنْ كَانَ مَمْلُوكًا ) فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَجِبُ عَلَى السُّكَّانِ وَعِنْدَهُمَا عَلَى الْمَالِكِ ، ( وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا كَالشَّوَارِعِ الْعَامَّةِ الَّتِي بُنِيَتْ فِيهَا فَعَلَى بَيْتِ الْمَالِ ) لِأَنَّهُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ ( وَلَوْ وُجِدَ فِي السَّجْنِ فَالدِّيَةُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الدِّيَةُ وَالْقَسَامَةُ عَلَى أَهْلِ السَّجْنِ ) لِأَنَّهُمْ سُكَّانٌ وَوِلَايَةُ التَّدْبِيرِ إلَيْهِمْ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقَتْلَ حَصَلَ مِنْهُمْ ، وَهُمَا يَقُولَانِ : إنَّ أَهْلَ السَّجْنِ مَقْهُورُونَ فَلَا يَتَنَاصَرُونَ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِمْ مَا يَجِبُ لِأَجْلِ النُّصْرَةِ ، وَلِأَنَّهُ بُنِيَ لِاسْتِيفَاءِ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ ، فَإِذَا كَانَ غُنْمُهُ يَعُودُ إلَيْهِمْ فَغُرْمُهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِمْ .
قَالُوا : وَهَذِهِ فُرَيْعَةُ الْمَالِكِ وَالسَّاكِنِ وَهِيَ مُخْتَلَفٌ فِيهَا بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .

قَالَ ( وَإِنْ وُجِدَ فِي بَرِيَّةٍ لَيْسَ بِقُرْبِهَا عِمَارَةٌ فَهُوَ هَدَرٌ ) وَتَفْسِيرُ الْقُرْبِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ اسْتِمَاعِ الصَّوْتِ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ بِهَذِهِ الْحَالَةِ لَا يَلْحَقُهُ الْغَوْثُ مِنْ غَيْرِهِ فَلَا يُوصَفُ أَحَدٌ بِالتَّقْصِيرِ ، وَهَذَا إذَا لَمْ تَكُنْ مَمْلُوكَةً لِأَحَدٍ .
أَمَّا إذَا كَانَتْ فَالدِّيَةُ وَالْقَسَامَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ ( وَإِنْ وُجِدَ بَيْنَ قَرْيَتَيْنِ كَانَ عَلَى أَقْرَبِهِمَا ) وَقَدْ بَيَّنَّاهُ .

( وَإِنْ وُجِدَ فِي وَسَطِ الْفُرَاتِ يَمُرُّ بِهِ الْمَاءُ فَهُوَ هَدَرٌ ) لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي يَدِ أَحَدٍ وَلَا فِي مِلْكِهِ ( وَإِنْ كَانَ مُحْتَبَسًا بِالشَّاطِئِ فَهُوَ عَلَى أَقْرَبِ الْقُرَى مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ ) عَلَى التَّفْسِيرِ الَّذِي تَقَدَّمَ لِأَنَّهُ اخْتَصَّ بِنُصْرَةِ هَذَا الْمَوْضِعِ فَهُوَ كَالْمَوْضُوعِ عَلَى الشَّطِّ وَالشَّطُّ فِي يَدِ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يَسْتَقُونَ مِنْهُ الْمَاءَ وَيُورِدُونَ بَهَائِمَهُمْ فِيهَا ، بِخِلَافِ النَّهْرِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِهِ الشُّفْعَةَ لِاخْتِصَاصِ أَهْلِهَا بِهِ لِقِيَامِ يَدِهِمْ عَلَيْهِ فَتَكُونُ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَيْهِمْ .

قَالَ ( وَإِنْ ادَّعَى الْوَلِيُّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ بِعَيْنِهِ لَمْ تَسْقُطْ الْقَسَامَةُ عَنْهُمْ ) وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ وَذَكَرْنَا فِيهِ الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ .
قَالَ ( وَإِنْ ادَّعَى عَلَى وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِهِمْ سَقَطَتْ عَنْهُمْ ) وَقَدْ بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ وَوَجْهُ الْفَرْقِ هُوَ أَنَّ وُجُوبَ الْقَسَامَةِ عَلَيْهِمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَاتِلَ مِنْهُمْ فَتَعْيِينُهُ وَاحِدًا مِنْهُمْ لَا يُنَافِي ابْتِدَاءَ الْأَمْرِ لِأَنَّهُ مِنْهُمْ بِخِلَافِ مَا إذَا عَيَّنَ مِنْ غَيْرِهِمْ لِأَنَّ ذَلِكَ بَيَانُ أَنَّ الْقَاتِلَ لَيْسَ مِنْهُمْ ، وَهُمْ إنَّمَا يَغْرَمُونَ إذَا كَانَ الْقَاتِلُ مِنْهُمْ لِكَوْنِهِمْ قَتَلَةً تَقْدِيرًا حَيْثُ لَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدِ الظَّالِمِ ، وَلِأَنَّ أَهْلَ الْمَحَلَّةِ لَا يَقُومُونَ بِمُجَرَّدِ ظُهُورِ الْقَتِيلِ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ إلَّا بِدَعْوَى الْوَلِيِّ ، فَإِذَا ادَّعَى الْقَتْلَ عَلَى غَيْرِهِمْ امْتَنَعَ دَعْوَاهُ عَلَيْهِمْ وَسَقَطَ لِفَقْدِ شَرْطِهِ .

( قَوْلُهُ وَإِنْ ادَّعَى عَلَى وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِهِمْ سَقَطَتْ عَنْهُمْ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : يُرِيدُ بِهِ قَوْلَهُ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إذَا ادَّعَى الْوَلِيُّ الْقَتْلَ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ انْتَهَى ، وَاقْتَفَى أَثَرَهُ الْعَيْنِيُّ .
أَقُولُ : الظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ قَوْلَهُ بِخِلَافِ مَا إذَا ادَّعَى عَلَى وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِهِمْ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ ، فَلَوْ أَوْجَبْنَاهَا لَأَوْجَبْنَاهَا بِالْقِيَاسِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ فَإِنَّهُ هُوَ الْمُطَابِقُ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ هُنَا دُونَ مَا حَمَلَ عَلَيْهِ الشَّارِحَانِ الْمَزْبُورَانِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ .
( قَوْلُهُ وَوَجْهُ الْفَرْقِ هُوَ أَنَّ وُجُوبَ الْقَسَامَةِ عَلَيْهِمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَاتِلَ مِنْهُمْ ) أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إنْ أُرِيدَ أَنَّ وُجُوبَ الْقَسَامَةِ عَلَيْهِمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَاتِلَ مِنْهُمْ بِدُونِ أَنْ يَتَعَيَّنَ خُصُوصُهُ فَهُوَ مُسَلَّمٌ ، لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ تَعْيِينَهُ وَاحِدًا مِنْهُمْ لَا يُنَافِي ابْتِدَاءَ الْأَمْرِ حِينَئِذٍ ، فَإِنَّ ابْتِدَاءَ الْأَمْرِ إذْ ذَاكَ كَوْنُ الْقَاتِلِ مِنْهُمْ بِدُونِ أَنْ يَتَعَيَّنَ خُصُوصُهُ ، وَبِتَعْيِينِهِ وَاحِدًا مِنْهُمْ يَلْزَمُ أَنْ يَتَعَيَّنَ خُصُوصُهُ وَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ تَعَيُّنَ خُصُوصِ الْقَاتِلِ يُنَافِي عَدَمَ تَعَيُّنِهِ ، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّ وُجُوبَ الْقَسَامَةِ عَلَيْهِمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَاتِلَ مِنْهُمْ تَعَيَّنَ خُصُوصُهُ فَهُوَ مَمْنُوعٌ كَمَا لَا يَخْفَى ، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّ وُجُوبَ الْقَسَامَةِ عَلَيْهِمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَاتِلَ مِنْهُمْ سَوَاءٌ تَعَيَّنَ خُصُوصُهُ أَوْ لَمْ يَتَعَيَّنْ فَهُوَ أَيْضًا مَمْنُوعٌ ، إذْ لَا يَظْهَرُ وَجْهُ كَوْنِ الْجِنَايَةِ الصَّادِرَةِ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عِنْدَ تَعَيُّنِ خُصُوصِهِ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْغُرْمِ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ إذَا أَقَرَّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ بِقَتْلِ الْقَتِيلِ الْمَوْجُودِ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ أَوْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ لَا يَجِبُ

شَيْءٌ عَلَى غَيْرُهُ أَصْلًا .
فَإِنْ قِيلَ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ وُجُوبِ الْغُرْمِ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا عِنْدَ تَعَيُّنِ خُصُوصِ الْقَاتِلِ مِنْهُمْ كَوْنُهُمْ قَتَلَةً أَيْضًا تَقْدِيرًا بِتَرْكِهِمْ النُّصْرَةَ لِعَدَمِ أَخْذِهِمْ عَلَى يَدِ ذَلِكَ الْقَاتِلِ الظَّالِمِ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِيمَا بَعْدُ : وَهُمْ إنَّمَا يَغْرَمُونَ إذَا كَانَ الْقَاتِلُ مِنْهُمْ لِكَوْنِهِمْ قَتَلَةً تَقْدِيرًا حَيْثُ لَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدِ الظَّالِمِ .
قُلْنَا : ذَلِكَ إنَّمَا يَظْهَرُ إذَا عَلِمُوا قَتْلَ ذَاكَ الظَّالِمِ فَتَرَكُوا النُّصْرَةَ ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَعْلَمُوا ذَلِكَ بِأَنْ كَانَ قَتْلُهُ خُفْيَةً فَلَا .
وَلَئِنْ سُلِّمَ ذَلِكَ مُطْلَقًا لِعَدَمِ احْتِيَاطِهِمْ فِي حِفْظِ الْمَحَلَّةِ يُشْكِلُ بِمَا إذَا أَقَرَّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ بِالْقَتْلِ أَوْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ ، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى غَيْرِهِ شَيْءٌ هُنَاكَ مَعَ تَحَقُّقِ ذَلِكَ السَّبَبِ فِيهِ أَيْضًا فَتَأَمَّلْ فِي التَّوْجِيهِ .
وَذُكِرَ فِي الشُّرُوحِ نَقْلًا عَنْ الْمَبْسُوطِ أَنَّهُ رَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ تَسْقُطُ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ ، لِأَنَّ دَعْوَى الْوَلِيِّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ تَكُونُ إبْرَاءً لِأَهْلِ الْمَحَلَّةِ عَنْ الْقَسَامَةِ ، فَإِنَّ الْقَسَامَةَ فِي قَتِيلٍ لَا يُعْرَفُ قَاتِلُهُ ، فَإِذَا زَعَمَ الْوَلِيُّ أَنَّهُ يَعْرِفُ الْقَاتِلَ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ صَارَ مُبَرِّئًا لَهُمْ عَنْ الْقَسَامَةِ وَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْهُ انْتَهَى .
قُلْت : هَذِهِ الرِّوَايَةُ أَظْهَرُ عِنْدِي دِرَايَةً ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
( قَوْلُهُ وَلِأَنَّ أَهْلَ الْمَحَلَّةِ لَا يَغْرَمُونَ بِمُجَرَّدِ ظُهُورِ الْقَتِيلِ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ إلَّا بِدَعْوَى الْوَلِيِّ فَإِذَا ادَّعَى الْقَتْلَ عَلَى غَيْرِهِمْ امْتَنَعَ دَعْوَاهُ عَلَيْهِمْ وَسَقَطَ لِفَقْدِ شَرْطِهِ ) أَقُولُ : يُشْكِلُ هَذَا التَّعْلِيلُ بِمَا إذَا ادَّعَى الْوَلِيُّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ بِعَيْنِهِ فَإِنَّهُمْ إذَا لَمْ يَغْرَمُوا بِمُجَرَّدِ ظُهُورِ الْقَتِيلِ بَيْنَ

أَظْهُرِهِمْ إلَّا بِدَعْوَى الْوَلِيِّ فَإِذَا ادَّعَى الْوَلِيُّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ دُونَ غَيْرِهِ لَزِمَ أَنْ تَسْقُطَ الْغَرَامَةُ عَنْ غَيْرِهِ مِنْهُمْ لِفَقْدِ شَرْطِ الْغَرَامَةِ وَهُوَ دَعْوَى الْوَلِيِّ عَلَيْهِمْ فَتَفَكَّرْ فِي الْفَرْقِ ، وَلَعَلَّهُ لَا يَتَيَسَّرُ بِدُونِ التَّعَسُّفِ .
قَالَ الْعَيْنِيُّ : وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ وَجْهُ الْفَرْقِ إلَى قَوْلِهِ قَالَ وَإِذَا الْتَقَى قَوْمٌ بِالسُّيُوفِ لَمْ يُوجَدْ فِي كَثِيرٍ مِنْ النُّسَخِ وَلِهَذَا لَمْ يَشْرَحْهُ أَكْثَرُ الشُّرَّاحِ انْتَهَى .
قُلْت : وَعَنْ هَذَا تَرَى مَا فِيهِ مِنْ الْوَهَنِ كَمَا نَبَّهْت عَلَيْهِ آنِفًا فِي الْمَوْضِعَيْنِ

قَالَ ( وَإِذَا الْتَقَى قَوْمٌ بِالسُّيُوفِ فَأَجْلَوْا عَنْ قَتِيلٍ فَهُوَ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ ) لِأَنَّ الْقَتِيلَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ وَالْحِفْظُ عَلَيْهِمْ ( إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ الْأَوْلِيَاءُ عَلَى أُولَئِكَ أَوْ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ فَلَمْ يَكُنْ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ شَيْءٌ ) لِأَنَّ هَذِهِ الدَّعْوَى تَضَمَّنَتْ بَرَاءَةَ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ عَنْ الْقَسَامَةِ .
قَالَ ( وَلَا عَلَى أُولَئِكَ حَتَّى يُقِيمُوا الْبَيِّنَةَ ) لِأَنَّ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى لَا يَثْبُتُ الْحَقُّ لِلْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ ، أَمَّا يَسْقُطُ بِهِ الْحَقُّ عَنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ حُجَّةٌ عَلَى نَفْسِهِ .

( قَوْلُهُ وَإِذَا الْتَقَى قَوْمٌ بِالسُّيُوفِ فَأَجْلَوْا عَنْ قَتِيلٍ فَهُوَ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ لِأَنَّ الْقَتِيلَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ ) أَيْ وُجِدَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ : أَيْ بَيْنَهُمْ .
وَالظُّهْرُ وَالْأَظْهُرُ يَجِيئَانِ مُقْحَمَيْنِ كَمَا فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا صَدَقَةَ إلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى } أَيْ صَادِرَةٍ عَنْ غِنًى فَالظَّهْرُ فِيهِ مُقْحَمٌ كَمَا فِي ظَهْرِ الْقَلْبِ وَظَهْرِ الْغَيْبِ ، وَكَذَا فِي الْأَظْهُرِ ، يُقَالُ : أَقَامَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ : أَيْ بَيْنَهُمْ ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ .
فَإِنْ قِيلَ : الظَّاهِرُ أَنَّ قَاتِلَهُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ وَأَنَّهُ مِنْ خُصَمَائِهِ .
قُلْنَا : قَدْ تَعَذَّرَ الْوُقُوفُ عَلَى قَاتِلِهِ حَقِيقَةً فَيَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِالسَّبَبِ الظَّاهِرِ وَهُوَ وُجُودُهُ قَتِيلًا فِي مَحَلَّتِهِمْ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ .
أَقُولُ : يَرِدُ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ : مَا بَالُكُمْ تَجْعَلُونَ هَذَا الظَّاهِرَ وَهُوَ وُجُودُهُ قَتِيلًا فِي مَحَلَّتِهِمْ مُوجِبًا لِاسْتِحْقَاقِ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ وَلَا تَجْعَلُونَ ذَاكَ الظَّاهِرَ وَهُوَ كَوْنُ قَاتِلِهِ خَصْمًا مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ دَافِعًا لِلْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ عَنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ ، مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ الشَّائِعَ أَنْ يَكُونَ الظَّاهِرُ حُجَّةً لِلدَّفْعِ دُونَ الِاسْتِحْقَاقِ .
فَالْأَظْهَرُ فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ : الظَّاهِرُ لَا يَكُونُ حُجَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ فَبَقِيَ حَالُ الْقَتْلِ مُشْكِلًا ، فَأَوْجَبْنَا الْقَسَامَةَ وَالدِّيَةَ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ لِوُرُودِ النَّصِّ بِإِضَافَةِ الْقَتْلِ إلَيْهِمْ عِنْدَ الْإِشْكَالِ ، فَكَانَ الْعَمَلُ بِمَا وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ ، وَسَيَأْتِي مِثْلُ هَذَا عَنْ قَرِيبٍ

( وَلَوْ وُجِدَ قَتِيلٌ فِي مُعَسْكَرٍ أَقَامُوهُ بِفَلَاةٍ مِنْ الْأَرْضِ لَا مِلْكَ لِأَحَدٍ فِيهَا ، فَإِنْ وُجِدَ فِي خِبَاءٍ أَوْ فُسْطَاطٍ فَعَلَى مَنْ يَسْكُنُهَا الدِّيَةُ وَالْقَسَامَةُ ، وَإِنْ كَانَ خَارِجًا مِنْ الْفُسْطَاطِ فَعَلَى أَقْرَبِ الْأَخْبِيَةِ ) اعْتِبَارًا لِلْيَدِ عِنْدَ انْعِدَامِ الْمِلْكِ ( وَإِنْ كَانَ الْقَوْمُ لَقُوا قِتَالًا وَوُجِدَ قَتِيلٌ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ فَلَا قَسَامَةَ وَلَا دِيَةَ ) لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْعَدُوَّ قَتَلَهُ فَكَانَ هَدَرًا ، وَإِنْ لَمْ يَلْقَوْا عَدُوًّا فَعَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ( وَإِنْ كَانَ لِلْأَرْضِ مَالِكٌ فَالْعَسْكَرُ كَالسُّكَّانِ فَيَجِبُ عَلَى الْمَالِكِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ .

( قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ الْقَوْمُ لَقُوا قِتَالًا وَوُجِدَ قَتِيلٌ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ فَلَا قَسَامَةَ وَلَا دِيَةَ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْعَدُوَّ قَتَلَهُ فَكَانَ هَدَرًا ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ : قَوْلُهُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْعَدُوَّ قَتَلَهُ فَكَانَ هَدَرًا يُحْوِجُ إلَى ذِكْرِ الْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إذَا اقْتَتَلُوا عَصَبِيَّةً فِي مَحَلَّةٍ فَأَجْلَوْا عَنْ قَتِيلٍ فَإِنَّ عَلَيْهِمْ الْقَسَامَةَ وَالدِّيَةَ كَمَا مَرَّ آنِفًا .
وَقَالُوا فِي الْفَرْقِ : إنَّ الْقِتَالَ إذَا كَانَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ فِي مَكَان فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَا يَدْرِي أَنَّ الْقَاتِلَ مِنْ أَيِّهِمَا يُرَجَّحُ احْتِمَالُ قَتْلِ الْمُشْرِكِينَ حَمْلًا لِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الصَّلَاحِ فِي أَنَّهُمْ لَا يَتْرُكُونَ الْكَافِرِينَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْحَالِ وَيَقْتُلُونَ الْمُسْلِمِينَ .
وَأَمَّا فِي الْمُسْلِمِينَ مِنْ الطَّرَفَيْنِ فَلَيْسَ ثَمَّةُ جِهَةُ الْحَمْلِ عَلَى الصَّلَاحِ حَيْثُ كَانَ الْفَرِيقَانِ مُسْلِمَيْنِ فَبَقِيَ حَالُ الْقَتْلِ مُشْكِلًا فَأَوْجَبْنَا الْقَسَامَةَ وَالدِّيَةَ عَلَى أَهْلِ ذَلِكَ الْمَكَانِ لِوُرُودِ النَّصِّ بِإِضَافَةِ الْقَتْلِ إلَيْهِمْ عِنْدَ الْإِشْكَالِ ، وَكَانَ الْعَمَلُ بِمَا وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ أَوْلَى عِنْدَ الِاحْتِمَالِ مِنْ الْعَمَلِ بِاَلَّذِي لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ انْتَهَى .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ طَعْنًا فِي الْمَصِيرِ إلَى الْفَرْقِ الْمَذْكُورِ : الْفَرْقُ ظَاهِرٌ ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ هُنَا حُجَّةٌ لِلدَّفْعِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ فَيَصْلُحُ حُجَّةً ، وَثَمَّةَ لَوْ كَانَ حُجَّةً لَكَانَ حُجَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ فَيَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ لِلنَّصِّ انْتَهَى .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا الْفَرْقُ بِتَامٍّ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ ظَاهِرًا ، إذْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الظَّاهِرَ ثَمَّةَ لَوْ كَانَ حُجَّةً لَكَانَ حُجَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً لِدَفْعِ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ عَنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ ، وَلَا يَكُونُ حُجَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ اقْتَتَلُوا عَصَبِيَّةً فِي ذَلِكَ

الْمَحَلِّ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ هَدَرًا فَلَا بُدَّ فِي تَمَامِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ مِنْ الْمَصِيرِ إلَى مَا ذَكَرَهُ الْمَشَايِخُ مِنْ الْبَيَانِ ، وَنَقَلَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ كَمَا تَحَقَّقْته

قَالَ ( وَإِذَا قَالَ الْمُسْتَحْلَفُ قَتَلَهُ فُلَانٌ اُسْتُحْلِفَ بِاَللَّهِ مَا قَتَلْتُ وَلَا عَرَفْت لَهُ قَاتِلًا غَيْرَ فُلَانٍ ) لِأَنَّهُ يُرِيدُ إسْقَاطَ الْخُصُومَةِ عَنْ نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ فَلَا يُقْبَلُ فَيَحْلِفُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَقَرَّ بِالْقَتْلِ عَلَى وَاحِدٍ صَارَ مُسْتَثْنًى عَنْ الْيَمِينِ فَبَقِيَ حُكْمُ مَنْ سِوَاهُ فَيَحْلِفُ عَلَيْهِ .

قَالَ ( وَإِذَا شَهِدَ اثْنَانِ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ عَلَى رَجُلٍ مِنْ غَيْرِهِمْ أَنَّهُ قَتَلَ لَمْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : تُقْبَلُ لِأَنَّهُمْ كَانُوا بِعَرْضِيَّةِ أَنْ يَصِيرُوا خُصَمَاءَ وَقَدْ بَطَلَتْ الْعَرَضِيَّةُ بِدَعْوَى الْوَلِيِّ الْقَتْلَ عَلَى غَيْرِهِمْ فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ كَالْوَكِيلِ بِالْخُصُومَةِ إذَا عُزِلَ قَبْلَ الْخُصُومَةِ .
وَلَهُ أَنَّهُمْ خُصَمَاءُ بِإِنْزَالِهِمْ قَاتِلِينَ لِلتَّقْصِيرِ الصَّادِرِ مِنْهُمْ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ وَإِنْ خَرَجُوا مِنْ جُمْلَةِ الْخُصُومِ كَالْوَصِيِّ إذَا خَرَجَ مِنْ الْوِصَايَةِ بَعْدَمَا قَبِلَهَا ثُمَّ شَهِدَ .
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَعَلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ يَتَخَرَّجُ كَثِيرٌ مِنْ الْمَسَائِلِ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ ، قَالَ ( وَلَوْ ادَّعَى عَلَى وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ بِعَيْنِهِ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ مِنْ أَهْلِهَا عَلَيْهِ لَمْ تُقْبَلْ الشَّهَادَةُ ) لِأَنَّ الْخُصُومَةَ قَائِمَةٌ مَعَ الْكُلِّ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ وَالشَّاهِدُ يَقْطَعُهَا عَنْ نَفْسِهِ فَكَانَ مُتَّهَمًا .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الشُّهُودَ يَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ وَلَا يَزْدَادُونَ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ أَخْبَرُوا أَنَّهُمْ عَرَفُوا الْقَاتِلَ .

قَالَ ( وَمَنْ جُرِحَ فِي قَبِيلَةٍ فَنُقِلَ إلَى أَهْلِهِ فَمَاتَ مِنْ تِلْكَ الْجِرَاحَةِ ، فَإِنْ كَانَ صَاحِبَ فِرَاشٍ حَتَّى مَاتَ فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى الْقَبِيلَةِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا قَسَامَةَ وَلَا دِيَةَ ) لِأَنَّ الَّذِي حَصَلَ فِي الْقَبِيلَةِ وَالْمَحَلَّةِ مَا دُونَ النَّفْسِ وَلَا قَسَامَةَ فِيهِ ، فَصَارَ كَمَا إذَا لَمْ يَكُنْ صَاحِبَ فِرَاشٍ .
وَلَهُ أَنَّ الْجُرْحَ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْمَوْتُ صَارَ قَتْلًا وَلِهَذَا وَجَبَ الْقِصَاصُ ، فَإِنْ كَانَ صَاحِبَ فِرَاشٍ أُضِيفَ إلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْمَوْتُ مِنْ غَيْرِ الْجُرْحِ فَلَا يَلْزَمُ بِالشَّكِّ .
( وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مَعَهُ جَرِيحٌ بِهِ رَمَقٌ حَمَلَهُ إنْسَانٌ إلَى أَهْلِهِ فَمَكَثَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ ثُمَّ مَاتَ لَمْ يَضْمَنْ الَّذِي حَمَلَهُ إلَى أَهْلِهِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَفِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ يَضْمَنُ ) لِأَنَّ يَدَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَحَلَّةِ فَوُجُودُهُ جَرِيحًا فِي يَدِهِ كَوُجُودِهِ فِيهَا ، وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَيْ الْقَوْلَيْنِ فِيمَا قَبْلَهُ مِنْ مَسْأَلَةِ الْقَبِيلَةِ .

( وَلَوْ وُجِدَ رَجُلٌ قَتِيلًا فِي دَارِ نَفْسِهِ فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ لِوَرَثَتِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ لَا شَيْءَ فِيهِ ) لِأَنَّ الدَّارَ فِي يَدِهِ حِينَ وُجِدَ الْجَرِيحُ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ قَتَلَ نَفْسَهُ فَيَكُونُ هَدَرًا .
وَلَهُ أَنَّ الْقَسَامَةَ إنَّمَا تَجِبُ بِنَاءً عَلَى ظُهُورِ الْقَتْلِ ، وَلِهَذَا لَا يَدْخُلُ فِي الدِّيَةِ مَنْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ ، وَحَالَ ظُهُورِ الْقَتْلِ الدَّارُ لِلْوَرَثَةِ فَتَجِبُ عَلَى عَاقِلَتِهِمْ ، بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ إذَا وُجِدَ قَتِيلًا فِي دَارِ نَفْسِهِ لِأَنَّ حَالَ ظُهُورِ قَتْلِهِ بَقِيَتْ الدَّارُ عَلَى حُكْمِ مِلْكِهِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَتَلَ نَفْسَهُ فَيُهْدَرُ دَمُهُ .

( قَوْلُهُ وَلَوْ وُجِدَ رَجُلٌ قَتِيلًا فِي دَارِ نَفْسِهِ فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ لِوَرَثَتِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : اعْلَمْ أَنَّ الْمُصَنِّفَ قَالَ فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ لِوَرَثَتِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، ثُمَّ قَالَ فِي دَلِيلِهِ وَحَالَ ظُهُورِ الْقَتْلِ الدَّارُ لِلْوَرَثَةِ فَتَجِبُ عَلَى عَاقِلَتِهِمْ ، وَفِيهِ تَنَاقُضٌ ظَاهِرٌ وَمُخَالَفَةٌ بَيْنَ الدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ .
وَدَفْعُ ذَلِكَ بِأَنْ يُقَالَ : عَاقِلَةُ الْمَيِّتِ إمَّا أَنْ تَكُونَ عَاقِلَةَ الْوَرَثَةِ أَوْ غَيْرَهُمْ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ كَانَ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْمَيِّتِ وَهُمْ عَاقِلَةُ الْوَرَثَةِ فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمْ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي كَانَ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْوَرَثَةِ ، وَلَمَّا كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُمْكِنًا أَشَارَ إلَى الْأَوَّلِ فِي حُكْمِ الْمَسْأَلَةِ وَإِلَى الثَّانِي فِي دَلِيلِهَا .
وَعَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي يُقَدَّرُ فِي قَوْلِهِ فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ مُضَافٌ : أَيْ عَلَى عَاقِلَةِ وَرَثَتِهِ ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
أَقُولُ : مَا ذَكَرَهُ فِي الدَّفْعِ كَلَامٌ مُشَوَّشٌ خَالٍ عَنْ التَّحْصِيلِ سِيَّمَا قَوْلُهُ وَعَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي يُقَدَّرُ فِي قَوْلِهِ فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ مُضَافٌ : أَيْ عَلَى عَاقِلَةِ وَرَثَتِهِ ، فَإِنَّ حُكْمَ الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ وَهُوَ وُجُوبُ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَعُمُّ الصُّورَتَيْنِ قَطْعًا : أَيْ صُورَةَ إنْ كَانَ عَاقِلَةُ الْمَيِّتِ عَاقِلَةَ الْوَرَثَةِ .
وَصُورَةَ إنْ كَانَ عَاقِلَةُ الْمَيِّتِ غَيْرَ عَاقِلَةِ الْوَرَثَةِ ، فَمَا مَعْنَى تَخْصِيصِ حُكْمِهَا بِالصُّورَةِ الْأُولَى بِمُجَرَّدِ الْإِشَارَةِ إلَى إمْكَانِهَا ؟ ثُمَّ إنَّ تَقْدِيرَ الْمُضَافِ وَعَدَمَ تَقْدِيرِهِ مُتَنَاقِضَانِ لَا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ حَتَّى يُقَدَّرَ الْمُضَافُ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي وَلَمْ يُقَدَّرْ عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ قَوْلُهُ وَعَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي يُقَدَّرُ فِي قَوْلِهِ

فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ مُضَافٌ : أَيْ عَلَى عَاقِلَةِ وَرَثَتِهِ ، فَالْوَجْهُ فِي الدَّفْعِ أَنْ يُقَالَ : الْمُضَافُ مُقَدَّرٌ أَلْبَتَّةَ فِي قَوْلِهِ فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ : أَيْ عَلَى عَاقِلَةِ وَرَثَتِهِ فَيُوَافِقُ الدَّلِيلَ وَيَتَنَاوَلُ الصُّورَتَيْنِ مَعًا .
أَمَّا تَنَاوُلُهُ الصُّورَةَ الثَّانِيَةَ وَهِيَ إنْ كَانَ عَاقِلَةُ الْمَيِّتِ غَيْرَ عَاقِلَةِ الْوَرَثَةِ فَظَاهِرٌ ، وَأَمَّا تَنَاوُلُهُ الصُّورَةَ الْأُولَى وَهِيَ إنْ كَانَ عَاقِلَةُ الْمَيِّتِ عَيْنَ عَاقِلَةِ الْوَرَثَةِ فَلِأَنَّ عَاقِلَتَهُ وَعَاقِلَتَهُمْ إذَا اتَّحَدَتَا يَصِحُّ نِسْبَتُهُمْ إلَى الْوَرَثَةِ كَمَا يَصِحُّ نِسْبَتُهُمْ إلَى الْمَيِّتِ ، بَلْ تَكُونُ نِسْبَتُهُمْ إلَى الْوَرَثَةِ أَوْلَى هَاهُنَا لِأَنَّ الدَّارَ لَمَّا كَانَتْ حَالَ ظُهُورِ الْقَتْلِ لِلْوَرَثَةِ لَا لِلْمَيِّتِ وَكَانَ وُجُوبُ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ بِنَاءً عَلَى ظُهُورِ الْقَتْلِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الدَّلِيلِ كَانَتْ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْوَرَثَةِ لَا عَلَى عَاقِلَةِ الْمَيِّتِ .
وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ فِي شَرْحِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ لِوَرَثَتِهِ : أَيْ عَلَى عَاقِلَةِ وَرَثَتِهِ لِوَرَثَتِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا وُجِدَ قَتِيلًا فِي الدَّارِ الْمَمْلُوكَةِ لِوَرَثَتِهِ لَا لَهُ لِأَنَّهُ مَيِّتٌ وَالْمَيِّتُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمَلِكِ كَانَتْ الدِّيَةُ عَلَيْهِمْ ، وَإِنَّمَا قَالَ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ بِنَاءً عَلَى الظَّاهِرِ ، وَهُوَ أَنَّ عَاقِلَةَ الْوَارِثِ وَالْمُوَرِّثِ مُتَّحِدَةٌ ، وَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ تَخْتَلِفُ الْعَاقِلَةُ يَنْبَغِي عَلَى قِيَاسِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ وَهِيَ أَنَّ الدَّارَ مَمْلُوكَةٌ لِلْوَرَثَةِ لَا لِلْمَيِّتِ أَنْ تَكُونَ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْوَرَثَةِ وَهِيَ الْأَصَحُّ ، وَعَلَى قِيَاسِ طَرِيقَةِ أَنَّ غَيْرَهُ لَوْ وُجِدَ قَتِيلًا فِيهَا كَانَتْ الْقَسَامَةُ عَلَيْهِ دُونَ عَاقِلَتِهِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَتِيلِ ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ انْتَهَى .
أَقُولُ : لَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ هَذَا أَوْلَى مِمَّا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ

، إلَّا أَنَّ فِي تَقْرِيرِهِ أَيْضًا شَيْئًا مِنْ الرَّكَاكَةِ ، فَالْأَرْجَحُ مَا قَرَّرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ تَأَمَّلْ تَرْشُدْ .
( قَوْلُهُ وَلَهُ أَنَّ الْقَسَامَةَ إنَّمَا تَجِبُ بِنَاءً عَلَى ظُهُورِ الْقَتْلِ وَلِهَذَا لَا يَدْخُلُ فِي الدِّيَةِ مَنْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ ، وَحَالَ ظُهُورِ الْقَتْلِ الدَّارُ لِلْوَرَثَةِ فَتَجِبُ عَلَى عَاقِلَتِهِمْ ) اُعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ الدِّيَةَ إذَا وَجَبَتْ عَلَى عَاقِلَةِ الْوَرَثَةِ فَإِنَّمَا وَجَبَتْ لِلْوَرَثَةِ فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ أَنْ يَعْقِلُوا عَنْهُمْ لَهُمْ ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهَا تَجِبُ لِلْمَقْتُولِ حَتَّى تُقْضَى مِنْهَا دُيُونُهُ وَتُنَفَّذُ وَصَايَاهُ ثُمَّ يَخْلُفُهُ الْوَارِثُ فِيهِ وَهُوَ نَظِيرُ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ إذَا قَتَلَ أَبَاهُ تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَتَكُونُ مِيرَاثًا لَهُ كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الشُّرَّاحِ .
أَقُولُ : يَرِدُ عَلَى ظَاهِرِ هَذَا الْجَوَابِ أَنَّهُ يُنَافِي مَا ذُكِرَ فِي وَضْعِ جَوَابِ الْمَسْأَلَةِ ، فَإِنَّ الْمَذْكُورَ فِيهِ فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ لِوَرَثَتِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَمُقْتَضَى جَوَابِ الِاعْتِرَاضِ أَنْ تَكُونَ دِيَتُهُ لَهُ لَا لِوَرَثَتِهِ .
وَيُمْكِنُ دَفْعُهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَذْكُورِ فِي وَضْعِ جَوَابِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ دِيَةَ الْمَقْتُولِ عَلَى عَاقِلَتِهِ لِوَرَثَتِهِ فِي ثَانِي الْحَالِ : أَيْ تَصِيرُ لَهُمْ بِالْخِلَافَةِ عَنْ الْمَقْتُولِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ لَهُ أَوَّلًا ، وَمِثْلُ هَذَا التَّسَامُحِ فِي الْعِبَارَةِ لَيْسَ بِعَزِيزٍ فِي كَلِمَاتِ الثِّقَاتِ .
ثُمَّ أَقُولُ : بَقِيَ هُنَا إشْكَالٌ قَوِيٌّ ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ مَرَّ أَنَّ دَعْوَى وَلِيِّ الْقَتِيلِ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ وَوَلِيُّ الْقَتِيلِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ هُوَ الْوَرَثَةُ فَلَا بُدَّ مِنْ دَعْوَاهُمْ ، فَيَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ دَعْوَاهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ لِأَنَّ الدَّارَ كَانَتْ لَهُمْ حَالَ ظُهُورِ الْقَتْلِ ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ .
وَيُمْكِنُ دَفْعُهُ أَيْضًا بِتَمَحُّلٍ فَلْيُتَأَمَّلْ .
وَأَجَابَ صَاحِبُ الْغَايَةِ عَنْ أَصْلِ الِاعْتِرَاضِ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ : قُلْت

الْعَاقِلَةُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ وَرَثَةً أَوْ غَيْرَ وَرَثَةٍ ، فَمَا وَجَبَ عَلَى غَيْرِ الْوَرَثَةِ مِنْ الْعَاقِلَةِ يَجِبُ لِلْوَرَثَةِ مِنْهُمْ انْتَهَى .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الدِّيَةَ اسْمٌ لِمَجْمُوعِ مَا قَدَّرَهُ الشَّرْعُ مِنْ الْأَنْوَاعِ الْمَخْصُوصَةِ مِنْ الْمَالِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي أَوَّلِ الدِّيَاتِ ، وَبَعْضُ ذَلِكَ لَا يُسَمَّى دِيَةً كَمَا صَرَّحُوا بِهِ ، فَلَوْ كَانَ مَا يَجِبُ لِلْوَرَثَةِ مِنْ الْعَاقِلَةِ مَا وَجَبَ عَلَى غَيْرِ الْوَرَثَةِ مِنْهُمْ فَقَطْ لَمَا تَمَّ جَوَابُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ لِوَرَثَتِهِ ، لِأَنَّ دِيَةَ الْمَقْتُولِ مَجْمُوعُ مَا يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ كُلِّهِمْ لَا مَا يَجِبُ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ الْمَحْذُورَ الْمَذْكُورَ فِي الِاعْتِرَاضِ الْمَزْبُورِ إنَّمَا هُوَ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ عَقَلُوا عَنْهُمْ هُمْ الَّذِينَ عَقَلُوا لَهُمْ وَهُمْ الْوَرَثَةُ كَمَا يُنَادِي عَلَيْهِ قَوْلُ الْمُعْتَرِضِ فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ أَنْ يَعْقِلُوا عَنْهُمْ لَهُمْ ، لَا أَنْ يَكُونَ مَنْ وَجَبَتْ الدِّيَةُ عَلَيْهِمْ عَيْنَ مَنْ وَجَبَتْ لَهُمْ حَتَّى يُقَالَ إنَّ مَنْ وَجَبَتْ الدِّيَةُ عَلَيْهِمْ غَيْرُ الْوَرَثَةِ وَمَنْ وَجَبَتْ لَهُمْ هُمْ الْوَرَثَةُ فَلَا اتِّحَادَ .
عَلَى أَنَّ الْعَاقِلَةَ إذَا كَانَتْ أَعَمَّ مِنْ أَنْ تَكُونَ وَرَثَةً أَوْ غَيْرَ وَرَثَةٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ ذَلِكَ الْمُجِيبُ تَكُونُ الْوَرَثَةُ أَيْضًا مِمَّنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ الدِّيَةُ ، لِأَنَّ الدِّيَةَ إنَّمَا تَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ كُلِّهِمْ لَا عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ فَيَلْزَمُ اتِّحَادُ مَنْ وَجَبَتْ الدِّيَةُ عَلَيْهِمْ .
وَمَنْ وَجَبَتْ لَهُمْ بِالنَّظَرِ إلَى الْوَرَثَةِ لَا مَحَالَةَ فَلَا يَصِحُّ الْجَوَابُ الْمَزْبُورُ عَلَى كُلِّ حَالٍ كَمَا لَا يَخْفَى .

( وَلَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ كَانَا فِي بَيْتٍ وَلَيْسَ مَعَهُمَا ثَالِثٌ فَوُجِدَ أَحَدُهُمَا مَذْبُوحًا ، قَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَضْمَنُ الْآخَرُ الدِّيَةَ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا يَضْمَنُهُ ) لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ قَتَلَ نَفْسَهُ فَكَانَ التَّوَهُّمُ .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ قَتَلَهُ الْآخَرُ فَلَا يَضْمَنُهُ بِالشَّكِّ .
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَقْتُلُ نَفْسَهُ فَكَانَ التَّوَهُّمُ سَاقِطًا كَمَا إذَا وُجِدَ قَتِيلٌ فِي مَحَلَّةٍ .

( وَلَوْ وُجِدَ قَتِيلٌ فِي قَرْيَةٍ لِامْرَأَةٍ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهَا الْقَسَامَةُ تُكَرَّرُ عَلَيْهَا الْأَيْمَانُ ، وَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهَا أَقْرَبُ الْقَبَائِلِ إلَيْهَا فِي النَّسَبِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : عَلَى الْعَاقِلَةِ أَيْضًا ) لِأَنَّ الْقَسَامَةَ إنَّمَا تَجِبُ عَلَى مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النُّصْرَةِ وَالْمَرْأَةُ لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِهَا فَأَشْبَهَتْ الصَّبِيَّ .
وَلَهُمَا أَنَّ الْقَسَامَةَ لِنَفْيِ التُّهْمَةِ وَتُهْمَةُ الْقَتْلِ مِنْ الْمَرْأَةِ مُتَحَقِّقَةٌ .
قَالَ الْمُتَأَخِّرُونَ : إنَّ الْمَرْأَةَ تَدْخُلُ مَعَ الْعَاقِلَةِ فِي التَّحَمُّلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّا أَنْزَلْنَاهَا قَاتِلَةً وَالْقَاتِلُ يُشَارِكُ الْعَاقِلَةَ .

( وَلَوْ وُجِدَ رَجُلٌ قَتِيلًا فِي أَرْضٍ رَجُلٍ إلَى جَانِبِ قَرْيَةٍ لَيْسَ صَاحِبُ الْأَرْضِ مِنْ أَهْلِهَا ، قَالَ : هُوَ عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ ) لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِنُصْرَةِ أَرْضِهِ مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ .

( كِتَابُ الْمَعَاقِلِ ) الْمَعَاقِلُ جَمْعُ مَعْقُلَةٍ ، وَهِيَ الدِّيَةُ ، وَتُسَمَّى الدِّيَةُ عَقْلًا لِأَنَّهَا تَعْقِلُ الدِّمَاءَ مِنْ أَنْ تُسْفَكَ : أَيْ تُمْسِكُ .
قَالَ ( وَالدِّيَةُ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ ، وَكُلُّ دِيَةٍ تَجِبُ بِنَفْسِ الْقَتْلِ عَلَى الْعَاقِلَةِ ، وَالْعَاقِلَةُ الَّذِينَ يَعْقِلُونَ ) يَعْنِي يُؤَدُّونَ الْعَقْلَ وَهُوَ الدِّيَةُ ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الدِّيَاتِ .
وَالْأَصْلُ فِي وُجُوبِهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلْأَوْلِيَاءِ { قُومُوا فَدُوهُ } وَلِأَنَّ النَّفْسَ مُحْتَرَمَةٌ لَا وَجْهَ إلَى الْإِهْدَارِ وَالْخَاطِئُ مَعْذُورٌ ، وَكَذَا الَّذِي تَوَلَّى شِبْهَ الْعَمْدِ نَظَرًا إلَى الْآلَةِ فَلَا وَجْهَ إلَى إيجَابِ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ ، وَفِي إيجَابِ مَالِ عَظِيمٍ إجْحَافُهُ وَاسْتِئْصَالُهُ فَيَصِيرُ عُقُوبَةً فَضَمَّ إلَيْهِ الْعَاقِلَةَ تَحْقِيقًا لِلتَّخْفِيفِ .
وَإِنَّمَا خُصُّوا بِالضَّمِّ لِأَنَّهُ إنَّمَا قَصَرَ لِقُوَّةٍ فِيهِ وَتِلْكَ بِأَنْصَارِهِ وَهُمْ الْعَاقِلَةُ فَكَانُوا هُمْ الْمُقَصِّرِينَ فِي تَرْكِهِمْ مُرَاقَبَتِهِ فَخُصُّوا بِهِ .
قَالَ ( وَالْعَاقِلَةُ أَهْلُ الدِّيوَانِ إنْ كَانَ الْقَاتِلُ مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ يُؤْخَذُ مِنْ عَطَايَاهُمْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ) وَأَهْلُ الدِّيوَانِ أَهْلُ الرَّايَاتِ وَهُمْ الْجَيْشُ الَّذِينَ كُتِبَتْ أَسَامِيهمْ فِي الدِّيوَانِ وَهَذَا عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : الدِّيَةُ عَلَى أَهْلِ الْعَشِيرَةِ لِأَنَّهُ كَانَ كَذَلِكَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلَا نَسْخَ بَعْدَهُ وَلِأَنَّهُ صِلَةٌ وَالْأَوْلَى بِهَا الْأَقَارِبُ .
وَلَنَا قَضِيَّةُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ لَمَّا دَوَّنَ الدَّوَاوِينَ جَعَلَ الْعَقْلَ عَلَى أَهْلِ الدِّيوَانِ ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنْهُمْ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِنَسْخٍ بَلْ هُوَ تَقْرِيرُ مَعْنًى لِأَنَّ الْعَقْلَ كَانَ عَلَى أَهْلِ النُّصْرَةِ وَقَدْ كَانَتْ بِأَنْوَاعٍ : بِالْقَرَابَةِ وَالْحِلْفِ

وَالْوَلَاءِ وَالْعَدِّ .
وَفِي عَهْدِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدْ صَارَتْ بِالدِّيوَانِ فَجَعَلَهَا عَلَى أَهْلِهِ اتِّبَاعًا لِلْمَعْنَى وَلِهَذَا قَالُوا : لَوْ كَانَ الْيَوْمَ قَوْمٌ تَنَاصُرُهُمْ بِالْحِرَفِ فَعَاقِلَتُهُمْ أَهْلُ الْحِرْفَةِ ، وَإِنْ كَانَ بِالْحِلْفِ فَأَهْلُهُ وَالدِّيَةُ صِلَةٌ كَمَا قَالَ ، لَكِنَّ إيجَابَهُمْ فِيمَا هُوَ صِلَةٌ وَهُوَ الْعَطَاءُ أَوْلَى مِنْهُ فِي أُصُولِ أَمْوَالِهِمْ ، وَالتَّقْدِيرُ بِثَلَاثِ سِنِينَ مَرْوِيٌّ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَمَحْكِيٌّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَلِأَنَّ الْأَخْذَ مِنْ الْعَطَاءِ لِلتَّخْفِيفِ وَالْعَطَاءُ يَخْرُجُ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً ( فَإِنْ خَرَجَتْ الْعَطَايَا فِي أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ سِنِينَ أَوْ أَقَلَّ أُخِذَ مِنْهَا ) لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَتَأْوِيلُهُ إذَا كَانَتْ الْعَطَايَا لِلسِّنِينَ الْمُسْتَقْبِلَةِ بَعْدَ الْقَضَاءِ ، حَتَّى لَوْ اجْتَمَعَتْ فِي السِّنِينَ الْمَاضِيَةِ قَبْلَ الْقَضَاءِ ثُمَّ خَرَجَتْ بَعْدَ الْقَضَاءِ لَا يُؤْخَذُ مِنْهَا لِأَنَّ الْوُجُوبَ بِالْقَضَاءِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَلَوْ خَرَجَ لِلْقَاتِلِ ثَلَاثُ عَطَايَا فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ مَعْنَاهُ فِي الْمُسْتَقْبِلِ يُؤْخَذُ مِنْهَا كُلُّ الدِّيَةِ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَإِذَا كَانَ جَمِيعُ الدِّيَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ فَكُلُّ ثُلُثٍ مِنْهَا فِي سَنَةٍ ، وَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ بِالْعَقْلِ ثُلُثَ دِيَةِ النَّفْسِ أَوْ أَقَلَّ كَانَ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ وَمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ إلَى تَمَامِ الثُّلُثَيْنِ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ إلَى تَمَامِ الدِّيَةِ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ

( كِتَابُ الْمَعَاقِلِ ) أَقُولُ : هَكَذَا وَقَعَ الْعُنْوَانُ فِي عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ ، لَكِنْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ الْعَوَاقِلَ بَدَلَ الْمَعَاقِلِ ، لِأَنَّ الْمَعَاقِلَ جَمْعُ الْمِعْقَلَةِ وَهِيَ الدِّيَةُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ فَيَصِيرُ الْمَعْنَى كِتَابَ الدِّيَاتِ ، وَهَذَا مَعَ كَوْنِهِ مُؤَدِّيًا إلَى تَكْرَارٍ لَيْسَ بِتَامٍّ فِي نَفْسِهِ ، لِأَنَّ بَيَانَ أَقْسَامِ الدِّيَاتِ وَأَحْكَامِهَا قَدْ مَرَّ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ بِالْبَيَانِ هَاهُنَا بَيَانُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِمْ الدِّيَةُ بِتَفَاصِيلِ أَنْوَاعِهِمْ وَأَحْكَامِهِمْ وَهُمْ الْعَاقِلَةُ ، فَالْمُنَاسِبُ فِي الْعُنْوَانِ ذِكْرُ الْعَوَاقِلِ لِأَنَّهَا جَمْعُ الْعَاقِلَةِ .
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : لَمَّا كَانَ مُوجِبُ الْقَتْلِ الْخَطَإِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ الدِّيَةَ عَلَى الْعَاقِلَةِ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ مَعْرِفَتِهَا وَمَعْرِفَةِ أَحْكَامِهَا فَذَكَرَهَا فِي هَذَا الْكِتَابِ انْتَهَى .
وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَقُولُ : لَيْسَ ذَاكَ بِسَدِيدٍ ، لِأَنَّ مَدَارَهُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ فِي هَذَا الْفَصْلِ مَعْرِفَةَ الدِّيَاتِ نَفْسِهَا وَمَعْرِفَةَ أَحْكَامِهَا ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ مَحَلَّهَا كِتَابُ الدِّيَاتِ وَاسْتُوْفِيَتْ هُنَاكَ عَلَى التَّفْصِيلِ ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ هُنَا مَعْرِفَةُ الْعَوَاقِلِ وَأَحْكَامِهَا وَذِكْرُ الدِّيَةِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِطْرَادِ ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا ذَكَرَ الْكِتَابَ هُنَا بَلْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ الْبَابَ أَوْ الْفَصْلَ لِكَوْنِ الْمَذْكُورِ هُنَا إذْ ذَاكَ شُعْبَةً مِنْ الدِّيَاتِ ، بِخِلَافِ الْعَوَاقِلِ فَإِنَّهَا أَمْرٌ مُغَايِرٌ لِلدِّيَاتِ ذَاتًا وَحُكْمًا فَكَانَتْ مَحَلًّا لِذِكْرِ الْكِتَابِ ، وَكَأَنَّ ذَيْنِك الشَّارِحَيْنِ إنَّمَا اغْتَرَّا بِذِكْرِ الْمَعَاقِلِ فِي عُنْوَانِ هَذَا الْكِتَابِ بَدَلَ الْعَوَاقِلِ كَمَا فَصَّلْنَاهُ آنِفًا .
وَالْوَجْهُ السَّدِيدُ هُنَا مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ حَيْثُ قَالَ : لَمَّا بَيَّنَ أَحْكَامَ الْقَتْلِ الْخَطَإِ وَتَوَابِعَهُ شَرَعَ فِي

بَيَانِ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ ، إذْ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِهَا انْتَهَى ( قَوْلُهُ وَالدِّيَةُ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ وَكُلُّ دِيَةٍ وَجَبَتْ بِنَفْسِ الْقَتْلِ عَلَى الْعَاقِلَةِ ) قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ : قَوْلُهُ وَكُلُّ دِيَةٍ مُبْتَدَأٌ وَقَوْلُهُ عَلَى الْعَاقِلَةِ خَبَرُهُ .
أَقُولُ : فِيهِ خَلَلٌ ، إذْ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالُوهُ لَكَانَ قَوْلُهُ وَكُلُّ دِيَةٍ وَجَبَتْ بِنَفْسِ الْقَتْلِ عَلَى الْعَاقِلَةِ كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا مُسْتَقِلًّا وَكَانَ مَا قَبْلَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ وَالدِّيَةُ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ كَلَامًا تَامًّا مُسْتَقِلًّا أَيْضًا فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ وَالدِّيَةُ مُبْتَدَأً ، وَقَوْلُهُ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ خَبَرُهُ فَيَصِيرُ الْمَعْنَى وَالدِّيَةُ كَائِنَةٌ أَوْ وَاجِبَةٌ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ ، وَهَذَا مَعَ اسْتِلْزَامِهِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ وَالدِّيَةُ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ مُسْتَدْرَكًا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ هَاهُنَا ، إذْ كَوْنُ الدِّيَةِ وَاجِبَةً فِي شِبْهِ الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ ، وَقَدْ ذُكِرَ مُفَصَّلًا فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْجِنَايَاتِ وَكِتَابِ الدِّيَاتِ ، وَلَيْسَ لَهُ تَعَلُّقٌ بِكِتَابِ الْمَعَاقِلِ يَفُوتُ بِهِ الْمَعْنَى الْمَقْصُودُ هَاهُنَا وَهُوَ بَيَانُ كَوْنِ الدِّيَةِ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ عَلَى الْعَاقِلَةِ ، إذْ بِهَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ تَصِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ مَسَائِلِ كِتَابِ الْمَعَاقِلِ .
وَالْحَقُّ الصَّرِيحُ عِنْدِي أَنَّ قَوْلَهُ وَالدِّيَةُ مُبْتَدَأٌ وَقَوْلَهُ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ صِفَتُهُ : أَيْ الدِّيَةُ الْكَائِنَةُ أَوْ الْوَاجِبَةُ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ ، وَقَوْلُهُ وَكُلُّ دِيَةٍ وَجَبَتْ بِنَفْسِ الْقَتْلِ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَالدِّيَةُ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ ، وَقَوْلُهُ عَلَى الْعَاقِلَةِ خَبَرُ الْمُبْتَدَإِ وَهُوَ قَوْلُهُ فَيَصِيرُ الْحُكْمُ بِكَوْنِهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ مُنْسَحِبًا عَلَى الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ جَمِيعًا فَلَا يَلْزَمُ الْمَحْذُورُ أَصْلًا وَيَحْصُلُ الْمَعْنَى الْمَقْصُودُ هُنَا بِلَا رَيْبٍ .
( قَوْلُهُ وَلِأَنَّ

الْأَخْذَ مِنْ الْعَطَاءِ لِلتَّخْفِيفِ ، وَالْعَطَاءُ يَخْرُجُ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً ) أَقُولُ : فِي تَمَامِ هَذَا التَّعْلِيلِ كَلَامٌ ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَطَاءُ الْخَارِجُ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ فِي سَنَتَيْنِ وَافِيًا بِتَمَامِ الدِّيَةِ لِكَثْرَةِ آحَادِ الْعَاقِلَةِ ، فَيُمْكِنُ أَخْذُهَا بِالتَّمَامِ مِنْ الْعَطَاءِ الْخَارِجِ فِي سَنَةٍ أَوْ سَنَتَيْنِ ، فَلَا يُفِيدُ هَذَا التَّعْلِيلُ الْمَزْبُورُ الْمُدَّعَى وَهُوَ التَّقْدِيرُ بِثَلَاثِ سِنِينَ .
وَأَيْضًا يَجُوزُ أَنْ لَا تَكُونَ الْعَطَايَا الْخَارِجَةُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ وَافِيَةً بِتَمَامِ الدِّيَةِ لِقِلَّةِ آحَادِ الْعَاقِلَةِ ، فَلَا بُدَّ أَنْ تُؤْخَذَ إذْ ذَاكَ مِنْ الْعَطَايَا الْخَارِجَةِ فِي أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ سِنِينَ ، فَلَا يُفِيدُ التَّعْلِيلُ الْمَذْكُورُ الْمُدَّعَى مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ أَيْضًا كَمَا تَرَى .
نَعَمْ يُفِيدُ التَّأْجِيلُ مُطْلَقًا لَكِنَّ الْمُدَّعَى هُنَا هُوَ التَّأْجِيلُ بِثَلَاثِ سِنِينَ لَا التَّأْجِيلُ مُطْلَقًا ( قَوْلُهُ فَإِنْ خَرَجَتْ الْعَطَايَا فِي أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ سِنِينَ أَوْ أَقَلَّ أُخِذَ مِنْهَا لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ ) أَقُولُ : فِيهِ بَحْثٌ ، وَهُوَ أَنَّ الْقِيَاسَ كَانَ يَأْبَى إيجَابُ الْمَالِ بِمُقَابَلَةِ النَّفْسِ الْمُحْتَرَمَةِ لِعَدَمِ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَهُمَا ، إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِذَلِكَ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ ، وَالشَّرْعُ إنَّمَا وَرَدَ بِإِيجَابِهِ مُؤَجَّلًا بِثَلَاثِ سِنِينَ ، فَإِنَّهُ هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الْمَحْكِيُّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَمَا مَرَّ آنِفًا ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَخْتَصَّ التَّأْجِيلُ بِثَلَاثِ سِنِينَ ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الشَّرْعَ الْوَارِدَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ يَخْتَصُّ بِمَا وَرَدَ بِهِ ، وَسَيَجِيءُ نَظِيرُ هَذَا فِي الْكِتَابِ فِي تَعْلِيلِ أَنَّ مَا وَجَبَ عَلَى الْقَاتِلِ فِي مَالِهِ كَمَا إذَا قَتَلَ الْأَبُ ابْنَهُ عَمْدًا لَيْسَ بِحَالٍّ عِنْدَنَا بَلْ مُؤَجَّلٌ بِثَلَاثِ سِنِينَ فَتَأَمَّلْ هَلْ يُمْكِنُ دَفْعُهُ ؟ ( قَوْلُهُ وَلَوْ خَرَجَ لِلْقَاتِلِ ثَلَاثُ عَطَايَا فِي

سَنَةٍ وَاحِدَةٍ ) قَالَ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ : وَفِي بَعْضِ النَّسْخِ : وَلَوْ خَرَجَ لِلْقَابِلِ : أَيْ لِلْعَامِ الْقَابِلِ وَهُوَ الْأَصَحُّ انْتَهَى .
وَتَبِعَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ .
أَقُولُ : كَيْفَ يَكُونُ ذَاكَ هُوَ الْأَصَحُّ ، وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ مَعْنَاهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَغْوًا مَحْضًا ، لِأَنَّ مَا يَخْرُجُ لِلْعَامِ الْقَابِلِ : أَيْ الْمُقْبِلِ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْمُسْتَقْبَلِ قَطْعًا ، فَمَا مَعْنَى تَفْسِيرِ الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ مَعْنَاهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ خُرُوجٍ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ وَبَيْنَ خُرُوجٍ لِلْعَامِ الْقَابِلِ وَيَدَّعِي إمْكَانَ كَوْنِ الْخُرُوجِ لِلْعَامِ الْقَابِلِ فِي الْمَاضِي بِأَنْ خَرَجَ الْعَطَاءُ فِي الْمَاضِي لِلْعَامِ الْقَابِلِ : أَيْ لِأَجْلِ الْعَامِ الْقَابِلِ بِطَرِيقِ تَعْجِيلِ إعْطَاءِ عَطِيَّةِ الْعَامِ الْآتِي أَيْضًا لِمَصْلَحَةٍ لَكِنَّهُ تَعَسُّفٌ لَا يَخْفَى .
نَعَمْ فِي النُّسْخَةِ الْأُولَى أَيْضًا كَلَامٌ ، وَهُوَ أَنَّهُ فِي جَوَابِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يُؤْخَذُ مِنْهَا كُلُّ الدِّيَةِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ الدِّيَةِ إنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ الْعَطَايَا الَّتِي خَرَجَتْ لِلْعَاقِلَةِ أَجْمَعِهِمْ لَا مِمَّا خَرَجَتْ لِلْقَاتِلِ فَقَطْ ، إلَّا أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَدَّرَ الْمُضَافُ فِي قَوْلِهِ وَلَوْ خَرَجَ لِلْقَاتِلِ : أَيْ لَوْ خَرَجَ لِعَاقِلَةِ الْقَاتِلِ وَتَقْدِيرُ الْمُضَافِ طَرِيقَةٌ مَعْهُودَةٌ فَحِينَئِذٍ يَنْتَظِمُ جَوَابُ الْمَسْأَلَةِ كَمَا لَا يَخْفَى ( قَوْلُهُ يُؤْخَذُ مِنْهَا كُلُّ الدِّيَةِ لِمَا ذَكَرْنَا ) قَالَ الشُّرَّاحُ : قَوْلُهُ لِمَا ذَكَرْنَا إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ بِالْقَضَاءِ .
أَقُولُ : أَرَاهُمْ خَرَجُوا هُنَا عَنْ سُنَنِ الصَّوَابِ إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ لِمَا ذَكَرْنَا دَلِيلٌ عَلَى قَوْلِهِ يُؤْخَذُ مِنْهَا كُلُّ الدِّيَةِ فَحِينَئِذٍ لَا مَجَالَ لِكَوْنِ قَوْلِهِ الْمَزْبُورِ إشَارَةً إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ بِالْقَضَاءِ ، إذْ لَا تَأْثِيرَ لِكَوْنِ الْوُجُوبِ بِالْقَضَاءِ فِي أَنْ يُؤْخَذَ كُلُّ الدِّيَةِ مِنْ الْعَطَايَا

الْخَارِجَةِ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ ، بَلْ إنَّمَا يَكُونُ قَوْلُهُ الْمَزْبُورُ حِينَئِذٍ إشَارَةً إلَى قَوْلِهِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ فَإِنَّهُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا عَلَيْهِ إذْ ذَاكَ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذِي مُسْكَةٍ .
نَعَمْ لَوْ جُعِلَ قَوْلُهُ الْمَزْبُورُ دَلِيلًا عَلَى قَوْلِهِ مَعْنَاهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَصَحَّ جَعْلُ ذَلِكَ إشَارَةً إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ بِالْقَضَاءِ لَكِنَّ جَعْلَهُ دَلِيلًا عَلَى مَا وَقَعَ ذِكْرُهُ مِنْ الْمُصَنِّفِ اسْتِطْرَادًا وَبِالتَّبَعِ وَهُوَ قَوْلُهُ مَعْنَاهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَتَرَكَ مَا هُوَ أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ وَمَقْصُودٌ بِالذَّاتِ هُنَا خَالِيًا عَنْ الدَّلِيلِ بِالْكُلِّيَّةِ مِمَّا لَا تَقْبَلُهُ الْفِطْرَةُ السَّلِيمَةُ ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ ذَلِكَ لَمَا أَخَّرَ قَوْلَهُ لِمَا ذَكَرْنَا عَنْ جَوَابِ الْمَسْأَلَةِ بَلْ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَذْكُرَهُ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ مَعْنَاهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ .

وَمَا وَجَبَ عَلَى الْعَاقِلَةِ مِنْ الدِّيَةِ أَوْ عَلَى الْقَاتِلِ بِأَنْ قَتَلَ الْأَبُ ابْنَهُ عَمْدًا فَهُوَ فِي مَالِهِ ثَلَاثَ سِنِينَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَمَا وَجَبَ عَلَى الْقَاتِلِ فِي مَالِهِ فَهُوَ حَالٌّ ، لِأَنَّ التَّأْجِيلَ لِلتَّخْفِيفِ لِتَحَمُّلِ الْعَاقِلَةِ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ الْعَمْدُ الْمَحْضُ .
وَلَنَا أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَاهُ وَالشَّرْعَ وَرَدَ بِهِ مُؤَجَّلًا فَلَا يَتَعَدَّاهُ .

( قَوْلُهُ وَمَا وَجَبَ عَلَى الْعَاقِلَةِ مِنْ الدِّيَةِ أَوْ عَلَى الْقَاتِلِ بِأَنْ قَتَلَ الْأَبُ ابْنَهُ عَمْدًا فَهُوَ فِي مَالِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ) أَقُولُ : هَذَا التَّحْرِيرُ مُخْتَلٌّ ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ خَبَرَ " مَا " فِي قَوْلِهِ وَمَا وَجَبَ عَلَى الْعَاقِلَةِ إنَّمَا هُوَ قَوْلُهُ فَهُوَ فِي مَالِهِ ، إذْ لَوْ كَانَ خَبَرُهُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ لَمْ يَكُنْ لِلْفَاءِ فِي قَوْلِهِ فَهُوَ فِي مَالِهِ مَعْنًى ، بَلْ لَمْ يَظْهَرْ لِضَمِيرِ هُوَ فِي قَوْلِهِ فَهُوَ فِي مَالِهِ ارْتِبَاطٌ بِمَا قَبْلَهُ ، وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا لَا سُتْرَةَ بِهِ عِنْدَ مَنْ لَهُ دُرْبَةٌ بِأَسَالِيبِ الْكَلَامِ وَالْقَوَاعِدِ الْأَدَبِيَّةِ ، فَإِنْ كَانَ خَبَرُ " مَا " قَوْلَهُ فَهُوَ فِي مَالِهِ لَمْ يَصِحَّ مَعْنَى الْكَلَامِ فِي الْمَقَامِ ، فَإِنَّ مَا وَجَبَ عَلَى الْعَاقِلَةِ مِنْ الدِّيَةِ لَيْسَ مِنْ مَالِ الْقَاتِلِ بِلَا رَيْبٍ .
فَالْحَقُّ فِي تَحْرِيرِ الْمَقَامِ أَنْ يُقَالَ : وَمَا وَجَبَ عَلَى الْعَاقِلَةِ مِنْ الدِّيَةِ أَوْ عَلَى الْقَاتِلِ فِي مَالِهِ بِأَنْ قَتَلَ الْأَبُ ابْنَهُ عَمْدًا فَهُوَ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ( قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَاهُ ، وَالشَّرْعَ وَرَدَ بِهِ مُؤَجَّلًا فَلَا يَتَعَدَّاهُ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ إنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَاهُ : أَيْ الْقِيَاسُ يَأْبَى إيجَابَ الْمَالِ بِمُقَابَلَةِ النَّفْسِ : يَعْنِي لَا يَقْتَضِيهِ لِأَنَّ الْقِيَاسَ مِنْ حُجَجِ الشَّرْعِ وَهِيَ لَا تَتَنَاقَضُ انْتَهَى .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِشَرْحٍ صَحِيحٍ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعْنَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ إنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَاهُ هُوَ أَنَّهُ لَا يَقْتَضِيهِ لَمَا أَثْبَتَ دَلِيلُنَا الْمَذْكُورُ هَاهُنَا مُدَّعَانَا ، فَإِنَّ إيجَابَ الْمَالِ بِمُقَابَلَةِ النَّفْسِ لَا يَكُونُ حِينَئِذٍ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ ، لِأَنَّ عَدَمَ اقْتِضَاءِ الْقِيَاسِ إيَّاهُ لَيْسَ بِاقْتِضَاءٍ لِعَدَمِهِ ، وَالْمُخَالَفَةُ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ فِي الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ وُرُودِ الشَّرْعِ بِإِيجَابِ الْمَالِ فِي الْخَطَإِ مُؤَجَّلًا

أَنْ لَا يَتَعَدَّى غَيْرُهُ ، لِأَنَّ الَّذِي لَا يَتَعَدَّى مَوْرِدُهُ إنَّمَا هُوَ مَا يُخَالِفُ الْقِيَاسَ كَمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ " وَهِيَ " : أَيْ حُجَجُ الشَّرْعِ لَا تَتَنَاقَضُ أَنَّ حُجَجَهُ الْمَعْمُولَ بِهَا لَا تَتَنَاقَضُ فَمُسَلَّمٌ ، لَكِنَّ الْقِيَاسَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ بِمَعْمُولٍ بِهِ بَلْ هُوَ مَتْرُوكٌ بِالنَّصِّ الْوَارِدِ بِإِيجَابِ الْمَالِ فَلَا مَحْذُورَ فِي اقْتِضَائِهِ عَدَمَ إيجَابِ الْمَالِ بِمُقَابَلَةِ النَّفْسِ ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّ حُجَجَ الشَّرْعِ لَا تَتَنَاقَضُ مُطْلَقًا : أَيْ سَوَاءٌ كَانَتْ مَعْمُولًا بِهَا أَوْ لَا فَمَمْنُوعٌ ، كَيْفَ وَقَدْ وَضَعُوا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ بَابًا لِلْمُعَارَضَةِ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالتَّرْجِيحِ ، وَبَيَّنُوا أَحْكَامَ ذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيلِ .
وَالْعَجَبُ مِنْ الشَّارِحِ الْمَزْبُورِ أَنَّهُ رَفَضَ هُنَا عِدَّةً مِنْ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ بِلَا ضَرُورَةٍ أَصْلًا .
ثُمَّ قَالَ ذَاكَ الشَّارِحُ : فَإِنْ قِيلَ هَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى الْخَطَإِ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ .
قُلْنَا : هُوَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ مَالًا وَجَبَ بِالْقَتْلِ ابْتِدَاءً .
أَقُولُ : إنَّ قَيْدَ الِابْتِدَاءِ فِي قَوْلِهِ وَجَبَ بِالْقَتْلِ ابْتِدَاءً يُنَافِي مَا مَرَّ مِنْهُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْمَعَاقِلِ فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ فِي الْكِتَابِ هُنَاكَ وَكُلُّ دِيَةٍ وَجَبَتْ بِنَفْسِ الْقَتْلِ عَلَى الْعَاقِلَةِ ، قَالَ ذَلِكَ الشَّارِحُ وَغَيْرُهُ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ وَجَبَتْ بِنَفْسِ الْقَتْلِ : يَعْنِي ابْتِدَاءً ، وَقَالُوا : يُحْتَرَزُ بِهِ عَنْ دِيَةٍ تَجِبُ بِسَبَبِ الصُّلْحِ أَوْ الْأُبُوَّةِ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ ، فَإِنَّهَا فِي مَالِ الْقَاتِلِ لَا عَلَى الْعَاقِلَةِ انْتَهَى .
وَوَجْهُ الْمُنَافَاةِ غَيْرُ خَافٍ عَلَى ذِي مُسْكَةٍ .

وَلَوْ قَتَلَ عَشَرَةٌ رَجُلًا خَطَأً فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ عُشْرُ الدِّيَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ اعْتِبَارًا لِلْجُزْءِ بِالْكُلِّ إذْ هُوَ بَدَلُ النَّفْسِ ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ مُدَّةُ ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ وَقْتِ الْقَضَاءِ بِالدِّيَةِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْأَصْلِيَّ الْمِثْلُ وَالتَّحَوُّلَ إلَى الْقِيمَةِ بِالْقَضَاءِ فَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاؤُهَا مِنْ وَقْتِهِ كَمَا فِي وَلَدِ الْمَغْرُورِ .
قَالَ ( وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ فَعَاقِلَتُهُ قَبِيلَتُهُ ) لِأَنَّ نُصْرَتَهُ بِهِمْ وَهِيَ الْمُعْتَبَرَةُ فِي التَّعَاقُلِ .
قَالَ ( وَتُقْسَمُ عَلَيْهِمْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ لَا يُزَادُ الْوَاحِدُ عَلَى أَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ فِي كُلِّ سَنَةٍ وَيُنْتَقَصُ مِنْهَا ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : كَذَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مُخْتَصَرِهِ ، وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ يُزَادُ عَلَى أَرْبَعَةٍ مِنْ جَمِيعِ الدِّيَةِ ، وَقَدْ نَصَّ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُزَادُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ جَمِيعِ الدِّيَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ عَلَى ثَلَاثَةٍ أَوْ أَرْبَعَةٍ فَلَا يُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ فِي كُلِّ سَنَةٍ إلَّا دِرْهَمٌ أَوْ دِرْهَمٌ وَثُلُثُ دِرْهَمٍ وَهُوَ الْأَصَحُّ .
قَالَ ( وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَتَّسِعُ الْقَبِيلَةُ لِذَلِكَ ضُمَّ إلَيْهِمْ أَقْرَبُ الْقَبَائِلِ ) مَعْنَاهُ : نَسَبًا كُلُّ ذَلِكَ لِمَعْنَى التَّخْفِيفِ وَيُضَمُّ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ عَلَى تَرْتِيبِ الْعَصَبَاتِ : الْإِخْوَةُ ثُمَّ بَنُوهُمْ ، ثُمَّ الْأَعْمَامُ ثُمَّ بَنُوهُمْ .
وَأَمَّا الْآبَاءُ وَالْأَبْنَاءُ فَقِيلَ يَدْخُلُونَ لِقُرْبِهِمْ ، وَقِيلَ لَا يَدْخُلُونَ لِأَنَّ الضَّمَّ لِنَفْيِ الْحَرَجِ حَتَّى لَا يُصِيبَ كُلَّ وَاحِدٍ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثَةٍ أَوْ أَرْبَعَةٍ ، وَهَذَا الْمَعْنَى إنَّمَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ الْكَثْرَةِ وَالْآبَاءُ وَالْأَبْنَاءُ لَا يَكْثُرُونَ ، وَعَلَى هَذَا حُكْمُ الرَّايَاتِ إذَا لَمْ يَتَّسِعْ لِذَلِكَ أَهْلُ رَايَةٍ ضُمَّ إلَيْهِمْ أَقْرَبُ الرَّايَاتِ : يَعْنِي أَقْرَبَهُمْ نُصْرَةً إذَا حَزَبَهُمْ أَمْرُ الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ ، وَيُفَوَّضُ ذَلِكَ إلَى الْإِمَامِ لِأَنَّهُ هُوَ الْعَالِمُ

بِهِ ، ثُمَّ هَذَا كُلُّهُ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ نِصْفُ دِينَارٍ فَيُسَوَّى بَيْنَ الْكُلِّ لِأَنَّهُ صِلَةٌ فَيُعْتَبَرُ بِالزَّكَاةِ وَأَدْنَاهَا ذَلِكَ إذْ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ عِنْدَهُمْ نِصْفُ دِينَارٍ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : هِيَ أَحَطُّ رُتْبَةً مِنْهَا ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تُؤْخَذُ مِنْ أَصْلِ الْمَالِ فَيُنْتَقَصُ مِنْهَا تَحْقِيقًا لِزِيَادَةِ التَّخْفِيفِ .

( قَوْلُهُ وَلَوْ قَتَلَ عَشَرَةٌ رَجُلًا خَطَأً فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ عُشْرُ الدِّيَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ اعْتِبَارًا لِلْجُزْءِ بِالْكُلِّ ) أَقُولُ : قَدْ مَرَّ فِي كِتَابِ الْجِنَايَاتِ أَنَّهُ إذَا قَتَلَ جَمَاعَةٌ وَاحِدًا عَمْدًا اُقْتُصَّ مِنْ جَمِيعِهِمْ ، وَقَالُوا فِي بَيَانِ وَجْهِهِ : إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتَلَ بِوَصْفِ الْكَمَالِ ، لِأَنَّ الْقَتْلَ لَا يَتَجَزَّأُ فَجَاءَ التَّمَاثُلُ بَيْنَ الْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ فَوَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى جَمِيعِهِمْ ، فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ هُنَا : فَلِمَ لَا تَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَشَرَةِ الْقَاتِلِينَ وَاحِدًا خَطَأً دِيَةٌ كَامِلَةٌ بِاعْتِبَارِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتَلَ بِوَصْفِ الْكَمَالِ كَمَا فِي الْعَمْدِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَتْلَ لَا يَتَجَزَّأُ ، وَقَدْ مَرَّ فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَضَى بِأَرْبَعِ دِيَاتٍ فِي ضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ ذَهَبَ بِهَا الْعَقْلُ وَالْكَلَامُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ فَلْيُتَأَمَّلْ فِي الْفَرْقِ ( قَوْلُهُ وَإِنَّمَا يَعْتَبِرُ مُدَّةَ ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ وَقْتِ الْقَضَاءِ بِالدِّيَةِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْأَصْلِيَّ الْمِثْلُ وَالتَّحَوُّلُ إلَى الْقِيمَةِ بِالْقَضَاءِ فَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاؤُهُ مِنْ وَقْتِهِ ) قَالَ الشُّرَّاحُ فِي بَيَانِهِ لِأَنَّ ضَمَانَ الْمُتْلَفَاتِ إنَّمَا يَكُونُ بِالْمِثْلِ بِالنَّصِّ ، وَمِثْلُ النَّفْسِ النَّفْسُ ، إلَّا أَنَّهُ إذَا رُفِعَ إلَى الْقَاضِي وَتَحَقَّقَ الْعَجْزُ عَنْ اسْتِيفَاءِ النَّفْسِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ وَهُوَ مَرْفُوعٌ عَنْ الْخَاطِئِ تَحَوَّلَ الْحَقُّ بِالْقَضَاءِ إلَى الْمَالِ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّهُمْ إنْ أَرَادُوا أَنَّ ضَمَانَ الْمُتْلَفَاتِ مُطْلَقًا حَتَّى النَّفْسُ الْمُتْلَفَةُ بِالْقَتْلِ خَطَأً إنَّمَا يَكُونُ بِالْمِثْلِ بِالنَّصِّ فَهُوَ مَمْنُوعٌ ، كَيْفَ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ } الْآيَةَ ، وَهُوَ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي كَوْنِ جَزَاءِ الْقَتْلِ خَطَأً

تَحْرِيرَ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةً مُسْلِمَةً إلَى أَهْلِهِ لَا قَتْلَ الْقَاتِلِ بِمُقَابَلَةِ ذَاكَ ، نَعَمْ إنَّ قَوْله تَعَالَى { فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } كَانَ يَقْتَضِي بِإِطْلَاقِهِ أَنْ يَكُونَ الضَّمَانُ فِي النَّفْسِ الْمُتْلَفَةِ بِالْقَتْلِ خَطَأً أَيْضًا بِالْمِثْلِ لَوْ لَمْ يَكُنْ حُكْمُ الْقَتْلِ خَطَأً مُخَصَّصًا مِنْهُ بِنَصٍّ آخَرَ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ } وَلَمَّا خُصَّ بِهِ مِنْ ذَلِكَ كَانَ جَوَابُ الدِّيَةِ فِي الْقَتْلِ خَطَأً مَنْصُوصًا عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ رَبِّ الْعِزَّةِ ثَابِتًا قَبْلَ الْقَضَاءِ بَلْ قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ الْقَاضِي ، وَإِنْ أَرَادُوا أَنَّ ضَمَانَ الْمُتْلَفَاتِ مَا عَدَا النَّفْسِ إنَّمَا يَكُونُ بِالْمِثْلِ بِالنَّصِّ فَهُوَ مُسَلَّمٌ لَا مَحَالَةَ ، وَلَكِنْ لَا يُجْدِي شَيْئًا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ كَمَا لَا يَخْفَى ( قَوْلُهُ وَقِيلَ لَا يَدْخُلُونَ لِأَنَّ الضَّمَّ لِنَفْيِ الْحَرَجِ حَتَّى لَا يُصِيبَ كُلَّ وَاحِدٍ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثَةٍ أَوْ أَرْبَعَةٍ وَهَذَا الْمَعْنَى إنَّمَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ الْكَثْرَةِ ، وَالْآبَاءُ وَالْأَبْنَاءُ لَا يَكْثُرُونَ ) أَقُولُ : فِيهِ كَلَامٌ ، وَهُوَ أَنَّ عَدَمَ كَثْرَةِ الْآبَاءِ مُسَلَّمٌ ، وَأَمَّا عَدَمُ كَثْرَةِ الْأَبْنَاءِ كَكَثْرَةِ الْإِخْوَةِ فَمَمْنُوعٌ ، كَيْفَ وَأَخَوَاتُهُ أَبْنَاءُ أَبِيهِ ، فَإِذَا جَازَ أَنْ يُكْثِرَ أَبْنَاءَ أَبِيهِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُكْثِرَ أَبْنَاءَ نَفْسِهِ فَتَأَمَّلْ .

( وَلَوْ كَانَتْ عَاقِلَةُ الرَّجُلِ أَصْحَابَ الرِّزْقِ يُقْضَى بِالدِّيَةِ فِي أَرْزَاقِهِمْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ فِي كُلِّ سَنَةٍ الثُّلُثُ ) لِأَنَّ الرِّزْقَ فِي حَقِّهِمْ بِمَنْزِلَةِ الْعَطَاءِ قَائِمٌ مُقَامَهُ إذْ كُلٌّ مِنْهُمَا صِلَةٌ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ، ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كَانَتْ أَرْزَاقُهُمْ تَخْرُجُ فِي كُلِّ سَنَةٍ ، فَكَمَا يَخْرُجُ رِزْقٌ يُؤْخَذُ الثُّلُثُ بِمَنْزِلَةِ الْعَطَاءِ ، وَإِنْ كَانَ يَخْرُجُ فِي كُلِّ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَخَرَجَ بَعْدَ الْقَضَاءِ يُؤْخَذُ مِنْهُ سُدُسُ الدِّيَةِ وَإِنْ كَانَ يَخْرُجُ فِي كُلِّ شَهْرٍ يُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ رِزْقٍ بِحِصَّتِهِ مِنْ الشَّهْرِ حَتَّى يَكُونَ الْمُسْتَوْفِي فِي كُلِّ سَنَةٍ مِقْدَارَ الثُّلُثِ ، وَإِنْ خَرَجَ بَعْدَ الْقَضَاءِ بِيَوْمٍ أَوْ أَكْثَرَ أُخِذَ مِنْ رِزْقِ ذَلِكَ الشَّهْرِ بِحِصَّةِ الشَّهْرِ ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ أَرْزَاقٌ فِي كُلِّ شَهْرٍ وَأَعْطِيَةٌ فِي كُلِّ سَنَةٍ فُرِضَتْ الدِّيَةُ فِي الْأَعْطِيَةِ دُونَ الْأَرْزَاقِ لِأَنَّهُ أَيْسَرُ ، إمَّا لِأَنَّ الْأَعْطِيَةَ أَكْثَرُ ، أَوْ لِأَنَّ الرِّزْقَ لِكِفَايَةِ الْوَقْتِ فَيَتَعَسَّرُ الْأَدَاءُ مِنْهُ وَالْأَعْطِيَاتُ لِيَكُونُوا فِي الدِّيوَانِ قَائِمِينَ بِالنُّصْرَةِ فَيَتَيَسَّرَ عَلَيْهِمْ .
قَالَ ( وَأُدْخِلَ الْقَاتِلُ مَعَ الْعَاقِلَةِ فَيَكُونُ فِيمَا يُؤَدِّي كَأَحَدِهِمْ ) لِأَنَّهُ هُوَ الْفَاعِلُ فَلَا مَعْنَى لِإِخْرَاجِهِ وَمُؤَاخَذَةِ غَيْرِهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ شَيْءٌ مِنْ الدِّيَةِ اعْتِبَارًا لِلْجُزْءِ بِالْكُلِّ فِي النَّفْيِ عَنْهُ وَالْجَامِعُ كَوْنُهُ مَعْذُورًا .
قُلْنَا : إيجَابُ الْكُلِّ إجْحَافٌ بِهِ وَلَا كَذَلِكَ إيجَابُ الْجُزْءِ ، وَلَوْ كَانَ الْخَاطِئُ مَعْذُورًا فَالْبَرِيءُ مِنْهُ أَوْلَى ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى }

( قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَتْ عَاقِلَةُ الرَّجُلِ أَصْحَابَ الرِّزْقِ يُقْضَى بِالدِّيَةِ فِي أَرْزَاقِهِمْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ فِي كُلِّ سَنَةٍ الثُّلُثُ ، لِأَنَّ الرِّزْقَ فِي حَقِّهِمْ بِمَنْزِلَةِ الْعَطَاءِ قَائِمٌ مُقَامَهُ ، إذْ كُلٌّ مِنْهُمَا صِلَةٌ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ) قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ : الْفَرْقُ بَيْنَ الرِّزْقِ وَالْعَطَاءِ أَنَّ الرِّزْقَ مَا يُفْرَضُ لِلْإِنْسَانِ فِي مَالِ بَيْتِ الْمَالِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ وَالْكِفَايَةِ يُفْرَضُ لَهُ مَا يَكْفِيهِ كُلَّ شَهْرٍ أَوْ كُلَّ يَوْمٍ ، وَالْعَطَاءُ مَا يُفْرَضُ كُلَّ سَنَةٍ لَا بِالْحَاجَةِ انْتَهَى .
أَقُولُ : تَفْسِيرُ الْعَطَاءِ بِمَا ذَكَرَهُ لَا يُلَائِمُ مَسْأَلَةً مَرَّتْ فِيمَا قَبْلُ وَهِيَ قَوْلُهُ وَلَوْ خَرَجَ لِلْقَاتِلِ ثَلَاثُ عَطَايَا فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ يُؤْخَذُ مِنْهَا كُلُّ الدِّيَةِ ، فَإِنَّ الْمَفْهُومَ مِنْهَا جَوَازُ أَنْ يُفْرَضَ لِرَجُلٍ عَطَاءٌ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِنْ الثَّلَاثِ فَتَخْرُجُ لَهُ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ ثَلَاثُ عَطَايَا ، وَالظَّاهِرُ مِنْ التَّفْسِيرِ الْمَزْبُورِ أَنْ يَكُونَ الْعَطَاءُ مَا يُفْرَضُ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً وَاحِدَةً .
نَعَمْ يُلَائِمُ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ قَبِيلُ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ : وَالْعَطَاءُ يَخْرُجُ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً وَاحِدَةً ، فَاَلَّذِي يُمْكِنُ فِي التَّوْفِيقِ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَالْعَطَاءُ يَخْرُجُ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً وَاحِدَةً ، وَكَذَا التَّفْسِيرُ الَّذِي ذَكَرَهُ تَاجُ الشَّرِيعَةِ لِلْعَطَاءِ عَلَى مَا هُوَ الْأَكْثَرُ الْأَغْلَبُ وُقُوعًا ، وَمِثْلُ هَذَا لَيْسَ بِعَزِيزٍ فِي الْمُتَعَارَفِ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ : الْفَرْقُ بَيْنَ الرِّزْقِ وَالْعَطِيَّةِ أَنَّ الرِّزْقَ مَا يُفْرَضُ لِكِفَايَةِ الْوَقْتِ ، وَالْعَطِيَّةُ مَا يُفْرَضُ لِيَكُونُوا قَائِمِينَ بِالنُّصْرَةِ .
ثُمَّ قَالَ : قَالَ صَاحِبُ الْمُغْرِبِ : الْعَطِيَّةُ مَا يُفْرَضُ لِلْمُقَاتِلَةِ ، وَالرِّزْقُ مَا يُجْعَلُ لِفُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ إذَا لَمْ يَكُونُوا مُقَاتِلَةً .
وَفِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّ مُحَمَّدًا قَالَ : إذَا كَانَ لَهُمْ أَرْزَاقٌ وَأَعْطِيَاتٌ فُرِضَتْ الدِّيَةُ فِي أَعْطِيَاتِهِمْ دُونَ أَرْزَاقِهِمْ ،

فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ الرِّزْقَ يُفْرَضُ لِلْمُقَاتِلَةِ أَيْضًا انْتَهَى .
أَقُولُ : إنَّ صَاحِبَ الْمُغْرِبِ قَدْ ذَكَرَ الْفَرْقَ بَيْنَ الرِّزْقِ وَالْعَطَاءِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مِنْ الْمُغْرِبِ : أَحَدُهُمَا مَوْضِعُ بَيَانِ الرِّزْقِ ، وَالثَّانِي مَوْضِعُ بَيَانِ الْعَطَاءِ ، فَقَالَ فِي الْأَوَّلِ : الرِّزْقُ مَا يُخْرَجُ لِلْجُنْدِيِّ عِنْدَ رَأْسِ كُلِّ شَهْرٍ ، وَقِيلَ يَوْمًا بِيَوْمٍ .
ثُمَّ قَالَ : وَفِي مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ : الْعَطَاءُ مَا يُفْرَضُ لِلْمُقَاتِلَةِ ، وَالرِّزْقُ لِلْفُقَرَاءِ .
وَقَالَ فِي الثَّانِي : الْعَطَاءُ اسْمُ مَا يُعْطَى وَالْجَمْعُ أَعْطِيَةٌ وَأَعْطِيَاتٌ ، وَقَوْلُهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْعَطَاءِ وَالرِّزْقِ فَفَرْقُ مَا بَيْنَهُمَا أَنَّ الْعَطَاءَ مَا يَخْرُجُ لِلْجُنْدِيِّ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فِي السُّنَّةِ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ، وَالرِّزْقُ مَا يَخْرُجُ لَهُ كُلَّ شَهْرٍ .
ثُمَّ قَالَ : وَفِي شَرْحِ الْقُدُورِيِّ فِي الْعَاقِلَةِ .
الدِّيَةُ فِي أَعْطِيَاتِهِمْ ثَلَاثَ سِنِينَ ، فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا أَهْلَ عَطَاءٍ وَكَانَتْ لَهُمْ أَرْزَاقٌ جُعِلَتْ الدِّيَةُ فِي أَرْزَاقِهِمْ .
وَقَالَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْعَطِيَّةَ مَا يُفْرَضُ لِلْمُقَاتِلَةِ ، وَالرِّزْقُ مَا يُجْعَلُ لِفُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ إذَا لَمْ يَكُونُوا مُقَاتِلَةً انْتَهَى .
فَنَظَرُ صَاحِبِ الْغَايَةِ لَا يَرِدُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْمَوْضِعِ الْأَوَّلِ قَطُّ ، وَكَذَا لَا يَرِدُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْمَوْضِعِ الثَّانِي أَوَّلًا بِقَوْلِهِ فَفَرْقُ مَا بَيْنَهُمَا أَنَّ الْعَطَاءَ مَا يَخْرُجُ لِلْجُنْدِيِّ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فِي السَّنَةِ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ وَالرِّزْقُ مَا يَخْرُجُ لَهُ كُلَّ شَهْرٍ ، وَإِنَّمَا يَرِدُ عَلَى مَا نَقَلَهُ مَنْ شَرْحِ الْقُدُورِيِّ بِقَوْلِهِ وَقَالَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْعَطِيَّةَ مَا يُفْرَضُ لِلْمُقَاتِلَةِ ، وَالرِّزْقَ مَا يُجْعَلُ لِفُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ إذَا لَمْ يَكُونُوا مُقَاتِلَةً ، وَهُوَ لَيْسَ بِمَرْضِيٍّ عِنْدَ صَاحِبِ الْمُغْرِبِ ، فَنِسْبَةُ ذَلِكَ الْقَوْلِ إلَى صَاحِبِ الْمُغْرِبِ نَفْسِهِ وَإِيرَادُ النَّظَرِ عَلَيْهِ لَيْسَ كَمَا يَنْبَغِي ،

وَالْعَجَبُ هَاهُنَا مِنْ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ أَنَّهُ خَصَّ بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ مَا ذَكَرُوا فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْعَطِيَّةِ وَالرِّزْقِ ذَلِكَ الْقَوْلَ الَّذِي رَدَّهُ صَاحِبُ الْغَايَةِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَحْذُورِ وَلَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا يَدْفَعُهُ مَعَ ظُهُورِ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ الْآتِيَةَ فِي الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ وَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ أَرْزَاقٌ فِي كُلِّ شَهْرٍ وَأَعْطِيَةٌ فِي كُلِّ سَنَةٍ فُرِضَتْ الدِّيَةُ فِي الْأَعْطِيَةِ دُونَ الْأَرْزَاقِ يَأْبَى ذَلِكَ الْقَوْلَ جِدًّا .
( قَوْلُهُ وَأُدْخِلَ الْقَاتِلُ مَعَ الْعَاقِلَةِ فَيَكُونُ فِيمَا يُؤَدِّي كَأَحَدِهِمْ ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : اعْلَمْ أَنَّ الْقَاتِلَ إنَّمَا يَكُونُ كَأَحَدِ الْعَوَاقِلِ فِي أَدَاءِ نَصِيبِهِ مِنْ الدِّيَةِ إذَا كَانَ الْقَاتِلُ مِنْ أَهْلِ الْعَطَاءِ فِي الدِّيوَانِ .
وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْعَطَاءِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الدِّيَةِ عِنْدَنَا أَيْضًا لِأَنَّ الدِّيَةَ تُؤْخَذُ مِنْ الْأَعْطِيَاتِ وَقَالَ وَهُوَ هَكَذَا مَنْصُوصٌ فِي الْمَبْسُوطِ وَاقْتَفَى أَثَرَهُ فِي تَقْيِيدِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِالْوَجْهِ الْمَزْبُورِ أَكْثَرُ الشُّرَّاحِ مِنْهُمْ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ .
أَقُولُ : هَذَا مُشْكِلٌ عِنْدِي ، إذْ قَدْ مَرَّ فِي الْكِتَابِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ فَعَاقِلَتُهُ قَبِيلَتُهُ لِأَنَّ نُصْرَتَهُ بِهِمْ وَهِيَ الْمُعْتَبَرَةُ فِي التَّعَاقُلِ وَلَا شَكَّ أَنَّ قَبِيلَةَ مَنْ لَا يَكُون مِنْ أَهْلِ الْعَطَاءِ فِي الدِّيوَانِ قَدْ لَا تَكُونُ هِيَ أَيْضًا مِنْ أَهْلِ الْعَطَاءِ فِي الدِّيوَانِ وَقَدْ مَرَّ أَيْضًا أَنَّهُمْ قَالُوا : لَوْ كَانَ الْيَوْمَ قَوْمٌ تُنَاصِرُهُمْ بِالْحِرَفِ فَعَاقِلَتُهُمْ أَهْلُ الْحِرْفَةِ وَإِنْ كَانَ بِالْحِلْفِ فَأَهْلُهُ وَعَلَى مُقْتَضَى مَا ذُكِرَ فِي النِّهَايَةِ مِنْ قَوْلِهِ لِأَنَّ الدِّيَةَ تُؤْخَذُ مِنْ الْأَعْطِيَاتِ فِي تَعْلِيلِ قَوْلِهِ وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْعَطَاءِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الدِّيَةِ عِنْدَنَا أَيْضًا يَلْزَمُ أَنْ لَا تَجِبَ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ أَيْضًا فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ

الْقَاتِلُ وَلَا عَاقِلَتُهُ مِنْ أَهْلِ الْعَطَاءِ لِعَدَمِ إمْكَانِ الْأَخْذِ مِنْ الْأَعْطِيَاتِ هُنَاكَ لَا فِي حَقِّ الْقَاتِلِ وَلَا فِي حَقِّ عَاقِلَتِهِ وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ لَا مَحَالَةَ فَإِنَّ وُجُوبَ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي الْقَتْلِ الْخَطَإِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ الدِّيَةُ أَلْبَتَّةَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ عَلَى الْقَاتِلِ أَيْضًا شَيْءٌ مِنْهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْعَطَاءِ لِلْعِلَّةِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي الْكِتَابِ وَهِيَ أَنَّ الْقَاتِلَ هُوَ الْفَاعِلُ فَلَا مَعْنَى لِإِخْرَاجِهِ وَمُؤَاخَذَةِ غَيْرِهِ فَتَدَبَّرْ .

( وَلَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ مِمَّنْ كَانَ لَهُ حَظٌّ فِي الدِّيوَانِ عَقْلٌ ) لِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَا يَعْقِلُ مَعَ الْعَاقِلَةِ صَبِيٌّ وَلَا امْرَأَةٌ ، وَلِأَنَّ الْعَقْلَ إنَّمَا يَجِبُ عَلَى أَهْلِ النُّصْرَةِ لِتَرْكِهِمْ مُرَاقَبَتَهُ ، وَالنَّاسُ لَا يَتَنَاصَرُونَ بِالصِّبْيَانِ وَالنِّسَاءِ وَلِهَذَا لَا يُوضَعُ عَلَيْهِمْ مَا هُوَ خَلَفٌ عَنْ النُّصْرَةِ وَهُوَ الْجِزْيَةُ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ الْقَاتِلُ صَبِيًّا أَوْ امْرَأَةً لَا شَيْءَ عَلَيْهِمَا مِنْ الدِّيَةِ بِخِلَافِ الرَّجُلِ ، لِأَنَّ وُجُوبَ جُزْءٍ مِنْ الدِّيَةِ عَلَى الْقَاتِلِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ أَحَدُ الْعَوَاقِلِ لِأَنَّهُ يَنْصُرُ نَفْسَهُ وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِيهِمَا ، وَالْفَرْضُ لَهُمَا مِنْ الْعَطَاءِ لِلْمَعُونَةِ لَا لِلنُّصْرَةِ كَفَرْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ .

( قَوْلُهُ وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ الْقَاتِلُ صَبِيًّا أَوْ امْرَأَةً لَا شَيْءَ عَلَيْهِمَا ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : إنَّ قَوْلَهُ هُنَا لَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ شَيْءٌ مِنْ الدِّيَةِ وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْقَاتِلَةَ يُخَالِفُ الْمَسْأَلَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا قُبَيْلَ كِتَابِ الْمَعَاقِلِ فِيمَا إذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي دَارِ امْرَأَةٍ حَيْثُ أَدْخَلَهَا الْمُتَأَخِّرُونَ هُنَاكَ فِي تَحَمُّلِ الدِّيَةِ مَعَ الْعَاقِلَةِ انْتَهَى .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ بِقِيلِ : وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ فَرْضَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا كَانَتْ قَاتِلَةً حَقِيقَةً وَهُنَاكَ تُقَدَّرُ قَاتِلَةً بِسَبَبِ وُجُوبِ الْقَسَامَةِ لَا يُقَالُ : إذَا لَمْ يَجِبْ عَلَى الْمَرْأَةِ شَيْءٌ مِنْ الدِّيَةِ وَهِيَ قَاتِلَةٌ حَقِيقَةً فَلَأَنْ لَا يَجِبَ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنْهَا وَهِيَ قَاتِلَةٌ تَقْدِيرًا أَوْلَى ، لِأَنَّا نَقُولُ : الْقَسَامَةُ تَسْتَلْزِمُ وُجُوبَ الدِّيَةِ عَلَى الْمُقْسِمِ إمَّا بِالِاسْتِقْلَالِ أَوْ بِالدُّخُولِ فِي الْعَاقِلَةِ عِنْدَنَا بِالِاسْتِقْرَاءِ ، وَقَدْ تَحَقَّقَ الْمَلْزُومُ فَيَتَحَقَّقُ اللَّازِمُ ، بِخِلَافِ الْقَتْلِ مُبَاشَرَةً فَإِنَّهُ قَدْ لَا يَسْتَلْزِمُ الدِّيَةَ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّ اسْتِلْزَامَ الْقَسَامَةِ وُجُوبُ الدِّيَةِ عَلَى الْمُقْسِمِ عِنْدَنَا إمَّا بِالِاسْتِقْلَالِ أَوْ بِالدُّخُولِ فِي الْعَاقِلَةِ بِالِاسْتِقْرَاءِ مَمْنُوعٌ ، فَإِنَّهُ إذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي قَرْيَةِ امْرَأَةٍ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ يَجِبُ عَلَيْهَا الْقَسَامَةُ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنْ الدِّيَةِ عَلَى مَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ مِنْ مُحَمَّدٍ كَمَا ذُكِرَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ وَالْكِفَايَةِ وَغَيْرِهِمَا ، وَالْمُتَأَخِّرُونَ وَإِنْ قَالُوا : إنَّ الْمَرْأَةَ تَدْخُلُ مَعَ الْعَاقِلَةِ فِي تَحَمُّلِ الدِّيَةِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ إلَّا أَنَّ تَعْلِيلَهُمْ إيَّاهَا بِقَوْلِهِمْ لِأَنَّا أَنْزَلْنَاهَا قَاتِلَةً وَالْقَاتِلَةُ تُشَارِكُ الْعَاقِلَةَ كَمَا مَرَّ فِي الْكِتَابِ قُبَيْلَ كِتَابِ الْمَعَاقِلِ يَأْبَى الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَاتِلَةِ حَقِيقَةً

وَالْمُقَدَّرَةِ قَاتِلَةً ، بَلْ يَقْتَضِي قِيَاسَ الْمُنَزَّلَةِ قَاتِلَةً عَلَى الْقَاتِلَةِ حَقِيقَةً وَإِلَّا لَا يَتِمُّ تَعْلِيلُهُمْ الْمَذْكُورُ لَا عَلَى قَاعِدَةِ الْفِقْهِ وَلَا عَلَى قَاعِدَةِ الْمِيزَانِ كَمَا يَظْهَرُ بِالتَّأَمُّلِ الصَّادِقِ ، فَالْحَقُّ فِي التَّوْفِيقِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ فِي الْمَقَامَيْنِ مَا ذَكَرَهُ سَائِرُ الشُّرَّاحِ فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْكِفَايَةِ : هَذَا يُخَالِفُ مَا ذُكِرَ قُبَيْلَ الْمَعَاقِلِ مِنْ اخْتِيَارِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَدْخُلُ فِي التَّحَمُّلِ مَعَ الْعَاقِلَةِ ، إلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِأَصْلِ الرِّوَايَةِ وَإِنَّمَا هُوَ اخْتِيَارُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ ، وَمَا ذُكِرَ هُنَا هُوَ اخْتِيَارُ الطَّحَاوِيِّ وَهُوَ الْأَصَحُّ وَهُوَ أَصْلُ رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ انْتَهَى .
وَقَالَ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ : هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُخَالِفَةٌ لِمَا مَرَّ قُبَيْلَ كِتَابِ الْمَعَاقِلِ أَنَّهُ لَوْ وُجِدَ قَتِيلٌ فِي دَارِ امْرَأَةٍ أَنَّ الْمَرْأَةَ تُشَارِكُ الْعَاقِلَةَ عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ ، إلَّا أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا عَلَى رِوَايَةِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَدْخُلُ فِي الْعَوَاقِلِ فِي صُورَةٍ مِنْ الصُّوَرِ انْتَهَى ، وَقَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ : فَإِنْ قُلْت : قَدْ مَرَّ قُبَيْلَ كِتَابِ الْمَعَاقِلِ أَنَّ الْقَتِيلَ إذَا وُجِدَ فِي قَرْيَةِ امْرَأَةٍ تَجِبُ الْقَسَامَةُ عَلَيْهَا وَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَذَهَبَ الْمَشَايِخُ الْمُتَأَخِّرُونَ إلَى أَنَّهَا تُشَارِكُ الْعَاقِلَةَ فِي الدِّيَةِ فَكَيْفَ لَمْ تُشَارِكْهُمْ هُنَا .
قُلْت : ثَمَّةَ لَا تُشَارِكُهُمْ فِي الدِّيَةِ عَلَى مَا هُوَ الْمَنْصُوصُ مِنْ مُحَمَّدٍ ، وَإِنَّمَا اسْتَحْسَنَ الْمُتَأَخِّرُونَ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ خَاصَّةً انْتَهَى ، ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : فَإِنْ قُلْت : هَذَا الْجَوَابُ يَبْتَنِي عَلَى إيجَابِ الْقَسَامَةِ عَلَيْهَا وَفِي ذَلِكَ تَنَاقُضٌ ، لِأَنَّهُ قَالَ قَبْلَ هَذَا وَلَا قَسَامَةَ عَلَى صَبِيٍّ إلَى أَنْ قَالَ وَلَا امْرَأَةٍ وَلَا عَبْدٍ ، وَقَالَ هَاهُنَا : لَوْ وُجِدَ

قَتِيلٌ فِي قَرْيَةٍ لِامْرَأَةٍ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ الْقَسَامَةُ عَلَيْهَا تُكَرِّرُ الْأَيْمَانَ وَذَلِكَ تَنَاقُضٌ أَلْبَتَّةَ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي سِيَاقِ قَوْلِهِ وَإِنْ لَمْ يُكْمِلْ أَهْلُ الْمُحَلَّةِ خَمْسِينَ كُرِّرَتْ الْأَيْمَانُ ، فَمَعْنَاهُ لَا يُكْمِلُ أَهْلُ الْمُحَلَّةِ خَمْسِينَ مِنْ الصَّبِيِّ وَالْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ النُّصْرَةِ وَالْيَمِينِ عَلَى أَهْلِهَا ، وَأَمَّا هُنَا فَالْقَتِيلُ وُجِدَ فِي قَرْيَتِهَا فَتَجِبُ عَلَيْهَا نَفْيًا لِتُهْمَةِ الْقَتْلِ فَإِنَّهَا تَتَحَقَّقُ مِنْهَا ، وَتَبَيَّنَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْقَسَامَةَ إذَا وَجَبَتْ عَلَى الْجَمَاعَةِ تُعَلَّلُ بِالنُّصْرَةِ ، فَمَنْ كَانَ أَهْلًا لَهَا يَدْخُلُ وَمَنْ لَا فَلَا ، فَلَا يَدْخُلُ الصَّبِيُّ وَالْعَبْدُ وَالْمَرْأَةُ ، وَإِذَا وَجَبَتْ عَلَى وَاحِدٍ تُعَلَّلُ بِتُهْمَةِ الْقَتْلِ ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ وَمَنْ لَا فَلَا فَتَدْخُلُ الْمَرْأَةُ ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
أَقُولُ : فِيهِ أَيْضًا نَظَرٌ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ كَوْنَ ذَلِكَ مَذْكُورًا فِي سِيَاقِ قَوْلِهِ وَإِنْ لَمْ يُكْمِلْ أَهْلُ الْمُحَلَّةِ خَمْسِينَ كُرِّرَتْ الْأَيْمَانُ مَمْنُوعٌ ، بَلْ ذَلِكَ مَسْأَلَةٌ مُبْتَدَأَةٌ مَقْصُودَةٌ بِالْبَيَانِ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ ، إذْ لَوْ كَانَ مَعْنَاهُ لَا يُكْمِلُ أَهْلُ الْمُحَلَّةِ خَمْسِينَ مِنْ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ لَا نَفْيُ صَلَاحِيَتِهِمْ لِلْقَسَامَةِ مُطْلَقًا : أَيْ سَوَاءٌ كَانُوا مُنْضَمِّينَ إلَى الْغَيْرِ لِتَكْمِيلِ الْخَمْسِينَ أَوْ كَانُوا مُنْفَرِدِينَ وَحْدَهُمْ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ بَيَانُ حَالِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْعَبْدِ فِي أَمْرِ الْقَسَامَةِ عِنْدَ كَوْنِهِمْ مُنْفَرِدِينَ غَيْرَ مُنْضَمِّينَ إلَى الْغَيْرِ مَتْرُوكًا بِالْكُلِّيَّةِ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَكَثِيرٌ مِنْ الْكُتُبِ الْمُعْتَبَرَةِ ، إذْ الْفَرْضُ أَنَّ عَدَمَ الصَّلَاحِيَّةِ لِلْقَسَامَةِ حَالَ الِانْضِمَامِ إلَى الْغَيْرِ لِتَكْمِيلِ الْخَمْسِينَ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الصَّلَاحِيَّةِ لَهَا حَالَ الِانْفِرَادِ إذْ هُوَ حَاصِلُ

الْجَوَابِ الَّذِي ذَكَرَهُ لِدَفْعِ التَّنَاقُضِ بَيْنَ الْمَقَامَيْنِ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ كَمَا تَرَى .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ الْقَسَامَةِ إذَا وَجَبَتْ عَلَى الْجَمَاعَةِ تُعَلَّلُ بِالنُّصْرَةِ ، وَإِذَا وَجَبَتْ عَلَى الْوَاحِدِ تُعَلَّلُ بِتُهْمَةِ الْقَتْلِ مِنْ عِنْدِيَاتِهِ لَا يُسَاعِدُهُ الْعَقْلُ وَلَا النَّقْلُ ، أَمَّا عَدَمُ مُسَاعَدَةِ الْعَقْلِ فَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ تَرْكِ النُّصْرَةِ وَاحْتِمَالِ الْقَتْلِ مُتَحَقِّقٌ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ صُورَتَيْ وُجُوبِ الْقَسَامَةِ عَلَى الْجَمَاعَةِ وَوُجُوبِهَا عَلَى الْوَاحِدِ ، فَتَعْلِيلُ إحْدَاهُمَا بِالْأَوَّلِ وَالْأُخْرَى بِالثَّانِي دُونَ الْعَكْسِ أَوْ الْجَمْعِ تَحَكُّمٌ بَحْتٌ .
وَأَمَّا عَدَمُ مُسَاعِدَةِ النَّقْلِ فَلِأَنَّهُمْ كَانُوا يُعَلِّلُونَ وُجُوبَ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ مُطْلَقًا بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْعِلَّتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ يُرَاجِعُ الْمُعْتَبَرَاتِ وَقَدْ مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَى ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ مِنْ نَفْسِ الْكِتَابِ فَتَذَكَّرْ .

( وَلَا يَعْقِلُ أَهْلُ مِصْرٍ عَنْ مِصْرٍ آخَرَ ) يُرِيدُ بِهِ أَنَّهُ إذَا كَانَ لِأَهْلِ كُلِّ مِصْرٍ دِيوَانٌ عَلَى حِدَةٍ لِأَنَّ التَّنَاصُرَ بِالدِّيوَانِ عِنْدَ وُجُودِهِ ، وَلَوْ كَانَ بِاعْتِبَارِ الْقُرْبِ فِي السُّكْنَى فَأَهْلُ مِصْرِهِ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ أَهْلِ مِصْرٍ آخَرَ ( وَيَعْقِلُ أَهْلُ كُلِّ مِصْرٍ مِنْ أَهْلِ سَوَادِهِمْ ) لِأَنَّهُمْ أَتْبَاعٌ لِأَهْلِ الْمِصْرِ ، فَإِنَّهُمْ إذَا حَزَبَهُمْ أَمْرٌ اسْتَنْصَرُوا بِهِمْ فَيَعْقِلُهُمْ أَهْلُ الْمِصْرِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْقُرْبِ فِي النُّصْرَةِ ( وَمَنْ كَانَ مَنْزِلُهُ بِالْبَصْرَةِ وَدِيوَانُهُ بِالْكُوفَةِ عَقَلَ عَنْهُ أَهْلُ الْكُوفَةِ ) لِأَنَّهُ يَسْتَنْصِرُ بِأَهْلِ دِيوَانِهِ لَا بِجِيرَانِهِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الِاسْتِنْصَارَ بِالدِّيوَانِ أَظْهَرُ فَلَا يَظْهَرُ مَعَهُ حُكْمُ النُّصْرَةِ بِالْقَرَابَةِ وَالنَّسَبِ وَالْوَلَاءِ وَقُرْبِ السُّكْنَى وَغَيْرِهِ وَبَعْدَ الدِّيوَانِ النُّصْرَةُ بِالنَّسَبِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ كَثِيرٌ مِنْ صُوَرِ مَسَائِلِ الْمَعَاقِلِ ( وَمَنْ جَنَى جِنَايَةً مِنْ أَهْلِ الْمِصْرِ وَلَيْسَ لَهُ فِي الدِّيوَانِ عَطَاءٌ وَأَهْلُ الْبَادِيَةِ أَقْرَبُ إلَيْهِ وَمَسْكَنُهُ الْمِصْرُ عَقَلَ عَنْهُ أَهْلُ الدِّيوَانِ مِنْ ذَلِكَ الْمِصْرِ ) وَلَمْ يُشْتَرَطْ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِ الدِّيوَانِ قَرَابَةٌ ، قِيلَ هُوَ صَحِيحٌ لِأَنَّ الَّذِينَ يَذُبُّونَ عَنْ أَهْلِ الْمِصْرِ وَيُقَدَّمُونَ بِنُصْرَتِهِمْ وَيَدْفَعُونَ عَنْهُمْ أَهْلُ الدِّيوَانِ مِنْ أَهْلِ الْمِصْرِ وَلَا يَخُصُّونَ بِهِ أَهْلَ الْعَطَاءِ .
وَقِيلَ تَأْوِيلُهُ إذَا كَانَ قَرِيبًا لَهُمْ ، وَفِي الْكِتَابِ إشَارَةٌ إلَيْهِ حَيْثُ قَالَ : وَأَهْلُ الْبَادِيَةِ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ أَهْلِ مِصْرٍ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْوُجُوبَ عَلَيْهِمْ بِحُكْمِ الْقَرَابَةِ وَأَهْلُ الْمِصْرِ أَقْرَبُ مِنْهُمْ مَكَانًا فَكَانَتْ الْقُدْرَةُ عَلَى النُّصْرَةِ لَهُمْ وَصَارَ نَظِيرُ مَسْأَلَةِ الْغَيْبَةِ الْمُنْقَطِعَةِ ( وَلَوْ كَانَ الْبَدْوِيُّ نَازِلًا فِي الْمِصْرِ لَا مَسْكَنَ لَهُ فِيهِ لَا يَعْقِلُهُ أَهْلُ الْمِصْرِ ) لِأَنَّ أَهْلَ الْعَطَاءِ لَا

يَنْصُرُونَ مَنْ لَا مَسْكَنَ لَهُ فِيهِ ، كَمَا أَنَّ أَهْلَ الْبَادِيَةِ لَا تَعْقِلُ عَنْ أَهْلِ الْمِصْرِ النَّازِلِ فِيهِمْ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَنْصِرُ بِهِمْ ( وَإِنْ كَانَ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ عَوَاقِلُ مَعْرُوفَةٌ يَتَعَاقَلُونَ بِهَا فَقَتَلَ أَحَدُهُمْ قَتِيلًا فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْلِمِ ) لِأَنَّهُمْ الْتَزَمُوا أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فِي الْمُعَامَلَاتِ لَا سِيَّمَا فِي الْمَعَانِي الْعَاصِمَةِ عَنْ الْإِضْرَارِ ، وَمَعْنَى التَّنَاصُرِ مَوْجُودٌ فِي حَقِّهِمْ ( وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ عَاقِلَةٌ مَعْرُوفَةٌ فَالدِّيَةُ فِي مَالِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ يَوْمِ يُقْضَى بِهَا عَلَيْهِ ) كَمَا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْوُجُوبَ عَلَى الْقَاتِلِ وَإِنَّمَا يَتَحَوَّلُ عَنْهُ إلَى الْعَاقِلَةِ أَنْ لَوْ وُجِدَتْ ، فَإِذَا لَمْ تُوجَدْ بَقِيَتْ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ تَاجِرَيْنِ مُسْلِمَيْنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ قَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ يُقْضَى بِالدِّيَةِ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ لِأَنَّ أَهْلَ دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَعْقِلُونَ عَنْهُ ، وَتَمَكُّنُهُ مِنْ هَذَا الْقَتْلِ لَيْسَ بِنُصْرَتِهِمْ .

( وَلَا يَعْقِلُ كَافِرٌ عَنْ مُسْلِمٍ وَلَا مُسْلِمٌ عَنْ كَافِرٍ ) لِعَدَمِ التَّنَاصُرِ وَالْكُفَّارُ يَتَعَاقَلُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ مِلَلُهُمْ لِأَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ .
قَالُوا : هَذَا إذَا لَمْ تَكُنْ الْمُعَادَاةُ فِيمَا بَيْنَهُمْ ظَاهِرَةً ، أَمَّا إذَا كَانَتْ ظَاهِرَةً كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى يَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَعَاقَلُونَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ ، وَهَكَذَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ لِانْقِطَاعِ التَّنَاصُرِ
( قَوْلُهُ وَالْكُفَّارُ يَتَعَاقَلُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ مِلَلُهُمْ لِأَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : هَذَا مُخَالِفٌ لِمَا سَبَقَ فِي أَوَّلِ بَابِ جِنَايَةِ الْمَمْلُوكِ أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ لَا يَتَعَاقَلُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ ، وَجَوَابُهُ أَنَّ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْغَالِبِ انْتَهَى .
أَقُولُ : يَأْبَى هَذَا الْجَوَابَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ هُنَاكَ فَلَا عَاقِلَةَ بَعْدَ قَوْلِهِ إنَّهُمْ لَا يَتَعَاقَلُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ لِأَنَّ النَّكِرَةَ الْمَنْفِيَّةَ تُفِيدُ الْعُمُومَ عَلَى مَا عُرِفَ .
فَالْأَوْلَى فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ : الْمُرَادُ هُنَاكَ نَفْيُ الْوُقُوعِ : أَيْ لَمْ يَقَعْ التَّعَاقُلُ فِيمَا بَيْنَهُمْ ، وَالْمُرَادُ هُنَا بَيَانُ الْجَوَازِ : أَيْ وَقَعَ التَّعَاقُلُ فِيمَا بَيْنَهُمْ جَازَ وَلَا يَضُرُّ اخْتِلَافُ مِلَلِهِمْ تَبَصَّرْ .

وَلَوْ كَانَ الْقَاتِلُ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَلَهُ بِهَا عَطَاءٌ فَحَوَّلَ دِيوَانَهُ إلَى الْبَصْرَةِ ثُمَّ رُفِعَ إلَى الْقَاضِي فَإِنَّهُ يُقْضَى بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ .
وَقَالَ زُفَرُ : يُقْضَى عَلَى عَاقِلَتِهِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ، لِأَنَّ الْمُوجِبَ هُوَ الْجِنَايَةُ وَقَدْ تَحَقَّقَ وَعَاقِلَتُهُ أَهْلُ الْكُوفَةِ ، وَصَارَ كَمَا إذَا حُوِّلَ بَعْدَ الْقَضَاءِ .
وَلَنَا أَنَّ الْمَالَ إنَّمَا يَجِبُ عِنْدَ الْقَضَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْمِثْلُ وَبِالْقَضَاءِ يَنْتَقِلُ إلَى الْمَالِ ، وَكَذَا الْوُجُوبُ عَلَى الْقَاتِلِ وَتَتَحَمَّلُ عَنْهُ عَاقِلَتُهُ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَتَحَمَّلُ عَنْهُ مَنْ يَكُونُ عَاقِلَتَهُ عِنْدَ الْقَضَاءِ ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْقَضَاءِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ قَدْ تَقَرَّرَ بِالْقَضَاءِ فَلَا يَنْتَقِلُ بَعْدَ ذَلِكَ ، لَكِنَّ حِصَّةَ الْقَاتِلِ تُؤْخَذُ مِنْ عَطَائِهِ بِالْبَصْرَةِ لِأَنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْ الْعَطَاءِ وَعَطَاؤُهُ بِالْبَصْرَةِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَلَّتْ الْعَاقِلَةُ بَعْدَ الْقَضَاءِ عَلَيْهِمْ حَيْثُ يُضَمُّ إلَيْهِمْ أَقْرَبُ الْقَبَائِلِ فِي النَّسَبِ ، لِأَنَّ فِي النَّقْلِ إبْطَالَ حُكْمِ الْأَوَّلِ فَلَا يَجُوزُ بِحَالٍ ، وَفِي الضَّمِّ تَكْثِيرُ الْمُتَحَمِّلِينَ لِمَا قُضِيَ بِهِ عَلَيْهِمْ فَكَانَ فِيهِ تَقْرِيرُ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ لَا إبْطَالُهُ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ الْقَاتِلُ مَسْكَنُهُ بِالْكُوفَةِ وَلَيْسَ لَهُ عَطَاءٌ فَلَمْ يُقْضَ عَلَيْهِ حَتَّى اسْتَوْطَنَ الْبَصْرَةَ قُضِيَ بِالدِّيَةِ عَلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ ، وَلَوْ كَانَ قَضَى بِهَا عَلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ لَمْ يَنْتَقِلْ عَنْهُمْ ، وَكَذَا الْبَدْوِيُّ إذَا أُلْحِقَ بِالدِّيوَانِ بَعْدَ الْقَتْلِ قَبْلَ الْقَضَاءِ يُقْضَى بِالدِّيَةِ عَلَى أَهْلِ الدِّيوَانِ ، وَبَعْدَ الْقَضَاءِ عَلَى عَاقِلَتِهِ بِالْبَادِيَةِ لَا يَتَحَوَّلُ عَنْهُمْ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ قُضِيَ بِالدِّيَةِ عَلَيْهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ثُمَّ جَعَلَهُمْ الْإِمَامُ فِي الْعَطَاءِ حَيْثُ تَصِيرُ

الدِّيَةُ فِي أَعْطِيَاتِهِمْ وَإِنْ كَانَ قَضَى بِهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ فِي أَمْوَالِهِمْ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ نَقْضُ الْقَضَاءِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ قَضَى بِهَا فِي أَمْوَالِهِمْ وَأَعْطِيَاتُهُمْ أَمْوَالُهُمْ ، غَيْرَ أَنَّ الدِّيَةَ تُقْضَى مِنْ أَيْسَرِ الْأَمْوَالِ أَدَاءً ، وَالْأَدَاءُ مِنْ الْعَطَاءِ أَيْسَرُ إذَا صَارُوا مِنْ أَهْلِ الْعَطَاءِ إلَّا إذَا لَمْ يَكُنْ مَالُ الْعَطَاءِ مِنْ جِنْسِ مَا قُضِيَ بِهِ عَلَيْهِ بِأَنْ كَانَ الْقَضَاءُ بِالْإِبِلِ وَالْعَطَاءُ دَرَاهِمَ فَحِينَئِذٍ لَا تَتَحَوَّلُ إلَى الدَّرَاهِمِ أَبَدًا لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ الْقَضَاءِ الْأَوَّلِ ، لَكِنْ يُقْضَى ذَلِكَ مِنْ مَالِ الْعَطَاءِ لِأَنَّهُ أَيْسَرُ .

( قَوْلُهُ وَلَوْ كَانَ الْقَاتِلُ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَلَهُ بِهَا عَطَاءٌ فَحَوَّلَ دِيوَانَهُ إلَى الْبَصْرَةِ ثُمَّ رُفِعَ إلَى الْقَاضِي فَإِنَّهُ يُقْضَى عَلَى عَاقِلَتِهِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ ) أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : قَدْ مَرَّ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْمَعَاقِلِ أَنَّ الْعَاقِلَةَ إنَّمَا خُصُّوا بِالضَّمِّ إلَى الْقَاتِلِ فِي أَدَاءِ الدِّيَةِ ، لِأَنَّ الْقَاتِلَ إنَّمَا قَصَّرَ لِقُوَّةٍ فِيهِ ، وَتِلْكَ الْقُوَّةُ بِأَنْصَارِهِ وَهُمْ الْعَاقِلَةُ فَكَانُوا هُمْ الْمُقَصِّرِينَ فِي تَرْكِهِمْ مُرَاقَبَتَهُ فَخُصُّوا بِهِ ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ مُقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْقَضَاءُ بِالدِّيَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ زُفَرُ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ إنَّمَا صَدَرَتْ عَنْهُ حَالَ كَوْنِ عَاقِلَتِهِ أَهْلَ الْكُوفَةِ فَالْقُوَّةُ فِيهِ وَقْتَ صُدُورِهَا عَنْهُ إنَّمَا كَانَتْ بِأَنْصَارِهِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الْكُوفَةِ ، وَالتَّقْصِيرُ فِي مُرَاقَبَتِهِ وَقْتَئِذٍ إنَّمَا وَقَعَ مِنْهُمْ ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ عُهْدَةَ الْمُرَاقَبَةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَتْ عَلَيْهِمْ لَا عَلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقْضَى بِالدِّيَةِ عَلَيْهِمْ لَا عَلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ .
وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ هُنَاكَ حِكْمَةٌ أَنْ خُصَّتْ الْعَاقِلَةُ بِالضَّمِّ إلَى الْقَاتِلِ فِي تَحَمُّلِ الدِّيَةِ لَا عِلَّتُهُ ، وَقَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْحِكْمَةَ تُرَاعَى فِي الْجِنْسِ لَا فِي كُلِّ فَرْدٍ ، كَمَا فِي الِاسْتِبْرَاءِ فِي الْبِكْرِ فَلَا يَقْدَحُ عَدَمُ تَمْشِيَةِ مَا ذُكِرَ هُنَاكَ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ ، فَإِنْ مِلَاكَ الْأَمْرِ فِي تَمَامِ جَوَابِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ الدَّلِيلُ ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ وَلَنَا أَنَّ الْمَالَ إنَّمَا يَجِبُ عِنْدَ الْقَضَاءِ إلَخْ ، وَلَا مَحَالَةَ أَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يُقْضَى بِالدِّيَةِ عَلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ لَا عَلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ ، لِأَنَّ وُجُوبَ الدِّيَةِ لَمَّا كَانَ عِنْدَ الْقَضَاءِ لَا قَبْلَهُ وَكَانَ دِيوَانُ الْقَاتِلِ مُتَحَوِّلًا إلَى الْبَصْرَةِ قَبْلَ

الْقَضَاءِ لَمْ يَبْقَ مَجَالٌ أَنْ يُقْضَى بِالدِّيَةِ عَلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عَاقِلَةَ الْقَاتِلِ وَقْتَ الْقَضَاءِ ، وَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِمْ الدِّيَةُ حَالَ كَوْنِهِمْ عَاقِلَتَهُ لِعَدَمِ سَبْقِ وُجُوبِهَا الْقَضَاءَ ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُقْضَى بِهَا عَلَى مَنْ هُوَ عَاقِلَتُهُ وَقْتَ الْوُجُوبِ تَحْقِيقًا لِلتَّخْفِيفِ عَنْ الْقَاتِلِ الْمَعْذُورِ كَمَا تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ ( قَوْلُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا قَلَّتْ الْعَاقِلَةُ بَعْدَ الْقَضَاءِ عَلَيْهِمْ حَيْثُ يُضَمُّ إلَيْهِمْ أَقْرَبُ الْقَبَائِلِ فِي النَّسَبِ إلَخْ ) قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ مِنْهُمْ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ : قَوْلُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا قَلَّتْ الْعَاقِلَةُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْقَضَاءِ وَمَعْنَاهُ لَا يُقْضَى بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ إذَا كَانَ الْقَاضِي قَضَى بِدِيَتِهِ عَلَى عَاقِلَتِهِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَلَّتْ الْعَاقِلَةُ بِمَوْتِ بَعْضِهِمْ حَيْثُ يُضَمُّ إلَيْهِمْ أَقْرَبُ الْقَبَائِلِ فِي النَّسَبِ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقَضَاءِ مَعَ أَنَّ فِيهِ أَيْضًا نَقْلَ الدِّيَةِ مِنْ الْمَوْجُودِينَ وَقْتَ الْقَضَاءِ إلَى أَقْرَبِ الْقَبَائِلِ .
وَقَدْ ذَكَرَ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا بِقَوْلِهِ لِأَنَّ فِي النَّقْلِ إبْطَالَ حُكْمِ الْأَوَّلِ فَلَا يَجُوزُ بِحَالٍ ، وَفِي الضَّمِّ تَكْثِيرُ الْمُتَحَمِّلِينَ لِمَا قُضِيَ بِهِ عَلَيْهِمْ فَكَانَ فِيهِ تَقْرِيرُ حُكْمِ الْأَوَّلِ لَا إبْطَالُهُ انْتَهَى .
أَقُولُ : مُقَدِّمَتُهُمْ الْقَائِلَةُ مَعَ أَنَّ فِيهِ أَيْضًا نَقْلَ الدِّيَةِ مِنْ الْمَوْجُودِينَ وَقْتَ الْقَضَاءِ إلَى أَقْرَبِ الْقَبَائِلِ مَعَ كَوْنِهَا مُسْتَدْرَكَةً فِي بَيَانِ مَعْنَى الْمَقَامِ غَيْرَ صَحِيحَةٍ فِي نَفْسِهَا ، إذْ لَيْسَ فِيمَا إذَا قَلَّتْ الْعَاقِلَةُ بَعْدَ الْقَضَاءِ نَقْلُ الدِّيَةِ مِنْ أَحَدٍ إلَى أَحَدٍ قَطُّ ، بَلْ إنَّمَا فِيهِ تَكْثِيرُ الْمُتَحَمِّلِينَ لِمَا قُضِيَ بِهِ عَلَيْهِمْ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّكْثِيرَ يُغَايِرُ النَّقْلَ بَلْ يُنَافِيهِ .
وَعَنْ هَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ

الصُّورَتَيْنِ : إنَّ فِي النَّقْلِ إبْطَالَ حُكْمِ الْأَوَّلِ ، وَفِي الضَّمِّ تَقْرِيرُ حُكْمِ الْأَوَّلِ لَا إبْطَالُهُ ، وَلَوْ كَانَتْ الْمُقَدِّمَةُ الْكَاذِبَةُ مُعْتَبَرَةً فِي مَعْنَى الْمَقَامِ لَقَالَ الْمُصَنِّفُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ إنَّ أَمْرَ النَّقْلِ فِي صُورَةِ الْقِلَّةِ كَذَا وَفِي صُورَةِ التَّحَوُّلِ بَعْدَ الْقَضَاءِ كَذَا تَأَمَّلْ تَقِفْ .

قَالَ ( وَعَاقِلَةُ الْمُعْتَقِ قَبِيلَةُ مَوْلَاهُ ) لِأَنَّ النُّصْرَةَ بِهِمْ يُؤَيِّدُ ذَلِكَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ } .
قَالَ ( وَمَوْلَى الْمُوَالَاةِ يَعْقِلُ عَنْهُ مَوْلَاهُ وَقَبِيلَتُهُ ) لِأَنَّهُ وَلَاءٌ يُتَنَاصَرُ بِهِ فَأَشْبَهَ وَلَاءَ الْعَتَاقَةِ ، وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ وَقَدْ مَرَّ فِي كِتَابِ الْوَلَاءِ .

قَالَ ( وَلَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ عُشْرِ الدِّيَةِ وَتَتَحَمَّلُ نِصْفَ الْعُشْرِ فَصَاعِدًا ) وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تَعْقِلُ الْعَوَاقِلُ عَمْدًا وَلَا عَبْدًا وَلَا صُلْحًا وَلَا اعْتِرَافًا وَلَا مَا دُونَ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ } وَأَرْشُ الْمُوضِحَةِ نِصْفُ عُشْرِ بَدَلِ النَّفْسِ ، وَلِأَنَّ التَّحَمُّلَ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الْإِجْحَافِ وَلَا إجْحَافَ فِي الْقَلِيلِ وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْكَثِيرِ ، وَالتَّقْدِيرُ الْفَاصِلُ عُرِفَ بِالسَّمْعِ .
قَالَ ( وَمَا نَقَصَ مِنْ ذَلِكَ يَكُونُ فِي مَالِ الْجَانِي ) وَالْقِيَاسُ فِيهِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فَيَجِبُ الْكُلُّ عَلَى الْعَاقِلَةِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ ، أَوْ التَّسْوِيَةُ فِي أَنْ لَا يَجِبَ عَلَى الْعَاقِلَةِ شَيْءٌ ، إلَّا أَنَّا تَرَكْنَاهُ بِمَا رَوَيْنَا ، وَبِمَا رُوِيَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوْجَبَ أَرْشَ الْجَنِينِ عَلَى الْعَاقِلَةِ } وَهُوَ نِصْفُ عُشْرِ بَدَلِ الرَّجُلِ عَلَى مَا مَرَّ فِي الدِّيَاتِ ، فَمَا دُونَهُ يُسْلَكُ بِهِ مَسْلَكُ الْأَمْوَالِ لِأَنَّهُ يَجِبُ بِالتَّحْكِيمِ كَمَا يَجِبُ ضَمَانُ الْمَالِ بِالتَّقْوِيمِ فَلِهَذَا كَانَ فِي مَالِ الْجَانِي أَخْذًا بِالْقِيَاسِ .

( قَوْلُهُ قَالَ وَلَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ عُشْرِ الدِّيَةِ وَتَتَحَمَّلُ نِصْفَ عُشْرِ الدِّيَةَ فَصَاعِدًا ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ : وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا لَا تَتَحَمَّلُ مَا دُونَ نِصْفِ الْعُشْرِ أَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَجِبُ فِي عَمْدِهِ وَلَا يَتَقَدَّرُ أَرْشُهُ فَصَارَ كَضَمَانِ الْأَمْوَالِ ، كَذَا فِي شَرْحِ الْأَقْطَعِ انْتَهَى .
وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ .
أَقُولُ : يَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّ لِكُلِّ مِفْصَلٍ مِنْ أُصْبُعٍ فِيهَا ثَلَاثَةُ مَفَاصِلَ ثُلُثُ عُشْرِ الدِّيَةِ كَمَا مَرَّ فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ حَيْثُ قَالَ : وَفِي كُلِّ أُصْبُعٍ مِنْ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ أَوْ الرِّجْلَيْنِ عُشْرُ الدِّيَةِ .
ثُمَّ قَالَ : وَفِي كُلِّ أُصْبُعٍ فِيهَا ثَلَاثَةُ مَفَاصِلَ ، فَفِي أَحَدِهَا ثُلُثُ دِيَةِ الْأُصْبُعِ فَكَانَ لِكُلِّ مِفْصَلٍ مِنْ أُصْبُعٍ فِيهَا ثَلَاثَةُ مَفَاصِلَ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ هُوَ أَقَلُّ مِنْ نِصْفِ عُشْرِ الدِّيَةِ ، وَيَجِبُ الْقِصَاصُ فِي عَمْدِهِ لَا مَحَالَةَ لِإِمْكَانِ رِعَايَةِ الْمُمَاثَلَةِ الَّتِي هِيَ مَبْنَى الْقِصَاصِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي بَابِ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مِنْ كِتَابِ الْجِنَايَاتِ ، فَانْتَقَضَ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ قَوْلِهِ إنَّ الْقِصَاصَ لَا يَجِبُ فِي عَمْدِهِ وَمِنْ قَوْلِهِ وَلَا يَتَقَدَّرُ أَرْشُهُ كَمَا تَرَى ، نَعَمْ قَدْ تَدَارَكَ صَاحِبُ الْغَايَةِ إصْلَاحَ الْمُقَدِّمَةِ الثَّانِيَةِ : أَعْنِي قَوْلَهُ وَلَا يَتَقَدَّرُ أَرْشُهُ حَيْثُ قَالَ : وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَنَّ مَا دُونَ الْمُوضِحَةِ لَيْسَ لَهُ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ فِي نَفْسِهِ فَأَشْبَهَ ضَمَانَ الْأَمْوَالِ .
ثُمَّ قَالَ : فَإِنْ قِيلَ : أَرْشُ الْأُنْمُلَةِ مُقَدَّرٌ وَهُوَ ثُلُثُ دِيَةِ الْأُصْبُعِ فَيَنْبَغِي أَنْ تَتَحَمَّلَهُ الْعَاقِلَةُ ، قِيلَ لَهُ لَيْسَ أَرْشُهَا مُقَدَّرًا بِنَفْسِهَا بَلْ هُوَ مُقَدَّرٌ بِغَيْرِهَا وَهُوَ الْأُصْبُعُ ، وَنَحْنُ إنَّمَا شَبَّهْنَا مَا دُونَ الْمُوضِحَةِ بِالْأَمْوَالِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ بِنَفْسِهِ انْتَهَى .
لَكِنْ بَقِيَتْ الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى وَهِيَ قَوْلُهُ إنَّ الْقِصَاصَ لَا يَجِبُ

فِي عَمْدِهِ مَجْرُوحَةٌ تَدَبَّرْ .
( قَوْلُهُ وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَعْقِلُ الْعَوَاقِلُ عَمْدًا وَلَا عَبْدًا وَلَا صُلْحًا وَلَا اعْتِرَافًا وَلَا مَا دُونَ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ } ) قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تَعْقِلُ الْعَوَاقِلُ عَمْدًا وَلَا عَبْدًا } فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : إنَّمَا مَعْنَاهُ أَنْ يَقْتُلَ الْعَبْدُ حُرًّا فَلَيْسَ عَلَى عَاقِلَةِ مَوْلَاهُ شَيْءٌ مِنْ جِنَايَةِ عَبْدِهِ ، إنَّمَا جِنَايَتُهُ فِي رَقَبَتِهِ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَوْ يَفْدِيَهُ .
ثُمَّ قَالَ : وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى : إنَّمَا مَعْنَاهُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ مَجْنِيًّا عَلَيْهِ يَقْتُلُهُ حُرٌّ أَوْ يَجْرَحُهُ فَلَيْسَ عَلَى عَاقِلَةِ الْجَانِي شَيْءٌ إنَّمَا ثَمَنُهُ فِي مَالِهِ خَاصَّةً .
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : فَذَاكَرْت الْأَصْمَعِيَّ فِي ذَلِكَ فَإِذَا هُوَ يَرَى الْقَوْلَ فِيهِ قَوْلَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَلَى كَلَامِ الْعَرَبِ ، وَلَا يَرَى قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ جَائِزًا ، يَذْهَبُ إلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَعْنَى عَلَى مَا قَالَ لَكَانَ الْكَلَامُ لَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ عَنْ عَبْدٍ وَلَمْ يَكُنْ وَلَا تَعْقِلُ عَبْدًا .
وَمَعْنَى قَوْلِ الْأَصْمَعِيِّ أَنَّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ يُقَالُ عَقَلْت الْقَتِيلَ إذَا أَعْطَيْت دِيَتَهُ وَعَقَلْت عَنْ فُلَانٍ إذَا لَزِمَتْهُ دِيَةٌ فَأَعْطَيْتهَا عَنْهُ .
قَالَ الْأَصْمَعِيُّ : كَلَّمْت أَبَا يُوسُفَ الْقَاضِيَ فِي ذَلِكَ بِحَضْرَةِ الرَّشِيدِ فَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ عَقَلْته وَعَقَلْت عَنْهُ حَتَّى فَهَّمْته .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ عَقَلْته يُسْتَعْمَلُ فِي مَعْنَى عَقَلْت عَنْهُ ، وَسِيَاقُ الْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُهُ { لَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ عَمْدًا } وَسِيَاقُهُ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَلَا صُلْحًا وَلَا اعْتِرَافًا } يَدُلَّانِ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ مَعْنَاهُ عَنْ عَمْدٍ وَعَنْ صُلْحٍ وَعَنْ اعْتِرَافٍ ، كَذَا فِي

الْعِنَايَةِ .
أَقُولُ : الْجَوَابُ مَحِلُّ الْكَلَامِ ، إذْ لِلْخَصْمِ أَنْ يَمْنَعَ كَوْنَ مَعْنَاهُ مَا ذُكِرَ وَيَقُولَ : بَلْ مَعْنَاهُ لَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ مَنْ قُتِلَ عَمْدًا بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ ، وَمَنْ صُولِحَ عَنْ دَمِهِ وَمَنْ اُعْتُرِفَ بِقَتْلِهِ عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْضًا فَيَئُولُ الْمَعْنَى فِي الْكُلِّ إلَى مَعْنَى عَقَلْت الْقَتِيلَ لَا إلَى مَعْنَى عَقَلْت عَنْ فُلَانٍ فَلَا يَتِمُّ الْجَوَابُ إلْزَامًا .

قَالَ ( وَلَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ جِنَايَةَ الْعَبْدِ وَلَا مَا لَزِمَ بِالصُّلْحِ أَوْ بِاعْتِرَافِ الْجَانِي ) لِمَا رَوَيْنَا ، وَلِأَنَّهُ لَا تَنَاصُرَ بِالْعَبْدِ وَالْإِقْرَارُ وَالصُّلْحُ لَا يَلْزَمَانِ الْعَاقِلَةَ لِقُصُورِ الْوِلَايَةِ عَنْهُمْ .
قَالَ ( إلَّا أَنْ يُصَدِّقُوهُ ) لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِتَصَادُقِهِمْ وَالِامْتِنَاعُ كَانَ لِحَقِّهِمْ وَلَهُمْ وِلَايَةٌ عَلَى أَنْفُسِهِمْ .

( وَمَنْ أَقَرَّ بِقَتْلٍ خَطَإٍ وَلَمْ يَرْفَعُوا إلَى الْقَاضِي إلَّا بَعْدَ سِنِينَ قُضِيَ عَلَيْهِ بِالدِّيَةِ فِي مَالِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ يَوْمِ يُقْضَى ) لِأَنَّ التَّأْجِيلَ مِنْ وَقْتِ الْقَضَاءِ فِي الثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ فَفِي الثَّابِتِ بِالْإِقْرَارِ أَوْلَى ( وَلَوْ تَصَادَقَ الْقَاتِلُ وَوَلِيُّ الْجِنَايَةِ عَلَى أَنَّ قَاضِيَ بَلَدِ كَذَا قَضَى بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ بِالْكُوفَةِ بِالْبَيِّنَةِ وَكَذَّبَهُمَا الْعَاقِلَةُ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْعَاقِلَةِ ) لِأَنَّ تَصَادُقَهُمَا لَيْسَ بِحَجَّةٍ عَلَيْهِمْ ( وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي مَالِهِ ) لِأَنَّ الدِّيَةَ بِتَصَادُقِهِمَا تَقَرَّرَتْ عَلَى الْعَاقِلَةِ بِالْقَضَاءِ وَتَصَادُقُهُمَا حُجَّةٌ فِي حَقِّهِمَا ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ ( إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ عَطَاءٌ مَعَهُمْ فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُهُ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ ) لِأَنَّهُ فِي حَقِّ حِصَّتِهِ مُقِرٌّ عَلَى نَفْسِهِ وَفِي حَقِّ الْعَاقِلَةِ مُقِرٌّ عَلَيْهِمْ .

( قَوْلُهُ لِأَنَّ التَّأْجِيلَ مِنْ وَقْتِ الْقَضَاءِ فِي الثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ فَفِي الثَّابِتِ بِالْإِقْرَارِ أَوْلَى ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : يُرِيدُ أَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ أَقْوَى مِنْهُ بِالْإِقْرَارِ ، لِأَنَّ الثَّابِتَ بِهَا كَالثَّابِتِ مُعَايَنَةً ، وَفِي الْقَتْلِ مُعَايَنَةً الدِّيَةُ إنَّمَا تَجِبُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَهَذَا أَوْلَى انْتَهَى .
وَرَدَّ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ حَيْثُ قَالَ : لَيْسَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ فِي الدِّيَةِ بَلْ فِي التَّأْجِيلِ كَمَا لَا يَخْفَى ، وَقَالَ : وَلَعَلَّ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ : إذَا ثَبَتَ الْقَتْلُ الْخَطَأُ بِالْبَيِّنَةِ يَلْزَمُ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَمَعَ هَذَا يُؤَجَّلُ إلَى ثَلَاثِ سِنِينَ تَحْقِيقًا لِلتَّخْفِيفِ ، فَفِي الثَّابِتِ بِالْإِقْرَارِ أَوْلَى يُؤَجَّلُ لِلتَّخْفِيفِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ حِينَئِذٍ عَلَى الْمُقِرِّ وَحْدَهُ دُونَ الْعَاقِلَةِ فَلْيُتَأَمَّلْ انْتَهَى .
أَقُولُ : لَيْسَ مَا قَالَهُ بِسَدِيدٍ ، إذْ لَيْسَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ هُنَا أَصَالَةً فِي الدِّيَةِ وَلَا فِي التَّأْجِيلِ نَفْسِهِ ، لِأَنَّ وُجُوبَ الدِّيَةِ بِطَرِيقِ التَّأْجِيلِ فِي الْقَتْلِ الْخَطَإِ ، إذْ قَدْ عُلِمَ فِي كِتَابِ الْجِنَايَاتِ وَفِي كِتَابِ الدِّيَاتِ وَفِيمَا مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ فِي كِتَابِ الْمَعَاقِلِ ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ هَاهُنَا أَصَالَةٌ فِي كَوْنِ التَّأْجِيلِ مِنْ وَقْتِ الْقَضَاءِ دُونَ وَقْتِ الْإِقْرَارِ ، وَلِهَذَا قَصَرَ الْمُصَنِّفُ الْبَيَانَ عَلَيْهِ فِي تَعْلِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، وَمَا ذَكَرَهُ ذَلِكَ الْبَعْضُ بِقَوْلِهِ وَلَعَلَّ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ إلَخْ إنَّمَا يُفِيدُ كَوْنَ الدِّيَةِ مُؤَجَّلَةً إلَى ثَلَاثِ سِنِينَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، لَا كَوْنَ التَّأْجِيلِ فِيهَا مِنْ وَقْتِ الْقَضَاءِ دُونَ وَقْتِ الْإِقْرَارِ ، وَالْمَقْصُودُ بِالْبَيَانِ هُنَا هُوَ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ .
وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فَيُفِيدُ الثَّانِيَ لِأَنَّهُ قَالَ : وَفِي الْقَتْلِ مُعَايَبَةً إنَّمَا تَجِبُ الدِّيَةُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَهَذَا أَوْلَى ، وَهَذَا يُثْبِتُ كَوْنَ التَّأْجِيلِ مِنْ وَقْتِ الْقَضَاءِ دُونَ وَقْتِ

الْإِقْرَارِ ، لِأَنَّ وُجُوبَ الدِّيَةِ إذَا كَانَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَلَا جَرَمَ لَا يَتَحَقَّقُ وُجُوبُهَا قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي وَتَأْجِيلُ الدِّيَةِ فَرْعُ وُجُوبِهَا لَا مَحَالَةَ ، إنَّمَا يُتَصَوَّرُ التَّأْجِيلُ مِنْ وَقْتِ الْقَضَاءِ لَا قَبْلَهُ .
وَعَنْ هَذَا قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ كَمَا نَقَلَ عَنْهُ فِي النِّهَايَةِ .
وَالتَّأْجِيلُ فِيهِ مِنْ وَقْتِ الْقَضَاءِ لَا مِنْ وَقْتِ الْإِقْرَارِ ، لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْإِقْرَارِ بِالْقَتْلِ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ الثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ ، وَفِي الْقَتْلِ الْمُعَايَنِ الدِّيَةُ إنَّمَا تَجِبُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَهُنَا أَوْلَى انْتَهَى .

قَالَ ( وَإِذَا جَنَى الْحُرُّ عَلَى الْعَبْدِ فَقَتَلَهُ خَطَأً كَانَ عَلَى عَاقِلَتِهِ قِيمَتُهُ ) لِأَنَّهُ بَدَلُ النَّفْسِ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ أَصْلِنَا .
وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ تَجِبُ فِي مَالِهِ لِأَنَّهُ بَدَلُ الْمَالِ عِنْدَهُ وَلِهَذَا يُوجِبُ قِيمَتَهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ ، وَمَا دُونَ النَّفْسِ مِنْ الْعَبْدِ لَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ لِأَنَّهُ يُسْلَكُ بِهِ مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ عِنْدَنَا عَلَى مَا عُرِفَ ، وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ الْعَاقِلَةُ تَتَحَمَّلُهُ كَمَا فِي الْحُرِّ وَقَدْ مَرَّ مِنْ قَبْلُ .
قَالَ أَصْحَابُنَا : إنَّ الْقَاتِلَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَاقِلَةٌ فَالدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ هُمْ أَهْلُ نُصْرَتِهِ وَلَيْسَ بَعْضُهُمْ أَخَصُّ مِنْ بَعْضٍ بِذَلِكَ ، وَلِهَذَا لَوْ مَاتَ كَانَ مِيرَاثُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ فَكَذَا مَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْغَرَامَةِ يَلْزَمُ بَيْتَ الْمَالِ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ أَنَّ الدِّيَةَ فِي مَالِهِ ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ تَجِبَ الدِّيَةُ عَلَى الْقَاتِلِ لِأَنَّهُ بَدَلٌ مُتْلِفٌ وَالْإِتْلَافُ مِنْهُ ، إلَّا أَنَّ الْعَاقِلَةَ تَتَحَمَّلُهَا تَحْقِيقًا لِلتَّخْفِيفِ عَلَى مَا مَرَّ .
وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَاقِلَةٌ عَادَ الْحُكْمُ إلَى الْأَصْلِ .

( قَوْلُهُ وَمَا دُونَ النَّفْسِ مِنْ الْعَبْدِ لَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ لِأَنَّهُ يَسْلُكُ بِهِ مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ عِنْدَنَا عَلَى مَا عُرِفَ ) أَقُولُ : فِيهِ كَلَامٌ ، وَهُوَ أَنَّهُ إنْ كَانَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ عَلَى مَا عُرِفَ مَا ذَكَرَهُ فِي بَابِ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فِي تَعْلِيلِ أَنْ لَا قِصَاصَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ وَلَا بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ وَلَا بَيْنَ الْعَبْدَيْنِ عِنْدَنَا بِقَوْلِهِ وَلَنَا أَنَّ الْأَطْرَافَ يُسْلَكُ بِهَا مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ فَيَنْعَدِمُ التَّمَاثُلُ بِالتَّفَاوُتِ فِي الْقِيمَةِ ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الْغَايَةِ حَيْثُ قَالَ هُنَا : لَنَا أَنَّ الْأَطْرَافَ يُسْلَكُ بِهَا مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ ، وَلِهَذَا لَا يَجْرِي الْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ بَيْنَ طَرَفِ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ فَلَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ كَطَرَفِ الْبَهِيمَةِ ، وَقَدْ مَرَّ ذَلِكَ فِي بَابِ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَى مَا عُرِفَ انْتَهَى .
يُنْتَقَضُ حِينَئِذٍ مَا ذَكَرَهُ فِي تَعْلِيلِ مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ بِتَحَمُّلِ الْعَاقِلَةِ مَا دُونَ النَّفْسِ مِنْ الْحُرِّ إلَى مَا دُونَ نِصْفِ عُشْرِ الدِّيَةِ ، فَإِنَّ الدَّلِيلَ الْمَذْكُورَ هُنَا يَجْرِي هُنَاكَ أَيْضًا مَعَ تَخَلُّفِ الْحُكْمِ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ بِهِ مَا ذَكَرَهُ فِي فَصْلٍ بَعْدَ بَابِ جِنَايَةِ الْمَمْلُوكِ مِنْ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مِنْ الْعَبْدِ هِيَ الْمَالِيَّةُ دُونَ الْآدَمِيَّةِ ، بِخِلَافِ النَّفْسِ مِنْ الْعَبْدِ فَإِنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي إتْلَافِهَا هِيَ الْآدَمِيَّةُ دُونَ الْمَالِيَّةِ عِنْدَنَا جَازَ أَنْ لَا يُنْتَقَضُ مَا ذَكَرَهُ هُنَا بِتَحَمُّلِ الْعَاقِلَةِ مَا دُونَ النَّفْسِ مِنْ الْحُرِّ إلَى مَا دُونَ نِصْفِ عُشْرِ الدِّيَةِ ، إذْ لَمْ يُصَرِّحْ أَحَدٌ بِسُقُوطِ اعْتِبَارِ الْآدَمِيَّةِ فِي أَطْرَافِ الْحُرِّ بِالْكُلِّيَّةِ ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَتِمُّ الدَّلِيلُ الْمَذْكُورُ هُنَا حِينَئِذٍ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، فَإِنَّهُ يَعْتَبِرُ الْمَالِيَّةَ وَالْآدَمِيَّةَ مَعًا فِي أَطْرَافِ الْعَبْدِ ، وَإِنَّمَا

يَتِمُّ هَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَإِنَّهُمَا لَا يَعْتَبِرَانِ الْآدَمِيَّةَ فِيهَا بِالْكُلِّيَّةِ ، وَقَدْ مَرَّ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي الْفَصْلِ الْمَزْبُورِ فِي بَيَانِ مَسْأَلَةِ مَنْ فَقَأَ عَيْنَيْ عَبْدٍ إنْسَانٍ ، وَالْمَسْأَلَةُ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ أَئِمَّتِنَا فَلَا مَعْنَى لَأَنْ يُبْنَى دَلِيلُهَا عَلَى أَصْلِ بَعْضٍ مِنْهُمْ دُونَ بَعْضٍ ، وَبِالْجُمْلَةِ لَا يَخْلُو الْمَقَامُ عَلَى كُلِّ حَالٍ عَنْ نَوْعٍ مِنْ الِاضْطِرَابِ كَمَا تَرَى .
( قَوْلُهُ وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ تَتَحَمَّلُهُ كَمَا فِي الْحُرِّ وَقَدْ مَرَّ مِنْ قَبْلُ ) قَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ : أَيْ فِي أَوَّلِ فَصْلٍ بَعْدَ بَابِ جِنَايَةِ الْمَمْلُوكِ ، وَاقْتَفَى أَثَرَهُ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ وَالشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِتَفْسِيرِ ذَلِكَ أَصْلًا سَائِرُ الشُّرَّاحِ .
أَقُولُ : لَوْ كَانَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ وَقَدْ مَرَّ مِنْ قَبْلُ مَا فَسَّرَهُ بِهِ هَؤُلَاءِ الشُّرَّاحُ الثَّلَاثَةُ كَانَتْ حَوَالَتُهُ هُنَا غَيْرَ رَائِجَةٍ قَطْعًا ، إذْ لَمْ يَذْكُرْ فِي الْفَصْلِ تَحَمُّلَ الْعَاقِلَةِ مَا دُونَ النَّفْسِ وَلَا تَحَمُّلَهَا دِيَةَ النَّفْسِ لَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَلَا عِنْدَنَا كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ تَتَبَّعَ مَسَائِلَ ذَلِكَ الْفَصْلِ بِرُمَّتِهَا .

( وَابْنُ الْمُلَاعَنَةِ تَعْقِلُهُ عَاقِلَةُ أُمِّهِ ) لِأَنَّ نَسَبَهُ ثَابِتٌ مِنْهَا دُونَ الْأَبِ ( فَإِنْ عَقَلُوا عَنْهُ ثُمَّ ادَّعَاهُ الْأَبُ رَجَعَتْ عَاقِلَةُ الْأُمِّ بِمَا أَدَّتْ عَلَى عَاقِلَةِ الْأَبِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ يَوْمِ يَقْضِي الْقَاضِي لِعَاقِلَةِ الْأُمِّ عَلَى عَاقِلَةِ الْأَبِ ) لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الدِّيَةَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِمْ ، لِأَنَّ عِنْدَ الْإِكْذَابِ ظَهَرَ أَنَّ النَّسَبَ لَمْ يَزَلْ كَانَ ثَابِتًا مِنْ الْأَبِ حَيْثُ بَطَلَ اللِّعَانُ بِالْإِكْذَابِ ، وَمَتَى ظَهَرَ مِنْ الْأَصْلِ فَقَوْمُ الْأُمِّ تَحَمَّلُوا مَا كَانَ وَاجِبًا عَلَى قَوْمِ الْأَبِ فَيَرْجِعُونَ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ مُضْطَرُّونَ فِي ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ إنْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ عَنْ وَفَاءٍ وَلَهُ وَلَدٌ حُرٌّ فَلَمْ يُؤَدِّ كِتَابَتَهُ حَتَّى جَنَى ابْنُهُ وَعَقَلَ عَنْهُ قَوْمُ أُمِّهِ ثُمَّ أُدِّيَتْ الْكِتَابَةُ لِأَنَّهُ عِنْدَ الْأَدَاءِ يَتَحَوَّلُ وَلَاؤُهُ إلَى قَوْمِ أَبِيهِ مِنْ وَقْتِ حُرِّيَّةِ الْأَبِ وَهُوَ آخِرُ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ فَيَتَبَيَّنُ أَنَّ قَوْمَ الْأُمِّ عَقَلُوا عَنْهُمْ فَيَرْجِعُونَ عَلَيْهِمْ ، وَكَذَلِكَ رَجُلٌ أَمَرَ صَبِيًّا بِقَتْلِ رَجُلٍ فَقَتَلَهُ فَضَمِنَتْ عَاقِلَةُ الصَّبِيِّ الدِّيَةَ رَجَعَتْ بِهَا عَلَى عَاقِلَةِ الْآمِرِ إنْ كَانَ الْأَمْرُ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ ، وَفِي مَالِ الْآمِرِ إنْ كَانَ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ يَوْمِ يَقْضِي بِهَا الْقَاضِي عَلَى الْآمِرِ ، أَوْ عَلَى عَاقِلَتِهِ لِأَنَّ الدِّيَاتِ تَجِبُ مُؤَجَّلَةً بِطَرِيقِ التَّيْسِيرِ .
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : هَاهُنَا عِدَّةُ مَسَائِلَ ذَكَرَهَا مُحَمَّدٌ مُتَفَرِّقَةً ، وَالْأَصْلُ الَّذِي يُخَرَّجُ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ : حَالُ الْقَاتِلِ إذَا تَبَدَّلَ حُكْمًا فَانْتَقَلَ وَلَاؤُهُ إلَى وَلَاءٍ بِسَبَبِ أَمْرٍ حَادِثٍ لَمْ تَنْتَقِلْ جِنَايَتُهُ عَنْ الْأَوَّلِ قَضَى بِهَا أَوْ لَمْ يَقْضِ ، وَإِنْ ظَهَرَتْ حَالَةٌ خَفِيَّةٌ مِثْلُ دَعْوَةِ وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ حُوِّلَتْ الْجِنَايَةُ إلَى الْأُخْرَى وَقَعَ الْقَضَاءُ بِهَا أَوْ لَمْ يَقَعْ ، وَلَوْ لَمْ يَخْتَلِفْ حَالُ الْجَانِي وَلَكِنَّ

الْعَاقِلَةَ تَبَدَّلَتْ كَانَ الِاعْتِبَارُ فِي ذَلِكَ لِوَقْتِ الْقَضَاءِ ، فَإِنْ كَانَ قَضَى بِهَا عَلَى الْأُولَى لَمْ تَنْتَقِلْ إلَى الثَّانِيَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَضَى بِهَا عَلَى الْأُولَى فَإِنَّهُ يَقْضِي بِهَا عَلَى الثَّانِيَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ الْعَاقِلَةُ وَاحِدَةً فَلَحِقَهَا زِيَادَةٌ أَوْ نُقْصَانٌ اشْتَرَكُوا فِي حُكْمِ الْجِنَايَةِ قَبْلَ الْقَضَاءِ وَبَعْدَهُ إلَّا فِيمَا سَبَقَ أَدَاؤُهُ فَمَنْ أَحْكَمَ هَذَا الْأَصْلَ مُتَأَمِّلًا يُمْكِنُهُ التَّخْرِيجُ فِيمَا وَرَدَ عَلَيْهِ مِنْ النَّظَائِرِ وَالْأَضْدَادِ .

( كِتَابُ الْوَصَايَا ) .
بَابٌ فِي صِفَةِ الْوَصِيَّةِ مَا يَجُوزُ مِنْ ذَلِكَ وَمَا يُسْتَحَبُّ مِنْهُ وَمَا يَكُونُ رُجُوعًا عَنْهُ

( كِتَابُ الْوَصَايَا ) قَالَ الشُّرَّاحُ : إيرَادُ كِتَابِ الْوَصَايَا فِي آخِرِ الْكِتَابِ ظَاهِرُ الْمُنَاسَبَةِ ، لِأَنَّ آخِرَ أَحْوَالِ الْآدَمِيِّ فِي الدُّنْيَا الْمَوْتُ ، وَالْوَصِيَّةُ مُعَامَلَةٌ وَقْتَ الْمَوْتِ .
أَقُولُ : يَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّ كِتَابَ الْوَصَايَا لَيْسَ بِمُورَدٍ فِي آخِرِ هَذَا الْكِتَابِ ، وَإِنَّمَا الْمُورَدُ فِي آخِرِهِ كِتَابُ الْخُنْثَى كَمَا تَرَى .
نَعَمْ إنَّ كَثِيرًا مِنْ أَصْحَابِ التَّصَانِيفِ أَوْرَدُوهُ فِي آخِرِ كُتُبِهِمْ ، لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي شَرْحِ هَذَا الْكِتَابِ .
وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ مِنْ قِبَلِ الشُّرَّاحِ بِحَمْلِ الْآخِرِ فِي قَوْلِهِمْ فِي آخِرِ الْكِتَابِ عَلَى الْإِضَافِيِّ ، فَإِنَّ آخِرَهُ الْحَقِيقِيَّ وَإِنْ كَانَ كِتَابَ الْخُنْثَى إلَّا أَنَّ كِتَابَ الْوَصَايَا أَيْضًا آخِرُهُ بِالْإِضَافَةِ إلَى مَا قَبْلَهُ حَيْثُ كَانَ فِي قُرْبِ آخِرِهِ الْحَقِيقِيِّ ، وَعَنْ هَذَا تَرَى الْقَوْمَ يَقُولُونَ وَقَعَ هَذَا فِي أَوَائِلِ كَذَا وَأَوَاخِرِهِ ، فَإِنَّ صِيغَةَ الْجَمْعِ لَا تَتَمَشَّى فِي الْأَوَّلِ الْحَقِيقِيِّ وَالْآخِرِ الْحَقِيقِيِّ ، وَإِنَّمَا الْمُخَلِّصُ مِنْ ذَلِكَ تَعْمِيمُ الْأَوَّلِ وَالْآخِرِ لِلْحَقِيقِيِّ وَالْإِضَافِيِّ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ أَيْضًا : لَمَّا كَانَ مَا ذَكَرَ فِي كِتَابِ الْخُنْثَى نَادِرًا مِنْ حَيْثُ الْوُقُوعُ وَمِنْ حَيْثُ الْمَسَائِلُ أَيْضًا جَعَلُوهُ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ وَاعْتَبَرُوا كِتَابَ الْوَصَايَا آخِرَ الْكِتَابِ .
ثُمَّ إنَّ الْوَصِيَّةَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ هُوَ التَّوْصِيَةُ ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { حِينَ الْوَصِيَّةِ } ثُمَّ سَمَّى الْمُوصَى بِهِ وَصِيَّةً ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا } وَفِي الشَّرِيعَةِ : تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي الْأَعْيَانِ أَوْ فِي الْمَنَافِعِ ، كَذَا فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ .
قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ : ثُمَّ الْوَصِيَّةُ وَالتَّوْصِيَةُ وَكَذَا الْإِيصَاءُ فِي اللُّغَةِ : طَلَبُ فِعْلٍ مِنْ غَيْرِهِ لِيَفْعَلَهُ فِي غَيْبَتِهِ حَالَ حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ وَفَاتِهِ .
وَفِي

الشَّرِيعَةِ : تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ عَلَى سَبِيلِ التَّبَرُّعِ عَيْنًا كَانَ أَوْ مَنْفَعَةً ، هَذَا هُوَ التَّعْرِيفُ الْمَذْكُورُ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ ، وَالْوَصِيَّةُ بِهَذَا الْمَعْنَى هِيَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهَا بِأَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ غَيْرُ وَاجِبَةٍ ، وَأَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى جَوَازَهَا ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ بَعْضُ الْمَسَائِلِ مِثْلُ مَسْأَلَةِ الْوَصِيَّةِ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ الْعِبَادِ .
وَالْمَسَائِلُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْوَصِيِّ مَذْكُورَةٌ فِي كِتَابِ الْوَصَايَا بِطَرِيقِ التَّطَفُّلِ ، لَكِنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ كَمَا أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ فِي الشَّرْعِ لِلْمَعْنَى الْمَذْكُورِ مَوْضُوعَةٌ فِيهِ أَيْضًا لِطَلَبِ شَيْءٍ مِنْ غَيْرِهِ لِيَفْعَلَهُ بَعْدَ مَمَاتِهِ فَقَطْ ، نُقِلَ هَذَا عَنْ مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ اسْتِعْمَالُ لَفْظِ الْإِيصَاءِ بِاللَّامِ فِي الْمَعْنَى الْأَوَّلِ وَبِإِلَى فِي الْمَعْنَى الثَّانِي ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ ذِكْرُ الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورِ عَلَى أَنَّهَا مِنْ فُرُوعِ الْمَعْنَى الثَّانِي لَا عَلَى سَبِيلِ التَّطَفُّلِ ، إلَى هُنَا لَفْظُهُ .
أَقُولُ : مَا عَدَّهُ تَحْقِيقًا لَيْسَ بِشَيْءٍ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الَّتِي تَكُونُ مِنْ فُرُوعِ الْمَعْنَى الثَّانِي مِنْ الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ إنَّمَا هِيَ الْمَسَائِلُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْوَصِيِّ دُونَ مَسَائِلِ الْوَصِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ الْعِبَادِ ، فَإِنَّ اسْتِعْمَالَ لَفْظِ الْإِيصَاءِ فِيهَا بِاللَّامِ لَا بِإِلَى ، يُقَالُ أَوْصَى لِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ لِحُقُوقِ الْعِبَادِ وَلَا يُقَالُ أَوْصَى إلَيْهَا كَمَا لَا يَخْفَى ، فَبَقِيَ أَمْرُ التَّطَفُّلِ فِي حَقِّ تِلْكَ الْمَسَائِلِ مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي ذَكَرَهَا مِنْ قَبْلُ إذْ لَمْ يَشْمَلْهَا شَيْءٌ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ قَطُّ ، وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ مَسَائِلَ التَّبَرُّعَاتِ الْوَاقِعَةَ مِنْ الْإِنْسَانِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ بِطَرِيقِ التَّنْجِيزِ مَذْكُورَةٌ أَيْضًا فِي كِتَابِ الْوَصَايَا ، وَمِنْهَا بَابُ الْعِتْقِ

فِي الْمَرَضِ كَمَا سَيَجِيءُ فِي الْكِتَابِ ، وَلَا رَيْبَ فِي عَدَمِ شُمُولِ شَيْءٍ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْمَسَائِلِ ، فَبَقِيَ أَمْرُ التَّطَفُّلِ فِي حَقِّ تِلْكَ الْمَسَائِلِ كُلِّهَا بِالنَّظَرِ إلَى ذَيْنِك الْمَعْنَيَيْنِ مَعًا ، فَمِنْ أَيْنَ كَانَ ارْتِكَابُ جَمْعِهِمَا فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ بِتَأْوِيلٍ بَعِيدٍ مَعَ عَدَمِ عُمُومِ الْمُشْتَرَكِ عِنْدَنَا حَقِيقِيًّا بِأَنْ يُعَدَّ تَحْقِيقًا كَمَا زَعَمَهُ ذَلِكَ الْقَائِلُ .
ثُمَّ أَقُولُ : الْوَجْهُ فِي التَّفَصِّي عَنْ أَمْرِ التَّطَفُّلِ فِي حَقِّ الْمَسَائِلِ الَّتِي ذَكَرَهَا ذَلِكَ الْقَائِلُ حَمْلُ مَعْنَى الْوَصِيَّةِ شَرِيعَةً عَلَى مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ حَيْثُ قَالَ : وَأَمَّا بَيَانُ مَعْنَى الْوَصِيَّةِ اسْمٌ لِمَا أَوْجَبَهُ الْمُوصِي فِي مَالِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ .
وَيَقْرُبُ مِنْهُ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْوِقَايَةِ حَيْثُ قَالَ : هِيَ إيجَابٌ بَعْدَ الْمَوْتِ فَإِنَّهُمَا يَشْمَلَانِ تِلْكَ الْمَسَائِلَ جُمْلَةً كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْمُتَأَمِّلِ ، وَالْوَجْهُ فِي التَّفَصِّي عَنْ أَمْرِ التَّطَفُّلِ فِي حَقِّ مَسَائِلِ كِتَابِ الْوَصَايَا كُلِّهَا مِنْ الْمُعَلَّقَاتِ وَالْمُنَجَّزَاتِ حَمْلُ مَعْنَى الْوَصِيَّةِ شَرِيعَةً عَلَى مَا نَقَلَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ عَنْ الْإِيضَاحِ حَيْثُ قَالَ : ذَكَرَ فِي الْإِيضَاحِ : الْوَصِيَّةُ مَا أَوْجَبَهَا الْمُوصِي فِي مَالِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ أَوْ مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ انْتَهَى .
فَإِنَّهُ يَشْمَلُ جَمِيعَ مَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ الْوَصَايَا كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذِي مُسْكَةٍ .
ثُمَّ إنَّ سَبَبَ الْوَصِيَّةِ سَبَبُ سَائِرِ التَّبَرُّعَاتِ ، وَهُوَ إرَادَةُ تَحْصِيلِ ذِكْرِ الْخَيْرِ فِي الدُّنْيَا وَوُصُولِ الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ فِي الْعُقْبَى .
وَشَرَائِطُهَا : كَوْنُ الْمُوصِي أَهْلًا لِلتَّبَرُّعِ ، وَأَنْ لَا يَكُونَ مَدْيُونًا ، وَكَوْنُ الْمُوصَى لَهُ حَيًّا وَقْتَ الْوَصِيَّةِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْلُودًا ، حَتَّى إذَا أَوْصَى لِلْجَنِينِ إذَا كَانَ مَوْجُودًا حَيًّا عِنْدَ الْوَصِيَّةِ يَصِحُّ وَإِلَّا فَلَا ، وَإِنَّمَا تُعْرَفُ حَيَاتُهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِأَنْ وُلِدَ

قَبْلَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ حَيًّا ، وَكَوْنُهُ أَجْنَبِيًّا حَتَّى إنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ لَا تَجُوزُ إلَّا بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ ، وَأَنْ لَا يَكُونَ قَاتِلًا وَكَوْنُ الْمُوصَى بِهِ شَيْئًا قَابِلًا لِلتَّمْلِيكِ مِنْ الْغَيْرِ بِعَقْدٍ مِنْ الْعُقُودِ حَالَ حَيَاةِ الْمُوصِي سَوَاءٌ كَانَ مَوْجُودًا فِي الْحَالِ أَوْ مَعْدُومًا ، وَأَنْ يَكُونَ بِمِقْدَارِ الثُّلُثِ حَتَّى إنَّهَا لَا تَصِحُّ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَفِي الْعِنَايَةِ أَيْضًا بِطَرِيقِ الْإِجْمَالِ .
أَقُولُ : فِيهِ قُصُورٌ ، بَلْ خَلَلٌ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ جَعَلَ مِنْ شَرَائِطِهَا أَنْ لَا يَكُونَ الْمُوصِي مَدْيُونًا بِدُونِ التَّقْيِيدِ بِأَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ مُسْتَغْرِقًا لِتَرِكَتِهِ ، وَالشَّرْطُ عَدَمُ هَذَا الدَّيْنِ الْمُقَيَّدِ دُونَ عَدَمِ الدَّيْنِ الْمُطْلَقِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْبَدَائِعِ وَغَيْرِهِ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ جَعَلَ مِنْ شَرَائِطِهَا كَوْنَ الْمُوصِي حَيًّا وَقْتَ الْوَصِيَّةِ ، وَالشَّرْطُ كَوْنُهُ مَوْجُودًا وَقْتَ الْوَصِيَّةِ لَا كَوْنُهُ حَيًّا فِيهِ ، أَلَا يُرَى أَنَّهُمْ جَعَلُوا الدَّلِيلَ عَلَيْهِ الْوِلَادَةَ قَبْلَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ حَيًّا ، وَتِلْكَ إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْجَنِينِ وَقْتَ الْوَصِيَّةِ لَا عَلَى حَيَاتِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْعَارِفِ بِأَحْوَالِ الْجَنِينِ فِي الرَّحِمِ وَبِأَقَلِّ مُدَّةِ الْحَمْلِ وَعَنْ هَذَا كَانَ الْمَذْكُورُ فِي عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ عِنْدَ بَيَانِ هَذَا الشَّرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمُوصَى لَهُ مَوْجُودًا وَقْتَ الْوَصِيَّةِ بِدُونِ ذِكْرِ قَيْدِ الْحَيَاةِ أَصْلًا ، وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّهُ جَعَلَ مِنْ شَرَائِطِهَا أَنْ يَكُونَ الْمُوصَى بِهِ مِقْدَارَ الثُّلُثِ لَا زَائِدًا عَلَيْهِ ، وَهُوَ لَيْسَ بِسَدِيدٍ عَلَى إطْلَاقِهِ فَإِنَّ الْمُوصِي إذَا تَرَكَ وَرَثَةً فَإِنَّمَا لَا تَصِحُّ وَصِيَّتُهُ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ إنْ لَمْ تُجِزْهُ الْوَرَثَةُ ، وَإِنْ أَجَازُوهُ صَحَّتْ وَصِيَّتُهُ بِهِ .
وَأَمَّا إذَا لَمْ يَتْرُكْ وَارِثًا فَتَصِحُّ وَصِيَّتُهُ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ حَتَّى بِجَمِيعِ مَالِهِ

عِنْدَنَا كَمَا تَقَرَّرَ فِي مَوْضِعِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّقْيِيدِ مَرَّتَيْنِ : مَرَّةً بِأَنْ يَكُونَ لَهُ وَارِثٌ ، وَأُخْرَى بِأَنْ لَا يُجِيزَهُ الْوَارِثُ .

قَالَ ( الْوَصِيَّةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ ) وَالْقِيَاسُ يَأْبَى جَوَازَهَا لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إلَى حَالِ زَوَالِ مَالِكِيَّتِهِ ، وَلَوْ أُضِيفَ إلَى حَالِ قِيَامِهَا بِأَنْ قِيلَ مَلَّكْتُك غَدًا كَانَ بَاطِلًا فَهَذَا أَوْلَى ، إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّاهُ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهَا ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مَغْرُورٌ بِأَمَلِهِ مُقَصِّرٌ فِي عَمَلِهِ ، فَإِذَا عَرَضَ لَهُ الْمَرَضُ وَخَافَ الْبَيَانَ يَحْتَاجُ إلَى تَلَافِي بَعْضِ مَا فَرَّطَ مِنْهُ مِنْ التَّفْرِيطِ بِمَالِهِ عَلَى وَجْهٍ لَوْ مَضَى فِيهِ يَتَحَقَّقُ مَقْصِدُهُ الْمَآلِيُّ ، وَلَوْ أَنْهَضَهُ الْبُرْءُ يَصْرِفُهُ إلَى مَطْلَبِهِ الْحَالِيِّ ، وَفِي شَرْعِ الْوَصِيَّةِ ذَلِكَ فَشَرَعْنَاهُ ، وَمِثْلُهُ فِي الْإِجَارَةِ بَيَّنَّاهُ ، وَقَدْ تَبْقَى الْمَالِكِيَّةُ بَعْدَ الْمَوْتِ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ كَمَا فِي قَدْرِ التَّجْهِيزِ وَالدَّيْنِ ، وَقَدْ نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ } وَالسُّنَّةُ وَهُوَ قَوْلُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ فِي آخِرِ أَعْمَارِكُمْ زِيَادَةً لَكُمْ فِي أَعْمَالِكُمْ تَضَعُونَهَا حَيْثُ شِئْتُمْ } أَوْ قَالَ { حَيْثُ أَحْبَبْتُمْ } وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ .
ثُمَّ تَصِحُّ لِلْأَجْنَبِيِّ فِي الثُّلُثِ مِنْ غَيْرِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ لِمَا رَوَيْنَا ، وَسَنُبَيِّنُ مَا هُوَ الْأَفْضَلُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

( بَابٌ فِي صِفَةِ الْوَصِيَّةِ مَا يَجُوزُ مِنْ ذَلِكَ وَمَا يُسْتَجَبُّ مِنْهُ وَمَا يَكُونُ رُجُوعًا عَنْهُ ) قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي حَلِّ هَذَا التَّرْكِيبِ : أَيْ مَا يَجُوزُ مِنْهُ وَمَا لَا يَجُوزُ ، وَمَا يُسْتَحَبُّ مِنْهُ وَمَا لَا يُسْتَحَبُّ .
وَقَالَ : ثُمَّ ظَاهِرُ الْإِبْدَالِ يُفِيدُ أَنَّ الْمُرَادَ بِبَيَانِ صِفَةِ الْوَصِيَّةِ بَيَانُ مَا يَجُوزُ مِنْهُ وَمَا يُسْتَحَبُّ مِنْهُ ، لَكِنَّ الظَّاهِرَ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ الْوَصِيَّةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ ، فَالْأَوْلَى إيرَادُهُ بِالْوَاوِ الْعَاطِفَةِ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ خَلَلٌ فَاحِشٌ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ سَلَكَ مَسْلَكَ التَّقْدِيرِ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ مَا يَجُوزُ مِنْ ذَلِكَ وَمَا يُسْتَحَبُّ مِنْهُ حَيْثُ قَالَ : أَيْ مَا يَجُوزُ مِنْهُ وَمَا لَا يَجُوزُ وَمَا يُسْتَحَبُّ مِنْهُ وَمَا لَا يُسْتَحَبُّ ، وَلَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّ ذَاكَ التَّقْدِيرَ إنْ صَحَّ فِي قَوْلِهِ مَا يَجُوزُ مِنْ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ فِي قَوْلِهِ وَمَا يُسْتَحَبُّ مِنْهُ ، إذْ لَيْسَ فِي جِنْسِ الْوَصِيَّةِ مَا يَخْلُو عَنْ الْجَوَازِ وَعَدَمِهِ لِكَوْنِهِمَا نَقِيضِينَ لَا يَرْتَفِعَانِ عَنْ شَيْءٍ ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْ جِنْسِ الْوَصِيَّةِ شَيْءٌ يُغَايِرُ مَا يَجُوزُ مِنْهُ وَمَا لَا يَجُوزُ حَتَّى يَصْلُحَ ذَلِكَ لَأَنْ يُذْكَرَ بَعْدَهُمَا ، فَإِنْ قُيِّدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِشَيْءٍ يُخْرِجُ مِنْهُ مَا يُسْتَحَبُّ مِنْهُ لَا يَبْقَى مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ يُغَايِرُ مَا يَجُوزُ مِنْهُ وَمَا لَا يَجُوزُ وَمَا يُسْتَحَبُّ مِنْهُ حَتَّى يَنْدَرِجَ فِيمَا لَا يُسْتَحَبُّ مِنْهُ فَيَصِحُّ تَقْدِيرُهُ .
لَا يُقَالُ : الْمُرَادُ بِالْجَوَازِ تَسَاوِي الطَّرَفَيْنِ وَبِعَدَمِ الْجَوَازِ عَدَمُ صِحَّةِ طَرَفِ الْفِعْلِ أَصْلًا لَا مُجَرَّدُ رَفْعِ التَّسَاوِي حَتَّى يَكُونَا مِنْ قَبِيلِ النَّقِيضَيْنِ فَيَبْقَى الِاسْتِحْبَابُ وَالْوُجُوبُ وَاسِطَةً بَيْنَهُمَا ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِمَا لَا يُسْتَحَبُّ مِنْهُ مَا هُوَ الْوَاجِبُ مِنْهُ .
لِأَنَّا نَقُولُ : نَفْيُ الِاسْتِحْبَابِ يَعُمُّ الْجَوَازَ وَالْوُجُوبَ

وَعَدَمَ صِحَّةِ طَرَفِ الْفِعْلِ أَصْلًا ، فَمِنْ أَيْنَ يَدُلُّ مَا لَا يُسْتَحَبُّ مِنْهُ عَلَى مَا هُوَ الْوَاجِبُ مِنْهُ فَقَطْ حَتَّى يَجُوزَ أَنْ يُرَادَ بِهِ ذَلِكَ .
وَلَئِنْ سَلِمَ جَوَازُ إرَادَةِ ذَلِكَ بِهِ يَفْسُدُ مَعْنَى الْمَقَامِ إذْ يَلْزَمُ حِينَئِذٍ أَنْ يُدْرِجَ فِي عُنْوَانِ الْبَابِ مَا هُوَ الْوَاجِبُ مِنْ الْوَصِيَّةِ فَيُخَالِفُ مَا ذَكَرَهُ فِي أَوَّلِ الْبَابِ مِنْ أَنَّ الْوَصِيَّةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ .
وَبِالْجُمْلَةِ لَمْ يُوجَدْ لِمَا ارْتَكَبَهُ مَحْمَلٌ صَحِيحٌ قَطُّ ، فَالصَّوَابُ أَنْ لَا تَقْدِيرَ فِي شَيْءٍ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا ، فَإِنَّ صِفَاتِ الْوَصِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ هِيَ الْجَوَازُ وَالِاسْتِحْبَابُ وَالرُّجُوعُ عَنْهَا : أَيْ كَوْنُهَا مَرْجُوعًا عَنْهَا ، وَهَذِهِ الصِّفَاتُ كُلُّهَا حَاصِلَةٌ مِمَّا ذَكَرَهُ فِي عُنْوَانِ الْبَابِ صَرَاحَةً فَلَا حَاجَةَ إلَى تَقْدِيرِ شَيْءٍ أَصْلًا حَتَّى عَدَمُ الْجَوَازِ فَإِنَّهُ صِفَةٌ لِلْوَصِيَّةِ الْغَيْرِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَعُنْوَانُ الْبَابِ إنَّمَا كَانَ فِي صِفَةِ الْوَصِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ .
نَعَمْ قَدْ يَذْكُرُ فِي أَثْنَاءِ مَسَائِلِ الْبَابِ مَا لَا يَجُوزُ مِنْ الْوَصَايَا ، لَكِنْ لِأَجْلِ إزَالَةِ أَنْ يُتَوَهَّمُ كَوْنُهُ مِنْ الْوَصَايَا الْجَائِزَةِ الشَّرْعِيَّةِ ، لَا لِأَنَّهُ مَقْصُودٌ بِالْبَيَانِ بِالذَّاتِ كَمَا هُوَ الْحَالُ فِي مَسَائِلِ سَائِرِ الْكُتُبِ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ لَكِنَّ الظَّاهِرَ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ أَنَّ الْمُرَادَ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ الْوَصِيَّةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ لَيْسَ بِسَدِيدٍ ، إذْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الظَّاهِرَ ذَلِكَ ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ أَحَدًا سِوَاهُ صَرَّحَ بِهِ ، وَإِنَّمَا الَّذِي صَرَّحُوا بِهِ أَنَّ صِفَةَ الْوَصِيَّةِ فِي الشَّرْعِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ الْوَصِيَّةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ ، لَا أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِالصِّفَةِ فِي قَوْلِهِ بَابٌ فِي صِفَةِ الْوَصِيَّةِ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ الْوَصِيَّةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ ؛ أَلَا يُرَى أَنَّهُمْ إنَّمَا ذَكَرُوا مَا صَرَّحُوا

بِهِ عِنْد بَيَانِ مُتَعَلِّقَاتِ الْوَصِيَّةِ مِنْ سَبَبِهَا وَشَرَائِطِهَا وَرُكْنِهَا وَحُكْمِهَا وَصِفَتِهَا لَا عِنْدَ شَرْحِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ بَابٌ فِي صِفَةِ الْوَصِيَّةِ إلَخْ وَكَمْ بَيْنَ الْمَقَامَيْنِ ؟ وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ فَالْأَوْلَى إيرَادُهُ بِالْوَاوِ الْعَاطِفَةِ لَا يَكَادُ يَصِحُّ إذْ لَوْ أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ بِالْوَاوِ الْعَاطِفَةِ عَلَى فَرْضِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالصِّفَةِ فِي قَوْلِهِ " بَابٌ فِي صِفَةِ الْوَصِيَّةِ " مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ الْوَصِيَّةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ كَمَا زَعَمَهُ الْقَائِلُ لَصَارَ مَعْنَى الْكَلَامِ " بَابٌ فِي صِفَةِ الْوَصِيَّةِ " أَيْ فِيمَا يُسْتَحَبُّ مِنْهَا وَفِيمَا يَجُوزُ مِنْ ذَلِكَ وَمَا يُسْتَحَبُّ مِنْهُ ، فَيَصِيرُ قَوْلُهُ " وَمَا يُسْتَحَبُّ مِنْهُ " لَغْوًا مِنْ الْكَلَامِ لِكَوْنِهِ تَكْرَارًا مَحْضًا فَكَأَنَّ هَذَا الْقَائِلَ نَسِيَ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ وَمَا يُسْتَحَبُّ مِنْهُ عِنْدَ كَتْبِ قَوْلِهِ فَالْأَوْلَى إيرَادُهُ بِالْوَاوِ الْعَاطِفَةِ وَلَعَمْرِي أَنَّهُ عَجِيبٌ مِنْ مِثْلِهِ .
( قَوْلُهُ الْوَصِيَّةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ ) أَقُولُ : الْحُكْمُ بِالِاسْتِحْبَابِ عَلَى الْوَصِيَّةِ مُطْلَقًا لَا يُنَاسِبُ مَا مَرَّ آنِفًا فِي عُنْوَانِ الْبَابِ مِنْ قَوْلِهِ مَا يَجُوزُ مِنْ ذَلِكَ وَمَا يُسْتَحَبُّ مِنْهُ ، وَلَا مَا سَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ مِنْ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالثُّلُثِ لِلْأَجْنَبِيِّ جَائِرَةٌ وَبِدُونِ الثُّلُثِ مُسْتَحَبَّةٌ إنْ كَانَتْ الْوَرَثَةُ أَغْنِيَاءَ أَوْ يَسْتَغْنُونَ بِنَصِيبِهِمْ ، وَإِنْ كَانُوا فُقَرَاءَ لَا يَسْتَغْنُونَ بِمَا يَرِثُونَ فَتَرْكُ الْوَصِيَّةِ أَوْلَى ، فَكَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ : الْوَصِيَّةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ بَلْ هِيَ مُسْتَحَبَّةٌ أَوْ جَائِزَةٌ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُوَجَّهَ قَوْلُهُ وَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّ غَايَةَ أَمْرِهَا الِاسْتِحْبَابُ دُونَ الْوُجُوبِ لَا أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، فَكَأَنَّهُ قَالَ : إنَّهَا لَا تَصِلُ إلَى مَرْتَبَةِ الْوُجُوبِ بَلْ قُصَارَى أَمْرِهَا الِاسْتِحْبَابُ ، لَكِنْ يُرَدُّ عَلَيْهِ

النَّقْضُ بِالْوَصِيَّةِ لِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ الَّتِي فَرَّطَ فِيهَا ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ فِي التَّبْيِينِ ، قَالَ فِي الْعِنَايَةِ أَخْذًا مِنْ النِّهَايَةِ : قَوْلُهُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ رَدٌّ لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إذَا كَانُوا مِمَّنْ لَا يَرِثُونَ فَرْضٌ ، وَلِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ : الْوَصِيَّةُ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ مِمَّنْ لَهُ ثَرْوَةٌ وَيَسَارٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ } وَالْمَكْتُوبُ عَلَيْنَا فَرْضٌ ، وَلَمَّا لَمْ يُفْهَمْ الِاسْتِحْبَابُ مِنْ نَفْيِ الْوُجُوبِ لِجَوَازِ الْإِبَاحَةِ قَالَ : وَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِي قَوْلِهِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ رَدٌّ لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إذَا كَانُوا مِمَّنْ لَا يَرِثُونَ فَرْضٌ نَظَرٌ ، لِأَنَّ الْفَرْضَ غَيْرُ الْوَاجِبِ عِنْدَنَا ، إذْ الْفَرْضُ مَا يَثْبُتُ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ وَالْوَاجِبُ مَا ثَبَتَ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ كَمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْوَصِيَّةِ غَيْرَ وَاجِبَةٍ كَوْنُهَا غَيْرَ فَرْضٍ فَكَيْفَ يَحْصُلُ الرَّدُّ بِقَوْلِهِ الْوَصِيَّةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ : إنَّهَا فَرْضٌ فِي حَقِّ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ، بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّ الرَّدَّ لِقَوْلِ ذَلِكَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِقَوْلِهِ وَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ .
ثُمَّ إنَّ فِي أُسْلُوبِ تَحْرِيرِهِ سَمَاجَةً ظَاهِرَةً إذْ الظَّاهِرُ مِنْ تَأْخِيرِ قَوْلِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { كُتِبَ عَلَيْكُمْ } إلَخْ عَنْ مَجْمُوعِ الْقَوْلَيْنِ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ دَلِيلًا عَلَيْهِمَا ، بَلْ الْمُتَبَادَرُ أَنْ تَكُونَ دَلِيلًا عَلَى قُرْبَتِهَا ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهَا لَا تَصْلُحُ لَأَنْ تَكُونَ دَلِيلًا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي ، وَصَاحِبُ النِّهَايَةِ وَإِنْ شَارَكَهُ فِي تَأْخِيرِ ذِكْرِ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ عَنْ مَجْمُوعِ

الْقَوْلَيْنِ الْمَزْبُورَيْنِ إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ دَلِيلًا آخَرَ بَعْدَهُ مِنْ السُّنَّةِ حَيْثُ قَالَ : وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ يُرِيدُ الْوَصِيَّةَ فِيهِ أَنْ يَبِيتَ لَيْلَتَيْنِ إلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَ رَأْسِهِ } انْتَهَى .
فَجَازَ أَنْ يُجْعَلَ الدَّلِيلُ الْأَوَّلُ دَلِيلًا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ ، وَالدَّلِيلُ الثَّانِي عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي بِطَرِيقِ التَّوْزِيعِ عَلَى اللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْمُرَتَّبِ ، وَأَمَّا صَاحِبُ الْغَايَةِ فَقَدْ قَصَرَ الذِّكْرَ عَلَى دَلِيلٍ وَاحِدٍ فَقَصَرَ ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْجَوَابَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ دَلِيلَيْ الْخَصْمَيْنِ مُسْتَقْصًى وَمُسْتَوْفًى فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا فَلَا عَلَيْنَا أَنْ لَا نَذْكُرَهُ هَاهُنَا .
( قَوْلُهُ وَقَدْ تَبْقَى الْمَالِكِيَّةُ بَعْدَ الْمَوْتِ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ كَمَا فِي قَدْرِ التَّجْهِيزِ وَالدَّيْنِ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : قَوْلُهُ وَقَدْ تَبْقَى الْمَالِكِيَّةُ بَعْدَ الْمَوْتِ جَوَابٌ عَنْ وَجْهِ الْقِيَاسِ ، وَاقْتَفَى أَثَرَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ .
أَقُولُ : فِيهِ بَحْثٌ ، إذْ لَا يَصْلُحُ الْجَوَابُ عَنْ وَجْهِ الْقِيَاسِ الْمَذْكُورِ بِمُجَرَّدِ بَقَاءِ الْمَالِكِيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي وَجْهِ الْقِيَاسِ : وَلَوْ أُضِيفَ إلَى حَالِ قِيَامِهَا بِأَنْ قَالَ مَلَّكْتُك غَدًا كَانَ بَاطِلًا فَهَذَا أَوْلَى ، فَاللَّازِمُ مِنْ بَقَاءِ الْمَالِكِيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ انْتِفَاءُ أَوْلَوِيَّةِ الْبُطْلَانِ لَا انْتِفَاءُ نَفْسِ الْبُطْلَانِ فَلَا يُجْدِي نَفْعًا ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُتَمَحَّلَ بِأَنْ يُقَالَ : مَعْنَى كَوْنِهِ جَوَابًا عَنْ وَجْهِ الْقِيَاسِ مُجَرَّدُ تَضَمُّنِهِ قَدْحَ مُقَدِّمَةٍ مَذْكُورَةٍ فِيهِ وَهِيَ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إلَى حَالِ زَوَالِ مَالِكِيَّتِهِ لَا كَوْنُهُ جَوَابًا قَاطِعًا لَهُ عَنْ عِرْقِهِ .
وَالْأَوْجُهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْكَلَامُ مُجَرَّدَ تَتْمِيمٍ لِوَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ ، فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي تَجْوِيزِ تَمْلِيكٍ مُضَافٍ إلَى حَالِ زَوَالِ

الْمَالِكِيَّةِ نَوْعُ اسْتِبْعَادٍ لِكَوْنِ التَّمْلِيكِ فَرْعَ بَقَاءِ الْمِلْكِ تَدَارَكَ دَفْعَهُ بِأَنْ قَالَ : إنَّ الْمَالِكِيَّةَ لَا تَزُولُ عَنْ الْإِنْسَانِ بِالْكُلِّيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ ، بَلْ تَبْقَى مَالِكِيَّتُهُ بَعْدَهُ فِي حَقِّ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ كَمَا فِي قَدْرِ التَّجْهِيزِ وَالدَّيْنِ وَمِنْهُ الْوَصِيَّةُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ .
( قَوْلُهُ وَقَدْ نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ } ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَقَدْ اسْتَدَلَّ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ عَلَى نَسْخِ قَوْله تَعَالَى { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ } بِهَذِهِ الْآيَةِ ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ فِي أُصُولِهِ ، وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ فِي التَّقْرِيرِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَتَّبَ الْمَوَارِيثَ عَلَى وَصِيَّةٍ نَكِرَةٍ ، وَالْوَصِيَّةُ الْأُولَى كَانَتْ مَعْهُودَةً فَإِنَّهَا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ ، فَلَوْ كَانَتْ تِلْكَ الْوَصِيَّةُ بَاقِيَةً مَعَ الْمِيرَاثِ لَرَتَّبَ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ عَلَيْهَا وَبَيَّنَ بِأَنَّ هَذَا الْمِقْدَارَ بَعْدَ الْمِقْدَارِ الْمَفْرُوضِ ، لِأَنَّ الْمَحِلَّ مَحِلُّ بَيَانِ مَا فُرِضَ لِلْوَالِدَيْنِ ، وَحَيْثُ رَتَّبَهَا عَلَى وَصِيَّةٍ مُنَكَّرَةٍ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ الْمَفْرُوضَةَ لَمْ تَبْقَ لَازِمَةً بَلْ بَعْدَ أَيِّ وَصِيَّةٍ كَانَتْ نَصِيبُهُمَا ذَلِكَ الْمِقْدَارُ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءَ وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ الْمَفْرُوضَةِ ، وَإِذَا اُنْتُسِخَ الْوُجُوبُ اُنْتُسِخَ الْجَوَازُ عِنْدَنَا انْتَهَى .
أَقُولُ : يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ الْأُولَى لَمْ تَبْقَ لَازِمَةً ، فَإِنَّ الْمَوَارِيثَ وَإِنْ لَمْ تُرَتَّبْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْوَصِيَّةُ الْأُولَى الْمَعْهُودَةُ لَكِنَّهَا رُتِّبَتْ عَلَى وَصِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ حَيْثُ قِيلَ { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا } فَدَخَلَتْ تِلْكَ الْوَصِيَّةُ الْأُولَى أَيْضًا تَحْتَ إطْلَاقِ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ الْمُنَكَّرَةِ فَمِنْ أَيْنَ يَلْزَمُ

انْتِفَاءُ وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ الْأُولَى حَتَّى يَلْزَمَ انْتِسَاخُ الْآيَةِ الْأُولَى بِهَذِهِ الْآيَةِ ، وَفَائِدَةُ تَرْتِيبِ الْمَوَارِيثِ عَلَى الْوَصِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ دُونَ الْوَصِيَّةِ الْأُولَى الْمَعْهُودَةِ فَقَطْ إفَادَةُ تَأَخُّرِ الْمَوَارِيثِ عَنْ الْوَصِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ أَيْضًا كَمَا هُوَ الْمَذْهَبُ فِي مِقْدَارِ الثُّلُثِ ، وَعَنْ هَذَا أَوْرَدَ الْقَاضِي الْبَيْضَاوِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْأُولَى عَلَى مَنْ قَالَ كَانَ هَذَا الْحُكْمُ فِي بَدْءِ الْإِسْلَامِ فَنُسِخَ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ بِأَنْ قَالَ : فِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ آيَةَ الْمَوَارِيثِ لَا تُعَارِضُهُ بَلْ تُؤَكِّدُهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا تَدُلُّ عَلَى تَقْدِيمِ الْوَصِيَّةِ مُطْلَقًا انْتَهَى .
ثُمَّ إنْ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ رَدَّ قَوْلَ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ " لَرَتَّبَ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ عَلَيْهَا " فِي قَوْلِهِ فَلَوْ كَانَتْ تِلْكَ الْوَصِيَّةُ بَاقِيَةً مَعَ الْمِيرَاثِ لَرَتَّبَ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ عَلَيْهَا حَيْثُ قَالَ : وَلَعَلَّ هُنَا سَهْوًا ، وَالْعِبَارَةُ الصَّحِيحَةُ لِرُتْبَةٍ عَلَيْهَا انْتَهَى .
أَقُولُ : إنَّمَا السَّاهِي نَفْسُهُ ، لِأَنَّ مُرَادَ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ بِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ فِي قَوْلِهِ لَرَتَّبَ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ هُوَ الْمِيرَاثُ ، وَمُرَادُهُ بِالْوَصِيَّةِ هُنَا وَصِيَّةُ اللَّهِ تَعَالَى لَا وَصِيَّةُ الْعِبَادِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تِلْكَ الْوَصِيَّةُ وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْ الْمِيرَاثِ بِالْوَصِيَّةِ تَأَسِّيًا بِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي أَوَّلِ آيَةِ الْمَوَارِيثِ { يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ } وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ : أَيْ يَأْمُرُكُمْ وَيَعْهَدُ إلَيْكُمْ فِي شَأْنِ مِيرَاثِهِمْ ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فِي آخِرِ تِلْكَ الْآيَةِ { وَصِيَّةً مِنْ اللَّهِ } فَلَمْ يَكُنْ فِي الْعِبَارَةِ الْمَذْكُورَةِ سَهْوٌ بَلْ كَانَ فِيهَا لَطَافَةٌ وَحُسْنٌ .

قَالَ ( وَلَا تَجُوزُ ) ( بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ ) لِقَوْلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ } بَعْدَ مَا نَفَى وَصِيَّتَهُ بِالْكُلِّ وَالنِّصْفِ ، وَلِأَنَّهُ حَقُّ الْوَرَثَةِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ انْعَقَدَ سَبَبُ الزَّوَالِ إلَيْهِمْ وَهُوَ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنْ الْمَالِ فَأَوْجَبَ تَعَلُّقَ حَقِّهِمْ بِهِ ، إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يُظْهِرْهُ فِي حَقِّ الْأَجَانِبِ بِقَدْرِ الثُّلُثِ لِيَتَدَارَكَ مَصِيرَهُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ، وَأَظْهَرَهُ فِي حَقِّ الْوَرَثَةِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يُتَصَدَّقُ بِهِ عَلَيْهِمْ تَحَرُّزًا عَمَّا يَتَّفِقُ مِنْ الْإِيثَارِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ { الْحَيْفُ فِي الْوَصِيَّةِ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ } وَفَسَّرُوهُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ وَبِالْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ .
قَالَ ( إلَّا أَنَّ يُجِيزَهُ الْوَرَثَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَهُمْ كِبَارٌ ) لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ لِحَقِّهِمْ وَهُمْ أَسْقَطُوهُ ( وَلَا مُعْتَبَرَ بِإِجَازَتِهِمْ فِي حَالِ حَيَاتِهِ ) لِأَنَّهَا قَبْلَ ثُبُوتِ الْحَقِّ إذْ الْحَقُّ يَثْبُتُ عِنْدَ الْمَوْتِ فَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَرُدُّوهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ لِأَنَّهُ بَعْدَ ثُبُوتِ الْحَقِّ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا عَنْهُ ، لِأَنَّ السَّاقِطَ مُتَلَاشٍ .
غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ يُسْتَنَد عِنْدَ الْإِجَازَةِ ، لَكِنَّ الِاسْتِنَادَ يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْقَائِمِ وَهَذَا قَدْ مَضَى وَتَلَاشَى ، وَلِأَنَّ الْحَقِيقَةَ تَثْبُتُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَقَبْلَهُ يَثْبُتُ مُجَرَّدُ الْحَقِّ ، فَلَوْ اسْتَنَدَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ يَنْقَلِبُ حَقِيقَةً قَبْلَهُ ، وَالرِّضَا بِبُطْلَانِ الْحَقِّ لَا يَكُونُ رِضًا بِبُطْلَانِ الْحَقِيقَةِ ، وَكَذَا إنْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ لِلْوَارِثِ وَأَجَازَهُ الْبَقِيَّةُ فَحُكْمُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ .

( قَوْلُهُ وَلَا تَجُوزُ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ } بَعْدَمَا نَفَى وَصِيَّتَهُ بِالْكُلِّ وَالنِّصْفِ ) قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ : يَعْنِي أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ دَلَّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ صَرَاحَةً ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ } إلَخْ وَإِنْ دَلَّ عَلَيْهِ أَيْضًا لِأَنَّهُ دَلَّ عَلَى جَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَبَقِيَ مَا فَوْقَهُ عَلَى الْأَصْلِ لَكِنْ لَا بِطَرِيقِ الصَّرَاحَةِ وَلِهَذَا اُسْتُدِلَّ عَلَيْهِ بِهَذَا دُونَ ذَاكَ انْتَهَى .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِسَدِيدٍ ، إذْ لَا يَخْفَى عَلَيْك أَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ } إلَخْ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ لَا صَرَاحَةً وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَلَا دَلَالَةً لِأَنَّ مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ عِنْدَنَا كَمَا عُرِفَ ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ .
فَجَوَازُ الْوَصِيَّةِ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَعَدَمُ جَوَازِهَا مَسْكُوتٌ عَنْهُمَا بِالنَّظَرِ إلَى ذَلِكَ الْحَدِيثِ فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ اللَّهَ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ } إلَخْ وَإِنَّ دَلَّ عَلَيْهِ أَيْضًا ، وَلَا وَجْهَ لِتَعْلِيلِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ دَلَّ عَلَى جَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَبَقِيَ مَا فَوْقَهُ عَلَى الْأَصْلِ ، فَإِنَّ بَقَاءَ مَا فَوْقَهُ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ لَيْسَ بِمَدْلُولِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ أَصْلًا ، وَإِنَّمَا هُوَ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ فَلَا مَجَالَ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ بِذَلِكَ الْحَدِيثِ .
وَقَالَ ذَلِكَ الْبَعْضُ : إلَّا أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : نَفْيُ جَوَازِ الْوَصِيَّةِ

بِالْكُلِّ وَالنِّصْفِ وَإِثْبَاتُ جَوَازِهَا بِالثُّلُثِ لَا يَدُلُّ صَرَاحَةً عَلَى نَفْيِ جَوَازِهَا بِمَا بَيْنَ النِّصْفِ وَالثُّلُثِ ، فَالرُّجُوعُ إلَى الْأَصْلِ فِي هَذَا الْمِقْدَارِ ضَرُورِيٌّ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِحَدِيثِ سَعْدٍ أَيْضًا انْتَهَى .
أَقُولُ : هَذَا أَيْضًا لَيْسَ بِتَامٍّ ، لِأَنَّ نَفْيَ جَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِالْكُلِّ وَالنِّصْفِ وَإِثْبَاتَ جَوَازِهَا بِالثُّلُثِ وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ عَلَى نَفْيِ جَوَازِهَا بِمَا بَيْنَ النِّصْفِ وَالثُّلُثِ إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الثُّلُثُ كَثِيرٌ } : بَعْدَ إثْبَاتِ جَوَازِهَا بِالثُّلُثِ بِقَوْلِهِ الثُّلُثَ بِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِيرِ أَعْطِ الثُّلُثَ أَوْ أَوْصِ الثُّلُثَ ، أَوْ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ : أَيْ الثُّلُثُ كَافٍ ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ مَحْذُوفُ الْفِعْلِ : أَيْ يَكْفِيك الثُّلُثُ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّ الثُّلُثَ كَثِيرٌ لَا يَجُوزُ التَّجَاوُزُ عَنْهُ ، إذْ لَا فَائِدَةَ فِي ذِكْرِ قَوْلِهِ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ بَعْدَ قَوْلِهِ الثُّلُثُ سِوَى نَفْيِ جَوَازِ التَّجَاوُزِ عَنْ الثُّلُثِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ لَا مَحَالَةَ ، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِي تَقْرِيرِهِ حَيْثُ قَالَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ } بَعْدَ نَفْيِ وَصِيَّتِهِ بِالْكُلِّ وَالنِّصْفِ ، وَلَمْ يَقُلْ لِحَدِيثِ سَعْدٍ ، فَقَوْلُ ذَلِكَ الْقَائِلِ فَالرُّجُوعُ إلَى الْأَصْلِ فِي هَذَا الْمِقْدَارِ ضَرُورِيٌّ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِحَدِيثِ سَعْدٍ أَيْضًا مَمْنُوعٌ .
( قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ حَقُّ الْوَرَثَةِ وَهَذَا لِأَنَّهُ انْعَقَدَ سَبَبُ الزَّوَالِ إلَيْهِمْ وَهُوَ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنْ الْمَالِ فَأَوْجَبَ تَعَلُّقَ حَقِّهِمْ بِهِ ) وَأَوْضَحَهُ صَاحِبُ الْكَافِي بِأَنْ قَالَ : وَلِأَنَّهُ انْعَقَدَ سَبَبُ زَوَالِ أَمْلَاكِهِ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ لِأَنَّ الْمَرَضَ سَبَبُ الْمَوْتِ وَبِالْمَوْتِ يَزُولُ مِلْكُهُ لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْهُ ، وَلَوْ تَحَقَّقَ السَّبَبُ لَزَالَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ،

فَإِذَا انْعَقَدَتْ ثَبَتَ ضَرْبُ حَقِّ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِي هَذَا التَّعْلِيلِ قُصُورٌ ، لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَمَشَّى فِيمَا إذَا وَقَعَتْ وَصِيَّتُهُ حَالَ مَرَضِهِ لَا فِيمَا إذَا وَقَعَتْ حَالَ صِحَّتِهِ ، إذْ لَا يَنْعَقِدُ سَبَبُ الزَّوَالِ إلَيْهِمْ فِي حَالِ الصِّحَّةِ لِعَدَمِ اسْتِغْنَائِهِ عَنْ مَالِهِ فِي حَالِ صِحَّتِهِ ، فَلَا تُوجِبُ وَصِيَّتُهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ تَعَلُّقَ حَقِّهِمْ بِهِ ، فَالْأَوْلَى فِي تَعْلِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ حَيْثُ قَالَ : وَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْمَالِ إيجَابُ الْمِلْكِ عِنْدَ الْمَوْتِ ، وَعِنْدَ الْمَوْتِ حَقُّ الْوَرَثَةِ مُتَعَلِّقٌ بِمَالِهِ إلَّا فِي قَدْرِ الثُّلُثِ ، فَالْوَصِيَّةُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ تَتَضَمَّنُ إبْطَالَ حَقِّهِمْ ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ إجَازَتِهِمْ ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ وَصِيَّتُهُ فِي الْمَرَضِ أَوْ فِي الصِّحَّةِ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ إيجَابٌ مُضَافٌ إلَى زَمَانِ الْمَوْتِ فَيُعْتَبَرُ وَقْتُ الْمَوْتِ لَا وَقْتُ وُجُودِ الْكَلَامِ ، إلَى هُنَا لَفْظُهُ تَدَبَّرْ .
( قَوْلُهُ إلَّا أَنْ يُجِيزَهُ الْوَرَثَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَهُمْ كِبَارٌ ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَلَا يَجُوزُ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ .
قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ وَلَا يَجُوزُ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ : أَرَادَ لَا تَجُوزُ فِي حَقِّ الْفَضْلِ عَلَى الثُّلُثِ بَلْ فِي حَقِّ الثُّلُثِ فَقَطْ ، لَا أَنَّهُ لَا تَجُوزُ هَذِهِ الْوَصِيَّةُ أَصْلًا .
وَقَالَ هُنَا : فَإِنْ قُلْت : كَيْفَ يَجُوزُ إعْمَالُ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ فِي بَعْضِ مَدْلُولِهِ دُونَ بَعْضٍ ، وَبِأَيِّ تَوْجِيهٍ أَمْكَنَ ذَلِكَ حَتَّى جَازَتْ فِي الثُّلُثِ وَبَطَلَتْ فِي الْفَضْلِ إنْ رَدُّوا ؟ قُلْت : يَجْعَلُهُ فِي حُكْمِ وَصَايَا مُتَعَدِّدَةٍ بِأَنْ يُجْعَلَ مَثَلًا قَوْلُهُ أَوْصَيْت لِفُلَانٍ بِثُلُثَيْ مَالِي فِي قُوَّةٍ أَوْصَيْت لَهُ بِثُلُثِهِ وَثُلُثُهُ الْآخَرُ ، وَيُجْعَلَ قَوْلُهُ أَوْصَيْت لَهُ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ وَقَدْ كَانَ ثُلُثُ مَالِهِ ثَمَانِيَةَ آلَافٍ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يُقَالَ أَوْصَيْت لَهُ بِثَمَانِيَةِ آلَافٍ وَبِأَلْفَيْنِ إلَى

غَيْرِ ذَلِكَ صِيَانَةً لِكَلَامِ الْعَاقِلِ عَنْ إلْغَائِهِ مَا أَمْكَنَ ، وَحَذَرًا عَنْ إبْطَالِ حَقٍّ يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِعَقْدٍ صَدَرَ عَنْ عَاقِلٍ بِلَفْظٍ يَجُوزُ تَصْحِيحُهُ بِضَرْبٍ مِنْ التَّأْوِيلِ فَتَدَبَّرْ ، فَإِنَّ هَذَا مِمَّا يُهِمُّ فَهْمُهُ انْتَهَى .
أَقُولُ : حَسِبَ أَنَّهُ أَتَى بِأَمْرٍ مُهِمٍّ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ صِحَّةُ مَعْنَى الْمَقَامِ ، وَلَمْ يَدْرِ أَنَّهُ إنَّمَا ارْتَكَبَ شَطَطًا ، فَإِنَّ صِحَّةَ بَعْضِ أَجْزَاءِ شَيْءٍ وَاحِدٍ وَفَسَادَ بَعْضٍ آخَرَ مِنْهُ لَيْسَ بِمُسْتَبْعَدٍ لَا بِحَسَبِ الْعَقْلِ وَلَا بِحَسَبِ الْفِقْهِ ؛ أَلَا يُرَى أَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ إذَا جُمِعَ بَيْنَ عَبْدٍ وَمُدَبَّرٍ فِي بَيْعٍ بِصَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ جُمِعَ بَيْنَ عَبْدٍ وَمُكَاتَبٍ أَوْ أُمِّ وَلَدٍ فِيهِ صَحَّ الْبَيْعُ فِي الْعَبْدِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ وَفَسَدَ فِيمَا ضُمَّ إلَيْهِ مِنْ الْمُدَبَّرِ أَوْ الْمُكَاتَبِ أَوْ أُمِّ الْوَلَدِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْفَسَادَ بِقَدْرِ الْمُفْسِدِ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى الْآخَرِ ، وَكَذَا الْحَالُ فِيمَا إذَا جُمِعَ بَيْنَ الْأَجْنَبِيَّةِ وَأُخْتِهَا فِي النِّكَاحِ ، وَالْمَحْذُورُ بِحَسَبِ الْعَقْلِ إنَّمَا يَلْزَمُ أَنْ لَوْ كَانَ مَحِلُّ الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ وَاحِدًا ، وَأَمَّا إذَا كَانَ مُتَعَدِّدًا بِأَنْ كَانَ مَحِلُّ الصِّحَّةِ بَعْضًا مِنْ شَيْءٍ ذِي أَجْزَاءٍ وَمَحِلُّ الْفَسَادِ بَعْضًا آخَرَ مِنْهُ كَمَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَلَا مَحْذُورَ فِيهِ عَقْلًا أَصْلًا ، فَلَا وَلِجَعْلِ وَصِيَّةٍ وَاحِدَةٍ فِي حُكْمِ وَصَايَا مُتَعَدِّدَةٍ بِلَا أَمْرٍ دَاعٍ إلَيْهِ ، وَصِيَانَةُ كَلَامِ الْعَاقِلِ عَنْ الْإِلْغَاءِ مَهْمَا أَمْكَنَ ، وَالْحَذَرُ عَنْ إبْطَالِ حَقٍّ يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِعَقْدٍ صَدَرَ عَنْ عَاقِلٍ مِمَّا لَا يَدْعُو إلَيْهِ أَصْلًا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لِأَنَّ إلْغَاءَ الْوَصِيَّةِ فِيمَا فَضَلَ عَنْ الثُّلُثِ إذَا رَدَّهُ الْوَرَثَةُ ، وَإِثْبَاتُهَا فِي مِقْدَارِ الثُّلُثِ ضَرُورِيٌّ عَلَى مُقْتَضَى الشَّرَهِ سَوَاءٌ جُعِلَتْ وَصِيَّةً بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ بِكَلَامٍ وَاحِدٍ فِي حُكْمِ وَصَايَا مُتَعَدِّدَةٍ أَوْ أُبْقِيَتْ عَلَى حَالِهَا الظَّاهِرَةِ

مِنْ كَلَامِهِ ، وَبِالْجُمْلَةِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ ذَلِكَ الْبَعْضُ هُنَا أَمْرٌ وَهْمِيٌّ لَا أَصْلَ لَهُ كَمَا تَرَى .
( قَوْلُهُ لِأَنَّ السَّاقِطَ مُتَلَاشٍ ) قَالَ الشُّرَّاحُ قَاطِبَةً : قَوْلُ الْمُصَنِّفِ هَذَا تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ فَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَرُدُّوهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ ، وَتَقْرِيرُهُ لِأَنَّ إجَازَتَهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَتْ سَاقِطَةً لِعَدَمِ مُصَادَفَتِهَا مَحِلَّهَا وَالسَّاقِطُ مُتَلَاشٍ فَإِجَازَتُهُمْ مُتَلَاشِيَةٌ فَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَرُدُّوا بَعْدَ الْمَوْتِ مَا أَجَازُوهُ فِي حَالِ حَيَاةِ الْمُوَرِّثِ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ إشْكَالٌ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ لَا وَجْهَ لَأَنْ يُقَالَ : إنَّ إجَازَتَهُمْ فِي حَالِ حَيَاةِ الْمُوَرِّثِ سَاقِطَةٌ ، لِأَنَّ إجَازَتَهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ أَصْلًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِيمَا قَبْلُ وَبَيَّنَهُ ، وَالسُّقُوطُ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِيمَا لَهُ ثُبُوتٌ وَاعْتِبَارٌ فِي الْأَصْلِ لَكِنْ زَالَ ذَلِكَ لِدَاعٍ ؛ أَلَّا يُرَى أَنَّهُ لَا يُقَالُ سَقَطَ حَقُّ غَيْرِ الْوَارِثِ عَنْ مَالِ الْمُورِثِ بَلْ يُقَالُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّهُ أَصْلًا .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ الْفَصْلُ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَدَلِيلِهِ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ قَوْلِهِ الْمَذْكُورِ تَعْلِيلًا لِمَا ذَكَرُوهُ بِمَسْأَلَةٍ أُخْرَى مَعَ دَلِيلِهَا وَهِيَ قَوْلُهُ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ لِأَنَّهُ بَعْدَ ثُبُوتِ الْحَقِّ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا عَنْهُ ، وَلَا يَخْفَى عَنْهُ رَكَاكَتُهُ وَبُعْدُهُ عَنْ شَأْنِ الْمُصَنِّفِ ، وَالْحَقُّ عِنْدِي أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ هَذَا تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ قُبَيْلَهُ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا عَنْهُ : يَعْنِي أَنَّ إجَازَتَهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ إسْقَاطٌ لِحَقِّهِمْ بَعْدَ ثُبُوتِهِ وَالسَّاقِطُ مُتَلَاشٍ لَا يَعُودُ فَلَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُمْ الرُّجُوعُ عَنْهُ فَحِينَئِذٍ يَنْتَظِمُ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى كَمَا لَا يَخْفَى .
( قَوْلُهُ غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ يَسْتَنِدُ عِنْدَ الْإِجَازَةِ ) وَفِي بَعْضِ النَّسْخِ عِنْدَ الِاسْتِغْنَاءِ ( لَكِنَّ الِاسْتِنَادَ يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْقَائِمِ وَهَذَا قَدْ مَضَى وَتَلَاشَى )

هَذَا جَوَابٌ عَنْ شُبْهَةٍ تَرِدُ عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ ، وَهِيَ أَنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ وَإِنْ ثَبَتَ عِنْدَ الْمَوْتِ إلَّا أَنَّهُ يَسْتَنِدُ إلَى أَوَّلِ الْمَرَضِ ، فَبِالْمَوْتِ يَظْهَرُ أَنَّ حَقَّهُمْ كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ الْمَوْتِ فَيَنْبَغِي أَنْ تَصِيرَ إجَازَتُهُمْ فِي حَالِ حَيَاةِ الْمُوَرِّثِ بِمَنْزِلَةِ إجَازَتِهِمْ بَعْدَ مَوْتِهِ بِسَبَبِ الِاسْتِنَادِ .
فَأَجَابَ بِأَنَّ الِاسْتِنَادَ .
إنَّمَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْقَائِمِ كَمَا فِي الْعُقُودِ الْمَوْقُوفَةِ إذَا لَحِقَتْهَا الْإِجَازَةُ فَإِنَّهَا تَصِحُّ إذَا كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ قَائِمًا ، وَكَثُبُوتِ الْمِلْكِ فِي الْمَغْصُوبِ عِنْدَ أَدَاءِ الضَّمَانِ ، وَهَذَا أَيْ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الْإِجَازَةِ فِي حَالِ حَيَاةِ الْمُوَرِّثِ قَدْ مَضَى وَتَلَاشَى لِكَوْنِهِ لَغْوًا وَقْتَئِذٍ فَلَمْ يَكُنْ قَائِمًا فَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الِاسْتِنَادِ .
هَذَا خُلَاصَةُ مَا فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ ، وَإِلَى هَذَا التَّقْرِيرِ أَشَارَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ فِي مَبْسُوطِهِ كَمَا فَصَّلَ فِي النِّهَايَةِ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي تَقْرِيرِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ هُنَا : فَإِنْ قِيلَ : لَا نُسَلِّمُ عَدَمَ مُصَادَفَةِ الْمَحِلِّ فَإِنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ ثَبَتَ فِي مَالِ الْمُوَرِّثِ مِنْ أَوَّلِ الْمَرَضِ حَتَّى مُنِعَ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي الثُّلُثَيْنِ ، فَلَمَّا مَاتَ ظَهَرَ أَنَّهَا صَادَفَتْ مَحِلَّهَا فَصَارَتْ كَإِجَازَتِهِمْ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ بِسَبَبِ الِاسْتِنَادِ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ غَايَةُ الْأَمْرِ : يَعْنِي أَنَّ حَقَّهُمْ وَإِنْ اسْتَنَدَ إلَى أَوَّلِ الْمَرَضِ لَكِنَّ الِاسْتِنَادَ يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْقَائِمِ يَعْنِي كَمَا فِي الْعُقُودِ الْمَوْقُوفَةِ إذَا لَحِقَتْهَا الْإِجَازَةُ ، وَكَثُبُوتِ الْمِلْكِ فِي الْغَصْبِ عِنْدَ أَدَاءِ الضَّمَانِ ، فَإِنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ فِيهِمَا مُسْتَنِدًا إلَى أَوَّلِ الْعَقْدِ وَالْغَصْبِ ، وَهَذَا يَعْنِي مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الْإِجَازَةِ قَدْ مَضَى وَتَلَاشَى حِينَ وَقَعَ إذْ لَمْ يُصَادِفْ مَحِلَّهُ فَلَا يَلْحَقُهَا الِاسْتِنَادُ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ خَلَلٌ ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي أَوَّلِ تَقْرِيرِ

السُّؤَالِ : لَا نُسَلِّمُ عَدَمَ مُصَادَفَةِ الْمَحِلِّ وَاسْتَنَدَ إلَى مَنْعِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ فَإِنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ ثَبَتَ فِي مَالِ الْمُوَرِّثِ مِنْ أَوَّلِ الْمَرَضِ حَتَّى مُنِعَ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الثُّلُثَيْنِ .
وَقَالَ فِي آخِرِ تَقْرِيرِ الْجَوَابِ تَعْلِيلًا لِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ : وَهَذَا قَدْ مَضَى وَتَلَاشَى إذْ لَمْ يُصَادِفْ مَحِلَّهُ ، وَعَدَمُ مُصَادِفَتِهِ الْمَحِلَّ هُوَ الَّذِي قَدْ كَانَ مُنِعَ فِي أَوَّلِ السُّؤَالِ فَخَتْمُ الْجَوَابِ بِهِ مُصَادَرَةٌ كَمَا لَا يَخْفَى .
( قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الْحَقِيقَةَ تَثْبُتُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَقَبْلَهُ يَثْبُتُ مُجَرَّدُ الْحَقِّ ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : ظَاهِرُهُ مُخَالِفٌ لِمَا سَبَقَ آنِفًا مِنْ قَوْلِهِ إذْ الْحَقُّ يَثْبُتُ عِنْدَ الْمَوْتِ ، إلَّا أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا ثُبُوتُهُ بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ كَمَا لَا يَخْفَى انْتَهَى .
أَقُولُ : مَنْشَأُ تَوَهُّمِ الْمُخَالَفَةِ الْغُفُولُ عَنْ قَيْدِ مُجَرَّدٍ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَقَبْلَهُ يَثْبُتُ مُجَرَّدُ الْحَقِّ ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْحَقُّ الَّذِي لَا يُجَامِعُ الْحَقِيقَةَ وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي يَمْنَعُ تَصَرُّفَ الْمُوَرِّثِ فِي الثُّلُثَيْنِ قَبْلَ مَوْتِهِ كَمَا تَقَرَّرَ مِنْ قَبْلُ فِي تَعْلِيلِ عَدَمِ جَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ بِقَوْلِهِ وَلِأَنَّهُ حَقُّ الْوَرَثَةِ إلَى آخِرِهِ ، وَالْمُرَادُ بِالْحَقِّ فِي قَوْلِهِ فِيمَا سَبَقَ آنِفًا ، إذْ الْحَقُّ يَثْبُتُ عِنْدَ الْمَوْتِ هُوَ الْحَقُّ الْمَجَامِعُ لِلْحَقِيقَةِ فَلَا مُخَالَفَةَ أَصْلًا .
وَأَمَّا الْحَقُّ الثَّابِتُ بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ فَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ عِنْدَ الْمَوْتِ لِكَوْنِ الِاسْتِنَادِ فَرْعَ تَحَقُّقِ حَقِيقَةِ الْمِلْكِ الَّتِي تَثْبُتُ عِنْدَ الْمَوْتِ فَلَا حَاجَةَ إلَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَقَبْلَهُ يَثْبُتُ مُجَرَّدُ الْحَقِّ ، بَلْ لَا وَجْهَ لَهُ بِالنَّظَرِ إلَى رَبْطِ مَا بَعْدَهُ بِهِ كَمَا يَظْهَرُ بِالتَّأَمُّلِ الصَّادِقِ .
( قَوْلُهُ فَلَوْ اسْتَنَدَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَانْقَلَبَ حَقِيقَةً قَبْلَهُ ) يَعْنِي لَوْ اسْتَنَدَ مِلْكُ الْوَرَثَةِ إلَى

أَوَّلِ الْمَرَضِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَانْقَلَبَ الْحَقُّ حَقِيقَةً قَبْلَ الْمَوْتِ ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ لِاسْتِلْزَامِهِ وُقُوعَ الْحُكْمِ قَبْلَ السَّبَبِ وَهُوَ مَرَضُ الْمَوْتِ .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ دَفْعًا لِوَهْمِ مَنْ يَقُولُ : حَقُّ الْوَرَثَةِ يَتَعَلَّقُ بِمَالِ الْمُوَرِّثِ مِنْ أَوَّلِ الْمَرَضِ حَتَّى مَنَعَ ذَلِكَ التَّعَلُّقُ تَصَرُّفَ الْمُوَرِّثِ فِي الثُّلُثَيْنِ فَيَجِبُ أَنْ يَظْهَرَ أَثَرُ ذَلِكَ التَّعَلُّقِ فِي حَقِّ إسْقَاطِهِمْ بِالْإِجَازَةِ أَيْضًا .
وَجْهُ الدَّفْعِ أَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ أَثَرُ ذَلِكَ التَّعَلُّقِ فِي ذَلِكَ أَيْضًا لَانْقَلَبَ الْحَقُّ حَقِيقَةً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَهُوَ لَا يَجُوزُ لِمَا مَرَّ انْتَهَى .
أَقُولُ : لِمَانِعٍ أَنْ يَمْنَعَ اسْتِلْزَامَ أَنْ يُظْهِرَ أَثَرُ ذَلِكَ التَّعَلُّقِ فِي حَقِّ إسْقَاطِهِمْ بِالْإِجَازَةِ أَيْضًا انْقِلَابَ الْحَقِّ حَقِيقَةً أَصْلًا فَضْلًا عَنْ اسْتِلْزَامِهِ انْقِلَابَهُ إيَّاهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِجَوَازِ أَنْ يُظْهِرَ أَثَرُ ذَلِكَ التَّعَلُّقِ مُجَرَّدَ تَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِمَالِ الْمُوَرِّثِ مِنْ أَوَّلِ الْمَرَضِ فِي كِلَا الْأَمْرَيْنِ مَعًا بِدُونِ أَنْ يَنْقَلِبَ الْحَقُّ حَقِيقَةً أَصْلًا ، إذْ لَا رَيْبَ أَنَّ لُزُومَ ذَلِكَ الِانْقِلَابِ لَيْسَ بِبَدِيهِيٍّ وَلَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ بُرْهَانٌ ، وَلِهَذَا وَقَعَ عَلَى اعْتِبَارِ إجَازَتِهِمْ قَبْلَ الْمَوْتِ أَيْضًا اجْتِهَادُ مَالِكٍ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَالزُّهْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَعَطَاءٍ وَغَيْرِهِمْ كَمَا ذَكَرُوا .
ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : فَإِنْ قِيلَ : الْوَارِثُ إذَا عَفَا عَنْ جَارِحِ أَبِيهِ قَبْلَ مَوْتِ أَبِيهِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَحَدُ أَمْرَيْنِ : إمَّا أَنْ لَا يَلْزَمَ مِنْ الِاسْتِنَادِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ قَلْبُ الْحَقِّ حَقِيقَةً ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ هَذَا الْقَلْبُ مَانِعًا .
أُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا الْقَلْبَ مَانِعٌ إذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ السَّبَبُ وَالْجُرْحُ سَبَبُ الْمَوْتِ وَقَدْ تَحَقَّقَ بِخِلَافِ الْإِجَازَةِ ، فَإِنَّ السَّبَبَ لَمْ يَتَحَقَّقْ ثَمَّةَ لِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ مَرَضُ الْمَوْتِ

وَمَرَضُ الْمَوْتِ هُوَ الْمُتَّصِلُ بِالْمَوْتِ ، فَقَبْلَ الِاتِّصَالِ لَوْ انْقَلَبَ الْحَقُّ حَقِيقَةً وَقَعَ الْحُكْمُ قَبْلَ السَّبَبِ وَهُوَ بَاطِلٌ فَنَحْنُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ : إمَّا أَنْ نُبْطِلَ الْعَفْوَ عَنْ الْجَارِحِ نَظَرًا إلَى عَدَمِ الْحَقِيقَةِ ، وَإِمَّا أَنْ نُجِيزَ الْإِجَازَةَ نَظَرًا إلَى وُجُودِ الْحَقِّ ، وَفِي ذَلِكَ إبْطَالٌ لِأَحَدِهِمَا ، فَقُلْنَا : لَا تَجُوزُ الْإِجَازَةُ نَظَرًا إلَى انْتِفَاءِ الْحَقِيقَةِ وَجَازَ الْعَفْوُ نَظَرًا إلَى وُجُودِ الْحَقِّ ، وَلَمْ يُعْكَسْ لِكَوْنِ الْعَفْوِ مَطْلُوبَ الْحُصُولِ ا هـ .
أَقُولُ : فِيهِ خَلَلٌ ، لِأَنَّ قَوْلَهُ فَنَحْنُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إلَخْ مُفَرَّعًا عَلَى مَا قَبْلَهُ لَيْسَ بِسَدِيدٍ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ وَإِمَّا أَنْ نُجِيزَ الْإِجَازَةَ نَظَرًا إلَى وُجُودِ الْحَقِّ مِمَّا لَا مَجَالَ لَهُ بَعْدَ أَنْ قَرَّرَ فِيمَا قَبْلُ أَنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ انْقِلَابَ الْحَقِّ حَقِيقَةً ، وَأَنَّ انْقِلَابَ الْحَقِّ حَقِيقَةً مَانِعٌ إذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ السَّبَبُ لِاسْتِلْزَامِهِ وُقُوعَ الْحُكْمِ قَبْلَ السَّبَبِ ، وَإِنَّ السَّبَبَ لَمْ يَتَحَقَّقْ فِي صُورَةِ الْإِجَازَةِ قَبْلَ الْمَوْتِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ السَّبَبَ هُوَ مَرَضُ الْمَوْتِ وَمَرَضُ الْمَوْتِ هُوَ الْمُتَّصِلُ بِالْمَوْتِ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ وَلَمْ يُعْكَسْ لِكَوْنِ الْعَفْوِ مَطْلُوبَ الْحُصُولِ غَيْرَ تَامٍّ لِاقْتِضَائِهِ جَوَازَ الْعَكْسِ لَوْلَا كَوْنُ الْعَفْوِ مَطْلُوبَ الْحُصُولِ ، مَعَ أَنَّ مَا قَرَّرَهُ فِيمَا قَبْلُ وَمَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ يَمْنَعَانِ جَوَازَ ذَلِكَ أَصْلًا .
وَبِالْجُمْلَةِ لَا مَجَالَ لِرَبْطِ قَوْلِهِ فَنَحْنُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إلَخْ بِمَا ذَكَرَهُ نَفْسُهُ فِيمَا قَبْلَهُ بَلْ بِمَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ أَيْضًا ، فَالْوَجْهُ تَرْكُ ذَلِكَ وَالِاكْتِفَاءُ فِي الْجَوَابِ عَنْ النَّقْضِ بِصِحَّةِ عَفْوِ الْوَارِثِ عَنْ جَارِحِ أَبِيهِ قَبْلَ مَوْتِ أَبِيهِ بِمَا ذَكَرَهُ قَبْلَهُ كَمَا فَعَلَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ .
ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ أَوْرَدَ عَلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ مَرَضُ الْمَوْتِ وَمَرَضُ

الْمَوْتِ هُوَ الْمُتَّصِلُ بِالْمَوْتِ بِأَنْ قَالَ : وَكَذَا السَّبَبُ الْجُرْحُ الْمُتَّصِلُ بِالْمَوْتِ فَلَا فَرْقَ .
وَقَالَ : وَلِذَلِكَ قَالَ فَنَحْنُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إلَخْ انْتَهَى .
أَقُولُ : لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ كَلَامَيْهِ بِمُسْتَقِيمٍ .
أَمَّا نَقْضُهُ بِالْجُرْحِ فَلِأَنَّ الْجُرْحَ فِعْلٌ وَاحِدٌ صَادِرٌ عَنْ الْجَارِحِ لَا تَكَرُّرَ فِيهِ إلَى أَنْ يَمُوتَ الْمَجْرُوحُ حَتَّى يُقَالَ : إنَّ السَّبَبَ هُوَ الْجُرْحُ الْمُتَّصِلُ بِالْمَوْتِ ، بَلْ إنَّمَا السَّبَبُ هُوَ الْجُرْحُ الْوَاحِدُ الصَّادِرُ عَنْ الْجَارِحِ ، إلَّا أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَاتِلًا وَغَيْرَ قَاتِلٍ ، وَبِالْمَوْتِ يَظْهَرُ أَنَّهُ قَاتِلٌ ، بِخِلَافِ الْمَرَضِ فَإِنَّهُ حَالَةٌ انْفِعَالِيَّةٌ تَتَكَرَّرُ وَتَتَجَدَّدُ إلَى الْمَوْتِ ، فَالْقَاتِلُ مِنْهَا هِيَ الَّتِي تَتَّصِلُ بِالْمَوْتِ فَهِيَ السَّبَبُ لِلْمَوْتِ فَافْتَرَقَا .
وَأَمَّا قَوْلُهُ وَلِذَلِكَ قَالَ فَنَحْنُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إلَخْ فَلِأَنَّ فَاءَ التَّفْرِيعِ تُنَافِي ذَلِكَ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ دِرَايَةٌ بِأَسَالِيبِ الْكَلَامِ .

وَكُلُّ مَا جَازَ بِإِجَازَةِ الْوَارِثِ يَتَمَلَّكُهُ الْمُجَازُ لَهُ مِنْ قِبَلِ الْمُوصِي ) عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ مِنْ قِبَلِ الْوَارِثِ ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِأَنَّ السَّبَبَ صَدَرَ مِنْ الْمُوصِي ، وَالْإِجَازَةُ رَفْعُ الْمَانِعِ وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ الْقَبْضُ فَصَارَ كَالْمُرْتَهَنِ إذَا أَجَازَ بَيْعَ الرَّاهِنِ .
( قَوْلُهُ وَكُلُّ مَا جَازَ بِإِجَازَةِ الْوَارِثِ يَتَمَلَّكُهُ الْمُجَازُ لَهُ مِنْ قِبَلِ الْمُوصِي عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ مِنْ قِبَلِ الْوَارِثِ ) قَالَ صَاحِبَا النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ : وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ إنَّ بِنَفْسِ الْمَوْتِ صَارَ قَدْرُ الثُّلُثَيْنِ مِنْ الْمَالِ مَمْلُوكًا لِلْوَارِثِ لِأَنَّ الْمِيرَاثَ يَثْبُتُ لِلْوَارِثِ مِنْ غَيْرِ قَبُولِهِ وَلَا يَرْتَدُّ بِرَدِّهِ ، فَإِجَازَتُهُ تَكُونُ إخْرَاجًا عَنْ مِلْكِهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ ، وَذَلِكَ هِبَةٌ لَا تَتِمُّ بِالْقَبْضِ انْتَهَى .
وَهَكَذَا ذَكَرَ فِي الْكَافِي أَيْضًا .
أَقُولُ : قَدْ قَصَّرُوا فِي تَقْرِيرِ وَجْهِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ حَيْثُ قَيَّدُوا الْمَالَ الَّذِي صَارَ مَمْلُوكًا لِلْوَارِثِ بِنَفْسِ الْمَوْتِ بِقَدْرِ الثُّلُثَيْنِ فَلَزِمَ أَنْ لَا يَتَمَشَّى فِيمَا إذَا كَانَ مَا أَجَازَهُ الْوَارِثُ أَقَلَّ مِنْ قَدْرِ الثُّلُثِ أَوْ كَانَ قَدْرَ الثُّلُثِ كَمَا فِي صُورَةِ إجَازَتِهِ الْوَصِيَّةَ لِوَارِثٍ أَوْ قَاتِلٍ بِأَقَلَّ مِنْ الثُّلُثِ أَوْ بِالثُّلُثِ ، فَإِنَّ الْحُكْمَ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ أَيْضًا دَاخِلٌ فِي كُلِّيَّةِ مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ مَعَ عَدَمِ جَرَيَانِ مَا ذَكَرُوا مِنْ الدَّلِيلِ لِلشَّافِعِيِّ فِيهَا كَمَا تَرَى .
فَالْأَوْلَى فِي بَيَانِ وَجْهِ الشَّافِعِيِّ هُنَا مَا ذَكَرَ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ مِنْ أَنَّ الشَّارِعَ أَبْطَلَ الْوَصِيَّةَ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَلِلْوَارِثِ وَلِلْقَاتِلِ وَالْإِجَازَةُ لَا تَعْمَلُ فِي الْبَاطِلِ فَتَكُونُ هِبَةً مُبْتَدَأَةً لِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ بِلَا عِوَضٍ ا هـ فَإِنَّهُ يَعُمُّ الْكُلَّ ثُمَّ إنَّ الصَّحِيحَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلُنَا لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ .

قَالَ ( وَلَا يَجُوزُ لِلْقَاتِلِ عَامِدًا كَانَ أَوْ خَاطِئًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مُبَاشِرًا ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا وَصِيَّةَ لِلْقَاتِلِ } وَلِأَنَّهُ اسْتَعْجَلَ مَا أَخَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَيَحْرُمُ الْوَصِيَّةُ كَمَا يَحْرُمُ الْمِيرَاثُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : تَجُوزُ لِلْقَاتِلِ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ ثُمَّ إنَّهُ قَتَلَ الْمُوصِيَ تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَهُ لَا تَبْطُلُ ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ فِي الْفَصْلَيْنِ مَا بَيَّنَّاهُ ( وَلَوْ أَجَازَتْهَا الْوَرَثَةُ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا تَجُوزُ ) لِأَنَّ جِنَايَتَهُ بَاقِيَةٌ وَالِامْتِنَاعُ لِأَجْلِهَا .
وَلَهُمَا أَنَّ الِامْتِنَاعَ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ لِأَنَّ نَفْعَ بُطْلَانِهَا يَعُودُ إلَيْهِمْ كَنَفْعِ بُطْلَانِ الْمِيرَاثِ ، وَلِأَنَّهُمْ لَا يَرْضَوْنَهَا لِلْقَاتِلِ كَمَا لَا يَرْضَوْنَهَا لِأَحَدِهِمْ .
قَالَ ( وَلَا تَجُوزُ لِوَارِثِهِ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ ، أَلَا لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ } وَلِأَنَّهُ يَتَأَذَّى الْبَعْضُ بِإِيثَارِ الْبَعْضِ فَفِي تَجْوِيزِهِ قَطِيعَةُ الرَّحِمِ وَلِأَنَّهُ حَيْفٌ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ ، وَيُعْتَبَرُ كَوْنُهُ وَارِثًا أَوْ غَيْرَ وَارِثٍ وَقْتَ الْمَوْتِ لَا وَقْتَ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَحُكْمُهُ يَثْبُتُ بَعْدَ الْمَوْتِ .

( قَوْلُهُ وَلَا تَجُوزُ لِلْقَاتِلِ عَامِدًا كَانَ أَوْ خَاطِئًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مُبَاشِرًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا وَصِيَّةَ لِلْقَاتِلِ } ) أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مِمَّا يُعَارِضُهُ إطْلَاقُ قَوْله تَعَالَى { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ } وَعُمُومُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ فِي آخِرِ أَعْمَارِكُمْ زِيَادَةً لَكُمْ فِي أَعْمَالِكُمْ تَضَعُونَهَا حَيْثُ شِئْتُمْ } أَوْ قَالَ { حَيْثُ أَحْبَبْتُمْ } كَمَا مَرَّ .
ثُمَّ إنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ قَبِيلِ أَخْبَارِ الْآحَادِ فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُقَيِّدًا لِإِطْلَاقِ الْكِتَابِ قَطُّ عَلَى مَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَإِنْ صَلَحَ أَنْ يَكُونَ مُخَصِّصًا لِعُمُومِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ الْآخَرِ فَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ عِنْدَ ثُبُوتِ تَأَخُّرِ وُرُودِ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ وُرُودِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ وَهُوَ لَيْسَ بِثَابِتٍ قَطُّ ، فَإِذَا لَمْ يُعْلَمْ التَّارِيخُ يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَارَنَةِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَتَعَارَضَا وَيَتَسَاقَطَا فِي حَقِّ الْوَصِيَّةِ لِلْقَاتِلِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى قَاعِدَةِ الْأُصُولِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَحِلِّهِ ، فَمِنْ أَيْنَ يَتِمُّ الِاسْتِدْلَال بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْوَصِيَّةِ لِلْقَاتِلِ ؟ قَالَ فِي الْبَدَائِعِ : قَالَ مَالِكٌ : تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لِلْقَاتِلِ ، وَاحْتَجَّ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ لِجَوَازِ الْوَصِيَّةِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَغَيْرِهِ .
ثُمَّ قَالَ : وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { لَا وَصِيَّةَ لِقَاتِلٍ } وَهَذَا نَصٌّ ، وَيُرْوَى أَنَّهُ قَالَ { لَيْسَ لِقَاتِلٍ شَيْءٌ } ذِكْرُ شَيْءٍ نَكِرَةً فِي مَحِلِّ النَّفْيِ فَيَعُمُّ الْمِيرَاثَ وَالْوَصِيَّةَ جَمِيعًا ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقَاتِلَ مَخْصُوصٌ مِنْ عُمُومَاتِ جَوَازِ الْوَصِيَّةِ انْتَهَى .
أَقُولُ : لَيْتَ شِعْرِي مِنْ أَيْنَ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقَاتِلَ مَخْصُوصٌ مِنْ عُمُومَاتِ جَوَازِ

الْوَصِيَّةِ ، وَمِنْ شَرْطِ التَّخْصِيصِ أَنْ يَكُونَ الْمُخَصِّصَ مُتَأَخِّرًا عَنْ الْعَامِّ فِي الْوُرُودِ وَهُوَ لَمْ يَثْبُتْ قَطُّ ، وَلَوْ ثَبَتَ تَأَخُّرُ هَذَا الْحَدِيثِ لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يَكُونَ مُخَصِّصًا لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى لِكَوْنِهِ خَبَرَ الْوَاحِدِ ، وَمِنْ الدَّلَائِلِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ لِجَوَازِ الْوَصِيَّةِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَغَيْرِهِ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا عَرَفْته فَكَيْفَ يَكُونُ الْقَاتِلُ مَخْصُوصًا مِنْهُ .
( قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ اسْتَعْجَلَ مَا أَخَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَيُحَرِّمُ الْوَصِيَّةَ كَمَا يُحَرِّمُ الْمِيرَاثَ ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ : وَرُدَّ بِأَنَّ حِرْمَانَ الْإِرْثِ لَا يَسْتَلْزِمُ بُطْلَانَ الْوَصِيَّةِ كَمَا فِي الرِّقِّ وَاخْتِلَافِ الدِّينِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ حِرْمَانَ الْقَاتِلِ عَنْ الْمِيرَاثِ بِسَبَبِ مُغَايَظَةِ الْوَرَثَةِ مُقَاسَمَةَ قَاتِلِ أَبِيهِمْ فِي تَرِكَتِهِ وَالْمُوصَى لَهُ يُشَارِكُهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى فَجَازَ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ ، وَالْمُشَابَهَةُ بَيْنَ الْمَقِيسِ وَالْمَقِيسِ عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ غَيْرُ مُلْتَزَمٌ انْتَهَى .
أَقُولُ : لَا الرَّدُّ شَيْءٌ وَلَا الْجَوَابُ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ التَّعْلِيلَ الْمَذْكُورَ فِي الْكِتَابِ لَا يَدُلُّ عَلَى قِيَاسِ الْحِرْمَانِ مِنْ الْوَصِيَّةِ مُطْلَقًا عَلَى الْحِرْمَانِ مِنْ الْمِيرَاثِ حَتَّى يُرَدَّ بِأَنَّ حِرْمَانَ الْإِرْثِ لَا يَسْتَلْزِمُ بُطْلَانَ الْوَصِيَّةِ كَمَا فِي الصُّورَتَيْنِ الْمَزْبُورَتَيْنِ ، بَلْ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى قِيَاسِ حِرْمَانِ الْقَاتِلِ مِنْ الْوَصِيَّةِ عَلَى حِرْمَانِهِ مِنْ الْمِيرَاثِ لِعِلَّةِ الِاسْتِعْجَالِ بِفِعْلِ مَحْظُورٍ وَهُوَ الْقَتْلُ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْعِلَّةَ غَيْرُ مُتَحَقِّقَةٍ فِي صُورَتَيْ الرِّقِّ وَاخْتِلَافِ الدِّينِ فَلَا يَجْرِي هَذَا الْقِيَاسُ فِيهِمَا .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ كَوْنَ حِرْمَانِ الْقَاتِلِ عَنْ الْمِيرَاثِ بِسَبَبِ مُغَايَظَةِ الْوَرَثَةِ مُقَاسَمَةَ قَاتِلِ مُوَرِّثِهِمْ فِي تَرِكَتِهِ مَمْنُوعٌ ، كَيْفَ وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَجَازَ أَنْ يَرِثَ الْقَاتِلُ عِنْدَ إجَازَةِ سَائِرِ

الْوَرَثَةِ إيَّاهُ وَتَرْكِهِمْ الْمُغَايَظَةَ ، كَمَا جَازَتْ الْوَصِيَّةُ لَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إذَا أَجَازَهَا الْوَرَثَةُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ ، وَأَيْضًا لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَزِمَ أَنْ لَا يُحْرَمَ الْقَاتِلُ عَنْ الْمِيرَاثِ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَقْتُولِ وَارِثٌ غَيْرُ الْقَاتِلِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَطْعًا .
وَالْحَقُّ أَنَّ سَبَبَ حِرْمَانِ الْقَاتِلِ عَنْ الْمِيرَاثِ صُدُورُ جِنَايَةٍ عَظِيمَةٍ مِنْهُ وَهِيَ الْقَتْلُ بِغَيْرِ حَقٍّ ، فَإِنَّهُ يَسْتَدْعِي الْعُقُوبَةَ بِأَبْلَغِ الْوُجُوهِ ، وَقَدْ جَعَلَهَا الشَّرْعُ حِرْمَانَهُ عَنْ الْمِيرَاثِ ، وَالْقَاتِلُ الْمُوصَى لَهُ يُشَارِكُهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى ، فَجَازَ قِيَاسُ حِرْمَانِهِ عَنْ الْوَصِيَّةِ عَلَى حِرْمَانِهِ عَنْ الْمِيرَاثِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ وَلِأَنَّهُ اسْتَعْجَلَ مَا أَخَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى : يَعْنِي اسْتَعْجَلَهُ بِارْتِكَابِ جِنَايَةٍ عَظِيمَةٍ فَيُحْرَمُ الْوَصِيَّةَ كَمَا يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ حَيْثُ قَالَ : وَلِأَنَّ الْقَتْلَ بِغَيْرِ حَقٍّ جِنَايَةٌ عَظِيمَةٌ فَيَسْتَدْعِي الزَّجْرَ بِأَبْلَغِ الْوُجُوهِ .
وَحِرْمَانُ الْوَصِيَّةِ يَصْلُحُ زَاجِرًا كَحِرْمَانِ الْمِيرَاثِ فَيَثْبُتُ انْتَهَى .
ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَلَعَلَّ التَّفَصِّي عَنْ عُهْدَةِ كَوْنِهِ قِيَاسًا عَلَى طَرِيقَتِنَا عَسِرٌ جِدًّا وَسُلُوكُ طَرِيقِ الدَّلَالَةِ أَسْهَلُ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ بَحْثٌ ، لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ طَرِيقِ الدَّلَالَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى الَّذِي كَانَ الْحُكْمُ لِأَجْلِهِ فِي الْمَنْطُوقِ مُتَحَقِّقًا فِي الْمُلْحَقِ بِالدَّلَالَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَوِيَّةِ أَوْ التَّسَاوِي ، وَتَحَقُّقُ ذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ بِطَرِيقِ الْمَذْكُورِ مَمْنُوعٌ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، فَإِنَّ الْمَعْنَى الْمُقْتَضَى لِحِرْمَانِ الْقَاتِلِ عَنْ الْمِيرَاثِ لَا يَتَغَيَّرُ وَلَا يَتَكَسَّرُ بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ أَصْلًا وَلِهَذَا لَا يَرِثُ الْقَاتِلُ سَوَاءٌ أَجَازَهُ الْوَرَثَةُ أَوْ لَمْ تُجِزْهُ بِخِلَافِ الْمَعْنَى

الْمُقْتَضَى لِحِرْمَانِهِ عَنْ الْوَصِيَّةِ فَإِنَّهُ يَتَغَيَّرُ وَيَتَكَسَّرُ بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَلِهَذَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لَهُ عِنْدَهُمَا إذَا أَجَازَتْهَا الْوَرَثَةُ كَمَا سَتَطَّلِعُ عَلَيْهِ عَنْ قَرِيبٍ فَكَانَ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِي حَقِّ الْمِيرَاثِ أَقْوَى مِنْهُ فِي حَقِّ الْوَصِيَّةِ عِنْدَهُمَا فَلَمْ يُوجَدْ شَرْطُ طَرِيقِ الدَّلَالَةِ فِي شَأْنِ الْوَصِيَّةِ عَلَى أَصْلِهِمَا ثُمَّ أَقُولُ : هَاهُنَا احْتِمَالٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ " كَمَا يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ " الْقِيَاسَ الْفِقْهِيَّ وَلَا الْإِلْحَاقَ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ بَلْ كَانَ مُرَادُهُ بِهِ مُجَرَّدَ التَّنْظِيرِ وَالتَّشْبِيهِ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَذْكُرْ قَوْلَهُ كَمَا يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ لَتَمَّ دَلِيلُهُ الْعَقْلِيُّ بِلَا احْتِيَاجٍ إلَيْهِ فَإِنَّ اسْتِعْجَالَ الْقَاتِلِ مَا أَخَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى جُرْمٌ عَظِيمٌ يَسْتَدْعِي حِرْمَانَهُ عَنْ الْوَصِيَّةِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ اسْتِدْعَائِهِ حِرْمَانَهُ عَنْ الْمِيرَاثِ وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى لَا يُتَوَهَّمُ الرَّدُّ الْمَذْكُورُ أَصْلًا وَتَسْقُطُ الْكَلِمَاتُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهِ بِحَذَافِيرِهَا كَمَا لَا يَخْفَى .
( قَوْلُهُ وَلَهُمَا أَنَّ الِامْتِنَاعَ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ لِأَنَّ نَفْعَ بُطْلَانِهَا يَعُود إلَيْهِمْ كَنَفْعِ بُطْلَانِ الْمِيرَاثِ ) أَقُولُ : أَرَى دَلِيلَهُمَا هَذَا ضَعِيفًا جِدًّا ، فَإِنَّ قَوْلَهُ إنَّ الِامْتِنَاعَ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ لَيْسَ بِظَاهِرٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَعْتَبِرْ تَعَلُّقَ حَقِّهِمْ بِقَدْرِ الثُّلُثِ وَلِهَذَا جَازَتْ الْوَصِيَّةُ بِهَذَا الْقَدْرِ لِلْأَجَانِبِ وَإِنْ لَمْ يُجِزْهَا الْوَرَثَةُ ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَمْ تُجَزْ الْوَصِيَّةُ بِشَيْءٍ لِلْقَاتِلِ بِدُونِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ الِامْتِنَاعُ فِي قَدْرِ الثُّلُثِ أَيْضًا لِحَقِّهِمْ .
ثُمَّ إنَّ تَعْلِيلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ نَفْعَ بُطْلَانِهَا يَعُودُ إلَيْهِمْ كَنَفْعِ بُطْلَانِ الْمِيرَاثِ لَيْسَ بِتَامٍّ ،

لِأَنَّ مُجَرَّدَ عَوْدِ نَفْعِ بُطْلَانِهَا إلَيْهِمْ لَوْ اقْتَضَى كَوْنَ الِامْتِنَاعِ فِي الْوَصِيَّةِ لِحَقِّهِمْ لَاقْتَضَى كَوْنَهُ فِي الْإِرْثِ أَيْضًا لِحَقِّهِمْ ، فَلَزِمَ أَنْ يَجُوزَ إرْثُ الْقَاتِلِ أَيْضًا بِإِجَازَتِهِمْ عِنْدَهُمَا وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ .
قَالَ فِي الْعِنَايَةِ : فَإِنْ قِيلَ : مَا الْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمِيرَاثِ إذَا أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ حَيْثُ صَحَّتْ فِي الْوَصِيَّةِ دُونَ الْمِيرَاثِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْإِجَازَةَ تَصَرُّفٌ مِنْ الْعَبْدِ فَتُعْمَلُ فِيمَا كَانَ مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ وَالْوَصِيَّةُ مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ فَتُعْمَلُ فِيهِ ، بِخِلَافِ الْمِيرَاثِ فَإِنَّهُ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ لَا صُنْعَ لِلْعَبْدِ فِيهِ فَلَا يُعْمَلُ فِيهِ تَصَرُّفُ الْعَبْدِ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّ الْكَلَامَ هُنَا لَيْسَ فِي نَفْسِ الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ حَتَّى يَتِمَّ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ أَحَدَهُمَا مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ وَالْآخَرَ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ ، بَلْ إنَّمَا الْكَلَامُ هُنَا فِي أَنَّ حِرْمَانَ الْقَاتِلِ عَنْ الْوَصِيَّةِ كَحِرْمَانِهِ عَنْ الْمِيرَاثِ أَوْ لَا ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ حِرْمَانِهِ عَنْ الْوَصِيَّةِ وَحِرْمَانِهِ عَنْ الْمِيرَاثِ فِي كَوْنِهِمَا مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ نَظَرًا إلَى دَلِيلِهِمَا ، وَفِي كَوْنِهَا مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ نَظَرًا إلَى صُدُورِ سَبَبِهِمَا وَهُوَ الْقَتْلُ عَنْ الْعَبْدِ ، فَمَا مَعْنَى أَنْ تُعْمَلَ الْإِجَازَةُ الَّتِي هِيَ تَصَرُّفٌ مِنْ الْعَبْدِ فِي ارْتِفَاعِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ ، وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى إنَّ الْمِيرَاثَ وَإِنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ بِدُونِ صُنْعِ الْعَبْدِ إلَّا أَنَّ حِرْمَانَ الْقَاتِلِ عَنْهُ كَانَ مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ حَيْثُ بَاشَرَ الْقَتْلَ ، فَكَانَ فِعْلُهُ هَذَا مَانِعًا عَنْ مِيرَاثِهِ مِنْ الْمَقْتُولِ فَلِمَ لَا تَجُوزُ أَنْ تُعْمَلَ الْإِجَازَةُ فِي رَفْعِ هَذَا الْمَانِعِ الَّذِي كَانَ مِنْ جِهَتِهِ وَبِصُنْعِهِ .
( قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ حَيْفٌ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : قَوْلُهُ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ إشَارَةٌ إلَى مَا تَقَدَّمَ

فِي كِتَابِ الْهِبَةِ فِيمَنْ خَصَّصَ بَعْضَ أَوْلَادِهِ فِي الْعَطِيَّةِ انْتَهَى .
أَقُولُ : هَذَا خَبْطٌ ظَاهِرٌ مِنْ الشَّارِحِ الْمَزْبُورِ إذْ لَمْ يَتَقَدَّمْ مِنْ الْمُصَنِّفِ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ ذِكْرُ حَدِيثٍ فِي حَقِّ مَنْ خَصَّصَ بَعْضَ أَوْلَادِهِ فِي الْعَطِيَّةِ ، بَلْ لَمْ يَتَقَدَّمْ مِنْهُ ثَمَّةَ ذِكْرُ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ قَطُّ فَكَيْفَ تُتَصَوَّرُ الْحَوَالَةُ عَلَيْهِ بِهَا هَاهُنَا .
وَالصَّوَابُ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ هُنَا بِقَوْلِهِ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ هُوَ الْإِشَارَةُ إلَى مَا ذَكَرَهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِيمَا مَضَى عَنْ قَرِيبٍ بِقَوْلِهِ وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ { الْحَيْفُ فِي الْوَصِيَّةِ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ } وَفَسَّرُوهُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ وَبِالْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ انْتَهَى .

وَالْهِبَةُ مِنْ الْمَرِيضِ لِلْوَارِثِ فِي هَذَا نَظِيرُ الْوَصِيَّةِ ) لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ حُكْمًا حَتَّى تَنْفُذَ مِنْ الثُّلُثِ ، وَإِقْرَارُ الْمَرِيضِ لِلْوَارِثِ عَلَى عَكْسِهِ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي الْحَالِ فَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ وَقْتَ الْإِقْرَارِ .
قَالَ ( إلَّا أَنْ تُجِيزَهَا الْوَرَثَةُ ) وَيُرْوَى هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ فِيمَا رَوَيْنَاهُ ، وَلِأَنَّ الِامْتِنَاعَ لِحَقِّهِمْ فَتَجُوزُ بِإِجَازَتِهِمْ ؛ وَلَوْ أَجَازَ بَعْضٌ وَرَدَّ بَعْضٌ تَجُوزُ عَلَى الْمُجِيزِ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ لِوِلَايَتِهِ عَلَيْهِ وَبَطَلَ فِي حَقِّ الرَّادِّ .

( قَوْلُهُ وَإِقْرَارُ الْمَرِيضِ لِلْوَارِثِ عَلَى عَكْسِهِ ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ : أَيْ عَلَى عَكْسِ الْوَصِيَّةِ بِتَأْوِيلِ الْإِيصَاءِ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : أَيْ عَلَى عَكْسِ الْوَصِيَّةِ بِتَأْوِيلِ الْإِيصَاءِ أَوْ الْمَذْكُورِ .
وَرَدَّ عَلَيْهِ التَّأْوِيلَ الثَّانِيَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ بِأَنْ قَالَ : الْوَصِيَّةُ هِيَ الْمَذْكُورَةُ بِالْهَاءِ لَا الْمَذْكُورُ فَالْأَوْلَى أَوْ مَا ذَكَرَ انْتَهَى .
أَقُولُ : رَدُّهُ سَاقِطٌ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ إنَّمَا تَكُونُ هِيَ الْمَذْكُورَةَ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ لَا الْمَذْكُورَ أَنْ لَوْ كَانَ الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي اسْمِ الْمَفْعُولِ حَرْفَ تَعْرِيفٍ .
وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأَدَبِ أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي اسْمِ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ عِنْدَ غَيْرِ الْمَازِنِيِّ مِنْ عَامَّةِ أَئِمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ اسْمٌ مَوْصُولٌ لَا حَرْفُ تَعْرِيفٍ وَصِلَتُهُ اسْمُ الْفَاعِلِ أَوْ الْمَفْعُولِ ، فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ لَفْظُ الْمَذْكُورِ فِي مَعْنَى مَا ذَكَرَ فَيَعُودُ الضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي اسْمِ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ إلَى الْمَوْصُولِ الَّذِي هُوَ الْأَلِفُ وَاللَّامُ ، وَلَا يَلْزَمُ إلْحَاقُ تَاءِ التَّأْنِيثِ بِصِلَتِهِ لِعَدَمِ عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ فِي لَفْظِ ذَلِكَ الْمَوْصُولِ ، فَإِنَّهُ فِي اللَّفْظِ مُفْرَدٌ مُذَكَّرٌ صَالِحٌ لِلْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعِ وَالْمُؤَنَّثِ أَيْضًا كَكَلِمَةِ " مَا " وَكَلِمَةِ " مَنْ " كَمَا صَرَّحُوا بِهِ .
نَعَمْ يَجُوزُ إلْحَاقُهَا بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى الْمُرَادِ بِذَلِكَ هُنَا وَهُوَ الْوَصِيَّةُ ، لَكِنَّ الْأَمْرَ فِي كَلِمَةِ مَا أَيْضًا كَذَلِكَ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَذْكُورِ وَمَا ذُكِرَ فِي جَوَازِ تَذْكِيرِ الصِّلَةِ نَظَرًا إلَى لَفْظِ الْمَوْصُولِ وَجَوَازِ تَأْنِيثِهَا نَظَرًا إلَى الْمَعْنَى الْمُرَادِ بِالْمَوْصُولِ .
وَعَنْ هَذَا تَرَى ثِقَاتِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يُؤَوِّلُونَ الْمُؤَنَّثَ الَّذِي عُبِّرَ عَنْهُ بِضَمِيرِ الْمُذَكَّرِ أَوْ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ الْمُذَكَّرِ فِي مَوَاضِعَ شَتَّى مِنْ كُتُبِ عِلْمِ الْبَلَاغَةِ بَلْ فِي التَّفَاسِيرِ أَيْضًا بِالْمَذْكُورِ كَمَا

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78