كتاب : فتح القدير
المؤلف : كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي

بِوُقُوعِهِ قَبْلَ مَوْتِهَا لَا يَرِثُ مِنْهَا الزَّوْجُ لِأَنَّهَا بَانَتْ قَبْلَ الْمَوْتِ فَلَمْ يَبْقَ بَيْنَهُمَا زَوْجِيَّةٌ حَالَ الْمَوْتِ ، وَإِنَّمَا حَكَمْنَا بِالْبَيْنُونَةِ وَإِنْ كَانَ الْمُعَلَّقُ صَرِيحًا لِانْتِفَاءِ الْعِدَّةِ كَغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّ الْوُقُوعَ فِي آخِرِ جُزْءٍ لَا يَتَجَزَّأُ فَلَمْ يَلِهِ إلَّا الْمَوْتُ وَبِهِ تَبَيَّنَ .

( وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ إذَا لَمْ أُطَلِّقْك ، أَوْ إذَا مَا لَمْ أُطَلِّقْك لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى يَمُوتَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : تَطْلُقُ حِينَ سَكَتَ ) لِأَنَّ كَلِمَةَ إذَا لِلْوَقْتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ } وَقَالَ قَائِلُهُمْ : وَإِذَا تَكُونُ كَرِيهَةٌ أُدْعَى لَهَا وَإِذَا يُحَاسُ الْحَيْسُ يُدْعَى جُنْدُبٌ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مَتَى وَمَتَى مَا ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ إذَا شِئْتِ لَا يَخْرُجُ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا بِالْقِيَامِ عَنْ الْمَجْلِسِ كَمَا فِي قَوْلِهِ مَتَى شِئْت .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ كَلِمَةَ إذَا تُسْتَعْمَلُ فِي الشَّرْطِ أَيْضًا ، قَالَ قَائِلُهُمْ : وَاسْتَغْنِ مَا أَغْنَاك رَبُّك بِالْغِنَى وَإِذَا تُصِبْك خَصَاصَةٌ فَتَجَمَّلْ فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الشَّرْطُ لَمْ تَطْلُقْ فِي الْحَالِ .
وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْوَقْتُ تَطْلُقُ فَلَا تَطْلُقُ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْمَشِيئَةِ لِأَنَّهُ عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّهُ لِلْوَقْتِ لَا يَخْرُجُ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا ، وَعَلَى اعْتِبَارِ أَنَّهُ لِلشَّرْطِ يَخْرُجُ وَالْأَمْرُ صَارَ فِي يَدِهَا فَلَا يَخْرُجُ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ ، وَهَذَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ أَلْبَتَّةَ ، أَمَّا إذَا نَوَى الْوَقْتَ يَقَعُ فِي الْحَالِ وَلَوْ نَوَى الشَّرْطَ يَقَعُ فِي آخِرِ الْعُمُرِ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُهَا .

( قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ إذَا لَمْ أُطَلِّقْك أَوْ إذَا مَا لَمْ أُطَلِّقْك لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى يَمُوتَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : تَطْلُقُ حِينَ سَكَتَ ) لِأَنَّ كَلِمَةَ إذَا لِلْوَقْتِ كَكَلِمَةِ مَتَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ } وَقَالَ قَائِلُهُمْ وَهُوَ ابْنُ أَحْمَرَ أَوْ حَرِيُّ بْنُ ضَمْرَةَ : ( وَإِذَا تَكُونُ كَرِيهَةٌ أُدْعَى لَهَا وَإِذَا يُحَاسُ الْحَيْسُ يُدْعَى جُنْدُبُ ) يَعْنِي أَخَاهُ الصَّغِيرَ ، وَمَا قِيلَ إنَّهُ لَعَنْتَرَةُ الْعَبْسِيُّ فَخَطَأٌ عِنْدَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالشَّأْنِ لِانْتِفَائِهِ مِنْ دِيوَانِهِ ، وَلَمْ يُعْرَفْ لِعَنْتَرَةَ أَخٌ اسْمُهُ جُنْدُبٌ أَصْلًا وَإِنَّمَا لَهُ أَخٌ مِنْ أُمِّهِ اسْمُهُ شَيْبُوبٌ ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ أُمُّهُ بِحَيْثُ تُوَاكِلُ إيَّاهُ شَدَّادًا حَيْسًا لِأَنَّهَا أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ مَنْ اطَّلَعَ عَلَى قِصَّتِهِ .
وَقَبْلَ الْبَيْتِ الْمَذْكُورِ : هَلْ فِي الْقَضِيَّةِ أَنْ إذَا اسْتَغْنَيْتُمْ وَأَمِنْتُمْ فَأَنَا الْبَعِيدُ الْأَجْنَبُ وَإِذَا الشَّدَائِدُ بِالشَّدَائِدِ مَرَّةً أَشَجَّتْكُمْ فَأَنَا الْمُحَبُّ الْأَقْرَبُ وَإِذَا تَكُونُ كَرِيهَةٌ أُدْعَى لَهَا وَإِذَا يُحَاسُ الْحَيْسُ يُدْعَى جُنْدُبُ هَذَا وَجَدِّكُمْ الصَّغَارُ بِعَيْنِهِ لَا أُمَّ لِي إنْ كَانَ ذَاكَ وَلَا أَبُ عَجَبٌ لِتِلْكَ قَضِيَّةٍ وَإِقَامَتِي فِيكُمْ عَلَى تِلْكَ الْقَضِيَّةِ أَعْجَبُ وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْمُحَشِّينَ بِأَنَّ كُلًّا مِنْ الْآيَةِ وَالْبَيْتِ فِيهِ مَعْنَى الشَّرْطِ ، وَجَوَابُ الْأَوَّلِ عَلِمْت وَجَوَابُ الثَّانِي أُدْعَى وَيُدْعَى ، وَأَيْضًا تَنْظِيرُهُ لَهَا بِمَتَى غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهَا لَا تَتَمَحَّضُ لِلْوَقْتِ أَبَدًا ، وَهُمَا مَبْنِيَّانِ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ لِلْوَقْتِ يَعْنِي الْمَحْضَ ، وَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ وَلَا يَتَوَقَّفُ ثُبُوتُ مَطْلُوبِهِمَا عَلَيْهِ ، بَلْ الْمَنْقُولُ لَهُمَا أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ عَنْهَا مَعْنَى الْوَقْتِ الْمُجَرَّدِ فِي الْمُجَازَاةِ ، فَأَوْرَدَ الشَّاهِدِينَ لَهُمَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى قِيَامِ الْوَقْتِ مَعَ الشَّرْطِ ، وَلَيْسَ لَهُمَا حَاجَةٌ أَنْ يُبَيِّنَهَا أَنَّهَا لِلْوَقْتِ

الْمُجَرَّدِ عَنْ الشَّرْطِ ، بَلْ حَاجَتُهُمَا فِي إثْبَاتِ الِاجْتِمَاعِ لِيَكُونَ دَفْعًا ظَاهِرًا لِقَوْلِ الْكُوفِيِّينَ ( قَوْلُهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ لِلشَّرْطِ أَيْضًا ) يَعْنِي الشَّرْطَ الْمُجَرَّدَ عَنْ مَعْنَى الظَّرْفِيَّةِ وَإِلَّا لَا يُفِيدُ .
وَهَذَا مَذْهَبٌ نُقِلَ عَنْ الْكُوفِيِّينَ ، وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِهِ وَإِذَا تُصِبْك خَصَاصَةٌ فَتَجَمَّلْ حَيْثُ جُزِمَ بِهَا فَصَارَتْ مُحْتَمِلَةً لِكُلٍّ مِنْ الشَّرْطِ الْمُجَرَّدِ عَنْ الظَّرْفِ ؛ وَالظَّرْفُ إمَّا عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ ، وَإِمَّا عَلَى أَنَّهَا مَجَازٌ عِنْدَهُ فِي الشَّرْطِ الْمُجَرَّدِ وَكَثُرَ حَتَّى صَارَ كَالظَّاهِرِ فَتَسَاوَيَا كَمَا قِيلَ ، وَلِذَا صَدَّقَهُ الْقَاضِي فِي دَعْوَاهُ إرَادَةَ الشَّرْطِ الْمُجَرَّدِ ، وَبِهَذَا يَقَعُ الْفَرْقُ لَهُمَا بَيْنَ هَذِهِ وَمَسْأَلَةِ الْحَلِفِ عَلَى أَنْ لَا يَشْرَبَ مِنْ دِجْلَةَ حَيْثُ صَرَفَاهَا إلَى الشُّرْبِ بِالْآنِيَةِ وَكَرَعَا لِأَنَّ الْمَجَازَ هُنَاكَ غَالِبٌ .
وَاحْتَاجَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى الْفَرْقِ لِأَنَّهُ جَزَمَ هُنَاكَ أَنَّهَا بِالْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ لَا هُنَا ، وَفَرْقُهُ أَنَّ حُكْمَ الْحَقِيقَةِ وَهُوَ الْحِنْثُ بِالْكَرَعِ ثَابِتٌ فِيهِ عَلَى اعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ وَاعْتِبَارِ الْمَجَازِ لِأَنَّ حُكْمَهُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ وَمِنْ الشُّرْبِ اغْتِرَافًا فَكَانَ حُكْمُ الْحَقِيقَةِ ثَابِتًا يَقِينًا عَلَى كُلِّ حَالٍ فَاعْتُبِرَتْ لِذَلِكَ : أَيْ لِلتَّيَقُّنِ بِحُكْمِهَا ، بِخِلَافِ الْمَجَازِ بِخِلَافِ مَعْنَى الظَّرْفِ هُنَا فَإِنَّهُ يَقْتَضِي الْوُقُوعَ فِي الْحَالِ وَهُوَ مُنَافٍ لِحُكْمِ الْمَجَازِ ، وَأَنْتَ سَمِعْت أَنَّ الْبَصْرِيِّينَ يَمْنَعُونَ سُقُوطَ مَعْنَى الظَّرْفِ عَنْهَا وَإِنْ اُسْتُعْمِلَتْ شَرْطًا كَمَتَى ، فَثُبُوتُ الِاحْتِمَالَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ مَمْنُوعٌ ، وَأَمَّا كَوْنُهَا مَجَازًا فِي جُزْءِ مَعْنَاهَا فَلَمْ يُسْمَعْ يَقِينًا ، وَبِتَقْدِيرِ إحْدَاثِهِ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ النَّقْلِ فِي آحَادِ الْمَجَازِ فَكَوْنُهُ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ حَتَّى سَاوَى الْحَقِيقَةَ مَمْنُوعٌ ، ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى قَوْلِهِمَا إذَا أَرَادَ

مَعْنَى الشَّرْطِ أَنْ لَا يُصَدِّقَهُ الْقَاضِي بَلْ يَصِحُّ دِيَانَةً لِأَنَّهُ الْوَجْهُ عِنْدَهُمَا ظُهُورُهَا فِي الظَّرْفِ ، فَمُرَادُهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ فَلَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ وَالْبَيْتُ الْمَذْكُور لَهُ قَائِلُهُ عَبْدُ قَيْسِ بْنِ خِفَافِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَنْظَلَةَ يُوصِي جُبَيْلًا ابْنَهُ بِقَصِيدَةٍ فِيهَا آدَابٌ وَمَصَالِحُ أَوَّلُهَا : أَجُبَيْلُ إنَّ أَبَاك كَارِبُ يَوْمِهِ فَإِذَا دُعِيت إلَى الْمَكَارِمِ فَاعْجَلْ أُوصِيكَ إيصَاءَ امْرِئٍ لَك نَاصِحٌ ظَنَّ بِرَيْبِ الدَّهْرِ غَيْرَ مَعْقِلِ اللَّهَ فَاتَّقِهِ وَأَوْفِ بِنَذْرِهِ وَإِذَا حَلَفْت مُمَارِيًا فَتَحَلَّلْ وَالضَّيْفَ تُكْرِمْهُ فَإِنَّ مَبِيتَهُ حَقٌّ وَلَا تَكُ لَعْنَةً لِلنُّزُلِ وَاعْلَمْ بِأَنَّ الضَّيْفَ مُخْبِرُ أَهْلِهِ بِمَبِيتِ لَيْلَتِهِ وَإِنْ لَمْ يُسْأَلْ وَدَعِ الْقَوَارِصَ لِلصِّدِّيقِ وَغَيْرِهِ كَيْ لَا يَرَوْكَ مِنْ اللِّئَامِ الْعُزَّلِ وَصِلْ الْمُوَاصِلَ مَا صَفَا لَك وُدُّهُ وَاحْذَرْ حِبَالَ الْخَائِنِ الْمُتَبَذِّلِ وَاتْرُكْ مَحِلَّ السُّوءِ لَا تَحْلُلْ بِهِ وَإِذَا نَبَا بِك مَنْزِلٌ فَتَحَوَّلْ دَارُ الْهَوَانِ لِمَنْ رَآهَا دَارِهِ أَفَرَاحِلٌ عَنْهَا كَمَنْ لَمْ يَرْحَلْ وَاسْتَأْنِ حِلْمَك فِي أُمُورِك كُلِّهَا وَإِذَا عَزَمْت عَلَى النَّدَى فَتَوَكَّلْ وَاسْتَغْنِ مَا أَغْنَاك رَبُّك بِالْغِنَى وَإِذَا تُصِبْك خَصَاصَةٌ فَتَجَمَّلْ وَإِذَا هَمَمْت بِأَمْرِ شَرٍّ فَاتَّئِدْ وَإِذَا هَمَمْت بِأَمْرِ خَيْرٍ فَاعْجَلْ وَإِذَا أَتَتْك مِنْ الْعَدُوِّ قَوَارِصُ فَاقْرُصْ لِذَاكَ وَلَا تَقُلْ لَمْ أَفْعَلِ وَإِذَا افْتَقَرْت فَلَا تَكُنْ مُتَخَشِّعًا تَرْجُو الْفَوَاضِلَ عِنْدَ غَيْرِ الْمُفْضَلِ وَإِذَا تَشَاجَرَ فِي فُؤَادِك مَرَّةً أَمْرَانِ فَاعْمِدْ لِلْأَعَفِّ الْأَجْمَلِ وَإِذَا لَقِيت الْقَوْمَ فَاضْرِبَ فِيهِمْ حَتَّى يَرَوْكَ طِلَاءَ أَجْرَبَ مُهْمَلِ وَإِذَا رَأَيْت الْبَاهِشِينَ إلَى النَّدَى غُبْرًا أَكُفُّهُمْ بِقَاعٍ مُمْحِلِ فَأَعْنِهِمْ وَأَيْسِرْ بِمَا يُسَرُّوا بِهِ وَإِذَا هُمُوا نَزَلُوا بِضَنْكٍ فَانْزِلْ .
وَقَدْ اسْتَعْمَلَ الشَّاعِرُ إذَا فِيهَا لِلشَّرْطِ فِي اثْنَيْ عَشَرَ مَوْضِعًا بِالْجَزْمِ وَدُخُولِ فَاءِ الْجَزَاءِ ،

وَمَعْقِلٌ مِنْ عَقَلْت النَّاقَةَ بِالْعَقْلِ ، يُرِيدُ عَقْلِي بِرَيْبِ الدَّهْرِ غَيْرُ مَمْنُوعٍ ، وَتَجَمَّلْ : أَيْ أَظْهِرْ جَمِيلًا وَلَا تُظْهِرْ جَزَعًا ، وَقِيلَ كُلْ الْجَمِيلَ الْمَجْمُولَ وَهُوَ الشَّحْمُ الْمُذَابُ ، وَأَيْنَ هَذَا مِنْ الْأَوَّلِ فِي التَّأْدِيبِ .
وَفِي الْمُنْتَقَى لَوْ قَالَ : إذَا طَلَّقْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ وَإِذَا لَمْ أُطَلِّقْك فَأَنْتِ طَالِقٌ فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُطَلِّقَ يَقَعُ عَلَيْهَا طَلَاقَانِ لِأَنَّهُ لَمَّا مَاتَ قَبْلَ التَّطْلِيقِ حَنِثَ فِي الْيَمِينِ الثَّانِيَةِ فَيَقَعَ عَلَيْهَا طَلَاقٌ ، وَهَذَا الطَّلَاقُ يَصْلُحُ شَرْطًا فِي الْيَمِينِ الْأُولَى .
لِأَنَّهُ وَقَعَ بِكَلَامٍ وُجِدَ بَعْدَ الْيَمِينِ الْأُولَى فَحَنِثَ فِي الْيَمِينَيْنِ فَيَقَعَ طَلَاقَانِ .
وَلَوْ قَلَبَ فَقَالَ : إذَا لَمْ أُطَلِّقْك فَأَنْتِ طَالِقٌ وَإِذَا طَلَّقْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُطَلِّقَ يَقَعُ عَلَيْهَا وَاحِدَةٌ لِأَنَّهُ لَمَّا مَاتَ قَبْلَ التَّطْلِيقِ صَارَ حَانِثًا فِي الْيَمِينِ الْأُولَى فَيَقَعَ الطَّلَاقُ وَلَا يَصْلُحُ شَرْطًا فِي الثَّانِيَةِ لِأَنَّهُ وَقَعَ بِكَلَامٍ وُجِدَ قَبْلَ الْيَمِينِ الثَّانِيَةِ ، فَالشُّرُوطُ تُرَاعَى فِي الْمُسْتَقْبِلِ لَا الْمَاضِي وَلَمْ يَذْكُرْ خِلَافًا .
وَإِنَّمَا هَذَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ .
أَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَيَقَعَانِ بَعْدَ زَمَانٍ يَسِيرٍ فِي الْأُولَى لِلْوَجْهِ الْأَوَّلِ بِعَيْنِهِ ، وَفِي الثَّانِيَةِ يَقَعُ وَاحِدَةٌ كَمَا سَكَتَ لِأَنَّهُ حَنِثَ فِي قَوْلِهِ إذَا لَمْ أُطَلِّقْك فَأَنْتِ طَالِقٌ ، وَكَذَا لَوْ لَمْ يَسْكُتْ حَتَّى مَاتَ لِأَنَّ زَمَانَ قَوْلِهِ إذَا طَلَّقْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ زَمَانٌ يُوجَدُ فِيهِ تَطْلِيقٌ فَيَقَعَ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْهُ .
وَهَذِهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ مِنْ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ : أَنْتِ طَالِقٌ إذَا تَزَوَّجْتُك قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَك ، وَقَلْبُهُ أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَك إذَا تَزَوَّجْتُك ، وَإِذَا تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَك ، فَفِي الصُّورَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ يَقَعُ عِنْدَ التَّزَوُّجِ اتِّفَاقًا ، وَفِي الثَّالِثَةِ كَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ

، وَعِنْدَهُمَا لَا يَقَعُ .
وَالْأَصْلُ أَنَّ الطَّلَاقَ إذَا أُضِيفَ إلَى وَقْتَيْنِ أَحَدُهُمَا يَقْبَلُهُ وَالْآخِرُ لَا صَحَّ مَا يَقْبَلُهُ وَبَطَلَ مَا لَا يَقْبَلُهُ وَإِنَّ الْآخَرَ يَنْسَخُ الْأَوَّلَ ، وَقَبْلَ وَإِذَا ظَرْفَانِ وَقَبْلَ لَا يَقْبَلُ الطَّلَاقَ ، وَإِذَا تَقْبَلُهُ فَأُضِيفَ إلَيْهَا ، وَلَهُمَا فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الثَّالِثَةِ وَمَا قَبْلَهَا تُرَجَّحُ جِهَةُ الشَّرْطِ بِدَلِيلِ ذِكْرِ الْفَاءِ فِي الْجَزَاءِ ، فَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ كَالْمُنَجَّزِ عِنْدَ وُجُودِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ عِنْدَ التَّزَوُّجِ : أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَك فَلَا يَقَعُ ، أَوْ لِأَنَّ الْآخَرَ وَهُوَ الْإِضَافَةُ إلَى قَبْلَ نَسَخَ الْأَوَّلَ ( وَقَوْلُهُ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْمَشِيئَةِ لِأَنَّهُ عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّهَا لِلْوَقْتِ لَا يَخْرُجُ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا وَعَلَى اعْتِبَارِ أَنَّهَا لِلشَّرْطِ يَخْرُجُ وَالْأَمْرُ صَارَ فِي يَدِهَا فَلَا يَخْرُجُ بِالشَّكِّ ) اُعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ وُقُوعَ الشَّكِّ فِي الشَّرْطِيَّةِ وَالظَّرْفِيَّةِ يُوجِبُ وُقُوعَهُ فِي الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ فِي الْحَالِ ، لِأَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ الشَّرْطِيَّةِ تَحِلُّ وَعَلَى تَقْدِيرِ الظَّرْفِيَّةِ تَطْلُقُ فَكَانَ يَجِبُ أَنْ تَحْرُمَ تَقْدِيمًا لِلْمُحَرَّمِ وَهُوَ اعْتِبَارُ الظَّرْفِ كَمَا قَالَا .
وَأُجِيبُ بِأَنَّ هَذَا مَتْرُوكٌ فِي جَمِيعِ صُوَرِ التَّرَدُّدِ فِي الْأَمْرِ ، فَإِنَّهُ لَوْ شَكَّ فِي انْتِقَاضِ طَهَارَتِهِ جَاءَ فِيهِ أَنَّ عَلَى اعْتِبَارِ الِانْتِقَاضِ تَحْرُمُ الصَّلَاةُ وَعَلَى اعْتِبَارِ عَدَمِهِ تَحِلُّ وَمَعَ هَذَا لَا تَتَرَجَّحُ الْحُرْمَةُ وَإِنْ كَانَ مَبْنَى الصَّلَاةِ عَلَى الِاحْتِيَاطِ لِأَنَّ الشَّكَّ لَا يُوجِبُ شَيْئًا إنَّمَا ذَلِكَ فِي تَعَارُضِ دَلِيلِ الْحُرْمَةِ مَعَ دَلِيلِ الْحِلِّ فَالِاحْتِيَاطُ الْعَمَلُ بِدَلِيلِ الْحُرْمَةِ ، أَمَّا هُنَا لَوْ اعْتَبَرْنَا الْحُرْمَةَ لَمْ نَعْمَلْ بِدَلِيلٍ بَلْ بِالشَّكِّ ، وَهُنَاكَ يَقَعُ الْعَمَلُ بِالدَّلِيلِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ يُشْكِلُ لِأَنَّهُ سَيَذْكُرُ أَنَّ الْخِلَافَ فِيمَا إذَا لَمْ

تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ .
وَحِينَئِذٍ فَمُقْتَضَى الْوَجْهِ فِي الْمَشِيئَةِ أَنَّ عَلَى قَوْلِهِمَا لَا يَخْرُجُ مِنْ يَدِهَا وَعَلَى قَوْلِهِ يَخْرُجُ ، وَكَذَا إذَا عَلِمَ أَنَّهُ نَوَى وَلَمْ تُدْرَ نِيَّتُهُ لِعَارِضٍ عَرَاهُ ، وَأَمَّا إذَا عُرِفَتْ بِأَنَّ اسْتَفْسَرَ فَقَالَ : أَرَدْت الزَّمَانَ فَيَجِبُ أَنْ يُصَدَّقَ عَلَى قَوْلِهِمَا وَلَا يَخْرُجُ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا ، وَكَذَا عَلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ عَلَى نَفْسِهِ .
وَإِنْ قَالَ : أَرَدْت الشَّرْطَ صُدِّقَ عَلَى قَوْلِهِ وَلَا يُصَدَّقُ عَلَى قَوْلِهِمَا لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ ، وَفِيهِ تَخْفِيفٌ عَلَى نَفْسِهِ ، وَأَمَّا فِي مَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ : أَعْنِي قَوْلَهُ أَنْتِ طَالِقٌ إذَا لَمْ أُطَلِّقْك ، فَإِنْ قَالَ : عَنَيْت الزَّمَانَ صُدِّقَ عِنْدَهُمَا ، وَإِنْ قَالَ : عَنَيْت الشَّرْطَ لَا يُصَدَّقُ عِنْدَهُمَا لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ ، وَفِيهِ تَخْفِيفٌ عَلَى نَفْسِهِ .
وَعَلَى قَوْلِهِ يُصَدَّقُ فِي الشَّرْطِ وَفِي الظَّرْفِ لِكَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ مُحْتَمَلَاتِهَا مَعَ أَنَّ فِي الثَّانِي تَشْدِيدًا عَلَى نَفْسِهِ .

( وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ مَا لَمْ أُطَلِّقْك أَنْتِ طَالِقٌ فَهِيَ طَالِقٌ بِهَذِهِ التَّطْلِيقَةِ ) مَعْنَاهُ قَالَ ذَلِكَ وُصُولًا بِهِ ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَقَعَ الْمُضَافُ فَيَقَعَانِ إنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ وُجِدَ زَمَانٌ لَمْ يُطَلِّقْهَا فِيهِ وَإِنْ قَلَّ وَهُوَ زَمَانُ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْهَا .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ زَمَانَ الْبِرِّ مُسْتَثْنًى عَنْ الْيَمِينِ بِدَلَالَةِ الْحَالِ لِأَنَّ الْبِرَّ هُوَ الْمَقْصُودُ ، وَلَا يُمْكِنُهُ تَحْقِيقُ الْبِرِّ إلَّا أَنْ يَجْعَلَ هَذَا الْقَدْرَ مُسْتَثْنًى ، أَصْلُهُ مَنْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ هَذِهِ الدَّارَ فَاشْتَغَلَ بِالنَّقْلَةِ مِنْ سَاعَتِهِ وَأَخَوَاتُهُ عَلَى مَا يَأْتِيك فِي الْأَيْمَانِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

( قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ مَا لَمْ أُطَلِّقْك أَنْتِ طَالِقٌ فَهِيَ طَالِقٌ بِهَذِهِ التَّطْلِيقَةِ ) الْمُنَجَّزَةِ فَقَطْ ، حَتَّى لَوْ كَانَ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا مَا لَمْ أُطَلِّقْك أَنْتِ طَالِقٌ وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ .
وَعِنْدَ زُفَرَ ثَلَاثٌ ( مَعْنَاهُ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ مَوْصُولًا بِهِ ) فَلَوْ فَصَلَ وَقَعَ الْمُضَافُ وَالْمُنَجَّزُ جَمِيعًا ( وَالْقِيَاسُ أَنْ يَقَعَ الْمُضَافُ أَيْضًا فَيَقَعَانِ إنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا ) فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَدْخُولًا بِهَا يَقَعُ الْمُضَافُ وَحْدَهُ ( وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ لِأَنَّهُ وُجِدَ زَمَانٌ لَمْ يُطَلِّقْهَا فِيهِ وَإِنْ قَلَّ ، وَهُوَ زَمَانُ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْهَا .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ زَمَانَ الْبِرِّ مُسْتَثْنًى بِدَلَالَةِ حَالِ الْحَالِفِ ) لِأَنَّ الْيَمِينَ إنَّمَا تُعْقَدُ لِلْبِرِّ فَهُوَ الْمَقْصُودُ بِهَا وَهُوَ غَيْرُ مُمْكِنٍ هُنَا إلَّا أَنْ يُجْعَلَ هَذَا الْقَدْرُ مُسْتَثْنًى وَهُوَ مِقْدَارُ مَا يُمَكِّنُهُ تَحْقِيقَ الْبِرِّ فِيهِ مِنْ الزَّمَانِ ( أَصْلُهُ مَنْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ هَذِهِ الدَّارَ وَهُوَ سَاكِنُهَا فَاشْتَغَلَ بِالنَّقْلَةِ مِنْ سَاعَتِهِ ) بَرَّ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ ، فَالْمُرَادُ بِالْأَصْلِ هُنَا النَّظِيرُ لَا أَصْلُ الْقِيَاسِ لِأَنَّ الْكُلَّ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ زُفَرَ .

( وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَةٍ : يَوْمَ أَتَزَوَّجُك فَأَنْتِ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَهَا لَيْلًا طَلُقَتْ ) لِأَنَّ الْيَوْمَ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ بَيَاضُ النَّهَارِ فَيُحْمَلَ عَلَيْهِ وَإِذَا قُرِنَ بِفِعْلٍ يَمْتَدُّ كَالصَّوْمِ وَالْأَمْرِ بِالْيَدِ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْمِعْيَارُ ، وَهَذَا أَلْيَقُ بِهِ ، وَيُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ مُطْلَقُ الْوَقْتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ } وَالْمُرَادُ بِهِ مُطْلَقُ الْوَقْتِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ إذَا قُرِنَ بِفِعْلٍ لَا يَمْتَدُّ وَالطَّلَاقُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فَيَنْتَظِمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ .
وَلَوْ قَالَ : عَنَيْت بِهِ بَيَاضَ النَّهَارِ خَاصَّةً دِينَ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ وَاللَّيْلُ لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا السَّوَادَ وَالنَّهَارُ يَتَنَاوَلُ الْبَيَاضَ خَاصَّةً وَهَذَا هُوَ اللُّغَةُ .
.

( قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ : لِامْرَأَةِ يَوْمَ أَتَزَوَّجُك فَأَنْتِ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَهَا لَيْلًا طَلُقَتْ لِأَنَّ الْيَوْمَ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ بَيَاضُ النَّهَارِ ) وَهُوَ ظَاهِرٌ وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ مُطْلَقُ الْوَقْتِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ } وَالْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ حَرَامٌ لَيْلًا وَنَهَارًا .
وَالْأَفْعَالُ مِنْهَا مَا يَمْتَدُّ وَهُوَ مَا صَحَّ ضَرْبُ الْمُدَّةِ لَهُ كَالسَّيْرِ وَالرُّكُوبِ وَالصَّوْمِ وَتَخْيِيرِ الْمَرْأَةِ وَتَفْوِيضِ الطَّلَاقِ كَقَوْلِهِ أَمْرُك بِيَدِك يَوْمَ يَقْدَمُ فُلَانٌ ، وَاخْتَارِي نَفْسَك يَوْمَ يَقْدَمُ فَيَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِبَيَاضِ النَّهَارِ ، فَلَوْ قَدِمَ فُلَانٌ لَيْلًا لَا خِيَارَ لَهَا أَوْ نَهَارًا دَخَلَ الْأَمْرُ فِي يَدِهَا إلَى الْغُرُوبِ لِأَنَّهُ لَمَّا امْتَدَّ كَانَ الظَّاهِرُ مِنْ ذِكْرِ الْيَوْمِ دُونَ حَرْفٍ فِي ضَرْبِ الْمُدَّةِ تَقْدِيرًا وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي بَيَاضِ النَّهَارِ فَيَبْقَى مَعَهُ إلَى أَنْ يَتَعَيَّنَ خِلَافُهُ كَقَوْلِك أَحْسِنْ الظَّنَّ بِاَللَّهِ يَوْمَ تَمُوتُ وَارْكَبْ يَوْمَ يَأْتِي الْعَدُوُّ .
وَمِنْهَا مَا لَا يَمْتَدُّ وَهُوَ مَا لَا يَصِحُّ ضَرْبُ الْمُدَّةِ لَهُ كَالطَّلَاقِ وَالتَّزَوُّجِ وَالْعَتَاقِ وَالدُّخُولِ وَالْقُدُومِ وَالْخُرُوجِ فَيَجِبُ حَمْلُ الْيَوْمِ مَعَهُ عَلَى مُطْلَقِ الْوَقْتِ لِأَنَّ ضَرْبَ الْمُدَّةِ لَهُ لَغْوٌ إذْ لَا يَحْتَمِلُهُ ( وَالطَّلَاقُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ ) فَيَقَعُ لَيْلًا تَزَوَّجَهَا أَوْ نَهَارًا ، كَذَا فِي عَامَّةِ النُّسَخِ ، وَفِي الْأَصْلِ التَّزَوُّجُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قِيلَ كَأَنَّهُ غَلَطٌ ، وَالصَّحِيحُ الطَّلَاقُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ .
وَفِي النِّهَايَةِ : الصَّحِيحُ التَّزَوُّجُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ ، قَالَ : كَذَا وَجَدْتُهُ بِخَطِّ شَيْخِي ، وَلِأَنَّهُ اعْتَبَرَ فِي الْكِتَابِ فِي وِزَانِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِعْلُ الشَّرْطِ لَا الْجَزَاءُ ، قَالَ : فِي الْأَيْمَانِ : لَوْ قَالَ : يَوْمَ أُكَلِّمُ فُلَانًا فَامْرَأَتِي طَالِقٌ فَهُوَ عَلَى اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ، إلَى أَنْ قَالَ : وَالْكَلَامُ لَا يَمْتَدُّ ، وَلِأَنَّ ذِكْرَ الْفِعْلِ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ مِنْ

غَيْرِ تَأْوِيلٍ فِي أَتَزَوَّجُك لَا فِي أَنْتِ طَالِقٌ ، وَلِأَنَّ ذِكْرَ الْقِرَانِ فِي قَوْلِهِ إذَا قَرَنَ يَدُلُّ عَلَى إرَادَةِ التَّزَوُّجِ لَا الطَّلَاقِ لِأَنَّ مُقَارَنَتَهُ الْيَوْمَ أَقْوَى لِأَنَّهُ عَلَى وَجْهِ الْإِضَافَةِ وَالْمُضَافُ مَعَ الْمُضَافِ إلَيْهِ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ انْتَهَى .
وَالْأَصْوَبُ الِاعْتِبَارُ الْأَوَّلُ : أَعْنِي اعْتِبَارَ الْجَزَاءِ كَالطَّلَاقِ هُنَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِذِكْرِ الظَّرْفِ إفَادَةُ وُقُوعِهِ فِيهِ ، بِخِلَافِ الْمُضَافِ إلَيْهِ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَظْرُوفًا أَيْضًا لَكِنَّهُ لَمْ يُقْصَدْ بِذِكْرِ ذَلِكَ الظَّرْفُ ، بَلْ إنَّمَا ذُكِرَ الْمُضَافُ إلَيْهِ لِيَتَعَيَّنَ الظَّرْفُ فَيَتِمَّ الْمَقْصُودُ مِنْ تَعْيِينِ زَمَنِ وُقُوعِ مَضْمُونِ الْجَوَابِ .
وَلَا شَكَّ أَنَّ اعْتِبَارَ مَا قُصِدَ الظَّرْفُ لَهُ لِاسْتِعْلَامِ الْمُرَادِ مِنْ الظَّرْفِ أَهُوَ الْحَقِيقِيُّ أَوْ الْمَجَازِيُّ أَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِ مَا لَمْ يُقْصَدْ لَهُ فِي اسْتِعْلَامِ حَالِهِ ، إلَّا أَنَّ بَعْضَ الْمَشَايِخِ تَسَامَحُوا فِيمَا لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ الْجَوَابُ : أَعْنِي مَا يَكُونُ بِهِ الْمُعَلَّقُ وَالْمُضَافُ إلَيْهِ مِمَّا يَمْتَدُّ نَحْوُ أَمْرُك بِيَدِك يَوْمَ يَسِيرُ فُلَانٌ ، أَوْ لَا يَمْتَدُّ كَأَنْتِ حُرٌّ يَوْمَ يَقْدَمُ وَطَالِقٌ يَوْمَ أَتَزَوَّجُك فَعَلَّلُوا بِامْتِدَادِ الْمُضَافِ إلَيْهِ وَعَدَمِهِ ، وَالْمُحَقِّقُونَ ارْتَفَعُوا عَنْ ذَلِكَ الْإِيهَامِ .
وَمِنْ الشَّارِحِينَ مَنْ حَكَى خِلَافًا فِي الِاعْتِبَارِ وَيُشْبِهُ كَوْنَهُ وَهْمًا ، وَلِذَا نُقِلَ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى اعْتِبَارِ الْمُعَلَّقِ فِيمَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْجَوَابُ لَوْ اُعْتُبِرَ الْمُضَافُ إلَيْهِ وَهُوَ مَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْمُعَلَّقُ وَالْمُضَافُ إلَيْهِ بِالِامْتِدَادِ وَعَدَمِهِ كَأَنْتِ حُرٌّ يَوْمَ يَسِيرُ فُلَانٌ .

[ فُرُوعٌ ] قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ إلَى شَهْرٍ تَطْلُقُ إذَا انْقَضَى شَهْرٌ ، وَأَوْقَعَهُ أَبُو يُوسُفَ لِلْحَالِ ، أَوْ قَبْلَ قُدُومِ زَيْدٍ بِشَهْرٍ يَقَعُ إذَا قَدِمَ زَيْدٌ لِشَهْرٍ مُقْتَصِرًا .
وَقَالَ زُفَرُ مُسْتَنِدًا أَوْ قَبْلَ مَوْتِ زَيْدٍ بِشَهْرٍ فَمَاتَ لِتَمَامِهِ وَقَعَ مُسْتَنِدًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا مُقْتَصِرًا عَلَى الْمَوْتِ .
وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي اعْتِبَارِ الْعِدَّةِ ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تُعْتَبَرُ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ وَلَوْ كَانَ وَطِئَهَا فِي الشَّهْرِ يَصِيرُ مُرَاجِعًا إنْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا ، وَلَوْ كَانَ ثَلَاثًا وَطِئَهَا فِي الشَّهْرِ غَرِمَ الْعَقْرَ ، وَعِنْدَهُمَا تُعْتَبَرُ الْعِدَّةُ مِنْ الْحَالِ وَلَا يَصِيرُ مُرَاجِعًا بِذَلِكَ الْوَطْءِ وَلَا يَلْزَمُهُ عَقْرٌ ، وَقِيلَ تُعْتَبَرُ الْعِدَّةُ مِنْ وَقْتِ الْمَوْتِ اتِّفَاقًا احْتِيَاطًا ، كَذَا إذَا طَلَّقَهَا بَائِنًا أَوْ ثَلَاثًا أَوْ خَالَعَهَا فِي خِلَالِ الشَّهْرِ ثُمَّ مَاتَ زَيْدٌ لِتَمَامِ الشَّهْرِ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ لَا يَقَعُ الثَّلَاثُ وَالْبَائِنُ وَيَبْطُلُ الْخُلْعُ وَيَرُدُّ الزَّوْجُ بَدَلَ الْخُلْعِ لِظُهُورِ بُطْلَانِ الْخُلْعِ وَالْبَائِنُ لِسَبْقِ الثَّلَاثِ بِالِاسْتِنَادِ ، وَعِنْدَهُمَا يَقَعُ الثَّلَاثُ وَالْبَائِنُ وَيَصِحُّ الْخُلْعُ وَيَصِيرُ مَعَ الْخُلْعِ ثَلَاثًا .
وَلَوْ مَاتَ زَيْدٌ قَبْلَ تَمَامِ الشَّهْرِ لَا تَطْلُقُ لِعَدَمِ شَهْرٍ قَبْلَ الْمَوْتِ .
وَلَوْ مَاتَ بَعْدَ الْعِدَّةِ فِيمَا إذَا طَلَّقَهَا فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ ثُمَّ وَضَعَتْ حَمْلَهَا أَوْ لَمْ تَكُنْ مَدْخُولًا بِهَا فَلَمْ تَجِبْ عِدَّةٌ لَا يَقَعُ لِعَدَمِ الْمَحِلِّ إذْ الْمُسْتَقْبَلُ يَثْبُتُ لِلْحَالِ ثُمَّ يَسْتَنِدُ ، كَذَا فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ وَالْأَسْرَارِ .
هَذَا عَلَى طَرِيقِ كَوْنِ الْحُكْمِ هُنَا يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ وَهُوَ الْأَصَحُّ ، وَقَدْ قِيلَ يَثْبُتُ عِنْدَهُ بِطَرِيقِ التَّبْيِينِ .
وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ مَوْتِي أَوْ قَبْلَ مَوْتِك بِشَهْرٍ عِنْدَهُمَا لَا يَقَعُ شَيْءٌ وَتَرِثُ مِنْهُ لِامْتِنَاعِ وُقُوعِهِ مُقْتَصِرًا كَمَا هُوَ قَوْلُهُمَا بَعْدَ الْمَوْتِ ،

وَعِنْدَهُ يَقَعُ مُسْتَنِدًا حَتَّى إذَا كَانَ صَحِيحًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَا تَرِثُ مِنْهُ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ ثَلَاثُ حِيَضٍ .
أَمَّا إذَا مَاتَ قَبْلَ مُضِيِّ تِلْكَ الْمُدَّةِ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَلَهَا الْمِيرَاثُ .
وَلَوْ قَالَ : آخِرُ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا طَالِقٌ أَوْ آخِرُ عَبْدٍ أَمْلِكُهُ حُرٌّ فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً ثُمَّ امْرَأَةً ثُمَّ مَاتَ أَوْ مَلَكَ عَبْدًا ثُمَّ عَبْدًا ثُمَّ مَاتَ يَقَعُ الطَّلَاقُ وَالْعِتْقُ عِنْدَهُ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ الْمِلْكِ وَالتَّزَوُّجِ ، وَعِنْدَهُمَا مُقْتَصِرًا حَتَّى يُعْتَبَرَ الْعِتْقُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ إذَا كَانَ صَحِيحًا وَقْتَ الشِّرَاءِ .
فَإِنْ كَانَ مَرِيضًا فَمِنْ الثُّلُثِ وَفِي الزَّوْجَةِ الْأَخِيرَةِ تَطْلُقُ مِنْ حِينِ تَزَوَّجَهَا حَتَّى لَا تَلْزَمَهَا الْعِدَّةُ إذَا لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا وَلَا مِيرَاثَ لَهَا .
وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَلَهَا الْمِيرَاثُ .
وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ الْقُدُومِ وَالْمَوْتِ أَنَّ الْمَوْتَ مُعَرَّفٌ وَالْجَزَاءُ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْمُعَرَّفِ ، كَمَا لَوْ قَالَ : إنْ كَانَ فِي الدَّارِ زَيْدٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَخَرَجَ مِنْهَا آخِرَ النَّهَارِ طَلُقَتْ مِنْ حِينِ تَكَلَّمَ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَوْتَ فِي الِابْتِدَاءِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَقَعَ قَبْلَ الشَّهْرِ فَلَا يُوجَدُ الْوَقْتُ أَصْلًا فَأَشْبَهَ سَائِرَ الشُّرُوطِ فِي احْتِمَالِ الْخَطَرِ ، فَإِذَا مَضَى شَهْرٌ فَقَدْ عَلِمْنَا بِوُجُودِ شَهْرٍ قَبْلَ الْمَوْتِ لِأَنَّ الْمَوْتَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ إلَّا أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ فِي الْحَالِ لِأَنَّا نَحْتَاجُ إلَى شَهْرٍ يَتَّصِلُ بِالْمَوْتِ وَأَنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ وَالْمَوْتُ يُعْرَفُ ، فَفَارَقَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ الشَّرْطَ وَأَشْبَهَ الْوَقْتَ فِي قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ رَمَضَانَ بِشَهْرٍ فَقُلْنَا بِأَمْرٍ بَيْنَ الظُّهُورِ وَالِاقْتِصَارِ وَهُوَ الِاسْتِنَادُ ، وَلَوْ قَالَ : قَبْلَ رَمَضَانَ بِشَهْرٍ وَقَعَ أَوَّلَ شَعْبَانَ اتِّفَاقًا ، وَلَوْ قَالَ لَهُمَا : أَطْوَلُكُمَا حَيَاةً طَالِقٌ السَّاعَةَ لَمْ يَقَعْ حَتَّى تَمُوتَ إحْدَاهُمَا ، فَإِذَا مَاتَتْ طَلُقَتْ الْأُخْرَى

مُسْتَنِدًا عِنْدَهُ وَمُقْتَصِرًا عِنْدَهُمَا .

فَصْلٌ ( وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنَا مِنْك طَالِقٌ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ وَإِنْ نَوَى طَلَاقًا ، وَلَوْ قَالَ : أَنَا مِنْك بَائِنٌ أَوْ أَنَا عَلَيْك حَرَامٌ يَنْوِي الطَّلَاقَ فَهِيَ طَالِقٌ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَيْضًا إذَا نَوَى ) لِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ حَتَّى مَلَكَتْ هِيَ الْمُطَالَبَةَ بِالْوَطْءِ كَمَا يَمْلِكُ هُوَ الْمُطَالَبَةَ بِالتَّمْكِينِ ، وَكَذَا الْحِلُّ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا وَالطَّلَاقُ وُضِعَ لِإِزَالَتِهِمَا فَيَصِحَّ مُضَافًا إلَيْهِ كَمَا صَحَّ مُضَافًا كَمَا فِي الْإِبَانَةِ وَالتَّحْرِيمِ .
وَلَنَا أَنَّ الطَّلَاقَ لِإِزَالَةِ الْقَيْدِ وَهُوَ فِيهَا دُونَ الزَّوْجِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا هِيَ الْمَمْنُوعَةُ عَنْ التَّزَوُّجِ وَالْخُرُوجِ وَلَوْ كَانَ لِإِزَالَةِ الْمِلْكِ فَهُوَ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ وَالزَّوْجَ مَالِكٌ وَلِهَذَا سُمِّيَتْ مَنْكُوحَةً بِخِلَافِ الْإِبَانَةِ لِأَنَّهَا لِإِزَالَةِ الْوَصْلَةِ وَهِيَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا بِخِلَافِ التَّحْرِيمِ لِأَنَّهُ لِإِزَالَةِ الْحِلِّ وَهُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا فَصَحَّتْ إضَافَتُهُمَا إلَيْهِمَا وَلَا تَصِحُّ إضَافَةُ الطَّلَاقِ إلَّا إلَيْهَا .

( فَصْلٌ ) .
فِيهِ مُتَفَرِّقَاتٌ مِنْ الْإِيقَاعِ لِأَنَّهُ لَمْ يُقَيِّدْ جِهَةَ الْبَحْثِ فِي مَسَائِلِهِ بِعَارِضٍ وَاحِدٍ ( قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ : لِامْرَأَتِهِ أَنَا مِنْك طَالِقٌ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ وَإِنْ نَوَى طَلَاقَهَا وَلَوْ قَالَ : أَنَا مِنْك بَائِنٌ أَوْ عَلَيْك حَرَامٌ يَنْوِي الطَّلَاقَ فَهِيَ طَالِقٌ ) وَبِقَوْلِنَا قَالَ أَحْمَدُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ : يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَيْضًا إذَا نَوَى لِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ : أَيْ الْمِلْكَ الَّذِي يُوجِبُهُ النِّكَاحُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ حَتَّى مَلَكَتْ الْمُطَالَبَةَ بِالْوَطْءِ كَمَا يَمْلِكُ هُوَ الْمُطَالَبَةَ بِالتَّمْكِينِ ، وَكَذَا الْحِلُّ مُشْتَرَكٌ حَتَّى حَلَّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا الِاسْتِمْتَاعُ بِصَاحِبِهِ وَالطَّلَاقُ لِإِزَالَتِهِ فَيَصِحُّ مُضَافًا إلَى كُلٍّ مِنْهُمَا .
وَقَوْلُهُ وُضِعَ لِإِزَالَتِهِمَا الضَّمِيرَ لِلْمِلْكَيْنِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِمَا بِقَوْلِهِ مُشْتَرَكٌ لِأَنَّ الْمَعْنَى لَهُ مِلْكٌ عَلَيْهَا وَلَهَا مِلْكٌ عَلَيْهِ ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ غَيْرُ مَرْضِيٍّ عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ ، قَالُوا : لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَحْتَجْ إلَى نِيَّةٍ كَالْإِضَافَةِ إلَيْهَا ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَهُمْ أَنَّ عَلَى الزَّوْجِ حَجْرًا مِنْ جِهَتِهَا حَتَّى أَنَّهُ لَا يَنْكِحَ أُخْتَهَا وَأَرْبَعًا سِوَاهَا فَتَصِحَّ إضَافَتُهُ إلَيْهِ بِاعْتِبَارِ رَفْعِ ذَلِكَ الْقَيْدِ ، لَكِنَّ إضَافَةَ الطَّلَاقِ إلَيْهِ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ فَاحْتِيجَ إلَى نِيَّةٍ ، وَلَا يَخْفَى أَنْ يَنْدَفِعَ مَا أَوْرَدَهُ عَلَى الْأَوَّلِ بِالنُّكْتَةِ الْأَخِيرَةِ إذْ يُقَالُ تَتْمِيمًا لِلْأَوَّلِ ، وَإِنَّمَا احْتَاجَ إلَى نِيَّةٍ فِي الْإِضَافَةِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ ( قَوْلُهُ وَلَنَا ) تَحْقِيقُهُ أَنَّ الطَّلَاقَ لِإِزَالَةِ الْمِلْكِ الثَّابِتِ بِالنِّكَاحِ أَوْ الْقَيْدِ ، فَمَحِلُّ الطَّلَاقِ مَحِلُّهُمَا وَهِيَ مَحِلُّهُمَا دُونَهُ فَالْإِضَافَةُ إلَيْهِ إضَافَةُ الطَّلَاقِ إلَى غَيْرِ مَحِلِّهِ فَيَلْغُوَ بَيَانُ أَنَّهَا الْمَحِلُّ أَنَّهَا هِيَ الْمُقَيَّدَةُ بِالنِّكَاحِ عَنْ الْخُرُوجِ وَعَنْ الرِّجَالِ دُونَهُ ، وَمِلْكُهَا

عَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ فِي الْمَالِ كَالْمَهْرِ وَهُوَ بَدَلُ مِلْكِهِ لِأُمُورٍ تَرْجِعُ إلَى نَفْسِهَا فَهِيَ الْمَمْلُوكَةُ دُونَهُ ، وَلِهَذَا مَلَكَ هُوَ التَّزَوُّجَ بِالْكِتَابِيَّةِ وَلَمْ تَمْلِكْهُ هِيَ بِالْكِتَابِيِّ وَالنَّفَقَةُ بَدَلُ احْتِبَاسِهِ إيَّاهَا .
وَالْحِلُّ الَّذِي يَثْبُتُ لَهَا تَبَعٌ لِلْحِلِّ الَّذِي يَثْبُتُ لَهُ ، فَإِنَّهُ لَمَّا مَلَكَ الْوَطْءَ وَجَبَ عَلَيْهَا التَّمْكِينُ وَمِنْ ضَرُورَتِهِ حِلُّ اسْتِمْتَاعِهَا بِهِ ، وَلَيْسَ الْحِلُّ هُوَ الْقَيْدُ الَّذِي هُوَ مَوْرِدُ الطَّلَاقِ ، بَلْ الْحِلُّ أَثَرُهُ حَسَبَ مَا حَقَّقْنَاهُ فِي بَابِ إيقَاعِ الطَّلَاقِ مِنْ أَنَّهُ الْمَنْعُ الشَّرْعِيُّ إلَخْ ، وَالثَّابِتُ أَثَرُ النِّكَاحِ وَيَرْجِعُ إلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الثَّابِتَ تَبَعًا هَلْ يَكُونُ مَحِلًّا لِلطَّلَاقِ ، بِخِلَافِ الْإِبَانَةِ لِأَنَّهَا أَيْ لَفْظَهَا مَوْضُوعٌ لِإِزَالَةِ الْوَصْلَةِ وَوَصْلَةُ النِّكَاحِ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا فَصَحَّتْ إضَافَتُهَا إلَى كُلٍّ مِنْهُمَا عَامِلَةً بِحَقِيقَتِهَا ، وَبِخِلَافِ التَّحْرِيمِ لِأَنَّهُ لِإِزَالَةِ الْحِلِّ وَهُوَ مُشْتَرَكٌ فَصَحَّ كَذَلِكَ عَامِلًا بِحَقِيقَتِهِ ، وَسَيَأْتِي تَمَامُهُ فِي الْكِنَايَاتِ .
وَأَمَّا حَجْرُهُ عَنْ أُخْتِهَا وَخَامِسَةٍ فَلَيْسَ مُوجِبَ نِكَاحِهَا بَلْ حَجْرٌ شَرْعِيٌّ ثَابِتٌ ابْتِدَاءً عَنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَخَمْسٍ لَا حُكْمًا لِلنِّكَاحِ ، وَلِهَذَا لَوْ تَزَوَّجَهَا مَعَ أُخْتِهَا مَعًا أَوْ ضَمَّ خَمْسًا مَعًا لَا يَجُوزُ .

( وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً أَوْ لَا فَلَيْسَ بِشَيْءٍ ) .
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : هَكَذَا ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ آخِرًا .
وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَوَّلًا تَطْلُقُ وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً ، ذَكَرَ قَوْلَ مُحَمَّدٍ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ فِيمَا إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً أَوْ لَا شَيْءَ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ .
وَلَوْ كَانَ الْمَذْكُورُ هَاهُنَا قَوْلَ الْكُلِّ فَعَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَتَانِ ، لَهُ أَنَّهُ أَدْخَلَ الشَّكَّ فِي الْوَاحِدَةِ لِدُخُولِ كَلِمَةِ " أَوْ " بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّفْيِ فَيَسْقُطَ اعْتِبَارُ الْوَاحِدَةِ وَيَبْقَى قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ أَوَّلًا لِأَنَّهُ أَدْخَلَ الشَّكَّ فِي أَصْلِ الْإِيقَاعِ فَلَا يَقَعُ .
وَلَهُمَا أَنَّ الْوَصْفَ مَتَى قُرِنَ بِالْعَدَدِ كَانَ الْوُقُوعُ بِذِكْرِ الْعَدَدِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا تَطْلُقُ ثَلَاثًا ، وَلَوْ كَانَ الْوُقُوعُ بِالْوَصْفِ لَلَغَا ذِكْرُ الثَّلَاثِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْوَاقِعَ فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا هُوَ الْمَنْعُوتُ الْمَحْذُوفُ مَعْنَاهُ أَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً عَلَى مَا مَرَّ ، وَإِذَا كَانَ الْوَاقِعُ مَا كَانَ الْعَدَدُ نَعْتًا لَهُ كَانَ الشَّكُّ دَاخِلًا فِي أَصْلِ الْإِيقَاعِ فَلَا يَقَعُ شَيْءٌ .

( قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً أَوْ لَا فَلَيْسَ بِشَيْءٍ ) وَكَذَا طَالِقٌ أَوْ غَيْرُ طَالِقٍ وَطَالِقٌ أَوْ لَا ، وَبِهِ قَالَتْ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ : هَكَذَا ذُكِرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ آخِرًا .
وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَوَّلًا تَطْلُقُ وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً ، كَذَا ذَكَرَ قَوْلَ مُحَمَّدٍ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ مِنْ الْمَبْسُوطِ فِيمَا إذَا قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً أَوْ لَا شَيْءَ أَوْ ثَلَاثًا أَوْ لَا شَيْءَ إنَّمَا لَا يَقَعُ عَلَيْهَا شَيْءٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تَطْلُقُ وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ وَهُمَا طَالِقٌ وَوَاحِدَةٌ أَوْ لَا وَاحِدَةَ أَوْ لَا شَيْءَ ، وَخَصَّ الْخِلَافَ فِي الْأَصْلِ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ لَكِنَّ صَاحِبَ الْأَجْنَاسِ نَقَلَ ذِكْرَهُ مَعَهُ فِي الْجُرْجَانِيَّاتِ ، وَلَوْ كَانَ الْمَذْكُورُ هُنَا قَوْلَ الْكُلِّ بِسَبَبِ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ خِلَافًا ، فَعَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَتَانِ .
وَالْأَوْجُهُ كَوْنُ الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِخِلَافِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ فِي مَسْأَلَةِ أَوْ لَا شَيْءَ فَدَلَّ عَلَى وِفَاقِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ أَوَّلًا ، وَإِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا كَانَ وِفَاقُهُ هُنَا رِوَايَةً فِي وِفَاقِهِ فِي أَوْ لَا شَيْءَ وَخِلَافُهُ هُنَاكَ رِوَايَةً فِي مَسْأَلَةِ أَوَّلًا ( قَوْلُهُ لَهُ ) أَيْ لِمُحَمَّدٍ فِي إيقَاعِهِ بِهِ وَاحِدَةً عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ ( أَنَّهُ أَدْخَلَ الشَّكَّ فِي الْوَاحِدَةِ لِدُخُولِ كَلِمَةِ الشَّكِّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّفْيِ فَيَسْقُطَ اعْتِبَارُ الْوَاحِدَةِ وَيَبْقَى قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ ) يَقَعُ بِهِ وَاحِدَةً ( بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ أَوَّلًا ) أَوْ طَالِقٌ أَوْ غَيْرَ طَالِقٍ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ بِالِاتِّفَاقِ ( لِأَنَّهُ أَدْخَلَ الشَّكَّ فِي أَصْلِ الْإِيقَاعِ وَلَهُمَا ) أَيْ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ( أَنَّ الْوَصْفَ

مَتَى قُرِنَ بِذِكْرِ الْعَدَدِ كَانَ الْوُقُوعُ بِذِكْرِ الْعَدَدِ ) وَاسْتَدَلَّ عَلَى هَذَا بِآثَارٍ إجْمَاعِيَّةٍ : مِنْهَا أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا تَطْلُقُ ثَلَاثًا ، وَلَوْ كَانَ الْوُقُوعُ بِالْوَصْفِ لَلَغَا ذِكْرُ الثَّلَاثِ لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ بَانَتْ بِطَالِقٍ لَا إلَى عِدَّةٍ فَلَمْ تَبْقَ مَحِلًّا لِوُقُوعِ الزَّائِدِ .
وَمِنْهَا أَنَّهُ لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً إنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ ، وَلَوْ كَانَ الْوُقُوعُ بِالْوَصْفِ كَانَ قَوْلُهُ وَاحِدَةً فَاصِلًا بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَلَمْ يُعْمَلْ .
وَمِنْهَا مَا لَوْ مَاتَتْ قَبْلَ الْعَدَدِ وَاحِدَةٌ أَوْ ثَلَاثٌ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ ( وَقَوْلُهُ وَهَذَا لِأَنَّ الْوَاقِعَ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْمَنْعُوتُ بِالْعَدَدِ وَهُوَ الْمَحْذُوفُ ) أَيْ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً أَوْ ثَلَاثًا أَوْ تَطْلِيقًا ثَلَاثًا كَمَا قَرَّرَهُ فِي أَوَّلِ الْبَابِ .
أَمَّا عَلَى الْإِنْشَاءِ فَلَا ، وَقَدْ رَجَعَ الْمُصَنِّفُ إلَى طَرِيقَةِ الْإِنْشَاءِ فِي الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا فِي مَسْأَلَةِ أَنْتِ طَالِقٌ أَمْسِ وَقَدْ تَزَوَّجَهَا أَوَّلَ مِنْ أَمْسِ فَارْجِعْ إلَيْهِ ، وَالْوَجْهُ هُنَا يَتِمُّ بِدُونِ ذَلِكَ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَسَائِلِ الْإِجْمَاعِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْوَاقِعَ الْعَدَدُ عِنْدَ ذِكْرِهِ لَا الْوَصْفُ

( وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ مَعَ مَوْتِي أَوْ مَعَ مَوْتِك فَلَيْسَ بِشَيْءٍ ) لِأَنَّهُ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى حَالَةٍ مُنَافِيَةٍ لَهُ لِأَنَّ مَوْتَهُ يُنَافِي الْأَهْلِيَّةَ وَمَوْتَهَا يُنَافِي الْمَحَلِّيَّةَ وَلَا بُدَّ مِنْهُمَا .
( قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ مَعَ مَوْتِي أَوْ مَعَ مَوْتِك فَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى حَالَةٍ مُنَافِيَةٍ لَهُ ) وَهُوَ مَوْتُهُ وَمَوْتُهَا ، لِأَنَّ مَوْتَهُ يُنَافِي الْأَهْلِيَّةَ وَمَوْتَهَا يُنَافِي الْمَحَلِّيَّةَ وَلَا بُدَّ مِنْ الْأَهْلِيَّةِ فِي الْمَوْقِعِ وَالْمَحَلِّيَّةِ فِي الْمُوقَعِ عَلَيْهَا ، وَإِنَّمَا كَانَ حَالَةُ مَوْتِ أَحَدِهِمَا مُنَافِيَةً لِلنِّكَاحِ لِأَنَّهَا حَالَةُ ارْتِفَاعِ النِّكَاحِ ، وَوُقُوعُ الطَّلَاقِ يَسْتَدْعِي حَالَ اسْتِقْرَارِهِ ، أَوْ الْمَعْنَى عَلَى تَعْلِيقِهِ بِالْمَوْتِ وَإِنْ كَانَ حَقِيقَةُ مَعَ لِلْقِرَانِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ مَعَ دُخُولِك الدَّارَ تَطْلُقُ بِهِ فَاسْتَدْعَى وُقُوعَهُ تَقَدَّمُ الشَّرْطِ وَهُوَ الْمَوْتُ فَيَقَعَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَهُوَ بَاطِلٌ .

( وَإِذَا مَلَكَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ أَوْ شِقْصًا مِنْهَا أَوْ مَلَكَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا أَوْ شِقْصًا مِنْهُ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ ) لِلْمُنَافَاةِ بَيْنَ الْمِلْكَيْنِ .
أَمَّا مِلْكُهَا إيَّاهُ فَلِلِاجْتِمَاعِ بَيْنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْمَمْلُوكِيَّةِ ، وَأَمَّا مِلْكُهُ إيَّاهَا فَلِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ ضَرُورِيٌّ وَلَا ضَرُورَةَ مَعَ قِيَامِ مِلْكِ الْيَمِينِ فَيَنْتَفِيَ النِّكَاحُ ( وَلَوْ اشْتَرَاهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ ) لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَسْتَدْعِي قِيَامَ النِّكَاحِ ، وَلَا بَقَاءَ لَهُ مَعَ الْمُنَافِي لَا مِنْ وَجْهٍ وَلَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَكَذَا إذَا مَلَكَتْهُ أَوْ شِقْصًا مِنْهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ لِمَا قُلْنَا مِنْ الْمُنَافَاةِ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَقَعُ لِأَنَّ الْعِدَّةَ وَاجِبَةٌ .
بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ لَا عِدَّةَ هُنَاكَ حَتَّى حَلَّ وَطْؤُهَا لَهُ .

( قَوْلُهُ وَإِذَا مَلَكَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ أَوْ شِقْصًا مِنْهَا ) أَيْ سَهْمًا بِأَنْ كَانَ تَزَوَّجَ أَمَةً لِغَيْرِهِ ثُمَّ اشْتَرَاهَا جَمِيعَهَا مِنْهُ أَوْ سَهْمًا مِنْهَا أَوْ وَهَبَهَا أَوْ وَرِثَهَا أَوْ مَلَكَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا أَوْ شِقْصًا مِنْهُ بِأَنْ تَزَوَّجَتْ الْحُرَّةُ عَبْدَ الْغَيْرِ ثُمَّ اشْتَرَتْهُ جَمِيعَهُ مِنْهُ أَوْ سَهْمًا مِنْهُ أَوْ وَهَبَهُ لَهَا أَوْ وَرِثَتْهُ ( وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ ) بَيْنَهُمَا فَسْخًا لِلْمُنَافَاةِ بَيْنَ الْمِلْكَيْنِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ وَمِلْكِ النِّكَاحِ ، أَمَّا فِي مِلْكِهَا إيَّاهُ فَلِلِاجْتِمَاعِ بَيْنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْمَمْلُوكِيَّةِ فِيهَا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ هَذَا فِي فَصْلِ الْمُحَرَّمَاتِ وَتَحْرِيرِهِ فَارْجِعْ إلَيْهِ ، وَأَمَّا فِي مِلْكِهِ إيَّاهَا فَلِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ ضَرُورِيٌّ لِأَنَّ إثْبَاتَهُ عَلَى الْحُرَّةِ لِحَاجَةِ بَقَاءِ النَّسْلِ فَكَانَ مِلْكُ النِّكَاحِ فِي الْأَصْلِ مَعَ الْمُنَافِي وَهُوَ حُرِّيَّةُ الْمَمْلُوكَةِ لِلضَّرُورَةِ .
وَقَدْ انْدَفَعَتْ الضَّرُورَةُ بِقِيَامِ مِلْكِ الْيَمِينِ لِثُبُوتِ الْحِلِّ الْأَقْوَى بِهِ فَيَرْتَفِعُ الْأَضْعَفُ الضَّرُورِيُّ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي مِلْكِ الْأَمَةِ كُلِّهَا ، وَأَمَّا فِي مِلْكِ بَعْضِهَا فَأُقِيمَ مِلْكُ الْيَمِينِ مَقَامَ الْحِلِّ لِأَنَّهُ سَبَبُهُ احْتِيَاطًا ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ إذَا اشْتَرَى زَوْجَتَهُ لَا يَقَعُ بَيْنَهُمَا فُرْقَةٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ فِيهَا حَقِيقَةُ مِلْكٍ لِقِيَامِ الرِّقِّ بَلْ الثَّابِتُ لَهُ حَقُّ الْمِلْكِ ، وَهُوَ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ النِّكَاحِ ( قَوْلُهُ وَلَوْ اشْتَرَاهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَسْتَدْعِي قِيَامَ النِّكَاحِ وَلَا بَقَاءَ لَهُ مَعَ الْمُنَافِي ، لَا مِنْ وَجْهٍ ) كَمَا فِي مِلْكِ الْبَعْضِ ( وَلَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ) كَمَا فِي مِلْكِ الْكُلِّ .
( وَكَذَا إذَا مَلَكَتْهُ أَوْ شِقْصًا مِنْهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ لِمَا قُلْنَا مِنْ الْمُنَافَاةِ ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ يَقَعُ ) وَإِنَّمَا قُلْنَا وَعَنْ مُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ فِي عَدَمِ الْوُقُوعِ

فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَالْمَنْقُولُ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي هَذَا الْفَصْلِ فِي الْمَنْظُومَةِ مِنْ الْوُقُوعِ فِيمَا إذَا أَعْتَقَتْهُ ، أَمَّا إذَا لَمْ تُعْتِقْهُ حَتَّى طَلَّقَهَا لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِالِاتِّفَاقِ ، وَتَفْصِيلُ مُحَمَّدٍ عَلَى هَذَا أَنَّهُ لَا عِدَّةَ هُنَاكَ عَلَيْهَا : يَعْنِي مِنْهُ حَتَّى حَلَّ لَهُ وَطْؤُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ يَحِلُّ تَزْوِيجُهُ إيَّاهَا كَمَا حَلَّ لَهُ وَطْؤُهَا لِعَدَمِ الْعِدَّةِ وَقَدْ قِيلَ بِهِ نَقَلَهُ فِي الْكَافِي .
قَالَ : لَوْ زَوَّجَهَا سَيِّدُهَا الَّذِي كَانَ زَوْجَهَا جَازَ ثُمَّ قَالَ : وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَزْوِيجُهَا مِنْ آخَرَ قَالَ : فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا تَجِبُ الْعِدَّةُ عَلَيْهَا فِي حَقِّ مَنْ اشْتَرَاهَا وَفِي حَقِّ غَيْرِهِ رِوَايَتَانِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْعِدَّةَ إنَّمَا تَجِبُ لِاسْتِبْرَاءِ الرَّحِمِ عَنْ الْمَاءِ ، وَيَسْتَحِيلُ اسْتِبْرَاءُ رَحِمِهَا مِنْ مَاءِ نَفْسِهِ مَعَ بَقَاءِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْحِلِّ .
وَإِذَا عَرَفْت هَذَا فَعَلَى مَا هُوَ الصَّحِيحُ يَنْبَغِي عَدَمُ التَّفْصِيلِ لِمُحَمَّدٍ ، إذْ قَدْ ظَهَرَ أَنَّ الْعِدَّةَ هُنَاكَ أَيْضًا قَائِمَةٌ غَيْرَ أَنَّهَا لَا تَظْهَرُ فِي حَقِّهِ .
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْفُرْقَةَ مَتَى وَقَعَتْ بِسَبَبِ التَّنَافِي تَخْرُجُ الْمَرْأَةُ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَحِلًّا لِلطَّلَاقِ ، وَإِذَا خَرَجَتْ مِنْ الْمَحَلِّيَّةِ فَحَاجَتُنَا إلَى إثْبَاتِ الْمَحَلِّيَّةِ ابْتِدَاءً بَعْدَ الْعِتْقِ وَمُجَرَّدُ الْعِدَّةِ لَا يُثْبِتُ الْمَحَلِّيَّةَ ابْتِدَاءً كَمَا فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ شَمْسَ الْأَئِمَّةِ حَكَى فِي الْمَبْسُوطِ الْخِلَافَ عَلَى عَكْسِ هَذَا وَلَمْ يَخُصَّهُ بِمَا إذَا مَلَكَتْهُ بَلْ إجْرَاءً فِي الْفَصْلَيْنِ ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ مَسْأَلَةَ الْمُهَاجَرَةِ وَهِيَ مَا إذَا هَاجَرَتْ فَانْفَسَخَ نِكَاحُهَا فَهَاجَرَ بَعْدَهَا وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ عَلَى قَوْلِهِمَا لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ ، فَقَالَ فِي الْمَبْسُوطِ : وَقِيلَ هَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ ، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ يَقَعُ طَلَاقُهُ .
ثُمَّ

قَالَ : وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ اشْتَرَى الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ بَعْدَمَا دَخَلَ بِهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَطَلَّقَهَا فِي الْعِدَّةِ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ يَقَعُ ، وَكَذَا الْخِلَافُ فِيمَا لَوْ اشْتَرَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا : يَعْنِي فَأَعْتَقَتْهُ فَحُكِيَ الْخِلَافُ فِي الصُّورَتَيْنِ .

( وَلَوْ قَالَ لَهَا وَهِيَ أَمَةٌ لِغَيْرِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ مَعَ عِتْقِ مَوْلَاك إيَّاكَ فَأَعْتَقَهَا مَوْلَاهَا مَلَكَ الزَّوْجُ الرَّجْعَةَ ) لِأَنَّهُ عَلَّقَ التَّطْلِيقَ بِالْإِعْتَاقِ أَوْ الْعِتْقِ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَنْتَظِمُهُمَا وَالشَّرْطُ مَا يَكُونُ مَعْدُومًا عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ وَلِلْحُكْمِ تَعَلُّقٌ بِهِ وَالْمَذْكُورُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَالْمُعَلَّقُ بِهِ التَّطْلِيقُ لِأَنَّ فِي التَّعْلِيقَاتِ يَصِيرُ التَّصَرُّفُ تَطْلِيقًا عِنْدَ الشَّرْطِ عِنْدَنَا ، وَإِذَا كَانَ التَّطْلِيقُ مُعَلَّقًا بِالْإِعْتَاقِ أَوْ الْعِتْقِ يُوجَدُ بَعْدَهُ ثُمَّ الطَّلَاقُ يُوجَدُ بَعْدَ التَّطْلِيقِ فَيَكُونَ الطَّلَاقُ مُتَأَخِّرًا عَنْ الْعِتْقِ فَيُصَادِفَهَا وَهِيَ حُرَّةً فَلَا تَحْرُمُ حُرْمَةً غَلِيظَةً بِالثِّنْتَيْنِ .
بَقِيَ شَيْءٌ وَهُوَ أَنَّ كَلِمَةَ مَعَ لِلْقِرَانِ .
قُلْنَا : قَدْ تُذْكَرُ لِلتَّأَخُّرِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } فَتُحْمَلَ عَلَيْهِ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ .

( قَوْلُهُ وَإِنْ قَالَ ) أَيْ الزَّوْجُ لَهَا ( وَهِيَ أَمَةٌ لِغَيْرِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ مَعَ عِتْقِ مَوْلَاك إيَّاكَ فَأَعْتَقَهَا مَلَكَ الرَّجْعَةَ لِأَنَّهُ عَلَّقَ التَّطْلِيقَ ) إذْ هُوَ السَّبَبُ ( حَقِيقَةً بِالْإِعْتَاقِ أَوْ الْعِتْقِ لِأَنَّ اللَّفْظَ ) أَعْنِي الْعِتْقَ ( يَنْتَظِمُهُمَا ) أَيْ يَنْتَظِمُ الْإِعْتَاقَ الَّذِي هُوَ فِعْلُهُ وَالْعِتْقَ الَّذِي هُوَ وَصْفُهَا أَثَرٌ لَهُ ، وَمَعْنَى الِانْتِظَامِ هَاهُنَا صِحَّةُ إرَادَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِهِ عَلَى الْبَدَلِ لَا عَلَى الشُّمُولِ لِمَنْعِ انْتِظَامِ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ وَالْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ فِي إطْلَاقِ وَاحِدٍ ، وَالْإِعْتَاقُ مَعْنًى مَجَازِيٌّ لِلْعِتْقِ مِنْ اسْتِعَارَةِ اسْمِ الْحُكْمِ لِلْعِلَّةِ ، وَعَلَى هَذَا فَإِعْمَالُهُ فِي لَفْظِ إيَّاكَ عَلَى اعْتِبَارِ إرَادَةِ الْفِعْلِ بِهِ إعْمَالُ الْمُسْتَعَارِ لِلْمَصْدَرِ أَوْ عَلَى اعْتِبَارِ إعْمَالِ اسْمِ الْمَصْدَرِ كَأَعْجَبَنِي كَلَامُك زَيْدًا ، وَأَمَّا عَلَى التَّجْوِيزِ الْآخَرِ وَهُوَ أَنْ يُرَادَ الْعِتْقُ الَّذِي هُوَ أَثَرٌ فَمُشْكِلٌ لِأَنَّهُ قَاصِرٌ ، وَإِنَّمَا يُعْمَلُ فِي الْمَفْعُولِ الْمُتَعَدِّي وَجُعِلَ الْعَامِلُ الْعِتْقَ اسْمًا لِلْمَصْدَرِ يَرُدُّهُ إلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُعَبَّرًا بِهِ عَنْ الْإِعْتَاقِ فَلَمْ يَكُنْ التَّعْلِيقُ إلَّا بِالْإِعْتَاقِ فَقَطْ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي هُوَ أَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ ، بَلْ عَنْ الْعِتْقِ ، هَذَا مَعْنَى الْإِشْكَالِ الْمَذْكُورِ فِي الْكَافِي لِحَافِظِ الدِّينِ ، وَالْعَجَبُ مِمَّا نَقَلَ فِي جَوَابِهِ مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ : لَيْسَ بِمُشْكِلٍ لِأَنَّهُ لَمَّا عُلِّقَ التَّطْلِيقُ بِالْإِعْتَاقِ يَلْزَمُ مِنْهُ تَعْلِيقُهُ بِالْعِتْقِ الْحَاصِلِ مِنْهُ وَأَيْنَ هَذَا مِنْ صِحَّةِ الْإِعْمَالِ .
وَأَيْضًا كَانَ الْوَجْهُ أَنْ يَقُولَ الْمُصَنِّفُ بِالْإِعْتَاقِ ، وَالْعِتْقُ بِالْوَاوِ لَا بِأَوْ .
وَحَاصِلُ تَقْرِيرِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مَعَ قَدْ تُذْكَرُ لِلْمُتَأَخِّرِ تَنْزِيلًا لَا مَنْزِلَةَ الْمُقَارِنِ لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ بَعْدَهُ وَنَفْيِ الرَّيْبِ عَنْهُ كَمَا فِي الْآيَةِ { إنَّ مَعَ

الْعُسْرِ يُسْرًا } فَصَارَتْ إنَّ مُحْتَمِلَةً لِذَلِكَ وَإِنْ كَانَتْ حَقِيقَتُهَا خِلَافَهُ فَيُصَارَ إلَيْهِ بِمُوجِبٍ وَقَدْ تَحَقَّقَ ، وَهُوَ إنَاطَةُ ثُبُوتِ حُكْمٍ عَلَى ثُبُوتِ مَعْنَى مَدْخُولِهَا الْمَعْدُومِ حَالَ التَّكَلُّمِ وَهُوَ عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ فَإِنَّ الْإِنَاطَةَ كَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى التَّعْلِيقِ وَمَعْنَى مَدْخُولِهَا الْمَعْدُومِ كَائِنًا عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُنَاطٌ بِوُجُودِ حُكْمٍ هُوَ مَعْنَى الشَّرْطِ فَلَزِمَ كَوْنُ الْإِعْتَاقِ أَوْ الْعِتْقِ شَرْطًا لِلتَّطْلِيقِ ، فَإِنْ كَانَ الْإِعْتَاقُ فَيُوجَدَ تَطْلِيقُ الثِّنْتَيْنِ بَعْدَهُ مُقَارِنًا لِلْمُتَأَخِّرِ عَنْ الْإِعْتَاقِ وَيَقَعَ الطَّلَاقُ الْمُتَأَخِّرُ عَنْ التَّطْلِيقِ بَعْدَهُ فَيُصَادِفَهَا حُرَّةً فَيَمْلِكَ الزَّوْجُ الرَّجْعَةَ وَإِنْ كَانَ الْعِتْقُ فَأَظْهَرُ ، هَذَا تَقْرِيرُ الْمُصَنِّفِ .
وَقِيلَ عَلَيْهِ الْمَعْلُولُ مَعَ الْعِلَّةِ يَقْتَرِنَانِ كَالْكَسْرِ مَعَ الِانْكِسَارِ فِي الْخَارِجِ ، فَالْعِتْقُ مَعَ الْإِعْتَاقِ وَالطَّلَاقُ مَعَ التَّطْلِيقِ يَقْتَرِنَانِ ، بَلْ الْوَجْهُ أَنَّهُ قَرَنَ الطَّلَاقَ بِالْإِعْتَاقِ فَيَكُونُ مَقْرُونًا بِالْعِتْقِ وَهُوَ ضِدُّ الرِّقِّ ، وَوُجُودُ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ مُسْتَلْزِمٌ زَوَالَ الضِّدِّ الْآخَرِ ، وَلَا يَنْبَنِي زَوَالُهُ عَلَى وُجُودِ الْآخَرِ ، إذْ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ : وُجِدَ السُّكُونُ فَزَالَتْ الْحَرَكَةُ أَوْ وُجِدَ الْحَرَكَةُ فَزَالَ السُّكُونُ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ اجْتِمَاعَ الضِّدَّيْنِ ، بَلْ وُجُودُ أَحَدِهِمَا يَقْتَرِنُ بِزَوَالِ الْآخَرِ فَيَثْبُتُ زَوَالُ الرِّقِّ مَعَ الْعِتْقِ فَيَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا حَالَ وُجُودِ الْعِتْقِ وَهِيَ حَالَةُ زَوَالِ الرِّقِّ ، فَلَا تُوجِبُ التَّطْلِيقَتَانِ حُرْمَةً غَلِيظَةً فِي الْحُرَّةِ فَيَمْلِكَ الرَّجْعَةَ ، وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي أَنَّ الْمَعْلُولَ مَعَ الْعِلَّةِ يَقْتَرِنَانِ فِي الْخَارِجِ أَوْ يَتَعَقَّبُهُمَا بِلَا فَصْلٍ وَعَلَى أَنَّ حَالَةَ الدُّخُولِ فِي الْوُجُودِ كَحَالَةِ الْوُجُودِ بَعْدَ تَقَرُّرِهِ وَعَدَمِ خُرُوجِ مَعَ عَنْ الْمُقَارَنَةِ ، وَأَطْبَقَ الْعُقَلَاءُ عَلَى

أَنَّ الشَّيْءَ زَمَنَ ثُبُوتِهِ لَيْسَ بِثَابِتٍ وَأَنْتَ قَدْ عَلِمْت أَنَّ الْمَعْنَى عَلَى خُرُوجِهَا وَتَقَرُّرَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ يَعْقُبُهُ إذَا لَيْسَ هُوَ عِلَّةً ، فَلَيْسَ الْعِتْقُ عِلَّةً لِلطَّلَاقِ بَلْ عِلَّةُ الطَّلَاقِ تَعْمَلُ عِنْدَهُ ، وَسَنَذْكُرُ مَا عِنْدَنَا فِي الْعِلَّةِ وَالْمَعْلُولِ .
وَأَوْرَدَ عَلَى هَذَا مَا لَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ : أَنْتِ طَالِقٌ مَعَ نِكَاحِك حَيْثُ يَأْتِي فِيهِ التَّقْرِيرُ الْمَذْكُورُ مَعَ أَنَّهُ لَا يَقَعُ إذَا تَزَوَّجَهَا .
وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ لِلْمَانِعِ وَهُوَ عَدَمُ مِلْكِهِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا يَمْلِكُ الْيَمِينَ ، فَإِذَا لَزِمَ بِذِكْرِ حُرُوفِهِ : أَعْنِي إنْ وَنَحْوَهُ بِأَنْ قَالَ : إنْ تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ صَحَّ ضَرُورَةً صِحَّةُ الْيَمِينِ ، وَمَرْجِعُ هَذَا إلَى أَنَّهُ إنَّمَا يَمْلِكُ التَّعْلِيقَ الصَّرِيحَ قَبْلَ النِّكَاحِ ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَهُ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : الدَّلِيلُ إنَّمَا قَامَ عَلَى مِلْكِهِ الْيَمِينَ الْمُضَافَةَ إلَى الْمِلْكِ فَتَعَلَّقَ بِمَا يُوجِبُ مَعْنَاهَا كَيْفَمَا كَانَ اللَّفْظُ ، وَالتَّقْيِيدُ بِلَفْظٍ خَاصٍّ بَعْدَ تَحَقُّقِ الْمَعْنَى تَحَكَّمَ وَلِذَا قَالَ فِي الدِّرَايَةِ : هَذَا الْجَوَابُ لَمْ يَتَّضِحْ لِي فَإِنَّهُ يَمْلِكُ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ بِالنِّكَاحِ ، وَيُمْكِنُ تَصْحِيحُ كَلَامِهِ عَلَى اعْتِبَارِ مَعْنَى الشَّرْطِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ .

( وَلَوْ قَالَ : إذَا جَاءَ غَدٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ وَقَالَ الْمَوْلَى : إذَا جَاءَ غَدٌ فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَجَاءَ الْغَدُ لَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَعِدَّتُهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : زَوْجُهَا يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ ) عَلَيْهَا ، لِأَنَّ الزَّوْجَ قَرَنَ الْإِيقَاعَ بِإِعْتَاقِ الْمَوْلَى حَيْثُ عَلَّقَهُ بِالشَّرْطِ الَّذِي عَلَّقَ بِهِ الْمَوْلَى الْعِتْقَ ، وَإِنَّمَا يَنْعَقِدُ الْمُعَلَّقُ سَبَبًا عِنْدَ الشَّرْطِ وَالْعِتْقُ يُقَارِنُ الْإِعْتَاقَ لِأَنَّهُ عِلَّتُهُ أَصْلُهُ الِاسْتِطَاعَةُ مَعَ الْفِعْلِ فَيَكُونَ التَّطْلِيقُ مُقَارِنًا لِلْعِتْقِ ضَرُورَةً فَتَطْلُقُ بَعْدَ الْعِتْقِ فَصَارَ كَالْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَلِهَذَا تُقَدَّرُ عِدَّتُهَا بِثَلَاثِ حِيَضٍ .
وَلَهُمَا أَنَّهُ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِمَا عَلَّقَ بِهِ الْمَوْلَى الْعِتْقَ ثُمَّ الْعِتْقُ يُصَادِفُهَا وَهِيَ أَمَةٌ فَكَذَا الطَّلَاقُ وَالطَّلْقَتَانِ تُحَرِّمَانِ الْأَمَةَ حُرْمَةً غَلِيظَةً ، بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لِأَنَّهُ عَلَّقَ التَّطْلِيقَ بِإِعْتَاقِ الْمَوْلَى فَيَقَعَ الطَّلَاقُ بَعْدَ الْعِتْقِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ ، وَبِخِلَافِ الْعِدَّةِ لِأَنَّهُ يُؤْخَذُ فِيهَا بِالِاحْتِيَاطِ ، وَكَذَا الْحُرْمَةُ الْغَلِيظَةُ يُؤْخَذُ فِيهَا بِالِاحْتِيَاطِ ، وَلَا وَجْهَ إلَى مَا قَالَ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَوْ كَانَ يُقَارِنُ الْإِعْتَاقَ لِأَنَّهُ عِلَّتُهُ فَالطَّلَاقُ يُقَارِنُ التَّطْلِيقَ لِأَنَّهُ عِلَّتُهُ فَيَقْتَرِنَانِ .

( قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ أَيْ لِامْرَأَتِهِ الْأَمَةِ : إذَا جَاءَ غَدٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ ، وَقَالَ لَهَا الْمَوْلَى : إذَا جَاءَ غَدٌ فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَجَاءَ الْغَدُ لَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَعِدَّتُهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : زَوْجُهَا يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ ) وَلَمْ يَذْكُرْ الِاخْتِلَافَ عَلَى رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ بَلْ عَلَى رِوَايَةِ الشَّيْخِ أَبِي حَفْصٍ .
وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الزَّوْجَ قَرَنَ الْإِيقَاعَ بِإِعْتَاقِ الْمَوْلَى حَيْثُ عَلَّقَهُ بِالشَّرْطِ الَّذِي عَلَّقَ بِهِ الْمَوْلَى عِتْقَهَا ، وَالْمُعَلَّقُ إنَّمَا يَنْعَقِدُ سَبَبًا عِنْدَ الشَّرْطِ ( وَالْعِتْقُ يُقَارِنُ الْإِعْتَاقَ لِأَنَّهُ عِلَّتُهُ أَصْلُهُ الِاسْتِطَاعَةُ مَعَ الْفِعْلِ ) الَّذِي يُقَامُ بِهَا فَيَقْتَرِنَانِ فِي الْخَارِجِ ( فَيَكُونَ التَّطْلِيقُ الَّذِي هُوَ السَّبَبُ مُقَارِنًا لِلْعِتْقِ الْمُقَارِنِ لِلْإِعْتَاقِ فَتَطْلُقُ بَعْدَ الْعِتْقِ وَصَارَ كَالْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَلِهَذَا تُقَدَّرُ عِدَّتُهَا بِثَلَاثِ حِيَضٍ .
وَلَهُمَا أَنَّهُ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِمَا عَلَّقَ بِهِ الْمَوْلَى الْعِتْقَ ثُمَّ الْعِتْقُ يُصَادِفُهَا أَمَةً ، فَكَذَا الطَّلَاقُ وَالطَّلْقَتَانِ تُحَرِّمَانِ الْأَمَةَ حُرْمَةً غَلِيظَةً بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فَإِنَّهُ عَلَّقَ التَّطْلِيقَ بِإِعْتَاقِ الْمَوْلَى فَيَقَعُ الطَّلَاقُ بَعْدَ الْعِتْقِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ .
وَبِخِلَافِ الْعِدَّةِ لِأَنَّهُ يُؤْخَذُ فِيهَا بِالِاحْتِيَاطِ وَكَذَا الْحُرْمَةُ الْغَلِيظَةُ ) ثُمَّ رَدَّ الْمُصَنِّفُ قَوْلَ مُحَمَّدٍ بِقَوْلِهِ ( وَلَا وَجْهَ إلَى مَا قَالَ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَوْ كَانَ يُقَارِنُ الْإِعْتَاقَ لِأَنَّهُ عِلَّتُهُ فَالطَّلَاقُ يُقَارِنُ التَّطْلِيقَ لِأَنَّهُ عِلَّتُهُ فَيَقْتَرِنَانِ ) أَيْ فَيَقْتَرِنُ الطَّلَاقُ بِالْعِتْقِ فَيُصَادِفُهَا عَلَى مَا صَادَفَهَا عَلَيْهِ الْعِتْقُ وَهِيَ أَمَةٌ فَتَحْرُمَ ، وَحَقِيقَةُ مَحِلِّ الْغَلَطِ فِي تَقْرِيرِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ مِنْ جَعْلِ الْعِتْقِ شَرْطًا عَلَى مَا يُعْطِيهِ قَوْلُهُ وَالْمُعَلَّقُ إنَّمَا يَنْعَقِدُ

سَبَبًا عِنْدَ الشَّرْطِ : يَعْنِي فَلَا يَنْعَقِدُ التَّطْلِيقُ سَبَبًا إلَّا عِنْدَ وُجُودِ الْعِتْقِ الْمُقَارِنِ لِلْإِعْتَاقِ .
لَكِنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الشَّرْطُ مَجِيءُ الْيَوْمِ كَمَا هُوَ الشَّرْطُ فِي الْإِعْتَاقِ ، فَإِنْ كَانَتْ الْعِلَّةُ مَعَ الْمَعْلُولِ يَلْزَمُ أَنَّ عِنْدَ مَجِيءِ الْغَدِ يَقْتَرِنُ كُلٌّ مِنْ التَّطْلِيقِ وَالْإِعْتَاقِ وَالطَّلَاقُ وَالْعِتْقُ فَيَنْزِلُ الطَّلَاقُ حَسْبَمَا يَنْزِلُ الْعِتْقُ وَهِيَ أَمَةٌ فَتَحْرُمَ حُرْمَةً غَلِيظَةً .
وَإِذْ قَدْ بَعُدَ هَذَا التَّوْجِيهُ لِمُحَمَّدِ وَجْهٌ بِتَوْجِيهَاتٍ أُخُرَ : أَحَدُهَا أَنَّهُ اعْتَبَرَ قَوْلَ الْقِرَانِ فِي الْعِتْقِ وَالتَّعَاقُبِ فِي الطَّلَاقِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِكَوْنِ الْإِعْتَاقِ مَنْدُوبًا فَلْتُعْتَبَرُ سُرْعَةُ نُزُولِهِ وَالتَّطْلِيقُ مَحْظُورٌ فَيُعْتَبَرُ مُتَأَخِّرًا نَظِيرُهُ الْبَيْعُ الصَّحِيحُ يَنْزِلُ الْمِلْكُ فِيهِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ وَالْفَاسِدُ يَتَأَخَّرُ فِيهِ إلَى الْقَبْضِ لِلْحَظْرِ ، وَتَوْضِيحُهُ أَنَّهُ يَنْزِلُ عِنْدَ وُجُودِ الْغَدِ التَّطْلِيقُ وَالْإِعْتَاقُ وَالْعِتْقُ مُقْتَرِنَةً ، وَيَنْزِلُ الطَّلَاقُ بَعْدَهَا وَهِيَ حُرَّةٌ وَهَذِهِ فِي الْبَيِّنِ .
اعْلَمْ أَنَّ الْعُقَلَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْعِلَّةِ مَعَ الْمَعْلُولِ ، فَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إلَى أَنَّ الْمَعْلُولَ يَعْقُبُهَا بِلَا فَصْلٍ ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُمَا مَعًا فِي الْخَارِجِ ، وَطَائِفَةٌ مِنْهُمْ خَصُّوا الْعِلَلَ الشَّرْعِيَّةَ فَجَعَلُوهَا تَسْتَعْقِبُ الْمَعْلُولَ لِأَنَّهَا اُعْتُبِرَتْ كَالْأَعْيَانِ بَاقِيَةً فَأَمْكَنَ فِيهَا اعْتِبَارُ الْأَصْلِ وَهُوَ تَقَدُّمُ الْمُؤَثِّرِ عَلَى الْأَثَرِ ، بِخِلَافِ نَحْوِ الِاسْتِطَاعَةِ مَعَ الْفِعْلِ لِأَنَّهَا عَرَضٌ لَا يَبْقَى فَلَمْ يُمْكِنْ اعْتِبَارُ تَقْدِيمِهَا وَإِلَّا بَقِيَ الْفِعْلُ بِلَا قُدْرَةٍ ، وَاَلَّذِي نَخْتَارُهُ التَّعْقِيبُ فِي الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ حَتَّى إنَّ الِانْكِسَارَ يَعْقُبُ الْكَسْرَ فِي الْخَارِجِ .
غَيْرَ أَنَّهُ لِسُرْعَةِ إعْقَابِهِ مَعَ قِلَّةِ الزَّمَنِ إلَى الْغَايَةِ إذَا كَانَ آنِيًّا لَمْ يَقَعْ تَمْيِيزُ التَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ

فِيهِمَا ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ لَا يَقُومُ بِهِ التَّأْثِيرُ وَحَالَةَ خُرُوجِهِ مِنْ الْعَدَمِ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَكْمُلَ هُوِيَّتُهُ لِيَقُومَ بِهِ عَارِضُهُ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ مُؤَثِّرَا .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَثَانِيهَا أَنَّ الْمُعَلَّقَ كَالْمُرْسَلِ عِنْدَ الشَّرْطِ فَكَأَنَّ الْمَوْلَى وَالزَّوْجَ أَرْسَلَا عِنْدَهُ فَيَسْبِقَ وُقُوعُ الْأَوْجَزِ وَأَنْتِ حُرَّةٌ أَوْجَزُ مِنْ أَنْتِ طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ فَتَطْلُقُ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ ثِنْتَيْنِ فَلَا تَحْرُمُ بِهِمَا .
وَثَالِثُهَا لَمَّا تَعَلَّقَا بِشَرْطٍ وَاحِدٍ طَلُقَتْ زَمَنَ نُزُولِ الْحُرِّيَّةِ فَيُصَادِفُهَا حُرَّةً لِاقْتِرَانِهِمَا وُجُودًا ، وَلِأَنَّ الْمِلْكَ كَانَ ثَابِتًا بِيَقِينٍ فَلَا يَزُولُ بِالشَّكِّ .
قُلْنَا : التَّعَلُّقُ بِشَرْطٍ وَاحِدٍ يَقْتَضِي أَنْ يُصَادِفَهَا عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي صَادَفَهَا عَلَيْهَا الْعِتْقُ وَهِيَ الرِّقُّ فَتَغْلُظَ الْحُرْمَةُ بِلَا شَكٍّ فَبَطَلَ الْأَخِيرُ ، وَإِطْبَاقُ الْعُقَلَاءِ عَلَى أَنَّ الشَّيْءَ زَمَنَ خُرُوجِهِ مِنْ الْعَدَمِ لَيْسَ بِثَابِتٍ فَانْتَفَى مَا قَبْلَهُ ، وَالْوُقُوعُ عِنْدَ الشَّرْطِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مُضِيِّ قَدْرِ التَّكَلُّمِ مِنْ الزَّمَانِ بَلْ بِمُجَرَّدِ نُزُولِهِ يَنْزِلُ فِي أَوَّلِ آنٍ يَعْقُبُهُ لِأَنَّهُ نُزُولُ حُكْمٍ فَبَطَلَ مَا قَبْلَهُمَا وَرُفِعَ الْأَثَرُ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ لَمَّا أَمْكَنَ وَهُوَ مَطْلُوبٌ شَرْعًا أُخِّرَ إلَى غَايَةٍ يُنَاسِبُ التَّأْخِيرَ إلَيْهَا أَعْنِي الْقَبْضَ الَّذِي لَهُ شَبَهٌ بِالْعَقْدِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْفَصْلِ الَّذِي يَلِي بَابَ الْمَهْرِ .
أَمَّا مَا نَحْنُ فِيهِ فَلَوْ أَمْكَنَ رَفْعُهُ لَمْ يَكُنْ بَعْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ غَايَةٌ يُنَاسِبُ اعْتِبَارُ تَأْخِيرِ ثُبُوتِهِ إلَيْهَا كَمَا هُوَ فِي الْبَيْعِ فَكَيْفَ وَهُوَ غَيْرُ مُمْكِنِ الرَّفْعِ وَلَا الدَّفْعِ فَلَا فَائِدَةَ فِي تَأْخِيرِهِ بَلْ هُوَ مَحِلٌّ بِالِاحْتِيَاطِ فَبَطَلَ الْأَوَّلُ .

فَصْلٌ فِي تَشْبِيهِ الطَّلَاقِ وَوَصْفِهِ ( وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ هَكَذَا يُشِيرُ بِالْإِبْهَامِ وَالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى فَهِيَ ثَلَاثٌ ) لِأَنَّ الْإِشَارَةَ بِالْأَصَابِعِ تُفِيدُ الْعِلْمَ بِالْعَدَدِ فِي مَجْرَى الْعَادَةِ إذَا اقْتَرَنَتْ بِالْعَدَدِ الْمُبْهَمِ ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا } الْحَدِيثَ ، وَإِنْ أَشَارَ بِوَاحِدَةٍ فَهِيَ وَاحِدَةٌ ، وَإِنْ أَشَارَ بِثِنْتَيْنِ فَهِيَ ثِنْتَانِ لِمَا قُلْنَا ، وَالْإِشَارَةُ تَقَعُ بِالْمَنْشُورَةِ مِنْهَا ، وَقِيلَ : إذَا أَشَارَ بِظُهُورِهَا فَبِالْمَضْمُومَةِ مِنْهَا ، وَإِذَا كَانَ تَقَعُ الْإِشَارَةُ بِالْمَنْشُورَةِ مِنْهَا فَلَوْ نَوَى الْإِشَارَةَ بِالْمَضْمُومَتَيْنِ يُصَدَّقُ دِيَانَةً لَا قَضَاءً ، وَكَذَا إذَا نَوَى الْإِشَارَةَ بِالْكَفِّ حَتَّى يَقَعَ فِي الْأُولَى ثِنْتَانِ دِيَانَةً ، وَفِي الثَّانِيَةِ وَاحِدَةٌ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُهُ لَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ ، وَلَوْ لَمْ يَقُلْ هَكَذَا تَقَعُ وَاحِدَةٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْتَرِنْ بِالْعَدَدِ الْمُبْهَمِ فَبَقِيَ الِاعْتِبَارُ بِقَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ

( فَصْلٌ فِي تَشْبِيهِ الطَّلَاقِ وَوَصْفِهِ ) .
( قَوْلُهُ : وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ هَكَذَا يُشِيرُ بِالْإِبْهَامِ وَالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى فَهِيَ ثَلَاثٌ ) طُعِنَ عَلَى مُحَمَّدٍ فِي لَفْظِ السَّبَّابَةِ إذْ الِاسْمُ الشَّرْعِيُّ الْمُسَبِّحَةُ .
وَأُجِيبُ بِأَنَّ فِي بَعْضِ النُّسَخِ السَّبَّاحَةُ ، وَبِأَنَّهُ وَرَدَ أَيْضًا فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي صِفَةِ طُهُورِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَدْخَلَ السَّبَّابَتَيْنِ فِي أُذُنَيْهِ } كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ وَبِأَنَّ الْأَعْلَامَ لَا تُوجِبُ تَحَقُّقَ مَعَانِيهَا فِي مُسَمَّيَاتِهَا وَهَذَا مُنْتَفٍ ، فَإِنَّ الِاعْتِرَاضَ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ تَحَقُّقِ الْمَعْنَى بَلْ بِالْعُدُولِ عَنْ الِاسْمِ الشَّرْعِيِّ إلَى الشَّنِيعِ وَالدَّفْعِ بِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِنَاءً عَلَى الظَّاهِرِ مِنْ نَقْلِ الْحَدِيثِ بِاللَّفْظِ ، وَإِلَّا لَوْ قِيلَ : كَوْنُ الِاسْمِ الشَّرْعِيِّ فِي الْمُسَبِّحَةِ يُوجِبُ كَوْنَ الْحَدِيثِ نَقْلًا مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ بِالْمَعْنَى حَمْلًا عَلَى تَحَامِي ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْهُ ، فَالْأَوْلَى اعْتِبَارُ تِلْكَ النُّسْخَةِ وَنِسْبَةُ غَيْرِهَا إلَى التَّصْحِيفِ وَإِنْ كَانَتْ هِيَ أَيْضًا غَلَطًا لُغَةً مِنْ جِهَةِ الِاشْتِقَاقِ لِأَنَّ الْفِعْلَ سَبَّحَ وَفَعَّالٌ مُبَالَغَةٌ فِي فَاعِلٍ وَلَيْسَ مِنْهُ فَاعِلٌ بَلْ الْوَصْفُ مِنْهُ مُسَبِّحٌ ، وَأَمَّا سَبَّاحٌ فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ سَبَحَ فِي الْمَاءِ سِبَاحَةً ، ثُمَّ شَرَعَ فِي الْوَجْهِ فَقَالَ ( لِأَنَّ الْإِشَارَةَ بِالْأَصَابِعِ تُفِيدُ الْعِلْمَ بِالْعَدَدِ فِي مَجْرَى الْعَادَةِ إذَا اقْتَرَنَتْ بِالْعَدَدِ الْمُبْهَمِ ) يَعْنِي لَفْظَ هَكَذَا ، وَهَذَا غَلَطٌ لَفْظًا وَمَعْنًى ، أَمَّا لَفْظًا فَلِأَنَّ الَّتِي يُكَنَّى بِهَا عَنْ الْعَدَدِ كَذَا وَلَمْ يُسْتَعْمَلْ قَطُّ بِهَا التَّنْبِيهِ ، وَالْمُسْتَعْمَلُ بِهَا مَا يُقْصَدُ فِيهِ مَعَانِي الْأَجْزَاءِ نَحْوُ { أَهَكَذَا عَرْشُكِ } يَقْصِدُ بِالْهَاءِ التَّنْبِيهَ وَبِالْكَافِ التَّشْبِيهَ وَبِذَا الْإِشَارَةَ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ هُنَا وَفِي الْحَدِيثِ فَقَوْلُهُ : أَنْتِ

طَالِقٌ هَكَذَا تَشْبِيهٌ بِالْعَدَدِ الْمُشَارِ إلَيْهِ وَهُوَ الْعَدَدُ الْمُفَادُ كَمِّيَّتُهُ بِالْأَصَابِعِ الْمُشَارِ إلَيْهِ بِذَا ، بِخِلَافِ كَذَا الْكِنَايَةِ فَإِنَّهَا لَمْ تُقْصَدْ فِيهَا مَعَانِيَ الْإِجْزَاءِ بَلْ كَلِمَةٌ مُرَكَّبَةٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى عَدَدٍ مُبْهَمِ الْجِنْسِ أَوْ غَيْرِهِ كَمَا فِي الْخَبَرِ ، يُقَالُ لِلْعَبْدِ : أَتَذْكُرُ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا ، ثُمَّ مُمَيِّزُ هَذِهِ لَيْسَ إلَّا مَا يُبَيِّنُ الْجِنْسَ لَا الْكَمِّيَّةَ لِأَنَّهَا وُضِعَتْ لِقَصْدِ إبْهَامِ الْكَمِّيَّةِ نَحْوُ مَلَكْت كَذَا عَبْدًا وَلَا يُقَالُ كَذَا دِرْهَمًا عِشْرِينَ وَلَا كَذَا عِشْرِينَ دِرْهَمًا فَلَيْسَ هَذَا اسْتِعْمَالًا عَرَبِيًّا ، وَهَذَا هُوَ غَلَطُ الْمَعْنَى ( قَوْلُهُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الشَّهْرُ هَكَذَا } إلَخْ ) عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسِبُ ، الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا ، وَعَقَدَ الْإِبْهَامَ فِي الثَّالِثَةِ ، وَالشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا } : يَعْنِي تَمَامَ ثَلَاثِينَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ( وَإِنْ أَشَارَ بِوَاحِدَةٍ فَهِيَ وَاحِدَةٌ ، وَإِنْ أَشَارَ بِالثِّنْتَيْنِ فَهُمَا ثِنْتَانِ لِمَا قُلْنَا ، وَالْإِشَارَةُ تَقَعُ بِالْمَنْشُورَةِ ، وَلَوْ نَوَى الْإِشَارَةَ بِالْمَضْمُومَتَيْنِ يُصَدَّقُ دِيَانَةً لَا قَضَاءً ، وَكَذَا إذَا نَوَى الْإِشَارَةَ بِالْكَفِّ ) فِي الدِّرَايَةِ الْإِشَارَةُ بِالْكَفِّ أَنْ تَقَعَ الْأَصَابِعُ كُلُّهَا مَنْشُورَةً ، فَاَلَّذِي يَثْبُتُ بِالنِّيَّةِ مِنْهُ أَنْ تَكُونَ الْأَصَابِعُ الثَّلَاثُ مَنْشُورَةً فَقَطْ حَتَّى تَقَعَ فِي الْأُولَى ثِنْتَانِ دِيَانَةً وَفِي الثَّانِيَةِ وَاحِدَةٌ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُهُ لَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ .
وَقِيلَ إنْ أَشَارَ بِظُهُورِهَا بِأَنْ جَعَلَ بَاطِنَهَا إلَيْهِ وَظَاهِرَهَا إلَى الْمَرْأَةِ فَبِالْمَضْمُومَةِ .
وَقِيلَ إنْ كَانَ بَطْنُ كَفِّهِ إلَى السَّمَاءِ فَبِالْمَنْشُورَةِ ، وَإِنْ كَانَ إلَى الْأَرْضِ فَبِالْمَضْمُومَةِ .
وَقِيلَ إنْ كَانَ

نَشْرًا عَنْ ضَمٍّ فَبِالْمَنْشُورَةِ لِلْعَادَةِ وَهَذَا قَرِيبٌ وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ إطْلَاقُ الْمُصَنِّفِ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ قَوْلَهُ بِالْإِبْهَامِ وَالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى لَيْسَ بِقَيْدٍ ( قَوْلُهُ : وَلَوْ لَمْ يَقُلْ هَكَذَا ) يَعْنِي قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ ، وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ الثَّلَاثِ وَلَمْ يَقُلْ هَكَذَا يَقَعُ وَاحِدَةً لِأَنَّهُ لَمْ يَقْتَرِنْ بِالْعَدَدِ الْمُبْهَمِ ، وَعَرَفْت أَنَّ الصَّوَابَ أَنْ يُقَالَ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْتَرِنْ بِالتَّشْبِيهِ الْمُتَقَدِّمِ .

( وَإِذَا وَصَفَ الطَّلَاقَ بِضَرْبٍ مِنْ الشِّدَّةِ أَوْ الزِّيَادَةِ كَانَ بَائِنًا مِثْلُ أَنْ يَقُولَ : أَنْتِ طَالِقٌ بَائِنٌ أَوْ أَلْبَتَّةَ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَقَعُ رَجْعِيًّا إذَا كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا لِأَنَّ الطَّلَاقَ شُرِعَ مُعْقِبًا لِلرَّجْعَةِ فَكَانَ وَصْفُهُ بِالْبَيْنُونَةِ خِلَافَ الْمَشْرُوعِ فَيَلْغُو كَمَا إذَا قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَنْ لَا رَجْعَةَ لِي عَلَيْك .
وَلَنَا أَنَّهُ وَصَفَهُ بِمَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَيْنُونَةَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا وَبَعْدَ الْعِدَّةِ تَحْصُلُ بِهِ فَيَكُونُ هَذَا الْوَصْفُ لِتَعْيِينِ أَحَدِ الْمُحْتَمَلَيْنِ ، وَمَسْأَلَةُ الرَّجْعَةِ مَمْنُوعَةٌ فَتَقَعُ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ أَوْ نَوَى الثِّنْتَيْنِ .
أَمَّا إذَا نَوَى الثَّلَاثَ فَثَلَاثٌ لِمَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ ، وَلَوْ عَنَى بِقَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَبِقَوْلِهِ بَائِنٌ أَوْ أَلْبَتَّةَ أُخْرَى تَقَعُ تَطْلِيقَتَانِ بَائِنَتَانِ لِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ يَصْلُحُ لِابْتِدَاءِ الْإِيقَاعِ ( وَكَذَا إذَا قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ أَفْحَشَ الطَّلَاقِ ) لِأَنَّهُ إنَّمَا يُوصَفُ بِهَذَا الْوَصْفِ بِاعْتِبَارِ أَثَرِهِ وَهُوَ الْبَيْنُونَةُ فِي الْحَالِ فَصَارَ كَقَوْلِهِ بَائِنٌ ، وَكَذَا إذَا قَالَ أَخْبَثَ الطَّلَاقِ ( أَوْ أَسْوَأَهُ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَكَذَا إذَا قَالَ طَلَاقَ الشَّيْطَانِ أَوْ طَلَاقَ الْبِدْعَةِ ) لِأَنَّ الرَّجْعِيَّ هُوَ السُّنِّيُّ فَيَكُونُ قَوْلُهُ : الْبِدْعَةَ وَطَلَاقَ الشَّيْطَانِ بَائِنًا .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي قَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ لِلْبِدْعَةِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ بَائِنًا إلَّا بِالنِّيَّةِ لِأَنَّ الْبِدْعَةَ قَدْ تَكُونُ مِنْ حَيْثُ الْإِيقَاعُ فِي حَالَةِ حَيْضٍ فَلَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ لِلْبِدْعَةِ أَوْ طَلَاقَ الشَّيْطَانِ يَكُونُ رَجْعِيًّا لِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ قَدْ يَتَحَقَّقُ بِالطَّلَاقِ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ فَلَا تَثْبُتُ الْبَيْنُونَةُ بِالشَّكِّ ( وَكَذَا إذَا قَالَ : كَالْجَبَلِ ) لِأَنَّ التَّشْبِيهَ بِهِ يُوجِبُ زِيَادَةً لَا مَحَالَةَ وَذَلِكَ

بِإِثْبَاتِ زِيَادَةِ الْوَصْفِ ، وَكَذَا إذَا قَالَ : مِثْلَ الْجَبَلِ لِمَا قُلْنَا ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَكُونُ رَجْعِيًّا لِأَنَّ الْجَبَلَ شَيْءٌ وَاحِدٌ فَكَانَ تَشْبِيهًا بِهِ فِي تَوَحُّدِهِ

( قَوْلُهُ وَإِذَا وَصَفَ الطَّلَاقَ بِضَرْبٍ مِنْ الشِّدَّةِ أَوْ الزِّيَادَةِ كَانَ بَائِنًا مِثْلُ أَنْ يَقُولَ : أَنْتِ طَالِقٌ بَائِنٌ أَوْ أَلْبَتَّةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَقَعُ رَجْعِيًّا إذَا كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ ) وَبِقَوْلِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ شُرِعَ مُعْقِبًا لِلرَّجْعَةِ فَكَانَ وَصْفُهُ بِالْبَيْنُونَةِ خِلَافَ الْمَشْرُوعِ فَيَلْغُو لِأَنَّهُ تَغْيِيرُ الْمَشْرُوعِ فَصَارَ كَسَلَامِ مَنْ عَلَيْهِ السَّهْوُ بِقَصْدِ الْقَطْعِ لَا يُعْمَلُ قَصْدُهُ وَيَجِبُ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ ، وَكَقَوْلِهِ : وَهَبْتُك عَلَى أَنْ يَثْبُتَ مِلْكُكِ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ طَالِقٌ عَلَى أَنْ لَا رَجْعَةَ لِي عَلَيْك .
وَلَنَا أَنَّهُ وَصَفَ الطَّلَاقَ بِمَا يَحْتَمِلُهُ وَهُوَ الْبَيْنُونَةُ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ الْبَيْنُونَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الْحَالِ ، وَكَذَا عِنْدَ ذِكْرِ الْمَآلِ وَبَعْدَهُ بَعْدَ الْعِدَّةِ فَيَقَعُ وَاحِدَةً بَائِنَةً إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ أَوْ نَوَى الثِّنْتَيْنِ ، أَمَّا إذَا نَوَى الثَّلَاثَ فَثَلَاثٌ لِمَا مَرَّ مِنْ أَنَّ اسْمَ الْوَاحِدَةِ لَا يَحْتَمِلُ الْعَدَدَ الْمَحْضَ ، وَلَوْ سُلِّمَ فَالْفَرْقُ أَنْ لَا رَجْعَةَ تَصْرِيحٌ بِنَفْيِ الْمَشْرُوعِ ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا وَصَفَهُ بِالْبَيْنُونَةِ وَلَمْ يَنْفِ الرَّجْعَةَ صَرِيحًا بَلْ يَلْزَمُ ضِمْنًا .
وَيُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ احْتَمَلَ الْبَيْنُونَةَ لَصَحَّتْ إرَادَتُهَا بِطَالِقٍ وَتَقَدَّمَ فِي إيقَاعِ الطَّلَاقِ عَدَمُ صِحَّتِهَا .
وَأُجِيبُ بِأَنَّ عَمَلَ النِّيَّةِ فِي الْمَلْفُوظِ لَا فِي غَيْرِهِ ، وَلَفْظُ " بَائِنٌ " مَا صَارَ مَلْفُوظًا بِالنِّيَّةِ ، بِخِلَافِ طَالِقٌ بَائِنٌ ، وَفِيهِ نَظَرٌ إذْ لَيْسَ مَعْنَى عَمَلِ النِّيَّةِ فِي الْمَلْفُوظِ إلَّا تَوْجِيهَهُ إلَى بَعْضِ مُحْتَمَلَاتِهِ ، فَإِذَا فَرَضَ لِلَّفْظِ ذَلِكَ صَحَّ عَمَلُ النِّيَّةِ فِيهِ ، وَقَدْ فَرَضَ بِطَالِقٍ ذَلِكَ فَتَعْمَلُ فِيهِ النِّيَّةُ ، وَلَا تَكُونُ عَامِلَةً بِلَا لَفْظٍ بَلْ رُبَّمَا يُعْطِي هَذَا الْجَوَابُ افْتِقَارَ " طَالِقٌ بَائِنٌ " فِي وُقُوعِ الْبَيْنُونَةِ إلَى النِّيَّةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَإِنْ قُلْنَا فِي الْجَوَابِ

عَدَمُ صِحَّةِ النِّيَّةِ لَيْسَ لِعَدَمِ الِاحْتِمَالِ بَلْ لِأَنَّهُ قَصَدَ تَنْجِيزَ مَا عَلَّقَهُ الشَّرْعُ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ، وَبِهِ عَلَّلَهُ الْمُصَنِّفُ هُنَاكَ .
وَرُدَّ عَلَيْهِ أَنَّ تَغْيِيرَ الْمَشْرُوعِ كَمَا مَنَعَ مِنْ صِحَّةِ النِّيَّةِ يَجِبُ أَنْ يَمْنَعَ مِنْ صِحَّةِ اللَّفْظِ إذَا كَانَ مُغَيَّرًا .
نَعَمْ لَوْ كَانَتْ الْبَيْنُونَةُ بِلَفْظِ " بَائِنٌ " عَلَى أَنَّهُ وَصْفٌ لِلْمَرْأَةِ " كَطَالِقٍ " لَا وَصْفَ لِطَالِقٍ ، لَكِنَّ ذَلِكَ مُنْتَفٍ لِأَنَّهُ إذَا عَنَاهَا وَصْفًا لِلْمَرْأَةِ تَقَعُ ثِنْتَانِ ، وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ : وَلَوْ عَنَى بِأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَبِقَوْلِهِ بَائِنٌ أَوْ أَلْبَتَّةَ أُخْرَى تَقَعُ تَطْلِيقَتَانِ بَائِنَتَانِ ، عَلَى أَنَّ التَّرْكِيبَ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ لِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ يَصْلُحُ لِابْتِدَاءِ الْإِيقَاعِ ، وَلَوْ أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ : الْإِيقَاعُ بِبَائِنٍ وَصْفًا لَهَا وَطَالِقٌ قَرِينَتُهُ فَاسْتَغْنَى بِهِ عَنْ النِّيَّةِ فَلَمْ يَحْتَجْ إلَيْهَا كَمَا يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ لَوْ أَفْرَدَ لَمْ يَبْعُدْ لَكِنْ فِيهِ مَا فِيهِ ، ثُمَّ بَيْنُونَةُ الْأُولَى ضَرُورَةُ بَيْنُونَةِ الثَّانِيَةِ ، إذْ مَعْنَى الرَّجْعِيِّ كَوْنُهُ بِحَيْثُ يَمْلِكُ رَجْعَتَهَا وَذَلِكَ مُنْتَفٍ بِاتِّصَالِ الْبَائِنَةِ الثَّانِيَةِ فَلَا فَائِدَةَ فِي وَصْفِهَا بِالرَّجْعِيَّةِ .
وَكُلُّ كِنَايَةٍ قُرِنَتْ بِطَالِقٍ يَجْرِي فِيهَا ذَلِكَ فَيَقَعُ ثِنْتَانِ بَائِنَتَانِ ( قَوْلُهُ : وَكَذَا إذَا قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ أَفْحَشَ الطَّلَاقِ ) مَعْطُوفٌ عَلَى أَنْتِ طَالِقٌ بَائِنٌ فِي الْأَحْكَامِ الْأَرْبَعَةِ ، وُقُوعُ الْوَاحِدَةِ بَائِنَةً إذَا لَمْ يَنْوِ شَيْئًا أَوْ نَوَى ثِنْتَيْنِ وَالثَّلَاثُ بِالنِّيَّةِ .
وَلَوْ عَنَى بِطَالِقٍ وَاحِدَةٌ وَبِأَفْحَشَ الطَّلَاقِ أُخْرَى يَقَعُ ثِنْتَانِ .
وَإِنَّمَا وَقَعَ الْبَائِنُ لِأَنَّهُ أَيْ الطَّلَاقَ إنَّمَا يُوصَفُ بِهَذَا الْوَصْفِ بِاعْتِبَارِ أَثَرِهِ وَهُوَ قَطْعُ النِّكَاحِ فِي الْحَالِ فِي الْبَائِنِ وَمُؤَجَّلًا بِالِانْقِضَاءِ فِي الرَّجْعِيِّ .
وَأَفْعَلُ لِلتَّفَاوُتِ وَهُوَ يَحْصُلُ بِالْبَيْنُونَةِ فَإِنَّهُ أَفْحَشُ

مِمَّا يَثْبُتُ بِهِ مُؤَجَّلًا : أَعْنِي الرَّجْعِيَّ فَصَارَ كَقَوْلِهِ بَائِنٌ ، وَكَذَا إذَا قَالَ أَخْبَثَ الطَّلَاقِ أَوْ أَسْوَأَهُ .
أَوْ أَشَرَّهُ أَوْ أَخْشَنَهُ أَوْ أَكْبَرَهُ أَوْ أَغْلَظَهُ وَأَطْوَلَهُ وَأَعْرَضَهُ وَأَعْظَمَهُ كُلُّهَا مِثْلُ أَفْحَشَهُ ، وَسَنَذْكُرُ جَوَابَ أَنَّهُ لِمَ لَمْ يَقَعْ ثَلَاثٌ ، وَكَذَا طَلَاقُ الشَّيْطَانِ أَوْ طَلَاقُ الْبِدْعَةِ يَقَعُ بِهِ وَاحِدَةً بَائِنَةً بِلَا نِيَّةٍ لِأَنَّ الرَّجْعِيَّ هُوَ السُّنِّيُّ فَيَكُونُ الْبِدْعِيُّ وَطَلَاقُ الشَّيْطَانِ هُوَ الْبَائِنَ ، وَفِي عِبَارَتِهِ تَسَاهُلٌ إذْ لَيْسَ الرَّجْعِيُّ هُوَ السُّنِّيَّ بَلْ أَعَمُّ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا فِي الْحَيْضِ كَانَ رَجْعِيًّا وَلَيْسَ سُنِّيًّا .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي قَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ لِلْبِدْعَةِ لَا يَكُونُ بَائِنًا إلَّا بِالنِّيَّةِ لِأَنَّ الْبِدْعَةَ قَدْ تَكُونُ مِنْ حَيْثُ الْإِيقَاعُ فِي الْحَيْضِ كَمَا تَكُونُ بِالْبَيْنُونَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ .
وَلَوْ قَالَ أَقْبَحَ الطَّلَاقِ ، فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَجْعِيٌّ لِاحْتِمَالِهِ الْقُبْحَ الشَّرْعِيَّ وَالطَّبِيعِيَّ بِأَنْ يُطَلِّقَهَا فِي وَقْتٍ يُكْرَهُ فِيهِ الطَّلَاقُ طَبْعًا ، كَذَا ذُكِرَ ، وَكَأَنَّهُ الطُّهْرُ الْخَالِي عَنْ الْجِمَاعِ فَتَجْتَمِعُ الْكَرَاهَةُ الطَّبِيعِيَّةُ وَالشَّرْعِيَّةُ ، أَوْ يُرَادُ وَقْتٌ تَتَفَتَّى نَفْرَةُ الطِّبَاعِ فِيهِ عَنْ الطَّلَاقِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ بَائِنٌ حَمْلًا لَهُ عَلَى الْمَنْهِيِّ عَنْهُ ( قَوْلُهُ : وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ لِلْبِدْعَةِ أَوْ طَلَاقَ الشَّيْطَانِ يَكُونُ رَجْعِيًّا ) لِمَا ذَكَرْنَا فِي وَجْهِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ( قَوْلُهُ : وَكَذَا إذَا قَالَ كَالْجَبَلِ ) لِأَنَّ التَّشْبِيهَ بِالْجَبَلِ يُوجِبُ زِيَادَةَ الْعِظَمِ فَتَحْصُلُ بِإِثْبَاتِ زِيَادَةِ الْوَصْفِ الْبَيْنُونَةُ ( وَكَذَا إذَا قَالَ : مِثْلَ الْجَبَلِ لِمَا قُلْنَا ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَكُونُ رَجْعِيًّا لِأَنَّ الْجَبَلَ شَيْءٌ وَاحِدٌ فَكَانَ التَّشْبِيهُ فِي تَوَحُّدِهِ ) يَعْنِي يُمْكِنُ ذَلِكَ فَلَا تَثْبُتُ الْبَيْنُونَةُ بِالشَّكِّ .
قُلْنَا الْمَعْرُوفُ الَّذِي

هُوَ كَالصَّرِيحِ أَنَّ التَّشْبِيهَ بِالْجَبَلِ إنَّمَا يُرَادُ فِي الثِّقَلِ أَوْ الْعِظَمِ فَيُثْبِتْ الْمُشْتَهِرُ قَضِيَّةً لِلَّفْظِ وَتَتَوَقَّفُ الْوَحْدَةُ عَلَى النِّيَّةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ، أَمَّا الْقَاضِي فَلَا يُصَدِّقُهُ فِيهَا .

( وَلَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ أَشَدَّ الطَّلَاقِ أَوْ كَأَلْفٍ أَوْ مِلْءَ الْبَيْتِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ ثَلَاثًا ) أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ وَصَفَهُ بِالشِّدَّةِ وَهُوَ الْبَائِنُ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الِانْتِقَاضَ وَالِارْتِفَاضَ ، أَمَّا الرَّجْعِيُّ فَيَحْتَمِلُهُ ، وَإِنَّمَا تَصِحُّ نِيَّةُ الثَّلَاثِ لِذِكْرِهِ الْمَصْدَرَ ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ قَدْ يُرَادُ بِهَذَا التَّشْبِيهِ فِي الْقُوَّةِ تَارَةً وَفِي الْعَدَدِ أُخْرَى ، يُقَالُ هُوَ كَأَلْفِ رَجُلٍ وَيُرَادُ بِهِ الْقُوَّةُ فَتَصِحُّ نِيَّةُ الْأَمْرَيْنِ ، وَعِنْدَ فِقْدَانِهَا يَثْبُتُ أَقَلُّهُمَا .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَقَعُ الثَّلَاثُ عِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ لِأَنَّهُ عَدَدٌ فَيُرَادُ بِهِ التَّشْبِيهُ فِي الْعَدَدِ ظَاهِرًا فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ كَعَدَدِ أَلْفٍ ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلِأَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَمْلَأُ الْبَيْتَ لِعِظَمِهِ فِي نَفْسِهِ وَقَدْ يَمْلَؤُهُ لِكَثْرَتِهِ ، فَأَيُّ ذَلِكَ نَوَى صَحَّتْ نِيَّتُهُ ، وَعِنْدَ انْعِدَامِ النِّيَّةِ يَثْبُتُ الْأَقَلُّ .
ثُمَّ الْأَصْلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مَتَى شَبَّهَ الطَّلَاقَ بِشَيْءٍ يَقَعُ بَائِنًا : أَيَّ شَيْءٍ كَانَ الْمُشَبَّهُ بِهِ ذَكَرَ الْعِظَمَ أَوْ لَمْ يَذْكُرْ لِمَا مَرَّ أَنَّ التَّشْبِيهَ يَقْتَضِي زِيَادَةَ وَصْفٍ .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إنْ ذَكَرَ الْعِظَمَ يَكُونُ بَائِنًا وَإِلَّا فَلَا أَيَّ شَيْءٍ كَانَ الْمُشَبَّهُ بِهِ لِأَنَّ التَّشْبِيهَ قَدْ يَكُونُ فِي التَّوْحِيدِ عَلَى التَّجْرِيدِ .
أَمَّا ذِكْرُ الْعِظَمِ فَلِلزِّيَادَةِ لَا مَحَالَةَ .
وَعِنْدَ زُفَرَ إنْ كَانَ الْمُشَبَّهُ بِهِ مِمَّا يُوصَفُ بِالْعِظَمِ عِنْدَ النَّاسِ يَقَعُ بَائِنًا وَإِلَّا فَهُوَ رَجْعِيٌّ .
وَقِيلَ مُحَمَّدٌ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقِيلَ مَعَ أَبِي يُوسُفَ .
وَبَيَانُهُ فِي قَوْلِهِ مِثْلُ رَأْسِ الْإِبْرَةِ مِثْلُ عِظَمِ رَأْسِ الْإِبْرَةِ وَمِثْلُ الْجَبَلِ مِثْلُ عِظَمِ الْجَبَلِ

( قَوْلُهُ : وَلَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ أَشَدَّ الطَّلَاقِ أَوْ كَأَلْفٍ أَوْ مِلْءَ الْبَيْتِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ ثَلَاثًا أَمَّا الْأَوَّلُ ) وَهُوَ قَوْلُهُ : أَشَدُّ الطَّلَاقِ ( فَلِأَنَّهُ وَصَفَهُ بِالشِّدَّةِ ) فَإِنْ قِيلَ : بَلْ بِالْأَشَدِّيَّةِ فَيَجِبُ وُقُوعُ الثَّلَاثِ ، وَكَذَا كُلُّ مَا كَانَ مِثْلَهُ مَثَلُ : أَقْبَحَ الطَّلَاقِ .
أُجِيبُ بِأَنَّ أَفْعَلَ يُرَادُ بِهِ أَيْضًا الْوَصْفُ كَقَوْلِهِمْ : الْأَشَجُّ وَالنَّاقِصُ أَعْدَلَا بَنِي مَرْوَانَ : أَيْ عَادِلَاهُمْ فَلَا يُحْمَلُ عَلَى الثَّلَاثِ بِالِاحْتِمَالِ وَلَا يَخْفَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ لِلظَّاهِرِ وَلِذَا ثَبَتَ الْبَائِنُ كَالْجَبَلِ مَعَ احْتِمَالِ إرَادَةِ كَوْنِ وَجْهِ التَّشْبِيهِ الْوَاحِدَةَ ، وَالْأَوْجَهُ أَنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ يُجْعَلُ ظَاهِرًا لِحُرْمَةِ الثَّلَاثِ فَيُصَارُ إلَى الْوَاحِدَةِ الْبَائِنَةِ وَتَتَوَقَّفُ الثَّلَاثُ عَلَى النِّيَّةِ .
ثُمَّ قَوْلُهُ : ( وَإِنَّمَا تَصِحُّ نِيَّةُ الثَّلَاثِ لِذِكْرِهِ الْمَصْدَرَ ) فَإِنَّ الْمَعْنَى طَالِقٌ طَلَاقًا هُوَ أَشَدُّ الطَّلَاقِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ بَعْضُ مَا أُضَيِّف إلَيْهِ فَكَانَ أَشَدَّ مُعَبَّرًا بِهِ عَنْ الْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ الطَّلَاقُ ( قَوْلُهُ : وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُهُ : كَأَلْفٍ فَقَدْ يُرَادُ بِهِ التَّشْبِيهُ فِي الْقُوَّةِ ) كَمَا يُقَالُ زَيْدٌ كَأَلْفِ رَجُلٍ : أَيْ بَأْسُهُ وَقُوَّتُهُ كَبَأْسِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ التَّشْبِيهُ فِي الْعَدَدِ فَيَصِيرُ كَمَا لَوْ نَصَّ عَلَى الْعَدَدِ فَقَالَ كَعَدَدِ أَلْفٍ أَوْ قَدْرَ عَدَدِ أَلْفٍ وَفِيهِ يَقَعُ ثَلَاثٌ اتِّفَاقًا فَتَصِحُّ نِيَّةُ كُلٍّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ ، وَعِنْدَ فِقْدَانِهَا يَثْبُتُ أَقَلُّهُمَا ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَقَعُ الثَّلَاثُ عِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ لِأَنَّهُ عَدَدٌ فَيُرَادُ بِهِ التَّشْبِيهُ فِي الْعَدَدِ ظَاهِرًا فَيَصِيرُ كَقَوْلِهِ : طَالِقٌ كَعَدَدِ أَلْفٍ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّشْبِيهَ بِالْعَدَدِ لَيْسَ لَهُ مَعْنًى فِي خُصُوصِ الْكَمْيَّةِ ، وَإِلَّا لَقَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ أَلْفًا إذْ لَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ أَلْفٌ تُشْبِهُ

هَذِهِ الْأَلْفَ فَإِنَّهُ يَسْتَقِيمُ فِي الْكَثْرَةِ : أَيْ طَالِقٌ عَدَدًا كَثِيرًا كَكَثْرَةِ الْأَلْفِ ، وَالْكَثْرَةُ الَّتِي تُشْبِهُ كَثْرَةَ الْأَلْفِ مَا يُقَارِبُهَا فَلَا بُدَّ أَنْ يَزِيدَ عَلَى اثْنَيْنِ فَيَقَعُ الثَّلَاثُ .
قُلْنَا : كَوْنُ التَّشْبِيهِ بِهِ فِي الْقُوَّةِ أَشْهَرَ فَلَا يَقَعُ الْآخَرُ إلَّا بِالنِّيَّةِ ، بِخِلَافِ عَدَدِ الْأَلْفِ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ مِثْلُ أَلْفٍ ، أَمَّا لَوْ قَالَ : وَاحِدَةٌ كَأَلْفٍ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ بِالْإِجْمَاعِ .
وَلَوْ شَبَّهَ بِالْعَدَدِ فِيمَا لَا عَدَدَ بِهِ فَقَالَ طَالِقٌ كَعَدَدِ الشَّمْسِ أَوْ التُّرَابِ أَوْ مِثْلَهُ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَجْعِيَّةٌ ، وَاخْتَارَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ لِأَنَّ التَّشْبِيهَ بِالْعَدَدِ فِيمَا لَا عَدَدَ لَهُ لَغْوٌ وَلَا عَدَدَ لِلتُّرَابِ .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَقَعُ الثَّلَاثُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِالْعَدَدِ إذَا ذُكِرَ الْكَثْرَةُ .
وَفِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ لِأَنَّ التَّشْبِيهَ يَقْتَضِي ضَرْبًا مِنْ الزِّيَادَةِ كَمَا مَرَّ .
أَمَّا لَوْ قَالَ مِثْلَ التُّرَابِ يَقَعُ وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً عِنْدَ مُحَمَّدٍ ، وَعَنْهُ فِي كَالنُّجُومِ تَقَعُ وَاحِدَةٌ وَكَعَدَدِ النُّجُومِ ثَلَاثٌ .
وَالْفَرْقُ لَهُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ كَأَلْفٍ أَنَّ الْأَلْفَ مَوْضُوعٌ لِلْعَدَدِ فَيَكُونُ التَّشْبِيهُ بِهِ لِلْكَثْرَةِ ، بِخِلَافِ النُّجُومِ فَيَحْتَمِلُ التَّشْبِيهَ فِي النُّورِ .
وَلَوْ قَالَ كَثَلَاثٍ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَثَلَاثٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ كَمَا لَوْ قَالَ كَعَدَدِ ثَلَاثٍ ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ تَشْبِيهُ الْعَدَدِ بِالْعَدَدِ فِي خُصُوصِ الْكَمْيَّةِ وَفِيهِ مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا .
وَفِي كَافِي الْحَاكِمِ لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ أَكْثَرَ الطَّلَاقِ فَهِيَ ثَلَاثٌ لَا يَدِينُ فِيهَا إذَا قَالَ : نَوَيْت وَاحِدَةً ا هـ .
وَلَوْ أَضَافَهُ إلَى عَدَدٍ مَعْلُومِ النَّفْيِ كَعَدَدِ شَعْرِ بَطْنِ كَفِّي أَوْ مَجْهُولِ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ كَعَدَدِ شَعْرِ إبْلِيسَ أَوْ نَحْوِهِ تَقَعُ وَاحِدَةٌ أَوْ مِنْ شَأْنِهِ

الثُّبُوتُ لَكِنَّهُ كَانَ زَائِلًا وَقْتَ الْحَلِفِ بِعَارِضٍ كَعَدَدِ شَعْرِ سَاقِي أَوْ سَاقِك وَقَدْ تَنَوَّرَا لَا يَقَعُ لِعَدَمِ الشَّرْطِ ( قَوْلُهُ وَأَمَّا الثَّالِثُ ) هُوَ قَوْلُهُ : مِلْءَ الْبَيْتِ فَلِأَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَمْلَأُ الْبَيْتَ لِعَظَمِهِ فِي نَفْسِهِ وَقَدْ يَمْلَأهُ لِكَثْرَتِهِ فَأَيُّ ذَلِكَ نَوَى صَحَّتْ نِيَّتُهُ وَعِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ يَثْبُتُ الْأَقَلُّ وَهُوَ ظَاهِرٌ ( قَوْلُهُ ثُمَّ الْأَصْلُ ) الْأَصْلُ أَنَّهُ إذَا وَصَفَ الطَّلَاقَ بِمَا لَا يُوصَفُ بِهِ يَلْغُو الْوَصْفُ وَيَقَعُ رَجْعِيًّا نَحْوُ طَلَاقًا لَا يَقَعُ عَلَيْكِ أَوْ عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ وَإِنْ كَانَ يُوصَفُ بِهِ ، فَإِمَّا أَنْ لَا يُنْبِئَ عَنْ زِيَادَةٍ فِي أَثَرِهِ كَقَوْلِهِ : أَحْسَنَ الطَّلَاقِ أَسَنَّهُ أَجْمَلَهُ أَعْدَلَهُ خَيْرَهُ أَكْمَلَهُ أَتَمَّهُ أَفْضَلَهُ فَيَقَعُ بِهِ رَجْعِيًّا وَتَكُونُ طَالِقًا لِلسُّنَّةِ فِي وَقْتِ السُّنَّةِ ، وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا فَهِيَ ثَلَاثٌ لِلسُّنَّةِ .
وَفِي مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ : لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً حَسَنَةً أَوْ جَمِيلَةً كَانَتْ طَالِقًا وَيَمْلِكُ رَجْعَتَهَا حَائِضًا كَانَتْ أَوْ غَيْرَ حَائِضٍ وَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ التَّطْلِيقَةُ لِلسُّنَّةِ .
قَالَ : وَرَوَى أَصْحَابُ الْإِمْلَاءِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا طَالِقٌ تَطْلِيقَةً لِلسُّنَّةِ ، كَمَا لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ أَحْسَنَ الطَّلَاقِ أَوْ يُنْبِئُ كَأَشَدِّهِ وَأَطْوَلِهِ يَقَعُ بِهِ بَائِنًا ، وَأَمَّا تَشْبِيهُهُ فَكَلِمَتُهُمْ عَلَى أَنَّهُ بَائِنٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَيَّ شَيْءٍ كَانَ الْمُشَبَّهُ بِهِ كَرَأْسِ إبْرَةٍ وَكَحَبَّةِ خَرْدَلٍ أَوْ كَسِمْسِمَةٍ لِاقْتِضَاءِ التَّشْبِيهِ الزِّيَادَةَ .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إنْ ذَكَرَ الْعِظَمَ فَكَذَلِكَ وَإِلَّا فَرَجْعِيٌّ أَيَّ شَيْءٍ كَانَ الْمُشَبَّهُ بِهِ وَلَوْ كَانَ عَظِيمًا لِأَنَّ التَّشْبِيهَ قَدْ يَكُونُ مِنْ حَيْثُ التَّوْحِيدُ وَالتَّجْرِيدُ وَالْعِظَمُ لِلزِّيَادَةِ لَا مَحَالَةَ .
وَعِنْدَ زُفَرَ إنْ كَانَ الْمُشَبَّهُ بِهِ مِمَّا يُوصَفُ بِالْعِظَمِ عِنْدَ النَّاسِ فَبَائِنٌ وَإِلَّا فَرَجْعِيٌّ ذَكَرَ الْعِظَمَ أَوْ لَا .
وَبَيَانُ

الْأُصُولِ فِي مِثْلِ رَأْسَ إبْرَةٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بَائِنٌ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَجْعِيٌّ إلَّا أَنْ يَقُولَ كَعِظَمِ رَأْسِ إبْرَةٍ فَحِينَئِذٍ هُوَ بَائِنٌ وَعِنْدَ زُفَرَ رَجْعِيَّةٌ .
وَفِي كَالْجَبَلِ بَائِنٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ ، رَجْعِيٌّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إلَّا أَنْ يَقُولَ كَعِظَمِ الْجَبَلِ ، وَلَوْ قَالَ مِثْلَ عِظَمِهِ فَهُوَ بَائِنٌ عِنْدَ الْكُلِّ .
وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ قِيلَ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقِيلَ مَعَ أَبِي يُوسُفَ ، هَذَا كُلُّهُ عِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ .
أَمَّا لَوْ نَوَى الثَّلَاثَ فِي هَذِهِ الْفُصُولِ صَحَّتْ نِيَّتُهُ لِأَنَّ الْوَاقِعَ بِهَا بَائِنٌ ، وَالْبَيْنُونَةُ تَتَنَوَّعُ إلَى غَلِيظَةٍ وَخَفِيفَةٍ .
وَفِي شَرْحِ الْكَنْزِ كَالثَّلْجِ بَائِنٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا إنْ أَرَادَ بِهِ بَيَاضَهُ فَرَجْعِيٌّ وَإِنْ أَرَادَ بِهِ بَرْدَهُ فَبَائِنٌ ا هـ .
وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ أَبَا يُوسُفَ لَا يَقْصُرُ الْبَيْنُونَةَ فِي التَّشْبِيهِ عَلَى ذِكْرٍ الْعِظَمِ بَلْ يَقَعُ بِدُونِهِ عِنْدَ قَصْدِ الزِّيَادَةِ ، وَكَذَا يَبْعُدُ كُلَّ الْبُعْدِ أَنْ يَقَعَ بَائِنٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ كَأَعْدَلِ الطَّلَاقِ وَكَأَسَنِّهِ وَكَأَحْسَنِهِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .

( وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً شَدِيدَةً أَوْ عَرِيضَةً أَوْ طَوِيلَةً فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ ) لِأَنَّ مَا لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ يَشْتَدُّ عَلَيْهِ وَهُوَ الْبَائِنُ ، وَمَا يَصْعُبُ تَدَارُكُهُ يُقَالُ : لِهَذَا الْأَمْرِ طُولٌ وَعَرْضٌ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَقَعُ بِهَا رَجْعِيَّةً لِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ لَا يَلِيقُ بِهِ فَيَلْغُو ، وَلَوْ نَوَى الثَّلَاثَ فِي هَذِهِ الْفُصُولِ صَحَّتْ نِيَّتُهُ لِتَنَوُّعِ الْبَيْنُونَةِ عَلَى مَا مَرَّ وَالْوَاقِعُ بِهَا بَائِنٌ .

( قَوْلُهُ : وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً شَدِيدَةً أَوْ عَرِيضَةً أَوْ طَوِيلَةً فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ ؛ لِأَنَّ مَا لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ يَشْتَدُّ عَلَيْهِ وَهُوَ الْبَائِنُ ، وَمَا يَصْعُبُ تَدَارُكُهُ يُقَالُ فِيهِ لِهَذَا الْأَمْرِ طُولٌ وَعَرْضٌ ) فَهُوَ الْبَائِنُ أَيْضًا ( وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَقَعُ بِهَا رَجْعِيَّةً لِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ لَا يَلِيقُ بِهِ فَيَلْغُو ) وَفِي الْكَافِي لِلْحَاكِمِ : لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ طُولَ كَذَا وَكَذَا أَوْ عَرْضَ كَذَا وَكَذَا فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ وَلَا يَكُونُ ثَلَاثًا ، وَإِنْ نَوَاهَا لِأَنَّ الطُّولَ وَالْعَرْضَ يَدُلَّانِ عَلَى الْقُوَّةِ لَكِنَّهُمَا يَكُونَانِ لِلشَّيْءِ الْوَاحِدِ فَكَأَنَّهُ قَالَ : طَالِقٌ وَاحِدَةً طُولُهَا كَذَا وَعَرْضُهَا كَذَا فَلَمْ تَصِحَّ نِيَّةُ الثَّلَاثِ ( قَوْلُهُ : وَلَوْ نَوَى الثَّلَاثَ فِي هَذِهِ الْفُصُولِ صَحَّتْ نِيَّتُهُ لِتَنَوُّعِ الْبَيْنُونَةِ إلَخْ ) أَرَادَ بِالْفُصُولِ مَا ذَكَرَهُ مِنْ قَوْلِهِ : طَالِقٌ بَائِنًا أَوْ أَلْبَتَّةَ أَوْ أَفْحَشَ الطَّلَاقِ أَوْ أَخْبَثَهُ أَوْ أَسْوَأَهُ وَطَلَاقَ الشَّيْطَانِ وَالْبِدْعَةِ وَأَشَدَّهُ كَأَلْفٍ وَمِلْءَ الْبَيْتِ وَمِثْلَ رَأْسِ إبْرَةٍ وَمِثْلَ الْجَبَلِ وَطَالِقٌ تَطْلِيقَةً شَدِيدَةً أَوْ عَرِيضَةً أَوْ طَوِيلَةً لِأَنَّهَا كُلَّهَا بَوَائِنُ وَالْبَيْنُونَةُ تَتَنَوَّعُ إلَى خَفِيفَةٍ وَغَلِيظَةٍ ، وَكَذَا ذَكَرَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ .
وَقَالَ الْعَتَّابِيُّ : الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا تَصِحُّ نِيَّةُ الثَّلَاثِ فِي طَالِقٍ تَطْلِيقَةً شَدِيدَةً أَوْ عَرِيضَةً أَوْ طَوِيلَةً لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَى التَّطْلِيقَةِ ، وَأَنَّهَا تَتَنَاوَلُ الْوَاحِدَةَ وَنَسَبَهُ إلَى شَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَرَجَّحَ بِأَنَّ النِّيَّةَ إنَّمَا تَعْمَلُ فِي الْمُحْتَمَلِ ، وَتَطْلِيقَةٌ بِتَاءِ الْوَحْدَةِ لَا تَحْتَمِلُ الثَّلَاثَ .

( فَصْلٌ فِي الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ ) ( وَإِذَا طَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا وَقَعْنَ عَلَيْهَا ) لِأَنَّ الْوَاقِعَ مَصْدَرٌ مَحْذُوفٌ لِأَنَّ مَعْنَاهُ طَلَاقًا ثَلَاثًا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ، فَلَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ إيقَاعًا عَلَى حِدَةٍ فَيَقَعْنَ جُمْلَةً : ( فَإِنْ فَرَّقَ الطَّلَاقَ بَانَتْ بِالْأُولَى وَلَمْ تَقَعْ الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ ) وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ : أَنْتِ طَالِقٌ طَالِقٌ طَالِقٌ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ إيقَاعٌ عَلَى حِدَةٍ إذَا لَمْ يَذْكُرْ فِي آخِرِ كَلَامِهِ مَا يُغَيِّرُ صَدْرَهُ حَتَّى يَتَوَقَّفَ عَلَيْهِ فَتَقَعُ الْأُولَى فِي الْحَالِ فَتُصَادِفُهَا الثَّانِيَةُ وَهِيَ مُبَانَةٌ ( وَكَذَا إذَا قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ ) لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهَا بَانَتْ بِالْأُولَى ( وَلَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً فَمَاتَتْ قَبْلَ قَوْلِهِ وَاحِدَةً كَانَ بَاطِلًا ) لِأَنَّهُ قَرَنَ الْوَصْفَ بِالْعَدَدِ فَكَانَ الْوَاقِعُ هُوَ الْعَدَدَ ، فَإِذَا مَاتَتْ قَبْلَ ذِكْرِ الْعَدَدِ فَاتَ الْمَحَلُّ قَبْلَ الْإِيقَاعِ فَبَطَلَ ( وَكَذَا لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ) لِمَا بَيَّنَّا وَهَذِهِ تُجَانِسُ مَا قَبْلَهَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى ( وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً قَبْلَ وَاحِدَةٍ أَوْ بَعْدَهَا وَاحِدَةٌ وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ ) وَالْأَصْلُ أَنَّهُ مَتَى ذَكَرَ شَيْئَيْنِ وَأَدْخَلَ بَيْنَهُمَا حَرْفَ الظَّرْفِ إنْ قَرَنَهَا بِهَاءِ الْكِنَايَةِ كَانَ صِفَةً لِلْمَذْكُورِ آخِرًا كَقَوْلِهِ : جَاءَنِي زَيْدٌ قَبْلَهُ عَمْرٌو ، وَإِنْ لَمْ يَقْرِنْهَا بِهَاءِ الْكِنَايَةِ كَانَ صِفَةً لِلْمَذْكُورِ أَوَّلًا كَقَوْلِهِ : جَاءَنِي زَيْدٌ قَبْلَ عَمْرٍو ، وَإِيقَاعُ الطَّلَاقِ فِي الْمَاضِي إيقَاعٌ فِي الْحَالِ لِأَنَّ الْإِسْنَادَ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ فَالْقَبْلِيَّةُ فِي قَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً قَبْلَ وَاحِدَةٍ صِفَةٌ لِلْأُولَى فَتَبِينُ بِالْأُولَى فَلَا تَقَعُ الثَّانِيَةُ ، وَالْبَعْدِيَّةُ فِي قَوْلِهِ بَعْدَهَا وَاحِدَةٌ صِفَةٌ لِلْأَخِيرَةِ فَحَصَلَتْ الْإِبَانَةُ بِالْأُولَى (

وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً قَبْلَهَا وَاحِدَةٌ تَقَعُ ثِنْتَانِ ) لِأَنَّ الْقَبْلِيَّةَ صِفَةٌ لِلثَّانِيَةِ لِاتِّصَالِهَا بِحَرْفِ الْكِنَايَةِ فَاقْتَضَى إيقَاعَهَا فِي الْمَاضِي وَإِيقَاعَ الْأُولَى فِي الْحَالِ ، غَيْرَ أَنَّ الْإِيقَاعَ فِي الْمَاضِي إيقَاعٌ فِي الْحَالِ أَيْضًا فَيَقْتَرِنَانِ فَيَقَعَانِ ، وَكَذَا إذَا قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ لِأَنَّ الْبَعْدِيَّةَ صِفَةٌ لِلْأُولَى فَاقْتَضَى إيقَاعَ الْوَاحِدَةِ فِي الْحَالِ وَإِيقَاعَ الْأُخْرَى قَبْلَ هَذِهِ فَتَقْتَرِنَانِ ( وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً مَعَ وَاحِدَةٍ أَوْ مَعَهَا وَاحِدَةٌ تَقَعُ ثِنْتَانِ ) لِأَنَّ كَلِمَةَ مَعَ لِلْقِرَانِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي قَوْلِهِ : مَعَهَا وَاحِدَةٌ أَنَّهُ تَقَعُ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ الْكِنَايَةَ تَقْتَضِي سَبْقَ الْمُكَنَّى عَنْهُ لَا مَحَالَةَ ، وَفِي الْمَدْخُولِ بِهَا تَقَعُ ثِنْتَانِ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا لِقِيَامِ الْمَحَلِّيَّةِ بَعْدَ وُقُوعِ الْأُولَى

لَمَّا كَانَ النِّكَاحُ لِلدُّخُولِ كَانَ الطَّلَاقُ بَعْدَهُ عَلَى الْأَصْلِ لِأَنَّ الْأَصْلَ حُصُولُ غَرَضِ الشَّيْءِ بَعْدَ وُجُودِهِ وَقَبْلَهُ بِالْعَوَارِضِ فَقُدِّمَ مَا بِالْأَصْلِ عَلَى مَا بِالْعَوَارِضِ ( قَوْلُهُ : وَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ الدُّخُولِ وَقَعْنَ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْوَاقِعَ مَصْدَرٌ مَحْذُوفٌ لِأَنَّ مَعْنَاهُ طَلَاقًا ) أَيْ تَطْلِيقًا ثَلَاثًا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي الْفَصْلِ ، وَفِي بَابِ إيقَاعِ الطَّلَاقِ أَنَّ الْوَاقِعَ عِنْدَ أَنْتِ طَالِقٌ مَصْدَرٌ هُوَ تَطْلِيقٌ يَثْبُتُ مُقْتَضًى وَهُوَ الْمَوْصُوفُ بِالْعَدَدِ وَطَلَاقُهَا أَثَرُهُ ، وَبِهِ دُفِعَ قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَعَطَاءٍ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا وَاحِدَةً لِبَيْنُونَتِهَا بِطَالِقٍ وَلَا يُؤَثِّرُ الْعَدَدُ شَيْئًا .
وَنَصَّ مُحَمَّدٌ قَالَ : إذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا جَمِيعًا فَقَدْ خَالَفَ السُّنَّةَ وَأَثِمَ بِرَبِّهِ وَإِنْ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ سَوَاءٌ ، ثُمَّ قَالَ : بَلَغَنَا ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَعَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمْ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ ، وَلَا يُنَافِي قَوْلَ الْإِنْشَاءِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ ذِكْرِ الْعَدَدِ يَتَوَقَّفُ الْوُقُوعُ عَلَى ذِكْرِ الْعَدَدِ وَكَوْنِهِ وَصْفًا لِمَحْذُوفٍ ، أَمَّا لَوْ قَالَ : أَوْقَعْتُ عَلَيْكِ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ فَإِنَّهُ يَقَعُ الثَّلَاثُ عِنْدَ الْكُلِّ .
( قَوْلُهُ : وَإِنْ فَرَّقَ الطَّلَاقَ بَانَتْ بِالْأُولَى وَلَمْ تَقَعْ الثَّانِيَةُ ) وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ طَالِقٌ طَالِقٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي آخِرِ الْكَلَامِ مَا يُغَيِّرُ أَوَّلَهُ لِيَتَوَقَّفَ أَوَّلُهُ فَلَمْ يَقَعْ بِطَالِقٍ الْأَوَّلِ شَيْءٌ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ قَالَ بِالْوَاوِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ أَوْ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً وَوَاحِدَةً فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ مَعَ أَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ وَهُوَ يُغَيِّرُ حُكْمَ التَّفْرِيقِ إذْ الْحَاصِلُ بِهِ كَالْحَاصِلِ بِطَالِقٍ ثَلَاثًا ، وَحُكْمُهُمَا مُخْتَلِفٌ لِأَنَّ فِي التَّفْرِيقِ تَبِينُ

بِوَاحِدَةٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَوَقَّفَ الصَّدْرُ فَيَقَعُ الثَّلَاثُ كَمَا قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ .
قُلْنَا : الْجَمْعُ الَّذِي يُبَايِنُ التَّفْرِيقَ حُكْمًا هُوَ الْجَمْعُ بِمَعْنَى الْمَعِيَّةِ الْمُغَيِّرِ لَهُ كَلَفْظِ ثَلَاثًا وَنَحْوَهُ ، وَلَيْسَ الْوَاوُ لِلْجَمْعِ بِهَذَا الْمَعْنَى بَلْ لِجَمْعِ الْمُتَعَاطِفَاتِ فِي مَعْنَى الْعَامِلِ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ عَلَى وَجْهِ الْمَعِيَّةِ وَعَلَى تَقَدُّمِ بَعْضِ الْمُتَعَاطِفَاتِ بِهَا فِي تَعَلُّقِ مَعْنَى الْعَامِلِ بِهِ وَتَأَخُّرِهِ وَكُلٌّ مِنْ الْجَمْعِ بِمَعْنَى الْمَعِيَّةِ وَمِنْ الْجَمْعِ بِمَعْنَى تَرَتُّبِ الْمُتَعَاطِفَاتِ عَلَى التَّرَتُّبِ اللَّفْظِيِّ ، وَعَكْسُهُ أَفْرَادُهُ ، وَلَا دَلَالَةَ لِلْأَعَمِّ عَلَى الْأَخَصِّ فَلَيْسَ لِلْوَاوِ دَلَالَةٌ عَلَى الْجَمْعِ بِمَعْنَى الْمَعِيَّةِ بَلْ تَصْدُقُ مَعَهُ كَمَا تَصْدُقُ مَعَ التَّعَاقُبِ فِي التَّعَلُّقِ فَلَمْ يَكُنْ ذِكْرُهَا بِالضَّرُورَةِ ذِكْرَ مُغَيِّرٍ لِعَدَمِ الدَّلَالَةِ عَلَى مَا يُوجِبُ التَّغْيِيرَ وَهُوَ الْمَعِيَّةُ ، وَلِأَنَّ الْحُكْمَ بِتَوَقُّفِ الصَّدْرِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْحُكْمِ بِأَنَّهَا فِي التَّرْكِيبِ لِلْمَعِيَّةِ .
وَإِذَا عَلِمْت أَنَّهَا لَا تَتَعَرَّضُ إلَّا لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ لَمْ يَجِبْ اعْتِبَارُهَا لِلْفَرْدِ الَّذِي هُوَ الْمَعِيَّةُ بِعَيْنِهِ ، وَلَيْسَ هُوَ بِأَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِهَا لِلْفَرْدِ الَّذِي هُوَ التَّعَاقُبُ فِي مَعْنَى الْعَامِلِ ، وَبِعَدَمِ اعْتِبَارِهَا لِلْمَعِيَّةِ يَعْمَلُ كُلُّ لَفْظٍ عَمَلَهُ فَتَبِينُ بِالْأُولَى فَلَا يَقَعُ مَا بَعْدَهَا غَيْرُ مُتَوَقِّفٍ ذَلِكَ عَلَى اعْتِبَارِهَا لِلتَّرْتِيبِ .
فَانْدَفَعَ مَا قِيلَ : لَوْ لَمْ يَتَوَقَّفْ لِعَدَمِ اعْتِبَارِهَا لِلْمَعِيَّةِ لَزِمَ اعْتِبَارُهَا لِلتَّرْتِيبِ .
وَأَمَّا وُقُوعُ الثَّلَاثِ عَلَى غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا إذَا قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ إحْدَى وَعِشْرِينَ وَوُقُوعُ الثِّنْتَيْنِ فِي قَوْلِهِ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَنِصْفَ وَاحِدَةٍ فَلَيْسَ لِلتَّوَقُّفِ بِسَبَبِ إيجَابِ الْوَاوِ الْمَعِيَّةَ بَلْ لِأَنَّهُ أَخَصْرُ مَا يُلْفَظُ بِهِ إذَا أَرَادَ الْإِيقَاعَ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ ،

وَهُوَ مُخْتَارٌ فِي التَّعْبِيرِ لُغَةً وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُخْتَارًا فِي إحْدَى وَعِشْرِينَ شَرْعًا إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَنْفِ حُكْمَهُ إذَا تَكَلَّمَ بِهِ .
وَذَكَر شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافَ زُفَرَ فَلَا يَقَعُ عِنْدَهُ إلَّا وَاحِدَةٌ لِوُجُودِ الْعَطْفِ فَيَسْبِقُ الْوَاقِعُ الْأَوَّلَ ، أَمَّا لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ إحْدَى عَشَرَ فَإِنَّهُ يَقَعُ الثَّلَاثُ بِالِاتِّفَاقِ لِعَدَمِ الْعَاطِفِ وَوُقُوعُ الثَّلَاثِ عَلَيْهَا إذَا قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إنْ شِئْت فَقَالَتْ : شِئْت وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً وَوَاحِدَةً لِأَنَّ تَمَامَ الشَّرْطِ بِآخِرِ كَلَامِهَا ، وَمَا لَمْ يَتِمَّ الشَّرْطُ لَا يَقَعُ الْجَزَاءُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ شَمْسَ الْأَئِمَّةِ حَكَى بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ خِلَافًا فِي نَحْوِ أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ أَنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَبَيَّنَ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ الْكَلَامِ الثَّانِي ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْهُ لِجَوَازِ أَنْ يُلْحِقَ بِكَلَامِهِ شَرْطًا أَوْ اسْتِثْنَاءً وَرَجَّحَ فِي أُصُولِهِ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ مَا لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ لَا يَفُوتُ الْمَحَلُّ ، فَلَوْ تَوَقَّفَ وُقُوعُ الْأُولَى عَلَى التَّكَلُّمِ بِالثَّانِيَةِ لَوَقَعَا جَمِيعًا لِوُجُودِ الْمَحَلِّ لِلثَّلَاثِ حَالَ التَّكَلُّمِ بِهَا .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ النَّظَرَ إلَى تَعْلِيلِ مُحَمَّدٍ بِتَجْوِيزِ أَنْ يَلْحَقَهُ مُغَيِّرٌ يُفِيدُ أَنَّ الْمُرَادَ تَأَخُّرُ ظُهُورِ وَقْتِ الْوُقُوعِ فَإِنَّ مُقْتَضَاهُ إنَّمَا هُوَ أَنَّهُ إذَا أَلْحَقَ تَبَيَّنَ عَدَمُ الْوُقُوعِ ، وَإِذَا لَمْ يُلْحِقْ تَبَيَّنَ الْوُقُوعُ مِنْ حِينِ تَلَفَّظَ بِالْأَوَّلِ ، وَهَذَا لَا يَنْفِيه أَبُو يُوسُفَ فَلَا خِلَافَ فِي الْمَعْنَى بَيْنَهُمَا ( قَوْلُهُ : وَهَذِهِ ) أَيْ الْمَسَائِلُ الثَّلَاثُ ( تُجَانِسُ مَا قَبْلَهَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى ) وَهُوَ فَوَاتُ الْمَحَلِّ عِنْدَ الْإِيقَاعِ فَلَا يَقَعُ شَيْءٌ غَيْرَ أَنَّ فَوَاتَهُ فِي هَذِهِ بِالْمَوْتِ فَلَا يَقَعُ شَيْءٌ كَمَا لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَمَاتَتْ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ إنْ شَاءَ اللَّهُ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا

شَيْءٌ وَفِيمَا قَبْلَهَا بِالطَّلَاقِ فَيَقَعُ الْأَوَّلُ دُونَ مَا بَعْدَهُ ( قَوْلُهُ : وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً قَبْلَ وَاحِدَةٍ أَوْ بَعْدَهَا وَاحِدَةٌ وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّهُ إذَا ذَكَرَ شَيْئَيْنِ وَأَدْخَلَ بَيْنَهُمَا ظَرْفًا إنْ قَرَنَهَا بِهَاءِ الْكِنَايَةِ ) أَيْ أُضِيفَتْ كَلِمَةُ الظَّرْفِ إلَى ضَمِيرِ الْأَوَّلِ كَانَتْ صِفَةً لِلْمَذْكُورِ آخِرًا كَجَاءَنِي زَيْدٌ قَبْلَهُ عَمْرٌو ، وَإِنْ لَمْ يَقْرِنْهَا بِهَا بَلْ أُضِيفَتْ إلَى ظَاهِرٍ كَجَاءَ زَيْدٌ قَبْلَ عَمْرٍو كَانَ صِفَةً لِلْأَوَّلِ بِالضَّرُورَةِ وَلِأَنَّهَا حِينَئِذٍ خَبَرٌ عَنْهُ .
أَمَّا إذَا قُرِنَ بِهَا ارْتَفَعَ عَمْرٌو الْمُتَأَخِّرُ بِالِابْتِدَاءِ وَيَكُونُ الظَّرْفُ خَبَرَهُ وَالْخَبَرُ وَصْفٌ لِلْمُبْتَدَإِ ، وَحِينَئِذٍ الْقَبْلِيَّةُ فِي وَاحِدَةٍ قَبْلَ وَاحِدَةٍ صِفَةٌ لِلْأُولَى فَتَطْلُقُ وَاحِدَةً تَقَعُ قَبْلَ الثَّانِيَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي اللَّفْظِ : أَعْنِي الْمُضَافَ إلَيْهَا لَفْظَةُ " قَبْلَ " قَدْ يُلْحِقُهَا الثَّانِيَةَ ، وَفِي قَبْلِهَا وَاحِدَةٌ صِفَةٌ لِلْأَخِيرَةِ لِأَنَّهَا الْمُبْتَدَأُ الْمَخْبَرُ بِالظَّرْفِ عَنْهُ وَالْجُمْلَةُ مَوْصُوفٌ بِمَضْمُونِهَا وَاحِدَةُ الْأُولَى فَقَدْ أَوْقَعَ وَاحِدَةً مَوْصُوفَةً بِقَبْلِيَّةٍ أُخْرَى لَهَا ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إذْ لَمْ يَكُنْ فِي الْوَاقِعِ لَهَا وُجُودٌ سَابِقٌ عَلَى الْمَوْقِعَةِ فَيُحْكَمُ أَنَّ الْإِيقَاعَ فِي الْمَاضِي إيقَاعٌ فِي الْحَالِ فَيَقْتَرِنَانِ فَيَقَعَانِ .
وَإِذَا كَانَ الظَّرْفُ لَفْظَةَ بَعْدَ فَفِي وَاحِدَةٍ بَعْدَ وَاحِدَةٍ يَكُونُ صِفَةً لِلْأُولَى فَقَدْ أَوْقَعَ وَاحِدَةً مَوْصُوفَةً بِأَنَّهَا بَعْدَ أُخْرَى وَهُوَ مَعْنَى قَبْلِيَّةٍ أُخْرَى لَهَا ، وَلَا قُدْرَةَ عَلَى تَقْدِيمِ مَا لَمْ يَسْبِقْ لِلْوُجُودِ عَلَى الْمَوْجُودِ فَيَقْتَرِنَانِ بِحُكْمِ أَنَّ الْإِيقَاعَ فِي الْمَاضِي إيقَاعٌ فِي الْحَالِ فَيَقَعَانِ ، وَفِي وَاحِدَةٍ بَعْدَهَا وَاحِدَةٌ أَوْقَعَ وَاحِدَةً مَوْصُوفَةً بِبَعْدِيَّةٍ أُخْرَى لَهَا فَوَقَعَتْ الْأُولَى قَبْلَهَا فَلَا تَلْحَقُ الثَّانِيَةُ غَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهَا .
وَأَمَّا إذَا قَالَ وَاحِدَةً

مَعَهَا وَاحِدَةٌ أَوْ مَعَ وَاحِدَةٍ فَلَا فَرْقَ فِي الْحَاصِلِ لِأَنَّ مَعَ لِلْقِرَانِ فَيَتَوَقَّفُ الْأَوَّلُ عَلَى الثَّانِي تَحْقِيقًا لِمَعْنَاهَا .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي قَوْلِهِ مَعَهَا وَاحِدَةٌ تَقَعُ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ الْكِنَايَةَ تَسْتَدْعِي سَبْقَ الْمُكَنَّى عَنْهُ .
قُلْنَا : وَقَدْ وَجَدَ وَهِيَ وَاحِدَةٌ الَّتِي هُوَ مَرْجِعُ الضَّمِيرِ إذْ قَدْ سَبَقَ لَفْظُهَا غَيْرَ أَنَّهُ يَجِبُ التَّوَقُّفُ لِاتِّصَالِ الْمُغَيِّرِ وَهُوَ الْمَعِيَّةُ الْمَانِعَةُ مِنْ انْفِرَادِ السَّابِقِ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ مُقْتَضَاهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُنْفَرِدٌ لَفْظًا وَإِنْ عَنَى سَبْقَ وُجُودِهِ فَمَمْنُوعٌ ، وَمِنْ مَسَائِلِ قَبْلَ وَبَعْدَ مَا قِيلَ مَنْظُومًا : فِي فَتًى عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِشَهْرٍ قَبْلَ مَا بَعْدَ قَبْلِهِ رَمَضَانُ وَصُوَرُهُ ثَلَاثٌ : لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ مَا ذَكَرَ بِلَفْظِ " قَبْلَ " أَوْ جَمِيعُهُ بِلَفْظِ بَعْدَ أَوْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا ، فَفِي الْجَمْعِ كَالْبَيْتِ يُلْغِي قَبْلَ بِبَعْدِ فَيَبْقَى شَهْرٌ قَبْلَهُ رَمَضَانُ فَيَقَعُ فِي شَوَّالٍ ، وَفِي نَحْوِهِ ثَلَاثُ صُوَرٍ أُخْرَى وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنَّهُ إذَا كَرَّرَ لَفْظَةَ قَبْلَ مَرَّةً وَاحِدَةً أَنْ يَتَخَلَّلَ بَيْنَهُمَا بَعْدُ كَمَا فِي الْبَيْتِ وَقَدْ عَرَفْتَ حُكْمَهُ .
أَوْ لَا يَتَخَلَّلُ بَلْ يَكُونُ الْمَذْكُورُ مَحْضَ قَبْلُ نَحْوُ فِي شَهْرٍ قَبْلَ مَا قَبْلَ قَبْلِهِ رَمَضَانُ فَيَقَعُ فِي ذِي الْحِجَّةِ ، وَمِنْ أَنَّهُ إذَا كَرَّرَ لَفْظَةَ بَعْدَ مَرَّةً وَاحِدَةً أَنْ يَتَخَلَّلَ بَيْنَهُمَا قَبْلُ قُلِبَ الْبَيْتُ .
وَحُكْمُهُ أَنَّهُ يُلْغِي بَعْدَ بِقَبْلَ فَيَبْقَى شَهْرٌ بَعْدَ رَمَضَانَ فَيَقَعُ فِي شَعْبَانَ ، أَوْ لَا يَتَخَلَّلُ بَلْ الْمَذْكُورُ مَحْضُ بَعْدُ نَحْوُ فِي شَهْرٍ بَعْدَ مَا بَعْدَ بَعْدِهِ رَمَضَانُ فَيَقَعُ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ ( قَوْلُهُ : وَفِي الْمَدْخُولِ بِهَا ) يَعْنِي أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ التَّفْصِيلِ فِي : قَبْلَ وَاحِدَةٍ وَقَبْلَهَا وَاحِدَةٌ وَبَعْدَ وَاحِدَةٍ وَبَعْدَهَا وَاحِدَةٌ هُوَ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا .
أَمَّا فِي الْمَدْخُولِ بِهَا فَيَقَعُ ثِنْتَانِ فِي

الْوُجُوهِ كُلِّهَا : أَيْ فِي قَبْلَ وَاحِدَةٍ وَقَبْلَهَا وَاحِدَةٌ وَبَعْدَ وَاحِدَةٍ وَبَعْدَهَا وَاحِدَةٌ .
وَاسْتُشْكِلَ فِي وَاحِدَةٍ قَبْلَ وَاحِدَةٍ لِأَنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ قَبْلَ غَيْرِهِ لَا يَقْتَضِي وُجُودَ ذَلِكَ الْغَيْرِ عَلَى مَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } { لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي } وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خَلِّلُوا أَصَابِعَكُمْ قَبْلَ أَنْ يَتَخَلَّلَهَا نَارُ جَهَنَّمَ } وَأُجِيبُ بِأَنَّ اللَّفْظَ أَشْعَرَ بِالْوُقُوعِ وَكَوْنُ الشَّيْءِ قَبْلَ غَيْرِهِ يَقْتَضِي وُجُودَ ذَلِكَ الْغَيْرِ ظَاهِرًا وَإِنْ لَمْ يَسْتَدْعِهِ لَا مَحَالَةَ ، وَالْعَمَلُ بِالظَّاهِرِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ .

( وَلَوْ قَالَ لَهَا : إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً فَدَخَلَتْ وَقَعَتْ عَلَيْهَا وَاحِدَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : تَقَعُ ثِنْتَانِ ، وَلَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَدَخَلَتْ طَلُقَتْ ثِنْتَيْنِ ) بِالِاتِّفَاقِ .
لَهُمَا أَنَّ حَرْفَ الْوَاوِ لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ فَتَعَلَّقْنَ جُمْلَةً كَمَا إذَا نَصَّ عَلَى الثَّلَاثِ أَوْ أَخَّرَ الشَّرْطَ .
وَلَهُ أَنَّ الْجَمْعَ الْمُطْلَقَ يَحْتَمِلُ الْقِرَانَ وَالتَّرْتِيبَ ، فَعَلَى اعْتِبَارِ الْأَوَّلِ تَقَعُ ثِنْتَانِ ، وَعَلَى اعْتِبَارِ الثَّانِي لَا تَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ كَمَا إذَا نَجَّزَ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ فَلَا يَقَعُ الزَّائِدُ عَلَى الْوَاحِدَةِ بِالشَّكِّ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَخَّرَ الشَّرْطَ لِأَنَّهُ مُغَيِّرٌ صَدْرَ الْكَلَامِ فَيَتَوَقَّفُ الْأَوَّلُ عَلَيْهِ فَيَقَعْنَ جُمْلَةً وَلَا مُغَيِّرَ فِيمَا إذَا قَدَّمَ الشَّرْطَ فَلَمْ يَتَوَقَّفْ .
وَلَوْ عَطَفَ بِحَرْفِ الْفَاءِ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ فِيمَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ ، وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ أَنَّهُ يَقَعُ وَاحِدَةً بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ وَهُوَ الْأَصَحُّ .

( قَوْلُهُ : وَلَوْ قَالَ لَهَا ) أَيْ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا ( إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً فَدَخَلَتْ وَقَعَ عَلَيْهَا وَاحِدَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا ثِنْتَانِ ) وَلَوْ قَدَّمَ الْجَزَاءَ فَقَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً ، فَإِنْ دَخَلَتْ الدَّارَ فَدَخَلَتْ طَلُقَتْ ثِنْتَيْنِ بِالِاتِّفَاقِ .
لَهُمَا أَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ : أَيْ لِجَمْعِ الْمُتَعَاطِفَاتِ مِمَّا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ كَانَ عَامِلًا كَجَاءَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو أَوْ لَا كَزَيْدٍ وَعَمْرٍو وَبَكْرٍ جَاءُوا مُطْلَقًا : أَيْ بِلَا قَيْدِ مَعِيَّةٍ أَوْ تَرَتُّبٍ بَلْ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ يَصْدُقُ مَعَ كُلٍّ مِنْهُمَا فَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ الْوَاحِدَةِ وَالْوَاحِدَةِ فِي التَّعْلِيقِ بِدُخُولِ الدَّارِ فَصَارَ كَمَا إذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِلَفْظِ الْجَمْعِ بِأَنْ قَالَ : إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ ، وَكَمَا إذَا أَخَّرَ الشَّرْطَ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا ، وَهَذَا التَّفْرِيقُ اللَّفْظِيُّ لَا أَثَرَ لَهُ لِأَنَّهُ فِي حَالِ التَّكَلُّمِ يَتَعَلَّقُ الطَّلَاقُ لَا فِي حَالِ التَّطْلِيقِ تَنْجِيزًا ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً لِأَنَّهُ فِي حَالِ الْإِيقَاعِ وَلَا مُوجِبَ لِتَوَقُّفِ الْأَوَّلِ فَيَقَعُ ، أَمَّا هُنَا فَيَتَوَقَّفُ فَيَتَعَلَّقُ الْكُلُّ دَفْعَةً ثُمَّ يَنْزِلْنَ كَذَلِكَ فَيَقَعُ الْكُلُّ ، وَلَوْ سَلِمَ التَّعَاقُبُ فِي التَّعْلِيقِ فَالْمُتَعَلِّقَاتُ بِشَرْطٍ وَاحِدٍ عَلَى التَّعَاقُبِ تَنْزِلُ جُمْلَةً عِنْدَ وُجُودِهِ كَمَا لَوْ حَصَلَ بِأَيْمَانٍ تَتَخَلَّلُهَا أَزْمِنَةٌ ؛ كَمَا لَوْ قَالَ : إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ بَعْدَ زَمَانٍ قَالَ : إنْ دَخَلْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَدَخَلَتْ يَقَعُ الْكُلُّ اتِّفَاقًا ، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ كَمَا إذَا نَصَّ عَلَى الثَّلَاثِ غَيْرُ مُنَاسِبٍ لِلصُّورَةِ وَكَذَا فَيَتَعَلَّقْنَ وَيَقَعْنَ .
( قَوْلُهُ وَلَهُ أَنَّ الْجَمْعَ الْمُطْلَقَ ) الَّذِي هُوَ مَعْنَى الْوَاوِ يَحْتَمِلُ عِنْدَ وُقُوعِ الْوَاوِ فِي الِاسْتِعْمَالِ أَنْ يُرَادَ

مِنْ حَيْثُ هُوَ فِي ضِمْنِ الْقِرَانِ أَوْ التَّرْتِيبِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا يُرَادُ فِي الِاسْتِعْمَالِ الْخَاصِّ الْأَعَمُّ إلَّا مِنْ حَيْثُ هُوَ فِي ضِمْنِ أَحَدِ أَخِصَّائِهِ ، وَعَلَى الِاعْتِبَارِ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يُرَادَ الْجَمْعُ بِوَصْفِ التَّرْتِيبِ لَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةً .
كَمَا إذَا نَجَّزَ الثَّلَاثَ بِالْوَاوِ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا يَقَعُ وَاحِدَةً لِمُلَاحَظَةِ هَذَا الِاعْتِبَارِ وَيَلْغُو مَا بَعْدَهَا لِفَوَاتِ الْمَحَلِّ ، فَهَكَذَا هَذَا لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ الْمُرَادُ إنْ دَخَلْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَبَعْدَهَا وَاحِدَةٌ أُخْرَى وَبَعْدَهَا أُخْرَى وَيَفُوتُ الْمَحَلُّ بِالْأُولَى ، وَعَلَى اعْتِبَارِ إرَادَةِ الْمَعِيَّةِ يَنْزِلُ الْكُلُّ وَلَا تَتَعَيَّنُ لِأَحَدِ الْجَائِزَيْنِ وَنُزُولُ الطَّلَاقِ عِنْدَ الشَّرْطِ لَا بُدَّ مِنْهُ فَتَنْزِلُ وَاحِدَةٌ وَلَا يَنْزِلُ الزَّائِدُ بِالشَّكِّ .
وَتَقْرِيرُ الْأُصُولِ أَنَّ الْأَوَّلَ تَعَلَّقَ قَبْلَ الثَّانِي لِعَدَمِ مَا يُوجِبُ تَوَقُّفَهُ ، وَتَعَلَّقَ الثَّانِي بِوَاسِطَتِهِ وَالثَّالِثُ بِوَاسِطَتِهِمَا فَيَنْزِلُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ التَّعَلُّقُ ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ تَكْرَارِ الشَّرْطِ لِأَنَّ تَعَلُّقَ الثَّانِي بِغَيْرِ شَرْطِ الْأَوَّلِ لَيْسَ بِوَاسِطَةِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ ، فَتَعَلَّقَ بِالشَّرْطِ الْوَاحِدِ طَلْقَاتٌ لَيْسَ مِنْهَا شَيْءٌ بِوَاسِطَةِ شَيْءٍ فَيَنْزِلْنَ جَمِيعًا عِنْدَ الشَّرْطِ ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا تَقَدَّمَ الْجَزَاءُ لِأَنَّ تَأَخُّرَ الشَّرْطِ مُوجِبٌ لِتَوَقُّفِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ مُغَيِّرٌ فَتَعَلَّقَ الْكُلُّ فِيهِ دَفْعَةً فَيَنْزِلُ دَفْعَةً .
وَنُقِضَ بِمَا لَوْ قَالَ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا : إنْ دَخَلْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً لَا بَلْ ثِنْتَيْنِ فَدَخَلَتْ يَقَعُ ثَلَاثٌ ، وَلَوْ نَجَّزَ بِهَذَا اللَّفْظِ وَقَعَ وَاحِدَةً .
وَأُجِيبُ بِأَنَّ لَا بَلْ لِاسْتِدْرَاكِ الْغَلَطِ بِإِقَامَةِ الثَّانِي بَدَلَ الْأَوَّلِ .
وَلَا يُمْكِنُ فِي الطَّلَاقِ فَيَتَعَلَّقُ الْأَوَّلُ وَيَصِحُّ تَعَلُّقُ الثَّانِي لِبَقَاءِ مَحَلِّ التَّعْلِيقِ بَعْدَ

تَعَلُّقِ الْأَوَّلِ فَيَتَعَلَّقُ بِلَا وَاسِطَةٍ كَأَنَّهُ أَعَادَ الشَّرْطَ لِتَعْلِيقِ ثِنْتَيْنِ وَجَعَلَهُ يَمِينَيْنِ ، فَإِذَا وُجِدَ الشَّرْطُ وَقَعَ الْكُلُّ جُمْلَةً ، بِخِلَافِ مَا إذَا نَجَّزَ لِأَنَّهَا بَانَتْ بِالْأُولَى فَلَمْ تَبْقَ مَحَلًّا لِإِيقَاعِ الثِّنْتَيْنِ وَقَوْلُهُمَا أَرْجَحُ .
وَقَوْلُهُ : تَعَلَّقَ الثَّانِي بِوَاسِطَةِ تَعَلُّقِ الْأَوَّلِ ، إنْ أُرِيدَ أَنَّهُ عِلَّةُ تَعَلُّقِهِ فَمَمْنُوعٌ بَلْ عِلَّتُهُ جَمْعُ الْوَاوِ إيَّاهُ إلَى الشَّرْطِ ، وَإِنْ أُرِيدَ كَوْنُهُ سَابِقَ التَّعَلُّقِ سَلَّمْنَاهُ ، وَلَا يُفِيدُ كَالْأَيْمَانِ الْمُتَعَاقِبَةِ ؛ وَلَوْ سَلِمَ أَنَّ تَعَلُّقَ الْأَوَّلِ عِلَّةٌ لِتَعَلُّقِ الثَّانِي لَمْ يَلْزَمْ كَوْنُ نُزُولِهِ عِلَّةً لِنُزُولِهِ إذْ لَا تَلَازُمَ فَجَازَ كَوْنُهُ عِلَّةً لِتَعَلُّقِهِ فَيَتَقَدَّمُ فِي التَّعَلُّقِ ، وَلَيْسَ نُزُولُهُ عِلَّةً لِنُزُولِهِ ، بَلْ إذَا تَعَلَّقَ الثَّانِي بِأَيِّ سَبَبٍ كَانَ صَارَ مَعَ الْأَوَّلِ مُتَعَلِّقَيْنِ بِشَرْطٍ ، وَعِنْدَ نُزُولِ الشَّرْطِ يَنْزِلُ الْمَشْرُوطُ .
وَتَقْرِيرُ الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَقْرَبُ ، وَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ مَسْأَلَةُ الْأَيْمَانِ .
فَإِنْ قِيلَ : قَوْلُهُ : لَا يَقَعُ الزَّائِدُ بِالشَّكِّ يُدْفَعُ بِأَنَّهُ لَا شَكَّ فِي تَعَلُّقِ الْكُلِّ سَوَاءٌ كَانَ بِطَرِيقِ الْمَعِيَّةِ أَوْ التَّرْتِيبِ فَيَجِبُ أَنْ تَنْزِلَ كُلُّهَا عِنْدَ الشَّرْطِ كَالْأَيْمَانِ الْمُتَعَاقِبَةِ بِشَرْطٍ وَاحِدٍ .
قُلْنَا : التَّرْتِيبُ الَّذِي يُرَادُ بِالْوَاوِ يَقْتَضِي كَمَا قَرَرْنَاهُ أَنَّ وُقُوعَ كُلِّ مُتَقَدِّمِ جُزْءٍ شَرْطُ وُقُوعِ الْمُتَأَخِّرِ ؛ فَإِنَّ مَعْنَاهُ : إنْ دَخَلْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَبَعْدَهَا أُخْرَى وَتَلِيهَا أُخْرَى فَلَا يَقَعُ مُتَأَخِّرٌ إلَّا بَعْدَ وُقُوعِ الْمُتَقَدِّمِ فَصَارَ الدُّخُولُ شَرْطَ كُلِّ مُتَأَخِّرٍ ، بِخِلَافِ التَّرْتِيبِ الَّذِي اتَّفَقَ فِي الْأَيْمَانِ فَإِنَّهُ لَيْسَ الشَّرْطُ فِي الْكُلِّ إلَّا شَرْطَ الْأَوَّلِ فَقَطْ ، فَإِذَا وُجِدَ الدُّخُولُ مَثَلًا فَقَدْ وُجِدَ تَمَامُ شَرْطِ كُلِّ مُعَلَّقٍ مِنْ الطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ .
وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ مَا لَوْ

قَالَ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا : إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي وَوَاللَّهِ لَا أَقْرَبُك أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَدَخَلَتْ طَلُقَتْ وَسَقَطَ الظِّهَارُ عِنْدَهُ وَالْإِيلَاءُ لِسَبْقِ الطَّلَاقِ فَتَبِينُ فَلَا تَبْقَى مَحَلًّا لِلظِّهَارِ وَالْإِيلَاءِ .
وَعِنْدَهُمَا هُوَ مُطَلِّقٌ مُظَاهِرٌ مُولٍ .
وَلَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةِ : إنْ تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ وَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي وَوَاللَّهِ لَا أَقْرَبُك أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَتَزَوَّجَهَا فَعَلَى الْخِلَافِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَدَّمَ الظِّهَارَ وَالْإِيلَاءَ فَقَالَ : وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك وَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي وَأَنْتِ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَهَا وَقَعَ الْكُلُّ ، أَمَّا عِنْدَهُمَا فَلَا إشْكَالَ ، وَأَمَّا عِنْدَهُ فَلِسَبْقِ الْإِيلَاءِ ثُمَّ هِيَ بَعْدَهُ مَحَلٌّ لِلطَّلَاقِ فَتَطْلُقُ ( قَوْلُهُ وَلَوْ عَطَفَ بِحَرْفِ الْفَاءِ ) فَقَالَ : أَيْ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا إنْ دَخَلْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَطَالِقٌ فَطَالِقٌ فَدَخَلَتْ ( فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ فِيمَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ ) فَعِنْدَهُ تَبِينُ بِوَاحِدَةٍ وَيَسْقُطُ مَا بَعْدَهَا ، وَعِنْدُهُمَا يَقَعُ الثَّلَاثُ وَفِي الْمَبْسُوطِ نَقَلَهُ عَنْ الطَّحَاوِيِّ فَلْيَكُنْ عَنْهُمَا ( وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ أَنَّهُ يَقَعُ وَاحِدَةً بِالِاتِّفَاقِ وَهُوَ الْأَصَحُّ ) لِأَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ فَصَارَتْ كَثُمَّ وَبَعْدُ فَقَدْ جَعَلَ الشَّرْطَ دُخُولَ الدَّارِ وَوُقُوعَ طَلْقَةٍ ، وَلَا وُقُوعَ قَبْلَ مَجْمُوعِ الشَّرْطِ فَتَقَعُ الثَّانِيَةُ بَعْدَهُمَا ، وَشَرْطُ الثَّالِثَةِ الدُّخُولُ وَوُقُوعُ طَلْقَتَيْنِ فَيَقَعُ بَعْدَهُمَا عَلَى النَّحْوِ الَّذِي قَرَّرْنَا عَلَيْهِ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ لِأَبِي حَنِيفَةَ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ يَصِيرُ الْمَعْنَى إنْ دَخَلْت فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَبَعْدَهَا أُخْرَى ، وَلَوْ عَطَفَ بِثُمَّ وَأَخَّرَ الشَّرْطَ كَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت .
فَإِنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا ، فَعِنْدَهُ يَقَعُ فِي الْحَالِ ثِنْتَانِ وَتَتَعَلَّقُ الثَّالِثَةُ بِالشَّرْطِ لِأَنَّهَا لِلتَّرَاخِي ، وَكَمَالُهُ

بِاعْتِبَارِهِ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى فَكَأَنَّهُ فَصَلَ بِسُكُوتٍ ، وَلَوْ سَكَتَ وَقَعَ الْأَوَّلُ وَلَا يَتَوَقَّفُ لِيَتَعَلَّقَ فَكَذَا هُنَا .
وَإِذَا وَقَعَ الْأَوَّلُ بَقِيَتْ مَحَلًّا فَتَقَعُ الثَّانِيَةُ وَتَتَعَلَّقُ الثَّالِثَةُ بِدُخُولِهَا الدَّارَ ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ فِي الْحَالِ وَيَلْغُو الثَّانِي لِانْتِفَاءِ مَحَلِّيَّتِهَا ، وَإِنْ قَدَّمَ الشَّرْطَ فَقَالَ : إنْ دَخَلْت فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ وَهِيَ مَدْخُولٌ بِهَا تَعَلَّقَ الْأَوَّلُ وَوَقَعَتْ الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَدْخُولًا بِهَا تَعَلَّقَ الْأَوَّلُ وَوَقَعَ الثَّانِي وَلَغَا الثَّالِثُ .
وَالْوَجْهُ بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْأَصْلِ ظَاهِرٌ ، وَعِنْدَهُمَا تَعَلَّقَ الْكُلُّ بِالثَّانِي قَدَّمَهُ أَوْ أَخَّرَهُ ، إلَّا أَنَّ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ يَقَعُ الثَّلَاثُ إنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا ، وَفِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا تَطْلُقُ وَاحِدَةً قَدَّمَهُ أَوْ أَخَّرَهُ ، فَأَثَرُ التَّرَاخِي يَظْهَرُ عِنْدَهُ فِي التَّعْلِيقِ كَأَنَّهُ سَكَتَ ثُمَّ تَكَلَّمَ ، وَعِنْدَهُمَا فِي الْوُقُوعِ عِنْدَ الشَّرْطِ وَلَوْ لَمْ يَعْطِفْ أَصْلًا بِأَنْ قَالَ : إنْ دَخَلْت فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَاحِدَةً يَقَعُ عِنْدَ الشَّرْطِ وَاحِدَةً بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا تَعَلَّقَ الْأَوَّلُ وَلَغَا مَا بَعْدَهُ لِعَدَمِ مَا يُوجِبُ تَشْرِيكَهُ مَعَهُ .

( وَأُمًّا الضَّرْبُ الثَّانِي وَهُوَ الْكِنَايَاتُ لَا يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ إلَّا بِالنِّيَّةِ أَوْ بِدَلَالَةِ الْحَالِ ) لِأَنَّهَا غَيْرُ مَوْضُوعَةٍ لِلطَّلَاقِ بَلْ تَحْتَمِلُهُ وَغَيْرَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعْيِينِ أَوْ دَلَالَتِهِ .
قَالَ ( وَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَلْفَاظٍ يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ وَلَا يَقَعُ بِهَا إلَّا وَاحِدَةٌ ، وَهِيَ قَوْلُهُ : اعْتَدِّي وَاسْتَبْرِئِي رَحِمَكِ وَأَنْتِ وَاحِدَةٌ ) أَمَّا الْأُولَى فَلِأَنَّهَا تَحْتَمِلُ الِاعْتِدَادَ عَنْ النِّكَاحِ وَتَحْتَمِلُ اعْتِدَادَ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَإِنْ نَوَى الْأَوَّلَ تَعَيَّنَ بِنِيَّتِهِ فَيَقْتَضِي طَلَاقًا سَابِقًا وَالطَّلَاقُ يُعْقِبُ الرَّجْعَةَ .
وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَلِأَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الِاعْتِدَادِ لِأَنَّهُ تَصْرِيحٌ بِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ فَكَانَ بِمَنْزِلَتِهِ وَتَحْتَمِلُ الِاسْتِبْرَاءَ لِيُطَلِّقَهَا ، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ فَلِأَنَّهَا تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ مَعْنَاهُ تَطْلِيقَةٌ وَاحِدَةٌ ، فَإِذَا نَوَاهُ جُعِلَ كَأَنَّهُ قَالَهُ ، وَالطَّلَاقُ يُعْقِبُ الرَّجْعَةَ ، وَيَحْتَمِلُ غَيْرَهُ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ وَاحِدَةً عِنْدَهُ أَوْ عِنْدَ قَوْمِهِ ، وَلَمَّا احْتَمَلَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ الطَّلَاقَ وَغَيْرَهُ تَحْتَاجُ فِيهِ إلَى النِّيَّةِ وَلَا تَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ : أَنْتِ طَالِقٌ فِيهَا مُقْتَضًى أَوْ مُضْمَرٌ ، وَلَوْ كَانَ مُظْهَرًا لَا تَقَعُ بِهَا إلَّا وَاحِدَةٌ ، فَإِذَا كَانَ مُضْمَرًا أَوْلَى ، وَفِي قَوْلِهِ وَاحِدَةٌ وَإِنْ صَارَ الْمَصْدَرُ مَذْكُورًا لَكِنَّ التَّنْصِيصَ عَلَى الْوَاحِدَةِ يُنَافِي نِيَّةَ الثَّلَاثِ ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِإِعْرَابِ الْوَاحِدَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ الْعَوَامَّ لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ وُجُوهِ الْإِعْرَابِ .
قَالَ ( وَبَقِيَّةُ الْكِنَايَاتِ إذَا نَوَى بِهَا الطَّلَاقَ كَانَتْ وَاحِدَةً بَائِنَةً ، وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا كَانَتْ ثَلَاثًا ، وَإِنْ نَوَى ثِنْتَيْنِ كَانَتْ وَاحِدَةً ، وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ : أَنْتِ بَائِنٌ وَبَتَّةٌ وَبَتْلَةٌ وَحَرَامٌ وَحَبْلُكِ

عَلَى غَارِبِكِ وَالْحَقِي بِأَهْلِكِ وَخَلِيَّةٌ وَبَرِيَّةٌ وَوَهَبْتُكِ لِأَهْلِكِ وَسَرَّحْتُك وَفَارَقْتُك وَأَمْرُك بِيَدِك وَاخْتَارِي وَأَنْتِ حُرَّةٌ وَتَقَنَّعِي وَتَخَمَّرِي وَاسْتَتِرِي وَاغْرُبِي وَاخْرُجِي وَاذْهَبِي وَقُومِي وَابْتَغِي الْأَزْوَاجَ ) لِأَنَّهَا تَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ وَغَيْرَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ .
قَالَ ( إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي حَالِ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ ) فَيَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ فِي الْقَضَاءِ ، وَلَا يَقَعُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ .
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ( سَوَّى بَيْنَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ وَقَالَ : وَلَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ إذَا كَانَ فِي حَالِ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ ) قَالُوا ( وَهَذَا فِيمَا لَا يَصْلُحُ رَدَّا ) وَالْجُمْلَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْأَحْوَالَ ثَلَاثَةٌ : حَالَةٌ مُطْلَقَةٌ وَهِيَ حَالَةُ الرِّضَا ، وَحَالَةُ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ ، وَحَالَةُ الْغَضَبِ .
وَالْكِنَايَاتُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : مَا يَصْلُحُ جَوَابًا وَرَدًّا ، وَمَا يَصْلُحُ جَوَابًا لَا رَدَّا ، وَمَا يَصْلُحُ جَوَابًا وَسَبًّا وَشَتِيمَةً .
فَفِي حَالَةِ الرِّضَا لَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْهَا طَلَاقًا إلَّا بِالنِّيَّةِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي إنْكَارِ النِّيَّةِ لِمَا قُلْنَا ، وَفِي حَالَةِ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ لَا يُصَدَّقُ فِيمَا يَصْلُحُ جَوَابًا ، وَلَا يَصْلُحُ رَدَّا فِي الْقَضَاءِ مِثْلُ قَوْلِهِ خَلِيَّةٌ بَرِيَّةٌ بَائِنٌ بَتَّةٌ حَرَامٌ اعْتَدِّي أَمْرُك بِيَدِك اخْتَارِي ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مُرَادَهُ الطَّلَاقُ عِنْدَ سُؤَالِ الطَّلَاقِ ، وَيُصَدَّقُ فِيمَا يَصْلُحُ جَوَابًا وَرَدًّا مِثْلُ قَوْلِهِ : اذْهَبِي اُخْرُجِي قُومِي تَقَنَّعِي تَخَمَّرِي وَمَا يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الرَّدَّ وَهُوَ الْأَدْنَى فَحُمِلَ عَلَيْهِ .
وَفِي حَالَةِ الْغَضَبِ يُصَدَّقُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لِاحْتِمَالِ الرَّدِّ وَالسَّبِّ ، إلَّا فِيمَا يَصْلُحُ لِلطَّلَاقِ وَلَا يَصْلُحُ لِلرَّدِّ وَالشَّتْمِ كَقَوْلِهِ : اعْتَدِّي وَاخْتَارِي وَأَمْرُك بِيَدِك فَإِنَّهُ لَا يُصَدَّقُ فِيهَا لِأَنَّ الْغَضَبَ يَدُلُّ عَلَى إرَادَةِ الطَّلَاقِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي

قَوْلِهِ : لَا مِلْكَ لِي عَلَيْك وَلَا سَبِيلَ لِي عَلَيْك وَخَلَّيْتُ سَبِيلَك وَفَارَقْتُك ، أَنَّهُ يُصَدَّقُ فِي حَالَةِ الْغَضَبِ لِمَا فِيهَا مِنْ احْتِمَالِ مَعْنَى السَّبِّ .

( قَوْلُهُ : وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي وَهُوَ الْكِنَايَاتُ ) لَمَّا ذَكَرَ أَحْكَامَ الصَّرِيحِ شَرَعَ فِي بَيَانِ الْكِنَايَاتِ وَقَدَّمَ الصَّرِيحَ إذْ هُوَ الْأَصْلُ فِي الْكَلَامِ لِأَنَّهُ وُضِعَ لِلْإِفْهَامِ ، فَمَا كَانَ أَدْخَلَ وَأَظْهَرَ فِيهِ كَانَ أَصْلًا بِالنِّسْبَةِ لِمَا وُضِعَ لَهُ ، وَحِينَ كَانَ الصَّرِيحُ مَا ظَهَرَ الْمُرَادُ مِنْهُ لِاشْتِهَارِهِ فِي الْمَعْنَى كَانَ الْكِنَايَةُ مَا خَفِيَ الْمُرَادُ بِهِ لِتَوَارُدِ الِاحْتِمَالَاتِ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا لَمْ يُعَرِّفْ الْمُصَنِّفُ الْكِنَايَةَ كَمَا عَرَّفَ الصَّرِيحَ بَلْ ابْتَدَأَ فَقَالَ ( وَهُوَ الْكِنَايَاتُ لَا يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ إلَّا بِالنِّيَّةِ ) إلَى آخِرِهِ لِاشْتِهَارِ أَنَّهَا ضِدَّ الصَّرِيحِ ، وَحِينَ عَرَّفَهُ عُلِمَ أَنَّ الْكِنَايَةَ مَا لَمْ يَصْدُقْ عَلَيْهِ تَعْرِيفُهُ مَعَ أَنَّهُ يُؤْخَذُ رَسْمُهَا مِنْ تَعْلِيلِهِ حَيْثُ قَالَ : إنَّهَا تَحْتَمِلُهُ وَغَيْرَهُ ، فَكَأَنَّ الْكِنَايَةَ مَا احْتَمَلَ الطَّلَاقَ وَغَيْرَهُ فَلَزِمَ أَنْ يَسْتَفْسِرَ عَنْ مَقْصُودِهِ بِهِ ، أَمَّا إذَا كَانَتْ حَالَةً ظَاهِرَةً تُفِيدُ مَقْصُودَهُ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَعْتَبِرُهَا وَلَا يُصَدِّقُهُ فِي ادِّعَاءٍ فَإِنَّهُ يَنْصَرِفُ إلَى مَا يُخَالِفُ مُقْتَضَاهَا وَهِيَ دَلَالَةُ الْحَالِ فَإِنَّهَا مِمَّا يُحْكَمُ بِإِرَادَةِ مُقْتَضَاهَا شَرْعًا كَمَا فِي الْبَيْعِ بِالدَّرَاهِمِ الْمُطْلَقَةِ فَإِنَّهُ يَنْصَرِفُ إلَى غَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ بِدَلَالَةِ الْحَالِ ، وَكَذَا إذَا أَطْلَقَ الضَّرُورَةَ نِيَّةَ الْحَجِّ يَنْصَرِفُ إلَى نِيَّةِ الْحَجِّ الْفَرْضِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ النِّيَّةَ بَاطِنَةٌ وَالْحَالُ ظَاهِرَةٌ فِي الْمُرَادِ فَظَهَرَتْ نِيَّتُهُ بِهَا فَلَا يُصَدَّقُ فِي إنْكَارِ مُقْتَضَاهَا بَعْدَ ظُهُورِهِ فِي الْقَضَاءِ ، وَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَيُصَدِّقُهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إذَا نَوَى خِلَافَ مُقْتَضَى ظَاهِرِ الْحَالِ .
فَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ لَا يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ إلَّا بِالنِّيَّةِ أَوْ بِدَلَالَةِ الْحَالِ يُحْمَلُ عَلَى حُكْمِ الْقَاضِي بِالْوُقُوعِ ، أَمَّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَلَا يَقَعُ إلَّا بِالنِّيَّةِ

مُطْلَقًا ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَنْتِ طَالِقٌ إذَا قَالَ : أَرَدْتُ عَنْ وَثَاقٍ لَا يُصَدِّقُهُ وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ هِيَ زَوْجَتُهُ إذَا كَانَ نَوَاهُ ( قَوْلُهُ : لِأَنَّهَا غَيْرُ مَوْضُوعَةٍ لِلطَّلَاقِ ) بَلْ مَوْضُوعَةٌ لِمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْهُ أَوْ مِنْ حُكْمِهِ ، وَالْأَعَمُّ فِي الْمَادَّةِ الِاسْتِعْمَالِيَّة يَحْتَمِلُ كُلًّا مِمَّا صَدَقَاتِهِ ، وَلَا يَتَعَيَّنُ أَحَدُهُمَا إلَّا بِمُعَيِّنٍ ، وَالْمُعَيِّنُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ هُوَ النِّيَّةُ ، وَبِالنِّسْبَةِ إلَى الْقَاضِي دَلَالَةُ الْحَالِ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَدَعْوَاهُ مَا أَرَادَ ، وَإِنَّمَا قُلْنَا : أَعَمُّ مِنْهُ وَمِنْ حُكْمِهِ ، وَلَمْ نَقُلْ : أَعَمُّ مِنْهُ لِمَا سَنَذْكُرُ مِنْ أَنَّهَا لَمْ يُرِدْ بِمَا سِوَى الثَّلَاثِ الرَّجْعِيَّةِ اعْتَدِّي اسْتَبْرِئِي أَنْتِ وَاحِدَةً الطَّلَاقَ أَصْلًا بَلْ مَا هُوَ حُكْمُهُ مِنْ الْبَيْنُونَةِ مِنْ النِّكَاحِ ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ بَلْ تَحْتَمِلُهُ وَغَيْرَهُ تَسَاهُلٌ لِأَنَّ مُحْتَمَلَاتِ اللَّفْظِ تُسْتَعْمَلُ فِيهَا ، وَسَنُشِيرُ إلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهَا الطَّلَاقَ وَنُقَرِّرُهُ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ تَحْتَمِلُهُ مُتَعَلِّقًا لِمَعْنَاهَا أَوْ وَاقِعًا عِنْدَهُ فَتَدْخُلُ الثَّلَاثُ الرَّجْعِيَّةُ ( قَوْلُهُ وَهِيَ ) أَيْ الْكِنَايَاتُ ( عَلَى ضَرْبَيْنِ ) هَذَا تَقْسِيمٌ لِلْكِنَايَاتِ ، وَهِيَ تَنْقَسِمُ أَوَّلًا بِحَسَبِ مَا هِيَ كِنَايَةٌ عَنْهُ ، وَثَانِيًا بِاعْتِبَارِ الْوَاقِعِ بِهَا ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنَّفُ هِيَ الْقِسْمَةُ الثَّانِيَةُ .
أَمَّا الْأُولَى فَتَنْقَسِمُ إلَى مَا هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ حُكْمِ الطَّلَاقِ وَإِلَى مَا عَنْ تَفْوِيضِهِ الثَّانِي لَفْظَانِ اخْتَارِي وَأَمْرُك بِيَدِك لَا يَدْخُلُ فِي يَدِهَا إلَّا بِنِيَّةِ الطَّلَاقِ فَلَا يَقَعُ إلَّا بِقَوْلِهَا بَعْدَ نِيَّتِهِ طَلَّقْت نَفْسِي وَاخْتَرْت نَفْسِي ، وَالْأَوَّلُ مَا سِوَاهُمَا وَيَنْقَسِمُ إلَى مَا يَقَعُ بِهِ الْبَائِنُ وَهُوَ مَا سِوَى الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ وَسَنَذْكُرُ مَا فِيهِ ، وَإِلَى مَا يَقَعُ بِهِ الرَّجْعِيُّ وَهِيَ الْأَلْفَاظُ الثَّلَاثَةُ اعْتَدِّي وَاسْتَبْرِئِي رَحِمَك وَأَنْتِ

وَاحِدَةٌ ثُمَّ لَا يَقَعُ بِهِ إلَّا وَاحِدَةٌ .
أَمَّا الْأُولَى : أَيْ كَوْنُ الْأُولَى وَهِيَ كَلِمَةُ اعْتَدِّي كِنَايَةً فَلِأَنَّهَا تَحْتَمِلُ الِاعْتِدَادَ عَنْ النِّكَاحِ وَالِاعْتِدَادَ بِنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَإِنْ نَوَى الْأَوَّلَ تَعَيَّنَ وَيَقْتَضِي طَلَاقًا سَابِقًا وَالطَّلَاقُ يُعْقِبُ الرَّجْعَةَ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْقَوْلَ بِالِاقْتِضَاءِ وَثُبُوتِ الرَّجْعَةِ فِيمَا إذَا قَالَهُ بَعْدَ الدُّخُولِ ، أَمَّا قَبْلَهُ فَهُوَ مَجَازٌ عَنْ كُونِي طَالِقًا بِاسْمِ الْحُكْمِ عَنْ الْعِلَّةِ لَا الْمُسَبَّبِ عَنْ السَّبَبِ لِيَرُدَّ أَنَّ شَرْطَهُ اخْتِصَاصُ الْمُسَبَّبِ بِالسَّبَبِ ، وَالْعِدَّةُ لَا تَخْتَصُّ بِالطَّلَاقِ لِثُبُوتِهَا فِي أُمِّ الْوَلَدِ إذَا عَتَقَتْ .
وَيُجَابُ بِأَنَّ ثُبُوتَهَا فِيمَا ذُكِرَ لِوُجُودِ سَبَبِ ثُبُوتِهَا فِي الطَّلَاقِ وَهُوَ الِاسْتِبْرَاءُ لَا بِالْأَصَالَةِ وَهُوَ غَيْرُ دَافِعٍ سُؤَالَ عَدَمِ الِاخْتِصَاصِ .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ كَمَا يَجِبُ كَوْنُهَا مَجَازًا عَنْ كُونِي طَالِقًا فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا يَجِبُ كَوْنُ اسْتَبْرِئِي رَحِمَك كَذَلِكَ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا إذَا كَانَتْ آيِسَةً أَوْ صَغِيرَةً ، وَمَا فِي النَّوَادِرِ مِنْ أَنَّ وُقُوعَ الرَّجْعِيِّ بِهَا اسْتِحْسَانٌ لِحَدِيثِ { سَوْدَةَ : يَعْنِي أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا : اعْتَدِّي ثُمَّ رَاجَعَهَا } وَالْقِيَاسُ أَنْ يَقَعَ الْبَائِنُ كَسَائِرِ الْكِنَايَاتِ بَعِيدٌ بَلْ ثُبُوتُ الرَّجْعِيِّ بِهَا قِيَاسٌ وَاسْتِحْسَانٌ لِأَنَّ عَلَيْهِ الْبَيْنُونَةَ فِي غَيْرِ الثَّلَاثَةِ مُنْتَفِيَةٌ فِيهَا فَلَا يُتَّجَهُ الْقِيَاسُ أَصْلًا .
نَعَمْ الِاعْتِدَادُ يَقْتَضِي فُرْقَةً بَعْدَ الدُّخُولِ وَهِيَ أَعَمُّ مِنْ رَجْعِيٍّ وَبَائِنٍ لَكِنْ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ تَعَيُّنَ الْبَائِنِ بَلْ يَتَعَيَّنُ الْأَخَفُّ لِعَدَمِ الدَّلَالَةِ عَلَى الزَّائِدِ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا الثَّانِيَةُ وَهِيَ كَلِمَةُ اسْتَبْرِئِي رَحِمَك فَلِأَنَّهُ تَصْرِيحٌ بِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْعِدَّةِ وَهُوَ تَعَرُّفُ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ فَاحْتَمَلَ اسْتَبْرِئِيهِ لِأَنِّي طَلَّقْتُك أَوْ لِأُطَلِّقَك : يَعْنِي إذَا عَلِمْت خُلُوَّهُ

عَنْ الْوَلَدِ ، وَعَلَى الْأَوَّلِ يَقَعُ وَعَلَى الثَّانِي لَا فَلَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهَا أَيْضًا قَبْلَ الدُّخُولِ مَجَازٌ عَنْ كُونِي طَالِقًا كَاعْتَدِّي ، وَكَذَا فِي الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ الْمَدْخُولِ بِهَا كَمَا ذَكَرْنَاهُ .
وَأَمَّا الثَّالِثَةُ وَهِيَ أَنْتِ وَاحِدَةٌ فَلِأَنَّهَا تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ نَعْتَا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ مَعْنَاهُ تَطْلِيقَةٌ وَاحِدَةٌ ، فَإِذَا نَوَاهُ فَكَأَنَّهُ قَالَهُ : يَعْنِي إذَا نَوَاهُ مَعَ الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ فَكَأَنَّهُ قَالَهُ لِظُهُورِ أَنَّ مُجَرَّدَ نِيَّةِ الطَّلَاقِ لَا يُوجِبُ الْحُكْمَ وَالطَّلَاقُ يَعْقُبُ الرَّجْعَةَ ، وَيَحْتَمِلُ غَيْرَهُ نَحْوُ أَنْتِ وَاحِدَةٌ عِنْدِي أَوْ فِي قَوْمِك مَدْحًا وَذَمًّا ، فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ الطَّلَاقَ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ مُقْتَضًى كَمَا هُوَ فِي اعْتَدِّي اسْتَبْرِئِي رَحِمَك لِأَنَّهُ يَقَعُ شَرْعًا بِهَا فَهُوَ ثَابِتٌ اقْتِضَاءً وَمُضْمَرٌ فِي وَاحِدَةٍ ، وَلَوْ كَانَ مُظْهِرًا لَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةً ، فَإِذَا كَانَ مُضْمَرًا وَأَنَّهُ أَضْعَفُ مِنْهُ أُولَى أَنْ لَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ ، وَفِي وَاحِدَةٍ إنْ صَارَ الْمَصْدَرُ مَذْكُورًا بِذِكْرِ صِفَتِهِ لَكِنَّ التَّنْصِيصَ عَلَى الْوَاحِدِ يَمْنَعُ إرَادَةَ الثَّلَاثِ لِأَنَّهَا صِفَةٌ لِلْمَصْدَرِ الْمَحْدُودِ بِالْهَاءِ فَلَا يَتَجَاوَزُ الْوَاحِدَةَ .
وَاعْتِرَاضُ بَعْضِهِمْ عَلَى قَوْلِهِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ : أَيْ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً بِأَنَّ فِيهِ تَكَلُّفًا غَيْرَ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ ، بَلْ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مُنْفَرِدَةٌ عَنْ الزَّوْجِ سَاقِطٌ لِأَنَّهُ لَا يُدْفَعُ احْتِمَالُهُ لِمَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ ، وَالتَّطْلِيقُ بِالْمَصْدَرِ الْمَلْفُوظِ بِهِ شَائِعٌ فِي طَلَاقِ الْعَرَبِ مِنْهُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الشِّعْرِ الْقَائِلِ : فَأَنْتِ طَلَاقٌ وَالطَّلَاقُ عَزِيمَةٌ إلَى آخِرِهِ ، وَمِنْ قَوْلِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ حِينَ طَلَّقَ الْأَرْبَعَ : اذْهَبْنَ فَأَنْتُنَّ الطَّلَاقُ أَوْ طَلَاقٌ وَكَثِيرٌ ، بِخِلَافِ التَّطْلِيقِ بِلَفْظِ أَنْتِ مُنْفَرِدَةٌ عَنْ الزَّوْجِ فَكَانَ احْتِمَالُ أَنْتِ

وَاحِدَةٌ لِلْمَصْدَرِ أَظْهَرَ مِنْ احْتِمَالِهَا لِمُنْفَرِدَةٍ عَنْ الزَّوْجِ فَضْلًا عَنْ تَعَيُّنِ الثَّانِي ( قَوْلُهُ وَلَا مُعْتَبَرَ بِإِعْرَابِ الْوَاحِدَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ هُوَ الصَّحِيحُ ) احْتِرَازٌ عَمَّا قَالَ بَعْضُهُمْ إنْ رَفَعَ الْوَاحِدَةَ لَا يَقَعُ شَيْءٌ وَإِنْ نَوَى ، وَإِنْ نَصَبَهَا وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ نَعْتٌ لِلْمَصْدَرِ : أَيْ أَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً فَقَدْ أَوْقَعَ بِالصَّرِيحِ وَإِنْ سَكَنَ اُحْتِيجَ إلَى النِّيَّةِ .
وَجْهُ الصَّحِيحِ أَنَّ الْعَوَامَّ لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ وُجُوهِ الْإِعْرَابِ فَلَا يَجُوزُ بِنَاءُ حُكْمٍ يَرْجِعُ إلَى الْعَامَّةِ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّ الرَّفْعَ يَجُوزُ لِكَوْنِهِ نَعْتًا لِطَلْقَةٍ : أَيْ أَنْتِ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَالنَّصْبُ يَجُوزُ لِكَوْنِهِ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ آخَرَ : أَيْ أَنْتِ مُتَكَلِّمَةٌ كَلِمَةً وَاحِدَةً ، وَهَذَا الْوَجْهُ يَعُمُّ الْعَوَامَّ وَالْخَوَاصَّ ، وَلِأَنَّ الْخَاصَّةَ لَا تَلْتَزِمُ التَّكَلُّمَ الْعُرْفِيَّ عَلَى صِحَّةِ الْإِعْرَابِ بَلْ تِلْكَ صِنَاعَتُهُمْ وَالْعُرْفُ لُغَتُهُمْ ، وَلِذَا تَرَى أَهْلَ الْعِلْمِ فِي مَجَارِي كَلَامِهِمْ لَا يُقِيمُونَهُ ( قَوْلُهُ : وَبَقِيَّةُ الْكِنَايَاتِ إذَا نَوَى بِهَا الطَّلَاقَ كَانَتْ وَاحِدَةً بَائِنَةً ، فَإِنْ نَوَى الثَّلَاثَ كَانَتْ ثَلَاثًا ، وَإِنْ نَوَى ثِنْتَيْنِ كَانَتْ وَاحِدَةً ) وَفِي هَذَا الْإِطْلَاقِ نَظَرٌ ، بَلْ يَقَعُ الرَّجْعِيُّ بِبَعْضِ الْكِنَايَاتِ سِوَى الثَّلَاثِ ، فَقَدْ ذَكَرَ فِي أَنَا بَرِيءٌ مِنْ طَلَاقِك يَقَعُ رَجْعِيٌّ إذَا نَوَى ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ مِنْ نِكَاحِك ، قَالَهُ ابْنُ سَلَامٍ .
وَفِي الْخُلَاصَةِ اُخْتُلِفَ فِي بَرِئْت مِنْ طَلَاقِك إذَا نَوَى ، وَالْأَصَحُّ يَقَعُ رَجْعِيًّا ، وَالْأَوْجَهُ عِنْدِي أَنْ يَقَعَ بَائِنًا لِأَنَّ حَقِيقَةَ تَبْرِئَتِهِ مِنْهُ تَسْتَلْزِمُ عَجْزَهُ عَنْ الْإِيقَاعِ وَهُوَ بِالْبَيْنُونَةِ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَوْ الثَّلَاثِ أَوْ عَدَمِ الْإِيقَاعِ أَصْلًا وَبِذَلِكَ صَارَ كِنَايَةً ، فَإِذَا أَرَادَ الْأَوَّلَ وَقَعَ وَصُرِفَ إلَى إحْدَى الْبَيْنُونَتَيْنِ وَهِيَ الَّتِي دُونَ

الثَّلَاثِ ، وَكَذَا فِي قَوْلِهِ : الطَّلَاقُ عَلَيْك يَقَعُ بِالنِّيَّةِ وَفِي وَهَبْتُك طَلَاقَك إذَا نَوَى يَقَعُ رَجْعِيًّا ، وَكَذَا قَالُوا فِي بِعْتُك طَلَاقَك إذَا قَالَتْ : اشْتَرَيْت مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ ، ثُمَّ فِي الْهِبَةِ إذَا لَمْ تَكُنْ نِيَّةً تَطْلُقُ فِي الْقَضَاءِ .
وَلَوْ قَالَ نَوَيْت أَنْ يَكُون فِي يَدِهَا لَا يُصَدَّقُ ، وَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ كَمَا نَوَى ، فَإِنْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ طَلُقَتْ وَإِلَّا فَهِيَ زَوْجَتُهُ .
هَذَا إذَا ابْتَدَأَ الزَّوْجُ ، فَلَوْ ابْتَدَأَتْ فَقَالَتْ : هَبْ لِي طَلَاقِي تُرِيدُ أَعْرِضْ عَنْهُ فَقَالَ : وَهَبْت لَا يَقَعُ وَإِنْ نَوَى ؛ لِأَنَّهُ جَوَابُهَا فِيمَا طَلَبَتْ كَذَا قِيلَ ، وَفِيهِ نَظَرٌ ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَقَعَ إذَا نَوَى لِأَنَّهُ لَوْ ابْتَدَأَ بِهِ وَنَوَى وَقَعَ ، فَإِذَا نَوَى الطَّلَاقَ فَقَدْ قَصَدَ عَدَمَ الْجَوَابِ ، وَأُخْرِجَ الْكَلَامُ ابْتِدَاءً وَلَهُ ذَلِكَ وَهُوَ أَدْرَى بِنَفْسِهِ وَنِيَّتِهِ ، وَيَقَعُ رَجْعِيًّا فِي خُذِي طَلَاقَك وَأَقْرَضْتُك وَكَذَا فِي قَدْ شَاءَ اللَّهُ طَلَاقَك أَوْ قَضَاهُ أَوْ شِئْت يَقَعُ بِالنِّيَّةِ رَجْعِيًّا .
( قَوْلُهُ : وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ أَنْتِ بَائِنٌ وَبَتَّةٌ وَبَتْلَةٌ وَحَرَامٌ وَحَبْلُك عَلَى غَارِبِك وَالْحَقِي بِأَهْلِك ) بِوَصْلِ الْهَمْزَةِ ( وَخَلِيَّةٌ وَبَرِيَّةٌ وَوَهَبْتُك لِأَهْلِك وَفَارَقْتُك وَأَمْرُك بِيَدِك وَاخْتَارِي وَأَنْتِ حُرَّةٌ ) وَأَعْتَقْتُك مِثْلُ أَنْتِ حُرَّةٌ ( تَقَنَّعِي وَتَخَمَّرِي وَاسْتَتِرِي وَاغْرُبِي ) بَالِغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَالزَّايِ ( وَاخْرُجِي وَاذْهَبِي وَقُومِي وَابْتَغِي الْأَزْوَاجَ لِأَنَّهَا تَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ وَغَيْرَهُ ) وَتَحْرِيرُ الْمُحْتَمَلَاتِ غَيْرُ خَافٍ ، وَحَبْلُك عَلَى غَارِبِك تَمْثِيلٌ لِأَنَّهُ تَشْبِيهٌ بِالصُّورَةِ الْمُنْتَزَعَةِ مِنْ أَشْيَاءَ وَهِيَ هَيْئَةُ النَّاقَةِ إذَا أُرِيدَ إطْلَاقُهَا لِلرَّعْيِ وَهِيَ ذَاتُ رَسَنٍ فَأَلْقَى الْحَبْلَ عَلَى غَارِبِهَا : وَهُوَ مَا بَيْنَ السَّنَامِ وَالْعُنُقِ كَيْ لَا تَتَعَقَّلَ بِهِ إذَا كَانَ

مَطْرُوحًا ، فَشَبَّهَ بِهَذِهِ الْهَيْئَةِ الْإِطْلَاقِيَّةِ إطْلَاقَ الْمَرْأَةِ عَنْ قَيْدِ النِّكَاحِ أَوْ الْعَمَلِ أَوْ التَّصَرُّفِ مِنْ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْإِجَارَةِ وَالِاسْتِئْجَارِ وَصَارَ كِنَايَةً فِي الطَّلَاقِ لِتَعَدُّدِ صُوَرِ الْإِطْلَاقِ ، وَفِي وَهَبْتُك لِأَهْلِك إذَا نَوَى يَقَعُ وَإِنْ لَمْ يَقْبَلُوهَا لِأَنَّهُ يَجِبُ كَوْنُ وَهَبْتُك لِأَهْلِك مَجَازًا عَنْ رَدَدْتُك عَلَيْهِمْ فَيَصِيرُ إلَى الْحَالَةِ الْأُولَى وَهِيَ الْبَيْنُونَةُ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى قَبُولِهِمْ إيَّاهَا فِي ثُبُوتِ الْبَيْنُونَةِ ، وَالْحَقِي بِأَهْلِك مِثْلُهُ فِي صَيْرُورَتِهَا إلَى الْحَالَةِ الْأُولَى ، وَقَوْلُهُ : وَهَبْتُك لِأَبِيك أَوْ لِابْنِك مِثْلُهُ بِخِلَافِ الْأَجَانِبِ ( فَلَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ ) أَيْ فِي الْحُكْمِ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ ( إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي حَالَةِ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ ) وَهُوَ حَالُ سُؤَالِهَا الطَّلَاقَ أَوْ سُؤَالِ أَجْنَبِيٍّ ( فَيَقَعُ فِي الْقَضَاءِ ) وَإِنْ قَالَ : أَرَدْت غَيْرَ الطَّلَاقِ ( وَلَا يَقَعُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ ) وَيُسْتَثْنَى مِنْهَا اخْتَارِي لِمَا نَذْكُرُ وَأَمْرُك بِيَدِك .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( سِوَى ) أَيْ الْقُدُورِيِّ ( بَيَّنَ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ وَقَالَ : لَا يُصَدَّقُ حَالَ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ فِي الْقَضَاءِ ) إذَا قَالَ : نَوَيْت غَيْرَ الطَّلَاقِ مِنْ الْمُحْتَمَلَاتِ ، وَهَكَذَا فَعَلَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي الْمَبْسُوطِ وَالْمَشَايِخُ كَفَخْرِ الْإِسْلَامِ وَغَيْرِهِ ( قَالُوا وَهَذَا ) أَيْ كَوْنُهُ لَا يُصَدَّقُ إذَا ادَّعَى نِيَّةً غَيْرَ الطَّلَاقِ بَعْدَ سُؤَالِ الطَّلَاقِ إنَّمَا هُوَ ( فِيمَا لَا يَصْلُحُ رَدًّا ) أَمَّا مَا يَصْلُحُ لَهُ فَيُصَدَّقُ إذَا ادَّعَى الرَّدَّ .
ثُمَّ اسْتَأْنَفَ تَقْسِيمًا ضَابِطًا فَقَالَ : الْأَحْوَالُ هُنَا ثَلَاثَةٌ : حَالَةٌ مُطْلَقَةٌ وَفَسَّرَهَا بِحَالَةِ الرِّضَا .
وَحَالَةُ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ وَهِيَ مَا قَدَّمْنَا .
وَحَالَةُ الْغَضَبِ .
وَالْكِنَايَاتُ فِي الطَّلَاقِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : مَا يَصْلُحُ جَوَابًا لِطَلَبِهَا الطَّلَاقَ : أَيْ التَّطْلِيقَ وَيَصْلُحُ رَدًّا لَهُ .
وَمَا

يَصْلُحُ جَوَابًا وَلَا يَصْلُحُ رَدًّا لَهُ .
وَمَا يَصْلُحُ جَوَابًا وَشَتْمًا .
فَفِي حَالَةِ الرِّضَا يُصَدَّقُ فِي الْكُلِّ إذَا قَالَ لَمْ أُرِدْ الطَّلَاقَ لِأَنَّهُ لَا ظَاهِرَ يُكَذِّبُهُ ، وَفِي حَالَةِ الْمُذَاكَرَةِ لِلطَّلَاقِ لَا يُصَدَّقُ فِيمَا يَصْلُحُ جَوَابًا لَا رَدًّا كَخَلِيَّةٍ بَرِيَّةٍ بَائِنٍ بَتَّةٍ بَتْلَةٍ حَرَامٍ اعْتَدِّي اسْتَتِرِي اخْتَارِي أَمْرُك بِيَدِك ، وَيُصَدَّقُ فِيمَا يَصْلُحُ لَهُ وَلِلرَّدِّ مِثْلُ اُخْرُجِي اذْهَبِي افْلَحِي ، تَقُولُ الْعَرَبُ افْلَحْ عَنِّي : أَيْ اذْهَبْ عَنِّي ، وَاغْرُبِي قُومِي تَقَنَّعِي ، وَمُرَادِفُهَا كَاسْتَتِرِي وَتَخَمَّرِي ، وَمَعْنَى الرَّدِّ فِي هَذِهِ : أَيْ اشْتَغِلِي بِالتَّقَنُّعِ الَّذِي هُوَ أَنْفَعُ لَك مِنْ الْقِنَاعِ وَكَذَا أَخَوَاهُ ، وَيَجُوزُ فِيهِ بِخُصُوصِهِ كَوْنُهُ مِنْ الْقَنَاعَةِ وَفِي حَالِ الْغَضَبِ يُصَدَّقُ فِيمَا يَصْلُحُ جَوَابًا وَرَدًّا ، وَمَا يَصْلُحُ جَوَابًا وَشَتِيمَةً لَا رَدًّا كَخَلِيَّةٍ بَرِيَّةٍ بَتَّةٍ بَتْلَةٍ حَرَامٍ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ ، إذْ يَحْتَمِلُ خَلِيَّةً مِنْ الْخَيْرِ بَرِيَّةً مِنْهُ بَتَّةً بَتْلَةً : أَيْ مَقْطُوعَةً عَنْهُ ، وَلَا يُصَدَّقُ فِيمَا يَصْلُحُ لِلطَّلَاقِ دُونَ الرَّدِّ وَالشَّتْمِ كَاعْتَدِّي اخْتَارِي أَمْرُك بِيَدِك اسْتَتِرِي .
وَعُرِفَ مِمَّا قَدَّمْنَا أَنَّ اخْتَارِي أَمْرُك بِيَدِك لَا يَقَعُ بِهِمَا الطَّلَاقُ إلَّا بِإِيقَاعِهَا بَعْدَهُ ، وَإِنَّمَا هُمَا كِنَايَتَانِ عَنْ التَّفْوِيضِ حَتَّى لَا يَدْخُلَ الْأَمْرُ فِي يَدِهَا إلَّا بِالنِّيَّةِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ حَقِيقَةَ التَّقْسِيمِ فِي الْأَحْوَالِ قِسْمَانِ : حَالَةُ الرِّضَا ، وَحَالَةُ الْغَضَبِ .
وَأَمَّا حَالَةُ الْمُذَاكَرَةِ فَتُصَدَّقُ مَعَ كُلٍّ مِنْهُمَا ، بَلْ لَا يُتَصَوَّرُ سُؤَالُهَا الطَّلَاقَ إلَّا فِي إحْدَى الْحَالَتَيْنِ لِأَنَّهُمَا ضِدَّانِ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُمَا ، فَتَحْرِيرُ التَّقْرِيرِ أَنَّ فِي حَالَةِ الرِّضَا الْمُجَرَّدِ عَنْ سُؤَالِ الطَّلَاقِ يُصَدَّقُ فِي الْكُلِّ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الطَّلَاقَ ، وَفِي حَالَةِ الرِّضَا الْمَسْئُولِ فِيهَا طَلَاقٌ يُصَدَّقُ فِيمَا يَصْلُحُ رَدًّا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْهُ ، وَفِي حَالَةِ

الْغَضَبِ الْمُجَرَّدِ عَنْ سُؤَالِ الطَّلَاقِ يُصَدَّقُ فِيمَا يَصْلُحُ سَبًّا أَوْ رَدًّا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ إلَّا السَّبَّ أَوْ الرَّدَّ ، وَلَا يُصَدَّقُ فِيمَا يَصْلُحُ جَوَابًا فَقَطْ ، وَفِي حَالَةِ الْغَضَبِ الْمَسْئُولِ فِيهَا الطَّلَاقُ يَجْتَمِعُ فِي عَدَمِ تَصْدِيقِهِ فِي الْمُتَمَحِّضِ جَوَابًا سَبَبَانِ : الْمُذَاكَرَةُ وَالْغَضَبُ ، وَكَذَا فِي قَبُولِ قَوْلِهِ فِيمَا يَصْلُحُ رَدًّا لِأَنَّ كُلًّا مِنْ الْمُذَاكَرَةِ وَالْغَضَبِ يَسْتَقِلُّ بِإِثْبَاتِ قَبُولِ قَوْلِهِ فِي دَعْوَى عَدَمِ إرَادَةِ الطَّلَاقِ .
وَفِيمَا يَصْلُحُ لِلسَّبَبِ يَنْفَرِدُ الْغَضَبُ بِإِثْبَاتِهِ فَلَا تَتَغَيَّرُ الْأَحْكَامُ ، وَحِينَئِذٍ فَالْأَوْلَى أَنْ تُعْرَفَ الْحَالُ الْمُطْلَقَةُ بِالْمُطْلَقَةِ عَنْ قَيْدِ الْغَضَبِ وَالْمُذَاكَرَةِ ( قَوْلُهُ : وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ إلَخْ ) أَلْحَقَ أَبُو يُوسُفَ بِاَلَّتِي تَحْتَمِلُ السَّبَّ أَلْفَاظًا أُخْرَى وَهِيَ : لَا مِلْكَ لِي عَلَيْك لَا سَبِيلَ لِي عَلَيْك خَلَّيْت سَبِيلَك فَارَقْتُك ، فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَلْفَاظِ ذَكَرَهَا الْوَلْوَالِجِيُّ ، وَذَكَرَهَا الْعَتَّابِيُّ خَمْسَةً : لَا سَبِيلَ لَا مِلْكَ خَلَّيْت سَبِيلَك الْحَقِي بِأَهْلِك حَبْلُك عَلَى غَارِبِك .
وَفِي الْإِيضَاحِ وَشَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِشَمْسِ الْأَئِمَّةِ ذَكَرَ خَمْسَةً هِيَ هَذِهِ ، إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ مَكَانَ حَبْلُك عَلَى غَارِبِك فَارَقْتُك فَتَتِمُّ سِتَّةَ أَلْفَاظٍ .
وَوَجْهُ احْتِمَالِهَا السِّتَّ أَنْ لَا مِلْكَ لِي : يَعْنِي أَنْتِ أَقَلُّ مِنْ أَنْ تُنْسَبِي إلَيَّ بِالْمِلْكِ وَلَا سَبِيلَ لِي عَلَيْك لِزِيَادَةِ شَرِّك وَخَلَّيْت سَبِيلَك وَفَارَقْتُك وَالْحَقِي بِأَهْلِك وَحَبْلُك عَلَى غَارِبِك : أَيْ أَنْتِ مُسِيئَةٌ لَا يَشْتَغِلُ أَحَدٌ بِتَأْدِيبِك إذْ لَا طَاقَةَ لِأَحَدٍ بِمُمَارَسَتِك .
وَفِي رِوَايَةِ جَامِعِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ وَالْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ أَلْحَقهَا بِالثَّلَاثِ الَّتِي لَا يَدِينُ فِيهَا فِي الْغَضَبِ كَمَا لَا يَدِينُ فِي الْمُذَاكَرَةِ ، وَهِيَ اعْتَدِّي اخْتَارِي أَمْرُك بِيَدِك .
وَفِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا سَبِيلَ لِي

عَلَيْك تَقَنَّعِي اسْتَتِرِي اُخْرُجِي اذْهَبِي قُومِي تَزَوَّجِي لَا نِكَاحَ لِي عَلَيْك يَدِينُ فِي الْغَضَبِ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ تُذْكَرُ لِلْإِبْعَادِ ، وَحَالَةُ الْغَضَبِ يَبْعُدُ الْإِنْسَانُ عَنْ الزَّوْجَةِ فِيهِ ، وَكَذَا فِي حَالِ ذِكْرِ الطَّلَاقِ ، وَهَذَا لِأَنَّ لَا سَبِيلَ لِي عَلَيْك يَحْتَمِلُ عَلَيَّ طَلَاقُك وَهُوَ يُذْكَرُ لِلِامْتِنَاعِ عَنْ الطَّلَاقِ وَانْطَلِقِي وَانْتَقِلِي كَالْحَقِي وَلَا رِوَايَةَ فِي أَعَرْتُك طَلَاقَك ظَاهِرَةٌ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ يَقَعُ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ ، وَفِي النَّوَازِلِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَصِيرُ الطَّلَاقُ فِي يَدِهَا لِأَنَّهُ مَلَّكَهَا مَنَافِعَ الطَّلَاقِ وَمَنْفَعَةُ الطَّلَاقِ التَّطْلِيقُ إنْ شَاءَتْ كَمَا كَانَ لِلزَّوْجِ ، وَلَوْ قَالَ : طَلَاقُك عَلَيَّ لَا يَقَعُ أَصْلًا ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ : لَوْ قَالَ : وَهَبْتُك لِأَبِيك أَوْ لِابْنِك أَوْ لِلْأَزْوَاجِ فَهُوَ طَلَاقٌ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تُرَدُّ عَلَى هَؤُلَاءِ بِالطَّلَاقِ عَادَةً ، وَلَوْ قَالَ : لِأُخْتِك أَوْ خَالَتِك أَوْ عَمَّتِك أَوْ لِفُلَانٍ الْأَجْنَبِيِّ وَنَحْوِهِ لَمْ يَكُنْ طَلَاقًا وَإِنْ نَوَى لِأَنَّهَا لَا تُرَدُّ بِالطَّلَاقِ عَلَيْهِمْ ، وَلَوْ زَادَ عَلَى اذْهَبِي فَقَالَ : اذْهَبِي فَبِيعِي ثَوْبَك لَا يَقَعُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِزُفَرَ لِأَنَّ اذْهَبِي يُعْمِلُ فِيهِ نِيَّةَ الطَّلَاقِ وَيَبْقَى الزَّائِدُ مَشُورَةً فَلَا يَتَغَيَّرُ بِهِ حُكْمُ الطَّلَاقِ .
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ مَعْنَاهُ عَادَةً لِأَجْلِ الْبَيْعِ فَكَانَ صَرِيحُهُ خِلَافَ الْمَنْوِيِّ .
وَمِنْ الْكِنَايَاتِ تَنَحَّيْ عَنِّي .
وَاخْتُلِفَ فِي لَمْ يَبْقَ بَيْنِي وَبَيْنَك عَمَلٌ ، قِيلَ يَقَعُ إذَا نَوَى وَقِيلَ لَا ، وَمِثْلُهُ لَمْ يَبْقَ بَيْنِي وَبَيْنَك شَيْءٌ .
وَفِي أَرْبَعَةِ طُرُقٍ عَلَيْك مَفْتُوحَةٌ لَا يَقَعُ بِالنِّيَّةِ إلَّا أَنْ يَقُولَ خُذِي أَيُّهَا شِئْت ، ثُمَّ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رِوَايَةِ أَسَدٍ يَقَعُ ثَلَاثًا ، وَقَالَ ابْنُ سَلَامٍ : أَخَافُ أَنْ يَقَعَ ثَلَاثًا لِمَعَانِي كَلَامِ النَّاسِ كَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنَّ مُرَادَ النَّاسِ بِمِثْلِهِ اُسْلُكِي الطُّرُقَ الْأَرْبَعَةَ

وَإِلَّا فَاللَّفْظُ إنَّمَا يُعْطِي الْأَمْرَ بِسُلُوكِ أَحَدِهَا .
وَالْأَوْجَهُ أَنْ يَقَعَ وَاحِدَةً بَائِنَةً ، وَمِنْهَا نَجَوْت مِنِّي .
وَقَالَ الْمُتَأَخِّرُونَ فِي وَهَبْتُك طَلَاقَك : لَا يَقَعُ ، وَقِيلَ يَقَعُ ، وَلَا يَقَعُ فِي أَبَحْتُك طَلَاقَك وَإِنْ نَوَى أَوْ صَفَحْت عَنْهُ وَلَا بِأَحْبَبْتُ طَلَاقَك أَوْ رَضِيتُهُ أَوْ هَوَيْته أَوْ أَرَدْته وَإِنْ نَوَى ، وَأَمَّا طَالِ بِلَا قَافٍ فَأَطْلَقَ بَعْضُهُمْ الْوُقُوعَ بِهِ وَفَصَّلَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ مَعَ إسْكَانِ اللَّامِ يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ وَمَعَ كَسْرِهَا يَقَعُ بِلَا نِيَّةٍ وَالْوَجْهُ إطْلَاقُ التَّوَقُّفِ عَلَى النِّيَّةِ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ بِلَا قَافٍ لَيْسَ صَرِيحًا لِعَدَمِ غَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَلَا التَّرْخِيمُ لُغَةً جَائِزٌ فِي غَيْرِ النِّدَاءِ فَانْتَفَى لُغَةً وَعُرْفًا فَيُصَدَّقُ قَضَاءً مَعَ الْيَمِينِ ، هَذَا فِي حَالَةِ الرِّضَا وَعَدَمِ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ ، أَمَّا فِي أَحَدِهِمَا فَيَقَعُ قَضَاءً أَسْكَتَهَا أَوْ لَا ، وَفِيهِ أَيْضًا النَّظَرُ الْمَذْكُورُ لِأَنَّهُ إيقَاعٌ بِلَا لَفْظٍ لَهُ وَلَا لِأَعَمَّ مِنْهُ لِيَكُونَ كِنَايَةً وَلَيْسَ بِمَجَازٍ فِيهِ ، وَهَذَا الْبَحْثُ يُوجِبُ أَنْ لَا يَقَعَ بِهِ أَصْلًا وَإِنْ نَوَى ، وَمِثْلُ هَذَا الْبَحْثِ يَجْرِي فِي التَّطْلِيقِ بِالتَّهَجِّي كَأَنْتَ ط ا ل ق لِأَنَّهُ لَيْسَ طَلَاقًا وَلَا كِنَايَةً لِأَنَّ مَوْضُوعَهَا يَحْتَمِلُ أَشْيَاءَ ، وَأَوْضَاعُ هَذِهِ الْمُسَمَّيَاتِ هِيَ حُرُوفٌ ، وَلِذَا لَوْ قَرَأَ آيَةَ السَّجْدَةِ تَهَجِّيًا لَا يَجِبُ السُّجُودُ لِأَنَّهُ لَيْسَ قُرْآنًا ، وَلَا مَخْلَصَ إلَّا بِعَدَمِ اشْتِرَاطِ غَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ فِي الصَّرِيحِ وَالِاكْتِفَاءِ فِيهِ بِكَوْنِ اللَّفْظِ دَالًّا عَلَيْهِ وَضْعًا أَوْ عُرْفًا وَحِينَئِذٍ يَقَعُ بِالتَّهَجِّي فِي الْقَضَاءِ ، وَلَوْ ادَّعَى عَدَمَ النِّيَّةِ ، وَكَذَا بِطَالِ بِلَا قَافٍ ، وَفِي قَوْلِهِ لِآخَرَ : احْمِلْ إلَيْهَا طَلَاقَهَا أَوْ أَخْبِرْهَا بِهِ أَوْ بَشِّرْهَا تَطْلُقُ فِي الْحَالِ لِأَنَّ الْحَمْلَ لَا يَتَحَقَّقُ قَبْلَ الْمَحْمُولِ ، وَمِنْهَا أَنْتِ عَلَيَّ كَالْمَيِّتَةِ أَوْ الْخَمْرِ أَوْ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ

يَقَعُ بِالنِّيَّةِ .
وَفِي الْكَافِي لِلشَّهِيدِ : إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ : هَذِهِ عَمَّتِي أَوْ خَالَتِي أَوْ مَحْرَمٌ مِنْ الرَّضَاعِ وَثَبَتَ عَلَيْهِ بِأَنْ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ فَأَصَرَّ عَلَيْهِ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا ، وَلَوْ قَالَ مَزَحْت أَوْ كَذَبْت أَوْ وَهِمْت أَوْ نَسِيت صُدِّقَ وَلَا يُفَرَّقُ اسْتِحْسَانًا .
وَالْقِيَاسُ أَنْ يُفَرَّقَ مُطْلَقًا وَلَا يُصَدَّقُ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالتَّحْرِيمِ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذَا إيجَابُ تَحْرِيمٍ فَلَا يَقَعُ إلَّا بِالدَّوَامِ عَلَيْهِ ، وَلَوْ قَالَ : هَذِهِ بِنْتِي مِنْ نَسَبٍ وَثَبَتَ عَلَيْهِ وَلَهَا نَسَبٌ مَعْرُوفٌ لَمْ يُفَرَّقْ لِأَنَّ الظَّاهِرَ يُكَذِّبُهُ ، وَكَذَا فِي هِيَ أَمِّي وَلَهُ أُمٌّ مَعْرُوفَةٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا نَسَبٌ مَعْرُوفٌ وَمِثْلُهَا يُولَدُ لِمِثْلِهِ وَثَبَتَ عَلَيْهِ فُرِّقَ وَكَذَا هِيَ أُخْتِي .

وَاخْتُلِفَ فِي لَسْت لِي بِامْرَأَةٍ وَمَا أَنَا لَك بِزَوْجٍ وَنَوَى الطَّلَاقَ يَقَعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا لَا لِأَنَّ نَفْيَ النِّكَاحِ لَيْسَ طَلَاقًا بَلْ كَذِبٌ فَهُوَ كَقَوْلِهِ : لَمْ أَتَزَوَّجْك أَوْ وَاَللَّهِ مَا أَنْتِ لِي امْرَأَةٌ ، أَوْ لَوْ سُئِلَ هَلْ لَك امْرَأَةٌ ؟ فَقَالَ : لَا وَنَوَى الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ كَذَا هُنَا .
وَلَهُ أَنَّهَا تَحْتَمِلُهُ : أَيْ لَسْت لِي بِامْرَأَةٍ لِأَنِّي طَلَّقْتُك فَيَصِحُّ نَفْيُهُ كَمَا فِي لَا نِكَاحَ بَيْنِي وَبَيْنَك وَمَسْأَلَةُ الْحَلِفِ مَمْنُوعَةٌ ، وَبَعْدَ التَّسْلِيمِ نَقُولُ بِدَلَالَةِ الْيَمِينِ عَلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ النَّفْيَ عَنْ الْمَاضِي لَا فِي الْحَالِ لِأَنَّ الْحَلِفَ يَكُونُ فِيمَا يَدْخُلُهُ الشَّكُّ لَا فِي إنْشَاءِ النَّفْيِ فِي الْحَالِ .
وَقَوْلُهُ : لَمْ أَتَزَوَّجْك جُحُودٌ لَا يَحْتَمِلُ الْإِنْشَاءَ إذْ الطَّلَاقُ لَا يُتَصَوَّرُ بِلَا نِكَاحٍ ، وَكَذَا بِدَلَالَةِ السُّؤَالِ عُرِفَ أَنَّهُ أَرَادَ النَّفْيَ فِي الْمَاضِي .
وَفِي فَتَاوَى صَاحِبِ النَّاقِعِ : إذَا قَالَتْ لِزَوْجِهَا لَسْت لِي بِزَوْجٍ فَقَالَ صَدَقْت يَنْوِي طَلَاقَهَا يَقَعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا قَالَ : لَسْت أَوْ مَا أَنْتِ امْرَأَتِي أَوْ لَسْت أَوْ مَا أَنَا زَوْجُك عِنْدَهُ يَقَعُ بِالنِّيَّةِ وَأَلْغَيَاهُ ، وَيَتَّصِلُ بِالْكِنَايَاتِ الطَّلَاقُ بِالْكِتَابَةِ لَوْ كَتَبَ طَلَاقًا أَوْ عَتَاقًا عَلَى مَا لَا يَسْتَبِينُ فِيهِ الْخَطُّ كَالْهَوَاءِ وَالْمَاءِ وَالصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ لَا يَقَعُ نَوَى بِهِ أَوْ لَمْ يَنْوِ ، وَكَذَا إذَا كَتَبَ عَلَى لَوْحٍ أَوْ حَائِطٍ أَوْ أَرْضٍ أَوْ فِي كِتَابٍ إلَّا أَنَّهُ لَا يَسْتَبِينُ لَا يَقَعُ وَإِنْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ لِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْكِتَابَةِ كَصَوْتٍ لَا يَسْتَبِينُ مِنْهُ حُرُوفٌ ، فَلَوْ وَقَعَ وَقَعَ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ ، فَإِنْ كَانَ مُسْتَبِينًا لَكِنْ لَا عَلَى رَسْمِ الرِّسَالَةِ وَالْخِطَابِ فَإِنَّهُ يَنْوِي فِيهِ ، كَالْكَلَامِ الْمُكَنَّى لَا يَقَعُ إلَّا بِالنِّيَّةِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَكْتُبُ مِثْلَهُ لِلْإِيقَاعِ وَقَدْ يَكْتُبُ مِثْلَهُ لِتَجْرِبَةِ

الْخَطِّ ، فَإِنْ كَانَ صَحِيحًا يُبَيِّنُ نِيَّتَهُ بِلِسَانِهِ ، وَإِنْ كَانَ أَخْرَسَ يُبَيِّنُ نِيَّتَهُ بِكِتَابَتِهِ هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ خِطَابًا أَوْ رِسَالَةً ، فَإِنْ كَانَ عَلَى رَسْمِ كَتْبِ الرِّسَالَةِ بِأَنْ كَتَبَ أَمَّا بَعْدُ يَا فُلَانَةُ فَأَنْتِ طَالِقٌ أَوْ أَنْتِ حُرٌّ أَوْ إذَا وَصَلَ إلَيْك كِتَابِي فَأَنْتِ طَالِقٌ فَإِنَّهُ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ ، وَلَا يُصَدَّقُ فِي عَدَمِ النِّيَّةِ ، كَمَا لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ قَالَ : نَوَيْت مِنْ وَثَاقٍ لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ ، ثُمَّ يَقَعُ عَقِيبَ الْكِتَابَةِ إذَا لَمْ يُعَلِّقْهُ مِثْلُ أَنْ يَكْتُبَ : امْرَأَتُهُ طَالِقٌ أَوْ فُلَانَةُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَتَبَ إذَا وَصَلَ إلَيْك فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ بِدُونِ الْوُصُولِ إلَيْهَا ، وَقَالُوا فِيمَنْ كَتَبَ كِتَابًا عَلَى وَجْهِ الرِّسَالَةِ وَفِيهِ إذَا وَصَلَ إلَيْك كِتَابِي فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ بَدَا لَهُ فَمَحَا ذِكْرَ الطَّلَاقِ مِنْهُ .
وَأَنْفَذَهُ وَأَسْطُرُهُ بَاقِيَةٌ وَقَعَ إذَا وَصَلَ ، وَلَوْ مَحَاهُ حَتَّى لَمْ يَبْقَ فِيهِ كَلَامٌ يَكُونُ رِسَالَةً لَمْ يَقَعُ ، وَإِنْ وَصَلَ لِعَدَمِ وُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ وُصُولُ الْكِتَابِ وَعَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ ، وَمَا وَقَعَ فِي تَفْصِيلِ بَعْضِهِمْ مِنْ أَنَّهُ إذَا مَحَا مَا سِوَى كِتَابَةِ الطَّلَاقِ وَأَنْفَذَهُ فَوَصَلَ إلَيْهَا لَا يَقَعُ فَمَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الرِّسَالَةَ الْمُتَضَمِّنَةَ لِمُجَرَّدِ الطَّلَاقِ لَا تَكُونُ كِتَابًا ، وَفِيهِ نَظَرٌ .
وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّهُ لَوْ مَحَا أَكْثَرَ مَا قَبْلَهُ فَأَرْسَلَهُ لَا يَقَعُ أَبْعَدُ مِنْ الْأَوَّلِ إذْ مُقْتَضَاهُ انْتِفَاءُ الْكِتَابِ بِانْتِفَاءِ ذِكْرِ كَثْرَةِ الْحَوَائِجِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ .
.

وَلَوْ كَتَبَ الصَّحِيحَ إلَى امْرَأَتِهِ بِطَلَاقِهَا ثُمَّ أَنْكَرَ الْكِتَابَ وَقَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ كَتَبَهُ بِيَدِهِ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا فِي الْقَضَاءِ ، أَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى إنْ كَانَ لَمْ يَنْوِ بِهِ الطَّلَاقَ فَهِيَ امْرَأَتُهُ ، وَلَوْ كَتَبَ إلَيْهَا : أَمَّا بَعْدُ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، إنْ كَانَ مَوْصُولًا بِكِتَابَتِهِ لَا تَطْلُقُ ، وَإِنْ كَتَبَ الطَّلَاقَ ثُمَّ فَتَرَ فَتْرَةً ثُمَّ كَتَبَ إنْ شَاءَ اللَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ لِأَنَّ الْمَكْتُوبَ إلَى الْغَائِبِ كَالْمَلْفُوظِ ، كَذَا فِي الْفَتَاوَى الْكُبْرَى لِلْخَاصِّيِّ وَالْخُلَاصَةِ .
وَفِيهَا مَعْزُوًّا إلَى الْمُنْتَقَى : إذَا كَتَبَ كِتَابَ الطَّلَاقِ ثُمَّ نَسَخَهُ فِي كِتَابٍ آخَرَ أَوْ أَمَرَ غَيْرَهُ حِينَ كَتَبَ وَلَمْ يُمِلَّ هُوَ فَأَتَاهَا الْكِتَابَانِ طَلُقَتْ تَطْلِيقَتَيْنِ قَضَاءً ، وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى تَقَعُ وَاحِدَةٌ انْتَهَى .
وَعَلَى هَذَا لَوْ وَصَلَ أَحَدُهُمَا تَقَعُ وَاحِدَةٌ قَضَاءً وَدِيَانَةً ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا فِيمَا إذَا كَانَ الطَّلَاقُ مُعَلَّقًا بِوُصُولِ الْكِتَابِ ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ مُعَلَّقًا فَلَا إشْكَالَ فِي أَنَّهُ يَقَعُ ثِنْتَانِ قَضَاءً لَا دِيَانَةً إلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِهِ طَلَاقًا آخَرَ ، وَكُلُّ مَا ذَكَرْنَاهُ ثَابِتٌ فِي حَقِّ الْأَخْرَسِ نَحْوُهُ إنْ كَانَ يَكْتُبُ ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ ذَلِكَ مِنْهُ بِأَنْ يَسْأَلَ بِكِتَابٍ فَيُجِيبُ بِكِتَابَةٍ بِالنِّيَّةِ ، فَإِنْ كَانَ لَا يَكْتُبُ وَلَهُ إشَارَةٌ مَعْلُومَةٌ يُعْرَفُ بِهَا طَلَاقُهُ وَنِكَاحُهُ وَبَيْعُهُ فَهِيَ كَالْكَلَامِ فِي حَقِّهِ ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ مِنْهُ ذَلِكَ أَوْ شَكَكْنَا فِيهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ .
وَالْقِيَاسُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ أَنَّهُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ أَحْكَامَ الْأَخْرَسِ فِي هَذِهِ فِي آخِرِ الْكِتَابِ .

ثُمَّ وُقُوعُ الْبَائِنِ بِمَا سِوَى الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ مَذْهَبُنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَقَعُ بِهَا رَجْعِيٌّ لِأَنَّ الْوَاقِعَ بِهَا طَلَاقٌ ، لِأَنَّهَا كِنَايَاتٌ عَنْ الطَّلَاقِ وَلِهَذَا تُشْتَرَطُ النِّيَّةُ وَيُنْتَقَصُ بِهِ الْعَدَدُ ، وَالطَّلَاقُ مُعْقِبٌ لِلرَّجْعَةِ كَالصَّرِيحِ .
وَلَنَا أَنَّ تَصَرُّفَ الْإِبَانَةِ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ مُضَافًا إلَى مَحِلِّهِ عَنْ وِلَايَةٍ شَرْعِيَّةٍ ، وَلَا خَفَاءَ فِي الْأَهْلِيَّةِ وَالْمَحَلِّيَّةِ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى الْوِلَايَةِ أَنَّ الْحَاجَةَ مَاسَّةٌ إلَى إثْبَاتِهَا كَيْ لَا يَنْسَدَّ عَلَيْهِ بَابُ التَّدَارُكِ وَلَا يَقَعُ فِي عُهْدَتِهَا بِالْمُرَاجَعَةِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ ، وَلَيْسَتْ كِنَايَاتٍ عَلَى التَّحْقِيقِ لِأَنَّهَا عَوَامِلُ فِي حَقَائِقِهَا ، وَالشَّرْطُ تَعْيِينُ أَحَدِ نَوْعَيْ الْبَيْنُونَةِ دُونَ الطَّلَاقِ ، وَانْتِقَاصُ الْعَدَدِ لِثُبُوتِ الطَّلَاقِ بِنَاءً عَلَى زَوَالِ الْوَصْلَةِ ، وَإِنَّمَا تَصِحُّ نِيَّةُ الثَّلَاثِ فِيهَا لِتَنَوُّعِ الْبَيْنُونَةِ إلَى غَلِيظَةٍ وَخَفِيفَةٍ ، وَعِنْدَ انْعِدَامِ النِّيَّةِ يَثْبُتُ الْأَدْنَى ، وَلَا تَصِحُّ نِيَّةُ الِاثْنَتَيْنِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ لِأَنَّهُ عَدَدٌ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ .

( قَوْلُهُ : ثُمَّ وُقُوعُ الْبَائِنِ بِمَا سِوَى الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ مَذْهَبُنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَقَعُ بِهَا رَجْعِيٌّ لِأَنَّ الْوَاقِعَ بِهَا طَلَاقٌ ) وَالطَّلَاقُ بِلَا مَالٍ يُعْقِبُ الرَّجْعَةَ بِالنَّصِّ ، وَلَا حَاجَةَ إلَى إثْبَاتِ الْأَوَّلِ بِأَنَّهَا كِنَايَاتٌ عَنْهُ حَتَّى أُرِيدَ هُوَ بِهَا لِيَدْفَعَ بِأَنَّ كَوْنَهَا كِنَايَاتٍ مَجَازٌ بَلْ عَوَامِلُ بِحَقَائِقِهَا كَمَا سَنَذْكُرُ بَلْ يَكْتَفِي بِالِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ الْوَاقِعَ طَلَاقٌ وَالثَّانِي بِالنَّصِّ .
فَإِنْ قِيلَ : النَّصُّ إنَّمَا أَفَادَ الرَّجْعَةَ بِالطَّلَاقِ الصَّرِيحِ مَنَعْنَاهُ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } الْمُعَقَّبَ بِقَوْلِهِ { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ } أَعَمُّ مِنْ الطَّلَاقِ الصَّرِيحِ وَغَيْرِهِ لِأَنَّ النِّسْبَةَ إلَى مَعْنَى اللَّفْظِ لَا إلَى اللَّفْظِ ، غَيْرَ أَنَّهُ خَصَّ مِنْهُ الطَّلَاقَ عَلَى مَالٍ بِالنَّصِّ الْمُقَارَنِ لَهَا أَعْنِي نَصَّ الِافْتِدَاءِ لِمَا عُرِفَ مِنْ أَنَّ الِافْتِدَاءَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالْبَيْنُونَةِ وَإِلَّا يَذْهَبُ مَالُهَا وَلَا يُفِيدُ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْكِتَابَ يُفِيدُ أَنَّ الطَّلَاقَ يُعْقِبُ الرَّجْعَةَ إلَّا مَا كَانَ عَلَى مَالٍ أَوْ ثَلَاثًا .
وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ وَلَنَا أَنَّ تَصَرُّفَ الْإِبَانَةِ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ مُضَافًا إلَى مَحَلِّهِ عَنْ وِلَايَةٍ شَرْعِيَّةٍ ، وَلَمَّا اسْتَشْعَرَ مَنْعَ ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ شَرْعًا أَثْبَتَهَا بِقَوْلِهِ : الْحَاجَةُ مَاسَّةٌ إلَى إثْبَاتِ الْإِبَانَةِ كَيْ لَا يَنْسَدَّ عَلَيْهِ بَابُ التَّدَارُكِ وَلَا يَقَعَ فِي عُهْدَتِهَا بِالْمُرَاجَعَةِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ فَقَرَّرَ بِأَنَّ الْمَشْرُوعَاتِ لِدَفْعِ حَاجَةِ الْعِبَادِ ، وَالزَّوْجُ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى الْإِبَانَةِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَتَكُونُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ ثَابِتَةً دَفْعًا لِحَاجَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَبَانَهَا بِالثَّلَاثِ عَصَى ، وَلَوْ طَلَّقَهَا رَجْعِيًّا رُبَّمَا تَتَرَاءَى لَهُ مَصْلَحَةٌ فِي الرَّجْعَةِ فَيُرَاجِعُهَا فَيَبْدُو لَهُ فَيُطَلِّقُهَا ثَانِيًا وَثَالِثًا فَيُؤَدِّي إلَى اسْتِيفَاءِ الْعَدَدِ وَهُوَ حَرَامٌ وَفِيهِ

يَنْسَدُّ بَابُ التَّدَارُكِ ، فَشَرَعَ لَهُ الْإِبَانَةَ عَلَى وَجْهٍ يُمْكِنُهُ التَّدَارُكَ لِبَقَاءِ الْمَحَلِّيَّةِ حَتَّى لَوْ بَدَا لَهُ أَمْكَنَهُ التَّزَوُّجَ وَلَا يَخْفَى بَعْدَهُ عَنْ اللَّفْظِ .
وَالْأَوْجَهُ فِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ هَكَذَا قَدْ يَحْتَاجُ إلَى الْإِبَانَةِ وَالثَّلَاثُ بِكَلِمَةٍ " حَرَامٌ " وَتَفْرِيقُهَا عَلَى مَا ذُكِرَ كَذَلِكَ فَلَزِمَ أَنْ تُشْرَعَ لَهُ الْإِبَانَةُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ يَعْنِي شَرْعَ الْوَاحِدَةِ الْبَائِنَةِ .
وَالْأَقْرَبُ إلَى اللَّفْظِ مَا قِيلَ : إنَّهُ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى الْإِبَانَةِ كَيْ لَا يَقَعَ فِي الرَّجْعَةِ بِغَيْرِ قَصْدٍ مِنْهُ بِأَنْ تَفْجَأَهُ الْمَرْأَةُ فَتُقَبِّلَهُ بِشَهْوَةٍ فَيَصِيرُ مُرَاجِعًا وَهُوَ لَا يُرِيدُهَا فَيَحْتَاجُ إلَى طَلَاقٍ ثَانٍ وَثَالِثٍ فَيَنْسَدُّ بَابُ التَّدَارُكِ ، فَهُوَ لِأَجْلِ ذَلِكَ مُحْتَاجٌ إلَى أَنْ تُشْرَعَ لَهُ الْإِبَانَةُ كَذَلِكَ كَيْ لَا تَفُوتَ هَذِهِ الْمَصْلَحَةُ .
وَدَفَعَ بِأَنَّ هَذِهِ مَصْلَحَةٌ ، وَثُبُوتُ التَّمَكُّنِ مِنْ إعَادَتِهَا إذَا ظَهَرَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ طَلَبُهَا وَتَغَيَّرَ رَأْيُهُ مَعَ أَنَّ الْإِنْسَانَ مَحَلُّ التَّغَيُّرِ مَصْلَحَةٌ أُخْرَى أَكِيدَةٌ ، إذْ كَثِيرًا مَا يَقَعُ ذَلِكَ بَلْ وُقُوعُهُ بِالْمُشَاهَدَةِ أَكْثَرُ مِنْ وُقُوعِ طَلَاقٍ لَمْ تَدْعُ النَّفْسُ بَعْدَهُ إلَى مُرَاجَعَةٍ ، وَمَعَ الْإِبَانَةِ لَهَا أَنْ تَمْتَنِعَ فَيَحْصُلَ لَهُ ضَرَرٌ شَدِيدٌ ، وَهَذِهِ لَا تَتَرَتَّبُ إلَّا عَلَى عَدَمِ الْإِبَانَةِ فَاقْتَضَتْ عَدَمَ شَرْعِيَّتِهَا ، بِخِلَافِ تِلْكَ إذْ يُمْكِنُ تَحْصِيلُهَا مَعَ عَدَمِ شَرْعِيَّةِ الْإِبَانَةِ بِيَسِيرٍ مِنْ الِاحْتِرَاسِ مِنْ فَجْأَتِهَا مُقَبِّلَةً وَنَحْوِهِ ، فَكَانَ اعْتِبَارُ مَنْعِ الْإِبَانَةِ أَجْلَبَ لِلْمَصْلَحَةِ مِنْ غَيْرِ تَفْوِيتِ الْمَصْلَحَةِ الْأُخْرَى ، فَإِنْ أَرَدْت تَخْصِيصَ نَصِّ إعْقَابِ الطَّلَاقِ الرَّجْعَةَ بِالْقِيَاسِ بَعْدَ تَخْصِيصِهِ بِالِافْتِدَاءِ نَصًّا لِأَنَّ التَّخْصِيصَ بِالْقِيَاسِ بَعْدَ التَّخْصِيصِ بِالنَّصِّ جَائِزٌ لَمْ يَتِمَّ الْمَعْنَى فِيهِ وَلَمْ يَلْزَمْ ؛ لِأَنَّ حَاجَتَهُ إلَى الْخَلَاصِ بِالْإِبَانَةِ لَيْسَ كَحَاجَةِ

الْمَرْأَةِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الْإِبَانَةِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُعْقِبُ النَّدَمَ لِتَرْكِهَا بَعْدَ الرَّجْعَةِ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ أَوْ تَفْرِيقُ الثَّلَاثِ عَلَى الْأَطْهَارِ بِخِلَافِهَا فَلَمْ يَتَوَقَّفْ دَفْعُ حَاجَتِهِ عَلَى شَرْعِيَّةِ الْوَاحِدَةِ الْبَائِنَةِ وَلِذَا رَجَّحْنَا كَرَاهَةَ الْوَاحِدَةِ الْبَائِنَةِ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الطَّلَاقِ بَعْدَمَا حَقَّقْنَا سَبَبَ تَحَقُّقِ الْحَاجَةِ إلَى الْإِبَانَةِ مِنْ الْفِطَامِ .
هَذَا وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمَعْنَيَيْنِ أَعْنِي عَدَمَ انْسِدَادِ بَابِ التَّدَارُكِ وَبَابِ الرَّجْعَةِ إذَا تَغَيَّرَ رَأْيُهُ مِنْ بَابِ دَفْعِ الْمَفْسَدَةِ لَا جَلْبِ الْمَصْلَحَةِ .
وَالْوَجْهُ فِي الِاسْتِدْلَالِ أَنْ يُقَالَ : لَمَّا أَثْبَتَ الشَّرْعُ الْإِيقَاعَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ فَقَدْ أَثْبَتَ الْإِبَانَةَ لِأَنَّهَا مَعْنَاهَا ، وَقَوْلُهُ : الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ أَيْ الْمَسْنُونُ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى صِحَّةِ وُقُوعِ الثَّلَاثَةِ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ خُصُوصًا عِنْدَهُ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَكْرُوهٍ وَأَيْضًا لَفْظُ بَائِنٍ مَثَلًا يَقَعُ بِهِ الْبَيْنُونَةُ الْغَلِيظَةُ بِفَمٍ وَاحِدٍ فَتَقَعُ بِهِ الْخَفِيفَةُ كَالطَّلَاقِ لَمَّا وَقَعَ بِالْغَلِيظَةِ وَقَعَ بِهِ الْخَفِيفَةُ .
وَأَيْضًا خَصَّ مِنْهُ الطَّلَاقَ بِمَالٍ فَلَمْ يَبْقَ الْعُمُومُ مِنْهُ مُرَادًا فَحَاصِلُهُ الطَّلَاقُ الْمَسْنُونُ بِلَا مَالٍ يُعْقِبُ الرَّجْعَةَ فَقَدْ أَخْرَجَ مِنْهُ ذَلِكَ ، وَحِينَ ثَبَتَ شَرْعُ الْإِيقَاعِ بِلَفْظِ بَائِنَةٍ ثَبَتَ أَيْضًا إخْرَاجُ الْوَاحِدَةِ الْبَائِنَةِ بِلَا مَالٍ لِأَنَّ شَرْعَ الْإِيقَاعِ بِهِ هُوَ جَعْلُ اللَّفْظِ سَبَبًا لِوُجُوبِ مَعْنَاهُ وَمَعْنَاهُ الْبَيْنُونَةُ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى إيقَاعِ الثَّلَاثِ شَرْعًا بِهِ تَحْلِيفُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا رُكَانَةَ حِينَ طَلَّقَهَا أَلْبَتَّةَ أَنَّهُ مَا أَرَادَ إلَّا وَاحِدَةً ، وَشَرَحَ قَوْلَهُ وَلَيْسَتْ كِنَايَاتٍ عَلَى التَّحْقِيقِ لِأَنَّهَا عَوَامِلُ فِي حَقَائِقِهَا : يَعْنِي لَا تَرَدُّدَ فِي الْمُرَادِ لِلْقَطْعِ بِأَنَّ مَعْنَى بَائِنٍ الْحَقِيقِيَّ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الِاتِّصَالِ مُرَادٌ ، وَكَذَا الْبَتُّ

وَالْبَتْلُ : الْقَطْعُ ، وَالتَّرَدُّدُ إنَّمَا هُوَ فِي مُتَعَلِّقِهَا : أَعْنِي الْوَصْلَةَ وَهِيَ أَعَمُّ مِنْ وَصْلَةِ النِّكَاحِ وَالْخَيْرَاتِ وَالشَّرِّ ، فَإِذَا تَعَيَّنَ بِالنِّيَّةِ عُمِلَ بِحَقِيقَتِهِ ، وَكَذَا مَعْنَى الْحَرَامِ وَالْخَلِيَّةِ وَالْبَرِيَّةِ مَعْلُومٌ وَالتَّرَدُّدُ فِي كَوْنِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ أَوْ إلَى غَيْرِهِ مِنْ الرِّجَالِ ، فَإِذَا عَيَّنَ الْمُرَادَ بِالنِّيَّةِ عَمِلَ اللَّفْظُ بِوَضْعِهِ ، وَإِنَّمَا أُطْلِقَ عَلَيْهِ كِنَايَةٌ مَجَازًا لِلتَّرَدُّدِ فِي ذَلِكَ الْمُتَعَلِّقِ الَّذِي بِهِ يَتَعَيَّنُ الْفَرْدُ الْمُسْتَعْمَلُ فِيهِ اللَّفْظُ .
وَالْوَجْهُ أَنَّ إطْلَاقَ اسْمِ الْكِنَايَةِ حَقِيقَةٌ لِأَنَّ الْكِنَايَةَ لَا تُسَاوِي الْمَجَازَ بَلْ قَدْ تَكُونُ حَقِيقَةً لِأَنَّهَا بِتَعَدُّدِ الْمَعْنَى وَقَدْ تَكُونُ حَقِيقَةً فِيهَا ، وَقَدْ حُقِّقَ فِي نَحْوِ : طَوِيلُ النِّجَادِ وَكَثِيرُ الرَّمَادِ أَنَّ الْمُرَادَ حَقِيقَةً طُولُ النِّجَادِ وَكَثْرَةُ الرَّمَادِ ، لَكِنْ لَا يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ بَلْ لِيَعْبُرَ مِنْهُ إلَى طُولِ الْقَامَةِ وَكَثْرَةِ الْأَضْيَافِ ، فَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ : كَوْنُهَا كِنَايَةً لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهَا مَجَازًا عَنْ الطَّلَاقِ .
وَتَحْقِيقُهُ أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ مَعْنَوِيٌّ مِنْ قَبِيلِ الْمُشَكَّكِ ، فَالْقَطْعُ الْمُتَعَلِّقُ بِالنِّكَاحِ فَرْدٌ مِنْ نَوْعٍ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وَالْمُتَعَلِّقُ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ كَذَلِكَ ، فَإِذَا لَمْ يَذْكُرْ مُتَعَلِّقَهُ احْتَمَلَ كَمَا يَحْتَمِلُ رَجُلٌ كُلًّا مِنْ زَيْدٍ وَعَمْرٍو وَغَيْرَهُمَا .
وَالْوَجْهُ أَنْ يَقُولَ : إنَّهَا عَوَامِلُ بِحَقَائِقِهَا أَوْ بِحَقِيقَةِ مَا اُسْتُعْمِلَتْ فِيهِ ، وَهَذَا لِأَنَّ نَحْوَ : حَبْلُك عَلَى غَارِبِك مَجَازٌ عَنْ التَّخْلِيَةِ وَالتَّرْكِ وَهُوَ بِالْبَيْنُونَةِ ، وَكَذَا وَهَبْتُك لِأَهْلِك لِتَعَذُّرِ حَقِيقَةِ الْهِبَةِ : أَعْنِي التَّمْلِيكَ فَهُوَ مَجَازٌ عَنْ رَدَدْتُك عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ ، وَقِيَاسُ الْبَاقِي سَهْلٌ ، وَبِهَذَا ظَهَرَ أَنَّهُ لَا يُرَادُ بِهَا الطَّلَاقُ بَلْ الْبَيْنُونَةُ لِأَنَّهَا هِيَ مَعْنَى اللَّفْظِ الدَّائِرِ فِي الْإِفْرَادِ وَهِيَ مُتَنَوِّعَةٌ إلَى

غَلِيظَةٍ وَهِيَ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى الثَّلَاثِ ، وَخَفِيفَةٍ كَالْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى الْخُلْعِ فَأَيُّهُمَا أَرَادَ صَحَّ ، وَيَثْبُتُ مَا يَثْبُتُ بِلَفْظِ طَالِقٍ عَلَى مَالٍ وَطَالِقٍ ثَلَاثًا .
وَحَاصِلُهُ أَنَّ مَا يَثْبُتُ عِنْدَ طَالِقٍ شَرْعًا لَازِمٌ أَعَمُّ يَثْبُتُ عِنْدَهُ وَعِنْدَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ وَالْخُلْعِ ، فَقَوْلُنَا : يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ حِينَئِذٍ مَعْنَاهُ يَقَعُ لَازِمُ لَفْظِ الطَّلَاقِ شَرْعًا ، وَانْتِقَاصُ عَدَدِهِ هُوَ بِتَعَدُّدِ وُقُوعِ ذَلِكَ اللَّازِمِ وَاسْتِكْمَالِهِ فِي ذَلِكَ وَبِإِرْسَالِ لَفْظِ الثَّلَاثِ ، بَلْ مَعْنَى وَقَعَ الطَّلَاقُ وَقَعَ اللَّازِمُ الشَّرْعِيُّ لِأَنَّهُ هُوَ مَعْنَى لَفْظِ الطَّلَاقِ عَلَى مَا يُفِيدُهُ مَا أَسْلَفْنَاهُ فِي فَاتِحَةِ كِتَابِ الطَّلَاقِ فَارْجِعْ إلَيْهَا ، فَالْوَاقِعُ بِالْكِنَايَةِ هُوَ الطَّلَاقُ بِلَا تَأْوِيلٍ .
وَتَقْرِيرُ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الْوَاقِعَ الْبَيْنُونَةُ بِالْكِنَايَاتِ ثُمَّ يَنْتَقِصُ الْعَدَدُ بِنَاءً عَلَى زَوَالِ الْوَصْلَةِ .
وَهَذَا جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَيَنْتَقِصُ بِهِ وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ غَيْرُهُ ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ زَوَالِ وَصْلَةِ النِّكَاحِ وُقُوعُ الطَّلَاقِ لِتَحَقُّقِ زَوَالِهَا فِي الْفُسُوخِ مَعَ عَدَمِ الطَّلَاقِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ زَوَالَ الْوَصْلَةِ لَا بُدَّ أَنْ يَسْتَعْقِبَ فِي غَيْرِ الْفَسْخِ النُّقْصَانَ ، وَالِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ الثَّابِتَ بِالْكِنَايَةِ لَيْسَ فَسْخًا فَلَزِمَهُ نُقْصَانُ الْعَدَدِ ( قَوْلُهُ : وَلَا تَصِحُّ نِيَّةُ الثِّنْتَيْنِ ) أَيْ بِالْكِنَايَاتِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ فِي بَابِ إيقَاعِ الطَّلَاقِ فِي التَّطْلِيقِ بِالْمَصْدَرِ .

( وَإِنْ قَالَ لَهَا : اعْتَدِّي اعْتَدِّي اعْتَدِّي وَقَالَ : نَوَيْت بِالْأُولَى طَلَاقًا وَبِالْبَاقِي حَيْضًا دِينَ فِي الْقَضَاءِ ) لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ ، وَلِأَنَّهُ يَأْمُرُ امْرَأَتَهُ فِي الْعَادَةِ بِالِاعْتِدَادِ بَعْدَ الطَّلَاقِ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهُ ( وَإِنْ قَالَ : لَمْ أَنْوِ بِالْبَاقِي شَيْئًا فَهِيَ ثَلَاثٌ ) لِأَنَّهُ لَمَّا نَوَى بِالْأُولَى الطَّلَاقَ صَارَ الْحَالُ حَالَ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ فَتَعَيَّنَ الْبَاقِيَانِ لِلطَّلَاقِ بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ فَلَا يُصَدَّقُ فِي نَفْيِ النِّيَّةِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ : لَمْ أَنْوِ بِالْكُلِّ الطَّلَاقَ حَيْثُ لَا يَقَعُ شَيْءٌ لِأَنَّهُ لَا ظَاهِرَ يُكَذِّبُهُ ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ : نَوَيْت بِالثَّالِثَةِ الطَّلَاقَ دُونَ الْأُولَيَيْنِ حَيْثُ لَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةً لِأَنَّ الْحَالَ عِنْدَ الْأُولَيَيْنِ لَمْ تَكُنْ حَالَ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ ، وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ يُصَدَّقُ الزَّوْجُ عَلَى نَفْيِ النِّيَّةِ إنَّمَا يُصَدَّقُ مَعَ الْيَمِينِ لِأَنَّهُ أَمِينٌ فِي الْإِخْبَارِ عَمَّا فِي ضَمِيرِهِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَمِينِ مَعَ الْيَمِينِ .

( قَوْلُهُ : وَلَوْ قَالَ لَهَا اعْتَدِّي اعْتَدِّي اعْتَدِّي ) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَحْتَمِلُ وُجُوهًا : أَنْ يَنْوِيَ بِكُلٍّ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ طَلَاقًا ، أَوْ بِالْأُولَى طَلَاقًا لَا غَيْرُ ، أَوْ بِالْأُولَى حَيْضًا لَا غَيْرُ ، وَبِالْأُولَيَيْنِ طَلَاقًا لَا غَيْرُ ، أَوْ بِالْأُولَى وَالثَّالِثَةِ طَلَاقًا لَا غَيْرُ ، أَوْ بِالثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ طَلَاقًا وَبِالْأُولَى حَيْضًا ، وَفِي هَذِهِ الْوُجُوهِ السِّتَّةِ تَطْلُقُ ثَلَاثًا .
أَوْ يَنْوِيَ بِالثَّانِيَةِ طَلَاقًا لَا غَيْرُ ، أَوْ بِالْأُولَى طَلَاقًا وَبِالثَّانِيَةِ حَيْضًا لَا غَيْرُ ، أَوْ بِالْأُولَى طَلَاقًا وَبِالثَّالِثَةِ حَيْضًا لَا غَيْرُ ، أَوْ بِالْأُخْرَيَيْنِ طَلَاقًا لَا غَيْرُ ، أَوْ بِالْأُولَيَيْنِ حَيْضًا لَا غَيْرُ ، أَوْ بِالْأُولَى وَالثَّالِثَةِ حَيْضًا لَا غَيْرُ ، أَوْ بِالْأُولَى وَالثَّانِيَةِ طَلَاقًا وَبِالثَّالِثَةِ حَيْضًا ، أَوْ بِالْأُولَى وَالثَّالِثَةِ طَلَاقًا وَبِالثَّانِيَةِ حَيْضًا ، أَوْ بِالْأُولَى وَالثَّانِيَةِ حَيْضًا وَبِالثَّالِثَةِ طَلَاقًا أَوْ بِالْأُولَى وَالثَّالِثَةِ حَيْضًا وَالثَّانِيَةِ طَلَاقًا أَوْ بِالثَّانِيَةِ حَيْضًا لَا غَيْرُ وَفِي هَذِهِ الْأَحَدَ عَشَرَ تَطْلُقُ ثِنْتَيْنِ أَوْ يَنْوِي بِكُلٍّ مِنْهَا حَيْضًا ، أَوْ بِالثَّالِثَةِ طَلَاقًا لَا غَيْرُ أَوْ بِالثَّالِثَةِ حَيْضًا لَا غَيْرُ ، أَوْ بِالثَّانِيَةِ طَلَاقًا ، أَوْ بِالثَّالِثَةِ حَيْضًا لَا غَيْرُ ، أَوْ بِالثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ حَيْضًا ، وَبِالْأُولَى طَلَاقًا أَوْ بِالْأُخْرَيَيْنِ حَيْضًا لَا غَيْرُ ، وَفِي هَذِهِ الْوُجُوهِ السِّتَّةِ تَطْلُقُ وَاحِدَةً ، أَوْ لَمْ يَنْوِ بِكُلٍّ مِنْهَا شَيْئًا فَلَا يَقَعُ فِي هَذَا الْوَجْهِ شَيْءٌ .
وَالْأَصْلُ أَنَّهُ إذَا نَوَى الطَّلَاقَ بِوَاحِدَةٍ تَثْبُتُ حَالَ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ فَلَا يُصَدَّقُ فِي عَدَمِ نِيَّةِ شَيْءٍ بِمَا بَعْدَهَا ، وَيُصَدَّقُ فِي نِيَّةِ الْحَيْضِ لِظُهُورِ الْأَمْرِ بِاعْتِدَادِ الْحَيْضِ عَقِيبَ الطَّلَاقِ ، وَإِذَا لَمْ يَنْوِ الطَّلَاقَ بِشَيْءٍ صَحَّ ، وَكَذَا كُلُّ مَا قَبْلَ الْمَنْوِيِّ بِهَا ، وَنِيَّةُ الْحَيْضِ بِوَاحِدَةٍ غَيْرِ مَسْبُوقَةٍ بِوَاحِدَةٍ مَنْوِيٍّ

بِهَا الطَّلَاقُ يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ ، وَتَثْبُتُ بِهَا حَالَةُ الْمُذَاكَرَةِ فَيَجْرِي فِيهَا الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ لَهَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ مَسْبُوقَةً بِوَاحِدَةٍ أُرِيدَ بِهَا الطَّلَاقُ حَيْثُ لَا يَقَعُ بِهَا الطَّلْقَةُ الثَّانِيَةُ لِصِحَّةِ الِاعْتِدَادِ بَعْدَ الطَّلَاقِ .
وَلَا يَخْفَى التَّخْرِيجُ بَعْدَ هَذَا ، وَأَنَّ هَذَا فِيمَا إذَا كَانَ الْخِطَابُ مَعَ مَنْ هِيَ مِنْ ذَوَاتِ الْحَيْضِ ، فَلَوْ كَانَتْ آيِسَةً أَوْ صَغِيرَةً فَقَالَ : أَرَدْت بِالْأَوَّلِ طَلَاقًا وَبِالْبَاقِي تَرَبُّصًا بِالْأَشْهُرِ كَانَ حُكْمُهُ مِثْلَ مَا نَحْنُ فِيهِ ، وَلَوْ قَالَ : نَوَيْت بِهِنَّ وَاحِدَةً فَهُوَ كَمَا قَالَ دِيَانَةً لِاحْتِمَالِ قَصْدِ التَّأْكِيدِ كَأَنْتِ طَالِقٌ طَالِقٌ طَالِقٌ لَا قَضَاءَ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ ، وَعَلِمْت أَنَّ الْمَرْأَةَ كَالْقَاضِي لَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تُمَكِّنَهُ مِنْ نَفْسِهَا إذَا عَلِمَتْ مِنْهُ مَا ظَاهِرُهُ خِلَافُ مُدَّعَاهُ ، وَقَدْ ظَهَرَ مِمَّا ذُكِرَ أَنَّ حَالَ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ لَا تَقْتَصِرُ عَلَى السُّؤَالِ وَهُوَ خِلَافُ مَا قَدَّمُوهُ مِنْ أَنَّهَا حَالَ سُؤَالِهَا أَوْ سُؤَالِ أَجْنَبِيٍّ طَلَاقَهَا ، بَلْ هِيَ أَعَمُّ مِنْ حَالَةِ السُّؤَالِ لِلطَّلَاقِ وَمِنْ مُجَرَّدِ ابْتِدَاءِ الْإِيقَاعِ ، ثُمَّ عَلَى هَذَا لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : الْمُذَاكَرَةُ الَّتِي تَصِيرُ الْكِنَايَةُ مَعَهَا ظَاهِرَةً فِي الْإِيقَاعِ إنَّمَا هِيَ سُؤَالُ الطَّلَاقِ لِأَنَّ ذِكْرَ الْكِنَايَةِ الصَّالِحَةِ لِلْإِيقَاعِ دُونَ الرَّدِّ عَقِيبَ سُؤَالِ الطَّلَاقِ ظَاهِرٌ فِي قَصْدِ الْإِيقَاعِ بِهِ فَيَمْتَنِعُ قُبُولُ دَعْوَاهُ عَدَمَ إرَادَةِ الطَّلَاقِ ، بِخِلَافِ الْمُذَاكَرَةِ بِمَعْنَى الِابْتِدَاءِ بِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ مَرَّةً ، فَإِنَّ الْإِيقَاعَ مَرَّةً لَا يُوجِبُ ظُهُورَ الْإِيقَاعِ مَرَّةً ثَانِيَةً وَثَالِثَةً فَلَا يَكُونُ اللَّفْظُ الصَّالِحُ لَهُ ظَاهِرًا فِي الْإِيقَاعِ حَتَّى لَا يُقْبَلَ قَوْلُهُ فِي عَدَمِ إرَادَتِهِ بِالْكِنَايَةِ ( قَوْلُهُ : وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ يُصَدَّقُ الزَّوْجُ فِي نَفْيِ النِّيَّةِ إنَّمَا يُصَدَّقُ مَعَ الْيَمِينِ إلَخْ ) قَدَّمْنَا بَيَانَهُ وَنَقْلَهُ

مِنْ الْكَافِي لِلْحَاكِمِ وَلُزُومُ الْيَمِينِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِلْزَامِ عَلَى الْغَيْرِ بَعْدَ ثُبُوتِ احْتِمَالِ نَفْيِهِ بِالْكِنَايَةِ فَيَضْعُفُ مُجَرَّدُ نَفْيِهِ فَيَقْوَى بِالْيَمِينِ ، وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ لِنَفْيِ التُّهْمَةِ أَصْلُهُ حَدِيثُ تَحْلِيفِ رُكَانَةَ الْمُتَقَدِّمُ .

[ فُرُوعٌ ] طَلَّقَهَا وَاحِدَةً ثُمَّ قَالَ : جَعَلْتهَا بَائِنَةً صَارَتْ بَائِنَةً ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا تَكُونُ إلَّا رَجْعِيَّةً .
وَلَوْ قَالَ : جَعَلْتهَا ثَلَاثًا صَارَتْ ثَلَاثًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَالَا : لَا تَكُونُ إلَّا وَاحِدَةً لِأَنَّ الْوَاحِدَةَ لَا تَكُونُ ثَلَاثًا .
وَلِمُحَمَّدٍ فِي الْأَوَّلِ أَنَّ جَعْلَهُ الْوَاحِدَةَ الرَّجْعِيَّةَ بَائِنَةً تَغْيِيرٌ لِلْمَشْرُوعِ فَيُرَدُّ عَلَيْهِ .
قُلْنَا : يَمْلِكُ الْبَائِنَ لِمَا ذَكَرْنَاهُ قَرِيبًا ، لَكِنَّهُ لَمْ يَنُصَّ عَلَى وَصْفِ ابْتِدَاءٍ اكْتِفَاءً بِأَصْلِ الطَّلَاق فَكَانَ رَجْعِيًّا بِاعْتِبَارِ عَدَمِ حُصُولِ الْبَيْنُونَةِ ، فَإِذَا أَبَانَهَا الْتَحَقَتْ بِأَصْلِ الطَّلَاقِ كَمَا لَوْ فَعَلَهَا ابْتِدَاءً كَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ لَمَّا مَلَكَ الْبَيْعَ النَّافِذَ كَانَ مَالِكًا لِأَصْلِهِ وَوَصْفِهِ وَمَلَكَ إلْحَاقَ وَصْفِهِ بِأَصْلِهِ كَتَنْفِيذِ عَقْدِ الْفُضُولِيِّ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الصَّرِيحَ يَلْحَقُ الصَّرِيحَ وَالْبَائِنَ عِنْدَنَا ، وَالْبَائِنُ يَلْحَقُ الصَّرِيحَ لَا الْبَائِنَ إلَّا إذَا كَانَ مُعَلَّقًا .

فَلَوْ قَالَ لَهَا بَعْدَ الْخُلْعِ : أَنْتِ طَالِقٌ يَقَعُ الطَّلَاقُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ، وَلَوْ قَالَ : بَائِنٌ لَمْ يَقَعْ اتِّفَاقًا ، وَلَوْ قَالَ : إنْ دَخَلْتِ فَأَنْتِ بَائِنٌ يَنْوِي الطَّلَاقَ ثُمَّ أَبَانَهَا فَدَخَلَتْ فِي الْعِدَّةِ وَقَعَ عَلَيْهَا طَلَاقٌ آخَرُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ .
أَمَّا كَوْنُ الصَّرِيحِ يَلْحَقُ الْبَائِنَ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } يَعْنِي الْخُلْعَ ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } وَالْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ فَهُوَ نَصٌّ عَلَى وُقُوعِ الثَّالِثَةِ بَعْدَ الْخُلْعِ .
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمُخْتَلِعَةُ يَلْحَقُهَا صَرِيحُ الطَّلَاقِ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ } وَهُنَا الْقَيْدُ الْحُكْمِيُّ بَاقٍ لِبَقَاءِ أَحْكَامِ النِّكَاحِ ، وَإِنَّمَا فَاتَ الِاسْتِمْتَاعُ وَهُوَ لَا يَمْنَعُ التَّصَرُّفَ فِي الْمَحَلِّ كَالْحَيْضِ ، وَلِهَذَا لَحِقَ الْبَائِنُ الصَّرِيحَ بَلْ أَوْلَى لِبَقَاءِ الِاسْتِمْتَاعِ ، وَأَمَّا عَدَمُ لُحُوقِ الْبَائِنِ فَلِإِمْكَانِ جَعْلِهِ خَبَرًا عَنْ الْأَوَّلِ وَهُوَ صَادِقٌ فِيهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى جَعْلِهِ إنْشَاءً لِأَنَّهُ اقْتِضَاءٌ ضَرُورِيٌّ ، حَتَّى لَوْ قَالَ : عَنَيْت بِهِ الْبَيْنُونَةَ الْغَلِيظَةَ يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَبَرَ وَتَثْبُتَ الْحُرْمَةُ الْغَلِيظَةُ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ ثَابِتَةً فِي الْمَحَلِّ فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ إخْبَارًا عَنْ أَنَّهَا ثَابِتَةٌ فَتُجْعَلُ إنْشَاءً ضَرُورَةً ، وَلِهَذَا وَقَعَ الْبَائِنُ الْمُعَلَّقُ قَبْلَ تَنْجِيزِ الْبَيْنُونَةِ كَمَا مَثَّلْنَاهُ لِأَنَّهُ صَحَّ تَعْلِيقُهُ وَلَمْ يُمْكِنْ جَعْلُهُ خَبَرًا حِينَ صَدَرَ .
وَأُورِدَ عَلَيْهِ أَنَّ مِثْلَهُ لَازِمٌ فِي أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ فَلَزِمَ أَنْ لَا يَلْحَقَ الصَّرِيحَ .
أُجِيبُ بِأَنَّهُ لَا احْتِمَالَ فِيهِ لِأَنَّ أَنْتِ طَالِقٌ مُتَعَيِّنٌ لِلْإِنْشَاءِ شَرْعًا .
وَلَوْ قَالَ : أَرَدْت بِهِ الْإِخْبَارَ لَا يُصَدَّقُ قَضَاءً .
وَفِي مَسْأَلَتِنَا لَمْ يَذْكُرْ أَنْتِ بَائِنٌ ثَانِيًا

لِيُجْعَلَ خَبَرًا بَلْ الَّذِي وَقَعَ أَثَرُ التَّعْلِيقِ السَّابِقِ وَهُوَ زَوَالُ الْقَيْدِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ مَحَلٌّ فَيَقَعُ وَيَقَعُ الْمُعَلَّقُ بَعْدَ الْمُعَلَّقِ ، وَقَدْ عُرِفَ مِنْ اسْتِدْلَالِهِمْ الَّذِي أَطْبَقُوا عَلَيْهِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْبَائِنِ الَّذِي لَا يَلْحَقُ مَا هُوَ بِلَفْظِ الْكِنَايَةِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي لَيْسَ ظَاهِرًا فِي إنْشَاءِ الطَّلَاقِ ، وَبِهِ يَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَ الصَّرِيحِ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ وَأَنْتِ بَائِنٌ ، وَلِأَنَّهُمْ جَعَلُوهُ مُقَابِلَ الصَّرِيحِ ، وَلَا يُقَابِلُهُ الْبَائِنُ إلَّا إذَا كَانَ كِنَايَةً لِأَنَّ الصَّرِيحَ أَعَمُّ مِنْ الْبَائِنِ لِأَنَّهُ مَا لَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ بَائِنًا كَانَ الْوَاقِعُ بِهِ أَوْ رَجْعِيًّا ، وَالْكِنَايَةُ مَا يُحْتَاجُ إلَيْهَا ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهَا فِي غَيْرِ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ اعْتَدِّي اسْتَبْرِئِي رَحِمَك أَنْتِ وَاحِدَةٌ إلَّا بَائِنٌ .
وَفِي الْخُلَاصَةِ نَقْلًا مِنْ الزِّيَادَاتِ : الَّذِي يَلْحَقُ الْبَائِنَ لَا يَكُونُ رَجْعِيًّا ، وَالصَّرِيحُ يَلْحَقُ الْبَائِنَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَجْعِيًّا .
وَقَوْلُهُ : الَّذِي يَلْحَقُ الْبَائِنَ لَا يَكُونُ رَجْعِيًّا لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ لِأَنَّ الْبَيْنُونَةَ السَّابِقَةَ تَمْنَعُ الرَّجْعَةَ الَّتِي هِيَ حُكْمُ الصَّرِيحِ غَيْرِ الْمُقَيَّدِ بِإِبَانَةٍ .
مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّهُ إذَا أَبَانَهَا ثُمَّ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ بَائِنٌ يَلْغُو بَائِنٌ هُوَ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ عَدَمِ تَصَوُّرِ الرَّجْعَةِ فَكَانَ ذِكْرُهُ وَتَرْكُهُ سَوَاءً ، وَمَا زَادَ فِي تَعْلِيلِ الْإِلْغَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْحَاوِي مِنْ قَوْلِهِ : يَلْغُو تَصْحِيحًا لِكَلَامِهِ لَا مَعْنَى لَهُ ، وَعَلَى مُجَرَّدِ الْإِلْغَاءِ اقْتَصَرَ فِي الْخُلَاصَةِ وَمَحَلُّهُ مَا ذَكَرْنَا .
وَعَلَى هَذَا فَمَا وَقَعَ فِي حَلَبَ مِنْ الْخِلَافِ فِي وَاقِعَةٍ ، وَهِيَ أَنَّ رَجُلًا أَبَانَ امْرَأَتَهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فِي الْعِدَّةِ الْحَقُّ فِيهِ أَنَّهُ يَلْحَقُهَا لِمَا سَمِعْت مِنْ أَنَّ الصَّرِيحَ وَإِنْ كَانَ بَائِنًا يَلْحَقُ الْبَائِنَ ، وَمِنْ أَنَّ الْمُرَادَ

بِالْبَائِنِ الَّذِي لَا يَلْحَقُ هُوَ مَا كَانَ كِنَايَةً عَلَى مَا يُوجِبُهُ الْوَجْهُ .
وَفِي الْحَقَائِقِ : لَوْ قَالَ إنْ فَعَلْتِ كَذَا فَحَلَالُ اللَّهِ عَلَيَّ حَرَامٌ ، ثُمَّ قَالَ هَكَذَا لِأَمْرٍ آخَرَ فَفَعَلَ أَحَدَهُمَا وَقَعَ طَلَاقٌ بَائِنٌ ، ثُمَّ لَوْ فَعَلَ الْآخَرَ قَالَ ظَهِيرُ الدِّينِ : يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ آخَرُ ، وَقَالَ : هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْفَظَ .

[ تَتِمَّةٌ ] فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الطَّلَاقِ مِنْ الْكَافِي لِلْحَاكِمِ وَهُوَ مَجْمُوعُ كَلَامِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كُتُبِهِ ، لَوْ شَهِدَا بِالطَّلَاقِ وَالزَّوْجَانِ مُتَصَادِقَانِ عَلَى عَدَمِ الطَّلَاقِ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ تُكَذِّبُهُمَا ، وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ طَلَّقَ إحْدَى نِسَائِهِ بِعَيْنِهَا وَنَسِيَاهَا فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ ، وَلَوْ شَهِدَ أَنَّهُ طَلَّقَ إحْدَاهُنَّ بِغَيْرِ عَيْنِهَا أَلْزَمْنَاهُ الْإِيقَاعَ عَلَى إحْدَاهُنَّ اسْتِحْسَانًا ، وَفِي الْقِيَاسِ هُوَ كَالْأَوَّلِ ، وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدٌ عَلَى طَلْقَتَيْنِ وَآخَرُ بِثَلَاثٍ وَالزَّوْجُ مُنْكِرٌ لَمْ تَجُزْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا تَجُوزُ عَلَى طَلْقَتَيْنِ ، وَتَأْتِي هَذِهِ فِي الْهِدَايَةِ فِي بَابِ الِاخْتِلَافِ فِي الشَّهَادَةِ ، وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدُ عَدْلٍ عَلَى الطَّلَاقِ فَسَأَلَتْ الْمَرْأَةُ الْقَاضِيَ أَنْ يَضَعَهَا عَلَى يَدِ عَدْلٍ حَتَّى تَأْتِيَ بِالْآخَرِ لَا يَفْعَلُ وَيَدْفَعُهَا إلَى زَوْجِهَا ، فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا وَادَّعَتْ أَنَّ بَقِيَّةَ الشُّهُودِ بِالْمِصْرِ وَشَاهِدُهَا عَدْلٌ ، فَإِنْ أَجَّلَهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَحَالَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا حَتَّى يَنْظُرَ مَا تَصْنَعُ فِي شَاهِدِهَا الْآخَرِ فَهُوَ حَسَنٌ ، وَإِنْ دَفَعَهَا لِلزَّوْجِ لَا بَأْسَ بِهِ ، وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَالْآخَرُ أَنَّهُ قَالَ : أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ يَنْوِي الطَّلَاقَ فَهِيَ بَاطِلَةٌ ، وَكَذَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ طَلَّقَهَا إنْ دَخَلَتْ الدَّارَ وَأَنَّهَا دَخَلَتْ وَالْآخَرُ أَنَّهُ طَلَّقَهَا إنْ كَلَّمَتْ فُلَانًا وَأَنَّهَا كَلَّمَتْهُ ، وَكَذَا إنْ اخْتَلَفَا فِي أَلْفَاظِ الْكِنَايَاتِ ، وَكَذَا فِي مَقَادِيرِ الشُّرُوطِ الَّتِي عَلَّقَ عَلَيْهَا فِي التَّعْلِيقِ وَالْإِرْسَالِ وَمَقَادِيرِ الْأَجْعَالِ وَصِفَاتِهَا وَفِي اشْتِرَاطِهَا وَحَذْفِهَا .
وَإِذَا شَهِدَ أَنَّهُ قَالَ : إنْ دَخَلَتْ فُلَانَةُ الدَّارَ فَهِيَ طَالِقٌ وَفُلَانَةُ مَعَهَا ، وَالْآخَرُ أَنَّهُ قَالَ : وَحْدَهَا وَقَدْ دَخَلَتْ فَفُلَانَةُ تَطْلُقُ وَحْدَهَا

لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا فِيمَا وَقَعَ فِيهِ الطَّلَاقُ عَلَى وَاحِدَةٍ ، وَلَوْ شَهِدَ وَاحِدٌ عَلَى تَطْلِيقَةٍ بَائِنَةٍ وَآخَرُ عَلَى تَطْلِيقَةٍ رَجْعِيَّةٍ جَازَتْ عَلَى الرَّجْعِيَّةِ ، وَكَذَا إذَا شَهِدَ عَلَى تَطْلِيقَةٍ وَالْآخَرُ عَلَى وَاحِدَةٍ وَوَاحِدَةٍ أَوْ عَلَى وَاحِدَةٍ وَالْآخَرُ عَلَى وَاحِدَةٍ وَعِشْرِينَ أَوْ وَاحِدَةٍ وَنِصْفٍ ، وَالْأَصْلُ عِنْدَهُ أَنَّهَا فِي الْعَطْفِ تَصِحُّ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى اللَّفْظِ أَوْ مُرَادِفِهِ ، بِخِلَافِ الْبَائِنِ فَلِذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمَا عَلَى وَاحِدَةٍ وَالْآخَرُ عَلَى ثِنْتَيْنِ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا لِأَنَّ الَّذِي شَهِدَ بِثِنْتَيْنِ لَمْ يَتَكَلَّمُ بِالْوَاحِدَةِ وَلَا بِمُرَادِفِهَا ، وَسَيَأْتِي هَذَا الْأَصْلُ فِي بَابِ الِاخْتِلَافِ فِي الشَّهَادَةِ وَلَوْ شَهِدَ أَنَّهُ قَالَ : فُلَانَةُ طَالِقٌ لَا بَلْ فُلَانَةُ ، وَالْآخَرُ عَلَى أَنَّهُ سَمَّى الْأُولَى فَقَطْ جَازَتْ عَلَى الْأُولَى ، وَلَوْ شَهِدَ أَنَّهُ قَالَ : طَالِقٌ الطَّلَاقَ كُلَّهُ وَالْآخَرُ عَلَى أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ الطَّلَاقِ لَمْ تَجُزْ الشَّهَادَةُ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَهُمَا تَطْلُقُ وَاحِدَةً ، وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ قَالَ : طَالِقٌ وَالْآخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِالطَّلَاقِ جَازَتْ ، وَكَذَا إنْ اخْتَلَفَا فِي الْوَقْتِ أَوْ الْمَكَانِ أَوْ الزَّمَانِ بِأَنْ شَهِدَ أَنَّهُ طَلَّقَهَا يَوْمَ النَّحْرِ بِمَكَّةَ وَالْآخَرُ أَنَّهُ طَلَّقَهَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِالْكُوفَةِ فَهِيَ بَاطِلَةٌ لِتَيَقُّنِ كَذِبِ أَحَدِهِمَا ، وَلَوْ شَهِدَا بِذَلِكَ فِي يَوْمَيْنِ مُتَفَرِّقَيْنِ بَيْنَهُمَا مِنْ الْأَيَّامِ قَدْرَ مَا يَسِيرُ الرَّاكِبُ مِنْ الْكُوفَةِ إلَى مَكَّةَ جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا ، وَلَوْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ طَلَّقَ عَمْرَةَ يَوْمَ النَّحْرِ بِالْكُوفَةِ وَالْآخَرُ أَنَّهُ طَلَّقَ زَيْنَبَ يَوْمَ النَّحْرِ بِمَكَّةَ فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ ، وَلَوْ جَاءَتْ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ فَقَضَى بِهَا ثُمَّ جَاءَتْ الْأُخْرَى لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهَا ، وَإِذَا قَالَ رَجُلٌ لِامْرَأَتَيْهِ : أَيَّتُكُمَا أَكَلَتْ هَذَا فَهِيَ طَالِقٌ فَجَاءَتْ كُلٌّ بِبَيِّنَةٍ أَنَّهَا

أَكَلَتْهُ تَطْلُقَانِ جَمِيعًا ، وَإِنْ جَاءَتْ إحْدَاهُمَا بِبَيِّنَةٍ فَحُكِمَ بِهَا ثُمَّ جَاءَتْ الْأُخْرَى لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهَا ، وَإِنْ كَانَتَا أَكَلَتَا لَمْ تَطْلُقَا .

بَابُ تَفْوِيضِ الطَّلَاقِ فَصْلٌ فِي الِاخْتِيَارِ ( وَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ : اخْتَارِي يَنْوِي بِذَلِكَ الطَّلَاقَ أَوْ قَالَ لَهَا : طَلِّقِي نَفْسَك فَلَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا مَا دَامَتْ فِي مَجْلِسِهَا ذَلِكَ ، فَإِنْ قَامَتْ مِنْهُ أَوْ أَخَذَتْ فِي عَمَلٍ آخَرَ خَرَجَ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا ) لِأَنَّ الْمُخَيَّرَةَ لَهَا الْمَجْلِسُ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ ، وَلِأَنَّهُ تَمْلِيكُ الْفِعْلِ مِنْهَا ، وَالتَّمْلِيكَاتُ تَقْتَضِي جَوَابًا فِي الْمَجْلِسِ كَمَا فِي الْبَيْعِ ، لِأَنَّ سَاعَاتِ الْمَجْلِسِ اُعْتُبِرَتْ سَاعَةً وَاحِدَةً ، إلَّا أَنَّ الْمَجْلِسَ تَارَةً يَتَبَدَّلُ بِالذَّهَابِ عَنْهُ وَتَارَةً بِالِاشْتِغَالِ بِعَمَلٍ آخَرَ ، إذْ مَجْلِسُ الْأَكْلِ غَيْرُ مَجْلِسِ الْمُنَاظَرَةِ وَمَجْلِسُ الْقِتَالِ غَيْرُهُمَا .
وَيَبْطُلُ خِيَارُهَا بِمُجَرَّدِ الْقِيَامِ لِأَنَّهُ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ ، بِخِلَافِ الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ لِأَنَّ الْمُفْسِدَ هُنَاكَ الِافْتِرَاقُ مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ ، ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ فِي قَوْلِهِ : اخْتَارِي لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ تَخْيِيرَهَا فِي نَفْسِهَا وَيَحْتَمِلُ تَخْيِيرَهَا فِي تَصَرُّفٍ آخَرَ غَيْرِهِ ( فَإِنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فِي قَوْلِهِ اخْتَارِي كَانَتْ وَاحِدَةً بَائِنَةً ) .
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَقَعَ بِهَذَا شَيْءٌ ، وَإِنْ نَوَى الزَّوْجُ الطَّلَاقَ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْإِيقَاعَ بِهَذَا اللَّفْظِ فَلَا يَمْلِكُ التَّفْوِيضَ إلَى غَيْرِهِ إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّاهُ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَلِأَنَّهُ بِسَبِيلٍ مِنْ أَنْ يَسْتَدِيمَ نِكَاحَهَا أَوْ يُفَارِقَهَا فَيَمْلِكُ إقَامَتَهَا مَقَامَ نَفْسِهِ فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ ، ثُمَّ الْوَاقِعُ بِهَا بَائِنٌ لِأَنَّ اخْتِيَارَهَا نَفْسَهَا بِثُبُوتِ اخْتِصَاصِهَا بِهَا وَذَلِكَ فِي الْبَائِنِ ( وَلَا يَكُونُ ثَلَاثًا وَإِنْ نَوَى الزَّوْجُ ذَلِكَ ) لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ لَا يَتَنَوَّعُ ، بِخِلَافِ الْإِبَانَةِ لِأَنَّ الْبَيْنُونَةَ قَدْ تَتَنَوَّعُ .

( بَابُ تَفْوِيضِ الطَّلَاقِ ) ( فَصْلٌ فِي الِاخْتِيَارِ ) .
لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ الطَّلَاقِ بِوِلَايَةِ الْمُطَلِّقِ نَفْسِهِ شَرَعَ فِي بَيَانِهِ بِوِلَايَةٍ مُسْتَفَادَةٍ مِنْ غَيْرِهِ ، وَتَحْتَ هَذَا الصِّنْفِ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ : التَّفْوِيضُ بِلَفْظِ التَّخْيِيرِ وَبِلَفْظِ الْأَمْرِ بِالْيَدِ وَبِلَفْظِ الْمَشِيئَةِ ( قَوْلُهُ : إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ : اخْتَارِي يَنْوِي بِذَلِكَ الطَّلَاقَ ) يَعْنِي يَنْوِي تَخْيِيرَهَا فِيهِ ( أَوْ قَالَ لَهَا : طَلِّقِي نَفْسَك فَلَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا مَا دَامَتْ فِي مَجْلِسِهَا ذَلِكَ ) وَإِنْ طَالَ يَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ وَلَمْ يَتَبَدَّلْ بِالْأَعْمَالِ ( فَإِنْ قَامَتْ مِنْهُ أَوْ أَخَذَتْ فِي عَمَلٍ آخَرَ خَرَجَ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا ؛ لِأَنَّ الْمُخَيَّرَةَ لَهَا خِيَارُ الْمَجْلِسِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ) قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : وَاخْتَلَفُوا فِي الرَّجُلِ يُخَيِّرُ زَوْجَتَهُ ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ : أَمْرُهَا بِيَدِهَا فَإِنْ قَامَتْ مِنْ مَجْلِسِهَا فَلَا خِيَارَ لَهَا ، رَوَيْنَا هَذَا الْقَوْلَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانَ وَابْنِ مَسْعُودٍ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ ، وَفِي أَسَانِيدِهَا مَقَالٌ ، وَبِهِ قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، وَقَالَ بِهِ عَطَاءٌ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَمُجَاهِدٌ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَمَالِكٌ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ، وَفِيهِ قَوْلٌ ثَانٍ وَهُوَ أَنَّ أَمْرَهَا بِيَدِهَا فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ وَفِي غَيْرِهِ ، وَهَذَا قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَابْنِ نَصْرٍ وَبِهِ نَقُولُ ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ { قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَا تَعْجَلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ } وَحَكَى صَاحِبُ الْمُغْنِي هَذَا الْقَوْلَ عَنْ عَلِيٍّ فَاعْتَرَضَ عَلَى نَقْلِ الْإِجْمَاعِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الرِّوَايَةَ عَنْ عَلِيٍّ لَمْ تَسْتَقِرَّ ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ كَقَوْلِ الْجَمَاعَةِ ، وَلِذَا نَصَّ فِي بَلَاغَاتِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ

اللَّهُ أَنَّهُ قَائِلٌ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى الْمَجْلِسِ قَالَ : بَلَغَنَا عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي الرَّجُلِ يُخَيِّرُ امْرَأَتَهُ أَنَّ لَهَا الْخِيَارَ مَا دَامَتْ فِي مَجْلِسِهَا ذَلِكَ ، فَإِذَا قَامَتْ مِنْ مَجْلِسِهَا فَلَا خِيَارَ لَهَا فَيَكُونُ إجْمَاعًا سُكُوتِيًّا مِنْ قَوْلِ الْمَذْكُورِينَ وَسُكُوتِ غَيْرِهِمْ ، وَأَيْنَ مَنْ نَقَلَ عَنْهُمْ مِنْ التَّابِعِينَ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ مِمَّنْ نَقَلَ عَنْهُمْ الثَّانِيَ .
وَقَوْلُهُ : فِي أَسَانِيدِهَا مَقَالٌ لَا يَضُرُّ بَعْدَ تَلَقِّي الْأُمَّةِ بِالْقَبُولِ ، مَعَ أَنَّ رِوَايَةَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ جَيِّدَةٌ .
وَأَمَّا التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ " لَا تَعْجَلِي إلَخْ " فَضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ تَخْيِيرُهُ ذَلِكَ هَذَا التَّخْيِيرَ الْمُتَكَلَّمَ فِيهِ وَهِيَ أَنْ تُوقِعَ بِنَفْسِهَا بَلْ عَلَى أَنَّهَا إنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا طَلَّقَهَا ؛ أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى الْآيَةِ الَّتِي هِيَ سَبَبُ التَّخْيِيرِ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا } ( قَوْلُهُ : وَلِأَنَّهُ تَمْلِيكُ الْفِعْلِ مِنْهَا وَالتَّمْلِيكَاتُ تَسْتَدْعِي جَوَابًا فِي الْمَجْلِسِ ) أَوْ رَدَّ لَوْ كَانَ تَمْلِيكًا لَمْ يَبْقَ الزَّوْجُ مَالِكًا لِلطَّلَاقِ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِ الشَّيْءِ مَمْلُوكًا كُلِّهِ لِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ وَهُوَ مُنْتَفٍ ، فَإِنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَ التَّخْيِيرِ وَقَعَ .
وَأَيْضًا لَوْ صَارَتْ مَالِكَةً كَانَ مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : طَلِّقِي نَفْسَك ثُمَّ حَلَفَ أَنْ لَا يُطَلِّقَهَا فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا لَا يَحْنَثُ .
وَقَدْ نَصَّ مُحَمَّدٌ عَلَى أَنَّهُ يَحْنَثُ وَهُوَ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ نَائِبَةً عَنْهُ لَا مَالِكَةً .
وَأَيْضًا يَصِحُّ عِنْدَنَا تَوْكِيلُ الْمَدْيُونِ بِإِبْرَاءِ نَفْسِهِ ، وَهَذَا يَرُدُّ عَلَى

تَعْلِيلِ كَوْنِهِ تَمْلِيكًا بِأَنَّهَا عَامِلَةٌ لِنَفْسِهَا .
وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَالِكِ هُنَا مَنْ يَقْدِرُ عَلَى الْفِعْلِ لِاخْتِيَارِهِ بِحَيْثُ لَا يَلْحَقُهَا إثْمٌ عَلَى نَفْسِ الْفِعْلِ وَلَا خُلْفَ فِي عَدَمِ فِعْلِهِ ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ فَإِنَّهُ مُخْلِفٌ إنْ لَمْ يَفْعَلْ وَيُتَصَوَّرُ الْمِلْكُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ اثْنَيْنِ فَإِنَّ تَمْلِيكَ الْفِعْلِ هَكَذَا ، وَلُزُومَ انْتِفَاءِ الْمِلْكِ بِالتَّمْلِيكِ فِي الْأَعْيَانِ لَا فِي مِلْكِ الْأَفْعَالِ لِلْقَطْعِ بِثُبُوتِ مِلْكِ كُلٍّ مِنْ مِائَةِ رَجُلٍ لِفِعْلٍ وَاحِدٍ كَمُلَا وَهُوَ الِاقْتِصَاصُ ، وَمَسْأَلَةُ الْيَمِينِ مَمْنُوعَةٌ ، وَالْحِنْثُ قَوْلُ مُحَمَّدٍ ، وَالْمَنْعُ مَذْكُورٌ فِي الزِّيَادَاتِ لِصَاحِبِ الْمُحِيطِ ، وَأَمَّا الْمَدْيُونُ فَوَكِيلٌ ، وَإِنَّمَا وَقَعَ عَمَلُهُ فِي الْإِبْرَاءِ لِرَبِّ الدَّيْنِ بِاعْتِبَارِ أَمْرِهِ ، وَثَبَتَ أَثَرُ التَّصَرُّفِ لِنَفْسِهِ فِي ضِمْنِهِ وَهُوَ فَرَاغُ ذِمَّتِهِ ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ نَبْرِيهِ فِي تَطْلِيقِهَا نَفْسَهَا بِأَنْ يُقَالَ : هِيَ وَكِيلَةٌ فَهِيَ فِي نَفْسِ فِعْلِ الْإِيقَاعِ عَامِلَةٌ لَهُ ، وَثُبُوتُ الْحَاصِلِ لَهَا ضِمْنًا ، وَلَوْ الْتَزَمَ كَوْنَ الْمَدْيُونِ مُمَلَّكًا لَمْ يَصِحَّ لِانْتِفَاءِ لَازِمِهِ لِأَنَّ لِلدَّائِنِ أَنْ يَرْجِعَ قَبْلَ الْإِبْرَاءِ وَسَنَذْكُرُ مَا هُوَ الْأَوْجَهُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْجَوَابَ الَّذِي يَسْتَدْعِيهِ التَّمْلِيكُ هُوَ الْقَبُولُ فِي الْمَجْلِسِ ، وَالْجَوَابَ الْمُتَكَلَّمَ فِيهِ هُوَ تَطْلِيقُهَا نَفْسَهَا وَهُوَ بَعْدَ تَمَامِ التَّمْلِيكِ فَلَيْسَ هَذَا الْوَجْهُ مُسْتَلْزِمًا لِلْمَطْلُوبِ ، وَلِهَذَا قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ : إنَّ هَذَا التَّمْلِيكَ يُخَالِفُ سَائِرَ التَّمْلِيكَاتِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَبْقَى إلَى مَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ إنْ كَانَتْ غَائِبَةً ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُولِ ، فَظَهَرَ أَنَّ هَذَا التَّمْلِيكَ بِخُصُوصِهِ لَا يَسْتَدْعِي الْجَوَابَ الَّذِي يُتِمُّ بِهِ التَّمْلِيكَاتِ ، وَلِكَوْنِهِ تَمْلِيكًا يَتِمُّ بِالْمُمَلِّكِ وَحْدَهُ بِلَا قَبُولٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى الرُّجُوعِ لَا لِكَوْنِهِ مُتَضَمِّنًا مَعْنَى

التَّعْلِيقِ لِأَنَّهُ اعْتِبَارٌ يُمْكِنُ فِي سَائِرِ الْوَكَالَاتِ لِتَضَمُّنِهَا مَعْنَى إنْ بِعْته فَقَدْ أَجَزْته ، وَالْوِلَايَاتُ لِتَضَمُّنِهَا إذَا حَكَمْت بَيْنَ مَنْ شِئْت فَقَدْ أَجَزْته فَكَانَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَصِحَّ الرُّجُوعُ وَالْعَزْلُ فِيهِمَا فَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ لِهَذَا الْمَعْنَى لِابْتِنَائِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، لَكِنْ إذَا كَانَ الْمِلْكُ يَثْبُتُ فِيهِ بِالْمُمَلِّكِ وَحْدَهُ لَمْ يَصِحَّ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ يُخَالِفُ سَائِرَ التَّمْلِيكَاتِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَبْقَى إلَى مَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ ، بَلْ بَقَاؤُهُ هُوَ الْمُوَافِقُ لِسَائِرِ التَّمْلِيكَاتِ الَّتِي يَثْبُتُ الْمِلْكُ عِنْدَهَا ، وَإِنَّمَا خَالَفَهَا بِمَا ذَكَرْنَا وَبِاعْتِبَارِ اقْتِصَارِهِ عَلَى الْمَجْلِسِ ، وَالْمُسْتَنَدُ فِيهِ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى الْمَجْلِسِ فِي الْخِطَابِ الْمُطْلَقِ ، أَمَّا لَوْ قَالَ : طَلِّقِي نَفْسَك مَتَى شِئْت فَهُوَ لَهَا فِي الْمَجْلِسِ وَغَيْرِهِ ، وَإِذَا فَوَّضَ وَهِيَ غَائِبَةٌ اُعْتُبِرَ مَجْلِسُ عِلْمِهَا ، وَلَوْ قَالَ : جَعَلْت لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا الْيَوْمَ اُعْتُبِرَ مَجْلِسَ عِلْمِهَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ ، فَلَوْ مَضَى الْيَوْمُ ثُمَّ عَلِمَتْ يَخْرُجُ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا ، وَكَذَا كُلُّ وَقْتٍ قُيِّدَ التَّفْوِيضُ بِهِ وَهِيَ غَائِبَةٌ وَلَمْ تَعْلَمْ حَتَّى انْقَضَى بَطَلَ خِيَارُهَا فِي الْمَجْلِسِ ، وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَرْجِعَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمَجْلِسِ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْيَمِينِ ، إذْ هُوَ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِتَطْلِيقِهَا نَفْسَهَا وَقَدْ عَلِمْت مَا هُوَ التَّحْقِيقُ ( قَوْلُهُ : إذْ مَجْلِسُ إلَخْ ) لَوْ كَانَا يَتَحَدَّثَانِ فَأَخَذَا فِي الْأَكْلِ انْقَضَى مَجْلِسُ الْحَدِيثِ وَجَاءَ مَجْلِسُ الْأَكْلِ ، فَلَوْ انْتَقَلَا إلَى الْمُنَاظَرَةِ انْقَضَى مَجْلِسُ الْأَكْلِ وَجَاءَ مَجْلِسُ الْمُنَاظَرَةِ ، وَلَوْ خَيَّرَهَا فَلَبِسَتْ ثَوْبًا أَوْ شَرِبَتْ لَا يَبْطُلُ خِيَارُهَا لِأَنَّ الْعَطَشَ قَدْ يَكُونُ شَدِيدًا يَمْنَعُ التَّأَمُّلَ ، وَلِبْسُ الثَّوْبِ قَدْ يَكُونُ لِتَدْعُوَ شُهُودًا ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَكَلَتْ مَا لَيْسَ قَلِيلًا أَوْ

امْتَشَطَتْ أَوْ أَقَامَهَا الزَّوْجُ قَسْرًا فَإِنَّهُ يَخْرُجُ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا لِظُهُورِ الْإِعْرَاضِ بِهِ .
وَوَجْهٌ بِأَنَّ فِي الْإِقَامَةِ أَنَّهَا يُمْكِنُهَا مُمَانَعَتُهُ فِي الْقِيَامِ أَوْ تُبَادِرُ الزَّوْجَ بِاخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا فَعَدَمُ ذَلِكَ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ ، وَكَذَا إذَا خَاضَتْ فِي كَلَامٍ آخَرَ ، قَالَ تَعَالَى { حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ } أَفَادَ أَنَّهُ إعْرَاضٌ عَنْ الْأَوَّلِ ( قَوْلُهُ : ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ ) أَيْ نِيَّةِ الطَّلَاقِ فِي قَوْلِهِ ( اخْتَارِي لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ تَخْيِيرَهَا فِي نَفْسِهَا ) بِالْإِقَامَةِ عَلَى النِّكَاحِ وَعَدَمِهِ ( وَيَحْتَمِلُ تَخْيِيرَهَا فِي غَيْرِهِ ) مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ كِسْوَةٍ ، فَإِذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَأَنْكَرَ قَصْدَ الطَّلَاقِ فَالْقَوْلُ لَهُ مَعَ يَمِينِهِ ، أَمَّا إذَا خَيَّرَهَا بَعْدَ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا ثُمَّ قَالَ : لَمْ أَنْوِ الطَّلَاقَ لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ ، وَكَذَا إذَا كَانَا فِي غَضَبٍ أَوْ شَتِيمَةٍ ، وَإِذَا لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ لَا يَسَعُ الْمَرْأَةَ أَنْ تُقِيمَ مَعَهُ إلَّا بِنِكَاحٍ مُسْتَقْبَلٍ ( قَوْلُهُ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَقَعَ بِهَا شَيْءٌ ) لِأَنَّ التَّمْلِيكَ فَرْعُ مِلْكِ الْمُمَلَّكِ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ الْإِيقَاعَ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ ، لَوْ قَالَ : اخْتَرْت نَفْسِي مِنْك أَوْ اخْتَرْتُك مِنْ نَفْسِي نَاوِيًا لَا يَقَعُ ، إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا الْوُقُوعَ بِاخْتِيَارِهَا بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ( قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ بِسَبِيلٍ إلَخْ ) ظَاهِرُهُ أَنَّهُ وَجْهٌ آخَرُ لِلِاسْتِحْسَانِ يُقَابِلُ الْقِيَاسَ وَيَقْتَضِي الْوُقُوعَ بِخُصُوصِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ ، وَهُوَ لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ وَإِنَّمَا يَقْتَضِي جَوَازَ إقَامَتِهَا مَقَامَهُ فِي الْفِرَاقِ وَلَا تَلَاقِيَ بَيْنَهُمَا ، بَلْ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَقَعَ بِهِ لِأَنَّ إقَامَتَهَا مَقَامَ نَفْسِهِ فِيمَا يَمْلِكُهُ وَلَا يَمْلِكُ الْإِيقَاعَ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ فَهُوَ وَجْهُ الْقِيَاسِ ( قَوْلُهُ ثُمَّ الْوَاقِعُ بِهَا بَائِنٌ ) رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ ثَلَاثٌ ، وَبِهِ أَخَذَ

مَالِكٌ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا ، وَفِي غَيْرِهَا يُقْبَلُ مِنْهُ دَعْوَى الْوَاحِدَةِ ، وَعَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ ، وَثَبَتَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْوَاقِعَ بِهِ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ تَوَسُّطٌ بَيْنَ الْغَايَتَيْنِ .
وَرَجَّحَ قَوْلَ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ بِأَنَّ الْكِتَابَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ يُعْقِبُ الرَّجْعَةَ إلَّا أَنْ تَكُونَ الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ ، وَأَنْتَ عَلِمْت أَنَّهُ أَخْرَجَ مِنْهُ الطَّلَاقَ بِمَالٍ وَقَبْلَ الدُّخُولِ وَلَزِمَ إخْرَاجُ الطَّلَاقِ بِمَا دَلَّ عَلَى الْبَيْنُونَةِ مِنْ الْأَلْفَاظِ عَلَى مَا أَسْلَفْنَاهُ وَلَفْظُ اخْتَرْت نَفْسِي ، بَلْ نَفْسُ تَخْيِيرِهَا يُفِيدُ مِلْكَهَا نَفْسَهَا إذَا اخْتَارَتْهَا لِأَنَّهُ يُنْبِئُ عَنْ الِاسْتِخْلَاصِ وَالصَّفَاءِ مِنْ ذَلِكَ الْمِلْكِ وَهُوَ بِالْبَيْنُونَةِ ، وَإِلَّا لَمْ تَحْصُلْ فَائِدَةُ التَّخْيِيرِ إذَا كَانَ لَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا شَاءَتْ أَوْ أَبَتْ .
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعُمَرَ أَنَّ الْوَاقِعَ بِهَا بَائِنَةٌ كَمَا رُوِيَ عَنْهُمَا الرَّجْعِيَّةُ ، فَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْهُمَا .
وَقَدْ تَرَجَّحَ بِمَا ذَكَرْنَا قَوْلُ عَلِيٍّ وَعُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ ، ثُمَّ هُوَ غَيْرُ مُتَنَوِّعٍ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُفِيدُ الْخُلُوصَ وَالصَّفَاءَ ، وَالْبَيْنُونَةُ تَثْبُتُ فِيهِ مُقْتَضًى فَلَا يَعُمُّ ، بِخِلَافِ أَنْتِ بَائِنٌ وَنَحْوِهِ فَلَا يَقَعُ الثَّلَاثُ فِي قَوْلِهِ : اخْتَارِي وَإِنْ نَوَاهَا بِخِلَافِ التَّفْوِيضِ بِقَوْلِهِ : أَمْرُك بِيَدِك حَيْثُ تَصِحُّ نِيَّةُ الثَّلَاثِ فِيهِ لِأَنَّ الْأَمْرَ شَامِلٌ بِعُمُومِهِ لِمَعْنَى الشَّأْنِ لِلطَّلَاقِ فَكَانَ مِنْ أَفْرَادِهِ لَفْظًا وَالْمَصْدَرُ يَحْتَمِلُ نِيَّةَ الْعُمُومِ .
وَقِيلَ الْفَرْقُ أَنَّ الْوُقُوعَ بِلَفْظِ الِاخْتِيَارِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ ، وَإِجْمَاعُهُمْ انْعَقَدَ عَلَى الطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ ، بِخِلَافِ تِلْكَ الْمَسَائِلِ : أَيْ بَائِنٌ وَنَحْوُهُ لِأَنَّ الْوُقُوعَ مُقْتَضَى نَفْسِ الْأَلْفَاظِ وَمُقْتَضَاهَا

الْبَيْنُونَةُ وَهِيَ مُتَنَوِّعَةٌ ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِانْتِفَاءِ إجْمَاعِهِمْ عَلَى الْوَاحِدَةِ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ قَوْلِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ الْوَاقِعَ بِهِ ثَلَاثٌ قَوْلًا بِكَمَالِ الِاسْتِخْلَاصِ .

قَالَ ( وَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ النَّفْسِ فِي كَلَامِهِ أَوْ فِي كَلَامِهَا ، حَتَّى لَوْ قَالَ لَهَا : اخْتَارِي فَقَالَتْ قَدْ : اخْتَرْت فَهُوَ بَاطِلٌ ) لِأَنَّهُ عُرِفَ بِالْإِجْمَاعِ وَهُوَ فِي الْمُفَسَّرَةِ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ ، وَلِأَنَّ الْمُبْهَمَ لَا يَصْلُحُ تَفْسِيرًا لِلْمُبْهَمِ الْآخَرِ وَلَا تَعْيِينَ مَعَ الْإِبْهَامِ ( وَلَوْ قَالَ لَهَا : اخْتَارِي نَفْسَك فَقَالَتْ : اخْتَرْت تَقَعُ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ ) لِأَنَّ كَلَامَهُ مُفَسَّرٌ ، وَكَلَامُهَا خَرَجَ جَوَابًا لَهُ فَيَتَضَمَّنُ إعَادَتَهُ ( وَكَذَا لَوْ قَالَ اخْتَارِي اخْتِيَارَةً فَقَالَتْ : اخْتَرْت ) لِأَنَّ الْهَاءَ فِي الِاخْتِيَارَةِ تُنْبِئُ عَنْ الِاتِّحَادِ وَالِانْفِرَادِ ، وَاخْتِيَارُهَا نَفْسَهَا هُوَ الَّذِي يَتَّحِدُ مَرَّةً وَيَتَعَدَّدُ أُخْرَى فَصَارَ مُفَسَّرًا مِنْ جَانِبِهِ .

( قَوْلُهُ : وَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ النَّفْسِ فِي كَلَامِهِ أَوْ كَلَامِهَا ) يَعْنِي أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ كَالِاخْتِيَارَةِ وَالتَّطْلِيقَةِ ، وَكَذَا إذَا قَالَتْ : اخْتَرْت أَبِي وَأُمِّي أَوْ الْأَزْوَاجَ أَوْ أَهْلِي بَعْدَ قَوْلِهِ : اخْتَارِي يَقَعُ لِأَنَّهُ مُفَسَّرٌ فِي الْأَزْوَاجِ ظَاهِرٌ ، وَكَذَا أَهْلِي لِأَنَّ الْكَوْنَ عِنْدَهُمْ وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ اخْتَرْت أَهْلِي إنَّمَا يَكُونُ لِلْبَيْنُونَةِ وَعَدَمِ الْوَصْلَةِ مَعَ الزَّوْجِ وَلِذَا تَطْلُقُ بِقَوْلِ الزَّوْجِ : الْحَقِي بِأَهْلِك ، بِخِلَافِ قَوْلِهَا : اخْتَرْت قَوْمِي أَوْ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ لَا يَقَعُ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَا إذَا كَانَ لَهَا أَبٌ أَوْ أُمٌّ .
أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ وَلَهَا أَخٌ يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ لِأَنَّهَا تَكُونُ عِنْدَهُ عَادَةً عِنْدَ الْبَيْنُونَةِ إذَا عَدِمَتْ الْوَالِدَيْنِ ، وَإِنَّمَا اكْتَفَى بِذِكْرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي أَحَدِ الْكَلَامَيْنِ لِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ فِي كَلَامِهِ تَضَمَّنَ جَوَابُهَا إعَادَتَهُ كَأَنَّهَا قَالَتْ : فَعَلْت ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ فِي كَلَامِهَا فَقَدْ وُجِدَ مَا يَخْتَصُّ بِالْبَيْنُونَةِ فِي اللَّفْظِ الْعَامِلِ فِي الْإِيقَاعِ فَالْحَاجَةُ مَعَهُ لَيْسَ إلَّا إلَى نِيَّةِ الزَّوْجِ ، فَإِذَا فُرِضَ وُجُودُهَا تَمَّتْ عِلَّةُ الْبَيْنُونَةِ فَتَثْبُتُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ تَذْكُرْ النَّفْسَ وَنَحْوَهَا فِي شَيْءٍ مِنْ الطَّرَفَيْنِ لِأَنَّ الْمُبْهَمَ لَا يُفَسِّرُ الْمُبْهَمَ إذْ لَفْظُهُ حِينَئِذٍ مُبْهَمٌ ، وَلِذَا كَانَ كِنَايَةً لِاحْتِمَالِ اخْتَارِي مَا شِئْت مِنْ مَالٍ أَوْ حَالٍ أَوْ مَسْكَنٍ وَغَيْرِهِ .
وَأَيْضًا الْإِجْمَاعُ إنَّمَا هُوَ فِي الْمُفَسَّرِ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ ، وَالْإِيقَاعُ بِالِاخْتِيَارِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَيُقْتَصَرُ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ فِيهِ ، وَلَوْلَا هَذَا لَأَمْكَنَ الِاكْتِفَاءُ بِتَفْسِيرِ الْقَرِينَةِ الْحَالِيَّةِ دُونَ الْمَقَالِيَّةِ بَعْدَ أَنْ نَوَى الزَّوْجُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ بِهِ وَتَصَادَقَا عَلَيْهِ لَكِنَّهُ بَاطِلٌ ، وَإِلَّا لَوَقَعَ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ مَعَ لَفْظٍ لَا يَصْلُحُ لَهُ أَصْلًا كَاسْقِنِي ، وَبِهَذَا

يَبْطُلُ اكْتِفَاءُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بِالنِّيَّةِ مَعَ الْقَرِينَةِ عَنْ ذِكْرِ النَّفْسِ وَنَحْوِهِ ، وَلَوْ قَالَ : اخْتَارِي فَقَالَتْ : اخْتَرْت نَفْسِي لَا بَلْ زَوْجِي يَقَعُ ، وَلَوْ قَدَّمَتْ زَوْجِي لَا يَقَعُ .
وَالْوَجْهُ عَدَمُ صِحَّةِ الرُّجُوعِ فِي الْأَوَّلِ وَخُرُوجِ الْأَمْرِ مِنْ يَدِهَا فِي الثَّانِي ، وَلَوْ قَالَتْ : اخْتَرْت نَفْسِي أَوْ زَوْجِي لَمْ يَقَعْ ، وَلَوْ عَطَفَتْ بِالْوَاوِ فَالِاعْتِبَارُ لِلْمُقَدَّمِ وَيَلْغُو مَا بَعْدَهُ ، وَلَوْ خَيَّرَهَا ثُمَّ جَعَلَ لَهَا أَلْفًا عَلَى أَنْ تَخْتَارَهُ فَاخْتَارَتْهُ لَا يَقَعُ وَلَا يَجِبُ الْمَالُ لِأَنَّهُ رِشْوَةٌ إذْ هُوَ اعْتِيَاضٌ عَنْ تَرْكِ حَقِّ تَمَلُّكِ نَفْسِهَا فَهُوَ كَالِاعْتِيَاضِ عَنْ تَرْكِ حَقِّ الشُّفْعَةِ ( قَوْلُهُ : وَكَذَا لَوْ قَالَ : اخْتَارِي اخْتِيَارَةً إلَخْ ) يَعْنِي أَنَّ ذِكْرَهُ الِاخْتِيَارَةَ فِي كَلَامِهِ تَفْسِيرٌ مِنْ جَانِبِهِ كَذِكْرِهِ نَفْسَهَا ، فَلَوْ لَمْ تَزِدْ هِيَ عَلَى اخْتَرْت وَقَعَتْ بَائِنَةً .
وَوَجْهُهُ بِأَنَّ الْهَاءَ فِيهَا لِلْوَحْدَةِ وَاخْتِيَارُهَا نَفْسَهَا هُوَ الَّذِي يَتَّحِدُ مَرَّةً بِأَنْ قَالَ لَهَا : اخْتَارِي فَقَالَتْ : اخْتَرْت نَفْسِي فَإِنَّهُ إنَّمَا يَقَعُ بِهِ وَاحِدَةٌ وَيَتَعَدَّدُ أُخْرَى بِأَنْ قَالَ لَهَا : اخْتَارِي اخْتَارِي اخْتَارِي أَوْ اخْتَارِي نَفْسَك بِثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ أَوْ بِمَا شِئْت فَقَالَتْ : اخْتَرْت يَقَعُ الثَّلَاثُ ، فَلَمَّا قَيَّدَ بِالْوَحْدَةِ ظَهَرَ أَنَّهُ أَرَادَ تَخْيِيرَهَا فِي الطَّلَاقِ فَكَانَ مُفَسَّرًا ، فَإِلْزَامُ التَّنَاقُضِ بِأَنَّهُ أَثْبَتَ هُنَا إمْكَانَ تَعَدُّدِ الْوَاقِعِ وَلَوْ ثَلَاثًا وَنَفَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ بِقَوْلِهِ : لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ لَا يَتَنَوَّعُ مُنْدَفِعٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْزَمْ مِمَّا ذَكَرْنَا كَوْنُ الِاخْتِيَارِ نَفْسِهِ يَتَنَوَّعُ كَالْبَيْنُونَةِ إلَى غَلِيظَةٍ وَخَفِيفَةٍ حَتَّى يُصَابَ كُلُّ نَوْعٍ مِنْهُ بِالنِّيَّةِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةِ لَفْظٍ آخَرَ .
فَإِنْ قِيلَ : إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى الْمُفَسَّرِ بِذِكْرِ النَّفْسِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ بِقَوْلِهَا اخْتَرْت اخْتِيَارَةً أَوْ أَهْلِي وَنَحْوَهُ فَإِنَّ

هَذِهِ لَمْ يُجْمَعْ عَلَيْهَا .
قُلْنَا : عُرِفَ مِنْ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ اعْتِبَارُ مُفَسَّرٍ لَفْظًا مِنْ جَانِبٍ فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهِ فَيَنْتَفِي غَيْرُ الْمُفَسَّرِ ، وَأَمَّا خُصُوصُ لَفْظِ الْمُفَسَّرِ فَمَعْلُومُ الْإِلْغَاءِ ، وَاعْتِبَارُ الْمُفَسَّرِ أَعَمَّ مِنْهُ حَتَّى بِقَرِينَةٍ غَيْرِ لَفْظِيَّةٍ يُوجِبُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْوُقُوعِ بِلَا لَفْظٍ صَالِحٍ ، وَلَوْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا لَا يَقَعُ شَيْءٌ .
وَعَنْ عَلِيٍّ تَقَعُ رَجْعِيَّةً كَأَنَّهُ جَعَلَ نَفْسَ اللَّفْظِ إيقَاعًا ، لَكِنَّ قَوْلَ { عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا خَيَّرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاخْتَرْنَاهُ وَلَمْ يَعْدُدْهُ عَلَيْنَا شَيْئًا } رَوَاهُ السِّتَّةُ .
وَفِي لَفْظٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ " فَلَمْ يَعْدُدْ " يُفِيدُ عَدَمَ وُقُوعِ شَيْءٍ .

( وَلَوْ قَالَ : اخْتَارِي فَقَالَتْ : قَدْ اخْتَرْت نَفْسِي يَقَعُ الطَّلَاقُ إذَا نَوَى الزَّوْجُ ) لِأَنَّ كَلَامَهَا مُفَسَّرٌ ، وَمَا نَوَاهُ الزَّوْجُ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ كَلَامِهِ ( وَلَوْ قَالَ : اخْتَارِي فَقَالَتْ : أَنَا أَخْتَارُ نَفْسِي فَهِيَ طَالِقٌ ) وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَطْلُقَ لِأَنَّ هَذَا مُجَرَّدُ وَعْدٍ أَوْ يَحْتَمِلُهُ ، فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ لَهَا : طَلِّقِي نَفْسَك فَقَالَتْ : أَنَا أُطَلِّقُ نَفْسِي .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ حَدِيثُ { عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، فَإِنَّهَا قَالَتْ لَا بَلْ أَخْتَارُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } اعْتَبَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَوَابًا مِنْهَا ، وَلِأَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ حَقِيقَةٌ فِي الْحَالِ وَتَجُوزُ فِي الِاسْتِقْبَالِ كَمَا فِي كَلِمَةِ الشَّهَادَةِ ، وَأَدَاءِ الشَّاهِدِ الشَّهَادَةَ ، بِخِلَافِ قَوْلِهَا : أُطَلِّقُ نَفْسِي لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ حَمْلُهُ عَلَى الْحَالِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحِكَايَةٍ عَنْ حَالَةٍ قَائِمَةٍ ، وَلَا كَذَلِكَ قَوْلُهَا : أَنَا أَخْتَارُ نَفْسِي لِأَنَّهُ حِكَايَةٌ عَنْ حَالَةٍ قَائِمَةٍ وَهُوَ اخْتِيَارُهَا نَفْسَهَا ، وَلَوْ قَالَ لَهَا : اخْتَارِي اخْتَارِي اخْتَارِي فَقَالَتْ : قَدْ اخْتَرْت الْأُولَى أَوْ الْوُسْطَى أَوْ الْأَخِيرَةَ طَلُقَتْ ثَلَاثًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ ، وَلَا يُحْتَاجُ إلَى نِيَّةِ الزَّوْجِ ( وَقَالَا : تَطْلُقُ وَاحِدَةً ) وَإِنَّمَا لَا يُحْتَاجُ إلَى نِيَّةِ الزَّوْجِ لِدَلَالَةِ التَّكْرَارِ عَلَيْهِ إذْ الِاخْتِيَارُ فِي حَقِّ الطَّلَاقِ هُوَ الَّذِي يَتَكَرَّرُ لَهُمَا إنْ ذَكَرَ الْأُولَى ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ إنْ كَانَ لَا يُفِيدُ مِنْ حَيْثُ التَّرْتِيبُ يُفِيدُ مِنْ حَيْثُ الْإِفْرَادُ فَيُعْتَبَرُ فِيمَا يُفِيدُ .
وَلَهُ أَنَّ هَذَا وَصْفٌ لَغْوٌ لِأَنَّ الْمُجْتَمِعَ فِي الْمِلْكِ لَا تَرْتِيبَ فِيهِ كَالْمُجْتَمِعِ فِي الْمَكَانِ ، وَالْكَلَامُ لِلتَّرْتِيبِ وَالْإِفْرَادُ مِنْ ضَرُورَاتِهِ ، فَإِذَا لَغَا فِي حَقِّ الْأَصْلِ لَغَا فِي حَقِّ الْبِنَاءِ ( وَلَوْ قَالَتْ اخْتَرْت اخْتِيَارَةً فَهِيَ ثَلَاثٌ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ) لِأَنَّهَا لِلْمَرَّةِ

فَصَارَ كَمَا إذَا صَرَّحَتْ بِهَا وَلِأَنَّ الِاخْتِيَارَةَ لِلتَّأْكِيدِ وَبِدُونِ التَّأْكِيدِ تَقَعُ الثَّلَاثُ فَمَعَ التَّأْكِيدِ أَوْلَى ( وَلَوْ قَالَتْ قَدْ طَلَّقْت نَفْسِي أَوْ اخْتَرْت نَفْسِي بِتَطْلِيقَةٍ فَهِيَ وَاحِدَةٌ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ ) لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُوجِبُ الِانْطِلَاقَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَكَأَنَّهَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا بَعْدَ الْعِدَّةِ ( وَإِنْ قَالَ لَهَا أَمْرُك بِيَدِك فِي تَطْلِيقَةٍ أَوْ اخْتَارِي تَطْلِيقَةً فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَهِيَ وَاحِدَةٌ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ ) لِأَنَّهُ جَعَلَ لَهَا الِاخْتِيَارَ لَكِنْ بِتَطْلِيقَةٍ وَهِيَ مُعْقِبَةٌ لِلرَّجْعَةِ بِالنَّصِّ .

( قَوْلُهُ : فَقَالَتْ أَنَا أَخْتَارُ نَفْسِي ) الْمَقْصُودُ أَنَّهَا ذَكَرَتْ بِلَفْظِ الْمُضَارِعِ كَأَخْتَارُ نَفْسِي سَوَاءٌ ذَكَرَتْ " أَنَا " أَوْ لَا ، فَفِي الْقِيَاسِ لَا يَقَعُ لِأَنَّهُ وَعْدٌ ، كَمَا لَوْ قَالَ : طَلِّقِي نَفْسَك فَقَالَتْ أَنَا أُطَلِّقُ حَيْثُ لَا تُطَلِّقُ ، وَكَذَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ : أَعْتِقْ رَقَبَتَك فَقَالَ : أَنَا أُعْتِقُ لَا يُعْتَقُ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهَا قَالَتْ : { لَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَخْيِيرِ أَزْوَاجِهِ بَدَأَ بِي فَقَالَ : إنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا وَلَا عَلَيْكِ أَنْ لَا تَعْجَلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَانِي بِفِرَاقِهِ ، ثُمَّ قَالَ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِي { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا } إلَى قَوْلِهِ { أَجْرًا عَظِيمًا } فَقُلْتُ : فَفِي هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ ؟ فَإِنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ ، ثُمَّ فَعَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ الَّذِي فَعَلْتُ } .
وَفِي لَفْظِ مُسْلِمٍ { بَلْ أَخْتَارُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } وَاعْتَبَرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَوَابًا .
لَا يُقَالُ : قَدْ ذَكَرَتْ أَنَّ التَّخْيِيرَ الَّذِي كَانَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ هَذَا الْمُتَكَلَّمُ فِيهِ بَلْ إنَّهُنَّ لَوْ اخْتَرْنَ أَنْفُسَهُنَّ يُطَلِّقُهُنَّ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالِاسْتِدْلَالِ بِهِ اعْتِدَادُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَوَابًا يُفِيدُ قِيَامَ مَعْنَاهُ فِي الْحَالِ ، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ ( وَلِأَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ حَقِيقَةٌ فِي الْحَالِ وَتَجُوزُ فِي الِاسْتِقْبَالِ ) هُوَ أَحَدُ الْمَذَاهِبِ ، وَقِيلَ بِالْقَلْبِ ، وَقِيلَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا ، وَعَلَى اعْتِبَارِ جَعْلِهِ لِلْحَالِ خَاصًّا أَوْ مُشْتَرَكًا لَفْظِيًّا يُرَجَّحُ هُنَا إرَادَةُ أَحَدِ مَفْهُومَيْهِ : أَعْنِي الْحَالَ بِقَرِينَةٍ بِكَوْنِهِ إخْبَارًا عَنْ أَمْرٍ قَائِمٍ فِي الْحَالِ ، وَذَلِكَ

يُمْكِنُ فِي الِاخْتِيَارِ لِأَنَّ مَحَلَّهُ الْقَلْبُ فَيَصِحُّ الْإِخْبَارُ بِاللِّسَانِ عَمَّا هُوَ قَائِمٌ بِمَحَلٍّ آخَرَ حَالَ الْإِخْبَارِ كَمَا فِي الشَّهَادَةِ ، وَكَلِمَةُ الشَّهَادَةِ ، بِخِلَافِ قَوْلِهَا : أُطَلِّقُ نَفْسِي لَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ إخْبَارًا عَنْ أَمْرٍ قَائِمٍ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَقُومُ بِاللِّسَانِ ، فَلَوْ جَازَ قَامَ بِهِ الْأَمْرَانِ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ وَهُوَ مُحَالٌ ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِيقَاعَ لَا يَكُونُ بِنَفْسِ أُطَلِّقُ لِأَنَّهُ لَا تَعَارُفَ فِيهِ ، وَقَدَّمْنَا أَنَّهُ لَوْ تُعُورِفَ جَازَ وَمُقْتَضَاهُ أَنْ يَقَعَ بِهِ هُنَا إنْ تُعُورِفَ لِأَنَّهُ إنْشَاءٌ لَا إخْبَارٌ ( قَوْلُهُ : وَلَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةِ الزَّوْجِ ) وَلَا إلَى ذِكْرِ نَفْسِهَا ذَكَرَهُ فِي الدِّرَايَةِ لِأَنَّ فِي لَفْظِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى إرَادَةِ الطَّلَاقِ وَهُوَ التَّعَدُّدُ ، وَهُوَ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالطَّلَاقِ لَا بِاخْتِيَارِ الزَّوْجِ ، وَهَذَا يُفِيدُ عَدَمَ الِاحْتِيَاجِ إلَيْهَا فِي الْقَضَاءِ ، حَتَّى لَوْ قَالَ : لَمْ أَنْوِ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهِ ، وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا ، لَا عَدَمَ الِاحْتِيَاجِ إلَيْهَا فِي الْوُقُوعِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يَصِيرَ كَالصَّرِيحِ ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا رِوَايَةُ الزِّيَادَاتِ بِاشْتِرَاطِ النِّيَّةِ وَإِنْ كَرَّرَ .
وَمَا فِي الْجَامِعِ قَالَ اخْتَارِي اخْتَارِي اخْتَارِي بِأَلْفٍ يَنْوِي الطَّلَاقَ فَاشْتَرَطَ النِّيَّةَ مَعَ الْمَالِ وَالتَّكْرَارِ فَضْلًا عَنْ أَحَدِهِمَا وَهَذَا لِمَا عُرِفَ أَنَّ الْأَحْوَالَ شُرُوطٌ ، لَكِنْ فِي شَرْحِ الزِّيَادَاتِ لِقَاضِي خَانْ : لَوْ كَرَّرَ فَقَالَ : أَمْرُك بِيَدِك أَمْرُك بِيَدِك أَوْ فَأَمْرُك بِيَدِك أَوْ وَأَمْرُك بِيَدِك بِالْفَاءِ أَوْ بِالْوَاوِ فَقَالَتْ : اخْتَرْت نَفْسِي وَقَالَ الزَّوْجُ : لَمْ أَنْوِ الطَّلَاقَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ لِأَنَّ التَّكْرَارَ لَا يُزِيلُ الْإِبْهَامَ ، وَكَذَا لَوْ كَرَّرَ الِاخْتِيَارَ انْتَهَى وَهُوَ الْوَجْهُ .
وَتَحَقَّقَ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ بَيْنَ الْمَشَايِخِ ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ ذَكَرَهُ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ وَالْعَتَّابِيُّ وَغَيْرُهُمَا ،

وَشَرَطَ أَبُو مَعِينٍ النَّسَفِيُّ النِّيَّةَ مَعَ التَّكْرَارِ كَقَاضِي خَانْ .
وَمِنْهُمْ مَنْ اسْتَشْهَدَ بِمَا اسْتَشْهَدْنَا بِهِ فِي لُزُومِ النِّيَّةِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الْمَنْقُولِ عَلَى لُزُومِ النِّيَّةِ مُطْلَقًا وَلَوْ فِي الْقَضَاءِ ، وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ فِي مَسْأَلَةِ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الْمَالِ ظَاهِرٌ فِي إرَادَةِ الطَّلَاقِ فَكَيْفَ يُصَدِّقُهُ الْقَاضِي إذَا أَنْكَرَ إرَادَةَ الطَّلَاقِ .
وَأَمَّا مَا فِي الزِّيَادَاتِ مِنْ اشْتِرَاطِهَا فَيُحْمَلُ عَلَى مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ : أَيْ يُشْتَرَطُ لِلْوُقُوعِ ثُبُوتُ النِّيَّةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ إثْبَاتَ أَجْوِبَةِ الْمَسَائِلِ مِنْ قَوْلِنَا : يَقَعُ لَا يَقَعُ يَجِبُ لَا يَجِبُ إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى نَفْسِ الْأَمْرِ وَلَيْسَ كُلُّ مَا يُشْتَرَطُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ يُشْتَرَطُ لِلْقَضَاءِ ، غَيْرَ أَنَّا مَعَ ذَلِكَ اخْتَرْنَا مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي مِنْ أَنَّهُ لَوْ أَنْكَرَ الطَّلَاقَ بِقَوْلِهِ : لَمْ أَنْوِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ : لِانْتِهَاضِ الْوَجْهِ بِهِ لِأَنَّ تَكْرَارَ أَمْرِهِ بِالِاخْتِيَارِ لَا يُصَيِّرُهُ ظَاهِرًا فِي الطَّلَاقِ لِجَوَازِ أَنْ يُرِيدَ اخْتَارِي فِي الْمَالِ وَاخْتَارِي فِي الْمَسْكَنِ وَنَحْوِهِ ، وَهُوَ كَاعْتَدِّي اعْتَدِّي اعْتَدِّي حَيْثُ يُصَدِّقُهُ فِي إنْكَارِ نِيَّةِ الطَّلَاقِ لِإِمْكَانِ إرَادَةِ اعْتَدِّي نِعَمَ اللَّهِ وَمَعَاصِيَك وَنِعَمِي .
وَمَا فِي الْبَدَائِعِ : لَوْ قَالَ : اخْتَارِي اخْتَارِي اخْتَارِي فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَقَالَ : نَوَيْت بِالْأُولَى طَلَاقًا وَبِالْبَاقِيَتَيْنِ التَّأْكِيدَ لَمْ يُصَدَّقْ لِأَنَّهُ لَمَّا نَوَى بِالْأُولَى الطَّلَاقَ كَانَ الْحَالُ حَالَ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ فَكَانَ الْبَاقِي طَلَاقًا ظَاهِرًا ، وَمِثْلُهُ فِي الْمُحِيطِ ظَاهِرٌ .
وَقَالَ فِي الْكَافِي فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ : قِيلَ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ النَّفْسِ ، وَإِنَّمَا حُذِفَ لِشُهْرَتِهِ لِأَنَّ غَرَضَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ التَّفْرِيعُ دُونَ بَيَانِ صِحَّةِ الْجَوَابِ ، وَعَلَى هَذَا فَيَنْبَغِي أَنَّ حَذْفَ النِّيَّةِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ

كَذَلِكَ ( قَوْلُهُ : إنْ ذَكَرَ الْأُولَى وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ إنْ كَانَ لَا يُفِيدُ مِنْ حَيْثُ التَّرْتِيبُ ) يَعْنِي هُوَ فِي نَفْسِهِ يُفِيدُ الْفَرْدِيَّةَ وَالنِّسْبَةَ الْمَخْصُوصَةَ ، فَإِنْ بَطَلَ الثَّانِي فِي خُصُوصِ هَذَا الْمَحَلِّ لِاسْتِحَالَتِهِ فِي الْمُجْتَمَعِ فِي الْمِلْكِ ، أَعْنِي الثَّلَاثَ الَّتِي مَلَكَتْهَا بِقَوْلِهِ اخْتَارِي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، إذْ حَقِيقَةُ التَّرْتِيبِ فِي أَفْعَالِ الْأَعْيَانِ كَمَا يُقَالُ صَامَ حَجَّ لَمْ يَجُزْ إبْطَالُ الْآخَرِ فَيَجِبُ اعْتِبَارُهُ ( قَوْلُهُ وَالْكَلَامُ لِلتَّرْتِيبِ ) ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الْأُولَى نَعْتٌ لِمُؤَنَّثٍ فَاسْتَدْعَى مَذْكُورًا يُوصَفُ بِهِ وَالْمَذْكُورُ ضِمْنًا الِاخْتِيَارَةُ ، فَكَأَنَّهَا قَالَتْ : اخْتَرْت الِاخْتِيَارَةَ أَوْ الْمَرَّةَ الْأُولَى ، وَلَوْ قَالَتْ ذَلِكَ طَلُقَتْ ثَلَاثًا .
وَالْآخَرُ أَنَّهَا أَتَتْ بِالتَّرْتِيبِ لَا فِيمَا يَلِيقُ وَصْفُهُ بِهِ فَيَلْغُو وَيَبْقَى قَوْلُهَا اخْتَرْت فَيَكُونُ جَوَابًا لِلْكُلِّ ، وَهَذَا تَتِمُّ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ : إنَّ هَذَا وَصْفُ لَغْوٍ إلَى قَوْلِهِ فِي الْمَكَانِ ، فَقَوْلُهُ : وَالْكَلَامُ لِلتَّرْتِيبِ ابْتِدَاءً وَجْهٌ يَتَضَمَّنُ جَوَابَ قَوْلِهِمَا إنْ كَانَ لَا يُفِيدُ التَّرْتِيبَ إلَخْ لَا يُطَابِقُ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ .
وَالْمُرَادُ بِالْكَلَامِ لَفْظُ الْأُولَى ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْأُصُولِيِّينَ يُطْلِقُهُ عَلَى الْمُفْرَدِ ، وَبَعْضُهُمْ يَنْسُبُهُ إلَى كُلِّهِمْ ، ثُمَّ يَرِدُ عَلَيْهِ مَنْعُ أَنَّ الْإِفْرَادَ مِنْ ضَرُورَةِ التَّرْتِيبِ الَّذِي هُوَ مَعْنَى الْأُولَى ، بَلْ كُلٌّ مِنْهُمَا مَدْلُولُهُ لَيْسَ أَحَدُهُمَا تَبَعًا لِلْآخَرِ ، حَتَّى إذَا لَغَا فِي حَقِّ الْأَصْلِ لَغَا فِي حَقِّ الْبِنَاءِ وَهُوَ الْإِفْرَادُ .
وَإِذَا لَغِيَا بَقِيَ قَوْلُهَا : اخْتَرْت وَهُوَ يَصْلُحُ جَوَابًا لِلْكُلِّ فَيَقَعْنَ ، وَلِذَا اخْتَارَ الطَّحَاوِيُّ قَوْلَهُمَا .
وَالْجَوَابُ بَعْدَ تَسْلِيمِ أَنَّ الْفَرْدِيَّةَ مَدْلُولٌ تَضَمُّنِيٌّ فَقَدْ يَكُونُ أَحَدُ جُزْأَيْ الْمَدْلُولِ الْمُطَابِقِيِّ هُوَ الْمَقْصُودَ وَالْآخَرُ

تَبَعًا كَمَا هُوَ الْمُرَادُ هُنَا مِنْ قَوْلِهِ : وَالْإِفْرَادُ مِنْ ضَرُورَاتِهِ فَيَنْتَفِي التَّبَعُ بِانْتِفَاءِ الْمَقْصُودِ وَالْوَصْفُ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ وَضْعٌ لِذَاتٍ بِاعْتِبَارِ مَعْنًى هُوَ الْمَقْصُودُ فَلَمْ يُلَاحَظْ الْفَرْدُ فِيهِ حَقِيقِيًّا أَوْ اعْتِبَارِيًّا كَالطَّائِفَةِ الْأُولَى وَالْجَمَاعَةِ الْأُولَى إلَّا مِنْ حَيْثُ هُوَ مُتَّصِفٌ بِتِلْكَ النِّسْبَةِ ، فَإِذَا بَطَلَتْ بَطَلَ الْكَلَامُ .
وَقَدْ ضَعَّفَ بَعْضُهُمْ تَعْلِيلَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِأَنَّ التَّرْتِيبَ ثَابِتٌ فِي اللَّفْظِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فِي الْمَعْنَى ، فَصَدَقَ وَصْفُهَا بِالْأُولَى وَالْوُسْطَى إلَى آخِرِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ قَوْلَهُ : اخْتَارِي اخْتَارِي جُمْلَةٌ بَعْدَ جُمْلَةٍ .
وَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا اخْتَرْت لَفْظَتَك الْأُولَى أَوْ كَلِمَتَك الْأُولَى ، وَلَا مَعْنَى لَهُ أَصْلًا بَعْدَ فَرْضِ إهْدَارِ وَصْفِ الطَّلَاقِ بِهِ .
وَأَبْعَدُ مِنْ هَذَا مَنْ رَامَ الدَّفْعَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمَعْنَى اخْتَرْت الْإِيقَاعَ بِكَلِمَتِك الْأُولَى لِأَنَّ الْإِيقَاعَ لَا يَكُونُ بِكَلِمَتِهِ قَطُّ بَلْ بِكَلِمَتِهَا مَرِيدَةً بِهَا الطَّلَاقَ .
وَلَوْ قَالَ لَهَا : اخْتَارِي ثَلَاثًا فَقَالَتْ : اخْتَرْت اخْتِيَارَةً أَوْ الِاخْتِيَارَةَ أَوْ مَرَّةً أَوْ بِمَرَّةٍ أَوْ دَفْعَةً أَوْ بِدَفْعَةٍ أَوْ بِوَاحِدَةٍ أَوْ اخْتِيَارَةً وَاحِدَةً تَقَعُ الثَّلَاثُ اتِّفَاقًا لِأَنَّهُ جَوَابُ الْكُلِّ ، حَتَّى لَوْ كَانَ بِمَالٍ لَزِمَ كُلُّهُ ( قَوْلُهُ : فَهِيَ وَاحِدَةٌ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ ) وَهُوَ سَهْوٌ بَلْ بَائِنٌ نَصَّ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ وَفِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ وَالْمَبْسُوطِ وَالْأَوْضَحِ وَشُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَجَوَامِعِ الْفِقْهِ وَعَامَّةِ الْجَوَامِعِ سِوَى جَامِعِ صَدْرِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّ فِيهِ مَا فِي الْهِدَايَةِ .
وَجْهُ الصَّحِيحِ أَنَّ الْوَاقِعَ بِالتَّخْيِيرِ بَائِنٌ لِأَنَّ التَّخْيِيرَ تَمْلِيكُ النَّفْسِ مِنْهَا وَلَيْسَ فِي الرَّجْعِيِّ مِلْكُهَا نَفْسَهَا وَإِيقَاعُهَا وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الصَّرِيحِ ، لَكِنْ إنَّمَا يَثْبُتُ بِهِ الْوُقُوعُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فَوَّضَ بِهِ إلَيْهَا

، وَالصَّرِيحُ لَا يُنَافِي الْبَيْنُونَةَ كَمَا فِي تَسْمِيَةِ الْمَالِ فَيَقَعُ بِهِ لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ إلَّا مَا مُلِّكَتْ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَمَرَهَا بِالْبَائِنِ فَأَوْقَعَتْ الرَّجْعِيَّ أَوْ بِالْعَكْسِ وَقَعَ مَا أَمَرَهَا بِهِ لَا مَا أَوْقَعَتْهُ .
فَإِنْ قِيلَ : مَا الْفَرْقُ بَيْنَ اخْتَرْت وَطَلَّقْت حَيْثُ يَصِحُّ طَلَّقْت جَوَابًا لِاخْتَارِي حَتَّى تَقَعَ بِهِ الْبَائِنَةُ وَاخْتَرْت لَا يَصْلُحُ جَوَابَ طَلِّقِي نَفْسَك حَتَّى لَا يَقَعَ بِهِ شَيْءٌ إلَّا عِنْدَ زُفَرَ .
وَسَنَذْكُرُ جَوَابَهُ فِي فَصْلِ الْأَمْرِ بِالْيَدِ ( قَوْلُهُ : لَكِنْ بِتَطْلِيقَةٍ ) قِيلَ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ هَذَا كَقَوْلِهِ : طَلِّقِي نَفْسَك .
وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِاخْتَرْتُ جَوَابًا لِطَلِّقِي نَفْسَك .
أُجِيبُ بِأَنَّ آخِرَ كَلَامِهِ لَمَّا فَسَّرَ الْأَوَّلَ كَانَ الْعَامِلُ هُوَ الْمُفَسَّرَ وَهُوَ الْأَمْرُ بِالْيَدِ وَالتَّخْيِيرُ ، وَقَوْلُهَا : اخْتَرْت يَصْلُحُ جَوَابًا لَهُ .

[ فُرُوعٌ ] .
قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت وَاخْتَارِي فَقَالَتْ : شِئْت وَاخْتَرْت يَقَعُ ثِنْتَانِ بِالْمَشِيئَةِ وَالِاخْتِيَارِ .

وَلَوْ قَالَ : اخْتَارِي اخْتَارِي اخْتَارِي بِأَلْفٍ فَقَالَتْ : اخْتَرْت جَمِيعَ ذَلِكَ وَقَعَتْ الْأُولَيَانِ بِلَا شَيْءٍ وَالثَّالِثَةُ بِأَلْفٍ لِأَنَّهَا الْمَقْرُونَةُ بِالْبَدَلِ كَمَا فِي الِاسْتِثْنَاءِ وَالشُّرُوطِ ، وَكَذَا لَوْ قَالَتْ : اخْتَرْت نَفْسِي اخْتِيَارَةً أَوْ وَاحِدَةً أَوْ بِوَاحِدَةٍ .
وَلَوْ قَالَتْ : اخْتَرْت الْأُولَى أَوْ الْوُسْطَى أَوْ الْأَخِيرَةَ تَطْلُقُ ثَلَاثًا بِأَلْفٍ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ بِغَيْرِ شَيْءٍ إنْ قَالَتْ : اخْتَرْت الْأُولَى أَوْ الْوُسْطَى ، وَبِأَلْفٍ إنْ قَالَتْ : اخْتَرْت الْأَخِيرَةَ .

.
وَلَوْ قَالَتْ : طَلَّقْت نَفْسِي بِوَاحِدَةٍ أَوْ اخْتَرْت نَفْسِي بِتَطْلِيقَةٍ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ لِأَنَّ التَّطْلِيقَةَ اسْمٌ لِلْوَاحِدَةِ فَلَا يَكُونُ جَوَابًا عَنْ الْكُلِّ بَلْ الْبَعْضِ ، وَبَعْدَ ذَلِكَ تُسْأَلُ الْمَرْأَةُ عَنْ ذَلِكَ ، فَإِنْ قَالَتْ : عَنَيْت الْأُولَى أَوْ الثَّانِيَةَ وَقَعَتَا بِلَا شَيْءٍ أَوْ الثَّالِثَةَ بَانَتْ بِأَلْفٍ .
وَلَوْ قَالَ : اخْتَارِي وَاخْتَارِي وَاخْتَارِي بِالْعَطْفِ بِأَلْفٍ فَالْأَلْفُ مُقَابَلٌ بِالثَّلَاثِ لِلْعَطْفِ ، فَلَوْ قَالَتْ : اخْتَرْت نَفْسِي بِتَطْلِيقَةٍ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ لِأَنَّ الْوَاحِدَةَ لَوْ وَقَعَتْ وَقَعَتْ بِثُلُثِ الْبَدَلِ وَلَمْ يَرْضَهُ .
وَلَوْ قَالَتْ : اخْتَرْت الْأُولَى أَوْ الثَّانِيَةَ أَوْ الثَّالِثَةَ وَقَعَتْ ثَلَاثٌ بِأَلْفٍ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَقَعُ لِأَنَّهُ لَوْ وَقَعَ وَقَعَ بِثُلُثِ الْأَلْفِ .
وَلَوْ قَالَ لَهَا : اخْتَارِي مِنْ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ مَا شِئْت فَلَهَا اخْتِيَارُ وَاحِدَةٍ أَوْ ثِنْتَيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا غَيْرُ لِأَنَّ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ ، وَعِنْدَهُمَا تَمْلِكُ أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا ثَلَاثًا لِأَنَّهَا لِلْبَيَانِ وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ .

فَصْلٌ فِي الْأَمْرِ بِالْيَدِ ( وَإِنْ قَالَ لَهَا : أَمْرُك بِيَدِك يَنْوِي ثَلَاثًا فَقَالَتْ : قَدْ اخْتَرْت نَفْسِي بِوَاحِدَةٍ فَهِيَ ثَلَاثٌ ) لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ يَصْلُحُ جَوَابًا لِلْأَمْرِ بِالْيَدِ لِكَوْنِهِ تَمْلِيكًا كَالتَّخْيِيرِ ، وَالْوَاحِدَةُ صِفَةٌ لِلِاخْتِيَارَةِ ، فَصَارَ كَأَنَّهَا قَالَتْ : اخْتَرْت نَفْسِي بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ وَبِذَلِكَ يَقَعُ الثَّلَاثُ ( وَلَوْ قَالَتْ : قَدْ طَلَّقْت نَفْسِي بِوَاحِدَةٍ أَوْ اخْتَرْت نَفْسِي بِتَطْلِيقَةٍ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ ) لِأَنَّ الْوَاحِدَةَ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ وَهُوَ فِي الْأُولَى الِاخْتِيَارَةُ ، وَفِي الثَّانِيَةِ التَّطْلِيقَةُ إلَّا أَنَّهَا تَكُونُ بَائِنَةً لِأَنَّ التَّفْوِيضَ فِي الْبَائِنِ ضَرُورَةُ مِلْكِهَا أَمْرَهَا ، وَكَلَامُهَا خَرَجَ جَوَابًا لَهُ فَتَصِيرُ الصِّفَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي التَّفْوِيضِ مَذْكُورَةً فِي الْإِيقَاعِ وَإِنَّمَا تَصِحُّ نِيَّةُ الثَّلَاثِ فِي قَوْلِهِ : أَمْرُك بِيَدِك لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْعُمُومَ وَالْخُصُوصَ وَنِيَّةُ الثَّلَاثِ نِيَّةُ التَّعْمِيمِ ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ : اخْتَارِي لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْعُمُومَ وَقَدْ حَقَّقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ .

( فَصْلٌ فِي الْأَمْرِ بِالْيَدِ ) قَدَّمَ التَّخْيِيرَ لِتَأَيُّدِهِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ ، وَالْأَمْرُ بِالْيَدِ كَالتَّخْيِيرِ فِي جَمِيعِ مَسَائِلِهِ مِنْ اشْتِرَاطِ ذِكْرِ النَّفْسِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ وَمِنْ عَدَمِ مِلْكِ الزَّوْجِ الرُّجُوعَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا قَدَّمْنَاهُ سِوَى نِيَّةِ الثَّلَاثِ فَإِنَّهَا تَصِحُّ هَاهُنَا لَا فِي التَّخْيِيرِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ التَّفْوِيضَ بِلَفْظِ أَمْرُك بِيَدِك لَا يُعْلَمُ فِيهِ خِلَافٌ ، وَصِحَّتُهُ قِيَاسٌ وَاسْتِحْسَانٌ ، وَكَذَا صِحَّةُ التَّفْوِيضِ بِلَفْظِ اخْتَارِي نَفْسَك لِأَنَّهُ يَمْلِكُ تَطْلِيقَهَا فَلَهُ أَنْ يُمَلِّكَهُ بِكُلِّ لَفْظٍ يُفْهَمُ التَّفْوِيضُ مِنْهُ ، وَلَفْظُ اخْتَارِي نَفْسَك يُفِيدُهُ ، فَعَلَى هَذَا إنَّمَا يَتَّجِهُ تَقْدِيمُ التَّفْوِيضِ بِلَفْظِ اخْتَارِي لِتَأَيُّدِهِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ نَصًّا ، بِخِلَافِهِ بِلَفْظِ الْأَمْرِ بِالْيَدِ ، فَإِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ فِيهِ خِلَافُ أَحَدٍ لَمْ يَقَعْ بِهِ ذَلِكَ النَّقْلُ صَرِيحًا ، وَإِنَّمَا افْتَرَقَ الْبَابَانِ فِي الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ فِي الْإِيقَاعِ بِلَفْظِ الِاخْتِيَارِ ، فَإِنَّ إيقَاعَهَا بِهِ إنَّمَا يَجُوزُ اسْتِحْسَانًا بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ لَا قِيَاسًا لِأَنَّ الزَّوْجَ لَا يَمْلِكُ الْإِيقَاعَ بِهِ فَلَا يَمْلِكُ بِهِ الْمُمَلَّكَ إذْ لَا يَكُونُ مَا فِي مِلْكِهِ أَوْسَعَ مِمَّا فِي مِلْكِ مُمَلِّكِهِ وَهَذَا يَتَسَاوَى فِيهِ الْبَابَانِ ، فَإِنَّ إيقَاعَهَا بِلَفْظِ اخْتَرْت نَفْسِي يَصِحُّ فِي جَوَابِ أَمْرُك بِيَدِك كَمَا يَصِحُّ فِي اخْتَارِي .
وَأَمَّا الْإِيقَاعُ بِلَفْظِ أَمْرِي بِيَدِي وَنَحْوِهِ فَلَا يَصِحُّ قِيَاسًا وَلَا اسْتِحْسَانًا فَلَا تَحُمْ حَوْلَ الْحِمَى وَتَتْرُكْ النُّزُولَ مَخَافَةً ( قَوْلُهُ : وَإِنْ قَالَ لَهَا : أَمْرُك بِيَدِك يَنْوِي ثَلَاثًا ) أَيْ يَنْوِي التَّفْوِيضَ فِي ثَلَاثٍ ( فَقَالَتْ : اخْتَرْت نَفْسِي بِوَاحِدَةٍ فَهِيَ ثَلَاثٌ لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ يَصْلُحُ جَوَابًا لِلْأَمْرِ بِالْيَدِ ) وَهُنَا مَقَامَانِ : الْوُقُوعُ وَكَوْنُهُ ثَلَاثًا ، وَالْوُقُوعُ مَبْنِيٌّ عَلَى صِحَّتِهِ جَوَابًا ، فَأَفَادَهُ بِقَوْلِهِ

لِكَوْنِهِ أَيْ الْأَمْرِ بِالْيَدِ تَمْلِيكًا كَالتَّخْيِيرِ فَجَوَابُهُ جَوَابُهُ وَهُوَ مَنْقُوضٌ بِطَلِّقِي نَفْسَك فَإِنَّهُ تَمْلِيكٌ كَالتَّخْيِيرِ ، وَلَا يَصْلُحُ اخْتَرْت نَفْسِي جَوَابًا لَهُ حَتَّى لَا يَقَعَ بِهِ شَيْءٌ إلَّا عِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَجَوَابُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ بِأَنَّ الِاخْتِيَارَ أَضْعَفُ مِنْ لَفْظِ الطَّلَاقِ ، وَلِذَا لَوْ قَالَتْ : طَلَّقْت نَفْسِي فَأَجَازَهُ مُبْتَدَأً جَازَ ، وَلَوْ قَالَتْ : اخْتَرْت نَفْسِي لَا يَتَوَقَّفُ وَلَا يَقَعُ ، وَإِنْ أَجَازَهُ وَلَا يَمْلِكُ هُوَ الْإِيقَاعَ بِهِ فَصَلُحَ الْأَقْوَى جَوَابًا لِلْأَضْعَفِ دُونَ الْعَكْسِ لَا يَدْفَعُ الْوَارِدَ عَلَى الْمُصَنِّفِ ، ثُمَّ كَوْنُ الْأَقْوَى يَصْلُحُ جَوَابًا لِلْأَضْعَفِ بِلَا عَكْسٍ يَحْتَاجُ إلَى التَّوْجِيهِ .
وَيُمْكِنُ كَوْنُهُ لِأَنَّ الْجَوَابَ هُوَ الْعَامِلُ وَالتَّفْوِيضُ شَرْطُ عَمَلِهِ فَلَا يَكُونُ دُونَهُ بَلْ فَائِقًا أَوْ مُسَاوِيًا .
وَفَرَّقَ قَاضِي خَانْ فِي شَرْحِ الزِّيَادَاتِ بِأَنَّ قَوْلَهَا اخْتَرْت مُبْهَمٌ ، وَقَوْلَهُ : طَلِّقِي نَفْسَك مُفَسَّرٌ وَالْمُبْهَمُ لَا يَصْلُحُ جَوَابًا لِلْمُفَسَّرِ وَهُوَ مُشْكِلٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَقْرِيرِ الِاكْتِفَاءِ بِالتَّفْسِيرِ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ ، ثُمَّ أَفَادَ الثَّانِيَ بِقَوْلِهِ ( وَالْوَاحِدَةُ ) أَيْ الَّتِي نَطَقَتْ بِهَا ( صِفَةُ الِاخْتِيَارَةِ فَصَارَ كَأَنَّهَا قَالَتْ : اخْتَرْت نَفْسِي بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ وَبِذَلِكَ يَقَعُ الثَّلَاثُ ) وَكَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يَقُولَ بِاخْتِيَارَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّهُ جَعَلَهَا وَصْفًا لَهَا لَكِنَّهُ قَصَدَ التَّنْبِيهَ عَلَى أَنَّ مُوجِبَ وُقُوعِ الثَّلَاثِ وَصَرَّحَتْ بِقَوْلِهَا اخْتِيَارَةً وَاحِدَةً كَوْنَ الْمُرَادِ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ ، فَإِنَّ الِاخْتِيَارَةَ لَيْسَتْ إلَّا الْمَرَّةَ مِنْ الِاخْتِيَارِ ، وَإِذَا كَانَ اخْتِيَارُهَا بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ انْتَفَى الِاخْتِيَارُ بَعْدَهُ ، وَكَوْنُهَا بِحَيْثُ لَا يُتَصَوَّرُ لَهَا اخْتِيَارٌ آخَرُ هُوَ بِأَنْ يَقَعَ الثَّلَاثُ ، وَيُقَالُ فِي الْعُرْفِ تَرَكْته بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ وَكَرِهْته بِمَرَّةٍ وَأَعْرَضْت عَنْهُ مَرَّةً وَاحِدَةً ، وَمَا لَا

يُحْصَى مِنْ هَذَا لَا يُرَادُ بِهِ إلَّا بُلُوغَ مَا قُيِّدَ بِهِ مِنْ التَّرْكِ مَثَلًا وَالْكَرَاهَةُ وَالْإِعْرَاضُ مُنْتَهَاهُ .
وَأَوْرَدَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ بِهِ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ بِوَاحِدَةٍ يَحْتَمِلُ كَوْنَهُ صِفَةَ طَلْقَةٍ وَلَمَّا جَعَلَ أَمْرَهَا بِيَدِهَا فِي التَّطْلِيقِ فَقَوْلُهَا : اخْتَرْت نَفْسِي بِوَاحِدَةٍ يَحْتَمِلُ كُلًّا مِنْ كَوْنِ إرَادَةِ الْمَوْصُوفِ طَلْقَةً أَوْ اخْتِيَارَةً ، فَإِذَا نَوَتْهَا أَوْ لَمْ تَكُنْ لَهَا نِيَّةٌ تَقَعُ وَاحِدَةٌ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الِاحْتِمَالَيْنِ لَمْ يَتَسَاوَيَا ، فَإِنَّ خُصُوصَ الْعَامِلِ اللَّفْظِيِّ قَرِينَةُ خُصُوصِ الْمُقَدَّرِ وَهُوَ هُنَا لَفْظُ اخْتَرْت فِي قَوْلِهَا : اخْتَرْت نَفْسِي بِوَاحِدَةٍ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَجَابَتْ بِطَلَّقْتُ نَفْسِي بِوَاحِدَةٍ حَيْثُ تُقَدِّرُ الطَّلْقَةَ وَهُوَ بِخُصُوصِ الْعَامِلِ أَيْضًا ، وَبِهَذَا وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ جَوَابِهَا بِطَلَّقْتُ نَفْسِي بِوَاحِدَةٍ حَيْثُ يَقَعُ وَاحِدَةً بَائِنَةً وَاخْتَرْت نَفْسِي بِوَاحِدَةٍ حَيْثُ يَقَعُ ثَلَاثًا ، وَإِنَّمَا كَانَتْ التَّطْلِيقَةُ بَائِنَةً لِأَنَّ التَّفْوِيضَ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْبَائِنِ لِأَنَّهَا بِهِ تَمْلِكُ أَمْرَهَا وَإِنَّمَا تَمْلِكُهُ بِالْبَائِنِ لَا بِالرَّجْعِيِّ ، وَإِذَا عُلِمَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْيَدِ مِمَّا يُرَادُ بِهِ الثَّلَاثَ ، فَإِذَا قَالَ الزَّوْجُ : نَوَيْت التَّفْوِيضَ فِي وَاحِدَةٍ بَعْدَمَا طَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا فِي الْجَوَابِ يَحْلِفُ أَنَّهُ مَا أَرَادَ بِهِ الثَّلَاثَ ( قَوْلُهُ : وَقَدْ حَقَّقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ ) أَيْ فِي فَصْلِ الِاخْتِيَارِ بِقَوْلِهِ الِاخْتِيَارُ لَا يَتَنَوَّعُ .

( وَلَوْ قَالَ لَهَا : أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ وَبَعْدَ غَدٍ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ اللَّيْلُ وَإِنْ رَدَّتْ الْأَمْرَ فِي يَوْمِهَا بَطَلَ أَمْرُ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَكَانَ الْأَمْرُ بِيَدِهَا بَعْدَ غَدٍ ) لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِذِكْرِ وَقْتَيْنِ بَيْنَهُمَا وَقْتٌ مِنْ جِنْسِهِمَا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْأَمْرُ إذْ ذِكْرُ الْيَوْمِ بِعِبَارَةِ الْفَرْدِ لَا يَتَنَاوَلُ اللَّيْلَ فَكَانَا أَمْرَيْنِ فَبِرَدِّ أَحَدِهِمَا لَا يَرْتَدُّ الْآخَرُ .
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ : هُمَا أَمْرٌ وَاحِدٌ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ وَبَعْدَ غَدٍ .
قُلْنَا : الطَّلَاقُ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْقِيتَ ، وَالْأَمْرُ بِالْيَدِ يَحْتَمِلُهُ ، فَيُوَقَّتُ الْأَمْرُ بِالْأَوَّلِ وَجَعَلَ الثَّانِيَ أَمْرًا مُبْتَدَأً ( وَلَوْ قَالَ أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ وَغَدًا يَدْخُلُ اللَّيْلُ فِي ذَلِكَ ، فَإِنْ رَدَّتْ الْأَمْرَ فِي يَوْمِهَا لَا يَبْقَى الْأَمْرُ فِي يَدِهَا فِي غَدٍ ) لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ وَاحِدٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَخَلَّلْ بَيْنَ الْوَقْتَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ وَقْتٌ مِنْ جِنْسِهِمَا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْكَلَامُ وَقَدْ يَهْجُمُ اللَّيْلُ وَمَجْلِسُ الْمَشُورَةِ لَا يَنْقَطِعُ فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ : أَمْرُك بِيَدِك فِي يَوْمَيْنِ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهَا إذَا رَدَّتْ الْأَمْرَ فِي الْيَوْمِ لَهَا أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا غَدًا لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ رَدَّ الْأَمْرِ كَمَا لَا تَمْلِكُ رَدَّ الْإِيقَاعِ .
وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّهَا إذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا الْيَوْمَ لَا يَبْقَى لَهَا الْخِيَارُ فِي الْغَدِ ، فَكَذَا إذَا اخْتَارَتْ زَوْجَهَا بِرَدِّ الْأَمْرِ لِأَنَّ الْمُخَيَّرَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ لَا يَمْلِكُ إلَّا اخْتِيَارَ أَحَدِهِمَا .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا قَالَ : أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ وَأَمْرُك بِيَدِك غَدًا أَنَّهُمَا أَمْرَانِ لِمَا أَنَّهُ ذَكَرَ لِكُلِّ وَقْتٍ خَبَرًا بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ

( قَوْلُهُ : وَلَوْ قَالَ لَهَا : أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ وَبَعْدَ غَدٍ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ اللَّيْلُ إلَى آخِرِهِ ) حَاصِلُهُ أَنَّ قَوْلَهُ الْيَوْمَ وَبَعْدَ غَدٍ وَالْيَوْمَ وَغَدًا يَفْتَرِقَانِ فِي حُكْمَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهَا لَوْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا الْيَوْمَ وَخَرَجَ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا فِيهِ تَمْلِكُهُ بَعْدَ الْغَدِ ، وَالثَّانِي عَدَمُ مِلْكِهَا فِي اللَّيْلِ ، وَفِي الْيَوْمِ وَغَدًا لَوْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا الْيَوْمَ لَا تَمْلِكُ طَلَاقَ نَفْسِهَا غَدًا : أَيْ نَهَارًا وَتَمْلِكُهُ لَيْلًا .
وَالْفَرْقُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ تَمْلِيكُ وَاحِدَةٍ فِي الْيَوْمِ وَغَدًا وَتَمْلِيكَانِ فِي الْيَوْمِ وَبَعْدَ غَدٍ .
وَجَعَلَهُ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْكُلِّ تَمْلِيكًا وَاحِدًا فِي الْيَوْمِ وَبَعْدَ غَدٍ ، فَلَمْ يُثْبِتْ الْخِيَارَ بَعْدَ الْغَدِ إذَا رَدَّتْهُ الْيَوْمَ قِيَاسًا عَلَى طَلِّقِي نَفْسَك الْيَوْمَ وَبَعْدَ غَدٍ حَيْثُ يَقَعُ الطَّلَاقُ وَاحِدًا فَكَذَا يَكُونُ هُنَا أَمْرٌ وَاحِدٌ وَعَلَى أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ وَغَدًا .
قُلْنَا : الطَّلَاقُ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْقِيتَ ، وَإِذَا وَقَعَ تَصِيرُ بِهِ طَالِقًا فِي جَمِيعِ الْعُمُرِ فَذِكْرُ بَعْدَ غَدٍ وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ لَا يَقْتَضِي طَلَاقًا آخَرَ ، أَمَّا الْأَمْرُ بِالْيَدِ فَيَحْتَمِلُهُ فَيَصِحُّ ضَرْبُ الْمُدَّةِ لَهُ غَيْرَ أَنَّ عَطْفَ زَمَنٍ عَلَى زَمَنٍ مُمَاثِلٍ مَفْصُولٌ بَيْنَهُمَا بِزَمَنٍ مُمَاثِلٍ لَهُمَا ظَاهِرًا فِي قَصْدِ تَقْيِيدِ الْأَمْرِ الْمَذْكُورِ بِالْأَوَّلِ ، وَتَقْيِيدُ أَمْرٍ آخَرَ بِالثَّانِي وَإِلَّا لَمْ تَكُنْ لِهَذِهِ الطَّفْرَةِ مَعْنًى ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَصِيرُ لَفْظُ يَوْمٍ مُفْرَدًا غَيْرَ مَجْمُوعٍ إلَى مَا بَعْدَهُ فِي الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ لِأَنَّهُ صَارَ عَطْفَ جُمْلَةٍ : أَيْ أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ وَأَمْرُك بِيَدِك بَعْدَ غَدٍ .
وَلَوْ قَالَ : أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ لَا يَدْخُلُ اللَّيْلُ ، بِخِلَافِ الْيَوْمَ وَغَدًا فَإِنَّهُ لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَهُمَا بِيَوْمٍ آخَرَ لِتَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى الْقَصْدِ الْمَذْكُورِ فَكَانَ جَمْعًا بِحَرْفِ الْجَمْعِ فِي التَّمْلِيكِ الْوَاحِدِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ : أَمْرُك

بِيَدِك فِي يَوْمَيْنِ ، وَفِي مِثْلِهِ تَدْخُلُ اللَّيْلَةُ الْمُتَوَسِّطَةُ اسْتِعْمَالًا لُغَوِيًّا وَعُرْفِيًّا ، عَلَى أَنَّ عَلَى مَا رَوَى ابْنُ رُسْتُمَ مِنْ أَنَّهُ إذَا قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ وَبَعْدَ غَدٍ تَطْلُقُ طَلَاقَيْنِ ، بِخِلَافِ الْيَوْمَ وَغَدًا يَمْتَنِعُ قِيَاسُهُ .
وَأَيْضًا فِي : طَالِقٌ الْيَوْمَ وَبَعْدَ غَدٍ يَثْبُتُ فِيهِ الْحُكْمُ فِي الْغَدِ لِأَنَّهَا طَالِقٌ فِيهِ أَيْضًا ، بِخِلَافِ : أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ وَبَعْدَ غَدٍ فَإِنَّ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنْ لَا خِيَارَ لَهَا فِي الْغَدِ فَلَمْ يَلْحَقْ بِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَقَدْ يَهْجُمُ اللَّيْلُ وَمَجْلِسُ الْمَشُورَةِ لَمْ يَنْقَطِعْ لَا اعْتِبَارَ بِهِ تَعْلِيلًا لِدُخُولِ اللَّيْلِ فِي التَّمْلِيكِ الْمُضَافِ إلَى الْيَوْمِ وَغَدٍ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي دُخُولَ اللَّيْلِ فِي الْيَوْمِ الْمُفْرَدِ لِذَلِكَ الْمَعْنَى : أَعْنِي أَنَّهُ قَدْ يَهْجُمُ اللَّيْلُ وَمَجْلِسُ الْمَشُورَةِ لَمْ يَنْقَطِعْ ( قَوْلُهُ : وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي مَسْأَلَةِ أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ وَغَدًا أَنَّهَا إذَا رَدَّتْ الْأَمْرَ فِي الْيَوْمِ لَهَا أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا غَدًا ) رَوَاهُ أَبُو يُوسُفَ عَنْهُ ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَمْلِكُ رَدَّ إيقَاعِ الزَّوْجِ لَوْ نَجَّزَ ، فَكَذَا لَا تَمْلِكُ رَدَّ الْأَمْرِ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ يَثْبُتُ حُكْمُهُ لَهَا مِنْ الْمِلْكِ بِلَا قَبُولٍ كَالْإِيقَاعِ مِنْهُ وَحَاصِلُهُ أَنَّ رَدَّهَا لَغْوٌ ، فَالْحَالُ كَمَا كَانَ فَلَهَا أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا فِي الْغَدِ ، وَمُقْتَضَى هَذَا أَنَّ لَهَا أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا فِي الْيَوْمِ الَّذِي رَدَّتْ فِيهِ أَيْضًا فَصَارَ كَقِيَامِهَا عَنْ الْمَجْلِسِ بَعْدَمَا خَيَّرَهَا فِي الْيَوْمِ وَغَدًا وَاشْتِغَالِهَا بِعَمَلٍ آخَرَ حَيْثُ لَا يَخْرُجُ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا .
وَتَحْقِيقُ وَجْهِ الظَّاهِرِ أَنَّ ثُبُوتَ هَذَا الْمِلْكِ مُغَيًّا شَرْعًا بِأَحَدِ الْأُمُورِ مِنْ انْقِضَاءِ مَجْلِسِ الْعِلْمِ أَوْ الْخِطَابِ بِلَا اخْتِيَارِ شَيْءٍ أَوْ بِفِعْلِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِعْرَاضِ أَوْ اخْتِيَارِهَا زَوْجَهَا ، فَإِذَا رَدَّتْ بِاخْتِيَارِهَا زَوْجَهَا

خَرَجَ مِلْكُ الْإِيقَاعِ عَنْهَا فَلَا تَمْلِكُ اخْتِيَارَ نَفْسِهَا بَعْدَ ذَلِكَ ، وَيُضَافُ تَوْقِيتُ التَّمْلِيكِ بِهَذِهِ إلَى الْإِجْمَاعِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ مَعَ أَنَّ تَوْقِيتَهُ فِي الْجُمْلَةِ ثَابِتٌ شَرْعًا كَمَا فِي الْإِجَارَةِ .
وَالْأَوْجَهُ تَشْبِيهُهُ بِالْعَارِيَّةِ لِوَجْهَيْنِ : كَوْنُهُ بِلَا عِوَضٍ وَالْعَارِيَّةُ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِلَا عِوَضٍ .
وَالثَّانِي أَنَّ تَوْقِيتَهَا لَيْسَ بِمُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ لِأَنَّ انْقِضَاءَ الْمَجْلِسِ لَيْسَ مَضْبُوطَ الْكَمِّيَّةِ إذْ قَدْ يَمْتَدُّ يَوْمًا وَيَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ ، وَكَذَا اخْتِيَارُهَا زَوْجَهَا وَفِعْلُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِعْرَاضِ بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ .
وَأَمَّا تَقْرِيرُهُ بِأَنَّ الْمُخَيَّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إنَّمَا لَهُ اخْتِيَارُ أَحَدِهِمَا فَكَمَا أَنَّهَا إذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا لَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْتَارَ زَوْجَهَا فَتَعُودُ إلَى النِّكَاحِ كَذَلِكَ إذَا اخْتَارَتْ زَوْجَهَا لَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا فَلَا يُفْصِحُ عَنْ جَوَابِ النُّكْتَةِ الَّتِي هِيَ مَبْنَى جَوَازِ اخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا : أَعْنِي أَنَّ الْمِلْكَ بَعْدَ ثُبُوتِهِ لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ إنَّمَا يَرْتَدُّ شَطْرُ التَّمْلِيكِ ، وَقَدْ قُلْنَا : إنَّ هَذَا التَّمْلِيكَ يُثْبِتُ الْمِلْكَ بِلَا قَبُولٍ ، وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ وَجْهِ الظَّاهِرِ حَمْلُ الرَّدِّ الْمَذْكُورِ فِي رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ عَلَى اخْتِيَارِهَا زَوْجَهَا ، وَلَا شَكَّ أَنَّهَا لَا تَتَعَرَّضُ لِمَا بِهِ الرَّدُّ فَيُمْكِنُ حَمْلُ رَدِّهَا عَلَى كَوْنِهِ بِمَا يَكُونُ بِلَفْظِ الرَّدِّ وَنَحْوِهِ بِأَنْ تَقُولَ عَقِيبَ الْمِلْكِ بِتَخْيِيرِهَا : رَدَدْت التَّفْوِيضَ أَوْ لَا أُطَلِّقُ ، وَبِكَوْنِ هَذَا إعْطَاءً لِنَفْسِ هَذَا الْحُكْمِ وَيَكُونُ هُوَ مُسْتَنَدَ مَا فُرِّعَ فِي الذَّخِيرَةِ حَيْثُ قَالَ : لَوْ جَعَلَ أَمْرَهَا بِيَدِهَا أَوْ بِيَدِ أَجْنَبِيٍّ يَقَعُ لَازِمًا فَلَا يَرْتَدُّ بِرَدِّهَا وَالْمَسْأَلَةُ مَرْوِيَّةٌ عَنْ أَصْحَابِنَا ، وَبِمَا ذَكَرْنَا تَنْدَفِعُ الْمُنَاقَضَةُ الْمُورَدَةُ فِي الْأَمْرِ بِالْيَدِ حَيْثُ صَرَّحَ فِي الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ ، وَفِي

الْكِتَابِ أَنَّهُ يَرْتَدُّ : أَعْنِي فِي قَوْلِهِ : أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ وَغَدًا ، وَإِنْ رَدَّتْ الْأَمْرَ فِي يَوْمِهَا لَا يَبْقَى الْأَمْرُ فِي يَدِهَا ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِرَدِّهَا هُنَا اخْتِيَارُهَا زَوْجَهَا الْيَوْمَ ، وَحَقِيقَتُهُ انْتِهَاءُ مِلْكِهَا ، وَهُنَاكَ الْمُرَادُ أَنْ تَقُولَ : رَدَدْت فَلَمْ يَبْقَ تَدَافُعٌ ، لَكِنْ الشَّارِحُونَ قَرَّرُوا ثُبُوتَ التَّدَافُعِ فِي ذَلِكَ حَيْثُ نَقَلُوا لِأَنَّهُ لَا يَرْتَدُّ وَنَقَلُوا أَنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ .
وَوَفَّقُوا بِأَنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ عِنْدَ التَّفْوِيضِ ، وَأَمَّا بَعْدَهُ فَلَا يَرْتَدُّ كَمَا إذَا أَقَرَّ بِمَالٍ لِرَجُلٍ فَصَدَّقَهُ ثُمَّ رَدَّ إقْرَارَهُ لَا يَصِحُّ .
وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ كَالْإِبْرَاءِ عَنْ الدَّيْنِ ثُبُوتُهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُولِ وَيَرْتَدُّ بِالرَّدِّ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْإِسْقَاطِ أَوْ التَّمْلِيكِ .
أَمَّا الْإِسْقَاطُ فَظَاهِرٌ ، وَأَمَّا التَّمْلِيكُ فَقَالَ تَعَالَى { وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ } سَمَّى الْإِبْرَاءَ تَصَدُّقًا .
وَمِمَّا وَقَعَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ الْمُنَاقَصَةِ مَا ذُكِرَ فِي الْفُصُولِ : لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَمْرُك بِيَدِك ثُمَّ طَلَّقَهَا بَائِنًا خَرَجَ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : لَا يَخْرُجُ وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا .
وَوَفَّقَ بِأَنَّ الْخُرُوجَ فِيمَا إذَا كَانَ مُنَجَّزًا ، وَعَدَمَهُ إذَا كَانَ مُعَلَّقًا مِثْلُ أَنْ قَالَ : أكرترابزنم فَأَمْرُك بِيَدِك ثُمَّ طَلَّقَهَا بَائِنًا أَوْ خَالَعَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا ثُمَّ وَجَدَ الشَّرْطَ يَصِيرُ الْأَمْرُ بِيَدِهَا ، وَلَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ ثُمَّ ضَرَبَهَا لَا يَصِيرُ بِيَدِهَا وَمِنْ الْمُنَاقَضَةِ تَصْرِيحُهُمْ بِصِحَّةِ إضَافَتِهِ كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْآتِيَةِ إذَا قَالَ : أَمْرُك بِيَدِك يَوْمَ يَقْدَمُ فُلَانٌ ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهَا ( قَوْلُهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا قَالَ : أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ وَأَمْرُك بِيَدِك غَدًا أَنَّهُمَا أَمْرَانِ ) حَتَّى لَوْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا الْيَوْمَ لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا غَدًا ؛

لِأَنَّهُ يَثْبُتُ لَهَا فِي الْغَدِ تَخْيِيرٌ جَدِيدٌ بَعْدَ ذَلِكَ التَّخْيِيرِ الْمُنْقَضِي بِاخْتِيَارِهَا الزَّوْجَ .
قَالَ السَّرَخْسِيُّ : وَهُوَ صَحِيحٌ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ لِكُلِّ وَقْتٍ خَبَرًا صُرِفَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ اشْتِرَاكَ الْوَقْتَيْنِ فِي خَبَرٍ وَاحِدٍ ، وَالْأَصْلُ اسْتِقْلَالُ كُلِّ كَلَامٍ .
وَذَكَرَ قَاضِي خَانْ هَذِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهَا خِلَافًا ، فَلَمْ يَبْقَ تَخْصِيصُ أَبِي يُوسُفَ إلَّا لِأَنَّهُ مَخْرَجُ الْفَرْعِ الْمَذْكُورِ .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا عَدَمُ جَوَازِ اخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا لَيْلًا فَلَا تَغْفُلُ عَنْهُ لِأَنَّهُ أَثْبَتُ لَهَا فِي يَوْمٍ مُفْرَدٍ وَلَا يَدْخُلُ اللَّيْلُ ، وَالثَّابِتُ فِي الْيَوْمِ الَّذِي يَلِيه بِأَمْرٍ آخَرَ كَقَوْلِهِ : أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ حَيْثُ يَمْتَدُّ إلَى الْغُرُوبِ فَقَطْ ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَمْرُك بِيَدِك فِي الْيَوْمِ إنَّمَا يَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ وَهُوَ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْأَصْلِ فِي أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا وَفِي غَدٍ .
وَفِي جَامِعِ التُّمُرْتَاشِيِّ : أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ غَدًا بَعْدَ غَدٍ فَهُوَ أَمْرٌ وَاحِدٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّهَا أَوْقَاتٌ مُتَرَادِفَةٌ ، فَصَارَ كَقَوْلِهِ أَمْرُك بِيَدِك أَبَدًا فَيَرْتَدُّ بِرَدِّهَا مَرَّةً ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ لِأَنَّهَا أَوْقَاتٌ حَقِيقَةً .

( وَإِنْ قَالَ : أَمْرُك بِيَدِك يَوْمَ يَقْدَمُ فُلَانٌ فَقَدِمَ فُلَانٌ فَلَمْ تَعْلَمْ بِقُدُومِهِ حَتَّى جَنَّ اللَّيْلُ فَلَا خِيَارَ لَهَا ) لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْيَدِ مِمَّا يَمْتَدُّ فَيَحْمِلُ الْيَوْمَ الْمَقْرُونَ بِهِ عَلَى بَيَاضِ النَّهَارِ وَقَدْ حَقَّقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ فَيَتَوَقَّتُ بِهِ ثُمَّ يَنْقَضِي بِانْقِضَاءِ وَقْتِهِ

( قَوْلُهُ : وَإِذَا قَالَ أَمْرُك بِيَدِك يَوْمَ يَقْدَمُ فُلَانٌ صَحَّ ) وَلَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا يَوْمَ يَقْدَمُ ، وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يُفَارِقُ بِهِ سَائِرَ التَّمْلِيكَاتِ فَإِنَّهَا لَا تَصِحُّ إضَافَتُهَا وَلَا تَعْلِيقُهَا بِخِلَافِ هَذَا لِأَنَّهُ إنَّمَا هُوَ تَمْلِيكُ فِعْلٍ فَلَا يَقْتَضِي لَوَازِمَ تَمْلِيكَاتِ الْأَعْيَانِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَقَدْ يَخْرُجُ عَلَى أَنَّهُ فِي مَعْنَى التَّعْلِيقِ .
فَإِنْ قِيلَ : يُخَالِفُهُ مَا فِي شَرْحِ الزِّيَادَاتِ لِقَاضِي خَانْ : لَوْ قَالَ : أَمْرُك بِيَدِك فَطَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ أَوْ ثَلَاثًا إذَا جَاءَ غَدٌ فَقَالَتْ فِي الْمَجْلِسِ : اخْتَرْت نَفْسِي طَلُقَتْ ثَلَاثًا لِلْحَالِ ، وَلَوْ قَامَتْ عَنْ مَجْلِسِهَا قَبْلَ أَنْ تَقُولَ شَيْئًا بَطَلَ لِأَنَّ قَوْلَهُ فَطَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا تَفْسِيرٌ لِلْأَمْرِ وَالْأَمْرُ بِالْيَدِ يَحْتَمِلُ الثَّلَاثَ ، أَمَّا لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ وَالْإِضَافَةَ إلَى وَقْتِ السُّنَّةِ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْيَدِ يَقْتَضِي الْمَالِكِيَّةَ ، وَالْأَمْرُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يُفِيدُ الْبَيْنُونَةَ فِي الْحَالِ فَلَا تَثْبُتُ الْمَالِكِيَّةُ ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ : أَمْرُك بِيَدِك وَنَوَى السُّنَّةَ أَوْ التَّعْلِيقَ لَا يَصِحُّ ، فَإِذَا أَلْحَقَهُ بِمَا كَانَ تَفْسِيرًا يَثْبُتُ مَا يَحْتَمِلُهُ وَهُوَ الثَّلَاثُ وَلَا يَثْبُتُ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ وَهُوَ السُّنَّةُ وَالتَّعْلِيقُ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ مَعْنَى هَذَا الِاحْتِمَالِ احْتِمَالُ لَفْظِ التَّنْجِيزِ لِلتَّعْلِيقِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَفْرَادِهِ وَلَا مُتَعَلِّقًا بِهِ بَعْدَمَا ذَكَرَ أَنَّ قَوْلَهُ : فَطَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ أَوْ إذَا جَاءَ غَدٌ تَفْسِيرٌ لِذَلِكَ التَّفْوِيضِ فَكَانَ التَّعْلِيقُ مُرَادًا بِلَا لَفْظٍ ، ثُمَّ لَوْ لَمْ تَعْلَمْ بِقُدُومِهِ حَتَّى انْقَضَى يَوْمُ قُدُومِهِ وَدَخَلَ اللَّيْلُ فَلَا خِيَارَ لَهَا لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْيَدِ مِمَّا يَمْتَدُّ فَيُحْمَلُ الْيَوْمُ الْمَقْرُونُ بِهِ عَلَى النَّهَارِ لَا عَلَى الْوَقْتِ مُطْلَقًا .
وَقَدْ حَقَّقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ : يَعْنِي فِي آخِرِ فَصْلِ إضَافَةِ الطَّلَاقِ ، وَإِنَّمَا لَمْ

يُعْتَبَرْ الْقُدُومُ فَيُحْمَلُ الْيَوْمُ عَلَى الْوَقْتِ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ غَيْرُ مُمْتَدٍّ لِمَا حَقَّقْنَاهُ هُنَاكَ مِنْ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ امْتِدَادُهُ وَعَدَمُهُ هُوَ الْمُضَافُ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ .

( وَإِذَا جَعَلَ أَمْرَهَا بِيَدِهَا أَوْ خَيَّرَهَا فَمَكَثَتْ يَوْمًا لَمْ تَقُمْ فَالْأَمْرُ فِي يَدِهَا مَا لَمْ تَأْخُذْ فِي عَمَلٍ آخَرَ ) لِأَنَّ هَذَا تَمْلِيكُ التَّطْلِيقِ مِنْهَا ( لِأَنَّ الْمَالِكَ مَنْ يَتَصَرَّفُ بِرَأْيِ نَفْسِهِ وَهِيَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَالتَّمْلِيكُ يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ ) ثُمَّ إنْ كَانَتْ تَسْمَعُ يُعْتَبَرُ مَجْلِسُهَا ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَسْمَعُ فَمَجْلِسُ عِلْمِهَا وَبُلُوغِ الْخَبَرِ إلَيْهَا لِأَنَّ هَذَا تَمْلِيكٌ فِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيقِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى مَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ ، وَلَا يُعْتَبَرُ مَجْلِسُهُ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ لَازِمٌ فِي حَقِّهِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ مَحْضٌ لَا يَشُوبُهُ التَّعْلِيقُ ، وَإِذَا اُعْتُبِرَ مَجْلِسُهَا فَالْمَجْلِسُ تَارَةً يَتَبَدَّلُ بِالتَّحَوُّلِ وَمَرَّةً بِالْأَخْذِ فِي عَمَلٍ آخَرَ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي الْخِيَارِ ، وَيَخْرُجُ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا بِمُجَرَّدِ الْقِيَامِ لِأَنَّهُ دَلِيلٌ الْإِعْرَاضِ ، إذْ الْقِيَامُ يُفَرِّقُ الرَّأْيَ ، بِخِلَافِ مَا إذَا مَكَثَتْ يَوْمًا لَمْ تَقُمْ وَلَمْ تَأْخُذْ فِي عَمَلٍ آخَرَ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ قَدْ يَطُولُ وَقَدْ يَقْصُرُ فَيَبْقَى إلَى أَنْ يُوجَدَ مَا يَقْطَعُهُ أَوْ مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِعْرَاضِ .
وَقَوْلُهُ مَكَثَتْ يَوْمًا لَيْسَ لِلتَّقْدِيرِ بِهِ .
وَقَوْلُهُ مَا لَمْ تَأْخُذْ فِي عَمَلٍ آخَرَ يُرَادُ بِهِ عَمَلٌ يُعْرَفُ أَنَّهُ قَطْعٌ لِمَا كَانَ فِيهِ لَا مُطْلَقَ الْعَمَلِ ( وَلَوْ كَانَتْ قَائِمَةً فَجَلَسَتْ فَهِيَ عَلَى خِيَارِهَا ) لِأَنَّهُ دَلِيلُ الْإِقْبَالِ فَإِنَّ الْقُعُودَ أَجْمَعُ لِلرَّأْيِ ( وَكَذَا إذَا كَانَتْ قَاعِدَةً فَاتَّكَأَتْ أَوْ مُتَّكِئَةً فَقَعَدَتْ ) لِأَنَّ هَذَا انْتِقَالٌ مِنْ جِلْسَةٍ إلَى جِلْسَةٍ فَلَا يَكُونُ إعْرَاضًا ، كَمَا إذَا كَانَتْ مُحْتَبِيَةً فَتَرَبَّعَتْ .
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : هَذَا رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، وَذَكَرَ فِي غَيْرِهِ أَنَّهَا إذَا كَانَتْ قَاعِدَةً فَاتَّكَأَتْ لَا خِيَارَ لَهَا لِأَنَّ الِاتِّكَاءَ إظْهَارُ التَّهَاوُنِ بِالْأَمْرِ فَكَانَ إعْرَاضًا ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَصَحُّ

.
وَلَوْ كَانَتْ قَاعِدَةً فَاضْطَجَعَتْ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَلَوْ قَالَتْ اُدْعُ أَبِي أَسْتَشِرْهُ أَوْ شُهُودًا أُشْهِدْهُمْ فَهِيَ عَلَى خِيَارِهَا ) لِأَنَّ الِاسْتِشَارَةَ لِتَحَرِّي الصَّوَابِ ، وَالْإِشْهَادَ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الْإِنْكَارِ فَلَا يَكُونُ دَلِيلَ الْإِعْرَاضِ ( وَإِنْ كَانَتْ تَسِيرُ عَلَى دَابَّةٍ أَوْ فِي مَحْمَلٍ فَوَقَفَتْ فَهِيَ عَلَى خِيَارِهَا ، وَإِنْ سَارَتْ بَطَلَ خِيَارُهَا ) لِأَنَّ سَيْرَ الدَّابَّةِ وَوُقُوفَهَا مُضَافٌ إلَيْهَا ( وَالسَّفِينَةُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْتِ ) لِأَنَّ سَيْرَهَا غَيْرُ مُضَافٍ إلَى رَاكِبِهَا ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى إيقَافِهَا وَرَاكِبُ الدَّابَّةِ يَقْدِرُ .
.

( قَوْلُهُ : وَإِذَا جَعَلَ أَمْرَهَا بِيَدِهَا أَوْ خَيَّرَهَا فَمَكَثَتْ يَوْمًا لَمْ تَقُمْ فَالْأَمْرُ فِي يَدِهَا مَا لَمْ تَأْخُذْ فِي عَمَلٍ آخَرَ ؛ لِأَنَّ هَذَا تَمْلِيكُ التَّطْلِيقِ مِنْهَا لِأَنَّ الْمَالِكَ مَنْ يَتَصَرَّفُ بِرَأْيِ نَفْسِهِ وَهِيَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَالتَّمْلِيكُ يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ وَقَدْ بَيِّنَاهُ ) أَيْ فِي أَوَّلِ فَصْلِ الِاخْتِيَارِ وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ هُنَاكَ هُوَ أَنَّ التَّمْلِيكَ يَسْتَدْعِي جَوَابًا فِي الْمَجْلِسِ ، وَلَمْ يَسْتَدِلَّ عَلَى أَنَّهُ تَمْلِيكٌ ، وَاسْتَدَلَّ هُنَا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ الْمَالِكَ هُوَ الَّذِي يَتَصَرَّفُ بِرَأْيِ نَفْسِهِ .
وَالْوَجْهُ الْمَشْهُورُ فِيهِ قَوْلُهُمْ هُوَ الَّذِي يَتَصَرَّفُ لِنَفْسِهِ ، وَإِلَّا فَالْوَكِيلُ يَتَصَرَّفُ بِرَأْيِ نَفْسِهِ ، وَكَأَنَّهُ تَرَكَهُ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ التَّفْوِيضَ إلَى الْأَجْنَبِيِّ تَمْلِيكٌ وَهُوَ لَا يَتَصَرَّفُ لِنَفْسِهِ ، وَسَنُحَقِّقُ مَا ذُكِرَ فِي ذَلِكَ لِيَنْدَفِعَ الْوَكِيلُ فِي الْمَشِيئَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَقَدَّمْنَا مَا فِي قَوْلِهِ يَسْتَدْعِي جَوَابًا فِي الْمَجْلِسِ ، فَالصَّوَابُ إسْنَادُ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْمَجْلِسِ إلَى إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ حَيْثُ قَالُوا لَهَا فِي الْمَجْلِسِ ( قَوْلُهُ : ثُمَّ إنْ كَانَتْ تَسْمَعُ ) أَيْ تَسْمَعُ لَفْظَهُ بِالتَّخْيِيرِ ( اُعْتُبِرَ مَجْلِسُهَا ذَلِكَ ) أَيْ مَجْلِسُ سَمَاعِهَا ( وَإِنْ كَانَتْ لَا تَسْمَعُ فَمَجْلِسُ عِلْمِهَا ) عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ ( لِأَنَّ هَذَا تَمْلِيكٌ يُفِيدُ مَعْنَى التَّعْلِيقِ ) أَمَّا أَنَّهُ تَمْلِيكٌ فَلِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهَا عَامِلَةٌ لِنَفْسِهَا ، وَأَمَّا أَنَّ فِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيقِ فَلِأَنَّ الْإِيقَاعَ وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ الزَّوْجِ إلَّا أَنَّ الْوُقُوعَ مُضَافٌ إلَى مَعْنًى مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ فَكَأَنَّهُ قَالَ : إنْ طَلَّقْت نَفْسَكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَيَثْبُتُ لِلتَّفْوِيضِ أَحْكَامٌ تَتَرَتَّبُ عَلَى جِهَةِ التَّمْلِيكِ وَأَحْكَامٌ عَلَى جِهَةِ التَّعْلِيقِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ كُلَّهَا مِمَّا يُمْكِنُ تَرَتُّبُهَا عَلَى التَّمْلِيكِ ، فَصِحَّةُ التَّوْقِيتِ عَلَى أَنَّهُ تَمْلِيكُ مَنْفَعَةٍ ،

وَقَدَّمْنَا أَنَّ إلْحَاقَهُ بِالْعَارِيَّةِ أَقْرَبُ .
ثُمَّ مِنْ صُوَرِ التَّوْقِيتِ مَا يُوجِبُ التَّوَقُّفَ عَلَى مَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ كَأَنْ يَقُولَ : أَمْرُك بِيَدِك شَهْرًا أَوْ جُمُعَةً فَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاؤُهُ مِنْ وَقْتِ التَّفْوِيضِ وَلَيْسَ هَذَا التَّوَقُّفُ سِوَى امْتِدَادِ الْمِلْكِ الَّذِي تَحَقَّقَ فِي الْحَالِ ، وَكَذَا عَدَمُ صِحَّةِ الرَّدِّ بَعْدَ سُكُوتِهِ أَوَّلَ الْأَمْرِ بِنَاءً عَلَيْهِ لِأَنَّهُ بِنَاءٌ عَلَى ثُبُوتِ الْمِلْكِ الثَّابِتِ بِالتَّمْلِيكِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْقَبُولِ ، وَأَمَّا اقْتِصَارُهُ عَلَى الْمَجْلِسِ فِي التَّفْوِيضِ الْمُطْلَقِ فَتَقَدَّمَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ تَمْلِيكٌ وَهُوَ يَسْتَدْعِي جَوَابًا فِي الْمَجْلِسِ ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ الْجَوَابَ الَّذِي يَسْتَدْعِيه التَّمْلِيكُ فِي الْمَجْلِسِ الْقَبُولُ وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ ، بَلْ امْتِدَادُهُ فِي تَمَامِ الْمَجْلِسِ أَثَرُ الْمِلْكِ وَارْتِفَاعُهُ بَعْدَهُ ، وَنَفْسُ اقْتِصَارِهِ عَلَيْهِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ .
فَإِنْ قُلْت : قَدْ وَقَعَ فِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ أَنَّ تَطْلِيقَهَا نَفْسَهَا قَبُولٌ ، قُلْنَا : لَا يَتِمُّ إذْ هُوَ التَّصَرُّفُ الْمُتَفَرِّعُ عَلَى ثُبُوتِ مِلْكِهِ لَهُ .
أَمَّا عَدَمُ صِحَّةِ الرُّجُوعِ مِنْ الزَّوْجِ فَيُنَاسِبُ كُلًّا مِنْ التَّعْلِيقِ وَالتَّمْلِيكِ ، لِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ يَلْزَمُ بِلَا قَضَاءٍ وَلَا رِضًا ، فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ جَمِيعَ الْآثَارِ يَصِحُّ تَرَتُّبُهَا عَلَى جِهَةِ الْمِلْكِ هُنَا ، وَلَا حَاجَةَ إلَى اعْتِبَارِ جِهَةِ التَّعْلِيقِ ، وَقَوْلُهُمْ كَأَنَّهُ قَالَ : إذَا طَلَّقْت نَفْسَك فَأَنْتِ طَالِقٌ يُمْكِنُ إجْرَاؤُهُ فِي الْوَكَالَةِ كَأَنَّهُ قَالَ : إذَا بِعْت مَتَاعِي فَقَدْ أَجَزْت بَيْعَك ، وَالْوِلَايَةِ كَأَنَّ الْإِمَامَ قَالَ لَهُ : إذَا قَضَيْت فَقَدْ أَنَفَذْت قَضَاءَك كَمَا قَدَّمْنَا ، وَالِاعْتِبَارَاتُ الَّتِي لَا أَثَرَ لَهَا كَثِيرَةٌ فِي دَائِرَةِ الْإِمْكَانِ ( قَوْلُهُ : وَقَوْلُهُ : ) أَيْ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ( مَا لَمْ تَأْخُذْ فِي عَمَلٍ آخَرَ يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ عَمَلٌ يُعْرَفُ أَنَّهُ قَطْعٌ لِمَا كَانَتْ فِيهِ )

فَلَوْ لَبِسَتْ مِنْ غَيْرِ قِيَامٍ أَوْ أَكَلَتْ قَلِيلًا أَوْ شَرِبَتْ أَوْ قَرَأَتْ قَلِيلًا أَوْ سَبَّحَتْ أَوْ قَالَتْ اُدْعُ إلَيَّ أَبِي أَسْتَشِيرُهُ أَوْ الشُّهُودَ وَمَا أَشْبَهَهُ مِمَّا هُوَ عَمَلُ الْفُرْقَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَقُومَ فِي التَّفْوِيضِ الْمُطْلَقِ لَمْ يَبْطُلْ خِيَارُهَا ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ هَذَا مِثْلُهُ فِي قَوْلِهِ : اخْتَارِي وَطَلِّقِي نَفْسَك وَأَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت ، وَكَذَا إذْ قَالَ لِأَجْنَبِيٍّ : أَمْرُ امْرَأَتِي بِيَدِك أَوْ طَلِّقْهَا إذَا شِئْت أَوْ إنْ شِئْت أَوْ أَعْتِقْ عَبْدِي إذَا شِئْت ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ : بِعْهُ إنْ شِئْت لَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ .
وَلَوْ اغْتَسَلَتْ أَوْ امْتَشَطَتْ أَوْ اخْتَضَبَتْ أَوْ جَامَعَهَا يَبْطُلُ .
وَذَكَرَ الْمَرْغِينَانِيُّ إنْ لَمْ تَجِدْ مَنْ يَدْعُو الشُّهُودَ فَقَامَتْ لِتَدْعُوَ وَلَمْ تَنْتَقِلْ ، قِيلَ لَا يَبْطُلَ خِيَارُهَا لِعَدَمِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِعْرَاضِ ، وَقِيلَ يَبْطُلُ لِلتَّبَدُّلِ وَلَا تُعْذَرُ فِيهِ كَمَا لَا تُعْذَرُ فِيمَا إذَا أُقِيمَتْ كُرْهًا ، وَقِيلَ إذَا لَمْ تَنْتَقِلْ لَمْ يَبْطُلْ ، وَإِنْ انْتَقَلَتْ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ ، وَلَوْ نَامَتْ وَهِيَ قَاعِدَةٌ أَوْ كَانَتْ تُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ أَوْ الْوِتْرَ فَأَتَمَّتْهَا أَوْ النَّفَلَ فَأَتَمَّتْ رَكْعَتَيْنِ لَا يَبْطُلُ خِيَارُهَا ، وَلَوْ قَامَتْ إلَى الشَّفْعِ الثَّانِي بَطَلَ إلَّا فِي سُنَّةِ الظُّهْرِ عَنْ مُحَمَّدٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ ، وَلَوْ قَالَ : أَمْرُك بِيَدِك فَقَالَتْ : لِمَ لَا تُطَلِّقُنِي بِلِسَانِك فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا طَلُقَتْ لِأَنَّ قَوْلَهَا لِمَ لَا تُطَلِّقُنِي لَيْسَ رَدًّا فَتَمْلِكُ بَعْدَهُ الطَّلَاقَ .
قِيلَ فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ قَوْلَهَا لِمَ إلَخْ كَلَامٌ زَائِدٌ فَيَتَبَدَّلُ بِهِ الْمَجْلِسُ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْكَلَامَ الْمُبْدِلِ لِلْمَجْلِسِ مَا يَكُونُ قَطْعًا لِلْكَلَامِ الْأَوْلِ وَإِفَاضَتِهِ فِي غَيْرِهِ ، وَلَيْسَ هَذَا كَذَلِكَ بَلْ الْكُلُّ مُتَعَلِّقٌ بِمَعْنَى وَاحِدٍ وَهُوَ الطَّلَاقُ ( قَوْلُهُ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ) أَيْ مَا ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَصَحُّ مِمَّا ذَكَرَ فِي

غَيْرِهِ وَهُوَ الْأَصْلُ ، لِأَنَّ مَنْ حَزَبَهُ أَمْرٌ قَدْ يَسْتَنِدُ لِأَجْلِ التَّفَكُّرِ لِأَنَّ الِاسْتِنَادِ وَالِاتِّكَاءَ سَبَبٌ لِلرَّاحَةِ كَالْقُعُودِ فِي حَقِّ الْقَائِمِ وَلِأَنَّهُ نَوْعٌ جِلْسَةٍ فَلَا يَتَغَيَّرُ بِهِ الثَّابِتُ لِلْجَالِسِ ( قَوْلُهُ وَإِنْ سَارَتْ بَطُلَ ) قِيلَ لَوْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا مَعَ سُكُوتِهِ ، وَالدَّابَّةُ تَسِيرُ طَلُقَتْ لِأَنَّهَا لَا يُمْكِنُهَا الْجَوَابُ بِأَسْرَعَ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَتَبَدَّلُ حُكْمًا ، وَهَذَا لِأَنَّ اتِّحَادَ الْمَجْلِسِ إنَّمَا يُعْتَبَرُ لِيَصِيرَ الْجَوَابُ مُتَّصِلًا بِالْخِطَابِ وَقَدْ وُجِدَ إذَا كَانَ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الزَّوْجِ مَعَهَا عَلَى الدَّابَّةَ أَوْ الْمَحْمَلِ أَوْ لَا ، وَلَوْ كَانَتْ رَاكِبَةً فَنَزَلَتْ أَوْ تَحَوَّلَتْ إلَى دَابَّةٍ أُخْرَى أَوْ كَانَتْ نَازِلَةً فَرَكَبَتْ بَطُلَ خِيَارُهَا ، وَفِي الْمَحْمَلِ يَقُودُهُ الْجَمَّالُ وَهُمَا فِيهِ لَا يَبْطُلُ ذِكْرُهُ فِي الْغَايَةِ لِأَنَّهُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ كَالسَّفِينَةِ ( قَوْلُهُ وَالسَّفِينَةُ كَالْبَيْتِ لِأَنَّ سَيْرَهَا غَيْرَ مُضَافٍ إلَى رَاكِبِهَا ) بَلْ إلَى غَيْرِهِ مِنْ الرِّيحِ وَدَفْعِ الْمَاءِ فِيمَا لَهُ جِرْيَةٍ كَالنِّيلِ فَلَا يَبْطُلُ الْخِيَارُ بِسَيْرِهَا بَلْ يَتَبَدَّلُ الْمَجْلِسُ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ السَّفِينَةَ إذَا كَانَتْ وَاقِفَةً فَسَارَتْ بَطُلَ خِيَارُهَا .

فَصْلٌ فِي الْمَشِيئَةِ ( وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : طَلِّقِي نَفْسَك وَلَا نِيَّةَ لَهُ أَوْ نَوَى وَاحِدَةً فَقَالَتْ : طَلَّقْت نَفْسِي فَهِيَ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ ، وَإِنْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا وَقَدْ أَرَادَ الزَّوْجُ ذَلِكَ وَقَعْنَ عَلَيْهَا ) وَهَذَا لِأَنَّ قَوْلَهُ طَلِّقِي مَعْنَاهُ افْعَلِي فِعْلَ التَّطْلِيقِ ، وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ فَيَقَعُ عَلَى الْأَدْنَى مَعَ احْتِمَالِ الْكُلِّ كَسَائِرِ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ ، فَلِهَذَا تَعْمَلُ فِيهِ نِيَّةُ الثَّلَاثِ ، وَيَنْصَرِفُ إلَى وَاحِدَةٍ عِنْدَ عَدَمِهَا وَتَكُونُ الْوَاحِدَةُ رَجْعِيَّةً لِأَنَّ الْمُفَوَّضَ إلَيْهَا صَرِيحُ الطَّلَاقِ ، وَلَوْ نَوَى الثِّنْتَيْنِ لَا تَصِحُّ لِأَنَّهُ نِيَّةُ الْعَدَدِ إلَّا إذَا كَانَتْ الْمَنْكُوحَةُ أَمَةً لِأَنَّهُ جِنْسٌ فِي حَقِّهَا .
( فَصْلٌ فِي الْمَشِيئَةِ ) ( قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : طَلِّقِي نَفْسَك وَلَا نِيَّةَ لَهُ أَوْ نَوَى وَاحِدَةً فَقَالَتْ : طَلَّقْت نَفْسِي فَهِيَ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ وَإِنْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا وَقَدْ أَرَادَ الزَّوْجُ ذَلِكَ وَقَعْنَ عَلَيْهَا ) سَوَاءٌ أَوْقَعَتْهَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ أَوْ مُتَفَرِّقًا وَإِنَّمَا صَحَّ إرَادَةُ الثَّلَاثِ ( لِأَنَّ قَوْلَهُ طَلِّقِي نَفْسَك مَعْنَاهُ افْعَلِي فِعْلَ التَّطْلِيقِ ) فَهُوَ مَذْكُورٌ لُغَةً لِأَنَّهُ جُزْءُ مَعْنَى اللَّفْظِ فَصَحَّ نِيَّةُ الْعُمُومِ غَيْرَ أَنَّ الْعُمُومَ فِي حَقِّ الْأَمَةِ ثِنْتَانِ وَفِي حَقِّ الْحُرَّةِ ثَلَاثٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78