كتاب : فتح القدير
المؤلف : كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي

تَرِثُهُ وَلَا يَكُونُ قَتْلُهَا مُوجِبًا لِحِرْمَانِهَا شَرْعًا ، وَلِأَنَّهَا مَجْبُورَةٌ بِحُكْمِ الطَّبْعِ عَلَى الِارْتِضَاعِ ، وَالْكَبِيرَةُ فِي إلْقَامِهَا الثَّدْيَ مُخْتَارَةٌ فَصَارَ كَمَنْ أَلْقَى حَيَّةً عَلَى إنْسَانٍ فَلَسَعَتْهُ ضَمِنَ ؛ لِأَنَّ اللَّسْعَ لَهَا طَبْعٌ فَأُضِيفَ إلَيْهِ .
وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ مَا لَوْ ارْتَدَّ أَبَوَا صَغِيرَةٍ مَنْكُوحَةٍ وَلَحِقَا بِهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ بَانَتْ مِنْ زَوْجِهَا وَلَا شَيْءَ لَهَا مِنْ الْمَهْرِ وَلَمْ يُوجَدْ الْفِعْلُ مِنْهَا أَصْلًا فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ وُجِدَ وَلَمْ يُعْتَبَرْ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الرِّدَّةَ مَحْظُورَةٌ فِي حَقِّ الصَّغِيرَةِ أَيْضًا عَلَى مَا مَرَّ ، وَإِضَافَةُ الْحُرْمَةِ إلَى رِدَّتِهَا التَّابِعَةِ لِرِدَّةِ أَبَوَيْهَا ، بِخِلَافِ الِارْتِضَاعِ لَا حَاظِرَ لَهُ فَتَسْتَحِقُّ النَّظَرَ فَلَا يَسْقُطُ الْمَهْرُ .
وَهَلْ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْكَبِيرَةِ إنْ تَعَمَّدَتْ الْفَسَادَ ؟ يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهَا وَإِلَّا لَا يَرْجِعُ ، وَتَعَمُّدُهُ بِأَنْ تَعْلَمَ قِيَامَ النِّكَاحِ وَأَنَّ الرَّضَاعَ مِنْهَا مُفْسِدٌ وَتَتَعَمَّدُهُ لَا لِدَفْعِ الْجُوعِ أَوْ الْهَلَاكِ عِنْدَ خَوْفِ ذَلِكَ ، فَلَوْ لَمْ تَعْلَمْ النِّكَاحَ أَوْ عَلِمَتْهُ وَلَمْ تَعْلَمْهُ مُفْسِدًا أَوْ عَلِمَتْهُ مُفْسِدًا وَلَكِنْ خَافَتْ الْهَلَاكَ أَوْ قَصَدَتْ دَفْعَ الْجُوعِ لَا يَرْجِعُ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْكَبِيرَةِ فِي ذَلِكَ مَعَ يَمِينِهَا لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفَ إلَّا مِنْ جِهَتِهَا .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَرْجِعُ فِي الْوَجْهَيْنِ مَا إذَا قَصَدَتْ الْفَسَادَ وَمَا إذَا لَمْ تَقْصِدْهُ .
وَالصَّحِيحُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْهُ وَهُوَ قَوْلُهُمَا ؛ لِأَنَّهَا : أَيْ الْكَبِيرَةَ وَإِنْ أَكَّدَتْ مَا كَانَ عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ وَهُوَ نِصْفُ الْمَهْرِ بِأَنْ تَكْبَرَ الصَّغِيرَةُ فَتَفْعَلَ مَا يُسْقِطُهُ ، وَذَلِكَ أَيْ تَأَكُّدُ مَا هُوَ عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ يَجْرِي مَجْرَى الْإِتْلَافِ كَشُهُودِ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ إذَا رَجَعُوا يَضْمَنُونَ نِصْفَ الْمَهْرِ لِذَلِكَ لَكِنَّهَا مُسَبِّبَةٌ فِيهِ لَا مُبَاشِرَةٌ ؛ لِأَنَّ إلْقَامَ الثَّدْيِ شَرْطٌ لِلْفَسَادِ لَا عِلَّةٌ لَهُ ،

بَلْ الْعِلَّةُ فِعْلُ الصَّغِيرَةِ الِارْتِضَاعَ فَكَانَتْ الْكَبِيرَةُ مُبَاشِرَةً لِلشَّرْطِ الْعَقْلِيِّ ، وَهَذَا ظَاهِرٌ ، غَيْرُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ بَيَّنَ كَوْنَهَا مُسَبِّبَةً بِأَنَّ فِعْلَ الْإِرْضَاعِ لَيْسَ مَوْضُوعًا لِإِفْسَادِ النِّكَاحِ بَلْ لِتَغْذِيَةِ الصَّغِيرِ وَتَرْبِيَتِهِ ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْفَسَادُ بِاتِّفَاقِ صَيْرُورَتِهِمَا أُمًّا وَبِنْتًا تَحْتَ رَجُلٍ .
وَإِمَّا لِأَنَّ إفْسَادَ النِّكَاحِ الْكَائِنِ بِصُنْعِهَا لَيْسَ بِسَبَبٍ لِإِلْزَامِ الْمَهْرِ شَرْعًا بَلْ لِإِسْقَاطِهِ ، ثُمَّ يَجِبُ نِصْفُ الْمَهْرِ بِطَرِيقِ الْمُتْعَةِ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ أَنَّ وُجُوبَهُ لَا بِقِيَاسٍ بَلْ بِالنَّصِّ ابْتِدَاءً جَبْرًا لِلْإِيحَاشِ وَهُوَ مَعْنَى الْوُجُوبِ بِطَرِيقِ الْمُتْعَةِ ، لَكِنْ مِنْ شَرْطِهِ بُطْلَانُ النِّكَاحِ ، وَقَدْ وُجِدَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا التَّرْدِيدَ بِعَيْنِهِ يَجْرِي فِي مُبَاشَرَةِ الْعِلَّةِ بِأَنْ يُقَالَ : الِارْتِضَاعُ لَيْسَ بِإِفْسَادِ النِّكَاحِ وَضْعًا ، وَالْإِفْسَادُ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِإِلْزَامِ الْمَهْرِ شَرْعًا بَلْ لِإِسْقَاطِهِ إلَخْ ، وَلَيْسَ هُوَ مُسَبِّبًا فَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي كَوْنِهِ سَبَبًا مَا بَيَّنَّاهُ ، وَإِذَا كَانَتْ مُسَبِّبَةً يُشْتَرَطُ فِيهِ : أَيْ فِي لُزُومِ الضَّمَانِ التَّعَدِّي كَحَفْرِ الْبِئْرِ تَسْبِيبٌ لِلْهَلَاكِ ، فَإِنْ كَانَ فِي مِلْكِهِ لَا يَضْمَنُ مَا تَلِفَ فِيهِ أَوْ فِي غَيْرِهِ ضَمِنَهُ لِلتَّعَدِّي فِيهِ ، وَإِنَّمَا تَكُونُ مُتَعَدِّيَةً بِمَجْمُوعِ الْعِلْمَيْنِ وَالْقَصْدِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ .
وَاعْلَمْ أَنَّ تَوْجِيهَ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بِهَذَا لَا يَنْتَهِضُ عَلَى مُحَمَّدٍ إذَا كَانَ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْمُسَبِّبَ كَالْمُبَاشِرِ وَلِهَذَا جَعَلَ فَتْحَ بَابِ الْقَفَصِ وَالْإِصْطَبْلِ وَحَلِّ قَيْدِ الْآبِقِ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ ؛ لِأَنَّ حَاصِلَ هَذَا أَنَّهُ مُسَبِّبٌ فَيُشْتَرَطُ التَّعَدِّي وَهُوَ لَا يَلْتَزِمُ اشْتِرَاطَ التَّعَدِّي فِيهِ وَإِنَّمَا يَنْهَضُ الِاسْتِدْلَال عَلَى أَنَّ الْمُسَبِّبَ لَا يَلْحَقُ بِالْمُبَاشِرِ .
هَذَا وَاسْتُشْكِلَ التَّغْرِيمُ بِقَصْدِ الْفَسَادِ بِمَا إذَا قَتَلَ رَجُلٌ

زَوْجَةَ آخَرَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَإِنَّهُ يُقْضَى عَلَى الزَّوْجِ بِالْمَهْرِ وَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْقَاتِلِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ قَتْلَهُ مُسْتَعْقِبٌ لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ أَوْ الدِّيَةِ فَلَا يَجِبُ شَيْءٌ آخَرُ بِقَتْلِ وَاحِدٍ ، وَلِلزَّوْجِ نَصِيبٌ مِمَّا هُوَ الْوَاجِبُ فَلَا يُضَاعَفُ عَلَيْهِ ، وَبِمَا إذَا أَرْضَعَتْ أَجْنَبِيَّتَانِ لَهُمَا لَبَنٌ مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ صَغِيرَتَيْنِ تَحْتَ رَجُلٍ حُرِّمَتَا عَلَى زَوْجِهِمَا وَلَمْ يَغْرَمَا شَيْئًا وَإِنْ تَعَمَّدَتَا الْفَسَادَ .
وَأُجِيبَ بِالْفَرْقِ بِأَنَّ فِعْلَ الْكَبِيرَةِ هُنَا مُسْتَقِلٌّ بِالْإِفْسَادِ فَيُضَافُ الْإِفْسَادُ إلَيْهَا ، وَفِعْلُ كُلٍّ مِنْ الْكَبِيرَتَيْنِ هُنَاكَ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ بِهِ فَلَا يُضَافُ إلَى وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ بِاعْتِبَارِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ مِنْهُمَا ، بِخِلَافِ الْحُرْمَةِ هُنَا ؛ لِأَنَّهُ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ وَهُوَ يَقُومُ بِالْكَبِيرَةِ ، وَقَدْ حُرِّفَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فَوَقَعَ فِيهَا الْخَطَأُ وَذَلِكَ بِأَنْ قِيلَ فَأَرْضَعَتْهُمَا امْرَأَتَانِ لَهُمَا مِنْهُ لَبَنٌ مَكَانَ قَوْلِنَا لَهُمَا لَبَنٌ مِنْ رَجُلٍ ؛ لِأَنَّ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الصَّوَابُ الضَّمَانُ عَلَى كُلٍّ مِنْ هَاتَيْنِ الْمَرْأَتَيْنِ ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا أَفْسَدَتْ لِصَيْرُورَةِ كُلٍّ بِنْتًا لِلزَّوْجِ .
( قَوْلُهُ وَهَذَا مِنَّا اعْتِبَارُ الْجَهْلِ إلَخْ ) جَوَابُ سُؤَالٍ هُوَ أَنَّ الْجَهْلَ بِالْأَحْكَامِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ عِنْدَكُمْ لَيْسَ عُذْرًا ، فَقَالَ هَذَا مِنَّا اعْتِبَارُ الْجَهْلِ لِدَفْعِ قَصْدِ الْفَسَادِ الَّذِي هُوَ الْمَحْظُورُ الدِّينِيُّ لَا لِدَفْعِ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ وُجُوبُ الضَّمَانِ غَيْرَ أَنَّهُ إذَا انْدَفَعَ قَصْدُ الْفَسَادِ انْتَفَى الضَّمَانُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِثُبُوتِ التَّعَدِّي كَمَا قُلْنَا وَالتَّعَدِّي بِهِ يَكُونُ وَلَا يُتَصَوَّرُ قَصْدُهُ مَعَ الْجَهْلِ بِمَا ذَكَرْنَا ، فَعَدَمُ الْحُكْمِ لِعَدَمِ الْعِلَّةِ لَا لِلْجَهْلِ مَعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ قَوْلُ مَنْ قَالَ تَضْمَنُ إذَا عَلِمَتْ بِالنِّكَاحِ وَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ

الْإِرْضَاعَ مُفْسِدٌ ؛ لِأَنَّهَا لَا تُعْذَرُ بِجَهْلِ الْحُكْمِ ، وَمِنْ فُرُوع هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَوْ كَانَ تَحْتَهُ صَغِيرَتَانِ فَأَرْضَعَتْهُمَا أَجْنَبِيَّةٌ مَعًا أَوْ عَلَى التَّعَاقُبِ حُرِّمَتَا ، فَلَوْ كُنَّ ثَلَاثًا فَأَرْضَعَتْهُنَّ بِأَنْ أَلْقَمَتْ ثِنْتَيْنِ ثَدْيَيْهَا وَأَوْجَرَتْ الْأُخْرَى مَا حَلَبَتْهُ حُرِّمْنَ أَوْ عَلَى التَّعَاقُبِ بَانَتْ الْأُولَيَانِ وَالثَّالِثَةُ امْرَأَتُهُ لِأَنَّهُنَّ حِينَ ارْتَضَعَتَا حُرِّمَتَا فَحِينَ ارْتَضَعَتْ الثَّالِثَةُ لَمْ يَكُنْ فِي عِصْمَتِهِ سِوَاهَا ، وَلَوْ كُنَّ أَرْبَعًا فَأَرْضَعَتْهُنَّ مَعًا أَوْ وَاحِدَةً ثُمَّ الثَّلَاثَ مَعًا حُرِّمْنَ ، وَكَذَا لَوْ أَرْضَعَتْهُنَّ عَلَى التَّعَاقُبِ ؛ لِأَنَّهَا حِينَ أَرْضَعَتْ الْأُخْرَيَيْنِ لَمْ يَكُنْ فِي نِكَاحِهِ غَيْرُهُمَا ، وَلَوْ كَانَ تَحْتَهُ صَغِيرَتَانِ وَكَبِيرَةٌ فَأَرْضَعَتْهُمَا الْكَبِيرَةُ عَلَى التَّعَاقُبِ بَقِيَ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ ؛ لِأَنَّهَا حِينَ أَرْضَعَتْهَا لَيْسَ فِي نِكَاحِهِ غَيْرُهَا ، وَالسَّابِقُ عَقْدٌ مُجَرَّدٌ عَلَى الْأُمِّ فَلَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الْبِنْتِ ، وَلَوْ كُنَّ كَبِيرَتَيْنِ وَصَغِيرَتَيْنِ فَأَرْضَعَتْ كُلٌّ مِنْ الْكَبِيرَتَيْنِ صَغِيرَةً حُرِّمَتْ عَلَيْهِ الْأَرْبَعُ لِلُزُومِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُمَّيْنِ وَبِنْتَيْهِمَا ، وَلَوْ أَرْضَعَتْ إحْدَى الْكَبِيرَتَيْنِ الصَّغِيرَتَيْنِ ثُمَّ أَرْضَعَتْهُمَا الْكَبِيرَةُ الْأُخْرَى وَذَلِكَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِالْكَبِيرَتَيْنِ ، فَالْكُبْرَى الْأُولَى مَعَ الصُّغْرَى الْأُولَى بَانَتَا مِنْهُ لِمَا قُلْنَا ، وَالصُّغْرَى الثَّانِيَةُ لَمْ تَبِنْ بِإِرْضَاعِ الْكُبْرَى الْأُولَى ، وَالْكُبْرَى الثَّانِيَةُ إنْ ابْتَدَأَتْ بِإِرْضَاعِ الصُّغْرَى الثَّانِيَةِ بَانَتَا مِنْهُ ، أَوْ بِالصُّغْرَى الْأُولَى فَالصُّغْرَى الثَّانِيَةُ امْرَأَتُهُ ؛ لِأَنَّهَا حِينَ أَرْضَعَتْ الْأُولَى صَارَتْ أُمًّا لَهَا وَفَسَدَ نِكَاحُهَا لِصِحَّةِ الْعَقْدِ عَلَى الصُّغْرَى الْأُولَى فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَالْعَقْدُ عَلَى الْبِنْتِ يُحَرِّمُ الْأُمَّ ثُمَّ أَرْضَعَتْ الثَّانِيَةَ وَلَيْسَ فِي نِكَاحِهِ غَيْرُهَا

وَلَا تُقْبَلُ فِي الرَّضَاعِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ وَإِنَّمَا تَثْبُتُ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ ) وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : تَثْبُتُ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ إذَا كَانَتْ مَوْصُوفَةً بِالْعَدَالَةِ ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ الشَّرْعِ فَتَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ كَمَنْ اشْتَرَى لَحْمًا فَأَخْبَرَهُ وَاحِدٌ أَنَّهُ ذَبِيحَةُ الْمَجُوسِيِّ .
وَلَنَا أَنَّ ثُبُوتَ الْحُرْمَةِ لَا يَقْبَلُ الْفَصْلَ عَنْ زَوَالِ الْمِلْكِ فِي بَابِ النِّكَاحِ وَإِبْطَالُ الْمِلْكِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ ، بِخِلَافِ اللَّحْمِ ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ التَّنَاوُلِ تَنْفَكُّ عَنْ زَوَالِ الْمِلْكِ فَاعْتُبِرَ أَمْرًا دِينِيًّا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

( قَوْلُهُ وَلَا يُقْبَلُ فِي الرَّضَاعِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ ) أَيْ عَنْ الرِّجَالِ ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ ، وَقَالَ مَالِكٌ : يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ إنْ كَانَتْ مَوْصُوفَةً بِالْعَدَالَةِ ، وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَالشَّافِعِيِّ بِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ .
وَاَلَّذِي فِي كُتُبِهِمْ إنَّمَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ امْرَأَتَيْنِ ، وَكَذَا عِنْدَ مَالِكٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مِمَّا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ النَّظَرُ إلَى ثَدْيِ الْأَجْنَبِيَّةِ .
وَالْوَجْهُ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ لِلِاكْتِفَاءِ بِالْوَاحِدَةِ وَهُوَ أَنَّ الْحُرْمَةَ مِنْ حُقُوقِ الشَّرْعِ فَهِيَ أَمْرٌ دِينِيٌّ يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ، كَمَنْ اشْتَرَى لَحْمًا فَأَخْبَرَهُ وَاحِدٌ أَنَّهُ ذَبِيحَةُ مَجُوسِيٍّ فَإِنَّهُ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ عَلَيْهِ بِإِخْبَارِهِ ، ثُمَّ يَثْبُتُ زَوَالُ الْمِلْكِ فِي ضِمْنِهِ ، كَمْ مِنْ شَيْءٍ يَثْبُتُ ضِمْنًا بِطَرِيقٍ لَا يَثْبُتُ بِمِثْلِهَا قَصْدًا ، وَلِحَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّهُ تَزَوَّجَ أُمَّ يَحْيَى بِنْتَ أَبِي إهَابٍ ، فَجَاءَتْ أَمَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَتْ : قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا ، قَالَ : فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : فَأَعْرَضَ عَنِّي فَتَنَحَّيْتُ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ ، قَالَ : وَكَيْفَ وَقَدْ زَعَمَتْ أَنْ قَدْ أَرْضَعَتْكُمَا } وَعُقْبَةُ هَذَا يُكْنَى أَبَا سِرْوَعَةَ بِكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْوَاوِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ ، وَبِهَذَا الْحَدِيثِ اسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ تُقْبَلُ الْوَاحِدَةُ الْمُرْضِعَةُ وَاعْتِبَارُ ظَاهِرِهِ مُطْلَقًا يُوجِبُ جَوَازَ قَبُولِ الْأَمَةِ .
وَرُوِيَ مُطَوَّلًا فِي التِّرْمِذِيِّ ، وَفِيهِ فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ وَفِيهِ قَوْلُ عُقْبَةَ { فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ : تَزَوَّجْتُ فُلَانَةَ بِنْتَ فُلَانٍ فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَتْ أَرْضَعْتُكُمَا وَهِيَ كَاذِبَةٌ ، فَأَعْرَضَ عَنِّي ، قَالَ : فَأَتَيْتُهُ مِنْ

قِبَلِ وَجْهِهِ فَقُلْتُ إنَّهَا كَاذِبَةٌ ، قَالَ : وَكَيْفَ بِهَا وَقَدْ زَعَمَتْ أَنَّهَا قَدْ أَرْضَعَتْكُمَا دَعْهَا عَنْكِ } وَلَنَا أَنَّ ثُبُوتَ الْحُرْمَةِ لَا يَقْبَلُ الْفَصْلَ عَنْ زَوَالِ الْمِلْكِ فِي بَابِ النِّكَاحِ ؛ لِأَنَّهَا مُؤَبَّدَةٌ بِخِلَافِ الْحُرْمَةِ بِالْحَيْضِ وَنَحْوِهِ وَالْأَمْلَاكُ لَا تُزَالُ إلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ ، بِخِلَافِ حُرْمَةِ اللَّحْمِ حَيْثُ يَنْفَكُّ عَنْ زَوَالِ الْمِلْكِ كَالْخَمْرِ مَمْلُوكِيَّتُهُ مُحَرَّمَةٌ وَجِلْدُ الْمَيْتَةِ قَبْلَ الدِّبَاغِ يَحْرُمُ الِانْتِفَاعُ بِهِ وَهُوَ مَمْلُوكٌ ، وَإِذَا كَانَتْ الْحُرْمَةُ لَا تَسْتَلْزِمُ زَوَالَ الْمِلْكِ فَالشَّهَادَةُ قَائِمَةٌ عَلَى مُجَرَّدِ الْحُرْمَةِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى فَيُقْبَلُ فِيهَا خَبَرُ الْوَاحِدِ ، أَمَّا الْحَدِيثُ فَكَانَ لِلتَّوَرُّعِ ، أَلَا يَرَى أَنَّهُ أَعْرَضَ عَنْهُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى وَقِيلَ فِي الثَّانِيَةِ أَيْضًا ، وَإِنَّمَا قَالَ لَهُ ذَلِكَ فِي الثَّالِثَةِ ، وَلَوْ كَانَ حُكْمُ ذَلِكَ الْإِخْبَارِ وُجُوبَ التَّفْرِيقِ لَأَجَابَهُ بِهِ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ ، إذَا الْإِعْرَاضُ قَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ تَرْكُ السَّائِلِ الْمَسْأَلَةَ بَعْدَ ذَلِكَ فَفِيهِ تَقْرِيرٌ عَلَى الْمُحَرَّمِ ، فَعُلِمَ أَنَّهُ قَالَ لَهُ ذَلِكَ لِظُهُورِ اطْمِئْنَانِ نَفْسِهِ بِخَبَرِهَا لَا مِنْ بَابِ الْحُكْمِ ، وَكَوْنُهَا كَاذِبَةً حَمْقَاءَ عَلَى مَا قِيلَ لَا يَنْفِي اطْمِئْنَانَ النَّفْسِ بِخَبَرِهَا ، بَلْ قَدْ يَكُونُ مَعَهُ ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْبَلَاهَةِ يُقَارِنُهَا بِحَسَبِ الْغَالِبِ عَدَمُ الْخُبْثِ الَّذِي عَنْهُ تَعَمُّدُ الْكَذِبِ ، وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْقَدْرِ لَا فِي الْجُنُونِ .
وَقَدْ قُلْنَا : إنَّهُ إذَا وَقَعَ فِي الْقَلْبِ صِدْقُهَا يُسْتَحَبُّ التَّنَزُّهُ وَلَوْ بَعْدَ النِّكَاحِ ، وَكَذَا إذَا شَهِدَ بِهِ رَجُلٌ وَاحِدٌ وَقَوْلُهُمْ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الرِّجَالِ .
قُلْنَا : لَا نُسَلِّمُ فَإِنَّ الْمَحَارِمَ مِنْ الرِّجَالِ يَطَّلِعُونَ عَلَيْهِ ، وَأَيْضًا الرَّضَاعَةُ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى إلْقَامِ الثَّدْيِ لِجَوَازِ حُصُولِهَا بِالْوَجُورِ وَالسَّعُوطِ .
وَرُوِيَ

عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِثْلُ قَوْلِنَا .
وَفِي الْمُحِيطِ : لَوْ شَهِدَتْ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ قَبْلَ الْعَقْدِ ، قِيلَ يُعْتَبَرُ فِي رِوَايَةٍ وَلَا يُعْتَبَرُ فِي رِوَايَةٍ .
[ فُرُوعٌ ] قَالَ لِامْرَأَتِهِ هَذِهِ أُمِّي مِنْ الرَّضَاعَةِ أَوْ أُخْتِي أَوْ بِنْتِي مِنْ الرَّضَاعِ ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنْ قَالَ أَخْطَأْتُ أَوْ نَسِيَتْ ، إنْ كَانَ بَعْدَ أَنْ ثَبَتَ عَلَى الْأَوَّلِ بِأَنْ قَالَ بَعْدَهُ هُوَ حَقٌّ أَوْ كَمَا قُلْت فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَلَا يَنْفَعُهُ جُحُودُهُ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَإِنْ قَالَ قَبْلَ أَنْ يَصْدُرَ مِنْهُ الثَّبَاتُ عَلَيْهِ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَالنِّكَاحُ بَاقٍ ؛ لِأَنَّ مِثْلَهُ إنَّمَا يُوجِبُ الْفُرْقَةَ بِشَرْطِ الثَّبَاتِ ، وَتَفْسِيرُ الثَّبَاتِ مَا ذَكَرْنَا ، وَمِثْلُ هَذَا فِي الْإِقْرَارِ بِالنَّسَبِ ، وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ وَالرَّضَاعِ مِمَّا يَخْفَى عَنْ الْإِنْسَانِ فَالتَّنَاقُضُ فِيهِ مُطْلَقًا لَا يَمْنَعُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا ثَبَتَ بَعْدَ التَّرَوِّي فَيُعْذَرُ قَبْلَهُ وَلَا يُعْذَرُ بَعْدَهُ ، وَهَذَا فِي النَّسَبِ فِيمَنْ لَيْسَ لَهَا نَسَبٌ مَعْرُوفٌ ، وَلَوْ أَقَرَّتْ الْمَرْأَةُ بِذَلِكَ وَأَنْكَرَ هُوَ ثُمَّ قَالَتْ أَخْطَأْت فَالنِّكَاحُ بَاقٍ بِالْإِجْمَاعِ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَحْلِفُ الزَّوْجُ عَلَى الْعِلْمِ فِي قَوْلٍ وَعَلَى الْبَتَاتِ فِي قَوْلٍ ، وَلَوْ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ أَنْ تُكَذِّبَ نَفْسَهَا جَازَ وَلَا تُصَدَّقُ الْمَرْأَةُ عَلَى قَوْلِهَا .
بِخِلَافِ مَا لَوْ أَقَرَّ الرَّجُلُ قَبْلَ التَّزَوُّجِ وَثَبَتَ عَلَى ذَلِكَ لَا يَحِلُّ لَهُ تَزَوُّجُهَا .
قَالَ فِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى : هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا أَقَرَّتْ بِالطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ مِنْ رَجُلٍ حَلَّ لَهَا أَنْ تُزَوِّجَ نَفْسَهَا مِنْهُ انْتَهَى .
وَكَانَ وَجْهُهُ أَنَّ الطَّلَاقَ مِمَّا يَسْتَقِلُّ بِهِ الزَّوْجُ فِي غَيْبَتِهَا وَحُضُورِهَا فَيَتَحَقَّقُ فِيهِ الْخَفَاءُ فَصَحَّ رُجُوعُهَا عَنْ الْإِقْرَارِ بِهِ قَبْلَ التَّرَوِّي ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

كِتَابُ الطَّلَاقِ

كِتَابُ الطَّلَاقِ لَمَّا فَرَغَ مِنْ النِّكَاحِ وَبَيَانِ أَحْكَامِهِ اللَّازِمَةِ عِنْدَ وُجُودِهِ وَالْمُتَأَخِّرَةِ عَنْهُ وَهِيَ أَحْكَامُ الرَّضَاعِ شَرَعَ يَذْكُرُ مَا بِهِ يَرْتَفِعُ لِأَنَّهُ فَرْعٌ تَقَدَّمَ وُجُودُهُ وَاسْتِعْقَابُ أَحْكَامِهِ ، وَأَيْضًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّضَاعِ مُنَاسَبَةٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُوجِبُ الْحُرْمَةَ إلَّا أَنَّ مَا بِالرَّضَاعِ حُرْمَةٌ مُؤَبَّدَةٌ ، وَمَا بِالطَّلَاقِ مُغَيًّا بِغَايَةٍ مَعْلُومَةٍ فَقَدَّمَ بَيَانَ الْحُكْمِ الْأَشَدِّ اهْتِمَامًا بِشَأْنِهِ ، ثُمَّ ثَنَّى بِالْأَخَفِّ ، وَأَيْضًا التَّرْتِيبُ الْوُجُودِيُّ يُنَاسِبُهُ التَّرْتِيبُ الْوَضْعِيُّ ، وَالنِّكَاحُ سَابِقٌ فِي الْوُجُودِ بِأَحْكَامِهِ وَيَتْلُوهُ الطَّلَاقُ فَأَوْجَدَهُ فِي التَّعْلِيمِ كَذَلِكَ .
وَالطَّلَاقُ اسْمٌ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ التَّطْلِيقُ كَالسَّلَامِ وَالسَّرَاحِ بِمَعْنَى التَّسْلِيمِ وَالتَّسْرِيحِ ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } أَيْ التَّطْلِيقُ ، أَوْ هُوَ مَصْدَرُ طَلُقَتْ بِضَمِّ اللَّامِ أَوْ فَتْحِهَا طَلَاقًا كَالْفَسَادِ .
وَعَنْ الْأَخْفَشِ نَفْيُ الضَّمِّ .
وَفِي دِيوَانِ الْأَدَبِ إنَّهُ لُغَةٌ ، وَالطَّلَاقُ لُغَةً رَفْعُ الْوَثَاقِ مُطْلَقًا ، وَاسْتُعْمِلَ فِعْلُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ مِنْ الْأَفْعَالِ أَطْلَقْت بَعِيرِي وَأَسِيرِي ، وَفِيهِ مِنْ التَّفْعِيلِ طَلَّقْت امْرَأَتِي ، يُقَالُ ذَلِكَ إخْبَارًا عَنْ أَوَّلِ طَلْقَةٍ أَوْقَعَهَا ، فَإِنْ قَالَهُ ثَانِيَةً فَلَيْسَ فِيهِ إلَّا التَّأْكِيدُ ، أَمَّا إذَا قَالَهُ فِي الثَّالِثَةِ فَلِلتَّكْثِيرِ كَغَلَّقْتِ الْأَبْوَابَ .
وَفِي الشَّرْعِ رَفْعُ قَيْدِ النِّكَاحِ بِلَفْظٍ مَخْصُوصٍ وَهُوَ مَا اشْتَمَلَ عَلَى مَادَّةِ ط ل ا ق صَرِيحًا كَأَنْتِ طَالِقٌ أَوْ كِنَايَةً كَمُطْلَقَةٍ بِالتَّخْفِيفِ وَهِجَاءِ طَالِقٍ بِلَا تَرْكِيبٍ كَأَنْتِ طَالِقٌ عَلَى مَا سَيَأْتِي وَغَيْرِهِمَا كَقَوْلِ الْقَاضِي فَرَّقْت بَيْنَهُمَا عِنْدَ إبَاءِ الزَّوْجِ الْإِسْلَامَ وَالْعُنَّةِ وَاللِّعَانِ وَسَائِرِ الْكِنَايَاتِ الْمُفِيدَةِ لِلرَّجْعَةِ وَالْبَيْنُونَةِ وَلَفْظِ الْخُلْعِ فَخَرَجَ

تَفْرِيقُ الْقَاضِي فِي إبَائِهَا وَرِدَّةِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ وَتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا وَخِيَارُ الْبُلُوغِ وَالْعِتْقِ وَعَدَمِ الْكَفَاءَةِ وَنُقْصَانِ الْمَهْرِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ طَلَاقًا ، فَقَوْلُ بَعْضِهِمْ رَفْعُ قَيْدِ النِّكَاحِ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحِلِّهِ غَيْرُ مُطَّرِدٍ لِصِدْقِهِ عَلَى الْفُسُوخِ وَمُشْتَمِلٌ عَلَى مَا لَا حَاجَةَ إلَيْهِ ، فَإِنَّ كَوْنَهُ مِنْ الْأَهْلِ فِي الْمَحِلِّ مِنْ شَرْطِ وُجُودِهِ لَا دَخْلَ لَهُ فِي حَقِيقَتِهِ وَالتَّعْرِيفُ لِمُجَرَّدِهَا

وَرُكْنُهُ نَفْسُ اللَّفْظِ .

وَأَمَّا سَبَبُهُ فَالْحَاجَةُ إلَى الْخَلَاصِ عِنْدَ تَبَايُنِ الْأَخْلَاقِ وَعُرُوضِ الْبَغْضَاءِ الْمُوجِبَةِ عَدَمَ إقَامَةِ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَشَرَعَهُ رَحْمَةً مِنْهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى .
وَشَرْطُهُ فِي الزَّوْجِ أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا بَالِغًا مُسْتَيْقِظًا ، وَفِي الزَّوْجَةِ أَنْ تَكُونَ مَنْكُوحَتَهُ أَوْ فِي عِدَّتِهِ الَّتِي تَصْلُحُ مَعَهَا مَحَلًّا لِلطَّلَاقِ .
وَضَبْطُهَا فِي الْمُحِيطِ فَقَالَ : الْمُعْتَدَّةُ بِعِدَّةِ الطَّلَاقِ يَلْحَقُهَا الطَّلَاقُ ، وَالْمُعْتَدَّةُ بِعِدَّةِ الْوَطْءِ لَا يَلْحَقُهَا الطَّلَاقُ .
وَقَدْ يُقَالُ : إنَّهُ غَيْرُ حَاصِرٍ إذْ تَتَحَقَّقُ الْعِدَّةُ دُونَهُمَا كَمَا لَوْ عَرَضَ فَسْخٌ بِخِيَارٍ بَعْدَ مُجَرَّدِ الْخَلْوَةِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ تَلْحَقَ الْخَلْوَةُ بِالْوَطْءِ ، فَكَأَنَّهَا هُوَ وَفِيهِ تَسَاهُلٌ ، ثُمَّ يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ عِدَّةٍ عَنْ فَسْخٍ بِعُرُوضِ حُرْمَةٍ مُؤَبَّدَةٍ أَوْ غَيْرِ مُؤَبَّدَةٍ لَا يَقَعُ فِيهَا طَلَاقٌ وَلَا شَكَّ فِيهِ فِي الْحُرْمَةِ الْمُؤَبَّدَةِ ، كَمَا إذَا عَرَضَتْ الْحُرْمَةُ بِتَقْبِيلِ ابْنِ الزَّوْجِ فَإِنَّهُ لَا فَائِدَةَ حِينَئِذٍ فِي اعْتِبَارِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَقَّتُ بِغَايَةٍ لِيُفِيدَ الطَّلَاقَ فَائِدَتُهُ .
وَأَمَّا فِي الْفَسْخِ بِغَيْرِهَا فَالْمُصَرَّحُ بِهِ فِي الْعِدَّةِ مِنْ خِيَارِ الْعِتْقِ وَالْبُلُوغِ أَنَّهُ لَا يَلْحَقُهَا طَلَاقٌ ؛ لِأَنَّهُ فَسْخٌ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ، وَكَذَا بِعَدَمِ الْكَفَاءَةِ وَنُقْصَانِ الْمَهْرِ ، وَعَلَى هَذَا إذَا سُبِيَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ فَوَقَعَتْ الْفُرْقَةُ لَا يَقَعُ طَلَاقُ الزَّوْجِ لِعَدَمِ الْعِدَّةِ ؛ لِأَنَّ الْمَسْبِيَّ إذَا كَانَ الزَّوْجُ فَلَا عِدَّةَ عَلَى زَوْجَتِهِ الْحَرْبِيَّةِ ، وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ فَكَذَلِكَ لِحِلِّهَا لِلسَّابِي بِالِاسْتِبْرَاءِ .
وَمِثْلُهُ لَوْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِمُهَاجَرَةِ أَحَدِهِمَا مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا لَا يَقَعُ طَلَاقٌ ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الرَّجُلُ فَلَا عِدَّةَ عَلَى الْحَرْبِيَّةِ ، وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ فَهِيَ عِدَّةٌ

لَا تُوجِبُ مِلْكَ يَدٍ إذْ لَا يَدَ لِلْحَرْبِيِّ ، وَأَقَلُّ مَا يَقَعُ فِيهِ الطَّلَاقُ مِلْكُ الْيَدِ فَكَانَتْ كَالْعِدَّةِ عَنْ الْفُرْقَةِ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ ، وَكَذَا لَوْ خَرَجَ الزَّوْجَانِ مُسْتَأْمَنَيْنِ فَأَسْلَمَ أَحَدُهُمَا أَوْ صَارَ ذِمِّيًّا فَهِيَ امْرَأَتُهُ حَتَّى تَحِيضَ ثَلَاثَ حِيَضٍ ، فَإِذَا حَاضَتْهَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِلَا طَلَاقٍ فَلَا يَقَعُ عَلَيْهَا طَلَاقُهُ ؛ لِأَنَّ الْمُصِرَّ مِنْهُمَا كَأَنَّهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الرُّجُوعِ ، إلَّا أَنَّهُ مَنْقُوضٌ بِمَا إذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ الذِّمِّيَّيْنِ وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا بِإِبَاءِ الْآخَرِ فَإِنَّهُ يَقَعُ عَلَيْهَا طَلَاقُهُ وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْآبِيَةَ مَعَ أَنَّ الْفُرْقَةَ هُنَاكَ فَسْخٌ ، وَبِهِ يُنْتَقَضُ مَا قِيلَ إذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا طَلَاقُهُ ، وَيُنْتَقَضُ أَيْضًا بِالْمُرْتَدِّ يَقَعُ عَلَيْهَا طَلَاقُهُ مَعَ أَنَّ الْفُرْقَةَ بِرِدَّتِهِ فَسْخٌ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَلَوْ كَانَتْ هِيَ الْمُرْتَدَّةَ فَهِيَ فَسْخٌ اتِّفَاقًا ، وَيَقَعُ طَلَاقُهُ عَلَيْهَا فِي الْعِدَّةِ .
وَاخْتُلِفَ فِي مَحَلِّيَّتِهَا لِلطَّلَاقِ لَوْ هَاجَرَتْ فَانْفَسَخَ النِّكَاحُ فَهَاجَرَ بَعْدَهَا وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ عَلَى قَوْلِهِمَا لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ .
قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ : وَقِيلَ هَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْأَوَّلُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ يَقَعُ طَلَاقُهُ ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ اشْتَرَى الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ بَعْدَمَا دَخَلَ بِهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَطَلَّقَهَا فِي الْعِدَّةِ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ .
وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ يَقَعُ ، وَكَذَا الْخِلَافُ فِيمَا لَوْ اشْتَرَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا : يَعْنِي فَأَعْتَقَتْهُ ، فَحَكَى الْخِلَافَ فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ عَلَى عَكْسِ مَا حَكَاهُ فِي الْمَنْظُومَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ ، وَلَوْ ارْتَدَّ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ اتِّفَاقًا .
فَلَوْ عَادَ وَهِيَ بَعْدُ فِي

الْعِدَّةِ فَطَلَّقَهَا فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ ، وَمَا ذَكَرَ مِنْ أَنَّهُ لَا عِدَّةَ عَلَى الْحَرْبِيَّةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ عِنْدَهُمَا يُخَالِفُ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي السِّيَرِ فَمَا إذَا أَسْلَمَتْ امْرَأَةُ الْحَرْبِيِّ وَهُمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ حَيْثُ يَتَأَخَّرُ وُقُوعُ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا إلَى مُضِيِّ ثَلَاثِ حِيَضٍ أَوْ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ ، فَإِذَا مَضَتْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ .
قَالَ مُحَمَّدٌ : وَعَلَيْهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ أُخْرَى وَهِيَ فُرْقَةٌ بِطَلَاقٍ ، وَلِهَذَا يَقَعُ عَلَيْهَا طَلَاقُهُ ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْفُرْقَةَ لَيْسَتْ لِلتَّبَايُنِ بَلْ لِلْإِبَاءِ إلَّا أَنَّ الْمُدَّةَ أُقِيمَتْ مَقَامَ إبَائِهِ بَعْدَ الْعَرْضِ فَلِذَا يَقَعُ عَلَيْهَا طَلَاقُهُ .

وَأَمَّا وَصْفُهُ فَهُوَ أَبْغَضُ الْمُبَاحَاتِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { إنَّ أَبْغَضَ الْمُبَاحَاتِ عِنْدَ اللَّهِ الطَّلَاقُ } فَنَصَّ عَلَى إبَاحَتِهِ وَكَوْنِهِ مَبْغُوضًا وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ تَرَتُّبَ لَازِمِ الْمَكْرُوهِ الشَّرْعِيِّ إلَّا لَوْ كَانَ مَكْرُوهًا بِالْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيِّ ، وَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ مِنْ وَصْفِهِ بِالْبُغْضِ إلَّا لَوْ لَمْ يَصِفْهُ بِالْإِبَاحَةِ لَكِنَّهُ وَصَفَهُ بِهَا ؛ لِأَنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ بَعْدَمَا أُضِيفَ إلَيْهِ ، وَغَايَةُ مَا فِيهِ أَنَّهُ مَبْغُوضٌ إلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَلَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ مَا رُتِّبَ عَلَى الْمَكْرُوهِ ، وَدَلِيلُ نَفْيِ الْكَرَاهَةِ قَوْله تَعَالَى { لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ } وَطَلَاقُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَفْصَةَ ثُمَّ أَمَرَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ يُرَاجِعَهَا فَإِنَّهَا صَوَّامَةٌ قَوَّامَةٌ ، وَبِهِ يَبْطُلُ قَوْلُ الْقَائِلِينَ لَا يُبَاحُ إلَّا لِكِبَرٍ كَطَلَاقِ سَوْدَةَ أَوْ رِيبَةٍ فَإِنَّ طَلَاقَهُ حَفْصَةَ لَمْ يُقْرَنْ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا .
وَأَمَّا مَا رُوِيَ { لَعَنَ اللَّهُ كُلَّ ذَوَّاقٍ مِطْلَاقٍ } فَمَحْمَلُهُ الطَّلَاقُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَيُّمَا امْرَأَةٍ اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا بِغَيْرِ نُشُوزٍ فَعَلَيْهَا لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } وَلَا يَخْفَى أَنَّ كَلَامَهُمْ فِيمَا سَيَأْتِي مِنْ التَّعَالِيلِ يُصَرِّحُ بِأَنَّهُ مَحْظُورٌ لِمَا فِيهِ مِنْ كُفْرَانِ نِعْمَةِ النِّكَاحِ وَلِلْحَدِيثَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ وَغَيْرِهِمَا ، وَإِنَّمَا أُبِيحَ لِلْحَاجَةِ وَالْحَاجَةُ مَا ذَكَرْنَا فِي بَيَانِ سَبَبِهِ فَبَيْنَ الْحُكْمَيْنِ مِنْهُمْ تَدَافُعٌ ، وَالْأَصَحُّ حَظْرُهُ إلَّا لِحَاجَةٍ لِلْأَدِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ ، وَيُحْمَلُ لَفْظُ الْمُبَاحِ عَلَى مَا أُبِيحَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ : أَعْنِي أَوْقَاتِ تَحَقُّقِ الْحَاجَةِ الْمُبِيحَةِ ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي رِوَايَةٍ لِأَبِي

دَاوُد { مَا أَحَلَّ اللَّهُ شَيْئًا أَبْغَضُ إلَيْهِ مِنْ الطَّلَاقِ } وَإِنَّ الْفِعْلَ لَا عُمُومَ لَهُ فِي الزَّمَانِ ، غَيْرَ أَنَّ الْحَاجَةَ لَا تَقْتَصِرُ عَلَى الْكِبَرِ وَالرِّيبَةِ ، فَمِنْ الْحَاجَةِ الْمُبِيحَةِ أَنْ يُلْقَى إلَيْهِ عَدَمُ اشْتِهَائِهَا بِحَيْثُ يَعْجِزُ أَوْ يَتَضَرَّرُ بِإِكْرَاهِهِ نَفْسَهُ عَلَى جِمَاعِهَا ، فَهَذَا إذَا وَقَعَ فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى طَوْلِ غَيْرِهَا مَعَ اسْتِبْقَائِهَا وَرَضِيَتْ بِإِقَامَتِهَا فِي عِصْمَتِهِ بِلَا وَطْءٍ أَوْ بِلَا قَسْمٍ فَيُكْرَهُ طَلَاقُهُ كَمَا كَانَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَوْدَةَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى طَوْلِهَا أَوْ لَمْ تَرْضَ هِيَ بِتَرْكِ حَقِّهَا فَهُوَ مُبَاحٌ ؛ لِأَنَّ مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ رَبُّ الْعَالَمِينَ .
وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَكَانَ قِيلَ لَهُ فِي كَثْرَةِ تَزَوُّجِهِ وَطَلَاقِهِ فَقَالَ : أُحِبُّ الْغِنَى ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ } فَهُوَ رَأْيٌ مِنْهُ إنْ كَانَ عَلَى ظَاهِرِهِ ، وَكُلُّ مَا نُقِلَ عَنْ طَلَاقِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَطَلَاقِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أُمَّ عَاصِمٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ تُمَاضِرَ وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ الزَّوْجَاتِ الْأَرْبَعَ دَفْعَةً وَاحِدَةً فَقَالَ لَهُنَّ : أَنْتُنَّ حَسَنَاتُ الْأَخْلَاقِ نَاعِمَاتُ الْأَطْوَاقِ طَوِيلَاتُ الْأَعْنَاقِ اذْهَبْنَ فَأَنْتُنَّ طَلَاقٌ فَمَحْمَلُهُ وُجُودُ الْحَاجَةِ مِمَّا ذَكَرْنَا ، وَأَمَّا إذَا لَمْ تَكُنْ حَاجَةٌ فَمَحْضُ كُفْرَانِ نِعْمَةٍ وَسُوءِ أَدَبٍ فَيُكْرَهُ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
.

وَأَمَّا حُكْمُهُ فَوُقُوعُ الْفُرْقَةِ مُؤَجَّلًا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فِي الرَّجْعِيِّ وَبِدُونِهِ فِي الْبَائِنِ .
وَأَمَّا مَحَاسِنُهُ فَمِنْهَا ثُبُوتُ التَّخَلُّصِ بِهِ مِنْ الْمَكَارِهِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ ، وَمِنْهَا جَعْلُهُ بِيَدِ الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ لِاخْتِصَاصِهِنَّ بِنُقْصَانِ الْعَقْلِ وَغَلَبَةِ الْهَوَى ، وَعَنْ ذَلِكَ سَاءَ اخْتِيَارُهُنَّ وَسَرُعَ اغْتِرَارُهُنَّ وَنُقْصَانِ الدِّينِ ، وَعَنْهُ كَانَ أَكْثَرُ شُغْلِهِنَّ بِالدُّنْيَا وَتَرْتِيبِ الْمَكَايِدِ وَإِفْشَاءِ سِرِّ الْأَزْوَاجِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَمِنْهَا شَرْعُهُ ثَلَاثًا ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ كَذُوبَةٌ رُبَّمَا يَظْهَرُ عَدَمُ الْحَاجَةِ إلَيْهَا أَوْ الْحَاجَةِ إلَى تَرْكِهَا وَتُسَوِّلُهُ ، فَإِذَا وَقَعَ حَصَلَ النَّدَمُ وَضَاقَ الصَّدْرُ بِهِ وَعِيلَ الصَّبْرُ ، فَشَرَعَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ثَلَاثًا لِيُجَرِّبَ نَفْسَهُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى ، فَإِنْ كَانَ الْوَاقِعُ صِدْقَهَا اسْتَمَرَّ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ وَإِلَّا أَمْكَنَهُ التَّدَارُكُ بِالرَّجْعَةِ ، ثُمَّ إذَا عَادَتْ النَّفْسُ إلَى مِثْلِ الْأَوَّلِ وَغَلَبَتْهُ حَتَّى عَادَ إلَى طَلَاقِهَا نُظِرَ أَيْضًا فِيمَا يَحْدُثُ لَهُ فَمَا يُوقِعُ الثَّالِثَةَ إلَّا وَقَدْ جَرَّبَ وَفَقِهَ فِي حَالِ نَفْسِهِ ، وَبِعَدَدِ الثَّلَاثِ تَبْلَى الْأَعْذَارُ .
.

بَابُ طَلَاقِ السُّنَّةِ ) قَالَ ( الطَّلَاقُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : حَسَنٌ ، وَأَحْسَنُ ، وَبِدْعِيٌّ .
فَالْأَحْسَنُ أَنْ يُطَلِّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْهَا فِيهِ وَيَتْرُكَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا ) ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ لَا يَزِيدُوا فِي الطَّلَاقِ عَلَى وَاحِدَةٍ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ فَإِنَّ هَذَا أَفْضَلُ عِنْدَهُمْ مِنْ أَنْ يُطَلِّقَهَا الرَّجُلُ ثَلَاثًا عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ وَاحِدَةٌ ؛ وَلِأَنَّهُ أَبْعَدُ مِنْ النَّدَامَةِ وَأَقَلُّ ضَرَرًا بِالْمَرْأَةِ وَلَا خِلَافَ لِأَحَدٍ فِي الْكَرَاهَةِ ( وَالْحَسَنُ هُوَ طَلَاقُ السُّنَّةِ ، وَهُوَ أَنْ يُطَلِّقَ الْمَدْخُولَ بِهَا ثَلَاثًا فِي ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ ) وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : إنَّهُ بِدْعَةٌ وَلَا يُبَاحُ إلَّا وَاحِدَةٌ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الطَّلَاقِ هُوَ الْحَظْرُ وَالْإِبَاحَةُ لِحَاجَةِ الْخَلَاصِ وَقَدْ انْدَفَعَتْ بِالْوَاحِدَةِ .
وَلَنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { إنَّ مِنْ السُّنَّةِ أَنْ تَسْتَقْبِلَ الطُّهْرَ اسْتِقْبَالًا فَتُطَلِّقَهَا لِكُلِّ قُرْءٍ تَطْلِيقَةً } وَلِأَنَّ الْحُكْمَ يُدَارُ عَلَى دَلِيلِ الْحَاجَةِ وَهُوَ الْإِقْدَامُ عَلَى الطَّلَاقِ فِي زَمَانِ تَجَدُّدِ الرَّغْبَةِ وَهُوَ الطُّهْرُ الْخَالِي عَنْ الْجِمَاعِ ، فَالْحَاجَةُ كَالْمُتَكَرِّرَةِ نَظَرًا إلَى دَلِيلِهَا ، ثُمَّ قِيلَ : الْأَوْلَى أَنْ يُؤَخِّرَ الْإِيقَاعَ إلَى آخِرِ الطُّهْرِ احْتِرَازًا عَنْ تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُطَلِّقَهَا كَمَا طَهُرَتْ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَخَّرَ رُبَّمَا يُجَامِعُهَا ، وَمِنْ قَصْدِهِ التَّطْلِيقُ فَيُبْتَلَى بِالْإِيقَاعِ عَقِيبَ الْوَقَاعِ .

وَأَمَّا أَقْسَامُهُ فَمَا أَفَادَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ ( الطَّلَاقُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : حَسَنٌ ، وَأَحْسَنُ ، وَبِدْعِيٌّ ) اعْلَمْ أَنَّ الطَّلَاقَ سُنِّيٌّ وَبِدْعِيٌّ ؛ وَالسُّنِّيُّ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ وَمِنْ حَيْثُ الْوَقْتُ ، وَالْبِدْعِيُّ كَذَلِكَ ، فَالسُّنِّيُّ حَسَنٌ وَأَحْسَنُ ( فَالْأَحْسَنُ أَنْ يُطَلِّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْهَا فِيهِ ) وَلَا فِي الْحَيْضِ الَّذِي قَبْلَهُ وَلَا طَلَاقَ فِيهِ ، وَهَذَا عَلَى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ عَلَى مَا سَيَأْتِي ( وَيَتْرُكُهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا ) لِمَا أَسْنَدَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَاحِدَةً ثُمَّ يَتْرُكَهَا حَتَّى تَحِيضَ ثَلَاثَ حِيَضٍ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : بَلَغَنَا عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ ( أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ لَا يَزِيدُوا فِي الطَّلَاقِ عَلَى وَاحِدَةٍ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ فَإِنَّ هَذَا أَفْضَلُ عِنْدَهُمْ مِنْ أَنْ يُطَلِّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ وَاحِدَةً ؛ وَلِأَنَّهُ أَبْعَدُ عَنْ النَّدَامَةِ ) حَيْثُ أَبْقَى لِنَفْسِهِ مُكْنَةً لِلتَّدَارُكِ حَيْثُ يُمْكِنُهُ التَّزَوُّجُ بِهَا فِي الْعِدَّةِ أَوْ بَعْدَهَا دُونَ تَخَلُّلِ زَوْجٍ آخَرَ ( وَأَقَلُّ ضَرَرًا بِالْمَرْأَةِ ) حَيْثُ لَمْ تَبْطُلْ مَحَلِّيَّتُهَا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ فَإِنَّ سَعَةَ حِلِّهَا نِعْمَةٌ عَلَيْهَا فَلَا يَتَكَامَلُ ضَرَرُ الْإِيحَاشِ ( وَلَا خِلَافَ لِأَحَدٍ فِي الْكَرَاهَةِ ) أَنَّهَا وَاقِعَةٌ أَوْ لَا ، بَلْ الْإِجْمَاعُ عَلَى انْتِقَائِهَا ، بِخِلَافِ الْحَسَنِ فَإِنَّ فِيهِ خِلَافَ مَالِكٍ ، وَلِمَا ذَكَرْنَا مِنْ قِلَّةِ ضَرَرِ هَذَا وَاسْتِحْبَابِهِ عِنْدَ الصَّحَابَةِ كَانَ أَحْسَنَ .
وَاعْلَمْ أَنَّ السُّنِّيَّ الْمَسْنُونَ وَهُوَ كَالْمَنْدُوبِ فِي اسْتِعْقَابِ الثَّوَابِ ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْمُبَاحُ ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَيْسَ عِبَادَةً فِي نَفْسِهِ لِيَثْبُتَ لَهُ ثَوَابٌ فَمَعْنَى الْمَسْنُونِ مِنْهُ مَا

ثَبَتَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَسْتَوْجِبُ عِتَابًا .
نَعَمْ لَوْ وَقَعَتْ لَهُ دَاعِيَةٌ أَنْ يُطَلِّقَهَا عَقِيبَ جِمَاعِهَا أَوْ حَائِضًا أَوْ ثَلَاثًا فَمَنَعَ نَفْسِهِ مِنْ الطُّهْرِ إلَى الطُّهْرِ الْآخَرِ وَالْوَاحِدَةِ نَقُولُ إنَّهُ يُثَابُ لَكِنْ لَا عَلَى الطَّلَاقِ فِي الطُّهْرِ الْخَالِي بَلْ عَلَى كَفِّ نَفْسِهِ عَنْ ذَلِكَ الْإِيقَاعِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ امْتِنَاعًا عَنْ الْمَعْصِيَةِ وَذَلِكَ الْكَفُّ غَيْرُ فِعْلِ الْإِيقَاعِ ، وَلَيْسَ الْمَسْنُونُ يَلْزَمُ تِلْكَ الْحَالَةَ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَوْقَعَ وَاحِدَةً فِي الطُّهْرِ الْخَالِي مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْطُرَ لَهُ دَاعِيَةُ ذَلِكَ الْإِيقَاعِ سَمَّيْنَاهُ طَلَاقًا مَسْنُونًا مَعَ انْتِفَاءِ سَبَبِ الثَّوَابِ وَهُوَ كَفُّ النَّفْسِ عَنْ الْمَعْصِيَةِ بَعْدَ تَهَيُّؤِ أَسْبَابِهَا وَقِيَامِ دَاعِيَتِهَا ، وَهَذَا كَمَنْ اسْتَمَرَّ عَلَى عَدَمِ الزِّنَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْطِرَ لَهُ دَاعِيَتُهُ وَتَهَيُّؤُهُ لَهُ مَعَ الْكَفِّ عَنْهُ لَا يُثَابُ عَلَيْهِ ، وَلَوْ وَقَعَتْ لَهُ دَاعِيَتُهُ وَطَلَبُ النَّفْسِ لَهُ وَتَهَيُّؤُهُ لَهُ وَكَفَّ تَجَافِيًا عَنْ الْمَعْصِيَةِ أُثِيبَ ( قَوْلُهُ وَالْحَسَنُ طَلَاقُ السُّنَّةِ ) وَأَنْتَ حَقَّقْت أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا طَلَاقُ السُّنَّةِ فَتَخْصِيصُ هَذَا بِاسْمِ طَلَاقِ السُّنَّةِ لَا وَجْهَ لَهُ وَالْمُنَاسِبُ تَمْيِيزُهُ بِالْمَفْضُولِ مِنْ طَلَاقَيْ السُّنَّةِ .
قَالَ ( وَهُوَ أَنْ يُطَلِّقَ الْمَدْخُولَ بِهَا ثَلَاثًا فِي ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ ) سَوَاءٌ كَانَتْ الزَّوْجَةُ مُسْلِمَةً أَوْ غَيْرَ مُسْلِمَةٍ ؛ لِأَنَّهُ الْمُخَاطَبُ بِإِيقَاعِهِ كَذَلِكَ ، وَيَجِبُ عَلَى الْغَائِبِ إذَا أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَ أَنْ يَكْتُبَ إذَا جَاءَكِ كِتَابِي هَذَا وَأَنْتِ طَاهِرَةٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، وَإِنْ كُنْتِ حَائِضًا فَإِذَا طَهُرْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ .
وَقَالَ مَالِكٌ : هَذَا بِدْعَةٌ وَلَا يُبَاحُ إلَّا وَاحِدَةٌ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الطَّلَاقِ هُوَ الْحَظْرُ وَالْإِبَاحَةُ لِحَاجَةِ الْخَلَاصِ ، وَقَدْ انْدَفَعَتْ بِالْوَاحِدَةِ ( وَلَنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) فِيمَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ مُعَلَّى بْنِ مَنْصُورٍ ، حَدَّثَنَا

شُعَيْبُ بْنُ زُرَيْقٍ أَنَّ عَطَاءً الْخُرَاسَانِيَّ ، حَدَّثَهُمْ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ : حَدَّثَنَا { عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُتْبِعَهَا بِطَلْقَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ عِنْدَ الْقَرِينِ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا ابْنَ عُمَرَ مَا هَكَذَا أَمَرَكَ اللَّهُ ، قَدْ أَخْطَأْت السُّنَّةَ ، السُّنَّةُ أَنْ تَسْتَقْبِلَ الطُّهْرَ فَتُطَلِّقَ لِكُلِّ قُرْءٍ ، فَأَمَرَنِي فَرَاجَعْتُهَا .
فَقَالَ : إذَا هِيَ طَهُرَتْ فَطَلِّقْ عِنْدَ ذَلِكَ أَوْ أَمْسِكْ ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ لَوْ طَلَّقْتُهَا ثَلَاثًا أَكَانَ يَحِلُّ لِي أَنْ أُرَاجِعَهَا ؟ فَقَالَ لَا ، كَانَتْ تَبِينُ مِنْكَ وَكَانَتْ مَعْصِيَةً } أَعَلَّهُ الْبَيْهَقِيُّ بِالْخُرَاسَانِيِّ قَالَ : أَتَى بِزِيَادَاتٍ لَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهَا ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لَا يُقْبَلُ مَا تَفَرَّدَ بِهِ .
وَرُدَّ بِأَنَّهُ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ : حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ الرَّازِيّ ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عُثْمَانَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كَثِيرِ بْنِ دِينَارٍ الْحِمْصِيُّ ، حَدَّثَنَا أَبِي : حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ زُرَيْقٍ سَنَدًا وَمَتْنًا .
وَقَدْ صَرَّحَ الْحَسَنُ بِسَمَاعِهِ مِنْ ابْنِ عُمَرَ ، وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ .
وَقِيلَ لِأَبِي زُرْعَةَ الْحَسَنُ لَقِيَ ابْنَ عُمَرَ ؟ قَالَ نَعَمْ .
وَأَمَّا إعْلَال عَبْدِ الْحَقِّ إيَّاهُ بِمُعَلَّى بْنِ مَنْصُورٍ فَلَيْسَ بِذَاكَ ، وَلَمْ يُعِلَّهُ الْبَيْهَقِيُّ إلَّا بِالْخُرَاسَانِيِّ ، وَقَدْ ظَهَرَتْ مُتَابَعَتُهُ ، ؛ وَلِأَنَّ الْحُكْمَ يُدَارُ عَلَى دَلِيلِ الْحَاجَةِ لِخَفَائِهَا ؛ لِأَنَّهَا بَاطِنَةٌ ، وَدَلِيلُهَا الْإِقْدَامُ عَلَى طَلَاقِهَا فِي زَمَنِ تَجَدُّدِ الرَّغْبَةِ ، وَقَدْ تَكُونُ الْحَاجَةُ مَاسَةٌ إلَى تَرْكِهَا أَلْبَتَّةَ لِرُسُوخِ الْأَخْلَاقِ الْمُتَبَايِنَةِ وَمُوجِبَاتِ الْمُنَافَرَةِ فَلَا تُفِيدُ رَجْعَتَهَا فَيَحْتَاجُ إلَى فِطَامِ النَّفْسِ عَنْهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يُعْقِبُ النَّدَمَ وَالنَّفْسُ تُلِحُّ لِحُسْنِ الظَّاهِرِ ، وَطَرِيقُ إعْطَاءِ هَذِهِ الْحَاجَةِ مُقْتَضَاهَا عَلَى الْوَجْهِ

الْمَذْكُورِ أَنْ يُطَلِّقَ وَاحِدَةً لِيُجَرِّبَ نَفْسَهُ عَلَى الصَّبْرِ وَيُعَالِجَهَا عَلَيْهِ ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ تَدَارَكَ بِالرَّجْعَةِ ، وَإِنْ قَدَرَ أَوْقَعَ أُخْرَى فِي الطُّهْرِ الْآخَرِ كَذَلِكَ ، فَإِنْ قَدَرَ أَبَانَهَا بِالثَّالِثَةِ بَعْدَ تَمَرُّنِ النَّفْسِ عَلَى الْفِطَامِ ، ثُمَّ إذَا أَوْقَعَ الثَّلَاثَةَ فِي ثَلَاثَةِ أَطْهَارِ فَقَدْ مَضَتْ مِنْ عِدَّتِهَا حَيْضَتَانِ إنْ كَانَتْ حُرَّةً ، فَإِذَا حَاضَتْ حَيْضَةً انْقَضَتْ ، وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً فَبِالطُّهْرِ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّانِيَةِ بَانَتْ وَوَقَعَ عَلَيْهَا ثِنْتَانِ ( قَوْلُهُ ثُمَّ قِيلَ الْأَوْلَى أَنْ يُؤَخِّرَ الطَّلَاقَ إلَى آخِرِ الطُّهْرِ احْتِرَازًا عَنْ تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ ) عَلَيْهَا .
وَقَالَ الْمُصَنِّفُ : وَالْأَظْهَرُ أَيْ الْأَظْهَرُ مِنْ قَوْلِ مُحَمَّدٍ حَيْثُ قَالَ : إذَا أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا طَلَّقَهَا وَاحِدَةً إذَا طَهُرَتْ ، وَرَجَّحَهُ بِأَنَّهُ لَوْ أَخَّرَ رُبَّمَا يُجَامِعُهَا فِيهِ وَمِنْ قَصْدِهِ تَطْلِيقُهَا فَيُبْتَلَى بِالْإِيقَاعِ عَقِيبَ الْوَقَاعِ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْأَوَّلَ أَقَلُّ ضَرَرًا فَكَانَ أَوْلَى ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .

( وَطَلَاقُ الْبِدْعَةِ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ ثَلَاثًا فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَكَانَ عَاصِيًا ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : كُلُّ الطَّلَاقِ مُبَاحٌ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ مَشْرُوعٌ حَتَّى يُسْتَفَادَ بِهِ الْحُكْمُ وَالْمَشْرُوعِيَّةُ لَا تُجَامِعُ الْحَظْرَ ، بِخِلَافِ الطَّلَاقِ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ تَطْوِيلُ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا لَا الطَّلَاقِ .
وَلَنَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي الطَّلَاقِ هُوَ الْحَظْرُ لِمَا فِيهِ مِنْ قَطْعِ النِّكَاحِ الَّذِي تَعَلَّقَتْ بِهِ الْمَصَالِحُ الدِّينِيَّةُ وَالدُّنْيَوِيَّةُ وَالْإِبَاحَةُ لِلْحَاجَةِ إلَى الْخَلَاصِ ، وَلَا حَاجَةَ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الثَّلَاثِ وَهِيَ فِي الْمُفَرَّقِ عَلَى الْأَطْهَارِ ثَانِيَةً نَظَرًا إلَى دَلِيلِهَا ، وَالْحَاجَةُ فِي نَفْسِهَا بَاقِيَةٌ فَأَمْكَنَ تَصْوِيرُ الدَّلِيلِ عَلَيْهَا ، وَالْمَشْرُوعِيَّةُ فِي ذَاتِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إزَالَةُ الرِّقِّ لَا تُنَافِي الْحَظْرَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَكَذَا إيقَاعُ الثِّنْتَيْنِ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ بِدْعَةٌ ؛ لِمَا قُلْنَا .
وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي الْوَاحِدَةِ الْبَائِنَةِ .
قَالَ فِي الْأَصْلِ : إنَّهُ أَخْطَأَ السُّنَّةَ ؛ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى إثْبَاتِ صِفَةٍ زَائِدَةٍ فِي الْخَلَاصِ وَهِيَ الْبَيْنُونَةُ ، وَفِي الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ لِلْحَاجَةِ إلَى الْخَلَاصِ نَاجِزًا .

( قَوْلُهُ وَطَلَاقُ الْبِدْعَةِ ) مَا خَالَفَ قِسْمَيْ السُّنَّةِ ، وَذَلِكَ بِإِنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ مُفَرَّقَةً فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ أَوْ ثِنْتَيْنِ كَذَلِكَ أَوْ وَاحِدَةً فِي الْحَيْضِ أَوْ فِي طُهْرٍ قَدْ جَامَعَهَا فِيهِ أَوْ جَامَعَهَا فِي الْحَيْضِ الَّذِي يَلِيهِ هُوَ ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَكَانَ عَاصِيًا ، وَفِي كُلٍّ مِنْ وُقُوعِهِ وَعَدَدِهِ وَكَوْنِهِ مَعْصِيَةً خِلَافٌ ، فَعَنْ الْإِمَامِيَّةِ لَا يَقَعُ بِلَفْظِ الثَّلَاثِ وَلَا فِي حَالَةِ الْحَيْضِ ؛ لِأَنَّهُ بِدْعَةٌ مُحَرَّمَةٌ ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ } وَفِي أَمْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنَ عُمَرَ أَنْ يُرَاجِعَهَا حِينَ طَلَّقَهَا وَهِيَ حَائِضٌ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِهِمْ فِي الْحَيْضِ ، وَأَمَّا بُطْلَانُهُ فِي الثَّلَاثِ فَيَنْتَظِمُهُ مَا سَيَأْتِي مِنْ دَفْعِ كَلَامِ الْإِمَامِيَّةِ .
وَقَالَ قَوْمٌ : يَقَعُ بِهِ وَاحِدَةً ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ .
وَنَقَلَ عَنْ طَاوُسٍ وَعِكْرِمَةَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ خَالَفَ السُّنَّةَ فَيُرَدُّ إلَى السُّنَّةِ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّ أَبَا الصَّهْبَاءِ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ : أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الثَّلَاثَ كَانَتْ تُجْعَلُ وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ إمَارَةِ عُمَرَ ؟ قَالَ نَعَمْ } .
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ { أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ : كَانَ الطَّلَاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ طَلَاقُ الثَّلَاثِ وَاحِدَةٌ ، فَقَالَ عُمَرُ : إنَّ النَّاسَ قَدْ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ كَانَ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ ، فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ } .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ فَهِيَ وَاحِدَةٌ .
وَرَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَ ذَلِكَ .

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ : أَنْبَأَنَا أَبِي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ : حَدَّثَنِي دَاوُد بْنُ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ { طَلَّقَ رُكَانَةُ بْنُ عَبْدِ يَزِيدَ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ، فَحَزِنَ عَلَيْهَا حُزْنًا شَدِيدًا ، فَسَأَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ طَلَّقْتَهَا ؟ قَالَ : طَلَّقْتُهَا ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ، قَالَ : إنَّمَا تِلْكَ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ فَارْتَجِعْهَا } .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا يَقَعُ ثَلَاثًا وَفِي غَيْرِهَا وَاحِدَةً ، لِمَا فِي مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ أَنَّ أَبَا الصَّهْبَاءِ كَانَ كَثِيرَ السُّؤَالِ لِابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : أَمَا عَلِمْت أَنَّ الرَّجُلَ إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا جَعَلُوهَا وَاحِدَةً ؟ الْحَدِيثَ .
{ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : بَلْ كَانَ الرَّجُلُ إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا جَعَلُوهَا وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ إمَارَةِ عُمَرَ ، فَلَمَّا رَأَى النَّاسَ قَدْ تَتَابَعُوا فِيهَا قَالَ : أَجِيزُوهُنَّ عَلَيْهِمْ } .
هَذَا لَفْظُ أَبِي دَاوُد .
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ إلَى أَنَّهُ يَقَعُ ثَلَاثًا .
وَمِنْ الْأَدِلَّةِ فِي ذَلِكَ مَا فِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَقَدِّمِ { قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ لَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ؟ قَالَ : إذًا قَدْ عَصَيْتَ رَبَّكَ وَبَانَتْ مِنْكَ امْرَأَتُكَ } وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ : كُنْت عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ : إنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا ، قَالَ : فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنْت أَنَّهُ رَادُّهَا إلَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ يَنْطَلِقُ أَحَدُكُمْ فَيَرْكَبُ الْحُمُوقَةَ ثُمَّ يَقُولُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ ؟ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ { وَمَنْ يَتَّقِ

اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } عَصَيْت رَبَّك وَبَانَتْ مِنْك امْرَأَتُك .
وَفِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ : بَلَغَهُ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ : إنِّي طَلَّقْت امْرَأَتِي مِائَةَ تَطْلِيقَةٍ فَمَاذَا تَرَى عَلَيَّ ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : طَلُقَتْ مِنْك ثَلَاثًا وَسَبْعٌ وَتِسْعُونَ اتَّخَذْتَ بِهَا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا .
وَفِي الْمُوَطَّأِ أَيْضًا : بَلَغَهُ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ : إنِّي طَلَّقْت امْرَأَتِي ثَمَانِيَ تَطْلِيقَاتٍ ، فَقَالَ : مَا قِيلَ لَك .
فَقَالَ : قِيلَ لِي بَانَتْ مِنْك ، قَالَ : صَدَقُوا ، هُوَ مِثْلُ مَا يَقُولُونَ وَظَاهِرُهُ الْإِجْمَاعُ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ .
وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَمُوَطَّأِ مَالِكٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إيَاسِ بْنِ الْبَكِيرِ قَالَ : طَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأَته ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا ، ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَنْكِحَهَا فَجَاءَ يَسْتَفْتِي ، فَذَهَبْت مَعَهُ فَسَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَا : لَا نَرَى أَنْ تَنْكِحَهَا حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَك ، قَالَ : فَإِنَّمَا كَانَ طَلَاقِي إيَّاهَا وَاحِدَةً ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إنَّك أَرْسَلْتَ مِنْ يَدِك مَا كَانَ لَك مِنْ فَضْلٍ .
وَهَذَا يُعَارِضُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ غَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهَا إنَّمَا تَطْلُقُ بِالثَّلَاثِ وَاحِدَةً وَجَمِيعُهَا يُعَارِضُ مَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَفِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ مِثْلُهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ .
وَأَمَّا إمْضَاءُ عُمَرَ الثَّلَاثَ عَلَيْهِمْ فَلَا يُمْكِنُ مَعَ عَدَمِ مُخَالَفَةِ الصَّحَابَةِ لَهُ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهَا كَانَتْ وَاحِدَةً إلَّا وَقَدْ اطَّلَعُوا فِي الزَّمَانِ الْمُتَأَخِّرِ عَلَى وُجُودِ نَاسِخٍ .
هَذَا إنْ كَانَ عَلَى ظَاهِرِهِ أَوْ لِعِلْمِهِمْ بِانْتِهَاءِ الْحُكْمِ كَذَلِكَ لِعِلْمِهِمْ بِإِنَاطَتِهِ بِمَعَانٍ عَلِمُوا انْتِفَاءَهَا فِي الزَّمَنِ الْمُتَأَخِّرِ فَإِنَّا نَرَى الصَّحَابَةَ تَتَابَعُوا عَلَى هَذَا الْأَمْرِ وَلَا يُمْكِنُ وُجُودُ ذَلِكَ مِنْهُمْ مَعَ اشْتِهَارِ كَوْنِ حُكْمِ الشَّرْعِ الْمُتَقَرِّرِ كَذَلِكَ أَبَدًا ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا أَوْجَدْنَاك عَنْ عُمَرَ وَابْنِ

مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ .
وَأَسْنَدَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إلَى ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ : إنِّي طَلَّقْت امْرَأَتِي تِسْعًا وَتِسْعِينَ ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ : ثَلَاثٌ تُبِينُهَا وَسَائِرُهُنَّ عُدْوَانٌ .
وَرَوَى وَكِيعٌ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ حَبِيبِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ : إنِّي طَلَّقْت امْرَأَتِي أَلْفًا ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ : بَانَتْ مِنْك بِثَلَاثٍ وَاقْسِمْ سَائِرَهُنَّ عَلَى نِسَائِك .
وَرَوَى وَكِيعٌ أَيْضًا عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي يَحْيَى قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَقَالَ : طَلَّقْت امْرَأَتِي أَلْفًا فَقَالَ بَانَتْ مِنْك بِثَلَاثٍ .
وَأَسْنَدَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ { عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ أَبَاهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَلْفَ تَطْلِيقَةٍ ، فَانْطَلَقَ عُبَادَةُ فَسَأَلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : بَانَتْ بِثَلَاثٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَبَقِيَ تِسْعُمِائَةٍ وَسَبْعٌ وَتِسْعُونَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا ، إنْ شَاءَ عَذَّبَهُ اللَّهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ } وَقَوْلُ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ الْقَائِلِينَ بِهَذَا الْمَذْهَبِ : تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مِائَةِ أَلْفِ عَيْنٍ رَأَتْهُ فَهَلْ صَحَّ لَكُمْ عَنْ هَؤُلَاءِ أَوْ عَنْ عُشْرِ عُشْرِ عُشْرِهِمْ الْقَوْلُ بِلُزُومِ الثَّلَاثِ بِفَمٍ وَاحِدٍ بَلْ لَوْ جَهَدْتُمْ لَمْ تُطِيقُوا نَقْلَهُ عَنْ عِشْرِينَ نَفْسًا بَاطِلٌ ، أَمَّا أَوَّلًا فَإِجْمَاعُهُمْ ظَاهِرٌ ، فَإِنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ خَالَفَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ أَمْضَى الثَّلَاثَ ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ فِي نَقْلِ الْحُكْمِ الْإِجْمَاعِيِّ عَنْ مِائَةِ أَلْفٍ أَنْ يُسَمَّى كُلٌّ لِيَلْزَمَ فِي مُجَلَّدٍ كَبِيرٍ حُكْمٌ وَاحِدٌ عَلَى أَنَّهُ إجْمَاعٌ سُكُوتِيٌّ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَإِنَّ الْعِبْرَةَ فِي نَقْلِ الْإِجْمَاعِ مَا نُقِلَ عَنْ الْمُجْتَهِدِينَ لَا الْعَوَامّ وَالْمِائَةُ

الْأَلْفِ الَّذِينَ تُوُفِّيَ عَنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَبْلُغُ عِدَّةُ الْمُجْتَهِدِينَ الْفُقَهَاءِ مِنْهُمْ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ كَالْخُلَفَاءِ وَالْعَبَادِلَةِ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَأَنَسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَلِيلٍ وَالْبَاقُونَ يَرْجِعُونَ إلَيْهِمْ وَيَسْتَفْتُونَ مِنْهُمْ ، وَقَدْ أَثْبَتْنَا النَّقْلَ عَنْ أَكْثَرِهِمْ صَرِيحًا بِإِيقَاعِ الثَّلَاثِ وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُمْ مُخَالِفٌ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلَّا الضَّلَالُ .
وَعَنْ هَذَا قُلْنَا : لَوْ حَكَمَ حَاكِمٌ بِأَنَّ الثَّلَاثَ بِفَمٍ وَاحِدٍ وَاحِدَةٌ لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسُوغُ الِاجْتِهَادُ فِيهِ فَهُوَ خِلَافٌ لَا اخْتِلَافٌ ، وَالرِّوَايَةُ عَنْ أَنَسٍ بِأَنَّهَا ثَلَاثٌ أَسْنَدَهَا الطَّحَاوِيُّ وَغَيْرُهُ .
وَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنْ يَصِيرَ كَبَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ أُجْمِعَ عَلَى نَفْيِهِ ، وَكُنَّ فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ يُبَعْنَ ، وَبَعْدَ ثُبُوتِ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَا حَاجَةَ إلَى الِاشْتِغَالِ بِالْجَوَابِ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْوَكِيلِ بِالطَّلَاقِ وَاحِدَةً إذَا طَلَّقَ ثَلَاثًا مَعَ ظُهُورِ الْفَرْقِ بِأَنَّ مُخَالَفَتَهُ لَا تَحْتَمِلُ مَخْرَجًا عَنْ الْإِبْطَالِ لِمُخَالَفَتِهِ الْإِذْنَ ، وَالْمُكَلَّفُونَ وَإِنْ كَانُوا أَيْضًا إنَّمَا يَتَصَرَّفُونَ بِإِذْنِ الشَّرْعِ لَكِنْ إذَا أَجْمَعُوا عَلَى خِلَافِ بَعْضِ الظَّوَاهِرِ وَالْإِجْمَاعُ حُجَّةٌ قَطْعِيَّةٌ كَانَ مُقَدَّمًا بِأَمْرِ الشَّرْعِ عَلَى ذَلِكَ الظَّاهِرِ ، قُلْنَا : أَنْ لَا نَشْتَغِلَ مَعَهُ بِتَأْوِيلٍ ، وَقَدْ يُجْمَعُ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الِاطِّلَاعِ عَلَى النَّاسِخِ أَوْ الْعِلْمِ بِانْتِهَاءِ الْحُكْمِ لِانْتِهَاءِ عِلَّتِهِ ، هَذَا وَإِنْ حُمِلَ الْحَدِيثُ عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِهِ دَفْعًا لِمُعَارَضَةِ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى مَا أَوْجَدْنَاكَ مِنْ النَّقْلِ عَنْهُمْ وَاحِدًا وَاحِدًا ، وَعَدَمِ مُخَالِفٍ لِعُمَرَ فِي إمْضَائِهِ وَظَاهِرِ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَتَأْوِيلُهُ أَنَّ قَوْلَ الرَّجُلِ أَنْتِ طَالِقٌ

أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ كَانَ وَاحِدَةً فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ لِقَصْدِهِمْ التَّأْكِيدَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ ، ثُمَّ صَارُوا يَقْصِدُونَ التَّجْدِيدَ فَأَلْزَمَهُمْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَلِكَ لِعِلْمِهِ بِقَصْدِهِمْ .
وَمَا قِيلَ فِي تَأْوِيلِهِ أَنَّ الثَّلَاثَ الَّتِي يُوقِعُونَهَا الْآنَ إنَّمَا كَانَتْ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ وَاحِدَةً تَنْبِيهٌ عَلَى تَغَيُّرِ الزَّمَانِ وَمُخَالَفَةِ السُّنَّةِ فَيُشْكِلُ إذْ لَا يُتَّجَهُ حِينَئِذٍ قَوْلُهُ فَأَمْضَاهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَأَمَّا حَدِيثُ رُكَانَةَ فَمُنْكَرٌ ، وَالْأَصَحُّ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ { أَنَّ رُكَانَةَ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ أَلْبَتَّةَ ، فَحَلَّفَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مَا أَرَادَ إلَّا وَاحِدَةً ، فَرَدَّهَا إلَيْهِ فَطَلَّقَهَا الثَّانِيَةَ فِي زَمَنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَالثَّالِثَةَ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ } قَالَ أَبُو دَاوُد : وَهَذَا أَصَحُّ .
وَأَمَّا الْمَقَامُ الثَّالِثُ وَهُوَ كَوْنُ الثَّلَاثَةِ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ مَعْصِيَةً أَوْ لَا فَحُكِيَ فِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ اسْتَدَلَّ بِالْإِطْلَاقَاتِ مِنْ نَحْوِ قَوْله تَعَالَى { لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ } وَمَا رُوِيَ { أَنَّ عُوَيْمِرًا الْعَجْلَانِيَّ لَمَّا لَاعَنَ امْرَأَتَهُ وَقَالَ : كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ أَمْسَكْتُهَا فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا ، لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ { حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ : طَلَّقَنِي زَوْجِي ثَلَاثًا ، فَلَمْ يَجْعَلْ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَقَةً وَلَا سُكْنَى } وَطَلَّقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ تُمَاضِرَ ثَلَاثًا فِي مَرَضِهِ ، وَطَلَّقَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ امْرَأَتَهُ شَهْبَاءَ ثَلَاثًا لَمَّا هَنَّأَتْهُ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ مَوْتِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ مَشْرُوعٌ وَالْمَشْرُوعِيَّةُ لَا تُجَامِعُ الْحَظْرَ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ

لَوْ طَلَّقَ نِسَاءَهُ الْأَرْبَعَ دَفْعَةً جَازَ ، فَكَذَا الْوَاحِدَةُ ثَلَاثًا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ، بِخِلَافِ الطَّلَاقِ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ ؛ لِأَنَّهُ يَحْرُمُ لِلْمُضَارَّةِ بِتَطْوِيلِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا لَا الطَّلَاقِ ، وَبِخِلَافِهِ فِي الطُّهْرِ الَّذِي جَامَعَهَا فِيهِ يَحْرُمُ لِتَلْبِيسِ وَجْهِ الْعِدَّةِ أَهُوَ بِالْأَقْرَاءِ أَوْ الْوَضْعِ لِاحْتِمَالِ الْحَبَلِ وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } إلَى أَنْ قَالَ { فَإِنْ طَلَّقَهَا } فَلَزِمَ أَنْ لَا طَلَاقَ شَرْعًا إلَّا كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ وَرَاءَ الْجِنْسِ شَيْءٌ ، وَهَذَا مِنْ طُرُقِ الْحَصْرِ فَلَا طَلَاقٌ مَشْرُوعٌ ثَلَاثًا بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ وَكَانَ يَتَبَادَرُ أَنْ لَا يَقَعَ شَيْءٌ كَمَا قَالَ الْإِمَامِيَّةُ ، لَكِنْ لَمَّا عَلِمْنَا أَنَّ عَدَمَ مَشْرُوعِيَّتِهِ كَذَلِكَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ وَهُوَ تَفْوِيتُ مَعْنَى شَرْعِيَّتِهِ سُبْحَانَهُ لَهُ كَذَلِكَ وَإِمْكَانِ التَّدَارُكِ عِنْدَ النَّدَمِ ، وَقَدْ يَعُودُ ضَرَرُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَقَدْ لَا ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ وَالْمَشْرُوعِيَّةُ فِي ذَاتِهِ لَا تُنَافِي الْحَظْرَ إلَى آخِرِهِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ .
وَلَنَا أَيْضًا مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لِلَّذِي طَلَّقَ ثَلَاثًا وَجَاءَ يَسْأَلُ : عَصَيْت رَبَّك .
وَمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ مُسْنَدِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ حَيْثُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { بَانَتْ بِثَلَاثٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى } وَكَذَا مَا حَدَّثَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ ابْنِ مَرْزُوقٍ عَنْ أَبِي حُذَيْفَةَ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ : إنَّ عَمِّي طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا ، فَقَالَ : إنَّ عَمَّك عَصَى اللَّهَ فَأَثِمَ ، وَأَطَاعَ الشَّيْطَانَ فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ، وَمَا رَوَى النَّسَائِيّ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ قَالَ { أُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا جَمِيعًا فَقَامَ غَضْبَانَ فَقَالَ : أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ

وَجَلَّ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ حَتَّى قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا أَقْتُلُهُ } وَأَمَّا مَا فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ مِنْ نِسْبَةِ الطَّلَاقِ الْمَذْكُورِ إلَى مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ فَغَيْرُ مَعْرُوفٍ ، وَحِينَئِذٍ فَيَجِبُ حَمْلُ مَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ مِنْ الطَّلَاقِ ثَلَاثًا أَنَّهُمْ قَالُوا ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ ، وَأَيْضًا لَنَا مَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ مِنْ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الطَّلَاقِ هُوَ الْحَظْرُ لِمَا فِيهِ مِنْ قَطْعِ الْمَصَالِحِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأَدِلَّةُ السَّمْعِيَّةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا ، وَإِنَّمَا يُبَاحُ لِلْحَاجَةِ إلَى الْخَلَاصِ مِنْ الْمَفَاسِدِ الَّتِي قَدْ تَعْرِضُ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا فَيَعُودُ عَلَى مَوْضُوعِهِ بِالنَّقْضِ ، وَلَا حَاجَةَ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الثَّلَاثِ بِخِلَافِ تَفْرِيقِهَا عَلَى الْأَطْهَارِ فَإِنَّهَا ثَابِتَةٌ نَظَرًا إلَى دَلِيلِهَا ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْحَاجَةَ بَاطِنَةٌ ، فَأُنِيطَ الْحُكْمُ بِالْحِلِّ عَلَى دَلِيلِهَا وَهُوَ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ فِي زَمَنِ الرَّغْبَةِ ، فَإِذَا طَلَّقَهَا فِي كُلِّ طُهْرٍ طَلْقَةً حُكِمَ بِالْحَاجَةِ إلَى الثَّلَاثِ كَذَلِكَ فَوَرَدَ عَلَيْهِ أَنَّ دَلِيلَ الْحَاجَةِ إنَّمَا يُعْتَبَرُ عِنْدَ تَصَوُّرِ الْحَاجَةِ وَهِيَ هَاهُنَا غَيْرُ مُتَصَوَّرَةٍ لِلْعِلْمِ بِارْتِفَاعِهَا بِالطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ ، فَأَجَابَ بِمَنْعِ انْتِفَائِهَا بِالْكُلِّيَّةِ لِمَا قَرَرْنَاهُ فِي جَوَابِ مَالِكٍ مِنْ أَنَّ الْحَاجَةَ قَدْ تَتَحَقَّقُ إلَى فِطَامِ النَّفْسِ عَلَى وَجْهٍ يَأْمَنُ ظَاهِرًا عُرُوضَ النَّدَمِ ، وَطَرِيقُ دَفْعِهَا حِينَئِذٍ الثَّلَاثُ مُفَرَّقَةٌ عَلَى الْأَطْهَارِ لَا مَجْمُوعَةً لِمَا وَجَّهْنَا بِهِ .
( قَوْلُهُ وَالْمَشْرُوعِيَّةُ فِي ذَاتِهِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ مَشْرُوعٌ فَلَا يُنَافِي الْحَظْرَ : يَعْنِي أَنَّ مَشْرُوعِيَّتَهُ بِاعْتِبَارِ ذَاتِهِ ، فَإِنَّهُ فِي ذَاتِهِ إزَالَةُ الرِّقِّ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ النِّكَاحَ نَوْعُ رِقٍّ فَلَا يُنَافِي الْحَظْرَ لِغَيْرِهِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ فِيهِ قَطْعَ مُتَعَلِّقِ الْمَصَالِحِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ فَجَازَ

إثْبَاتُ مَشْرُوعِيَّتِهِ فِي ذَاتِهِ مَعَ حَظْرِهِ لِذَلِكَ فَيَصِحُّ إذَا وَقَعَ وَيَسْتَعْقِبُ أَحْكَامَهُ مَعَ اسْتِعْقَابِ اسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُسَوِّغٌ لِلْحَظْرِ الْحَالِي كَالصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ .
وَالْوَجْهُ فِي تَقْرِيرِهِ أَنَّهُ مَشْرُوعٌ مِنْ حَيْثُ هُوَ دَافِعٌ لِحَاجَةِ لُزُومِ فَسَادِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا ، وَلَا يُنَافِيهِ كَوْنُهُ غَيْرَ مَشْرُوعٍ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إضْرَارٌ وَكُفْرَانٌ بِلَا حَاجَةٍ ، وَهَذَا أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِهِ مَشْرُوعٌ فِي ذَاتِهِ إلَخْ إذَا تَأَمَّلْت ؛ لِأَنَّ هَذَا التَّفْصِيلَ هُوَ الْوَاقِعُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ، وَسَيُصَرِّحُ بِهِ فِي وَجْهِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فِي طَلَاقِ الْحَامِلِ حَيْثُ قَالَ : وَلَهُمَا أَنَّ الْإِبَاحَةَ بِعِلَّةِ الْحَاجَةِ ( قَوْلُهُ وَكَذَا إيقَاعُ الثِّنْتَيْنِ فِي الطُّهْرِ الْوَاحِدِ بِدْعَةٌ لِمَا قُلْنَا ) مِنْ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى الزِّيَادَةِ عَلَى الْوَاحِدَةِ ( قَوْلُهُ وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي الْوَاحِدَةِ الْبَائِئَةِ ، قَالَ فِي الْأَصْلِ ) يَعْنِي أَصْلَ الْمَبْسُوطِ وَهُوَ الْكَافِي لِلْحَاكِمِ أَبِي الْفَضْلِ أَخْطَأَ السُّنَّةَ ، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ فِي الْخَلَاصِ إلَى إثْبَاتِ صِفَةِ الْبَيْنُونَةِ ؛ وَلِأَنَّهُ يَسُدُّ عَلَى نَفْسِهِ بَابَ التَّدَارُكِ عِنْدَ عَدَمِ اخْتِيَارِ الْمَرْأَةِ الرَّجْعَةَ .
وَفِي الزِّيَادَاتِ : لَا يُكْرَهُ لِلْحَاجَةِ إلَى الْخَلَاصِ نَاجِزًا ، وَالْمُرَادُ زِيَادَاتُ الزِّيَادَاتِ فَلَا يُشْكِلُ صِحَّةُ إطْلَاقِ الزِّيَادَاتِ عَلَيْهَا ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ أَنَّ أَبَا رُكَانَةَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَلْبَتَّةَ وَالْوَاقِعُ بِهَا بَائِنٌ وَلَمْ يُنْكَرْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالْقِيَاسُ عَلَى الْخُلْعِ .
الْجَوَابُ تَجْوِيزُ أَنْ يَكُونَ أَبُو رُكَانَةَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ أَنَّهُ أَخَّرَ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِ لِحَالٍ اقْتَضَتْ تَأْخِيرَهُ إذْ ذَاكَ ، وَالْخُلْعُ لَا يَكُونُ إلَّا عِنْدَ تَحَقُّقِ الْحَاجَةِ وَبُلُوغِهَا النِّهَايَةَ ، وَلِهَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْخُلْعَ

لَا يُكْرَهُ حَالَةَ الْحَيْضِ .

( وَالسُّنَّةُ فِي الطَّلَاقِ مِنْ وَجْهَيْنِ : سُنَّةٌ فِي الْوَقْتِ وَسُنَّةٌ فِي الْعَدَدِ فَالسُّنَّةُ فِي الْعَدَدِ ) ( يَسْتَوِي فِيهَا الْمَدْخُولُ بِهَا وَغَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا ) وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا ( وَالسُّنَّةُ فِي الْوَقْتِ تَثْبُتُ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا خَاصَّةً ، وَهُوَ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْهَا فِيهِ ) لِأَنَّ الْمُرَاعَى دَلِيلُ الْحَاجَةِ وَهُوَ الْإِقْدَامُ عَلَى الطَّلَاقِ فِي زَمَانِ تَجَدُّدِ الرَّغْبَةِ وَهُوَ الطُّهْرُ الْخَالِي عَنْ الْجِمَاعِ ، أَمَّا زَمَانُ الْحَيْضِ فَزَمَانُ النَّفْرَةِ ، وَبِالْجِمَاعِ مَرَّةً فِي الطُّهْرِ تَفْتُرُ الرَّغْبَةُ ( وَغَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا يُطَلِّقُهَا فِي حَالَةِ الطُّهْرِ وَالْحَيْضِ ) خِلَافًا لِزُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، هُوَ يَقِيسُهَا عَلَى الْمَدْخُولِ بِهَا .
وَلَنَا أَنَّ الرَّغْبَةَ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا صَادِقَةٌ لَا تَقِلُّ بِالْحَيْضِ مَا لَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُهُ مِنْهَا ، وَفِي الْمَدْخُولِ بِهَا تَتَجَدَّدُ بِالطُّهْرِ .
.

( قَوْلُهُ وَالسُّنَّةُ فِي الطَّلَاقِ مِنْ وَجْهَيْنِ : فِي الْوَقْتِ وَالْعَدَدِ ، فَالسُّنَّةُ فِي الْعَدَدِ يَسْتَوِي فِيهَا الْمَدْخُولُ بِهَا وَغَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا ) وَهِيَ أَنْ يُطَلِّقَ وَاحِدَةً ، فَإِذَا طَلَّقَ غَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهَا ثَلَاثًا كَانَ عَاصِيًا ، فَفِي الَّتِي خَلَا بِهَا أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَعْصِيَةً ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الِاسْتِوَاءَ بَيْنَهُمَا مُطْلَقًا تَعَذُّرٌ ، فَإِنَّ السُّنَّةَ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا تَثْبُتُ بِقِسْمَيْهَا أَنْ يُطَلِّقَهَا وَاحِدَةً لَيْسَ غَيْرُ وَأَنْ يُلْحِقَهَا بِأُخْرَيَيْنِ عِنْدَ الطُّهْرِ ، وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا إذْ لَا عِدَّةَ لَهَا ، وَهَذَا ظَاهِرٌ ( قَوْلُهُ وَالسُّنَّةُ فِي الْوَقْتِ تَثْبُتُ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا خَاصَّةً ) وَكَأَنَّهُ عَمَّمَ الْمَدْخُولَ بِهَا فِي الَّتِي خَلَا بِهَا فَإِنَّهَا أَيْضًا يَجِبُ مُرَاعَاةُ السُّنَّةِ فِي طَلَاقِهَا ، وَذَلِكَ الْوَقْتُ هُوَ الطُّهْرُ الَّذِي لَا جِمَاعَ فِيهِ وَلَا فِي الْحَيْضِ الَّذِي قَبْلَهُ فَلَزِمَ فِي التَّخَلُّصِ مِنْ الْبِدْعَةِ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا مُرَاعَاةُ السَّنَتَيْنِ ، فَلَوْ أَخَلَّ بِإِحْدَاهُمَا لَزِمَتْ الْمَعْصِيَةُ ، وَإِنَّمَا لَزِمَتَا ؛ لِأَنَّ الْمُرَاعَى فِي تَحَقُّقِ إبَاحَةِ الطَّلَاقِ دَلِيلُ الْحَاجَةِ إلَيْهِ وَهُوَ الْإِقْدَامُ عَلَى الطَّلَاقِ فِي زَمَانِ تَجَدُّدِ الرَّغْبَةِ ، وَزَمَانُ تَجَدُّدِهَا هُوَ الطُّهْرُ الْخَالِي عَنْ الْجِمَاعِ لَا زَمَانُ الْحَيْضِ ، وَلَا الطُّهْرُ الَّذِي جُومِعَتْ فِيهِ .
أَمَّا زَمَانُ الْحَيْضِ فَلِأَنَّهُ زَمَانُ النُّفْرَةِ الطَّبِيعِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ ، وَأَمَّا الطُّهْرُ الَّذِي جُومِعَتْ فِيهِ ؛ فَلِأَنَّ بِالْجِمَاعِ مَرَّةً تَفْتُرُ الرَّغْبَةُ .
وَأَمَّا غَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا فَالرَّغْبَةُ فِيهَا مُتَوَفِّرَةٌ مَا لَمْ يَذُقْهَا ، فَطَلَاقُهَا فِي حَالِ الْحَيْضِ يَقُومُ دَلِيلًا عَلَى تَحَقُّقِ الْحَاجَةِ فَجَازَ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي حَالِ الطُّهْرِ وَالْحَيْضِ جَمِيعًا ، خِلَافًا لِزُفَرَ .
هُوَ يَقِيسُهَا عَلَى الْمَدْخُولِ بِهَا بِجَامِعِ أَنَّهُ وَقْتُ النُّفْرَةِ

فَلَمْ يَكُنْ الطَّلَاقُ فِيهِ دَلِيلَ الْحَاجَةِ فَلَا يُبَاحُ ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا جَوَابَهُ بِالْفَرْقِ وَهُوَ قَوْلُهُ الرَّغْبَةُ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا صَادِقَةٌ لَا تَقِلُّ بِالْحَيْضِ .
فَإِنْ قُلْت : هَذَا تَعْلِيلٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ وَهُوَ { قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ عُمَرَ مَا هَكَذَا أَمَرَكَ اللَّهُ } فَالْجَوَابُ أَنَّ الْإِشَارَةَ مِنْ قَوْلِهِ هَكَذَا إلَى طَلَاقِهِ الْخَاصِّ الَّذِي وَقَعَ مِنْهُ فَجَازَ كَوْنُ تِلْكَ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا ؛ وَلِأَنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَةٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ { فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ } وَالْعِدَّةُ لَيْسَتْ إلَّا لِلْمَدْخُولِ بِهَا .

قَالَ ( وَإِذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ لَا تَحِيضُ مِنْ صِغَرٍ أَوْ كِبَرٍ فَأَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً ، فَإِذَا مَضَى شَهْرٌ طَلَّقَهَا أُخْرَى ، فَإِذَا مَضَى شَهْرٌ طَلَّقَهَا أُخْرَى ) ؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ فِي حَقِّهَا قَائِمٌ مَقَامَ الْحَيْضِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَاَللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ } إلَى أَنْ قَالَ { وَاَللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ } وَالْإِقَامَةُ فِي حَقِّ الْحَيْضِ خَاصَّةً حَتَّى يُقَدَّرَ الِاسْتِبْرَاءُ فِي حَقِّهَا بِالشَّهْرِ وَهُوَ بِالْحَيْضِ لَا بِالطُّهْرِ ، ثُمَّ إنْ كَانَ الطَّلَاقُ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ تُعْتَبَرُ الشُّهُورُ بِالْأَهِلَّةِ ، وَإِنْ كَانَ فِي وَسَطِهِ فَبِالْأَيَّامِ فِي حَقِّ التَّفْرِيقِ ، وَفِي حَقِّ الْعِدَّةِ كَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يُكْمِلُ الْأَوَّلَ بِالْأَخِيرِ وَالْمُتَوَسِّطَانِ بِالْأَهِلَّةِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْإِجَازَاتِ .
قَالَ ( وَيَجُوزُ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَلَا يَفْصِلُ بَيْنَ وَطْئِهَا وَطَلَاقِهَا بِزَمَانٍ ) وَقَالَ زُفَرُ : يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِشَهْرٍ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْحَيْضِ ؛ وَلِأَنَّ بِالْجِمَاعِ تَفْتُرُ الرَّغْبَةُ ، وَإِنَّمَا تَتَجَدَّدُ بِزَمَانٍ وَهُوَ الشَّهْرُ : وَلَنَا أَنَّهُ لَا يُتَوَهَّمُ الْحَبَلُ فِيهَا ، وَالْكَرَاهِيَةُ فِي ذَوَاتِ الْحَيْضِ بِاعْتِبَارِهِ ؛ لِأَنَّ عِنْدَ ذَلِكَ يُشْتَبَهُ وَجْهُ الْعِدَّةِ ، وَالرَّغْبَةُ وَإِنْ كَانَتْ تَفْتُرُ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَ لَكِنْ تَكْثُرُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ؛ لِأَنَّهُ يَرْغَبُ فِي وَطْءٍ غَيْرِ مُعَلَّقٍ فِرَارًا عَنْ مُؤَنِ الْوَلَدِ فَكَانَ الزَّمَانُ زَمَانَ رَغْبَةٍ وَصَارَ كَزَمَانِ الْحَبَلِ .

( قَوْلُهُ وَإِذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ لَا تَحِيضُ مِنْ صِغَرٍ ) أَيْ بِأَنْ لَمْ تَبْلُغْ سِنَّ الْحَيْضِ وَهُوَ تِسْعٌ عَلَى الْمُخْتَارِ ، وَقِيلَ ثَمَانٍ وَسَبْعٌ ( أَوْ كِبَرٍ ) بِأَنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ آيِسَةً بِنْتَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ عَلَى الْأَظْهَرِ أَوْ لَا لَهُمَا بِأَنْ بَلَغَتْ بِالسِّنِّ وَلَمْ تَرَ دَمًا أَصْلًا ( فَأَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا طَلَاقَ السُّنَّةِ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً فَإِذَا مَضَى شَهْرٌ طَلَّقَهَا أُخْرَى ، فَإِذَا مَضَى شَهْرٌ طَلَّقَهَا أُخْرَى ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَاَللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاَللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ } ) أَيْ لَمْ يَحِضْنَ بَعْدُ فِيمَا مَضَى ؛ لِأَنَّ لَمْ تَقْلِبُ مَعْنَى الْمُضَارِعِ إلَى الْمُضِيِّ فَأَقَامَ الْأَشْهُرَ مَقَامَ الْحَيْضِ حَيْثُ نَقَلَ مِنْ الْحَيْضِ إلَيْهَا .
وَأَيْضًا نَصَّ عَلَى أَنَّ الْأَشْهُرَ عِدَّةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ } وَالْعِدَّةُ فِي ذَوَاتِ الْحَيْضِ لَيْسَ إلَّا الْحَيْضُ لَا الْمَجْمُوعُ ، فَلَزِمَ بِالضَّرُورَةِ كَوْنِ الْأَشْهُرِ بَدَلَ الْحَيْضِ وَرُشِّحَ بِالِاسْتِبْرَاءِ فَإِنَّهُ فِي ذَوَاتِ الْحَيْضِ بِحَيْضَةٍ وَجُعِلَ فِيمَنْ لَا تَحِيضُ بِشَهْرٍ ، وَيَجُوزُ كَوْنُ الْإِقَامَةِ بِاعْتِبَارِهِ مَعَ لَازِمِهِ مِنْ الطُّهْرِ الْمُضَافِ إلَى كُلِّ حَيْضَةٍ .
وَرُجِّحَ بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ اكْتَفَى بِعَشْرَةِ أَيَّامٍ ؛ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ الْحَيْضِ الْمَجْعُولِ عِدَّةً ، وَالْحَيْضُ الْمَجْعُولُ عِدَّةً هُوَ الَّذِي يَفْصِلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مِثْلِهِ طُهْرٌ صَحِيحٌ بِحَيْثُ تَكُونُ عِدَّتُهُمَا غَالِبًا شَهْرًا ، وَفَرْقٌ بَيْنَ قَوْلِنَا هُوَ بَدَلٌ عَنْ حِيَضٍ يَتَخَلَّلُهَا أَطْهَارٌ وَقَوْلِنَا بَدَلٌ عَنْ الْحَيْضِ وَالْأَطْهَارِ الْمُتَخَلَّلَةِ ، فَالطُّهْرُ ضَرُورَةُ تَحَقُّقِهَا لَا مِنْ مُسَمَّاهُ ، وَمَا أَلْزَمَ بِهِ مِنْ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَقَامَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ جَمِيعًا لَزِمَ مَنْعُ الطَّلَاقِ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي ؛ لِأَنَّهُ فِي الْحَيْضِ حُكْمًا مَدْفُوعٌ بِأَنَّهُ مَقَامُهُ فِي أَنَّهُ عِدَّةٌ فَقَطْ لَا فِي

ذَاتِهِ وَذَاتُ الشَّهْرِ طُهْرٌ وَلَا فِي حُكْمٍ آخَرَ ، أَلَا يَرَى أَنَّ الطَّلَاقَ عَقِيبَ الْجِمَاعِ فِي طُهْرِ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ حَرَامٌ وَفِي الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ لَا يَحْرُمُ ، فَكَذَا الطَّلَاقُ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي ، وَهَذَا الْخِلَافُ قَلِيلُ الْجَدْوَى لَا ثَمَرَةَ لَهُ فِي الْفُرُوعِ ( قَوْلُهُ إنْ كَانَ الطَّلَاقُ وَقَعَ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ ) هُوَ أَنْ يَقَعَ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ رُئِيَ فِيهَا الْهِلَالُ ( تُعْتَبَرُ الشُّهُورَ بِالْأَهِلَّةِ ) اتِّفَاقًا فِي التَّفْرِيقِ وَالْعِدَّةِ ( وَإِنْ كَانَ وَقَعَ فِي وَسَطِهِ فَبِالْأَيَّامِ فِي التَّفْرِيقِ ) أَيْ فِي تَفْرِيقِ الطَّلَقَاتِ بِالِاتِّفَاقِ فَلَا تَطْلُقُ الثَّانِيَةَ فِي الْيَوْمِ الْمُوَفِّي ثَلَاثِينَ مِنْ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ بَلْ فِي الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ فَمَا بَعْدَهُ ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَهْرٍ مُعْتَبَرٌ بِثَلَاثِينَ يَوْمًا ، فَلَوْ طَلَّقَهَا فِي الْيَوْمِ الْمُوَفِّي ثَلَاثِينَ كَانَ جَامِعًا بَيْنَ طَلَاقَيْنِ فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ ( وَفِي حَقِّ الْعِدَّةِ كَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) تُعْتَبَرُ بِالْأَيَّامِ ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فَلَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا إلَّا بِمُضِيِّ تِسْعِينَ يَوْمًا ( وَعِنْدَهُمَا يُكْمَلُ الْأَوَّلُ بِالْأَخِيرِ وَالشَّهْرَانِ الْمُتَوَسِّطَانِ بِالْأَهِلَّةِ ) وَقَوْلُهُ فِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى : تَعْتَبِرُ فِي الْعِدَّةِ بِالْأَيَّامِ بِالْإِجْمَاعِ يُخَالِفُ نَقْلَ الْخِلَافِ ( قَوْلُهُ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْإِجَارَاتِ ) يَعْنِي إذَا اسْتَأْجَرَ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ فِي رَأْسِ الشَّهْرِ اُعْتُبِرَتْ بِالْأَهِلَّةِ اتِّفَاقًا نَاقِصَةً كَانَتْ أَوْ كَامِلَةً وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا فِي أَثْنَاءِ شَهْرٍ تُعْتَبَرُ الْأَشْهُرُ الثَّلَاثَةُ بِالْأَيَّامِ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَهُمَا يُكْمِلُ الشَّهْرَ الْأَوَّلَ بِالْأَخِيرِ وَفِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ بِالْأَهِلَّةِ .
وَقِيلَ الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا ؛ لِأَنَّهُ أَسْهَلُ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ .
وَوُجِّهَ بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْهُرِ الْأَهِلَّةُ فَلَا يُعْدَلُ عَنْهُ إلَّا لِضَرُورَةٍ ، وَهِيَ مُنْدَفِعَةٌ بِتَكْمِيلِ الْأَوَّلِ بِالْأَخِيرِ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ فِي

الْأَشْهُرِ الْعَرَبِيَّةِ وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِالْأَسْمَاءِ ، وَهُوَ لَمْ يَسْتَأْجِرْ مُدَّةَ جُمَادَيَيْنِ وَرَجَبٍ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ مَثَلًا وَلَيْسَ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الْأَهِلَّةُ ، وَحِينَئِذٍ فَلَا بُدَّ مِنْ تِسْعِينَ ؛ لِأَنَّهُ لِمَا يَلْزَمُ مِنْ مُسَمَّى اللَّفْظِ الْأَهِلَّةُ صَارَ مَعْنَاهُ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ مِنْ هَذَا الْيَوْمِ فَلَا يَنْقَضِي هَذَا الشَّهْرُ حَتَّى يَدْخُلَ مِنْ الْآخَرِ أَيَّامٌ ثُمَّ يَبْتَدِئُ الْآخَرُ مِنْ حِينِ انْتَهَى الْأَوَّلُ فَيَلْزَمُ كَذَلِكَ فِي الثَّلَاثَةِ ( قَوْلُهُ وَيَجُوزُ أَنْ يُطَلِّقَهَا ) أَيْ يُطَلِّقَ الَّتِي لَا تَحِيضُ مِنْ صِغَرٍ أَوْ كِبَرٍ ( وَلَا يَفْصِلُ بَيْنَ وَطْئِهَا وَطَلَاقِهَا بِزَمَانٍ ) وَبِهِ قَالَتْ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ .
وَقَالَ زُفَرُ : يَفْصِلُ بَيْنَ وَطْئِهَا وَطَلَاقِهَا بِشَهْرٍ .
وَفِي الْمُحِيطِ قَالَ الْحَلْوَانِيُّ : هَذَا فِي صَغِيرَةٍ لَا يُرْجَى حَبَلُهَا ، أَمَّا فِيمَنْ يُرْجَى فَالْأَفْضَلُ لَهُ أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَ وَطْئِهَا وَطَلَاقِهَا بِشَهْرٍ كَمَا قَالَ زُفَرُ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ قَوْلَ زُفَرَ لَيْسَ هُوَ أَفْضَلِيَّةُ الْفَصْلِ بَلْ لُزُومُ الْفَصْلِ ؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ قَائِمٌ مَقَامَ الْحَيْضِ فِي الَّتِي تَحِيضُ وَفِيهَا يَجِبُ الْفَصْلُ بِحَيْضَةٍ ؛ فَفِي مَنْ لَا تَحِيضُ يَجِبُ الْفَصْلُ بِمَا أُقِيمَ مَقَامَهُ وَهُوَ الشَّهْرُ ؛ وَلِأَنَّ بِالْجِمَاعِ تَفْتُرُ الرَّغْبَةُ وَإِنَّمَا تَتَجَدَّدُ بِزَمَانٍ ( قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّهُ لَا يُتَوَهَّمُ الْحَبَلُ فِيهَا ) أَيْ فِي الَّتِي لَا تَحِيضُ مِنْ صِغَرٍ أَوْ كِبَرٍ ( وَالْكَرَاهَةُ ) أَيْ كَرَاهَةُ الطَّلَاقِ فِي الطُّهْرِ الَّذِي جَامَعَ فِيهِ فِي ذَوَاتِ الْحَيْضِ لِتَوَهُّمِ الْحَبَلِ فَيُشْتَبَهُ وَجْهُ الْعِدَّةِ أَنَّهَا بِالْحَيْضِ أَوْ بِالْوَضْعِ ، وَهَذَا الْوَجْهُ يَقْتَضِي فِي الَّتِي لَا تَحِيضُ لَا لِصِغَرٍ وَلَا لِكِبَرٍ بَلْ اتَّفَقَ امْتِدَادُ طُهْرِهَا مُتَّصِلًا بِالصِّغَرِ ، وَفِي الَّتِي لَمْ تَبْلُغْ بَعْدُ وَقَدْ وَصَلَتْ إلَى سِنِّ الْبُلُوغِ أَنْ لَا يَجُوزَ تَعْقِيبُ وَطْئِهَا بِطَلَاقِهَا لِتَوَهُّمِ الْحَبَلِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا .
وَلَمَّا كَانَ ظَاهِرًا أَنْ

يُقَالَ قَدْ عَلَّلْتُمْ مَنْعَ الطَّلَاقِ فِي الطُّهْرِ الَّذِي جَامَعَ فِيهِ آنِفًا بِفُتُورِ الرَّغْبَةِ فَلَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ دَلِيلَ الْحَاجَةِ فَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الطَّلَاقَ فِي ذَلِكَ الطُّهْرِ مَمْنُوعٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : لِاشْتِبَاهِ الْعِدَّةِ ، وَلِعَدَمِ الْمُبِيحِ وَهُوَ الطَّلَاقُ مَعَ عَدَمِ دَلِيلِ الرَّغْبَةِ .
وَفِي الصَّغِيرَةِ وَالْآيِسَةِ إنْ فُقِدَ الْأَوَّلُ فَقَدْ وُجِدَ الثَّانِي فَيَمْتَنِعُ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ وَالرَّغْبَةُ إلَخْ .
وَحَاصِلُهُ مَنْعُ عَدَمِ الرَّغْبَةِ مُطْلَقًا بِجِمَاعِ هَذِهِ ، بَلْ انْتَفَى سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِهَا وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَهُ مُطْلَقًا إلَّا لَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَقَدْ وُجِدَ وَهُوَ كَوْنُهُ وَطْئًا غَيْرَ مُعَلَّقٍ فِرَارًا عَنْ مُؤَنِ الْوَلَدِ فَكَانَ الزَّمَانُ زَمَانَ رَغْبَةٍ فِي الْوَطْءِ وَصَارَ كَزَمَانِ الْحَبَلِ .
وَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ لَا مَعْنَى لِلسُّؤَالِ الْقَائِلِ لَمَّا تَعَارَضَتْ جِهَةُ الرَّغْبَةِ مَعَ جِهَةِ الْفُتُورِ تَسَاقَطَتَا فَبَقِيَ الْأَصْلُ هُوَ حَظْرُ الطَّلَاقِ ، وَتَكَلَّفَ جَوَابَهُ ؛ لِأَنَّ حَاصِلَ الْوَجْهِ أَنَّ لِلرَّغْبَةِ سَبَبَيْنِ : عَدَمُ الْوَطْءِ مُدَّةً تَتَجَدَّدُ الرَّغْبَةُ عِنْدَ آخِرِهَا عَادَةً ، وَكَوْنُ الْوَطْءِ غَيْرَ مُعَلَّقٍ ، فَعَدَمُ الْمُدَّةِ فَقَطْ بِالْوَطْءِ الْقَرِيبِ عَدَمُ أَحَدِ السَّبَبَيْنِ مَعَ قِيَامِ الْآخَرِ وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ عَدَمَ الرَّغْبَةِ .
هَذَا ثُمَّ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : يَنْبَغِي أَنْ يُقْتَصَرَ فِي الْجَوَابِ عَلَى مَنْعِ عَدَمِ الرَّغْبَةِ وَيُتْرَكُ جَمِيعُ مَا قِيلَ مِنْ التَّعْلِيلِ بَعْدَ تَوَهُّمِ الْحَبَلِ وَادِّعَاءِ أَنَّ الْكَرَاهَةَ فِي ذَوَاتِ الْحَيْضِ بِاعْتِبَارِهِ فَإِنَّهُ تَعْلِيلٌ بِمَا لَا أَثَرَ لَهُ ؛ لِأَنَّهَا عَقِيبَ الطَّلَاقِ مُتَرَبِّصَةٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ إلَى أَنْ تَرَى الدَّمَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ أَوْ لَا تَرَاهُ فَتَسْتَمِرُّ فِي الْعِدَّةِ إلَى أَنْ يَظْهَرَ حَمْلُهَا وَتَضَعَ أَوْ يَظْهَرَ أَنَّهُ امْتَدَّ طُهْرُهَا بِأَنْ لَمْ يَظْهَرْ حَمْلُهَا فَتَصْبِرُ لِأَمْرِ اللَّهِ ، فَهَذَا الْحَالُ لَا يَخْتَلِفُ بِوَطْئِهَا فِي الطُّهْرِ الَّذِي

فِيهِ الطَّلَاقُ وَعَدَمِ وَطْئِهَا فِيهِ ، فَظَهَرَ أَنَّ التَّعْلِيلَ بِاشْتِبَاهِ وَجْهِ الْعِدَّةِ لَا أَثَرَ لَهُ ، إذْ لَمْ يَبْقَ فَرْقٌ بَيْنَ اعْتِدَادِهَا إذَا جُومِعَتْ فِي الطُّهْرِ وَعَدَمِهِ إلَّا بِتَجْوِيزِ أَنَّهَا حَمَلَتْ أَوَّلًا وَهَذَا لَا يَخْتَلِفُ مَعَهُ الْحَالُ الَّتِي ذَكَرْنَا مِنْ اعْتِدَادِهَا .
لَا يُقَالُ : إنَّهُ عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ مِنْ أَنَّ الْحَامِلَ تَحِيضُ يَصِحُّ التَّعْلِيلُ بِهِ ؛ لِأَنَّهَا بَعْدَ الِانْفِصَالِ مِنْ الْوَطْءِ يَجُوزُ الْحَبَلُ وَإِنْ رَأَتْ الدَّمَ فَلَا يُجْزَمُ بِعَدَمِ رُؤْيَتِهِ ثَلَاثًا إلَّا إذَا مَضَتْ مُدَّةٌ يَظْهَرُ فِي مِثْلِهَا الْحَبَلُ وَلَمْ يَظْهَرْ بَلْ وَعَلَى أَصْلِنَا ؛ لِأَنَّا لَا نَمْنَعُ مِنْ رُؤْيَةِ الْحَامِلِ الدَّمَ ، بَلْ نَقُولُ : إنَّ مَا تَرَاهُ فَهُوَ اسْتِحَاضَةٌ ، فَمَعَ تَجْوِيزِ الْحَبَلِ لَا يُتَيَقَّنُ بِأَنَّ مَا رَأَتْهُ حَيْضٌ أَوْ اسْتِحَاضَةٌ وَهِيَ حَامِلٌ إلَى أَنْ تَذْهَبَ مُدَّةٌ لَوْ كَانَتْ حَامِلًا فِيهَا لَظَهَرَ الْحَبَلُ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ : هَذَا بِعَيْنِهِ جَارٍ فِيمَا لَوْ وُطِئَتْ فِي الطُّهْرِ الَّذِي يَلِيهِ طُهْرُ الطَّلَاقِ ، فَلَوْ اُعْتُبِرَ مَانِعًا مُنِعَ الْوَطْءُ فِيهِ أَيْضًا خُصُوصًا فِي آخِرِهِ .
وَالْحَقُّ أَنَّ كَرَاهَةَ الطَّلَاقِ عَقِيبَ الْجِمَاعِ فِي ذَاتِ الْحَيْضِ لِعُرُوضِ النَّدَمِ بِظُهُورِ الْحَبَلِ لِمَكَانِ الْوَلَدِ وَشَتَاتِ حَالِهِ وَحَالِ أُمِّهِ .

( وَطَلَاقُ الْحَامِلِ يَجُوزُ عَقِيبَ الْجِمَاعِ ) ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي إلَى اشْتِبَاهِ وَجْهِ الْعِدَّةِ ، وَزَمَانُ الْحَبَلِ زَمَانُ الرَّغْبَةِ فِي الْوَطْءِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُعَلَّقٍ أَوْ يَرْغَبُ فِيهَا لِمَكَانِ وَلَدِهِ مِنْهَا فَلَا تَقِلُّ الرَّغْبَةُ بِالْجِمَاعِ ( وَيُطَلِّقُهَا لِلسُّنَّةِ ثَلَاثًا يَفْصِلُ بَيْنَ كُلِّ تَطْلِيقَتَيْنِ بِشَهْرٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ ) وَزُفَرُ ( لَا يُطَلِّقُهَا لِلسُّنَّةِ إلَّا وَاحِدَةً ) لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الطَّلَاقِ الْحَظْرُ ، وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِالتَّفْرِيقِ عَلَى فُصُولِ الْعِدَّةِ ، وَالشَّهْرُ فِي حَقِّ الْحَامِلِ لَيْسَ مِنْ فُصُولِهَا فَصَارَ كَالْمُمْتَدِّ طُهْرُهَا .
وَلَهُمَا أَنَّ الْإِبَاحَةَ بِعِلَّةِ الْحَاجَةِ وَالشَّهْرُ دَلِيلُهَا كَمَا فِي حَقِّ الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ زَمَانُ تَجَدُّدِ الرَّغْبَةِ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْجِبِلَّةُ السَّلِيمَةُ فَصَلَحَ عِلْمًا وَدَلِيلًا ، بِخِلَافِ الْمُمْتَدِّ طُهْرُهَا ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ فِي حَقِّهَا إنَّمَا هُوَ الطُّهْرُ وَهُوَ مَرْجُوٌّ فِيهَا فِي كُلِّ زَمَانٍ وَلَا يُرْجَى مَعَ الْحَبَلِ .

( قَوْلُهُ وَطَلَاقُ الْحَامِلِ يَجُوزُ عَقِيبَ الْجِمَاعِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي إلَى اشْتِبَاهِ وَجْهِ الْعِدَّةِ ) إنْ اُعْتُبِرَ حَاظِرًا ؛ وَلِأَنَّهُ زَمَانُ الرَّغْبَةِ فِي الْوَطْءِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُعَلَّقٍ ؛ لِأَنَّهُ اُتُّفِقَ أَنَّهَا قَدْ حَبِلَتْ أَحَبَّهُ أَوْ سَخِطَهُ فَبَقِيَ آمِنًا مِنْ غَيْرِهِ فَيَرْغَبُ فِيهِ لِذَلِكَ ، أَوْ لِمَكَانِ وَلَدِهِ مِنْهَا ؛ لِأَنَّهُ يَتَقَوَّى بِهِ الْوَلَدُ فَيَقْصِدُ بِهِ نَفْعَهُ فَظَهَرَ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى قَوْلِهِ فِيهَا بَلْ الرَّغْبَةُ فِي الْوَطْءِ لِكُلٍّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ ( قَوْلُهُ وَيُطَلِّقُهَا ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ يَفْصِلُ بَيْنَ كُلِّ تَطْلِيقَتَيْنِ بِشَهْرٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : لَا يُطَلِّقُهَا لِلسُّنَّةِ إلَّا وَاحِدَةً ) وَقَالَ بَلَغَنَا ذَلِكَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ ( وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الطَّلَاقِ الْحَظْرُ ، وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِإِحْلَالِ الثَّلَاثِ مُفَرَّقًا عَلَى فُصُولِ الْعِدَّةِ فِي ذَوَاتِ الْحَيْضِ ) وَوَرَدَ بِإِقَامَةِ الْأَشْهُرِ مَقَامَ الْحَيْضِ فِي الصَّغِيرَةِ أَوْ الْآيِسَةِ فَصَحَّ الْإِلْحَاقُ فِي تَفْرِيقِهَا عَلَى الْأَشْهُرِ ( وَالشَّهْرُ فِي حَقِّ الْحَامِلِ لَيْسَ مِنْ فُصُولِ عِدَّتِهَا فَصَارَتْ الْحَامِلُ كَالْمُمْتَدِّ طُهْرُهَا ) وَفِيهَا لَا يُفَرَّقُ الطَّلَاقُ عَلَى الْأَشْهُرِ فَكَذَا الْحَامِلُ ، وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ ( وَلَهُمَا أَنَّ الْإِبَاحَةَ بِعِلَّةِ الْحَاجَةِ ) وَقَدَّمْنَا أَنَّهَا لَا تَنْتَفِي مُطْلَقًا بِالطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ فَشُرِعَ لِدَفْعِهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يُعْقِبُ النَّدَمَ وَالتَّفْرِيقُ عَلَى أَوْقَاتِ الرَّغْبَةِ وَهِيَ الْأَطْهَارُ الَّتِي تَلِي الْحَيْضَ لِيَكُونَ كُلُّ طَلَاقٍ دَلِيلَ قِيَامِهَا وَلَا دَخْلَ لِكَوْنِهَا مِنْ فُصُولِ الْعِدَّةِ لَوْ كَانَتْ فُصُولًا فَكَيْفَ وَفُصُولُهَا لَيْسَ إلَّا الْحَيْضُ ؛ لِأَنَّهَا الْعِدَّةُ لَا الْأَطْهَارُ عِنْدَنَا ، فَكَوْنُهَا فَصْلًا مِنْ فُصُولِ الْعِدَّةِ

لَيْسَ جُزْءَ الْمُؤَثِّرِ بَلْ الْمُؤَثِّرُ دَلِيلُ الْحَاجَةِ وَشَرْطُ دَلَالَتِهِ كَوْنُهُ فِي زَمَانِ تَجَدُّدِ الرَّغْبَةِ ، وَالتَّجَدُّدُ بَعْدَ الْفُتُورِ لَا يَكُونُ عَادَةً إلَّا بَعْدَ زَمَانٍ ، وَحِينَ رَأَيْنَا الشَّرْعَ فَرَّقَهَا عَلَى الْأَطْهَارِ وَجَعَلَ الْإِيقَاعَ أَوَّلَ كُلِّ طُهْرٍ جَائِزًا عَلِمْنَا أَنَّهُ حُكْمٌ بِتَجَدُّدِ الرَّغْبَةِ عِنْدَ تَحَقُّقِ قَدْرِ مَا قَبْلَهُ مِنْ الزَّمَانِ إلَى مِثْلِهِ مِنْ أَوَّلِ طُهْرٍ يَلِيهِ وَذَلِكَ فِي الْغَالِبِ شَهْرٌ ، فَأَدَرْنَا الْإِبَاحَةَ عَلَى الشَّهْرِ ، وَعَلَى هَذَا فَالتَّفْرِيقُ عَلَى الْأَشْهُرِ فِي الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ لَيْسَ ، لِكَوْنِهَا فُصُولًا لِإِقَامَتِهَا مَقَامَ الْعِدَّةِ بَلْ لِمَا ذَكَرْنَا فَالْإِثْبَاتُ فِيهِمَا أَيْضًا بِالْقِيَاسِ لَا بِالنَّصِّ وَدَلَالَتُهُ ، بِخِلَافِ مَا قَاسَ عَلَيْهِ مِنْ مُمْتَدَّةِ الطُّهْرِ ؛ لِأَنَّهَا مَحِلُّ النَّصِّ عَلَى تَعَلُّقِ جَوَازِ الْإِيقَاعِ بِالطُّهْرِ الْحَاصِلِ عَقِيبَ الْحَيْضِ وَهُوَ مَرْجُوٌّ فِي حَقِّهَا كُلُّ لَحْظَةٍ وَلَا يُرْجَى فِي الْحَامِلِ ذَلِكَ .
وَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ سَقَطَ مَا رَجَّحَ بِهِ شَارِحُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ التَّفْرِيقَ عَلَى فُصُولِ الْعِدَّةِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ إلْغَاءِ كَوْنِهِ فَصْلًا مِنْ فُصُولِ الْعِدَّةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحُكْمِ ، عَلَى أَنَّا نَمْنَعُ دَلَالَةَ الْآيَةِ عَلَى التَّفْرِيقِ أَصْلًا بَلْ عَلَى اسْتِقْبَالِ الْعِدَّةِ بِالطَّلَاقِ ، وَالْعِدَّةُ مَجْمُوعُ الْأَقْرَاءِ ، وَإِنَّمَا يُفِيدُ تَفْرِيقَهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمُتَقَدِّمِ { إنَّ مِنْ السُّنَّةِ أَنْ تَسْتَقْبِلَ الطُّهْرَ فَتُطَلِّقُهَا لِكُلِّ قُرْءٍ } وَأُرِيدَ بِالْقُرْءِ الطُّهْرُ ، وَقَدْ جَاءَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ أَنْ يُطَلِّقَهَا طَاهِرَةً مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ لُزُومَ التَّفْرِيقِ طَرِيقُهُ أَنَّ مَفْهُومَ

طَلِّقُوهُنَّ : أَوْجِدُوا طَلَاقَهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ، فَيَسْتَلْزِمُ عُمُومَيْنِ : عُمُومُ طَلَاقِهِنَّ ؛ لِأَنَّهُ جِنْسُ مُضَافٍ ، وَكَذَا عِدَّتُهُنَّ ، فَقَدْ أَحَلَّ جَمِيعَ طَلَاقِهِنَّ وَهُوَ ثَلَاثٌ بِجَمِيعِ عِدَّتِهِنَّ ، وَجَمِيعُهُ بِفَمٍ وَاحِدٍ حَرَامٌ ، فَكَانَ الْمُرَادُ تَفْرِيقُهُ عَلَى الْأَطْهَارِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَ مَا يَسْتَلْزِمُهَا ، وَهَذَا غَيْرُ لَازِمٍ ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْمَصْدَرِ النَّكِرَةِ ، فَالْمَعْنَى : أَوْجِدُوا طَلَاقًا عَلَيْهِنَّ لِعِدَّتِهِنَّ : أَيْ لِاسْتِقْبَالِهَا .
وَأَيْضًا فَلَفْظُ فُصُولِ الْعِدَّةِ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي النُّصُوصِ إنَّمَا سَمَّاهَا بِذَلِكَ الْفُقَهَاءُ ، وَلَا يُعْقَلُ مِنْ مَعْنَاهُ سِوَى أَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهَا لَهُ نِسْبَةٌ خَاصَّةٌ إلَيْهَا اتَّفَقَ أَنَّهُ ثُلُثُهَا اتِّفَاقًا ، وَكُلُّ شَهْرٍ مِنْ شُهُورِ الْحَامِلِ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ عِدَّتِهَا كَذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يُتَّفَقْ أَنَّ نِسْبَتَهُ بِالثُّلُثِ ، وَعَلَى هَذَا يَقْوَى بَحْثُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ أَنَّ الشَّهْرَ مِنْ فُصُولِ عِدَّةِ الْحَامِلِ غَيْرَ أَنَّا لَا نُعَلِّقُ بِهِ إبَاحَةَ الْإِيقَاعِ مِنْ حَيْثُ هُوَ فَصْلٌ وَجُزْءٌ بَلْ مِنْ حَيْثُ هُوَ زَمَانٌ يَتَجَدَّدُ فِيهِ الرَّغْبَةُ عِنْدَ مَسْبُوقِيَّتِهِ بِذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ الزَّمَانِ .

( وَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ وَقَعَ الطَّلَاقُ ) ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْهُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ فَلَا يَنْعَدِمُ مَشْرُوعِيَّتُهُ ( وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا ) { لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِعُمَرَ مُرْ ابْنَكَ فَلْيُرَاجِعْهَا } وَقَدْ طَلَّقَهَا فِي حَالَةِ الْحَيْضِ .
وَهَذَا يُفِيدُ الْوُقُوعَ وَالْحَثَّ عَلَى الرَّجْعَةِ ثُمَّ الِاسْتِحْبَابُ قَوْلُ بَعْضِ الْمَشَايِخِ .
وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَمَلًا بِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ وَرَفْعًا لِلْمَعْصِيَةِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ بِرَفْعِ أَثَرِهِ وَهُوَ الْعِدَّةُ وَدَفْعًا لِضَرَرِ تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ .
قَالَ ( فَإِذَا طَهُرَتْ وَحَاضَتْ ثُمَّ طَهُرَتْ ) ، فَإِنْ شَاءَ طَلَّقَهَا وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا .
قَالَ : وَهَكَذَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ .
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ طَلَّقَهَا فِي الطُّهْرِ الَّذِي يَلِي الْحَيْضَةَ الْأُولَى .
قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ ( مَا ذَكَرَهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَمَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ قَوْلُهُمَا ) وَوَجْهُ الْمَذْكُورِ فِي الْأَصْلِ أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَ كُلِّ طَلَاقَيْنِ بِحَيْضَةٍ وَالْفَاصِلُ هَاهُنَا بَعْضُ الْحَيْضَةِ فَتَكْمُلُ بِالثَّانِيَةِ وَلَا تَتَجَزَّأُ فَتَتَكَامَلُ .
وَجْهُ الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّ أَثَرَ الطَّلَاقِ قَدْ انْعَدَمَ بِالْمُرَاجَعَةِ فَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يُطَلِّقْهَا فِي الْحَيْضِ فَيُسَنُّ تَطْلِيقُهَا فِي الطُّهْرِ الَّذِي يَلِيهِ .

( قَوْلُهُ وَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ وَقَعَ الطَّلَاقُ ) خِلَافًا لِمَنْ قَدَّمْنَا النَّقْلَ عَنْهُمْ مِنْ الْإِمَامِيَّةِ ، وَنَقَلَ أَيْضًا عَنْ إسْمَاعِيلِ بْنِ عُلَيَّةَ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ ، وَهَذَا ( لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْهُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ ) يَعْنِي أَنَّ النَّهْيَ الثَّابِتَ ضِمْنُ الْأَمْرِ : أَيْ قَوْله تَعَالَى { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ فِي { قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا هَكَذَا أَمَرَكَ اللَّهُ } وَقَوْلِهِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا : أَيْ مِنْ تَحْرِيمِ تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ ثُمَّ هُوَ بِهَذَا الْإِيقَاعِ عَاصٍ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ ( وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي الصَّحِيحَيْنِ { مُرْ ابْنَكَ فَلْيُرَاجِعْهَا } حِينَ طَلَّقَهَا فِي حَالَةِ الْحَيْضِ ، وَهَذَا يُفِيدُ الْوُقُوعَ ) فَيَنْدَفِعُ بِهِ قَوْلُ نَافِي الْوُقُوعِ ( وَالْحَثُّ عَلَى الرَّجْعَةِ وَالِاسْتِحْبَابُ الْمَذْكُورُ إنَّمَا هُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمَشَايِخِ ) وَكَأَنَّهُ عَنْ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْأَصْلِ ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا فَإِنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْوُجُوبِ ( وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ وَاجِبٌ ) كَمَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ ( عَمَلًا بِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ ) فَإِنَّ حَقِيقَتَهُ أَوْجَدَ الصِّيغَةَ الطَّالِبَةَ عَلَى وَجْهِ الْحَتْمِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَ الشَّافِعِيَّةِ إنَّ لَفْظَ الْأَمْرِ الَّذِي مَادَّتُهُ أَمْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الصِّيغَةِ النَّادِبَةِ وَالْمُوجِبَةِ حَتَّى يَصْدُقَ النَّدْبُ مَأْمُورٌ بِهِ حَقِيقَةً ، فَعَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُ الْوُجُوبُ إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ قَوْلِهِ مُرْ أَوْجِدْ الصِّيغَةَ الطَّالِبَةَ مُجَرَّدَةً مِنْ الْقَرَائِنِ بَلْ يَتَحَصَّلُ ذَلِكَ وَغَيْرُهُ ، فَإِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ يَثْبُتُ كَوْنًا مَطْلُوبًا فِي الْجُمْلَةِ وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ الْوُجُوبَ ، وَلِذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَكَذَا أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِالِاسْتِحْبَابِ ، وَأَمَّا عِنْدَنَا فَمُسَمَّى الْأَمْرِ الصِّيغَةُ الْمُوجِبَةُ ،

كَمَا أَنَّ الصِّيغَةَ حَقِيقَةٌ فِي الْوُجُوبِ فَيَلْزَمُ الْوُجُوبُ مِنْهَا ، وَإِنْ كَانَتْ صَادِرَةً عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْهُ فِيهَا فَهُوَ كَالْمُبَلِّغِ لِلصِّيغَةِ ، فَاشْتَمَلَ قَوْلُهُ مُرْ ابْنَك عَلَى وُجُوبَيْنِ : صَرِيحٌ وَهُوَ الْوُجُوبُ عَلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَأْمُرَ .
وَضِمْنِيٌّ وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِابْنِهِ عِنْدَ تَوْجِيهِ الصِّيغَةِ إلَيْهِ .
وَالْقَائِلُونَ بِالِاسْتِحْبَابِ هَاهُنَا إنَّمَا بَنَوْهُ عَلَى أَنَّ الْمَعْصِيَةَ وَقَعَتْ فَتَعَذَّرَ ارْتِفَاعُهَا فَبَقِيَ مُجَرَّدُ التَّشْبِيهِ بِعَدَمِ مُبَاشَرَتِهَا .
وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَصْلُحُ صَارِفًا لِلصِّيغَةِ عَنْ الْوُجُوبِ لِجَوَازِ إيجَابِ رَفْعِ أَثَرِهَا وَهُوَ الْعِدَّةُ وَتَطْوِيلُهَا ، إذْ بَقَاءُ الْأَمْرِ بَقَاءُ مَا هُوَ أَثَرُهُ مِنْ وَجْهٍ فَلَا تُتْرَكُ الْحَقِيقَةُ .
قِيلَ عَلَيْهِ مَا حَاصِلُهُ أَنَّ هَذَا يَصْلُحُ بَحْثًا يُوجِبُ الْوُجُوبَ ، لَكِنْ لَا يُفِيدُ أَنَّ مَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ مِنْ الِاسْتِحْبَابِ قَوْلُ بَعْضِ الْمَشَايِخِ مَعَ أَنَّ مُحَمَّدًا فِي الْأَصْلِ إنَّمَا قَالَ لَفْظًا يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ ، وَمَرْجِعُ هَذَا الْكَلَامِ إلَى إنْكَارِ نَقْلِ الْوُجُوبِ عَنْ الْمَشَايِخِ صَرِيحًا بَلْ ذَلِكَ بَحْثٌ ، فَإِذَا تَحَقَّقَ النَّقْلُ انْدَفَعَ .
وَقَوْلُهُ وَالْأَصَحُّ كَذَا فِي عَادَةِ الْمُصَنِّفِينَ نَقْلُ الْمُرَجَّحُ فِي الْمَذْهَبِ لَا تَرْجِيحُ مَذْهَبٍ آخَرَ خَارِجٍ عَنْ الْمَذْهَبِ .
وَتَذْكِيرُ ضَمِيرِ أَثَرِهِ مَعَ أَنَّهُ لِلْمَعْصِيَةِ إمَّا لِتَأْوِيلِهَا بِالْعِصْيَانِ أَوْ هُوَ لِلطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ ( قَوْلُهُ وَإِذَا طَهُرَتْ وَحَاضَتْ ثُمَّ طَهُرَتْ فَإِنْ شَاءَ طَلَّقَهَا وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا ) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ ، وَهَكَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ .
وَلَفْظُ مُحَمَّدٍ فِيهِ : فَإِذَا طَهُرَتْ فِي حَيْضَةٍ أُخْرَى رَاجَعَهَا .
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي الطُّهْرِ الَّذِي يَلِي الْحَيْضَةَ الَّتِي طَلَّقَهَا وَرَاجَعَهَا فِيهَا .
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ

الْكَرْخِيُّ : مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْأَصْلِ قَوْلُهُمَا ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا فِي الْأَصْلِ قَوْلُ الْكُلِّ ؛ لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِإِثْبَاتِ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنْ يَحْكِي الْخِلَافَ وَلَمْ يَحْكِ خِلَافًا فِيهِ ، فَلِذَا قَالَ فِي الْكَافِي : إنَّهُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْمَشْهُورِ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ ، وَمَا ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ رِوَايَةً عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ وَجْهٌ لِلشَّافِعِيَّةِ .
( وَجْهُ الْمَذْكُورِ فِي الْأَصْلِ ) وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ لِأَبِي حَنِيفَةَ مِنْ السُّنَّةِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ { مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ فَتَطْهُرَ ، فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَيُطَلِّقُهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا فَتِلْكَ الْعِدَّةُ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ } وَفِي لَفْظٍ { حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً مُسْتَقْبَلَةً سِوَى حَيْضَتِهَا الَّتِي طَلَّقَهَا فِيهَا } وَوَجْهُ مَا ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ رِوَايَةُ سَالِمٍ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ { مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لْيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا أَوْ حَامِلًا } رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ ، وَالْأُولَى أَوْلَى ؛ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ تَفْسِيرًا بِالنِّسْبَةِ إلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَأَقْوَى صِحَّةً .
وَظَهَرَ مِنْ لَفْظِ الْحَدِيثِ حَيْثُ قَالَ { يُمْسِكُهَا حَتَّى تَطْهُرَ } أَنَّ اسْتِحْبَابَ الرَّجْعَةِ أَوْ إيجَابُهَا مُقَيَّدٌ بِذَلِكَ الْحَيْضِ الَّذِي أَوْقَعَ فِيهِ وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الْأَصْحَابِ إذَا تُؤُمِّلَ ، فَعَلَى هَذَا إذَا لَمْ يَفْعَلْ حَتَّى طَهُرَتْ تَقَرَّرَتْ الْمَعْصِيَةُ .
وَأَمَّا الْوَجْهُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فَوَجْهُ الظَّاهِرِ الْمَذْكُورِ فِي الْأَصْلِ أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَ كُلِّ تَطْلِيقَتَيْنِ بِحَيْضَةٍ وَالْفَاصِلُ هُنَا بَعْضُ الْحَيْضَةِ فَتَكْمُلُ بِالْحَيْضَةِ الثَّانِيَةِ وَلَا تَتَجَزَّأُ : أَيْ لَيْسَ لِجُزْئِهَا عَلَى حِدَتِهِ حُكْمٌ فِي الشَّرْعِ ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ : وَلَا

يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ حَيْضَتَيْنِ حَيْضَةٌ فَوَجَبَ تَكَامُلُهَا ، إذْ لَا يُتَصَوَّرُ حَيْضَةٌ إلَّا الثَّانِيَةُ فَلَغَا بَعْضُ الْأُولَى .
وَوَجْهُ مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ أَثَرَ الطَّلَاقِ انْعَدَمَ بِالْمُرَاجَعَةِ فَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يُطَلِّقْهَا فِي هَذِهِ الْحَيْضَةِ فَيُسَنُّ تَطْلِيقُهَا فِي الطُّهْرِ الَّذِي يَلِيهَا ، وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَتَفَرَّعُ مَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا إذَا طَلَّقَهَا فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْهَا فِيهِ ثُمَّ رَاجَعَهَا لَا يُكْرَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا لِلثَّانِيَةِ فِي ذَلِكَ ، وَلَوْ رَاجَعَهَا بَعْدَ الثَّانِيَةِ لَا يُكْرَهُ إيقَاعُ الثَّالِثَةِ ، وَعَلَى هَذَا فَرْعُ مَا لَوْ أَخَذَ يَدَهَا بِشَهْوَةٍ ثُمَّ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ تَقَعُ الثَّلَاثُ لِلسُّنَّةِ فِي الْحَالِ مُتَتَابِعَةً ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُرَاجِعًا بِالْمَسِّ بِشَهْوَةٍ فَيَكُونُ الْوَقْتُ وَقْتَ طَلَاقِ السُّنَّةِ فَيَقَعُ الثَّانِي ، وَكَذَا الثَّالِثُ ، وَعَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَهُوَ قَوْلُهُمَا لَا يَقَعُ إلَّا الْأُولَى ثُمَّ فِي أَوَّلِ كُلِّ طُهْرٍ بَعْدَ حَيْضَةٍ تَقَعُ أُخْرَى ، فَمَا ذَكَرَ فِي الْمَنْظُومَةِ وَمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ مِنْ نِسْبَةِ ذَلِكَ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ إنَّمَا هُوَ عَلَى رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ لَا عَلَى ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ .
هَذَا إذَا وَقَعَتْ الرَّجْعَةُ بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْمَسِّ ، أَمَّا إذَا وَقَعَتْ بِالْجِمَاعِ وَلَمْ تَحْبَلْ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا أُخْرَى فِي هَذَا الطُّهْرِ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّهُ طُهْرٌ جَامَعَهَا فِيهِ وَإِنْ حَبِلَتْ ، فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا أُخْرَى حَتَّى يَمْضِيَ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ شَهْرٌ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ الْأُولَى سَقَطَتْ وَالطَّلَاقُ عَقِيبَ الْجِمَاعِ فِي الطُّهْرِ إنَّمَا لَا يَحِلُّ لِاشْتِبَاهِ أَمْرِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ إذَا حَبِلَتْ وَظَهَرَ الْحَبَلُ ، هَذَا فِي تَخَلُّلِ الرَّجْعَةِ .
فَأَمَّا لَوْ تَخَلَّلَ النِّكَاحُ بِأَنْ كَانَ الْأَوَّلُ بَائِنًا ؛ فَقِيلَ لَا يُكْرَهُ

الطَّلَاقُ الثَّانِي اتِّفَاقًا ، وَقِيلَ فِي تَخَلُّلِ الرَّجْعَةِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا اتِّفَاقًا .
وَالْأَوْجَهُ أَنَّهُ عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ .

( وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَهِيَ مِنْ ذَوَاتِ الْحَيْضِ وَقَدْ دَخَلَ بِهَا : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَهِيَ طَالِقٌ عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ تَطْلِيقَةً ) ؛ لِأَنَّ اللَّامَ فِيهِ لِلْوَقْتِ وَوَقْتُ السُّنَّةِ طُهْرٌ لَا جِمَاعَ فِيهِ ( وَإِنْ نَوَى أَنْ تَقَعَ الثَّلَاثُ السَّاعَةَ أَوْ عِنْدَ رَأْسِ كُلِّ شَهْرٍ وَاحِدَةٌ فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى ) سَوَاءٌ كَانَتْ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ أَوْ فِي حَالَةِ الطُّهْرِ .
وَقَالَ زُفَرُ : لَا تَصِحُّ نِيَّةُ الْجَمْعِ لِأَنَّهُ بِدْعَةٌ وَهِيَ ضِدُّ السُّنَّةِ .
وَلَنَا أَنَّهُ مُحْتَمِلٌ لَفْظَهُ ؛ لِأَنَّهُ سُنِّيٌّ وُقُوعًا مِنْ حَيْثُ إنَّ وُقُوعَهُ بِالسُّنَّةِ لَا إيقَاعًا فَلَمْ يَتَنَاوَلْهُ مُطْلَقُ كَلَامِهِ وَيَنْتَظِمُهُ عِنْدَ نِيَّتِهِ ( وَإِنْ كَانَتْ آيِسَةً أَوْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَشْهُرِ وَقَعَتْ السَّاعَةَ وَاحِدَةٌ وَبَعْدَ شَهْرٍ أُخْرَى وَبَعْدَ شَهْرٍ أُخْرَى ) ؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ فِي حَقِّهَا دَلِيلُ الْحَاجَةِ كَالطُّهْرِ فِي حَقِّ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ( وَإِنْ نَوَى أَنْ يَقَعَ الثَّلَاثُ السَّاعَةَ وَقَعْنَ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ لَمَا قُلْنَا ) بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ وَلَمْ يَنُصَّ عَلَى الثَّلَاثِ حَيْثُ لَا تَصِحُّ نِيَّةُ الْجَمْعِ فِيهِ ؛ لِأَنَّ نِيَّةَ الثَّلَاثِ إنَّمَا صَحَّتْ فِيهِ مِنْ حَيْثُ إنَّ اللَّامَ فِيهِ لِلْوَقْتِ فَيُفِيدُ تَعْمِيمَ الْوَقْتِ وَمِنْ ضَرُورَتِهِ تَعْمِيمُ الْوَاقِعِ فِيهِ ، فَإِذَا نَوَى الْجَمْعَ بَطَلَ تَعْمِيمُ الْوَقْتِ فَلَا تَصِحُّ نِيَّةُ الثَّلَاثِ .

( قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَهِيَ مِنْ ذَوَاتِ الْحَيْضِ وَقَدْ دَخَلَ بِهَا : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَهِيَ طَالِقٌ عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ تَطْلِيقَةً ) فَإِنْ نَوَى ذَلِكَ فَأَظْهَرُ ثُمَّ إنْ لَمْ يَكُنْ جَامَعَهَا فِي هَذَا الطُّهْرِ وَقَعَتْ وَاحِدَةً لِلْحَالِ ثُمَّ عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ أُخْرَى ، إنْ كَانَ جَامَعَهَا لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ حَتَّى تَحِيضَ وَتَطْهُرَ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَقَعُ الثَّلَاثُ لِلْحَالِ ؛ لِأَنَّهُ لَا بِدْعَةَ عِنْدَهُ وَلَا سُنَّةَ فِي الْعَدَدِ ، وَلَوْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَشْهُرِ يَأْتِي ، وَلَوْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا وَقَعَ عَلَيْهَا وَاحِدَةٌ فِي الْحَالِ وَإِنْ كَانَتْ حَائِضًا ، ثُمَّ لَا يَقَعُ شَيْءٌ إلَّا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا مَرَّةً أُخْرَى فَتَقَعُ الثَّانِيَةُ ، فَإِنْ تَزَوَّجَهَا أَيْضًا وَقَعَتْ الثَّالِثَةُ .
وَوَجْهُ الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَا هُوَ التَّحْقِيقُ أَنَّ اللَّامَ لِلِاخْتِصَاصِ ، فَالْمَعْنَى الطَّلَاقُ الْمُخْتَصُّ بِالسُّنَّةِ وَالسُّنَّةُ مُطْلَقٌ فَيَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ وَهُوَ السُّنِّيُّ عَدَدًا وَوَقْتًا فَوَجَبَ جَعْلُ الثَّلَاثِ مُفَرَّقًا عَلَى الْأَطْهَارِ لِتَقَعَ وَاحِدَةٌ فِي كُلِّ طُهْرٍ .
وَأَمَّا تَعْلِيلُ الْمُصَنِّفِ بِكَوْنِ اللَّامِ لِلْوَقْتِ فَلَا يَسْتَلْزِمُ الْجَوَابَ ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى حِينَئِذٍ ثَلَاثًا لِوَقْتِ السُّنَّةِ ، وَهَذَا يُوجِبُ تَقْيِيدَ الطَّلَاقِ بِإِحْدَى جِهَتَيْ سُنَّةِ الطَّلَاقِ وَهُوَ السُّنِّيُّ وَقْتًا ، وَحِينَئِذٍ فَمُؤَدَّاهُ ثَلَاثٌ فِي وَقْتِ السُّنَّةِ ، وَيَصْدُقُ بِوُقُوعِهَا جُمْلَةً فِي طُهْرٍ بِلَا جِمَاعٍ ، فَإِنَّهُ بِهَذَا التَّقْرِيرِ امْتَنَعَ تَعْمِيمُ السُّنَّةِ فِي جِهَتَيْهَا ، بِخِلَافِ مَا قَرَّرْنَا ، وَأَمَّا لَوْ صَرَفَهُ عَنْ هَذَا بِنِيَّتِهِ فَأَرَادَ الثَّلَاثَ فَإِنَّهُ يَصِحُّ خِلَافًا لِزُفَرَ ، قَالَ فَإِنَّهُ بِدْعَةٌ ضِدُّ السُّنَّةِ ، وَلَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ فَلَا تَعْمَلُ نِيَّتُهُ فِيهِ .
قُلْنَا : بَلْ يَحْتَمِلُهُ ؛ لِأَنَّهُ سُنِّيٌّ وُقُوعًا : أَيْ وُقُوعُهُ بِالسُّنَّةِ فَتَصِحُّ إرَادَتُهُ وَتَكُونُ اللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ : أَيْ لِأَجْلِ السُّنَّةِ

الَّتِي أَوْجَبَتْ وُقُوعَ الثَّلَاثِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ صَرَّحَ بِالْأَوْقَاتِ فَقَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا أَوْقَاتَ السُّنَّةِ حَيْثُ لَا تَصِحُّ فِيهِ نِيَّةُ الْجَمْعِ لِعَدَمِ احْتِمَالِ اللَّفْظِ وَالنِّيَّةُ إنَّمَا تَعْمَلُ مَعَ لَفْظٍ مُحْتَمَلٍ وَاللَّامُ تَحْتَمِلُ الْوَقْتَ وَالتَّعْلِيلَ ، وَهِيَ فِي مِثْلِهِ لِلْوَقْتِ أَظْهَرُ مِنْهَا لِلتَّعْلِيلِ فَيُصْرَفُ إلَى التَّعْلِيلِ بِالنِّيَّةِ وَإِلَى الْوَقْتِ عِنْدَ عَدَمِهَا ، بِخِلَافِ لَفْظِ أَوْقَاتٍ ، وَكَذَا إذَا نَوَى أَنْ يَقَعَ عِنْدَ رَأْسِ كُلِّ شَهْرٍ وَاحِدَةٌ فَهِيَ عَلَى مَا نَوَى ، سَوَاءٌ كَانَتْ عِنْدَ رَأْسِ الشَّهْرِ حَائِضًا أَوْ طَاهِرَةً ؛ لِأَنَّ رَأْسَ الشَّهْرِ إمَّا أَنْ يَكُونَ زَمَانَ حَيْضِهَا أَوْ طُهْرِهَا ؛ فَعَلَى الثَّانِي هُوَ سُنِّيٌّ وُقُوعًا وَإِيقَاعًا وَعَلَى الْأَوَّلِ سُنِّيٌّ وُقُوعًا ، فَنِيَّتُهُ الثَّلَاثَ ، عِنْدَ رَأْسِ كُلِّ شَهْرٍ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ رَأْسَ الشَّهْرِ قَدْ تَكُونُ حَائِضًا فِيهِ نِيَّةُ الْأَعَمِّ مِنْ السُّنِّيِّ وُقُوعًا وَإِيقَاعًا مَعًا أَوْ أَحَدَهُمَا ( قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَتْ ) أَيْ امْرَأَتُهُ : أَيْ الَّتِي قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ ( آيِسَةً أَوْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَشْهُرِ ) الَّتِي هِيَ فُصُولُ الْعِدَّةِ عِنْدَهُمْ فَيَتَنَاوَلُ الْحَامِلَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ( وَقَعَتْ لِلسَّاعَةِ وَاحِدَةً وَبَعْدَ كُلِّ شَهْرٍ أُخْرَى ؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ فِي حَقِّهَا دَلِيلُ الْحَاجَةِ كَالطُّهْرِ فِي حَقِّ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ) مِنْ أَنَّ الشَّهْرَ فِي حَقِّهَا قَائِمٌ مَقَامَ الْحَيْضِ .
( قَوْلُهُ وَإِنْ نَوَى أَنْ تَقَعَ السَّاعَةَ ثَلَاثٌ وَقَعْنَ عِنْدَنَا ) خِلَافًا لِزُفَرَ ( لِمَا قُلْنَا ) مِنْ أَنَّهُ سُنِّيٌّ وُقُوعًا فَيَصِحُّ مَنْوِيًّا .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : يَنْبَغِي أَنْ تَقَعَ الثَّلَاثُ فِي الْحَالِ مُتَتَابِعَةً ؛ لِأَنَّ هَذِهِ يَجُوزُ أَنْ يُطَلِّقَهَا عَقِيبَ جِمَاعِهِ فَكَانَ كُلُّ وَقْتٍ فِي حَقِّهَا وَقْتَ طَلَاقِ السُّنَّةِ ، وَمَا وَجَّهْتُمْ بِهِ ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّ الرَّغْبَةَ مُسْتَمِرَّةٌ وَلَوْ عَقِيبَ الْجِمَاعِ يُوجِبُ تَوَالِي

الثَّلَاثَ فِي الْوُقُوعِ ، كَمَا لَوْ مَسَّهَا بِشَهْوَةٍ وَقَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ عَلَى مَا مَرَّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ تَقَعُ الثَّلَاثُ مُتَتَالِيَةً ؛ لِأَنَّ وَقْتَ كُلٍّ وَاقِعٌ مِنْهَا وَقْتَ السُّنَّةِ وَإِنْ اخْتَلَفَ الْوَجْهُ ، وَعَلَى هَذَا يَجِبُ أَنْ لَا يَنْحَصِرَ حِلُّ طَلَاقِهَا ثَلَاثًا بِطَلَقَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ فِي أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ كُلِّ تَطْلِيقَتَيْنِ بِشَهْرٍ ، بَلْ غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ أَوْلَى ، وَيَنْعَطِفُ بِهَذَا الْبَحْثِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَيْضًا .
( قَوْلُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ إلَخْ ) إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ وَلَمْ يَذْكُرْ ثَلَاثًا وَقَعَتْ وَاحِدَةً فِي الْحَالِ إنْ كَانَتْ فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْهَا فِيهِ ، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ جَامَعَهَا أَوْ حَائِضًا لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ حَتَّى تَطْهُرَ فَتَقَعَ وَاحِدَةً ؛ لِأَنَّ اللَّامَ فِيهِ لِلِاخْتِصَاصِ : أَيْ الطَّلَاقُ الْمُخْتَصُّ بِالسُّنَّةِ .
وَلَوْ نَوَى ثَلَاثًا مُفَرِّقًا عَلَى الْأَطْهَارِ صَحَّ ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى فِي أَوْقَاتِ طَلَاقِ السُّنَّةِ ، وَمِنْ ضَرُورَةِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنْهَا وَهِيَ مُتَعَدِّدَةٌ تَعَدُّدَ الْوَاقِعِ فَيَصِحُّ .
وَلَوْ نَوَى ثَلَاثًا جُمْلَةً اُخْتُلِفَ فِيهِ ؛ فَذَهَبَ الْمُصَنِّفُ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ وَالصَّدْرُ الشَّهِيدُ وَصَاحِبُ الْمُخْتَلِفَاتِ إلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ وَإِنَّمَا يَقَعُ بِهِ وَاحِدَةٌ فِي الْحَالِ .
وَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَشَيْخُ الْإِسْلَامِ إلَى أَنَّهُ يَصِحُّ فَتَقَعُ الثَّلَاثُ جُمْلَةً كَمَا تَقَعُ مُفَرَّقَةً عَلَى الْأَطْهَارِ ؛ لِأَنَّ لِلسُّنَّةِ يَحْتَمِلُ مَعْنَى التَّعْلِيلِ فَيَصِحُّ وُقُوعُهَا كَمَا إذَا صَرَّحَ بِلَفْظِ الثَّلَاثِ ، وَحَقَّقَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ التَّطْلِيقَةَ الْمُخْتَصَّةَ بِالسُّنَّةِ مُسْتَحَبٌّ وَهُوَ مَا عُرِفَ وَبِدْعِيٌّ وَكِلَاهُمَا عُرِفَا بِالسُّنَّةِ وَإِنْ اقْتَرَنَ أَحَدُهُمَا بِالنَّهْيِ فَأَيُّهُمَا نَوَاهُ صَحَّ فَإِذَا نَوَى الْبِدْعِيَّ صَحَّ ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَمِلٌ كَلَامَهُ ، وَمُخْتَارُ الْمُصَنِّفِ أَوْجَهُ ؛ لِأَنَّ مَعَ نِيَّةِ

الْجُمْلَةِ لَا تَكُونُ اللَّامُ لِلْوَقْتِ مُفِيدَةً لِلْعُمُومِ ، وَمَا وَقَعَ الثَّلَاثُ إلَّا عَنْ ضَرُورَةِ تَعْمِيمِهَا بِالْوُقُوعِ ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ طَالِقٍ لَا تَصِحُّ فِيهِ نِيَّةُ الثَّلَاثِ عَلَى مَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
فَإِذَا فُقِدَ تَعْمِيمُ الْأَوْقَاتِ لَمْ يَبْقَ مَا يَصْلُحُ لِإِيقَاعِ الثَّلَاثِ فَلَا تَعْمَلُ نِيَّةُ جُمْلَتِهَا ، وَقَوْلُهُمْ الْمُخْتَصُّ بِالسُّنَّةِ مُسْتَحَبٌّ وَبِدْعِيٌّ ، فَأَيُّهُمَا نَوَاهُ صَحَّ ، إنْ أَرَادُوا أَنَّهُ إذَا نَوَى الطَّلَاقَ الْعَامَّ الَّذِي هُوَ أَحَدُ الْقِسْمَيْنِ صَحَّ مَنَعْنَاهُ ؛ لِأَنَّ طَالِقًا لَا يُرَادُ بِهِ الثَّلَاثُ أَصْلًا بِلَا خِلَافٍ فِي الْمَذْهَبِ عَلَى مَا سَيَأْتِي لِعَدَمِ احْتِمَالِهِ إيَّاهُ فَلَا يُرَادُ بِهِ ، وَإِنْ أَرَادُوا أَنَّهُ إذَا نَوَى فَرْدًا مِنْ الطَّلَاقِ الْبِدْعِيِّ أَوْ الْمُسْتَحَبِّ صَحَّ فَمُسَلَّمٌ وَلَا يُفِيدُ وُقُوعَ الْكُلِّ ، وَلَيْسَ ثَمَّ مُوجِبٌ آخَرُ لِغَرَضِ أَنَّ اللَّامَ لَيْسَتْ لِعُمُومِ الْوَقْتِ لَيْسَ غَيْرُ .
وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ بَعْضُ الشَّارِحِينَ مَنْعَ أَنَّ تَعْمِيمَ الْأَوْقَاتِ يَسْتَلْزِمُ تَعْمِيمَ الْوَاقِعِ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّهُ إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ كُلَّ يَوْمٍ وَلَا نِيَّةَ لَهُ لَا يَقَعُ الثَّلَاثُ لِمَا سَيُعْرَفُ مِنْ أَنَّهَا بِطَلَاقٍ وَاحِدٍ تَكُونُ طَالِقًا كُلَّ يَوْمٍ ، وَكَذَا بِطَلَاقٍ فِي وَقْتٍ مِنْ أَوْقَاتِ السَّنَةِ تَصِيرُ بِهِ طَالِقًا فِي جَمِيعِ أَوْقَاتِهَا الْمُسْتَقْبَلَةِ ، وَهَذَا غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلْمُتَنَازَعِ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا إذَا نَوَى بِقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ تَعْمِيمَ أَوْقَاتِ السَّنَةِ بِالْوُقُوعِ لَا فِيمَا إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ إذَا لَمْ تَكُنْ نِيَّةٌ تَقَعُ وَاحِدَةً وَكَذَلِكَ طَالِقٌ كُلَّ يَوْمٍ تَقَعُ بِهِ وَاحِدَةً بِلَا نِيَّةٍ .
وَلَوْ نَوَى فِيهِ تَجَدُّدَ الْوَاقِعِ فِي الْأَيَّامِ عَمِلَتْ نِيَّتُهُ فَيَقَعُ الثَّلَاثُ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ .
نَعَمْ هَذَا يَصْلُحُ إشْكَالًا عَلَى صِحَّةِ وُقُوعِ الثَّلَاثِ مُفَرَّقًا عَلَى الْأَطْهَارِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَمُفَرَّقًا

عَلَى الْأَيَّامِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُورَدَةِ بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ طَالِقًا لَا يَقْبَلُ التَّعْمِيمَ ، وَلِلسُّنَّةِ عَلَى مَا قَرَّرَ الْمُصَنِّفُ لِوَقْتِهَا فَيُفِيدُ تَعْمِيمَ الْوَقْتِ ، لَكِنْ تَعْمِيمُهُ لَا يَسْتَلْزِمُ تَعْمِيمَ الْوَاقِعِ فِي الْعَدَدِ بَلْ انْسِحَابُ حُكْمِ طَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ يُوجِبُ أَنَّهَا طَالِقٌ فِي جَمِيعِ أَوْقَاتِ السَّنَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ وَفِي كُلِّ الْأَيَّامِ فَلَمْ يُوجِبْ تَعْمِيمَ طَالِقٍ فِي عَدَدِ الطَّلَاقِ وَلَا يَحْتَمِلُهُ فَلَا يَحْتَمِلُ حِينَئِذٍ التَّعْمِيمَ فَلَا تَصِحُّ نِيَّتُهُ ، وَسَنَذْكُرُ مَا ذَكَرَ مِنْ وَجْهِ تَصْحِيحٍ فِي فَصْلِ إضَافَةِ الطَّلَاقِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
[ فُرُوعٌ ] أَلْفَاظُ طَلَاقِ السُّنَّةِ عَلَى مَا رَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ : لِلسُّنَّةِ وَفِي السُّنَّةِ وَعَلَى السُّنَّةِ وَطَلَاقُ سُنَّةٍ وَالْعِدَّةُ وَطَلَاقُ عِدَّةٍ وَطَلَاقُ الْعَدْلِ وَطَلَاقًا عَدْلًا وَطَلَاقُ الدِّينِ وَالْإِسْلَامِ ، وَأَحْسَنُ الطَّلَاقِ وَأَجْمَلُهُ ، أَوْ طَلَاقُ الْحَقِّ أَوْ الْقُرْآنِ أَوْ الْكِتَابِ ، كُلُّ هَذِهِ تُحْمَلُ عَلَى أَوْقَاتِ السُّنَّةِ بِلَا نِيَّةٍ ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْمَأْمُورِ بِهِ .
وَلَوْ قَالَ طَالِقٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَوْ بِكِتَابِ اللَّهِ أَوْ مَعَهُ ، فَإِنْ نَوَى طَلَاقَ السُّنَّةِ وَقَعَ فِي أَوْقَاتِهَا ، وَإِلَّا وَقَعَ فِي الْحَالِ ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ يَدُلُّ عَلَى الْوُقُوعِ لِلسُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ فَيَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ .
وَلَوْ قَالَ عَلَى الْكِتَابِ أَوْ بِهِ أَوْ عَلَى قَوْلِ الْقُضَاةِ أَوْ الْفُقَهَاءِ أَوْ طَلَاقَ الْقُضَاةِ أَوْ الْفُقَهَاءِ ، فَإِنْ نَوَى السُّنَّةَ دِينَ ، وَفِي الْقَضَاءِ يَقَعُ فِي الْحَالِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْقُضَاةِ وَالْفُقَهَاءِ يَقْتَضِي الْأَمْرَيْنِ ، فَإِذَا خَصَّصَ دِيمَ وَلَا يُسْمَعُ فِي الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ ظَاهِرٍ .
وَلَوْ قَالَ عَدْلِيَّةٌ أَوْ سُنِّيَّةٌ وَقَعَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِلسُّنَّةِ ، وَلَوْ قَالَ حَسَنَةٌ أَوْ جَمِيلَةٌ وَقَعَ فِي الْحَالِ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ : وَقَعَ فِي الْحَالِ فِي كِلَيْهِمَا ؛

لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ جَازَ أَنْ تُوصَفَ بِهَا الْمَرْأَةُ فَلَا تُجْعَلُ لِلطَّلَاقِ حَتَّى يَتَأَخَّرَ فَيَقَعَ فِي الْحَالِ ، وَاعْتَبَرَ أَبُو يُوسُفَ الْغَالِبَ وَبَاقِي هَذَا الْفَصْلِ تَشْبِيهُ الطَّلَاقِ .
وَلَوْ قَالَ طَالِقٌ لِلْبِدْعَةِ أَوْ طَلَاقَ الْبِدْعَةِ وَنَوَى الثَّلَاثَ فِي الْحَالِ يَقَعُ ؛ لِأَنَّهَا مُحْتَمَلُ كَلَامِهِ ، وَكَذَا الْوَاحِدَةُ فِي الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ الَّذِي فِيهِ جِمَاعٌ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ ، فَإِنْ كَانَ فِي طُهْرٍ فِيهِ جِمَاعٌ أَوْ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ أَوْ النِّفَاسِ وَقَعَتْ وَاحِدَةً مِنْ سَاعَتِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ فِي طُهْرٍ لَا جِمَاعَ فِيهِ لَا يَقَعُ لِلْحَالِ حَتَّى تَحِيضَ أَوْ يُجَامِعَهَا فِي ذَلِكَ الطُّهْرِ .

فَصْلٌ ( وَيَقَعُ طَلَاقُ كُلِّ زَوْجٍ إذَا كَانَ عَاقِلًا بَالِغًا وَلَا يَقَعُ طَلَاقُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالنَّائِمِ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { كُلُّ طَلَاقٍ جَائِزٌ إلَّا طَلَاقَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ } وَلِأَنَّ الْأَهْلِيَّةَ بِالْعَقْلِ الْمُمَيِّزِ وَهُمَا عَدِيمَا الْعَقْلِ وَالنَّائِمُ عَدِيمُ الِاخْتِيَارِ .

( فَصْلٌ ) ( قَوْلُهُ وَلَا يَقَعُ طَلَاقُ الصَّبِيِّ ) وَإِنْ كَانَ يَعْقِلُ ( وَالْمَجْنُونِ وَالنَّائِمُ ) وَالْمَعْتُوهُ كَالْمَجْنُونِ ، قِيلَ هُوَ الْقَلِيلُ الْفَهْمِ الْمُخْتَلِطُ الْكَلَامِ الْفَاسِدُ التَّدْبِيرِ لَكِنْ لَا يَضْرِبُ وَلَا يَشْتُمُ ، بِخِلَافِ الْمَجْنُونِ .
وَقِيلَ الْعَاقِلُ مَنْ يَسْتَقِيمُ كَلَامُهُ وَأَفْعَالُهُ إلَّا نَادِرًا وَالْمَجْنُونُ ضِدُّهُ ، وَالْمَعْتُوهُ مَنْ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى السَّوَاءِ ، وَهَذَا يُؤَدِّي إلَى أَنْ لَا يُحْكَمُ بِالْعَتَهِ عَلَى أَحَدٍ ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى .
وَمَا قِيلَ مَنْ يَكُونُ كُلٌّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ مِنْهُ غَالِبًا مَعْنَاهُ يَكْثُرُ مِنْهُ .
وَقِيلَ مَنْ يَفْعَلُ فِعْلَ الْمَجَانِينِ عَنْ قَصْدٍ مَعَ ظُهُورِ الْفَسَادِ وَالْمَجْنُونُ بِلَا قَصْدٍ ، وَالْعَاقِلُ خِلَافُهُمَا وَقَدْ يَفْعَلُ فِعْلَ الْمَجَانِينِ عَلَى ظَنِّ الصَّلَاحِ أَحْيَانًا .
وَالْمُبَرْسَمُ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالْمَدْهُوشُ كَذَلِكَ ، وَهَذَا ( لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُلُّ طَلَاقٍ جَائِزٌ إلَّا طَلَاقَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ } ) وَاَلَّذِي فِي سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُلُّ طَلَاقٍ جَائِزٌ إلَّا طَلَاقَ الْمَعْتُوهِ الْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ } وَضَعَّفَهُ .
وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِسَنَدِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : لَا يَجُوزُ طَلَاقُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ .
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : كُلُّ طَلَاقٍ جَائِزٌ إلَّا طَلَاقَ الْمَعْتُوهِ .
وَعَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَالْمُرَادُ بِالْجَوَازِ هُنَا النَّفَاذُ .
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ أَيْضًا عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَيْسَ لِمَجْنُونٍ وَلَا لِسَكْرَانَ طَلَاقٌ .
لَكِنْ مَعْلُومٌ مِنْ كُلِّيَّاتِ الشَّرِيعَةِ أَنَّ التَّصَرُّفَاتِ لَا تَنْفُذُ إلَّا مِمَّنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ التَّصَرُّفِ وَأَدَرْنَاهَا بِالْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ خُصُوصًا مَا هُوَ دَائِرٌ بَيْنَ

الضَّرَرِ وَالنَّفْعِ خُصُوصًا مَا لَا يَحِلُّ إلَّا لِانْتِفَاءِ مَصْلَحَةِ ضِدِّهِ الْقَائِمِ كَالطَّلَاقِ فَإِنَّهُ يَسْتَدْعِي تَمَامَ الْعَقْلِ لِيُحْكِمَ بِهِ التَّمْيِيزَ فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ ، وَلَمْ يَكْفِ عَقْلُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ الِاعْتِدَالَ ، بِخِلَافِ مَا هُوَ حَسَنٌ لِذَاتِهِ بِحَيْثُ لَا يَقْبَلُ حُسْنُهُ السُّقُوطَ وَهُوَ الْإِيمَانُ حَتَّى صَحَّ مِنْ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ ، وَلَوْ فُرِضَ لِبَعْضِ الصِّبْيَانِ الْمُرَاهِقِينَ عَقْلٌ جَيِّدٌ لَا يُعْتَبَرُ ؛ لِأَنَّ الْمَدَارَ صَارَ الْبُلُوغَ لِانْضِبَاطِهِ فَتَعَلَّقَ بِهِ الْحُكْمُ ، وَكَوْنُ الْبَعْضِ لَهُ ذَلِكَ لَا يُبْنَى الْفِقْهُ بِاعْتِبَارِهِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَظَانِّ الْكُلِّيَّةِ ؛ وَبِهَذَا يَبْعُدُ مَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ إذَا عَقَلَ الصَّبِيُّ الطَّلَاقَ جَازَ طَلَاقُهُ .
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : جَوَازُ طَلَاقِ الصَّبِيِّ وَمُرَادُهُ الْعَاقِلُ ، وَمِثْلُهُ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّةِ هَذِهِ النُّقُولِ .

( وَطَلَاقُ الْمُكْرَهِ وَاقِعٌ ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ، هُوَ يَقُولُ إنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يُجَامِعُ الِاخْتِيَارَ وَبِهِ يُعْتَبَرُ التَّصَرُّفُ الشَّرْعِيُّ ، بِخِلَافِ الْهَازِلِ ؛ لِأَنَّهُ مُخْتَارٌ فِي التَّكَلُّمِ بِالطَّلَاقِ .
وَلَنَا أَنَّهُ قَصَدَ إيقَاعَ الطَّلَاقِ فِي مَنْكُوحَتِهِ فِي حَالِ أَهْلِيَّتِهِ فَلَا يَعْرَى عَنْ قَضِيَّتِهِ دَفْعًا لِحَاجَتِهِ اعْتِبَارًا بِالطَّائِعِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ عَرَفَ الشَّرَّيْنِ وَاخْتَارَ أَهْوَنَهُمَا ، وَهَذَا آيَةُ الْقَصْدِ وَالِاخْتِيَارُ ، إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ رَاضٍ بِحُكْمِهِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُخِلٍّ بِهِ كَالْهَازِلِ .

( قَوْلُهُ وَطَلَاقُ الْمُكْرَهِ وَاقِعٌ ) وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ ( خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ) وَبِقَوْلِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ فِيمَا إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ بِغَيْرِ حَقٍّ لَا يَصِحُّ طَلَاقُهُ وَلَا خُلْعُهُ ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَشُرَيْحٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ } ؛ وَلِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يُجَامِعُ الِاخْتِيَارَ الَّذِي بِهِ يُعْتَبَرُ التَّصَرُّفُ الشَّرْعِيُّ بِخِلَافِ الْهَازِلِ ؛ لِأَنَّهُ مُخْتَارٌ فِي التَّكَلُّمِ بِالطَّلَاقِ غَيْرُ رَاضٍ بِحُكْمِهِ فَيَقَعُ طَلَاقُهُ .
قُلْنَا : وَكَذَلِكَ الْمُكْرَهُ مُخْتَارٌ فِي التَّكَلُّمِ اخْتِيَارًا كَامِلًا فِي السَّبَبِ إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ رَاضٍ بِالْحُكْمِ ؛ لِأَنَّهُ عَرَفَ الشَّرَّيْنِ فَاخْتَارَ أَهْوَنَهُمَا عَلَيْهِ ، غَيْرَ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِيَارِهِ ذَلِكَ وَلَا تَأْثِيرَ لِهَذَا فِي نَفْيِ الْحُكْمِ ، يَدُلُّ عَلَيْهِ { حَدِيثُ حُذَيْفَةَ وَأَبِيهِ حِينَ حَلَّفَهُمَا الْمُشْرِكُونَ ، فَقَالَ لَهُمَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفِي لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ وَنَسْتَعِينُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ } فَبَيَّنَ أَنَّ الْيَمِينَ طَوْعًا وَكَرْهًا سَوَاءٌ ، فَعُلِمَ أَنْ لَا تَأْثِيرَ لِلْإِكْرَاهِ فِي نَفْيِ الْحُكْمِ الْمُتَعَلِّقِ بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ عَنْ اخْتِيَارٍ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ يَتَعَلَّقُ بِاللَّفْظِ وَمَا يَقُومُ مَقَامَهُ مَعَ الرِّضَا وَهُوَ مُنْتَفٍ بِالْإِكْرَاهِ .
وَحَدِيثُ { رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ } مِنْ بَابِ الْمُقْتَضَى وَلَا عُمُومَ لَهُ ، وَلَا يَجُوزُ تَقْدِيرُ الْحُكْمِ الَّذِي يَعُمُّ أَحْكَامَ الدُّنْيَا وَأَحْكَامَ الْآخِرَةِ بَلْ إمَّا حُكْمُ الدُّنْيَا وَإِمَّا حُكْمُ الْآخِرَةِ .
وَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْآخِرَةِ وَهُوَ الْمُؤَاخَذَةُ مُرَادٌ فَلَا يُرَادُ الْآخَرُ مَعَهُ وَإِلَّا عُمِّمَ .
وَرَوَى مُحَمَّدٌ بِإِسْنَادِهِ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو الطَّائِيِّ {

أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تُبْغِضُ زَوْجَهَا فَوَجَدَتْهُ نَائِمًا ، فَأَخَذَتْ شَفْرَةً وَجَلَسَتْ عَلَى صَدْرِهِ ثُمَّ حَرَّكَتْهُ وَقَالَتْ لَتُطَلِّقَنِّي ثَلَاثًا وَإِلَّا ذَبَحْتُكَ ، فَنَاشَدَهَا اللَّهَ فَأَبَتْ ، فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا ، ثُمَّ جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا قَيْلُولَةَ فِي الطَّلَاقِ } وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : أَرْبَعٌ مُبْهَمَاتٌ مُقْفَلَاتٌ لَيْسَ فِيهِنَّ رَدٌّ النِّكَاحُ ، وَالطَّلَاقُ ، وَالْعَتَاقُ ، وَالصَّدَقَةُ .
وَأَمَّا الْوَجْهُ الْقَائِلُ إنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يُزِيلُ الْخِطَابَ فِيمَا أُكْرِهَ فِيهِ حَتَّى يُبَاحَ مَرَّةً وَيُفْتَرَضَ وَيَحْرُمَ أُخْرَى فَلَيْسَ الْكَلَامُ فِي حِلِّ الْإِقْدَامِ وَحُرْمَتِهِ بَلْ فِي تَرَتُّبِ حُكْمِ مَا حَلَّ أَوْ وَجَبَ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ إذَا كَانَ تَلَفُّظًا ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ حِلِّ التَّلَفُّظِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ تَرَتُّبُ حُكْمِهِ إذَا كَانَ مِمَّا يَضُرُّهُ فَالْوَجْهُ مَا تَقَدَّمَ وَجَمِيعُ مَا يَثْبُتُ مَعَ الْإِكْرَاهِ أَحْكَامُهُ عَشَرَةُ تَصَرُّفَاتٍ : النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ ، وَالرَّجْعَةُ وَالْإِيلَاءُ وَالْفَيْءُ ، وَالظِّهَارُ وَالْعَتَاقُ وَالْعَفْوُ عَنْ الْقِصَاصِ وَالْيَمِينُ وَالنَّذْرُ ، وَجَمَعْتهَا لِيَسْهُلَ حِفْظُهَا فِي قَوْلِي : يَصِحُّ مَعَ الْإِكْرَاهِ عِتْقٌ وَرَجْعَةٌ نِكَاحٌ وَإِيلَاءٌ طَلَاقُ مُفَارِقِي وَفَيْءٌ ظِهَارٌ وَالْيَمِينُ وَنَذْرُهُ وَعَفْوٌ لِقَتْلِ شَابَ عَنْهُ مَفَارِقِي وَهَذَا فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى غَيْرِ الْإِسْلَامِ ، وَإِلَّا فَبِالْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِسْلَامِ تَتِمُّ أَحَدَ عَشَرَ ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَصِحُّ مَعَهُ .

( وَطَلَاقُ السَّكْرَانِ وَاقِعٌ ) وَاخْتِيَارُ الْكَرْخِيِّ وَالطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ لَا يَقَعُ ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الْقَصْدِ بِالْعَقْلِ وَهُوَ زَائِلُ الْعَقْلِ فَصَارَ كَزَوَالِهِ بِالْبَنْجِ وَالدَّوَاءِ .
وَلَنَا أَنَّهُ زَالَ ( بِسَبَبٍ هُوَ مَعْصِيَةٌ فَجُعِلَ بَاقِيًا حُكْمًا زَجْرًا لَهُ ، حَتَّى لَوْ شَرِبَ فَصُدِعَ وَزَالَ عَقْلُهُ بِالصُّدَاعِ نَقُولُ إنَّهُ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ ) .

( قَوْلُهُ وَطَلَاقُ السَّكْرَانِ وَاقِعٌ ) وَكَذَا عَتَاقُهُ وَخُلْعُهُ ، وَهُوَ مَنْ لَا يَعْرِفُ الرَّجُلَ مِنْ الْمَرْأَةِ وَلَا السَّمَاءَ مِنْ الْأَرْضِ ، وَلَوْ كَانَ مَعَهُ مِنْ الْعَقْلِ مَا يَقُومُ بِهِ التَّكْلِيفُ فَهُوَ كَالصَّاحِي .
وَمَا فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمُخْتَصَرِ مِنْ قَوْلِهِ يَقَعُ الطَّلَاقُ إذَا قَالَ نَوَيْت بِهِ الطَّلَاقَ : يَعْنِي الْمُكْرَهَ وَالسَّكْرَانَ فَلَيْسَ مَذْهَبًا لِأَصْحَابِنَا ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَالَ نَوَيْت بِهِ أَوْ ذَكَرَ كِنَايَةً مِنْ الْكِنَايَاتِ مِثْلَ أَنْتِ حُرَّةٌ فَيَجِبُ أَنْ يَصْدُقَ فَيَقَعُ بِالْإِجْمَاعِ .
وَفِي شَرْحِ بَكْرٍ : السُّكْرُ الَّذِي يَصِحُّ بِهِ التَّصَرُّفَاتُ أَنْ يَصِيرَ بِحَالٍ بِحَيْثُ يُحَسِّنُ مَا يَسْتَقْبِحُهُ النَّاسُ أَوْ يَسْتَقْبِحُ مَا يَسْتَحْسِنُهُ النَّاسُ لَكِنَّهُ يَعْرِفُ الرَّجُلَ مِنْ الْمَرْأَةِ .
وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ عَالٍ بَيْنَ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ .
فَقَالَ بِوُقُوعِهِ مِنْ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءٌ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَابْنُ سِيرِينَ وَمُجَاهِدٌ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْأَصَحِّ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ ، وَقَالَ بِعَدَمِ وُقُوعِهِ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَطَاوُسٌ وَرَبِيعَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَاللَّيْثُ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَأَبُو ثَوْرٍ وَزُفَرُ ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَهُوَ مُخْتَارُ الْكَرْخِيِّ وَالطَّحَاوِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ مِنْ مَشَايِخِنَا .
وَوَجْهُهُ أَنَّ أَقَلَّ مَا يَصِحُّ التَّصَرُّفُ مَعَهُ وَإِنْ كَانَ حُكْمُهُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِمُجَرَّدِ لَفْظِهِ الْقَصْدُ الصَّحِيحُ أَوْ مَظَنَّتُهُ وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ، وَهُوَ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ النَّائِمِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا أُوقِظَ يَسْتَيْقِظُ ، بِخِلَافِ السَّكْرَانِ ، وَصَارَ كَزَوَالِهِ بِالْبَنْجِ وَالدَّوَاءِ وَهُوَ الْأَفْيُونُ ، وَكَوْنُ زَوَالِ عَقْلِهِ بِسَبَبٍ هُوَ مَعْصِيَةٌ لَا أَثَرَ لَهُ وَإِلَّا صَحَّتْ رِدَّتُهُ وَلَا تَصِحُّ .
قُلْنَا لَمَّا

خَاطَبَهُ الشَّرْعُ فِي حَالِ سُكْرِهِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ بِحُكْمٍ فَرْعِيٍّ عَرَفْنَا أَنَّهُ اعْتَبَرَهُ كَقَائِمِ الْعَقْلِ تَشْدِيدًا عَلَيْهِ فِي الْأَحْكَامِ الْفَرْعِيَّةِ ، وَعَقَلْنَا أَنَّ ذَلِكَ يُنَاسِبُ كَوْنَهُ تَسَبَّبَ فِي زَوَالِ عَقْلِهِ بِسَبَبِ مَحْظُورٍ وَهُوَ مُخْتَارٌ فِيهِ فَأَدَرْنَا عَلَيْهِ وَاعْتَبَرْنَا أَقْوَالَهُ ، وَعَلَى هَذَا اتَّفَقَ فَتَاوَى مَشَايِخِ الْمَذْهَبَيْنِ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ بِوُقُوعِ طَلَاقِ مَنْ غَابَ عَقْلُهُ بِأَكْلِ الْحَشِيشِ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِوَرَقِ الْقِنَّبِ لِفَتْوَاهُمْ بِحُرْمَتِهِ بَعْدَ أَنْ اخْتَلَفُوا فِيهَا ، فَأَفْتَى الْمُزَنِيّ بِحُرْمَتِهَا ، وَأَفْتَى أَسَدُ بْنُ عَمْرٍو بِحِلِّهَا ؛ لِأَنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ لَمْ يَتَكَلَّمُوا فِيهَا بِشَيْءٍ لِعَدَمِ ظُهُورِ شَأْنِهَا فِيهِمْ ، فَلَمَّا ظَهَرَ مِنْ أَمْرِهَا مِنْ الْفَسَادِ كَثِيرًا وَفَشَا عَادَ مَشَايِخُ الْمَذْهَبَيْنِ إلَى تَحْرِيمِهَا وَأَفْتَوْا بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ مِمَّنْ زَالَ عَقْلُهُ بِهَا ، وَهَذَا الْوَجْهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ يُفِيدُ أَنَّ الْخِلَافَ فِي صِحَّةِ تَصَرُّفَاتِ السَّكْرَانِ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ وَهُوَ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ يُمَيِّزُ بِهِ الرَّجُلَ مِنْ الْمَرْأَةِ إلَى آخِرِهِ ، وَبِهِ يَبْطُلُ قَوْلُ مَنْ ادَّعَى أَنَّ الْخِلَافَ إنَّمَا هُوَ فِيهِ بِمَعْنَى عَكْسِ الِاسْتِحْسَانِ وَالِاسْتِقْبَاحِ مَعَ تَمْيِيزِهِ الرَّجُلَ مِنْ الْمَرْأَةِ ، وَالْعَجَبُ مَا صَرَّحَ بِهِ فِي بَعْضِ الْعِبَارَاتِ مِنْ أَنَّ مَعَهُ مِنْ الْعَقْلِ مَا يَقُومُ بِهِ التَّكْلِيفُ ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يُتَّجَهُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ : لَا يَصِحُّ تَصَرُّفَاتُهُ ، أَمَّا ذَلِكَ الْخِطَابُ فَقَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } .
لِأَنَّهُ إنْ كَانَ خِطَابًا لَهُ حَالَ سُكْرِهِ فَنَصٌّ ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ سُكْرِهِ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ مُخَاطَبًا فِي حَالِ سُكْرِهِ ، إذْ لَا يُقَالُ إذَا جُنِنْت فَلَا تَفْعَلْ كَذَا ، وَبِدَلَالَاتِ النُّصُوصِ وَالْإِجْمَاعِ ، فَإِنَّهُ لَمَّا أُلْحِقَ بِالصَّاحِي فِيمَا لَا يَثْبُتُ

مَعَ الشُّبْهَةِ وَهُوَ الْحُدُودُ وَالْقِصَاصُ حَتَّى حُدَّ وَقُتِلَ إذَا قَذَفَ وَقَتَلَ فَلَأَنْ يَلْحَقَ بِهِ فِيمَا يَثْبُتُ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ أَوْلَى ، وَإِنَّمَا لَمْ يُعْتَبَرْ إقْرَارُهُ بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ ؛ لِأَنَّ وَهُوَ كَوْنُهُ لَا يَثْبُتُ عَلَى شَيْءٍ يُوجِبُهُ رَاجِعًا عَمَّا أَقَرَّ بِهِ عَقِيبَهُ ، وَعَدَمُ صِحَّةِ رِدَّتِهِ ؛ لِأَنَّ صَرِيحَ النَّصِّ مَا اعْتَبَرَ عَقْلَهُ بَاقِيًا إلَّا فِيمَا هُوَ مِنْ فُرُوعِ الدِّينِ ، فَلَوْ أَثْبَتْنَاهُ فِي أَصْلِ الدِّينِ كَانَ بِالْقِيَاسِ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ التَّشْدِيدِ عَلَيْهِ فِيمَا لَا يُوجِبُ إكْفَارُهُ التَّشْدِيدَ فِيمَا يُوجِبُهُ ؛ وَلِأَنَّ الْإِكْفَارَ ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ إنَّمَا يَكُونُ احْتِيَاطًا ، وَلَا يُحْتَاطُ فِي الْإِكْفَارِ بَلْ يُحْتَاطُ فِي عَدَمِهِ ؛ وَلِأَنَّ رُكْنَهَا الِاعْتِقَادُ وَهُوَ مُنْتَفٍ .
لَا يُقَالُ : يَلْزَمُ عَدَمُ إكْفَارِ الْهَازِلِ ؛ لِأَنَّهُ أَيْضًا لَا يَعْتَقِدُ مَا قَالَهُ مِنْ الْكُفْرِ هَزْلًا وَالْوَاقِعُ إكْفَارُهُ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ : إكْفَارُهُ بِالِاسْتِخْفَافِ بِالدِّينِ وَالِاسْتِخْفَافُ بِالدِّينِ كُفْرٌ وَهُوَ مُنْتَفٍ فِي السَّكْرَانِ ؛ لِأَنَّ زَائِلَ الْعَقْلِ لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ مُسْتَخِفٌّ بِشَيْءٍ ، وَفِي جُمَلِ الْفِقْهِ ؛ لِأَنَّ إبْقَاءَ عَقْلِهِ لِلزَّجْرِ وَالْحَاجَةُ إلَى الزَّجْرِ فِيمَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ وَالرِّدَّةُ لَا يَغْلِبُ وُجُودُهَا ؛ وَلِأَنَّ جِهَةَ زَوَالِ الْعَقْلِ تَقْتَضِي بَقَاءَ الْإِسْلَامِ وَجِهَةَ بَقَائِهِ زَوَالُهُ فَتُرَجَّحُ جِهَةُ الْبَقَاءِ ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى ، وَعَدَمُ الْوُقُوعِ بِالْبَنْجِ وَالْأَفْيُونِ لِعَدَمِ الْمَعْصِيَةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ لِلتَّدَاوِي غَالِبًا فَلَا يَكُونُ زَوَالُ الْعَقْلِ بِسَبَبٍ هُوَ مَعْصِيَةٌ حَتَّى لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلتَّدَاوِي بَلْ لِلَّهْوِ وَإِدْخَالِ الْآفَةِ قَصْدًا يَنْبَغِي أَنْ نَقُولَ يَقَعُ .
فَإِنَّ عَبْدَ الْعَزِيزِ التِّرْمِذِيَّ قَالَ : سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ وَسُفْيَانَ عَنْ رَجُلٍ شَرِبَ الْبَنْجَ فَارْتَفَعَ إلَى رَأْسِهِ فَطَلَّقَ امْرَأَتَهُ قَالَا : إنْ كَانَ حِينَ شَرِبَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مَا هُوَ تَطْلُقُ

امْرَأَتُهُ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ لَمْ تَطْلُقْ مَعْلُومٌ أَنَّ الضَّرُورَةَ مُبِيحَةٌ ، فَكَانَ مَحْمَلُ هَذَا مَا قُلْنَا ، وَعَنْ ذَلِكَ قُلْنَا : إذَا شَرِبَ الْخَمْرَ فَصُدِعَ فَزَالَ عَقْلُهُ بِالصُّدَاعِ فَطَلَّقَ لَا يَقَعُ ، وَالْحُكْمُ لَا يُضَافُ إلَى عِلَّةِ الْعِلَّةِ كَالشُّرْبِ إلَّا عِنْدَ عَدَمِ صَلَاحِيَّةِ الْعِلَّةِ : أَعْنِي الصُّدَاعَ لِلْقَطْعِ بِأَنَّ أَثَرَهَا لَا يَصِلُ إلَى الْمَعْلُولِ الْأَخِيرِ ، وَلَوْ تَنَزَّلْنَا فَالشُّرْبُ لَيْسَ مَوْضُوعًا لِلصُّدَاعِ بَلْ يَثْبُتُ الصُّدَاعُ اتِّفَاقًا عِنْدَ اسْتِعْدَادِ الطَّبِيعَةِ لَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَصَارَ الشُّرْبُ الَّذِي وُجِدَ عَنْهُ الصُّدَاعُ الَّذِي عَنْهُ زَوَالُ الْعَقْلِ كَسَفَرِ الْمَعْصِيَةِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مَوْضُوعًا لِلْمَعْصِيَةِ لَمْ يُوجِبْ التَّشْدِيدَ بَلْ يَمْنَعُ التَّرَخُّصَ فَلَمْ يُضَفْ زَوَالُ الْعَقْلِ إلَيْهِ لِيُثْبَتَ التَّشْدِيدُ بِخِلَافِ الشُّرْبِ الَّذِي لَمْ يَحْدُثْ عَنْهُ صُدَاعٌ مُزِيلٌ لِلْعَقْلِ بَلْ زَالَ بِهِ حَيْثُ تَعَلَّقَ بِهِ التَّشْدِيدُ لِإِضَافَةِ زَوَالِ الْعَقْلِ إلَيْهِ وَهُوَ الْمَعْصِيَةُ .
وَعَلَى هَذَا لَوْ شَرِبَهَا مُكْرَهًا أَوْ لِإِسَاغَةِ لُقْمَةٍ ثُمَّ سَكِرَ لَا يَقَعُ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ يَقَعُ ؛ لِأَنَّ عَقْلَهُ زَالَ عِنْدَ كَمَالِ التَّلَذُّذِ وَعِنْدَ ذَلِكَ لَمْ يَبْقَ مُكْرَهًا ، وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الْوُقُوعِ عِنْدَ زَوَالِ الْعَقْلِ لَيْسَ إلَّا التَّسَبُّبُ فِي زَوَالِهِ بِسَبَبٍ مَحْظُورٍ وَهُوَ مُنْتَفٍ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ السُّكْرَ بِسَبَبٍ مُبَاحٍ كَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ وَالْأَشْرِبَةِ الْأَرْبَعَةِ الْمُحَرَّمَةِ أَوْ اُضْطُرَّ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ وَعَتَاقُهُ ، وَمَنْ سَكِرَ مِنْهَا مُخْتَارًا اُعْتُبِرَتْ عِبَارَاتُهُ .
وَأَمَّا مَنْ شَرِبَ مِنْ الْأَشْرِبَةِ الْمُتَّخَذَةِ مِنْ الْحُبُوبِ وَالْعَسَلِ فَسَكِرَ وَطَلَّقَ لَا يَقَعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ ، وَيُفْتَى بِقَوْلِ مُحَمَّدٍ ؛ لِأَنَّ السُّكْرَ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ

مُحَرَّمٌ

( وَطَلَاقُ الْأَخْرَسِ وَاقِعٌ بِالْإِشَارَةِ ) ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مَعْهُودَةً فَأُقِيمَتْ مَقَامَ الْعِبَارَةِ دَفْعًا لِلْحَاجَةِ ، وَسَتَأْتِيكَ وُجُوهُهُ فِي آخِرِ الْكِتَابِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
( قَوْلُهُ وَطَلَاقُ الْأَخْرَسِ وَاقِعٌ بِالْإِشَارَةِ ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مَفْهُومَةً فَكَانَتْ كَالْعِبَارَةِ ) فِي الدَّلَالَةِ اسْتِحْسَانًا فَيَصِحُّ بِهَا نِكَاحُهُ وَطَلَاقُهُ وَعَتَاقُهُ وَبَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ سَوَاءٌ قَدَرَ عَلَى الْكِتَابَةِ أَوْ لَا ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ بِالضَّرُورَةِ فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يُعْتَبَرْ مِنْهُ ذَلِكَ أَدَّى إلَى مَوْتِهِ جُوعًا وَعَطَشًا وَعُرْيًا ، ثُمَّ رَأَيْنَا أَنَّ الشَّرْعَ اعْتَبَرَهَا مِنْهُ فِي الْعِبَادَاتِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا حَرَّكَ لِسَانَهُ بِالْقِرَاءَةِ وَالتَّكْبِيرِ كَانَ صَحِيحًا مُعْتَبَرًا فَكَذَا فِي الْمُعَامَلَاتِ .
وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ : إنْ كَانَ يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ بِالْإِشَارَةِ لِانْدِفَاعِ الضَّرُورَةِ بِمَا هُوَ أَدَلُّ عَلَى الْمُرَادِ مِنْ الْإِشَارَةِ وَهُوَ قَوْلٌ حَسَنٌ ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْإِشَارَةِ الَّتِي يَقَعُ بِهَا طَلَاقُهُ الْإِشَارَةُ الْمَقْرُونَةُ بِتَصْوِيتٍ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ مِنْهُ ذَلِكَ فَكَانَتْ الْإِشَارَةُ بَيَانًا لِمَا أَجْمَلَهُ الْأَخْرَسُ وَيَتَّصِلُ بِمَا ذَكَرْنَا كِتَابَةُ الطَّلَاقِ ، وَالْأَخْرَسُ فِيهَا كَالصَّحِيحِ ، فَإِذَا طَلَّقَ الْأَخْرَسُ امْرَأَتَهُ بِالْكِتَابَةِ وَهُوَ يَكْتُبُ جَازَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ مَا يَجُوزُ عَلَى الصَّحِيحِ ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الْكَلَامِ قَادِرٌ عَلَى الْكِتَابِ ، فَهُوَ وَالصَّحِيحُ فِي الْكِتَابِ سَوَاءٌ ، وَسَنُفَصِّلُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مَوْصُولًا بِكِنَايَاتِ الطَّلَاقِ .

( طَلَاقُ الْأَمَةِ ثِنْتَانِ حُرًّا كَانَ زَوْجُهَا أَوْ عَبْدًا ، وَطَلَاقُ الْحُرَّةِ ثَلَاثٌ حُرًّا كَانَ زَوْجُهَا أَوْ عَبْدًا ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : عَدَدُ الطَّلَاقِ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الرِّجَالِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الطَّلَاقُ بِالرِّجَالِ وَالْعِدَّةُ بِالنِّسَاءِ } ، لِأَنَّ صِفَةَ الْمَالِكِيَّةِ كَرَامَةٌ وَالْآدَمِيَّةُ مُسْتَدْعِيَةٌ لَهَا ، وَمَعْنَى الْآدَمِيَّةِ فِي الْحُرِّ أَكْمَلُ فَكَانَتْ مَالِكِيَّتُهُ أَبْلَغَ وَأَكْثَرَ .
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { طَلَاقُ الْأَمَةِ ثِنْتَانِ وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ } وَلِأَنَّ حِلَّ الْمَحَلِّيَّةِ نِعْمَةٌ فِي حَقِّهَا ، وَلِلرِّقِّ أَثَرٌ فِي تَنْصِيفِ النِّعَمِ إلَّا أَنَّ الْعُقْدَةَ لَا تَتَجَزَّأُ فَتَكَامَلَتْ عُقْدَتَانِ ، وَتَأْوِيلُ مَا رُوِيَ أَنَّ الْإِيقَاعَ بِالرِّجَالِ .

( قَوْلُهُ وَطَلَاقُ الْأَمَةِ ثِنْتَانِ حُرًّا كَانَ زَوْجُهَا أَوْ عَبْدًا ، وَطَلَاقُ الْحُرَّةِ ثَلَاثٌ حُرًّا كَانَ زَوْجُهَا أَوْ عَبْدًا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : عَدَدُ الطَّلَاقِ مُعْتَبَرٌ بِالرِّجَالِ وَالْعِدَّةُ بِالنِّسَاءِ ) فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ عَبْدًا وَهِيَ حُرَّةٌ حَرُمَتْ عَلَيْهِ بِتَطْلِيقَتَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ حُرًّا وَهِيَ أَمَةٌ لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ إلَّا بِثَلَاثٍ .
وَنُقِلَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَمَّا قَالَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ لَهُ : أَيُّهَا الْفَقِيهُ إذَا مَلَكَ الْحُرُّ عَلَى امْرَأَتِهِ الْأَمَةِ ثَلَاثًا كَيْفَ يُطَلِّقُهَا لِلسُّنَّةِ ؟ قَالَ : يُوقِعُ عَلَيْهَا وَاحِدَةً ، فَإِذَا حَاضَتْ وَطَهُرَتْ أَوْقَعَ أُخْرَى ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَقُولَ فَإِذَا حَاضَتْ وَطَهُرَتْ قَالَ لَهُ حَسْبُك .
قَدْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَلَمَّا تَحَيَّرَ رَجَعَ فَقَالَ : لَيْسَ فِي الْجَمْعِ بِدْعَةٌ وَلَا فِي التَّفْرِيقِ سُنَّةٌ ، وَبِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَبِقَوْلِنَا قَالَ الثَّوْرِيُّ وَهُوَ مَذْهَبُ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَهُ مَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الطَّلَاقُ بِالرِّجَالِ وَالْعِدَّةُ بِالنِّسَاءِ } قَابَلَ بَيْنَهُمَا ، وَاعْتِبَارُ الْعِدَّةِ بِالنِّسَاءِ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ فَكَذَا مَا قُوبِلَ بِهِ تَحْقِيقًا لِلْمُقَابَلَةِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ أَنْسَبُ مِنْ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْإِيقَاعُ بِالرِّجَالِ ؛ وَلِأَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنْ قَوْله تَعَالَى { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } وَفِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ { أَنَّ نُفَيْعًا مُكَاتَبًا كَانَ لِأُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ عَبْدًا لَهَا كَانَ تَحْتَهُ امْرَأَةٌ حُرَّةٌ فَطَلَّقَهَا ثِنْتَيْنِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُرَاجِعَهَا فَأَمَرَهُ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْتِيَ عُثْمَانَ فَيَسْأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَلَقِيَهُ عِنْدَ الدَّرَجِ آخِذًا بِيَدِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فَسَأَلَهُمَا فَابْتَدَرَاهُ جَمِيعًا فَقَالَا حَرُمَتْ عَلَيْكَ حَرُمَتْ عَلَيْكَ } (

وَلَنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { طَلَاقُ الْأَمَةِ ثِنْتَانِ وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ } ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيّ عَنْ عَائِشَةَ تَرْفَعُهُ وَهُوَ الرَّاجِحُ الثَّابِتُ ، بِخِلَافِ مَا رَوَاهُ وَمَا مَهَّدَ مِنْ مَعْنَى الْمُقَابَلَةِ ؛ لِأَنَّهُ فَرْعُ صِحَّةِ الْحَدِيثِ أَوْ حُسْنِهِ وَلَا وُجِدَ لَهُ حَدِيثٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَرِيقٍ يُعْرَفُ .
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ : مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَقِيلَ مِنْ كَلَامِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، وَحَدِيثُ الْمُوَطَّأِ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ وَعَلَى عُثْمَانَ وَهُوَ لَا يَرَى تَقْلِيدَ الصَّحَابِيِّ ، وَالْإِلْزَامُ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الِاسْتِدْلَالِ ؛ لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ نَقْضُ مَذْهَبِ الْخَصْمِ بِمَا لَا يَعْتَقِدُهُ الْمُلْزَمُ صَحِيحًا ، وَلَا يَكُونُ نَقْضُ مَذْهَبِ خَصْمِهِ فَقَطْ يُوجِبُ صِحَّةَ مَذْهَبِ نَفْسِهِ إلَّا بِطَرِيقِ عَدَمِ الْقَائِلِ بِالْفَصْلِ ، وَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا إذَا كَانَ مَا نَقَضَ بِهِ مِمَّا يَعْتَقِدُهُ صَحِيحًا وَهُوَ مُنْتَفٍ عِنْدَهُ فِي مَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ ، فَهُوَ فِي مَذْهَبِهِ وَفِي مُعْتَقَدِهِ غَيْرُ مَنْقُوضٍ فَلَمْ يَثْبُتْ لِمَذْهَبِهِ دَلِيلٌ يُقَاوِمُ مَا رَوَيْنَا .
فَإِنْ قُلْت : قَدْ ضُعِّفَ أَيْضًا مَا رَوَيْتُمْ بِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ مُظَاهِرٍ وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ .
قُلْنَا : أَوَّلًا تَضْعِيفُ بَعْضِهِمْ لَيْسَ كَعَدَمِهِ بِالْكُلِّيَّةِ كَمَا هُوَ فِيمَا رَوَيْتُمْ ، وَثَانِيًا بِأَنَّ ذَلِكَ التَّضْعِيفَ ضَعِيفٌ ؛ فَإِنَّ ابْنَ عَدِيٍّ أَخْرَجَ لَهُ حَدِيثًا آخَرَ عَنْ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ عَشْرَ آيَاتٍ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ آخَرِ آلِ عِمْرَانَ } وَكَذَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ ، ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ ضَعَّفَهُ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ النَّبِيلِ فَقَطْ ، وَمِنْهُمْ مَنْ نَقَلَ عَنْ ابْنِ مَعِينٍ وَأَبِي حَاتِمٍ وَالْبُخَارِيِّ تَضْعِيفَهُ لَكِنْ قَدْ وَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ حَدِيثَهُ هَذَا

عَنْهُ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : وَمُظَاهِرٌ شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ أَحَدٌ مِنْ مُتَقَدِّمِي مَشَايِخِنَا بِجَرْحٍ ، فَإِذَنْ إنْ لَمْ يَكُنْ الْحَدِيثُ صَحِيحًا كَانَ حَسَنًا ، وَمِمَّا يُصَحِّحُ الْحَدِيثَ أَيْضًا عَمَلُ الْعُلَمَاءِ عَلَى وَفْقِهِ .
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ عَقِيبَ رِوَايَتِهِ : حَدِيثٌ غَرِيبٌ ، وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِمْ .
وَفِي الدَّارَقُطْنِيِّ : قَالَ الْقَاسِمُ وَسَالِمٌ : عَمِلَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ ، وَقَالَ مَالِكٌ : شُهْرَةُ الْحَدِيثِ بِالْمَدِينَةِ تُغْنِي عَنْ صِحَّةِ سَنَدِهِ انْتَهَى ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ( قَوْلُهُ وَلِأَنَّ حِلَّ الْمَحَلِّيَّةِ نِعْمَةٌ ) تَزِيدُ بِزِيَادَتِهِ ، وَلِذَا اتَّسَعَ حِلُّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ زِيَادَةِ فَضْلِهِ ( وَلِلرِّقِّ أَثَرٌ فِي تَنْصِيفِ النِّعْمَةِ ) فِي الشَّرْعِ كَمَا عُرِفَ ( إلَّا أَنَّ الْعُقْدَةَ لَا تَتَجَزَّأُ فَتَكَامَلَتْ عُقْدَتَانِ ) يَعْنِي يَلْزَمُ لِتَنْصِيفِ النِّعْمَةِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا مَرَّةً وَنِصْفًا عَقِيبَ طَلَاقِهِ إيَّاهَا ، لَكِنَّ الْعُقْدَةَ لَا تَتَجَزَّأُ فَكَمُلَتْ كَالطَّلْقَةِ وَالْحَيْضَةِ فِي حَقِّهَا ، ثُمَّ لَوْ تَمَّ أَمْرُ مَا رَوَاهُ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّ قِيَامَ الطَّلَاقِ بِالرِّجَالِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ احْتِمَالًا لِلَّفْظِ مُسَاوِيًا لَتَأَيَّدَ بِمَا رَوَيْنَاهُ فَكَيْفَ وَهُوَ الْمُتَبَادَرُ إلَى الْفَهْمِ مِنْ ذَلِكَ اللَّفْظِ كَمَا هُوَ فِي قَوْلِهِمْ الْمِلْكُ بِالرِّجَالِ .

( وَإِذَا ) ( تَزَوَّجَ الْعَبْدُ امْرَأَةً ) بِإِذْنِ مَوْلَاهُ وَطَلَّقَهَا ( وَقَعَ طَلَاقُهُ وَلَا يَقَعُ طَلَاقُ مَوْلَاهُ عَلَى امْرَأَتِهِ ) ؛ لِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ حَقُّ الْعَبْدِ فَيَكُونُ الْإِسْقَاطُ إلَيْهِ دُونَ الْمَوْلَى .

( قَوْلُهُ وَإِذَا تَزَوَّجَ الْعَبْدُ امْرَأَةً وَقَعَ عَلَيْهَا طَلَاقُهُ وَلَا يَقَعُ طَلَاقُ مَوْلَاهُ عَلَى امْرَأَتِهِ ؛ لِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ يَثْبُتُ لِلْعَبْدِ ) ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ مِنْ خَصَائِصِ الْآدَمِيَّةِ وَهُوَ فِيهَا مُبْقِي عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ إلَّا أَنَّهُ يَحْتَاجُ فِي ابْتِدَاءِ تَمَلُّكِهِ إيَّاهُ إلَى إذْنِ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ بِلَا مَالٍ فِي حَقِّ الِابْتِدَاءِ ، وَالْبَقَاءُ فِي حَقِّ النَّفَقَةِ وَتَعَلُّقُ الدَّيْنِ بِالْعَبْدِ يَقَعُ مُتَعَلِّقًا بِرَقَبَتِهِ بِحَيْثُ تُؤْخَذُ هِيَ فِيهِ وَفِي ذَلِكَ ضَرَرٌ بِالْمَوْلَى فَيُتَوَقَّفُ عَلَى رِضَاهُ بِهِ وَالْتِزَامِهِ إيَّاهُ ، فَإِذَا الْتَزَمَهُ حَتَّى ثَبَتَ لَهُ الْمِلْكُ كَانَ إلَيْهِ دَفْعُهُ لَا إلَى غَيْرِهِ .
وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ { ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ سَيِّدِي زَوَّجَنِي أَمَتَهُ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا ، فَصَعِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَا بَالُ أَحَدِكُمْ يُزَوِّجُ عَبْدَهُ مِنْ أَمَتِهِ ثُمَّ يُرِيدُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا ، إنَّمَا الطَّلَاقُ لِمَنْ أَخَذَ بِالسَّاقِ } وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا مِنْ غَيْرِهَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
[ فَرْعٌ ] الْوَكِيلُ بِالطَّلَاقِ إذَا لَمْ يَكُنْ بِمَالٍ لَا يَنْعَزِلُ بِطَلَاقِ الْمُوَكِّلِ سَوَاءٌ طَلَّقَهَا الْمُوَكِّلُ بَائِنًا أَوْ رَجْعِيًّا فَلِلْوَكِيلِ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ ذَلِكَ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ ، وَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا يَنْعَزِلُ ، حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَهَا الْمُوَكِّلُ بَعْدَ الْعِدَّةِ لَا يَقَعُ طَلَاقُ الْوَكِيلِ عَلَيْهَا ، بِخِلَافِ مَا لَوْ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فِيمَا إذَا كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا فَإِنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا الْوَكِيلُ وَقَعَ عَلَيْهَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بَابُ إيقَاعِ الطَّلَاقِ ( الطَّلَاقُ عَلَى ضَرْبَيْنِ : صَرِيحٌ ، وَكِنَايَةٌ .
فَالصَّرِيحُ قَوْلُهُ : أَنْتِ طَالِقٌ وَمُطَلَّقَةٌ وَطَلَّقْتُك فَهَذَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ ) لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ تُسْتَعْمَلُ فِي الطَّلَاقِ وَلَا تُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهِ فَكَانَ صَرِيحًا وَأَنَّهُ يَعْقُبُ الرَّجْعَةَ بِالنَّصِّ ( وَلَا يَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ ) لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِيهِ لِغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ ، وَكَذَا إذَا نَوَى الْإِبَانَةَ لِأَنَّهُ قَصَدَ تَنْجِيزَ مَا عَلَّقَهُ الشَّرْعُ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَيُرَدُّ عَلَيْهِ .
وَلَوْ نَوَى الطَّلَاقَ عَنْ وِثَاقٍ لَمْ يُدَنْ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ وَيَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ .
وَلَوْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ عَنْ الْعَمَلِ لَمْ يُدَنْ فِي الْقَضَاءِ وَلَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الطَّلَاقَ لِرَفْعِ الْقَيْدِ وَهِيَ غَيْرُ مُقَيَّدَةٍ بِالْعَمَلِ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ يَسْتَعْمِلُ لِلتَّخْلِيصِ .
وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ مُطْلَقَةٌ بِتَسْكِينِ الطَّاءِ لَا يَكُونُ طَلَاقًا إلَّا بِالنِّيَّةِ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُسْتَعْمَلَةٍ فِيهِ عُرْفًا فَلَمْ يَكُنْ صَرِيحًا .

( بَابُ إيقَاعِ الطَّلَاقِ ) مَا تَقَدَّمَ كَانَ ذِكْرَ الطَّلَاقِ نَفْسِهِ وَأَقْسَامِهِ الْأَوَّلِيَّةِ السُّنِّيِّ وَالْبِدْعِيِّ وَإِعْطَاءً لِبَعْضِ أَحْكَامِ تِلْكَ الْكُلِّيَّاتِ ، وَهَذَا الْبَابُ لِبَيَانِ أَحْكَامِ جُزْئِيَّاتٍ لِتِلْكَ الْكُلِّيَّاتِ ، فَإِنَّ الْمُورَدَ فِيهِ خُصُوصُ أَلْفَاظٍ كَأَنْتِ طَالِقٌ وَمُطَلَّقَةٌ وَطَلَاقٌ لِإِعْطَاءِ أَحْكَامِهَا هَكَذَا أَوْ مُضَافَةٌ إلَى بَعْضِ الْمَرْأَةِ وَإِعْطَاءُ حُكْمِ الْكُلِّيِّ وَتَصْوِيرُهُ قَبْلَ الْجُزْئِيِّ مُنْزَلٌ مَنْزِلَةَ تَفْصِيلٍ يُعْقِبُ إجْمَالًا ، فَظَهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ بَابُ بَيَانِ أَحْكَامِ مَا بِهِ الْإِيقَاعُ وَالْوُقُوعُ ، لَا أَنَّهُ أَرَادَ الْمَعْنَى الْمَصْدَرِيَّ الَّذِي لَا تَحَقُّقَ لَهُ خَارِجًا ( قَوْلُهُ فَالصَّرِيحُ أَنْتِ طَالِقٌ إلَخْ ) ظَاهِرُ الْحَمْلِ يُفِيدُ أَنْ لَا صَرِيحَ سِوَى ذَلِكَ وَلَيْسَ بِمُرَادٍ ، فَسَيَذْكُرُ مِنْهُ التَّطْلِيقَ بِالْمَصْدَرِ ، وَلَفْظُ الْكَنْزِ : كَأَنْتِ طَالِقٌ وَمُطَلَّقَةٌ وَطَلَّقْتُك أَحْسَنُ لِإِشْعَارِ الْكَافِ بِعَدَمِ الْحَصْرِ ، وَعَلَى هَذَا لَا يَصِحُّ ضَبْطُ الصَّرِيحِ بِأَنَّهُ مَا اجْتَمَعَ بِهِ ( طَ لَ قَ ) بِصِيغَةِ التَّفْصِيلِ لَا الْأَفْعَالِ إلَّا أَنْ يُقَالَ الْوُقُوعُ بِالْمَصْدَرِ لِتَأَوُّلِهِ بِطَالِقٍ .
( قَوْلُهُ فَكَانَ صَرِيحًا ) فَإِنَّ مَا غَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِي مَعْنًى بِحَيْثُ يَتَبَادَرُ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا صَرِيحٌ ، فَإِنْ لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي غَيْرِهِ فَأَوْلَى بِالصَّرَاحَةِ فَلِذَا رَتَّبَ الصَّرَاحَةَ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ بِقَوْلِهِ فَكَانَ صَرِيحًا عَلَى الِاسْتِعْمَالِ فِي مَعْنَى الطَّلَاقِ دُونَ غَيْرِهِ ، إلَّا أَنَّ فِي قَوْلِهِ فِي تَعْلِيلِ عَدَمِ افْتِقَارِهَا إلَى النِّيَّةِ لِأَنَّهُ صَرِيحٌ لِغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ تَدَافُعًا لِأَنَّ الْمَوْصُوفَ بِالْغَلَبَةِ هُنَا هُوَ مَا وَصَفَهُ بِعَدَمِ الِاسْتِعْمَالِ فِي غَيْرِهِ ، وَالْغَلَبَةُ فِي مَفْهُومِهَا الِاسْتِعْمَالُ فِي الْغَيْرِ قَلِيلًا لِلتَّقَابُلِ بَيْنَ الْغَلَبَةِ وَالِاخْتِصَاصِ ، وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّرِيحِ لَفْظَيْ التَّسْرِيحِ وَالْفِرَاقِ لِوُرُودِهِمَا فِي الْقُرْآنِ لِلطَّلَاقِ

كَثِيرًا .
قُلْنَا : الْمُعْتَبَرُ تَعَارُفُهُمَا فِي الْعُرْفِ الْعَامِّ فِي الطَّلَاقِ لَا اسْتِعْمَالُهُمَا شَرْعًا مُرَادًا هُوَ بِهِمَا ( قَوْلُهُ وَأَنَّهُ يَعْقُبُ الرَّجْعَةَ ) ذَكَرَ لِلصَّرِيحِ حُكْمَيْنِ : كَوْنُهُ يَعْقُبُ الرَّجْعَةَ وَعَدَمُ احْتِيَاجَةِ إلَى نِيَّةٍ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَمُقَيَّدٌ بِمَا إذَا لَمْ يَعْرِصْ عَارِضُ تَسْمِيَةِ مَالٍ أَوْ ذِكْرُ وَصْفٍ عَلَى مَا سَيَأْتِي .
وَقَدْ يُقَالُ الصَّرِيحُ هُوَ الْمُقْتَصَرُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْقَيْدِ ، وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ } بَعْدَ صَرِيحِ طَلَاقِهِ الْمُفَادِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ } فَعُلِمَ أَنَّ الصَّرِيحَ يَسْتَعْقِبُهَا لِلْإِجْمَاعِ .
عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبُعُولَةِ فِي الْآيَةِ الْمُطَلِّقُونَ صَرِيحًا كَانَ أَوْ مَجَازًا غَيْرَ مُتَوَقِّفٍ عَلَى إثْبَاتِ كَوْنِ الْمُطَلِّقِ رَجْعِيًّا بَعْلًا حَقِيقَةً فَلَا حَاجَةَ إلَى إثْبَاتِهِ فِي ذَلِكَ .
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ سَمَّاهُ بَعْلًا فَعُلِمَ أَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ لَا يُبْطِلُ الزَّوْجِيَّةَ ، ثُمَّ إيرَادُ أَنَّ حَقِيقَةَ الرَّدِّ يَدُلُّ عَلَى زَوَالِ الْمِلْكِ فَلَا يَكُونُ زَوْجًا إلَّا مَجَازًا ، وَجَعَلَهُ حَقِيقَةً يَتَوَقَّفُ عَلَى التَّجَوُّزِ بِلَفْظِ الرَّدِّ وَلَيْسَ هُوَ بِأَوْلَى مِنْ قَلْبِهِ .
ثُمَّ الْجَوَابُ عَنْهُ بِمَنْعِ تَصَوُّرِ كَوْنِ الرَّدِّ حَقِيقَةً بَعْدَ زَوَالِ الْمِلْكِ .
بَلْ قَدْ يُقَالُ أَيْضًا بَعْدَ انْعِقَادِ سَبَبِ زَوَالِهِ مُعَلَّقًا بِمُتَعَلِّقِ الْمِلْكِ عَلَى مَعْنَى مَنْعِ السَّبَبِ مِنْ تَأْثِيرِ زَوَالِ الْمِلْكِ عَنْهُ كَقَوْلِنَا رَدَّ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ فِي الْبَيْعِ الَّذِي فِيهِ خِيَارُ شَرْطٍ لِلْبَائِعِ ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ : رَدَّ الْمَبِيعَ عَنْ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ مِلْكِهِ عِنْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ بِفَسْخِ السَّبَبِ فِي الْحَالِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ مِلْكِهِ ، كَمَا يُقَالُ مُتَعَلِّقًا بِهِ بَعْدَ تَأْثِيرِ السَّبَبِ كَمَا فِي رَدِّ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ بِالْعَيْبِ : يَعْنِي إلَى قَدِيمِ الْمِلْكِ الزَّائِلِ

فَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِإِثْبَاتِ بَحْثٍ آخَرَ عَلَى أَنَّ كَوْنَهُ فِي الْأَوَّلِ حَقِيقَةً مِمَّا يَمْنَعُهُ الْخَصْمُ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } فَإِنَّهُ أَعْقَبَهُ الرَّجْعَةَ الَّتِي هِيَ الْمُرَادُ بِالْإِمْسَاكِ وَهُوَ الْأَنْسَبُ بِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَأَنَّهُ يَعْقُبُ الرَّجْعَةَ بِالنَّصِّ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ اسْتِدَامَةُ الْقَائِمِ لَا إعَادَةُ الزَّائِلِ ، فَدَلَّ عَلَى إبْقَاءِ النِّكَاحِ بَعْدَ الرَّجْعِيِّ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ الْآخَرُ ، وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ كَوْنُهُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ فَنُقِلَ فِيهِ إجْمَاعُ الْفُقَهَاءِ .
إلَّا دَاوُد فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الطَّلَاقُ مِنْ غَيْرِ قَيْدِ النِّكَاحِ ، قُلْنَا : هَذَا احْتِمَالٌ يَعْزُبُ إخْطَارُهُ عِنْدَ خِطَابِ الْمَرْأَةِ بِهِ عَنْ النَّفْسِ فَلَا عِبْرَةَ بِهِ فَصَارَ اللَّفْظُ بِمَنْزِلَةِ الْمَعْنَى .
وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ حَيْثُ أَمَرَهُ بِالْمُرَاجَعَةِ وَلَمْ يَسْأَلْهُ أَنَوَى أَمْ لَا ؟ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ، فَإِنَّ تَرْكَ الِاسْتِفْصَالِ فِي وَقَائِعِ الْأَحْوَالِ كَالْعُمُومِ فِي الْمَقَالِ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ قَرَائِنَ إرَادَةِ الْإِيقَاعِ قَائِمَةٌ فِيمَا فَعَلَ ابْنُ عُمَرَ مِنْ الِاعْتِزَالِ وَالتَّرْكِ لَهَا حَتَّى فُهِمَ ذَلِكَ مِنْهُ ، وَدَلَالَةُ إطْلَاقِ قَوْله تَعَالَى { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } وَنَحْوِهِ اعْتِبَارُ عَدَمِ النِّيَّةِ أَبْعَدَ ، ثُمَّ قَوْلُنَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى النِّيَّةِ مَعْنَاهُ إذَا لَمْ يَنْوِ شَيْئًا أَصْلًا يَقَعُ لَا أَنَّهُ يَقَعُ وَإِنْ نَوَى شَيْئًا آخَرَ ، لِمَا ذَكَرَ أَنَّهُ إذَا نَوَى الطَّلَاقَ عَنْ وِثَاقٍ صُدِّقَ دِيَانَةً لَا قَضَاءً ، وَكَذَا عَنْ الْعَمَلِ فِي رِوَايَةٍ كَمَا سَيَذْكُرُ ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْقَصْدِ بِالْخِطَابِ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ عَالِمًا بِمَعْنَاهُ أَوْ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْغَائِبَةِ كَمَا يُفِيدُهُ فُرُوعٌ : هُوَ أَنَّهُ لَوْ كَرَّرَ مَسَائِلَ الطَّلَاقِ بِحَضْرَةِ زَوْجَتِهِ وَيَقُولُ : أَنْتِ طَالِقٌ وَلَا يَنْوِي طَلَاقًا لَا تَطْلُقُ ، وَفِي مُتَعَلِّمٍ يَكْتُبُ

نَاقِلًا مِنْ كِتَابِ رَجُلٍ قَالَ : ثُمَّ وَقَفَ وَكَتَبَ امْرَأَتِي طَالِقٌ وَكَلَّمَا كَتَبَ قَرَنَ الْكِتَابَةَ بِالتَّلَفُّظِ بِقَصْدِ الْحِكَايَةِ لَا يَقَعُ عَلَيْهِ .
وَلَوْ قَالَ لِقَوْمٍ تَعَلَّمْت ذِكْرًا بِالْفَارِسِيَّةِ فَقُولُوهُ مَعِي فَقَالَ : رَنِ مِنْ بَسّه طَلَاق فَقَالُوهُ لَمْ يُحْكَمُ عَلَيْهِمْ بِالْحُرْمَةِ ، وَكَذَا لَوْ لَمْ يَعْتَقِدُوهُ ذِكْرًا وَاعْتَقَدُوهُ شَيْئًا آخَرَ ، كَذَا نُقِلَ مِنْ فَتَاوَى الْمَنْصُورِيِّ .
وَمَا فِي الْخُلَاصَةِ : لَوْ لُقِّنَتْ الْمَرْأَةُ زَوَّجْتُ نَفْسِي مِنْ فُلَانٍ بِالْعَرَبِيَّةِ وَلَمْ تَعْرِفْ مَعْنَاهُ بِحَضْرَةِ الشُّهُودِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ مَعْنَاهُ أَوْ لَا يَعْلَمُونَ صَحَّ النِّكَاحُ كَالطَّلَاقِ ، وَقِيلَ لَا كَالْبَيْعِ يَقْتَضِي عَدَمَ الْخِلَافِ فِي الْوُقُوعِ فِي مَسْأَلَةِ الذِّكْرِ ، وَفِيهَا فِي الْجِنْسِ الْأَوَّلِ مِنْ مُقَدَّمَةِ كِتَابِ الطَّلَاقِ طَلَاقُ الْهَازِلِ وَطَلَاقُ الرَّجُلِ الَّذِي أَرَادَ أَنْ يَتَكَلَّمَ فَسَبَقَ لِسَانُهُ بِالطَّلَاقِ وَاقِعٌ .
وَفِي النَّسَفِيِّ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجُوزُ الْغَلَطُ فِي الطَّلَاقِ ، وَهُوَ مَا إذَا أَرَادَ أَنْ يَقُولَ اسْقِ فَسَبَقَ لِسَانُهُ بِالطَّلَاقِ وَلَوْ كَانَ بِالْعَتَاقِ يَدِينُ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا يَجُوزُ الْغَلَطُ فِيهِمَا .
وَفِي الْخُلَاصَةِ أَيْضًا : قَالَتْ لِزَوْجِهَا : اقْرَأْ عَلَيَّ اعْتَدِّي أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَفَعَلَ طَلُقَتْ ثَلَاثًا فِي الْقَضَاءِ لَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى إذَا لَمْ يَعْلَمْ الزَّوْجُ وَلَمْ يَنْوِ ، وَهَذَا يُوَافِقُ مَا فِي الْمَنْصُورِيِّ ، وَيُخَالِفُ مُقْتَضَى مَا ذَكَرَهُ آنِفًا مِنْ مَسْأَلَةِ التَّلْقِينِ بِالْعَرَبِيَّةِ ، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ مِنْ الشَّرْعِ أَنْ لَا يَقَعَ بِلَا قَصْدٍ لَفْظُ الطَّلَاقِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَقَوْلُهُ فِيمَنْ سَبَقَ لِسَانُهُ وَاقِعٌ : أَيْ فِي الْقَضَاءِ ، وَقَدْ يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ وَلَوْ كَانَ بِالْعَتَاقِ يَدِينُ ، بِخِلَافِ الْهَازِلِ لِأَنَّهُ مُكَابِرٌ بِاللَّفْظِ فَيَسْتَحِقَّ التَّغْلِيظُ ، وَسَيَذْكُرُ فِي أَنْتِ طَالِقٌ إذَا نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ مِنْ الْوِثَاقِ يَدِينُ فِيمَا

بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ أَنَّهُ أَصَرْحُ صَرِيحٍ فِي الْبَابِ ثُمَّ لَمْ يُعَارِضْ ذَلِكَ قَوْلُهُ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ لِأَنَّ الْمَعْنَى لَا يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ : يَعْنِي اللَّفْظَ بَعْدَ الْقَصْدِ إلَى اللَّفْظِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إذَا قَصَدَ السَّبَبَ عَالَمًا بِأَنَّهُ سَبَبٌ رَتَّبَ الشَّرْعُ حُكْمَهُ عَلَيْهِ أَرَادَهُ أَوْ لَمْ يُرِدْهُ إلَّا إنْ أَرَادَ مَا يَحْتَمِلُهُ .
وَأَمَّا أَنَّهُ إذَا لَمْ يَقْصِدْهُ أَوْ لَمْ يَدْرِ مَا هُوَ فَيَثْبُتَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ شَرْعًا وَهُوَ غَيْرُ رَاضٍ بِحُكْمِ اللَّفْظِ وَلَا بِاللَّفْظِ فَمِمَّا يَنْبُو عَنْهُ قَوَاعِدُ الشَّرْعِ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى { لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ } وَفُسِّرَ بِأَمْرَيْنِ : أَنْ يَحْلِفَ عَلَى أَمْرٍ يَظُنُّهُ كَمَا قَالَ مَعَ أَنَّهُ قَاصِدٌ لِلسَّبَبِ عَالِمٌ بِحُكْمِهِ فَإِلْغَاؤُهُ لِغَلَطِهِ فِي ظَنِّ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ ، وَالْآخَرُ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى لِسَانِهِ بِلَا قَصْدٍ إلَى الْيَمِينِ كَلَا وَاَللَّهِ بَلَى وَاَللَّهِ ، فَرُفِعَ حُكْمُهُ الدُّنْيَوِيُّ مِنْ الْكَفَّارَةِ لِعَدَمِ قَصْدِهِ إلَيْهِ ، فَهَذَا تَشْرِيعٌ لِعِبَادِهِ أَنْ لَا يُرَتِّبُوا الْأَحْكَامَ عَلَى الْأَسْبَابِ الَّتِي لَمْ تُقْصَدْ ، وَكَيْفَ وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّائِمِ عِنْدَ الْعَلِيمِ الْخَبِيرِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا قَصْدَ لَهُ إلَى اللَّفْظِ وَلَا حُكْمِهِ وَإِنَّمَا لَا يُصَدِّقُهُ غَيْرُ الْعَلِيمِ وَهُوَ الْقَاضِي .
وَفِي الْحَاوِي مَعْزُوًّا إلَى الْجَامِعِ الْأَصْغَرِ أَنَّ أَسَدًا سَأَلَ عَمَّنْ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ : زَيْنَبُ طَالِقٌ فَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ عَمْرَةُ عَلَى أَيِّهِمَا يَقَعُ الطَّلَاقُ ، فَقَالَ فِي الْقَضَاءِ : تَطْلُقُ الَّتِي سَمَّاهَا ، وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تَطْلُقُ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا ، أَمَّا الَّتِي سَمَّاهَا فَلِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْهَا ، وَأَمَّا غَيْرُهَا فَلِأَنَّهَا لَوْ طَلُقَتْ طَلُقَتْ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ فَهَذَا صَرِيحٌ .
وَأَمَّا مَا رَوَى عَنْهُمَا نُصَيْرٌ مِنْ أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَكَلَّمَ فَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ الطَّلَاقُ يَقَعُ

دِيَانَةً وَقَضَاءً فَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ ( قَوْلُهُ وَكَذَا إذَا نَوَى الْإِبَانَةَ ) أَيْ بِالصَّرِيحِ يَقَعُ رَجْعِيًّا وَتَلْغُو نِيَّتُهُ لِأَنَّهُ قَصَدَ بِاللَّفْظِ تَنْجِيزَ مَا عَلَّقَهُ الشَّرْعُ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ) عِنْدَ وُجُودِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { إذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرَحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } وَالْإِجْمَاعُ عَلَى ذَلِكَ ( فَيُرَدُّ عَلَيْهِ ) لِأَنَّهُ اسْتَعْجَلَ مَا أَخَّرَ الشَّرْعَ كَمَا رَدَّ إرْثَ الْوَارِثِ بِالْقَتْلِ لِاسْتِعْجَالِهِ فِيهِ ( قَوْلُهُ وَلَوْ نَوَى الطَّلَاقَ ) أَيْ بِقَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ ( عَنْ وِثَاقٍ لَمْ يَدِنْ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ ) إلَّا أَنْ يَكُونَ مُكْرَهًا .
وَيَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُهُ ( وَلَوْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ عَنْ الْعَمَلِ لَمْ يُدَنْ فِي الْقَضَاءِ وَلَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ) لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُهُ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لِرَفْعِ الْقَيْدِ وَهِيَ لَيْسَتْ مُقَيَّدَةً بِالْعَمَلِ فَلَا يَكُونُ مُحْتَمِلَ اللَّفْظِ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ لِلتَّخَلُّصِ فَكَأَنَّهُ قَالَ : أَنْتِ مُتَخَلِّصَةٌ عَنْ الْعَمَلِ ، وَلَوْ صَرَّحَ فَقَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ هَذَا الْعَمَلِ صُدِّقَ دِيَانَةً لَا قَضَاءً عَلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ يُظَنُّ أَنَّهُ طَلَّقَ ثُمَّ وَصَلَ لَفْظَ الْعَمَلِ اسْتِدْرَاكًا ، بِخِلَافِ مَا لَوْ وَصَلَ لَفْظَ الْوِثَاقِ حَيْثُ يُصَدَّقُ قَضَاءً لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِيهِ قَلِيلًا ، وَكُلُّ مَا لَا يَدِينُهُ الْقَاضِي إذَا سَمِعَتْهُ مِنْهُ الْمَرْأَةُ أَوْ شَهِدَ بِهِ عِنْدَهَا عَدْلٌ لَا يَسَعُهَا أَنْ تَدِينَهُ لِأَنَّهَا كَالْقَاضِي لَا تَعْرِفُ مِنْهُ إلَّا الظَّاهِرَ ( قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ مُطْلَقَةٌ بِتَسْكِينِ الطَّاءِ لَا يَكُونُ طَلَاقًا إلَّا بِالنِّيَّةِ لِأَنَّهَا ) أَيْ لَفْظَةَ مُطْلَقَةٍ غَيْرُ مُسْتَعْمَلَةٍ فِيهِ : أَيْ فِي الطَّلَاقِ بِالْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ عُرْفًا بَلْ فِي الِانْطِلَاقِ عَنْ الْقَيْدِ الْحِسِّيِّ

فَلَمْ يَكُنْ صَرِيحًا فِيهِ فَيَتَوَقَّفَ عَلَى النِّيَّةِ .

[ فُرُوعٌ ] لَوْ قَالَ لَهَا : يَا مُطَلَّقَةُ بِالتَّشْدِيدِ أَوْ يَا طَالِقُ وَقَعَ ، وَلَوْ قَالَ : أَرَدْت الشَّتْمَ لَمْ يُصَدَّقْ لِأَنَّ النِّدَاءَ اسْتِحْضَارٌ بِالْوَصْفِ الَّذِي تَضْمَنَّهُ اللَّفْظُ إذَا كَانَ يُمْكِنُهُ إثْبَاتُهُ بِذَلِكَ اللَّفْظِ ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ يَا ابْنِي لِعَبْدِهِ .
وَلَوْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ طَلَّقَهَا قَبْلُ فَقَالَ : أَرَدْت ذَلِكَ الطَّلَاقَ صُدِّقَ دِيَانَةً بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ وَقَضَاءً فِي رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَهُوَ حَسَنٌ ، وَيَنْبَغِي عَلَى قِيَاسِ مَا فِي الْعِتْقِ لَوْ سَمَّاهَا طَالِقًا ، ثُمَّ نَادَاهَا بِهِ لَا تَطْلُقُ .
وَقَدْ رَوَى وَكِيعٌ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ الْحَكَمِ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ خَيْثَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ لِزَوْجِهَا : سَمِّنِي فَسَمَّاهَا الطَّيِّبَةَ فَقَالَتْ : مَا قُلْتَ شَيْئًا فَقَالَ : هَاتِ مَا أُسَمِّيك بِهِ فَقَالَتْ : سَمِّنِي خَلِيَّةٌ طَالِقٌ قَالَ : فَأَنْتِ خَلِيَّةٌ طَالِقٌ فَجَاءَتْ إلَى عُمَرَ فَقَالَتْ لَهُ : إنَّ زَوْجِي طَلَّقَنِي فَجَاءَ زَوْجُهَا فَقَصَّ الْقِصَّةَ فَأَوْجَعَ عُمَرُ رَأْسَهَا وَقَالَ لَهُ : خُذْ بِيَدِهَا وَأَوْجَعَ رَأْسَهَا ، وَلَوْ قَالَ : طَلَّقْتُك أَمْسِ وَهُوَ كَاذِبٌ كَانَ طَلَاقًا فِي الْقَضَاءِ وَلَوْ قَالَ : فُلَانَةُ طَالِقٌ وَلَمْ يَنْسِبْهَا أَوْ نَسَبَهَا إلَى أَبِيهَا أَوْ أُمِّهَا أَوْ أُخْتِهَا أَوْ وَلَدِهَا وَامْرَأَتِهِ بِذَلِكَ الِاسْمِ وَالنَّسَبِ فَقَالَ : عَنَيْت أُخْرَى أَجْنَبِيَّةً لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ لِفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ إذَا ادَّعَى ذَلِكَ مِنْ اسْمِهِ وَنَسَبِهِ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُهُ الْإِعْطَاءُ وَيَحْلِفُ مَا لَهُ عَلَيْهِ هَذَا الْمَالُ لَا مَا هُوَ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ .
وَلَوْ قَالَ : هَذِهِ الْمَرْأَةُ الَّتِي عَنَيْت امْرَأَتِي وَصَدَّقَتْهُ فِي ذَلِكَ وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا وَلَمْ يُصَدَّقْ فِي إبْطَالِ الطَّلَاقِ عَنْ الْمَعْرُوفَةِ إلَّا أَنْ يَشْهَدَ الشُّهُودُ عَلَى نِكَاحِهَا قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِالطَّلَاقِ أَوْ عَلَى إقْرَارِهِمَا بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ أَوْ تُصَدِّقَهُ الْمَرْأَةُ الْمَعْرُوفَةُ ، كَذَا فِي الْكَافِي

لِلْحَاكِمِ .
وَلَوْ قَالَ : امْرَأَتِي فُلَانَةُ بِنْتُ فُلَانٍ طَالِقٌ وَسَمَّاهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا لَا تَطْلُقُ امْرَأَتُهُ إلَّا بِالنِّيَّةِ .
وَعَلَى هَذَا لَوْ حَلَفَ لِدَائِنِهِ فَقَالَ : إنْ خَرَجْت مِنْ الْبَلْدَةِ قَبْلَ أَنْ أَقْضِيَك حَقَّك فَامْرَأَتِي فُلَانَةُ طَالِقٌ وَاسْمُ امْرَأَتِهِ غَيْرُهُ لَا تَطْلُقُ إذَا خَرَجَ قَبْلَهُ .
وَلَوْ قَالَ لِإِحْدَى نِسَائِهِ : يَا زَيْنَبُ فَأَجَابَتْهُ زَوْجَتُهُ عَمْرَةُ فَقَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ طَلُقَتْ الْمُجِيبَةُ .
وَلَوْ قَالَ : أَرَدْت زَيْنَبَ طَلُقَتَا هَذِهِ بِالْإِشَارَةِ وَتِلْكَ بِالْإِقْرَارِ .
هَذَا فِي الْقَضَاءِ .
أَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّمَا يَقَعُ عَلَى الَّتِي قَصَدَهَا ذَكَرَهُ فِي الْبَدَائِعِ .
وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ زَيْنَبُ فَقَالَتْ : عَمْرَةُ : نَعَمْ فَقَالَ : إذَنْ أَنْتِ طَالِقٌ لَا تَطْلُقُ .
وَلَوْ قَالَ : عَلَيْك الطَّلَاقُ أَوْ لَك اُعْتُبِرَتْ النِّيَّةُ .
وَلَوْ قَالَ : قُولِي أَنَا طَالِقٌ لَا تَطْلُقُ حَتَّى تَقُولَهَا .
وَلَوْ كَانَ لَهُ امْرَأَتَانِ اسْمُهُمَا وَاحِدٌ وَنِكَاحُ إحْدَاهُمَا فَاسِدٌ فَقَالَ : فُلَانَةُ طَالِقٌ وَقَالَ : عَنَيْتُ الَّتِي نِكَاحُهَا فَاسِدٌ لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ .
وَكَذَا لَوْ قَالَ : إحْدَاكُمَا أَوْ إحْدَى امْرَأَتَيَّ طَالِقٌ ، وَيَقَعُ أَيْضًا بِالتَّهَجِّي كَأَنْتِ ط ا ل قِ ، وَكَذَا لَوْ لَوْ قِيلَ لَهُ : طَلَّقْتَهَا فَقَالَ : ن ع م إذَا نَوَى صَرَّحَ بِقَيْدِ النِّيَّةِ فِي الْبَدَائِعِ ، وَلَا يَقَع بِأُطَلِّقُك إلَّا إذَا غَلَبَ فِي الْحَالِ ، وَلَوْ قَالَتْ أَنْتَ طَالِقٌ فَقَالَ : نَعَمْ طَلُقَتْ .
وَلَوْ قَالَ لَهُ فِي جَوَابِ طَلَّقَنِي لَا تَطْلُقُ وَإِنْ نَوَى .
وَلَوْ قِيلَ لَهُ : أَلَسْتَ طَلَّقْتَهَا فَقَالَ : بَلَى طَلُقَتْ أَوْ نَعَمْ لَا تَطْلُقُ .
وَاَلَّذِي يَنْبَغِي عَدَمُ الْفَرْقِ ، فَإِنَّ أَهْلَ الْعُرْفِ لَا يُفَرِّقُونَ بَلْ يَفْهَمُونَ مِنْهُمَا إيجَابَ الْمَنْفِيِّ وَلَوْ قَالَ : خُذِي طَلَاقَك فَقَالَتْ : أَخَذْتُ اُخْتُلِفَ فِي اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ وَصُحِّحَ الْوُقُوعُ بِلَا اشْتِرَاطِهَا ، وَيَقَعُ بِطَلَّقَكِ اللَّهُ أَطْلَقَهَا فِي النَّوَازِلِ مَرَّةً ثُمَّ

أَعَادَهَا وَشَرَحَ النِّيَّةَ وَهُوَ الْحَقُّ ، .

وَأَمَّا الْمُصَحَّفُ فَهُوَ خَمْسَةُ أَلْفَاظٍ : تَلَاقٌ ، وَتَلَاغٌ ، وَطَلَاغٌ ، وَطَلَاكٌ ، وَتَلَاكٌ .
وَيَقَعُ بِهِ فِي الْقَضَاءِ وَلَا يُصَدَّقُ إلَّا إذَا أَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ قَبْلَ التَّكَلُّمِ بِأَنْ قَالَ : امْرَأَتِي تَطْلُبُ مِنِّي الطَّلَاقَ وَأَنَا لَا أُطَلِّقُ فَأَقُولُ هَذَا وَيُصَدَّقُ دِيَانَةً ، وَكَانَ ابْنُ الْفَضْلِ يُفَرِّقُ أَوَّلًا بَيْنَ الْعَالِمِ وَالْجَاهِلِ وَهُوَ قَوْلُ الْحَلْوَانِيِّ ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى هَذَا وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى .
وَلَوْ قَالَ : نِسَاءُ أَهْلِ الدُّنْيَا أَوْ الرَّيِّ طَوَالِقُ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الرَّيِّ لَا تَطْلُقُ امْرَأَتُهُ إلَّا إنْ نَوَاهَا ، رَوَاهُ هِشَامٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَتَانِ .
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ ذِكْرِ لَفْظِ جَمِيعٍ وَعَدَمِهِ فِي الْأَصَحِّ .
وَفِي نِسَاءِ أَهْلِ السِّكَّةِ أَوْ الدَّارِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِهَا وَنِسَاءِ هَذَا الْبَيْتِ وَهِيَ فِيهِ تَطْلُقُ .
وَنِسَاءِ أَهْلِ الْقَرْيَةِ مِنْهُمْ مَنْ أَلْحَقَهَا بِالدَّارِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَلْحَقهَا بِالْمِصْرِ .
وَلَوْ قَالَ : طَلَّاقُك عَلَيَّ لَا يَقَعُ ، وَلَوْ زَادَ فَرْضٌ أَوْ وَاجِبٌ أَوْ لَازِمٌ أَوْ ثَابِتٌ قِيلَ تَطْلُقُ رَجْعِيَّةً نَوَى أَوْ لَا ، وَقِيلَ : لَا يَقَعُ وَإِنْ نَوَى ، وَقِيلَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ يَقَعُ ، وَفِي قَوْلِهِمَا لَا يَقَعُ فِي وَاجِبٍ وَيَقَع فِي لَازِمٍ ، وَقِيلَ : بَلْ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يُرْجَعُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إلَى نِيَّتِهِ ، وَقِيلَ يَقَعُ فِي وَاجِبٍ لِلتَّعَارُفِ بِهِ ، وَفِي الثَّلَاثَةِ لَا يَقَعُ وَإِنْ نَوَى لِعَدَمِ التَّعَارُفِ .
وَفِي الْفَتَاوَى الْكُبْرَى لِلْخَاصِّيِّ : الْمُخْتَارُ أَنَّهُ يَقَعُ فِي الْكُلِّ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَكُونُ وَاجِبًا أَوْ ثَابِتًا بَلْ حُكْمَهُ ، وَحُكْمُهُ لَا يَجِبُ وَلَا يَثْبُتُ إلَّا بَعْدَ الْوُقُوعِ ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَتَاقِ ، وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ ثُبُوتَهُ اقْتِضَاءً ، وَيَتَوَقَّفُ عَلَى نِيَّتِهِ إلَّا أَنْ يَظْهَرَ فِيهِ عُرْفٌ فَاشٍ فَيَصِيرَ صَرِيحًا فَلَا يُصَدَّقُ قَضَاءً فِي صَرْفِهِ عَنْهُ وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى إنْ قَصَدَهُ وَقَعَ

وَإِلَّا لَا ، فَإِنَّهُ قَدْ يُقَالُ هَذَا الْأَمْرُ عَلَيَّ وَاجِبٌ بِمَعْنَى يَنْبَغِي أَنْ أَفْعَلَهُ لَا أَنِّي فَعَلْتُهُ فَكَأَنَّهُ قَالَ : يَنْبَغِي أَنْ أُطَلِّقَك ، وَقَدْ تُعُورِفَ فِي عُرْفِنَا فِي الْحَلِفِ الطَّلَاقَ يَلْزَمُنِي لَا أَفْعَلُ كَذَا : يُرِيدُ إنْ فَعَلْتُهُ لَزِمَ الطَّلَاقُ وَوَقَعَ ، فَيَجِبُ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُ صَارَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ ، وَكَذَا تَعَارَفَ أَهْلُ الْأَرْيَافِ الْحَلِفَ بِقَوْلِهِ عَلَيَّ الطَّلَاقِ لَا أَفْعَلُ ، وَلَوْ قَالَ : طَالِ بِلَا قَافٍ يَقَعُ ، قِيلَ : لِأَنَّهُ تَرْخِيمٌ وَهُوَ غَلَطٌ ، إذْ التَّرْخِيمُ اخْتِيَارًا فِي النِّدَاءِ ، وَفِي غَيْرِهِ إنَّمَا يَقَعُ اضْطِرَارًا فِي الشِّعْرِ وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ بِثَلَاثٍ وَقَعَتْ ثَلَاثٌ إنْ نَوَى لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ ، وَلَوْ قَالَ : لَمْ أَنْوِ لَا يُصَدَّقُ إذَا كَانَ فِي حَالِ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الرَّدَّ وَإِلَّا صُدِّقَ ، وَمِثْلُهُ بِالْفَارِسَةِ توبسه عَلَى مَا هُوَ الْمُخْتَارُ لِلْفَتْوَى خِلَافًا لِلصَّفَّارِ .
وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ أَطَلْقُ مِنْ فُلَانَةَ وَفُلَانَةُ مُطَلَّقَةٌ أَوْ غَيْرُ مُطَلَّقَةٍ ، فَإِنْ عُنِيَ بِهِ الطَّلَاقُ وَقَعَ وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ ، وَالْمَعْنَى عِنْدَ عَدَمِ كَوْنِهَا مُطَلَّقَةً لِأَجْلِ فُلَانَةَ لِأَنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ لَيْسَ صَرِيحًا ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَتْ لَهُ مَثَلًا : فُلَانٌ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ فَقَالَ : لَهَا ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَقَعُ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ ، وَكَذَا لَوْ قَالَ : أَنْتِ أَزَنَى مِنْ فُلَانَةَ لَا يُحَدُّ لِأَنَّهُ لَيْسَ صَرِيحًا فِي الْقَذْفِ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : كُونِي طَالِقًا أَوْ اطَّلِقِي يَقَعُ لِأَنَّ قَوْلَهُ كُونِي لَيْسَ أَمْرًا حَقِيقَةً لِعَدَمِ تَصَوُّرِ كَوْنِهَا طَالِقًا مِنْهَا بَلْ عِبَارَةً عَنْ إثْبَاتِ كَوْنِهَا طَالِقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { كُنْ فَيَكُونُ } لَيْسَ أَمْرًا بَلْ كِنَايَةً عَنْ التَّكْوِينِ وَكَيْنُونَتُهَا طَالِقًا يَقْتَضِي إيقَاعًا قَبْلُ فَيَتَضَمَّنَ إيقَاعًا سَابِقًا ،

وَكَذَا قَوْلُهُ اطَّلِقِي وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ لِلْأَمَةِ : كُونِي حُرَّةً .

قَالَ ( وَلَا يَقَعُ بِهِ إلَّا وَاحِدَةٌ وَإِنْ نَوَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَقَعُ مَا نَوَى لِأَنَّهُ مُحْتَمِلٌ لَفْظَهُ ، فَإِنَّ ذِكْرَ الطَّالِقِ ذِكْرٌ لِلطَّلَاقِ لُغَةً كَذِكْرِ الْعَالَمِ ذِكْرٌ لِلْعِلْمِ وَلِهَذَا يَصِحُّ قِرَانُ الْعَدَدِ بِهِ فَيَكُونَ نَصَبًا عَلَى التَّمْيِيزِ .
وَلَنَا أَنَّهُ نَعْتٌ فَرْدٌ حَتَّى قِيلَ لِلْمُثَنَّى طَالِقَانِ وَلِلثَّلَاثِ طَوَالِقُ فَلَا يَحْتَمِلُ الْعَدَدَ لِأَنَّهُ ضِدُّهُ ، وَذِكْرُ الطَّالِقِ ذِكْرٌ لِطَلَاقٍ هُوَ صِفَةٌ لِلْمَرْأَةِ لَا لِطَلَاقٍ هُوَ تَطْلِيقٌ ، وَالْعَدَدُ الَّذِي يُقْرَنُ بِهِ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ مَعْنَاهُ طَلَاقًا ثَلَاثًا كَقَوْلِك أَعْطَيْتُهُ جَزِيلًا : أَيْ عَطَاءً جَزِيلًا ( وَإِذَا قَالَ : أَنْتِ الطَّلَاقُ أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ الطَّلَاقَ أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ أَوْ نَوَى وَاحِدَةً أَوْ ثِنْتَيْنِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ ، وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا فَثَلَاثٌ ) وَوُقُوعُ الطَّلَاقِ بِاللَّفْظَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ ظَاهِرٌ ، لِأَنَّهُ لَوْ ذَكَرَ النَّعْتَ وَحْدَهُ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ ، فَإِذَا ذَكَرَهُ وَذَكَرَ الْمَصْدَرَ مَعَهُ وَأَنَّهُ يَزِيدُهُ وَكَادَةً أَوْلَى .
وَأَمَّا وُقُوعُهُ بِاللَّفْظَةِ الْأُولَى فَلِأَنَّ الْمَصْدَرَ قَدْ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الِاسْمُ ، يُقَالُ : رَجُلٌ عَدْلٌ : أَيْ عَادِلٌ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَلَاقٌ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ أَيْضًا وَلَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى النِّيَّةِ وَيَكُونُ رَجْعِيًّا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ صَرِيحُ الطَّلَاقِ لِغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ فِيهِ ، وَتَصِحُّ نِيَّةُ الثَّلَاثِ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ يَحْتَمِلُ الْعُمُومَ وَالْكَثْرَةَ لِأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ فَيُعْتَبَرُ بِسَائِرِ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ فَيَتَنَاوَلُ الْأَدْنَى مَعَ احْتِمَالِ الْكُلِّ ، وَلَا تَصِحُّ نِيَّةُ الثِّنْتَيْنِ فِيهَا خِلَافًا لِزُفَرَ .
هُوَ يَقُولُ : إنَّ الثِّنْتَيْنِ بَعْضُ الثَّلَاثِ فَلَمَّا صَحَّتْ نِيَّةُ الثَّلَاثِ صَحَّتْ نِيَّةُ بَعْضِهَا ضَرُورَةً .
وَنَحْنُ نَقُولُ : نِيَّةُ الثَّلَاثِ

إنَّمَا صَحَّتْ لِكَوْنِهَا جِنْسًا ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ أَمَةً تَصِحُّ نِيَّةُ الثِّنْتَيْنِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْجِنْسِيَّةِ ، أَمَّا الثِّنْتَانِ فِي حَقِّ الْحُرَّةِ فَعَدَدٌ ، وَاللَّفْظُ لَا يَحْتَمِلُ الْعَدَدَ وَهَذَا لِأَنَّ مَعْنَى التَّوَحُّدِ يُرَاعَى فِي أَلْفَاظِ الْوُحْدَانِ وَذَلِكَ بِالْفَرْدِيَّةِ أَوْ الْجِنْسِيَّةِ وَالْمَثْنَى بِمَعْزِلٍ مِنْهُمَا .

( قَوْلُهُ وَلَا يَقَعُ بِهِ ) أَيْ بِالصَّرِيحِ الْمُقَيَّدِ بِالْأَلْفَاظِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنْتِ طَالِقٌ مُطَلَّقَةٌ طَلَّقْتُك لَا تَطْلُقُ ( إلَّا وَاحِدَةً وَإِنْ نَوَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ) لَا الصَّرِيحُ مُطْلَقًا لِأَنَّ مِنْهُ الْمَصْدَرَ وَبِهِ يَقَعُ الثَّلَاثُ بِالنِّيَّةِ ( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَقَعُ مَا نَوَى ) وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ وَزُفَرَ وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَوَّلُ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ .
وَجْهُ قَوْلِ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ نَوَى مُحْتَمِلٌ لَفْظَهُ ، فَإِنْ ذَكَرَ الطَّالِقُ ذِكْرَ الطَّلَاقِ لِأَنَّ الْوَصْفَ كَالْفِعْلِ جُزْءُ مَفْهُومِهِ الْمَصْدَرُ وَهُوَ يَحْتَمِلُهُ اتِّفَاقًا ( وَلِهَذَا ) أَيْ وَلِأَنَّ ذِكْرَهُ ذِكْرَ الطَّلَاقِ الْمُحْتَمِلِ لِلْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ ( صَحَّ قِرَانُ الْعَدَدِ بِهِ تَفْسِيرًا حَتَّى يُنْصَبَ عَلَى التَّمْيِيزِ ) وَحَاصِلُ التَّمْيِيزِ لَيْسَ إلَّا تَعْيِينَ أَحَدِ مُحْتَمَلَاتٍ لِلَّفْظِ ، وَيَدُلّ عَلَيْهِ حَدِيثُ { رُكَانَةَ أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : طَلَّقْتُ امْرَأَتِي أَلْبَتَّةَ ، قَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاَللَّهِ مَا أَرَدْتُ إلَّا وَاحِدَةً ؟ فَقَالَ : وَاَللَّهِ مَا أَرَدْتُ إلَّا وَاحِدَةً ، فَرَدَّهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } وَأَيْضًا إذَا صَحَّ نِيَّةُ الثَّلَاثِ بِقَوْلِهِ أَنْتِ بَائِنٌ وَهُوَ كِنَايَةٌ فَفِي الصَّرِيحِ الْأَقْوَى أَوْلَى .
( قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّهُ نَعْتٌ فَرْدٌ ) قِيلَ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ لِأَنَّ الْكَلَامَ لَيْسَ فِي الْمَرْأَةِ الْمَوْصُوفَةِ أَنَّهَا تَحْتَمِلُ الْعَدَدَ عَلَى مَا يُعْطِيهِ ظَاهِرُ كَلَامِهِ مِنْ قَوْلِهِ حَتَّى قِيلَ لِلْمُثَنَّى طَالِقَانِ وَالثَّلَاثِ طَوَالِقُ بَلْ فِي الْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ الَّذِي تَضْمَنَّهُ وَوَحْدَتُهُ لَا تَمْنَعُ احْتِمَالَ الْعَدَدِ بِجِنْسِيَّتِهِ .
وَتَحْرِيرُ التَّقْرِيرِ أَنَّ أَنْتِ طَالِقٌ إذَا أُرِيدَ مِنْ قَيْدِ النِّكَاحِ كَانَ مَعْنَاهُ لُغَةً وَصْفَهَا بِانْطِلَاقِهَا مِنْ قَيْدِ النِّكَاحِ وَهِيَ مُقَيَّدَةٌ بِهِ فَصِدْقُهُ مُتَوَقِّفٌ عَلَى التَّطْلِيقِ ، وَالْمُتَيَقَّنُ أَنَّ الشَّارِعَ

اعْتَبَرَهُ مُطَلِّقًا عِنْدَ هَذَا الْكَلَامِ ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَثْبَتَهُ اقْتِضَاءً تَصْحِيحًا لِإِخْبَارِهِ فَلَا يَتَجَاوَزُ الْوَاحِدَةَ إذْ الضَّرُورَةُ تَنْدَفِعُ بِهَا وَالْمُقْتَضَى لَا عُمُومَ لَهُ لِذَلِكَ أَوْ نَقَلَهُ مِنْ الْإِخْبَارِ إلَى الْإِنْشَاءِ وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ لَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا بِمُوجِبِ نَقْلٍ وَهُوَ مُنْتَفٍ لِأَنَّ جَعْلَهُ مُوقِعًا لَا يَسْتَلْزِمُ نَقْلَهُ لِأَنَّ بِإِثْبَاتِهِ اقْتِضَاءً يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ وَيُعْتَرَضُ بِالْقَطْعِ بِتَخَلُّفِ لَازِمِ الْإِخْبَارِ ، إذْ لَا يُفْهَمُ مِنْ أَنْتِ طَالِقٌ قَطُّ احْتِمَالُ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فَلَزِمَ تَحَقُّقُ النَّقْلِ ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ مَا قِيلَ : إنَّهُ إخْبَارٌ مِنْ وَجْهٍ إنْشَاءٌ مِنْ وَجْهٍ ، بَلْ هُوَ إنْشَاءٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِمَا قُلْنَا .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : بَعْدَ التَّسْلِيمِ الْمَعْلُومِ مِنْ الشَّرْعِ جَعْلُهُ مُوقِعًا وَاحِدَةً فَعُلِمَ أَنَّهُ إنَّمَا نَقَلَهُ إلَى إنْشَاءِ إيقَاعِ الْوَاحِدَةِ فَجَعْلُهُ مُوقِعًا بِهِ مَا شَاءَ اسْتِعْمَالٌ فِي غَيْرِ الْمَنْقُولِ إلَيْهِ إلَّا أَنْ يُنْقَلَ أَنَّ الشَّارِعَ نَقَلَهُ لِمَا هُوَ أَعَمُّ وَلَيْسَ فَلَا يُرَادُ بِهِ وَمُلَاحَظَةُ مَا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِالْمَصْدَرِ كَمَا ذَكَرْتُمْ إنَّمَا يَتَفَرَّعُ عَنْ إرَادَةِ الِاسْتِعْمَالِ اللُّغَوِيِّ وَنَقْلُهُ إلَى الْإِنْشَاءِ يُبَايِنُهُ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ اللَّفْظَ عِلَّةً لِدُخُولِ الْمَعْنَى الْخَاصِّ فِي الْوُجُودِ الْمُخَالِفِ لِمُقْتَضَاهُ لُغَةً ، عَلَى أَنَّ الْمَصْدَرَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ هُوَ الِانْطِلَاقُ الَّذِي هُوَ وَصْفُهَا ، وَذَلِكَ لَا يَتَعَدَّدُ أَصْلًا بَلْ يَخْتَلِفُ بِالْكَيْفِيَّةِ وَبَيْنَ مَا يَعْقُبُهُ الرَّجْعَةُ شَرْعًا وَمَا لَا لَا فِي الْكَمِّيَّةِ وَحِينَئِذٍ يَتَّفِقُ كَلَامُهُمْ هُنَا ، وَفِي الْبَيْعِ حَيْثُ جَعَلَ الْمُصَنِّفُ بِعْت إنْشَاءً حَيْثُ قَالَ : لِأَنَّ الصِّيغَةَ .
وَإِنْ كَانَتْ لِلْإِخْبَارِ وَضْعًا فَقَدْ جُعِلَتْ لِلْإِنْشَاءِ شَرْعًا دَفْعًا لِلْحَاجَةِ ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ عَدَمُ صِحَّةِ إرَادَةِ الثَّلَاثِ فِي مُطَلَّقَةٍ وَطَلَّقْتُك لِأَنَّهُ صَارَ إنْشَاءً فِي

الْوَاحِدَةِ غَيْرَ مُلَاحَظٍ فِيهِ مَعْنَى اللُّغَةِ ، وَعَلَى هَذَا فَالْعَدَدُ نَحْوُ ثَلَاثًا لَا يَكُونُ صِفَةً لِمَصْدَرِ الْوَصْفِ بَلْ لِمَصْدَرِ غَيْرِهِ : أَيْ طَلَاقًا أَيْ تَطْلِيقًا ثَلَاثًا كَمَا يُنْصَبُ فِي الْفِعْلِ مَصْدَرٌ غَيْرُهُ مِثْلُ { أَنْبَتَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ نَبَاتًا } أَوْ يُضْمَرُ لَهُ فِعْلٌ عَلَى الْخِلَافِ فِيهِ ، بِخِلَافِ طَلَّقَهَا وَطَلِّقِي نَفْسَك لِأَنَّ الْمَصْدَرَ الْمُحْتَمِلَ لِلْكُلِّ مَذْكُورٌ لُغَةً فَصَحَّ إرَادَةٌ مِنْهُ لِأَنَّهُ لَا نَقْلَ فِيهِ إلَى إيقَاعِ وَاحِدَةٍ ، هَذَا وَنُقِضَ بِطَالِقٍ طَلَاقًا فَإِنَّهُ يَصِحُّ إرَادَةُ الثَّلَاثِ مَعَ أَنَّ الْمُنْتَصِبَ هُوَ مَصْدَرُ طَالِقٍ .
وَيُدْفَعُ بِأَنَّ طَلَاقًا الْمَصْدَرُ قَدْ يُرَادُ بِهِ التَّطْلِيقُ كَالسَّلَامِ بِمَعْنَى التَّسْلِيمِ وَالْبَلَاغُ بِمَعْنَى التَّبْلِيغِ ، فَصَحَّ أَنْ يُرَادَ بِهِ الثَّلَاثُ عَلَى إرَادَةِ التَّطْلِيقِ بِهِ مَعْمُولًا لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ طَالِقٌ لِأَنِّي طَلَّقْتُك تَطْلِيقًا ثَلَاثًا .
بَقِيَ أَنْ يُرَدَّ إرَادَةُ الثَّلَاثِ بِأَنْتِ الطَّلَاقُ وَهُوَ صِفَةُ الْمَرْأَةِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ إذَا نَوَى الثَّلَاثَ كَانَ الْمَعْنَى أَنْتِ وَقَعَ عَلَيْك التَّطْلِيقُ فَيَصِحَّ نِيَّةُ الثَّلَاثِ .
وَنُوقِضَ بِأَنَّهُ لَمَّا لَا يَجُوزُ فِي طَالِقٍ عِنْدَ إرَادَةِ الثَّلَاثِ أَنْ يُرَادَ أَنْتِ ذَاتٌ وَقَعَ عَلَيْك التَّطْلِيقُ وَجَازَ فِي الْمَصْدَرِ .
وَقَدْ يُدْفَعُ بِأَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ بِالْمَصْدَرِ الَّذِي فِي ضِمْنِ طَالِقٍ ذَلِكَ كَأَنْ يُرَادَ بِاسْمِ الْفِعْلِ اسْمُ الْمَفْعُولِ وَهُوَ مُنْتَفٍ .
فَإِنْ قُلْت : ظَاهِرُ مَا ذَكَرْت أَنَّهُ لَوْ صَحَّ أَنْ يُرَادَ اسْمُ الْمَفْعُولِ صَحَّتْ إرَادَةُ الثَّلَاثِ .
وَالْفَرْضُ أَنَّ صَرِيحَ اسْمِ الْمَفْعُولِ كَأَنْتِ مُطَلَّقَةٌ لَا يَقْبَلُ نِيَّةَ الثَّلَاثِ فَكَيْفَ بِمَا يُرَادُ هُوَ بِهِ ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ الَّذِي لَا يَقْبَلُهُ هُوَ اسْمُ الْمَفْعُولِ الْمَنْقُولِ لِلْإِنْشَاءِ عَلَى مَا الْتَزَمْنَا الْجَوَابَ بِهِ ، وَاَلَّذِي يُرَادُ بِطَالِقٍ لَيْسَ لِلْإِنْشَاءِ فَتَأَمَّلْ .
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُرَادُ بِطَالِقِ الثَّلَاثِ حَدِيثُ

ابْنِ عُمَرَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي الْحَيْضِ فَلَمْ يَسْتَفْسِرْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَوْ كَانَ مِمَّا تَصِحُّ إرَادَةُ الثَّلَاثِ مِنْهُ لَاسْتَفْسَرَهُ .
يَدُلُّ عَلَى الْمُلَازَمَةِ حَدِيثُ رُكَانَةَ بْنِ عَبْدِ يَزِيدَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد { أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ سُهَيْنَمَةَ أَلْبَتَّةَ فَقَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاَللَّهِ مَا أَرَدْتَ إلَّا وَاحِدَةً ؟ فَقَالَ : وَاَللَّهِ مَا أَرَدْتُ إلَّا وَاحِدَةً } الْحَدِيثُ ، فَظَهَرَ أَنَّهُ لَا يَمْضِي حُكْمُ الْمُحْتَمَلِ حَتَّى يُسْتَفْسَرَ عَنْهُ ، وَثَبَتَ لَنَا مَطْلُوبٌ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الْكِنَايَاتِ عَوَامِلُ بِحَقَائِقِهَا لَا أَنَّهَا يُرَادُ بِهَا الطَّلَاقُ وَإِلَّا كَانَ غَيْرَ مُحْتَمَلٍ فَلَمْ يَسْأَلْهُ كَمَا لَمْ يَسْأَلْ ابْنَ عُمَرَ ، وَلِكَوْنِهَا عَوَامِلَ بِحَقَائِقِهَا احْتَمَلَتْ فَسَأَلَهُ ، وَإِنَّمَا احْتَمَلَتْ حَقَائِقَهَا : أَعْنِي مَعْنَى الْبَيْنُونَةِ الَّتِي تُفِيدُهُ أَلْبَتَّةَ كُلًّا مِنْ نَوْعَيْهَا الْغَلِيظَةِ الْمُرَتَّبَةِ عَلَى الثَّلَاثِ وَالْخَفِيفَةِ الْمُرَتَّبَةِ عَلَى مَا دُونَهَا فَصَحَّ أَنْ يُرَادَ كُلٌّ مِنْ النَّوْعَيْنِ ، غَيْرَ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ ثَبَتَ الْأَخَفُّ لِلتَّيَقُّنِ .
( قَوْلُهُ وَوُقُوعُ الطَّلَاقِ بِاللَّفْظَةِ الثَّانِيَةِ ) يَعْنِي طَالِقٌ الطَّلَاقَ وَبِالثَّالِثَةِ وَهِيَ طَالِقٌ طَلَاقًا ، وَمَا فِي الْكِتَابِ ظَاهِرٌ ، غَيْرَ أَنَّ وُقُوعَ الثَّلَاثِ بِطَالِقٍ طَلَاقًا لَمْ يَكُنْ إلَّا بِالْمَصْدَرِ ، وَيَلْغُو طَالِقٌ فِي حَقِّ الْإِيقَاعِ كَمَا إذَا ذَكَرَ مَعَهُ الْعَدَدَ فَإِنَّ الْوَاقِعَ هُوَ الْعَدَدُ وَإِلَّا يُشْكِلُ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَقَعُ بِهِ وَاحِدَةٌ وَيَقَعُ بِالْمَصْدَرِ ثِنْتَانِ وَهُوَ بَاطِلٌ فِي الْحُرَّةِ لِمَا عُرِفَ ، وَهَذَا يُقَوِّي الْمَرْوِيَّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ إلَّا وَاحِدَةٌ وَإِنْ نَوَى الثَّلَاثَ ، وَيَجِبُ كَوْنُ طَالِقٍ الطَّلَاقَ مِثْلَهُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ إلَّا فِي الْمُنْكَرِ ( قَوْلُهُ وَأَمَّا وُقُوعُهُ بِاللَّفْظَةِ الْأُولَى ) وَهِيَ

الطَّلَاقُ ( فَلِأَنَّ الْمَصْدَرَ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الِاسْمُ .
يُقَالُ : رَجُلٌ عَدْلٌ : أَيْ عَادِلٌ فَصَارَ كَقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ) وَيُرَدُّ أَنَّهُ إذَا أُرِيدَ بِهِ طَالِقٌ يَلْزَمُ أَنْ لَا تَصِحَّ فِيهِ نِيَّةُ الثَّلَاثِ وَسَنَذْكُرُ جَوَابَهُ ( قَوْلُهُ وَلَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى النِّيَّةِ ) أَيْ فِي أَنْتِ الطَّلَاقُ إلَى نِيَّةٍ لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِي غَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَالْمَنْقُولُ عَنْ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ التَّطْلِيقَ بِالْمَصْدَرِ بِالْكِنَايَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَغْلِبْ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ ، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ لِغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ لَا يُفِيدُ لِأَنَّ الَّذِي غَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ هُوَ الْوَصْفُ لَا الْمَصْدَرُ .
قُلْنَا : الْمُرَادُ أَنَّ الْمَصْدَرَ حَيْثُ اُسْتُعْمِلَ كَانَ إرَادَةُ طَالِقٍ بِهِ هُوَ الْغَالِبُ فَيَكُونُ صَرِيحًا فِي طَالِقِ الصَّرِيحِ فَيَثْبُتَ لَهُ حُكْمُ طَالِقٍ .
لَا يُقَالُ : فَيَلْزَمُ فِي سَائِرِ الْكِنَايَاتِ أَنَّهَا صَرَائِحُ .
لِأَنَّا نَمْنَعُ أَنَّهَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الطَّلَاقِ بَلْ فِي مَعَانِيهَا الْحَقِيقِيَّةِ عَلَى مَا سَيَتَحَقَّقُ وَلِذَا أَوْقَعنَا بِهَا الْبَائِنَ .
فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ تَقَعُ الثَّلَاثُ وَقَدْ أُرِيدَ بِهِ طَالِقٌ ؟ قُلْنَا : لِأَنَّهُ كَمَا قُلْنَا صَرِيحٌ فِي طَالِقٍ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ : أَيْ ذَاتُ طَلَاقٍ ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَصِحُّ إرَادَةُ الثَّلَاثِ .
وَلَمَّا كَانَ مُحْتَمَلًا تَوَقَّفَ عَلَى النِّيَّةِ ، وَهَذَا أَوْجَهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مِمَّا قِيلَ : إنَّهُ وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ طَالِقٌ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ كَوْنِهِ مَصْدَرًا فَيَصِحُّ إرَادَةُ الثَّلَاثِ بِهِ لِأَنَّ الْإِرَادَةَ بِاللَّفْظِ لَيْسَتْ إلَّا بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهُ لَا ذَاتِهِ الَّتِي هِيَ هَوَاءٌ مَضْغُوطٌ ، فَإِذَا فُرِضَ أَنَّ مَعْنَاهُ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ لَيْسَ إلَّا مَا لَا تَصْلُحُ إرَادَتُهُ مِنْهُ فَكَيْفَ يُرَادُ بِهِ ذَلِكَ الَّذِي لَا يَصِحُّ ؟ وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِ أَنَّهَا عَيْنُ الطَّلَاقِ ادِّعَاءً وَتَصِحُّ مَعَهُ أَيْضًا إرَادَةُ الثَّلَاثِ ، وَعَلَيْهِ قَوْلُ الْخَنْسَاءِ فَإِنَّمَا هِيَ إقْبَالٌ وَإِدْبَارٌ

يَعْنِي النَّاقَةَ ، لَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مُقْبِلَةٌ وَمُدْبِرَةٌ كَمَا ذَكَرَهُ كَثِيرٌ لِفَوَاتِ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ مِنْ الْمُبَالَغَةِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ نِيَّةِ الثِّنْتَيْنِ بِالْمَصْدَرِ لَا تَصِحُّ خِلَافًا لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ إلَّا أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ أَمَةٌ لَهُمَا أَنَّ الْمَصْدَرَ يَحْتَمِلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ فَالثِّنْتَانِ كَالثَّلَاثِ .
قُلْنَا : نِيَّةُ الثَّلَاثِ لَمْ تَصِحَّ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا كَثْرَةٌ بَلْ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا فَرْدٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ تَمَامُ جِنْسٍ وَاحِدٍ ، بِخِلَافِ الثِّنْتَيْنِ فِي الْحُرَّةِ لِأَنَّهُ عَدَدٌ مَحْضٌ وَأَلْفَاظُ الْوُحْدَانِ لَا تَحْتَمِلُ الْعَدَدَ الْمَحْضِ بَلْ يُرَاعَى فِيهَا التَّوْحِيدُ ، وَهُوَ بِالْفَرْدِيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ أَوْ الْجِنْسِيَّةِ وَالْمُثَنَّى بِمَعْزِلٍ عَنْهَا ، وَقَدْ ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِالْمَصْدَرِ الْمُجَرَّدِ عَنْ اللَّامِ إلَّا وَاحِدَةٌ ، وَأَمَّا الْمُحَلَّى فَيَقَعُ بِهِ الثَّلَاثُ قَالَ الْجَصَّاصُ : هَذِهِ التَّفْرِقَةُ لَا يُعْرَفُ لَهَا وَجْهٌ إلَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي رُوِيَتْ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا أَنْ تَكُونَ وَاحِدَةً وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا لِأَنَّ الْمَصْدَرَ ذُكِرَ لِلتَّأَكُّدِ وَنَفْيِ الْمَجَازِ لَا لِلْإِيقَاعِ .
أَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ طَلَاقٍ وَالطَّلَاقِ .
وَفِي الْمُغْنِي لِابْنِ هِشَامٍ نَقْلًا عَنْ بَعْضِ التَّوَارِيخِ أَنَّ الرَّشِيدَ كَتَبَ إلَى أَبِي يُوسُفَ : مَا قَوْلُ الْقَاضِي الْإِمَامِ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : فَإِنْ تَرْفُقِي يَا هِنْدُ فَالرِّفْقُ أَيْمَنُ وَإِنْ تَخْرُقِي يَا هِنْدُ فَالْخَرْقُ أَشْأَمُ فَأَنْتِ طَلَاقٌ وَالطَّلَاقُ عَزِيمَةٌ ثَلَاثٌ وَمَنْ يَخْرُقْ أَعَقُّ وَأَظْلَمُ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : هَذِهِ مَسْأَلَةٌ نَحْوِيَّةٌ فِقْهِيَّةٌ لَا آمَنُ الْغَلَطَ فِيهَا ، فَأَتَى الْكِسَائِيَّ فَسَأَلَهُ ، فَأَجَابَ عَنْهَا بِمَا سَنَذْكُرُهُ وَهُوَ بَعْدَ كَوْنِهِ غَلَطًا بَعِيدٌ عَنْ مَعْرِفَةِ مَقَامِ الِاجْتِهَادِ ، فَإِنَّ مِنْ شَرْطِهِ مَعْرِفَةُ الْعَرَبِيَّةِ وَأَسَالِيبِهَا لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ يَقَعُ

فِي الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ الْعَرَبِيَّةِ .
وَاَلَّذِي نَقْلُهُ أَهْلُ الثَّبْتِ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَمَّنْ قَرَأَ الْفَتْوَى حِينَ وَصَلَتْ خِلَافُ هَذَا ، وَأَنَّ الْمُرْسِلَ بِهَا الْكِسَائِيُّ إلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَلَا دَخْلَ لِأَبِي يُوسُفَ أَصْلًا وَلَا لِلرَّشِيدِ ، وَلَمَقَامُ أَبِي يُوسُفَ أَجَلُّ مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ مَعَ إمَامَتِهِ وَاجْتِهَادِهِ وَبَرَاعَتِهِ فِي التَّصَرُّفَاتِ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْأَلْفَاظِ .
فَفِي الْمَبْسُوطِ : ذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ أَنَّ الْكِسَائِيَّ بَعَثَ إلَى مُحَمَّدٍ بِفَتْوَى فَدَفَعَهَا إلَيَّ فَقَرَأْتُهَا عَلَيْهِ فَقَالَ : مَا قَوْلُ قَاضِي الْقُضَاةِ الْإِمَامِ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : فَإِنْ تَرْفُقِي يَا هِنْدُ فَالرِّفْقُ أَيْمَنُ وَإِنْ تَخْرُقِي يَا هِنْدُ فَالْخَرْقُ أَشْأَمُ فَأَنْتِ طَلَاقٌ وَالطَّلَاقُ عَزِيمَةٌ ثَلَاثٌ وَمَنْ يَخْرُقْ أَعَقُّ وَأَظْلَمُ فَمَا يَقَعُ عَلَيْهِ ؟ فَكَتَبَ فِي جَوَابِهِ ، إنْ قَالَ : ثَلَاثٌ مَرْفُوعًا يَقَعُ وَاحِدَةٌ ، وَإِنْ قَالَ : ثَلَاثًا مَنْصُوبًا يَقَعُ ثَلَاثٌ ، لِأَنَّهُ إذَا ذَكَرَهُ مَرْفُوعًا كَانَ ابْتِدَاءَ حَالٍ فَيَبْقَى قَوْلُهُ أَنْتِ طَلَاقٌ فَيَقَعُ وَاحِدَةٌ ، وَإِذَا قَالَ : ثَلَاثًا مَنْصُوبًا عَلَى مَعْنَى الْبَدَلِ أَوْ التَّفْسِيرِ فَيَقَعُ بِهِ ثَلَاثٌ كَأَنَّهُ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَالطَّلَاقُ عَزِيمَةٌ ، لِأَنَّ الثَّلَاثَ تَفْسِيرٌ لِمَا وَقَعَ ، فَاسْتَحْسَنَ الْكِسَائِيُّ جَوَابَهُ .
ثُمَّ قَالَ الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ بْنُ هِشَامٍ بَعْدَ الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ : الصَّوَابُ أَنَّ كُلًّا مِنْ الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ يَحْتَمِلُ وُقُوعَ الثَّلَاثِ وَالْوَاحِدَةِ ، أَمَّا الرَّفْعُ فَلِأَنَّ أَلْ فِي الطَّلَاقِ إمَّا لِمَجَازِ الْجِنْسِ نَحْوَ زَيْدٌ الرَّجُلُ : أَيْ الْمُعْتَدُّ بِهِ .
وَإِمَّا لِلْعَهْدِ الذِّكْرِيِّ : أَيْ وَهَذَا الطَّلَاقُ الْمَذْكُورُ عَزِيمَةُ ثَلَاثٍ وَلَا يَكُونُ لِلْجِنْسِ الْحَقِيقِيِّ لِئَلَّا يَلْزَمَ الْإِخْبَارُ بِالْخَاصِّ عَنْ الْعَامِّ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ ، إذْ لَيْسَ كُلُّ طَلَاقٍ عَزِيمَةَ ثَلَاثِ ، فَعَلَى الْعَهْدِيَّةِ يَقَعُ الثَّلَاثُ .

وَعَلَى الْجِنْسِيَّةِ وَاحِدَةٌ .
وَأَمَّا النَّصْبُ فَيَحْتَمِلُ كَوْنَهُ عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ فَيَقَعُ الثَّلَاثُ ، إذْ الْمَعْنَى حِينَئِذٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا ثُمَّ اعْتَرَضَ بَيْنَهُمَا بِالْجُمْلَةِ .
وَكَوْنُهُ حَالًا مِنْ الضَّمِيرِ فِي عَزِيمَةٍ فَلَا يَلْزَمُ وُقُوعُ الثَّلَاثِ لِأَنَّ الْمَعْنَى : وَالطَّلَاقُ عَزِيمَةٌ إذَا كَانَ ثَلَاثًا ، فَإِنَّمَا يَقَعُ مَا نَوَاهُ هَذَا مَا يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ ، وَأَمَّا الَّذِي أَرَادَهُ الشَّاعِرُ فَالثَّلَاثُ لِأَنَّهُ قَالَ بَعْدَهُ فَبِينِي بِهَا إنْ كُنْت غَيْرَ رَفِيقَةٍ وَمَا لِامْرِئٍ بَعْدَ الثَّلَاثِ مُقَدَّمٌ انْتَهَى .
وَتَخْرُقِي بِضَمِّ الرَّاءِ مُضَارِعُ خَرِقَ بِكَسْرِهَا وَالْخُرْقُ بِالضَّمِّ الِاسْمُ وَهُوَ ضِدُّ الرِّفْقِ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الظَّاهِرَ فِي النَّصْبِ كَوْنُهُ عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ نِيَابَةً عَنْ الْمَصْدَرِ لِقِلَّةِ الْفَائِدَةِ فِي إرَادَةِ أَنَّ الطَّلَاقَ عَزِيمَةٌ إنْ كَانَ ثَلَاثًا ، وَأَمَّا الرَّفْعُ فَلِامْتِنَاعِ الْجِنْسِ الْحَقِيقِيِّ كَمَا ذَكَرَ .
بَقِيَ أَنْ يُرَادَ مَجَازُ الْجِنْسِ فَيَقَعَ وَاحِدَةٌ أَوْ الْعَهْدُ الذِّكْرِيُّ وَهُوَ أَظْهَرُ الِاحْتِمَالَيْنِ فَيَقَعَ الثَّلَاثُ وَلِهَذَا ظَهَرَ مِنْ الشَّاعِرِ أَنَّهُ أَرَادَهُ كَمَا أَفَادَهُ الْبَيْتُ الْأَخِيرُ ، فَجَوَابُ مُحَمَّدٍ بِنَاءً عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ كَمَا يَجِبُ فِي مِثْلِهِ مِنْ حَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى الظَّاهِرِ وَعَدَمِ الِالْتِفَاتِ إلَى الِاحْتِمَالِ .

( وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ الطَّلَاقَ فَقَالَ : أَرَدْت بِقَوْلِي طَالِقٌ وَاحِدَةً وَبِقَوْلِي الطَّلَاقَ أُخْرَى يُصَدَّقُ ) لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَالِحٌ لِلْإِيقَاعِ فَكَأَنَّهُ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ فَتَقَعُ رَجْعِيَّتَانِ إذَا كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا .
( قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ الطَّلَاقَ ، وَقَالَ : أَرَدْت بِقَوْلِي طَالِقٌ وَاحِدَةً وَبِقَوْلِي الطَّلَاقَ أُخْرَى يَصْدُقُ ) تَقَدَّمَ أَنَّهُ إذَا أَرَادَ بِطَالِقٍ طَلَاقًا أَوْ الطَّلَاقَ ثِنْتَيْنِ لَا يَصِحُّ فَأَفَادَ هُنَا أَنَّهُ لَوْ أَرَادَهُمَا بِالتَّوْزِيعِ صَحَّ .
وَوَجْهُهُ بِقَوْلِهِ ( لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا صَالِحٌ لِلْإِيقَاعِ فَكَأَنَّهُ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ وَطَلَاقٌ فَتَقَعُ رَجْعِيَّتَانِ إذَا كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا ) وَهَذَا مَنْقُولٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَالْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ ، وَمَنَعَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ طَالِقًا نَعْتٌ وَطَلَاقًا مَصْدَرُهُ فَلَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ .
وَكَذَا فِي أَنْتِ طَالِقٌ الطَّلَاقَ .
وَيُؤَيِّدُ أَنَّ طَلَاقًا نُصِبَ وَلَا يُدْفَعُ بَعْدَ صَلَاحِيَّةِ اللَّفْظِ لِتَعَدُّدِهِ وَصِحَّةِ الْإِرَادَةِ بِهِ إلَّا بِإِهْدَارِ لُزُومِ صِحَّةِ الْإِعْرَابِ فِي الْإِيقَاعِ مِنْ الْعَالِمِ وَالْجَاهِلِ ، وَظَهَرَ أَنَّ الْأَوْلَى فِي التَّشْبِيهِ أَنْ يُقَالَ : فَصَارَ كَقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقٌ لَا طَالِقٌ وَطَلَاقٌ وَإِنْ صَحَّ الْآخَرُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى .

( وَإِذَا أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى جُمْلَتِهَا أَوْ إلَى مَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْجُمْلَةِ وَقَعَ الطَّلَاقُ ) لِأَنَّهُ أُضِيفَ إلَى مَحِلِّهِ ، وَذَلِكَ ( مِثْلَ أَنْ يَقُولَ أَنْتِ طَالِقٌ ) لِأَنَّ التَّاءَ ضَمِيرُ الْمَرْأَةِ ( أَوْ ) يَقُولَ ( رَقَبَتُكِ طَالِقٌ أَوْ عُنُقُك ) طَالِقٌ أَوْ رَأْسُك طَالِقٌ ( أَوْ رُوحُك أَوْ بَدَنُك أَوْ جَسَدُك أَوْ فَرْجُك أَوْ وَجْهُك ) لِأَنَّهُ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ .
أَمَّا الْجَسَدُ وَالْبَدَنُ فَظَاهِرٌ وَكَذَا غَيْرُهُمَا ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } وَقَالَ { فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَعَنَ اللَّهُ الْفُرُوجَ عَلَى السُّرُوجِ } وَيُقَالُ فُلَانٌ رَأْسُ الْقَوْمِ وَيَا وَجْهَ الْعَرَبِ وَهَلَكَ رُوحُهُ بِمَعْنَى نَفْسُهُ وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ الدَّمُ فِي رِوَايَةٍ يُقَالُ دَمُهُ هَدَرٌ وَمِنْهُ النَّفْسُ وَهُوَ ظَاهِرٌ ( وَكَذَلِكَ إنْ ) ( طَلَّقَ جُزْءًا شَائِعًا مِنْهَا مِثْلَ أَنْ يَقُولَ نِصْفُك أَوْ ثُلُثُك ) طَالِقٌ لِأَنَّ الشَّائِعَ مَحِلٌّ لِسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ كَالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ فَكَذَا يَكُونُ مَحِلًّا لِلطَّلَاقِ ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ فِي حَقِّ الطَّلَاقِ فَيَثْبُتَ فِي الْكُلِّ ضَرُورَةً ( وَلَوْ قَالَ : يَدُك طَالِقٌ أَوْ رِجْلُك طَالِقٌ لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ ) وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ : يَقَعُ ، وَكَذَا الْخِلَافُ فِي كُلِّ جُزْءٍ مُعَيَّنٍ لَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ .
لَهُمَا أَنَّهُ جُزْءٌ مُسْتَمْتَعٌ بِعَقْدِ النِّكَاحِ وَمَا هَذَا حَالُهُ يَكُونُ مَحِلًّا لِحُكْمِ النِّكَاحِ فَيَكُونَ مَحِلًّا لِلطَّلَاقِ فَيَثْبُتَ الْحُكْمُ فِيهِ قَضِيَّةً لِلْإِضَافَةِ ثُمَّ يَسْرِي إلَى الْكُلِّ كَمَا فِي الْجُزْءِ الشَّائِعِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أُضِيفَ إلَيْهِ النِّكَاحُ لِأَنَّ التَّعَدِّيَ مُمْتَنِعٌ إذْ الْحُرْمَةُ فِي سَائِرِ الْأَجْزَاءِ تُغَلِّبُ الْحِلَّ فِي هَذَا الْجُزْءِ وَفِي الطَّلَاقِ الْأَمْرُ عَلَى الْقَلْبِ .
وَلَنَا أَنَّهُ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى غَيْرِ مَحِلِّهِ فَيَلْغُوَ كَمَا إذَا أَضَافَهُ إلَى رِيقِهَا أَوْ ظُفُرِهَا ، وَهَذَا لِأَنَّ

مَحِلَّ الطَّلَاقِ مَا يَكُونُ فِيهِ الْقَيْدُ لِأَنَّهُ يُنْبِئُ عَنْ رَفْعِ الْقَيْدِ وَلَا قَيْدَ فِي الْيَدِ وَلِهَذَا لَا تَصِحُّ إضَافَةُ النِّكَاحِ إلَيْهِ ، بِخِلَافِ الْجُزْءِ الشَّائِعِ لِأَنَّهُ مَحِلٌّ لِلنِّكَاحِ عِنْدَنَا حَتَّى تَصِحَّ إضَافَتُهُ إلَيْهِ فَكَذَلِكَ يَكُونُ مَحِلًّا لِلطَّلَاقِ .
وَاخْتَلَفُوا فِي الظَّهْرِ وَالْبَطْنِ ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ لَا يُعَبَّرُ بِهِمَا عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ .

( قَوْلُهُ وَإِنْ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى جُمْلَتِهَا أَوْ إلَى مَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْجُمْلَةِ وَقَعَ ) وَمِثْلُ الْمُضَافِ إلَى الْجُمْلَةِ بِقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَالْمُضَافُ إلَى مَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْجُمْلَةِ بِرَقَبَتُك طَالِقٌ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْإِضَافَةَ فِيهِمَا مَعًا إلَى مَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْجُمْلَةِ مِنْ لَفْظِ أَنْتِ وَرَقَبَتُك إلَخْ ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ مَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْجُمْلَةِ إمَّا بِالْوَضْعِ أَوْ بِالتَّجَوُّزِ .
وَقَوْلُهُ لِأَنَّ التَّاءَ ضَمِيرُ الْمَرْأَةِ هُوَ أَحَدُ الْأَقْوَالِ فِي أَنْتِ أَنَّهُ بِرُمَّتِهِ ضَمِيرٌ أَوْ التَّاءَ وَأَنَّ عِمَادَ أَوْ إنَّ وَاللَّوَاحِقَ حُرُوفٌ تَدُلُّ عَلَى خُصُوصِ الْمُرَادِ ( قَوْلُهُ أَوْ يَقُولُ : رَقَبَتُك طَالِقٌ أَوْ عُنُقُك أَوْ رُوحُك أَوْ بَدَنُك أَوْ جَسَدُك أَوْ فَرْجُك أَوْ وَجْهُك ) هَذِهِ أَمْثِلَةُ مَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ كُلِّ الْإِنْسَانِ وَذِكْرُ اسْتِعْمَالَاتِهَا فِيهَا .
وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَعَنَ اللَّهُ الْفُرُوجَ عَلَى السُّرُوجِ } فَغَرِيبٌ جِدًّا ، وَأَبْعَدَ الشَّيْخُ عَلَاءُ الدِّينِ حَيْثُ اسْتَشْهَدَ بِمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَوَاتِ الْفُرُوجِ أَنْ يَرْكَبْنَ السُّرُوجَ } وَضَعَّفَهُ ، وَأَيْنَ لَفْظُ ذَاتِ الْفَرْجِ .
مِنْ كَوْنِ لَفْظِ الْفَرْجِ يُطْلَقُ عَلَى الْمَرْأَةِ عَنْتَرَةَ لِلْبَعْضِ عَلَى الْكُلِّ ( قَوْلُهُ رَأْسَ الْقَوْمِ ) أَيْ أَكْبَرَهُمْ ( وَيَا وَجْهَ الْعَرَبِ ) يَعْنِي يَا أَوْجَهَهُمْ .
وَبِهِ يَنْدَفِعُ مَا أَوْرَدَ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهِ فَاسِدٌ لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ الْقَوْمَ كَالْجَسَدِ وَفُلَانَ الرَّأْسُ مِنْهُ لَا أَنَّ فُلَانًا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْقَوْمِ كُلِّهِمْ .
وَكَذَا مَا قِيلَ مَعْنَى يَا وَجْهَ الْعَرَبِ أَنَّك فِي الْعَرَبِ بِمَنْزِلَةِ الْوَجْهِ لَا أَنَّهُ عَبَّرَ بِهِ عَنْ جُمْلَةِ الْعَرَبِ بِالْوَجْهِ وَنَادَاهُمْ بِهِ وَلَا يَتِمُّ اسْتِدْلَالُهُ بِهِ ، عَلَى أَنَّ الْوَجْهَ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْجُمْلَةِ إلَّا إذَا

كَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِمْ يَا وَجْهَ الْعَرَبِ يَا أَيُّهَا الْعَرَبُ ا هـ .
وَمَبْنَى كَلَامِهِ أَنَّ التَّرْكِيبَ اسْتِعَارَةٌ بِالتَّرْكِيبِ شُبِّهَتْ الْعَرَبُ بِالْجِسْمِ الْوَاحِدِ لِتَحَامُلِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ وَتَأَلُّمِ بَعْضِهِمْ بِتَأَلُّمِ بَعْضٍ ، فَأَثْبَتَ لَهُ الْوَجْهَ وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ لِجَوَازِ كَوْنِهِ مَجَازًا اسْتِعَارَةً تَحْقِيقِيَّةً شَبَّهَ الرَّجُلَ بِالرَّأْسِ لِشَرَفِهِ عَلَى سَائِرِ الْأَعْضَاءِ لِكَوْنِهِ مَجْمَعَ الْحَوَاسِّ وَبِالْوَجْهِ لِظُهُورِهِ وَشُهْرَتِهِ فَأَطْلَقَ عَلَيْهِ رَأْسَ الْقَوْمِ وَوَجْهَهُمْ : أَيْ أَشْرَفَهُمْ .
وقَوْله تَعَالَى { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلَّا وَجْهَهُ } { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ } أَيْ ذَاتُهُ الْكَرِيمَةُ ، وَأَعْتَقَ رَأْسًا وَرَأْسَيْنِ مِنْ الرَّقِيقِ أَوْ إنَّا بِخَيْرِ مَا دَامَ رَأْسُك سَالِمًا يُقَالُ مُرَادًا بِهِ الذَّاتُ أَيْضًا ( قَوْلُهُ وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ الدَّمُ ) يَعْنِي فِي رِوَايَةٍ تُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْكُلُّ ، وَهِيَ رِوَايَةُ كِتَابِ الْكَفَالَةِ ، قَالَ : لَوْ كَفَلَ بِدَمِهِ يَصِحُّ ، وَرِوَايَةُ كِتَابِ الْعِتْقِ لَا تَصِحُّ ، فَإِنَّهُ قَالَ : إذَا قَالَ : دَمُك حُرٌّ لَا يُعْتَقُ .
وَفِي الْخُلَاصَةِ صَحَّحَ عَدَمَ الْوُقُوعِ ( قَوْلُهُ وَكَذَلِكَ إنْ طَلَّقَ جُزْءًا شَائِعًا ) يَعْنِي يَقَعُ عَلَيْهَا كَنِصْفِهَا وَرُبْعِهَا وَسُدُسِهَا لِأَنَّ الشَّائِعَ مَحِلُّ التَّصَرُّفَاتِ كَالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ كَالْإِجَارَةِ ( قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ : يَدُك طَالِقٌ أَوْ رِجْلُك ) وَهَذَا يُقَابِلُ مَعْنَى الْأَوَّلِ : أَيْ الْجُزْءِ الْمُعَيَّنِ الَّذِي يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْجُمْلَةِ كَرَقَبَتُك فَإِنَّهُ جُزْءٌ مُعَيَّنٌ لَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْجُمْلَةِ .
وَمِنْهُ الْأُصْبُعُ وَالدُّبُرُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِإِضَافَتِهِ إلَيْهِ خِلَافًا لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ بِالْإِضَافَةِ إلَى الشَّعْرِ وَالظُّفْرِ وَالسِّنِّ وَالرِّيقِ وَالْعَرَقِ وَالْحَمْلِ لَا يَقَعُ ، وَالْعَتَاقُ وَالظِّهَارُ وَالْإِيلَاءُ وَكُلُّ سَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الْحُرْمَةِ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ ، فَلَوْ ظَاهَرَ أَوْ

آلَى أَوْ أَعْتَقَ إصْبَعَهَا لَا يَصِحُّ عِنْدَنَا وَيَصِحُّ عِنْدَهُمْ ، وَكَذَا الْعَفْوُ عَنْ الْقِصَاصِ وَمَا كَانَ مِنْ أَسْبَابِ الْحِلِّ كَالنِّكَاحِ لَا تَصِحُّ إضَافَتُهُ إلَى الْجُزْءِ الْمُعَيَّنِ الَّذِي لَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْكُلِّ بِلَا خِلَافٍ .
( قَوْلُهُ لَهُمَا ) حَاصِلُهُ قِيَاسُ مُرَكَّبِ نَتِيجَةِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ : أَيْ الْجُزْءُ الْمُعَيَّنُ الَّذِي لَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْجُمْلَةِ مَحِلٌّ لِحُكْمِ النِّكَاحِ فَجُعِلَ صُغْرًى وَيُضَمُّ إلَيْهَا ، وَمَا كَانَ مَحِلًّا لِحُكْمِ النِّكَاحِ يَكُونُ مَحِلًّا لِلطَّلَاقِ يَنْتِجُ الْجُزْءُ الْمُعَيَّنُ الَّذِي لَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْجُمْلَةِ مَحِلٌّ لِلطَّلَاقِ ، وَالْقِيَاسُ الْفِقْهِيُّ جُزْءٌ هُوَ مَحِلٌّ لِحُكْمِ النِّكَاحِ فَيَكُونَ مَحِلًّا لِلطَّلَاقِ كَالْجُزْءِ الشَّائِعِ ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ ، فَإِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ وُقُوعِهِ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْجُزْءِ الْمُعَيَّنِ ، فَقِيلَ يَقَعُ عَلَيْهِ ثُمَّ يَسْرِي كَمَا فِي الْعِتْقِ .
قَالَ : الْغَزَالِيُّ : هُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ فِي الْعِتْقِ لَا فِي الطَّلَاقِ ، وَقِيلَ : يُجْعَلُ الْجُزْءُ مُعَبَّرًا بِهِ عَنْ الْكُلِّ فَيَقَعَ بِاللَّفْظِ ، قَالُوا : وَتَظْهَرُ ثَمَرَةُ الْخِلَافِ فِيمَا لَوْ قَالَ : إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَيَمِينُك طَالِقٌ فَقَطَعَتْ ثُمَّ دَخَلَتْ ، إنْ قُلْنَا بِالسَّرَايَةِ لَا يَقَعُ ، وَإِنْ قُلْنَا بِالْعِبَارَةِ عَنْ الْكُلِّ يَقَعُ ( قَوْلُهُ وَلَنَا إلَخْ ) حَاصِلُهُ مَنْعُ مَحَلِّيَّتِهِ لِلطَّلَاقِ بِمَنْعِ عَلِيَّةِ كَوْنِهِ مَحِلًّا لِلْحِلِّ لِكَوْنِهِ مَحِلًّا لِلطَّلَاقِ بَلْ مَحِلُّهُ مَا فِيهِ قَيْدُ النِّكَاحِ وَالْقَيْدُ وَهُوَ مَنْعُهَا مِنْ الْفِعْلِ مَعَ الْغَيْرِ وَأَمْرُهَا بِهِ مَعَهُ : أَيْ تَسْلِيمُهَا نَفْسَهَا ، وَعَنْهُ كَانَ تَخْصِيصُهَا بِهِ هُوَ حُكْمُ النِّكَاحِ أَوَّلًا ثُمَّ يَثْبُتُ الْحِلُّ تَبَعًا لَهُ حُكْمًا لِهَذَا الْحُكْمِ ، وَالطَّلَاقُ يُنْبِئُ عَنْ رَفْعِ الْقَيْدِ فَيَكُونَ وَضْعُهُ لِرَفْعِ ذَلِكَ ، وَيَرْتَفِعُ الْحِلُّ تَبَعًا لِرَفْعِهِ كَمَا ثَبَتَ تَبَعًا لِثُبُوتِهِ ، وَهَذَا الْقَيْدُ الْمَعْنَوِيُّ

لَيْسَ فِي الْبَلَدِ وَلَا فِي غَيْرِهَا مِنْ أَجْزَاءِ الْهُوِيَّةِ لِأَنَّ الْمَنْعَ خِطَابٌ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَجْزَاءِ الْخَارِجِيَّةِ بَلْ بِمُسَمَّى الْعَاقِلِ الْمُكَلَّفِ وَلِهَذَا جَازَ النِّكَاحُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا يَدٌ ، وَحِلُّ الِاسْتِمْتَاعِ بِالْأَجْزَاءِ الْمُعَيَّنَةِ تَبَعٌ فِي ذَلِكَ ، بِخِلَافِ الْجُزْءِ الشَّائِعِ إذْ لَا وُجُودَ لِلْمُسَمَّى بِدُونِهِ فَكَانَ مَحِلًّا لِلنِّكَاحِ فَكَذَا الطَّلَاقُ ، وَوُقُوعُهُ بِالْإِضَافَةِ إلَى الرَّأْسِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ مُعَبَّرًا بِهِ عَنْ الْكُلِّ لَا بِاعْتِبَارِ نَفْسِهِ مُقْتَصِرًا .
وَلِذَا نَقُولُ : لَوْ قَالَ الزَّوْجُ : عَنَيْت الرَّأْسَ مُقْتَصِرًا قَالَ الْحَلْوَانِيُّ : لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ : لَا يَقَعُ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى أَمَّا فِي الْقَضَاءِ إذَا كَانَ التَّعْبِيرُ بِهِ عَنْ الْكُلِّ عُرْفًا مُشْتَهِرًا لَا يُصَدَّقُ وَلَوْ قَالَ : عَنَيْت بِالْيَدِ صَاحِبَهَا كَمَا أَرَادَ عَزَّ قَائِلًا فِي قَوْلِهِ عَزَّ قَائِلًا { ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ } أَيْ قَدَّمَتْ وَعَنَاهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ { عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّ } وَتَعَارَفَ قَوْمٌ التَّعْبِيرَ بِهَا عَنْ الْكُلِّ وَقَعَ بِالْإِضَافَةِ إلَيْهَا لِأَنَّ الطَّلَاقَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْعُرْفِ وَلِذَا لَوْ طَلَّقَ النَّبَطِيُّ بِالْفَارِسِيَّةِ يَقَعُ ، وَلَوْ تَكَلَّمَ بِهِ الْعَرَبِيُّ وَلَا يُدْرِيهِ لَا يَقَعُ ، وَلَا مُنَاقَشَةَ فِي هَذَا ، إنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّ مَا يُمْلَكُ تَبَعًا هَلْ يَكُونُ مَحِلًّا لِإِضَافَةِ الطَّلَاقِ إلَيْهِ عَلَى حَقِيقَتِهِ دُونَ صَيْرُورَتِهِ عِبَارَةً عَنْ الْكُلِّ ، فَأَمَّا عَلَى مَجَازِهِ فِي الْكُلِّ لَا إشْكَالَ أَنَّهُ يَقَعُ يَدًا كَانَ أَوْ رِجْلًا بَعْدَ كَوْنِهِ مُسْتَقِيمًا لُغَةً أَوْ لُغَةَ قَوْمٍ ( قَوْلُهُ وَاخْتَلَفُوا فِي الظَّهْرِ وَالْبَطْنِ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ لَا يُعَبَّرُ بِهِمَا عَنْ كُلِّ الْبَدَنِ ) وَكَذَا لَوْ قَالَ : ظَهْرُك عَلَيَّ أَوْ بَطْنُك عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي : أَيْ لَا يَكُونُ مُظَاهِرًا ، وَقَوْلُهُ صَلَّى

اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا صَدَقَةَ إلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى } الظَّهْرُ الصِّغَارُ فِيهِ ، أَمَّا لَوْ كَانَ فِيهِمَا عُرْفٌ فِي إرَادَةِ الْكُلِّ بِهِمَا يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ ، وَلِذَا لَا يَقَعُ بِالْإِضَافَةِ إلَى وَيُدَّعَ ، وَمَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ : لَوْ قَالَ الْمُحَشَّانِ طَالِقٌ يَقَعُ .
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ : تَصْحِيفٌ ، إنَّمَا هُوَ بَعْضُك أَوْ نِصْفُك .
وَفِي الْخُلَاصَةِ : اسْتُك طَالِقٌ كَفَرْجِك طَالِقٌ ، بِخِلَافِ الدُّبُرِ ، قَالَ شَارِحٌ : عِنْدِي فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الِاسْتَ بِمَعْنَى الدُّبُرِ وَلَيْسَ بِذَاكَ لِأَنَّ الْبُضْعَ بِمَعْنَى الْفَرْجِ أَيْضًا وَيَقَعُ فِي الْفَرْجِ دُونَ الْبُضْعِ لِجَوَازِ تَعَارُفِ أَحَدِهِمَا فِي الْكُلِّ دُونَ الْآخَرِ .
وَالْأَوْجُهُ أَنَّ مَحِلَّ النَّظَرِ كَوْنُهُ كَفَرْجِك طَالِقٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَدَارَ تَعَارُفُ التَّعْبِيرِ بِهِ عَنْ الْكُلِّ ، وَكَوْنُ الْفَرْجِ عُبِّرَ بِهِ عَنْ الْكُلِّ لَا يَلْزَمُ كَوْنُ الِاسْتِ كَذَلِكَ .
وَهَذَا لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ أَنْ يُقَالَ : يَقَعُ بِالْإِضَافَةِ إلَى اسْمِ جُزْءٍ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْكُلِّ فَإِنَّ نَفْسَ الْجُزْءِ لَا صَفَا التَّعْبِيرُ بِهِ .
هَذَا وَقَدْ يُقَالُ عَلَى الْمُصَنِّفِ إنْ كَانَ الْمُعْتَبَرُ فِي كَوْنِ اللَّفْظِ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْكُلِّ شُهْرَتُهُ فَيَجِبُ أَنْ لَا يَقَعَ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْفَرْجِ أَوْ وُقُوعُ اسْتِعْمَالِهِ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ اللِّسَانِ ، فَيَجِبُ أَنْ لَا يُذْكَرَ الْخِلَافُ فِي الْيَدِ لِمَا ثَبَتَ مِنْ اسْتِعْمَالِهَا فِي الْكُلِّ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَأَيْضًا ظَاهِرُ الْكَلَامِ أَنَّ الْمُضَافَ إلَى الْجُزْءِ الشَّائِعِ وَالْمُعَبَّرِ بِهِ عَنْ الْكُلِّ صَرِيحٌ إذَا لَمْ يَشْتَرِطْ فِي الْوُقُوعِ بِهِ النِّيَّةُ وَالصَّرَاحَةُ بِغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ ، وَمَعْلُومٌ انْتِفَاءُ الطَّلَاقِ كَذَلِكَ .

( وَإِنْ طَلَّقَهَا نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ أَوْ ثُلُثَهَا كَانَتْ ) طَالِقًا ( تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً ) لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَتَجَزَّأُ ، وَذِكْرُ بَعْضِ مَا لَا يَتَجَزَّأُ كَذِكْرِ الْكُلِّ ، وَكَذَا الْجَوَابُ فِي كُلِّ جُزْءٍ سَمَّاهُ لِمَا بَيَّنَّا ( وَلَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثَةَ أَنْصَافٍ تَطْلِيقَتَيْنِ فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا ) لِأَنَّ نِصْفَ التَّطْلِيقَتَيْنِ تَطْلِيقَةٌ ، فَإِذَا جَمَعَ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَنْصَافٍ تَكُونُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ ضَرُورَةً .
وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثَةَ أَنْصَافٍ تَطْلِيقَةً ، قِيلَ : يَقَعُ تَطْلِيقَتَانِ لِأَنَّهَا طَلْقَةٌ وَنِصْفٌ فَيَتَكَامَلَ ، وَقِيلَ : يَقَعُ ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ لِأَنَّ كُلَّ نِصْفٍ يَتَكَامَلُ فِي نَفْسِهِ فَتَصِيرَ ثَلَاثًا .

( قَوْلُهُ وَإِنْ طَلَّقَهَا نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ أَوْ ثُلُثَهَا كَانَتْ تَطْلِيقَةً ) وَكَذَا الْجَوَابُ فِي كُلِّ جُزْءٍ سَمَّاهُ كَالثُّمْنِ أَوْ قَالَ : جُزْءٌ مِنْ أَلْفِ جُزْءٍ مِنْ تَطْلِيقَةٍ .
وَقَالَ نُفَاةُ الْقِيَاسِ : لَا يَقَعُ بِهِ لِأَنَّ بَعْضَ الشَّيْءِ غَيْرُهُ ، وَالْمَشْرُوعُ الطَّلَاقُ لَا غَيْرُهُ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُرَادَ بِغَيْرِهِ مَا لَيْسَ إيَّاهُ ، وَإِلَّا فَالْبَعْضُ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ لَيْسَ نَفْسًا وَلَا غَيْرًا .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الشَّرْعَ نَاظِرٌ إلَى صَوْنِ كَلَامِ الْعَاقِلِ وَتَصَرُّفِهِ مَا أَمْكَنَ ، وَلِذَا اُعْتُبِرَ الْعَفْوُ عَنْ بَعْضِ الْقِصَاصِ عَفْوًا عَنْهُ ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلْمَذْكُورِ جُزْءٌ كَانَ كَذِكْرِ كُلِّهِ تَصْحِيحًا كَالْعَفْوِ ( قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثَةَ أَنْصَافٍ تَطْلِيقَتَيْنِ فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِأَنَّ نِصْفَ التَّطْلِيقَتَيْنِ تَطْلِيقَةٌ ، فَإِذَا جَمَعَ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَنْصَافٍ يَكُونُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ ضَرُورَةً ) وَقِيلَ : يَنْبَغِي أَنْ لَا تَقَعَ الثَّالِثَةُ لِأَنَّ فِي إيقَاعِهَا شَكًّا لِأَنَّ ثَلَاثَةَ أَنْصَافِ تَطْلِيقَتَيْنِ يَحْتَمِلُ مَا ذُكِرَ وَيَحْتَمِلُ كَوْنَهَا طَلْقَةً وَنِصْفًا ، لِأَنَّ الطَّلْقَتَيْنِ إذَا انْتَصَفَتَا صَارَتَا أَرْبَعَةَ أَنْصَافٍ فَثَلَاثَةٌ مِنْهُمَا طَلْقَةٌ وَنِصْفٌ فَتَكْمُلَ طَلْقَتَيْنِ ، وَهَذَا غَلَطٌ مِنْ اشْتِبَاهِ قَوْلِنَا نَصَّفْنَا طَلْقَتَيْنِ وَنَصَّفْنَا كُلًّا مِنْ طَلْقَتَيْنِ ، وَالثَّانِي هُوَ الْمُوجِبُ لِلْأَرْبَعَةِ الْأَنْصَافِ وَهُوَ احْتِمَالٌ فِي ثَلَاثَةِ أَنْصَافِ تَطْلِيقَتَيْنِ فَيَثْبُتَ فِي النِّيَّةِ لَا فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ هُوَ أَنَّ نِصْفَ التَّطْلِيقَتَيْنِ تَطْلِيقَةٌ لَا نِصْفَا تَطْلِيقَتَيْنِ .
( قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثَةَ أَنْصَافِ تَطْلِيقَةٍ قِيلَ : يَقَعُ تَطْلِيقَتَانِ لِأَنَّهَا طَلْقَةٌ وَنِصْفٌ فَيَتَكَامَلَ ) وَهَذَا هُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ النَّاطِفِيُّ وَالْعَتَّابِيُّ ، وَعُرِفَ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ قَالَ : نِصْفَيْ تَطْلِيقَةٍ يَقَعُ وَاحِدَةٌ ( وَقِيلَ

يَقَعُ ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ لِأَنَّ كُلَّ نِصْفٍ يَتَكَامَلُ فِي نَفْسِهِ فَتَصِيرُ ثَلَاثًا ) وَالثَّلَاثُ كَالْجَمْعِ اخْتِصَارًا لِلْمُتَعَاطِفَاتِ ، فَكَأَنَّهُ قَالَ نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ وَنِصْفَ تَطْلِيقَةٍ وَنِصْفَ تَطْلِيقَةٍ .
وَلَوْ قِيلَ : إنَّ الْمَعْنَى نِصْفُ تَطْلِيقَةٍ وَنِصْفُهَا الْآخَرِ وَمِثْلُهُ بِالضَّرُورَةِ إذْ لَيْسَ لِلشَّيْءِ إلَّا نِصْفَانِ فَيَقَعَ ثِنْتَانِ اُتُّجِهَ لِأَنَّ نِصْفَهَا وَنِصْفَهَا أَجْزَاءُ طَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ كَقَوْلِهِ نِصْفَ طَلْقَةٍ وَسُدُسَهَا وَثُلُثَهَا حَيْثُ يَقَعُ وَاحِدَةٌ لِاتِّحَادِ مَرْجِعِ الضَّمِيرِ ، بِخِلَافِ نِصْفِ طَلْقَةٍ وَثُلُثِ طَلْقَةٍ وَسُدُسِ طَلْقَةٍ حَيْثُ يَقَعُ ثَلَاثٌ لِأَنَّ النَّكِرَةَ إذَا أُعِيدَتْ نَكِرَةً فَالثَّانِيَةُ غَيْرُ الْأُولَى فَأَوْقَعَ مِنْ كُلِّ تَطْلِيقَةٍ جُزْءًا وَلَوْ زَادَ أَجْزَاءَ الْوَاحِدَةِ مِثْلَ نِصْفِ طَلْقَةٍ وَثُلُثِهَا وَاسْتَأْنِ وَقَعَتْ ثِنْتَانِ لِلُزُومِ كَوْنِ الْجُزْءِ الْأَخِيرِ مِنْ أُخْرَى ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قِيلَ : يَقَعُ ثَلَاثٌ إذَا قَالَ نِصْفَ طَلْقَةٍ وَثُلُثَاهَا وَسَبْعَةَ أَثْمَانِهَا لَمْ يَبْعُدْ ، إلَّا أَنَّ الْأَصَحَّ فِي اتِّحَادِ الْمَرْجِعِ وَإِنْ زَادَتْ أَجْزَاءُ وَاحِدَةٍ أَنْ تَقَعَ وَاحِدَةٌ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْأَجْزَاءَ إلَى وَاحِدَةٍ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمَبْسُوطِ .
وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنْ الْمَشَايِخِ ، وَلَوْ قَالَ لِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ لَهُ : بَيْنَكُنَّ تَطْلِيقَةٌ طَلُقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ وَاحِدَةً وَكَذَا إذَا قَالَ : بَيْنَكُنَّ تَطْلِيقَتَانِ أَوْ ثَلَاثٌ أَوْ أَرْبَعٌ إلَّا إذَا نَوَى أَنَّ كُلَّ تَطْلِيقَةٍ بَيْنَهُنَّ جَمِيعًا فَيَقَعَ فِي التَّطْلِيقَتَيْنِ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا تَطْلِيقَتَانِ وَفِي الثَّلَاثِ ثَلَاثٌ ، وَلَوْ قَالَ : بَيْنَكُنَّ خَمْسُ تَطْلِيقَاتٍ وَلَا نِيَّةَ لَهُ طَلُقَتْ كُلٌّ تَطْلِيقَتَيْنِ .
وَكَذَا مَا زَادَ إلَى ثَمَانٍ ، فَإِنْ زَادَ عَلَى الثَّمَانِ فَقَالَ : تِسْعٌ طَلُقَتْ كُلٌّ ثَلَاثًا وَلَا يَخْفَى الْوَجْهُ ، وَكَذَا لَوْ قَالَ : أَشْرَكْتُكُنَّ فِي ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ فَلَفْظُ بَيْنَ وَلَفْظُ الْإِشْرَاكِ سَوَاءٌ .
بِخِلَافِ مَا لَوْ طَلَّقَ

امْرَأَتَيْنِ لَهُ كُلَّ وَاحِدَةٍ وَاحِدَةً ثُمَّ قَالَ لِثَالِثَةٍ : أَشْرَكْتُك فِيمَا أَوْقَعْتُ عَلَيْهِمَا يَقَعُ عَلَيْهَا تَطْلِيقَتَانِ لِأَنَّهُ شَرِكَهَا فِي كُلِّ تَطْلِيقَةٍ .
وَفِي آخِرِ بَابِ الطَّلَاقِ مِنْ الْمَبْسُوطِ لَوْ قَالَ : فُلَانَةُ طَالِقٌ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ : أَشْرَكْت فُلَانَةَ مَعَهَا فِي الطَّلَاقِ وَقَعَ عَلَى الْأُخْرَى ثَلَاثٌ ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ ، لِأَنَّ هُنَاكَ لَمْ يَسْبِقْ وُقُوعُ شَيْءٍ فَيَنْقَسِمَ الثَّلَاثُ بَيْنَهُنَّ نِصْفَيْنِ قِسْمَةً وَاحِدَةً وَهَذَا قَدْ أَوْقَعَ الثَّلَاثَ عَلَى الْأُولَى فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَرْفَعَ شَيْئًا مِمَّا أَوْقَعَ عَلَيْهَا بِإِشْرَاكِ الثَّانِيَةِ ، وَإِنَّمَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُسَوِّيَ الثَّانِيَةَ بِهَا بِإِيقَاعِ الثَّلَاثِ عَلَيْهَا ، وَلِأَنَّهُ أَوْقَعَ الثَّلَاثَ عَلَى الْأُولَى فَكَلَامُهُ فِي حَقِّ الثَّانِيَةِ إشْرَاكٌ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الثَّلَاثِ فَكَأَنَّهُ قَالَ : بَيْنَكُمَا ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ ، وَهُوَ يُوجِبُ أَنَّ كُلَّ تَطْلِيقَةٍ بَيْنَهُمَا .
وَقَدْ وَرَدَ اسْتِفْتَاءٌ فِيمَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَقَالَ لِأُخْرَى : أَشْرَكْتُك فِيمَا أَوْقَعْتُ عَلَيْهَا وَلِثَالِثَةٍ أَشْرَكْتُك فِيمَا أَوْقَعْتُ عَلَيْهِمَا ، وَبَعْدَ أَنْ كَتَبْنَا تَطْلُقُ الثَّلَاثُ ثَلَاثًا ثَلَاثًا قُلْنَا : إنَّ وُقُوعَهُنَّ عَلَى الثَّالِثَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ أَشْرَكَهَا فِي سِتٍّ .
وَفِي الْمَبْسُوطِ أَيْضًا : لَوْ قَالَ لِامْرَأَتَيْنِ : أَنْتُمَا طَالِقَتَانِ ثَلَاثًا يَنْوِي أَنَّ الثَّلَاثَ بَيْنَهُمَا فَهُوَ مَدِينٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ فَتَطْلُقُ كُلٌّ مِنْهُمَا ثِنْتَيْنِ لِأَنَّهُ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ لَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ فَلَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ فَتَطْلُقَ كُلٌّ ثَلَاثًا ، وَكَذَا لَوْ قَالَ لِأَرْبَعٍ : أَنْتَنَ طَوَالِقُ ثَلَاثًا يَنْوِي أَنَّ الثَّلَاثَ بَيْنَهُنَّ فَهُوَ مَدِينٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنِ اللَّهِ تَعَالَى فَتَطْلُقَ كُلُّ وَاحِدَةٍ وَاحِدَةً وَفِي الْقَضَاءِ تَطْلُقُ كُلٌّ ثَلَاثًا

( وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى ثِنْتَيْنِ أَوْ مَا بَيْنَ وَاحِدَةٍ إلَى ثِنْتَيْنِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ .
وَلَوْ قَالَ : مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى ثَلَاثٍ أَوْ مَا بَيْنَ وَاحِدَةٍ إلَى ثَلَاثٍ فَهِيَ ثِنْتَانِ .
وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ فِي الْأُولَى هِيَ ثِنْتَانِ وَفِي الثَّانِيَةِ ثَلَاثٌ ) وَقَالَ زُفَرُ : الْأُولَى لَا يَقَعُ شَيْءٌ ، وَفِي الثَّانِيَةِ تَقَعُ وَاحِدَةٌ ، وَهُوَ الْقِيَاسُ لِأَنَّ الْغَايَةَ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْمَضْرُوبِ لَهُ الْغَايَةُ ، كَمَا لَوْ قَالَ : بِعْت مِنْك مِنْ هَذَا الْحَائِطِ إلَى هَذَا الْحَائِطِ .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا وَهُوَ الِاسْتِحْسَانُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ مَتَى ذُكِرَ فِي الْعُرْفِ يُرَادُ بِهِ الْكُلُّ ، كَمَا تَقُولُ لِغَيْرِك : خُذْ مِنْ مَالِي مِنْ دِرْهَمٍ إلَى مِائَةٍ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْأَكْثَرُ مِنْ الْأَقَلِّ وَالْأَقَلُّ مِنْ الْأَكْثَرِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ سِنِّي مِنْ سِتِّينَ إلَى سَبْعِينَ وَمَا بَيْنَ سِتِّينَ إلَى سَبْعِينَ وَيُرِيدُونَ بِهِ مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَإِرَادَةُ الْكُلِّ فِيمَا طَرِيقُهُ طَرِيقُ الْإِبَاحَةِ كَمَا ذُكِرَ ، إذْ الْأَصْلُ فِي الطَّلَاقِ هُوَ الْحَظْرُ ، ثُمَّ الْغَايَةُ الْأُولَى لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مَوْجُودَةً لِيَتَرَتَّبَ عَلَيْهَا الثَّانِيَةُ ، وَوُجُودُهَا بِوُقُوعِهَا ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّ الْغَايَةَ فِيهِ مَوْجُودَةٌ قَبْلَ الْبَيْعِ .
وَلَوْ نَوَى وَاحِدَةً يَدِينُ دِيَانَةً لَا قَضَاءً لِأَنَّهُ مُحْتَمَلُ كَلَامِهِ لَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ .

( قَوْلُهُ : أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى ثِنْتَيْنِ أَوْ مَا بَيْنَ وَاحِدَةٍ إلَى ثِنْتَيْنِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ ، وَلَوْ قَالَ : مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى ثَلَاثٍ أَوْ مَا بَيْنَ وَاحِدَةٍ إلَى ثَلَاثٍ فَهِيَ ثِنْتَانِ ) وَهَذَا التَّفْصِيلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا فِي الْأُولَى وَهِيَ قَوْلُهُ مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى ثِنْتَيْنِ وَمَا بَيْنَ وَاحِدَةٍ إلَى ثِنْتَيْنِ يَقَعُ ثِنْتَانِ وَفِي الثَّانِيَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى ثَلَاثٍ وَمَا بَيْنَ وَاحِدَةٍ إلَى ثَلَاثٍ يَقَعُ ثَلَاثٌ .
وَقَالَ : زُفَرُ : فِي الْأُولَى لَا يَقَعُ شَيْءٌ وَفِي الثَّانِيَةِ يَقَعُ وَاحِدَةٌ وَتَسْمِيَةُ الصُّورَتَيْنِ أُولَى ثُمَّ الصُّورَتَيْنِ ثَانِيَةً بِاعْتِبَارِ اتِّحَادِ مَدْخُولِ إلَى فِي الصُّورَتَيْنِ ، فَالْأُولَى مَا كَانَ مَدْخُولُ إلَى ثِنْتَيْنِ ، وَالثَّانِيَةُ مَا كَانَ مَدْخُولُهَا ثَلَاثًا .
ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي قَوْلِ زُفَرَ : وَهُوَ الْقِيَاسُ لِأَنَّ الْغَايَةَ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْمَضْرُوبِ لَهُ الْغَايَةُ كَمَا لَوْ قَالَ : بِعْت مِنْك مِنْ هَذَا الْحَائِطِ إلَى هَذَا الْحَائِطِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ زُفَرَ لَا يُدْخِلُ الْحَدَّيْنِ لَا الْأَوَّلَ وَلَا الثَّانِيَ ، وَالْعُرْفُ أَنْ يُرَادَ بِالْغَايَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ فَقَطْ مَدْخُولَةُ إلَى وَحَتَّى لِأَنَّهَا الْمُنْتَهَى .
فَوَجْهُ مَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ بِاسْتِعْمَالِ الْغَايَةِ فِي الْحَدِّ : أَيْ الْحَدِّ مِنْ الطَّرَفَيْنِ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْمَضْرُوبِ لَهُ الْحَدُّ وَالْمَضْرُوبُ لَهُ هُوَ الْبَيْعُ مَثَلًا فَلَا يَدْخُلُ الْحَدَّانِ فِيهِ ، فَكَذَا فِي الطَّلَاقِ .
وَقَدْ صَرَّحَ بِتَسْمِيَةِ الْأُولَى غَايَةً فِي وَجْهِ أَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ قَالَ : ثُمَّ الْغَايَةُ الْأُولَى .
وَالْمُرَادُ بِالْقِيَاسِ قَضِيَّةُ اللَّفْظِ لَا الْقِيَاسُ الْأُصُولِيُّ ، لِأَنَّ زُفَرَ إنَّمَا بَنَى جَوَابَهُ عَلَى قَضِيَّةِ اللَّفْظِ كَمَا يُفِيدُهُ جَوَابُهُ الْمَنْقُولُ لِلْأَصْمَعِيِّ حِينَ سَأَلَهُ عِنْدَ بَابِ الرَّشِيدِ عَنْ قَوْلِ الرَّجُلِ أَنْتِ طَالِقٌ مَا بَيْنَ وَاحِدَةٍ إلَى ثَلَاثٍ فَقَالَ : تَطْلُقُ وَاحِدَةً لِأَنَّ كَلِمَةَ مَا بَيْنَ لَا تَتَنَاوَلُ الْحَدَّيْنِ ،

وَكَذَلِكَ مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى ثَلَاثٍ لِأَنَّ الْغَايَةَ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْمُغَيَّا فَأَلْزَمَهُ فِي قَوْلِ الرَّجُلِ كَمْ سِنُّك فَقَالَ : مِنْ سِتِّينَ إلَى سَبْعِينَ أَنْ يَكُونَ عُمُرُهُ تِسْعَ سِنِينَ فَيَكُونَ إيرَادُ مَسْأَلَةِ الْبَيْعِ ذِكْرَ مَحِلٍّ بِإِعْمَالِ اللَّفْظِ كَالدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ بِذِكْرِ مَحِلِّ إعْمَالِهِ لِيُبَيِّنَ أَنَّهُ غَيْرُ مَتْرُوكِ الظَّاهِرِ لَا لِلْقِيَاسِ عَلَيْهَا .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ ذِكْرَ الْبَيْعِ عَلَى هَذَا زِيَادَةٌ عَلَى تَمَامِ الدَّلِيلِ لَا أَصْلَ لِلْقِيَاسِ فَيَكُونَ جُزْءَ الدَّلِيلِ ، ثُمَّ قَدْ نُسِبَ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ مَا نُسِبَ إلَى الْأَصْمَعِيِّ غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ لَهُ فِي الْإِلْزَامِ : كَمْ سِنُّك ؟ فَقَالَ لَهُ زُفَرُ : مَا بَيْنَ سِتِّينَ إلَى سَبْعِينَ فَقَالَ لَهُ أَبُو حَنِيفَةَ : سِنُّك غُبَّرًا تِسْعُ سِنِينَ ، وَهَذَا بَعِيدٌ إذْ يَبْعُدُ أَنْ يُجِيبَ فِيمَا بَيْنَ وَاحِدَةٍ إلَى ثَلَاثٍ وَنَحْوِهِ بِذَلِكَ ثُمَّ يُقَالُ لَهُ كَمْ سِنُّك فَيُجِيبَ بِلَفْظِ مَا بَيْنَ دُونَ أَنْ يَقُولَ خَمْسَةً وَسِتِّينَ وَنَحْوَهُ مَعَ ظُهُورِ وُرُودِ الْإِلْزَامِ حِينَئِذٍ إلَّا وَقَدْ أَعَدَّ جَوَابَهُ فَلَمْ يَكُنْ بِحَيْثُ يَنْقَطِعُ .
عَلَى أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ عِنْدَ إلْزَامِ الْأَصْمَعِيِّ : اُسْتُحْسِنَ فِي مِثْلِ هَذَا ، وَاَلَّذِي يَتَبَادَرُ فِي وَجْهِ اسْتِحْسَانِهِ أَنَّ فِي قَوْلِ الرَّجُلِ سِنِّي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إلَى السَّبْعِينَ عُرْفًا فِي إرَادَةِ الْأَقَلِّ مِنْ الْأَكْثَرِ وَالْأَكْثَرِ مِنْ الْأَقَلِّ ، وَلَا عُرْفَ فِي الطَّلَاقِ إذْ لَمْ يُتَعَارَفْ التَّطْلِيقُ بِهَذَا اللَّفْظِ فَيَبْقَى عَلَى ظَاهِرِهِ ، وَقَدْ قِيلَ مِنْ طُرَفِهِ غَيْرُ هَذَا ، وَهُوَ أَنَّ مَا بَيْنَ الْعَدَدَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ أَكْثَرُ مِنْ سِتِّينَ فَكَيْفَ يَكُونُ تِسْعَةً ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَا بَيْنَ سِتِّينَ وَسَبْعِينَ أَحَدٌ وَسِتُّونَ وَاثْنَانِ وَسِتُّونَ إلَى تِسْعٍ وَسِتِّينَ لَا وَاحِدَةٌ إلَى تِسْعَةٍ ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ إذَا لَمْ يُعْتَبَرْ الْحَدُّ الْأَوَّلُ خَارِجًا عَنْ مُسَمَّى لَفْظِ مَا بَيْنَ كَذَا وَكَذَا ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ خَارِجٌ ، وَجَوَابُ

زُفَرَ حَيْثُ قَالَ : لَا يَتَنَاوَلُ الْحَدَّيْنِ صَرِيحٌ فِيهِ ، وَالْأَوْجُهُ مَا ذَكَرْنَا لَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( قَوْلُهُ وَجْهُ قَوْلِهِمَا وَهُوَ الِاسْتِحْسَانُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ مَتَى ذُكِرَ فِي الْعُرْفِ يُرَادُ بِهِ الْكُلُّ ) كَقَوْلِ الرَّجُلِ خُذْ مِنْ مَالِي مِنْ عَشْرَةٍ إلَى مِائَةٍ وَبِعْ عَبْدِي بِمَا بَيْنَ مِائَةٍ إلَى أَلْفٍ وَكُلْ مِنْ الْمِلْحِ إلَى الْحُلْوِ .
لَهُ أَخْذُ الْمِائَةِ وَالْبَيْعُ بِأَلْفٍ وَأَكْلُ الْحُلْوِ ( قَوْلُهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُرَادَ فِي الْعُرْفِ الْأَقَلُّ مِنْ الْأَكْثَرِ وَالْأَكْثَرُ مِنْ الْأَقَلِّ ) وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ إذَا كَانَ بَيْنَ الْحَدَّيْنِ مُتَخَلِّلٌ فَإِنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ فِي نَحْوِ مِنْ دِرْهَمٍ إلَى دِرْهَمَيْنِ إرَادَةُ مَجْمُوعِ الْأَكْثَرِ مِنْ الْأَقَلِّ وَالْأَقَلِّ مِنْ الْأَكْثَرِ ، فَفِي نَحْوِ طَالِقٍ مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى ثِنْتَيْنِ انْتَفَى ذَلِكَ الْعُرْفُ مِنْهُ عِنْدَهُ فَوَجَبَ إعْمَالُ طَالِقٍ فَيَقَعَ وَاحِدَةٌ .
وَلَا يُعْتَرَضُ بِأَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى فِي مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى ثِنْتَيْنِ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ إلَّا لِمَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَدَّعِ أَنَّهُ جَارٍ فِي غَيْرِهِ لِيَعْتَرِضَ بِأَنَّهُ لَمْ يَصْدُقْ فِي عَدَمِ مُتَخَلِّلٍ مَعَ أَنَّهُ مَسُوقٌ لَنَفِي قَوْلِهَا يَجِبُ الْأَكْثَرُ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ قَوْلَ كُلٍّ مِنْ الثَّلَاثَةِ اسْتِحْسَانٌ بِالتَّعَارُفِ بِالنِّسْبَةِ إلَى قَوْلِ زُفَرَ إلَّا أَنَّهُمَا أَطْلَقَا فِيهِ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ : إنَّمَا وَقَعَ كَذَلِكَ فِيمَا مَرْجِعُهُ إبَاحَةٌ غُبَّرَا الْمَذْكُورَةِ ، أُمًّا مَا أَصْلُهُ الْحَظْرُ حَتَّى لَا يُبَاحَ إلَّا لِدَفْعِ الْحَاجَةِ فَلَا وَالطَّلَاقُ مِنْهُ فَكَانَ قَرِينَةً عَلَى عَدَمِ إرَادَةِ الْكُلِّ ، غَيْرَ أَنَّ الْغَايَةَ الْأُولَى لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهَا لِيَتَرَتَّبَ عَلَيْهَا الطَّلْقَةُ الثَّانِيَةُ فِي صُورَةِ إيقَاعِهَا وَهِيَ صُورَةٌ مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى ثَلَاثٍ إذْ لَا ثَانِيَةَ بِلَا أُولَى وَوُجُودُ الطَّلَاقِ عَيْنُ وُقُوعِهِ ، بِخِلَافِ الْغَايَةِ الثَّانِيَةِ وَهِيَ ثَلَاثٌ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ

فَإِنَّهُ يَصِحُّ وُقُوعُ الثَّانِيَةِ بِلَا ثَالِثَةٍ ، أَمَّا صُورَةُ مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى ثِنْتَيْنِ فَلَا حَاجَةَ إلَى إدْخَالِهَا لِأَنَّهَا إنَّمَا دَخَلَتْ ضَرُورَةَ إيقَاعِ الثَّانِيَةِ وَهُوَ مُنْتَفٍ ، وَإِيقَاعُ الْوَاحِدَةِ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ إدْخَالِهَا غَايَةً بَلْ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ انْتِفَاءِ الْعُرْفِ فِيهِ فَلَا يَدْخُلَانِ وَيَقَعُ بِطَالِقٍ وَهَذَا كَمَا صُحِّحَ فِي قَوْلِهِ مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى وَاحِدَةٍ أَنَّهُ يَقَعُ وَاحِدَةٌ عِنْدَ زُفَرَ خِلَافًا لِمَا قِيلَ : لَا يَقَعُ عِنْدَهُ شَيْءٌ لِعَدَمِ التَّخَلُّلِ .
وَوُجِّهَ بِأَنَّهُ يَلْغُو قَوْلَهُ مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى وَاحِدَةٍ لِامْتِنَاعِ كَوْنِ الْوَاحِدِ مَبْدَأً لِلْغَايَةِ وَمُنْتَهًى وَيَقَعُ بِطَالِقٍ وَاحِدَةٌ ، كَذَا هُنَا يَجِبُ أَنْ يَلْغُوَ مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى ثِنْتَيْنِ عِنْدَهُ ثُمَّ يَقَعُ بِطَالِقٍ وَاحِدَةٌ ، وَأَوْرَدَ إذَا قِيلَ طَالِقٌ ثَانِيَةً لَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ .
أُجِيبُ بِأَنَّ ثَانِيَةً لَغْوٌ فَيَقَعَ بِأَنْتَ طَالِقٌ وَاحِدَةٌ ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ هُنَا مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى ثَلَاثٍ فَإِنَّهُ كَلَامٌ مُعْتَبَرٌ فِي إيقَاعِ الثَّانِيَةِ فَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ إيقَاعِ الْأُولَى .
فَإِنْ قِيلَ : لَفْظُ مَا بَيْنَ هَذَا وَهَذَا يَسْتَدْعِي وُجُودَ الْأَمْرَيْنِ وَوُجُودَهُمَا وُقُوعَهُمَا فَيَقَعَ الثَّلَاثُ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ فِي الْمَحْسُوسَاتِ ، أَمَّا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الْأُمُورِ الْمَعْنَوِيَّةِ فَإِنَّمَا يَقْتَضِي الْأَوَّلَ وَاحْتِمَالَ وُجُودِ الثَّانِي عُرْفًا ، فَفِي مِنْ السِّتِّينَ إلَى السَّبْعِينَ يَصْدُقُ إذَا لَمْ يَبْلُغْ السَّبْعِينَ بَلْ مُنْتَظِرُهُ وَلَمْ يَعُدْ مُخْطِئًا فِي التَّكَلُّمِ بِهِ لِإِفَادَةِ ذَلِكَ الْقَدْرِ .
بَقِيَ أَنْ يُقَالَ : إنَّ هَذَا إنْ انْتَهَضَ عَلَيْهِمَا لَا يَنْتَهِضُ عَلَى زُفَرَ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ يُقَالُ مِنْ طُرَفِهِ لَا عُرْفَ فِي الطَّلَاقِ فَلَا يَلْزَمُ إدْخَالُ الْغَايَةِ الْأُولَى لِأَنَّ مَا بَيْنَ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ الثَّانِيَةَ لَا مِنْ حَيْثُ هِيَ ثَانِيَةُ الْوَاقِعِ بَلْ مِنْ حَيْثُ هِيَ مَا بَيْنَ الْوَاحِدَةِ وَالثَّلَاثِ فَلَا احْتِيَاجَ إلَى إدْخَالِهَا

ضَرُورَةَ إيقَاعِ الثَّانِيَةِ فِي مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى ثَلَاثٍ .
وَلَمَّا لَمْ يَثْبُتْ تَعَارُفُ مِثْلِ ذَلِكَ التَّرْكِيبِ فِي الطَّلَاقِ وَجَبَ اعْتِبَارُ غَبِّرَا أَجْزَاءَ لَفْظِهِ وَهِيَ لَا تُوجِبُ إلَّا دُخُولَ مَا بَيْنَ الْحَدَّيْنِ وَلَا مُخَلِّصَ إلَّا بِادِّعَاءِ أَنَّ الْعُرْفَ أَفَادَ أَنَّ مِثْلَهُ يُرَادُ بِهِ ذَلِكَ فِي أَيِّ مَادَّةٍ وَقَعَ وَقَدْ لَا يُسَلِّمُهُ زُفَرُ ( قَوْلُهُ بِخِلَافِ ) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِ زُفَرَ عَلَى مَسْأَلَةِ مِنْ هَذَا الْحَائِطِ إلَى هَذَا الْحَائِطِ بِالْفَرْقِ بِأَنَّ التَّطْلِيقَةَ الثَّانِيَةَ وَاقِعَةٌ وَلَا وُجُودَ لَهَا إلَّا بِوُقُوعِ الْأُولَى فَوَقَعَتْ ضَرُورَةً ، بِخِلَافِ الْغَايَةِ فِي الْبَيْعِ فَإِنَّهَا لَمْ تَدْعُ ضَرُورَةٌ إلَى إدْخَالِهَا فِي الْمُغَيَّا فَبَقِيَتْ الْغَايَتَانِ خَارِجَتَيْنِ ، وَأَنْتَ عَلِمْت أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ لَيْسَ إلَّا بِقَضِيَّةِ اللَّفْظِ ، وَمَسْأَلَةِ الْبَيْعِ لِإِظْهَارِ أَنَّ اللَّفْظَ لَمْ يُتْرَكْ ظَاهِرُهُ فَتَحْقِيقُ الْفَرْقِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعُرْفَ فِيهِ إرَادَةُ الْأَكْثَرِ مِنْ الْأَقَلِّ إلَى آخِرِهِ فَاقْتَضَى فِي مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى ثَلَاثٍ وُقُوعُ ثِنْتَيْنِ لِأَنَّهُمَا الْأَكْثَرُ مِنْ الْأَقَلِّ وَالْأَقَلُّ مِنْ الْأَكْثَرِ فَلَزِمَ وُقُوعُ الْأُولَى ، بِخِلَافِ بِعْت مِنْ هَذَا الْحَائِطِ إلَى هَذَا الْحَائِطِ لِأَنَّ التَّعَارُفَ إنَّمَا وَقَعَ فِي الْأَعْدَادِ نَحْوَ مِنْ سِتِّينَ إلَى سَبْعِينَ وَمَا بَيْنَ سِتِّينَ إلَى سَبْعِينَ وَنَحْوَهُ فَبَقِيَ اللَّفْظُ فِي غَيْرِهَا عَلَى مُقْتَضَاهُ لُغَةً فَلَا تَدْخُلُ الْغَايَتَانِ .
وَبِهِ انْدَفَعَ سُؤَالُ أَنَّ مَا بَيْنَ يَقْتَضِي وُجُودَ الطَّرَفَيْنِ فَيَقَعَانِ كَقَوْلِهِمَا فَإِنَّ الْعُرْفَ أَعْطَى أَنَّ قَضِيَّتَهُ عَدَمُ وُقُوعِ الثَّانِيَةِ .
[ فَرْعَانِ ] لَوْ قَالَ : مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى عَشْرَةٍ يَقَعُ ثِنْتَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقِيلَ : يَقَعُ ثَلَاثٌ لِأَنَّ اللَّفْظَ مُعْتَبَرٌ فِي الطَّلَاقِ ، حَتَّى لَوْ قَالَتْ : طَلَّقَنِي سِتًّا بِأَلْفٍ وَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَقَعَتْ الثَّلَاثُ بِخَمْسِمِائَةٍ ، وَلَوْ قَالَ : مَا

بَيْنَ وَاحِدَةٍ وَثَلَاثٍ وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ نُقِلَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ غَايَةً .
وَكَذَا يَجِبُ عِنْدَ الْكُلِّ إلَّا إنْ كَانَ فِيهِ الْعُرْفُ الْكَائِنُ فِي الْغَايَةِ ( قَوْلُهُ وَلَوْ نَوَى وَاحِدَةً ) أَيْ فِي مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى ثَلَاثٍ وَفِي مَا بَيْنَ وَاحِدَةٍ إلَى ثَلَاثٍ إذَا كَانَ فِيهِ عُرْفُ الْغَايَةِ ( قَوْلُهُ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ ) وَفِيهِ تَخْفِيفٌ عَلَيْهِ

( وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً فِي ثِنْتَيْنِ وَنَوَى الضَّرْبَ وَالْحِسَابَ أَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَهِيَ وَاحِدَةٌ ) وَقَالَ زُفَرُ : تَقَعُ ثِنْتَانِ لِعُرْفِ الْحِسَابِ ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ .
وَلَنَا أَنَّ عَمَلَ الضَّرْبِ أَثَرُهُ فِي تَكْثِيرِ الْأَجْزَاءِ لَا فِي زِيَادَةِ الْمَضْرُوبِ ، وَتَكْثِيرُ أَجْزَاءِ الطَّلْقَةِ لَا يُوجِبُ تَعَدُّدَهَا ( فَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً وَثِنْتَيْنِ فَهِيَ ثَلَاثٌ ) لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُهُ فَإِنَّ حَرْفَ الْوَاوِ لِلْجَمْعِ وَالظَّرْفَ يَجْمَعُ الْمَظْرُوفَ ، وَلَوْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا تَقَعُ وَاحِدَةً كَمَا فِي قَوْلِهِ وَاحِدَةً وَثِنْتَيْنِ ، وَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً مَعَ ثِنْتَيْنِ تَقَعُ الثَّلَاثُ لِأَنَّ كَلِمَةَ " فِي " تَأْتِي بِمَعْنَى " مَعَ " كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { فَادْخُلِي فِي عِبَادِي } أَيْ مَعَ عِبَادِي ، وَلَوْ نَوَى الظَّرْفَ تَقَعُ وَاحِدَةً ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَصْلُحُ ظَرْفًا فَيَلْغُوَ ذِكْرُ الثَّانِي ( وَلَوْ قَالَ اثْنَتَيْنِ فِي اثْنَتَيْنِ وَنَوَى الضَّرْبَ وَالْحِسَابَ فَهِيَ ثِنْتَانِ ) وَعِنْدَ زُفَرَ ثَلَاثٌ لِأَنَّ قَضِيَّتَهُ أَنْ تَكُونَ أَرْبَعًا ، لَكِنْ لَا مَزِيدَ لِلطَّلَاقِ عَلَى الثَّلَاثِ .
وَعِنْدَنَا الِاعْتِبَارُ الْمَذْكُورُ الْأَوَّلُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ

( قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً فِي ثِنْتَيْنِ وَنَوَى الضَّرْبَ وَالْحِسَابَ ) عَالِمًا بِعُرْفِ الْحِسَابِ ( فَهِيَ وَاحِدَةٌ ) فَفِيمَا إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ أَوْلَى أَنْ تَقَعَ وَاحِدَةٌ .
وَقَالَ زُفَرُ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ : يَقَعُ ثِنْتَانِ بِعُرْفِ الْحِسَابِ ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي وَجْهِ إذَا لَمْ يَعْرِفْ الْحِسَابَ لَكِنَّهُ قَصَدَ مُوجِبَهُ عِنْدَ الْحِسَابِ ، فَلَوْ كَانَ مِمَّنْ يَعْرِفُ الْحِسَابَ وَقَصَدَ مُوجِبَهُ عِنْدَهُمْ وَقَعَ ثِنْتَانِ وَجْهًا وَاحِدًا ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ .
وَعِنْدَنَا يَقَعُ وَاحِدَةٌ بِكُلِّ حَالٍ .
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ عُرْفَهُمْ فِيهِ تَضْعِيفُ أَحَدِ الْعَدَدَيْنِ بِعَدَدِ الْآخَرِ ، فَقَوْلُهُ وَاحِدَةً فِي ثِنْتَيْنِ كَقَوْلِهِ وَاحِدَةً مَرَّتَيْنِ أَوْ ثِنْتَيْنِ مَرَّةً وَثِنْتَيْنِ فِي ثِنْتَيْنِ ثِنْتَيْنِ مَرَّتَيْنِ فَكَأَنَّهُ قَالَ : طَالِقٌ أَرْبَعًا فَيَقَعَ الثَّلَاثُ ، فَالْإِلْزَامُ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَبْقَ فَقِيرٌ فِي الدُّنْيَا لَا مَعْنَى لَهُ أَصْلًا ، لِأَنَّ ضَرْبَهُ دِرْهَمَهُ مَثَلًا فِي مِائَةِ أَلْفٍ إنْ كَانَ عَلَى مَعْنَى الْإِخْبَارِ كَقَوْلِهِ عِنْدِي دِرْهَمٌ فِي مِائَةٍ فَهُوَ كَذِبٌ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْإِنْشَاءِ كَجَعَلْتُهُ فِي مِائَةٍ لَا يُمْكِنُ لِأَنَّهُ لَا يَنْجَعِلُ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ مِائَةً فَلَيْسَ ذَلِكَ الْكَلَامُ بِشَيْءٍ ( قَوْلُهُ أَثَرُهُ فِي تَكْثِيرِ الْمَضْرُوبِ لَا فِي زِيَادَةِ الْعَدَدِ ) وَالطَّلْقَةُ الَّتِي جُعِلَ لَهَا أَجْزَاءٌ كَثِيرَةٌ لَا تَزِيدُ عَلَى طَلْقَةٍ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا لَا مَعْنَى لَهُ بَعْدَ قَوْلِنَا إنْ عَرَفَ الْحِسَابَ فِي التَّرْكِيبِ اللَّفْظِيِّ كَوْنَ أَحَدِ الْعَدَدَيْنِ مُضَعَّفًا بِعَدَدِ الْآخَرِ ، فَإِنَّ الْعُرْفَ لَا يَمْنَعُ ، وَالْفَرْضُ أَنَّهُ تَكَلَّمَ بِعُرْفِهِمْ وَأَرَادَهُ فَصَارَ كَمَا لَوْ أَوْقَعَ بِلُغَةٍ أُخْرَى فَارِسِيَّةٍ أَوْ غَيْرِهَا وَهُوَ يُدْرِيهَا ( قَوْلُهُ فَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً وَثِنْتَيْنِ ) بِقَوْلِهِ وَاحِدَةً فِي ثِنْتَيْنِ وَهِيَ مَدْخُولٌ بِهَا وَقَعَتْ ثَلَاثَةٌ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُهُ ، فَإِنَّ حَرْفَ

الْوَاوِ لِلْجَمْعِ وَالظَّرْفَ يَجْمَعُ الْمَظْرُوفَ فَصَحَّ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَعْنَى الْوَاوِ ، وَلَوْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَثِنْتَيْنِ ، وَإِنْ نَوَى مَعْنَى لَفْظَةِ مَعَ وَقَعَتْ ثَلَاثٌ عَلَيْهَا مَدْخُولًا بِهَا كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا ، كَمَا لَوْ قَالَ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا : طَالِقٌ وَاحِدَةً مَعَ ثِنْتَيْنِ ، وَإِرَادَةُ مَعْنَى لَفْظَةِ مَعَ بِهَا ثَابِتٌ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { فَادْخُلِي فِي عِبَادِي } أَيْ مَعَ عِبَادِي .
وَفِي الْكَشَّافِ أَنَّ الْمُرَادَ فِي جُمْلَةِ عِبَادِي ، وَقِيلَ فِي أَجْسَادِ عِبَادِي ، وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ ( فِي عَبْدِي ) فَهِيَ عَلَى حَقِيقَتِهَا عَلَى هَذَا ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ تَأْوِيلَهَا مَعَ عِبَادِي يَنْبُو عَنْهُ { وَادْخُلِي جَنَّتِي } فَإِنَّ دُخُولَهُ مَعَهُمْ لَيْسَ إلَّا إلَى الْجَنَّةِ ، فَالْأَوْجَهُ أَنْ يُسْتَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ بِنَحْوِ قَوْله تَعَالَى { وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ } وَعَنْ الِاحْتِمَالِ الْمَذْكُورِ لَوْ وَقَعَ مِثْلُهُ فِي الْإِقْرَارِ بِأَنْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ عَشْرَةٌ فِي عَشْرَةٍ وَادَّعَى الْخَصْمَ الْجَمِيعَ : أَيْ مَجْمُوعَ الْحَاصِلِ عَلَى الِاصْطِلَاحِ يُحَلِّفُهُ الْقَاضِي أَنَّهُ مَا أَرَادَ الْجَمِيعَ ، أَمَّا لَوْ أَرَادَ مَعْنَى الظَّرْفِ لَغَا وَلَمْ يَقَعْ إلَّا الْمَذْكُورُ أَوَّلًا ، فَفِي وَاحِدَةٍ فِي ثِنْتَيْنِ وَاحِدَةٌ وَفِي ثِنْتَيْنِ فِي ثِنْتَيْنِ ثِنْتَانِ اتِّفَاقًا ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَصْلُحُ لِحَقِيقَةِ الظَّرْفِ فَيَلْغُوَ الثَّانِي .

( وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ هُنَا إلَى الشَّامِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بِمِلْكِ الرَّجْعَةِ ) وَقَالَ زُفَرُ : هِيَ بَائِنَةٌ لِأَنَّهُ وَصَفَ الطَّلَاقَ بِالطُّولِ قُلْنَا : لَا بَلْ وَصَفَهُ بِالْقَصْرِ لِأَنَّهُ مَتَى وَقَعَ وَقَعَ فِي الْأَمَاكِنِ كُلِّهَا .

( قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ هُنَا إلَى الشَّامِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ وَقَالَ : زُفَرُ : بَائِنَةٌ لِأَنَّهُ وَصَفَ الطَّلَاقَ بِالطُّولِ ) وَأُورِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ : طَالِقٌ طَلْقَةً طَوِيلَةً أَوْ عَرِيضَةً كَانَتْ رَجْعِيَّةً عِنْدَ زُفَرَ فَكَيْفَ يُعَلِّلُ الْبَيْنُونَةَ هُنَا بِالطُّولِ ؟ أُجِيبُ بِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ يُفَرِّقُ بَيْنَ وَصْفِهِ بِالطُّولِ صَرِيحًا فَيُوقَعَ بِهِ الرَّجْعِيُّ وَكِنَايَةً فَيُوقَعَ بِهِ الْبَائِنُ لِأَنَّ الْإِثْبَاتَ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ أَبْلَغُ مِنْهُ بِالصَّرِيحِ كَمَا فِي كَثِيرِ الرَّمَادِ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ مِنْ الْجَوَادِ لِأَنَّهُ إثْبَاتُ الْجُودِ لَهُ بِبَيِّنَةٍ أَعْنِي كَثْرَةَ الرَّمَادِ ، وَأَنَّهُ تَعْلِيلٌ عَلَى مَذْهَبِنَا إلْزَامًا كَأَنَّهُ قَالَ : لَمَّا قَالَ : مِنْ هُنَا إلَى الشَّامِ فَقَدْ وَصَفَهُ بِالطُّولِ ، وَلَوْ وَصَفَهُ بِالطُّولِ صَرِيحًا بِأَنْ قَالَ : طَلْقَةً طَوِيلَةً تَقَعُ بَائِنَةً عِنْدَكُمْ فَكَذَا كِنَايَةً بِالْأُولَى لَمَّا قُلْنَا ، وَقَدْ فَعَلَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ حَيْثُ عَلَّلَ سُقُوطَ النِّيَّةِ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ عَنْ الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ بِالْقِيَاسِ عَلَى صَاحِبِ النِّصَابِ إذَا دَفَعَهُ إلَى الْفَقِيرِ بَعْدَ الْحَوْلِ وَلَمْ يَنْوِ الزَّكَاةَ مَعَ أَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَسْقُطُ عِنْدَهُ إذَا تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ النِّصَابَ بَعْد الْحَوْلِ كَذَلِكَ ، أَوْ أَنَّ عَنْهُ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَيْنِ كَمَا جَوَّزَهُ فِي الْكَافِي لِأَنَّ بَعْضَ الْمَشَايِخِ قَالَ فِي دَلِيلِهِ لِأَنَّهُ وَصَفَهُ بِالطُّولِ .
وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً طَوِيلَةً كَانَ بَائِنًا كَذَا هُنَا ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ مِنْ هُنَا إلَى الشَّامِ يُفِيدُ الطُّولَ وَالْعَرْضَ فَجَازَ أَنْ لَا تَحْصُلَ الْبَيْنُونَةُ عِنْدَهُ بِأَحَدِهِمَا وَتَحْصُلَ بِالْوَصْفِ بِهِمَا لِأَنَّهُ يُفِيدُ وَتَقَرَّرَ فَكَأَنَّهُ قَالَ : كَالْجَبَلِ ، لَكِنَّ مُقْتَضَى هَذَا أَنْ لَا يُقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ وَصَفَهَا بِالطُّولِ بَلْ يَقُولُ لِأَنَّهُ وَصَفَهَا بِالطُّولِ وَالْعَرْضِ ( قَوْلُهُ قُلْنَا : بَلْ وَصَفَهُ بِالْقَصْرِ لِأَنَّهُ مَتَى وَقَعَ الطَّلَاقُ

وَقَعَ فِي كُلِّ الدُّنْيَا وَفِي السَّمَوَاتِ ) ثُمَّ هُوَ لَا يَحْتَمِلُ الْقَصْرَ حَقِيقَةً فَكَانَ قَصْرُ حُكْمِهِ وَهُوَ بِالرَّجْعِيِّ وَطُولُهُ بِالْبَائِنِ وَلِأَنَّهُ لَمْ يَصِفْهَا مُوقَعٌ وَلَا كِبَرٌ بَلْ مَدّهَا إلَى مَكَان وَهُوَ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ أَصْلًا فَلَمْ يَثْبُتْ بِهَذَا اللَّفْظِ زِيَادَةُ شِدَّةٍ فَلَا بَيْنُونَةَ .
وَقَالَ التُّمُرْتَاشِيُّ : إنَّهُ إنَّمَا مَدَّ الْمَرْأَةَ لَا الطَّلَاقَ .
وَوَجْهُهُ أَنَّهُ حَالٌ وَلَا يَصْلُحُ صَاحِبَ الْحَالِ فِي التَّرْكِيبِ إلَّا الضَّمِيرُ فِي طَالِقٍ .

( وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ بِمَكَّةَ أَوْ فِي مَكَّةَ فَهِيَ طَالِقٌ فِي الْحَالِ فِي كُلِّ الْبِلَادِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ فِي الدَّارِ ) لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَتَخَصَّصُ بِمَكَانٍ دُونَ مَكَان ، وَإِنْ عُنِيَ بِهِ إذَا أَتَيْت مَكَّةَ يُصَدَّقُ دِيَانَةً لَا قَضَاءً لِأَنَّهُ نَوَى الْإِضْمَارَ وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ ، وَكَذَا إذَا قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ وَأَنْتِ مَرِيضَةٌ ، وَإِنْ نَوَى إنْ مَرِضْت لَمْ يُدَنْ فِي الْقَضَاءِ ( وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ إذَا دَخَلْت مَكَّةَ لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى تَدْخُلَ مَكَّةَ ) لِأَنَّهُ عَلَّقَهُ بِالدُّخُولِ .
وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ فِي دُخُولِ الدَّارِ يَتَعَلَّقُ بِالْفِعْلِ لِمُقَارَبَةٍ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالظَّرْفِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الظَّرْفِيَّةِ .

( قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ بِمَكَّةَ أَوْ فِي مَكَّةَ طَلُقَتْ فِي الْحَالِ ) وَكَذَا فِي الدَّارِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مَكَّةَ وَلَا الدَّارِ ، وَكَذَا فِي الظِّلِّ وَالشَّمْسِ وَالثَّوْبِ كَالْمَكَانِ ، فَلَوْ قَالَ : طَالِقٌ فِي ثَوْبِ كَذَا وَعَلَيْهَا غَيْرُهُ طَلُقَتْ لِلْحَالِ ، وَكَذَا إذَا قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ وَأَنْتِ مَرِيضَةٌ .
وَإِنْ قَالَ : عَنَيْت إذَا لَبِسَتْ وَإِذَا مَرِضَتْ دِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لَا فِي الْقَضَاءِ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّخْفِيفِ عَلَى نَفْسِهِ ، كَمَا إذَا قَصَدَ بِقَوْلِهِ بِمَكَّةَ أَوْ فِي مَكَّةَ إذَا دَخَلَتْ مَكَّةَ فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالدُّخُولِ دِيَانَةً لَا قَضَاءً ( قَوْلُهُ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَخْتَصُّ بِمَكَانٍ دُونَ مَكَان ) الْمَعْنَى أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَكَانٍ بِعَيْنِهِ دُونَ غَيْرِهِ لِأَنَّ الطَّلَاقَ يُعْدِلُ بِهِ رَفْعُ الْقَيْدِ الشَّرْعِيِّ مَعْدُومٌ فِي الْحَالِ ، وَقَدْ جَعَلَ الشَّارِعُ لِمَنْ لَهُ التَّخَلُّصُ بِلَفْظٍ وَضَعَهُ تَعَالَى سَبَبًا لِذَلِكَ أَنْ يُعَلَّقَ وُجُودُهُ بِوُجُودِ أَمْرٍ مَعْدُومٍ حَتَّى إذَا وُجِدَ حَكَمَ سُبْحَانَهُ بِوُجُودِ الْمَعْنَى وَهُوَ رَفْعُ الْقَيْدِ وَضْعًا شَرْعِيًّا لَا لُزُومًا عَقْلِيًّا ، وَالزَّمَانُ وَالْأَفْعَالُ هُمَا الصَّالِحَانِ لِذَلِكَ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَعْدُومٌ فِي الْحَالِ ثُمَّ يُوجَدُ أَوْ قَدْ يُوجَدُ فَتَعَيَّنَا لِتَعْلِيقِ وُجُودِ الطَّلَاقِ بِوُجُودِ كُلٍّ مِنْهُمَا ، بِخِلَافِ الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ عَيْنٌ ثَابِتَةٌ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْإِنَاطَةُ بِهِ ، وَلَوْ أَنَاطَ بِهِ قَبْلَ وُجُودِهِ فَالْمَنَاطُ إنَّمَا هُوَ وُجُودُهُ أَوْ فِعْلُ الْفَاعِلِ لَهُ فَكَانَ الصَّالِحُ لِتَعْلِيقِ وُجُودِ الْمَعْنِيِّ بِهِ الزَّمَانُ وَالْأَفْعَالُ ، ثُمَّ الزَّمَانُ فِي الْإِضَافَةِ وَالتَّعْلِيقُ يَكُونُ مُسْتَقْبَلًا .
أَمَّا الْحَالُ فَإِنَّمَا يَكُونُ مَعَهُ التَّنْجِيزُ وَوُقُوعُ الْمُعَلَّقِ .
وَأَمَّا إضَافَتُهُ إلَى مَاضٍ خَالٍ عَنْهُ فَلَيْسَ فِي وُسْعِهِ فَيَلْغُوَ وَيَصِيرَ أَنْتِ طَالِقٌ سَيَقَعُ بِهِ فِي الْحَالِ ، وَإِنَّمَا فَسَّرْنَا الطَّلَاقَ

بِرَفْعِ الْقَيْدِ وَلَمْ نَقُلْ هُوَ فِعْلٌ مَعْدُومٌ فَنَاسَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالزَّمَانِ وَيُوجَدَ عِنْدَ وُجُودِهِ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ بِمُجَرَّدِ وُجُودِ مَا عُلِّقَ عَلَيْهِ لِتَوَقُّفِهِ عَلَى فِعْلِ الْفَاعِلِ لَهُ ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ ذَلِكَ فِي أَثَرِهِ الشَّرْعِيِّ لِأَنَّ حَاصِلَهُ تَعَلُّقُ خِطَابِهِ بِالْحُرْمَةِ عِنْدَهُ ، وَهَذَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ شَرْعًا ، فَجَعَلْنَا الْمُعَلَّقَ رَفْعَ الْقَيْدِ لَا فِعْلَ التَّطْلِيقِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ ( قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ : فِي دُخُولِك الدَّارَ أَوْ مَكَّةَ تَعَلُّقٌ بِالْفِعْلِ ) أَيْ بِالدُّخُولِ كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِالشَّرْطِ لِصِحَّةِ اسْتِعَارَةِ الظَّرْفِ لِأَدَاةِ الشَّرْطِ لِمُقَارَبَةٍ بَيْنَ مَعْنَى الشَّرْطِ وَالظَّرْفِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمَظْرُوفَ لَا يُوجَدُ بِدُونِ الظَّرْفِ كَالْمَشْرُوطِ لَا يُوجَدُ بِدُونِ الشَّرْطِ فَيُحْمَلَ عَلَيْهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ مَعْنَاهُ : أَعْنِي الظَّرْفَ ، وَكَذَا إذَا قَالَ : فِي لُبْسِك أَوْ فِي ذَهَابِك ، وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ صَلَاحِيَّةِ الْفِعْلِ لِذَلِكَ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ مَا يَقُومُ بِهَا فِعْلًا اخْتِيَارِيًّا أَوْ غَيْرَهُ ، حَتَّى لَوْ قَالَ : فِي مَرَضِك أَوْ وَجَعِك أَوْ صَلَاتِك لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى تَمْرَضَ أَوْ تُصَلِّيَ .

فَصْلٌ فِي إضَافَةِ الطَّلَاقِ إلَى الزَّمَانِ ( وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا وَقَعَ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ ) لِأَنَّهُ وَصَفَهَا بِالطَّلَاقِ فِي جَمِيعِ الْغَدِ وَذَلِكَ بِوُقُوعِهِ فِي أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْهُ .
وَلَوْ نَوَى بِهِ آخِرَ النَّهَارِ صُدِّقَ دِيَانَةً لَا قَضَاءً لِأَنَّهُ نَوَى التَّخْصِيصَ فِي الْعُمُومِ ، وَهُوَ يَحْتَمِلُهُ لَكِنَّهُ مُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ ( وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ غَدًا أَوْ غَدًا الْيَوْمَ يُؤْخَذُ بِأَوَّلِ الْوَقْتَيْنِ الَّذِي تَفَوَّهَ بِهِ ) فَيَقَعَ فِي الْأَوَّلِ فِي الْيَوْمِ وَفِي الثَّانِي فِي الْغَدِ ، لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ : الْيَوْمَ كَانَ تَنْجِيزًا وَالْمُنَجَّزُ لَا يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ ، وَإِذَا قَالَ : غَدًا كَانَ إضَافَةً وَالْمُضَافُ لَا يَتَنَجَّزُ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ الْإِضَافَةِ فَلَغَا اللَّفْظُ الثَّانِي فِي الْفَصْلَيْنِ .

( فَصْلٌ فِي إضَافَةِ الطَّلَاقِ إلَى الزَّمَانِ ) .
ذَكَرَ فِي بَابِ إيقَاعِ الطَّلَاقِ فُصُولًا مُتَعَدِّدَةً بِاعْتِبَارِ تَنَوُّعِ الْإِيقَاعِ : أَيْ مَا بِهِ الْإِيقَاعُ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ إلَى مُضَافٍ وَمَوْصُوفٍ وَمُشَبَّهٍ وَغَيْرِهِ مُعَلَّقٍ بِمَدْخُولِ بِهَا وَغَيْرِ مَدْخُولٍ بِهَا ، وَكُلٌّ مِنْهَا صِنْفٌ تَحْتَ ذَلِكَ الصِّنْفِ الْمُسَمَّى بَابًا كَمَا أَنَّ الْبَابَ يَكُونُ تَحْتَ الصِّنْفِ الْمُسَمَّى كِتَابًا ، وَالْكُلَّ تَحْتَ الصِّنْفِ الَّذِي هُوَ نَفْسُ الْعِلْمِ الْمُدَوَّنِ فَإِنَّهُ صِنْفٌ عَالٍ ، وَالْعِلْمُ مُطْلَقًا بِمَعْنَى الْإِدْرَاكِ جِنْسٌ وَمَا تَحْتَهُ مِنْ الْيَقِينِ وَالظَّنِّ نَوْعٌ ، وَالْعُلُومُ الْمُدَوَّنَةُ تَكُونُ ظَنِّيَّةً كَالْفِقْهِ ، وَقَطْعِيَّةً كَالْكَلَامِ وَالْحِسَابِ وَالْهَنْدَسَةِ ، فَوَاضِعُ الْعِلْمِ لَمَّا لَاحَظَ الْغَايَةَ الْمَطْلُوبَةَ لَهُ فَوَجَدَهَا تَتَرَتَّبُ عَلَى الْعِلْمِ بِأَحْوَالٍ شَتَّى أَوْ أَشْيَاءَ مِنْ جِهَةٍ خَاصَّةٍ فَوَضَعَهُ لِيَبْحَثَ عَنْ أَحْوَالِهِ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ فَقَدْ قَيَّدَ ذَلِكَ النَّوْعَ مِنْ الْعِلْمِ بِعَارِضٍ كُلِّيٍّ فَصَارَ صِنْفًا ، وَقِيلَ لِلْوَاضِعِ صَنَّفَ الْعِلْمَ ، أَيْ جَعَلَهُ صِنْفًا فَالْوَاضِعُ أَوْلَى بِاسْمِ الْمُصَنِّفِ مِنْ الْمُؤَلِّفِينَ .
وَإِنْ صَحَّ أَيْضًا فِيهِمْ وَعُلِمَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهَا تَتَبَايَنُ مُنْدَرِجَةً تَحْتَ صِنْفٍ أَعْلَى لِتَبَايُنِ الْعَوَارِضِ الْمُقَيَّدِ بِكُلٍّ مِنْهَا النَّوْعُ وَأَنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ نَحْوِ كِتَابِ الْحَوَالَةِ اللَّائِقِ بِهِ خِلَافُ تَسْمِيَتِهِ بِكِتَابٍ ( قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا بِطُلُوعِ فَجْرِهِ لِأَنَّهُ وَصَفَهَا بِالطَّلَاقِ فِي جَمِيعِ الْغَدِ ) لِأَنَّ جَمِيعَهُ هُوَ مُسَمَّى الْغَدِ ، وَلَوْ نَوَى آخِرَ النَّهَارِ جَازَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لَا فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ ( وَقَوْلُهُ لِأَنَّهُ نَوَى التَّخْصِيصَ فِي الْعُمُومِ ) تَنْزِيلٌ لِلْأَجْزَاءِ مَنْزِلَةَ الْأَفْرَادِ ، وَإِلَّا فَلَفْظُ غَدًا نَكِرَةٌ فِي الْإِثْبَاتِ فَلَيْسَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ ( قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ :

أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ غَدًا أَوْ غَدًا الْيَوْمَ يَقَعُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتَيْنِ الَّذِي تَفَوَّهَ بِهِ ) أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ نَجَّزَهُ فَلَا يَرْجِعُ مُتَأَخِّرًا إلَى وَقْتٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ .
وَأَوْرِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ لَمْ يُعْتَبَرْ لِإِضَافَةٍ أُخْرَى لَا لِإِضَافَةِ عَيْنِ مَا نُجِّزَ ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ اعْتِبَارَ كَلَامِهِ إيقَاعًا لِلْحَاجَةِ وَهِيَ مُرْتَفِعَةٌ بِالْوَاحِدَةِ وَلَا ضَرُورَةَ أُخْرَى تَجِبُ لِمُرَاعَاتِهَا وُقُوعُ أُخْرَى ، فَإِنَّهَا إذَا طَلُقَتْ الْيَوْمَ كَانَتْ غَدًا كَذَلِكَ ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ بِالْعَطْفِ بِأَنْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ وَغَدًا أَوْ أَوَّلَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ لَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ لِأَنَّهَا طَالِقٌ فِي الْغَدِ وَآخِرِ النَّهَارِ بِطَلَاقِهَا فِي الْيَوْمِ وَأَوَّلِ النَّهَارِ ، وَقَدْ طُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ إذَا جَاءَ غَدٌ فَإِنَّهَا لَا تَطْلُقُ إلَّا بِطُلُوعِ الْفَجْرِ فَتَوَقَّفَ الْمُنَجَّزُ لِاتِّصَالِ مُغَيِّرِ الْأَوَّلِ بِالْآخِرِ فَلَمْ لَمْ يَتَوَقَّفْ بِاتِّصَالِ الْإِضَافَةِ كَمَا تَوَقَّفَ بِاتِّصَالِ الشَّرْطِ وَكِلَاهُمَا مُغَيِّرٌ لِلتَّنْجِيزِ ؟ فَظَهَرَ أَنَّهُ مُضَافٌ لَا أَنَّهُ طَلَاقٌ آخَرُ ، وَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ يَسْقُطُ الْجَوَابُ بِأَنَّ ذِكْرَ الشَّرْطِ يُبَيِّنُ أَنَّ قَوْلَهُ الْيَوْمَ لِبَيَانِ وَقْتِ التَّعْلِيقِ لَا لِبَيَانِ وَقْتِ الْوُقُوعِ ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الشَّرْطِ فَيَبْقَى قَوْلُهُ الْيَوْمَ بَيَانًا لِوَقْتِ الْوُقُوعِ وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَكَذَا يَسْقُطُ الْجَوَابُ بِأَنَّ طَالِقٌ الْيَوْمَ إيقَاعٌ فِي الْحَالِ ، وَإِذَا جَاءَ غَدٌ تَعْلِيقٌ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ أَحَدِهِمَا لِلتَّنَافِي وَاعْتِبَارُ الْمُعَلَّقِ أَوْلَى لِأَنَّ فِي اعْتِبَارِهِ إلْغَاءُ كَلِمَةِ وَاحِدَةٍ وَهِيَ لَفْظَةُ " الْيَوْمَ " ، وَفِي اعْتِبَارِ الْمُنَجَّزِ إلْغَاءُ كَلِمَاتٍ وَهِيَ قَوْلُهُ إذَا جَاءَ غَدٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ الْفَرْقُ فِي الْجَوَابَيْنِ بِأَنَّهُ لَمْ تُوقَفْ فَلَمْ يَكُنْ تَنْجِيزًا مَعَ اتِّصَالِ الْمُغَيِّرِ الشَّرْطِيِّ وَلَمَّا لَمْ يَتَوَقَّفْ

فَكَانَ تَنْجِيزًا مَعَ اتِّصَالِ الْمُغَيِّرِ الْإِضَافِيِّ .
فَإِنْ قِيلَ : لِمَ لَمْ يُجْعَلْ الثَّانِي نَاسِخًا ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ النَّسْخَ فَرْعُ ثُبُوتِ الْأَوَّلِ وَتَقَرُّرِهِ ، وَتَقَرُّرُ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ وَثُبُوتُ وُقُوعِهِ لَا يُمْكِنُ رَفْعُهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَتَأْخِيرُهُ .
وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُهُ طَالِقٌ غَدًا الْيَوْمَ فَلِأَنَّهُ وَقَعَ مُسْتَقِيمًا مُضَافًا وَبَعْدَمَا صَحَّ مُضَافًا إلَى غَدٍ لَا يَكُونُ بِعَيْنِهِ مُنَجَّزًا بَلْ لَوْ اُعْتُبِرَ كَانَ تَطْلِيقَةً أُخْرَى ، وَإِنَّمَا وَصَفَهَا بِتَطْلِيقَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّهَا لَزِمَتْ إضَافَتُهَا إلَى الْغَدِ فَلَزِمَ إلْغَاءُ اللَّفْظِ الثَّانِي ضَرُورَةً ، وَلَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ نَاسِخًا لِلْأَوَّلِ لِأَنَّ النَّسْخَ إنَّمَا يَكُونُ بِكَلَامٍ مُسْتَبِدٍّ فِي نَفْسِهِ مُتَرَاخٍ وَهُوَ مُنْتَفٍ هُنَا .
فَإِنْ قُلْت : فَمَا وُجُوهُ الْمَسْأَلَةِ إذَا وُسِّطَتْ الْوَاوُ ؟ فَالْجَوَابُ إذَا قُدِّمَ الْمُتَقَدِّمُ مِنْ الْوَقْتَيْنِ كَأَنْتِ طَالِقٌ أَوَّلَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ أَوْ الْيَوْمَ وَغَدًا أَوْ فِي لَيْلِك وَنَهَارِك وَهُوَ فِي اللَّيْلِ أَوْ قَلْبِهِ وَهُوَ فِي النَّهَارِ وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَى الْأُخْرَى لِأَنَّهَا بِطَلَاقِهَا فِي أَوَّلِ الْوَقْتَيْنِ تَكُونُ طَلَاقًا فِي آخِرِهِمَا ، وَلَوْ نَوَى أَنْ يَقَعَ عَلَيْهَا الْيَوْمَ وَاحِدَةٌ وَغَدًا وَاحِدَةٌ صَحَّ وَوَقَعَتْ ثِنْتَانِ ، وَكَذَا طَالِقٌ الْيَوْمَ وَغَدًا وَبَعْدَ غَدٍ يَقَعُ وَاحِدَةٌ بِلَا نِيَّةٍ ، فَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا مُتَفَرِّقَةً عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَقَعْنَ كَذَلِكَ .
وَإِنْ قَدَّمَ الْمُتَأَخِّرَ كَطَالِقٍ غَدًا وَالْيَوْمَ أَوْ فِي نَهَارِك وَلَيْلِك وَهُوَ فِي اللَّيْلِ أَوْ قَلْبِهِ وَهُوَ فِي النَّهَارِ فَعَنْ زُفَرَ كَذَلِكَ تَقَعُ وَاحِدَةٌ وَعِنْدَنَا يَقَعُ ثِنْتَانِ ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ وَقَعَ مُضَافًا صَحِيحًا وَالْوَاوَ فِي عَطْفِ الْمُفْرَدِ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْجُمْلَةِ النَّاقِصَةِ يُوجِبُ تَقْدِيرَ مَا فِي الْأُولَى بِمَا بَعْدَهَا فَصَارَ الْحَاصِلُ أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا وَأَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ ، وَقَدْ نُقِلَ الْخِلَافُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ زُفَرَ

فِيمَا لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ كُلَّ يَوْمٍ ؛ فَعِنْدَ زُفَرَ يَقَعُ ثَلَاثٌ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِأَنَّهُ مُوقَعٌ فِي كُلِّ يَوْمٍ قُلْنَا اللَّازِمُ وَهُوَ كَوْنُهَا طَالِقًا فِي كُلِّ يَوْمٍ يَحْصُلُ بِإِيقَاعِهِ فِي هَذَا الْيَوْمِ فَقَطْ غَيْرَ مُتَوَقِّفٍ عَلَى اعْتِبَارِهِ مُوقَعًا كُلَّ يَوْمٍ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ نَقْلَ هَذَا الْخِلَافِ مَعَ الرِّوَايَةِ عَنْهُ فِي طَالِقٍ غَدًا وَالْيَوْمَ يَقَعُ وَاحِدَةٌ مُشْكِلٌ ، لِأَنَّ كُلَّ يَوْمٍ إمَّا أَنْ يَتَعَيَّنَ الْيَوْمَ وَغَدًا وَبَعْدَ غَدٍ إلَى آخِرِ الزَّمَانِ فَتَقَعَ وَاحِدَةٌ أَوْ قَلْبَهُ غَدًا وَمَا بَعْدَهُ وَالْيَوْمَ فَكَذَلِكَ ، وَكَذَا لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ أَبَدًا لَمْ تَطْلُقْ إلَّا وَاحِدَةً ، فَلَوْ نَوَى أَنْ يُطَلِّقَ كُلَّ يَوْمٍ تَطْلِيقَةً أُخْرَى صَحَّتْ نِيَّتُهُ ، وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْبَحْثِ أَوَّلَ كِتَابِ الطَّلَاقِ فِي أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ .
وَحَاصِلُ مَا يَقَعُ بِهِ جَوَابُ مَا قَدَّمْنَاهُ أَنَّ صِحَّةَ نِيَّةِ الثَّلَاثِ إمَّا بِاعْتِبَارِ إضْمَارِ التَّطْلِيقِ كَأَنَّهُ قَالَ : طَالِقٌ كُلَّ يَوْمٍ تَطْلِيقَةً أَوْ بِإِضْمَارِ فِي كَأَنَّهُ قَالَ : فِي كُلِّ يَوْمٍ ، وَلَوْ قَالَ : فِي كُلِّ يَوْمٍ طَلُقَتْ ثَلَاثًا فِي كُلِّ يَوْمٍ وَاحِدَةً وَهُوَ مَا قَاسَ عَلَيْهِ زُفَرُ .
وَفَرَّقُوا بِأَنَّ " فِي " لِلظَّرْفِ وَالزَّمَانُ إنَّمَا هُوَ ظَرْفٌ مِنْ حَيْثُ الْوُقُوعِ فَيَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ كُلِّ يَوْمٍ فِيهِ وُقُوعُ تَعَدُّدِ الْوَاقِعِ ، بِخِلَافِ كَوْنِ كُلِّ يَوْمٍ فِيهِ الِاتِّصَافُ بِالْوَاقِعِ .

( وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ فِي غَدٍ وَقَالَ نَوَيْت آخِرَ النَّهَارِ دِينَ فِي الْقَضَاءِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : لَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ خَاصَّةً ) لِأَنَّهُ وَصَفَهَا بِالطَّلَاقِ " فِي " جَمِيعِ الْغَدِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ غَدًا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ وَلِهَذَا يَقَعُ فِي أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْهُ عِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ ، وَهَذَا لِأَنَّ حَذْفَ فِي وَإِثْبَاتَهُ سَوَاءٌ لِأَنَّهُ ظَرْفٌ فِي الْحَالَيْنِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ لِأَنَّ كَلِمَةَ فِي لِلظَّرْفِ وَالظَّرْفِيَّةُ لَا تَقْتَضِي الِاسْتِيعَابَ وَتَعَيَّنَ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ ضَرُورَةَ عَدَمِ الْمُزَاحِمِ ، فَإِذَا عَيَّنَ آخِرَ النَّهَارِ كَانَ التَّعْيِينُ الْقَصْدِيُّ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ مِنْ الضَّرُورِيِّ ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ غَدًا لِأَنَّهُ يَقْتَضِي الِاسْتِيعَابَ حَيْثُ وَصَفَهَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ مُضَافًا إلَى جَمِيعِ الْغَدِ .
نَظِيرُهُ إذَا قَالَ : وَاَللَّهِ لَأَصُومَنَّ عُمْرِي ، وَنَظِيرُ الْأَوَّلِ : وَاَللَّهِ لَأَصُومَنَّ فِي عُمْرِي ، وَعَلَى هَذَيْنِ الدَّهْرَ وَفِي الدَّهْرِ .

( قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ فِي غَدٍ وَقَالَ : نَوَيْت آخِرَ النَّهَارِ صُدِّقَ فِي الْقَضَاءِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ خَاصَّةً ) وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى .
لَهُمَا أَنَّهُ وَصَفَهَا بِالطَّلَاقِ فِي جَمِيعِ الْغَدِ فَصَارَ كَقَوْلِهِ طَالِقٌ غَدًا وَفِيهِ لَا يُصَدَّقُ فِي نِيَّتِهِ آخِرَهُ ، وَلِهَذَا أَيْ وَلِأَنَّهُ وَصَفَهَا بِالطَّلَاقِ فِي جَمِيعِ الْغَدِ يَقَعُ فِي أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْهُ اتِّفَاقًا عِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ ، وَهَذَا وَهُوَ كَوْنُ وَصْفِهَا بِالطَّلَاقِ فِي جَمِيعِ الْغَدِ أَوْ صَيْرُورَتِهِ بِمَنْزِلَةِ غَدًا لِأَنَّ حَذْفَ لَفْظَةِ فِي مَعَ إرَادَتِهَا وَإِثْبَاتِهَا سَوَاءٌ فَإِذَا كَانَ فِي حَذْفِهِ يُفِيدُ عُمُومَ الزَّمَانِ فَفِي إثْبَاتِهِ كَذَلِكَ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ ذِكْرَ لَفْظَةِ فِي يُفِيدُ وَصْلَ مُتَعَلِّقِهَا بِجُزْءٍ مِنْ مَدْخُولِهَا أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ مُتَّصِلًا بِجُزْءٍ آخَرَ أَوْ كُلِّهِ أَوْ لَا ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ خُصُوصُ أَحَدِهِمَا مِنْ خَارِجٍ كَمَا فِي صُمْت فِي يَوْمٍ يُعْرَفُ الشُّمُولُ وَأَكَلْت فِي يَوْمٍ يُعْرَفُ عَدَمُهُ لَا مَدْلُولُ اللَّفْظِ فَإِذَا نَوَى جُزْءًا مِنْ الزَّمَانِ خَاصًّا فَقَدْ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ جُزْءٌ مِنْ أَفْرَادِ الْمُتَوَاطِئِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَذْكُرُوا وَصْلَ الْفِعْلِ إلَيْهِ بِنَفْسِهِ فَإِنَّ الْمُفَادَ حِينَئِذٍ عُمُومُهُ لِلْقَطْعِ مِنْ اللُّغَةِ بِفَهْمِ الِاسْتِيعَابِ فِي سِرْت فَرْسَخًا وَبِعَدَمِهِ فِي سِرْت فِي فَرْسَخٍ وَصُمْت عُمُرِي وَفِي عُمُرِي فَنِيَّةُ جُزْءٍ مُعَيَّنٍ فِيهِ خِلَافُ الظَّاهِرِ فَلَا يُصَدَّقُ قَضَاءً ، وَمِثْلُ قَوْلِهِ فِي غَدٍ قَوْلُهُ فِي شَعْبَانَ مَثَلًا ؛ فَإِذَا قَالَ : طَالِقٌ فِي شَعْبَانَ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ طَلُقَتْ حِينَ تَغِيبُ الشَّمْسُ مِنْ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَجَبٍ ، وَإِنْ نَوَى آخِرَ شَعْبَانَ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ .

( وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ أَمْسِ وَقَدْ تَزَوَّجَهَا الْيَوْمَ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ ) لِأَنَّهُ أَسْنَدَهُ إلَى حَالَةٍ مَعْهُودَةٍ مُنَافِيَةٍ لِمَالِكِيَّةِ الطَّلَاقِ فَيَلْغُوَ ، كَمَا إذَا قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ ، وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ إخْبَارًا عَنْ عَدَمِ النِّكَاحِ أَوْ عَنْ كَوْنِهَا مُطَلَّقَةً بِتَطْلِيقِ غَيْرِهِ مِنْ الْأَزْوَاجِ ( وَلَوْ تَزَوَّجَهَا أَوَّلهُ مِنْ أَمْسِ وَقَعَ السَّاعَةَ ) لِأَنَّهُ مَا أَسْنَدَهُ إلَى حَالَةٍ مُنَافِيَةٍ وَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ إخْبَارًا أَيْضًا فَكَانَ إنْشَاءً ، وَالْإِنْشَاءُ فِي الْمَاضِي إنْشَاءٌ فِي الْحَالِ فَيَقَعَ السَّاعَةَ ( وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ قِبَلَ أَنْ أَتَزَوَّجَك لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ ) لِأَنَّهُ أَسْنَدَهُ إلَى حَالَةٍ مُنَافِيَةٍ فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ : طَلَّقْتُك وَأَنَا صَبِيٌّ أَوْ نَائِمٌ ، أَوْ يُصَحَّحُ إخْبَارًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا .

( قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ أَمْسِ ) أَوْ فِي الشَّهْرِ الَّذِي خَرَجَ ( وَقَدْ تَزَوَّجَهَا الْيَوْمَ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ ) بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ لِأَنَّهُ أَسْنَدَ الطَّلَاقَ إلَى حَالَةٍ مَعْهُودَةٍ مُنَافِيَةٍ لِمَالِكِيَّةِ الطَّلَاقِ فَكَانَ حَاصِلُهُ إنْكَارًا لِلطَّلَاقِ فَيَلْغُوَ فَكَانَ كَقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ ، وَلِأَنَّهُ حِينَ تَعَذَّرَ تَصْحِيحُهُ إنْشَاءً أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ إخْبَارًا عَنْ عَدَمِ النِّكَاحِ : أَيْ طَالِقٌ أَمْسِ عَنْ قَيْدِ النِّكَاحِ إذَا لَمْ تَنْكِحِي بَعْدُ أَوْ عَنْ طَلَاقِ زَوْجٍ كَانَ لَهَا إنْ كَانَ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لِلْمُعَيَّنَةِ : أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ حَيْثُ يَقَعُ ثِنْتَانِ ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ فِي التَّرْكِيبِ الْإِيقَاعُ وَالْإِنْشَاءُ فَلَا يُعْدَلُ عَنْهُ إلَّا لِتَعَذُّرِهِ وَالصَّارِفُ عَنْهُ إلَى مُحْتَمِلِهِ وَهُوَ عَدَمُ صِحَّةِ الْإِنْشَاءِ مُنْتَفٍ لِبَقَاءِ الْمَحَلِّيَّةِ بَعْدَ الطَّلْقَةِ الْأُولَى ، إمَّا بِعَوْدِ الْقَيْدِ بَعْدَ زَوَالِهِ لِثُبُوتِ الْعِدَّةِ كَقَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْ الْمَشَايِخِ ، أَوْ لِبَقَائِهِ مُتَوَقِّفًا إلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ كَقَوْلِ الْمُحَقِّقِينَ ، وَيَشْهَدُ لَهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا إذَا قَالَ : كُلُّ امْرَأَةٍ لِي طَالِقٌ يَقَعُ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ طَلْقَةٌ أُخْرَى لِبَقَاءِ الْمَحَلِّيَّةِ فِي الْمُطَلَّقَةِ رَجْعِيَّةً لِقِيَامِ الْعِدَّةِ بِعَوْدِ الْقَيْدِ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ عَلَى الْمُبَانَةِ مَعَ قِيَامِ عِدَّتِهَا ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتَيْهِ : إحْدَاكُمَا طَالِقٌ إحْدَاكُمَا طَالِقٌ حَيْثُ يَقَعُ وَاحِدَةٌ وَيُحْمَلُ عَلَى الْإِخْبَارِ ثَانِيًا أَوْ التَّأْكِيدِ إلَّا أَنْ يَقْصِدَ التَّجْدِيدَ لِأَنَّ الْإِيقَاعَ فِي الْمُنْكَرِ لَيْسَ غَالِبًا ، وَلَا الدَّاعِي إلَى تَكْثِيرِ الطَّلَقَاتِ مِنْ اللَّجَاجِ وَالْبَغْضَاءِ بِحَيْثُ لَا يَقْنَعُ الزَّوْجُ بِوَاحِدَةٍ مَوْجُودًا فِيهِ لِأَنَّ تَحَقُّقَ ذَلِكَ فِي الْمُعَيَّنَةِ لَا فِي الْمُنَكَّرَةِ ، وَلَوْ كَانَ تَزَوَّجَهَا أَوَّلَ مِنْ أَمْسِ وَقَعَ السَّاعَةَ لِأَنَّهُ مَا أَسْنَدَهُ إلَى حَالَةٍ مُنَافِيَةٍ ، وَلَا

يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ إخْبَارًا لِكَذِبِهِ وَعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى الْإِسْنَادِ فَكَانَ إنْشَاءً فِي الْحَالِ فَيَقَعَ السَّاعَةَ .
وَعَلَى هَذِهِ النُّكْتَةِ حَكَمَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ مَشَايِخِنَا فِي مَسْأَلَةِ الدَّوْرِ الْمَنْقُولَةِ عَنْ مُتَأَخِّرِي الشَّافِعِيَّةِ وَهِيَ إنْ طَلَّقْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ ، وَحَكَمَ أَكْثَرُهُمْ أَنَّهَا لَا تَطْلُقُ بِتَنْجِيزِ طَلَاقِهَا لِأَنَّهُ لَوْ تَنَجَّزَ وَقَعَ الْمُعَلَّقُ قَبْلَهُ ثَلَاثًا وَوُقُوعُ الثَّلَاثِ سَابِقًا عَلَى التَّنْجِيزِ يَمْنَعُ الْمُنْجِزَ بِوُقُوعِ الْمُنَجَّزِ وَالْمُعَلَّقِ لِأَنَّ الْإِيقَاعَ فِي الْمَاضِي إيقَاعٌ فِي الْحَالِ وَنَقُولُ أَيْضًا : إنَّ هَذَا تَغْيِيرٌ لِحُكْمِ اللُّغَةِ لِأَنَّ الْأَجْزِيَةَ تَنْزِلُ بَعْدَ الشَّرْطِ أَوْ مَعَهُ لَا قَبْلَهُ ، وَلِحُكْمِ الْعَقْلِ أَيْضًا لِأَنَّ مَدْخُولَ أَدَاةِ الشَّرْطِ سَبَبٌ وَالْجَزَاءَ مُسَبَّبٌ عَنْهُ ، وَلَا يُعْقَلُ تَقَدُّمُ الْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ فَكَانَ قَوْلُهُ قَبْلَهُ لَغْوًا أَلْبَتَّةَ فَبَقِيَ الطَّلَاقُ جَزَاءً لِلشَّرْطِ غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِالْقَبْلِيَّةِ وَلِحُكْمِ الشَّرْعِ لِأَنَّ النُّصُوصَ نَاطِقَةٌ بِشَرْعِيَّةِ الطَّلَاقِ وَهَذَا يُؤَدِّي إلَى رَفْعِهَا فَيَتَفَرَّعَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ وُقُوعُ ثَلَاثٍ : الْوَاحِدَةُ الْمُنَجَّزَةُ وَثِنْتَانِ مِنْ الْمُعَلَّقَةِ .
وَلَوْ طَلَّقَهَا ثِنْتَيْنِ وَقَعَتَا وَوَاحِدَةً مِنْ الْمُعَلَّقَةِ أَوْ ثَلَاثًا وَقَعْنَ فَيَنْزِلَ الطَّلَاقُ الْمُعَلَّقُ لَا يُصَادِفُ أَهْلِيَّةً فَيَلْغُو .
وَلَوْ كَانَ قَالَ : إنْ طَلَّقْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً وَقَعَ ثِنْتَانِ الْمُنَجَّزَةُ وَالْمُعَلَّقَةُ وَقِسْ عَلَى ذَلِكَ ( قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَك لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ لِأَنَّهُ أَسْنَدَهُ إلَى حَالَةٍ مُنَافِيَةٍ فَصَارَ كَقَوْلِهِ إذَا طَلَّقْتُك وَأَنَا صَبِيٌّ أَوْ نَائِمٌ ) أَوْ مَجْنُونٌ وَكَانَ جُنُونُهُ مَعْهُودًا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْهُودًا طَلُقَتْ لِلْحَالِ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِطَلَاقِهَا وَأَسْنَدَهُ إلَى حَالَةٍ لَمْ تُعْهَدْ فَلَمْ

يُعْتَبَرْ قَوْلُهُ فِي الْإِضَافَةِ ( أَوْ يُصَحَّحُ إخْبَارًا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ ) مِنْ كَوْنِهِ إخْبَارًا عَنْ عَدَمِ النِّكَاحِ أَوْ طَلَاقِ زَوْجٍ مُتَقَدِّمٍ .

( وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ مَا لَمْ أُطَلِّقْك أَوْ مَتَى لَمْ أُطَلِّقْك أَوْ مَتَى مَا لَمْ أُطَلِّقْك وَسَكَتَ طَلُقَتْ ) لِأَنَّهُ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى زَمَانٍ خَالٍ عَنْ التَّطْلِيقِ وَقَدْ وُجِدَ حَيْثُ سَكَتَ ، وَهَذَا لِأَنَّ كَلِمَةَ مَتَى وَمَتَى مَا صَرِيحٌ فِي الْوَقْتِ لِأَنَّهُمَا مِنْ ظُرُوفِ الزَّمَانِ ، وَكَذَا كَلِمَةُ " مَا " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { مَا دُمْتُ حَيًّا } أَيْ وَقْتَ الْحَيَاةِ .

( قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ مَا لَمْ أُطَلِّقْك أَوْ مَتَى لَمْ أُطَلِّقْك أَوْ مَتَى مَا لَمْ أُطَلِّقْك وَسَكَتَ طَلُقَتْ ) بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ لِأَنَّ مَتَى ظَرْفُ زَمَانٍ ، وَكَذَا " مَا " تَكُونُ مَصْدَرِيَّةً نَائِبَةً عَنْ ظَرْفِ الزَّمَانِ ، قَالَ : تَعَالَى قَاصِدًا لِكَلَامِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ { وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا } أَيْ مُدَّةَ دَوَامِي حَيًّا ، فَصَارَ حَاصِلُ الْمَعْنَى إضَافَةَ طَلَاقِهَا إلَى زَمَانٍ خَالٍ عَنْ طَلَاقِهَا ، وَبِمُجَرَّدِ سُكُوتِهِ وُجِدَ الزَّمَانُ الْمُضَافُ إلَيْهِ فَيَقَعَ .
فَلَوْ قَالَ : مَوْصُولًا أَنْتِ طَالِقُ بَرَّ ، حَتَّى لَوْ قَالَ : مَتَى لَمْ أُطَلِّقْك فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا ثُمَّ وَصَلَ قَوْلَهُ أَنْتِ طَالِقٌ قَالَ : أَصْحَابُنَا بَرَّ وَوَقَعَتْ وَاحِدَةٌ ، وَقَالَ : زُفَرُ : ثَلَاثٌ ، وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ كُلَّمَا لَمْ أُطَلِّقْك وَسَكَتَ وَقَعَتْ الثَّلَاثُ مُتَتَابِعَةً لَا جُمْلَةً لِأَنَّهَا تَقْتَضِي عُمُومَ الْإِفْرَادِ لَا عُمُومَ الِاجْتِمَاعِ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَدْخُولًا بِهَا بَانَتْ بِوَاحِدَةٍ فَقَطْ .
وَلَوْ قَالَ : حِينَ لَمْ أُطَلِّقْك وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَهِيَ طَالِقٌ حِينَ سَكَتَ ، وَكَذَا زَمَانَ لَمْ أُطَلِّقْك وَحَيْثُ لَمْ أُطَلِّقْك وَيَوْمَ لَمْ أُطَلِّقْك .
وَإِنْ قَالَ : زَمَانَ لَا أُطَلِّقُك أَوْ حِينَ لَا أُطَلِّقُك لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى تَمْضِيَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ لِأَنَّ لَمْ تَقْلِبُ الْمُضَارِعَ مَاضِيًا مَعَ النَّفْيِ وَقَدْ وُجِدَ زَمَانٌ لَمْ يُطَلِّقْهَا فِيهِ فَوَقَعَ ، وَحَيْثُ لِلْمَكَانِ وَكَمْ مَكَانٌ لَمْ يُطَلِّقْهَا فِيهِ فَوَقَعَ الطَّلَاقُ ، وَكَلِمَةُ لَا لِلِاسْتِقْبَالِ غَالِبًا ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ لَا يَقَعُ فِي الْحَالِ ، وَإِنَّمَا يُرَادُ بِحِينَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ لِأَنَّهُ أَوْسَطُ اسْتِعْمَالَاتِهِ إذْ يُرَادُ بِهِ سَاعَةٌ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى { حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ } وَسِتَّةُ أَشْهُرٍ نَحْوُ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا } وَأَرْبَعُونَ سَنَةً كَمَا فِي قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ { هَلْ أَتَى عَلَى

الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنْ الدَّهْرِ } وَالزَّمَانُ كَالْحِينِ لِأَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ .

( وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ إنْ لَمْ أُطَلِّقْك لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى يَمُوتَ ) لِأَنَّ الْعَدَمَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالْيَأْسِ عَنْ الْحَيَاةِ وَهُوَ الشَّرْطُ كَمَا فِي قَوْلِهِ إنْ لَمْ آتِ الْبَصْرَةَ ، وَمَوْتُهَا بِمَنْزِلَةِ مَوْتِهِ هُوَ الصَّحِيحُ .

( قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ إنْ لَمْ أُطَلِّقْك لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى يَمُوتَ ) بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ لِأَنَّ الشَّرْطَ أَنْ لَا يُطَلِّقَهَا وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالْيَأْسِ عَنْ الْحَيَاةِ ، لِأَنَّهُ مَتَى طَلَّقَهَا فِي عُمُرِهِ لَمْ يَصْدُقْ أَنَّهُ لَمْ يُطَلِّقْهَا بَلْ صَدَقَ نَقِيضُهُ وَهُوَ أَنَّهُ طَلَّقَهَا ، وَالْيَأْسُ يَكُونُ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَّاتِهِ وَلَمْ يُقَدِّرْهُ الْمُتَقَدِّمُونَ بَلْ قَالُوا : تَطْلُقُ قُبَيْلَ مَوْتِهِ ، فَإِنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا وَوَرِثَتْهُ بِحُكْمِ الْفِرَارِ وَإِلَّا لَا تَرِثُهُ .
وَقَوْلُهُ وَهُوَ الشَّرْطُ : يَعْنِي الْعَدَمَ ( قَوْلُهُ كَمَا فِي إنْ لَمْ آتِ الْبَصْرَةَ ) إعْطَاءُ نَظِيرٍ ، وَالْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ شَرْطٍ بِإِنْ مَنْفِيٌّ حُكْمُهُ كَذَلِكَ وَهُوَ أَنْ لَا يَقَعَ الطَّلَاقُ أَوْ الْعَتَاقُ إذَا عُلِّقَ بِهِ إلَّا بِالْمَوْتِ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَزَادَ قَيْدًا حَسَنًا فِي الْمُبْتَغَى بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ ، قَالَ : إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ لَمْ تُخْبِرِينِي بِكَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَهُوَ عَلَى الْأَبَدِ إذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْفَوْرِ انْتَهَى .
وَمِنْ ثَمَّةَ قَالُوا : لَوْ أَرَادَ أَنْ يُجَامِعَ امْرَأَتَهُ فَلَمْ تُطَاوِعْهُ فَقَالَ : إنْ لَمْ تَدْخُلِي الْبَيْتَ مَعِي فَأَنْتِ طَالِقٌ فَدَخَلَتْ بَعْدَمَا سَكَنَتْ شَهْوَتُهُ طَلُقَتْ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ مِنْ الدُّخُولِ كَانَ قَضَاءَ الشَّهْوَةِ وَقَدْ فَاتَ ( قَوْلُهُ وَمَوْتُهَا بِمَنْزِلَةِ مَوْتِهِ هُوَ الصَّحِيحُ ) اُحْتُرِزَ بِهِ عَنْ رِوَايَةِ النَّوَادِرِ أَنَّهَا لَا تَطْلُقُ بِمَوْتِهَا لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا ، وَإِنَّمَا عَجَزَ بِمَوْتِهَا وَصَارَ كَقَوْلِهِ إنْ لَمْ أَدْخُلَ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ يَقَعُ بِمَوْتِهِ لَا بِمَوْتِهَا .
وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ الْوَجْهَ السَّابِقَ يَنْتَظِمُ مَوْتَهَا وَمَوْتَهُ ، بِخِلَافِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّ مَوْتَهَا يُمَكِّنُهُ الدُّخُولَ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْيَأْسُ بِمَوْتِهَا فَلَا يَقَعُ .
أَمَّا الطَّلَاقُ فَإِنَّهُ يَتَحَقَّقُ الْيَأْسُ مِنْهُ بِمَوْتِهَا ، وَإِذَا حَكَمْنَا

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78