كتاب : فتح القدير
المؤلف : كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي

ثُمَّ هُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ عَلَى التَّرَاخِي لِأَنَّهُ وَظِيفَةُ الْعُمْرِ فَكَانَ الْعُمْرُ فِيهِ كَالْوَقْتِ فِي الصَّلَاةِ .
وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ يُخَصُّ بِوَقْتٍ خَاصٍّ ، وَالْمَوْتُ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ غَيْرُ نَادِرٍ فَيَتَضَيَّقُ احْتِيَاطًا وَلِهَذَا كَانَ التَّعْجِيلُ أَفْضَلَ ، بِخِلَافِ وَقْتِ الصَّلَاةِ لِأَنَّ الْمَوْتَ فِي مِثْلِهِ نَادِرٌ .

( قَوْلُهُ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ) وَهُوَ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ مَلَكَ مَا يُبَلِّغُهُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى أَيَحُجُّ أَمْ يَتَزَوَّجُ ؟ فَقَالَ : يَحُجُّ ، فَإِطْلَاقُ الْجَوَابِ بِتَقْدِيمِ الْحَجِّ مَعَ أَنَّ التَّزَوُّجَ قَدْ يَكُونُ وَاجِبًا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ .
وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّجْنِيسِ : أَنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ يَكْفِي لِلْحَجِّ وَلَيْسَ لَهُ مَسْكَنٌ وَلَا خَادِمٌ أَوْ خَافَ الْعُزُوبَةَ فَأَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ وَيَصْرِفَ الدَّرَاهِمَ إلَى ذَلِكَ ، إنْ كَانَ قَبْلَ خُرُوجِ أَهْلِ بَلَدِهِ إلَى الْحَجِّ يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ الْأَدَاءُ بَعْدُ ، وَإِنْ كَانَ وَقْتَ الْخُرُوجِ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ ا هـ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمَنْقُولَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مُطْلَقٌ ، فَإِنْ كَانَ الْوَاقِعُ وُقُوعَ السُّؤَالِ فِي غَيْرِ أَوَانِ الْخُرُوجِ فَهُوَ خِلَافُ مَا فِي التَّجْنِيسِ وَإِلَّا فَلَا يُفِيدُ الِاسْتِشْهَادُ الْمَقْصُودُ ، ثُمَّ عَلَى مَا أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ يَأْثَمُ بِالتَّأْخِيرِ عَنْ أَوَّلِ سِنِي الْإِمْكَانِ ، فَلَوْ حَجَّ بَعْدَهُ ارْتَفَعَ الْإِثْمُ وَوَقَعَ أَدَاءً ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ هُوَ عَلَى التَّرَاخِي ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، فَلَا يَأْثَمُ إذَا حَجَّ قَبْلَ مَوْتِهِ ، فَإِنْ مَاتَ بَعْدَ الْإِمْكَانِ وَلَمْ يَحُجَّ ظَهَرَ أَنَّهُ آثِمٌ ، وَقِيلَ : لَا يَأْثَمُ .
وَقِيلَ : إنْ خَافَ الْفَوْتَ بِأَنْ ظَهَرَتْ لَهُ مَخَايِلُ الْمَوْتِ فِي قَلْبِهِ فَأَخَّرَهُ حَتَّى مَاتَ أَثِمَ ، وَإِنْ فَجَأَهُ الْمَوْتُ لَا يَأْثَمُ ، وَصِحَّةُ الْأَوَّلِ غَنِيَّةٌ عَنْ الْوَجْهِ .
وَعَلَى اعْتِبَارِهِ قِيلَ يَظْهَرُ الْإِثْمُ مِنْ السَّنَةِ الْأُولَى ، وَقِيلَ الْأَخِيرَةُ ، وَقِيلَ مِنْ سَنَةِ رَأَى فِي نَفْسِهِ الضَّعْفَ ، وَقِيلَ يَأْثَمُ فِي الْجُمْلَةِ غَيْرُ مَحْكُومٍ بِمُعَيَّنٍ بَلْ عِلْمُهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَقَدْ اسْتَدَلَّ عَلَى الْفَوْرِ بِالْمَنْقُولِ وَالْمَعْنَى ، فَالْأَوَّلُ حَدِيثُ الْحَجَّاجِ بْنِ

عَمْرٍو الْأَنْصَارِيِّ { مَنْ كُسِرَ أَوْ عَرِجَ فَقَدْ حَلَّ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ } وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ لَفْظَةَ قَابِلٍ مُتَعَارَفٌ فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ الَّتِي تَلِي هَذِهِ السَّنَةَ ، وَإِلَّا فَهُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ فَلَا دَلِيلَ فِيهِ .
وَالثَّانِي : هُوَ أَنَّ الْحَجَّ لَا يَجُوزُ إلَّا فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ وَاحِدٍ فِي السَّنَةِ ، وَالْمَوْتُ فِي سَنَةٍ غَيْرُ نَادِرٍ فَتَأْخِيرُهُ بَعْدَ التَّمَكُّنِ فِي وَقْتِهِ تَعْرِيضٌ لَهُ عَلَى الْفَوَاتِ فَلَا يَجُوزُ ، وَلِذَا يَفْسُقُ بِتَأْخِيرِهِ وَيَأْثَمُ وَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ ، فَحَقِيقَةُ دَلِيلِ وُجُوبِ الْفَوْرِ هُوَ الِاحْتِيَاطُ فَلَا يَدْفَعُهُ أَنَّ مُقْتَضَى الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ جَوَازُ التَّأْخِيرِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُخَلَّى الْعُمْرُ عَنْهُ ، وَأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَجَّ سَنَةَ عَشْرٍ ، وَفَرْضِيَّةُ الْحَجِّ كَانَتْ سَنَةَ تِسْعٍ ، فَبَعَثَ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا وَلَمْ يَحُجَّ هُوَ إلَى الْقَابِلَةِ ، أَوْ فُرِضَ سَنَةَ خَمْسٍ ، عَلَى مَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { بَعَثَتْ بَنُو سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ ضِمَامَ بْنَ ثَعْلَبَةَ وَافِدًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَرَائِضَ الْإِسْلَامِ : الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ وَالْحَجَّ } .
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ : وَقَدْ رَوَاهُ شَرِيكُ بْنُ أَبِي نَمِرٍ عَنْ كُرَيْبٌ فَقَالَ : فِيهِ { بَعَثَتْ بَنُو سَعْدِ ضِمَامًا وَافِدًا فِي شَهْرِ رَجَبٍ سَنَةَ خَمْسٍ فَذَكَرَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَائِضَ الْإِسْلَامِ : الصَّلَاةَ ، وَالصَّوْمَ ، وَالْحَجَّ ، أَوْ سَنَةَ سِتٍّ } فَإِنَّ تَأْخِيرَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَيْسَ يَتَحَقَّقُ فِيهِ تَعْرِيضُ الْفَوَاتِ وَهُوَ الْمُوجِبُ لِلْفَوْرِ لِأَنَّهُ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَعِيشُ حَتَّى يَحُجَّ وَيُعَلِّمُ النَّاسَ مَنَاسِكَهُمْ تَكْمِيلًا لِلتَّبْلِيغِ ، وَلَيْسَ مُقْتَضَى الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ جَوَازُ التَّأْخِيرِ وَلَا الْفَوْرُ حَتَّى يُعَارِضَهُ مُوجِبُ الْفَوْرِ وَهُوَ هَذَا

الْمَعْنَى فَلَا يَقْوَى قُوَّتَهُ ، بَلْ مُجَرَّدُ طَلَبِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَيَبْقَى كُلٌّ مِنْ الْفَوْرِ وَالتَّأْخِيرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ ، وَذَلِكَ الِاحْتِيَاطُ يَخْرُجُ عَنْهَا ، عَلَى أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ تَارِيخٍ ، وَأَمَّا بِالتَّارِيخِ الْمَذْكُورِ فَإِنَّمَا وَجَدْتُ مُعْضَلَةً فِي ابْنِ الْجَوْزِيِّ ، وَقَدْ رَوَاهُ شَرِيكُ بْنُ أَبِي نَمِرٍ عَنْ كُرَيْبٌ فَقَالَ فِيهِ : وَذَكَرَ مَا قَدَّمْنَاهُ .
قَالَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ : لَا أَعْرِفُ لَهَا سَنَدًا ، وَاَلَّذِي نَزَلَ سَنَةَ سِتٍّ قَوْله تَعَالَى { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } وَهُوَ افْتِرَاضُ الْإِتْمَامِ ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِمَنْ شَرَعَ فِيهِمَا .
فَتَلَخَّصَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْفَوْرِيَّةَ وَاجِبَةٌ ، وَالْحَجُّ مُطْلَقًا هُوَ الْفَرْضُ فَيَقَعُ أَدَاءً إذَا أَخَّرَهُ وَيَأْثَمُ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ عَلَى نَظِيرِ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي الزَّكَاةِ سَوَاءً ، فَارْجِعْ إلَيْهِ وَقِسْ بِهِ

وَإِنَّمَا شَرَطَ الْحُرِّيَّةَ وَالْبُلُوغَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَيُّمَا عَبْدٍ حَجَّ عَشْرَ حِجَجٍ ثُمَّ أُعْتِقَ فَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ ، وَأَيُّمَا صَبِيٍّ حَجَّ عَشْرَ حِجَجٍ ثُمَّ بَلَغَ فَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ } وَلِأَنَّهُ عِبَادَةٌ وَالْعِبَادَاتُ بِأَسْرِهَا مَوْضُوعَةٌ عَنْ الصِّبْيَانِ

( قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَيُّمَا عَبْدٍ ) رَوَى الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمِنْهَالِ : حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَأَيُّمَا صَبِيٍّ حَجَّ ثُمَّ بَلَغَ الْحِنْثَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ حَجَّةً أُخْرَى ، وَأَيُّمَا أَعْرَابِيٍّ حَجَّ ثُمَّ هَاجَرَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ حَجَّةً أُخْرَى ، وَأَيُّمَا عَبْدٍ حَجَّ ثُمَّ أُعْتِقَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ حَجَّةً أُخْرَى } وَقَالَ : صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ .
وَالْمُرَادُ بِالْأَعْرَابِيِّ الَّذِي لَمْ يُهَاجِرْ مَنْ لَمْ يُسْلِمْ فَإِنَّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ كَانُوا يَحُجُّونَ فَنَفَى إجْزَاءَ ذَلِكَ الْحَجِّ عَنْ الْحَجِّ الَّذِي وَجَبَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ ، وَتَفَرَّدَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمِنْهَالِ بِرَفْعِهِ ، بِخِلَافِ الْأَكْثَرِ لَا يَضُرُّ إذْ الرَّفْعُ زِيَادَةٌ ، وَزِيَادَةُ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ وَقَدْ تَأَيَّدَ ذَلِكَ بِمُرْسَلٍ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد فِي مَرَاسِيلِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبِ الْقُرَظِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَيُّمَا صَبِيٍّ حَجَّ بِهِ أَهْلُهُ فَمَاتَ أَجْزَأَ عَنْهُ ، فَإِنْ أَدْرَكَ فَعَلَيْهِ الْحَجُّ ، وَأَيُّمَا عَبْدٍ حَجَّ بِهِ أَهْلُهُ فَمَاتَ أَجْزَأَ عَنْهُ فَإِنْ أُعْتِقَ فَعَلَيْهِ الْحَجُّ } وَهَذَا حُجَّةٌ عِنْدَنَا .
وَبِمَا هُوَ شَبِيهُ الْمَرْفُوعِ أَيْضًا فِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ : حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : احْفَظُوا عَنِّي وَلَا تَقُولُوا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ " أَيُّمَا عَبْدٍ حَجَّ " إلَخْ ، وَعَلَى اشْتِرَاطِ الْحُرِّيَّةِ الْإِجْمَاعُ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحَجِّ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ بِوَجْهَيْنِ كَوْنُهُ لَا يَتَأَتَّى إلَّا بِالْمَالِ غَالِبًا بِخِلَافِهِمَا ، وَلَا مِلْكَ لِلْعَبْدِ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى تَمَلُّكِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ ، فَلَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِلْوُجُوبِ فَلِذَا لَا يَجِبُ عَلَى عَبِيدِ

أَهْلِ مَكَّةَ ، بِخِلَافِ اشْتِرَاطِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ فِي حَقِّ الْفَقِيرِ فَإِنَّهُ لِلتَّيْسِيرِ لَا لِلْأَهْلِيَّةِ فَوَجَبَ عَلَى فُقَرَاءِ مَكَّةَ .
وَالثَّانِي أَنَّ حَقَّ الْمَوْلَى يَفُوتُ فِي مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ ، وَحَقُّ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ بِإِذْنِ الشَّرْعِ لِافْتِقَارِ الْعَبْدِ وَغِنَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ تَعَالَى مَا شَرَعَ مَا شَرَعَ إلَّا لِتَعُودَ الْمَصَالِحُ إلَى الْمُكَلَّفِينَ إرَادَةً مِنْهُ لِإِفَاضَةِ الْجُودِ ، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَا يَخْرُجُ الْمَوْلَى فِي اسْتِثْنَاءِ مُدَّتِهِمَا

وَالْعَقْلُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ التَّكْلِيفِ .
وَكَذَا صِحَّةُ الْجَوَارِحِ لِأَنَّ الْعَجْزَ دُونَهَا لَازِمٌ .
( قَوْلُهُ وَكَذَا صِحَّةُ الْجَوَارِحِ ) حَتَّى إنَّ الْمُقْعَدَ وَالزَّمِنَ وَالْمَفْلُوجَ وَمَقْطُوعَ الرِّجْلَيْنِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْإِحْجَاجُ إذَا مَلَكُوا الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ ، وَلَا الْإِيصَاءُ بِهِ فِي الْمَرَضِ ، وَكَذَا الشَّيْخُ الَّذِي لَا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ : يَعْنِي إذَا لَمْ يَسْبِقْ الْوُجُوبُ حَالَةَ الشَّيْخُوخَةِ بِأَنْ لَمْ يَمْلِكْ مَا يُوصِلُهُ إلَّا بَعْدَهَا ، وَكَذَا الْمَرِيضُ لِأَنَّهُ بَدَلُ الْحَجِّ بِالْبَدَنِ ، وَإِذَا لَمْ يَجِبْ الْمُبْدَلُ لَا يَجِبُ الْبَدَلُ .
وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْهُمَا يَجِبُ الْحَجُّ عَلَى هَؤُلَاءِ إذَا مَلَكُوا الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ وَمُؤْنَةَ مَنْ يَرْفَعُهُمْ وَيَضَعُهُمْ وَيَقُودُهُمْ إلَى الْمَنَاسِكِ ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَهِيَ الرِّوَايَةُ الَّتِي أَشَارَ إلَيْهَا الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ : وَأَمَّا الْمُقْعَدُ إلَّا أَنَّهُ خَصَّ الْمُقْعَدَ ، وَيُقَابِلُ ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ عَنْهُمَا مَا نَسَبَهُ الْمُصَنِّفُ إلَى مُحَمَّدٍ بِقَوْلِهِ : فَرَّقَ مُحَمَّدٌ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ بَيْنَ الْمُقْعَدِ وَالْأَعْمَى .
وَإِذَا وَجَبَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْإِحْجَاجُ لِلُزُومِهِمْ الْأَصْلَ وَهُوَ الْحَجُّ بِالْبَدَنِ فَيَجِبُ عَلَيْهِمْ الْبَدَلُ ، فَلَوْ أَحَجُّوا عَنْهُمْ وَهُمْ آيِسُونَ مِنْ الْأَدَاءِ بِالْبَدَنِ ثُمَّ صَحُّوا وَجَبَ عَلَيْهِمْ الْأَدَاءُ بِأَنْفُسِهِمْ ، وَظَهَرَتْ نَفْلِيَّةُ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ خُلْفٌ ضَرُورِيٌّ فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْأَصْلِ ، كَالشَّيْخِ الْفَانِي إذَا فَدَى ثُمَّ قَدَرَ ، وَكَذَا مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ عَدُوٌّ فَأَحَجَّ عَنْهُ ، فَإِنْ أَقَامَ الْعَدُوُّ عَلَى الطَّرِيقِ إلَى مَوْتِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ جَازَ الْحَجُّ عَنْهُ ، وَإِنْ لَمْ يَقُمْ حَتَّى مَاتَ لَا يَجُوزُ لِزَوَالِ الْعُذْرِ قَبْلَ الْمَوْتِ ، فَيَجِبُ الْأَصْلُ وَهُوَ الْحَجُّ بِنَفْسِهِ ،

وَالْأَعْمَى إذَا وَجَدَ مَنْ يَكْفِيهِ مُؤْنَةَ سَفَرِهِ وَوَجَدَ زَادًا وَرَاحِلَةً لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ خِلَافًا لَهُمَا ، وَقَدْ مَرَّ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ .
وَأَمَّا الْمُقْعَدُ ، فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
أَنَّهُ يَجِبُ لِأَنَّهُ مُسْتَطِيعٌ بِغَيْرِهِ فَأَشْبَهَ الْمُسْتَطِيعَ بِالرَّاحِلَةِ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ لِأَنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى الْأَدَاءِ بِنَفْسِهِ ، بِخِلَافِ الْأَعْمَى لِأَنَّهُ لَوْ هَدَى يُؤَدِّي بِنَفْسِهِ فَأَشْبَهَ الضَّالَّ عَنْهُ ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْقُدْرَةِ عَلَى الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ ، وَهُوَ قَدْرُ مَا يَكْتَرِي بِهِ شِقَّ مَحْمَلٍ أَوْ رَأْسَ زَامِلَةٍ ، وَقَدْرَ النَّفَقَةِ ذَاهِبًا وَجَائِيًا ، { لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سُئِلَ عَنْ السَّبِيلِ إلَيْهِ فَقَالَ : الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ } وَإِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَكْتَرِيَ عَقَبَةً فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُمَا إذَا كَانَا يَتَعَاقَبَانِ لَمْ تُوجَدْ الرَّاحِلَةُ فِي جَمِيعِ السَّفَرِ .
وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فَاضِلًا عَنْ الْمَسْكَنِ وَعَمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ كَالْخَادِمِ وَأَثَاثِ الْبَيْتِ وَثِيَابِهِ ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مَشْغُولَةٌ بِالْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فَاضِلًا عَنْ نَفَقَةِ عِيَالِهِ إلَى حِينِ عَوْدِهِ ، لِأَنَّ النَّفَقَةَ حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ لِلْمَرْأَةِ ، وَحَقُّ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الشَّرْعِ بِأَمْرِهِ .
وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْوُجُوبِ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ وَمَنْ حَوْلَهُمْ الرَّاحِلَةُ ، لِأَنَّهُ لَا تَلْحَقُهُمْ مَشَقَّةٌ زَائِدَةٌ فِي الْأَدَاءِ فَأَشْبَهَ السَّعْيَ إلَى الْجُمُعَةِ وَلَا بُدَّ مِنْ أَمْنِ الطَّرِيقِ لِأَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ لَا تَثْبُتُ دُونَهُ .
ثُمَّ قِيلَ : هُوَ شَرْطُ الْوُجُوبِ حَتَّى لَا يَجِبَ عَلَيْهِ الْإِيصَاءُ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقِيلَ : هُوَ شَرْطُ الْأَدَاءِ دُونَ الْوُجُوبِ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَسَّرَ الِاسْتِطَاعَةَ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ لَا غَيْرَ .

وَالْأَعْمَى إذَا وَجَدَ مَنْ يَكْفِيهِ مُؤْنَةَ سَفَرِهِ وَسَفَرِ قَائِدِهِ فَفِي الْمَشْهُورِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَلْزَمُهُ الْحَجُّ .
وَذَكَرَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ فِي الْمُنْتَقَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ وَعَنْهُمَا فِيهِ رِوَايَتَانِ ، وَذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ عِنْدَهُمَا عَلَى قِيَاسِ الْجُمُعَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ قَائِدًا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِمْ ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى : لَا يَلْزَمُهُ فَرْقًا عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْجُمُعَةِ بِأَنَّ وُجُودَ الْقَائِدِ فِي الْجُمُعَةِ غَيْرُ نَادِرٍ بِخِلَافِهِ فِي الْحَجِّ وَالْمَرِيضُ وَالْمَحْبُوسُ وَالْخَائِفُ مِنْ السُّلْطَانِ الَّذِي يَمْنَعُ النَّاسَ مِنْ الْخُرُوجِ إلَى الْحَجِّ ، كَذَلِكَ لَا يَجِبُ الْحَجُّ عَلَيْهِمْ .
وَفِي التُّحْفَةِ : أَنَّ الْمُقْعَدَ وَالزَّمِنَ وَالْمَرِيضَ وَالْمَحْبُوسَ وَالْخَائِفَ مِنْ السُّلْطَانِ الَّذِي يَمْنَعُ النَّاسَ مِنْ الْخُرُوجِ إلَى الْحَجِّ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْحَجُّ بِأَنْفُسِهِمْ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْقُدْرَةِ بِصِحَّةِ الْبَدَنِ وَزَوَالِ الْمَوَانِعِ حَتَّى تَتَوَجَّهَ عَلَيْهِمْ التَّكَالِيفُ ، وَلَكِنْ يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْإِحْجَاجُ إذَا مَلَكُوا الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ ، وَهُوَ ظَاهِرُ فِي اخْتِيَارِ قَوْلِهِمَا ، ثُمَّ قَالَ : وَأَمَّا الْأَعْمَى إذَا وَجَدَ قَائِدًا بِطَرِيقِ الْمِلْكِ أَوْ اسْتَأْجَرَ هَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ ؟ ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ بِنَفْسِهِ ، وَلَكِنْ يَجِبُ فِي مَالِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْهُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ بِنَفْسِهِ ا هـ .
وَهُوَ خِلَافُ مَا ذَكَرَهُ غَيْرُهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا حَدِيثُ الْخَثْعَمِيَّةِ { إنَّ فَرِيضَةَ الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَسْتَمْسِكُ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ ؟ قَالَ : أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِهِ عَنْهُ أَكَانَ يُجْزِي عَنْهُ ؟ قَالَتْ نَعَمْ ، قَالَ : فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ } وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا

} قَيَّدَ الْإِيجَابَ بِهِ ، وَالْعَجْزُ لَازِمٌ مَعَ هَذِهِ الْأُمُورِ لَا الِاسْتِطَاعَةُ .
فَإِنْ قِيلَ : الِاسْتِطَاعَةُ ثَابِتَةٌ إذَا قَدَرُوا عَلَى اتِّخَاذِ مَنْ يَرْفَعُهُمْ وَيَضَعُهُمْ وَيَقُودُهُمْ بِالْمِلْكِ أَوْ الِاسْتِئْجَارِ .
قُلْنَا : مُلَاءَمَةُ الْقَائِدِ وَالْخَادِمِ وَحُصُولُ الْمَقْصُودِ مَعَهُ مِنْهُمْ مِنْ الرِّفْقِ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَالْعَجْزُ ثَابِتٌ لِلْحَالِ .
فَلَا يَثْبُتُ الْوُجُوبُ عَلَيْهِمْ بِالشَّكِّ ، عَلَى أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ بِالْبَدَنِ هِيَ الْأَصْلُ وَالْمُتَبَادَرُ مِنْ قَوْلِنَا فَلَأَنْ يَسْتَطِيعَ عَمَلَ كَذَا فَلْيَكُنْ مَحْمَلُ مَا فِي النَّصِّ ، إلَّا أَنَّ هَذَا قَدْ يُدْفَعُ بِأَنَّ هَذِهِ الْعِبَادَةَ تَجْرِي فِيهَا النِّيَابَةُ عِنْدَ الْعَجْزِ لَا مُطْلَقًا تَوَسُّطًا بَيْنَ الْمَالِيَّةِ الْمَحْضَةِ وَالْبَدَنِيَّةِ الْمَحْضَةِ ، لِتَوَسُّطِهَا بَيْنَهُمَا عَلَى مَا سَيَجِيءُ تَحْقِيقُهُ فِي بَابِ الْحَجِّ عَنْ الْغَيْرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَالْوُجُوبُ دَائِرٌ مَعَ فَائِدَتِهِ عَلَى مَا تَحَقَّقَ فِي الصَّوْمِ فَيَثْبُتُ عِنْدَ قُدْرَةِ الْمَالِ لِيَظْهَرَ أَثَرُهُ فِي الْإِحْجَاجِ وَالْإِيصَاءِ .
وَمِنْ الْفُرُوعِ أَنَّهُ لَوْ تَكَلَّفَ هَؤُلَاءِ الْحَجَّ بِأَنْفُسِهِمْ سَقَطَ عَنْهُمْ .
وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُمْ لَوْ صَحُّوا بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْأَدَاءُ ، لِأَنَّ سُقُوطَ الْوُجُوبِ عَنْهُمْ لِدَفْعِ الْحَرَجِ فَإِذَا تَحَمَّلُوهُ وَقَعَ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ كَالْفَقِيرِ إذَا حَجَّ .
هَذَا وَفِي الْفَتَاوَى تَكَلَّمُوا فِي أَنَّ سَلَامَةَ الْبَدَنِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَأَمْنَ الطَّرِيقِ .
وَوُجُودَ الْمَحْرَمِ لِلْمَرْأَةِ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ أَوْ الْأَدَاءِ ، فَعَلَى قَوْلِ مَنْ يَجْعَلُهَا مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ إذَا مَاتَ قَبْلَ الْحَجِّ لَا يَلْزَمُهُ الْإِيصَاءُ ، وَعَلَى قَوْلِ مَنْ يَجْعَلُهَا مِنْ شَرَائِطِ الْأَدَاءِ يَلْزَمُهُ ا هـ وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمْ يَثْبُتَا تَنْصِيصًا بَلْ تَخْرِيجًا ، أَوْ أَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخِ اخْتَارُوا رِوَايَةً

.
وَإِذَا آلَ الْحَالُ إلَى اخْتِلَافِ الْمَشَايِخِ فِي الْمُخْتَارِ مِنْ الرِّوَايَتَيْنِ أَوْ تَخْرِيجِهِمَا فَلَنَا نَحْنُ أَيْضًا أَنْ نَنْظُرَ فِي ذَلِكَ .
وَاَلَّذِي يَتَرَجَّحُ كَوْنُهَا شُرُوطَ الْأَدَاءِ بِمَا قُلْنَاهُ آنِفًا إنَّ هَذِهِ الْعِبَادَةَ مِمَّا تَتَأَدَّى بِالنَّائِبِ إلَخْ .
وَعَلَى هَذَا فَجَعْلُ عَدَمِ الْحَبْسِ وَالْخَوْفِ مِنْ السُّلْطَانِ شَرْطَ الْأَدَاءِ أَوْلَى ، وَمَنْ قَدَرَ حَالَ صِحَّتِهِ وَلَمْ يَحُجَّ حَتَّى أُقْعِدَ أَوْ زَمِنَ أَوْ فَلَجَ أَوْ قُطِعَتْ رِجْلَاهُ تَقَرَّرَ فِي ذِمَّتِهِ بِالِاتِّفَاقِ حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ الْإِحْجَاجُ ، وَهُنَا قَيْدٌ حَسَنٌ يَنْبَغِي أَنْ يُحْفَظَ ، وَهُوَ أَنَّ وُجُوبَ الْإِيصَاءِ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِمَنْ لَمْ يَحُجَّ بَعْدَ الْوُجُوبِ إذَا لَمْ يَخْرُجْ إلَى الْحَجِّ حَتَّى مَاتَ ، فَأَمَّا مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ فَحَجَّ مِنْ عَامِهِ فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِيصَاءُ بِالْحَجِّ ، لِأَنَّهُ لَمْ يُؤَخِّرْ بَعْدَ الْإِيجَابِ ، ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّجْنِيسِ ( قَوْلُهُ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سُئِلَ عَنْ السَّبِيلِ ) رَوَى الْحَاكِمُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي { قَوْله تَعَالَى { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا السَّبِيلُ ؟ قَالَ : الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ } وَقَالَ : صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ ، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ ، وَتَابَعَهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ قَتَادَةَ ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ كَذَلِكَ ، وَقَالَ : صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ .
وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى صَحِيحَةٍ عَنْ الْحَسَنِ مُرْسَلًا فِي سُنَنِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ : حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ { لَمَّا نَزَلَتْ { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } قَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا السَّبِيلُ ؟ قَالُوا : زَادٌ وَرَاحِلَةٌ } حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ حَدَّثَنَا مَنْصُور عَنْ الْحَسَنِ مِثْلَهُ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ يُونُسَ عَنْ الْحَسَنِ مِثْلَهُ .
وَمِنْ

طُرُقٍ عَدِيدَةٍ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ وَجَابِرٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ : حَدَّثَنَا سُوَيْد بْنُ سَعِيدٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْقُرَشِيِّ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ : وَأَخْبَرَنِيهِ أَيْضًا عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ } يَعْنِي قَوْلَهُ { مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } قَالَ فِي الْإِمَامِ : وَهِشَامُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدِ بْنِ الْعَاصِ ، قَالَ أَبُو حَاتِمٍ : مُضْطَرِبُ الْحَدِيثِ ، وَمَحَلُّهُ الصِّدْقُ مَا أَرَى بِهِ بَأْسًا .
وَبَاقِي الْأَحَادِيثِ بِطُرُقِهَا عَمَّنْ ذَكَرْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَابْنِ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ لَا يَسْلَمُ مِنْ ضَعْفٍ ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْحَدِيثِ طَرِيقٌ صَحِيحٌ ارْتَفَعَ بِكَثْرَتِهَا إلَى الْحَسَنِ فَكَيْفَ وَمِنْهَا الصَّحِيحُ .
هَذَا وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ شِقَّ مَحْمَلٍ أَوْ رَأْسَ زَامِلَةٍ عَلَى التَّوْزِيعِ لِيَكُونَ الْوُجُوبُ يَتَعَلَّقُ بِمَنْ قَدَرَ عَلَى رَأْسِ زَامِلَةٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى بَعْضِ النَّاسِ ، وَبِالنِّسْبَةِ إلَى بَعْضٍ آخَرِينَ لَا يَتَعَلَّقُ إلَّا بِمَنْ قَدَرَ عَلَى شِقِّ مَحْمَلِ هَذَا ، لِأَنَّ حَالَ النَّاسِ مُخْتَلِفٌ ضَعْفًا وَقُوَّةً وَجَلْدًا وَرَفَاهِيَةً ، فَالْمُرَفَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إذَا قَدَرَ عَلَى رَأْسِ زَامِلَةٍ وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ فِي عُرْفِنَا رَاكِبٌ مُقَتَّبٌ ، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ السَّفَرَ كَذَلِكَ بَلْ قَدْ يَهْلَكُ بِهَذَا الرُّكُوبِ فَلَا يَجِبُ فِي حَقِّ هَذَا لَا إذَا قَدَرَ عَلَى شِقِّ مَحْمَلٍ ، وَمِثْلُ هَذَا يَتَأَتَّى فِي الزَّادِ فَلَيْسَ كُلُّ مَنْ قَدَرَ عَلَى مَا يَكْفِيهِ مِنْ خُبْزٍ وَجُبْنٍ دُونَ لَحْمٍ وَطَبِيخٍ قَادِرًا عَلَى الزَّادِ ، بَلْ رُبَّمَا يَهْلَكُ مَرَضًا بِمُدَاوَمَتِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إذَا كَانَ مُتَرَفِّهًا مُعْتَادَ اللَّحْمِ وَالْأَغْذِيَةِ

الْمُرْتَفِعَةِ ، بَلْ لَا يَجِبُ عَلَى مِثْلِ هَذَا إلَّا إذَا قَدَرَ عَلَى مَا يَصْلُحُ مَعَهُ بَدَنُهُ .
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ } لَيْسَ مَعْنَاهُ إلَّا الزَّادُ الَّذِي يُبَلِّغُهُ وَالرَّاحِلَةُ كَذَلِكَ ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِالنِّسْبَةِ إلَى آحَادِ النَّاسِ ، فَكَانَ الْمُرَادُ مَا يُبَلِّغُ كُلَّ وَاحِدٍ ( قَوْلُهُ وَإِنْ أَمْكَنَهُ إلَخْ ) الْعَقَبَةُ أَنْ يَكْتَرِيَ الِاثْنَانِ رَاحِلَةً يَعْتَقِبَانِ عَلَيْهَا يَرْكَبُ أَحَدُهُمَا مَرْحَلَةً وَالْآخَرُ مَرْحَلَةً ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ لِمَا فِي الْكِتَابِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الشَّرْطَ أَنْ يَمْلِكَهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ أَوْ وَقْتِ خُرُوجِ أَهْلِ بَلَدِهِ ، وَنَقَلْنَا مَا فِي الْيَنَابِيعِ فَارْجِعْ إلَيْهِ ( قَوْلُهُ وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْوُجُوبِ عَلَى أَهْلِ مَكَّةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ الرَّاحِلَةُ ) قَدَّمْنَا فَائِدَةَ اقْتِصَارِهِ عَلَى الرَّاحِلَةِ وَكَلَامُ صَاحِبِ النِّهَايَةِ فِي الْيَنَابِيعِ فَارْجِعْ إلَيْهِ ( قَوْلُهُ وَلَا بُدَّ مِنْ أَمْنِ الطَّرِيقِ ) أَيْ وَقْتَ خُرُوجِ أَهْلِ بَلَدِهِ وَإِنْ كَانَ مُخِيفًا فِي غَيْرِهِ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْغَالِبُ فِيهِ السَّلَامَةَ .
وَمَا أَفْتَى بِهِ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ مِنْ سُقُوطِ الْحَجِّ عَنْ أَهْلِ بَغْدَادَ ، وَقَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الْإِسْكَافِ : لَا أَقُولُ الْحَجُّ فَرِيضَةٌ فِي زَمَانِنَا قَالَهُ سَنَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ .
وَقَوْلُ الثَّلْجِيِّ : لَيْسَ عَلَى أَهْلِ خُرَاسَانَ حَجٌّ مُنْذُ كَذَا وَكَذَا سَنَةً كَانَ وَقْتُ غَلَبَةِ النَّهْبِ وَالْخَوْفِ فِي الطَّرِيقِ ، وَكَذَا أَسْقَطَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ حِينِ خَرَجَتْ الْقَرَامِطَةُ وَهُمْ طَائِفَةٌ مِنْ الْخَوَارِجِ كَانُوا يَسْتَحِلُّونَ قَتْلَ الْمُسْلِمِينَ وَأَخْذَ أَمْوَالِهِمْ ، وَكَانُوا يَغْلِبُونَ عَلَى أَمَاكِنَ وَيَتَرَصَّدُونَ لِلْحُجَّاجِ ، وَقَدْ هَجَمُوا فِي بَعْضِ السِّنِينَ عَلَى الْحَجِيجِ فِي نَفْسِ مَكَّةَ فَقَتَلُوا خَلْقًا كَثِيرًا فِي نَفْسِ الْحَرَمِ ، وَأَخْذُو أَمْوَالَهُمْ ، وَدَخَلَ كَبِيرُهُمْ بِفَرَسِهِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَوَقَعَتْ أُمُورٌ شَنِيعَةٌ ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ

عَلَى أَنْ عَافَى مِنْهُمْ .
وَقَدْ سُئِلَ الْكَرْخِيُّ عَمَّنْ لَا يَحُجُّ خَوْفًا مِنْهُمْ فَقَالَ : مَا سَلِمَتْ الْبَادِيَةُ مِنْ الْآفَاتِ : أَيْ لَا تَخْلُو عَنْهَا كَقِلَّةِ الْمَاءِ ، وَشِدَّةِ الْحَرِّ وَهَيَجَانِ السَّمُومِ ، وَهَذَا إيجَابٌ مِنْهُ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَمَحْمَلُهُ أَنَّهُ رَأَى أَنَّ الْغَالِبَ انْدِفَاعُ شَرِّهِمْ عَنْ الْحَاجِّ ، وَرَأَى الصَّفَّارُ عَدَمَهُ فَقَالَ : لَا أَرَى الْحَجَّ فَرْضًا مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً مِنْ حِينِ خَرَجَتْ الْقَرَامِطَةُ ، وَمَا ذَكَرَ سَبَبًا لِذَلِكَ ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُتَوَصَّلُ إلَى الْحَجِّ إلَّا بِإِرْشَادِهِمْ فَتَكُونَ الطَّاعَةُ سَبَبَ الْمَعْصِيَةِ ، فِيهِ نَظَرٌ ، بَلْ إنَّمَا كَانَ مِنْ شَأْنِهِمْ مَا ذَكَرْته ، ثُمَّ الْإِثْمُ فِي مِثْلِهِ عَلَى الْآخِذِ لَا الْمُعْطِي عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ تَقْسِيمِ الرِّشْوَةِ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ ، وَكَوْنُ الْمَعْصِيَةِ مِنْهُمْ لَا يُتْرَكُ الْفَرْضُ لِمَعْصِيَةِ عَاصٍ .
وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنْ يُعْتَبَرَ مَعَ غَلَبَةِ السَّلَامَةِ عَدَمُ غَلَبَةِ الْخَوْفِ حَتَّى إذَا غَلَبَ الْخَوْفُ عَلَى الْقُلُوبِ مِنْ الْمُحَارِبِينَ لِوُقُوعِ النَّهْبِ وَالْغَلَبَةِ مِنْهُمْ مِرَارًا أَوْ سَمِعُوا أَنَّ طَائِفَةً تَعَرَّضَتْ لِلطَّرِيقِ وَلَهَا شَوْكَةٌ وَالنَّاسُ يَسْتَضْعِفُونَ أَنْفُسَهُمْ عَنْهُمْ لَا يَجِبُ .
وَاخْتُلِفَ فِي سُقُوطِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ رُكُوبِ الْبَحْرِ ، فَقِيلَ : الْبَحْرُ يَمْنَعُ الْوُجُوبَ .
وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ : إنْ كَانَ الْغَالِبُ فِي الْبَحْرِ السَّلَامَةَ مِنْ مَوْضِعٍ جَرَتْ الْعَادَةُ بِرُكُوبِهِ يَجِبُ وَإِلَّا فَلَا ، وَهُوَ الْأَصَحُّ .
وَسَيْحُونُ وَجَيْحُونَ وَالْفُرَاتُ وَالنِّيلُ أَنْهَارٌ لَا بِحَارٌ ( قَوْلُهُ ثُمَّ قِيلَ هُوَ ) أَيْ أَمْنُ الطَّرِيقِ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ ، وَالْقَائِلُ بِأَنَّهُ شَرْطُ الْوُجُوبِ حَتَّى لَا يَجِبُ الْإِيصَاءُ ابْنُ شُجَاعٍ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ الْوُصُولَ بِدُونِهِ لَا يَكُونُ إلَّا بِمَشَقَّةٍ عَظِيمَةٍ ، فَصَارَ مِنْ الِاسْتِطَاعَةِ وَهِيَ شَرْطُ الْوُجُوبِ .
وَالْقَائِلُ بِأَنَّهُ شَرْطُ الْأَدَاءِ فَيَجِبُ الْإِيصَاءُ

الْقَاضِي أَبُو خَازِمٍ ، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إنَّمَا فَسَّرَ الِاسْتِطَاعَةَ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ حِينَ سُئِلَ عَنْهَا ، فَلَوْ كَانَ أَمْنُ الطَّرِيقِ مِنْهَا لَذَكَرَهُ وَإِلَّا كَانَ تَأْخِيرًا لِلْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ ، وَلِأَنَّهُ مَانِعٌ مِنْ الْعِبَادِ وَلَا يُسْقِطُ الْعِبَادَةَ الْوَاجِبَةَ كَالْقَيْدِ مِنْ الظَّالِمِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي وُجُوبِ الْإِيصَاءِ بِالْحَجِّ إذَا مَاتَ قَبْلَ أَمْنِ الطَّرِيقِ ، فَإِنْ مَاتَ بَعْدَ حُصُولِ الْأَمْنِ فَالِاتِّفَاقُ عَلَى الْوُجُوبِ تَقَدَّمَ لَنَا وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ يَقْتَضِي تَرْجِيحَهُ ، وَأَنَّ عَدَمَ الْخَوْفِ مِنْ السُّلْطَانِ وَالْحَبْسِ مِنْ شُرُوطِ الْأَدَاءِ أَيْضًا فَيَجِبُ عَلَى الْخَائِفِ وَالْمَحْبُوسِ الْإِيصَاءُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ شَرْطُ الْوُجُوبِ لَا نَعْلَمُ عَنْ أَحَدٍ خِلَافَهُ .
وَقَالُوا لَوْ تَحَمَّلَ الْعَاجِزُ عَنْهُمَا فَحَجَّ مَاشِيًا يَسْقُطُ عَنْهُ الْفَرْضُ ، حَتَّى لَوْ اسْتَغْنَى لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ ، وَهُوَ مُعَلَّلٌ بِأَمْرَيْنِ : الْأَوَّلُ أَنَّ عَدَمَهُ عَلَيْهِ لَيْسَ لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ كَالْعَبْدِ ، بَلْ لِلتَّرْفِيهِ وَدَفْعِ الْحَرَجِ عَنْهُ ، فَإِذَا تَحَمَّلَهُ وَجَبَ ثُمَّ يَسْقُطُ كَالْمُسَافِرِ إذَا صَامَ رَمَضَانَ .
الثَّانِي : أَنَّ الْفَقِيرَ إذَا وَصَلَ إلَى الْمَوَاقِيتِ صَارَ حُكْمُهُ حُكْمَ أَهْلِ مَكَّةَ ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الرَّاحِلَةِ ، فَالثَّانِي يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ السُّقُوطِ عَنْهُ لَوْ أَحْرَمَ قَبْلَ الْمَوَاقِيتِ كَدُوَيْرَةِ أَهْلِهِ لِأَنَّ إحْرَامَهُ لَمْ يَنْعَقِدْ لِلْوَاجِبِ لِعَدَمِ الْوُجُوبِ قَبْلَ الْمَوَاقِيتِ ، فَلَا يَنْقَلِبُ لَهُ إلَّا بِتَجْدِيدٍ كَالصَّبِيِّ إذَا أَحْرَمَ ثُمَّ بَلَغَ ، وَلَا يُمْكِنُهُ التَّجْدِيدُ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ انْعَقَدَ لَازِمًا لِلنَّفْلِ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ عَلَى مَا نَذْكُرُ قَرِيبًا ، وَبِخِلَافِ مَنْ أَطْلَقَ النِّيَّةَ فَلَمْ يَنْوِ الْوَاجِبَ لِأَنَّ إحْرَامَهُ حِينَئِذٍ انْعَقَدَ لِلْوَاجِبِ ، وَإِطْلَاقُ الْجَوَابِ يُخَالِفُهُ ،

وَالْأَوَّلُ يَقْتَضِي عَدَمَ ثُبُوتِ الْوُجُوبِ إلَّا بَعْدَ الْفَرَاغِ ، لِأَنَّ تَحَقُّقَ تَحَمُّلِهِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِهِ لَا بِمُجَرَّدِ الْإِحْرَامِ .
وَمَعَ الْفَرَاغِ لَوْ ثَبَتَ الْوُجُوبُ لَمْ يَكُنْ أَثَرُهُ إلَّا فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا فِي الْمُنْقَضِي إذْ لَا يَسْبِقُ فِعْلُ الْوَاجِبِ الْوُجُوبَ ، فَمَنْ أَحْرَمَ قَبْلَ الْمِيقَاتِ لَا يَنْتَهِضُ فِي سُقُوطِ الْحَجِّ عَنْهُ وَاحِدٌ مِنْ الْوَجْهَيْنِ ، بِخِلَافِ مَنْ أَحْرَمَ مِنْهُ فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَنْتَهِضْ فِيهِ الْأَوَّلُ انْتَهَضَ فِيهِ الثَّانِي ، وَإِنَّمَا خَصَّصْنَا الْإِيرَادَ بِالْفَقِيرِ لِأَنَّا نَرَى أَنَّ سَلَامَةَ الْجَوَارِحِ شَرْطُ الْأَدَاءِ لَا الْوُجُوبِ عَلَى مَا بَحَثْنَاهُ آنِفًا .

قَالَ ( وَيُعْتَبَرُ فِي الْمَرْأَةِ أَنْ يَكُونَ لَهَا مَحْرَمٌ تَحُجُّ بِهِ أَوْ زَوْجٌ ، وَلَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَحُجَّ بِغَيْرِهِمَا إذَا كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ مَسِيرَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَجُوزُ لَهَا الْحَجُّ إذَا خَرَجَتْ فِي رُفْقَةٍ وَمَعَهَا نِسَاءٌ ثِقَاتٌ لِحُصُولِ الْأَمْنِ بِالْمُرَافَقَةِ .
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تَحُجَّنَّ امْرَأَةٌ إلَّا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ } وَلِأَنَّهَا بِدُونِ الْمَحْرَمِ يُخَافُ عَلَيْهَا الْفِتْنَةُ وَتَزْدَادُ بِانْضِمَامِ غَيْرِهَا إلَيْهَا ، وَلِهَذَا تَحْرُمُ الْخَلْوَةُ بِالْأَجْنَبِيَّةِ وَإِنْ كَانَ مَعَهَا غَيْرُهَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، لِأَنَّهُ يُبَاحُ لَهَا الْخُرُوجُ إلَى مَا دُونَ السَّفَرِ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ .
( وَإِذَا وَجَدَتْ مَحْرَمًا لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ مَنْعُهَا ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا لِأَنَّ فِي الْخُرُوجِ تَفْوِيتَ حَقِّهِ .
وَلَنَا أَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْفَرَائِضِ وَالْحَجُّ مِنْهَا ، حَتَّى لَوْ كَانَ الْحَجُّ نَفْلًا لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا ، وَلَوْ كَانَ الْمَحْرَمُ فَاسِقًا قَالُوا : لَا يَجِبُ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَا يَحْصُلُ بِهِ ( وَلَهَا أَنْ تَخْرُجَ مَعَ كُلِّ مَحْرَمٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَجُوسِيًّا ) لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ إبَاحَةَ مُنَاكَحَتِهَا ، وَلَا عِبْرَةَ بِالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لِأَنَّهُ لَا تَتَأَتَّى مِنْهُمَا الصِّيَانَةُ ، وَالصَّبِيَّةُ الَّتِي بَلَغَتْ حَدَّ الشَّهْوَةِ بِمَنْزِلَةِ الْبَالِغَةِ حَتَّى لَا يُسَافَرَ بِهَا مِنْ غَيْرِ مَحْرَمٍ ، وَنَفَقَةُ الْمَحْرَمِ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا تَتَوَسَّلُ بِهِ إلَى أَدَاءِ الْحَجِّ .
وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْمَحْرَمَ شَرْطُ الْوُجُوبِ أَوْ شَرْطُ الْأَدَاءِ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِهِمْ فِي أَمْنِ الطَّرِيقِ

( قَوْلُهُ وَيُعْتَبَرُ فِي الْمَرْأَةِ ) وَإِنْ كَانَتْ عَجُوزًا ( أَنْ يَكُونَ لَهَا مَحْرَمٌ ) كَابْنٍ أَوْ عَمٍّ ، وَكَمَا يُشْتَرَطُ الْمَحْرَمُ كَذَا يُشْتَرَطُ عَدَمُ الْعِدَّةِ وَقَالُوا فِي الصَّبِيَّةِ الَّتِي لَمْ تَبْلُغْ حَدَّ الشَّهْوَةِ تُسَافِرُ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ ، فَإِذَا بَلَغَتْ لَا تُسَافِرْ إلَّا بِهِ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَعْنَى هَذَا لَا تُعَانُ عَلَى السَّفَرِ وَلَا تُسْتَصْحَبُ ، فَإِنَّهَا غَيْرُ مُكَلَّفَةٍ مَا لَمْ تَبْلُغْ ، وَبُلُوغُهَا حَدَّ الشَّهْوَةِ لَا يَسْتَلْزِمُهُ .
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ رَدَّ الْمُعْتَدَّاتِ مِنْ النَّجْفِ ، فَإِنْ لَزِمَتْهَا الْعِدَّةُ فِي السَّفَرِ فَإِنْ كَانَ رَجْعِيًّا لَا يُفَارِقُهَا زَوْجُهَا أَوْ بَائِنًا ، فَإِنْ كَانَ إلَى كُلٍّ مِنْ بَلَدِهَا وَمَكَّةَ أَقَلُّ مِنْ مُدَّةِ السَّفَرِ تَخَيَّرَتْ ، أَوْ إلَى أَحَدِهِمَا سَفَرٌ دُونَ الْآخَرِ تَعَيَّنَ أَنْ تَصِيرَ إلَى الْآخَرِ ، أَوْ كُلٌّ مِنْهُمَا سَفَرٌ ، فَإِنْ كَانَتْ فِي مِصْرٍ قَرَّتْ فِيهِ إلَى أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا وَلَا تَخْرُجُ وَإِنْ وَجَدَتْ مَحْرَمًا مَا دَامَتْ الْعِدَّةُ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا ، وَإِنْ كَانَتْ فِي قَرْيَةٍ أَوْ مَفَازَةٍ لَا تَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهَا فَلَهَا أَنْ تَمْضِيَ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ آمِنٍ فَلَا تَخْرُجُ مِنْهُ حَتَّى تَمْضِيَ عِدَّتُهَا ، وَإِنْ وَجَدَتْ مَحْرَمًا عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَأْتِي فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ إلَّا أَنَّا ذَكَرْنَاهَا هُنَا لِتَكُونَ أَذْكَرَ لِمَنْ يُطَالِعُ الْبَابَ .
( قَوْلُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَجُوزُ لَهَا إلَخْ ) لَهُ الْعُمُومَاتُ مِثْلُ { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُجُّوا فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ السَّابِقِ .
وَلِحَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { يُوشِكُ أَنْ تَخْرُجَ الظَّعِينَةُ مِنْ الْحِيرَةِ تَؤُمُّ الْبَيْتَ لَا جِوَارَ مَعَهَا لَا تَخَافُ إلَّا اللَّهَ تَعَالَى قَالَ عَدِيٌّ : رَأَيْت الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنْ الْحِيرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ

لَا تَخَافُ إلَّا اللَّهَ تَعَالَى } .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ، وَلَمْ يَذْكُرْ لَهَا زَوْجًا وَلَا مَحْرَمًا .
وَالْقِيَاسُ عَلَى الْمُهَاجِرَةِ وَالْمَأْسُورَةِ إذَا خَلَصَتْ بِجَامِعِ أَنَّهُ سَفَرٌ وَاجِبٌ .
قُلْنَا : أَمَّا الْعُمُومَاتُ فَقَدْ تَقَيَّدَتْ بِبَعْضِ الشُّرُوطِ إجْمَاعًا كَأَمْنِ الطَّرِيقِ فَتُقَيَّدُ أَيْضًا بِمَا فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ { لَا تُسَافِرُ امْرَأَةٌ ثَلَاثًا إلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ } وَفِي لَفْظٍ لَهُمَا { فَوْقَ ثَلَاثٍ } وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ { ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ } فَإِنْ قِيلَ : هَذِهِ عَامَّةٌ فِي كُلِّ سَفَرٍ فَإِنَّمَا تَنْتَظِمُ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ ، وَهُوَ سَفَرُ الْحَاجِّ بِعُمُومِهِ لَكِنَّهُ قَدْ خُصَّ مِنْهُ سَفَرُ الْمُهَاجِرَةِ وَالْمَأْسُورَةِ فَيُخَصُّ مِنْهُ سَفَرُ الْحَجِّ أَيْضًا قِيَاسًا عَلَيْهِ بِجَامِعِ أَنَّهُ سَفَرٌ وَاجِبٌ ، وَيَصِيرُ الدَّاخِلُ تَحْتَ اللَّفْظِ مُرَادًا السَّفَرَ الْمُبَاحَ .
قُلْنَا : لَا يُمْكِنُ إخْرَاجُ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ لِأَنَّ فِي عَيْنِهِ نَصًّا يُفِيدُ أَنَّهُ مُرَادٌ بِالْعَامِّ ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ : حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَدِيٍّ ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ أَنَّهُ سَمِعَ مَعْبَدًا مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُحَدِّثُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا تَحُجُّ امْرَأَةٌ إلَّا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ ، فَقَالَ رَجُلٌ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ إنِّي اكْتَتَبْتُ .
فِي غَزْوَةِ كَذَا وَامْرَأَتِي حَاجَّةٌ ، قَالَ : ارْجِعْ فَحُجَّ مَعَهَا } وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا عَنْ حَجَّاجٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ بِهِ وَلَفْظُهُ { لَا تَحُجَّنَّ امْرَأَةٌ إلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ } فَثَبَتَ تَخْصِيصُ الْعُمُومَاتِ بِمَا رَوَيْنَا عَلَى أَنَّهُمْ خَصُّوهَا بِوُجُودِ الرُّفْقَةِ ، وَالنِّسَاءُ الثِّقَاتُ فِيمَا رَوَيْنَا أَوْلَى ، وَبِهِ يَظْهَرُ فَسَادُ الْقِيَاسِ الَّذِي عَيَّنُوهُ لِأَنَّهُ يُعَارِضُ النَّصَّ ، بَلْ نَقُولُ : الْآيَةُ الْعَامَّةُ لَا تَتَنَاوَلُ

النِّسَاءَ حَالَ عَدَمِ الزَّوْجِ وَالْمَحْرَمُ مَعَهَا لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَسْتَطِيعُ النُّزُولَ وَالرُّكُوبَ إلَّا مَعَ مَنْ يُرَكِّبُهَا وَيُنْزِلُهَا ، وَلَا يَحِلُّ ذَلِكَ إلَّا لِلْمَحْرَمِ وَالزَّوْجِ ، فَلَمْ تَكُنْ مُسْتَطِيعَةً فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَلَا يَتَنَاوَلُهَا النَّصُّ .
وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ فَلَا يُعْتَبَرُ ثُبُوتُ الْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ فِي بَعْضِهِنَّ وَلَوْ قَدَرَتْ فَالْقُدْرَةُ عَلَيْهِ مَعَ أَمْنِ انْكِشَافِ شَيْءٍ مِمَّا لَا يَحِلُّ لِأَجْنَبِيٍّ النَّظَرُ إلَيْهِ كَعَقِبِهَا وَرِجْلِهَا وَطَرَفِ سَاقِهَا وَطَرَفِ مِعْصَمِهَا لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالْمَحْرَمِ لِيُبَاشِرَهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَيَسْتُرَهَا ، وَلِانْتِفَاءِ وُجُودِ الْجَامِعِ فِيهِمَا فَإِنَّ الْمَوْجُودَ مِنْ الْمُهَاجِرَةِ وَالْمَأْسُورَةِ لَيْسَ سَفَرًا لِأَنَّهَا لَا تَقْصِدُ مَكَانًا مُعَيَّنًا ، بَلْ النَّجَاةُ خَوْفًا مِنْ الْفِتْنَةِ ، فَقَطْعُهَا الْمَسَافَةَ كَقَطْعِ السَّابِحِ ، وَلِذَا إذَا وَجَدَتْ مَأْمَنًا كَعَسْكَرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَجَبَ أَنْ تَقَرَّ وَلَا تُسَافِرَ إلَّا بِزَوْجٍ أَوْ مَحْرَمٍ .
عَلَى أَنَّهَا لَوْ قَصَدَتْ مَكَانًا مُعَيَّنًا لَا يُعْتَبَرُ قَصْدُهَا ، وَلَا يَثْبُتُ السَّفَرُ بِهِ ، لِأَنَّ حَالَهَا وَهُوَ ظَاهِرُ قَصْدِ مُجَرَّدِ التَّخَلُّصِ يُبْطِلُ عَزِيمَتَهَا عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْعَسْكَرِ الدَّاخِلِ أَرْضَ الْحَرْبِ ، وَلَوْ سَلِمَ ثُبُوتُ سَفَرِهَا فَهُوَ لِلِاضْطِرَارِ لِأَنَّ الْفِتْنَةَ الْمُتَوَقَّعَةَ فِي سَفَرِهَا أَخَفُّ مِنْ الْمُتَوَقَّعَةِ فِي إقَامَتِهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ ، فَكَانَ جَوَازُهُ بِحُكْمِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ أَخَفَّ الْمَفْسَدَتَيْنِ يَجِبُ ارْتِكَابُهَا عِنْدَ لُزُومِ إحْدَاهُمَا ، فَالْمُؤَثِّرُ فِي الْأَصْلِ السَّفَرُ الْمُضْطَرُّ إلَيْهِ دَفْعًا لِمَفْسَدَةٍ تَفُوقُ مَفْسَدَةَ عَدَمِ الْمَحْرَمِ وَالزَّوْجِ فِي السَّفَرِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَهُوَ مُنْتَفٍ فِي الْفَرْعِ ، وَلِهَذَا يَجُوزُ مَعَ الْعِدَّةِ بِخِلَافِ سَفَرِ الْحَجِّ تَمْنَعُهُ الْعِدَّةُ فَيَمْنَعُهُ عَدَمُ الْمَحْرَمِ كَالسَّفَرِ الْمُبَاحِ .
وَأَمَّا حَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ ، فَلَيْسَ فِيهِ

بَيَانُ حُكْمِ الْخُرُوجِ فِيهِ مَا هُوَ وَلَا يَسْتَلْزِمُهُ ، بَلْ بَيَانُ انْتِشَارِ الْأَمْنِ ، وَلَوْ كَانَ مُفِيدًا لِلْإِبَاحَةِ كَانَ نَقِيضَ قَوْلِهِمْ فَإِنَّهُ يُبِيحُ الْخُرُوجَ بِلَا رُفْقَةٍ وَنِسَاءٍ ثِقَاتٍ ( قَوْلُهُ لِأَنَّهُ يُبَاحُ لَهَا الْخُرُوجُ إلَى مَا دُونَ مُدَّةِ السَّفَرِ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ ) يَعْنِي إذَا كَانَ لِحَاجَةٍ .
وَيُشْكَلُ عَلَيْهِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ قَزَعَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مَرْفُوعًا { لَا تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ يَوْمَيْنِ إلَّا وَمَعَهَا زَوْجُهَا أَوْ ذُو مَحْرَمٍ مِنْهَا } وَأَخْرَجَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ عَلَيْهَا } وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ { مَسِيرَةَ لَيْلَةٍ } .
وَفِي لَفْظٍ " يَوْمٍ " وَفِي لَفْظٍ لِأَبِي دَاوُد " بَرِيدًا " وَهُوَ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمِ ، وَقَالَ : صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ .
وَلِلطَّبَرَانِيِّ فِي مُعْجَمِهِ { ثَلَاثَةَ أَمْيَالٍ } فَقِيلَ لَهُ : إنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ : ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، فَقَالَ : وَهَمُوا .
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ : لَيْسَ فِي هَذِهِ تَبَايُنٌ .
فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهَا فِي مَوَاطِنَ مُخْتَلِفَةٍ بِحَسَبِ الْأَسْئِلَةِ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كُلُّهُ تَمْثِيلًا لِأَقَلِّ الْأَعْدَادِ ، وَالْيَوْمُ الْوَاحِدُ أَوَّلُ الْعَدَدِ وَأَقَلُّهُ .
وَالِاثْنَانِ أَوَّلُ الْكَثِيرِ وَأَقَلُّهُ ، وَالثَّلَاثُ أَوَّلُ الْجَمْعِ فَكَأَنَّهُ أَشَارَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا فِي قِلَّةِ الزَّمَنِ لَا يَحِلُّ لَهَا السَّفَرُ مَعَ غَيْرِ مَحْرَمٍ فَكَيْفَ بِمَا زَادَ ا هـ .
وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ نَبَّهَ بِمَنْعِ الْخُرُوجِ أَقَلَّ كُلِّ عَدَدٍ عَلَى مَنْعِ خُرُوجِهَا عَنْ الْبَلَدِ مُطْلَقًا إلَّا بِمَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ ، وَقَدْ صَرَّحَ بِالْمَنْعِ مُطْلَقًا إنَّ حُمِلَ السَّفَرُ عَلَى اللُّغَوِيِّ .
فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَرْفُوعًا { لَا تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ إلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ }

وَالسَّفَرُ لُغَةً يَنْطَلِقُ عَلَى مَا دُونَ ذَلِكَ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ كَرَاهَةُ الْخُرُوجِ لَهَا مَسِيرَةَ يَوْمٍ بِلَا مَحْرَمٍ ، ثُمَّ إذَا كَانَ الْمَذْهَبُ إبَاحَةَ خُرُوجِهَا مَا دُونَ الثَّلَاثَةِ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ فَلَيْسَ لِلزَّوْجِ مَنْعُهَا إذَا كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إذَا لَمْ تَجِدْ مَحْرَمًا ( قَوْلُهُ لِأَنَّ فِي الْخُرُوجِ تَفْوِيتَ حَقِّهِ ) وَحَقُّ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ عَلَى مَا عُرِفَ ، وَصَارَ كَالْحَجِّ الَّذِي نَذَرَتْهُ لَهُ مَنْعُهَا مِنْهُ ( وَلَنَا أَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْفَرَائِضِ ) وَإِنْ امْتَدَّتْ .
( وَالْحَجُّ مِنْهَا ) كَالصَّوْمِ ، وَهَذَا لِأَنَّ مِلْكَهُ مِلْكٌ ضَعِيفٌ لَا يَنْتَهِضُ سَبَبًا فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ مِلْكِ الْعَبْدِ ، وَإِنَّمَا لَا يَظْهَرُ فِي الْحَجِّ الْمَنْذُورِ لِأَنَّ وُجُوبَهُ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهَا فَلَا يَظْهَرُ الْوُجُوبُ فِي حَقِّهِ فَكَانَ نَفْلًا فِي حَقِّهِ ، وَإِذَا أَحْرَمَتْ نَفْلًا بِغَيْرِ إذْنِهِ فَلَهُ أَنْ يُحَلِّلَهَا ، وَهُوَ بِأَنْ يَنْهَاهَا وَيَصْنَعَ بِهَا أَدْنَى مَا يَحْرُمُ عَلَيْهَا كَقَصِّ ظُفْرِهَا وَنَحْوِهِ ، وَمُجَرَّدُ نَهْيِهَا لَا يَقَعُ بِهِ التَّحْلِيلُ كَمَا لَا يَقَعُ بِقَوْلِهِ : حَلَلْتُكِ ، وَلَا يَتَأَخَّرُ إلَى ذَبْحِ الْهَدْيِ بِخِلَافِ الْإِحْصَارِ ، وَلَهَا أَنْ تَخْرُجَ مَعَ كُلِّ مَحْرَمٍ سَوَاءٌ كَانَ بِنَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ أَوْ صِهْرِيَّةٍ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا أَوْ عَبْدًا إلَّا أَنْ يَعْتَقِدَ حِلَّ مُنَاكَحَتِهَا كَالْمَجُوسِيِّ أَوْ يَكُونَ فَاسِقًا إذْ لَا تُؤْمَنُ مَعَهُ الْفِتْنَةُ أَوْ صَبِيًّا .
( قَوْلُهُ وَاخْتَلَفُوا إلَخْ ) ثَمَرَتُهُ تَظْهَرُ فِي وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ بِالْحَجِّ إذَا مَاتَ مَثَلًا قَبْلَ أَمْنِ الطَّرِيقِ ، أَوْ هِيَ قَبْلَ وُجُودِ الْمَحْرَمِ أَوْ نَفَقَتُهُ عَلَى الْقَوْلِ بِاشْتِرَاطِهَا ، فَمَنْ قَالَ : إنَّ ذَلِكَ شَرْطُ الْوُجُوبِ يَقُولُ : لَا يَجِبُ الْإِيصَاءُ لِأَنَّ الْمَوْتَ قَبْلَ الْوُجُوبِ .
وَمَنْ قَالَ : بِأَنَّهَا شَرْطُ الْأَدَاءِ قَالَ : يَجِبُ لِأَنَّ الْمَوْتَ بَعْدَ الْوُجُوبِ ، وَإِنَّمَا عُذِرَتْ فِي

التَّأْخِيرِ وَفِي وُجُوبِ التَّزَوُّجِ عَلَيْهَا بِمَنْ يَحُجُّ بِهَا إنْ لَمْ تَجِدْ مَحْرَمًا ، وَأَمَّا وُجُوبُ نَفَقَةِ الْمَحْرَمِ وَرَاحِلَتِهِ إذَا أَبَى أَنْ يَحُجَّ إلَّا أَنْ تَقُومَ لَهُ بِذَلِكَ وَهُوَ مَحْمَلُ الِاخْتِلَافِ فِي وُجُوبِ نَفَقَتِهِ عَلَيْهَا ، قَالَ الطَّحَاوِيُّ : لَا تَجِبُ .
هُوَ قَوْلُ أَبِي حَفْصٍ الْبُخَارِيِّ مَا لَمْ يَخْرُجْ الْمَحْرَمُ بِنَفَقَتِهِ ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهَا الْحَجُّ لَا إحْجَاجُ غَيْرِهَا وَقَالَ الْقُدُورِيُّ تَجِبُ لِأَنَّهَا مِنْ مُؤَنِ حَجِّهَا .

( وَإِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ بَعْدَمَا أَحْرَمَ أَوْ عَتَقَ الْعَبْدُ فَمَضَيَا لَمْ يُجِزْهُمَا عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ ) لِأَنَّ إحْرَامَهَا انْعَقَدَ لِأَدَاءِ النَّفْلِ فَلَا يَنْقَلِبُ لِأَدَاءِ الْفَرْضِ ( وَلَوْ جَدَّدَ الصَّبِيُّ الْإِحْرَامَ قَبْلَ الْوُقُوفِ وَنَوَى حَجَّةَ الْإِسْلَامِ جَازَ ، وَالْعَبْدُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ ) لِأَنَّ إحْرَامَ الصَّبِيِّ غَيْرُ لَازِمٍ لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ ، أَمَّا إحْرَامُ الْعَبْدِ لَازِمٌ فَلَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ عَنْهُ بِالشُّرُوعِ فِي غَيْرِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
( قَوْلُهُ لِأَنَّ إحْرَامَهُمَا انْعَقَدَ لِأَدَاءِ النَّفْلِ فَلَا يَنْقَلِبُ لِأَدَاءِ الْفَرْضِ ) أَوْ رَدَّ عَلَيْهِ أَنَّ الْإِحْرَامَ شَرْطٌ عِنْدَكُمْ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ شَرْطٌ يُشْبِهُ الرُّكْنَ مِنْ حَيْثُ إمْكَانِ اتِّصَالِ الْأَدَاءِ فَاعْتَبَرْنَا شِبْهَ الرُّكْنِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ احْتِيَاطًا فِي الْعِبَادَةِ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إذَا بَلَغَ قَبْلَ الْوُقُوفِ أَوْ عَتَقَ يَقَعُ عَنْ الْفَرْضِ .
وَأَصْلُ الْخِلَافِ فِي الصَّبِيِّ إذَا بَلَغَ بِالسِّنِّ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ يَكُونُ عَنْ الْفَرْضِ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَنَا لَا ( قَوْلُهُ لِأَنَّ إحْرَامَ الصَّبِيِّ غَيْرُ لَازِمٍ ) لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ اللُّزُومِ عَلَيْهِ ، وَلِذَا لَوْ أُحْصِرَ الصَّبِيُّ وَتَحَلَّلَ لَا دَمَ عَلَيْهِ وَلَا قَضَاءَ وَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ لِارْتِكَابِ الْمَحْظُورَاتِ .
وَفِي الْمَبْسُوطِ : الصَّبِيُّ لَوْ أَحْرَمَ بِنَفْسِهِ وَهُوَ يَعْقِلُ أَوْ أَحْرَمَ عَنْهُ أَبُوهُ صَارَ مُحْرِمًا ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُجَرِّدَهُ وَيُلْبِسَهُ إزَارًا وَرِدَاءً ، وَالْكَافِرُ وَالْمَجْنُونُ كَالصَّبِيِّ ، فَلَوْ حَجَّ كَافِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ فَأَفَاقَ أَوْ أَسْلَمَ فَجَدَّدَ الْإِحْرَامَ أَجْزَأَهُمَا ، وَقِيلَ : هَذَا دَلِيلٌ أَنَّ الْكَافِرَ إذَا حَجَّ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ بِجَمَاعَةٍ ، وَفِي الذَّخِيرَةِ فِي النَّوَادِرِ : الْبَالِغُ إذَا جُنَّ بَعْدَ الْإِحْرَامِ ثُمَّ ارْتَكَبَ شَيْئًا مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ فَإِنَّ فِيهِ الْكَفَّارَةَ ، فَرْقٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّبِيِّ .

( فَصْلٌ ) ( وَالْمَوَاقِيتُ الَّتِي لَا يَجُوزُ أَنْ يُجَاوِزَهَا الْإِنْسَانُ إلَّا مُحْرِمًا خَمْسَةٌ : لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذُو الْحُلَيْفَةِ ، وَلِأَهْلِ الْعِرَاقِ ذَاتُ عِرْقٍ .
وَلِأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةُ ، وَلِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنٌ ، وَلِأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمُ ) هَكَذَا وَقَّتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْمَوَاقِيتَ لِهَؤُلَاءِ .
وَفَائِدَةُ التَّأْقِيتِ الْمَنْعُ عَنْ تَأْخِيرِ الْإِحْرَامِ عَنْهَا ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ التَّقْدِيمُ عَلَيْهَا بِالِاتِّفَاقِ ، ثُمَّ الْآفَاقِيُّ إذَا انْتَهَى إلَيْهَا عَلَى قَصْدِ دُخُولِ مَكَّةَ عَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ قَصَدَ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ عِنْدَنَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا يُجَاوِزُ أَحَدٌ الْمِيقَاتَ إلَّا مُحْرِمًا } وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْإِحْرَامِ لِتَعْظِيمِ هَذِهِ الْبُقْعَةِ الشَّرِيفَةِ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْحَاجُّ وَالْمُعْتَمِرُ وَغَيْرُهُمَا

فَصْلٌ فِي الْمَوَاقِيتِ ) جَمْعُ مِيقَاتٍ وَهُوَ الْوَقْتُ الْمُعَيَّنُ ، اُسْتُعِيرَ لِلْمَكَانِ الْمُعَيَّنِ كَقَلْبِهِ فِي قَوْله تَعَالَى { هُنَالِكَ اُبْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ } لَزِمَ شَرْعًا تَقْدِيمُ الْإِحْرَامِ لِلْآفَاقِيِّ عَلَى وُصُولِهِ إلَى الْبَيْتِ تَعْظِيمًا لِلْبَيْتِ ، وَإِجْلَالًا كَمَا تَرَاهُ فِي الشَّاهِدِ مِنْ تَرَجُّلِ الرَّاكِبِ الْقَاصِدِ إلَى عَظِيمٍ مِنْ الْخَلْقِ إذَا قَرُبَ مِنْ سَاحَتِهِ خُضُوعًا لَهُ ، فَكَذَا لَزِمَ الْقَاصِدَ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُحْرِمَ قَبْلَ الْحُلُولِ بِحَضْرَتِهِ إجْلَالًا ، فَإِنَّ فِي الْإِحْرَامِ تَشَبُّهًا بِالْأَمْوَاتِ ، وَفِي ضِمْنِ جَعْلِ نَفْسِهِ كَالْمَيِّتِ سَلْبُ اخْتِيَارِهِ .
وَإِلْقَاءُ قِيَادِهِ مُتَخَلِّيًا عَنْ نَفْسِهِ فَارِغًا عَنْ اعْتِبَارِهَا شَيْئًا مِنْ الْأَشْيَاءِ فَسُبْحَانَ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ( قَوْلُهُ وَلِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنٌ ) بِالسُّكُونِ مَوْضِعٌ ، وَجَعَلَهُ فِي الصِّحَاحِ مُحَرَّكًا ، وَخَطِئَ بِأَنَّ الْمُحَرَّكَ اسْمُ قَبِيلَةٍ إلَيْهَا يُنْسَبُ أُوَيْسٌ الْقَرَنِيُّ ( قَوْلُهُ هَكَذَا وَقَّتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) أَمَّا تَوْقِيتُ مَا سِوَى ذَاتِ عِرْقٍ ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَّتَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ ، وَلِأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةَ ، وَلِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ الْمَنَازِلِ ، وَلِأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ ، هُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ ، وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَمَنْ حَيْثُ أَنْشَأَ حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ } وَرُوِيَ هُنَّ لَهُمْ وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ .
وَوَجْهُهُ أَنَّهُ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ التَّقْدِيرُ هُنَّ لِأَهْلِهِنَّ .
وَأَمَّا تَوْقِيتُ ذَاتِ عِرْقٍ ، فَفِي مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ : سَمِعْت أَحْسِبُهُ رَفَعَ الْحَدِيثَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مُهَلُّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ إلَى أَنْ قَالَ : وَمُهَلُّ أَهْلِ الْعِرَاقِ مِنْ

ذَاتِ عِرْقٍ } وَفِيهِ شَكٌّ مِنْ الرَّاوِي فِي رَفْعِهِ هَذِهِ الْمَرَّةِ ، وَرَوَاهُ مَرَّةً أُخْرَى عَلَى مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْهُ وَلَمْ يَشُكَّ .
وَلَفْظُهُ { وَمُهَلُّ أَهْلِ الشَّرْقِ ذَاتُ عِرْقٍ } إلَّا أَنَّ فِيهِ إبْرَاهِيمَ بْنَ يَزِيدَ الْجَوْزِيَّ لَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ ، وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَّتَ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ ذَاتَ عِرْقٍ } وَزَادَ فِيهِ النَّسَائِيّ بَقِيَّةً .
وَفِي سَنَدِهِ أَفْلَحُ بْنُ حُمَيْدٍ كَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يُنْكِرُ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثَ .
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَّتَ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ ذَاتَ عِرْقٍ } وَلَمْ يُتَابِعْهُ أَصْحَابُ مَالِكٍ فَرَوَوْهُ عَنْهُ .
وَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ مِيقَاتَ أَهْلِ الْعِرَاقِ ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ وَابْنُ عَوْنٍ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي دَاوُد عَنْ نَافِعٍ ، وَكَذَا رَوَاهُ سَالِمٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنُ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ .
وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ { وَقَّتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَهْلِ الْمَشْرِقِ الْعَقِيقَ } قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : تَفَرَّدَ بِهِ يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ ، وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ : أَخَافُ أَنْ يَكُونَ مُنْقَطِعًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا إنَّمَا عُهِدَ يَرْوِي عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ .
وَقَالَ مُسْلِمٌ فِي كِتَابِ التَّمْيِيزِ : لَا يُعْلَمُ لَهُ سَمَاعٌ مِنْ جَدِّهِ ، وَلَا أَنَّهُ لَقِيَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ الْبُخَارِيُّ وَلَا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَنَّهُ يَرْوِي عَنْ جَدِّهِ ، وَذَكَرَ أَنَّهُ يَرْوِي عَنْ أَبِيهِ .
وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ الزِّنْجِيِّ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { وَقَّتَ رَسُولُ

اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَهْلِ الْمَشْرِقِ ذَاتَ عِرْقٍ } وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ سَالِمٍ ، أَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ ، أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَهُ مُرْسَلًا وَفِيهِ { وَلِأَهْلِ الْمَشْرِقِ ذَاتَ عِرْقٍ } قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ : فَقُلْت لِعَطَاءٍ : إنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُوَقِّتْ ذَاتَ عِرْقٍ وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَهْلُ مَشْرِقٍ يَوْمئِذٍ فَقَالَ : كَذَلِكَ سَمِعْنَا { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَّتَ لِأَهْلِ الْمَشْرِقِ ذَاتَ عِرْقٍ } ، وَمِنْ طَرِيقِ الشَّافِعِيِّ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَمِنْ طَرِيقِ الْبَيْهَقِيّ أَيْضًا : أَخْبَرَنَا مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ الزِّنْجِيُّ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ { لَمْ يُوَقِّتْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ عِرْقٍ وَلَمْ يَكُنْ أَهْلُ مَشْرِقٍ حِينَئِذٍ فَوَقَّتَ لِلنَّاسِ ذَاتَ عِرْقٍ } قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَا أَحْسِبُهُ إلَّا كَمَا قَالَ طَاوُسٌ ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي الْبُخَارِيِّ بِسَنَدِهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا " قَالَ لَمَّا فُتِحَ هَذَانِ الْمِصْرَانِ أَتَوْا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالُوا : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّ لِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنًا وَهِيَ جَوْرٌ عَنْ طَرِيقِنَا وَإِنَّا إذَا أَرَدْنَا قَرْنًا شَقَّ عَلَيْنَا قَالَ : اُنْظُرُوا حَذْوَهَا مِنْ طَرِيقِكُمْ ، فَحَدَّ لَهُمْ ذَاتَ عِرْقٍ " قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي الْإِمَامِ : الْمِصْرَانِ هُمَا الْبَصْرَةُ وَالْكُوفَةُ وَحَذْوُهُمَا مَا يَقْرُبُ مِنْهَا ، قَالَ : وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَاتَ عِرْقٍ مُجْتَهَدٌ فِيهَا لَا مَنْصُوصَةٌ ا هـ .
وَالْحَقُّ أَنَّهُ يُفِيدُ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يَبْلُغْهُ تَوْقِيتُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ عِرْقٍ ، فَإِنْ كَانَتْ الْأَحَادِيثُ بِتَوْقِيتِهِ حَسَنَةً فَقَدْ وَافَقَ

اجْتِهَادُهُ تَوْقِيتَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَإِلَّا فَهُوَ اجْتِهَادِيٌّ ( قَوْلُهُ وَفَائِدَةُ التَّأْقِيتِ الْمَنْعُ مِنْ التَّأْخِيرِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ التَّقْدِيمُ بِالْإِجْمَاعِ ) عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ ، وَقَدْ يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنَّ مَنْ أَتَى مِيقَاتًا مِنْهَا لِقَصْدِ مَكَّةَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ سَوَاءٌ كَانَ يَمُرُّ بَعْدَهُ عَلَى مِيقَاتٍ آخَرَ أَمْ لَا ، لَكِنَّ الْمَسْطُورَ خِلَافُهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ ، وَفِي الْكَافِي لِلْحَاكِمِ الصَّدْرِ الشَّهِيدِ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ جَمْعِ كَلَامِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَمَنْ جَاوَزَ وَقْتَهُ غَيْرَ مُحْرِمٍ ثُمَّ أَتَى وَقْتًا آخَرَ .
وَأَحْرَمَ مِنْهُ أَجْزَأَهُ .
وَلَوْ كَانَ أَحْرَمَ مِنْ وَقْتِهِ كَانَ أَحَبَّ إلَيَّ ا هـ .
وَمِنْ الْفُرُوعِ : الْمَدَنِيُّ إذَا جَاوَزَ إلَى الْجُحْفَةِ فَأَحْرَمَ عِنْدَهَا فَلَا بَأْسَ بِهِ .
وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ .
وَمُقْتَضَى كَوْنِ فَائِدَةِ التَّوْقِيتِ الْمَنْعَ مِنْ التَّأْخِيرِ أَنْ لَا يَجُوزَ التَّأْخِيرُ عَنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ ، فَإِنَّ مُرُورَهُ بِهِ سَابِقٌ عَلَى مُرُورِهِ بِالْمِيقَاتِ الْآخَرِ ، وَلِذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ عَلَيْهِ دَمًا ، لَكِنَّ الظَّاهِرَ عَنْهُ هُوَ الْأَوَّلُ لِمَا رُوِيَ مِنْ تَمَامِ الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { هُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ } فَمَنْ جَاوَزَ إلَى الْمِيقَاتِ الثَّانِي صَارَ مِنْ أَهْلِهِ أَيْ صَارَ مِيقَاتًا لَهُ .
وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ إذَا أَرَادَتْ أَنْ تَحُجَّ أَحْرَمَتْ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ .
وَإِذَا أَرَادَتْ أَنْ تَعْتَمِرَ أَحْرَمَتْ مِنْ الْجُحْفَةِ ، وَمَعْلُومٌ أَنْ لَا فَرْقَ فِي الْمِيقَاتِ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ .
فَلَوْ لَمْ تَكُنْ الْجُحْفَةُ مِيقَاتًا لَهُمَا لَمَا أَحْرَمَتْ بِالْعُمْرَةِ مِنْهَا ، فَبِفِعْلِهَا يُعْلَمُ أَنَّ الْمَنْعَ مِنْ التَّأْخِيرِ مُقَيَّدٌ بِالْمِيقَاتِ الْأَخِيرِ .
وَيُحْمَلُ حَدِيثُ { لَا يُجَاوِزُ أَحَدٌ الْمِيقَاتَ إلَّا مُحْرِمًا } عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ لَا

يُجَاوِزُ الْمَوَاقِيتَ .
هَذَا وَمَنْ كَانَ فِي بَحْرٍ أَوْ بَرٍّ لَا يَمُرُّ بِوَاحِدٍ مِنْ الْمَوَاقِيتِ الْمَذْكُورَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ إذَا حَاذَى آخِرَهَا ، وَيَعْرِفُ بِالِاجْتِهَادِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِحَيْثُ يُحَاذِي فَعَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ مَكَّةَ ( قَوْلُهُ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ ) بِأَنْ قَصَدَ مُجَرَّدَ الرُّؤْيَةِ وَالنُّزْهَةِ أَوْ التِّجَارَةِ ( قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا يُجَاوِزُ أَحَدٌ الْمِيقَاتَ إلَّا مُحْرِمًا } ) رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ : حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ حَرْبٍ عَنْ خُصَيْفٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا يُجَاوَزُ الْوَقْتُ إلَّا بِإِحْرَامٍ } وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ .
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ : أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ أَنَّهُ رَأَى ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَرُدُّ مَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ غَيْرَ مُحْرِمٍ ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ : حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَذَكَرَهُ .
وَرَوَى إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ : أَخْبَرَنَا فُضَيْلٍ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ إذَا جَاوَزَ الْوَقْتَ فَلَمْ يُحْرِمْ حَتَّى دَخَلَ مَكَّةَ رَجَعَ إلَى الْوَقْتِ فَأَحْرَمَ ، وَإِنْ خَشِيَ إنْ رَجَعَ إلَى الْوَقْتِ فَإِنَّهُ يُحْرِمُ وَيُهْرِيقُ لِذَلِكَ دَمًا فَهَذِهِ الْمَنْطُوقَاتُ أَوْلَى مِنْ الْمَفْهُومِ الْمُخَالِفِ فِي قَوْلِهِ مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ إنْ ثَبَتَ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دُونَ كَلَامِ الرَّاوِي .
وَمَا فِي مُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيُّ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دَخَلَ يَوْمَ الْفَتْحِ مَكَّةَ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ بِغَيْرِ إحْرَامٍ } كَانَ مُخْتَصًّا بِتِلْكَ السَّاعَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ

عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ { مَكَّةُ حَرَامٌ لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا لِأَحَدٍ بَعْدِي ، وَإِنَّمَا حَلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ثُمَّ عَادَتْ حَرَامًا } يَعْنِي الدُّخُولَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى حِلِّ الدُّخُولِ بَعْدَهُ لِلْقِتَالِ ( قَوْلُهُ وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْإِحْرَامِ لِتَعْظِيمِ هَذِهِ الْبُقْعَةِ ) يَعْنِي وُجُوبَ الْإِحْرَامِ مِنْ الْمِيقَاتِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى الْبُقْعَةِ لِتَعْظِيمِ الْبُقْعَةِ عَلَى مَا قَدَّمْنَا فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ .

( وَمَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمِيقَاتِ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ لِحَاجَتِهِ ) لِأَنَّهُ يَكْثُرُ دُخُولُهُ مَكَّةَ ، وَفِي إيجَابِ الْإِحْرَامِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ حَرَجٌ بَيِّنٌ فَصَارَ كَأَهْلِ مَكَّةَ حَيْثُ يُبَاحُ لَهُمْ الْخُرُوجُ مِنْهَا ثُمَّ دُخُولُهَا بِغَيْرِ إحْرَامٍ لِحَاجَتِهِمْ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَصَدَ أَدَاءَ النُّسُكِ لِأَنَّهُ يَتَحَقَّقُ أَحْيَانًا فَلَا حَرَجَ ( فَإِنْ قَدَّمَ الْإِحْرَامَ عَلَى هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ جَازَ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } وَإِتْمَامُهُمَا أَنْ يُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ ، كَذَا قَالَهُ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا .
وَالْأَفْضَلُ التَّقْدِيمُ عَلَيْهَا لِأَنَّ إتْمَامَ الْحَجِّ مُفَسَّرٌ بِهِ وَالْمَشَقَّةُ فِيهِ أَكْثَرُ وَالتَّعْظِيمُ أَوْفَرُ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّمَا يَكُونُ أَفْضَلَ إذَا كَانَ يَمْلِكُ نَفْسَهُ أَنْ لَا يَقَعَ فِي مَحْظُورٍ

( قَوْلُهُ وَمَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمِيقَاتِ إلَخْ ) الْمُتَبَادَرُ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْمَوَاقِيتِ لَكِنَّ الْوَاقِعَ أَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِهِ بَعْدَهَا أَوْ فِيهَا نَفْسِهَا فِي نَصِّ الرِّوَايَةِ ، قَالَ : لَيْسَ لِلرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ الْمَوَاقِيتِ وَمِنْ دُونِهَا إلَى مَكَّةَ أَنْ يَقْرُنَ وَلَا يَتَمَتَّعَ ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ مَكَّةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ، كَذَا فِي كَلَامِ مُحَمَّدٍ ، وَصَرَّحَ بِأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ قَصْدِ النُّسُكِ .
أَمَّا إذَا قَصَدُوهُ وَجَبَ عَلَيْهِمْ الْإِحْرَامُ قَبْلَ دُخُولِهِمْ أَرْضَ الْحَرَمِ فَمِيقَاتُهُمْ كُلُّ الْحِلِّ إلَى الْحَرَمِ ، فَهُمْ فِي سَعَةٍ مِنْ دَارِهِمْ إلَى الْحَرَمِ وَمَا عَجَّلُوهُ مِنْ دَارِهِمْ فَهُوَ أَفْضَلُ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : بَلَغَنَا عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ إلَى قُدَيْدٍ ثُمَّ رَجَعَ إلَى مَكَّةَ ، قَالَ : وَكَذَا الْمَكِّيُّ إذَا خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ لِحَاجَةٍ فَبَلَغَ الْوَقْتَ وَلَمْ يُجَاوِزْهُ ، يَعْنِي لَهُ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ رَاجِعًا بِغَيْرِ إحْرَامٍ ، فَإِنْ جَاوَزَ الْوَقْتَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ إلَّا بِإِحْرَامٍ ( قَوْلُهُ كَذَا قَالَهُ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ ) رَوَى الْحَاكِمُ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ الْمُرَادِيِّ قَالَ : سُئِلَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } فَقَالَ : أَنْ تُحْرِمَ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِك ، وَقَالَ : صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ ا هـ .
وَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا وَنَظَرَ فِيهِ ، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ .
ثُمَّ هَذَا خِلَافُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَوْنِ الْمُرَادِ إيجَابَ الْإِتْمَامِ عَلَى مَنْ شَرَعَ فِي بَحْثِ الْفَوْرِ وَالتَّرَاخِي أَوَّلُ كِتَابِ الْحَجِّ ( قَوْلُهُ وَالْأَفْضَلُ التَّقْدِيمُ عَلَيْهَا ) أَيْ عَلَى الْمَوَاقِيتِ ، بِخِلَافِ تَقْدِيمِ الْإِحْرَامِ عَلَى أَشْهُرِ الْحَجِّ أَجْمَعُوا

أَنَّهُ مَكْرُوهٌ ، كَذَا فِي الْيَنَابِيعِ وَغَيْرِهِ ، فَيَجِبُ حَمْلُ الْأَفْضَلِيَّةِ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ عَلَى مَا إذَا كَانَ مِنْ دَارِهِ إلَى مَكَّةَ دُونَ أَشْهُرِ الْحَجِّ ، كَمَا قَيَّدَ بِهِ قَاضِي خَانْ وَإِنَّمَا كَانَ التَّقْدِيمُ عَلَى الْمَوَاقِيتِ أَفْضَلَ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ تَعْظِيمًا وَأَوْفَرُ مَشَقَّةً ، وَالْأَجْرُ عَلَى قَدْرِ الْمَشَقَّةِ ، وَلِذَا كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ الْإِحْرَامَ بِهِمَا مِنْ الْأَمَاكِنِ الْقَاصِيَةِ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَحْرَمَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ مِنْ الْبَصْرَةِ ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ أَحْرَمَ مِنْ الشَّامِ ، وَابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ الْقَادِسِيَّةِ ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ أَهَلَّ مِنْ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى بِعُمْرَةٍ أَوْ حَجَّةٍ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ } وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد بِنَحْوِهِ .
ثُمَّ هَذِهِ الْأَفْضَلِيَّةُ مُقَيَّدَةٌ بِمَا إذَا كَانَ يَمْلِكُ نَفْسَهُ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ .
ثُمَّ إذَا انْتَفَتْ الْأَفْضَلِيَّةُ لِعَدَمِ مِلْكِهِ نَفْسَهُ هَلْ يَكُونُ الثَّابِتُ الْإِبَاحَةَ أَوْ الْكَرَاهَةَ ؟ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ .
فَالْحَاصِلُ تَقَيُّدُ الْأَفْضَلِيَّةِ فِي الْمَكَانِ بِمِلْكِ نَفْسِهِ ، وَالْمَشْهُورُ فِي الْكَرَاهَةِ فِي الزَّمَانِ عَدَمُ تَقَيُّدِهَا بِخَوْفِ مُوَاقَعَةِ الْمَحْظُورَاتِ ، فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الْمُنَاسِبُ التَّعْلِيلُ لِلْكَرَاهَةِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ بِكَوْنِ الْإِحْرَامِ قَبْلَ وَقْتِ الْحَجِّ وَهُوَ أَشْهُرُ الْحَجِّ كَمَا عَلَّلَ بِهِ الْفَقِيهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ .
وَقِيلَ فِي الزَّمَانِ أَيْضًا التَّفْصِيلُ إنْ أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ لَا يُكْرَهُ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَإِلَّا كُرِهَ ، وَلَا أَعْلَمُهُ مَرْوِيًّا عَنْ الْمُتَقَدِّمِينَ ، فَالْأَوْلَى مَا رُوِيَ عَنْ أَئِمَّتِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ إطْلَاقِ الْكَرَاهَةِ وَتَعْلِيلُهَا إنَّمَا يَكُونُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ كَوْنِهِ قَبْلَ أَشْهُرِ

الْحَجِّ وَكَأَنَّهُ أُشْكِلَ عَلَى مَنْ خَالَفَ إطْلَاقُهُمْ التَّعْلِيلَ بِذَلِكَ فَفَصَّلُوا .
وَالْحَقُّ هُوَ الْإِطْلَاقُ وَالتَّعْلِيلُ بِذَلِكَ بِنَاءً عَلَى شَبَهِ الْإِحْرَامِ بِالرُّكْنِ ، وَإِنْ كَانَ شَرْطًا فَيُرَاعَى مُقْتَضَى ذَلِكَ الشَّبَهِ احْتِيَاطًا ، وَلَوْ كَانَ رُكْنًا حَقِيقَةً لَمْ يَصِحَّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ ، فَإِذَا كَانَ شَبِيهًا بِهِ كُرِهَ قَبْلَهَا لِشَبَهِهِ وَقُرْبِهِ مِنْ عَدَمِ الصِّحَّةِ ، فَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ الْوَجْهِ وَلِشَبَهِ الرُّكْنِ لَمْ يَجُزْ لِفَائِتِ الْحَجِّ ، اسْتِدَامَةُ الْإِحْرَامِ لِيَقْضِيَ بِهِ مِنْ قَابِلٍ

( وَمَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمِيقَاتِ فَوَقْتُهُ الْحِلُّ ) مَعْنَاهُ الْحِلُّ الَّذِي بَيْنَ الْمَوَاقِيتِ وَبَيْنَ الْحَرَمِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ إحْرَامُهُ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ ، وَمَا وَرَاءَ الْمِيقَاتِ إلَى الْحَرَمِ مَكَانٌ وَاحِدٌ ( وَمَنْ كَانَ بِمَكَّةَ فَوَقْتُهُ فِي الْحَجِّ الْحَرَمُ وَفِي الْعُمْرَةِ الْحِلُّ ) لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَرَ أَصْحَابَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنْ يُحْرِمُوا بِالْحَجِّ مِنْ جَوْفِ مَكَّةَ ، وَأَمَرَ أَخَا عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنْ يُعْمِرَهَا مِنْ التَّنْعِيمِ وَهُوَ فِي الْحِلِّ ، وَلِأَنَّ أَدَاءَ الْحَجِّ فِي عَرَفَةَ وَهِيَ فِي الْحِلِّ فَيَكُونُ الْإِحْرَامُ مِنْ الْحَرَمِ لِيَتَحَقَّقَ نَوْعُ سَفَرٍ ، وَأَدَاءُ الْعُمْرَةِ فِي الْحَرَمِ فَيَكُونُ الْإِحْرَامُ مِنْ الْحِلِّ لِهَذَا ، إلَّا أَنَّ التَّنْعِيمَ أَفْضَلُ لِوُرُودِ الْأَثَرِ بِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
( قَوْلُهُ وَمَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمَوَاقِيتِ ) أَوْ فِي نَفْسِ الْمَوَاقِيتِ ( فَوَقْتُهُ الْحِلُّ ) مَعْلُومٌ إذَا كَانَ دَاخِلَ الْمَوَاقِيتِ الَّذِي هُوَ الْحِلُّ ، أَمَّا إذَا كَانَ سَاكِنًا فِي أَرْضِ الْحَرَمِ فَمِيقَاتُهُ كَمِيقَاتِ أَهْلِ مَكَّةَ وَهُوَ الْحَرَمُ فِي الْحَجِّ وَالْحِلُّ فِي الْعُمْرَةِ ( قَوْلُهُ لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَرَ أَصْحَابَهُ ) رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْهُ قَالَ { أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَحْلَلْنَا أَنْ نُحْرِمَ إذَا تَوَجَّهْنَا إلَى مِنًى .
قَالَ : فَأَهْلَلْنَا مِنْ الْأَبْطَحِ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ { قَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ تَنْطَلِقُونَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ وَأَنْطَلِقُ بِحَجٍّ ؟ فَأَمَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا إلَى التَّنْعِيمِ فَاعْتَمَرَتْ بَعْدَ الْحَجِّ } .

( بَابُ الْإِحْرَامِ ) ( وَإِذَا أَرَادَ الْإِحْرَامَ اغْتَسَلَ أَوْ تَوَضَّأَ وَالْغُسْلُ أَفْضَلُ ) لِمَا رُوِيَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اغْتَسَلَ لِإِحْرَامِهِ } إلَّا أَنَّهُ لِلتَّنْظِيفِ حَتَّى تُؤْمَرَ بِهِ الْحَائِضُ ، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ فَرْضًا عَنْهَا فَيَقُومَ الْوُضُوءُ مَقَامَهُ كَمَا فِي الْجُمُعَةِ ، لَكِنَّ الْغُسْلَ أَفْضَلُ لِأَنَّ مَعْنَى النَّظَافَةِ فِيهِ أَتَمُّ ، وَلِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اخْتَارَهُ .
قَالَ ( وَلَبِسَ ثَوْبَيْنِ جَدِيدَيْنِ أَوْ غَسِيلَيْنِ إزَارًا وَرِدَاءً ) لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ائْتَزَرَ وَارْتَدَى عِنْدَ إحْرَامِهِ ، وَلِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ عَنْ لُبْسِ الْمَخِيطِ وَلَا بُدَّ مِنْ سَتْرِ الْعَوْرَةِ وَدَفْعِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ ، وَذَلِكَ فِيمَا عَيَّنَّاهُ ، وَالْجَدِيدُ أَفْضَلُ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الطَّهَارَةِ .
قَالَ ( وَمَسَّ طِيبًا إنْ كَانَ لَهُ ) وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَنَّهُ يُكْرَهُ إذَا تَطَيَّبَ بِمَا تَبْقَى عَيْنُهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، لِأَنَّهُ مُنْتَفِعٌ بِالطِّيبِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ وَوَجْهُ الْمَشْهُورِ حَدِيثُ { عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ } وَالْمَمْنُوعُ عَنْهُ التَّطَيُّبُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ ، وَالْبَاقِي كَالتَّابِعِ لَهُ لِاتِّصَالِهِ بِهِ ، بِخِلَافِ الثَّوْبِ لِأَنَّهُ مُبَايِنٌ عَنْهُ .

( بَابُ الْإِحْرَامِ ) حَقِيقَتُهُ الدُّخُولُ فِي الْحُرْمَةِ وَالْمُرَادُ الدُّخُولُ فِي حُرُمَاتٍ مَخْصُوصَةٍ : أَيْ الْتِزَامُهَا ، وَالْتِزَامُهَا شَرْطُ الْحَجِّ شَرْعًا غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ ثُبُوتُهُ شَرْعًا إلَّا بِالنِّيَّةِ مَعَ الذِّكْرِ أَوْ الْخُصُوصِيَّةِ عَلَى مَا سَيَأْتِي ، وَإِذَا تَمَّ الْإِحْرَامُ لَا يَخْرُجُ عَنْهُ إلَّا بِعَمَلِ النُّسُكِ الَّذِي أَحْرَمَ بِهِ .
وَإِنْ أَفْسَدَهُ إلَّا فِي الْفَوَاتِ فَبِعَمَلِ الْعُمْرَةِ وَإِلَّا الْإِحْصَارُ فَبِذَبْحِ الْهَدْيِ ، ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ الْقَضَاءِ مُطْلَقًا وَإِنْ كَانَ مَظْنُونًا ، فَلَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ عَلَى ظَنِّ أَنَّ عَلَيْهِ الْحَجَّ ثُمَّ ظَهَرَ لَهُ أَنْ لَا حَجَّ عَلَيْهِ يَمْضِي فِيهِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُبْطِلَهُ ، فَإِنْ أَبْطَلَهُ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ .
لِأَنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ فَسْخُ الْإِحْرَامِ أَبَدًا إلَّا بِالدَّمِ وَالْقَضَاءِ ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى لُزُومِ الْمُضِيِّ مُطْلَقًا ، بِخِلَافِ الْمَظْنُونِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى مَا سَلَفَ ( قَوْلُهُ لِمَا رُوِيَ إلَخْ ) أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ { أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَجَرَّدَ لِإِهْلَالِهِ وَاغْتَسَلَ } وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ .
قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ : إنَّمَا حَسَّنَهُ وَلَمْ يُصَحِّحْهُ لِلِاخْتِلَافِ فِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ ، وَالرَّاوِي عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَعْقُوبَ الْمَدَنِيُّ أَجْهَدْت نَفْسِي فِي مَعْرِفَتِهِ فَلَمْ أَجِدْ أَحَدًا ذَكَرَهُ ا هـ لَكِنَّ تَحْسِينَ التِّرْمِذِيِّ لِلْحَدِيثِ فَرْعُ مَعْرِفَتِهِ وَعَيْنَهُ ، وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ { اغْتَسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ لَبِسَ ثِيَابَهُ ، فَلَمَّا أَتَى ذَا الْحُلَيْفَةِ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَعَدَ عَلَى بَعِيرِهِ ، فَلَمَّا اسْتَوَى بِهِ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ } وَقَالَ : صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ .
يَعْقُوبُ بْنُ عَطَاءٍ مِمَّنْ جَمَعَ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ حَدِيثَهُ ، وَأَخْرَجَ أَيْضًا

عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ { مِنْ السُّنَّةِ أَنْ يَغْتَسِلَ إذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ } وَصَحَّحَهُ عَلَى شَرْطِهِمَا وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْبَزَّارُ .
وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ مِنْ السُّنَّةِ حُكْمُهُ الرَّفْعُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُجَامِعَ زَوْجَتَهُ إنْ كَانَ مُسَافِرًا بِهَا أَوْ كَانَ يُحْرِمُ مِنْ دَارِهِ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ ارْتِفَاقٌ لَهُ أَوْ لَهَا فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ ، وَقَدْ أَسْنَدَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُنْتَشِرِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ { عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَطُوفُ فِي نِسَائِهِ ثُمَّ يُصْبِحُ مُحْرِمًا } وَرَوَاهُ مَرَّةً { طَيَّبْتُ فَطَافَ ثُمَّ أَصْبَحَ } بِصِيغَةِ الْمَاضِي ( قَوْلُهُ إلَّا أَنَّهُ لِلتَّنْظِيفِ حَتَّى تُؤْمَرَ بِهِ الْحَائِضُ ) قَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ { فَوَلَدَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَأَرْسَلَتْ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ أَصْنَعُ ؟ فَقَالَ : اغْتَسِلِي وَاسْتَثْفِرِي بِثَوْبٍ وَأَحْرِمِي } وَنَحْوُهُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَلَفْظُهَا { نَفِسَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ بِمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِالشَّجَرَةِ } وَهُوَ شَاهِدٌ لِمَطْلُوبِيَّةِ الْغُسْلِ لِلْحَائِضِ بِالدَّلَالَةِ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ أَوْ النِّفَاسُ أَقْوَى مِنْ الْحَيْضِ لِامْتِدَادِهِ وَكَثْرَةِ دَمِهِ ، فَفِي الْحَيْضِ أَوْلَى .
وَفِي أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { إنَّ النُّفَسَاءَ وَالْحَائِضَ تَغْتَسِلُ وَتُحْرِمُ وَتَقْضِي الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفَ بِالْبَيْتِ } وَإِذَا كَانَ لِلنَّظَافَةِ وَإِزَالَةِ الرَّائِحَةِ لَا يُعْتَبَرُ التَّيَمُّمُ بَدَلَهُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْمَاءِ وَيُؤْمَرُ بِهِ الصَّبِيُّ .
وَيُسْتَحَبُّ كَمَالُ التَّنْظِيفِ فِي الْإِحْرَامِ مِنْ قَصِّ الْأَظْفَارِ وَنَتْفِ

الْإِبِطَيْنِ وَحَلْقِ الْعَانَةِ وَجِمَاعِ أَهْلِهِ كَمَا تَقَدَّمَ ( قَوْلُهُ وَلَبِسَ ثَوْبَيْنِ إلَخْ ) وَهَذَا هُوَ السُّنَّةُ ، وَالثَّوْبُ الْوَاحِدُ السَّاتِرُ جَائِزٌ ( قَوْلُهُ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ائْتَزَرَ ) فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { انْطَلَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَدِينَةِ بَعْدَمَا تَرَجَّلَ وَادَّهَنَ وَلَبِسَ إزَارَهُ وَرِدَاءَهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فَلَمْ يَنْهَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ الْأَرْدِيَةِ وَالْأُزُرِ تُلْبَسُ إلَّا الْمُزَعْفَرَةَ الَّتِي تَرْدَعُ عَلَى الْجِلْدِ فَأَصْبَحَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَاكِبَ رَاحِلَتِهِ حَتَّى اسْتَوَتْ عَلَى الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ هُوَ وَأَصْحَابُهُ } الْحَدِيثَ .
وَائْتَزَرَ بِهَمْزَتَيْنِ أُولَاهُمَا هَمْزَةُ وَصْلٍ وَوَضْعُ تَاءٍ مُشَدَّدَةٍ مَكَانَ الثَّانِيَةِ خَطَأٌ ( قَوْلُهُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ ) وَكَذَا قَوْلُ زُفَرَ ( قَوْلُهُ وَوَجْهُ الْمَشْهُورِ ) فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ { عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ } وَفِي لَفْظٍ لَهُمَا { كَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِي مَفْرِقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ } وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ { كَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى وَبِيصِ الْمِسْكِ فِي مَفْرِقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُلَبِّي } وَفِي لَفْظٍ لَهُمَا قَالَتْ { كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ يَتَطَيَّبُ بِأَطْيَبَ مَا يَجِدُ ، ثُمَّ أَرَى وَبِيصَ الطِّيبِ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ } وَلِلْآخَرِينَ مَا أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ { أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مُتَضَمِّخٌ بِطِيبٍ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ فِي جُبَّةٍ بَعْدَمَا تَضَمَّخَ بِطِيبٍ ؟ فَقَالَ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : أَمَّا الطِّيبُ الَّذِي بِكَ

فَاغْسِلْهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، وَأَمَّا الْجُبَّةُ فَانْزِعْهَا ثُمَّ اصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ مَا تَصْنَعُ فِي حَجِّكَ } وَعَنْ هَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّ حِلَّ الطِّيبِ كَانَ خَاصًّا بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَنَّهُ فَعَلَهُ وَمَنَعَ غَيْرَهُ .
وَدُفِعَ بِأَنَّ قَوْلَهُ لِلرَّجُلِ ذَلِكَ يَحْتَمِلُ كَوْنَهُ لِحُرْمَةِ التَّطَيُّبِ ، وَيَحْتَمِلُ كَوْنُهُ لِخُصُوصِ ذَلِكَ الطِّيبِ ، بِأَنْ كَانَ فِيهِ خَلُوقٌ ، فَلَا يُفِيدُ مَنْعُهُ الْخُصُوصِيَّةَ ، فَنَظَرْنَا فَإِذَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ " وَهُوَ مُصَفِّرٌ لِحْيَتَهُ وَرَأْسَهُ " وَقَدْ نَهَى عَنْ التَّزَعْفُرِ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ التَّزَعْفُرِ } وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ { نَهَى أَنْ يَتَزَعْفَرَ الرَّجُلُ } وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى مَا فِي أَبِي دَاوُد { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَلْبَسُ النِّعَالَ السِّبْتِيَّةَ وَيُصَفِّرُ لِحْيَتَهُ بِالْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ } وَإِنْ كَانَ ابْنُ الْقَطَّانِ صَحَّحَهُ ، لِأَنَّ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَقْوَى خُصُوصًا ، وَهُوَ مَانِعٌ فَيُقَدَّمُ عَلَى الْمُبِيحِ .
وَحِينَئِذٍ فَالْمَنْعُ مِنْ خُصُوصِ الطِّيبِ الَّذِي بِهِ فِي قَوْلِهِ " أَمَّا الطِّيبُ الَّذِي بِك " إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ نَهَى عَنْهُ مُطْلَقًا لَا يَقْتَضِي الْمَنْعَ عَنْ كُلِّ طِيبٍ ، وَقَدْ جَاءَ مُصَرَّحًا فِي الْحَدِيثِ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ { قَالَ لَهُ : اخْلَعْ عَنْكَ هَذِهِ الْجُبَّةَ وَاغْسِلْ عَنْكَ هَذَا الزَّعْفَرَانَ } وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْخُصُوصِيَّةِ مَا فِي أَبِي دَاوُد { عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كُنَّا نَخْرُجُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى مَكَّةَ فَنُضَمِّدُ جِبَاهَنَا بِالْمِسْكِ الْمُطَيَّبِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ ، فَإِذَا عَرِقَتْ إحْدَانَا سَالَ عَلَى وَجْهِهَا فَيَرَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَنْهَانَا } وَعَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّ حَدِيثَ الْأَعْرَابِيِّ مَنْسُوخٌ ، لِأَنَّهُ كَانَ فِي عَامِ الْجِعْرَانَةِ وَهُوَ سَنَةُ ثَمَانٍ ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ سَنَةَ عَشْرٍ .
وَرُئِيَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مُحْرِمًا وَعَلَى رَأْسِهِ مِثْلُ الرُّبِّ مِنْ الْغَالِيَةِ .
وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ صُبَيْحٍ : رَأَيْت ابْنَ الزُّبَيْرِ مُحْرِمًا وَفِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ عَنْ الطِّيبِ مَا لَوْ كَانَ لِرَجُلٍ أَعَدَّ مِنْهُ رَأْسَ مَالٍ ، قَالَ الْمُنْذِرِيُّ : وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
قَالَ الْحَازِمِيُّ : وَمَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ : أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَجَدَ رِيحَ طِيبٍ مِنْ مُعَاوِيَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : ارْجِعْ فَاغْسِلْهُ ، فَإِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يَبْلُغْهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَإِلَّا لَرَجَعَ إلَيْهِ ، وَإِذَا لَمْ يَبْلُغْهُ فَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ثُبُوتِهَا أَحَقُّ أَنْ تُتَّبَعَ .
وَحَدِيثُ مُعَاوِيَةَ هَذَا أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ وَزَادَ فِيهِ فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { الْحَاجُّ الشَّعِثُ التَّفِلُ } وَلِلِاخْتِلَافِ اسْتَحَبُّوا أَنْ يُذِيبَ جِرْمَ الْمِسْكِ إذَا تَطَيَّبَ بِهِ بِمَاءِ وَرْدٍ وَنَحْوِهِ ( قَوْلُهُ وَالْمَمْنُوعُ مِنْهُ التَّطَيُّبُ ) لِأَنَّهُ فِعْلُ الْمُكَلَّفِ وَالْأَحْكَامُ إنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِهِ وَلَمْ يَتَطَيَّبْ بَعْدَ الْإِحْرَامِ لَكِنْ هُمْ يَقُولُونَ هَذَا الْمَمْنُوعُ مِنْهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ .
وَهُنَاكَ مَنْعٌ آخَرُ قَبْلَهُ عَنْ التَّطَيُّبِ بِمَا يَبْقَى عَيْنُهُ .
وَحَاصِلُ الْجَوَابِ : مَنْعُ ثُبُوتِ هَذَا الْمَنْعِ ، فَإِنْ قِسْتُمْ عَلَى الثَّوْبِ فَهُوَ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ وُرُودِهِ بِهِ فِي الْبَدَنِ وَلَمْ يَرِدْ فِي الثَّوْبِ فَعَقَلْنَا أَنَّهُ اُعْتُبِرَ فِي الْبَدَنِ تَابِعًا ، وَالْمُتَّصِلُ فِي الثَّوْبِ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ فَلَمْ يُعْتَبَرْ تَبَعًا ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ اسْتِنَانِ الطِّيبِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ حُصُولُ الِارْتِفَاقِ بِهِ حَالَةَ الْمَنْعِ مِنْهُ عَلَى مِثَالِ السَّحُورِ لِلصَّوْمِ إلَّا أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ يَحْصُلُ بِمَا

فِي الْبَدَنِ ، فَيُغْنِي عَنْ تَجْوِيزِهِ فِي الثَّوْبِ إذْ لَمْ يَقْصِدْ كَمَالَ الِارْتِفَاقِ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ لِأَنَّ الْحَاجَّ الشَّعِثُ التَّفِلُ وَقَدْ قِيلَ : يَجُوزُ فِي الثَّوْبِ أَيْضًا عَلَى قَوْلِهِمَا

قَالَ ( وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ لِمَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَلَّى بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ إحْرَامِهِ قَالَ وَقَالَ : اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ فَيَسِّرْهُ لِي وَتَقَبَّلْهُ مِنِّي } ) لِأَنَّ أَدَاءَهَا فِي أَزْمِنَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَأَمَاكِنَ مُتَبَايِنَةٍ فَلَا يُعَرَّى عَنْ الْمَشَقَّةِ عَادَةً فَيَسْأَلُ التَّيْسِيرَ ، وَفِي الصَّلَاةِ لَمْ يَذْكُرْ مِثْلَ هَذَا الدُّعَاءِ لِأَنَّ مُدَّتَهَا يَسِيرَةٌ وَأَدَاءَهَا عَادَةً مُتَيَسِّرٌ .
قَالَ ( ثُمَّ يُلَبِّي عَقِيبَ صَلَاتِهِ ) لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَبَّى فِي دُبُرِ صَلَاتِهِ } .
وَإِنْ لَبَّى بَعْدَمَا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ جَازَ ، وَلَكِنْ الْأَوَّلُ أَفْضَلُ لِمَا رَوَيْنَا

( قَوْلُهُ لِمَا رَوَى جَابِرٌ الْمَعْرُوفُ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي حَدِيثِهِ الطَّوِيلِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِي مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ } ) وَلَمْ يَذْكُرْ عَدَدًا .
لَكِنْ فِي مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَرْكَعُ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ } .
وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ { خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاجًّا ، فَلَمَّا صَلَّى فِي مَسْجِدِهِ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ أَوْجَبَ فِي مَجْلِسِهِ } وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَلَا يُصَلِّيهِمَا فِي الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ ، وَتُجْزِئُ الْمَكْتُوبَةُ عَنْهُمَا كَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ ، وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ رَكِبَ عَلَى رَاحِلَتِهِ } ( قَوْلُهُ وَالْأَوَّلُ أَفْضَلُ ) أَيْ التَّلْبِيَةُ دُبُرَ الصَّلَاةِ ( لِمَا رَوَيْنَا ) مِنْ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَبَّى فِي دُبُرِ صَلَاتِهِ } اعْلَمْ أَنَّهُ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِي إهْلَالِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَرِوَايَاتٌ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَبَّى بَعْدَمَا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ } أَكْثَرُ وَأَصَحُّ .
فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَهَلَّ حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمَةً } وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ { كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إذَا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ وَانْبَعَثَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمَةً أَهَلَّ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ } وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ أَيْضًا { عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُهِلُّ حَتَّى تَنْبَعِثَ بِهِ رَاحِلَتُهُ } مُخْتَصَرًا .
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا وَبِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ

بَاتَ حَتَّى أَصْبَحَ فَلَمَّا رَكِبَ رَاحِلَتَهُ وَاسْتَوَتْ بِهِ أَهَلَّ } وَكَذَا هُوَ ظَاهِرُ حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ الْمُتَقَدِّمِ .
وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا فِي حَدِيثٍ آخَرَ ، وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفِيهِ { ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ ، فَلَمَّا اسْتَوَتْ عَلَى الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ بِالْحَجِّ } فَهَذِهِ تُفِيدُ مَا سَمِعْت .
وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ حَرْبٍ حَدَّثَنَا خُصَيْفٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهَلَّ فِي دُبُرِ الصَّلَاةِ } وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا يُعْرَفُ أَحَدٌ رَوَاهُ غَيْرُ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ حَرْبٍ .
قَالَ فِي الْإِمَامِ .
وَعَبْدُ السَّلَامِ بْنُ حَرْبٍ أَخْرَجَ لَهُ الشَّيْخَانِ وَخُصَيْفٌ .
قَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي كِتَابِ الضُّعَفَاءِ : كَانَ فَقِيهًا صَالِحًا إلَّا أَنَّهُ كَانَ يُخْطِئُ كَثِيرًا .
وَالْإِنْصَافُ فِيهِ قَبُولُ مَا وَافَقَ فِيهِ الْإِثْبَاتَ ، وَتَرَكَ مَا لَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ ، وَأَنَا أَسْتَخِيرُ اللَّهَ فِي إدْخَالِهِ فِي الثِّقَاتِ ، وَلِذَلِكَ احْتَجَّ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَئِمَّتِنَا وَتَرَكَهُ آخَرُونَ .
وَحَاصِلُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْحَدِيثَ حَسَنٌ ، فَإِنْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ جُمِعَ وَإِلَّا تَرَجَّحَ مَا قَبْلَهُ ، وَقَدْ أَمْكَنَ بَلْ وَقَعَ فِيمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ خُصَيْفٍ { عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : عَجِبْتُ لِاخْتِلَافِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إهْلَالِهِ حِينَ أَوْجَبَ ، فَقَالَ إنِّي لَأَعْلَمُ النَّاسِ بِذَلِكَ إنَّمَا كَانَتْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّةٌ وَاحِدَةٌ ، فَمِنْ هُنَاكَ اخْتَلَفُوا .
خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاجًّا فَلَمَّا صَلَّى فِي مَسْجِدِهِ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْهِ أَوْجَبَ فِي مَجْلِسِهِ فَأَهَلَّ بِالْحَجِّ حِينَ فَرَغَ مِنْ رَكْعَتَيْهِ ، فَسَمِعَ ذَلِكَ مِنْهُ أَقْوَامٌ فَحَفِظْتُهُ عَنْهُ

ثُمَّ رَكِبَ ، فَلَمَّا اسْتَقَلَّتْ بِهِ نَاقَتُهُ أَهَلَّ وَأَدْرَكَ ذَلِكَ أَقْوَامٌ وَذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ إنَّمَا كَانُوا يَأْتُونَ أَرْسَالًا فَسَمِعْنَاهُ حِينَ اسْتَقَلَّتْ بِهِ نَاقَتُهُ ، ثُمَّ مَضَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَلَمَّا عَلَا عَلَى شَرَفِ الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ وَأَدْرَكَ ذَلِكَ أَقْوَامٌ فَقَالُوا : إنَّمَا أَهَلَّ حِينَ عَلَا عَلَى شَرَفِ الْبَيْدَاءِ ، وَاَيْمُ اللَّهِ لَقَدْ أَوْجَبَ فِي مُصَلَّاهُ وَأَهَلَّ حِينَ اسْتَقَلَّتْ بِهِ نَاقَتُهُ ، وَأَهَلَّ حِينَ عَلَا عَلَى شَرَفِ الْبَيْدَاءِ } وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ : صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ ا هـ .
وَأَنْتَ عَلِمْتَ مَا فِي ابْنِ إِسْحَاقَ فِي أَوَائِلِ الْكِتَابِ ، وَصَحَّحْنَا تَوْثِيقَهُ ، وَمَا فِي خُصَيْفٍ آنِفًا وَإِنَّمَا جَعَلَهُ الْحَاكِمُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ لِمَا عُرِفَ مِنْ أَنَّ مُسْلِمًا قَدْ يَخْرُجُ عَمَّنْ لَمْ يَسْلَمْ مِنْ غَوَائِلِ الْجُرْحِ .
وَالْحَقُّ أَنَّ الْحَدِيثَ حَسَنٌ فَيَجِبُ اعْتِبَارُهُ وَبِهِ يَقَعُ الْجَمْعُ وَيَزُولُ الْإِشْكَالُ

( فَإِنْ كَانَ مُفْرِدًا بِالْحَجِّ يَنْوِي بِتَلْبِيَتِهِ الْحَجَّ ) لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ( وَالتَّلْبِيَةُ أَنْ يَقُولَ : لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَك لَبَّيْكَ ، إنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَك وَالْمُلْكَ ، لَا شَرِيكَ لَك ) وَقَوْلُهُ إنَّ الْحَمْدَ بِكَسْرِ الْأَلِفِ لَا بِفَتْحِهَا لِيَكُونَ ابْتِدَاءً لَا بِنَاءً إذْ الْفَتْحَةُ صِفَةُ الْأُولَى ، وَهُوَ إجَابَةٌ لِدُعَاءِ الْخَلِيلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ عَلَى مَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي الْقِصَّةِ ( وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخِلَّ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ ) لِأَنَّهُ هُوَ الْمَنْقُولُ بِاتِّفَاقِ الرُّوَاةِ فَلَا يَنْقُصُ عَنْهُ ( وَلَوْ زَادَ فِيهَا جَازَ ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي رِوَايَةِ الرَّبِيعِ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْهُ .
هُوَ اعْتَبَرَهُ بِالْأَذَانِ وَالتَّشَهُّدِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ ذِكْرٌ مَنْظُومٌ .
وَلَنَا أَنَّ أَجِلَّاءَ الصَّحَابَةِ كَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ زَادُوا عَلَى الْمَأْثُورِ ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ الثَّنَاءُ ، وَإِظْهَارُ الْعُبُودِيَّةِ فَلَا يُمْنَعُ مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ .
قَالَ ( وَإِذَا لَبَّى فَقَدْ أَحْرَمَ ) يَعْنِي إذَا نَوَى لِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَتَأَدَّى إلَّا بِالنِّيَّةِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهَا لِتَقْدِيمِ الْإِشَارَةِ إلَيْهَا فِي قَوْلِهِ اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ ( وَلَا يَصِيرُ شَارِعًا فِي الْإِحْرَامِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ مَا لَمْ يَأْتِ بِالتَّلْبِيَةِ ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ عَقَدَ عَلَى الْأَدَاءِ فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرٍ كَمَا فِي تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ ، وَيَصِيرُ شَارِعًا بِذِكْرٍ يَقْصِدُ بِهِ التَّعْظِيمَ سِوَى التَّلْبِيَةِ فَارِسِيَّةً كَانَتْ أَوْ عَرَبِيَّةً ، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى .
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ عَلَى أَصْلِهَا أَنَّ بَابَ الْحَجِّ أَوْسَعُ مِنْ بَابِ الصَّلَاةِ ، حَتَّى يُقَامَ غَيْرُ الذِّكْرِ مَقَامَ الذِّكْرِ كَتَقْلِيدِ الْبُدْنِ فَكَذَا غَيْرُ التَّلْبِيَةِ

وَغَيْرُ الْعَرَبِيَّةِ .

( قَوْلُهُ فَإِنْ كَانَ مُفْرِدًا نَوَى بِتَلْبِيَتِهِ الْحَجَّ ) أَيْ إنْ كَانَ مُفْرِدًا بِالْحَجِّ نَوَاهُ ، لِأَنَّ النِّيَّةَ شَرْطُ الْعِبَادَاتِ ، وَإِنْ ذَكَرَ بِلِسَانِهِ وَقَالَ : نَوَيْت الْحَجَّ وَأَحْرَمْت بِهِ لِلَّهِ تَعَالَى لَبَّيْكَ إلَخْ فَحَسَنٌ لِيَجْتَمِعَ الْقَلْبُ وَاللِّسَانُ ، وَعَلَى قِيَاسِ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي شُرُوطِ الصَّلَاةِ إنَّمَا يَحْسُنُ إذَا لَمْ تَجْتَمِعْ عَزِيمَتُهُ ، فَإِنْ اجْتَمَعَتْ فَلَا ، وَلَمْ نَعْلَمْ الرُّوَاةَ لِنُسُكِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَصْلًا فَصْلًا قَطُّ رَوَى وَاحِدٌ مِنْهُمْ أَنَّهُ سَمِعَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَقُولُ : { نَوَيْتُ الْعُمْرَةَ وَلَا الْحَجَّ } ( قَوْلُهُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ لَا بِفَتْحِهَا ) يَعْنِي فِي الْوَجْهِ الْأَوْجَهِ ، وَأَمَّا فِي الْجَوَازِ فَيَجُوزُ وَالْكَسْرُ عَلَى اسْتِئْنَافِ الثَّنَاءِ وَتَكُونُ التَّلْبِيَةُ لِلذَّاتِ ، وَالْفَتْحُ عَلَى أَنَّهُ تَعْلِيلٌ لِلتَّلْبِيَةِ أَيْ لَبَّيْكَ لِأَنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَك وَالْمُلْكَ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ تَعْلِيقَ الْإِجَابَةِ الَّتِي لَا نِهَايَةَ لَهَا بِالذَّاتِ أَوْلَى مِنْهُ بِاعْتِبَارِ صِفَةٍ .
هَذَا وَإِنْ كَانَ اسْتِئْنَافُ الثَّنَاءِ لَا يَتَعَيَّنُ مَعَ الْكَسْرِ لِجَوَازِ كَوْنِهِ تَعْلِيلًا مُسْتَأْنَفًا كَمَا فِي قَوْلِك عَلِّمْ ابْنَك الْعِلْمَ إنَّ الْعِلْمَ نَافِعُهُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ } وَهَذَا مُقَرَّرٌ فِي مَسَالِكِ الْعِلَّةِ مِنْ عِلْمِ الْأُصُولِ لَكِنْ لَمَّا جَازَ فِيهِ كُلٌّ مِنْهُمَا يُحْمَلُ عَلَى الْأَوَّلِ لِأَوْلَوِيَّتِهِ بِخِلَافِ الْفَتْحِ لَيْسَ فِيهِ سِوَى أَنَّهُ تَعْلِيلٌ .
وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ : إنَّهُ صِفَةُ الْأُولَى يُرِيدُ مُتَعَلِّقًا بِهِ .
وَالْكَلَامُ فِي مَوَاضِعَ .
الْأَوَّلُ : لَفْظُ لَبَّيْكَ وَمَعْنَاهَا لَفْظُهَا مَصْدَرٌ مُثَنَّى تَثْنِيَةً يُرَادُ بِهَا التَّكْثِيرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { ثُمَّ ارْجِعْ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ } أَيْ كَرَّاتٍ كَثِيرَةً وَهُوَ مَلْزُومُ النَّصْبِ كَمَا تَرَى وَالْإِضَافَةُ وَالنَّاصِبُ لَهُ مِنْ غَيْرِ لَفْظِهِ تَقْدِيرُهُ أَجَبْتُك إجَابَةً بَعْدَ

إجَابَةٍ إلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ ، وَكَأَنَّهُ مِنْ أَلَبَّ بِالْمَكَانِ إذَا أَقَامَ بِهِ ، وَيُعْرَفُ بِهَذَا مَعْنَاهَا فَتَكُونُ مَصْدَرًا مَحْذُوفَ الزَّوَائِدِ ، وَالْقِيَاسِيُّ مِنْهُ إلْبَابٌ وَمُفْرَدُ لَبَّيْكَ لَبٌّ .
وَقَدْ حَكَى سِيبَوَيْهِ عَنْ بَعْضِ الْعَرَبِ لَبٌّ عَلَى أَنَّهُ مُفْرَدُ لَبَّيْكَ ، غَيْرَ أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْكَسْرِ لِعَدَمِ تَمَكُّنِهِ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِيهَا .
وَقِيلَ : لَيْسَ هُنَا إضَافَةٌ وَالْكَافُ حَرْفُ خِطَابٍ ، وَإِنَّمَا حُذِفَتْ النُّونُ لِشِبْهِ الْإِضَافَةِ .
وَقِيلَ : مُضَافٌ إلَّا أَنَّهُ اسْمٌ مُفْرَدٌ وَأَصْلُهُ لَبَّى قُلِبَتْ أَلِفُهُ يَاءً لِلْإِضَافَةِ إلَى الضَّمِيرِ كَأَلِفِ عَلَيْك الَّذِي هُوَ اسْمُ فِعْلٍ ، وَأَلِفِ لَدَى فَرَدَّهُ سِيبَوَيْهِ ، بِقَوْلِ الشَّاعِرِ : دَعَوْت لِمَا نَابَنِي مِسْوَرًا فَلَبَّى فَلَبَّيْ يَدَيْ مِسْوَرِ حَيْثُ ثَبَتَتْ الْيَاءُ مَعَ كَوْنِ الْإِضَافَةِ إلَى ظَاهِرٍ .
الثَّانِي : أَنَّهَا إجَابَةٌ فَقِيلَ لِدُعَاءِ الْخَلِيلِ عَلَى مَا أَخْرَجَ الْحَاكِمُ عَنْ جَرِيرٍ عَنْ قَابُوسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ { لَمَّا فَرَغَ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ بِنَاءِ الْبَيْتِ قَالَ : رَبِّ قَدْ فَرَغْتُ .
فَقَالَ : أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ .
قَالَ : رَبِّ وَمَا يَبْلُغُ صَوْتِي ؟ قَالَ : أَذِّنْ وَعَلَيَّ الْبَلَاغُ .
قَالَ : رَبِّ كَيْفَ أَقُولُ ؟ قَالَ : قُلْ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْحَجُّ ، حَجُّ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ، فَسَمِعَهُ مَنْ بَيْنِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يَجِيئُونَ مِنْ أَقْصَى الْأَرْضِ يُلَبُّونَ } وَقَالَ : صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ ، وَأَخْرَجَهُ غَيْرُهُ بِأَلْفَاظٍ تَزِيدُ وَتَنْقُصُ .
وَأَخْرَجَ الْأَزْرَقِيُّ فِي تَارِيخِ مَكَّةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ : { لَمَّا أُمِرَ إبْرَاهِيمُ أَنْ يُؤَذِّنَ فِي النَّاسِ قَامَ عَلَى الْمَقَامِ فَارْتَفَعَ الْمَقَامَ حَتَّى أَشْرَفَ عَلَى مَا تَحْتَهُ } الْحَدِيثَ .
وَأَخْرَجَ عَنْ مُجَاهِدٍ { قَامَ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى هَذَا

الْمَقَامِ فَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَجِيبُوا رَبَّكُمْ فَقَالُوا : لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ .
قَالَ : فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ الْيَوْمَ فَهُوَ مِمَّنْ أَجَابَ إبْرَاهِيمَ يَوْمَئِذٍ } ( قَوْلُهُ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَنْقُولُ بِاتِّفَاقِ الرُّوَاةِ ) قِيلَ : لَا اتِّفَاقَ بَيْنَهُمْ .
فَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ التَّلْبِيَةِ عَنْ { عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ إنِّي لَأَعْلَمُ كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُلَبِّي : لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ ، إنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَلَمْ تَذْكُرْ مَا بَعْدَهُ } وَأَخْرَجَ النَّسَائِيّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ مِثْلَهُ .
وَأَمَّا التَّلْبِيَةُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ فَهُوَ فِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ " وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَزِيدُ فِيهَا لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ ، وَالْخَيْرُ بِيَدَيْك وَالرَّغْبَاءُ إلَيْك وَالْعَمَلُ " ( قَوْلُهُ أَنَّ أَجِلَّاءَ الصَّحَابَةِ كَابْنِ مَسْعُودٍ إلَخْ ) ذَكَرْنَا زِيَادَةَ ابْنِ عُمَرَ آنِفًا وَأَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ أَيْضًا .
وَزِيَادَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي مُسْنَدِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ فِي حَدِيثٍ فِيهِ طُولٌ وَفِي آخِرِهِ وَزَادَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي تَلْبِيَتِهِ " فَقَالَ : لَبَّيْكَ عَدَدَ التُّرَابِ " وَمَا سَمِعْته قَبْلَ ذَلِكَ وَلَا بَعْدَهُ ، وَزِيَادَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِهَا ، وَإِنَّمَا أَخْرَجَ النَّسَائِيّ عَنْهُ قَالَ { كَانَ مِنْ تَلْبِيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَبَّيْكَ إلَهَ الْخَلْقِ لَبَّيْكَ } وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ .
وَرَوَى ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ أَبِي مُسْلِمٍ قَالَ " سَمِعْت الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَزِيدُ فِي التَّلْبِيَةِ لَبَّيْكَ ذَا النَّعْمَاءِ وَالْفَضْلِ الْحَسَنِ " وَأَسْنَدَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ مُجَاهِدٍ مُرْسَلًا { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُظْهِرُ مِنْ التَّلْبِيَةِ لَبَّيْكَ } وَسَاقَ

الْمَشْهُورَ .
قَالَ { حَتَّى إذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ وَالنَّاسُ يُصْرَفُونَ عَنْهُ كَأَنَّهُ أَعْجَبَهُ مَا هُوَ فِيهِ فَزَادَ فِيهَا لَبَّيْكَ ، إنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الْآخِرَةِ } قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ : وَحَسِبْت أَنَّ ذَلِكَ يَوْمُ عَرَفَةَ .
وَتَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ مَا يُفِيدُ أَنَّهُمْ زَادُوا بِمَسْمَعٍ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ شَيْئًا .
وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْهُ قَالَ { أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ تَلْبِيَتَهُ الْمَشْهُورَةَ وَقَالَ : وَالنَّاسُ يَزِيدُونَ لَبَّيْكَ ذَا الْمَعَارِجِ وَنَحْوَهُ مِنْ الْكَلَامِ .
وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْمَعُ فَلَا يَقُولُ لَهُمْ شَيْئًا } فَقَدْ صَرَّحَ بِتَقْرِيرِهِ وَهُوَ أَحَدُ الْأَدِلَّةِ ، بِخِلَافِ التَّشَهُّدِ لِأَنَّهُ فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ ، وَالصَّلَاةُ يَتَقَيَّدُ فِيهَا بِالْوَارِدِ لِأَنَّهَا لَمْ تُجْعَلْ شَرْعًا كَحَالَةِ عَدَمِهَا ، وَلِذَا قُلْنَا يُكْرَهُ تَكْرَارُهُ بِعَيْنِهِ حَتَّى إذَا كَانَ التَّشَهُّدُ الثَّانِي قُلْنَا لَا تُكْرَهُ الزِّيَادَةُ بِالْمَأْثُورِ لِأَنَّهُ أُطْلِقَ فِيهِ مِنْ قِبَلِ الشَّارِعِ نَظَرًا إلَى فَرَاغِ أَعْمَالِهَا ( قَوْلُهُ وَإِذَا لَبَّى فَقَدْ أَحْرَمَ ) لَمْ يُعْتَبَرْ مَفْهُومُهُ الْمُخَالِفِ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْقَاعِدَةُ مِنْ اعْتِبَارِهِ فِي رِوَايَةِ الْفِقْهِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُحْرِمًا بِكُلِّ ثَنَاءٍ وَتَسْبِيحٍ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ إنْ كَانَ يُحْسِنُ التَّلْبِيَةَ وَلَوْ بِالْفَارِسِيَّةِ وَإِنْ كَانَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ .
وَالْفَرْقُ لَهُمَا بَيْنَ افْتِتَاحِ الْإِحْرَامِ وَافْتِتَاحِ الصَّلَاةِ مَذْكُورٌ فِي الْكِتَابِ ، وَالْأَخْرَسُ يُحَرِّكُ لِسَانَهُ مَعَ النِّيَّةِ ، وَفِي الْمُحِيطِ : تَحْرِيكُ لِسَانِهِ مُسْتَحَبٌّ كَمَا فِي الصَّلَاةِ ، وَظَاهِرُ كَلَامِ غَيْرِهِ أَنَّهُ شَرْطٌ ، وَنَصَّ مُحَمَّدٌ عَلَى أَنَّهُ شَرْطٌ .
وَأَمَّا فِي حَقِّ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ ، وَالْأَصَحُّ لَا يَلْزَمُهُ التَّحْرِيكُ ( قَوْلُهُ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهَا لِتَقَدُّمِ

الْإِشَارَةِ إلَيْهَا فِي قَوْلِهِ اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ ) قَدْ يُقَالُ : لَا حَاجَةَ إلَى اسْتِنْبَاطِ هَذِهِ الْإِشَارَةِ الْخَفِيَّةِ بَلْ قَدْ ذَكَرَهَا نَصًّا ، فَإِنَّ نَظْمَ الْكِتَابِ هَكَذَا : ثُمَّ يُلَبِّي عَقِيبَ صَلَاتِهِ فَإِنْ كَانَ مُفْرِدًا نَوَى بِتَلْبِيَتِهِ الْحَجَّ ثُمَّ ذَكَرَ صُورَةَ التَّلْبِيَةِ .
ثُمَّ قَالَ : فَإِذَا لَبَّى فَقَدْ أَحْرَمَ فَلَا يُشْكَلُ أَنَّ الْمَفْهُومَ إذَا لَبَّى التَّلْبِيَةَ الْمَذْكُورَةَ وَهِيَ الْمَقْرُونَةُ بِنِيَّةِ الْحَجِّ فَقَدْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ .
ثُمَّ لَا يُسْتَفَادُ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ سِوَى أَنَّهُ عِنْدَ النِّيَّةِ وَالتَّلْبِيَةِ يَصِيرُ مُحْرِمًا ، أَمَّا أَنَّ الْإِحْرَامَ بِهِمَا أَوْ بِأَحَدِهِمَا بِشَرْطِ ذِكْرِ الْآخِرَةِ فَلَا .
وَذَكَرَ حُسَامُ الدِّينِ الشَّهِيدُ : أَنَّهُ يَصِيرُ شَارِعًا بِالنِّيَّةِ لَكِنْ عِنْدَ التَّلْبِيَةِ كَمَا فِي الصَّلَاةِ بِالنِّيَّةِ لَكِنْ عِنْدَ التَّكْبِيرِ ، ثُمَّ لَمْ يَذْكُرْ سِوَى أَنَّ بِنِيَّةِ مُطْلَقِ الْحَجِّ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ الْفَرْضِ وَلَا النَّفْلِ يَصِيرُ شَارِعًا فِي الْحَجِّ .
وَكَانَ مِنْ الْمُهِمِّ ذِكْرُ أَنَّهُ هَلْ يَسْقُطُ بِذَلِكَ فَرِيضَةُ الْحَجِّ أَمْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ التَّعْيِينِ .
وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يَسْقُطُ الْفَرْضُ بِإِطْلَاقِ نِيَّةِ الْحَجِّ بِخِلَافِ تَعْيِينِ النِّيَّةِ لِلنَّفْلِ ، فَإِنَّهُ يَكُونُ نَفْلًا وَإِنْ كَانَ لَمْ يَحُجَّ الْفَرْضَ بَعْدُ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ : إذَا نَوَى النَّفَلَ وَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ يَقَعُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ لِمَا رُوِيَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سَمِعَ شَخْصًا يَقُولُ : لَبَّيْكَ عَنْ شُبْرُمَةَ فَقَالَ : أَحَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ أَوْ مَعْنَاهُ ؟ قَالَ : لَا ، قَالَ : حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ ثُمَّ عَنْ شُبْرُمَةَ } .
قُلْنَا : غَايَةُ مَا يُفِيدُ وُجُوبَ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ ، وَمُقْتَضَاهُ ثُبُوتُ الْإِثْمِ بِتَرْكِهِ لَا تُحَوِّلُهُ بِنَفْسِهِ إلَى غَيْرِ الْمَنْوِيِّ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إلَيْهِ ، فَالْقَوْلُ بِهِ إثْبَاتٌ بِلَا دَلِيلٍ ، بِخِلَافِ قَوْلِنَا مِثْلَهُ فِي رَمَضَانَ ، لِأَنَّ رَمَضَانَ حُكْمُهُ تَعْيِينُ

الْمَشْرُوعِ فِيهِ فَيَحْتَاجُ بَعْدَ هَذَا إلَى مُطْلَقِ نِيَّةِ الصَّوْمِ لِتَتَمَيَّزَ الْعِبَادَةُ عَنْ الْعَادَةِ ، فَإِذَا وُجِدَتْ انْصَرَفَ إلَى الْمَشْرُوعِ فِي الْوَقْتِ ، بِخِلَافِ وَقْتِ الْحَجِّ لَمْ يَتَمَحَّضْ لِلْحَجِّ كَوَقْتِ الصَّوْمِ لِمَا عُرِفَ بَلْ يُشْبِهُهُ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ ، فَلِلْمُشَابَهَةِ جَازَ عَنْ الْفَرْضِ بِالْإِطْلَاقِ وَلِأَنَّهُ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْمُسْلِمِ خُصُوصًا فِي مِثْلِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ الْمُشِقِّ تَحْصِيلُهَا وَالْمُطْلَقُ يَحْتَمِلُ كُلًّا مِنْ الْخُصُوصِيَّاتِ فَصَرَفْنَاهُ إلَى بَعْضِ مُحْتَمَلَاتِهِ بِدَلَالَةِ الْحَالِ ، وَلِلْمُفَارَقَةِ لَمْ يَجُزْ عَنْ الْفَرْضِ بِتَعْيِينِ النَّفْلِ ، وَأَيْضًا فَالدَّلَالَةُ تُعَبِّرُ عِنْدَ عَدَمِ مُعَارَضَةِ الصَّرِيحِ ، وَالْمُعَارَضَةُ ثَابِتَةٌ حَيْثُ صَرَّحَ بِالضِّدِّ وَهُوَ النَّفَلُ بِخِلَافِ صُورَةِ الْإِطْلَاقِ إذَا لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْأَخَصِّ وَالْأَعَمِّ .
[ فُرُوعٌ ] إذَا أَبْهَمَ الْإِحْرَامَ بِأَنْ لَمْ يُعَيِّنْ مَا أَحْرَمَ بِهِ جَازَ ، وَعَلَيْهِ التَّعْيِينُ قَبْلَ أَنْ يَشْرَعَ فِي الْأَفْعَالِ ، وَالْأَصْلُ حَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { حِينَ قَدِمَ مِنْ الْيَمَنِ فَقَالَ أَهْلَلْتُ بِمَا أَهَلَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } فَأَجَازَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْحَدِيثُ مَرَّ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ ، فَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ حَتَّى طَافَ شَوْطًا وَاحِدًا كَانَ إحْرَامُهُ لِلْعُمْرَةِ وَكَذَا إذَا أُحْصِرَ قَبْلَ الْأَفْعَالِ وَالتَّعْيِينِ فَتَحَلَّلَ بِدَمٍ تَعَيَّنَ لِلْعُمْرَةِ حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا لَا قَضَاءُ حَجِّهِ ، وَكَذَا إذَا جَامَعَ فَأَفْسَدَ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْمُضِيُّ فِي الْفَاسِدِ فَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْمُضِيُّ فِي عُمْرَةٍ ، وَلَوْ أَحْرَمَ مُبْهِمًا ثُمَّ أَحْرَمَ ثَانِيًا بِحَجَّةٍ فَالْأَوَّلُ لِعُمْرَةٍ أَوْ بِعُمْرَةٍ فَالْأَوَّلُ لِحَجَّةٍ ، وَلَوْ لَمْ يَنْوِ بِالثَّانِي أَيْضًا شَيْئًا كَانَ قَارِنًا ، وَإِنْ عَيَّنَ شَيْئًا وَنَسِيَهُ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ احْتِيَاطًا لِيَخْرُجَ عَنْ الْعُهْدَةِ بِيَقِينٍ ، وَلَا يَكُونُ

قَارِنًا ، فَإِنْ أُحْصِرَ تَحَلَّلَ بِدَمٍ وَاحِدٍ وَيَقْضِي حَجَّةً وَعُمْرَةً ، وَإِنْ جَامَعَ مَضَى فِيهِمَا وَيَقْضِيهِمَا إنْ شَاءَ جَمَعَ ، وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ ، وَإِنْ أَحْرَمَ بِشَيْئَيْنِ وَنَسِيَهُمَا لَزِمَهُ فِي الْقِيَاسِ حَجَّتَانِ وَعُمْرَتَانِ .
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ حَمْلًا لِأَمْرِهِ عَلَى الْمَسْنُونِ وَالْمَعْرُوفِ وَهُوَ الْقُرْآنُ ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَهُ إذْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ إحْرَامَهُ كَانَ بِشَيْئَيْنِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : خَرَجَ يُرِيدُ الْحَجَّ فَأَحْرَمَ لَا يَنْوِي شَيْئًا فَهُوَ حَجٌّ بِنَاءً عَلَى جَوَازِ أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ بِنِيَّةٍ سَابِقَةٍ ، وَلَوْ أَحْرَمَ نَذْرًا وَنَفْلًا كَانَ نَفْلًا أَوْ نَوَى فَرْضًا وَتَطَوُّعًا كَانَ تَطَوُّعًا عِنْدَهُ وَكَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فِي الْأَصَحِّ ، وَلَوْ لَبَّى بِالْحَجِّ وَهُوَ يُرِيدُ الْعُمْرَةَ أَوْ عَلَى الْقَلْبِ فَهُوَ مُحْرِمٌ بِمَا نَوَى لَا بِمَا جَرَى عَلَى لِسَانِهِ ، وَلَوْ لَبَّى بِحَجَّةٍ وَهُوَ يُرِيدُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ كَانَ قَارِنًا ( قَوْلُهُ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ) فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ كَقَوْلِهِ قِيَاسًا عَلَى الصَّوْمِ بِجَامِعِ أَنَّهَا عِبَادَةُ كَفٍّ عَنْ الْمَحْظُورَاتِ فَتَكْفِي النِّيَّةُ لِالْتِزَامِهَا .
وَقِسْنَا نَحْنُ عَلَى الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ الْتِزَامُ أَفْعَالٍ لَا مُجَرَّدُ كَفٍّ بَلْ الْتِزَامُ الْكَفِّ شَرْطٌ فَكَانَ بِالصَّلَاةِ أَشْبَهَ ، فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرٍ يُفْتَتَحُ بِهِ أَوْ بِمَا يَقُومُ مَقَامَهُ مِمَّا هُوَ مِنْ خُصُوصِيَّاتِهِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْله تَعَالَى { فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ } قَالَ : فَرْضُ الْحَجِّ الْإِهْلَالُ ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : التَّلْبِيَةُ .
وَقَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : الْإِحْرَامُ لَا يُنَافِي قَوْلَهُمَا كَيْفَ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ التَّلْبِيَةُ ، كَقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، وَعَنْ عَائِشَةَ " لَا إحْرَامَ إلَّا لِمَنْ أَهَلَّ أَوْ لَبَّى "

إلَّا أَنَّ مُقْتَضَى بَعْضِ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ تَعْيِينُ التَّلْبِيَةِ حَتَّى لَا يَصِيرَ مُحْرِمًا بِتَقْلِيدِ الْهَدْيِ وَهُوَ الْقَوْلُ الْأَخِيرُ لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، لَكِنْ ثَمَّةَ آثَارٌ أُخَرُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ بِهِ مَعَ النِّيَّةِ يَصِيرُ مُحْرِمًا تَأْتِي فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، فَالِاسْتِدْلَالُ بِهَذِهِ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ الِاكْتِفَاءِ بِالنِّيَّةِ صَحِيحٌ ، ثُمَّ إذَا لَبَّى صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ الْمُعَلِّمِ لِلْخَيْرَاتِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَعَا بِمَا شَاءَ ، لِمَا رُوِيَ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ : يُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ التَّلْبِيَةِ .
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ .
وَيُسْتَحَبُّ فِي التَّلْبِيَةِ كُلِّهَا رَفْعُ الصَّوْتِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَبْلُغَ الْجَهْدُ فِي ذَلِكَ كَيْ لَا يَضْعُفُ ، وَالصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَهَا إلَّا أَنَّهُ يَخْفِضُ صَوْتَهُ إذَا صَلَّى عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَعَنْ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَانَ إذَا فَرَغَ مِنْ التَّلْبِيَةِ سَأَلَ رِضْوَانَهُ وَالْجَنَّةَ وَاسْتَعَاذَ بِرَحْمَتِهِ مِنْ النَّارِ } رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ .
وَاسْتَحَبَّ بَعْضُهُمْ أَنْ يَقُولَ بَعْدَهَا : اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى أَدَاءِ فَرْضِ الْحَجِّ وَتَقَبَّلْهُ مِنِّي ، وَاجْعَلْنِي مِنْ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لَك وَآمَنُوا بِوَعْدِك وَاتَّبَعُوا أَمْرَك وَاجْعَلْنِي مِنْ وَفْدِك الَّذِينَ رَضِيت عَنْهُمْ ، اللَّهُمَّ قَدْ أَحْرَمَ لَك شَعْرِي وَبَشَرِي وَدَمِي وَمُخِّي وَعِظَامِي

قَالَ ( وَيَتَّقِي مَا نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مِنْ الرَّفَثِ وَالْفُسُوقِ وَالْجِدَالِ ) وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى { فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } فَهَذَا نَهْيٌ بِصِيغَةِ النَّفْيِ وَالرَّفَثُ الْجِمَاعُ أَوْ الْكَلَامُ الْفَاحِشُ ، أَوْ ذِكْرُ الْجِمَاعِ بِحَضْرَةِ النِّسَاءِ وَالْفُسُوقُ الْمَعَاصِي وَهُوَ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ أَشَدُّ حُرْمَةً ، وَالْجِدَالُ أَنْ يُجَادِلَ رَفِيقَهُ ، وَقِيلَ : مُجَادَلَةُ الْمُشْرِكِينَ فِي تَقْدِيمِ وَقْتِ الْحَجِّ وَتَأْخِيرِهِ
( قَوْلُهُ وَالرَّفَثُ الْجِمَاعُ ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلَى نِسَائِكُمْ } ( أَوْ ذِكْرُ الْجِمَاعِ ) وَدَوَاعِيهِ ( بِحَضْرَةِ النِّسَاءِ ) فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِحَضْرَتِهِنَّ لَا يَكُونُ رَفَثًا ، وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنْشَدَ : وَهُنَّ يَمْشِينَ بِنَا هَمِيسًا إنْ يَصْدُقْ الطَّيْرُ نَنِكْ لَمِيسَا فَقِيلَ لَهُ : أَتَرْفُثُ وَأَنْتَ مُحْرِمٌ ؟ فَقَالَ : إنَّمَا الرَّفَثُ بِحَضْرَةِ النِّسَاءِ .
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : كُنَّا نُنْشِدُ الْأَشْعَارَ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ فَقِيلَ لَهُ : مَاذَا ؟ فَقَالَ مِثْلَ قَوْلِ الْقَائِلِ : قَامَتْ تُرِيك رَهْبَةً أَنْ تَهْضِمَا سَاقًا بَخَنْدَاةً وَكَعْبًا أَدْرَمَا وَالْبَخَنْدَاةُ مِنْ النِّسَاءِ التَّامَّةُ ، وَالدَّرْمُ فِي الْكَعْبِ أَنْ يُوَارِيَهُ اللَّحْمُ فَلَا يَكُونُ لَهُ نُتُوءٌ ظَاهِرٌ ( قَوْلُهُ وَهِيَ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ أَشَدُّ ) فَإِنَّهَا حَالَةٌ يَحْرُمُ فِيهَا كَثِيرٌ مِنْ الْمُبَاحَاتِ الْمُقَوِّيَةِ لِلنَّفْسِ فَكَيْفَ بِالْمُحَرَّمَاتِ الْأَصْلِيَّةِ ( قَوْلُهُ وَالْجِدَالُ أَنْ يُجَادِلَ رَفِيقَهُ ) وَهُوَ الْمُنَازَعَةُ وَالسِّبَابُ ، وَقِيلَ : جِدَالُ الْمُشْرِكِينَ فِي تَقْدِيمِ الْحَجِّ وَتَأْخِيرِهِ .
وَقِيلَ : التَّفَاخُرُ بِذِكْرِ آبَائِهِمْ حَتَّى رُبَّمَا أَفْضَى إلَى الْحَرْبِ

( وَلَا يَقْتُلُ صَيْدًا ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } ( وَلَا يُشِيرُ إلَيْهِ وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ) لِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّهُ أَصَابَ حِمَارَ وَحْشٍ وَهُوَ حَلَالٌ وَأَصْحَابُهُ مُحْرِمُونَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَصْحَابِهِ : هَلْ أَشَرْتُمْ ؟ هَلْ دَلَلْتُمْ ؟ هَلْ أَعَنْتُمْ ؟ فَقَالُوا : لَا ، فَقَالَ : إذًا فَكُلُوا } وَلِأَنَّهُ إزَالَة الْأَمْنِ عَنْ الصَّيْدِ لِأَنَّهُ آمِنٌ بِتَوَحُّشِهِ وَبُعْدِهِ عَنْ الْأَعْيُنِ

( قَوْلُهُ وَلَا يَقْتُلُ صَيْدًا إلَخْ ) يَحْرُمُ بِالْإِحْرَامِ أُمُورٌ : الْأَوَّلُ الْجِمَاعُ وَدَوَاعِيهِ الثَّانِي : إزَالَةُ الشَّعْرِ كَيْفَمَا كَانَ حَلْقًا وَقَصًّا وَتَنَوُّرًا مِنْ أَيِّ مَكَان كَانَ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ وَالْإِبْطِ وَالْعَانَةِ وَغَيْرِهَا ، الثَّالِثُ : لُبْسُ الْمَخِيطِ عَلَى وَجْهِ لُبْسِ الْمَخِيطِ إلَّا الْمُكَعَّبَ فَيَدْخُلُ الْخُفُّ وَيَخْرُجُ الْقَمِيصُ إذَا اتَّشَحَ بِهِ عَلَى مَا سَيَأْتِي .
الرَّابِعُ : التَّطَيُّبُ .
الْخَامِسُ : قَلْمُ الْأَظْفَارِ .
السَّادِسُ : الِاصْطِيَادُ فِي الْبَرِّ لِمَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَمَا لَا يُؤْكَلُ .
السَّابِعُ : الِادِّهَانُ عَلَى مَا يُذْكَرُ مِنْ تَفْصِيلِهِ ( قَوْلُهُ لِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ ) أَخْرَجَ السِّتَّةُ فِي كُتُبِهِمْ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّهُمْ كَانُوا فِي مَسِيرٍ لَهُمْ بَعْضُهُمْ مُحْرِمٌ ، وَبَعْضُهُمْ لَيْسَ بِمُحْرِمٍ ، قَالَ أَبُو قَتَادَةَ : فَرَأَيْتُ حِمَارَ وَحْشٍ فَرَكِبْتُ فَرَسِي وَأَخَذْتُ الرُّمْحَ فَاسْتَعَنْتُهُمْ فَأَبَوْا أَنْ يُعِينُونِي ، فَاخْتَلَسْتُ سَوْطًا مِنْ بَعْضِهِمْ وَشَدَدْتُ عَلَى الْحِمَارِ فَأَصَبْتُهُ فَأَكَلُوا مِنْهُ وَاسْتَبَقُوا .
قَالَ : فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَمِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا أَوْ أَشَارَ إلَيْهَا ؟ قَالُوا لَا ، قَالَ : فَكُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا } وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ { هَلْ أَشَرْتُمْ هَلْ أَعَنْتُمْ ؟ قَالُوا لَا ، قَالَ : فَكُلُوا } وَفِيهِ دَلَالَةٌ نَذْكُرُهَا فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى

قَالَ ( وَلَا يَلْبَسُ قَمِيصًا وَلَا سَرَاوِيلَ وَلَا عِمَامَةً وَلَا خُفَّيْنِ إلَّا أَنْ لَا يَجِدَ نَعْلَيْنِ فَيَقْطَعُهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ ) لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { نَهَى أَنْ يَلْبَسَ الْمُحْرِمَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ } وَقَالَ فِي آخِرِهِ { وَلَا خُفَّيْنِ إلَّا أَنْ لَا يَجِدَ نَعْلَيْنِ فَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ } وَالْكَعْبُ هُنَا الْمِفْصَلُ الَّذِي فِي وَسَطِ الْقَدَمِ عِنْدَ مَعْقِدِ الشِّرَاكِ دُونَ النَّاتِئِ فِيمَا رَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ .

( قَوْلُهُ لِمَا رُوِيَ ) أَخْرَجَ السِّتَّةُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { قَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تَأْمُرُنَا أَنْ نَلْبَسَ مِنْ الثِّيَابِ فِي الْإِحْرَامِ ؟ قَالَ : لَا تَلْبَسُوا الْقُمُصَ وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ وَلَا الْعَمَائِمَ وَلَا الْبَرَانِسَ وَلَا الْخِفَافَ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ لَيْسَ لَهُ نَعْلَانِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ ، وَلْيَقْطَعْ أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ وَلَا تَلْبَسُوا شَيْئًا مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ وَلَا وَرْسٌ } زَادُوا إلَّا مُسْلِمًا وَابْنَ مَاجَهْ { وَلَا تَنْتَقِبُ الْمَرْأَةُ الْحَرَامُ وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ } قِيلَ : قَوْلُهُ وَلَا تَنْتَقِبُ الْمَرْأَةُ الْحَرَامُ مَدْرَجٌ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا .
وَدُفِعَ بِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ وَكَأَنَّهُ نَظَرَ إلَى الِاخْتِلَافِ فِي رَفْعِهِ وَوَقْفِهِ فَإِنَّ بَعْضَهُمْ رَوَاهُ مَوْقُوفًا لَكِنَّهُ غَيْرُ قَادِحٍ ، إذْ قَدْ يُفْتِي الرَّاوِي بِمَا يَرْوِيهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسْنِدَهُ أَحْيَانًا مَعَ أَنَّ هُنَا قَرِينَةً عَلَى الرَّفْعِ ، وَهِيَ أَنَّهُ وَرَدَ إفْرَادُ النَّهْيِ عَنْ النِّقَابِ مِنْ رِوَايَةِ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا .
أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { الْمُحْرِمَةُ لَا تَنْتَقِبُ وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ } وَلِأَنَّهُ قَدْ جَاءَ النَّهْيُ عَنْهُمَا فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ .
أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ أَيْضًا أَنَّهُ سَمِعَ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى النِّسَاءَ فِي إحْرَامِهِنَّ عَنْ الْقُفَّازَيْنِ وَالنِّقَابِ وَمَا مَسَّ الْوَرْسُ وَالزَّعْفَرَانُ مِنْ الثِّيَابِ ، وَلْتَلْبَسْ بَعْدَ ذَلِكَ مَا شَاءَتْ مِنْ أَلْوَانِ الثِّيَابِ مِنْ مُعَصْفَرٍ أَوْ خَزٍّ أَوْ سَرَاوِيلَ أَوْ حُلِيٍّ أَوْ قَمِيصٍ أَوْ خُفٍّ } قَالَ الْمُنْذِرِيُّ : رِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحَيْنِ مَا خَلَا ابْنَ إِسْحَاقَ ا هـ .
وَأَنْتَ عَلِمْت أَنَّ ابْنَ إِسْحَاقَ حُجَّةٌ ( قَوْلُهُ وَالْكَعْبُ هُنَا ) قُيِّدَ بِالظُّرُوفِ لِأَنَّهُ فِي الطَّهَارَةِ يُرَادُ بِهِ الْعَظْمُ النَّاتِئُ وَلَمْ

يُذْكَرْ هَذَا فِي الْحَدِيثِ لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْكَعْبُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ وَعَلَى النَّاتِئِ حُمِلَ عَلَيْهِ احْتِيَاطًا وَعَنْ هَذَا قَالَ الْمَشَايِخُ : يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ لُبْسُ الْمُكَعَّبِ لِأَنَّ الْبَاقِيَ مِنْ الْخَلْفِ بَعْدَ الْقَطْعِ كَذَلِكَ مُكَعَّبٌ ، وَلَا يَلْبَسُ الْجَوْرَبَيْنِ وَلَا الْبُرْنُسَ ، لَكِنَّهُمْ أَطْلَقُوا جَوَازَ لُبْسِهِ ، وَمُقْتَضَى الْمَذْكُورِ فِي النَّصِّ أَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ

قَالَ ( وَلَا يُغَطِّي وَجْهَهُ وَلَا رَأْسَهُ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : يَجُوزُ لِلرَّجُلِ تَغْطِيَةُ الْوَجْهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إحْرَامُ الرَّجُلِ فِي رَأْسِهِ وَإِحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا } .
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تُخَمِّرُوا وَجْهَهُ وَلَا رَأْسَهُ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا } قَالَهُ فِي مُحْرِمٍ تُوُفِّيَ وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُغَطِّي وَجْهَهَا مَعَ أَنَّ فِي الْكَشْفِ فِتْنَةٌ فَالرَّجُلُ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى .
وَفَائِدَةُ مَا رُوِيَ الْفَرْقُ فِي تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ .

( قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إحْرَامُ الرَّجُلِ فِي رَأْسِهِ وَإِحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا } ) رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عُمَرَ ، وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ عِنْدَنَا حُجَّةٌ إذَا لَمْ يُخَالِفْ وَخُصُوصًا فِيمَا لَمْ يُدْرَكْ بِالرَّأْيِ .
وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا بِمَا أَسْنَدَهُ مِنْ حَدِيثِ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي حُرَّةَ عَنْ سَعِيدِ بْن جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الَّذِي وُقِصَ : خَمِّرُوا وَجْهَهُ وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ } .
وَإِبْرَاهِيمُ هَذَا وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَأَحْمَدُ وَأَبُو حَاتِمٍ .
وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْعِلَلِ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُخَمِّرُ وَجْهَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ } قَالَ : وَالصَّوَابُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ ، وَرَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ : أَخْبَرَنِي الْفُرَافِصَةُ بْنُ عُمَيْرٍ الْحَنَفِيُّ أَنَّهُ رَأَى عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْعَرَجِ يُغَطِّي وَجْهَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ .
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيمَا أَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ رَجُلًا وَقَصَتْهُ رَاحِلَتُهُ } ، وَفِي رِوَايَةٍ : { فَأَقْعَصَتْهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَمَاتَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَكَفِّنُوهُ وَلَا تُمِسُّوهُ طِيبًا وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ وَلَا وَجْهَهُ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا } أَفَادَ أَنَّ لِلْإِحْرَامِ أَثَرًا فِي عَدَمِ تَغْطِيَةِ الْوَجْهِ وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُنَا قَالُوا لَوْ مَاتَ الْمُحْرِمُ يُغَطَّى وَجْهُهُ لِدَلِيلٍ آخَرَ نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَرَوَاهُ الْبَاقُونَ وَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ الْوَجْهَ ، فَلِذَا قَالَ الْحَاكِمُ : فِيهِ تَصْحِيفٌ

فَإِنَّ الثِّقَاتِ مِنْ أَصْحَابِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَلَى رِوَايَتِهِ عَنْهُ { وَلَا تُغَطُّوا رَأْسَهُ } وَهُوَ الْمَحْفُوظُ .
وَدُفِعَ بِأَنَّ الرُّجُوعَ إلَى مُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيُّ أَوْلَى مِنْهُ إلَى الْحَاكِمِ ، فَإِنَّهُ كَانَ يَهِمُ رَحِمَهُ اللَّهُ كَثِيرًا ، وَكَيْفَ يَقَعُ التَّصْحِيفُ وَلَا مُشَابَهَةَ بَيْنَ حُرُوفِ الْكَلِمَتَيْنِ ، ثُمَّ مُقْتَضَاهُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى ذِكْرِ الرَّأْسِ وَهِيَ رِوَايَةٌ فِي مُسْلِمٍ ، لَكِنْ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى جَمَعَ بَيْنَهُمَا فَتَكُونُ تِلْكَ اقْتِصَارًا مِنْ الرَّاوِي ، فَيُقَدَّمُ عَلَى مُعَارَضِهِ مَنْ مُرْوِيٍّ الشَّافِعِيِّ ، لِأَنَّهُ أَثْبَتُ سَنَدًا ، وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ : لَا بَأْسَ بِأَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى أَنْفِهِ ، وَلَا يُغَطِّيَ فَاهُ وَلَا ذَقَنَهُ وَلَا عَارِضَهُ ، فَيَجِبُ حَمْلُ التَّغْطِيَةِ الْمَرْوِيَّةِ عَمَّنْ ذَكَرْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ عَلَى مِثْلِهِ يَعْنِي عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا كَانَ يُغَطِّي أَنْفَهُ بِيَدِهِ فَوَارَتْ بَعْضَ أَجْزَائِهِ إطْلَاقًا لِاسْمِ الْكُلِّ عَلَى الْجُزْءِ جَمْعًا ( قَوْلُهُ وَفَائِدَةُ مَا رُوِيَ الْفَرْقُ ) بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ ( فِي تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ ) أَيْ إحْرَامُهُ فِي رَأْسِهِ فَيَكْشِفُهُ وَإِحْرَامُهَا فِي وَجْهِهَا فَتَكْشِفُهُ ، فَفِي جَانِبِهَا قَيْدٌ فَقَطْ مُرَادٌ ، وَفِي جَانِبِهِ مَعْنًى لَفْظٌ أَيْضًا مُرَادٌ .

قَالَ ( وَلَا يَمَسُّ طِيبًا ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْحَاجُّ الشَّعِثُ التَّفِلُ } ( وَكَذَا لَا يَدَّهِنُ ) لِمَا رَوَيْنَا ( لَا يَحْلِقُ رَأْسَهُ وَلَا شَعْرَ بُدْنِهِ ) { وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ } الْآيَةَ ( وَلَا يَقُصُّ مِنْ لِحْيَتِهِ ) لِأَنَّ فِي مَعْنَى الْحَلْقِ وَلِأَنَّ فِيهِ إزَالَةُ الشَّعَثِ وَقَضَاءِ التَّفَثِ .
وَحَدِيثُ { الْحَاجُّ الشَّعِثُ التَّفِلُ } قَدَّمْنَاهُ مِنْ رِوَايَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِمَّا أَخْرَجَ الْبَزَّارُ ، وَالشَّعَثُ انْتِشَارُ الشَّعْرِ وَتَغَيُّرُهُ لِعَدَمِ تَعَاهُدِهِ ، فَأَفَادَ مَنْعَ الِادِّهَانِ ، وَلِذَا قَالَ : وَكَذَا لَا يَدَّهِنُ لِمَا رَوَيْنَاهُ ، وَالتَّفْلُ تَرْكُ الطِّيبِ حَتَّى تُوجَدَ مِنْهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ فَيُفِيدُ مَنْعَ التَّطَيُّبِ

قَالَ ( وَلَا يَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا بِوَرْسٍ وَلَا زَعْفَرَانٍ وَلَا عُصْفُرٍ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ ثَوْبًا مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ وَلَا وَرْسٌ } قَالَ ( إلَّا أَنْ يَكُونَ غَسِيلًا لَا يَنْفُضُ ) لِأَنَّ الْمَنْعَ لِلطِّيبِ لَا لِلَّوْنِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا بَأْسَ بِلُبْسِ الْمُعَصْفَرِ لِأَنَّهُ لَوْنٌ لَا طِيبَ لَهُ .
وَلَنَا أَنَّ لَهُ رَائِحَةً طَيِّبَةً .

( قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ } إلَخْ ) تَقَدَّمَ فِي ضِمْنِ الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ قَرِيبًا ( قَوْلُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ غَسِيلًا لَا يُنْفَضُ ) أَيْ لَا تَظْهَرُ لَهُ رَائِحَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِتَعْلِيلِ الْمُصَنِّفِ بِأَنَّ الْمَنْعَ لِلرَّائِحَةِ لَا لِلَّوْنِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ لُبْسُ الْمَصْبُوغِ بِمَغْرَةٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ ، وَإِنَّمَا فِيهِ الزِّينَةُ وَالْإِحْرَامُ لَا يَمْنَعُهَا حَتَّى قَالُوا : يَجُوزُ لِلْمُحْرِمَةِ أَنْ تَتَحَلَّى بِأَنْوَاعِ الْحُلِيِّ وَتَلْبَسَ الْحَرِيرَ ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي دَاوُد ، بِخِلَافِ الْمُعْتَدَّةِ لِأَنَّهَا مَنْهِيَّةٌ عَنْ الزِّينَةِ ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَيْضًا أَنَّ مَعْنَاهُ أَنْ لَا يَتَعَدَّى مِنْهُ الصِّبْغُ ، وَكِلَا التَّفْسِيرَيْنِ صَحِيحٌ ، وَقَدْ وَقَعَ الِاسْتِثْنَاءُ فِي نَصِّ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْبُخَارِيِّ فِي قَوْلِهِ إلَّا الْمُزَعْفَرَةَ الَّتِي تَرْدَعُ الْجِلْدَ .
وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ : حَدَّثَنَا فَهْدٌ وَسَاقَهُ إلَى ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَلْبَسُوا ثَوْبًا مَسَّهُ وَرْسٌ وَلَا زَعْفَرَانٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ غَسِيلًا } يَعْنِي فِي الْإِحْرَامِ .
قَالَ ابْنُ أَبِي عِمْرَانَ .
وَرَأَيْت يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ يَتَعَجَّبُ مِنْ الْحِمَّانِيُّ أَنْ يُحَدِّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ : هَذَا عِنْدِي ، ثُمَّ ذَهَبَ مِنْ فَوْرِهِ فَجَاءَ بِأَصْلِهِ فَخَرَجَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ كَمَا ذَكَرَ الْحِمَّانِيُّ فَكَتَبَهُ عَنْهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ .
قَالَ : وَقَدْ رَوَى ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ ، ثُمَّ أَخْرَجَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَطَاوُسٍ وَالنَّخَعِيِّ إطْلَاقَهُ فِي الْغَسِيلِ ( قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّ لَهُ رَائِحَةً طَيِّبَةً ) فَمَبْنَى الْخِلَافِ عَلَى أَنَّهُ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ أَوْ لَا فَقُلْنَا نَعَمْ فَلَا يَجُوزُ وَعَنْ هَذَا قُلْنَا لَا يَتَحَنَّى الْمُحْرِمُ لِأَنَّ الْحِنَّاءَ طِيبٌ وَمَذْهَبُنَا عَائِشَةُ

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي هَذَا .
ثُمَّ النَّصُّ وَرَدَ بِمَنْعِ الْمُوَرَّسِ عَلَى مَا قَدَّمْنَا وَهُوَ دُونَ الْمُعَصْفَرِ فِي الرَّائِحَةِ فَيُمْنَعُ الْمُعَصْفَرُ بِطَرِيقٍ أَوْلَى ، لَكِنْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي دَاوُد قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَلْتَلْبَسْ بَعْدَ ذَلِكَ مَا شَاءَتْ مِنْ أَلْوَانِ الثِّيَابِ مِنْ مُعَصْفَرٍ } إلَخْ وَكَذَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ قَالَ " فَلَمْ يَنْهَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ الْأَرْدِيَةِ وَالْأُزُرِ تُلْبَسُ إلَّا الْمُزَعْفَرَةَ الَّتِي تَرْدَعُ الْجِلْدَ " قُلْنَا : أَمَّا الثَّانِي فَقَدْ ثَبَتَ تَخْصِيصُهُ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ مَنْعُ الْمُوَرَّسِ فَيُمْنَعُ الْمُعَصْفَرُ بِدَلَالَتِهِ أَيْ بِفَحْوَاهُ ، بَلْ التَّحْقِيقُ أَنَّهُ لَا تَخْصِيصَ إذْ لَا تَعَارُضَ أَصْلًا لِأَنَّ النَّصَّ لَا يُفِيدُ أَكْثَرَ مِنْ أَنَّ النَّهْيَ كَانَ وَقَعَ عَنْ الْمُزَعْفَرَةِ الَّتِي تُرْدَعُ وَسَكَتَ عَنْ غَيْرِهَا ، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ لَمْ يَنْهَ إلَّا عَنْ الْمُزَعْفَرَةِ الَّتِي تَرْدَعُ : إنَّمَا هُوَ قَوْلُ الرَّاوِي حِكَايَةً عَنْ الْحَالِ وَهُوَ صَادِقٌ إذَا كَانَ الْوَاقِعُ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ النَّهْيَ عَنْ الْمُزَعْفَرَةِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِغَيْرِهَا بِأَنْ لَمْ يَكُنْ الْمُثِيرُ لِلْجَوَابِ إلَّا فِي الْمُزَعْفَرِ ، وَلَيْسَ فِي هَذَا أَنَّهُ صَرَّحَ بِإِطْلَاقِ غَيْرِهِ فَيَكُونُ حِينَئِذٍ نَصَّ الْمُوَرَّسِ ، وَفَحْوَاهُ فِي الْمُعَصْفَرِ خَالِيَيْنِ عَنْ الْمُعَارِضِ وَلَيْسَ تَخْصِيصًا أَيْضًا .
وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَفِي مُوَطَّإِ مَالِكٍ " أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَأَى عَلَى طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ ثَوْبًا مَصْبُوغًا وَهُوَ مُحْرِمٌ ، فَقَالَ : مَا هَذَا الثَّوْبُ الْمَصْبُوغُ يَا طَلْحَةُ ؟ فَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّمَا هُوَ مَدَرٌ ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَيُّهَا الرَّهْطُ إنَّكُمْ أَئِمَّةٌ يَقْتَدِي بِكُمْ النَّاسُ ، فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا جَاهِلًا رَأَى هَذَا الثَّوْبَ لَقَالَ إنَّ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ كَانَ يَلْبَسُ الثِّيَابَ الْمُصَبَّغَةَ فِي الْإِحْرَامِ فَلَا تَلْبَسُوا

أَيُّهَا الرَّهْطُ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الثِّيَابِ الْمُصَبَّغَةِ " ا هـ .
فَإِنْ صَحَّ كَوْنُهُ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَفَادَ مَنْعَ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ وَغَيْرِهِ ، ثُمَّ يُخْرِجُ الْأَزْرَقُ وَنَحْوُهُ بِالْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ ، وَيَبْقَى الْمُتَنَازَعُ فِيهِ دَاخِلًا فِي الْمَنْعِ .
وَالْجَوَابُ الْمُحَقَّقُ إنْ شَاءَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ نَقُولَ : وَلْتَلْبَسْ بَعْدَ ذَلِكَ إلَخْ مُدْرَجٌ فَإِنَّ الْمَرْفُوعَ صَرِيحًا هُوَ قَوْلُهُ " سَمِعْته يَنْهَى عَنْ كَذَا " وَقَوْلُهُ " وَلْتَلْبَسْ " بَعْدَ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِهِ وَلَا يَصِحُّ جَعْلُهُ عَطْفًا عَلَى يَنْهَى لِكَمَالِ الِانْفِصَالِ بَيْنَ الْخَبَرِ وَالْإِنْشَاءِ فَكَانَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ مُسْتَأْنَفٌ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَتَخْلُو تِلْكَ الدَّلَالَةُ عَنْ الْمُعَارِضِ الصَّرِيحِ ، أَعْنِي مَنْطُوقَ الْمُوَرَّسِ وَمَفْهُومَهُ الْمُوَافِقَ ، فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ

قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَغْتَسِلَ وَيَدْخُلَ الْحَمَّامَ ) لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اغْتَسَلَ وَهُوَ مُحْرِمٌ

( قَوْلُهُ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اغْتَسَلَ وَهُوَ مُحْرِمٌ ) أَسْنَدَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِيَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ " اُصْبُبْ عَلَى رَأْسِي .
فَقُلْت : أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَعْلَمُ .
فَقَالَ : وَاَللَّهِ مَا يَزِيدُ الْمَاءُ الشَّعْرَ إلَّا شَعَثًا ، فَسَمَّى اللَّهَ ثُمَّ أَفَاضَ عَلَى رَأْسِهِ " وَرَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ بِمَعْنَاهُ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مَا يُغْنِي عَنْ هَذَا وَهُوَ مَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ " أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ اخْتَلَفَا بِالْأَبْوَاءِ ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : يَغْتَسِلُ الْمُحْرِمُ ، وَقَالَ الْمِسْوَرُ : لَا يَغْتَسِلُ ، فَأَرْسَلَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ إلَى أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَوَجَدَهُ يَغْتَسِلُ بَيْنَ الْقَرْنَيْنِ وَهُوَ مُسْتَتِرٌ بِثَوْبٍ ، قَالَ : فَسَلَّمْت عَلَيْهِ فَقَالَ : مَنْ هَذَا ؟ قُلْت : أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُنَيْنٍ أَرْسَلَنِي إلَيْك عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسِ يَسْأَلُك كَيْفَ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْتَسِلُ وَهُوَ مُحْرِمٌ ؟ قَالَ : فَوَضَعَ أَبُو أَيُّوبَ يَدَهُ عَلَى الثَّوْبِ فَطَأْطَأَ حَتَّى بَدَا لِي رَأْسُهُ ثُمَّ قَالَ لِإِنْسَانٍ يَصُبُّ عَلَيْهِ : اُصْبُبْ فَصَبَّ عَلَى رَأْسِهِ ، ثُمَّ حَرَّكَ أَبُو أَيُّوبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ ، فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ ثُمَّ قَالَ هَكَذَا رَأَيْتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ } وَالْإِجْمَاعُ عَلَى وُجُوبِ اغْتِسَالِ الْمُحْرِمِ مِنْ الْجَنَابَةِ ، وَمِنْ الْمُسْتَحَبِّ الِاغْتِسَالُ لِدُخُولِ مَكَّةَ مُطْلَقًا ، وَإِنَّمَا كَرِهَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْ يُغَيِّبَ رَأْسَهُ فِي الْمَاءِ لِتَوَهُّمِ التَّغْطِيَةِ وَقَتْلِ الْقَمْلِ ، فَإِنْ فَعَلَ أَطْعَمَ .
وَيَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَكْتَحِلَ بِمَا لَا طِيبَ فِيهِ وَيَجْبُرَ الْكَسْرَ وَيَعْصِبَهُ وَيَنْزِعَ الضِّرْسَ وَيَخْتَتِنَ وَيَلْبَسَ الْخَاتَمَ ، وَيُكْرَهُ تَعْصِيبُ رَأْسِهِ ، وَلَوْ عَصَّبَهُ يَوْمًا أَوْ لَيْلَةً

فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لَوْ عَصَّبَ غَيْرَهُ مِنْ بَدَنِهِ لِعِلَّةٍ أَوْ لِغَيْرِ عِلَّةٍ لَكِنَّهُ يُكْرَهُ بِلَا عِلَّةٍ

( وَ ) لَا بَأْسَ بِأَنْ ( يَسْتَظِلَّ بِالْبَيْتِ وَالْمُحْمَلُ ) وَقَالَ مَالِكٌ : يُكْرَهُ أَنْ يَسْتَظِلَّ بِالْفُسْطَاطِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ، لِأَنَّهُ يُشْبِه تَغْطِيَةَ الرَّأْسِ .
وَلَنَا أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُضْرَبُ لَهُ فُسْطَاطٌ فِي إحْرَامِهِ وَلِأَنَّهُ لَا يَمَسُّ بَدَنَهُ فَأَشْبَهَ الْبَيْتَ .
وَلَوْ دَخَلَ تَحْتَ أَسْتَارِ الْكَعْبَةِ حَتَّى غَطَّتْهُ ، إنْ كَانَ لَا يُصِيبُ رَأْسَهُ وَلَا وَجْهَهُ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّهُ اسْتِظْلَالٌ

( قَوْلُهُ وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : يُكْرَهُ أَنْ يَسْتَظِلَّ ) وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَبِقَوْلِنَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّهُ كَانَ يُضْرَبُ لَهُ فُسْطَاطٌ " فِي مُسْنَدِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ : حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا الصَّلْتُ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ صَهْبَانَ قَالَ " رَأَيْت عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْأَبْطُحِ وَإِنَّ فُسْطَاطَه مَضْرُوبٌ وَسَيْفَهُ مُعَلَّقٌ بِالشَّجَرَةِ " ا هـ .
ذَكَرَهُ فِي بَابِ الْمُحْرِمُ يَحْمِلُ السِّلَاحَ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْفُسْطَاطَ إنَّمَا يُضْرَبُ لِلِاسْتِظْلَالِ .
وَاسْتَدَلَّ أَيْضًا بِحَدِيثِ أُمِّ الْحُصَيْنِ فِي مُسْلِمٍ { حَجَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ فَرَأَيْتُ أُسَامَةَ وَبِلَالًا وَأَحَدُهُمَا آخِذٌ بِخِطَامِ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْآخَرُ رَافِعٌ ثَوْبَهُ يَسْتُرُهُ مِنْ الْحَرِّ حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ } الْحَدِيثَ .
وَفِي لَفْظِ مُسْلِمٍ { وَالْآخَرُ رَافِعٌ ثَوْبَهُ عَلَى رَأْسِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُظِلُّهُ مِنْ الشَّمْسِ } وَدُفِعَ بِتَجْوِيزِ كَوْنِ هَذَا الرَّامِي فِي قَوْلِهِ { حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ } كَانَ فِي غَيْرِ يَوْمِ النَّحْرِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي أَوْ الثَّالِثِ فَيَكُونُ بَعْدَ إحْلَالِهِ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَثْبُتَ مِنْ أَلْفَاظِهِ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ ، وَحِينَئِذٍ يَبْعُدُ وَيَكُونُ مُنْقَطِعًا بَاطِنًا .
وَإِنْ كَانَ السَّنَدُ صَحِيحًا مِنْ جِهَةِ أَنَّ رَمْيَهَا يَوْمَ النَّحْرِ يَكُونُ أَوَّلَ النَّهَارِ فِي وَقْتٍ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى تَظْلِيلٍ ، فَالْأَحْسَنُ الِاسْتِدْلَال بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ حَيْثُ قَالَ فِيهِ { فَأَمَرَ بَقِيَّةً مِنْ شَعْرٍ فَضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ فَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أَنْ قَالَ فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ فَنَزَلَهَا } الْحَدِيثَ ، وَنَمِرَةُ بِفَتْحِ النُّونِ

وَكَسْرِ الْمِيمِ مَوْضِعٌ بِعَرَفَةَ .
وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ : حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ يَحْيَى بْن سَعِيدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ " خَرَجْت مَعَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَكَانَ يَطْرَحُ النَّطَعَ عَلَى الشَّجَرَةِ فَيَسْتَظِلُّ بِهِ " يَعْنِي وَهُوَ مُحْرِمٌ .
( قَوْلُهُ : إنْ كَانَ لَا يُصِيبُ رَأْسَهُ وَلَا وَجْهَهُ ) يُفِيدُ أَنَّهُ إنْ كَانَ يُصِيبُ يُكْرَهُ ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّغْطِيَةَ بِالْمُمَاسَّةِ يُقَالُ لِمَنْ جَلَسَ فِي خَيْمَةٍ وَنَزَعَ مَا عَلَى رَأْسِهِ جَلَسَ مَكْشُوفَ الرَّأْسِ ، وَعَلَى هَذَا قَالُوا : لَا يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَحْمِلَ نَحْوَ الطَّبَقِ وَالْإِجَّانَةِ وَالْعَدْلِ الْمَشْغُولِ بِخِلَافِ حَمْلِ الثِّيَابِ وَنَحْوِهَا ، لِأَنَّهَا تُغَطَّى عَادَةً فَيَلْزَمُ بِهَا الْجَزَاءُ

( وَ ) لَا بَأْسَ بِأَنْ ( يَشُدَّ فِي وَسَطِهِ الْهِمْيَانَ ) وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : يُكْرَهُ إذَا كَانَ فِيهِ نَفَقَةُ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ .
وَلَنَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى لُبْسِ الْمَخِيطِ فَاسْتَوَتْ فِيهِ الْحَالَتَانِ ( وَلَا يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَلَا لِحْيَتَهُ بِالْخِطْمِيِّ ) لِأَنَّهُ نَوْعُ طِيبٍ ، وَلِأَنَّهُ يَقْتُلُ هُوَامَّ الرَّأْسِ .
( قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى لُبْسِ الْمَخِيطِ فَاسْتَوَتْ فِيهِ الْحَالَتَانِ ) قَدْ يُقَالُ : الْكَرَاهَةُ لَيْسَ لِذَلِكَ بَلْ لِكَرَاهَةِ شَدِّ الْإِزَارِ وَالرِّدَاءِ بِحَبْلٍ أَوْ غَيْرِهِ إجْمَاعًا .
وَكَذَا عَقْدُهُ وَالْهِمْيَانُ حِينَئِذٍ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ .
قُلْنَا : ذَاكَ بِنَصٍّ خَاصٍّ سَبَبُهُ شَبَهُهُ حِينَئِذٍ بِالْمَخِيطِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى حِفْظِهِ ، وَعَنْ ذَلِكَ كُرِهَ تَخْلِيلُ الرِّدَاءِ أَيْضًا ، وَلَيْسَ فِي شَدِّ الْهِمْيَانِ هَذَا الْمَعْنَى لِأَنَّهُ يُشَدُّ تَحْتَ الْإِزَارِ عَادَةً ، وَأَمَّا عَصْبُ الْعِصَابَةِ عَلَى رَأْسِهِ فَإِنَّمَا كُرِهَ تَعْصِيبُ رَأْسِهِ وَلَزِمَهُ إذَا دَامَ يَوْمًا كَفَّارَةٌ لِلتَّغْلِيظِ وَقَالُوا : لَا يُكْرَهُ شَدُّ الْمِنْطَقَةِ وَالسَّيْفُ وَالسِّلَاحُ وَالتَّخَتُّمُ ، وَعَلَى هَذَا فَمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ كَرَاهَةِ عَصْبِ غَيْرِ الرَّأْسِ مِنْ بَدَنِهِ إنَّمَا هُوَ لِكَوْنِهِ نَوْعَ عَبَثٍ ( قَوْلُهُ لِأَنَّهُ نَوْعُ طِيبٍ ، وَلِأَنَّهُ يَقْتُلُ هَوَامَّ الرَّأْسِ ) فَلِوُجُودِ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ تَكَامَلَتْ الْجِنَايَةُ فَوَجَبَ الدَّمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا غَسَلَ رَأْسَهُ بِالْخِطْمِيِّ فَإِنَّهُ لَهُ رَائِحَةٌ مُلْتَذَّةٌ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ ذَكِيَّةً ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : عَلَيْهِ صَدَقَةٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِطِيبٍ ، بَلْ هُوَ كَالْأُشْنَانِ يُغْسَلُ بِهِ الرَّأْسُ ، وَلَكِنَّهُ يَقْتُلُ الْهَوَامَّ

قَالَ ( وَيُكْثِرُ مِنْ التَّلْبِيَةِ عَقِيبَ الصَّلَوَاتِ وَكُلَّمَا عَلَا شَرَفًا أَوْ هَبَطَ وَادِيًا أَوْ لَقِيَ رَكْبًا وَبِالْأَسْحَارِ ) لِأَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يُلَبُّونَ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ ، وَالتَّلْبِيَةُ فِي الْإِحْرَامِ عَلَى مِثَالِ التَّكْبِيرِ فِي الصَّلَاةِ ، فَيُؤْتِي بِهَا عِنْدَ الِانْتِقَالِ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ ( وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّلْبِيَةِ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَفْضَلُ الْحَجِّ الْعَجُّ وَالثَّجُّ } فَالْعَجُّ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ ، وَالثَّجُّ إسَالَةُ الدَّمِ .

( قَوْلُهُ كَانُوا يُلَبُّونَ إلَخْ ) فِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ : حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ خَيْثَمَةَ قَالَ : كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ التَّلْبِيَةَ عِنْدَ سِتٍّ : دُبُرَ الصَّلَاةِ ، وَإِذَا اسْتَقَلَّتْ بِالرَّجُلِ رَاحِلَتُهُ ، وَإِذَا صَعِدَ شَرَفًا أَوْ هَبَطَ وَادِيًا ، وَإِذَا لَقِيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، وَبِالْأَسْحَارِ .
ثُمَّ الْمَذْكُورُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ كَمَا هُوَ النَّصُّ وَعَلَيْهِ مَشَى فِي الْبَدَائِعِ فَقَالَ : فَرَائِضَ كَانَتْ أَوْ نَوَافِلَ ، وَخَصَّهُ الطَّحَاوِيُّ بِالْمَكْتُوبَاتِ دُونَ النَّوَافِلِ وَالْفَوَائِتِ فَأَجْرَاهَا مَجْرَى التَّكْبِيرِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ، وَعَزَى إلَى ابْنِ نَاجِيَةَ فِي فَوَائِدَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكَبِّرُ إذَا لَقِيَ رَكْبًا وَذَكَرَ الْكُلَّ سِوَى اسْتِقْلَالِ الرَّاحِلَةِ } وَذَكَرَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي الْإِمَامِ وَلَمْ يُعْزِهِ .
وَذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ حَدِيثَ خَيْثَمَةَ ، هَذَا وَذَكَرَ مَكَانَ اسْتَقَلَّتْ رَاحِلَتُهُ إذَا اسْتَعْطَفَ الرَّجُلُ رَاحِلَتَهُ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّا عَقَلْنَا مِنْ الْآثَارِ اعْتِبَارَ التَّلْبِيَةِ فِي الْحَجِّ عَلَى مِثَالِ التَّكْبِيرِ فِي الصَّلَاةِ ، فَقُلْنَا : السُّنَّةُ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا عِنْدَ الِانْتِقَالِ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّهَا مَرَّةً وَاحِدَةً شَرْطٌ وَالزِّيَادَةُ سُنَّةٌ ، قَالَ فِي الْمُحِيطِ : حَتَّى تَلْزَمَهُ الْإِسَاءَةُ بِتَرْكِهَا .
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ أَضْحَى يَوْمًا مُحْرِمًا مُلَبِّيًا حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ غَرَبَتْ بِذُنُوبِهِ فَعَادَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ } وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَا مِنْ مُلَبٍّ يُلَبِّي إلَّا لَبَّى مَا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ } صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ ، وَهَذَا دَلِيلُ نَدْبِ الْإِكْثَارِ مِنْهَا غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِتَغَيُّرِ الْحَالِ ، فَظَهَرَ أَنَّ التَّلْبِيَةَ فَرْضٌ وَسُنَّةٌ

وَمَنْدُوبٌ .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُكَرِّرَهَا كُلَّمَا أَخَذَ فِيهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَيَأْتِيَ بِهَا عَلَى الْوَلَاءِ وَلَا يَقْطَعَهَا بِكَلَامٍ ، وَلَوْ رَدَّ السَّلَامَ فِي خِلَالِهَا جَازَ وَلَكِنْ يُكْرَهُ لِغَيْرِهِ السَّلَامُ عَلَيْهِ فِي حَالَةِ التَّلْبِيَةِ ، وَإِذَا رَأَى شَيْئًا يُعْجِبُهُ قَالَ : لَبَّيْكَ إنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الْآخِرَةِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ( قَوْلُهُ وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّلْبِيَةِ ) وَهُوَ سُنَّةٌ فَإِنْ تَرَكَهُ كَانَ مُسِيئًا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَلَا يُبَالِغُ فِيهِ فَيُجْهِدُ نَفْسَهُ كَيْ لَا يَتَضَرَّرَ عَلَى أَنَّهُ ذَكَرَ مَا يُفِيدُ بَعْضَ ذَلِكَ .
قَالَ أَبُو حَازِمٍ : كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَبْلُغُونَ الرَّوْحَاءَ حَتَّى تُبَحَّ حُلُوقُهُمْ مِنْ التَّلْبِيَةِ ، إلَّا أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْكَثْرَةِ مَعَ قِلَّةِ الْمَسَافَةِ ، أَوْ هُوَ عَنْ زِيَادَةِ وَجْدِهِمْ ، وَشَوْقِهِمْ بِحَيْثُ يُغْلَبُ الْإِنْسَانُ عَنْ الِاقْتِصَادِ فِي نَفْسِهِ .
وَكَذَا الْعَجُّ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ مُجَرَّدَ رَفْعِ الصَّوْتِ بَلْ بِشِدَّةٍ .
وَهُوَ مَا أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ { قَامَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : مَنْ الْحَاجُّ ، قَالَ : الشَّعِثُ التَّفِلُ ، فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ : أَيُّ الْحَجِّ أَفْضَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : الْعَجُّ وَالثَّجُّ ، فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ : مَا السَّبِيلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ : غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ إبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ الْجَوْزِيِّ الْمَكِّيِّ ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ مِنْ قَبْلُ حَفِظَهُ .
وَأَخْرَجَا أَيْضًا عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ : أَيُّ الْحَجِّ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : الْعَجُّ وَالثَّجُّ } وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ .
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ : لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي فُدَيْكٍ عَنْ

الضَّحَّاكِ بْنِ عُثْمَانَ .
وَمُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ وَهُوَ الَّذِي رَوَى عَنْهُ الضَّحَّاكُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَرْبُوعٍ .
وَفِي مُسْنَدِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ : حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { أَفْضَلُ الْحَجِّ الْعَجُّ وَالثَّجُّ } وَالْعَجُّ : الْعَجِيجُ بِالتَّلْبِيَةِ ، وَالثَّجُّ : نَحْرُ الدِّمَاءِ .
وَفِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ : أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَمَرَنِي أَنْ آمُرَ أَصْحَابِي وَمَنْ مَعِي أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالْإِهْلَالِ ، أَوْ قَالَ : بِالتَّلْبِيَةِ } وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ { صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ الظُّهْرَ أَرْبَعًا ، وَالْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ ، وَسَمِعْتُهُمْ يَصْرُخُونَ بِهِمَا جَمِيعًا بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فِي التَّلْبِيَةِ } " وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ زِينَةُ الْحَجِّ " وَعَنْهُ { خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فَمَرَرْنَا بِوَادٍ فَقَالَ : أَيُّ وَادٍ هَذَا ؟ قَالُوا : وَادِي الْأَزْرَقِ ، قَالَ : كَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ وَاضِعًا إصْبَعَهُ فِي أُذُنِهِ لَهُ جُؤَارٌ إلَى اللَّهِ بِالتَّلْبِيَةِ مَارًّا بِهَذَا الْوَادِي ، ثُمَّ سِرْنَا الْوَادِيَ حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى ثَنِيَّةٍ فَقَالَ : أَيُّ ثَنِيَّةٍ هَذِهِ ؟ قَالُوا : هَرْشَى أَوْ لِفْتٌ ، فَقَالَ : كَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى يُونُسَ عَلَى نَاقَةٍ حَمْرَاءَ خِطَامُ نَاقَتِهِ لِيفٌ خُلْبَةٌ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ لَهُ مِنْ صُوفٍ مَارًّا بِهَذَا الْوَادِي مُلَبِّيًا } أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ قَوْلِنَا لَا يُجْهِدُ نَفْسَهُ بِشِدَّةِ رَفْعِ صَوْتِهِ وَبَيْنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى اسْتِحْبَابِ رَفْعِ الصَّوْتِ بِشِدَّةٍ إذْ لَا تَلَازُمَ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ الْإِجْهَادِ ،

إذْ قَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ جَهْوَرِيَّ الصَّوْتِ عَالِيَهُ طَبْعًا فَيَحْصُلُ الرَّفْعُ الْعَالِي مَعَ عَدَمِ تَعَبِهِ بِهِ .
وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهَا مِنْ شَعَائِرِ الْحَجِّ وَالسَّبِيلُ فِيمَا هُوَ كَذَلِكَ الْإِظْهَارُ وَالْإِشْهَارُ كَالْأَذَانِ وَنَحْوِهِ .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ الْمُعَلِّمِ لِلْخَيْرِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا فَرَغَ مِنْ التَّلْبِيَةِ ، وَيَخْفِضَ صَوْتَهُ بِذَلِكَ

قَالَ ( فَإِذَا دَخَلَ مَكَّةَ ابْتَدَأَ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَمَا دَخَلَ مَكَّةَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ } وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ زِيَارَةُ الْبَيْتِ وَهُوَ فِيهِ ، وَلَا يَضُرُّهُ لَيْلًا دَخَلَهَا أَوْ نَهَارًا لِأَنَّهُ دُخُولُ بَلْدَةٍ فَلَا يَخْتَصُّ بِأَحَدِهِمَا ( وَإِذَا عَايَنَ الْبَيْتَ كَبَّرَ وَهَلَّلَ ) وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا يَقُولُ : إذَا لَقِيَ الْبَيْتَ بِاسْمِ اللَّهِ اللَّهُ أَكْبَرُ .
وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمْ يُعَيِّنْ فِي الْأَصْلِ لِمَشَاهِدِ الْحَجِّ شَيْئًا مِنْ الدَّعَوَاتِ لِأَنَّ التَّوْقِيتَ يُذْهِبُ بِالرِّقَّةِ وَإِنْ تَبَرَّكَ بِالْمَنْقُولِ مِنْهَا فَحَسَنٌ .

( قَوْلُهُ فَإِذَا دَخَلَ مَكَّةَ ابْتِدَاءً بِالْمَسْجِدِ ) يَخْرُجُ مِنْ عُمُومِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ { كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ ثُمَّ يَجْلِسُ لِلنَّاسِ } وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِيهِ نَصًّا خَاصًّا عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَمَعْنَاهُ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ } وَرَوَى أَبُو الْوَلِيدِ الْأَزْرَقِيُّ فِي تَارِيخِ مَكَّةَ بِسَنَدِهِ عَنْ عَطَاءٍ مُرْسَلًا { لَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ لَمْ يَلْوِ عَلَى شَيْءٍ وَلَمْ يُعَرِّجْ ، وَلَا بَلَغَنَا أَنَّهُ دَخَلَ بَيْتًا ، وَلَا لَهَا بِشَيْءٍ حَتَّى دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَبَدَأَ بِالْبَيْتِ فَطَافَ بِهِ } وَلَا يَخْفَى أَنَّ تَقْدِيمَ الرِّجْلِ الْيُمْنَى سُنَّةُ دُخُولِ الْمَسَاجِدِ كُلِّهَا .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي ، وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِك .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَغْتَسِلَ لِدُخُولِ مَكَّةَ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { كَانَ لَا يَقْدَمُ مَكَّةَ إلَّا بَاتَ بِذِي طُوًى حَتَّى يُصْبِحَ وَيَغْتَسِلَ ثُمَّ يَدْخُلَ مَكَّةَ نَهَارًا } وَيُذْكَرُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَعَلَهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ .
وَيُسْتَحَبُّ لِلْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ كَمَا فِي غُسْلِ الْإِحْرَامِ ، وَيَدْخُلُ مَكَّةَ مِنْ ثَنِيَّةِ كَدَاءٍ بِفَتْحِ الْكَافِ وَبَعْدَ الْأَلِفِ هَمْزَةٌ : وَهِيَ الثَّنِيَّةُ الْعُلْيَا عَلَى دَرْبِ الْمُعَلَّى ، وَإِنَّمَا سُنَّ لِأَنَّهُ يَكُونُ فِي دُخُولِهِ مُسْتَقْبِلَ بَابِ الْبَيْتِ وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى قَاصِدِ الْبَيْتِ كَوَجْهِ الرَّجُلِ بِالنِّسْبَةِ إلَى قَاصِدِهِ ، وَكَذَا تُقْصَدُ كِرَامُ النَّاسِ .
وَإِذَا خَرَجَ فَمِنْ السُّفْلَى لِمَا سَنَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ( قَوْلُهُ وَلَا يَضُرُّهُ لَيْلًا دَخَلَهَا أَوْ نَهَارًا ) لِمَا رَوَى

النَّسَائِيّ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دَخَلَهَا لَيْلًا وَنَهَارًا .
دَخَلَهَا فِي حَجِّهِ نَهَارًا وَلَيْلًا فِي عُمْرَتِهِ } وَهُمَا سَوَاءٌ فِي حَقِّ الدُّخُولِ لِأَدَاءِ مَا بِهِ الْإِحْرَامُ ، وَلِأَنَّهُ دُخُولُ بَلَدٍ .
وَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّهُ كَانَ يَنْهَى عَنْ الدُّخُولِ لَيْلًا " فَلَيْسَ تَقْرِيرًا لِلسُّنَّةِ بَلْ شَفَقَةً عَلَى الْحَاجِّ مِنْ السُّرَّاقِ .
وَيَقُولُ عِنْدَ دُخُولِهِ " اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُك ، جِئْتُ لِأُؤَدِّيَ فَرْضَك ، وَأَطْلُبَ رَحْمَتَك ، وَأَلْتَمِسَ رِضَاك ، مُتَّبِعًا لِأَمْرِك رَاضِيًا بِقَضَائِك ، أَسْأَلُك مَسْأَلَةَ الْمُضْطَرِّينَ الْمُشْفِقِينَ مِنْ عَذَابِك أَنْ تَسْتَقْبِلَنِي الْيَوْمَ بِعَفْوِك ، وَتَحْفَظَنِي بِرَحْمَتِك ، وَتَتَجَاوَزَ عَنِّي بِمَغْفِرَتِك ، وَتُعِينَنِي عَلَى أَدَاءِ فَرَائِضِك .
اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِك ، وَأَدْخِلْنِي فِيهَا ، وَأَعِذْنِي مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ " وَكَذَا يَقُولُ عِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَكُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلَّ لَفْظٍ يَقَعُ بِهِ التَّضَرُّعُ وَالْخُشُوعُ .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْخُلَ مِنْ بَابِ بَنِي شَيْبَةَ ، مِنْهُ دَخَلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ( قَوْلُهُ وَإِذَا عَايَنَ الْبَيْتَ كَبَّرَ وَهَلَّلَ ) ثَلَاثًا وَيَدْعُو بِمَا بَدَا لَهُ ، وَعَنْ عَطَاءٍ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَقُولُ إذَا لَقِيَ الْبَيْتَ أَعُوذُ بِرَبِّ الْبَيْتِ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفَقْرِ ، وَمِنْ ضِيقِ الصَّدْرِ ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ ، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ } وَمِنْ أَهَمِّ الْأَدْعِيَةِ طَلَبُ الْجَنَّةِ بِلَا حِسَابٍ ، فَإِنَّ الدُّعَاءَ مُسْتَجَابٌ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْبَيْتِ ( قَوْلُهُ وَلَمْ يُعَيِّنْ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لِمُشَاهَدِ الْحَجِّ شَيْئًا مِنْ الدَّعَوَاتِ لِأَنَّ تَوْقِيتَهَا يُذْهِبُ بِالرِّقَّةِ ) لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَمَنْ يُكَرِّرُ مَحْفُوظَهُ بَلْ يَدْعُو بِمَا بَدَا لَهُ وَيَذْكُرُ اللَّهَ كَيْفَ بَدَا لَهُ مُتَضَرِّعًا ( وَإِنْ تَبَرَّكَ بِالْمَأْثُورِ مِنْهَا فَحَسَنٌ ) أَيْضًا .
وَلِنَسُقْ نُبْذَةً مِنْهَا فِي مَوَاطِنِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ

تَعَالَى .
أَسْنَدَ الْبَيْهَقِيُّ إلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ " سَمِعْت مِنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَلِمَةً مَا بَقِيَ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ سَمِعَهَا غَيْرِي ، سَمِعْته يَقُولُ : إذَا رَأَى الْبَيْتَ : اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْك السَّلَامُ فَحَيِّنَا رَبَّنَا بِالسَّلَامِ " وَأَسْنَدَ الشَّافِعِيُّ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذْ رَأَى الْبَيْتَ رَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ : اللَّهُمَّ زِدْ هَذَا الْبَيْتَ تَشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا وَتَكْرِيمًا وَبِرًّا وَمَهَابَةً ، وَزِدْ مِنْ شَرَفِهِ وَكَرَمِهِ مِمَّنْ حَجَّهُ أَوْ اعْتَمَرَهُ تَشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا وَتَكْرِيمًا وَبِرًّا } وَرَوَاهُ الْوَاقِدِيُّ فِي الْمَغَازِي مَوْصُولًا : حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ عَنْ مُوسَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا " أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دَخَلَ مَكَّةَ نَهَارًا مِنْ كَدَاءٍ فَلَمَّا رَأَى الْبَيْتَ قَالَ " الْحَدِيثَ ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ رَفْعَ الْيَدَيْنِ

قَالَ ( ثُمَّ ابْتَدَأَ بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَاسْتَقْبَلَهُ وَكَبَّرَ وَهَلَّلَ ) لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَابْتَدَأَ بِالْحَجَرِ فَاسْتَقْبَلَهُ وَكَبَّرَ وَهَلَّلَ } ( وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا فِي سَبْعَةِ مَوَاطِنَ وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا اسْتِلَامَ الْحَجَرِ } قَالَ ( وَاسْتَلَمَهُ إنْ اسْتَطَاعَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤْذِيَ مُسْلِمًا ) لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَبَّلَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَوَضَعَ شَفَتَيْهِ عَلَيْهِ } " وَقَالَ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إنَّكَ رَجُلٌ أَيْدٍ تُؤْذِي الضَّعِيفَ فَلَا تُزَاحِمْ النَّاسَ عَلَى الْحَجَرِ ، وَلَكِنْ إنْ وَجَدْتَ فُرْجَةً فَاسْتَلِمْهُ وَإِلَّا فَاسْتَقْبِلْهُ وَهَلِّلْ وَكَبِّرْ " .
وَلِأَنَّ الِاسْتِلَامَ سُنَّةٌ وَالتَّحَرُّزُ عَنْ أَذَى الْمُسْلِمِ وَاجِبٌ .

( قَوْلُهُ ثُمَّ ابْتَدَأَ بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَاسْتَقْبَلَهُ وَكَبَّرَ وَهَلَّلَ لِمَا رُوِيَ إلَخْ ) أَمَّا الِابْتِدَاءُ بِالْحَجَرِ فَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ الْمُتَقَدِّمِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَارْجِعْ إلَيْهِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَا كَانَ أَوَّلَ مَا يَبْدَأُ بِهِ الدَّاخِلُ الطَّوَافَ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ قَرِيبٍ لَزِمَ أَنْ يَبْدَأَ الدَّاخِلُ بِالرُّكْنِ لِأَنَّهُ مُفْتَتَحُ الطَّوَافِ .
قَالُوا : أَوَّلُ مَا يَبْدَأُ بِهِ دَاخِلُ الْمَسْجِدِ مُحْرِمًا كَانَ أَوْ لَا الطَّوَافُ لَا الصَّلَاةُ ، اللَّهُمَّ إلَّا إنْ دَخَلَ فِي وَقْتٍ مَنَعَ النَّاسَ مِنْ الطَّوَافِ أَوْ كَانَ عَلَيْهِ فَائِتَةٌ مَكْتُوبَةٌ أَوْ خَافَ فَوْتَ الْمَكْتُوبَةِ أَوْ الْوِتْرِ أَوْ سُنَّةٍ رَاتِبَةٍ ، أَوْ فَوْتَ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَكْتُوبَةِ فَيُقَدِّمُ كُلَّ ذَلِكَ عَلَى الطَّوَافِ ثُمَّ يَطُوفُ ، فَإِنْ كَانَ حَلَالًا فَطَوَافُ تَحِيَّةٍ أَوْ مُحْرِمًا بِالْحَجِّ فَطَوَافُ الْقُدُومِ وَهُوَ أَيْضًا تَحِيَّةٌ إلَّا أَنَّهُ خُصَّ بِهَذِهِ الْإِضَافَةِ ، هَذَا إنْ دَخَلَ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ ، فَإِنَّ دَخَلَ فِيهِ فَطَوَافُ الْفَرْضِ يُغْنِي كَالْبُدَاءَةِ بِصَلَاةِ الْفَرْضِ تُغْنِي عَنْ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ أَوْ بِالْعُمْرَةِ فَبِطَوَافِ الْعُمْرَةِ ، وَلَا يُسَنُّ فِي حَقِّهِ طَوَافُ الْقُدُومِ ، وَأَمَّا التَّكْبِيرُ وَالتَّهْلِيلُ فَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ عُمَرَ " أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ لَهُ : إنَّك رَجُلٌ قَوِيٌّ لَا تُزَاحِمْ عَلَى الْحَجَرِ فَتُؤْذِي الضَّعِيفَ ، إنْ وَجَدْت خَلْوَةً فَاسْتَلِمْهُ وَإِلَّا فَاسْتَقْبِلْهُ وَكَبِّرْ وَهَلِّلْ " .
وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ طَافَ عَلَى بَعِيرٍ كُلَّمَا أَتَى عَلَى الرُّكْنِ أَشَارَ إلَيْهِ بِشَيْءٍ فِي يَدِهِ وَكَبَّرَ } وَعِنْدَ أَبِي دَاوُد { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اضْطَبَعَ فَاسْتَلَمَ وَكَبَّرَ وَرَمَلَ } وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ : حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمِ بْنِ عُمَرَ عَنْ ابْنِ

عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا انْتَهَى إلَى الرُّكْنِ اسْتَلَمَهُ وَهُوَ مُضْطَبِعٌ بِرِدَائِهِ وَقَالَ : بِاسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ إيمَانًا بِاَللَّهِ وَتَصْدِيقًا بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ } .
وَمِنْ الْمَأْثُورِ عِنْدَ الِاسْتِلَامِ اللَّهُمَّ إيمَانًا بِك وَتَصْدِيقًا بِكِتَابِك وَوَفَاءً بِعَهْدِك وَاتِّبَاعًا لِسُنَّةِ نَبِيِّك مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُمَّ إلَيْك بَسَطْت يَدَيْ وَفِيمَا عِنْدَك عَظُمَتْ رَغْبَتِي فَاقْبَلْ دَعْوَتِي وَأَقِلْنِي عَثْرَتِي وَارْحَمْ تَضَرُّعِي وَجُدْ لِي بِمَغْفِرَتِك وَأَعِذْنِي مِنْ مُضِلَّاتِ الْفِتَنِ ( قَوْلُهُ وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ ) يَعْنِي عِنْدَ التَّكْبِيرِ لِافْتِتَاحِ الطَّوَافِ ( لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا فِي سَبْعَةِ مَوَاطِنَ } ) تَقَدَّمَ فِي الصَّلَاةِ ، وَلَيْسَ فِيهِ اسْتِلَامُ الْحَجَرِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُلْحَقَ بِقِيَاسِ الشَّبَهِ لَا الْعِلَّةِ ، وَيَكُونُ بَاطِنُهُمَا فِي هَذَا الرَّفْعُ إلَى الْحَجَرِ كَهَيْئَتِهِمَا فِي افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ ، وَكَذَا يَفْعَلُ فِي كُلِّ شَوْطٍ إذَا لَمْ يَسْتَلِمْهُ ( قَوْلُهُ وَاسْتَلَمَهُ ) يَعْنِي بَعْدَ الرَّفْعِ لِلِافْتِتَاحِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ يَسْتَلِمُهُ .
وَكَيْفِيَّتُهُ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى الْحَجَرِ وَيُقَبِّلُهُ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَاءَ إلَى الْحَجَرِ فَقَبَّلَهُ .
وَقَالَ : إنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ } وَرَوَى الْحَاكِمُ حَدِيثَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَزَادَ فِيهِ " فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : بَلَى يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَضُرُّ وَيَنْفَعُ ، وَلَوْ عَلِمْت تَأْوِيلَ ذَلِكَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ لَقُلْت إنَّهُ كَمَا أَقُولُ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ

عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى } فَلَمَّا أَقَرُّوا أَنَّهُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ وَأَنَّهُمْ الْعَبِيدُ كَتَبَ مِيثَاقَهُمْ فِي رِقٍّ وَأَلْقَمَهُ فِي هَذَا الْحَجَرِ ، وَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَهُ عَيْنَانِ وَلِسَانٌ وَشَفَتَانِ يَشْهَدُ لِمَنْ وَافَاهُ فَهُوَ أَمِينُ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذَا الْكِتَابِ ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَا أَبْقَانِي اللَّهُ بِأَرْضٍ لَسْت بِهَا يَا أَبَا الْحَسَنِ " وَقَالَ : لَيْسَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ فَإِنَّهُمَا لَمْ يَحْتَجَّا بِأَبِي هَارُونَ الْعَبْدِيِّ .
وَمِنْ غَرَائِبِ الْمُتُونِ مَا فِي ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ فِي آخِرِ مُسْنَدِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ { رَجُلٍ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ عِنْدَ الْحَجَرِ فَقَالَ : إنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ ثُمَّ قَبَّلَهُ ، ثُمَّ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَوَقَفَ عِنْدَ الْحَجَرِ فَقَالَ : إنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ } فَلْيُرَاجَعْ إسْنَادُهُ ، فَإِنْ صَحَّ يُحْكَمُ بِبُطْلَانِ حَدِيثِ الْحَاكِمِ لِبُعْدِ أَنْ يَصْدُرَ هَذَا الْجَوَابُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَعْنِي قَوْلَهُ بَلْ يَضُرُّ وَيَنْفَعُ بَعْدَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ } لِأَنَّهُ صُورَةُ مُعَارَضَةٍ ، لَا جَرَمَ أَنَّ الذَّهَبِيَّ قَالَ فِي مُخْتَصَرِهِ عَنْ الْعَبْدِيِّ إنَّهُ سَاقِطٌ ، وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ أَوْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إزَالَةً لِوَهْمِ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ اعْتِقَادِ الْحِجَارَةِ الَّتِي هِيَ الْأَصْنَامُ ، ثُمَّ هَذَا التَّقْبِيلُ لَا يَكُونُ لَهُ صَوْتٌ .
وَهَلْ يُسْتَحَبُّ السُّجُودُ عَلَى الْحَجَرِ عَقِيبَ التَّقْبِيلِ ؟ فَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ يُقَبِّلُهُ وَيَسْجُدُ عَلَيْهِ بِجَبْهَتِهِ .
وَقَالَ " رَأَيْت عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ

قَبَّلَهُ ثُمَّ سَجَدَ عَلَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ : رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ ذَلِكَ فَفَعَلْته " رَوَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ .
وَمَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجَدَ عَلَى الْحَجَرِ } وَصَحَّحَهُ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ مُرْسَلُ صَحَابِيٍّ لِمَا صُرِّحَ مِنْ تَوَسُّطِ عُمَرَ ، إلَّا أَنَّ الشَّيْخَ قِوَامَ الدِّينِ الْكَاكِيَّ قَالَ : وَعِنْدَنَا الْأَوْلَى أَنْ لَا يَسْجُدَ لِعَدَمِ الرِّوَايَةِ فِي الْمَشَاهِيرِ ، وَنَقَلَ السُّجُودَ عَنْ أَصْحَابِنَا الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ فِي مَنَاسِكِهِ ( قَوْلُهُ وَقَالَ لِعُمَرَ ) فِي رِوَايَةٍ لِابْنِ مَاجَهْ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ { اسْتَقْبَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَجَرَ ثُمَّ وَضَعَ شَفَتَيْهِ عَلَيْهِ يَبْكِي طَوِيلًا ثُمَّ الْتَفَتَ فَإِذَا هُوَ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَبْكِي فَقَالَ يَا عُمَرُ هَاهُنَا تُسْكَبُ الْعَبَرَاتُ }

قَالَ ( وَإِنْ ) ( أَمْكَنَهُ أَنْ يَمَسَّ الْحَجَرَ شَيْئًا فِي يَدِهِ ) كَالْعُرْجُونِ وَغَيْرِهِ ( ثُمَّ قِيلَ ذَلِكَ فُعِلَ ) لِمَا رُوِيَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ طَافَ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَاسْتَلَمَ الْأَرْكَانَ بِمِحْجَنِهِ } وَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ اسْتَقْبَلَهُ وَكَبَّرَ وَهَلَّلَ وَحَمِدَ اللَّهَ وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .

( قَوْلُهُ وَإِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يُمِسَّ الْحَجَرَ شَيْئًا فِي يَدِهِ ) أَوْ يَمَسَّهُ بِيَدِهِ ( وَيُقَبِّلَ مَا مَسَّ بِهِ فَعَلَ ) أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِمَا أَخْرَجَ السِّتَّةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى رَاحِلَتِهِ يَسْتَلِمُ الْحَجَرَ بِمِحْجَنِهِ لَأَنْ يَرَاهُ النَّاسُ وَلِيُشْرِفَ وَلِيَسْأَلُوهُ فَإِنَّ النَّاسَ غَشُوهُ } .
وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ جَابِرٍ إلَى قَوْلِهِ لَأَنْ يَرَاهُ النَّاسُ .
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ { رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عَلَى رَاحِلَتِهِ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ مَعَهُ وَيُقَبِّلُ الْمِحْجَنِ } .
وَهَاهُنَا إشْكَالٌ حَدِيثِيٌّ ، وَهُوَ أَنَّ الثَّابِتَ بِلَا شُبْهَةٍ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَمَلَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ } وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ جَابِرٍ الطَّوِيلُ فَارْجِعْ إلَيْهِ ، وَهَذَا يُنَافِي طَوَافَهُ عَلَى الرَّاحِلَةِ .
فَإِنْ أُجِيبَ : بِحَمْلِ حَدِيثِ الرَّاحِلَةِ عَلَى الْعُمْرَةِ دَفَعَهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي مُسْلِمٍ { طَافَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى رَاحِلَتِهِ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ كَرَاهِيَةَ أَنْ يُصْرَفَ النَّاسُ عَنْهُ } وَمَرْجِعُ الضَّمِيرِ فِيهِ إنْ احْتَمَلَ كَوْنَهُ الرُّكْنَ : يَعْنِي أَنَّهُ لَوْ طَافَ مَاشِيًا لَانْصَرَفَ النَّاسُ عَنْ الْحَجَرِ كُلَّمَا جَاءَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوْقِيرًا لَهُ أَنْ يُزَاحَمَ ، لَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ كَوْنَ مَرْجِعِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَعْنِي لَوْ لَمْ يَرْكَبْ لَانْصَرَفَ النَّاسُ عَنْهُ ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ رَامَ الْوُصُولَ إلَيْهِ لِسُؤَالٍ أَوْ لِرُؤْيَةٍ لِاقْتِدَاءٍ لَا يَقْدِرُ لِكَثْرَةِ الْخَلْقِ حَوْلَهُ ، فَيَنْصَرِفُ مِنْ غَيْرِ تَحْصِيلِ حَاجَتِهِ فَيَجِبُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ لِمُوَافَقَةِ هَذَا الِاحْتِمَالِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ ، فَيَحْصُلُ اجْتِمَاعُ الْحَدِيثَيْنِ دُونَ

تَعَارُضِهِمَا .
وَالْجَوَابُ : أَنَّ فِي الْحَجِّ لِلْآفَاقِيِّ أَطْوِفَةً فَيُمْكِنُ كَوْنُ الْمَرْوِيِّ مِنْ رُكُوبِهِ كَانَ فِي طَوَافِ الْفَرْضِ يَوْمَ النَّحْرِ لِيُعْلِمَهُمْ ، وَمَشْيُهُ كَانَ فِي طَوَافِ الْقُدُومِ وَهُوَ الَّذِي يُفِيدُهُ حَدِيثُ جَابِرٍ الطَّوِيلُ لِأَنَّهُ حَكَى ذَلِكَ الطَّوَافَ الَّذِي بَدَأَ بِهِ أَوَّلَ دُخُولِهِ مَكَّةَ ، كَمَا يُفِيدُهُ سَوْقُهُ لِلنَّاظِرِ فِيهِ .
فَإِنْ قُلْت : فَهَلْ يُجْمَعُ بَيْنَ مَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ { إنَّمَا طَافَ رَاكِبًا لِيُشْرِفَ وَيَرَاهُ النَّاسُ فَيَسْأَلُوهُ } ، وَبَيْنَ مَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ إنَّمَا طَافَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ يَشْتَكِي .
كَمَا قَالَ مُحَمَّدٌ : أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ { أَنَّهُ سَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ مَعَ عِكْرِمَةَ فَجَعَلَ حَمَّادٌ يَصْعَدُ الصَّفَا وَعِكْرِمَةُ لَا يَصْعَدُ .
وَيَصْعَدُ حَمَّادٌ الْمَرْوَةَ وَعِكْرِمَةُ لَا يَصْعَدُهَا ، فَقَالَ حَمَّادٌ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَلَا تَصْعَدُ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ ؟ فَقَالَ : هَكَذَا كَانَ طَوَافُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَالَ حَمَّادٌ : فَلَقِيتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ ، فَقَالَ إنَّمَا طَافَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَهُوَ شَاكٍ يَسْتَلِمُ الْأَرْكَانَ بِمِحْجَنٍ ، فَطَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَلَى رَاحِلَتِهِ فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يَصْعَدْ } ا هـ .
فَالْجَوَابُ بِأَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي الْعُمْرَة .
فَإِنْ قُلْت : قَدْ ثَبَتَ فِي مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ إنَّمَا { سَعَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَمَلَ بِالْبَيْتِ لِيُرِيَ الْمُشْرِكِينَ قُوَّتَهُ } وَهَذَا لَازِمٌ أَنْ يَكُونَ فِي الْعُمْرَةِ إذْ لَا مُشْرِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِمَكَّة .
فَالْجَوَابُ : نَحْمِلُ كُلًّا مِنْهُمَا عَلَى عُمْرَةٍ غَيْرِ الْأُخْرَى ، وَالْمُنَاسِبُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ كَوْنُهُ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ لِأَنَّ الْإِرَادَةَ تُفِيدُهُ فَلْيَكُنْ ذَلِكَ الرُّكُوبُ

لِلشِّكَايَةِ فِي غَيْرِهَا وَهِيَ عُمْرَةُ الْجِعْرَانَةِ .
وَسَنُسْعِفُك بِعَدِّ عُمَرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَابِ الْفَوَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَأَمَّا الثَّانِي فَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ عَنْ نَافِعٍ قَالَ { رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ يَسْتَلِمُ الْحَجَرَ بِيَدِهِ ثُمَّ يُقَبِّلُ يَدَهُ ، وَقَالَ : مَا تَرَكْتُهُ مُنْذُ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ } وَذَكَرَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ مَسْحَ الْوَجْهِ بِالْيَدِ مَكَانَ تَقْبِيلِ الْيَدِ ( قَوْلُهُ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ) أَيْ مِنْ التَّقْبِيلِ وَالْمَسِّ بِالْيَدِ أَوْ بِمَا فِيهَا ( اسْتَقْبَلَهُ ) وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلًا بِبَاطِنِهِمَا إيَّاهُ ( وَكَبَّرَ وَهَلَّلَ وَحَمِدَ اللَّهَ وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) وَيَفْعَلُ فِي كُلِّ شَوْطٍ عِنْدَ الرُّكْنِ الْأَسْوَدِ مَا يَفْعَلُهُ فِي الِابْتِدَاءِ

قَالَ ( ثُمَّ أَخَذَ عَنْ يَمِينِهِ مِمَّا يَلِي الْبَابَ وَقَدْ اضْطَبَعَ رِدَاءَهُ قَبْلَ ذَاكَ فَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ ) لِمَا رُوِيَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اسْتَلَمَ الْحَجَرَ ثُمَّ أَخَذَ عَنْ يَمِينِهِ مِمَّا يَلِي الْبَابَ فَطَافَ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ } ( وَالِاضْطِبَاعُ أَنْ يَجْعَلَ رِدَاءَهُ تَحْتَ إبْطِهِ الْأَيْمَنِ وَيُلْقِيهِ عَلَى كَتِفِهِ الْأَيْسَرِ ) وَهُوَ سُنَّةٌ .
وَقَدْ نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .

( قَوْلُهُ ثُمَّ أَخَذَ عَنْ يَمِينِهِ إلَخْ ) أَمَّا الْأَخْذُ عَنْ الْيَمِينِ فَفِي مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ { لَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَكَّةَ بَدَأَ بِالْحَجَرِ فَاسْتَلَمَهُ ، ثُمَّ مَضَى عَلَى يَمِينِهِ فَرَمَلَ ثَلَاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا } وَأَمَّا حَدِيثُ الِاضْطِبَاعِ فَفِي أَبِي دَاوُد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ اعْتَمَرُوا مِنْ الْجِعْرَانَةِ فَرَمَلُوا بِالْبَيْتِ ، وَجَعَلُوا أَرْدِيَتَهُمْ تَحْتَ آبَاطِهِمْ ، ثُمَّ قَذَفُوهَا عَلَى عَوَاتِقِهِمْ الْيُسْرَى } سَكَتَ عَنْهُ أَبُو دَاوُد وَحَسَّنَهُ غَيْرُهُ .
وَأَخْرَجَ هُوَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ { طَافَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُضْطَبِعًا بِبُرْدٍ أَخْضَرَ } حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ وَسُمِّيَ اضْطِبَاعًا افْتِعَالٌ مِنْ الضَّبُعِ وَهُوَ الْعَضُدُ ، وَأَصْلُهُ اضْتِبَاعٌ لَكِنْ قَدْ عُرِفَ أَنَّ تَاءَ الِافْتِعَالِ تُبَدَّلُ طَاءً إذَا وَقَعَتْ إثْرَ حَرْفِ إطْبَاقٍ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَضْطَبِعَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الطَّوَافِ بِقَلِيلِ ، وَيَجِبُ حَمْلُ الرَّمَلِ فِي حَدِيثِ الْجِعْرَانَةِ عَلَى فِعْلِ الصَّحَابَةِ بِتَقْدِيرِ ذَلِكَ الْجَمْعِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ .
وَيَقُولُ : إذَا أَخَذَ فِي الطَّوَافِ عِنْدَ مُحَاذَاةِ الْمُلْتَزَمِ وَهُوَ مَا بَيْنَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ وَالْبَابِ مِنْ الْكَعْبَةِ { اللَّهُمَّ إلَيْكَ مَدَدْتُ يَدِي ، وَفِيمَا عِنْدَكَ عَظُمَتْ رَغْبَتِي ، فَاقْبَلْ دَعْوَتِي ، وَأَقِلْنِي عَثْرَتِي وَارْحَمْ تَضَرُّعِي ، وَجُدْ لِي بِمَغْفِرَتِكَ ، وَأَعِذْنِي مِنْ مُضِلَّاتِ الْفِتَنِ .
اللَّهُمَّ إنَّ لَكَ عَلَيَّ حُقُوقًا فَتَصَدَّقْ بِهَا عَلَيَّ وَعِنْدَ مُحَاذَاةِ الْبَابِ يَقُولُ اللَّهُمَّ هَذَا الْبَيْتُ بَيْتُكَ ، وَهَذَا الْحَرَمُ حَرَمُكَ ، وَهَذَا الْأَمْنُ أَمْنُكَ ، وَهَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنْ النَّارِ .
يَعْنِي نَفْسَهُ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَعُوذُ بِكَ مِنْ النَّارِ فَأَعِذْنِي مِنْهَا وَإِذَا أَتَى الرُّكْنَ الْعِرَاقِيَّ وَهُوَ الرُّكْنُ الَّذِي مِنْ الْبَابِ إلَيْهِ قَالَ

اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الشَّكِّ وَالشِّرْكِ وَالشِّقَاقِ وَالنِّفَاقِ وَمَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ وَسُوءِ الْمُنْقَلَبِ فِي الْمَالِ وَالْأَهْلِ وَالْوَلَدِ وَإِذَا حَازَى الْمِيزَابَ قَالَ اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ إيمَانًا لَا يَزُولُ ، وَيَقِينًا لَا يَنْفَدُ ، وَمُرَافَقَةَ نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
اللَّهُمَّ أَظِلَّنِي تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِكَ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّك ، وَاسْقِنِي بِكَأْسِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرْبَةً لَا أَظْمَأُ بَعْدَهَا أَبَدًا وَإِذَا حَاذَى الرُّكْنَ الشَّامِيَّ وَهُوَ الَّذِي مِنْ الْعِرَاقِيِّ إلَيْهِ قَالَ اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجًّا مَبْرُورًا .
وَسَعْيًا مَشْكُورًا .
وَذَنْبًا مَغْفُورًا .
وَتِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ، يَا عَزِيزُ يَا غَفُورُ وَإِذَا أَتَى الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ وَهُوَ الَّذِي مِنْ الشَّامِيِّ إلَيْهِ قَالَ اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْكُفْرِ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْفَقْرِ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ .
وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْخِزْيِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } وَأَسْنَدَ الْوَاقِدِيُّ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ الْمَخْزُومِيِّ { أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِيمَا بَيْنَ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ وَالْأَسْوَدِ : رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } وَاعْلَمْ أَنَّك إذَا أَرَدْت أَنْ تَسْتَوْفِيَ مَا أُثِرَ مِنْ الْأَدْعِيَةِ وَالْأَذْكَارِ فِي الطَّوَافِ كَانَ وُقُوفُك فِي أَثْنَاءِ الطَّوَافِ أَكْثَرَ مِنْ مَشْيِك بِكَثِيرٍ .
وَإِنَّمَا أُثِرَتْ هَذِهِ فِي طَوَافٍ فِيهِ تَأَنٍّ وَمُهْلَةٌ لَا رَمَلٌ ، ثُمَّ وَقَعَ لِبَعْضِ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَنْ قَالَ فِي مَوْطِنِ كَذَا كَذَا ، وَلِآخَرَ فِي آخَرَ كَذَا ، وَلِآخَرَ فِي نَفْسِ أَحَدِهِمَا شَيْئًا آخَرَ ، فَجَمَعَ الْمُتَأَخِّرُونَ الْكُلَّ لَا أَنَّ الْكُلَّ وَقَعَ فِي الْأَصْلِ لِوَاحِدٍ ، بَلْ الْمَعْرُوفُ فِي الطَّوَافِ مُجَرَّدُ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلَمْ نَعْلَمْ خَبَرًا

رُوِيَ فِيهِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي الطَّوَافِ .
وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا ، وَلَا يَتَكَلَّمُ إلَّا بِسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ ، مُحِيَتْ عَنْهُ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ ، وَكُتِبَتْ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ ، وَرُفِعَ لَهُ بِهَا عَشْرُ دَرَجَاتٍ } وَسَنَذْكُرُ فُرُوعًا تَتَعَلَّقُ بِالطَّوَافِ نَذْكُرُ فِيهَا حُكْمَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ

قَالَ ( وَيَجْعَلُ طَوَافَهُ مِنْ وَرَاءِ الْحَطِيمِ ) وَهُوَ اسْمٌ لِمَوْضِعٍ فِيهِ الْمِيزَابُ ، سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ حُطِّمَ مِنْ الْبَيْتِ : أَيْ كُسِرَ ، وَسُمِّيَ حِجْرًا لِأَنَّهُ حُجِرَ مِنْهُ : أَيْ مُنِعَ ، وَهُوَ مِنْ الْبَيْتِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا { فَإِنَّ الْحَطِيمَ مِنْ الْبَيْتِ } فَلِهَذَا يُجْعَلُ الطَّوَافُ مِنْ وَرَائِهِ ، حَتَّى لَوْ دَخَلَ الْفُرْجَةَ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ لَا يَجُوزُ ، إلَّا أَنَّهُ إذَا اسْتَقْبَلَ الْحَطِيمَ وَحْدَهُ لَا تُجْزِيه الصَّلَاةُ لِأَنَّ فَرْضِيَّةَ التَّوَجُّهِ ثَبَتَتْ بِنَصِّ الْكِتَابِ فَلَا تَتَأَدَّى بِمَا ثَبَتَتْ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ احْتِيَاطًا ، وَالِاحْتِيَاطُ فِي الطَّوَافِ أَنْ يَكُونَ وَرَاءَهُ .

( قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ) فِي الصَّحِيحَيْنِ وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ { سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْحِجْرِ أَمِنَ الْبَيْتِ هُوَ ؟ قَالَ نَعَمْ ، قُلْتُ : فَمَا بَالُهُمْ لَمْ يُدْخِلُوهُ فِي الْبَيْتِ ؟ قَالَ : إنَّ قَوْمَكِ قَصُرَتْ بِهِمْ النَّفَقَةُ ، قُلْتُ : فَمَا شَأْنُ بَابِهِ مُرْتَفِعًا ؟ قَالَ : فَعَلَ ذَلِكَ قَوْمُكِ لِيُدْخِلُوا مَنْ شَاءُوا وَيَمْنَعُوا مَنْ شَاءُوا ، وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُ عَهْدٍ بِكُفْرٍ وَأَخَافُ أَنْ تُنْكِرَهُ قُلُوبُهُمْ لَنَظَرْتُ أَنْ أُدْخِلَ الْحِجْرَ بِالْبَيْتِ وَأَنْ أُلْزِقَ بَابَهُ بِالْأَرْضِ } .
وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ أَدْخُلَ الْبَيْتَ وَأُصَلِّيَ فِيهِ ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِي فَأَدْخَلَنِي فِي الْحِجْرِ فَقَالَ : صَلِّي فِي الْحِجْرِ إذَا أَرَدْتِ دُخُولَ الْبَيْتِ فَإِنَّمَا هُوَ قِطْعَةٌ مِنْ الْبَيْتِ ، وَإِنَّ قَوْمَكِ اقْتَصَرُوا حِينَ بَنَوْا الْكَعْبَةَ فَأَخْرَجُوهُ مِنْ الْبَيْتِ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ هَدَمَهُ فِي خِلَافَتِهِ وَبَنَاهُ عَلَى مَا أَحَبَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَكُونَ ، فَلَمَّا قُتِلَ أَعَادَهُ الْحَجَّاجُ عَلَى مَا كَانَ يُحِبُّهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ .
قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ : لَسْنَا مِنْ تَخْلِيطِ أَبِي خُبَيْبٍ فِي شَيْءٍ فَهَدَمَهَا وَبَنَاهَا عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ .
فَلَمَّا فَرَغَ جَاءَهُ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَعْرُوفُ بِالْقُبَاعِ ، وَهُوَ أَخُو عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ الشَّاعِرُ وَمَعَهُ رَجُلٌ آخَرُ فَحَدَّثَاهُ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ فَنَدِمَ ، وَجَعَلَ يَنْكُتُ الْأَرْضَ بِمُحْضَرَةٍ فِي يَدِهِ وَيَقُولُ : وَدِدْت أَنِّي تَرَكْت أَبَا خُبَيْبٍ وَمَا عَمِلَ مِنْ ذَلِكَ ، ذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ هَذَا ، وَلَيْسَ الْحِجْرُ كُلُّهُ مِنْ الْبَيْتِ بَلْ

سِتَّةُ أَذْرُعٍ مِنْهُ فَقَطْ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { سِتَّةُ أَذْرُعٍ مِنْ الْحِجْرِ مِنْ الْبَيْتِ وَمَا زَادَ لَيْسَ مِنْ الْبَيْتِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ ( قَوْلُهُ لَا يَجُوزُ ) أَيْ لَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ فَتَجِبُ إعَادَةُ كُلِّهِ لِيُؤَدِّيَهُ عَلَى وَجْهِهِ الْمَشْرُوعِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ بَلْ أَعَادَ عَلَى الْحِجْرِ فَقَطْ وَدَخَلَ الْفُرْجَتَيْنِ جَازَ ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ حَتَّى رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فَسَيَأْتِي فِي بَابِ الْجِنَايَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَلَوْ طَافَ وَلَمْ يَدْخُلْ الْفُرْجَتَيْنِ بَلْ كَانَ يَرْجِعُ كُلَّمَا وَصَلَ إلَى بَابِهِمَا فَفِي الْغَايَةِ لَا يُعَدُّ عَوْدُهُ شَوْطًا لِأَنَّهُ مَنْكُوسٌ ا هـ .
وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ طَوَافَ الْمَنْكُوسِ لَا يَصِحُّ لَكِنَّ الْمَذْهَبَ الِاعْتِدَادُ بِهِ .
وَيَكُونُ تَارِكًا لِلْوَاجِبِ ، فَالْوَاجِبُ هُوَ الْأَخْذُ فِي الطَّوَافِ مِنْ جِهَةِ الْبَابِ فَيَكُونُ بِنَاءُ الْكَعْبَةِ عَلَى يَسَارِ الطَّائِفِ فَتَرْكُهُ تَرْكُ وَاجِبٍ ، فَإِنَّمَا يُوجِبُ الْإِثْمَ فَيَجِبُ إعَادَتُهُ مَا دَامَ بِمَكَّةَ .
فَإِنْ رَجَعَ قَبْلَ إعَادَتِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ .
وَالِافْتِتَاحُ مِنْ غَيْرِ الْحَجَرِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْمُتَأَخِّرُونَ ، قِيلَ : لَا يُجْزِيهِ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالطَّوَافِ فِي الْآيَةِ مُجْمَلٌ فِي حَقِّ الِابْتِدَاءِ فَالْحَقُّ فِعْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَيَانًا .
وَقِيلَ : يُجْزِيهِ لِأَنَّهَا مُطْلَقَةٌ لَا مُجْمَلَةٌ غَيْرَ أَنَّ الِافْتِتَاحَ مِنْ الْحَجَرِ وَاجِبٌ .
لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَتْرُكْهُ قَطُّ ( قَوْلُهُ لِأَنَّ فَرْضِيَّةَ التَّوَجُّهِ ) تَقَدَّمَ مِثْلُهُ فِي عَدَمِ جَوَازِ التَّيَمُّمِ عَلَى أَرْضٍ تَنَجَّسَتْ ثُمَّ جَفَّتْ ، وَتَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ بِأَنَّ قَطْعِيَّةَ التَّكْلِيفِ بِفِعْلٍ يَتَعَلَّقُ بِشَيْءٍ لَا يَتَوَقَّفُ الْخُرُوجُ عَنْ عُهْدَتِهِ عَلَى الْقَطْعِ بِذَلِكَ الشَّيْءِ .
بَلْ ظَنُّهُ كَافٍ لِلْقَطْعِ بِالتَّكْلِيفِ بِاسْتِعْمَالِ الطَّاهِرِ مِنْ الْمَاءِ ثُمَّ يَخْرُجُ عَنْ عَهْدِيَّةِ الْقَطْعِ بِاسْتِعْمَالِ

مَا يُظَنُّ طَهَارَتُهُ مِنْهُ .
وَيُجَابُ بِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الِانْتِقَالِ عَنْ الشُّغْلِ الْمَقْطُوعِ بِهِ إلَّا بِالْقَطْعِ بِهِ ، غَيْرَ أَنَّ مَا لَمْ يُوجَدْ فِيهِ طَرِيقٌ لِلْقَطْعِ يُكْتَفَى فِيهِ بِالظَّنِّ ضَرُورَةً كَحَالِ الْمَاءِ فَإِنَّهُ لَا يُتَيَقَّنُ بِطَهَارَتِهِ إلَّا حَالَ نُزُولِهِ مِنْ السَّمَاءِ .
وَكَوْنِهِ فِي الْبَحْرِ وَمَا لَهُ حُكْمُهُ ، وَلَيْسَ يَتَمَكَّنُ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ تَحْصِيلِ ذَلِكَ فِي كُلِّ تَطْهِيرٍ بِخِلَافِ التَّوْجِيهِ وَالتَّيَمُّمِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ

قَالَ ( وَيَرْمُلُ فِي الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ مِنْ الْأَشْوَاطِ ) وَالرَّمَلُ أَنْ يَهُزَّ فِي مِشْيَتِهِ الْكَتِفَيْنِ كَالْمُبَارِزِ يَتَبَخْتَرُ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ وَذَلِكَ مَعَ الِاضْطِبَاعِ .
وَكَانَ سَبَبُهُ إظْهَارَ الْجَلَدِ لِلْمُشْرِكَيْنِ حِينَ قَالُوا : أَضْنَاهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ ، ثُمَّ بَقِيَ الْحُكْمُ بَعْدَ زَوَالِ السَّبَبِ فِي زَمَنَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَبَعْدَهُ .
قَالَ ( وَيَمْشِي فِي الْبَاقِي عَلَى هَيِّنَتِهِ ) عَلَى ذَلِكَ اتَّفَقَ رُوَاةُ نُسُكِ رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ( وَالرَّمَلُ مِنْ الْحَجَرِ إلَى الْحَجَرِ ) هُوَ الْمَنْقُولُ مِنْ رَمَلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ( فَإِنْ زَحَمَهُ النَّاسُ فِي الرَّمَلِ قَامَ .
فَإِذَا وَجَدَ مَسْلَكًا رَمَلَ ) لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ فَيَقِفُ حَتَّى يُقِيمَهُ عَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ بِخِلَافِ الِاسْتِلَامِ لِأَنَّ الِاسْتِقْبَالَ بَدَلٌ لَهُ .

( قَوْلُهُ وَكَانَ سَبَبُهُ إلَخْ ) فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ { قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ مَكَّةَ وَقَدْ وَهَنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ .
فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ إنَّهُ يَقْدَمُ غَدًا عَلَيْكُمْ قَوْمٌ قَدْ وَهَنَتْهُمْ الْحُمَّى ، وَلَقُوا مِنْهَا شِدَّةً .
فَجَلَسُوا مِمَّا يَلِي الْحِجْرَ .
فَأَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرْمُلُوا ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ .
وَيَمْشُوا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ لِيَرَى الْمُشْرِكُونَ جَلَدَهُمْ ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ : هَؤُلَاءِ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّ الْحُمَّى قَدْ وَهَنَتْهُمْ هُمْ أَجْلَدُ مِنْ كَذَا وَكَذَا } وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ أَنْ يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ كُلَّهَا إلَّا الْإِبْقَاءَ عَلَيْهِمْ ا هـ .
وَيَعْنِي بِالرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَّ وَالْأَسْوَدَ كَمَا فِي أَبِي دَاوُد { كَانُوا إذَا بَلَغُوا الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ وَتَغَيَّبُوا عَنْ قُرَيْشٍ مَشَوْا ثُمَّ يَطْلُعُونَ عَلَيْهِمْ فَيَرْمُلُونَ يَقُولُ الْمُشْرِكُونَ كَأَنَّهُمْ الْغِزْلَانُ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : فَكَانَتْ سُنَّةً .
فَعَنْ هَذَا ذَهَبَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ إلَى أَنَّهُ لَا رَمَلَ بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ .
وَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِيمَا نُقِلَ عَنْهُ إلَى أَنَّهُ لَا رَمَلَ أَصْلًا .
وَنَقَلَهُ الْكَرْمَانِيُّ عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِنَا ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ قَالَ : { قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ : يَزْعُمُ قَوْمُكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ رَمَلَ بِالْبَيْتِ وَأَنَّ ذَلِكَ سُنَّةٌ ، قَالَ : صَدَقُوا وَكَذَبُوا ؟ قُلْتُ : مَا صَدَقُوا وَكَذَبُوا ؟ قَالَ : صَدَقُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ رَمَلَ ، وَكَذَبُوا لَيْسَ سُنَّةً .
إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ مَكَّةَ ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ إنَّ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَطُوفُوا بِالْبَيْتِ مِنْ الْهُزَالِ .
وَكَانُوا يَحْسُدُونَهُ

فَأَمَرَهُمْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَرْمُلُوا ثَلَاثًا وَيَمْشُوا أَرْبَعًا } فَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَى خِلَافِ الْفَرِيقَيْنِ بِقَوْلِهِ : ثُمَّ بَقِيَ الْحُكْمُ بَعْدَ زَوَالِ السَّبَبِ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَعْدَهُ ، وَبِقَوْلِهِ " وَالرَّمَلُ مِنْ الْحَجَرِ إلَى الْحَجَرِ هُوَ الْمَنْقُولُ " أَمَّا أَنَّهُ بَقِيَ الْحُكْمُ بَعْدَ زَوَالِ السَّبَبِ فِي زَمَنِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَبَعْدَهُ فَلِحَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ { أَنَّهُ رَمَلَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ } وَتَقَدَّمَ الْحَدِيثُ ، وَكَذَا الصَّحَابَةُ بَعْدَهُ وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَغَيْرُهُمْ .
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ عُمَرَ قَالَ : مَا لَنَا وَلِلرَّمَلِ ، إنَّمَا كُنَّا رَاءَيْنَا بِهِ الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ أَهْلَكَهُمْ اللَّهُ ، ثُمَّ قَالَ : شَيْءٌ صَنَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا نُحِبُّ أَنْ نَتْرُكَهُ } وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ " سَمِعْت عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ : فِيمَ الرَّمَلُ ؟ وَكَشْفُ الْمَنَاكِبِ ، وَقَدْ أَعَزَّ اللَّهُ تَعَالَى الْإِسْلَامَ وَنَفَى الْكُفْرَ وَأَهْلَهُ ؟ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا نَدْعُ شَيْئًا كُنَّا نَفْعَلُهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَأَمَّا أَنَّهُ مِنْ الْحَجَرِ إلَى الْحَجَرِ مَنْقُولًا فَفِي مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ { رَمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْحَجَرِ إلَى الْحَجَرِ ثَلَاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا } وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيّ عَنْ جَابِرٍ مِثْلَهُ .
وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَمَلَ ثَلَاثًا مِنْ الْحَجَرِ إلَى الْحَجَرِ } .
وَفِي آثَارِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ مُرْسَلًا : أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ رَمَلَ مِنْ الْحَجَرِ إلَى الْحَجَرِ } فَهَذِهِ تُقَدَّمُ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهَا مُثْبِتَةٌ وَذَلِكَ نَافٍ .
وَأَيْضًا فَإِنَّمَا فِي ذَلِكَ الْإِخْبَارُ عَنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَالْمُخْبَرُ عَنْهُ فِي هَذِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ مَا فَسَّرَ الْمُصَنِّفُ الرَّمَلَ بِهِ هُوَ مَا فُسِّرَ بِهِ فِي الْمَبْسُوطِ .
وَقِيلَ : هُوَ إسْرَاعٌ مَعَ تَقَارُبِ الْخُطَا دُونَ الْوُثُوبِ وَالْعَدْوِ .
هَذَا وَالرَّمَلُ بِالْقُرْبِ مِنْ الْبَيْتِ أَفْضَلُ .
فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَهُوَ بِالْبُعْدِ مِنْ الْبَيْتِ أَفْضَلُ مِنْ الطَّوَافِ بِلَا رَمَلٍ مَعَ الْقُرْبِ مِنْهُ .
وَلَوْ مَشَى شَوْطًا ثُمَّ تَذَكَّرَ لَا يَرْمُلُ إلَّا فِي شَوْطَيْنِ ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ فِي الثَّلَاثَةِ لَا يَرْمُلُ بَعْدَ ذَلِكَ

قَالَ ( وَيَسْتَلِمُ الْحَجَرَ كُلَّمَا مَرَّ بِهِ إنْ اسْتَطَاعَ ) لِأَنَّ أَشْوَاطَ الطَّوَافِ كَرَكَعَاتِ الصَّلَاةِ ، فَكَمَا يَفْتَتِحُ كُلَّ رَكْعَةٍ بِالتَّكْبِيرِ يَفْتَتِحُ كُلَّ شَوْطٍ بِاسْتِلَامِ الْحَجَرِ .
وَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ الِاسْتِلَامَ اسْتَقْبَلَ وَكَبَّرَ وَهَلَّلَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ( وَيَسْتَلِمُ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ ) وَهُوَ حَسَنٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ سُنَّةٌ ، وَلَا يَسْتَلِمُ غَيْرَهُمَا فَإِنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَسْتَلِمُ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ وَلَا يَسْتَلِمُ غَيْرَهُمَا ( وَيَخْتِمُ الطَّوَافَ بِالِاسْتِلَامِ ) يَعْنِي اسْتِلَامَ الْحَجَرِ .

( قَوْلُهُ وَيَسْتَلِمُ الْحَجَرَ كُلَّمَا مَرَّ بِهِ ) ذَكَرَ فِي وَجْهِهِ الْمَعْنَى دُونَ الْمَنْقُولِ وَهُوَ إلْحَاقُ الْأَشْوَاطِ بِالرَّكَعَاتِ فَمَا يَفْتَتِحُ بِهِ الْعِبَادَةَ وَهُوَ الِاسْتِلَامُ يَفْتَتِحُ بِهِ كُلَّ شَوْطٍ كَالتَّكْبِيرِ فِي الصَّلَاةِ ، وَهُوَ قِيَاسُ شَبَهٍ لِإِثْبَاتِ اسْتِحْبَابِ شَيْءٍ وَفَتْحِ بَابِهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ } لَكِنْ فِيهِ الْمَنْقُولُ وَهُوَ مَا فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافَ عَلَى بَعِيرٍ كُلَّمَا أَتَى عَلَى الرُّكْنِ أَشَارَ إلَيْهِ بِشَيْءٍ فِي يَدِهِ وَكَبَّرَ } ( قَوْلُهُ وَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ الِاسْتِلَامَ ) أَيْ كُلَّمَا مَرَّ ( اسْتَقْبَلَ وَكَبَّرَ وَهَلَّلَ ) وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ وَلَا كَثِيرٌ رَفْعَ الْيَدَيْنِ فِي كُلِّ تَكْبِيرٍ يَسْتَقْبِلُ بِهِ فِي كُلِّ مَبْدَإِ شَوْطٍ ، فَإِنْ لَاحَظْنَا مَا رَوَاهُ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا فِي سَبْعَةِ مَوَاطِنَ يَنْبَغِي أَنْ تُرْفَعَ لِلْعُمُومِ فِي اسْتِلَامِ الْحَجَرِ } وَإِنْ لَاحَظْنَا عَدَمَ صِحَّةِ هَذَا اللَّفْظِ فِيهِ وَعَدَمَ تَحْسِينِهِ بَلْ الْقِيَاسُ الْمُتَقَدِّمُ لَمْ يَفْدِ ذَلِكَ إذْ لَا رَفْعَ مَعَ مَا بِهِ الِافْتِتَاحُ فِيهَا إلَّا فِي الْأَوَّلِ ، وَاعْتِقَادِي أَنَّ هَذَا هُوَ الصَّوَابُ وَلَمْ أَرَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خِلَافَهُ .
( قَوْلُهُ وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ سُنَّةٌ ) هَذَا هُوَ مُقَابِلُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فِي قَوْلِهِ ، وَهُوَ حَسَنٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَيُقَبِّلُهُ مِثْلَ الْحَجَرِ .
وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ مِنْ رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ إلَّا التِّرْمِذِيَّ { لَمْ أَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمَسُّ مِنْ الْأَرْكَانِ إلَّا الْيَمَانِيَّيْنِ } لَيْسَ حُجَّةً عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ كَمَا قَدْ يُتَوَهَّمُ ، إذْ لَيْسَ فِيهِ سِوَى إثْبَاتِ رُؤْيَةِ اسْتِلَامِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلرُّكْنَيْنِ ، وَمُجَرَّدُ ذَلِكَ لَا يُفِيدُ كَوْنَهُ عَلَى وَجْهِ الْمُوَاظَبَةِ وَلَا سُنَّةَ

دُونَهَا غَيْرَ أَنَّا عَلِمْنَا الْمُوَاظَبَةَ عَلَى اسْتِلَامِ الْأَسْوَدِ مِنْ خَارِجٍ ، فَقُلْنَا بِاسْتِنَانِهِ فَيَكُونُ مُجَرَّدُ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ دَلِيلُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
وَكَذَا مَا فِي مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ " مَا تَرَكْت اسْتِلَامَ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَّ وَالْحَجَرَ الْأَسْوَدَ مُنْذُ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَلِمُهُمَا " فَإِنَّهُ لَا يَزِيدُ عَلَى أَنَّهُ رَآهُ يَسْتَلِمُهُ فَلَمْ يَتْرُكْهُ هُوَ ، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مُحَافَظَةً مِنْهُ عَلَى الْأَمْرِ الْمُسْتَحَبِّ ، وَكَذَا مَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ " مَسْحُ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ وَالرُّكْنِ الْأَسْوَدِ يَحُطُّ الْخَطَايَا حَطًّا " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ قَالَ : هَذَا نَدْبٌ ، وَالْمَنْدُوبُ مِنْ الْمُسْتَحَبِّ .
نَعَمْ مَا فِي الدَّارَقُطْنِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ " كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُقَبِّلُ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ وَيَضَعُ يَدَهُ عَلَيْهِ " وَأَخْرَجَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَقَالَ " وَيَضَعُ خَدَّهُ عَلَيْهِ " ظَاهِرٌ فِي الْمُوَاظَبَةِ .
وَأَظْهَرُ مِنْهُ مَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ " كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يَدَعُ أَنْ يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ وَالرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ فِي كُلِّ طَوَافِهِ " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَعَنْ مُجَاهِدٍ " مَنْ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ ثُمَّ دَعَا اُسْتُجِيبَ لَهُ " وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ " وُكِّلَ بِالرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ ، فَمَنْ قَالَ : اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ قَالُوا : آمِينَ " .
وَيُسْتَحَبُّ الْإِكْثَارُ مِنْ هَذَا الدُّعَاءِ لِأَنَّهُ جَامِعٌ لِخَيْرَاتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ

قَالَ ( ثُمَّ يَأْتِي الْمَقَامَ فَيُصَلِّي عِنْدَهُ رَكْعَتَيْنِ أَوْ حَيْثُ تَيَسَّرَ مِنْ الْمَسْجِدِ ) وَهِيَ وَاجِبَةٌ عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : سُنَّةٌ لِانْعِدَامِ دَلِيلِ الْوُجُوبِ .
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَلِيُصَلِّ الطَّائِفُ لِكُلِّ أُسْبُوعٍ رَكْعَتَيْنِ } وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ ( ثُمَّ يَعُودُ إلَى الْحَجَرِ فَيَسْتَلِمُهُ ) لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ عَادَ إلَى الْحَجَرِ } وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ طَوَافٍ بَعْدَهُ سَعْيٌ يَعُودُ إلَى الْحَجَرِ ، لِأَنَّ الطَّوَافَ لَمَّا كَانَ يُفْتَتَحُ بِالِاسْتِلَامِ فَكَذَا السَّعْيُ يُفْتَتَحُ بِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ بَعْدَهُ سَعْيٌ .

( قَوْلُهُ وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَلْيُصَلِّ الطَّائِفُ لِكُلِّ أُسْبُوعٍ رَكْعَتَيْنِ } ) لَمْ يُعْرَفْ هَذَا الْحَدِيثُ .
نَعَمْ فِعْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَهُمَا ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَجَمِيعِ كُتُبِ الْحَدِيثِ ، إلَّا أَنَّ مُفِيدَ الْوُجُوبِ مِنْ الْفِعْلِ أَخَصُّ مِنْ مُطْلَقِ الْفِعْلِ إذْ هُوَ يُفِيدُ الْمُوَاظَبَةَ الْمَقْرُونَةَ بِعَدَمِ التَّرْكِ مَرَّةً ، وَقَدْ يَثْبُتُ اسْتِدْلَالًا بِمَا يَسْتَقِلُّ بِإِثْبَاتِ نَفْسِ الْمَطْلُوبِ فَيَثْبُتَانِ مَعًا .
وَهُوَ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا انْتَهَى إلَى مَقَامِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَرَأَ { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } نَبَّهَ بِالتِّلَاوَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ عَلَى أَنَّ صَلَاتَهُ هَذِهِ امْتِثَالًا لِهَذَا الْأَمْرِ .
وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ ، إلَّا أَنَّ اسْتِفَادَةَ ذَلِكَ مِنْ التَّنْبِيهِ وَهُوَ ظَنِّيٌ ، فَكَانَ الثَّابِتُ الْوُجُوبَ أَيْ بِالْمَعْنَى الْمُصْطَلَحِ ، وَيَلْزَمُهُ حُكْمُنَا بِمُوَاظَبَتِهِ مِنْ غَيْرِ تَرْكٍ إذْ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ تَرْكُ الْوَاجِبِ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ { كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إذَا طَافَ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ أَوَّلَ مَا يَقْدَمُ فَإِنَّهُ يَسْعَى ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ وَيَمْشِي أَرْبَعًا ثُمَّ يُصَلِّي سَجْدَتَيْنِ } وَهُوَ لَا يُفِيدُ عُمُومَ فِعْلِهِ إيَّاهُمَا عَقِيبَ كُلِّ طَوَافٍ .
وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ مُرْسَلًا أَخْبَرَنَا مِنْدَلٌ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي لِكُلِّ أُسْبُوعٍ رَكْعَتَيْنِ } وَفِي الْبُخَارِيِّ تَعْلِيقًا قَالَ إسْمَاعِيلُ : قُلْت لِلزُّهْرِيِّ : إنَّ عَطَاءً يَقُولُ تُجْزِيهِ الْمَكْتُوبَةُ مِنْ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ ، فَقَالَ : السُّنَّةُ أَفْضَلُ ، لَمْ يَطُفْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسْبُوعًا قَطُّ إلَّا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ .
وَقَوْلُ شُذُوذٍ مِنَّا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَا وَاجِبَتَيْنِ عَقِبَ الطَّوَافِ الْوَاجِبِ لَا غَيْرُ

لَيْسَ بِشَيْءٍ لِإِطْلَاقِ الْأَدِلَّةِ .
وَيُكْرَهُ وَصْلُ الْأَسَابِيعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ ، وَسَنَذْكُرُ تَمَامَ هَذَا فِي فُرُوعٍ تَتَعَلَّقُ بِالطَّوَافِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَيَتَفَرَّعُ عَلَى الْكَرَاهَةِ أَنَّهُ لَوْ نَسِيَهُمَا فَلَمْ يَتَذَكَّرْ إلَّا بَعْدَ أَنْ شَرَعَ فِي طَوَافٍ آخَرَ إنْ كَانَ قَبْلَ إتْمَامِ شَوْطٍ رَفَضَهُ .
وَبَعْدَ إتْمَامِهِ لَا لِأَنَّهُ دَخَلَ فِيهِ فَيَلْزَمُهُ إتْمَامُهُ وَعَلَيْهِ لِكُلِّ أُسْبُوعٍ مِنْهُمَا رَكْعَتَانِ آخِرًا ، لِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَ الْأُسْبُوعَ الثَّانِيَ بَعْدَ أَنْ طَافَ مِنْهُ شَوْطًا أَوْ شَوْطَيْنِ وَاشْتَغَلَ بِرَكْعَتَيْ الْأُسْبُوعِ الْأَوَّلِ لَأَخَلَّ بِالسُّنَّتَيْنِ بِتَفْرِيقِ الْأَشْوَاطِ فِي الْأُسْبُوعِ الثَّانِي .
لِأَنَّ وَصْلَ الْأَشْوَاطِ سُنَّةٌ وَتَرَكَ رَكْعَتَيْ الْأُسْبُوعِ الْأَوَّلِ عَنْ مَوْضِعِهِمَا ، فَإِنَّ الرَّكْعَتَيْنِ وَاجِبَتَانِ .
وَفِعْلُهُمَا فِي مَوْضِعِهِمَا سُنَّةٌ ، وَلَوْ مَضَى فِي الْأُسْبُوعِ الثَّانِي فَأَتَمَّهُ لَأَخَلَّ بِسُنَّةٍ وَاحِدَةٍ .
فَكَانَ الْإِخْلَالُ بِإِحْدَاهُمَا أَوْلَى مِنْ الْإِخْلَالِ بِهِمَا .
كَذَا فِي مَنَاسِكِ الْكَرْمَانِيِّ وَلَوْ طَافَ بِصَبِيٍّ لَا يُصَلِّي رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ عَنْهُ ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْعُوَ بَعْدَ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ بِدُعَاءِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ " اللَّهُمَّ إنَّك تَعْلَمُ سِرِّي وَعَلَانِيَتِي فَاقْبَلْ مَعْذِرَتِي ، وَتَعْلَمُ حَاجَتِي فَأَعْطِنِي سُؤْلِي .
اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك إيمَانًا يُبَاشِرُ قَلْبِي ، وَيَقِينًا صَادِقًا حَتَّى أَعْلَمَ أَنَّهُ لَا يُصِيبُنِي إلَّا مَا كَتَبْت عَلَيَّ ، وَرَضِّنِي بِمَا قَسَمْت لِي .
فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ إنِّي قَدْ غَفَرْت لَك ، وَلَنْ يَأْتِيَ أَحَدٌ مِنْ ذُرِّيَّتِك يَدْعُو بِمِثْلِ مَا دَعَوْتَنِي بِهِ إلَّا غَفَرْت ذُنُوبَهُ ، وَكَشَفْت هُمُومَهُ ، وَنَزَعْت الْفَقْرَ مِنْ بَيْنِ عَيْنَيْهِ ، وَأَنْجَزْت لَهُ كُلَّ نَاجِزٍ ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ وَإِنْ كَانَ لَا يُرِيدُهَا ( قَوْلُهُ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا صَلَّى

رَكْعَتَيْنِ عَادَ إلَى الْحَجَرِ } ) تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ ، وَقَوْلُهُ وَالْأَصْلُ إلَخْ اسْتِنْبَاطُ أَمْرٍ كُلِّيٍّ مِنْ فِعْلِهِ هَذَا ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْوَجْهِ .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَأْتِيَ زَمْزَمَ بَعْدَ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْخُرُوجِ إلَى الصَّفَا فَيَشْرَبَ مِنْهَا وَيَتَضَلَّعَ ، وَيُفْرِغَ الْبَاقِيَ فِي الْبِئْرِ وَيَقُولَ " اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك رِزْقًا وَاسِعًا وَعِلْمًا نَافِعًا وَشِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ " وَسَنَعْقِدُ لِلشُّرْبِ مِنْهَا فَصْلًا عِنْدَ ذِكْرِ الْمُصَنِّفِ الشُّرْبَ مِنْهَا عَقِيبَ طَوَافِ الْوَدَاعِ نَذْكُرُ فِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مَا فِيهِ مَقْنَعٌ ، ثُمَّ يَأْتِي الْمُلْتَزَمَ قَبْلَ الْخُرُوجِ إلَى الصَّفَا ، وَقِيلَ : يَلْتَزِمُ الْمُلْتَزَمَ قَبْلَ الرَّكْعَتَيْنِ ثُمَّ يُصَلِّيهِمَا ثُمَّ يَأْتِيَ زَمْزَمَ ثُمَّ يَعُودُ إلَى الْحَجَرِ ، ذَكَرَهُ السُّرُوجِيُّ .
وَالْتِزَامُهُ أَنْ يَتَشَبَّثَ بِهِ وَيَضَعَ صَدْرَهُ وَبَطْنَهُ عَلَيْهِ وَخَدَّهُ الْأَيْمَنَ ، وَيَضَعَ يَدَيْهِ فَوْقَ رَأْسِهِ مَبْسُوطَتَيْنِ عَلَى الْجِدَارِ قَائِمَتَيْنِ

قَالَ ( وَهَذَا الطَّوَافُ طَوَافُ الْقُدُومِ ) وَيُسَمَّى طَوَافُ التَّحِيَّةِ ( وَهُوَ سُنَّةٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ ) وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : إنَّهُ وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ أَتَى الْبَيْتَ فَلْيُحَيِّهِ بِالطَّوَافِ } وَلَنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالطَّوَافِ ، وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ .
وَقَدْ تَعَيَّنَ طَوَافُ الزِّيَارَةِ بِالْإِجْمَاعِ وَفِيمَا رَوَاهُ سَمَّاهُ تَحِيَّةً ، وَهُوَ دَلِيلٌ الِاسْتِحْبَابِ
( قَوْلُهُ وَهُوَ سُنَّةٌ ) أَيْ لِلْآفَاقِيِّ لَا غَيْرُ ( قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ أَتَى الْبَيْتَ فَلْيُحَيِّهِ } ) هَذَا غَرِيبٌ جِدًّا ، وَلَوْ ثَبَتَ كَانَ الْجَوَابُ بِأَنَّ هُنَاكَ قَرِينَةً تَصْرِفُ الْأَمْرَ عَنْ الْوُجُوبِ وَهُوَ نَفْسُ مَادَّةِ اشْتِقَاقِ هَذَا الْأَمْرِ وَهُوَ التَّحِيَّةُ ، فَإِنَّهُ مَأْخُوذٌ فِي مَفْهُومِهَا التَّبَرُّعُ لِأَنَّهَا فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ إكْرَامٍ يَبْدَأُ بِهِ الْإِنْسَانُ عَلَى سَبِيلِ التَّبَرُّعِ كَلَفْظِ التَّطَوُّعِ ، فَلَوْ قَالَ : تَطَوَّعْ أَفَادَ النَّدْبَ ، فَكَذَا إذَا قَالَ : حَيِّهِ بِخِلَافِ قَوْله تَعَالَى { فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا } لِأَنَّهُ وَقَعَ جَزَاءً لَا ابْتِدَاءً ، فَلَفْظَةُ التَّحِيَّةِ فِيهِ مِنْ مَجَازِ الْمُشَاكَلَةِ مِثْلُ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ الثَّانِي فِي الْكِتَابِ .
وَأَمَّا الْجَوَابُ الَّذِي تَضَمَّنَهُ الدَّلِيلُ الْقَائِلُ : إنَّ الْأَمْرَ بِالطَّوَافِ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ فِي قَوْله تَعَالَى { وَلْيَطَّوَّفُوا } وَقَدْ تَعَيَّنَ طَوَافُ الزِّيَارَةِ بِالْإِجْمَاعِ ، فَلَا يَكُونُ غَيْرُهُ كَذَلِكَ ، فَإِنَّمَا يُفِيدُ لَوْ ادَّعَى فِي طَوَافِ الْقُدُومِ الرُّكْنِيَّةَ بِدَعْوَى الِافْتِرَاضِ لَكِنَّهُ لَيْسَ مُدَّعَاهُ .

( وَلَيْسَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ طَوَافُ الْقُدُومِ ) لِانْعِدَامِ الْقُدُومِ فِي حَقِّهِمْ .
قَالَ ( ثُمَّ يَخْرُجُ إلَى الصَّفَا فَيَصْعَدُ عَلَيْهِ وَيَسْتَقْبِلُ الْبَيْتَ وَيُكَبِّرُ وَيُهَلِّلُ .
وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ وَيَدْعُو اللَّهَ لِحَاجَتِهِ ) لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَعِدَ الصَّفَا حَتَّى إذَا نَظَرَ إلَى الْبَيْتِ قَامَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ يَدْعُو اللَّهَ } وَلِأَنَّ الثَّنَاءَ وَالصَّلَاةَ يُقَدَّمَانِ عَلَى الدُّعَاءِ تَقْرِيبًا إلَى الْإِجَابَةِ كَمَا فِي غَيْرِهِ مِنْ الدَّعَوَاتِ .
وَالرَّفْعُ سُنَّةُ الدُّعَاءِ .
وَإِنَّمَا يَصْعَدُ بِقَدْرِ مَا يَصِيرُ الْبَيْتُ بِمَرْأًى مِنْهُ ، لِأَنَّ الِاسْتِقْبَالَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالصُّعُودِ ، وَيَخْرُجُ إلَى الصَّفَا مِنْ أَيِّ بَابٍ شَاءَ .
وَإِنَّمَا خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَابِ بَنِي مَخْزُومٍ ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى بَابَ الصَّفَا لِأَنَّهُ كَانَ أَقْرَبَ الْأَبْوَابِ إلَى الصَّفَا لَا أَنَّهُ سُنَّةٌ .

( قَوْلُهُ ثُمَّ يَخْرُجُ إلَى الصَّفَا ) مُقَدِّمًا رِجْلَهُ الْيُسْرَى حَالَ الْخُرُوجِ مِنْ الْمَسْجِدِ قَائِلًا " بِاسْمِ اللَّهِ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي ، وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِك وَأَدْخِلْنِي فِيهَا .
وَأَعِذْنِي مِنْ الشَّيْطَانِ " ( قَوْلُهُ : وَيُكَبِّرُ وَيُهَلِّلُ ) وَفِي الْأَصْلِ قَالَ " فَيَحْمَدُ اللَّهَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ ، وَيُكَبِّرُ وَيُهَلِّلُ وَيُلَبِّي .
وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَيَدْعُو اللَّهَ لِحَاجَتِهِ " .
وَقَدَّمْنَا مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ قَوْلَهُ " فَبَدَأَ بِالصَّفَا فَرَقَى عَلَيْهِ حَتَّى رَأَى الْبَيْتَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَوَحَّدَ اللَّهَ وَكَبَّرَهُ وَقَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .
لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ أَنْجَزَ وَعْدَهُ ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ ، وَأَعَزَّ جُنْدَهُ .
وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ " ثُمَّ دَعَا بَيْنَ ذَلِكَ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ .
وَمِنْ الْمَأْثُورِ أَنْ يَقُولَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَلَا نَعْبُدُ إلَّا إيَّاهُ ، مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ جَاعِلًا بَاطِنَهُمَا إلَى السَّمَاءِ كَمَا لِلدُّعَاءِ ، وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَدْعُو .
وَفِي الْبَدَائِعِ : الصُّعُودُ عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سُنَّةٌ فَيُكْرَهُ تَرْكُهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَيَقُولُ فِي هُبُوطِهِ " اللَّهُمَّ اسْتَعْمِلْنِي بِسُنَّةِ نَبِيِّك وَتَوَفَّنِي عَلَى مِلَّتِهِ ، وَأَعِذْنِي مِنْ مُضِلَّاتِ الْفِتَنِ بِرَحْمَتِك يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ " فَإِذَا وَصَلَ إلَى بَطْنِ الْوَادِي بَيْنَ الْمِيلَيْنِ الْأَخْضَرَيْنِ قَالَ " رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَتَجَاوَزْ عَمَّا تَعْلَمُ ، إنَّك أَنْتَ الْأَعَزُّ الْأَكْرَمُ " يُؤْثَرُ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَيَقُولُ عَلَى الْمَرْوَةِ مِثْلَ مَا قَالَ عَلَى الصَّفَا ، وَأَمَّا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَرَجَ مِنْ بَابِ

بَنِي مَخْزُومٍ فَأَسْنَدَهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ إلَى الصَّفَا مِنْ بَابِ بَنِي مَخْزُومٍ } .
وَأَسْنَدَ أَيْضًا عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، إلَى أَنْ قَالَ : ثُمَّ خَرَجَ مِنْ بَابِ الصَّفَا } وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَطَاءٍ مُرْسَلًا { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَرَجَ إلَى الصَّفَا مِنْ بَابِ بَنِي مَخْزُومٍ } .
وَأَمَّا عَدَدُ الْأَشْوَاطِ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا ، وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ ، وَطَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعًا } هَذَا وَالْأَفْضَلُ لِلْمُفْرِدِ أَنْ لَا يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَقِيبَ طَوَافِ الْقُدُومِ ، بَلْ يُؤَخِّرَ السَّعْيَ إلَى يَوْمِ النَّحْرِ عَقِيبَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ لِأَنَّ السَّعْيَ وَاجِبٌ ، فَجَعْلُهُ تَبَعًا لِلْفَرْضِ أَوْلَى مِنْ جَعْلِهِ تَبَعًا لِلسُّنَّةِ ، وَإِنَّمَا جَازَ بَعْدَ طَوَافِ الْقُدُومِ رُخْصَةً بِسَبَبِ كَثْرَةِ مَا عَلَى الْحَاجِّ مِنْ الْأَعْمَالِ يَوْمَ النَّحْرِ ، فَإِنَّهُ يَرْمِي ، وَقَدْ يَذْبَحُ ، ثُمَّ يَحْلِقُ بِمِنًى ، ثُمَّ يَجِيءُ إلَى مَكَّةَ فَيَطُوفُ الطَّوَافَ الْمَفْرُوضَ ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى مِنًى لِيَبِيتَ بِهَا ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ غَرَضِهِ أَنْ يَسْعَى بَعْدَ طَوَافِ الْقُدُومِ أَخْذًا بِالْأَوْلَى فَلَا يَرْمُلُ فِيهِ ، لِأَنَّ الرَّمَلَ إنَّمَا شُرِعَ فِي طَوَافٍ بَعْدَهُ سَعْيٌ ، وَيَرْمُلُ فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُ .
هَذَا وَشَرْطُ جَوَازِ السَّعْيِ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ طَوَافٍ أَوْ أَكْثَرَهُ ، ذَكَرَهُ فِي الْبَدَائِعِ

قَالَ ( ثُمَّ يَنْحَطُّ نَحْوَ الْمَرْوَةِ وَيَمْشِي عَلَى هَيِّنَتِهِ فَإِذَا بَلَعَ بَطْنَ الْوَادِي يَسْعَى بَيْنَ الْمِيلَيْنِ الْأَخْضَرَيْنِ سَعْيًا ، ثُمَّ يَمْشِي عَلَى هَيِّنَتِهِ حَتَّى يَأْتِيَ الْمَرْوَةَ فَيَصْعَدُ عَلَيْهَا وَيَفْعَلُ كَمَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا ) لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَزَلَ مِنْ الصَّفَا وَجَعَلَ يَمْشِي نَحْوَ الْمَرْوَةِ وَسَعَى فِي بَطْنِ الْوَادِي ، حَتَّى إذَا خَرَجَ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي مَشَى حَتَّى صَعِدَ الْمَرْوَةَ وَطَافَ بَيْنَهُمَا سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ } قَالَ ( وَهَذَا شَوْطٌ وَاحِدٌ فَيَطُوفُ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ يَبْدَأُ بِالصَّفَا وَيَخْتِمُ بِالْمَرْوَةِ ) وَيَسْعَى فِي بَطْنِ الْوَادِي فِي كُلِّ شَوْطٍ لِمَا رَوَيْنَا ، وَإِنَّمَا يَبْدَأُ بِالصَّفَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيهِ { ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ } ثُمَّ السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَاجِبٌ وَلَيْسَ بِرُكْنٍ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : إنَّهُ رُكْنٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَ عَلَيْكُمْ السَّعْيَ فَاسْعَوْا } .
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } وَمِثْلُهُ يُسْتَعْمَلُ لِلْإِبَاحَةِ فَيَنْفِي الرُّكْنِيَّةَ وَالْإِيجَابَ إلَّا أَنَّا عَدَلْنَا عَنْهُ فِي الْإِيجَابِ .
وَلِأَنَّ الرُّكْنِيَّةَ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ وَلَمْ يُوجَدْ .
ثُمَّ مَعْنَى مَا رُوِيَ كُتِبَ اسْتِحْبَابًا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ } الْآيَةَ .

( قَوْلُهُ وَهَذَا شَوْطٌ ) ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّ كُلًّا مِنْ الذَّهَابِ إلَى الْمَرْوَةِ وَالْمَجِيءِ مِنْهُ إلَى الصَّفَا شَوْطٌ ، وَعِنْدَ الطَّحَاوِيِّ لَا ، فَقِيلَ : الرُّجُوعُ إلَى الصَّفَا لَيْسَ مُعْتَبَرًا مِنْ الشَّوْطِ بَلْ لِتَحْصِيلِ الشَّوْطِ الثَّانِي ، وَيُعْطِي بَعْضَ الْعِبَارَاتِ أَنَّهُ مِنْ الصَّفَا إلَى الصَّفَا لِمَا ذَكَرُوا فِي وَجْهِ إلْحَاقِهِ بِالطَّوَافِ ، حَيْثُ كَانَ مِنْ الْمَبْدَإِ أَعْنِي الْحَجَرَ إلَى الْمَبْدَإِ وَعِنْدَهُ فِي مُرَادِهِ مِنْ ذَلِكَ اشْتِبَاهٌ ، وَأَيَّامًا كَانَ فَإِبْطَالُهُ بِحَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ حَيْثُ قَالَ فِيهِ { فَلَمَّا كَانَ آخِرَ طَوَافِهِ بِالْمَرْوَةِ قَالَ : لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي } الْحَدِيثَ لَا يَنْتَهِضُ .
أَمَّا عَلَى الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ آخِرَ السَّعْيِ عِنْدَ الطَّحَاوِيِّ لَا شَكَّ أَنَّهُ بِالْمَرْوَةِ وَرُجُوعُهُ عَنْهَا إلَى حَالِ سَبِيلِهِ ، فَإِنَّهُ إنَّمَا كَانَ يَحْتَاجُ إلَى الرُّجُوعِ إلَى الصَّفَا لِيَفْتَتِحَ الشَّوْطَ وَقَدْ تَمَّ السَّعْيُ .
وَعَلَى الثَّانِي إذَا كَانَ الشَّرْطُ الْأَخِيرُ صَحَّ أَنْ يُقَالَ عِنْدَ رُجُوعِهِ فِيهِ مِنْ الْمَرْوَةِ هَذَا آخِرُ طَوَافِهِ بِالْمَرْوَةِ ، لِأَنَّهُ لَا يَرْجِعُ بَعْدَ هَذِهِ الْوَقْفَةِ بِهَا إلَيْهَا .
وَإِنْ احْتَاجَ إلَى رُجُوعِهِ إلَى الصَّفَا لِتَتْمِيمِ الشَّوْطِ ، وَمَا دُفِعَ بِهِ أَيْضًا مِنْ أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ الْوَاجِبُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ شَوْطًا ، وَقَدْ اتَّفَقَ رُوَاةُ نُسُكِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ إنَّمَا طَافَ سَبْعَةً فَمَوْقُوفٌ عَلَى أَنَّ مُسَمَّى الشَّرْطِ مَا مِنْ الصَّفَا إلَى الْمَرْوَةِ أَوْ مِنْ الصَّفَا إلَى الصَّفَا فِي الشَّرْعِ وَهُوَ مَمْنُوعٌ ، إذْ يَقُولُ : هَذَا اعْتِبَارُكُمْ لَا اعْتِبَارُ الشَّرْعِ لِعَدَمِ النَّقْلِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي ذَلِكَ ، وَأَقَلُّ الْأُمُورِ إذَا لَمْ يَثْبُتْ عَنْ الشَّارِعِ تَنْصِيصٌ فِي مُسَمَّاهُ أَنْ يَثْبُتَ احْتِمَالُ أَنَّهُ كَمَا قُلْتُمْ ، وَكَمَا قُلْت ، فَيَجِبُ الِاحْتِيَاطُ فِيهِ ، وَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ قَوْلِي فِيهِ وَيُقَوِّيهِ أَنَّ لَفْظَ الشَّوْطِ أُطْلِقَ عَلَى مَا

حَوَالَيْ الْبَيْتِ .
وَعُرِفَ قَطْعًا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا مِنْ الْمَبْدَإِ إلَى الْمَبْدَإِ ، فَكَذَا إذَا أُطْلِقَ فِي السَّعْيِ إذْ لَا مُنَصِّصَ عَلَى الْمُرَادِ .
فَيَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْمَعْهُودِ مِنْهُ فِي غَيْرِهِ ، فَالْوَجْهُ أَنَّ إثْبَاتَ مُسَمَّى الشَّوْطِ فِي اللُّغَةِ يَصْدُقُ عَلَى كُلٍّ مِنْ الذَّهَابِ مِنْ الصَّفَا إلَى الْمَرْوَةِ وَالرُّجُوعِ مِنْهَا إلَى الصَّفَا ، وَلَيْسَ فِي الشَّرْعِ مَا يُخَالِفُهُ فَيَبْقَى عَلَى الْمَفْهُومِ اللُّغَوِيِّ .
وَذَلِكَ أَنَّهُ فِي الْأَصْلِ مَسَافَةٌ يَعْدُوهَا الْفَرَسُ كَالْمَيْدَانِ وَنَحْوِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً ، وَمِنْهُ قَوْلُ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إنَّ الشَّوْطَ بَطِيءٌ : أَيْ بَعِيدٌ ، وَقَدْ بَقِيَ مِنْ الْأُمُورِ مَا تَعْرِفُ بِهِ صَدِيقَك مِنْ عَدُوِّك ، فَسَبْعَةُ أَشْوَاطٍ حِينَئِذٍ قَطْعُ مَسَافَةٍ مَقْدِرَةٍ سَبْعَ مَرَّاتِ ، فَإِذَا قَالَ : طَافَ بَيْنَ كَذَا وَكَذَا سَبْعًا صُدِّقَ بِالتَّرَدُّدِ مِنْ كُلٍّ مَنْ الْغَايَتَيْنِ إلَى الْأُخْرَى سَبْعًا ، بِخِلَافِ طَافَ بِكَذَا فَإِنَّ حَقِيقَتَهُ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى أَنْ يَشْمَلَ بِالطَّوَافِ ذَلِكَ الشَّيْءَ ، فَإِذَا قَالَ : طَافَ بِهِ سَبْعًا ، كَانَ بِتَكْرِيرِهِ تَعْمِيمَهُ بِالطَّوَافِ سَبْعًا ، فَمِنْ هُنَا افْتَرَقَ الْحَالُ بَيْنَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ حَيْثُ لَزِمَ فِي شَوْطِهِ كَوْنُهُ مِنْ الْمَبْدَإِ إلَى الْمَبْدَإِ ، وَالطَّوَافُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ حَيْثُ لَمْ يَسْتَلْزِمْ ذَلِكَ فَرْعٌ إذَا فَرَغَ مِنْ السَّعْيِ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ فَيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ لِيَكُونَ خَتْمُ السَّعْيِ كَخَتْمِ الطَّوَافِ ، كَمَا ثَبَتَ أَنَّ مَبْدَأَهُ بِالِاسْتِلَامِ كَمَبْدَئِهِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَلَا حَاجَةَ إلَى هَذَا الْقِيَاسِ إذْ فِيهِ نَصٌّ وَهُوَ مَا رَوَى الْمُطَّلِبُ بْنُ أَبِي وَدَاعَةَ قَالَ { رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ فَرَغَ مِنْ سَعْيِهِ جَاءَ ، حَتَّى إذَا حَاذَى الرُّكْنَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فِي حَاشِيَةِ الْمَطَافِ ، وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّائِفِينَ أَحَدٌ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ

مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ .
وَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ { رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي حَذْوَ الرُّكْنِ الْأَسْوَدِ وَالرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَمُرُّونَ بَيْنَ يَدَيْهِ مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ سُتْرَةٌ } وَعَنْهُ { أَنَّهُ رَآهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُصَلِّي مِمَّا يَلِي بَابَ بَنِي سَهْمٍ وَالنَّاسُ يَمُرُّونَ } إلَخْ وَبَابُ بَنِي سَهْمٍ هُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْيَوْمَ بَابُ الْعُمْرَةِ ، لَكِنْ عَلَى هَذَا لَا يَكُونُ حَذْوَ الرُّكْنِ الْأَسْوَدِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ .
( قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ابْدَءُوا ) اعْلَمْ أَنَّهُ رُوِيَ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ " أَبْدَأُ " فِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ وَنَبْدَأُ " فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ وَمَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ ، وَبِصِيغَةِ الْأَمْرِ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ عِنْدَ النَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ .
وَهُوَ مُفِيدُ الْوُجُوبِ خُصُوصًا مَعَ ضَمِيمَةِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ ، فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ } أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ .
فَعَنْ هَذَا مَعَ كَوْنِ نَفْسِ السَّعْيِ وَاجِبًا لَوْ افْتَتَحَ مِنْ الْمَرْوَةِ لَمْ يُعْتَبَرْ ذَلِكَ الشَّوْطُ إلَى الصَّفَا ، وَهَذَا لِأَنَّ ثُبُوتَ شَرْطِ الْوَاجِبِ بِمِثْلِ مَا يَثْبُتُ بِهِ أَقْصَى حَالَاتِهِ وَهُوَ مِمَّا يَثْبُتُ بِالْآحَادِ فَكَذَا شَرْطُهُ .
( قَوْلُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إنَّهُ رُكْنٌ إلَخْ ) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُؤَمَّلِ الْعَابِدِيُّ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَيْصِنٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ عَنْ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي تُجْزَأَةَ إحْدَى نِسَاءِ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ قَالَتْ { رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَالنَّاسُ بَيْنَ يَدَيْهِ .
وَهُوَ وَرَاءَهُمْ .
وَهُوَ يَسْعَى حَتَّى أَرَى رُكْبَتَيْهِ مِنْ شِدَّةِ مَا يَسْعَى وَهُوَ

يَقُولُ : اسْعَوْا فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمْ السَّعْيَ } وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُؤَمَّلِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي حُسَيْنٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي تُجْزَأَةَ فَذَكَرَهُ .
وَخُطِّئَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِيهِ حَيْثُ أَسْقَطَ صَفِيَّةَ بِنْتَ شَيْبَةَ وَجَعَلَ مَكَانَ ابْنِ مُحَيْصِنٍ ابْنَ أَبِي حُسَيْنٍ .
قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ : نِسْبَةُ الْوَهْمِ إلَى ابْنِ الْمُؤَمَّلِ أَوْلَى ، وَطَعَنَ فِي حِفْظِهِ مَعَ أَنَّهُ اضْطَرَبَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ كَثِيرًا ، فَأَسْقَطَ عَطَاءً مَرَّةً وَابْنَ مُحَيْصِنٍ أُخْرَى ، وَصْفِيَّةَ بِنْتَ شَيْبَةَ ، وَأَبْدَلَ ابْنَ مُحَيْصِنٍ بِابْنِ أَبِي حُسَيْنٍ ، وَجَعَلَ الْمَرْأَةَ عَبْدَرِيَّةً تَارَةً وَيَمَنِيَّةً أُخْرَى .
وَفِي الطَّوَافِ تَارَةً ، وَفِي السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أُخْرَى ا هـ .
وَهَذَا لَا يَضُرُّ بِمَتْنِ الْحَدِيثِ إذْ بَعْدَ تَجْوِيزِ الْمُتْقِنِينَ لَهُ لَا يَضُرُّهُ تَخْلِيطُ بَعْضِ الرُّوَاةِ ، وَقَدْ ثَبَتَ مِنْ طُرُقٍ عَدِيدَةٍ مِنْهَا طَرِيقُ الدَّارَقُطْنِيِّ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ : أَخْبَرَنِي مَعْرُوفُ بْن مِشْكَانَ أَخْبَرَنِي مَنْصُورُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أُخْتِهِ صَفِيَّةَ قَالَتْ { أَخْبَرَنِي نِسْوَةٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ اللَّاتِي أَدْرَكْنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْنَ دَخَلْنَا دَارَ ابْنِ أَبِي حُسَيْنٍ فَرَأَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَطُوفُ } إلَخْ ، قَالَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ : إسْنَادُهُ صَحِيحٌ .
وَالْجَوَابُ : أَنَّا قَدْ قُلْنَا بِمُوجِبِهِ إذْ مِثْلُهُ لَا يَزِيدُ عَلَى إفَادَةِ الْوُجُوبِ ، وَقَدْ قُلْنَا بِهِ ، أَمَّا الرُّكْنُ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ عِنْدَنَا بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ ، فَإِثْبَاتُهُ بِهَذَا الْحَدِيثِ إثْبَاتٌ بِغَيْرِ دَلِيلٍ ، فَحَقِيقَةُ الْخِلَافِ فِي أَنَّ مُفَادَ هَذَا الدَّلِيلِ مَاذَا ؟ وَالْحَقُّ فِيهِ مَا قُلْنَا .
لِأَنَّ نَفْسَ الشَّيْءِ لَيْسَ إلَّا رُكْنَهُ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ شَيْءٍ آخَرَ .
فَإِذَا كَانَ ثُبُوتُ ذَلِكَ الشَّيْءِ

قَطْعِيًّا لَزِمَ فِي ثُبُوتِ أَرْكَانِهِ الْقَطْعُ لِأَنَّ ثُبُوتَهَا هُوَ ثُبُوتُهُ ، فَإِذَا فُرِضَ الْقَطْعُ بِهِ كَانَ ذَلِكَ لِلْقَطْعِ بِهَا .
وَتَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا فِي مَسْأَلَةِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ ، وَإِذَا تَحَقَّقْت هَذَا فَجَوَابُ الْمُصَنِّفِ بِتَأْوِيلِهِ بِمَعْنَى كُتِبَ اسْتِحْبَابًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ } مُنَافٍ لِمَطْلُوبِهِ ، فَكَيْفَ يَحْمِلُ عَلَيْهِ بَعْضَ الْأَدِلَّةِ ؟ بَلْ الْعَادَةُ التَّأْوِيلُ بِمَا يُوَافِقُ لِلْمَطْلُوبِ فَكَيْفَ وَلَا مُفِيدَ لِلْوُجُوبِ فِيمَا نَعْلَمُ سِوَاهُ ؟ فَنَحْنُ مُحْتَاجُونَ إلَيْهِ فِي إثْبَاتِ الدَّعْوَى ، فَإِنَّ الْآيَةَ وَهِيَ { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } وَقِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي مُصْحَفِهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا لَا يُفِيدُ الْوُجُوبَ ، وَالْإِجْمَاعُ لَمْ يَثْبُتْ عَلَى الْوُجُوبِ بِالْمَعْنَى الَّذِي يَقُولُ بِهِ ، إذْ لَيْسَ هُوَ مَعْنَى الْفَرْضِ الْمُوجِبِ فَوَاتُهُ عَدَمَ الصِّحَّةِ فَالثَّابِتُ الْخِلَافُ ، وَالْفَرِيقَانِ مُتَمَسَّكُهُمْ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصْرَفَ عَنْ الْوُجُوبِ مَعَ أَنَّهُ حَقِيقَتُهُ إلَى مَا لَيْسَ مَعْنَاهُ بِلَا مُوجِبٍ ، بَلْ مَعَ مَا يُوجِبُ عَدَمَ الصَّرْفِ بِخِلَافِ لَفْظِ " كُتِبَ " فِي الْوَصِيَّةِ لِلصَّارِفِ هُنَاكَ .
وَاعْلَمْ أَنَّ سِيَاقَ الْحَدِيثِ يُفِيدُ أَنَّ الرَّادَّ بِالسَّعْيِ الْمَكْتُوبِ الْجَرْيُ الْكَائِنُ فِي بَطْنِ الْوَادِي إذَا رَاجَعْته ، لَكِنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ بِلَا خِلَافٍ يُعْلَمُ .
فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّعْيِ التَّطَوُّفُ بَيْنَهُمَا ، اتَّفَقَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَهُ لَهُمْ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِي الْجَرْيِ الشَّدِيدِ الْمَسْنُونِ لَمَّا وَصَلَ إلَى مَحَلِّهِ شَرْعًا أَعْنِي بَطْنَ الْوَادِي ، وَلَا يُسَنُّ جَرْيٌ شَدِيدٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَحَلِّ بِخِلَافِ الرَّمَلِ فِي الطَّوَافِ ، إنَّمَا هُوَ مَشْيٌ فِيهِ شِدَّةٌ وَتَصَلُّبٌ .
ثُمَّ قِيلَ : فِي سَبَبِ شَرْعِيَّةِ الْجَرْيِ فِي

بَطْنِ الْوَادِي " إنَّ هَاجَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَمَّا تَرَكَهَا إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَطِشَتْ فَخَرَجَتْ تَطْلُبُ الْمَاءَ وَهِيَ تُلَاحِظُ إسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَوْفًا عَلَيْهِ .
فَلَمَّا وَصَلَتْ إلَى بَطْنِ الْوَادِي تَغَيَّبَ عَنْهَا فَسَعَتْ لَتُسْرِعَ الصُّعُودَ فَتَنْظُرَ إلَيْهِ " فَجُعِلَ ذَلِكَ نُسُكًا إظْهَارًا لِشَرَفِهِمَا وَتَفْخِيمًا لِأَمْرِهِمَا ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا " أَنَّ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا أُمِرَ بِالْمَنَاسِكِ عَرَضَ الشَّيْطَانُ لَهُ عِنْدَ السَّعْيِ فَسَابَقَهُ فَسَبَقَهُ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ .
وَقِيلَ : إنَّمَا سَعَى سَيِّدُنَا وَنَبِيُّنَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إظْهَارًا لِلْمُشْرِكِينَ النَّاظِرِينَ إلَيْهِ فِي الْوَادِي الْجَلَدَ وَمَحْمَلُ هَذَا الْوَجْهِ مَا كَانَ مِنْ السَّعْيِ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ ثُمَّ بَقِيَ بَعْدَهُ كَالرَّمَلِ إذْ لَمْ يَبْقَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مُشْرِكٌ بِمَكَّةَ .
وَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى أَنْ لَا يُشْتَغَلَ بِطَلَبِ الْمَعْنَى فِيهِ ، وَفِي نَظَائِرِهِ مِنْ الرَّمْيِ وَغَيْرِهِ بَلْ هِيَ أُمُورٌ تَوْقِيفِيَّةٌ يُحَالُ الْعِلْمُ فِيهَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى

قَالَ ( ثُمَّ يُقِيمُ بِمَكَّةَ حَرَامًا ) لِأَنَّهُ مُحْرِمٌ بِالْحَجِّ فَلَا يَتَحَلَّلُ قَبْلَ الْإِتْيَانِ بِأَفْعَالِهِ ، قَالَ ( وَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ كُلَّمَا بَدَا لَهُ ) لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الصَّلَاةَ .
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ .
وَالصَّلَاةُ خَيْرُ مَوْضُوعٍ ، فَكَذَا الطَّوَافُ } إلَّا أَنَّهُ لَا يَسْعَى عَقِيبَ هَذِهِ الْأَطْوِفَةِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ لِأَنَّ السَّعْيَ لَا يَجِبُ فِيهِ إلَّا مَرَّةً .
وَالتَّنَفُّلُ بِالسَّعْيِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ .
وَيُصَلِّي لِكُلِّ أُسْبُوعٍ رَكْعَتَيْنِ ، وَهِيَ رَكْعَتَا الطَّوَافِ عَلَى مَا بَيَّنَّا .

( قَوْلُهُ ثُمَّ يُقِيمُ بِمَكَّةَ حَرَامًا لِأَنَّهُ مُحْرِمٌ بِالْحَجِّ فَلَا يَتَحَلَّلُ قَبْلَ الْإِتْيَانِ بِأَفْعَالِهِ ) خِلَافًا لِلْحَنَابِلَةِ وَالظَّاهِرِيَّةِ وَعَامَّةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِي قَوْلِهِمْ : إنَّهُ يَفْسَخُ الْحَجَّ إذَا طَافَ لِلْقُدُومِ إلَى عُمْرَةٍ ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّ هَذَا وَاجِبٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ : نَحْنُ نُشْهِدُ اللَّهُ أَنَّا لَوْ أَحْرَمْنَا بِحَجٍّ لَرَأَيْنَا فَرْضًا فَسَخَهُ إلَى عُمْرَةٍ تَفَادِيًا مِنْ غَضَبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَذَلِكَ أَنَّ فِي السُّنَنِ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ فَأَحْرَمْنَا بِالْحَجِّ ، فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ قَالَ : اجْعَلُوهَا عُمْرَةً ، فَقَالَ النَّاسُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ أَحْرَمْنَا بِالْحَجِّ فَكَيْفَ نَجْعَلُهَا عُمْرَةً ؟ قَالَ : اُنْظُرُوا مَا آمُرُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا ، فَرَدُّوا عَلَيْهِ الْقَوْلَ فَغَضِبَ ، ثُمَّ انْطَلَقَ حَتَّى دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا غَضْبَانَ ، فَرَأَتْ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ ، فَقَالَتْ : مَنْ أَغْضَبَكَ أَغْضَبَهُ اللَّهُ ؟ قَالَ : وَمَا لِي لَا أَغْضَبُ وَأَنَا آمُرُ أَمْرًا فَلَا أُتَّبَعُ } وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ { دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ غَضْبَانُ فَقُلْتُ : وَمَنْ أَغْضَبَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَدْخَلَهُ اللَّهُ النَّارَ ؟ قَالَ : أَوَمَا شَعَرْتِ أَنِّي أَمَرْتُ النَّاسَ بِأَمْرٍ فَإِذَا هُمْ يَتَرَدَّدُونَ } الْحَدِيثَ .
وَقَالَ سَلِمَةُ بْنُ شَبِيبٍ لِأَحْمَدَ : كُلُّ أَمْرِك عِنْدِي حَسَنٌ إلَّا خَلَّةً وَاحِدَةً قَالَ : وَمَا هِيَ ؟ قَالَ : تَقُولُ بِفَسْخِ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ ، فَقَالَ : يَا سَلَمَةُ كُنْت أَرَى لَك عَقْلًا ، عِنْدِي فِي ذَلِكَ أَحَدَ عَشْرَ حَدِيثًا صِحَاحًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتْرُكُهَا لِقَوْلِك ؟ وَلِتُورِدَ مِنْهَا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ

صَبِيحَةَ رَابِعَةٍ مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً فَتَعَاظَمَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ ، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْحِلِّ ؟ قَالَ : الْحِلُّ كُلُّهُ } وَفِي لَفْظٍ { وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَحِلُّوا إحْرَامَهُمْ بِعُمْرَةٍ إلَّا مَنْ كَانَ مَعَهُ الْهَدْيُ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَهَلَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأَصْحَابُهُ بِالْحَجِّ ، وَلَيْسَ مَعَ أَحَدٍ مِنْهُمْ هَدْيٌ غَيْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَلْحَةَ إلَى أَنْ قَالَ فَأَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً } الْحَدِيثَ .
وَفِيهِ قَالُوا { نَنْطَلِقُ إلَى مِنًى وَذَكَرُ أَحَدِنَا يَقْطُرُ } يَعْنُونَ الْجِمَاعَ جَاءَ مُفَسَّرًا فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ { قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَرُوحُ أَحَدُنَا إلَى مِنًى وَذَكَرُهُ يَقْطُرُ مَنِيًّا ؟ قَالَ : نَعَمْ عَادَ لِلْحَدِيثِ قَبْلَهُ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أَهْدَيْتُ ، وَلَوْلَا أَنَّ مَعِي الْهَدْيَ لَأَحْلَلْتُ } وَفِي لَفْظٍ { فَقَامَ فِينَا فَقَالَ : قَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي أَتْقَاكُمْ لِلَّهِ وَأَصْدَقُكُمْ وَأَبَرُّكُمْ ، وَلَوْلَا هَدْيِي لَحَلَلْتُ كَمَا تُحِلُّونَ } وَفِي لَفْظٍ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا { أَمَرَنَا لَمَّا أَحْلَلْنَا أَنْ نُحْرِمَ إذَا تَوَجَّهْنَا إلَى مِنًى قَالَ : فَأَهْلَلْنَا مِنْ الْأَبْطُحِ ، فَقَالَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِلْأَبَدِ } .
وَفِي لَفْظٍ { أَرَأَيْتَ مُتْعَتَنَا هَذِهِ لِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِلْأَبَدِ } وَفِي السُّنَنِ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ عَنْ أَبِيهِ { خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إذَا كَانَ بِعُسْفَانَ قَالَ لَهُ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ الْمُدْلِجِيُّ : يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْضِ لَنَا قَضَاءَ قَوْمٍ كَأَنَّمَا وُلِدُوا الْيَوْمَ ، فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَدْخَلَ عَلَيْكُمْ فِي حَجِّكُمْ عُمْرَةً ، فَإِذَا قَدِمْتُمْ فَمَنْ

تَطَوَّفَ بِالْبَيْتِ وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَقَدْ حَلَّ إلَّا مَنْ كَانَ أَهْدَى } وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ مُجَرَّدَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ يُحَلِّلُ الْمُحَرَّمَ بِالْحَجِّ ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ : حَدَّثَنَا مُعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ " مَنْ جَاءَ مُهِلًّا بِالْحَجِّ فَإِنَّ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ يُصَيِّرُهُ إلَى الْعُمْرَةِ شَاءَ أَوْ أَبَى ، قُلْت : إنَّ النَّاسَ يُنْكِرُونَ ذَلِكَ عَلَيْك ، قَالَ : هِيَ سُنَّةُ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ رَغِمُوا " وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : كُلُّ مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ مِمَّنْ لَا هَدْيَ مَعَهُ مِنْ مُفْرِدٍ أَوْ قَارِنٍ أَوْ مُتَمَتِّعٍ فَقَدْ حَلَّ إمَّا وُجُوبًا وَإِمَّا حُكْمًا ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا أَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَاهُنَا وَأَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَاهُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ } أَيْ حُكْمًا أَيْ دَخَلَ وَقْتُ فِطْرِهِ ، فَكَذَا الَّذِي طَافَ إمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ حَلَّ .
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْوَقْتُ فِي حَقِّهِ لَيْسَ وَقْتَ إحْرَامٍ ، وَعَامَّةُ الْفُقَهَاءِ الْمُجْتَهِدَيْنِ عَلَى مَنْعِ الْفَسْخِ .
وَالْجَوَابُ : أَوَّلًا بِمُعَارَضَةِ أَحَادِيثِ الْفَسْخِ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ { خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَمِنَّا مِنْ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ، وَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَجِّ ، فَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ فَأَحَلُّوا حِينَ طَافُوا بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ .
وَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ أَوْ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَلَمْ يَحِلُّوا إلَى يَوْمِ النَّحْرِ } وَبِمَا صَحَّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ " لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ بَعْدَنَا أَنْ يُصَيِّرَ حَجَّتَهُ عُمْرَةً إنَّهَا كَانَتْ رُخْصَةً لَنَا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ " وَعَنْهُ كَانَ يَقُولُ فِيمَنْ حَجَّ ثُمَّ فَسَخَهَا عُمْرَةً " لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إلَّا لِلرَّكْبِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْهُ .
وَرَوَى النَّسَائِيّ عَنْهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ نَحْوَهُ .
وَلِأَبِي دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مُتْعَةِ الْحَجِّ فَقَالَ : كَانَتْ لَنَا لَيْسَتْ لَكُمْ " .
وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ { قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت فَسْخَ الْحَجِّ فِي الْعُمْرَةِ لَنَا خَاصَّةً أَمْ لِلنَّاسِ عَامَّةً ؟ فَقَالَ : بَلْ لَنَا خَاصَّةً } وَلَا يُعَارِضُهُ حَدِيثٌ سُرَاقَةَ حَيْثُ قَالَ : { أَلِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِلْأَبَدِ ؟ فَقَالَ لَهُ : لِلْأَبَدِ } لِأَنَّ الْمُرَادَ أَلِعَامِنَا فِعْلُ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ أَمْ لِلْأَبَدِ ، لَا أَنَّ الْمُرَادَ فَسْخُ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ .
وَذَلِكَ أَنَّ سَبَبَ الْأَمْرِ بِالْفَسْخِ مَا كَانَ إلَّا تَقْدِيرًا لِشَرْعِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، مَا لَمْ يَكُنْ مَانِعُ سَوْقِ الْهَدْيِ .
وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ مُسْتَعْظَمًا عِنْدَهُمْ حَتَّى كَانُوا يُعِدُّونَهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ فَكَسْرُ سُورَةِ مَا اسْتَحْكَمَ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ إنْكَارِهَا بِحَمْلِهِمْ عَلَى فِعْلِهِ بِأَنْفُسِهِمْ ، يَدُلُّ عَلَى هَذَا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ { كَانُوا يَرَوْنَ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ فِي الْأَرْضِ وَيَجْعَلُونَ الْمُحَرَّمَ صَفَرًا وَيَقُولُونَ : إذَا بَرَا الدَّبَرْ وَعَفَا الْأَثَرْ وَانْسَلَخَ صَفَرْ حَلَّتْ الْعُمْرَةُ لِمَنْ اعْتَمَرَ ، فَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ لِصَبِيحَةِ رَابِعَةٍ مُهَلِّينَ بِالْحَجِّ ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً ، فَتَعَاظَمَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْحِلِّ ؟ قَالَ : الْحِلُّ كُلُّهُ } فَلَوْ لَمْ يَكُنْ حَدِيثُ بِلَالِ بْنِ

الْحَارِثِ ثَابِتًا كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَيْثُ قَالَ : لَا يَثْبُتُ عِنْدِي ، وَلَا يُعْرَفُ هَذَا الرَّجُلُ .
كَانَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا صَرِيحًا فِي كَوْنِ سَبَبِ الْأَمْرِ بِالْفَسْخِ هُوَ قَصْدُ مَحْوِ مَا اسْتَقَرَّ فِي نُفُوسِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِتَقْرِيرِ الشَّرْعِ بِخِلَافِهِ ، أَلَا تَرَى إلَى تَرْتِيبِهِ الْأَمْرَ بِالْفَسْخِ عَلَى مَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ ذَلِكَ بِالْفَاءِ ، غَيْرَ أَنَّهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَنَّ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مُسْتَمِرٌّ بَعْدَ إثَارَةِ السَّبَبِ إيَّاهُ كَالرَّمَلِ وَالِاضْطِبَاعِ فَقَالَ بِهِ .
وَظَهَرَ لِغَيْرِهِ كَأَبِي ذَرٍّ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ مُنْقَضٍ بِانْقِضَاءِ سَبَبِهِ ذَلِكَ ، وَمَشَى عَلَيْهِ مُحَقِّقُو الْفُقَهَاءِ الْمُجْتَهِدِينَ .
وَهُوَ أَوْلَى لَوْ كَانَ قَوْلُ أَبِي ذَرٍّ عَنْ رَأْيٍ لَا عَنْ نَقْلٍ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، لِأَنَّ الْأَصْلَ الْمُسْتَمِرَّ فِي الشَّرْعِ عَدَمُ اسْتِحْبَابِ قَطْعِ مَا شَرَعَ فِيهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَإِبْدَالِهَا بِغَيْرِهَا مِمَّا هُوَ مِثْلُهَا .
فَضْلًا عَمَّا هُوَ أَخَفُّ مِنْهَا ، بَلْ يَسْتَمِرُّ فِيمَا شَرَعَ فِيهِ حَتَّى يُنْهِيَهُ ، وَإِذَا كَانَ الْفَسْخُ يُنَافِي هَذَا مَعَ كَوْنِ الْمُثِيرِ لَهُ سَبَبًا لَمْ يَسْتَمِرَّ وَجَبَ أَنْ يُحْكَمَ بِرَفْعِهِ مَعَ ارْتِفَاعِهِ .
ثُمَّ بَعْدَ هَذَا رَأَيْت التَّصْرِيحَ فِي حَدِيثِ سُرَاقَةَ بِكَوْنِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ الْعُمْرَةَ لَا الْفَسْخَ فِي كِتَابِ الْآثَارِ فِي بَابِ التَّصْدِيقِ بِالْقَدَرِ .
مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ قَالَ : أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { سَأَلَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ بْنِ جُعْشُمٍ الْمُدْلِجِيُّ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنَا عَنْ عُمْرَتِنَا هَذِهِ أَلِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِلْأَبَدِ ؟ فَقَالَ : لِلْأَبَدِ } ، فَقَالَ : أَخْبِرْنَا عَنْ دِينِنَا هَذَا كَأَنَّمَا خُلِقْنَا لَهُ فِي أَيِّ شَيْءٍ الْعَمَلُ ، فِي شَيْءٍ قَدْ جَرَتْ بِهِ الْأَقْلَامُ وَثَبَتَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ أَمْ فِي

شَيْءٍ يُسْتَأْنَفُ لَهُ الْعَمَلُ ؟ قَالَ : فِي شَيْءٍ جَرَتْ بِهِ الْأَقْلَامُ وَثَبَتَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ وَسَاقَ الْحَدِيثَ إلَى آخِرِهِ ، فَقَوْلُ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ : عِنْدِي أَحَدَ عَشَرَ حَدِيثًا إلَخْ لَا يُفِيدُ لِأَنَّ مَضْمُونَهَا لَا يَزِيدُ عَلَى أَمْرِهِمْ بِالْفَسْخِ وَالْعَزْمِ عَلَيْهِمْ فِيهِ ، وَغَضَبُهُ عَلَى مَنْ تَرَدَّدَ اسْتِشْفَاقٌ لِاسْتِحْكَامِ نُفْرَتِهِمْ مِنْ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ حَدِيثُ عَائِشَةَ الَّذِي عَارَضْنَا بِهِ يُفِيدُ خِلَافَهُ ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي أَنَّهُ شُرِعَ فِي عُمُومِ الزَّمَانِ ذَلِكَ الْفَسْخُ أَوَّلًا ، وَشَيْءٌ مِنْهَا لَا يَمَسُّهُ سِوَى حَدِيثِ سُرَاقَةَ بِتِلْكَ الرَّاوِيَةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْمُرَادَ وَبِهِ وَأَثْبَتْنَاهُ مَرْوِيًّا ، وَثَبَتَ أَنَّهُ حُكْمٌ كَانَ لِقَصْدِ تَقْرِيرِ الشَّرْعِ الْمُسْتَحْكِمِ فِي نُفُوسِهِمْ ضِدُّهُ .
وَكَذَا إعَادَةُ الشَّارِعِ إذَا أَوْرَدَ حُكْمًا يُسْتَعْظَمُ لِأَحْكَامِ ضِدِّهِ الْمَنْسُوخِ فِي شَرِيعَتِنَا يُرَدُّ بِأَقْصَى الْمُبَالَغَاتِ لِيُفِيدَ اسْتِئْصَالَ ذَلِكَ التَّمَكُّنِ الْمَرْفُوضِ كَمَا فِي الْأَمْرِ بِقَتْلِ الْكِلَابِ لِمَا كَانَ الْمُتَمَكِّنُ عِنْدَ هُمْ مُخَالَطَتَهَا .
وَعَدَّهَا مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ ، حَتَّى انْتَهَوْا فَنُسِخَ ، فَكَذَا هَذَا لِمَا اسْتَقَرَّ الشَّرْعُ عِنْدَ هُمْ وَانْقَشَعَ غَمَامُ مَا كَانَ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ مَنْعِهِ .
رَجَعَ الْفَسْخُ وَصَارَ الثَّابِتُ مُجَرَّدَ جَوَازٍ لِعُمْرَةٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ ( قَوْلُهُ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ } ) إلَّا أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَلَّ فِيهِ الْمَنْطِقَ ، فَمَنْ نَطَقَ فَلَا يَنْطِقُ إلَّا بِخَيْرٍ ، هَذَا الْحَدِيثُ رُوِيَ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا ، أَمَّا الْمَرْفُوعُ فَمِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْرَجَهَا الْحَاكِمُ وَابْنُ حِبَّانَ ، وَمِنْ رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ أَعْيَنَ عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ

عَطَاءٍ عَنْ طَاوُسٍ مَرْفُوعًا بِاللَّفْظِ الْمَذْكُورِ ، أَخْرَجَهَا الْبَيْهَقِيُّ .
وَمِنْ رِوَايَةِ الْبَاغَنْدِيِّ يَبْلُغُ بِهِ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَرْفُوعًا ، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَقَالَ : وَلَمْ يَصْنَعْ الْبَاغَنْدِيُّ شَيْئًا فِي رَفْعِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ ، فَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ وَأَبُو عَوَانَةَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ مَوْقُوفًا وَبِهَذَا عُرِفَ وَقْفُهُ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ عَطَاء بْنَ السَّائِبِ مِنْ الثِّقَاتِ غَيْرَ أَنَّهُ اخْتَلَطَ ، فَمَنْ رَوَى عَنْهُ قَبْلَ الِاخْتِلَاطِ فَحَدِيثُهُ حُجَّةٌ ، قِيلَ : وَجَمِيعُ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ رَوَى بَعْدَ الِاخْتِلَاطِ إلَّا شُعْبَةَ وَسُفْيَانُ .
وَهَذَا مِنْ حَدِيث سُفْيَانَ عَنْهُ .
وَأَيْضًا فَقَدْ تَابَعَهُ عَلَى رَفْعِهِ مَنْ سَمِعْت فَيَقْوَى ظَنُّ رَفْعِهِ لَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ عَنْهُ .
وَأَسْنَدَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَا أَعْلَمُهُ إلَّا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ فَأَقِلُّوا فِيهِ الْكَلَامَ } وَسَنَذْكُرُهُ مِنْ رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ أَيْضًا

قَالَ ( فَإِذَا كَانَ قَبْلَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ خَطَبَ الْإِمَامُ خُطْبَةً يُعَلِّمُ فِيهَا النَّاسَ الْخُرُوجَ إلَى مِنًى وَالصَّلَاةَ بِعَرَفَاتٍ وَالْوُقُوفَ وَالْإِضَافَةِ ) وَالْحَاصِلُ أَنَّ فِي الْحَجِّ ثَلَاثَ خُطَبٍ : أَوَّلُهَا مَا ذَكَرْنَا ، وَالثَّانِيَةُ بِعَرَفَاتٍ يَوْمَ عَرَفَةَ ، وَالثَّالِثَةُ بِمِنًى فِي الْيَوْمِ الْحَادِيَ عَشَرَ ، فَيُفْصَلُ بَيْنَ كُلِّ خُطْبَتَيْنِ بِيَوْمٍ .
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَخْطُبُ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَوَالِيَةٍ أَوَّلُهَا يَوْمُ التَّرْوِيَةِ لِأَنَّهَا أَيَّامُ الْمَوْسِمِ وَمُجْتَمَعُ الْحَاجِّ .
وَلَنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا التَّعْلِيمُ .
وَيَوْمُ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمُ النَّحْرَ يَوْمَا اشْتِغَالٍ ، فَكَانَ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنْفَعَ وَفِي الْقُلُوبِ أَنْجَعُ

( قَوْلُهُ فَإِذَا كَانَ قَبْلَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ ) وَهُوَ الْيَوْمُ السَّابِعُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَيَوْمُ التَّرْوِيَةِ هُوَ الثَّامِنُ ، سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَرْوُونَ إبِلَهُمْ فِيهِ اسْتِعْدَادًا لِلْوُقُوفِ يَوْمَ عَرَفَةَ .
وَقِيلَ : لِأَنَّ رُؤْيَا إبْرَاهِيمَ كَانَتْ فِي لَيْلَتِهِ فَتَرَوَّى فِيهِ فِي أَنَّ مَا رَآهُ مِنْ اللَّهِ أَوْ لَا ، مِنْ الرَّأْيِ وَهُوَ مَهْمُوزٌ ذَكَرَهُ فِي طِلْبَةِ الطَّلَبَةِ .
وَقِيلَ : لِأَنَّ الْإِمَامَ يَرْوِي لِلنَّاسِ مَنَاسِكَهُمْ مِنْ الرِّوَايَةِ ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ .
وَهَذِهِ الْخُطْبَةُ خُطْبَةٌ وَاحِدَةٌ بِلَا جُلُوسٍ ، وَكَذَا خُطْبَةُ الْحَادِيَ عَشَرَ : وَأَمَّا خُطْبَةُ عَرَفَةَ فَيَجْلِسُ بَيْنَهُمَا وَهِيَ قَبْلَ صَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْخُطْبَتَانِ الْأُولَيَانِ بَعْدَهُ ( قَوْلُهُ أَوَّلُهَا يَوْمُ التَّرْوِيَةِ ) قُلْنَا خِلَافَ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ { خَطَبَ فِي السَّابِعِ وَكَذَا أَبُو بَكْرٍ ، وَقَرَأَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَيْهِمْ سُورَةَ بَرَاءَةٌ } .
رَوَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَلِأَنَّ تِلْكَ الْأَيَّامَ أَيَّامُ اشْتِغَالٍ عَلَى مَا لَا يَخْفَى فَيَكُونُ دَاعِيَةَ تَرْكِهِمْ الْحُضُورَ فَيَفُوتُ الْمَقْصُودُ مِنْ شَرْعِ الْخُطَبِ ( فَكَانَ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنْفَعَ وَفِي الْقُلُوبِ أَنْجَعَ ) أَيْ أَبْلَغَ

( فَإِذَا صَلَّى الْفَجْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ بِمَكَّةَ خَرَجَ إلَى مِنًى فَيُقِيمُ بِهَا حَتَّى يُصَلِّيَ الْفَجْرَ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ ) لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَلَّى الْفَجْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ بِمَكَّةَ ، فَلَمَّا طَلَعَتْ الشَّمْسُ رَاحَ إلَى مِنًى فَصَلَّى بِمِنًى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ ثُمَّ رَاحَ إلَى عَرَفَاتٍ } ( وَلَوْ بَاتَ بِمَكَّةَ لَيْلَةَ عَرَفَةَ وَصَلَّى بِهَا الْفَجْرَ ثُمَّ غَدَا إلَى عَرَفَاتٍ وَمَرَّ بِمِنًى أَجْزَأَهُ ) لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِمِنًى فِي هَذِهِ الْيَوْمِ إقَامَةُ نُسُكٍ ، وَلَكِنَّهُ أَسَاءَ بِتَرْكِهِ الِاقْتِدَاءَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

( قَوْلُهُ فَإِذَا صَلَّى الْفَجْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ بِمَكَّةَ خَرَجَ إلَى مِنًى ) ظَاهِرُ هَذَا التَّرْكِيبِ إعْقَابُ صَلَاةِ الْفَجْرِ بِالْخُرُوجِ إلَى مِنًى وَهُوَ خِلَافُ السُّنَّةِ .
وَالْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الِاسْتِدْلَالِ أَخَصُّ مِنْ الدَّعْوَى لِيُفِيدَ أَنَّ مَضْمُونَهُ هُوَ السُّنَّةُ ، وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي الْمَبْسُوطِ خُصُوصَ وَقْتِ الْخُرُوجِ ، وَاسْتَحَبَّ فِي الْمُحِيطِ كَوْنَهُ بَعْدَ الزَّوَالِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ .
وَقَالَ الْمَرْغِينَانِيُّ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ لِمَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَلَّى الْفَجْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ بِمَكَّةَ ، فَلَمَّا طَلَعَتْ الشَّمْسُ رَاحَ إلَى مِنًى فَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالصُّبْحَ يَوْمَ عَرَفَةَ " وَكَأَنَّ مُسْتَنَدَ الْأَوَّلِ مَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَوَجَّهَ قَبْلَ صَلَاةِ الظُّهْرِ } فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ فِي التَّخَاطُبِ لِمَا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ جِئْتُك قَبْلَ صَلَاةِ الظُّهْرِ ، وَلَا لِمَا قَبْلَ الْأَذَانِ وَدُخُولِ الْوَقْتِ ، وَإِنَّمَا يُقَالُ إذْ ذَاكَ قَبْلَ الظُّهْرِ أَوْ أَذَانَ الظُّهْرِ ، فَإِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ عُرْفًا لِمَا بَعْدَ الْوَقْتِ قَبْلَ الصَّلَاةِ .
لَكِنَّ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَرِيحٌ فَيُقْضَى بِهِ عَلَى الْمُحْتَمَلِ .
وَفِي الْكَافِي لِلْحَاكِمِ الشَّهِيدِ : وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ بِمِنًى يَوْمَ التَّرْوِيَةِ ، هَذَا وَلَا يَتْرَكُ التَّلْبِيَةَ فِي أَحْوَالِهِ كُلِّهَا حَالَ إقَامَتِهِ بِمَكَّةَ فِي الْمَسْجِدِ وَخَارِجِهِ إلَّا حَالَ كَوْنِهِ فِي الطَّوَافِ ، وَيُلَبِّي عِنْدَ الْخُرُوجِ إلَى مِنًى ، وَيَدْعُو بِمَا شَاءَ وَيَقُولُ : اللَّهُمَّ إيَّاكَ أَرْجُو وَإِيَّاكَ أَدْعُو وَإِلَيْك أَرْغَبُ ، اللَّهُمَّ بَلِّغْنِي صَالِحَ عَمَلِي وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ، فَإِذَا دَخَلَ مِنًى قَالَ : اللَّهُمَّ هَذَا مِنًى وَهَذَا مَا دَلَلْتنَا عَلَيْهِ مِنْ الْمَنَاسِكِ ، فَمُنَّ عَلَيْنَا بِجَوَامِعِ الْخَيْرَاتِ وَبِمَا مَنَنْت بِهِ

عَلَى إبْرَاهِيمَ خَلِيلِك وَمُحَمَّدٍ حَبِيبِك وَبِمَا مَنَنْت بِهِ عَلَى أَهْلِ طَاعَتِك ، فَإِنِّي عَبْدُك وَنَاصِيَتِي بِيَدِك جِئْت طَالِبًا مَرْضَاتِك ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَنْزِلَ عِنْدَ مَسْجِدٍ عِنْدَ الْخَيْفِ .
( قَوْلُهُ لِمَا رُوِيَ إلَخْ ) فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ قَالَ { لَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ تَوَجَّهُوا إلَى مِنًى فَأَهَلُّوا بِالْحَجِّ ، فَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى بِهِمْ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ ، ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلًا حَتَّى طَلَعَتْ الشَّمْسُ وَأَمَرَ بِقُبَّةٍ مِنْ شَعْرٍ فَضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ } الْحَدِيثَ .
وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ لِهَذَا الْحَدِيثِ يُفِيدُ أَنَّ السُّنَّةَ عِنْدَهُ الذَّهَابُ مِنْ مِنًى إلَى عَرَفَةَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ، وَصَرَّحَ بِهِ فِي الْإِيضَاحِ .
وَعَنْ ذَلِكَ حُمِلَ فِي النِّهَايَةِ مَرْجِعُ ضَمِيرِ قَبْلَهُ عَلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ .
ثُمَّ اعْتَرَضَهُ بِأَنَّهُ كَانَ مِنْ حَقِّ الْكَلَامِ أَنْ يَقُولَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُ طُلُوعِ الشَّمْسِ لَكِنَّهُ تَبِعَ صَاحِبَ الْإِيضَاحِ لِأَنَّ طُلُوعَ الشَّمْسِ مَذْكُورٌ فِي الْإِيضَاحِ مُتَقَدِّمًا ا هـ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ قَوْلَهُ ثُمَّ يَتَوَجَّهُ إلَى عَرَفَاتٍ مُتَّصِلٌ فِي الْمَتْنِ بِقَوْلِهِ حَتَّى يُصَلِّيَ الْفَجْرَ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ ، إمَّا بِنَاءً عَلَى عَدَمِ تَوْقِيتِ وَقْتِ الْخُرُوجِ إلَى مِنًى أَوْ تَوْقِيتُهُ بِمَا بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى التَّرْكِيبِ الشَّرْطِيِّ كَمَا قَدَّمْنَاهُ .
وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ : وَهَذَا بَيَانُ الْأَوْلَوِيَّةِ يَتَعَلَّقُ بِهِ شَرْحًا ، فَمَرْجِعُ ضَمِيرٍ قَبْلَهُ أَلْبَتَّةَ صَلَاةُ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ أَخَذَ فِي بَيَانِ حُكْمِ هَذَا الْجَوَازِ وَالْجَوَازُ مُتَحَقِّقٌ فِي التَّوَجُّهِ قَبْلَ الصَّلَاةِ كَمَا هُوَ مُتَحَقِّقٌ فِيهِ قَبْلَ الشَّمْسِ .
وَالْإِسَاءَةُ لَازِمَةٌ فِي الْوَجْهَيْنِ ، فَلَا حَاجَةَ إلَى إلْزَامِهِ أَنَّ مَرْجِعَ الضَّمِيرِ طُلُوعُ الشَّمْسِ ثُمَّ اعْتِرَاضُهُ ، وَقَدْ اُسْتُفِيدَ مِنْ

مَجْمُوعِ مَا قُلْنَا أَنَّ السُّنَّةَ الذَّهَابُ إلَى عَرَفَاتٍ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أَيْضًا ، وَيَقُولُ عِنْدَ التَّوَجُّهِ إلَى عَرَفَاتٍ : اللَّهُمَّ إلَيْك تَوَجَّهْت وَعَلَيْك تَوَكَّلْت وَوَجْهَك أَرَدْت ، فَاجْعَلْ ذَنْبِي مَغْفُورًا وَحَجِّي مَبْرُورًا وَارْحَمْنِي وَلَا تُخَيِّبْنِي ، وَاقْضِ بِعَرَفَاتٍ حَاجَتِي إنَّك عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، وَيُلَبِّي وَيُهَلِّلُ وَيُكَبِّرُ لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ أُنْكِرَ عَلَيْهِ التَّلْبِيَةُ : " أَجَهِلَ النَّاسُ أَمْ نَسُوا ؟ وَاَلَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ لَقَدْ خَرَجْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا تَرَكَ التَّلْبِيَةَ حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ إلَّا أَنْ يَخْلِطَهَا بِتَكْبِيرٍ أَوْ تَهْلِيلٍ " رَوَاهُ أَبُو ذَرٍّ .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَسِيرَ عَلَى طَرِيقِ ضَبٍّ وَيَعُودَ عَلَى طَرِيقِ الْمَأْزِمَيْنِ اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فِي الْعِيدِ إذَا ذَهَبَ إلَى الْمُصَلَّى ، فَإِذَا قَرُبَ مِنْ عَرَفَاتٍ وَوَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى جَبَلِ الرَّحْمَةِ قَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ ، ثُمَّ يُلَبِّي إلَى أَنْ يَدْخُلَ عَرَفَاتٍ

قَالَ ( ثُمَّ يَتَوَجَّهُ إلَى عَرَفَاتٍ فَيُقِيمُ بِهَا ) لَا رَوَيْنَا ، وَهَذَا بَيَانُ الْأَوْلَوِيَّةِ .
أَمَّا لَوْ دَفَعَ قَبْلَهُ جَازَ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْمَقَامِ حُكْمٌ .
قَالَ فِي الْأَصْلِ : وَيَنْزِلُ بِهَا مَعَ النَّاسِ لِأَنَّ الِانْتِبَاذَ تَجَبُّرٌ وَالْحَالُ حَالُ تَضَرُّعٍ وَالْإِجَابَةُ فِي الْجَمْعِ أَرْجَى .
وَقِيلَ مُرَادُهُ أَنْ لَا يَنْزِلَ عَلَى الطَّرِيقِ كَيْ لَا يُضَيِّقَ عَلَى الْمَارَّةِ .
( قَالَ فِي الْأَصْلِ : وَيَنْزِلُ بِهَا مَعَ النَّاسِ لِأَنَّ الِانْتِبَاذَ ) أَيْ الِانْفِرَادَ عَنْهُمْ ( نَوْعُ تَجَبُّرٍ وَالْحَالُ حَالُ تَضَرُّعٍ ) وَمَسْكَنَةٍ ( وَالْإِجَابَةُ فِي الْجَمْعِ أَرْجَى ) وَلِأَنَّهُ يَأْمَنُ بِذَلِكَ مِنْ اللُّصُوصِ ( وَقِيلَ مُرَادُهُ أَنْ لَا يَنْزِلَ عَلَى الطَّرِيقِ كَيْ لَا يُضَيِّقَ عَلَى الْمَارَّةِ ) وَالسُّنَّةُ أَنْ يَنْزِلَ الْإِمَامُ بِنَمِرَةَ ، وَنُزُولُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا لَا نِزَاعَ فِيهِ

قَالَ ( وَإِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ يُصَلِّيَ الْإِمَامُ بِالنَّاسِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ فَيَبْتَدِئُ فَيَخْطُبُ خُطْبَةً يُعَلِّمُ فِيهَا النَّاسَ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ وَرَمْيَ الْجِمَارِ وَالنَّحْرَ وَالْحَلْقَ وَطَوَافَ الزِّيَارَةِ يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِجِلْسَةٍ كَمَا فِي الْجُمُعَةِ ) هَكَذَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَخْطُبُ بَعْدَ الصَّلَاةِ ، لِأَنَّهَا خُطْبَةُ وَعْظٍ وَتَذْكِيرٍ فَأَشْبَهَ خُطْبَةَ الْعِيدِ .
وَلَنَا مَا رَوَيْنَا ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا تَعْلِيمُ الْمَنَاسِكِ وَالْجَمْعِ مِنْهَا .
وَفِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ : إذَا صَعِدَ الْإِمَامُ الْمِنْبَرَ فَجَلَسَ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُونَ كَمَا فِي الْجُمُعَةِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يُؤَذِّنُ قَبْلَ خُرُوجِ الْإِمَامِ .
وَعَنْهُ أَنَّهُ يُؤَذِّنُ بَعْدَ الْخُطْبَةِ .
وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَا لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا خَرَجَ وَاسْتَوَى عَلَى نَاقَتِهِ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ .
وَيُقِيمُ الْمُؤَذِّنُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْخُطْبَةِ لِأَنَّهُ أَوَانُ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ فَأَشْبَهَ الْجُمُعَةَ .
قَالَ ( وَيُصَلِّي بِهِمْ الظُّهْرَ الْعَصْرَ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ ) وَقَدْ وَرَدَ النَّقْلُ الْمُسْتَفِيضُ بِاتِّفَاقٍ الرُّوَاةِ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ ، وَفِيمَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّاهُمَا بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ } ، ثُمَّ بَيَانُهُ أَنَّهُ يُؤَذِّنُ لِلظُّهْرِ وَيُقِيمُ لِلظُّهْرِ ثُمَّ يُقِيمُ لِلْعَصْرِ لِأَنَّ الْعَصْرَ يُؤَدَّى قَبْلَ وَقْتِهِ الْمَعْهُودِ فَيُفْرِدُ بِالْإِقَامَةِ إعْلَامًا لِلنَّاسِ ( وَلَا يَتَطَوَّعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ ) تَحْصِيلًا لِمَقْصُودِ الْوُقُوفِ وَلِهَذَا قُدِّمَ الْعَصْرُ عَلَى وَقْتِهِ ، فَلَوْ أَنَّهُ فَعَلَ فِعْلًا مَكْرُوهًا وَأَعَادَ الْأَذَانَ لِلْعَصْرِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، خِلَافًا لِمَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ

الِاشْتِغَالَ بِالتَّطَوُّعِ أَوْ بِعَمَلٍ آخَرَ يَقْطَعُ فَوْرَ الْأَذَانِ الْأَوَّلِ فَيُعِيدُهُ لِلْعَصْرِ ( فَإِنْ صَلَّى بِغَيْرِ خُطْبَةٍ أَجْزَأَهُ ) لِأَنَّ هَذِهِ الْخُطْبَةَ لَيْسَتْ بِفَرِيضَةٍ .

( قَوْلُهُ وَإِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ ) ظَاهِرُ هَذَا التَّرْكِيبِ الشَّرْطِيِّ إعْقَابُ الزَّوَالِ بِالِاشْتِغَالِ بِمُقَدَّمَاتِ الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي أَبِي دَاوُد وَمُسْنَدِ أَحْمَدَ { غَدَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ مِنًى حِينَ طَلَعَ الصُّبْحُ فِي صَبِيحَةِ يَوْمِ عَرَفَةَ حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ فَنَزَلَ بِنَمِرَةَ وَهُوَ مَنْزِلُ الْإِمَامِ الَّذِي يَنْزِلُ بِهِ بِعَرَفَةَ ، حَتَّى إذَا كَانَ عِنْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ رَاحَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُهَجِّرًا فَجَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ ، ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ } الْحَدِيثَ ، وَظَاهِرُهُ تَأْخِيرُ الْخُطْبَةِ عَنْ الصَّلَاةِ ، وَعَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا جَاءَ إلَى الْحَجَّاجِ يَوْمَ عَرَفَةَ حِينَ زَالَتْ الشَّمْسُ وَأَنَا مَعَهُ فَقَالَ : الرَّوَاحُ إنْ كُنْت تُرِيدُ السُّنَّةَ فَقَالَ : هَذِهِ السَّاعَةَ ؟ قَالَ نَعَمْ ، قَالَ سَالِمٌ : فَقُلْت لِلْحَجَّاجِ : إنْ كُنْت تُرِيدُ السُّنَّةَ فَأَقْصِرْ الْخُطْبَةَ وَعَجِّلْ الصَّلَاةَ ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : صَدَقَ .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ( قَوْلُهُ فَيَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ وَيَجْلِسُ بَيْنَهُمَا كَالْجُمُعَةِ ) ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ ( هَكَذَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) وَلَا يَحْضُرُنِي حَدِيثٌ فِيهِ تَنْصِيصٌ عَلَى خُطْبَتَيْنِ كَالْجُمُعَةِ ، بَلْ مَا أَفَادَ أَنَّهُ خَطَبَ قَبْلَ صَلَاةِ الظُّهْرِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ وَحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ مِنْ الْمُسْتَدْرَكِ ، وَحَدِيثُ أَبِي دَاوُد عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُفِيدُ أَنَّهُمَا بَعْدَ الصَّلَاةِ وَقَالَ فِيهِ " فَجَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ ثُمَّ رَاحَ فَوَقَفَ عَلَى الْمَوْقِفِ مِنْ عَرَفَةَ " وَهُوَ حُجَّةٌ لِمَالِكٍ فِي الْخُطْبَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ .
قَالَ عَبْدُ الْحَقِّ : وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ أَنَّهُ خَطَبَ قَبْلَ الصَّلَاةِ ،

وَهُوَ الْمَشْهُورُ الَّذِي عَمِلَ بِهِ الْأَئِمَّةُ وَالْمُسْلِمُونَ ، أَعَلَّ هُوَ وَابْنُ الْقَطَّانِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِابْنِ إِسْحَاقَ .
نَعَمْ ذَكَرَ صَاحِبُ الْمُنْتَقَى عَنْ جَابِرٍ قَالَ { رَاحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَوْقِفِ بِعَرَفَةَ فَخَطَبَ النَّاسَ الْخُطْبَةَ الْأُولَى ، ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ ، ثُمَّ أَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ ، فَفَرَغَ مِنْ الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ وَبِلَالٌ مِنْ الْأَذَانِ ، ثُمَّ أَقَامَ بِلَالٌ فَصَلَّى الظُّهْرَ ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ } رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سَاوَقَ الْأَذَانَ بِخُطْبَتِهِ فَكَأَنَّهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ إذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ كَانَتْ قَصِيرَةً جِدًّا كَتَسْبِيحَةٍ وَتَهْلِيلَةٍ وَتَحْمِيدَةٍ بِحَيْثُ كَانَتْ قَدْرَ الْأَذَانِ ، وَلَا يُعَدُّ فِي تَسْمِيَةِ مِثْلِهِ خُطْبَةً ، وَالْخُطْبَةُ الْأُولَى الثَّنَاءُ كَالتَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْوَعْظِ ، ثُمَّ تَعْلِيمُ الْمَنَاسِكِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ .
ثُمَّ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عِنْدَنَا إذَا صَعِدَ الْإِمَامُ الْمِنْبَرَ جَلَسَ وَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ كَمَا فِي الْجُمُعَةِ ، فَإِذَا فَرَغَ أَقَامَ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : يُؤَذِّنُ وَالْإِمَامُ فِي الْفُسْطَاطِ ثُمَّ يَخْرُجُ فَيَخْطُبُ .
قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ : هَذَا ظَاهِرُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ .
وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ عَنْهُ أَنَّ الْإِمَامَ يَبْدَأُ بِالْخُطْبَةِ قَبْلَ الْأَذَانِ ، فَإِذَا مَضَى صَدْرُ خُطْبَتِهِ أَذَّنُوا ثُمَّ يُتِمُّ الْخُطْبَةَ بَعْدَهُ ، فَإِذَا فَرَغَ أَقَامُوا ، وَهَذَا عَلَى مُسَاوَقَةِ مَا رَوَى الشَّافِعِيُّ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَعَهُمْ لِحَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ ذَكَرَ فِيهِ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَطَبَ النَّاسَ وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى الْقَصْوَاءِ ، إلَى أَنْ قَالَ : ثُمَّ أَذَّنَ ثُمَّ أَقَامَ } .
وَالْوَجْهُ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ أَنْ

يُحْمَلَ أَذَانُ بِلَالٍ ذَلِكَ عَلَى الْإِقَامَةِ ، فَيَكُونَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سَاوَقَ الْإِقَامَةَ بِخُطْبَةٍ ثَانِيَةٍ خَفِيفَةٍ قَدْرَ الْإِقَامَةِ تَمْجِيدًا وَتَسْبِيحًا .
وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَلَّاهُمَا بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا } وَعَنْهُ قُلْنَا لَا يُتَطَوَّعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ .
وَمَا فِي الذَّخِيرَةِ وَالْمُحِيطِ مِنْ أَنَّهُ يُصَلِّي بِهِمْ الْعَصْرَ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْتَغِلَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِالنَّافِلَةِ غَيْرَ سُنَّةِ الظُّهْرِ يُنَافِي حَدِيثَ جَابِرٍ الطَّوِيلَ ، إذْ قَالَ { فَصَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا } وَكَذَا يُنَافِي إطْلَاقَ الْمَشَايِخِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِمْ " وَلَا يَتَطَوَّعُ بَيْنَهُمَا " فَإِنَّ التَّطَوُّعَ يُقَالُ عَلَى السُّنَّةِ ( قَوْلُهُ خِلَافًا لِمَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ) وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ قَدْ جَمَعَهُمَا وَقْتٌ وَاحِدٌ فَيَكْفِيهِمَا أَذَانٌ وَاحِدٌ قُلْنَا : الْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ فَرْضٍ بِأَذَانٍ تُرِكَ فِيمَا إذَا جُمِعَ بَيْنَهُمَا عَلَى وَجْهٍ مُعَيَّنٍ فَعِنْدَ عَدَمِهِ يَعُودُ الْأَصْلُ

قَالَ ( وَمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ فِي رَحْلِهِ وَحْدَهُ صَلَّى الْعَصْرَ فِي وَقْتِهِ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى .
وَقَالَا : يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا الْمُنْفَرِدُ لِأَنَّ جَوَازَ الْجَمْعِ لِلْحَاجَةِ إلَى امْتِدَادِ الْوُقُوفِ وَالْمُنْفَرِدِ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَى الْوَقْتِ فَرْضٌ بِالنُّصُوصِ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ إلَّا فِيمَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ ، وَهُوَ الْجَمْعُ بِالْجَمَاعَةِ مَعَ الْإِمَامِ وَالتَّقْدِيمُ لِصِيَانَةِ الْجَمَاعَةِ لِأَنَّهُ يَعْسُرُ عَلَيْهِمْ الِاجْتِمَاعُ لِلْعَصْرِ بَعْدَمَا تَفَرَّقُوا فِي الْمَوْقِفِ لَا لِمَا ذَكَرَاهُ إذْ لَا مُنَافَاةَ ، ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : الْإِمَامُ شَرْطٌ فِي الصَّلَاتَيْنِ جَمِيعًا .
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ : فِي الْعَصْرِ خَاصَّةً لِأَنَّهُ هُوَ الْمُغَيَّرُ عَنْ وَقْتِهِ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ التَّقْدِيمَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ عُرِفَ شَرْعُهُ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْعَصْرُ مُرَتَّبَةً عَلَى ظُهْرٍ مُؤَدًّى بِالْجَمَاعَةِ مَعَ الْإِمَامِ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهِ ، ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ قَبْلَ الزَّوَالِ فِي رِوَايَةٍ تَقْدِيمًا لِلْإِحْرَامِ عَلَى وَقْتِ الْجَمْعِ ، وَفِي أُخْرَى يَكْتَفِي بِالتَّقْدِيمِ عَلَى الصَّلَاةِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الصَّلَاةُ

( قَوْلُهُ فُرِضَ بِالنُّصُوصِ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { إنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا } أَيْ فَرْضًا مُوَقَّتًا وَفِي حَدِيثِ { مَنْ جَمَعَ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَقَدْ أَتَى بَابًا مِنْ أَبْوَابِ الْكَبَائِرِ } ( قَوْلُهُ وَالتَّقْدِيمُ إلَخْ ) لَا حَاجَةَ إلَى تَعْلِيلِ الْجَمْعِ الْوَارِدِ بِأَنَّهُ لِصِيَانَةِ الْجَمَاعَةِ إبْطَالًا لِتَعْلِيلِهِمَا ، بَلْ يَكْفِي فِي بَيَانِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ارْتِكَابُهُ فِي غَيْرِ مَوْرِدٍ مِنْ حَالَةِ الِانْفِرَادِ بَيَانُ ثُبُوتِهِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ ، ثُمَّ إنَّهُ يَتَرَاءَى أَنَّ مَا أَبْدَاهُ سَبَبًا لِلْجَمْعِ مُنَافٍ لِمَا ذَكَرَهُ آنِفًا مِنْ قَوْلِهِ وَلِهَذَا : أَيْ لِتَحْصِيلِ مَقْصُودِ الْوُقُوفِ قُدِّمَ الْعَصْرُ عَلَى وَقْتِهِ ، إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ ذَلِكَ خَرَجَ عَلَى قَوْلِهِمَا لَا قَوْلِهِ ثُمَّ مَا عَيَّنَهُ أَوْلَى لِمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ : أَيْ بَيْنَ الْوُقُوفِ وَالصَّلَاةِ فَإِنَّهُ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ حَالَ كَوْنِهِ نَائِمًا أَوْ مُغْمًى عَلَيْهِ فَكَيْفَ لَا يَكُونُ حَالَ كَوْنِهِ مُصَلِّيًا .
وَإِنْ أَرَادَ الْوُقُوفَ الْمُتَوَجِّهَ فِيهِ إلَى الدُّعَاءِ وَكُلُّ ذَلِكَ فَضِيلَةٌ وَامْتِدَادُهُ وَعَدَمُ تَفْرِيقِهِ .
قُلْنَا تَفْرِيقُهُ بِالنَّوْمِ وَالْحَدِيثُ لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ وَتَرْكُ الْجُمُعَةِ مَكْرُوهٌ لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ أَوْ فِي حُكْمِ الْوَاجِبِ عَلَى مَا أَسْلَفْنَاهُ فِي بَابِ الْإِمَامَةِ ، وَعَدَمُ خُرُوجِ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا فَرْضٌ ، فَإِذَا ثَبَتَ بِلَا مَرَدِّ إخْرَاجِهَا فِي صُورَةٍ فَالْحُكْمُ بِأَنَّهُ لِتَحْصِيلِ وَاجِبٍ أَوْ مَا هُوَ قَرِيبٌ مِنْهُ أَوْلَى مِنْ جَعْلِهِ لِتَحْصِيلِ فَضِيلَةٍ ، وَلِذَا لَمْ يُخْتَلَفْ فِيهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ بِخِلَافِهِ مَعَ الِانْفِرَادِ فِيهِ اخْتِلَافٌ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَنْعُهُ ( قَوْلُهُ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ ) الْحَاصِلُ أَنَّ جَوَازَ الْجَمْعِ مَشْرُوطٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِالْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ فِي الصَّلَاتَيْنِ جَمِيعًا ، وَعِنْدَهُمَا فِي الْعَصْرِ فَقَطْ ، وَبِالْجَمَاعَةِ فِيهِمَا

عِنْدَهُ ، وَهَذَا قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَيْضًا غَيْرَ أَنَّهُ يَشْتَرِطُهُمَا فِي الْعَصْرِ لَيْسَ غَيْرُ ( قَوْلُهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) تَقْرِيرُهُ ظَاهِرٌ .
وَفِي الْمَبْسُوطِ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعَصْرَ فِي هَذَا الْيَوْمِ كَالتَّبَعِ لِلظُّهْرِ لِأَنَّهُمَا صَلَاتَانِ أُدِّيَتَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَالثَّانِيَةُ مُرَتَّبَةٌ عَلَى الْأُولَى فَكَانَا كَالْعِشَاءِ مَعَ الْوِتْرِ .
وَيَنْبَغِي أَنْ يُزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ صَلَاتَانِ وَاجِبَتَانِ .
قَالَ : وَلَمَّا جَعَلَ الْإِمَامُ شَرْطًا فِي التَّبَعِ كَانَ شَرْطًا فِي الْأَصْلِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى .
وَدَلِيلُ التَّبَعِيَّةِ لِغَيْرِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعَصْرُ فِي هَذَا الْيَوْمِ إلَّا بَعْدَ صِحَّةِ الظُّهْرِ ، حَتَّى لَوْ تَبَيَّنَ لِغَيْمٍ أَنَّهُمْ صَلُّوا الظُّهْرَ قَبْلَ الزَّوَالِ وَالْعَصْرَ بَعْدَهُ لَزِمَهُمْ إعَادَةُ الصَّلَاتَيْنِ ، وَكَذَا لَوْ جَدَّدَ الْوُضُوءَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّ الظُّهْرَ صَلَّى بِغَيْرِ وُضُوءٍ لَزِمَهُ إعَادَةُ الصَّلَاتَيْنِ ، بِخِلَافِ الْوِتْرِ فِيمَا تَقَدَّمَ لَا يُعِيدُهُ عِنْدَ الْإِمَامِ .
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْوِتْرَ أَدَاؤُهُ فِي وَقْتِهِ بِخِلَافِ الْعَصْرِ ، وَلَمَّا كَانَ فِي لُزُومِ الْأَوْلَوِيَّةِ خَفَاءٌ اقْتَصَرَ الْمُصَنِّفُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ

قَالَ ( ثُمَّ يَتَوَجَّهُ إلَى الْمَوْقِفِ فَيَقِفُ بِقُرْبِ الْجَبَلِ وَالْقَوْمُ مَعَهُ عَقِيبَ انْصِرَافِهِمْ مِنْ الصَّلَاةِ ) لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَاحَ إلَى الْمَوْقِفِ عَقِيبَ الصَّلَاةِ وَالْجَبَلُ يُسَمَّى جَبَلَ الرَّحْمَةِ ، وَالْمَوْقِفَ الْأَعْظَمَ .
قَوْلُهُ عَقِيبَ انْصِرَافِهِمْ مِنْ الصَّلَاةِ ) ظَرْفٌ لِيَتَوَجَّهَ ( لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَاحَ إلَى الْمَوْقِفِ عَقِيبَ الصَّلَاةِ ) هُوَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ .
وَاعْلَمْ أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الْوُقُوفِ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ وَيَمْتَدُّ إلَى طُلُوعِ فَجْرِ يَوْمِ النَّحْرِ .
فَالْوُقُوفُ قَبْلَ ذَلِكَ وَبَعْدَهُ عَدَمٌ ، وَالرُّكْنُ سَاعَةٌ مِنْ ذَلِكَ ، وَالْوَاجِبُ إنْ وَقَفَ نَهَارًا يَمُدُّهُ إلَى الْغُرُوبِ أَوْ لَيْلًا فَلَا وَاجِبَ فِيهِ .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78