كتاب : فتح القدير
المؤلف : كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي

فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى فِي جَمِيعِ الْكِتَابَةِ ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ أَبِيهِ ، وَإِنَّمَا يَسْعَى لِتَحْصِيلِ الْعِتْقِ لِأَبِيهِ وَلِنَفْسِهِ ، وَلَا يَحْصُلُ الْعِتْقُ لِأَبِيهِ إلَّا بِأَدَاءِ جَمِيعِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ ، فَلِذَا كَانَ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ فِي جَمِيعِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ .

بَابُ الِاسْتِيلَادِ ( وَإِذَا وَلَدَتْ الْأَمَةُ مِنْ مَوْلَاهَا فَقَدْ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَلَا تَمْلِيكُهَا ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا } أَخْبَرَ عَنْ إعْتَاقِهَا فَيَثْبُتُ بَعْضُ مَوَاجِبِهِ وَهُوَ حُرْمَةُ الْبَيْعِ ، وَلِأَنَّ الْجُزْئِيَّةَ قَدْ حَصَلَتْ بَيْنَ الْوَاطِئِ وَالْمَوْطُوءَةِ بِوَاسِطَةِ الْوَلَدِ فَإِنَّ الْمَاءَيْنِ قَدْ اخْتَلَطَا بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ الْمَيْزُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا عُرِفَ فِي حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ ، إلَّا أَنَّ بَعْدَ الِانْفِصَالِ تَبْقَى الْجُزْئِيَّةُ حُكْمًا لَا حَقِيقَةً فَضَعُفَ السَّبَبُ فَأَوْجَبَ حُكْمًا مُؤَجَّلًا إلَى مَا بَعْدِ الْمَوْتِ ، وَبَقَاءُ الْجُزْئِيَّةِ حُكْمًا بِاعْتِبَارِ النَّسَبِ وَهُوَ مِنْ جَانِبِ الرِّجَالِ .
فَكَذَا الْحُرِّيَّةُ تَثْبُتُ فِي حَقِّهِمْ لَا فِي حَقِّهِنَّ ، حَتَّى إذَا مَلَكَتْ الْحُرَّةُ زَوْجَهَا وَقَدْ وَلَدَتْ مِنْهُ لَمْ يُعْتَقْ الزَّوْجُ الَّذِي مَلَكَتْهُ بِمَوْتِهَا ، وَبِثُبُوتِ عِتْقٍ مُؤَجَّلٍ يَثْبُتُ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ فِي الْحَالِ فَيُمْنَعُ جَوَازُ الْبَيْعِ وَإِخْرَاجُهَا لَا إلَى الْحُرِّيَّةِ فِي الْحَالِ وَيُوجِبُ عِتْقَهَا بَعْدَ مَوْتِهِ ، وَكَذَا إذَا كَانَ بَعْضُهَا مَمْلُوكًا لَهُ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ لَا يَتَجَزَّأُ فَإِنَّهُ فَرْعُ النَّسَبِ فَيُعْتَبَرُ بِأَصْلِهِ .

( بَابُ الِاسْتِيلَادِ ) لَمَّا اشْتَرَكَ كُلٌّ مِنْ الْمُدَبَّرِ وَأُمُّ الْوَلَدِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْعَقْدِ وَتَعَلُّقِهِ بِالْمَوْتِ وَصَلَ بَيْنَهُمَا ، وَلَمَّا كَانَ التَّدْبِيرُ أَنْسَبَ بِمَا قَبْلَهُ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْعِتْقَ بِهِ بِإِيجَابِ اللَّفْظِ بِخِلَافِ الِاسْتِيلَادِ قَدَّمَهُ عَلَيْهِ .
وَالِاسْتِيلَادُ مَصْدَرُ اسْتَوْلَدَ : أَيْ طَلَبَ الْوَلَدَ ، وَهُوَ عَامٌّ أُرِيدَ بِهِ خُصُوصٌ ، وَهُوَ طَلَبُ وَلَدِ أَمَتِهِ : أَيْ اسْتِلْحَاقِهِ : أَيْ بَابُ بَيَانِ أَحْكَامِ هَذَا الِاسْتِلْحَاقِ الثَّابِتَةِ فِي الْأُمِّ ، وَأَصْلُهُ اسْتِوْلَادٌ ، وَمِثْلُهُ يَجِبُ قَلْبُ وَاوِهِ يَاءً كَمِيعَادٍ وَمِيزَانٍ وَمِيقَاتٍ فَصَارَ اسْتِيلَادًا ، وَأُمُّ الْوَلَدِ تَصْدُقُ لُغَةً عَلَى الزَّوْجَةِ وَغَيْرِهَا مِمَّنْ لَهَا وَلَدٌ ثَابِتُ النَّسَبِ وَغَيْرِ ثَابِتِ النَّسَبِ .
وَفِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ أَخَصُّ مِنْ ذَلِكَ وَهِيَ الْأَمَةُ الَّتِي ثَبَتَ نَسَبُ وَلَدِهَا مِنْ مَالِك كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا ( قَوْلُهُ : وَإِذَا وَلَدَتْ الْأَمَةُ مِنْ مَوْلَاهَا فَقَدْ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ) يَعْنِي إذَا ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ وَلَيْسَ وِلَادَتُهَا مِنْهُ مُسْتَلْزِمًا ثُبُوتَهُ ، فَفِي الْعِبَارَةِ قُصُورٌ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يُرِيدُ أَنَّهَا إذَا وَلَدَتْ مِنْهُ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ بِالْمَفْهُومِ اللُّغَوِيِّ بَلْ بِالِاصْطِلَاحِ الْفِقْهِيِّ ، وَلِذَا رَتَّبَ عَلَيْهِ الْأَحْكَامَ الْمَذْكُورَةَ حَيْثُ قَالَ : لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَلَا تَمْلِيكُهَا وَلَا هِبَتُهَا ، بَلْ إذَا مَاتَ وَلَمْ يُنْجِزْ عِتْقَهَا تُعْتَقُ بِمَوْتِهِ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ وَلَا تَسْعَى لِغَرِيمٍ وَلَوْ كَانَ السَّيِّدُ مَدْيُونًا مُسْتَغْرَقًا ، وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ ، إلَّا مَنْ لَا يُعْتَدُّ بِهِ كَبِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ وَبَعْضِ الظَّاهِرِيَّةِ فَقَالُوا يَجُوزُ بَيْعُهَا ، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ : { بِعْنَا أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ نَهَانَا عَنْهُ فَانْتَهَيْنَا } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَقَالَ

الْحَاكِمُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ .
وَأَخْرَجَ النَّسَائِيّ عَنْ زَيْدٍ الْعَمِّيِّ إلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ : { كُنَّا نَبِيعُهُنَّ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَأَعَلَّهُ الْعُقَيْلِيُّ بِزَيْدٍ الْعَمِّيِّ ، وَقَالَ النَّسَائِيّ : زَيْدٌ الْعَمِّيُّ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ ، وَنُقِلَ هَذَا الْمَذْهَبُ عَنْ الصِّدِّيقِ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، لَكِنْ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ : تُعْتَقُ مِنْ نَصِيبِ وَلَدِهَا ، ذَكَرَهُ ابْنُ قُدَامَةَ ، فَهَذَا يُصَرِّحُ بِرُجُوعِهِمَا عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ الرِّوَايَةِ الْأُولَى عَنْهُمَا .
وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ لِلْجُمْهُورِ بِمَا فِي حَدِيثِ أَبِي دَاوُد مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ خَطَّابِ بْنِ صَالِحٍ عَنْ أُمِّهِ { عَنْ سَلَامَةَ بِنْتِ مَعْقِلٍ امْرَأَةٍ مِنْ خَارِجَةَ قَيْسِ عَيْلَانَ ، وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ أَنَّهُ أَحْسَنُ شَيْءٍ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا قَالَتْ قَدِمَ بِي عَمِّي فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَبَاعَنِي مِنْ الْحُبَابِ بْنِ عَمْرٍو أَخِي أَبِي الْيُسْرِ بْنِ عَمْرٍو فَوَلَدْتُ لَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحُبَابِ ثُمَّ هَلَكَ ، فَقَالَتْ امْرَأَتُهُ : الْآنَ وَاَللَّهِ تُبَاعِينَ فِي دَيْنِهِ ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي امْرَأَةٌ مِنْ خَارِجَةَ قَيْسِ عَيْلَانَ قَدِمَ بِي عَمِّي الْمَدِينَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَبَاعَنِي مِنْ الْحُبَابِ بْنِ عَمْرٍو أَخِي أَبِي الْيُسْرِ بْنِ عَمْرٍو فَوَلَدْتُ لَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ فَمَاتَ فَقَالَتْ لِي امْرَأَتُهُ الْآنَ وَاَللَّهِ تُبَاعِينَ فِي دَيْنِهِ ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : مَنْ وَلِيُّ الْحُبَابِ ؟ قِيلَ أَخُوهُ أَبُو الْيُسْرِ كَعْبُ بْنُ عَمْرٍو ، فَبَعَثَ إلَيْهِ فَقَالَ : أَعْتِقُوهَا ، فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِرَقِيقٍ قَدِمَ عَلَيَّ فَأَتَوْنِي أُعَوِّضُكُمْ ، قَالَتْ : فَأَعْتَقُونِي وَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَقِيقٌ فَعَوَّضَهُمْ مِنِّي غُلَامًا } .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا تُعْتَقُ بِمُجَرَّدِ مَوْتِهِ ، بَلْ عَلَى أَنَّهُ سَأَلَهُمْ أَنْ يُعْتِقُوهَا وَيُعَوِّضَهُمْ لَمَّا اسْتَرَقَتْ قَلْبَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، بَلْ يُفِيدُ أَنَّهَا لَا تُعْتَقُ وَإِلَّا لَبَيَّنَ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ فِي ذَلِكَ مِنْ أَنَّهَا عَتَقَتْ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِعِتْقِهَا بَعُوضٍ يَقُومُ هُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِهِ لَهُمْ .
نَعَمْ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِأَعْتِقُوهَا خَلُّوا سَبِيلَهَا كَمَا فَسَّرَهُ الْبَيْهَقِيُّ ، وَأَنَّ الْعِوَضَ مِنْ بَابِ الْفَضْلِ مِنْهُ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ لَكِنْ هَذَا احْتِمَالُ غَيْرِ الظَّاهِرِ وَالْعِبْرَةُ لِلظَّاهِرِ فَلَا يُصَارُ إلَى هَذَا إلَّا بِدَلِيلٍ مِنْ خَارِجٍ يُوجِبُهُ وَيُعَيِّنُهُ ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ { عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : يَعْنِي فِي مَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا } وَهُوَ حَدِيثٌ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : { ذَكَرْتُ أُمَّ إبْرَاهِيمَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا } وَطَرِيقُهُ مَعْلُولٌ بِأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَبْرَةَ وَحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ ، وَبِسَنَدِ ابْنِ مَاجَهْ رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ لَكِنْ أَعَلَّهُ بِابْنِ أَبِي سَبْرَةَ فَقَطْ ، فَإِنَّهُ يَرَى أَنَّ حُسَيْنًا مِمَّنْ يُكْتَبُ حَدِيثُهُ .
وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ أَيْضًا عَنْ شَرِيكٍ عَنْ حُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّمَا أَمَةٍ وَلَدَتْ مِنْ سَيِّدِهَا فَهِيَ حُرَّةٌ بَعْدَ مَوْتِهِ } وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ ، وَهَذَا تَوْثِيقٌ لِحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ .
وَرَوَاهُ أَبُو يُعْلَى الْمُوصِلِيُّ فِي مُسْنَدِهِ : حَدَّثَنَا

زُهَيْرٌ ، حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ ، حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ حُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَيُّمَا أَمَةٍ وَلَدَتْ مِنْ سَيِّدِهَا فَإِنَّهَا حُرَّةٌ إذَا مَاتَ إلَّا أَنْ يُعْتِقَهَا قَبْلَ مَوْتِهِ } وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَيُّمَا رَجُلٍ وَلَدَتْ مِنْهُ أَمَتُهُ فَهِيَ مُعْتَقَةٌ عَنْ دُبُرٍ مِنْهُ } وَالطُّرُقُ كَثِيرَةٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَلِذَا قَالَ الْأَصْحَابُ : إنَّهُ مَشْهُورٌ تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ ، وَإِذْ قَدْ كَثُرَتْ طُرُقُ هَذَا الْمَعْنَى وَتَعَدَّدَتْ وَاشْتُهِرَتْ فَلَا يَضُرُّهُ وُقُوعُ رَاوٍ ضَعِيفٍ فِيهِ مَعَ أَنَّ ابْنَ الْقَطَّانِ قَالَ فِي كِتَابَةِ : وَقَدْ رُوِيَ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ ، قَالَ قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ فِي كِتَابِهِ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ وَضَاحٍ ، حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بْنُ سَعْدٍ أَبُو خَيْثَمَةَ الْمِصِّيصِيُّ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو هُوَ الرَّقِّيِّ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ { لَمَّا وَلَدَتْ مَارِيَةُ الْقِبْطِيَّةُ إبْرَاهِيمَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا } وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَصْبَغَ رَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ حَدِيثِ أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا مَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ ثَبَتَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ } فَلَوْ كَانَتْ مَارِيَةُ مَالًا بِيعَتْ وَصَارَ ثَمَنُهَا صَدَقَةً .
وَعَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَنَّهُ نَهَى عَنْ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْأَوْلَادِ وَالْأُمَّهَاتِ } وَفِي بَيْعِهِنَّ تَفْرِيقٌ .
وَإِذَا ثَبَتَ قَوْلُهُ " أَعْتَقَهَا إلَخْ " وَهُوَ مُتَأَخِّرٌ إلَى الْمَوْتِ إجْمَاعًا وَجَبَ تَأْوِيلُهُ عَلَى مَجَازِ الْأَوَّلِ ، فَيَثْبُتُ فِي الْحَالِ بَعْضُ مَوَاجِبِ الْعِتْقِ مِنْ امْتِنَاعِ تَمْلِيكِهَا .
وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ يُونُسِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَبْدِ

الْعَزِيزِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ فَقَالَ : لَا يُبَعْنَ وَلَا يُوهَبْنَ وَلَا يُوَرَّثْنَ ، يَسْتَمْتِعُ بِهَا سَيِّدُهَا مَا دَامَ حَيًّا .
فَإِذَا مَاتَ فَهِيَ حُرَّةٌ } ثُمَّ أَخْرَجَهُ بِسَنَدٍ فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ ، وَأَعَلَّهُ ابْنُ عَدِيٍّ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ نَجِيحٍ الْمَدِينِيِّ وَأَسْنَدَ تَضْعِيفَهُ عَنْ النَّسَائِيّ وَغَيْرِهِ ، وَلَيَّنَهُ هُوَ وَقَالَ : يُكْتَبُ حَدِيثُهُ ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْعَنْبَرِيِّ : حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنْ فُلَيْحِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ مَوْقُوفًا ، قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ : هَذَا حَدِيثٌ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُسْلِمٍ الْقَسْمَلِيِّ وَهُوَ ثِقَةٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَاخْتُلِفَ عَنْهُ فَقَالَ عَنْهُ يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، وَهُوَ ثِقَةٌ وَهُوَ الَّذِي رَفَعَهُ .
وَقَالَ عَنْهُ يَحْيَى بْنُ إِسْحَاقَ وَفُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ عُمَرَ : لَمْ يَتَجَاوَزُوهُ ، وَكُلُّهُمْ ثِقَاتٌ ، وَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ ، وَعِنْدِي أَنَّ الَّذِي أَسْنَدَهُ خَيْرٌ مِمَّنْ وَقَفَهُ .
وَأَخْرَجَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ : " أَيُّمَا وَلِيدَةٍ وَلَدَتْ مِنْ سَيِّدِهَا فَإِنَّهُ لَا يَبِيعُهَا وَلَا يَهَبُهَا وَلَا يُوَرِّثُهَا وَهُوَ يَسْتَمْتِعُ مِنْهَا فَإِذَا مَاتَ فَهِيَ حُرَّةٌ " وَهَكَذَا رَوَاهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَسُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ وَغَيْرُهُمَا عَنْ عُمَرَ مَوْقُوفًا .
وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْإِفْرِيقِيِّ كَانَ غَيْرَ حُجَّةٍ فَقَدْ تَقَدَّمَ مَا يَعْضُدُ رَفْعَهُ مَعَ تَرْجِيحِ ابْنِ الْقَطَّانِ فَثَبَتَ الرَّفْعُ بِمَا قُلْنَا ، وَلَا شَكَّ فِي ثُبُوتِ وَقْفِهِ عَلَى

عُمَرَ وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ حَدِيثَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ : { أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعِتْقِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ مِنْ غَيْرِ الثُّلُثِ وَقَالَ لَا يُبَعْنَ فِي دَيْنٍ } وَعَدَمُ مُخَالَفَةِ أَحَدٍ لِعُمَرَ حِينَ أَفْتَى بِهِ وَأَمَرَ فَانْعَقَدَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى عَدَمِ بَيْعِهِنَّ ، فَهَذَا يُوجِبُ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ : إمَّا أَنَّ مَا كَانَ مِنْ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ فِي زَمَنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ بِعِلْمِهِ وَإِنْ كَانَ مِثْلَ قَوْلِ الرَّاوِي : كُنَّا نَفْعَلُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُكْمُهُ الرَّفْعُ لَكِنْ ظَاهِرًا لَا قَطْعًا ، فَإِذَا قَامَ دَلِيلٌ فِي خُصُوصٍ مِنْهُ عَلَى عَدَمِهِ وَجَبَ اعْتِبَارُهُ .
وَإِمَّا أَنَّهُ كَانَ بِعِلْمِهِ وَتَقْرِيرِهِ ثُمَّ نُسِخَ وَلَمْ يَظْهَرْ النَّاسِخُ لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِقِصَرِ مُدَّتِهِ مَعَ اشْتِغَالِهِ فِيهَا بِحُرُوبِ مُسَيْلِمَةَ وَأَهْلِ الرِّدَّةِ وَمَانِعِي الزَّكَاةَ ثُمَّ ظَهَرَ بَعْدَهُ كَمَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ : كُنَّا نُخَابِرُ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَلَا نَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا حَتَّى أَخْبَرَنَا رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الْمُخَابَرَةِ فَتَرَكْنَاهَا } وَأَيًّا مَا كَانَ وَجَبَ الْحُكْمُ الْآنَ بِعَدَمِ جَوَازِ بَيْعِهِنَّ .
هَذَا إذَا قَصَرْنَا النَّظَرَ عَلَى الْمَوْقُوفِ ، فَأَمَّا بِمُلَاحَظَةِ الْمَرْفُوعَاتِ الْمُتَعَاضِدَةِ فَلَا شَكَّ .
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ ذَلِكَ الْإِجْمَاعِ مَا أَسْنَدَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ : أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيِّ قَالَ : سَمِعْت عَلِيًّا يَقُولُ : اجْتَمَعَ رَأْيِي وَرَأْيُ عُمَرَ فِي أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ أَنْ لَا يُبَعْنَ ، ثُمَّ رَأَيْت بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يُبَعْنَ فَقُلْت لَهُ : فَرَأْيُك وَرَأْيُ عُمَرَ فِي الْجَمَاعَةِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ رَأْيِك وَحْدَك فِي الْفُرْقَةِ فَضَحِكَ عَلِيٌّ .
وَاعْلَمْ أَنَّ رُجُوعَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ يَرَى اشْتِرَاطًا انْقِرَاضَ

الْعَصْرِ فِي تَقَرُّرِ الْإِجْمَاعِ وَالْمُرَجَّحُ خِلَافُهُ .
وَسُئِلَ دَاوُد عَنْ بَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ فَقَالَ : يَجُوزُ ؛ لِأَنَّا اتَّفَقْنَا عَلَى جَوَازِ بَيْعِهَا قَبْلَ أَنْ تَصِيرَ أُمَّ وَلَدٍ فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى كَذَلِكَ .
إذْ الْأَصْلُ فِي كُلِّ ثَابِتٍ دَوَامُهُ وَاسْتِمْرَارُهُ .
وَكَانَ أَبُو سَعِيدٍ الْبَرْدَعِيُّ حَاضِرًا فَعَارَضَهُ فَقَالَ : قَدْ زَالَتْ تِلْكَ الْحَالَةُ بِالِاتِّفَاقِ وَامْتَنَعَ بَيْعُهَا لَمَّا حَبِلَتْ بِوَلَدِ سَيِّدِهَا ، وَالْأَصْلُ فِي كُلِّ ثَابِتٍ دَوَامُهُ فَانْقَطَعَ دَاوُد وَكَانَ لَهُ أَنْ يُجِيبَ وَيَقُولَ : الزَّوَالُ كَانَ بِمَانِعٍ عَرَضَ وَهُوَ قِيَامُ الْوَلَدِ الْحُرِّ فِي بَطْنِهَا وَزَالَ بِانْفِصَالِهِ فَعَادَ مَا كَانَ فَيَبْقَى إلَى أَنْ يَثْبُتَ الْمُزِيلُ .
( قَوْلُهُ : وَلِأَنَّ الْجُزْئِيَّةَ قَدْ حَصَلَتْ بَيْنَ الْوَاطِئِ وَالْمَوْطُوءَةِ بِوَاسِطَةِ الْوَلَدِ ، فَإِنَّ الْمَاءَيْنِ ) اللَّذَيْنِ خُلِقَ مِنْهُمَا ( قَدْ اخْتَلَطَا ) وَهُوَ جُزْؤُهُمَا بِحَيْثُ لَا تَمْيِيزَ ، وَهَذِهِ الْجُزْئِيَّةُ ، وَإِنْ زَالَتْ بِانْفِصَالِ الْوَلَدِ لَكِنَّهَا بَقِيَتْ حُكْمًا وَلَمْ تَنْقَطِعْ لِأَنَّ تِلْكَ الْجُزْئِيَّةِ أَوْجَبَتْ نِسْبَتَهَا إلَيْهِ بِوَاسِطَةِ الْوَلَدِ وَبِالِانْفِصَالِ تَقَرَّرَ ذَلِكَ حَتَّى قِيلَ أُمُّ وَلَدِهِ فَقَدْ بَقِيَ أَثَرُهَا شَرْعًا ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ عُمَرُ فِيمَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ قَارِبٍ قَالَ : اشْتَرَى ابْنِي أَمَةً مِنْ رَجُلٍ قَدْ أَسْقَطَتْ مِنْهُ فَأَمَرَ عُمَرُ بِرَدِّهَا وَقَالَ : أَبْعَدَ مَا اخْتَلَطَتْ لُحُومُكُمْ بِلُحُومِهِنَّ وَدِمَاؤُكُمْ بِدِمَائِهِنَّ ؟ إلَّا أَنَّ السَّبَبَ يَضْعُفُ بِالِانْفِصَالِ ( فَأَوْجَبَ حُكْمًا مُؤَجَّلًا إلَى الْمَوْتِ ) وَلَمَّا وَرَدَ عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ أَنَّ مُقْتَضَاهُ أَنَّ الْمَرْأَةَ الْحُرَّةَ لَوْ مَلَكَتْ زَوْجَهَا الْعَبْدَ بَعْدَمَا وَلَدَتْ لَهُ أَنَّهُ يُعْتَقُ بِمَوْتِهَا ؛ لِأَنَّ النِّسْبَةَ الْكَائِنَةَ بِتَوَسُّطِ الْوَلَدِ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا لِكُلٍّ مِنْ الْأُمِّ وَالْأَبِ قِسْطٌ مِنْهَا .
أَجَابَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ إنَّ بَقَاءَ الْجُزْئِيَّةِ حُكْمًا بَعْدَ الِانْفِصَالِ

إنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ النَّسَبِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ الِانْفِصَالِ سِوَاهُ ، وَالنَّسَبُ إلَى الرِّجَالِ : أَيْ إلَى الْآبَاءِ لَا إلَى الْأُمَّهَاتِ .
( فَكَذَا الْحُرِّيَّةُ ) الَّتِي تُبْتَنَى عَلَى النَّسَبِ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ لَا بِالْجِيمِ تَثْبُتُ لِلنِّسَاءِ فِي حَقِّ الرِّجَالِ ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ إلَيْهِمْ فَتَفَرَّعَ عَلَيْهِ أَنَّ الْحُرَّ لَوْ تَزَوَّجَ أَمَةً فَوَلَدَتْ لَهُ ثُمَّ اشْتَرَاهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ تُعْتَقُ بِمَوْتِهِ دُونَ الْعَكْسِ إذْ لَيْسَ النَّسَبُ إلَيْهِنَّ ، فَلَوْ مَلَكَتْ الْحُرَّةُ زَوْجَهَا الْعَبْدَ بَعْدَ مَا وَلَدَتْ لَهُ لَا يُعْتَقُ بِمَوْتِهَا وَلَمَّا تَعَلَّقَ بِالْآخِرَةِ بِالنَّسَبِ لَمْ تَثْبُتْ الْأُمُومَةُ بِدُونِهِ ، فَلَوْ وَلَدَتْ أَمَةٌ لِرَجُلٍ بِزِنًا ثُمَّ مَلَكَهَا لَا تَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ فَلَا تُعْتَقُ بِمَوْتِهِ .
وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ مَا ذَكَرَهُ فِي دَعْوَى الْأَصْلِ : أَمَةٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَلَدَتْ وَلَدًا فَقَالَ كُلٌّ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ هُوَ ابْنُك لَا يَكُونُ ابْنَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَهُوَ حُرٌّ وَأُمَّهُ بِمَنْزِلَةِ أُمِّ الْوَلَدِ مَوْقُوفَةً لَا يَمْلِكُهَا وَاحِدٌ مِنْهُمَا فَقَدْ ثَبَتَتْ الْأُمُومَةُ بِلَا ثُبُوتِ نَسَبٍ .
أُجِيبُ بِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ النَّسَبُ فِي الْجُمْلَةِ ، فَإِنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى ثُبُوتِ نَسَبِهِ وَلِذَا كَانَ حُرًّا فَلَمْ تَثْبُتْ دُونَ نَسَبٍ .
وَالْحَقُّ أَنَّ ثُبُوتَ الْأُمُومَةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَا يَكُونُ إلَّا تَابِعًا لِثُبُوتِ النَّسَبِ ، وَأَمَّا ثُبُوتُهُ ظَاهِرًا فِي الْقَضَاءِ فَبِكُلٍّ مِنْ ثُبُوتِ نَسَبِ الْوَلَدِ وَالْإِقْرَارِ بِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ لِمَا سَيَجِيءُ فِيمَا إذَا ادَّعَى وَلَدَ أُمِّ وَلَدِهِ الْمُزَوَّجَةِ ( قَوْلُهُ وَبِثُبُوتِ عِتْقٍ إلَخْ ) يَعْنِي قَدْ ثَبَتَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَثْبُتُ لَهَا عِتْقٌ مُؤَجَّلٌ ، وَيَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ عِتْقِهَا مُؤَجَّلًا أَنْ يَثْبُتَ لَهَا فِي الْحَالِ حَقُّ الْعِتْقِ فَيَمْتَنِعُ بَيْعُهَا وَإِخْرَاجُهَا إلَّا إلَى الْحُرِّيَّةِ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُول : ثُبُوتُ الْعِتْقِ الْمُؤَجَّلِ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ ثَابِتٌ فِي قَوْلِهِ إذَا

جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ فَأَنْتَ حُرٌّ وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَمْتَنِعْ الْبَيْعُ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ قَبْلَهُ ، وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ ثُبُوتِ الْعِتْقِ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومِ الْوُقُوعِ ثُبُوتُ اسْتِحْقَاقِهَا فِي الْحَالِ بَلْ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ .
فَالْحَقُّ أَنَّ اسْتِحْقَاقَهَا فِي الْحَالِ لِلْعِتْقِ عِنْدَ الْمَوْتِ لَيْسَ إلَّا حُكْمَ النَّصِّ ، حَيْثُ صَرَّحَ النَّصُّ بِأَنَّهُنَّ لَا يُبَعْنَ وَلَا يُوهَبْنَ لِمَعْنَى الْجُزْئِيَّةِ الَّتِي أَشَارَ إلَيْهَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ( قَوْلُهُ : وَكَذَا إذَا كَانَ بَعْضُهَا مَمْلُوكًا لَهُ وَالْبَعْضُ الْآخِرُ مَمْلُوكًا لِغَيْرِهِ ) بِأَنْ كَانَتْ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ اثْنَيْنِ فَادَّعَى أَحَدُهُمَا وَلَدَهَا ثَبَتَ نَسَبُهُ وَتَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ، فَهَذَانِ حُكْمَانِ وَقَعَ التَّشْبِيهُ فِي أَحَدِهِمَا ، وَهُوَ أُمُومَةُ الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ لِثُبُوتِ النَّسَبِ ذِكْرٌ فَقَصَرَ التَّعْلِيلَ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ : ( لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ لَا يَتَجَزَّأُ ) أَيْ فِيمَا يُمْكِنُ نَقْلُ الْمِلْكِ فِيهِ وَهِيَ الْقِنَّةُ فَتَصِيرُ كُلُّهَا أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَيَضْمَنُ قِيمَةَ نَصِيبِ شَرِيكِهِ لَهُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا وَقَعَ فِيمَا لَا يَقْبَلُ النَّقْلَ كَالْمُدَبَّرَةِ فَإِنَّهُ يَتَجَزَّأُ ضَرُورَةَ عَدَمِ قَبُولِهِ لِلنَّقْلِ فَيَقْتَصِرُ بِالضَّرُورَةِ .
فَلِذَا قَدَّمَ فِي بَابِ الْعَبْدِ يُعْتَقُ بَعْضُهُ أَنَّهُ لَوْ اسْتَوْلَدَ نَصِيبَهُ مِنْ مُدَبَّرَةٍ يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ فَلَا تَنَاقُضَ فَصَارَ الْحَاصِلُ أَنَّ الِاسْتِيلَادَ لَا يَتَجَزَّأُ : أَيْ لَا يَكُونُ مَعَهُ بَعْضُ الْمُسْتَوْلَدَةِ مَمْلُوكًا لِغَيْرِ الْمُسْتَوْلِدِ إلَّا لِضَرُورَةٍ ؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى ثُبُوتِ النَّسَبِ وَهُوَ لَا يَتَجَزَّأُ .
وَأَمَّا احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ رِوَايَتَانِ فَبَعِيدٌ فَلِذَا لَمَّا قَالَ الْمُصَنِّفُ : إنَّهُ يَتَجَزَّأُ فِي بَابِ الْعَبْدِ يُعْتَقُ بَعْضُهُ لَمْ يَجْعَلْ أَثَرَهُ إلَّا فِيمَا إذَا اسْتَوْلَدَ نَصِيبَهُ مِنْ مُدَبَّرَةٍ ، وَأَمَّا تَعْلِيلُ ثُبُوتِ النَّسَبِ فَإِنَّمَا هُوَ بِوُجُودِ الدَّعْوَةِ فِي الْمَمْلُوكَةِ وَالِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ

مِلْكَ الْبَعْضِ يَكْفِي لِصِحَّةِ الِاسْتِيلَادِ .

قَالَ : ( وَلَهُ وَطْؤُهَا وَاسْتِخْدَامُهَا وَإِجَارَتُهَا وَتَزْوِيجُهَا ) لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهَا قَائِمٌ فَأَشْبَهَتْ الْمُدَبَّرَةَ

( قَوْلُهُ : وَلَهُ وَطْؤُهَا وَاسْتِخْدَامُهَا وَإِجَارَتُهَا وَتَزْوِيجُهَا ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ قَائِمٌ فِيهَا ) وَهُوَ مُطْلَقٌ لِهَذِهِ الْأُمُورِ .
( فَأَشْبَهَتْ الْمُدَبَّرَةَ ) وَمَنَعَ مَالِكٌ إجَارَتَهَا كَبَيْعِهَا وَهُوَ بَعِيدٌ ، وَامْتِنَاعُ الْبَيْعِ لِنَقْلِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ لَا غَيْرُ ، وَهُوَ مُنْتَفٍ فِي الْإِجَارَةِ وَيَمْلِكُ كَسْبَهَا وَلَهُ إعْتَاقُهَا وَكِتَابَتُهَا .
وَأَوْرَدَ : يَنْبَغِي أَنْ لَا يَمْلِكَ تَزْوِيجَهَا ؛ لِأَنَّ تَوَهُّمَ شَغْلِ رَحِمِهِمَا بِمَاءِ الْمَوْلَى قَائِمٌ ، وَتَوَهُّمَ الشَّغْلِ مَانِعٌ مِنْ النِّكَاحِ كَمَا فِي الْمُعْتَدَّةِ ، غَيْرَ أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ جَعَلَ لَهَا الشَّرْعُ حَالًا يُحْكَمُ فِيهِ بِالْفَرَاغِ فَجَازَ نِكَاحُهَا عِنْدَ وُجُودِهِ وَلَمْ يَجْعَلْ لِأُمِّ الْوَلَدِ مِثْلَهُ سِوَى الِاسْتِبْرَاءِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ قَبْلَهُ .
وَأُجِيبُ بِأَنَّ جَوَازَ النِّكَاحِ كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ الْوَطْءِ وَوَقَعَ الشَّكُّ فِي خُرُوجِهِ فَلَا يَخْرُجُ بِالشَّكِّ ، بِخِلَافِ الْمُعْتَدَّةِ فَإِنَّهَا قَدْ تَحَقَّقَ خُرُوجُهَا عَنْ مَحَلِّيَّةِ نِكَاحِ الْغَيْرِ فَلَا تَعُودُ إلَّا بِمُوجِبٍ وَجَعَلَهُ الشَّارِعُ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ الدَّالِ عَلَى الْفَرَاغِ حَقِيقَةً فَلَا تُزَوَّجُ قَبْلَهُ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إذَا سَلِمَ أَنَّ احْتِمَالَ الشَّغْلِ مَانِعٌ وَلَا شَكَّ فِي ثُبُوتِهِ بَعْدَ الْوَطْءِ لَزِمَ تَحَقُّقُ خُرُوجِ الْجَوَازِ لَا وُقُوعُ الشَّكِّ فِيهِ كَالْعِدَّةِ ، وَوَجَبَ أَنْ لَا يُزَوِّجَهَا إلَّا بَعْدَ اسْتِبْرَائِهَا .
وَالْمَذْهَبُ جَوَازُهُ قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ ، وَإِنَّمَا هُوَ بَعْدَهُ أَفْضَلُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ فِي فَصْلِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ كِتَابِ النِّكَاحِ حَيْثُ قَالَ : وَإِنَّ زَوَّجَ أُمَّ وَلَدِهِ وَهِيَ حَامِلٌ مِنْهُ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهَا فِرَاشٌ لِمَوْلَاهَا حَتَّى يَثْبُتَ نَسَبُ وَلَدِهَا مِنْهُ بِالدَّعْوَةِ ، فَلَوْ صَحَّ النِّكَاحُ حَصَلَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْفِرَاشَيْنِ إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مُتَأَكَّدٍ حَتَّى يَنْتَفِيَ وَلَدُهَا بِالنَّفْيِ مِنْ غَيْرِ لِعَانٍ فَلَا يُعْتَبَرُ مَا لَمْ

يَتَّصِلْ بِهِ الْحَمْلُ ، فَأَفَادَ أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ صِحَّةِ النِّكَاحِ لَيْسَ إلَّا الْجَمْعُ بَيْنَ الْفِرَاشَيْنِ لَا تَوَهُّمُ الشَّغْلِ ، وَهَذَا حَقٌّ لِمَا عُرِفَ مِنْ مَسْأَلَةِ : مَا إذَا رَأَى امْرَأَةً تَزْنِي فَتَزَوَّجَهَا حَيْثُ يَصِحُّ النِّكَاحُ وَيَحِلُّ الْوَطْءُ مَعَ أَنَّ احْتِمَالَ الشَّغْلِ ثَابِتٌ ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْحَمْلُ مِنْ الزِّنَا لَيْسَ ثَابِتَ النَّسَبِ جَازَ النِّكَاحُ وَالْوَطْءُ ؛ لِانْتِفَاءِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْفِرَاشَيْنِ ، وَلِذَا جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ تَزَوُّجُ الْحَامِلِ مِنْ الزِّنَا لِانْتِفَاءِ الْفِرَاشِ ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ وَطْؤُهَا إذَا كَانَ الْحَمْلُ مِنْ غَيْرِهِ حَتَّى تَضَعَ وَامْتِنَاعُ نِكَاحِ الْمُهَاجِرَةِ الْحَامِلِ لِثُبُوتِ نَسَبِهِ دُونَ غَيْرِهَا ، وَحِينَئِذٍ فَالْجَوَابُ الْحَقُّ مَنْعُ كَوْنِ احْتِمَالِ الشَّغْلِ بِالْمَاءِ مَانِعًا فَلِذَا جَازَ النِّكَاحُ عَقِيبَ وَطْئِهَا ، وَإِنْ كَانَ يُسْتَحَبُّ أَوْ يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ ، إنَّمَا الْمَانِعُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْفِرَاشَيْنِ الْقَوِيَّيْنِ ، وَفِرَاشُ أُمِّ الْوَلَدِ لَيْسَ قَوِيًّا عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ فَلَا يَكُونُ مَانِعًا مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الْحَمْلُ ، بِخِلَافِ الْمُعْتَدَّةِ فَإِنَّهَا فِرَاشٌ حَالَ الْعِدَّةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا مُتَعَيِّنَةٌ لِثُبُوتِ نَسَبِ مَا تَأْتِي بِهِ فَفِي تَزَوُّجِهَا جَمْعٌ بَيْنَ الْفِرَاشَيْنِ .
[ فَرْعٌ ] .
إذَا بَاعَ خِدْمَةَ أُمِّ وَلَدِهِ مِنْهَا عَتَقَتْ كَمَا إذَا بَاعَ رَقَبَةَ الْعَبْدِ مِنْهُ ؛ رَوَاهُ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعَنْ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ : لَا تُعْتَقُ ، بِخِلَافِ بَيْعِ رَقَبَتِهَا مِنْهَا حَيْثُ تُعْتَقُ .

( وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا إلَّا أَنْ يَعْتَرِفَ بِهِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَدَّعِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَا ثَبَّتَ النَّسَبُ بِالْعَقْدِ فَلَأَنْ يَثْبُتَ بِالْوَطْءِ وَأَنَّهُ أَكْثَرُ إفْضَاءً أَوْلَى .
وَلَنَا أَنَّ وَطْءَ الْأَمَةِ يُقْصَدُ بِهِ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ دُونَ الْوَلَدِ ؛ لِوُجُودِ الْمَانِعِ عَنْهُ فَلَا بُدَّ مِنْ الدَّعْوَةِ بِمَنْزِلَةِ مَالِكِ الْيَمِينِ مِنْ غَيْرِ وَطْءٍ ، بِخِلَافِ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَتَعَيَّنُ مَقْصُودًا مِنْهُ فَلَا حَاجَةَ إلَى الدَّعْوَةِ .

( قَوْلُهُ : وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا ) أَيْ وَلَدِ الْأَمَةِ لَا أُمِّ الْوَلَدِ ، وَهَذَا رُجُوعٌ إلَى الْمَذْكُورِ أَوَّلَ الْبَابِ فِي قَوْلِهِ إذَا وَلَدَتْ الْأَمَةُ مِنْ مَوْلَاهَا فَلَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ إلَّا أَنْ يَعْتَرِفَ بِهِ ، وَإِنْ اعْتَرَفَ بِوَطْئِهَا ، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَالْبَصْرِيِّ وَالشَّعْبِيِّ ، وَمَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ مَعَ الْعَزْلِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ : يَثْبُتُ إذَا أَقَرَّ بِوَطْئِهَا ، وَإِنْ عَزَلَ عَنْهَا إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ اسْتَبْرَأَهَا بَعْدَ الْوَطْءِ بِحَيْضَةٍ ، وَهُوَ ضَعِيفٌ ، فَإِنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّهَا بِالْوَطْءِ صَارَتْ فِرَاشًا كَالنِّكَاحِ وَفِيهِ يَلْزَمُ الْوَلَدُ ، وَإِنْ اسْتَبْرَأَهَا مَعَ أَنَّ الْحَامِلَ تَحِيضُ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فَلَا يُفِيدُ الِاسْتِبْرَاءُ ، وَهُمْ يَنْفَصِلُونَ عَنْ هَذَا بِأَنَّ الْغَالِبَ أَنْ لَا تَحِيضَ وَالْأَمْرُ بِالِاسْتِبْرَاءِ اعْتِبَارًا لِلْغَالِبِ فَيُحْكَمُ عِنْدَ وُجُودِهِ بِعَدَمِ الْحَمْلِ حُكْمًا بِالْغَالِبِ ، وَلَوْ وَطِئَهَا فِي دُبْرِهَا يَلْزَمُهُ الْوَلَدُ عِنْدَ مَالِكٍ ، وَمِثْلُهُ عَنْ أَحْمَدَ وَهُوَ وَجْهٌ مُضَعَّفٌ لِلشَّافِعِيَّةِ .
( قَوْلُهُ : لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ ) هَذَا وَجْهُ قَوْلِ الْجُمْهُورِ فِي أَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ بِمَا تَأْتِي بِهِ الْأَمَةُ بِمُجَرَّدِ وَطِئَهَا ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ النَّسَبُ بِعَقْدِ الْبَالِغِ حَتَّى ثَبَتَ نَسَبُ مَا تَأْتِي بِهِ الْمَنْكُوحَةُ بِهِ بَعْدَ الْعَقْدِ ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ الْوَطْءُ ؛ لِوُجُودِهِ بَعْدَ الْمُفْضِي إلَى الْوَلَدِ فَثُبُوتُهُ بَعْدَ وَطْءِ الْبَالِغِ وَأَنَّهُ أَكْثَرُ إفْضَاءً إلَى وُجُودِ الْوَلَدِ أَوْلَى .
وَإِنَّمَا قَيَّدْنَا بِالْبَالِغِ ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ الصَّبِيَّ لَا يَثْبُتُ بِهِ نَسَبٌ ، وَإِنْ كَانَ بِعَقْدٍ وُضِعَ لِلْوَلَدِ ( وَلَنَا أَنَّ وَطْءَ الْأَمَةِ يُقْصَدُ بِهِ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ دُونَ الْوَلَدِ ؛ لِوُجُودِ الْمَانِعِ ) مِنْ قَصْدِهِ وَهُوَ سُقُوطُ تَقَوُّمِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَنُقْصَانِهِ عِنْدَهُمَا فَكَانَ الظَّاهِرُ عَدَمَ قَصْدِهِ فَكَانَ لِلظَّاهِرِ

الْعَزْلُ .
وَبِهِ يَنْدَفِعُ مَا قِيلَ فَلَا يَلْزَمُ بِمُجَرَّدِ الْوَطْءِ ، وَمَا قِيلَ الْوَطْءُ قَدْ يُقْصَدُ بِهِ وَقَدْ لَا يُقْصَدُ بِهِ فَلَا يَتَعَيَّنُ عَدَمُهُ .
قُلْنَا : وَلَا يَتَعَيَّنُ وُجُودُهُ كَمَا قُلْتُمْ فَيَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ مِنْ الْعَدَمِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْلَ دَلِيلِهِمْ فِيهِ الْمَنْقُولُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ { اخْتَصَمَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَعْنِي فِي ابْنِ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ ، فَقَالَ سَعْدٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْنُ أَخِي عُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ عَهِدَ إلَيَّ أَنَّهُ ابْنُهُ اُنْظُرْ إلَى شَبَهِهِ وَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ : هَذَا أَخِي يَا رَسُولَ اللَّهِ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِي ، فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى شَبَهِهِ فَرَأَى شَبَهَهُ فَرَأَى شَبَهًا بَيِّنًا بِعُتْبَةَ فَقَالَ : هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ ، وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ ، فَلَمْ تَرَهُ سَوْدَةُ قَطُّ } رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ .
وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا قَضَى بِهِ لِعَبْدِ بْنِ زَمْعَةَ عَلَى أَنَّهُ عَبْدٌ لَهُ وَرِثَهُ لَا عَلَى أَنَّهُ أَخُوهُ ، وَلِذَا قَالَ هُوَ لَك وَلَمْ يَقُلْ هُوَ أَخُوك ، وَقَالَ : احْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ ، وَلَوْ كَانَ أَخًا لَهَا بِالشَّرْعِ لَمْ يَجِبْ احْتِجَابُهَا مِنْهُ ، فَهَذَا دَفْعٌ بِانْتِفَاءِ لَازِمِ الْأُخُوَّةِ شَرْعًا وَالْأَوَّلُ بِاللَّفْظِ نَفْسِهِ .
وَيُدْفَعُ الْأَوَّلُ بِأَنَّ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى { هُوَ أَخُوكَ يَا عَبْدُ } وَأَمَّا الْأَمْرُ بِالِاحْتِجَابِ فَلِمَا رَأَى مِنْ الشَّبَهِ الْبَيِّنِ بِعُتْبَةَ .
وَيُدْفَعُ الْأَوَّلُ بِأَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ حِينَئِذٍ مُعَارِضَةٌ لِرِوَايَةِ " هُوَ لَك " وَهِيَ أَرْجَحُ ؛ لِأَنَّهَا الْمَشْهُورَةُ الْمَعْرُوفَةُ فَلَا تُعَارِضُهَا الشَّاذَّةُ ، وَالشَّبَهُ لَا يُوجِبُ احْتِجَابَ أُخْتِهِ شَرْعًا مِنْهُ ، وَإِلَّا لَوَجَبَ الْآنَ وُجُوبًا مُسْتَمِرًّا أَنَّ كُلَّ مَنْ أَشْبَهَ

غَيْرَ أَبِيهِ الثَّابِتِ نَسَبُهُ مِنْهُ يَجِبُ حُكْمًا لِلشَّبَهِ احْتِجَابُ أُخْتِهِ وَعَمَّتِهِ وَجَدَتْهُ لِأَبِيهِ مِنْهُ وَهُوَ مُنْتَفٍ شَرْعًا .
وَإِذْن قَوْلُهُ : " لِلْفِرَاشِ الْوَلَدُ " يَنْتَفِي بِهِ نَسَبُهُ عَنْ سَعْدٍ بِأَنَّهُ ابْنُ أَخِيهِ وَعَنْ عَبْدٍ بِأَنَّهُ أَخُوهُ : يَعْنِي أَنَّ الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ وَلَا فِرَاشَ الْوَاحِدِ مِنْ عُتْبَةَ وَزَمْعَةَ فَهُوَ حِينَئِذٍ عَبْدٌ لَك يَا عَبْدُ مِيرَاثٌ لَك مِنْ أَبِيك .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ رُوِيَ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ { أَمَّا الْمِيرَاثُ فَلَهُ ، وَأَمَّا أَنْتِ فَاحْتَجِبِي مِنْهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَكَ بِأَخٍ } فَتَصْرِيحُهُ بِأَنَّهُ لَيْسَ أَخَاهَا يُفِيدُ أَنَّهُ لَيْسَ أَخًا لِعَبْدِ بْنِ زَمْعَةَ ، وَبِهِ تَقْوَى مُعَارَضَةُ رِوَايَةِ هُوَ أَخُوك .
وَقَوْلُهُ " أَمَّا الْمِيرَاثُ فَلَهُ " يُفِيدُ أَنَّهُ أَخُوهُمَا ، فَإِمَّا أَنْ يَحْكُمَ بِضَعْفِ الْحَدِيثِ لِتَدَافُعِ مَعْنَاهُ ، أَوْ يَجْمَعَ بِأَنَّ الْمُثْبَتَ الْأُخُوَّةُ الشَّرْعِيَّةُ وَالْمَنْفِيَّ الْأُخُوَّةُ الْحَقِيقَةُ ، وَهُوَ أَنْ يُخْلَقَا مِنْ مَاءِ رَجُلٍ وَاحِدٍ ، وَأَنَّ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ فِي عَدَمِ الِاحْتِجَابِ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى الْأُخُوَّةِ بِمَعْنَى التَّخَلُّقِ مِنْ مَاءِ شَخْصٍ وَاحِدٍ مَعَ ثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْهُ ، إلَّا أَنَّ هَذَا يَتَعَذَّرُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ فَاعْتُبِرَ ثَابِتًا بِثُبُوتِ النَّسَبِ مَا لَمْ يُعَارِضْهُ شَبَهُ غَيْرِ الْمَنْسُوبِ كَمَا هُوَ فِي الصُّورَةِ الْمَرْوِيَّةِ ، ثُمَّ يَجْعَلُ هَذَا لَيْسَ حُكْمًا مُسْتَمِرًّا عَلَى مَا ذَكَرْنَا خَاصًّا بِأَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ لِأَنَّ حِجَابَهُنَّ مَنِيعٌ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لَهُنَّ : { لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ } وَعَلَى هَذَا يَجِبُ حَمْلُ الْوَلِيدَةِ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ وُلِدَتْ لِزَمْعَةَ قَبْلَ ذَلِكَ وَيَكُونُ قَوْلُهُ : " الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ " يَعْنِي أُمَّ الْوَلَدِ ، وَحِينَئِذٍ فَقَوْلُهُ هُوَ لَك : أَيْ مَقْضِيٌّ بِهِ لَك ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ أَنَّهُ أَخُوك كَمَا هُوَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى .
وَأَمَّا مَا نُقِلَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ

عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : مَا بَالُ رِجَالٍ يَطَئُونَ وَلَائِدَهُمْ ثُمَّ يَعْتَزِلُونَهُنَّ ، لَا تَأْتِينِي وَلِيدَةٌ يَعْتَرِفُ سَيِّدُهَا أَنَّهُ قَدْ أَلَمَّ بِهَا إلَّا أَلْحَقْت بِهِ وَلَدَهَا ، فَاعْتَزِلُوا بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ اُتْرُكُوا .
رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فَمُعَارَضٌ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَعْزِلُ عَنْ جَارِيَتِهِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ أَسْوَدَ فَشَقَّ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : مِمَّنْ هُوَ ؟ فَقَالَتْ : مِنْ رَاعَى الْإِبِلِ ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَلَمْ يَلْتَزِمْهُ .
وَأَسْنَدَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَأْتِي جَارِيَةً فَحَمَلَتْ فَقَالَ : لَيْسَ مِنِّي إنِّي أَتَيْتهَا إتْيَانًا لَا أُرِيدُ بِهِ الْوَلَدَ .
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ كَانَ يَطَأُ جَارِيَةً فَارِسِيَّةً وَيَعْزِلُ عَنْهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَأَعْتَقَ الْوَلَدَ وَجَلَدَهَا .
وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لَهَا : مِمَّنْ حَمَلْت ؟ فَقَالَتْ مِنْك ، فَقَالَ : كَذَبْت مَا وَصَلَ إلَيْك مَا يَكُونُ مِنْهُ الْحَمْلُ وَلَمْ يَلْتَزِمْهُ مَعَ اعْتِرَافِهِ بِوَطْئِهَا .
وَالْمَرْوِيُّ عَنْ عُمَرَ مِنْ قَوْلِهِ : إنَّهُ يَلْحَقُ بِالْوَاطِئِ مُطْلَقًا جَازَ لِكَوْنِهِ عَلِمَ مِنْ بَعْضِهِمْ إنْكَارَ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ اسْتِلْحَاقُهُ ، وَذَلِكَ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْوَاطِئَ إذَا لَمْ يَعْزِلْ وَحَصَّنَهَا وَجَبَ عَلَيْهِ الِاعْتِرَافُ بِهِ .
فَقَدْ يَكُونُ عَلِمَ مِنْ النَّاسِ إنْكَارَ أَوْلَادِ الْإِمَاءِ مُطْلَقًا فَقَالَ لَهُمْ إنِّي مُلْحِقٌ بِكُمْ إيَّاهُمْ مُطْلَقًا ، وَأَمَّا مَنْ عُلِمَ مِنْهُ الِاعْتِدَالُ فِي الْأَمْرِ بِأَنْ يَعْتَرِفَ بِمِنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الِاعْتِرَافُ بِهِ وَيَنْفِيَ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ نَفْيُهُ أَوْ يَجُوزُ فَإِنَّهُ لَا يَتَعَرَّضُ لَهُ .

( فَإِنْ ) ( جَاءَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِوَلَدٍ ثَبَتَ نَسَبُهُ بِغَيْرِ إقْرَارِ ) مَعْنَاهُ بَعْدَ اعْتِرَافٍ مِنْهُ بِالْوَلَدِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ بِدَعْوَى الْوَلَدِ الْأَوَّلِ تَعَيَّنَ الْوَلَدُ مَقْصُودًا مِنْهَا فَصَارَتْ فِرَاشًا كَالْمَعْقُودَةِ ( إلَّا أَنَّهُ إذَا نَفَاهُ يَنْتَفِي بِقَوْلِهِ ) ؛ لِأَنَّ فِرَاشَهَا ضَعِيفٌ حَتَّى يَمْلِكَ نَقْلَهُ بِالتَّزْوِيجِ ، بِخِلَافِ الْمَنْكُوحَةِ حَيْثُ لَا يَنْتَفِي الْوَلَدُ بِنَفْيِهِ إلَّا بِاللِّعَانِ ؛ لِتَأَكُّدِ الْفِرَاشِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ إبْطَالَهُ بِالتَّزْوِيجِ ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ حُكْمٌ .
فَأَمَّا الدَّيَّانَةُ ، فَإِنْ كَانَ وَطِئَهَا وَحَصَّنَهَا وَلَمْ يَعْزِلْ عَنْهَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَعْتَرِفَ بِهِ وَيَدَّعِي ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْوَلَدَ مِنْهُ ، وَإِنْ عَزَلَ عَنْهَا أَوْ لَمْ يُحَصِّنْهَا جَازَ لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا الظَّاهِرَ يُقَابِلُهُ ظَاهِرٌ آخَرُ ، هَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَفِيهِ رِوَايَتَانِ أُخْرَيَانِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ذَكَرْنَاهُمَا فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى .

( قَوْلُهُ : فَإِنْ جَاءَتْ بَعْدَ ذَلِكَ ) أَيْ بَعْدَ أَنْ اعْتَرَفَ بِوَلَدِهَا الْأَوَّلِ ( بِوَلَدٍ ثَبَتَ نَسَبُهُ بِغَيْرِ إقْرَارٍ ) ؛ لِأَنَّهُ بِالِاعْتِرَافِ بِالْوَلَدِ الْأَوَّلِ تَبَيَّنَ كَوْنُ الْوَلَدِ مَقْصُودًا مِنْ الْوَطْءِ فَصَارَتْ فِرَاشًا ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْأَوْلَى فِي تَعْرِيفِ الْفِرَاشِ كَوْنُ الْمَرْأَةِ مَقْصُودًا مِنْ وَطْئِهَا الْوَلَدُ ظَاهِرًا كَمَا فِي أُمِّ الْوَلَدِ ، فَإِنَّهُ إذَا اعْتَرَفَ بِهِ ظَهَرَ قَصْدُهُ إلَى ذَلِكَ أَوْ وَضْعًا شَرْعِيًّا كَالْمَنْكُوحَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ الْوَلَدَ يَثْبُتُ نَسَبُ مَا تَأْتِي بِهِ فَإِنَّمَا حِينَئِذٍ تَكُونُ مُتَعَيَّنَةً لِثُبُوتِ نَسَبِ مَا تَأْتِي بِهِ وَهُوَ الَّذِي عَرَّفُوا بِهِ الْفِرَاشَ وَظَهَرَ أَنْ لَيْسَ الْفُرُشُ ثَلَاثَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي فَصْلِ الْمُحَرَّمَاتِ بَلْ فِرَاشَانِ : قَوِيٌّ وَهُوَ فِرَاشُ الْمَنْكُوحَةِ ، وَضَعِيفٌ وَهُوَ فِرَاشُ أُمِّ الْوَلَدِ بِسَبَبِ أَنَّ وَلَدَهَا ، وَإِنْ ثَبَتَ نَسَبُهُ بِلَا دَعْوَةٍ يَنْتَفِي نَسَبُهُ بِمُجَرَّدِ نَفْيِهِ ، بِخِلَافِ الْمَنْكُوحَةِ لَا يَنْتَفِي نَسَبُ وَلَدِهَا إلَّا بِاللِّعَانِ .
وَقَدْ صَرَّحَ الْمُصَنِّفُ فِيمَا تَقَدَّمَ فَقَالَ ؛ لِأَنَّ الْأَمَةَ لَيْسَتْ بِفِرَاشٍ لِمَوْلَاهَا ، وَذَلِكَ لِعَدَمِ صِدْقِ حَدِّ الْفِرَاشِ عَلَيْهَا وَهُوَ كَوْنُ الْمَرْأَةِ مُتَعَيَّنَةً لِثُبُوتِ نَسَبِ مَا تَأْتِي بِهِ أَوْ كَوْنَهَا يُقْصَدُ بِوَطْئِهَا الْوَلَدُ إلَى آخِرِ مَا قُلْنَاهُ ، وَمِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى ضَعْفِهِ كَوْنُهُ يَمْلِكُ نَقْلَهُ بِالتَّزْوِيجِ ، بِخِلَافِ الْمَنْكُوحَةِ ، وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنَّهُ لَوْ اعْتَرَفَ فَقَالَ كُنْت أَطَأُ بِقَصْدِ الْوَلَدِ عِنْدَ مَجِيئِهَا بِالْوَلَدِ أَنْ يَثْبُتَ نَسَبُ مَا أَتَتْ بِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ هُوَ وَلَدِي ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَهُ بِقَوْلِهِ هُوَ وَلَدِي بِنَاءً عَلَى أَنَّ وَطْأَهُ حِينَئِذٍ بِقَصْدِ الْوَلَدِ .
وَعَلَى هَذَا قَالَ بَعْضُ فُضَلَاءِ الدَّرْسِ : يَنْبَغِي أَنَّهُ إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ لَا يَعْزِلُ عَنْهَا وَحَصَّنَهَا أَنْ يَثْبُتَ نَسَبُهُ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى دَعْوَاهُ ، وَإِنْ كُنَّا نُوجِبُ عَلَيْهِ

فِي هَذِهِ الْحَالَةِ الِاعْتِرَافَ بِهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى أَنْ يُوجِبَ عَلَيْهِ الِاعْتِرَافَ ؛ لِيَعْتَرِفَ فَيَثْبُتُ نَسَبُهُ بَلْ يَثْبُتُ ابْتِدَاءً ، وَأَظُنُّ أَنْ لَا بُعْدَ فِي أَنْ يُحْكَمَ عَلَى الْمَذْهَبِ بِذَلِكَ .
وَفِي الْمَبْسُوطِ : إنَّمَا يَمْلِكُ نَفْيَهُ : أَيْ نَفْيَ وَلَدِ أُمِّ الْوَلَدِ إذَا لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِهِ أَوْ لَمْ يَتَطَاوَلْ الزَّمَانُ ، فَأَمَّا بَعْدَ الْقَضَاءِ فَقَدْ لَزِمَهُ بِالْقَضَاءِ فَلَا يَمْلِكُ إبْطَالَهُ ، وَالتَّطَاوُلُ دَلِيلُ إقْرَارِهِ ؛ لِأَنَّهُ يُوجَدُ مِنْهُ فِيهَا دَلِيلُ إقْرَارِهِ مِنْ قَبُولِهِ التَّهْنِئَةَ وَنَحْوِهِ فَيَكُونُ كَالتَّصْرِيحِ بِإِقْرَارِهِ ، وَاخْتِلَافُهُمْ فِي التَّطَاوُلِ سَبَقَ فِي اللِّعَانِ .
هَذَا ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ نَسَبُ مَا تَأْتِي بِهِ فِي حَالِ حِلِّ وَطْئِهَا لَهُ بَعْدَ الْوَلَدِ ، أَمَّا لَوْ عَرَضَ بَعْدَهُ حُرْمَةٌ مُؤَبَّدَةٌ بِأَنَّ وَطِئَهَا أَبُو سَيِّدِهَا أَوْ ابْنُهُ أَوْ وَطِئَ السَّيِّدُ أُمَّهَا أَوْ ابْنَتَهَا أَوْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ بِرَضَاعٍ أَوْ بِكِتَابَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ إلَّا بِاسْتِلْحَاقِهِ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَ أَنْ تَأْتِيَ بِهِ لِأَقَلِّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ عُرُوضِ الْحُرْمَةِ أَوْ لِتَمَامِهَا ، فَفِي الْأَوَّلِ يَجِبُ أَنْ يَثْبُتَ نَسَبُهُ بِلَا دَعْوَةٍ لِلتَّيَقُّنِ بِأَنَّ الْعُلُوقَ كَانَ قَبْلَ عُرُوضِ الْحُرْمَةِ .
وَلَوْ أَعْتَقَهَا ثَبَتَ نَسَبُ وَلَدِهَا مِنْهُ إلَى سَنَتَيْنِ مِنْ يَوْمِ الْإِعْتَاقِ ، وَكَذَا إذَا مَاتَ ؛ لِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ ، وَلَا يُمْكِنُ نَفْيُهُ ؛ لِأَنَّ فِرَاشَهَا تَأَكَّدَ بِالْحُرِّيَّةِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ نَقْلَهُ فَالْتَحَقَ بِفِرَاشِ الْمَنْكُوحَةِ فِي الْعِدَّةِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ عَرَضَتْ الْحُرْمَةُ بِحَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ أَوْ صَوْمٍ أَوْ إحْرَامٍ حَيْثُ يَثْبُتُ نَسَبُهُ بِالسُّكُوتِ ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَمْ يَحْرُمْ مُطْلَقًا وَلَا مُتَعَلِّقًا بِاخْتِيَارِهَا بَلْ مَعَ ذَلِكَ الْعَارِضِ الَّذِي عَرَضَ لَا بِاخْتِيَارِهَا الْمُنْقَضِي عَادَةً بِلَا اخْتِيَارِهَا .
( قَوْلُهُ : وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ ) يَعْنِي مِنْ

عَدَمِ لِزُمُومِهِ الْوَلَدَ ، وَإِنْ اعْتَرَفَ بِالْوَطْءِ مَا لَمْ يَدَّعِهِ ( حُكْمٌ ) أَيْ فِي الْقَضَاءِ : يَعْنِي لَا يُقْضَى عَلَيْهِ بِثُبُوتِ نَسَبِهِ مِنْهُ بِلَا دَعْوَةٍ ، فَأَمَّا الدِّيَانَةُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ إنْ كَانَ حِينَ وَطِئَهَا لَمْ يَعْزِلْ عَنْهَا وَحَصَّنَهَا عَنْ مَظَانِّ رِيبَةِ الزِّنَا يَلْزَمُهُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَدَّعِيَهُ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ كَوْنُهُ مِنْهُ ، وَالْعَمَلُ بِالظَّاهِرِ وَاجِبٌ ، وَإِنْ كَانَ عَزَلَ عَنْهَا حَصَّنَهَا أَوَّلًا أَوْ لَمْ يَعْزِلْ وَلَكِنْ لَمْ يُحَصِّنْهَا فَتَرَكَهَا تَدْخُلُ وَتَخْرُجُ بِلَا رَقِيبٍ مَأْمُونٍ جَازَ لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ ( لِأَنَّ هَذَا الظَّاهِرَ ) وَهُوَ كَوْنُهُ مِنْهُ بِسَبَبِ أَنَّ الظَّاهِرَ عَدَمُ زِنَا الْمُسْلِمَةِ ( يُقَابِلُهُ ) أَيْ يُعَارِضُهُ ( ظَاهِرٌ آخَرُ ) وَهُوَ كَوْنُهُ مِنْ غَيْرِهِ ؛ لِوُجُودِ أَحَدِ الدَّلِيلَيْنِ عَلَى ذَلِكَ وَهُمَا الْعَزْلُ أَوْ عَدَمُ التَّحْصِينِ ، وَبِهَذَا ظَهَرَ أَنَّ لَفْظَةَ أَوْ فِي قَوْلِهِ ، وَإِنْ عَزَلَ عَنْهَا أَوْ لَمْ يُحَصِّنْهَا أَوْلَى مِنْ الْوَاوِ لِتَنْصِيصِهَا عَلَى الْمُرَادِ .
وَصَرَّحَ فِي الْمَبْسُوطِ بِذَلِكَ حَيْثُ قَالَ : فَأَمَّا إذَا عَزَلَ عَنْهَا أَوْ لَمْ يُحَصِّنْهَا فَلَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ .
ا هـ .
وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ كَوْنَهُ مِنْ غَيْرِهِ عِنْدَ ضَبْطِهِ الْعَزْلَ ظَاهِرٌ ، وَأَمَّا ظُهُورُ كَوْنِهِ مِنْ غَيْرِهِ إذَا أَفْضَى إلَيْهَا وَلَمْ يَعْزِلْ عَنْهَا مَحِلُّ نَظَرٍ ، بَلْ أَوْرَدَ أَنَّ الْمُصَنِّفَ عَلَّلَ وُجُوبَ الْغُسْلِ بِالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ مِنْ غَيْرِ إنْزَالٍ بِأَنَّهُ سَبَبُ الْإِنْزَالِ وَنَفْسُهُ يَتَغَيَّبُ عَنْ بَصَرِهِ ، وَقَدْ يَخْفَى عَلَيْهِ لِقِلَّتِهِ فَيُقَامُ مَقَامَهُ فَيَقْتَضِي هَذَا ثُبُوتَ النَّسَبِ بَعْدَ الْوَطْءِ ، وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ ، وَإِلَّا تَنَاقَضَ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا أَحَدَ يَقُولُ بِثُبُوتِ نَسَبِ مَا تَأْتِي بِهِ الْأَمَةُ بِمُجَرَّدِ غَيْبُوبَةِ الْحَشَفَةِ بِلَا إنْزَالٍ ، بَلْ إنَّهُ يَثْبُتُ

عَزَلَ عَنْهَا أَوْ لَمْ يَعْزِلْ ، وَهَذَا فَرْعُ الْإِنْزَالِ .
وَحِينَئِذٍ فَالْمَذْكُورُ فِي الْغُسْلِ بَيَانُ حِكْمَةِ النَّصِّ فَإِنَّهُ قَدْ نَصَّ عَلَى إيجَابِ الْغُسْلِ بِمُجَرَّدِ الْإِيلَاجِ فَظَهَرَ مِنْ الشَّرْعِ فِيهِ غَايَةُ الِاحْتِيَاطِ ، وَلَمْ يَثْبُتْ مِنْ الشَّرْعِ مِثْلُهُ فِي الِاسْتِلْحَاقِ ، بَلْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَلْحَقَ نَسَبُ مَنْ لَيْسَ مِنْهُ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ لَا يُسْتَلْحَقَ نَسَبُ مَنْ هُوَ مِنْهُ فَكَانَ أَمْرُ الِاسْتِلْحَاقِ مَبْنِيًّا عَلَى الْيَقِينِ أَوْ الظُّهُورِ الَّذِي لَا يُقَابِلُهُ مَا يُوجِبُ شَكًّا .
( قَوْلُهُ : وَفِيهِ رِوَايَتَانِ أُخْرَيَانِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَعَنْ مُحَمَّدٍ ) ذَكَرَهُمَا فِي الْمَبْسُوطِ فَقَالَ : وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ إذَا وَطِئَهَا وَلَمْ يَسْتَبْرِئْهَا بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَدَّعِيَهُ سَوَاءٌ عَزَلَ عَنْهَا أَوْ لَمْ يَعْزِلْ حَصَّنَهَا أَوْ لَمْ يُحَصِّنْهَا تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِهَا وَحَمْلًا لِأَمْرِهَا عَلَى الصَّلَاحِ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ خِلَافُهُ ، وَهَذَا كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ ؛ لِأَنَّ مَا ظَهَرَ سَبَبُهُ يَكُونُ مُحَالًا بِهِ عَلَيْهِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ خِلَافُهُ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَدَّعِيَ وَلَدَهَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مِنْهُ وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَعْتِقَ الْوَلَدَ .
وَفِي الْإِيضَاحِ ذَكَرَهُمَا بِلَفْظِ الِاسْتِحْبَابِ فَقَالَ : قَالَ أَبُو يُوسُفَ : أُحِبُّ أَنْ يَدَّعِيَهُ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ : أُحِبُّ أَنْ يُعْتِقَ الْوَلَدَ فَهَذَا يُفِيدُ الِاسْتِحْبَابَ ، وَعِبَارَةُ الْمَبْسُوطِ تُفِيدُ الْوُجُوبَ .

( فَإِنْ زَوَّجَهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَهُوَ فِي حُكْمِ أُمِّهِ ) ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْحُرِّيَّةِ يَسْرِي إلَى الْوَلَدِ كَالتَّدْبِيرِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ وَلَدَ الْحُرَّةِ حُرٌّ وَوَلَدَ الْقِنَّةِ رَقِيقٌ وَالنَّسَبُ يَثْبُتُ مِنْ الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّ الْفِرَاشَ لَهُ ، وَإِنْ كَانَ النِّكَاحُ فَاسِدًا إذْ الْفَاسِدُ مُلْحَقٌ بِالصَّحِيحِ فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ ، وَلَوْ ادَّعَاهُ الْمَوْلَى لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْ غَيْرِهِ ، وَيُعْتَقُ الْوَلَدُ وَتَصِيرُ أُمُّهُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ لِإِقْرَارِهِ .

( قَوْلُهُ : فَإِنْ زَوَّجَهَا الْمَوْلَى فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ ) يَعْنِي مِنْ الزَّوْجِ ( فَهُوَ فِي حُكْمِ أُمِّهِ ) حَتَّى لَا يَجُوزَ لِلسَّيِّدِ بَيْعُهُ وَلَا هِبَتُهُ وَلَا رَهْنُهُ وَيُعْتَقُ بِمَوْتِهِ مِنْ كُلِّ الْمَالِ وَلَا يَسْعَى لِأَحَدٍ ، وَلَهُ اسْتِخْدَامُهُ ، وَإِجَارَتُهُ ، إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ جَارِيَةً لَا يَسْتَمْتِعُ بِهَا ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ أُمَّهَا ، وَهَذِهِ إجْمَاعِيَّةٌ وَهِيَ وَارِدَةٌ عَلَى إطْلَاقِهِ حَيْثُ قَالَ : هُوَ فِي حُكْمِ أُمِّهِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الصِّفَاتِ الْقَارَّةَ فِي الْأُمَّهَاتِ تَسْرِي إلَى الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّهُ جُزْؤُهَا فَيَحْدُثُ الْوَلَدُ عَلَى صِفَتِهَا كَالتَّدْبِيرِ ، وَلِهَذَا كَانَ وَلَدُ الْقِنَّةِ قِنًّا ، وَوَلَدُ الْحُرَّةِ حُرًّا ، وَإِنْ كَانَ أَبُوهُ بِخِلَافِهِ ، وَلَوْ ادَّعَاهُ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْ الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّ فِرَاشَهُ أَقْوَى ، وَإِنْ كَانَ النِّكَاحُ فَاسِدًا فَإِنَّهُ يُلْحَقُ بِالصَّحِيحِ فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ ، وَهَذَا إذَا اتَّصَلَ بِهِ الدُّخُولُ ، وَالنَّسَبُ لَا يَتَجَزَّأُ ثُبُوتًا فَلَا يَثْبُتُ مِنْ الْمَوْلَى ، وَالْأَوْجُهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى قُوَّةِ الْفِرَاشِ فَلَا يَثْبُتُ مَعَهُ الْمَرْجُوحُ ، وَإِلَّا فَالْوَلَدُ يَثْبُتُ مِنْ اثْنَيْنِ كَمَا سَيُذْكَرُ .
وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ ؛ لِأَنَّ الْفِرَاشَ لَهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا فِرَاشَ لِلْمَوْلَى حَالَ كَوْنِهَا زَوْجَةً لِلْغَيْرِ أَصْلًا ، وَهَذَا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ النِّكَاحِ ، فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ فَهُوَ ابْنٌ لِلسَّيِّدِ وَالنِّكَاحُ فَاسِدٌ ، وَيُسْتَحَبُّ بَلْ يَجِبُ أَنْ لَا يُزَوِّجَهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا بِحَيْضَةٍ احْتِيَاطًا ، وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ صَحَّ النِّكَاحُ وَيَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْ الزَّوْجِ ثُمَّ يُعْتَقُ بِدَعْوَةِ الْمَوْلَى ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ مِنْهُ ؛ لِإِقْرَارِهِ بِحُرِّيَّتِهِ حَيْثُ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ ابْنُهُ فَإِنَّ ابْنَهُ مِنْ أَمَتِهِ يَعْلَقُ حُرًّا كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ أَنَّهُ عَارَضَهُ فِي ثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْهُ مُعَارِضٌ أَقْوَى مِنْهُ فَلَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ بِهِ ، وَلَمْ

يُعَارِضْهُ فِي ثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ بِهِ ذَلِكَ فَأَخَذَ بِزَعْمِهِ .
وَلَمْ يُسْتَحْسَنْ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَتَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي تَزْوِيجِ أُمِّ الْوَلَدِ ، وَإِنَّمَا يُسْتَحْسَنُ لَوْ كَانَ فِي تَزْوِيجِ الْأَمَةِ الَّتِي لَيْسَتْ أُمَّ وَلَدٍ كَالصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْمَبْسُوطِ : زَوَّجَ أَمَتَهُ مِنْ عَبْدِهِ فَوَلَدَتْ فَادَّعَاهُ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ ، وَلَكِنْ تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ تُعْتَقُ بِمَوْتِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لَهَا بِحَقِّ الْحُرِّيَّةِ ، وَقَدْ تَكَلَّفَ لَهُ أَنَّ قَوْلَهُ وَوَلَدُ الْقِنَّةِ قِنٌّ ابْتِدَاءً وَمَا بَعْدَهُ بِنَاءً عَلَيْهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ : وَلَدُ الْقِنَّةِ قِنٌّ وَنَسَبُهُ يَثْبُتُ مِنْ الزَّوْجِ إذَا زَوَّجَهَا مَوْلَاهَا ، وَحِينَئِذٍ يَسْتَقِيمُ إلَّا أَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا ذُكِرَ لِبَيَانِ سِرَايَةِ وَصْفِ الْأُمِّ إلَى الْوَلَدِ فَيَكُونُ ابْنُ أُمِّ الْوَلَدِ بِمَنْزِلِهَا ( قَوْلُهُ : وَيُعْتَقُ الْوَلَدُ ) أَيْ وَلَدُ أُمِّ الْوَلَدِ الْمُزَوَّجَةِ الَّذِي ادَّعَاهُ بِعِتْقٍ ؛ لِأَنَّهُ مِلْكَهُ وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّهُ ابْنَهُ .
( وَتَصِيرُ أُمُّهُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ) تُعْتَقُ بِمَوْتِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لَهَا بِحَقِّ الْحُرِّيَّةِ حَيْثُ ادَّعَى أَنَّ وَلَدَهَا مِنْهُ وَعِتْقُ الْوَلَدِ ظَاهِرٌ بَلْ قَدْ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ عَلِقَ الْوَلَدُ حُرًّا مِنْ الْأَصْلِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ تَثْبُتُ أُمُومِيَّةُ الْوَلَدِ مَعَ عَدَمِ ثُبُوتِ النَّسَبِ وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَيْهِ ؟ أُجِيبُ بِأَنَّ مُجَرَّدَ الْإِقْرَارِ بِالِاسْتِيلَادِ كَافٍ لِثُبُوتِ الِاسْتِيلَادِ ، وَإِنْ كَانَ فِي ضِمْنِ مَا لَمْ يَثْبُتْ ، وَهَذَا مَا تَقَدَّمَ وَعْدُهُ مَعَ أَنَّ احْتِمَالَ كَوْنِهِ مِنْ السَّيِّدِ قَائِمٌ ؛ لِجَوَازِهِ بِوَطْءٍ قَبْلَ النِّكَاحِ ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ هَذَا الِاحْتِمَالُ فِي حَقِّ ثُبُوتِ النَّسَبِ ؛ لِثُبُوتِهِ مِنْ الزَّوْجِ فَبَقِيَ مُعْتَبَرًا فِي الْأُمِّ لِحَاجَتِهَا إلَى الْأُمُومِيَّةِ الْمُوصِلَةِ إلَى الْعِتْقِ .

( وَإِذَا مَاتَ الْمَوْلَى عَتَقَتْ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ ) لِحَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِعِتْقِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَأَنْ لَا يُبَعْنَ فِي دَيْنٍ وَلَا يُجْعَلْنَ مِنْ الثُّلُثِ } .
وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْوَلَدِ أَصْلِيَّةٌ فَتُقَدَّمُ عَلَى حَقِّ الْوَرَثَةِ وَالدَّيْنِ كَالتَّكْفِينِ ، بِخِلَافِ التَّدْبِيرِ ؛ لِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ بِمَا هُوَ مِنْ زَوَائِدِ الْحَوَائِجِ

( قَوْلُهُ : وَإِذَا مَاتَ الْمَوْلَى عَتَقَتْ ) يَعْنِي أُمَّ الْوَلَدِ ( مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ لِحَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِعِتْقِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَأَنْ لَا يُبَعْنَ فِي دَيْنٍ وَلَا يُجْعَلْنَ مِنْ الثُّلُثِ } ) وَفِي نُسْخَةٍ مَكَانُ لَا يُبَعْنَ " لَا يَسْعَيْنَ " ، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِتَعْلِيلِهِ وَلَا سِعَايَةَ إلَخْ بِقَوْلِهِ ( لِمَا رَوَيْنَا ) أَيْ ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقِيَ السِّعَايَةَ عَنْهَا حَيْثُ قَالَ " وَأَنْ لَا يَسْعَيْنَ " وَمَا قِيلَ " وَأَنْ لَا يُبَعْنَ " يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ السِّعَايَةِ ؛ لِأَنَّ عَدَمَ جَوَازِ الْبَيْعِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْمَالِيَّةِ إلَخْ مَنْقُوضٌ بِالْمُدَبَّرِ ، ثُمَّ لَمْ يُعْرَفْ هَذَا الْحَدِيثُ ، وَالشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ الزَّيْلَعِيُّ بَعْدَ ذِكْرِهِ أَنَّهُ غَرِيبٌ قَالَ : وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ ، وَسَاقَ كَثِيرًا مِمَّا قَدَّمْنَا مِمَّا لَيْسَ فِيهِ زِيَادَةٌ عَلَى أَنَّهَا لَا تُمَلَّكُ وَتُعْتَقُ بِالْمَوْتِ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ كُلَّهَا فِي غَيْرِ الْمَقْصُودِ ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّهَا تُعْتَقُ مِنْ كُلِّ الْمَالِ وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا ذَلِكَ ، فَإِنَّ عِتْقَهَا لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهَا مِنْ كُلِّ الْمَالِ كَالْمُدَبَّرِ يُعْتَقُ بِالْمَوْتِ وَلَا يَكُونُ مِنْ كُلِّهِ .
وَقَدْ رَوَاهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ الْمَالِكِيُّ فِي كِتَابِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ إلَّا أَنَّ جَمَاعَةً تَكَلَّمُوا فِي عَبْدِ الْمَلِكِ ( قَوْلُهُ : وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْوَلَدِ أَصْلِيَّةٌ ) كَحَاجَتِهِ إلَى الْأَكْلِ : أَيْ وَحَاجَتُهُ إلَى أُمِّهِ مُسَاوِيَةٌ لِحَاجَتِهِ إلَى الْوَلَدِ وَلِهَذَا جَازَ اسْتِيلَادُهُ جَارِيَةَ ابْنِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ؛ لِحَاجَتِهِ إلَى وُجُودِ نَسْلِهِ كَمَا جَازَ لَهُ أَكْلُ مَالِهِ لِلْحَاجَةِ وَحَاجَتُهُ الْأَصْلِيَّةُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الدَّيْنِ فَلَا تَسْعَى لِلْغُرَمَاءِ وَعَلَى الْإِرْثِ فَلَا تَسْعَى لِلْوَرَثَةِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ إذَا لَمْ تَخْرُجُ مِنْهُ فَصَارَ إعْتَاقُهَا كَالدَّفْنِ وَالتَّكْفِينِ ( بِخِلَافِ

التَّدْبِيرِ ؛ لِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ بِمَا هُوَ مِنْ زَوَائِدِ الْحَوَائِجِ ) لَا مِنْ الْأَصْلِيَّةِ ، إذْ لَيْسَ ثَمَّ نَسَبُ وَلَدٍ يَتْبَعُهُ أُمُومَةٌ فَلَا يُقَدَّمُ عِتْقُ الْمُدَبَّرِ عَلَى الدَّيْنِ ، وَلَا عَلَى حَقِّ الْوَرَثَةِ فَيُعْتَقُ مِنْ الثُّلُثِ ، فَإِنْ لَمْ يَسَعْهُ سَعَى فِي بَاقِي قِيمَته ، وَلَوْ كَانَ دَيْنُ السَّيِّد مُسْتَغْرِقًا سَعَى فِي كُلّ قِيمَتِهِ عَلَى مَا سَلَفَ .

( وَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهَا فِي دَيْنِ الْمَوْلَى لِلْغُرَمَاءِ ) لَمَا رَوَيْنَا ، وَلِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ حَتَّى لَا تُضْمَنُ بِالْغَصْبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّ الْغُرَمَاءِ كَالْقِصَاصِ ، بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ .
( قَوْلُهُ : وَلِأَنَّهَا ) أَيْ أُمَّ الْوَلَدِ ( لَيْسَتْ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ( حَتَّى لَا تُضْمَنُ بِالْغَصْبِ عِنْدَهُ ) يَعْنِي إذَا مَاتَتْ عِنْدَ الْغَاصِبِ حَتْفَ أَنْفِهَا ، بِخِلَافِ الْمُدَبَّرَ إذَا مَاتَ عِنْدَ الْغَاصِبِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ ، وَكَذَا لَا تَضْمَنُ بِالْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ ، وَلَا بِالْإِعْتَاقِ بِأَنْ كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَأَعْتَقَهَا أَحَدُهُمَا لَا يَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ شَيْئًا وَلَا تَسْعَى هِيَ فِي شَيْءٍ أَيْضًا ، وَعِنْدَهُمَا تَضْمَنُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ ، وَإِنَّمَا تُضْمَنُ بِمَا يُضْمَنُ بِهِ الصَّبِيُّ الْحُرُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَنْ ذَهَبَتْ بِهَا إلَى طَرِيقٍ فِيهَا سِبَاعٌ فَأَتْلَفَتْهَا ، وَأَجْمَعُوا أَنَّهَا تُضْمَنُ بِالْقَتْلِ ؛ لِأَنَّهُ ضَمَانُ دَمٍ ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ مَالًا مُتَقَوِّمًا .
( لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّ الْغُرَمَاءِ كَالْقِصَاصِ ) يَعْنِي إذَا مَاتَ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ وَهُوَ مَدْيُونٌ فَلَيْسَ لِأَصْحَابِ الدُّيُونِ أَنْ يُطَالِبُوا مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ بِدَيْنِهِمْ ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَيْسَ مَالًا مُتَقَوِّمًا حَتَّى يَأْخُذُوا بِمُقَابَلَةِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ الْقِصَاصِ مَالًا .
وَقِيلَ : مَعْنَاهُ إذَا قَتَلَ الْمَدْيُونُ شَخْصًا لَا يَقْدِرُ الْغُرَمَاءُ عَلَى مَنْعِ وَلِيِّ الْقِصَاصِ مِنْ قَتْلِهِ قِصَاصًا .
وَقِيلَ مَعْنَاهُ إذَا قَتَلَ رَجُلًا مَدْيُونًا وَعَفَا الْمَدْيُونُ قَبْلَ مَوْتِهِ صَحَّ ، وَلَيْسَ لِأَرْبَابِ الدُّيُونِ أَنْ يَمْنَعُوهُ مِنْ الْعَفْوِ .
وَقِيلَ إذَا قَتَلَ شَخْصٌ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ لَا يَضْمَنُ الْقَاتِلُ لِوَلِيِّ الْقِصَاصِ شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ حَقًّا مَالِيًّا وَالْأَقْرَبُ الْمُتَبَادَرُ الْأَوَّلُ .

( وَإِذَا أَسْلَمَتْ أُمُّ وَلَدِ النَّصْرَانِيِّ فَعَلَيْهَا أَنْ تَسْعَى فِي قِيمَتِهَا ) وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ لَا تُعْتَقُ حَتَّى تُؤَدِّيَ السِّعَايَةَ .
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ : تُعْتَقُ فِي الْحَالِ وَالسِّعَايَةُ دَيْنٌ عَلَيْهَا ، وَهَذَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا عُرِضَ عَلَى الْمَوْلَى الْإِسْلَامُ فَأَبَى ، فَإِنْ أَسْلَمَ تَبْقَى عَلَى حَالِهَا .
لَهُ أَنَّ إزَالَةَ الذُّلِّ عَنْهَا بَعْدَمَا أَسْلَمَتْ وَاجِبَةٌ وَذَلِكَ بِالْبَيْعِ أَوْ الْإِعْتَاقِ وَقَدْ تَعَذَّرَ الْبَيْعُ فَتَعَيَّنَ الْإِعْتَاقُ .
وَلَنَا أَنَّ النَّظَرَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فِي جَعْلِهَا مُكَاتَبَةً ؛ لِأَنَّهُ يَنْدَفِعُ الذُّلُّ عَنْهَا بِصَيْرُورَتِهَا حُرَّةً يَدًا وَالضَّرَرُ عَنْ الذِّمِّيِّ لِانْبِعَاثِهَا عَلَى الْكَسْبِ نَيْلًا لِشَرَفِ الْحُرِّيَّةِ فَيَصِلُ الذِّمِّيُّ إلَى بَدَلِ مِلْكِهِ ، أَمَّا لَوْ أُعْتِقَتْ وَهِيَ مُفْلِسَةٌ تَتَوَانَى فِي الْكَسْبِ وَمَالِيَّةُ أُمُّ الْوَلَدِ يَعْتَقِدُهَا الذِّمِّيُّ مُتَقَوِّمَةً فَيُتْرَكُ وَمَا يَعْتَقِدُهُ ، وَلِأَنَّهَا إنْ لَمْ تَكُنْ مُتَقَوِّمَةً فَهِيَ مُحْتَرَمَةٌ ، وَهَذَا يَكْفِي لِوُجُوبِ الضَّمَانِ كَمَا فِي الْقِصَاصِ الْمُشْتَرَكِ إذَا عَفَا أَحَدُ الْأَوْلِيَاءِ يَجِبُ الْمَالُ لِلْبَاقِينَ .

( قَوْلُهُ : وَإِذَا أَسْلَمَتْ أُمُّ وَلَدِ النَّصْرَانِيِّ فَعَلَيْهَا أَنْ تَسْعَى فِي قِيمَتِهَا ) يَعْنِي إذَا أَسْلَمَتْ فَعُرِضَ الْإِسْلَامُ عَلَى مَوْلَاهَا فَأَبَى فَإِنَّهُ يُخْرِجُهَا الْقَاضِي عَنْ وِلَايَتِهِ بِأَنْ يُقَدِّرَ قِيمَتَهَا فَيُنَجِّمَهَا عَلَيْهَا فَتَصِيرُ مُكَاتَبَةً إلَّا أَنَّهَا لَا تُرَدُّ إلَى الرِّقِّ وَلَوْ عَجَزَتْ نَفْسُهَا ؛ لِأَنَّهَا لَوْ رُدَّتْ إلَى الرِّقِّ رُدَّتْ إلَى الْكِتَابَةِ لِقِيَامِ إسْلَامِهَا وَهُوَ الْمُوجِبُ فَلَا فَائِدَةَ فِي إثْبَاتِ حُكْمِ التَّعْجِيزِ ، وَعَلَى هَذَا إذَا أَسْلَمَ مُدَبَّرُ النَّصْرَانِيِّ وَتَسْمِيَةُ مِثْلِ هَذَا دَوْرًا عَلَى التَّشْبِيهِ ، وَإِلَّا فَاللَّازِمُ لَيْسَ إلَّا مَا ذَكَرْنَا مِنْ عَدَمِ الْفَائِدَةِ ، وَهَذَا بِحَسَبِ الظَّاهِرِ أَنَّهَا لَا تُقَدَّرُ إلَّا كَذَلِكَ ، وَإِلَّا لَوْ وَجَدَتْ الْمَالَ فِي الْحَالِ لَمْ يُحْتَجْ إلَى ذَلِكَ .
( وَقَالَ زُفَرُ : تُعْتَقُ لِلْحَالِ ) أَيْ لِحَالِ إبَاءِ مَوْلَاهَا الْإِسْلَامَ ( وَالسِّعَايَةُ دَيْنٌ عَلَيْهَا ) تُطَالَبُ بِهَا وَهِيَ حُرَّةٌ ، فَإِنْ أَسْلَمَ عِنْدَ الْعَرْضِ فَهِيَ عَلَى حَالِهَا بِالِاتِّفَاقِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَسْلَمَ بَعْدَهُ .
وَقَالَ مَالِكٌ وَالظَّاهِرِيَّةُ : تُعْتَقُ مَجَّانًا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ : يُحَالُ بَيْنَهُمَا فَلَا يُمَكَّنُ مِنْ الْخَلْوَةِ بِهَا فَضْلًا عَنْ انْتِفَاعٍ مِنْ الِانْتِفَاعَاتِ وَيُجْبَرُ عَلَى نَفَقَتِهَا إلَى أَنْ يَمُوتَ فَتُعْتَقَ بِمَوْتِهِ أَوْ يُسْلِمَ فَتَحِلَّ لَهُ .
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ النَّظَرَ ، وَدَفْعَ الضَّرَرِ عَنْ الذِّمِّيِّ وَاجِبٌ لِذِمَّتِهِ وَعَنْ الْمُسْلِمِ ؛ لِإِسْلَامِهِ وَذَلِكَ فِي إعْتَاقِهَا بِالْقِيمَةِ لَهُ ، بِخِلَافِ مَجَّانًا كَمَا قَالَ مَالِكٌ ، فَإِنَّهُ إهْدَارُ مَا يَجِبُ لَهُ مِنْ النَّظَرِ إذَا أَمْكَنَ .
وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فَفِيهِ زِيَادَةُ إضْرَارٍ بِهِ مِنْ إيجَابِ النَّفَقَةِ بِلَا انْتِفَاعٍ مَعَ إمْكَانِ دَفْعِهِ عَنْهُ .
قُلْنَا : الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرْت غَيْرَ أَنَّ قَوْلَنَا أَدْفَعُ لِلضَّرَرِ عَنْهُ وَعَنْهَا ، فَإِنَّهُ لَا يَصِلُ إلَى الْبَدَلِ عَقِيبَ عِتْقِهَا ؛ لِأَنَّهَا

تُعْتَقُ مُفْلِسَةً ، وَرُبَّمَا تَتَوَانَى فِي الِاكْتِسَابِ إذَا كَانَ مَقْصُودُ الْعِتْقِ قَدْ حَصَلَ لَهَا قَبْلَهُ فَيَتَضَرَّرُ الذِّمِّيُّ لِذَلِكَ وَتَتَضَرَّرُ هِيَ بِشَغْلِ ذِمَّتِهَا بِحَقِّ ذِمِّيٍّ ، وَرُبَّمَا تَمُوتُ قَبْلَ إيفَائِهَا حَقَّهُ ، وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : خُصُومَةُ الذِّمِّيِّ وَالدَّابَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَشَدُّ مِنْ خُصُومَةِ الْمُسْلِمِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا وَقَفَ عِتْقُهَا عَلَى الْأَدَاءِ فَإِنَّهُ حَامِلٌ عَلَى الْإِيفَاءِ فَكَانَ اعْتِبَارُنَا أَوْلَى إذْ كَانَ أَنْظَرَ لِلْجَانِبَيْنِ .
وَقَوْلُهُ : ( وَمَالِيَّةُ أُمِّ الْوَلَدِ إلَخْ ) جَوَابُ سُؤَالٍ يَرُدُّ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ بِنَفْيِ مَالِيَّةِ أُمِّ الْوَلَدِ هُوَ أَنَّهَا كَيْفَ تَسْعَى .
فِي قِيمَتِهَا وَلَا قِيمَةَ لَهَا لِانْتِفَاءِ الْمَالِيَّةِ عِنْدَك فَقَالَ الذِّمِّيُّ يَعْتَقِدُ تَقَوُّمَهَا ( فَيُتْرَكُ وَمَا يَعْتَقِدُهُ ) أَيْ مَعَ مَا يَعْتَقِدُهُ .
وَلِأَنَّا أُمِرْنَا بِذَلِكَ فَقَدْ أُمِرْنَا بِاعْتِبَارِهَا مُتَقَوِّمَةً فِي حَقِّهِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ قِيمَةَ أُمِّ الْوَلَدِ ثُلُثُ قِيمَتِهَا قِنَّةً مَعَ الْخِلَافِ فِيهِ ، وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مُتَقَوِّمَةً مُطْلَقًا فَهِيَ مُحْتَرَمَةٌ ، وَهَذَا يَكْفِي لِإِيجَابِ الضَّمَانِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَضْمُونُ مَالًا كَمَا فِي الْقِصَاصِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ مُسْتَحِقِّينَ إذَا عَفَا أَحَدُ الْأَوْلِيَاءِ الْمُسْتَحِقِّينَ لَهُ يَجِبُ الْمَالُ لِلْبَاقِينَ ؛ لِأَنَّهُ احْتَبَسَ نَصِيبُهُمْ عِنْدَ الْقَاتِلِ بِعَفْوِ مَنْ عَفَا ، وَلَيْسَ نَصِيبُهُمْ حَقًّا مَالِيًّا بَلْ حَقٌّ مُحْتَرَمٌ فَيَلْزَمُهُ بَدَلُهُ بِمَنْزِلَةِ إزَالَةِ مِلْكِهِ بِلَا بَدَلٍ فَيَتَضَرَّرُ الذِّمِّيُّ إلَّا أَنَّ هَذَا لَوْ تَمَّ اسْتَلْزَمَ التَّضْمِينَ بِغَصْبِ الْمَنَافِعِ وَغَصْبِ أُمِّ الْوَلَدِ حَيْثُ اُعْتُبِرَ لِلضَّمَانِ مُجَرَّدُ الِاحْتِرَامِ .
وَوُجِّهَ أَيْضًا بِأَنَّ بَدَلَ الْكِتَابَةِ بِمُقَابَلَةِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ وَهُوَ فَكُّ الْحَجْرِ فَلَمْ تَدُلَّ السِّعَايَةُ عَلَى تَقَوُّمِ أُمِّ الْوَلَدِ ، وَأَنْتَ سَمِعْت فِي الْعِتْقِ عَلَى جُعْلٍ وَجْهَ كَوْنِ ذَلِكَ

الْمَالِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بَدَلَ مَا هُوَ مَالٌ فَارْجِعْ إلَيْهِ ، وَأَنَّ كَوْنَهُ بَدَلَ مَا لَيْسَ بِمَالٍ قَوْلُ مُحَمَّدٍ .

( وَلَوْ مَاتَ مَوْلَاهَا عَتَقَتْ بِلَا سِعَايَةٍ ) ؛ لِأَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ لَهُ ، وَلَوْ عَجَزَتْ فِي حَيَاتِهِ لَا تُرَدُّ قِنَّةً ؛ لِأَنَّهَا لَوْ رُدَّتْ قِنَّةً أُعِيدَتْ مُكَاتَبَةً لِقِيَامِ الْمُوجِبِ
( قَوْلُهُ : وَإِذَا مَاتَ مَوْلَاهَا النَّصْرَانِيُّ عَتَقَتْ ) وَسَقَطَتْ عَنْهَا السِّعَايَةُ .
( لِأَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ لَهُ )

( وَمَنْ اسْتَوْلَدَ أَمَةَ غَيْرِهِ بِنِكَاحٍ ثُمَّ مَلَكَهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ، وَلَوْ اسْتَوْلَدَهَا بِمِلْكِ يَمِينٍ ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ ثُمَّ مَلَكَهَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ عِنْدَنَا ، وَلَهُ فِيهِ قَوْلَانِ وَهُوَ وَلَدُ الْمَغْرُورِ .
لَهُ أَنَّهَا عَلِقَتْ بِرَقِيقٍ فَلَا تَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ كَمَا إذَا عَلِقْت مِنْ الزِّنَا ثُمَّ مَلَكَهَا الزَّانِي ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ أُمُومِيَّةَ الْوَلَدِ بِاعْتِبَارِ عُلُوقِ الْوَلَدِ حُرًّا ؛ لِأَنَّهُ جُزْءُ الْأُمِّ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ وَالْجُزْءُ لَا يُخَالِفُ الْكُلَّ .
وَلَنَا أَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْجُزْئِيَّةُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ ، وَالْجُزْئِيَّةُ إنَّمَا تَثْبُتُ بَيْنَهُمَا بِنِسْبَةِ الْوَلَدِ الْوَاحِدِ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمُلَا وَقَدْ ثَبَتَ النَّسَبُ فَتَثْبُتُ الْجُزْئِيَّةُ بِهَذِهِ الْوَاسِطَةِ ، بِخِلَافِ الزِّنَا ؛ لِأَنَّهُ لَا نَسَبَ فِيهِ لِلْوَلَدِ إلَى الزَّانِي ، وَإِنَّمَا يُعْتَقُ عَلَى الزَّانِي إذَا مَلَكَهُ ؛ لِأَنَّهُ جُزْؤُهُ حَقِيقَةً بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ .
نَظِيرُهُ مَنْ اشْتَرَى أَخَاهُ مِنْ الزِّنَا لَا يُعْتَقُ ؛ لِأَنَّهُ يُنْسَبُ إلَيْهِ بِوَاسِطَةِ نِسْبَتِهِ إلَى الْوَالِدِ وَهِيَ غَيْرُ ثَابِتَةٍ .

( قَوْلُهُ : وَمَنْ اسْتَوْلَدَ أَمَةَ غَيْرِهِ بِنِكَاحٍ ) يَعْنِي تَزَوَّجَ أَمَةً لِغَيْرِهِ فَوَلَدَتْ لَهُ ( ثُمَّ مَلَكَهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ ) بِذَلِكَ الْوَلَدِ الَّذِي وَلَدَتْهُ بِعَقْدِ النِّكَاحِ وَلَوْ كَانَ نِكَاحًا فَاسِدًا وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ .
( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ) وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ لَوْ جَاءَتْ بِهِ مِنْ وَطْءٍ بِشُبْهَةٍ فَمَلَكَهَا ، ثُمَّ عِنْدَنَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ مِنْ وَقْتِ مِلْكِهَا لَا مِنْ وَقْتِ الْعُلُوقِ ، وَعِنْدَ زُفَرَ مِنْ وَقْتِ ثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ أُمُومِيَّةَ الْوَلَدِ عِنْدَ الْمِلْكِ بِالْعُلُوقِ السَّابِقِ فَبَعْدَ ذَلِكَ الْعُلُوقِ كُلُّ مَنْ وُلِدَ لَهَا ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ ، وَنَحْنُ نَقُولُ : إنَّمَا ثَبَتَ فِيهَا وَصْفُ الْأُمِّيَّةِ بَعْدَ الْمِلْكِ ، وَإِنْ كَانَ بِأَمْرٍ مُتَقَدِّمٍ فَقَبْلَهُ الْوَلَدُ مُنْفَصِلٌ وَلَا سِرَايَةَ فِي الْمُنْفَصِلِ قَبْلَ الْأُمُومَةِ .
وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ لَوْ مَلَكَ وَلَدًا لَهَا مِنْ غَيْرِهِ قَبْلَ أَنْ يَمْلِكَهَا لَهُ بَيْعُهُ عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ ابْنَ أُمِّ وَلَدٍ لَهُ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ مَلَكَ وَلَدَهُ مِنْهَا قَبْلَ مِلْكِهَا فَإِنَّهُ يُعْتَقُ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا .
وَفِي الْمَبْسُوطِ : لَوْ طَلَّقَهَا فَتَزَوَّجَتْ بِآخَرَ فَوَلَدَتْ مِنْهُ ثُمَّ اشْتَرَى الْكُلَّ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَعَتَقَ وَلَدُهُ ، وَوَلَدُهَا مِنْ غَيْرِهِ يَجُوزُ بَيْعُهُ خِلَافًا لَزُفَرَ ، بِخِلَافِ الْحَادِثِ فِي مِلْكِهِ مِنْ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ فِي حُكْمِ أُمِّهِ ، وَلَوْ اسْتَوْلَدَهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ أَوْ بِنِكَاحٍ عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ فَظَهَرَتْ أَمَةً تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ عِنْدَنَا .
وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ : فِي قَوْلٍ تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ، وَفِي آخَرَ لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ( وَهُوَ وَلَدُ الْمَغْرُورِ ) وَهُوَ حُرٌّ بِالْقِيمَةِ يَوْمَ الْخُصُومَةِ ( قَوْلُهُ : لَهُ ) أَيْ لِلشَّافِعِيِّ ( أَنَّهَا عَلِقَتْ بِرَقِيقٍ فَلَا تَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ كَمَا إذَا عَلِقَتْ مِنْ

الزِّنَا ثُمَّ مَلَكَهُ الزَّانِي ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ أُمُومَةَ الْوَلَدِ بِاعْتِبَارِ عُلُوقِ الْوَلَدِ حُرًّا ) ، وَإِنَّمَا قُلْنَا : إنَّ الْأُمُومَةَ بِاعْتِبَارِ عُلُوقِ الْوَلَدِ حُرًّا ( ؛ لِأَنَّهُ جُزْءُ الْأُمِّ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ وَالْجُزْءُ لَا يُخَالِفُ الْكُلَّ ) وَهُوَ حُرٌّ ، فَلَا بُدَّ أَنْ تَسْتَحِقَّ هِيَ الْحُرِّيَّةَ .
وَاعْتَرَضَ مَنْ قَصُرَ نَظَرُهُ عَلَى خُصُوصِ الْمَذْكُورِ بِأَنَّ الرِّقَّ فِي أُمِّ الْوَلَدِ مُسْتَمِرٌّ إلَى مَوْتِ سَيِّدِهَا ، وَالْوَلَدُ عَلِقَ حُرًّا فَقَدْ خَالَفَ الْجُزْءُ الْكُلَّ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مُنْفَصِلٌ وَلَيْسَ كَالْمُتَّصِلِ ، وَتَمَامُ تَقْرِيرِ الْمَذْكُورِ يَدْفَعُ هَذَا الِاعْتِرَاضَ ، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ الْمُصَنِّفُ اقْتِصَارًا لِلْعِلْمِ بِبَقِيَّةِ التَّقْرِيرِ .
وَحَاصِلُ الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ أَنَّ جُزْأَهَا حُرٌّ وَمُقْتَضَاهُ حُرِّيَّتُهَا ، إذْ لَا يُخَالِفُ الْجُزْءُ الْكُلَّ ، إلَّا أَنَّ الِاتِّصَالَ بِعَرْضِيَّةِ الِانْفِصَالِ ، وَالْوَلَدُ وَإِنْ كَانَ جُزْءًا حَالَةَ الِاتِّصَالِ لَكِنَّهُ جُعِلَ كَشَخْصٍ عَلَى حِدَةٍ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ حَتَّى جَازَ إعْتَاقُهُ دُونَهَا فَثَبَتَ بِهِ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ عَمَّلَا بِشَبَهَيْ الْجُزْئِيَّةِ وَعَدَمِهَا ؛ لِمَا بَقِيَ مِنْهَا فِي الْحَالِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ إذَا عَلِقَتْ بِرَقِيقٍ ، وَتَأَيَّدَ هَذَا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَيُّمَا أَمَةٍ وَلَدَتْ مِنْ سَيِّدِهَا فَهِيَ حُرَّةٌ بَعْدَ مَوْتِهِ } وَتَقَدَّمَ الْحَدِيثُ فَشَرَطَ فِي ثُبُوتِ حَقِّ الْعِتْقِ أَنْ تَلِدَ مِنْ سَيِّدِهَا ، وَهَذِهِ وَلَدَتْ مِنْ زَوْجِهَا .
( وَلَنَا أَنَّ سَبَبَ الْأُمُومَةِ ) فِي مَحَلِّ الْإِجْمَاعِ وَهُوَ الْأَصْلُ ( هُوَ الْجُزْئِيَّةُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ ) يَعْنِي عِنْدَ قَوْلِهِ أَوَّلَ الْبَابِ ؛ وَلِأَنَّ الْجُزْئِيَّةَ قَدْ حَصَلَتْ بَيْنَ الْوَاطِئِ وَالْمَوْطُوءَةِ بِسَبَبِ الْوَلَدِ ( وَالْجُزْئِيَّةُ إنَّمَا ثَبَتَتْ بَيْنَهُمَا بِنِسْبَةِ الْوَلَدِ إلَى كُلٍّ مِنْهُمَا كَمُلَا ) فَتَثْبُتُ الْجُزْئِيَّةُ بِنَاءً عَلَى ثُبُوتِ النَّسَبِ ، فَثُبُوتُ اسْتِحْقَاقِ الْحُرِّيَّةِ

بِنَاءً عَلَى ثُبُوتِ الْجُزْئِيَّةِ الثَّابِتِ بِنَاءً عَلَى ثُبُوتِ النَّسَبِ وَهُوَ ثَابِتٌ فِي الزَّوْجِ فَتَثْبُتُ الْأُمُومَةُ ( بِخِلَافِ الزِّنَا فَإِنَّهُ لَا نَسَبَ يَثْبُتُ لِلْوَلَدِ مِنْ الزَّانِي ) فَلَا تَصِيرَ الْأَمَةُ الَّتِي جَاءَتْ بِوَلَدٍ مِنْ الزِّنَا إذَا مَلَكَهَا الزَّانِي أُمَّ وَلَدٍ لَهُ اسْتِحْسَانًا ، خِلَافًا لَزُفَرَ حَيْثُ قَالَ تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَهُوَ الْقِيَاسُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُعْتَقَ الْوَلَدُ إذَا مَلَكَهُ أَبُوهُ مِنْ الزِّنَا إذَا كَانَ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَإِنَّمَا يُعْتَقُ عَلَى الزَّانِي إذَا مَلَكَهُ ؛ لِأَنَّهُ جُزْؤُهُ حَقِيقَةً بِغَيْرِ وَاسِطَةِ نَظِيرِهِ ) أَيْ نَظِيرِ أُمِّ الْوَلَدِ مِنْ الزِّنَا حَيْثُ لَا تُعْتَقُ عَلَيْهِ ؛ لِعَدَمِ انْتِسَابِهِ إلَى أَبِيهِ ( مَنْ اشْتَرَى أَخَاهُ مِنْ الزِّنَا لَا يُعْتَقُ ) عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنْسَبُ إلَيْهِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ بَلْ ( بِوَاسِطَةِ نِسْبَتِهِ إلَى الْوَالِدِ ) وَهِيَ غَيْرُ ثَابِتَةٍ حَتَّى لَوْ كَانَتْ ثَابِتَةً عَتَقَ كَمَا إذَا كَانَ أَخَاهُ لِأُمِّهِ فَصَارَ الْحَاصِلُ أَنَّ الْأُمُومَةَ تَتْبَعُ ثُبُوتَ النَّسَبِ عِنْدَ الْمِلْكِ .
وَالْعِتْقُ الْمُنَجَّزُ يَتْبَعُ حَقِيقَةَ الْجُزْئِيَّةِ عِنْدَ الْمِلْكِ أَوْ ثُبُوتِ الِانْتِسَابِ إلَيْهِ بِوَاسِطَةٍ ثَابِتَةٍ ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَيُّمَا أَمَةٍ " الْحَدِيثَ ، لَيْسَ فِيهِ قَصْرُ الْأُمُومَةِ عَلَى السَّيِّدِ بَلْ إنَّهَا تَثْبُتُ مِنْهُ غَيْرَ مُتَعَرَّضٍ لِنَفْيِهَا عَنْ غَيْرِهِ ، فَإِذَا صَحَّ تَعْلِيلُهُ بِثُبُوتِ نَسَبِ مَا تَأْتِي بِهِ مِنْهُ ثَبَتَتْ مِنْ غَيْرِهِ إذَا ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ ، وَقَدْ صَحَّ مِنْ الزَّوْجِ فَتَثْبُتُ بِالْوِلَادَةِ مِنْهُ وَهَذَا ؛ لِأَنَّا نَنْفِي الْمَفْهُومَ الْمُخَالِفَ ، وَهُمْ وَإِنْ أَثْبَتُوهُ قَدَّمُوا عَلَيْهِ الْقِيَاسَ ، فَإِذَا صَحَّ قِيَاسُ الزَّوْجِ عَلَى السَّيِّدِ فِي ثُبُوتِ الْأُمُومَةِ لَزِمَ عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ إلَّا أَنَّهُ يُشْكِلُ عَلَى تَعْلِيلِنَا مَا إذَا ادَّعَى نَسَبَ وَلَدَ أَمَتِهِ الَّتِي زَوَّجَهَا مِنْ عَبْدِهِ ، فَإِنَّهُ

نَسَبُهُ إنَّمَا يَثْبُتُ مِنْ الْعَبْدِ لَا مِنْ السَّيِّدِ وَتَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ .
وَجَوَابُهُ أَنَّ ثُبُوتَ الْأُمُومَةِ ؛ لِإِقْرَارِهِ بِثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْهُ ، وَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْهُ الشَّرْعُ فَكَانَ دَائِرًا مَعَ ثُبُوتِ النَّسَبِ شَرْعًا أَوْ اعْتِرَافًا .
وَمِمَّا تَنْتَفِي فِيهِ الْأُمُومَةُ مَا ذُكِرَ فِي الْإِيضَاحِ : أَمَةٌ جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ أَجْنَبِيٌّ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ صَدَّقَهُ الْمَوْلَى أَوْ كَذَّبَهُ ، فَإِنْ مَلَكَهُ الْمُدَّعَى عَتَقَ وَلَا تَصِيرُ أُمُّهُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ

( وَإِذَا وَطِئَ جَارِيَةَ ابْنِهِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ وَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا وَلَيْسَ عَلَيْهِ عُقْرُهَا وَلَا قِيمَةُ وَلَدِهَا ) وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ بِدَلَائِلِهَا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ ، وَإِنَّمَا لَا يَضْمَنُ قِيمَتَهُ الْوَلَدُ ؛ لِأَنَّهُ انْعَلَقَ حُرَّ الْأَصْلِ لِاسْتِنَادِ الْمِلْكِ إلَى مَا قَبْلَ الِاسْتِيلَادِ .

( قَوْلُهُ : وَإِذَا وَطِئَ جَارِيَةَ ابْنِهِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ وَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لِلْأَبِ ) سَوَاءً كَانَ الِابْنُ وَطِئَهَا أَوْ لَا ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْوَطْءِ لَا تَمْنَعُ ثُبُوتَ النَّسَبِ كَوَطْءِ الْحَائِضِ ( وَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا ) ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا قُبَيْلَ الْوَطْءِ بِالْقِيمَةِ ؛ لِيَقَعَ الْوَطْءُ فِي مِلْكِهِ ( وَلَيْسَ عَلَيْهِ عُقْرُهَا ) لِسَبْقِ مِلْكِهِ الْوَطْءَ ( وَلَا قِيمَةَ وَلَدِهَا ) ؛ لِأَنَّهُ انْعَلَقَ حُرًّا ؛ لِتَقَدُّمِ الْمِلْكِ عَلَى الْأُمِّ ( وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ بِدَلَائِلِهَا ) فِي بَابِ نِكَاحِ الرَّقِيقِ مِنْ ( كِتَابِ النِّكَاحِ ) وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ وَيَضْمَنُ قِيمَتَهَا وَمَهْرَهَا وَهُوَ بِنَاءً عَلَى إثْبَاتِهِ الْمِلْكَ حُكْمًا لِلْوَطْءِ ، إذْ لَوْ أَثْبَتَهُ سَابِقًا عَلَيْهِ لَمْ يَتَّجِهْ لَهُ إيجَابُ الْمَهْرِ .
وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ وَيَلْزَمُهُ الْمَهْرُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهَا وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَعَلَى هَذَا تَسْتَمِرُّ عَلَى مِلْكِ الِابْنِ .
وَمَذْهَبُ مَالِكٌ أَنَّهُ يَمْلِكُهَا بِالْقِيمَةِ بِمُجَرَّدِ الْوَطْءِ حَمَلَتْ أَوْ لَا ، وَإِذَا كَانَ تَمَلُّكُهَا لَازِمًا عُرِفَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ دَعْوَةُ وَلَدِ مُدَبَّرَةِ ابْنِهِ وَلَا أُمَّ وَلَدِهِ إذْ لَا يَقْبَلَانِ انْتِقَالَ الْمِلْكِ فِيهِمَا ، فَإِنْ كَانَ فِي لَفْظِ الْجَارِيَةِ عُرْفٌ يُخْرِجُهُمَا فَقَدْ أَخْرَجَهُمَا بِاللَّفْظِ ، وَإِلَّا فَبِالْحُكْمِ الْمَذْكُورِ فِي الْمَسْأَلَةِ ، وَشَرْطُ صِحَّةِ هَذَا الِاسْتِيلَادِ أَنْ تَكُونَ الْجَارِيَةُ فِي مِلْكِ الِابْنِ مِنْ وَقْتِ الْعُلُوقِ إلَى وَقْتِ الدَّعْوَةِ ، وَأَنْ يَكُونَ الْأَبُ صَاحِبَ وِلَايَةٍ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ إلَى الدَّعْوَةِ أَيْضًا ، فَلَوْ بَاعَ الِابْنُ الْجَارِيَةَ ثُمَّ عَادَتْ إلَيْهِ بِشِرَاءٍ أَوْ رَدٍّ وَوَلَدَتْ لِأَقَلِّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ بَاعَهَا فَادَّعَاهُ الْأَبُ لَمْ تَصِحَّ دَعْوَتُهُ إلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ الِابْنُ كَمَا إذَا ادَّعَى الْأَجْنَبِيُّ ذَلِكَ وَصَدَّقَهُ ، وَكَذَا دَعْوَةُ الْجَدِّ لَوْ كَانَ مَكَانَ

الْأَبِ ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الْأَبُ كَافِلًا ثُمَّ أَسْلَمَ أَوْ عَبْدًا فَعَتَقَ أَوْ مَجْنُونًا فَأَفَاقَ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلِّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ الْإِسْلَامِ وَالْعِتْقِ وَالْإِفَاقَةِ إلَى الدَّعْوَةِ فَادَّعَاهُ لَا تَصِحُّ ؛ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ إلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ ، أَمَّا الْمَعْتُوهُ لَوْ ادَّعَاهُ بَعْدَ إفَاقَتِهِ وَقَدْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلِّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ إفَاقَتِهِ فَفِي الْقِيَاسِ لَا تَصِحُّ ؛ لِعَدَمِ وِلَايَتِهِ عِنْدَ الْعُلُوقِ .
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ تَصِحُّ ؛ لِأَنَّ الْعَتَهَ لَا يُبْطِلُ الْحَقَّ وَالْوِلَايَةَ بَلْ يَعْجِزُ عَنْ الْعَمَلِ ، وَلَوْ كَانَ الْأَبُ الْمُدَّعِي مُرْتَدًّا فَهِيَ مَوْقُوفَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ صَحَّتْ ، وَإِلَّا لَا .
وَعِنْدَهُمَا صَحِيحَةٌ وَهِيَ فَرْعُ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُهَا بِالْقِيمَةِ فَكَانَ كَالْبَيْعِ ، وَهُوَ مَوْقُوفٌ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَتَوَقَّفَ عِنْدَهُمَا أَيْضًا ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْمُرْتَدِّ فِي مَالِ وَلَدِهِ مَوْقُوفٌ عِنْدَ هُمَا أَيْضًا ، لَكِنَّهَا تَضَمَّنَتْ التَّصَرُّفَ فِي مَالِ نَفْسِهِ ، وَفِيهِ لَا يَتَوَقَّفُ لَا سِيَّمَا فِي النَّسَبِ ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَاطُ فِي إثْبَاتِهِ فَيَنْفُذُ .

( وَإِنْ وَطِئَ أَبُو الْأَبِ مَعَ بَقَاءِ الْأَبِ لَمْ يَثْبُتُ النَّسَبُ ) ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلْجَدِّ حَالَ قِيَامِ الْأَبِ ( وَلَوْ كَانَ الْأَبُ مَيِّتًا ثَبَتَ مِنْ الْجَدِّ كَمَا يَثْبُتُ مِنْ الْأَبِ ) ؛ لِظُهُورِ وِلَايَتِهِ عِنْدَ فَقْدِ الْأَبِ ، وَكُفْرُ الْأَبِ وَرِقُهُ بِمَنْزِلَةِ مَوْتِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَاطِعٌ لِلْوِلَايَةِ
( قَوْلُهُ : وَإِنْ وَطِئَ أَبُو الْأَبِ مَعَ بَقَاءِ الْأَبِ مُسْلِمًا حُرًّا عَاقِلًا لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ مِنْهُ ) ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الصِّحَّةِ قِيَامُ الْوِلَايَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَلَا وِلَايَةَ لِلْجَدِّ مَعَ وُجُودِ الْأَبِ مُتَّصِفًا بِمَا قُلْنَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْأَبُ مَيِّتًا أَوْ حَيًّا كَافِرًا أَوْ عَبْدًا أَوْ مَجْنُونًا فَإِنَّ الْجَدَّ حِينَئِذٍ يَصِحُّ اسْتِيلَادُهُ جَارِيَةَ ابْنِ ابْنِهِ لِقِيَامِ وِلَايَتِهِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ ، وَلَوْ كَانَ الْأَبُ مُرْتَدًّا لَمْ تَصِحَّ دَعْوَةُ الْجَدِّ عِنْدَ هُمَا ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدَّةِ نَافِذَةٌ عِنْدَهُمَا فَمَنَعَتْ تَصَرُّفَ الْجَدِّ .
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مَوْقُوفَةٌ ، فَإِنْ أَسْلَمَ الْأَبُ لَمْ تَصِحَّ دَعْوَةُ الْجَدِّ ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ لُحِقَ وَقَضَى بِلَحَاقِهِ صَحَّتْ ، وَلَوْ بَاعَ ابْنُ الِابْنِ الْجَارِيَةَ حَامِلًا ثُمَّ اسْتَرَدَّهَا فَوَلَدَتْ لِأَقَلِّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ بَاعَهَا لَمْ تَصِحَّ دَعْوَةُ الْجَدِّ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْأَبِ .

( وَإِذَا كَانَتْ الْجَارِيَةُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا ثَبَتَ نَسُبُّهُ مِنْهُ ) ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ النَّسَبُ فِي نِصْفِهِ لِمُصَادَفَتِهِ مِلْكَهُ ثَبَتَ فِي الْبَاقِي ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ ؛ لِمَا أَنَّ سَبَبَهُ لَا يَتَجَزَّأُ وَهُوَ الْعُلُوقُ إذْ الْوَلَدُ الْوَاحِدُ لَا يَنْعَلِقُ مِنْ مَاءَيْنِ .
( وَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ) ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ لَا يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُمَا ( وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَصِيرُ نَصِيبُهُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ثُمَّ يَتَمَلَّكُ نَصِيبَ صَاحِبَهُ إذْ هُوَ قَابِلٌ لِلْمِلْكِ وَيَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهَا ) ؛ لِأَنَّهُ تَمَلَّكَ نَصِيبَ صَاحِبِهِ لَمَّا اسْتَكْمَلَ الِاسْتِيلَادَ وَيَضْمَنُ نِصْفَ عُقْرِهَا ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ جَارِيَةً مُشْتَرَكَةً ، إذْ الْمِلْكُ يَثْبُتُ حُكْمًا لِلِاسْتِيلَادِ فَيَتَعَقَّبُهُ الْمِلْكُ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ بِخِلَافِ الْأَبِ إذَا اسْتَوْلَدَ جَارِيَةَ ابْنِهِ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ هُنَالِكَ يَثْبُتُ شَرْطًا لِلِاسْتِيلَادِ فَيَتَقَدَّمُهُ فَصَارَ وَاطِئًا مِلْكَ نَفْسِهِ ( وَلَا يَغْرَمُ قِيمَةَ وَلَدِهَا ) ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ شَيْءٌ مِنْهُ عَلَى مِلْكِ الشَّرِيكِ .

قَوْلُهُ : وَإِذَا كَانَتْ الْجَارِيَةُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ ) سَوَاءً كَانَ فِي الْمَرَضِ أَوْ فِي الصِّحَّةِ ، وَكَذَا إذَا ادَّعَى أَحَدُهُمَا ، وَأَعْتَقَ الْآخَرَ مَعًا فَالدَّعْوَةُ أَوْلَى لِتَضَمُّنِهَا ثُبُوتَ نَسَبِ الْوَلَدِ دُونَ إعْتَاقِ الْآخَرِ وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُدَّعِي مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ النَّسَبُ فِي نِصْفِهِ الْمَمْلُوكِ لَهُ مِنْ الْجَارِيَةِ ثَبَتَ فِي الْبَاقِي ، وَلَفْظُ " فِي " يُحْمَلُ عَلَى مَعْنَى " مِنْ " الَّتِي لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ : أَيْ ثَبَتَ مِنْ نِصْفِ الْأَمَةِ الْمَمْلُوكِ لَهُ وَلَا يَكُونُ لِلتَّعْلِيلِ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { دَخَلَتْ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ } أَيْ لَمَّا ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ بِسَبَبِ نِصْفِهِ الْمَمْلُوكِ لَهُ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ ثَبَتَ فِي الْبَاقِي يَنْبُو عَنْهُ .
وَحَاصِلُ الْمَعْنَى أَنَّهُ ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْ نِصْفِ الْأُمِّ فَيَثْبُتُ مِنْ كُلِّهَا ؛ لِأَنَّهُ أَيْ النَّسَبُ لَا يَتَجَزَّأُ ثُبُوتُهُ مِنْ امْرَأَةٍ ، فَثُبُوتُهُ مِنْ بَعْضِهَا هُوَ عَيْنُ ثُبُوتِهِ مِنْ كُلِّهَا .
وَلَا يُقَالُ : سَيَأْتِي أَنَّهُ يَثْبُتُ مِنْ رَجُلَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إلَى امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ .
لِأَنَّا نَقُولُ : لَيْسَ فِي ذَلِكَ تَجْزِئَةٌ مِنْ امْرَأَةٍ ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ ثَبَتَ مِنْ كُلِّهَا لِكُلٍّ مِنْهُمَا لَا مِنْ بَعْضِهَا لِوَاحِدٍ وَمِنْ الْبَعْضِ الْآخَرِ لِلْآخَرِ ، وَإِنَّمَا لَا يَتَجَزَّأُ ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ وَهُوَ الْعُلُوقُ لَا يَتَجَزَّأُ فِي امْرَأَةٍ ، بِأَنْ عَلِقَ الْوَلَدُ مِنْ مَاءِ رَجُلَيْنِ عَلَى قَوْلِنَا ؛ لِأَنَّهَا إذَا عَلِقَتْ مِنْ الْأَوَّلِ انْسَدَّ فَمُ الرَّحِمِ فَلَا تَعْلَقُ مِنْ الْآخَرَ ، وَعَلَى قَوْلِ غَيْرِنَا لَا يَمْتَنِعُ ، بَلْ وَاقِعٌ عَلَى قَوْلِ بَعْضِ مُثْبِتِي الْقِيَافَةَ عَلَى مَا سَيَأْتِي .
فَعَدَمُ التَّجَزِّي أَنْ لَا يَعْلَقَ الْوَلَدُ بِنِصْفِهَا ( قَوْلُهُ : وَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ) اتِّفَاقًا أَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ لَا يَتَجَزَّأُ كَمَا لَا يَتَجَزَّأُ ثُبُوتُ النَّسَبِ فَلَا يَصِيرُ نِصْفُهَا

أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ثُمَّ يَتَمَلَّكُ نَصِيبَ شَرِيكِهِ بَلْ تَصِيرُ كُلُّهَا أُمَّ وَلَدٍ ، وَعِنْدَهُ يَصِيرُ نِصْفُهَا أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ثُمَّ يَتَمَلَّكُ الْآخَرَ ؛ لِأَنَّهُ قَابِلٌ لِلنَّقْلِ ، وَلَا يَمْتَنِعُ تَجَزِّي الْأُمُومَةِ كَمَا امْتَنَعَ تَجَزِّي ثُبُوتِ النَّسَبِ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى كَوْنِهَا أُمَّ وَلَدٍ هُوَ ثُبُوتُ اسْتِحْقَاقِهَا الْعِتْقَ بِالْمَوْتِ ، وَالْعِتْقُ يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ بِمَعْنَى زَوَالِ الْمِلْكِ فَجَازَتْ أُمُومَةُ نِصْفِهَا بِمَعْنَى أَنَّهُ يُعْتَقُ نِصْفُهَا بِالْمَوْتِ ثُمَّ يَثْبُتُ حُكْمُ عِتْقِ الْبَعْضِ مِنْ الِاسْتِسْعَاءِ فِي الْبَاقِي أَوْ إعْتَاقِهِ إلَى آخِرِ مَا عُرِفَ ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ النَّصُّ الْمُفِيدُ لِتَجَزِّي الْعِتْقِ أَوْجَبَ أَنْ لَا يُقَرَّ بَعْضُهُ عَتِيقًا وَبَعْضُهُ رَقِيقًا وَالْأُمُومَةُ شُعْبَةٌ مِنْ الْعِتْقِ وَجَبَ فِيهَا إذَا صَارَ بَعْضُهَا أُمَّ وَلَدٍ بِمَعْنَى اسْتَحَقَّ بَعْضُهَا الْعِتْقَ أَنْ يَسْتَحِقَّهُ كُلُّهَا وَلَا يَبْقَى بَعْضُهَا رَقِيقًا وَبَعْضُهَا مُسْتَحِقًّا لِلْعِتْقِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَقِرَّ تَجَزِّيهَا فِي حَقِّ الْأُمُومَةِ ، بَلْ التَّجَزِّي فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ يُتَمِّمَ الْكُلَّ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ .
ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ تَعْلِيلَ تَمَلُّكِ نَصِيبِ شَرِيكِهِ بِأَنَّهُ قَابِلٌ لِلتَّمَلُّكِ تَعْلِيلٌ بِعَدَمِ الْمَانِعِ ، وَهُوَ لَا يَصْلُحُ لِلتَّعْلِيلِ .
يُقَالُ سَافَرَ لِلتِّجَارَةِ وَالْعِلْمِ ، وَلَوْ قِيلَ لَا مِنْ الطَّرِيقِ عُدَّ جُنُونًا ، وَكَوْنُهُ أَفْسَدَ نَصِيبَ شَرِيكِهِ بِالِاسْتِيلَادِ لَا يَسْتَلْزِمُ تَعَيُّنَ الضَّمَانِ عَلَى مَعْنًى لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ مِنْ الشَّرِيكِ ، بَلْ الثَّابِتُ بِهِ جَوَازِ أَنْ يَضْمَنَهُ ، وَلِلْإِنْسَانِ تَرْكُ حَقِّهِ ، وَهَا هُنَا لَوْ رَضِيَ الشَّرِيكُ بِتَرْكِ تَضْمِينِهِ وَيَصِيرُ نِصْفُهَا مِلْكًا لَهُ وَنِصْفُهَا أُمَّ وَلَدٍ لِلْآخَرِ ، فَلَوْ مَاتَ الْمُسْتَوْلِدُ يُعْتَقُ نِصْفُهَا ، وَيُرَقُّ نِصْفُهَا الْآخَرُ أَوْ تَسْعَى لَهُ إذَا ذَاكَ لَا يَجُوزُ ، فَلَيْسَ الْمُوجِبُ لِلنَّقْلِ إلَّا مَا قُلْنَا مِنْ

النَّصِّ الدَّالِّ عَلَى أَنَّهُ إذَا عَتَقَ الْبَعْضُ لَا يَبْقَى الْبَعْضُ رَقِيقًا وَأُلْحِقَ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ بِحَقِيقَتِهَا وَتُعْتَبَرُ قِيمَةُ نِصْفِهَا يَوْمَ وَطْئِهَا الَّذِي عَلِقَتْ مِنْهُ ، وَكَذَا نِصْفُ الْعُقْرِ .
وَإِنَّمَا وَجَبَ نِصْفُ عُقْرِهَا عَلَى الْمُسْتَوْلِدِ ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ جَارِيَةً مُشْتَرَكَةً ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي نِصْفِ شَرِيكِهِ يَثْبُتُ حُكْمًا لِلِاسْتِيلَادِ فَيَتَعَقَّبُهُ ، وَهُوَ ، وَإِنْ كَانَ مُقَارِنًا لِلْعُلُوقِ لِاسْتِنَادِهِ إلَيْهِ فَهُوَ مَسْبُوقٌ بِالْوَطْءِ ، وَبِابْتِدَائِهِ يَثْبُتُ الْمَهْرُ فَلَا يَسْقُطُ بِالْإِنْزَالِ فَلَزِمَ سَبْقُ وُجُوبِ الْمَهْرِ الِاسْتِيلَادَ بِالضَّرُورَةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَيَسْقُطُ مَا أَصَابَ حِصَّتَهُ وَيَضْمَنُ حِصَّةَ شَرِيكِهِ ، وَمَا قِيلَ الْأَصَحُّ أَنَّ حُكْمَ الْعِلَّةِ يُقَارِنُهَا فِي الْخَارِجِ لَمْ يَخْتَرْهُ الْمُصَنِّفُ ، وَقَدْ مَلَأَ الْكِتَابَ مِنْ ذَلِكَ ، وَأَوَّلُهُ مِنْ بَابِ مَنْ يَجُوزُ دَفْعُ الصَّدَقَةِ إلَيْهِ فِي خِلَافِيَّةِ زُفَرَ فِيمَا إذَا دَفَعَ النِّصَابَ إلَى الْفَقِيرِ مَنَعَهُ زُفَرُ ؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ قَارَنَ الْغِنَى ، فَأَجَابَ بِأَنَّهُ حُكْمُ الدَّفْعِ فَيَتَعَقَّبُهُ فَحَصَلَ الدَّفْعُ إلَى الْفَقِيرِ ، ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يُكَرِّرُهُ فِي كُلِّ مَا هُوَ مِثْلُهُ ، ثُمَّ ضَمَانُ قِيمَةِ نِصْفِ الشَّرِيكِ لَازِمٌ فِي يَسَارِهِ ، وَإِعْسَارِهِ ؛ لِأَنَّهُ ضَمَانُ تَمَلُّكٍ كَالْبَيْعِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ : إنْ كَانَ الْمُدَّعِي مُعْسِرًا سَعَتْ أُمُّ الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الِاسْتِيلَادِ حَصَلَتْ لَهَا ، وَإِنَّمَا لَا يَضْمَنُ الْأَبُ إذَا اسْتَوْلَدَ جَارِيَةَ ابْنِهِ الْعُقْرَ ؛ لِأَنَّ مِلْكَهَا يَثْبُتُ شَرْطًا لِلِاسْتِيلَادِ ؛ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ يَكْفِي لِصِحَّةِ الِاسْتِيلَادِ فَيَتَقَدَّمُ لِيَقَعَ الْوَطْءُ فِي مِلْكِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : الْمِلْكُ يُثْبِتُ ضَرُورَةَ الِاسْتِيلَادِ ، وَهُوَ بِالْعُلُوقِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَقَدُّمِهِ عَلَى الْعُلُوقِ تَقَدُّمُهُ عَلَى الْوَطْءِ .
أُجِيبُ بِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ عِبَارَةٌ عَنْ جَمِيعِ الْفِعْلِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْوَلَدُ فَلَمْ يُعْتَبَرْ الْفِعْلُ مَعَ

اتِّحَادِ الْمَطْلُوبِ ، فَالتَّقَدُّمُ عَلَى الْعُلُوقِ تَقَدُّمٌ عَلَى الْفِعْلِ الَّذِي بِهِ الِاسْتِيلَادُ ، وَمِنْهُ الْوَطْءُ فَاعْتُبِرَ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ .
وَلَا يَغْرَمُ قِيمَةَ وَلَدِهَا ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ ثَبَتَ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ وَمِلْكُهُ يَثْبُتُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ أَيْضًا فَلَمْ يَنْعَلِقْ شَيْءٌ مِنْهُ عَلَى مِلْكِ الشَّرِيكِ بَلْ عَلِقَ حُرًّا فَلَا يَضْمَنُ لَهُ شَيْئًا .
وَاعْلَمْ أَنَّ مُقْتَضَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ أَنَّ الْمِلْكَ فِي نِصْفِ شَرِيكِهِ يَثْبُتُ حُكْمًا لِلِاسْتِيلَادِ فَيُعْتِقُهُ أَنَّ الْعُلُوقَ قَبْلَ مِلْكِ نَصِيبِ شَرِيكِهِ فَيَحْصُلُ مَمْلُوكُ النِّصْفِ لَهُ وَنِصْفُهُ لِشَرِيكِهِ .
وَاسْتِنَادُ النَّسَبِ إلَى الْعُلُوقِ بَعْدَمَا وَقَعَ فِي مِلْكِ الشَّرِيكِ لَا يُوجِبُ أَنْ لَا يَعْلَقَ مِنْهُ شَيْءٌ عَلَى مِلْكِهِ .
لَا يُقَالُ : يُمْكِنُ كَوْنُهُ أَرَادَ بِالِاسْتِيلَادِ فِي قَوْلِهِ حُكْمًا لِلِاسْتِيلَادِ الْوَطْءَ .
لِأَنَّا نَقُولُ : الِاسْتِيلَادُ إمَّا أَنْ يُطْلَقَ عَلَى الْعُلُوقِ ، أَوْ عَلَى مَجْمُوعِ الْوَطْءِ مَعَ الْإِنْزَالِ وَالْعُلُوقِ ، أَمَّا مُجَرَّدُ الْوَطْءِ بِلَا إنْزَالٍ فَلَا .
وَلَوْ سَلِمَ لَمْ يَصِحَّ ثُبُوتُ الْمِلْكِ حِينَئِذٍ ؛ لِأَنَّ نَقْلَهُ مِنْ مِلْكِ الشَّرِيكِ إلَى مِلْكِ الْمُسْتَوْلِدِ ضَرُورَةُ صَيْرُورَتِهَا أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ، وَلَا تَصِيرُ إلَّا بِالْعُلُوقِ فَلَا يَجُوزُ نَقْلُهُ قَبْلَهُ ؛ لِأَنَّهُ بِلَا مُوجِبٍ .
وَالِاعْتِرَاضُ السَّابِقُ بِأَنَّ حُكْمَ الْعِلَّةِ مَعَهَا فِي الْأَصَحِّ لَا يُفِيدُ ؛ لِأَنَّ نَقْلَهُ مَعَ الْعُلُوقِ أَيْضًا بِلَا مُوجِبٍ ؛ لِأَنَّهَا مَا لَمْ تَصِرْ أُمَّ وَلَدٍ لَمْ يَلْزَمْ النَّقْلُ .
فَالْوَجْهُ جَعَلَهُ مُعَقِّبًا لِلْعُلُوقِ بِلَا فَصْلٍ قَلِيلٍ وَلَا كَثِيرٍ وَلَا ضَمَانَ ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مَاءٌ مَهِينٌ لَا قِيمَةَ لَهُ فَلَا يُضْمَنُ ، وَحِينَ صَارَ بِحَيْثُ يُضْمَنُ لَمْ يَكُنْ عَلَى مِلْكِ الشَّرِيكِ ؛ لِأَنَّ الْأُمَّ حِينَ انْتَقَلَتْ إلَى مِلْكِ الْمُسْتَوْلَدِ انْتَقَلَتْ بِأَجْزَائِهَا وَمِنْ جُمْلَتِهَا ذَلِكَ الْمَاءُ ، هَذَا إذَا حَمَلَتْ عَلَى مِلْكِهِمَا ، فَإِنْ اشْتَرَيَاهَا

حَامِلًا فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ وَيَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ نِصْفَ قِيمَةِ الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِنَادُ الِاسْتِيلَادِ إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ فِي مِلْكِهَا ، وَلِذَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ عُقْرٌ لِشَرِيكِهِ هُنَا ، لَكِنْ لَمَّا ادَّعَى نَسَبَ وَلَدٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا كَانَتْ دَعْوَتُهُ مِلْكٌ وَهِيَ كَالْإِعْتَاقِ الْمُوقِعِ إلَّا أَنَّهُ يَضْمَنُ نَصِيبَ شَرِيكِهِ فِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ ؛ لِأَنَّهُ ضَمَانُ تَمَلُّكٍ كَالْبَيْعِ ، وَلَا عُقْرَ لِشَرِيكِهِ هَاهُنَا ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَمْ يُوجَدْ فِي مِلْكِ شَرِيكِهِ .

( وَإِنْ ادَّعَيَاهُ مَعًا ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُمَا ) مَعْنَاهُ إذَا حَمَلَتْ عَلَى مِلْكِهِمَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : يُرْجَعُ إلَى قَوْلِ الْقَافَةِ ؛ لِأَنَّ إثْبَاتَ النَّسَبِ مِنْ شَخْصَيْنِ مَعَ عِلْمِنَا أَنَّ الْوَلَدَ لَا يَتَخَلَّقُ مِنْ مَاءَيْنِ مُتَعَذِّرٌ فَعَمِلْنَا بِالشَّبَهِ ، وَقَدْ سُرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِ الْقَائِفِ فِي أُسَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ .
وَلَنَا كِتَابُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ إلَى شُرَيْحٍ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ : لَبَّسَا فَلُبِّسَ عَلَيْهِمَا ، وَلَوْ بَيَّنَا لَبُيِّنَ لَهُمَا ، هُوَ ابْنُهُمَا يَرِثُهُمَا وَيَرِثَانِهِ وَهُوَ لِلْبَاقِي مِنْهُمَا ، وَكَانَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ ، وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِثْلُ ذَلِكَ .
وَلِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ فَيَسْتَوِيَانِ فِيهِ ، وَالنَّسَبُ وَإِنْ كَانَ لَا يَتَجَزَّأُ وَلَكِنْ تَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ مُتَجَزِّئَةٌ ، فَمَا يَقْبَلُ التَّجْزِئَةَ يَثْبُتُ فِي حَقِّهِمَا عَلَى التَّجْزِئَةِ ، وَمَا لَا يَقْبَلُهَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمُلَا كَأَنْ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ إلَّا إذَا كَانَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ أَبًا لِلْآخِرِ ، أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُسْلِمًا وَالْآخَرُ ذِمِّيًّا لِوُجُودِ الْمُرَجِّحِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ وَفِي حَقِّ الْأَبِ وَهُوَ مَا لَهُ مِنْ الْحَقِّ فِي نَصِيبِ الِابْنِ ، وَسُرُورُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رُوِيَ ؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَطْعَنُونَ فِي نَسَبِ أُسَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ، وَكَانَ قَوْلُ الْقَائِفِ مُقْطِعًا لِطَعْنِهِمْ فَسُرَّ بِهِ ( وَكَانَتْ الْأَمَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُمَا ) ؛ لِصِحَّةِ دَعْوَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نَصِيبِهِ فِي الْوَلَدِ فَيَصِيرُ نَصِيبُهُ مِنْهَا أُمَّ وَلَدٍ لَهُ تَبَعًا لِوَالِدِهَا ( وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الْعُقْرِ قِصَاصًا بِمَا لَهُ عَلَى الْآخَرِ ، وَيَرِثُ الِابْنُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِيرَاثَ ابْنٍ كَامِلٍ ) ؛ لِأَنَّهُ

أَقَرَّ لَهُ بِمِيرَاثِهِ كُلِّهِ وَهُوَ حُجَّةٌ فِي حَقِّهِ ( وَيَرِثَانِ مِنْهُ مِيرَاثَ أَبٍ وَاحِدٍ ) لِاسْتِوَائِهِمَا فِي النَّسَبِ كَمَا إذَا أَقَامَا الْبَيِّنَةَ .

( قَوْلُهُ : وَإِنْ ادَّعَيَاهُ مَعًا ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُمَا ) وَكَانَتْ الْأَمَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُمَا فَتَخْدُمُ كُلًّا مِنْهُمَا يَوْمًا ، وَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا عَتَقَتْ وَلَا ضَمَانَ لِلْحَيِّ فِي تَرْكِهِ الْمَيِّتِ لِرِضَا كُلٍّ مِنْهُمَا بِعِتْقِهَا بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَلَا تَسْعَى لِلْحَيِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِعَدَمِ تَقَوُّمِهَا .
وَعَلَى قَوْلِهِمَا تَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا لَهُ .
وَلَوْ أَعْتَقَهَا أَحَدُهُمَا عَتَقَتْ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِلسَّاكِتِ ، وَلَا سِعَايَةَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا يَضْمَنُ إنْ كَانَ مُوسِرًا وَتَسْعَى إنْ كَانَ مُعْسِرًا ، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الْعُقْرِ فَيَلْتَقِيَانِ قِصَاصًا بِمَا لَهُ عَلَى الْآخَرِ .
وَفَائِدَةُ إيجَابِ الْعُقْرِ مَعَ التَّقَاصِّ بِهِ أَنَّ أَحَدَهُمَا لَوْ أَبْرَأ أَحَدَهُمَا عَنْ حَقِّهِ بَقِيَ حَقُّ الْآخَرِ .
وَأَيْضًا لَوْ قُوِّمَ نَصِيبُ أَحَدِهِمَا بِالدَّرَاهِمِ وَالْآخَرِ بِالذَّهَبِ كَانَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ الدَّرَاهِمَ وَيَأْخُذَ الذَّهَبَ وَيَرِثُ الِابْنُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا مِيرَاثَ ابْنٍ كَامِلٍ وَيَرِثَانِ مِنْهُ مِيرَاثَ أَبٍ وَاحِدٍ .
فَهَذِهِ أَحْكَامُ دَعْوَتِهِمَا ذَكَرَهَا الْقُدُورِيُّ .
وَمِنْهَا أَنَّهُ لِلْبَاقِي مِنْهُمَا حَتَّى إذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا كَانَ كُلُّ مِيرَاثِ الِابْنِ لِلْبَاقِي مِنْهُمَا ، وَفَرَّقَ الْمُصَنِّفُ بَيْنَهَا بِوَجْهِ كُلٍّ مِنْهُمَا فَقَالَ : وَإِنْ ادَّعَيَاهُ مَعًا ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُمَا جَمِيعًا ، وَسَيُقَيِّدُهُ بِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَ أَحَدِهِمَا مُرَجِّحٌ ، فَلَوْ كَانَ بِأَنْ كَانَ الشَّرِيكَانِ أَبًا وَابْنًا فَإِنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ مِنْ الْأَبِ وَحْدَهُ ، وَكَذَا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا ذِمِّيًّا يَثْبُتُ مِنْ الْمُسْلِمِ وَحْدَهُ ، وَفِيهِ خِلَافُ زُفَرَ فَيَثْبُتُ مِنْهُمَا وَيَكُونُ مُسْلِمًا ، وَقَيَّدَهُ هَاهُنَا بِمَا إذَا حَمَلَتْ عَلَى مِلْكِهِمَا ، وَهُوَ أَنْ تَلِدَهُ لِتَمَامِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ : يَعْنِي فَصَاعِدًا وَلَوْ سَنَتَيْنِ مُنْذُ مَلَكَاهَا ، وَاحْتُرِزَ بِهِ عَمَّا إذَا كَانَ الْحَمْلُ عَلَى مِلْكِ أَحَدِهِمَا نِكَاحًا ثُمَّ اشْتَرَاهَا هُوَ

وَآخَرُ فَوَلَدَتْ لِأَقَلِّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ الشِّرَاءِ فَادَّعَيَاهُ فَهِيَ أُمُّ وَلَدِ الزَّوْجِ فَإِنَّ نَصِيبَهُ صَارَ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ، وَالِاسْتِيلَادُ لَا يَحْتَمِلُ التَّجَزِّي عِنْدَهُمَا وَلِإِبْقَاءِهِ عِنْدَهُ فَيَثْبُتُ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ أَيْضًا .
وَأَيْضًا مَا إذَا حَمَلَتْ عَلَى مِلْكِ أَحَدِهِمَا رَقَبَةً فَبَاعَ نِصْفَهَا مِنْ آخَرَ فَوَلَدَتْ : يَعْنِي لِتَمَامِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ بَيْعِ النِّصْفِ فَادَّعَيَاهُ يَكُونُ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِكَوْنِ الْعُلُوقِ فِي مِلْكِهِ ، وَعَمَّا إذَا كَانَ الْحَمْلُ قَبْلَ مِلْكِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِأَنْ اشْتَرَيَا أَمَةً فَوَلَدَتْ لِأَقَلِّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ مَلَكَاهَا أَوْ وَلَدَتْهُ قَبْلَ مِلْكِهِمَا إيَّاهَا فَاشْتَرَيَاهَا فَادَّعَيَاهُ لَا تَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُمَا ؛ لِأَنَّ هَذِهِ دَعْوَةُ عِتْقٍ لَا دَعْوَةُ اسْتِيلَادٍ فَيُعْتَقُ الْوَلَدُ مُقْتَصَرًا عَلَى وَقْتِ الدَّعْوَةِ ، بِخِلَافِ الِاسْتِيلَادِ فَإِنَّ شَرْطَهَا كَوْنُ الْعُلُوقِ فِي الْمِلْكِ ، وَتَسْتَنِدُ الْحُرِّيَّةُ إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ فَيَعْلَقُ حُرًّا وَقَدَّمْنَا فِي كِتَابِ الْعِتْقِ اخْتِلَافَ الْمَشَايِخِ فِيمَا إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ هَذَا ابْنِي وَأُمُّهُ فِي مِلْكِهِ هَلْ تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ أَوْ لَا ؟ قِيلَ نَعَمْ مَجْهُولَ النَّسَبِ أَوْ مَعْلُومَهُ ، وَقِيلَ لَا فِيهِمَا ، وَقِيلَ نَعَمْ فِي مَجْهُولِهِ لَا فِي مَعْلُومِهِ ، فَيُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ حُكْمُنَا عِنْدَ جَهْلِنَا بِحَالِ الْعُلُوقِ ، وَبِقَوْلِنَا قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ ، وَكَانَ الشَّافِعِيُّ يَقُولُهُ فِي الْقَدِيمِ ، وَرَجَّحَ عَلَيْهِ أَحْمَدُ حَدِيثَ الْقَافَةِ .
وَقِيلَ يَعْمَلُ بِهِ إذَا فُقِدَتْ الْقَافَةُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُرْجَعُ إلَى قَوْلِ الْقَائِفِ ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ قَائِفٌ وَقَفَ حَتَّى يَبْلُغَ الْوَلَدُ فَيَنْتَسِبُ إلَى أَيِّهِمَا شَاءَ ، فَإِنْ لَمْ يَنْتَسِبْ إلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ نَسَبُهُ مَوْقُوفًا لَا يَثْبُتُ لَهُ نَسَبٌ مِنْ غَيْرِ أُمِّهِ .
وَالْقَائِفُ هُوَ الَّذِي يَتْبَعُ آثَارَ الْآبَاءِ فِي الْأَبْنَاءِ وَغَيْرِهَا مِنْ

الْآثَارِ مِنْ قَافَ أَثَرَهُ يَقُوفُهُ مَقْلُوبُ قَفَا أَثَرَهُ مِثْلَ رَاءٍ مَقْلُوبُ رَأَى ، وَالْقِيَافَةُ مَشْهُورَةٌ فِي بَنِي مُدْلِجٍ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُدْلِجِيًّا فَغَيْرُهُ وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ ، وَقَالَ بِهِ مَالِكٌ فِي الْإِمَاءِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ إثْبَاتَ النَّسَبِ مِنْ شَخْصَيْنِ مَعَ عِلْمِنَا بِأَنَّ الْوَلَدَ لَا يَتَخَلَّقُ مِنْ مَاءَيْنِ ؛ لِأَنَّهَا كَمَا تَعَلَّقَ مِنْ رَجُلٍ انْسَدَّ فَمُ الرَّحِمِ مُتَعَذَّرٌ فَعَمِلْنَا بِالشَّبَهِ ، وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ الْقَافَةَ لَوْ أَلْحَقُوهُ بِهِمَا لَا يُلْحَقُ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، أَنَّهُ يَبْطُلُ قَوْلُهُمْ إذَا أَلْحَقُوا بِهِمَا ، وَقَدْ ثَبَتَ الْعَمَلُ بِالشَّبَهِ بِقَوْلِ الْقَائِفِ حَيْثُ سُرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا أَخْرَجَ السِّتَّةُ فِي كُتُبِهِمْ كُلِّهِمْ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ { دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَات يَوْمٍ مَسْرُورًا فَقَالَ : يَا عَائِشَةُ أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ مُجَزِّزًا الْمُدْلِجِيَّ دَخَلَ عَلَيَّ وَعِنْدِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَزَيْدٌ وَعَلَيْهِمَا قَطِيفَةٌ وَقَدْ غَطَّيَا رُءُوسَهُمَا وَبَدَتْ أَقْدَامُهُمَا فَقَالَ : هَذِهِ الْأَقْدَامُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ } وَقَالَ أَبُو دَاوُد : وَكَانَ أُسَامَةُ أَسْوَدَ وَكَانَ زَيْدٌ أَبْيَضَ .
( وَلَنَا كِتَابُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى شُرَيْحٍ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ ) ذَكَرَ أَنَّ شُرَيْحًا كَتَبَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي جَارِيَةٍ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَيَاهُ فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ أَنَّهُمَا لَبَّسَا فَلُبِّسَ عَلَيْهِمَا ، وَلَوْ بَيَّنَا لَبُيِّنَ لَهُمَا ، وَهُوَ ابْنُهُمَا يَرِثُهُمَا وَيَرِثَانِهِ وَهُوَ لِلْبَاقِي مِنْهُمَا .
وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ ، فَحَلَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ .
قَالَ : ( وَلِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ ) يَعْنِي الدَّعْوَةِ مَعَ الْمِلْكِ فَيَسْتَوِيَانِ فِيهِ ، وَالنَّسَبُ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَتَجَزَّأُ وَلَكِنْ

يَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ مُتَجَزِّئَةٌ كَالْإِرْثِ وَالنَّفَقَةِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَوِلَايَةِ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ وَالْحَضَانَةِ فَمَا يَقْبَلُ التَّجَزِّي كَالْإِرْثِ ، وَمَا ذَكَرنَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهِمَا عَلَى التَّجْزِئَةِ ، وَمَا لَا يَقْبَلُهَا كَالنَّسَبِ وَوِلَايَةُ الْإِنْكَاحِ يَثْبُتُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا كَمُلَا كَأَنْ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَعْرُوفَ فِي قِصَّةِ عُمَرَ هُوَ مَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ ؛ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي امْرَأَةٍ وَطِئَهَا رَجُلَانِ فِي طُهْرٍ ، فَقَالَ الْقَائِفُ : قَدْ اشْتَرَكَا فِيهِ جَمِيعًا فَجَعَلَهُ بَيْنَهُمَا .
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَعَلِيٌّ يَقُولُ هُوَ ابْنُهُمَا وَهُمَا أَبَوَاهُ يَرِثُهُمَا وَيَرِثَانِهِ ، وَذَكَرَهُ سَعِيدٌ أَيْضًا ، وَرَوَى الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فِي رَجُلَيْنِ اشْتَرَكَا فِي طُهْرِ امْرَأَةٍ فَحَمَلَتْ فَوَلَدَتْ غُلَامًا يُشْبِهُهُمَا ، فَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى عُمَرَ فَدَعَا الْقَافَةَ فَنَظَرُوا فَقَالُوا نَرَاهُ يُشْبِهُهُمَا ، فَأَلْحَقَهُ بِهِمَا وَجَعَلَهُ يَرِثُهُمَا وَيَرِثَانِهِ .
وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ رَجُلَيْنِ ادَّعَيَا وَلَدًا فَدَعَا عُمَرُ الْقَافَةَ وَاقْتَدَى فِي ذَلِكَ بِبَصَرِ الْقَافَةِ وَأَلْحَقَهُ أَحَدَ الرَّجُلَيْنِ .
ثُمَّ ذَكَر أَيْضًا عَبْدُ الرَّزَّاقِ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ : لَمَا دَعَا عُمَرُ الْقَافَةَ فَرَأَوْا شَبَهَهُ فِيهِمَا وَرَأَى عُمَرُ مِثْلَ مَا رَأَتْ الْقَافَةُ قَالَ : قَدْ كُنْت أَعْلَمُ أَنَّ الْكَلْبَةَ تَلِدُ لِأَكْلَبَ فَيَكُونُ كُلُّ جُزْءٍ لِأَبِيهِ مَا كُنْت أَرَى أَنَّ مَاءَيْنِ يَجْتَمِعَانِ فِي وَلَدٍ وَاحِدٍ .
وَأَسْنَدَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَيْضًا عَنْ مَعْمَرَ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ : رَأَى الْقَافَةِ وَعُمَرُ جَمِيعًا شَبَهُهُ فِيهِمَا وَشَبَهُهُمَا فِيهِ ، وَقَالَ : هُوَ بَيْنَكُمَا يَرِثُكُمَا وَتَرِثَانِهِ ، قَالَ : فَذَكَرْت ذَلِكَ لِابْنِ الْمُسَيِّبِ فَقَالَ :

نَعَمْ هُوَ لِلْآخِرِ مِنْهُمَا ، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَعَنْ عَلِيٍّ مِثْلُ ذَلِكَ يُشِيرُ إلَى مَا أَخْرَجَ الطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ الْآثَارِ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ مَوْلًى لِآلِ مَخْزُومٍ قَالَ : وَقَعَ رَجُلَانِ عَلَى جَارِيَةٍ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ فَعَلَقَتْ الْجَارِيَةُ فَلَمْ يُدْرَ مِنْ أَيِّهِمَا هُوَ ، فَأَتَيَا عَلِيًّا فَقَالَ هُوَ بَيْنَكُمَا يَرِثُكُمَا وَتَرِثَانِهِ وَهُوَ لِلْبَاقِي مِنْكُمَا .
وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ : أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ قَابُوسَ عَنْ أَبِي ظَبْيَانِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ : أَتَاهُ رَجُلَانِ وَقَعَا عَلَى امْرَأَةٍ فِي طُهْرٍ ، فَقَالَ الْوَلَدُ بَيْنَكُمَا وَهُوَ لِلْبَاقِي مِنْكُمَا .
وَضَعَّفَهُ الْبَيْهَقِيُّ فَقَالَ : يَرْوِيه سِمَاكٌ عَنْ رَجُلٍ مَجْهُولٍ لَمْ يُسَمِّهِ ، وَقَابُوسُ وَهُوَ غَيْرُ مُحْتَجٍّ بِهِ عَنْ أَبِي ظَبْيَانِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ : وَقَدْ رَوَى عَلِيٌّ مَرْفُوعًا خِلَافَ ذَلِكَ .
ثُمَّ أَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد : حَدَّثَنَا حُبَيْشُ بْنُ أَصْرَمَ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، أَخْبَرْنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ صَالِحٍ الْهَمْدَانِيِّ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَبْدِ خَيْرٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرَقْمَ قَالَ : { أُتِيَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ بِالْيَمَنِ بِثَلَاثَةٍ وَقَعُوا عَلَى امْرَأَةٍ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ ، فَسَأَلَ اثْنَيْنِ أَتُقِرَّانِ لِهَذَا بِالْوَلَدِ ؟ قَالَا لَا ، حَتَّى سَأَلَهُمْ جَمِيعًا فَجَعَلَ كُلَّمَا سَأَلَ اثْنَيْنِ قَالَا لَا ، فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ فَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِاَلَّذِي صَارَتْ عَلَيْهِ الْقُرْعَةُ ، وَجَعَلَ عَلَيْهِ ثُلُثَيْ الدِّيَةِ قَالَ : فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ } انْتَهَى .
وَاعْلَمْ أَنَّ أَبَا دَاوُد رَوَاهُ أَيْضًا مَوْقُوفًا ، وَكَذَا النَّسَائِيّ عَلَى عَلِيٍّ بِإِسْنَادٍ أَجْوَدَ مِنْ إسْنَادِ الْمَرْفُوعِ ، وَكَذَا رَوَاهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي مُسْنَدِهِ وَقَالَ فِيهِ : فَأَغْرَمَهُ ثُلُثَيْ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ لِصَاحِبَيْهِ ، وَهُوَ حَسَنٌ مُبَيِّنُ الْمُرَادَ بِالدِّيَةِ فِيمَا قَبْلَهُ .
وَحَاصِلُ مَا تَحَصَّلَ مِنْ هَذَا أَنَّهُ صَلَّى

اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُرَّ بِقَوْلِ الْقَافَةِ ، وَأَنَّ عُمَرَ قَضَى عَلَى وَفْقِ قَوْلِهِمْ ، وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُنْكِرْ إثْبَاتَ عَلِيٍّ النَّسَبَ بِالْقُرْعَةِ .
وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُعَوَّلَ عَلَيْهِ مَا يُنْسَبُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ هُوَ سُرُورُهُ بِقَوْلِ الْقَافَةِ .
فَأَجَابَ الْمُصَنِّفُ عَنْهُ بِأَنَّ سُرُورَهُ كَانَ ؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَطْعَنُونَ فِي نَسَبِ أُسَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي دَاوُد أَنَّهُ كَانَ أَسْوَدَ وَكَانَ زَيْدٌ أَبْيَضَ فَكَانُوا لِذَلِكَ يَطْعَنُونَ فِي ثُبُوتِ نَسَبِهِ مِنْهُ ، وَكَانُوا مَعَ ذَلِكَ يَعْتَقِدُونَ قَوْلَ الْقَافَةِ فَكَانَ قَوْلُ الْقَائِفِ مَقْطَعًا لَطَعَنَهُمْ ، فَسُرُورُهُ لَا شَكَّ أَنَّهُ لِمَا يَلْزَمُهُ مِنْ قَطْعِ طَعْنِهِمْ وَاسْتِرَاحَةِ مُسْلِمٍ مِنْ التَّأَذِّي بِنَفْيِ نَسَبِهِ وَظُهُورِ خَطَئِهِمْ وَالرَّدِّ عَلَيْهِمْ ، ثُمَّ يُحْتَمَلُ مَعَ ذَلِكَ كَوْنُ الْقِيَافَةِ حَقًّا فِي نَفْسِهَا فَتَكُونُ مُتَعَلَّقَ سُرُورِهِ أَيْضًا ، أَوْ لَيْسَتْ حَقًّا فَيَخْتَصُّ سُرُورُهُ بِمَا قُلْنَا فَلَزِمَ أَنَّ حُكْمَنَا بِكَوْنِ سُرُورِهِ بِهَا نَفْسِهَا فَرْعُ حُكْمِنَا بِأَنَّهَا حَقٌّ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى ثُبُوتِ حَقِّيَّتِهَا وَلَمْ يَثْبُتْ بَعْدُ .
وَطَعَنَ يَطْعَنُ بِضَمِّ عَيْنِ الْمُضَارِعِ بِالرُّمْحِ وَفِي النَّسَبِ .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ اُسْتُدِلَّ عَلَى صِحَّةِ الْقِيَافَةِ بِحَدِيثِ اللِّعَان حَيْثُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ { إنْ جَاءَتْ بِهِ أُصَيْهِبَ أُثَيْبِجَ حَمْشَ السَّاقَيْنِ فَهُوَ لِزَوْجِهَا ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَوْرَقَ جَعْدًا جُمَالِيًّا خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ سَابِغَ الْأَلْيَتَيْنِ فَهُوَ لِلَّذِي رُمِيَتْ بِهِ } وَهَذِهِ هِيَ الْقِيَافَةُ ، وَالْحُكْمُ بِالشَّبَهِ .
وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ مَعْرِفَتَهُ ذَلِكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ لَا الْقِيَافَةِ .
وَقَدْ يُقَالُ الظَّاهِرُ عِنْدَ إرَادَةِ تَعْرِيفِهِ أَنْ يُعْرَفَ أَنَّهُ ابْنُ فُلَانٍ ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ يَنْقَلِبُ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّهُ

لَوْ كَانَتْ الْقِيَافَةُ مُعْتَبَرَةً لَكَانَ شَرْعِيَّةَ اللِّعَانِ تَخْتَصُّ بِمَا إذَا لَمْ يُشْبِهَ الْمَرْمِيَّ بِهِ أَشْبَهَ الزَّوْجَ أَوْ لَا لِحُصُولِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ حِينَئِذٍ بِأَنَّهُ لَيْسَ ابْنًا لِلنَّافِي ، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ بِكَذِبِهَا فِي نَسَبِ الْوَلَدِ .
وَأُجِيبُ أَيْضًا بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ حَقِّيَّةَ قِيَافَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقِّيَّةَ قِيَافَةِ غَيْرِهِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ ، فَإِنَّ الْقِيَافَةَ لَيْسَ إلَّا بِاعْتِبَارِ أُمُورٍ ظَاهِرَةٍ يَسْتَوِي النَّاسُ فِي مَعْرِفَتِهَا ، ثُمَّ إنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُرَّ بِفِعْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ إلْحَاقُهُ بِالْقُرْعَةِ ، وَقَدْ نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ وَطُرُقُهُ صَحِيحَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ أَنَّ الْقُرْعَةَ طَرِيقٌ صَحِيحَةٌ لِتَقْرِيرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيَّاهُ ، بَلْ سُرَّ بِهِ ، فَإِنَّ الضَّحِكَ دَلِيلُهُ مَعَ عَدَمِ الْإِنْكَارِ ، وَإِذَا لَمْ يَقُلْ بِهِ يَلْزَمُهُ الْحُكْمُ بِنَسْخِهِ ، غَيْرَ أَنَّهُ يَبْقَى مَا ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ مِنْ الْعَمَلِ بِقَوْلِ الْقَافَةِ ، فَإِنَّهُ مِنْ الْقُوَّةِ بِكَثْرَةِ الطُّرُقِ بِحَيْثُ لَا يُعَارِضُهُ الْمَرْوِيُّ عَنْهُ مِنْ قِصَّةِ شُرَيْحٍ ؛ لِخَفَائِهَا وَعَدَمِ تَثْبِيتِهَا .
وَإِنْ كَانَتْ قِصَّةً مُرْسَلَةً ، فَإِنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ عَنْ عُمَرَ مُرْسَلٌ ، وَكَذَا عُرْوَةُ عَنْهُ ، لَكِنَّهُمَا إمَامَانِ لَا يَرْوِيَانِ إلَّا عَنْ قُوَّةِ أَمِينٍ مَعَ حُجِّيَّةِ الْمُرْسَلِ عِنْدَنَا فَكَيْفَ بِهِ مِنْ هَذَيْنِ ؟ عَلَى أَنَّ قَوْلَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ نَعَمْ فِي إسْنَادِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ رُبَّمَا يَكُونُ كَالْمَوْصُولِ بِعُمَرَ ؛ لِأَنَّ سَعِيدًا رَوَى عَنْ عُمَرَ ، وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا خِلَافَ فِي ثُبُوتِ مِثْلِ هَذَا ، وَإِذَا ثَبَتَ عَمَلُ عُمَرَ بِالْقِيَافَةِ لَزِمَ أَنَّ ذَلِكَ الِاحْتِمَالَ فِي سُرُورِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ كَوْنُ الْحَقِّيَّةِ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِهِ ثَابِتٌ ، وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمَّا لَمْ يَقُلْ بِنِسْبَةِ الْوَلَدِ إلَى اثْنَيْنِ

يَلْزَمُهُ اعْتِقَادُ أَنَّ فِعْلَ عُمَرَ كَانَ عَنْ رَأْيِهِ لَا بِقَوْلِ الْقَافَةِ فَيَلْزَمُهُ الْقَوْلُ بِثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْ اثْنَيْنِ إذْ حَلَّ مَحِلَّ الْإِجْمَاعِ مِنْ الصَّحَابَةِ ، وَهُوَ مَلْزُومٌ لِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ : إمَّا أَنَّ سُرُورَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ مُتَعَلِّقًا إلَّا بِرَدِّ طَعْنِهِمْ أَوْ ثُبُوتِ نَسْخِهِ وَبِهِ نَقُولُ ، إلَّا أَنَّا لَا نَقُولُ إنَّهُ مِنْ مَائِهِمَا كَمَا يُفْهَمُ مِنْ بَعْضِ الرِّوَايَاتِ ؛ لِأَنَّ الْمَاءَيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي الرَّحِمِ إلَّا مُتَعَاقِبَيْنِ .
فَإِذَا فُرِضَ أَنَّهُ خُلِقَ مِنْ الْأَوَّلِ لَمْ يُتَصَوَّرْ خَلْقُهُ مِنْ الثَّانِي ، بَلْ إنَّهُ يَزِيدُ فِي الْأَوَّلِ فِي سَمْعِهِ قُوَّةً وَفِي بَصَرِهِ وَأَعْضَائِهِ .
وَأَمَّا التَّعْلِيلُ بِأَنَّهُ يَنْسَدُّ فَمُ الرَّحِمِ فَقَاصِرٌ عَلَى قَوْلِنَا إنَّ الْحَامِلَ لَا تَحِيضُ ، فَأَمَّا مَنْ يَقُولُ تَحِيضُ لَا يُمْكِنُهُ الْقَوْلُ بِالِانْسِدَادِ فَيَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْ اثْنَيْنِ مَعَ الْحُكْمِ بِأَنَّهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مِنْ مَاءِ أَحَدِهِمَا ، ثُمَّ كَمَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ اثْنَيْنِ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ ثَلَاثَةٍ وَأَرْبَعَةٍ وَخَمْسَةٍ وَأَكْثَرَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا يَثْبُتُ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ اثْنَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَنْفِي ثُبُوتَهُ مِنْ اثْنَيْنِ ، لَكِنَّهُ تَرْكٌ لِأَثَرِ عُمَرَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا يَثْبُتُ لِأَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةٍ لِقُرْبِ الثَّلَاثَةِ مِنْ الِاثْنَيْنِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ سَبَبَ ثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ الِاشْتِبَاهُ وَالدَّعْوَةُ فَلَا فَرْقَ .
فَلَوْ تَنَازَعَ فِيهِ امْرَأَتَانِ قُضِيَ بِهِ بَيْنَهُمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا لَا يُقْضَى لِلْمَرْأَتَيْنِ فَلَا يَلْحَقُ إلَّا بِأُمٍّ وَاحِدَةٍ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْأَنْصِبَاءِ مُتَفَاوِتَةً أَوْ مُتَسَاوِيَةً فِي الْجَارِيَةِ فِي دَعْوَى الْوَلَدِ ، وَلَوْ تَنَازَعَ فِيهِ رَجُلَانِ وَامْرَأَتَانِ كُلٌّ يَزْعُمُ أَنَّهُ ابْنُهُ مِنْ هَذِهِ الْمَرْأَةِ وَهِيَ تُصَدِّقُهُ ؛ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُقْضَى بِهِ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ وَالْمَرْأَتَيْنِ ،

وَعِنْدَهُمَا يُقْضَى بِهِ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ فَقَطْ ، فَلَوْ تَنَازَعَ فِيهِ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ يُقْضَى بِهِ بَيْنَهُمْ ، وَعِنْدَهُمَا يُقْضَى بِهِ لِلرَّجُلِ لَا لِلْمَرْأَتَيْنِ .
( قَوْلُهُ : إلَّا إذَا كَانَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ أَبًا لِلْآخَرِ ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَمَا لَا يَقْبَلُهَا وَعَلِمْت أَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ فِي حَقِّ كُلٍّ مِنْهُمَا كَمُلَا .
وَفِي الْمَبْسُوطِ : أَمَةٌ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَذِمِّيٍّ وَمُكَاتَبٍ وَمُدَبَّرٍ وَعَبْدٍ وَلَدَتْ فَادَّعَوْهُ فَالْحُرُّ الْمُسْلِمُ أَوْلَى لِاجْتِمَاعِ الْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ فِيهِ مَعَ الْمِلْكِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مُسْلِمٌ بَلْ مِنْ بَعْدِهِ فَقَطْ فَالذِّمِّيُّ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ وَالْمُكَاتَبُ وَالْعَبْدُ ، وَإِنْ كَانَا مُسْلِمَيْنِ لَكِنْ بِيَدِ الْوَلَدِ تَحْصِيلُ الْإِسْلَامِ دُونَ الْحُرِّيَّةِ ثُمَّ الْمُكَاتَبُ ؛ لِأَنَّ لَهُ حَقَّ مِلْكٍ وَالْوَلَدُ عَلَى شَرَفِ الْحُرِّيَّةِ بِأَدَاءِ الْمُكَاتَبِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُكَاتَبٌ وَادَّعَى الْمُدَبَّرُ وَالْعَبْدُ لَا يَثْبُتُ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النَّسَبُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ لَهُمْ مِلْكٌ وَلَا شُبْهَةُ مِلْكٍ ، قِيلَ وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْجَوَابُ فِي الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ وُهِبَتْ لَهُ أَمَةٌ ، وَلَا يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ بَلْ أَنْ يُزَوَّجَ مِنْهَا أَيْضًا وَلَوْ كَانَتْ الدَّعْوَةُ بَيْنَ ذِمِّيٍّ وَمُرْتَدٍّ فَالْوَلَدُ لِلْمُرْتَدِّ ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْإِسْلَامِ وَغَرِمَ كُلٌّ لِصَاحِبِهِ نِصْفَ الْعُقْرِ .
( قَوْلُهُ : وَكَانَتْ الْأَمَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُمَا لِصِحَّةِ دَعْوَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي نَصِيبِ الْوَلَدِ فَيَصِيرُ نَصِيبُهُ مِنْهَا أُمَّ وَلَدٍ لَهُ تَبَعًا لِوَلَدِهَا ) وَلَا يَضْمَنُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا لِشَرِيكِهِ شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْتَقِلْ إلَيْهِ مِنْ نَصِيبِ شَرِيكِهِ شَيْءٌ .
( قَوْلُهُ : وَيَرِثُ الِابْنُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا مِيرَاثَ ابْنٍ كَامِلٍ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِمِيرَاثِهِ كُلِّهِ ) حَيْثُ ادَّعَى أَنَّهُ ابْنَهُ وَحْدَهُ ، وَإِقْرَارُهُ حُجَّةٌ فِي حَقِّهِ ( وَيَرِثَانِ مِنْهُ مِيرَاثَ أَبٍ وَاحِدٍ ) ؛ لِأَنَّ دَعْوَى كُلٍّ مِنْهُمَا

الِانْفِرَادُ بِالْأُبُوَّةِ لَا تَسْرِي فِي حَقِّ الْآخَرَ ، وَقَدْ اسْتَوَيَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ ، وَهُوَ الدَّعْوَةُ الْمَقْرُونَةُ بِالْمِلْكِ وَصَارَ كَمَا إذَا أَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى شَيْءٍ يَصِيرُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا ، فَكَذَا إذَا أَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى ابْنٍ مَجْهُولِ النَّسَبِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا لِاتِّحَادِ الْجَامِعِ .

( وَإِذَا وَطِئَ الْمَوْلَى جَارِيَةَ مُكَاتَبِهِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ فَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُكَاتَبُ ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ تَصْدِيقُهُ اعْتِبَارًا بِالْأَبِ يَدَّعِي وَلَدَ جَارِيَةِ ابْنِهِ .
وَوَجْهُ الظَّاهِرِ وَهُوَ الْفَرْقُ أَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي أَكْسَابِ مُكَاتَبِهِ حَتَّى لَا يَتَمَلَّكَهُ وَالْأَبُ يَمْلِكُ تَمَلُّكَهُ فَلَا مُعْتَبَرَ بِتَصْدِيقِ الِابْنِ .
قَالَ : ( وَعَلَيْهِ عُقْرُهَا ) ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَقَدَّمُهُ الْمِلْكُ ؛ لِأَنَّ مَا لَهُ مِنْ الْحَقِّ كَافٍ لِصِحَّةِ الِاسْتِيلَادِ لِمَا نَذْكُرُهُ .
قَالَ : ( وَقِيمَةُ وَلَدِهَا ) ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمَغْرُورِ حَيْثُ إنَّهُ اعْتَمَدَ دَلِيلًا وَهُوَ أَنَّهُ كَسْبُ كَسْبِهِ فَلَمْ يَرْضَ بِرِقِّهِ فَيَكُونُ حُرًّا بِالْقِيمَةِ ثَابِتَ النَّسَبِ مِنْهُ ( وَلَا تَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ) ؛ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ فِيهَا حَقِيقَةً كَمَا فِي وَلَدِ الْمَغْرُورِ ( وَإِنْ كَذَّبَهُ الْمَكَاتِبُ فِي النَّسَبِ لَمْ يَثْبُتْ ) ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَصْدِيقِهِ ( فَلَوْ مَلَكَهُ يَوْمًا ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ ) ؛ لِقِيَامِ الْمُوجِبِ وَزَوَالِ حَقِّ الْمُكَاتَبِ إذْ هُوَ الْمَانِعُ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

( قَوْلُهُ : وَإِذَا وَطِئَ الْمَوْلَى جَارِيَةَ مُكَاتَبِهِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ فَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُكَاتَبُ يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ ) ، وَإِنْ كَذَّبَهُ لَا يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ ، لَكِنْ إذَا مَلَكَهُ يَوْمًا مِنْ الدَّهْرِ فَحِينَئِذٍ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ لِمَا سَيُذْكَرُ .
( وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ تَصْدِيقُهُ بَلْ يَثْبُتُ ) نَسَبُهُ مِنْهُ بِمُجَرَّدِ دَعَوْتِهِ غَيْرَ مُفْتَقِرٍ إلَى تَصْدِيقِهِ ، وَقَوْلُهُ وَهَذَا قَوْلُ سَائِرِ الْعُلَمَاءِ اعْتِبَارًا بِالْأَبِ يَدَّعِي وَلَدَ جَارِيَةِ ابْنِهِ بِجَامِعِ أَنَّ الْمَوْطُوءَةَ كَسْبُ كَسْبِ الْمُدَّعِي ، أَوْ بِطَرِيقٍ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ لِلْمَوْلَى فِي الْمُكَاتَبِ مِلْكُ رَقَبَتِهِ وَهُوَ مُقْتَضٍ لِحَقِيقَةِ مِلْكِ كَسْبِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ مِلْكٌ كَانَ لَهُ فِيهِ حَقُّ الْمَلِكِ ، وَلَيْسَ لِلْوَالِدِ مِلْكٌ حَقِيقَةً فِي رَقَبَةِ وَلَدِهِ بَلْ لَهُ حَقُّ التَّمَلُّكِ بِمَالِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَحَقُّ الْمِلْكِ أَقْوَى مِنْ حَقِّ التَّمَلُّكِ ، فَلَمَّا ثَبَتَ نَسَبُ وَلَدِ جَارِيَةِ الِابْنِ مِنْ الْأَبِ بِمُجَرَّدِ دَعَوْتِهِ مِنْ غَيْرِ افْتِقَارٍ إلَى تَصْدِيقِهِ فَالثُّبُوتُ مِنْ الْمَوْلَى أَوْلَى .
( وَوَجْهُ الظَّاهِرِ : وَهُوَ الْفَرْقُ ) بَيْنَ جَارِيَةِ الِابْنِ وَجَارِيَةِ الْمُكَاتَبِ ( أَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي أَكْسَابِ مُكَاتَبِهِ ) بِسَبَبِ حَجَرِهِ نَفْسَهُ عَنْ ذَلِكَ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ حَتَّى لَا يَثْبُتَ لَهُ حَقُّ تَمَلُّكِهِ ( وَالْأَبُ يَمْلِكُ تَمَلُّكَهُ ) لِحَاجَتِهِ عَلَى مَا عُرِفَ ( فَلَا مُعْتَبَرَ بِتَصْدِيقِهِ ) وَهَذَا بِخِلَافِ الْوَارِثِ يَسْتَوْلِدُ أَمَةً مِنْ تَرِكَةٍ مُسْتَغْرَقَةٍ بِالدَّيْنِ يَصِحُّ بِلَا تَصْدِيقِ أَحَدٍ ؛ لِأَنَّهُ صَاحِبُ حَقٍّ حَتَّى مَلَكَ اسْتِخْلَاصَ مَا يَشَاءُ مِنْ التَّرِكَةِ بِإِعْطَاءِ قِيمَتِهِ فَلَيْسَ أَحَدٌ أَحَقُّ مِنْهُ لِيَحْتَاجَ إلَى تَصْدِيقِهِ .
بِخِلَافِ الْبَائِعِ يَدَّعِي وَلَدَ الْمَبِيعَةِ بَعْد الْبَيْعِ يَصِحُّ لِاتِّصَالِ الْعُلُوقِ بِمِلْكِهِ وَوَجَبَ لِلْوَلَدِ حَقُّ الْعِتْقِ فَلَمْ يَبْطُلْ بِاعْتِرَاضِ

الْبَيْعِ .
وَهَاهُنَا إنْ حَصَلَ الْعُلُوقُ فِي مِلْكِ الْمَوْلَى لِرَقَبَةِ الْمُكَاتَبِ لَكِنْ لَمْ يَحْصُلْ فِي مِلْكِهِ لِلْجَارِيَةِ مِلْكًا خَالِصًا .
وَاعْتَرَضَ بِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ التَّصْدِيقِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لُوحِظَ حَجْرَ الْمَوْلَى عَنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الْمُكَاتَبِ فَتَصْدِيقُهُ لَا يُوجِبُ فَكَّ الْحَجْرِ ، بَلْ غَايَتُهُ أَنَّهُ اعْتَرَفَ لَهُ أَنَّهُ وَطِئَ الْجَارِيَةَ فَيُقْضَى أَنْ لَا يَثْبُتَ النَّسَبُ إذْ لَمْ يَرْتَفِعْ بِهِ الْمَانِعُ مِنْ ثُبُوتِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ وَطِئَهَا لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ إذَا كَانَ مُكَذِّبًا لَهُ مَعَ أَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ أَقْوَى مِنْ التَّصْدِيقِ فَظَهَرَ ضَعْفُ اشْتِرَاطِ التَّصْدِيقِ .
وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ هَذَا الْحِجْرَ لِحَقِّ آدَمِيٍّ لِكَوْنِهِ هُوَ أَحَقُّ بِالدَّعْوَى فَلَا يَظْهَرُ حَقُّهُ فِي الِاسْتِلْحَاقِ فِي مُقَابَلَةِ مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْهُ إلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ ؛ لِجَوَازِ أَنْ يُكَذِّبَهُ بِأَنْ يَدَّعِيَهُ هُوَ فَلَا بُدَّ مِنْ اسْتِعْلَامِ تَصْدِيقِهِ وَتَكْذِيبِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى الْوَطْءِ فَإِنَّ تَكْذِيبَهُ قَائِمٌ ، وَاخْتِبَارُ التَّصْدِيقِ لَيْسَ لِاسْتِعْلَامِ الْوَطْءِ قَطْعًا بَلْ تَقْدِيمًا لِلْأَحَقِّ عَلَى غَيْرِهِ ، بِخِلَافِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ إذَا اسْتَلْحَقَ فَإِنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى تَصْدِيقِ الْآخِرِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدُهُمَا أَحَقَّ مِنْ الْآخَرِ .
( قَوْلُهُ : وَعَلَيْهِ عُقْرُهَا ) لِلْمُكَاتَبِ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ ؛ لِأَنَّ وَطْأَهُ الْمَدْلُولَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ فَإِذَا وَطِئَ الْمَوْلَى لَا يَتَقَدَّمُهُ الْمِلْكُ ؛ لِأَنَّ مَا لَهُ مِنْ الْحَقِّ : أَيْ حَقِّ الْمَلِكِ كَافٍ لِصِحَّةِ الِاسْتِيلَادِ لِمَا نَذْكُرُهُ : يَعْنِي مِنْ قَوْلِهِ عَقِيبَةَ أَنَّهُ كَسْبُ كَسْبِهِ .
بِخِلَافِ الْأَبِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَقُّ مِلْكٍ فِي الْجَارِيَةِ فَيَتَقَدَّمُ مِلْكُهُ إيَّاهَا ؛ لِتَصْحِيحِ الِاسْتِيلَادِ فَلَا يَجِبُ الْعُقْرُ ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ أَمَةَ نَفْسِهِ ، وَإِذَا وَجَبَ لِنَفْسِ الْمُكَاتَبَةِ الْعُقْرُ إذَا وَطِئَهَا الْمَوْلَى

مَعَ ثُبُوتِ حَقِيقَةِ مِلْكِهِ فِيهَا فَلَأَنْ يَجِبَ بِوَطْءِ أَمَتِهَا أَوْلَى ، وَأَبْعَدَ شَارِحٌ فَقَالَ : أَيْ لِمَا نَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ الْمُكَاتَبِ مِنْ أَنَّهُ يَثْبُتُ لِلْمَوْلَى فِي ذِمَّةِ الْمُكَاتَبِ حَقٌّ مَعَ أَنَّ مُجَرَّدَ ثُبُوتِ حَقٍّ فِي ذِمَّةِ سَيِّدِ أَمَةٍ لَا يُصَحِّحُ اسْتِيلَادَ صَاحِبِ الدَّيْنِ فَلَقَدْ تَنَاوَلَهُ مِنْ مَكَان بَعِيدِ وَهُوَ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ .
( قَوْلُهُ : وَقِيمَةُ وَلَدِهَا ) عَطْفٌ عَلَى عُقْرِهَا : أَيْ وَعَلَيْهِ قِيمَةُ الْوَلَدِ ( لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمَغْرُورِ حَيْثُ اعْتَمَدَ دَلِيلًا وَهُوَ أَنَّهُ ) أَيْ الْجَارِيَةَ بِتَأْوِيلِ الشَّخْصِ ( كَسْبُ كَسْبِهِ فَلَمْ يَرْضَ بِرِقِّهِ ) حَيْثُ اعْتَمَدَ دَلِيلًا يُوجِبُ حُرِّيَّتَهُ ( فَيَكُونُ حُرًّا بِالْقِيمَةِ ثَابِتَ النَّسَبِ مِنْهُ ) كَمَا أَنَّ الْمَغْرُورَ بِشِرَاءِ أَمَةٍ اسْتَوْلَدَهَا فَاسْتُحِقَّتْ اعْتَمَدَ دَلِيلًا هُوَ الْبَيْعُ فَجُعِلَ عُذْرًا فِي حُرِّيَّةِ الْوَلَدِ بِالْقِيمَةِ إلَّا أَنَّ قِيمَةَ الْوَلَدِ هُنَا تُعْتَبَرُ يَوْمَ وُلِدَ ، وَقِيمَةُ وَلَدِ الْمَغْرُورِ يَوْمَ الْخُصُومَةِ .
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْعُلُوقَ هُنَا حَصَلَ فِي مِلْكٍ لِمَوْلَى وَهُوَ مُقْتَضٍ ثُبُوتَ نَسَبِهِ بِحَقِّ مِلْكِهِ لِمَالِكِهَا إنَّهُ مَحْجُورٌ بِحَجْرٍ شَرْعِيٍّ عَنْهَا فَشَرْطٌ تَصْدِيقُهُ ، فَإِذَا جَاءَ التَّصْدِيقُ صَحَّتْ الدَّعْوَى وَثَبَتَ لَهُ حَقُّ التَّمَلُّكِ بِالْقِيمَةِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهَا فِي أَقْرَبِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ ، وَأَمَّا الْمَغْرُورُ فَضَمَانُهُ قِيمَةَ الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّهُ أَمَانَةٌ حَبَسَهَا عَنْ صَاحِبِهَا تَقْدِيرًا فَتُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ يَوْمَ الْحَبْسِ ، وَتَحَقُّقُ هَذَا الْحَبْسِ وَالْمَنْعِ إنَّمَا يَكُونُ يَوْمَ الْخُصُومَةِ فَيُعْتَبَرُ يَوْمَهَا .
( ثُمَّ لَا تَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ فِيهَا حَقِيقَةً كَمَا فِي أُمِّ وَلَدِ الْمَغْرُورِ ) الْمَبِيعَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ لَا تَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ، وَلَا تَنَاقُضَ بَيْنَ قَوْلِهِ لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ وَبَيْنَ قَوْلِهِ إنَّ مَا لَهُ مِنْ الْحَقِّ يَكْفِي لِصِحَّةِ الِاسْتِيلَادِ ؛ لِأَنَّ

الْمُرَادَ مِنْ الِاسْتِيلَادِ اسْتِلْحَاقُ الْوَلَدِ كَمَا قَرَّرْنَاهُ أَوَّلَ الْبَابِ وَصِحَّتُهُ بِثُبُوتِ نَسَبِ الْوَلَدِ مِنْهُ ، وَأَمَّا ثُبُوتُ أُمُومِيَّةِ الْوَلَدِ لِلْأُمِّ فَإِنَّمَا هُوَ لَازِمٌ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ وَهُوَ أَكْثَرُهَا دُونَ بَعْضٍ وَلَيْسَ عَيْنًا لِيَلْزَمَ نَفْيَ مَا أَثْبَتَهُ ، ثُمَّ إذَا مَلَكَ هَذِهِ الْجَارِيَةَ يَوْمًا مِنْ الدَّهْرِ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا وَلَهُ مِنْهَا وَلَدٌ ثَابِتُ النَّسَبِ ( قَوْلُهُ : وَإِنْ كَذَّبَهُ الْمُكَاتَبُ فِي النَّسَبِ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ مِنْ الْمَوْلَى لِمَا بَيَّنَّا ) أَيْ مِنْ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي أَكْسَابِ مُكَاتَبِهِ ( فَلَوْ مَلَكَهُ ) أَيْ لَوْ مَلَكَ الْوَلَدَ ( يَوْمًا ) مِنْ الدَّهْرِ ( ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ ) وَكَانَ وَلَدًا لَهُ ( لِقِيَامِ الْمُوجِبِ ) وَهُوَ إقْرَارُهُ بِالِاسْتِيلَادِ ، وَزَوَالُ الْمَانِعِ وَهُوَ حَقُّ الْمُكَاتَبِ فُرُوعٌ ] رَجُلٌ فَجَرَ بِأَمَةٍ فَوَلَدَتْ ثُمَّ اشْتَرَاهَا لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ اسْتِحْسَانًا ، وَإِنْ اشْتَرَى الْوَلَدُ عَتَقَ الْوَلَدُ عَلَيْهِ .
وَفِي الْمُحِيطِ : يَجُوزُ إعْتَاقُ أُمِّ الْوَلَدِ وَكِتَابَتُهَا لِتَعْجِيلِ الْحُرِّيَّةِ ، وَكَذَا تَدْبِيرُهَا لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ .
وَفِي جَوَامِعِ الْفِقْهِ : اسْتَوْلَدَ مُدَبَّرَتَهُ بَطُلَ التَّدْبِيرُ وَتُعْتَقُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ وَلَا تَسْعَى فِي دَيْنٍ .
وَفِي الْكَافِي : أَمَةٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ قَالَا فِي صِحَّتِهِمَا هِيَ أُمُّ وَلَدِ أَحَدِنَا ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا يُؤْمَرُ الْحَيُّ بِالْبَيَانِ دُونَ الْوَرَثَةِ لِأَنَّهُ يُخْبِرُ عَنْ نَفْسِهِ وَالْوَرَثَةُ تُخْبِرُ بِفِعْلِ غَيْرِهِمْ ، فَإِنْ قَالَ الْحَيُّ هِيَ أُمُّ وَلَدِي فَهِيَ أُمُّ وَلَدِهِ وَيَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهَا وَلَا يَضْمَنُ مِنْ الْعُقْرِ شَيْئًا لِأَنَّهُ لِمَا أَقَرَّ بِوَطْئِهَا بَعْدَ مِلْكِهَا فَلَعَلَّهُ اسْتَوْلَدَهَا بِنِكَاحٍ قَبْلُ ، وَلَوْ قَالَ هِيَ أُمُّ وَلَدِ الْمَيِّتِ عَتَقَتْ صَدَّقَتْهُ الْوَرَثَةُ أَوْ كَذَّبَتْهُ لِأَنَّهُ إنْ صَدَقَ فَهِيَ حُرَّةٌ ، وَإِنْ كَذَبَ فَكَذَلِكَ لِإِقْرَارِهِ بِعِتْقِهَا بِمَوْتِهِ ، وَلَا

سِعَايَةَ لِلْحَيِّ لِأَنَّهُ يَدَّعِي الضَّمَانَ إنْ كَذَّبُوهُ فِي إقْرَارِهِ ، وَإِنْ صَدَّقُوهُ فَقَدْ أَقَرُّوا بِعَدَمِ السِّعَايَةِ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .

كِتَابُ الْأَيْمَانِ قَالَ : ( الْأَيْمَانُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ ) الْيَمِينُ الْغَمُوسُ وَيَمِينٌ مُنْعَقِدَةٌ ، وَيَمِينُ لَغْوٍ .
( فَالْغَمُوسُ هُوَ الْحَلِفُ عَلَى أَمْرٍ مَاضٍ يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ فِيهِ ، فَهَذِهِ الْيَمِينُ يَأْثَمُ فِيهَا صَاحِبُهَا ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَلَفَ كَاذِبًا أَدْخَلَهُ اللَّهُ النَّارَ } ( وَلَا كَفَّارَةَ فِيهَا إلَّا التَّوْبَةَ وَالِاسْتِغْفَارَ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ : فِيهَا الْكَفَّارَةُ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ لِرَفْعِ ذَنْبٍ هَتَكَ حُرْمَةَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَقَدْ تَحَقَّقَ بِالِاسْتِشْهَادِ بِاَللَّهِ كَاذِبًا فَأَشْبَهَ الْمَعْقُودَةَ .
وَلَنَا أَنَّهَا كَبِيرَةٌ مَحْضَةٌ ، وَالْكَفَّارَةُ عِبَادَةٌ تَتَأَدَّى بِالصَّوْمِ ، وَيُشْتَرَطُ فِيهَا النِّيَّةُ فَلَا تُنَاطُ بِهَا ، بِخِلَافِ الْمَعْقُودَةِ لِأَنَّهَا مُبَاحَةٌ ، وَلَوْ كَانَ فِيهَا ذَنْبٌ فَهُوَ مُتَأَخِّرٌ مُتَعَلِّقٌ بِاخْتِيَارِ مُبْتَدَإٍ ، وَمَا فِي الْغَمُوسِ مُلَازِمٌ فَيَمْتَنِعُ الْإِلْحَاقُ .

كِتَابُ الْأَيْمَانِ اشْتَرَكَ كُلٌّ مِنْ الْيَمِينِ وَالْعَتَاقِ وَالطَّلَاقِ وَالنِّكَاحِ فِي أَنَّ الْهَزْلَ وَالْإِكْرَاهَ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ ، إلَّا أَنَّهُ قَدَّمَ عَلَى الْكُلِّ النِّكَاحَ ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْعِبَادَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَالطَّلَاقُ رَفْعُهُ بَعْدَ تَحَقُّقِهِ فَإِيلَاؤُهُ إيَّاهُ أَوْجَهُ .
وَاخْتَصَّ الْإِعْتَاقُ عَنْ الْأَيْمَانِ بِزِيَادَةٍ مُنَاسَبَةٍ بِالطَّلَاقِ مِنْ جِهَةِ مُشَارَكَتِهِ إيَّاهُ فِي تَمَامِ مَعْنَاهُ الَّذِي هُوَ الْإِسْقَاطُ ، وَفِي لَازِمِهِ الشَّرْعِيِّ الَّذِي هُوَ السِّرَايَةِ فَقَدَّمَهُ عَلَى الْيَمِينِ .
وَلَفْظُ الْيَمِينِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْجَارِحَةِ وَالْقَسَمِ وَالْقُوَّةِ لُغَةً ، وَالْأَوَّلَانِ ظَاهِرَانِ .
وَشَاهِدُ الْقُوَّةِ قَوْله تَعَالَى { لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ } وَقَوْلُ الشَّمَّاخِ وَقِيلَ الْحُطَيْئَةُ : رَأَيْت عَرَابَةَ الْأَوْسِيِّ يَسْمُو إلَى الْخَيْرَاتِ مُنْقَطِعَ الْقَرِينِ إذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ بِالْيَمِينِ أَيْ بِالْقُوَّةِ ، ثُمَّ قَوْلُهُمْ إنَّمَا سُمِّيَ الْقَسَمُ يَمِينًا لِوَجْهَيْنِ : أَحَدِهِمَا أَنَّ الْيَمِينَ هُوَ الْقُوَّةُ وَالْحَالِفُ يَتَقَوَّى بِالْإِقْسَامِ عَلَى الْحَمْلِ أَوْ الْمَنْعِ .
وَالثَّانِي أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَمَاسَكُونَ بِأَيْمَانِهِمْ عِنْدَ الْقَسَمِ فَسَمَّيْت بِذَلِكَ .
يُفِيدُ أَنَّهُ لَفْظٌ مَنْقُولٌ وَمَفْهُومُهُ اللُّغَوِيُّ جُمْلَةٌ أُولَى إنْشَائِيَّةٌ صَرِيحَةُ الْجُزْأَيْنِ يُؤَكِّدُ بِهَا جُمْلَةً بَعْدَهَا خَبَرِيَّةً ، وَتَرْكُ لَفْظِ أُولَى يُصَيِّرُهُ غَيْرَ مَانِعٍ لِدُخُولِ نَحْوِ زَيْدٌ قَائِمٌ زَيْدٌ قَائِمٌ وَهُوَ عَلَى عَكْسِهِ ، فَإِنَّ الْأُولَى هِيَ الْمُؤَكَّدَةُ بِالثَّانِيَةِ مِنْ التَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ وَجُمْلَةٌ أَعَمُّ مِنْ الْفِعْلِيَّةِ كَحَلَفْتُ بِاَللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ أَوْ أَحْلِفُ وَالِاسْمِيَّةُ مُقَدَّمَةُ الْخَبَرِ كَعَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ أَوْ مُؤَخَّرَتُهُ نَحْوُ لَعَمْرُك لَأَفْعَلَنَّ ، وَهُوَ مِثَالٌ أَيْضًا لِغَيْرِ الْمُصَرَّحِ بِجُزْأَيْهَا وَمِنْهُ وَاَللَّهِ وَتَاللَّهِ ، فَإِنَّ الْحَرْفَ جُعِلَ عِوَضًا عَنْ الْفِعْلِ .
وَأَسْمَاءُ هَذَا

الْمَعْنَى التَّوْكِيدِيِّ سِتَّةٌ : الْحَلِفُ ، وَالْقَسَمُ وَالْعَهْدُ ، وَالْمِيثَاقُ وَالْإِيلَاءُ ، وَالْيَمِينُ .
وَخَرَجَ بِإِنْشَائِيَّةٍ نَحْوَ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ .
فَإِنَّ الْأُولَى لَيْسَتْ إنْشَاءً فَلَيْسَتْ التَّعَالِيقُ أَيْمَانًا لُغَةً ، وَأَمَّا مَفْهُومُهُ الِاصْطِلَاحِيُّ فَجُمْلَةٌ أُولَى إنْشَائِيَّةٌ مُقْسَمٌ فِيهَا بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ صِفَتِهِ وَمُؤَكَّدٌ بِهَا مَضْمُونُ ثَانِيَةٍ فِي نَفْسِ السَّامِعِ ظَاهِرًا وَتَحْمِلُ الْمُتَكَلِّمُ عَلَى تَحْقِيقِ مَعْنَاهَا فَدَخَلَتْ بِقَيْدٍ ظَاهِرٍ الْغَمُوسُ أَوْ الْتِزَامُ مَكْرُوهِ كُفْرٍ أَوْ زَوَالُ مِلْكٍ عَلَى تَقْدِيرٍ ؛ لِيَمْنَعَ عَنْهُ أَوْ مَحْبُوبٍ ؛ لِيَحْمِلَ عَلَيْهِ فَدَخَلَتْ التَّعْلِيقَاتُ مِثْلَ إنْ فَعَلَ فَهُوَ يَهُودِيُّ وَإِنْ دَخَلْت فَأَنْتِ طَالِقٌ بِضَمِّ التَّاءِ لِمَنْعِ نَفْسِهِ وَبِكَسْرِهَا لِمَنْعِهَا وَإِنْ بَشَّرْتَنِي فَأَنْتَ حُرٌّ .
وَسَبَبُهَا الْغَائِيُّ تَارَةً إيقَاعُ صِدْقِهِ فِي نَفْسِ السَّامِعِ وَتَارَةً حَمْلُ نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ عَلَى الْفِعْلِ أَوْ التَّرْكِ ، فَبَيْنَ الْمَفْهُومِ اللُّغَوِيِّ وَالشَّرْعِيِّ عُمُومٌ مِنْ وَجْهٍ لِتَصَادُقِهِمَا فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ ، وَانْفِرَادُ اللُّغَوِيِّ فِي الْحَلِفِ بِغَيْرِهِ مِمَّا يَعْظُمُ ، وَانْفِرَادُ الِاصْطِلَاحِيِّ فِي التَّعْلِيقَاتِ .
ثُمَّ قِيلَ : يُكْرَهُ الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ } الْحَدِيثَ .
وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ ؛ لِأَنَّهُ لِمَنْعِ نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ ، وَمَحْمَلُ الْحَدِيثِ غَيْرُ التَّعْلِيقِ مِمَّا هُوَ بِحَرْفِ الْقَسَمِ ، وَرُكْنُهَا اللَّفْظُ الْخَاصُّ ، وَأَمَّا شَرْطُهَا فَالْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ ، وَحُكْمُهَا الَّذِي يَلْزَمُ بِوُجُودِهَا وُجُوبُ الْبِرِّ فِيمَا إذَا عُقِدَتْ عَلَى طَاعَةٍ أَوْ تَرْكِ مَعْصِيَةٍ فَيَثْبُتُ وُجُوبَانِ لِأَمْرَيْنِ الْفِعْلُ وَالْبِرُّ ، وَوُجُوبُ الْحِنْثِ فِي الْحَلِفِ عَلَى ضِدِّهِمَا أَوْ نَدْبُهُ فِيمَا إذَا كَانَ عَدَمُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ جَائِزًا وَسَيَأْتِي .
وَإِذَا حَنِثَ فِيمَا

يَجُوزُ فِيهِ الْحِنْثُ أَوْ يَحْرُمُ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ .
( قَوْلُهُ : الْيَمِينُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : يَمِينُ الْغَمُوسِ ) وَالْأَصَحُّ مِنْ النُّسَخِ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ عَلَى الْوَصْفِ لَا الْإِضَافَةِ أَوْ يَمِينٌ غَمُوسٌ .
وَأَمَّا يَمِينُ الْغَمُوسِ فَإِضَافَةُ الْمَوْصُوفِ إلَى صِفَتِهِ وَهِيَ مَمْنُوعَةٌ ، وَمَا قِيلَ هُوَ كَعِلْمِ الطِّبِّ رُدَّ بِأَنَّهُ إضَافَةُ الْجِنْسِ إلَى نَوْعِهِ ؛ لِأَنَّ الطِّبَّ نَوْعٌ لَا وَصْفٌ لِلْمُضَافِ وَمِثْلُ صَلَاةِ الْأُولَى مَقْصُورٌ عَلَى السَّمَاعِ ، وَسُمِّيَتْ غَمُوسًا لِغَمْسِهَا صَاحِبَهَا فِي الْإِثْمِ ثُمَّ فِي النَّارِ فَعُولٌ بِمَعْنَى فَاعِلَةٍ بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ .
( قَوْلُهُ : فَالْغَمُوسُ هُوَ الْحَلِفُ عَلَى أَمْرٍ مَاضٍ يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ بِهِ ) وَلَيْسَ هَذَا بِقَيْدٍ بَلْ الْحَلِفُ عَلَى الْحَالِ أَيْضًا كَذَلِكَ كَوَاللَّهِ مَا لِهَذَا عَلَيَّ دَيْنٌ وَهُوَ يَعْلَمُ خِلَافَهُ ، وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ غَرِيبٌ بِهَذَا اللَّفْظِ وَمَعْنَاهُ ثَابِتٌ بِلَا شُبْهَةٍ .
وَأَقْرَبُ الْأَلْفَاظِ إلَيْهِ مَا فِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَأَدْخَلَهُ النَّارَ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ } وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ مَصْبُورَةٍ كَاذِبًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ } وَالْمُرَادُ بِالْمَصْبُورَةِ الْمُلْزِمَةُ بِالْقَضَاءِ وَالْحُكْمِ : أَيْ الْمَحْبُوسُ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّهَا مَصْبُورٌ عَلَيْهَا .
( قَوْلُهُ : وَلَا كَفَّارَةَ فِيهَا إلَّا التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ ) وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : فِيهَا الْكَفَّارَةُ ؛ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ ) فِي الْأَصْلِ وَهِيَ الْمَعْقُودَةُ ( لِرَفْعِ ذَنْبٍ

هَتَكَ حُرْمَةَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ تَحَقَّقَ ) فِي الْغَمُوسِ فَيَتَعَدَّى إلَيْهِ وُجُوبُهَا .
( وَلَنَا أَنَّهَا كَبِيرَةٌ مَحْضَةٌ ) لِمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { قَالَ الْكَبَائِرُ : الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ } ( وَالْكَفَّارَةُ عِبَادَةٌ حَتَّى تَتَأَدَّى بِالصَّوْمِ ، وَيُشْتَرَطُ فِيهَا النِّيَّةُ فَلَا تُنَاطُ بِهَا ) أَيْ بِمَا هُوَ كَبِيرَةٌ ( بِخِلَافِ الْمَعْقُودَةِ ؛ لِأَنَّهَا مُبَاحَةٌ وَلَوْ كَانَ فِيهَا ذَنْبٌ ) بِأَنْ يَحْنَثَ فِي مَوْضِعِ وُجُوبِ الْبِرِّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّفْصِيلِ ( فَهُوَ مُتَأَخِّرٌ مُتَعَلِّقٌ بِاخْتِيَارِ مُبْتَدَإٍ ) غَيْرِ مُقَارِنٍ مُتَعَمِّدٍ بِنَفْسِ الْيَمِينِ كَمَا فِي الْغَمُوسِ فَامْتَنَعَ الْإِلْحَاقُ .
وَحَاصِلُ هَذَا إبْدَاءُ وَصْفٍ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ كَوْنُهُ مُبَاحًا وَادِّعَاءُ كَوْنِهِ جُزْءَ الْمُؤَثِّرِ ؛ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُنَاسِبٍ لِلْحُكْمِ وَقَدْ نُقِضَ بِالظِّهَارِ .
وَيُجَابُ بِأَنَّ الْمُوجِبَ فِيهِ الْعَوْدُ لَا نَفْسُ الظِّهَارِ ، قَالَ تَعَالَى : { ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } وَهُوَ مُبَاحٌ لِكَوْنِهِ إمْسَاكًا بِالْمَعْرُوفِ وَبِالْإِفْطَارِ فِي رَمَضَانَ وَلَوْ بِخَمْرٍ أَوْ زِنًا .
وَأُجِيبَ : الْكَفَّارَةُ بِاعْتِبَارِ الْفِطْرِ الْعَمْدِ الْمُشْتَهَى ، وَيَجِبُ الْحَدُّ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمَا فِي أَنْفُسِهِمَا كَبِيرَةٌ .
وَلَخَّصَهُ آخَرُ بِأَنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ فِي نَفْسِهِ وَحَرَامٌ لِغَيْرِهِ وَهُوَ الصَّوْمُ فَوَجَبَ الْحَدُّ بِالْأَوَّلِ وَالْكَفَّارَةُ بِالثَّانِي .
وَنُقِضَ أَيْضًا بِقَتْلِ الْمُحْرِمِ صَيْدًا عَمْدًا .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ عَيْنَ الْفِعْلِ لَيْسَ حَرَامًا ؛ حَتَّى لَوْ فَعَلَهُ فِي غَيْرِ الْإِحْرَامِ وَالْحَرَمُ لَمْ يُحَرَّمْ وَإِنَّمَا حُرِّمَ بِإِحْرَامِهِ وَبِالْحُرُمِ لَا بِنَفْسِهِ ، وَصَحَّحَ شَارِحُ الْإِيرَادِ وَمَنَعَ نَفْيَ كَوْنِ الْمَعْصِيَةِ سَبَبًا لِلْكَفَّارَةِ وَجَعَلَ الْمَذْكُورَ مِنْ الْأَجْوِبَةِ خَبْطًا وَلَمْ يُبَيِّنْ مَوْضِعَ الْفَسَادِ

فِيهَا ، وَهُوَ وَاضِحٌ ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُمْ هَذَا يَقْتَضِي تَقْيِيدَ قَوْلِهِمْ الْمَعْصِيَةُ لَا تَصْلُحُ سَبَبًا لِلْكَفَّارَةِ ؛ لِكَوْنِهَا عِبَادَةً بِمَا إذَا كَانَ حَرَامًا لِعَيْنِهِ .
وَمَرْجِعُهُ إلَى التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ فِي الْفِعْلِ لِذَاتِهِ ، وَهُوَ مُنْتَفٍ عِنْدَ الْأَشْعَرِيَّةِ وَهُوَ قَلِيلٌ جِدًّا كَأَنَّهُ لَا يَزِيدُ عَلَى الْكُفْرِ وَالظُّلْمِ ، وَكَوْنُ الْيَمِينِ الْغَمُوسِ مِنْهُ قَدْ يَمْنَعُ ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ فِي نَفْسِهِ مُبَاحٌ أَوْ عِبَادَةٌ إذْ هُوَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ ، وَهَذَا لَا يَسْقُطُ مِنْ قَلْبِ الْمُؤْمِنِ الْحَالِفِ غَمُوسًا ، وَإِلَّا كَانَتْ كُفْرًا ، وَإِنَّمَا رَوَّجَ بِهِ بَاطِلَهُ فَقُبْحُهَا لَيْسَ إلَّا بِعَدَمِ مُطَابَقَةِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ أَوْ لِقَصْدِهِ ذَلِكَ ، وَذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ الْيَمِينِ مُوجِبٌ لِحُرْمَتِهَا فَكَانَ مِنْ قَبِيلِ مَا حُرِّمَ لِغَيْرِهِ عَلَى أَنَّ كَوْنَ حُرْمَةِ السَّبَبِ تَمْنَعُ مُنَاسَبَتَهَا لِلْعِبَادَةِ لَا يُفْصَلُ بَيْنَ كَوْنِ الْحُرْمَةِ لِعَيْنِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ ، وَلَوْ قِيلَ لَا يَلْزَمُ مِنْ شَرْعِيَّةِ الْكَفَّارَةِ جَابِرَةً أَوْ سَاتِرَةً فِي ذَنْبٍ أَخَفَّ شَرْعِيَّتُهَا كَذَلِكَ فِي ذَنْبٍ أَعْظَمَ كَانَ أَوْجَهَ .
وَلِلشَّافِعِيِّ أَيْضًا الْغَمُوسُ مَكْسُوبَةٌ بِالْقَلْبِ .
وَالْمَكْسُوبَةُ يُؤَاخِذُ بِهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } وَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُرَادَ بِالْمُؤَاخَذَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ } فَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْكَفَّارَةُ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ مُطْلَقًا فِي الْآخِرَةِ فَهِيَ الْمُرَادُ بِالْمُؤَاخَذَةِ فِي الْمَكْسُوبَةِ ، وَالْمُرَادُ بِهَا فِي الْمَعْقُودَةِ الْكَفَّارَةِ كَمَا ذَكَرْنَا ، قَالُوا : الْغَمُوسُ دَاخِلَةٌ فِي الْمَعْقُودَةِ فَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِهَا بِالنَّصِّ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى زِيَادَةِ تَكَلُّفِ الْجَوَابِ مَعَ أَنَّهَا مَعْقُودَةٌ ؛ لِأَنَّهَا رَبْطٌ فِي الشَّرْعِ

لِلِاسْمِ الْعَظِيمِ بِمَعْنًى عَلَى وَجْهٍ حَمْلُهُ عَلَيْهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَوْ مَنْعُهُ مِنْهُ ، فَإِذَا حَنِثَ انْحَلَّتْ لِارْتِفَاعِ الْمَانِعِ وَالْحَامِلِ أَوْ لِتَوْكِيدِ صِدْقِهِ الظَّاهِرِ ، فَإِذَا طَابَقَ الْخَبَرَ بِرٌّ وَانْحَلَّتْ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ بِالْحِنْثِ تَنْحَلُّ الْيَمِينُ وَالْغَمُوسُ قَارَنَهَا مَا يَحِلُّهَا وَهُوَ مَا لَوْ طَرَأَ عَلَيْهَا رَفَعَهَا وَحَلَّهَا فَلَمْ تَنْعَقِدْ ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَارَنَهَا مَنَعَ انْعِقَادَهَا كَالرِّدَّةِ وَالرَّضَاعِ فِي النِّكَاحِ ، بِخِلَافِ مَسِّ السَّمَاءِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يُقَارِنْهَا ؛ لِأَنَّهَا عُقِدَتْ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَمَا يَحِلُّهَا هُوَ انْعِدَامُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا فِي الْحَالِ .
وَعَلَى هَذَا قِيلَ الْغَمُوسُ لَيْسَتْ بِيَمِينٍ حَقِيقَةً ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ الشَّرْعِيَّةَ تُعْقَدُ لِلْبِرِّ وَهُوَ غَيْرُ مُمْكِنٍ فِيهَا ، وَمَا قُطِعَ بِانْتِفَاءِ فَائِدَتِهِ شَرْعًا يُقْطَعُ بِانْتِفَائِهِ شَرْعًا ، وَتَسْمِيَتُهَا يَمِينًا مَجَازٌ بِعَلَاقَةِ الصُّورَةِ كَالْفَرَسِ لِلصُّورَةِ الْمَنْقُوشَةِ أَوْ هُوَ مِنْ الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ .
وَعَلَى أَحَدِهِمَا يُحْمَلُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَالْيَمِينُ الْفَاجِرَةُ } وَنَحْوُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَعْقُودَةَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَيْسَتْ سِوَى الْمَكْسُوبَةِ بِالْقَلْبِ ، وَكَوْنُ الْغَمُوسِ قَارَنَهَا الْحِنْثُ لَا يَنْفِي الِانْعِقَادَ عِنْدَهُ ، وَكَوْنُهَا لَا تُسَمَّى يَمِينًا ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَنْعَقِدْ لِلْبِرِّ بَعِيدٌ إذْ لَا شَكَّ فِي تَسْمِيَتِهَا يَمِينًا لُغَةً وَعُرْفًا وَشَرْعًا بِحَيْثُ لَا تَقْبَلُ التَّشْكِيكَ ، فَلَيْسَ الْوَجْهُ إلَّا مَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ شَرْعِيَّةَ الْكَفَّارَةِ لِرَفْعِ ذَنْبٍ أَصْغَرَ لَا يَسْتَلْزِمُ شَرْعُهَا لِرَفْعِ أَكْبَرَ ، وَإِذَا أَدْخَلَهَا فِي مُسَمَّى الْمُنْعَقِدَةِ وَجَعَلَ الْمُنْعَقِدَةَ تَنْقَسِمُ إلَى غَمُوسٍ وَغَيْرِهَا عَسِرَ النَّظَرُ مَعَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ لُغَةً أَوْ سُمِعَ .
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ صَرَّحَ بِجَوْدَتِهِ ابْنُ عَبْدِ

الْهَادِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثٍ مُطَوَّلٍ قَالَ فِيهِ { خَمْسٌ لَيْسَ لَهُنَّ كَفَّارَةٌ : الشِّرْكُ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَقَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَبَهْتُ مُؤْمِنٍ ، وَالْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ ، وَالْيَمِينُ صَابِرَةٌ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالًا بِغَيْرِ حَقٍّ } انْتَهَى .
وَكُلُّ مَنْ قَالَ لَا كَفَّارَةَ فِي الْغَمُوسِ لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ الْيَمِينِ الْمَصْبُورَةِ عَلَى مَالٍ كَاذِبًا وَغَيْرِهَا ، وَصَابِرَةٌ بِمَعْنَى مَصْبُورَةٍ كَعِيشَةِ رَاضِيَةٍ ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ الْمَصْبُورَةَ الْمَقْضِيُّ بِهَا ؛ لِأَنَّهَا مَصْبُورٌ عَلَيْهَا : أَيْ مَحْبُوسٌ ، وَالصَّبْرُ حَبْسُ النَّفْسِ عَلَى الْمَكْرُوهِ ، وَمِنْهُ قَتَلَهُ صَبْرًا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي حَالِ تَصَرُّفِهِ وَدَفْعِهِ مُخْتَارًا عَنْ نَفْسِهِ .

( وَالْمُنْعَقِدَةُ مَا يَحْلِفُ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَنْ يَفْعَلَهُ أَوْ لَا يَفْعَلَهُ وَإِذَا حَنِثَ فِي ذَلِكَ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ } وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا
( قَوْلُهُ : وَالْمُنْعَقِدَةُ مَا يَحْلِفُ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَنْ يَفْعَلَهُ أَوْ لَا يَفْعَلَهُ ، فَإِذَا حَنِثَ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ } ) الْآيَةَ وَ " مَا " فِي قَوْلِهِ مَا يَحْلِفُ مَصْدَرِيَّةٌ : أَيْ الْحَلِفُ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ .
وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ الْحَلِفَ عَلَى مَاضٍ صَادِقًا فِيهِ كَوَاللَّهِ لَقَدْ قَدِمَ زَيْدٌ أَمْسِ لَا تُسَمَّى مُنْعَقِدَةً ، وَيَقْتَضِي أَنَّهَا إمَّا لَيْسَتْ بِيَمِينٍ وَهُوَ بَعِيدٌ ، أَوْ زِيَادَةُ أَقْسَامِ الْيَمِينِ عَلَى الثَّلَاثَةِ وَهُوَ مُبْطِلٌ لِحَصْرِهِمْ السَّابِقِ ، وَفِي كَلَامِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ مَا يُفِيدُ أَنَّهَا مِنْ قَبِيلِ اللَّغْوِ ، فَإِنْ أَرَادَ لُغَةً فَمَمْنُوعٌ ؛ لِأَنَّهُ مَا لَا فَائِدَةَ لَهُ فِيهِ ، وَفِي هَذَا الْيَمِينِ فَائِدَةُ تَأْكِيدِ صِدْقِهِ فِي خَبَرِهِ عِنْدَ السَّامِعِ ، وَإِنْ أَرَادَ دُخُولَهَا فِي اللَّغْوِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ بِحَسَبِ الْإِرَادَةِ فَقَدْ فَسَّرَهُ السَّلَفُ وَاخْتَلَفُوا فِيهِ ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِذَلِكَ فَكَانَ خَارِجًا عَنْ أَقْوَالِ السَّلَفِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ فِيمَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْحِنْثُ لَا فِي مُطْلَقِ الْيَمِينِ .

( وَالْيَمِينُ اللَّغْوُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى أَمْرٍ مَاضٍ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ كَمَا قَالَ وَالْأَمْرُ بِخِلَافِهِ فَهَذِهِ الْيَمِينُ نَرْجُو أَنْ لَا يُؤَاخِذَ اللَّهُ بِهِ صَاحِبَهَا ) وَمِنْ اللَّغْوِ أَنْ يَقُولَ : وَاَللَّهِ إنَّهُ لَزَيْدٌ وَهُوَ يَظُنُّهُ زَيْدًا وَإِنَّمَا هُوَ عَمْرٌو ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى { لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ } الْآيَةَ ، إلَّا أَنَّهُ عَلَّقَهُ بِالرَّجَاءِ لِلِاخْتِلَافِ فِي تَفْسِيرِهِ .
.

( قَوْلُهُ : وَيَمِينُ اللَّغْوِ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى أَمْرٍ مَاضٍ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ كَمَا قَالَ وَالْأَمْرُ بِخِلَافِهِ ) مِثْلَ وَاَللَّهِ لَقَدْ دَخَلْت الدَّارَ وَاَللَّهِ مَا كَلَّمْت زَيْدًا وَنَحْوُهُ ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْأَفْعَالُ كَمَا ذَكَرْنَا وَالصِّفَاتُ .
وَمِنْ الثَّانِي مَا فِي الْخُلَاصَةِ : رَجُلٌ حَلَّفَهُ السُّلْطَانُ أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِأَمْرِ كَذَا فَحَلَفَ ثُمَّ تَذَكَّرَ فَعَلِمَ أَنَّهُ كَانَ يَعْلَمُ أَرْجُو أَنْ لَا يَحْنَثَ ( فَهَذِهِ الْيَمِينُ نَرْجُو أَنْ لَا يُؤَاخِذَ اللَّهُ بِهَا صَاحِبَهَا ) وَإِنَّمَا قَيَّدَ مُحَمَّدٌ عَدَمَ الْمُؤَاخَذَةِ بِالرَّجَاءِ مَعَ أَنَّهُ مَقْطُوعٌ بِهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى حِينَ قَالَ { لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ } لِلِاخْتِلَافِ فِي مَعْنَى اللَّغْوِ ، فَفَسَّرَهُ مُحَمَّدٌ بِمَا ذَكَرَ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : كُلُّ يَمِينٍ صَدَرَتْ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ فِي الْمَاضِي وَفِي الْمُسْتَقْبَلِ .
وَهُوَ مُبَايِنٌ لِلتَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ ؛ لِأَنَّ الْحَلِفَ عَلَى أَمْرٍ يَظُنُّهُ ، كَمَا قَالَ : لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ قَصْدٍ ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ ، وَهُوَ مَعْنَى مَا رَوَى صَاحِبُ السُّنَنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ كَلَامُ الرَّجُلِ فِي بَيْتِهِ كَلًّا وَاَللَّهِ وَبَلَى وَاَللَّهِ } .
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَمَسْرُوقٌ : لَغْوُ الْيَمِينِ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى مَعْصِيَةٍ فَيَتْرُكُهَا لَاغِيًا بِيَمِينِهِ .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : أَنْ يُحَرِّمَ عَلَى نَفْسِهِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ .
فَلَمَّا اُخْتُلِفَ فِي مَعْنَى اللَّغْوِ عَلَّقَهُ بِالرَّجَاءِ .
وَالْأَصَحُّ أَنَّ اللَّغْوَ بِالتَّفْسِيرَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ وَكَذَا بِالثَّالِثِ مُتَّفَقٌ عَلَى عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ فِي الْآخِرَةِ ، وَكَذَا فِي الدُّنْيَا بِالْكَفَّارَةِ فَلَمْ يَتِمَّ الْعُذْرُ عَنْ التَّعْلِيقِ بِالرَّجَاءِ ، فَالْأَوْجُهُ مَا قِيلَ إنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ التَّعْلِيقَ بَلْ التَّبَرُّكَ بِاسْمِ

اللَّهِ وَالتَّأَدُّبَ فَهُوَ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَهْلِ الْمَقَابِرِ : { وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ } .
وَأَمَّا التَّفْسِيرُ الرَّابِعُ فَغَيْرُ مَشْهُورٍ ، وَكَوْنُهُ لَغْوًا هُوَ اخْتِيَارُ سَعِيدٍ .

قَالَ : ( وَالْقَاصِدُ فِي الْيَمِينِ وَالْمُكْرَهِ وَالنَّاسِي سَوَاءٌ ) حَتَّى تَجِبُ الْكَفَّارَةُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ : النِّكَاحُ ، وَالطَّلَاقُ ، وَالْيَمِينُ } وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُخَالِفُنَا فِي ذَلِكَ ، وَسَنُبَيِّنُ فِي الْإِكْرَاهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى

( قَوْلُهُ : وَالْقَاصِدُ فِي الْيَمِينِ وَالْمُكْرَهِ عَلَيْهِ وَالنَّاسِي ) وَهُوَ مَنْ تَلَفَّظَ بِالْيَمِينِ ذَاهِلًا عَنْهُ ثُمَّ تَذَكَّرَ أَنَّهُ تَلَفَّظَ بِهِ .
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ : الْخَاطِئُ وَهُوَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكَلَامِ غَيْرِ الْحَلِفِ فَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ الْيَمِينُ ، فَإِذَا حَنِثَ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ .
( لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ : النِّكَاحُ ، وَالطَّلَاقُ وَالْيَمِينُ } ) هَكَذَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ ، وَبَعْضُهُمْ كَصَاحِبِ الْخُلَاصَةِ جَعَلَ مَكَانَ الْيَمِينِ الْعَتَاقَ ، وَالْمَحْفُوظُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ : النِّكَاحُ ، وَالطَّلَاقُ ، وَالرَّجْعَةُ } وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ ، وَقَدْ وَرَدَ حَدِيثُ الْعَتَاقِ فِي مُصَنَّفِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ قَالَ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ طَلَّقَ وَهُوَ لَاعِبٌ فَطَلَاقُهُ جَائِزٌ ، وَمَنْ أَعْتَقَ وَهُوَ لَاعِبٌ فَعِتْقُهُ جَائِزٌ } وَرَوَى ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ثَلَاثٌ لَيْسَ فِيهِنَّ لَعِبٌ مَنْ تَكَلَّمَ بِشَيْءٍ مِنْهُنَّ لَاعِبًا فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَالنِّكَاحُ } وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ مَوْقُوفًا أَنَّهُمَا قَالَا { ثَلَاثٌ لَا لَعِبَ فِيهِنَّ : النِّكَاحُ ، وَالطَّلَاقُ ، وَالْعَتَاقُ } وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُمَا " أَرْبَعٌ " وَزَادَ " وَالنَّذْرُ " وَلَا شَكَّ أَنَّ الْيَمِينَ فِي مَعْنَى النَّذْرِ فَيُقَاسَ عَلَيْهِ .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ حَدِيثُ الْيَمِينِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ ؛ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِيهِ جَعْلُ الْهَزْلَ بِالْيَمِينِ جِدًّا ، وَالْهَازِلُ قَاصِدٌ لِلْيَمِينِ غَيْرُ رَاضٍ بِحُكْمِهِ فَلَا يُعْتَبَرُ عَدَمُ رِضَاهُ بِهِ شَرْعًا بَعْدَ مُبَاشَرَتِهِ السَّبَبَ مُخْتَارًا ، وَالنَّاسِي

بِالتَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ لَمْ يَقْصِدْ شَيْئًا أَصْلًا وَلَمْ يَدْرِ مَا صَنَعَ ، وَكَذَا الْمُخْطِئُ لَمْ يَقْصِدْ قَطُّ التَّلَفُّظَ بِهِ بَلْ بِشَيْءٍ آخَرَ فَلَا يَكُونُ الْوَارِدُ فِي الْهَازِلِ وَارِدًا فِي النَّاسِي الَّذِي لَمْ يَقْصِدْ قَطُّ مُبَاشَرَةَ السَّبَبِ فَلَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ نَصًّا وَلَا قِيَاسًا ، وَإِذَا كَانَ اللَّغْوُ بِتَفْسِيرِهِمْ وَهُوَ أَنْ يَقْصِدَ الْيَمِينَ مَعَ ظَنِّ الْبِرِّ لَيْسَ لَهَا حُكْمُ الْيَمِينِ ، فَمَا لَمْ يَقْصِدْهُ أَصْلًا بَلْ هُوَ كَالنَّائِمِ يَجْرِي عَلَى لِسَانِهِ طَلَاقٌ أَوْ عَتَاقٌ لَا حُكْمَ لَهُ أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا حُكْمُ الْيَمِينِ .
وَأَيْضًا فَتَفْسِيرُ اللَّغْوِ الْمَذْكُورِ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ أَنَّهُ كَلَامُ الرَّجُلِ فِي بَيْتِهِ كَلًّا وَاَللَّهِ وَبَلَى وَاَللَّهِ } ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ نَفْسُ التَّفْسِيرِ الَّذِي فَسَّرُوا بِهِ النَّاسِيَ فَإِنَّ الْمُتَكَلِّمَ كَذَلِكَ فِي بَيْتِهِ لَا يَقْصِدُ التَّكَلُّمَ بِهِ بَلْ يَجْرِي عَلَى لِسَانِهِ بِحُكْمِ الْعَادَةِ غَيْرُ مُرَادٍ لَفْظُهُ وَلَا مَعْنَاهُ .
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إيَّاهُ كَانَ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ الْهَازِلِ ، فَحَمْلُ النَّاسِي عَلَى اللَّاغِي بِالتَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْهَازِلِ ، وَهَذَا الَّذِي أُدِينُهُ وَتَقَدَّمَ لَنَا مِثْلُهُ فِي الطَّلَاقِ فَلَا تَكُنْ غَافِلًا .
( قَوْلُهُ : وَالشَّافِعِيُّ يُخَالِفُنَا فِي ذَلِكَ ) فَيَقُولُ لَا تَنْعَقِدُ يَمِينُ الْمُكْرَهِ وَلَا النَّاسِي وَلَا الْمُخْطِئِ لِلْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ { رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ } قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَسَنُبَيِّنُ ذَلِكَ فِي الْإِكْرَاهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ) وَاسْتَدَلَّ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي التَّحْقِيقِ لِلشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي عَدَمِ انْعِقَادِ يَمِينِ الْمُكْرَهِ بِمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ وَأَبِي أُمَامَةَ قَالَا : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ عَلَى

مَقْهُورٍ يَمِينٌ } ثُمَّ قَالَ عَنْبَسَةُ ضَعِيفٌ .
قَالَ صَاحِبُ تَنْقِيحِ التَّحْقِيقِ : حَدِيثٌ مُنْكَرٌ بَلْ مَوْضُوعٌ ، وَفِيهِ جَمَاعَةٌ لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِمْ .

( وَمَنْ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ مُكْرَهًا أَوْ نَاسِيًا فَهُوَ سَوَاءٌ ) ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ الْحَقِيقِيَّ لَا يَنْعَدِمُ بِالْإِكْرَاهِ وَهُوَ الشَّرْطُ ، وَكَذَا إذَا فَعَلَهُ وَهُوَ مَغْمِيٌّ عَلَيْهِ أَوْ مَجْنُونٌ لِتَحَقُّقِ الشَّرْطِ حَقِيقَةً ، وَلَوْ كَانَتْ الْحِكْمَةُ رَفْعَ الذَّنْبِ فَالْحُكْمُ يُدَارُ عَلَى دَلِيلِهِ وَهُوَ الْحِنْثُ لَا عَلَى حَقِيقَةِ الذَّنْبِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
.

( قَوْلُهُ : وَمَنْ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ مُكْرَهًا أَوْ نَاسِيًا فَهُوَ سَوَاءٌ ) فَتَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ كَمَا لَوْ فَعَلَهُ ذَاكِرًا لِيَمِينِهِ مُحْتَارًا .
وَعَنْ كُلٍّ مِنْ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ رِوَايَتَانِ يَحْنَثُ وَلَا يَحْنَثُ ، وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ وَقَدْ مَرَّ جَوَابُهُ فِي طَلَاقِ الْمُكْرَهِ مِنْ كِتَابِ الطَّلَاقِ ، وَهَذَا ( لِأَنَّ الْفِعْلَ الْحَقِيقِيَّ لَا يَنْعَدِمُ بِالْإِكْرَاهِ وَهُوَ الشَّرْطُ ) يَعْنِي بِالشَّرْطِ السَّبَبَ لِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ ؛ لِأَنَّ الْحِنْثَ هُوَ السَّبَبُ عِنْدَنَا ، وَإِنَّمَا يُنَاسِبُ حَقِيقَةَ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ عِنْدَهُ الْيَمِينُ وَالْحِنْثُ شَرْطٌ عَلَى مَا عُرِفَ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْوُجُوبَ يَثْبُتُ عِنْدَهُ سَبَبًا كَانَ أَوْ شَرْطًا وَبِالنِّسْيَانِ وَالْإِكْرَاهِ لَمْ يَنْعَدِمْ وُجُودُهُ فَاسْتَعْقَبَ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ .
( وَكَذَا إذَا فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ وَهُوَ مُغْمَى عَلَيْهِ أَوْ مَجْنُونٌ ) تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ فَيَخْرُجُهَا عَنْهُ وَلِيُّهُ أَوْ هُوَ إذَا أَفَاقَ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ تَحَقُّقِ الشَّرْطِ : أَيْ السَّبَبِ حَقِيقَةً .
وَقَوْلُهُ : وَلَوْ كَانَتْ الْحِكْمَةُ فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ رَفْعَ الذَّنْبِ جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ هُوَ أَنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ لِرَفْعِ الذَّنْبِ الْحَاصِلِ بِالْحِنْثِ ، وَلَا ذَنْبَ عَلَى الْحَانِثِ إذَا كَانَ مَغْمِيًّا عَلَيْهِ أَوْ مَجْنُونًا .
فَأَجَابَ بِأَنَّ الْحِكْمَةَ لَا يَجِبُ حُصُولُهَا مَعَ شَرْعِ الْحُكْمِ دَائِمًا بَلْ تُنَاطُ بِمَظِنَّتِهَا وَهُوَ كَوْنُ شَرْعِ الْحُكْمِ مَعَ الْوَصْفِ يُحَصِّلُ مَصْلَحَةً أَوْ يَدْفَعُ ضَرَرًا ، كَمَا فِي الِاسْتِبْرَاءِ شُرِعَ وُجُوبُهُ مَعَ الْمِلْكِ الْمُؤَكَّدِ بِالْقَبْضِ يَحْصُلُ مَعَهُ دَفْعُ مَفْسَدَةِ اشْتِبَاهِ النَّسَبِ فَأُدِيرَ عَلَى نَفْسِ الشِّرَاءِ مَعَ الْقَبْضِ ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْوَهْمُ حَاصِلًا أَوْ لَا كَمَا فِي شِرَاءِ الْأَمَةِ الصَّغِيرَةِ الَّتِي لَمْ تَبْلُغْ حَدَّ الْبُلُوغِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ كَمَا فِي شِرَاءِ الْأَمَةِ الْبِكْرِ وَمِنْ الْمَرْأَةِ

فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ التَّوَهُّمَ حَاصِلٌ لِجَوَازِ حَبَلِ الْبِكْرِ وَمَمْلُوكَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى أَنَّ كَوْنَهَا لِرَفْعِ الذَّنْبِ دَائِمًا مَمْنُوعٌ بَلْ لِتَوْفِيرِ تَعْظِيمِ الِاسْمِ أَنْ يَنْعَقِدَ عَلَى أَمْرٍ ثُمَّ يَحْلِفُ عَنْهُ مَجَّانًا لِلْعِلْمِ بِذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ يَجِبُ فِيهِ الْحِنْثُ أَوْ يَنْدُبُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ مَا يَكُونُ يَمِينًا وَمَا لَا يَكُونُ يَمِينًا قَالَ : ( وَالْيَمِينُ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِاسْمٍ آخَرَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى كَالرَّحْمَنِ وَالرَّحِيمِ أَوْ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ الَّتِي يُحْلَفُ بِهَا عُرْفًا كَعِزَّةِ اللَّهِ وَجَلَالِهِ وَكِبْرِيَائِهِ ) لِأَنَّ الْحَلِفَ بِهَا مُتَعَارَفٌ ، وَمَعْنَى الْيَمِينِ وَهُوَ الْقُوَّةُ حَاصِلٌ ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ تَعْظِيمَ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ فَصَلُحَ ذِكْرُهُ حَامِلًا وَمَانِعًا .
.

( بَابُ مَا يَكُونُ يَمِينًا وَمَا لَا يَكُونُ يَمِينًا ) ( قَوْلُهُ : وَالْيَمِينُ بِاَللَّهِ أَوْ بِاسْمٍ آخَرَ مِنْ أَسْمَائِهِ ) تُفِيدُ لَفْظَةُ آخَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِاَللَّهِ اللَّفْظُ فَتَأَمَّلْ ، وَالِاسْمُ الْآخَرُ كَالرَّحْمَنِ وَالرَّحِيمِ وَالْقَدِيرِ ، وَمِنْهُ وَاَلَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ .
وَرَبِّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَرَبِّ الْعَالَمِينَ وَمَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ وَالْأَوَّلِ الَّذِي لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ وَالْآخَرِ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ شَيْءٌ ، وَإِذَا قَالُوا فِي قَوْلِهِ وَالطَّالِبُ الْغَالِبُ إنَّهُ يَمِينٌ ؛ لِأَنَّهُ تَعَارَفَ أَهْلُ بَغْدَادَ الْحَلِفَ بِهِ لَزِمَ .
إمَّا اعْتِبَارُ الْعُرْفِ فِيمَا لَمْ يُسْمَعْ مِنْ الْأَسْمَاءِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَإِنَّ الطَّالِبَ لَمْ يُسْمَعْ بِخُصُوصِهِ بَلْ الْغَالِبُ فِي قَوْله تَعَالَى { وَاَللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ } وَإِمَّا كَوْنُهُ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ الْمُفَصَّلِ فِي الْأَسْمَاءِ ، وَيُفِيدُ قَوْلُهُ آخَرُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ اسْمًا خَاصًّا ، فَلَوْ قَالَ وَاسْمِ اللَّهِ فَهُوَ عَامٌّ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ يَمِينًا ، وَالْمَنْقُولُ أَنَّهُ لَوْ قَالَ بِاسْمِ اللَّهِ لَيْسَ بِيَمِينٍ .
وَفِي الْمُنْتَقَى رِوَايَةُ ابْنِ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَمِينٌ فَلْيُتَأَمَّلْ عِنْدَ الْفَتْوَى .
وَلَوْ قَالَ وَبِاسْمِ اللَّهِ يَكُونُ يَمِينًا ذَكَرَ ذَلِكَ فِي الْخُلَاصَةِ .
وَقَوْلُهُ أَوْ بِصِفَةِ مِنْ صِفَاتِهِ الَّتِي يُحْلَفُ بِهَا عُرْفًا قَيَّدَ فِي الصِّفَةِ فَقَطْ ، فَأَفَادَ أَنَّ الْحَلِفَ بِالِاسْمِ لَا يَتَقَيَّدُ بِالْعُرْفِ بَلْ هُوَ يَمِينٌ تَعَارَفُوهُ أَوْ لَمْ يَتَعَارَفُوهُ ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا ، وَهُوَ الصَّحِيحُ ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ فِي قَوْلٍ .
وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا : كُلُّ اسْمٍ لَا يُسَمَّى بِهِ غَيْرُ اللَّهِ كَاَللَّهِ وَالرَّحْمَنِ فَهُوَ يَمِينٌ ، وَمَا يُسَمَّى بِهِ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى كَالْحَكِيمِ وَالْعَلِيمِ وَالْقَادِرِ وَالْعَزِيزِ فَإِنْ أَرَادَ بِهِ يَمِينًا فَهُوَ يَمِينٌ ، وَإِنْ لَمْ يُرِدْ بِهِ فَلَيْسَ يَمِينًا ، وَرَجَّحَهُ بَعْضُهُمْ

بِأَنَّهُ إنْ كَانَ مُسْتَعْمَلًا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَلِغَيْرِهِ لَا يَتَعَيَّنُ إرَادَةُ أَحَدِهِمَا إلَّا بِالنِّيَّةِ .
وَأَمَّا الصِّفَةُ فَالْمُرَادُ بِهَا اسْمُ الْمَعْنَى الَّذِي لَا يَتَضَمَّنُ ذَاتًا وَلَا يَحْمِلُ عَلَيْهَا بِهُوَ هُوَ كَالْعِزَّةِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ ، بِخِلَافِ نَحْوِ الْعَظِيمِ فَقَيَّدَهُ بِكَوْنِ الْحَلِفِ بِهَا مُتَعَارَفًا سَوَاءٌ كَانَ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ أَوْ الذَّاتِ ، وَهُوَ قَوْلُ مَشَايِخِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ ، وَلِهَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ فِي قَوْلِهِمْ : وَأَمَانَةُ اللَّهِ أَنَّهُ يَمِينٌ ، ثُمَّ سُئِلَ عَنْ مَعْنَاهُ فَقَالَ لَا أَدْرِي ؛ لِأَنَّهُ رَآهُمْ يَحْلِفُونَ بِهِ فَحَكَمَ بِأَنَّهُ يَمِينٌ .
وَوَجْهُهُ أَنَّهُ أَرَادَ مَعْنَى وَاَللَّهِ الْأَمِينِ ، فَالْمُرَادُ الْأَمَانَةُ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا لَفْظَةُ الْأَمِينِ كَعِزَّةِ اللَّهِ الَّتِي هِيَ ضِمْنُ الْعَزِيزِ وَنَحْوُ ذَلِكَ ، وَعَلَى هَذَا فَعَدَمُ كَوْنِ وَعِلْمِ اللَّهِ وَغَضَبَهُ وَسَخَطَهُ وَرَحْمَتِهِ يَمِينًا لِعَدَمِ التَّعَارُفِ ، وَيَزْدَادُ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْمَعْلُومُ .
فَقَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي الْمُعِينِ فِي تَبْصِرَةِ الْأَدِلَّةِ : إنَّ الْحَلِفَ بِالْعِلْمِ وَالرَّحْمَةِ وَالْغَضَبِ مَشْرُوعٌ إنْ كَانَ مُرَادُهُ الصِّفَةَ الْقَائِمَةَ بِهِ فَلَيْسَ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ ، بَلْ هُوَ عَلَى مُحَاذَاةِ قَوْلِ الْقَائِلِينَ فِي الْأَسْمَاءِ : إنَّ مَا كَانَ بِحَيْثُ يُسَمَّى بِهِ اللَّهُ تَعَالَى وَغَيْرُهُ إنْ أَرَادَ بِهِ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ يَمِينًا وَإِلَّا لَا ، فَجَعَلَ مِثْلَهُ فِي الصِّفَاتِ الْمُجَرَّدَةِ عَنْ الدَّلَالَةِ عَلَى الذَّاتِ إنْ أُرِيدَ صِفَتُهُ الْقَائِمَةِ بِهِ فَهُوَ يَمِينٌ وَإِلَّا لَا .
لَا يُقَالُ : مُقْتَضَى هَذَا أَنْ يَجْرِيَ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ مِثْلُهُ ، إنْ أُرِيدَ بِهِ الصِّفَةَ كَانَ يَمِينًا أَوْ الْمَقْدُورُ عَلَى أَنْ يُرَادَ بِالْمَصْدَرِ الْمَفْعُولَ أَوْ الْمَصْدَرَ وَيَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ : أَيْ أَثَرِ قُدْرَتِهِ لَا يَكُونُ يَمِينًا وَلَيْسَ الْمَذْهَبُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ : إنَّمَا اُعْتُبِرَ ذَلِكَ فِيمَا لَمْ يُتَعَارَفْ الْحَلِفُ بِهِ

وَقُدْرَةُ اللَّهِ الْحَلِفُ بِهَا مُتَعَارَفٌ فَيَنْصَرِفُ إلَى الْحَلِفِ بِلَا تَفْصِيلٍ فِي الْإِرَادَةِ .
وَلِمَشَايِخِ الْعِرَاقِ تَفْصِيلٌ آخَرُ هُوَ أَنَّ الْحَلِفَ بِصِفَاتِ الذَّاتِ يَكُونُ يَمِينًا أَوْ بِصِفَاتِ الْفِعْلِ لَا يَكُونُ يَمِينًا ، وَصِفَاتُ الذَّاتِ مَا يُوصَفُ سُبْحَانَهُ بِهَا وَلَا يُوصَفُ بِأَضْدَادِهَا كَالْقُدْرَةِ وَالْجَلَالِ وَالْكَمَالِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ وَالْعِزَّةِ .
وَصِفَاتُ الْفِعْلِ مَا يَصِحُّ أَنْ يُوصَفَ بِهَا وَبِأَضْدَادِهَا كَالرَّحْمَةِ وَالرِّضَا لِوَصْفِهِ سُبْحَانَهُ بِالْغَضَبِ وَالسَّخَطِ .
وَقَالُوا : ذِكْرُ صِفَاتِ الذَّاتِ كَذِكْرِ الذَّاتِ ، وَذِكْرُ صِفَاتِ الْفِعْلِ لَيْسَ كَالذَّاتِ .
قِيلَ يَقْصِدُونَ بِهَذَا الْفَرْقِ الْإِشَارَةَ إلَى مَذْهَبِهِمْ أَنَّ صِفَاتِ الْفِعْلِ غَيْرُ اللَّهِ .
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَنَا أَنَّ صِفَاتِ اللَّهِ لَا هُوَ وَلَا غَيْرُهُ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْغَيْرَ هُوَ مَا يَصِحُّ انْفِكَاكُهُ بِزَمَانٍ أَوْ بِمَكَانٍ أَوْ بِوُجُودٍ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا اصْطِلَاحٌ مَحْضٌ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُبْتَنَى الْفِقْهُ بِاعْتِبَارِهِ .
وَظَاهِرُ قَوْلِ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِالْعُرْفِ وَعَدَمِهِ ، بَلْ صِفَةُ الذَّاتِ مُطْلَقًا يُحْلَفُ بِهَا تُعُورِفَ أَوْ لَا ، وَصِفَةُ الْفِعْلِ لَا يُحْلَفُ بِهَا وَلَوْ تُعُورِفَ ، وَعَلَى هَذَا فَيَلْزَمُ أَنَّ سَمْعَ اللَّهِ وَبَصَرَهُ وَعِلْمَهُ يَكُونُ يَمِينًا عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ ، وَعَلَى اعْتِبَارِ الْعُرْفِ لَا يَكُونُ يَمِينًا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُتَعَارَفْ الْحَلِفُ بِهَا وَإِنْ كَانَتْ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : الْأَسْمَاءُ الَّتِي لَا يُسَمَّى بِهَا غَيْرُهُ كَرَبِّ الْعَالَمِينَ وَالرَّحْمَنِ وَمَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إلَى آخِرِ مَا قَدَّمْنَا أَوَّلَ الْبَابِ يَكُونُ الْحَلِفُ بِهَا يَمِينًا بِكُلِّ حَالٍ ، وَكَذَا الصِّفَاتُ الَّتِي لَا تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ غَيْرَ صِفَاتِهِ كَعِزَّةِ اللَّهِ وَعَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ وَكِبْرِيَائِهِ وَكَلَامِهِ فَيَنْعَقِدُ بِهَا الْيَمِينُ بِكُلِّ حَالٍ وَلَا حَاجَةَ إلَى عُرْفٍ فِيهَا ، بِخِلَافِ الْأَسْمَاءِ الَّتِي تُطْلَقُ عَلَى غَيْرِهِ تَعَالَى

كَالْحَيِّ وَالْمُؤْمِنِ وَالْكَرِيمِ يُعْتَبَرُ فِيهَا الْعُرْفُ أَوْ نِيَّةُ الْحَالِفِ ، وَكَذَا مَا يَكُونُ مِنْ صِفَتِهِ تَعَالَى كَعِلْمِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ فَإِنَّهُ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَقْدُورِ وَالْمَعْلُومِ اتِّسَاعًا .
كَمَا يُقَالُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ عِلْمَك فِينَا ، وَكَذَا صِفَاتُ الْفِعْلِ كَخَلْقِهِ وَرِزْقِهِ ، فَفِي هَذِهِ يَجْرِي التَّعْلِيلُ بِالتَّعَارُفِ وَعَدَمِهِ ، وَوَجْهُ اللَّهِ يَمِينٌ إلَّا إنْ أَرَادَ الْجَارِحَةَ .

قَالَ ( إلَّا قَوْلَهُ وَعِلْمِ اللَّهِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ يَمِينًا ) لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ .
وَلِأَنَّهُ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْمَعْلُومُ ، يُقَالُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ عِلْمَك فِينَا : أَيْ مَعْلُومَك ( وَلَوْ ) ( قَالَ وَغَضَبِ اللَّهِ وَسَخَطِهِ لَمْ يَكُنْ حَالِفًا ) وَكَذَا وَرَحْمَةِ اللَّهِ ؛ لِأَنَّ الْحَلِفَ بِهَا غَيْرُ مُتَعَارَفٍ ؛ وَلِأَنَّ الرَّحْمَةَ قَدْ يُرَادُ بِهَا أَثَرُهُ ، وَهُوَ الْمَطَرُ أَوْ الْجَنَّةُ وَالْغَضَبُ وَالسَّخَطُ يُرَادُ بِهِمَا الْعُقُوبَةُ

( قَوْلُهُ إلَّا قَوْلُهُ وَعِلْمُ اللَّهِ ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ لَكِنْ قَيَّدَ هُنَاكَ بِقَوْلِهِ الَّتِي يَحْلِفُ بِهَا عُرْفًا فَيَقْتَضِي أَنَّ عِلْمَهُ مِمَّا يُحْلَفُ بِهِ عُرْفًا فَيَتَنَاوَلُهُ الصَّدْرُ فَأَخْرَجَهُ مِنْ حُكْمِهِ بَعْدَ دُخُولِهِ فِي لَفْظِهِ .
وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ عَلَّلَهُ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ فَكَانَ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ .
وَأَوْرَدَ عَلَى تَعْلِيلِهِ الثَّانِي الْقُدْرَةَ فَإِنَّهَا تُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهَا الْمَقْدُورُ .
وَأُجِيبَ بِالْمَنْعِ فَإِنَّ الْمَقْدُورَ بِالْوُجُودِ خَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَقْدُورًا ؛ لِأَنَّ تَحْصِيلَ الْحَاصِلِ مُحَالٌ فَلَمْ يَحْتَمِلْ إرَادَتُهُ بِالْحَلِفِ .
وَقِيلَ الْوُجُودُ مَعْدُومٌ وَلَا تَعَارُفَ بِالْحَلِفِ بِالْمَعْدُومِ فَلَمْ يَكْفِ الْمُرَادُ بِالْحَلِفِ بِالْقُدْرَةِ إلَّا الصِّفَةَ الْقَائِمَةَ بِذَاتِهِ تَعَالَى ، بِخِلَافِ الْعِلْمِ إذَا أُرِيدَ بِهِ الْمَعْلُومُ فَإِنَّهُ لَا يَخْرُجُ الْمَعْلُومُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا بِالْوُجُودِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ .
وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ لَا تَصِحَّ إرَادَةُ الْمَقْدُورِ بَعْدَ الْوُجُودِ وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ .
إمَّا وُقُوعًا فَقَالُوا اُنْظُرْ إلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ قَطْعًا إلَّا الْمَوْجُودَ .
وَإِمَّا تَحْقِيقًا فَلِأَنَّ الْقُدْرَةَ فِي الْمَقْدُورِ إذَا كَانَ مَجَازًا لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ مَقْدُورٌ بَعْدَ الْوُجُودِ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ فَيَكُونَ لَفْظُ قُدْرَةٍ فِي الْمَقْدُورِ بَعْدَ الْوُجُودِ مَجَازًا فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ .
نَعَمْ الْحَقُّ أَنْ لَا مَوْقِعَ لِلتَّعْلِيلِ الثَّانِي ؛ لِأَنَّ تَفْرِيعَ كَوْنِ الْحَلِفِ بِالْعِلْمِ لَيْسَ يَمِينًا لَيْسَ إلَّا عَلَى قَوْلِ مُعْتَبَرِي الْعُرْفِ وَعَدَمِهِ فِي الْيَمِينِ ، فَالتَّعْلِيلُ لَيْسَ إلَّا بِنَفْيِ التَّعَارُفِ فِيهِ ، وَأَمَّا لَوْ فَرَّعَ عَلَى الْقَوْلِ الْمُفَصَّلِ بَيْنَ صِفَةِ الذَّاتِ وَغَيْرِهَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ يَمِينًا ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِأَنَّهُ يُرَادُ بِالصِّفَةِ الْمَفْعُولُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ

فَلَا مَوْقِعَ لِلتَّعْلِيلِ بِهِ .

( وَمَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ حَالِفًا كَالنَّبِيِّ وَالْكَعْبَةِ ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ كَانَ مِنْكُمْ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَذَرْ } ( وَكَذَا إذَا حَلَفَ بِالْقُرْآنِ ) لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ ، قَالَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : مَعْنَاهُ أَنْ يَقُولَ وَالنَّبِيِّ وَالْقُرْآنِ ، أَمَّا لَوْ قَالَ أَنَا بَرِيءٌ مِنْهُمَا يَكُونُ يَمِينًا ؛ لِأَنَّ التَّبَرِّي مِنْهُمَا كُفْرٌ .
.

( قَوْلُهُ : مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ حَالِفًا كَالنَّبِيِّ وَالْكَعْبَةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ } ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
قَالَ ( وَكَذَا إذَا حَلَفَ بِالْقُرْآنِ ) ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ .
قَالَ ( وَمَعْنَاهُ أَنْ يَقُولَ وَالنَّبِيِّ وَالْقُرْآنِ ) أَمَّا إذَا حَلَفَ بِذَلِكَ بِأَنْ قَالَ أَنَا بَرِيءٌ مِنْ النَّبِيِّ وَالْقُرْآنِ كَانَ يَمِينًا ؛ لِأَنَّ التَّبَرُّؤَ مِنْهُمَا كُفْرٌ فَيَكُونُ فِي كُلِّ مِنْهُمَا كَفَّارَةُ يَمِينٍ كَمَا سَيَأْتِي ، وَكَذَا إذَا قَالَ هُوَ بَرِيءٌ مِنْ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ يَكُونُ يَمِينًا عِنْدَنَا ، وَكَذَا هُوَ بَرِيءٌ مِنْ الْإِسْلَامِ إنْ فَعَلَ كَذَا .
وَبِحُرْمَةِ شَهِدَ اللَّهُ أَوْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ لَيْسَ يَمِينًا .
وَلَوْ رَفَعَ كِتَابَ فِقْهٍ أَوْ حِسَابٍ فِيهِ الْبَسْمَلَةُ فَقَالَ هُوَ بَرِيءٌ مِمَّا فِيهِ إنْ فَعَلَ فَفَعَلَ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ .
ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ الْحَلِفَ بِالْقُرْآنِ الْآنَ مُتَعَارَفٌ فَيَكُونُ يَمِينًا كَمَا هُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ ، وَتَعْلِيلُ عَدَمِ كَوْنِهِ يَمِينًا بِأَنَّهُ غَيْرُهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ ؛ لِأَنَّهُ حُرُوفٌ وَغَيْرُ الْمَخْلُوقِ هُوَ الْكَلَامُ النَّفْسِيُّ مُنِعَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُنَزَّلَ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ إلَّا الْحُرُوفُ الْمُنْقَضِيَةُ الْمُنْعَدِمَةُ وَمَا ثَبَتَ قِدَمُهُ اسْتَحَالَ عَدَمُهُ ، غَيْرَ أَنَّهُمْ أَوْجَبُوا ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْعَوَامَّ إذَا قِيلَ لَهُمْ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ تَعَدَّوْا إلَى الْكَلَامِ مُطْلَقًا .
وَأَمَّا الْحَلِفُ بِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَجِبُ أَنْ يَدُورَ مَعَ الْعُرْفِ .
وَأَمَّا الْحَلِفُ بجان سرتو وَمِثْلُهُ الْحَلِفُ بِحَيَاةِ رَأْسِك وَرَأْسِ السُّلْطَانِ فَذَلِكَ إنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْبِرَّ وَاجِبٌ فِيهِ يَكْفُرُ .
وَفِي تَتِمَّةِ الْفَتَاوَى قَالَ عَلِيُّ الرَّازِيّ : أَخَافُ عَلَى مَنْ قَالَ بِحَيَاتِي وَحَيَاتِك أَنَّهُ يَكْفُرُ ، وَلَوْلَا أَنَّ الْعَامَّةَ يَقُولُونَهُ وَلَا يَعْلَمُونَ

لَقُلْت إنَّهُ شِرْكٌ .
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : : لَأَنْ أَحْلِفَ بِاَللَّهِ كَاذِبًا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ صَادِقًا .

قَالَ ( وَالْحَلِفُ بِحُرُوفِ الْقَسَمِ ، وَحُرُوفُ الْقَسَمِ الْوَاوُ كَقَوْلِهِ وَاَللَّهِ وَالْبَاءُ كَقَوْلِهِ بِاَللَّهِ وَالتَّاءُ كَقَوْلِهِ تَاللَّهِ ) لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مَعْهُودٌ فِي الْأَيْمَانِ وَمَذْكُورٌ فِي الْقُرْآنِ
( قَوْلُهُ : وَالْحَلِفُ بِحُرُوفِ الْقَسَمِ إلَى قَوْلِهِ وَمَذْكُورٌ فِي الْقُرْآنِ ) قَالَ تَعَالَى { فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إنَّهُ لَحَقٌّ } { وَاَللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } وَقَالَ تَعَالَى { تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ } الْآيَةَ .
وَمَثَّلَ لِلْبَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { بِاَللَّهِ إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } وَفِيهِ احْتِمَالُ كَوْنِهِ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى قَبْلَهُ { لَا تُشْرِكْ } ثُمَّ قَالُوا الْبَاءُ هِيَ الْأَصْلُ ؛ لِأَنَّهَا صِلَةُ الْحَلِفِ ، وَالْأَصْلُ أَحْلِفُ أَوْ أُقْسِمُ بِاَللَّهِ وَهِيَ لِلْإِلْصَاقِ تُلْصِقُ فِعْلَ الْقَسَمِ بِالْمَحْلُوفِ بِهِ .
ثُمَّ حُذِفَ الْفِعْلُ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ مَعَ فَهْمِ الْمَقْصُودِ ، وَلِأَصَالَتِهَا دَخَلَتْ فِي الْمُظْهَرِ وَالْمُضْمَرِ نَحْوُ بِك لَأَفْعَلَنَّ .
ثُمَّ الْوَاوُ بَدَلٌ مِنْهَا لِمُنَاسَبَةٍ مَعْنَوِيَّةٍ وَهِيَ مَا فِي الْإِلْصَاقِ مِنْ الْجَمْعِ الَّذِي هُوَ مَعْنَى الْوَاوِ فَلِكَوْنِهَا بَدَلًا انْحَطَّتْ عَنْهَا بِدَرَجَةٍ فَدَخَلَتْ عَلَى الْمُظْهَرِ لَا الْمُضْمَرِ وَالتَّاءُ بَدَلٌ عَنْ الْوَاوِ ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ حُرُوفِ الزِّيَادَةِ وَقَدْ أُبْدِلَتْ كَثِيرًا مِنْهَا كَمَا فِي تُجَاهٍ وَتُخَمَةِ وَتُرَاثٍ فَانْحَطَّتْ دَرَجَتَيْنِ فَلَمْ تَدْخُلْ مِنْ الْمُظْهَرِ إلَّا عَلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى خَاصَّةً ، وَمَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِهِمْ تَرَبِّي وَتَرَبِّ الْكَعْبَةِ لَا يُقَاسَ عَلَيْهِ وَكَذَا تَحِيَّاتِكَ .
[ فَرْعٌ ] .
قَالَ بِاسْمِ اللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ، وَالْمُخْتَارُ لَيْسَ يَمِينًا لِعَدَمِ التَّعَارُفِ ، وَعَلَى هَذَا بِالْوَاوِ إلَّا أَنَّ نَصَارَى دِيَارِنَا تَعَارَفُوهُ فَيَقُولُونَ وَاسْمِ اللَّهِ .

( وَقَدْ يُضْمِرُ الْحَرْفَ فَيَكُونُ حَالِفًا كَقَوْلِهِ اللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا ) لِأَنَّ حَذْفَ الْحَرْفِ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ إيجَازًا ، ثُمَّ قِيلَ يُنْصَبُ لِانْتِزَاعِ الْحَرْفِ الْخَافِضِ ، وَقِيلَ يُخْفَضُ فَتَكُونُ الْكِسْرَةُ دَالَّةً عَلَى الْمَحْذُوفِ ، وَكَذَا إذَا قَالَ لِلَّهِ فِي الْمُخْتَارِ لِأَنَّ الْبَاءَ تُبَدَّلُ بِهَا ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { آمَنْتُمْ لَهُ } .
أَيْ آمَنْتُمْ بِهِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : إذَا قَالَ وَحَقِّ اللَّهِ فَلَيْسَ بِحَالِفٍ ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى .
وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ يَكُونُ يَمِينًا لِأَنَّ الْحَقَّ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ حَقِيَتُهُ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ وَاَللَّهِ الْحَقِّ وَالْحَلِفُ بِهِ مُتَعَارَفٌ .
وَلَهُمَا أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ طَاعَةُ اللَّهِ تَعَالَى ، إذْ الطَّاعَاتُ حُقُوقُهُ فَيَكُونُ حَلِفًا بِغَيْرِ اللَّهِ ، قَالُوا : وَلَوْ قَالَ وَالْحَقِّ يَكُونُ يَمِينًا ، وَلَوْ قَالَ حَقًّا لَا يَكُونُ يَمِينًا ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَالْمُنَكَّرُ يُرَادُ بِهِ تَحْقِيقُ الْوَعْدِ .

( قَوْلُهُ : وَقَدْ يُضْمَرُ الْحَرْفُ فَيَكُونُ حَالِفًا كَقَوْلِهِ اللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا ؛ لِأَنَّ حَذْفَ الْحَرْفِ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ ) يُرِيدُ بِالْحَذْفِ الْإِضْمَارَ ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْإِضْمَارَ يَبْقَى أَثَرُهُ بِخِلَافِ الْحَذْفِ ، وَعَلَى هَذَا فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي حَالَةِ النَّصْبِ الْحَرْفُ مَحْذُوفًا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ أَثَرُهُ .
وَفِي حَالَةِ الْجَرِّ مُضْمَرًا لِظُهُورِ أَثَرِهِ وَهُوَ الْجَرُّ فِي الِاسْمِ .
وَقَوْلُهُ ثُمَّ قِيلَ يُنْصَبُ لِانْتِزَاعِ الْخَافِضِ ، وَقِيلَ يُخْفَضُ فَتَكُونُ الْكَسْرَةُ دَالَّةً عَلَى الْمَحْذُوفِ ظَاهِرٌ فِي نَقْلِ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ وَهُوَ تَبَعٌ لِلْمَبْسُوطِ حَيْثُ قَالَ : النَّصْبُ مَذْهَبُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَالْخَفْضُ مَذْهَبُ أَهْلِ الْكُوفَةِ ، وَنَظَرَ فِيهِ بِأَنَّهُمَا وَجْهَانِ سَائِغَانِ لِلْعَرَبِ لَيْسَ أَحَدٌ يُنْكِرُ أَحَدَهُمَا لِيَتَأَتَّى الْخِلَافُ .
وَحُكِيَ الرَّفْعُ أَيْضًا نَحْوُ اللَّهُ لَا أَفْعَلَنَّ عَلَى إضْمَارِ مُبْتَدَإٍ ، وَالْأَوْلَى كَوْنُهُ عَلَى إضْمَارِ خَبَرٍ ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ الْكَرِيمَ أَعْرَفُ الْمَعَارِفِ فَهُوَ أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً وَالتَّقْدِيرُ اللَّهُ قَسَمِي أَوْ قَسَمِي اللَّهُ لَأَفْعَلَنَّ ، غَيْرَ أَنَّ النَّصْبَ أَكْثَرُ فِي الِاسْتِعْمَالِ .
وَقَوْلُهُ فِي النَّصْبِ ؛ لِانْتِزَاعِ الْخَافِضِ خِلَافُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ بَلْ هُوَ عِنْدَهُمْ بِفِعْلِ الْقَسَمِ لَمَّا حُذِفَ الْحَرْفُ اتَّصَلَ الْفِعْلُ بِهِ إلَّا أَنْ يُرَادَ عِنْدَ انْتِزَاعِ الْخَافِضِ : أَيْ بِالْفِعْلِ عِنْدَهُ .
وَأَمَّا الْجَرُّ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ بِالْحَرْفِ الْمُضْمَرِ .
وَهُوَ قَلِيلٌ شَاذٌّ فِي غَيْرِ الْقَسَمِ كَقَوْلِهِ : إذَا قِيلَ أَيُّ النَّاسِ شَرٌّ قَبِيلَةً أَشَارَتْ كُلَيْبٍ بِالْأَكُفِّ الْأَصَابِعُ أَيْ إلَى كُلَيْبٍ ( قَوْلُهُ وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ لِلَّهِ ؛ لِأَنَّ الْبَاءَ تُبْدَلُ بِهَا ) أَيْ بِاللَّامِ قَالَ تَعَالَى { آمَنْتُمْ لَهُ } { آمَنْتُمْ بِهِ } وَالْقِصَّةُ وَاحِدَةٌ .
أُورِدَ عَلَيْهِ أَنَّهَا لَا تُبَدَّلُ بِهَا بِمَعْنَى أَنْ تُوضَعَ مَكَانَهَا دَالَّةً عَلَى عَيْنِ مَدْلُولِهَا ، وَفِي الْآيَتَيْنِ

الْمَعْنَى مُخْتَلِفٌ ، فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى { آمَنْتُمْ لَهُ } أَيْ صَدَقْتُمُوهُ وَانْقَدْتُمْ إلَيْهِ طَاعَةً { آمَنْتُمْ بِهِ } لَا يُفِيدُ تِلْكَ الزِّيَادَةَ ، وَلَوْ سَلَّمَ فَكَوْنُهَا وَقَعَتْ صِلَةَ فِعْلٍ خَاصٍّ كَذَلِكَ وَهُوَ آمَنْتُمْ لَا يَلْزَمُ فِي كُلِّ فِعْلٍ ؛ لِجَوَازِ كَوْنِ مَعْنَى ذَلِكَ الْفِعْلِ يَتَأَتَّى مَعْنَاهُمَا فِيهِ بِخِلَافِهِ فِي الْقَسَمِ ، وَلَا تُسْتَعْمَلُ اللَّامُ إلَّا فِي قَسَمٍ مُتَضَمِّنٍ مَعْنَى التَّعَجُّبِ كَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسِ : دَخَلَ آدَم الْجَنَّةَ فَلِلَّهِ مَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ حَتَّى خَرَجَ .
وَكَقَوْلِهِمْ : لِلَّهِ لَا يُؤَخَّرُ الْأَجَلُ ، فَاسْتِعْمَالُهَا قَسَمًا مُجَرَّدًا عَنْهُ لَا يَصِحُّ فِي اللُّغَةِ إلَّا أَنْ يُتَعَارَفَ كَذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ فِي الْمُخْتَارِ احْتِرَازٌ عَمَّا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ لَا أُكَلِّمَ فُلَانًا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِيَمِينٍ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ ؛ لِأَنَّ الصِّيغَةَ لِلنَّذْرِ وَتَحْتَمِلُ مَعْنَى الْيَمِينِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الشُّرُوحِ فَائِدَةَ هَذَا الِاحْتِرَازِ ؛ لِأَنَّ لَفْظًا فِي الْمُخْتَارِ فِي بَعْضِ النُّسَخِ لَا كُلِّهَا فَكَانَ الْوَاقِعُ لَهُمْ مَا لَيْسَ هُوَ فِيهِ .
هَذَا وَلَا فَرْقَ فِي ثُبُوتِ الْيَمِينِ بَيْنَ أَنْ يُعْرِبَ الْمُقْسِمَ بِهِ خَطَأً أَوْ صَوَابًا أَوْ يُسَكِّنَهُ خِلَافًا لِمَا فِي الْمُحِيطِ فِيمَا إذَا أَسْكَنَ مِنْ أَنَّهُ لَا يَكُونُ يَمِينًا إلَّا بِالنِّيَّةِ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْيَمِينِ ، وَهُوَ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمَنْعِ أَوْ الْحَمْلِ مَعْقُودًا بِمَا أُرِيدَ مَنْعُهُ أَوْ فِعْلُهُ ثَابِتٌ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى خُصُوصِيَّةٍ فِي اللَّفْظِ .
( قَوْلُهُ : وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : إذَا قَالَ وَحَقُّ اللَّهِ فَلَيْسَ بِحَالِفٍ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ) وَعَنْهُ أَيْ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ( رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنْ يَكُونَ يَمِينًا ) يَعْنِي إذَا أُطْلِقَ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ عُدَّ فِي أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى ، قَالَ تَعَالَى { وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ }

( وَهُوَ حَقِيَتُهُ ) أَيْ كَوْنُهُ تَعَالَى ثَابِتُ الذَّاتِ مَوْجُودُهَا فَكَأَنَّهُ قَالَ : وَاَللَّهِ الْحَقِّ ( وَالْحَلِفُ بِهِ مُتَعَارَفٌ ) فَوَجَبَ كَوْنُهُ يَمِينًا ، وَهَذَا قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ حَتَّى قَالَ أَحْمَدُ : لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ : يَعْنِي فِي عَدَمِ الْيَمِينِ ؛ لِأَنَّهُ انْصَرَفَ بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ إلَى الْيَمِينِ فَانْصَرَفَ الْحَقُّ إلَى مَا يَسْتَحِقُّهُ لِنَفْسِهِ مِنْ الْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ فَصَارَ كَقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى ( قَوْلُهُ : وَلَهُمَا أَنَّهُ ) أَيْ حَقَّ اللَّهِ ( يُرَادُ بِهِ طَاعَةُ اللَّهِ إذْ الطَّاعَاتُ حُقُوقُهُ ) وَصَارَ ذَلِكَ مُتَبَادَرًا شَرْعًا وَعُرْفًا حَتَّى كَأَنَّهُ حَقِيقَةٌ حَيْثُ لَا يُتَبَادَرُ سِوَاهُ إذْ يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَخْطِرُ مِنْ ذِكْرِهِ وُجُودُهُ وَثُبُوتُ ذَاتِهِ ، وَالْحَلِفُ بِالطَّاعَاتِ حَلِفٌ بِغَيْرِهِ وَغَيْرِ صِفَتِهِ فَلَا يَكُونُ يَمِينًا ، وَالْمَعْدُودُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى هُوَ الْحَقُّ الْمَقْرُونُ بِاللَّامِ ، وَبِهَذَا الْوَجْهِ مِنْ التَّقْرِيرِ انْدَفَعَ تَرْجِيحُ بَعْضِهِمْ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ يَمِينٌ بِأَنَّهُ تَقَدَّمَ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ غَيْرِهَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْعُرْفُ ، وَبِهِ حَصَلَ الْفَرْقُ بَيْنَ عِلْمِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ .
وَإِذَا كَانَ الْحَلِفُ بِقُدْرَةِ اللَّهِ يَمِينًا لِلتَّعَارُفِ فَبِحَقِّ اللَّهِ كَذَلِكَ لِلتَّعَارُفِ .
فَإِنَّ التَّعَارُفَ يُعْتَبَرُ بَعْدَ كَوْنِ الصِّفَةِ مُشْتَرَكَةً فِي الِاسْتِعْمَالِ بَيْنَ صِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَةِ غَيْرِهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ لَفْظَ حَقٍّ لَا يَتَبَادَرُ مِنْهُ مَا هُوَ صِفَةُ اللَّهِ بَلْ مَا هُوَ مِنْ حُقُوقِهِ فَصَارَ نَفْسَ وُجُودِهِ وَنَحْوُهُ كَالْحَقِيقَةِ الْمَهْجُورَةِ .
، وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال عَلَى أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الطَّاعَاتُ بِقَوْلِ السَّائِلِ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْعِبَادِ ؟ فَقَالَ : أَنْ لَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } إلَى آخَرِهِ كَمَا وَقَعَ لِبَعْضِ الشَّارِحِينَ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ صِلَتَهُ بِلَفْظِ عَلَى الْعِبَادِ يُبَيِّنُ

الْمُرَادَ بِالْحَقِّ أَنَّهُ غَيْرُ وُجُودِهِ وَصِفَتِهِ .
وَالْكَلَامُ فِي لَفْظِ حَقٍّ غَيْرُ مَقْرُونٍ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ بِخُصُوصِهِ ، فَلَيْسَ الْوَجْهُ إلَّا مَا ذَكَرْنَا ( قَوْلُهُ : وَلَوْ قَالَ وَالْحَقِّ يَكُونُ يَمِينًا ) أَيْ بِالْإِجْمَاعِ .
كَذَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ .
وَاعْتَرَضَهُ شَارِحٌ بِأَنَّ الْحَقَّ بِالتَّعْرِيفِ يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِهِ تَعَالَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلَّا الضَّلَالُ } { فَلَمَّا جَاءَهُمْ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا } فَكَيْفَ يَكُونُ يَمِينًا بِلَا خِلَافٍ ، لَكِنَّ جَوَابَهُ أَنَّهُ إنْ نَوَى الْيَمِينَ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى يَكُونُ يَمِينًا وَإِلَّا فَلَا .
انْتَهَى .
وَأَنْتَ عَلِمْت أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ كَوْنُهُ اسْمًا لَهُ تَعَالَى لَا تُعْتَبَرُ فِيهِ النِّيَّةُ وَإِنْ أُطْلِقَ عَلَى غَيْرِهِ ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ الْقَوْلُ الْمُقَابِلُ لِلْمُخْتَارِ .
وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْمُفَصِّلِ بَيْنَ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْيَمِينَ وَأَنْ لَا يُرِيدَ فَالْحَقُّ يَتَبَادَرُ مِنْهُ ذَاتُهُ تَعَالَى ، فَصَارَ غَيْرُهُ مَهْجُورًا لَا بِدَلِيلٍ ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ قَوْلُ أَبِي نَصْرٍ إنْ نَوَى بِالْحَقِّ الْيَمِينَ كَانَ يَمِينًا وَإِلَّا فَلَا ، وَلَا يَلْزَمُ بُطْلَانُ قَوْلِ مَنْ حَكَى الْإِجْمَاعَ مِنْ الشَّارِحِينَ ؛ لِأَنَّهُ يُرِيدُ إجْمَاعَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ فَإِنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِخِلَافِ غَيْرِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ .
وَلَوْ قَالَ حَقًّا بِأَنْ قَالَ حَقًّا عَلَيَّ أَنْ أُعْطِيَك كَذَا وَنَحْوَهُ لَا تَكُونُ يَمِينًا ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى فَيَنْعَقِدُ بِهِ الْيَمِينُ ، وَالْمُنَكَّرُ يُرَادُ بِهِ تَحْقِيقُ الْوَعْدِ ، وَمَا نُقِلَ عَنْ الشَّيْخِ إسْمَاعِيلَ الزَّاهِدِ ، وَالْحَسَنِ بْنِ أَبِي مُطِيعٍ أَنَّهُ يَمِينٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُضِفْهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَصَارَ كَالْحَقِّ مَرْدُودٌ بِأَنَّ الْمُنَكَّرَ لَيْسَ اسْمًا لِلَّهِ تَعَالَى ، وَمِنْ الْأَقْوَالِ الضَّعِيفَةِ مَا قَالَ الْبَلْخِيّ : إنَّ قَوْلَهُ بِحَقِّ اللَّهِ يَمِينٌ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَحْلِفُونَ بِهِ ، وَضَعْفُهُ لِمَا عَلِمْت أَنَّهُ مِثْلُ

وَحَقُّ اللَّهِ بِالْإِضَافَةِ وَعَلِمْت الْمُغَايَرَةَ فِيهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ يَمِينًا فَكَذَا بِحَقِّ اللَّهِ .

( وَلَوْ قَالَ أُقْسِمُ أَوْ أُقْسِمُ بِاَللَّهِ أَوْ أَحْلِفُ أَوْ أَحْلِفُ بِاَللَّهِ أَوْ أَشْهَدُ أَوْ أَشْهَدُ بِاَللَّهِ فَهُوَ حَالِفٌ ) ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْحَلِفِ وَهَذِهِ الصِّيغَةُ لِلْحَالِ حَقِيقَةً وَتُسْتَعْمَلُ لِلِاسْتِقْبَالِ بِقَرِينَةٍ فَجُعِلَ حَالِفًا فِي الْحَالِ ، وَالشَّهَادَةُ يَمِينٌ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { قَالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ } ثُمَّ قَالَ { اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً } وَالْحَلِفُ بِاَللَّهِ هُوَ الْمَعْهُودُ الْمَشْرُوعُ وَبِغَيْرِهِ مَحْظُورٌ فَصُرِفَ إلَيْهِ .
وَلِهَذَا قِيلَ لَا يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ .
وَقِيلَ لَا بُدَّ مِنْهَا لِاحْتِمَالِ الْعِدَّةِ وَالْيَمِينِ بِغَيْرِ اللَّهِ .

( قَوْلُهُ : وَلَوْ قَالَ أُقْسِمُ إلَخْ ) إذَا حَلَفَ بِلَفْظِ الْقَسَمِ فَإِمَّا بِلَفْظِ الْمَاضِيَ أَوْ الْمُضَارِعَ وَكُلُّ مِنْهُمَا إمَّا مَوْصُولٌ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِصِفَتِهِ أَوْ لَا ، فَإِذَا كَانَ مَاضِيًا مَوْصُولًا بِالِاسْمِ مِثْلَ حَلَفْت بِاَللَّهِ أَوْ أَقْسَمْت أَوْ شَهِدْت بِاَللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ وَكَذَا عَزَمْت بِاَللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ فَهُوَ يَمِينٌ بِلَا خِلَافٍ ، وَإِذَا كَانَ مُضَارِعًا مِثْلَ أُقْسِمُ بِاَللَّهِ أَوْ أَعْزِمُ بِاَللَّهِ إلَخْ فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَكُونُ يَمِينًا إلَّا بِالنِّيَّةِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْمُسْتَقْبَلَ وَعْدًا .
وَوَجْهُ قَوْلِنَا أَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ حَقِيقَةٌ فِي الْحَالِ وَمَجَازٌ فِي الِاسْتِقْبَالِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الْعِتْقِ لِلْمُصَنِّفِ ، وَلِهَذَا لَا يَنْصَرِفُ إلَيْهِ إلَّا بِقَرِينَةِ السِّينِ وَنَحْوِهِ فَوَجَبَ صَرْفُهُ إلَى حَقِيقَتِهِ .
وَأَمَّا الِاسْتِشْهَادُ بِأَنَّ فِي الْعُرْفِ كَذَلِكَ كَقَوْلِهِمْ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِدَلَالَةِ الْحَالِ لِلْعِلْمِ بِأَنْ لَيْسَ الْمُرَادُ الْوَعْدَ بِالشَّهَادَةِ ، وَكَذَا قَوْلُ الشَّاهِدِ أَشْهَدُ بِذَلِكَ عِنْدَ الْقَاضِي لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ كَذَلِكَ عُرْفًا فَجَازَ أَنْ يُقَالَ هِيَ لِلْمُسْتَقْبَلِ ، وَيُسْتَعْمَلُ لِلْحَالِ بِقَرِينَةٍ حَالِيَّةٍ أَوْ مَقَالِيَّةٍ كَالتَّقْيِيدِ بِلَفْظِ الْآنَ وَنَحْوِهِ ، وَإِنْ ذَكَرَهُ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ اسْمِهِ تَعَالَى فِيهَا مِثْلَ أَحْلِفُ لَأَفْعَلَنَّ أَوْ أُقْسِمُ أَوْ أَشْهَدُ أَوْ أَعْزِمُ أَوْ حَلَفْت فَعِنْدَنَا هُوَ يَمِينٌ نَوَى أَوْ لَمْ يَنْوِ ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ .
وَقَالَ زُفَرُ : إنْ نَوَى يَكُونُ يَمِينًا وَإِلَّا لَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَيْسَ بِيَمِينٍ نَوَى أَوْ لَمْ يَنْوِ ، وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ .
وَقَالَ مَالِكٌ : إذَا نَوَى فِي قَوْلِهِ أُقْسِمُ بِاَللَّهِ إلَخْ يَكُونُ يَمِينًا ، وَإِنْ أَطْلَقَ فَلَا .
وَجْهُ قَوْلِهِمْ أَنَّ أُقْسِمُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِاَللَّهِ أَوْ بِغَيْرِهِ فَلَا يَكُونُ يَمِينًا

، وَكَذَا يَحْتَمِلُ الْعِدَّةَ وَالْإِنْشَاءَ لِلْحَالِ فَلَا يَتَعَيَّنُ يَمِينًا كَذَا قِيلَ ، وَإِنَّمَا يَشْهَدُ لِقَوْلِ الْقَائِلِ إنْ نَوَى كَانَ يَمِينًا وَإِلَّا فَلَا .
وَجَوَابُهُ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْحَالِ فَانْصَرَفَ إلَيْهِ ، وَمِنْ أَنَّ الْحَلِفَ بِاَللَّهِ هُوَ الْمَعْهُودُ الْمَشْرُوعُ وَبِغَيْرِهِ مَحْظُورٌ فَصُرِفَ إلَيْهِ : أَيْ إلَى الْحَلِفِ بِاَللَّهِ وَلِهَذَا قِيلَ لَا يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ ، وَقِيلَ لَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ لِاحْتِمَالِ الْعِدَّةِ : أَيْ لِاحْتِمَالِ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَلِاحْتِمَالِ الْيَمِينِ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ حَكَى الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ هَذَا الْخِلَافَ صَرِيحًا فِي الْمَذْهَبِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ صَرَّحَ بِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَذْكُرْ الْمُقْسَمَ بِهِ يَكُونُ يَمِينًا عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ نَوَى أَوْ لَمْ يَنْوِ : يَعْنِي إذَا نَوَى الْيَمِينَ أَوْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا .
أَمَّا إذَا نَوَى غَيْرَهُ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يَكُونُ يَمِينًا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا أَنْ يَكُونَ حَالِفًا لِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْيَمِينَ عَلَيْهِ شَرْعًا فَإِنَّ الْيَمِينَ عَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ لَا الْحَالِفِ حِينَئِذٍ .
وَقَدْ وَقَعَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خَبْطٌ فِي مَوْضِعَيْنِ أَشَدُّهُمَا فِي الْحُكْمِ ، وَهُوَ تَوَهُّمُ صَاحِبِ النِّهَايَةِ أَنَّ مُجَرَّدَ قَوْلِ الْقَائِلِ : أُقْسِمُ أَوْ أَحْلِفُ مُوجِبٌ لِلْكَفَّارَةِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ مَحْلُوفٍ عَلَيْهِ وَلَا حِنْثَ إذْ أَوْرَدَ السُّؤَالَ الْقَائِلَ : الْيَمِينُ مَا كَانَ حَامِلًا عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ أَوْ تَرْكِهِ مُوجِبًا لِلْبِرِّ ، وَعِنْدَ فَوَاتِهِ مُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ عَلَى وَجْهِ الْخِلَافَةِ .
فَقَوْلُهُ أُقْسِمُ هَاهُنَا لَيْسَ مُوجِبًا شَيْئًا مِنْ الْبِرِّ بِمُجَرَّدِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْقِدْ يَمِينًا عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ أَوْ تَرْكِهِ فَكَيْفَ يَكُونُ يَمِينًا ؛ وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ لِسَتْرِ ذَنْبٍ هَتْكِ حُرْمَةِ الِاسْمِ ، وَلَيْسَ فِي أُقْسِمُ مُجَرَّدًا هَتْكٌ ، فَكَيْفَ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ .
ثُمَّ أَجَابَ بِأَنَّ قَوْلَهُ أُقْسِمُ أُلْحِقَ

بِقَوْلِهِ عَلَى يَمِينٍ فَإِنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ ذَكَرَهُ فِي الذَّخِيرَةِ وَغَيْرِهَا فَقَالَ : لَوْ قَالَ عَلَيَّ يَمِينٌ أَوْ يَمِينُ اللَّهِ فَهُوَ يَمِينٌ ، وَفِي الْمُنْتَقَى : لَوْ قَالَ عَلَيَّ يَمِينٌ لَا كَفَّارَةَ لَهَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ وَإِنْ نَفَى الْكَفَّارَةَ صَرِيحًا ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ عَلَيَّ يَمِينٌ لَمَّا كَانَ مُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ لَا يُفِيدُ قَوْلُهُ : لَا كَفَّارَةَ لَهَا : ثُمَّ قَالَ : وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ عَلَيَّ لِلْإِيجَابِ ، فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ هَذَا إقْرَارًا عَنْ مُوجِبِ الْيَمِينِ وَمُوجِبُهَا الْبِرُّ إنْ أَمْكَنَ وَإِلَّا فَالْكَفَّارَةُ ، وَلَمْ يُمْكِنْ تَحْقِيقُ الْبِرِّ هَاهُنَا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْقِدْ يَمِينَهُ عَلَى شَيْءٍ فَكَانَ إقْرَارًا عَنْ الْمُوجِبِ الْآخَرِ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ عَلَى وَجْهِ الْخِلَافَةِ ، وَبِالْإِقْرَارِ يَجِبُ الْحَدُّ فَكَذَا الْكَفَّارَةُ ، وَكَذَا فِي قَوْلِهِ عَلَيَّ نَذْرٌ فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ عَلَى مَا يَجِيءُ بَعْدَ هَذَا .
فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ عَلَيَّ يَمِينٌ وَعَلَيَّ نَذْرٌ كَانَ فِي قَوْلِهِ أُقْسِمُ عِنْدَ قِرَانِ النِّيَّةِ بِالْقَسَمِ كَذَا ؛ لِأَنَّ أَصْلَهُ الْحَالُ فِي اسْتِعْمَالِ الْفُقَهَاءِ .
ثُمَّ قَالَ : وَحَاصِلُ ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ أُقْسِمُ لَمَّا كَانَ عِبَارَةً عَنْ الْإِقْرَارِ بِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى وُجُوبِ الْبِرِّ ابْتِدَاءً وَلَا إلَى تَصَوُّرِ هَتْكِ حُرْمَةِ الِاسْمِ وَقَدْ شُنِّعَ عَلَى هَذَا بِأَنَّ الْيَمِينَ بِذِكْرِ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ ، وَمَا ذُكِرَ فِي الذَّخِيرَةِ مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ عَلَيَّ يَمِينٌ مُوجِبٌ لِلْكَفَّارَةِ مَعْنَاهُ إذَا وُجِدَ ذِكْرُ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ وَنُقِضَتْ الْيَمِينُ ، وَلَا شَكَّ فِي ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا تُرِكَ ذَلِكَ لِلْعِلْمِ بِهِ ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ الَّذِي يَحْتَمِلُ أَنْ يَخْفَى هُوَ أَنَّ قَوْلَهُ عَلَيَّ يَمِينٌ هَلْ يَجْرِي مَجْرَى قَوْلِ الْقَائِلِ وَاَللَّهِ أَوْ لَا ، فَإِمَّا أَنَّ بِمُجَرَّدِ ذِكْرِ ذَلِكَ يَحْتَمِلُ أَنْ تَجِبَ الْكَفَّارَةُ فَلَا خَفَاءَ فِيهِ فَيَحْتَاجُ إلَى التَّنْصِيصِ عَلَيْهِ ، أَلَا تَرَى إلَى

قَوْلِ مُحَمَّدٍ فِي الْأَصْلِ وَإِنْ حَلَفَ بِاَللَّهِ أَوْ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ أَوْ قَالَ وَاَللَّهِ أَوْ بِاَللَّهِ أَوْ عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ أَوْ ذِمَّتُهُ أَوْ هُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ أَوْ بَرِيءٌ مِنْ الْإِسْلَامِ أَوْ قَالَ أَشْهَدُ أَوْ أَشْهَدُ بِاَللَّهِ أَوْ أَحْلِفُ أَوْ أَحْلِفُ بِاَللَّهِ أَوْ أُقْسِمُ أَوْ أُقْسِمُ بِاَللَّهِ أَوْ عَلَيَّ نَذْرٌ أَوْ نَذْرُ اللَّهِ أَوْ أَعْزِمُ أَوْ أَعْزِمُ بِاَللَّهِ أَوْ عَلَيَّ يَمِينٌ أَوْ يَمِينُ اللَّهِ أَوْ مَا أَفَادَ عَيْنَ ذَلِكَ ، ثُمَّ قَالَ : فَهَذِهِ كُلُّهَا أَيْمَانٌ ، وَإِذَا حَلَفَ بِشَيْءٍ مِنْهُمَا لَيَفْعَلَنَّ كَذَا وَكَذَا فَحَنِثَ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ .
وَقَدْ ذَكَرَ مِنْهَا هُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ ، وَأَنْ يَقُولَ وَاَللَّهِ وَبِاَللَّهِ وَتَاللَّهِ وَحَكَمَ عَلَى كُلٍّ مِنْهَا أَنَّهُ يَمِينٌ ، وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ وَاَللَّهِ أَوْ قَوْلِهِ هُوَ يَهُودِيٌّ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ ، بَلْ صَرَّحَ بِاشْتِرَاطِ الْحِنْثِ فِي كُلٍّ مِنْهَا لِلُزُومِ الْكَفَّارَةِ كَمَا سَمِعْت قَوْلَهُ وَإِذَا حَلَفَ بِشَيْءٍ مِنْهَا لَيَفْعَلَنَّ كَذَا وَكَذَا فَحَنِثَ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ ، وَلِأَنَّ مِنْ الظَّاهِرِ أَنَّ مُجَرَّدَ الْإِقْرَارِ بِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ لَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ إلَّا إنْ كَانَ فِي الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّهُ يُؤَاخَذُ بِإِقْرَارِهِ ، وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِي أَنْ يَقُولَ : أَقْسَمْت عِنْدَ الْقَاضِي بَلْ لَوْ أَقَرَّ بِهِ كَانَ سَبِيلُهُ أَنْ يُفْتِيَهُ بِقَوْلِهِ إنْ كُنْت صَادِقًا فَعَلَيْك الْكَفَّارَةُ ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي الْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ وَهُوَ الْإِنْشَاءُ ، وَالْحَقُّ أَنَّ قَوْلَهُ عَلَيَّ يَمِينٌ إذَا لَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهِ الْإِنْشَاءِ لَا الْإِخْبَارِ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ الْتَزَمَ الْكَفَّارَةَ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ ابْتِدَاءً كَمَا يَأْتِي فِي قَوْلِهِ عَلَيَّ نَذْرٌ إذَا لَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ مِثْلُهُ مِنْ صِيَغِ النَّذْرِ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَغَا ، بِخِلَافِ أَحْلِفُ وَأَشْهَدُ وَنَحْوِهِمَا لَيْسَتْ مِنْ صِيَغِ

النَّذْرِ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الِالْتِزَامُ ابْتِدَاءً .
وَالْمَوْضِعُ الْآخَرُ اسْتِدْلَالُ صَاحِبِ النِّهَايَةِ وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ قَوْلِهِ أَحْلِفُ أَوْ أُقْسِمُ يَمِينٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ } وقَوْله تَعَالَى { إذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ } وَلَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ أَنَّ قَوْلَهُ أَقْسَمُوا إخْبَارٌ عَنْ وُجُودِ قَسَمٍ مِنْهُمْ ، وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنَّ ذَلِكَ الْقَسَمَ كَانَ قَوْلُهُمْ نُقْسِمُ لَنَصْرِمُنَّهَا ، فَإِنَّهُمْ لَوْ قَالُوا وَاَللَّهِ لَنَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ لَصَحَّ أَنْ يُقَالَ فِي الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا ، وَمِثْلُهُ فِي { يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ } لَا يَلْزَمُ كَوْنُ حَلِفِهِمْ كَانَ بِلَفْظِ الْحَلِفِ أَصْلًا فَضْلًا عَنْ لَفْظِ الْحَلِفِ بِلَا ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَإِنَّمَا اسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ { الَّذِي رَأَى رُؤْيَا فَقَصَّهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ ائْذَنْ لِي فَلْأَعْبُرْهَا فَأَذِنَ لَهُ فَعَبَرَهَا ، ثُمَّ قَالَ : أَصَبْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَقَالَ أَصَبْتَ وَأَخْطَأْتَ ، فَقَالَ أَقْسَمْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَتُخْبِرُنِّي ، قَالَ لَا تُقْسِمْ } هَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ بِلَفْظٍ آخَرَ .

( وَلَوْ قَالَ بِالْفَارِسِيَّةِ سوكند ميخورم بخداي يَكُونُ يَمِينًا ) ؛ لِأَنَّهُ لِلْحَالِ .
وَلَوْ قَالَ سوكند خورم قِيلَ لَا يَكُونُ يَمِينًا وَلَوْ قَالَ بِالْفَارِسِيَّةِ سوكند خورم بِطَلَاقِ زنم لَا يَكُونُ يَمِينًا ؛ لِعَدَمِ التَّعَارُفِ .
( قَوْلُهُ : وَلَوْ قَالَ بِالْفَارِسِيَّةِ سوكندمي خورم بخداي يَكُونُ يَمِينًا ) ؛ لِأَنَّهُ لِلْحَالِ ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَحْلِفُ الْآنَ بِاَللَّهِ ، وَلَوْ قَالَ سوكند خورم قِيلَ لَا يَكُونُ يَمِينًا ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَقْبَلٌ ، وَلَوْ قَالَ سوكند خورم بِطَلَاقِ زنم : يَعْنِي أَحْلِفُ بِطَلَاقِ زَوْجَتِي لَا يَكُونُ يَمِينًا لِعَدَمِ التَّعَارُفِ فِي الطَّلَاقِ كَذَلِكَ .

قَالَ : ( وَكَذَا قَوْلُهُ لَعَمْرُ اللَّهِ وَأَيْمُ اللَّهِ ) لِأَنَّ عَمْرُ اللَّهِ بَقَاءُ اللَّهِ ، وَأَيْمُ اللَّهِ مَعْنَاهُ أَيْمَنُ اللَّهِ وَهُوَ جَمْعُ يَمِينٍ ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ وَاَللَّهُ وَأَيْمُ صِلَةٌ كَالْوَاوِ ، وَالْحَلِفُ بِاللَّفْظَيْنِ مُتَعَارَفٌ .

( قَوْلُهُ : وَكَذَا قَوْلُهُ : لَعَمْرُ اللَّهِ وَأَيْمُ اللَّهِ ) يَعْنِي يَكُونُ حَالِفًا كَمَا هُوَ حَالِفٌ فِي أُقْسِمُ بِاَللَّهِ وَأَخَوَاتِهِ ؛ لِأَنَّ عَمْرُ اللَّهِ بَقَاؤُهُ ، وَفِيهِ ضَمُّ الْعَيْنِ وَفَتْحُهَا إلَّا أَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ الْمَضْمُومِ فِي الْقَسَمِ وَلَا يَلْحَقُ الْمَفْتُوحَةَ الْوَاوُ فِي الْخَطِّ ، بِخِلَافِ عَمْرِو الْعَلَمِ فَإِنَّهَا أُلْحِقَتْ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَمْرٍ ، وَالْبَقَاءُ مِنْ صِفَةِ الذَّاتِ عَلَى مَا مَرَّ مِنْ قَاعِدَتِهِ وَهُوَ أَنْ يُوصَفَ بِهِ لَا بِضِدِّهِ ، فَكَأَنَّهُ قَالَ : وَبَقَاءُ اللَّهِ كَقُدْرَةِ اللَّهِ وَكِبْرِيَائِهِ ، وَإِذَا أُدْخِلَ عَلَيْهِ اللَّامُ رُفِعَ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَحُذِفَ الْخَبَرُ : أَيْ لَعَمْرُ اللَّهِ قَسَمِي ، وَإِنْ لَمْ تَدْخُلْهُ اللَّامُ نُصِبَ نَصْبَ الْمَصَادِرِ فَتَقُولُ عَمْرُ اللَّهِ مَا فَعَلْت وَيَكُونُ عَلَى حَذْفِ حَرْفِ الْقَسَمِ كَمَا فِي اللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : عَمَرَكَ اللَّهُ مَا فَعَلْت فَمَعْنَاهُ بِإِقْرَارِك لَهُ بِالْبَقَاءِ ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَنْعَقِدَ يَمِينًا ؛ لِأَنَّهُ حَلَفَ بِفِعْلِ الْمُخَاطَبِ وَهُوَ إقْرَارُهُ وَاعْتِقَادُهُ ، وَأَمَّا أَيْمُ اللَّهِ فَمَعْنَاهُ أَيْمَنُ اللَّهِ وَهُوَ جَمْعُ يَمِينٍ عَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِ فَخُفِّفَ بِالْحَذْفِ حَتَّى صَارَ أَيْمَ اللَّهِ ثُمَّ خَفِّفْ أَيْضًا فَقِيلَ : مُ اللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا فَيَكُونُ مِيمًا وَاحِدَةً ، وَبِهَذَا نَفَى سِيبَوَيْهِ أَنْ يَكُونَ جَمْعًا ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ لَا يَبْقَى عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ ، وَيُقَالُ مُنُ اللَّهِ بِضَمِّ الْمِيمِ وَالنُّونِ وَفَتْحِهِمَا وَكَسْرِهِمَا وَهَمْزَةُ أَيْمَنَ بِالْقَطْعِ ، وَإِنَّمَا وُصِلَتْ فِي الْوَصْلِ تَخْفِيفًا لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ ، وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أَنَّهَا هَمْزَةُ وَصْلٍ اُجْتُلِبَتْ لِيُمَكَّنَ بِهَا كَالرَّمَلِ كَهَمْزَةِ ابْنٍ وَامْرِئٍ مِنْ الْأَسْمَاءِ السَّاكِنَةِ الْأَوَائِلِ ، وَإِنَّمَا كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا يَمِينًا ؛ لِأَنَّ الْحَلِفَ بِهِمَا مُتَعَارَفٌ ، قَالَ تَعَالَى { لَعَمْرُكَ إنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

فِي حَدِيثِ إمَارَةِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ حِينَ طَعَنَ بَعْضُ النَّاسِ فِي إمَارَتِهِ { إنْ كُنْتُمْ تَطْعَنُونَ فِي إمَارَتِهِ فَقَدْ كُنْتُمْ تَطْعَنُونَ فِي إمَارَةِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلُ ، وَاَيْمُ اللَّهِ إنْ كَانَ لَخَلِيقًا لِلْإِمَارَةِ } الْحَدِيثُ فِي الْبُخَارِيِّ .

( وَكَذَا قَوْلُهُ وَعَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ ) لِأَنَّ الْعَهْدَ يَمِينٌ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَأَوْفَوْا بِعَهْدِ اللَّهِ } وَالْمِيثَاقُ عِبَارَةٌ عَنْ الْعَهْدِ

( قَوْلُهُ : وَكَذَا قَوْلُهُ وَعَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ ) يَعْنِي إذَا أُطْلِقَ عِنْدَنَا ، وَكَذَا عِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَكُونُ يَمِينًا إلَّا بِالنِّيَّةِ ؛ لِأَنَّ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ يَحْتَمِلُ الْعِبَادَاتِ فَلَا يَكُونُ يَمِينًا بِغَيْرِ النِّيَّةِ وقَوْله تَعَالَى { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ } لَا يُفِيدُ أَنَّ الْعَهْدَ يَمِينٌ لِجَوَازِ كَوْنِهِمَا شَيْئَيْنِ : الْأَمْرِ بِالْإِيفَاءِ بِالْعَهْدِ ، وَالنَّهْيِ عَنْ نَقْضِ الْأَيْمَانِ الْمُؤَكَّدَةِ بِأَيِّ مَعْنًى فُرِضَ النَّقْضُ فَاسْتِدْلَالُهُمْ عَلَى أَنَّهَا عَيْنٌ لَا يَتِمُّ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ إيجَابَ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ لَا يَسْتَلْزِمُ إيجَابَ الْكَفَّارَةِ بِإِخْلَافِ مَا عُقِدَ عَلَيْهِ إلَّا لَوْ ثَبَتَ فِي مَكَان آخَرَ فِي الشَّرْعِ أَنَّهُ كَذَلِكَ .
قُلْنَا : إنَّ أَهْلَ التَّفْسِيرِ لَمَّا جَعَلُوا الْمُرَادَ بِالْأَيْمَانِ هِيَ الْعُهُودُ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهَا أَوْ مَا هُوَ فِي ضِمْنِهَا وَجَبَ الْحُكْمُ بِاعْتِبَارِ الشَّرْعِ إيَّاهَا يَمِينًا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَلِفًا بِصِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا حَكَمَ بِأَنَّ أَشْهَدُ يَمِينًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ ذَلِكَ ، وَأَيْضًا غَلَبَ الِاسْتِعْمَالُ لَهُمَا فِي مَعْنَى الْيَمِينِ فَيُصْرَفَانِ إلَيْهِ فَلَا يَصْرِفُهُمَا عَنْهُ إلَّا نِيَّةُ عَدَمِهِ .
فَالْحَالَاتُ ثَلَاثَةٌ : إذَا نَوَى الْيَمِينَ أَوْ لَمْ يَنْوِ يَمِينًا وَلَا غَيْرَهُ فَهُوَ يَمِينٌ ، وَإِنْ قَصَدَ غَيْرَ الْيَمِينِ فَلَيْسَ بِيَمِينٍ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَكَذَا الذِّمَّةُ وَالْأَمَانَةُ كَأَنْ يَقُولَ : وَذِمَّةُ اللَّهِ أَوْ وَأَمَانَةُ اللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ .
وَاسْتُدِلَّ عَلَى كَوْنِهَا يَمِينًا بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَانَ إذَا بَعَثَ جَيْشًا يَقُولُ إذَا حَاصَرْتُمْ أَهْلَ حِصْنٍ أَوْ مَدِينَةٍ فَأَرَادُوكُمْ عَلَى أَنْ تُعْطُوهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ فَلَا تُعْطُوهُمْ } فَدَلَّ عَلَى أَنَّمَا يَمِينٌ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ ، وَالْمِيثَاقُ بِمَعْنَى الْعَهْدِ وَكَذَا

الذِّمَّةُ .
وَلِهَذَا يُسَمَّى الذِّمِّيُّ مُعَاهَدًا ، وَالْأَمَانَةُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ .
فَعِنْدَنَا وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ هُوَ يَمِينٌ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِالنِّيَّةِ ؛ لِأَنَّهَا فُسِّرَتْ بِالْعِبَادَاتِ .
قُلْنَا : غَلَبَ إرَادَةُ الْيَمِينِ بِهَا إذَا ذُكِرَتْ بَعْدَ حَرْفِ الْقَسَمِ فَوَجَبَ عَدَمُ تَوَقُّفِهَا عَلَى النِّيَّةِ لِلْعَادَةِ الْغَالِبَةِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَلَفَ بِالْأَمَانَةِ فَلَيْسَ مِنَّا } فَقَدْ يُقَالُ إنَّهُ يَقْتَضِي عَدَمَ كَوْنِهِ يَمِينًا .
وَالْوَجْهُ أَنَّهُ إنَّمَا يَقْتَضِي مَنْعَ الْحَلِفِ بِهِ ، وَلَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي الْكَفَّارَةَ عِنْدَ الْحِنْثِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَلَوْ قَالَ عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ وَأَمَانَتُهُ وَمِيثَاقُهُ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَهُوَ يَمِينٌ عِنْدَنَا وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَلَوْ حَنِثَ لَزِمَتْهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ .
وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ يَجِبُ عَلَيْهِ بِكُلِّ لَفْظٍ كَفَّارَةٌ ؛ لِأَنَّ كُلَّ لَفْظٍ يَمِينٌ بِنَفْسِهِ ، وَهُوَ قِيَاسُ مَذْهَبِنَا إذَا كَرَّرَ الْوَاوَ ، كَمَا لَوْ قَالَ وَاَللَّهِ وَالرَّحْمَنِ وَالرَّحِيمِ إلَّا فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ إذَا قَصَدَ بِكُلِّ لَفْظٍ يَمِينًا تَعَدَّدَتْ الْأَيْمَانُ وَإِلَّا يَكُونُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَلْفَاظِ لِلتَّوْكِيدِ فَتَجِبُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ .
قُلْنَا : الْوَاوُ لِلْعَطْفِ وَهُوَ مُوجِبٌ لِلْمُغَايَرَةِ .

( وَكَذَا إذَا قَالَ عَلَيَّ نَذْرٌ أَوْ نَذْرُ اللَّهِ ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ نَذَرَ نَذْرًا وَلَمْ يُسَمِّ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ }

( قَوْلُهُ : وَكَذَا إذَا قَالَ عَلَيَّ نَذْرٌ أَوْ عَلَيَّ نَذْرُ اللَّهِ ) يَعْنِي يَكُونُ يَمِينًا إذَا ذَكَرَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ بِأَنْ قَالَ عَلَيَّ نَذَرَ اللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ أَوْ لَا أَفْعَلُ كَذَا حَتَّى إذَا لَمْ يَفِ بِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ لَزِمَتْهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ، هَذَا إذَا لَمْ يَنْوِ بِهَذَا النَّذْرِ الْمُطْلَقِ شَيْئًا مِنْ الْقُرَبِ كَحَجٍّ أَوْ صَوْمٍ ، فَإِنْ كَانَ نَوَى بِقَوْلِهِ عَلَيَّ نَذْرٌ إنْ فَعَلَتْ كَذَا قُرْبَةً مَقْصُودَةً يَصِحُّ النَّذْرُ بِهَا فَفَعَلَ لَزِمَتْهُ تِلْكَ الْقُرْبَةُ .
قَالَ الْحَاكِمُ : وَإِنْ حَلَفَ بِالنَّذْرِ فَإِنْ نَوَى شَيْئًا مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ فَعَلَيْهِ مَا نَوَى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ نَذْر نَذْرًا لَمْ يُسَمِّهِ فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُوجِبُ فِيهِ الْكَفَّارَةَ مُطْلَقًا إلَّا أَنَّهُ لَمَّا نَوَى بِالْمُطْلَقِ فِي اللَّفْظِ قُرْبَةً مُعَيَّنَةً كَانَتْ كَالْمُسَمَّاةِ ؛ لِأَنَّهَا مُسَمَّاةٌ بِالْكَلَامِ النَّفْسِيِّ ، فَإِنَّمَا يَنْصَرِفُ الْحَدِيثُ إلَى مَا لَا نِيَّةَ مَعَهُ مِنْ لَفْظِ النَّذْرِ ، فَأَمَّا إذَا قَالَ عَلَيَّ نَذْرٌ أَوْ نَذْرُ اللَّهِ ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ فَهَذِهِ لَمْ تَجْعَلْهُ يَمِينًا ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِمَحْلُوفٍ عَلَيْهِ ، فَالْحُكْمُ فِيهِ أَنْ تَلْزَمَهُ الْكَفَّارَةُ فَيَكُونُ هَذَا الْتِزَامَ الْكَفَّارَةِ ابْتِدَاءً بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ ، فَأَمَّا إذَا ذَكَرَ صِيغَةَ النَّذْرِ بِأَنْ يَقُولَ لِلَّهِ عَلَيَّ كَذَا صَلَاةً رَكْعَتَيْنِ مَثَلًا أَوْ صَوْمَ يَوْمٍ مُطْلَقًا عَنْ الشَّرْطِ أَوْ مُعَلَّقًا بِهِ أَوْ ذَكَرَ لَفْظَ النَّذْرِ مُسَمًّى مَعَهُ الْمَنْذُورَ مِثْلَ لِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرُ صَوْمِ يَوْمَيْنِ مُعَلِّقًا أَوْ مُنَجِّزًا فَسَيَأْتِي فِي فَصْلِ الْكَفَّارَةِ ، فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ صِيغَةِ النَّذْرِ وَلَفْظِ النَّذْرِ .

( وَإِنْ قَالَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَهُوَ يَهُودِيُّ أَوْ نَصْرَانِيُّ أَوْ كَافِرٌ تَكُونُ يَمِينًا ) ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ الشَّرْطَ عَلَمًا عَلَى الْكُفْرِ فَقَدْ اعْتَقَدَهُ وَاجِبَ الِامْتِنَاعِ ، وَقَدْ أَمْكَنَ الْقَوْلُ بِوُجُوبِهِ لِغَيْرِهِ بِجَعْلِهِ يَمِينًا كَمَا تَقُولُ فِي تَحْرِيمِ الْحَلَالِ .
وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لِشَيْءٍ عَقَدَ فِعْلَهُ فَهُوَ الْغَمُوسُ ، وَلَا يَكْفُرُ اعْتِبَارًا بِالْمُسْتَقْبَلِ .
وَقِيلَ يَكْفُرُ ؛ لِأَنَّهُ تَنْجِيزُ مَعْنًى فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ هُوَ يَهُودِيٌّ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ فِيهِمَا إنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَمِينٌ ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ أَنَّهُ يَكْفُرُ بِالْحَلِفِ يَكْفُرُ فِيهِمَا ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِالْكُفْرِ حَيْثُ أَقْدَمَ عَلَى الْفِعْلِ

( قَوْلُهُ : وَلَوْ قَالَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَهُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ أَوْ كَافِرٌ يَكُونُ يَمِينًا ) فَإِذَا فَعَلَهُ لَزِمَهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ قِيَاسًا عَلَى تَحْرِيمِ الْمُبَاحِ فَإِنَّهُ يَمِينٌ بِالنَّصِّ ، وَذَلِكَ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَ مَارِيَةَ عَلَى نَفْسِهِ } ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } ثُمَّ قَالَ { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } .
وَوَجْهُ الْإِلْحَاقِ أَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ الشَّرْطَ وَهُوَ فِعْلُ كَذَا عَلَمًا عَلَى كُفْرِهِ ، وَمُعْتَقَدُهُ حُرْمَةُ كُفْرِهِ فَقَدْ اعْتَقَدَهُ : أَيْ الشَّرْطَ وَاجِبَ الِامْتِنَاعِ فَكَأَنَّهُ قَالَ حَرَّمْت عَلَى نَفْسِي فِعْلَ كَذَا كَدُخُولِ الدَّارِ .
وَلَوْ قَالَ دُخُولُ الدَّارِ مَثَلًا عَلَيَّ حَرَامٌ كَانَ يَمِينًا فَكَانَ تَعْلِيقُ الْكُفْرِ وَنَحْوِهِ عَلَى فِعْلٍ مُبَاحٍ يَمِينًا إذَا عَرَفَ هَذَا ، فَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لِشَيْءٍ قَدْ فَعَلَهُ كَأَنْ قَالَ إنْ كُنْت فَعَلْت كَذَا فَهُوَ كَافِرٌ وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّهُ قَدْ فَعَلَهُ فَهِيَ يَمِينُ الْغَمُوسِ لَا كَفَّارَةَ فِيهَا إلَّا التَّوْبَةُ ، وَهَلْ يَكْفُرُ حَتَّى تَكُونَ التَّوْبَةُ اللَّازِمَةُ عَلَيْهِ التَّوْبَةَ مِنْ الْكُفْرِ وَتَجْدِيدَ الْإِسْلَامِ ؟ .
قِيلَ لَا ، وَقِيلَ نَعَمْ ؛ لِأَنَّهُ تَنْجِيزٌ مَعْنًى ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا عَلَّقَهُ بِأَمْرٍ كَائِنٍ فَكَأَنَّهُ قَالَ ابْتِدَاءً هُوَ كَافِرٌ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَمِينٌ فِيهِ الْكَفَّارَةُ إذَا لَمْ يَكُنْ غَمُوسًا لَا يَكْفُرُ ، وَإِنْ كَانَ فِي اعْتِقَادِهِ أَنَّهُ يَكْفُرُ بِهِ يَكْفُرُ فِيهِمَا ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِالْكُفْرِ حَيْثُ أَقْدَمَ عَلَى الْفِعْلِ الَّذِي عَلَّقَ عَلَيْهِ كُفْرَهُ ، وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَكْفُرُ إذَا فَعَلَهُ .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الْإِسْلَامِ كَاذِبًا مُتَعَمِّدًا فَهُوَ كَمَا قَالَ } فَهَذَا يَتَرَاءَى أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَعْتَقِدَهُ يَمِينًا أَوْ كُفْرًا ، وَالظَّاهِرُ

أَنَّهُ أُخْرِجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ ، فَإِنَّ الْغَالِبَ مِمَّنْ يَحْلِفُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَيْمَانِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَهْلِ لَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْخَيْرِ ، وَهَؤُلَاءِ لَا يَعْرِفُونَ إلَّا لُزُومَ الْكُفْرِ عَلَى تَقْدِيرِ الْحِنْثِ ، فَإِنْ تَمَّ هَذَا ، وَإِلَّا فَالْحَدِيثُ شَاهِدٌ لِمَنْ أَطْلَقَ الْقَوْلَ بِكُفْرِهِ .

( وَلَوْ قَالَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ غَضَبُ اللَّهِ أَوْ سَخَطُ اللَّهِ فَلَيْسَ بِحَلِفٍ ) لِأَنَّهُ دُعَاءٌ عَلَى نَفْسِهِ ، وَلَا يَتَعَلَّقُ ذَلِكَ بِالشَّرْطِ ؛ وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ ( وَكَذَا إذَا قَالَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا زَانٍ أَوْ سَارِقٌ أَوْ شَارِبُ خَمْرٍ أَوْ آكُلُ رِبًا ) ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ تَحْتَمِلُ النَّسْخَ وَالتَّبْدِيلَ فَلَمْ تَكُنْ فِي مَعْنَى حُرْمَةِ الِاسْمِ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَعَارَفٍ .

( قَوْلُهُ : وَلَوْ قَالَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيْهِ غَضَبُ اللَّهِ أَوْ سَخَطُهُ فَلَيْسَ بِحَالِفٍ ؛ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ ) أَيْ لَا يَلْزَمُ سَبَبِيَّةُ الشَّرْطِ لَهُ ، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنْ يَكُونَ نَفْسُ الدُّعَاءِ مُعَلَّقًا بِالشَّرْطِ فَكَأَنَّهُ عِنْدَ الشَّرْطِ دَعَا عَلَى نَفْسِهِ ، وَلَا يَسْتَلْزِمُ وُقُوعَ الْمَدْعُوِّ بَلْ ذَلِكَ مُتَعَلِّقٌ بِاسْتِجَابَةِ دُعَائِهِ ( وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ ، وَكَذَا إنْ قَالَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَهُوَ زَانٍ أَوْ فَاسِقٌ أَوْ سَارِقٌ أَوْ شَارِبُ خَمْرًا أَوْ آكِلُ رِبًا ) لَا يَكُونُ يَمِينًا أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ مَعْنَى الْيَمِينِ أَنْ يُعَلِّقَ مَا يُوجِبُ امْتِنَاعَهُ عَنْ الْفِعْلِ بِسَبَبِ لُزُومِ وُجُودِهِ عِنْدَ الْفِعْلِ ، وَلَيْسَ بِمُجَرَّدِ وُجُودِ الْفِعْلِ يَصِيرُ زَانِيًا أَوْ سَارِقًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ كَذَلِكَ إلَّا بِفِعْلٍ مُسْتَأْنَفٍ يَدْخُلُ فِي الْوُجُودِ ، وَوُجُودُ هَذَا الْفِعْلِ لَيْسَ لَازِمًا ؛ لِوُجُودِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ حَتَّى يَكُونَ مُوجِبًا امْتِنَاعَهُ فَلَا يَكُونُ يَمِينًا ، بِخِلَافِ الْكُفْرِ فَإِنَّهُ بِالرِّضَا بِهِ يَكْفُرُ عَنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى عَمَلٍ آخَرَ أَوْ اعْتِقَادٍ ، وَالرِّضَا يَتَحَقَّقُ بِمُبَاشَرَةِ الشَّرْطِ فَيُوجِبُ عِنْدَهُ الْكُفْرَ لَوْلَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ بِالْكَفَّارَةِ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ حُرْمَةَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ تَحْتَمِلُ السُّقُوطَ ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَحْتَمِلُ النَّسْخَ وَالتَّبْدِيلَ .
أَمَّا الْخَمْرُ فَظَاهِرٌ ، وَأَمَّا السَّرِقَةُ فَعِنْدَ الِاضْطِرَارِ إلَى أَكْلِ مَالِ الْغَيْرِ ، وَكَذَا إذَا أُكْرِهَتْ الْمَرْأَةُ بِالسَّيْفِ عَلَى الزِّنَا وَحُرْمَةُ الِاسْمِ لَا تَحْتَمِلُ السُّقُوطَ فَلَمْ تَكُنْ حُرْمَةُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي مَعْنَى حُرْمَةِ الِاسْمِ ، وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْحُرْمَةِ تَحْتَمِلُ الِارْتِفَاعَ أَوْ لَا تَحْتَمِلُهُ لَا أَثَرَ لَهُ ، فَإِنَّهُ إنْ كَانَ يَرْجِعُ إلَى تَحْرِيمِ الْمُبَاحِ فَهُوَ يَمِينٌ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ الْمُبَاحَ يُحْتَمَلُ تَحْرِيمُهُ لِلِارْتِفَاعِ ، وَإِنْ لَمْ

يَرْجِعْ إلَيْهِ لَا يَكُونُ يَمِينًا ، وَلَا مَعْنَى لِزِيَادَةِ كَلَامٍ لَا دَخْلَ لَهُ ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَعَارَفٍ أَنْ يُقَالَ إنْ فَعَلْت فَأَنَا زَانٍ فَلَا يَكُونُ يَمِينًا .

فُرُوعٌ : فِي تَعَدُّدِ الْيَمِينِ وَوَحْدَتِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ ] إذَا عَدَّدَ مَا يَحْلِفُ بِهِ بِلَا وَاوٍ مَعَ اخْتِلَافِ اللَّفْظِ أَوْ عَدَمِ اخْتِلَافِهِ فَهُوَ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ كَأَنْ يَقُولَ وَاَللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، أَوْ يَقُولَ وَاَللَّهِ اللَّهِ ، إلَّا أَنَّ تَعْلِيلَ هَذَا بِأَنَّهُ جَعَلَ الثَّانِيَ نَعْتًا لِلْأَوَّلِ مُؤَوَّلٌ ، وَكَذَا بِلَا اخْتِلَافٍ مَعَ الْوَاوِ نَحْوَ وَاَللَّهِ وَاَللَّهِ أَوْ هُوَ بَرِيءٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَإِنْ كَانَ بِوَاوٍ فِي الِاخْتِلَافِ نَحْوَ وَاَللَّهِ وَالرَّحْمَنِ وَالرَّحِيمِ تَعَدَّدَتْ الْيَمِينُ بِتَعَدُّدِهَا ، وَكَذَا بِوَاوَيْنِ مَعَ الِاتِّحَادِ نَحْوُ وَاَللَّهِ وَوَاللَّهِ فَيَتَفَرَّعُ أَنَّهُ لَوْ قَالَ وَاَللَّهِ وَوَاللَّهِ وَالرَّحْمَنِ أَنَّهَا ثَلَاثَةُ أَيْمَانٍ ، أَوْ هُوَ بَرِيءٌ مِنْ اللَّهِ وَبَرِيءٌ مِنْ رَسُولِهِ فَيَمِينَانِ حَتَّى لَوْ قَالَ هُوَ بَرِيءٌ مِنْ اللَّهِ وَبَرِيءٌ مِنْ رَسُولِهِ وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْهُ بَرِيئَانِ إنْ فَعَلَ كَذَا فَهِيَ أَرْبَعَةُ أَيْمَانٍ ، فَيَلْزَمُهُ لِفِعْلِ مَا سَمَّاهُ أَرْبَعُ كَفَّارَاتٍ ، هَذَا كُلُّهُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ .
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ عَلَيْهِ فِي الْمُخْتَلِفَةِ كَفَّارَةً وَاحِدَةً ؛ لِأَنَّ الْوَاوَ الْكَائِنَةَ بَيْنَ الْأَسْمَاءِ لِلْقَسَمِ لَا لِلْعَطْفِ ، وَبِهِ أَخَذَ مَشَايِخُ سَمَرْقَنْدَ وَأَكْثَرُ الْمَشَايِخِ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، فَلَوْ قَالَ بِوَاوَيْنِ كَوَاللَّهِ وَ وَالرَّحْمَنِ فَكَفَّارَتَانِ فِي قَوْلِهِمْ .
وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ فِي غَيْرِ الْمُخْتَلِفَةِ عَنْ مُحَمَّدٍ نَحْوَ وَاَللَّهِ وَاَللَّهِ مُطْلَقًا هَذَا قَبْلَ ذِكْرِ الْجَوَابِ .
أَمَّا لَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا ثُمَّ أَعَادَهُ بِعَيْنِهِ فَكَفَّارَتَانِ ، وَكَذَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك ثُمَّ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك فَقَرُبَهَا مَرَّةً لَزِمَهُ كَفَّارَتَانِ ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَسَوَاءٌ كَانَ فِي مَجْلِسٍ أَوْ مَجَالِسَ .
وَرَوَى الْحَسَنُ أَنَّهُ إنْ نَوَى بِالثَّانِي الْخَبَرَ عَنْ الْأَوَّلِ صَدَقَ دِيَانَةً

، وَهِيَ عِبَارَةٌ مُتَسَاهَلٌ فِيهَا ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يُرِيدَ بِالثَّانِي تَكْرَارَ الْأَوَّلِ وَتَأْكِيدَهُ ، اخْتَارَ هَذَا الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ قَالَ : فَإِنْ نَوَى بِهِ الْمُبَالَغَةَ أَوْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا يَلْزَمُهُ كَفَّارَتَانِ ، وَقَدْ مَرَّ فِي الْإِيلَاءِ فِي التَّجْرِيدِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ : إذَا حَلَفَ بِأَيْمَانٍ عَلَيْهِ لِكُلِّ يَمِينٍ كَفَّارَةٌ وَالْمَجْلِسُ وَالْمَجَالِسُ فِيهِ سَوَاءٌ .
وَلَوْ قَالَ عَنَيْت بِالثَّانِي الْأَوَّلَ لَمْ يَسْتَقِمْ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَلَوْ حَلَفَ بِحِجَّةٍ أَوْ عُمْرَةٍ يَسْتَقِيمُ ، وَهَذَا يُخَالِفُ مَا رَوَى الْحَسَنُ .
وَفِي الْخُلَاصَةِ عَنْ نُسْخَةِ الْإِمَامِ السَّرَخْسِيِّ فِي أَيْمَانِ الْأَصْلِ : إذَا حَلَفَ عَلَى أَمْرٍ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ ثُمَّ حَلَفَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ أَوْ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ أَبَدًا ثُمَّ فَعَلَهُ إنْ نَوَى يَمِينًا مُبْتَدَأَةً أَوْ التَّشْدِيدَ أَوْ لَمْ يَنْوِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينَيْنِ ، أَمَّا إذَا نَوَى بِالثَّانِي الْأَوَّلَ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ .
وَقَدَّمْنَا فِي الْإِيلَاءِ : لَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا يَوْمًا وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُهُ شَهْرًا وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُهُ سَنَةً إنْ كَلَّمَهُ بَعْدَ سَاعَةٍ فَعَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَيْمَانٍ ؛ لِأَنَّهُ انْعَقَدَ عَلَى تِلْكَ السَّاعَةِ ثَلَاثَةُ أَيْمَانٍ يَمِينُ الْيَوْمِ وَيَمِينُ الشَّهْرِ وَيَمِينُ السَّنَةِ ، فَعَلَيْهِ إذَا كَلَّمَهُ بَعْدَ سَاعَةٍ ثَلَاثُ كَفَّارَاتٍ ، وَإِنْ كَلَّمَهُ بَعْدَ يَوْمٍ فَعَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ ؛ لِأَنَّ يَمِينَ الْيَوْمِ انْحَلَّتْ قَبْلَهُ فَعَلَيْهِ فَبَقِيَ عَلَى ذَلِكَ الْيَوْمِ يَمِينَانِ ، وَإِنْ كَلَّمَهُ بَعْدَ شَهْرٍ فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَإِنْ كَلَّمَهُ بَعْدَ سَنَةٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَعُرِفَ فِي الطَّلَاقِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ إنْ دَخَلْت فَأَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت فَأَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت فَأَنْتِ طَالِقٌ فَدَخَلَتْ وَقَعَ عَلَيْهَا ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ .
وَمَا فِي الْأَصْلِ مِنْ أَنَّهُ إذَا قَالَ هُوَ يَهُودِيٌّ هُوَ نَصْرَانِيٌّ

إنْ فَعَلَ كَذَا فَهِيَ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ ، وَلَوْ قَالَ هُوَ يَهُودِيٌّ إنْ فَعَلَ كَذَا هُوَ نَصْرَانِيٌّ إنْ فَعَلَ كَذَا فَيَمِينَانِ ، يُفِيدُ أَنَّ فِي مِثْلِهِ تَعَدُّدَ الْيَمِينِ مَنُوطٌ بِتَكَرُّرِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ مَعَ تَكَرُّرِ الِالْتِزَامِ بِالْكُفْرِ ، وَلَوْ قَالَ أَنَا بَرِيءٌ مِنْ الْكُتُبِ الْأَرْبَعَةِ فَهِيَ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ ، وَكَذَا لَوْ قَالَ هُوَ بَرِيءٌ مِنْ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَالْفُرْقَانِ فَهِيَ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ .
وَلَوْ قَالَ هُوَ بَرِيءٌ مِنْ التَّوْرَاةِ وَبَرِيءٌ مِنْ الْإِنْجِيلِ وَبَرِيءٌ مِنْ الزَّبُورِ وَبَرِيءٌ مِنْ الْفُرْقَانِ فَهِيَ أَرْبَعَةُ أَيْمَانٍ ، وَلَوْ قَالَ هُوَ شَرِيكُ الْيَهُودِيِّ فَهُوَ كَقَوْلِهِ يَهُودِيٌّ وَلَوْ قَالَ بَرِيءٌ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِينَ يَوْمًا : يَعْنِي شَهْرَ رَمَضَانَ إنْ أَرَادَ عَنْ فَرْضِيَّتِهَا يَكُونُ يَمِينًا أَوْ عَنْ أَجْرِهَا أَوْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا لَا يَكُونُ يَمِينًا ، وَالِاحْتِيَاطُ هُوَ يَمِينٌ ، وَلَوْ قَالَ مِنْ الصَّلَاةِ الَّتِي صَلَّيْتهَا وَحَنِثَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بِخِلَافِ قَوْلِهِ مِنْ الْقُرْآنِ الَّذِي تَعَلَّمْت .
وَاخْتُلِفَ فِي بَرِيءٍ مِنْ الشَّفَاعَةِ .
وَفِي مَجْمُوعِ النَّوَازِلِ : الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَيْسَ بِيَمِينٍ .

وَلَوْ قَالَ دَخَلْت الدَّارَ أَمْسِ فَقَالَ نَعَمْ فَقَالَ لَهُ وَاَللَّهِ لَقَدْ دَخَلْتهَا فَقَالَ نَعَمْ فَهُوَ حَالِفٌ .
وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ لِآخَرَ : إنْ كَلَّمْت فُلَانًا فَعَبْدُك حُرٌّ فَقَالَ نَعَمْ إلَّا بِإِذْنِك فَهَذَا إنْ كَلَّمَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ يَحْنَثُ ، وَلَوْ قَالَ رَجُلٌ لِآخَرَ اللَّهِ لَتَفْعَلَنَّ كَذَا أَوْ وَاَللَّهِ لَتَفْعَلَنَّ كَذَا فَقَالَ الْآخَرُ نَعَمْ ، فَإِنْ أَرَادَ الْمُبْتَدِئُ الْحَلِفَ وَكَذَا الْمُجِيبُ فَهُمَا حَالِفَانِ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا كَفَّارَةٌ إنْ لَمْ يَفْعَلْ الْمُجِيبُ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ نَعَمْ جَوَابٌ وَهُوَ يَسْتَدْعِي إعَادَةَ مَا فِي السُّؤَالِ فَكَأَنَّهُ قَالَ نَعَمْ وَاَللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا ، وَإِنْ نَوَى الْمُبْتَدِئُ الِاسْتِحْلَافَ وَالْمُجِيبُ الْحَلِفَ فَالْمُجِيبُ هُوَ الْحَالِفُ ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ كُلٌّ مِنْهُمَا شَيْئًا فَالْحَالِفُ هُوَ الْمُجِيبُ فِي قَوْلِهِ اللَّهِ وَفِي قَوْلِهِ وَاَللَّهِ بِالْوَاوِ فَالْحَالِفُ هُوَ الْمُبْتَدِئُ .
وَإِنْ أَرَادَ الْمُبْتَدِئُ الِاسْتِحْلَافَ فَأَرَادَ الْمُجِيبُ أَنْ لَا يَكُونَ عَلَيْهِ يَمِينٌ .
وَأَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ : نَعَمْ وَعْدًا بِلَا يَمِينٍ فَهُوَ كَمَا نَوَى وَلَا يَمِينَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَلَوْ قَالَ بِاَللَّهِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ وَاَللَّهِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ ، وَلَوْ قَالَ لِمَدْيُونِهِ إنْ لَمْ تَقْضِ دَيْنِي غَدًا فَامْرَأَتُك طَالِقٌ فَقَالَ الْمَدْيُونُ نَعَمْ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ قُلْ نَعَمْ فَقَالَ نَعَمْ ، وَأَرَادَ جَوَابَهُ يَلْزَمُهُ الْيَمِينُ ثَانِيًا فَتَطْلُقُ ثِنْتَيْنِ وَإِنْ دَخَلَ بَيْنَهُمَا انْقِطَاعٌ .
فِي الْفَتَاوَى وَفِي مَجْمُوعِ النَّوَازِلِ : فَقَالَ لِآخَرَ وَاَللَّهِ لَا أَجِيءُ إلَى ضِيَافَتِك فَقَالَ الْآخَرُ وَلَا تَجِيءُ إلَى ضِيَافَتِي فَقَالَ نَعَمْ يَصِيرُ حَالِفًا ثَانِيًا .

( فَصْلٌ فِي الْكَفَّارَةِ ) قَالَ ( كَفَّارَةُ الْيَمِينِ عِتْقُ رَقَبَةٍ يُجْزِي فِيهَا مَا يُجْزِي فِي الظِّهَارِ وَإِنْ شَاءَ كَسَا عَشَرَةَ مَسَاكِينَ كُلَّ وَاحِدٍ ثَوْبًا فَمَا زَادَ ، وَأَدْنَاهُ مَا يَجُوزُ فِيهِ الصَّلَاةُ وَإِنْ شَاءَ أَطْعَمَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ كَالْإِطْعَامِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ ) وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى { فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } الْآيَةَ ، وَكَلِمَةُ أَوْ لِلتَّخَيُّرِ فَكَانَ الْوَاجِبُ أَحَدَ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ .

( فَصْلٌ فِي الْكَفَّارَةِ ) الْكَفَّارَةُ فَعَّالَةٌ مِنْ الْكُفْرِ وَهُوَ السَّتْرُ وَبِهِ سُمِّيَ اللَّيْلُ كَافِرًا قَالَ : فِي لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُومَ غَمَامُهَا وَتَكَفَّرَ بِثَوْبِهِ اشْتَمَلَ بِهِ وَإِضَافَتُهَا إلَى الْيَمِينِ فِي قَوْلِنَا كَفَّارَةُ الْيَمِينِ إضَافَةٌ إلَى الشَّرْطِ مَجَازًا .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ إضَافَةٌ إلَى السَّبَبِ فَالْيَمِينُ هُوَ السَّبَبُ وَسَيَذْكُرُ الْمُصَنِّفُ الْمَسْأَلَةَ ( قَوْلُهُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ عِتْقُ رَقَبَةٍ ) أَيْ إعْتَاقُهَا لَا نَفْسُ الْعِتْقِ ، فَإِنَّهُ لَوْ وَرِثَ مَنْ يُعْتَقُ عَلَيْهِ فَنَوَى عَنْ الْكَفَّارَةِ لَا يَجُوزُ ( وَيُجْزِي فِيهَا مَا يُجْزِي فِي الظِّهَارِ ) وَتَقَدَّمَ الْمُجْزِئُ فِي الظِّهَارِ مِنْ أَنَّهَا الْمُسْلِمَةُ وَالْكَافِرَةُ وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَى وَالصَّغِيرَةُ ، وَلَا يُجَزِّئُ فَائِتُ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ فَتُجْزِي الْعَوْرَاءُ لَا الْعَمْيَاءُ وَمَقْطُوعُ إحْدَى الْيَدَيْنِ وَإِحْدَى الرِّجْلَيْنِ مِنْ خِلَافٍ ، وَلَا يَجُوزُ مَقْطُوعُهُمَا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَا مَقْطُوعُ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ ، وَفِي الْأَصَمِّ اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ .
وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ إذَا كَانَ بِحَيْثُ إذَا صِيحَ عَلَيْهِ يَسْمَعُ جَازَ ، وَلَا يَجُوزُ الْمَجْنُونُ الَّذِي لَا يُفِيقُ ، وَفِيمَنْ يُفِيقُ وَيُجَنُّ يَجُوزُ ، وَلَا الْمُدَبَّرَةُ وَأُمُّ الْوَلَدِ لِأَنَّهُمَا لِاسْتِحْقَاقِهِمَا الْحُرِّيَّةَ نَقَصَ الرِّقُّ فِيهِمَا ، بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ الَّذِي لَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا يَجُوزُ ، بِخِلَافِ الَّذِي أَدَّى بَعْضَ شَيْءٍ لِأَنَّهُ كَالْمَعْتُوقِ بِعِوَضٍ ( وَإِنْ شَاءَ كَسَا عَشَرَةَ مَسَاكِينَ كُلَّ وَاحِدٍ ثَوْبًا فَمَا زَادَ ) يَعْنِي إنْ كَسَا ثَوْبَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً فَهُوَ أَفْضَلُ ( وَأَدْنَاهُ مَا يَجُوزُ فِيهِ الصَّلَاةُ ، وَإِنْ شَاءَ أَطْعَمَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ ) كَالْإِطْعَامِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَهِيَ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ بِإِسْنَادِهِ إلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ وَنِصْفُهُ مِنْ بُرٍّ .
وَبِإِسْنَادِهِ إلَى عَلِيٍّ

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : كَفَّارَةُ الْيَمِينِ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ .
وَبِسَنَدِهِ إلَى الْحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : يُغَدِّيهِمْ وَيُعَشِّيهِمْ .
وَبِإِسْنَادِهِ إلَى مُجَاهِدٍ قَالَ : كُلُّ كَفَّارَةٍ فِي الْقُرْآنِ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ .
وَلَوْ غَدَّاهُمْ وَعَشَّاهُمْ وَفِيهِمْ فَطِيمٌ أَوْ فَوْقُهُ سِنًّا لَمْ يَجُزْ عَنْ إطْعَامِ مِسْكِينٍ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُغَدِّيَهُمْ وَيُعَشِّيَهُمْ بِخُبْزٍ إلَّا أَنَّهُ إنْ كَانَ بُرًّا لَا يُشْتَرَطُ الْإِدَامُ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ فَبِإِدَامٍ .
وَيَجُوزُ فِي الْإِطْعَامِ كُلٌّ مِنْ التَّمْلِيكِ وَالْإِبَاحَةِ وَتَقَدَّمَ ( وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى { فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } وَكَلِمَةُ أَوْ لِلتَّخْيِيرِ فَكَانَ الْوَاجِبُ أَحَدَ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ ) وَلِلْعَبْدِ الْخِيَارُ فِي تَعْيِينِ أَيُّهَا شَاءَ .
وَيَتَعَيَّنُ الْوَاجِبُ عَيْنًا بِفِعْلِ الْعَبْدِ وَالْمَسْأَلَةُ طَوِيلَةٌ فِي الْأُصُولِ ، وَدَخَلَ فِيمَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْعِتْقِ وَالْكِسْوَةِ وَالْإِطْعَامِ الْعَبْدُ لَا يَكُونُ كَفَّارَةُ يَمِينِهِ إلَّا بِالصَّوْمِ .
وَلَوْ أَعْتَقَ عَنْهُ مَوْلَاهُ أَوْ أَطْعَمَ أَوْ كَسَا لَا يُجْزِيهِ وَكَذَا الْمُكَاتَبُ وَالْمُسْتَسْعَى ، وَلَوْ صَامَ الْعَبْدُ فَيُعْتَقُ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ وَلَوْ بِسَاعَةٍ فَأَصَابَ مَالًا وَجَبَ عَلَيْهِ اسْتِئْنَافُ الْكَفَّارَةِ بِالْمَالِ .

قَالَ ( فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَحَدِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : يُخَيَّرُ لِإِطْلَاقِ النَّصِّ .
وَلَنَا قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ وَهِيَ كَالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ .

( قَوْلُهُ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَحَدِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ ) مِنْ الْإِعْتَاقِ وَالْكِسْوَةِ وَالْإِطْعَامِ ( كَانَ عَلَيْهِ صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُخَيَّرُ ) بَيْنَ التَّتَابُعِ وَالتَّفْرِيقِ ( لِإِطْلَاقِ النَّصِّ ) وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ } وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ شَرَطَ التَّتَابُعَ كَقَوْلِنَا وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ ( وَلَنَا قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ وَهِيَ كَالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ ) لِشُهْرَتِهَا عَلَى مَا قِيلَ إلَى زَمَنِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَالْخَبَرُ الْمَشْهُورُ يَجُوزُ تَقْيِيدُ النَّصِّ الْقَاطِعِ بِهِ فَيُقَيَّدُ ذَلِكَ الْمُطْلَقُ بِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : الشَّافِعِيُّ كَانَ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْكُمْ لِأَنَّهُ يَحْمِلُ الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ وَإِنْ كَانَا فِي حَادِثَيْنِ وَأَنْتُمْ تَحْمِلُونَهُ فِي حَادِثَةٍ ثُمَّ إنَّكُمْ جَرَيْتُمْ عَلَى مُوجِبِ ذَلِكَ هُنَا وَتَرَكْتُمُوهُ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ فِي قَوْلِهِ { أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ } وَقَوْلُهُ { أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ } .
أُجِيبَ عَنَّا بِأَنَا إنَّمَا نَحْمِلُ فِي الْحَادِثَةِ الْوَاحِدَةِ لِلضَّرُورَةِ وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ الْوَاحِدُ مَطْلُوبًا بِقَيْدٍ زَائِدٍ عَلَى الْمُطْلَقِ ، وَبِقَيْدِ إطْلَاقِهِ لِلتَّنَافِي بَيْنَهُمَا ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجُوزَ إلَّا بِقَيْدِ التَّتَابُعِ وَلَا يُجْزِي التَّفْرِيقُ وَالثَّانِي يَقْتَضِي جَوَازَهُ مُفَرَّقًا كَجَوَازِهِ مُتَتَابِعًا ، وَإِذَا وَجَبَ الْقَيْدُ الْأَوَّلُ لَزِمَهُ انْتِفَاءُ الثَّانِي فَلَزِمَ الْحَمْلُ ضَرُورَةً ، وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ مُنْتَفِيَةٌ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ لِوُرُودِ النَّصَّيْنِ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ فِي الْأَسْبَابِ ، وَلَا مُنَافَاةَ فِي الْأَسْبَابِ فَيَكُونُ كُلٌّ مِنْ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ سَبَبًا ، وَهَذَا كَلَامٌ مُحْتَاجٌ إلَى تَحْقِيقٍ .
وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْحَمْلَ لَمَّا لَمْ يَجِبْ إلَّا لِضَرُورَةٍ وَهِيَ

الْمُعَارَضَةُ بَيْنَ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ وَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَهُمَا إلَّا لَوْ قُلْنَا بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ الْحَاصِلُ مِنْ الْمُطْلَقِ أَنَّ مِلْكَ الْعَبْدِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْأَدَاءِ عَنْهُ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا .
وَالْحَاصِلُ مِنْ الْمُقَيَّدِ أَنَّ مِلْكَ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ سَبَبٌ وَغَيْرُ الْمُسْلِمِ لَيْسَ سَبَبًا لِفَرْضِ دَلَالَةِ الْمَفْهُومِ فَيَتَعَارَضَانِ فِي غَيْرِ الْمُسْلِمِ ، فَإِذَا فُرِضَ تَقْدِيمُ الْمَفْهُومِ عَلَى الْإِطْلَاقِ لَزِمَ انْتِفَاءُ سَبَبِيَّةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِ ، وَلَزِمَ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْمُسْلِمَ فَقَطْ هُوَ السَّبَبُ وَهُوَ الْحَمْلُ ضَرُورَةً لَكِنَّا لَمْ نَقُلْ بِهِ فَبَقِيَ مُقْتَضَى الْمُطْلَقِ بِلَا مُعَارِضٍ وَهُوَ أَنَّ الْمُسْلِمَ وَغَيْرَهُ سَبَبٌ .
وَأَجَابُوا عَمَّا لَزِمَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّ هَذِهِ الْكَفَّارَةَ تَجَاذَبَهَا أَصْلَانِ فِي التَّتَابُعِ وَعَدَمِهِ ، فَحُمِلَ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ بِالتَّتَابُعِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ يُوجِبُ التَّتَابُعَ ، وَحَمْلُهُ عَلَى صَوْمِ الْمُتْعَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ عِنْدَهُ دَمٌ جُبِرَ يُوجِبُ التَّفْرِيقَ فَتُرِكَ الْحَمْلُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا لِلتَّعَارُضِ وَعُمِلَ بِإِطْلَاقِ نَصِّ الْكَفَّارَةِ .

ثُمَّ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ فِي بَيَانِ أَدْنَى الْكِسْوَةِ مَرْوِيٌّ عَنْ مُحَمَّدٍ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ أَدْنَاهُ مَا يَسْتُرُ عَامَّةَ بَدَنِهِ حَتَّى لَا يَجُوزَ السَّرَاوِيلَ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ لَابِسَهُ يُسَمَّى عُرْيَانًا فِي الْعُرْفِ ، لَكِنَّ مَا لَا يُجْزِيهِ عَنْ الْكِسْوَةِ يُجْزِيه عَنْ الطَّعَامِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ .

( قَوْلُهُ ثُمَّ الْمَذْكُورُ فِي الْكِسْوَةِ فِي الْكِتَابِ ) أَيْ الْمَبْسُوطِ أَوْ مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ ( فِي بَيَانِ أَدْنَى الْكِسْوَةِ ) الْمُسْقِطَةِ لِلْوَاجِبِ مِنْ أَنَّهُ مَا يَجُوزُ فِيهِ الصَّلَاةُ ( مَرْوِيٌّ عَنْ مُحَمَّدٍ ) رَحِمَهُ اللَّهُ فَيُجْزِيهِ دَفْعُ السَّرَاوِيلِ ، وَعَنْهُ تَقْيِيدُهُ بِالرَّجُلِ ، فَإِنْ أَعْطَى السَّرَاوِيلَ امْرَأَةً لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ صَلَاتُهَا فِيهِ ( وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ إنَّ أَدْنَاهُ مَا يَسْتُرُ عَامَّةَ بَدَنِهِ ، وَلَا يَجُوزُ السَّرَاوِيلُ عَلَى هَذَا وَهُوَ الصَّحِيحُ ، لِأَنَّ لَابِسَ السَّرَاوِيلِ يُسَمَّى عُرْيَانًا عُرْفًا ) فَعَلَى هَذَا لَا بُدَّ أَنْ يُعْطِيَهُ قَمِيصًا أَوْ جُبَّةً أَوْ رِدَاءً أَوْ قَبَاءً أَوْ إزَارًا سَابِلًا بِحَيْثُ الْمُقْسَمُ بِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةُ وَأَبِي يُوسُفَ وَإِلَّا فَهُوَ كَالسَّرَاوِيلِ ، وَلَا تُجْزِئُ الْعِمَامَةُ إلَّا إنْ أَمْكَنَ أَنْ يُتَّخَذَ مِنْهَا ثَوْبٌ مُجْزِئٌ مِمَّا ذَكَرْنَا جَازَ .
وَأَمَّا الْقَلَنْسُوَةُ فَلَا تُجْزِئُ بِحَالٍ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ رُوِيَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْمَقْسَمِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : إذَا قَدِمَ وَفْدٌ عَلَى الْأَمِيرِ وَأَعْطَاهُمْ قَلَنْسُوَةً قِيلَ قَدْ كَسَاهُمْ قِيلَ قَدْ كَسَاهُمْ فَلَا عَمَلَ عَلَى هَذَا .
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَا يُجْزِي أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ قَمِيصٍ وَمِئْزَرٍ وَرِدَاءٍ .
وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ ثَوْبَانِ .
قَالَ الطَّحَاوِيُّ : هَذَا كُلُّهُ إذَا دَفَعَ إلَى الرَّجُلِ ، أَمَّا إذَا دَفَعَ إلَى الْمَرْأَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ خِمَارٍ مَعَ الثَّوْبِ لِأَنَّ صَلَاتَهَا لَا تَصِحُّ دُونَهُ ، وَهَذَا يُشَابِهُ الرِّوَايَةَ الَّتِي عَنْ مُحَمَّدٍ فِي دَفْعِ السَّرَاوِيلِ أَنَّهُ لِلْمَرْأَةِ لَا يَكْفِي ، وَهَذَا كُلُّهُ خِلَافُ ظَاهِرِ الْجَوَابِ ، وَإِنَّمَا ظَاهِرُ الْجَوَابِ مَا يَثْبُتُ بِهِ اسْمُ الْمُكْتَسِي وَيَنْتَفِي عَنْهُ اسْمُ الْعُرْيَانِ ، وَعَلَيْهِ بُنِيَ عَدَمُ إجْزَاءِ السَّرَاوِيلِ لَا صِحَّةُ الصَّلَاةِ وَعَدَمُهَا فَإِنَّهُ لَا دَخْلَ لَهُ فِي الْأَمْرِ بِالْكِسْوَةِ ، إذْ لَيْسَ

مَعْنَاهُ إلَّا جَعْلُ الْفَقِيرِ مُكْتَسِيًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَالْمَرْأَةُ إذَا كَانَتْ لَابِسَةً قَمِيصًا سَابِلًا وَإِزَارًا وَخِمَارًا غَطَّى رَأْسَهَا وَأُذُنَيْهَا دُونَ عُنُقِهَا لَا شَكَّ فِي ثُبُوتِ اسْمِ أَنَّهَا مُكْتَسِيَةٌ لَا عُرْيَانَةٌ ، وَمَعَ هَذَا لَا تَصِحُّ صَلَاتُهَا فَالْعِبْرَةُ لِثُبُوتِ ذَلِكَ الِاسْمِ صَحَّتْ الصَّلَاةُ أَوْ لَا ، ثُمَّ اعْتِبَارُ الْفَقْرِ وَالْغِنَى عِنْدَنَا عِنْدَ إرَادَةِ التَّكْفِيرِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ عِنْدَ الْحِنْثِ ، فَلَوْ كَانَ مُوسِرًا عِنْدَ الْحِنْثِ ثُمَّ أَعْسَرَ عِنْدَ التَّكْفِيرِ أَجُزْأَهُ الصَّوْمُ عِنْدَنَا وَبِعَكْسِهِ لَا يُجْزِيهِ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ عَلَى الْقَلْبِ قَاسَهُ عَلَى الْحَدِّ فَإِنَّ الْمُعْتَبَرَ وَقْتَ الْوُجُوبِ لِلتَّنْصِيفِ بِالرِّقِّ .
وَقُلْنَا : الصَّوْمُ خَلَفٌ عَنْ الْمَالِ كَالتَّيَمُّمِ فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِيهِ وَقْتُ الْأَدَاءِ ، أَمَّا حَدُّ الْعَبْدِ فَلَيْسَ بِبَدَلٍ عَنْ حَدِّ الْحُرِّ فَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَيْهِ ( قَوْلُهُ لَكِنَّ مَا لَا يُجْزِيهِ إلَخْ ) يَعْنِي لَوْ أَعْطَى الْفَقِيرَ ثَوْبًا لَا يُجْزِيهِ عَنْ الْكِسْوَةِ الْوَاقِعَةِ كَفَّارَةً بِطَرِيقِ الْكِسْوَةِ مِثْلَ السَّرَاوِيلِ عَلَى الْمُخْتَارِ أَوْ نِصْفِ ثَوْبٍ مُجْزِئٌ وَقِيمَتُهُ تَبْلُغُ قِيمَةَ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ أَجْزَأَهُ عَنْ إطْعَامِ فَقِيرٍ مِنْ الْكَفَّارَةِ ، وَكَذَا إذَا أَعْطَى عَشَرَةِ مَسَاكِينَ ثَوْبًا كَبِيرًا لَا يَكْفِي كُلَّ وَاحِدٍ حِصَّتَهُ مِنْهُ لِلْكِسْوَةِ ، وَتَبْلُغُ حِصَّةُ كُلٍّ مِنْهُمْ قِيمَةَ مَا ذَكَرْنَا أَجْزَأَهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ بِالْإِطْعَامِ ، ثُمَّ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لِلْإِجْزَاءِ عَنْ الْإِطْعَامِ أَنْ يَنْوِيَ بِهِ عَنْ الْإِطْعَامِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ : لَا يُجْزِيهِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ عَنْ الْإِطْعَامِ .
وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يُجْزِيهِ نَوَى أَوْ لَمْ يَنْوِ .
وَاعْتَرَضَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى } فَإِذَا لَمْ يَنْوِ عَنْ الْإِطْعَامِ لَا يَقَعُ عَنْهُ ، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى خَيَّرَ الْمُكَفِّرَ بَيْنَ

خِصَالٍ ثَلَاثٍ ، فَإِذَا اخْتَارَ أَحَدَهَا صَارَ كَأَنَّهُ هُوَ الْوَاجِبُ ابْتِدَاءً وَتَنَحَّى الْآخَرَانِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ إنْ أَرَادَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ نِيَّةِ الْكَفَّارَةِ فَصَحِيحٌ وَبِهِ نَقُولُ ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى } دَلِيلُهُ فَلَا يَتَصَرَّفُ الْمُؤَدِّي طَعَامًا أَوْ كِسْوَةً إلَى كَوْنِهِ كَفَّارَةً إلَّا بِنِيَّةٍ ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَنْوِيَ التَّكْفِيرَ بِالْإِطْعَامِ وَالتَّكْفِيرَ بِالْكِسْوَةِ مَثَلًا فَمَمْنُوعٌ فَإِنَّ الْوَاجِبَ التَّكْفِيرُ بِأَحَدِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي كُلٌّ مِنْهَا مُتَعَلَّقُ الْوَاجِبِ وَهُوَ فِعْلُ الدَّفْعِ الَّذِي هُوَ نَفْسُ الْوَاجِبِ ، فَإِذَا دَفَعَ أَحَدَهَا نَاوِيًا الِامْتِثَالَ فَقَدْ تَمَّ الْوَاجِبُ سَوَاءٌ كَانَ يَصِحُّ إطْعَامًا أَوْ غَيْرَهُ مِمَّا هُوَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ ، وَلَوْ تَوَقَّفَ السُّقُوطُ عَلَى أَنْ يَنْوِيَ بِدَفْعِ أَحَدِهَا أَنَّهُ عَنْ الْآخَرِ إذَا لَمْ يَكْفِ لِنَفْسِهِ لَزِمَ أَنْ يَنْوِيَ كُلَّ خَصْلَةٍ فِي نَفْسِهَا فَيَجِبُ أَنْ يَنْوِيَ فِي الْإِطْعَامِ أَنَّهُ إطْعَامٌ وَفِي دَفْعِ الثَّوْبِ أَنَّهُ كِسْوَةٌ وَلَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ ، بَلْ الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ نِيَّةُ الِامْتِثَالِ بِالْفِعْلِ إذَا كَانَ مِمَّا يَصْلُحُ لِلْإِسْقَاطِ بِوَجْهٍ وَقَدْ نَوَى الْإِسْقَاطَ فَانْصَرَفَ إلَى مَا بِهِ الْإِسْقَاطُ فَظَهَرَ ضَعْفُ كَلَامِ الْمُعْتَرِضِ عَلَى أَنَّ كَوْنَهُ مُخْتَارًا لِلْكِسْوَةِ إذَا دَفَعَ مَا لَا يَسْتَقِيمُ كِسْوَةً مَمْنُوعٌ ، وَقَدْ طُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا أَعْطَى نِصْفَ صَاعٍ تَمْرٍ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ قِيمَتُهُ نِصْفَ صَاعٍ بُرٍّ لَا يُجْزِي عَنْهُ بِطَرِيقِ الْقِيمَةِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ جِنْسَ الْكَفَّارَةِ فِي التَّمْرِ وَالْبُرِّ مُتَّحِدٌ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ وَهُوَ سَدُّ حَاجَةِ الْبَطْنِ مِنْ التَّغَذِّي فَلَا يُدْفَعُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ كَالْقَمْحِ عَنْ الشَّعِيرِ .
بِخِلَافِ الْكِسْوَةِ مَعَ الْإِطْعَامِ فَإِنَّهُمَا جِنْسَانِ مِنْ الْكَفَّارَةِ لِدَفْعِ حَاجَتَيْنِ مُتَبَايِنَتَيْنِ دَفْعِ حَاجَةِ الْبَرْدِ وَالْحَرِّ

وَدَفْعِ حَاجَةِ التَّغَذِّي فَجَازَ جَعْلُ إحْدَاهُمَا عَنْ الْأُخْرَى ، وَإِنَّمَا نَظِيرُ الْمَوْرِدِ مِنْ صَدَقَةِ الْفِطْرِ لَوْ دَفَعَ ثَوْبًا صَغِيرًا نَفِيسًا تَبْلُغُ قِيمَتُهُ ثَوْبَ كِرْبَاسَ يُجْزِي عَنْ الْكِسْوَةِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجْزِيَهُ عَنْ الْكِسْوَةِ بَلْ عَنْ الْإِطْعَامِ .

( وَإِنْ قَدَّمَ الْكَفَّارَةَ عَلَى الْحِنْثِ لَمْ يُجْزِهِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُجْزِيهِ بِالْمَالِ لِأَنَّهُ أَدَّاهَا بَعْدَ السَّبَبِ وَهُوَ الْيَمِينُ فَأَشْبَهَ التَّكْفِيرَ بَعْدَ الْجَرْحِ .
وَلَنَا أَنَّ الْكَفَّارَةَ لِسَتْرِ الْجِنَايَةِ وَلَا جِنَايَةَ هَاهُنَا ، وَلَيْسَتْ بِسَبَبٍ لِأَنَّهُ مَانِعٌ غَيْرُ مُفْضٍ ، بِخِلَافِ الْجَرْحِ لِأَنَّهُ مُفْضٍ .
( ثُمَّ لَا يَسْتَرِدُّ مِنْ الْمِسْكِينِ ) لِوُقُوعِهِ صَدَقَةً .

( قَوْلُهُ وَإِنْ قَدَّمَ الْكَفَّارَةَ عَلَى الْحِنْثِ لَمْ يَجُزْ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَجْزِيهِ بِالْمَالِ ) دُونَ الصَّوْمِ ( لِأَنَّهُ أَدَّى بَعْدَ السَّبَبِ وَهُوَ الْيَمِينُ ) وَإِنَّمَا كَانَ السَّبَبُ لِلْكَفَّارَةِ هُوَ الْيَمِينُ لِأَنَّهُ أُضِيفَ إلَيْهِ الْكَفَّارَةُ فِي النَّصِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ } وَأَهْلُ اللُّغَةِ وَالْعُرْفِ يَقُولُونَ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ وَلَا يَقُولُونَ كَفَّارَةُ الْحِنْثِ ، وَالْإِضَافَةُ دَلِيلُ سَبَبِيَّةِ الْمُضَافِ إلَيْهِ لِلْمُضَافِ الْوَاقِعِ حُكْمًا شَرْعِيًّا أَوْ مُتَعَلِّقُهُ .
كَمَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ، فَإِنَّ الْكَفَّارَةَ مُتَعَلَّقُ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ الْوُجُوبُ ، وَإِذَا ثَبَتَ سَبَبِيَّتُهُ جَازَ تَقْدِيمُ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْحِنْثِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ شَرْطٌ .
وَالتَّقْدِيمُ عَلَى الشَّرْطِ بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ ثَابِتٌ شَرْعًا ، كَمَا جَازَ فِي الزَّكَاةِ تَقْدِيمُهَا عَلَى الْحَوْلِ بَعْدَ السَّبَبِ الَّذِي هُوَ مِلْكُ النِّصَابِ ، وَكَمَا فِي تَقْدِيمِ التَّكْفِيرِ بَعْدَ الْجَرْحِ عَلَى الْمَيِّتِ بِالسَّرَايَةِ ، وَمُقْتَضَى هَذَا أَنْ لَا يَفْتَرِقَ الْمَالُ وَالصَّوْمُ وَهُوَ قَوْلُهُ الْقَدِيمُ ، وَفِي الْجَدِيدِ لَا يُقَدَّمُ الصَّوْمُ لِأَنَّ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةَ لَا تُقَدَّمُ عَلَى الْوَقْتِ : يَعْنِي أَنَّ تَقَدُّمَ الْوَاجِبِ بَعْدَ السَّبَبِ قَبْلَ الْوُجُوبِ لَمْ يُعْرَفْ شَرْعًا إلَّا فِي الْمَالِيَّةِ كَالزَّكَاةِ فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهِ ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ إلَى التَّكْفِيرِ قَبْلَ الْحِنْثِ مُطْلَقًا صَوْمًا كَانَ أَوْ مَالًا وَهُوَ ظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ الَّتِي يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى التَّقْدِيمِ كَمَا سَيُذْكَرُ ( وَلَنَا أَنَّ الْكَفَّارَةَ لِسَتْرِ الْجِنَايَةِ ) مِنْ الْكُفْرِ وَهُوَ السَّتْرُ قَالَ الْقَائِلُ : فِي لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُومَ غَمَامُهَا وَبِهِ سُمِّيَ الزَّارِعُ كَافِرًا لِأَنَّهُ يَسْتُرُ الْبَذْرَ فِي الْأَرْضِ ( وَلَا جِنَايَةَ ) قَبْلَ الْحِنْثِ لِأَنَّهَا مَنُوطَةٌ بِهِ لَا بِالْيَمِينِ لِأَنَّهُ ذَكَرَ اللَّهَ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ ، وَلِذَا أَقْدَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةُ عَلَى الْأَيْمَانِ وَكَوْنُ الْحِنْثِ جِنَايَةً مُطْلَقًا لَيْسَ وَاقِعًا إذْ قَدْ يَكُونُ فَرْضًا ، وَإِنَّمَا أَخْرَجَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْكَلَامَ مَخْرَجَ الظَّاهِرِ الْمُتَبَادِرِ مِنْ إخْلَافِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ السَّبَبَ الْحِنْثُ سَوَاءٌ كَانَ بِهِ مَعْصِيَةٌ أَوْ لَا ، وَالْمَدَارُ تَوْفِيرُ مَا يَجِبُ لِاسْمِ اللَّهِ عَلَيْهِ ، وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ السَّبَبَ الْحِنْثُ ، وَالْيَمِينَ لَيْسَتْ بِسَبَبٍ لِأَنَّ أَقَلَّ مَا فِي السَّبَبِ أَنْ يَكُونَ مُفْضِيًا إلَى الْمُسَبَّبِ وَالْيَمِينُ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَانِعٌ عَنْ عَدَمِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فَكَيْفَ يَكُونُ مُفْضِيًا إلَيْهِ .
نَعَمْ قَدْ يَتَّفِقُ تَحَقُّقُهُ اتِّفَاقًا لَا عَنْ الْيَمِينِ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ نَفْسَ أَكْلِ الْفَاكِهَةِ لَمْ يَتَسَبَّبْ فِيهِ نَفْسُ الْحَلِفِ عَلَى تَرْكِهِ ، بِخِلَافِ الْجَرْحِ فَإِنَّهُ مُفْضٍ إلَى التَّلَفِ فَلَزِمَ أَنَّ الْإِضَافَةَ الْمَذْكُورَةَ إضَافَةٌ إلَى الشَّرْطِ ، فَإِنَّ الْإِضَافَةَ إلَى الشَّرْطِ جَائِزَةٌ وَثَابِتَةٌ فِي الشَّرْعِ كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْإِحْرَامِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ .
عَلَى أَنَّهُ لَوْ سَلِمَ أَنَّ الْيَمِينَ سَبَبٌ فَلَا شَكَّ فِي أَنَّ الْحِنْثَ شَرْطُ الْوُجُوبِ لِلْقَطْعِ بِأَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَجِبُ قَبْلَهُ وَإِلَّا وَجَبَتْ بِمُجَرَّدِ الْيَمِينِ ، وَالْمَشْرُوطُ لَا يُوجَدُ قَبْلَ شَرْطِهِ فَلَا يَقَعُ التَّكْفِيرُ وَاجِبًا قَبْلَهُ فَلَا يَسْقُطُ الْوُجُوبُ قَبْلَ ثُبُوتِهِ وَلَا عِنْدَ ثُبُوتِهِ بِفِعْلٍ قَبْلَهُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا ، فَهَذَا مُقْتَضَى الدَّلِيلِ وَقَعَ الشَّرْعُ عَلَى خِلَافِهِ فِي الزَّكَاةِ وَالْجُرْحِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فِي بَابِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ فَيُقْتَصَرُ عَلَى مَوْرِدِهِ فَلَا يُلْحَقُ غَيْرُهُ بِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ وَرَدَ السَّمْعُ بِهِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ ثُمَّ لْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ } قُلْنَا : الْمَعْرُوفُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ وَائْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ } وَفِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ وَلْيَفْعَلْ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ } وَحَدِيثُ الْبُخَارِيِّ وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ الرِّوَايَاتِ الْمُعْتَبَرَةِ لَفْظُ ثُمَّ إلَّا وَهُوَ مُقَابَلٌ بِرِوَايَاتٍ كَثِيرَةٍ بِالْوَاوِ ، فَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ فِي أَبِي دَاوُد قَالَ فِيهِ { فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ ثُمَّ ائْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ } وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مُقَابَلَةٌ بِرِوَايَاتٍ عَدِيدَةٍ كَحَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ هَذَا فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ بِالْوَاوِ فَيُنْزَلُ مَنْزِلَةَ الشَّاذِّ مِنْهَا فَيَجِبُ حَمْلُهَا عَلَى مَعْنَى الْوَاوِ حَمْلًا لِلْقَلِيلِ الْأَقْرَبِ إلَى الْغَلَطِ عَلَى الْكَثِيرِ .
وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي الْمُسْتَدْرَكِ { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا حَلَفَ لَا يَحْنَثُ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ فَقَالَ : لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ ، إلَى أَنْ قَالَ : إلَّا كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي ثُمَّ أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ } وَهَذَا فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ إلَى آخِرِ مَا فِي الْمُسْتَدْرَكِ ، وَفِيهِ الْعَطْفُ بِالْوَاوِ وَهُوَ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ ، وَقَدْ شَذَّتْ رِوَايَةُ ثُمَّ لِمُخَالَفَتِهَا رِوَايَاتِ الصَّحِيحَيْنِ وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ فَصَدَقَ عَلَيْهَا تَعْرِيفُ الْمُنْكَرِ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ وَهُوَ مَا خَالَفَ الْحَافِظُ فِيهَا الْأَكْثَرَ : يَعْنِي مِنْ سِوَاهُ مِمَّنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ بِالْحِفْظِ وَالْإِتْقَانِ فَلَا يُعْمَلُ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ وَيَكُونُ التَّعْقِيبُ الْمُفَادُ بِالْفَاءِ لِجُمْلَةِ الْمَذْكُورِ كَمَا فِي اُدْخُلْ السُّوقَ فَاشْتَرِ لَحْمًا وَفَاكِهَةً ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ تَعْقِيبُ دُخُولِ السُّوقِ بِشِرَاءِ كُلٍّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ ، وَهَكَذَا قُلْنَا فِي قَوْله تَعَالَى {

فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ } الْآيَةَ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْوَاوَ لَمَّا لَمْ تَقْتَضِ التَّعْقِيبَ كَانَ قَوْلُهُ فَلْيُكَفِّرْ لَا يَلْزَمُ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْحِنْثِ بَلْ جَازَ كَوْنُهُ قَبْلَهُ كَمَا بَعْدَهُ فَلَزِمَ مِنْ هَذَا كَوْنُ الْحَاصِلِ فَلْيَفْعَلْ الْأَمْرَيْنِ فَيَكُونُ الْمُعَقَّبُ الْأَمْرَيْنِ ، ثُمَّ وَرَدَتْ رِوَايَاتٌ بِعَكْسِهِ : مِنْهَا مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ } .
وَمِنْهَا حَدِيثٌ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ ثُمَّ لْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ } وَمِنْهَا مَا أَخْرَجَ النَّسَائِيّ : أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ سُفْيَانَ ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَزَاءِ عَنْ عَمِّهِ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ { قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْتُ ابْنَ عَمٍّ لِي آتِيهِ أَسْأَلُهُ فَلَا يُعْطِينِي وَلَا يَصِلُنِي ثُمَّ يَحْتَاجُ إلَيَّ فَيَأْتِينِي وَيَسْأَلُنِي وَقَدْ حَلَفْتُ أَنْ لَا أُعْطِيَهُ وَلَا أَصِلَهُ ، فَأَمَرَنِي أَنْ آتِيَ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَأُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِي } وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِنَحْوِهِ ؛ ثُمَّ لَوْ فُرِضَ صِحَّةُ رِوَايَةِ " ثُمَّ " كَانَ مِنْ تَغْيِيرِ الرِّوَايَةِ ، إذْ قَدْ ثَبَتَتْ الرِّوَايَاتُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ بِالْوَاوِ ، وَلَوْ سَلِمَ فَالْوَاجِبُ كَمَا قَدَّمْنَا حَمْلُ الْقَلِيلِ عَلَى الْكَثِيرِ الشَّهِيرِ لَا عَكْسُهُ ، فَتُحْمَلُ ثُمَّ عَلَى الْوَاوِ الَّتِي امْتَلَأَتْ كُتُبُ الْحَدِيثِ مِنْهَا دُونَ ثُمَّ .
وَأَمَّا لَفْظُ الْحَدِيثِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فَلَمْ يُعْرَفْ أَصْلًا : أَعْنِي قَوْلَهُ { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ ثُمَّ لْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ } إلَّا أَنَّ

الْمَطْلُوبَ لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَيْهِ كَذَلِكَ ، هَذَا وَلَفْظُ الْيَمِينِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ } مَجَازٌ مِنْ إطْلَاقِ اسْمِ الْكُلِّ عَلَى الْجُزْءِ وَهُوَ الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْيَمِينَ اسْمٌ لِمَجْمُوعِ الْقَسَمِ وَالْمُقْسَمِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمُرَادُ ( قَوْلُهُ لَا يَسْتَرِدُّ مِنْ الْفَقِيرِ ) يَعْنِي إذَا دَفَعَ إلَى الْفَقِيرِ الْكَفَّارَةَ قَبْلَ الْحِنْثِ وَقُلْنَا لَا يُجْزِيهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهَا مِنْهُ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ لِلَّهِ قَصَدَ بِهِ الْقُرْبَةَ مَعَ شَيْءٍ آخَرَ وَقَدْ حَصَلَ التَّقَرُّبُ وَتَرَتَّبَ الثَّوَابُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْقُضَهُ وَيُبْطِلَهُ .

قَالَ ( وَمَنْ حَلَفَ عَلَى مَعْصِيَةٍ مِثْلَ أَنْ لَا يُصَلِّيَ أَوْ لَا يُكَلِّمَ أَبَاهُ أَوْ لَيَقْتُلَنَّ فُلَانًا يَنْبَغِي أَنْ يُحْنِثَ نَفْسَهُ وَيُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ بِاَلَّذِي هُوَ خَيْرٌ ثُمَّ لِيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ } وَلِأَنَّ فِيمَا قُلْنَاهُ تَفْوِيتُ الْبِرِّ إلَى جَارٍ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ وَلَا جَابِرَ لِلْمَعْصِيَةِ فِي ضِدِّهِ .

( قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ عَلَى مَعْصِيَةٍ مِثْلَ أَنْ لَا يُصَلِّيَ أَوْ لَا يُكَلِّمَ أَبَاهُ أَوْ لَيَقْتُلَن فُلَانًا يَنْبَغِي أَنْ يُحْنِثَ ) أَيْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُحْنِثَ ( نَفْسَهُ وَيُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ } ) وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ آنِفًا ( وَلِأَنَّ فِيمَا قُلْنَاهُ ) مِنْ تَحْنِيثِ نَفْسِهِ ( تَفْوِيتُ الْبِرِّ إلَى جَابِرٍ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ ) وَثُبُوتُ جَابِرِ الشَّيْءِ كَثُبُوتِ نَفْسِهِ فَكَانَ الْمُتَحَقَّقُ الْبِرَّ ( وَلَا جَابِرَ لِلْمَعْصِيَةِ فِي ضِدِّهِ ) أَيْ فِي ضِدِّ مَا قُلْنَاهُ وَهُوَ تَحْنِيثُ نَفْسِهِ وَضِدُّ تَحْنِيثِ نَفْسِهِ هُوَ أَنْ يَبَرَّ فِي يَمِينِهِ بِفِعْلِ الْمَعْصِيَةِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ تَتَقَرَّرُ الْمَعْصِيَةُ دُونَ جَابِرٍ يَجْبُرُهَا ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ أَنْوَاعٌ : فِعْلُ مَعْصِيَةٍ أَوْ تَرْكُ فَرْضٍ فَالْحِنْثُ وَاجِبٌ أَوْ شَيْءٌ غَيْرُهُ أَوْلَى مِنْهُ كَالْحَلِفِ عَلَى تَرْكِ وَطْءِ زَوْجَتِهِ شَهْرًا وَنَحْوَهُ ، فَإِنَّ الْحِنْثَ أَفْضَلُ لِأَنَّ الرِّفْقَ أَيْمَنُ وَكَذَا إذَا حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّ عَبْدَهُ وَهُوَ يَسْتَأْهِلُ ذَلِكَ أَوْ لَيَشْكُوَنَّ مَدْيُونَهُ إنْ لَمْ يُوَافِهِ غَدًا لِأَنَّ الْعَفْوَ أَفْضَلُ ، وَكَذَا تَيْسِيرُ الْمُطَالَبَةِ .
أَوْ عَلَى شَيْءٍ وَضِدُّهُ مِثْلُهُ كَالْحَلِفِ لَا يَأْكُلُ هَذَا الْخُبْزَ أَوْ لَا يَلْبَسُ هَذَا الثَّوْبَ فَالْبِرُّ فِي هَذَا وَحِفْظُ الْيَمِينِ أَوْلَى ، وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ إنَّهُ وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ } عَلَى مَا هُوَ الْمُخْتَارُ فِي تَأْوِيلِهَا أَنَّهُ الْبِرُّ فِيهَا أَمْكَنَ .

( وَإِذَا حَلَفَ الْكَافِرُ ثُمَّ حَنِثَ فِي حَالِ كُفْرِهِ أَوْ بَعْدَ إسْلَامِهِ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْيَمِينِ لِأَنَّهَا تُعْقَدُ لِتَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَمَعَ الْكُفْرِ لَا يَكُونُ مُعَظِّمًا وَلَا هُوَ أَهْلُ الْكَفَّارَةِ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ .

( قَوْلُهُ وَإِذَا حَلَفَ الْكَافِرُ ثُمَّ حَنِثَ فِي حَالِ الْكُفْرِ أَوْ بَعْدَ إسْلَامِهِ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ ) أَيْ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ، فَالْمُرَادُ حُكْمُ الْحِنْثِ الْمَعْهُودِ ، وَكَذَا إذَا حَلَفَ مُسْلِمًا ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَ فَحَنِثَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا نَذَرَ الْكَافِرُ مَا هُوَ قُرْبَةٌ مِنْ صَدَقَةٍ أَوْ صَوْمٍ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ عِنْدَنَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَلَا قَبْلَهُ ، وَبِقَوْلِنَا فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ قَالَ مَالِكٌ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ بِالْمَالِ لِأَنَّهُ أَهْلٌ لِإِيجَابِهِ دُونَ الصَّوْمِ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ وَلَيْسَ أَهْلًا لَهَا ، وَصَارَ كَالْعَبْدِ لَمَّا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ بِالْمَالِ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ إحْدَى الْخِصَالِ ، فَكَذَا هَذَا لَمَّا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ تَعَيَّنَ مَا سِوَاهُ ، وَأَيْضًا هُوَ أَهْلٌ لِلْبِرِّ فَإِنَّهُ يَعْتَقِدُ حُرْمَةَ اسْمِ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا وَيَمْتَنِعُ عَنْ إخْلَافِ مَا عَقَدَهُ بِهِ عَلَيْهِ وَلِهَذَا يُسْتَحْلَفُ فِي الدَّعَاوَى وَيَدْخُلُ فِي الْمَالِ الْعِتْقُ فَإِنَّهُ يَقْبَلُ الْفَصْلَ عَنْ الْعِبَادَةِ كَالْعِتْقِ لِلشَّيْطَانِ وَنَحْوِهِ فَيَكُونُ فِي حَقِّهِ مُجَرَّدَ إسْقَاطِ الْمَالِيَّةِ ، ثُمَّ ثَبَتَ فِي ذَلِكَ سَمْعٌ وَهُوَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ .
وَفِي رِوَايَةٍ : يَوْمًا ، فَقَالَ : أَوْفِ بِنَذْرِكَ } وَفِي حَدِيثِ الْقَسَامَةِ مِنْ الصَّحِيحَيْنِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { تُبَرِّئُكُمْ يَهُودُ بِخَمْسِينَ يَمِينًا } وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { إنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ } وَأَمَّا قَوْلُهُ بَعْدَهُ { نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ } فَيَعْنِي صُوَرَ الْأَيْمَانِ الَّتِي أَظْهَرُوهَا .
وَالْحَاصِلُ لُزُومُ تَأْوِيلٍ إمَّا فِي { لَا أَيْمَانَ لَهُمْ } كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ لَا إيفَاءَ لَهُمْ بِهَا أَوْ فِي { نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ } عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ

أَنَّ الْمُرَادَ مَا هُوَ صُوَرُ الْأَيْمَانِ دُونَ حَقِيقَتِهَا الشَّرْعِيَّةِ وَتَرَجَّحَ الثَّانِي بِالْفِقْهِ ، وَهُوَ أَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ مَنْ كَانَ أَهْلًا لِلْيَمِينِ يَكُونُ أَهْلًا لِلْكَفَّارَةِ ، وَلَيْسَ الْكَافِرُ أَهْلًا لَهَا لِأَنَّهَا إنَّمَا شُرِعَتْ عِبَادَةً يُجْبَرُ بِهَا مَا ثَبَتَ مِنْ إثْمِ الْحِنْثِ إنْ كَانَ ، أَوْ مَا وَقَعَ مِنْ إخْلَافِ مَا عَقَدَ عَلَيْهِ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى إقَامَةً لِوَاجِبِهِ ، وَلَيْسَ الْكَافِرُ أَهْلًا لِفِعْلِ عِبَادَةٍ .
وَقَوْلُهُمْ إيجَابُ الْمَالِ وَالْعِتْقِ يُمْكِنُ تَجْرِيدُهُ عَنْ مَعْنَى الْعِبَادَةِ لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي إيجَابِ الْمَالِ وَالْعِتْقِ مِنْ حَيْثُ هُوَ إيجَابُهُمَا ، وَالْكَلَامُ فِي إيجَابِهِمَا كَفَّارَةً ، وَإِيجَابُهُمَا كَفَّارَةً لَا يَقْبَلُ الْفَصْلَ عَمَّا ذَكَرْنَا ، إذْ لَوْ فُصِلَ لَمْ يَكُنْ كَفَّارَةً لِأَنَّ مَا شُرِعَ بِصِفَةٍ لَا يَثْبُتُ شَرْعًا إلَّا بِتِلْكَ الصِّفَةِ وَإِلَّا فَهُوَ شَيْءٌ آخَرُ ، وَأَمَّا تَحْلِيفُ الْقَاضِي وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تُبَرِّيكُمْ يَهُودُ بِخَمْسِينَ يَمِينًا } فَالْمُرَادُ كَمَا قُلْنَا صُوَرُ الْأَيْمَانِ ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا رَجَاءُ النُّكُولِ ، وَالْكَافِرُ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ فِي حَقِّهِ شَرْعًا الْيَمِينُ الشَّرْعِيُّ الْمُسْتَعْقِبُ لِحُكْمِهِ فَهُوَ يَعْتَقِدُ فِي نَفْسِهِ تَعْظِيمَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُرْمَةَ الْيَمِينِ بِهِ كَاذِبًا فَيَمْتَنِعُ عَنْهُ فَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ مِنْ ظُهُورِ الْحَقِّ فَشُرِعَ الْتِزَامُهُ بِصُورَتِهَا لِهَذِهِ الْفَائِدَةِ .
وَمَا فِي الْهِدَايَةِ مِنْ أَنَّهُ مَعَ الْكُفْرِ لَا يَكُونُ مُعَظِّمًا لَيْسَ بِصَحِيحٍ إلَّا أَنْ يُرِيدَ تَعْظِيمًا يُقْبَلُ مِنْهُ وَيُجَازَى عَلَيْهِ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَوْفِ بِنَذْرِكَ } فَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ نَذْرَ الْكَافِرِ لَا يَصِحُّ ، فَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ كَاللَّجَاجِ وَهُمْ يُؤَوِّلُونَهُ أَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَفْعَلَ قُرْبَةً مُسْتَأْنَفَةً فِي حَالِ الْإِسْلَامِ لَا عَلَى أَنَّهُ الْوَاجِبُ بِالنَّذْرِ دَعَا إلَى هَذَا الْعِلْمُ مِنْ

الشَّرْعِ أَنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ أَهْلًا لِقُرْبَةٍ مِنْ الْقُرَبِ فَلَيْسَ أَهْلًا لِالْتِزَامِهَا ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ فَعَلَهَا لَمْ تَصِحَّ مِنْهُ ، وَتَصْحِيحُ الِالْتِزَامِ ابْتِدَاءً يُرَادُ لِفِعْلِ نَفْسِ الْمُلْتَزِمِ .
لَا لِإِضْعَافِ الْعَذَابِ .
وَقَوْلُ الطَّحَاوِيِّ : إنَّهُ لَيْسَ مُتَقَرِّبًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى بَلْ إلَى رَبِّهِ الَّذِي يَعْبُدُهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ فِي بَعْضِ الْكُفَّارِ وَهُمْ الْمُشْرِكُونَ عَلَى تَقْدِيرِ قَصْدِهِ بِنَذْرِهِ الَّذِي أَشْرَكَ بِهِ فَفِيهِ قُصُورٌ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ .

( وَمَنْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا مِمَّا يَمْلِكُهُ لَمْ يَصِرْ مُحَرَّمًا وَعَلَيْهِ إنْ اسْتَبَاحَهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ : لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ قَلْبُ الْمَشْرُوعِ فَلَا يَنْعَقِدُ بِهِ تَصَرُّفٌ مَشْرُوعٌ وَهُوَ الْيَمِينُ .
وَلَنَا أَنَّ اللَّفْظَ يُنْبِئُ عَنْ إثْبَاتِ الْحُرْمَةِ ، وَقَدْ أَمْكَنَ إحْمَالُهُ بِثُبُوتِ الْحُرْمَةِ لِغَيْرِهِ بِإِثْبَاتِ مُوجِبِ الْيَمِينِ فَيُصَارُ إلَيْهِ ، ثُمَّ إذَا فَعَلَ مِمَّا حَرَّمَهُ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا حَنِثَ وَوَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ وَهُوَ الْمَعْنَى مِنْ الِاسْتِبَاحَةِ الْمَذْكُورَةِ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ إذَا ثَبَتَ تَنَاوَلَ كُلَّ جُزْءٍ مِنْهُ .

( قَوْلُهُ وَمَنْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا مِمَّا يَمْلِكُهُ ) كَهَذَا الثَّوْبُ عَلَيَّ حَرَامٌ أَوْ هَذَا الطَّعَامُ أَوْ هَذِهِ الْجَارِيَةُ أَوْ الدَّابَّةُ ( لَمْ يَصِرْ مُحَرَّمًا وَعَلَيْهِ إنْ اسْتَبَاحَهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ) وَلَيْسَ مِلْكُهُ شَرْطًا لِلُزُومِ حُكْمِ الْيَمِينِ فَإِنَّهُ جَازَ فِي نَحْوِ : كَلَامُ زَيْدٍ عَلَيَّ حَرَامٌ ، وَلَوْ أُرِيدَ بِلَفْظِ شَيْئًا مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ الْفِعْلِ دَخَلَ نَحْوُ : كَلَامُ زَيْدٍ وَلَمْ يَدْخُلْ نَحْوُ هَذَا الطَّعَامُ عَلَيَّ حَرَامٌ لِطَعَامٍ لَا يَمْلِكُهُ ، لِأَنَّهُ حَرَامٌ عَلَيْهِ التَّصَرُّفُ فِيهِ مَعَ أَنَّهُ يَصِيرُ بِهِ حَالِفًا ، حَتَّى لَوْ أَكَلَهُ حَلَالًا أَوْ حَرَامًا لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ حُرْمَتَهُ لَا تَمْنَعُ تَحْرِيمَهُ حَلِفًا أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِمْ لَوْ حَرَّمَ الْخَمْرَ عَلَى نَفْسِهِ فَقَالَ الْخَمْرُ عَلَيَّ حَرَامٌ أَنَّ الْمُخْتَارَ لِلْفَتْوَى أَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِهِ التَّحْرِيمَ : يَعْنِي الْإِنْشَاءَ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ إذَا شَرِبَهَا كَأَنَّهُ حَلَفَ لَا أَشْرَبُ الْخَمْرَ ، وَإِنْ أَرَادَ الْإِخْبَارَ أَوْ لَمْ يُرِدْ شَيْئًا لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ إخْبَارًا ، وَالْمَنْقُولُ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَأَبِي حَنِيفَةَ ، عِنْدَ أَحَدِهِمَا يَحْنَثُ مُطْلَقًا ، وَعِنْدَ الْآخَرِ لَا يَحْنَثُ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى نِيَّةٍ ، وَلَوْ قَالَ الْخِنْزِيرُ عَلَيَّ حَرَامٌ فَلَيْسَ بِيَمِينٍ إلَّا أَنْ يَقُولَ إنْ أَكَلْته .
وَقِيلَ هُوَ قِيَاسُ الْخَمْرِ وَهُوَ الْوَجْهُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ تَحْرِيمِ هَذِهِ الْأَعْيَانِ انْصِرَافُ الْيَمِينِ إلَى الْفِعْلِ الْمَقْصُودِ مِنْهَا كَمَا فِي تَحْرِيمِ الشَّرْعِ لَهَا فِي نَحْوِ { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } وَحُرِّمَتْ الْخَمْرُ وَالْخِنْزِيرُ أَنَّهُ يَنْصَرِفُ إلَى النِّكَاحِ وَالشُّرْبِ وَالْأَكْلِ ، وَلِذَا قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ : لَوْ قَالَ هَذَا الثَّوْبُ عَلَيَّ حَرَامٌ فَلَبِسَهُ حَنِثَ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ غَيْرَهُ ، وَإِنْ قَالَ إنْ أَكَلْت هَذَا الطَّعَامَ فَهُوَ عَلَيَّ حَرَامٌ فَأَكَلَهُ لَا يَحْنَثُ ، وَذَكَرَ فِي

الْمُنْتَقَى : لَوْ قَالَ كُلُّ طَعَامٍ آكُلُهُ فِي مَنْزِلِك فَهُوَ عَلَيَّ حَرَامٌ فَفِي الْقِيَاسِ لَا يَحْنَثُ إذَا أَكَلَهُ ، هَكَذَا رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ : يَحْنَثُ ، وَالنَّاسُ يُرِيدُونَ بِهَذَا أَنَّ أَكْلَهُ حَرَامٌ انْتَهَى .
وَعَلَى هَذَا فَيَجِبُ فِي الَّتِي قَبْلَهَا وَهُوَ قَوْلُهُ إنْ أَكَلْت هَذَا فَهُوَ عَلَيَّ حَرَامٌ أَنْ يَحْنَثَ إذَا أَكَلَهُ ، وَكَذَا مَا ذَكَرَ فِي الْحِيَلِ إنْ أَكَلْت طَعَامًا عِنْدَك أَبَدًا فَهُوَ حَرَامٌ فَأَكَلَهُ لَمْ يَحْنَثْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ جَوَابَ الْقِيَاسِ .
وَلَوْ قَالَ لِقَوْمٍ كَلَامُكُمْ عَلَيَّ حَرَامٌ أَيَّهُمْ كَلَّمَ حَنِثَ .
وَفِي مَجْمُوعِ النَّوَازِلِ : وَكَذَا كَلَامُ فُلَانٍ وَفُلَانٍ عَلَيَّ حَرَامٌ يَحْنَثُ بِكَلَامِ أَحَدِهِمَا ، وَكَذَا كَلَامُ أَهْلِ بَغْدَادَ ، وَكَذَا أَكْلُ هَذَا الرَّغِيفِ عَلَيَّ حَرَامٌ يَحْنَثُ بِأَكْلِ لُقْمَةٍ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُهُمْ لَا يَحْنَثُ حَتَّى يُكَلِّمَهُمْ .
وَفِي الْخُلَاصَةِ : لَوْ قَالَ هَذَا الرَّغِيفُ عَلَيَّ حَرَامٌ حَنِثَ بِأَكْلِ لُقْمَةٍ .
وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ : قَالَ مَشَايِخُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ : الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ حَانِثًا لِأَنَّ قَوْلَهُ هَذَا الرَّغِيفُ عَلَيَّ حَرَامٌ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ وَاَللَّهِ لَا آكُلُ هَذَا الرَّغِيفَ ، وَلَوْ قَالَ هَكَذَا لَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ الْبَعْضِ وَإِنْ قَالَتْ لِزَوْجِهَا أَنْتَ عَلَيَّ حَرَامٌ أَوْ حَرَّمْتُك يَكُونُ يَمِينًا ، فَلَوْ جَامَعَهَا طَائِعَةً أَوْ مُكْرَهَةً تَحْنَثُ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَأُدْخِلَ لَا يَحْنَثُ ، وَلَوْ قَالَ لِدَرَاهِمَ فِي يَدِهِ هَذِهِ الدَّرَاهِمُ عَلَيَّ حَرَامٌ إنْ اشْتَرَى بِهَا حَنِثَ ، وَإِنْ تَصَدَّقَ بِهَا أَوْ وَهَبَهَا لَمْ يَحْنَثْ بِحُكْمِ الْعُرْفِ ( قَوْلُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ) يَعْنِي إلَّا فِي الْجَوَارِي وَالنِّسَاءِ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ قَلْبُ الْمَشْرُوعِ فَلَا يَنْعَقِدُ بِهِ تَصَرُّفٌ مَشْرُوعٌ وَهُوَ الْيَمِينُ ، إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ

وَرَدَ بِهِ فِي الْجَوَارِي ، وَالنِّسَاءُ فِي مَعْنَاهَا فَيُقْتَصَرُ عَلَى مَوْرِدِهِ ، وَالِاسْتِدْلَالُ بَعْدَ هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } إلَى قَوْلِهِ { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَ شَيْئًا مِمَّا هُوَ حَلَالٌ ، وَأَنَّهُ فَرَضَ لَهُ تَحِلَّتَهُ فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ { تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } وَعُلِمَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ تَحْرِيمَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ يَمِينًا فِيهَا الْكَفَّارَةُ غَيْرَ مُفِيدٍ لِأَنَّ الْكَلَامَ الْآنَ فِي تَخْصِيصِهِ بِمَوْرِدِهِ أَوْ تَعْمِيمِهِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِعُمُومِ اللَّفْظِ وَهُوَ قَوْلُهُ { مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } وَقَدْ يَدْفَعُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ خُصُوصُ مَا وَقَعَ تَحْرِيمُهُ : أَيْ لِمَ حَرَّمْت مَا كَانَ حَلَالًا لَك ، وَلِذَا قَالَ { تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ } وَابْتِغَاءُ مَرْضَاتِهِنَّ لَا يَتَعَلَّقُ بِعُمُومِ تَحْرِيمِ الْمُبَاحَاتِ بَلْ بِبَعْضٍ يَسِيرٍ ، بَلْ الْجَوَابُ أَنَّهُ كَمَا وَرَدَ أَنَّهَا أُنْزِلَتْ فِي تَحْرِيمِ مَارِيَةَ وَرَدَ أَنَّهَا أُنْزِلَتْ فِي تَحْرِيمِ الْعَسَلِ .
فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْكُثُ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَيَشْرَبُ عِنْدَهَا عَسَلًا فَتَوَاصَيْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ عَلَى أَنَّ أَيَّتُنَا إنْ دَخَلَ عَلَيْهَا فَلْتَقُلْ إنِّي أَجِدُ مِنْكِ رِيحَ مَغَافِيرَ فَدَخَلَ عَلَى إحْدَانَا فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ : لَا ، بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا عِنْدَ زَيْنَبَ وَلَنْ أَعُودَ إلَيْهِ فَنَزَلَتْ { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ } } وَهَذَا أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ لِأَنَّ رَاوِيَهُ صَاحِبَةُ الْقِصَّةِ وَفِيهِ زِيَادَةُ الصِّحَّةِ وَحِينَئِذٍ لَا مَانِعَ مِنْ كَوْنِ نُزُولِهَا فِي الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا وقَوْله تَعَالَى { تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ } وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا فِي أَنَّهَا فِي تَحْرِيمِ مَارِيَةَ لِأَنَّ مَرْضَاتَهُنَّ كَانَ فِي ذَلِكَ لَا فِي تَرْكِ الْعَسَلِ فَلَا شَكَّ

أَنَّهُ أَيْضًا فِي تَرْكِ شُرْبِهِ عِنْدَ الضَّرَّةِ .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّهُ رُوِيَ { أَنَّهُ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَذُوقُهُ } فَلِذَلِكَ سُمِّيَ تَحْرِيمًا وَلَزِمَتْ التَّحِلَّةُ أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْآيَةِ وَلَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْكَمَ بِهِ وَيُقَيَّدَ بِهِ حُكْمُ النَّصِّ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِي فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ هُوَ قَوْلُهُ { وَلَنْ أَعُودَ إلَيْهِ } وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِيَمِينٍ مُوجِبٍ لِلْكَفَّارَةِ عِنْدَ أَحَدٍ فَحَيْثُ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى مَا يُفِيدُ أَنَّ الْوَاقِعَ مِنْهُ كَانَ يَمِينًا وَجَبَ الْحُكْمُ بِأَنَّهُ كَانَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ ذَلِكَ الْقَوْلِ قَوْلٌ آخَرُ لَمْ يُرْوَ فِي تِلْكَ الرِّوَايَةِ ثَبَتَ بِهِ الْيَمِينُ فَجَازَ كَوْنُهُ قَوْلَهُ وَاَللَّهِ لَا أَذُوقُهُ وَجَازَ كَوْنُهُ لَفْظ التَّحْرِيمِ ، إلَّا أَنَّ لَفْظَ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ ظَاهِرٌ فِي إرَادَةِ قَالَ حَرَّمْت كَذَا وَنَحْوَهُ ، بِخِلَافِ الْحَلِفِ عَلَى تَرْكِهِ .
وَحَاصِلُ الْوَجْهِ الَّذِي اقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ وَهُوَ أَنَّ لَفْظَهُ يُنَبِّئُ عَنْ إثْبَاتِ الْحُرْمَةِ ، وَقَدْ أَمْكَنَ إعْمَالُهُ بِإِثْبَاتِ حُرْمَتِهِ : أَيْ حُرْمَةِ ذَلِكَ الشَّيْءِ لِغَيْرِهِ وَهُوَ الْيَمِينُ بِإِثْبَاتِ مُوجِبِ الْيَمِينِ وَهُوَ الْبِرُّ إذَا لَمْ يَفْعَلْهُ وَالْكَفَّارَةُ إنْ فَعَلَهُ صَوْنًا لِكَلَامِهِ عَنْ الْإِلْغَاءِ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ عَلَيْهِ فَعَمَّ الْمَعْنَى الْمَذْكُورُ النِّسَاءَ وَغَيْرَهُنَّ ( قَوْلُهُ ثُمَّ إذَا فَعَلَ مِمَّا حَرَّمَهُ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا وَوَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ وَهُوَ الْمَعْنَى مِنْ الِاسْتِبَاحَةِ الْمَذْكُورَةِ ) فِي قَوْلِهِ وَعَلَيْهِ إنْ اسْتَبَاحَهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ، وَبِهِ عُرِفَ أَنَّ مُرَادَهُ بِقَوْلِهِ لَمْ يَصِرْ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ الْمُحَرَّمُ لِنَفْسِهِ وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ قَوْلُهُ اسْتَبَاحَهُ ، وَإِنَّمَا يَحْنَثُ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ ( لِأَنَّ التَّحْرِيمَ إذَا ثَبَتَ تَنَاوَلَ كُلَّ جُزْءٍ مِنْهُ ) فَبِتَنَاوُلِ جُزْءٍ يَلْزَمُهُ الْحِنْثُ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ وَاَللَّهِ لَا

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78