كتاب : فتح القدير
المؤلف : كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي

يَشْهَدَ إذَا عَرَفَ أَنَّهُ خَطُّهُ وَلَمْ يَذْكُرْ الْحَادِثَةَ .
وَبِهَذَا أَجَابَ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ حِين كَتَبَ إلَيْهِ نُصَيْرُ بْنُ يَحْيَى فِيمَنْ نَسِيَ شَهَادَتَهُ وَوَجَدَ خَطَّهُ وَعَرَفَهُ هَلْ يَسْعَهُ أَنْ يَشْهَدَ ؟ قَالَ : إذَا كَانَ الْخَطُّ فِي حِرْزِهِ يَسَعُهُ أَنْ يَشْهَدَ .
وَقَالَ فِي الْمُجَرَّدِ : قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَوْ شَهِدُوا عَلَى صَكٍّ فَقَالُوا نَعْرِفُ أَنَّ هَذَا خَطُّنَا وَخَوَاتِيمُنَا لَكِنْ لَا نَذْكُرُهُ لَمْ يَكُنْ لِلْقَاضِي أَنْ يُنْفِذَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ، فَإِنْ أَنْفَذَهُ قَاضٍ غَيْرُهُ ثُمَّ اخْتَصَمُوا إلَيْهِ فِيهِ أَنْفَذَهُ ، لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْقُضَاةُ ، وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّهُ لَوْ ذَكَرَ لِلْقَاضِي أَنِّي أَشْهَدُ مِنْ غَيْرِ تَذَكُّرٍ لِلْحَادِثَةِ بَلْ لِمَعْرِفَةِ خَطِّي لَمْ تُقْبَلْ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَحْكِ خِلَافًا .
وَلَوْ نَسِيَ قَضَاءَهُ وَلَا سِجِلَّ عِنْدَهُ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّك قَضَيْت بِكَذَا لِهَذَا عَلَى هَذَا ، فَإِنْ تَذَكَّرَ أَمْضَاهُ ، وَإِنْ لَمْ يَتَذَكَّرْ فَلَا إشْكَالَ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَقْضِي بِذَلِكَ ، وَقِيلَ وَأَبُو يُوسُفَ كَذَلِكَ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُعْتَمَدُ وَيَقْضِي بِهِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى ، وَعَلَى هَذَا لَوْ سَمِعَ مِنْ غَيْرِهِ حَدِيثًا ثُمَّ نَسِيَ الْأَصْلُ رِوَايَتَهُ لِلْفَرْعِ ثُمَّ سَمِعَ الْفَرْعَ يَرْوِيهِ عَنْهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَبِي يُوسُفَ لَا يُعْمَلُ بِهِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُعْمَلُ بِهِ .
وَمِنْ ذَلِكَ الْمَسَائِلُ الَّتِي رَوَاهَا مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَنَسِيَهَا أَبُو يُوسُفَ وَهِيَ سِتٌّ فَكَانَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَعْتَمِدُ رِوَايَةَ مُحَمَّدٍ لَهَا عَنْهُ ، وَمُحَمَّدٌ كَانَ لَا يَدَعُ رِوَايَتَهَا عَنْهُ ، كَذَا قَالُوا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ فِي تَخْرِيجِ الْمَسَائِلِ السِّتِّ إشْكَالًا ، لِأَنَّ الْمَذْكُورَ عِنْدَ ذِكْرِهِمْ لِهَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ أَنْكَرَ وَقَالَ مَا رَوَيْت لَك عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ذَلِكَ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْهِدَايَةِ فِيمَا إذَا صَلَّى

أَرْبَعًا وَتَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي إحْدَى الْأُولَيَيْنِ وَإِحْدَى الْأُخْرَيَيْنِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ أَرْبَعٍ ، فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : مَا رَوَيْت لَك إلَّا رَكْعَتَيْنِ ، وَهَذِهِ الصُّورَةُ لَيْسَتْ مِنْ صُوَرِ نِسْيَانِ الْأَصْلِ رِوَايَةَ الْفَرْعِ ، بَلْ مِنْ صُوَرِ تَكْذِيبِ الْأَصْلِ رِوَايَةَ الْفَرْعِ عَنْهُ كَمَا يُعْرَفُ فِي الْأُصُولِ ، وَلَا خِلَافَ يُحْفَظُ فِيهِ بَيْنَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْأُصُولِيِّينَ أَنَّ رِوَايَةَ الْفَرْعِ تُرَدُّ فِي ذَلِكَ ، بِخِلَافِ مَا إذَا نَسِيَ الْأَصْلُ وَلَمْ يَجْزِمْ بِالْإِنْكَارِ فَلَا يَنْبَغِي اعْتِبَارُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ .
نَعَمْ إذَا صَحَّ اعْتِبَارُ مَا ذَكَرَهُ عَنْهُ تَخْرِيجًا عَلَى أُصُولِ أَبِي حَنِيفَة يُمْكِنُ

قَالَ ( وَلَا يَجُوزُ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ بِشَيْءٍ لَمْ يُعَايِنْهُ إلَّا النَّسَبَ وَالْمَوْتَ وَالنِّكَاحَ وَالدُّخُولَ وَوِلَايَةَ الْقَاضِي فَإِنَّهُ يَسَعُهُ أَنْ يَشْهَدَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ إذَا أَخْبَرَهُ بِهَا مَنْ يَثِقُ بِهِ ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ .
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَجُوزَ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْمُشَاهَدَةِ وَذَلِكَ بِالْعِلْمِ وَلَمْ يَحْصُلْ فَصَارَ كَالْبَيْعِ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذِهِ أُمُورٌ تَخْتَصُّ بِمُعَايَنَةِ أَسْبَابِهَا خَوَّاصٌ مِنْ النَّاسِ ، وَيَتَعَلَّقُ بِهَا أَحْكَامٌ تَبْقَى عَلَى انْقِضَاءِ الْقُرُونِ ، فَلَوْ لَمْ تُقْبَلْ فِيهَا الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ أَدَّى إلَى الْحَرَجِ وَتَعْطِيلِ الْأَحْكَامِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ يَسْمَعُهُ كُلُّ أَحَدٍ ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ بِالِاشْتِهَارِ وَذَلِكَ بِالتَّوَاتُرِ أَوْ بِإِخْبَارِ مَنْ يَثِقُ بِهِ كَمَا قَالَ فِي الْكِتَابِ .
وَيُشْتَرَطُ أَنْ يُخْبِرَهُ رَجُلَانِ عَدْلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ لِيَحْصُلَ لَهُ نَوْعُ عِلْمٍ .
وَقِيلَ فِي الْمَوْتِ يَكْتَفِي بِإِخْبَارِ وَاحِدٍ أَوْ وَاحِدَةٍ لِأَنَّهُ قَلَّمَا يُشَاهِدُ غَيْرُ الْوَاحِدِ إذْ الْإِنْسَانُ يَهَابُهُ وَيَكْرَهُهُ فَيَكُونُ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَدِ بَعْضُ الْحَرَجِ ، وَلَا كَذَلِكَ النَّسَبُ وَالنِّكَاحُ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُطْلِقَ أَدَاءَ الشَّهَادَةِ أَمَّا إذَا فَسَّرَ لِلْقَاضِي أَنَّهُ يَشْهَدُ بِالتَّسَامُعِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ كَمَا أَنَّ مُعَايَنَةَ الْيَدِ فِي الْأَمْلَاكِ تُطْلِقُ الشَّهَادَةَ ، ثُمَّ إذَا فَسَّرَ لَا تُقْبَلُ كَذَا هَذَا .
وَلَوْ رَأَى إنْسَانًا جَلَسَ مَجْلِسَ الْقَضَاءِ يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْخُصُومُ حَلَّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى كَوْنِهِ قَاضِيًا وَكَذَا إذَا رَأَى رَجُلًا وَامْرَأَةً يَسْكُنَانِ بَيْتًا وَيَنْبَسِطُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى الْآخَرِ انْبِسَاطَ الْأَزْوَاجِ كَمَا إذَا رَأَى عَيْنًا فِي يَدِ غَيْرِهِ .
وَمَنْ شَهِدَ أَنَّهُ شَهِدَ دَفْنَ فُلَانٍ أَوْ صَلَّى عَلَى جِنَازَتِهِ فَهُوَ مُعَايَنَةٌ ، حَتَّى لَوْ فَسَّرَ لِلْقَاضِي قَبْلَهُ ثُمَّ قَصَرَ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْكِتَابِ

لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْخَمْسَةِ يَنْفِي اعْتِبَارَ التَّسَامُعِ فِي الْوَلَاءِ وَالْوَقْفِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ آخِرًا أَنَّهُ يَجُوزُ فِي الْوَلَاءِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ النَّسَبِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ } وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَجُوزُ فِي الْوَقْفِ لِأَنَّهُ يَبْقَى عَلَى مَرِّ الْأَعْصَارِ ، إلَّا أَنَّا نَقُولُ الْوَلَاءُ يُبْتَنَى عَلَى زَوَالِ الْمِلْكِ وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الْمُعَايَنَةِ فَكَذَا فِيمَا يُبْتَنَى عَلَيْهِ .
وَأَمَّا الْوَقْفُ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ فِي أَصْلِهِ دُونَ شَرَائِطِهِ ، لِأَنَّ أَصْلَهُ هُوَ الَّذِي يَشْتَهِرُ .

( قَوْلُهُ وَلَا يَجُوزُ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ بِشَيْءٍ لَمْ يُعَايِنْهُ ) أَيْ لَمْ يَقْطَعْ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْمُعَايَنَةِ بِالْعَيْنِ أَوْ السَّمَاعِ إلَّا فِي النَّسَبِ وَالْمَوْتِ وَالنِّكَاحِ وَالدُّخُولِ وَوِلَايَةِ الْقَاضِي فَإِنَّهُ يَسَعُهُ أَنْ يَشْهَدَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ إذَا أَخْبَرَهُ بِهَا مَنْ يَثِقُ بِهِ مِنْ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ ، وَيُشْتَرَطُ كَوْنُ الْإِخْبَارِ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ ، وَفِي الْمَوْتِ إذَا قُلْنَا يَكْفِي الْوَاحِدُ لَا يُشْتَرَطُ لَفْظُ الشَّهَادَةِ بِالِاتِّفَاقِ ، أَوْ بِتَوَاتُرِ الْخَبَرِ بِذَلِكَ وَقِيلَ فِي الْمَوْتِ يَكْتَفِي بِإِخْبَارِ وَاحِدٍ عَدْلٍ أَوْ وَاحِدَةٍ وَهُوَ الْمُخْتَارُ ، بِخِلَافِ مَا سِوَاهُ لِأَنَّهُ قَلَّمَا يُشَاهِدُ عِنْدَ الْمَوْتِ إلَّا وَاحِدٌ ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَهَابُهُ وَيَكْرَهُهُ ، فَإِذَا رَآهُ وَاحِدٌ عَدْلٌ ، وَيَعْلَمُ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْضِي بِذَلِكَ وَهُوَ عَدْلٌ أَخْبَرَهُ غَيْرُهُ ، ثُمَّ يَشْهَدَانِ بِمَوْتِهِ ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَذْكُرَ ذَلِكَ الْمُخْبِرُ أَنَّهُ شَهِدَ مَوْتَهُ أَوْ جِنَازَتَهُ أَوْ دَفْنَهُ حَتَّى يَشْهَدَ الْآخَرُ مَعَهُ ، وَكَذَا لَوْ جَاءَ خَبَرَ مَوْتِ رَجُلٍ وَصَنَعَ أَهْلُهُ مَا يُصْنَعُ بِالْمَوْتَى لَمْ يَسَعْ لِأَحَدٍ أَنْ يَشْهَدَ بِمَوْتِهِ إلَّا إنْ شَهِدَ مَوْتَهُ أَوْ سَمِعَ مِمَّنْ شَهِدَ ذَلِكَ ، ذَكَرَهُ فِي الْفَتَاوَى .
وَالِاكْتِفَاءُ بِالْعَدْلَيْنِ نُقِلَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَشْهَدُ حَتَّى يَسْمَعَ مِنْ جَمَاعَةٍ ، وَقَالَ الْخَصَّافُ فِي الْكُلِّ : حَتَّى يَسْمَعَ مِنْ الْعَامَّةِ وَتَتَابُعَ الْأَخْبَارُ وَيَقَعَ فِي قَلْبِهِ تَصْدِيقُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ .
وَفِي الْفُصُولِ عَنْ شَهَادَاتِ الْمُحِيطِ فِي النَّسَبِ أَنْ يَسْمَعَ أَنَّهُ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ مِنْ جَمَاعَةٍ لَا يُتَصَوَّرُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا إذَا أَخْبَرَهُ عَدْلَانِ أَنَّهُ ابْنُ فُلَانٍ تَحِلُّ الشَّهَادَةُ ، وَأَبُو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ كَانَ يُفْتِي بِقَوْلِهِمَا وَهُوَ اخْتِيَارُ النَّسَفِيِّ .
وَفِي النِّكَاحِ لَمْ

يَشْتَرِطْ الْمُصَنِّفُ مَعَ رُؤْيَةِ دُخُولِهِ إلَى آخِرِهِ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ النَّاسِ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ وَكَذَا الْقَضَاءُ وَذَكَرَهُ غَيْرُهُ وَهُوَ الْحَقُّ .
ثُمَّ قَوْلُ أَحْمَدَ كَقَوْلِنَا فِيمَا سِوَى الدُّخُولِ .
وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ .
وَالْمُصَنِّفُ لَمْ يَحْكِ خِلَافًا بَلْ جَعَلَ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا .
فَالْقِيَاسُ عَدَمُ الْجَوَازِ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْمُشَاهَدَةِ ، فَإِنَّ الِاشْتِقَاقَ انْتِظَامُ الصِّيغَتَيْنِ مَعْنًى وَاحِدًا بَعْدَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْحُرُوفِ الْأُصُولِ ، وَالْمُشَاهَدَةُ مُنْتَفِيَةٌ : يَعْنِي الْقَطْعَ فَلَا تَجُوزُ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ ، كَمَا لَوْ سَمِعَ بِالِاسْتِفَاضَةِ أَنَّهُ بَاعَ لَمْ تَجُزْ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ بِالْبَيْعِ وَكَذَا غَيْرُهُ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِذَلِكَ ، وَذَلِكَ سَبَبٌ أَنَّهُ لَا طَرِيقَ إلَى مَعْرِفَةِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ سِوَى الْخَبَرِ ، إذْ لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِحُضُورِ النَّاسِ الْوِلَادَةَ ، إنَّمَا يَرَوْنَ الْوَلَدَ مَعَ أُمِّهِ أَوْ مُرْضِعَتِهِ وَيَنْسِبُونَهُ إلَى الزَّوْجِ فَيَقُولُونَ هُوَ ابْنُ فُلَانٍ ، وَكَذَا عِنْدَ الْمَوْتِ لَا يَحْضُرُهُ غَالِبًا إلَّا الْأَقَارِبُ ، فَإِذَا رَأَوْا الْجِنَازَةَ وَالدَّفْنَ حَكَمُوا بِمَوْتِ فُلَانٍ ، وَكَذَا النِّكَاحُ لَا يَحْضُرُهُ كُلُّ أَحَدٍ وَإِنَّمَا يُخْبِرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا أَنَّ فُلَانًا تَزَوَّجَ فُلَانَةَ ، وَكَذَا الدُّخُولُ لَا يُعْلَمُ إلَّا بِأَمَارَاتِ فَإِنَّ الْوَطْءَ لَا يُشَاهَدُ ، وَكَذَا وِلَايَةُ السُّلْطَانِ لِلْقَاضِي لَا يَحْضُرُهَا إلَّا الْخَوَاصُّ ، وَإِنَّمَا يَحْضُرُونَ جُلُوسَهُ وَتَصَدِّيهِ لِلْأَحْكَامِ ، وَإِذَا كَانَتْ الْعَادَةُ أَنَّ عِلْمَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ غَالِبًا لَا يَحْصُلُ إلَّا لِبَعْضِ أَفْرَادٍ وَأَنَّ النَّاسَ يَعْتَمِدُونَ فِيهِ عَلَى الْخَبَرِ كَانَ الْخَبَرُ مُسَوِّغًا لِلشَّهَادَةِ وَإِلَّا ضَاعَتْ حُقُوقٌ عَظِيمَةٌ تَبْقَى عَلَى مَرِّ الْأَعْصَارِ كَالنَّسَبِ وَالنِّكَاحِ وَالْإِرْثِ وَالْمَوْتِ ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا أُمُورٌ كَثِيرَةٌ مِثْلُ الْعِدَّةِ وَالْإِحْصَانِ وَكَمَالِ

الْمَهْرِ فِي الدُّخُولِ ، وَالْحَاسِمُ لِمَادَّةِ الشَّغَبِ الْإِجْمَاعُ عَلَى وُجُوبِ الشَّهَادَةِ بِأَنَّ عَائِشَةَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَأَنَّهَا زَوْجَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ دَخَلَ بِهَا ، وَأَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ابْنَ أَبِي طَالِبٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بْنَ الْخَطَّابِ ، وَأَنَّ شُرَيْحًا كَانَ قَاضِيًا ، وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَاتُوا وَإِنْ لَمْ نُعَايِنْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ .
وَحُكِيَ فِي الْخُلَاصَةِ عَنْ ظَهِيرِ الدِّينِ فِي الدُّخُولِ : لَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ فِيهِ بِالتَّسَامُعِ ، فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يُثْبِتَ الدُّخُولَ يُثْبِتَ الْخَلْوَةَ الصَّحِيحَةَ .
وَنَصَّ الْخَصَّافُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ بِالتَّسَامُعِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ يَشْتَهِرُ ، بِخِلَافِ الزِّنَا فَإِنَّهُ فَاحِشَةٌ تُسْتَرُ ( قَوْلُهُ وَيَنْبَغِي أَنْ يُطْلِقَ أَدَاءَ الشَّهَادَةِ ) فَيَشْهَدَ أَنَّهُ ابْنُهُ أَوْ أَمِيرٌ أَوْ قَاضٍ ، أَمَّا إذَا فَسَّرَ لِلْقَاضِي أَنَّهُ شَهِدَ عَنْ تَسَامُعٍ بَيْنَ النَّاسِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ ، كَمَا أَنَّهُ إذَا شَهِدَ بِالْمِلْكِ لِمُعَايَنَةِ الْيَدِ حَلَّ لَهُ وَتُقْبَلُ ، وَلَوْ فَسَّرَ فَقَالَ لِأَنِّي رَأَيْتهَا فِي يَدِهِ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ لَا تُقْبَلُ .
وَفِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ : شَهِدَا عَلَى النِّكَاحِ وَالنَّسَبِ وَفَسَّرَا وَقَالَا سَمِعْنَا ذَلِكَ مِنْ قَوْمٍ لَا يُتَصَوَّرُ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ لَا تُقْبَلُ .
وَقِيلَ تُقْبَلُ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعُمْدَةِ : لَوْ قَالَا أَخْبَرَنَا بِذَلِكَ مَنْ نَثِقُ بِهِ تُقْبَلُ وَجَعَلَهُ الْأَصَحَّ وَاخْتَارَهُ الْخَصَّافُ .
وَفِي فُصُولِ الْأُسْرُوشَنِيِّ : لَوْ شَهِدَ عَلَى النِّكَاحِ فَسَأَلَهُمَا الْقَاضِي هَلْ كُنْتُمَا حَاضِرَيْنِ فَقَالَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا لِأَنَّهُ يَحِلُّ لَهُمَا الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ ، وَقِيلَ لَا تُقْبَلُ كَأَنَّهُمَا قَالَا لَمْ نُعَايِنْ .
وَلَوْ شَهِدَا وَقَالَا سَمِعْنَا لَا تُقْبَلُ فَكَذَا هَذَا .
وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُمَا دَفَنَاهُ أَوْ قَالَا شَهِدْنَا جِنَازَتَهُ تُقْبَلُ

.
وَلَوْ شَهِدَ بِالْمَوْتِ وَاحِدٌ وَآخَرُ بِالْحَيَاةِ تَأْخُذُ امْرَأَتُهُ بِشَهَادَةِ الْمَوْتِ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الْعَارِضَ ، ذَكَرَهُ رَشِيدُ الدِّينِ فِي فَتَاوَاهُ .
وَفِي الْخُلَاصَةِ : لَوْ أَخْبَرَهَا وَاحِدٌ بِمَوْتِهِ وَاثْنَانِ بِحَيَاتِهِ ، إنْ كَانَ الْمُخْبِرُ بِالْمَوْتِ عَدْلًا وَيَشْهَدُ أَنَّهُ عَايَنَ مَوْتَهُ أَوْ جِنَازَتَهُ وَسِعَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا .
ثُمَّ قَالَ : هَذَا إذَا لَمْ يُؤَرِّخَا ، فَإِنْ أَرَّخَا وَتَارِيخُ شَاهِدِي الْحَيَاةِ بَعْدَ تَارِيخِ شَاهِدِ الْمَوْتِ فَشَهَادَةُ شَاهِدِي الْحَيَاةِ أَوْلَى وَكَذَا بِقَتْلِهِ انْتَهَى .
وَأَطْلَقَ فِي وَصَايَا عِصَامِ الدِّينِ فَقَالَ : شَهِدَا أَنَّ زَوْجَهَا مَاتَ أَوْ قُتِلَ وَآخَرَانِ عَلَى الْحَيَاةِ فَالْمَوْتُ أَوْلَى .
وَفِي فَتَاوَى الْفَضْلِيِّ : شَهِدَ عِنْدَهَا عَدْلٌ أَنَّ زَوْجَهَا مَاتَ أَوْ قُتِلَ أَوْ ارْتَدَّ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ هَلْ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ ؟ رِوَايَتَانِ : فِي السِّيَرِ لَا يَجُوزُ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَجُوزُ .
وَمِنْ فُرُوعِ التَّسَامُعِ فِي فَتَاوَى النَّسَفِيِّ : قَالَ رَجُلٌ لِامْرَأَةٍ : سَمِعْت أَنَّ زَوْجَكِ مَاتَ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ إنْ كَانَ الْمُخْبِرُ عَدْلًا ، فَإِنْ تَزَوَّجَتْ ثُمَّ أَخْبَرَهَا جَمَاعَةٌ أَنَّهُ حَيٌّ إنْ صَدَّقَتْ الْأَوَّلَ يَصِحُّ النِّكَاحَ .
وَفِي الْمُنْتَقَى لَمْ يَشْتَرِطْ تَصْدِيقَهَا بَلْ شَرَطَ عَدَالَةَ الْمُخْبِرِ فَقَطْ ، وَقَدْ يَخَالُ أَنَّ هَذَا خِلَافُ مَا تَقَدَّمَ .
وَقَدْ يُفَرَّقُ بِأَنَّ ذَلِكَ فِي حَلِّ إقْدَامِهَا وَعَدَمِهِ ، وَهَذَا بَعْدَ أَنْ تَزَوَّجَتْ وَاسْتَحَقَّهَا الزَّوْجُ الثَّانِي ظَاهِرًا ، وَالشَّيْءُ بِالشَّيْءِ يُذْكَرُ إذَا أَخْبَرَهَا وَاحِدٌ عَدْلٌ أَوْ شَهِدَ عِنْدَ وَلِيِّهَا بِأَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا وَوَقَعَ فِي قَلْبِهَا صِدْقُهُ لَهَا أَنْ تَعْتَدَّ وَتَتَزَوَّجَ .
وَذَكَرَ رَشِيدُ الدِّينِ أَيْضًا فِيهِ إنَّمَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ عَلَى الْمَوْتِ إذَا كَانَ الرَّجُلُ مَعْرُوفًا بِأَنْ كَانَ عَالِمًا أَوْ مِنْ الْعُمَّالِ ، أَمَّا إذَا كَانَ تَاجِرًا أَوْ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ لَا تَجُوزُ

إلَّا بِالْمُعَايَنَةِ ( قَوْلُهُ ثُمَّ قَصَدَ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْكِتَابِ ) أَيْ اسْتِثْنَاءَ الْقُدُورِيِّ حَيْثُ قَالَ : إلَّا فِي النَّسَبِ إلَى آخَرِ الْأَشْيَاءِ الْخَمْسَةِ يَنْفِي اعْتِبَارَ التَّسَامُعِ فِي الْوَلَاءِ وَالْوَقْفِ فَلَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ فِيهِمَا .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ تَجُوزُ فِي الْوَلَاءِ بِالتَّسَامُعِ رَجَعَ إلَيْهِ ، وَكَانَ أَوَّلًا يَقُولُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لَا تَجُوزُ إلَّا أَنْ يَسْمَعَا الْعِتْقَ .
ثُمَّ رَجَعَ إلَى أَنَّهُ تَجُوزُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ } وَفِي النَّسَبِ تَجُوزُ بِالتَّسَامُعِ ، فَكَذَا فِي الْوَلَاءِ ، أَلَا تَرَى أَنَّا نَشْهَدُ أَنَّ قَنْبَرًا مَوْلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَنَافِعًا مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ وَبِلَالًا مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ .
وَلَهُمَا أَنَّهُ يَنْبَنِي عَلَى الْعِتْقِ ، وَالْعِتْقُ لِقَوْلِهِ قَوْلًا يُسْمَعُ ، وَكَثِيرًا مَا يُقْصَدُ الْإِشْهَادُ عَلَيْهِ لَا يَثْبُتُ بِالتَّسَامُعِ فَكَذَا مَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ تَجْوِيزُنَا بِالسَّمَاعِ لِكَوْنِ الشَّيْءِ مِمَّا يَشْتَهِرُ بَلْ لِلضَّرُورَةِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ النَّسَبَ لَا يُرَى إذْ لَا يُرَى الْعُلُوقُ ، وَكَذَا تَقْلِيدُ الْقَاضِي الْقَضَاءَ إلَّا الْخَوَاصُّ وَالْمَوْتُ وَالْبَاقِي فَيُؤَدِّي إلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَلَا كَذَلِكَ الْعِتْقُ .
وَكَوْنُ نَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ وَنَحْوُهُ مِنْ بَابِ الْإِخْبَارِ الْحَقِّ ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنْ لَا خِلَافَ فِي الْعِتْقِ أَيْضًا أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ بِالتَّسَامُعِ ، وَعَلَيْهِ نَصَّ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ .
وَذَكَرَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ عَنْ الْحَلْوَانِيِّ أَنَّ الْخِلَافَ ثَابِتٌ فِي الْعِتْقِ أَيْضًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَجُوزُ بِالتَّسَامُعِ خِلَافًا لَهُمَا ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ .
وَشَرَطَ الْخَصَّافُ فِي الْوَلَاءِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ شَرْطًا لَمْ يَذْكُرْهُ مُحَمَّدٌ فِي الْمَبْسُوطِ فَقَالَ : إنَّمَا تُقْبَلُ إذَا كَانَ الْعِتْقُ مَشْهُورًا وَلِلْمُعْتِقِ أَبَوَانِ أَوْ

ثَلَاثَةٌ فِي الْإِسْلَامِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَأَمَّا الْوَقْفُ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ عَلَيْهِ فِي أَصْلِهِ ) وَقَالَ الْأَقْطَعُ فِي شَرْحِهِ : قَالَ مُحَمَّدٌ تَجُوزُ ، وَقَوْلُهُ لِأَنَّ أَصْلَهُ هُوَ الَّذِي يَشْتَهِرُ لَيْسَ بِذَاكَ ، وَالْوَجْهُ فِي التَّوْجِيهِ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ قَوْلًا مِمَّا يُقْصَدُ الْإِشْهَادُ عَلَيْهِ وَالْحُكْمُ بِهِ فِي الِابْتِدَاءِ لَكِنَّهُ فِي تَوَالِي الْأَعْصَارِ تَبِيدُ الشُّهُودُ وَالْأَوْرَاقُ مَعَ اشْتِهَارِ وَقْفِيَّتِهِ فَيَبْقَى فِي الْبَقَاءِ سَائِبَةٌ إنْ لَمْ تَجُزْ الشَّهَادَةُ بِهِ بِالتَّسَامُعِ فَمَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ فَالصَّحِيحُ إلَخْ احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْ الْمَشَايِخِ .
قَالَ فِي الْفُصُولِ : اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ .
قَالَ بَعْضُهُمْ تَحِلُّ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا تَحِلُّ .
وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ تَجُوزُ عَلَى أَصْلِ الْوَقْفِ بِالتَّسَامُعِ لَا عَلَى شَرَائِطِهِ ، وَإِلَيْهِ مَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ ، وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَلَيْسَ مَعْنَى الشُّرُوطِ أَنْ يُبَيِّنَ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ بَلْ أَنْ يَقُولَ يَبْدَأُ مِنْ غَلَّتِهَا بِكَذَا وَكَذَا وَالْبَاقِي كَذَا وَكَذَا .
وَفِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى فِي الْفَصْلِ الثَّانِي مِنْ كِتَابِ الشَّهَادَاتِ : إذَا شَهِدُوا أَنَّ هَذَا وَقْفٌ عَلَى كَذَا وَلَمْ يُبَيِّنُوا الْوَاقِفَ يَنْبَغِي أَنْ تُقْبَلَ .
وَنَصٌّ عَنْ الشَّيْخِ الْإِمَامِ ظَهِيرِ الدِّينِ إذَا لَمْ يَكُنْ الْوَقْفُ قَدِيمًا لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْوَاقِفِ ، وَإِذَا شَهِدُوا أَنَّ هَذِهِ الضَّيْعَةَ وَقْفٌ وَلَمْ يَذْكُرُوا الْجِهَةَ لَا تَجُوزُ وَلَا تُقْبَلُ بَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَقُولُوا وَقْفٌ عَلَى كَذَا .
ثُمَّ قَالَ : وَمَا ذُكِرَ هُنَا .
وَفِي الْأَصْلِ صُورَتُهُ : أَنْ يَشْهَدُوا بِالتَّسَامُعِ أَنَّهَا وَقْفٌ عَلَى الْمَسْجِدِ أَوْ الْمَقْبَرَةِ ، وَلَمْ يَذْكُرُوا أَنَّهُ يَبْدَأُ بِغَلَّتِهَا فَيُصْرَفُ إلَى كَذَا ثُمَّ مَا فَضُلَ يُصْرَفُ إلَى كَذَا لَا يُشْهَدُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بِالتَّسَامُعِ ، وَهَكَذَا قَالَ الْمَرْغِينَانِيُّ قَالَ : لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ

الْجِهَةِ أَنَّهُ وَقْفٌ عَلَى الْمَسْجِدِ أَوْ الْمَقْبَرَةِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ، حَتَّى لَوْ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ .
قَالَ : وَتَأْوِيلُ قَوْلِهِمْ لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى شَرَائِطِ الْوَقْفِ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلشَّاهِدِ بَعْدَ ذِكْرِ الْجِهَةِ أَنْ يَشْهَدَ أَنَّهُ يَبْدَأُ مِنْ غَلَّتِهِ فَيُصْرَفُ إلَى كَذَا وَكَذَا ، وَلَوْ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي شَهَادَتِهِ لَا تُقْبَلُ .
ذَكَرَهُ فِي الذَّخِيرَةِ .
وَذَكَرَ فِي الْمُجْتَبَى وَالْمُخْتَارِ أَنْ تُقْبَلَ عَلَى شَرَائِطِ الْوَقْفِ أَيْضًا .
وَأَنْتَ إذَا عَرَفْت قَوْلَهُمْ فِي الْأَوْقَافِ الَّتِي انْقَطَعَ ثُبُوتُهَا وَلَمْ يُعْرَفْ لَهَا شَرَائِطُ وَمَصَارِفُ أَنَّهَا يَسْلُكُ بِهَا مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي دَوَاوِينِ الْقُضَاةِ لَمْ تَقِفْ عَنْ تَحْسِينِ مَا فِي الْمُجْتَبَى لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ مَعْنَى الثُّبُوتِ بِالتَّسَامُعِ

قَالَ ( وَمَنْ كَانَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ سِوَى الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ وَسِعَك أَنْ تَشْهَدَ أَنَّهُ لَهُ ) لِأَنَّ الْيَدَ أَقْصَى مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الْمِلْكِ إذْ هِيَ مَرْجِعُ الدَّلَالَةِ فِي الْأَسْبَابِ كُلِّهَا فَيَكْتَفِي بِهَا .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ لَهُ قَالُوا : وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا تَفْسِيرًا لِإِطْلَاقِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الرِّوَايَةِ فَيَكُونُ شَرْطًا عَلَى الِاتِّفَاقِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : دَلِيلُ الْمِلْكِ الْيَدُ مَعَ التَّصَرُّفِ ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ لِأَنَّ الْيَدَ مُتَنَوِّعَةٌ إلَى إنَابَةٍ وَمِلْكٍ .
قُلْنَا : وَالتَّصَرُّفُ يَتَنَوَّعُ أَيْضًا إلَى نِيَابَةٍ وَأَصَالَةٍ .
ثُمَّ الْمَسْأَلَةُ عَلَى وُجُوهٍ : إنْ عَايَنَ الْمَالِكُ الْمِلْكَ حَلَّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ ، وَكَذَا إذَا عَايَنَ الْمِلْكَ بِحُدُودِهِ دُونَ الْمَالِكِ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ بِالتَّسَامُعِ فَيَحْصُلُ مَعْرِفَتُهُ ، وَإِنْ لَمْ يُعَايِنْهَا أَوْ عَايَنَ الْمَالِكَ دُونَ الْمِلْكِ لَا يَحِلُّ لَهُ .

( قَوْلُهُ وَمَنْ كَانَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ إلَخْ ) صُورَتُهَا : رَأَى عَيْنًا سِوَى مَا اسْتَثْنَاهُ فِي يَدِ إنْسَانٍ ثُمَّ رَآهَا فِي يَدِ غَيْرِهِ وَالْأَوَّلُ يَدَّعِي عَلَيْهِ الْمِلْكَ وَسِعَهُ أَنْ يَشْهَدَ لِلْمُدَّعِي لِأَنَّ الْمِلْكَ يُعْرَفُ بِالظَّاهِرِ وَالْيَدُ بِلَا مُنَازَعٍ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ فِيهِ ، وَلَا دَلِيلَ سِوَاهُ لِأَنَّ غَايَةَ مَا يُمْكِنُ فِيهِ أَنْ يُعَايِنَ سَبَبُ الْمِلْكِ مِنْ الشِّرَاءِ وَالْهِبَةِ وَمَوْتِ الْمُوَرِّثِ ، وَشَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ لَا يُفِيدُ مِلْكَ الثَّانِي حَتَّى يَكُونَ مِلْكُ الْأَوَّلِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي حَلِّ الشَّهَادَةِ بِالْمِلْكِ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ لَهُ .
وَفِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ أُسْنِدَ هَذَا الْقَوْلُ إلَى أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَلَفْظُهُ وَعَنْهُمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ : قَالُوا يَعْنِي الْمَشَايِخَ : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا تَفْسِيرًا لِإِطْلَاقِ مُحَمَّدٍ فِي الرِّوَايَةِ .
قَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ : وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْكُلِّ وَبِهِ نَأْخُذُ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ : هَذَا قَوْلُهُمْ جَمِيعًا .
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي حِلِّ الشَّهَادَةِ الْيَقِينُ لِمَا عُرِفَ ، فَعِنْدَ تَعَذُّرِهِ يُصَارُ إلَى مَا يَشْهَدُ بِهِ الْقَلْبُ لِأَنَّ كَوْنَ الْيَدِ مُسَوِّغًا بِسَبَبِ إفَادَتِهَا ظَنَّ الْمِلْكِ ، فَإِذَا لَمْ يَقَعْ فِي الْقَلْبِ ذَلِكَ لَا ظَنَّ فَلَمْ يُفِدْ مُجَرَّدَ الْيَدِ ، وَلِهَذَا قَالُوا : إذَا رَأَى إنْسَانٌ دُرَّةً ثَمِينَةً فِي يَدِ كَنَّاسٍ أَوْ كِتَابًا فِي يَدِ جَاهِلٍ لَيْسَ فِي آبَائِهِ مَنْ هُوَ أَهْلٌ لَهُ لَا يَسَعُهُ أَنْ يَشْهَدَ بِالْمِلْكِ لَهُ فَعُرِفَ أَنَّ مُجَرَّدَ الْيَدِ لَا يَكْفِي .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : دَلِيلُ الْمِلْكِ الْيَدُ مَعَ التَّصَرُّفِ ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا وَهُوَ الْخَصَّافُ ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، لِأَنَّ الْيَدَ تَتَنَوَّعُ إلَى مِلْكٍ وَنِيَابَةٍ وَضَمَانٍ .
قُلْنَا : وَكَذَا التَّصَرُّفُ أَيْضًا فَلَمْ يَزُلْ احْتِمَالُ عَدَمِ الْمِلْكِ بِالتَّصَرُّفِ ، ثُمَّ يَنْبَغِي أَنْ يُطْلِقَ الشَّهَادَةَ حَتَّى لَوْ قَالَ

إنَّهُ شَهِدَ بِنَاءً عَلَى الْيَدِ لَا تُقْبَلُ ، وَهَذَا لِأَنَّ مُعَايَنَةَ الْيَدِ مُطْلِقٌ لِلشَّهَادَةِ مُجَوِّزٌ لَهَا لَا مُوجِبٌ عَلَى الشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ وَالْقَاضِي يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ بِالْمِلْكِ بِالشَّهَادَةِ ، وَلِهَذَا قُلْنَا : إذَا كَانَتْ دَارٌ فِي يَدِ رَجُلٍ يَتَصَرَّفُ فِيهَا تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ بِالْعِمَارَةِ وَالْهَدْمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ بِيعَتْ دَارٌ إلَى جَانِبِهَا فَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ لَا يَقْضِي الْقَاضِي لَهُ بِذَلِكَ وَإِنْ ثَبَتَ عِنْدَهُ أَنَّهَا فِي يَدِهِ يَتَصَرَّفُ فِيهَا إذَا أَنْكَرَ الْمُشْتَرِي أَنَّ الدَّارَ الَّتِي فِي يَدِهِ مِلْكُهُ لِأَنَّ الْعِيَانَ لَيْسَ سَبَبًا لِلْوُجُوبِ بَلْ لِلْجَوَازِ ( قَوْلُهُ ثُمَّ إنْ عَايَنَ الْمِلْكَ إلَخْ ) حَاصِلُهُ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ أَنْ يُعَايِنَ الْمِلْكَ وَالْمَالِكَ ، وَهُوَ إنْ عَرَفَ الْمَالِكَ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ وَوَجْهِهِ وَعَرَفَ الْمِلْكَ بِحُدُودِهِ وَرَآهُ فِي يَدِهِ بِلَا مُنَازَعٍ ثُمَّ رَآهُ فِي يَدِ آخَرَ فَجَاءَ الْأَوَّلُ وَادَّعَاهُ وَسِعَهُ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ وَظَهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمِلْكِ الْمَمْلُوكُ .
الثَّانِي أَنْ يُعَايِنَ الْمِلْكَ دُونَ الْمَالِكِ بِأَنْ عَايَنَ مِلْكًا بِحُدُودِهِ يُنْسَبُ إلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ الْفُلَانِيِّ وَهُوَ لَا يَعْرِفُهُ بِوَجْهِهِ وَنَسَبِهِ ثُمَّ جَاءَ الَّذِي نُسِبَ إلَيْهِ الْمِلْكُ وَادَّعَى مِلْكَ هَذَا الْمَحْدُودِ عَلَى شَخْصٍ حَلَّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ اسْتِحْسَانًا .
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَجُوزَ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ تَمْنَعُ جَوَازَ الشَّهَادَةِ ، فَكَذَا فِي الْمَشْهُودِ لَهُ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمِلْكَ الْمَشْهُودَ بِهِ مَعْلُومٌ وَالنَّسَبَ يَثْبُتُ بِالتَّسَامُعِ فَصَارَ الْمَالِكُ مَعْلُومًا بِالتَّسَامُعِ أَيْضًا .
وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ بِالْمِلْكِ بِالتَّسَامُعِ .
وَأُجِيبَ أَنَّ الشَّهَادَةَ بِالْمِلْكِ هُنَا لَيْسَتْ قَصْدًا بَلْ بِالنَّسَبِ وَفِي ضِمْنِهِ ثُبُوتُ الْمِلْكِ فَيَجُوزُ ، وَهُنَا كَذَلِكَ لِأَنَّهُ سَمِعَ أَنَّ هَذَا الْمِلْكَ لِفُلَانِ بْنِ

فُلَانٍ فَحَصَلَ لَهُ الْعِلْمُ بِنَسَبِ الْمَالِكِ بِالتَّسَامُعِ وَثَبَتَ مُلْكُهُ فِي ضِمْنِهِ وَالِاعْتِبَارُ بِالْمُتَضَمِّنِ لَا الْمُتَضَمَّنِ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مُجَرَّدَ ثُبُوتِ نَسَبِهِ بِالشَّهَادَةِ عِنْدَ الْقَاضِي لَمْ يُوجِبْ ثُبُوتَ مِلْكِهِ لِتِلْكَ الضَّيْعَةِ لَوْلَا الشَّهَادَةُ بِهِ ، وَكَذَا الْمَقْصُودُ لَيْسَ إثْبَاتُ النَّسَبِ بَلْ الْمِلْكِ فِي الضَّيْعَةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَعَلَى هَذَا قَالَ النَّاضِحِيُّ : فَإِنْ كَانَ الْمَالِكُ امْرَأَةً لَا تَخْرُجُ وَلَا يَرَاهَا الرِّجَالُ ، فَإِنْ كَانَ الْمِلْكُ مَشْهُورًا أَنَّهُ لَهَا جَازَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ لِأَنَّ شُهْرَةَ الِاسْمِ كَالْمُعَايَنَةِ .
الثَّالِثُ أَنْ لَا يُعَايِنَ الْمِلْكَ وَلَا الْمَالِكَ بَلْ سَمِعَ أَنَّ لِفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ الْفُلَانِيِّ ضَيْعَةً فِي قَرْيَةِ كَذَا حُدُودُهَا كَذَا وَهُوَ لَمْ يَعْرِفْ تِلْكَ الضَّيْعَةَ وَلَمْ يُعَايِنْ يَدَهُ عَلَيْهَا لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ بِالْمِلْكِ لِأَنَّهُ مُجَازِفٌ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ .
الرَّابِعُ أَنْ يُعَايِنَ الْمَالِكَ بِأَنْ عَرَفَهُ مَعْرِفَةً تَامَّةً كَمَا ذَكَرْنَا وَسَمِعَ أَنَّ لَهُ ضَيْعَةً فِي كُورَةِ كَذَا وَهُوَ لَا يَعْرِفُ تِلْكَ الضَّيْعَةَ بِعَيْنِهَا لَا يَسَعُهُ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ بِالْمِلْكِ فِيهَا لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ الْعِلْمُ بِالْمَحْدُودِ

وَأَمَّا الْعَبْدُ وَالْأَمَةُ ، فَإِنْ كَانَ يَعْرِفُ أَنَّهُمَا رَقِيقَانِ فَكَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّقِيقَ لَا يَكُونُ فِي يَدِ نَفْسِهِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُ أَنَّهُمَا رَقِيقَانِ إلَّا أَنَّهُمَا صَغِيرَانِ لَا يُعَبِّرَانِ عَنْ أَنْفُسِهِمَا فَكَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَدَ لَهُمَا ، وَإِنْ كَانَا كَبِيرَيْنِ فَذَلِكَ مَصْرِفُ الِاسْتِثْنَاءِ لِأَنَّ لَهُمَا يَدًا عَلَى أَنْفُسِهِمَا فَيُدْفَعُ يَدُ الْغَيْرِ عَنْهُمَا فَانْعَدَمَ دَلِيلُ الْمِلْكِ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ فِيهِمَا أَيْضًا اعْتِبَارًا بِالثِّيَابِ ، وَالْفَرْقُ مَا بَيِّنَاهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( قَوْلُهُ وَأَمَّا الْعَبْدُ وَالْأَمَةُ ) يَعْنِي إذَا عَايَنَهُمَا فِي يَدِ إنْسَانٍ يَخْدُمَانِهِ إذَا كَانَ يَعْرِفُ أَنَّهُمَا رَقِيقَانِ جَازَ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ أَنَّهُمَا مِلْكَهُ سَوَاءٌ كَانَا صَغِيرَيْنِ أَوْ كَبِيرَيْنِ لِأَنَّهُمَا بِوَصْفِ الرِّقِّ لَا يَدَ لَهُمَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا وَقَدْ شُوهِدَ فِي يَدِ غَيْرِهِمَا فَكَانَ كَرُؤْيَةِ ثَوْبٍ فِي يَدِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ رِقَّهُمَا ، فَإِنْ كَانَا صَغِيرَيْنِ : أَيْ لَا يُعَبِّرَانِ عَنْ أَنْفُسِهِمَا فَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ بِمِلْكِهِمَا لَهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُمَا لَا يَدَ لَهُمَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا ، وَإِنْ كَانَا كَبِيرَيْنِ : أَيْ لَا يُعَبِّرَانِ عَنْ أَنْفُسِهِمَا سَوَاءٌ كَانَا صَبِيَّيْنِ عَاقِلَيْنِ أَوْ بَالِغَيْنِ بِهِ صَرَّحَ الْمَحْبُوبِيُّ فَهُوَ مَصْرِفُ الِاسْتِثْنَاءِ فِي قَوْلِهِ سِوَى الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ لِأَنَّ لَهُمَا يَدًا عَلَى أَنْفُسِهِمَا فَتَدْفَعُ الْغَيْرَ عَنْهُمَا ، حَتَّى أَنَّ الصَّبِيَّ الَّذِي يَعْقِلُ لَوْ أَقَرَّ بِالرِّقِّ عَلَى نَفْسِهِ لِغَيْرِهِ جَازَ إقْرَارُهُ وَيَصْنَعُ الْمُقِرُّ لَهُ بِهِ مَا يَصْنَعُ بِمَمْلُوكِهِ ، وَإِذَا كَانَ مِمَّنْ يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ لَا تَكُونُ الْيَدُ دَلِيلَ الْمِلْكِ إذْ الْحُرُّ قَدْ يَخْدُمُ الْحُرَّ خِدْمَةَ الْعَبِيدِ ، وَهَذَا الِاحْتِمَالُ يُهْدَرُ إذَا كَانَا لَا يُعَبِّرَانِ عَنْ أَنْفُسِهِمَا ، فَأَمَّا إذَا كَانَ لِذَلِكَ أَهْلًا فَلَا يَزَالُ اعْتِبَارُهُ إلَّا بِإِقْرَارِهِمَا بِالرِّقِّ ، فَإِنْ لَمْ يُقِرَّا لَا تَثْبُتُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِمَا بِهِ ، وَإِنَّمَا لَا تُقْبَلُ دَعْوَاهُمَا الْحُرِّيَّةَ بَعْدَمَا كَبِرَا فِي يَدِ مَنْ هُمَا فِي يَدِهِ لِظُهُورِ الرِّقِّ عَلَيْهِمَا بِالْيَدِ فِي حَالِ صِغَرِهِمَا .
هَذَا وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ فِي الْكَبِيرَيْنِ أَيْضًا ، وَكَذَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَجَعَلُوا الْيَدَ فِي الْكُلِّ دَلِيلًا عَلَى الْمِلْكِ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ ادَّعَى عَبْدًا أَوْ أَمَةً فِي يَدِ غَيْرِهِ وَذُو الْيَدِ يَدَّعِي لِنَفْسِهِ فَالْقَوْلُ لِذِي الْيَدِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ

لِقِيَامِ يَدِهِ عَلَيْهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْفَرْقُ مَا بَيَّنَّا ) يُرِيدُ كَوْنَ يَدَيْهُمَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا فَتُدْفَعُ الْيَدُ عَنْهُمَا .

( بَابُ مَنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَمَنْ لَا تُقْبَلُ ) قَالَ : وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَعْمَى .
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : تُقْبَلُ فِيمَا يَجْرِي فِيهِ التَّسَامُعُ لِأَنَّ الْحَاجَةَ فِيهِ إلَى السَّمَاعِ وَلَا خَلَلَ فِيهِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : يَجُوزُ إذَا كَانَ بَصِيرًا وَقْتَ التَّحَمُّلِ لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِالْمُعَايَنَةِ ، وَالْأَدَاءُ يَخْتَصُّ بِالْقَوْلِ وَلِسَانُهُ غَيْرُ مُوفٍ وَالتَّعْرِيفُ يَحْصُلُ بِالنِّسْبَةِ كَمَا فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْمَيِّتِ .
وَلَنَا أَنَّ الْأَدَاءَ يَفْتَقِرُ إلَى التَّمْيِيزِ بِالْإِشَارَةِ بَيْنَ الْمَشْهُودِ لَهُ وَالْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ، وَلَا يُمَيِّزُ الْأَعْمَى إلَّا بِالنَّغْمَةِ ، وَفِيهِ شُبْهَةٌ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهَا بِجِنْسِ الشُّهُودِ وَالنِّسْبَةِ لِتَعْرِيفِ الْغَائِبِ دُونَ الْحَاضِرِ فَصَارَ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ .
وَلَوْ عَمِيَ بَعْدَ الْأَدَاءِ يَمْتَنِعُ الْقَضَاءُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، لِأَنَّ قِيَامَ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ شَرْطٌ وَقْتَ الْقَضَاءِ لِصَيْرُورَتِهَا حُجَّةً عِنْدَهُ وَقَدْ بَطَلَتْ وَصَارَ كَمَا إذَا خَرِسَ أَوْ جُنَّ أَوْ فَسَقَ ، بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتُوا أَوْ غَابُوا ، لِأَنَّ الْأَهْلِيَّةَ بِالْمَوْتِ قَدْ انْتَهَتْ وَبِالْغَيْبَةِ مَا بَطَلَتْ .

( بَابُ مَنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَمَنْ لَا تُقْبَلُ ) لَمَّا ذَكَرَ تَفْصِيلَ مَا يُسْمَعُ مِنْ الشَّهَادَةِ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَنْ تُسْمَعُ شَهَادَتُهُ وَأَخَّرَهُ لِأَنَّ الْمَحَالَّ شُرُوطٌ وَالشَّرْطُ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِذَاتِهِ .
وَالْأَصْلُ أَنَّ التُّهْمَةَ تُبْطِلُ الشَّهَادَةَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا شَهَادَةَ لِمُتَّهَمٍ } وَالتُّهْمَةُ تَثْبُتُ مَرَّةً بِعَدَمِ الْعَدَالَةِ وَمَرَّةً بِعَدَمِ التَّمْيِيزِ مَعَ قِيَامِ الْعَدَالَةِ ( قَوْلُهُ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَعْمَى ) مُطْلَقًا سَوَاءٌ عَمِيَ قَبْلَ التَّحَمُّلِ أَوْ بَعْدَهُ فِيمَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ فِيهِ بِالتَّسَامُعِ أَوْ لَا تَجُوزُ ( وَقَالَ زُفَرُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : تُقْبَلُ فِيمَا يَجُوزُ فِيهِ التَّسَامُعُ لِأَنَّ الْحَاجَةَ فِيهِ لِلسَّمَاعِ وَلَا خَلَلَ فِي سَمْعِهِ ) وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَالنَّخَعِيِّ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالثَّوْرِيِّ .
وَتُقْبَلُ فِي التَّرْجَمَةِ عِنْدَ الْكُلِّ لِأَنَّ الْعِلْمَ يَحْصُلُ بِالسَّمَاعِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : تَجُوزُ فِيمَا طَرِيقُهُ السَّمَاعُ ، وَمَا لَا يَكْفِي فِيهِ السَّمَاعُ إذَا كَانَ بَصِيرًا وَقْتَ التَّحَمُّلِ ثُمَّ عَمِيَ عِنْدَ الْأَدَاءِ إذَا كَانَ يَعْرِفُهُ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ يَعْرِفُهُ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ كَفَى كَالشَّهَادَةِ عَلَى الْمَيِّتِ ( وَلَنَا أَنَّ الْأَدَاءَ يَفْتَقِرُ إلَى التَّمْيِيزِ بِالْإِشَارَةِ بَيْنَ الْمَشْهُودِ لَهُ وَعَلَيْهِ ) وَهُوَ مُنْتَفٍ عَنْ الْأَعْمَى إلَّا بِالنَّغْمَةِ ( وَفِيهِ ) أَيْ فِي التَّمْيِيزِ بِالنَّغْمَةِ ( شُبْهَةٌ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهَا بِجِنْسِ الشُّهُودِ ) فَلَمْ تَقَعْ ضَرُورَةٌ إلَى إهْدَارِ هَذِهِ التُّهْمَةِ ، بِخِلَافِ وَطْءِ الْأَعْمَى زَوْجَتَهُ وَأَمَتَهُ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ بِجِنْسِ النِّسَاءِ فَأُهْدِرَتْ دَفْعًا لِلْحَرَجِ عَنْهُ وَالِاكْتِفَاءُ بِالنِّسْبَةِ فِي تَعْرِيفِ الْغَائِبِ دُونَ الْحَاضِرِ ، بِخِلَافِ الْمَيِّتِ لِأَنَّهُ لَا

يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ بِجِنْسِ الْمَشْهُودِ ، عَلَى أَنَّ الْإِشَارَةَ لَمْ تَقَعْ إلَى وَكِيلِ الْغَائِبِ وَوَصِيِّ الْمَيِّتِ وَهُوَ قَائِمٌ مَقَامَهُ ، وَلَا حَاجَةَ إلَى الْإِلْحَاقِ بِالْحُدُودِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ شَهَادَةَ الْأَعْمَى لَا تُقْبَلُ فِيهَا بِالْإِجْمَاعِ بَلْ مَا تَقَدَّمَ يَكْفِي إذْ الرَّدُّ بِتُهْمَةٍ مَا فِي الْحُدُودِ لَا يَسْتَلْزِمُ الرَّدَّ بِمِثْلِهَا فِي غَيْرِهَا لِأَنَّ تِلْكَ يُحْتَاطُ فِي دَرْءِ الْحُكْمِ فِيهَا .
وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال بِمَا وَرَدَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ رَدَّ شَهَادَةَ الْأَعْمَى فَيَقُولُ أَبُو يُوسُفَ هَذِهِ وَاقِعَةُ حَالٍ لَا عُمُومَ لَهَا فَجَازَ كَوْنُهُ كَانَ فِي حَدٍّ وَنَفْيِهِ ، وَقَيَّدَ فِي الذَّخِيرَةِ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ بِمَا إذَا كَانَتْ شَهَادَتُهُ فِي الدَّيْنِ وَالْعَقَارِ .
أَمَّا فِي الْمَنْقُولِ فَأَجْمَعَ عُلَمَاؤُنَا أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ .
وَاسْتُشْكِلَ بِكِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي ، فَإِنَّ الشُّهُودَ لَا يُشِيرُونَ إلَى أَحَدٍ وَتُقْبَلُ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَشْهُودَ فِيهِ يَعْرِفُونَ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ وَيَقُولُونَ لَوْ رَأَيْنَاهُ عَرَفْنَاهُ ، وَالْأَعْمَى لَا يَعْرِفُهُ ، إذْ لَوْ رَآهُ لَمْ يَعْرِفْهُ حَتَّى لَوْ قَالُوا فِي كِتَابِ الْقَاضِي لَا نَعْرِفُهُ الْيَوْمَ لَمْ تُقْبَلْ .
وَأَيْضًا فَنَقُولُ : كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي لِلضَّرُورَةِ وَالْحَاجَةِ كَمَا تَقَدَّمَ وَلَا ضَرُورَةَ فِي شَهَادَةِ الْأَعْمَى لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ إمْكَانِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِجِنْسِ الشُّهُودِ هَذَا .
قَالَ : فَلَوْ أَدَّى بَصِيرًا ثُمَّ عَمِيَ قَبْلَ الْقَضَاءِ امْتَنَعَ الْقَضَاءُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، لِأَنَّ قِيَامَ الْأَهْلِيَّةِ شُرِطَ وَقْتَ الْقَضَاءِ لِصَيْرُورَةِ الشَّهَادَةِ حُجَّةً عِنْدَهُ أَيْ عِنْدَ الْقَضَاءِ لِأَنَّهَا إنَّمَا تُرَادُ لِلْقَضَاءِ فَمَا يَمْنَعُ الْأَدَاءَ يَمْنَعُ الْقَضَاءَ ، وَالْعَمَى وَالْخَرَسُ وَالْجُنُونُ وَالْفِسْقُ يَمْنَعُ الْأَدَاءَ فَيَمْنَعُ الْقَضَاءَ ، وَأَبُو يُوسُفَ قَاسَهُ بِمَا إذَا غَابَ الشَّاهِدُ بَعْدَ الْأَدَاءِ قَبْلَ الْقَضَاءِ أَوْ مَاتَ .
قُلْنَا :

بِالْمَوْتِ انْتَهَتْ الشَّهَادَةُ وَتَمَّتْ بِالْغَيْبَةِ مَا بَطَلَتْ ، بِخِلَافِ الْعَمَى فَإِنَّهُ مُبْطِلٌ لَهَا .
وَفِي الْمَبْسُوطِ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْأَخْرَسِ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ لِأَنَّ لَفْظَةَ الشَّهَادَةِ لَا تَتَحَقَّقُ مِنْهُ ، وَنُقِضَ بِأَنَّ الْأَصَحَّ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تُقْبَلُ إذَا كَانَتْ فِيهِ إشَارَةٌ مَفْهُومَةٌ ، وَبِقَوْلِنَا قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ ، وَلَا شَكَّ فِي تَحَقُّقِ التُّهْمَةِ فِي الْإِشَارَةِ فَهُوَ أَوْلَى بِعَدَمِ الْقَبُولِ مِنْ الْأَعْمَى لِأَنَّ فِي الْأَعْمَى إنَّمَا تَتَحَقَّقُ التُّهْمَةُ فِي نِسْبَتِهِ وَهُنَا تَتَحَقَّقُ فِي نِسْبَتِهِ وَغَيْرِهِ مِنْ قَدْرِ الْمَشْهُودِ بِهِ وَأُمُورٍ أُخَرَ .

( قَالَ وَلَا الْمَمْلُوكِ ) لِأَنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ وَهُوَ لَا يَلِي نَفْسَهُ فَأَوْلَى أَنْ لَا تَثْبُتَ لَهُ الْوِلَايَةُ عَلَى غَيْرِهِ
( قَوْلُهُ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمَمْلُوكِ ) أَيْ الرَّقِيقِ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ ، وَقَالَ أَحْمَدُ تُقْبَلُ عَلَى الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ وَإِسْحَاقَ وَدَاوُد .
وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : تُقْبَلُ عَلَى مِثْلِهِ لَا الْأَحْرَارِ ، وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي الْمَنْعِ عَدَمُ وِلَايَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَمَا هُوَ إلَّا مَعْنًى ضَعِيفٌ بَعْدَ ثُبُوتِ عَدَالَةِ الْعَبْدِ وَتَمَامِ تَمَيُّزِهِ وَعَدَمِ وِلَايَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ لِعَارِضٍ يَخُصُّهُ مِنْ حَقِّ الْمَوْلَى لَا لِنَقْصٍ فِي عَقْلِهِ وَلَا خَلَلٍ فِي تَحَمُّلِهِ وَضَبْطِهِ فَلَا مَانِعَ .
وَأَمَّا ادِّعَاءُ الْإِجْمَاعِ عَلَى عَدَمِ قَبُولِهِ فَلَمْ يَصِحَّ .
قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ ، وَقَالَ أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : شَهَادَةُ الْعَبْدِ جَائِزَةٌ إذَا كَانَ عَدْلًا .
وَأَجَازَهُ شُرَيْحٌ وَزُرَارَةُ بْنُ أَبِي أَوْفَى .
وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ : شَهَادَتُهُ جَائِزَةٌ إلَّا الْعَبْدُ لِسَيِّدِهِ .
وَأَجَازَهُ الْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ ، وَقَالَ شُرَيْحٌ كُلُّكُمْ بَنُو عَبِيدٍ وَإِمَاءٍ ، إلَى هُنَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ .

وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الصَّبِيِّ عِنْدَنَا وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَعَامَّةِ الْعُلَمَاءِ .
وَعَنْ مَالِكٍ تُقْبَل فِي الْجِرَاحِ إذَا كَانُوا مُجْتَمِعِينَ لِأَمْرٍ مُبَاحٍ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقُوا ، وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَالْوَجْهُ أَنْ لَا تُقْبَلُ لِنُقْصَانِ الْعَقْلِ وَالتَّمْيِيزِ وَرُبَّمَا يَقْدَمُ لِعِلْمِهِ بِعَدَمِ التَّكْلِيفِ .

[ فُرُوعٌ ] إذَا تَحَمَّلَ شَهَادَةً لِمَوْلَاهُ فَلَمْ يُؤَدِّهَا حَتَّى عَتَقَ فَأَدَّاهَا بَعْدَ الْعِتْقِ قُبِلَتْ ، كَالصَّبِيِّ إذَا تَحَمَّلَ فَأَدَّى بَعْدَ الْبُلُوغِ ، وَكَذَا الَّذِي إذَا سَمِعَ إقْرَارَ الْمُسْلِمِ ثُمَّ أَسْلَمَ فَأَدَّى جَازَ .

( وَلَا الْمَحْدُودِ فِي قَذْفٍ وَإِنْ تَابَ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا } وَلِأَنَّهُ مِنْ تَمَامِ الْحَدِّ لِكَوْنِهِ مَانِعًا فَيَبْقَى بَعْدَ التَّوْبَةِ كَأَصْلِهِ ، بِخِلَافِ الْمَحْدُودِ فِي غَيْرِ الْقَذْفِ لِأَنَّ الرَّدَّ لِلْفِسْقِ وَقَدْ ارْتَفَعَ بِالتَّوْبَةِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تُقْبَلُ إذَا تَابَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا } اسْتَثْنَى التَّائِبَ .
قُلْنَا : الِاسْتِثْنَاءُ يَنْصَرِفُ إلَى مَا يَلِيه وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { وَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ } أَوْ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ بِمَعْنَى لَكِنْ .

( قَوْلُهُ وَلَا الْمَحْدُودُ فِي قَذْفٍ وَإِنْ تَابَ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ تُقْبَلُ إذَا تَابَ ، وَالْمُرَادُ بِتَوْبَتِهِ الْمُوجِبَةِ لِقَبُولِ شَهَادَتِهِ أَنْ يُكَذِّبَ نَفْسَهُ فِي قَذْفِهِ ، وَهَلْ يُعْتَبَرُ مَعَهُ إصْلَاحُ الْعَمَلِ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ فِي قَوْلٍ يُعْتَبَرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا } وَقِيلَ لَا لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِأَبِي بَكْرَةَ تُبْ قَبْلَ شَهَادَتِكَ .
وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ أَبَا بَكْرَةَ كَانَ مِنْ الْعُبَّادِ وَحَالُهُ فِي الْعِبَادَةِ مَعْلُومٌ .
فَصَلَاحُ الْعَمَلِ كَانَ ثَابِتًا لَهُ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا التَّوْبَةُ بِإِكْذَابِ نَفْسِهِ ، وَأَصْلُهُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي قَوْله تَعَالَى { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا } يَنْصَرِفُ إلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ أَوْ إلَى الْكُلِّ ، وَالْمَسْأَلَةُ مُحَرَّرَةٌ فِي الْأُصُولِ ، وَهِيَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إذَا تَعَقَّبَ جُمَلًا مُتَعَاطِفَةً هَلْ يَنْصَرِفُ إلَى الْكُلِّ أَوْ إلَى الْأَخِيرَةِ ؟ عِنْدَنَا إلَى الْأَخِيرَةِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ثَلَاثُ جُمَلٍ هِيَ قَوْله تَعَالَى { فَاجْلِدُوهُمْ } { وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا } ، { وَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ } وَالظَّاهِرُ مِنْ عَطْفِ " وَلَا تَقْبَلُوا " أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي حَيِّزِ الْحَدِّ لِلْعَطْفِ مَعَ الْمُنَاسَبَةِ وَقَيْدِ التَّأْبِيدِ .
أَمَّا الْمُنَاسَبَةُ فَلِأَنَّ رَدَّ شَهَادَتِهِ مُؤْلِمٌ لِقَلْبِهِ مُسَبَّبٌ عَنْ فِعْلِ لِسَانِهِ كَمَا أَنَّهُ آلَمَ قَلْبَ الْمَقْذُوفِ بِسَبَبِ فِعْلِ لِسَانِهِ ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ } فَإِنَّهُ لَا يُنَاسِبُ الْحَدَّ ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَصْلُحُ مَانِعًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ فِعْلِهِ ، وَالتَّغْرِيبُ سَبَبُ لِزِيَادَةِ الْوُقُوعُ لِأَنَّهُ لِغُرْبَتِهِ وَعَدَمِ مَنْ يَعْرِفُهُ لَا يَسْتَحْيِ مِنْ أَحَدٍ يُرَاقِبُهُ ، فَإِذَا فُرِضَ أَنَّ لَهُ دَاعِيَةَ الزِّنَا أَوْسَعَ فِيهِ ، وَكَذَا قَيْدُ التَّأْبِيدِ لَا فَائِدَةَ لَهُ إلَّا تَأْيِيدُ الرَّدِّ ، وَإِلَّا لَقَالَ : وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ

شَهَادَةً .
{ وَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ } جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ تَعْلِيلِ عَدَمِ الْقَبُولِ .
ثُمَّ اسْتَثْنَى الَّذِينَ تَابُوا ، وَهَذَا لِأَنَّ الرَّدَّ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ لَيْسَ إلَّا لِلْفِسْقِ وَيَرْتَفِعُ بِالتَّوْبَةِ فَلَا مَعْنَى لِلتَّأْبِيدِ عَلَى تَقْدِيرِ الْقَبُولِ بِالتَّوْبَةِ .
وَأَمَّا رُجُوعُ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى الْكُلِّ قَوْله تَعَالَى فِي الْمُحَارَبِينَ { أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا } إلَى قَوْله تَعَالَى { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ } حَتَّى سَقَطَ عَنْهُمْ الْحَدُّ فَلِدَلِيلٍ اقْتَضَاهُ ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ } فَإِنَّهُ لَوْ عَادَ إلَى الْأَخِيرَةِ : أَعْنِي قَوْله تَعَالَى { وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } لَمْ يَبْقَ لِقَوْلِهِ { مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ } فَائِدَةٌ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ التَّوْبَةَ تُسْقِطُ الْعَذَابَ .
فَفَائِدَةُ قَوْله تَعَالَى { مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ } لَيْسَ إلَّا سُقُوطُ الْحَدِّ ، وَهَذَا لِأَنَّا إنَّمَا نَقُولُ بِعَوْدِ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى الْأَخِيرَةِ فَقَطْ إذَا تَجَرَّدَ عَنْ دَلِيلِ عَوْدِهِ إلَى الْكُلِّ ، فَأَمَّا إذَا اقْتَرَنَ بِهِ عَادَ إلَيْهَا كَمَا يَقُولُ هُوَ إنَّ عَوْدَهُ إلَى الْكُلِّ إذَا تَجَرَّدَ عَنْ دَلِيلِ عَوْدِهِ إلَى الْأَخِيرَةِ فَقَطْ وَلَوْ اقْتَرَنَ بِهِ عَادَ إلَيْهَا فَقَطْ ، وَحِينَئِذٍ فَالْقِيَاسُ عَلَى سَائِرِ الْحُدُودِ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهَا لَمْ تَقْتَرِنْ بِمَا يُوجِبُ أَنَّ الرَّدَّ مِنْ تَمَامِ الْحَدِّ فَكَانَ قِيَاسًا فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ .
لَا يُقَالُ : رَدُّ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ يَنْفِي الْفَائِدَةَ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ شَرْعًا أَنَّ التَّوْبَةَ تُزِيلُ الْفِسْقَ بِغَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّا نَقُولُ : كَوْنُ التَّوْبَةِ تُزِيلُ اسْتِحْقَاقَ الْعِقَابِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ لَا يُعْرَفُ عَقْلًا بَلْ سَمْعًا ، وَذَلِكَ بِإِيرَادِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ السَّمْعِ وَهَذَا مِنْهُ ، وَكَوْنُ آيَةٍ أُخْرَى تُفِيدُهُ لَا يَضُرُّ لِلْقَطْعِ بِأَنَّ طَرِيقَ الْقُرْآنِ تَكْرَارُ الدَّوَالِّ خُصُوصًا إذَا كَانَ

مَطْلُوبُ التَّأْكِيدِ { كَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } وَقَدْ تَكَرَّرَ قَوْله تَعَالَى { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا } لِذَلِكَ الْغَرَضِ ، فَفِي آيَةِ { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا } إلَى قَوْلِهِ { فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } .
وَفِي أُخْرَى { إلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ } إلَى قَوْله تَعَالَى { فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا } وَفِي أُخْرَى { إلَّا مَنْ تَابَ } إلَى قَوْله تَعَالَى { فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } وَمَوَاضِعُ أُخْرَى عَدِيدَةٌ ، وَلَمْ يُسْمَعْ أَنْ يُقَالَ فِي أَحَدِهَا قَدْ عُرِفَ هَذَا بِآيَةٍ أُخْرَى فَلَا فَائِدَةَ فِي هَذَا إلَّا مَنْ أَقْدَمَ عَلَى الْكُفْرِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى ، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا مِنْهُ تَعَالَى رَحْمَةً لِلْعِبَادِ لِيُؤَكِّدَ هَذَا الْمَعْنَى ، وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَذْكُرْهُ إلَّا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ فَعَسَى أَنْ لَا يَسْمَعَهُ بَعْضُ النَّاسِ ، فَإِذَا تَعَدَّدَتْ مَوَاضِعُهُ فَمَنْ لَمْ يَسْمَعْ تِلْكَ الْآيَةَ سَمِعَ تِلْكَ ، وَمَنْ لَمْ يَسْمَعْ تِلْكَ سَمِعَ أُخْرَى فَكَانَ فِي تَعْدَادِهِ إفَادَةُ هَذَا الْمَعْنَى نَصْبَ مَظِنَّةِ عِلْمِهِ لِكُلِّ أَحَدٍ مَعَ تَأْكِيدِ جَانِبِ عَفْوِهِ لَا نُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْهِ .
وَأَمَّا مَا عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي بَكْرَةَ تُبْ أَقْبَلْ شَهَادَتَك فَفِي ثُبُوتِهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّ رَاوِيَهُ عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ ، وَلَوْ تَرَكْنَا النَّظَرَ فِي ذَلِكَ كَانَ مُعَارَضًا بِمَا قَالَهُ لِأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فِي كِتَابِهِ لَهُ : وَالْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ، إلَّا مَجْلُودًا فِي قَذْفٍ ، أَوْ مُجَرَّبًا فِي شَهَادَةِ زُورٍ ، أَوْ ظَنِينًا بِقَرَابَةٍ .
وَقَدْ قَدَّمْنَا عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ، إلَّا مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ } وَبِقَوْلِنَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَشُرَيْحٌ وَالْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( أَوْ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ ) وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّائِبِينَ لَيْسُوا دَاخِلِينَ فِي الْفَاسِقِينَ ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ : وَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ لَكِنَّ الَّذِينَ تَابُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ : أَيْ يَغْفِرُ لَهُمْ وَيَرْحَمُهُمْ ، وَإِذَا كَانَ الرَّدُّ مِنْ تَمَامِ الْحَدِّ لِكَوْنِهِ مَانِعًا : أَيْ زَاجِرًا يَبْقَى بَعْدَ التَّوْبَةِ كَأَصْلِهِ : أَيْ كَأَصْلِ الْحَدِّ فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ ، فَكَذَا مَا كَانَ تَمَامًا لَهُ .
وَفِي الْمَبْسُوطِ : الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ عِنْدَنَا أَنَّهُ إذَا أَقَامَ أَرْبَعَةً مِنْ الشُّهُودِ عَلَى صِدْقِهِ بَعْدَ الْحَدِّ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ .

( وَلَوْ حُدَّ الْكَافِرُ فِي قَذْفٍ ثُمَّ أَسْلَمَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ ) لِأَنَّ لِلْكَافِرِ شَهَادَةٌ فَكَانَ رَدُّهَا مِنْ تَمَامِ الْحَدِّ ، وَبِالْإِسْلَامِ حَدَّثَتْ لَهُ شَهَادَةٌ أُخْرَى ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ إذَا حُدَّ ثُمَّ أُعْتِقَ لِأَنَّهُ لَا شَهَادَةَ لِلْعَبْدِ أَصْلًا فَتَمَامُ حَدِّهِ يَرُدُّ شَهَادَتَهُ بَعْدَ الْعِتْقِ .

( قَوْلُهُ وَلَوْ حُدَّ الْكَافِرُ فِي قَذْفٍ ثُمَّ أَسْلَمَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِأَنَّ لِلْكَافِرِ شَهَادَةً ) فِي الْجُمْلَةِ فَكَانَ رَدُّهَا مِنْ تَمَامِ شَهَادَتِهِ ، وَبِالْإِسْلَامِ حَدَثَتْ لَهُ شَهَادَةٌ أُخْرَى بِخِلَافِ الْعَبْدِ إذَا حُدَّ فِي قَذْفٍ ثُمَّ أُعْتِقَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ ، لِأَنَّهُ لَمْ تَكُنْ لَهُ شَهَادَةٌ إذْ ذَاكَ ، فَلَزِمَ كَوْنُ تَتْمِيمِ حَدِّهِ بِرَدِّ الشَّهَادَةِ الَّتِي تَجَدَّدَتْ لَهُ .
وَقَدْ طُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ زَنَى فِي دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يُحَدُّ حَيْثُ تَوَقَّفَ حُكْمُ الْمُوجِبِ فِي الْعَبْدِ إلَى أَنْ أَمْكَنَ وَلَمْ يَتَوَقَّفْ فِي الزِّنَا فِي دَارِ الْحَرْبِ إلَى الْإِمْكَانِ بِالْخُرُوجِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الزِّنَا فِي دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يَقَعْ مُوجِبًا أَصْلًا لِعَدَمِ قُدْرَةِ الْإِمَامِ ، فَلَمْ يَكُنْ الْإِمَامُ مُخَاطَبًا بِإِقَامَتِهِ أَصْلًا لِأَنَّ الْقُدْرَةَ شَرْطُ التَّكْلِيفِ ، فَلَوْ حَدَّهُ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ آخَرَ كَانَ بِلَا مُوجِبٍ ، وَغَيْرُ الْمُوجِبِ لَا يَنْقَلِبُ مُوجِبًا بِنَفْسِهِ خُصُوصًا فِي الْحَدِّ الْمَطْلُوبِ دَرْؤُهُ .
أَمَّا قَذْفُ الْعَبْدِ فَمُوجِبٌ حَالَ صُدُورِهِ لِلْحَدِّ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يُمْكِنْ تَمَامُهُ فِي الْحَالِ فَتَوَقَّفَ تَتْمِيمُهُ عَلَى حُدُوثِهَا بَعْدَ الْعِتْقِ .
قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ فَرْقَ الْمُصَنِّفِ : هَذَا الْفَرْقُ عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي يُقْبَلُ فِيهَا خَبَرُ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ فِي الدِّيَانَاتِ ، أَمَّا عَلَى رِوَايَةِ الْمُنْتَقَى أَنْ لَا تُقْبَلَ فَالْفَرْقُ أَنَّ الْكَافِرَ بِالْإِسْلَامِ اسْتَفَادَ عَدَالَةً لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً عِنْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ ، وَهَذِهِ الْعَدَالَةُ لَمْ تَصِرْ مَجْرُوحَةً بِإِقَامَةِ الْحَدِّ ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ بِالْعِتْقِ لَا يَسْتَفِيدُ عَدَالَةً لَمْ تَكُنْ مِنْ قَبْلُ وَقَدْ صَارَتْ عَدَالَتُهُ مَجْرُوحَةً بِإِقَامَةِ الْحَدِّ .
ثُمَّ لَا فَائِدَةَ فِي تَقْيِيدِ الْجَوَابِ فِي الْعَبْدِ بِكَوْنِ الْعِتْقِ بَعْدَ الْحَدِّ فِي قَوْلِهِ إذَا حُدَّ ثُمَّ

أُعْتِقَ ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُحَدَّ حَتَّى عَتَقَ فَحُدَّ لَا تُقْبَلُ أَيْضًا ، وَلَكِنْ وَضَعَهُ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ سِيقَ لِبَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَافِرِ ، وَالْكَافِرُ لَوْ قَذَفَ مُسْلِمًا ثُمَّ أَسْلَمَ ثُمَّ حُدَّ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ ، وَلَوْ حُدَّ بَعْضَ الْحَدِّ فِي حَالِ كُفْرِهِ وَبَعْضَهُ فِي حَالِ إسْلَامِهِ فَفِيهِ اخْتِلَافُ الرِّوَايَتَيْنِ .
وَمَرَّ فِي حَدِّ الْقَذْفِ ، وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ : لَا تَسْقُطُ شَهَادَتُهُ حَتَّى يُقَامَ عَلَيْهِ تَمَامُ الْحَدِّ ، تَسْقُطُ إذَا أُقِيمَ أَكْثَرُهُ ، تَسْقُطُ إذَا ضُرِبَ سَوْطًا لِأَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ ذَلِكَ الْقَدْرِ الْحُكْمُ شَرْعًا بِكَذِبِهِ .

( قَالَ وَلَا شَهَادَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ ، وَلَا شَهَادَةُ الْوَلَدِ لِأَبَوَيْهِ وَأَجْدَادِهِ ) وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ وَلَا الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ وَلَا الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا وَلَا الزَّوْجِ لِامْرَأَتِهِ وَلَا الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ وَلَا الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ وَلَا الْأَجِيرِ لِمَنْ اسْتَأْجَرَهُ } وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ بَيْنَ الْأَوْلَادِ وَالْآبَاءِ مُتَّصِلَةٌ لِهَذَا لَا يَجُوزُ أَدَاءُ الزَّكَاةِ إلَيْهِمْ فَتَكُونُ شَهَادَةٌ لِنَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ أَوْ تَتَمَكَّنُ فِيهِ التُّهْمَةُ .
قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ : وَالْمُرَادُ بِالْأَجِيرِ عَلَى مَا قَالُوا التِّلْمِيذُ الْخَاصُّ الَّذِي يَعُدُّ ضَرَرَ أُسْتَاذِهِ ضَرَرَ نَفْسِهِ وَنَفْعَهُ نَفْعَ نَفْسِهِ ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا شَهَادَةَ لِلْقَانِعِ بِأَهْلِ الْبَيْتِ } وَقِيلَ الْمُرَادُ الْأَجِيرُ مُسَانَهَةً أَوْ مُشَاهِرَةً أَوْ مُيَاوَمَةً فَيَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ بِمَنَافِعِهِ عِنْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ فَيَصِيرُ كَالْمُسْتَأْجَرِ عَلَيْهَا .

( قَوْلُهُ وَلَا شَهَادَةُ الْوَالِدِ ) وَإِنْ عَلَا لِوَلَدِهِ وَإِنْ سَفَلَ ( وَلَا شَهَادَةُ الْوَلَدِ لِأَبَوَيْهِ وَأَجْدَادِهِ ) أَمَّا الْوَلَدُ مِنْ الرَّضَاعِ فَتُقْبَلُ الشَّهَادَةُ لَهُ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ : وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا تُقْبَلُ " إلَخْ .
وَهَذَا الْحَدِيثُ غَرِيبٌ ، وَإِنَّمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ قَوْلِ شُرَيْحٍ قَالَ : لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الِابْنِ لِأَبِيهِ ، وَلَا الْأَبُ لِابْنِهِ ، وَلَا الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا ، وَلَا الزَّوْجُ لِامْرَأَتِهِ ، وَلَا الشَّرِيكُ لِشَرِيكِهِ فِي الشَّيْءِ بَيْنَهُمَا لَكِنْ فِي غَيْرِهِ وَلَا الْأَجِيرُ لِمَنْ اسْتَأْجَرَهُ وَلَا الْعَبْدُ لِسَيِّدِهِ " انْتَهَى .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ : حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ بِهِ وَأَخْرَجَا نَحْوَهُ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ ، لَكِنَّ الْخَصَّافَ وَهُوَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ الَّذِي شَهِدَ لَهُ أَكَابِرُ الْمَشَايِخِ أَنَّهُ كَبِيرٌ فِي الْعِلْمِ رَوَاهُ بِسَنَدِهِ إلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : ثِنَا صَالِحُ بْنُ زُرَيْقٍ وَكَانَ ثِقَةً : ثِنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيّ عَنْ يَزِيدَ بْنِ زِيَادٍ الشَّامِيِّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ .
وَلَا الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ ، وَلَا الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا ، وَلَا الزَّوْجِ لِامْرَأَتِهِ ، وَلَا الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ ، وَلَا السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ ، وَلَا الشَّرِيكِ لِشَرِيكِهِ ، وَلَا الْأَجِيرِ لِمَنْ اسْتَأْجَرَهُ } انْتَهَى .
وَقَدْ فَسَّرَ فِي رِوَايَةِ شُرَيْحٍ أَمْرَ الشَّرِيكِ .
وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ أَيْضًا عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا شَهَادَةَ لِلْقَانِعِ بِأَهْلِ الْبَيْتِ } وَهُوَ بَعْضُ حَدِيثٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَاشِدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّ شَهَادَةَ الْخَائِنِ

وَالْخَائِنَةِ وَذِي الْغِمْرِ عَلَى أَخِيهِ وَشَهَادَةَ الْقَانِعِ بِأَهْلِ الْبَيْتِ وَأَجَازَهَا لِغَيْرِهِمْ } .
قَالَ أَبُو دَاوُد : الْغَمْرُ الشَّحْنَاءُ ، وَكَذَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ ، وَعَنْهُ رَوَاهُ أَحْمَدُ قَالَ فِي التَّنْقِيحِ : مُحَمَّدُ بْنُ رَاشِدٍ وَثَّقَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُمَا ، وَتَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ ، وَقَدْ تَابَعَهُ غَيْرُهُ عَنْ سُلَيْمَانَ ، وَرَوَاهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ فِي ابْنِ مَاجَهْ وَآدَمُ بْنُ فَائِدٍ فِي الدَّارَقُطْنِيِّ ، وَلَمْ يَذْكُرَا فِيهِ الْقَانِعَ .
وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ يَزِيدَ بْنِ زِيَادٍ الدِّمَشْقِيِّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ وَلَا خَائِنَةٍ ، وَلَا مَجْلُودٍ حُدَّا ، وَلَا ذِي غِمْرٍ عَلَى أَخِيهِ .
وَلَا مُجَرَّبٍ بِشَهَادَةِ زُورٍ ، وَلَا الْقَانِعِ بِأَهْلِ الْبَيْتِ ، وَلَا ظَنِينٍ فِي وَلَاءٍ وَلَا قَرَابَةٍ } انْتَهَى .
وَقَالَ : غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ زِيَادٍ الدِّمَشْقِيِّ ، وَهُوَ يُضَعَّفُ فِي الْحَدِيثِ .
قَالَ : وَالْغَمْرُ الْعَدَاوَةُ انْتَهَى .
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : الْغَمْرُ الْعَدَاوَةُ ، وَالْقَانِعُ التَّابِعُ لِأَهْلِ الْبَيْتِ كَالْخَادِمِ لَهُمْ .
قَالَ : يَعْنِي وَيَطْلُبُ مَعَاشَهُ مِنْهُمْ .
وَالظَّنِينُ : الْمُتَّهَمُ فِي دِينِهِ .
فَهَذَا الْحَدِيثُ لَا يَنْزِلُ عَنْ دَرَجَةِ الْحَسَنِ .
فَإِذَا ثَبَتَ رَدُّ الْقَانِعِ وَإِنْ كَانَ عَدْلًا فَالْوَلَدُ وَالْوَالِدُ وَنَحْوُهُمَا أَوْلَى بِالرَّدِّ .
لِأَنَّ قَرَابَةَ الْوِلَادِ أَعْظَمُ فِي ذَلِكَ فَيَثْبُتُ حِينَئِذٍ رَدُّ شَهَادَتِهِمْ بِدَلَالَةِ النَّصِّ ، وَيَكُونُ دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ الْمَذْكُورِ فِيهِ { وَلَا ظَنِينَ فِي وَلَاءٍ وَلَا قَرَابَةٍ } وَإِنْ كَانَ رَاوِيهِ مُضَعَّفًا .
إذْ لَيْسَ الرَّاوِي الضَّعِيفُ كُلُّ مَا يَرْوِيهِ بَاطِلٌ إنَّمَا يُرَدُّ بِتُهْمَةِ الْغَلَطِ لِضَعْفِهِ ، فَإِذَا قَامَتْ دَلَالَةٌ

أَنَّهُ أَجَادَ فِي هَذَا الْمَتْنِ وَجَبَ اعْتِبَارُهُ صَحِيحًا وَإِنْ كَانَ مِنْ رِوَايَتِهِ ، وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ بَيْنَ الْأَوْلَادِ وَالْآبَاءِ مُتَّصِلَةٌ فَتَكُونُ شَهَادَةً لِنَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ ، وَلِكَوْنِ قَرَابَةِ الْوِلَادِ كَنَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ لَمْ يَجُزْ شَرْعًا وَضْعُ الزَّكَاةِ فِيهِمْ ، وَعَلَى هَذَا كَانَ شُرَيْحٌ " حَتَّى رَدَّ شَهَادَةَ الْحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ شَهِدَ مَعَ قَنْبَرٍ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ عَلِيٌّ : أَمَا سَمِعْتَ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ هُمَا سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ } قَالَ : نَعَمْ صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَلَكِنْ ائْتِ بِشَاهِدٍ آخَرَ ، فَقِيلَ عَزَلَهُ ثُمَّ أَعَادَهُ وَزَادَ فِي رِزْقِهِ " فَقِيلَ رَجَعَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى قَوْلِهِ ، وَقَوْلُهُ وَالْمُرَادُ بِالْأَجِيرِ عَلَى مَا قَالُوا التِّلْمِيذُ الْخَاصُّ الَّذِي يَعُدُّ ضَرَرَ أُسْتَاذِهِ ضَرَرَ نَفْسِهِ وَنَفْعَهُ نَفْعَ نَفْسِهِ ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا شَهَادَةَ لِلْقَانِعِ بِأَهْلِ الْبَيْتِ } وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ .
وَفِي الْخُلَاصَةِ : وَالتِّلْمِيذُ الْخَاصُّ الَّذِي يَأْكُلُ مَعَهُ وَفِي عِيَالِهِ وَلَيْسَ لَهُ أُجْرَةٌ مَعْلُومَةٌ .
وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْأَجِيرِ الْأَجِيرُ مُسَانَهَةً أَوْ مُشَاهَرَةً أَوْ مُيَاوَمَةً ، لِأَنَّهُ إذَا كَانَتْ إجَارَتُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ دَخَلَتْ مَنْفَعَتُهُ الَّتِي هِيَ الْأَدَاءُ فِي أُجْرَتِهِ فَيَكُونُ مُسْتَوْجِبًا الْأَجْرَ بِهَا فَيَصِيرُ كَالْمُسْتَأْجِرِ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ مُوجِبًا تَمْلِيكَ مَنَافِعِهِ ، وَلِهَذَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ بِتَسْلِيمِ نَفْسِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ ، بِخِلَافِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ حَيْثُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِلْمُسْتَأْجِرِ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَقَعْ مُوجِبًا تَمْلِيكَ مَنَافِعِهِ بَلْ وَقَعَ عَلَى عَمَلٍ مُعَيَّنٍ لَهُ ، وَلِهَذَا لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ حَتَّى يَعْمَلَ فَافْتَرَقَا .
وَفِي الْعُيُونِ : قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا

يَوْمًا وَاحِدًا فَشَهِدَ لَهُ الْأَجِيرُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ : الْقِيَاسُ أَنْ لَا تُقْبَلُ ، وَلَوْ كَانَ أَجِيرًا خَاصًّا فَشَهِدَ فَلَمْ يَعْدِلْ حَتَّى ذَهَبَ الشَّهْرُ ثُمَّ عَدَلَ قَالَ أُبْطِلُهَا كَرَجُلٍ شَهِدَ لِامْرَأَتِهِ ثُمَّ طَلَّقَهَا ، وَلَوْ شَهِدَ وَلَمْ يَكُنْ أَجِيرًا ثُمَّ صَارَ أَجِيرًا لَهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ فَإِنِّي أُبْطِلُ شَهَادَتَهُ فَإِنْ لَمْ تَبْطُلْ حَتَّى بَطَلَتْ الْإِجَارَةُ ثُمَّ أَعَادَ الشَّهَادَةَ جَازَتْ ، كَالْمَرْأَةِ إذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ ثُمَّ أَعَادَهَا تَجُوزُ .
وَمَا فِي زِيَادَاتِ الْأَصْلِ مِنْ قَوْلِهِ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَجِيرِ حَمَلَ عَلَى الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ كَمَا حَمَلَ مَا فِي كِتَابِ كَفَالَةِ الْأَصْلِ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْأَصْلِ عَلَى الْأَجِيرِ الْخَاصِّ لِمَا فِي نَوَادِرِ ابْنِ رُسْتُمَ قَالَ مُحَمَّدٌ : لَا أُجِيزُ شَهَادَةَ الْأَجِيرِ مُشَاهَرَةً وَإِنْ كَانَ أَجِيرًا مُشْتَرَكٌ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ ا هـ .
وَأَمَّا شَهَادَةُ الْأُسْتَاذِ لِلتِّلْمِيذِ وَالْمُسْتَأْجِرِ لِلْأَجِيرِ فَمَقْبُولَةٌ لِأَنَّ مَنَافِعَهُمَا لَيْسَتْ بِمَمْلُوكَةٍ لِلْمَشْهُودِ لَهُ .

قَالَ ( وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : تُقْبَلُ لِأَنَّ الْأَمْلَاكَ بَيْنَهُمَا مُتَمَيِّزَةٌ وَالْأَيْدِي مُتَحَيِّزَةٌ وَلِهَذَا يَجْرِي الْقِصَاصُ وَالْحَبْسُ بِالدَّيْنِ بَيْنَهُمَا ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِمَا فِيهِ مِنْ النَّفْعِ لِثُبُوتِهِ ضِمْنًا كَمَا فِي الْغَرِيمِ إذَا شَهِدَ لِمَدْيُونِهِ الْمُفْلِسِ وَلَنَا مَا رَوَيْنَا ، وَلِأَنَّ الِانْتِفَاعَ مُتَّصِلٌ عَادَةً وَهُوَ الْمَقْصُودُ فَيَصِيرُ شَاهِدًا لِنَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ أَوْ يَصِيرُ مُتَّهَمًا ، بِخِلَافِ شَهَادَةِ الْغَرِيمِ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ عَلَى الْمَشْهُودِ بِهِ .

( قَوْلُهُ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ ) وَلَوْ كَانَ الْمَشْهُودُ لَهُ مِنْ الزَّوْجَةِ أَوْ الزَّوْجِ مَمْلُوكًا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : تُقْبَلُ ، وَبِقَوْلِنَا قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالثَّوْرِيُّ وَالنَّخَعِيُّ : لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الزَّوْجَةِ لِزَوْجِهَا لِأَنَّ لَهَا حَقًّا فِي مَالِهِ لِوُجُوبِ نَفَقَتِهَا ، وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الزَّوْجِ لَهَا لِعَدَمِ التُّهْمَةِ .
وَجْهُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْأَمْلَاكَ بَيْنَهُمَا مُتَمَيِّزَةٌ وَالْأَيْدِي مُتَحَيِّزَةٌ : أَيْ كُلُّ يَدٍ فِي حَيِّزٍ غَيْرِ حَيِّزِ الْأُخْرَى فَهِيَ مَمْنُوعَةٌ عَنْهُ مِنْ حَازَ الشَّيْءَ مَنَعَهُ فَلَا اخْتِلَاطَ فِيهَا وَلِهَذَا يَجْرِي بَيْنَهُمَا الْقِصَاصُ وَالْحَبْسُ بِالدَّيْنِ ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْمَنَافِعِ الْمُشْتَرَكَةِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا بِمَالِ الْآخَرِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِالنِّكَاحِ لِأَنَّهُ لَمْ يُقْصَدْ لَأَنْ يَنْتَفِعَ كُلٌّ مِنْهُمَا بِمَالِ الْآخَرِ .
وَإِنَّمَا يَثْبُتُ ذَلِكَ تَبَعًا لِلْمَقْصُودِ عَادَةً وَصَارَ كَالْغَرِيمِ إذَا شَهِدَ لِمَدْيُونِهِ الْمُفْلِسِ بِمَالٍ لَهُ عَلَى آخَرَ تُقْبَلُ مَعَ تَوَهُّمِ أَنَّهُ يُشَارِكُهُ فِي مَنْفَعَتِهِ .
وَلَنَا مَا رَوَيْنَا مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَلَا الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا ، وَلَا الزَّوْجِ لِامْرَأَتِهِ " وَقَدْ سَمِعْتَ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ شُرَيْحٍ وَمَرْفُوعٌ مِنْ رِوَايَةِ الْخَصَّافِ ، وَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ نَصٌّ كَفَى الْمَعْنَى فِيهِ ، وَإِلْحَاقُهُ بِقَرَابَةِ الْوِلَادِ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ بِجَامِعِ شِدَّةِ الِاتِّصَالِ فِي الْمَنَافِعِ حَتَّى يُعَدَّ كُلٌّ غَنِيًّا بِمَالِ الْآخَرِ .
وَلِذَا قَالَ تَعَالَى { وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى } قِيلَ بِمَالِ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، بَلْ رُبَّمَا كَانَ الِاتِّصَالُ بَيْنَهُمَا فِي الْمَنَافِعِ ، وَالِانْبِسَاطُ فِيهَا أَكْثَرُ مِمَّا بَيْنَ الْآبَاءِ وَالْأَوْلَادِ ، بَلْ قَدْ يُعَادِي أَبَوَيْهِ لِرِضَا زَوْجَتِهِ وَهِيَ لِرِضَاهُ ، وَلِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ أَصْلُ الْوِلَادِ لِأَنَّ الْوِلَادَةَ عَنْهَا تَثْبُتُ

فَيَلْحَقُ بِالْوِلَادِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى مَعْنَى اتِّصَالِ الْمَنَافِعِ كَمَا أَعْطَى كَسْرَ بَيْضِ الصَّيْدِ حُكْمَ قَتْلِ الصَّيْدِ عِنْدَنَا ، بِخِلَافِ الْقِصَاصِ لِأَنَّ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا زَوْجِيَّةَ .
وَفِي الْمُحِيطِ : لَا نَقْبَلُ شَهَادَتَهُ لِمُعْتَدَّتِهِ مِنْ رَجْعِيٍّ وَلَا بَائِنٍ لِقِيَامِ النِّكَاحِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ .
وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ فِي حَادِثَةٍ فَرُدَّتْ فَارْتَفَعَتْ الزَّوْجِيَّةُ فَأَعَادَ تِلْكَ الشَّهَادَةَ تُقْبَلُ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ رُدَّتْ لِفِسْقٍ ثُمَّ تَابَ وَصَارَ عَدْلًا وَأَعَادَ تِلْكَ الشَّهَادَةَ لَا تُقْبَلُ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْأَصَحِّ ، لِأَنَّ الْقَاضِي لَمَّا رَدَّهَا صَارَ مُكَذَّبًا فِي تِلْكَ الشَّهَادَةِ شَرْعًا فَلَا تُقْبَلُ ، بِخِلَافِ شَهَادَةِ الْعَبْدِ وَالْكَافِرِ وَالصَّبِيِّ إذَا رُدَّتْ ثُمَّ أُعْتِقَ وَأَسْلَمَ وَبَلَغَ وَأَعَادَهَا تُقْبَلُ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ .
وَقَالَ مَالِكٌ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ : لَا تُقْبَلُ كَالرَّدِّ لِلْفِسْقِ .
قُلْنَا : رَدَّ شَهَادَتَهُمْ لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ لَا لِتُهْمَةِ الْكَذِبِ وَهِيَ كَافِيَةٌ فِي الرَّدِّ ، فَإِذَا صَارُوا أَهْلًا تُقْبَلُ .
وَلَوْ قِيلَ الرَّدُّ فِي الْفِسْقِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ بِكَذِبِهِ بَلْ لِمُجَرَّدِ تُهْمَتِهِ بِهِ ، وَبِالْإِعَادَةِ فِي الْعَدَالَةِ تَرْتَفِعُ تُهْمَةُ كَذِبِهِ فِي تِلْكَ الشَّهَادَةِ بِعَيْنِهَا فَيَجِبُ قَبُولُهَا احْتَاجَ إلَى الْجَوَابِ ، فَصَارَ الْحَاصِلُ : كُلُّ مَا رُدَّتْ شَهَادَتُهُ لِمَعْنًى وَزَالَ ذَلِكَ الْمَعْنَى لَا تُقْبَلُ إذَا أَعَادَهَا بَعْدَ زَوَالِ ذَلِكَ الْمَعْنَى ، إلَّا الْعَبْدُ إذَا شَهِدَ فَرُدَّ وَالْكَافِرُ وَالْأَعْمَى وَالصَّبِيُّ إذَا شَهِدَ كُلٌّ مِنْهُمْ فَرُدَّ ثُمَّ أُعْتِقَ وَأَسْلَمَ وَأَبْصَرَ وَبَلَغَ فَشَهِدُوا فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ بِعَيْنِهَا تُقْبَلُ وَلَا تُقْبَلُ فِيمَا سِوَاهُمْ ، وَتُقْبَلُ لِأُمِّ امْرَأَتِهِ وَأَبِيهَا وَلِزَوْجِ بِنْتِهِ وَلِامْرَأَةِ ابْنِهِ وَلِامْرَأَةِ أَبِيهِ وَلِأُخْتِ امْرَأَتِهِ .

( وَلَا شَهَادَةُ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ ) لِأَنَّهُ شَهَادَةٌ لِنَفْسِهِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ أَوْ مِنْ وَجْهِ إنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لِأَنَّ الْحَالَ مَوْقُوفٌ مُرَاعَى ( وَلَا لِمُكَاتَبِهِ ) لِمَا قُلْنَا .
( قَوْلُهُ وَلَا شَهَادَةُ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ ) لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ الْخَصَّافِ ، وَلِأَنَّهُ شَهَادَةٌ لِنَفْسِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ وَمِنْ وَجْهٍ إذَا كَانَ ، وَلِأَنَّ الْحَالَ : أَيْ حَالَ مَالِ الْعَبْدِ فِيمَا إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مَوْقُوفٌ مُرَاعًى بَيْنَ أَنْ يَصِيرَ لِلْغُرَمَاءِ بِسَبَبِ بَيْعِهِمْ الْمَالَ فِي دَيْنِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَبْقَى لِلْمَوْلَى بِسَبَبِ قَضَائِهِ دَيْنَهُ ، وَكَذَا الْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ وَالْمُكَاتَبُ وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ .
وَقَوْلُهُ لِمَا قُلْنَا : يَعْنِي مِنْ أَنَّهُ شَهَادَةٌ لِنَفْسِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَوْ مِنْ وَجْهٍ .
وَفِي الْمَبْسُوطِ : وَكَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَبِي الْمَوْلَى وَابْنِهِ وَامْرَأَتِهِ لِهَؤُلَاءِ ، وَكَذَا شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا الْمَمْلُوكِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ ، وَكَانَ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ أَنْ تُقْبَلَ لِأَنَّهَا فِي الْحَقِيقَةِ شَهَادَةٌ لِسَيِّدِهِ لَكِنْ مَنَعُوهُ لِلَفْظِ النَّصِّ السَّابِقِ .

( وَلَا شَهَادَةُ الشَّرِيكِ لِشَرِيكِهِ فِيمَا هُوَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا ) لِأَنَّهُ شَهَادَةٌ لِنَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ لِاشْتِرَاكِهِمَا ، وَلَوْ شَهِدَ بِمَا لَيْسَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا تُقْبَلُ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ .
" وَلَا الشَّرِيكِ لِشَرِيكِهِ فِيمَا هُوَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا " بِخِلَافِ مَا لَيْسَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا حَيْثُ تُقْبَلُ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ غَيْرَ أَنَّ هَذَا لَا يَتَحَقَّقُ فِي الشَّرِيكِ الْمُفَاوِضِ لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ هُوَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا وَلِذَا قَالُوا : لَا تُقْبَلُ إلَّا فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَالنِّكَاحِ وَالْعَتَاقِ وَالطَّلَاقِ ، لِأَنَّ مَا سِوَى هَذِهِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا ، وَيَنْبَغِي أَنْ تُزَادَ الشَّهَادَةُ بِمَا كَانَ مِنْ طَعَامِ أَهْلِ أَحَدِهِمَا أَوْ كِسْوَتِهِمْ لِأَنَّهُ لَا شَرِكَةَ بَيْنَهُمَا فِيهِ .

( وَتَقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَخِ لِأَخِيهِ وَعَمِّهِ ) لِانْعِدَامِ التُّهْمَةِ لِأَنَّ الْأَمْلَاكَ وَمَنَافِعَهَا مُتَبَايِنَةٌ وَلَا بُسُوطَةَ لِبَعْضِهِمْ فِي مَالِ الْبَعْضِ .
( قَوْلُهُ وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَخِ لِأَخِيهِ وَعَمِّهِ ) قِيلَ بِلَا خِلَافٍ ، لَكِنْ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي شَرْحِ أَدَبِ الْقَاضِي مِنْ السَّلَفِ : مَنْ قَالَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَخِ لِأَخِيهِ ، وَلَا شَكَّ فِي ضَعْفِ التُّهْمَةِ لِأَنَّهُ لَا بُسُوطَةَ وَلَيْسَ مَظِنَّةً مُلْزِمَةً لِلْإِلْفِ ، بَلْ كَثِيرًا مَا يَكُونُ بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ ، وَكُلُّ قَرَابَةٍ غَيْرُ الْوِلَادِ كَالْخَالِ وَالْخَالَةِ وَغَيْرِهِمَا كَالْأَخِ تُقْبَلُ فِيهِ الشَّهَادَةُ .

قَالَ ( وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُخَنَّثِ ) وَمُرَادُهُ الْمُخَنَّثُ فِي الرَّدِيءِ مِنْ الْأَفْعَالِ لِأَنَّهُ فَاسِقٌ ، فَأَمَّا الَّذِي فِي كَلَامِهِ لِينٌ وَفِي أَعْضَائِهِ تَكَسُّرٌ فَهُوَ مَقْبُولُ الشَّهَادَةِ .
( قَوْلُهُ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُخَنَّثِ ، وَمُرَادُهُ الْمُخَنَّثُ فِي الرَّدِيءِ مِنْ الْأَفْعَالِ ) وَهُوَ التَّشَبُّهُ بِالنِّسَاءِ تَعَمُّدًا لِذَلِكَ فِي تَزْيِينِهِ وَتَكْسِيرِ أَعْضَائِهِ وَتَلْيِينِ كَلَامِهِ كَمَا هُوَ صِفَتُهُنَّ لِكَوْنِ ذَلِكَ مَعْصِيَةً .
رَوَى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَعَنَ اللَّهُ الْمُخَنَّثِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالْمُتَرَجِّلَاتِ مِنْ النِّسَاءِ } يَعْنِي الْمُتَشَبِّهَاتِ بِالرِّجَالِ ، فَكَيْفَ إذَا تَشَبَّهَ بِهِنَّ فِيمَا هُوَ أَقْبَحُ مِنْ ذَلِكَ ، فَأَمَّا الَّذِي فِي كَلَامِهِ لِينٌ خِلْقَةً وَفِي أَعْضَائِهِ تَكَسُّرٌ خِلْقَةً فَهُوَ عَدْلٌ مَقْبُولُ الشَّهَادَةِ .

( وَلَا نَائِحَةٍ وَلَا مُغَنِّيَةٍ ) لِأَنَّهُمَا يَرْتَكِبَانِ مُحَرَّمًا فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { نَهَى عَنْ الصَّوْتَيْنِ الْأَحْمَقَيْنِ النَّائِحَةِ وَالْمُغَنِّيَةُ } ( وَلَا مُدْمِنِ الشُّرْبِ عَلَى اللَّهْوِ ) لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ مُحَرَّمَ دِينِهِ ( وَلَا مَنْ يَلْعَبُ بِالطُّيُورِ ) لِأَنَّهُ يُورِثُ غَفْلَةً وَلِأَنَّهُ قَدْ يَقِفُ عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ بِصُعُودِهِ عَلَى سَطْحِهِ لِيُطَيِّرَ طَيْرَهُ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ : وَلَا مَنْ يَلْعَبُ بِالطُّنْبُورِ وَهُوَ الْمُغَنِّي ( وَلَا مَنْ يُغْنِي لِلنَّاسِ ) لِأَنَّهُ يَجْمَعُ النَّاسَ عَلَى ارْتِكَابِ كَبِيرَةٍ .
( وَلَا مَنْ يَأْتِي بَابًا مِنْ الْكَبَائِرِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا الْحَدُّ ) لِلْفِسْقِ .

( قَوْلُهُ وَلَا نَائِحَةٍ وَلَا مُغَنِّيَةٍ ) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ ، فَأَطْلَقَ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ : وَلَا مَنْ يُغَنِّي لِلنَّاسِ ، فَوَرَدَ أَنَّهُ تَكْرَارٌ لِعِلْمِ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرَ مِنْ قَوْلِهِ : مُغَنِّيَةٍ .
وَالْوَجْهُ أَنَّ اسْمَ مُغَنِّيَةٍ وَمُغَنٍّ إنَّمَا هُوَ فِي الْعُرْفِ لِمَنْ كَانَ الْغِنَاءُ حِرْفَتَهُ الَّتِي يَكْتَسِبُ بِهَا الْمَالَ ؛ أَلَا تَرَى إذَا قِيلَ مَا حِرْفَتُهُ أَوْ مَا صِنَاعَتُهُ يُقَالُ مُغَنٍّ كَمَا يُقَالُ خَيَّاطٌ أَوْ حَدَّادٌ ، فَاللَّفْظُ الْمَذْكُورُ هُنَا يُرَادُ بِهِ ذَلِكَ غَيْرَ أَنَّهُ خَصَّ الْمُؤَنَّثَ بِهِ لِيُوَافِقَ لَفْظَ الْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَعَنَ اللَّهُ النَّائِحَاتِ ، لَعَنَ اللَّهُ الْمُغَنِّيَاتِ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ لِوَصْفِ التَّغَنِّي لَا لِوَصْفِ الْأُنُوثَةِ وَلَا لِلتَّغَنِّي مَعَ الْأُنُوثَةِ ، لِأَنَّ الْحُكْمَ الْمُتَرَتِّبَ عَلَى مُشْتَقٍّ إنَّمَا يُفِيدُ أَنَّ وَصْفَ الِاشْتِقَاقِ هُوَ الْعِلَّةُ فَقَطْ لَا مَعَ زِيَادَةٍ أُخْرَى .
نَعَمْ هُوَ مِنْ الْمَرْأَةِ أَفْحَشُ لِرَفْعِ صَوْتِهَا وَهُوَ حَرَامٌ ، وَنَصُّوا عَلَى أَنَّ التَّغَنِّي لِلَّهْوِ أَوْ لِجَمْعِ الْمَالِ حَرَامٌ بِلَا خِلَافٍ ، وَمِثْلُ هَذَا لَفْظُ النَّائِحَةِ صَارَ عُرْفًا لِمَنْ جَعَلَتْ النِّيَاحَةَ مُكْسِبَةً ، وَحِينَئِذٍ كَأَنَّهُ قَالَ : لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ اتَّخَذَ التَّغَنِّي صِنَاعَةً يَأْكُلُ بِهَا لَا مَنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ صِنَاعَتَهُ ، وَلِذَا عَلَّلَهُ فِي الْكِتَابِ بِأَنَّهُ يَجْمَعُ النَّاسَ عَلَى ارْتِكَابِ كَبِيرَةٍ .
وَفِي النِّهَايَةِ أَنَّ الْغِنَاءَ فِي حَقِّهِنَّ مُطْلَقًا حَرَامٌ لِرَفْعِ صَوْتِهِنَّ وَهُوَ حَرَامٌ فَلِذَا أَطْلَقَ فِي قَوْلِهِ مُغَنِّيَةٍ ، وَقَيَّدَ فِي غِنَاءِ الرِّجَالِ بِقَوْلِهِ لِلنَّاسِ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ قَوْلَهُ مَنْ يُغَنِّي لِلنَّاسِ لَا يَخُصُّ الرِّجَالَ لِأَنَّ مَنْ تُطْلَقُ عَلَى الْمُؤَنَّثِ خَاصَّةً فَضْلًا عَنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مَعًا ، وَكَوْنُ صِلَتِهَا وَقَعَتْ بِتَذْكِيرِ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ يُغَنِّي بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتٍ لَا يُوجِبُ خُصُوصَهُ بِالرِّجَالِ لِمَا عُرِفَ

أَنَّهُ يَجُوزُ فِي ضَمِيرِهَا مُرَاعَاةُ الْمَعْنَى وَمُرَاعَاةُ اللَّفْظِ وَمُرَاعَاةُ اللَّفْظِ أَوْلَى وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى عَلَى التَّأْنِيثِ ، فَكَيْفَ إذَا كَانَ الْمَعْنَى أَعَمُّ مِنْ الْمُؤَنَّثِ وَالْمُذَكَّرِ .
فَإِنْ قُلْت : تَعْلِيلُ الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجْمَعُ النَّاسِ عَلَى كَبِيرَةٍ يَقْتَضِي أَنَّ التَّغَنِّي مُطْلَقًا حَرَامٌ وَإِنْ كَانَ مُفَادُهُ بِالذَّاتِ أَنَّ الِاسْتِمَاعَ كَبِيرَةٌ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى الِاسْتِمَاعِ بِالذَّاتِ لِأَنَّ كَوْنَ الِاسْتِمَاعِ مُحَرَّمًا لَيْسَ إلَّا لِحُرْمَةِ الْمَسْمُوعِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ إذَا تَغَنَّى بِحَيْثُ لَا يُسْمِعُ غَيْرَهُ بَلْ نَفْسَهُ لِيَدْفَعَ عَنْهُ الْوَحْشَةَ لَا يُكْرَهُ .
وَقِيلَ لَا يُكْرَهُ إذَا فَعَلَهُ لِيَسْتَفِيدَ بِهِ نَظْمَ الْقَوَافِي وَيَصِيرَ فَصِيحَ اللِّسَانِ .
وَقِيلَ وَلَا يُكْرَهُ لِاسْتِمَاعِ النَّاسِ إذَا كَانَ فِي الْعُرْسِ وَالْوَلِيمَةِ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ نَوْعُ لَهْوٍ بِالنَّصِّ فِي الْعُرْسِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ التَّغَنِّي لِإِسْمَاعِ نَفْسِهِ وَلِدَفْعِ الْوَحْشَةِ خِلَافًا بَيْنَ الْمَشَايِخِ .
مِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَا يُكْرَهُ ، إنَّمَا يُكْرَهُ مَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ اللَّهْوِ احْتِجَاجًا بِمَا عَنْ أَنْسَ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَخِيهِ الْبَرَاءِ بْنِ مَالِكٍ وَكَانَ مِنْ زُهَّادِ الصَّحَابَةِ وَكَانَ يَتَغَنَّى ، وَبِهِ أَخَذَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ كَرِهَ جَمِيعَ ذَلِكَ ، وَبِهِ أَخَذَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ، وَيَحْمِلُ حَدِيثَ الْبَرَاءِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ كَانَ يَنْشُدُ الْأَشْعَارَ الْمُبَاحَةَ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ الْحِكَمِ وَالْمَوَاعِظِ ، فَإِنَّ لَفْظَ الْغِنَاءِ كَمَا يُطْلَقُ عَلَى الْمَعْرُوفِ يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِهِ .
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ فَلَيْسَ مِنَّا } وَإِنْشَادُ الْمُبَاحِ مِنْ الْأَشْعَارِ لَا بَأْسَ بِهِ .
وَمِنْ الْمُبَاحِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ صِفَةُ امْرَأَةٍ مُرْسَلَةٍ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ بِعَيْنِهَا حَيَّةً ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَجَازَ

أَنْ يَكُونَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ قَائِلًا بِتَعْمِيمِ الْمَنْعِ كَشَيْخِ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ ، إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا مِنْ هَذَا أَنَّ التَّغَنِّي الْمُحَرَّمَ هُوَ مَا كَانَ فِي اللَّفْظِ مَا لَا يَحِلُّ كَصِفَةِ الذَّكَرِ وَالْمَرْأَةِ الْمُعَيَّنَةِ الْحَيَّةِ وَوَصْفِ الْخَمْرِ الْمُهَيِّجِ إلَيْهَا وَالدُّوَيْرَاتِ وَالْحَانَاتِ وَالْهِجَاءِ لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ إذْ أَرَادَ الْمُتَكَلِّمُ هِجَاءَهُ لَا إذَا أَرَادَ إنْشَادَ الشِّعْرِ لِلِاسْتِشْهَادِ بِهِ أَوْ لِتَعَلُّمِ فَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ .
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ وَصْفَ الْمَرْأَةِ كَذَلِكَ غَيْرُ مَانِعٍ مَا سَلَفَ فِي كِتَابِ الْحَجِّ مِنْ إنْشَادِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ : قَامَتْ تُرِيكَ رَهْبَةً أَنْ تَهْضِمَا سَاقًا بَخَنْدَاةٍ وَكَعْبًا أَدْرَمَا وَإِنْشَادِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إنْ يَصْدُقُ الطَّيْرُ نَنِكْ لَمِيسًا لِأَنَّ الْمَرْأَةَ فِيهِمَا لَيْسَتْ مُعَيَّنَةً ، فَلَوْلَا أَنَّ إنْشَادَ مَا فِيهِ وَصْفُ امْرَأَةٍ كَذَلِكَ جَائِزٌ لَمْ تَقُلْهُ الصَّحَابَةُ ، وَمِمَّا يَقْطَعُ بِهِ فِي هَذَا قَوْلُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَمَا سُعَادُ غَدَاةَ الْبِينِ إذْ رَحَلُوا إلَّا أَغَنَّ غَضِيضُ الطَّرَفِ مَكْحُولُ تَجْلُو عَوَارِضَ ذِي ظُلَمٍ إذَا ابْتَسَمَتْ كَأَنَّهُ مَنْهَلٌ بِالرَّاحِ مَعْلُولُ وَكَثِيرٌ فِي شِعْرِ حِسَانَ مِنْ هَذَا كَقَوْلِهِ وَقَدْ سَمِعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ وَلَمْ يُنْكِرْهُ فِي قَصِيدَتِهِ الَّتِي أَوَّلُهَا : تَبَلَتْ فُؤَادَك فِي الْمَنَامِ خَرِيدَةٌ تَسْقِي الضَّجِيعَ بِبَارِدٍ بَسَّام فَأَمَّا الزُّهْرِيَّاتُ الْمُجَرَّدَةُ عَنْ ذَلِكَ الْمُتَضَمَّنَةُ فِي وَصْفِ الرَّيَاحِينِ وَالْأَزْهَارِ وَالْمِيَاهِ الْمُطْرِبَةِ كَقَوْلِ ابْنِ الْمُعْتَزِّ : سَقَاهَا بِغَابَاتٍ خَلِيجٌ كَأَنَّهُ إذَا صَافَحَتْهُ رَاحَةُ الرِّيحِ مُبْرِدُ يَعْنِي سَقَى تِلْكَ الرِّيَاضِ ، وَقَوْلُهُ : وَتَرَى الرِّيَاحَ إذَا مَسَحْنَ غَدِيرَهُ صَقَلْنَهُ وَنَفَيْنَ كُلَّ قَذَاةِ مَا إنْ يَزَالُ عَلَيْهِ ظَبْيٌ كَارِعًا كَتَطَلُّعِ

الْحَسْنَاءِ فِي الْمِرْآةِ فَلَا وَجْهَ لِمَنْعِهِ عَلَى هَذَا .
نَعَمْ إذَا قِيلَ ذَلِكَ عَلَى الْمَلَاهِي امْتَنَعَ وَإِنْ كَانَ مَوَاعِظَ وَحِكَمًا لِلْآلَاتِ نَفْسِهَا لَا لِذَلِكَ التَّغَنِّي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَفِي الْمُغَنِّي : الرَّجُلُ الصَّالِحُ إذَا تَغَنَّى بِشَعْرٍ فِيهِ فُحْشٌ لَا تَبْطُلُ عَدَالَتُهُ .
وَفِي مُغْنِي ابْنِ قُدَامَةَ : الْمَلَاهِي نَوْعَانِ : مُحَرَّمٌ وَهُوَ الْآلَاتُ الْمُطْرِبَةُ بِلَا غِنَاءٍ كَالْمِزْمَارِ وَالطُّنْبُورِ وَنَحْوِهِ ، لِمَا رَوَى أَبُو أُمَامَةَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَنِي رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ، وَأَمَرَنِي بِمَحْقِ الْمَعَازِفِ وَالْمَزَامِيرِ } .
وَالنَّوْعُ الثَّانِي مُبَاحٌ وَهُوَ الدُّفُّ فِي النِّكَاحِ ، وَفِي مَعْنَاهُ مَا كَانَ مِنْ حَادِثِ سُرُورٍ .
وَيُكْرَهُ غَيْرُهُ لِمَا عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ إذَا سَمِعَ صَوْتَ الدُّفِّ بَعَثَ يَنْظُرُ ، فَإِنْ كَانَ فِي وَلِيمَةٍ سَكَتَ ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِهِ عَمَدَ بِالدُّرَّةِ .
وَفِي الْأَجْنَاسِ سُئِلَ مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ عَنْ الَّذِي يَتَرَنَّمُ عَنْ نَفْسِهِ ، قَالَ : لَا يَقْدَحُ فِي شَهَادَتِهِ .
وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالْأَلْحَانِ فَأَبَاحَهَا قَوْمٌ وَحَظَرَهَا قَوْمٌ .
وَالْمُخْتَارُ إنْ كَانَتْ الْأَلْحَانُ لَا تُخْرِجُ الْحُرُوفَ عَنْ نَظْمِهَا وَقَدْرِ ذَوَاتِهَا فَمُبَاحٌ ، وَإِلَّا فَغَيْرُ مُبَاحٍ ، كَذَا ذُكِرَ .
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي بَابِ الْأَذَانِ مَا يُفِيدُ أَنَّ التَّلْحِينَ لَا يَكُونُ إلَّا مَعَ تَغْيِيرِ مُقْتَضَيَاتِ الْحُرُوفِ فَلَا مَعْنَى لِهَذَا التَّفْصِيلِ .
وَنَقَلْنَا هُنَاكَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ لِلسَّائِلِ عَنْ الْقِرَاءَةِ بِالتَّلْحِينِ وَقَدْ أَجَابَ بِالْمَنْعِ : مَا اسْمُكَ ؟ قَالَ مُحَمَّدٌ ، فَقَالَ : أَيُعْجِبُكَ أَنْ يُقَالَ لَك يَا مُوحَامَدُ ؟ هَذَا وَأَمَّا النَّائِحَةُ فَظَاهِرٌ أَنَّهَا أَيْضًا فِي الْعُرْفِ لِمَنْ اتَّخَذَتْ النِّيَاحَةَ مُكْسِبَةً ، فَأَمَّا إذَا نَاحَتْ لِنَفْسِهَا فَصَرَّحَ فِي الذَّخِيرَةِ قَالَ : لَمْ يَرُدَّ النَّائِحَةَ الَّتِي تَنُوحُ فِي مُصِيبَتِهَا بَلْ

الَّتِي تَنُوحُ فِي مُصِيبَةِ غَيْرِهَا ، اتَّخَذَتْ ذَلِكَ مُكْسِبَةً لِأَنَّهَا ارْتَكَبَتْ مَعْصِيَةً وَهِيَ الْغِنَاءُ لِأَجْلِ الْمَالِ فَلَا يُؤْمَنُ أَنْ تَرْتَكِبَ شَهَادَةَ الزُّورِ لِأَجْلِ ذَلِكَ وَهُوَ أَيْسَرُ عَلَيْهَا مِنْ الْغِنَاءِ وَالنُّوحِ فِي مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ ، وَلَمْ يَتَعَقَّبْ هَذَا أَحَدٌ مِنْ الْمَشَايِخِ فِيمَا عَلِمْت ، لَكِنَّ بَعْضَ مُتَأَخِّرِي الشَّارِحِينَ نَظَرَ فِيهِ بِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِهِ لِلنَّاسِ أَوْ لَا .
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَعَنَ اللَّهُ الصَّالِقَةَ وَالْحَالِقَةَ وَالشَّاقَّةَ } وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ وَشَقَّ الْجُيُوبَ وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ } وَهُمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ النِّيَاحَةَ وَلَوْ فِي مُصِيبَةِ نَفْسِهَا مَعْصِيَةٌ ، لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْبَلُ شَهَادَتَهَا لِذَلِكَ وَذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى الشُّهْرَةِ لِيَصِلَ إلَى الْقَاضِي فَإِنَّمَا قُيِّدَ بِكَوْنِهَا لِلنَّاسِ لِهَذَا الْمَعْنَى ، وَإِلَّا فَهُوَ يَرُدُّ عَلَيْهِ مِثْلَهُ فِي قَوْلِهِ : وَلَا مُدْمِنَ لِلشُّرْبِ عَلَى اللَّهْوِ ، يُرِيدُ شُرْبَ الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ خَمْرًا أَوْ غَيْرَهُ .
وَلَفْظُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْأَصْلِ : وَلَا شَهَادَةُ مُدْمِنِ خَمْرٍ ، وَلَا شَهَادَةُ مُدْمِنِ السُّكْرِ .
يُرِيدُ مِنْ الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ الَّتِي لَيْسَتْ خَمْرًا ، فَقَالَ هَذَا الشَّارِحُ يُشْتَرَطُ الْإِدْمَانُ فِي الْخَمْرِ ، وَهَذِهِ الْأَشْرِبَةُ : يَعْنِي الْأَشْرِبَةَ الْمُحَرَّمَةَ لِسُقُوطِ الْعَدَالَةِ مَعَ أَنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ كَبِيرَةٌ بِلَا قَيْدِ الْإِدْمَانِ ، وَلِهَذَا لَمْ يَشْتَرِطْ الْخَصَّافُ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ الْإِدْمَانَ ، لَكِنْ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأَصْلِ كَمَا سَمِعْت فَمَا هُوَ جَوَابُهُ ؟ هُوَ الْجَوَابُ فِي تَقْيِيدِ الْمَشَايِخِ بِكَوْنِ النِّيَاحَةِ لِلنَّاسِ ، ثُمَّ هُوَ نَقَلَ كَلَامَ الْمَشَايِخِ فِي تَوْجِيهِ اشْتِرَاطَ الْإِدْمَانِ أَنَّهُ إنَّمَا شَرَطَ لِيَظْهَرَ عِنْدَ النَّاسِ ، فَإِنَّ مَنْ شَرِبَهَا سِرًّا لَا تَسْقُطُ

عَدَالَتُهُ وَلَمْ يَتَنَفَّسْ فِيهِ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ ، فَكَذَا الَّتِي نَاحَتْ فِي بَيْتِهَا لِمُصِيبَتِهَا لَا تَسْقُطُ عَدَالَتُهَا لِعَدَمِ اشْتِهَارِ ذَلِكَ عِنْدَ النَّاسِ ، وَانْظُرْ إلَى تَعْلِيلِ الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ بَعْدَ ذِكْرِ الْإِدْمَانِ بِأَنَّهُ ارْتَكَبَ مُحَرَّمَ دِينِهِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ بِلَا إدْمَانٍ ، فَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُ إذَا أَدْمَنَ حِينَئِذٍ يَظْهَرُ أَنَّهُ مُرْتَكِبُ مُحَرَّمِ دِينِهِ فَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ ، بِخِلَافِ الَّتِي اسْتَمَرَّتْ تَنُوحُ لِلنَّاسِ لِظُهُورِهِ حِينَئِذٍ فَتَكُونُ كَاَلَّذِي يَسْكَرُ وَيَخْرُجُ سَكْرَانَ وَتَلْعَبُ بِهِ الصِّبْيَانُ فِي رَدِّ شَهَادَتِهِ .
وَصَرَّحَ بِأَنَّ الَّذِي يُتَّهَمُ بِشُرْبِ الْخَمْرِ لَا تَسْقُطُ عَدَالَتُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَ الْإِدْمَانَ بِنِيَّتِهِ وَهُوَ أَنْ يَشْرَبَ وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يَشْرَبَ مَرَّةً أُخْرَى ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْإِصْرَارِ ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ سَيَذْكُرُ رَدَّ شَهَادَةِ مَنْ يَأْتِي بَابًا مِنْ أَبْوَابِ الْكَبَائِرِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا الْحَدُّ وَشُرْبُ الْخَمْرِ مِنْهَا مِنْ غَيْرِهِ تَوَقُّفٍ عَلَى نِيَّةِ أَنْ يَشْرَبَ ، وَلِأَنَّ النِّيَّةَ أَمْرٌ مُبْطَنٌ لَا يَظْهَرُ لِلنَّاسِ ، وَالْمُدَارَاةُ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِوُجُودِهَا حُكْمُ الْقَاضِي لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ ظَاهِرَةً لَا خَفِيَّةً لِأَنَّهَا مَعْرِفَةٌ وَالْخَفِيُّ لَا يُعْرَفُ وَالظُّهُورُ بِالْإِدْمَانِ الظَّاهِرِ .
نَعَمْ بِالْإِدْمَانِ الظَّاهِرِ يُعْرَفُ إصْرَارُهُ ، لَكِنَّ بُطْلَانَ الْعَدَالَةِ لَا يَتَوَقَّفُ فِي الْكَبَائِرِ عَلَى الْإِصْرَارِ ، بَلْ أَنْ يَأْتِيَهَا وَيَعْلَمَ ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي الصَّغَائِرِ وَقَدْ انْدَرَجَ فِيمَا ذَكَرْنَا شَرْحُ ذَلِكَ .
وَأَمَّا مَنْ يَلْعَبُ بِالطُّيُورِ فَلِأَنَّهُ يُورِثُ غَفْلَةً ، وَهَذَا كَأَنَّهُ بِالْخَاصِّيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ بِالِاسْتِقْرَاءِ .
وَتُرَدُّ شَهَادَةُ الْمُغَفَّلِ لِعَدَمِ الْأَمْنِ مِنْ زِيَادَتِهِ وَنَقْصِهِ ، وَلِأَنَّهُ يَقِفُ عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ لِصُعُودِ سَطْحِهِ لِيُطَيِّرَ طَيْرَهُ ، وَهَذَا يَقْتَضِي مَنْعَ صُعُودِ السَّطْحِ مُطْلَقًا إلَّا أَنْ

يُرَادَ أَنَّ ذَلِكَ يَكْثُرُ مِنْهُ لِهَذِهِ الدَّاعِيَةِ فَإِنَّ الدَّاعِيَةَ إلَى الشَّيْءِ كَالْحَرْبِ فِي اقْتِضَاءِ الْمُوَاظَبَةِ عَلَيْهِ كَمَا فِي لِعْبِ الشِّطْرَنْجِ ، فَإِنَّهُ يُشَاهَدُ فِيهِ دَاعِيَةٌ عَظِيمَةٌ عَلَى الْمُوَاظَبَةِ حَتَّى أَنَّهُمْ رُبَّمَا يَسْتَمِرُّونَ النَّهَارَ وَاللَّيْلَ لَا يَسْأَلُونَ عَنْ أَكْلٍ وَلَا شُرْبٍ ، وَهَذَا مِنْ أَظْهَرِ وَجْهٍ عَلَى أَنَّهُ مِنْ دَوَاعِي الشَّيْطَانِ .
وَالْأَوْجَهُ أَنَّ اللَّعِبَ بِالطُّيُورِ فِعْلٌ مُسْتَخَفٌّ بِهِ يُوجِبُ فِي الْغَالِبِ اجْتِمَاعًا مَعَ أُنَاسٍ أَرَاذِلَ وَصُحْبَتَهُمْ وَذَلِكَ مِمَّا يُسْقِطُ الْعَدَالَةَ .
هَذَا وَفِي تَفْسِيرِ الْكَبَائِرِ كَلَامٌ ، فَقِيلَ : هِيَ السَّبْعُ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي الْحَدِيثِ ، وَهِيَ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ ، وَالْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَقَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَبَهْتُ الْمُؤْمِنِ ، وَالزِّنَا ، وَشُرْبُ الْخَمْرِ ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ أَكْلَ الرِّبَا ، وَأَكْلَ مَالِ الْيَتِيمِ .
وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ .
قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ ؟ فَذَكَرهَا وَفِيهَا السِّحْرُ ، وَأَكْلُ الرِّبَا وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ } وَفِيهِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ؟ قَالُوا : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ الشِّرْكُ بِاَللَّهِ ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ ، وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فَقَالَ : أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ ، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا } الْحَدِيثَ .
وَقَدْ عَدَّ أَيْضًا مِنْهَا السَّرِقَةَ ، وَوَرَدَ فِي الْحَدِيثِ { مَنْ جَمَعَ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَقَدْ أَتَى بَابًا مِنْ أَبْوَابِ الْكَبَائِرِ } وَقِيلَ الْكَبِيرَةُ مَا فِيهِ حَدٌّ ، وَقِيلَ مَا ثَبَتَتْ حُرْمَتُهُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ ، وَقِيلَ مَا كَانَ حَرَامًا لَعَيْنِهِ .
وَنُقِلَ عَنْ خُوَاهَرْ زَادَهْ أَنَّهَا مَا كَانَ حَرَامًا مَحْضًا مُسَمًّى فِي الشَّرْعِ فَاحِشَةً كَاللِّوَاطَةِ أَوْ لَمْ يُسَمَّ بِهَا لَكِنْ شُرِعَ عَلَيْهَا عُقُوبَةٌ مَحْضَةٌ

بِنَصٍّ قَاطِعٍ ، إمَّا فِي الدُّنْيَا بِالْحَدِّ كَالسَّرِقَةِ وَالزِّنَا وَقَتْلِ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ ، أَوْ الْوَعِيدِ بِالنَّارِ فِي الْآخِرَةِ كَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ ، وَلَا تَسْقُطُ عَدَالَةُ شَارِبِ الْخَمْرِ بِنَفْسِ الشُّرْبِ لِأَنَّ هَذَا الْحَدَّ مَا ثَبَتَ بِنَصٍّ قَاطِعٍ ، إلَّا إذَا دَاوَمَ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ الْعَدَالَةَ تَزُولُ بِالْإِصْرَارِ عَلَى الصَّغَائِرِ فَهَذَا أَوْلَى ، وَهَذَا يُخَالِفُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ عَدِّ شُرْبِ الْخَمْرِ مِنْ الْكَبَائِرِ ، فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ ، وَذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ .
وَفِي الْخُلَاصَةِ بَعْدَ أَنْ نَقَلَ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْكَبِيرَةَ مَا فِيهِ حَدٌّ بِنَصِّ الْكِتَابِ قَالَ : وَأَصْحَابُنَا لَمْ يَأْخُذُوا بِذَلِكَ ، وَإِنَّمَا بَنَوْا عَلَى ثَلَاثَةِ مَعَانٍ : أَحَدُهَا مَا كَانَ شَنِيعًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَفِيهِ هَتْكُ حُرْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى .
وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ فِيهِ مُنَابَذَةٌ لِلْمُرُوءَةِ وَالْكَرَمِ ، وَكُلُّ فِعْلٍ يَرْفُضُ الْمُرُوءَةَ وَالْكَرَمَ فَهُوَ كَبِيرَةٌ .
وَالثَّالِثُ : أَنْ يُصِرَّ عَلَى الْمَعَاصِي وَالْفُجُورِ .
وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا مِنْ عَدَمِ الِانْضِبَاطِ وَعَدَمِ الصِّحَّةِ أَيْضًا .
وَمَا فِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى : الْعَدْلُ مَنْ يَجْتَنِبُ الْكَبَائِرَ كُلَّهَا حَتَّى لَوْ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً تَسْقُطُ عَدَالَتُهُ .
وَفِي الصَّغَائِرِ الْعِبْرَةُ لِلْغَلَبَةِ لِتَصِيرَ كَبِيرَةً حَسَنٌ ، وَنَقَلَهُ عَنْ أَدَبِ الْقَاضِي لِعِصَامٍ وَعَلَيْهِ الْمُعَوَّلُ ، غَيْرَ أَنَّ الْحُكْمَ بِزَوَالِ الْعَدَالَةِ بِارْتِكَابِ الْكَبِيرَةِ يَحْتَاجُ إلَى الظُّهُورِ ، فَلِذَا شَرَطَ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ وَالسُّكْرِ الْإِدْمَانَ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ يَجْلِسُ مَجْلِسَ الْفُجُورِ وَالْمَجَانَةِ عَلَى الشُّرْبِ وَإِنْ لَمْ يَشْرَبْ ، لِأَنَّ اخْتِلَاطَهُ بِهِمْ وَتَرْكَهُ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ يُسْقِطُ عَدَالَتَهُ وَفِي الذَّخِيرَةِ وَالْمُحِيطِ : وَكَذَا الْإِعَانَةُ عَلَى الْمَعَاصِي ، وَالْحَثُّ عَلَيْهَا مِنْ جُمْلَةِ الْكَبَائِرِ .

قَالَ ( وَلَا مَنْ يَدْخُلُ الْحَمَّامَ مِنْ غَيْرِ مِئْزَرٍ ) لِأَنَّ كَشْفَ الْعَوْرَةِ حَرَامٌ .
( قَوْلُهُ وَلَا مَنْ يَدْخُلُ الْحَمَّامَ بِغَيْرِ إزَارٍ لِأَنَّ كَشْفَ الْعَوْرَةِ حَرَامٌ ) وَفِي الذَّخِيرَةِ إذَا لَمْ يُعْرَفْ رُجُوعُهُ عَنْ ذَلِكَ ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ مَنْ مَشَى فِي الطَّرِيقِ بِسَرَاوِيلَ لَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فَلَيْسَ لِلْحُرْمَةِ بَلْ لِأَنَّهُ يُخِلُّ بِالْمُرُوءَةِ .

( أَوْ يَأْكُلُ الرِّبَا أَوْ يُقَامِرُ بِالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ ) .
لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ الْكَبَائِرِ ، وَكَذَلِكَ مَنْ تَفُوتُهُ الصَّلَاةُ لِلِاشْتِغَالِ بِهِمَا ، فَأَمَّا مُجَرَّدُ اللَّعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ فَلَيْسَ بِفِسْقٍ مَانِعٍ مِنْ الشَّهَادَةِ ، لِأَنَّ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ مَسَاغًا .
وَشَرَطَ فِي الْأَصْلِ أَنْ يَكُونَ آكِلُ الرِّبَا مَشْهُورًا بِهِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَلَّمَا يَنْجُو عَنْ مُبَاشَرَةِ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ وَكُلُّ ذَلِكَ رِبَا .

( قَوْلُهُ أَوْ يَأْكُلُ الرِّبَا ، إلَى قَوْلِهِ : وَلَا مَنْ يَفْعَلُ الْأَفْعَالَ الْمُسْتَحْقَرَةَ ) أَمَّا أَكْلُ الرِّبَا فَكَثِيرٌ أَطْلَقُوهُ ، وَقَيَّدَهُ فِي الْأَصْلِ بِأَنْ يَكُونَ مَشْهُورًا بِهِ فَقِيلَ لِأَنَّ مُطْلَقَهُ لَوْ اُعْتُبِرَ مَانِعًا لَمْ يُقْبَلْ شَاهِدٌ لِأَنَّ الْعُقُودَ الْفَاسِدَةَ كُلَّهَا فِي مَعْنَى الرِّبَا وَقَلَّ مَنْ يُبَاشِرُ عُقُودَ الْبِيَاعَاتِ وَيَسْلَمُ دَائِمًا مِنْهُ .
وَقِيلَ لِأَنَّ الرِّبَا لَيْسَ بِحَرَامٍ مَحْضٍ لِأَنَّهُ يُفِيدُ الْمِلْكَ بِالْقَبْضِ كَسَائِرِ الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا مَعَ ذَلِكَ فَكَانَ نَاقِصًا فِي كَوْنِهِ كَبِيرَةً .
وَالْمَانِعُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ مَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى إمْكَانِ ارْتِكَابِ شَهَادَةِ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ حَرَامٌ مَحْضٌ فَالدَّالُّ عَلَيْهَا لَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ كَذَلِكَ ، بِخِلَافِ أَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ حَيْثُ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ بِمَرَّةٍ .
وَقِيلَ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَشْتَهِرْ بِهِ كَانَ الْوَاقِعُ لَيْسَ إلَّا تُهْمَةَ أَكْلِ الرِّبَا وَلَا تَسْقُطُ الْعَدَالَةُ بِهِ .
وَهَذَا أَقْرَبُ وَمَرْجِعُهُ إلَى مَا ذُكِرَ فِي وَجْهِ تَقْيِيدِ شُرْبِ الْخَمْرِ بِالْإِدْمَانِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ مَحْضٍ فَلَا تَعْوِيلَ عَلَيْهِ .
وَالدَّالُّ عَلَى تَجْوِيزِ شَهَادَةِ الزُّورِ مِنْهُ يَكْفِي كَوْنُهُ مُرْتَكِبًا مَحْظُورَ دِينِهِ ؛ أَلَا تَرَى إلَى مَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ إذَا كَانَ الْفَاسِقُ وَجِيهًا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِبُعْدِهِ أَنْ يَشْهَدَ بِالزُّورِ لِوَجَاهَتِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ثُمَّ لَمْ يَرْتَضِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِنَصِّ الْكِتَابِ قَوْله تَعَالَى { إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا } وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَالرِّبَا لَمْ يَخْتَصَّ بِعَقْدٍ عَلَى الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ فِيهِ تَفَاضُلٌ أَوْ نَسِيئَةٌ ، بَلْ أَكْثَرُ مَا كَانُوا عَلَيْهِ .
وَنَزَلَتْ آيَةُ الرِّبَا بِسَبَبِ إقْرَاضِهِمْ الْمِقْدَارَ كَالْمِائَةِ وَغَيْرِهِ بِأَكْثَرَ مِنْهُ أَوْ إلَى أَجَلٍ ، فَإِنْ لَمْ يَقْضِهِ فِيهِ أَرْبَى عَلَيْهِ فَتَزِيدُ الْكَمِّيَّةُ .
وَهَذَا هُوَ الْمُتَدَاوَلُ فِي غَالِبِ الْأَزْمَانِ لَا

بَيْعُ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ فَرُبَّمَا لَا يَتَّفِقُ ذَلِكَ أَصْلًا أَوْ إلَّا قَلِيلًا .
وَأَمَّا أَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ فَلَمْ يُقَيِّدْهُ أَحَدٌ وَنَصُّوا أَنَّهُ بِمَرَّةٍ ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الظُّهُورِ لِلْقَاضِي ، لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا يَرُدُّ بِهِ الْقَاضِي الشَّهَادَةَ فَكَأَنَّهُ بِمَرَّةٍ يَظْهَرُ لِأَنَّهُ يُحَاسَبُ فَيُعْلَمُ أَنَّهُ اسْتَنْقَصَ مِنْ الْمَالِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْفِسْقَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مَانِعٌ شَرْعًا ، غَيْرَ أَنَّ الْقَاضِي لَا يُرَتِّبُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ ظُهُورِهِ لَهُ فَالْكُلُّ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ وَلِذَا نَقُولُ : إذَا عَلِمَ أَنَّهُ يَلْعَبُ بِالنَّرْدِ رَدَّ شَهَادَتَهُ سَوَاءٌ قَامَرَ بِهِ أَوْ لَمْ يُقَامِرْ ، لِمَا فِي حَدِيثِ أَبِي دَاوُد { مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدَشِيرِ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ } وَلَعِبُ الطَّابِ فِي بِلَادِنَا مِثْلَهُ لِأَنَّهُ يَرْمِي وَيَطْرَحُ بِلَا حِسَابٍ وَإِعْمَالِ فِكْرٍ ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ مِمَّا أَحْدَثَهُ الشَّيْطَانُ وَعَمِلَهُ أَهْلُ الْغَفْلَةِ فَهُوَ حَرَامٌ سَوَاءٌ قُومِرَ بِهِ أَوْ لَا .
فَأَمَّا الشِّطْرَنْجُ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي إبَاحَتِهِ ، فَعِنْدَنَا لَا يَجُوزُ ، وَكَذَا عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ لِمَا رَوَيْنَاهُ ، فَإِنَّهُ قَدْ قِيلَ : إنَّ النَّرْدَشِيرَ هُوَ الشِّطْرَنْجُ ، وَلِمَا سَيَأْتِي فِي بَابِ الْكَرَاهَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مَعَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { كُلُّ لَهْوِ الْمُؤْمِنِ بَاطِلٌ إلَّا ثَلَاثَةً : تَأْدِيبَهُ لِفَرَسِهِ ، وَمُنَاضَلَتَهُ عَنْ قَوْسِهِ ، وَمُلَاعَبَتَهُ مِنْ أَهْلِهِ } وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَيْسَ مِنْ اللَّهْوِ إلَّا ثَلَاثٌ : تَأْدِيبُ الرَّجُلِ فَرَسَهُ ، وَمُلَاعَبَتُهُ أَهْلَهُ ، وَرَمْيُهُ بِقَوْسِهِ وَنَبْلِهِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ : يُبَاحُ مَعَ الْكَرَاهَةِ إنْ تَجَرَّدَ عَنْ الْحَلِفِ كَاذِبًا وَالْكَذِبِ عَلَيْهِ وَتَأْخِيرِ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا وَالْمُقَامَرَةِ بِهِ فَلَمَّا كَانَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ مُتَجَرِّدًا مَسَاغٌ لَمْ تَسْقُطُ الْعَدَالَةُ بِهِ .
وَأَمَّا مَا

ذُكِرَ مِنْ أَنَّ مَنْ يَلْعَبُهُ عَلَى الطَّرِيقِ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ فَلِإِتْيَانِهِ الْأُمُورَ الْمُحَقَّرَةَ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الشَّعْبَذَةِ وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى فِي دِيَارِنَا دِكَاكًا لِأَنَّهُ إمَّا سَاحِرٌ أَوْ كَذَّابٌ : أَعْنِي الَّذِي يَأْكُلُ مِنْهَا وَيَتَّخِذُهَا مُكْسِبَةً ، فَأَمَّا مَنْ عَلِمَهَا وَلَمْ يَعْمَلْهَا فَلَا ، وَصَاحِبُ السِّيمَيَا عَلَى هَذَا .

قَالَ ( وَلَا مَنْ يَفْعَلُ الْأَفْعَالَ الْمُسْتَحْقَرَةَ كَالْبَوْلِ عَلَى الطَّرِيقِ وَالْأَكْلِ عَلَى الطَّرِيقِ ) لِأَنَّهُ تَارِكٌ لِلْمُرُوءَةِ ، وَإِذَا كَانَ لَا يَسْتَحْيِ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ عَنْ الْكَذِبِ فَيُتَّهَمُ .

( قَوْلُهُ وَلَا مَنْ يَفْعَلُ الْأَفْعَالَ الْمُسْتَحْقَرَةَ ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُسْتَقْبَحَةِ ، وَفِي بَعْضِهَا الْمُسْتَخِفَّةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي نَفْسِهَا مُحَرَّمَةٌ .
وَالْمُسْتَخَفَّةُ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَكَسْرِهَا : أَيْ الَّتِي يَسْتَخِفُّ النَّاسُ فِعْلَهَا ، أَوْ الْخَصْلَةُ الَّتِي تَسْتَخِفُّ الْفَاعِلَ فَيَبْدُو مِنْهُ مَا لَا يَلِيقُ ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْله تَعَالَى { وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ } وَذَلِكَ ( كَالْأَكْلِ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ ) يَعْنِي بِمَرْأَى النَّاسِ ، وَالْبَوْلِ عَلَيْهَا ، وَمِثْلُهُ الَّذِي يَكْشِفُ عَوْرَتَهُ لِيَسْتَنْجِيَ مِنْ جَانِبِ بِرْكَةٍ وَالنَّاسُ حُضُورٌ ، وَقَدْ كَثُرَ ذَلِكَ فِي دِيَارِنَا مِنْ الْعَامَّةِ وَبَعْضِ مَنْ لَا يَسْتَحْيِ مِنْ الطَّلَبَةِ ، وَالْمَشْيِ بِسَرَاوِيلَ فَقَطْ ، وَمَدِّ رِجْلِهِ عِنْدَ النَّاسِ ، وَكَشْفِ رَأْسِهِ فِي مَوْضِعٍ يُعَدُّ فِعْلُهُ خِفَّةً وَسُوءَ أَدَبٍ وَقِلَّةَ مُرُوءَةٍ وَحَيَاءٍ ، لِأَنَّ مَنْ يَكُونُ كَذَلِكَ لَا يَبْعُدُ مِنْهُ أَنْ يَشْهَدَ بِالزُّورِ .
وَفِي الْحَدِيثِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسَ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى إذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ } وَعَنْ الْكَرْخِيِّ : لَوْ أَنَّ شَيْخًا صَارَعَ الْأَحْدَاثَ فِي الْجَامِعِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ لِأَنَّهُ سَخَفٌ .
وَأَمَّا أَهْلُ الصِّنَاعَاتِ الدَّنِيئَةِ كَالْكَسَّاحِ وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى فِي عُرْفِ دِيَارِ مِصْرَ قَنَوَاتِيًّا ، وَالزَّبَّالِ وَالْحَائِكِ وَالْحَجَّامِ فَقِيلَ لَا تُقْبَلُ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ ، وَوُجِّهَ بِكَثْرَةِ خَلْفِهِمْ الْوَعْدَ وَكَذِبِهِمْ ، وَرَأَيْت أَكْثَرَ مُخْلِفٍ لِلْوَعْدِ السَّمْكَرِيُّ .
وَالْأَصَحُّ تُقْبَلُ لِأَنَّهَا قَدْ تَوَلَّاهَا قَوْمٌ صَالِحُونَ ، فَمَا لَمْ يُعْلَمْ الْقَادِحُ لَا يُبْنَى عَلَى ظَاهِرِ الصِّنَاعَةِ ، وَمِثْلُهُ النَّخَّاسُونَ وَالدَّلَّالُونَ فَإِنَّهُمْ يَكْذِبُونَ كَثِيرًا زِيَادَةً عَلَى غَيْرِهِمْ مَعَ خَلْفِهِمْ فَلَا يُقْبَلُ إلَّا مَنْ عُلِمَ عَدَالَتُهُ مِنْهُمْ .
وَقِيلَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ بَائِعِ

الْأَكْفَانِ .
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ : هَذَا إذَا تَرَصَّدَ لِذَلِكَ الْعَمَلِ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ يَبِيعُ الثِّيَابَ وَيُشْتَرَى مِنْهُ الْأَكْفَانُ فَتُقْبَلُ لِعَدَمِ تَمَنِّيهِ الْمَوْتَ لِلنَّاسِ وَالطَّاعُونِ .
وَقِيلَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الصَّكَّاكِينَ لِأَنَّهُمْ يَكْتُبُونَ هَذَا مَا اشْتَرَى فُلَانٌ أَوْ بَاعَ أَوْ أَجَّرَ وَقَبَضَ الْمَبِيعَ قَبْلَ وُقُوعِهِ فَيَكُونُ كَذِبًا ، وَلَا فَرْقَ فِي الْكَذِبِ بَيْنَ الْقَوْلِ وَالْكِتَابَةِ .
وَالصَّحِيحُ تُقْبَلُ إذَا كَانَ غَالِبُ أَحْوَالِهِمْ الصَّلَاحَ ، فَإِنَّهُمْ غَالِبًا إنَّمَا يَكْتُبُونَ بَعْدَ صُدُورِ الْعَقْدِ وَقَبْلَ صُدُورِهِ يَكْتُبُونَ عَلَى الْمَجَازِ تَنْزِيلًا لَهُ مَنْزِلَةَ الْوَاقِعِ لِيَسْتَغْنُوا عَنْ الْكِتَابَةِ إذَا صَدَرَ الْمَعْنَى بَعْدَهَا .
وَرَدَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ شَهَادَةَ الْقَرَوِيِّ وَالْأَعْرَابِيِّ ، وَعَامَّةُ الْعُلَمَاءِ تَقْبَلُ إلَّا بِمَانِعٍ غَيْرِهِ .
وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الطُّفَيْلِيِّ وَالرَّقَّاصِ وَالْمُجَازِفِ فِي كَلَامِهِ وَالْمَسْخَرَةِ بِلَا خِلَافٍ .
وَفِي الْحَدِيثِ { وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ وَيَكْذِبُ كَيْ يَضْحَكَ مِنْهُ النَّاسُ ، وَيْلٌ لَهُ وَيْلٌ لَهُ } وَقَالَ نُصَيْرُ بْنُ يَحْيَى : مَنْ يَشْتُمُ أَهْلَهُ وَمَمَالِيكَهُ كَثِيرًا فِي كُلِّ سَاعَةٍ لَا تُقْبَلُ وَإِنْ كَانَ أَحْيَانًا تُقْبَلُ ، وَكَذَا الشَّتَّامُ لِلْحَيَوَانِ كَدَابَّتِهِ ، وَأَمَّا فِي دِيَارِنَا فَكَثِيرًا يَشْتُمُونَ بَائِعَ الدَّابَّةِ فَيَقُولُونَ قَطَعَ اللَّهُ يَدَ مَنْ بَاعَكِ ، وَلَا مَنْ يَحْلِفُ فِي كَلَامِهِ كَثِيرًا وَنَحْوِهِ .
وَحُكِيَ أَنَّ الْفَضْلَ بْنَ الرَّبِيعِ شَهِدَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَرَدَّ شَهَادَتَهُ فَشَكَاهُ إلَى الْخَلِيفَةِ ، فَقَالَ الْخَلِيفَةُ : إنَّ وَزِيرِي رَجُلُ دِينٍ لَا يَشْهَدُ بِالزُّورِ فَلِمَ رَدَدْت شَهَادَتَهُ ؟ قَالَ : لِأَنِّي سَمِعْتَهُ يَوْمًا قَالَ لِلْخَلِيفَةِ : أَنَا عَبْدُك ، فَإِنْ كَانَ صَادِقًا فَلَا شَهَادَةَ لِلْعَبْدِ ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَكَذَلِكَ ، فَعَذَرَهُ الْخَلِيفَةُ .
وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّ رَدَّ أَبِي يُوسُفَ شَهَادَتَهُ لَيْسَ لِكَذِبِهِ ، لِأَنَّ قَوْلَ الْحُرِّ لِغَيْرِهِ

أَنَا عَبْدُك مَجَازٌ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْقِيَامِ بِخِدْمَتِكَ ، وَكَوْنِي تَحْتَ أَمْرِكَ مُمْتَثِلًا لَهُ عَلَى إهَانَةِ نَفْسِي فِي ذَلِكَ وَالتَّكَلُّمُ بِالْمَجَازِ عَلَى اعْتِبَارِ الْجَامِعِ وَوَجْهِ الشَّبَهِ لَيْسَ كَذِبًا مَحْظُورًا شَرْعًا وَلِذَا وَقَعَ الْمَجَازُ فِي الْقُرْآنِ ، وَلَكِنْ رَدَّهُ لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ خُصُوصُ هَذَا الْمَجَازِ مِنْ إذْلَالِ نَفْسِهِ وَتَمَلُّقِهِ لِأَجْلِ الدُّنْيَا فَرُبَّمَا يَعِزُّ هَذَا الْكَلَامُ إذَا قِيلَ لِلْخَلِيفَةِ فَعَدَلَ إلَى الِاعْتِذَارِ بِأَمْرٍ يَقْرُبُ مِنْ خَاطِرِهِ .
وَالْحَاصِلُ فِيهِ أَنَّ تَرْكَ الْمُرُوءَةِ مُسْقِطٌ لِلْعَدَالَةِ .
وَقِيلَ فِي تَعْرِيفِ الْمُرُوءَةِ أَنْ لَا يَأْتِي الْإِنْسَانُ بِمَا يَعْتَذِرُ مِنْهُ مِمَّا يَبْخَسُهُ عَنْ مَرْتَبَتِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْفَضْلِ .
وَقِيلَ السَّمْتُ الْحَسَنُ وَحِفْظُ اللِّسَانِ وَتَجَنُّبُ السُّخْفِ وَالْمُجُونِ وَالِارْتِفَاعُ عَنْ كُلِّ خُلُقٍ دَنِيءٍ .
وَالسُّخْفُ : رِقَّةُ الْعَقْلِ مِنْ قَوْلِهِمْ ثَوْبٌ سَخِيفٌ إذَا كَانَ قَلِيلَ الْغَزْلِ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْبَخِيلِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : إنْ أَفْرَطَ لِأَنَّهُ يُؤَدِّيهِ إلَى مَنْعِ الْحُقُوقِ .

( وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ يُظْهِرُ سَبَّ السَّلَفِ ) لِظُهُورِ فِسْقِهِ بِخِلَافِ مَنْ يَكْتُمُهُ .
( قَوْلُهُ وَلَا مَنْ يُظْهِرُ سَبَّ السَّلَفِ ) كَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ، وَمِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَكَذَا الْعُلَمَاءُ .
وَنَصَّ أَبُو يُوسُفَ عَلَى عَدَمِ قَبُولِهِ ، قَالَ : لِأَنَّهُ إذَا أَظْهَرَ سَبَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ تَسْقُطُ عَدَالَتُهُ ، فَإِذَا أَظْهَرَ فِي وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ كَيْفَ يَكُونُ مَقْبُولًا ، وَقَيَّدَ بِالْإِظْهَارِ لِأَنَّهُ لَوْ اعْتَقَدَهُ وَلَمْ يُظْهِرْ فَهُوَ عَلَى عَدَالَتِهِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ ، وَلِذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ : لَا أَقْبَلُ شَهَادَةَ مَنْ يَشْتُمُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَقْبَلُ شَهَادَةَ مَنْ يَتَبَرَّأُ مِنْهُمْ ، لِأَنَّ إظْهَارَ الشَّتِيمَةِ مُجُونَةٌ وَسَفَهٌ وَلَا يَأْتِي بِهِ إلَّا الْأَوْضَاعُ وَالْأَسْقَاطُ ، وَشَهَادَةُ السَّخِيفِ لَا تُقْبَلُ ، وَلَا كَذَلِكَ الْمُتَبَرِّئُ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُهُ دِينًا مَرَضِيًّا عِنْدَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ عَلَى بَاطِلٍ فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَشَهَادَةُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ جَائِزَةٌ .

( وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ إلَّا الْخَطَّابِيَّةُ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا تُقْبَلُ لِأَنَّهُ أَغْلَظُ وُجُوهُ الْفِسْقِ .
وَلَنَا أَنَّهُ فِسْقٌ مِنْ حَيْثُ الِاعْتِقَادُ وَمَا أَوْقَعَهُ فِيهِ إلَّا تَدَيُّنُهُ بِهِ وَصَارَ كَمَنْ يَشْرَبُ الْمُثَلَّثَ أَوْ يَأْكُلُ مَتْرُوكَ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا مُسْتَبِيحًا لِذَلِكَ ، بِخِلَافِ الْفِسْقِ مِنْ حَيْثُ التَّعَاطِي .
أَمَّا الْخَطَّابِيَّةُ فَهُمْ مِنْ غُلَاةِ الرَّوَافِضِ يَعْتَقِدُونَ الشَّهَادَةَ لِكُلِّ مَنْ حَلَفَ عِنْدَهُمْ .
وَقِيلَ يَرَوْنَ الشَّهَادَةَ لِشِيعَتِهِمْ وَاجِبَةً فَتَمَكَّنَتْ التُّهْمَةُ فِي شَهَادَتِهِمْ .

( قَوْلُهُ وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ ) كُلُّهُمْ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالْخَوَارِجِ .
وَسَائِرُهُمْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ عَلَى مِثْلِهِمْ وَعَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ ، إلَّا الْخَطَّابِيَّةُ وَهُمْ طَائِفَةٌ مِنْ الرَّوَافِضِ لَا لِخُصُوصِ بِدْعَتِهِمْ وَهَوَاهُمْ بَلْ لِتُهْمَةِ الْكَذِبِ ، لِمَا نُقِلَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ لِمَنْ حَلَفَ لَهُمْ أَنَّهُ مُحِقٌّ أَوْ يَرَوْنَ وُجُوبَ الشَّهَادَةِ لِمَنْ كَانَ عَلَى رَأْيِهِمْ ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ ، فَمَنَعَ قَبُولَ شَهَادَتِهِمْ لِشِيعَتِهِمْ لِذَلِكَ وَلِغَيْرِ شِيعَتِهِمْ لِلْأَمْرِ الْأَوَّلِ .
وَمَا نَقَلَهُ الْمُصَنِّفُ عَنْ الشَّافِعِيِّ هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَامِدٍ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ .
وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فَكَقَوْلِنَا بِلَا اخْتِلَافٍ .
وَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ مَا ذُكِرَ أَنَّ الْبِدْعَةَ فِي الِاعْتِقَادِ مِنْ أَعْظَمِ الْفُسُوقِ فَوَجَبَ رَدُّ شَهَادَتِهِ بِالْآيَةِ .
وَلَنَا أَنَّ صَاحِبَ الْهَوَى مُسْلِمٌ غَيْرُ مُتَّهَمٍ بِالْكَذِبِ لِتَدَيُّنِهِ بِتَحْرِيمِهِ حَتَّى أَنَّهُ رُبَّمَا يَكْفُرُ بِهِ كَالْخَوَارِجِ فَهُوَ أَبْعَدُ مِنْ التُّهْمَةِ بِهِ .
وَأَمَّا الْآيَةُ فَإِنَّهَا مَخْصُوصَةٌ بِالْفِسْقِ مِنْ حَيْثُ الِاعْتِقَادُ مَعَ الْإِسْلَامِ .
فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهَا الْفِسْقَ الْفِعْلِيَّ ، وَلِذَا قَالَ مُحَمَّدٌ بِقَبُولِ شَهَادَةِ الْخَوَارِجِ إذَا اعْتَقَدُوا وَلَمْ يُقَاتِلُوا ، فَإِذَا قَاتَلُوا رُدَّتْ شَهَادَتُهُمْ لِإِظْهَارِ الْفِسْقِ بِالْفِعْلِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى التَّخْصِيصِ اتِّفَاقُنَا عَلَى قَبُولِ رِوَايَاتِهِمْ لِلْحَدِيثِ .
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ كَثِيرٌ مِنْهُمْ مَعَ اعْتِمَادِهِ الْغُلُوَّ فِي الصِّحَّةِ مَعَ أَنَّ قَبُولَ الرِّوَايَةِ أَيْضًا مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ الْفِسْقِ بِظَاهِرِهَا وَبِالْمَعْنَى ، وَهُوَ أَنَّ رَدَّ شَهَادَةِ الْفَاسِقِ لِتُهْمَةِ الْكَذِبِ وَذَلِكَ مُنْتَفٍ فِيهِمْ .
وَالْخَطَّابِيَّةُ نِسْبَةٌ إلَى أَبِي الْخَطَّابِ وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ الْأَجْدَعُ ، وَقِيلَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي زَيْنَبَ الْأَسَدِيُّ الْأَجْدَعُ .
وَخَرَجَ أَبُو الْخَطَّابِ

بِالْكُوفَةِ وَحَارَبَ عِيسَى بْنَ مُوسَى بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَأَظْهَرَ الدَّعْوَةَ إلَى جَعْفَرَ فَتَبَرَّأَ مِنْهُ جَعْفَرُ وَدَعَا عَلَيْهِ فَقُتِلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ قَتَلَهُ وَصَلَبَهُ عِيسَى بِالْكَنَائِسِ .

قَالَ ( وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ ) وَإِنْ اخْتَلَفَتْ مِلَلُهُمْ .
( وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : لَا تُقْبَلُ لِأَنَّهُ فَاسِقٌ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ } ) فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ فِي خَبَرِهِ ، وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَى الْمُسْلِمِ فَصَارَ كَالْمُرْتَدِّ .
وَلَنَا مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَجَازَ شَهَادَةَ النَّصَارَى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ، وَلِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ عَلَى نَفْسِهِ وَأَوْلَادِهِ الصِّغَارِ فَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ عَلَى جِنْسِهِ ، وَالْفِسْقُ مِنْ حَيْثُ الِاعْتِقَادُ غَيْرُ مَانِعٍ لِأَنَّهُ يَجْتَنِبُ مَا يَعْتَقِدُهُ مُحَرَّمَ دِينِهِ ، وَالْكَذِبُ مَحْظُورُ الْأَدْيَانِ ، بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ ، وَبِخِلَافِ شَهَادَةِ الذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ بِالْإِضَافَةِ إلَيْهِ ، وَلِأَنَّهُ يَتَقَوَّلُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يَغِيظُهُ قَهْرُهُ إيَّاهُ ، وَمِلَلُ الْكُفْرِ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ فَلَا قَهْرَ فَلَا يَحْمِلُهُمْ الْغَيْظُ عَلَى التَّقَوُّلِ .

( قَوْلُهُ وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ ) قَيَّدَ بِهَا لِتَخْرُجَ شَهَادَتُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِ ، وَيَدْخُلُ فِي اللَّفْظِ شَهَادَةُ أَهْلِ مِلَّةٍ مِنْهُمْ عَلَى أَهْلِ مِلَّةٍ أُخْرَى وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ مِلَلُهُمْ احْتَرَزَ بِهِ عَنْ قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَأَبِي عُبَيْدٍ أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ مَعَ اخْتِلَافِ الْمِلَّةِ كَشَهَادَةِ الْيَهُودِيِّ عَلَى النَّصْرَانِيِّ وَعَكْسِهِ وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : لَا تُقْبَلُ أَصْلًا لِأَنَّهُ فَاسِقٌ ، قَالَ تَعَالَى { وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ } ) وَوَقَعَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نُسَخِ الْهِدَايَةِ : وَالْكَافِرُونَ هُمْ الْفَاسِقُونَ .
وَفِي النِّهَايَةِ النُّسْخَةُ الْمُصَحَّحَةُ بِتَصْحِيحٍ بِخَطِّ شَيْخِي قَالَ تَعَالَى لِلْكَافِرِينَ : هُمْ الْفَاسِقُونَ إذْ الَّذِي فِي الْقُرْآنِ { وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ } ( فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ فِي خَبَرِهِ ، وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَى الْمُسْلِمِ فَصَارَ كَالْمُرْتَدِّ ) بِذَلِكَ الْجَامِعِ ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } وَقَالَ { مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ } وَالْكَافِرُ لَيْسَ ذَا عَدْلٍ وَلَا مَرَضِيًّا وَلَا مِنَّا ، وَلِأَنَّا لَوْ قَبِلْنَا شَهَادَتَهُمْ لَأَوْجَبْنَا الْقَضَاءَ عَلَى الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمْ وَلَا يَلْزَمُ عَلَى الْمُسْلِمِ شَيْءٌ بِقَوْلِهِمْ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَلَنَا مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَازَ شَهَادَةَ النَّصَارَى بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } ) قَالَ الْإِمَامُ : الْمَخْرَجُ غَرِيبٌ وَغَيْرُ مُطَابِقٍ لِلْمُدَّعَى ، وَهُوَ أَنَّ شَهَادَةَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ جَائِزَةٌ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ مِلَلُهُمْ ، وَلَوْ قَالَ أَهْلِ الْكِتَابِ عِوَضَ النَّصَارَى وَافَقَ ، وَهَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ مُجَالِدٍ عَنْ الشُّعَبِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَازَ شَهَادَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ } وَمُجَالِدٌ فِيهِ مَقَالٌ .
ثُمَّ قَالَ شَيْخُنَا عَلَاءُ

الدِّينِ : وَيُوجَدُ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْهِدَايَةِ الْيَهُودِ عِوَضَ النَّصَارَى ، وَذَكَرَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِهَذَا الْإِسْنَادِ { جَاءَتْ الْيَهُودُ بِرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ مِنْهُمْ زَنَيَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : ائْتُونِي بِأَعْلَمَ رَجُلَيْنِ مِنْكُمْ ، فَأَتَوْهُ بِابْنَيْ صُورِيَّا ، فَنَشَدَهُمَا اللَّهَ كَيْفَ تَجِدَانِ أَمْرَ هَذَيْنِ فِي التَّوْرَاةِ ؟ قَالَا : نَجِدُ فِيهَا إذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ مِنْكُمْ أَنَّهُمْ إذَا رَأَوْا ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا كَالْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ رُجِمَا ، قَالَ : فَمَا يَمْنَعُكُمَا أَنْ تَرْجُمُوهُمَا ؟ قَالَا : ذَهَبَ سُلْطَانُنَا فَكَرِهْنَا الْقَتْلَ ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشُّهُودِ فَجَاءُوا بِأَرْبَعَةٍ فَشَهِدُوا أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا كَالْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجْمِهِمَا } قَالَ : هَكَذَا وَجَدْتَهُ فِي نُسْخَةِ عَلَاءِ الدِّينِ يَدُهُ ، وَهُوَ تَصْحِيفٌ ، وَإِنَّمَا هُوَ فَدَعَا بِالشُّهُودِ بِخَطٍّ كَشَفْتَهُ مِنْ نَحْوِ عِشْرِينَ نُسْخَةً ، وَكَذَا رَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَأَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ وَالْبَزَّارُ فِي مَسَانِيدِهِمْ وَالدَّارَقُطْنِيّ كُلُّهُمْ قَالُوا : فَدَعَا بِالشُّهُودِ .
قَالَ فِي التَّنْقِيحِ : قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ " فَدَعَا بِالشُّهُودِ فَشَهِدُوا " زِيَادَةٌ فِي الْحَدِيثِ تَفَرَّدَ بِهَا مُجَالِدٌ وَلَا يُحْتَجَّ بِمَا تَفَرَّدَهُ بِهِ انْتَهَى كَلَامُهُ .
لَكِنَّ الطَّحَاوِيَّ أَسْنَدَهُ إلَى عَامِرِ الشَّعْبِيِّ عَنْ جَابِرٍ ، وَفِيهِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { ائْتُونِي بِأَرْبَعَةٍ مِنْكُمْ يَشْهَدُونَ } ثُمَّ قَوْلُ الْقَائِلِ لَا يُقْبَلُ مَا تَفَرَّدَ بِهِ مُجَالِدٌ يَجْرِي فِيهِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الرَّاوِيَ الْمُضَعَّفَ إذَا قَامَتْ دَلَالَةٌ عَلَى صِحَّةِ مَا رَوَاهُ حُكِمَ بِهِ لِارْتِفَاعِ وَهْمِ الْغَلَطِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ رَجْمَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ بِنَاءً عَلَى مَا سَأَلَ مِنْ حُكْمِ التَّوْرَاةِ فِيهِمَا .
وَأُجِيبَ بِهِ مِنْ أَنَّ

حُكْمَهَا الرَّجْمُ بِشَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ إذْ هُوَ يُوَافِقُ مَا أُنْزِلَ إلَيْهِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ بَنَى عَلَى شَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مِنْهُمْ وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ ، لِأَنَّ الْقِصَّةَ كَانَتْ فِيمَا بَيْنَ يَهُودٍ فِي مَحَالِّهِمْ وَأَمَاكِنِهِمْ ، فَهَذِهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مُجَالِدًا لَمْ يَغْلَطْ فِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ .
وَأَنْتَ عَلِمْتَ فِي مَسْأَلَةِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ أَنَّ مُرَادَ الْآيَةِ فِسْقُ الْأَفْعَالِ لِأَنَّهُ الَّذِي يُتَّهَمُ صَاحِبُهُ بِالْكَذِبِ لَا الِاعْتِقَادُ ، إلَّا أَنَّ شَهَادَتَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ نُسِخَتْ قَوْله تَعَالَى { وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا } فَبَقِيَتْ عَلَى بَعْضِهِمْ بَعْضًا .
ثُمَّ اسْتَدَلَّ بِالْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ الذِّمِّيَّ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ عَلَى جِنْسِهِ بِدَلِيلِ وِلَايَتِهِ عَلَى أَوْلَادِهِ الصِّغَارِ وَمَمَالِيكِهِ فَجَازَتْ شَهَادَتُهُ عَلَى جِنْسِهِ ، بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ إذْ لَا وِلَايَةَ لَهُ أَصْلًا فَلَا شَهَادَةَ لَهُ ، وَلِأَنَّهُ يَتَقَوَّلُ عَلَى الْمُسْلِمِ لِغَيْظِهِ بِقَهْرِهِ فَكَانَ مُتَّهَمًا فِيهِ ، بِخِلَافِ أَهْلِ مِلَّةٍ عَلَى أَهْلِ مِلَّةٍ أُخْرَى ، وَلِأَنَّهُ وَإِنْ عَادَاهُ لَيْسَ أَحَدُهُمْ تَحْتَ قَهْرِ الْآخَرِ فَلَا حَامِلَ عَلَى التَّقَوُّلِ عَلَيْهِ ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ إذْ مُجَرَّدُ الْعَدَاوَةِ مَانِعٌ مِنْ الْقَبُولِ كَمَا فِي مُسْلِمٍ يُعَادِي مُسْلِمًا ثُمَّ يُشَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى حَدِيثٌ مُضَعَّفٌ بِعُمَرَ بْنِ رَاشِدٍ ، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَابْنُ عَدِيٍّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ مِلَّةٍ عَلَى مِلَّةٍ إلَّا مِلَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهَا تَجُوزُ عَلَى مِلَّةِ غَيْرِهِمْ } وَأَيْضًا فَقَوْلُ الرَّاوِيِّ أَجَازَ شَهَادَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حِكَايَةَ وَاقِعَةِ حَالٍ شَهِدَ فِيهَا بَعْضُ الْيَهُودِ عَلَى بَعْضٍ أَوْ بَعْضُ النَّصَارَى عَلَى بَعْضٍ

فَلَا عُمُومَ لَهَا ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ حِكَايَةُ تَشْرِيعٍ قَوْلِيٍّ فَيَعُمُّ شَهَادَةَ الْمِلَّتَيْنِ مِلَّةٍ عَلَى مِلَّةٍ فَلَا نَحْكُمُ بِأَحَدِهِمَا عَيْنًا ، غَيْرَ أَنَّ فِي هَذِهِ خِلَافًا فِي الْأُصُولِ ، وَرُجِّحَ الثَّانِي وَهُوَ مَسْأَلَةُ قَوْلِ الرَّاوِي { قَضَى بِالشُّفْعَةِ لِلْجَارِ } .

قَالَ ( وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْحَرْبِيِّ عَلَى الذِّمِّيِّ ) أَرَادَ بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الْمُسْتَأْمَنُ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا وَهُوَ أَعْلَى حَالًا مِنْهُ ، وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الذِّمِّيِّ عَلَيْهِ كَشَهَادَةِ الْمُسْلِمِ عَلَيْهِ وَعَلَى الذِّمِّيِّ ( وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُسْتَأْمَنِينَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ إذَا كَانُوا مِنْ أَهْلِ دَارٍ وَاحِدَةٍ ، فَإِنْ كَانُوا مِنْ دَارَيْنِ كَالرُّومِ وَالتُّرْكِ لَا تُقْبَلُ ) لِأَنَّ اخْتِلَافَ الدَّارَيْنِ يَقْطَعُ الْوِلَايَةَ وَلِهَذَا يَمْنَعُ التَّوَارُثَ ، بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا ، وَلَا كَذَلِكَ الْمُسْتَأْمَنُ .
( قَوْلُهُ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْحَرْبِيِّ عَلَى الذِّمِّيِّ ) أَرَادَ بِهِ الْمُسْتَأْمَنَ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ غَيْرُهُ ، فَإِنَّ الْحَرْبِيَّ لَوْ دَخَلَ بِلَا أَمَانٍ قَهْرًا اُسْتُرِقَّ ، وَلَا شَهَادَةَ لِلْعَبْدِ عَلَى أَحَدٍ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ أَعْلَى مِنْ الْمُسْتَأْمَنِ لِأَنَّهُ قِيلَ خَلْفَ الْإِسْلَامِ وَهُوَ الْجِزْيَةُ فَهُوَ أَقْرَبُ إلَى الْإِسْلَامِ مِنْهُ ، وَلِهَذَا يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ عِنْدَنَا لَا بِالْمُسْتَأْمَنِ ، وَقَوْلُهُ بِخِلَافِ الَّذِي مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ فَإِنْ كَانُوا مِنْ دَارَيْنِ : يَعْنِي تُقْبَلُ شَهَادَةُ الذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ وَإِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ دَارَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ صَارَ كَالْمُسْلِمِ وَشَهَادَةُ الْمُسْلِمِ تُقْبَلُ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ فَكَذَا الذِّمِّيُّ ، وَإِنَّمَا لَا يَجْرِي التَّوَارُثُ بَيْنَ الذِّمِّيِّ وَالْمُسْتَأْمَنِ لِأَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعَامَلَاتِ وَالشَّهَادَةُ مِنْهَا وَمِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ فِي الْإِرْثِ وَالْمَالِ .

( وَإِنْ كَانَتْ الْحَسَنَاتُ أَغْلَبُ مِنْ السَّيِّئَاتِ وَالرَّجُلُ مِمَّنْ يَجْتَنِبُ الْكَبَائِرَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ وَإِنْ أَلَمَّ بِمَعْصِيَةٍ ) هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي حَدِّ الْعَدَالَةِ الْمُعْتَبَرَةِ ، إذْ لَا بُدَّ مِنْ تَوَقِّي الْكَبَائِرِ كُلِّهَا وَبَعْدَ ذَلِكَ يُعْتَبَرُ الْغَالِبُ كَمَا ذَكَرْنَا ، فَأَمَّا الْإِلْمَامُ بِمَعْصِيَةٍ لَا تَنْقَدِحُ بِهِ الْعَدَالَةُ الْمَشْرُوطَةُ فَلَا تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ الْمَشْرُوعَةُ لِأَنَّ فِي اعْتِبَارِ اجْتِنَابِهِ الْكُلَّ سَدَّ بَابِهِ وَهُوَ مَفْتُوحٌ إحْيَاءً لِلْحُقُوقِ .

( قَوْلُهُ وَإِذَا كَانَتْ الْحَسَنَاتُ أَغْلَبَ مِنْ السَّيِّئَاتِ وَالرَّجُلُ مِمَّنْ يَجْتَنِبُ الْكَبَائِرَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ ) هَذَا هُوَ مَعْنَى الْمَرْوِيِّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي حَدِّ الْعَدَالَةِ وَهُوَ أَحْسَنُ مَا قِيلَ ، وَفِيهِ قُصُورٌ حَيْثُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِأَمْرِ الْمُرُوءَةِ بَلْ اقْتَصَرَ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَعَاصِي .
وَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ هُوَ قَوْلُهُ أَنْ لَا يَأْتِي بِكَبِيرَةٍ وَلَا يُصِرَّ عَلَى صَغِيرَةٍ وَيَكُونُ سَتْرُهُ أَكْثَرَ مِنْ هَتْكِهِ وَصَوَابُهُ أَكْثَرَ مِنْ خَطَئِهِ وَمُرُوءَتُهُ ظَاهِرَةٌ وَيَسْتَعْمِلُ الصِّدْقَ وَيَجْتَنِبُ الْكَذِبَ دِيَانَةً وَمُرُوءَةً .
هَكَذَا نَقَلَهُ عَنْهُ الْقَاضِي أَبُو حَازِمٍ حِينَ سَأَلَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ وَزِيرُ الْمُعْتَضِدِ عَنْ الْعَدَالَةِ فَقَالَ : أَحْسَنُ مَا نُقِلَ فِي هَذَا الْبَابِ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ يَعْقُوبَ بْنِ إبْرَاهِيمَ الْأَنْصَارِيِّ الْقَاضِي .
ثُمَّ ذَكَرَ ذَلِكَ ، وَكَانَ يَكْفِيهِ إلَى قَوْلِهِ وَمُرُوءَةٌ ظَاهِرَةٌ .
وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ ( فَأَمَّا الْإِلْمَامُ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا تَنْقَدِحُ بِهِ الْعَدَالَةُ ) يُرِيدُ الصَّغِيرَةَ ، وَلَفْظُ الْإِلْمَامِ وَأَلَمَّ قَدْ اشْتَهَرَ فِي الصَّغِيرَةِ .
وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ خِرَاشٍ وَهُوَ يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ : إنْ تَغْفِرْ اللَّهُمَّ تَغْفِرْ جَمَّا وَأَيُّ عَبْدٍ لَك لَا أَلَمَّا هَكَذَا أَوْرَدَهُ الْعُتْبِيُّ عَنْهُ بِسَنَدِهِ ، وَنَسَبَهُ الْخَطَّابِيُّ إلَى أُمَيَّةَ ، وَنِسْبَةُ صَاحِبِ الذَّخِيرَةِ إيَّاهُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَلَطٌ .
وَلَا بَأْسَ بِذِكْرِ أَفْرَادٍ نَصَّ عَلَيْهَا : مِنْهَا تَرْكُ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ بَعْدَ كَوْنِ الْإِمَامِ لَا طَعْنَ عَلَيْهِ فِي دِينٍ وَلَا حَالٍ وَإِنْ كَانَ مُتَأَوِّلًا فِي تَرْكِهَا كَأَنْ يَكُونَ مُعْتَقِدًا فَضِيلَةَ أَوَّلِ الْوَقْتِ وَالْإِمَامُ يُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ لَا تَسْقُطُ عَدَالَتُهُ بِالتَّرْكِ ، وَكَذَا بِتَرْكِ الْجُمُعَةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَسْقَطَهَا بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ كَالْحَلْوَانِيِّ ، وَمِنْهُمْ مَنْ شَرَطَ

ثَلَاثَ مَرَّاتٍ كَالسَّرَخْسِيِّ ، وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ .
وَذَكَرَ الْإِسْبِيجَابِيُّ : مَنْ أَكَلَ فَوْقَ الشِّبَعِ سَقَطَتْ عَدَالَتُهُ عِنْدَ الْأَكْثَرِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ فِي غَيْرِ إرَادَةِ التَّقَوِّي عَلَى صَوْمِ الْغَدِ أَوْ مُؤَانَسَةِ الضَّيْفِ ، وَكَذَا مَنْ خَرَجَ لِرُؤْيَةِ السُّلْطَانِ أَوْ الْأَمِيرِ عِنْدَ قُدُومِهِ .
وَرَدَّ شَدَّادُ شَهَادَةَ شَيْخٍ صَالِحٍ لِمُحَاسَبَتِهِ ابْنَهُ فِي نَفَقَةِ طَرِيقِ مَكَّةَ كَأَنَّهُ رَأَى مِنْهُ تَضْيِيقًا وَمُشَاحَحَةً فَشَهِدَ مِنْهُ الْبُخْلَ .
وَذَكَرَ الْخَصَّافُ أَنَّ رُكُوبَ الْبَحْرِ لِلتِّجَارَةِ أَوْ لِلتَّفَرُّجِ يُسْقِطُ الْعَدَالَةَ ، وَكَذَا التِّجَارَةُ إلَى أَرْضِ الْكُفَّارِ وَقُرَى فَارِسٍ وَنَحْوِهَا لِأَنَّهُ مُخَاطِرٌ بِدِينِهِ وَنَفْسِهِ لِنَيْلِ الْمَالِ فَلَا يُؤْمَنُ أَنْ يَكْذِبَ لِأَجْلِ الْمَالِ ، وَتُرَدُّ شَهَادَةُ مَنْ لَمْ يَحُجَّ إذَا كَانَ مُوسِرًا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَاهُ عَلَى الْفَوْرِ ، وَكَذَا مَنْ لَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ ، وَبِهِ أَخَذَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ ، وَكُلُّ مَنْ شَهِدَ عَلَى إقْرَارٍ بَاطِلٍ وَكَذَا عَلَى فِعْلٍ بَاطِلٍ ، مِثْلُ مِنْ يَأْخُذُ سُوقَ النَّخَّاسِينَ مُقَاطَعَةً وَأَشْهَدَ عَلَى وَثِيقَتِهَا شُهُودًا .
قَالَ الْمَشَايِخُ : إنْ شَهِدُوا حَلَّ لَهُمْ اللَّعْنُ لِأَنَّهُ شَهَادَةٌ عَلَى بَاطِلٍ فَكَيْفَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ عِنْدَ مُبَاشِرِي السُّلْطَانِ عَلَى ضَمَانِ الْجِهَاتِ وَالْإِجَارَاتِ الضَّارَّةِ وَعَلَى الْمَحْبُوسِينَ عِنْدَهُمْ وَاَلَّذِينَ فِي تَرْسِيمِهِمْ .

قَالَ ( وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَقْلَفِ ) لِأَنَّهُ لَا يُخِلُّ بِالْعَدَالَةِ إلَّا إذَا تَرَكَهُ اسْتِخْفَافًا بِالدِّينِ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ بِهَذَا الصَّنِيعِ عَدْلًا .
( قَوْلُهُ وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَقْلَفِ ) .
نَصَّ عَلَيْهِ الْخَصَّافُ .
قَالَ : وَتَجُوزُ صَلَاتُهُ وَإِمَامَتُهُ إلَّا إذَا تَرَكَهُ عَلَى وَجْهِ الرَّغْبَةِ عَنْ السُّنَّةِ لَا خَوْفًا مِنْ الْهَلَاكِ ، وَكُلُّ مَنْ يَرَاهُ وَاجِبًا يُبْطِلُ بِهِ شَهَادَتَهُ وَعِنْدَنَا هُوَ سُنَّةٌ لِمَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { الْخِتَانُ لِلرِّجَالِ سُنَّةٌ ، وَلِلنِّسَاءِ مَكْرُمَةٌ } وَمَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ { لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَلَا تُقْبَلُ صَلَاتُهُ وَلَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ } إنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْمَجُوسِيَّ ؛ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ وَلَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ .

( وَالْخَصِيِّ ) لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَبِلَ شَهَادَةَ عَلْقَمَةَ الْخَصِيِّ ، وَلِأَنَّهُ قُطِعَ عُضْوٌ مِنْهُ ظُلْمًا فَصَارَ كَمَا إذَا قُطِعَتْ يَدُهُ .
( قَوْلُهُ وَالْخَصِيُّ إذَا كَانَ عَدْلًا ) لِأَنَّهُ لَا مَانِعَ لِأَنَّ حَاصِلَ أَمْرِهِ مَظْلُومٌ .
نَعَمْ لَوْ كَانَ ارْتِضَاءً لِنَفْسِهِ وَفَعَلَهُ مُخْتَارًا مُنِعَ .
وَقَدْ قَبِلَ عُمَرُ شَهَادَةَ عَلْقَمَةَ الْخَصِيِّ عَلَى قُدَامَةَ بْنِ مَظْعُونٍ ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِسَنَدِهِ .
وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ : حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ أَنَّ الْجَارُودَ شَهِدَ عَلَى قُدَامَةَ أَنَّهُ شَرِبَ الْخَمْرَ ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : هَلْ مَعَكَ شَاهِدٌ آخَرُ ؟ قَالَ لَا ، قَالَ عُمَرُ : يَا جَارُودُ مَا أَرَاك إلَّا مَجْلُودًا ، قَالَ : يَشْرَبُ خَتْنُكَ الْخَمْرَ وَأُجْلَدُ أَنَا ، فَقَالَ عَلْقَمَةُ الْخَصِيُّ لِعُمَرَ : أَتَجُوزُ شَهَادَةُ الْخَصِيِّ ؟ قَالَ : وَمَا بَالُ الْخَصِيِّ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ ؟ قَالَ : فَإِنَى أَشْهَدُ أَنِّي رَأَيْته يَتَقَيَّؤُهَا ، فَقَالَ عُمَرُ : مَا قَاءَهَا حَتَّى شَرِبَهَا ، فَأَقَامَهُ ثُمَّ جَلَدَهُ .
وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مُطَوَّلًا .

( وَوَلَدِ الزِّنَا ) لِأَنَّ فِسْقَ الْأَبَوَيْنِ لَا يُوجِبُ فِسْقَ الْوَلَدِ كَكُفْرِهِمَا وَهُوَ مُسْلِمٌ .
وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا تُقْبَلُ فِي الزِّنَا لِأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَهُ كَمِثْلِهِ فَيُتَّهَمُ .
قُلْنَا : الْعَدْلُ لَا يَخْتَارُ ذَلِكَ وَلَا يَسْتَحِبُّهُ ، وَالْكَلَامُ فِي الْعَدْلِ .
( قَوْلُهُ وَوَلَدِ الزِّنَا ) أَيْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِي الزِّنَا وَغَيْرِهِ ، إذْ لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى .
وَعَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا تُقْبَلُ فِي الزِّنَا وَهُوَ ظَاهِرٌ مِنْ الْكِتَابِ .

قَالَ ( وَشَهَادَةُ الْخُنْثَى جَائِزَةٌ ) لِأَنَّهُ رَجُلٌ أَوْ امْرَأَةٌ وَشَهَادَةُ الْجِنْسَيْنِ مَقْبُولَةٌ بِالنَّصِّ .
( وَشَهَادَةُ الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ جَائِزَةٌ ) إذَا شَهِدَ مَعَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ ، فَلَوْ شَهِدَ مَعَ رَجُلٍ وَاحِدٍ أَوْ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ لَا تُقْبَلُ ، إلَّا إذَا زَالَ الْإِشْكَالُ بِظُهُورِ مَا يَحْكُمُ بِهِ بِأَنَّهُ رَجُلٌ أَوْ امْرَأَةٌ فَيُعْمَلُ بِمُقْتَضَاهُ .

( وَشَهَادَةُ الْعُمَّالِ جَائِزَةٌ ) وَالْمُرَادُ عُمَّالُ السُّلْطَانِ عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ ، لِأَنَّ نَفْسَ الْعَمَلِ لَيْسَ بِفِسْقٍ إلَّا إذَا كَانُوا أَعْوَانًا عَلَى الظُّلْمِ .
وَقِيلَ الْعَامِلُ إذَا كَانَ وَجِيهًا فِي النَّاسِ ذَا مُرُوءَةٍ لَا يُجَازِفُ فِي كَلَامِهِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ كَمَا مَرَّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْفَاسِقِ ، لِأَنَّهُ لِوَجَاهَتِهِ لَا يَقْدُمُ عَلَى الْكَذِبِ حِفْظًا لِلْمُرُوءَةِ وَلِمَهَابَتِهِ لَا يُسْتَأْجَرُ عَلَى الشَّهَادَةِ الْكَاذِبَةِ .

( قَوْلُهُ وَشَهَادَةُ الْعُمَّالِ جَائِزَةٌ ) وَالْمُرَادُ عُمَّالُ السُّلْطَانِ ، لِأَنَّ الْعَمَلَ نَفْسَهُ لَيْسَ بِفِسْقٍ لِأَنَّهُ مُعِينٌ لِلْخَلِيفَةِ عَلَى إقَامَةِ الْحَقِّ وَجِبَايَةِ الْمَالِ الْوَاجِبِ ، وَلَوْ كَانَ فِسْقًا لَمْ يَلِهِ أَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ لِعُمَرَ وَكَثِيرٌ ، وَهَذَا أَحْسَنُ مِمَّا قِيلَ ، وَلَوْ كَانَ فِسْقًا لَمْ يَلِهِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ خَلْفَاءُ وَالْعُمَّالُ فِي الْعُرْفِ مَنْ يُوَلِّيهِمْ الْخَلِيفَةُ عَمَلًا يَكُونُ نَائِبَهُ فِيهِ ، وَكَانَ الْغَالِبُ فِيهِمْ الْعَدَالَةُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ فَتُقْبَلُ مَا لَمْ يَظْهَرْ وَيَنْقَشِعْ عَنْهُ الظُّلْمُ كَالْحَجَّاجِ .
وَقِيلَ أَرَادَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْفَاسِقِ الْوَجِيهِ وَعَلِمْتَ مَا فِيهِ وَرَدَّهُ شَهَادَةَ الْوَزِيرِ لِقَوْلِهِ لِلْخَلِيفَةِ أَنَا عَبْدُك يُبْعِدُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ .
وَقِيلَ أَرَادَ بِالْعُمَّالِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ وَيُؤَاجِرُونَ أَنْفُسَهُمْ لِلْعَمَلِ ، لِأَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ رَدَّ شَهَادَةَ أَهْلِ الصِّنَاعَاتِ الْخَسِيسَةِ فَأَفْرَدَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لِإِظْهَارِ مُخَالَفَتِهِمْ ، وَكَيْفَ لَا وَكَسْبُهُمْ أَطْيَبُ كَسْبٍ ، وَذَكَرَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ أَنَّ شَهَادَةَ الرَّئِيسِ لَا تُقْبَلُ ، وَكَذَا الْجَابِي وَالصَّرَّافُ الَّذِي يَجْمَعُ عِنْدَهُ الدَّرَاهِمَ وَيَأْخُذُهَا طَوْعًا لَا تُقْبَلُ .
وَقَدَّمْنَا عَنْ الْبَزْدَوِيِّ أَنَّ الْقَائِمَ بِتَوْزِيعِ هَذِهِ النَّوَائِبِ السُّلْطَانِيَّةِ وَالْجِبَايَاتِ بِالْعَدْلِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مَأْجُورٌ وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ ظُلْمًا ، فَعَلَى هَذَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ ، وَالْمُرَادُ بِالرَّئِيسِ رَئِيسُ الْقَرْيَةِ وَهُوَ الْمُسَمَّى فِي بِلَادِنَا شَيْخَ الْبَلَدِ .
وَمِثْلُهُ الْمُعَرِّفُونَ فِي الْمَرَاكِبِ وَالْعُرَفَاءُ فِي جَمِيعِ الْأَصْنَافِ وَضُمَّانُ الْجِهَاتِ فِي بِلَادِنَا لِأَنَّهُمْ كُلُّهُمْ أَعْوَانٌ عَلَى الظُّلْمِ .

قَالَ ( وَإِذَا شَهِدَ الرَّجُلَانِ أَنَّ أَبَاهُمَا أَوْصَى إلَى فُلَانٍ وَالْوَصِيُّ يَدَّعِي ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ اسْتِحْسَانًا ، وَإِنْ أَنْكَرَ الْوَصِيُّ لَمْ يَجُزْ ) وَفِي الْقِيَاسِ : لَا يَجُوزُ إنْ ادَّعَى ، وَعَلَى هَذَا إذَا شَهِدَ الْمُوصِي لَهُمَا بِذَلِكَ أَوْ غَرِيمَانِ لَهُمَا عَلَى الْمَيِّتِ أَوْ لِلْمَيِّتِ عَلَيْهِمَا دَيْنٌ أَوْ شَهِدَ الْوَصِيَّانِ أَنَّهُ أَوْصَى إلَى هَذَا الرَّجُلِ مَعَهُمَا .
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهَا شَهَادَةٌ لِلشَّاهِدِ لِعَوْدِ الْمَنْفَعَةِ إلَيْهِ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ لِلْقَاضِي وِلَايَةَ نَصْبِ الْوَصِيِّ إذَا كَانَ طَالِبًا وَالْمَوْتُ مَعْرُوفٌ ، فَيَكْفِي الْقَاضِي بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ مُؤْنَةَ التَّعْيِينِ لَا أَنْ يَثْبُتَ بِهَا شَيْءٌ فَصَارَ كَالْقُرْعَةِ وَالْوَصِيَّانِ إذَا أَقَرَّا أَنَّ مَعَهُمَا ثَالِثًا يَمْلِكُ الْقَاضِي نَصْبَ ثَالِثٍ مَعَهُمَا لِعَجْزِهِمَا عَنْ التَّصَرُّفِ بِاعْتِرَافِهِمَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَنْكَرَا وَلَمْ يَعْرِفْ الْمَوْتَ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ نَصْبِ الْوَصِيِّ فَتَكُونُ الشَّهَادَةُ هِيَ الْمُوجِبَةُ ، وَفِي الْغَرِيمَيْنِ لِلْمَيِّتِ عَلَيْهِمَا دَيْنٌ تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَوْتُ مَعْرُوفًا لِأَنَّهُمَا يُقِرَّانِ عَلَى أَنْفُسِهِمَا فَيَثْبُتُ الْمَوْتُ بِاعْتِرَافِهِمَا فِي حَقِّهِمَا ( وَإِنْ شَهِدَا أَنَّ أَبَاهُمَا الْغَائِبَ وَكَّلَهُ بِقَبْضِ دُيُونِهِ بِالْكُوفَةِ فَادَّعَى الْوَكِيلُ أَوْ أَنْكَرَهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا ) لِأَنَّ الْقَاضِي لَا يَمْلِكُ نَصْبَ الْوَكِيلِ عَنْ الْغَائِبِ ، فَلَوْ ثَبَتَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِمَا وَهِيَ غَيْرُ مُوجِبَةٍ لِمَكَانِ التُّهْمَةِ .

( قَوْلُهُ وَإِذَا شَهِدَ الرَّجُلَانِ ) صُورَتُهَا : رَجُلٌ ادَّعَى أَنَّهُ وَصِيُّ فُلَانٍ الْمَيِّتِ فَشَهِدَ بِذَلِكَ اثْنَانِ مُوصَى لَهُمَا بِمَالٍ أَوْ وَارِثَانِ لِذَلِكَ الْمَيِّتِ أَوْ غَرِيمَانِ لَهُمَا عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ أَوْ لِلْمَيِّتِ عَلَيْهِمَا دَيْنٌ أَوْ وَصِيَّانِ فَالشَّهَادَةُ جَائِزَةٌ اسْتِحْسَانًا .
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَجُوزَ ، لِأَنَّ شَهَادَةَ هَؤُلَاءِ تَتَضَمَّنُ جَلْبَ نَفْعٍ لِلشَّاهِدِ .
أَمَّا الْوَارِثَانِ لِقَصْدِهِمَا نَصْبَ مَنْ يَتَصَرَّفُ لَهُمَا وَيُرِيحُهُمَا وَيَقُومُ بِإِحْيَاءِ حُقُوقِهِمَا وَالْغَرِيمَانِ الدَّائِنَانِ وَالْمُوصَى لَهُمَا لِوُجُودِ مَنْ يَسْتَوْفِيَانِ مِنْهُ وَالْمَدْيُونَانِ لِوُجُودِ مَنْ يَبْرَءَانِ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ وَالْوَصِيَّانِ لِوُجُودِ مَنْ يُعِينُهُمَا فِي التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ وَالْمُطَالَبَةِ وَكُلُّ شَهَادَةٍ جَرَّتْ نَفْعًا لَا تُقْبَلُ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّا لَمْ نُوجِبْ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْقَاضِي شَيْئًا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِ ، بَلْ إنَّمَا اعْتَبَرْنَاهَا عَلَى وِزَانِ الْقُرْعَةِ لَا يَثْبُتُ بِهَا شَيْءٌ .
وَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُهَا لِفَائِدَةٍ غَيْرِ الْإِثْبَاتِ كَمَا جَازَ اسْتِعْمَالُهَا لِتَطْيِيبِ الْقَلْبِ فِي السَّفَرِ بِإِحْدَى نِسَائِهِ وَلِدَفْعِ التُّهْمَةِ عَنْ الْقَاضِي فِي تَعْيِينِ الْأَنْصِبَاءِ ، فَكَذَا هَذِهِ الشَّهَادَةُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ لَمْ تُثْبِتْ شَيْئًا ، وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَاهَا لِفَائِدَةِ إسْقَاطِ تَعْيِينِ الْوَصِيِّ عَنْ الْقَاضِي ، فَإِنَّ لِلْقَاضِي إذَا ثَبَتَ الْمَوْتُ وَلَا وَصِيَّ أَنْ يُنَصِّبَ الْوَصِيَّ ، وَكَذَا إذَا كَانَ الْمَيِّتُ وَصَّى وَادَّعَى الْعَجْزَ وَهَذِهِ الصُّوَرُ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ لَمْ تُثْبِتْ شَيْئًا وَثَبَتَ الْمَوْتُ فَلِلْقَاضِي أَوْ عَلَيْهِ أَنْ يُنَصِّبَ وَصِيًّا ، فَلَمَّا شَهِدَ هَؤُلَاءِ بِوِصَايَةِ هَذَا الرَّجُلِ فَقَدْ رَضَوْهُ وَاعْتَرَفُوا لَهُ بِالْأَهْلِيَّةِ الصَّالِحَةِ لِذَلِكَ ، فَكَفَى الْقَاضِي بِذَلِكَ مُؤْنَةَ التَّفْتِيشِ عَلَى الصَّالِحِ ، وَعُيِّنَ هَذَا الرَّجُلُ بِتِلْكَ الْوِلَايَةِ لَا بِوِلَايَةٍ أَوْجَبَتْهَا الشَّهَادَةُ

الْمَذْكُورَةُ وَكَذَلِكَ وَصِيَّا الْمَيِّتِ لَمَّا شَهِدَا بِالثَّالِثِ فَقَدْ اعْتَرَفَا بِعَجْزٍ شَرْعِيٍّ مِنْهُمَا عَنْ التَّصَرُّفِ إلَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ مَعَهَا ، أَوْ بِعَجْزٍ عَلِمَهُ الْمَيِّتُ مِنْهُمَا حَتَّى أَدْخَلَهُ مَعَهُمَا فِي فَيَنْصِبُ الْقَاضِي الْآخَرَ ، وَفِي الصُّوَرِ كُلِّهَا ثُبُوتُ الْمَوْتِ شَرْطٌ لِأَنَّ الْقَاضِي لَا يَمْلِكُ نَصْبَ وَصِيٍّ قَبْلَ الْمَوْتِ إلَّا فِي شَهَادَةِ الْغَرِيمَيْنِ الْمَدْيُونَيْنِ فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي إثْبَاتِ الْوَصِيِّ الَّذِي شَهِدَا لَهُ ثُبُوتُ الْمَوْتِ لِأَنَّهُمَا مُقِرَّانِ عَلَى أَنْفُسِهِمَا بِثُبُوتِ حَقِّ قَبْضِ الدَّيْنِ لِهَذَا الرَّجُلِ فَضَرَرُهُمَا فِي ذَلِكَ أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهَا بِالْوَصِيَّةِ وَالْمَوْتِ جَمِيعًا ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ شَهِدَا أَنَّ أَبَاهُمَا الْغَائِبَ وَكَّلَ هَذَا الرَّجُلَ بِقَبْضِ دَيْنِهِ وَهُوَ يَدَّعِي الْوَكَالَةَ لَا تُقْبَلُ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْقَاضِي وِلَايَةُ نَصْبِ الْوَكِيلِ عَنْ الْغَائِبِ ، فَلَوْ أَثْبَتَ الْقَاضِي وَكَالَتَهُ لَكَانَ مُثْبِتًا لَهَا بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ وَهِيَ لَا تُقْبَلُ لِتَمَكُّنِ التُّهْمَةِ فِيهَا عَلَى مَا عُرِفَ وَإِذَا تَحَقَّقْتَ مَا ذُكِرَ ظَهَرَ أَنَّ عَدَمَ قَبُولِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ ثَابِتٌ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا إذْ ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ بِهَا شَيْءٌ وَإِنَّمَا ثَبَتَ عِنْدَهُمَا نَصْبُ الْقَاضِي وَصِيًّا اخْتَارُوهُ ، وَلَيْسَ هُنَا مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا يُصْرَفُ إلَيْهِ الْقِيَاسُ وَالِاسْتِحْسَانُ ، وَلَوْ اُعْتُبِرَا فِي نَفْسِ إيصَاءِ الْقَاضِي إلَيْهِ فَالْقِيَاسُ لَا يَأْبَاهُ فَلَا وَجْهَ لِجَعْلِ الْمَشَايِخِ فِيهَا قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا .
وَالْمَنْقُولُ عَنْ أَصْحَابِ الْمَذْهَبِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لَيْسَ إلَّا مُحَمَّدُ عَنْ يَعْقُوبَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي شَاهِدَيْنِ شَهِدَا لِرَجُلٍ أَنَّ أَبَاهُمَا أَوْصَى إلَيْهِ قَالَ : جَائِزٌ إنْ ادَّعَى ذَلِكَ ، وَإِنْ أَنْكَرَ لَمْ يَجُزْ ، وَإِنْ شَهِدَا أَنَّ أَبَاهُمَا وَكَّلَهُ بِقَبْضِ دُيُونِهِ بِالْكُوفَةِ كَانَ بَاطِلًا فِي ذَلِكَ كُلِّهِ لِأَنَّ الْقَاضِي لَا يَقْدِرُ

عَلَى نَصْبِ وَكِيلٍ عَنْ الْغَائِبِ ، فَلَوْ نَصَبَهُ كَانَ عَنْ هَذِهِ الشَّهَادَةِ وَهِيَ لَيْسَتْ بِمُوجِبَةٍ .

[ فُرُوعٌ ] إذَا شَهِدَ الْمُودَعَانِ بِكَوْنِ الْوَدِيعَةِ مِلْكًا لِمُودِعِهِمَا تُقْبَلُ ، وَلَوْ شَهِدَا عَلَى إقْرَارِ مُدَّعِيهَا أَنَّهَا مِلْكُ الْمُودَعِ لَا تُقْبَلُ إلَّا إذَا كَانَا رَدَّا الْوَدِيعَةَ عَلَى الْمُودِعِ

وَلَوْ شَهِدَ الْمُرْتَهِنَانِ بِالرَّهْنِ لِمُدَّعِيهِ قُبِلَتْ ، وَلَوْ شَهِدَا بِذَلِكَ بَعْدَ هَلَاكِ الرَّهْنِ لَا تُقْبَلُ وَيَضْمَنَانِ قِيمَتَهُ لِلْمُدَّعِي لِإِقْرَارِهِمَا بِالْغَصْبِ ، وَلَوْ شَهِدَا عَلَى إقْرَارِ الْمُدَّعِي بِكَوْنِ الرَّهْنِ مِلْكَ الرَّاهِنِ لَا تُقْبَلُ ، وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ هَالِكًا إلَّا إذَا شَهِدَ بَعْدَ رَدِّ الرَّهْنِ ، وَإِذَا أَنْكَرَ الْمُرْتَهِنَانِ فَشَهِدَ الرَّاهِنَانِ بِذَلِكَ لَا تُقْبَلُ وَضَمِنَا قِيمَتَهُ لِلْمُدَّعِي لِمَا ذَكَرْنَا

وَلَوْ شَهِدَ الْغَاصِبَانِ بِالْمِلْكِ لِلْمُدَّعِي لَا تُقْبَلُ إلَّا إذَا كَانَ بَعْدَ رَدِّ الْمَغْصُوبِ ، وَلَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِمَا ثُمَّ شَهِدَا لِلْمُدَّعِي لَا تُقْبَلُ

وَلَوْ شَهِدَ الْمُسْتَقْرِضَانِ بِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْمُسْتَقْرِضِ لِلْمُدَّعِي لَا تُقْبَلُ لَا قَبْلَ الدَّفْعِ وَلَا بَعْدَهُ ، وَلَوْ رَدَّ عَيْنَهُ ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ تُقْبَلُ بَعْدَ رَدِّ الْعَيْنِ لِعَدَمِ الْمِلْكِ قَبْلَ اسْتِهْلَاكِهِ عِنْدَهُ حَتَّى كَانَ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ إذَا شَهِدَ الْمُشْتَرِيَانِ شِرَاءً فَاسِدًا بِأَنَّ الْمُشْتَرَى مِلْكٌ لِلْمُدَّعِي بَعْدَ الْقَبْضِ لَا تُقْبَلُ وَكَذَا لَوْ نَقَضَ الْقَاضِي الْعَقْدَ أَوْ تَرَاضَوْا عَلَى نَقْضِهِ هَذَا إذَا كَانَ فِي يَدِهِمَا ، فَلَوْ رَادَّهُ عَلَى الْبَائِعِ ثُمَّ شَهِدَا قُبِلَتْ .

وَلَوْ شَهِدَ الْمُشْتَرِي بِمَا اشْتَرَى لِإِنْسَانٍ وَلَوْ بَعْدَ التَّقَايُلِ أَوْ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ بِلَا قَضَاءٍ لَا تُقْبَلُ ، كَالْبَائِعِ إذَا شَهِدَ بِكَوْنِ الْمَبِيعِ مِلْكًا لِلْمُدَّعِي بَعْدَ الْبَيْعِ ، وَلَوْ كَانَ الرَّدُّ بِطَرِيقٍ هُوَ فَسْخٌ قُبِلَتْ .

وَشَهَادَةُ الْغَرِيمَيْنِ بِأَنَّ الدَّيْنَ الَّذِي عَلَيْهِمَا لِهَذَا الْمُدَّعِي لَا تُقْبَلُ وَإِنْ قَضَيَا الدَّيْنَ

وَشَهَادَةُ الْمُسْتَأْجِرِ بِكَوْنِ الدَّارِ لِلْمُدَّعِي إنْ قَالَ الْمُدَّعِي أَنَّ الْإِجَارَةَ كَانَتْ بِأَمْرِي لَا تُقْبَلُ ، وَلَوْ قَالَ كَانَتْ بِغَيْرِ أَمْرِي تُقْبَلُ ،

وَشَهَادَةُ سَاكِنِ الدَّارِ بِغَيْرِ إجَارَةٍ لِلْمُدَّعِي أَوْ عَلَيْهِ تُقْبَلُ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ فِيمَا عَلَيْهِ بِنَاءً عَلَى تَجْوِيزِ غَصْبِ الْعَقَارِ وَعَدَمِهِ .

وَلَوْ شَهِدَ عَبْدَانِ بَعْدَ الْعِتْقِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَنَّ الثَّمَنَ كَذَا لَا تُقْبَلُ .
وَفِي الْعُيُونِ : أَعْتَقَهُمَا بَعْدَ الشِّرَاءِ ثُمَّ شَهِدَا عَلَى الْبَائِعِ أَنَّهُ اسْتَوْفَى الثَّمَنَ مِنْ الْمُشْتَرِي عِنْدَ جُحُودِهِ تَجُوزُ إجْمَاعًا ،

وَلَوْ وَكَّلَهُ بِالْخُصُومَةِ فِي أَلْفٍ قِبَلَ فُلَانٍ فَخَاصَمَ عِنْدَ غَيْرِ الْقَاضِي ثُمَّ عَزْلَهُ الْمُوَكِّلُ قَبْلَ الْخُصُومَةِ عِنْدَ الْقَاضِي فَشَهِدَ بِهَذِهِ الْأَلْفِ لِمُوَكِّلِهِ جَازَتْ ، خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ فَإِنَّهُ يَجْعَلُهُ بِمُجَرَّدِ الْوَكَالَةِ قَامَ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ ، وَلَوْ كَانَ خَاصَمَ عِنْدَ الْقَاضِي وَالْبَاقِي بِحَالِهِ لَمْ تَجُزْ ، وَلَوْ خَاصَمَ فِي الْأَلْفِ عِنْدَ الْقَاضِي وَالْوَكَالَةُ بِكُلِّ حَقٍّ قِبَلَ فُلَانٍ فَعَزَلَهُ فَشَهِدَ لِمُوَكِّلِهِ بِمِائَةِ دِينَارٍ ، إنْ كَانَ التَّوْكِيلُ عِنْدَ الْقَاضِي قُبِلَتْ ، وَإِنْ كَانَ خَارِجًا عَنْهُ فَاحْتَاجَ إلَى إثْبَاتِ الْوَكَالَةِ عِنْدَ الْقَاضِي بِالْإِشْهَادِ لَا تُقْبَلُ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ لَمَّا اتَّصَلَ بِهَا الْقَضَاءُ صَارَ الْوَكِيلُ خَصْمًا فِي جَمِيعِ مَا عَلَى هَذَا الرَّجُلِ فَشَهَادَتُهُ شَهَادَةُ الْخَصْمِ ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْقَاضِي عَلِمَ بِالْوَكَالَةِ وَعِلْمُهُ لَيْسَ قَضَاءً فَلَا يَصِيرُ خَصْمًا فَتُقْبَلُ فِي غَيْرِ مَا صَارَ فِيهِ خَصْمًا ، هَذَا كُلُّهُ فِي الْوَكَالَةِ الْخَاصَّةِ وَهِيَ التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ وَالطَّلَبِ لِمَ عَلَى رَجُلٍ مُعَيَّنٍ .
وَحُكْمُهَا أَنْ لَا يَتَنَاوَلَ الْحَادِثَ بَعْدَ التَّوْكِيلِ ، أَمَّا الْعَامَّةُ وَهِيَ أَنْ يُوَكِّلَهُ بِطَلَبِ كُلِّ حَقٍّ لَهُ قِبَلَ جَمِيعِ النَّاسِ أَوْ أَهْلِ مِصْرٍ فَيَتَنَاوَلُ الْحَادِثَ بَعْدَ التَّوْكِيلِ وَفِيهَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِمُوَكِّلِهِ بِشَيْءٍ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ الْعَزْلِ إلَّا عَلَى مَا وَجَبَ بَعْدَ الْعَزْلِ .

شَهِدَ ابْنَا الْمُوَكِّلِ أَنَّ أَبَاهُمَا وَكَّلَ هَذَا بِقَبْضِ دُيُونِهِ لَا تُقْبَلُ إذَا جَحَدَ الْمَطْلُوبُ الْوَكَالَةَ وَكَذَا فِي الْوَكَالَةِ بِالْخُصُومَةِ وَشَهَادَةُ ابْنَيْ الْوَكِيلِ عَلَى الْوَكَالَةِ لَا تُقْبَلُ ، وَكَذَا شَهَادَةُ أَبَوَيْهِ وَأَجْدَادِهِ وَأَحْفَادِهِ .

وَشَهَادَةُ الْوَصِيِّ لِلْمَيِّتِ بَعْدَمَا أَخْرَجَهُ الْقَاضِي عَنْ الْوِصَايَةِ لَا تُقْبَلُ وَلَوْ بَعْدَمَا أَدْرَكَتْ الْوَرَثَةُ سَوَاءٌ خَاصَمَ فِيهِ أَوْ لَا ،

وَلَوْ شَهِدَ لِكَبِيرٍ عَلَى أَجْنَبِيٍّ تُقْبَلُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَلَوْ لِكَبِيرٍ وَصَغِيرٍ مَعًا فِي غَيْرِ الْمِيرَاثِ لَا تُقْبَلُ .

وَلَوْ شَهِدَ الْوَصِيَّانِ عَلَى إقْرَارِ الْمَيِّتِ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ دَارٌ أَوْ غَيْرِهَا لِوَارِثٍ بَالِغٍ تُقْبَلُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

قَالَ ( وَلَا يَسْمَعُ الْقَاضِي الشَّهَادَةَ عَلَى جَرْحٍ وَلَا يَحْكُمُ بِذَلِكَ ) لِأَنَّ الْفِسْقَ مِمَّا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ لِأَنَّ لَهُ الدَّفْعَ بِالتَّوْبَةِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْإِلْزَامُ ، وَلِأَنَّهُ هَتْكُ السِّرِّ وَالسَّتْرُ وَاجِبٌ وَالْإِشَاعَةُ حَرَامٌ ، وَإِنَّمَا يُرَخَّصُ ضَرُورَةَ إحْيَاءِ الْحُقُوقِ وَذَلِكَ فِيمَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ ( إلَّا إذَا شَهِدُوا عَلَى إقْرَارِ الْمُدَّعِي بِذَلِكَ تُقْبَلُ ) لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ .

( قَوْلُهُ وَلَا يَسْمَعُ الْقَاضِي الشَّهَادَةَ عَلَى جَرْحٍ وَلَا يَحْكُمُ بِهِ ) قِيلَ قَوْلُهُ وَلَا يَحْكُمُ بِهِ تَكْرَارٌ .
أُجِيبَ بِجَوَازِ أَنْ لَا يَسْمَعَ الْبَيِّنَةَ وَيَحْكُمَ بِعِلْمِهِ فَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ عَدَمِ السَّمَاعِ عَدَمُ الْحُكْمِ عَلَى نَفْيِ الْأَمْرَيْنِ ، وَالْمُرَادُ الْجَرْحُ الْمُجَرَّدُ عَنْ حَقِّ الشَّرْعِ أَوْ الْعَبْدِ ، فَإِنْ كَانَ مُتَضَمِّنًا أَحَدَهُمَا سُمِعَتْ الشَّهَادَةُ وَحُكِمَ بِهَا ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَشْهَدُوا أَنَّ الشُّهُودَ فَسَقَةٌ أَوْ زُنَاةٌ أَوْ أَكَلَةُ الرِّبَا أَوْ شَرَبَةُ الْخَمْرِ ، أَوْ عَلَى إقْرَارِهِمْ أَنَّهُمْ شَهِدُوا بِالزُّورِ أَوْ أَنَّهُمْ رَجَعُوا عَنْ الشَّهَادَةِ ، أَوْ عَلَى إقْرَارِهِمْ أَنَّهُمْ أُجَرَاءُ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ ، أَوْ إقْرَارُهُمْ أَنَّ الْمُدَّعِيَ مُبْطِلٌ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى ، أَوْ إقْرَارُهُمْ أَنْ لَا شَهَادَةَ لَهُمْ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ .
فَفِي هَذِهِ الْوُجُوهِ تُقْبَلُ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَصَحُّهَا الْوَجْهَانِ اللَّذَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ أَحَدُهُمَا أَنَّ الشَّهَادَةَ إنَّمَا تُقْبَلُ لِلْحُكْمِ فَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ الْمَشْهُودِ بِهِ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ ، وَالْفِسْقُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ لِأَنَّ الْحُكْمَ إلْزَامٌ وَلَيْسَ فِي وُسْعِ الْقَاضِي إلْزَامُ الْفِسْقِ لِأَحَدٍ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ رَفْعِهِ فِي الْحَالِ بِالتَّوْبَةِ .
الثَّانِي أَنَّ بِمُجَرَّدِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ يَفْسُقُ الشَّاهِدُ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ ، وَهَذَا لِأَنَّ فِيهِ إشَاعَةَ الْفَاحِشَةِ وَهُوَ مُتَوَعَّدٌ عَلَيْهِ ، قَالَ تَعَالَى { إنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } فَإِنْ قِيلَ : لَيْسَ الْمَقْصُودُ إشَاعَةَ الْفَاحِشَةِ بَلْ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ دَفْعَهُ لَيْسَ يَنْحَصِرُ فِي إفَادَةِ الْقَاضِي عَلَى وَجْهِ الْإِشَاعَةِ بِأَنْ يَشْهَدَ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى مَلَأٍ مِنْ النَّاسِ ، إذْ يَنْدَفِعُ بِأَنْ يُخْبِرَ الْقَاضِيَ سِرًّا فَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا الصُّوَرُ الَّتِي

ذَكَرْنَاهَا .

قَالَ ( وَلَوْ أَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْمُدَّعِيَ اسْتَأْجَرَ الشُّهُودَ لَمْ تُقْبَلْ ) لِأَنَّهُ شَهَادَةٌ عَلَى جَرْحٍ مُجَرَّدٍ ، وَالِاسْتِئْجَارُ وَإِنْ كَانَ أَمْرًا زَائِدًا عَلَيْهِ فَلَا خَصْمَ فِي إثْبَاتِهِ لِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ أَجْنَبِيٌّ عَنْهُ ، حَتَّى لَوْ أَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْمُدَّعِيَ اسْتَأْجَرَ الشُّهُودَ بِعَشْرَةِ دَرَاهِمَ لِيُؤَدُّوا الشَّهَادَةَ وَأَعْطَاهُمْ الْعَشَرَةَ مِنْ مَالِي الَّذِي كَانَ فِي يَدِهِ تُقْبَلُ لِأَنَّهُ خَصْمٌ فِي ذَلِكَ ثُمَّ يَثْبُتُ الْجَرْحُ بِنَاءً عَلَيْهِ ، وَكَذَا إذَا أَقَامَهَا عَلَى أَنِّي صَالَحْت الشُّهُودَ عَلَى كَذَا مِنْ الْمَالِ .
وَدَفَعْتُهُ إلَيْهِمْ عَلَى أَنْ لَا يَشْهَدُوا عَلَيَّ بِهَذَا الْبَاطِلِ وَقَدْ شَهِدُوا وَطَالَبَهُمْ بِرَدِّ ذَلِكَ الْمَالِ ، وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّهُ لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الشَّاهِدَ عَبْدٌ أَوْ مَحْدُودٌ فِي قَذْفٍ أَوْ شَارِبُ خَمْرٍ أَوْ قَاذِفٌ أَوْ شَرِيكُ الْمُدَّعِي تُقْبَلُ .

وَمِنْهَا مَا لَوْ أَقَامَ رَجُلٌ : يَعْنِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْمُدَّعِيَ اسْتَأْجَرَ الشُّهُودَ لِهَذَا الْأَدَاءِ لِأَنَّهُ عَلَى جَرْحٍ مُجَرَّدٍ .
فَإِنْ قِيلَ : الِاسْتِئْجَارُ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى مُجَرَّدِ الْجَرْحِ .
أَجَابَ الْمُصَنِّفُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ وَالِاسْتِئْجَارُ وَإِنْ كَانَ أَمْرًا زَائِدًا فَلَا خَصْمَ فِي إثْبَاتِهِ ، لِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَيْسَ نَائِبًا عَنْ الْمُدَّعِي فِي إثْبَاتِ حَقِّهِ هَذَا بَلْ أَجْنَبِيٌّ عَنْهُ .
وَأَوْرَدَ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ تُقْبَلَ هَذِهِ الشَّهَادَةُ بِجَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوهِ الْفِسْقِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ، وَهُوَ أَنْ يُجْعَلُوا مُزَكِّينَ لِشُهُودِ الْمُدَّعِي فَيُخْبِرُونَ بِالْوَاقِعِ مِنْ الْجَرْحِ فَيُعَارِضُ تَعْدِيلَهُمْ ، وَإِذَا تَعَارَضَ الْجَرْحُ وَالتَّعْدِيلُ قُدِّمَ الْجَرْحُ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُعَدِّلَ فِي زَمَانِنَا يُخْبِرُ الْقَاضِيَ سِرًّا تَفَادِيًا مِنْ إشَاعَةِ الْفَاحِشَةِ وَالتَّعَادِي ، وَأَمَّا الرُّجُوعُ عَنْ الشَّهَادَةِ فَإِنَّهُ لَا يُسْمَعُ إلَّا عِنْدَ الْقَاضِي ، وَقَوْلُ الشَّاهِدِ لَا شَهَادَةَ عِنْدِي لِشَكٍّ أَوْ ظَنٍّ عُرَاه بَعْدَمَا مَضَتْ فَلَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ ، فَأَمَّا لَوْ كَانَ الْجَرْحُ غَيْرَ مُجَرَّدٍ بَلْ يَتَضَمَّنُ إثْبَاتَ حَقٍّ لِلْعَبْدِ أَوْ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ بِأَنْ يَشْهَدُوا أَنَّ الْمُدَّعِيَ اسْتَأْجَرَهُمْ بِعَشَرَةٍ وَأَعْطَاهُمُوهَا مِنْ مَالِي الَّذِي كَانَ فِي يَدِهِ أَوْ أَنِّي صَالَحْتُهُمْ عَلَى كَذَا وَدَفَعْتُهُ إلَيْهِمْ عَلَى أَنْ لَا يَشْهَدُوا عَلَيَّ بِهَذَا وَقَدْ شَهِدُوا وَأَنَا أُطَالِبُهُمْ بِهَذَا الْمَالِ الَّذِي وَصَلَ إلَيْهِمْ تُقْبَلُ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ صَالَحْتُهُمْ عَلَى كَذَا إلَى آخِرِهِ ، لَكِنْ لَمْ أَدْفَعْ إلَيْهِمْ الْمَالَ لَا تُقْبَلُ لِأَنَّهُ جَرْحٌ مُجَرَّدٌ ، وَكَذَا إذَا شَهِدُوا أَنَّ الشَّاهِدَ عَبْدٌ أَوْ مَحْدُودٌ فِي قَذْفٍ أَوْ شُرْبِ الْخَمْرِ أَوْ سَرَقَ مِنِّي أَوْ زَنَى أَوْ شَرِيكُ الْمُدَّعِي فِيمَا ادَّعَى بِهِ مِنْ الْمَالِ أَوْ شَهِدُوا عَلَى إقْرَارِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَحْضُرُوا ذَلِكَ الْمَجْلِسَ الَّذِي كَانَ فِيهِ هَذَا

الْأَمْرُ قُبِلَتْ ، أَوْ عَلَى إقْرَارِ الْمُدَّعِي أَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُمْ تُقْبَلُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ لِأَنَّ مِنْهُ مَا تَضَمَّنَ حَقًّا لِلْعَبْدِ وَمَوَاضِعُهُ ظَاهِرَةٌ وَفِي ضِمْنِهِ يَثْبُتُ الْجَرْحُ .
وَمِنْهُ الشَّهَادَةُ بِرِقِّهِمْ فَإِنَّ الرِّقَّ حَقٌّ لِلْعَبْدِ .
وَمِنْهُ مَا تَضَمَّنَ حَقًّا لِلشَّرْعِ مِنْ حَدٍّ كَالشَّهَادَةِ بِسَرِقَتِهِمْ وَشُرْبِهِمْ وَزِنَاهُمْ أَوْ غَيْرِ حَدٍّ كَالشَّهَادَةِ بِأَنَّهُمْ مَحْدُودُونَ ، فَإِنَّهَا قَامَتْ عَلَى إثْبَاتِ قَضَاءِ الْقَاضِي ، وَقَضَاءُ الْقَاضِي حَقُّ الشَّرْعِ .
وَمِنْهُ مَا هُوَ مُبْطِلٌ لِشَهَادَتِهِمْ وَلَمْ يَتَضَمَّنْ إشَاعَةَ فَاحِشَةٍ فَتُقْبَلُ .
وَمِنْهُ شَهَادَتُهُمْ بِأَنَّهُمْ شُرَكَاءُ الْمَشْهُودِ لَهُ إذْ لَيْسَ فِيهِ إظْهَارُ الْفَاحِشَةِ فَتُقْبَلُ فَتَصِيرُ الشَّرِكَةُ كَالْمُعَايَنَةِ ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ شَرِيكٌ مُفَاوِضٌ فَمَهْمَا حَصَلَ مِنْ هَذَا الْمَالِ الْبَاطِلِ يَكُونُ لَهُ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لَا أَنْ يُرِيدَ أَنَّ شَرِيكَهُ فِي الْمُدَّعَى بِهِ وَإِلَّا كَانَ إقْرَارًا بِأَنَّ الْمُدَّعَى بِهِ لَهُمَا ، وَكَذَا كُلُّ مَا يَشْهَدُونَ بِهِ عَلَى إقْرَارِ الْمُدَّعِي بِمَا نَسَبَهُ إلَى شُهُودِهِ مِنْ فِسْقِهِمْ وَنَحْوِهِ لَيْسَ فِيهِ إشَاعَةٌ مِنْهُمْ ، بَلْ إخْبَارٌ عَنْ إخْبَارِ الْمُدَّعِي عَنْهُمْ بِذَلِكَ فَتُصْبِحُ كَمَا لَوْ سَمِعَ مِنْهُ ذَلِكَ وَذَلِكَ مِنْهُ اعْتِرَافٌ بِبُطْلَانِ حَقِّهِ وَالْإِنْسَانُ مُؤَاخَذٌ بِزَعْمِهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَكَذَا الْإِشَاعَةُ فِي شَهَادَتِهِمْ أَنَّهُمْ مَحْدُودُونَ إنَّمَا هِيَ مَنْسُوبَةٌ إلَى قَضَاءِ الْقَاضِي أَوْ شَهَادَةِ الْقَذْفِ .
هَذَا وَقَدْ نَصَّ الْخَصَّافُ فِي الْجَرْحِ الْمُجَرَّدِ أَنَّهُ تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ بِهِ فَقِيلَ فِي وَجْهِهِ أَنَّهُ يُسْقِطُ الْعَدَالَةَ فَتُقْبَلُ كَالرِّقِّ وَأَنْتَ سَمِعْت الْفَرْقَ .
وَأَوَّلُ جَمَاعَةٌ قَوْلَ الْخَصَّافِ بِحَمْلِهِ عَلَى شَهَادَتِهِمْ عَلَى إقْرَارِ الْمُدَّعِي ذَلِكَ أَوْ أَنَّهُ يُجْعَلُ كَشَاهِدٍ زَكَّاهُ نَفَرٌ وَجَرَّحَهُ نَفَرٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي هَذَا مَا يَمْنَعُهُ ثُمَّ قَدْ وَقَعَ فِي عَدِّ صُوَرِ عَدَمِ الْقَبُولِ أَنْ يَشْهَدُوا

بِأَنَّهُمْ فَسَقَةٌ أَوْ زُنَاةٌ أَوْ شَرَبَةُ خَمْرٍ .
وَفِي صُوَرِ الْقَبُولِ أَنْ يَشْهَدُوا بِأَنَّهُ شَرِبَ أَوْ زَنَى لِأَنَّهُ لَيْسَ جَرْحًا مُجَرَّدًا لِتَضَمُّنِهِ دَعْوَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الْحَدُّ وَيَحْتَاجُ إلَى جَمْعٍ وَتَأْوِيلٍ .

قَالَ ( وَمَنْ شَهِدَ وَلَمْ يَبْرَحْ حَتَّى قَالَ أُوهِمْتُ بَعْضَ شَهَادَتِي ، فَإِنْ كَانَ عَدْلًا جَازَتْ شَهَادَتُهُ ) وَمَعْنَى قَوْلِهِ أُوهِمْتُ أَيْ أَخْطَأْت بِنِسْيَانِ مَا كَانَ يَحِقُّ عَلَيَّ ذِكْرُهُ أَوْ بِزِيَادَةٍ كَانَتْ بَاطِلَةً .
وَوَجْهُهُ أَنَّ الشَّاهِدَ قَدْ يُبْتَلَى بِمِثْلِهِ لِمَهَابَةِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَكَانَ الْعُذْرُ وَاضِحًا فَتُقْبَلُ إذَا تَدَارَكَهُ فِي أَوَانِهِ وَهُوَ عَدْلٌ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَامَ عَنْ الْمَجْلِسِ ثُمَّ عَادَ وَقَالَ أُوهِمْتُ ، لِأَنَّهُ يُوهِمُ الزِّيَادَةَ مِنْ الْمُدَّعِي بِتَلْبِيسٍ وَخِيَانَةٍ فَوَجَبَ الِاحْتِيَاطُ ، وَلِأَنَّ الْمَجْلِسَ إذَا اتَّحَدَ لَحِقَ الْمُلْحَقُ بِأَصْلِ الشَّهَادَةِ فَصَارَ كَكَلَامٍ وَاحِدٍ ، وَلَا كَذَلِكَ إذَا اخْتَلَفَ .
وَعَلَى هَذَا إذَا وَقَعَ الْغَلَطُ فِي بَعْضِ الْحُدُودِ أَوْ فِي بَعْضِ النَّسَبِ وَهَذَا إذَا كَانَ مَوْضِعَ شُبْهَةٍ ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فَلَا بَأْسَ بِإِعَادَةِ الْكَلَامِ أَصْلًا مِثْلُ أَنْ يَدَعَ لَفْظَةَ الشَّهَادَةِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ وَإِنْ قَامَ عَنْ الْمَجْلِسِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي غَيْرِ الْمَجْلِسِ إذَا كَانَ عَدْلًا ، وَالظَّاهِرُ مَا ذَكَرْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( قَوْلُهُ وَمَنْ شَهِدَ وَلَمْ يَبْرَحْ حَتَّى قَالَ أُوهِمْت بَعْضَ شَهَادَتِي : أَيْ أَخْطَأْت لِنِسْيَانٍ ) عَرَانِي بِزِيَادَةٍ بَاطِلَةٍ بِأَنْ كَانَ شَهِدَ بِأَلْفٍ فَقَالَ إنَّمَا هِيَ خَمْسُمِائَةٍ ، أَوْ بِنَقْصٍ بِأَنْ شَهِدَ بِخَمْسِمِائَةٍ فَقَالَ أُوهِمْت إنَّمَا هِيَ أَلْفٌ ( جَازَتْ شَهَادَتُهُ ) إذَا كَانَ عَدْلًا : أَيْ ثَابِتَ الْعَدَالَةِ عِنْدَ الْقَاضِي أَوْ لَا فَسَأَلَ عَنْهُ فَعُدِّلَ ( وَوَجْهُهُ أَنَّ الشَّاهِدَ قَدْ يُبْتَلَى بِهِ لِمَهَابَةِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ ) إذْ طَبْعُ الْبَشَرِ النِّسْيَانُ وَعَدَالَتُهُ مَعَ عَدَمِ التُّهْمَةِ تُوجِبُ قَبُولَ قَوْلِهِ ذَلِكَ ، بِخِلَافِ مَا إذَا غَابَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ ذَلِكَ لِتَمَكُّنِ تُهْمَةِ اسْتِغْوَاءِ الْمُدَّعِي فِي الزِّيَادَةِ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالنَّقْصِ فِي الْمَالِ فَلَا تُقْبَلُ ( وَعَلَى هَذَا إذَا غَلِطَ فِي بَعْضِ الْحُدُودِ ) بِأَنْ ذَكَرَ الشَّرْقِيَّ مَكَانَ الْغَرْبِيِّ وَنَحْوَهُ ( أَوْ فِي بَعْضِ النَّسَبِ ) بِأَنْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عُمَرَ إنْ تَدَارَكَهُ فِي الْمَجْلِسِ قُبِلَ ، وَبَعْدَهُ لَا ، وَإِذَا جَازَتْ وَلَمْ تُرَدَّ فَبِمَاذَا يَقْضِي ؟ قِيلَ بِجَمِيعِ مَا شَهِدَ بِهِ لِأَنَّ مَا شَهِدَ بِهِ صَارَ حَقًّا لِلْمُدَّعِي عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَلَا يَبْطُلُ حَقُّهُ بِقَوْلِهِ أُوهِمْتُ ، وَلَا بُدَّ مِنْ قَيْدِهِ بِأَنْ يَكُونَ الْمُدَّعِي يَدَّعِي الزِّيَادَةَ ، فَإِنَّهُ لَوْ شَهِدَ لَهُ بِأَلْفٍ وَقَالَ : بَلْ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ لَا يَدْفَعُ إلَّا إنْ ادَّعَى الْأَلْفَ وَخَمْسَمِائَةٍ .
وَصُورَةُ الزِّيَادَةِ حِينَئِذٍ عَلَى تَقْدِيرِ الدَّعْوَى أَنْ يَدَّعِيَ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ فَيَشْهَدَ بِأَلْفٍ ثُمَّ يَقُولَ أُوهِمْتُ إنَّمَا هُوَ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ لَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ ، لَكِنْ هَلْ يَقْضِي بِأَلْفٍ أَوْ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ ؟ قِيلَ يَقْضِي بِالْكُلِّ ، وَقِيلَ بِمَا بَقِيَ وَهُوَ الْأَلْفُ ، حَتَّى لَوْ شَهِدَ بِأَلْفٍ ثُمَّ قَالَ غَلِطْت بِخَمْسِمِائَةٍ زِيَادَةً وَإِنَّمَا هُوَ خَمْسُمِائَةٍ يَقْضِي بِخَمْسِمِائَةٍ فَقَطْ لِأَنَّ مَا حَدَثَ بَعْدَ الشَّهَادَةِ قَبْلَ الْقَضَاءِ يُجْعَلُ كَحُدُوثِهِ

عِنْدَ الشَّهَادَةِ ، وَهُوَ لَوْ شَهِدَ بِخَمْسِمِائَةٍ لَمْ يَقْضِ بِأَلْفٍ فَكَذَا إذَا غَلِطَ ، وَإِلَيْهِ مَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ ، فَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ فِي جَوَابِ الْمَسْأَلَةِ جَازَتْ شَهَادَتُهُ : أَيْ لَا تُرَدُّ ، لَكِنْ لَا يَقْضِي ، إلَّا كَمَا قُلْنَا سَوَاءٌ كَانَ وَهْمُهُ ذَلِكَ قَبْلَ الْقَضَاءِ أَوْ بَعْدَهُ .
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : إذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ لِرَجُلٍ بِشَهَادَةٍ ثُمَّ زَادَ فِيهَا قَبْلَ الْقَضَاءِ أَوْ بَعْدَهُ وَقَالَا أُوهِمْنَا وَهُمَا غَيْرُ مُتَّهَمَيْنِ قُبِلَ مِنْهُمَا ، وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ يَقْضِي بِالْكُلِّ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي رَجُلٍ شَهِدَ ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ يَوْمٍ وَقَالَ شَكَكْتُ فِي كَذَا وَكَذَا فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي يَعْرِفُهُ بِالصَّلَاحِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِيمَا بَقِيَ ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ بِالصَّلَاحِ فَهَذِهِ تُهْمَةٌ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ : إذَا شَهِدُوا بِأَنَّ الدَّارَ لِلْمُدَّعِي وَقَضَى الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمْ ثُمَّ قَالُوا لَا نَدْرِي لِمَنْ الْبِنَاءُ فَإِنِّي لَا أُضَمِّنُهُمْ قِيمَةَ الْبِنَاءِ وَحْدَهُ كَمَا لَوْ قَالُوا شَكَكْنَا فِي شَهَادَتِنَا ، وَإِنْ قَالُوا لَيْسَ الْبِنَاءُ لِلْمُدَّعِي ضَمِنُوا قِيمَةَ الْبِنَاءِ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ .
فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّ الشُّهُودَ لَا يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فِي قَوْلِهِمْ شَكَكْنَا قَبْلَ الْقَضَاءِ وَبَعْدَهُ فِي أَنَّهُ يُقْبَلُ إذَا كَانُوا عُدُولًا ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَوْضِعُ شُبْهَةٍ وَهُوَ مَا إذَا تَرَكَ لَفْظَ الشَّهَادَةِ أَوْ الْإِشَارَةَ إلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوْ الْمُدَّعِي أَوْ اسْمَ أَحَدِهِمَا ، فَإِنَّهُ وَإِنْ جَازَ بَعْدَ الْمَجْلِسِ يَكُونُ قَبْلَ الْقَضَاءِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ لَا يُتَصَوَّرُ بِلَا شَرْطِهِ وَهُوَ لَفْظَةُ الشَّهَادَةِ وَالتَّسْمِيَةُ وَلَوْ قَضَى لَا يَكُونُ قَضَاءً .

[ فُرُوعٌ ] مِنْ الْخُلَاصَةِ : وَقَفَ وَقْفًا عَلَى مَكْتَبٍ وَعَلَى مُعَلِّمِهِ فَغُصِبَ فَشَهِدَ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ أَنَّهُ وَقْفُ فُلَانٍ عَلَى مَكْتَبِ كَذَا وَلَيْسَ لِلشُّهُودِ أَوْلَادٌ فِي الْمَكْتَبِ قُبِلَتْ ، فَإِنْ كَانَ لَهُمْ أَوْلَادٌ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ تَجُوزُ أَيْضًا ، وَكَذَا لَوْ شَهِدَ أَهْلُ الْمَحَلَّةِ لِلْمَسْجِدِ بِشَيْءٍ ، وَكَذَا شَهَادَةُ الْفُقَهَاءِ عَلَى وَقْفِيَّةٍ وَقْفٍ عَلَى مَدْرَسَةِ كَذَا وَهُمْ مِنْ أَهْلِهَا تُقْبَلُ ، وَكَذَا إذَا شَهِدُوا أَنَّ هَذَا الْمُصْحَفَ وَقْفٌ عَلَى هَذَا الْمَسْجِدِ أَوْ الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ ، وَكَذَا أَبْنَاءُ السَّبِيلِ إذَا شَهِدُوا أَنَّهُ وَقْفٌ لِأَبْنَاءِ السَّبِيلِ .
وَقِيلَ إنْ كَانَ الشَّاهِدُ يَطْلُبُ لِنَفْسِهِ حَقًّا مِنْ ذَلِكَ لَا تُقْبَلُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ مِنْهُمْ الْإِمَامُ الْفَضْلِيُّ : لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الْمَسْجِدِ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ حَامِدٍ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ : تُقْبَلُ عَلَى كُلِّ حَالٍ لِأَنَّ كَوْنَ الْفَقِيهِ فِي الْمَدْرَسَةِ وَالرَّجُلِ فِي الْمَحَلَّةِ وَالصَّبِيِّ فِي الْمَكْتَبِ غَيْرَ لَازِمٍ بَلْ يَنْتَقِلُ ، وَأُخِذَ هَذَا مِمَّا سَنَذْكُرُهُ مِنْ كَلَامِ الْخَصَّافِ .

وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ أَوْصَى لِفُقَرَاءِ جِيرَانِهِ وَلِلشُّهُودِ أَوْلَادٌ مُحْتَاجُونَ فِي جَوَازِ الْمُوصِي قَالَ مُحَمَّدٌ : لَا تُقْبَلُ لِلِابْنِ وَتَبْطُلُ لِلْبَاقِينَ ، وَفِي الْوَقْفِ عَلَى فُقَرَاءِ جِيرَانِهِ كَذَلِكَ .
وَفِي وَقْفِ هِلَالٍ قَالَ : وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْجِيرَانِ عَلَى الْوَقْفِ .
قُلْتُ : وَكَذَا ذَكَرَ الْخَصَّافُ فِي أَوْقَافِهِ فِيمَنْ شَهِدَ عَلَى أَنَّهُ جَعَلَهَا صَدَقَةً مَوْقُوفَةً عَلَى فُقَرَاءِ جِيرَانِهِ أَوْ عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ مِنْ فُقَرَاءِ الْجِيرَانِ قَالَ : تَجُوزُ الشَّهَادَةُ لِأَنَّ فُقَرَاءَ الْجِيرَانِ لَيْسُوا قَوْمًا مَخْصُوصِينَ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إنَّمَا يَنْظُرُ إلَى فُقَرَاءِ الْجِيرَانِ يَوْمَ تُقْسَمُ الْغَلَّةُ ، فَمَنْ انْتَقَلَ مِنْهُمْ مِنْ جِوَارِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْغَلَّةِ حَقٌّ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ رَجُلَيْنِ فَقِيرَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ لَوْ شَهِدَا أَنَّهُ جَعَلَ أَرْضَهُ صَدَقَةً مَوْقُوفَةً عَلَى فُقَرَاءِ أَهْلِ الْكُوفَةِ أَنَّ الشَّهَادَةَ جَائِزَةٌ فَإِنَّ الْوَقْفَ لَيْسَ لَهُمَا بِأَعْيَانِهِمَا خَاصَّةً ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ وَلِيَّ الْوَقْفِ لَوْ أَعْطَى الْغَلَّةَ غَيْرَهُمَا مِنْ فُقَرَاءِ الْكُوفَةِ كَانَ جَائِزًا ، وَكَذَلِكَ كُلُّ شَهَادَةٍ تَكُونُ خَاصَّةً ، وَإِنَّمَا هِيَ عَامَّةٌ مِثْلُ أَهْلِ بَغْدَادَ وَأَهْلِ الْبَصْرَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ أَنَّ الشَّهَادَةَ جَائِزَةٌ .
وَذَكَرَ قَبْلَ هَذَا بِأَسْطُرٍ إنْ شَهِدَا أَنَّهُ جَعَلَهَا صَدَقَةً مَوْقُوفَةً عَلَى جِيرَانِهِ وَهُمَا جِيرَانُهُ فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ ، وَكَأَنَّ الْفَرْقَ تَعَيُّنُهُمَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ إذْ لَا جِيرَانَ لَهُ سِوَاهُمَا ، بِخِلَافِ تِلْكَ الصُّورَةِ .

وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ أَوْصَى بِثُلُثِهِ لِلْفُقَرَاءِ وَأَهْلُ بَيْتِهِ فُقَرَاءُ لَا تُقْبَلُ ،

وَلَوْ شَهِدَ بَعْضُ أَهْلِ الْقَرْيَةِ عَلَى بَعْضِ أَهْلِ الْقَرْيَةِ بِزِيَادَةِ الْخَرَاجِ لَا تُقْبَلُ ، وَإِنْ كَانَ خَرَاجُ كُلِّ أَرْضٍ مُعَيَّنًا أَوْ لَا خَرَاجَ لِلشَّاهِدِ تُقْبَلُ ، وَكَذَا أَهْلُ قَرْيَةٍ شَهِدُوا عَلَى ضَيْعَةٍ أَنَّهَا مِنْ قَرْيَتِهِمْ لَا تُقْبَلُ ، وَكَذَا أَهْلُ سِكَّةٍ يَشْهَدُونَ بِشَيْءٍ مِنْ مَصَالِحِ السِّكَّةِ إنْ كَانَتْ السِّكَّةُ غَيْرَ نَافِذَةٍ لَا تُقْبَلُ .
وَفِي النَّافِذَةِ : إنْ طَلَبَ حَقًّا لِنَفْسِهِ لَا تُقْبَلُ ، وَإِنْ قَالَ لَا آخُذُ شَيْئًا تُقْبَلُ ، وَكَذَا فِي وَقْفِ الْمَدْرَسَةِ عَلَى هَذَا فِي فَتَاوَى النَّسَفِيِّ .
وَقِيلَ إنْ كَانَتْ السِّكَّةُ نَافِذَةً تُقْبَلُ مُطْلَقًا .

وَفِي الْأَجْنَاسِ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْوَصِيَّةِ لِلْفُقَرَاءِ وَأَهْلُ بَيْتِ الشَّاهِدَيْنِ فُقَرَاءُ لَا تُقْبَلُ لَهُمَا وَلَا لِغَيْرِهِمَا .

وَلَوْ شَهِدَ أَنَّهُ أَوْصَى بِثُلُثِهِ لِفُقَرَاءِ بَنِي تَمِيمٍ وَهُمَا فَقِيرَانِ الشَّهَادَةُ جَائِزَةٌ وَلَا يُعْطَيَانِ مِنْهُ شَيْئًا .

وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ جَعَلَ أَرْضَهُ صَدَقَةً لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى فُقَرَاءِ قَرَابَتِهِ وَهُمَا مِنْ قَرَابَتِهِ وَهُمَا غَنِيَّانِ يَوْمَ شَهِدَا أَوْ فَقِيرَانِ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا .
وَوَضَعَ هَذِهِ الْخَصَّافُ فِيمَا إذَا شَهِدَا أَنَّهُ جَعَلَهَا صَدَقَةً مَوْقُوفَةً عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُمَا مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ فَهِيَ بَاطِلَةٌ .
قَالَ : وَكَذَا إذَا شَهِدُوا عَلَى فُقَرَاءِ أَهْلِ بَيْتِهِ وَمِنْ بَعْدِهِمْ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَيَوْمَ شَهِدَا هُمَا غَنِيَّانِ قَالَ شَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ ، لِأَنَّهُمَا إنْ افْتَقَرَا يَثْبُتُ الْوَقْفُ لَهُمَا بِشَهَادَتِهِمَا ،

وَكُلُّ شَهَادَةٍ تَجُرُّ نَفْعًا لِلشَّاهِدِ أَوْ لِأَبَوَيْهِ أَوْ لِأَوْلَادِهِ أَوْ لِزَوْجَتِهِ لَا تَجُوزُ .

( بَابُ الِاخْتِلَافِ فِي الشَّهَادَةِ ) قَالَ ( الشَّهَادَةُ إذَا وَافَقَتْ الدَّعْوَى قُبِلَتْ ، وَإِنْ خَالَفَتْهَا لَمْ تُقْبَلْ ) لِأَنَّ تَقَدُّمَ الدَّعْوَى فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ شَرْطُ قَبُولِ الشَّهَادَةِ ، وَقَدْ وُجِدَتْ فِيمَا يُوَافِقُهَا وَانْعَدَمَتْ فِيمَا يُخَالِفُهَا .

( بَابُ الِاخْتِلَافِ فِي الشَّهَادَةِ ) الِاخْتِلَافُ فِي الشَّهَادَةِ خِلَافُ الْأَصْلِ ، بَلْ الْأَصْلُ الِاتِّفَاقُ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيمَا يَتَفَرَّعُ عَنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ ذَلِكَ ، وَالشَّهَادَةُ كَذَلِكَ لِأَنَّهَا تَتَفَرَّعُ إمَّا عَنْ رُؤْيَةٍ كَمَا فِي الْغَصْبِ وَالْقَتْلِ أَوْ سَمَاعِ إقْرَارٍ وَغَيْرِهِ ، وَالشَّاهِدَانِ مُسْتَوِيَانِ فِي إدْرَاكِ ذَلِكَ فَيَسْتَوِيَانِ فِيمَا يُؤَدِّيَانِ فَلِهَذَا أَخَّرَهُ عَمَّا لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ خِلَافٌ ( قَوْلُهُ الشَّهَادَةُ إذَا وَافَقَتْ الدَّعْوَى قُبِلَتْ .
وَإِنْ خَالَفَتْهَا لَمْ تُقْبَلْ ) لِأَنَّ تَقَدُّمَ الدَّعْوَى فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ شَرْطُ قَبُولِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّهَا لِإِثْبَاتٍ فِي حَقِّهِ فَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِهِ وَهُوَ الدَّعْوَى ( وَقَدْ وُجِدَتْ ) الدَّعْوَى ( فِيمَا يُوَافِقُهَا ) أَيْ يُوَافِقُ الشَّهَادَةَ فَوُجِدَ شَرْطُ قَبُولِهَا فَتُقْبَلُ ( وَانْعَدَمَتْ فِيمَا يُخَالِفُهَا ) فَإِنَّهَا لَمَّا لَمْ تُوَافِقْهَا صَارَتْ الدَّعْوَى بِشَيْءٍ آخَرَ وَشَرْطُ قَبُولِ الدَّعْوَى بِمَا بِهِ الشَّهَادَةُ .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ الْمُوَافَقَةِ الْمُطَابِقَةَ ، بَلْ إمَّا الْمُطَابَقَةُ أَوْ كَوْنُ الْمَشْهُودِ بِهِ أَقَلَّ مِنْ الْمُدَّعَى بِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ أَكْثَرَ ، فَمِنْ الْأَقَلِّ مَا لَوْ ادَّعَى نِكَاحَ امْرَأَةٍ بِسَبَبِ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا بِمَهْرِ كَذَا فَشَهِدُوا أَنَّهَا مَنْكُوحَتُهُ بِلَا زِيَادَةٍ تُقْبَلُ ، وَيَقْضِي بِمَهْرِ الْمِثْلِ إنْ كَانَ قَدْرَ مَا سَمَّاهُ أَوْ أَقَلَّ ، فَإِنْ زَادَ عَلَيْهِ لَا يَقْضِي بِالزِّيَادَةِ ، كَذَا فِي غَيْرِ نُسْخَةٍ مِنْ الْخُلَاصَةِ .
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ إذَا كَانَتْ هِيَ الْمُدَّعِيَةَ ، وَمِنْهُ إذَا ادَّعَى مِلْكًا مُطْلَقًا أَوْ بِالنِّتَاجِ فَشَهِدُوا فِي الْأَوَّلِ بِالْمِلْكِ بِسَبَبٍ وَفِي الثَّانِي بِالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ قُبِلَتَا ، لِأَنَّ الْمِلْكَ بِسَبَبٍ أَقَلُّ مِنْ الْمُطْلَقِ لِأَنَّهُ يُفِيدُ الْأَوَّلِيَّةَ ، بِخِلَافِ بِسَبَبٍ يُفِيدُ الْحُدُوثَ ، وَالْمُطْلَقُ أَقَلُّ مِنْ النِّتَاجِ لِأَنَّ الْمِلْكَ الْمُطْلَقَ يُفِيدُ الْأَوَّلِيَّةَ عَلَى

الِاحْتِمَالِ وَالنِّتَاجَ عَلَى الْيَقِينِ ، وَفِي قَلْبِهِ وَهُوَ دَعْوَى الْمُطْلَقِ فَشَهِدُوا بِالنِّتَاجِ لَا تُقْبَلُ .
وَمِنْ الْأَكْثَرِ مَا لَوْ ادَّعَى الْمِلْكَ بِسَبَبٍ فَشَهِدُوا بِالْمُطْلَقِ لَا تُقْبَلُ إلَّا إذَا كَانَ ذَلِكَ السَّبَبُ الْإِرْثَ ، لِأَنَّ دَعْوَى الْإِرْثِ كَدَعْوَى الْمُطْلَقِ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ .
وَقَيَّدَهُ فِي الْأَقْضِيَةِ بِمَا إذَا نَسَبَهُ إلَى مَعْرُوفٍ سَمَّاهُ وَنَسِيَهُ .
أَمَّا لَوْ جَهِلَهُ فَقَالَ اشْتَرَيْته أَوْ قَالَ مِنْ رَجُلٍ أَوْ زَيْدٍ وَهُوَ غَيْرُ مَعْرُوفٍ فَشَهِدُوا بِالْمُطْلَقِ قُبِلَتْ فَهِيَ خِلَافِيَّةٌ .
وَذَكَرَ الْخِلَافَ فِي الْقَبُولِ رَشِيدُ الدِّينِ ، وَعَنْ هَذَا اخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا تَحَمَّلَ الشَّهَادَةَ عَلَى مِلْكٍ بِسَبَبٍ ، وَأَرَادَ أَنْ يَشْهَدَ بِالْمُطْلَقِ لَمْ يُذْكَرْ فِي شَيْءٍ مِنْ الْكُتُبِ .
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ وَالْأَصَحُّ لَا يَحِلُّ لَهُ .
قُلْت : كَيْفَ وَفِيهِ إبْطَالُ حَقِّهِ فَإِنَّهَا لَا تُقْبَلُ فِيمَا لَوْ ادَّعَاهَا بِسَبَبٍ .
وَلَوْ ادَّعَى الشِّرَاءَ مَعَ الْقَبْضِ فَقَالَ وَقَبَضْته مِنْهُ هَلْ هُوَ كَالْمُطْلَقِ حَتَّى لَوْ شَهِدُوا بِالْمُطْلَقِ قُبِلَتْ .
الْخُلَاصَةُ تُقْبَلُ .
وَحُكِيَ فِي فُصُولِ الْعِمَادِيِّ خِلَافًا ، قِيلَ تُقْبَلُ لِأَنَّ دَعْوَى الشِّرَاءِ مَعَ الْقَبْضِ دَعْوَى مُطْلَقِ الْمِلْكِ حَتَّى لَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ هَذِهِ الدَّعْوَى تَعْيِينُ الْعَبْدِ ، وَقِيلَ لَا لِأَنَّ دَعْوَى الشِّرَاءِ مُعْتَبَرَةٌ فِي نَفْسِهَا لَا كَالْمُطْلَقِ ؛ أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَا يَقْضِي لَهُ بِالزَّوَائِدِ فِي ذَلِكَ .
وَفِي زَوَائِدِ شَمْسِ الْإِسْلَامِ : دَعْوَى الدَّيْنِ كَدَعْوَى الْعَيْنِ ، وَكَذَا فِي شَرْحِ الْحِيَلِ لِلْحَلْوَانِيِّ ، فَلَوْ ادَّعَى الدَّيْنَ بِسَبَبِ الْقَرْضِ وَشَبَهِهِ فَشَهِدُوا بِالدَّيْنِ مُطْلَقًا ، قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ مَحْمُودٌ الْأُوزْجَنْدِيُّ : لَا تُقْبَلُ .
قَالَ فِي الْمُحِيطِ فِي الْأَقْضِيَةِ : مَسْأَلَتَانِ يَدُلَّانِ عَلَى الْقَبُولِ انْتَهَى .
وَعِنْدِي الْوَجْهُ الْقَبُولُ لِأَنَّ أَوَّلِيَّةَ الدِّينِ لَا مَعْنَى لَهُ ، بِخِلَافِ الْعَيْنِ .
وَفِي فَتَاوَى رَشِيدِ الدِّينِ : لَوْ

ادَّعَى الْمِلْكَ الْمُطْلَقَ فَشَهِدُوا عَلَيْهِ بِسَبَبٍ ثُمَّ شَهِدُوا عَلَى الْمُطْلَقِ لَا تُقْبَلُ لِأَنَّهُمْ لَمَّا شَهِدُوا بِسَبَبِ حِمْلِ دَعْوَى الْمُطْلَقِ عَلَيْهِ فَلَا تُقْبَلُ بَعْدَهُ عَلَى الْمُطْلَقِ .
وَلَوْ شَهِدُوا أَوَّلًا عَلَى الْمُطْلَقِ ثُمَّ شَهِدُوا عَلَى الْمِلْكِ بِسَبَبٍ تُقْبَلُ لِأَنَّهُ بِبَعْضِ مَا شَهِدُوا بِهِ أَوَّلًا .
وَلَوْ ادَّعَى الْمُطْلَقَ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِهِ وَالْآخَرُ مَعَ السَّبَبِ تُقْبَلُ وَيَقْضِي بِالْمِلْكِ الْحَادِثِ كَمَا لَوْ شَهِدَا جَمِيعًا بِهِ ، وَكُلُّ مَا كَانَ بِسَبَبِ عَقْدِ شِرَاءٍ أَوْ هِبَةٍ فَهُوَ مِلْكٌ حَادِثٌ .
وَلَوْ ادَّعَى بِسَبَبٍ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِهِ وَالْآخَرُ مُطْلَقًا لَا تُقْبَلُ كَمَا لَوْ شَهِدُوا جَمِيعًا بِالْمُطْلَقِ وَدَعْوَى الْمِلْكِ بِسَبَبِ الْإِرْثِ كَدَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ .
وَإِذَا أَرَّخَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ دُونَ الْآخَرِ تُقْبَلُ فِي دَعْوَى غَيْرِ الْمُؤَرِّخِ لَا فِي دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُؤَرَّخِ .
وَلَوْ ادَّعَى الشِّرَاءَ بِسَبَبٍ أَرَّخَهُ فَشَهِدُوا لَهُ بِهِ بِلَا تَارِيخٍ تُقْبَلُ لِأَنَّهُ أَقَلُّ وَعَلَى الْقَلْبِ لَا تُقْبَلُ ، وَلَوْ كَانَ الشِّرَاءُ شَهْرَانِ فَأَرَّخُوا شَهْرًا تُقْبَلُ .
وَعَلَى الْقَلْبِ لَا ، وَلَوْ أَرَّخَ الْمُطْلِقُ بِأَنْ قَالَ هَذَا الْعَيْنُ لِي مُنْذُ سَنَةٍ فَشَهِدَا أَنَّهُ لَهُ مُنْذُ سَنَتَيْنِ لَا تُقْبَلُ وَعَلَى الْقَلْبِ تُقْبَلُ .

وَمِنْ الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ مَا تَضْمَنَّهُ هَذِهِ الْفُرُوعُ الَّتِي نَذْكُرُهَا دَارٌ فِي يَدِ رَجُلَيْنِ اقْتَسَمَاهَا وَغَابَ أَحَدُهُمَا فَادَّعَى رَجُلٌ عَلَى الْحَاضِرِ أَنَّ لَهُ نِصْفَ هَذِهِ الدَّارِ مُشَاعًا فَشَهِدُوا أَنَّ لَهُ النِّصْفَ الَّذِي فِي يَدِ الْحَاضِرِ فَهِيَ بَاطِلَةٌ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ مِنْ الْمُدَّعَى بِهِ .

ادَّعَى دَارًا وَاسْتَثْنَى طَرِيقَ الدُّخُولِ وَحُقُوقَهَا وَمَرَافِقَهَا فَشَهِدُوا أَنَّهَا لَهُ وَلَمْ يَسْتَثْنُوا شَيْئًا لَا تُقْبَلُ ، وَكَذَا لَوْ اسْتَثْنَى بَيْتًا وَلَمْ يَسْتَثْنُوهُ إلَّا إذَا وَفَّقَ فَقَالَ كُنْت بِعْت ذَلِكَ الْبَيْتَ مِنْهَا فَتُقْبَلُ .

وَفِي الْمُحِيطِ نَقْلًا مِنْ الْأَقْضِيَةِ وَأَدَبِ الْقَاضِي لِلْخَصَّافِ : إذَا ادَّعَى الْمِلْكَ لِلْحَالِ : أَيْ فِي الْعَيْنِ فَشَهِدُوا أَنَّ هَذَا الْعَيْنَ كَانَ قَدْ مَلَكَهُ تُقْبَلُ لِأَنَّهَا أَثْبَتَتْ الْمِلْكَ فِي الْمَاضِي فَيُحْكَمُ بِهَا فِي الْحَالِ مَا لَمْ يُعْلَمْ الْمُزِيلُ .
قَالَ رَشِيدُ الدِّينِ بَعْدَمَا ذَكَرَهَا : لَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَقُولَ " امرو زملك وي مي دَانَيْت " انْتَهَى ، مَعْنَى هَذَا لَا يَحِلُّ لِلْقَاضِي أَنْ يَقُولَ أَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ مَلَكَهُ الْيَوْمَ .
نَعَمْ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَقُولَ هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ مِلْكِهِ فَقَطْ ، ذَكَرَهُ فِي الْمُحِيطِ .
قَالَ الْعِمَادِيُّ فَعَلَى هَذَا إذَا ادَّعَى الدَّيْنَ فَشَهِدَا أَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ كَذَا يَنْبَغِي أَنْ تُقْبَلَ كَمَا فِي الْعَيْنِ .
وَمِثْلُهُ إذَا ادَّعَى أَنَّهَا زَوْجَتُهُ فَشَهِدُوا أَنَّهُ كَانَ تَزَوَّجَهَا وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِلْحَالِ تُقْبَلُ ، هَذَا كُلُّهُ إذَا شَهِدُوا بِالْمِلْكِ فِي الْمَاضِي .
أَمَّا لَوْ شَهِدُوا بِالْيَدِ لَهُ فِي الْمَاضِي لَا يُقْضَى بِهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَإِنْ كَانَتْ الْيَدُ تُسَوِّغُ الشَّهَادَةَ بِالْمِلْكِ عَلَى مَا أَسْلَفْنَاهُ .

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ يَقْضِي بِهَا ، وَخَرَّجَ الْعِمَادِيُّ عَلَى هَذَا مَا فِي الْوَاقِعَاتِ : لَوْ أُقِرَّ بِدَيْنِ رَجُلٍ عِنْدَ رَجُلَيْنِ ثُمَّ شَهِدَ عَدْلَانِ عِنْدَ الشَّاهِدَيْنِ أَنَّهُ قَضَى دَيْنَهُ أَنَّ شَاهِدَيْ الْإِقْرَارِ يَشْهَدَانِ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَا يَشْهَدَانِ أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ ، فَقَالَ هَذَا أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إذَا ادَّعَى الدَّيْنَ وَشَهِدُوا أَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ تُقْبَلُ ، وَهَذَا غَلَطٌ فَإِنَّهُ إنَّمَا تَعَرَّضَ لِمَا يَسُوغُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ لَا لِلْقَبُولِ وَعَدَمِهِ ، بَلْ رُبَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ مَنْعِهِ إحْدَى الْعِبَارَتَيْنِ دُونَ الْأُخْرَى ثُبُوتُ الْقَبُولِ فِي إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى ، كَيْفَ وَقَدْ ثَبَتَ بِشَهَادَةِ الْعَدْلَيْنِ عِنْدَ الشَّاهِدَيْنِ أَنَّهُ قَضَاهُ فَلَا يَشْهَدَانِ حَتَّى يُخْبِرَ الْقَاضِيَ بِذَلِكَ ، وَأَنَّ الْقَاضِيَ حِينَئِذٍ لَا يَقْضِي بِشَيْءٍ ، وَسَيَأْتِي مِنْ مَسَائِلِ الْكِتَابِ إذَا عَلِمَ شَاهِدُ الْأَلْفِ أَنَّهُ قَضَاهُ خَمْسَمِائَةٍ لَا يَشْهَدُ حَتَّى يُقِرَّ بِقَبْضِهَا ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .

وَعَكْسُ مَا نَحْنُ فِيهِ لَوْ ادَّعَى فِي الْمَاضِي أَنَّ هَذِهِ الْجَارِيَةَ كَانَتْ مِلْكِي فَشَهِدَ أَنَّهَا لَهُ اُخْتُلِفَ فِي قَبُولِهَا ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ ، وَكَذَا لَوْ ادَّعَى أَنَّهُ كَانَ لَهُ وَشَهِدَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ لَا تُقْبَلُ ، وَإِنَّمَا تُقْبَلُ إذَا شَهِدُوا عَلَى طِبْقِ دَعْوَاهُ هَذِهِ أَنَّهَا كَانَتْ لَهُ لِأَنَّ إسْنَادَ الْمُدَّعِي دَلِيلٌ عَلَى نَفْيِ مِلْكِهِ فِي الْحَالِ ، إذْ لَا فَائِدَةَ لَهُ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى الْمَاضِي إلَّا ذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ مَا شَهِدُوا بِهِ مُدَّعًى بِهِ بِخِلَافِ الشَّاهِدَيْنِ إذَا أَسْنَدَا ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِهِمَا إيَّاهُ فِي الْحَالِ لِجَوَازِ قَصْدِهِمَا إلَى الِاحْتِرَازِ عَنْ الْإِخْبَارِ بِمَا لَا عِلْمَ لَهُمَا بِهِ إذْ لَمْ يَعْلَمَا سِوَى ثُبُوتِهِ فِي الْمَاضِي وَقَدْ يَكُونُ انْتَقَلَ فَيَحْتَرِزَانِ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ يَثْبُتُ لِلْحَالِ بِالِاسْتِصْحَابِ .

وَفِي الْخُلَاصَةِ : ادَّعَى النَّقْرَةَ الْجَيِّدَةَ وَبَيَّنَ الْوَزْنَ فَشَهِدَا عَلَى النَّقْرَةِ وَالْوَزْنِ وَلَمْ يَذْكُرَا جَيِّدَةً أَوْ رَدِيئَةً أَوْ وَسَطًا تُقْبَلُ وَيُقْضَى بِالرَّدِيءِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ ادَّعَى قَفِيزَ دَقِيقٍ مَعَ النُّخَالَةِ فَشَهِدُوا مِنْ غَيْرِ نُخَالَةٍ أَوْ مَنْخُولًا فَشَهِدُوا غَيْرَ الْمَنْخُولِ لَا تُقْبَلُ .
وَفِيهَا أَنَّ مَنْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَلْفًا مِنْ ثَمَنِ بَيْتٍ فَشَهِدُوا عَلَى أَلْفٍ مِنْ ضَمَانِ جَارِيَةٍ غَصَبَهَا وَهَلَكَتْ عِنْدَهُ لَا تُقْبَلُ ، وَعَنْ هَذَا ذَكَرَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَسْطُورَةِ وَهِيَ مَا إذَا شَهِدَا بِأَلْفٍ مِنْ ثَمَنِ جَارِيَةٍ بَاعَهَا مِنْهُ فَقَالَ الْبَائِعُ إنَّهُ أَشْهَدَهُمَا عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَاَلَّذِي لِي عَلَيْهِ ثَمَنُ مَتَاعٍ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا فَقَالَ فِي الْخُلَاصَةِ : هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَى إقْرَارِهِ بِذَلِكَ : أَيْ إقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِثَمَنِ الْجَارِيَةِ لِأَنَّ بِمِثْلِهِ فِي الْإِقْرَارِ تُقْبَلُ لِمَا سَيَأْتِي فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَهَا .

وَفِي الْكَفَالَةِ : إذَا شَهِدُوا أَنَّهُ كَفَلَ بِأَلْفٍ عَنْ فُلَانٍ ، فَقَالَ الطَّالِبُ هُوَ أَقَرَّ بِذَلِكَ لَكِنَّ الْكَفَالَةَ كَانَتْ عَنْ فُلَانٍ آخَرَ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالْمَالِ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ فَلَا يَضُرُّهُمَا الِاخْتِلَافُ فِي السَّبَبِ .
وَمِثْلُهُ ادَّعَى أَنَّهُ آجَرَهُ دَارًا وَقَبَضَ مَالَ الْإِجَارَةِ وَمَاتَ فَانْفَسَخَتْ الْإِجَارَةُ وَطَلَبَ مَالَ الْإِجَارَةِ فَشَهِدُوا أَنَّ الْآجِرَ أَقَرَّ بِقَبْضِ مَالِ الْإِجَارَةِ تُقْبَلُ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدُوا عَلَى عَقْدِ الْإِجَارَةِ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِالْمَقْصُودِ وَهُوَ اسْتِحْقَاقُ مَالِ الْإِجَارَةِ ، وَلَوْ ادَّعَى الدَّيْنَ أَوْ الْقَرْضَ فَشَهِدُوا عَلَى إقْرَارِهِ بِالْمَالِ تُقْبَلُ .
وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِهِ وَالْآخَرُ بِالْإِقْرَارِ بِهِ فَقَدْ أُطْلِقَ الْقَبُولُ فِي الْمُحِيطِ وَالْعُمْدَةِ .
وَقَالَ قَاضِي خَانْ : قَالُوا تُقْبَلُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ .

وَلَوْ ادَّعَى قَرْضًا فَشَهِدُوا أَنَّ الْمُدَّعِيَ دَفَعَ إلَيْهِ كَذَا وَلَمْ يَقُولُوا وَقَبَضَهَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَثْبُتُ قَبْضُهُ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الْبَيْعِ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الْبَيْعِ شَهَادَةٌ عَلَى الشِّرَاءِ ، وَإِذَا ثَبَتَ الْقَبْضُ بِذَلِكَ يَكُونُ الْقَوْلُ لِذِي الْيَدِ أَنَّهُ قَبَضَ بِجِهَةِ الْأَمَانَةِ فَيَحْتَاجُ إلَى بَيِّنَةٍ عَلَى أَنَّهُ بِجِهَةِ الْقَرْضِ إنْ ادَّعَاهُ .

وَلَوْ ادَّعَى أَنَّهُ قَضَاهُ دَيْنَهُ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِهِ وَالْآخَرُ بِإِقْرَارِهِ أَنَّهُ قَضَاهُ لَا تُقْبَلُ ، وَلَوْ شَهِدُوا جَمِيعًا بِالْإِقْرَارِ بِهِ قُبِلَتْ .

وَلَوْ ادَّعَى شِرَاءَ دَارٍ مِنْ رَجُلٍ فَشَهِدُوا أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ وَكِيلِهِ لَا تُقْبَلُ ، وَكَذَا لَوْ شَهِدُوا أَنَّ فُلَانًا بَاعَهَا مِنْهُ وَهَذَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَجَازَ الْبَيْعَ ادَّعَى أَنَّك قَبَضْت مِنْ مَالِي جَمَلًا بِغَيْرِ حَقٍّ مَثَلًا وَذَكَرَ سِنَّهُ وَقِيمَتَهُ فَشَهِدُوا أَنَّهُ قَبَضَ مِنْ فُلَانٍ غَيْرَ الْمُدَّعِي تُقْبَلُ وَيُجْبَرُ عَلَى إحْضَارِهِ لِأَنَّهُ قَالَ مِنْ مَالِي وَلَمْ يَقُلْ قَبَضْتَ مِنِّي فَلَا يَكُونُ مَا شَهِدَا بِهِ يُنَاقِضُهُ فَيَحْضُرُهُ لِيُشِيرَ إلَيْهِ بِالدَّعْوَى .

فَإِذَا اخْتَلَفَ الشَّاهِدَانِ وَوُجِدَ شَرْطُ الْقَبُولِ فِي شَهَادَةِ أَحَدِهِمَا فَقَطْ وَهُوَ مَا طَابَقَ الدَّعْوَى مِنْ الشَّاهِدَيْنِ فَالْوَاحِدُ لَا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ لِلْقَاضِي .
وَإِنَّمَا قَيَّدَ الِاشْتِرَاطَ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ احْتِرَازًا عَنْ حُقُوقِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ ، فَإِنَّ الدَّعْوَى مُدَّعٍ خَاصٍّ غَيْرُ الشَّاهِدِ لَيْسَ شَرْطًا لِقَبُولِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ حَقَّهُ تَعَالَى وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ الْقِيَامُ بِهِ فِي إثْبَاتِهِ ، وَذَلِكَ لِلشَّاهِدِ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَكَانَ قَائِمًا فِي الْخُصُومَةِ مِنْ جِهَةِ الْوُجُوبِ عَلَيْهِ وَشَاهِدًا مِنْ جِهَةِ تَحَمُّلِ ذَلِكَ فَلَمْ يَحْتَجْ فِيهَا إلَى خَصْمٍ آخَرَ .

قَالَ ( وَيُعْتَبَرُ اتِّفَاقُ الشَّاهِدَيْنِ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، فَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِأَلْفَيْنِ لَمْ تُقْبَلْ الشَّهَادَةُ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا تُقْبَلُ عَلَى الْأَلْفِ إذَا كَانَ الْمُدَّعِي يَدَّعِي الْأَلْفَيْنِ ) .
وَعَلَى هَذَا الْمِائَةُ وَالْمِائَتَانِ وَالطَّلْقَةُ وَالطَّلْقَتَانِ وَالطَّلْقَةُ وَالثَّلَاثُ .
لَهُمَا أَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى الْأَلْفِ أَوْ الطَّلْقَةِ وَتَفَرَّدَ أَحَدُهُمَا بِالزِّيَادَةِ فَيَثْبُتُ مَا اجْتَمَعَا عَلَيْهِ دُونَ مَا تَفَرَّدَ بِهِ أَحَدُهُمَا فَصَارَ كَالْأَلْفِ وَالْأَلْفِ وَالْخَمْسِمِائَةِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُمَا اخْتَلَفَا لَفْظًا ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَعْنَى لِأَنَّهُ يُسْتَفَادُ بِاللَّفْظِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْأَلْفَ لَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْأَلْفَيْنِ بَلْ هُمَا جُمْلَتَانِ مُتَبَايِنَتَانِ فَحَصَلَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاهِدٌ وَاحِدٌ فَصَارَ كَمَا إذَا اخْتَلَفَ جِنْسُ الْمَالِ .

( قَوْلُهُ وَيُعْتَبَرُ اتِّفَاقُ الشَّاهِدَيْنِ إلَخْ ) أَيْ يُشْتَرَطُ التَّطَابُقُ بَيْنَ كُلٍّ مِنْ الشَّاهِدَيْنِ كَمَا بَيْنَ الشَّهَادَةِ وَالدَّعْوَى أَيْضًا لِوُجُوبِ الْقَضَاءِ .
ثُمَّ الشَّرْطُ فِي تَطَابُقِ الشَّاهِدَيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى ) وَالْمُرَادُ مِنْ تَطَابُقِهِمَا تَطَابُقُ لَفْظِهِمَا عَلَى إفَادَةِ الْمَعْنَى سَوَاءٌ كَانَ بِعَيْنِ ذَلِكَ اللَّفْظِ أَوْ بِمُرَادِفٍ ، حَتَّى لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالْهِبَةِ وَالْآخِرُ بِالْعَطِيَّةِ قُبِلَتْ لَا بِطَرِيقِ التَّضَمُّنِ ( فَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِأَلْفَيْنِ لَمْ تُقْبَلْ ) فَلَمْ يُقْضَ بِشَيْءٍ ( عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا تُقْبَلُ عَلَى الْأَلْفِ إذَا كَانَ الْمُدَّعِي يَدَّعِي أَلْفَيْنِ ) بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ يَدَّعِي أَلْفًا لَا يُقْضَى بِشَيْءٍ اتِّفَاقًا لِأَنَّهُ أَكْذَبَ شَاهِدَ الْأَلْفَيْنِ ، إلَّا إنْ وَفَّقَ فَقَالَ كَانَ لِي عَلَيْهِ أَلْفَانِ فَقَضَانِي أَلْفًا أَوْ أَبْرَأَتْهُ مِنْ أَلْفٍ وَالشَّاهِدُ لَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يَقْضِي لَهُ بِالْأَلْفِ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِمِائَةٍ وَالْآخَرُ بِمِائَتَيْنِ أَوْ بِطَلْقَةٍ وَطَلْقَتَيْنِ وَطَلْقَةٍ وَثَلَاثٍ لَا يُقْضَى بِطَلَاقٍ أَصْلًا عِنْدَهُ ، وَعِنْدَهُمَا يُقْضَى بِالْأَقَلِّ ، وَعَلَى هَذَا الْخَمْسَةُ وَالْعَشَرَةُ وَالْعَشَرَةُ وَالْخَمْسَةَ عَشَرَ وَالدِّرْهَمُ وَالدِّرْهَمَانِ ، وَهَذَا فِي دَعْوَى الدَّيْنِ .
أَمَّا فِي دَعْوَى الْعَيْنِ بِأَنْ كَانَ فِي كِيسٍ أَلْفَا دِرْهَمٍ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّ جَمِيعَ مَا فِي الْكِيسِ وَهُوَ أَلْفَا دِرْهَمٍ لَهُ وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّ جَمِيعَ مَا فِي الْكِيسِ لَهُ وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا لِأَنَّ ذِكْرَ الْمِقْدَارِ فِي الْمُشَارِ إلَيْهِ مُسْتَغْنًى عَنْهُ ذَكَرَهُ الْخَبَّازِيُّ .
وَبِقَوْلِهِمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ثُمَّ فِي رِوَايَةٍ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ يَسْتَحِقُّ الزَّائِدَ بِالْحَلِفِ عَلَيْهِ ( مَا أَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى الْأَلْفِ أَوْ الطَّلْقَةِ وَتَفَرَّدَ أَحَدُهُمَا

بِالزِّيَادَةِ فَيَثْبُتُ مَا اجْتَمَعَا عَلَيْهِ دُونَ مَا تَفَرَّدَ بِهِ أَحَدُهُمَا وَصَارَ كَالْأَلْفِ وَالْأَلْفُ وَالْخَمْسُمِائَةِ ) حَيْثُ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّهُ يَقْضِي بِالْأَلْفِ لِذَلِكَ وَهُوَ أَنَّهُمَا اجْتَمَعَا عَلَى الشَّهَادَةِ بِهَا ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُمَا اخْتَلَفَا ) فِي لَفْظٍ غَيْرِ مُرَادِفٍ ( لِأَنَّ الْأَلْفَ لَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْأَلْفَيْنِ ) وَيَلْزَمُهُ اخْتِلَافُ الْمَعْنَى فَإِنَّمَا ( هُمَا ) أَيْ الْأَلْفُ وَالْأَلْفَانِ ( جُمْلَتَانِ ) أَيْ عَدَدَانِ ( مُتَبَايِنَتَانِ حَصَلَ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا شَاهِدٌ وَصَارَ كَمَا إذَا اخْتَلَفَ جِنْسُ الْمَالِ ) بِأَنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِكُرِّ شَعِيرٍ وَالْآخِرُ بِكُرِّ حِنْطَةٍ أَوْ بِمِائَةٍ بِيضٍ وَالْآخَرُ بِمِائَةٍ سُودٍ وَالْمُدَّعِي يَدَّعِي السُّودَ لَا تُقْبَلُ عَلَى شَيْءٍ أَصْلًا لِأَنَّ الْمُدَّعِي كَذَّبَ شَاهِدَ الْبِيضِ ، إلَّا أَنْ يُوَفِّقَ الْمُدَّعِي فَيَقُولَ كَانَ لِي الْبِيضُ فَأَبْرَأَتْهُ مِنْ صِفَةِ الْجُودَةِ فَتُقْبَلُ حِينَئِذٍ ، أَمَّا لَوْ كَانَ يَدَّعِي الْبِيضَ وَلَهَا مَزِيَّةٌ فَإِنَّهُ يُقْضَى بِالسُّودِ ، وَلَمْ يَحْكُوا خِلَافًا ذَكَرَهُ فِي الْخُلَاصَةِ عَنْ الْأَقْضِيَةِ .
وَكَذَا لَوْ شَهِدَا لِمُدَّعِي كُرِّ حِنْطَةٍ وَقَالَ أَحَدُهُمَا جَيِّدَةٌ وَقَالَ الْآخَرُ رَدِيئَةٌ وَالدَّعْوَى بِالْأَفْضَلِ يُقْضَى بِالْأَقَلِّ ، وَكَذَا لَوْ ادَّعَى مِائَةَ دِينَارٍ فَقَالَ أَحَدُهُمَا نَيْسَابُورِيَّةً وَقَالَ الْآخَرُ بُخَارِيَّةً وَالْمُدَّعِي يَدَّعِي النَّيْسَابُورِيَّة وَهِيَ أَجْوَدُ يُقْضَى بِالْبُخَارِيَّةِ بِلَا خِلَافٍ يُنْقَلُ وَيَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ أَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى الْكَمْيَّةِ وَالْجِنْسِ فَصَارَ كَمَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ .
فَإِنْ قِيلَ : لَمْ يَقَعْ جَوَابُ قَوْلِهِمَا الشَّاهِدُ بِالْأَلْفَيْنِ شَاهِدٌ بِالْأَلْفِ فِي ضِمْنِهِمَا فَاجْتَمَعَا عَلَيْهَا وَتَفَرَّدَ أَحَدُهُمَا بِالزِّيَادَةِ فَلَا يُقْبَلُ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ مَا شَهِدَ بِهَا إلَّا مِنْ حَيْثُ هِيَ جُزْءُ الْأَلْفَيْنِ ، فَإِنَّمَا

تَثْبُتُ الْأَلْفُ فِي ضِمْنِ ثُبُوتِ الْأَلْفَيْنِ لِأَنَّ الْمُتَضَمَّنَ لَا يَثْبُتُ بِدُونِ الْمُتَضَمِّنِ وَلَمْ يَثْبُتْ الْأَلْفَانِ فَلَمْ يَثْبُتْ الْأَلْفُ .
فَإِنْ قِيلَ : يُشْكِلُ عَلَى قَوْلِهِ مَا لَوْ ادَّعَى أَلْفَيْنِ وَشَهِدَ بِأَلْفٍ تُقْبَلُ بِالِاتِّفَاقِ مَعَ عَدَمِ الْمُطَابَقَةِ بَيْنَ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ وَهِيَ شَرْطٌ عَلَى قَوْلِ الْكُلِّ .
وَمَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَالَ لَهَا أَنْتِ خَلِيَّةٌ وَالْآخَرُ أَنْتِ بَرِيَّةٌ لَا يُقْضَى بِبَيْنُونَةٍ أَصْلًا مَعَ إفَادَتِهِمَا مَعًا الْبَيْنُونَةَ .
وَتَقَدَّمَ أَنَّ اخْتِلَافَ اللَّفْظِ لَهُ وَحْدَهُ غَيْرُ ضَائِرٍ كَمَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالْهِبَةِ وَالْآخَرُ بِالْعَطِيَّةِ تُقْبَلُ .
أُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الِاتِّفَاقَ بَيْنَ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ وَإِنْ اُشْتُرِطَ لَكِنْ لَيْسَ عَلَى وَزْنِ اتِّفَاقِهِ بَيْنَ الشَّاهِدَيْنِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى الْغَصْبَ أَوْ الْقَتْلَ فَشَهِدُوا بِإِقْرَارِهِ بِهِ تُقْبَلُ ، وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالْغَصْبِ وَالْآخَرُ عَلَى إقْرَارِهِ بِهِ لَا تُقْبَلُ ، وَحِينَئِذٍ فَقَدْ حَصَلَتْ الْمُوَافَقَةُ بَيْنَ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ يَدَّعِي أَلْفَيْنِ كَانَ مُدَّعِيًا الْأَلْفَ وَقَدْ شَهِدَ بِهِ اثْنَانِ صَرِيحًا فَتُقْبَلُ ، بِخِلَافِ شَهَادَتِهِمَا بِالْأَلْفِ وَالْأَلْفَيْنِ لَمْ يَنُصَّ شَاهِدُ الْأَلْفَيْنِ عَلَى الْأَلْفِ إلَّا مِنْ حَيْثُ هِيَ أَلْفَانِ وَلَمْ يَثْبُتْ الْأَلْفَانِ .
وَفِي الْمَبْسُوطِ وَالْأَسْرَارِ : الَّذِي يُبْطِلُ مَذْهَبَهُمَا مَا لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ بِطَلْقَةٍ : يَعْنِي قَبْلَ الدُّخُولِ وَآخَرَانِ بِثَلَاثٍ وَفَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا قَبْلَ الدُّخُولِ ثُمَّ رَجَعُوا كَانَ ضَمَانُ نِصْفِ الشَّهْرِ عَلَى شَاهِدَيْ الثَّلَاثِ لَا عَلَى شَاهِدَيْ الْوَاحِدَةِ ، وَلَوْ اُعْتُبِرَ مَا قَالَا إنَّ الْوَاحِدَةَ تُوجَدُ فِي الثَّلَاثِ كَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا ، وَلَا يَلْزَمُ مَا إذَا قَالَ لَهَا طَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا فَطَلَّقَتْ وَاحِدَةً تَقَعُ الْوَاحِدَةُ لِأَنَّ التَّفْوِيضَ تَمْلِيكٌ فَقَدْ مَلَّكَهَا الثَّلَاثَ

بِالتَّفْوِيضِ إلَيْهَا فِيهَا وَالْمَالِكُ يُوجَدُ مِنْ مَمْلُوكِهِ مَا شَاءَ كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا أَلْفًا يَقَعُ الثَّلَاثُ لِمِلْكِهِ الْعَدَدَ ، غَيْرَ أَنَّهُ لَغَا مَا فَوْقَ الثَّلَاثِ شَرْعًا .
وَأَمَّا عَنْ الثَّانِي فَيُمْنَعُ التَّرَادُفُ لِأَنَّ مَعْنَى خَلِيَّةٍ لَيْسَ مَعْنَى بَرِيَّةٍ لُغَةً وَالْوُقُوعُ لَيْسَ إلَّا بِاعْتِبَارِ مَعْنَى اللُّغَةِ وَلِذَا قُلْنَا إنَّ الْكِنَايَاتِ عَوَامِلُ بِحَقَائِقِهَا فَهُمَا لَفْظَانِ مُتَبَايِنَانِ لِمَعْنَيَيْنِ مُتَبَايِنَيْنِ ، غَيْرَ أَنَّ الْمَعْنَيَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ الْمُتَبَايِنَيْنِ يَلْزَمُهُمَا لَازِمٌ وَاحِدٌ هُوَ وُقُوعُ الْبَيْنُونَةِ ، وَالْمُتَبَايِنَاتُ قَدْ تَشْتَرِكُ فِي لَازِمٍ وَاحِدٍ فَاخْتِلَافُهُمَا ثَابِتٌ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى ، فَلَمَّا اخْتَلَفَ الْمَعْنَى مِنْهُمَا كَانَ دَلِيلَ اخْتِلَالِ تَحَمُّلِهِمَا فَإِنَّ هَذَا يَقُولُ : مَا وَقَعَتْ الْبَيْنُونَةُ إلَّا بِوَصْفِهَا بِخَلِيَّةٍ وَالْآخَرُ يَقُولُ لَمْ تَقَعْ إلَّا بِوَصْفِهَا بِبَرِيَّةٍ وَإِلَّا فَلَمْ تَقَعْ الْبَيْنُونَةُ .
هَذَا كُلُّهُ إذَا لَمْ يَدَّعِ الْمُدَّعِي عَقْدًا ، أَمَّا إنْ ادَّعَى الْمَالَ فِي ضِمْنِ دَعْوَى الْعَقْدِ مِنْ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ ، فَالْجَوَابُ مَا سَتَعْلَمُهُ فِي آخِرِ الْبَابِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ مِنْ الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي أَوْقَافِ الْخَصَّافِ مَا يُخَالِفُ أَصْلَ أَبِي حَنِيفَةَ ، ذَكَرَهَا وَلَمْ يَذْكُرْ خِلَافًا بَلْ أَشَارَ إلَى أَنَّهَا اتِّفَاقِيَّةٌ ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِيمَا إذَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ جَعَلَهَا صَدَقَةً مَوْقُوفَةً أَبَدًا عَلَى أَنَّ لِزَيْدٍ ثُلُثَ غَلَّتِهَا وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّ لِزَيْدٍ نِصْفَهَا قَالَ أَجْعَلُ لِزَيْدٍ ثُلُثَ غَلَّتِهَا الَّذِي أَجْمَعَا عَلَيْهِ وَالْبَاقِي لِلْمَسَاكِينِ ، وَكَذَا إذَا سَمَّى أَحَدُهُمَا مَالًا لِزَيْدٍ مِنْ هَذِهِ الصَّدَقَةِ وَالْآخَرُ أَقَلُّ مِنْهُ أَحْكُمُ لِزَيْدٍ بِمَا أَجْمَعَا عَلَيْهِ وَكَذَا إذَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَالَ يُعْطِي لِزَيْدٍ مِنْ غَلَّةِ هَذَا الْوَقْفِ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَا يَسَعُهُ وَيَسَعُ عِيَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ وَقَالَ الْآخَرُ يُعْطِي أَلْفًا قَالَ أُقَدِّرُ

نَفَقَتَهُ وَعِيَالِهِ فِي الْعَامِ ، فَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ الْأَلْفِ حَكَمْت لَهُ بِالْأَلْفِ أَوْ الْأَلْفُ أَكْثَرُ أَعْطَيْته نَفَقَتَهُ وَالْبَاقِي لِلْمَسَاكِينِ ، هَذَا بَعْدَ أَنْ أَدْخَلَ الْكِسْوَةَ فِي النَّفَقَةِ ثُمَّ أَوْرَدَ عَلَى نَفْسِهِ فَقَالَ : قُلْت فَلِمَ أَجَزْت هَذِهِ الشَّهَادَةَ وَقَدْ اخْتَلَفَا فِي لَفْظِهِمَا ؟ قَالَ : الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ الْوَقْفَ إلَى أَنَّ لِزَيْدٍ بَعْضَ هَذِهِ الْغَلَّةِ فَأَجْعَلُ لَهُ الْأَقَلَّ انْتَهَى .
فَإِيرَادُ هَذَا السُّؤَالِ هُوَ الَّذِي ذَكَرْت أَنَّهُ أَشَارَ إلَى أَنَّهَا اتِّفَاقِيَّةٌ ، فَإِنَّ إيرَادَهُ لَيْسَ إلَّا بِاعْتِبَارِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَوْلُهُ وَقَدْ اخْتَلَفَ لَفْظُهُمَا صَرِيحٌ فِيهِ ، ثُمَّ قَالَ : هَذَا اسْتِحْسَانٌ ، وَالْقِيَاسُ أَنَّ الشَّهَادَةَ بَاطِلَةٌ انْتَهَى .
وَحَاصِلُهُ أَنَّا عَلِمْنَا اسْتِحْقَاقَهُ بَعْضَ هَذَا الْمَالِ وَتَرَدَّدْنَا بَيْنَ أَقَلَّ وَأَكْثَرَ فَيَثْبُتُ الْمُتَيَقَّنُ وَلَا يَخْلُو عَنْ نَظَرٍ .

[ فُرُوعٌ ] ادَّعَى بِالْمَبِيعِ عَيْبًا فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ اشْتَرَاهُ وَبِهِ هَذَا الْعَيْبُ وَشَهِدَ الْآخَرُ عَلَى إقْرَارِ الْبَائِعِ بِهِ لَا تُقْبَلُ ، كَمَا لَوْ ادَّعَى عَيْنًا أَنَّهُ لَهُ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مَلَكَهُ وَالْآخَرُ عَلَى إقْرَارِ ذِي الْيَدِ أَنَّهُ مَلَكَهُ لَا تُقْبَلُ ، وَمِثْلُهُ دَعْوَى الرَّهْنِ فَشَهِدَ بِهِ بِمُعَايَنَةِ الْقَبْضِ وَالْآخَرُ عَلَى إقْرَارِ الرَّاهِنِ بِقَبْضِهِ لَا تُقْبَلُ .
قَالَ ظَهِيرُ الدِّينِ : الرَّهْنُ فِي هَذَا كَالْغَصْبِ ، وَكَذَا الْوَدِيعَةُ لَوْ أَعَادَهَا فَشَهِدَا بِإِقْرَارِ الْمُودَعِ قُبِلَتْ ، وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِهَا وَالْآخَرُ بِالْإِقْرَارِ بِهَا لَا تُقْبَلُ عَلَى قِيَاسِ الْغَصْبِ .
وَعَلَى قِيَاسِ الْقَرْضِ تُقْبَلُ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ ادَّعَى أَنَّهُ بَاعَ الْوَفَاءَ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ بَاعَ بِشَرْطِ الْوَفَاءِ وَالْآخَرُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ أَقَرَّ بِذَلِكَ تُقْبَلُ لِلْمُوَافَقَةِ لِأَنَّ الْبَيْعَ فِي الْإِخْبَارِ وَالْإِنْشَاءِ وَاحِدٌ .
وَمِثْلُهُ ادَّعَتْ صَدَاقَهَا فَقَالَ وَهَبَتْنِي إيَّاهُ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْهِبَةِ وَالْآخَرُ عَلَى الْإِبْرَاءِ تُقْبَلُ لِلْمُوَافَقَةِ لِأَنَّ حُكْمَهُمَا وَاحِدٌ وَهُوَ السُّقُوطُ .
وَقِيلَ لَا لِلِاخْتِلَافِ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إسْقَاطٌ وَالْهِبَةَ تَمْلِيكٌ .
وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ إسْقَاطًا يَتَضَمَّنُ التَّمْلِيكَ وَلِهَذَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ ،

وَلَوْ شَهِدَ عَلَى إقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّ الْمُدَّعِيَ فِي يَدِهِ وَالْآخَرُ أَنَّهُ فِي يَدِهِ لَا تُقْبَلُ .
وَفِي الْمُحِيطِ : ادَّعَى دَارًا فَشَهِدَ أَنَّهَا دَارُهُ وَالْآخَرُ عَلَى إقْرَارِ ذِي الْيَدِ أَنَّهَا لَهُ لَا تُقْبَلُ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى الدَّيْنِ وَالْآخَرُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ تُقْبَلُ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ شَهِدَ أَنَّهَا جَارِيَتُهُ وَالْآخَرُ عَلَى إقْرَارِهِ بِهَا لَا تُقْبَلُ ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا شَهِدَ أَنَّهَا جَارِيَتُهُ وَالْآخَرُ أَنَّهَا كَانَتْ لَهُ تُقْبَلُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا شَهِدَ أَنَّهَا كَانَتْ فِي يَدِهِ .
وَإِذَا رَاجَعْت الْقَاعِدَةَ الَّتِي نَذْكُرُهَا مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ اخْتِلَافِ الشَّاهِدَيْنِ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ خَرَّجْت كَثِيرًا مِنْ الْفُرُوعِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ الْعَلِيمُ .

قَالَ ( وَإِذَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالْأَلْفِ وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَالْمُدَّعِي يَدَّعِي أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى الْأَلْفِ ) لِاتِّفَاقِ الشَّاهِدَيْنِ عَلَيْهَا لَفْظًا وَمَعْنًى ، لِأَنَّ الْأَلْفَ وَالْخَمْسَمِائَةِ جُمْلَتَانِ عُطِفَ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى وَالْعَطْفُ يُقَرِّرُ الْأَوَّلَ وَنَظِيرُهُ الطَّلْقَةُ وَالطَّلْقَةُ وَالنِّصْفُ وَالْمِائَةُ وَالْمِائَةُ وَالْخَمْسُونَ ، بِخِلَافِ الْعَشَرَةِ وَالْخَمْسَةَ عَشَرَ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا حَرْفُ الْعَطْفِ فَهُوَ نَظِيرُ الْأَلْفِ وَالْأَلْفَيْنِ ( وَإِنْ قَالَ الْمُدَّعِي لَمْ يَكُنْ لِي عَلَيْهِ إلَّا الْأَلْفُ فَشَهَادَةُ الَّذِي شَهِدَ بِالْأَلْفِ وَخَمْسِمِائَةٍ بَاطِلَةٌ ) لِأَنَّهُ كَذَّبَهُ الْمُدَّعِي فِي الْمَشْهُودِ بِهِ ، وَكَذَا إذَا سَكَتَ إلَّا عَنْ دَعْوَى الْأَلْفِ لِأَنَّ التَّكْذِيبَ ظَاهِرٌ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّوْفِيقِ ، وَلَوْ قَالَ كَانَ أَصْلُ حَقِّي أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ وَلَكِنِّي اسْتَوْفَيْت خَمْسَمِائَةٍ أَوْ أَبْرَأْتُهُ عَنْهَا قُبِلَتْ لِتَوْفِيقِهِ .

( قَوْلُهُ وَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى الْأَلْفِ ) بِالِاتِّفَاقِ عِنْدَهُمَا ظَاهِرًا ، وَعِنْدَهُ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى الْأَلْفِ لَفْظًا وَمَعْنًى .
وَانْفِرَادُ أَحَدِهِمَا بِالشَّهَادَةِ بِجُمْلَةٍ أُخْرَى مَنْصُوصٌ عَلَى خُصُوصِ كَمِّيَّتِهَا لَا يَقْدَحُ فِي الشَّهَادَةِ بِالْأَلْفِ ، كَمَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَمِائَةِ دِينَارٍ وَهُوَ يَدَّعِيهِمَا ، وَلَوْ كَانَ إنَّمَا يَدَّعِي الْأَلْفَ وَسَكَتَ عَنْ التَّوْفِيقِ لَمْ يَقْضِ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ إكْذَابٌ لِشَاهِدِ الْأَلْفِ وَخَمْسِمِائَةٍ ظَاهِرًا ، لِأَنَّ السُّكُوتَ فِي مَوْضِعِ الْبَيَانِ بَيَانٌ إلَّا إنْ وَفَّقَ فَقَالَ كَانَ حَقِّي أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ فَقَضَانِي أَوْ أَبْرَأْتُهُ مِنْ خَمْسِمِائَةٍ عَلَى نَظِيرِ مَا تَقَدَّمَ وَمَا لَمْ يُوَفِّقْ صَرِيحًا وَلَا يَقْضِي بِشَيْءٍ ، وَلَا يَكْفِي احْتِمَالُ التَّوْفِيقِ فِي الْأَصَحِّ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ مَا كَانَ لِي إلَّا أَلْفٌ لِأَنَّهُ إكْذَابٌ صَرِيحٌ لَا يَحْتَمِلُهُ التَّوْفِيقُ فَلَا يُقْضَى بِشَيْءٍ .

قَالَ ( وَإِذَا شَهِدَا بِأَلْفٍ وَقَالَ أَحَدُهُمَا قَضَاهُ مِنْهَا خَمْسَمِائَةٍ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا بِالْأَلْفِ ) لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَيْهِ ( وَلَمْ يُسْمَعْ قَوْلُهُ إنْ قَضَاهُ ) لِأَنَّهُ شَهَادَةُ فَرْدٍ ( إلَّا أَنْ يَشْهَدَ مَعَهُ آخَرُ ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَقْضِي بِخَمْسِمِائَةٍ ، لِأَنَّ شَاهِدَ الْقَضَاءِ مَضْمُونُ شَهَادَتِهِ أَنْ لَا دَيْنَ إلَّا خَمْسُمِائَةٍ .
وَجَوَابُهُ مَا قُلْنَا .
قَالَ ( وَيَنْبَغِي لِلشَّاهِدِ ) إذَا عَلِمَ بِذَلِكَ ( أَنْ لَا يَشْهَدَ بِأَلْفٍ حَتَّى يُقِرَّ الْمُدَّعِي أَنَّهُ قَبَضَ خَمْسَمِائَةٍ ) كَيْ لَا يَصِيرَ مُعِينًا عَلَى الظُّلْمِ .
( وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : رَجُلَانِ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ بِقَرْضٍ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَدْ قَضَاهَا ، فَالشَّهَادَةُ جَائِزَةٌ عَلَى الْقَرْضِ ) لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَيْهِ ، وَتَفَرَّدَ أَحَدُهُمَا بِالْقَضَاءِ عَلَى مَا بَيَّنَّا .
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ أَكْذَبَ شَاهِدَ الْقَضَاءِ .
قُلْنَا : هَذَا إكْذَابٌ فِي غَيْرِ الْمَشْهُودِ بِهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْقَرْضُ وَمِثْلُهُ لَا يَمْنَعُ الْقَبُولَ .

( قَوْلُهُ وَإِذَا شَهِدَا بِأَلْفٍ ، وَقَالَ أَحَدُهُمَا قَضَاهُ مِنْهَا خَمْسَمِائَةٍ قَضَى بِالْأَلْفِ لِقَبُولِ شَهَادَتِهِمَا عَلَيْهَا ، وَلَمْ يَسْمَعْ قَوْلَهُ إنَّهُ قَضَاهُ لِأَنَّهُ شَهَادَةُ فَرْدٍ ) بِسُقُوطِ بَعْضِ الْحَقِّ بَعْدَ ثُبُوتِهِ فَلَا تُقْبَلُ ( إلَّا أَنْ يَشْهَدَ مَعَهُ آخَرُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ ) رَحِمَهُ اللَّهُ فِي غَيْرِ الْمَشْهُورِ عَنْهُ ( أَنَّهُ يُقْضَى بِخَمْسِمِائَةٍ ) فَقَطْ ( لِأَنَّ شَاهِدَ الْقَضَاءِ مَضْمُونٌ شَهَادَتُهُ أَنَّ الدَّيْنَ لَيْسَ إلَّا خَمْسُمِائَةٍ .
وَجَوَابُهُ مَا قُلْنَا ) يَعْنِي قَوْلَهُ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَيْهِ ، يَعْنِي فَبَعْدَ ثُبُوتِ الْأَلْفِ بِاتِّفَاقِهِمَا شَهِدَ وَاحِدٌ بِسُقُوطِ خَمْسِمِائَةٍ فَلَا تُقْبَلُ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ شَهِدَ بِأَلْفٍ وَقَالَ أَحَدُهُمَا إنَّهُ قَضَاهُ إيَّاهَا بَعْدَ قَرْضِهِ فَإِنَّهُ يُقْضَى بِالْكُلِّ عَلَى قَوْلِ الْكُلِّ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ : لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ شَاهِدِ الْقَضَاءِ ، وَذَكَرُوا قَوْلَ زُفَرَ كَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ فَإِنَّهُ إكْذَابٌ مِنْ الْمُدَّعِي فَهُوَ كَمَا لَوْ فَسَّقَهُ .
وَجْهُ الظَّاهِرِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّهُمَا اتَّفَقَا وَتَفَرَّدَ أَحَدُهُمَا إلَى آخِرِهِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْإِكْذَابِ التَّفْسِيقُ لِجَوَازِ كَوْنِهِ تَغْلِيطًا لَهُ ( قَالَ ) الْقُدُورِيُّ ( وَيَنْبَغِي لِلشَّاهِدِ إذَا عَلِمَ بِذَلِكَ ) أَيْ بِقَضَاءِ الْخَمْسِمِائَةِ ( أَنْ لَا يَشْهَدَ حَتَّى يَعْتَرِفَ الْمُدَّعِي بِقَبْضِهَا ) لِأَنَّهُ لَوْ شَهِدَ فَإِمَّا بِالْأَلْفِ ثُمَّ يَقُولُ قَضَاهُ مِنْهَا خَمْسَمِائَةٍ وَعَلِمْت أَنَّهُ يُقْضَى فِيهِ بِأَلْفٍ فَيَضِيعُ حَقُّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ .
وَإِمَّا بِخَمْسِمِائَةٍ يَثْبُتُ اخْتِلَافُهُمَا إذَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِخَمْسِمِائَةٍ ، وَفِيهِ لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ أَصْلًا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَيَضِيعُ حَقُّ الْمُدَّعِي .
فَالْوَجْهُ أَنْ لَا يَشْهَدَ الَّذِي عَرَفَ الْقَضَاءَ حَتَّى يَعْتَرِفَ بِالْقَدْرِ الَّذِي سَقَطَ عَنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَالْمُرَادُ هُنَا مِنْ لَفْظِ لَا يَنْبَغِي لَا يَحِلُّ نَصَّ عَلَيْهِ فِي جَامِعِ أَبِي

اللَّيْثِ ، وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ : رَجُلٌ أَقَرَّ عِنْدَ قَوْمٍ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَيْهِ كَذَا فَبَعْدَ مُدَّةٍ جَاءَ رَجُلَانِ أَوْ أَكْثَرُ إلَى الْقَوْمِ فَقَالُوا لَا تَشْهَدُوا عَلَى فُلَانٍ بِذَلِكَ الدَّيْنِ فَإِنَّهُ قَضَاهُ كُلَّهُ فَالشُّهُودُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءُوا امْتَنَعُوا عَنْ الشَّهَادَةِ وَإِنْ شَاءُوا أَخْبَرُوا الْحَاكِمَ بِشَهَادَةِ الَّذِينَ أَخْبَرُوهُمْ بِالْقَضَاءِ ، فَإِنْ كَانَ الْمُخْبِرُونَ عُدُولًا لَا يَقْضِي الْقَاضِي بِالْمَالِ ، هَذَا قَوْلُ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ وَأَبِي نَصْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَّامٍ ، لَوْ شَهِدَ عِنْدَهُمْ وَاحِدٌ لَا يَسَعُهُمْ أَنْ يَدَّعُوا الشَّهَادَةَ ، وَكَذَا إذَا حَضَرُوا بَيْعَ رَجُلٍ أَوْ نِكَاحَهُ أَوْ قَتْلَهُ فَلَمَّا أَرَادُوا أَدَاءَ الشَّهَادَةِ شَهِدَ عِنْدَهُمْ بِطَلَاقِ الزَّوْجِ ثَلَاثًا أَوْ قِيلَ عَايَنَّا امْرَأَةً أَرْضَعَتْهُمَا أَوْ أَعْتَقَ الْعَبْدَ قَبْلَ أَنْ يَبِيعَهُ أَوْ عَفَا عَنْهُ الْوَلِيُّ إنْ كَانَ وَاحِدًا شَهِدُوا أَوْ اثْنَيْنِ لَا يَسَعُهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا ، وَكَذَا لَوْ رَأَى عَيْنًا فِي يَدِ رَجُلٍ يَتَصَرَّفُ فِيهَا تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ فَأَرَادَ أَنْ يَشْهَدَ بِالْمِلْكِ لَهُ فَأَخْبَرَهُ عَدْلَانِ أَنَّ الْمِلْكَ لِلثَّانِي لَا يَسَعُهُ بِالْمِلْكِ لِلْأَوَّلِ ، وَلَوْ أَخْبَرَاهُ أَنَّهُ بَاعَهُ مِنْ ذِي الْيَدِ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِمَا عَلِمَ وَلَا يَلْتَفِتُ إلَى قَوْلِهِمَا .
هَذَا وَإِنَّمَا نَصَّ عَلَى مَسْأَلَةِ الْجَامِعِ بَعْدَ مَسْأَلَةِ الْقُدُورِيِّ لِأَنَّهُ قَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّ تَفْرِيعَهَا عَلَيْهَا عَلَى رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ الَّتِي نَقَلَهَا يُقْضَى أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ فَقَالَ أَحَدُهُمَا قَضَاهُ إيَّاهَا أَنْ لَا يُقْضَى بِشَيْءٍ عَلَى رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ فَذَكَرَهَا لِلْإِعْلَامِ بِالْفَرْقِ .
وَقِيلَ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ لِقَاتِلٍ أَنْ يَقُولَ فِي مَسْأَلَةِ الْجَامِعِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ شَاهِدِ الْقَضَاءِ عَلَى وُجُوبِ الْمَالِ مُتَقَدِّمًا لِأَنَّ فِي الْمَسْأَلَةَ الْأُولَى لِلشَّاهِدِ أَنْ يَقُولَ : أَنَا تَحَمَّلْت الشَّهَادَةَ وَأَحْتَاجُ إلَى الْخُرُوجِ مِنْهَا وَقَدْ قَضَاهُ خَمْسَمِائَةٍ

وَلَكِنِّي أَشْهَدُ كَمَا أُشْهِدْت عَلَيْهِ وَهُوَ أَلْفٌ ، فَإِذَا ظَهَرَتْ شَهَادَتُهُ مَعَ الْآخَرِ بِهَا قُضِيَ لَهُ بِالْأَلْفِ .
أَمَّا فِي مَسْأَلَةِ الْجَامِعِ فَالشَّاهِدُ يَذْكُرُ أَنَّ الشَّهَادَةَ سَقَطَتْ عَنْهُ وَلَيْسَ عَلَيَّ أَدَاؤُهَا فَشَهَادَتِي بَاطِلَةٌ فَلَا يَقْضِي بِالْأَلْفِ ، فَرِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَزَالَتْ هَذِهِ الشُّبْهَةَ وَأَثْبَتَتْ جَوَازَ الشَّهَادَةِ .
وَاسْتَرْوَحَ فِي النِّهَايَةِ فَقَالَ : التَّفَاوُتُ بَيْنَ مَسْأَلَةِ الْجَامِعِ وَالْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا أَنَّ فِي مَسْأَلَةِ الْجَامِعِ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ شَهِدَ بِقَضَاءِ الْمَدْيُونِ كُلَّ الدَّيْنِ وَفِي الَّتِي قَبْلَهَا شَهِدَ بِقَضَاءِ بَعْضِ الدَّيْنِ .

قَالَ ( وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ قَتَلَ زَيْدًا يَوْمَ النَّحْرِ بِمَكَّةَ وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ قَتَلَهُ يَوْمَ النَّحْرِ بِالْكُوفَةِ وَاجْتَمَعُوا عِنْدَ الْحَاكِمِ لَمْ يَقْبَلْ الشَّهَادَتَيْنِ ) لِأَنَّ إحْدَاهُمَا كَاذِبَةٌ بِيَقِينٍ وَلَيْسَتْ إحْدَاهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى ( فَإِنْ سَبَقَتْ إحْدَاهُمَا وَقَضَى بِهَا ثُمَّ حَضَرَتْ الْأُخْرَى لَمْ تُقْبَلْ ) لِأَنَّ الْأُولَى تَرَجَّحَتْ بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهَا فَلَا تُنْتَقَضُ بِالثَّانِيَةِ .

( قَوْلُهُ وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ قَتَلَ زَيْدًا يَوْمَ النَّحْرِ بِمَكَّةَ وَآخَرَانِ أَنَّهُ قَتَلَهُ يَوْمَ النَّحْرِ بِالْكُوفَةِ وَاجْتُمِعُوا عِنْدَ الْحَاكِمِ لَمْ يَقْضِ ) بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ، فَلَوْ لَمْ يَجْتَمِعُوا بَلْ شَهِدَا أَنَّهُ قَتَلَهُ بِمَكَّة فَقُضِيَ بِهَا ثُمَّ شَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ بِالْكُوفَةِ فَإِنَّهُ يَقْتُلُ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِكَذِبِ إحْدَاهُمَا بِيَقِينٍ وَلَا أَوْلَوِيَّةَ فَلَا قَبُولَ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِلْأَوْلَوِيَّةِ بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ الصَّحِيحِ بِهَا فَإِنَّهُ حِينَ قَضَى بِالْأُولَى لَا مُعَارِضَ لَهَا إذْ ذَاكَ فَنَفَذَ شَرْعًا فَلَا يَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ الَّذِي ثَبَتَ شَرْعًا بِحُدُوثِ مُعَارِضٍ ، كَمَنْ لَهُ ثَوْبَانِ فِي أَحَدِهِمَا نَجَاسَةٌ شَكَّ فِي تَعْيِينِهِ فَتَحَرَّى وَصَلَّى فِي أَحَدِهِمَا ثُمَّ وَقَعَ ظَنُّهُ عَلَى طَهَارَةِ الْآخَرِ لَا يُصَلِّي فِيهِ وَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ فِي الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِتَحَرِّيهِ الْأَوَّلِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ هُوَ الصِّحَّةُ بَعْدَ الْوُجُوبِ فِيهِ فَلَا يُؤَثِّرُ التَّحَرِّي الثَّانِي فِي رَفْعِهِ .
وَكَذَا الِاخْتِلَافُ فِي الْآلَةِ ، قَالَ أَحَدُهُمَا قَتَلَهُ بِسَيْفٍ وَقَالَ الْآخَرُ بِيَدِهِ لَا تُقْبَلُ ، وَكَذَا إنْ شَهِدَ بِالْقَتْلِ وَالْآخَرُ بِالْإِقْرَارِ بِهِ لَا تُقْبَلُ لِاخْتِلَافِ الْمَشْهُودِ بِهِ لِأَنَّ الْقَوْلَ غَيْرُ الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ نَفْسُ الْقَتْلِ وَلَمْ يَتِمَّ عَلَى أَحَدِهِمَا نِصَابٌ ، وَكَذَا الضَّرْبُ الْوَاقِعُ أَمْسِ وَبِتِلْكَ الْآلَةِ لَيْسَ عَيْنَ الضَّرْبِ الْوَاقِعِ الْيَوْمَ وَبِالْأُخْرَى حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ جَعْلُ الْفِعْلِ الثَّانِي إخْبَارًا عَنْ الْأَوَّلِ لِيَتَّحِدَ الْفِعْلُ نَفْسُهُ ، وَكُلُّ مَا هُوَ مِنْ بَابِ الْفِعْلِ كَالشَّجِّ وَالْجِنَايَةِ مُطْلَقًا وَالْغَصْبِ أَوْ مِنْ بَابِ الْقَوْلِ الْمَشْرُوطِ فِي صِحَّتِهِ الْفِعْلُ كَالنِّكَاحِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ إحْضَارُ الشُّهُودِ فَاخْتِلَافُهُمَا فِي الزَّمَانِ أَوْ الْمَكَانِ أَوْ الْإِنْشَاءِ أَوْ الْإِقْرَارِ يَمْنَعُ الْقَبُولَ لِمَا ذَكَرْنَا ، إذْ الْمُرَادُ

بِالْإِنْشَاءِ وَالْإِقْرَارِ ذِكْرُ أَنَّ إنْشَاءَ الْفِعْلِ وَالْإِقْرَارِ بِهِ .
مِثَالُهُ : مَا لَوْ ادَّعَى الْغَصْبَ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِهِ وَالْآخَرُ بِالْإِقْرَارِ بِهِ لَا تُقْبَلُ ، وَلَوْ شَهِدَا جَمِيعًا بِالْإِقْرَارِ بِهِ قُبِلَتْ ، بِخِلَافِ اخْتِلَافِهِمَا فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ فِيمَا هُوَ مِنْ بَابِ الْقَوْلِ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْوَكَالَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالرَّهْنِ وَالْإِقْرَارِ وَالْقَرْضِ وَالْبَرَاءَةِ وَالْكَفَالَةِ وَالْحَوَالَةِ وَالْقَذْفِ لَا يَمْنَعُ الْقَبُولَ ، فَإِنَّ الْقَوْلَ مِمَّا يَتَكَرَّرُ بِصِيغَةٍ وَاحِدَةٍ إنْشَاءً وَإِخْبَارًا وَهُوَ فِي الْقَرْضِ بِحَمْلِهِ عَلَى قَوْلِ الْمُقْرِضِ أَقْرَضْتُك ، وَكَذَا يُقْبَلُ فِي الرَّهْنِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالشِّرَاءِ وَإِنْ كَانَا يَشْهَدَانِ بِمُعَايَنَةِ الْقَبْضِ لِأَنَّ الْقَبْضَ يَكُونُ غَيْرَ مَرَّةٍ .
وَفِي الْمُحِيطِ : ادَّعَى عَيْنًا فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهَا مِلْكُهُ وَأَنَّ صَاحِبَ الْيَدِ قَبَضَهَا بِغَيْرِ حَقٍّ مُنْذُ شَهْرٍ وَشَهِدُوا لَهُ بِالْقَبْضِ مُطْلَقًا لَا تُقْبَلُ ، لِأَنَّ شَهَادَتَهُمْ عَلَى الْقَبْضِ بِلَا تَارِيخٍ مَحْمُولٌ عَلَى الْحَالِ وَالْمُدَّعِي يَدَّعِي الْفِعْلَ فِي الْمَاضِي وَالْفِعْلُ فِي الْمَاضِي غَيْرُهُ فِي الْحَالِ ، كَمَا لَوْ ادَّعَى الْقَتْلَ مِنْ شَهْرٍ فَشَهِدُوا بِهِ فِي الْحَالِ ، وَكَذَا لَوْ ادَّعَى الْقَتْلَ مُطْلَقًا وَشَهِدُوا بِهِ مِنْ شَهْرٍ لِأَنَّهُ ادَّعَى الْفِعْلِ فِي الْحَالِ وَهُمْ شَهِدُوا بِهِ فِي الْمَاضِي فَلَا تُقْبَلُ إلَّا إذَا وَفَّقَ وَقَالَ أَرَدْت مِنْ الْمُطْلَقِ الْفِعْلَ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَقِيلَ تُقْبَلُ فِي هَذَا مِنْ غَيْرِ تَوْفِيقٍ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ أَكْثَرُ وَأَقْوَى مِنْ الْمُؤَرَّخِ فَقَدْ شَهِدُوا بِأَقَلَّ مِمَّا ادَّعَى بِهِ فَتُقْبَلُ انْتَهَى فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ مِنْ الْفِعْلِ الْقَبْضُ .

وَمِنْ الْفُرُوعِ عَلَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ ادَّعَى الشِّرَاءَ أَوَّلَ مِنْ أَمْسِ فَشَهِدُوا بِهِ أَمْسِ تُقْبَلُ لِأَنَّهُ قَوْلٌ ، وَلَوْ ادَّعَى النِّكَاحَ أَوَّلَ مِنْ أَمْسِ فَشَهِدُوا بِهِ أَمْسِ لَا تُقْبَلُ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْفِعْلَ كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَرِيبٍ ، هَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي ظَاهِرِ رِوَايَتِهِ ، اخْتِلَافُهُمَا فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ يَمْنَعُ فِي الْكُلِّ إلَّا إذَا شَهِدَ أَنَّهُ طَلَّقَهَا يَوْمَ الْخَمِيسِ وَقَالَ الْآخَرُ أَقَرَّ بِطَلَاقِهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ ،

وَإِذَا شَهِدَا عَلَى إقْرَارِ الرَّاهِنِ وَالْوَاهِبِ وَالْمُتَصَدِّقِ بِالْقَبْضِ جَازَتْ .

وَلَوْ ادَّعَى الْبَيْعَ وَشَهِدَا عَلَى إقْرَارِ الْبَائِعِ وَاخْتَلَفَا فِي الزَّمَانِ أَوْ الْمَكَانِ قُبِلَتْ ، وَكَذَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْآخَرُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ تُقْبَلُ لِأَنَّ لَفْظَهُمَا سَوَاءٌ فِي الْإِقْرَارِ وَالْإِنْشَاءِ فَلَمْ يَثْبُتْ اخْتِلَافُ الْمَشْهُودِ بِهِ ذَكَرَهُ فِي الْفُصُولِ وَفِيهِ عَنْ الْفَتَاوَى الصُّغْرَى : لَوْ سَكَتَ شَاهِدَا الْبَيْعِ عَنْ بَيَانِ الْوَقْتِ فَسَأَلَهُمَا الْقَاضِي فَقَالَا لَا نَعْلَمُ ذَلِكَ تُقْبَلُ لِأَنَّهُمَا لَمْ يُكَلَّفَا حِفْظَ ذَلِكَ .

( وَإِذَا شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ سَرَقَ بَقَرَةً وَاخْتَلَفَا فِي لَوْنِهَا قُطِعَ ، وَإِنْ قَالَ أَحَدُهُمَا بَقَرَةً وَقَالَ الْآخَرُ ثَوْرًا لَمْ يُقْطَعْ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَقَالَا : لَا يُقْطَعُ فِي الْوَجْهَيْنِ ) جَمِيعًا ، وَقِيلَ الِاخْتِلَافُ فِي لَوْنَيْنِ يَتَشَابَهَانِ كَالسَّوَادِ وَالْحُمْرَةِ لَا فِي السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ ، وَقِيلَ هُوَ فِي جَمِيعِ الْأَلْوَانِ .
لَهُمَا أَنَّ السَّرِقَةَ فِي السَّوْدَاءِ غَيْرُهَا فِي الْبَيْضَاءِ فَلَمْ يَتِمَّ عَلَى كُلِّ فِعْلٍ نِصَابُ الشَّهَادَةِ وَصَارَ كَالْغَصْبِ بَلْ أَوْلَى ، لِأَنَّ أَمْرَ الْحَدِّ أَهَمُّ وَصَارَ كَالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ .
وَلَهُ أَنَّ التَّوْفِيقَ مُمْكِنٌ لِأَنَّ التَّحَمُّلَ فِي اللَّيَالِي مِنْ بَعِيدٍ وَاللَّوْنَانِ يَتَشَابَهَانِ أَوْ يَجْتَمِعَانِ فِي وَاحِدٍ فَيَكُونُ السَّوَادُ مِنْ جَانِبٍ وَهَذَا يُبْصِرُهُ وَالْبَيَاضُ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ وَهَذَا الْآخَرُ يُشَاهِدُهُ بِخِلَافِ الْغَصْبِ لِأَنَّ التَّحَمُّلَ فِيهِ بِالنَّهَارِ عَلَى قُرْبٍ مِنْهُ ، وَالذُّكُورَةُ وَالْأُنُوثَةُ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي وَاحِدَةٍ ، وَكَذَا الْوُقُوفُ عَلَى ذَلِكَ بِالْقُرْبِ مِنْهُ فَلَا يَشْتَبِهُ .

( قَوْلُهُ وَإِذَا شَهِدَا إلَخْ ) صُورَتُهَا : ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ سَرَقَ لَهُ بَقَرَةً وَلَمْ يَذْكُرْ لَهَا لَوْنًا وَأَقَامَ بَيِّنَةً فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِسَرِقَتِهِ الْحَمْرَاءَ وَالْآخَرُ سَوْدَاءَ .
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : تُقْبَلُ وَيُقْطَعُ ، وَقَالَا هُمَا وَالْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ لَا يُقْطَعُ ، وَلَوْ أَنَّ الْمَسْرُوقَ مِنْهُ عَيَّنَ لَوْنًا كَحَمْرَاءَ فَقَالَ أَحَدُهُمَا سَوْدَاءَ لَمْ يُقْطَعْ إجْمَاعًا لِأَنَّهُ كَذَّبَ أَحَدَ شَاهِدَيْهِ ، وَلَا فَرْقَ فِيمَا إذَا لَمْ يُعَيِّنْ الْمُدَّعِي لَوْنًا بَيْنَ كَوْنِ اللَّوْنَيْنِ اللَّذَيْنِ اخْتَلَفَا فِيهِمَا مُتَقَارِبَيْنِ كَالسَّوَادِ وَالْحُمْرَةِ أَوْ مُتَبَاعِدَيْنِ كَالْبَيَاضِ وَالسَّوَادِ فِي ثُبُوتِ الْخِلَافِ .
وَقِيلَ فِي الْمُتَبَاعِدَيْنِ الِاتِّفَاقُ عَلَى عَدَمِ الْقَبُولِ وَالْأَصَحُّ الْأَوَّلُ ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ تَصْحِيحَهُ وَذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ وَالظَّهِيرِيَّةِ ، وَعَلَى الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ لَوْ ادَّعَى سَرِقَةَ ثَوْبٍ مُطْلَقًا فَقَالَ أَحَدُهُمَا هَرَوِيٌّ وَالْآخَرُ مَرْوِيٌّ ، وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ لَمْ تُقْبَلْ إجْمَاعًا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ السَّرِقَةِ وَالْغَصْبِ بِقَلِيلِ تَأَمُّلٍ .
لَهُمَا أَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ فَلَمْ يُوجَدْ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا نِصَابُ شَهَادَةٍ فَكَانَ كَمَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي ذُكُورَتِهَا وَأُنُوثَتِهَا أَوْ فِي قِيمَتِهَا لَا تُقْبَلُ كَذَا هَذَا .
وَأَيْضًا بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ فِي الْغَصْبِ فَإِنَّهُمَا لَوْ شَهِدَا عَلَى غَصْبِ بَقَرَةٍ فَقَالَ أَحَدُهُمَا سَوْدَاءُ أَوْ حَمْرَاءُ وَالْآخَرُ بَيْضَاءُ لَمْ تُقْبَلْ مَعَ أَنَّهُ لَا يَتَضَمَّنُ قَبُولُهَا إثْبَاتَ حَدٍّ فَلَأَنْ لَا تُقْبَلَ فِيمَا يُوجِبُ حَدًّا أَوْلَى لِأَنَّ الْحَدَّ أَعْسَرُ إثْبَاتًا فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ .
وَأَمَّا مَا زِيدَ مِنْ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةٍ فَلَيْسَ مِمَّا فِيهِ الْكَلَامُ : أَعْنِي السَّرِقَةَ بَلْ يَخُصُّ الزِّنَا .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ بِمُجَرَّدِ شَهَادَتِهِمَا بِسَرِقَةِ بَقَرَةٍ

وَهُوَ الْمُدَّعَى بِهِ بِلَا ذِكْرِ الْمُدَّعِي لَوْنًا خَاصًّا يَثْبُتُ الْحَدُّ ، وَلَمْ يَقَعْ فِيهِ اخْتِلَافٌ بَلْ وَقَعَ فِيمَا لَيْسَ مِنْ نَفْسِ الْمَشْهُودِ بِهِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُمَا لَمْ يُكَلَّفَا عِلْمَ لَوْنِهَا ، فَإِنَّهُمَا لَوْ قَالَا لَا نَعْلَمُ لَوْنَهَا لَا تَسْقُطُ شَهَادَتُهُمَا وَيَجِبُ الْحَدُّ ، وَاخْتِلَافُهُمَا فِي أَمْرٍ زَائِدٍ لَا يَلْزَمُهُمَا مِمَّا لَيْسَ مُدَّعًى بِهِ لَا يُبْطِلُ الْحَدَّ ، كَمَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي ثِيَابِ السَّارِقِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا سَرَقَهَا وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ أَحْمَرُ وَقَالَ الْآخَرُ أَبْيَضُ فَإِنَّهُ يُقْطَعُ ، وَكَمَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي مَكَانٍ الزِّنَا مِنْ الْبَيْتِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا فِي هَذِهِ الزَّاوِيَةِ وَقَالَ الْآخَرُ فِي تِلْكَ فَإِنَّهُ يُحَدُّ ، وَعَلَى هَذَا فَلَا حَاجَةَ فِي قَبُولِهَا إلَى التَّوْفِيقِ كَمَا فَهِمَهُ الْعَلَّامَةُ السَّرَخْسِيُّ ، غَيْرَ أَنَّا تَبَرَّعْنَا بِالتَّوْفِيقِ بِمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ السَّرِقَةَ تَكُونُ غَالِبًا لَيْلًا وَنَظَرُ الشَّاهِدِ إلَيْهِ مِنْ بَعِيدٍ ، وَذَلِكَ سَبَبُ اشْتِبَاهِ اللَّوْنِ إذَا كَانَا مُتَقَارِبَيْنِ كَالسَّوَادِ وَالْحُمْرَةِ وَقَدْ يَجْتَمِعَانِ وَإِنْ كَانَا مُتَبَاعِدَيْنِ فِي الْبَلْقَاءِ فَيَرَى كُلٌّ لَوْنًا غَيْرَ الْآخَرِ فَيُحْمَلُ اخْتِلَافُهُمَا عَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ ، فَعَلَى الْأَوَّلِ أَوْ الثَّانِي إذَا اخْتَلَفَا فِي الْمُتَقَارِبَيْنِ ، وَعَلَى الثَّانِي فَقَطْ فِي الْمُتَبَاعِدَيْنِ .
بِخِلَافِ الْغَصْبِ فَإِنَّهُ يَقَعُ نَهَارًا فَلَا اشْتِبَاهَ فِيهِ ، وَبِخِلَافِ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ لِأَنَّهُمَا يُكَلَّفَانِ مَعْرِفَةَ ذَلِكَ لِتُعْلَمَ الْقِيمَةُ فَيُعْلَمَ أَنَّ الْمَسْرُوقَ بَلَغَ نِصَابًا أَوْ لَا ، وَلِأَنَّ ذِكْرَهُ الذُّكُورَةَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ رَآهُ مِنْ قَرِيبٍ وَتَحَقَّقَ بِحَيْثُ لَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ الْحَالُ فَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ التَّوْفِيقُ ، فَالِاخْتِلَافُ وَإِنْ كَانَ فِي زِيَادَةٍ فَقَدْ شَغَبَ بِهَا عَلَى نَفْسِهِ فَظَهَرَ أَنَّ هَذَا التَّوْفِيقَ لَيْسَ احْتِيَاطًا لِإِثْبَاتِ الْحَدِّ ، كَمَا لَمْ يَكُنْ التَّوْفِيقُ فِي اخْتِلَافِهِمَا فِي مَكَانِ الزِّنَا مِنْ

الْبَيْتِ بِأَنَّهُمَا قَدْ يَنْتَقِلَانِ بِحَرَكَةِ الْوَطْءِ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان احْتِيَاطًا لِإِثْبَاتِهِ ، وَلَا أَنَّ وَجْهَ قَوْلِهِمَا أَدَقُّ وَأَحَقُّ مِنْ قَوْلِهِ كَمَا ظَنَّهُ صَاحِبُ الْأَسْرَارِ .
وَمَا قِيلَ إنَّ التَّوْفِيقَ لِإِثْبَاتِ الْحُقُوقِ وَاجِبٌ فَيُفْعَلُ ثُمَّ يَجِبُ الْحَدُّ حِينَئِذٍ ضَرُورَةَ ثُبُوتِ السَّرِقَةِ حِينَئِذٍ إنْ لَمْ يَصِحَّ مَنْعُ وُجُوبِهِ مُطْلَقًا بَلْ إذَا لَمْ يَسْتَلْزِمْ وُجُوبَ حَدٍّ

قَالَ ( وَمَنْ شَهِدَ لِرَجُلٍ أَنَّهُ اشْتَرَى عَبْدًا مِنْ فُلَانٍ بِأَلْفٍ وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ فَالشَّهَادَةُ بَاطِلَةٌ ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إثْبَاتُ السَّبَبِ وَهُوَ الْعَقْدُ وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الثَّمَنِ فَاخْتَلَفَ الْمَشْهُودُ بِهِ وَلَمْ يَتِمَّ الْعَدَدُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ ، وَلِأَنَّ الْمُدَّعِيَ يُكَذِّبُ أَحَدَ شَاهِدَيْهِ وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْمُدَّعِي هُوَ الْبَائِعَ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَدَّعِيَ الْمُدَّعِي أَقَلَّ الْمَالَيْنِ أَوْ أَكْثَرَهُمَا لِمَا بَيَّنَّا

( قَوْلُهُ وَمَنْ شَهِدَ لِرَجُلٍ إلَخْ ) صُورَتُهَا عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ فِي الرَّجُلِ يَدَّعِي عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ بَاعَهُ هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ فَيُنْكِرُ الْبَائِعُ الْبَيْعَ فَيُقِيمُ عَلَيْهِ شَاهِدًا بِأَلْفٍ وَشَاهِدًا بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ ، قَالَ يَعْنِي أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا بَاطِلٌ إلَى آخِرِ مَا هُنَاكَ ، فَقَدْ يُظَنُّ أَنَّ هَذَا يُنَاقِضُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الشَّاهِدَيْنِ إذَا اخْتَلَفَا فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَالْمُدَّعِي يَدَّعِي أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ قَضَى بِأَلْفٍ بِالِاتِّفَاقِ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ ، وَهُنَا لَا تُقْبَلُ فِي شَيْءٍ ، وَلَوْ كَانَ الْمُدَّعِي يَدَّعِي أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِهِ وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ فِيمَا إذَا ادَّعَى دَيْنًا فَقَطْ وَالْمَقْصُودُ هُنَا دَعْوَى الْعَقْدِ ؛ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ فِي الْجَامِعِ فَيُنْكِرُ الْبَائِعُ الْبَيْعَ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ الدَّيْنَ لَمْ يَحْتَجْ إلَى ذِكْرِ السَّبَبِ ، وَإِذَا كَانَ الْمُدَّعَى بِهِ الْبَيْعَ فَالْبَيْعُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الثَّمَنِ لِأَنَّ الثَّمَنَ مِنْ أَرْكَانِهِ ، وَالْمُرَكَّبُ الَّذِي بَعْضُ أَجْزَائِهِ مِقْدَارٌ خَاصٌّ غَيْرُ مِثْلِهِ بِمِقْدَارٍ أَكْثَرَ مِنْهُ ، وَلَمْ يَتِمَّ عَلَى أَحَدِهِمَا نِصَابُ شَهَادَةٍ فَلَا يَثْبُتُ الْبَيْعُ أَصْلًا ( وَلِأَنَّ الْمُدَّعِي يُكَذِّبُ أَحَدَ شَاهِدَيْهِ ) وَهُوَ الشَّاهِدُ بِالْأَلْفِ ( وَكَذَا إذَا كَانَ الْمُدَّعِي هُوَ الْبَائِعَ ) بِأَنْ ادَّعَى أَنَّهُ بَاعَهُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ فَأَنْكَرَ الْمُشْتَرِي الشِّرَاءَ فَأَقَامَ الشَّاهِدَيْنِ كَذَلِكَ ( وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَدَّعِيَ الْمُدَّعِي مِنْهُمَا أَكْثَرَ الْمَالَيْنِ أَوْ أَقَلَّهُمَا لِمَا بَيَّنَّا ) مِنْ اخْتِلَافِهِمَا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ وَالتَّكْذِيبُ مِنْ الْمُدَّعِي .
وَفِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ عَنْ السَّيِّدِ الْإِمَامِ الشَّهِيدِ السَّمَرْقَنْدِيِّ : تُقْبَلُ لِأَنَّ الشِّرَاءَ الْوَاحِدَ يَكُونُ بِأَلْفٍ ثُمَّ يَصِيرُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ بِأَنْ يُزَادَ فِي الثَّمَنِ فَقَدْ

اتَّفَقَا عَلَى الشِّرَاءِ الْوَاحِدِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا اشْتَرَى بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِمِائَةِ دِينَارٍ ، لِأَنَّ الشِّرَاءَ لَا يَكُونُ بِأَلْفٍ ثُمَّ يَكُونُ بِمِائَةِ دِينَارٍ .
وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ الشَّارِحِينَ : فِيهِ نَوْعُ تَأَمُّلٍ ، كَأَنَّهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لَوْ جَازَ لَزِمَ الْقَضَاءُ بِبَيْعٍ بِلَا ثَمَنٍ إذْ لَمْ يَثْبُتْ أَحَدُ الثَّمَنَيْنِ بِشَهَادَتِهِمَا ، ثُمَّ لَا يُفِيدُ لِأَنَّهُ تَعُودُ الْخُصُومَةُ كَمَا كَانَتْ فِي الْأَلْفِ وَالْخَمْسِمِائَة الْمُدَّعَى بِهَا ، وَإِنَّمَا كَانَ السَّبَبُ وَسِيلَةً إلَى إثْبَاتِهَا .
وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ ثَمَانِيَةُ مَسَائِلَ ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ : إحْدَاهَا هَذِهِ .

( وَكَذَلِكَ الْكِتَابَةُ ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْعَقْدُ إنْ كَانَ الْمُدَّعِي هُوَ الْعَبْدَ فَظَاهِرٌ ، وَكَذَا إذَا كَانَ هُوَ الْمَوْلَى لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَثْبُتُ قَبْلَ الْأَدَاءِ فَكَانَ الْمَقْصُودُ إثْبَاتَ السَّبَبِ
وَالثَّانِيَةُ الْكِتَابَةُ ذَكَرَهَا فِي الْجَامِعِ .
قَالَ : وَكَذَلِكَ الْكِتَابَةُ إذَا ادَّعَاهَا الْعَبْدُ وَأَنْكَرَ الْمَوْلَى : يَعْنِي الْكِتَابَةَ عَلَى وِزَانِ مَا ذَكَرَ فِي الْبَيْعِ زَادَ الْمُصَنِّفُ فَقَالَ : وَكَذَا إذَا كَانَ الْمُدَّعِي هُوَ الْمَوْلَى لِأَنَّ دَعْوَى السَّيِّدِ الْمَالَ عَلَى عَبْدِهِ لَا تَصِحُّ ، إذْ لَا دَيْنَ لَهُ عَلَى عَبْدِهِ إلَّا بِوَاسِطَةِ دَعْوَى الْكِتَابَةِ فَيَنْصَرِفُ إنْكَارُ الْعَبْدِ إلَيْهِ لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ إلَّا بِهِ ، فَالشَّهَادَةُ لَيْسَتْ إلَّا لِإِثْبَاتِهَا .

( وَكَذَا الْخُلْعُ وَالْإِعْتَاقُ عَلَى مَالٍ وَالصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ إذَا كَانَ الْمُدَّعِي هُوَ الْمَرْأَةَ أَوْ الْعَبْدَ أَوْ الْقَاتِلَ ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إثْبَاتُ الْعَقْدِ وَالْحَاجَةُ مَاسَّةٌ إلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى مِنْ جَانِبٍ آخَرَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ دَعْوَى الدَّيْنِ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْوُجُوهِ لِأَنَّهُ ثَبَتَ الْعَفْوُ وَالْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ بِاعْتِرَافِ صَاحِبِ الْحَقِّ فَبَقِيَ الدَّعْوَى فِي الدَّيْنِ وَفِي الرَّهْنِ ، إنْ كَانَ الْمُدَّعَى هُوَ الرَّهْنَ لَا يُقْبَلُ لِأَنَّهُ لَا حَظَّ لَهُ فِي الرَّهْنِ فَعَرِيَتْ الشَّهَادَةُ عَنْ الدَّعْوَى ، وَإِنْ كَانَ الْمُرْتَهِنَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ دَعْوَى الدَّيْنِ .

الثَّالِثَةُ وَالرَّابِعَةُ وَالْخَامِسَةُ الْخُلْعُ وَالْإِعْتَاقُ عَلَى مَالٍ وَالصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ إنْ كَانَ الْمُدَّعِي هُوَ الْمَرْأَةَ فِي الْخُلْعِ وَالْعَبْدَ فِي الْعِتْقِ وَالْقَاتِلَ فِي الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إثْبَاتُ الْعَقْدِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُفِيدُهُمْ الْخَلَاصَ وَهُوَ مَقْصُودُهُمْ ( وَإِنْ كَانَ الدَّعْوَى مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ ) وَهُوَ الزَّوْجُ وَالْوَلِيُّ وَوَلِيُّ الْقَتِيلِ ( فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْوُجُوهِ ) وَهُوَ أَنَّهُ إذَا ادَّعَى أَكْثَرَ الْمَالَيْنِ فَشَهِدَ بِهِ شَاهِدٌ وَالْآخَرُ بِالْأَقَلِّ ، فَإِنْ كَانَ الْأَكْثَرُ بِعَطْفٍ مِثْلُ أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ قَضَى بِالْأَقَلِّ اتِّفَاقًا ، وَإِنْ كَانَ بِدُونِهِ كَأَلْفٍ وَأَلْفَيْنِ فَكَذَلِكَ عِنْدَهُمَا ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَقْضِي بِشَيْءٍ ، وَهَذَا ( لِأَنَّهُ ثَبَتَ الْعَفْوُ وَالْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ بِاعْتِرَافِ صَاحِبِ الْحَقِّ فَلَمْ تَبْقَ الدَّعْوَى إلَّا فِي الدَّيْن ) وَالسَّادِسَةُ الرَّهْنُ إنْ كَانَ الْمُدَّعِي هُوَ الرَّاهِنَ لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ بِشَيْءٍ أَصْلًا لِأَنَّ قَبُولَهَا بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ الدَّعْوَى وَلَمْ تَصِحَّ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ الرَّاهِنَ ( لَا حَظَّ لَهُ فِي الرَّهْنِ ) أَيْ لَا يَقْدِرُ عَلَى اسْتِرْدَادِهِ مَا دَامَ الدَّيْنُ قَائِمًا فَلَا فَائِدَةَ لِهَذِهِ الدَّعْوَى فَلَمْ تَصِحَّ ( وَإِنْ كَانَ ) الْمُدَّعِي هُوَ ( الْمُرْتَهِنَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ دَعْوَى الدَّيْنِ ) وَعَلِمْت حُكْمَهُ .
فَإِنْ قِيلَ : الرَّهْنُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ فَكَانَ كَسَائِرِ الْعُقُودِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُ الشَّاهِدَيْنِ فِي قَدْرِ الْمَالِ كَاخْتِلَافِهِمَا فِيهِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الرَّهْنَ غَيْرُ لَازِمٍ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ ، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ مَتَى شَاءَ ، بِخِلَافِ الرَّاهِنِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ، فَكَانَ الِاعْتِبَارُ لِدَعْوَى الدَّيْنِ فِي جَانِبِ الْمُرْتَهِنِ إذْ الرَّهْنُ لَا يَكُونُ إلَّا بِالدَّيْنِ فَتُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ فِي ثُبُوتِ الدَّيْنِ وَيَثْبُتُ الرَّهْنُ بِأَلْفٍ ضِمْنًا

وَتَبَعًا لِلدَّيْنِ .
وَلَا شَكَّ أَنَّ دَعْوَى الْمُرْتَهِنِ إنْ كَانَ مَثَلًا هَكَذَا أُطَالِبُهُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ لِي عَلَيْهِ عَلَى رَهْنٍ لَهُ عِنْدِي فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ إلَّا الْمَالَ ، وَذِكْرُ الرَّهْنِ زِيَادَةٌ إذْ لَا يَتَوَقَّفُ ثُبُوتُ دَيْنِهِ عَلَيْهِ ، بِخِلَافِ دَيْنِ الثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ ، وَإِنْ كَانَ هَكَذَا أُطَالِبُهُ بِإِعَادَةِ رَهْنِ كَذَا وَكَذَا كَأَنْ رَهَنَهُ عِنْدِي عَلَى كَذَا ثُمَّ غَصَبَهُ أَوْ سَرَقَهُ مَثَلًا فَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا دَعْوَى الْعَقْدِ ، فَاخْتِلَافُ الشَّاهِدَيْنِ فِي أَنَّهُ رَهَنَهُ بِأَلْفٍ أَوْ أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ ، وَإِنْ كَانَ زِيَادَةٌ يُوجِبُ أَنْ لَا يَقْضِيَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ يَخْتَلِفُ بِهِ .

وَفِي الْإِجَارَةِ إنْ كَانَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْمُدَّةِ فَهُوَ نَظِيرُ الْبَيْعِ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ وَالْمُدَّعِي هُوَ الْآجِرُ فَهُوَ دَعْوَى الدَّيْنِ .
وَالسَّابِعَةُ الْإِجَارَةُ ، إنْ كَانَ فِي أَوَّلِ الْمُدَّةِ فَهُوَ كَالْبَيْعِ بِأَنْ ادَّعَى الْمُسْتَأْجِرُ أَوْ الْآجِرُ أَنَّهُ أَجَّرَهُ هَذِهِ الدَّارَ سَنَةً بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ فَشَهِدَ وَاحِدٌ كَذَلِكَ وَآخَرُ بِأَلْفٍ لَا تَثْبُتُ الْإِجَارَةُ كَالْبَيْعِ ، إذْ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ لَا يُسْتَحَقُّ الْبَدَلُ فَكَانَ الْمَقْصُودُ إثْبَاتَ الْعَقْدِ وَهُوَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبَدَلِ فَلَا تَثْبُتُ الْإِجَارَةُ ( وَإِنْ كَانَ بَعْدَ مُضِيِّهَا ) اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ أَوْ لَمْ يَسْتَوْفِ بَعْدَ أَنْ تَسَلَّمَ ، فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي هُوَ الْمُؤَجِّرَ فَهُوَ دَعْوَى الْأُجْرَةِ ، فَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَهُوَ يَدَّعِي الْأَكْثَرَ يَقْضِي بِأَلْفٍ إذْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ إلَّا الْأُجْرَةُ ، وَإِنْ شَهِدَ الْآخَرُ بِأَلْفَيْنِ وَالْمُدَّعِي يَدَّعِيهِمَا لَا يَقْضِي بِشَيْءٍ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا بِأَلْفٍ ، وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي هُوَ الْمُسْتَأْجِرَ فَهُوَ دَعْوَى الْعَقْدِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ مُعْتَرَفٌ بِمَالِ الْإِجَارَةِ فَيُقْضَى عَلَيْهِ بِمَا اعْتَرَفَ بِهِ فَلَا يُعْتَبَرُ اتِّفَاقُ الشَّاهِدَيْنِ أَوْ اخْتِلَافِهِمَا فِيهِ ، وَلَا يَثْبُتُ الْعَقْدُ لِلِاخْتِلَافِ .

قَالَ ( فَأَمَّا النِّكَاحُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ بِأَلْفٍ اسْتِحْسَانًا ، وَقَالَا : هَذَا بَاطِلٌ فِي النِّكَاحِ أَيْضًا ) وَذَكَرَ فِي الْأَمَالِي قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ مَعَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
لَهُمَا أَنَّ هَذَا اخْتِلَافٌ فِي الْعَقْدِ ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ السَّبَبُ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمَالَ فِي النِّكَاحِ تَابِعٌ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ الْحِلُّ وَالِازْدِوَاجُ وَالْمِلْكُ وَلَا اخْتِلَافَ فِي مَا هُوَ الْأَصْلُ فَيَثْبُتُ ، ثُمَّ إذَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي التَّبَعِ يَقْضِي بِالْأَقَلِّ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَيْهِ وَيَسْتَوِي دَعْوَى أَقَلِّ الْمَالَيْنِ أَوْ أَكْثَرِهِمَا فِي الصَّحِيحِ .
ثُمَّ قِيلَ : لِاخْتِلَافٍ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الْمُدَّعِيَةَ وَفِيمَا إذَا كَانَ الْمُدَّعِي هُوَ الزَّوْجَ إجْمَاعٌ عَلَى أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ ، لِأَنَّ مَقْصُودَهَا قَدْ يَكُونُ الْمَالَ وَمَقْصُودَهُ لَيْسَ إلَّا الْعَقْدَ .
وَقِيلَ الِاخْتِلَافُ فِي الْفَصْلَيْنِ وَهَذَا أَصَحُّ وَالْوَجْهُ مَا ذَكَرْنَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَالثَّامِنَةُ النِّكَاحُ ، وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ النِّكَاحَ أُجْرِيَ مُجْرَى الْفِعْلِ حَتَّى لَا يَقْبَلَ الِاخْتِلَافَ ، حَتَّى لَوْ ادَّعَى نِكَاحَهَا فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْهُ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّ وَلِيَّهَا زَوَّجَهَا مِنْهُ لَا تُقْبَلُ ، وَلَوْ ادَّعَى هُوَ عَلَيْهَا ثَانِيًا أَنَّهَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْهُ فَشَهِدَ هَذَا بِأَنَّهَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْهُ تُقْبَلُ ، وَإِنَّمَا تُقْبَلُ إذَا ادَّعَى أَنَّهَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْهُ فَشَهِدَا أَنَّ وَكِيلَهَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ زَوَّجَهَا لِأَنَّ لَفْظَ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا يُصَدَّقُ بِهِ فِي الْعُرْفِ .
وَقَدْ أَطْلَقَ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَقَالَ : فَأَمَّا النِّكَاحُ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ كَانَ يَقُولُ : إذَا جَاءَتْ بِشَاهِدٍ يَشْهَدُ عَلَى أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَشَاهِدٍ يَشْهَدُ عَلَى أَلْفٍ جَازَتْ الشَّهَادَةُ بِالْأَلْفِ وَهِيَ تَدَّعِي أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ ، فَأَمَّا يَعْقُوبُ وَمُحَمَّدٌ فَقَالَا : النِّكَاحُ بَاطِلٌ أَيْضًا ، فَمَشَى الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى إطْلَاقِهِ فَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ كَوْنِ الْمُدَّعِي فِيهِ الزَّوْجَ أَوْ الزَّوْجَةَ ، وَجَعَلَهُ الْأَصَحَّ نَفْيًا لِمَا حَكَاهُ مِنْ الْقَوْلِ بِالتَّفْصِيلِ بَيْنَ كَوْنِ الْمُدَّعِي الزَّوْجَ فَلَا يَصِحُّ بِاتِّفَاقِهِمْ لِأَنَّهُ دَعْوَى الْعَقْدِ إذْ الزَّوْجُ لَا يَدَّعِي عَلَيْهَا مَالًا وَكَوْنُهُ الزَّوْجَةَ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ : وَقَالَ وَجْهُ الْأَصَحِّ مَا ذَكَرْنَا .
يَعْنِي مَا ذَكَرَهُ مِنْ التَّعْلِيلِ لِأَبِي حَنِيفَةَ مِنْ أَنَّ الْمَالَ تَابِعٌ فِي النِّكَاحِ ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْحِلُّ وَالِازْدِوَاجُ وَالْمِلْكُ ، وَلَا اخْتِلَافَ فِي هَذَا بَلْ فِي التَّبَعِ ، وَإِذَا وَقَعَ فِي التَّبَعِ يُقْضَى بِالْأَقَلِّ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَيْهِ ، وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ بِالضَّرُورَةِ الْقَضَاءُ بِالنِّكَاحِ بِأَلْفٍ ، فَإِنَّ هَذَا الْوَجْهَ يَقْتَضِي الصِّحَّةَ بِالْأَقَلِّ بِلَا تَفْصِيلٍ .
وَأَيْضًا أَجْرَى إطْلَاقَهُ فِي دَعْوَى لِلْأَقَلِّ الْأَكْثَرُ فَصَحَّحَ الصِّحَّةَ سَوَاءً ادَّعَى الْمُدَّعِي

الْأَقَلَّ أَوْ الْأَكْثَرِ ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلرِّوَايَةِ ، فَإِنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْجَامِعِ قَيَّدَهُ بِدَعْوَى الْأَكْثَرِ حَيْثُ قَالَ : جَازَتْ الشَّهَادَةُ بِأَلْفٍ وَهِيَ تَدَّعِي أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ ، وَالْمَفْهُومُ يُعْتَبَرُ رِوَايَةً ، وَبِقَوْلِهِ ذَلِكَ أَيْضًا يُفْهَمُ لُزُومِ التَّفْصِيلِ فِي الْمُدَّعَى بِهِ بَيْنَ كَوْنِهِ الْأَكْثَرَ فَيَصِحُّ عِنْدَهُ أَوْ الْأَقَلَّ فَلَا يَخْتَلِفُ فِي الْبُطْلَانِ لِتَكْذِيبِ الْمُدَّعِي شَاهِدَ الْأَكْثَرِ كَمَا عَوَّلَ عَلَيْهِ مُحَقِّقُو الْمَشَايِخِ ، فَإِنَّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ وَهِيَ تَدَّعِي إلَخْ يُفِيدُ تَقْيِيدَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِالْجَوَازِ بِمَا إذَا كَانَتْ هِيَ الْمُدَّعِيَةَ لِلْأَكْثَرِ دُونَهُ فَإِنَّ الْوَاوَ فِيهِ لِلْحَالِ وَالْأَحْوَالُ شُرُوطٌ فَيَثْبُتُ الْعَقْدُ بِاتِّفَاقِهِمَا وَدِينَ بِأَلْفٍ .

فُرُوعٌ ] شَهِدَ أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ غَصَبَ مِنْ فُلَانٍ هَذَا الْعَبْدَ وَالْآخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْهُ يَقْضِي بِهِ لِلْمُدَّعِي ، وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْهُ وَالْآخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِأَنَّهُ لَهُ لَمْ يَقْضِ لِلْمَشْهُودِ بِشَيْءٍ ، وَلَوْ شَهِدَ أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ غَصَبَهُ مِنْهُ وَالْآخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِأَنَّ الْمُدَّعِيَ أَوْدَعَهُ إيَّاهُ تُقْبَلُ .
وَزَادَ فِي الْمُنْتَقَى حِينَ وَضَعَهَا ثَانِيَةً فِي الثَّوْبِ : لَوْ قَالَ الْمُدَّعِي أَقَرَّ بِمَا قَالَا لَكِنَّهُ غَصَبَهُ مِنِّي تُقْبَلُ وَيُجْعَلُ ذُو الْيَدِ مُقِرًّا بِمَلَكِيَّةِ الثَّوْبِ لِلْمُدَّعِي فَلَا تُقْبَلُ بَيِّنَةُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى الثَّوْبِ بَعْدَهُ ، ثُمَّ قَالَ فِيمَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى إقْرَارِهِ بِأَخْذِهِ وَالْآخَرُ عَلَى إقْرَارِهِ بِالْإِيدَاعِ مِنْهُ وَقَالَ الْمُدَّعِي إنَّمَا أَوْدَعْته مِنْهُ لَا تُقْبَلُ لِعَدَمِ اجْتِمَاعِهِمَا عَلَى الْإِقْرَارِ بِمِلْكٍ وَلَا بِأَخْذٍ ، لِأَنَّ شَاهِدَ الْوَدِيعَةِ لَمْ يَشْهَدْ بِالْأَخْذِ فَلَزِمَ الْمُنَاقَضَةُ فِي الْحُكْمِ .
وَالدَّلِيلِ .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ ذَكَرَ فِيمَا إذَا شَهِدَ عَلَى إقْرَارِهِ بِغَصْبِهِ وَالْآخَرُ عَلَى إقْرَارِهِ بِأَخْذِهِ مِنْهُ يَقْضِي بِهِ لِلْمُدَّعِي وَيُجْعَلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى حُجَّتِهِ ، لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْأَخْذِ لَيْسَ إقْرَارًا بِالْمِلْكِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ فَلَا مُنَاقَضَةَ إذَا كَانَ الْأَخْذُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ .

شَهِدَ أَنَّهُ أَقَرَّ بِأَنَّهُ اشْتَرَى هَذَا الْعَيْنَ مِنْ الْمُدَّعِي وَالْآخَرُ عَلَى إقْرَارِهِ بِإِيدَاعِهِ الْمُدَّعِيَ إيَّاهُ مِنْهُ قَضَى لِلْمُدَّعِي ، وَلَوْ كَانَ الشَّاهِدُ الثَّانِي شَهِدَ بِأَنَّهُ أَقَرَّ بِأَنَّ الْمُدَّعِيَ دَفَعَ إلَيْهِ هَذَا الْعَيْنَ قُضِيَ بِهِ لِلْمُدَّعِي أَيْضًا ، لَكِنْ لَوْ بَرْهَنَ ذُو الْيَدِ عَلَى شِرَائِهِ مِنْهُ بَعْدَ الْقَضَاءِ تُقْبَلُ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ رَجُلًا لَوْ قَالَ دَفَعَ إلَيَّ فُلَانٌ هَذَا الْعَيْنَ ثُمَّ بَرْهَنَ عَلَى أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْهُ تُقْبَلُ .
وَفِي الزِّيَادَاتِ قَالَ أَحَدُهُمَا أَعْتَقَ كُلَّهُ وَقَالَ الْآخَرُ نِصْفَهُ لَا تُقْبَلُ .
وَلَوْ ادَّعَى أَلْفَيْنِ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِأَلْفَيْنِ تُقْبَلُ عَلَى الْأَلْفِ إجْمَاعًا .
ادَّعَى الشِّرَاءَ فَشَهِدَا بِالْهِبَةِ وَالْقَبْضِ لَا تُقْبَلُ ، إلَّا إنْ وَفَّقَ فَقَالَ جَحَدَنِي الشِّرَاءَ فَاسْتَوْهَبَهَا مِنْهُ وَأَعَادَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْهِبَةِ لِأَنَّ الْأُولَى مَا قَامَتْ عَلَى مَا ادَّعَى بِهِ مِنْ الْهِبَةِ وَإِنَّمَا ادَّعَاهَا الْآنَ فَيُقِيمُ بَيِّنَةَ دَعْوَاهُ .
ادَّعَى أَنَّهُ وَرِثَهَا مِنْ أَبِيهِ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا كَذَلِكَ وَالْآخَرُ مِنْ أُمِّهِ لَا تُقْبَلُ .
ادَّعَى دَارًا فَشَهِدَا لَهُ بِمُدَّعَاهُ وَقُضِيَ لَهُ ثُمَّ أَقَرَّ الْمَقْضِيُّ لَهُ أَنَّ الْبِنَاءَ لِلْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ لَا يَبْطُلُ الْحُكْمُ بِالْأَرْضِ لِلْمُدَّعِي ، وَإِنْ شَهِدَ بِالْبِنَاءِ وَالْأَرْضِ وَالْبَاقِي بِحَالِهِ بَطَلَ الْحُكْمُ لِأَنَّهُ أَكْذَبَهُمَا فِيمَا قَضَاهُ مِنْ الْبِنَاءِ ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ دُخُولَ الْبِنَاءِ مُحْتَمَلٌ ، فَإِقْرَارُ الْمُدَّعِي بِعَدَمِ دُخُولِهِ بَيَانٌ لِأَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ .
شَهِدَ أَنَّهَا وَلَدَتْ مِنْهُ وَالْآخَرُ أَنَّهَا حَبِلَتْ مِنْهُ ، أَوْ شَهِدَ أَنَّهَا وَلَدَتْ مِنْهُ غُلَامًا وَالْآخَرُ جَارِيَةً تُقْبَلُ .
شَهِدَ أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّ الْمُدَّعِيَ سَكَنَ هَذِهِ الدَّارَ وَالْآخَرُ أَنَّهَا لَهُ لَا تُقْبَلُ .
وَلَوْ شَهِدَ أَنَّهُ أَقَرَّ بِأَنَّ هَذِهِ الدَّارَ لَهُ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ سَاكِنُهَا قُضِيَ بِهَا لَهُ .
شَهِدَ أَنَّ

قِيمَةَ الثَّوْبِ الْهَالِكِ كَذَا وَالْآخَرُ عَلَى إقْرَارِهِ بِهَا لَا تُقْبَلُ .
شَهِدَ عَلَى صَرِيحِ الْإِذْنِ وَالْآخَرُ أَنَّهُ رَآهُ يَبِيعُ فَلَمْ يَنْهَهُ لَا تُقْبَلُ ، بِخِلَافِهَا عَلَى الْإِذْنِ فِي الطَّعَامِ وَالْآخَرُ عَلَيْهِ فِي الثِّيَابِ تُقْبَلُ عَلَى الْإِذْنِ .
وَفِي الْأَقْضِيَةِ : ادَّعَى عَبْدًا فِي يَدِ رَجُلٍ فَشَهِدَا عَلَى إقْرَارِهِ أَنَّهُ مَلَكَهُ تُقْبَلُ ، وَلَوْ عَلَى إقْرَارِهِ بِالشِّرَاءِ مِنْهُ وَأَنْكَرَ الْمُدَّعِي الْبَيْعَ يَأْخُذُهُ الْمُدَّعِي لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالشِّرَاءِ وَالِاسْتِلَامِ إقْرَارٌ بِالْمِلْكِ لِلْبَائِعِ عَلَى رِوَايَةِ الْجَامِعِ أَوْ بِعَدَمِ مِلْكِ نَفْسِهِ فِيهِ عَلَى رِوَايَةِ الزِّيَادَاتِ فَقَدْ أَقَرَّ أَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ فِيهِ وَلَا أَحَدَ مُتَعَرِّضٌ لِلْمُدَّعِي فَيَأْخُذُهُ ، وَكَذَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى إقْرَارِهِ بِالشِّرَاءِ مِنْهُ وَالْآخَرُ عَلَى إقْرَارِهِ بِالْهِبَةِ مِنْهُ وَالْمُدَّعِي يُنْكِرُ ، وَكَذَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى الشِّرَاءِ مِنْهُ بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِمِائَةِ دِينَارٍ ، أَوْ قَالَ الْآخَرُ اسْتَأْجَرَهُ مِنْهُ ، وَكَذَا لَوْ شَهِدَ أَنَّهُ بَاعَهُ الْمُدَّعِي مِنْهُ وَالْآخَرُ أَنَّهُ أَوْدَعَهُ عِنْدَهُ ، وَكَذَا لَوْ شَهِدَا عَلَى إقْرَارِهِ أَنَّ الْمُدَّعِيَ دَفَعَهَا إلَيْهِ .
شَهِدَ عَلَى إقْرَارِهِ بِأَنَّهُ أَخَذَ مِنْهُ هَذَا وَالْآخَرُ عَلَى إقْرَارِهِ بِأَنَّهُ أَوْدَعَهُ مِنْهُ تُقْبَلُ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى الْإِقْرَارِ بِالْأَخْذِ لَكِنْ بِحُكْمِ الْوَدِيعَةِ أَوْ الْأَخْذِ مِنْهُ مُنْفَرِدًا .
شَهِدَ أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ كَذَا دِينَارًا وَالْآخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ عَلَيْهِ تُقْبَلُ .

شَهِدَ أَنَّهُ طَلَّقَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ وَالْآخَرُ بِغَيْرِهَا فِي الْمُنْتَقَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا تُقْبَلُ ، وَلَوْ كَانَ هَذَا بِالْإِقْرَارِ بِالْمَالِ تُقْبَلُ ، وَلَيْسَ الطَّلَاقُ كَذَلِكَ لِأَنِّي أَنْوِيهِ فِي وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ ، وَفِيهِ لَوْ شَهِدَ أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ وَالْآخَر أَنَّهُ قَالَ لَهُ " آزَادَ " تُقْبَلُ .
وَفِيهِ لَوْ قَالَ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا فَأَنْتَ حُرٌّ فَشَهِدَ أَنَّهُ كَلَّمَهُ الْيَوْمَ وَالْآخَرُ أَمْسِ لَمْ تُقْبَلْ ، وَذَكَرَ فِيهِ مَسْأَلَةَ الطَّلَاقِ قَالَ طَلَّقْت ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَجِبُ فِي الْعِتْقِ ثُبُوتُهُ إذَا وَفَّقَ الْعَبْدُ بِأَنْ قَالَ كَلَّمْته فِي الْيَوْمَيْنِ جَمِيعًا .
وَفِيهِ شَهِدَ أَنَّهُ قَالَ إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ فَكَذَا وَالْآخَرُ إنْ دَخَلَتْ هَذِهِ وَهَذِهِ لَا تُقْبَلُ ، وَفِيهِ إنْ طَلَّقْتُك فَعَبْدُهُ حُرٌّ فَشَهِدَ أَنَّهُ طَلَّقَهَا الْيَوْمَ وَالْآخَرُ أَمْسِ يَقَعُ الطَّلَاقُ وَالْعِتْقُ ، وَلَوْ قَالَ إنْ ذَكَرْت طَلَاقَك إنْ سَمَّيْته إنْ تَكَلَّمْت بِهِ فَعَبْدُهُ حُرٌّ فَشَهِدَ أَنَّهُ طَلَّقَهَا الْيَوْمَ وَالْآخَرُ أَمْسِ يَقَعُ الطَّلَاقُ لَا الْعَتَاقُ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا اخْتَلَفَتْ فِي الْكَلَامِ ؛ وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي الْقَذْفِ فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ تُقْبَلُ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا .
وَفِي إنْشَائِهِ وَإِقْرَارِهِ لَا تُقْبَلُ إجْمَاعًا .

ادَّعَى أَلْفًا فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ أَلْفًا قَرْضًا وَالْآخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ أَوْدَعَهُ أَلْفًا تُقْبَلُ لِاتِّفَاقِهِمَا أَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهِ مِنْهُ أَلْفٌ وَقَدْ جَحَدَ فَصَارَ ضَامِنًا هِيَ قِسْمَانِ : قِسْمٌ مِنْ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ ، وَقِسْمٌ مِنْ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ الشَّاهِدَيْنِ : الْقِسْمُ الْأَوَّلُ ادَّعَى مِلْكًا عَلَى رَجُلٍ بِالشِّرَاءِ فَشَهِدُوا لَهُ بِالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ فَلَا تُقْبَلُ ، وَقَيَّدَهُ فِي الْأَقْضِيَةِ بِمَا إذَا نَسَبَهُ إلَى مَعْرُوفٍ كَأَنْ قَالَ اشْتَرَيْته مِنْ فُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ وَذَكَرَ شَرَائِطَ التَّعْرِيفِ ، أَمَّا لَوْ جَهِلَهُ فَقَالَ اشْتَرَيْت فَقَطْ أَوْ قَالَ مِنْ رَجُلٍ أَوْ مِنْ زَيْدٍ وَهُوَ غَيْرُ مَعْرُوفٍ فَشَهِدُوا بِالْمُطْلَقِ قَبِلَتْ .
وَذَكَرَ فِي فَتَاوَى رَشِيدِ الدِّينِ فِي الْقَبُولِ خِلَافًا .
وَلَوْ ادَّعَى مِلْكًا مُطْلَقًا فَشَهِدُوا بِهِ بِسَبَبٍ تُقْبَلُ ، كَذَا أَطْلَقَهُ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ .
وَزَادَ فِي الْأَجْنَاسِ فِي الْقَبُولِ أَنَّ الْقَاضِيَ يَسْأَلُ الْمُدَّعِيَ الْمِلْكَ أَلَكَ بِهَذَا السَّبَبِ الَّذِي شَهِدُوا بِهِ إنْ قَالَ نَعَمْ قَضَى أَوْ لَا لَا .
وَفِي الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَاتِ : إذَا تَحَمَّلَ الشَّهَادَةَ عَلَى مِلْكٍ لَهُ سَبَبٌ وَأَرَادَ أَنْ يَشْهَدَ بِالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ لَمْ يَذْكُرْهَا فِي شَيْءٍ مِنْ الْكُتُبِ .
وَاخْتَلَفَ فِيهِ الْمَشَايِخُ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَسَعُهُ ذَلِكَ .
وَلَوْ كَانَ ادَّعَى الشِّرَاءَ مِنْ مَعْرُوفٍ وَنَسَبَهُ إلَى أَبِيهِ وَجَدِّهِ مَعَ الْقَبْضِ وَقَالَ وَقَبَضْته مِنْهُ فَشَهِدُوا بِالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ فَفِي الْخُلَاصَةِ تُقْبَلُ بِلَا ذِكْرِ خِلَافٍ .
وَحَكَى الْعِمَادِيُّ فِيهِ اخْتِلَافًا ، قِيلَ تُقْبَلُ لِأَنَّ دَعْوَى الشِّرَاءِ مَعَ الْقَبْضِ دَعْوَى مُطْلَقِ الْمِلْكِ حَتَّى لَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ هَذِهِ الدَّعْوَى تَعْيِينُ الْعَبْدِ ، وَقِيلَ لَا تُقْبَلُ لِأَنَّ دَعْوَى الشِّرَاءِ مُعْتَبَرَةٌ فِي نَفْسِهَا لَا كَالْمُطْلَقِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَقْضِي لَهُ بِالزَّوَائِدِ فِي ذَلِكَ .
وَفِي فَوَائِدِ شَمْسِ

الْإِسْلَامِ دَعْوَى الدَّيْنِ كَدَعْوَى الْعَيْنِ ، وَهَكَذَا فِي شَرْحِ الْحِيَلِ لِلْحَلْوَانِيِّ ، لَكِنْ فِي الْمُحِيطِ ادَّعَى الدَّيْنَ بِسَبَبِ الْقَرْضِ وَشَبَهِهِ فَشَهِدُوا بِالدَّيْنِ مُطْلَقًا كَانَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ مَحْمُودُ الْأُوزْجَنْدِيُّ يَقُولُ : لَا تُقْبَلُ كَمَا فِي دَعْوَى الْعَيْنِ بِسَبَبٍ وَشَهِدُوا بِالْمُطْلَقِ .
قَالَ : وَفِي الْأَقْضِيَةِ مَسْأَلَتَانِ يَدُلَّانِ عَلَى الْقَبُولِ انْتَهَى .

وَفِي فَتَاوَى رَشِيدِ الدِّينِ : لَوْ ادَّعَى مِلْكًا مُطْلَقًا فَشَهِدُوا عَلَيْهِ بِسَبَبٍ ثُمَّ شَهِدُوا عَلَى الْمُطْلَقِ لَا تُقْبَلُ لِأَنَّهُمْ إذَا شَهِدُوا عَلَى الْمِلْكِ بِسَبَبِ حَمْلِ دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ عَلَى الْمُطْلَقِ بَعْدَ ذَلِكَ .
وَلَوْ شَهِدُوا عَلَى الْمُطْلَقِ ثُمَّ شَهِدُوا عَلَى الْمِلْكِ بِسَبَبٍ تُقْبَلُ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِبَعْضِ مَا شَهِدُوا بِهِ أَوَّلًا فَتُقْبَلُ .

أَمَّا النِّكَاحُ فَلَوْ ادَّعَى عَلَى امْرَأَةٍ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ بِسَبَبِ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا بِكَذَا فَشَهِدُوا أَنَّهَا مَنْكُوحَتُهُ بِلَا زِيَادَةٍ تُقْبَلُ وَيُقْضَى بِمَهْرِ الْمِثْلِ إنْ كَانَ قَدْرَ الْمُسَمَّى أَوْ أَقَلَّ ، فَإِنْ زَادَ عَلَى الْمُسَمَّى لَا يُقْضَى بِالزِّيَادَةِ ، وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ الْمَالَ وَالْبَاقِي بِحَالِهِ قُضِيَ بِالنِّكَاحِ فَقَطْ .

وَلَوْ ادَّعَى الْمُطْلَقَ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِهِ وَالْآخَرُ مَعَ السَّبَبِ تُقْبَلُ وَيُقْضَى بِالْمِلْكِ الْحَادِثِ كَمَا لَوْ شَهِدَا جَمِيعًا بِالْمِلْكِ الْحَادِثِ وَكُلُّ مَا كَانَ بِسَبَبِ عَقْدِ شِرَاءٍ أَوْ هِبَةٍ وَغَيْرِهِ فَهُوَ مِلْكٌ حَادِثٌ ، وَإِنْ ادَّعَى بِسَبَبٍ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِهِ وَالْآخَرُ مُطْلَقًا لَا تُقْبَلُ كَمَا إذَا شَهِدُوا جَمِيعًا بِالْمُطْلَقِ ، وَفِيمَا لَوْ ادَّعَى التَّمَلُّكَ فَشَهِدُوا عَلَى الْمُطْلَقِ تُقْبَلُ ،

وَلَوْ ادَّعَى الْمُطْلَقَ فَشَهِدُوا عَلَى النِّتَاجِ لَا لِأَنَّ دَعْوَى مُطْلَقِ الْمِلْكِ دَعْوَى أَوَّلِيَّتِهِ عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِمَالِ ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى النِّتَاجِ شَهَادَةٌ عَلَى أَوَّلِيَّتِهِ عَلَى الْيَقِينِ فَشَهِدُوا بِأَكْثَرَ مِمَّا ادَّعَاهُ فَلَا تُقْبَلُ .
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى النِّتَاجَ أَوَّلًا ثُمَّ ادَّعَى الْمِلْكَ الْمُطْلَقَ تُقْبَلُ .
وَلَوْ ادَّعَى الْمُطْلَقَ أَوَّلًا ثُمَّ النِّتَاجَ لَا تُقْبَلُ .
وَفِي الْمُحِيطِ : لَوْ ادَّعَى الْمِلْكَ بِالنِّتَاجِ وَشَهِدُوا عَلَى الْمِلْكِ بِسَبَبٍ لَا تُقْبَلُ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ ادَّعَى الْمُطْلَقَ وَشَهِدُوا عَلَيْهِ بِسَبَبٍ حَيْثُ تُقْبَلُ انْتَهَى .
وَلَا يُشْكِلُ أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى النِّتَاجَ بِسَبَبٍ فَشَهِدَا بِسَبَبٍ آخَرَ لَا تُقْبَلُ .
وَفِي الْفُصُولِ : الْقَاضِي إذَا سَأَلَ الشُّهُودَ قَبْلَ الدَّعْوَى عَنْ لَوْنِ الدَّابَّةِ فَقَالُوا كَذَا ثُمَّ عِنْدَ الدَّعْوَى شَهِدُوا بِخِلَافِهِ تُقْبَلُ لِأَنَّهُ سَأَلَهُمْ عَمَّا لَا يُكَلَّفُ بَيَانَهُ فَهُوَ كَالْمَعْدُومِ .
وَقَالَ رَشِيدُ الدِّينِ : وَيَخْرُجُ مِنْ هَذَا كَثِيرٌ مِنْ الْمَسَائِلِ .

وَلَوْ ادَّعَى مِلْكًا مُطْلَقًا مُؤَرَّخًا فَقَالَ قَبَضْته مِنِّي مُنْذُ شَهْرٍ فَشَهِدُوا بِلَا تَارِيخٍ لَا تُقْبَلُ وَعَلَى الْعَكْسِ تُقْبَلُ عَلَى الْمُخْتَارِ ، وَدَعْوَى الْمِلْكِ بِسَبَبِ الْإِرْثِ كَدَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُسْتَثْنَى مَا إذَا أَرَّخَ .
فَفِي الْخُلَاصَةِ : ادَّعَى دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهَا مِلْكُ أَبِيهِ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَهُ مُنْذُ سَنَةٍ فَشَهِدُوا أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُنْذُ سَنَتَيْنِ لَا تُقْبَلُ إلَّا إذَا وَفَّقَ فَقَالَ اشْتَرَيْتهَا مِنْهُ مُنْذُ سَنَتَيْنِ وَبِعْتهَا مِنْ أَبِي ثُمَّ وَرِثْتهَا عَنْهُ مُنْذُ سَنَةٍ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى هَذَا التَّوْفِيقِ .
وَإِذَا أَرَّخَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ دُونَ الْآخَرِ لَا تُقْبَلُ فِي دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُؤَرِّخِ وَتُقْبَلُ فِي غَيْرِ الْمُؤَرَّخِ وَلَوْ ادَّعَى الشِّرَاءَ بِسَبَبٍ أَرَّخَهُ فَشَهِدُوا بِالشِّرَاءِ بِلَا تَارِيخٍ تُقْبَلُ وَعَلَى الْقَلْبِ لَا ، وَلَوْ كَانَ لِلشِّرَاءِ شَهْرَانِ وَأَرَّخُوا شَهْرًا تُقْبَلُ وَعَلَى الْقَلْبِ لَا ، وَلَوْ أَرَّخَ الْمُطْلَقَ بِأَنْ قَالَ هَذَا الْعَيْنُ لِي مُنْذُ سَنَةٍ فَشَهِدُوا أَنَّهُ لَهُ مُنْذُ سَنَتَيْنِ لَا تُقْبَلُ ، وَلَوْ قَالَ مُنْذُ سَنَتَيْنِ وَشَهِدُوا أَنَّهُ لَهُ مُنْذُ سَنَةٍ تُقْبَلُ ، وَلَوْ ادَّعَى أَنَّهُ قَبَضَ مِنِّي عَشَرَةَ دَنَانِيرَ بِغَيْرِ حَقٍّ فَشَهِدُوا عَلَى الْقَبْضِ تُقْبَلُ وَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ قَبَضَ فِي الْحَالِ وَعَلَيْهِ شَهِدُوا وَقَدَّمْنَا مِنْ مَسَائِلِ الْقَبْضِ شَيْئًا .

دَارٌ فِي يَدِ رَجُلَيْنِ اقْتَسَمَاهَا بَعْدَ الدَّعْوَى أَوْ قَبْلَهَا وَغَابَ أَحَدُهُمَا وَادَّعَى رَجُلٌ عَلَى الْحَاضِرِ أَنَّ لَهُ نِصْفَ هَذِهِ الدَّارِ مُشَاعًا وَفِي يَدِ رَجُلٍ نِصْفُهَا مَقْسُومَةً فَشَهِدُوا أَنَّ لَهُ النِّصْفَ الَّذِي فِي يَدِ الْحَاضِرِ فَهِيَ بَاطِلَةٌ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ مِنْ الْمُدَّعَى بِهِ .

وَمِثْلُهُ لَوْ ادَّعَى دَارًا وَاسْتَثْنَى طَرِيقَ الدُّخُولِ وَحُقُوقَهَا وَمَرَافِقَهَا فَشَهِدُوا أَنَّهَا لَهُ وَلَمْ يَسْتَثْنُوا الْحُقُوقَ وَالْمَرَافِقَ لَا تُقْبَلُ ، وَكَذَا لَوْ اسْتَثْنَى بَيْتًا وَلَمْ يَسْتَثْنُوهُ إلَّا إذَا وَفَّقَ فَقَالَ صَدَقُوا لَكِنِّي بِعْت هَذَا الْبَيْتَ مِنْهَا تُقْبَلُ .

وَفِي الْمُحِيطِ مِنْ الْأَقْضِيَةِ وَأَدَبِ الْقَاضِي لِلْخَصَّافِ : إذَا ادَّعَى الْمِلْكَ لِلْحَالِ فَشَهِدُوا أَنَّ هَذَا الْعَيْنَ كَانَ قَدْ مَلَكَهُ تُقْبَلُ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الْمِلْكَ فِي الْمَاضِي فَيُحْكَمُ بِهِ فِي الْحَالِ مَا لَمْ يُعْلَمْ الْمُزِيلُ .
وَقَالَ الْعِمَادِيُّ : وَعَلَى هَذَا إذَا ادَّعَى الدَّيْنَ وَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ كَذَا أَوْ قَالَا بِالْفَارِسِيَّةِ أَيْنَ مِقْدَارُ " زردردمه اين مُدَّعَى عَلَيْهِ بِوُدِّ مُرِينِ مُدَّعَى را " يَنْبَغِي أَنْ تُقْبَلَ كَمَا فِي دَعْوَى الْعَيْنِ انْتَهَى .
وَنَظِيرُهُ فِي دَعْوَى الْعَيْنِ مَا ذَكَرَ رَشِيدُ الدِّينِ : إذَا قَالُوا نَشْهَدُ أَنَّ هَذَا كَانَ مِلْكَهُ تُقْبَلُ وَيَصِيرُ كَمَا لَوْ قَالُوا نَشْهَدُ أَنَّ هَذَا مِلْكَهُ فِي الْحَالِ وَلَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَقُولَ " امروز مِلْك وى مى دَانَيْت " انْتَهَى .
وَمَعْنَى هَذَا لَا يَحِلُّ لِلْقَاضِي أَنْ يَقُولَ أَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ مَلَكَهُ الْيَوْمَ .
نَعَمْ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَقُولَ هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ فَقَطْ ، ذَكَرَهُ فِي الْمُحِيطِ فِيمَا إذَا ادَّعَى مِلْكًا مُطْلَقًا فِي عَيْنٍ فَشَهِدُوا أَنَّهُ وَرِثَهُ مِنْ أَبِيهِ وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِمِلْكِهِ فِي الْحَالِ ، أَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْ فُلَانٍ وَفُلَانٌ يَمْلِكُهُ وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِلْمِلْكِ فِي الْحَالِ تُقْبَلُ وَيُقْضَى بِالْعَيْنِ لِلْمُدَّعِي لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَسْأَلَهُمْ الْقَاضِي إلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَا وَكَذَا إذَا ادَّعَى أَنَّ هَذِهِ زَوْجَتُهُ فَشَهِدُوا أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِلْحَالِ تُقْبَلُ ، هَذَا كُلُّهُ إذَا شَهِدُوا بِالْمِلْكِ فِي الْمَاضِي .
أَمَّا لَوْ شَهِدُوا بِالْيَدِ لَهُ فِي الْمَاضِي وَقَدْ ادَّعَى الْآنَ لَا يُقْضَى لِلْمُدَّعِي بِهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ الْيَدُ تَسُوغُ الشَّهَادَةُ بِالْمِلْكِ عَلَى مَا أَسْلَفْنَاهُ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ يُقْضَى بِهَا ، وَخَرَّجَ الْعِمَادِيُّ عَلَى هَذَا مَا نَقَلَ عَنْ الْوَاقِعَاتِ .
لَوْ أَقَرَّ بِدَيْنِ رَجُلٍ عِنْدَ رَجُلَيْنِ ثُمَّ شَهِدَ عَدْلَانِ عِنْدَ الشَّاهِدَيْنِ

أَنَّهُ قَضَى دَيْنَهُ أَنَّ شَاهِدَيْ الْإِقْرَارِ يَشْهَدَانِ أَنَّهُ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَا يَشْهَدَانِ أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ فَقَالَ هَذَا أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إذَا ادَّعَى الدَّيْنَ وَشَهِدُوا أَنَّهُ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ تُقْبَلُ ، وَهَذَا غَلَطٌ فَإِنَّ مُقْتَضَاهُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الشَّهَادَةِ بِأَنَّهُ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ أَوْ لَهُ عَلَيْهِ ، وَالْحَالُ أَنَّ صَاحِبَ الْوَاقِعَاتِ فَرَّقَ حَيْثُ قَالَ يَشْهَدَانِ أَنَّهُ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ وَلَا يَشْهَدَانِ أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ لَمْ يَكُنْ لِمَنْعِهِ مِنْ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ مَعْنًى .
وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ الْفِقْهُ أَنَّهُمَا إذَا ثَبَتَ عِنْدَ هُمَا بِشَهَادَةِ الْعَدْلَيْنِ أَنَّهُ قَضَاهُ .
ذَلِكَ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ عِنْدَهُمَا أَوْ ثَبَتَ بِطَرِيقٍ أَفَادَهُمَا ذَلِكَ أَنْ لَا يَشْهَدَا كَمَا عُرِفَ فِيمَا إذَا عَلِمَ شَاهِدُ الْأَلْفِ أَنَّهُ قَضَاهُ مِنْهَا خَمْسَمِائَةٍ لَا يَشْهَدُ حَتَّى يُقِرَّ بِقَبْضِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَعَكْسُ مَا نَحْنُ فِيهِ لَوْ ادَّعَى فِي الْمَاضِي بِأَنْ قَالَ هَذِهِ الْجَارِيَةُ كَانَتْ مِلْكِي فَشَهِدُوا أَنَّهَا لَهُ اُخْتُلِفَ فِي قَبُولِهَا ، وَالْأَصَحُّ لَا تُقْبَلُ ، وَكَذَا لَوْ شَهِدُوا عَلَى طِبْقِ دَعْوَاهُ بِأَنْ شَهِدُوا أَنَّهَا كَانَتْ لَهُ لَا تُقْبَلُ لِأَنَّ إسْنَادَ الْمُدَّعِي دَلِيلٌ عَلَى نَفْيِ مِلْكِهِ فِي الْحَالِ إذْ لَا فَائِدَةَ لَهُ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى أَنَّ مِلْكَهُ كَانَ فِي الْمَاضِي إلَّا ذَلِكَ ، بِخِلَافِ الشَّاهِدَيْنِ إذَا أَسْنَدَا ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِهِمَا إيَّاهُ فِي الْحَالِ لِجَوَازِ قَصْدِهِمَا إلَى الِاحْتِرَاسِ عَنْ الْإِخْبَارِ بِمَا لَا عِلْمَ لَهُمَا بِهِ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَعْلَمَا سِوَى ثُبُوتِهِ فِي الْمَاضِي وَلَمْ يَعْلَمَا بِانْتِقَالِهِ فَقَدْ يَكُونُ انْتَقَلَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَيَحْتَرِسُ عَنْهُ الشَّاهِدُ وَإِنْ كَانَ يَثْبُتُ لِلْحَالِ بِالِاسْتِصْحَابِ .

وَفِي الْخُلَاصَةِ : ادَّعَى النَّقْرَةَ الْجَيِّدَةَ وَبَيَّنَ الْوَزْنَ فَشَهِدَا عَلَى النَّقْرَةِ وَالْوَزْنِ وَلَمْ يَذْكُرَا جَيِّدَةً وَلَا رَدِيئَةً وَلَا وَسَطًا تُقْبَلُ وَيُقْضَى بِالرَّدِيءِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ ادَّعَى قَفِيزَ دَقِيقٍ مَعَ النُّخَالَةِ فَشَهِدُوا مِنْ غَيْرِ نُخَالَةٍ أَوْ مَنْخُولًا فَشَهِدُوا عَلَى غَيْرِ الْمَنْخُولِ لَا تُقْبَلُ .

وَفِيهَا أَنَّ مَنْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَلْفًا مِنْ ثَمَنِ بَيْتٍ فَشَهِدُوا عَلَى أَلْفٍ مِنْ ضَمَانِ جَارِيَةٍ غَصَبَهَا فَهَلَكَتْ عِنْدَهُ لَا تُقْبَلُ .
وَعَنْ هَذَا ذَكَرَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَسْطُورَةِ : وَهِيَ مَا إذَا شَهِدَا بِأَلْفٍ مِنْ ثَمَنِ جَارِيَةٍ بَاعَهَا مِنْهُ فَقَالَ الْبَائِعُ إنَّهُ أَشْهَدَهُمَا عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَاَلَّذِي لِي عَلَيْهِ ثَمَنُ مَتَاعٍ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا فَقَالَ فِي الْخُلَاصَةِ : هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمْ شَهِدُوا عَلَى إقْرَارِهِ بِذَلِكَ : أَيْ إقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِثَمَنِ الْجَارِيَةِ لِأَنَّ مِثْلَهُ فِي الْإِقْرَارِ يُقْبَلُ لِمَا ذَكَرُوا فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَهَا ، وَفِي الْكَفَالَةِ : إذَا شَهِدُوا أَنَّهُ كَفَلَ بِأَلْفٍ عَلَى فُلَانٍ فَقَالَ الطَّالِبُ هُوَ أَقَرَّ بِذَلِكَ لَكِنَّ الْكَفَالَةَ كَانَتْ عَنْ فُلَانٍ آخَرَ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالْمَالِ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ فَلَا يَضُرُّهُمَا الِاخْتِلَافُ فِي السَّبَبِ .

وَمِثْلُهُ ادَّعَى أَنَّهُ أَجَّرَهُ دَارًا وَقَبَضَ مَالَ الْإِجَارَةِ وَمَاتَ فَانْفَسَخَتْ وَطَلَبَ مَالَ الْإِجَارَةِ فَشَهِدُوا أَنَّ الْآجِرَ أَقَرَّ بِقَبْضِ مَالِ الْإِجَارَةِ تُقْبَلُ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدُوا عَلَى عَقْدِ الْإِجَارَةِ ، لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِالْمَقْصُودِ وَهُوَ اسْتِحْقَاقُ مَالِ الْإِجَارَةِ ، وَلَوْ ادَّعَى الدَّيْنَ أَوْ الْقَرْضَ فَشَهِدُوا عَلَى إقْرَارِهِ بِالْمَالِ تُقْبَلُ ، وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِهِ وَالْآخَرُ بِالْإِقْرَارِ بِهِ فَقَدْ أَطْلَقَ الْقَبُولَ فِي الْمُحِيطِ وَالْعِدَّةِ .
وَقَالَ قَاضِي خَانْ تُقْبَلُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ .
وَلَوْ ادَّعَى قَرْضًا فَشَهِدُوا أَنَّ الْمُدَّعِيَ دَفَعَ إلَيْهِ كَذَا وَلَمْ يَقُولُوا قَبَضَهَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَثْبُتُ قَبْضُهُ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الْبَيْعِ شَهَادَةٌ عَلَى الشِّرَاءِ ، وَإِذَا ثَبَتَ الْقَبْضُ بِذَلِكَ يَكُونُ الْقَوْلُ لِذِي الْيَدِ أَنَّهُ قَبَضَ بِجِهَةِ الْأَمَانَةِ فَيَحْتَاجُ إلَى بَيِّنَةٍ عَلَى أَنَّهُ بِجِهَةِ الْقَرْضِ إنْ ادَّعَاهُ ، وَلَوْ ادَّعَى أَنَّهُ قَضَاهُ دَيْنَهُ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِهِ وَالْآخَرُ بِإِقْرَارِهِ أَنَّهُ قَضَاهُ لَا تُقْبَلُ ، وَلَوْ شَهِدَا جَمِيعًا بِالْإِقْرَارِ قُبِلَتْ ، وَلَوْ ادَّعَى شِرَاءَ دَارٍ مِنْ رَجُلٍ فَشَهِدَا أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ وَكِيلِهِ لَا تُقْبَلُ ، وَكَذَا لَوْ شَهِدَ أَنَّ فُلَانًا بَاعَهَا مِنْهُ وَهَذَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَجَازَ الْبَيْعَ .
ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّك قَبَضْت مِنْ مَالِي جَمَلًا بِغَيْرِ حَقٍّ مَثَلًا وَبَيَّنَ سِنَّهُ وَقِيمَتَهُ فَشَهِدُوا أَنَّهُ قَبَضَ مِنْ فُلَانٍ غَيْرِ الْمُدَّعِي تُقْبَلُ وَيُجْبَرُ عَلَى إحْضَارِهِ لِأَنَّهُ قَالَ مِنْ مَالِي وَلَمْ يَقُلْ قَبَضْت مِنِّي فَلَا يَكُونُ مَا شَهِدُوا بِهِ يُنَاقِضُهُ فَيَحْضُرُهُ لِيُشِيرَ إلَيْهِ بِالدَّعْوَى .

الْقِسْمُ الثَّانِي : اخْتِلَافُ الشَّاهِدَيْنِ .
ادَّعَى بِالْمَبِيعِ عَيْبًا فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ اشْتَرَاهُ وَبِهِ هَذَا الْعَيْبُ وَشَهِدَ الْآخَرُ عَلَى إقْرَارِ الْبَائِعِ بِهِ لَا تُقْبَلُ كَمَا لَوْ ادَّعَى عَيْنًا أَنَّهُ لَهُ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى أَنَّهُ مَلَكَهُ وَالْآخَرُ عَلَى إقْرَارِ ذِي الْيَدِ أَنَّهُ مَلَكَهُ لَا تُقْبَلُ ، وَمِثْلُهُ دَعْوَى الرَّهْنِ فَشَهِدَ بِهِ بِمُعَايَنَةِ الْقَبْضِ وَالْآخَرُ عَلَى إقْرَارِ الرَّاهِنِ بِقَبْضِهِ لَا تُقْبَلُ .
قَالَ ظَهِيرُ الدِّينِ : الرَّهْنُ فِي هَذَا كَالْغَصْبِ ، وَكَذَا الْوَدِيعَةُ لَوْ ادَّعَاهَا فَشَهِدَا بِإِقْرَارِ الْمُودَعِ قُبِلَتْ ، وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِهَا وَالْآخَرُ بِالْإِقْرَارِ بِهَا لَا تُقْبَلُ عَلَى قِيَاسِ الْغَصْبِ ، وَعَلَى قِيَاسِ الْقَرْضِ تُقْبَلُ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ ادَّعَى أَنَّهُ بَاعَ بِشَرْطِ الْوَفَاءِ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ بَاعَ بِشَرْطِ الْوَفَاءِ وَالْآخَرُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ أَقَرَّ بِذَلِكَ تُقْبَلُ لِأَنَّ لَفْظَ الْبَيْعِ فِي الْإِخْبَارِ وَالْإِنْشَاءِ وَاحِدٌ .
وَمِثْلُهُ لَوْ ادَّعَتْ صَدَاقَهَا فَقُلْت وَهَبَتْنِي إيَّاهُ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْهِبَةِ وَالْآخَرُ عَلَى الْإِبْرَاءِ تُقْبَلُ لِلْمُوَافَقَةِ لِأَنَّ حُكْمَهُمَا وَاحِدٌ وَهُوَ السُّقُوطُ ، وَقِيلَ لَا لِلِاخْتِلَافِ ، لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إسْقَاطٌ وَالْهِبَةَ تَمْلِيكٌ وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ إسْقَاطًا يَتَضَمَّنُ التَّمْلِيكَ وَلِهَذَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ .
وَلَوْ شَهِدَ عَلَى إقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّ الْمُدَّعَى بِهِ فِي يَدِهِ وَالْآخَرُ أَنَّهُ فِي يَدِهِ لَا تُقْبَلُ .
وَفِي الْمُحِيطِ : ادَّعَى دَارًا فَشَهِدَ أَنَّهَا دَارُهُ وَالْآخَرُ عَلَى إقْرَارِ ذِي الْيَدِ أَنَّهَا لَهُ لَا تُقْبَلُ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى الدَّيْنِ وَالْآخَرُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ تُقْبَلُ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ شَهِدَ أَنَّهَا جَارِيَتُهُ وَالْآخَرُ عَلَى إقْرَارِهِ بِهَا لَا تُقْبَلُ ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا شَهِدَ أَنَّهَا جَارِيَتُهُ وَالْآخَرُ أَنَّهَا كَانَتْ لَهُ تُقْبَلُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا شَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهَا

كَانَتْ فِي يَدِهِ ، وَإِذَا رَاجَعْت الْقَاعِدَةَ الَّتِي أَسْلَفْنَا مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ اخْتِلَافِ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ خَرَّجْت كَثِيرًا مِنْ الْفُرُوعِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْإِرْثِ ) ( وَمَنْ أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى دَارٍ أَنَّهَا كَانَتْ لِأَبِيهِ أَعَارَهَا أَوْ أَوْدَعَهَا الَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُهَا وَلَا يُكَلَّفُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَهُ ) وَأَصْلُهُ أَنَّهُ مَتَى ثَبَتَ مِلْكُ الْمُورَثِ لَا يَقْضِي بِهِ لِلْوَارِثِ حَتَّى يَشْهَدَ الشُّهُودُ أَنَّهُ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
هُوَ يَقُولُ : إنَّ مِلْكَ الْوَارِثِ مِلْكُ الْمُورَثِ فَصَارَتْ الشَّهَادَةُ بِالْمِلْكِ لِلْمُورَثِ شَهَادَةٌ بِهِ لِلْوَارِثِ ، وَهُمَا يَقُولَانِ : إنَّ مِلْكَ الْوَارِثِ مُتَجَدِّدٌ فِي حَقِّ الْعَيْنِ حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ الِاسْتِبْرَاءُ فِي الْجَارِيَةِ الْمَوْرُوثَةِ ، وَيَحِلُّ لِلْوَارِثِ الْغَنِيِّ مَا كَانَ صَدَقَةً عَلَى الْمُورَثِ الْفَقِيرِ فَلَا بُدَّ مِنْ النَّقْلِ ، إلَّا أَنَّهُ يَكْتَفِي بِالشَّهَادَةِ عَلَى قِيَامِ مِلْكِ الْمُورَثِ وَقْتَ الْمَوْتِ لِثُبُوتِ الِانْتِقَالِ ضَرُورَةً ، وَكَذَا عَلَى قِيَامِ يَدِهِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ ، وَقَدْ وُجِدَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى الْيَدِ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ لِأَنَّ يَدَ الْمُسْتَعِيرِ وَالْمُودَعِ وَالْمُسْتَأْجِرِ قَائِمَةٌ مَقَامَ يَدِهِ فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ الْجَرِّ وَالنَّقْلِ ( وَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهَا كَانَتْ فِي يَدِ فُلَانٍ مَاتَ وَهِيَ فِي يَدِهِ جَازَتْ الشَّهَادَةُ ) لِأَنَّ الْأَيْدِي عِنْدَ الْمَوْتِ تَنْقَلِبُ يَدَ مِلْكٍ بِوَاسِطَةِ الضَّمَانِ وَالْأَمَانَةُ تَصِيرُ مَضْمُونَةً بِالتَّجْهِيلِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ عَلَى قِيَامِ مِلْكِهِ وَقْتَ الْمَوْتِ ( وَإِنْ قَالُوا لِرَجُلٍ حَيٍّ نَشْهَدُ أَنَّهَا كَانَتْ فِي يَدِ الْمُدَّعِي مُنْذُ شَهْرٍ لَمْ تُقْبَلْ ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهَا تُقْبَلُ لِأَنَّ الْيَدَ مَقْصُودَةٌ كَالْمِلْكِ ؛ وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّهَا كَانَتْ مِلْكَهُ تُقْبَلُ فَكَذَا هَذَا صَارَ كَمَا إذَا شَهِدُوا بِالْأَخْذِ مِنْ الْمُدَّعِي .
وَجْهُ الظَّاهِرِ وَهُوَ قَوْلُهُمَا أَنَّ الشَّهَادَةَ قَامَتْ بِمَجْهُولٍ لِأَنَّ الْيَدَ

مُنْقَضِيَةٌ وَهِيَ مُتَنَوِّعَةٌ إلَى مِلْكٍ وَأَمَانَةٍ وَضَمَانٍ فَتَعَذَّرَ الْقَضَاءُ بِإِعَادَةِ الْمَجْهُولِ ، بِخِلَافِ الْمِلْكِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُخْتَلِفٍ ، وَبِخِلَافِ الْآخِذِ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ وَحُكْمُهُ مَعْلُومٌ وَهُوَ وُجُوبُ الرَّدِّ ، وَلِأَنَّ يَدَ ذِي الْيَدِ مُعَايِنٌ وَيَدُ الْمُدَّعِي مَشْهُودٌ بِهِ ، وَلَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ ( وَإِنْ أَقَرَّ بِذَلِكَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ دُفِعَتْ إلَى الْمُدَّعِي ) لِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِي الْمُقَرِّ بِهِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ ( وَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهَا كَانَتْ فِي يَدِ الْمُدَّعِي دُفِعَتْ إلَيْهِ ) لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ هَاهُنَا الْإِقْرَارُ وَهُوَ مَعْلُومٌ .

( فَصْلٌ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْإِرْثِ ) وَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ تَعْقِيبِ الشَّهَادَةِ بِمِلْكٍ مُتَجَدِّدٍ لِحَيٍّ عَنْ مَيِّتٍ عَلَى الشَّهَادَةِ بِمِلْكٍ يَتَجَدَّدُ لِحَيٍّ عَنْ حَيٍّ ظَاهِرٌ ( قَوْلُهُ وَمَنْ أَقَامَ بَيِّنَةً إلَخْ ) اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي أَنَّهُ هَلْ يَتَوَقَّفُ الْقَضَاءُ لِلْوَارِثِ بِالشَّهَادَةِ عَلَى مِلْكِ الْمَيِّتِ عَلَى الْجَرِّ وَالنَّقْلِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الشُّهُودُ فِي شَهَادَتِهِمْ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لِهَذَا الْمُدَّعِي .
فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا .
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ نَعَمْ .
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ ( هُوَ يَقُولُ مِلْكُ الْمُورَثِ مِلْكُ الْوَارِثِ ) لِأَنَّهُ يَصِيرُ مِلْكَهُ خِلَافَةً ، وَلِهَذَا يُخَاصِمُ وَيَرُدُّ بِالْعَيْبِ وَيُرَدُّ عَلَيْهِ وَيَصِيرُ مَغْرُورًا إذَا كَانَ الْمُورَثُ مَغْرُورًا ، فَالشَّهَادَةُ بِالْمِلْكِ لِلْمُورَثِ شَهَادَةٌ بِهِ لَهُ فَلَا حَاجَةَ إلَى أَمْرٍ زَائِدٍ يُشْتَرَطُ الْقَضَاءُ بِهِ لَهُ ، وَقَدْ ظَهَرَ بِهَذَا مَحَلُّ الْخِلَافِ وَهُوَ شَهَادَتُهُمْ أَنَّهُ كَانَ مِلْكَ الْمَيِّتِ بِلَا زِيَادَةٍ ، وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهَا لِأَبِيهِ لَا تُقْبَلُ ذَكَرَهَا مُحَمَّدٌ بِلَا ذِكْرِ خِلَافٍ ؛ فَقِيلَ تُقْبَلُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَقِيلَ لَا تُقْبَلُ بِالِاتِّفَاقِ ( وَهُمَا يَقُولَانِ مِلْكُ الْوَارِثِ مِلْكٌ مُتَجَدِّدٌ فِي الْعَيْنِ حَتَّى وَجَبَ عَلَى الْوَارِثِ اسْتِبْرَاءُ الْجَارِيَةِ الْمَوْرُوثَةِ ، وَيَحِلُّ لِلْوَارِثِ الْغَنِيِّ مَا كَانَ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى الْمُورَثِ الْفَقِيرِ ) وَلَوْ زَكَاةَ أَوْ كَفَّارَةَ فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهِمَا الْجَرَّ وَالِانْتِقَالَ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ ذِكْرُ ذَلِكَ نَصًّا بَلْ إمَّا نَصًّا كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِهِمْ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَهُ أَوْ شَهِدَا بِالْمِلْكِ لِلْمُورَثِ عِنْدَ الْمَوْتِ أَوْ بِمَا يَقُومُ مَقَامَهُ وَهُوَ الْيَدُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَتَجَدُّدُ مِلْكِ الْوَارِثِ غَيْرُ لَازِمٍ شَرْعِيٍّ لِمَا شَهِدُوا بِهِ بَلْ لَازِمٌ لِقِيَامِهِ حَالَ الْمَوْتِ .
إذَا عُرِفَ هَذَا فَالْمَسْأَلَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ

اتِّفَاقِيَّةٌ ، وَهِيَ قَوْلُهُ : وَمَنْ أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى دَارٍ أَنَّهَا كَانَتْ لِأَبِيهِ أَعَارَهَا أَوْ أَوْدَعَهَا الَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُهَا وَلَا يُكَلَّفُ لِلْبَيِّنَةِ أَنَّهُ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَهُ .
أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فَظَاهِرٌ ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الْمِلْكِ وَقْتَ الْمَوْتِ أَوْ الْيَدِ وَقْتَ الْمَوْتِ تَقُومُ مَقَامَ ذَلِكَ ، وَقَدْ وُجِدَ الثَّانِي فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الْيَدَ عِنْدَ الْمَوْتِ حَيْثُ شَهِدَ أَنَّهَا مُعَارَةٌ مِنْهُ أَوْ مُودَعَةٌ عِنْدَ الْمَوْتِ لِأَنَّ يَدَ الْمُسْتَعِيرِ وَالْمُودَعِ وَالْمُسْتَأْجِرِ كَيَدِ الْمُعِيرِ وَأَخَوَيْهِ ، وَقَدْ طُولِبَا بِالْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَمَا إذَا شَهِدَا لِمُدَّعِي مِلْكِ عَيْنٍ فِي يَدِ رَجُلٍ بِأَنَّهَا كَانَتْ مِلْكَ الْمُدَّعِي أَوْ أَنَّهُ كَانَ مَلَكَهَا حَيْثُ يَقْضِي بِهَا وَإِنْ لَمْ يَشْهَدَا أَنَّهَا مِلْكُهُ إلَى الْآنَ ، وَكَذَا لَوْ شَهِدَا لِمُدَّعِي عَيْنٍ فِي يَدِ إنْسَانٍ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ فُلَانٍ الْغَائِبِ وَلَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ وَذُو الْيَدِ يُنْكِرُ مِلْكَ الْبَائِعِ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى بَيِّنَةٍ عَلَى مِلْكِهِ ، فَإِذَا شَهِدَا بِمِلْكِهِ قُضِيَ لِلْمُشْتَرِي بِهِ وَإِنْ لَمْ يَنُصَّا عَلَى أَنَّهَا مِلْكُهُ يَوْمَ الْبَيْعِ ، وَهَذِهِ أَشْبَهُ بِمَسْأَلَتِنَا ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْ الشِّرَاءِ وَالْإِرْثِ يُوجِبُ تَجَدُّدَ الْمِلْكِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّهُمَا إذَا لَمْ يَنُصَّا عَلَى ثُبُوتِ مِلْكِهِ حَالَةَ الْمَوْتِ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِالِاسْتِصْحَابِ وَالثَّابِتُ بِهِ بِحُجَّةٍ لِإِبْقَاءِ الثَّابِتِ لَا لِإِثْبَاتِ مَا لَمْ يَكُنْ وَهُوَ الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْوَارِثِ ، بِخِلَافِ مُدَّعِي الْعَيْنِ فَإِنَّ الثَّابِتَ بِالِاسْتِصْحَابِ بَقَاءُ مِلْكِهِ لَا تَجَدُّدُهُ ، وَبِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الشِّرَاءِ فَإِنَّ الْمِلْكَ مُضَافٌ إلَيْهِ لَا إلَى مِلْكِ الْبَائِعِ وَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ لِثُبُوتِ مِلْكِ الْمُشْتَرِي مِنْ بَقَائِهِ لِأَنَّ الشِّرَاءَ آخِرُهُمَا وُجُودًا وَهُوَ سَبَبٌ مَوْضُوعٌ لِلْمِلْكِ حَتَّى لَا

يَتَحَقَّقُ لَوْ لَمْ يُوجِبْهُ فَيَكُونُ مُضَافًا إلَى الشِّرَاءِ وَهُوَ ثَابِتٌ بِالْبَيِّنَةِ .
أَمَّا هُنَا فَثُبُوتُ مِلْكِ الْوَارِثِ مُضَافٌ إلَى كَوْنِ الْمَالِ مِلْكًا لِلْمَيِّتِ وَقْتَ الْمَوْتِ لَا إلَى الْمَوْتِ لِأَنَّهُ لَيْسَ سَبَبًا مَوْضُوعًا لِلْمِلْكِ بَلْ عِنْدَهُ يَثْبُتُ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ فَارِغٌ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
هَذَا إذَا شَهِدَا أَنَّهَا كَانَتْ مُعَارَةً أَوْ مُودَعَةً ( فَلَوْ شَهِدَا أَنَّهَا كَانَتْ فِي يَدِ أَبِيهِ مَاتَ وَهِيَ فِي يَدِهِ وَالْأَبُ ) هُوَ الْمُرَادُ بِلَفْظِ فُلَانٍ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ إنَّهُمَا كَانَتْ فِي يَدِ فُلَانٍ : يَعْنِي أَبَا الْوَارِثِ الْمُدَّعِي جَازَتْ الشَّهَادَةُ فَيَقْضِي بِالدَّارِ لِلْوَارِثِ لِإِثْبَاتِهِمَا الْيَدَ لِلْمَيِّتِ إلَى حِينِ الْمَوْتِ ، وَبِذَلِكَ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لَهُ لِأَنَّ الْيَدَ وَإِنْ تَنَوَّعَتْ إلَى يَدِ عَصَبٍ وَأَمَانَةٍ وَمِلْكٍ ، فَإِنَّهَا عِنْدَ الْمَوْتِ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ تَصِيرُ يَدَ مِلْكٍ ، لِمَا عُرِفَ أَنَّ كُلًّا مِنْ الْغَاصِبِ وَالْمُودَعِ إذَا مَاتَ مُجْهَلًا يَصِيرُ الْمَغْصُوبُ الْوَدِيعَةُ مِلْكَهُ لِصَيْرُورَتِهِ مَضْمُونًا عَلَيْهِ شَرْعًا ، وَلَا يَجْتَمِعُ الْبَدَلَانِ فِي مِلْكِ مَالِكِ الْوَدِيعَةِ وَالْمَغْصُوبِ مِنْهُ ، وَلَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا مَا لَوْ شَهِدُوا أَنَّ أَبَاهُ دَخَلَ هَذِهِ الدَّارَ وَمَاتَ فِيهَا أَوْ أَنَّهُ كَانَ فِيهَا حَتَّى مَاتَ ، أَوْ أَنَّهُ مَاتَ فِيهَا أَوْ أَنَّهُ مَاتَ وَهُوَ قَاعِدٌ عَلَى هَذَا الْبِسَاطِ أَوْ نَائِمٌ عَلَى هَذَا الْفِرَاشِ ، أَوْ أَنَّهُ مَاتَ وَهَذَا الثَّوْبُ مَوْضُوعٌ عَلَى رَأْسِهِ لَا تُقْبَلُ حَتَّى لَا يَسْتَحِقَّ الْوَارِثُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ مَعَ أَنَّهَا تُفِيدُ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ كَانَتْ فِي يَدِ الْمُورَثِ قَبْلَ الْمَوْتِ لِأَنَّهَا خَرَجَتْ بِقَوْلِهِ بِوَاسِطَةِ الضَّمَانِ ، وَهَذِهِ الْأُمُورُ لَيْسَتْ مُوجِبَةً لِلضَّمَانِ .
قَالَ التُّمُرْتَاشِيُّ : لَا تَثْبُتُ الْيَدُ عَلَى الْمَحَلِّ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ حَتَّى لَا يَصِيرَ غَاصِبًا وَلَا يَصِيرَ ذُو الْيَدِ مُقِرًّا بِذَلِكَ ، بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ بِالرُّكُوبِ وَالْحَمْلِ وَاللُّبْسِ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78