كتاب : فتح القدير
المؤلف : كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي

مُطْلَقًا .
وَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ : يَنْوِي الزَّوْجُ إنْ أَرَادَ بِهِ التَّحْقِيقَ دُونَ السَّوْمِ يَصِحُّ وَهُوَ الْمُخْتَارُ لِلْفَتْوَى ( قَوْلُهُ لِمَا بَيَّنَّا ) يَعْنِي قَوْلَهُ وَلِأَنَّهَا لَا تُسْلِمُ الْمَالَ إلَّا لِتَسْلَمَ لَهَا نَفْسُهَا ( قَوْلُهُ وَهِيَ النَّفْسُ ) أَنَّثَ ضَمِيرَ الْآخَرِ وَهُوَ مُذَكَّرٌ لِتَأْنِيثِ اسْمِهِ الْآخَرِ : أَعْنِي النَّفْسَ

قَالَ ( وَإِنْ بَطَلَ الْعِوَضُ فِي الْخُلْعِ مِثْلَ أَنْ يُخَالِعَ الْمُسْلِمُ عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ مَيْتَةٍ فَلَا شَيْءَ لِلزَّوْجِ وَالْفُرْقَةُ بَائِنَةٌ ، وَإِنْ بَطَلَ الْعِوَضُ فِي الطَّلَاقِ كَانَ رَجْعِيًّا ) فَوُقُوعُ الطَّلَاقِ فِي الْوَجْهَيْنِ لِلتَّعْلِيقِ بِالْقَبُولِ وَافْتِرَاقُهُمَا فِي الْحُكْمِ لِأَنَّهُ لَمَّا بَطَلَ الْعِوَضُ كَانَ الْعَامِلُ فِي الْأَوَّلِ لَفْظُ الْخُلْعِ وَهُوَ كِنَايَةٌ ، وَفِي الثَّانِي الصَّرِيحُ وَهُوَ يَعْقُبُ الرَّجْعَةَ وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ لِلزَّوْجِ شَيْءٌ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا مَا سَمَّتْ مَالًا مُتَقَوِّمًا حَتَّى تَصِيرَ غَارَّةٌ لَهُ ، وَلِأَنَّهُ لَا وَجْهَ إلَى إيجَابِ الْمُسَمَّى لِلْإِسْلَامِ وَلَا إلَى إيجَابِ غَيْرِهِ لِعَدَمِ الِالْتِزَامِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا خَالَعَ عَلَى خَلٍّ بِعَيْنِهِ فَظَهَرَ أَنَّهُ خَمْرٌ لِأَنَّهَا سَمَّتْ مَالًا فَصَارَ مَغْرُورًا ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا كَاتَبَ أَوْ أَعْتَقَ عَلَى خَمْرٍ حَيْثُ تَجِبُ قِيمَةُ الْعَبْدِ لِأَنَّ مِلْكَ الْمَوْلَى فِيهِ مُتَقَوِّمٌ وَمَا رَضِيَ بِزَوَالِهِ مَجَّانًا ، أَمَّا مِلْكُ الْبِضْعِ فِي حَالَةِ الْخُرُوجِ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ عَلَى مَا نَذْكُرُ ، وَبِخِلَافِ النِّكَاحِ لِأَنَّ الْبِضْعَ فِي حَالَةِ الدُّخُولِ مُتَقَوِّمٌ ، وَالْفِقْهُ أَنَّهُ شَرِيفٌ فَلَمْ يَشْرَعْ تَمَلُّكَهُ إلَّا بِعِوَضٍ إظْهَارًا لِشَرَفِهِ ، فَأَمَّا الْإِسْقَاطُ فَنَفْسُهُ شَرَفٌ فَلَا حَاجَةَ إلَى إيجَابِ الْمَالِ .

( قَوْلُهُ وَإِنْ بَطَلَ الْعِوَضُ فِي الْخُلْعِ إلَخْ ) حَاصِلُهُ أَنَّهُ إذَا شَرَطَ فِي الْفُرْقَةِ عِوَضًا غَيْرَ مُتَقَوِّمٍ حَتَّى بَطَلَ ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُوقِعًا بِلَفْظِ الْخُلْعِ أَوْ الطَّلَاقِ ، فَفِي الْخُلْعِ يَقَعُ بَائِنًا ، وَفِي الطَّلَاقِ يَقَعُ رَجْعِيًّا إنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا وَهِيَ دُونَ الثَّلَاثِ ، وَتَرَكَ الْمُصَنِّفُ التَّقْيِيدَ بِهِمَا لِاشْتِهَارِ الْحَالِ فِي الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ ، وَطَلَاقِ غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا بِحَيْثُ لَا يَكَادُ يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ ، وَفِيهِمَا مَعًا لَا يَجِبُ شَيْءٌ لِلزَّوْجِ .
وَجْهُ الْحُكْمِ الشَّامِلِ أَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ فِي الْخُرُوجِ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ وَلِذَا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ فِي الطَّلَاقِ إجْمَاعًا وَإِبَاحَةُ الِافْتِدَاءِ لَيْسَ وَضْعًا لِتَقَوُّمِهِ شَرْعًا وَإِلَّا لَتَعَيَّنَتْ الْقِيمَةُ وَلَوْ بِالنَّوْعِ كَمَهْرِ الْمِثْلِ ، فَإِذَا سَمَّى غَيْرَ الْمُتَقَوِّمِ فِي غَيْرِ الْمُتَقَوِّمِ كَانَ رَاضِيًا بِسُقُوطِهِ مَجَّانًا .
وَجْهُ الِافْتِرَاقِ أَنَّ لَفْظَ الْخُلْعِ مِنْ الْكِنَايَاتِ الَّتِي لَهَا دَلَالَةٌ عَلَى قَطْعِ الْوَصْلَةِ لِأَنَّهُ مِنْ خَلَعَ الْخُفَّ وَالنَّعْلَ وَالْقَمِيصَ ، وَقَدَّمْنَا أَنَّ الْكِنَايَاتِ عَوَامِلُ بِحَقَائِقِهَا ، كَمَا أَفَادَ حَقِيقَتَهُ ، مِنْهَا قَطْعُ الْوَصْلَةِ كَانَ الْوَاقِعُ بِهِ بَائِنًا وَمَا لَا فَرَجْعِيٌّ ، وَلَفْظُ الْخُلْعِ مِنْ الْأَوَّلِ ، بِخِلَافِ لَفْظِ اعْتَدِّي وَاسْتَبْرِئِي رَحِمَك وَأَنْتِ وَاحِدَةٌ عَلَى مَا سَلَف فَإِنَّمَا يَقَعُ بِهَا رَجْعِيٌّ ، وَلَفْظُ الطَّلَاقِ صَرِيحٌ لَا يَقْتَضِي الْبَيْنُونَةَ ، وَلَوْلَا ثُبُوتُ هَذَا الِاعْتِبَارِ عِنْدَنَا فِي الْكِنَايَاتِ لَقُلْنَا بِالرُّجْعَى فِيهَا كَقَوْلِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ ، وَالشَّافِعِيِّ يُخَالِفُنَا فِي هَذَا الِاعْتِبَارِ فِي الْكِنَايَاتِ عَلَى مَا أَسْلَفْنَاهُ فِيهَا ، وَقَالَ هُنَا إنَّ الْوَاقِعَ بَائِنٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يُوجِبُ فِيهِ رَدُّ مَهْرِ مِثْلِهَا قِيَاسًا عَلَى بُطْلَانِ الْعِوَضِ فِي الْمَهْرِ وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ مَعَ الْفَارِقِ ، فَإِنَّ الشَّارِعَ جَعَلَ الْبِضْعَ مُتَقَوِّمًا حَالَةَ الدُّخُولِ ، حَتَّى لَوْ

سَكَتَا عَنْ الْمَهْرِ لَزِمَتْ قِيمَتُهُ وَهِيَ مَهْرُ الْمِثْلِ وَلَمْ يَجْعَلْهُ مُتَقَوِّمًا حَالَةَ الْخُرُوجِ لَمَا بَيَّنَّا فَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ بُطْلَانِ الْعِوَضِ لُزُومُ الْقِيمَةِ .
وَفِي كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ : لَوْ خَلَعَهَا عَلَى حَلَالٍ وَحَرَامٍ فَخَمْرٌ وَمَالٌ صَحَّ وَلَا يَجِبُ لَهُ إلَّا الْمَالُ قِيلَ هُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا وَهُوَ صَحِيحٌ .
وَفِي جَوَامِعِ الْفِقْهِ : خَالَعَهَا عَلَى عَبْدِ نَفْسِهِ لَا يَلْزَمُهَا شَيْءٌ لِأَنَّهُ مَالٌ لَا تَسْتَحِقُّهُ بِحَالٍ ، وَعُرِفَ مِمَّا قَرَّرْنَا أَنَّ اقْتِصَارَهُ عَلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ مِنْ الْكِنَايَاتِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْبَيْنُونَةَ ( قَوْلُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا خَالَعَ عَلَى خَلٍّ بِعَيْنِهِ لِأَنَّهَا سَمَّتْ مَا هُوَ مَالٌ وَهُوَ لَيْسَ بِمَالٍ فَيَصِيرُ مَغْرُورًا ) فَيَرْجِعُ عَلَيْهَا ؛ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تُرَدُّ مَهْرَهَا ، وَعِنْدَهُمَا مِثْلُ كَيْلِ الْخَمْرِ خَلًّا وَسَطًا كَمَا فِي الصَّدَاقِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْمَهْرِ ، وَلَوْ عَلِمَ الزَّوْجُ بِكَوْنِهِ خَمْرًا لَا شَيْءَ لَهُ .
( وَقَوْلُهُ وَبِخِلَافِ مَا إذَا كَاتَبَ أَوْ أَعْتَقَ عَلَى خَمْرٍ ) أَوْ نَحْوِهِ مِمَّا هُوَ مَالٌ لَكِنَّهُ سَاقِطُ التَّقَوُّمِ .
وَاحْتُرِزَ بِهِ عَمَّا لَوْ كَاتَبَ عَلَى مَيْتَةٍ أَوْ دَمٍ فَإِنَّ الْكِتَابَةَ حِينَئِذٍ بَاطِلَةٌ ، حَتَّى لَوْ أَدَّى الْمَيِّتَةَ أَوْ الدَّمَ لَا يَعْتِقُ وَهَاهُنَا فَاسِدَةٌ ، فَلَوْ أَدَّى الْخَمْرَ عَتَقَ وَعَلَيْهِ قِيمَةُ نَفْسِهِ ( لِأَنَّ مِلْكَ الْمَوْلَى فِيهِ مُتَقَوِّمٌ ) وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ بَدَلِ الْعِتْقِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ كَثَمَنِهِ ابْتِدَاءً ( وَمَا رَضِيَ بِزَوَالِهِ مَجَّانًا ) لِأَنَّهُ لَوْ رَضِيَ لَنَجِزَ عِتْقُهُ ابْتِدَاءً فَتَسْمِيَةُ مَالِ غَيْرِ مُتَقَوِّمٍ فِي الْمُتَقَوِّمِ لَا يَسْتَلْزِمُ رِضَاهُ بِلَا عِوَضٍ ، وَالْعِتْقُ لَا يَتَوَقَّفُ بَعْدَ وُجُودِهِ فَيَنْزِلُ وَلَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ ، وَلَا إيجَابُ الْمُسَمَّى لِفَسَادِهِ وَلَا وُقُوعُهُ بِلَا بَدَلٍ لِمَا ذَكَرْنَا فَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ مَا احْتَبَسَ عِنْدَهُ مِنْ مِلْكِ الْمَوْلَى وَهُوَ قِيمَةُ نَفْسِهِ ، لِأَنَّهُ إذَا

تَعَذَّرَ الْبَدَلُ فِي مَوْضِعِ لُزُومِهِ تَجِبُ قِيمَةُ الْمُبْدَلِ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إنْ عَنَى بِكَوْنِ الْعَبْدِ مُتَقَوِّمًا عِنْدَ الْخُرُوجِ أَوْ حَالَةَ الْبَقَاءِ لُزُومَ قِيمَتِهِ عِنْدَ خُرُوجِهِ شَرْعًا فَمَمْنُوعٌ ، وَإِنْ عَنَى إمْكَانَ الِاعْتِيَاضِ فَالْبِضْعُ كَذَلِكَ حَالَةَ الْخُرُوجِ ، فَلَا يُفِيدُ هَذَا الْفَرْقُ فِي الرُّجُوعِ بَيْنَهُمَا فِي تَسْمِيَةِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ .
وَالْجَوَابُ الْمُرَادُ أَمْرٌ ثَالِثٌ وَهُوَ كَوْنُهُ لَهُ قِيمَةٌ فِي الْوَاقِعِ بِأَنَّ الشَّرْعَ قَوَّمَ أَوَّلًا بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ وَلَيْسَ هَذَا فِي الْبِضْعِ حَالَةَ الْخُرُوجِ ( قَوْلُهُ وَالْفِقْهُ فِيهِ ) أَيْ فِي لُزُومِ تَقَوُّمِهِ عِنْدَ الدُّخُولِ دُونَ الْخُرُوجِ ( أَنَّهُ ) أَيْ الْبِضْعَ ( شَرِيفٌ فَلَمْ يُشْرَعْ تَمْلِكُهُ إلَّا بِعِوَضٍ ، فَأَمَّا الْإِسْقَاطُ فَنَفْسُهُ شَرَفٌ ) أَيْ يَحْصُلُ بِهِ شَرَفُ الْبِضْعِ لِلتَّخَلُّصِ بِهِ مِنْ الْمَمْلُوكِيَّةِ ( فَلَا حَاجَةَ إلَى إيجَابِ الْمَالِ ) إذَا لَمْ يَجِبْ إلَّا هَذَا الْغَرَضُ وَهُوَ حَاصِلٌ هُنَا بِدُونِهِ

قَالَ ( وَمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ مَهْرًا جَازَ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا فِي الْخُلْعِ ) لِأَنَّ مَا يَصْلُحُ عِوَضًا لِلْمُتَقَوِّمِ أَوْلَى أَنْ يَصْلُحَ عِوَضًا لِغَيْرِ الْمُتَقَوِّمِ .

( قَوْلُهُ وَمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ مَهْرًا جَازَ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا فِي الْخُلْعِ ) وَلَا يَنْعَكِسُ كُلِّيًّا ، فَالصَّادِقُ بَعْضُ مَا جَازَ بَدَلَ خُلْعٍ جَازَ كَوْنُهُ مَهْرًا وَالْبَعْضُ لَا كَالْأَقَلِّ مِنْ الْعَشَرَةِ وَمَا فِي يَدِهَا ، وَمَا فِي بَطْنِ غَنَمِهَا وَمَا فِي بَطْنِ جَارِيَتِهَا يَجُوزُ وَلَهُ مَا فِي بُطُونِهَا ، وَلَا يَجُوزُ مَهْرًا بَلْ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ .
وَالْفَرْقُ أَنَّ مَا فِي الْبَطْنِ لَيْسَ مَالًا فِي الْحَالِ بَلْ فِي الْمَآلِ فَكَانَ تَعْلِيقًا بِالِانْفِصَالِ مِنْ الْبَطْنِ ، وَأَحَدِ الْعِوَضَيْنِ وَهُوَ الطَّلَاقُ هُنَا يَقْبَلُ التَّعْلِيقَ ، فَكَذَا الْآخَرُ : أَعْنِي الْمَالَ ، وَلَا يَقْبَلُهُ مَا يُقَابِلُ الْمَالَ هُنَاكَ وَهُوَ مِلْكُ النِّكَاحِ فَكَذَلِكَ عِوَضُهُ الْآخَرُ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي بُطُونِهَا شَيْءٌ حَالَةَ الْخُلْعِ فَلَا شَيْءَ لَهُ ، وَمَا حَدَثَ فِي الْبَطْنِ بَعْدَ الْخُلْعِ لَهَا لَا لَهُ لِأَنَّهَا غَيْرُ غَارَّةٍ ، إذْ مَا فِي الْبَطْنِ لَمْ يَتَعَيَّنْ كَوْنُهُ مَالًا إذَا ظَهَرَ لِجَوَازِ كَوْنِهِ رِيحًا أَوْ مَيِّتَةً فَلَا يَلْزَمُهَا شَيْءٌ .
وَيَصِحُّ التَّأْجِيلُ فِي بَدَلِ الْخُلْعِ مَعَ جَهَالَةٍ مُسْتَدْرَكَةٍ كَالْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ لَا الْفَاحِشَةِ كَالْمَطَرِ وَهُبُوبِ الرِّيحِ وَالْمَيْسَرَةِ ، وَحَيْثُ لَا يَصِحُّ التَّأْجِيلُ يَجِبُ الْمَالُ حَالًا ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ إسْقَاطًا حَتَّى جَازَ تَعْلِيقُهُ وَخُلُوُّهُ مِنْ الْعِوَضِ بِالْكُلِّيَّةِ وَكَانَ مِمَّا يَجْرِي فِيهِ التَّسَامُحُ جَازَ الْمَجْهُولُ وَإِلَى الْأَجَلِ الْمَجْهُولِ الْمُسْتَدْرَكِ الْجَهَالَةِ ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَجُوزُ اخْتِلَاعُهَا عَلَى زِرَاعَةِ أَرْضِهَا وَرُكُوبِ دَابَّتِهَا وَخِدْمَتِهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يُلْزِمُ خَلْوَتَهُ بِهَا أَوْ خِدْمَةِ الْأَجْنَبِيِّ لِأَنَّ هَذِهِ تَجُوزُ مَهْرًا .
وَفِي الْخُلَاصَةِ : قَالَتْ طَلِّقْنِي عَلَى أَنْ أُؤَخِّرَ مَا لِي عَلَيْك فَطَلَّقَهَا ، فَإِنْ كَانَ لِلتَّأْخِيرِ غَايَةٌ مَعْلُومَةٌ صَحَّ بِهِ التَّأْخِيرُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَا يَصِحُّ ، وَالطَّلَاقُ رَجْعِيٌّ عَلَى كُلِّ حَالٍ .
وَكَذَا لَوْ طَلَّقَهَا عَلَى أَنْ

تُبَرِّئَهُ عَنْ الْكَفَالَةِ الَّتِي كَفَلَ بِهَا لَهَا عَنْ فُلَانٍ فَالطَّلَاقُ بَائِنٌ انْتَهَى ، كَأَنَّهُ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَيْسَ فِيهِ مَالٌ لِأَنَّ مُطَالَبَتَهَا بِهِ لَا تَسْقُطُ بَلْ تَتَأَخَّرُ ، بِخِلَافِ الثَّانِي لِتَحَقُّقِ سُقُوطِ الْمَالِ أَوْ مُطَالَبَتِهَا إيَّاهُ بِهِ ( قَوْلُهُ أَوْلَى أَنْ يَصْلُحَ عِوَضًا لِغَيْرِ الْمُتَقَوِّمِ ) وَهُوَ الْبِضْعُ حَالَةَ الْخُرُوجِ ، بِخِلَافِهِ حَالَةَ الدُّخُولِ فَإِنَّهُ مُتَقَوِّمٌ .
وَعَنْ هَذَا جَازَ تَزْوِيجُ الْأَبِ ابْنَهُ الصَّغِيرَ عَلَى مَالِ الصَّغِيرِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَخْلَعَ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ عَلَى مَالِهَا .
وَلَوْ تَزَوَّجَ الْمَرِيضُ بِمَهْرِ مِثْلِهَا يَنْفُذُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ .
وَلَوْ اخْتَلَعَتْ الْمَرِيضَةُ يَعْتَبِرُ مِنْ الثُّلُثِ فَيَكُونُ لَهُ الْأَقَلُّ مِنْ مِيرَاثِهِ مِنْهَا وَمَنْ بَدَلِ الْخُلْعِ إذَا كَانَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ فَلَهُ الْأَقَلُّ مِنْ الْإِرْثِ وَالثُّلُثِ إذَا مَاتَتْ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ ، فَإِنْ مَاتَتْ بَعْدَهَا أَوْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا فَلَهُ بَدَلُ الْخُلْعِ إنْ كَانَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ

( فَإِنْ قَالَتْ لَهُ خَالِعْنِي عَلَى مَا فِي يَدِي فَخَالَعَهَا فَلَمْ يَكُنْ فِي يَدِهَا شَيْءٌ فَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَيْهَا ) لِأَنَّهَا لَمْ تَغُرُّهُ بِتَسْمِيَةِ الْمَالِ ( وَإِنْ قَالَتْ خَالِعْنِي عَلَى مَا فِي يَدِي مِنْ مَالٍ فَخَالَعَهَا فَلَمْ يَكُنْ فِي يَدِهَا شَيْءٌ رَدَّتْ عَلَيْهِ مَهْرَهَا ) لِأَنَّهَا لَمَّا سَمَّتْ مَالًا لَمْ يَكُنْ الزَّوْجُ رَاضِيًا بِالزَّوَالِ إلَّا بِعِوَضٍ ، وَلَا وَجْهَ إلَى إيجَابِ الْمُسَمَّى وَقِيمَتِهِ لِلْجَهَالَةِ وَلَا إلَى قِيمَةِ الْبِضْعِ : أَعْنِي مَهْرَ الْمِثْلِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ حَالَةَ الْخُرُوجِ فَتَعَيَّنَ إيجَابُ مَا قَامَ بِهِ عَلَى الزَّوْجِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ ( وَلَوْ قَالَتْ خَالِعْنِي عَلَى مَا فِي يَدِي مِنْ دَرَاهِمَ أَوْ مِنْ الدَّرَاهِمِ فَفَعَلَ فَلَمْ يَكُنْ فِي يَدِهَا شَيْءٌ فَعَلَيْهَا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ ) لِأَنَّهَا سَمَّتْ الْجَمْعَ وَأَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ ، وَكَلِمَةُ مِنْ هَاهُنَا لِلصِّلَةِ دُونَ التَّبْعِيضِ لِأَنَّ الْكَلَامَ يَخْتَلُّ بِدُونِهِ .

( قَوْلُهُ لِأَنَّهَا لَمْ تَغُرَّهُ بِتَسْمِيَةِ الْمَالِ ) لِأَنَّ مَا فِي يَدِهَا قَدْ يَكُونُ مُتَقَوِّمًا وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَهُ فَكَانَ بِذَلِكَ رَاضِيًا إنْ لَمْ يَكُنْ مَالًا أَوْ كَانَ ، وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهَا عَلَى مَا فِي بَيْتِي أَوْ مَا فِي بَيْتِي مِنْ شَيْءٍ وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ لَا يَلْزَمُهَا شَيْءٌ لِأَنَّ الشَّيْءَ يَصْدُقُ عَلَى غَيْرِ الْمَالِ ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ شَيْءٌ حَالَ قَوْلِهَا فَهُوَ لَهُ كُلُّهُ ، وَلَوْ قَالَتْ عَلَى مَا فِي بَيْتِي مِنْ مَتَاعٍ وَلَيْسَ فِيهِ مَالٌ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِمَهْرِهَا لِلْغُرُورِ وَالْوَجْهُ ظَاهِرٌ فِي الْكِتَابِ .
وَقَوْلُهُ ( لَا وَجْهَ إلَّا إيجَابُ الْمُسَمَّى ) أَيْ مَا سَمَّتْهُ الْمَرْأَةُ وَهُوَ الْمَالُ ( وَقِيمَتُهُ لِلْجَهَالَةِ ) قِيلَ عَلَيْهِ يَجِبُ أَنْ يَلْزَمَهَا مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَالِ وَأَقَلُّهُ دِرْهَمٌ لِمَا عُرِفَ فِي الْإِقْرَارِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْجَهَالَةَ تُوجِبُ الْفَسَادَ ، وَلِأَنَّ كَوْنَ أَقَلِّ مَا هُوَ مَالٌ دِرْهَمًا مَمْنُوعٌ ( قَوْلُهُ لِأَنَّهَا سَمَّتْ الْجَمْعَ وَأَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ ) فَإِنْ قِيلَ : هَذَا فِي قَوْلِهَا دِرْهَمٌ ظَاهِرٌ ، أَمَّا فِي الْمُحَلَّى فَيَنْبَغِي أَنْ يَلْزَمَهَا دِرْهَمٌ لِبُطْلَانِ الْجَمْعِيَّةِ بِاللَّامِ إلَى الْجِنْسِيَّةِ وَهُوَ يَصْدُقُ بِالْفَرْدِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَلْزَمَهَا دِرْهَمٌ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ إمْكَانِ الْعَهْدِيَّةِ ، فَأَمَّا إنْ أَمْكَنَ اُعْتُبِرَ كَوْنُهُ الْمُرَادُ وَهُوَ كَذَلِكَ هُنَا فَإِنَّ قَوْلَهَا عَلَى مَا فِي يَدِي أَفَادَ كَوْنَ الْمُسَمَّى مَظْرُوفًا بِيَدِهَا وَهُوَ عَامٌ يَصْدُقُ عَلَى الدَّرَاهِمِ وَغَيْرِهَا ، فَصَارَ بِالدَّرَاهِمِ عَهْدٌ فِي الْجُمْلَةِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مِنْ مَاصَدَقَاتِ لَفْظَةِ مَا وَهُوَ مُبْهَمٌ وَلَفْظَةُ مِنْ وَقَعَتْ بَيَانًا وَمَدْخُولُهَا وَهُوَ الدَّرَاهِمُ هُوَ الْمُبَيِّنُ لِخُصُوصِ الْمَظْرُوفِ فَصَارَ كَلَفْظِ الذَّكَرِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى } لِلْعَهْدِ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِ فِي قَوْلِهِ { مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا } وَإِنْ كَانَ يُخَالِفُهُ فِي

كَوْنِ مَدْخُولِ اللَّامِ هُنَا وَاقِعًا بَيَانًا لِلْمَعْهُودِ بِخِلَافِهِ فِي وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى لِأَنَّ الْمُرَادَ بِلَفْظِ مَا فِيهِ مُتَعَيِّنٌ لِأَنَّ الْمَنْذُورَ لِلْبَيْعَةِ إنَّمَا هُوَ الذَّكَرُ ، وَلِأَنَّهُ لَا يَكُونُ لِلْجِنْسِ إلَّا عِنْدَ إمْكَانِ الِاسْتِغْرَاقِ لَا عِنْدَ عَدَمِهِ وَلِذَا يَكُونُ لِلْجِنْسِ .
لَا أَشْتَرِي الْعَبِيدَ لِإِمْكَانِ الِاسْتِغْرَاقِ فِي النَّفْيِ دُونَ لَأَشْتَرِيَنَّ الْعَبِيدَ لِعَدَمِ الْإِمْكَانِ فَيَحْنَثُ بِشِرَاءِ عَبْدٍ وَاحِدٍ بِالْأَوَّلِ وَلَا يَبَرُّ بِشِرَاءِ عَبْدٍ فِي الثَّانِي بَلْ بِشِرَاءِ ثَلَاثَةٍ ، وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ تَبَيَّنَ لَك أَنَّ مِنْ لِبَيَانِ الْجِنْسِ لَا صِلَةٌ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ ؛ أَلَا تَرَى إلَى صِدْقِ ضَابِطِهَا وَهُوَ صَلَاحِيَّةُ وَضْعِ الَّذِي مَوْضِعِهَا مَوْصُولًا بِمَدْخُولِهَا حَالَ كَوْنِهِ خَبَرَ الْمُبْتَدَإِ الَّذِي هُوَ ضَمِيرُ الْمُبْهَمِ هَكَذَا مَا فِي يَدِي الَّذِي هُوَ الدَّرَاهِمُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الْأَوْثَانِ } لِصِدْقِ الرِّجْسِ الَّذِي هُوَ الْأَوْثَانُ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي لَفْظِ الصِّلَةِ اصْطِلَاحٌ ، وَمَا قِيلَ إنَّ تُعَيُّنَّ الثَّلَاثَةِ فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهَا شَيْءٌ لِأَنَّ الْبِضْعَ مُحْتَرَمٌ فَلَا بُدَّ مِنْ عَدَدٍ مُعْتَبَرٍ وَهُوَ الثَّلَاثَةُ .
دُفِعَ بِأَنَّهُ فَرْعُ تَقَوُّمِ الْبِضْعِ فِي الْخُرُوجِ وَهُوَ مُنْتَفٍ ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ لَمَّا لَزِمَ الْمَالُ مِنْ قَوْلِهَا عَلَى مَا فِي يَدِي مِنْ الدَّرَاهِمِ وَكَانَ الْبِضْعُ مُحْتَرَمًا فَالظَّاهِرُ أَنْ يُرَادَ بِبَدَلِ إسْقَاطِ الْمِلْكِ عَنْهُ مَا هُوَ مُعْتَبَرٌ ، وَالدِّرْهَمُ الْوَاحِدُ وَإِنْ صَدَقَ عَلَيْهِ الْجِنْسُ الَّذِي صَارَ إلَيْهِ الْجَمْعُ غَيْرُ ذِي خَطَرٍ وَلِذَا لَمْ يَقْطَعْ الْعُضْوَ بِهِ ، بِخِلَافِ الْجَمْعِ فَإِنَّهُ ذُو خَطَرٍ وَهُوَ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ الْجِنْسِ كَالْفَرْدِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ حَمْلًا لَا دَلَالَةً بِالْمُعَيَّنِ الْمَذْكُورِ ، كَمَا أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْفَرْدِ بِمُعَيَّنٍ لِكَوْنِهِ الْمُتَيَقِّنَ عِنْدَ عَدَمِ مَا يُعَيِّنُ

غَيْرَهُ

( فَإِنْ اخْتَلَعَتْ عَلَى عَبْدٍ لَهَا آبِقٍ عَلَى أَنَّهَا بَرِيئَةٌ مِنْ ضَمَانِهِ لَمْ تَبْرَأْ وَعَلَيْهَا تَسْلِيمُ عَيْنِهِ إنْ قَدَرَتْ وَتَسْلِيمُ قِيمَتِهِ إنْ عَجَزَتْ ) لِأَنَّهُ عَقْدُ الْمُعَاوَضَةِ فَيَقْتَضِي سَلَامَةَ الْعِوَضِ ، وَاشْتِرَاطُ الْبَرَاءَةِ عَنْهُ شَرْطٌ فَاسِدٌ فَيَبْطُلُ إلَّا أَنَّ الْخُلْعَ لَا يَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ ، وَعَلَى هَذَا النِّكَاحِ

( قَوْلُهُ عَلَى أَنَّهَا بَرِيئَةٌ ) يَعْنِي إنْ وَجَدَتْهُ سَلَّمَتْهُ وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا ( قَوْلُهُ وَعَلَيْهَا تَسْلِيمُ عَيْنِهِ إلَخْ ) هَذَا فَرْعُ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ ، وَإِنَّمَا صَحَّتْ فِي الْخُلْعِ لِأَنَّ مَبْنَاهُ عَلَى الْمُسَامَحَةِ بِسَبَبِ أَنَّهُ اعْتِيَاضٌ عَنْ غَيْرِ مَالٍ ، فَالْعَجْزُ عَنْ تَسْلِيمِهِ لَا يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ فِي الْقِيمَةِ فَتُدْفَعُ .
وَكَذَا لَوْ خَالَعَهَا عَلَى عَبْدِ الْغَيْرِ صَحَّتْ وَوَجَبَ تَسْلِيمُهُ إنْ رَضِيَ سَيِّدُهُ وَإِلَّا فَقِيمَتُهُ ، وَهَذَا بِطَرِيقٍ أَوْلَى لِأَنَّهُ يَجُوزُ التَّزَوُّجُ عَلَى عَبْدِ الْغَيْرِ وَحُكْمُهُ كَذَلِكَ فَالْخُلْعُ عَلَيْهِ أَوْلَى ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّ مَبْنَاهُ عَلَى الْمُشَاحَحَةِ فَالْعَجْزُ يُفْضِي إلَيْهَا وَهُوَ لَمْ يَشْرَعْ إلَّا لِقَطْعِهَا فَلَا يَجُوزُ تَسْمِيَةُ الْآبِقِ فِيهِ ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا خَالَعَتْهُ عَلَى دَابَّةٍ وَعَلَى أَنْ تُزَوَّجَهُ امْرَأَةً وَتُمْهِرَهَا عَنْهُ يَصِحُّ الْخُلْعُ لَا التَّسْمِيَةُ فَيَرْجِعُ بِمَهْرِهَا لِأَنَّ الْجَهَالَةَ مُتَفَاحِشَةٌ لِاخْتِلَافِ الْأَجْنَاسِ فَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ شَيْءٍ مُسَمًّى بِعَيْنِهِ وَلَا قِيمَتُهُ ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ أَوْ قِيمَتُهُ .
وَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنْ يَكُونَ كَتَسْمِيَةِ عَبْدٍ وَسَطٍ ، فَإِذَا صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ أَوْجَبَتْ تَسْلِيمَ الْمُسَمَّى فَاشْتِرَاطُ الْبَرَاءَةِ عَنْ ضَمَانِهِ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ اشْتِرَاطُ عَدَمِ الْبَدَلِ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ وَهُوَ اشْتِرَاطُ عَدَمِ حُكْمِهِ فَيَبْطُلُ هَذَا الشَّرْطُ ، بِخِلَافِ اشْتِرَاطِ الْبَرَاءَةِ مِنْ عَيْبِ الْعِوَضِ لِأَنَّهُ يَصِحُّ وَإِنْ كَانَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ يُوجِبُ سَلَامَتَهُ كَمَا يُوجِبُ أَصْلَهُ لِأَنَّ وُجُوبَ سَلَامَتِهِ تَبَعٌ لِوُجُوبِهِ فَوُجُوبُ أَصْلِهِ هُوَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ ، ثُمَّ يَجِبُ كَوْنُهُ سَلِيمًا لِأَنَّ وُجُوبَ مُطْلَقِ الشَّيْءِ يَقْتَضِي كَمَالَهُ ، لِأَنَّ الْمَعِيبَ فَائِتٌ مِنْ وَجْهٍ فَكَانَ الْمُوجِبُ الْأَصْلِيُّ هُوَ الْعَيْبُ ، فَاشْتِرَاطُ نَفْيِهِ اشْتِرَاطُ نَفْيِ نَفْسِ مُقْتَضَاهُ ، بِخِلَافِ اشْتِرَاطِ

كَوْنِهِ مَعِيبًا لِأَنَّهُ إثْبَاتُهُ ، ثُمَّ إسْقَاطُ بَعْضِ الْحُقُوقِ التَّابِعِ وُجُوبُهَا لِوُجُوبِهِ ، وَذَلِكَ لَا يُخِلُّ بِإِثْبَاتِ مُقْتَضَاهُ .
أَوْ نَقُولُ : السَّلَامَةُ إنَّمَا هِيَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ الَّذِي لَمْ يُشْرَطْ فِيهِ عَدَمُهَا وَهُوَ الْمُطْلَقُ لَا غَيْرُهُ ، بِخِلَافِ أَصْلِ الْبَدَلِ فَإِنَّهُ حُكْمُ كُلِّ عَقْدٍ مُطْلَقًا .
وَلَوْ اخْتَلَعَتْ عَلَى عَبْدٍ بِعَيْنِهِ فَمَاتَ فِي يَدِ الزَّوْجَةِ فَعَلَيْهَا قِيمَتُهُ ، وَلَوْ كَانَ مَاتَ قَبْلَ الْخُلْعِ رَجَعَ عَلَيْهَا بِالْمَهْرِ الَّذِي أَخَذَتْهُ لِأَنَّهَا غَرَّتْهُ بِتَسْمِيَةِ الْعَبْدِ ، وَلَوْ كَانَ حَيًّا فَاسْتَحَقَّ لَزِمَهَا قِيمَتُهُ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ تَسْلِيمُهُ مَعَ بَقَاءِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِتَسْلِيمِهِ ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ ، وَيَجِبُ فِي صُورَةِ مَا إذَا كَانَ مَاتَ قَبْلَ الْخُلْعِ إنْ كَانَ الزَّوْجُ عَلِمَ بِذَلِكَ أَنْ لَا يَجِبَ لَهُ شَيْءٌ كَمَا قَدَّمْنَا فِي الْخَلِّ الْمُعَيَّنِ إذَا ظَهَرَ خَمْرًا وَهُوَ يَعْلَمُ .
وَفِي كَافِي الْحَاكِمِ : وَإِنْ اخْتَلَعَتْ بِعَبْدٍ حَلَالِ الدَّمِ فَقُتِلَ عِنْدَهُ بِذَلِكَ رَجَعَ عَلَيْهَا بِقِيمَتِهِ كَالِاسْتِحْقَاقِ ، وَكَذَا لَوْ كَانَ وَجَبَ قَطْعُ يَدِهِ فَقُطِعَ عِنْدَ الزَّوْجِ رَدَّهُ وَأَخَذَ قِيمَتَهُ

( وَإِذَا قَالَتْ طَلَّقَنِي ثَلَاثًا بِأَلْفٍ فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً فَعَلَيْهَا ثُلُثُ الْأَلْفِ ) لِأَنَّهَا لَمَّا طَلَبَتْ الثَّلَاثَ بِأَلْفٍ فَقَدْ طَلَبَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ بِثُلُثِ الْأَلْفِ ، وَهَذَا لِأَنَّ حَرْفَ الْبَاءِ يَصْحَبُ الْأَعْوَاضَ وَالْعِوَضُ يَنْقَسِمُ عَلَى الْمُعَوَّضِ وَالطَّلَاقُ بَائِنٌ لِوُجُوبِ الْمَالِ ( وَإِنْ قَالَتْ طَلَّقَنِي ثَلَاثًا عَلَى أَلْفٍ فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَيَمْلِكُ الرَّجْعَةَ .
وَقَالَا هِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ بِثُلُثِ الْأَلْفِ ) لِأَنَّ كَلِمَةَ عَلَى بِمَنْزِلَةِ الْبَاءِ فِي الْمُعَاوَضَاتِ ، حَتَّى إنَّ قَوْلَهُمْ احْمِلْ هَذَا الطَّعَامَ بِدِرْهَمٍ أَوْ عَلَى دِرْهَمٍ سَوَاءٌ .
وَلَهُ أَنَّ كَلِمَةَ عَلَى لِلشَّرْطِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاَللَّهِ شَيْئًا } وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَنْ تَدْخُلِي الدَّارَ كَانَ شَرْطًا ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لِلُّزُومِ حَقِيقَةً ، وَاسْتُعِيرَ لِلشَّرْطِ لِأَنَّهُ يُلَازِمُ الْجَزَاءَ ، وَإِذْ كَانَ لِلشَّرْطِ فَالْمَشْرُوطُ لَا يَتَوَزَّعُ عَلَى أَجْزَاءِ الشَّرْطِ ، بِخِلَافِ الْبَاءِ لِأَنَّهُ لِلْعِوَضِ عَلَى مَا مَرَّ ، وَإِذَا لَمْ يَجِبْ الْمَالُ كَانَ مُبْتَدَأً فَوَقَعَ الطَّلَاقُ وَيَمْلِكُ الرَّجْعَةَ ( وَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ طَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا بِأَلْفٍ أَوْ عَلَى أَلْفٍ فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَاحِدَةً لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ ) لِأَنَّ الزَّوْجَ مَا رَضِيَ بِالْبَيْنُونَةِ إلَّا لِتُسْلِمَ لَهُ الْأَلْفَ كُلَّهَا ، بِخِلَافِ قَوْلِهَا طَلَّقَنِي ثَلَاثًا بِأَلْفٍ لِأَنَّهَا لَمَّا رَضِيَتْ بِالْبَيْنُونَةِ بِأَلْفٍ كَانَتْ بِبَعْضِهَا أَرْضَى ( وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَلْفٍ فَقَبِلَتْ طَلُقَتْ وَعَلَيْهَا الْأَلْفُ وَهُوَ كَقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ بِأَلْفٍ ) وَلَا بُدَّ مِنْ الْقَبُولِ فِي الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ بِأَلْفٍ بِعِوَضِ أَلْفٍ يَجِبُ لِي عَلَيْك ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ عَلَى أَلْفٍ عَلَى شَرْطِ أَلْفٍ يَكُونُ لِي عَلَيْك ، وَالْعِوَضُ لَا يَجِبُ بِدُونِ قَبُولِهِ ، وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ

لَا يَنْزِلُ قَبْلَ وُجُودِهِ .
وَالطَّلَاقُ بَائِنٌ لِمَا قُلْنَا .

( قَوْلُهُ فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً ) أَيْ فِي الْمَجْلِسِ حَتَّى لَوْ قَامَ فَطَلَّقَهَا لَا يَجِبُ شَيْءٌ ( قَوْلُهُ فَعَلَيْهَا ثُلُثُ الْأَلْفِ ) وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَعَنْ مَالِكٍ تَقَعُ بِالْأَلْفِ .
وَعِنْدَ أَحْمَدَ تَقَعُ بِغَيْرِ شَيْءٍ ، وَالدَّعْوَى مَوْقُوفَةٌ عَلَى إثْبَاتِ التَّلَازُمِ بَيْنَ طَلَبِهَا الثَّلَاثِ بِأَلْفٍ وَطَلَبِ الْوَاحِدَةِ بِثُلُثِهِ فَأَثْبَتَهُ بِقَوْلِهِ إنَّ الْبَاءَ تَصْحَبُ الْأَعْوَاضَ بِاتِّفَاقٍ ، وَالْعِوَضُ يَنْقَسِمُ عَلَى الْمُعَوِّضِ بِالضَّرُورَةِ وَإِلَّا لَخَلَا بَعْضُهُ عَنْهُ فَيَكُونُ بَعْضُهُ بِلَا عِوَضٍ ، لَكِنَّ الْغَرَضَ أَنْ لَا تَبَرُّعَ بِشَيْءٍ مِنْهُ ، لَكِنْ لَازَمَ هَذَا جَعْلُ كُلِّ طَلْقَةٍ بِمُقَابَلَةِ ثُلُثِ الْأَلْفِ ، وَالْمَطْلُوبُ وَهُوَ طَلَبُ كُلِّ طَلْقَةٍ بِثُلُثِهِ لَازِمُهُ ، لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْعِلْمُ مُحِيطًا بِالِانْقِسَامِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ يَكُونُ طَلَبُ الْجُمْلَةِ بِعِوَضٍ طَلَبَ كُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ بِكُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ ، لَكِنْ يَبْقَى فِيهِ أَنَّهُ إنَّمَا هُوَ طَلَبُ الطَّلْقَةِ بِحِصَّتِهَا حَالَ كَوْنِهَا مَعَ الطَّلْقَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ لَا مُنْفَرِدَةً ، فَإِيقَاعُهُ الْوَاحِدَةَ فَقَطْ إيقَاعُ غَيْرِ الْمَسْئُولِ فَيَقَعُ بِغَيْرِ شَيْءٍ ، وَهُوَ وَجْهُ قَوْلِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ ، فَلِذَا رَتَّبَ فِي الْكَافِي الدَّعْوَى عَلَى اللَّازِمِ الْأَوَّلِ وَهُوَ جَعْلُهَا كُلَّ طَلْقَةٍ بِثُلُثِهَا ، وَجَعْلُهُ نَظِيرَ مَنْ يَقُولُ لِغَيْرِهِ بِعْ هَؤُلَاءِ الْعَبِيدَ الثَّلَاثَةَ بِأَلْفٍ فَبَاعَ أَحَدَهُمْ بِثُلُثِهَا يَجُوزُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ تَحْصِيلُ بَعْضِ الْمَقْصُودِ ، كَذَا هَذَا بَلْ أَوْلَى ، فَإِنَّ مَقْصُودَهَا الْأَصْلِيَّ مِلْكُهَا نَفْسُهَا بِقَطْعِ مِلْكِهِ ، غَيْرِ أَنَّهَا ذَكَرَتْ إحْدَى صُورَتِي ذَلِكَ وَهُوَ الثَّلَاثُ بَعْدَ عِلْمِهَا بِحِصَّةِ كُلٍّ مِنْهَا فَإِبَانَتُهَا بِوَاحِدَةٍ تَحْصِيلُ أَصْلِ الْمَقْصُودِ فِي صُورَةٍ أُخْرَى فَهُوَ أَوْلَى بِجَوَازِهِ بِحِصَّتِهَا ، بِخِلَافِ عَدَمِ الْجَوَازِ فِي قَوْلِهِ بِعْتُك هَذِهِ الْأَعْبُدَ الثَّلَاثَةَ بِأَلْفٍ كُلَّ وَاحِدٍ بِثُلُثِهَا فَقَبِلَ فِي وَاحِدٍ لَا يَجُوزُ عَلَى

قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ لِمَانِعٍ وَهُوَ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ فَإِنَّهُ ضَرَرٌ عَلَى الْبَائِعِ ، لِأَنَّ عَادَةَ التُّجَّارِ ضَمُّ الْجَيِّدِ إلَى الرَّدِيءِ فِي الصَّفْقَةِ لِيُرَوِّجُوا الرَّدِيءَ ، فَالْقَبُولُ فِي بَعْضِهَا إلْحَاقُ الضَّرَرِ بِهِ .
وَبِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا بِأَلْفٍ فَقَبِلَتْ فِي وَاحِدَةٍ لَا يَقَعُ شَيْءٌ وَلَا يَجِبُ شَيْءٌ لِأَنَّ الزَّوْجَ هُنَاكَ رَاضٍ بِالْبَيْنُونَةِ مُقَابِلًا بِثُلُثِ الْأَلْفِ حَيْثُ كَانَ الْإِيقَاعُ مِنْهُ ، وَفِي هَذِهِ لَمْ يَرْضَ بِهَا إلَّا وَأَنْ يَكُونَ بِإِزَائِهَا أَلْفٌ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ بَعْدَ الْإِيجَابِ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا .
وَلَوْ قَالَتْ طَلِّقْنِي ثَلَاثًا بِأَلْفٍ فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا مُتَفَرِّقَةً فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ اسْتَحَقَّ الْأَلْفَ اسْتِحْسَانًا .
وَفِي الذَّخِيرَةِ : قَالَتْ طَلِّقْنِي ثَلَاثًا عَلَى أَلْفٍ وَلَمْ يَبْقَ مِنْ طَلَاقِهَا إلَّا وَاحِدَةً فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً يَلْزَمُهَا الْأَلْفُ لِأَنَّهَا الْتَزَمَتْهُ بِإِزَاءِ الْحُرْمَةِ الْغَلِيظَةِ .
وَفِي الْمَرْغِينَانِيِّ : لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ أَرْبَعًا بِأَلْفٍ فَقَبِلَتْ طَلُقَتْ ثَلَاثًا بِأَلْفٍ ، وَلَوْ قَبِلَتْ الثَّلَاثَ بِالْأَلْفِ لَمْ يَقَعْ .
وَفِي الْخُلَاصَةِ قُبَيْلِ الْفَصْلِ الرَّابِعِ فِي الْأَمْرِ بِالْيَدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ : لَوْ قَالَتْ طَلِّقْنِي أَرْبَعًا بِأَلْفٍ فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَهِيَ بِالْأَلْفِ ، وَلَوْ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً فَبِثُلُثِ الْأَلْفِ ( قَوْلُهُ وَهَذَا لِأَنَّهُ لِلُّزُومِ حَقِيقَةٍ وَاسْتُعِيرَ لِلشَّرْطِ ) يُبَيِّنُ أَنَّ قَوْلَهُ إنَّ كَلِمَةَ ( عَلَى ) لِلشَّرْطِ مُرَادُهُ مَجَازًا .
وَفِي النِّهَايَةِ : لَا يَتِمُّ تَعْلِيلُ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا عَلَى تَعْلِيلِ الْمَبْسُوطِ حَيْثُ ادَّعَى أَنَّهَا لِلشَّرْطِ حَقِيقَةً لِأَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهَا مُسْتَعَارَةً لِلشَّرْطِ ، لَهُمَا أَنْ يَقُولَا لِمَ صَارَتْ تِلْكَ الِاسْتِعَارَةُ أَوْلَى مِنْ اسْتِعَارَتِهَا لِمَعْنَى الْبَاءِ ، بَلْ اسْتِعَارَتُهَا لِمَعْنَى الْبَاءِ أَوْلَى لِأَنَّ حَقِيقَتَهَا الْإِلْزَامُ بِالِاتِّفَاقِ ، وَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الْإِلْصَاقِ

وَاللُّزُومِ أَكْثَرُ مِنْهَا بَيْنَ الْإِلْزَامِ وَالشَّرْطِ .
ثُمَّ نَقَلَ فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّهَا لِلشَّرْطِ حَقِيقَةً وَهُوَ مُمْكِنٌ هُنَا إذْ الطَّلَاقُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ فَيَجِبُ اعْتِبَارُهَا فِيهِ إذْ لَا يَعْدِلُ إلَى الْمَجَازِ مَعَ إمْكَانِ الْحَقِيقَةِ .
وَالْحَقُّ أَنْ يُقَالَ : إنَّهَا حَقِيقَةٌ لِلِاسْتِعْلَاءِ إذَا اتَّصَلَتْ بِالْأَجْسَامِ الْمَحْسُوسَةِ كَقُمْتُ عَلَى السَّطْحِ وَالْعَتَبَةِ وَجَلَسْت عَلَى الْأَرْضِ وَالْبِسَاطِ وَمَسَحْت عَلَى رَأْسِي ، وَهُوَ مَحْمَلُ إطْلَاقِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ كَوْنِهَا لِلِاسْتِعْلَاءِ ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ هِيَ حَقِيقَةٌ فِي مَعْنَى اللُّزُومِ الصَّادِقِ فِي ضِمْنِ مَا يَجِبُ فِيهِ الشَّرْطُ الْمَحْضُ نَحْوَ قَوْلِهِ { يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاَللَّهِ شَيْئًا } أَيْ بِشَرْطِ ذَلِكَ ، وَنَحْوَهُ أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَنْ تَدْخُلِي الدَّارَ ، وَمَا يَجِبُ فِيهِ الْمُعَاوَضَةُ الشَّرْعِيَّةُ الْمَحْضَةُ كَبِعْنِي هَذَا عَلَى أَلْفٍ وَاحْمِلْهُ عَلَى دِرْهَمٍ ، وَالْعُرْفِيَّةُ كَأَفْعَلُ كَذَا عَلَى أَنْ أَنْصُرَك أَوْ أُعْطِيَك أَوْ أَشْفَعَ لَك عِنْدَ فُلَانٍ ، وَالْمَحَلُّ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ مِمَّا يَصِحُّ فِيهِ كُلٌّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ لِأَنَّ الطَّلَاقَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ عَلَى الشَّرْطِ الْمَحْضِ وَالِاعْتِيَاضِ بِهِ وَلَا مُرَجِّحَ ، وَكَوْنُ مَدْخُولِهَا مَالًا لَا يُرَجِّحُ مَعْنَى الِاعْتِيَاضِ فَإِنَّ الْمَالَ يَصِحُّ جَعْلُهُ شَرْطًا مَحْضًا حَتَّى لَا تَنْقَسِمُ أَجْزَاؤُهُ عَلَى أَجْزَاءِ مُقَابِلِهِ ، كَمَا لَوْ قَالَتْ إنْ طَلَّقْتنِي ثَلَاثًا فَلَكَ أَلْفٌ حَتَّى لَا يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ الطَّلْقَاتِ مُقَابَلًا بِشَيْءٍ بَلْ الْمَجْمُوعُ يَنْزِلُ عِنْدَ الْمَجْمُوعِ ، كَمَا يَصِحُّ جَعْلُهُ عِوَضًا مُنْقَسِمًا كَمَا فِي بِأَلْفٍ ، فَعَلَى اعْتِبَارِ الْمُعَاوَضَةِ ثُلُثَ الْأَلْفِ بِالطَّلْقَةِ وَعَلَى اعْتِبَارِ الشَّرْطِ لَا ، إذْ الشَّرْطُ لَا تَتَوَزَّعُ أَجْزَاؤُهُ عَلَى أَجْزَاءِ الْمَشْرُوطِ ، بَلْ مَجْمُوعُهُ مَجْعُولُ عَلَامَةٍ عَلَى نُزُولِ كُلِّهِ ، فَدَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ لُزُومِ ثُلُثِ الْأَلْفِ وَعَدَمِهِ فَلَا يَلْزَمُ بِالشَّكِّ وَلَا يُحْتَاطُ

فِي اللُّزُومِ إذْ الْأَصْلُ فَرَاغُ الذِّمَّةِ حَتَّى يَتَحَقَّقَ اشْتِغَالُهَا ، وَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ يَكُونُ لَفْظًا مُشْتَرَكًا بَيْنَ الِاسْتِعْلَاءِ وَاللُّزُومِ ، وَكَوْنُهُ لَا يُوجِبُ التَّوَقُّفَ عِنْدَ إطْلَاقِهِ كَمَا فِي الْمُشْتَرَكَاتِ لَا يَنْفِيهِ ، إذْ غَايَتُهُ أَنَّهُ لِلُزُومِ الْقَرِينَةِ الْمُعَيَّنَةِ لِأَحَدِ الْمَفْهُومِينَ وَهُوَ خُصُوصُ الْمَادَّةِ أَعْنِي كَوْنَ مَدْخُولِهَا جِسْمًا مَحْسُوسًا أَوْ غَيْرَهُ ، وَكَوْنُ الْمَجَازِ خَيْرًا مِنْ الِاشْتِرَاكِ هُوَ عِنْدَ التَّرَدُّدِ .
أَمَّا عِنْدَ قِيَامِ دَلِيلِ الْحَقِيقَةِ وَهُوَ التَّبَادُرُ بِمُجَرَّدِ الْإِطْلَاقِ فَلَا ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الِاشْتِرَاكَ وَاقِعٌ وَلَيْسَ إلَّا لِدَلِيلِهِ ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ سَلِمَ دَعْوَى أَنَّ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ هُوَ الِاسْتِعْلَاءُ وَالْمَجَازِيَّ اللُّزُومُ ، لَيْسَ بِأَوْلَى مِنْ الْقَلْبِ ، وَكَوْنُ ذَلِكَ قَوْلَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ لَا يُرَجِّحُهُ لِأَنَّ أَهْلَ الِاجْتِهَادِ هُمْ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ وَغَيْرِهَا وَأَحَدٌ مِنْ الْكُلِّ لَا يَنْقُلُ عَنْ الْوَاضِعِ أَنَّ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ كَذَا ، بَلْ لَيْسَ حُكْمُهُمْ بِهِ إلَّا بِنَاءً عَلَى مَا رَأَوْهُ مُتَبَادِرًا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ لِأَهْلِ اللِّسَانِ ، وَنَحْنُ أَوْجَدْنَاك تُبَادِرُ اللُّزُومَ فِي ذَلِكَ النَّوْعِ كَمَا يَتَبَادَرُ الِاسْتِعْلَاءُ فِي الْآخَرِ .
هَذَا وَلَوْ تَنَزَّلْنَا إلَى كَوْنِهِ فِي اللُّزُومِ مَجَازًا لَمْ يَضُرَّنَا فِي الْمَطْلُوبِ فَنَقُولُ : لَمَّا تَعَذَّرَتْ الْحَقِيقَةُ : أَعْنِي الِاسْتِعْلَاءَ كَانَ فِي الْمَجَازِيِّ : أَعْنِي اللُّزُومَ ، وَهَذَا الْمَعْنَى الْمَجَازِيُّ مَعْنًى كُلِّيٌّ صَادِقٌ مَعَ مَا يَجِبُ فِيهِ الشَّرْطِيَّةُ وَمَا يَجِبُ فِيهِ الْمُعَاوَضَةُ إلَى آخِرِ مَا قُلْنَاهُ بِعَيْنِهِ ( قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ طَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا بِأَلْفٍ ) تَقَدَّمَ وَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ ابْتِدَائِهَا وَابْتِدَائِهِ ( قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ، إلَى قَوْلِهِ : وَلَا بُدَّ مِنْ الْقَبُولِ ) لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ بِأَلْفٍ أَوْ عَلَى أَلْفٍ أَوْ خَلَعْتُك أَوْ بَارَأْتُك أَوْ طَلَّقْتُك بِأَلْفٍ أَوْ

عَلَى أَلْفٍ يَقَعُ عَلَى الْقَبُولِ فِي مَجْلِسِهَا وَهُوَ يَمِينٌ مِنْ جِهَتِهِ فَيَصِحُّ تَعْلِيقُهُ وَإِضَافَتُهُ ، وَلَا يَصِحُّ رُجُوعُهُ وَلَا يَبْطُلُ بِقِيَامِهِ عَنْ الْمَجْلِسِ وَيَتَوَقَّفُ عَلَى الْبُلُوغِ إلَيْهَا إذَا كَانَتْ غَائِبَةً لِأَنَّهُ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِقَبُولِهَا الْمَالِ ، وَهُوَ مِنْ جِهَتِهَا مُبَادَلَةٌ فَلَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهَا وَإِضَافَتُهَا ، وَيَصِحُّ رُجُوعُهَا قَبْلَ قَبُولِ الزَّوْجِ وَيَبْطُلُ بِقِيَامِهَا .
أَمَّا تَعْلِيقُهُ بِالْقَبُولِ فَلِأَنَّ الْبَاءَ لِلْمُعَاوَضَةِ ، وَقَدَّمْنَا أَنَّ فِي الْمُعَاوَضَاتِ يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِالْقَبُولِ ، وَكَذَا عَلَى عِنْدَهُمَا فَلَا إشْكَالَ ، وَعِنْدَهُ هِيَ لِلشَّرْطِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ فِعْلِهِ فَهُوَ إمَّا الْقَبُولُ أَوْ الْأَدَاءُ ، وَيَتَعَيَّنُ الْقَبُولُ بِدَلَالَةِ الْحَالِ وَهُوَ قَصْدُ الْمُعَاوَضَةِ .
فَإِنْ قُلْت : فَلِمَ لَمْ تُعْتَبَرْ جِهَةُ الْمُعَاوَضَةِ فِي قَوْلِهَا طَلِّقْنِي ثَلَاثًا عَلَى أَلْفٍ فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً عَلَى قَوْلِهِ وَكَانَ يَجِبُ ثُلُثُهَا .
فَالْجَوَابُ : صَلَاحِيَّةُ هَذَا الْقَدْرِ لِكَوْنِهِ قَرِينَةً مُعَيَّنَةً لِلشَّرْطِ أَنَّهُ الْقَبُولُ أَوْ الْأَدَاءُ بَعْدَ لُزُومِ إرَادَةِ أَحَدِهِمَا لَا يَسْتَلْزِمُ لُزُومَ جَعْلِهِ مُوجِبًا لِأَصْلِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَثْبُتَ لُزُومُهُ ، بَلْ قَالُوا مَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْ هَذَا ، وَهُوَ لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي أَلْفًا تَعَلَّقَ بِالْقَبُولِ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي جَوَابِ الرِّوَايَةِ مِنْ كُتُبِ مُحَمَّدٍ ، أَمَّا لَوْ قَالَ إذَا أَعْطَيْتنِي أَوْ إذَا جِئْتنِي بِأَلْفٍ فَلَا تَطْلُقُ حَتَّى تُعْطِيَهُ لِلتَّصْرِيحِ بِجَعْلِ الْإِعْطَاءِ شَرْطًا بِخِلَافِهِ مَعَ عَلَى ، حَتَّى إنَّهُ إذَا كَانَ عَلَى الزَّوْجِ دَيْنٌ لَهَا وَقَعَتْ الْمُقَاصَّةُ فِي مِثْلِهِ فِي مَسْأَلَةِ ( عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي ) دُونَ إنْ أَعْطَيْتنِي إلَّا أَنْ يَرْضَى الزَّوْجُ طَلَاقًا مُسْتَقْبَلًا بِأَلْفٍ لَهَا عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يُقَالُ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي مِنْك كَذَا ، وَيُرَادُ قَبُولُهُ فِي الْعُرْفِ ، قَالَ تَعَالَى { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ

عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } أَيْ حَتَّى يَقْبَلُوا ، لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ بِقَبُولِهَا يَنْتَهِي الْحَرْبُ مَعَهُمْ ، هَذَا ثُمَّ فِي قَوْلِهِ إنْ أَعْطَيْتنِي يَشْتَرِطُ الْإِعْطَاءُ فِي الْمَجْلِسِ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ ، وَفِي قَوْلِهِ إذَا أَوْ مَتَى أَعْطَيْتنِي لَا حَاجَةَ إلَى الْإِعْطَاءِ فِي الْمَجْلِسِ ، وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ مُلَاحَظٌ وَإِنْ ذُكِرَ بِصَرِيحِ الشَّرْطِ ، وَسَنَذْكُرُ نَحْوَهُ مِنْ مُخْتَصَرِ الْحَاكِمِ .
وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ اشْتِرَاطُ مَجْلِسِهَا فَلِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ مِنْ جَانِبِهَا حَتَّى صَحَّ رُجُوعُهَا إذَا ابْتَدَأَ قَبْلَ قَبُولِ الزَّوْجِ وَلَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهَا وَلَا إضَافَتُهَا وَالْمُبَادَلَاتُ تَسْتَدْعِي جَوَابًا فِي الْمَجْلِسِ ، فَإِذَا لَمْ تُجِبْ حَتَّى قَامَتْ لَمْ يُعْتَبَرْ قَبُولُهَا إذْ ذَاكَ وَفِي جَانِبِهِ هُوَ يَمِينٌ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ .
[ فَرْعٌ ] قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَلْفٍ إنْ تَزَوَّجْتُك فَقَبِلَتْ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا لَا يُعْتَبَرُ الْقَبُولُ إلَّا بَعْدَ التَّزَوُّجِ ، وَلَمْ يَحْكِ خِلَافًا فِي جَوَامِعِ الْفِقْهِ ، وَغَيْرُهُ جَعَلَ هَذَا قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ : إذَا قَبِلَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا طَلُقَتْ .
وَالْحَقُّ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ خَلَعَ بَعْدَ التَّزَوُّجِ فَيَشْتَرِطُ الْقَبُولَ بَعْدَهُ

( وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَعَلَيْك أَلْفٌ فَقَبِلَتْ ، وَقَالَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ وَعَلَيْك أَلْفٌ فَقَبِلَ عَتَقَ الْعَبْدُ وَطَلُقَتْ الْمَرْأَةُ ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) وَكَذَا إذَا لَمْ يَقْبَلَا ( وَقَالَا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْأَلْفُ إذَا قَبِلَ ) وَإِذَا لَمْ يَقْبَلْ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ .
لَهُمَا أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يُسْتَعْمَلُ لِلْمُعَاوَضَةِ ، فَإِنَّ قَوْلَهُمْ احْمِلْ هَذَا الْمَتَاعَ وَلَك دِرْهَمٌ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِمْ بِدِرْهَمٍ .
وَلَهُ أَنَّهُ جُمْلَةٌ تَامَّةٌ فَلَا تَرْتَبِطُ بِمَا قَبْلَهُ إلَّا بِدَلَالَةٍ ، إذْ الْأَصْلُ فِيهَا الِاسْتِقْلَالُ وَلَا دَلَالَةَ ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ يَنْفَكَّانِ عَنْ الْمَالِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ لِأَنَّهُمَا لَا يُوجَدَانِ دُونَهُ .

( قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَعَلَيْك أَلْفٌ أَوْ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ وَعَلَيْك أَلْفٌ ) أَوْ قَالَتْ هِيَ أَوْ الْعَبْدُ طَلِّقْنِي أَوْ أَعْتِقْنِي وَلَك أَلْفٌ فَفِي ابْتِدَائِهِ يَقَعُ الطَّلَاقُ وَالْعِتْقُ بِمُجَرَّدِ ذِكْرِهِمَا ، وَلَا شَيْءَ لَهُ قَبِلَا أَوْ رَدَّا .
وَفِي الثَّانِي يَقَعُ إذَا أَجَابَ وَلَا شَيْءَ لَهُ ، وَقَالَا : لَا يَقَعُ شَيْءٌ مَا لَمْ يَقْبَلَا ، فَإِذَا قَبِلَا وَقَعَ وَلَزِمَهُمَا الْمَالُ لَهُمَا أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَقَعُ لِقَصْدِ الْمُعَاوَضَةِ حَتَّى إنَّ قَوْلَهُ لِلْخَيَّاطِ خِطْهُ وَلَك دِرْهَمٌ وَلِلْحَمَّالِ احْمِلْهُ وَلَك دِرْهَمٌ يُفِيدُهَا ، وَيَلْزَمُ الْمُسَمَّى الْمَعْلُومُ بِإِرَادَةِ تَسَبُّبِ الْخِيَاطَةِ وَالْحَمْلِ لَكِنَّهُ تُرِكَ لِإِحَاطَةِ الْعِلْمِ بِإِرَادَتِهِ .
وَطَرِيقُهُ إفَادَةُ اللَّفْظِ لِذَلِكَ أَنْ تَجْعَلَ الْوَاوَ لِلْحَالِ ، فَعِنْدَهُ الْحَاصِلُ أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ خِطْهُ فِي حَالِ وُجُوبِ الْأَلْفِ لِي عَلَيْك أَوْ لَك عَلَيَّ ، وَلَا يَتَحَقَّقُ هَذَا الْحَالُ إلَّا بِقَبُولِهِ ، فَعِنْدَهُ يَثْبُتُ شَرْطُ الطَّلَاقِ إذْ الْأَحْوَالُ شُرُوطٌ فَيَقَعُ عَقِيبَهُ وَلَزِمَ الْمَالُ .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا عُرِفَ ذَلِكَ لِلْعِلْمِ بِالْمُعَاوَضَةِ لِدَلَالَةِ الْحَالِ عَلَيْهِ وَلَا كَذَلِكَ هَاهُنَا .
قُلْنَا : الْخُلْعُ أَيْضًا مُعَاوَضَةٌ .
وَلَهُ أَنَّ قَوْلَهُ وَعَلَيْك وَقَوْلَهُمَا وَلَك أَلْفٌ جُمْلَةٌ تَامَّةٌ ، وَالْأَصْلُ فِي الْجُمْلَةِ التَّامَّةِ أَنْ تَسْتَقِلَّ بِنَفْسِهَا فَلَا يَعْتَبِرُ فِيهَا مَا اُعْتُبِرَ فِيمَا قَبْلَهَا مِنْ الْقُيُودِ ، وَلِذَا لَوْ قَالَ إنْ دَخَلَ فُلَانٌ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَضَرَّتُك طَالِقٌ تَطْلُقُ الضَّرَّةُ لِلْحَالِ إلَّا بِقَرِينَةٍ تُفِيدُ مُشَارَكَتَهَا فِيهِ ، كَمَا فِي قَوْلِهِ إنْ دَخَلْت فَأَنْتِ طَالِقٌ وَعَبْدِي حُرٌّ فَإِنَّ الْعِتْقَ يَتَعَلَّقُ أَيْضًا بِالدُّخُولِ ، لِأَنَّ قَوْلَهُ وَعَبْدِي حُرٌّ وَإِنْ كَانَ تَامًّا إلَّا أَنَّهُ فِي حَقِّ التَّعْلِيقِ قَاصِرٌ لِأَنَّ الْخَبَرَ الْأَوَّلَ لَا يَصْلُحُ خَبَرًا لَهُ ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الضَّرَّةِ لِأَنَّهُ يَكْفِيهِ أَنْ يَقُولَ

وَضَرَّتَك إنْ كَانَ غَرَضُهُ التَّعْلِيقَ لِأَنَّ خَبَرَ الْأَوَّلِ يَصْلُحُ خَبَرًا لَهُ ، وَلَا دَلَالَةَ هُنَا لِأَنَّ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ لَمْ يَلْزَمْ فِيهِمَا الْمَالُ ، وَمَعَ عَدَمِ اللُّزُومِ فَالْكِرَامُ يَأْبُونَ قَبُولَ بَدَلِهِمَا أَشَدَّ الْإِبَاءِ ، بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ لِأَنَّهَا لَمْ تُشْرَعْ إلَّا مُعَاوَضَةً فَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الْمَالِ ، حَتَّى لَوْ قَالَ لِلْخَيَّاطِ خِطْهُ مُقْتَصِرًا لَزِمَ إذَا خَاطَهُ أُجْرَةٌ الْمِثْلِ فَوَجَبَ بَقَاءُ الْوَاوِ عَلَى الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ وَهُوَ الْعَطْفُ فَيَكُونُ الزَّوْجُ بَعْدَ الْإِيقَاعِ عَطَفَ أُخْرَى هِيَ دَعْوَى مَالٍ عَلَيْهِمَا ابْتِدَاءً .
وَفِي قَوْلِهِمَا وَلَك أَلْفٌ إيجَابُ صِلَةٍ مُبْتَدَأَةٍ وَعْدًا مِنْهُمَا ، وَالْمَوَاعِيدُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا اللُّزُومُ فَيَبْقَى الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ فِيهِمَا بِلَا بَدَلٍ ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَدِّ إلَيَّ أَلْفًا وَأَنْتَ حُرٌّ ، لِأَنَّ أَوَّلَ كَلَامِهِ غَيْرُ مُفِيدٍ حُكْمًا مُعْتَبَرًا إلَّا بِآخِرِهِ ، إذْ لَا مَعْنَى لِأَمْرِهِ بِأَدَائِهَا مِنْ غَيْرِ مُوجِبٍ ، وَالْقَرِينَةُ فِي حَقِّ الْعَبْدِ لَا تَبْلُغُ هَذَا فَيَصِيرُ بِهِ تَعْلِيقًا لِلْعِتْقِ بِأَدَاءِ الْمَالِ فَيَتَوَقَّفُ الْوُقُوعُ عَلَيْهِ ، أَمَّا هَذَا فَأَوَّلُ الْكَلَامِ مُفِيدٌ بِدُونِ آخِرِهِ مِنْهُ ظَاهِرًا ، وَكَذَا مِنْهَا لِأَنَّهُ الْتِمَاسٌ صَحِيحٌ كَثِيرًا مَا يُفْرِدُ ذِكْرُهُ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَضْمُونِ آخِرِهِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ جَعْلَهُمْ الْوَاوَ لِلْعَطْفِ يَسْتَلْزِمُ عَطْفَ الْخَبَرِ عَلَى الْإِنْشَاءِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ فِي الْأُصُولِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ وَاوَ الِاسْتِئْنَافِ ، وَحِينَئِذٍ إنْ ادَّعَى أَنَّهَا حَقِيقَةً فِيهِ تَبَادَرَ إلَيْهِ الْمَنْعُ فَيَحْتَاجُ فِي تَرْجِيحِهِ عَلَى الْحَالِ إلَى دَلِيلٍ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ احْتِمَالَ الْوَاوِ لِلْحَالِ وَالِاسْتِئْنَافِ حَاصِلٌ ، وَبِأَحَدِهِمَا يَلْزَمُ الْمَالُ وَبِالْآخَرِ لَا فَلَا يَلْزَمُ بِالشَّكِّ ، عَلَى أَنَّا نَمْنَعُ كَوْنَ جُمْلَةِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْشَائِيَّةً ، وَكَذَا أَنْتَ حُرٌّ ، وَقَدَّمْنَا فِي بَابِ إيقَاعِ الطَّلَاقِ الدَّلَالَةَ عَلَى

أَنَّهَا خَبَرِيَّةٌ ، وَالطَّلَاقُ يَقَعُ عِنْدَهُ شَرْعًا بِالتَّطْلِيقِ الثَّابِتِ ضَرُورَةً فَارْجِعْ إلَيْهِ

( وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَلْفٍ عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ أَوْ عَلَى أَنَّك بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَقَبِلَتْ فَالْخِيَارُ بَاطِلٌ إذَا كَانَ لِلزَّوْجِ ، وَهُوَ جَائِزٌ إذَا كَانَ لِلْمَرْأَةِ ، فَإِنْ رَدَّتْ الْخِيَارَ فِي الثَّلَاثِ بَطَلَ ، وَإِنْ لَمْ تَرُدَّ طَلُقَتْ وَلَزِمَهَا الْأَلْفُ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ( وَقَالَا : الْخِيَارُ بَاطِلٌ فِي الْوَجْهَيْنِ ، وَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ وَعَلَيْهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ ) لِأَنَّ الْخِيَارَ لِلْفَسْخِ بَعْدَ الِانْعِقَادِ لَا لِلْمَنْعِ مِنْ الِانْعِقَادِ ، وَالتَّصَرُّفَانِ لَا يَحْتَمِلَانِ الْفَسْخَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ لِأَنَّهُ فِي جَانِبِهِ يَمِينٌ وَمِنْ جَانِبِهَا شَرْطُهَا .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْخُلْعَ فِي جَانِبِهَا بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ حَتَّى يَصِحَّ رُجُوعُهَا ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا وَرَاءِ الْمَجْلِسِ فَيَصِحُّ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِيهِ ، أَمَّا فِي جَانِبِهِ يَمِينٌ حَتَّى لَا يَصِحُّ رُجُوعُهُ وَيَتَوَقَّفُ عَلَى مَا وَرَاءِ الْمَجْلِسِ ، وَلَا خِيَارَ فِي الْأَيْمَانِ ، وَجَانِبُ الْعَبْدِ فِي الْعَتَاقِ مِثْلُ جَانِبِهَا فِي الطَّلَاقِ .

( قَوْلُهُ فَقَبِلَتْ ) أَيْ الطَّلَاقَ عَلَى حُكْمِهِ مِنْ الْتِزَامِ الْمَالِ وَالْخِيَارِ ( فَالْخِيَارُ بَاطِلٌ إذَا كَانَ لِلزَّوْجِ ) فَبِمُجَرَّدِ قَبُولِهَا ذَلِكَ يَقَعُ الطَّلَاقُ وَيَلْزَمُهَا الْمَالُ ( وَهُوَ جَائِزٌ إذَا كَانَ لِلْمَرْأَةِ ) فَلَا يَقَعُ بِقَبُولِهَا حَتَّى تَسْقُطَ الْخِيَارَ أَوْ تَمْضِيَ الْأَيَّامُ ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ وَقَعَ وَلَزِمَهَا الْمَالُ ( فَإِنْ رَدَّتْ الْخِيَارَ فِي الْأَيَّامِ يَبْطُلُ ) الطَّلَاقُ وَلُزُومُ الْمَالِ ( وَهَذَا ) التَّفْصِيلُ كُلُّهُ ( عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْعِبَارَةَ الْجَيِّدَةَ أَنْ يُقَالَ فَإِنْ رَدَّتْ اخْتِيَارَ الطَّلَاقِ بِأَنْ قَالَتْ لَا أَخْتَارُ الطَّلَاقَ ، وَعِبَارَةُ قَاضِي خَانْ : فَإِنْ رَدَّتْ الطَّلَاقَ ( وَقَالَا : الْخِيَارُ فِي الْوَجْهَيْنِ بَاطِلٌ ، وَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ بِمُجَرَّدِ قَبُولِهَا ) وَعَلَيْهَا الْمَالُ ( وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْخِيَارَ لِلْفَسْخِ بَعْدَ الِانْعِقَادِ ) لِأَنَّهُ لَمْ يَشْرَعْ إلَّا فِي عَقْدٍ لَازِمٍ كَالْبَيْعِ وَالْكِتَابَةِ ( لَا لِلْمَنْعِ مِنْ الِانْعِقَادِ وَالتَّصَرُّفَانِ ) : أَعْنِي إيجَابَهُ وَقَبُولَهَا ( لَا يَحْتَمِلَانِ الْفَسْخَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ) أَيْ لَا مِنْهُ وَلَا مِنْهَا ( لِأَنَّهُ فِي جَانِبِهِ يَمِينٌ ) إذْ حَاصِلُهُ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِقَبُولِهَا الْمَالِ ( وَفِي جَانِبِهَا شَرْطُهُ ) أَيْ شَرْطُ هَذِهِ الْيَمِينِ بِتَأْوِيلِ الْحَلِفِ ، فَإِذَا قَبِلَتْ كَانَ ذَلِكَ وُجُودُ الشَّرْطِ ، وَشَرْطُ الْيَمِينِ إذَا وُجِدَتْ لَا يَتَصَوَّرُ فَسْخُهَا فَتَعَذَّرَ فَسْخُهَا ، وَلَمْ يُمْكِنْ جَعْلَ الْخِيَارِ مَانِعًا مِنْ الِانْعِقَادِ لِمَا مَرَّ فَيَبْطُلُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، وَإِذَا بَطَلَ انْبَرَمَ مَا شُرِطَ فِيهِ ( وَلَهُ أَنَّ الْخُلْعَ فِي جَانِبِهَا بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ ) يَعْنِي مُعَاوَضَةً ( وَلِذَا صَحَّ رُجُوعُهَا ) عَنْهُ إذَا ابْتَدَأَتْ قَبْلَ أَنْ يَقْبَلَ هُوَ ( وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا وَرَاءِ الْمَجْلِسِ ) بِالِاتِّفَاقِ بَيْنَنَا ، حَتَّى لَوْ قَامَتْ فَقَبِلَ هُوَ أَوْ قَامَتْ ثُمَّ قَبِلَتْ فِيمَا إذَا كَانَ هُوَ الْمُبْتَدِي لَا يَصِحُّ ، وَلَوْ ذَكَرْته

بِصَرِيحِ الشَّرْطِ .
فِي الْكَافِي لِلْحَاكِمِ أَبِي الْفَضْلِ إذَا قَالَتْ إنْ طَلَّقْتنِي ثَلَاثًا فَلَكَ عَلَيَّ أَلْفٌ ، فَإِنْ فَعَلَ فِي الْمَجْلِسِ فَلَهُ الْأَلْفُ ، وَإِنْ فَعَلَهُ بَعْدَهُ فَلَا شَيْءَ لَهُ ( وَفِي جَانِبِهِ يَمِينٌ ) كَمَا قَالَا ( حَتَّى لَا يَصِحَّ رُجُوعُهُ ) بَعْدَ قَوْلِهِ أَنْتِ أَوْ هِيَ طَالِقٌ عَلَى كَذَا أَوْ بِكَذَا ( وَيَتَوَقَّفُ عَلَى مَا وَرَاءِ الْمَجْلِسِ ) فَلَا يَبْطُلُ إلَّا أَنْ يَنْقَضِيَ مَجْلِسُ خِطَابِهَا أَوْ مَجْلِسُ بُلُوغِهَا الْخَبَرُ قَبْلَ أَنْ يَقْبَلَ ، وَيَصِحُّ تَعْلِيقُهُ وَإِضَافَتُهُ ، حَتَّى لَوْ قَالَ إذَا جَاءَ غَدٌ فَقَدْ خَالَعْتكِ عَلَى أَلْفٍ أَوْ فَقَدْ طَلَّقْتُك عَلَى أَلْفٍ وَقَبِلَتْ فِي الْغَدِ فِي مَجْلِسِ عِلْمِهَا وَقَعَ وَلَزِمَهَا الْمَالُ ، وَلَا يَصِحُّ قَبُولُهَا قَبْلَ الْغَدِ لِأَنَّ نَفْسَ الْإِيجَابِ مُعَلَّقٌ بِالشَّرْطِ وَهُوَ عَدَمُ قَبْلِهِ ، وَلَا يَصِحُّ الْقَبُولُ قَبْلَ الْإِيجَابِ ( وَلَا خِيَارَ فِي الْأَيْمَانِ ) فَبَطَلَ خِيَارُهُ ، وَيَصِحُّ فِي الْبَيْعِ فَيَصِحُّ خِيَارُهَا ، وَكَوْنُهُ شَرْطُ يَمِينِهِ لَا يَبْطُلُ حَقِيقَتَهُ فِي نَفْسِهِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ إنْ بِعْتُك هَذَا فَعَبْدِي حُرٌّ يَكُونُ نَفْسُ الْبَيْعِ شَرْطَ يَمِينِهِ حَتَّى يَعْتِقَ بِوُجُودِهِ وَلَمْ يَبْطُلْ بِهِ كَوْنُهُ مُعَاوَضَةً مُسْتَلْزِمَةً لِحُكْمِهَا مِنْ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ وَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَبِالْخِيَارِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ إنْ دَخَلْت فَأَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَنَّك بِالْخِيَارِ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ خِيَارٌ فِي الطَّلَاقِ لَا مُعَاوَضَةٌ .
فَإِنَّ قِيلَ : ثُبُوتُ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرَهُ .
فَالْجَوَابُ أَنَّا أَثْبَتْنَاهُ هُنَا بِدَلَالَةِ النَّصِّ ، فَإِنَّ ثُبُوتَهُ فِي الْبَيْعِ لِدَفْعِ الْغَبْنِ فِي الْأَمْوَالِ وَالْغَبْنُ فِي النُّفُوسِ أَضَرُّ ، وَالْحَاجَةُ إلَى التَّرَوِّي فِيهِ أَكْثَرُ ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا يَفُوتُهَا هَذَا الِازْدِوَاجُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَحْصُلُ مِثْلُهُ لَهَا أَبَدًا ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَقِفُ عَلَيْهِ كُلُّ لُغَوِيٍّ بَعْدَ عِلْمِهِ بِشَرْعِيَّتِهِ

فِي الْبَيْعِ فَكَانَ بِدَلَالَةِ النَّصِّ ( قَوْلُهُ وَجَانِبُ الْعَبْدِ فِي الْعَتَاقِ ) أَيْ عَلَى مَالٍ ( كَجَانِبِهَا فِي الطَّلَاقِ ) فَيَصِحُّ فِيهِ شَرْطُ الْخِيَارِ لَهُ إذَا قَالَ أَنْتَ حُرٌّ عَلَى أَلْفٍ عَلَى أَنَّك بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ .
فَرْعٌ ] مِنْ صُوَرِ تَعْلِيقِ الْخُلْعِ أَنْ يَقُولَ : إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَقَدْ خَلَعْتُك عَلَى أَلْفٍ فَتَرَاضَيَا عَلَيْهِ فَفَعَلَتْ صَحَّ الْخُلْعُ ، ذَكَرَهُ فِي عَلَامَةِ السِّينِ مِنْ التَّجْنِيسِ ، لِأَنَّ التَّعْلِيقَ مِنْ الزَّوْجِ يَجُوزُ لِأَنَّهُ طَلَاقٌ ، وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ قَبُولَهَا قَبْلَ الشَّرْطِ .
وَفِي الْوَجِيزِ : إذَا قَالَ إذَا قَدِمَ فُلَانٌ فَقَدْ خَالَعْتكِ عَلَى أَلْفٍ وَإِذَا جَاءَ غَدٌ إلَخْ كَانَ الْقَبُولُ إلَيْهَا بَعْدَ مَجِيءِ الْوَقْتِ وَقُدُومِ فُلَانٍ

( وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ طَلَّقْتُك أَمْسِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَلَمْ تَقْبَلِي فَقَالَتْ قَبِلْت فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ ، وَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ بِعْت مِنْك هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أَمْسِ فَلَمْ تَقْبَلْ فَقَالَ : قَبِلْت فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي ) وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الطَّلَاقَ بِالْمَالِ يَمِينٌ مِنْ جَانِبِهِ فَالْإِقْرَارُ بِهِ لَا يَكُونُ إقْرَارًا بِالشَّرْطِ لِصِحَّتِهِ بِدُونِهِ ، أَمَّا الْبَيْعُ فَلَا يَتِمُّ إلَّا بِالْقَبُولِ وَالْإِقْرَارُ بِهِ إقْرَارٌ بِمَا لَا يَتِمُّ إلَّا بِهِ فَإِنْكَارُهُ الْقَبُولَ رُجُوعٌ مِنْهُ .

( قَوْلُهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ ) أَيْ مَعَ يَمِينِهِ .
وَحَقِيقَةُ الْفَرْقِ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ أَنَّ قَوْلَهُ طَلَّقْتُك أَمْسِ عَلَى أَلْفٍ إقْرَارٌ بِمُجَرَّدِ الْيَمِينِ لَا بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ إذْ هُوَ لَازِمُ وُجُودِ الشَّرْطِ لَا لَازِمُهُ ، وَالْمَوْجُودُ بَعْدَ هَذَا مِنْهُ وَمِنْهَا اخْتِلَافٌ فِي وُجُودِ الشَّرْطِ وَهِيَ تَدَّعِيهِ لَتُثْبِتَ الطَّلَاقَ وَهُوَ مُنْكِرٌ غَيْرُ مُنَاقِضٍ إذْ لَمْ يَقْتَضِ إنْكَارُهُ الْقَبُولَ رُجُوعَهُ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا أَقَرَّ بِهِ ، وَالْقَوْلُ لِلْمُنْكِرِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ بِعْتُك فَإِنَّهُ إقْرَارٌ بِقَبُولِ الْمُشْتَرِي إذْ الْبَيْعُ لَا يَقُومُ إلَّا بِهِ ، فَإِنْكَارُهُ قَبُولَهُ رُجُوعٌ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ فَلَا يُقْبَلُ ، حَتَّى لَوْ كَانَ قَالَ لَهَا بِعْتُك طَلَاقَك أَمْسِ فَلَمْ تَقْبَلِي فَقَالَتْ بَلْ قَبِلْت كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا ، وَقَوْلُهُ لِعَبْدِهِ أَعْتَقْتُك أَمْسِ عَلَى أَلْفٍ فَلَمْ تَقْبَلْ وَبِعْتُك أَمْسِ نَفْسَك بِأَلْفٍ فَلَمْ تَقْبَلْ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ الزَّوْجِ لَهَا .
وَلِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَخَوَاتٌ فِي كُتُبِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هِيَ : قَالَ لَهَا قَدْ طَلَّقْتُك وَاحِدَةً بِأَلْفٍ فَقَبِلَتْ فَقَالَتْ إنَّمَا سَأَلْتُك ثَلَاثًا بِأَلْفٍ فَطَلَّقْتَنِي وَاحِدَةً فَلَكَ ثُلُثُهَا الْقَوْلُ لِلْمَرْأَةِ مَعَ يَمِينِهَا ، فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الزَّوْجِ وَكَذَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ الْجُعَلِ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ عَلَى الْخُلْعِ ، أَوْ قَالَتْ اُخْتُلِعَتْ بِغَيْرِ شَيْءٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الزَّوْجِ ، أَمَّا إذَا اتَّفَقَا أَنَّهَا سَأَلَتْهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا بِأَلْفٍ وَقَالَتْ طَلَّقْتنِي وَاحِدَةً وَقَالَ هُوَ ثَلَاثًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ إنْ كَانَا فِي الْمَجْلِسِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ فِي مَجْلِسِ سُؤَالِهَا الثَّلَاثِ بِأَلْفٍ كَانَ لَهُ الْأَلْفُ ، فَغَايَةُ هَذَا أَنْ يَكُونَ مُوقِعًا الْبَاقِيَ فِي الْمَجْلِسِ فَيَكُونُ مِثْلُهُ ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ لَزِمَهَا الثَّلَاثُ ، وَإِنْ

كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ مِنْ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ وَلَا يَكُونُ لِلزَّوْجِ إلَّا ثُلُثُ الْأَلْفِ ، وَإِنْ قَالَتْ سَأَلْتُك أَنْ تُطَلِّقَنِي ثَلَاثًا عَلَى أَلْفٍ فَطَلَّقْتنِي وَاحِدَةً فَلَا شَيْءَ لَك : يَعْنِي عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَ هُوَ بَلْ سَأَلْتِنِي وَاحِدَةً عَلَى أَلْفٍ فَطَلَّقْتُكِيهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَإِنْ قَالَتْ سَأَلْتُك ثَلَاثًا بِأَلْفٍ فَطَلَّقْتنِي فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ وَاحِدَةً وَالْبَاقِيَ فِي غَيْرِهِ فَقَالَ بَلْ الثَّلَاثُ فِيهِ فَالْقَوْلُ لَهَا .
وَإِنْ قَالَتْ سَأَلْتُك أَنْ تُطَلِّقَنِي أَنَا وَضَرَّتِي عَلَى أَلْفٍ فَطَلَّقْتنِي وَحْدِي وَقَالَ طَلَّقْتهَا مَعَك وَقَدْ افْتَرَقَا عَنْ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ فَالْقَوْلُ لَهَا وَعَلَيْهَا حِصَّتُهَا مِنْ الْأَلْفِ وَالْأُخْرَى طَالِقٌ بِإِقْرَارِهِ ، وَكَذَا إنْ قَالَتْ فَلَمْ تُطَلِّقْنِي وَلَا هِيَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ .
وَمَسْأَلَةُ خُلْعِ الثِّنْتَيْنِ بِسُؤَالٍ وَاحِدٍ تَنْبِيهٌ ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا خَلَعَ امْرَأَتَيْهِ عَلَى أَلْفٍ كَانَتْ مُنْقَسِمَةً عَلَى قَدْرِ مَا تَزَوَّجَهُمَا عَلَيْهِ مِنْ الْمَهْرِ حَتَّى لَوْ سَأَلَتَاهُ طَلَاقَهُمَا عَلَى أَلْفٍ أَوْ بِأَلْفٍ فَطَلَّقَ إحْدَاهُمَا لَزِمَ الْمُطَلَّقَةَ حِصَّتُهَا مِنْ الْأَلْفِ عَلَى قَدْرِ مَا تَزَوَّجَهَا عَلَيْهِ ، فَإِنْ طَلَّقَ الْأُخْرَى فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ أَيْضًا لَزِمَهَا حِصَّتُهَا لَا أَنَّ الْأَلْفَ تَنْقَسِمُ عَلَيْهِمَا بِالسَّوِيَّةِ .
وَلَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَمَا افْتَرَقُوا فَلَا شَيْءَ لَهُ ، وَإِذَا ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ الْخُلْعَ وَأَنْكَرَهُ الزَّوْجُ فَأَقَامَتْ بَيِّنَةً فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالْأَلْفِ وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ أَوْ اخْتَلَفَا فِي جِنْسِ الْجُعْلِ فَالشَّهَادَةُ بَاطِلَةٌ ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الْمُدَّعِي لِلْخُلْعِ وَالْمَرْأَةُ مُنْكِرَةٌ فَشَهِدَ أَحَدُ شَاهِدِيهِ بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَالزَّوْجُ يَدَّعِي أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ جَازَ شَهَادَتُهُمَا عَلَى أَلْفٍ ، وَإِنْ ادَّعَى أَلْفًا لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا وَلَزِمَهُ الطَّلَاقُ بِإِقْرَارِهِ ،

وَكَذَا لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمَا إذَا اخْتَلَفَا فِي جِنْسِ الْجُعْلِ أَيْضًا ، الْكُلُّ مِنْ مُخْتَصَرِ الْحَاكِمِ أَبِي الْفَضْلِ لِكَلَامِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ الْعِوَضِ فَالْقَوْلُ لَهَا عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَتَحَالَفَانِ

قَالَ ( وَالْمُبَارَأَةُ كَالْخُلْعِ كِلَاهُمَا يُسْقِطَانِ كُلَّ حَقٍّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْآخَرِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالنِّكَاحِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا يَسْقُطُ فِيهِمَا إلَّا مَا سَمَّيَاهُ ، وَأَبُو يُوسُفَ مَعَهُ فِي الْخُلْعِ وَمَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمُبَارَأَةِ .
لِمُحَمَّدٍ أَنَّ هَذِهِ مُعَاوَضَةٌ وَفِي الْمُعَاوَضَاتِ يُعْتَبَرُ الْمَشْرُوطُ لَا غَيْرُهُ .
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمُبَارَأَةَ مُفَاعَلَةٌ مِنْ الْبَرَاءَةِ فَتَقْتَضِيهَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَأَنَّهُ مُطْلَقٌ قَيَّدْنَاهُ بِحُقُوقِ النِّكَاحِ لِدَلَالَةِ الْغَرَضِ أَمَّا الْخُلْعُ فَمُقْتَضَاهُ الِانْخِلَاعُ وَقَدْ حَصَلَ فِي نَقْضِ النِّكَاحِ وَلَا ضَرُورَةَ إلَى انْقِطَاعِ الْأَحْكَامِ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْخُلْعَ يُنَبِّئُ عَنْ الْفَصْلِ وَمِنْهُ خَلَعَ النَّعْلَ وَخَلَعَ الْعَمَلَ وَهُوَ مُطْلَقٌ كَالْمُبَارَأَةِ فَيُعْمَلُ بِإِطْلَاقِهِمَا فِي النِّكَاحِ وَأَحْكَامِهِ وَحُقُوقِهِ .

( قَوْلُهُ وَالْمُبَارَأَةُ كَالْخُلْعِ ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ مُفَاعَلَةٌ مِنْ الْبَرَاءَةِ وَتَرْكُ الْهَمْزَةِ خَطَأٌ كَذَا فِي الْمُغْرِبِ ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ بَارَأْتُك عَلَى أَلْفٍ وَتَقْبَلَ ، وَقَوْلُهُ ( يُسْقِطَانِ كُلَّ حَقٍّ إلَى آخِرِهِ ) مُقَيَّدٌ بِالْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ الْمَاضِيَةِ إذَا كَانَتْ مَفْرُوضَةً ، بِخِلَافِ نَفَقَةِ الْعِدَّةِ وَالسُّكْنَى فِي الْعِدَّةِ لَا تَقَعُ الْبَرَاءَةُ مِنْهُمَا وَإِنْ كَانَ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ ، بَلْ لِلْمُخْتَلِعَةِ النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى إلَّا إنْ اخْتَلَعَتْ عَلَى نَفَقَةِ الْعِدَّةِ فَتَسْقُطُ دُونَ السُّكْنَى لِأَنَّهَا حَقُّ الشَّرْعِ ، وَإِطْلَاقُ جَوَابِ الْمَسْأَلَةِ يَقْتَضِي سُقُوطَ الْمَهْرِ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ سَوَاءٌ سَمَّيَا شَيْئًا فِي الْخُلْعِ أَوْ لَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُمَا إمَّا أَنْ لَا يُسَمِّيَا شَيْئًا بِأَنْ يَقُولَ خَالَعْتكِ فَقَبِلْت وَلَمْ يَذْكُرَا شَيْئًا أَوْ سَمَّيَا الْمَهْرَ أَوْ بَعْضَهُ أَوْ مَالًا آخَرَ ، فَإِنْ لَمْ يُسَمِّيَا شَيْئًا فَفِيهِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ : إحْدَاهَا لَا يَبْرَأُ الزَّوْجُ عَنْ الْمَهْرِ حَتَّى تَأْخُذَهُ إنْ لَمْ يَكُنْ مَقْبُوضًا .
وَالثَّانِيَةُ يَبْرَأُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَنْهُ وَعَنْ دَيْنٍ آخَرَ سِوَاهُ .
وَالثَّالِثَةُ يَبْرَأُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَنْ الْمَهْرِ لَا غَيْرُ .
فَلَا يُطَالَبُ بِهِ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ سَوَاءٌ كَانَا قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ مَقْبُوضًا كَانَ أَوْ لَا حَتَّى لَا تَرْجِعَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ إنْ لَمْ يَكُنْ مَقْبُوضًا وَلَا يَرْجِعُ الزَّوْجُ عَلَيْهَا بِهِ إنْ كَانَ مَقْبُوضًا كُلَّهُ ، وَالْخُلْعُ قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَالَ مَذْكُورٌ عُرْفًا بِالْخُلْعِ فَحَيْثُ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ لَزِمَ مَا هُوَ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ بِقَرِينَةِ أَنَّ الْمُرَادَ الِانْخِلَاعُ مِنْهُ .
وَإِنْ سَمَّيَا الْمَهْرَ ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ وَلَيْسَ مَقْبُوضًا سَقَطَ عَنْهُ كُلُّهُ ، وَإِنْ كَانَ مَقْبُوضًا رَجَعَ عَلَيْهَا بِجَمِيعِهِ بِالشَّرْطِ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ ، فَإِنْ كَانَ مَقْبُوضًا فَفِي الْقِيَاسِ

يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِهِ وَبِقَدْرِ نِصْفِهِ كُلِّهِ بِالشَّرْطِ وَنِصْفِهِ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ حَتَّى لَوْ كَانَ أَلْفًا رَجَعَ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ بِالْمَقْبُوضِ فَقَطْ لِأَنَّ الْمَهْرَ اسْمٌ لِمَا تَسْتَحِقُّهُ الْمَرْأَةُ وَهُوَ نِصْفُ الْمُسَمَّى قَبْلَ الدُّخُولِ فَيَجِبُ عَلَيْهَا رَدُّهُ بِالشَّرْطِ وَرَدُّ النِّصْفِ الْآخَرِ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ لِأَنَّهَا قَبَضَتْ مَالًا تَسْتَحِقُّهُ فَيَجِبُ عَلَيْهَا رَدُّهُ ، كَذَا ذَكَرَهُ قَاضِي خَانْ .
قِيلَ وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ إلَّا النِّصْفُ بِالشَّرْطِ وَيَسْقُطَ الْبَاقِي بِحُكْمِ الْخُلْعِ ، كَمَا إذَا خَالَعَهَا عَلَى مَالٍ آخَرَ قَبْلَ الدُّخُولِ وَقَدْ قَبَضَتْ كُلَّ الْمَهْرِ حَيْثُ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا رَدُّ شَيْءٍ مِنْهُ وَسَيَأْتِي ، وَكَمَا إذَا سَمَّيَا بَعْضَ الْمَهْرِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهَا الْمُسَمَّى بِالشَّرْطِ وَيَسْقُطُ الْبَاقِي بِحُكْمِ الْخُلْعِ ، وَلَكِنْ قَدْ يُقَالُ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ كُلُّ الْمُسَمَّى بِالشَّرْطِ لِأَنَّ الْمَهْرَ اسْمٌ لِمَا صَحَّتْ تَسْمِيَتُهُ فِي الْعَقْدِ غَيْرُ أَنَّهُ سَقَطَ نِصْفُهُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَاشْتِرَاطُ الْمَهْرِ لَهُ كَانَ قَبْلَ الطَّلَاقِ فَيَنْصَرِفُ إلَى تَمَامِهِ ، فَإِذَا كَانَتْ قَبَضَتْهُ وَوَقَعَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ رَجَعَ عَلَيْهَا بِكُلِّهِ بِالشَّرْطِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْبُوضًا فَفِي الْقِيَاسِ يَسْقُطُ عَنْهُ كُلُّهُ وَيَرْجِعُ عَلَيْهَا بِخَمْسِمِائَةٍ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ قَدْرَهُ بِالشَّرْطِ وَهِيَ تَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ خَمْسَمِائَةٍ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَيَلْتَقِيَانِ قِصَاصًا بِقَدْرِهِ وَيَرْجِعُ عَلَيْهَا بِالزَّائِدِ .
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ : لَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ لِمَا أَنَّ الْمَهْرَ اسْمٌ لِمَا تَسْتَحِقُّهُ وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ فَيَجِبُ لَهَا ذَلِكَ .
وَيَجِبُ لَهُ مِثْلُهُ عَلَيْهَا بِالشَّرْطِ فَيَلْتَقِيَانِ قِصَاصًا ، وَإِنْ سَمَّيَا بَعْضَ الْمَهْرِ بِأَنْ خَالَعَهَا عَلَى عُشْرِهِ مَثَلًا وَالْمَهْرُ أَلْفٌ ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ وَكُلُّهُ مَقْبُوضٌ رَجَعَ عَلَيْهَا بِمِائَةٍ بِالشَّرْطِ وَسَلَّمَ

الْبَاقِيَ لَهَا ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَقْبُوضٍ سَقَطَ عَنْهُ كُلُّهُ مِائَةٌ بِالشَّرْطِ وَالْبَاقِي بِحُكْمِ الْخُلْعِ ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ وَكُلُّهُ مَقْبُوضٌ فَفِي الْقِيَاسِ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِسِتِّمِائَةٍ بِالشَّرْطِ وَخَمْسِمِائَةٍ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ .
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ : يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِخَمْسِينَ لِأَنَّهُ عُشْرُ مَهْرِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَرِئَتْ الْمَرْأَةُ عَنْ الْبَاقِي بِحُكْمِ لَفْظِ الْخُلْعِ ، وَعَلَى مَا بَحَثْنَاهُ يَنْبَغِي أَنْ يَرْجِعَ بِمِائَةٍ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْبُوضًا سَقَطَ كُلُّهُ اسْتِحْسَانًا عُشْرُهُ بَدَلُ الْخُلْعِ وَالنِّصْفُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَالْبَاقِي بِحُكْمِ الْخُلْعِ .
وَإِنْ سَمَّيَا مَالًا آخَرَ غَيْرَ الْمَهْرِ ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ وَالْمَهْرُ مَقْبُوضٌ فَلَهُ الْمُسَمَّى لَيْسَ غَيْرُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْبُوضًا فَلَهُ الْمُسَمَّى وَسَقَطَ عَنْهُ الْمَهْرُ بِحُكْمِ الْخُلْعِ ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ وَالْمَهْرُ مَقْبُوضٌ فَلَهُ الْمُسَمَّى وَسَلَّمَ لَهَا مَا قَبَضَتْ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا رَدُّ شَيْءٍ مِنْهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْبُوضًا فَلَهُ الْمُسَمَّى بِالشَّرْطِ وَسَقَطَ عَنْهُ الْمَهْرُ بِحُكْمِ الْخُلْعِ .
إذَا عَرَفْت هَذَا جِئْنَا إلَى الْخِلَافِيَّةِ ( وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ هَذِهِ مُعَاوَضَةٌ ) وَأَثَرُ الْمُعَاوَضَةِ لَيْسَ إلَّا فِي وُجُوبِ الْمُسَمَّى لَا فِي إسْقَاطِ غَيْرِهِ وَصَارَ كَمَا إذَا وَقَعَ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ ، وَلِذَا لَا يَسْقُطُ دَيْنٌ آخَرُ وَلَا نَفَقَةُ الْعِدَّةِ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ آثَارِ النِّكَاحِ مَعَ أَنَّ النَّفَقَةَ أَضْعَفُ مِنْ الْمَهْرِ ( وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمُبَارَأَةَ مِنْ الْبَرَاءَةِ فَتَقْتَضِي الْبَرَاءَةَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَأَنَّهُ مُطْلَقٌ ) فِي كُلِّ دَيْنٍ إلَّا أَنَّا ( قَيَّدْنَاهُ بِالْوَاجِبِ بِالنِّكَاحِ لِدَلَالَةِ الْغَرَضِ ) فَإِنَّ الْغَرَضَ الْمُبَارَأَةُ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِهِ ، أَمَّا الْخُلْعُ فَإِنَّمَا يَقْتَضِي فَصْلًا وَانْخِلَاعًا ، وَحَقِيقَتُهُ تَتَحَقَّقُ فِي حَقِّ النِّكَاحِ غَيْرُ مُتَوَقِّفَةٍ عَلَى سُقُوطِ

الْمَهْرِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْخُلْعَ صَلَّحَ وَضْعًا شَرْعًا لِقَطْعِ الْمُنَازَعَةِ الْكَائِنَةِ بِسَبَبِ النُّشُوزِ الْكَائِنِ بِسَبَبِ الْوَصْلَةِ الْقَائِمَةِ بَيْنَهُمَا بِسَبَبِ النِّكَاحِ ، فَتَمَامُ تَحَقُّقِ مَقْصُودِهِ بِجَعْلِهِ مُسْقِطًا لِمَا وَجَبَ بِسَبَبِ تِلْكَ الْوَصْلَةِ فَيَسْقُطُ الْمَهْرُ وَإِلَّا عَادَ عَلَى مَوْضُوعِهِ بِالنَّقْصِ لِأَنَّ لَفْظَهُ وَلَفْظَ الْمُبَارَأَةِ يُفِيدُ إطْلَاقَهُمَا ذَلِكَ فِي الْمُبَارَأَةِ كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ ، وَلَفْظُ الْخُلْعِ يُفِيدُ انْخِلَاعَ كُلٍّ مِنْهُمَا عَنْ الْآخَرِ دُونَ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ ، فَإِنَّهُ إذَا انْخَلَعَ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ بِأَنْ يَنْخَلِعَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ انْخَلَعَ الْآخَرُ كَذَلِكَ ، وَثُبُوتُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بِسُقُوطِ مُطَالَبَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا الْآخَرَ بِمُوَاجِبِ النِّكَاحِ ، بِخِلَافِ لَفْظِ الطَّلَاقِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى سُقُوطِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ بِالنِّكَاحِ .
عَلَى أَنَّ رِوَايَةَ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الطَّلَاقَ عَلَى مَالٍ كَالْخُلْعِ يَسْقُطُ بِهِ مَا يَسْقُطُ بِالْخُلْعِ ، وَبِخِلَافِ دَيْنٍ آخَرَ لِأَنَّ شَرْعِيَّةَ الْخُلْعِ لِقَطْعِ النِّزَاعِ الْحَاصِلِ بِسَبَبِ وَصِلَةِ النِّكَاحِ لَا مُطْلَقًا ، وَبِخِلَافِ نَفَقَةِ الْعِدَّةِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ مَوَاجِبِ النِّكَاحِ ، بَلْ يَحْدُثُ وُجُوبُ تَعَلُّقِهَا بَعْدَهُ حَتَّى لَوْ شَرَطَا سُقُوطَهَا فِي الْخُلْعِ سَقَطَتْ بِاعْتِبَارِ مَا تَسْتَحِقُّهُ وَقْتَ الْخُلْعِ ، وَالْبَاقِي سَقَطَ تَبَعًا فِي ضِمْنِ الْخُلْعِ ، أَمَّا لَوْ لَمْ تَسْقُطْهَا حَتَّى انْخَلَعَتْ ثُمَّ أَسْقَطَتْ لَا تَسْقُطُ لِإِسْقَاطِهَا حِينَئِذٍ قَصْدًا لِمَا لَمْ يَجِبْ ، فَإِنَّهَا إنَّمَا تَجِبُ شَيْئًا فَشَيْئًا بِخِلَافِ ذَلِكَ الْإِسْقَاطِ الضِّمْنِيِّ ، وَأَمَّا السُّكْنَى فَلَمَّا كَانَتْ فِي غَيْرِ بَيْتِ الطَّلَاقِ مَعْصِيَةٌ لَا يَصِحُّ إسْقَاطُهَا بِحَالٍ إلَّا إنْ أَبْرَأَتْهُ عَنْ مَئُونَةِ السُّكْنَى بِأَنْ كَانَتْ سَاكِنَةً فِي بَيْتِ نَفْسِهَا ، أَوْ أَنَّهَا تُعْطَى الْأُجْرَة مِنْ مَالِهَا فَإِنَّهُ

يَصِحُّ حِينَئِذٍ الْتِزَامُهَا ذَلِكَ .
وَفِي الْقُنْيَةِ : الْإِبْرَاءُ وُجِدَ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ النَّفَقَةِ فَيَصِحُّ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً عِنْدَهُ .
قِيلَ مَا سَبَقَ هُوَ الصَّحِيحُ ، وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْقُنْيَةِ يَبْطُلُ بِالْإِبْرَاءِ بَعْدَ الْخُلْعِ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ ، لَكِنْ فِي الْيَنَابِيعِ : لَوْ أَبْرَأَتْهُ عَنْ نَفَقَةِ الْعِدَّةِ بَعْدَ الْخُلْعِ صَحَّ ، قَالَ : هَكَذَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ انْتَهَى .
بِخِلَافِ الْإِبْرَاءِ مِنْهَا حَالَ قِيَامِ النِّكَاحِ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ مِنْ النَّفَقَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ لَا يَصِحُّ .
هَذَا وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : الْوَجْهُ الْأَوَّلُ يَقْتَضِي سُقُوطَ الْمَهْرِ بِالطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ ، وَالثَّانِي يُوجِبُ كَوْنَ لَفْظِ الطَّلَاقِ مُطْلَقًا مُسْقِطًا لَهُ لِأَنَّهُ يُفِيدُ انْطِلَاقَهَا : أَيْ الْمَرْأَةِ ، وَانْطِلَاقُهَا عَنْ الزَّوْجِ يُوجِبُ مِثْلَهُ فِي حَقِّهِ ، وَتَحَقُّقُ حَقِيقَةِ انْطِلَاقِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَنْ الْآخَرِ عَلَى الْكَمَالِ يَقْطَعُ مُطَالَبَةَ كُلٍّ الْآخَرَ بِمُوَاجِبِ النِّكَاحِ كَمَا قُلْنَا فِي الْخُلْعِ بِعَيْنِهِ .
فَاَلَّذِي يَظْهَرُ مِنْ جِهَةِ الدَّلِيلِ تَرْجِيحُ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ، وَالْتِزَامُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ أَنَّهُ أَيْضًا يَسْقُطُ الْمَهْرُ كَالْخُلْعِ وَإِلَّا فَالْحَالُ مَا عَلِمَتْ .
وَلَوْ كَانَ الْخُلْعُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ : أَيْ بِأَنْ قَالَ بِعْتُك نَفْسَك بِأَلْفٍ فَقَالَتْ اشْتَرَيْت اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي أَنَّهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَالْخُلْعِ وَالْمُبَارَأَةُ أَوَّلًا ؟ وَصَحَّحَ فِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى أَنَّهُ كَالْخُلْعِ وَالْمُبَارَأَةِ ، وَتَرْجِيحُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَلَا يَزْدَادُ عَلَى مَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ ، وَاللَّفْظُ وَإِنْ كَانَ يُنَبِّئُ عَنْ الْفَصْلِ فَالْفَصْلُ وُجِدَ عَلَى مِقْدَارٍ رَضِيَا بِهِ فَكَيْفَ يَسْقُطُ غَيْرُهُ ذُهُولٌ عَنْ التَّحْقِيقِ ، فَإِنَّهُ إذَا أَنْبَأَ عَنْ الِانْفِصَالِ فِي مُتَعَلِّقَاتِ النِّكَاحِ وَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ تَسْقُطَ

مُطَالَبَةُ كُلٍّ الْآخَرَ بِالْمَهْرِ ثُمَّ وَقَعَ التَّرَاضِي عَلَى إثْبَاتِهِ بِمَالٍ فَقَدْ وَقَعَ التَّرَاضِي عَلَى إثْبَاتِ سُقُوطِ مِلْكِ النِّكَاحِ وَالْمَهْرِ بِذَلِكَ الْمَالِ فَيَثْبُتُ بِمُقْتَضَاهُ مَعَ ذَلِكَ الْمَالِ بِالضَّرُورَةِ .
[ تَنْبِيهٌ ] لَا يَسْقُطُ الْمَهْرُ بِخُلْعِ الْأَجْنَبِيِّ بِمَالٍ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلْأَجْنَبِيِّ فِي إسْقَاطِ حَقِّهَا ، ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَكَذَا الْأَمَةُ إذَا اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى يَقَعُ الطَّلَاقُ وَلَا يَسْقُطُ الْمَهْرُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ بِإِذْنِهِ فَيَسْقُطُ وَتُبَاعُ فِي بَدَلِ الْخُلْعِ ، وَفِيمَا إذَا كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَا تُطَالَبُ بِهِ إلَّا بَعْدَ الْعِتْقِ ، وَأُمُّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرَةِ فِي الْإِذْنِ يُؤَدِّيَانِ مِنْ كَسْبِهِمَا .

[ فُرُوعٌ ] إذَا شَرَطَا بَدَلًا لِلْخُلْعِ الْبَرَاءَةَ مِنْ نَفَقَةِ الْوَلَدِ وَهِيَ مَئُونَةُ الرَّضَاعِ إنْ وَقَّتَا لِذَلِكَ وَقْتًا كَسَنَةٍ مَثَلًا صَحَّ وَلَزِمَ وَإِلَّا لَا يَصِحُّ .
وَفِي الْمُنْتَقَى : إنْ كَانَ الْوَلَدُ رَضِيعًا صَحَّ وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ الْمُدَّةَ وَتُرْضِعُ حَوْلَيْنِ ا هـ .
بِخِلَافِ الْفَطِيمِ .
وَفِي الْخُلَاصَةِ : امْرَأَةٌ اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا عَلَى مَهْرِهَا وَنَفَقَةِ عِدَّتِهَا وَعَلَى أَنْ تُمْسِكَ وَلَدَهَا مِنْهُ ثَلَاثَ سِنِينَ أَوْ عَشْرًا بِنَفَقَتِهِ صَحَّ الْخُلْعُ وَيَجِبُ ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا : يَعْنِي قَدْرَ النَّفَقَةِ ، وَهَذَا لِمَا عَلِمْت أَنَّ الْجَهَالَةَ غَيْرَ الْمُتَفَاحِشَةِ مُتَحَمَّلَةٌ فِي الْخُلْعِ ، فَإِنْ تَرَكْته عَلَى زَوْجِهَا وَهَرَبَتْ فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَأْخُذَ قِيمَةَ النَّفَقَةِ مِنْهَا ، وَلَهَا أَنْ تُطَالِبَهُ بِكِسْوَةِ الصَّبِيِّ إلَّا إنْ اخْتَلَعَتْ عَلَى نَفَقَتِهِ وَكِسْوَتِهِ فَلَيْسَ لَهَا الْمُطَالَبَةُ وَإِنْ كَانَتْ الْكِسْوَةُ مَجْهُولَةً ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْوَلَدُ رَضِيعًا أَوْ فَطِيمًا ، وَلَوْ اخْتَلَعَتْ عَلَى دَرَاهِمَ ثُمَّ اسْتَأْجَرَهَا بِبَدَلِ الْخُلْعِ عَلَى إرْضَاعِ الرَّضِيعِ جَازَ ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَهَا بِهِ عَلَى إمْسَاكِ الْفَطِيمِ بِنَفَقَتِهِ وَكِسْوَتِهِ لَا يَجُوزُ وَفِي الْمُحِيطِ : ذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي امْرَأَةٍ اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا بِمَالِهَا عَلَيْهِ مِنْ الْمَهْرِ وَبِرَضَاعِ وَلَدِهِ الَّذِي هِيَ حَامِلٌ بِهِ إذَا وَلَدَتْهُ إلَى سَنَتَيْنِ جَازَ ، فَإِنْ مَاتَ أَوْ لَمْ يَكُنْ فِي بَطْنِهَا وَلَدٌ تَرُدُّ قِيمَةَ الرَّضَاعِ ، وَلَوْ مَاتَ بَعْدَ سَنَةٍ تَرُدُّ قِيمَةَ رَضَاعِ سَنَةٍ ، وَكَذَا إذَا مَاتَتْ هِيَ عَلَيْهَا قِيمَتُهُ انْتَهَى .
وَلَوْ كَانَتْ قَالَتْ عَشْرَ سِنِينَ رَجَعَ عَلَيْهَا بِأُجْرَةِ رَضَاعِ سَنَتَيْنِ وَنَفَقَةُ بَاقِي السِّنِينَ إلَّا أَنْ قَالَتْ عِنْدَ الْخُلْعِ إنْ مَاتَ أَوْ مِتَّ فَلَا شَيْءَ عَلَيَّ فَهُوَ عَلَى مَا شَرَطَتْ قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ .
وَلَوْ اخْتَلَعَتْ عَلَى أَنْ تُمْسِكَهُ إلَى وَقْتِ الْبُلُوغِ صَحَّ فِي الْأُنْثَى لَا

الْغُلَامِ ، وَإِذَا تَزَوَّجَتْ فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَأْخُذَ الْوَلَدَ وَلَا يَتْرُكُهُ عِنْدَهَا ، وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا حَقُّ الْوَلَدِ ، وَيَنْظُرُ إلَى مِثْلِ إمْسَاكِ الْوَلَدِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ فَيَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهَا .
وَلَوْ اخْتَلَعَتْ عَلَى إرْضَاعِهِ ثُمَّ صَالَحَتْ الزَّوْجَ عَلَى شَيْءٍ يَصِحُّ ، وَلَوْ خَالَعَتْهُ عَلَى نَفَقَةِ وَلَدِهِ عَشْرًا وَهِيَ مُعْسِرَةٌ فَطَالَبَتْهُ بِنَفَقَتِهِ يُجْبَرُ عَلَيْهَا وَمَا شُرِطَ حَقٌّ عَلَيْهَا ، وَعَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ لَا عَلَى مَا أَفْتَاهُ بَعْضُهُمْ مِنْ سُقُوطِ النَّفَقَةِ ، وَلَوْ خَالَعَهَا بِمَالِهَا عَلَيْهِ مِنْ الْمَهْرِ ثُمَّ تَذَكَّرَ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْمَهْرِ وَقَعَ وَوَجَبَ عَلَيْهَا رَدُّ الْمَهْرِ ، وَمِثْلُهُ لَوْ خَالَعَهَا عَلَى عَبْدِهَا الَّذِي لَهَا عِنْدَهُ أَوْ مَتَاعِهَا ثُمَّ ظَهَرَ أَنْ لَيْسَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ وَقَعَ عَلَى مَهْرِهَا ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ قَبَضَتْهُ سَقَطَ .
وَإِنْ قَبَضَتْهُ رَدَّتْهُ أَوْ مِثْلَهُ أَوْ قِيمَتَهُ وَلَوْ خَالَعَهَا بِمَهْرِهَا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنْ لَيْسَ لَهَا عَلَيْهِ مَهْرٌ وَقَعَ بَائِنًا مَجَّانًا ، وَلَوْ كَانَ طَلَّقَهَا بِمَهْرِهَا فَقَبِلَتْ وَالزَّوْجُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا مَهْرَ لَهَا وَقَعَ رَجْعِيًّا مَجَّانًا .

قَالَ ( وَمَنْ خَلَعَ ابْنَتَهُ وَهِيَ صَغِيرَةٌ بِمَالِهَا لَمْ يَجُزْ عَلَيْهَا ) لِأَنَّهُ لَا نَظَرَ لَهَا فِيهِ إذْ الْبُضْعُ فِي حَالَةِ الْخُرُوجِ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ ، وَالْبَدَلُ مُتَقَوِّمٌ بِخِلَافِ النِّكَاحِ لِأَنَّ الْبُضْعَ مُتَقَوِّمٌ عِنْدَ الدُّخُولِ وَلِهَذَا يُعْتَبَرُ خَلْعُ الْمَرِيضَةِ مِنْ الثُّلُثِ وَنِكَاحُ الْمَرِيضِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ ، وَإِذَا لَمْ يَجُزْ لَا يَسْقُطُ الْمَهْرُ وَلَا يَسْتَحِقُّ مَالَهَا ، ثُمَّ يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي رِوَايَةٍ وَفِي رِوَايَةٍ لَا يَقَعُ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّهُ تَعْلِيقٌ بِشَرْطِ قَبُولِهِ فَيَعْتَبِرُ بِالتَّعْلِيقِ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ ( وَإِنْ خَالَعَهَا عَلَى أَلْفٍ عَلَى أَنَّهُ ضَامِنٌ فَالْخُلْعُ وَاقِعٌ وَالْأَلْفُ عَلَى الْأَبِ ) لِأَنَّ اشْتِرَاطَ بَدَلِ الْخُلْعِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ صَحِيحٌ فَعَلَى الْأَبِ أَوْلَى .
وَلَا يَسْقُطُ مَهْرُهَا لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ وِلَايَةِ الْأَبِ ( وَإِنْ شَرَطَ الْأَلْفَ عَلَيْهَا تَوَقَّفَ عَلَى قَبُولِهَا إنْ كَانَتْ مِنْ أَهْلِ الْقَبُولِ ، فَإِنْ قَبِلَتْ وَقَعَ الطَّلَاقُ ) لِوُجُودِ الشَّرْطِ ( وَلَا يَجِبُ الْمَالُ ) لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الْغَرَامَةِ فَإِنْ قَبِلَهُ الْأَبُ عَنْهَا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ ( وَكَذَا إنْ خَالَعَهَا عَلَى مَهْرِهَا وَلَمْ يَضْمَنْ الْأَبُ الْمَهْرَ تَوَقَّفَ عَلَى قَبُولِهَا ، فَإِنْ قَبِلَتْ طَلُقَتْ وَلَا يَسْقُطُ الْمَهْرُ ) وَإِنْ قَبِلَ الْأَبُ عَنْهَا فَعَلَى الرِّوَايَتَيْنِ ( وَإِنْ ضَمِنَ الْأَبُ الْمَهْرَ وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ طَلُقَتْ ) لِوُجُودِ قَبُولِهِ وَهُوَ الشَّرْطُ وَيَلْزَمُهُ خَمْسُمِائَةٍ اسْتِحْسَانًا .
وَفِي الْقِيَاسِ يَلْزَمُهُ الْأَلْفُ ، وَأَصْلُهُ فِي الْكَبِيرَةِ إذَا اخْتَلَعَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ عَلَى أَلْفٍ وَمَهْرُهَا أَلْفٌ فَفِي الْقِيَاسِ عَلَيْهَا خَمْسُمِائَةٍ زَائِدَةٌ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا شَيْءَ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ عَادَةً حَاصِلُ مَا يَلْزَمُهَا .

( قَوْلُهُ لَمْ يَجُزْ عَلَيْهَا ) يَحْتَمِلُ عَدَمَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِسُؤَالِ الْأَبِ لِأَنَّهُ لَمْ يَضْمَنْ بَدَلَ الْخُلْعِ فَصَارَ كَأَنَّ الزَّوْجَ خَاطِبُ الْبِنْتِ بِالْخُلْعِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى قَبُولِهَا وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً ، وَيَحْتَمِلُ عَدَمَ لُزُومِ الْمَالِ بَعْدَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ ، فَلَمَّا صَرَّحَ بِأَنَّ الْأَصَحَّ وُقُوعُهُ تَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ الثَّانِي ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا نَظَرَ لَهَا فِيهِ ، إذْ الْبُضْعُ حَالَةَ الْخُرُوجِ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ وَالْبَدَلُ مُتَقَوِّمٌ ، فَإِعْطَاءُ الْمُتَقَوِّمِ مِنْ مَالِهَا بَعُوضٍ غَيْرِ مُتَقَوِّمٍ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى التَّبَرُّعِ بِمَالِهَا ( قَوْلُهُ بِخِلَافِ النِّكَاحِ لِأَنَّ الْبُضْعَ مُتَقَوِّمٌ عِنْدَ الدُّخُولِ ) فَلَوْ زَوَّجَ ابْنَهُ الصَّغِيرَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ جَازَ عَلَيْهِ وَلَزِمَ الْمَهْرُ فِي مَالِ الِابْنِ لِأَنَّهُ أَعْطَى الْمُتَقَوِّمَ مِنْ مَالِهِ بِمُتَقَوِّمٍ ( قَوْلُهُ وَلِهَذَا يَعْتَبِرُ خَلْعُ الْمَرِيضَةِ ) مُتَّصِلٌ بِكَوْنِ الْبِضْعِ غَيْرِ مُتَقَوِّمٍ حَالَةَ الْخُرُوجِ ، وَقَدَّمْنَا فِي أَوَّلِ الْبَابِ أَنَّ الْوَاجِبَ لِلزَّوْجِ إنْ مَاتَتْ فِي الْعِدَّةِ الْأَقَلُّ مِنْ مِيرَاثِهِ وَمِنْ بَدَلِ الْخُلْعِ إذَا كَانَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ فَلَهُ الْأَقَلُّ مِنْ الْإِرْثِ وَالثُّلُثِ إذَا مَاتَتْ فِي الْعِدَّةِ ، فَإِنْ مَاتَتْ بَعْدَهَا أَوْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا فَلَهُ بَدَلُ الْخُلْعِ إنْ خَرَجَ مِنْ الثُّلُثِ ( قَوْلُهُ وَنِكَاحُ الْمَرِيضِ إلَخْ ) مُتَّصِلٌ بِأَنَّهُ مُتَقَوِّمٌ حَالَ الدُّخُولِ ( قَوْلُهُ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ) نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمُنْتَقَى وَوَجْهُهُ مَا ذَكَرَ مِنْ أَنَّهُ تَعْلِيقٌ بِقَبُولِ الْأَبِ وَقَدْ وَجَدَ الشَّرْطَ وَمَا ذَكَرَ فِي وَجْهِ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى مِنْ أَنَّ الْأَبَ لَمَّا لَمْ يَضْمَنْ الْمَالَ صَارَ كَأَنَّهُ خَاطِبُ الصَّغِيرَةِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى قَبُولِهَا وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْهَا الْمَالُ .
وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ الْخُلْعَ فِي مَعْنَى الْيَمِينِ وَالْأَيْمَانُ لَا تُجْرَى فِيهَا النِّيَابَةُ فَالْمُلَازَمَةُ الْأُولَى مَمْنُوعَةٌ ، وَكَوْنُ

الْمَوْجُودِ مِنْ الْأَبِ يَمِينًا غَيْرَ صَحِيحٍ ، بَلْ مُجَرَّدُ الشَّرْطِ وَشَرْطُ الْيَمِينِ يَصِحُّ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ ، هَذَا إذَا قَبِلَ الْأَبُ ، فَإِنْ قَبِلَتْ وَهِيَ عَاقِلَةٌ تَعْقِلُ أَنَّ النِّكَاحَ جَالِبٌ وَالْخُلْعَ سَالِبٌ وَقَعَ الطَّلَاقُ بِالِاتِّفَاقِ وَلَا يَلْزَمُهَا الْمَالُ .
وَفِي جَوَامِعِ الْفِقْهِ : طَلَّقَهَا بِمَهْرِهَا وَهِيَ صَغِيرَةٌ عَاقِلَةٌ فَقَبِلَتْ وَقَعَتْ طَلْقَةٌ وَلَا يَبْرَأُ .
وَإِنْ قَبِلَ أَبُوهَا أَوْ أَجْنَبِيٌّ .
رَوَى هِشَامُ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَقَعُ ، وَرَوَى الْهِنْدُوَانِيُّ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يَقَعُ ، وَلَوْ بَلَغَتْ فَأَجَازَتْ جَازَ ( قَوْلُهُ عَلَى أَنَّهُ ) أَيْ الْأَبَ ضَامِنٌ ، وَالْمُرَادُ مِنْ الضَّمَانِ هُنَا الْتِزَامُ الْمَالِ لَا الْكَفَالَةِ عَنْ الصَّغِيرَةِ لِعَدَمِ وُجُوبِ الْمَالِ عَلَيْهَا ( فَالْخُلْعُ وَاقِعٌ ) سَوَاءٌ خَلَعَهَا الْأَبُ عَلَى مَهْرِهَا وَضَمِنَهُ أَوْ أَلَفَّ مَثَلًا ( فَيَجِبُ الْأَلْفُ عَلَيْهِ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ بَدَلِ الْخُلْعِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ صَحِيحٌ فَعَلَى الْأَبِ ) وَأَنَّهُ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهَا بِالْإِقْرَاضِ وَالْإِيدَاعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْإِبْضَاعِ ( أَوْلَى ) بِخِلَافِ بَدَلِ الْعِتْقِ لَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَكُنْ حَاصِلًا وَهُوَ إثْبَاتُ الْأَهْلِيَّةِ وَهُوَ الْقُوَّةُ عَنْ ذَلِكَ الْإِسْقَاطِ ، بِخِلَافِ إسْقَاطِ الْمِلْكِ فِي الْخُلْعِ لَا يَحْصُلُ عَنْهُ لِلْمَرْأَةِ مَا لَمْ يَكُنْ حَاصِلًا قَبْلَ فَصَارَ الْأَجْنَبِيُّ وَالْأَبُ مِثْلَهَا فِي أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهَا شَيْءٌ ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ حَصَلَ مَا ذَكَرْنَا لَهُ ، وَالْعِوَضُ لَا يَجِبُ عَلَى غَيْرِ مَنْ يَحْصُلُ لَهُ الْمُعَوَّضُ فَصَارَ كَثَمَنِ الْمَبِيعِ إلَّا أَنَّ الْبَيْعَ يَفْسُدُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ وَالْخُلْعَ لَا يُفْسِدُ بِهَا ( وَلَا يَسْقُطُ مَهْرُهَا لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي وِلَايَةِ الْأَبِ ) فَإِذَا بَلَغَتْ تَأْخُذُ نِصْفَ الصَّدَاقِ إنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَكُلُّهُ إنْ كَانَ بَعْدَهُ مِنْ الزَّوْجِ وَيَرْجِعُ هُوَ

عَلَى الْأَبِ الضَّامِنِ أَوْ تَرْجِعُ هِيَ عَلَى الْأَبِ وَلَا يَرْجِعُ هُوَ عَلَى الزَّوْجِ ، وَلَوْ كَانَ الْمَهْرُ عَيْنًا أَخَذَتْهُ مِنْ الزَّوْجِ كُلِّهِ إنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ وَنِصْفَهُ إنْ كَانَ قَبْلَهُ وَيَرْجِعُ الزَّوْجُ عَلَى الْأَبِ الضَّامِنِ قِيمَتَهُ .
( قَوْلُهُ وَإِنْ شَرَطَ ) أَيْ لَوْ شَرَطَ الزَّوْجُ الْأَلْفَ عَلَيْهَا ( تَوَقَّفَ عَلَى قَبُولِهَا إنْ كَانَتْ مِنْ أَهْلِ الْقَبُولِ ) بِأَنْ تَكُونَ مُمَيِّزَةً وَهِيَ أَهْلِيَّةُ الْمَرْأَةِ لِقَبُولِ بَدَلِ الْخُلْعِ إنْ شَرَطَ بِأَنْ تَعْرِفَ أَنَّ النِّكَاحَ جَالِبٌ وَالْخُلْعَ سَالِبٌ ، فَإِنْ قَبِلَتْ وَقَعَ الطَّلَاقُ لِوُجُوبِ الشَّرْطِ وَهُوَ قَبُولُهَا ، وَلَا يَجِبُ الْمَالُ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الْغَرَامَةِ إذْ الْبَيْنُونَةُ بِالْخُلْعِ تَعْتَمِدُ الْقَبُولَ دُونَ لُزُومَ الْمَالِ ؛ أَلَا يَرَى إلَى بَيْنُونَتِهَا بِدُونِهِ فِيمَا إذَا سَمَّتْ خَمْرًا وَنَحْوَهُ ، وَإِنْ قَبِلَهُ الْأَبُ بِدُونِهِ عَنْهَا فَفِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ رِوَايَتَانِ : فِي رِوَايَةٍ يَصِحُّ لِأَنَّهُ نَفْعٌ مَحْضٌ إذْ تَتَخَلَّصُ فِي عُهْدَتِهِ بِلَا مَالٍ وَلِذَا صَحَّ مِنْهَا فَصَارَ كَقَبُولِ الْهِبَةِ ، وَفِي أُخْرَى لَا يَصِحُّ لِأَنَّ قَبُولَهَا شَرْطُ الْيَمِينِ وَهُوَ لَا يَحْتَمِلُ النِّيَابَةَ وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ .
( قَوْلُهُ وَكَذَا إنْ خَالَعَهَا ) أَيْ خَالَعَ الصَّغِيرَةَ الزَّوْجُ عَلَى مَهْرِهَا وَلَمْ يَضْمَنْ الْأَبُ تَوَقَّفَ عَلَى قَبُولِهَا إنْ كَانَتْ عَلَى مَا قُلْنَا آنِفًا فَإِنْ قَبِلَتْ وَقَعَ الطَّلَاقُ بَائِنًا وَلَا يَسْقُطُ الْمَهْرُ ، وَإِنْ قَبِلَهُ الْأَبُ فَعَلَى الرِّوَايَتَيْنِ مَا لَمْ يَضْمَنْهُ ، فَإِنْ ضَمِنَهُ صَحَّ وَوَقَعَ الطَّلَاقُ لِوُجُودِ الشَّرْطِ .
وَعُرِفَ مِنْ هَذَا أَنَّ الصَّغِيرَةَ الْعَاقِلَةَ إذَا قَبِلَتْ الْخُلْعَ مِنْ زَوْجِهَا صَحَّ الْخُلْعُ وَوَقَعَ الطَّلَاقُ وَلَا يَسْقُطُ الْمَهْرُ وَلَا يَلْزَمُ الْمَالُ .
هَذَا ، ثُمَّ قِيلَ تَأْوِيلُ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يُخَالِعَهَا عَلَى مَالٍ مِثْلِ مَهْرِهَا ، أَمَّا عَلَى مَهْرِهَا فَلَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْأَبَ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ إبْطَالِ مِلْكِهَا بِمُقَابَلَةِ مَا لَيْسَ

بِمُتَقَوِّمٍ ، وَلَا يَعْتَبِرُ ضَمَانُهُ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْخُلْعَ عَلَى مَهْرِهَا كَالْخُلْعِ عَلَى مَالٍ آخَرَ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَتَنَاوَلُ مِثْلَهُ لَا عَيْنَهُ وَضَمَانُ الْأَبِ إيَّاهُ صَحِيحٌ ، ثُمَّ يَنْظُرُ إنْ كَانَ مَهْرُهَا أَلْفًا وَالْخُلْعُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِمَسْأَلَةِ الْكِتَابِ لَزِمَ خَمْسُمِائَةٍ ، وَفِي الْقِيَاسِ يَلْزَمُهُ الْأَلْفُ .
وَأَصْلُهُ أَنَّ الْكَبِيرَةَ إذَا اخْتَلَعَتْ عَلَى مَهْرِهَا وَهُوَ أَلْفٌ قَبْلَ الدُّخُولِ وَقَبْلَ قَبْضِهِ فِي الْقِيَاسِ يَجِبُ خَمْسُمِائَةٍ لِأَنَّهُ وَجَبَ لَهُ عَلَيْهَا أَلْفٌ بِالشَّرْطِ وَهِيَ وَجَبَ لَهَا خَمْسُمِائَةٍ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَيَلْتَقِيَانِ قِصَاصًا بِقَدْرِهِ فَبَقِيَ عَلَيْهَا خَمْسُمِائَةٍ لَهُ .
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ : لَا يَجِبُ عَلَيْهَا قَبْلَ الْقَبْضِ شَيْءٌ لِأَنَّ الْمَهْرَ يُرَادُ بِهِ عُرْفًا مَا تَسْتَحِقُّهُ الْمَرْأَةُ وَهُوَ نِصْفُ الْمَهْرِ فَيَسْقُطُ عَنْ الزَّوْجِ وَبَعْدَ قَبْضِهِ يَجِبُ لَهُ خَمْسُمِائَةٍ بِالشَّرْطِ وَتَبْرَأُ عَنْ الْبَاقِي بِحُكْمِ الْخُلْعِ ، وَهَذَا عَلَى خِلَافِ مَا ذَكَرَهُ قَاضِي خَانْ ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْأَقْسَامَ كُلَّهَا .
وَإِذَا عَرَفْت هَذَا عَلِمْت أَنَّ الصَّوَابَ أَنْ يَقُولَ : إذَا خَلَعَهَا عَلَى مَهْرِهَا وَهُوَ أَلْفٌ لَا كَمَا قَالَ عَلَى أَلْفٍ وَمَهْرُهَا أَلْفٌ فَإِنَّهُ إذَا خَالَعَهَا كَذَلِكَ يَكُونُ مِنْ الْخُلْعِ عَلَى مَالٍ آخَرَ غَيْرِ أَنَّهُ اتَّفَقَ أَنَّهُ مِثْلُ الْمَهْرِ وَلَا أَثَرَ لِذَلِكَ ، وَالْحُكْمُ فِيهِ إذَا كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ وَجَبَ الْمُسَمَّى لَهُ سُقُوطُ الْمَهْرِ عَنْهُ إنْ لَمْ يَكُنْ مَقْبُوضًا ، وَسَلَامَتُهُ لَهَا إنْ كَانَ مَقْبُوضًا لَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي التَّقْسِيمِ ، وَإِذْ قَدْ وَقَعَ الْكَلَامُ فِي خُلْعِ الْأَجْنَبِيِّ فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ نُبْذَةٍ مِنْهُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَجْنَبِيَّ إذَا خَاطَبَ الزَّوْجَ فَإِمَّا أَنْ يُضِيفَ الْبَدَلَ إلَى نَفْسِهِ عَلَى وَجْهٍ يُفِيدُ ضَمَانَهُ لَهُ أَوْ مِلْكَهُ إيَّاهُ أَوْ يُرْسِلُهُ أَوْ يُضِيفُهُ إلَى غَيْرِهِ ، فَإِنْ أَضَافَهُ إلَى نَفْسِهِ كَذَلِكَ

بِأَنْ قَالَ اخْلَعْهَا عَلَى عَبْدِي هَذَا أَوْ أَلْفِيِّ هَذِهِ أَوْ عَلَى أَلْفٍ عَلَيَّ أَوْ عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ فَفَعَلَ فَالْخُلْعُ وَاقِعٌ وَالْمُسَمَّى عَلَيْهِ ، فَإِنْ اسْتَحَقَّ لَزِمَ قِيمَتُهُ وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قَبُولِهَا لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مِنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْبَدَلُ لَا مَنْ يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ وَلَا إلَى قَبُولِهِ ، بَلْ يَكْفِي الْأَمْرُ مِنْهُ لِأَنَّ الْوَاحِدَ يَتَوَلَّى طَرَفَيْ الْخُلْعِ كَمَا فِي النِّكَاحِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ اخْتَلَعْتِ نَفْسَك مِنِّي فَقَالَتْ فَعَلْت قِيلَ لَا يَصِحُّ بِلَا قَبُولِ الزَّوْجِ ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ يَصِحُّ إنْ أَرَادَ بِهِ التَّحْقِيقَ دُونَ السَّوْمِ .
فَإِنْ قُلْت : مَا الْفَرْقُ بَيْنَ تَسْمِيَةِ الْأَجْنَبِيِّ وَسَيِّدِ الْأَمَةِ الْمَنْكُوحَةِ لِعَبْدٍ أَوْ حُرٍّ فَإِنَّهُ إذَا خَلَعَهَا مِنْ الزَّوْجِ عَلَى عَبْدِهِ فَاسْتَحَقَّ لَا يَضْمَنُ قِيمَتَهُ بَلْ تَجِبُ قِيمَةُ الْعَبْدِ عَلَى الْأَمَةِ حَتَّى تُبَاعَ فِيهِ لِظُهُورِ الدَّيْنِ فِي حَقِّ السَّيِّدِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ قَبُولَ الْخُلْعِ هُنَا وُجِدَ مِنْهَا حُكْمًا بِسَبَبِ وِلَايَةِ السَّيِّدِ عَلَيْهَا فَكَانَ قَبُولُهُ كَقَبُولِهَا فَكَانَ الدَّيْنُ عَلَيْهَا إلَّا أَنَّ السَّيِّدَ الْتَزَمَ خُصُوصَ الْأَوَّلِ ، فَإِذَا فَاتَ عَادَ إلَيْهَا وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي حَقِّ السَّيِّدِ فَتُبَاعُ فِيهِ إلَّا أَنْ يَفْدِيَهَا .
وَإِذَا بِيعَتْ إنْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ بُدِئَ بِهِ لِأَنَّ دَيْنَ الْخُلْعِ أَضْعَفُ ، أَمَّا لَوْ خَلَعَهَا عَلَى رَقَبَتِهَا وَهِيَ تَحْتَ عَبْدٍ صَحَّ ، فَلَوْ ضَمِنَ الْمَوْلَى الدَّرَكَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ فَالْمُطَالَبَةُ عَلَى الْمَوْلَى لِالْتِزَامِهِ دُونَهَا لَا قَبْلَ الْعِتْقِ وَلَا بَعْدَهُ ، وَلِأَنَّ الْقَبُولَ إنَّمَا يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْبَدَلِ لَا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ ، وَإِنْ أَرْسَلَهُ بِأَنْ قَالَ عَلَى أَلْفٍ أَوْ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ تَوَقَّفَ عَلَى قَبُولِ الْمَرْأَةِ لِأَنَّ الْبَدَلَ لَمْ يُضِفْ إلَى أَحَدٍ ، فَإِنْ قَبِلَتْ لَزِمَهَا تَسْلِيمُهُ أَوْ قِيمَتُهُ إنْ عَجَزَتْ ، وَإِنْ أَضَافَهُ إلَى غَيْرِهِ بِأَنْ قَالَ عَلَى عَبْدِ فُلَانٍ اُعْتُبِرَ

قَبُولُ فُلَانٍ لِأَنَّ الْبَدَلَ أُضِيفَ إلَيْهِ ، وَكَذَا لَوْ قَالَ الزَّوْجُ لِرَبِّ الْعَبْدِ خَلَعْت امْرَأَتِي عَلَى عَبْدِك لِأَنَّ الْعَبْدَ أُضِيفَ إلَيْهِ ، وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ قَالَ لَهَا خَالَعْتكِ عَلَى عَبْدِ فُلَانٍ أَوْ قَالَتْ هِيَ اخْلَعْنِي عَلَى دَارِ فُلَانٍ تَوَقَّفَ عَلَى قَبُولِهَا لِأَنَّ الْخَطَّابَ جَرَى مَعَهَا فَكَانَتْ هِيَ الدَّاخِلَةُ فِي الْعَقْدِ .
وَلَوْ قَالَتْ اخْلَعْنِي عَلَى أَلْفٍ عَلَى أَنَّ فُلَانًا ضَامِنٌ فَأَجَابَ فَالْخُلْعُ مَعَهَا لِأَنَّهَا الْعَاقِدَةُ وَتَوَقَّفَ ضَمَانُ فُلَانٍ عَلَى قَبُولِهِ .
وَلَوْ وَكَّلَتْ مَنْ يَخْلَعُهَا بِأَلْفٍ فَفَعَلَ فَالْمَالُ عَلَيْهَا دُونَ الْوَكِيلِ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ فِي الْخُلْعِ تَرْجِعُ إلَى مَنْ عُقِدَ لَهُ لَا إلَى الْوَكِيلِ ، وَلَوْ ضَمِنَهُ الْوَكِيلُ لَزِمَهُ ، وَإِنْ أَدَّى يَرْجِعُ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْخُلْعَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ ، فَفَائِدَةُ أَمْرِهَا بِهِ الرُّجُوعُ عَلَيْهَا ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالنِّكَاحِ إذَا ضَمِنَ فَأَدَّى لَا يَرْجِعُ عَلَى الزَّوْجِ إلَّا إذَا ضَمِنَ بِأَمْرِهِ ، فَإِنَّ فَائِدَةَ الْأَمْرِ جَوَازُ النِّكَاحِ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إنْكَاحَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ ، وَالصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَبْدِ كَالْخُلْعِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا .

[ فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِالْبَابِ ] الْمُخْتَلِعَةُ يَلْحَقُهَا صَرِيحُ الطَّلَاقِ عِنْدَنَا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِيمَا سَلَفَ وَبِهِ قَالَتْ الظَّاهِرِيَّةُ ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَشُرَيْحٍ وَطَاوُسٍ وَالزُّهْرِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَالْحَكَمِ وَحَمَّادٍ وَمَكْحُولٍ وَعَطَاءٍ وَالثَّوْرِيِّ .
وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ لَا يَلْحَقُهَا وَلَا يَتَنَاوَلُهَا الطَّلَاقُ فِي قَوْلِهِ نِسَائِي طَوَالِقُ عِنْدَهُمْ .
وَلَوْ قَالَ لَهَا الْكِنَايَاتُ الَّتِي يَقَعُ بِهَا الرَّجْعِيِّ مِثْلُ اعْتَدِّي اسْتَبْرِئِي رَحِمَك أَنْتِ وَاحِدَةٌ يَنْوِي الطَّلَاقَ يَقَعُ عَلَيْهَا طَلْقَةٌ بَائِنَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ .
لَهُمْ مَا رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { الْمُخْتَلِعَةُ لَا يَلْحَقُهَا صَرِيحُ الطَّلَاقِ وَإِنْ كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ } وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَلَنَا مَا رَوَاهُ أَبُو يُوسُفَ بِإِسْنَادِهِ فِي الْأَمَالِي عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { الْمُخْتَلِعَةُ يَلْحَقُهَا صَرِيحُ الطَّلَاقِ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ } وَحَدِيثُهُمْ لَا أَصْلَ لَهُ ، ذَكَرَهُ سِبْطُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي إيثَارِ الْإِنْصَافِ : امْرَأَةٌ قَالَتْ خَلَعْت نَفْسِي مِنْك بِأَلْفٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٌ فَقَالَ الزَّوْجُ رَضِيت أَوْ أَجَزْت كَانَ ثَلَاثًا بِثَلَاثَةِ آلَافٍ .
وَلَوْ خَلَعَ أَمَتَهُ عَلَى رَقَبَتِهَا وَزَوْجُهَا عَبْدٌ أَوْ مُدَبَّرٌ أَوْ مُكَاتَبٌ صَحَّ لِأَنَّهَا تَصِيرُ مِلْكًا لِلْمَوْلَى ، وَلَوْ كَانَ حُرًّا لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ مِلْكُهَا أَيْ مِلْكُهَا الزَّوْجِ بِهِ فَيَبْطُلُ النِّكَاحُ ، وَمَتَى بَطَلَ النِّكَاحُ بَطَلَ الْخُلْعُ لَكِنَّهُ يَقَعُ طَلَاقٌ بَائِنٌ لِأَنَّهُ بَطَلَ الْبَدَلُ وَبَقِيَ لَفْظُ الْخُلْعِ وَهُوَ طَلَاقٌ بَائِنٌ تَحْتَ حُرٍّ أَمَتَانِ دَخَلَ بِهِمَا فَخَلَعَهُمَا سَيِّدُهُمَا عَلَى رَقَبَةِ الصُّغْرَى فَالْخُلْعُ وَاقِعٌ عَلَى الْكُبْرَى وَبَطَلَ الْخُلْعُ فِي الَّتِي خَلَعَ عَلَى رَقَبَتِهَا وَهِيَ

الصُّغْرَى لِأَنَّهُ أَمْكَنَ تَصْحِيحُ الْخُلْعِ عَلَى الْكُبْرَى لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَمْ يُقَارِنْ مِلْكَ الزَّوْجِ فِيهَا لَا فِي الصُّغْرَى ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ فِي حَقِّهَا يُقَارِنُ مِلْكَ الزَّوْجِ بَعْضَ رَقَبَتِهَا فَتُقْسِمُ الصُّغْرَى عَلَى مَهْرَيْهِمَا لِأَنَّهُ جَعَلَهَا بَدَلًا عَنْ طَلَاقِهِمَا ، فَمَا أَصَابَ مَهْرَ الْكُبْرَى فَهُوَ لِلزَّوْجِ ، وَمَا أَصَابَ الصُّغْرَى بَقِيَ لِلْمَوْلَى ، وَلَوْ خَلَعَ كُلًّا مِنْهُمَا عَلَى رَقَبَةِ الْأُخْرَى طَلُقَتَا مَجَّانًا لِأَنَّ مِلْكَ رَقَبَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا يُقَارِنُ طَلَاقَهَا فَصَحَّ الْخُلْعُ فِي حَقِّ الطَّلَاقِ وَلَا يُسْلِمُ لِلزَّوْجِ شَيْءٌ مِنْ الْبَدَلِ .
امْرَأَةٌ لَهَا ابْنَا عَمٍّ وَهُمَا وَارِثَاهَا تَزَوَّجَتْ أَحَدَهُمَا وَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ خَلَعَتْ بِمَهْرِهَا فِي مَرَضِ مَوْتِهَا وَلَا مَالَ لَهَا فِي غَيْرِهِ وَمَاتَتْ فِي الْعِدَّةِ فَالْمَهْرُ بَيْنَهُمَا وَلَا يَعْتَبِرُ مِنْ الثُّلُثِ فَلَا يَصِحُّ ذِكْرُ الْبَدَلِ فِي حَقِّ الْوَارِثِ فَبَقِيَ لَفْظُ الْخُلْعِ فَتَبَيَّنَ وَيَرِثَانِ بِالْقَرَابَةِ ، وَلَوْ كَانَ طَلَّقَهَا عَلَى مَهْرِهَا وَمَاتَتْ فِي الْعِدَّةِ فَهُوَ طَلَاقٌ رَجْعِيٌّ فَلَهُ النِّصْفُ بِمِيرَاثِ الزَّوْجِيَّةِ وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ .

[ قَاعِدَةٌ فِي الطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ ] الْأَصْلُ أَنَّهُ مَتَى ذَكَرَ طَلَاقَيْنِ وَذَكَرَ عَقِيبَهُمَا مَالًا يَكُونُ مُقَابَلًا بِهِمَا إذْ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِصَرْفِ الْبَدَلِ إلَيْهِ أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ إلَّا إذَا وَصَفَ الْأَوَّلَ بِمَا يُنَافِي وُجُوبَ الْمَالِ فَيَكُونُ الْمَالُ حِينَئِذٍ مُقَابَلًا بِالثَّانِي وَوَصْفُهُ بِالْمُنَافِي كَالتَّنْصِيصِ عَلَى أَنَّ الْمَالَ بِمُقَابَلَةِ الثَّانِي وَأَنَّ شَرْطَ وُجُوبِ الْمَالِ عَلَى الْمَرْأَةِ حُصُولُ الْبَيْنُونَةِ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَلْتَزِمُهُ لِتَمْلِكَ نَفْسَهَا ، فَلَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ السَّاعَةَ وَاحِدَةً وَغَدًا أُخْرَى بِأَلْفٍ ، أَوْ قَالَ عَلَى أَنَّك طَالِقٌ غَدًا بِأَلْفٍ ، أَوْ قَالَ الْيَوْمَ وَاحِدَةً وَغَدًا أُخْرَى رَجْعِيَّةً بِأَلْفٍ فَقَبِلَتْ تَقَعُ وَاحِدَةٌ بِخَمْسِمِائَةٍ فِي الْحَالِ وَغَدًا أُخْرَى بِغَيْرِ شَيْءٍ إلَّا أَنْ يَعُودَ مِلْكُهُ قَبْلَهُ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ تَطْلِيقَةٍ مُنْجِزَةٍ وَتَطْلِيقَةٍ مُضَافَةٍ إلَى الْغَدِ وَذَكَرَ عَقِيبَهُمَا مَالًا فَانْصَرَفَ إلَيْهِمَا ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ ذَكَرَ مَكَانَ الْبَدَلِ اسْتِثْنَاءً يَنْصَرِفُ إلَيْهِمَا فَيَقَعُ الْيَوْمَ وَاحِدَةً بِخَمْسِمِائَةٍ ، فَإِذَا جَاءَ غَدٌ تَقَعُ أُخْرَى لِوُجُودِ الْوَقْتِ الْمُضَافِ إلَيْهِ ، وَلَا يَجِبُ شَيْءٌ لِأَنَّ شَرْطَ وُجُوبِ الْمَالِ بِالطَّلَاقِ الثَّانِي حُصُولُ الْبَيْنُونَةِ وَلَمْ تَحْصُلْ لِحُصُولِهَا بِالْأُولَى ، حَتَّى لَوْ نَكَحَهَا قَبْلَ مَجِيءِ الْغَدِ ثُمَّ جَاءَ الْغَدُ تَقَعُ أُخْرَى بِخَمْسِمِائَةٍ لِوُجُودِ شَرْطِ وُجُوبِ الْمَالِ ، وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ السَّاعَةَ وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً أَوْ بَائِنَةً أَوْ بِغَيْرِ شَيْءٍ عَلَى أَنَّك طَالِقٌ غَدًا أُخْرَى بِأَلْفٍ يَقَعُ فِي الْحَالِ وَاحِدَةٌ مَجَّانًا وَغَدًا أُخْرَى بِأَلْفٍ لِتَعَذُّرِ الصَّرْفِ إلَيْهِمَا لِأَنَّهُ وَصَفَ الْأُولَى بِمَا يُنَافِي وُجُوبَ الْمَالِ إلَّا أَنَّ فِي قَوْلِهِ بَائِنَةً يُشْتَرَطُ التَّزَوُّجُ لِوُجُوبِ الْمَالِ بِالثَّانِي .
وَلَوْ قَالَ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ بِأَلْفٍ فَقَبِلَتْ يَقَعُ فِي الطُّهْرِ الْأَوَّلِ وَاحِدَةٌ بِثُلُثِ الْأَلْفِ

وَفِي الطُّهْرِ الثَّانِي أُخْرَى مَجَّانًا لِأَنَّهَا بَانَتْ بِالْأُولَى ، وَلَا يَجِبُ بِالثَّانِيَةِ الْمَالُ إلَّا إذَا نَكَحَهَا قَبْلَ الطُّهْرِ الثَّانِي فَحِينَئِذٍ تَقَعُ أُخْرَى بِثُلُثِ الْأَلْفِ وَفِي الطُّهْرِ الثَّالِثِ كَذَلِكَ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .

[ فُرُوعٌ ] لَوْ خَالَعَهَا وَلَمْ يَذْكُرْ الْعِوَضَ ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ يَبْرَأُ كُلٌّ عَنْ صَاحِبِهِ .
وَقَالَ خُوَاهَرْ زَادَهُ : هَذِهِ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الصَّحِيحُ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الزَّوْجِ مَهْرٌ فَعَلَيْهَا رَدُّ مَا سَاقَ إلَيْهَا مِنْ الْمَهْرِ لِأَنَّ الْمَالَ مَذْكُورٌ عُرْفًا بِذَكَرِ الْخُلْعِ .
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلُهُمَا لَا يَبْرَأُ أَحَدُهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ وَلَا يَبْرَأُ عَنْ نَفَقَةِ الْعِدَّةِ وَمَئُونَةِ السُّكْنَى فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا إلَّا إذَا شَرَطَا فِي الْخُلْعِ ، نَقَلَهُ فِي الْخُلَاصَةِ وَكَذَا ذَكَرَهُ السُّغْدِيُّ : أَعْنِي رَدَّهَا الْمَهْرِ .
وَذَكَرَ فِي الْوَجِيزِ فِيمَا إذَا قَالَ اخْتَلِعِي وَلَمْ يَذْكُرْ الْبَدَلَ فَقَالَتْ اُخْتُلِعَتْ عَنْ خُوَاهَرْ زَادَهُ أَنَّهُ يَقَعُ طَلَاقٌ بَائِنٌ وَلَا يَكُونُ خُلْعًا كَأَنَّهُ .
قَالَ طَلِّقِي نَفْسَك بَائِنًا فَقَالَتْ طَلَّقْت ، ثُمَّ اسْتَشْكَلَهُ عَلَى مَا حَكَى عَنْهُ مِنْ رَدِّهَا مَا سَاقَهُ إلَيْهَا مِنْ الصَّدَاقِ إذَا كَانَ مَقْبُوضًا إذْ لَمْ يَجْعَلْ كَأَنَّهُ قَالَ طَلَّقْتُك بَائِنًا فَهَذَا مَذْكُورٌ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ .
ذَكَرَ فِي التَّجْنِيسِ : إذَا قَالَ اخْتَلِعِي فَقَالَتْ اُخْتُلِعَتْ تَطْلُقُ ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا إذَا قَالَ اشْتَرِي نَفْسَك مِنِّي فَقَالَتْ اشْتَرَيْت لَا تَطْلُقُ بِأَنَّ قَوْلَهُ اخْتَلِعِي أَمْرٌ بِالطَّلَاقِ بِلَفْظِ الْخُلْعِ وَالْمَرْأَةُ تَمْلِكُ الطَّلَاقَ بِأَمْرِ الزَّوْجِ ، بِخِلَافِ اشْتَرِي نَفْسَك لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِالْخُلْعِ الَّذِي هُوَ مُعَاوَضَةٌ إذَا لَمْ يَكُنْ الْبَدَلُ مُقَدَّرًا ، فَإِنْ قَدَّرَهُ بِأَنْ قَالَ بِمَهْرِك وَنَفَقَةِ عِدَّتِك وَقَالَتْ اشْتَرَيْت صَحَّ عَلَى رِوَايَةٍ وَهُوَ الْمُخْتَارُ ، يُرِيدُ بِالرِّوَايَةِ الْأُخْرَى مَا ذَكَرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّهُ إذَا قَالَ اشْتَرِي نَفْسَك مِنِّي بِكَذَا فَقَالَتْ اشْتَرَيْت لَا يَقَعُ مَا لَمْ يَقُلْ الزَّوْجُ بِعْت ، وَكَذَا الرِّوَايَتَانِ فِيمَا إذَا قَالَ اخْتَلِعِي مِنِّي بِكَذَا وَذَكَرَ مَالًا مُقَدَّرًا فَقَالَتْ اخْتَلَعْتُ .
فِي رِوَايَةِ

كِتَابِ الطَّلَاقِ : لَا يَصِحُّ مَا لَمْ يَقُلْ الزَّوْجُ خَلَعْت ، وَفِي رِوَايَةِ كِتَابِ الْوَكَالَةِ : يَصِحُّ وَيَبْرَأُ الزَّوْجُ عَنْ الْمَهْرِ وَهُوَ الْأَصَحُّ ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ الْإِشْكَالِ فَبِحَمْلِ سُقُوطِ الْمَهْرِ وَجَعْلِهِ بَدَلًا فِيمَا إذَا لَمْ يُنَوِّبْهُ كَوْنَهُ خُلْعًا بِغَيْرِ مَالٍ وَحِمْلِ كَوْنِهِ طَلَاقًا بَائِنًا بِلَا مَالٍ عَلَى مَا إذَا نَوَى بِهِ كَوْنَهُ بِلَا مَالٍ ، وَهَذَا لِأَنَّ مُطْلَقَ الْخُلْعِ يَنْصَرِفُ إلَى الْفُرْقَةِ بَعُوضٍ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ إلَّا بِمُوجِبٍ ، فَإِذَا لَمْ يُسَمِّيَا مَالًا انْصَرَفَ إلَى الْمَهْرِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ خِلَافَهُ ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا مَا فِي الْمُنْتَقَى .
قَالَ أَبُو يُوسُفَ : إذَا قَالَ لَهَا اخْتَلِعِي نَفْسَك فَقَالَتْ قَدْ خَلَعْتُ نَفْسِي لَا يَكُونُ خُلْعًا إلَّا عَلَى مَالٍ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِغَيْرِ مَالٍ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ خَلَعْتُك وَخَالَعْتُك ، فَإِذَا قَالَ خَالَعْتكِ يَنْوِي بِهِ الطَّلَاقَ وَقَعَ وَلَا يَبْرَأُ الزَّوْجُ عَنْ الْمَهْرِ وَعَلَى هَذَا فَلَا يَلْزَمُ هَذَا الْحُكْمُ إلَّا إذَا تَصَادَقَا عَلَى عَدَمِ النِّيَّةِ ، وَمِمَّا يُوجِبُ حَمْلَهُ عَلَى مُجَرَّدِ الطَّلَاقِ التَّصْرِيحُ بِنَفْيِ الْمَالِ كَمَا إذَا قَالَ اخْتَلِعِي مِنِّي بِغَيْرِ شَيْءٍ فَالْخُلْعُ وَاقِعٌ بِلَا مَالٍ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِنَفْيِ الْمَالِ ، نَقَلَهُ عَنْ مُحَمَّدٍ الْفَضْلِيِّ وَالطَّلَاقُ بَائِنٌ ، وَعَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ حَقِيقَتَهُ مَا فِيهِ الْمَالُ لَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيٍّ اخْلَعْ امْرَأَتِي لَمْ يَمْلِكْ خَلْعَهَا بِلَا عِوَضٍ وَلَمْ يَجْعَلْ كَقَوْلِهِ طَلِّقْهَا بَائِنًا .
وَلَوْ قَالَ اخْتَلِعِي عَلَى مَالٍ أَوْ بِمَا شِئْت وَلَمْ يُقَدِّرْهُ فَقَالَتْ اخْتَلَعْتُ عَلَى أَلْفٍ لَا يَصِحُّ مَا لَمْ يَقُلْ الزَّوْجُ خَلَعْتُك أَوْ نَحْوَ أَجَزْت ، فَرَّقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا قَالَ الزَّوْجُ اخْلَعِي نَفْسَك مِنِّي بِأَلْفٍ وَالْبَاقِي بِحَالِهِ حَيْثُ يَتِمُّ .
وَالْفَرْقُ أَنَّ التَّعْوِيضَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّ الْبَدَلَ مَجْهُولٌ ، فَلَوْ صَحَّ صَارَ الْوَاحِدُ مُسْتَزِيدًا مُسْتَنْقِصًا وَهَذَا مَفْقُودٌ

فِي الثَّانِيَةِ ، فَلَوْ لَمْ يَصِحَّ إنَّمَا لَا يَصِحُّ لِمُضَادَّةِ الْحُقُوقِ ، وَحُقُوقُ الْخُلْعِ لَا تَرْجِعُ إلَى الْوَكِيلِ .
إذَا لَقَّنَهَا اخْتَلَعْتُ مِنْك بِالْمَهْرِ وَنَفَقَةِ الْعِدَّةِ بِالْعَرَبِيَّةِ وَهِيَ لَا تَعْلَمُ مَعْنَاهُ ، أَوْ لَقَّنَهَا أَبْرَأْتُك مِنْ نَفَقَةِ الْعِدَّةِ قِيلَ يَصِحُّ .
وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ التَّفْوِيضَ كَالتَّوْكِيلِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِعِلْمِ الْوَكِيلِ ، وَالْإِبْرَاءُ عَنْ نَفَقَةِ الْعِدَّةِ وَالْمَهْرِ وَإِنْ كَانَ إسْقَاطًا لَكِنَّهُ إسْقَاطٌ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَصَارَ شِبْهُ الْبَيْعِ ، وَالْبَيْعُ وَكُلُّ الْمُعَاوَضَاتِ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الْعِلْمِ .
وَهَذِهِ صُورَةٌ كَثِيرًا مَا تَقَعُ قَالَ أَبْرِئِينِي مِنْ كُلِّ حَقٍّ يَكُونُ لِلنِّسَاءِ عَلَى الرِّجَالِ فَقَالَتْ أَبْرَأْتُك مِنْ كُلِّ حَقٍّ يَكُونُ لِلنِّسَاءِ عَلَى الرِّجَالِ فَقَالَ فِي فَوْرِهِ طَلَّقْتُك وَهِيَ مَدْخُولٌ بِهَا يَقَعُ بَائِنًا لِأَنَّهُ بِعِوَضٍ ، وَإِذَا اخْتَلَعَتْ بِكُلِّ حَقٍّ لَهَا عَلَيْهِ فَلَهَا النَّفَقَةُ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ لَهَا حَقًّا حَالَ الْخُلْعِ ، فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ تَسْمِيَةَ كُلِّ حَقٍّ لَهَا عَلَيْهِ وَكُلُّ حَقٍّ يَكُونُ لِلنِّسَاءِ صَحِيحَةٌ وَيَنْصَرِفُ إلَى الْقَائِمِ لَهَا إذْ ذَاكَ ، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ لَا يُصَحِّحُ هَذَا لِلْجَهَالَةِ ، وَهَذَا عِنْدَنَا عُمُومٌ لَا إجْمَالٌ .
وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ ثُمَّ طَلَّقَهَا بَائِنًا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا ثَانِيًا عَلَى أَلْفٍ أُخْرَى ثُمَّ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ عَلَى مَهْرِهَا لَمْ يَبْرَأْ الزَّوْجُ إلَّا مِنْ الثَّانِي دُونَ الْمَهْرِ الْأَوَّلِ .
وَلَوْ جَاءَ رَجُلٌ إلَى آخَرَ فَذَكَرَ أَنَّهُ وَكِيلٌ لِامْرَأَتِهِ فِي خَلْعِهَا فَخَلَعَهَا عَلَى أَلْفٍ فَأَنْكَرَتْ التَّوْكِيلَ ، فَإِنْ كَانَ ضَمِنَ الْمَالَ لِلزَّوْجِ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَعَلَيْهِ الْبَدَلُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ضَمِنَ ، فَإِنْ صَدَّقَهُ الزَّوْجُ عَلَى أَنَّهَا وَكَّلَتْهُ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَلَمْ يَجِبْ لَهُ مَالٌ ، وَإِنْ لَمْ يَدْعُ ذَلِكَ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّ الْخُلْعَ مَوْقُوفٌ عَلَى قَبُولِهَا

، فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ بَاعَ مِنْهُ تَطْلِيقَةً بِأَلْفٍ قَالَ الصَّفَّارُ يَقَعُ الطَّلَاقُ ضَمِنَ لَهُ الْمَهْرَ أَوْ لَا لِأَنَّ لَفْظَةَ الشِّرَاءِ لَفَظَّةُ الضَّمَانِ ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْكَافِ : هَذَا وَالْخُلْعُ سَوَاءٌ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى .
وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ الرِّسَالَةَ عَنْ امْرَأَةِ الرَّجُلِ إلَيْهِ فِي أَنْ يُطَلِّقَهَا أَوْ يُمْسِكَهَا فَقَالَ الزَّوْجُ لَا أُمْسِكُهَا بَلْ أُطَلِّقُهَا فَقَالَ الرَّسُولُ أَبْرَأْتُك مِنْ جَمِيعِ مَا لَهَا عَلَيْك فَطَلَّقَهَا فَأَنْكَرَتْ الْمَرْأَةُ الْإِبْرَاءَ وَالرَّسُولُ يَدَّعِيهِ .
فَإِنْ ادَّعَى الزَّوْجُ رِسَالَتَهَا أَوْ وَكَالَتَهَا إيَّاهُ لِذَلِكَ وَقَعَ وَهِيَ عَلَى حَقِّهَا ، وَإِنْ لَمْ يَدَّعِ فَإِنْ كَانَ الرَّسُولُ قَالَ أَبْرَأْتُك مِنْ حَقِّهَا عَلَيْك عَلَى أَنْ تُطَلِّقَهَا فَالطَّلَاقُ غَيْرُ وَاقِعٍ لِأَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ بِالْمَهْرِ مَوْقُوفٌ عَلَى إجَازَتِهَا ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ عَلَى أَنْ تُطَلِّقَهَا فَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ وَهِيَ عَلَى حَقِّهَا ، وَهَذِهِ فِي أَمْرِ الْحَكَمَيْنِ لَمَّا كَانَ سَبَبَ الْخُلْعِ الْمُشَاقَّةُ وَجَبَ ذِكْرُ أَمْرِ الْحَكَمَيْنِ فِيهِ وَهُوَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إنْ يُرِيدَا إصْلَاحًا يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا } ضَمِيرُ يُرِيدَا لِلْحَكَمَيْنِ وَضَمِيرُ بَيْنِهِمَا لِلزَّوْجَيْنِ ، وَقِيلَ لِلْحَكَمَيْنِ أَيْضًا ، وَقِيلَ الضَّمِيرَانِ لِلزَّوْجَيْنِ ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْحَكَمَانِ مِنْ أَهْلِيهِمَا كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَإِنَّمَا كَانَ أَوْلَى لِأَنَّهُمَا أَخْبَرُ بِبَاطِنِ أَمْرِهِمَا وَأَشْفَقُ عَلَيْهِمَا ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ .
وَقَالَ مَالِكٌ : يُشْتَرَطُ كَوْنُهُمَا مِنْ أَهْلِيهِمَا إلَّا أَنْ لَا يُوجَدَ مِنْ أَهْلِيهِمَا مَنْ يَصْلُحُ لِذَلِكَ .
وَقُلْنَا : الْمَعْنَى الْمَفْهُومُ الَّذِي قُلْنَاهُ صَارِفٌ عَنْ تَعْيِينِ كَوْنِ الْمُرَادِ ذَلِكَ ، ثُمَّ قَوْلُ الْحَكَمَيْنِ نَافِذٌ فِي الْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ بِتَوْكِيلِهِمَا

عِنْدَنَا ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأَصَحِّ وَأَحْمَدُ ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَقَتَادَةَ وَالْحَسَنِ وَأَبِي ثَوْرٍ .
وَقَالَ مَالِكٌ : قَوْلُهُمَا فِي ذَلِكَ نَافِذٌ مِنْ غَيْرِ تَوْكِيلٍ ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَإِسْحَاقَ ، وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ .
قُلْنَا : لَيْسَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُطَلِّقَ وَلَا يُبْرِئَ مِنْ مَالِهِمَا فَكَيْفَ يَفْعَلُ ذَلِكَ نَائِبُهُ .
وَفِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ لِلرَّازِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ : يَعِظُهَا الزَّوْجُ ، فَإِنْ انْتَهَتْ وَإِلَّا هَجَرَهَا ، فَإِنْ انْتَهَتْ وَإِلَّا ضَرَبَهَا .
فَإِنْ انْتَهَتْ وَإِلَّا رَفَعَ أَمْرَهَا إلَى السُّلْطَانِ فَيَبْعَثُ حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا ، وَأَيُّهُمَا كَانَ أَظْلَمُ رَدَّهُ إلَى السُّلْطَانِ فَأَخَذَ فَوْقَ يَدِهِ كَالْعِنِّينِ وَالْمَجْبُوبِ فَالْحَاكِمُ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى النَّظَرَ فِي ذَلِكَ وَالْفَصْلَ بَيْنَهُمَا .
وَلَوْ ادَّعَى النُّشُوزَ وَادَّعَتْ هِيَ ظُلْمَهُ وَتَقْصِيرَهُ فِي حَقِّهَا يَفْعَلُ الْحَاكِمُ مَا يَتَّفِقَانِ عَلَيْهِ مِنْ الْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ ، وَلَيْسَ لَهُمَا أَنْ يَجْمَعَا وَلَا أَنْ يُفَرِّقَا بِغَيْرِ أَمْرِهِمَا ، وَمَا زَعَمَ إسْمَاعِيلُ الْمَالِكِيُّ مِنْ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَصْحَابَهُ لَمْ يَعْرِفُوا أَمْرَ الْحَكَمَيْنِ إخْبَارٌ بِالنَّفْيِ لِعَدَمِ الْعِلْمِ ، وَالْأَوْلَى بِالْإِنْسَانِ حِفْظُ اللِّسَانِ ، وَمَا قَالَ إنَّ الْوَكِيلَ لَا يُسَمَّى حَكَمًا مَمْنُوعٌ بَلْ الْوَكَالَةُ تُؤَكِّدُ مَعْنَى الْحُكْمِيَّةِ لِقَبُولِ قَوْلِهِمَا عَلَيْهِمَا وَالْحَكَمَانِ يَمْضِيَانِ أَمْرَ الزَّوْجَيْنِ ، فَإِذَا قَصَدَا الْحَقَّ وَفَّقَهُمَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلصَّوَابِ إذْ هُمَا مُوَكَّلَانِ لِلْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ فَعَلَيْهِمَا الِاجْتِهَادُ وَطَلَبُ الْخَيْرِ لَهُمَا ، وَكُلُّ مَا وَرَدَّ عَنْ السَّلَفِ أَنَّ فِعْلَ الْحَكَمَيْنِ جَائِزٌ عَلَيْهِمَا فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى رِضَاهُمَا إذْ لَمْ يَنُصُّوا عَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ بِغَيْرِ رِضَا الزَّوْجَيْنِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لَهُمَا أَنْ يُطَلِّقَا امْرَأَةَ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَلَا أَنْ يَدْفَعَا مَالًا

بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ ، بِخِلَافِ قَضَاءِ دَيْنِهِ إذَا امْتَنَعَ مِنْهُ لِأَنَّ ذَلِكَ إيصَالُ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحَقِّهِ وَلَا لِلزَّوْجِ فِي مَالِهَا ، قَالَ تَعَالَى { لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبٍ مِنْ نَفْسِهِ } وَالْحَكَمَانِ إنَّمَا بُعِثَا لِلصُّلْحِ ، وَلِيَعْلَمَا ظُلْمَ الظَّالِمِ مِنْهُمَا فَيُنْكِرَا عَلَيْهِ ظُلْمَهُ ، فَإِذَا لَمْ يَقْبَلْ أَعْلَمَا الْحَاكِمَ لِيَدْفَعَ ظُلْمَهُ ، فَالْحَكَمَانِ شَاهِدَانِ فِي حَالٍ وَمُصْلِحَانِ فِي حَالِ إذَا فُوِّضَ الْأَمْرُ إلَيْهِمَا .
وَقَوْلُ مَنْ قَالَ إنَّهُمَا يُفَرِّقَانِ وَيَخْلَعَانِ مِنْ غَيْرِ تَوْكِيلٍ غَيْرُ مَقْبُولٍ عِنْدَنَا ، وَلَيْسَ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شَاهِدًا فِي ذَلِكَ .

بَابُ الظِّهَارِ

( بَابُ الظِّهَارِ ) مُنَاسَبَتُهُ بِالْخُلْعِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَكُونُ عَنْ النُّشُوزِ ظَاهِرًا ، وَقَدَّمَ الْخُلْعَ لِأَنَّهُ أَكْمَلُ فِي بَابِ التَّحْرِيمِ إذْ هُوَ تَحْرِيمٌ بِقَطْعِ النِّكَاحِ وَهَذَا مَعَ بَقَائِهِ .
وَالظِّهَارُ لُغَةً مَصْدَرُ ظَاهَرَ وَهُوَ مُفَاعَلَةٌ مِنْ الظَّهْرِ فَيَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٌ تَرْجِعُ إلَى الظَّهْرِ مَعْنًى وَلَفْظًا بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْأَغْرَاضِ ، فَيُقَالُ ظَاهَرْت : أَيْ قَابَلْت ظَهْرَك بِظَهْرِهِ حَقِيقَةً ، وَإِذَا غَايَظْتَهُ أَيْضًا وَإِنْ لَمْ تُدَابِرْهُ حَقِيقَةً بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُغَايَظَةَ تَقْتَضِي هَذِهِ الْمُقَابَلَةَ ، وَظَاهَرْته إذَا نَصَرْته بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يُقَالُ قَوَّى ظَهْرَهُ إذَا نَصَرَهُ ، وَظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ وَأَظْهَرَ وَتَظَاهَرَ وَاظَّاهَرَ وَظَهَّرَ وَتَظَهَّرَ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي ، وَظَاهَرَ بَيْنَ ثَوْبَيْنِ إذَا لَبِسَ أَحَدَهُمَا فَوْقَ الْآخَرِ عَلَى اعْتِبَارِ جَعْلِ مَا يَلِي بِهِ كُلٌّ مِنْهُمَا الْآخَرَ ظَهْرًا لِلثَّوْبِ ، وَغَايَةُ مَا يَلْزَمُ كَوْنُ لَفْظِ الظَّهْرِ فِي بَعْضِ هَذِهِ التَّرَاكِيبِ مَجَازًا ، وَكَوْنُهُ مَجَازًا لَا يَمْنَعُ الِاشْتِقَاقَ مِنْهُ وَيَكُونُ الْمُشْتَقُّ مَجَازًا أَيْضًا ، وَإِنَّمَا عُدِّيَ بِمَنْ مَعَ أَنَّهُ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى التَّبْعِيدِ لِأَنَّهُ كَانَ طَلَاقًا وَهُوَ مُبْعَدٌ ثُمَّ قِيلَ : الظَّهْرُ هُنَا مَجَازٌ عَنْ الْبَطْنِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَرْكَبُ الْبَطْنَ فَكَظَهْرِ أُمِّي : أَيْ كَبَطْنِهَا بِعَلَاقَةِ الْمُجَاوَرَةِ وَلِأَنَّهُ عَمُودُهُ ، لَكِنْ لَا يَظْهَرُ مَا هُوَ الصَّارِفُ عَنْ الْحَقِيقَةِ مِنْ النِّكَاتِ .
وَقِيلَ خَصَّ الظَّهْرَ لِأَنَّ إتْيَانَ الْمَرْأَةِ مِنْ ظَهْرِهَا كَانَ حَرَامًا ، فَإِتْيَانُ أُمِّهِ مِنْ ظَهْرِهَا أَحَرَمُ فَكَثُرَ التَّغْلِيظُ .
وَفِي الشَّرْعِ : هُوَ تَشْبِيهُ الزَّوْجَةِ أَوْ جُزْءٍ مِنْهَا شَائِعٍ أَوْ مُعَبَّرٍ بِهِ عَنْ الْكُلِّ بِمَا لَا يَحِلُّ النَّظَرُ إلَيْهِ مِنْ الْمُحَرَّمَةِ عَلَى التَّأْبِيدِ وَلَوْ بِرَضَاعٍ أَوْ صِهْرِيَّةٍ ، وَزَادَ فِي النِّهَايَةِ قَيَّدَ

الِاتِّفَاقَ احْتِرَازًا عَمَّا لَوْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ فُلَانَةَ ، وَفُلَانَةُ أُمُّ مَنْ زَنَى بِهَا أَوْ بِنْتُهَا لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا ، وَسَنَذْكُرُ مَا هُوَ التَّحْقِيقُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ ذَلِكَ الْعُضْوِ الظَّهْرَ أَوْ غَيْرَهُ مِمَّا لَا يَحِلُّ النَّظَرُ إلَيْهِ ، وَإِنَّمَا خُصَّ بِاسْمِ الظِّهَارِ تَغْلِيبًا لِلظَّهْرِ لِأَنَّهُ كَانَ الْأَصْلَ فِي اسْتِعْمَالِهِمْ وَشَرْطُهُ فِي الْمَرْأَةِ كَوْنُهَا زَوْجَةً ، وَفِي الرَّجُلِ كَوْنُهُ مِنْ أَهْلِ الْكَفَّارَةِ فَلَا يَصِحُّ ظِهَارُ الذِّمِّيِّ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ ، وَرُكْنُهُ لِلَّفْظِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى ذَلِكَ التَّشْبِيهِ ، وَحُكْمُهُ حُرْمَةُ الْوَطْءِ وَدَوَاعِيه إلَى وُجُودِ الْكَفَّارَةِ .
وَاخْتُلِفَ فِي سَبَبِ وُجُوبِهَا فَقَالَ فِي الْمَنَافِعِ : تَجِبُ بِالظِّهَارِ وَالْعَوْدِ لِأَنَّ الظِّهَارَ كَبِيرَةٌ فَلَا يَصِحُّ سَبَبًا لِلْكَفَّارَةِ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ أَوْ الْمُغَلَّبُ فِيهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ ، وَلَا يَكُونُ الْمَحْظُورُ سَبَبًا لِلْعِبَادَةِ فَعَلَّقَ وُجُوبَهَا بِهِمَا لِيَخِفَّ مَعْنَى الْحُرْمَةِ بِاعْتِبَارِ الْعَوْدِ الَّذِي هُوَ إمْسَاكٌ فَيَكُونُ دَائِرًا بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ فَيَصِحُّ سَبَبًا لِلْكَفَّارَةِ الدَّائِرَةِ بَيْنَ الْعِبَادَةِ وَالْعُقُوبَةِ .
وَقِيلَ سَبَبُ وُجُوبِهَا الْعَوْدُ ، وَالظِّهَارُ شَرْطٌ ، وَلَفْظُ الْآيَةِ يَحْتَمِلُهُمَا وَهِيَ قَوْله تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } إلَى آخِرِهِ ، فَيُمْكِنُ حَمْلُ تَرْتِيبِهَا عَلَيْهِمَا أَوْ عَلَى الْأَخِيرِ ، لَكِنْ إذَا أَمْكَنَ الْبَسَاطَةُ صِيرَ إلَيْهَا لِأَنَّهَا الْأَصْلُ بِالنِّسْبَةِ إلَى التَّرْكِيبِ ، فَلِذَا قَالَ فِي الْمُحِيطِ سَبَبُ وُجُوبِهَا الْعَزْمُ عَلَى الْوَطْءِ ، وَالظِّهَارُ شَرْطٌ وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ لَفْظِ الْعَوْدِ فِي الْآيَةِ الْعَزْمُ عَلَى الْوَطْءِ .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْحُكْمَ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ سَبَبِهِ لَا شَرْطِهِ ، وَالْكَفَّارَةُ تَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الظِّهَارِ لَا الْعَزْمِ وَكَثِيرٌ مِنْ

مَشَايِخِنَا عَلَى أَنَّهُ الْعَزْمُ عَلَى إبَاحَةِ الْوَطْءِ بِنَاءً عَلَى إرَادَةِ الْمُضَافِ فِي الْآيَةِ : أَيْ يَعُودُونَ لِضِدِّ مَا قَالُوا أَوْ لِتَدَارُكِهِ نَزَلَ الْقَوْلُ مَنْزِلَةَ الْمَقُولِ .
وَيَرِدُ عَلَيْهِ مَا يَرِدُ عَلَى مَا قَبْلَهُ ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ إرَادَةِ ظَاهِرِهَا وَهُوَ تَكْرَارُ نَفْسِ الظِّهَارِ كَمَا قَالَ دَاوُد لِلْحَدِيثَيْنِ اللَّذَيْنِ يَرْوُونَهُمَا فَإِنَّ ظَاهِرَهُمَا عَدَمُ تَعَلُّقِهِمَا بِتَكَرُّرِهِ وَيُرَدُّ أَنَّ بِمُجَرَّدِ الْعَزْمِ لَا تَتَقَرَّرُ الْكَفَّارَةُ عِنْدَنَا كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمَبْسُوطِ ، حَتَّى لَوْ أَبَانَهَا أَوْ مَاتَتْ بَعْدَ الْعَزْمِ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ قَالَ : فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ لَا بِالظِّهَارِ وَلَا بِالْعَوْدِ ، إذْ لَوْ وَجَبَتْ لَمَا سَقَطَتْ بَلْ مُوجِبُ الظِّهَارِ ثُبُوتُ التَّحْرِيمِ ، فَإِذَا أَرَادَ رَفْعَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ فِي رَفْعِهِ الْكَفَّارَةُ عِنْدَنَا كَمَا تَقُولُ لِمَنْ أَرَادَ الصَّلَاةَ النَّافِلَةَ يَجِبُ عَلَيْك إنْ صَلَّيْتهَا أَنْ تُقَدِّمَ الْوُضُوءَ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ سُكُوتُهُ بَعْدَ ظِهَارِهِ قَدْرَ مَا يُمْكِنُهُ طَلَاقُهَا .
وَرُدَّ بِأَنَّ شَرْعِيَّةَ الْكَفَّارَةِ لِرَفْعِ الْحُرْمَةِ وَالْجِنَايَةِ ، وَالظِّهَارُ لَمْ يُوجِبْ تَحْرِيمَ الْعَقْدِ لِيَكُونَ الْإِمْسَاكُ عَنْ طَلَاقِهَا جِنَايَةً ، وَأَيْضًا فَقَدْ يَكُونُ الْإِمْسَاكُ عَنْ طَلَاقِهَا لِيَسْعَى فِي أَمْرِ الْكَفَّارَةِ وَتَحْصِيلِهَا أَوْ لِلتَّرَوِّي فِي طَلَاقِهَا أَوْ التَّكْفِيرِ فَلَا يَكُونُ مُجَرَّدُهُ بَعْدَ الظِّهَارِ جِنَايَةً فَلَا يَنْتَهِضُ سَبَبًا لِلْكَفَّارَةِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْحُرْمَةَ لَا تُرْفَعُ إلَّا بِكَفَّارَةٍ لَا بِمِلْكٍ وَلَا بِزَوْجٍ ثَانٍ ، حَتَّى لَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الظِّهَارِ ثَلَاثًا فَعَادَتْ إلَيْهِ بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ أَوْ كَانَتْ أَمَةً وَمَلَكَهَا بَعْدَ مَا ظَاهَرَ مِنْهَا لَا يَحِلُّ قُرْبَانُهَا حَتَّى يُكَفِّرَ فِيهِمَا ، وَلِلْمَرْأَةِ أَنْ تُطَالِبَهُ بِالْوَطْءِ وَعَلَيْهَا أَنْ تَمْنَعَهُ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا حَتَّى يُكَفِّرَ ، وَعَلَى

الْقَاضِي أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَى التَّكْفِيرِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهَا بِحَبْسٍ ، فَإِنْ أَبَى ضَرَبَهُ وَلَا يَضْرِبُ فِي الدِّينِيِّ ، وَلَوْ قَالَ قَدْ كَفَّرْت صَدَقَ مَا لَمْ يُعْرَفْ بِالْكَذِبِ وَأَلْفَاظُهُ صَرِيحٌ وَكِنَايَةٌ وَسَتَأْتِي .
وَسَبَبُ نُزُولِ شَرْعِيَّتِهِ { قِصَّةُ خَوْلَةَ أَوْ خُوَيْلَةَ بِنْتِ مَالِكِ بْنِ ثَعْلَبَةَ قَالَتْ ظَاهَرَ مِنِّي زَوْجِي أَوْسُ بْنُ الصَّامِتِ ، فَجِئْتُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْكُو إلَيْهِ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُجَادِلُنِي فِيهِ وَيَقُولُ : اتَّقِ اللَّهَ فَإِنَّهُ ابْنُ عَمِّكِ ، فَمَا بَرِحْتُ حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إلَى اللَّهِ } إلَى الْغَرَضِ ، فَقَالَ : يُعْتِقُ رَقَبَةً ، فَقُلْتُ لَا يَجِدُ ، فَقَالَ : يَصُومُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ، قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُ شَيْخٌ كَبِيرٌ مَا بِهِ مِنْ صِيَامٍ ، قَالَ : فَيُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ، قُلْتُ : مَا عِنْدَهُ شَيْءٌ يَتَصَدَّقُ بِهِ ، قَالَ : فَإِنِّي أُعِينُهُ بِعَرَقٍ مِنْ تَمْرٍ ، قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنِّي سَأُعِينُهُ بِعَرَقٍ آخَرَ ، قَالَ : قَدْ أَحْسَنْتِ ، قَالَ : فَاذْهَبِي فَأَطْعِمِي بِهِمَا عَنْهُ سِتِّينَ مِسْكِينًا وَارْجِعِي إلَى ابْنِ عَمِّكِ } قَالَ : وَالْعَرَقُ سِتُّونَ صَاعًا ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَقِيلَ هُوَ مِكْيَالٌ يَسَعُ ثَلَاثِينَ صَاعًا ، قَالَ أَبُو دَاوُد : وَهَذَا أَصَحُّ ، وَفِي الْحَدِيثِ أَلْفَاظٌ أُخَرُ ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ

( وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي فَقَدْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا وَلَا مَسُّهَا وَلَا تَقْبِيلُهَا حَتَّى يُكَفِّرَ عَنْ ظِهَارِهِ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ } إلَى أَنْ قَالَ { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } .
وَالْظَ هَارُ كَانَ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، فَقَرَّرَ الشَّرْعُ أَصْلَهُ وَنَقَلَ حُكْمَهُ إلَى تَحْرِيمٍ مُوَقَّتٍ بِالْكَفَّارَةِ غَيْرِ مُزِيلٍ لِلنِّكَاحِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ جِنَايَةٌ لِكَوْنِهِ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا فَيُنَاسِبُ الْمُجَازَاةَ عَلَيْهَا بِالْحُرْمَةِ ، وَارْتِفَاعُهَا بِالْكَفَّارَةِ .
ثُمَّ الْوَطْءُ إذَا حَرُمَ حَرُمَ بِدَوَاعِيهِ كَيْ لَا يَقَعَ فِيهِ كَمَا فِي الْإِحْرَامِ ، بِخِلَافِ الْحَائِضِ وَالصَّائِمِ لِأَنَّهُ يَكْثُرُ وُجُودُهُمَا ، فَلَوْ حَرُمَ الدَّوَاعِي يُفْضِي إلَى الْحَرَجِ وَلَا كَذَلِكَ الظِّهَارُ وَالْإِحْرَامُ .

( قَوْلُهُ وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي فَقَدْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ ) وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لِلْمُظَاهِرِ أَنْ يُقَبِّلَهَا إذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ لِلشَّفَقَةِ ، وَكَذَا إذَا قَالَ أَنْتِ مِنِّي كَظَهْرِ أُمِّي أَوْ أَنْتِ عِنْدِي أَوْ مَعِي ، وَكَذَا إذَا قَالَ أَنَا مِنْك مُظَاهِرٌ وَقَدْ ظَاهَرْت مِنْك ، وَمَتَى أَلْحَقَ لَفْظَ الْمَشِيئَةِ لَا يَثْبُتُ ، فَلَوْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ ، وَلَوْ قَالَ إنْ شَاءَ فُلَانٌ فَالْمَشِيئَةُ إلَيْهِ ( قَوْلُهُ وَهَذَا ) أَيْ ثُبُوتُ التَّحْرِيمِ بِالظِّهَارِ ثُمَّ ارْتِفَاعُهُ بِالْكَفَّارَةِ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ الظِّهَارُ ( جِنَايَةٌ ) كَبِيرَةٌ مَحْضَةٌ لِكَوْنِهِ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا ) بِالنَّصِّ فَيُنَاسِبُ الْمُجَازَاةَ عَلَى هَذِهِ الْجِنَايَةِ بِالْحُرْمَةِ وَارْتِفَاعُ هَذِهِ الْحُرْمَةِ بِالْكَفَّارَةِ ( قَوْلُهُ ثُمَّ الْوَطْءُ إذَا حَرُمَ حَرُمَ بِدَوَاعِيهِ ) تُفِيدُ هَذِهِ الْعِبَارَةُ أَنَّ هَذَا هُوَ الْأَصْلُ إذْ طَرِيقُ الْمُحَرَّمِ مُحَرَّمٌ ، وَعَلَى هَذَا اسْتَمَرَّ فِي الِاسْتِبْرَاءِ وَالْإِحْرَامِ وَالِاعْتِكَافِ ، وَثَبَتَ مِنْ الشَّرْعِ خِلَافُهُ فِي الصَّوْمِ وَالْحَيْضِ ، { فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُ إحْدَى نِسَائِهِ وَهُوَ صَائِمٌ } .
وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { كَانَ يَأْمُرُنِي أَنْ أَتَّزِرَ فَيُبَاشِرُنِي وَأَنَا حَائِضٌ } فَوَجَبَ الْبَحْثُ عَنْ حِكْمَةِ الْفَرْقِ شَرْعًا بَيْنَ هَذِهِ الْأُمُورِ لِيَنْظُرَ هَلْ الظِّهَارُ مِنْ قَبِيلِ مَا يَقْتَضِي الْفَرْقُ تَحْرِيمَ الدَّوَاعِي فِيهِ كَمَا قُلْنَا نَحْنُ وَمَالِكٌ ؟ وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ ، لِأَنَّ حُرْمَةَ الْوَطْءِ نَصًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ الْجِمَاعِ فَلَا يَتَنَاوَلُ غَيْرَهُ ، أَوْ تَحْلِيلُهَا كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي قَوْلِهِمَا الْآخَرِ فَنَظَرْنَا فَعَقَلْنَا كَوْنَ حِكْمَتِهِ لُزُومَ الْحَرَجِ لَوْ

حُرِّمَتْ الدَّوَاعِي فِي الصَّوْمِ وَالْحَيْضِ لِكَثْرَةِ وُقُوعِهِمَا وَوُقُوعِ ضِدِّهِمَا مِنْ الْفِطْرِ وَالطُّهْرِ فَعَلَى كَثْرَةِ وُقُوعِهِمَا يَلْزَمُ الْحَرَجُ بِمَنْعِ الدَّوَاعِي ، وَعَنْ كَثْرَةِ وُقُوعِ الضِّدَّيْنِ الظَّاهِرَيْنِ فِي كَثْرَةِ وُجُودِ الْجِمَاع يَنْتَفِي لُزُومُ شَرْعِ الزَّاجِرِ الْمَبَالِغ فَلَا يَحْرُمُ الدَّوَاعِي بِخِلَافِ الظِّهَارِ وَالِاسْتِبْرَاءِ وَالْإِحْرَامِ لَا تَكْثُرُ بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ شَخْصٍ فَاسْتَمَرَّ عَلَى الْأَصْلِ ، وَتَقَدَّمَ لَهُ فِي الِاعْتِكَافِ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّوْمِ فِي حُرْمَةِ الدَّوَاعِي فِيهِ لَا فِي الصَّوْمِ بِأَنَّ الْجِمَاعَ مَحْظُورُ الِاعْتِكَافِ وَالْإِحْرَامِ ، بِخِلَافِ الصَّوْمِ لِأَنَّ الْكَفَّ عَنْهُ رُكْنُهُ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى دَوَاعِيهِ ، وَقُرِّرَ بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ الْفَرْقَ لِلْفَرْقِ بَيْنَ التَّحْرِيمِ الثَّابِتِ فِي ضِمْنِ الْأَمْرِ ، وَالتَّحْرِيمُ الثَّابِتُ بِالنَّهْيِ لَمَّا كَانَ الثَّانِي أَقْوَى بِسَبَبِ أَنَّ النَّهْيَ تَنَاوَلَهُ مَقْصُودًا فَتَعَدَّى إلَى الدَّوَاعِي ، بِخِلَافِ الثَّابِتِ فِي ضِمْنِ الْأَمْرِ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ نَهْيٌ أَصْلًا بَلْ طَلَبُ شَيْءٍ يَسْتَلْزِمُ وُجُودُهُ عَدَمَ ذَلِكَ فَحَرُمَ ذَلِكَ لِتَأْدِيَتِهِ إلَى تَفْوِيتِ الْمَطْلُوبِ لَا مَقْصُودًا فَلَمْ يَتَعَدَّ إلَى دَوَاعِيهِ .
فَافْتَرَقَ الْحَالُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الِاسْتِبْرَاءِ وَالْإِحْرَامِ وَالِاعْتِكَافِ لِثُبُوتِ حُرْمَةِ الْجِمَاعِ فِيهَا بِالنَّهْيِ ، قَالَ تَعَالَى { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } وَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ نَفْيٌ مُسْتَعَارٌ لِلنَّهْيِ لِتَأْكِيدِهِ .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَلَا لَا تُنْكَحُ الْحَبَالَى حَتَّى يَضَعْنَ ، وَلَا الْحَيَالَى حَتَّى يَسْتَبْرِئْنَ بِحَيْضَةٍ } وَقَالَ تَعَالَى فِي الْأَخِيرَيْنِ { فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ } { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ } وَلَمَّا كَانَ هَذَا يَقْتَضِي عَدَمَ حُرْمَةِ الدَّوَاعِي لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ الْأَمْرُ بِالْكَفَّارَةِ قَبْلَ التَّمَاسِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ

قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } فَإِنَّهُ مَصْدَرٌ وَاقِعٌ بَدَلًا مِنْ اللَّفْظِ بِالْفِعْلِ فَيَحْرُمُ الْجِمَاعُ لِتَفْوِيتِهِ الْمَأْمُورَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ قَبْلَ التَّمَاسِّ مَعَ أَنَّهُ يَقْتَضِي حُرْمَةَ الدَّوَاعِي فِي الْحَيْضِ لِأَنَّ ( اعْتَزِلُوا ) هُوَ نَفْسُ مَعْنَى النَّهْيِ حَتَّى أَنَّهُمْ لَمْ يَمْثُلُوا لِلنَّهْيِ عَنْ الْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ إلَّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَذَرُوا الْبَيْعَ } وَلِمَ يُسَمُّوهُ إلَّا مَنْهِيًّا عَنْهُ وَهُوَ صَحِيحٌ لِأَنَّ النَّهْيَ لِلنَّفْسِ طَلَبُ التَّرْكِ عَدَلَ إلَى مَا ذُكِرَ ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الدَّوَاعِيَ مَنْصُوصٌ عَلَى مَنْعِهَا فِي الظِّهَارِ ، وَالْمَذْكُورُ فِي وَجْهِ الْفَرْقِ إنَّمَا هُوَ حِكْمَةُ الْفَرْقِ بَيْنَ الظِّهَارِ وَمَا ذُكِرَ ، أَمَّا كَوْنُهَا مَنْصُوصًا عَلَى مَنْعِهَا فَإِنَّهُ قَوْله تَعَالَى { مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } لَا مُوجِبَ فِيهِ لِلْحَمْلِ عَلَى الْمَجَازِ لِإِمْكَانِ الْحَقِيقَةِ ، وَيَحْرُمُ الْجِمَاعُ لِأَنَّهُ مِنْ أَفْرَادِ التَّمَاسِّ ، فَكُلٌّ مِنْ الْقُبْلَةِ وَالْمَسِّ وَالْجِمَاعِ أَفْرَادُ التَّمَاسِّ فَيَحْرُمُ الْكُلُّ بِالنَّصِّ ، وَظَهَرَ فَسَادُ قَوْلِ الْمُخَالِفِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ

( فَإِنْ وَطِئَهَا قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ تَعَالَى وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ غَيْرَ الْكَفَّارَةِ الْأُولَى وَلَا يَعُودُ حَتَّى يُكَفِّرَ ) { لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلَّذِي وَاقَعَ فِي ظِهَارِهِ قَبْلَ الْكَفَّارَةِ اسْتَغْفِرْ اللَّهَ وَلَا تَعُدْ حَتَّى تُكَفِّرَ } وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ آخَرُ وَاجِبًا لَنَبَّهَ عَلَيْهِ .
قَالَ : وَهَذَا اللَّفْظُ لَا يَكُونُ إلَّا ظِهَارًا لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِيهِ ( وَلَوْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ لَا يَصِحُّ ) لِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْإِتْيَانِ بِهِ

( قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) رَوَى أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ عَنْ { ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَجُلًا ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ فَوَقَعَ عَلَيْهَا قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا ؟ قَالَ : رَأَيْتُ خَلْخَالَهَا فِي ضَوْءِ الْقَمَرِ ، وَفِي لَفْظٍ : بَيَاضَ سَاقَيْهَا ، قَالَ : فَاعْتَزِلْهَا حَتَّى تُكَفِّرَ } وَلَفْظُ ابْنِ مَاجَهْ { فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يَقْرَبَهَا حَتَّى يُكَفِّرَ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ .
وَنَفَى كَوْنَ هَذَا الْحَدِيثِ صَحِيحًا رَدَّهُ الْمُنْذِرِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ بِأَنَّهُ صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ مَشْهُورٌ سَمَاعُ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ .
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ ابْنِ إِسْحَاقَ إلَى آخِرِ السَّنَدِ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ الْبَيَاضِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فِي الْمُظَاهِرِ يُوَاقِعُ قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ قَالَ : كَفَّارَةً وَاحِدَةً } وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ .
وَأَمَّا ذِكْرُ الِاسْتِغْفَارِ فِي الْحَدِيثِ فَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ ، وَهُوَ فِي الْمُوَطَّإِ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ ، وَلَفْظُهُ : قَالَ مَالِكٌ فِيمَنْ يُظَاهِرُ ثُمَّ يَمَسُّهَا قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ يَكُفُّ عَنْهَا حَتَّى يَسْتَغْفِرَ اللَّهَ وَيُكَفِّرَ ، ثُمَّ قَالَ : وَذَلِكَ أَحْسَنُ مَا سَمِعْت ( قَوْلُهُ فَلَوْ كَانَ شَيْءٌ آخَرُ وَاجِبًا لَنَبَّهَ عَلَيْهِ ) لِأَنَّهُ مَقَامُ الْبَيَانِ وَتَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ لَا يَجُوزُ ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمَذْكُورَ تَمَامُ حُكْمِ الْحَادِثَةِ فَلَا تَجِبُ كَفَّارَتَانِ كَمَا نُقِلَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَقَبِيصَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ ، وَلَا ثَلَاث كَفَّارَاتٍ كَمَا عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالنَّخَعِيِّ .
( قَوْلُهُ وَهَذَا اللَّفْظُ ) أَيْ قَوْلُهُ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي ( لَا يَكُونُ إلَّا ظِهَارًا وَإِنْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ ) أَوْ الْإِيلَاءَ أَوْ قَالَ لَمْ أَنْوِ

شَيْئًا لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِيهِ ، وَإِنَّمَا إلَيْهِ اتِّبَاعُ الْمَشْرُوعِ لَا تَغْيِيرُهُ ، وَهَذَا يَعُمُّ مَا قُلْنَا ، وَمَا فِي الْكِتَابِ يَخُصُّ قَصْدَ الطَّلَاقِ .
وَلَوْ قَالَ أَرَدْت بِهِ الْخَيْرَ عَنْ الْمَاضِي كِذْبًا لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَكَذَا فِي التُّحْفَةِ .
وَلَوْ قِيلَ الْمَنْسُوخُ كَوْنُ هَذَا اللَّفْظِ طَلَاقًا وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ صِحَّةِ إرَادَتِهِ بِهِ احْتَاجَ إلَى الْجَوَابِ وَيَصْلُحُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ وَإِنَّمَا إلَيْهِ اتِّبَاعِ الْمَشْرُوعِ لَا تَغْيِيرُهُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا وَهُوَ كَلَفْظِ أَنْتِ طَالِقٌ جُعِلَ شَرْعًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَى الْمُخَاطَبَةِ ، وَيَصِحُّ أَنْ يُرَادَ غَيْرُهُ فَلَا يَقَعُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى كَذَا فِي التُّحْفَةِ .

( وَإِذَا قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ كَبَطْنِ أُمِّي أَوْ كَفَخْذِهَا أَوْ كَفَرْجِهَا فَهُوَ مُظَاهِرٌ ) لِأَنَّ الظِّهَارَ لَيْسَ إلَّا تَشْبِيهُ الْمُحَلَّلَةِ بِالْمُحَرَّمَةِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَتَحَقَّقُ فِي عُضْوٍ لَا يَجُوزُ النَّظَرُ إلَيْهِ ( وَكَذَا إذَا شَبَّهَهَا بِمَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ إلَيْهَا عَلَى التَّأْبِيدِ مِنْ مَحَارِمِهِ مِثْلَ أُخْتِهِ أَوْ عَمَّتِهِ أَوْ أُمِّهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ ) لِأَنَّهُنَّ فِي التَّحْرِيمِ الْمُؤَبَّدِ كَالْأُمِّ ( وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ رَأْسُك عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي أَوْ فَرْجُك أَوْ وَجْهُك أَوْ رَقَبَتُك أَوْ نِصْفُك أَوْ ثُلُثُك أَوْ بَدَنُك ) لِأَنَّهُ يُعَبِّرُ بِهَا عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ ، وَيَثْبُتُ الْحُكْمُ فِي الشَّائِعِ ثُمَّ يَتَعَدَّى كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الطَّلَاقِ

( قَوْلُهُ لَيْسَ إلَّا تَشْبِيهُ الْمُحَلَّلَةِ بِالْمُحَرَّمَةِ ) اللَّامُ فِيهِمَا لِلْعَهْدِ : أَيْ الْمُحَلَّلَةُ بِعَقْدِ النِّكَاحِ بِالْمُحَرَّمَةِ عَلَى التَّأْبِيدِ لِأَنَّهُمَا الْمَعْهُودَتَانِ فِيمَا سَبَقَ مِنْ ذِكْرِهِمَا ( قَوْلُهُ وَهَذَا الْمَعْنَى ) يَعْنِي تَشْبِيهَ الْمُحَلَّلَةِ بِالْمُحَرَّمَةِ ( يَتَحَقَّقُ فِي التَّشْبِيهِ بِعُضْوٍ لَا يَحِلُّ النَّظَرُ إلَيْهِ ) عَلَى التَّأْبِيدِ لَمَّا كَانَ الظِّهَارُ كَلَامًا تَشْبِيهِيًّا مُشْتَمِلًا عَلَى الْمُشَبَّهَةِ وَالْمُشَبَّهِ بِهَا وَجَبَ إعْطَاءُ ضَابِطِهِمَا ؛ فَفِي الْمُشَبَّهَةِ أَنْ تُذْكَرَ هِيَ أَوْ جُزْءٌ شَائِعٌ مِنْهَا أَوْ جُزْءٌ مُعَيَّنٌ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ جُمْلَتِهَا كَالرَّأْسِ وَالرَّقَبَةِ وَالْفَرْجِ وَالْوَجْهِ ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُ التَّعْبِيرِ بِهَذِهِ عَنْ الْكُلِّ فِي الطَّلَاقِ وَالنِّصْفُ وَالثُّلُثُ فِي الْأَوَّلِ ، وَفِي الْمُشَبَّهِ بِهَا أَنْ تُذْكَرَ هِيَ أَوْ عُضْوٌ مِنْهَا لَا يَحِلُّ النَّظَرُ إلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ إلَّا أَنَّ مَعَ ذِكْرِهَا يَنْوِي كَمَا سَيَأْتِي .
إذَا عَرَفْت هَذَا فَعِبَارَتُهُ : أَعْنِي قَوْلَهُ وَكَذَا إذَا شَبَّهَهَا بِمَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ إلَيْهَا إلَى قَوْلِهِ مِثْلُ أُخْتِهِ وَعَمَّتِهِ وَأُمِّهِ مِنْ الرَّضَاعِ لَيْسَتْ جَيِّدَةً لِأَنَّ ظَاهِرَهَا حُرْمَةُ النَّظَرِ إلَى هَؤُلَاءِ مِنْ الرَّضَاعَةِ ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى إذَا شَبَّهَهَا بِجُزْءٍ لَا يَحِلُّ النَّظَرُ إلَيْهِ ، فَلَوْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ أَوْ رَأْسُك أَوْ وَجْهُك أَوْ رَقَبَتُك أَوْ فَرْجُك أَوْ نِصْفُك أَوْ ثُلُثُك أَوْ سُدُسُك كَظَهْرِ أُمِّي أَوْ خَالَتِي أَوْ أُمِّ زَوْجَتِي أَوْ كَفَرْجِهَا أَوْ بَطْنِهَا أَوْ فَخْذِهَا أَوْ أَلْيَتِهَا كَانَ مُظَاهِرًا ، وَلَوْ قَالَ يَدُك أَوْ رِجْلُك أَوْ شَعْرُك أَوْ ظُفُرُك أَوْ سِنُّك أَوْ بَطْنُك أَوْ فَخْذُك أَوْ جَنْبُك أَوْ ظَهْرُك كَظَهْرِ أُمِّي أَوْ فَرْجِهَا إلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَا لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا لِانْتِفَائِهِ مِنْ جِهَةِ الْمُشَبَّهَةِ ، وَلَوْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ أَوْ رَأْسُك إلَى آخِرِ مَا قُلْنَا كَيَدِ أُمِّي أَوْ جَنْبِهَا إلَخْ لَمْ يَكُنْ ظِهَارًا لِانْتِفَائِهِ مِنْ

جِهَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِمَّا يَجُوزُ النَّظَرُ إلَيْهَا وَمَسُّهَا بِغَيْرِ شَهْوَةٍ ، وَكَذَا لَوْ قَالَ يَدُك أَوْ رِجْلُك إلَخْ عَلَيَّ كَيَدِهَا أَوْ كَرِجْلِهَا إلَخْ لَمْ يَكُنْ ظِهَارًا لِانْتِفَائِهِ مِنْ الْجِهَتَيْنِ ، وَإِذَا أُحْكِمَتْ مُلَاحَظَةُ الْأَصْلَيْنِ أَخْرَجَتْ فُرُوعًا كَثِيرَةً عَنْ تَفْرِيقِ مَا جَمَعْنَاهُ مِثْلُ فَرْجُك كَفَرْجِ أُمِّي فَرْجُك كَفَخْذِ أُمِّي يَكُونُ ظِهَارًا بَطْنُك كَفَرْجِهَا لَا يَكُونُ ظِهَارًا .
وَوَجْهُ الِاعْتِبَارِ فِي الْمُشَبَّهَةِ بِكَوْنِ الْعُضْوِ مِمَّا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْجُمْلَةِ وَالْجُزْءُ الشَّائِعُ مَا أَحَالَ عَلَيْهِ فِي الطَّلَاقِ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَةَ هُنَا كَالْمُطَلَّقَةِ هُنَاكَ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ هُنَاكَ ، وَفِي الْمُشَبَّهِ بِهَا بِكَوْنِ الْعُضْوِ مِمَّا لَا يَحِلُّ النَّظَرُ إلَيْهِ مِنْ الْمُحَرَّمَةِ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ الظِّهَارَ لَيْسَ إلَّا تَشْبِيهُ الْمُحَلَّلَةِ إلَخْ وَقَدْ تَمَّمْنَاهُ فِي أَوَّلِ هَذَا الْبَحْثِ ( قَوْلُهُ لِأَنَّهُنَّ ) أَيْ أُخْتُهُ وَعَمَّتُهُ وَأُمُّهُ مِنْ الرَّضَاعِ فِي التَّحْرِيمِ الْمُؤَبَّدِ كَالْأُمِّ ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ عَمَّتِك أَوْ أُخْتِك لِأَنَّ حُرْمَتَهُمَا لَيْسَتْ عَلَى التَّأْبِيدِ بَلْ مُوَقَّتَةٌ بِانْقِطَاعِ عِصْمَتِهِ لَهَا .
ثُمَّ الْمُرَادُ تَأَبُّدُ الْحُرْمَةِ بِاعْتِبَارِ وَصْفٍ لَا يُمْكِنُ زَوَالُهُ فَإِنَّ الْمَجُوسِيَّةَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى التَّأْبِيدِ .
وَلَوْ قَالَ كَظَهْرِ مَجُوسِيَّةٍ لَا يَكُونُ ظِهَارًا ذَكَرَهُ فِي الْجَوَامِعِ لِأَنَّ التَّأْبِيدَ بِاعْتِبَارِ دَوَامِ الْوَصْفِ وَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ لِجَوَازِ إسْلَامِهَا ، بِخِلَافِ الْأُمِّيَّةِ وَالْأُخْتِيَّةِ وَغَيْرِهِمَا .
لَا يُقَالُ : يُرَدُّ عَلَى اشْتِرَاطِ تَأَبُّدِ الْحُرْمَةِ مَا لَوْ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ ثُمَّ قَالَ لِأُخْرَى أَنْتِ عَلَيَّ مِثْلُ هَذِهِ يَنْوِي الظِّهَارَ فَهُوَ مُظَاهِرٌ وَلَوْ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَعْدَ التَّكْفِيرِ مَعَ أَنَّ الْمُظَاهَرَ مِنْهَا لَيْسَتْ مُحَرَّمَةً عَلَى التَّأْبِيدِ لِأَنَّ ثُبُوتَ الظِّهَارِ فِي هَذِهِ إنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ تَضَمُّنِ

قَوْلِهِ لَهَا أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي لِأَنَّ تَشْبِيهَهَا بِمَنْ قَالَ لَهَا ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ فِي ذَلِكَ ، فَالظِّهَارُ فِيهَا بِاعْتِبَارِ خُصُوصِ وَجْهِ الشَّبَهِ الْمُرَادِ لَا بِاعْتِبَارِ نَفْسِ التَّشْبِيهِ بِهَا ، وَكَذَا لَوْ كَانَتْ امْرَأَةُ رَجُلٍ آخَرَ ظَاهَرَ زَوْجُهَا مِنْهَا فَقَالَ أَنْتِ عَلَيَّ مِثْلُ فُلَانَةَ يَنْوِي ذَلِكَ صَحَّ وَلَوْ كَانَ بَعْدَ مَوْتِهَا .
وَفِي التُّحْفَةِ : لَوْ شَبَّهَ بِامْرَأَةٍ مُحَرَّمَةٍ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ وَهِيَ مِمَّنْ تَحِلُّ لَهُ فِي حَالَةٍ أُخْرَى مِثْلُ أُخْتِ امْرَأَتِهِ وَمِثْلُ امْرَأَةٍ لَهَا زَوْجٌ أَوْ مَجُوسِيَّةٍ أَوْ مُرْتَدَّةٍ لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا لِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ فِي الْأُمِّ وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى التَّأْبِيدِ ، وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ هَذِهِ كِنَايَاتٌ فَلَا تَكُونُ ظِهَارًا وَلَا إيلَاءٌ إلَّا بِالنِّيَّةِ ، وَبَعْدَ اشْتِرَاطِ تَأْبِيدِ الْحُرْمَةِ هَلْ يُشْتَرَطُ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهَا ؟ شَرَطَهُ فِي النِّهَايَةِ لِتَخْرُجَ أُمُّ الْمَزْنِيِّ بِهَا وَبِنْتُهَا لِأَنَّهُ لَوْ شَبَّهَهَا بِهِمَا لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا وَعَزَاهُ إلَى شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ ، لَكِنَّ الْخِلَافَ مَنْقُولٌ فِي هَذِهِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَكُونُ مُظَاهِرًا خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ بِنَاءً عَلَى نَفَاذِ حُكْمِ الْحَاكِمِ لَوْ قَضَى بِحِلِّهَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَنْفُذُ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يَكُونُ مُظَاهِرًا خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ بِنَاءً عَلَى نَفَاذِ حُكْمِ الْحَاكِمِ بِحِلِّ نِكَاحِهَا وَعَدَمِهِ ، فَظَهَرَ مِمَّا نَقَلْنَا أَنَّ مَبْنَى ثُبُوتِ الْخِلَافِ فِي الظِّهَارِ وَعَدَمَهُ لَيْسَ كَوْنُ الْحُرْمَةِ الْمُؤَبَّدَةِ مُجْمَعًا عَلَيْهَا أَوَّلًا ، بَلْ كَوْنُهَا يَسُوغُ فِيهَا الِاجْتِهَادُ أَوَّلًا ، وَعَدَمُ تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ لِوُجُودِ الْإِجْمَاعِ أَوْ النَّصِّ الْغَيْرِ الْمُحْتَمَلِ لِلتَّأْوِيلِ مِنْ غَيْرِ مُعَارَضَةِ نَصٍّ آخَرَ فِي نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ وَإِنْ كَانَتْ الْمُعَارَضَةُ ثَابِتَةً فِي الْوَاقِعِ ، وَلِهَذَا يَخْتَلِفُ فِي كَوْنِ الْمَحِلِّ يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ وَفِي

نَفَاذِ حُكْمِ الْحَاكِمِ بِخِلَافِهِ ، وَلِذَا فَرَّقَ فِي الْمُحِيطِ بِوُجُودِ النَّصِّ عَلَى الْحُرْمَةِ بِالْوَطْءِ وَعَدَمِهِ حَيْثُ قَالَ : لَوْ قَبَّلَ امْرَأَةً أَوْ لَمَسَهَا بِشَهْوَةٍ ثُمَّ شَبَّهَ امْرَأَتَهُ بِبِنْتِهَا لَا يَكُونُ مُظَاهِرًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَلَا يُشْبِهُ هَذَا الْوَطْءَ لِأَنَّ حُرْمَتَهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا وَحُرْمَةَ الدَّوَاعِي غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهَا .
وَفِي الدِّرَايَةِ : فِي كَظَهْرِ أُخْتِي مِنْ لَبَنِ الْفَحْلِ لَا يَصِيرُ مُظَاهِرًا مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ خِلَافٍ مَعَ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَى التَّأْبِيدِ ، كَأَنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ فِيهَا مَعَ أَنَّ فِي حُرْمَتِهَا عُمُومَ نَصِّ { يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ } وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لِيَلِجْ عَلَيْكِ أَفْلَحُ فَإِنَّهُ عَمُّكِ مِنْ الرَّضَاعَةِ } لَكِنَّ ذَلِكَ خُصَّ مِنْهُ مَا ذُكِرَ فِي الرَّضَاعِ .
وَالثَّانِي : إنَّمَا يُفِيدُ ثُبُوتَ أختية بِنْتِ الْفَحْلِ مِنْ غَيْرِ الَّتِي أَرْضَعَتْهُ بِالِالْتِزَامِ ، وَمِثْلُهُ مَا رَأَيْت لَوْ شَبَّهَهَا بِامْرَأَتِهِ الْمُلَاعَنِ مِنْهَا لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ خِلَافٍ مَعَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ يَرَى تَأَبُّدَ حُرْمَتِهَا لِتَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ .
أَمَّا إنْ أَرَادَ مَنْ أَرْضَعَهُمَا نَفْسُ الْفَحْلِ بِأَنْ نَزَلَ لَهُ لَبَنٌ فَلَا إشْكَالَ ، لَكِنَّهُ بَعِيدٌ مِنْ عَادَتِهِمْ فِي إطْلَاقِهِ ، وَلِأَنَّهُ لَا أختية هُنَاكَ أَصْلًا .
وَمِمَّا يَشْكُلُ مَا ذَكَرَهُ فِي الدِّرَايَةِ أَيْضًا نَقْلًا عَنْ شَرْحِ الْقُدُورِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ : زَنَى أَبُوهُ بِامْرَأَةٍ أَوْ ابْنُهُ فَشَبَّهَهَا بِأُمِّهَا أَوْ ابْنَتِهَا يَصِيرُ مُظَاهِرًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَا يَنْفُذُ عِنْدَهُ حُكْمُ الْحَاكِمِ بِحِلِّهَا لَهُ .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَصِيرُ مُظَاهِرًا وَيَنْفُذُ حُكْمُ الْحَاكِمِ ، وَهَذَا مُشْكِلٌ لِأَنَّ غَايَةَ أُمِّ مَزْنِيَّةِ الْأَبِ وَالِابْنِ أَنْ تَكُونَ كَأُمِّ زَوْجَةِ الْأَبِ وَالِابْنِ ، وَلَا تَحْرُمُ أُمُّ زَوْجَةِ الْأَبِ عَلَى الِابْنِ وَلَا أُمُّ زَوْجَةِ الِابْنِ عَلَى الْأَبِ ،

فَلَيْسَ التَّشْبِيهُ هُنَا بِمُحَرَّمَةٍ ، وَلَوْ شَبَّهَ بِظَهْرِ أَبِيهِ أَوْ قَرِيبِهِ أَوْ بِظَهْرِ أَجْنَبِيٍّ لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا ، وَلَوْ شَبَّهَهَا بِفَرْجِ أَبِيهِ أَوْ قَرِيبِهِ قَالَ فِي الْمُحِيطِ : يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُظَاهِرًا لِأَنَّ فَرْجَهُمَا فِي الْحُرْمَةِ كَفَرْجِ أُمِّهِ .
وَفِي كَافِي الْحَاكِمِ رَحِمَهُ اللَّهُ : الْمَرْأَةُ لَا تَكُونُ مُظَاهَرَةً مِنْ زَوْجِهَا مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ خِلَافٍ .
وَفِي الدِّرَايَةِ : لَوْ قَالَتْ هِيَ أَنْتَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أَبِي أَوْ أَنَا عَلَيْك كَظَهْرِ أُمِّك لَا يَصِحُّ الظِّهَارُ عِنْدَنَا .
وَفِي الْمَبْسُوطِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ : عَلَيْهَا كَفَّارَةُ يَمِينٍ .
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ : هُوَ ظِهَارٌ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَيْسَ بِشَيْءٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ .
وَفِي شَرْحِ الْمُخْتَارِ حَكَى خِلَافَ أَبِي يُوسُفَ ، وَالْحَسَنُ عَلَى الْعَكْسِ ، وَكَذَا فِي غَيْرِهِ .
وَفِي الْيَنَابِيعِ وَالرَّوْضَةِ كَالْأَوَّلِ قَالَ : هُوَ يَمِينٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ظِهَارٌ عِنْدَ الْحَسَنِ ، وَلَوْ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ ثُمَّ أَشْرَكَ مَعَهَا أُخْرَى كَانَ مُظَاهِرًا مِنْهُمَا

( وَلَوْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ مِثْلُ أُمِّي أَوْ كَأُمِّي يَرْجِعُ إلَى نِيَّتِهِ ) لِيَنْكَشِفَ حُكْمُهُ ( فَإِنْ قَالَ أَرَدْت الْكَرَامَةَ فَهُوَ كَمَا قَالَ ) لِأَنَّ التَّكْرِيمَ بِالتَّشْبِيهِ فَاشٍ فِي الْكَلَامِ ( وَإِنْ قَالَ أَرَدْت الظِّهَارَ فَهُوَ ظِهَارٌ ) لِأَنَّهُ تَشْبِيهٌ بِجَمِيعِهَا ، وَفِيهِ تَشْبِيهٌ بِالْعُضْوِ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِصَرِيحٍ فَيَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ ( وَإِنْ قَالَ أَرَدْت الطَّلَاقَ فَهُوَ طَلَاقٌ بَائِنٌ ) لِأَنَّهُ تَشْبِيهٌ بِالْأُمِّ فِي الْحُرْمَةِ فَكَأَنَّهُ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ وَنَوَى الطَّلَاقَ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لِاحْتِمَالِ الْحَمْلِ عَلَى الْكَرَامَةِ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ يَكُونُ ظِهَارًا لِأَنَّ التَّشْبِيهَ بِعُضْوٍ مِنْهَا لَمَّا كَانَ ظِهَارًا فَالتَّشْبِيهُ بِجَمِيعِهَا أَوْلَى .
وَإِنْ عَنَى بِهِ التَّحْرِيمَ لَا غَيْرُ ؛ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هُوَ إيلَاءٌ لِيَكُونَ الثَّابِتُ بِهِ أَدْنَى الْحُرْمَتَيْنِ .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ ظِهَارٌ لِأَنَّ كَافَ التَّشْبِيهِ تَخْتَصُّ بِهِ .

( وَقَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ مِثْلُ أُمِّي ) هُنَا أَلْفَاظُ أَنْتِ أُمِّي مِثْلُ أُمِّي كَأُمِّي حَرَامٌ كَظَهْرِ أُمِّي ؛ فَفِي أَنْتِ أُمِّي لَا يَكُونُ مُظَاهِرًا وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَكْرُوهًا ، فَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ قَوْلَهُ لِزَوْجَتِهِ يَا أُخَيَّةُ مَكْرُوهٌ .
وَفِي حَدِيثٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي تَمِيمَةَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ لِامْرَأَتِهِ يَا أُخَيَّةُ فَكَرِهَ ذَلِكَ وَنَهَى عَنْهُ } وَنَحْنُ نَعْقِلُ أَنَّ مَعْنَى النَّهْيِ هُوَ أَنَّهُ قَرِيبٌ مِنْ لَفْظِ تَشْبِيهِ الْمُحَلَّلَةِ بِالْمُحَرَّمَةِ الَّذِي هُوَ ظِهَارٌ ، وَلَوْلَا هَذَا الْحَدِيثُ لَأَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ هُوَ ظِهَارٌ لِأَنَّ التَّشْبِيهَ فِي قَوْلِهِ أَنْتِ أُمِّي أَقْوَى مِنْهُ مَعَ ذِكْرِ الْأَدَاةِ ، وَلَفْظُ أُخَيَّةِ فِي يَا أُخَيَّةُ اسْتِعَارَةٌ بِلَا شَكٍّ وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى التَّشْبِيهِ ، لَكِنَّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ أَفَادَ كَوْنَهُ لَيْسَ ظِهَارًا حَيْثُ لَمْ يُبَيِّنْ فِيهِ حُكْمًا سِوَى الْكَرَاهَةِ وَالنَّهْيِ عَنْهُ ، فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي كَوْنِهِ ظِهَارًا مِنْ التَّصْرِيحِ بِأَدَاةِ التَّشْبِيهِ شَرْعًا ، وَمِثْلُهُ أَنْ يَقُولَ لَهَا يَا بِنْتِي أَوْ يَا أُخْتِي وَنَحْوَهُ ، وَفِي مِثْلِ أُمِّي أَوْ كَأُمِّي يَنْوِي ، فَإِنْ نَوَى الطَّلَاقَ وَقَعَ بَائِنًا كَقَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ ، وَإِنْ نَوَى الْكَرَاهَةَ وَالظِّهَارَ فَكَمَا نَوَى كَمَا فِي الْكِنَايَاتِ .
وَأَفَادَ أَنَّهُ كِنَايَةٌ فِي الظِّهَارِ ، فَعُلِمَ أَنَّ صَرِيحَهُ يَكُونُ التَّشْبِيهُ بِعُضْوٍ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ عِنْدَهُمَا ، وَهُوَ ظِهَارٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمَعْنَى الشَّرْعِيَّ لِهَذَا اللَّفْظِ الظِّهَارُ لِوُجُودِ التَّشْبِيهِ بِالْبَعْضِ فِي ضِمْنِ الْكُلِّ غَيْرَ أَنَّهُ عَدَلَ عَنْهُ فِيمَا إذَا كَانَ لَهُ نِيَّةُ شَيْءٍ يَصِحُّ إرَادَتُهُ مِنْ اللَّفْظِ إلَى ذَلِكَ الْمَنْوِيِّ تَصْحِيحًا لِإِرَادَتِهِ ، وَجَعَلَ عَلَيَّ بِمَعْنَى عِنْدِي فِي الْكَرَامَةِ ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُفِيدَ لِلْكَرَامَةِ بِطَرِيقِ

الْحَقِيقَةِ لَفْظُ أَنْتِ عِنْدِي مِثْلُ أُمِّي أَوْ كَأُمِّي ، فَحِينَ لَمْ يَصْرِفْهُ عَنْ مُقْتَضَاهُ نِيَّةٌ عَمِلَ بِمُوجِبِهِ فِي نَفْسِهِ .
وَلَهُمَا أَنْ يَمْنَعَا كَوْنَ الصَّرَاحَةِ تَثْبُتُ بِالتَّشْبِيهِ بِالْجُزْءِ حَالَ كَوْنِهِ فِي ضِمْنِ التَّشْبِيهِ بِالْكُلِّ بَلْ إذَا كَانَ التَّشْبِيهُ بِهِ ابْتِدَاءً ، فَفِيمَا إذَا كَانَ التَّشْبِيهُ بِكُلِّهَا يَبْقَى مُجْمَلًا فِي حَقِّ جِهَةِ التَّشْبِيهِ ، فَمَا لَمْ يَتَبَيَّنْ مُرَادٌ مَخْصُوصٌ لَا يُحْكَمُ بِشَيْءٍ خُصُوصًا وَالْحَمْلُ عَلَى الظِّهَارِ حَمْلٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ ، وَلَا يَجُوزُ إلْزَامُ الْمُسْلِمِ الْمَعْصِيَةَ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إلَيْهَا وَلَا لَفْظٍ صَرِيحٍ فِيهَا ، وَمَا أَمْكَنَ صَرْفُ تَصَرُّفَاتِهِ عَنْهَا وَجَبَ اعْتِبَارُ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ ، وَإِنْ نَوَى بِهِ التَّحْرِيمَ لَا غَيْرُ فَالْمُصَنِّفُ حَكَى فِيهِ خِلَافًا بَيْنَهُمَا وَكَذَا غَيْرُهُ ، فَعِنْدَ مُحَمَّدٍ ظِهَارٌ لِأَنَّهُ بِكَافِ التَّشْبِيهِ : أَيْ أَدَاتِهِ فَإِنَّ الْكَلَامَ فِي مِثْلِ أُمِّي وَكَأُمِّي جَمِيعًا وَاحِدٌ مُخْتَصٌّ بِالظِّهَارِ كَمَا قَدَّمْنَا أَنَّهُ حَقِيقَةٌ وَقَدْ نَوَى مَا لَا يُنَافِيه فَإِنَّ الْحُرْمَةَ مُوجِبُ الظِّهَارَ فَيَثْبُتُ الْمَنْوِيُّ فِي ضِمْنِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ فِي الْكَلَامِ .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إيلَاءٌ بِنَاءً عَلَى مَنْعِ كَوْنِهِ الْمَعْنَى الْوَضْعِيِّ عِنْدَ التَّشْبِيهِ بِالْكُلِّ فَيَبْقَى الثَّابِتُ بِهِ لَا يَتَعَدَّى بِهِ الْمَنْوِيَّ وَتَحْرِيمُهَا مُطْلَقًا بِلَا ظِهَارٍ وَلَا طَلَاقٍ هُوَ الْإِيلَاءُ وَلِأَنَّ الْإِيلَاءُ أَدْنَى الْحُرْمَتَيْنِ مِنْ حَيْثُ السَّبَبِ وَالْحُكْمِ وَأُمُورٍ أُخَرَ ، أَمَّا السَّبَبُ وَهُوَ الظِّهَارُ نَفْسُهُ فَكَبِيرَةٌ مَحْضَةٌ ، وَالْإِيلَاءُ فِي نَفْسِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ يَمِينٌ لَيْسَ مَعْصِيَةً بَلْ بِاعْتِبَارِ أَمْرٍ آخَرَ يَقْتَرِنُ بِهِ ، وَأَمَّا الْحُكْمُ فَالْكَفَّارَةُ فِيهِ أَغْلَظُ حَيْثُ قُدِّرَ الْإِطْعَامُ بِسِتِّينَ مِسْكِينًا أَوْ صِيَامِ سِتِّينَ يَوْمًا ، وَالْأُمُورُ الْأُخَرُ هِيَ أَنَّ حُرْمَتَهَا فِي الْإِيلَاءِ لَا تَثْبُتُ فِي الْحَالِ فَإِنَّهُ وَإِنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَقْرَبَهَا

فَالشَّرْعُ طَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَحْنَثَ وَيَطَأَهَا قَبْلَ التَّكْفِيرِ ثُمَّ يُكَفِّرُ ، وَلَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَعَادَتْ إلَيْهِ بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ عَادَتْ بِلَا إيلَاءٍ فِي حَقِّ وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ بَلْ فِي حَقِّ لُزُومِ الْكَفَّارَةِ إذَا وَطِئَ وَكَانَ الْإِيلَاءُ مُؤَبَّدًا ، وَفِي الظِّهَارِ يَثْبُتُ فِي الْحَالِ ثُمَّ يَتَعَدَّى إلَى الدَّوَاعِي ثُمَّ لَا يَحِلُّ مِنْهَا شَيْءٌ آخَرُ حَتَّى يُكَفِّرَ أَوَّلًا ، وَلَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَالْبَاقِي بِحَالِهِ تَعُودُ بِالظِّهَارِ وَلَا تَحِلُّ مَا لَمْ يُكَفِّرْ ، وَكَذَا لَوْ مَلَكَهَا بِأَنْ كَانَتْ أَمَةً فَاشْتَرَاهَا وَانْفَسَخَ الْعَقْدُ لَا تَحِلُّ مَا لَمْ يُكَفِّرْ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : الْأَصَحُّ أَنَّهُ حِينَئِذٍ ظِهَارٌ عِنْدَ الْكُلِّ لِأَنَّهُ تَحْرِيمٌ مُؤَكَّدٌ بِالتَّشْبِيهِ

( وَلَوْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَأُمِّي وَنَوَى ظِهَارًا أَوْ طَلَاقًا فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى ) لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ .
الظِّهَارُ لِمَكَانِ التَّشْبِيهِ وَالطَّلَاقُ لِمَكَانِ التَّحْرِيمِ وَالتَّشْبِيهُ تَأْكِيدٌ لَهُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ ، فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ إيلَاءٌ ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ ظِهَارٌ ، وَالْوَجْهَانِ بَيَّنَّاهُمَا
وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ هَذَا إنَّمَا يَنْطَبِقُ عَلَى قَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَأُمِّي ، وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ بَلْ فِي مُجَرَّدِ أَنْتِ كَأُمِّي .
وَفِي أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَأُمِّي فَإِنَّمَا لَهُ مُحْتَمَلَانِ الطَّلَاقُ وَالظِّهَارُ لَا الْبِرُّ لِتَصْرِيحِهِ بِالْحُرْمَةِ ، فَأَيُّهُمَا أَرَادَ ثَبَتَ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ إيلَاءٌ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ ظِهَارٌ ، وَهَاهُنَا يُتَّجَهُ الْمَذْكُورُ آنِفًا عَنْ قَاضِي خَانْ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَخْتَلِفَ فِي كَوْنِهِ ظِهَارًا لِأَنَّهُ تَحْرِيمٌ مُؤَكَّدٌ بِالتَّشْبِيهِ ( قَوْلُهُ وَالْوَجْهَانِ بَيَّنَّاهُمَا ) يَعْنِي فِيمَا قَبْلَهَا : يَعْنِي قَوْلَهُ مِنْ جِهَةِ أَبِي يُوسُفَ لِيَكُونَ الثَّابِتُ أَدْنَى الْحُرْمَتَيْنِ ، وَمِنْ جِهَةِ مُحَمَّدٍ مَا ذَكَرْنَا .

( وَإِنْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَظَهْرِ أُمِّي وَنَوَى بِهِ طَلَاقًا أَوْ إيلَاءً لَمْ يَكُنْ إلَّا ظِهَارًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : هُوَ عَلَى مَا نَوَى ) لِأَنَّ التَّحْرِيمَ يَحْتَمِلُ كُلَّ ذَلِكَ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، غَيْرَ أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ إذَا نَوَى الطَّلَاقَ لَا يَكُونُ ظِهَارًا ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَكُونَانِ جَمِيعًا وَقَدْ عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ صَرِيحٌ فِي الظِّهَارِ فَلَا يُحْتَمَلُ غَيْرُهُ ، ثُمَّ هُوَ مُحْكَمٌ فَيُرَدُّ التَّحْرِيمُ إلَيْهِ .

وَفِي أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَظَهْرِ أُمِّي خِلَافٌ ، فَعِنْدَهُ لَا يَكُونُ إلَّا ظِهَارًا سَوَاءٌ نَوَى طَلَاقًا أَوْ إيلَاءً أَوْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا ( وَقَالَا : هُوَ عَلَى مَا نَوَى ) ظِهَارًا أَوْ طَلَاقًا أَوْ إيلَاءً ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَظِهَارٌ ( لِأَنَّ التَّحْرِيمَ يَحْتَمِلُ كُلَّ ذَلِكَ ) فَإِنْ نَوَى الطَّلَاقَ أَوْ الْإِيلَاءَ يَكُونُ قَوْلُهُ بَعْدَهُ كَظَهْرِ أُمِّي تَأْكِيدًا لَهُ لَا مُغَيِّرًا ( غَيْرَ أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ إذَا نَوَى الطَّلَاقَ لَا يَكُونُ ظِهَارًا ) مَعَهُ لِأَنَّهُ يَقَعُ بَائِنًا بِأَنْتِ حَرَامٌ ، وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ الظِّهَارِ بَعْدَهُ بِكَظَهْرِ أُمِّي ( وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَكُونَانِ ) فَقِيلَ لَا بِلَفْظِ حَرَامٌ إذْ لَا يُرَادُ بِاللَّفْظِ الْوَاحِدِ مَعْنَيَانِ مُخْتَلِفَانِ بَلْ كُلُّ لَفْظٍ ، وَهَذِهِ رِوَايَةٌ عَنْهُ فِي صِحَّةِ الظِّهَارِ مِنْ الْمُبَانَةِ .
وَقِيلَ بَلْ الظِّهَارُ يَقَعُ بِنَفْسِ اللَّفْظِ لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِيهِ وَالطَّلَاقُ بِاعْتِرَافِهِ بِنِيَّتِهِ ، كَمَا إذْ قَالَ مَنْ لَهُ امْرَأَةٌ مَعْرُوفَةٌ بِزَيْنَبِ زَيْنَبُ طَالِقٌ ثُمَّ قَالَ عَنَيْت الْأُخْرَى يَقَعُ عَلَيْهِمَا فِي الْأُخْرَى بِاعْتِرَافِهِ فِي الْمَعْرُوفَةِ بِصَرِيحِ اللَّفْظِ فِي الْقَضَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَصْدُقُ فِيهِ فِي صَرْفِ النِّيَّةِ عَنْهَا لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ وَالظِّهَارِ فِيمَا إذَا قَالَ عَنَيْت الطَّلَاقَ عِنْدَهُ إنَّمَا هُوَ فِي الْقَضَاءِ ، أَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَالْوَاقِعُ مَا نَوَى .
وَفِي شَرْحِ الْكَنْزِ : وَلَوْ نَوَى الْإِيلَاءَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ إيلَاءً وَظِهَارًا بِالِاتِّفَاقِ لِعَدَمِ التَّنَافِي ( قَوْلُهُ وَقَدْ عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ ) يَعْنِي الْمَبْسُوطَ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ : أَيْ لَفْظُ كَظَهْرِ أُمِّي صَرِيحٌ فِي الظِّهَارِ مُحْكَمٌ فِيهِ ، وَلَفْظُ حَرَامٌ مُحْتَمَلٌ فَيُرَدّ إلَيْهِ إذَا قُرِنَ مَعَهُ

قَالَ ( وَلَا يَكُونُ الظِّهَارُ إلَّا مِنْ الزَّوْجَةِ ، حَتَّى لَوْ ظَاهَرَ مِنْ أَمَتِهِ لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { مِنْ نِسَائِهِمْ } وَلِأَنَّ الْحِلَّ فِي الْأَمَةِ تَابِعٌ فَلَا تُلْحَقُ بِالْمَنْكُوحَةِ ، وَلِأَنَّ الظِّهَارَ مَنْقُولٌ عَنْ الطَّلَاقِ وَلَا طَلَاقَ فِي الْمَمْلُوكَةِ .

( قَوْلُهُ حَتَّى لَوْ ظَاهَرَ مِنْ أَمَتِهِ ) مَوْطُوءَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مَوْطُوءَةٍ لَا يَصِحُّ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَجَمْعٌ كَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ، خِلَافًا لِمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ فِي الْأَمَةِ مُطْلَقًا ، وَلِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ وَطَاوُسٍ وَقَتَادَةَ وَالزُّهْرِيِّ فِي الْمَوْطُوءَةِ .
لَنَا أَنَّ النَّصَّ يَتَنَاوَلُ نِسَاءَنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { مِنْ نِسَائِهِمْ } وَالْأَمَةُ وَإِنْ صَحَّ إطْلَاقُ لَفْظِ نِسَائِنَا عَلَيْهَا لُغَةً لَكِنَّ صِحَّةَ الْإِطْلَاقِ لَا تَسْتَلْزِمُ الْحَقِيقَةَ ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ إضَافَةِ النِّسَاءِ إلَى رَجُلٍ أَوْ رِجَالٍ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ مَعَ الزَّوْجَاتِ لِأَنَّهُ الْمُتَبَادَرُ حَتَّى يَصِحَّ أَنْ يُقَالَ هَؤُلَاءِ جَوَارِيه لَا نِسَاؤُهُ ، وَحُرْمَةُ بِنْتِ الْأَمَةِ الْمَوْطُوءَةِ لَيْسَ لِأَنَّ أُمَّهَا مِنْ نِسَائِنَا مُرَادَةٌ بِالنَّصِّ بَلْ لِأَنَّهَا بِنْتُ مَوْطُوءَةٍ وَطْئًا حَلَالًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَبِلَا هَذَا الْقَيْدِ عِنْدَنَا ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ بِالنِّسَاءِ هُنَاكَ مَا تَصِحُّ بِهِ الْإِضَافَةُ حَتَّى يَشْمَلَ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ وَهُنَّ الزَّوْجَاتُ ، وَالْمَجَازِيُّ : أَعْنِي الْإِمَاءَ بِعُمُومِ الْمَجَازِ لَأَمْكَنَ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى ثُبُوتِ ذَلِكَ الْحُكْمِ فِي الْإِمَاءِ كَثُبُوتِهِ فِي الزَّوْجَاتِ .
أَمَّا هُنَا فَلَا اتِّفَاقَ وَلَا لُزُومَ عِنْدَنَا أَيْضًا لِيَثْبُتَ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ ، لِأَنَّ الْإِمَاءَ لَسْنَ فِي مَعْنَى الزَّوْجَاتِ ، لِأَنَّ الْحِلَّ فِيهِنَّ تَابِعٌ غَيْرُ مَقْصُودٍ مِنْ الْعَقْدِ وَلَا مِنْ الْمِلْكِ حَتَّى يَثْبُتَ مَعَ عَدَمِهِ فِي الْأَمَةِ الْمَجُوسِيَّةِ وَالْمُوَاضَعَةِ ، بِخِلَافِ عَقْدِ النِّكَاحِ لَا يَصِحُّ فِي مَوْضِعٍ لَا يَحْتَمِلُ الْحِلَّ ، وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يُوجِبَ هَذَا التَّشْبِيهُ الَّذِي هُوَ كَذِبٌ سِوَى التَّوْبَةِ وَرَدَ الشَّرْعُ بِثُبُوتِ التَّحْرِيمِ فِيهِ فِي حَقِّ مَنْ لَهَا حَقٌّ فِي الِاسْتِمْتَاعِ وَلَا حَقَّ لِلْأَمَةِ فِيهِ فَيَبْقَى فِي حَقِّهَا عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ ، وَلِأَنَّ الظِّهَارَ كَانَ طَلَاقًا فَنُقِلَ عَنْهُ إلَى

تَحْرِيمٍ مُغَيَّا بِالْكَفَّارَةِ وَلَا طَلَاقَ فِي الْأَمَةِ ، وَلَيْسَ هَذَا الْوَجْهُ بِشَيْءٍ لِلْمُتَأَمِّلِ

( فَإِنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِغَيْرِ أَمْرِهَا ثُمَّ ظَاهَرَ مِنْهَا ثُمَّ أَجَازَتْ النِّكَاحَ فَالظِّهَارُ بَاطِلٌ ) لِأَنَّهُ صَادِقٌ فِي التَّشْبِيهِ وَقْتَ التَّصَرُّفِ فَلَمْ يَكُنْ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ ، وَالظِّهَارُ لَيْسَ بِحَقٍّ مِنْ حُقُوقِهِ حَتَّى يَتَوَقَّفَ ، بِخِلَافِ إعْتَاقِ الْمُشْتَرِي مِنْ الْغَاصِبِ لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ .
( قَوْلُهُ لِأَنَّهُ صَادِقٌ فِي التَّشْبِيهِ وَقْتَ التَّصَرُّفِ ) وَالتَّشْبِيهُ إنَّمَا انْعَقَدَ سَبَبًا لِلتَّحْرِيمِ الْمُغَيَّا حِينَ كَانَ كَذِبًا مَحْضًا فَلَا يَتَوَقَّفُ .
بَقِيَ أَنْ يُقَالَ فَلْيَتَوَقَّفْ عَلَى الْإِجَازَةِ كَمَا يَتَوَقَّفُ نِكَاحُهَا عَلَى الْإِجَازَةِ ، فَإِنْ أَجَازَتْ ظَهْرَ أَنَّهُ كَانَ التَّشْبِيهَ الْمُمْتَنِعَ .
أَجَابَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ وَالظِّهَارُ لَيْسَ بِحَقٍّ مِنْ حُقُوقِهِ حَتَّى يَتَوَقَّفَ بِتَوَقُّفِهِ ، لِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ حَلَالٌ وَالظِّهَارُ حَرَامٌ فَتَنَافَيَا ، بِخِلَافِ الْعِتْقِ مَعَ الْمِلْكِ فَلَا يَتَوَقَّفُ وَلَا يَثْبُتُ الظِّهَارُ بَعْدَ الْإِجَازَةِ ، بِخِلَافِ إعْتَاقِ الْمُشْتَرِي الْعَبْدَ مِنْ غَاصِبِ الْعَبْدِ ، لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ : يَعْنِي يَثْبُتُ بِالْمِلْكِ حَتَّى أَنْ يُعْتِقَ إذَا شَاءَ فَيَتَوَقَّفُ بِتَوَقُّفِهِ وَيَنْفُذُ بِنَفَاذِهِ وَلَا يَثْبُتُ بِمِلْكِ النِّكَاحِ ذَلِكَ بَلْ هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ، وَإِنْ كَانَ لَوْ قَالَهُ لَزِمَهُ حُكْمُهُ ، فَإِذَا أَجَازَ الْمَالِكُ بَيْعَ الْغَاصِبِ عَتَقَ

( وَمَنْ قَالَ لِنِسَائِهِ أَنْتُنَّ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي كَانَ مُظَاهِرًا مِنْهُنَّ جَمِيعًا ) لِأَنَّهُ أَضَافَ الظِّهَارَ إلَيْهِنَّ فَصَارَ كَمَا إذَا أَضَافَ الطَّلَاقَ ( وَعَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ كَفَّارَةُ ) لِأَنَّ الْحُرْمَةَ تَثْبُتُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدَةٍ وَالْكَفَّارَةُ لِإِنْهَاءِ الْحُرْمَةِ فَتَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِهَا ، بِخِلَافِ الْإِيلَاءِ مِنْهُنَّ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ فِيهِ لِصِيَانَةِ حُرْمَةِ الِاسْمِ وَلَمْ يَتَعَدَّدْ ذِكْرُ الِاسْمِ .

( قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ لِنِسَائِهِ أَنْتُنَّ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي كَانَ مُظَاهِرًا مِنْهُنَّ جَمِيعًا ) بِلَا خِلَافٍ ( لِأَنَّهُ أَضَافَ الظِّهَارَ إلَيْهِنَّ ) فَكَانَ كَإِضَافَةِ الطَّلَاقِ إلَيْهِنَّ يُطَلَّقْنَ جَمِيعًا ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي تَعَدُّدِ الْكَفَّارَةِ ؛ فَعِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِهِنَّ : أَيْ كُلُّ مَنْ أَرَادَ وَطْأَهَا وَجَبَ عَلَيْهِ تَقْدِيمُ كَفَّارَةٍ ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُمْ ، وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ : كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَاحِدَةٌ ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ ، وَعُرْوَةُ وَطَاوُسٌ وَعَطَاءٌ اعْتَبَرُوهُ بِالْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى فِي الْإِيلَاءِ قُلْنَا الْكَفَّارَةُ لِوَضْعِ الْحُرْمَةِ وَهِيَ مُتَعَدِّدَةٌ بِتَعَدُّدِهِنَّ ، وَكَفَّارَةُ الْيَمِينِ لِهَتْكِ حُرْمَةِ الِاسْمِ الْعَظِيمِ وَلَمْ يَتَعَدَّدْ ذِكْرُهُ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَرَّرَ الظِّهَارُ مِنْ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ مَرَّتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فِي مَجْلِسٍ أَوْ مَجَالِسَ حَيْثُ تَتَكَرَّرُ الْكَفَّارَةُ بِتَعَدُّدِهِ إلَّا إنْ نَوَى بِمَا بَعْدَ الْأَوَّلِ الْأَوَّلَ تَأْكِيدًا فَيُصَدَّقُ قَضَاءً فِيهِمَا لَا كَمَا قِيلَ فِي الْمَجْلِسِ لَا الْمَجَالِسِ ، بِخِلَافِ الطَّلَاقِ لِأَنَّ حُكْمَ الظِّهَارِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى .
وَأَوْرَدَ : لَمَّا ثَبَتَ بِالظِّهَارِ الْأَوَّلِ حُرْمَةٌ مُوَقَّتَةٌ فَكَيْفَ تَتَكَرَّرُ الْحُرْمَةُ بِتَكْرَارِ الظِّهَارِ وَمَا هُوَ إلَّا تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ .
أُجِيبَ بِالْأَوَّلِ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ الْمُوَقَّتَةُ مَعَ بَقَاءِ مِلْكِ الْحِلِّ فَيَصِحُّ الظِّهَارُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ وَلَا مُنَافَاةَ فِي اجْتِمَاعِ أَسْبَابِ الْحُرْمَةِ كَالْخَمْرِ حَرَامٌ عَلَى الصَّائِمِ لِعَيْنِهَا وَلِصَوْمِهِ وَلِيَمِينِهِ ، وَهَذَا لَا يَدْفَعُ سُؤَالَ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ إلَّا أَنْ يَلْتَزِمَ أَنْ يُثْبِتَ بِكُلِّ سَبَبٍ حُرْمَةً كَمَا الْتَزَمَ فِي أَسْبَابِ الْحَدَثِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الطَّهَارَاتِ .

[ فُرُوعٌ ] لَا يَصِحُّ ظِهَارُ الذِّمِّيِّ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ كَالْإِيلَاءِ ، وَهِيَ رِوَايَةُ الْبَرَامِكَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْأَوَّلُ رِوَايَةُ الْأَصْلِ لَنَا وَ { الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ } وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنَّا ، وَإِلْحَاقُهُ بِالْقِيَاسِ مُتَعَذِّرٌ لِأَنَّ الظِّهَارَ جِنَايَةٌ حُكْمُهَا تَحْرِيمٌ يَرْتَفِعُ بِالْكَفَّارَةِ ، وَشِرْكُ الْكَافِرِ يَمْنَعُ مِنْ رَفْعِ أَثَرِ الْجِنَايَةِ عَنْهُ بِالْكَفَّارَةِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ حَتَّى اُشْتُرِطَتْ النِّيَّةُ فَلَمْ تَصِحَّ مِنْ الْكَافِرِ فَيَبْقَى تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا وَهُوَ غَيْرُ حُكْمِهِ بِالنَّصِّ ، وَلِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا عَلَى رَأْيِكُمْ إذْ لَا يَقْدِرُ عَلَى مِلْكِ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِلْغَاءِ قَيْدِ الْإِيمَانِ فِي حَقِّهِ ، بِخِلَافِ النَّصِّ فَيَكُونُ خِلَافَ الْكَفَّارَةِ وَلَا إجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ لِيَكُونَ كَإِلْغَائِهِ فِي { إذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ } وَمَا أُجِيبَ مِنْ أَنَّهَا عِبَادَةٌ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ عُقُوبَةٌ فِي حَقِّ الْكَافِرِ يُقَالُ عَلَيْهِ إنَّهَا تَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ اتِّفَاقًا فَلَزِمَ كَوْنُهَا عِبَادَةً .
وَمَا دَفَعَ بِهِ مِنْ أَنَّ افْتِقَارَهَا إلَيْهَا كَافْتِقَارِ الْكِنَايَاتِ إلَيْهَا وَلَيْسَتْ عِبَادَةً مَدْفُوعٌ بِأَنَّهُ قِيَاسٌ بِلَا جَامِعٍ ، لِأَنَّ افْتِقَارَ الْكِنَايَاتِ إلَيْهَا لِيَتَعَيَّنَ بِهِ أَحَدُ الْمُحْتَمَلَاتِ وَهُوَ الطَّلَاقُ عَنْ غَيْرِهِ ، وَافْتِقَارُ الْكَفَّارَةِ لِتَقَعَ عِبَادَةً وَإِلَّا فَلِمَاذَا ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الظِّهَارِ وَالْإِيلَاءِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ أَجَازَ إيلَاءَ الْكَافِرِ خِلَافًا لِصَاحِبَيْهِ أَنَّ حُكْمَ الْإِيلَاءِ أَمْرَانِ : وُقُوعُ الطَّلَاقِ بِتَقْدِيرِ الْبَرِّ وَهَذَا يَتَحَقَّقُ فِي حَقِّهِمْ لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ حُرْمَةَ الِاسْمِ الْكَرِيمِ وَيَصُونُونَهُ فَيَنْعَقِدُ مِنْهُمْ نَظَرًا إلَى ذَلِكَ وَلُزُومُ الْكَفَّارَةِ بِتَقْدِيرِ الْحِنْثِ ، فَلَوْ فُرِضَ مِنْهُمْ الْحِنْثُ بِالْوَطْءِ انْتَفَى حُكْمُ

الْبَرِّ وَتَعَذَّرَ التَّكْفِيرُ

وَلَوْ ظَاهَرَ وَاسْتَثْنَى يَوْمَ الْجُمُعَةِ مَثَلًا ثُمَّ كَفَّرَ إنْ كَفَّرَ فِي يَوْمِ الِاسْتِثْنَاءِ لَمْ يَجُزْ ، وَلَوْ ظَاهَرَ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا صَحَّ تَقْيِيدُهُ وَلَا يَبْقَى بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ ، وَلَوْ عَلَّقَ الظِّهَارَ بِشَرْطٍ ثُمَّ أَبَانَهَا ثُمَّ وُجِدَ الشَّرْطُ فِي الْعِدَّةِ لَا يَصِيرُ مُظَاهِرًا ، بِخِلَافِ الْإِبَانَةِ الْمُعَلَّقَةِ عَلَى مَا سَلَفَ .
وَيَصِحُّ بِشَرْطِ النِّكَاحِ ، فَإِذَا قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ إنْ تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي فَتَزَوَّجَهَا لَزِمَهُ حُكْمُ الظِّهَارِ ، وَلَوْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي فِي رَجَبَ وَرَمَضَانَ وَكَفَّرَ فِي رَجَبَ أَجْزَأَهُ عَنْهُمَا ، وَلَوْ ظَاهَرَ فَجُنَّ ثُمَّ أَفَاقَ فَهُوَ عَلَى حُكْمِ الظِّهَارِ وَلَا يَكُونُ عَائِدًا بِالْإِفَاقَةِ خِلَافًا لِأَحَدِ وَجْهَيْنِ لِلشَّافِعِيَّةِ .

فَصْل فِي الْكَفَّارَة قَالَ ( وَكَفَّارَةُ الظِّهَارِ عِتْقُ رَقَبَةٍ ) فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ، ( فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ) لِلنَّصِّ الْوَارِدِ فِيهِ فَإِنَّهُ يُفِيدُ الْكَفَّارَةَ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ .
قَالَ ( وَكُلُّ ذَلِكَ قَبْلَ الْمَسِيسِ ) وَهَذَا فِي الْإِعْتَاقِ ، وَالصَّوْمُ ظَاهِرٌ لِلتَّنْصِيصِ عَلَيْهِ ، وَكَذَا فِي الْإِطْعَامِ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ فِيهِ مَنْهِيَّةٌ لِلْحُرْمَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِهَا عَلَى الْوَطْءِ لِيَكُونَ الْوَطْءُ حَلَالًا قَالَ ( وَتَجْزِي فِي الْعِتْقِ الرَّقَبَةُ الْكَافِرَةُ وَالْمُسْلِمَةُ وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَى وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ ) لِأَنَّ اسْمَ الرَّقَبَةِ يَنْطَلِقُ عَلَى هَؤُلَاءِ إذْ هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ الذَّاتِ الْمَرْقُوقِ الْمَمْلُوكِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَالشَّافِعِيُّ يُخَالِفُنَا فِي الْكَافِرَةِ وَيَقُولُ : الْكَفَّارَةُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَجُوزُ صَرْفُهُ إلَى عَدُوِّ اللَّهِ كَالزَّكَاةِ ، وَنَحْنُ نَقُولُ : الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ إعْتَاقُ الرَّقَبَةِ وَقَدْ تَحَقَّقَ ، وَقَصْدُهُ مِنْ الْإِعْتَاقِ التَّمَكُّنُ مِنْ الطَّاعَةِ ثُمَّ مُقَارَفَتُهُ الْمَعْصِيَةَ يُحَالُ بِهِ إلَى سُوءِ اخْتِيَارِهِ

( فَصْلٌ فِي الْكَفَّارَةِ ) قَوْلُهُ عِتْقُ رَقَبَةٍ ) أَيْ إعْتَاقُهَا ، فَإِنَّهُ لَوْ وَرِثَ مَنْ يُعْتَقُ عَلَيْهِ فَنَوَى بِهِ الْكَفَّارَةَ مُقَارِنًا لِمَوْتِ الْمُوَرِّثِ لَا يَجْزِيه عَنْهَا ( قَوْلُهُ وَكَذَا فِي الْإِطْعَامِ ) يَعْنِي يَجِبُ كَوْنُهُ قَبْلَ الْمَسِيسِ كَأَخَوَيْهِ ، وَالنَّصُّ لَا يُوجِبُ بِلَفْظِهِ ذَلِكَ فِيهِ فَعَلَّلَهُ وَأَلْحَقَهُ بِهِمَا .
وَحَاصِلُهُ عَقْلِيَّةٌ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ مَنْهِيَّةٌ بِالتَّنْصِيصِ عَلَى إيجَادِهِمَا قَبْلَ التَّمَاسِّ ، وَهَذَا كَفَّارَةُ مِثْلِهِمَا فَيَجِبُ كَوْنُهُ قَبْلَ التَّمَاسِّ ، وَمَا قَدَّمْنَا رِوَايَتَهُ مِنْ الْحَدِيثِ الْمُصَحَّحِ مِنْ { قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي وَاقَعَ قَبْلَ التَّكْفِيرِ اعْتَزِلْهَا حَتَّى تُكَفِّرَ } مُطْلَقٌ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ فَيَجِبُ إجْرَاؤُهُ عَلَى إطْلَاقِهِ .
لَا يُقَالُ هَذَا كُلُّهُ يَتَرَاءَى أَنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَى إطْلَاقِ النَّصِّ بِالْخَبَرِ وَالْقِيَاسِ ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَيَّدَ التَّحْرِيرَ بِكَوْنِهِ قَبْلَ الْمَسِيسِ فَقَالَ { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } .
ثُمَّ أَعَادَ الْقَيْدَ الْمَذْكُورَ مَعَ الصِّيَامِ فَقَالَ { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } ثُمَّ أَطْلَقَ الْإِطْعَامَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا } فَلَوْ أُرِيدَ التَّقْيِيدُ فِي الْإِطْعَامِ لَذُكِرَ كَمَا ذُكِرَ فِيهِمَا بَلْ تَخْصِيصُهُ بِالْإِطْلَاقِ بَعْدَمَا نَصَّ عَلَى تَكْرِيرِ الْقَيْدِ مَعَ التَّخْصِيصِ غَيْرُ مُكْتَفًى بِهِ لِتَقْيِيدِهِ فِي التَّحْرِيرِ قَرِينَةً عَلَى قَصْدِ الْإِطْلَاقِ فِيهِ ، وَمَا قِيلَ ذَكَرَهُ مَرَّتَيْنِ تَنْبِيهٌ عَلَى إرَادَةِ تَكَرُّرِهِ مُطْلَقًا إذْ هُوَ دُفِعَ لِتَوَهُّمِهَا اخْتِصَاصَهُ بِالْخَصْلَةِ الْأُولَى لَوْ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ مَعَهَا وَلِتَوَهُّمِ اخْتِصَاصِهِ بِالْأَخِيرَةِ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ مَعَهَا وَلِلتَّطْوِيلِ لَوْ أَعَادَ مَعَهَا بَعْدَهُمَا فَكَلَامُهُ غَيْرُ جَارٍ عَلَى قَوَانِينِ الِاسْتِدْلَالِ بَلْ هُوَ تَحْسِينٌ ، ثُمَّ

هُوَ مُعَارَضٌ بِمَا قُلْنَا مِنْ أَنَّ تَخْصِيصَهُ بِالْإِطْلَاقِ بَعْدَ تَكْرِيرِ الْقَيْدِ مَعَ أَخَوَيْهِ ظَاهِرٌ فِي إرَادَةِ انْفِرَادِهِ عَنْهُمَا بِمَعْنَى الْإِطْلَاقِ فَلَا يَتَخَرَّجُ عَلَى الْقَوَاعِدِ إلَّا إنْ تَحَقَّقَ فِيهِ إجْمَاعٌ فِي عَصْرٍ مِنْ الْأَعْصَارِ .
وَالثَّابِتُ فِيهِ الْآنَ قَوْلَانِ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَرِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ .
لِأَنَّا نَقُولُ الثَّابِتُ بِالنَّصِّ افْتِرَاضُ الْإِطْعَامِ شَرْطًا لِحِلِّ الْمُظَاهَرِ مِنْهَا مُطْلَقًا وَقَدْ جَرَيْنَا عَلَى مُوجِبِ ذَلِكَ ، وَنَحْنُ لَمْ نُقَيِّدْ اشْتِرَاطَهُ لِلْحِلِّ بِكَوْنِهِ قَبْلَ الْمَسِيسِ فَيَكُونُ زِيَادَةً بَلْ أَوْجَبْنَا ذَلِكَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْإِلْحَاقِ بِالْخَصْلَتَيْنِ فِي وُجُوبِ التَّقْدِيمِ لَا فِي اشْتِرَاطِهِ لِلْحِلِّ ، وَالْأَصْلُ وَإِنْ كَانَ الِافْتِرَاضُ فَالْمُتَعَدَّى إلَى الْفَرْعِ مِنْهُ الْوُجُوبُ .
لَا يُقَالُ حِينَئِذٍ يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ لِأَنَّا نَقُولُ : الْوَصْفُ الَّذِي زَادَ بِهِ الْفَرْضُ عَلَى الْوُجُوبِ لَيْسَ مِنْ الْحُكْمِ فَإِنَّ الْحُكْمَ هُوَ الْإِيجَابُ ، غَيْرَ أَنَّهُ إنْ كَانَ ثُبُوتُهُ قَطْعِيًّا سُمِّيَ فَرْضًا ، وَلَيْسَ كَيْفِيَّةُ الثُّبُوتِ جُزْءَ مَاهِيَّةِ الْحُكْمِ بَلْ جُزْءَ مَفْهُومِ لَفْظِ الْفَرْضِ تَأَمَّلْ ، وَعَمَّا قُلْنَا مِنْ عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ لِلْحِلِّ وَاعْتِبَارِ الْإِطْلَاقِ فِي ذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِيمَنْ قَرُبَ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا فِي خِلَالِ الصَّوْمِ يَسْتَأْنِفُ ، وَلَوْ قَرُبَهَا فِي خِلَالِ الْإِطْعَامِ لَا يَسْتَأْنِفُ ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَيَّدَ الصِّيَامَ بِكَوْنِهِ قَبْلَ التَّمَاسِّ وَأَطْلَقَ فِي الْإِطْعَامِ ، وَلَا يُحْمَلُ الْإِطْعَامُ عَلَى الصِّيَامِ لِأَنَّهُمَا حُكْمَانِ مُخْتَلِفَانِ وَإِنْ اتَّحَدَتْ الْحَادِثَةُ .
( قَوْلُهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ) مُتَّصِلٌ بِالْمَرْقُوقَةِ فَلِذَا لَوْ أَعْتَقَ أُمَّ وَلَدِهِ وَمُدَبَّرَهُ لَا يَجْزِيه عَنْهَا ، بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ الَّذِي لَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا وَعَنْ ذَلِكَ يَصِحُّ إعْتَاقُ الرَّضِيعِ لِصِدْقِ الِاسْمِ عَلَيْهِ ( قَوْلُهُ الْكَفَّارَةُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى ) الْمَشْهُورُ

بِنَاءُ الْخِلَافِ عَلَى أَنَّ الْمُطْلَقَ هَلْ يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ أَوْ لَا ؟ فَعِنْدَهُ نَعَمْ وَعِنْدَنَا لَا ، إلَّا فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ فِي حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَلْزَمُ ذَلِكَ لُزُومًا عَقْلِيًّا ، إذْ الشَّيْءُ لَا يَكُونُ نَفْسَهُ مَطْلُوبًا إدْخَالُهُ فِي الْوُجُودِ مُطْلَقًا وَمُقَيَّدًا كَالصَّوْمِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ ، وَرَدَ مُطْلَقًا وَمُقَيَّدًا بِالتَّتَابُعِ فِي الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ الَّتِي تَجُوزُ الزِّيَادَةُ بِمِثْلِهَا وَلِلْكَلَامِ فِي تَحْقِيقِ هَذَا الْأَصْلِ فَمِنْ غَيْرِ هَذَا ، وَلَوْ تَنَزَّلْنَا إلَى أَصْلِهَا لَمْ يَلْزَمْ مِنْ التَّصْدِيقِ فِي كَفَّارَةِ الْأَمْرِ الْأَعْظَمِ وَهُوَ الْقَتْلُ ثُبُوتُ مِثْلِهِ فِيمَا هُوَ أَخَفُّ مِنْهُ لِيَكُونَ التَّقْيِيدُ فِيهِ بَيَانًا فِي الْمُطْلَقِ .
وَتَقْرِيرُ مَا فِي الْكِتَابِ أَنَّ الْكَفَّارَةَ وَهِيَ الْإِعْتَاقُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَجُوزُ صَرْفُهَا إلَى عَدُوِّ اللَّهِ ، إذْ الْإِعْتَاقُ يَتَعَلَّقُ بِهِ وَيَتَحَقَّقُ أَثَرُهُ لَهُ وَهُوَ الْعِتْقُ كَالزَّكَاةِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا لَا يُعَارِضُ إطْلَاقَ النَّصِّ إلَّا إذَا كَانَ مَانِعًا عَقْلِيًّا مِنْهُ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِجَوَازِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْإِحْسَانِ وَالتَّمْلِيكِ تَصَدُّقًا عَلَى الْكَافِرِ بِالْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ ، وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَصَدَّقُوا عَلَى أَهْلِ الْأَدْيَانِ } وَالِاتِّفَاقُ عَلَى جَوَازِ الصَّدَقَةِ النَّافِلَةِ عَلَيْهِ مَعَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى ، فَلَوْلَا أَنَّ مَقْصُودَ الْقُرْبَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى يَحْصُلُ بِذَلِكَ لَمْ تُشَرَّعْ أَصْلًا ، وَلَا يَزِيدُ الْفَرْضُ عَلَى كَوْنِهِ قُرْبَةً إلَيْهِ تَعَالَى إلَّا بِكَوْنِهِ مَأْمُورًا بِهِ ، وَلَا يَظْهَرُ لِوَصْفِ الْمَأْمُورِيَّةِ أَثَرٌ فِي مُنَافَاةِ كَوْنِ مَحَلِّهِ كَافِرًا بَعْدَمَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُنَافِي مَعْنَى الْقُرْبَةِ ، وَلَوْلَا النَّصُّ الَّذِي يَخُصُّ الزَّكَاةَ لَقُلْنَا بِجَوَازِ دَفْعِهَا لِفُقَرَاءِ أَهْلِ

الذِّمَّةِ ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّقَرُّبَ بِفِعْلِ الْفَاعِلِ يَحْصُلُ لَا بِخُصُوصِ مَحَلِّ فِعْلِهِ ، وَهُوَ إنَّمَا يُعْتِقُهُ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الطَّاعَاتِ بِالْإِسْلَامِ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ مِنْ تَخْلِيصِهِ مِنْ رَقَبَةِ الرِّقِّ لَا لِغَيْرِ ذَلِكَ ، ثُمَّ افْتِرَاقُهُ هُوَ الْكُفْرُ لِسُوءِ اخْتِيَارٍ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ ، فَظَهَرَ ثُبُوتُ مَعْنَى التَّقَرُّبِ بِإِعْتَاقِهِ .
هَذَا وَيَدْخُلُ فِي الْكَافِرَةِ الْمُرْتَدُّ وَالْمُرْتَدَّةُ ، وَلَا خِلَافَ فِي إعْتَاقِ الْمُرْتَدَّةِ لِأَنَّهَا لَا تُقْتَلُ ، وَإِعْتَاقُ الْعَبْدِ الْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يَجْزِيه عَنْ الْكَفَّارَةِ ، وَإِعْتَاقُ الْمُسْتَأْمَنِ يَجْزِيه .

( وَلَا تُجْزِئُ الْعَمْيَاءُ وَلَا الْمَقْطُوعَةُ الْيَدَيْنِ أَوْ الرِّجْلَيْنِ ) لِأَنَّ الْفَائِتَ جِنْسُ الْمَنْفَعَةِ وَهُوَ الْبَصَرُ أَوْ الْبَطْشُ أَوْ الْمَشْيُ وَهُوَ الْمَانِعُ ، أَمَّا إذَا اخْتَلَّتْ الْمَنْفَعَةُ فَهُوَ غَيْرُ مَانِعٍ ، حَتَّى يُجَوِّزَ الْعَوْرَاءَ وَمَقْطُوعَةَ إحْدَى الْيَدَيْنِ وَإِحْدَى الرِّجْلَيْنِ مِنْ خِلَافٍ لِأَنَّهُ مَا فَاتَ جِنْسُ الْمَنْفَعَةِ بَلْ اخْتَلَّتْ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتَا مَقْطُوعَتَيْنِ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ حَيْثُ لَا يَجُوزُ لِفَوَاتِ جِنْسِ مَنْفَعَةِ الْمَشْيِ إذْ هُوَ عَلَيْهِ مُتَعَذِّرٌ ، وَيَجُوزُ الْأَصَمُّ .
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ وَهُوَ رِوَايَةُ النَّوَادِرِ ، لِأَنَّ الْفَائِتَ جِنْسُ الْمَنْفَعَةِ ، إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا الْجَوَازَ لِأَنَّ أَصْلَ الْمَنْفَعَةِ بَاقٍ ، فَإِنَّهُ إذَا صِيحَ عَلَيْهِ سَمِعَ حَتَّى لَوْ كَانَ بِحَالٍ لَا يَسْمَعُ أَصْلًا بِأَنْ وُلِدَ أَصَمَّ وَهُوَ الْأَخْرَسُ لَا يَجْزِيه ( وَلَا يَجُوزُ مَقْطُوعُ إبْهَامَيْ الْيَدَيْنِ ) لِأَنَّ قُوَّةَ الْبَطْشِ بِهِمَا فَبِفَوَاتِهِمَا يَفُوتُ جِنْسُ الْمَنْفَعَةِ ( وَلَا يَجُوزُ الْمَجْنُونُ الَّذِي لَا يَعْقِلُ ) لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالْجَوَارِحِ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْعَقْلِ فَكَانَ فَائِتَ الْمَنَافِعِ ( وَاَلَّذِي يُجَنُّ وَيُفِيقُ يَجْزِيه ) لِأَنَّ الِاخْتِلَالَ غَيْرُ مَانِعٍ ، وَلَا يُجْزِئُ عِتْقُ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ لِاسْتِحْقَاقِهِمَا الْحُرِّيَّةَ بِجِهَةٍ فَكَانَ الرِّقُّ فِيهِمَا نَاقِصًا ، وَكَذَا الْمُكَاتَبُ الَّذِي أَدَّى بَعْضَ الْمَالِ لِأَنَّ إعْتَاقَهُ يَكُونُ بِبَدَلٍ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجْزِيه لِقِيَامِ الرِّقِّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَلِهَذَا تَقْبَلُ الْكِتَابَةُ الِانْفِسَاخَ ، بِخِلَافِ أُمُومِيَّةِ الْوَلَدِ وَالتَّدْبِيرِ لِأَنَّهُمَا لَا يَحْتَمِلَانِ الِانْفِسَاخَ ، فَإِنْ أَعْتَقَ مُكَاتَبًا لَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا جَازَ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ .
لَهُ أَنَّهُ اسْتَحَقَّ الْحُرِّيَّةَ بِجِهَةِ الْكِتَابَةِ فَأَشْبَهَ الْمُدَبَّرَ .
وَلَنَا أَنَّ الرِّقَّ قَائِمٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ "

الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ " وَالْكِتَابَةُ لَا تُنَافِيه فَإِنَّهُ فَكُّ الْحَجْرِ بِمَنْزِلَةِ الْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ إلَّا أَنَّهُ بِعِوَضٍ فَيَلْزَمُ مِنْ جَانِبِهِ ، وَلَوْ كَانَ مَانِعًا يَنْفَسِخُ مُقْتَضَى الْإِعْتَاقِ إذْ هُوَ يَحْتَمِلُهُ ، إلَّا أَنَّهُ تَسْلَمُ لَهُ الْأَكْسَابُ وَالْأَوْلَادُ لِأَنَّ الْعِتْقَ فِي حَقِّ الْمَحَلِّ بِجِهَةِ الْكِتَابَةِ ، أَوْ لِأَنَّ الْفَسْخَ ضَرُورِيٌّ لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْوَلَدِ وَالْكَسْبِ

( قَوْلُهُ وَلَا تُجْزِئُ الْعَمْيَاءُ إلَخْ ) الْأَصْلُ أَنْ يَكُونَ الْمُعْتَقُ كَامِلَ الرِّقِّ مَقْرُونًا بِالنِّيَّةِ ، وَجِنْسُ مَا يَبْتَغِي مِنْ الْمَنَافِعِ بِلَا بَدَلٍ ، فَظَهَرَ أَنَّ اخْتِلَالَ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ لَا يَضُرُّ وَلَا ثُبُوتُ الْعَيْبِ ، وَهَذَا لِأَنَّ بِفَوَاتِ الْجِنْسِ الْمَنْفَعَةَ تَصِيرُ الرَّقَبَةُ فَائِتَةً مِنْ وَجْهٍ بِخِلَافِ نُقْصَانِهَا ، وَلَمْ يَعْتَبِرُوا فَوَاتَ الزِّينَةِ عَلَى الْكَمَالِ مَعَ أَنَّهُمْ اعْتَبَرُوهُ فِي الدِّيَاتِ فَأُلْزِمُوا بِقَطْعِ الْأُذُنَيْنِ الشَّاخِصَتَيْنِ تَمَامَ الدِّيَةِ ، وَجَوَّزُوا هُنَا عِتْقَ مَقْطُوعِهِمَا إذَا كَانَ السَّمْعُ بَاقِيًا ، وَمِثْلُهُ فِيمَنْ حُلِقَتْ لِحْيَتُهُ فَلَمْ تَنْبُتْ لِفَسَادِ الْمَنْبَتِ ، وَمَا عَلَّلُوا بِهِ فِي جَعْلِ الْعِنِّينِ وَالْخَصِيِّ وَالْمَجْبُوبِ مِنْ الْفَائِتِ مَنْفَعَةَ النَّسْلِ وَهُوَ زَائِدٌ عَلَى مَا يُطْلَبُ مِنْ الْمَمَالِيكِ يُعَلَّلُ بِهِ فِي فَوَاتِ الزِّينَةِ عَلَى الْكَمَالِ ، لِأَنَّ بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ لَا يَصِيرُ الْمَرْقُوقُ هَالِكًا مِنْ وَجْهٍ بَلْ الْحُرُّ ، فَعَنْ هَذَا افْتَرَقَ الْحَالُ بَيْنَ الْإِعْتَاقِ وَالدِّيَةِ فِيهِ ، وَتَجُوزُ الرَّتْقَاءُ وَالْقَرْنَاءُ وَالْعَوْرَاءُ وَالْعَمْشَاءُ وَالْغَشْوَاءُ وَالْبَرْصَاءُ وَالرَّمْدَاءُ وَالْخُنْثَى ، لَا مَقْطُوعُ الْيَدِ أَوْ الرِّجْلَيْنِ أَوْ إحْدَى كُلٍّ مِنْ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَيَجُوزُ مِنْ خِلَافٍ .
أَمَّا مَقْطُوعُ إبْهَامَيْ الْيَدَيْنِ فَلِمَا فِي الْكِتَابِ ، وَمِثْلُهُ مَقْطُوعُ ثَلَاثِ أَصَابِعَ غَيْرَ الْإِبْهَامَيْنِ مِنْ كُلِّ يَدٍ لِأَنَّ الْأَكْثَرَ كَالْكُلِّ وَيَجُوزُ مَقْطُوعُ إصْبَعَيْنِ غَيْرَ الْإِبْهَامِ مِنْ كُلِّ يَدٍ لَا سَاقِطُ الْأَسْنَانِ الْعَاجِزُ عَنْ الْأَكْلِ ، وَلَا يَجُوزُ الْمَجْنُونُ الْمُطْبَقُ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ كُلَّهَا فِي حَقِّهِ فَائِتَةٌ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهَا إنَّمَا هُوَ بِالْعَقْلِ وَأَمَّا الَّذِي يُجَنُّ وَيُفِيقُ فَيَجْزِي عِتْقُهُ أَطْلَقَهُ فِي الْهِدَايَةِ وَالْمُرَادُ إذَا أَعْتَقَهُ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ وَفِي الْأَصَمِّ رِوَايَتَانِ ، وَمَا ذُكِرَ فِي الْهِدَايَةِ

يُؤْخَذُ مِنْهُ التَّوْفِيقُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ ، فَمَحْمَلُ رِوَايَةِ النَّوَادِرِ : الْأَصَمُّ الَّذِي وُلِدَ أَصَمَّ وَهُوَ الْأَخْرَسُ فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُ أَصْلًا وَلَا يَتَكَلَّمُ ، وَمَحْمَلُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الَّذِي إذَا صِيحَ عَلَيْهِ يَسْمَعُ .
وَرَوَى إبْرَاهِيمُ عَنْ مُحَمَّدٍ : إذَا أَعْتَقَ عَبْدًا حَلَالَ الدَّمِ قُضِيَ بِدَمِهِ عَنْ ظِهَارِهِ ثُمَّ عَفَى عَنْهُ لَمْ يَجُزْ .
وَفِي التَّجْنِيسِ : مِنْ عَلَامَةِ عُيُونِ الْمَسَائِلِ إذَا أَعْتَقَ عَبْدًا مَرِيضًا عَنْ ظِهَارِهِ إنْ كَانَ يُرْجَى وَيُخَافُ عَلَيْهِ يَجُوزُ ، وَإِنْ كَانَ لَا يُرْجَى لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ مَيِّتٌ مَعْنَى هَذَا وَقَدْ مَنَعَ فَوَاتَ لُزُومِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ بِقَطْعِ الْإِبْهَامَيْنِ بَلْ اللَّازِمُ اخْتِلَالُهَا وَلَوْ لَزِمَ ذَلِكَ لَوَجَبَ بِقَطْعِهِمَا دِيَةٌ كَامِلَةٌ ، لَكِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَعْتَبِرْهُمَا إلَّا كَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَصَابِعِ ، وَأَيْضًا رَتَّبَ عَلَى الدَّلِيلِ نَتِيجَةً لَا يَسْتَلْزِمُهَا ، وَذَلِكَ أَنَّ فَوَاتَ قُوَّةِ الْبَطْشِ لَيْسَتْ لَازِمَةً وَلَا عَنْهُ فَوَاتُ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ بَلْ ضَعْفُهَا ( وَلَا يَجُوزُ عِتْقُ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ ) وَيَجُوزُ إعْتَاقُ الْمُكَاتَبِ الَّذِي لَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا لَا الَّذِي أَدَّى بَعْضَ الْكِتَابَةِ وَالشَّافِعِيُّ مَنَعَهُ ، وَأَلْحَقَ الْمُكَاتَبَ بِالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ بِجَامِعِ أَنَّهُ اسْتَحَقَّ الْعِتْقَ بِجِهَةِ الْكِتَابَةِ فَأَشْبَهَ الْمُدَبَّرَ وَأُمَّ الْوَلَدِ فَنَقَصَ الرِّقُّ فِيهِ كَمَا نَقَصَ فِيهِمَا بَلْ هُوَ أَوْلَى بِعَدَمِ الْإِجْزَاءِ مِنْهُمَا ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ كُلُّ مَمْلُوكٍ فِي حُرٍّ عَتَقَ مُدَبَّرَهُ وَأُمَّ وَلَدِهِ ، وَلَا يَعْتِقُ مُكَاتَبَهُ إلَّا بِالنِّيَّةِ فَدَلَّ أَنَّهُ أَنْقَصُ رِقًّا مِنْهُمَا وَبِهَذَا يَبْطُلُ قَوْلُكُمْ الْكِتَابَةُ إنَّمَا اقْتَضَتْ فَكَّ الْحَجْرِ لَا غَيْرَ كَالْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ ، وَلَوْ صَحَّ ذَلِكَ لَاسْتَبَدَّ الْمَوْلَى بِفَسْخِهَا كَالْمَنْعِ مِنْ التِّجَارَةِ .
وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى وَجْهِ الْإِلْزَامِ لَنَا فِي الْمُدَبَّرِ ، فَإِنَّ عِنْدَهُ بَيْعُ الْمُدَبَّرِ وَإِعْتَاقُهُ

جَائِزٌ ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ بِنَاءً عَلَى جَوَازِ بَيْعِهِ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لَنَا ، وَفِي أُمِّ الْوَلَدِ عَلَى وَجْهِ الْإِثْبَاتِ لِنَفْسِهِ ، وَنَحْنُ نَمْنَعُ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْعِتْق بِجِهَةٍ تَقْبَلُ الْفَسْخَ عَلَى تَقْدِيرِ تَحَقُّقِهَا يُوجِبُ نُقْصَانَ الرِّقِّ ، فَإِنَّ ذَلِكَ مَعْنَى التَّعْلِيقِ وَهُوَ الْحَاصِلُ هُنَا ، فَإِنَّ حَاصِلَ الْكِتَابَةِ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالْأَدَاءِ ، وَلَوْ عُلِّقَ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ لَمْ يَلْزَمْ نُقْصَانُ الرِّقِّ فَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّ سَائِرَ التَّعْلِيقَاتِ لَا تَحْتَمِلُ الِانْفِسَاخَ بِخِلَافِ هَذَا ، وَلَوْلَا ثُبُوتُ النَّصِّ الْمُفِيدِ لِامْتِنَاعِ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ لَمْ يَتَبَيَّنْ نُقْصَانُ الرِّقِّ فِيهِمَا لِأَنَّ الْحَاصِلَ فِيهِمَا أَيْضًا تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِمَوْتِ السَّيِّدِ .
وَلَوْ تَمَكَّنَ نُقْصَانٌ فِي رِقِّهِ لَمَا تُصَوِّرَ فَسْخُهُ وَإِعَادَتُهُ إلَى الْحَالَةِ الْأُولَى ، لِأَنَّ نُقْصَانَ الرِّقِّ بِثُبُوتِ الْعِتْقِ بِقَدْرِهِ وَثُبُوتِهِ مِنْ وَجْهٍ لَا يَحْتَمِلُ الزَّوَالَ كَثُبُوتِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَهَذَا مَا يُقَالُ حَقُّ الْعِتْقِ كَحَقِيقَتِهِ ، وَهَذَا هُوَ الثَّابِتُ فِي الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ لِثُبُوتِ الْعِتْقِ فِي حَقِّهِمَا بِجِهَةٍ لَازِمَةٍ ، فَظَهَرَ أَنَّ الْكِتَابَةَ إنَّمَا أَوْجَبَتْ فَكَّ الْحَجْرِ فِي الْمَكَاسِبِ ، وَذَا لَا يُمْكِنُ نُقْصَانًا فِي الرِّقِّ إذْ الْمَكَاسِبُ غَيْرُ الرَّقَبَةِ ، وَبِهِ يُعْلَمُ أَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابَتِهِ شَيْءٌ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
الْمُرَادُ بِهِ كَامِلٌ فِي الْعُبُودِيَّةِ وَالرِّقِّ ، وَإِنَّمَا يَسْتَبِدُّ الْمَوْلَى بِفَسْخِهِ لِأَنَّهُ بِبَدَلٍ فَانْعَقَدَ لَازِمًا عَلَى الْمَوْلَى ، بِخِلَافِ الْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ لِأَنَّهُ فُكَّ بِلَا بَدَلٍ وَعَدَمُ عِتْقِ الْمُكَاتَبِ فِي كُلِّ مَمْلُوكٍ لَهُ حُرٌّ لِنُقْصَانِ الْمِلْكِ فِيهِ فَلَا يَدْخُلُ إلَّا بِالنِّيَّةِ ، لَكِنَّ نُقْصَانَ الْمِلْكِ لَا يَسْتَلْزِمُ نُقْصَانَ الرِّقِّ لِأَنَّ مَحَلَّ الْمِلْكِ أَعَمُّ مِنْ مَحَلِّ الرِّقِّ ،

أَلَا يَرَى أَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ فِيمَا لَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُ الرِّقِّ فِيهِ كَالْأَمْتِعَةِ ، وَالْحَيَوَانِ غَيْرَ الْآدَمِيِّ ، فَفِي الْعَبْدِ رِقٌّ فِي رَقَبَتِهِ وَمِلْكٌ يُحَاذِيه فِيهَا وَيَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهَا مِنْ مَنَافِعِهِ وَأَكْسَابِهِ وَالْكِتَابَةُ أَوْجَبَتْ الْفَكَّ فِي حَقِّ مَا يَزِيدُ عَلَى الرَّقَبَةِ وَهُوَ مَحَلُّ الْمِلْكِ لَا الرِّقِّ فَنَقَصَ بِهَا الْمِلْكُ لَا الرِّقُّ ، وَلَكِنَّ الْعِتْقَ إنَّمَا يَعْتَمِدُ الرِّقَّ لِأَنَّهُ لَوْ دَارَ مَعَ الْمِلْكِ ثَبَتَ فِي غَيْرِ الْآدَمِيِّ أَيْضًا فَكَانَ حِينَئِذٍ كَشَرْعِ السَّائِبَةِ وَلَا مُوجِبَ لِنُقْصَانِهِ فَيَبْقَى عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ لِعَدَمِ الْمُزَحْزِحِ .
( قَوْلُهُ إلَّا أَنَّهُ يُسَلِّمَ لَهُ الْأَكْسَابَ إلَخْ ) جَوَابٌ عَمَّا قَدْ يُقَالُ عِتْقُهُ حَيْثُ وَقَعَ إنَّمَا يَقَعُ شَرْعًا بِجِهَةِ الْكِتَابَةِ وَإِنْ عَيَّنَ السَّيِّدُ جِهَةَ التَّكْفِيرِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُسَلِّمُ لَهُ الْأَكْسَابَ وَالْأَوْلَادَ ، فَعُلِمَ أَنَّهُ بِجِهَةِ الْكِتَابَةِ أَجَابَ بِوَجْهَيْنِ : الْأَوَّلِ أَنَّ الْعِتْقَ فِي الْمُكَاتَبِ وَاحِدٌ وَالْإِعْتَاقُ مِنْ جَانِبِ الْمَوْلَى تَخْتَلِفُ جِهَاتُهُ ، فَفِيمَا يَرْجِعُ إلَى حَقِّ الْمُكَاتَبِ جَعَلَ هَذَا ذَلِكَ الْعِتْقَ لِكَوْنِهِ مُتَّحِدًا ، وَفِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمَوْلَى جُعِلَ إعْتَاقًا بِجِهَةِ الْكَفَّارَةِ لِأَنَّهُ قَصَدَ ذَلِكَ ، وَهُوَ كَالْمَرْأَةِ إذَا وَهَبَتْ الصَّدَاقَ لِلزَّوْجِ قَبْلَ الْقَبْضِ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ وَجَعَلَ هِبَتَهَا فِي حَقِّ الزَّوْجِ تَحْصِيلًا لِمَقْصُودِ الزَّوْجِ عِنْدَ الطَّلَاقِ ، وَفِي حَقِّهَا يُجْعَلُ تَمْلِيكًا بِهِبَةٍ مُبْتَدَأَةٍ ، وَحَقِيقَةُ الْجَامِعِ بَيْنَهُمَا إذَا حَصَلَ عَيْنُ الْمَقْصُودِ فَلَا يُبَالِي بِاخْتِلَافِ السَّبَبِ ، فَفِي مَسْأَلَةِ الزَّوْجِ نَفْسُ حَقِّهِ لَيْسَ إلَّا بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ عَنْ نِصْفِ الصَّدَاقِ وَقَدْ حَصَلَ فَلَا يُبَالَى بِكَوْنِهِ عَنْ سَبَبٍ آخَرَ غَيْرِ الطَّلَاقِ ، وَكَذَلِكَ هُنَا عَيْنُ حَقِّ الْمُكَاتَبِ لَيْسَ إلَّا عِتْقُهُ عِنْدَ الْأَدَاءِ وَقَدْ حَصَلَ عَيْنُهُ .
الثَّانِي :

انْفِسَاخُ الْكِتَابَةِ ضَرُورِيٌّ ، إذْ هُوَ ضَرُورَةُ تَصْحِيحِ عِتْقِهِ عَنْ الْكَفَّارَةِ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ مِنْ عَاقِلٍ مُسْلِمٍ فِيمَا فِيهِ مَانِعٌ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ ، وَالثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا فَيَظْهَرُ فِي حَقِّ جَوَازِ التَّحْرِيرِ لِلتَّكْفِيرِ لَا فِي حَقِّ الْأَكْسَابِ وَالْأَوْلَادِ لِأَنَّهُ لَا دَلَالَةَ عَلَى الرِّضَا فِيهِمَا فَيُعْتَقُ فِي حَقِّهِمَا مُكَاتَبًا فَتُسَلَّمُ لَهُ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ عَتَقَ مُكَاتَبًا كَوْنُ عِتْقِهِ بِجِهَةِ الْكِتَابَةِ وَإِلَّا لَتَقَرَّرَ بَدَلُ الْكِتَابَةِ إذْ تَسْلِيمُ الْمُبْدَلِ يُوجِبُ تَقَرُّرَ الْبَدَلِ

( وَإِنْ اشْتَرَى أَبَاهُ أَوْ ابْنَهُ يَنْوِي بِالشِّرَاءِ الْكَفَّارَةَ جَازَ عَنْهَا ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ وَالْمَسْأَلَةُ تَأْتِيك فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ إنْ شَاءَ اللَّهُ
( قَوْلُهُ وَإِنْ اشْتَرَى أَبَاهُ أَوْ ابْنَهُ يَنْوِي بِالشِّرَاءِ الْكَفَّارَةَ جَازَ عَنْهَا ) هَذَا فِي الشِّرَاءِ ، أَمَّا لَوْ وَرِثَ أَحَدُهُمَا فَنَوَى الْكَفَّارَةَ فَقَدْ قَدَّمْنَاهُ ، وَلَوْ وَهَبَ لَهُ أَوْ أَوْصَى لَهُ صَحَّ .
الْحَاصِلُ أَنَّهُ إذَا دَخَلَ فِي مِلْكِهِ بِصُنْعٍ مِنْهُ إنْ نَوَى عِنْدَ صُنْعِهِ أَنْ يَكُونَ عِتْقُهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ أَجْزَأَهُ وَإِلَّا فَلَا ، وَلَوْ قَالَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ ، وَنَوَى كَوْنَ الْعِتْقِ وَقْتَ دُخُولِهِ عَنْ الْكَفَّارَةِ لَا يَجُوزُ ، وَلَوْ نَوَاهُ وَقْتَ الْيَمِينِ جَازَ

وَإِنْ أَعْتَقَ نِصْفَ عَبْدٍ مُشْتَرَكٍ وَهُوَ مُوسِرٌ وَضَمِنَ قِيمَةَ بَاقِيه لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَيَجُوزُ عِنْدَهُمَا لِأَنَّهُ يَمْلِكُ نَصِيبَ صَاحِبِهِ بِالضَّمَانِ فَصَارَ مُعْتِقًا كُلَّ الْعَبْدِ عَنْ الْكَفَّارَةِ وَهُوَ مِلْكُهُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمُعْتِقُ مُعْسِرًا لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ فَيَكُونُ إعْتَاقًا بِعِوَضٍ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ نَصِيبَ صَاحِبِهِ يَنْتَقِصُ عَلَى مِلْكِهِ ثُمَّ يَتَحَوَّلُ إلَيْهِ بِالضَّمَانِ وَمِثْلُهُ يَمْنَعُ الْكَفَّارَةَ
( قَوْلُهُ وَضَمِنَ قِيمَةَ بَاقِيه ) يَعْنِي أَعْتَقَ ذَلِكَ الْبَاقِي أَيْضًا ( لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ ) بِنَاءً عَلَى تَجْزِيءِ الْإِعْتَاقِ وَعَدَمِهِ عِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ ، فَإِعْتَاقُ نِصْفِهِ إعْتَاقُ كُلِّهِ ، غَيْرَ أَنَّ الْمُعْتِقَ إنْ كَانَ مُوسِرًا ضَمِنَ نَصِيبَ شَرِيكِهِ وَيَمْلِكُهُ فَصَارَ مُعْتِقًا كُلَّهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ وَهُوَ مِلْكُهُ ، وَلَا سِعَايَةَ عَلَى الْعَبْدِ حَتَّى يَكُونَ إعْتَاقًا بِعِوَضٍ ، وَلَوْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُعْسِرًا لَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ عَلَى الْعَبْدِ السِّعَايَةَ عِنْدَهُمَا فَيَكُونُ عِتْقًا بِبَدَلٍ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْبَدَلُ حَاصِلًا لِلْمُعْتِقِ بَلْ هُوَ لِلشَّرِيكِ الْمَقْصُودِ أَنَّهُ لَزِمَ الْعَبْدَ بَدَلٌ فِي مُقَابَلَةِ تَحْرِيرِ رَقَبَتِهِ .
وَعِنْدَهُ يَتَجَزَّأُ فَإِنَّمَا أَعْتَقَ نَصِيبَهُ فِي الِابْتِدَاءِ وَنِصْفُ الرَّقَبَةِ لَيْسَ رَقَبَةً وَقَدْ تَمَكَّنَ النُّقْصَانُ فِي الرِّقِّ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ لِتَعَذُّرِ اسْتِدَامَةِ الرِّقِّ فِيهِ فَصَارَ كَأُمِّ الْوَلَدِ بَلْ أَشَدَّ لِأَنَّ عِتْقَهَا مُتَعَلِّقٌ بِالْمَوْتِ ، بِخِلَافِ هَذَا ، وَهَذَا النُّقْصَانُ وَقَعَ فِي مِلْكِ شَرِيكِهِ ثُمَّ بِالضَّمَانِ مَلَكَهُ نَاقِصًا ، وَمِثْلُهُ يَمْنَعُ التَّكْفِيرَ كَالتَّدْبِيرِ فَصَارَ كَأَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدًا إلَّا شَيْئًا مِنْهُ ،

( فَإِنْ أَعْتَقَ نِصْفَ عَبْدِهِ عَنْ كَفَّارَتِهِ ثُمَّ أَعْتَقَ بَاقِيه عَنْهَا جَازَ ) لِأَنَّهُ أَعْتَقَهُ بِكَلَامَيْنِ وَالنُّقْصَانُ مُتَمَكِّنٌ عَلَى مِلْكِهِ بِسَبَبِ الْإِعْتَاقِ بِجِهَةِ الْكَفَّارَةِ وَمِثْلُهُ غَيْرُ مَانِعٍ ، كَمَنْ أَضْجَعَ شَاةً لِلْأُضْحِيَّةِ فَأَصَابَ السِّكِّينُ عَيْنَهَا ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ لِأَنَّ النُّقْصَانَ تَمَكَّنَ عَلَى مِلْكِ الشَّرِيكِ وَهَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ .
أَمَّا عِنْدَهُمَا فَالْإِعْتَاقُ لَا يَتَجَزَّأُ ، فَإِعْتَاقُ النِّصْفِ إعْتَاقُ الْكُلِّ فَلَا يَكُونُ إعْتَاقًا بِكَلَامَيْنِ .

بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ فَإِنَّهُ أَعْتَقَ نِصْفَهُ ثُمَّ نِصْفَهُ بَعْدَ كَوْنِ الْكُلِّ عَلَى مِلْكِهِ فَتَمَكَّنَ النُّقْصَانُ عَلَى مِلْكِهِ بِسَبَبِ الْإِعْتَاقِ بِجِهَةِ الْكَفَّارَةِ فَيَجُوزُ ، كَمَنْ أَضْجَعَ شَاةً لِيَذْبَحَهَا أُضْحِيَّةً فَأَصَابَتْ السِّكِّينُ عَيْنَهَا فَاعْوَرَّتْ فَإِنْ قِيلَ : الْمِلْكُ فِي الْمَضْمُونِ يَثْبُتُ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ وُجُودِ السَّبَبِ وَبِهِ يَظْهَرُ أَنَّ نَصِيبَ السَّاكِتِ مِلْكٌ لَلْمُعْتِق زَمَانَ الْإِعْتَاقِ وَهُوَ إذْ ذَاكَ لَا نُقْصَانَ فِيهِ .
قُلْنَا : الْمِلْكُ إنَّمَا يَثْبُتُ مُسْتَنِدًا فِي حَقِّ الضَّامِنِ وَالْمَضْمُونِ لَهُ لَا فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا فَيَتَمَكَّنُ النُّقْصَانُ فِي نَصِيبِ السَّاكِتِ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا وَالْكَفَّارَةُ غَيْرُهُمَا فَلَمْ تَجُزْ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ التَّعَيُّبَ ضَرُورَةَ إقَامَةِ الْمَأْمُورِ بِهِ لَيْسَ كَالتَّعَيُّبِ بِصُنْعِهِ مُخْتَارًا ، حَتَّى أَنَّهُ لَوْ فَقَأَ عَيْنَ الشَّاةِ مُخْتَارًا عِنْدَ الذَّبْحِ نَقُولُ لَا يَجْزِيه ، فَكَانَ الْمُشْتَرِكُ أَوْلَى بِالْإِجْزَاءِ مِنْ الْعَبْدِ الْمُخْتَصِّ .
لِأَنَّ مَالِكَ النِّصْفِ لَا يَقْدِرُ عَلَى عِتْقِهِ إلَّا بِطَرِيقِ عِتْقِ نِصْفِهِ فَحَالُهُ أَشْبَهُ بِذَابِحِ الشَّاةِ مِنْ مَالِكِهِ عَلَى الْكَمَالِ .
وَجَوَابُهُ أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ حَصَلَ بِسَبَبِ إقَامَةِ الْوَاجِبِ ، وَهَذَا الْقَدْرُ كَافٍ فِي عَدَمِ مَانِعِيَّتِهِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى كَوْنِهِ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ إقَامَةُ الْوَاجِبِ إلَّا كَذَلِكَ ، فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمَا أَطْلَقَ لَهُ الْعِتْقَ بِمَرَّةٍ وَبِمَرَّاتٍ كَانَ لَازِمُهُ أَنَّهُ إذَا حَصَلَ النَّقْصُ بِسَبَبِهِ مُطْلَقًا لَا يُمْنَعُ .
وَعَنْ هَذَا بَحَثَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ يَجِبُ الْإِجْزَاءُ فِي الصُّورَتَيْنِ ، فَإِنَّ النَّقْصَ فِي الْأَوَّلِ أَيْضًا حَصَلَ بِسَبَبِ الْعِتْقِ كَالثَّانِي ، وَالْعَمْدُ وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ لِأَنَّهُ نُقْصَانٌ حُكْمِيٌّ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ ، وَلِأَنَّ الْمِلْكَ بِالضَّمَانِ يَسْتَنِدُ فَيَظْهَرُ مِلْكُهُ فِي الْكُلِّ عِنْدَ إعْتَاقِ النِّصْفِ فَيَكُونُ كَالصُّورَةِ الثَّانِيَةِ .
وَأَجَابَ عَنْ

قَوْلِهِمْ إنَّمَا يَسْتَنِدُ فِي حَقِّ الضَّامِنِ وَالْمَضْمُونِ لَهُ دُونَ الْكَفَّارَةِ بِأَنَّ النَّقْصَ لَمَّا كَانَ حُكْمِيًّا فَسَوَاءٌ وُجِدَ فِي مِلْكِهِ بَيْنَ إعْتَاقِ نِصْفِهِ وَإِعْتَاقِ بَاقِيه أَوْ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بَيْنَ الْإِعْتَاقَيْنِ ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ يُنَافِي كَمَالَ الرُّقْيَةِ مُنِعَ مُطْلَقًا .
وَجَوَابُهُ أَنَّ مُنَافَاةَ الْكَمَالِ لَا تَسْتَلْزِمُ مُنَافَاةَ الْإِجْزَاءِ إلَّا إذَا كَانَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ لِأَنَّهُ أُهْدِرَ لِحُصُولِهِ بِسَبَبِ إقَامَةِ الْوَاجِبِ ، غَيْرَ أَنَّهُ إذَا وَقَعَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ وَضَمِنَهُ كَانَ مُشْتَرِيًا النَّاقِصَ رِقًّا مَعْنَى فَمُعْتِقُهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا وَقَعَ فِي مِلْكِهِ حَيْثُ يَتَحَقَّقُ فِيهِ الْإِهْدَارُ دُونَ الشِّرَاءِ مَعْنَى لِنَاقِصِ الرِّقِّ ثُمَّ إعْتَاقُهُ ، فَحَيْثُ أُهْدِرَ كَانَ كَأَنَّهُ أَعْتَقَ نِصْفَهُ وَبَعْضَ النِّصْفِ الْآخَرِ ثُمَّ أَعْتَقَ بَاقِيه ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ لَا يُمْكِنُ جَعْلُ النُّقْصَانِ فِي ذَلِكَ النِّصْفِ مُضَافًا إلَى الْكَفَّارَةِ لِعَدَمِ مِلْكِهِ لِذَلِكَ النِّصْفِ فَبَطَلَ قَدْرُ النُّقْصَانِ إذَا كَانَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ فَلَمْ يَقَعْ عَنْ الْكَفَّارَةِ

( وَإِنْ أَعْتَقَ نِصْفَ عَبْدِهِ عَنْ كَفَّارَتِهِ ثُمَّ جَامَعَ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا ثُمَّ أَعْتَقَ بَاقِيه لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ ، وَشَرْطُ الْإِعْتَاقِ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْمَسِيسِ بِالنَّصِّ ، وَإِعْتَاقُ النِّصْفِ حَصَلَ بَعْدَهُ ، وَعِنْدَهُمَا إعْتَاقُ النِّصْفِ إعْتَاقُ الْكُلِّ فَحَصَلَ الْكُلُّ قَبْلَ الْمَسِيسِ .
( قَوْلُهُ وَإِعْتَاقُ النِّصْفِ حَصَلَ بَعْدَهُ ) فَإِنْ قِيلَ : كُلُّ إعْتَاقٍ بَعْدَ هَذَا وَإِنْ كَانَ إعْتَاقَ عَبْدٍ كَامِلٍ فَهُوَ بَعْدَ الْمَسِيسِ ، فَلَوْ كَانَ وُقُوعُهُ بَعْدَ الْمَسِيسِ مَانِعًا مِنْ الْإِجْزَاءِ عَنْ الْكَفَّارَةِ لَمْ يَجُزْ عِتْقُ رَقَبَةٍ كَامِلَةٍ بَعْدَهُ أَيْضًا .
قُلْنَا إنَّمَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ إعْتَاقُ رَقَبَةٍ كَامِلَةٍ قَبْلَ الْمَسِيسِ الثَّانِي ، وَبَطَلَ إعْتَاقُ ذَلِكَ النِّصْفِ لِأَنَّ الشَّرْطَ لِلْحِلِّ مُطْلَقًا إعْتَاقُ كُلِّ الرَّقَبَةِ قَبْلَ الْمَسِيسِ وَلَمْ يُوجَدْ فَتَقَرَّرَ الْإِثْمُ بِذَلِكَ الْمَسِيسِ ، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ اعْتِبَارُ ذَلِكَ النِّصْفِ مِنْ الشَّرْطِ حَتَّى يَكْفِيَ مَعَهُ عِتْقُ النِّصْفِ لِأَنَّ الْمَجْمُوعَ حِينَئِذٍ لَيْسَ قَبْلَ الْمَسِيسِ فَلَيْسَ هُوَ الشَّرْطُ فَتَبْقَى الْحُرْمَةُ بَعْدَ الْمَجْمُوعِ كَمَا كَانَتْ إلَى أَنْ يُوجَدَ الشَّرْطُ وَهُوَ عِتْقُ مَجْمُوعٍ بِجَمِيعِ رَقَبَةٍ

( وَإِذَا لَمْ يَجِدْ الْمُظَاهِرُ مَا يَعْتِقُ فَكَفَّارَتُهُ صَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ لَيْسَ فِيهِمَا شَهْرُ رَمَضَانَ وَلَا يَوْمُ الْفِطْرِ وَلَا يَوْمُ النَّحْرِ وَلَا أَيَّامُ التَّشْرِيقِ ) أَمَّا التَّتَابُعُ فَلِأَنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ وَشَهْرُ رَمَضَانَ لَا يَقَعُ عَنْ الظِّهَارِ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ وَالصَّوْمُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَلَا يَنُوبُ عَنْ الْوَاجِبِ الْكَامِلِ .
( قَوْلُهُ وَإِذَا لَمْ يَجِدْ الْمُظَاهِرُ مَا يَعْتِقُ إلَخْ ) فِي الْخِزَانَةِ : لَا يَصُومُ مَنْ لَهُ خَادِمٌ ، بِخِلَافِ الْمَسْكَنِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَاللَّيْثُ : يَجُوزُ الصَّوْمُ مَعَ وُجُودِ الْخَادِمِ وَاعْتَبَرَاهُ بِالْمَاءِ الْمُعَدِّ لِلْعَطَشِ .
وَالْفَرْقُ عِنْدَنَا أَنَّ الْمَاءَ مَأْمُورٌ بِإِمْسَاكِهِ لِعَطَشِهِ وَاسْتِعْمَالُهُ مَحْظُورٌ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْخَادِمِ ، كَذَا ذَكَرَهُ الرَّازِيّ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ .
وَيَرُدُّ عَلَيْهِ الْمَسْكَنَ .
وَجَوَابُهُ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ لِبَاسِهِ وَلِبَاسِ أَهْلِهِ ، بِخِلَافِ الْخَادِمِ .
وَفِي الْإِسْبِيجَابِيِّ : يُعْتَبَرُ الْإِعْسَارُ وَالْيَسَارُ وَقْتَ التَّكْفِيرِ : أَيْ الْأَدَاءِ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَقَالَ أَحْمَدُ وَالظَّاهِرِيَّةُ : وَقْتَ الْوُجُوبِ .
وَلِلشَّافِعِيِّ أَقْوَالٌ كَالْقَوْلَيْنِ .
وَثَالِثُهَا يُعْتَبَرُ أَغْلَظَ الْحَالَيْنِ ( قَوْلُهُ فَكَفَّارَتُهُ صَوْمُ شَهْرَيْنِ ) إنْ صَامَهُمَا بِالْأَهِلَّةِ أَجْزَأَهُ وَإِنْ كَانَتَا ثَمَانِيَةً وَخَمْسِينَ يَوْمًا ، وَإِنْ صَامَهُمَا بِغَيْرِهَا فَلَا بُدَّ مِنْ سِتِّينَ يَوْمًا حَتَّى لَوْ أَفْطَرَ صَبِيحَةَ تِسْعَةٍ وَخَمْسِينَ وَجَبَ عَلَيْهِ الِاسْتِئْنَافُ

( فَإِنْ جَامَعَ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا فِي خِلَالِ الشَّهْرَيْنِ لَيْلًا عَامِدًا أَوْ نَهَارًا نَاسِيًا اسْتَأْنَفَ الصَّوْمَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا يَسْتَأْنِفُ لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ التَّتَابُعَ ، إذْ لَا يَفْسُدُ بِهِ الصَّوْمُ وَهُوَ الشَّرْطُ ، وَإِنْ كَانَ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْمَسِيسِ شَرْطًا فَفِيمَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ تَقْدِيمُ الْبَعْضِ وَفِيمَا قُلْتُمْ تَأْخِيرُ الْكُلِّ عَنْهُ .
وَلَهُمَا أَنَّ الشَّرْطَ فِي الصَّوْمِ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْمَسِيسِ وَأَنْ يَكُونَ خَالِيًا عَنْهُ ضَرُورَةً بِالنَّصِّ ، وَهَذَا الشَّرْطُ يَنْعَدِمُ بِهِ فَيَسْتَأْنِفُ ( وَإِنْ أَفْطَرَ مِنْهَا يَوْمًا بِعُذْرٍ أَوْ بِغَيْرِ عُذْرٍ اسْتَأْنَفَ ) لِفَوَاتِ التَّتَابُعِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ عَادَةً .

( قَوْلُهُ فَإِنْ جَامَعَ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا ) كَوْنُهَا الْمُظَاهَرَ مِنْهَا قَيْدٌ فِي لُزُومِ الِاسْتِقْبَالِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَإِنَّهُ لَوْ جَامَعَ زَوْجَتَهُ الْأُخْرَى نَاسِيًا لَا يَسْتَأْنِفُ عِنْدَهُ أَيْضًا ، كَمَا لَوْ أَكَلَ نَاسِيًا لِأَنَّ حُرْمَةَ الْأَكْلِ وَالْجِمَاعِ لِلصَّوْمِ لِئَلَّا يَنْقَطِعَ التَّتَابُعُ وَلَا يَنْقَطِعُ بِالنِّسْيَانِ بِالنَّصِّ فَلَا يَجِبُ الِاسْتِقْبَالُ ، بِخِلَافِ حُرْمَةِ جِمَاعِ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلصَّوْمِ بَلْ لِوُقُوعِهِ قَبْلَ الْكَفَّارَةِ وَتَقَدُّمُهَا عَلَى الْمَسِيسِ شَرْطُ حِلِّهَا ، فَبِالْجِمَاعِ نَاسِيًا فِي أَثْنَائِهِ يَبْطُلُ حُكْمُ الصَّوْمِ الْمُتَقَدِّمُ فِي حَقِّ الْكَفَّارَةِ عَلَى وِزَانِ مَا قُلْنَا فِي الْجِمَاعِ بَعْدَ عِتْقِ نِصْفِ الْعَبْدِ لِصِدْقِ كَوْنِ الْمَجْمُوع قَبْلَ التَّمَاسِّ ، وَكَوْنُ السَّبَبِ النِّسْيَانُ لَا أَثَرَ لَهُ فِي نَفْيِ هَذَا الْوَاقِعِ وَعَدَمِ إفْسَادِ الصَّوْمِ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ ، وَتَقْيِيدُهُ لَيْلًا بِكَوْنِهِ عَامِدًا لَيْسَ بِقَيْدٍ بَلْ جِمَاعُهَا لَيْلًا عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا سَوَاءٌ .
لِأَنَّ الْخِلَافَ فِي وَطْءٍ لَا يُفْسِدُ الصَّوْمَ ( قَوْلُهُ وَإِنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْهَا بِعُذْرٍ كَمَرَضٍ أَوْ سَفَرٍ لَزِمَ الِاسْتِقْبَالُ ) بِخِلَافِ مَا لَوْ أَفْطَرَتْ الْمَرْأَةُ لِلْحَيْضِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ أَوْ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ حَيْثُ لَا تَسْتَأْنِفُ وَتُصَلِّ قَضَاءَهَا بَعْدَ الْحَيْضِ .
وَلَوْ أَفْطَرَتْ يَوْمًا قَبْلَ الْقَضَاءِ لَزِمَهَا الِاسْتِئْنَافُ لِأَنَّهَا لَا تَجِدُ شَهْرَيْنِ لَيْسَ فِيهِمَا أَيَّامُ الْحَيْضِ عَادَةً وَوُجُودُ شَهْرَيْنِ لَيْسَ فِيهِمَا أَيَّامُ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ ثَابِتٌ عَادَةً كَشَهْرَيْنِ لَيْسَ فِيهِمَا نِفَاسُهَا فَلِذَا لَوْ نَفِسَتْ فِي صَوْمِ كَفَّارَةِ الْفِطْرِ وَالْقَتْلِ اسْتَقْبَلَتْ ؛ كَمَا لَوْ حَاضَتْ فِي خِلَالِ صَوْمِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ ، فَإِنَّهَا تَسْتَقْبِلُ لِأَنَّهَا تَجِدُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا حَيْضَ فِيهَا

( وَإِنْ ظَاهَرَ الْعَبْدُ لَمْ يَجُزْ فِي الْكَفَّارَةِ إلَّا الصَّوْمُ ) لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ ( وَإِنْ أَعْتَقَ الْمَوْلَى أَوْ أَطْعَمَ عَنْهُ لَمْ يَجْزِهِ ) لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ فَلَا يَصِيرُ مَالِكًا بِتَمْلِيكِهِ .
( قَوْلُهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ فَلَا يَصِيرُ مَالِكًا بِتَمْلِيكِهِ ) أَوْقَعَهُ تَعْلِيلًا لِقَوْلِهِ وَإِنْ أَطْعَمَ الْمَوْلَى عَنْهُ أَوْ أَعْتَقَ ، فَأَفَادَ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ مَلَكَهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يُعْتِقَ أَوْ يُطْعِمَ لِيَكُونَ هُوَ الْمُكَفِّرُ ، إذْ لَا بُدَّ مِنْ الِاخْتِيَارِ فِي أَدَاءِ مَا كُلِّفَ بِهِ ، أَوْ مَعْنَاهُ أَنَّ الْعَبْدَ أَمَرَهُ فَفَعَلَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ تَمْلِيكَهُ ثُمَّ إعْتَاقُهُ عَنْهُ وَإِطْعَامُهُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَمْنَعَ عَبْدَهُ مِنْ صَوْمِ الْكَفَّارَاتِ إلَّا كَفَّارَةَ الظِّهَارِ لِأَنَّهَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّ الزَّوْجَةِ

( وَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ الْمُظَاهِرُ الصِّيَامَ أَطْعَمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا } ( وَيُطْعِمُ كُلَّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ أَوْ قِيمَةَ ذَلِكَ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ وَسَهْلِ بْنِ صَخْرٍ : { لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ } وَلِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ دَفْعُ حَاجَةِ الْيَوْمِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ فَيُعْتَبَرُ بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ ، وَقَوْلُهُ أَوْ قِيمَةُ ذَلِكَ مَذْهَبُنَا وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الزَّكَاةِ

( قَوْلُهُ وَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ الصِّيَامَ ) أَيْ لِمَرَضٍ لَا يُرْجَى زَوَالُهُ أَوْ كِبَرٍ ( قَوْلُهُ أَوْ قِيمَةَ ذَلِكَ ) أَيْ مِنْ غَيْرِ مَا نَصَّ عَلَيْهِ ، فَلَوْ دَفَعَ مَنْصُوصًا عَنْ مَنْصُوصٍ آخَرَ بِطَرِيقِ الْقِيمَةِ لَمْ يَجُزْ إلَّا أَنْ يَبْلُغَ الْمَدْفُوعُ الْكَمِّيَّةَ الْمُقَدَّرَةَ مِنْهُ شَرْعًا .
مِثَالُهُ دَفَعَ نِصْفَ صَاعِ تَمْرٍ تَبْلُغُ قِيمَتُهُ نِصْفَ صَاعِ بُرٍّ أَوْ صَاعًا مِنْ الْبُرِّ أَوْ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ صَاعِ بُرٍّ عَنْ صَاعِ تَمْرٍ وَقِيمَتُهُ تَبْلُغُهُ لَمْ يَجُزْ ، فَلَوْ كَانَ التَّمْرُ صَاعًا دَفَعَهُ عَنْ نِصْفِ صَاعِ بُرٍّ جَازَ .
وَهَذَا لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ لِعَيْنِ النَّصِّ لَا لِمَعْنَاهُ ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ فِي الِاعْتِبَارِ لَزِمَ إبْطَالُ التَّقْدِيرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي كُلِّ صِنْفٍ وَهُوَ بَاطِلٌ ، ثُمَّ إذَا فَعَلَهُ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ لِلَّذِينَ أَعْطَاهُمْ الْقَدْرَ الْمُقَدَّرَ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ الَّذِي دَفَعَهُ لَهُمْ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُمْ بِأَعْيَانِهِمْ اسْتَأْنَفَ فِي غَيْرِهِمْ .
لَا يُقَالُ : لَوْ كَسَا عَشْرَةَ مَسَاكِينَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ ثَوْبًا وَاحِدًا عَنْ الْإِطْعَامِ جَازَ عَنْهُ إذَا كَانَتْ قِيمَةُ نَصِيبِ كُلٍّ مِنْهُمْ قَدْرَ قِيمَةِ الْإِطْعَامِ مَعَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ .
قُلْنَا : الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ الْكِسْوَةُ لَا الثَّوْبُ ، غَيْرَ أَنَّهَا لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا بِالثَّوْبِ ، فَلَمَّا لَمْ يُصِبْ كَلَا ثَوْبٍ لَمْ يَكُنْ فَاعِلًا لِهَذِهِ الْخَصْلَةِ الْمَنْصُوصَةِ : أَعْنِي الْكِسْوَةَ أَصْلًا لَا أَنَّهُ فَاعِلٌ لَهَا بِطَرِيقِ الْقِيمَةِ عَنْ مَنْصُوصٍ آخَرَ ، إذْ لَا كِسْوَةَ إلَّا بِثَوْبٍ يَصِيرُ بِهِ مُكْتَسِيًا فَيَكُونُ فَاعِلًا غَيْرَ الْمَنْصُوصِ بِطَرِيقِ الْقِيمَةِ عَنْ الْمَنْصُوصِ ( قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ وَسَهْلِ بْنِ صَخْرٍ ) وَصَوَابُهُ سَلَمَةُ بْنُ صَخْرٍ ، وَالْحَدِيثُ غَرِيبٌ عَنْهُمَا .
وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي حَدِيثِ أَوْسِ بْنِ الصَّلْتِ قَالَ : { فَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا ثَلَاثِينَ صَاعًا ، قَالَ : لَا أَمْلِكُ ذَلِكَ إلَّا أَنْ

تُعِينَنِي ، فَأَعَانَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا ، وَأَعَانَهُ النَّاسُ حَتَّى بَلَغَ } انْتَهَى .
وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ كَانَ بُرًّا لِأَنَّ التَّمْرَ وَالشَّعِيرَ يَجْزِي مِنْهُ صَاعٌ .
وَقَدَّمْنَا عَنْ أَبِي دَاوُد مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ عَنْ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ فِي حَدِيثِ { أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنِّي سَأُعِينُهُ بِعَرَقٍ مِنْ تَمْرٍ ، قَالَتْ امْرَأَتُهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَنَا أُعِينُهُ بِعَرَقٍ آخَرَ ، قَالَ : أَحْسَنْتِ } قَالَ فِيهِ : وَالْعَرَقُ سِتُّونَ صَاعًا .
وَأَخْرَجَ عَنْهُ أَيْضًا الْحَدِيثَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ إلَّا أَنَّهُ قَالَ : وَالْعَرَقُ مِكْتَلٌ يَسَعُ ثَلَاثِينَ صَاعًا ، وَهَذَا أَصَحُّ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ سِتِّينَ لَمْ يَحْتَجْ إلَى مُعَاوَنَتِهَا أَيْضًا بِعَرَقٍ آخَرَ فِي الْكَفَّارَةِ وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ : الْعَرَقُ زِنْبِيلٌ يَأْخُذُ عُشْرُ صَاعًا ، وَهَذِهِ مُعَارَضَةٌ فِي أَنَّهُ كَانَ الْمُخْرَجُ تَمْرًا أَوْ بُرًّا ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
وَأَمَّا الَّذِي فِي حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ الْبَيَاضِيِّ قَالَ { فَأَطْعِمْ وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ بَيْنَ سِتِّينَ مِسْكِينًا ، قَالَ : وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَقَدْ بِتْنَا وَحْشِيَّيْنِ مَا أَمْلِكُ لَنَا طَعَامًا ، قَالَ : فَانْطَلِقْ إلَى صَاحِبِ صَدَقَةِ بَنِي زُرَيْقٍ فَلْيَدْفَعْهَا إلَيْكَ فَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ وَكُلْ أَنْتَ وَعِيَالُكَ بَقِيَّتَهَا } الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد .
وَيَكْفِي مَا أَثْبَتْنَاهُ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ مِنْ أَنَّ الْوَاجِبَ مِنْ الْبُرِّ نِصْفُ صَاعٍ ، إذْ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ فِي كَمْيَّةِ الْمُخْرَجِ فِي الصَّدَقَاتِ الْوَاجِبَةِ

( فَإِنْ أَعْطَى مَنًّا مِنْ بُرٍّ وَمَنَوَيْنِ مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ جَازَ ) لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ إذْ الْجِنْسُ مُتَّحِدٌ ( وَإِنْ أَمَرَ غَيْرَهُ أَنْ يُطْعِمَ عَنْهُ مِنْ ظِهَارِهِ فَفَعَلَ أَجْزَأَهُ ) لِأَنَّهُ اسْتِقْرَاضٌ مَعْنًى وَالْفَقِيرُ قَابِضٌ لَهُ أَوَّلًا ثُمَّ لِنَفْسِهِ فَتَحَقَّقَ تَمَلُّكُهُ ثُمَّ تَمْلِيكُهُ
( قَوْلُهُ لِأَنَّ الْجِنْسَ مُتَّحِدٌ ) وَهُوَ جِنْسُ هَذِهِ الْكَفَّارَةِ وَهُوَ الْإِطْعَامُ ، بِخِلَافِ الْكِسْوَةِ مَعَ الْإِطْعَامِ ، وَبِخِلَافِ إعْتَاقِهِ نِصْفَيْ عَبْدَيْنِ مُشْتَرَكَيْنِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، فَإِنَّ الْجِنْسَ وَإِنْ كَانَ مُتَّحِدًا لَكِنْ امْتَنَعَ الْإِجْزَاءُ فِيهِ لِمَانِعٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ إعْتَاقُ رَقَبَةٍ وَنِصْفَا رَقَبَتَيْنِ لَيْسَا رَقَبَةً ، بِخِلَافِ الْأُضْحِيَّةَ فَإِنَّ الِاشْتِرَاكَ فِيهَا لَا يَمْنَعُ الْأُضْحِيَّةَ مِنْ حَيْثُ هُوَ اشْتِرَاكٌ لِمَا عُلِمَ مِنْ جَوَازِ الِاشْتِرَاكِ فِي الْبَدَنَةِ شَرْعًا

( فَإِنْ غَدَّاهُمْ وَعَشَّاهُمْ جَازَ قَلِيلًا كَانَ مَا أَكَلُوا أَوْ كَثِيرًا ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يُجْزِئُهُ إلَّا التَّمْلِيكُ اعْتِبَارًا بِالزَّكَاةِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّمْلِيكَ أَدْفَعُ لِلْحَاجَةِ فَلَا يَنُوبُ مَنَابَهُ الْإِبَاحَةُ .
وَلَنَا أَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ هُوَ الْإِطْعَامُ وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي التَّمْكِينِ مِنْ الطُّعْمِ وَفِي الْإِبَاحَةِ ذَلِكَ كَمَا فِي التَّمْلِيكِ ، أَمَّا الْوَاجِبُ فِي الزَّكَاةِ الْإِيتَاءُ وَفِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ الْأَدَاءُ وَهُمَا لِلتَّمْلِيكِ حَقِيقَةً ( وَلَوْ كَانَ فِيمَنْ عَشَّاهُمْ صَبِيٌّ فَطِيمٌ لَا يُجْزِئُهُ ) لِأَنَّهُ لَا يَسْتَوْفِي كَامِلًا ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْإِدَامِ فِي خُبْزِ الشَّعِيرِ لِيُمْكِنَهُ الِاسْتِيفَاءُ إلَى الشِّبَعِ ، وَفِي خُبْزِ الْحِنْطَةِ لَا يُشْتَرَطُ الْإِدَامُ .

قَوْلُهُ فَإِنْ غَدَّاهُمْ وَعَشَّاهُمْ جَازَ ) لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ أَكْلَتَانِ مُشْبِعَتَانِ بِخُبْزٍ غَيْرِ مَأْدُومٍ إنْ كَانَ خُبْزَ بُرٍّ فِي سَائِرِ الْكَفَّارَاتِ كَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْإِفْطَارِ وَالْيَمِينِ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ وَالْفِدْيَةِ سَوَاءٌ كَانَتَا غَدَاءً وَعَشَاءً أَوْ غَدَاءَيْنِ أَوْ عَشَاءَيْنِ بَعْدَ اتِّحَادِ السِّتِّينَ ، فَلَوْ غَدَّى سِتِّينَ وَعَشَّى آخَرِينَ لَمْ يَجُزْ ، وَالْمُعْتَبَرُ الْإِشْبَاعُ .
عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ : لَوْ قَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْ عَشَرَةٍ أَرْبَعَةَ أَرْغِفَةٍ أَوْ ثَلَاثَةً فَشَبِعُوا أَجْزَأَهُمْ وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ إلَّا صَاعًا أَوْ نِصْفَ صَاعٍ ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ شَبْعَانَ اخْتَلَفُوا ، قَالَ بَعْضُهُمْ : يَجُوزُ لِأَنَّهُ وَجَدَ إطْعَامَ عَشْرَةٍ وَقَدْ شَبِعُوا ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ إشْبَاعُهُمْ وَهُوَ لَمْ يُشْبِعْهُمْ بَلْ أَشْبَعَ التِّسْعَةَ ( قَوْلُهُ وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي التَّمْكِينِ مِنْ الطُّعْمِ ) الطُّعْمُ بِالضَّمِّ الطَّعَامُ .
لَا يُقَالُ : الِاتِّفَاقُ عَلَى جَوَازِ التَّمْلِيكِ ، فَلَوْ كَانَ الْحَقِيقَةُ مَا ذَكَرْتُمْ كَانَ لَفْظُ الْإِطْعَامِ مُشْتَرَكًا مُعَمَّمًا أَوْ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ .
لِأَنَّا نَقُولُ بِجَوَازِ التَّمْلِيكِ عِنْدَنَا بِدَلَالَةِ النَّصِّ وَالدَّلَالَةُ لَا تَمْنَعُ الْعَمَلَ بِالْحَقِيقَةِ كَمَا فِي حُرْمَةِ الضَّرْبِ وَالشَّتْمِ مَعَ التَّأْفِيفِ ، كَذَا هَذَا ، فَلَمَّا نَصَّ عَلَى دَفْعِ حَاجَةِ الْأَكْلِ فَالتَّمْلِيكُ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ لِدَفْعِ كُلِّ الْحَاجَاتِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا الْأَكْلُ أَجْوَزُ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ دَافِعٌ لِحَاجَةِ الْأَكْلِ وَغَيْرِهِ

( وَإِنْ أَطْعَمَ مِسْكِينًا وَاحِدًا سِتِّينَ يَوْمًا أَجْزَأَهُ ، وَإِنْ أَعْطَاهُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ لَمْ يَجْزِهِ إلَّا عَنْ يَوْمِهِ ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ سَدُّ خَلَّةِ الْمُحْتَاجِ وَالْحَاجَةُ تَتَجَدَّدُ فِي كُلِّ يَوْمٍ ، فَالدَّفْعُ إلَيْهِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي كَالدَّفْعِ إلَى غَيْرِهِ ، وَهَذَا فِي الْإِبَاحَةِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ .
وَأَمَّا التَّمْلِيكُ مِنْ مِسْكِينٍ وَاحِدٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ بِدَفَعَاتٍ ، فَقَدْ قِيلَ لَا يُجْزِئُهُ ، وَقَدْ قِيلَ يُجْزِئُهُ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى التَّمْلِيكِ تَتَجَدَّدُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ ، بِخِلَافِ مَا إذَا دَفَعَ بِدَفْعَةٍ وَاحِدَةٍ ، لِأَنَّ التَّفْرِيقَ وَاجِبٌ بِالنَّصِّ .

( قَوْلُهُ وَإِنْ أَطْعَمَ مِسْكِينًا وَاحِدًا سِتِّينَ يَوْمًا أَجْزَأَهُ ) وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ : وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ لَا يَجْزِيه ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ لِأَنَّهُ تَعَالَى نَصَّ عَلَى سِتِّينَ مِسْكِينًا ، وَبِتَكَرُّرِ الْحَاجَةِ فِي مِسْكِينٍ وَاحِدٍ لَا يَصِيرُ هُوَ سِتِّينَ فَكَانَ التَّعْلِيلُ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ سَدُّ خَلَّةِ الْمُحْتَاجِ إلَى آخِرِ مَا ذُكِرَ مُبْطِلًا لِمُقْتَضَى النَّصِّ فَلَا يَجُوزُ ، وَأَصْحَابُنَا أَشَدُّ مُوَافَقَةٌ لِهَذَا الْأَصْلِ وَلِذَا قَالُوا فِي الْمَسْأَلَةِ الْآتِيَةِ عَنْ قَرِيبٍ وَهِيَ مَا إذَا مَلَّكَ مِسْكِينًا وَاحِدًا وَظِيفَةَ سِتِّينَ بِدَفْعَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يَجُوزُ ، لِأَنَّ التَّفْرِيقَ وَاجِبٌ بِالنَّصِّ فَيَكُونُ الْمَدْفُوعُ كُلُّهُ عَنْ وَظِيفَةٍ وَاحِدَةٍ ، كَمَا إذَا رَمَى الْجَمَرَاتِ السَّبْعَ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ تُحْتَسَبُ عَنْ رَمْيَةٍ وَاحِدَةٍ مَعَ أَنَّ تَفْرِيقَ الدَّفْعِ غَيْرُ مُصَرَّحٍ بِهِ ، وَإِنَّمَا هُوَ مَدْلُولٌ الْتِزَامِيٌّ لِعَدَدِ الْمَسَاكِينِ سِتِّينَ ، فَالنَّصُّ عَلَى الْعَدَدِ أَوْلَى لِأَنَّهُ الْمُسْتَلْزِمُ ، وَغَايَةُ مَا يُعْطِيه كَلَامُهُمْ أَنَّ بِتَكَرُّرِ الْحَاجَةِ يَتَكَرَّرُ الْمِسْكِينُ حُكْمًا فَكَانَ تَعَدُّدًا حُكْمًا ، وَتَمَامُهُ مَوْقُوفٌ عَلَى أَنَّ سِتِّينَ مِسْكِينًا مُرَادٌ بِهِ الْأَعَمُّ مِنْ السِّتِّينَ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ مَجَازٌ فَلَا مَصِيرَ إلَيْهِ إلَّا بِمُوجِبٍ .
فَإِنْ قُلْت : الْمَعْنَى الَّذِي بِاعْتِبَارِهِ يَصِيرُ اللَّفْظُ مَجَازًا وَيَنْدَرِجُ فِيهِ التَّعَدُّدُ الْحُكْمِيُّ مَا هُوَ ؟ قُلْت : هُوَ الْحَاجَةُ بِكَوْنِ سِتِّينَ مِسْكِينًا مَجَازًا عَنْ سِتِّينَ حَاجَةٍ ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهَا حَاجَاتِ سِتِّينَ أَوْ حَاجَاتِ وَاحِدٍ إذَا تَحَقَّقَ تَكَرُّرُهَا ، إلَّا أَنَّ الظَّاهِرَ إنَّمَا هُوَ عَدَدٌ وَمَعْدُودُهُ ذَوَاتُ الْمَسَاكِينِ مَعَ عَقْلِيَّة أَنَّ الْعَدَد مِمَّا يُقْصَدُ لِمَا فِي تَعْمِيمِ الْجَمِيعِ مِنْ بَرَكَةِ الْجَمَاعَةِ وَشُمُولِ الْمَنْفَعَةِ وَاجْتِمَاعِ الْقُلُوبِ عَلَى الْمَحَبَّةِ وَالدُّعَاءِ ( قَوْلُهُ وَهَذَا ) أَيْ عَدَمُ

الْإِجْزَاءِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ لَمْ يُجْزِهِ إلَّا عَنْ يَوْمِهِ يَعْنِي إذَا دَفَعَ سِتِّينَ مَرَّةً لِوَاحِدٍ فِي يَوْمِ بِطَرِيقِ الْإِبَاحَةِ لَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ ، لِأَنَّهُ قَبْلَ تَجَدُّدِ الْحَاجَةِ بِتَجَدُّدِ الْيَوْمِ الثَّانِي فَكَانَ إطْعَامُ الطَّاعِمِ .
أَمَّا لَوْ كَانَتْ الْمَرَّاتُ تَمْلِيكَاتٍ فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ اُخْتُلِفَ فِيهِ ، قِيلَ لَا يَجُوزُ أَيْضًا إلَّا عَنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ ، وَصَحَّحَهُ فِي الْمُحِيطِ لِأَنَّ الْمُجَوَّزَ سَدُّ الْخَلَّةِ وَقَدْ انْدَفَعَتْ حَاجَةُ الطُّعْمِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِصَرْفِ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ فَالصَّرْفُ إلَيْهِ بَعْدَهُ فِي يَوْمِهِ إطْعَامُ الطَّاعِمِ فَلَا يَجُوزُ كَمَا لَوْ كَانَ إطْعَامًا حَقِيقَةً ، وَكَالدَّفْعِ إلَى الْغَنِيِّ بِخِلَافِ الدَّفْعِ فِي كَفَّارَةٍ أُخْرَى وَدَفَعَ غَيْرَهُ مِنْ كَفَّارَةِ مِثْلِهَا لِأَنَّ الْمَدْفُوعَ كَالْهَالِكِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِمَا .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَسَا مِسْكِينًا وَاحِدًا عَشْرَةَ أَثْوَابٍ فِي عَشْرَةِ أَيَّامٍ يَجُوزُ لِتَفَرُّقِ الدَّفْعِ مَعَ عَدَمِ تَجَدُّدِ الْحَاجَة إلَى الثَّوْبِ بِتَجَدُّدِ الْيَوْمِ .
قُلْنَا : تَجَدُّدُ الْحَاجَةِ إلَى الثَّوْبِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ ، وَلَا يُمْكِنُ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ فِي الثَّوْبِ بِغَيْرِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ فَأُقِيمَ مُضِيُّ الزَّمَانِ مَقَامَهَا لِأَنَّهَا بِهِ تَتَجَدَّدُ ، وَأَدْنَى ذَلِكَ يَوْمٌ لِجِنْسِ الْحَاجَاتِ وَمَا دُونَهُ سَاعَاتٌ لَا يُمْكِنُ ضَبْطُهَا .
وَقِيلَ يُجْزِئُهُ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ لَمَّا أُقِيمَ مَقَامَ حَقِيقَةِ الْإِطْعَامِ وَفَرَغَ مِنْ ذَلِكَ نُظِرَ إلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ تَمْلِيكٌ ، وَالْحَاجَةُ بِطَرِيقِ التَّمْلِيكِ لَيْسَ لَهَا نِهَايَةٌ فَكَانَ الْمَدْفُوعُ أَوَّلًا هَالِكًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَدْفُوعِ ثَانِيًا كَمَا هُوَ هَالِكٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى دَافِعٍ آخَرَ وَكَفَّارَةٍ أُخْرَى ، وَحِينَئِذٍ فَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ زَمَانٍ آخَرَ لِتَجَدُّدِ الْحَاجَةِ إذْ الْحَالُ قِيَامُهَا ، وَرُبَّمَا يُشْعِرُ اقْتِصَارُ الْمُصَنِّفِ بَعْدَ حِكَايَةِ الْقَوْلَيْنِ عَلَى تَوْجِيهِ هَذَا الْقَوْلِ بِاخْتِيَارِهِ

إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ أَحْوَطُ .
وَنُكْتَةُ جَوَابِهِ مَنْعُ كَوْنِ التَّمْلِيكِ لِمَا أُقِيمَ مَقَامَ الْإِطْعَامِ اُعْتُبِرَ ذَاتُهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ تَمْلِيكٌ بَلْ يَجِبُ اعْتِبَارُهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ إطْعَامٌ ، لِأَنَّهُ لَمَّا أُقِيمَ مَقَامَ الشَّيْءِ اُعْتُبِرَتْ فِيهِ أَحْكَامُ ذَلِكَ الشَّيْءِ ، وَأَمَّا مَا نَعْتَقِدُهُ فَعَدَمُ جَوَازِ التَّمْلِيكِ كَالْإِطْعَامِ لِوَاحِدٍ وَلَوْ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي لِمَا فِيهِ مِنْ مُصَادَمَةِ النَّصِّ بِالْمَعْنَى مَعَ أَنَّهُ مَعْنًى مُعَارَضٌ بِمَعْنًى آخَرَ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ

( وَإِنْ قَرُبَ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا فِي خِلَالِ الْإِطْعَامِ لَمْ يَسْتَأْنِفْ ) لِأَنَّهُ تَعَالَى مَا شَرَطَ فِي الْإِطْعَامِ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْمَسِيسِ ، إلَّا أَنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ الْمَسِيسِ قَبْلَهُ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِعْتَاقِ أَوْ الصَّوْمِ فَيَقَعَانِ بَعْدَ الْمَسِيسِ ، وَالْمَنْعُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ لَا يَعْدَمُ الْمَشْرُوعِيَّةَ فِي نَفْسِهِ .
( قَوْلُهُ وَإِنْ قَرُبَ الَّتِي إلَخْ ) الْحَاصِلُ أَنَّهُ يَجِبُ تَقْدِيمُ الْإِطْعَامِ عَلَى الْمَسِيسِ ، فَإِنْ قَرُبَهَا فِي خِلَالِهِ لَمْ يَسْتَأْنِفْ ، لِأَنَّهُ تَعَالَى مَا شَرَطَ فِيهِ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْمَسِيسِ ، وَنَحْنُ لَا نَحْمِلُ الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ وَإِنْ كَانَ فِي حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ بَعْدَ أَنْ يَكُونَا فِي حُكْمَيْنِ ، وَالْوُجُوبُ لَمْ يَثْبُتْ إلَّا لِتَوَهُّمِ وُقُوعِ الْكَفَّارَةِ بَعْدَ التَّمَاسِّ .
بَيَانُهُ أَنَّهُ لَوْ قَدَرَ عَلَى الْعِتْقِ أَوْ الصِّيَامِ فِي خِلَالِ الْإِطْعَامِ أَوْ قَبْلَهُ لَزِمَهُ التَّكْفِيرُ بِالْمَقْدُورِ عَلَيْهِ ، فَلَوْ جُوِّزَ لِلْعَاجِزِ عَنْهُمَا الْقُرْبَانُ قَبْلَ الْإِطْعَامِ ثُمَّ اتَّفَقَ قُدْرَتُهُ فَلَزِمَ التَّكْفِيرُ بِهِ لَزِمَ أَنْ يَقَعَ الْعِتْقُ بَعْدَ التَّمَاسِّ وَالْمُفْضِي إلَى الْمُمْتَنِعِ مُمْتَنِعٌ .
وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ الْقُدْرَةَ حَالَ قِيَامِ الْعَجْزِ بِالْفَقْرِ وَالْمَرَضِ وَالْكِبَرِ وَالْمَرَضِ الَّذِي لَا يُرْجَى زَوَالُهُ أَمْرٌ مَوْهُومٌ ، وَبِاعْتِبَارِ الْأُمُورِ الْمَوْهُومَةِ لَا تُثْبِتُ الْأَحْكَامَ ابْتِدَاءً بَلْ يَثْبُتُ الِاسْتِحْبَابُ ، فَالْأَوْلَى الِاسْتِدْلَال بِمَا ذَكَرْنَا أَوَّلَ الْفَصْلِ مِنْ النَّصِّ ، وَلَا يُعَلَّلُ بِمَا ذُكِرَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ ( قَوْلُهُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ ) هُوَ تَوَهُّمُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْعِتْقِ أَوْ الصَّوْمِ لَا يُعْدِمُ الْمَشْرُوعِيَّةَ فَلَمْ تَنْعَدِمْ مَشْرُوعِيَّةُ الْكَفَّارَةِ بِالْإِطْعَامِ بِتَخَلُّلِ الْوَطْءِ

( وَإِذَا أَطْعَمَ عَنْ ظِهَارَيْنِ سِتِّينَ مِسْكِينًا كُلَّ مِسْكِينٍ صَاعًا مِنْ بُرٍّ لَمْ يَجْزِهِ إلَّا عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ يُجْزِئُهُ عَنْهُمَا ، وَإِنْ أَطْعَمَ ذَلِكَ عَنْ إفْطَارٍ وَظِهَارٍ أَجْزَأَهُ عَنْهُمَا ) لَهُ أَنَّ بِالْمُؤَدَّى وَفَاءً بِهِمَا وَالْمَصْرُوفُ إلَيْهِ مَحِلٌّ لَهُمَا فَيَقَعُ عَنْهُمَا كَمَا لَوْ اخْتَلَفَ السَّبَبُ أَوْ فَرَّقَ فِي الدَّفْعِ .
وَلَهُمَا أَنَّ النِّيَّةَ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ لَغْوٌ وَفِي الْجِنْسَيْنِ مُعْتَبَرَةٌ ، وَإِذَا لَغَتْ النِّيَّةُ وَالْمُؤَدَّى يَصْلُحُ كَفَّارَةً وَاحِدَةً لِأَنَّ نِصْفَ الصَّاعِ أَدْنَى الْمَقَادِيرِ فَيَمْنَعُ النُّقْصَانَ دُونَ الزِّيَادَةِ فَيَقَعُ عَنْهُمَا كَمَا إذَا نَوَى أَصْلَ الْكَفَّارَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا فَرَّقَ فِي الدَّفْعِ لِأَنَّهُ فِي الدَّفْعَةِ الثَّانِيَةِ فِي حُكْمِ مِسْكِينٍ آخَرَ

( قَوْلُهُ عَنْ ظِهَارَيْنِ ) سَوَاءٌ كَانَا مِنْ امْرَأَةٍ أَوْ امْرَأَتَيْنِ ( قَوْلُهُ لَهُ إلَخْ ) حَاصِلُ الْوَجْهِ أَنَّهُ وَجَدَ الْمُقْتَضِي لِلْوُقُوعِ عَنْهُمَا فَيَقَعُ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُقْتَضِي لِلْإِجْزَاءِ عَنْهُمَا صَرْفُ الْكَمِّيَّةِ الَّتِي تُجْزِي عَنْ كَفَّارَتَيْنِ إلَى الْمَحِلِّ مَقْرُونًا بِنِيَّةِ كَوْنِهِ عَمَّا عَلَيْهِ وَالْكُلُّ ثَابِتٌ فَيَلْزَمُ حُكْمُهُ وَهُوَ الْإِجْزَاءُ .
وَالْجَوَابُ مَنْعُ وُجُودِ الْمُقْتَضِي ، وَإِنَّمَا يُوجَدُ لَوْ كَانَتْ تِلْكَ النِّيَّةُ مُعْتَبَرَةً لَكِنَّهَا فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ لَغْوٌ لِأَنَّهَا إنَّمَا اُعْتُبِرَتْ لِتَمْيِيزِ بَعْضِ الْأَجْنَاسِ عَنْ بَعْضٍ لِاخْتِلَافِ الْأَغْرَاضِ بِاخْتِلَافِ الْأَجْنَاسِ ، فَلَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ لِأَنَّ الْأَغْرَاضَ لَا تَخْتَلِفُ بِاعْتِبَارِهِ فَلَا تُعْتَبَرُ فَبَقِيَ نِيَّةُ مُطْلَقِ الظِّهَارِ وَبِمُجَرَّدِهَا لَا يَلْزَمُ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ ، وَكَوْنُ الْمَدْفُوعِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ صَاعٍ لَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ لِأَنَّ نِصْفَ الصَّاعِ أَدْنَى الْمَقَادِيرِ لَا تَمْتَنِعُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ بَلْ النُّقْصَانُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا فَرَّقَ الدَّفْعَ أَوْ كَانَا جِنْسَيْنِ .
وَقَدْ يُقَالُ اعْتِبَارُهَا لِلْحَاجَةِ إلَى التَّمْيِيزِ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ فِي أَشْخَاصِ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ كَمَا فِي الْأَجْنَاسِ ، وَقَدْ ظَهَرَ أَثَرُ هَذَا الِاعْتِبَارِ فِيمَا صَرَّحُوا بِهِ مِنْ أَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا عَنْ أَحَدِ الظِّهَارَيْنِ بِعَيْنِهِ صَحَّ نِيَّةُ التَّعْيِينِ وَلَمْ تُلْغَ حَتَّى حَلَّ وَطْءُ الَّتِي عَيَّنَهَا ، وَمِنْ الصُّوَرِ ظَنُّ أَنَّهُ ظَاهَرَ مِنْهَا فَأَعْتَقَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ ظَاهَرَ مِنْ غَيْرِهَا لَا يَجْزِيه ، وَمِنْهَا نِيَّةُ كَفَّارَةِ عَمْرَةَ لَا يَجْزِيه عَنْ نِيَّةِ كَفَّارَةِ زَيْنَبَ ، فَهُنَا أَيْضًا يَجِبُ أَنْ لَا يَلْغُوَ لِثُبُوتِ الْغَرَضِ الصَّحِيحِ فِي نِيَّةِ الظِّهَارَيْنِ وَهُوَ حِلُّهُمَا مَعًا .
أُجِيبَ بِمَا حَاصِلُهُ ادِّعَاءُ ثُبُوتِ الْمَانِعِ هُنَا وَهُوَ عَدَمُ سَعَةِ الْمَحَلِّ لِلْكَفَّارَتَيْنِ ، فَإِنَّ مَحَلَّهُمَا فِي

الْإِطْعَامِ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ مِسْكِينًا ، بِخِلَافِ صُورَةِ الْإِعْتَاقِ ، وَهَذَا يَصِيرُ أَصْلُ الْجَوَابِ تَسْلِيمُ وُجُوبِ الْمُقْتَضَى وَادِّعَاءُ الْمَانِعِ ، وَهُوَ رُجُوعٌ وَانْقِطَاعٍ عَنْ طَرِيقِ الْأَوَّلِ إذْ قَدْ ظَهَرَ صِحَّةُ .
اعْتِبَارِ النِّيَّةِ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ .
ثُمَّ قَدْ يُقَالُ عَلَيْهِ أَنَّ اعْتِبَارَ السِّتِّينَ مِائَةً وَعِشْرِينَ بِالنَّظَرِ إلَى كَفَّارَتَيْنِ لَيْسَ بِأَبْعَدَ مِنْ اعْتِبَارِ الْوَاحِدِ سِتِّينَ فِي كَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ بِاعْتِبَارِ تَجَدُّدِ الْحَاجَةِ وَالِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ وَظِيفَةَ الْوَاحِدِ مُسْتَهْلَكَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى كَفَّارَةٍ أُخْرَى فَهُوَ كَمُحْتَاجٍ آخَرَ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا فَمَا دَفَعَ إلَّا مَعَ قِيَامِ الْحَاجَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى كَفَّارَةٍ أُخْرَى

( وَمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَتَا ظِهَارٍ فَأَعْتَقَ رَقَبَتَيْنِ لَا يَنْوِي عَنْ إحْدَاهُمَا بِعَيْنِهَا جَازَ عَنْهُمَا ، وَكَذَا إذَا صَامَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ أَوْ أَطْعَمَ مِائَةً وَعِشْرِينَ مِسْكِينًا جَازَ ) لِأَنَّ الْجِنْسَ مُتَّحِدٌ فَلَا حَاجَةَ إلَى نِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ ( وَإِنْ أَعْتَقَ عَنْهُمَا رَقَبَةً وَاحِدَةً أَوْ صَامَ شَهْرَيْنِ كَانَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ عَنْ أَيِّهِمَا شَاءَ ، وَإِنْ أَعْتَقَ عَنْ ظِهَارٍ وَقُتِلَ لَمْ يَجُزْ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ) وَقَالَ زُفَرُ : لَا يَجْزِيه عَنْ أَحَدِهِمَا فِي الْفَصْلَيْنِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَهُ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ عَنْ أَحَدِهِمَا فِي الْفَصْلَيْنِ لِأَنَّ الْكَفَّارَاتِ كُلَّهَا بِاعْتِبَارِ اتِّحَادِ الْمَقْصُودِ جِنْسٌ وَاحِدٌ .
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّهُ أَعْتَقَ عَنْ كُلِّ ظِهَارٍ نِصْفَ الْعَبْدِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ عَنْ أَحَدِهِمَا بَعْدَمَا أَعْتَقَ عَنْهُمَا لِخُرُوجِ الْأَمْرِ مِنْ يَدِهِ .
وَلَنَا أَنَّ نِيَّةَ التَّعْيِينِ فِي الْجِنْسِ الْمُتَّحِدِ غَيْرُ مُفِيدٍ فَتَلْغُو ، وَفِي الْجِنْسِ الْمُخْتَلِفِ مُفِيدَةٌ ، وَاخْتِلَافُ الْجِنْسِ فِي الْحُكْمِ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ هَاهُنَا بِاخْتِلَافِ السَّبَبِ .
نَظِيرُ الْأَوَّلِ إذَا صَامَ يَوْمًا فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ عَنْ يَوْمَيْنِ يَجْزِيه عَنْ قَضَاءِ يَوْمٍ وَاحِدٍ .
وَنَظِيرُ الثَّانِي إذَا كَانَ عَلَيْهِ صَوْمُ الْقَضَاءِ وَالنَّذْرِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ التَّمْيِيزِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( قَوْلُهُ وَإِنْ أَعْتَقَ عَنْ ظِهَارٍ وَقَتْلٍ لَمْ يَجُزْ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ) هَذَا إذَا كَانَتْ الرَّقَبَةُ مُؤْمِنَةً ، فَإِنْ كَانَتْ كَافِرَةً صَحَّ عَنْ الظِّهَارِ لِأَنَّ الْكَافِرَةَ لَا تَصْلُحُ كَفَّارَةً لِلْقَتْلِ فَتَعَيَّنَتْ لِلظِّهَارِ ( قَوْلُهُ فِي الْفَصْلَيْنِ ) هُمَا صُورَتَا اتِّحَادِ الْجِنْسِ وَاخْتِلَافِهِ ( قَوْلُهُ لِأَنَّ الْكَفَّارَاتِ كُلَّهَا بِاعْتِبَارِ اتِّحَادِ الْمَقْصُودِ ) وَهُوَ السِّتْرُ وَإِذْهَابُ أَثَرِ تِلْكَ الْجِنَايَةِ ( جِنْسٌ وَاحِدٌ ) وَلِذَا حُمِلَ الْمُطْلَقُ مِنْهُمَا عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي الْأُخْرَى ( قَوْلُهُ لِخُرُوجِ الْأَمْرِ مِنْ يَدِهِ ) فَإِنَّهُ وَقَعَ نَفْلًا إذْ لَا يَصِحُّ إعْتَاقُ نِصْفِ رَقَبَةٍ عَنْ كَفَّارَةٍ وَبِذَلِكَ خَرَجَ مِنْ يَدِهِ إمْكَانُ أَنْ يَجْعَلَهُ عَنْ إحْدَاهُمَا لِأَنَّهُ بَعْدَمَا وَقَعَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَنْقَلِبُ إلَى غَيْرِهِ ( قَوْله فَتَلْغُو ) وَإِذَا لَغَتْ بَقِيَ نِيَّةُ مُطْلَقِ الظِّهَارِ فَلَهُ أَنْ يُعَيِّنَ أَيَّهمَا شَاءَ كَمَا لَوْ أَطْلَقَهَا فِي الِابْتِدَاءِ ( قَوْلُهُ وَاخْتِلَافُ الْجِنْسِ إلَخْ ) لَمَّا اخْتَلَفَتْ بِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ وَاتِّحَادِهِ أَجْوِبَةُ الْمَسَائِلِ أَفَادَ مَا بِهِ اخْتِلَافٌ وَالِاتِّحَادُ ، فَمَا اخْتَلَفَ سَبَبُهُ فَهُوَ الْمُخْتَلِفُ ، وَمَا لَا فَالْمُتَّحِدُ ، وَالصَّلَوَاتُ كُلُّهَا مِنْ قَبِيلِ الْمُخْتَلِفِ حَتَّى الظُّهْرَيْنِ مِنْ يَوْمَيْنِ لِاخْتِلَافِ السَّبَبَيْنِ : أَعْنِي الْوَقْتَيْنِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا .
أَمَّا الْحَقِيقَةُ فَظَاهِرٌ ، وَكَذَا حُكْمًا لِأَنَّ الْخِطَابَ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِجَمْعِهِمَا بَلْ بِالدُّلُوكِ وَهُوَ مِنْ يَوْمِ غَيْرِهِ مِنْ آخَرَ ، بِخِلَافِ صَوْمِ رَمَضَانَ لِأَنَّهُ مُعَلَّقٌ بِشُهُودِ الشَّهْرِ وَهُوَ وَاحِدٌ جَامِعٌ لِلْأَيَّامِ كُلِّهَا بِلِيَالِيهَا ، فَكُلُّ يَوْمٍ وَإِنْ كَانَ سَبَبًا لِصَوْمِهِ فَكَذَا شُهُودُ الشَّهْرِ ، فَاجْتَمَعَ فِي وُجُوبِ صَوْمِ كُلِّ يَوْمٍ سَبَبَانِ : شُهُودُ الشَّهْرِ ، وَخُصُوصُ الْيَوْمِ .
فَبِاعْتِبَارِ أَحَدِ السَّبَبَيْنِ لَا يَحْتَاجُ فِي نِيَّةِ قَضَائِهِ إلَى تَعْيِينِ يَوْمِ السَّبْتِ مَثَلًا أَوْ يَوْمِ الْأَحَدِ ، وَشَرْطٌ فِي

الصَّلَوَاتِ فَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ يَوْمَيْ الظُّهْرَيْنِ يَنْوِي أَوَّلَ ظُهْرٍ عَلَيْهِ أَوْ آخِرَ ظُهْرٍ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَكُنْ سَاقِطَ التَّرْتِيبِ ، وَقَدْ أَسْلَفْنَاهُ فِي بَابِ شُرُوطِ الصَّلَاةِ ، وَكَذَا شَرْطُ التَّعْيِينِ فِي الْيَوْمَيْنِ مِنْ رَمَضَانَيْنِ فَيَنْوِي عَمَّا عَلَيَّ مِنْ الرَّمَضَانِ الْأَوَّلِ أَوْ الثَّانِي لِاخْتِلَافِ السَّبَبِ مُطْلَقًا لِعَدَمِ تَعَلُّقِ الْخِطَابِ بِصَوْمِهِمَا بِزَمَانٍ بِجَمْعِهِمَا .
وَلَوْ نَوَى ظُهْرًا وَعَصْرًا أَوْ ظُهْرًا وَصَلَاةَ الْجِنَازَةِ لَمْ يَكُنْ شَارِعًا فِي شَيْءٍ مِنْهُمَا لِلتَّنَافِي وَعَدَمِ الرُّجْحَانِ .
بِخِلَافِ مَا لَوْ نَوَى ظُهْرًا وَنَفْلًا حَيْثُ يَقَعُ عَنْ الظُّهْرِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ تَرْجِيحًا بِالْأَقْوَى ، وَلَا يَصِيرُ شَارِعًا عِنْدَ مُحَمَّدٍ أَصْلًا لِلتَّنَافِي ، وَلَوْ نَوَى صَوْمَ الْقَضَاءِ وَالنَّفَلِ أَوْ الزَّكَاةَ وَالتَّطَوُّعَ أَوْ الْحَجَّ الْمَنْذُورَ وَالتَّطَوُّعَ يَكُونُ تَطَوُّعًا عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ النِّيَّتَيْنِ لَمَّا بَطَلَتَا بِالتَّعَارُضِ بَقِيَ مُطْلَقُ النِّيَّةِ وَبِهَا يَصِحُّ النَّفَلُ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَقَعُ عَنْ الْأَقْوَى لِأَنَّ نِيَّةَ التَّطَوُّعِ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهَا فَلَغَتْ فَبَقِيَ نِيَّةُ الْقَضَاءِ .
وَلَوْ نَوَى حَجَّةَ الْإِسْلَامِ وَالتَّطَوُّعَ فَهُوَ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ اتِّفَاقًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ لَمَّا بَطَلَتْ الْجِهَتَانِ بِالتَّعَارُضِ بَقِيَ مُطْلَقُ النِّيَّةِ وَبِهِ تَتَأَدَّى حَجَّةُ الْإِسْلَامِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَلَوْ نَوَى الْقَضَاءَ وَكَفَّارَةَ الظِّهَارِ كَانَ عَنْ الْقَضَاءِ اسْتِحْسَانًا ، وَفِي الْقِيَاسِ يَكُونُ تَطَوُّعًا ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ لِتَدَافُعِ النِّيَّتَيْنِ ، فَصَارَ كَأَنَّهُ صَامَ مُطْلَقًا .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْقَضَاءَ أَقْوَى لِأَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ وَكَفَّارَةُ الظِّهَارِ لِاسْتِيفَاءِ حَقٍّ لَهُ فَيَتَرَجَّحُ الْقَضَاءُ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ نَذَرَ صَوْمَ يَوْمٍ بِعَيْنِهِ فَنَوَاهُ وَكَفَّارَةَ

الْيَمِينِ أَنَّهُ عَنْ النَّذْرِ لِأَنَّهُ نَفْلٌ فِي أَصْلِهِ ، وَقَدَّمْنَا هَذَا فِي كِتَابِ الصَّوْمِ ، وَذَكَرْنَا إلْزَامَ مُحَمَّدٍ شُرُوعَهُ فِي النَّفْلِ فِي صُورَةِ نِيَّةِ الظُّهْرِ وَالنَّفَلِ فَارْجِعْ إلَيْهِ فَلْيَكُنْ هَذَا رِوَايَةً عَنْهُ فِيهِ .
هَذَا وَمِمَّا يُعَكِّرُ عَلَى الْأَصْلِ الْمُمَهِّدِ مَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْمُنْتَقَى : لَوْ تَصَدَّقَ عَنْ يَمِينٍ وَظِهَارٍ فَلَهُ أَنْ يَجْعَلَهُ عَنْ أَحَدِهِمَا اسْتِحْسَانًا ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .

بَابُ اللِّعَانِ قَالَ ( إذَا قَذَفَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ بِالزِّنَا وَهُمَا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ وَالْمَرْأَةُ مِمَّنْ يُحَدُّ قَاذِفُهَا أَوْ نَفَى نَسَبَ وَلَدِهَا وَطَالَبَتْهُ بِمُوجِبِ الْقَذْفِ فَعَلَيْهِ اللِّعَانُ ) وَالْأَصْلُ أَنَّ اللِّعَانَ عِنْدَنَا شَهَادَاتٌ مُؤَكَّدَاتٌ بِالْأَيْمَانِ مَقْرُونَةٌ بِاللَّعْنِ قَائِمَةٌ مَقَامَ حَدِّ الْقَذْفِ فِي حَقِّهِ وَمَقَامَ حَدِّ الزِّنَا فِي حَقِّهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إلَّا أَنْفُسُهُمْ } وَالِاسْتِثْنَاءُ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ الْجِنْسِ ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ } نَصٌّ عَلَى الشَّهَادَةِ وَالْيَمِينِ فَقُلْنَا الرُّكْنُ هُوَ الشَّهَادَةُ الْمُؤَكَّدَةُ بِالْيَمِينِ ، ثُمَّ قَرَنَ الرُّكْنَ فِي جَانِبِهِ بِاللَّعْنِ لَوْ كَانَ كَاذِبًا وَهُوَ قَائِمٌ مَقَامَ حَدِّ الْقَذْفِ وَفِي جَانِبِهَا بِالْغَضَبِ وَهُوَ قَائِمٌ مَقَامَ حَدِّ الزِّنَا ، إذَا ثَبَتَ هَذَا نَقُولُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ الرُّكْنَ فِيهِ الشَّهَادَةُ وَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ هِيَ مِمَّنْ يُحَدُّ قَاذِفُهَا لِأَنَّهُ قَائِمٌ فِي حَقِّهِ مَقَامَ حَدِّ الْقَذْفِ فَلَا بُدَّ مِنْ إحْصَانِهَا ، وَيَجِبُ بِنَفْيِ الْوَلَدِ لِأَنَّهُ لَمَّا نَفَى وَلَدَهَا صَارَ قَاذِفًا لَهَا ظَاهِرًا وَلَا يُعْتَبَرُ احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ مِنْ غَيْرِهِ بِالْوَطْءِ مِنْ شُبْهَةٍ ، كَمَا إذَا نَفَى أَجْنَبِيٌّ نَسَبَهُ عَنْ أَبِيهِ الْمَعْرُوفِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي النَّسَبِ الْفِرَاشُ الصَّحِيحُ وَالْفَاسِدُ مُلْحَقٌ بِهِ .
فَنَفْيُهُ عَنْ الْفِرَاشِ الصَّحِيحِ قَذْفٌ حَتَّى يَظْهَرَ الْمُلْحَقُ بِهِ

( بَابُ اللِّعَانِ ) هُوَ مَصْدَرُ لَاعَنَ سَمَاعِيٌّ لَا قِيَاسِيٌّ ، وَالْقِيَاسُ الْمُلَاعَنَةُ ، وَكَثِيرٌ مِنْ النُّحَاةِ يَجْعَلُونَ الْفِعَالَ وَالْمُفَاعَلَةَ مَصْدَرَيْنِ قِيَاسِيَّيْنِ لِفَاعِلٍ وَهُوَ مِنْ اللَّعْنِ وَهُوَ الطَّرْدُ وَالْإِبْعَادُ ، يُقَالُ مِنْهُ الْتَعَنَ : أَيْ لَعَنَ نَفْسَهُ ، وَلَاعَنَ إذَا فَاعَلَ غَيْرَهُ ، وَمِنْهُ رَجُلٌ لَعْنَةٌ بِفَتْحِ الْعَيْنِ إذَا كَانَ كَثِيرَ اللَّعْنِ لِغَيْرِهِ ، وَبِسُكُونِهَا إذَا لَعَنَهُ النَّاسُ كَثِيرًا .
قَالَ : وَالضَّيْفُ أُكْرِمُهُ فَإِنَّ مَبِيتَهُ حَقٌّ وَلَا تَكُ لَعْنَةً لِلنُّزُلِ وَفِي الْفِقْهِ : هُوَ اسْمٌ لِمَا يَجْرِي بَيْن الزَّوْجَيْنِ مِنْ الشَّهَادَاتِ بِالْأَلْفَاظِ الْمَعْرُوفَةِ ، سُمِّيَ ذَلِكَ بِهِ لِوُجُودِ لَفْظِ اللَّعْنِ فِي الْخَامِسَةِ مِنْ تَسْمِيَةِ الْكُلِّ بِاسْمِ الْجُزْءِ وَلَمْ يُسَمَّ بِاسْمِ الْغَضَبِ ، وَهُوَ أَيْضًا مَوْجُودٌ فِيهِ لِأَنَّهُ فِي كَلَامِهَا وَذَلِكَ فِي كَلَامِهِ وَهُوَ أَسْبَقُ وَالسَّبْقُ مِنْ أَسْبَابِ التَّرْجِيحِ وَشَرْطُهُ قِيَامُ النِّكَاحِ وَمَا سَيُذْكَرُ .
وَسَبَبُهُ قَذْفُهُ زَوْجَتَهُ بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ فِي الْأَجْنَبِيَّةِ .
وَرُكْنُهُ ذَلِكَ الْمَفْهُومِ .
وَحُكْمُهُ حُرْمَتُهَا بَعْدَ التَّلَاعُنِ عَلَى مَا سَيَأْتِي ، وَأَهْلُهُ مَنْ كَانَ أَهْلًا لِلشَّهَادَةِ .
( قَوْلُهُ إذَا قَذَفَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ بِالزِّنَا ) بِأَنْ يَقُولَ أَنْتِ زَانِيَةٌ أَوْ رَأَيْتُك تَزْنِينَ أَوْ يَا زَانِيَةُ ، هَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ ، وَفِي الْمَشْهُورِ عَنْ مَالِكٍ : لَا يَجِبُ بِقَوْلِهِ يَا زَانِيَةُ بَلْ يَجِبُ فِيهِ الْحَدُّ ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ وَعُثْمَانَ الْبَتِّيِّ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ .
وَاسْتُضْعِفَ بِأَنَّ الْكُلَّ رَمَى بِالزِّنَا وَهُوَ السَّبَبُ فَلَا فَرْقَ ( قَوْلُهُ وَهُمَا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ ) أَيْ مِنْ أَهْلِ أَدَائِهَا عَلَى الْمُسْلِمِ فَلَا يَجْرِي اللِّعَانُ بَيْنَ الْكَافِرَيْنِ وَالْمَمْلُوكَيْنِ ، وَلَا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مَمْلُوكًا أَوْ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ .
وَأَوْرَدَ أَنَّهُ يَجْرِي بَيْنَ الْأَعْمَيَيْنِ وَالْفَاسِقَيْنِ مَعَ أَنَّهُ لَا أَدَاءَ

لَهُمَا .
وَدَفَعَ بِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ لِلْفِسْقِ وَلِعَدَمِ تَمْيِيزِ الْأَعْمَى بَيْنَ الْمَشْهُودِ لَهُ وَعَلَيْهِ ، وَهُنَا هُوَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَ نَفْسِهِ وَامْرَأَتِهِ فَيَكُونُ أَهْلًا لِهَذِهِ الشَّهَادَةِ دُونَ غَيْرِهَا .
وَرَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْأَعْمَى لَا يُلَاعِنُ ( قَوْلُهُ مِمَّنْ يُحَدُّ قَاذِفُهَا ) فَلَوْ كَانَتْ لَا يُحَدُّ قَاذِفُهَا بِأَنْ تَزَوَّجَتْ بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ وَدَخَلَ بِهَا فِيهِ أَوْ كَانَ لَهَا وَلَدٌ وَلَيْسَ لَهُ أَبٌ مَعْرُوفٌ أَوْ زَنَتْ فِي عُمُرِهَا وَلَوْ مَرَّةً أَوْ وُطِئَتْ وَطْئًا حَرَامًا بِشُبْهَةٍ وَلَوْ مَرَّةً لَا يَجْرِي اللِّعَانُ .
وَأَوْرَدَ مَا فَائِدَةُ تَخْصِيصِ الْمَرْأَةِ بِكَوْنِهَا مِمَّنْ يُحَدُّ قَاذِفُهَا وَهُوَ شَرْطٌ فِي جَانِبِ الرَّجُلِ أَيْضًا حَتَّى لَوْ كَانَ الزَّوْجُ مِمَّنْ لَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ لَا يَجْرِي اللِّعَانُ أَيْضًا وَإِنْ كَانَتْ هِيَ مِمَّنْ يُحَدُّ قَاذِفُهَا .
وَأَجَابَ فِي النِّهَايَةِ بِأَنَّ اللِّعَانَ فِي حَقِّهِ قَائِمٌ مَقَامَ حَدِّ الْقَذْفِ فَلَا بُدَّ مِنْ إحْصَانِهَا حَتَّى يَقَعَ مَقَامَ حَدِّ الْقَذْفِ ، وَعِنْدَ عَدَمِ إحْصَانِهَا قَذْفُهَا لَا يَكُونُ مُوجِبًا شَيْئًا لَا حَدَّ الْقَذْفِ وَلَا اللِّعَانِ ، أَمَّا قَذْفُ الرَّجُلِ عِنْدَ عَدَمِ إحْصَانِهِ فَمُوجِبُ مَا هُوَ الْأَصْلُ وَهُوَ حَدُّ الْقَذْفِ فَلَمْ يُخِلَّ قَذْفُهُ عِنْدَ عَدَمِ إحْصَانِهِ عَنْ مُوجِبٍ فَلِذَلِكَ لَمْ يَشْتَرِطْ كَوْنَهُ مِمَّنْ يُحَدُّ قَاذِفُهُ إذْ الْحَدُّ أَصْلُ اللِّعَانِ فَكَانَ فِي مَعْنَى اللِّعَانِ .
قَالَ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ : هَذَا خَطَأٌ فَاحِشٌ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ اللِّعَانِ أَنْ يَكُونَا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّهُ شَهَادَةٌ ، وَكَوْنُهُ مِمَّنْ لَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ كَالزَّانِي لَا يُخِلُّ بِهَذَا الشَّرْطِ لِأَنَّ اللِّعَانَ يَجْرِي بَيْنَ الْفَاسِقَيْنِ ، وَإِنَّمَا اُشْتُرِطَ ذَلِكَ فِيهَا لِتَثْبُتَ عِفَّتُهَا لِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ لَا يَجِبُ إلَّا إذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ عَفِيفًا عَنْ الزِّنَا ، فَكَذَا اللِّعَانُ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ حَدِّ

قَذْفِهَا ، وَهَذَا لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ اللِّعَانِ أَنْ تُطَالِبَ الْمَرْأَةُ بِمُوجَبِ الْقَذْفِ وَهُوَ الْحَدُّ ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ مِمَّنْ يُحَدُّ قَاذِفُهَا لَيْسَ لَهَا الْمُطَالَبَةُ بِذَلِكَ فَلَا يُتَصَوَّرُ اللِّعَانُ وَلَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّهِ هَذَا الْمَعْنَى فَلِأَيِّ مَعْنًى يَمْتَنِعُ ا هـ .
الْحَاصِلُ أَنَّ الْمَرْأَةَ هِيَ الْمَقْذُوفَةُ دُونَهُ فَاخْتُصَّتْ بِاشْتِرَاطِ كَوْنِهَا مِمَّنْ يُحَدُّ قَاذِفُهَا بَعْدَ اشْتِرَاطِ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ بِخِلَافِهِ لَيْسَ بِمَقْذُوفٍ وَهُوَ شَاهِدٌ فَاشْتُرِطَتْ أَهْلِيَّةُ الشَّهَادَةِ دُونَ كَوْنِهِ مِمَّنْ يُحَدُّ قَاذِفُهُ ( قَوْلُهُ وَالْأَصْلُ ) أَيْ إنَّ الْأَصْلَ فِي اشْتِرَاطِ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ فِيهِمَا ، وَاشْتِرَاطُ كَوْنِهَا مَعَ ذَلِكَ عَفِيفَةً مِمَّنْ يُحَدُّ قَاذِفُهَا أَنَّ اللِّعَانَ شَهَادَاتٌ مُؤَكَّدَاتٌ بِالْأَيْمَانِ ، فَلِذَلِكَ اشْتَرَطْنَا أَهْلِيَّةَ الشَّهَادَةِ ، وَأَنَّهُ قَامَ مَقَامَ حَدِّ الْقَذْفِ فِي حَقِّهِ : أَيْ قَذْفِهِ لَهَا فَلِذَلِكَ اشْتَرَطْنَا كَوْنَهَا مِمَّنْ يُحَدُّ قَاذِفُهَا وَمَقَامُ حَدِّ الزِّنَا فِي حَقِّهَا إنْ كَانَ صَادِقًا ( قَوْلُهُ عِنْدَنَا ) قُيِّدَ بِهَذَا الظَّرْفِ لِيُفِيدَ الْخِلَافَ .
فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ اللِّعَانُ أَيْمَانٌ مُؤَكَّدَاتٌ بِالشَّهَادَاتِ ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ مِمَّنْ كَانَ أَهْلًا لِلْيَمِينِ وَهُوَ مَنْ يَمْلِكُ الطَّلَاقَ ، فَكُلُّ مَنْ يَمْلِكُهُ فَهُوَ أَهْلٌ لَهُ عِنْدَهُ ، فَيَجِبُ اللِّعَانُ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ عَاقِلٍ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا أَوْ عَبْدًا ، وَعَنْ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ رِوَايَةٌ كَقَوْلِنَا ، وَجْهُ قَوْلِهِ قَوْله تَعَالَى { فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ } فَقَوْلِهِ تَعَالَى " بِاَللَّهِ " مُحْكَمٌ فِي الْيَمِينِ وَالشَّهَادَةِ تَحْتَمِلُ الْيَمِينَ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ أَشْهَدُ يَنْوِي الْيَمِينَ كَانَ يَمِينًا ، فَحَمَلْنَا الْمُحْتَمَلَ عَلَى الْمُحْكَمِ ، لِأَنَّ حَمْلَهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ مُتَعَذَّرٌ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ فِي الشَّرْعِ عَدَمُ قَبُولِ شَهَادَةِ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ بِخِلَافِ يَمِينِهِ ، وَكَذَا

الْمَعْهُودُ شَرْعًا عَدَمُ تَكَرُّرِ الشَّهَادَةِ فِي مَوْضِعٍ بِخِلَافِ الْيَمِينِ فَإِنَّهُ مَعْهُودٌ فِي الْقَسَامَةِ ، وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ مَحَلُّهَا الْإِثْبَاتَاتِ وَالْيَمِينُ لِلنَّفْيِ فَلَا يُتَصَوَّرُ تَعَلُّقُ حَقِيقَتِهِمَا بِأَمْرٍ وَاحِدٍ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِحَقِيقَةِ أَحَدِهِمَا وَمَجَازِ الْآخَرِ ، فَلْيَكُنْ الْمَجَازُ لَفْظَ الشَّهَادَةِ لِمَا قُلْنَا مِنْ الْمُوجِبَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ ، وَهَذَا التَّقْرِيرُ يَقْتَضِي فِي حِلِّ مَذْهَبِهِ أَنْ يُقَالَ أَيْمَانٌ مُؤَكَّدَةٌ بِأَيْمَانٍ لَا أَيْمَانٌ مُؤَكَّدَةٌ بِالشَّهَادَةِ .
وَلَنَا الْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ وَالْحَمْلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ يَجِبُ عِنْدَ الْإِمْكَانِ قَوْله تَعَالَى { وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إلَّا أَنْفُسُهُمْ } أَثْبَتَ أَنَّهُمْ شُهَدَاءُ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ ، وَجَعَلَ الشُّهَدَاءَ مَجَازًا عَنْ الْحَالِفِينَ يُصَيِّرُ الْمَعْنَى : وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ حَالِفُونَ إلَّا أَنْفُسُهُمْ ، وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ لِأَنَّهُ يُفِيدُ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ مَنْ يَحْلِفُ لَهُمْ يَحْلِفُونَ هُمْ لِأَنْفُسِهِمْ ، وَهَذَا فَرْعُ تَصَوُّرِ حَلْفِ الْإِنْسَانِ لِغَيْرِهِ وَهُوَ لَا وُجُودَ لَهُ أَصْلًا ، فَلَوْ كَانَ مَعْنَى الْيَمِينِ حَقِيقِيًّا لِلَّفْظِ الشَّهَادَةِ كَانَ هَذَا صَارِفًا عَنْهُ إلَى مَجَازِهِ فَكَيْفَ وَهُوَ مَجَازِيٌّ لَهَا ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هَذَا كَانَ إمْكَانُ الْعَمَلِ بِالْحَقِيقَةِ مُوجِبًا لِعَدَمِ الْحَمْلِ عَلَى الْيَمِينِ فَكَيْفَ وَهَذَا صَارِفٌ عَنْ الْمَجَازِ وَمَا تُوُهِّمَ صَارِفًا مِمَّا ذُكِرَ غَيْرُ لَازِمٍ قَوْلُهُ قَبُولُ الشَّهَادَةِ لِنَفْسِهِ ، وَتَكَرُّرُ الْأَدَاءِ لَا عَهْدَ بِهِمَا .
قُلْنَا : وَكُلٌّ مِنْ الْحَلِفِ لِغَيْرِهِ وَالْحَلِفُ لِإِيجَابِ الْحُكْمِ لَا عَهْدَ بِهِ ، بَلْ الْيَمِينُ لِدَفْعِ الْحُكْمِ ، فَإِنْ جَازَ لِمَنْ لَهُ وِلَايَةُ الْإِيجَادِ وَالْإِعْدَامِ وَالْحُكْمِ كَيْفَمَا أَرَادَ شَرْعِيَّةَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ فِي مَحِلٍّ بِعَيْنِهِ ابْتِدَاءً جَازَ لَهُ أَيْضًا شَرْعِيَّةُ ذَلِكَ ابْتِدَاءً ، ثُمَّ هُمَا أَقْرَبُ فِي الْقَوْلِ

لِعَقْلِيَّةِ كَوْنِ التَّعَدُّدِ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ أَرْبَعًا بَدَلًا عَمَّا عَجَزَ عَنْهُ مِنْ إقَامَةِ شُهُودِ الزِّنَا وَهُمْ أَرْبَعٌ وَعَدَمُ قَبُولِ الشَّهَادَةِ لِنَفْسِهِ عِنْدَ التُّهْمَةِ وَلِذَا يَثْبُتُ عِنْدَ عَدَمِهَا أَعْظَمُ ثُبُوتٍ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ } فَغَيْرُ بَعِيدٍ أَنْ يُشَرَّعَ عِنْدَ ضَعْفِهَا بِوَاسِطَةِ تَأْكِيدِهَا بِالْيَمِينِ وَإِلْزَامِ اللَّعْنَةِ وَالْغَضَبِ إنْ كَانَ كَاذِبًا مَعَ عَدَمِ تَرَتُّبِ مُوجِبِهَا فِي حَقِّ كُلٍّ مِنْ الشَّاهِدَيْنِ ، إذْ مُوجِبُ شَهَادَةِ كُلِّ وَاحِدٍ إقَامَةُ الْحَدِّ عَلَى الْآخَرِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِثَابِتٍ هُنَا ، بَلْ الثَّابِتُ عِنْدَهُمَا مَا هُوَ الثَّابِتُ بِالْأَيْمَانِ وَهُوَ انْدِفَاعُ مُوجِبِ دَعْوَى كُلٍّ عَنْ الْآخَرِ ، وَإِنَّمَا قُلْنَا عِنْدَهُمَا وَلَمْ نَقُلْ بِهِمَا لِأَنَّ هَذَا الِانْدِفَاعَ لَيْسَ مُوجِبَ الشَّهَادَتَيْنِ بَلْ هُوَ مُوجِبُ تَعَارُضِهِمَا .
وَأَمَّا قَوْلُهُ الْيَمِينُ لِلنَّفْيِ إلَى آخِرِهِ فَمَحِلُّهُ مَا إذَا وَقَعَتْ فِي إنْكَارِ دَعْوَى مُدَّعٍ وَإِلَّا فَقَدْ يَحْلِفُ عَلَى إخْبَارٍ بِأَمْرِ نَفْيٍ أَوْ إثْبَاتٍ ، وَهُنَا كَذَلِكَ فَإِنَّهَا عَلَى صِدْقِهِ فِي الشَّهَادَةِ ، وَالْحَقُّ أَنَّهَا عَلَى مَا وَقَعَتْ الشَّهَادَةُ بِهِ وَهُوَ كَوْنُهُ مِنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ كَمَا إذَا جَمَعَ أَيْمَانًا عَلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ يُخْبِرُ بِهِ فَإِنَّ هَذَا هُوَ حَقِيقَةُ كَوْنِهَا مُؤَكِّدَةً لِلشَّهَادَةِ ، إذْ لَوْ اخْتَلَفَ مُتَعَلِّقُهُمَا لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا مُؤَكِّدًا لِلْآخَرِ ، وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي اشْتِرَاطِ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ وَعَدَمِهَا ( قَوْلُهُ قَائِمَةً مَقَامَ حَدِّ الْقَذْفِ فِي حَقِّهِ ) أَيْ بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ زَوْجَةٍ عَلَى حِدَةٍ لَا مُطْلَقًا : أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ قَذَفَ بِكَلِمَةٍ أَوْ بِكَلِمَاتٍ أَرْبَعَ زَوْجَاتٍ لَهُ بِالزِّنَا لَا يَجْزِيه لِعَانٌ وَاحِدٌ لَهُنَّ ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُلَاعِنَ كُلًّا مِنْهُنَّ عَلَى حِدَةٍ ، وَلَوْ كُنَّ أَجْنَبِيَّاتٍ فَقَذَفَهُنَّ حُدَّ وَاحِدًا لَهُنَّ .
وَسَبَبُ هَذَا الِافْتِرَاقِ أَنَّ

الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ فِي إقَامَةِ الْحَدِّ الْوَاحِدِ لِلْكُلِّ وَهُوَ دَفْعُ الْعَارِ عَنْهُنَّ ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ فِي اللِّعَانِ إلَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ ، وَيَتَعَذَّرُ اجْتِمَاعُ الْكُلِّ فِي كَلِمَةٍ ( قَوْلُهُ وَيَجِبُ بِنَفْيِ الْوَلَدِ ) هُوَ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ وَلَدَهُ مِنْهَا أَوْ وَلَدَهَا مِنْ غَيْرِهِ ، وَيَجِبُ إرَادَةُ هَذَا الْإِطْلَاقِ .
فَقَوْلُهُ فِي الْغَايَةِ أَوْ نَفَى نَسَبَ وَلَدِهَا الْمَوْلُودِ عَلَى فِرَاشِهِ لَا يُفِيدُ ، لِأَنَّهُ لَوْ نَفَى نَسَبَ وَلَدِهَا مِنْ غَيْرِهِ عَنْ أَبِيهِ الْمَعْرُوفِ يَكُونُ قَذْفًا لَهَا كَمَا لَوْ نَفَاهُ عَنْهُ أَجْنَبِيٌّ فَيَكُونُ مُوجِبُهُ اللِّعَانَ لِمَا تَلَوْنَا كَذَا فِي شَرْحِ الْكَنْزِ ( قَوْلُهُ وَلَا يُعْتَبَرُ احْتِمَالُ إلَخْ ) جَوَابٌ عَنْ مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ إنَّ النَّفْيَ لَيْسَ بِقَذْفٍ لَهَا بِالزِّنَا يَقِينًا لِجَوَازِ كَوْنِ الْوَلَدِ مِنْ غَيْرِهِ بِوَطْءٍ بِشُبْهَةٍ لَا زِنًا .
أَجَابَ بِأَنَّهُ احْتِمَالٌ لَا يُعْتَبَرُ لِأَنَّ النَّسَبَ وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَثْبُتُ مِنْ الْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ لَكِنَّ الْوَاقِعَ انْتِفَاءُ ثُبُوتِهِ إلَّا مِنْ هَذَا الْفِرَاشِ الْقَائِمِ .
فَإِذَا نَفَاهُ عَنْهُ مَعَ عَدَمِ ثُبُوتِهِ مِنْ غَيْرِهِ كَانَ نَفْيًا لِثُبُوتِ نَسَبِهِ مُطْلَقًا وَيَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ عَنْ زِنًا فَكَانَ قَذْفًا مَا لَمْ يَظْهَرْ خِلَافُهُ وَلَمْ يَظْهَرْ بَعْدُ ، وَإِنَّمَا بَقِيَ فِيهِ احْتِمَالُ كَوْنِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عَنْ غَيْرِ زِنًا وَلَا عِبْرَةَ بِهِ .
فَإِنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ قَائِمٌ بِعَيْنِهِ فِيمَا إذَا صَرَّحَ بِنِسْبَةِ أُمِّهِ إلَى الزِّنَا بِهِ ، ثُمَّ شَبَّهَهُ بِمَا إذَا نَفَى أَجْنَبِيٌّ نَسَبَهُ عَنْ أَبِيهِ الْمَعْرُوفِ : يَعْنِي فَإِنَّهُ يَكُونُ قَذْفًا مُوجِبًا لِلْحَدِّ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الِاحْتِمَالُ قَائِمًا فِيهِ وَهَذَا مُصَرَّحٌ ، بِخِلَافِ مَا فِي الْمُحِيطِ مِنْ أَنَّهُ إذَا نَفَى الْوَلَدَ فَقَالَ لَيْسَ بِابْنِي وَلَمْ يَقْذِفْهَا بِالزِّنَا لَا لِعَانَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ النَّفْيَ لَيْسَ بِقَذْفٍ لَهَا بِالزِّنَا يَقِينًا لِذَلِكَ الِاحْتِمَالِ .
وَفِي النِّهَايَةِ وَالدِّرَايَةِ جَعَلَا هَذَا

قَوْلَ الشَّافِعِيِّ ، ثُمَّ قَالَ : وَأَجْمَعُوا أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ لَيْسَ هَذَا الْوَلَدُ الَّذِي وَلَدْتِيهِ مِنْ زَوْجِك لَا يَصِيرُ قَاذِفًا مَا لَمْ يَقُلْ إنَّهُ مِنْ الزِّنَا قَالَ : وَالْقِيَاسُ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ إلَّا أَنَّا تَرَكْنَاهُ لِضَرُورَةٍ فِي اللِّعَانِ لِأَنَّ الزَّوْجَ قَدْ يَعْلَمُ أَنَّ الْوَلَدَ لَيْسَ مِنْهُ ، إمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَقْرَبْهَا أَوْ عَزَلَ عَنْهَا عَزْلًا بَيِّنًا وَلَا يَدْرِي مِنْ أَيْنَ هُوَ : يَعْنِي فَيَحْتَاجُ إلَى نَفْيِهِ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَلْحِقُ مَنْ لَيْسَ مِنْهُ يَقِينًا وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ إلَّا بِاللِّعَانِ ، وَثُبُوتُهُ فَرْعُ اعْتِبَارِهِ قَاذِفًا فَاعْتُبِرَ كَذَلِكَ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ ، وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ مُنْعَدِمَةٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِ .
وَجَوَابُ الْفَصْلَيْنِ يُخَالِفُ جَوَابَهُمَا الْمُصَرَّحَ فِي الْهِدَايَةِ ؛ وَالْعَجَبُ مِنْ صَاحِبِ الدِّرَايَةِ حَيْثُ قَالَ فِي تَقْرِيرِهِ قَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ : وَلَا يُعْتَبَرُ احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ إلَخْ ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ قَاذِفًا بِالْإِجْمَاعِ مَعَ وُجُودِ هَذَا الِاحْتِمَالِ ، كَمَا فِي نَفْيِ أَجْنَبِيٍّ نَسَبَهُ عَنْ أَبِيهِ الْمَعْرُوفِ ، وَنَقَلَهُ مِنْ الْإِيضَاحِ وَالْمَبْسُوطِ ، ثُمَّ نَقَلَ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ كَمَا فِي النِّهَايَةِ .
ثُمَّ أَوْرَدَ صُورَةَ الْأَجْنَبِيَّةِ مَقِيسًا لَهُ عَلَيْهِ .
فَقَالَ : كَمَا لَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ لَيْسَ هَذَا الْوَلَدُ مِنْ زَوْجِك وَلَمْ يَمْنَعْهُ فِي جَوَابِهِ بَلْ ذَكَرَ فِي جَوَابِهِ الْفَرْقَ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي النِّهَايَةِ بَيْنَ قَوْلِهِ لِأَجْنَبِيَّةٍ وَبَيْنَ قَوْلِهِ لِزَوْجَتِهِ ، وَهُوَ تَنَاقُضٌ ظَاهِرٌ وَمُخَالِفًا لِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَوَاضِعِ كَالْإِيضَاحِ وَالْمَبْسُوطِ وَغَيْرِهِمَا ، وَمَا فِي كِتَابِ الْحُدُودِ فَإِنَّهُ قَالَ : وَمَنْ نَفَى نَسَبَ غَيْرِهِ فَقَالَ لَسْت لِأَبِيك فَإِنَّهُ يُحَدُّ ، قِيلَ وَذُكِرَ فِي جَوَامِعِ الْفِقْهِ وَغَيْرِهِ : لَوْ قَالَ وَجَدْت مَعَهَا رَجُلًا يُجَامِعُهَا لَيْسَ بِقَذْفٍ لَهَا لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْحِلَّ وَالْجِمَاعَ بِشُبْهَةٍ وَالنِّكَاحَ الْفَاسِدَ

فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ هُنَا : يَعْنِي فِي نَفْيِ نَسَبِ وَلَدِهِ مِنْ زَوْجَتِهِ .
أُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّا جَعَلْنَاهُ كَالتَّصْرِيحِ بِالزِّنَا لِلضَّرُورَةِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا .
قُلْت : وَعَلَى مَا هُوَ الْحَقُّ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْجِمَاعَ لَا يَسْتَلْزِمُ الزِّنَا ، بِخِلَافِ قَطْعِ نَسَبِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُهُ

وَيُشْتَرَطُ طَلَبُهَا لِأَنَّهُ حَقُّهَا فَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِهَا كَسَائِرِ الْحُقُوقِ ( فَإِنْ امْتَنَعَ مِنْهُ حَبَسَهُ الْحَاكِمُ حَتَّى يُلَاعِنَ أَوْ يُكَذِّبَ نَفْسَهُ ) لِأَنَّهُ حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إيفَائِهِ فَيُحْبَسُ بِهِ حَتَّى يَأْتِيَ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ أَوْ يُكَذِّبَ نَفْسَهُ لِيَرْتَفِعَ السَّبَبُ ( وَلَوْ لَاعَنَ وَجَبَ عَلَيْهَا اللِّعَانُ ) لِمَا تَلَوْنَا مِنْ النَّصِّ إلَّا أَنَّهُ يُبْتَدَأُ بِالزَّوْجِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُدَّعِي ( فَإِنْ امْتَنَعَتْ حَبَسَهَا الْحَاكِمُ حَتَّى تُلَاعِنَ أَوْ تُصَدِّقَهُ ) لِأَنَّهُ حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهَا وَهِيَ قَادِرَةٌ عَلَى إيفَائِهِ فَتُحْبَسُ فِيهِ .

( قَوْلُهُ وَيُشْتَرَطُ طَلَبُهَا ) وَبِهِ قَالَتْ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ لِأَنَّهُ أَيْ اللِّعَانُ حَقُّهَا لِأَنَّهُ لِدَفْعِ الْعَارِ عَنْهَا فَيُشْتَرَطُ طَلَبُهَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْقَذْفُ بِنَفْيِ الْوَلَدِ ، فَإِنَّ الشَّرْطَ طَلَبُهُ لِاحْتِيَاجِهِ إلَى نَفْيِ مَنْ لَيْسَ وَلَدُهُ عَنْهُ ( فَإِنْ امْتَنَعَ حَبَسَهُ الْحَاكِمُ حَتَّى يُلَاعِنَ أَوْ يُكَذِّبَ نَفْسَهُ ) فَيُحَدُّ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ : إذَا امْتَنَعَ حَدَّهُ حَدَّ الْقَذْفِ ، وَكَذَا إذَا لَاعَنَ فَامْتَنَعَتْ عِنْدَهُ تُحَدُّ حَدَّ الزِّنَا ، وَعِنْدَنَا تُحْبَسُ حَتَّى تُلَاعِنَ أَوْ تُصَدِّقُهُ فَيَرْتَفِعُ سَبَبُ وُجُوبِ لِعَانِهَا وَهُوَ التَّكَاذُبُ ، لِأَنَّ اللِّعَانَ إنَّمَا يَجِبُ إذَا أَكْذَبَ كُلٌّ الْآخَرَ فِيمَا ادَّعَاهُ .
وَالْأَوْجَهُ كَوْنُهُ الْقَذْفَ فَهُوَ السَّبَبُ وَالتَّكَاذُبُ شَرْطٌ .
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ : فَيَرْتَفِعُ الشَّيْنُ ، وَهَذَا إذَا اعْتَرَفَ بِالْقَذْفِ ، فَلَوْ أَنْكَرَ فَأَقَامَتْ بَيِّنَةً قُبِلَتْ وَلَزِمَهُ اللِّعَانُ .
وَفِي الْجَامِعِ : لَوْ مَاتَ الشَّاهِدَانِ أَوْ غَابَا بَعْدَ مَا عَدَلَا لَا يُقْضَى بِاللِّعَانِ وَفِي الْمَالِ يُقْضَى .
بِخِلَافِ مَا لَوْ عَمِيَا أَوْ فَسَقَا أَوْ ارْتَدَّا حَيْثُ يُلَاعَنُ بَيْنَهُمَا ، وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْقُدُورِيِّ : أَوْ تَصَدَّقَهُ فَتُحَدُّ وَهُوَ غَلَطٌ ، لِأَنَّ الْحَدَّ لَا يَجِبُ بِالْإِقْرَارِ مَرَّةً فَكَيْفَ يَجِبُ بِالتَّصْدِيقِ مَرَّةً ، وَهُوَ لَا يَجِبُ بِالتَّصْدِيقِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ لِأَنَّ التَّصْدِيقَ لَيْسَ بِإِقْرَارٍ قَصْدًا بِالذَّاتِ فَلَا يُعْتَبَرُ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ بَلْ فِي دَرْئِهِ فَيَنْدَفِعُ بِهِ اللِّعَانُ وَلَا يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ ، وَلَوْ صَدَّقَتْهُ فِي نَفْيِ الْوَلَدِ فَلَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ وَهُوَ وَلَدُهُمَا ، لِأَنَّ النَّسَبَ إنَّمَا يَنْقَطِعُ حُكْمًا لِلِّعَانِ وَلَمْ يُوجَدْ وَهُوَ حَقُّ الْوَلَدِ فَلَا يُصَدَّقَانِ فِي إبْطَالِهِ .
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْوَاجِبَ بِالْقَذْفِ مُطْلَقًا الْحَدُّ بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ }

إلَّا أَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ دَفْعِهِ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْمَقْذُوفَةُ زَوْجَةً بِاللِّعَانِ تَخْفِيفًا عَلَيْهِ ، فَإِذَا لَمْ يَدْفَعْهُ بِهِ يُحَدُّ ، وَمِثْلُهُ فِي الْمَرْأَةِ إذَا لَمْ تُلَاعِنْ بَعْدَمَا أَوْجَبَ الزَّوْجُ عَلَيْهَا اللِّعَانَ بِلِعَانِهِ ، فَإِذَا امْتَنَعَتْ حُدَّتْ بِالزِّنَا ، وَيُشِيرُ إلَيْهِ قَوْله تَعَالَى { وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ } قُلْنَا قَوْله تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } إلَى قَوْله تَعَالَى { فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ } أَيْ فَالْوَاجِبُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ وَقَدْ عُرِفَ أَنَّ فَاءَ الْجَزَاءِ يُحْذَفُ بَعْدَهَا الْمُبْتَدَأُ كَثِيرًا فَأَفَادَ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي قَذْفِ النِّسَاءِ اللِّعَانُ ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا أَوْ مُخَصِّصًا لِعُمُومِ ذَلِكَ الْعَامِّ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْسُوخٍ ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ يَلْزَمُ كَوْنُ الثَّابِتِ فِي قَذْفِ الزَّوْجَاتِ إنَّمَا هُوَ هَذَا فَلَا يَجِبُ غَيْرُهُ عِنْدَ الِامْتِنَاعِ عَنْ إيفَائِهِ بَلْ تُحْبَسُ لِإِيفَائِهِ كَمَا فِي كُلِّ حَقٍّ امْتَنَعَ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ عَنْ إيفَائِهِ لَا يُعَاقَبُ لِيُوفِيَهُ .
وَالثَّابِتُ عِنْدَنَا أَنَّهُ بِطَرِيقِ النَّسْخِ لِأَنَّهُ لَمْ يُقَارَنْ الْعَامُّ وَهُوَ مُخَصَّصٌ أَوَّلٌ ، وَلِلْعِلْمِ بِتَأَخُّرِهِ عَلَى مَا رَوَوْا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَالَ لِلَّذِي قَذَفَ امْرَأَتَهُ ائْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ وَإِلَّا فَحُدَّ عَلَى ظَهْرِكَ } فَنَزَلَتْ آيَةُ اللِّعَانِ ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ كَوْنُ الْمُرَادِ مِنْ الْعَذَابِ فِي الْآيَةِ الْحَدَّ لِجَوَازِ كَوْنِهِ الْحَبْسَ .
وَإِذْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ اللِّعَانَ هُوَ الْوَاجِبُ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ .
قِيلَ : وَالْعَجَبُ مِنْ الشَّافِعِيِّ لَا يَقْبَلُ شَهَادَةَ الزَّوْجِ عَلَيْهَا بِالزِّنَا مَعَ ثَلَاثَةِ عُدُولٍ ثُمَّ يُوجِبُ الْحَدَّ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ وَحَدُّهُ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا فَاسِقًا .
وَأَعْجَبُ مِنْهُ أَنَّهُ يَمِينٌ عِنْدَهُ وَهُوَ لَا يَصْلُحُ لِإِيجَابِ الْمَالِ وَلَا لِإِسْقَاطِهِ بَعْدَ الْوُجُوبِ وَأَسْقَطَ بِهِ

كُلٌّ مِنْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ الْحَدَّ عَنْ نَفْسِهِ وَأَوْجَبَ بِهِ الرَّجْمَ الَّذِي هُوَ أَغْلَظُ الْحُدُودِ عَلَى الْمَرْأَةِ ، فَإِنْ قَالَ : إنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهَا لِنُكُولِهَا بِامْتِنَاعِهَا عَنْ اللِّعَانِ .
قُلْنَا : هُوَ أَيْضًا مِنْ ذَلِكَ الْعَجَبِ ، فَإِنَّ كَوْنَ النُّكُولِ إقْرَارًا فِيهِ شُبْهَةٌ ، وَالْحَدُّ مِمَّا يَنْدَفِعُ بِمَا مَعَ أَنَّهُ غَايَةُ مَا يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ مَرَّةً ، ثُمَّ إنَّ عِنْدَهُ هَذِهِ الشُّبْهَةَ أَثَّرَتْ فِي مَنْعِ إيجَابِ الْمَالِ مَعَ أَنَّهُ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبْهَةِ فَكَيْفَ يُوجِبُ الرَّجْمَ بِهِ وَهُوَ أَغْلَظُ الْحُدُودِ وَأَصْعَبُ إثْبَاتًا وَأَكْثَرُ شُرُوطًا .
وَفِي كَافِي الْحَاكِمِ : إذَا شَهِدَ الزَّوْجُ وَثَلَاثَةُ نَفَرٍ عَلَى امْرَأَتِهِ بِالزِّنَا جَازَتْ شَهَادَتُهُمْ فَتُحَدُّ هِيَ ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ قَذَفَ وَجَاءَ بِثَلَاثَةِ نَفَرٍ فَشَهِدُوا حُدَّ الثَّلَاثَةُ وَلَاعَنَ الزَّوْجُ

( وَإِذَا كَانَ الزَّوْجُ عَبْدًا أَوْ كَافِرًا أَوْ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ فَقَذَفَ امْرَأَتَهُ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ ) لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ اللِّعَانُ لِمَعْنًى مِنْ جِهَتِهِ فَيُصَارُ إلَى الْمُوجِبِ الْأَصْلِيِّ وَهُوَ الثَّابِتُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ } الْآيَةَ ، وَاللِّعَانُ خَلَفٌ عَنْهُ
( قَوْلُهُ أَوْ كَافِرًا ) صُورَتُهُ مَا إذَا كَانَ الزَّوْجَانِ كَافِرَيْنِ فَأَسْلَمَتْ هِيَ فَقَذَفَهَا الزَّوْجُ قَبْلَ عَرْضِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ ( قَوْلُهُ فَيُصَارُ إلَى الْمُوجِبِ الْأَصْلِيِّ وَهُوَ الثَّابِتُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ } ) يَعْنِي الْحَدَّ ، وَلَا تَحْرِيرَ فِي هَذَا الْكَلَامِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُوجِبُ الْأَصْلِيُّ هُوَ الْحَدُّ فِي حَقِّ الْعُمُومِ ، وَقَدْ جُعِلَ لَهُ أَنْ يُسْقِطَهُ بِاللِّعَانِ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَأَمَّا عَلَى مَا قَرَّرْنَا مِنْ ثُبُوتِ نَسْخِهَا فِي قَذْفِ الزَّوْجَاتِ فَلَا يَكُونُ لِلْحَدِّ وُجُودٌ فِي قَذْفِهِنَّ لِارْتِفَاعِ الْمَنْسُوخِ فَلَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ فِيهِنَّ لِأَنَّهُ مَصِيرٌ إلَى غَيْرِ حُكْمِهِ .
وَالدَّلِيلُ يَنْفِيه .
وَالْحَقُّ فِي التَّقْرِيرِ أَنْ يُقَالَ : النَّصُّ إنَّمَا نَسَخَ حُكْمَ الْحَدِّ فِي حَقِّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ مِنْ الْأَزْوَاجِ لَا فِي كُلِّ زَوْجٍ لِأَنَّ لَفْظَةَ النَّاسِخِ { وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ } تُفِيدُ ذَلِكَ فَيَبْقَى الْعَامُّ مُوجِبًا حُكْمَهُ وَهُوَ وُجُوبُ الْحَدِّ فِيمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا فَيُعْمَلُ بِمُقْتَضَاهُ

( وَإِنْ ) ( كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ وَهِيَ أَمَةٌ أَوْ كَافِرَةٌ أَوْ مَحْدُودَةٌ فِي قَذْفٍ أَوْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا يُحَدُّ قَاذِفُهَا ) بِأَنْ كَانَتْ صَبِيَّةً أَوْ مَجْنُونَةً أَوْ زَانِيَةً ( فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَلَا لِعَانَ ) لِانْعِدَامِ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ وَعَدَمِ الْإِحْصَانِ فِي جَانِبِهَا وَامْتِنَاعِ اللِّعَانِ لِمَعْنًى مِنْ جِهَتِهَا فَيَسْقُطُ الْحَدُّ كَمَا إذَا صَدَّقَتْهُ ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَرْبَعَةٌ لَا لِعَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَزْوَاجِهِمْ : الْيَهُودِيَّةُ وَالنَّصْرَانِيَّةُ تَحْتَ الْمُسْلِمِ ، وَالْمَمْلُوكَةُ تَحْتَ الْحُرِّ ، وَالْحُرَّةُ تَحْتَ الْمَمْلُوكِ } وَلَوْ كَانَا مَحْدُودَيْنِ فِي قَذْفٍ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ لِأَنَّ امْتِنَاعَ اللِّعَانِ بِمَعْنًى مِنْ جِهَتِهِ إذْ هُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ

( قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ ) أَيْ الزَّوْجُ ( مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ ) وَهِيَ لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِهَا أَوْ مِنْ أَهْلِهَا إلَّا أَنَّهَا لَا يُحَدُّ قَاذِفُهَا بِأَنْ تَكُونَ قَدْ زَنَتْ فِي عُمُرِهَا فَلَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا إذَا كَانَتْ لَا يُحَدُّ قَاذِفُهَا ، أَمَّا إذَا كَانَتْ مِمَّنْ يُحَدُّ قَاذِفُهَا إلَّا أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ بِأَنْ تَكُونَ عَفِيفَةً مَحْدُودَةً فِي قَذْفٍ ؛ فَقَدْ يُقَالُ امْتِنَاعُ اللِّعَانِ لِعَدَمِ شَرْطٍ مِنْ أَيْنَ يَسْتَلْزِمُ امْتِنَاعَ الْحَدِّ وَالْحَالُ أَنَّهَا مِمَّنْ يُحَدُّ قَاذِفُهَا فَصَارَ كَامْتِنَاعِ اللِّعَانِ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ وَلَمْ يَسْقُطْ الْحَدُّ عَنْهُ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الزَّوْجَ لَمَّا كَانَ أَهْلًا لِلِّعَانِ بِأَنْ كَانَ أَهْلًا لِلشَّهَادَةِ لَمْ يَكُنْ حُكْمُ قَذْفِهِ إلَّا اللِّعَانَ لَا الْحَدَّ ، فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْ جِهَتِهَا امْتَنَعَ تَمَامُ الْمُوجِبِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا امْتَنَعَ مِنْ جِهَتِهِ بِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ لِلشَّهَادَةِ فَإِنَّ حُكْمَ قَذْفِهِ لَيْسَ اللِّعَانَ بَلْ الْحَدَّ لِمَا بَيَّنَّا ( قَوْلُهُ وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَرْبَعَةٌ لَا لِعَانَ بَيْنَهُمْ } ) أَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ عَنْ ابْنِ عَطَاءٍ عَنْ أَبِيهِ عَطَاءِ الْخُرَاسَانِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَرْبَعَةٌ مِنْ النِّسَاءِ لَا مُلَاعَنَةَ بَيْنَهُمْ : النَّصْرَانِيَّةُ تَحْتَ الْمُسْلِمِ ، وَالْيَهُودِيَّةُ تَحْتَ الْمُسْلِمِ ، وَالْمَمْلُوكَةُ تَحْتَ الْحُرِّ ، وَالْحُرَّةُ تَحْتَ الْمَمْلُوكِ } .
وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عُثْمَانَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْوَقَّاصِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، وَأَخْرَجَهُ بِالطَّرِيقِ الْأَوَّلِ أَيْضًا وَقَالَ وَتَابَعَهُ : يَعْنِي تَابَعَ عُثْمَانَ بْنَ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيَّ يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ عَنْ عَطَاءٍ وَهُوَ أَيْضًا ضَعِيفٌ .
وَرُوِيَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ وَابْنِ جُرَيْجٍ وَهُمَا إمَامَانِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مِنْ قَوْلِهِ

وَلَمْ يَرْفَعَاهُ ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ كَذَلِكَ مَوْقُوفًا ثُمَّ أَخْرَجَهُ عَنْ عُمَارَةَ بْنَ مَطَرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ نَحْوَهُ وَضَعَّفَ رُوَاتَهُ .
وَأَنْتَ عَلِمْت أَنَّ الضَّعِيفَ إذَا تَعَدَّدَتْ طُرُقُهُ كَانَ حُجَّةً ، وَهَذَا كَذَلِكَ خُصُوصًا وَقَدْ اُعْتُضِدَ بِرِوَايَةِ الْإِمَامَيْنِ إيَّاهُ مَوْقُوفًا عَلَى جَدِّ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ آيَةُ اللِّعَانِ عَلَى التَّقْرِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ شَهَادَاتٌ إلَى آخِرِهِ ( قَوْلُهُ وَلَوْ كَانَا مَحْدُودَيْنِ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ ) لِأَنَّ امْتِنَاعَ اللِّعَانِ بِمَعْنَى مِنْ جِهَتِهِ ، وَكَذَا إذَا كَانَ هُوَ عَبْدًا وَهِيَ مَحْدُودَةً فِي قَذْفٍ يُحَدُّ لِمَا ذَكَرْنَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَا كَافِرَيْنِ أَوْ مَمْلُوكَيْنِ حَيْثُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ جِهَتِهِ لِأَنَّ قَذْفَ الْأَمَةِ وَالْكَافِرَةِ لَا يُوجِبُهُ ، بِخِلَافِ قَذْفِ الْمَحْدُودَةِ إذَا كَانَتْ عَفِيفَةً ، فَإِنَّهُ لَوْ قَذَفَهَا أَجْنَبِيٌّ يُحَدُّ فَكَذَا الزَّوْجُ .
وَلَوْ قَذَفَ الْكَافِرَةَ أَوْ الْأَمَةَ أَجْنَبِيٌّ لَا يُحَدُّ فَكَذَا الزَّوْجُ ، فَصَارَ كَمَا لَوْ كَانَا صَغِيرَيْنِ أَوْ مَجْنُونَيْنِ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ يُلَاعِنُ فِي الْكُلِّ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْيَمِينِ فَهُوَ أَهْلٌ لَهُ ، إلَّا إذَا كَانَ أَحَدُهُمْ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا .
قِيلَ عَلَيْهِ كَمَا أَنَّ امْتِنَاعَهُ بِمَعْنًى مِنْ جِهَتِهِ كَذَلِكَ هُوَ بِمَعْنًى مِنْ جِهَتِهَا ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تُرَاعَى الْجِهَتَانِ ، فَبِاعْتِبَارِ جِهَتِهِ يَنْبَغِي أَنْ يَنْتَفِيَ اللِّعَانُ فَقَطْ ، وَبِاعْتِبَارِ جِهَتِهَا يَسْقُطُ اللِّعَانُ فَيَتْبَعُهُ سُقُوطُ الْحَدِّ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْقَذْفَ يُوجَدُ أَوَّلًا مِنْهُ ، وَهُوَ مُقْتَضٍ لِلِّعَانِ إنْ كَانَ أَهْلًا لِلشَّهَادَةِ ، وَالْحَدُّ إنْ لَمْ يَكُنْ ، وَعَدَمُ أَهْلِيَّتِهَا مَانِعٌ وَلَا اعْتِبَارَ لِلْمَانِعِ إلَّا بَعْدَ وُجُودِ الْمُقْتَضِي لِأَنَّ

مَفْهُومَ الْمَانِعِيَّةِ يَقْتَضِي ذَلِكَ ، إذْ حَقِيقَتُهُ نِسْبَتُهُ إلَى الْمُقْتَضَى بِالْمَنْعِ ، وَلَا وُجُودَ لِمُقْتَضَى اللِّعَانِ فَلَا تُعْتَبَرُ الْمَانِعِيَّةُ مِنْ جِهَتِهَا لِلِّعَانِ .
وَالْحَدُّ إنَّمَا يَسْقُطُ بِمَا مِنْ جِهَتِهَا تَبَعًا لِسُقُوطِ اللِّعَانِ ، وَلَمْ يُعْتَبَرْ الْمُسْقِطُ الْمُسْتَتْبَعَ مِنْ جِهَتِهَا فَيَبْقَى عَلَى مَا كَانَ وَقَدْ كَانَ ثَابِتًا فَإِنَّ قَذْفَ الزَّوْجِ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ

( وَصِفَةُ اللِّعَانِ أَنْ يَبْتَدِئَ الْقَاضِي بِالزَّوْجِ فَيَشْهَدُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ يَقُولُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ أَشْهَدُ بِاَللَّهِ إنِّي لَمِنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا ، وَيَقُولُ فِي الْخَامِسَةِ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا .
يُشِيرُ إلَيْهَا فِي جَمِيعِ ذَلِكَ ثُمَّ تَشْهَدُ الْمَرْأَةُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ تَقُولُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ أَشْهَدُ بِاَللَّهِ إنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنْ الزِّنَا .
وَتَقُولُ فِي الْخَامِسَةِ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنْ الزِّنَا ) وَالْأَصْلُ فِي مَا تَلَوْنَاهُ مِنْ النَّصِّ .
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَأْتِي بِلَفْظَةِ الْمُوَاجَهَةِ يَقُولُ فِيمَا رَمَيْتُك بِهِ مِنْ الزِّنَا لِأَنَّهُ أَقْطَعُ لِلِاحْتِمَالِ .
وَجْهُ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ أَنَّ لَفْظَةَ الْمُغَايَبَةِ إذَا انْضَمَّتْ إلَيْهَا الْإِشَارَةُ انْقَطَعَ الِاحْتِمَالُ .

قَوْلُهُ وَصِفَةُ اللِّعَانِ إلَخْ ) ظَاهِرٌ فِي تَعَيُّنِهِ كَذَلِكَ حَتَّى لَوْ أَخْطَأَ الْقَاضِي فَبَدَأَ بِهَا قَبْلَهُ لَا يُعْتَدُّ بِلِعَانِهَا فَتُعِيدُ بَعْدَهُ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَشْهَبُ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ .
وَفِي الْبَدَائِعِ : يَنْبَغِي أَنْ يُعِيدَ اللِّعَانَ عَلَيْهَا لِأَنَّ اللِّعَانَ شَهَادَةٌ وَالْمَرْأَةُ بِشَهَادَتِهَا تَقْدَحُ فِي شَهَادَةِ الزَّوْجِ فَلَا يَصِحُّ إلَّا بَعْدَ وُجُودِ شَهَادَتِهِ ، وَلِهَذَا يُبْتَدَأُ بِشَهَادَةِ الْمُدَّعِي فِي بَابِ الدَّعْوَى ، ثُمَّ بِشَهَادَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الدَّفْعِ لَهُ كَذَا هُنَا ، فَإِنْ لَمْ يُعِدْ حَتَّى فَرَّقَ بَيْنَهُمَا نَفَذَتْ الْفُرْقَةُ لِأَنَّ تَفْرِيقَهُ صَادَفَ مَحَلَّ الِاجْتِهَادِ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ اللِّعَانَ يَمِينٌ لَا شَهَادَةٌ .
وَيَجُوزُ تَقْدِيمُ إحْدَى الْيَمِينَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى كَتَحَالُفِ الْمُتَبَايِعَيْنِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ ، وَمُقْتَضَاهُ لُزُومُ الْإِعَادَةِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ ، لَكِنْ فِي الْغَايَةِ لَوْ بَدَأَ بِلِعَانِهَا فَقَدْ أَخْطَأَ السُّنَّةَ وَلَا تَجِبُ إعَادَتُهُ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَهُوَ الْوَجْهُ لِأَنَّ النَّصَّ أَعْقَبَ الرَّمْيَ بِشَهَادَةِ أَحَدِهِمْ وَشَهَادَتِهَا الدَّارِئَةِ عَنْهَا بِقَوْلِهِ { وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ } وَلِأَنَّ الْفَاءَ دَخَلَتْ عَلَى شَهَادَتِهِ عَلَى وِزَانِ مَا قُلْنَا فِي سُقُوطِ التَّرْتِيبِ فِي الْوُضُوءِ مِنْ أَنَّهُ عَقِبَ جُمْلَةِ الْأَفْعَالِ لِلْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ وَإِنْ كَانَ دُخُولُ الْفَاءِ عَلَى غَسْلِ الْوَجْهِ فَانْظُرْهُ ثَمَّةَ [ فُرُوعٌ ] قَذَفَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا بَائِنًا سَقَطَ اللِّعَانُ وَلَا يَجِبُ الْحَدُّ ، وَلَوْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّ السَّاقِطَ لَا يَعُودُ وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ، وَلَوْ قَذَفَ أَجْنَبِيَّةً ثُمَّ تَزَوَّجَهَا ثُمَّ قَذَفَهَا ثَانِيًا وَجَبَ الْحَدُّ بِالْأَوَّلِ وَاللِّعَانُ بِالثَّانِي وَيُحَدُّ لِلْأَوَّلِ لِيَسْقُطَ اللِّعَانُ ، وَلَوْ طَلَبَتْ اللِّعَانَ أَوَّلًا يُلَاعِنُ ثُمَّ يُحَدُّ ، بِخِلَافِ حُدُودِ الْقَذْفِ إذَا اجْتَمَعَتْ

فَإِنَّهُ يَكْفِي حَدٌّ وَاحِدٌ لِاتِّحَادِ الْجِنْسِ ، وَلَوْ قَالَ قَذَفْتُك قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَك أَوْ زَنَيْت قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَك فَهُوَ قَذْفٌ فِي الْحَالِ فَتُلَاعِنُ ، وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ يُحَدُّ .
وَمَا فِي خِزَانَةِ الْأَكْمَلِ مِنْ أَنَّهُ يُلَاعِنُ فِي قَوْلِهِ زَنَيْت قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَك وَيُحَدُّ فِي قَوْلِهِ قَذَفْتُك قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَك أَوْجَهُ قَذَفَهَا ثُمَّ زَنَتْ أَوْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ فَلَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ وَيَسْقُطُ اللِّعَانُ بِرِدَّتِهَا ، وَلَوْ أَسْلَمَتْ بَعْدَهُ لَا يَعُودُ ، وَلَوْ قَذَفَهَا ثُمَّ أَبَانَهَا يَسْقُطُ اللِّعَانُ ، وَلَوْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُحَدُّ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ بَعْدَ اللِّعَانِ ( قَوْلُهُ لِأَنَّهُ أَقْطَعُ لِلِاحْتِمَالِ ) أَيْ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَضْمُرَ مُرْجِعًا لِلضَّمِيرِ الْغَائِبِ غَيْرَهَا ، بِخِلَافِ الْخِطَابِ ، وَتَقُولُ هِيَ أَيْضًا إنَّك لَمِنْ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَيْتنِي بِهِ مِنْ الزِّنَا ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقِيمَهُمَا الْقَاضِي مُتَقَابِلَيْنِ وَيَقُولَ لَهُ الْتَعِنْ ( قَوْلُهُ إذَا انْضَمَّتْ إلَيْهِ الْإِشَارَةُ انْقَطَعَ الِاحْتِمَالُ ) يَعْنِي انْقَطَعَ احْتِمَالُ ضَمِيرِ الْغَائِبِ لَا أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ انْقِطَاعَ الِاحْتِمَالِ مَشْرُوطٌ بِاجْتِمَاعِهِمَا لِأَنَّ الْإِشَارَةَ بِانْفِرَادِهَا لَا احْتِمَالَ مَعَهَا .

قَالَ ( وَإِذَا الْتَعَنَا لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ حَتَّى يُفَرِّقَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا ) وَقَالَ زُفَرُ : تَقَعُ بِتَلَاعُنِهِمَا لِأَنَّهُ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ الْمُؤَبَّدَةُ بِالْحَدِيثِ .
وَلَنَا أَنَّ ثُبُوتَ الْحُرْمَةِ يُفَوِّتُ الْإِمْسَاكَ بِالْمَعْرُوفِ فَيَلْزَمُهُ التَّسْرِيحُ بِالْإِحْسَانِ ، فَإِذَا امْتَنَعَ نَابَ الْقَاضِي مَنَابَهُ دَفْعًا لِلظُّلْمِ ، دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ ذَلِكَ الْمُلَاعِنِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كَذَبْت عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ أَمْسَكْتهَا ، هِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا ، قَالَهُ بَعْدَ اللِّعَانِ ( وَتَكُونُ الْفُرْقَةُ تَطْلِيقَةً بَائِنَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ) رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِأَنَّ فِعْلَ الْقَاضِي انْتَسَبَ إلَيْهِ كَمَا فِي الْعِنِّينِ ( وَهُوَ خَاطِبٌ إذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ ) عِنْدَهُمَا .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : هُوَ تَحْرِيمٌ مُؤَبَّدٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْمُتَلَاعِنَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا } نَصَّ عَلَى التَّأْبِيدِ .
وَلَهُمَا أَنَّ الْإِكْذَابَ رُجُوعٌ وَالشَّهَادَةُ بَعْدَ الرُّجُوعِ لَا حُكْمَ لَهَا ، لَا يَجْتَمِعَانِ مَا دَامَا مُتَلَاعِنَيْنِ ، وَلَمْ يَبْقَ التَّلَاعُنُ وَلَا حُكْمُهُ بَعْدَ الْإِكْذَابِ فَيَجْتَمِعَانِ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78