كتاب : فتح القدير
المؤلف : كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي

يَكُونَ مَعْنَاهُ يَمْلِكُ جِنْسَ التَّصَرُّفِ احْتِرَازًا عَنْ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ فَيَكُونَ عَلَى مَذْهَبِ الْكُلِّ وَهُوَ الْمُرَادُ ا هـ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَآلَ هَذَا مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ فِي جَوَابِهِ الثَّانِي ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَدْفَعُ النَّقْصَ هَاهُنَا بَلْ يُؤَيِّدُهُ ( وَذَلِكَ ) أَيْ مَا يَمْلِكُهُ الْمُوَكِّلُ ( مُطْلَقُ الْجَوَابِ ) الْمُتَنَاوِلِ لِلْإِنْكَارِ وَالْإِقْرَارِ جَمِيعًا ( دُونَ أَحَدِهِمَا عَيْنًا ) أَيْ دُونَ أَحَدِ الْجَوَابَيْنِ بِعَيْنِهِ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَكُونُ أَحَدُهُمَا بِعَيْنِهِ حَرَامًا لِأَنَّ خَصْمَهُ إنْ كَانَ مُحِقًّا يَجِبُ عَلَيْهِ الْجَوَابُ بِالْإِقْرَارِ وَإِنْ كَانَ مُبْطِلًا يَجِبُ عَلَيْهِ الْجَوَابُ بِالْإِنْكَارِ فَلَا يُمْلَكُ الْمُعَيَّنُ مِنْهُمَا قَطْعًا فَلَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ بِهِ قَطْعًا بَلْ يَصِحُّ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ ، وَحَيْثُ صَحَّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ عُلِمَ أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ مَمْلُوكَهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَهُوَ مُطْلَقُ الْجَوَابِ الدَّاخِلِ تَحْتَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ( وَطَرِيقُ الْمَجَازِ ) أَيْ بَيْنَ الْخُصُومَةِ وَمُطْلَقِ الْجَوَابِ ( مَوْجُودٌ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ) عَلَى مَا سَيَأْتِي عَنْ قَرِيبٍ عِنْدَ بَيَانِ وَجْهِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ( فَيُصْرَفُ إلَيْهِ ) أَيْ فَيُصْرَفُ التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ إلَى التَّوْكِيلِ بِمُطْلَقِ الْجَوَابِ ( تَحَرِّيًا لِلصِّحَّةِ قَطْعًا ) أَيْ تَحَرِّيًا لِصِحَّةِ كَلَامِ الْمُوَكِّلِ قَطْعًا ، فَإِنَّ كَلَامَ الْعَاقِلِ يُصَانُ عَنْ الْإِلْغَاءِ .

( وَلَوْ اسْتَثْنَى الْإِقْرَارَ ؛ فَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ ) جَوَابٌ عَنْ مُسْتَشْهَدِ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ : يَعْنِي لَا نُسَلِّمُ صِحَّةَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ ، بَلْ لَا يَصِحُّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ كَمَا ذَكَرَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَيْضًا ( لِأَنَّهُ ) أَيْ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ ( لَا يَمْلِكُهُ ) أَيْ لَا يَمْلِكُ الِاسْتِثْنَاءَ لِأَنَّ مِلْكَهُ يَسْتَلْزِمُ بَقَاءَ الْإِنْكَارِ عَيْنًا ، وَقَدْ لَا يَحِلُّ ذَلِكَ كَمَا مَرَّ آنِفًا ، كَذَا ذُكِرَ فِي الْعِنَايَةِ وَكَثِيرٍ مِنْ الشُّرُوحِ ، أَوْ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ بِاعْتِبَارِ قِيَامِهِ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ لَا لِأَنَّهُ مِنْ الْخُصُومَةِ فَيَصِيرُ ثَابِتًا بِالْوِكَالَةِ حُكْمًا لَهَا فَلَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ ، كَمَا لَوْ وَكَّلَ بِالْبَيْعِ عَلَى أَنْ لَا يَقْبِضَ الْوَكِيلُ الثَّمَنَ أَوْ لَا يُسْلِمَ الْمَبِيعَ ، فَإِنَّ ذَاكَ الِاسْتِثْنَاءَ بَاطِلٌ كَذَا هَذَا ، كَذَا ذُكِرَ فِي الْكَافِي وَفِي بَعْضِ الشُّرُوحِ ( وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَصِحُّ ) يَعْنِي وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْإِقْرَارِ يَصِحُّ كَمَا قَالَ مُحَمَّدٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَكِنَّهُ إنَّمَا يَصِحُّ ( لِأَنَّ لِلتَّنْصِيصِ ) أَيْ لِتَنْصِيصِ الْمُوَكِّلِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ ( زِيَادَةُ دَلَالَةٍ عَلَى مِلْكِهِ إيَّاهُ ) أَيْ عَلَى تَمَلُّكِهِ الْإِنْكَارَ .
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يَحِلَّ لَهُ الْإِنْكَارُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ خَصْمُهُ مُحِقًّا ، فَإِذَا نَصَّ عَلَى اسْتِثْنَاءِ الْإِقْرَارِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَعْلَمُ بِيَقِينٍ أَنَّ خَصْمَهُ مُبْطِلٌ حَمْلًا لِأَمْرِ الْمُسْلِمِ عَلَى الصَّلَاحِ فَتَعَيَّنَ الْإِنْكَارُ ( وَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ ) أَيْ عِنْدَ إطْلَاقِ التَّوْكِيلِ بِالْخُصُومَةِ مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءِ الْإِقْرَارِ ( يُحْمَلُ عَلَى الْأَوْلَى ) أَيْ يُحْمَلُ كَلَامُهُ عَلَى مَا هُوَ الْأَوْلَى بِحَالِ الْمُسْلِمِ وَهُوَ مُطْلَقُ الْجَوَابِ ( وَعَنْهُ ) أَيْ عَنْ مُحَمَّدٍ ( أَنَّهُ فَصَلَ بَيْنَ الطَّالِبِ وَالْمَطْلُوبِ ) أَيْ فَصَلَ بَيْنَ الْمُدَّعِي

وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي اسْتِثْنَاءِ الْإِقْرَارِ عِنْدَ التَّوْكِيلِ بِالْخُصُومَةِ فَصَحَّحَ اسْتِثْنَاءَهُ فِي الْأَوَّلِ وَهُوَ الطَّالِبُ ( وَلَمْ يُصَحِّحْهُ فِي الثَّانِي ) وَهُوَ الْمَطْلُوبُ ( لِكَوْنِهِ ) أَيْ لِكَوْنِ الْمَطْلُوبِ ( مَجْبُورًا عَلَيْهِ ) أَيْ عَلَى الْإِقْرَارِ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَفِي الْعِنَايَةِ أَيْضًا نَقْلًا عَنْ النِّهَايَةِ ، أَوْ عَلَى تَرْكِ الْإِنْكَارِ كَذَا فِي كَثِيرٍ مِنْ الشُّرُوحِ .
وَقَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ بَعْدَ ذِكْرِ ذَلِكَ : أَوْ يُقَالُ لِكَوْنِ الْمَطْلُوبِ شَخْصًا يُجْبَرُ عَلَيْهِ فِي الْخُصُومَةِ ( وَيُخَيَّرُ الطَّالِبُ فِيهِ ) أَيْ فِي أَصْلِ الْخُصُومَةِ فَلَهُ تَرْكُ أَحَدِ وَجْهَيْهَا ، كَذَا فِي الْكِفَايَةِ .
وَذَكَرَ فِي التَّتِمَّةِ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْإِقْرَارِ مِنْ الطَّالِبِ لِأَنَّهُ مُخَيَّرٌ ، وَلَا يَصِحُّ مِنْ الْمَطْلُوبِ لِأَنَّهُ مَجْبُورٌ عَلَيْهِ : يَعْنِي أَنَّ الْوَكِيلَ إذَا كَانَ مِنْ جَانِبِ الْمُدَّعِي صَحَّ اسْتِثْنَاءُ الْإِقْرَارِ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ لَمَّا كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْإِقْرَارِ وَالْإِنْكَارِ أَدَّى الِاسْتِثْنَاءُ فَائِدَتَهُ فِي حَقِّهِ وَأَمَّا إذَا كَانَ مِنْ جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَلَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْإِقْرَارِ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ ذَلِكَ ، لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ يَثْبُتُ مَا ادَّعَاهُ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، أَوْ يَضْطَرُّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إلَى الْإِقْرَارِ بِعَرْضِ الْيَمِينِ عَلَيْهِ فَيَكُونُ مَجْبُورًا عَلَى الْإِقْرَارِ فَكَذَلِكَ وَكِيلُهُ ، إلَّا أَنَّ التَّوْكِيلَ عِنْدَ تَوَجُّهِ الْيَمِينِ عَلَى مُوَكِّلِهِ لِأَنَّ النِّيَابَةَ لَا تَجْرِي فِي الْأَيْمَانِ فَلَا يُفِيدُ اسْتِثْنَاءُ الْإِقْرَارِ فَائِدَتَهُ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ ذِكْرِ ذَلِكَ مُجْمَلًا .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : الْمُدَّعِي قَدْ يَعْجِزُ عَنْ إثْبَاتِ دَعْوَاهُ بِالْبَيِّنَةِ ، وَقَدْ لَا يَضْطَرُّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إلَى الْإِقْرَارِ بِعَرْضِ الْيَمِينِ لِكَوْنِهِ مُحِقًّا فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مُفِيدًا .
وَالْجَوَابُ أَنَّ

الْمَطْلُوبَ مَجْبُورٌ عَلَى الْإِقْرَارِ إذَا عُرِضَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ وَهُوَ مُبْطِلٌ فَكَانَ مَجْبُورًا فِي الْجُمْلَةِ فَلَمْ يَكُنْ اسْتِثْنَاؤُهُ مُقَيَّدًا فِيهِ ، بِخِلَافِ الطَّالِبِ فَإِنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي كُلِّ حَالٍ فَكَانَ اسْتِثْنَاؤُهُ مُفِيدًا إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
أَقُولُ : فِي الْجَوَابِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ كَوْنُ الْمَطْلُوبِ مَجْبُورًا عَلَى الْإِقْرَارِ بَلْ كَانَ ذَلِكَ احْتِمَالًا مَحْضًا مَوْقُوفًا عَلَى كَوْنِهِ مُبْطِلًا لَمْ يَتَعَيَّنْ عَدَمُ الْفَائِدَةِ فِي اسْتِثْنَائِهِ الْإِقْرَارَ ، بَلْ كَانَ ذَلِكَ أَيْضًا احْتِمَالًا مَحْضًا ، فَبِمُجَرَّدِ الِاحْتِمَالِ كَيْفَ يَجُوزُ إسَاءَةُ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ وَإِلْغَاءُ كَلَامِ الْعَاقِلِ مَعَ وُجُوبِ حَمْلِ أَمْرِ الْمُسْلِمِ عَلَى الصَّلَاحِ وَصِيَانَةِ كَلَامِ الْعَاقِلِ عَنْ الْإِلْغَاءِ ؟ أَقُولُ : بَقِيَ هَاهُنَا بَحْثٌ ، وَهُوَ أَنَّ الطَّالِبَ أَيْضًا قَدْ يَكُونُ مَجْبُورًا عَلَى الْإِقْرَارِ لِأَنَّ إقْرَارَ الطَّالِبِ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُدَّعٍ ، إذَا الدَّعْوَى وَالْإِقْرَارُ مُتَبَايِنَانِ .
بَلْ مُتَضَادَّانِ ، وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُدَّعًى عَلَيْهِ بِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ مِنْ خَصْمِهِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الطَّالِبَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُدَّعًى عَلَيْهِ يُعْرَضُ عَلَيْهِ الْيَمِينُ فَيَكُونُ مَجْبُورًا عَلَى الْإِقْرَارِ ، لَا يُقَالُ : الْمُرَادُ أَنَّ الطَّالِبَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ طَالِبٌ : أَيْ مُدَّعٍ يَصِحُّ مِنْهُ اسْتِثْنَاءُ الْإِقْرَارِ لِعَدَمِ كَوْنِهِ مَجْبُورًا عَلَى الْإِقْرَارِ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ بَلْ مُخَيَّرٌ ، بِخِلَافِ الْمَطْلُوبِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَطْلُوبٌ : أَيْ مُدَّعًى عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مَجْبُورًا عَلَيْهِ .
لِأَنَّا نَقُولُ : الطَّالِبُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ طَالِبٌ لَمَّا لَمْ يُتَصَوَّرْ مِنْهُ الْإِقْرَارُ قَطُّ لَمْ يُمْكِنْ اسْتِثْنَاءُ الْإِقْرَارِ هُنَاكَ أَصْلًا فَضْلًا عَنْ صِحَّتِهِ فَلْيُتَأَمَّلْ .
ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ الْجَوَابَ مِنْ صُورَةِ الصُّلْحِ وَالْإِبْرَاءِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يَصِحَّ

صُلْحُ الْوَكِيلِ بِالْخُصُومَةِ لِأَنَّ الْخُصُومَةَ لَيْسَتْ بِسَبَبٍ دَاعٍ إلَى الصُّلْحِ أَوْ إلَى الْإِبْرَاءِ فَلَمْ يُوجَدْ مُجَوِّزُ الْمَجَازِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ إفْضَاءَهَا إلَى الصُّلْحِ وَالْإِبْرَاءِ إنْ لَمْ يَكُنْ أَشَدَّ مِنْ إفْضَائِهَا إلَى الْإِقْرَارِ فَهُوَ مِثْلُهُ لَا مَحَالَةَ ، وَأَيْضًا الْخُصُومَةُ وَالصُّلْحُ مُتَقَابِلَانِ فَيَنْبَغِي أَنْ تَجُوزَ الِاسْتِعَارَةُ ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ : التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ يَنْصَرِفُ إلَى مُطْلَقِ الْجَوَابِ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَمُطْلَقُ الْجَوَابِ إمَّا بِلَا أَوْ بِنَعَمْ ، وَالصُّلْحُ عَقْدٌ آخَرُ يَحْتَاجُ إلَى عِبَارَةٍ أُخْرَى خِلَافُ مَا وُضِعَ جَوَابًا ، وَكَذَلِكَ الْإِبْرَاءُ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ الْمَوْضُوعُ لِمُطْلَقِ الْجَوَابِ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
أَقُولُ : فَنَظَرُهُ الْأَوَّلُ سَاقِطٌ جِدًّا ، إذْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ إفْضَاءَ الْخُصُومَةِ إلَى الصُّلْحِ وَالْإِبْرَاءِ أَشَدُّ مِنْ إفْضَائِهَا إلَى الْإِقْرَارِ أَوْ مِثْلِ إفْضَائِهَا إلَيْهِ ، كَيْفَ وَالْخَصْمُ قَدْ يُضْطَرُّ إلَى الْإِقْرَارِ عِنْدَ عَرْضِ الْيَمِينِ عَلَيْهِ ، بِخِلَافِ الصُّلْحِ وَالْإِبْرَاءِ فَإِنَّ الْخَصْمَ لَا يُضْطَرُّ إلَيْهِمَا أَصْلًا بَلْ هُوَ مُخْتَارٌ فِيهِمَا مُطْلَقًا ، عَلَى أَنَّهُمَا لَا يَتَحَقَّقَانِ بِاخْتِيَارِ الْخَصْمِ فَقَطْ بَلْ لَا بُدَّ فِيهِمَا مِنْ اخْتِيَارِ الْمُتَخَاصِمَيْنِ مَعًا ، وَإِلَى هَذَا كُلِّهِ أَشَارَ الْمُجِيبُ وَهُوَ الشَّارِحُ الْأَتْقَانِيُّ فِي تَقْرِيرِ جَوَابِهِ حَيْثُ قَالَ : وَالْجَوَابُ عَنْ الْقِيَاسِ عَلَى الصُّلْحِ فَنَقُولُ : إنَّمَا لَمْ يَصِحَّ صُلْحُ الْوَكِيلِ لِأَنَّ الْخُصُومَةَ لَيْسَتْ بِسَبَبٍ دَاعٍ إلَى الصُّلْحِ ، بَلْ هُوَ تَصَرُّفٌ ابْتِدَاءً يَتَعَلَّقُ بِاخْتِيَارِهِمَا ا هـ ( فَبَعْدَ ذَلِكَ ) شُرُوعٌ فِي بَيَانِ مَأْخَذِ الِاخْتِلَافِ الْوَاقِعِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ : أَيْ بَعْدَمَا ثَبَتَ أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْخُصُومَةِ يَنْصَرِفُ إلَى مُطْلَقِ الْجَوَابِ أَوْ بَعْدَمَا ثَبَتَ جَوَازُ إقْرَارِ الْوَكِيلِ بِالْخُصُومَةِ عَلَى مُوَكِّلِهِ ( يَقُولُ أَبُو يُوسُفَ ) فِي

التَّسْوِيَةِ بَيْنَ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَغَيْرِهِ ( إنَّ الْوَكِيلَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ ) فَيَقْتَضِي هَذَا أَنْ يَمْلِكَ مَا كَانَ الْمُوَكِّلُ مَالِكًا لَهُ ( وَإِقْرَارُهُ ) أَيْ إقْرَارُ الْمُوَكِّلِ ( لَا يَخْتَصُّ بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ ) لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مُوجِبٌ بِنَفْسِهِ ، وَإِنَّمَا يَخْتَصُّ بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ مَا لَا يَكُونُ مُوجِبًا إلَّا بِانْضِمَامِ الْقَضَاءِ إلَيْهِ كَالْبَيِّنَةِ وَالنُّكُولِ ( فَكَذَا إقْرَارُ نَائِبِهِ ) أَيْ هُوَ أَيْضًا لَا يَخْتَصُّ بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ ( وَهُمَا ) أَيْ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ( يَقُولَانِ ) فِي الْفَرْقِ بَيْنَ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَغَيْرِهِ ( أَنَّ التَّوْكِيلَ ) أَيْ التَّوْكِيلَ بِالْخُصُومَةِ ( يَتَنَاوَلُ جَوَابًا يُسَمَّى خُصُومَةً حَقِيقَةً ) وَهُوَ الْإِنْكَارُ ( أَوْ مَجَازًا ) وَهُوَ الْإِقْرَارُ لِمَا مَرَّ أَنَّهُ يَنْصَرِفُ إلَى مُطْلَقِ الْجَوَابِ ، وَمُطْلَقُ الْجَوَابِ مَجَازٌ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ بِعُمُومِهِ الْحَقِيقَةَ وَهِيَ الْخُصُومَةُ وَالْمَجَازَ وَهُوَ الْإِقْرَارُ ، وَالْإِقْرَارُ لَا يَكُونُ خُصُومَةً مَجَازًا إلَّا فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ ، فَمَا كَانَ مِنْهُ فِي غَيْرِهِ فَلَيْسَ بِخُصُومَةٍ لَا حَقِيقَةً وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَلَا مَجَازًا إذْ الْإِقْرَارُ إنَّمَا يَكُونُ خُصُومَةً مَجَازًا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ جَوَابٌ ، وَلَا جَوَابَ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَلَا إقْرَارَ يَكُونُ خُصُومَةً مَجَازًا فِي غَيْرِهِ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ الْجَوَابُ الْمُوَكَّلِ بِهِ .
، ثُمَّ إنَّ طَرِيقَ كَوْنِ الْإِقْرَارِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ جَوَابُ خُصُومَةٍ مَجَازًا كَمَا وَعَدَ الْمُصَنِّفُ بَيَانَهُ فِيمَا مَرَّ مَا ذَكَرَهُ هَاهُنَا بِقَوْلِهِ ( وَالْإِقْرَارُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ خُصُومَةٌ مَجَازًا إمَّا لِأَنَّهُ ) أَيْ الْإِقْرَارَ ( خَرَجَ فِي مُقَابَلَةِ الْخُصُومَةِ ) جَوَابًا عَنْهَا فَسُمِّيَ بِاسْمِهَا كَمَا سُمِّيَ جَزَاءُ الْعُدْوَانِ عُدْوَانًا فِي قَوْله تَعَالَى { فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } وَكَمَا سُمِّيَ جَزَاءُ السَّيِّئَةِ سَيِّئَةً فِي قَوْله تَعَالَى { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } كَذَا

فِي الْمَبْسُوطِ وَالْأَسْرَارِ .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : فَكَانَ مُجَوِّزُهُ التَّضَادَّ وَهُوَ مُجَوِّزٌ لُغَوِيٌّ لِمَا قَرَّرْنَا فِي التَّقْرِيرِ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ مُجَوِّزًا شَرْعِيًّا .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّ مُجَوِّزَهُ الْمُشَاكَلَةُ .
أَقُولُ : لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ يَعْرِفُ حَقِيقَةَ الْمُشَاكَلَةِ وَيُتْقِنُ النَّظَرَ فِي مَبَاحِثِهَا أَنَّ الْمُشَاكَلَةَ بِمَعْزِلٍ عَمَّا نَحْنُ فِيهِ ، وَإِنَّمَا غَرَّهُ تَمْثِيلُهُمْ مَا نَحْنُ فِيهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } قَوْله تَعَالَى { فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } وَلَكِنَّ جَوَازَ الْمُشَاكَلَةِ أَيْضًا فِي ذَيْنِك الْمَوْضِعَيْنِ مِنْ النَّظْمِ الشَّرِيفِ لَا يَقْتَضِي جَوَازَهُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ، تَأَمَّلْ تَقِفْ ( أَوْ لِأَنَّهُ ) أَيْ الْخُصُومَةُ عَلَى تَأْوِيلِ التَّخَاصُمِ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا .
وَقَالَ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ : وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ : أَوْ لِأَنَّهَا ( سَبَبٌ لَهُ ) أَيْ لِإِقْرَارٍ ، وَقَدْ سُمِّيَ الْمُسَبَّبُ بِاسْمِ السَّبَبِ كَمَا يُقَالُ صَلَاةُ الْعِيدِ سُنَّةٌ مَعَ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا تَثْبُتُ بِالسُّنَّةِ ، وَكَمَا يُسَمَّى جَزَاءُ السَّيِّئَةِ سَيِّئَةً إطْلَاقًا لِاسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ فَكَانَ الْمُجَوِّزُ السَّبَبِيَّةَ .
قَالَ فِي الْعِنَايَةِ : وَهُوَ مُجَوِّزٌ شَرْعِيٌّ نَظِيرُ الِاتِّصَالِ الصُّورِيِّ فِي اللُّغَوِيِّ كَمَا عُرِفَ ( لِأَنَّ الظَّاهِرَ إتْيَانُهُ ) أَيْ إتْيَانُ الْخَصْمِ ( بِالْمُسْتَحَقِّ ) فَتَكُونُ الْخُصُومَةُ سَبَبًا لَهُ حَيْثُ أَفْضَى إلَيْهِ ظَاهِرًا ، كَذَا ذَكَرَهُ تَاجُ الشَّرِيعَةِ وَاخْتَارَهُ الْعَيْنِيُّ ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ قَوْلُهُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ إلَخْ تَعْلِيلًا لِقَوْلِهِ أَوْ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لَهُ .
وَقِيلَ هُوَ تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ وَالْإِقْرَارُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ خُصُومَةٌ مَجَازًا بِمُلَاحَظَةِ الْقَصْرِ فِي التَّقْيِيدِ بِقَوْلِهِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ : يَعْنِي لَا الْإِقْرَارُ فِي غَيْرِهِ فَتَأَمَّلْ ا هـ .
وَيُشْعِرُ بِهِ تَحْرِيرُ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ

حَيْثُ قَالَ : وَأَمَّا اخْتِصَاصُهُ بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَلِأَنَّ الظَّاهِرَ إتْيَانُهُ بِالْمُسْتَحَقِّ إلَخْ فَتَفَكَّرْ ( وَهُوَ ) أَيْ الْمُسْتَحَقُّ ( الْجَوَابُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ ) لَا غَيْرُ ( فَيَخْتَصُّ بِهِ ) أَيْ فَيَخْتَصُّ جَوَابُ الْخُصُومَةِ بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَلَوْ قَالَ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ إتْيَانُهُ بِالْمُسْتَحَقِّ بَدَلٌ لِأَنَّ الظَّاهِرَ كَانَ أَوْ فِي تَأْدِيَةٍ لِلْمَقْصُودِ انْتَهَى .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : إنَّمَا لَمْ يَقُلْ لِأَنَّ الْوَاجِبَ إلَخْ لِتَطَرُّقِ الْمَنْعِ عَلَى دَعْوَى الْوُجُوبِ ، وَسَنَدُهُ مَا مَرَّ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْوِكَالَةِ مِنْ الشَّارِحِ حَيْثُ بَيَّنَ حُكْمَهَا انْتَهَى .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ مَدَارَهُ عَلَى زَعْمِ أَنَّ ضَمِيرَ " عَلَيْهِ " وَ " إتْيَانُهُ " فِي قَوْلِهِ " لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ إتْيَانُهُ بِالْمُسْتَحَقِّ " رَاجِعٌ إلَى الْوَكِيلِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ وَكِيلٌ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ رَاجِعٌ إلَى الْخَصْمِ وَهُوَ الْمُوَكِّلُ حَقِيقَةً ، وَإِنْ عُدَّ الْوَكِيلُ أَيْضًا خَصْمًا لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ فَالْوُجُوبُ هَاهُنَا يَصِيرُ حُكْمُ الْخُصُومَةِ لَا حُكْمُ الْوِكَالَةِ ، وَوُجُوبُ الْجَوَابِ عَلَى الْخَصْمِ بِمَا لَا يَقْبَلُ الْمَنْعَ قَطْعًا ، وَمَا مَرَّ مِنْ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْوِكَالَةِ وَهُوَ جَوَازُ مُبَاشَرَةِ الْوَكِيلِ مَا فُوِّضَ إلَيْهِ إنَّمَا هُوَ حُكْمُ الْوِكَالَةِ ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي كَوْنَ الْوُجُوبِ الْمَذْكُورِ هَاهُنَا حُكْمُ الْخُصُومَةِ فَلَا يَكَادُ يَصْلُحُ سَنَدًا لِمَنْعِ ذَلِكَ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْوَكِيلِ كَثِيرٌ مِنْ أَحْكَامِ مَا بَاشَرَهُ بِالْوِكَالَةِ كَمَا قَالُوا كُلُّ عَقْدٍ يُضِيفُهُ الْوَكِيلُ إلَى نَفْسِهِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَغَيْرِهِمَا فَحُقُوقُهُ تَجِبُ عَلَى الْوَكِيلِ دُونَ الْمُوَكِّلِ مَعَ إطْبَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْوِكَالَةِ جَوَازُ مُبَاشَرَةِ الْوَكِيلِ مَا فُوِّضَ إلَيْهِ .
فَالتَّوْفِيقُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّ الْوُجُوبَ حُكْمُ مَا بَاشَرَهُ ، وَالْجَوَازُ حُكْمُ أَصْلِ

الْوِكَالَةِ فَلَا تَغْفُلْ ( لَكِنْ إذَا أُقِيمَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى إقْرَارِهِ ) أَيْ عَلَى إقْرَارِ الْوَكِيلِ ( فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ يَخْرُجُ مِنْ الْوِكَالَةِ ) هَذَا اسْتِدْرَاكٌ مِنْ قَوْلِهِ فَيَخْتَصُّ بِهِ ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى دَفْعِ مَا يُقَالُ إذَا لَمْ يَكُنْ الْإِقْرَارُ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ جَوَابًا كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا وَلَا يَخْرُجُ بِهِ عَنْ الْوِكَالَةِ ، وَمَعْنَاهُ لَكِنْ إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ أَقَرَّ عِنْدَ غَيْرِ الْقَاضِي خَرَجَ مِنْ الْوِكَالَةِ ( حَتَّى لَا يُؤْمَرَ ) أَيْ لَا يُؤْمَرَ الْخَصْمُ ( بِدَفْعِ الْمَالِ إلَيْهِ ) أَيْ إلَى الْوَكِيلِ ( لِأَنَّهُ صَارَ مُنَاقِضًا ) فِي كَلَامِهِ حَيْثُ كَذَّبَ نَفْسَهُ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ ، وَالْمُنَاقِضُ لَا دَعْوَى لَهُ .
قَالَ فِي الْكَافِي : حَتَّى لَا يُؤْمَرَ بِدَفْعِ الْمَالِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَبْقَى وَكِيلًا بِمُطْلَقِ الْجَوَابِ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْإِنْكَارَ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُنَاقِضًا فِي كَلَامِهِ ، فَلَوْ بَقِيَ وَكِيلًا بَقِيَ وَكِيلًا بِجَوَابٍ مُقَيَّدٍ وَهُوَ الْإِقْرَارُ وَمَا وَكَّلَهُ بِجَوَابٍ مُقَيَّدٍ وَإِنَّمَا وَكَّلَهُ بِالْجَوَابِ مُطْلَقًا انْتَهَى ( وَصَارَ ) أَيْ صَارَ الْوَكِيلُ الْمُقِرُّ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ ( كَالْأَبِ وَالْوَصِيِّ إذَا أَقَرَّ ) أَيْ أَقَرَّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا ( فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ ) فَإِنَّهُ ( لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ وَلَا يَدْفَعُ الْمَالَ إلَيْهِ ) ، بَيَانُ أَنَّ الْأَبَ أَوْ الْوَصِيَّ إذَا ادَّعَى شَيْئًا لِلصَّغِيرِ فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَصَدَّقَهُ الْأَبُ أَوْ الْوَصِيُّ ثُمَّ جَاءَ يَدَّعِي الْمَالَ فَإِنَّ إقْرَارَهُمَا لَا يَصِحُّ ( وَلَا يَدْفَعُ الْمَالَ إلَيْهِمَا ) لِأَنَّهُمَا خَرَجَا مِنْ الْوِلَايَةِ وَالْوِصَايَةِ فِي حَقِّ ذَلِكَ الْمَالِ بِسَبَبِ إقْرَارِهِمَا بِمَا قَالَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا ، كَذَا ذُكِرَ فِي أَكْثَرِ الشُّرُوحِ ، وَالْأَحْسَنُ مَا ذُكِرَ فِي الْكِفَايَةِ مِنْ أَنَّ الْأَبَ وَالْوَصِيَّ إذَا أَقَرَّا عَلَى الْيَتِيمِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ أَنَّهُ اسْتَوْفَى حَقَّهُ لَا يَصِحُّ

إقْرَارُهُمَا عَلَيْهِ ، وَلَكِنْ لَا يَدْفَعُ الْمَالَ إلَيْهِمَا لِزَعْمِهِمَا بُطْلَانَ حَقِّ الْآخِذِ ، وَإِنَّمَا لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُمَا لِأَنَّ وِلَايَتَهُمَا نَظَرِيَّةٌ وَلَا نَظَرَ فِي الْإِقْرَارِ عَلَى الصَّغِيرِ انْتَهَى .
وَاعْلَمْ أَنَّ حَاصِلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَعْنِي مَسْأَلَةَ التَّوْكِيلِ بِالْخُصُومَةِ عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلِ أَنْ يُوَكِّلَهُ بِالْخُصُومَةِ وَلَا يَتَعَرَّضُ لِشَيْءٍ آخَرَ ، وَفِي هَذَا الْوَجْهِ يَصِيرُ وَكِيلًا بِالْإِنْكَارِ بِالْإِجْمَاعِ وَيَصِيرُ وَكِيلًا بِالْإِقْرَارِ أَيْضًا عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ .
الثَّانِي أَنْ يُوَكِّلَهُ بِالْخُصُومَةِ غَيْرَ جَائِزِ الْإِقْرَارِ ، وَفِي هَذَا الْوَجْهِ يَصِيرُ وَكِيلًا بِالْإِنْكَارِ ، لِأَنَّ بِاسْتِثْنَاءِ الْإِقْرَارِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْوَكِيلَ مَا يَتَنَاوَلُ نَفْسَ الْجَوَابِ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ جَوَابًا مُقَيَّدًا بِالْإِنْكَارِ ، هَكَذَا ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي الْأَصْلِ ، وَذَكَرَ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ الْبَزْدَوِيُّ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ أَنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لَا يَصِحُّ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَصِحُّ .
وَهَكَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ فِي شَرْحِ وِكَالَةِ الْأَصْلِ ، وَفِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى أَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْإِقْرَارِ مِنْ الطَّالِبِ يَصِحُّ وَمِنْ الْمَطْلُوبِ لَا يَصِحُّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ .
الثَّالِثِ أَنْ يُوَكِّلَهُ بِالْخُصُومَةِ غَيْرَ جَائِزِ الْإِنْكَارِ ، وَفِي هَذَا الْوَجْهِ يَصِيرُ وَكِيلًا بِالْإِقْرَارِ ، وَيَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ؛ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ .
الرَّابِعِ أَنْ يُوَكِّلَهُ بِالْخُصُومَةِ جَائِزَ الْإِقْرَارِ عَلَيْهِ وَفِي هَذَا الْوَجْهِ يَصِيرُ وَكِيلًا بِالْخُصُومَةِ وَالْإِقْرَارِ ، حَتَّى لَوْ أَقَرَّ صَحَّ إقْرَارُهُ عَلَى الْمُوَكِّلِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَيَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْإِقْرَارِ صَحِيحٌ عِنْدَنَا ، وَلَا يَصِيرُ الْمُوَكِّلُ مُقِرًّا بِنَفْسِ التَّوْكِيلِ عِنْدَنَا ، ذَكَرَ مُحَمَّدٌ الْمَسْأَلَةَ فِي بَابِ الْوِكَالَةِ

بِالصُّلْحِ .
الْخَامِسِ أَنْ يُوَكِّلَهُ بِالْخُصُومَةِ غَيْرَ جَائِزِ الْإِقْرَارِ وَالْإِنْكَارِ ، وَلَا رِوَايَةَ فِي هَذَا الْوَجْهِ عَنْ أَصْحَابِنَا ، وَقَدْ اخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ فِيهِ : بَعْضُهُمْ قَالُوا لَا يَصِحُّ هَذَا التَّوْكِيلُ أَصْلًا لِأَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْخُصُومَةِ تَوْكِيلٌ بِجَوَابِ الْخُصُومَةِ ، وَجَوَابُ الْخُصُومَةِ إقْرَارٌ وَإِنْكَارٌ ، فَإِذَا اسْتَثْنَى كِلَاهُمَا لَمْ يُفَوِّضْ إلَيْهِ شَيْئًا .
وَحَكَى عَنْ الْقَاضِي الْإِمَامِ صَاعِدٍ النَّيْسَابُورِيِّ أَنَّهُ قَالَ : يَصِحُّ التَّوْكِيلُ وَيَصِيرُ الْوَكِيلُ وَكِيلًا بِالسُّكُوتِ مَتَى حَضَرَ مَجْلِسَ الْحُكْمِ حَتَّى يَسْمَعَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ بِهَذَا الْقَدْرِ لِأَنَّ مَا هُوَ مَقْصُودُ الطَّالِبِ وَهُوَ الْوُصُولُ إلَى حَقِّهِ بِوَاسِطَةِ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ يَحْصُلُ بِهِ ، كُلُّ ذَلِكَ مِنْ الذَّخِيرَةِ .
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ الْوَكِيلُ بِالْخُصُومَةِ فِي حَدِّ الْقَذْفِ وَالْقِصَاصِ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْخُصُومَةِ جُعِلَ تَوْكِيلًا بِالْجَوَابِ مَجَازًا بِالِاجْتِهَادِ فَتَمَكَّنَتْ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ فِي إقْرَارِ الْوَكِيلِ فَيُورِثُ شُبْهَةً فِي دَرْءِ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ ، كَذَا فِي التَّبْيِينِ

قَالَ ( وَمَنْ كَفَلَ بِمَالٍ عَنْ رَجُلٍ فَوَكَّلَهُ صَاحِبُ الْمَالِ بِقَبْضِهِ عَنْ الْغَرِيمِ لَمْ يَكُنْ وَكِيلًا فِي ذَلِكَ أَبَدًا ) لِأَنَّ الْوَكِيلَ مَنْ يَعْمَلُ لِغَيْرِهِ ، وَلَوْ صَحَّحْنَاهَا صَارَ عَامِلًا لِنَفْسِهِ فِي إبْرَاءِ ذِمَّتِهِ فَانْعَدَمَ الرُّكْنُ وَلِأَنَّ قَبُولَ قَوْلِهِ مُلَازِمٌ لِلْوِكَالَةِ لِكَوْنِهِ أَمِينًا ، وَلَوْ صَحَّحْنَاهَا لَا يُقْبَلُ لِكَوْنِهِ مُبَرِّئًا نَفْسَهُ فَيَنْعَدِمُ بِانْعِدَامِ لَازِمِهِ ، وَهُوَ نَظِيرُ عَبْدٍ مَدْيُونٍ أَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ حَتَّى ضَمِنَ قِيمَتَهُ لِلْغُرَمَاءِ وَيُطَالَبُ الْعَبْدُ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ ، فَلَوْ وَكَّلَهُ الطَّالِبُ بِقَبْضِ الْمَالِ عَنْ الْعَبْدِ كَانَ بَاطِلًا لِمَا بَيَّنَّاهُ

.
( قَالَ ) أَيْ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ( وَمَنْ كَفَلَ بِمَالٍ عَنْ رَجُلٍ فَوَكَّلَهُ صَاحِبُ الْمَالِ بِقَبْضِهِ ) أَيْ بِقَبْضِ الْمَالِ ( عَنْ الْغَرِيمِ لَمْ يَكُنْ وَكِيلًا فِي ذَلِكَ ) أَيْ لَمْ يَكُنْ الْكَفِيلُ وَكِيلًا فِي قَبْضِ الْمَالِ عَنْ الْغَرِيمِ ( أَبَدًا ) أَيْ لَا بَعْدَ بَرَاءَةِ الْكَفِيلِ وَلَا قَبْلَهَا ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ الْمَالُ فِي يَدِهِ لَمْ يَهْلِكْ عَلَى الْمُوَكِّلِ ، أَمَّا بَعْدَ الْبَرَاءَةِ فَلِأَنَّهَا لَمَّا لَمْ تَصِحَّ حَالَ التَّوْكِيلِ لِمَا سَيَذْكُرُ لَمْ تَنْقَلِبْ صَحِيحَةً كَمَنْ كَفَلَ لِغَائِبٍ فَأَجَازَهَا بَعْدَمَا بَلَغَتْهُ فَإِنَّهَا لَا تَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَصِحَّ ابْتِدَاءً لِعَدَمِ الْقَبُولِ فَلَا تَنْقَلِبُ صَحِيحَةً ، وَأَمَّا قَبْلَ الْبَرَاءَةِ فَلِمَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ ( لِأَنَّ الْوَكِيلَ مَنْ يَعْمَلُ لِغَيْرِهِ ) وَهُوَ ظَاهِرٌ وَالْكَفِيلُ لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ لِغَيْرِهِ فَإِنَّهُ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ فِي إبْرَاءِ ذِمَّتِهِ ( وَلَوْ صَحَّحْنَاهَا ) أَيْ وَلَوْ صَحَّحْنَا الْوِكَالَةَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ( صَارَ ) أَيْ صَارَ الْوَكِيلُ ( عَامِلًا لِنَفْسِهِ فِي إبْرَاءِ ذِمَّتِهِ ) لِأَنَّ قَبْضَهُ يَقُومُ مَقَامَ قَبْضِ الْمُوَكِّلِ وَبِقَبْضِهِ تَبْرَأُ ذِمَّةُ الْكَفِيلِ فَكَذَا بِقَبْضِ وَكِيلِهِ ( فَانْعَدَمَ الرُّكْنُ ) أَيْ رُكْنُ الْوِكَالَةِ وَهُوَ الْعَمَلُ لِلْغَيْرِ فَانْعَدَمَ عَقْدُ الْوِكَالَةِ لِانْعِدَامِ رُكْنِهِ وَصَارَ هَذَا كَالْمُحْتَالِ إذَا وَكَّلَ الْمُحِيلَ بِقَبْضِ الدَّيْنِ مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ لَا يَصِيرُ وَكِيلًا لِمَا قُلْنَا .
فَإِنْ قِيلَ : يُشْكِلُ هَذَا بِرَبِّ الدَّيْنِ إذَا وُكِّلَ الْمَدْيُونُ بِإِبْرَاءِ نَفْسِهِ عَمَّا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ ، وَإِنْ كَانَ الْمَدْيُونُ فِي إبْرَاءِ نَفْسِهِ سَاعِيًا فِي فِكَاكِ رَقَبَتِهِ .
قُلْنَا : ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي تَعْلِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمَدْيُونَ لَا يَصْلُحُ وَكِيلًا عَنْ الطَّالِبِ بِإِبْرَاءِ نَفْسِهِ عَلَى خِلَافِ مَا ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ فَكَانَ

لِلْمَنْعِ فِيهِ مَجَالٌ ، كَذَا فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ .
وَلَئِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ فَنَقُولُ : إنَّ الْإِبْرَاءَ تَمْلِيكٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ ، فَلَا يُرَدُّ عَلَيْنَا نَقْضًا لِأَنَّ كَلَامَنَا فِي التَّوْكِيلِ لَا فِي التَّمْلِيكِ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَأَكْثَرِ الشُّرُوحِ .
أَقُولُ : فِي الْجَوَابِ نَظَرٌ ، أَمَّا فِي الْمَنْعِيِّ فَلِأَنَّ مَا ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ كَيْفَ يَصْلُحُ لِلْمُعَارَضَةِ لِمَا نَصَّ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ حَتَّى يَكُونَ لِلْمَنْعِ فِيهِ مَجَالٌ ، وَأَمَّا فِي التَّسْلِيمِيِّ فَلِأَنَّ النَّقْضَ لَيْسَ بِنَفْسِ الْإِبْرَاءِ بَلْ بِالتَّوْكِيلِ بِالْإِبْرَاءِ ، فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ إنَّ كَلَامَنَا فِي التَّوْكِيلِ لَا فِي التَّمْلِيكِ عَلَى أَنَّ الْمَنْقُوضَ هَاهُنَا لَيْسَ نَفْسَ الْمَسْأَلَةِ بَلْ دَلِيلَهَا الْمَذْكُورَ فَإِنَّهُ جَارٍ بِعَيْنِهِ فِي صُورَةِ تَوْكِيلِ الْمَدْيُونِ بِإِبْرَاءِ نَفْسِهِ عَمَّا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ مَعَ تَخَلُّفِ الْحُكْمِ وَهُوَ عَدَمُ الصِّحَّةِ هُنَاكَ فَلَا فَائِدَةَ فِي دَفْعِ ذَلِكَ لِلْفَرْقِ الْمَذْكُورِ أَصْلًا كَمَا لَا يَخْفَى .
اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ : مُرَادُهُمْ أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْإِبْرَاءِ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ تَمْلِيكٌ حَقِيقَةً وَإِنْ كَانَ تَوْكِيلًا صُورَةً ، وَكَلَامُنَا فِي التَّوْكِيلِ الْحَقِيقِيِّ لَا فِيمَا هُوَ تَوْكِيلٌ صُورَةً تَمْلِيكٌ حَقِيقَةً ، وَالدَّلِيلُ الْمَذْكُورُ أَيْضًا إنَّمَا يَجْرِي فِي التَّوْكِيلِ الْحَقِيقِيِّ لِأَنَّ كَوْنَ الْوَكِيلِ عَامِلًا لِغَيْرِهِ إنَّمَا هُوَ فِي ذَلِكَ ، وَيَمِيلُ إلَى هَذَا التَّوْجِيهِ تَقْرِيرُ صَاحِبِ الْكَافِي فِي الْجَوَابِ عَنْ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ حَيْثُ قَالَ : فَإِنْ قِيلَ : الدَّائِنُ إذَا وَكَّلَ الْمَدْيُونُ بِإِبْرَاءِ نَفْسِهِ عَنْ الدَّيْنِ يَصِحُّ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْجَامِعِ ، وَإِنْ كَانَ الْمَدْيُونُ فِي إبْرَاءِ نَفْسِهِ سَاعِيًا فِي فِكَاكِ رَقَبَتِهِ .
قُلْنَا : إنَّمَا يَصِحُّ ثَمَّةَ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ لَا لِأَنَّهُ تَوْكِيلٌ كَمَا قَوْلِهِ طَلِّقِي نَفْسَك انْتَهَى فَتَأَمَّلْ .
قَالَ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ

السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ عَنْ الْكَافِي : قُلْت لَوْ كَانَ تَمْلِيكًا لَاقْتَصَرَ عَلَى الْمَجْلِسِ وَلَا يَقْتَصِرُ ا هـ .
أَقُولُ : يُمْكِنُ أَنْ يُعَارَضَ هَذَا بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ تَمْلِيكًا لَمَا ارْتَدَّ بِالرَّدِّ كَمَا أُشِيرَ إلَيْهِ فِي سَائِرِ الشُّرُوحِ حَيْثُ قِيلَ : إنَّ الْإِبْرَاءَ تَمْلِيكٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ فَتَدَبَّرْ .
ثُمَّ إنَّ الْإِمَامَ الزَّيْلَعِيَّ ذَكَرَ السُّؤَالَ الْمَذْكُورَ وَجَوَابَهُ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ عَلَى نَهْجِ مَا ذَكَرَ فِي الْكَافِي بِنَوْعِ تَغْيِيرِ عِبَارَةٍ فِي السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ حَيْثُ قَالَ : فَإِنْ قِيلَ الدَّائِنُ إذَا وَكَّلَ الْمَدْيُونَ بِإِبْرَاءِ نَفْسِهِ عَنْ الدَّيْنِ يَصِحُّ وَإِنْ كَانَ عَامِلًا لِنَفْسِهِ سَاعِيًا فِي بَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ .
قُلْنَا ذَلِكَ تَمْلِيكٌ وَلَيْسَ بِتَوْكِيلٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ طَلِّقِي نَفْسَك ا هـ .
وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ عَنْهُ : فِيهِ بَحْثٌ ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ أَنَّهُ تَمْلِيكٌ لِلدَّيْنِ فَمَمْنُوعٌ لِظُهُورِ أَنَّهُ لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ ، إلَّا أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّشْبِيهِ ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ تَمْلِيكٌ لِلْإِبْرَاءِ كَمَا فِي طَلِّقِي نَفْسَك فَإِنَّهُ تَمْلِيكٌ لِلطَّلَاقِ ، فَالتَّوْكِيلُ أَيْضًا تَمْلِيكٌ لِلتَّصَرُّفِ الْمُوَكَّلِ بِهِ كَمَا عُلِمَ ذَلِكَ مِنْ الدَّرْسِ السَّابِقِ أَيْضًا ا هـ .
أَقُولُ : يَجُوزُ أَنْ يَخْتَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ شِقَّيْ تَرْدِيدِهِ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِسُقُوطِ مَنْعِ ذَلِكَ بِإِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ لَوْ لَمْ يَكُنْ تَمْلِيكًا لِلدَّيْنِ بَلْ كَانَ إسْقَاطُهُ لَهُ لَمَّا ارْتَدَّ بِالرَّدِّ ، فَإِنَّ الْإِسْقَاطَ يَتَلَاشَى لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ عَلَى مَا عُرِفَ ، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ الشُّرَّاحُ بِقَوْلِهِمْ : الْإِبْرَاءُ تَمْلِيكٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِسُقُوطِ نَقْضِ ذَلِكَ بِالتَّوْكِيلِ فَإِنَّ التَّوْكِيلَ عَلَى مَا مَرَّ فِي صَدْرِ كِتَابِ الْوِكَالَةِ إقَامَةُ الْإِنْسَانِ غَيْرَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي تَصَرُّفٍ مَعْلُومٍ فَهُوَ إنَابَةٌ

مَحْضَةٌ لَا تَمْلِيكُ شَيْءٍ أَصْلًا .
فَقَوْلُهُ فَالتَّوْكِيلُ أَيْضًا تَمْلِيكٌ لِلتَّصَرُّفِ الْمُوَكَّلِ بِهِ كَمَا عُلِمَ فِي الدَّرْسِ السَّابِقِ أَيْضًا سَاقِطٌ جِدًّا ، إذْ لَمْ يُعْلَمْ قَطُّ لَا فِي الدَّرْسِ السَّابِقِ وَلَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ التَّوْكِيلَ تَمْلِيكُ شَيْءٍ ، بَلْ هُمْ مُصَرِّحُونَ بِكَوْنِهِ مُقَابِلًا لِلتَّمْلِيكِ فِي مَوَاضِعَ شَتَّى سِيَّمَا فِي بَابِ تَفْوِيضِ الطَّلَاقِ مِنْ كِتَابِ الطَّلَاقِ .
ثُمَّ قِيلَ : يَنْبَغِي أَنْ تَصِحَّ وِكَالَةُ الْكَفِيلِ فِي مَسْأَلَتِنَا لِأَنَّهُ عَامِلٌ لِرَبِّ الدِّينِ قَصْدًا ، وَعَمَلُهُ لِنَفْسِهِ كَانَ وَاقِعًا فِي ضِمْنِ عَمَلِهِ لِغَيْرِهِ ، وَالضِّمْنِيَّاتُ قَدْ لَا تُعْتَبَرُ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ بَلْ الْعَمَلُ لِنَفْسِهِ أَصْلٌ ، إذْ الْأَصْلُ أَنْ يَقَعَ تَصَرُّفُ كُلِّ عَامِلٍ لِنَفْسِهِ لَا لِغَيْرِهِ .
وَقِيلَ لَمَّا اسْتَوَيَا فِي جِهَةِ الْأَصَالَةِ يَنْبَغِي أَنْ تَبْطُلَ الْكَفَالَةُ بِالْوِكَالَةِ ؛ لِأَنَّ الْوِكَالَةَ كَانَتْ طَارِئَةً عَلَى الْكَفَالَةِ فَكَانَتْ نَاسِخَةً لِلْكَفَالَةِ ، كَمَا إذَا تَأَخَّرَتْ الْكَفَالَةُ عَنْ الْوِكَالَةِ فَإِنَّهَا تَكُونُ نَاسِخَةً لِلْوِكَالَةِ ، فَإِنَّ الْإِمَامَ الْمَحْبُوبِيَّ ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ الْوَكِيلَ بِقَبْضِ الدَّيْنِ إذَا ضَمِنَ الْمَالَ لِلْمُوَكِّلِ يَصِحُّ الضَّمَانُ وَتَبْطُلُ الْوِكَالَةُ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْكَفَالَةَ تَصْلُحُ نَاسِخَةً لِلْوِكَالَةِ وَمُبْطِلَةً لَهَا لَا عَلَى الْعَكْسِ ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا بِمَا هُوَ مِثْلُهُ أَوْ فَوْقَهُ لَا بِمَا هُوَ دُونَهُ ، وَالْوِكَالَةُ دُونَ الْكَفَالَةِ فِي الرُّتْبَةِ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ عَقْدٌ لَازِمٌ لَا يَتَمَكَّنُ الْكَفِيلُ مِنْ عَزْلِ نَفْسِهِ ، بِخِلَافِ الْوِكَالَةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ الْوِكَالَةُ نَاسِخَةً لِلْكَفَالَةِ وَإِنْ جَازَ عَكْسُهُ ( وَلِأَنَّ قَبُولَ قَوْلِهِ ) أَيْ قَبُولَ قَوْلِ الْوَكِيلِ ( مُلَازِمٌ لِلْوِكَالَةِ ) هَذَا دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى الْمَسْأَلَةِ .
تَقْرِيرُهُ أَنَّ الْوِكَالَةَ تَسْتَلْزِمُ قَبُولَ قَوْلِ الْوَكِيلِ ( لِكَوْنِهِ أَمِينًا ، وَلَوْ

صَحَّحْنَاهَا ) أَيْ لَوْ صَحَّحْنَا الْوِكَالَةَ هَاهُنَا ( لَا يُقْبَلُ ) أَيْ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ ( لِكَوْنِهِ مُبَرِّئًا نَفْسَهُ ) عَمَّا لَزِمَهُ بِحُكْمِ كَفَالَتِهِ فَانْتَفَى اللَّازِمُ وَهُوَ قَبُولُ قَوْلِهِ ( فَيَنْعَدِمُ ) أَيْ التَّوْكِيلُ الَّذِي هُوَ الْمَلْزُومُ ( بِانْعِدَامِ لَازِمِهِ ) الَّذِي هُوَ قَبُولُ قَوْلِهِ لِأَنَّ انْتِفَاءَ اللَّازِمِ يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءَ الْمَلْزُومِ فَيَلْزَمُ عَدَمُهُ حَالَ فَرْضِ وُجُودِهِ ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مَعْدُومٌ ( وَهُوَ نَظِيرُ عَبْدٍ مَدْيُونٍ ) أَيْ مَا ذَكَرَ مِنْ مَسْأَلَتِنَا نَظِيرُ مَسْأَلَةِ عَبْدٍ مَدْيُونٍ أَوْ بُطْلَانُ الْوِكَالَةِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ نَظِيرُ بُطْلَانِهَا فِي عَبْدٍ مَدْيُونٍ .
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ : وَنَظِيرُهُ عَبْدٌ مَدْيُونٌ ( أَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ حَتَّى ضَمِنَ قِيمَتَهُ ) أَيْ ضَمِنَ الْمَوْلَى قَدْرَ قِيمَةِ الْعَبْدِ سَوَاءٌ كَانَ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا ( لِلْغُرَمَاءِ وَيُطَالَبُ الْعَبْدُ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ ، فَلَوْ وَكَّلَهُ الطَّالِبُ ) أَيْ فَلَوْ وَكَّلَ الْمَوْلَى الطَّالِبُ وَهُوَ رَبُّ الدَّيْنِ ( بِقَبْضِ الْمَالِ عَنْ الْعَبْدِ كَانَ بَاطِلًا ) أَيْ كَانَ التَّوْكِيلُ بَاطِلًا ( لِمَا بَيَّنَّاهُ ) مِنْ أَنَّ الْوَكِيلَ مَنْ يَعْمَلُ لِغَيْرِهِ وَهَاهُنَا لَمَّا كَانَ الْمَوْلَى ضَامِنًا لِقِيمَةِ الْعَبْدِ كَانَ فِي مِقْدَارِهَا عَامِلًا لِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ يُبَرِّئُ بِهِ نَفْسَهُ فَكَانَ التَّوْكِيلُ بَاطِلًا

.
قَالَ ( وَمَنْ ادَّعَى أَنَّهُ وَكِيلُ الْغَائِبِ فِي قَبْضِ دَيْنِهِ فَصَدَّقَهُ الْغَرِيمُ أُمِرَ بِتَسْلِيمِ الدَّيْنِ إلَيْهِ ) لِأَنَّهُ إقْرَارٌ عَلَى نَفْسِهِ لِأَنَّ مَا يَقْضِيهِ خَالِصُ مَالِهِ ( فَإِنْ حَضَرَ الْغَائِبُ فَصَدَّقَهُ وَإِلَّا دَفَعَ إلَيْهِ الْغَرِيمُ الدَّيْنَ ثَانِيًا ) لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ الِاسْتِيفَاءُ حَيْثُ أَنْكَرَ الْوِكَالَةَ ، وَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ فَيَفْسُدُ الْأَدَاءُ ( وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْوَكِيلِ إنْ كَانَ بَاقِيًا فِي يَدِهِ ) لِأَنَّ غَرَضَهُ مِنْ الدَّفْعِ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ وَلَمْ تَحْصُلْ فَلَهُ أَنْ يَنْقُضَ قَبْضُهُ ( وَإِنْ كَانَ ) ضَاعَ ( فِي يَدِهِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ ) لِأَنَّهُ بِتَصْدِيقِهِ اعْتَرَفَ أَنَّهُ مُحِقٌّ فِي الْقَبْضِ وَهُوَ مَظْلُومٌ فِي هَذَا الْأَخْذِ ، وَالْمَظْلُومُ لَا يَظْلِمُ غَيْرَهُ قَالَ ( إلَّا أَنْ يَكُونَ ضَمِنَهُ عِنْدَ الدَّفْعِ ) لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ ثَانِيًا مَضْمُونٌ عَلَيْهِ فِي زَعْمِهِمَا ، وَهَذِهِ كَفَالَةٌ أُضِيفَتْ إلَى حَالَةِ الْقَبْضِ فَتَصِحُّ بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ بِمَا ذَابَ لَهُ عَلَى فُلَانٍ ، وَلَوْ كَانَ الْغَرِيمُ لَمْ يُصَدِّقْهُ عَلَى الْوِكَالَةِ وَدَفَعَهُ إلَيْهِ عَلَى ادِّعَائِهِ ، فَإِنْ رَجَعَ صَاحِبُ الْمَالِ عَلَى الْغَرِيمِ رَجَعَ الْغَرِيمُ عَلَى الْوَكِيلِ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَدِّقْهُ عَلَى الْوِكَالَةِ ، وَإِنَّمَا دَفَعَهُ إلَيْهِ عَلَى رَجَاءِ الْإِجَازَةِ ، فَإِذَا انْقَطَعَ رَجَاؤُهُ رَجَعَ عَلَيْهِ ، وَكَذَا إذَا دَفَعَهُ إلَيْهِ عَلَى تَكْذِيبِهِ إيَّاهُ فِي الْوِكَالَةِ .
وَهَذَا أَظْهَرُ لِمَا قُلْنَا ، وَفِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْمَدْفُوعَ حَتَّى يَحْضُرَ الْغَائِبُ لِأَنَّ الْمُؤَدَّى صَارَ حَقًّا لِلْغَائِبِ ، إمَّا ظَاهِرًا أَوْ مُحْتَمَلًا فَصَارَ كَمَا إذَا دَفَعَهُ إلَى فُضُولِيٍّ عَلَى رَجَاءِ الْإِجَازَةِ لَمْ يَمْلِكْ الِاسْتِرْدَادَ لِاحْتِمَالِ الْإِجَازَةِ ، وَلِأَنَّ مَنْ بَاشَرَ التَّصَرُّفَ لِغَرَضٍ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْقُضَهُ مَا لَمْ يَقَعْ الْيَأْسُ عَنْ غَرَضِهِ .

( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( وَمَنْ ادَّعَى أَنَّهُ وَكِيلُ الْغَائِبِ ) أَيْ وَكِيلُ فُلَانٍ الْغَائِبِ ( فِي قَبْضِ دَيْنِهِ فَصَدَّقَهُ الْغَرِيمُ ) أَيْ الْمَدْيُونُ ( أُمِرَ ) أَيْ الْغَرِيمُ ( بِتَسْلِيمِ الدَّيْنِ ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِتَسْلِيمِ الْمَالِ ( إلَيْهِ ) أَيْ إلَى مُدَّعِي الْوِكَالَةِ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ لِأَنَّ تَصْدِيقَ الْغَرِيمِ إيَّاهُ ( إقْرَارٌ عَلَى نَفْسِهِ لِأَنَّ مَا يَقْضِيهِ خَالِصُ مَالِهِ ) أَيْ لِأَنَّ مَا يَقْضِيهِ الْمَدْيُونُ خَالِصُ مَالِ الْمَدْيُونِ ، إذْ الدُّيُونُ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا لَا بِأَعْيَانِهَا كَمَا تَقَدَّمَ وَتَقَرَّرَ ، فَمَا أَدَّاهُ الْمَدْيُونُ مِثْلَ مَالِ رَبِّ الدَّيْنِ لَا عَيْنَهُ ، فَكَانَ تَصْدِيقُهُ إقْرَارًا عَلَى نَفْسِهِ ، وَمَنْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِشَيْءٍ أُمِرَ بِتَسْلِيمِهِ إلَى الْمَقَرِّ لَهُ ( فَإِنْ حَضَرَ الْغَائِبُ ) أَيْ رَبُّ الدَّيْنِ ( فَصَدَّقَهُ ) أَيْ صَدَّقَ الْوَكِيلُ فِيهَا ( وَإِلَّا ) أَيْ وَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْهُ ( دَفَعَ إلَيْهِ ) أَيْ إلَى رَبِّ الدَّيْنِ ( الْغَرِيمُ الدَّيْنَ ثَانِيًا لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ الِاسْتِيفَاءُ ) أَيْ اسْتِيفَاءُ رَبِّ الدَّيْنِ حَقَّهُ ( حَيْثُ أَنْكَرَ الْوِكَالَةَ ، وَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ ) أَيْ الْقَوْلُ فِي إنْكَارِ الْوِكَالَةِ قَوْلُ رَبِّ الدَّيْنِ ( مَعَ يَمِينِهِ ) لِأَنَّ الدَّيْنَ كَانَ ثَابِتًا وَالْمَدْيُونُ يَدَّعِي أَمْرًا عَارِضًا وَهُوَ سُقُوطُ الدَّيْنِ بِأَدَائِهِ إلَى الْوَكِيلِ وَرَبُّ الدَّيْنِ يُنْكِرُ الْوِكَالَةَ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ ، وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ الِاسْتِيفَاءُ ( فَيَفْسُدُ الْأَدَاءُ ) أَيْ يَفْسُدُ الْأَدَاءُ إلَى مُدَّعِي الْوِكَالَةِ ، وَأَدَاءُ الدَّيْنِ وَاجِبٌ عَلَى الْمَدْيُونِ فَيَجِبُ الدَّفْعُ ثَانِيًا إلَى رَبِّ الدَّيْنِ ( وَيَرْجِعُ بِهِ ) أَيْ وَيَرْجِعُ الْمَدْيُونُ بِمَا دَفَعَهُ أَوَّلًا ( عَلَى الْوَكِيلِ ) أَيْ عَلَى مُدَّعِي الْوِكَالَةِ ( إنْ كَانَ بَاقِيًا فِي يَدِهِ ) أَيْ إنْ كَانَ مَا دَفَعَهُ إلَى الْوَكِيلِ بَاقِيًا فِي يَدِهِ ( لِأَنَّ غَرَضَهُ ) أَيْ غَرَضَ الْمَدْيُونِ ( مِنْ الدَّفْعِ ) أَيْ مِنْ الدَّفْعِ

إلَى الْوَكِيلِ ( بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ ) مِنْ الدَّيْنِ ( وَلَمْ تَحْصُلْ ) أَيْ لَمْ تَحْصُلْ الْبَرَاءَةُ ( فَلَهُ أَنْ يَنْقُضَ قَبْضَهُ ) أَيْ فَلِلْمَدْيُونِ أَنْ يَنْقُضَ قَبْضَ الْوَكِيلِ ( وَإِنْ كَانَ ضَاعَ ) أَيْ إنْ كَانَ مَا دَفَعَهُ إلَى الْوَكِيلِ ضَاعَ ( فِي يَدِهِ لَمْ يَرْجِعْ ) أَيْ الْمَدْيُونُ ( عَلَيْهِ ) أَيْ عَلَى الْوَكِيلِ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ الْمَدْيُونَ ( بِتَصْدِيقٍ ) أَيْ بِتَصْدِيقِ الْوَكِيلِ ( اعْتَرَفَ أَنَّهُ ) أَيْ الْوَكِيلَ ( مُحِقٌّ فِي الْقَبْضِ ) وَالْمُحِقُّ فِي الْقَبْضِ لَا رُجُوعَ عَلَيْهِ ( وَهُوَ ) أَيْ الْمَدْيُونُ ( مَظْلُومٌ فِي هَذَا الْأَخْذِ ) أَيْ فِي الْأَخْذِ الثَّانِي ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ أَعْنِي قَوْلَهُ " وَهُوَ مَظْلُومٌ فِي هَذَا الْأَخْذِ " مَعْطُوفٌ عَلَى مَا فِي حَيِّزِ " أَنَّ " فِي قَوْلِهِ " اعْتَرَفَ أَنَّهُ مُحِقٌّ فِي الْقَبْضِ " فَالْمَعْنَى أَنَّ الْمَدْيُونَ بِتَصْدِيقِ الْوَكِيلِ اعْتَرَفَ أَيْضًا أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّهُ مَظْلُومٌ فِي هَذَا الْأَخْذِ الثَّانِي ( وَالْمَظْلُومُ لَا يَظْلِمُ غَيْرَهُ ) فَلَا يَأْخُذُ الْمَدْيُونُ مِنْ الْوَكِيلِ بَعْدَ الْإِهْلَاكِ .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : فَإِنْ قِيلَ : هَذَا الْوَجْهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَرْجِعَ عَلَيْهِ إذَا كَانَتْ الْعَيْنُ فِي يَدِهِ بَاقِيَةً أَيْضًا .
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْعَيْنَ إذَا كَانَتْ بَاقِيَةً أَمْكَنَ نَقْضُ الْقَبْضِ فَيَرْجِعُ بِنَقْضِهِ إذَا لَمْ يَحْصُلْ غَرَضُهُ مِنْ التَّسْلِيمِ ، وَأَمَّا إذَا هَلَكَتْ فَلَمْ يُمْكِنْ نَقْضُهُ فَلَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ انْتَهَى .
أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إنَّ الْمُحِقَّ فِي الْقَبْضِ كَمَا لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً لَا يَتَيَسَّرُ نَقْضُ قَبْضِهِ أَيْضًا بِلَا رِضَاهُ فَكَيْفَ يَرْجِعُ بِنَقْضِهِ وَإِنَّ الْمَظْلُومَ كَمَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَظْلِمَ غَيْرَهُ ابْتِدَاءً كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَوَسَّلَ إلَيْهِ بِوَسِيلَةٍ كَنَقْضِ الْقَبْضِ هَاهُنَا فَلَا يَتِمُّ الْجَوَابُ الْمَذْكُورُ .
فَالْجَوَابُ الْوَاضِحُ أَنَّ الْوَكِيلَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا فِي الْقَبْضِ عَلَى زَعْمِ الْمَدْيُونِ إلَّا أَنَّ قَبْضَهُ لَمْ يَكُنْ لِنَفْسِهِ أَصَالَةً ، بَلْ

كَانَ لِأَجْلِ الْإِيصَالِ إلَى مُوَكِّلِهِ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ ، فَلَمْ يَكُنْ مَا قَبَضَهُ مِلْكَ نَفْسِهِ ، فَإِذَا أَخَذَ الدَّائِنُ مِنْ الْمَدْيُونِ ثَانِيًا وَلَوْ كَانَ ظُلْمًا فِي زَعْمِ الْمَدْيُونِ لَمْ يَبْقَ لِلْوَكِيلِ حَقُّ إيصَالِ مَا قَبَضَهُ إلَى الْمُوَكِّلِ لِوُصُولِ حَقِّ الْمُوَكِّلِ إلَى نَفْسِهِ مِنْ الْغَرِيمِ ، فَإِنْ كَانَ عَيْنُ مَا قَبَضَهُ الْوَكِيلُ بَاقِيًا فِي يَدِهِ لَمْ يَكُنْ رُجُوعُ الْمَدْيُونِ عَلَيْهِ ظُلْمًا لَهُ أَصْلًا لِأَنَّ مَا قَبَضَهُ لَمْ يَكُنْ مِلْكَ نَفْسِهِ بَلْ كَانَ مَقْبُوضًا لِأَجْلِ الْإِيصَالِ إلَى مُوَكِّلِهِ ؛ وَإِذَا لَمْ يَبْقَ لَهُ حَقُّ الْإِيصَالِ إلَى الْمُوَكِّلِ فَلِلْمَدْيُونِ نَقْضُ قَبْضِهِ بَعْدَ ذَلِكَ لِعَدَمِ حُصُولِ غَرَضِهِ مِنْ الدَّفْعِ إلَيْهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ عَيْنُ مَا قَبَضَهُ هَالِكًا ، فَإِنَّ مَا قَبَضَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِلْكَ نَفْسِهِ إلَّا أَنَّ يَدَهُ كَانَتْ يَدَ أَمَانَةٍ عَلَى زَعْمِ الْمَدْيُونِ حَيْثُ صَدَّقَهُ فِي الْوِكَالَةِ ، وَتَضْمِينُ الْأَمِينِ ظُلْمٌ لَا يَخْفَى .
ثُمَّ إنَّ الْإِمَامَ الزَّيْلَعِيَّ قَالَ فِي التَّبْيِينِ : وَيَرِدُ عَلَى هَذَا مَا لَوْ كَانَ لِرَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ مَثَلًا وَلَهُ أَلْفٌ آخَرُ دَيْنٌ عَلَى رَجُلٍ فَمَاتَ وَتَرَكَ ابْنَيْنِ فَاقْتَسَمَا الْأَلْفَ الْعَيْنَ نِصْفَيْنِ فَادَّعَى الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ أَنَّ الْمَيِّتَ اسْتَوْفَى مِنْهُ الْأَلْفَ مِنْ حَيَاتِهِ فَصَدَّقَهُ أَحَدُهُمَا وَكَذَّبَهُ الْآخَرُ فَالْمُكَذِّبُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِخَمْسِمِائَةِ وَيَرْجِعُ بِهَا الْغَرِيمُ عَلَى الْمُصَدِّقِ وَهُوَ فِي زَعْمِهِ أَنَّ الْمُكَذِّبَ ظَلَمَهُ فِي الرُّجُوعِ عَلَيْهِ فَظَلَمَ هُوَ الْمُصَدِّقَ بِالرُّجُوعِ بِمَا أَخَذَ الْمُكَذِّبُ .
وَذَكَرَ فِي الْأَمَالِي أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ ، لِأَنَّ الْغَرِيمَ زَعَمَ أَنَّهُ بَرِئَ عَنْ جَمِيعِ الْأَلْفِ ، وَإِلَّا أَنَّ الِابْنَ الْجَاحِدَ ظَلَمَهُ ، وَمِنْ ظَلَمَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَظْلِمَ غَيْرَهُ ، وَمَا أَخَذَهُ الْجَاحِدُ دَيْنٌ عَلَى الْجَاحِدِ وَدَيْنُ الْوَارِثِ لَا يُقْضَى مِنْ التَّرِكَةِ .
وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ الْمُصَدِّقَ أَقَرَّ عَلَى أَبِيهِ

بِالدَّيْنِ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالِاسْتِيفَاءِ إقْرَارٌ بِالدَّيْنِ ؛ لِأَنَّ الدُّيُونَ تُقْضَى بِأَمْثَالِهِمَا فَإِذَا كَذَّبَهُ الْآخَرُ مِنْهُ خَمْسَمِائَةٍ لَمْ تَسْلَمْ لَهُ الْبَرَاءَةُ إلَّا عَنْ خَمْسِمِائَةٍ فَبَقِيَتْ خَمْسُمِائَةٍ دَيْنًا عَلَى الْمَيِّتِ فَيَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْمُصَدِّقِ فَيَأْخُذُ مَا أَصَابَهُ بِالْإِرْثِ حَتَّى يُسْتَوْفَى ، لِأَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْإِرْثِ ، وَإِلَى هُنَا كَلَامُهُ فَتَأَمَّلْ ( قَالَ ) أَيْ الْمُصَنِّفُ فِي الْبِدَايَةِ ( إلَّا أَنْ يَكُونَ ضَمِنَهُ عِنْدَ الدَّفْعِ ) هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ : يَعْنِي إذَا ضَاعَ فِي يَدِهِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ ضَمِنَهُ عِنْدَ الدَّفْعِ ، وَهَذَا اللَّفْظُ مَرْوِيٌّ بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ ، فَفِي التَّشْدِيدِ كَانَ الضَّمِيرُ الْمُسْتَكِنُّ فِي ضَمَّنَهُ مُسْنَدًا إلَى الْمَدْيُونِ وَالضَّمِيرُ الْبَارِزُ رَاجِعًا إلَى الْوَكِيلِ ، وَفِي التَّخْفِيفِ عَلَى الْعَكْسِ ، فَإِنَّ مَعْنَى التَّشْدِيدِ هُوَ أَنْ يَجْعَلَ الْمَدْيُونُ الْوَكِيلَ ضَامِنًا عِنْدَ دَفْعِ الْمَالِ إلَى الْوَكِيلِ بِأَنْ يَقُولَ لَهُ اضْمَنْ لِي مَا دَفَعْته إلَيْك عَنْ الطَّالِبِ ، حَتَّى لَوْ أَخَذَ الطَّالِبُ مِنِّي مَالَهُ آخُذُ مِنْك مَا دَفَعْته إلَيْك ، وَمَعْنَى التَّخْفِيفِ هُوَ أَنْ يَقُولَ الْوَكِيلُ لِلْمَدْيُونِ أَنَا ضَامِنٌ لَك إنْ أَخَذَ مِنْك الطَّالِبُ ثَانِيًا فَأَنَا أَرُدُّ عَلَيْك مَا قَبَضْته مِنْك .
وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ يَرْجِعُ الْمَدْيُونُ عَلَى الْوَكِيلِ ( لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ ) مِنْهُ ( ثَانِيًا مَضْمُونٌ عَلَيْهِ ) أَيْ عَلَى رَبِّ الدَّيْنِ ( فِي زَعْمِهِمَا ) أَيْ فِي زَعْمِ الْوَكِيلِ وَالْمَدْيُونِ ، لِأَنَّ رَبَّ الدَّيْنِ فِي حَقِّهِمَا غَاصِبٌ فِيمَا يَقْبِضُهُ ثَانِيًا ( وَهَذِهِ ) أَيْ هَذِهِ الْكَفَالَةُ ( كَفَالَةٌ أُضِيفَتْ إلَى حَالَةِ الْقَبْضِ ) أَيْ إلَى حَالَةِ قَبْضِ رَبِّ الدَّيْنِ ثَانِيًا ( فَتَصِحُّ ) أَيْ فَتَصِحُّ هَذِهِ الْكَفَالَةُ لِإِضَافَتِهَا إلَى سَبَبِ الْوُجُوبِ وَهُوَ قَبْضُ رَبِّ الدَّيْنِ فَصَارَتْ ( بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ بِمَا ذَابَ لَهُ عَلَى

فُلَانٍ ) أَيْ بِمَا يَذُوبُ : أَيْ يَجِبُ لَهُ عَلَيْهِ ، وَهَذَا مَاضٍ أُرِيدَ بِهِ الْمُسْتَقْبَلُ ، وَقَدْ مَرَّ تَقْدِيرُهُ فِي كِتَابِ الْكَفَالَةِ ، فَوَجْهُ الْمُشَابَهَةِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ كَوْنُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا كَفَالَةً أُضِيفَتْ إلَى حَالِ وُجُوبٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ ( وَلَوْ كَانَ الْغَرِيمُ لَمْ يُصَدِّقْهُ ) أَيْ لَمْ يُصَدِّقْ الْوَكِيلَ ( عَلَى الْوِكَالَةِ ) يَعْنِي وَلَمْ يَكْذِبْهُ أَيْضًا بَلْ كَانَ سَاكِتًا ، لِأَنَّ فَرْعَ التَّكْذِيبِ سَيَأْتِي عَقِيبَ هَذَا ( وَدَفَعَهُ إلَيْهِ ) أَيْ دَفَعَ الْمَالَ إلَى الْوَكِيلِ ( عَلَى ادِّعَائِهِ ) أَيْ بِنَاءً عَلَى مُجَرَّدِ دَعْوَى الْوَكِيلِ ( فَإِنْ رَجَعَ صَاحِبُ الْمَالِ عَلَى الْغَرِيمِ رَجَعَ الْغَرِيمُ عَلَى الْوَكِيلِ لِأَنَّهُ ) أَيْ الْغَرِيمَ ( لَمْ يُصَدِّقْهُ ) أَيْ الْوَكِيلَ ( عَلَى الْوِكَالَةِ ، وَإِنَّمَا دَفَعَهُ إلَيْهِ عَلَى رَجَاءِ الْإِجَازَةِ ) أَيْ عَلَى رَجَاءِ أَنْ يُجِيزَهُ صَاحِبُ الْمَالِ .
( فَإِذَا انْقَطَعَ رَجَاؤُهُ ) أَيْ رَجَاءُ الْغَرِيمِ بِرُجُوعِ صَاحِبِ الْمَالِ عَلَيْهِ ( رَجَعَ عَلَيْهِ ) أَيْ رَجَعَ الْغَرِيمُ أَيْضًا عَلَى الْوَكِيلِ ( وَكَذَا إذَا دَفَعَهُ إلَيْهِ ) أَيْ وَكَذَا الْحُكْمُ إذَا دَفَعَ الْغَرِيمُ الْمَالَ إلَى الْوَكِيلِ ( عَلَى تَكْذِيبِهِ ) أَيْ عَلَى تَكْذِيبِ الْغَرِيمِ ( إيَّاهُ ) أَيْ الْوَكِيلَ ( فِي الْوِكَالَةِ ) أَيْ فِي دَعْوَى الْوِكَالَةِ ( وَهَذَا ) أَيْ جَوَازُ رُجُوعِ الْمَدْيُونِ عَلَى الْوَكِيلِ فِي صُورَةِ التَّكْذِيبِ ( أَظْهَرُ ) أَيْ أَظْهَرُ مِنْ جَوَازِ رُجُوعِهِ عَلَيْهِ فِي الصُّورَتَيْنِ الْأَوَّلِيَّيْنِ وَهُمَا صُورَةُ التَّصْدِيقِ مَعَ التَّضْمِينِ وَصُورَةُ السُّكُوتِ ، لِأَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ عَلَيْهِ فِي تِينِك الصُّورَتَيْنِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُكَذِّبْهُ فِيهِمَا فَلَأَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَقَدْ كَذَّبَهُ فِيهَا أَوْلَى بِالطَّرِيقِ لِأَنَّهُ إذَا كَذَّبَهُ صَارَ الْوَكِيلُ فِي حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ وَلِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ حَقُّ الرُّجُوعِ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ قَطْعًا ( لِمَا قُلْنَا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ وَإِنَّمَا دَفَعَ

إلَيْهِ عَلَى رَجَاءِ الْإِجَازَةِ لَكِنَّهُ دَلِيلُ الرُّجُوعِ لَا دَلِيلُ الْأَظْهَرِيَّةِ كَمَا لَا يَخْفَى ( وَفِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا ) يَعْنِي الْوُجُوهَ الْأَرْبَعَةَ الْمَذْكُورَةَ وَهِيَ دَفْعُهُ مَعَ التَّصْدِيقِ مِنْ غَيْرِ تَضْمِينٍ .
وَدَفْعُهُ بِالتَّصْدِيقِ مَعَ التَّضْمِينِ ، وَدَفْعُهُ سَاكِتًا مِنْ غَيْرِ تَصْدِيقٍ وَلَا تَكْذِيبٍ ، وَدَفْعُهُ مَعَ التَّكْذِيبِ ( لَيْسَ لَهُ ) أَيْ لَيْسَ لِلْغَرِيمِ ( أَنْ يَسْتَرِدَّ الْمَدْفُوعَ حَتَّى يَحْضُرَ الْغَائِبُ ؛ لِأَنَّ الْمُؤَدَّى صَارَ حَقًّا لِلْغَائِبِ ، إمَّا ظَاهِرًا ) وَهُوَ فِي حَالَةِ التَّصْدِيقِ ( أَوْ مُحْتَمَلًا ) وَهُوَ فِي حَالَةِ التَّكْذِيبِ ، كَذَا فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ .
أَقُولُ : الْحَقُّ فِي بَيَانِ قَوْلِهِ أَوْ مُحْتَمَلًا أَنْ يُقَالَ وَهُوَ فِي حَالَةِ التَّكْذِيبِ وَحَالَةِ السُّكُوتِ لِيَتَنَاوَلَ كَلَامُهُ الْوُجُوهَ الْمَذْكُورَةَ كُلَّهَا .
وَقِيلَ ظَاهِرًا إنْ كَانَ الْوَكِيلُ ظَاهِرَ الْعَدَالَةِ ، أَوْ مُحْتَمَلًا إنْ كَانَ فَاسِقًا أَوْ مَسْتُورَ الْحَالِ ( فَصَارَ ) أَيْ صَارَ الْحُكْمُ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا ( كَمَا إذَا دَفَعَهُ ) أَيْ كَمَا إذَا دَفَعَ الْغَرِيمُ الْمَالَ ( إلَى فُضُولِيٍّ عَلَى رَجَاءِ الْإِجَازَةِ ) مِنْ صَاحِبِ الْمَالِ فَإِنَّ الدَّافِعَ هُنَاكَ ( لَمْ يَمْلِكْ الِاسْتِرْدَادَ لِاحْتِمَالِ الْإِجَازَةِ ) فَكَذَا هَاهُنَا ( وَلِأَنَّ مَنْ بَاشَرَ التَّصَرُّفَ لِغَرَضٍ ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ الْمُؤَدَّى صَارَ حَقًّا لِلْغَائِبِ ( لَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْقُضَهُ مَا لَمْ يَقَعْ الْيَأْسُ عَنْ غَرَضِهِ ) أَيْ عَنْ حُصُولِ غَرَضِهِ لِأَنَّ سَعْيَ الْإِنْسَانِ فِي نَقْضِ مَا تَمَّ مِنْ جِهَتِهِ مَرْدُودٌ كَمَا إذَا كَانَ الشَّفِيعُ وَكِيلَ الْمُشْتَرِي لَيْسَ لَهُ الشُّفْعَةُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ الشُّفْعَةُ كَانَ سَعْيًا فِي نَقْضِ مَا تَمَّ مِنْ جِهَتِهِ وَهُوَ الْبَيْعُ ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ أَنَّ الْغَرِيمَ إذَا أَنْكَرَ الْوِكَالَةَ هَلْ يَحْلِفُ أَوْ لَا ؟ قَالَ الْخَصَّافُ : لَا يَحْلِفُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَيَحْلِفُ عَلَى قَوْلِهِمَا لِأَنَّهُ ادَّعَى عَلَيْهِ مَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَزِمَهُ فَإِذَا

أَنْكَرَهُ يَحْلِفُ ، لَكِنَّهُ عَلَى الْعِلْمِ لِأَنَّهُ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ وَلَهُ أَنَّ الِاسْتِحْلَافَ يَنْبَنِي عَلَى دَعْوَى صَحِيحَةٍ ، وَمَا لَمْ تَثْبُتْ نِيَابَتُهُ عَنْ الْآمِرِ لَمْ تَصِحَّ دَعْوَاهُ فَلَا يُسْتَحْلَفُ ، وَكَذَا لَمْ يَذْكُرْ مَا إذَا أَقَرَّ بِالْوِكَالَةِ وَأَنْكَرَ الدَّيْنَ ، وَالْحُكْمُ فِيهِ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ يَسْتَحْلِفُ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْوَكِيلَ بِقَبْضِ الدَّيْنِ يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ عِنْدَهُ ، وَقَدْ تَثْبُتُ الْوِكَالَةُ فِي حَقِّهِ بِإِقْرَارِهِ ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ أَخْذًا مِنْ النِّهَايَةِ .
وَذَكَرَ فِي الْكَافِي أَنَّهُ إنْ دَفَعَ الْغَرِيمُ الْمَالَ إلَى الْوَكِيلِ ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِوَكِيلٍ أَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى إقْرَارِهِ أَنَّ الطَّالِبَ مَا وَكَّلَهُ لَا تُقْبَلُ ، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَحْلِفَهُ عَلَى ذَلِكَ لَا يَحْلِفُ عَلَيْهِ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ يَنْبَنِي عَلَى دَعْوَى صَحِيحَةٍ وَلَمْ تُوجَدْ لِكَوْنِهِ سَاعِيًا فِي نَقْضِ مَا أَوْجَبَهُ الْغَائِبُ ، فَإِنْ أَقَامَ الْغَرِيمُ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّ الطَّالِبَ جَحَدَ الْوِكَالَةَ وَقَبَضَ الْمَالَ مِنِّي تُقْبَلُ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ لِنَفْسِهِ حَقَّ الرُّجُوعِ عَلَى الْوَكِيلِ بِنَاءً عَلَى إثْبَاتِ سَبَبِ انْقِطَاعِ حَقِّ الطَّالِبِ عَنْ الْمَدْفُوعِ وَهُوَ قَبْضُهُ الْمَالَ بِنَفْسِهِ ، فَانْتَصَبَ الْحَاضِرُ خَصْمًا مِنْ الْغَائِبِ فِي إثْبَاتِ السَّبَبِ فَيَثْبُتُ قَبْضُ الْمُوَكِّلِ فَيَنْتَقِضُ قَبْضُ الْوَكِيلِ ضَرُورَةً ، وَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ الشَّيْءُ ضِمْنًا وَضَرُورَةً وَلَا يَثْبُتُ مَقْصُودًا ا هـ

( وَمَنْ قَالَ إنِّي وَكِيلٌ بِقَبْضِ الْوَدِيعَةِ فَصَدَّقَهُ الْمُودِعُ ) لَمْ يُؤْمَرْ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِمَالِ الْغَيْرِ ، بِخِلَافِ الدَّيْنِ .
وَلَوْ ادَّعَى أَنَّهُ مَاتَ أَبُوهُ وَتَرَكَ الْوَدِيعَةَ مِيرَاثًا لَهُ وَلَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ ، وَصَدَّقَهُ الْمُودِعُ أُمِرَ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى مَالُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ فَقَدْ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ مَالُ الْوَارِثِ

( وَمَنْ قَالَ إنِّي وَكِيلٌ بِقَبْضِ الْوَدِيعَةِ فَصَدَّقَهُ الْمُودَعُ لَمْ يُؤْمَرْ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ ) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ ، عَلَّلَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ الْمُودَعَ بِفَتْحِ الدَّالِ ( أَقَرَّ لَهُ ) أَيْ لِلْوَكِيلِ ( بِمَالِ الْغَيْرِ ) وَهُوَ الْمُودِعُ بِكَسْرِ الدَّالِ ، فَإِنَّهُ أَقَرَّ بِبَقَاءِ الْوَدِيعَةِ عَلَى مِلْكِ الْمُودَعِ ، وَالْإِقْرَارُ بِمَالِ الْغَيْرِ بِحَقِّ الْقَبْضِ غَيْرُ صَحِيحٍ ( بِخِلَافِ الدَّيْنِ ) حَيْثُ يُؤْمَرُ الْمَدْيُونُ بِالتَّسْلِيمِ إلَى الْوَكِيلِ الَّذِي صَدَّقَهُ فِي وِكَالَتِهِ عَلَى مَا مَرَّ ، فَإِنَّ الدُّيُونَ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا فَكَانَ إقْرَارُ الْمَدْيُونِ إقْرَارًا عَلَى نَفْسِهِ بِحَقِّ الْمُطَالَبَةِ وَالْقَبْضِ ، كَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ .
ثُمَّ إنَّ الْوُجُوهَ الْأَرْبَعَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْوَكِيلِ بِقَبْضِ الدَّيْنِ وَارِدَةٌ فِي الْوَكِيلِ بِقَبْضِ الْوَدِيعَةِ أَيْضًا ؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ : وَإِذَا قَبَضَ رَجُلٌ وَدِيعَةَ رَجُلٍ فَقَالَ رَبُّ الْوَدِيعَةِ مَا وَكَّلْتُك وَحَلَفَ عَلَى ذَلِكَ وَضَمَّنَ مَالَهَا الْمُسْتَوْدَعَ رَجَعَ الْمُسْتَوْدَعُ بِالْمَالِ عَلَى الْقَابِضِ إنْ كَانَ عِنْدَهُ بِعَيْنِهِ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ ، وَإِنْ قَالَ هَلَكَ مِنِّي أَوْ دَفَعْته إلَى الْمُوَكِّلِ فَهُوَ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي قُلْنَا إنْ صَدَّقَهُ الْمُسْتَوْدَعَ فِي الْوِكَالَةِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ ، وَإِنْ كَذَّبَهُ أَوْ لَمْ يُصَدِّقْهُ وَلَمْ يُكَذِّبْهُ أَوْ صَدَّقَهُ وَضَمَّنَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ لِمَا قُلْنَا ا هـ .
وَذَكَرَ فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ فِي فَصْلِ الْوَدِيعَةِ إذَا لَمْ يُؤْمَرْ بِالتَّسْلِيمِ ، وَمَعَ هَذَا سَلَّمَ ثُمَّ أَرَادَ الِاسْتِرْدَادَ هَلْ لَهُ ذَلِكَ ؟ ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَلَاءُ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الِاسْتِرْدَادَ لِأَنَّهُ سَاعٍ فِي نَقْضِ مَا أَوْجَبَهُ .
وَقَالَ أَيْضًا : وَإِذَا لَمْ يُؤْمَرْ بِالتَّسْلِيمِ وَلَمْ يُسَلِّمْ حَتَّى ضَاعَتْ فِي يَدِهِ هَلْ يَضْمَنُ ؟ قِيلَ لَا يَضْمَنُ ،

وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَضْمَنَ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ وَكِيلِ الْمُودِعِ فِي زَعْمِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَنْعِ مِنْ الْمُودِعِ ، وَالْمَنْعُ مِنْ الْمُودِعِ يُوجِبُ الضَّمَانَ فَكَذَا مِنْ وَكِيلِهِ ا هـ ( وَلَوْ ادَّعَى ) أَيْ وَلَوْ ادَّعَى أَحَدٌ ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ : فَلَوْ ادَّعَى ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ تَفْرِيعًا عَلَى مَسْأَلَةِ الْقُدُورِيِّ ( أَنَّهُ ) الضَّمِيرُ لِلشَّأْنِ ( مَاتَ أَبُوهُ ) أَيْ أَبُو الْمُدَّعِي ( وَتَرَكَ الْوَدِيعَةَ مِيرَاثًا لَهُ ) أَيْ لِلْمُدَّعِي ( وَلَا وَارِثَ لَهُ ) أَيْ لِلْمَيِّتِ غَيْرُهُ ) أَيْ غَيْرُ الْمُدَّعِي ( وَصَدَّقَهُ الْمُودَعُ أُمِرَ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ ) أَيْ أُمِرَ الْمُودَعُ بِدَفْعِ الْوَدِيعَةِ إلَى ذَلِكَ الْمُدَّعِي .
أَقُولُ : مِنْ الْعَجَائِبِ هَاهُنَا أَنَّ الشَّارِحَ الْعَيْنِيَّ قَالَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : أَيْ فَلَوْ ادَّعَى مَنْ قَالَ إنِّي وَكِيلٌ أَنَّهُ أَيْ فُلَانًا مَاتَ أَبُوهُ إلَخْ .
وَلَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى مُسْكَةٍ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مَسْأَلَةَ الْوِرَاثَةِ ذُكِرَتْ تَفْرِيعًا عَلَى مَسْأَلَةِ الْوِكَالَةِ لِبَيَانِ الِاخْتِلَافِ بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ ، وَأَنَّهُ لَا مَجَالَ لَأَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ الْمُسْتَكِنُّ فِي وَلَوْ ادَّعَى أَوْ فَلَوْ ادَّعَى رَاجِعًا إلَى مَنْ قَالَ إنِّي وَكِيلٌ ؛ لِأَنَّ الْمُودَعَ لَا يُؤْمَرُ بِالتَّسْلِيمِ إلَى مُدَّعِي الْوِكَالَةِ أَصْلًا .
قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ هَاتِيك الْمَسْأَلَةِ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ لِأَنَّ مَالَ الْوَدِيعَةِ ( لَا يَبْقَى مَالُهُ ) أَيْ لَا يَبْقَى مَالُ الْمُودِعِ ( بَعْدَ مَوْتِهِ ) أَيْ بَعْدَ مَوْتِ الْمُودِعِ .
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : مَالَهُ بِالنَّصْبِ ، وَقَالَ هَكَذَا كَانَ مُعْرَبًا بِإِعْرَابِ شَيْخِي : أَيْ لَا يَبْقَى مَالُ الْوَدِيعَةِ مَالً الْمُودِعِ بَعْدَ مَوْتِهِ : أَيْ مَنْسُوبًا إلَيْهِ وَمَمْلُوكًا لَهُ ، فَكَانَ انْتِصَابُهُ عَلَى تَأْوِيلِ الْحَالِ كَمَا فِي كَلَّمْته فَاهُ إلَى فِي : أَيْ مُشَافِهًا ا هـ .
وَقَالَ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ مَا فِي النِّهَايَةِ بِعَيْنِهِ : وَيَجُوزُ الرَّفْعُ .
وَقَالَ صَاحِبُ

غَايَةِ الْبَيَانِ : قَوْلُهُ لَا يَبْقَى مَالَهُ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ كَلَّمْته فَاهُ إلَى فِي : يَعْنِي لَا يَبْقَى مَالُ الْوَدِيعَةِ مَالَ أَبِيهِ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ ا هـ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَرَوَى صَاحِبُ النِّهَايَةِ عَنْ خَطِّ شَيْخِهِ نَصْبَ مَالِهِ وَوَجَّهَهُ بِكَوْنِهِ حَالًا كَمَا فِي كَلَّمْته فَاهُ إلَى فِي : أَيْ مُشَافِهًا ، وَمَعْنَاهُ لَا يَبْقَى مَالُ الْوَدِيعَةِ مَالَ الْمُودِعِ بَعْدَ مَوْتِهِ مَنْسُوبًا إلَيْهِ وَمَمْلُوكًا لَهُ وَتَبِعَهُ غَيْرُهُ مِنْ الشَّارِحِينَ .
وَرَأَى أَنَّهُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْحَالَ مُقَيَّدٌ لِلْعَامِلِ ، فَكَلَّمْته يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُقَيَّدًا بِالْمُشَافَهَةِ : أَيْ كَلَّمْته فِي حَالِ الْمُشَافَهَةِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ لَا يَبْقَى مَالُ الْوَدِيعَةِ حَالَ كَوْنِهِ مَالًا مَمْلُوكًا لَهُ مَنْسُوبًا إلَيْهِ فَلَيْسَ لَهُ مَعْنًى ظَاهِرٌ ، وَالظَّاهِرُ فِي إعْرَابِهِ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلُ لَا يَبْقَى : أَيْ لِأَنَّ الْمُودِعَ لَا يَبْقَى مَالُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ لِانْتِقَالِهِ إلَى الْوَارِثِ ا هـ كَلَامُهُ .
أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْبَلَاغَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ فِي أَمْثَالِ هَذَا التَّرْكِيبِ أَنْ يُعْتَبَرَ الْقَيْدُ أَوَّلًا فَيَئُولَ الْمَعْنَى إلَى نَفْيِ الْقَيْدِ ، وَأَنْ يُعْتَبَرَ النَّفْيُ أَوَّلًا فَيَئُولَ الْمَعْنَى إلَى تَقْيِيدِ النَّفْيِ وَيَتَعَيَّنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الِاعْتِبَارَيْنِ بِقَرِينَةٍ تَشْهَدُ لَهُ ، فَإِنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ " وَأَمَّا قَوْلُهُ لَا يَبْقَى مَالُ الْمُودِعِ حَالَ كَوْنِهِ مَالًا مَمْلُوكًا لَهُ مَنْسُوبًا إلَيْهِ فَلَيْسَ لَهُ مَعْنًى ظَاهِرٌ " أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَعْنًى ظَاهِرٌ عَلَى الِاعْتِبَارِ الْأَوَّلِ فَمَمْنُوعٌ ، إذْ لَا يَخْفَى أَنَّ نَفْيَ بَقَاءِ مَمْلُوكِيَّةِ مَالِ الْوَدِيعَةِ لِلْمُودِعِ وَانْتِسَابِهِ إلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ مَعْنًى ظَاهِرٌ مَقْبُولٌ ، وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَعْنًى ظَاهِرٌ عَلَى الِاعْتِبَارِ الثَّانِي فَمُسَلَّمٌ ، لَكِنَّ الْمُرَادَ هَاهُنَا هُوَ الِاعْتِبَارُ الْأَوَّلُ كَمَا لَا يَخْفَى .

وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ رَفْعِ مَالُهُ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلُ لَا يَبْقَى يَصِيرُ الْمَعْنَى لَا يَبْقَى عَيْنُ مَالِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ ، وَلَيْسَ هَذَا بِمَعْنًى صَحِيحٍ إذَا الْمَالُ بَاقٍ بِعَيْنِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَإِنَّمَا الْمُنْتَفَى بَعْدَ مَوْتِهِ مَمْلُوكِيَّتُهُ وَانْتِسَابُهُ إلَيْهِ ، وَذَلِكَ مِنْ أَوْصَافِ الْمَالِ وَأَحْوَالِهِ يُفْهَمُ مِنْ النَّصْبِ عَلَى الْحَالِيَّةِ ، وَلَا يُفْهَمُ مِنْ الرَّفْعِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ إضَافَةِ الْمَالِ إلَى الضَّمِيرِ الرَّاجِعِ إلَى الْمُودِعِ لَكِنَّهُ بَعِيدٌ جِدًّا ، فَالظَّاهِرُ فِي إفَادَةِ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ هُوَ النَّصْبُ كَمَا لَا يَخْفَى .
ثُمَّ إنَّ الشَّارِحَ الْعَيْنِيَّ قَدْ زَادَ فِي الطُّنْبُورِ نَغْمَةً حَيْثُ قَالَ بَعْدَ نَقْلِ مَا فِي النِّهَايَةِ وَمَا الْعِنَايَةِ : وَالصَّوَابُ هُوَ الرَّفْعُ عَلَى مَا قَالَهُ الْأَكْمَلُ .
وَقَدْ فَاتَهُ شَيْءٌ آخَرُ ، وَهُوَ أَنَّ مِنْ شَرْطِ الْحَالِ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْمُشْتَقَّاتِ وَالْمَالُ لَيْسَ مِنْهَا ، إلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ بِالتَّأْوِيلِ .
وَلَوْ قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَمَنْ تَبِعَهُ فِي أَنَّهُ نُصِبَ عَلَى الْحَالِ إنَّهُ حَالٌ عَلَى تَأْوِيلِ مُتَمَوَّلًا : أَيْ لَا يَبْقَى الْمَيِّتُ بَعْدَ مَوْتِهِ مُتَمَوَّلًا لَكَانَ أَوْجَهَ ا هـ .
أَقُولُ : لَيْسَ مَا زَادَهُ بِشَيْءٍ ، أَمَّا قَوْلُهُ إنَّ مِنْ شَرْطِ الْحَالِ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْمُشْتَقَّاتِ فَمَمْنُوعٌ ، أَلَا يَرَى إلَى قَوْلِ ابْنِ الْحَاجِبِ وَكُلُّ مَا دَلَّ عَلَى هَيْئَةٍ صَحَّ أَنْ يَقَعَ حَالًا مِثْلُ هَذَا بُسْرًا أَطْيَبُ مِنْهُ رُطَبًا .
وَلَئِنْ سَلِمَ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى قَوْلِ جُمْهُورِ النُّحَاةِ فَجَوَازُ كَوْنِ غَيْرِ الْمُشْتَقِّ حَالًا بِالتَّأْوِيلِ بِالْمُشْتَقِّ مِمَّا لَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ مِنْ النُّحَاةِ ، وَقَدْ اعْتَرَفَ بِهِ نَفْسُهُ أَيْضًا حَيْثُ قَالَ : إلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ بِالتَّأْوِيلِ ، وَقَدْ بَيَّنَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ التَّأْوِيلَ هَاهُنَا حَيْثُ قَالَ مَنْسُوبًا إلَيْهِ مَمْلُوكًا لَهُ ، فَبَعْدَ ذَلِكَ كَانَ الْقَدَحُ فِيهِ بِاشْتِرَاطِ كَوْنِ

الْحَالِ مِنْ الْمُشْتَقَّاتِ لَغْوًا مِنْ الْكَلَامِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَمَنْ تَبِعَهُ فِي أَنَّهُ نُصِبَ عَلَى الْحَالِ إنَّهُ حَالٌ عَلَى تَأْوِيلِ مُتَمَوَّلًا : أَيْ لَا يَبْقَى الْمَيِّتُ بَعْدَ مَوْتِهِ مُتَمَوَّلًا لَكَانَ أَوْجَهَ فَمِمَّا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَفَوَّهَ بِهِ الْعَاقِلُ لِأَنَّ الْمُتَمَوِّلَ إنَّمَا هُوَ الْمَالِكُ لَا الْمَالُ قَطْعًا فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ تَأْوِيلُ الْمَالِ بِمَا لَا يَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَيْهِ وَجَعْلُهُ صِفَةً لَهُ ، بَلْ عَلَى تَقْدِيرِ إرْجَاعِ ضَمِيرٍ لَا يَبْقَى إلَى الْمَيِّتِ لَا يَبْقَى لَهُ ارْتِبَاطٌ بِالْمَقَامِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذَوِي الْأَفْهَامِ ( فَقَدْ اتَّفَقَا ) أَيْ مُدَّعِي الْوِرَاثَةِ وَالْمُودَعُ .
وَقَالَ الْعَيْنِيُّ : أَيْ الَّذِي ادَّعَى الْوِكَالَةَ وَالْمُودَعُ .
أَقُولُ : هَذَا بِنَاءً عَلَى ضَلَالِهِ السَّابِقِ وَقَدْ عَرَفْت ( عَلَى أَنَّهُ ) مُتَعَلِّقٌ بِاتَّفَقَا : أَيْ فَقَدْ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ مَالَ الْوَدِيعَةِ ( مَالُ الْوَارِثِ ) فَلَا بُدَّ مِنْ الدَّفْعِ إلَيْهِ قَالَ صَاحِبُ التَّسْهِيلِ : أَقُولُ فِيهِ إقْرَارٌ عَلَى الْغَيْرِ بِالْمَوْتِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُؤْمَرَ بِالدَّفْعِ حَتَّى يَثْبُتَ مَوْتُهُ عِنْدَ الْقَاضِي انْتَهَى فَتَأَمَّلْ

.
وَلَوْ ادَّعَى أَنَّهُ اشْتَرَى الْوَدِيعَةَ مِنْ صَاحِبِهَا فَصَدَّقَهُ الْمُودَعُ لَمْ يُؤْمَرْ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ مَا دَامَ حَيًّا كَانَ إقْرَارًا بِمِلْكِ الْغَيْرِ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِهِ فَلَا يُصَدِّقَانِ فِي دَعْوَى الْبَيْعِ عَلَيْهِ .

( وَلَوْ ادَّعَى ) أَيْ وَلَوْ ادَّعَى أَحَدٌ ( أَنَّهُ اشْتَرَى الْوَدِيعَةَ مِنْ صَاحِبِهَا فَصَدَّقَهُ الْمُودَعُ لَمْ يُؤْمَرْ ) أَيْ لَمْ يُؤْمَرْ الْمُودَعُ ( بِالدَّفْعِ إلَيْهِ ) أَيْ إلَى مُدَّعِي الشِّرَاءِ ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ أَيْضًا ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ تَفْرِيعًا عَلَى مَسْأَلَةِ الْقُدُورِيِّ وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهَا فِي الْبِدَايَةِ ، وَقَالَ فِي تَعْلِيلِهَا ( لِأَنَّهُ ) أَيْ لِأَنَّ صَاحِبَ الْوَدِيعَةِ ( مَا دَامَ حَيًّا كَانَ إقْرَارًا بِمِلْكِ الْغَيْرِ ) : أَيْ كَانَ إقْرَارُ الْمُودَعِ لِمُدَّعِي الشِّرَاءِ إقْرَارًا بِمِلْكِ الْغَيْرِ وَهُوَ صَاحِبُ الْوَدِيعَةِ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ الْحَيَّ ( مِنْ أَهْلِهِ ) أَيْ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ ( فَلَا يُصَدِّقَانِ ) أَيْ مُدَّعِي الشِّرَاءِ وَالْمُودَعُ الْمُصَدِّقُ إيَّاهُ ( فِي دَعْوَى الْبَيْعِ عَلَيْهِ ) أَيْ عَلَى صَاحِبِ الْوَدِيعَةِ ، قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : قَدْ تَقَدَّمَ هَاتَانِ الْمَسْأَلَتَانِ فِي فَصْلِ الْقَضَاءِ بِالْمَوَارِيثِ فَكَانَ ذِكْرُهُمَا تَكْرَارًا .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ ذَكَرَهُمَا هُنَالِكَ بِاعْتِبَارِ الْقَضَاءِ وَهَاهُنَا بِاعْتِبَارِ الدَّعْوَى ، وَلِهَذَا صَدَّرَهُمَا هَاهُنَا بِقَوْلِهِ " وَلَوْ ادَّعَى " وَهُنَاكَ بِقَوْلِهِ " وَمَنْ أَقَرَّ " ، وَمَعَ هَذَا فَلَا يَخْلُو عَنْ ضَعْفٍ لِأَنَّ إيرَادَهُمَا فِي بَابِ الْوِكَالَةِ بِالْخُصُومَةِ وَالْقَبْضِ بَعِيدُ الْمُنَاسَبَةِ ، إلَى هَاهُنَا كَلَامُهُ .
أَقُولُ : تَضْعِيفُهُ سَاقِطٌ لِأَنَّ ذِكْرَ الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَيْهِمَا وَهِيَ مَسْأَلَةُ ادِّعَاءِ الْوِكَالَةِ بِقَبْضِ الْوَدِيعَةِ اقْتَضَى ذِكْرَهُمَا عَقِيبَهَا ؛ لِأَنَّ ذِكْرَهَا لَمَّا أَوْقَعَ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ أَنَّ الْحُكْمَ فِيهِمَا أَيْضًا كَالْحُكْمِ فِيهَا أَمْ لَا ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ عَقِيبَهَا فِي بَابِهَا عَلَى سَبِيلِ التَّفْرِيعِ عَلَيْهَا إزَالَةً لِلِاشْتِبَاهِ بِبَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ إحْدَاهُمَا وَبَيَانِ الِاشْتِرَاكِ فِي الْحُكْمِ مَعَ الْأُخْرَى فَكَانَ إيرَادُهُمَا فِي هَذَا الْبَابِ قَرِيبَ الْمُنَاسَبَةِ

قَالَ ( فَإِنْ وَكَّلَ وَكِيلًا يَقْبِضُ مَالَهُ فَادَّعَى الْغَرِيمُ أَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ قَدْ اسْتَوْفَاهُ فَإِنَّهُ يَدْفَعُ الْمَالَ إلَيْهِ ) لِأَنَّ الْوِكَالَةَ قَدْ ثَبَتَتْ وَالِاسْتِيفَاءُ لَمْ يَثْبُتْ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ فَلَا يُؤَخَّرُ الْحَقُّ .
قَالَ ( وَيَتْبَعُ رَبُّ الْمَالِ فَيَسْتَحْلِفُهُ ) رِعَايَةً لِجَانِبِهِ ، وَلَا يَسْتَحْلِفُ الْوَكِيلَ لِأَنَّهُ نَائِبٌ

( قَالَ ) أَيْ مُحَمَّدٌ فِي بُيُوعِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ( فَإِنْ وَكَّلَ وَكِيلًا بِقَبْضِ مَالِهِ ) أَيْ إنْ وَكَّلَ رَجُلٌ وَكِيلًا بِقَبْضِ مَالٍ لَهُ عَلَى غَرِيمِهِ ( فَادَّعَى الْغَرِيمُ أَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ قَدْ اسْتَوْفَاهُ فَإِنَّهُ ) أَيْ فَإِنَّ الْغَرِيمَ يَدْفَعُ الْمَالَ إلَيْهِ ) أَيْ يُؤْمَرُ بِدَفْعِ الْمَالِ إلَى الْوَكِيلِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِهِ ( لِأَنَّ الْوِكَالَةَ قَدْ ثَبَتَتْ وَالِاسْتِيفَاءُ لَمْ يَثْبُتْ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ ) أَيْ بِمُجَرَّدِ دَعْوَى الْغَرِيمِ بِلَا حُجَّةٍ ( فَلَا يُؤَخَّرُ الْحَقُّ ) أَيْ حَقُّ الْقَبْضِ إلَى تَحْلِيفِ رَبِّ الدِّينِ .
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : فَإِنْ قِيلَ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْوِكَالَةَ قَدْ ثَبَتَتْ فَبِأَيِّ دَلِيلٍ ثُبُوتُ الْوِكَالَةِ ؟ وَلَوْ قِيلَ بِسَبَبِ ادِّعَاءِ الْمَدْيُونِ أَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ قَدْ اسْتَوْفَاهُ فَذَلِكَ لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ ثُبُوتِ الْوِكَالَةِ ، بَلْ هُوَ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ الْوِكَالَةِ ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ إذَا كَانَ مُسْتَوْفًى مِنْ جَانِبِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ كَانَ التَّوْكِيلُ بِالِاسْتِيفَاءِ بَاطِلًا لَا مَحَالَةَ فَكَيْفَ تَثْبُتُ الْوِكَالَةُ بِهَذِهِ الدَّعْوَى ؟ قُلْنَا : لَمَّا ادَّعَى الْغَرِيمُ اسْتِيفَاءَ رَبِّ الدِّينِ دَيْنَهُ كَانَ هُوَ مُعْتَرِفًا بِأَصْلِ الْحَقِّ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ قَوْلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَدْ قَضَيْتُكَهَا إقْرَارٌ بِالدَّيْنِ عِنْدَ دَعْوَى الْمُدَّعِي ذَلِكَ ، فَلَمَّا ثَبَتَ الدَّيْنُ بِإِقْرَارِهِ وَلَمْ يُنْكِرْ الْوِكَالَةَ كَانَ لِلْوَكِيلِ وِلَايَةُ الطَّلَبِ فَيُقْضَى عَلَيْهِ بِالْإِيفَاءِ ، كَمَا لَوْ ادَّعَى اسْتِيفَاءَ رَبِّ الدَّيْنِ عِنْدَ دَعْوَاهُ بِنَفْسِهِ كَانَ يُقْضَى عَلَيْهِ بِالْإِيفَاءِ ، فَكَذَا عِنْدَ دَعْوَى وَكِيلِهِ ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ ا هـ .
أَقُولُ : جَوَابُهُ مَنْظُورٌ فِيهِ ، إذْ لَا كَلَامَ فِي أَنَّ ادِّعَاءِ الْغَرِيمِ اسْتِيفَاءَ رَبِّ الدِّينِ دَيْنَهُ يَتَضَمَّنُ الِاعْتِرَافَ بِأَصْلِ الْحَقِّ ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي أَنَّ الْوِكَالَةَ بِأَيِّ دَلِيلٍ ثَبَتَتْ ، وَمُجَرَّدُ عَدَمِ إنْكَارِ الْوِكَالَةِ

لَا يَقْتَضِي الِاعْتِرَافَ بِثُبُوتِهَا ، أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ سَكَتَ أَوْ تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ لَا يُنَاسَبُ الْحَالَ لَا يُعَدُّ مُقِرًّا لِلْوِكَالَةِ ، فَكَيْفَ إذَا تَكَلَّمَ بِمَا يُشْعِرُ بِإِنْكَارِ الْوِكَالَةِ ، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ السَّائِلُ بِقَوْلِهِ : بَلْ هُوَ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ الْوِكَالَةِ إلَى قَوْلِهِ : فَكَيْفَ تَثْبُتُ الْوِكَالَةُ بِهَذِهِ الدَّعْوَى ، فَكَأَنَّ الْغَرِيمَ قَالَ أَنْتَ لَا تَصْلُحُ لِلْوِكَالَةِ أَصْلًا بَعْدَ اسْتِيفَاءِ صَاحِبِ الْمَالِ حَقَّهُ فَضْلًا عَنْ أَنْ تَقَعَ وَكِيلًا عَنْهُ تَدَبَّرْ .
وَقَصَدَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ دَفْعَ السُّؤَالِ الْمَزْبُورِ بِوَجْهٍ آخَرُ حَيْثُ قَالَ فِي بَيَانِ الْمَسْأَلَةِ : ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مُحَمَّدٌ عَنْ يَعْقُوبَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الرَّجُلِ لَهُ عَلَى الرَّجُلِ مَالٌ فَوَكَّلَ وَكِيلًا بِذَلِكَ الْمَالِ وَأَقَامَ الْوَكِيلُ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ وَقَالَ الَّذِي عَلَيْهِ الْمَالُ قَدْ اسْتَوْفَاهُ صَاحِبُهُ فَإِنَّهُ يُقَالُ لَهُ ادْفَعْ الْمَالَ ثُمَّ ادْفَعْ رَبَّ الْمَالِ فَاسْتَحْلِفْهُ .
ثُمَّ قَالَ فِي شَرْحِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ لِأَنَّ الْوِكَالَةَ قَدْ ثَبَتَتْ : يَعْنِي بِالْبَيِّنَةِ ؛ لِأَنَّ وَضْعَ الْمَسْأَلَةِ كَذَلِكَ انْتَهَى .
أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : لَوْ كَانَ مَدَارُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ لِأَنَّ الْوِكَالَةَ قَدْ ثَبَتَتْ بَلْ مَدَارُ نَفْسِ جَوَابِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى اعْتِبَارِ قَيْدِ إقَامَةِ الْوَكِيلِ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْوِكَالَةِ فِي وَضْعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَمَا وَسِعَ لِلْمُصَنِّفِ فِي بِدَايَتِهِ وَهِدَايَتِهِ وَلِعَامَّةِ الْمَشَايِخِ فِي تَصَانِيفِهِمْ الْمُعْتَبَرَةِ تَرْكُ ذَلِكَ الْقَيْدِ الْمُهِمِّ عِنْدَ تَحْرِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَدَّعِيَ كَوْنَ تَرْكِهِمْ إيَّاهُ بِنَاءً عَلَى ظُهُورِ اعْتِبَارِهِ ، كَيْفَ وَقَدْ ذَهَبَ اعْتِبَارُ ذَلِكَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الثِّقَاتِ كَصَاحِبِ النِّهَايَةِ وَصَاحِبِ التَّبْيِينِ وَغَيْرِهِمَا ، حَتَّى ذَهَبُوا إلَى تَوْجِيهٍ آخَرَ فِي دَفْعِ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ ، فَلَوْ كَانَ اعْتِبَارُهُ مِنْ الظُّهُورِ بِحَيْثُ

يُسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِهِ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ لَمَا خَفِيَ عَلَى مِثْلِ هَؤُلَاءِ الْأَجِلَّاءِ ( قَالَ وَيَتْبَعُ ) أَيْ يَتْبَعُ الْغَرِيمُ ( رَبَّ الْمَالِ فَيَسْتَحْلِفُهُ ) أَيْ فَيَسْتَحْلِفُ الْغَرِيمُ رَبَّ الْمَالِ عَلَى عَدَمِ الِاسْتِيفَاءِ رِعَايَةً لِجَانِبِهِ ) أَيْ جَانِبِ الْغَرِيمِ .
فَإِنْ حَلَفَ مَضَى الْأَدَاءُ ، وَإِنْ نَكَلَ يَتْبَعُ الْغَرِيمُ الْقَابِضَ فَيَسْتَرِدُّ مَا قَبَضَهُ ( وَلَا يُسْتَحْلَفُ الْوَكِيلُ لِأَنَّهُ نَائِبٌ ) وَالنِّيَابَةُ : لَا تَجْرِي فِي الْأَيْمَانِ .
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَحْلَفَهُ عَلَى الْعِلْمِ ، فَإِنْ نَكَلَ خَرَجَ عَنْ الْوِكَالَةِ وَالطَّالِبُ عَلَى حُجَّتِهِ لِأَنَّ الْوَكِيلَ لَوْ أَقَرَّ بِذَلِكَ بَطَلَتْ وِكَالَتُهُ فَجَازَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَيْهِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْغَرِيمَ يَدَّعِي حَقًّا عَلَى الْمُوَكِّلِ لَا عَلَى الْوَكِيلِ ، فَتَحْلِيفُ الْوَكِيلِ يَكُونُ نِيَابَةً وَهِيَ لَا تَجْرِي فِي الْأَيْمَانِ .
بِخِلَافِ الْوَارِثِ حَيْثُ يَحْلِفُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ اسْتِيفَاءَ مُوَرِّثِهِ لِأَنَّ الْحَقَّ ثَبَتَ لِلْوَارِثِ فَالدَّعْوَى عَلَيْهِ وَالْيَمِينُ بِالْأَصَالَةِ ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ أَخْذًا مِنْ الْإِيضَاحِ

.
قَالَ ( وَإِنْ وَكَّلَهُ بِعَيْبٍ فِي جَارِيَةٍ فَادَّعَى الْبَائِعُ رِضَا الْمُشْتَرِي لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ حَتَّى يَحْلِفَ الْمُشْتَرِي ) بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الدَّيْنِ لِأَنَّ التَّدَارُكَ مُمْكِنٌ هُنَالِكَ بِاسْتِرْدَادِ مَا قَبَضَهُ الْوَكِيلُ إذَا ظَهَرَ الْخَطَأُ عِنْدَ نُكُولِهِ ، وَهَاهُنَا غَيْرُ مُمْكِنٍ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالْفَسْخِ مَاضٍ عَلَى الصِّحَّةِ وَإِنْ ظَهَرَ الْخَطَأُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ ، وَلَا يَسْتَحْلِفُ الْمُشْتَرِيَ عِنْدَهُ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ وَأَمَّا عِنْدَهُمَا قَالُوا : يَجِبُ أَنْ يَتَّحِدَ الْجَوَابُ عَلَى هَذَا فِي الْفَصْلَيْنِ وَلَا يُؤَخَّرُ ، لِأَنَّ التَّدَارُكَ مُمْكِنٌ عِنْدَهُمَا لِبُطْلَانِ الْقَضَاءِ وَقِيلَ الْأَصَحُّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْ يُؤَخَّرَ فِي الْفَصْلَيْنِ لِأَنَّهُ يَعْتَبِرُ حَتَّى النَّظَرَ حَتَّى يَسْتَحْلِفَ الْمُشْتَرِيَ لَوْ كَانَ حَاضِرًا مِنْ غَيْرِ دَعْوَى الْبَائِعِ فَيَنْتَظِرُ لِلنَّظَرِ .

( قَالَ ) أَيْ مُحَمَّدٌ فِي بُيُوعِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ( وَإِنْ وَكَّلَهُ بِعَيْبٍ فِي جَارِيَةٍ ) أَيْ إنْ وَكَّلَهُ بِرَدِّ جَارِيَةٍ بِسَبَبِ عَيْبٍ ( فَادَّعَى الْبَائِعُ رِضَا الْمُشْتَرَى ) أَيْ رِضَاهُ بِالْعَيْبِ ( لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ ) أَيْ لَمْ يَرُدَّ الْوَكِيلُ عَلَى الْبَائِعِ ( حَتَّى يَحْلِفَ الْمُشْتَرِي ) يَعْنِي لَا يَقْضِي الْقَاضِي بِالرَّدِّ عَلَيْهِ حَتَّى يَحْضُرَ الْمُشْتَرِي وَيَحْلِفُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِالْعَيْبِ ( بِخِلَافِ مَا مَرَّ مِنْ مَسْأَلَةِ الدَّيْنِ ) حَيْثُ يُؤْمَرُ الْغَرِيمُ بِدَفْعِ الدَّيْنِ إلَى الْوَكِيلِ قَبْلَ تَحْلِيفِ رَبِّ الدَّيْنِ .
قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ حَيْثُ يُؤْمَرُ بِدَفْعِ الدَّيْنِ إلَى الْوَكِيلِ بِدُونِ تَحْلِيفِ الْوَكِيلِ .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِمَعْنَى الْمَقَامِ قَطْعًا ، إذْ لَا مَدْخَلَ لِعَدَمِ تَحْلِيفِ الْوَكِيلِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ ، فَإِنَّ الْوَكِيلَ لَا يَحْلِفُ فِي شَيْءٍ مِنْهُمَا أَصْلًا .
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ الْفَرْقَ بَيْنَ مَسْأَلَةِ الدَّيْنِ وَمَسْأَلَةِ الْعَيْبِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدِهِمَا أَنَّ فِي الدَّيْنِ حَقَّ الطَّالِبِ ثَابِتٌ بِيَقِينٍ ، إذْ لَيْسَ فِي دَعْوَى الِاسْتِيفَاءِ وَالْإِبْرَاءِ مَا يُنَافِي ثُبُوتَ أَصْلِ حَقِّهِ ، لَكِنَّهُ يَدَّعِي الِاسْتِيفَاءَ بَعْدَ تَقَرُّرِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ فَلَا يَمْتَنِعُ عَلَى الْوَكِيلِ الِاسْتِيفَاءُ مَا لَمْ يَثْبُتْ الْمُسْقِطُ .
وَأَمَّا فِي الْعَيْبِ فَإِنْ عَلِمَ الْمُشْتَرِي بِالْعَيْبِ وَقْتَ الْعَقْدِ يَمْنَعُ ثُبُوتَ حَقِّهِ فِي الرَّدِّ أَصْلًا ، فَالْبَائِعُ لَا يَدَّعِي مُسْقِطًا بَلْ يَزْعُمُ أَنَّ حَقَّهُ فِي الرَّدِّ لَمْ يَثْبُتْ أَصْلًا ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَحْضُرَ الْمُوَكِّلُ وَيَحْلِفُ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الرَّدِّ عَلَيْهِ .
وَالثَّانِي أَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَسْخٌ لِلْعَقْدِ ، وَالْعَقْدُ إذَا انْفَسَخَ لَا يَعُودُ ، فَلَوْ أَثْبَتْنَا لَهُ حَقَّ الرَّدِّ تَضَرَّرَ بِهِ الْخَصْمُ فِي انْفِسَاخِ عَقْدِهِ عَلَيْهِ ، وَأَمَّا قَضَاءُ الدَّيْنِ فَلَيْسَ فِيهِ فَسْخُ عَقْدِهِ ، فَإِذَا حَضَرَ الْمُوَكِّلُ

فَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ يَتَوَصَّلُ الْمَطْلُوبُ إلَى قَضَاءِ حَقِّهِ فَلِهَذَا أُمِرَ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ ، وَهَذَا الْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ الْفَرْقِ هُوَ الَّذِي أَرَادَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ ( لِأَنَّ التَّدَارُكَ مُمْكِنٌ هُنَالِكَ ) أَيْ فِي مَسْأَلَةِ الدَّيْنِ ( بِاسْتِرْدَادِ مَا قَبَضَهُ الْوَكِيلُ إذَا ظَهَرَ الْخَطَأُ عِنْدَ نُكُولِهِ ) أَيْ نُكُولِ الْمُوَكِّلِ عَنْ الْيَمِينِ ، إذْ الْقَضَاءُ لَمْ يَنْفُذْ بَاطِنًا لِأَنَّهُ مَا قَضَى إلَّا بِمُجَرَّدِ التَّسْلِيمِ فَكَانَ كَالْقَضَاءِ بِالْأَمْلَاكِ الْمُرْسَلَةِ ، كَذَا فِي الْكَافِي وَالْكِفَايَةِ ( وَهَاهُنَا ) أَيْ فِي مَسْأَلَةِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ : وَفِي الثَّانِيَةِ أَيْ وَفِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ ( غَيْرُ مُمْكِنٍ ) أَيْ التَّدَارُكُ غَيْرُ مُمْكِنٍ ( لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالْفَسْخِ مَاضٍ عَلَى الصِّحَّةِ ) وَإِنْ ظَهَرَ الْخَطَأُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ لِأَنَّ الْقَضَاءَ فِي الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ يَنْفُذُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا عِنْدَهُ كَمَا مَرَّ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ ، وَفِي كِتَابِ النِّكَاحِ أَيْضًا ( وَلَا يُسْتَحْلَفُ الْمُشْتَرِي عِنْدَهُ بَعْدَ ذَلِكَ ) أَيْ بَعْدَ أَنْ مَضَى الْقَضَاءُ بِالْفَسْخِ عَلَى الصِّحَّةِ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ لِأَنَّ الِاسْتِحْلَافَ ( لَا يُفِيدُ ) فَإِنَّهُ لَمَّا مَضَى الْفَسْخُ وَلَا يُرَدُّ بِالنُّكُولِ لَمْ يَبْقَ فِي الِاسْتِحْلَافِ فَائِدَةٌ قَطْعًا ، قَالَ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ بَعْدَ ذَلِكَ : أَيْ بَعْدَ نُكُولِ الْمُوَكِّلِ ، وَتَبِعَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ : أَقُولُ : هَذَا تَفْسِيرٌ فَاسِدٌ ، إذْ يَصِيرُ مَعْنَى الْمَقَامِ حِينَئِذٍ وَلَا يُسْتَحْلَفُ الْمُشْتَرِي عِنْدَهُ بَعْدَ نُكُولِ الْمُشْتَرِي ، وَهَذَا مِنْ قَبِيلِ اللَّغْوِ مِنْ الْكَلَامِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ .
وَفِي الذَّخِيرَةِ : وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ بَيِّنَةٌ عَلَى رِضَا الْآمِرِ بِالْعَيْبِ وَرَدَّ الْوَكِيلُ الْجَارِيَةَ عَلَى الْبَائِعِ بِالْعَيْبِ ثُمَّ حَضَرَ الْآمِرُ وَادَّعَى الرِّضَا وَأَرَادَ أَخْذَ الْجَارِيَةِ

فَأَبَى الْبَائِعُ أَنْ يَدْفَعَهَا وَقَالَ نَقَضَ الْقَاضِي الْبَيْعَ فَلَا سَبِيلَ لَك ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يَلْتَفِتُ إلَى قَوْلِ الْبَائِعِ وَيَرُدُّ الْجَارِيَةَ عَلَى الْآمِرِ ؛ لِأَنَّ الْآمِرَ مَعَ الْبَائِعِ تَصَادَقَا عَلَى أَنَّ الْجَارِيَةَ مِلْكُ الْآمِرِ لِأَنَّ الْبَائِعَ ادَّعَى رِضَا الْآمِرِ بِالْعَيْبِ وَلُزُومَ الْجَارِيَةِ إيَّاهُ وَصَدَّقَهُ الْآمِرُ فِي ذَلِكَ فَاسْتَنَدَ التَّصْدِيقُ إلَى وَقْتِ الْإِقْرَارِ ، وَيَثْبُتُ بِهَذَا التَّصَادُقِ أَنَّ الْقَاضِيَ أَخْطَأَ فِي قَضَائِهِ بِالرَّدِّ وَأَنَّ قَضَاءَهُ بِالرَّدِّ نَفَذَ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا فَبَقِيَتْ الْجَارِيَةُ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْآمِرِ فِي الْبَاطِنِ فَكَانَ لِلْآمِرِ أَنْ يَأْخُذَهَا .
بَعْضُ مَشَايِخِنَا قَالُوا : هَذَا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا سَبِيلَ لِلْآمِرِ عَلَى الْجَارِيَةِ ، وَبَعْضُهُمْ قَالُوا : هَذَا قَوْلُ الْكُلِّ وَهُوَ الْأَصَحُّ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ نَقْضَ الْقَاضِي هَاهُنَا الْبَيْعَ لَمْ يَكُنْ بِنَاءً عَلَى دَلِيلٍ مُوجِبٍ لِلنَّقْضِ ، وَإِنَّمَا كَانَ لِجَهْلِهِ بِالدَّلِيلِ الْمُسْقِطِ لِلرَّدِّ وَهُوَ رِضَا الْآمِرِ بِالْعَيْبِ ثُمَّ ظَهَرَ الدَّلِيلُ بِخِلَافِهِ ، وَفِي مِثْلِ هَذَا لَا يَنْفُذُ الْقَضَاءُ بَاطِنًا كَمَا لَوْ قَضَى فِي حَادِثَةٍ بِاجْتِهَادِهِ وَثَمَّةَ نَصٌّ بِخِلَافِهِ انْتَهَى .
وَهَكَذَا ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ وَشُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَيْضًا ، وَنَقَلَ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ عَنْ تِلْكَ الْكُتُبِ ، ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ ذَكَرَ ذَلِكَ هَاهُنَا عَلَى وَجْهِ الِاعْتِرَاضِ وَالْجَوَابُ حَيْثُ قَالَ : وَاعْتَرَضَ بِأَنَّ الْوَكِيلَ إذْ رَدَّهَا عَلَى الْبَائِعِ بِالْعَيْبِ ثُمَّ حَضَرَ الْمُشْتَرِي وَادَّعَى الرِّضَا بِالْعَيْبِ وَاسْتَرَدَّ الْجَارِيَةَ وَقَالَ الْبَائِعُ لَا سَبِيلَ لَك عَلَيْهَا لِأَنَّ الْقَاضِيَ نَقَضَ الْبَيْعَ فَإِنَّهُ لَا يَلْتَفِتُ إلَى قَوْلِ الْبَائِعِ ، وَلَوْ كَانَ الْقَضَاءُ مَاضِيًا عَلَى الصِّحَّةِ لَمْ تُرَدَّ الْجَارِيَةُ عَلَى الْمُشْتَرَى .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الرَّدَّ مَذْهَبُ مُحَمَّدٍ ، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي

حَنِيفَةَ فَلَا سَبِيلَ لِلْآمِرِ عَلَى الْجَارِيَةِ .
سَلَّمْنَا أَنَّ هَذَا قَوْلُ الْكُلِّ ، لَكِنَّ النَّقْضَ هَاهُنَا لَمْ يُوجِبْهُ دَلِيلٌ ، وَإِنَّمَا كَانَ لِلْجَهْلِ بِالدَّلِيلِ الْمُسْقِطِ لِلرَّدِّ وَهُوَ رِضَا الْآمِرِ بِالْعَيْبِ ثُمَّ ظَهَرَ الدَّلِيلُ بِخِلَافِهِ بِتَصَادُقِهِمَا فِي الْآخِرَةِ عَلَى وُجُودِ الرِّضَا مِنْ الْمُشْتَرِي ، وَفِي مِثْلِهِ لَا يَنْفُذُ الْقَضَاءُ بَاطِنًا كَمَا لَوْ قَضَى بِاجْتِهَادِهِ فِي حَادِثَةٍ وَثَمَّةَ نَصٌّ بِخِلَافِهِ ، قَالُوا : هَذَا أَصَحُّ انْتَهَى كَلَامُهُ .
أَقُولُ : فِيهِ بَحْثٌ ، لِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ فِي الْجَوَابِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ لَا يَدْفَعُ الِاعْتِرَاضَ بَلْ يُقَوِّيهِ لِأَنَّهُ إذَا جَازَ نَقْضُ الْقَضَاءِ هَاهُنَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا بِأَيِّ سَبَبٍ كَانَ تَعَيَّنَ أَنَّ الْقَضَاءَ بِالْفَسْخِ هَاهُنَا لَمْ يَكُنْ مَاضِيًا عَلَى الصِّحَّةِ عِنْدَهُ أَيْضًا فَلَا يَتِمُّ الدَّلِيلُ الْمَذْكُورُ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ فَتَأَمَّلْ ( وَأَمَّا عِنْدَهُمَا ) أَيْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ( قَالُوا ) أَيْ الْمَشَايِخُ ( يَجِبُ أَنْ يَتَّحِدَ الْجَوَابُ عَلَى هَذَا ) أَيْ عَلَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ ( فِي الْفَصْلَيْنِ ) أَيْ فِي فَصْلِ الدَّيْنِ وَفِي فَصْلِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ ( وَلَا يُؤَخَّرُ ) أَيْ لَا يُؤَخَّرُ الْقَضَاءُ بِالرَّدِّ إلَى تَحْلِيفِ الْمُشْتَرِي كَمَا لَا يُؤَخَّرُ الْقَضَاءُ بِدَفْعِ الدَّيْنِ إلَى تَحْلِيفِ رَبِّ الدَّيْنِ ( لِأَنَّ التَّدَارُكَ مُمْكِنٌ ) أَيْ فِي الْفَصْلَيْنِ مَعًا ( عِنْدَهُمَا لِبُطْلَانِ الْقَضَاءِ ) يَعْنِي أَنَّ عَدَمَ التَّأْخِيرِ إلَى تَحْلِيفِ رَبِّ الدَّيْنِ فِي فَصْلِ الدَّيْنِ إنَّمَا كَانَ لِأَنَّ التَّدَارُكَ مُمْكِنٌ عِنْدَ ظُهُورِ الْخَطَإِ فِي الْقَضَاءِ بِاسْتِرْدَادِ مَا قَبَضَهُ الْوَكِيلُ وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي فَصْلِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ أَيْضًا لِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي فِي مِثْلِ ذَلِكَ عِنْدَهُمَا إنَّمَا يَنْفُذُ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا ، فَإِذَا ظَهَرَ خَطَأُ الْقَضَاءِ عِنْدَ نُكُولِ الْمُشْتَرِي رُدَّتْ الْجَارِيَةُ عَلَيْهِ فَلَا يُؤَخَّرُ إلَى التَّحْلِيفِ ( وَقِيلَ

الْأَصَحُّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ أَنْ يُؤَخَّرَ ) أَيْ الْقَضَاءُ ( فِي الْفَصْلَيْنِ لِأَنَّهُ ) أَيْ لِأَنَّ أَبَا يُوسُفَ ( يَعْتَبِرُ النَّظَرَ ) أَيْ النَّظَرَ لِلْبَائِعِ ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ .
أَقُولُ : الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ : أَيْ النَّظَرُ لِلْخَصْمِ لِيَكُونَ أَنْسَبَ بِالتَّعْمِيمِ لِلْفَصْلَيْنِ كَمَا سَيَنْكَشِفُ لَك ( حَتَّى يَسْتَحْلِفَ ) أَيْ أَبُو يُوسُفَ ( الْمُشْتَرِيَ لَوْ كَانَ حَاضِرًا مِنْ غَيْرِ دَعْوَى الْبَائِعِ ) يَعْنِي أَنَّ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَرُدُّ الْمَبِيعَ عَلَى الْبَائِعِ إذَا كَانَ الْمُشْتَرِي حَاضِرًا وَأَرَادَ الرَّدَّ مَا لَمْ يُسْتَحْلَفْ بِاَللَّهِ مَا رَضِيت بِهَذَا الْعَيْبِ وَإِنْ لَمْ يَدَّعِ الْبَائِعُ ، فَإِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي أَوْ رَبُّ الدَّيْنِ غَائِبًا فَأَوْلَى أَنْ لَا يُرَدَّ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُسْتَحْلَفْ صِيَانَةً لِقَضَائِهِ عَنْ الْبُطْلَانِ وَنَظَرًا لِلْبَائِعِ وَالْمَدْيُونِ ( فَيَنْتَظِرُ لِلنَّظَرِ ) أَيْ فَيَنْتَظِرُ فِي الْفَصْلَيْنِ نَظَرًا لِلْبَائِعِ وَالْمَدْيُونِ .
قَالَ فِي النِّهَايَةِ فَيَنْتَظِرُ لِلنَّظَرِ : أَيْ لِلْبَائِعِ ، فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَنْتَظِرَ فِي الدَّيْنِ نَظَرًا لِلْغَرِيمِ انْتَهَى .
وَقَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ : فَعَلَى هَذَا يَنْتَظِرُ عِنْدَهُ فِي الدَّيْنِ أَيْضًا نَظَرًا لِلْغَرِيمِ ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ فَيَنْتَظِرُ لِلنَّظَرِ انْتَهَى .
وَقَالَ فِي الْعِنَايَةِ : لِأَنَّهُ يَعْتَبِرُ النَّظَرَ لِلْبَائِعِ حَتَّى يَسْتَحْلِفَ الْمُشْتَرِيَ إنْ كَانَ حَاضِرًا مِنْ غَيْرِ دَعْوَى الْبَائِعِ فَيَنْتَظِرُ لِلنَّظَرِ لَهُ إنْ كَانَ غَائِبًا انْتَهَى أَقُولُ : لَا يَخْفَى مَا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا مِنْ تَخْصِيصِ مَعْنَى نَفْسِ الْكَلَامِ بِصُورَةٍ مِنْ الْفَصْلَيْنِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ دَاعِيَةٍ إلَيْهِ ، فَالْوَجْهُ مَا قَرَّرْنَاهُ فَتَبَصَّرْ

قَالَ ( وَمَنْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ يُنْفِقُهَا عَلَى أَهْلِهِ فَأَنْفَقَ عَلَيْهِمْ عَشَرَةً مِنْ عِنْدِهِ فَالْعَشَرَةُ بِالْعَشَرَةِ ) لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالْإِنْفَاقِ وَكِيلٌ بِالشِّرَاءِ وَالْحُكْمُ فِيهِ مَا ذَكَرْنَاهُ وَقَدْ قَرَرْنَاهُ فَهَذَا كَذَلِكَ وَقِيلَ هَذَا اسْتِحْسَانٌ وَفِي الْقِيَاسِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَيَصِيرُ مُتَبَرِّعًا .
وَقِيلَ الْقِيَاسُ وَالِاسْتِحْسَانُ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِشِرَاءٍ ، فَأَمَّا الْإِنْفَاقُ يَتَضَمَّنُ الشِّرَاءَ فَلَا يَدْخُلَانِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

( قَالَ ) أَيْ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ( وَمَنْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ يُنْفِقُهَا عَلَى أَهْلِهِ ) أَيْ لِيُنْفِقَهَا عَلَيْهِمْ ( فَأَنْفَقَ عَلَيْهِمْ عَشَرَةً مِنْ عِنْدِهِ ) أَيْ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ ( فَالْعَشَرَةُ بِالْعَشَرَةِ ) أَيْ فَالْعَشَرَةُ الَّتِي أَنْفَقَهَا الْوَكِيلُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ بِمُقَابَلَةِ الْعَشَرَةِ الَّتِي أَخَذَهَا مِنْ الْمُوَكِّلِ : يَعْنِي لَا يَكُونُ الْوَكِيلُ مُتَبَرِّعًا فِيمَا أَنْفَقَ بَلْ مَا أَخَذَهُ مِنْ الْمُوَكِّلِ يَصِيرُ مِلْكًا لَهُ .
قَالَ الْإِمَامُ التُّمُرْتَاشِيُّ : هَذَا إذَا كَانَتْ عَشَرَةُ الدَّفْعِ قَائِمَةً وَقْتَ شِرَائِهِ النَّفَقَةَ وَكَانَ يُضِيفُ الْعَقْدَ إلَيْهَا ، أَوْ كَانَ مُطْلَقًا لَكِنْ يَنْوِي تِلْكَ الْعَشَرَةَ ، أَمَّا إذَا كَانَتْ عَشَرَةُ الدَّافِعِ مُسْتَهْلَكَةً أَوْ كَانَ يَشْتَرِي النَّفَقَةَ بِعَشَرَةِ نَفْسِهِ وَيُضِيفُ الْعَقْدَ إلَيْهَا يَصِيرُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ وَيَكُونُ مُتَبَرِّعًا بِالْإِنْفَاقِ ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ تَتَعَيَّنُ فِي الْوِكَالَةِ ، وَكَذَا لَوْ أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى غَيْرِهَا ، كَذَا ذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ .
وَقَالَ فِي الْكِفَايَةِ بَعْدَ ذَلِكَ : وَقِيلَ لَا تَتَعَيَّنُ عِنْدَ الْعَامَّةِ لَكِنْ تَتَعَلَّقُ الْوِكَالَةُ بِبَقَائِهَا ، بِخِلَافِ الْمُضَارَبَةِ وَالشَّرِكَةِ حَيْثُ تَتَعَيَّنُ اتِّفَاقًا فِيهِمَا .
قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ مَا فِي الْكِتَابِ ( لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالْإِنْفَاقِ وَكِيلٌ بِالشِّرَاءِ ، وَالْحُكْمُ فِيهِ ) أَيْ فِي الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ ( مَا ذَكَرْنَاهُ ) مِنْ رُجُوعِ الْوَكِيلِ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِمَا أَدَّى مِنْ الثَّمَنِ ( وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ ) يَعْنِي فِي بَابِ الْوِكَالَةِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ عِنْدَ قَوْلِهِ وَإِذَا دَفَعَ الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ الثَّمَنَ مِنْ مَالِهِ وَقَبَضَ الْمَبِيعَ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الْمُوَكِّلِ لِأَنَّهُ انْعَقَدَتْ بَيْنَهُمَا مُبَادَلَةٌ حُكْمِيَّةٌ ( فَهَذَا ) أَيْ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ التَّوْكِيلِ بِالْإِنْفَاقِ ( كَذَلِكَ ) لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى الْأَهْلِ قَدْ يُضْطَرُّ إلَى شِرَاءِ

شَيْءٍ يَصْلُحُ لِنَفَقَتِهِمْ وَلَا يَكُونُ مَالُ الْمُوَكِّلِ مَعَهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ فَيَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُؤَدِّيَ ثَمَنَهُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ فَكَانَ فِي التَّوْكِيلِ بِذَلِكَ تَجْوِيزُ الِاسْتِبْدَالِ ، وَاعْلَمْ أَنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَذْكُرْ فِي الْأَصْلِ مَسْأَلَةَ الْإِنْفَاقِ ، بَلْ ذَكَرَ فِيهِ مَسْأَلَةَ قَضَاءِ الدَّيْنِ فَقَالَ : وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى الرَّجُلِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَقَالَ ادْفَعْهَا إلَى فُلَانٍ قَضَاءً عَنِّي فَدَفَعَ الْوَكِيلُ غَيْرَهَا وَاحْتَبَسَ الْأَلْفَ عِنْدَهُ كَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَدْفَعَ الَّتِي حَبَسَهَا إلَى الْمُوَكِّلِ وَيَكُونَ مُتَطَوِّعًا فِي الَّتِي دَفَعَ ، وَلَكِنِّي أَدَعُ الْقِيَاسَ فِي ذَلِكَ وَأَسْتَحْسِنُ أَنْ أُجِيزَهُ ، إلَى هُنَا لَفْظُ الْأَصْلِ .
وَإِنَّمَا ذَكَرَ مَسْأَلَةَ الْإِنْفَاقِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَلَكِنْ لَمْ يَذْكُرْ الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ فِيهِ فَقَالُوا فِي شُرُوحِهِ : هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ اسْتِحْسَانٌ ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَرُدَّهَا عَلَى الْمُوَكِّلِ إنْ كَانَتْ قَائِمَةً وَيَضْمَنُ إنْ كَانَ اسْتَهْلَكَهَا ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ ( وَقِيلَ هَذَا اسْتِحْسَانٌ ، وَفِي الْقِيَاسِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَيَصِيرُ مُتَبَرِّعًا ) أَيْ لَيْسَ لِلْوَكِيلِ إنْفَاقُ عَشَرَةِ نَفْسِهِ بِمُقَابَلَةِ عَشَرَةِ الْمُوَكِّلِ ، بَلْ إذَا أَنْفَقَ عَشَرَةَ نَفْسِهِ يَصِيرُ مُتَبَرِّعًا فِيمَا أَنْفَقَ وَيَرُدُّ الدَّرَاهِمَ الْمَأْخُوذَةَ مِنْ الْمُوَكِّلِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ اسْتَهْلَكَهَا ضَمِنَ .
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الدَّرَاهِمَ تَتَعَيَّنُ فِي الْوِكَالَاتِ حَتَّى لَوْ هَلَكَتْ قَبْلَ الْإِنْفَاقِ بَطَلَتْ الْوِكَالَةُ ، فَإِذَا أَنْفَقَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ فَقَدْ أَنْفَقَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمُوَكِّلِ فَيَصِيرُ مُتَبَرِّعًا .
وَأَمَّا وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ فَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِيمَا مَرَّ آنِفًا بِقَوْلِهِ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالْإِنْفَاقِ وَكِيلٌ بِالشِّرَاءِ إلَخْ ، وَقَالُوا فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَيْضًا : مِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ : لَيْسَ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ مَعْنَى الشِّرَاءِ فَوَرَدَ فِيهِ الْقِيَاسُ

وَالِاسْتِحْسَانُ اللَّذَانِ ذَكَرَهُمَا مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ .
أَمَّا الْإِنْفَاقُ فَفِيهِ شِرَاءٌ فَلَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ وَجْهُ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ ، بَلْ صَحَّ ذَلِكَ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا حَتَّى رَجَعَ الْوَكِيلُ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِمَا أَنْفَقَ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ ( وَقِيلَ الْقِيَاسُ وَالِاسْتِحْسَانُ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِشِرَاءٍ ) هَذَا وَجْهُ الْقِيَاسِ : يَعْنِي لَمَّا لَمْ يَكُنْ قَضَاءُ الدَّيْنِ شِرَاءً لَمْ يَكُنْ الْآمِرُ رَاضِيًا بِثُبُوتِ الدَّيْنِ فِي ذِمَّتِهِ لِلْوَكِيلِ فَلَوْ لَمْ نَجْعَلْهُ مُتَبَرِّعًا لَأَلْزَمْنَاهُ دَيْنًا لَمْ يَرْضَ بِهِ فَجَعَلْنَاهُ مُتَبَرِّعًا قِيَاسًا .
وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا ذَكَرَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَلَاءُ الدِّينِ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِ الْكَافِي لِلْحَاكِمِ الشَّهِيدِ بِقَوْلِهِ : لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ مَأْمُورٌ بِشِرَاءِ مَا فِي ذِمَّةِ الْآمِرِ بِالدَّرَاهِمِ ، وَالْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ إذَا اشْتَرَى وَنَقَدَ الثَّمَنَ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ سُلِّمَ الْمَقْبُوضُ لَهُ ا هـ ( فَأَمَّا الْإِنْفَاقُ ) فَإِنَّهُ ( يَتَضَمَّنُ الشِّرَاءَ ) لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِنْفَاقِ أَمَرَ بِشِرَاءِ الطَّعَامِ ، وَالشِّرَاءُ لَا يَتَعَلَّقُ بِعَيْنِ الدَّرَاهِمِ الْمَدْفُوعَةِ بَلْ بِمِثْلِهَا فِي الذِّمَّةِ ، ثُمَّ ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الْآمِرِ فَكَانَ رَاضِيًا بِثُبُوتِ الدَّيْنِ فَلَمْ يُجْعَلْ مُتَبَرِّعًا قِيَاسًا أَيْضًا ( فَلَا يَدْخُلَانِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) أَيْ فَلَا يَدْخُلُ الْقِيَاسُ وَالِاسْتِحْسَانُ فِي الْإِنْفَاقِ ، بَلْ يَكُونُ فِيهِ حُكْمِ الْقِيَاسِ كَحُكْمِ الِاسْتِحْسَانِ فِي أَنَّ الْوَكِيلَ لَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا بِالْإِنْفَاقِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ .

( بَابُ عَزْلِ الْوَكِيلِ ) قَالَ ( وَلِلْمُوَكِّلِ أَنْ يَعْزِلَ الْوَكِيلَ عَنْ الْوَكَالَةِ ) لِأَنَّ الْوَكَالَةَ حَقُّهُ فَلَهُ أَنْ يُبْطِلَهُ ، إلَّا إذَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ بِأَنْ كَانَ وَكِيلًا بِالْخُصُومَةِ يُطْلَبُ مِنْ جِهَةِ الطَّالِبِ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ وَصَارَ كَالْوَكَالَةِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا عَقْدُ الرَّهْنِ .

بَابُ عَزْلِ الْوَكِيلِ ) أَخَّرَ بَابَ الْعَزْلِ ، إذْ الْعَزْلُ يَقْتَضِي سَبْقَ الثُّبُوتِ فَنَاسَبَ ذِكْرُهُ آخِرًا ( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( وَلِلْمُوَكِّلِ أَنْ يَعْزِلَ الْوَكِيلَ عَنْ الْوَكَالَةِ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ حَقُّهُ ) أَيْ حَقُّ الْمُوَكِّلِ ( فَلَهُ أَنْ يُبْطِلَهُ ) أَيْ فَلِلْمُوَكِّلِ الَّذِي هُوَ صَاحِبُ الْحَقِّ أَنْ يُبْطِلَ حَقَّهُ ( إلَّا إذَا تَعَلَّقَ بِهِ ) أَيْ بِالْوَكَالَةِ ذَكَرَ الضَّمِيرَ بِتَأْوِيلِ كَوْنِهَا حَقًّا ( حَقُّ الْغَيْرِ ) فَحِينَئِذٍ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْزِلَهُ بِلَا رِضَا ذَلِكَ الْغَيْرِ ، وَذَلِكَ ( بِأَنْ كَانَ وَكِيلًا بِالْخُصُومَةِ بِطَلَبٍ مِنْ جِهَةِ الطَّالِبِ ) أَيْ بِالْتِمَاسٍ مِنْ جِهَةِ الْمُدَّعِي ( لِمَا فِيهِ ) أَيْ لِمَا فِي الْعَزْلِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ ( مِنْ إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ ) وَهُوَ أَنْ يُحْضِرَهُ مَجْلِسَ الْحُكْمِ وَيُخَاصِمَهُ وَيُثْبِتَ حَقَّهُ عَلَيْهِ ، وَإِبْطَالُ حَقِّ الْغَيْرِ لَا يَجُوزُ ، قُيِّدَ بِالطَّلَبِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ وَكِيلًا بِالطَّلَبِ يَمْلِكُ الْمُوَكِّلُ عَزْلَهُ ، سَوَاءٌ كَانَ الْخَصْمُ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا ، وَقُيِّدَ بِكَوْنِ الطَّلَبِ مِنْ جِهَةِ الطَّالِبِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ جِهَةِ الْمَطْلُوبِ : أَيْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَوَكَّلَ الطَّالِبَ فَلَهُ عَزْلُهُ سَوَاءٌ كَانَ الْمَطْلُوبُ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا .
ثُمَّ إنَّ عَدَمَ صِحَّةِ الْعَزْلِ إذَا كَانَ بِطَلَبٍ مِنْ جِهَةِ الطَّالِبِ فِيمَا إذَا كَانَ الْعَزْلُ عِنْدَ غَيْبَةِ الطَّالِبِ .
وَأَمَّا إذَا كَانَ عِنْدَ حُضُورِهِ فَيَصِحُّ الْعَزْلُ سَوَاءٌ رَضِيَ بِهِ الطَّالِبُ أَوْ لَا ، وَهَذِهِ الْقُيُودُ مُسْتَفَادَةٌ مِنْ صَرِيحِ مَا ذَكَرَهُ فِي الذَّخِيرَةِ .
فَإِنَّهُ قَالَ فِيهَا : وَإِذَا عُزِلَ الْوَكِيلُ حَالَ غَيْبَةِ الْخَصْمِ فَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ : الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ الْوَكِيلُ وَكِيلَ الطَّالِبِ .
وَفِي هَذَا الْوَجْهِ الْعَزْلُ صَحِيحٌ وَإِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ غَائِبًا لِأَنَّ الطَّالِبَ بِالْعَزْلِ يُبْطِلُ حَقَّ نَفْسِهِ ، لِأَنَّ خُصُومَةَ الْوَكِيلِ حَقُّ الطَّالِبِ وَإِبْطَالُ الْإِنْسَانِ حَقَّ نَفْسِهِ صَحِيحٌ مِنْ غَيْرِ

أَنْ يَتَوَقَّفَ عَلَى حَضْرَةِ غَيْرِهِ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ الْوَكِيلُ وَكِيلَ الْمَطْلُوبِ ، وَأَنَّهُ عَلَى وَجْهَيْنِ أَيْضًا : الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ الْوَكِيلُ مِنْ غَيْرِ الْتِمَاسِ أَحَدٍ ، وَفِي هَذَا الْوَجْهِ الْعَزْلُ صَحِيحٌ وَإِنْ كَانَ الطَّالِبُ غَائِبًا .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي إذَا كَانَ التَّوْكِيلُ بِالْتِمَاسِ أَحَدٍ إمَّا الطَّالِبَ وَإِمَّا الْقَاضِيَ ، وَفِي هَذَا الْوَجْهِ إنْ كَانَ الْوَكِيلُ غَائِبًا وَقْتَ التَّوْكِيلِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِالتَّوْكِيلِ صَحَّ عَزْلُهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْوَكَالَةَ غَيْرُ نَافِذَةٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا نَفَاذَ لَهَا قَبْلَ عِلْمِ الْوَكِيلِ فَكَانَ الْعَزْلُ رُجُوعًا وَامْتِنَاعًا فَيَصِحُّ .
وَهَذَا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي شَرَطَتْ عِلْمَ الْوَكِيلِ لِصَيْرُورَتِهِ وَكِيلًا .
وَإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ حَاضِرًا وَقْتَ التَّوْكِيلِ أَوْ كَانَ غَائِبًا وَلَكِنْ قَدْ عَلِمَ بِالْوَكَالَةِ وَلَمْ يَرُدَّهَا فَإِنْ كَانَتْ الْوَكَالَةُ بِالْتِمَاسٍ لَا يَصِحُّ عَزْلُهُ حَالَ غَيْبَةِ الطَّالِبِ وَيَصِحُّ حَالَ حَضْرَتِهِ رَضِيَ بِهِ الطَّالِبُ أَوْ سَخِطَ ؛ لِأَنَّ بِالتَّوْكِيلِ ثَبَتَ نَوْعُ حَقٍّ لِلطَّالِبِ قَبْلَ الْوَكِيلِ وَهُوَ حَقُّ أَنْ يُحْضِرَهُ مَجْلِسَ الْحُكْمِ فَيُخَاصِمَهُ وَيُثْبِتَ حَقَّهُ عَلَيْهِ .
وَبِالْعَزْلِ حَالَ غَيْبَةِ الطَّالِبِ لَوْ صَحَّ الْعَزْلُ يَبْطُلُ هَذَا الْحَقُّ أَصْلًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْخُصُومَةُ مَعَ الْوَكِيلِ وَالْمَطْلُوبُ رُبَّمَا يَغِيبُ قَبْلَ أَنْ يَحْضُرَ الطَّالِبُ فَلَا يُمْكِنُهُ الْخُصُومَةُ مَعَهُ أَيْضًا فَيَبْطُلُ حَقُّهُ أَصْلًا .
وَأَمَّا إذَا كَانَ الطَّالِبُ حَاضِرًا فَحَقُّهُ لَا يَبْطُلُ أَصْلًا ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ لَا يُمْكِنُهُ الْخُصُومَةُ مَعَ الْوَكِيلِ يُمْكِنُهُ مَعَ الْمَطْلُوبِ وَيُمْكِنُهُ أَنْ يُطَالِبَ مِنْ الْمَطْلُوبِ أَنْ يَنْصِبَ وَكِيلًا آخَرَ إلَى هُنَا لَفْظُ الذَّخِيرَةِ ، قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ : وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَكِيلَ إنْ كَانَ لِلطَّالِبِ فَعَزْلُهُ صَحِيحٌ حَضَرَ الْمَطْلُوبُ أَوْ لَا ؛ لِأَنَّ الطَّالِبَ بِالْعَزْلِ يَبْطُلُ حَقُّهُ وَهُوَ لَا

يَتَوَقَّفُ عَلَى حُضُورِ غَيْرِهِ وَهُوَ الْمَذْكُورُ أَوَّلًا .
وَإِنْ كَانَ لِلْمَطْلُوبِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِطَلَبٍ مِنْ جِهَةِ الطَّالِبِ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ مِثْلُ الْقَاضِي فَكَذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ فَأَمَّا إنْ عَلِمَ الْوَكِيلُ بِالْوَكَالَةِ أَوْ لَا ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَكَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا نَفَاذَ لِلْوَكَالَةِ قَبْلَ عِلْمِ الْوَكِيلِ فَكَانَ الْعَزْلُ امْتِنَاعًا وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُصَنِّفُ ، وَإِنْ عَلِمَ وَلَمْ يَرُدَّهَا لَمْ يَصِحَّ فِي غَيْبَةِ الطَّالِبِ ؛ لِأَنَّ بِالتَّوْكِيلِ ثَبَتَ لَهُ حَقُّ إحْضَارِهِ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ وَإِثْبَاتُ الْحَقِّ عَلَيْهِ ، وَبِالْعَزْلِ حَالَ غَيْبَتِهِ يَبْطُلُ ذَلِكَ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ مُسْتَثْنًى ، وَصَحَّ بِحَضْرَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَبْطُلُ ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ لَا يُمْكِنُهُ الْخُصُومَةُ مَعَ الْوَكِيلِ يُمْكِنُهُ الْخُصُومَةُ مَعَ الْمُوَكِّلِ وَيُمْكِنُهُ طَلَبُ نَصْبِ وَكِيلٍ آخَرَ مِنْهُ ، وَلَمْ يَذْكُرْهَا الْمُصَنِّفُ ؛ لِأَنَّ دَلِيلَهُ يَلُوحُ إلَيْهِ لِأَنَّهُ قَالَ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ وَهَاهُنَا لَا إبْطَالَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ ا هـ .
كَلَامُهُ .
وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى قَوْلِهِ وَهُوَ الْمَذْكُورُ أَوَّلًا ، وَأَجَابَ حَيْثُ قَالَ : فِيهِ بَحْثٌ ، فَإِنَّ الْمَذْكُورَ أَوَّلًا يَعُمُّهُ ، وَعَزْلُ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مَثَلًا لِعُمُومِ كَلَامِ الْقُدُورِيِّ : وَجَوَابُهُ أَنَّ الْقَصْرَ إضَافِيٌّ : أَيْ لَا عَزْلَ وَكِيلِ الْمَطْلُوبِ ا هـ .
أَقُولُ : جَوَابُهُ لَيْسَ بِتَامٍّ فَإِنَّ الْمَذْكُورَ أَوَّلًا وَهُوَ قَوْلُهُ وَلِلْمُوَكِّلِ أَنْ يَعْزِلَ الْوَكِيلَ عَنْ الْوَكَالَةِ يَعُمُّ عَزْلَ وَكِيلِ الْمَطْلُوبِ أَيْضًا سِيَّمَا الَّذِي لَمْ يَكُنْ بِطَلَبٍ مِنْ جِهَةِ الطَّالِبِ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ فَلَا يَتِمُّ التَّوْجِيهُ بِحَمْلِ الْقَصْرِ عَلَى الْإِضَافِيِّ بِمَعْنَى لَا عَزْلَ وَكِيلِ الْمَطْلُوبِ .
ثُمَّ أَقُولُ : الْحَقُّ الصَّرِيحُ أَنَّ كَلَامَ الْقُدُورِيِّ الَّذِي ذَكَرَهُ هَاهُنَا أَوَّلًا ، وَهُوَ قَوْلُهُ وَلِلْمُوَكِّلِ أَنْ يَعْزِلَ الْوَكِيلَ عَنْ

الْوَكَالَةِ يَعُمُّ جَمِيعَ الصُّوَرِ الَّتِي ذَكَرَهَا صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بِطَرِيقِ التَّقْسِيمِ وَالتَّفْصِيلِ ، وَقَدْ اسْتَثْنَى الْمُصَنِّفُ مِنْ ذَلِكَ صُورَةً وَاحِدَةً وَهِيَ عَزْلُ مَنْ كَانَ وَكِيلًا لِلْمَطْلُوبِ بِطَلَبٍ مِنْ جِهَةِ الطَّالِبِ فَبَقِيَ مَا عَدَاهَا مِنْ الصُّوَرِ تَحْتَ عُمُومِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ بِلَا رَيْبٍ ، وَيَمْشِي فِي ذَلِكَ كُلِّهِ التَّعْلِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ حَقُّهُ فَلَهُ أَنْ يُبْطِلَهُ ، فَمَا زَعَمَهُ الشَّارِحُ الْمَذْكُورُ مِنْ كَوْنِ الْمَذْكُورِ أَوَّلًا مَقْصُورًا عَلَى صُورَةِ عَزْلِ وَكِيلِ الطَّالِبِ ، وَكَوْنِ بَعْضِ صُوَرِ عَزْلِ الْوَكِيلِ الْمَطْلُوبِ غَيْرَ مَذْكُورٍ فِي الْكِتَابِ أَصْلًا سَهْوٌ بَيِّنٌ ( وَصَارَ ) أَيْ صَارَ التَّوْكِيلُ الَّذِي كَانَ بِطَلَبٍ مِنْ جِهَةِ الطَّالِبِ ( كَالْوَكَالَةِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا عَقْدُ الرَّهْنِ ) أَيْ كَالْوَكَالَةِ الْمَشْرُوطَةِ فِي عَقْدِ الرَّهْنِ بِأَنْ وَضَعَ الرَّهْنَ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ ، وَشَرْطٌ فِي الرَّهْنِ أَنْ يَكُونَ الْعَدْلُ أَوْ الْمُرْتَهِنُ مُسَلَّطًا عَلَى بَيْعِ الرَّهْنِ عِنْدَ حُلُولِ الدَّيْنِ ، فَإِنَّهُ إذَا أَرَادَ الرَّاهِنُ أَنْ يَعْزِلَ الْوَكِيلَ عَنْ الْوَكَالَةِ بِالْبَيْعِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ صَارَ حَقًّا لِلْمُرْتَهِنِ ، وَبِالْعَزْلِ يَبْطُلُ هَذَا الْحَقُّ كَمَا يَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي كِتَابِ الرَّهْنِ ، وَكَذَا إذَا تَعَلَّقَ حَقُّ الْوَكِيلِ بِعَيْنٍ مِنْ أَعْيَانِ الْمُوَكِّلِ لَا يَمْلِكُ إخْرَاجَهُ عَنْ الْوَكَالَةِ نَحْوُ إنْ أَمَرَهُ أَنْ يَبِيعَ وَيَسْتَوْفِيَ الدَّيْنَ مِنْ ثَمَنِهِ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ نَقْلًا عَنْ الذَّخِيرَةِ .
قِيلَ : مِنْ أَيْنَ وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْوَكِيلِ فِي الْخُصُومَةِ بِطَلَبٍ مِنْ جِهَةِ الطَّالِبِ وَبَيْنَ الْوَكِيلِ الَّذِي تَثْبُتُ وَكَالَتُهُ فِي ضِمْنِ عَقْدِ الرَّهْنِ حَيْثُ يَمْلِكُ الْمُوَكِّلُ فِي الْأَوَّلِ عَزْلَ الْوَكِيلِ حَالَ حَضْرَةِ الْخَصْمِ وَإِنْ لَمْ يَرْضَ بِهِ الْخَصْمُ وَلَا يَمْلِكُ فِي الثَّانِي عَزْلَهُ حَالَ حَضْرَةِ الْمُرْتَهِنِ إذَا لَمْ يَرْضَ بِهِ الْمُرْتَهِنُ مَعَ أَنَّهُ فِي

كُلٍّ مِنْهُمَا تَعَلَّقَ حَقُّ الْغَيْرِ بِوَكَالَةِ الْوَكِيلِ ، وَمَعَ وُجُودِ هَذِهِ الْمُفَارَقَةِ كَيْفَ شَبَّهَ هَذَا بِذَاكَ ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ إنَّ الْعَزْلَ لَوْ صَحَّ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ حَالَ حَضْرَةِ الطَّالِبِ لَمْ يَبْطُلْ حَقُّ الطَّالِبِ أَصْلًا لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يُخَاصِمَ الْمَطْلُوبَ .
وَأَمَّا فِي مَسْأَلَةِ الرَّهْنِ ، فَلَوْ صَحَّ الْعَزْلُ حَالَ حَضْرَةِ الْمُرْتَهِنِ بَطَلَ حَقُّهُ فِي الْبَيْعِ إذْ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُطَالِبَ الرَّاهِنَ بِالْبَيْعِ .
وَأَمَّا وَجْهُ التَّشْبِيهِ فَهُوَ تَعَلُّقُ حَقِّ الْغَيْرِ بِوَكَالَةِ الْوَكِيلِ وَبُطْلَانُ حَقِّ ذَلِكَ الْغَيْرِ عِنْدَ صِحَّةِ الْعَزْلِ فِي غَيْبَتِهِ

قَالَ ( فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْهُ الْعَزْلُ فَهُوَ عَلَى وَكَالَتِهِ وَتَصَرُّفُهُ جَائِزٌ حَتَّى يَعْلَمَ ) لِأَنَّ فِي الْعَزْلِ إضْرَارًا بِهِ مِنْ حَيْثُ إبْطَالُ وِلَايَتِهِ أَوْ مِنْ حَيْثُ رُجُوعُ الْحُقُوقِ إلَيْهِ فَيَنْقُدُ مِنْ مَالِ الْمُوَكِّلِ وَيُسَلِّمُ الْمَبِيعَ فَيَضْمَنُهُ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ ، وَيَسْتَوِي الْوَكِيلُ بِالنِّكَاحِ وَغَيْرُهُ لِلْوَجْهِ الْأَوَّلِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا اشْتِرَاطَ الْعَدَدِ أَوْ الْعَدَالَةِ فِي الْمُخْبِرِ فَلَا نُعِيدُهُ

( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْهُ الْعَزْلُ ) أَيْ فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ الْوَكِيلَ خَبَرُ عَزْلِ الْمُوَكِّلِ إيَّاهُ ( فَهُوَ عَلَى وَكَالَتِهِ وَتَصَرُّفُهُ جَائِزٌ حَتَّى يَعْلَمَ ) أَيْ حَتَّى يَعْلَمَ الْوَكِيلُ عَزْلَهُ ، وَهَذَا عِنْدَنَا وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ وَمَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأَصَحِّ : يَنْعَزِلُ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ ؛ لِأَنَّ نُفُوذَ الْوَكَالَةِ لِحَقِّ الْمُوَكِّلِ لَهُ فَهُوَ بِالْعَزْلِ يُسْقِطُ حَقَّ نَفْسِهِ ، وَالْمَرْءُ يَنْفَرِدُ بِإِسْقَاطِ حَقِّ نَفْسِهِ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ يُطَلِّقُ زَوْجَتَهُ وَيُعْتِقُ عَبْدَهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ مِنْهُمَا ، وَلِأَنَّ الْوَكَالَةَ لِلْمُوَكِّلِ لَا عَلَيْهِ ، فَلَوْ لَمْ يَنْفَرِدْ الْمُوَكِّلُ قَبْلَ عِلْمِ الْوَكِيلِ بِهِ كَانَ ذَلِكَ عَلَيْهِ مِنْ وَجْهٍ ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ .
وَلَكِنَّا نَقُولُ : الْعَزْلُ خِطَابٌ مُلْزِمٌ لِلْوَكِيلِ بِأَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ التَّصَرُّفِ ، وَحُكْمُ الْخِطَابِ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمُخَاطَبِ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ كَخِطَابِ الشَّرْعِ ، فَإِنَّ أَهْلَ قُبَاءَ كَانُوا يُصَلُّونَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالتَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ ، وَجَوَّزَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ لَمْ يَعْلَمُوا ، وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ شَرِبُوا الْخَمْرَ بَعْدَ نُزُولِ تَحْرِيمِهَا قَبْلَ عِلْمِهِمْ بِذَلِكَ ، وَفِيهِ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا } وَهَذَا لِأَنَّ الْخِطَابَ مَقْصُودٌ لِلْعَمَلِ ، وَلَا يُتَمَكَّنُ مِنْ الْعَمَلِ مَا لَمْ يُعْلَمْ بِهِ ، ثُمَّ إنَّ الْفِقْهَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ ( لِأَنَّ فِي الْعَزْلِ ) أَيْ فِي عَزْلِ الْوَكِيلِ مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ ( إضْرَارًا بِهِ ) أَيْ بِالْوَكِيلِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( مِنْ حَيْثُ إبْطَالُ وِلَايَتِهِ ) فَإِنَّ فِي إبْطَالِ وِلَايَتِهِ تَكْذِيبًا

لَهُ لِأَنَّ الْوَكِيلَ يَتَصَرَّفُ لِمُوَكِّلِهِ عَلَى ادِّعَاءِ أَنَّ لَهُ وِلَايَةَ ذَلِكَ بِالْوَكَالَةِ ، وَفِي عَزْلِهِ مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ تَكْذِيبٌ لَهُ فِيمَا ادَّعَاهُ لِبُطْلَانِ وِلَايَتِهِ بِالْعَزْلِ ، وَتَكْذِيبُ الْإِنْسَانِ فِيمَا يَقُولُ ضَرَرٌ عَلَيْهِ لَا مَحَالَةَ .
وَالثَّانِي مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( أَوْ مِنْ حَيْثُ رُجُوعُ الْحُقُوقِ إلَيْهِ ) أَيْ إلَى الْوَكِيلِ فَإِنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِيهَا بِنَاءً عَلَى رُجُوعِهَا إلَيْهِ ( فَيَنْقُدُ مِنْ مَالِ الْمُوَكِّلِ ) إنْ كَانَ وَكِيلًا بِالشِّرَاءِ ( وَيُسَلِّمُ الْمَبِيعَ ) إنْ كَانَ وَكِيلًا بِالْبَيْعِ ، فَلَوْ كَانَ مَعْزُولًا قَبْلَ الْعِلْمِ كَانَ التَّصَرُّفُ وَاقِعًا لَهُ ( فَيَضْمَنُهُ ) أَيْ فَيَضْمَنُ مَا نَقَدَهُ وَمَا سَلَّمَهُ ( فَيَتَضَرَّرُ بِهِ ) وَالضَّرَرُ مَدْفُوعٌ شَرْعًا .
ثُمَّ إنَّ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ عَامٌّ يَشْمَلُ جَمِيعَ التَّصَرُّفَاتِ مِنْ النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ .
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي فَمُخْتَصٌّ بِالتَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَرْجِعُ فِيهَا الْحُقُوقُ إلَى الْوَكِيلِ دُونَ الْمُوَكِّلِ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَنَحْوِهِمَا .
وَعَنْ هَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَيَسْتَوِي الْوَكِيلُ بِالنِّكَاحِ وَغَيْرِهِ لِلْوَجْهِ الْأَوَّلِ ) يَعْنِي أَنَّ الْوَكِيلَ بِالنِّكَاحِ وَغَيْرِهِ سِيَّانِ فِي الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ عَدَمُ انْعِزَالِ الْوَكِيلِ قَبْلَ الْعِلْمِ بِالْعَزْلِ نَظَرًا إلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ .
وَفِي الذَّخِيرَةِ : وَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ إذَا عَزَلَ نَفْسَهُ لَا يَصِحُّ عَزْلُهُ مِنْ غَيْرِ عِلْمِ الْمُوَكِّلِ وَلَا يَخْرُجُ عَنْ الْوَكَالَةِ انْتَهَى .
وَهَكَذَا ذُكِرَ فِي سَائِرِ مُعْتَبَرَاتِ الْفَتَاوَى .
قَالَ فِي الْمُحِيطِ الْبُرْهَانِيِّ : وَإِذَا جَحَدَ الْمُوَكِّلُ الْوَكَالَةَ وَقَالَ لَمْ أُوَكِّلْهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَزْلًا ، هَكَذَا ذُكِرَ فِي الْأَجْنَاسِ فِي مَسَائِلِ الْبُيُوعِ ، وَفِي مَسَائِلِ الْغَصْبِ مِنْ الْأَجْنَاسِ أَيْضًا : إذَا قَالَ اشْهَدُوا أَنِّي لَمْ أُوَكِّلْ فُلَانًا فَهَذَا كَذِبٌ وَهُوَ وَكِيلٌ لَا يَنْعَزِلُ ، وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا ذَكَرُوا فِي

شُرُوحِهِمْ أَنَّ جُحُودَ الْمُوَكِّلِ الْوَكَالَةَ عَزْلٌ لِلْوَكِيلِ .
وَذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي شَرْحِ كِتَابِ الشَّرِكَةِ أَنَّ جُحُودَ مَا عَدَا النِّكَاحَ فَسْخٌ لَهُ انْتَهَى .
وَهَكَذَا ذُكِرَ فِي الذَّخِيرَةِ أَيْضًا .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَقَدْ ذَكَرْنَا اشْتِرَاطَ الْعَدَدِ أَوْ الْعَدَالَةِ فِي الْمُخْبِرِ ) أَشَارَ بِهِ إلَى مَا ذَكَرَهُ فِي فَصْلِ الْقَضَاءِ بِالْمَوَارِيثِ مِنْ كِتَابِ أَدَبِ الْقَاضِي بِقَوْلِهِ وَلَا يَكُونُ النَّهْيُ عَنْ الْوَكَالَةِ حَتَّى يَشْهَدَ عِنْدَهُ شَاهِدَانِ أَوْ رَجُلٌ عَدْلٌ إلَخْ ( فَلَا نُعِيدُهُ ) لِعَدَمِ الِاحْتِيَاجِ إلَى الْإِعَادَةِ .
اعْلَمْ أَنَّ الْوَكَالَةَ تَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا عَدْلًا كَانَ أَوْ فَاسِقًا ، وَرَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً ، صَبِيًّا كَانَ أَوْ بَالِغًا ، وَكَذَلِكَ الْعَزْلُ عِنْدَهُمَا ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَثْبُتُ الْعَزْلُ إلَّا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ أَوْ بِخَبَرِ الِاثْنَيْنِ إذَا لَمْ يَكُونَا عَدْلَيْنِ .
ثُمَّ إنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْخَبَرُ عَلَى وَجْهِ الرِّسَالَةِ .
وَأَمَّا إذَا كَانَ عَلَى وَجْهِهَا فَيَثْبُتُ بِهِ الْعَزْلُ بِالِاتِّفَاقِ ، كَائِنًا مَنْ كَانَ الرَّسُولُ ، عَدْلًا كَانَ أَوْ غَيْرَ عَدْلٍ ، حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا ، صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْبَدَائِعِ .
وَقَالَ فِي تَعْلِيلِهِ : لِأَنَّ الرَّسُولَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُرْسِلِ وَسَفِيرٌ عَنْهُ فَتَصِحُّ سِفَارَتُهُ بَعْدَ أَنْ صَحَّتْ عِبَارَتُهُ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَ

.
قَالَ ( وَتَبْطُلُ الْوَكَالَةُ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ وَجُنُونِهِ جُنُونًا مُطْبِقًا وَلَحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا ) لِأَنَّ التَّوْكِيلَ تَصَرُّفٌ غَيْرُ لَازِمٍ فَيَكُونُ لِدَوَامِهِ حُكْمُ ابْتِدَائِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ قِيَامِ الْأَمْرِ وَقَدْ بَطَلَ بِهَذِهِ الْعَوَارِضِ ، وَشَرْطٌ أَنْ يَكُونَ الْجُنُونُ مُطْبِقًا لِأَنَّ قَلِيلَهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِغْمَاءِ ، وَحَدُّ الْمُطْبِقِ شَهْرٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ اعْتِبَارًا بِمَا يَسْقُطُ بِهِ الصَّوْمُ .
وَعَنْهُ أَكْثَرُ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِأَنَّهُ تَسْقُطُ بِهِ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ فَصَارَ كَالْمَيِّتِ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : حَوْلٌ كَامِلٌ لِأَنَّهُ يَسْقُطُ بِهِ جَمِيعُ الْعِبَادَاتِ فَقَدَّرَ بِهِ احْتِيَاطًا .
قَالُوا : الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ فِي اللَّحَاقِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ مَوْقُوفَةٌ عِنْدَهُ فَكَذَا وَكَالَتُهُ فَإِنْ أَسْلَمَ نَفَذَ ، وَإِنْ قُتِلَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ ، فَأَمَّا عِنْدَهُمَا تَصَرُّفَاتُهُ نَافِذَةٌ فَلَا تَبْطُلُ وَكَالَتُهُ إلَّا أَنْ يَمُوتَ أَوْ يُقْتَلَ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ يُحْكَمَ بِلَحَاقِهِ وَقَدْ مَرَّ فِي السِّيَرِ

( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( وَتَبْطُلُ الْوَكَالَةُ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ وَجُنُونِهِ جُنُونًا مُطْبِقًا ) بِالْبَاءِ الْمَسْكُورَةِ : أَيْ دَائِمًا ، وَمِنْهُ الْحُمَّى الْمُطْبِقَةُ : أَيْ الدَّائِمَةُ الَّتِي لَا تُفَارِقُ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا ، وَقِيلَ مُطْبِقًا : أَيْ مُسْتَوْعِبًا ، مِنْ أَطْبَقَ الْغَيْمُ السَّمَاءَ ، إذَا اسْتَوْعَبَهَا ( وَلَحَاقِهِ ) بِفَتْحِ اللَّامِ : أَيْ وَتَبْطُلُ بِلَحَاقِ الْمُوَكِّلِ ( بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا ) وَفِي الذَّخِيرَةِ قَالُوا : مَا ذُكِرَ مِنْ الْجَوَابِ فِي الْجُنُونِ الْمُطْبِقِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا كَانَتْ الْوَكَالَةُ غَيْرَ لَازِمَةٍ بِحَيْثُ يَمْلِكُ الْمُوَكِّلُ الْعَزْلَ فِي كُلِّ سَاعَةٍ وَزَمَانٍ كَالْوَكِيلِ بِالْخُصُومَةِ مِنْ جَانِبِ الطَّالِبِ ، وَأَمَّا إذَا كَانَتْ الْوَكَالَةُ لَازِمَةً بِحَيْثُ لَا يَمْلِكُ الْمُوَكِّلُ الْعَزْلَ كَالْعَدْلِ إذَا سُلِّطَ عَلَى بَيْعِ الرَّهْنِ وَكَانَ التَّسْلِيطُ مَشْرُوطًا فِي عَقْدِ الرَّهْنِ فَلَا يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ بِجُنُونِ الْمُوَكِّلِ وَإِنْ كَانَ الْجُنُونُ مُطْبِقًا ، وَهَذَا لِأَنَّ الْوَكَالَةَ إذَا كَانَتْ غَيْرَ لَازِمَةٍ يَكُونُ لِبَقَائِهَا حُكْمُ الْإِنْشَاءِ ، وَلَوْ أَنْشَأَ الْمُوَكِّلُ الْوَكَالَةَ بَعْدَمَا جُنَّ جُنُونًا مُطْبِقًا لَا يَصِحُّ ، فَكَذَا لَا تَبْقَى الْوَكَالَةُ إذَا صَارَ الْمُوَكِّلُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ .
وَأَمَّا إذَا كَانَتْ الْوَكَالَةُ لَازِمَةً بِحَيْثُ لَا يَقْدِرُ الْمُوَكِّلُ عَلَى عَزْلِهِ لَا يَكُونُ لِبَقَاءِ الْوَكَالَةِ حُكْمُ الْإِنْشَاءِ ، وَكَانَ الْوَكِيلُ فِي هَذِهِ الْوَكَالَةِ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِكِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْمُوَكِّلُ عَزْلَهُ .
وَمَنْ مَلَكَ شَيْئًا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى ثُمَّ جُنَّ الْمُمَلِّكُ فَإِنَّهُ لَا يَبْطُلُ مِلْكُهُ ، كَمَا لَوْ مَلَكَ عَيْنًا فَكَذَا إذَا مَلَكَ التَّصَرُّفَ ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ إذَا جَعَلَ أَمْرَ امْرَأَتِهِ بِيَدِهَا ثُمَّ جُنَّ الزَّوْجُ لَا يَبْطُلُ الْأَمْرُ انْتَهَى ، وَفِي غَايَةِ الْبَيَانِ قَالَ فِي التَّتِمَّةِ وَالْفَتَاوَى الصُّغْرَى : وَهَذَا كُلُّهُ فِي مَوْضِعٍ يَمْلِكُ الْمُوَكِّلُ عَزْلَهُ ، أَمَّا فِي

مَوْضِعٍ لَا يَمْلِكُ عَزْلَهُ كَالْعَدْلِ فِي بَابِ الرَّهْنِ وَالْأَمْرِ بِالْيَدِ لِلْمَرْأَةِ فَإِنَّهُ لَا يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ وَجُنُونِهِ ، وَالْوَكِيلُ بِالْخُصُومَةِ بِالْتِمَاسِ الْخَصْمِ يَنْعَزِلُ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ وَجُنُونِهِ ، وَالْوَكِيلُ بِالطَّلَاقِ يَنْعَزِلُ بِجُنُونِ الْمُوَكِّلِ اسْتِحْسَانًا وَلَا يَنْعَزِلُ قِيَاسًا انْتَهَى .
أَقُولُ : فِي الْمَنْقُولِ عَنْ التَّتِمَّةِ وَالْفَتَاوَى الصُّغْرَى إشْكَالٌ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ عِبَارَتِهِ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِالْيَدِ لِلْمَرْأَةِ مِنْ بَابِ التَّوْكِيلِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ مِنْ بَابِ التَّمْلِيكِ لَا التَّوْكِيلِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ فِي بَابِ تَفْوِيضِ الطَّلَاقِ مِنْ كِتَابِ الطَّلَاقِ ، بِخِلَافِ عِبَارَةِ الذَّخِيرَةِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْمُتَأَمِّلِ .
ثُمَّ أَقُولُ : فِيمَا بَقِيَ هَاهُنَا شَيْءٌ ، وَهُوَ أَنَّ تَقْسِيمَهُمْ الْوَكَالَةَ عَلَى اللَّازِمَةِ وَغَيْرِ اللَّازِمَةِ وَحَمْلَهُمْ الْجَوَابَ فِي الْجُنُونِ الْمُطْبِقِ عَلَى الثَّانِيَةِ دُونَ الْأُولَى يُنَافِي مَا ذَكَرُوا فِي صَدْرِ كِتَابِ الْوَكَالَةِ مِنْ أَنَّ صِفَةَ الْوَكَالَةِ هِيَ أَنَّهَا عَقْدٌ جَائِزٌ غَيْرُ لَازِمٍ حَتَّى يَمْلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُوَكِّلِ وَالْوَكِيلِ الْعَزْلَ بِدُونِ رِضَا صَاحِبِهِ ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمَذْكُورَ هُنَاكَ صِفَتُهَا الْعَامَّةُ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِهَا ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ : الْأَصْلُ فِي الْوَكَالَةِ عَدَمُ اللُّزُومِ ، وَاللُّزُومُ فِي أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ لِعَارِضٍ وَهُوَ تَعَلُّقُ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ عَلَى عَكْسِ مَا قَالُوا فِي الْبَيْعِ بِالْخِيَارِ كَمَا سَيَأْتِي فَتَأَمَّلْ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ ( لِأَنَّ التَّوْكِيلَ تَصَرُّفٌ غَيْرُ لَازِمٍ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي تَعْلِيلِ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ : إذْ اللُّزُومُ عِبَارَةٌ عَمَّا يَتَوَقَّفُ وُجُودُهُ عَلَى الرِّضَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، وَهَاهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَنْفَرِدُ فِي فَسْخِهَا ، فَإِنَّ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَمْنَعَ نَفْسَهُ عَنْ الْوَكَالَةِ

وَلِلْمُوَكِّلِ أَنْ يَمْنَعَ الْوَكِيلَ عَنْهَا انْتَهَى .
وَقَدْ سَبَقَهُ تَاجُ الشَّرِيعَةِ إلَى هَذَا التَّعْلِيلِ .
أَقُولُ : فِيهِ خَلَلٌ ؛ لِأَنَّ تَوَقُّفَ الْوُجُودِ عَلَى الرِّضَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ مُتَحَقِّقٌ فِي كُلِّ عَقْدٍ لَازِمًا كَانَ أَوْ غَيْرَ لَازِمٍ ، وَإِنَّمَا اللَّازِمُ مَا يَتَوَقَّفُ فَسْخُهُ عَلَى الرِّضَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ ؛ فَقَوْلُهُمَا إذًا لِلُّزُومِ عِبَارَةٌ عَمَّا يَتَوَقَّفُ وُجُودُهُ عَلَى الرِّضَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ .
وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ : إذْ التَّصَرُّفُ اللَّازِمُ عِبَارَةٌ عَمَّا يَتَوَقَّفُ فَسْخُهُ عَلَى الرِّضَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَهَاهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ ( فَيَكُونُ لِدَوَامِهِ ) أَيْ لِدَوَامِ التَّوْكِيلِ ( حُكْمُ ابْتِدَائِهِ ) لِأَنَّ التَّصَرُّفَ إذَا كَانَ غَيْرَ لَازِمٍ كَانَ الْمُتَصَرِّفُ بِسَبِيلٍ مِنْ فَسْخِهِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ مِنْ لَحَظَاتِ دَوَامِهِ ، فَلَمَّا لَمْ يَنْفَسِخْ جُعِلَ امْتِنَاعُهُ عَنْ الْفَسْخِ عِنْدَ تَمَكُّنِهِ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ تَصَرُّفٍ آخَرَ مِنْ جِنْسِهِ إنْزَالًا لِلْمُتَمَكِّنِ مَكَانَ الْمُبْتَدِئِ وَالْمُنْشِئِ كَمَا قَالُوا فِي قَوْله تَعَالَى { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى } فَصَارَ كَأَنَّهُ يَتَجَدَّدُ عَقْدُ الْوَكَالَةِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ فَيَنْتَهِي ، فَكَانَ كُلُّ جُزْءٍ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ ( فَلَا بُدَّ مِنْ قِيَامِ الْأَمْرِ ) أَيْ فَلَا بُدَّ مِنْ قِيَامِ أَمْرِ الْمُوَكِّلِ بِالتَّوْكِيلِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ إذَا كَانَ لَا بُدَّ مِنْ أَمْرِهِ بِذَلِكَ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ ، فَكَذَا فِيمَا هُوَ بِمَنْزِلَتِهِ ( وَقَدْ بَطَلَ ) أَيْ أَمْرُ الْمُوَكِّلِ ( بِهَذِهِ الْعَوَارِضِ ) وَهِيَ الْمَوْتُ وَالْجُنُونُ وَالِارْتِدَادُ .
فَإِنْ قِيلَ : الْبَيْعُ بِالْخِيَارِ غَيْرُ لَازِمٍ وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ بِالْمَوْتِ بَلْ يَتَقَرَّرُ وَيَبْطُلُ الْخِيَارُ .
قُلْنَا : الْأَصْلُ فِي الْبَيْعِ اللُّزُومُ وَعَدَمُ اللُّزُومِ بِسَبَبِ الْعَارِضِ وَهُوَ الْخِيَارُ ، فَإِذَا مَاتَ تَقَرَّرَ الْأَصْلُ وَبَطَلَ الْعَارِضُ ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ ( وَشَرْطٌ ) أَيْ شَرْطٌ فِي

بُطْلَانِ الْوَكَالَةِ ( أَنْ يَكُونَ الْجُنُونُ مُطْبِقًا لِأَنَّ قَلِيلَهُ ) أَيْ قَلِيلَ الْجُنُونِ ( بِمَنْزِلَةِ الْإِغْمَاءِ ) فَلَا تَبْطُلُ بِهِ الْوَكَالَةُ لَا تَبْطُلُ بِالْإِغْمَاءِ ( وَحَدُّ الْمُطْبِقِ ) أَيْ حَدُّ الْجُنُونِ الْمُطْبِقِ ( شَهْرٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ) وَرَوَى ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ( اعْتِبَارًا بِمَا يَسْقُطُ بِهِ الصَّوْمُ ) أَيْ صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ .
وَقَالَ فِي الْوَاقِعَاتِ الْحُسَامِيَّةِ فِي بَابِ الْبُيُوعِ الْجَائِزَةِ : وَالْمُخْتَارُ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِالشَّهْرِ ؛ لِأَنَّ مَا دُونَ الشَّهْرِ فِي حُكْمِ الْعَاجِلِ فَكَانَ قَصِيرًا ، وَالشَّهْرُ فَصَاعِدًا فِي حُكْمِ الْآجِلِ فَكَانَ طَوِيلًا ( وَعَنْهُ ) أَيْ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ( أَكْثَرُ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِأَنَّهُ تَسْقُطُ بِهِ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ فَصَارَ ) أَيْ فَصَارَ مَنْ جُنَّ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ ( كَالْمَيِّتِ ) فَلَا يَصْلُحُ لِلْوَكَالَةِ ( وَقَالَ مُحَمَّدٌ : حَوْلٌ كَامِلٌ ) قَالَ النَّاطِفِيُّ فِي الْأَجْنَاسِ : قَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ : قَالَ مُحَمَّدٌ فِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ : حَتَّى يُجَنَّ يَوْمًا وَلَيْلَةً فَيَخْرُجَ الْوَكِيلُ مِنْ الْوَكَالَةِ ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ : حَتَّى يُجَنَّ شَهْرًا ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ : حَتَّى يُجَنَّ سَنَةً ( لِأَنَّهُ يَسْقُطُ بِهِ ) أَيْ بِالْحَوْلِ الْكَامِلِ ( جَمِيعُ الْعِبَادَاتِ ) وَأَمَّا دُونَ الْحَوْلِ فَلَا تَسْقُطُ بِهِ الزَّكَاةُ لِأَنَّ وُجُوبَهَا مُقَدَّرٌ بِالْحَوْلِ فَلَا يَكُونُ فِي مَعْنَى الْمَوْتِ ( فَقُدِّرَ بِهِ ) أَيْ فَقُدِّرَ حَدُّ الْجُنُونِ الْمُطْبِقِ بِالْحَوْلِ الْكَامِلِ ( احْتِيَاطًا ) قَالَ فِي الْكَافِي : وَهُوَ الصَّحِيحُ ، وَكَذَا قَالَ فِي التَّبْيِينِ ( قَالُوا ) أَيْ الْمَشَايِخُ ( الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ فِي اللَّحَاقِ ) أَيْ الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ فِي اللَّحَاقِ فِي مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ ، وَهُوَ مَا ذُكِرَ قَبْلَ هَذَا بِقَوْلِهِ : وَلَحَاقُهُ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا ( قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ مَوْقُوفَةٌ عِنْدَهُ فَكَذَا وَكَالَتُهُ ) قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي

بَابِ أَحْكَامِ الْمُرْتَدِّينَ مِنْ كِتَابِ السِّيَرِ : اعْلَمْ أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : نَافِذٌ بِالِاتِّفَاقِ كَالِاسْتِيلَادِ وَالطَّلَاقِ لِأَنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى حَقِيقَةِ الْمِلْكِ وَتَمَامِ الْوِلَايَةِ ، وَبَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ كَالنِّكَاحِ وَالذَّبِيحَةِ لِأَنَّهُ يَعْتَمِدُ الْمِلَّةَ وَلَا مِلَّةَ لَهُ ، وَمَوْقُوفٌ بِالِاتِّفَاقِ كَالْمُفَاوَضَةِ لِأَنَّهَا تَعْتَمِدُ الْمُسَاوَاةَ وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْمُرْتَدِّ مَا لَمْ يُسْلِمْ ، وَمُخْتَلَفٌ فِي تَوَقُّفِهِ وَهُوَ مَا عَدَّدْنَاهُ ا هـ .
وَقَالَ الشُّرَّاحُ هُنَاكَ : يَعْنِي بِقَوْلِهِ مَا عَدَّدْنَاهُ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ وَمَا بَاعَهُ أَوْ اشْتَرَاهُ أَوْ أَعْتَقَهُ أَوْ وَهَبَهُ أَوْ تَصَرَّفَ فِيهِ مِنْ أَمْوَالِهِ فِي حَالِ رِدَّتِهِ فَهُوَ مَوْقُوفٌ .
أَقُولُ : فَقَدْ تَلَخَّصَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مُرَادَهُ هَاهُنَا أَنَّ بَعْضَ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ مَوْقُوفٌ عِنْدَهُ .
فَكَذَا وَكَالَتُهُ لِكَوْنِهَا فِي حُكْمِ ذَلِكَ .
وَلَكِنَّ عِبَارَتَهُ غَيْرُ وَاضِحَةٍ فِي إفَادَةِ الْمُرَادِ ( فَإِنْ أَسْلَمَ نَفَذَ ) أَيْ فَإِنْ أَسْلَمَ الْمُرْتَدُّ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ السَّابِقُ ( وَإِنْ قُتِلَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ ، فَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَتَصَرُّفَاتُهُ نَافِذَةٌ فَلَا تَبْطُلُ وَكَالَتُهُ إلَّا أَنْ يَمُوتَ أَوْ يُقْتَلَ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ يُحْكَمَ بِلَحَاقِهِ ) حَتَّى يَسْتَقِرَّ أَمْرُ اللَّحَاقِ ( وَقَدْ مَرَّ فِي السِّيَرِ ) أَيْ مَرَّ كَوْنُ تَصَرُّفِ الْمُرْتَدِّ مَوْقُوفًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ نَافِذًا عِنْدَهُمَا مَعَ ذِكْرِ دَلِيلِ الطَّرَفَيْنِ مُسْتَوْفًى فِي بَابِ أَحْكَامِ الْمُرْتَدِّينَ مِنْ كِتَابِ السِّيَرِ .
وَاسْتَشْكَلَ صَاحِبُ التَّسْهِيلِ هَذَا الْمَقَامَ حَيْثُ قَالَ : فِيمَا نُسِبَ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ نَظَرٌ .
إذْ الْمُرْتَدُّ إذَا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يَحْكُمْ بِهِ الْحَاكِمُ حَتَّى عَادَ مُسْلِمًا صَارَ كَأَنْ لَمْ يَزَلْ مُسْلِمًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا فَكَيْفَ يَبْطُلُ تَوْكِيلُهُ وَسَائِرُ تَصَرُّفَاتِهِ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى بِذَلِكَ .
وَقَوْلُ

أَبِي حَنِيفَةَ فِي السِّيَرِ إنَّهُ حَرْبِيٌّ مَقْهُورٌ غَيْرَ أَنَّهُ يُرْجَى إسْلَامُهُ فَتَوَقَّفْنَا ، فَإِنْ أَسْلَمَ جُعِلَ الْعَارِضُ كَالْعَدَمِ وَلَمْ يَعْمَلْ السَّبَبُ ، وَإِنْ مَاتَ أَوْ لَحِقَ وَحُكِمَ بِلَحَاقِهِ اسْتَقَرَّ كُفْرُهُ فَعَمَلُ السَّبَبِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ بُطْلَانِ تَصَرُّفِهِ بِمُجَرَّدِ اللَّحَاقِ ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الْحُكْمِ بِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْمُوَكِّلِ كَذَلِكَ لَا يَبْطُلُ تَوْكِيلُهُ بِمُجَرَّدِ لَحَاقِهِ عِنْدَهُ ا هـ كَلَامُهُ .
وَأَقُولُ : هُنَا كَلَامٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْإِمَامَ قَاضِي خَانْ ذَكَرَ فِي فَتَاوَاهُ مَا يُنَافِي مَا نَقَلَهُ الْمُصَنِّفُ هَاهُنَا عَنْ الْمَشَايِخِ حَيْثُ قَالَ فِي فَصْلِ مَا يُبْطِلُهُ الِارْتِدَادُ مِنْ بَابِ الرِّدَّةِ وَأَحْكَامِ أَهْلِهَا مِنْ كِتَابِ السِّيَرِ : وَإِنْ وَكَّلَ رَجُلًا ثُمَّ ارْتَدَّ الْمُوَكِّلُ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ يَنْعَزِلُ وَكِيلُهُ فِي قَوْلِهِمْ ا هـ ، فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ فِي اللَّحَاقِ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا لَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَقَطْ .
فَإِنْ قُلْت : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِاللَّحَاقِ لِدَارِ الْحَرْبِ فِيمَا ذُكِرَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ أَنْ يَحْكُمَ الْحَاكِمُ بِلَحَاقِهِ بِهَا .
قُلْت : ظَاهِرُ اللَّفْظِ لَا يُسَاعِدُ ذَلِكَ .
فَإِنْ جَازَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ بِدَلَالَةِ الْقَرَائِنِ وَالْقَوَاعِدِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ أَيْضًا حَتَّى تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ إجْمَاعِيَّةً وَيَتَلَخَّصُ عَنْ التَّكَلُّفِ الَّذِي ارْتَكَبُوهُ فِي تَخْصِيصِهَا بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ .
ثُمَّ أَقُولُ : الْحَقُّ عِنْدِي أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ اللَّحَاقُ مَعَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِهِ دُونَ مُجَرَّدِ اللَّحَاقِ فَالْمَسْأَلَةُ إجْمَاعِيَّةٌ ، وَعَنْ هَذَا قَالَ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ مِنْ الْكَنْزِ : وَالْمُرَادُ بِلَحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا أَنْ يَحْكُمَ الْحَاكِمُ بِلَحَاقِهِ ؛ لِأَنَّ لَحَاقَهُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ ، فَإِذَا حَكَمَ بِهِ بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ بِالْإِجْمَاعِ ا هـ .

وَمِمَّا يُؤَيِّدُ كَوْنَ الْمُرَادِ بِاللَّحَاقِ الْمُبْطِلِ لِلْوَكَالَةِ اللَّحَاقُ مَعَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِهِ دُونَ مُجَرَّدِ اللَّحَاقِ أَنَّ أَسَاطِينَ الْمَشَايِخِ قَيَّدُوا اللَّحَاقَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِهِ عِنْدَ بَيَانِهِمْ بُطْلَانَ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِالْمَوْتِ وَالْقَتْلِ وَاللَّحَاقِ بِدَارِ الْحَرْبِ ، مِنْهُمْ صَاحِبُ الْمُحِيطِ ؛ فَإِنَّهُ قَالَ بِصَدَدِ بَيَانِ الْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ لِتَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ وَنَوْعٌ مِنْهَا اخْتَلَفُوا فِي نَفَاذِهِ وَتَوَقُّفِهِ وَذَلِكَ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْإِجَارَةِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْكِتَابَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَقَبْضِ الدُّيُونِ ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تُوقَفُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ ، فَإِنْ أَسْلَمَ تَنْفُذُ ، وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَقَضَى الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ تَبْطُلُ ، وَعِنْدَهُمَا تَنْفُذُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ ا هـ .
وَمِنْهُمْ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي فَتَاوَاهُ أَثْنَاءَ بَيَانِ الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ لِتَصَرُّفِ الْمُرْتَدِّ : وَمِنْهَا مَا اخْتَلَفُوا فِي تَوَقُّفِهِ نَحْوِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْإِجَارَةِ وَالْإِعْتَاقِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْكِتَابَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَقَبْضِ الدُّيُونِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ : هَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ مَوْقُوفَةٌ ، فَإِنْ أَسْلَمَ نَفَذَتْ ، وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ أَوْ قُضِيَ بِلَحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ تَبْطُلُ ، وَعِنْدَ صَاحِبَيْهِ تَنْفُذُ فِي الْحَالِ ا هـ .
إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الثِّقَاتِ ، حَتَّى أَنَّ صَاحِبَ الْوِقَايَةِ قَالَ فِي بَابِ الْمُرْتَدِّ : وَتُوقَفُ مُفَاوَضَتُهُ وَبَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ وَهِبَتُهُ وَإِجَارَتُهُ وَتَدْبِيرُهُ وَوَصِيَّتُهُ ، إنْ أَسْلَمَ نَفَذَ ، وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ أَوْ لَحِقَ وَحُكِمَ بِهِ بَطَلَ ا هـ

وَإِنْ كَانَ الْمُوَكِّلُ امْرَأَةً فَارْتَدَّتْ فَالْوَكِيلُ عَلَى وَكَالَتِهِ حَتَّى تَمُوتَ أَوْ تَلْحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ لِأَنَّ رِدَّتَهَا لَا تُؤَثِّرُ فِي عُقُودِهَا عَلَى مَا عُرِفَ

( وَإِنْ كَانَ الْمُوَكِّلُ امْرَأَةً فَارْتَدَّتْ فَالْوَكِيلُ عَلَى وَكَالَتِهِ ) أَيْ بِالْإِجْمَاعِ ( حَتَّى تَمُوتَ أَوْ تَلْحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ لِأَنَّ رِدَّتَهَا لَا تُؤَثِّرُ فِي عُقُودِهَا ) لِأَنَّهَا لَا تُقْتَلُ ( عَلَى مَا عُرِفَ ) فِي السِّيَرِ .
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بَعْدَ نَقْلِ هَذَا مِنْ الْهِدَايَةِ : وَيُعْلَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ الرَّجُلَ الْمُوَكِّلَ إذَا ارْتَدَّ تَبْطُلُ وَكَالَتُهُ بِمُجَرَّدِ الِارْتِدَادِ بِدُونِ اللَّحَاقِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ فِي قَوْلِهِ السَّابِقِ وَارْتِدَادُهُ بَدَلُ قَوْلِهِ " وَلَحَاقُهُ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا " انْتَهَى .
أَقُولُ : هَذَا خَبْطٌ مِنْهُ ، فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ فَالْوَكِيلُ عَلَى وَكَالَتِهِ حَتَّى تَمُوتَ أَوْ تَلْحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ أَنَّ وَكَالَتَهُ لَا تَبْطُلُ قَبْلَ مَوْتِ مُوَكِّلَتِهِ الْمُرْتَدَّةِ أَوْ لُحُوقِهَا بِدَارِ الْحَرْبِ ، وَأُخِذَ مِنْهُ بِطَرِيقِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ أَنَّ الرَّجُلَ الْمُوَكِّلَ إذَا ارْتَدَّ تَبْطُلُ وَكَالَتُهُ بِمُجَرَّدِ الِارْتِدَادِ بِدُونِ اللَّحَاقِ ، وَلَيْسَ مُرَادُهُ ذَلِكَ ، بَلْ مُرَادُهُ أَنَّ تَصَرُّفَ الْوَكِيلِ نَافِذٌ قَبْلَ مَوْتِ مُوَكِّلَتِهِ الْمُرْتَدَّةِ أَوْ لُحُوقِهَا بِدَارِ الْحَرْبِ بِالْإِجْمَاعِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمُوَكِّلُ رَجُلًا فَارْتَدَّ فَإِنَّ تَصَرُّفَ الْوَكِيلِ لَيْسَ بِنَافِذٍ هُنَاكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بَعْدَ ارْتِدَادِ مُوَكِّلِهِ ، بَلْ هُوَ مَوْقُوفٌ عِنْدَهُ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ فَافْتَرَقَا .
وَأَمَّا بُطْلَانُ الْوَكَالَةِ فَلَا يَتَحَقَّقُ فِي الصُّورَتَيْنِ مَعًا قَبْلَ الْمَوْتِ أَوْ اللُّحُوقِ بِدَارِ الْحَرْبِ فَانْتَظَمَ السِّبَاقُ وَاللَّحَاقُ .
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ كَوْنَ الْوَكِيلِ عَلَى وَكَالَتِهِ فِي صُورَةِ إنْ كَانَ الْمُوَكِّلُ امْرَأَةً فَارْتَدَّتْ فِيمَا خَلَا التَّوْكِيلَ بِالتَّزْوِيجِ فَإِنَّ رِدَّتَهَا تُخْرِجُ الْوَكِيلَ بِالتَّزْوِيجِ مِنْ الْوَكَالَةِ لِأَنَّهَا حِينَ كَانَتْ مَالِكَةً لِلْعَقْدِ وَقْتَ التَّوْكِيلِ تَثْبُتُ الْوَكَالَةُ فِي الْحَالِ ، ثُمَّ بِرِدَّتِهَا تَخْرُجُ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَالِكَةً

لِلْعَقْدِ فَيَكُونُ ذَلِكَ عَزْلًا مِنْهَا لِوَكِيلِهَا ، فَبَعْدَمَا انْعَزَلَ لَا يَعُودُ وَكِيلًا إلَّا بِالتَّجْدِيدِ ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ .
وَذُكِرَ فِي الشُّرُوحِ

قَالَ ( وَإِذَا وَكَّلَ الْمُكَاتَبُ ثُمَّ عَجَزَ أَوْ الْمَأْذُونُ لَهُ ثُمَّ حُجِرَ عَلَيْهِ أَوْ الشَّرِيكَانِ فَافْتَرَقَا ، فَهَذِهِ الْوُجُوهُ تُبْطِلُ الْوَكَالَةَ عَلَى الْوَكِيلِ ، عَلِمَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ ) لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ بَقَاءَ الْوَكَالَةِ يَعْتَمِدُ قِيَامَ الْأَمْرِ وَقَدْ بَطَلَ بِالْحَجْرِ وَالْعَجْزِ وَالِافْتِرَاقِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَعَدَمِهِ لِأَنَّ هَذَا عَزْلٌ حُكْمِيٌّ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ كَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ إذَا بَاعَهُ الْمُوَكِّلُ .

( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( وَإِذَا وَكَّلَ الْمُكَاتَبُ ثُمَّ عَجَزَ ) أَيْ عَجَزَ عَنْ أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَعَادَ إلَى الرِّقِّ ( أَوْ الْمَأْذُونُ لَهُ ) أَيْ أَوْ وَكَّلَ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَهُ ( ثُمَّ حُجِرَ عَلَيْهِ ) أَيْ عَلَى الْمَأْذُونِ لَهُ وَكَانَ التَّوْكِيلُ فِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ بِالْعُقُودِ أَوْ الْخُصُومَات ( أَوْ الشَّرِيكَانِ ) أَيْ أَوْ وَكَّلَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ ثَالِثًا بِشَيْءٍ مِمَّا لَمْ يَلِهِ بِنَفْسِهِ ( فَافْتَرَقَا ) أَيْ فَافْتَرَقَ الشَّرِيكَانِ بَعْدَ التَّوْكِيلِ ( فَهَذِهِ الْوُجُوهُ ) أَيْ الْعَجْزُ وَالْحَجْرُ وَالِافْتِرَاقُ ( تُبْطِلُ الْوَكَالَةَ عَلَى الْوَكِيلِ عَلِمَ ) .
أَيْ عَلِمَ الْوَكِيلُ بِذَلِكَ ( أَوْ لَمْ يَعْلَمْ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ بَقَاءَ الْوَكَالَةِ يَعْتَمِدُ قِيَامَ الْأَمْرِ وَقَدْ بَطَلَ ) أَيْ قِيَامُ الْأَمْرِ ( بِالْحَجْرِ ) فِي الْمَأْذُونِ لَهُ ( وَالْعَجْزُ ) فِي الْمُكَاتَبِ ( وَالِافْتِرَاقُ ) فِي الشَّرِيكَيْنِ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ تَوْكِيلُ الْمُكَاتَبِ أَوْ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ أَوْ التَّقَاضِي فَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ التَّوْكِيلُ بِعَجْزِ الْمُكَاتَبِ وَلَا بِالْحَجْرِ عَلَى الْمَأْذُونِ لَهُ ؛ لِأَنَّ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَلِيَهُ الْعَبْدُ لَا تَسْقُطُ الْمُطَالَبَةُ عَنْهُ بِالْحَجْرِ عَلَيْهِ بَلْ يَبْقَى هُوَ مُطَالِبًا بِإِيفَائِهِ ، وَلَهُ وِلَايَةُ مُطَالَبَةِ اسْتِيفَاءِ مَا وَجَبَ لَهُ لِأَنَّ وُجُوبَهُ كَانَ بِعَقْدِهِ ، فَإِذَا بَقِيَ حَقُّهُ بَقِيَ وَكِيلُهُ عَلَى الْوَكَالَةِ كَمَا لَوْ وَكَّلَهُ ابْتِدَاءً بَعْدَ الْعَجْزِ أَوْ الْحَجْرِ بَعْدَ انْعِقَادِ الْعَقْدِ بِمُبَاشَرَةٍ ، وَكَذَا إذَا وَكَّلَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ وَكِيلًا بِشَيْءٍ هُوَ وَلِيَهُ ثُمَّ افْتَرَقَا وَاقْتَسَمَا وَأَشْهَدَا أَنَّهُ لَا شَرِكَةَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ أَمْضَى الْوَكِيلُ مَا وُكِّلَ بِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَوْ لَا يَعْلَمُ جَازَ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا ؛ لِأَنَّ تَوْكِيلَ أَحَدِهِمَا فِي حَالِ بَقَاءِ عَقْدِ الْمُفَاوَضَةِ كَتَوْكِيلِهِمَا فَصَارَ وَكِيلًا مِنْ جِهَتِهِمَا جَمِيعًا فَلَا يَنْعَزِلُ بِنَقْضِهِمَا الشَّرِكَةَ

بَيْنَهُمَا ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ هَذَا عَنْ الْمَبْسُوطِ : وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : هَذَا لَا يَفْصِلُ بَيْنَ مَا وَلِيَهُ وَبَيْنَ مَا لَمْ يَلِهِ ، فَمَا الْفَارِقُ ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ أَحَدَ الْمُتَفَاوِضَيْنِ إذَا وُكِّلَ فِيمَا وَلِيَهُ كَانَ لِتَوْكِيلِهِ جِهَتَانِ : جِهَةُ مُبَاشَرَتِهِ ، وَجِهَةُ كَوْنِهِ شَرِيكًا ، فَإِنْ بَطَلَتْ جِهَةُ كَوْنِهِ شَرِيكًا بِفَسْخِ الشَّرِكَةِ لَمْ تَبْطُلْ الْأُخْرَى وَهِيَ مُسْتَنِدَةٌ إلَى حَالِ الْمُفَاوَضَةِ ، وَتَوْكِيلُ أَحَدِهِمَا فِيهَا كَتَوْكِيلِهِمَا فَتَبْقَى فِي حَقِّهِمَا ، وَإِذَا وُكِّلَ فِيمَا لَمْ يَلِهِ كَانَ لِتَوْكِيلِهِ جِهَةُ كَوْنِهِ شَرِيكًا لَا غَيْرُ قَدْ بَطَلَتْ بِفَسْخِ الشَّرِكَةِ فَتَبْطُلُ فِي حَقِّهِمَا جَمِيعًا إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ إذَا وَكَّلَ أَحَدُ شَرِيكَيْ الْعِنَانِ وَكِيلًا بِبَيْعِ شَيْءٍ مِنْ شَرِكَتِهِمَا جَازَ عَلَيْهِ وَعَلَى صَاحِبِهِ اسْتِحْسَانًا ، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ وَكِيلٌ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِهِ فِي التَّصَرُّفِ ، وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ إذَا لَمْ يَأْمُرْهُ الْمُوَكِّلُ بِذَلِكَ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ كُلًّا مِنْ الشَّرِيكَيْنِ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ بِمَنْزِلَةِ وَكِيلٍ فُوِّضَ الْأَمْرُ إلَيْهِ عَلَى الْعُمُومِ ، لِأَنَّ مَقْصُودَهُمَا تَحْصِيلُ الرِّبْحِ وَذَلِكَ قَدْ لَا يَحْصُلُ بِتَصَرُّفٍ وَاحِدٍ فَصَارَ مَأْذُونًا مِنْ جِهَةِ صَاحِبِهِ بِالتَّوْكِيلِ .
قَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ : قَالَ الشَّيْخُ أَبُو نَصْرٍ الْبَغْدَادِيُّ : وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ جَمِيعُهُ جَارٍ عَلَى الْأَصْلِ إلَّا فِي الشَّرِيكَيْنِ .
وَفِيمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكِتَابِ نَظَرٌ .
إلَى هُنَا لَفْظُهُ ، يَعْنِي أَنَّ أَحَدَ شَرِيكَيْ الْعِنَانِ أَوْ الْمُفَاوَضَةِ إذَا وَكَّلَ وَكِيلًا ثُمَّ افْتَرَقَا بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ خِلَافُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى ؛ أَلَا يَرَى إلَى مَا قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ : وَإِذَا وَكَّلَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ وَكِيلًا بِشَيْءٍ

مِمَّا ذَكَرْت لَك وَهُوَ الَّذِي وَلِيَ ذَلِكَ ثُمَّ افْتَرَقَا وَاقْتَسَمَا وَأَشْهَدَا أَنَّهُ لَا شَرِكَةَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ إنَّ الْوَكِيلَ أَمْضَى الَّذِي كَانَ وُكِّلَ بِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَوْ لَا يَعْلَمُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ كُلُّهُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا .
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَا وَكَّلَاهُ جَمِيعًا لِأَنَّ وَكَالَةَ أَحَدِهِمَا جَائِزَةٌ عَلَى الْآخَرِ ، وَلَيْسَ تَفَرُّقُهُمَا يَنْقُضُ الْوَكَالَةَ ، إلَى هُنَا لَفْظُ مُحَمَّدٍ فِي بَابِ وَكَالَةِ أَحَدِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ .
ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ : وَالْعَجَبُ مِنْ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ أَنَّهُ أَبْهَمَ الْأَمْرَ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِكَلَامِ الْقُدُورِيِّ ، وَالْغَالِبُ عَلَى ظَنِّي أَنَّ الْقُدُورِيَّ أَرَادَ بِذَلِكَ الْوَكَالَةَ الثَّانِيَةَ فِي عَقْدِ الشَّرِكَةِ لَا الْوَكَالَةَ الِابْتِدَائِيَّةَ الْقَصْدِيَّةَ ؛ لِأَنَّ الْمُتَضَمِّنَ وَهُوَ عَقْدُ الشَّرِكَةِ إذَا بَطَلَ بَطَلَ مَا فِي ضِمْنِهِ لَا مَحَالَةَ ، وَإِلَّا يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ مُخَالِفًا لِلرِّوَايَةِ لَا مَحَالَةَ انْتَهَى ، أَقُولُ : إنَّ قَوْلَهُ وَإِلَّا يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ مُخَالِفًا لِلرِّوَايَةِ لَا مَحَالَةَ لَيْسَ بِتَامٍّ لَا مَحَالَةَ ، إذْ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ الْوَكَالَةَ الِابْتِدَائِيَّةَ كَمَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ كَلَامِهِ لَا يَكُونُ مُخَالِفًا لِلرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ بِحَمْلِهِ عَلَى التَّوْكِيلِ بِشَيْءٍ لَمْ يَلِهِ الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ كَمَا فَصَّلْنَاهُ مِنْ قَبْلُ .
وَفِي الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ أَيْضًا إشَارَةٌ إلَى ذَلِكَ ، فَإِنَّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ فِي الْأَصْلِ : إذَا وَكَّلَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ وَكِيلًا بِشَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْت لَك وَهُوَ الَّذِي وَلِيَ ذَلِكَ احْتِرَازٌ عَنْ التَّوْكِيلِ بِشَيْءٍ لَمْ يَلِهِ الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ كَمَا لَا يَخْفَى .
لَا يُقَالُ : مُرَادُ صَاحِبِ الْغَايَةِ وَإِلَّا يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرُ إطْلَاقِ قَوْلِهِ مُخَالِفًا لِلرِّوَايَةِ فَلَا يُنَافِيهِ التَّطْبِيقُ بِتَقْيِيدٍ وَتَأْوِيلِهِ .
لِأَنَّا نَقُولُ : هَذَا الْمَعْنَى مُشْتَرَكُ الِالْتِزَامِ ، فَلَا وَجْهَ لِذَلِكَ الْقَوْلِ بَعْدَ أَنْ

قَيَّدَهُ أَيْضًا ، وَأَوَّلَهُ بِتَأْوِيلٍ بَعِيدٍ كَمَا تَرَى ( وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَعَدَمِهِ ) أَيْ لَا فَرْقَ فِي الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ بَيْنَ عِلْمِ الْوَكِيلِ بِسَبَبِ بُطْلَانِ الْوَكَالَةِ وَعَدَمِ عِلْمِهِ بِذَلِكَ ( لِأَنَّ هَذَا عَزْلٌ حُكْمِيٌّ ) أَيْ عَزْلٌ عَنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ ( فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ ) إذْ الْعِلْمُ شَرْطٌ لِلْعَزْلِ الْقَصْدِيِّ دُونَ الْعَزْلِ الْحُكْمِيِّ ( كَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ إذَا بَاعَهُ الْمُوَكِّلُ ) أَيْ إذَا بَاعَ مَا وَكَّلَ بِبَيْعِهِ الْمُوَكِّلُ حَيْثُ يَصِيرُ الْوَكِيلُ مَعْزُولًا حُكْمًا لِفَوَاتِ مَحَلِّ تَصَرُّفِ الْوَكِيلِ

قَالَ ( وَإِذَا مَاتَ الْوَكِيلُ أَوْ جُنَّ جُنُونًا مُطْبِقًا بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ ) لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَمْرُهُ بَعْدَ جُنُونِهِ وَمَوْتِهِ
( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( وَإِذَا مَاتَ الْوَكِيلُ أَوْ جُنَّ جُنُونًا مُطْبِقًا بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ ) لَمَّا فَرَّغَ مِنْ الْعَوَارِضِ الْمُبْطِلَةِ لِلْوَكَالَةِ مِنْ جَانِبِ الْمُوَكِّلِ شَرَعَ فِي الْعَوَارِضِ الْمُبْطِلَةِ لَهَا مِنْ جَانِبِ الْوَكِيلِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ مَا ذُكِرَ ( لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَمْرُهُ ) أَيْ أَمْرُ الْوَكِيلِ ( بَعْدَ جُنُونِهِ وَمَوْتِهِ ) وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ لَا يَصِحُّ أَمْرُهُ مَصْدَرٌ مُضَافٌ إلَى الْمَفْعُولِ ، وَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ الَّذِي كَانَ مَأْمُورًا بِهِ لَمْ يَبْقَ صَحِيحًا ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ لِدَوَامِهِ حُكْمَ الِابْتِدَاءِ ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ .
أَقُولُ : هَاهُنَا شَائِبَةُ الِاسْتِدْرَاكِ ، إذْ لَا يَخْفَى عَلَى أُولِي النُّهَى أَنَّ ذِكْرَ كَوْنِ مَوْتِ الْوَكِيلِ مُبْطِلًا لِلْوَكَالَةِ قَلِيلُ الْجَدْوَى لِأَنَّهُ بَيِّنٌ غَنِيٌّ عَنْ الْبَيَانِ .
لَا يُقَالُ : الْمُرَادُ بِذَلِكَ دَفْعُ احْتِمَالِ جَرَيَانِ الْإِرْثِ مِنْ الْوَكِيلِ فِي حَقِّ الْوَكَالَةِ .
لِأَنَّا نَقُولُ : احْتِمَالُ ذَلِكَ مَعَ كَوْنِهِ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ فِي نَفْسِهِ بِنَاءً عَلَى ظُهُورِ أَنَّ الْمُوَكِّلَ رَضِيَ بِرَأْيِ الْوَكِيلِ لَا بِرَأْيِ غَيْرِهِ لَا يَنْدَفِعُ بِالتَّعْلِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْوَكَالَةِ وَإِنْ لَمْ يَبْقَ صَحِيحًا بِالنَّظَرِ إلَى الْوَكِيلِ الْمَيِّتِ إلَّا أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَبْقَى صَحِيحًا بِالنَّظَرِ إلَى وَارِثِهِ الْحَيِّ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ

( وَإِنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا ) لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّصَرُّفُ إلَّا أَنْ يَعُودَ مُسْلِمًا قَالَ : وَهَذَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ ، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا تَعُودُ الْوَكَالَةُ .
لِمُحَمَّدٍ أَنَّ الْوَكَالَةَ إطْلَاقٌ لِأَنَّهُ رُفِعَ الْمَانِعُ .
أَمَّا الْوَكِيلُ يَتَصَرَّفُ بِمَعَانٍ قَائِمَةٍ بِهِ وَإِنَّمَا عَجَزَ بِعَارِضِ اللَّحَاقِ لِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ ، فَإِذَا زَالَ الْعَجْزُ وَالْإِطْلَاقُ بَاقٍ عَادَ وَكِيلًا .
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إثْبَاتُ وِلَايَةِ التَّنْفِيذِ ، لِأَنَّ وِلَايَةَ أَصْلِ التَّصَرُّفِ بِأَهْلِيَّتِهِ وَوِلَايَةُ التَّنْفِيذِ بِالْمِلْكِ وَبِاللَّحَاقِ لَحِقَ بِالْأَمْوَاتِ وَبَطَلَتْ الْوِلَايَةُ فَلَا تَعُودُ كَمِلْكِهِ فِي أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ

( وَإِنْ لَحِقَ ) أَيْ الْوَكِيلُ ( بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّصَرُّفُ إلَّا أَنْ يَعُودَ ) مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ( مُسْلِمًا ) هَذَا إذَا حَكَمَ الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ فَإِنَّهُ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي الْمَبْسُوطِ : وَإِنْ لَحِقَ الْوَكِيلُ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا فَإِنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ الْوَكَالَةِ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا مَا لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ وَهَكَذَا أَشَارَ إلَيْهِ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ فِي مَبْسُوطِهِ حَيْثُ قَالَ : وَلَوْ ارْتَدَّ الْوَكِيلُ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ انْتَقَضَتْ الْوَكَالَةُ لِانْقِطَاعِ الْعِصْمَةِ بَيْنَ مَنْ هُوَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَبَيْنَ مَنْ هُوَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَإِذَا قَضَى الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ فَقَدَّرَ مَوْتَهُ أَوْ جَعَلَهُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ فَتَبْطُلُ الْوَكَالَةُ انْتَهَى .
كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا ( قَالَ ) أَيْ قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَهَذَا ) أَيْ جَوَازُ التَّصَرُّفِ لِلْوَكِيلِ عِنْدَ عَوْدِهِ مُسْلِمًا ( عِنْدَ مُحَمَّدٍ ، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا تَعُودُ الْوَكَالَةُ ) أَيْ وَإِنْ عَادَ مُسْلِمًا ( لِمُحَمَّدٍ أَنَّ الْوَكَالَةَ إطْلَاقٌ ) أَيْ إطْلَاقُ التَّصَرُّفِ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ الْوَكَالَةَ بِتَأْوِيلِ التَّوْكِيلِ أَوْ الْعَقْدِ أَوْ بِاعْتِبَارِ الْخَبَرِ ( رُفِعَ الْمَانِعُ ) فَإِنَّ الْوَكِيلَ كَانَ مَمْنُوعًا شَرْعًا عَنْ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي شَيْءٍ لِمُوَكِّلِهِ ، فَإِذَا وَكَّلَهُ رُفِعَ الْمَانِعُ ( أَمَّا الْوَكِيلُ يَتَصَرَّفُ بِمَعَانٍ قَائِمَةٍ بِهِ ) أَيْ بِالْوَكِيلِ : يَعْنِي أَنَّ الْوَكِيلَ لَا يَحْدُثُ فِيهِ أَهْلِيَّةٌ وَوِلَايَةٌ ، بَلْ إنَّمَا يَتَصَرَّفُ بِمَعَانٍ قَائِمَةٍ بِهِ وَهِيَ الْعَقْلُ وَالْقَصْدُ إلَى ذَلِكَ التَّصَرُّفِ وَالذِّمَّةُ الصَّالِحَةُ لَهُ .
( وَإِنَّمَا عَجَزَ ) أَيْ وَإِنَّمَا عَجَزَ الْوَكِيلُ عَنْ التَّصَرُّفِ ( بِعَارِضِ اللَّحَاقِ لِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ ) يَعْنِي أَنَّ الْإِطْلَاقَ بَاقٍ مِنْ جِهَةِ الْمُوَكِّلِ بَعْدَ عُرُوضِ هَذَا الْعَارِضِ ، وَلَكِنْ إنَّمَا عَجَزَ الْوَكِيلُ عَنْ التَّصَرُّفِ بِهَذَا الْعَارِضِ ( فَإِذَا زَالَ

الْعَجْزُ وَالْإِطْلَاقُ بَاقٍ عَادَ وَكِيلًا ) وَفِي الْمَبْسُوطِ : وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ : صَحَّتْ الْوَكَالَةُ لِحَقِّ الْمُوَكِّلِ وَحَقُّهُ قَائِمٌ بَعْدَ لَحَاقِ الْوَكِيلِ بِدَارِ الْحَرْبِ ، وَلَكِنَّهُ عَجَزَ عَنْ التَّصَرُّفِ بِعَارِضٍ وَالْعَارِضُ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ ، فَإِذَا زَالَ يَصِيرُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فَبَقِيَ الْوَكِيلُ عَلَى وَكَالَتِهِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ زَمَانًا ثُمَّ أَفَاقَ ( وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ ) أَيْ التَّوْكِيلَ ( إثْبَاتُ وِلَايَةِ التَّنْفِيذِ ) أَيْ تَمْلِيكُ وِلَايَةِ تَنْفِيذِ التَّصَرُّفِ فِي حَقِّ الْمُوَكِّلِ لِلْوَكِيلِ لَا إثْبَاتُ وِلَايَةِ أَصْلِ التَّصَرُّفِ لَهُ ( لِأَنَّ وِلَايَةَ أَصْلِ التَّصَرُّفِ ) ثَابِتَةٌ لَهُ ( بِأَهْلِيَّتِهِ ) لِجِنْسِ التَّصَرُّفِ فِي حَدِّ ذَاتِهِ ( وَوِلَايَةُ التَّنْفِيذِ بِالْمِلْكِ ) أَيْ وَتَمْلِيكُ وِلَايَةِ التَّنْفِيذِ مُلْصَقٌ بِالْمِلْكِ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ بِلَا مِلْكٍ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ فَكَانَ الْوَكِيلُ مَالِكًا لِلتَّنْفِيذِ بِالْوَكَالَةِ ( وَبِاللَّحَاقِ ) أَيْ بِاللَّحَاقِ بِدَارِ الْحَرْبِ ( لَحِقَ ) أَيْ الْوَكِيلُ ( بِالْأَمْوَاتِ ) فَبَطَلَ الْمِلْكُ ( وَبَطَلَتْ الْوِلَايَةُ ) أَيْ إذَا بَطَلَتْ الْوِلَايَةُ بَطَلَ التَّوْكِيلُ لِئَلَّا يَلْزَمَ تَخَلُّفُ الْمَعْلُولِ عَنْ الْعِلَّةِ ( فَلَا تَعُودُ ) أَيْ الْوِلَايَةُ : يَعْنِي إذَا بَطَلَتْ الْوِلَايَةُ فَلَا تَعُودُ ( كَمِلْكِهِ فِي أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ ) فَإِنَّهُ إذَا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَقَضَى الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ تَعْتِقُ أُمُّ وَلَدِهِ وَمُدَبَّرُهُ ثُمَّ بِعَوْدِهِ مُسْلِمًا لَا يَعُودُ مِلْكُهُ فِيهِمَا وَلَا يَرْتَفِعُ الْعِتْقُ ، فَكَذَلِكَ الْوِلَايَةُ الَّتِي بَطَلَتْ لَا تَعُودُ ، وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ لَحِقَ بِالْأَمْوَاتِ إلَى أَنَّ وَضْعَ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا إذَا قَضَى الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ .
وَأَمَّا إذَا لَمْ يَقْضِ بِذَلِكَ فَلَا يَخْرُجُ الْوَكِيلُ عَنْ الْوَكَالَةِ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ : قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : بَقِيَ الْكَلَامُ فِي قَوْلِهِ : لِأَنَّ وِلَايَةَ أَصْلِ التَّصَرُّفِ بِأَهْلِيَّتِهِ فَإِنَّهُ

بَعِيدُ التَّعَلُّقِ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ أَنَّهُ إثْبَاتُ وِلَايَةِ التَّنْفِيذِ إلَّا أَنْ يَتَكَلَّفَ فَيُقَالَ : الْوَكِيلُ لَهُ وِلَايَتَانِ : وِلَايَةُ أَصْلِ التَّصَرُّفِ ، وَوِلَايَةُ التَّنْفِيذِ ، وَالْأُولَى ثَابِتَةٌ لَهُ قَبْلَ التَّوْكِيلِ وَبَعْدَهُ ، وَالثَّانِيَةُ لَمْ تَكُنْ ثَابِتَةً قَبْلَهُ ، وَإِنَّمَا حَدَثَتْ بَعْدَهُ وَلَمْ يَتَجَدَّدْ عَلَيْهِ شَيْءٌ سِوَى التَّوْكِيلِ فَكَانَتْ ثَابِتَةً بِهِ انْتَهَى .
أَقُولُ : إنَّ قَوْلَهُ لِأَنَّ وِلَايَةَ أَصْلِ التَّصَرُّفِ بِأَهْلِيَّتِهِ لَيْسَ بِدَلِيلٍ عَلَى مَنْطُوقِ قَوْلِهِ إنَّهُ إثْبَاتُ وِلَايَةِ التَّنْفِيذِ حَتَّى يُتَوَهَّمَ أَنَّهُ بَعِيدُ التَّعَلُّقِ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَيْهِ ، بَلْ هُوَ دَلِيلٌ عَلَى مَفْهُومِ ذَلِكَ ، وَهُوَ لَا إثْبَاتَ وِلَايَةِ أَصْلِ التَّصَرُّفِ كَمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ مِنْ قَبْلُ ، فَالْمَعْنَى أَنَّ التَّوْكِيلَ إثْبَاتُ وِلَايَةِ التَّنْفِيذِ لِلْوَكِيلِ لَا إثْبَاتُ وِلَايَةِ أَصْلِ التَّصَرُّفِ لَهُ ، حَتَّى يَجُوزَ أَنْ تَعُودَ الْوَكَالَةُ بِعَوْدِ الْوَكِيلِ مُسْلِمًا كَمَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ أَصْلِ التَّصَرُّفِ ثَابِتَةٌ لَهُ بِأَهْلِيَّتِهِ فِي حَدِّ ذَاتِهِ ، فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُثْبِتَهَا الْمُوَكِّلُ لَهُ بِالتَّوْكِيلِ ، وَإِنْ لَمْ يَسْلَمْ اعْتِبَارُ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ فَنَقُولُ : هُوَ دَلِيلٌ عَلَى مُقَدِّمَةٍ مَطْوِيَّةٍ مَفْهُومَةٍ مِنْ الْكَلَامِ بِمَعُونَةِ قَرِينَةِ الْمَقَامِ وَهِيَ لَا إثْبَاتُ وِلَايَةِ التَّصَرُّفِ لَهُ فَلَا إشْكَالَ عَلَى كُلِّ حَالٍ

وَلَوْ عَادَ الْمُوَكِّلُ مُسْلِمًا وَقَدْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا لَا تَعُودُ الْوَكَالَةُ فِي الظَّاهِرِ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهَا تَعُودُ كَمَا قَالَ فِي الْوَكِيلِ .
وَالْفَرْقُ لَهُ عَلَى الظَّاهِرِ أَنَّ مَبْنَى الْوَكَالَةِ فِي حَقِّ الْمُوَكِّلِ عَلَى الْمِلْكِ وَقَدْ زَالَ وَفِي حَقِّ الْوَكِيلِ عَلَى مَعْنًى قَائِمٍ بِهِ وَلَمْ يَزَلْ بِاللَّحَاقِ

.
( وَلَوْ عَادَ الْمُوَكِّلُ مُسْلِمًا وَقَدْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا ) أَيْ وَقَدْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا وَقَضَى الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ ، صَرَّحَ بِهِ فِي الْمَبْسُوطِ وَغَيْرِهِ ( لَا تَعُودُ الْوَكَالَةُ فِي الظَّاهِرِ ) أَيْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ( وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهَا ) أَيْ الْوَكَالَةَ ( تَعُودُ كَمَا قَالَ فِي الْوَكِيلِ ) وَفِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ يَقُولُ مُحَمَّدٌ : يَعُودُ الْوَكِيلُ عَلَى وَكَالَتِهِ فِي هَذَا الْفَصْلِ أَيْضًا لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ إذَا عَادَ مُسْلِمًا عَادَ إلَيْهِ مَالُهُ عَلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ ، وَقَدْ تَعَلَّقَتْ الْوَكَالَةُ بِقَدِيمِ مِلْكِهِ فَيَعُودُ الْوَكِيلُ عَلَى وَكَالَتِهِ ، كَمَا لَوْ وُكِّلَ بِبَيْعِ عَبْدِهِ ثُمَّ بَاعَهُ الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ وَرُدَّ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ بِقَضَاءِ الْقَاضِي عَادَ الْوَكِيلُ عَلَى وَكَالَتِهِ فَهَذَا مِثْلُهُ ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ ( وَالْفَرْقُ لَهُ عَلَى الظَّاهِرِ ) يَعْنِي أَنَّ مُحَمَّدًا فَرَّقَ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ : أَيْ بَيْنَ ارْتِدَادِ الْوَكِيلِ وَبَيْنَ ارْتِدَادِ الْمُوَكِّلِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ حَيْثُ قَالَ بِعَوْدِ الْوَكَالَةِ فِي ارْتِدَادِ الْوَكِيلِ إذَا عَادَ مُسْلِمًا فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ ، وَبِعَدَمِ عَوْدِهَا فِي ارْتِدَادِ الْمُوَكِّلِ إذَا عَادَ مُسْلِمًا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
فَوَجْهُ الْفَرْقِ لَهُ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ( أَنَّ مَبْنَى الْوَكَالَةِ فِي حَقِّ الْمُوَكِّلِ عَلَى الْمِلْكِ وَقَدْ زَالَ ) أَيْ وَقَدْ زَالَ مِلْكُ الْمُوَكِّلِ بِرِدَّتِهِ وَالْقَضَاءِ بِلَحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ فَبَطَلَتْ الْوَكَالَةُ عَلَى الْبَتَاتِ ( وَفِي حَقِّ الْوَكِيلِ ) أَيْ وَمَبْنَى الْوَكَالَةِ فِي حَقِّ الْوَكِيلِ ( عَلَى مَعْنًى قَائِمٍ بِهِ ) أَيْ بِالْوَكِيلِ كَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ ( وَلَمْ يَزَلْ ) أَيْ وَلَمْ يَزَلْ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِهِ ( بِاللَّحَاقِ ) أَيْ بِلَحَاقِ الْوَكِيلِ بِدَارِ الْحَرْبِ وَقَضَاءِ الْقَاضِي بِهِ فَكَانَ مَحَلُّ تَصَرُّفِ الْوَكِيلِ بَاقِيًا ، وَلَكِنَّهُ عَجَزَ عَنْ التَّصَرُّفِ بِعَارِضٍ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ ، فَإِذَا زَالَ الْعَارِضُ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ

كَمَا ذَكَرْنَا فِيمَا مَرَّ .
وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَسَوَّى بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ حَيْثُ قَالَ بِعَدَمِ عَوْدِ الْوَكَالَةِ فِيهِمَا مَعًا

قَالَ ( وَمَنْ وَكَّلَ آخَرَ بِشَيْءٍ ثُمَّ تَصَرَّفَ بِنَفْسِهِ فِيمَا وَكَّلَ بِهِ بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ ) وَهَذَا اللَّفْظُ يَنْتَظِمُ وُجُوهًا : مِثْلَ أَنْ يُوَكِّلَهُ بِإِعْتَاقِ عَبْدِهِ أَوْ بِكِتَابَتِهِ فَأَعْتَقَهُ أَوْ كَاتَبَهُ الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ أَوْ يُوَكِّلَهُ بِتَزْوِيجِ امْرَأَةٍ أَوْ بِشِرَاءِ شَيْءٍ فَفَعَلَهُ بِنَفْسِهِ أَوْ يُوَكِّلَهُ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ فَطَلَّقَهَا الزَّوْجُ ثَلَاثًا أَوْ وَاحِدَةً وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا أَوْ بِالْخُلْعِ فَخَالَعَهَا ، بِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا تَصَرَّفَ بِنَفْسِهِ تَعَذَّرَ عَلَى الْوَكِيلِ التَّصَرُّفُ فَبَطَلَتْ الْوَكَالَةُ ، حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَهَا بِنَفْسِهِ وَأَبَانَهَا لَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُزَوِّجَهَا مِنْهُ لِأَنَّ الْحَاجَةَ قَدْ انْقَضَتْ ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَزَوَّجَهَا الْوَكِيلُ وَأَبَانَهَا لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ الْمُوَكِّلَ لِبَقَاءِ الْحَاجَةِ ، وَكَذَا لَوْ وَكَّلَهُ بِبَيْعِ عَبْدِهِ فَبَاعَهُ بِنَفْسِهِ ، فَلَوْ رُدَّ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ بِقَضَاءِ قَاضٍ ؛ فَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَبِيعَهُ مَرَّةً أُخْرَى لِأَنَّ بَيْعَهُ بِنَفْسِهِ مَنْعٌ لَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ فَصَارَ كَالْعَزْلِ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مَرَّةً أُخْرَى لِأَنَّ الْوَكَالَةَ بَاقِيَةٌ لِأَنَّهُ إطْلَاقٌ وَالْعَجْزُ قَدْ زَالَ بِخِلَافِ مَا إذَا وَكَّلَهُ بِالْهِبَةِ فَوَهَبَ بِنَفْسِهِ ثُمَّ رَجَعَ لَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَهَبَ لِأَنَّهُ مُخْتَارٌ فِي الرُّجُوعِ فَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلُ عَدَمِ الْحَاجَةِ .
أَمَّا الرَّدُّ بِقَضَاءٍ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَلَمْ يَكُنْ دَلِيلُ زَوَالِ الْحَاجَةِ ، فَإِذَا عَادَ إلَيْهِ قَدِيمُ مِلْكِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( وَمَنْ وَكَّلَ آخَرَ بِشَيْءٍ ) مِنْ الْإِثْبَاتَاتِ أَوْ الْإِسْقَاطَاتِ ( ثُمَّ تَصَرَّفَ ) أَيْ الْمُوَكِّلُ ( بِنَفْسِهِ فِيمَا وَكَّلَ بِهِ بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ ) إلَى هُنَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَهَذَا اللَّفْظُ يَنْتَظِمُ وُجُوهًا كَثِيرَةً ) مِنْ الْمَسَائِلِ ( مِثْلَ أَنْ يُوَكِّلَهُ ) أَيْ الْآخَرُ ( بِإِعْتَاقِ عَبْدِهِ ) أَيْ عَبْدِ الْمُوَكِّلِ ( أَوْ بِكِتَابَتِهِ ) أَيْ بِكِتَابَةِ عَبْدِهِ ( فَأَعْتَقَهُ ) أَيْ أَعْتَقَ ذَلِكَ الْعَبْدَ ( أَوْ كَاتَبَهُ الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ ) فَإِنَّ الْوَكَالَةَ تَبْطُلُ حِينَئِذٍ ( أَوْ يُوَكِّلَهُ بِتَزْوِيجِ امْرَأَةٍ ) أَيْ أَوْ أَنْ يُوَكِّلَهُ بِتَزْوِيجِ امْرَأَةٍ مُعَيَّنَةٍ إيَّاهُ ( أَوْ بِشِرَاءِ شَيْءٍ ) أَيْ أَوْ أَنْ يُوَكِّلَهُ بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ لَهُ ( فَفَعَلَهُ بِنَفْسِهِ ) أَيْ فَفَعَلَ الْمُوَكِّلُ مَا وَكَّلَ بِهِ بِنَفْسِهِ بِأَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِنَفْسِهِ أَوْ يَشْتَرِيَهُ بِنَفْسِهِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ عَزْلًا لِلْوَكِيلِ فَتَبْطُلُ الْوَكَالَةُ ( أَوْ يُوَكِّلَهُ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ فَطَلَّقَهَا الزَّوْجُ ) وَهُوَ الْمُوَكِّلُ ( ثَلَاثًا ) أَيْ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ ( أَوْ وَاحِدَةً ) أَيْ أَوْ طَلَّقَهَا طَلْقَةً وَاحِدَةً ( وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا ) فَإِنَّ الْوَكَالَةَ تَبْطُلُ هُنَاكَ أَيْضًا ، وَلَا يَكُونُ لِلْمُوَكِّلِ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يُطَلِّقَهَا ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِالثَّلَاثِ وَقَيَّدَ الْوَاحِدَةَ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ، وَالْمُرَادُ بِهَا مَا دُونَ الثَّلَاثِ لِأَنَّهُ إذَا وَكَّلَهُ بِالطَّلَاقِ ثُمَّ طَلَّقَهَا الْمُوَكِّلُ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً أَوْ ثِنْتَيْنِ بَائِنَةً كَانَتْ أَوْ رَجْعِيَّةً .
فَإِنَّ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُطَلِّقَهَا مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ ، وَأَمَّا إذَا طَلَّقَهَا الْمُوَكِّلُ تَطْلِيقَاتٍ ثَلَاثًا فَلَا يَمْلِكُ الْوَكِيلُ طَلَاقَهَا لَا فِي الْعِدَّةِ وَلَا بَعْدَهَا ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ مَا كَانَ الْمُوَكِّلُ فِيهِ قَادِرًا عَلَى الطَّلَاقِ كَانَ وَكِيلُهُ أَيْضًا قَادِرًا عَلَيْهِ ، وَمَا لَا فَلَا ، كَذَا ذَكَرَهُ فِي النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ .

أَقُولُ : فِي هَذَا الْأَصْلِ نَوْعُ إشْكَالٍ إذْ لِطَالِبٍ أَنْ يَطْلُبَ الْفَرْقَ حِينَئِذٍ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ مَسْأَلَةِ التَّوْكِيلِ بِتَزْوِيجِ امْرَأَةٍ ، فَإِنَّ الْمُوَكِّلَ هُنَاكَ لَوْ تَزَوَّجَهَا بِنَفْسِهِ ثُمَّ أَبَانَهَا لَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُزَوِّجَهَا مِنْهُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ ، وَذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ أَيْضًا فِيمَا بَعْدُ ، مَعَ أَنَّ الْمُوَكِّلَ قَادِرٌ عَلَى تَزَوُّجِهَا بِنَفْسِهِ مَرَّةً أُخْرَى فَلِمَ لَمْ يَقْدِرْ الْوَكِيلُ أَيْضًا عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهَا مِنْهُ مَرَّةً أُخْرَى ؟ وَعَلَّلَ فِي الْبَدَائِعِ عَدَمَ قُدْرَةِ الْوَكِيلِ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْفِعْلِ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ ، فَإِذَا فَعَلَ مَرَّةً حَصَلَ الِامْتِثَالُ فَانْتَهَى حُكْمُ الْأَمْرِ كَمَا فِي الْأَوَامِرِ الشَّرْعِيَّةِ .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَقْدِرَ الْوَكِيلُ عَلَى التَّطْلِيقِ بَعْدَ تَطْلِيقِ الْمُوَكِّلِ مُطْلَقًا فِي مَسْأَلَةِ التَّوْكِيلِ بِالطَّلَاقِ أَيْضًا .
فَإِنْ قِيلَ : بُطْلَانُ الْوَكَالَةِ فِي مَسْأَلَةِ التَّوْكِيلِ بِالتَّزْوِيجِ بِتَزْوِيجِ الْمُوَكِّلِ بِنَفْسِهِ بِنَاءً عَلَى انْقِضَاءِ الْحَاجَةِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِيمَا بَعْدُ .
قُلْنَا : قَدْ انْقَضَتْ الْحَاجَةُ فِي مَسْأَلَةِ التَّوْكِيلِ بِالطَّلَاقِ أَيْضًا بِتَطْلِيقِ الْمُوَكِّلِ بِنَفْسِهِ .
لَا يُقَالُ : قَدْ تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى تَكْرَارِ الطَّلَاقِ تَشْدِيدًا لِلْفُرْقَةِ .
لِأَنَّا نَقُولُ : قَدْ تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى التَّزَوُّجِ مَرَّةً أُخْرَى أَيْضًا فَلَمْ يَتَّضِحْ الْفَرْقُ فَتَأَمَّلْ ( أَوْ بِالْخُلْعِ ) أَيْ أَوْ أَنْ يُوَكِّلَهُ بِأَنْ يُخَالِعَ امْرَأَتَهُ ( فَخَالَعَهَا ) أَيْ فَخَالَعَهَا الْمُوَكِّلُ ( بِنَفْسِهِ ) فَإِنَّ الْوَكَالَةَ تَبْطُلُ هُنَاكَ أَيْضًا .
قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ كُلِّهَا ( لِأَنَّهُ ) أَيْ الْمُوَكِّلَ ( لَمَّا تَصَرَّفَ ) فِيمَا وَكَّلَ بِهِ ( بِنَفْسِهِ تَعَذَّرَ عَلَى الْوَكِيلِ التَّصَرُّفُ ) فِي ذَلِكَ لِامْتِنَاعِ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ ( فَبَطَلَتْ الْوَكَالَةُ ) فِي جَمِيعِ مَا ذُكِرَ (

حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَهَا ) أَيْ لَوْ تَزَوَّجَ الْمُوَكِّلُ الْمَرْأَةَ الَّتِي وَكَّلَ الْآخَرَ بِتَزْوِيجِهَا مِنْهُ ( بِنَفْسِهِ وَأَبَانَهَا ) أَيْ أَبَانَهَا بَعْدَ أَنْ تَزَوَّجَهَا بِنَفْسِهِ .
( لَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُزَوِّجَهَا مِنْهُ ) أَيْ لَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُزَوِّجَ تِلْكَ الْمَرْأَةَ الْمُبَانَةَ مِنْ الْمُوَكِّلِ مَرَّةً أُخْرَى ( لِأَنَّ الْحَاجَةَ قَدْ انْقَضَتْ ) أَيْ لِأَنَّ حَاجَةَ الْمُوَكِّلِ قَدْ انْقَضَتْ بِتَزَوُّجِهَا بِنَفْسِهِ .
أَقُولُ : هَاهُنَا كَلَامٌ : أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ تَفْرِيعَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِحَتَّى عَلَى التَّعْلِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ لِبُطْلَانِ الْوَكَالَةِ فِي الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ لَيْسَ بِتَامٍّ ؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ إنَّمَا تَصَرَّفَ بِنَفْسِهِ فِي تَزَوُّجِهَا مَرَّةً أُولَى ، فَهُوَ الَّذِي تَعَذَّرَ عَلَى الْوَكِيلِ التَّصَرُّفُ فِيهِ عَلَى مُوجِبِ التَّعْلِيلِ الْمَذْكُورِ .
وَفَحْوَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ لَا يَكُونَ لِلْوَكِيلِ تَزْوِيجُهَا مِنْ الْمُوَكِّلِ مَرَّةً أُخْرَى ، وَلَا تَأْثِيرَ فِيهِ لِلتَّعْلِيلِ الْمَذْكُورِ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ لَمْ يَتَصَرَّفْ بِنَفْسِهِ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ حَتَّى يَتَعَذَّرَ عَلَى الْوَكِيلِ التَّصَرُّفُ فِيهَا ، فَالْأَوْلَى أَنْ يَتْرُكَ أَدَاةَ التَّفْرِيعِ وَيَذْكُرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْلَالِ كَمَا وَقَعَ فِي سَائِرِ الْمُعْتَبَرَاتِ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ الْحَاجَةَ قَدْ انْقَضَتْ أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى تَزَوُّجِهَا مَرَّةً أُولَى قَدْ انْقَضَتْ فَهُوَ مُسَلَّمٌ ، وَلَكِنْ هَذَا لَا يُنَافِي بَقَاءَ الْحَاجَةِ إلَى تَزَوُّجِهَا مَرَّةً أُخْرَى فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ ، وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى تَزَوُّجِهَا مُطْلَقًا قَدْ انْقَضَتْ فَهُوَ مَمْنُوعٌ ، إذْ قَدْ يَحْتَاجُ الرَّجُلُ إلَى تَزَوُّجِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ مِرَارًا مُتَعَدِّدَةً لِأَسْبَابٍ دَاعِيَةٍ إلَيْهِ .
فَالْأَوْلَى فِي تَعْلِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا ذُكِرَ فِي الْبَدَائِعِ مِنْ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْفِعْلِ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ ، فَإِذَا فَعَلَ مَرَّةً حَصَلَ الِامْتِثَالُ

فَانْتَهَى حُكْمُ الْأَمْرِ كَمَا فِي الْأَوَامِرِ الشَّرْعِيَّةِ ( بِخِلَافِ مَا إذَا تَزَوَّجَهَا الْوَكِيلُ ) أَيْ بِخِلَافِ مَا إذَا تَزَوَّجَ الْوَكِيلُ الْمَرْأَةَ الَّتِي وُكِّلَ بِتَزْوِيجِهَا مِنْ الْمُوَكِّلِ ( وَأَبَانَهَا ) أَيْ وَأَبَانَهَا بَعْدَ أَنْ تَزَوَّجَهَا حَيْثُ يَكُونُ ( لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ الْمُوَكِّلَ ) تِلْكَ الْمَرْأَةَ الْمُبَانَةَ ( لِبَقَاءِ الْحَاجَةِ ) أَيْ لِبَقَاءِ حَاجَةِ الْمُوَكِّلِ إلَى تَزَوُّجِهَا ( وَكَذَا لَوْ وَكَّلَهُ بِبَيْعِ عَبْدِهِ فَبَاعَهُ بِنَفْسِهِ ) أَيْ فَبَاعَ الْمُوَكِّلُ ذَلِكَ الْعَبْدَ بِنَفْسِهِ يَعْنِي بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَيْضًا ( فَلَوْ رُدَّ عَلَيْهِ ) أَيْ فَلَوْ رُدَّ الْعَبْدُ عَلَى الْمُوَكِّلِ ( بِعَيْبٍ بِقَضَاءِ قَاضٍ ؛ فَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَبِيعَهُ مَرَّةً أُخْرَى ) رَوَى ذَلِكَ عَنْهُ ابْنُ سِمَاعَةَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الذَّخِيرَةِ ( لِأَنَّ بَيْعَهُ بِنَفْسِهِ ) أَيْ لِأَنَّ بَيْعَ الْمُوَكِّلِ ذَلِكَ الْعَبْدَ بِنَفْسِهِ ( مَنْعٌ لَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ ) حُكْمًا ( فَصَارَ كَالْعَزْلِ ) أَيْ فَصَارَ ذَلِكَ كَعَزْلِ الْوَكِيلِ عَنْ الْوَكَالَةِ فَلَا يَعُودُ وَكِيلًا إلَّا بِتَجْدِيدِ الْوَكَالَةِ ( وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَهُ ) أَيْ لِلْوَكِيلِ ( أَنْ يَبِيعَهُ ) أَيْ أَنْ يَبِيعَ ذَلِكَ الْعَبْدَ ( مَرَّةً أُخْرَى لِأَنَّ الْوَكَالَةَ بَاقِيَةٌ لِأَنَّهُ ) أَيْ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ بِتَأْوِيلِ التَّوْكِيلِ أَوْ الْعَقْدِ أَوْ بِاعْتِبَارِ الْخَبَرِ وَقَدْ مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ ( إطْلَاقُ ) أَيْ إطْلَاقُ التَّصَرُّفِ وَهُوَ بَاقٍ وَالِامْتِنَاعُ إنَّمَا كَانَ لِعَجْزِ الْوَكِيلِ عَنْ التَّصَرُّفِ بِخُرُوجِ الْعَبْدِ عَنْ مِلْكِ الْمُوَكِّلِ ( وَالْعَجْزُ قَدْ زَالَ ) أَيْ وَعَجْزُ الْوَكِيلِ قَدْ زَالَ بِعَوْدِ الْعَبْدِ إلَى قَدِيمِ مِلْكِ الْمُوَكِّلِ فَعَادَتْ الْوَكَالَةُ ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ إذَا قَبِلَهُ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْبَيْعِ بِغَيْرِ الْقَضَاءِ فَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَبِيعَهُ مَرَّةً أُخْرَى بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِغَيْرِ

الْقَضَاءِ كَالْعَقْدِ الْمُبْتَدَإِ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَالْوَكِيلُ غَيْرُهُمَا ، فَكَانَ فِي حَقِّ الْوَكِيلِ كَأَنَّ الْمُوَكِّلَ اشْتَرَاهُ ابْتِدَاءً .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ مَسْأَلَةَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ فِي جَوَازِ الْبَيْعِ لِلْوَكِيلِ ، وَوَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِي الْأَمَةِ فَقَالَ : وَلَوْ بَاعَهَا الْوَكِيلُ أَوْ الْآمِرُ ثُمَّ رُدَّتْ بِعَيْبٍ بِقَضَاءِ قَاضٍ فَلِلْوَكِيلِ أَنْ يَبِيعَهَا لِأَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ بِقَضَاءِ قَاضٍ فَسْخٌ مِنْ الْأَصْلِ وَعَادَتْ إلَى قَدِيمِ مِلْكِ الْمُوَكِّلِ ، وَإِنْ قَبِلَهَا الْمُوَكِّلُ بِالْعَيْبِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ بَعْدَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي لَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَبِيعَهَا ، وَكَذَلِكَ إنْ تَقَايَلَا الْبَيْعَ فِيهَا لِأَنَّ هَذَا السَّبَبَ كَالْعَقْدِ الْمُبْتَدَإِ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَالْوَكِيلُ غَيْرُهُمَا فَكَانَ فِي حَقِّ الْوَكِيلِ كَأَنَّ الْمُوَكِّلَ اشْتَرَاهَا ابْتِدَاءً ، وَكَذَلِكَ إنْ رَجَعَتْ إلَى الْمُوَكِّلِ بِمِيرَاثٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا بِمِلْكٍ جَدِيدٍ لَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ بَيْعُهَا ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ تَعَلَّقَتْ بِالْمِلْكِ الْأَوَّلِ ، وَهَذَا مِلْكٌ جَدِيدٌ سِوَى الْأَوَّلِ فَلَا يَثْبُتُ فِيهِ حُكْمُ الْوَكَالَةِ إلَّا بِتَجْدِيدِ تَوْكِيلٍ مِنْ الْمَالِكِ انْتَهَى .
وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ أَيْضًا فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْأَصْلِ وَلَا فِي الْكَافِي لِلْحَاكِمِ الشَّهِيدِ وَلَا فِي شَرْحِهِ لِلْإِمَامِ عَلَاءِ الدِّينِ الْإِسْبِيجَابِيّ ، وَلَكِنْ ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ فَقَالَ : قَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَبِيعَهُ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ .
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ صَاحِبَ الْبَدَائِعِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْخِلَافَ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ قَالَ : وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يَهَبَ عَبْدَهُ فَوَهَبَهُ الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ ثُمَّ رَجَعَ فِي هِبَتِهِ لَا تَعُودُ الْوَكَالَةُ حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْوَكِيلُ أَنْ يَهَبَهُ ، مُحَمَّدٌ

يَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ لَهُ لَمْ يَتَّضِحْ انْتَهَى .
فَقَدْ أَرَادَ الْمُصَنِّفُ بَيَانَ وَجْهِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ فَقَالَ ( بِخِلَافِ مَا إذَا وَكَّلَهُ بِالْهِبَةِ فَوَهَبَ ) أَيْ الْمُوَكِّلُ ( بِنَفْسِهِ ثُمَّ رَجَعَ ) عَنْ هِبَتِهِ حَيْثُ ( لَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَهَبَ ) مَرَّةً أُخْرَى بِالْإِجْمَاعِ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ الْوَاهِبَ بِنَفْسِهِ ( مُخْتَارٌ فِي الرُّجُوعِ فَكَانَ ذَلِكَ ) أَيْ كَانَ رُجُوعُهُ مُخْتَارًا ( دَلِيلَ عَدَمِ الْحَاجَةِ ) إلَى الْهِبَةِ ، إذْ لَوْ كَانَ مُحْتَاجًا إلَيْهَا لَمَا رَجَعَ عَنْهَا فَكَانَ دَلِيلًا عَلَى نَقْضِ الْوَكَالَةِ ( أَمَّا الرَّدُّ بِقَضَاءٍ ) أَيْ أَمَّا رَدُّ الْمَبِيعِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي عَلَى الْمُوَكِّلِ الْبَائِعِ بِنَفْسِهِ فَهُوَ ( بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ ) أَيْ بِغَيْرِ اخْتِيَارِ الْمُوَكِّلِ الْبَائِعِ ( فَلَمْ يَكُنْ دَلِيلَ زَوَالِ الْحَاجَةِ ) إلَى الْبَيْعِ .
أَقُولُ : مِنْ الْعَجَائِبِ هَاهُنَا أَنَّ الشَّارِحَ الْعَيْنِيَّ قَالَ فِي شَرْحِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ : أَمَّا الرَّدُّ بِقَضَاءٍ : أَيْ أَمَّا رَدُّ الْهِبَةِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي ، وَفِي شَرْحِ قَوْلِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ : أَيْ اخْتِيَارِ الْوَاهِبِ حَيْثُ زَعَمَ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بَيَانُ الْفَرْقِ بَيْنَ رَدِّ الْهِبَةِ بِالِاخْتِيَارِ وَبَيْنَ رَدِّهَا بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَهَذَا مَعَ كَوْنِهِ غَيْرَ صَحِيحٍ فِي نَفْسِهِ كَيْفَ غَفَلَ عَنْ تَعَلُّقِ قَوْلِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا وَكَّلَهُ بِالْهِبَةِ بِمَا سَبَقَ مِنْ مَسْأَلَةِ تَوْكِيلِهِ بِالْبَيْعِ ، وَمَاذَا يَقُولُ فِي قَوْلِهِ ( فَإِذَا عَادَ إلَيْهِ ) أَيْ إلَى الْمُوَكِّلِ ( قَدِيمُ مِلْكِهِ كَانَ لَهُ ) أَيْ لِلْوَكِيلِ ( أَنْ يَبِيعَهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ مُرَادَهُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ .
وَذُكِرَ فِي التَّتِمَّةِ قَالَ مُحَمَّدٌ : لَا يُشْبِهُ الْهِبَةَ الْبَيْعُ ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ بِالْبَيْعِ لَا تَنْقَضِي بِمُبَاشَرَةِ الْبَيْعِ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بَعْدَمَا بَاعَ يَتَوَلَّى حُقُوقَ الْعَقْدِ وَيَتَصَرَّفُ

فِيهَا بِحُكْمِ الْوَكَالَةِ ، فَإِذَا انْفَسَخَ الْبَيْعُ وَالْوَكَالَةُ بَاقِيَةٌ جَازَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ لَهُ ثَانِيًا بِحُكْمِهَا ، أَمَّا الْوَكَالَةُ بِالْهِبَةِ فَتَنْقَضِي بِمُبَاشَرَةِ الْهِبَةِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْوَكِيلُ الْوَاهِبُ الرُّجُوعَ وَلَا يَصِحُّ تَسْلِيمُهُ ، فَإِذَا رَجَعَ الْمُوَكِّلُ فِي هِبَتِهِ عَادَ إلَيْهِ الْعَبْدُ وَلَا وَكَالَةَ فَلَا يَتَمَكَّنُ الْوَكِيلُ مِنْ الْهِبَةِ ثَانِيًا انْتَهَى .
قَالَ فِي الْبَدَائِعِ : ثُمَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ الَّتِي ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَخْرُجُ بِهَا الْوَكِيلُ عَنْ الْوَكَالَةِ سِوَى الْعَزْلِ وَالنَّهْيِ لَا يَفْتَرِقُ الْحَالُ فِيهَا بَيْنَ مَا إذَا عَلِمَ الْوَكِيلُ بِهَا أَوْ إذَا لَمْ يَعْلَمْ فِي حَقِّ الْخُرُوجِ عَنْ الْوَكَالَةِ ، لَكِنْ تَقَعُ الْمُفَارَقَةُ فِيهَا بَيْنَ الْبَعْضِ وَالْبَعْضِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ، وَهُوَ أَنَّ الْمُوَكِّلَ إذَا بَاعَ الْعَبْدَ الْمُوَكَّلَ بِبَيْعِهِ بِنَفْسِهِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْوَكِيلُ وَقَبَضَ الثَّمَنَ فَهَلَكَ الثَّمَنُ فِي يَدِهِ وَمَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ إلَى الْمُشْتَرِي يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْوَكِيلِ بِالثَّمَنِ وَيَرْجِعُ الْوَكِيلُ عَلَى الْمُوَكِّلِ ، فَكَذَا لَوْ دَبَّرَهُ وَأَعْتَقَهُ أَوْ اُسْتُحِقَّ أَوْ كَانَ حُرَّ الْأَصْلِ ، وَفِيمَا إذَا مَاتَ الْمُوَكِّلُ أَوْ جُنَّ أَوْ هَلَكَ الْعَبْدُ الَّذِي وَكَّلَ بِبَيْعِهِ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ لَا يَرْجِعُ .
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْوَكِيلَ هُنَاكَ وَإِنْ صَارَ مَعْزُولًا بِتَصَرُّفِ الْمُوَكِّلِ لَكِنَّهُ صَارَ مَغْرُورًا مِنْ جِهَتِهِ بِتَرْكِ إعْلَامِهِ إيَّاهُ فَصَارَ كَفِيلًا لَهُ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الضَّمَانِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِضَمَانِ الْكَفَالَةِ أَوْ ضَمَانُ الْغُرُورِ فِي الْحَقِيقَةِ ضَمَانُ الْكَفَالَةِ ، وَمَعْنَى الْغُرُورِ لَا يَتَقَرَّرُ فِي الْمَوْتِ وَهَلَاكِ الْعَبْدِ وَالْجُنُونِ وَأَخَوَاتِهَا فَهُوَ الْفَرْقُ .
وَلَوْ وَكَّلَهُ بِقَبْضِ دَيْنٍ لَهُ عَلَى رَجُلٍ ثُمَّ إنَّ الْمُوَكِّلَ وَهَبَ الْمَالَ لِلَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ وَالْوَكِيلُ لَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ فَقَبَضَ الْوَكِيلُ الْمَالَ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ كَانَ لِدَافِعِ الدَّيْنِ أَنْ

يَأْخُذَ بِهِ الْمُوَكِّلَ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْوَكِيلِ ؛ لِأَنَّ يَدَ الْوَكِيلِ يَدُ نِيَابَةٍ عَنْ الْمُوَكِّلِ ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِأَمْرِهِ وَقَبْضُ النَّائِبِ كَقَبْضِ الْمَنُوبِ عَنْهُ فَكَأَنَّهُ قَبَضَهُ بِنَفْسِهِ بَعْدَمَا وَهَبَهُ مِنْهُ ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَرَجَعَ عَلَيْهِ ، فَكَذَا هَذَا ، إلَى هُنَا لَفْظُ الْبَدَائِعِ .

( كِتَابُ الدَّعْوَى ) قَالَ ( الْمُدَّعِي مَنْ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْخُصُومَةِ إذَا تَرَكَهَا وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ يُجْبَرُ عَلَى الْخُصُومَةِ ) وَمَعْرِفَةُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مِنْ أَهَمِّ مَا يُبْتَنَى عَلَيْهِ مَسَائِلُ الدَّعْوَى ، وَقَدْ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْمَشَايِخِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِيهِ ، فَمِنْهَا مَا قَالَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ حَدٌّ عَامٌّ صَحِيحٌ .
وَقِيلَ الْمُدَّعِي مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا بِحُجَّةٍ كَالْخَارِجِ ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ يَكُونُ مُسْتَحِقًّا بِقَوْلِهِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ كَذِي الْيَدِ وَقِيلَ الْمُدَّعِي مَنْ يَتَمَسَّكُ بِغَيْرِ الظَّاهِرِ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ يَتَمَسَّكُ بِالظَّاهِرِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْأَصْلِ : الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُوَ الْمُنْكِرُ ، وَهَذَا صَحِيحٌ لَكِنَّ الشَّأْنَ فِي مَعْرِفَتِهِ وَالتَّرْجِيحُ بِالْفِقْهِ عِنْدَ الْحُذَّاقِ مِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ لِلْمَعَانِي دُونَ الصُّوَرِ ، فَإِنَّ الْمُودَعَ إذَا قَالَ رَدَدْت الْوَدِيعَةَ فَالْقَوْلُ لَهُ مَعَ الْيَمِينِ وَإِنْ كَانَ مُدَّعِيًا لِلرَّدِّ صُورَةً لِأَنَّهُ يُنْكِرُ الضَّمَانَ .

( كِتَابُ الدَّعْوَى ) لَمَّا كَانَتْ الْوَكَالَةُ بِالْخُصُومَةِ الَّتِي هِيَ أَشْهَرُ أَنْوَاعِ الْوَكَالَاتِ سَبَبًا دَاعِيًا إلَى الدَّعْوَى ذَكَرَ كِتَابَ الدَّعْوَى عَقِيبَ كِتَابِ الْوَكَالَةِ لِأَنَّ الْمُسَبِّبَ يَتْلُو السَّبَبَ .
ثُمَّ إنَّ هَاهُنَا أُمُورًا مِنْ دَأْبِ الشُّرَّاحِ بَيَانُ أَمْثَالِهَا فِي أَوَائِلِ الْكُتُبِ ، وَهِيَ مَعْنَى الدَّعْوَى لُغَةً وَشَرْعًا وَسَبَبُهَا وَشَرْطُهَا وَحُكْمُهَا وَنَوْعُهَا ، فَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَهِيَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ قَوْلٍ يَقْصِدُ بِهِ الْإِنْسَانُ إيجَابَ حَقٍّ عَلَى غَيْرِهِ ، وَفِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ : مُطَالَبَةُ حَقٍّ فِي مَجْلِسِ مَنْ لَهُ الْخَلَاصُ عِنْدَ ثُبُوتِهِ انْتَهَى .
وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ بِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ مِنْ شَرَائِطِ صِحَّةِ الدَّعْوَى كَمَا سَيَجِيءُ فَلَا يَسْتَقِيمُ تَعْرِيفُهَا بِهَا لِلْمُبَايَنَةِ إلَّا أَنْ تُؤَوَّلَ بِالْمَشْرُوطِ بِالْمُطَالَبَةِ .
أَقُولُ : هَذَا سَاقِطٌ لِأَنَّ كَوْنَ الْمُطَالَبَةِ مِنْ شَرَائِطِ صِحَّةِ الدَّعْوَى لَا يُنَافِي اسْتِقَامَةَ تَعْرِيفِ نَفْسِ الدَّعْوَى بِهَا ، إذْ الْمُبَايَنَةُ لِصِحَّةِ الشَّيْءِ لَا تَقْتَضِي الْمُبَايَنَةَ لِذَلِكَ الشَّيْءِ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مُبَايِنٌ لِصِحَّتِهِ لِكَوْنِهَا وَصْفًا مُغَايِرًا لَهُ وَلَيْسَ بِمُبَايِنٍ لِنَفْسِهِ قَطْعًا غَايَةُ مَا لَزِمَ هَاهُنَا أَنْ يَكُونَ صِحَّةُ الدَّعْوَى مَشْرُوطًا بِالْمُطَالَبَةِ الَّتِي هِيَ نَفْسُ الدَّعْوَى وَلَا مَحْذُورَ فِيهِ ، فَإِنَّ صِحَّةَ الدَّعْوَى وَصْفٌ لَهَا وَتَحَقُّقُ الْوَصْفِ مَشْرُوطٌ بِتَحَقُّقِ الْمَوْصُوفِ دَائِمًا وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ بَعْدَ بَيَانِ مَعْنَاهَا اللُّغَوِيِّ وَالشَّرْعِيِّ عَلَى وَجْهِ الْبَسْطِ وَالتَّفْصِيلِ : وَأَمَّا سَبَبُهَا فَمَا هُوَ السَّبَبُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي النِّكَاحِ وَالْبُيُوعِ ؛ لِأَنَّ دَعْوَى الْمُدَّعِي لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ أَمْرًا رَاجِعًا إلَى إبْقَاءِ نَسْلِهِ أَوْ أَمْرًا رَاجِعًا إلَى بَقَاءِ نَفْسِهِ وَمَا يَتْبَعُهُمَا ، وَكِلَاهُمَا قَدْ ذُكِرَا ، وَأَمَّا شَرْطُ صِحَّتِهَا عَلَى الْخُصُوصِ فَمَجْلِسُ الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّ

الدَّعْوَى لَا تَصِحُّ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَجْلِسِ حَتَّى لَا يَجِبَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ جَوَابُ الْمُدَّعِي .
وَمِنْ شَرَائِطِ صِحَّتِهَا أَيْضًا أَنْ يَكُونَ دَعْوَى الْمُدَّعِي عَلَى خَصْمٍ حَاضِرٍ ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى بِهِ شَيْئًا مَعْلُومًا ، وَأَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ حُكْمٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ لِمَا أَنَّ الْفَاسِدَةَ مِنْ الدَّعْوَى هِيَ أَنْ لَا يَكُونَ الْخَصْمُ حَاضِرًا وَأَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى بِهِ مَجْهُولًا ، لِأَنَّ عِنْدَ الْجَهَالَةِ لَا يُمْكِنُ لِلشُّهُودِ الشَّهَادَةُ وَلَا لِلْقَاضِي الْقَضَاءُ بِهِ ، وَأَنْ لَا يَلْزَمَ عَلَى الْمَطْلُوبِ شَيْءٌ بِدَعْوَاهُ نَحْوُ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ وَكِيلُ هَذَا الْخَصْمِ الْحَاضِرِ فِي أَمْرٍ مِنْ أُمُورِهِ ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يَسْمَعُ دَعْوَاهُ هَذِهِ إذَا أَنْكَرَ آخَرُ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ عَزْلُهُ فِي الْحَالِ .
وَأَمَّا حُكْمُهَا فَوُجُوبُ الْجَوَابِ عَلَى الْخَصْمِ بِنَعَمْ أَوْ بِلَا ، وَلِهَذَا وَجَبَ عَلَى الْقَاضِي إحْضَارُهُ مَجْلِسَ الْحُكْمِ حَتَّى يُوفِيَ مَا اُسْتُحِقَّ عَلَيْهِ مِنْ الْجَوَابِ .
وَأَمَّا أَنْوَاعُهَا فَشَيْئَانِ : دَعْوَى صَحِيحَةٌ ، وَدَعْوَى فَاسِدَةٌ .
فَالصَّحِيحَةُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا أَحْكَامُهَا وَهِيَ إحْضَارُ الْخَصْمِ وَالْمُطَالَبَةُ بِالْجَوَابِ وَالْيَمِينِ إذَا أَنْكَرَ ، وَفِي مِثْلِ هَذِهِ الدَّعْوَى يُمْكِنُ إثْبَاتُ الْمُدَّعَى بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِالنُّكُولِ ، وَالدَّعْوَى الْفَاسِدَةُ مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا هَذِهِ الْأَحْكَامُ ، وَفَسَادُ الدَّعْوَى بِأَحَدِ مَعْنَيَيْنِ : إمَّا أَنْ لَا يَكُونَ مُلْزِمًا لِلْخَصْمِ شَيْئًا وَإِنْ ثَبَتَتْ عَلَى مَا قُلْنَا مِنْ أَنْ يَدَّعِيَ عَلَى غَيْرِهِ أَنَّهُ وَكِيلُهُ .
وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ مَجْهُولًا فِي نَفْسِهِ وَالْمَجْهُولُ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِالْبَيِّنَةِ فَلَا يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ بِالْمَجْهُولِ لَا بِالْبَيِّنَةِ وَلَا بِالنُّكُولِ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِي تَحْرِيرِهِ نَوْعُ اخْتِلَالٍ وَاضْطِرَابٍ .
فَإِنَّ قَوْلَهُ وَأَمَّا شَرْطُ صِحَّتِهَا عَلَى الْخُصُوصِ إلَى قَوْلِهِ وَأَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ حُكْمٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ

لِصِحَّتِهَا شُرُوطًا أَرْبَعَةً : وَهِيَ مَجْلِسُ الْقَضَاءِ ، وَحُضُورُ الْخَصْمِ ، وَكَوْنُ الْمُدَّعَى بِهِ شَيْئًا مَعْلُومًا وَأَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ حُكْمٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ .
وَيَقْتَضِي هَذَا أَنْ يَكُونَ فَسَادُهَا بِأَحَدِ أُمُورٍ أَرْبَعَةٍ وَهِيَ : انْتِفَاءَاتُ هَذِهِ الشُّرُوطِ الْأَرْبَعَةِ ، وَأَنَّ قَوْلَهُ لِمَا أَنَّ الْفَاسِدَةَ مِنْ الدَّعْوَى هِيَ أَنْ لَا يَكُونَ الْخَصْمُ حَاضِرًا إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ عَزْلُهُ فِي الْحَالِ يُشْعِرُ بِأَنَّ فَسَادَهَا إنَّمَا هُوَ بِأُمُورٍ ثَلَاثَةٍ ، وَهِيَ عَدَمُ حُضُورِ الْخَصْمِ ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى بِهِ مَجْهُولًا ، وَأَنْ لَا يَلْزَمَ عَلَى الْمَطْلُوبِ شَيْءٌ بِالدَّعْوَى بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُعَرَّفَ فَاللَّامُ الْجِنْسِ إذَا جُعِلَ مُبْتَدَأً كَمَا فِي قَوْلِهِ إنَّ الْفَاسِدَةَ مِنْ الدَّعْوَى فَهُوَ مَقْصُورٌ عَلَى الْخَبَرِ نَحْوُ : الْكَرَمُ التَّقْوَى .
وَالْإِمَامُ مِنْ قُرَيْشٍ .
عَلَى مَا عُرِفَ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ ، وَأَنَّ قَوْلَهُ وَفَسَادُ الدَّعْوَى بِأَحَدِ مَعْنَيَيْنِ إلَخْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَسَادَهَا بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ لَا غَيْرُ ؛ لِأَنَّ إضَافَةَ الْمَصْدَرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ وَفَسَادُ الدَّعْوَى تُفِيدُ الْقَصْدَ نَحْوُ ضَرْبِي زَيْدًا فِي الدَّارِ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ الْعَلَّامَةُ التَّفْتَازَانِيُّ فِي شَرْحِ التَّلْخِيصِ .
ثُمَّ إنَّ قَوْلَهُ وَأَمَّا أَنْوَاعُهَا فَشَيْئَانِ لَا يَخْلُو عَنْ سَمَاجَةٍ ظَاهِرَةٍ حَيْثُ حَمَلَ التَّثْنِيَةَ عَلَى الْجَمْعِ بِالْمُوَاطَأَةِ ( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( الْمُدَّعِي مَنْ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْخُصُومَةِ إذَا تَرَكَهَا ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ يُجْبَرُ عَلَى الْخُصُومَةِ ) وَرَدَّ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْإِصْلَاحِ وَالْإِيضَاحِ حَيْثُ قَالَ فِي مَتْنِهِ : الْمُدَّعِي مَنْ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْخُصُومَةِ ، وَقَالَ فِي شَرْحِهِ لَمْ يَقُلْ إذَا تَرَكَهَا كَمَا قَالَ الْقُدُورِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَجْبُورٍ حَالَتَيْ التَّرْكِ وَالْفِعْلِ ، وَالْقَيْدُ الْمَذْكُورُ يُوهِمُ الِاخْتِصَاصَ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ بَحْثٌ إذْ عَلَى تَقْدِيرِ تَرْكِ قِيلَ

التَّرْكُ يَلْزَمُ أَنْ يُنْتَقَضَ تَعْرِيفُ الْمُدَّعِي بِالْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَالَةَ الْفِعْلِ فَإِنَّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْخُصُومَةِ ضَرُورَةَ عَدَمِ تَصَوُّرِ الْجَبْرِ عَلَى الْفِعْلِ حَالَةَ حُصُولِهِ ، وَأَمَّا إيهَامُ الْقَيْدِ الْمَذْكُورِ الِاخْتِصَاصَ فَمَمْنُوعٌ لِانْدِفَاعِهِ بِشَهَادَةِ ضَرُورَةِ الْعَقْلِ عَلَى عَدَمِ تَصَوُّرِ الْجَبْرِ حَالَةَ الْفِعْلِ ( وَمَعْرِفَةُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا ) أَيْ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ ( مِنْ أَهَمِّ مَا يُبْتَنَى عَلَيْهِ مَسَائِلُ الدَّعْوَى ) فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ } وَالْإِنْسَانُ قَدْ يَكُونُ مُدَّعِيًا صُورَةً وَمَعَ ذَلِكَ يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ كَمَا فِي الْمُودَعِ إذَا ادَّعَى رَدَّ الْوَدِيعَةِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِهِمَا ( وَقَدْ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْمَشَايِخِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِيهِ ) أَيْ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا ( فَمِنْهَا مَا قَالَ فِي الْكِتَابِ ) يَعْنِي مُخْتَصَرَ الْقُدُورِيِّ ( وَهُوَ حَدٌّ عَامٌّ صَحِيحٌ ، وَقِيلَ الْمُدَّعِي مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا بِحُجَّةٍ ) وَهِيَ الْبَيِّنَةُ أَوْ الْإِقْرَارُ أَوْ النُّكُولُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى أَنَّهُ لَيْسَ بِإِقْرَارٍ كَمَا سَيُعْلَمُ فِي بَابِ الْيَمِينِ ( كَالْخَارِجِ ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ يَكُونُ مُسْتَحَقًّا بِقَوْلِهِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ كَذِي الْيَدِ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَهُوَ لَيْسَ بِعَامٍّ : أَيْ جَامِعٍ لِعَدَمِ تَنَاوُلِهِ صُورَةَ الْمُودَعِ إذَا ادَّعَى رَدَّ الْوَدِيعَةِ انْتَهَى .
أَقُولُ : يُمْكِنُ تَوْضِيحُ كَلَامِهِ وَتَقْرِيرُ مَرَامِهِ بِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يُقْبَلُ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ قَوْلُ الْمُودَعِ مَعَ يَمِينِهِ كَمَا سَيَجِيءُ فِي الْكِتَابِ فَلَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يُسْتَحَقُّ إلَّا بِحُجَّةٍ ، وَثَانِيهِمَا أَنَّ الْمُودَعَ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا ، فَلَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِحُجَّةٍ .
ثُمَّ أَقُولُ

: يُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْ الْوَجْهَيْنِ مَعًا أَنَّهُ سَيَجِيءُ فِي الْكِتَابِ أَنَّ الِاعْتِبَارَ عِنْدَ الْحُذَّاقِ مِنْ أَصْحَابِنَا لِلْمَعَانِي دُونَ الصُّوَرِ ، فَلِهَذَا أَنَّ الْمُودَعَ إذَا قَالَ رَدَدْت الْوَدِيعَةَ فَالْقَوْلُ مَعَ الْيَمِينِ ، وَإِنْ كَانَ مُدَّعِيًا لِلرَّدِّ صُورَةً لِأَنَّهُ يُنْكِرُ الضَّمَانَ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَدَارُ التَّعْرِيفِ الْمَذْكُورِ عَلَى الْمَعْنَى الْمُعْتَبَرِ دُونَ الصُّورَةِ ، فَحِينَئِذٍ لَا ضَيْرَ فِي عَدَمِ تَنَاوُلِ تَعْرِيفِ الْمُدَّعِي صُورَةَ الْمُودَعِ إذَا ادَّعَى رَدَّ الْوَدِيعَةِ لِعَدَمِ كَوْنِهِ مُدَّعِيًا حَقِيقَةً أَوْ مَعْنًى .
وَيُمْكِنُ جَوَابٌ آخَرُ عَنْ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْمُودَعَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُدَّعٍ رَدَّ الْوَدِيعَةِ لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا بِحُجَّةٍ ، وَأَمَّا اسْتِحْقَاقُهُ بِقَوْلِهِ فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُدَّعًى عَلَيْهِ ، وَبِالْجُمْلَةِ قَيْدُ الْحَيْثِيَّةِ مُعْتَبَرٌ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ قَوْلِهِ الْمَذْكُورِ : وَلَعَلَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ يَدْفَعُ اسْتِحْقَاقَ غَيْرِهِ انْتَهَى .
أَقُولُ : وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَيْضًا بِأَنَّ دَفْعَ اسْتِحْقَاقِ غَيْرِهِ لَا يُنَافِي اسْتِحْقَاقَ نَفْسِهِ ، بَلْ يَقْتَضِيهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحُقُوقَ لَا تَتَحَقَّقُ بِدُونِ الْمُسْتَحِقِّ ، فَكَوْنُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ يَدْفَعُ اسْتِحْقَاقَ غَيْرِهِ لَا يُنَافِي صِحَّةَ تَعْرِيفِهِ بِمَنْ يَكُونُ مُسْتَحِقًّا بِقَوْلِهِ ، وَعَنْ هَذَا قَالَ صَاحِبُ الْكَافِي وَصَاحِبُ الْكِفَايَةِ فِي بَيَانِ تَعْرِيفِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمَنْ يَكُونُ مُسْتَحِقًّا بِقَوْلِهِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ ، فَإِنَّهُ إذَا قَالَ هُوَ لِي كَانَ مُسْتَحِقًّا لَهُ مَا لَمْ يُثْبِتْ الْغَيْرُ اسْتِحْقَاقَهُ .
فَإِنْ قُلْت : صِيغَةُ الْفِعْلِ تُفِيدُ التَّجَدُّدَ وَالْحُدُوثَ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ فَيَكُونُ مَعْنَى مَنْ يَكُونُ مُسْتَحِقًّا بِقَوْلِهِ مَنْ يَتَجَدَّدُ وَيَحْدُثُ اسْتِحْقَاقُهُ بِقَوْلِهِ مَعَ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا يَتَجَدَّدُ وَلَا يَحْدُثُ بِقَوْلِهِ بَلْ

يَكُونُ بَاقِيًا عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ الدَّعْوَى .
قُلْت : هَذِهِ مُنَاقَشَةٌ لَفْظِيَّةٌ يُمْكِنُ دَفْعُهَا أَيْضًا بِأَنْ يُقَالَ : الْمُرَادُ بِمَنْ يَكُونُ مُسْتَحِقًّا بِقَوْلِهِ مَنْ يَكُونُ ثَابِتًا عَلَى الِاسْتِحْقَاقِ بِقَوْلِهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ مُسْتَحِقًّا مَجَازًا ثَابِتًا عَلَى الِاسْتِحْقَاقِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ كَذِي الْيَدِ ، وَنَظِيرُ هَذَا مَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْله تَعَالَى { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } مِنْ أَنَّ مَعْنَاهُ ثَبِّتْنَا عَلَى هُدَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ ؛ فَاَلَّذِي يَلْزَمُ حِينَئِذٍ مِنْ صِيغَةِ الْفِعْلِ فِي تَعْرِيفِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمَا ذُكِرَ أَنْ يَتَجَدَّدَ الثَّبَاتُ عَلَى الِاسْتِحْقَاقِ لَا أَنْ يَتَجَدَّدَ نَفْسُ الِاسْتِحْقَاقِ وَلَا مَحْذُورَ فِيهِ .
وَأَجَابَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَمَّا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ : قَدْ مَرَّ فِي الدَّرْسِ السَّابِقِ أَنَّ لِدَوَامِ الْأُمُورِ الْمُسْتَمِرَّةِ الْغَيْرِ اللَّازِمَةِ حُكْمَ الِابْتِدَاءِ ، مَعَ أَنَّ فِي الْعُدُولِ مِنْ أَنْ يَقُولَ مَنْ يَسْتَحِقُّ بِقَوْلِهِ إلَى قَوْلِهِ مَنْ يَكُونُ مُسْتَحِقًّا بِقَوْلِهِ إيمَاءً إلَى دَفْعِ هَذَا الْكَلَامِ ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ مَنْ يَكُونُ اسْتِحْقَاقُهُ دَائِمًا لِدَلَالَةِ الِاسْمِ عَلَى الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ ا هـ .
أَقُولُ : فِي كُلٍّ مِنْ شِقَّيْ جَوَابِهِ نَظَرٌ : أَمَّا فِي شِقِّهِ الْأَوَّلِ فَلِأَنَّا سَلَّمْنَا أَنَّ لِدَوَامِ التَّصَرُّفَاتِ الْغَيْرِ اللَّازِمَةِ حُكْمَ الِابْتِدَاءِ عَلَى مَا مَرَّ فِي أَوَائِلِ الْبَابِ السَّابِقِ ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ الْقَبِيلِ فَتَأَمَّلْ .
وَأَمَّا فِي شِقِّهِ الثَّانِي لَا يَذْهَبُ عَلَى مَنْ لَهُ دُرْبَةٌ بِالْعُلُومِ الْأَدَبِيَّةِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ مَنْ يَسْتَحِقُّ بِقَوْلِهِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ مَنْ يَكُونُ مُسْتَحِقًّا بِقَوْلِهِ فِي إفَادَةِ التَّجَدُّدِ وَالْحُدُوثِ ، لِأَنَّ صِلَةَ مَنْ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ فَتَدُلُّ عَلَى التَّجَدُّدِ وَالْحُدُوثِ قَطْعًا ، وَكَوْنُ الْخَبَرِ اسْمًا فِي الثَّانِيَةِ مِمَّا

لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي إفَادَةِ الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ أَصْلًا ، عَلَى أَنَّ الثِّقَاتِ مِنْ مُحَقِّقِي النُّحَاةِ كَالرَّضِيِّ وَأَضْرَابِهِ صَرَّحُوا بِأَنَّ ثُبُوتَ خَبَرِ بَابِ كَانَ مُقْتَرِنٌ بِالزَّمَانِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ صِيغَةُ الْفِعْلِ النَّاقِصِ ، إمَّا مَاضِيًا أَوْ حَالًا أَوْ اسْتِقْبَالًا ، فَكَانَ لِلْمَاضِي وَيَكُونُ لِلْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ وَكُنْ لِلِاسْتِقْبَالِ .
وَقَالَ الْفَاضِلُ الرَّضِيُّ : وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ كَانَ يَدُلُّ عَلَى اسْتِمْرَارِ مَضْمُونِ الْخَبَرِ فِي جَمِيعِ الزَّمَنِ الْمَاضِي ، وَشُبْهَتُهُ قَوْله تَعَالَى { وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا } وَذَهِلَ أَنَّ الِاسْتِمْرَارَ مُسْتَفَادٌ مِنْ قَرِينَةِ وُجُوبِ كَوْنِ اللَّهِ سَمِيعًا بَصِيرًا لَا مِنْ لَفْظِ كَانَ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ كَانَ زَيْدٌ نَائِمًا فَاسْتَيْقَظَ ، وَكَانَ قِيَاسُ مَا قَالَ أَنْ يَكُونَ كُنْ وَيَكُونُ لِلِاسْتِمْرَارِ أَيْضًا .
وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ فَكَانَ تَكُونُ نَاقِصَةً لِثُبُوتِ خَبَرِهَا دَائِمًا أَوْ مُنْقَطِعًا رَدٌّ عَلَى ذَلِكَ الْقَائِلِ يَعْنِي أَنَّهُ يَجِيءُ دَائِمًا كَمَا فِي الْآيَةِ ، وَمُنْقَطِعًا كَمَا فِي قَوْلِك كَانَ زَيْدٌ قَائِمًا ، وَلَمْ يَدُلَّ لَفْظُ كَانَ عَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ بَلْ ذَلِكَ إلَى الْقَرِينَةِ ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
فَقَدْ تَقَرَّرَ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَا دَوَامَ فِي مَضْمُونِ خَبَرِ كَانَ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ ، وَإِنَّمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْبَعْضُ ذُهُولًا .
وَأَمَّا الدَّوَامُ فِي خَبَرِ يَكُونُ الَّذِي كَلَامُنَا فِيهِ فَمِمَّا لَمْ يَذْهَبْ إلَيْهِ أَحَدٌ قَطُّ ، فَمَا ذَكَرَهُ ذَلِكَ الْمُجِيبُ خَارِجٌ عَنْ قَوَاعِدِ الْعَرَبِيَّةِ بِالْكُلِّيَّةِ ، نَعَمْ لَوْ كَانَ الْمَذْكُورُ فِي التَّعْرِيفِ مَنْ هُوَ مُسْتَحِقٌّ بِقَوْلِهِ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ لَتَمَّ الْفَرْقُ وَلَيْسَ فَلَيْسَ ( وَقِيلَ الْمُدَّعِي مَنْ يَتَمَسَّكُ بِغَيْرِ الظَّاهِرِ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ يَتَمَسَّكُ بِالظَّاهِرِ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَلَعَلَّهُ مَنْقُوضٌ بِالْمُودَعِ فَإِنَّهُ مُدَّعًى عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ بِمُتَمَسِّكٍ بِالظَّاهِرِ إذْ رَدُّ الْوَدِيعَةِ لَيْسَ

بِظَاهِرٍ ؛ لِأَنَّ الْفَرَاغَ لَيْسَ بِأَصْلٍ بَعْدَ الِاشْتِغَالِ ، وَلِهَذَا قُلْنَا : إذَا ادَّعَى الْمَدْيُونُ بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ بِدَفْعِ الدَّيْنِ إلَى وَكِيلِ رَبِّ الْمَالِ وَهُوَ يُنْكِرُ الْوَكَالَةَ فَالْقَوْلُ لِرَبِّ الْمَالِ لِأَنَّ الْمَدْيُونَ يَدَّعِي بَرَاءَةً بَعْدَ الشُّغْلِ فَكَانَتْ عَارِضَةً ، وَالشُّغْلُ أَصْلٌ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُورِدَ بِالْعَكْسِ بِأَنَّهُ مُدَّعٍ وَيَتَمَسَّكُ بِالظَّاهِرِ وَهُوَ عَدَمُ الضَّمَانِ ا هـ .
أَقُولُ : فِيهِ بَحْثٌ ، إذْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُودَعَ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُدَّعًى عَلَيْهِ لَيْسَ هُوَ بِمُتَمَسِّكٍ بِالظَّاهِرِ .
قَوْلُهُ إذْ رَدُّ الْوَدِيعَةِ لَيْسَ بِظَاهِرٍ .
قُلْنَا : مُسَلَّمٌ لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ تَمَسُّكَهُ بِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُدَّعًى عَلَيْهِ ، بَلْ هُوَ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ مُتَمَسِّكٌ بِعَدَمِ الضَّمَانِ وَهُوَ الظَّاهِرُ ، وَكَذَا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُدَّعٍ يَتَمَسَّكُ بِالظَّاهِرِ بَلْ هُوَ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ مُلْتَمِسٌ غَيْرَ الظَّاهِرِ وَهُوَ رَدُّ الْوَدِيعَةِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ زَعَمَ حَيْثِيَّةَ كَوْنِ الْمُودَعِ مُدَّعِيًا حَيْثِيَّةَ كَوْنِهِ مُدَّعًى عَلَيْهِ وَبِالْعَكْسِ فَأَوْرَدَ النَّقْضَ عَلَى تَعْرِيفِهِمَا ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمَهُ ، كَيْفَ وَلَوْ تَمَّ مَا زَعَمَهُ لَوْ رُدَّ النَّقْضُ بِالْمُودَعِ إذَا ادَّعَى رَدَّ الْوَدِيعَةِ عَلَى التَّعْرِيفِ الْأَوَّلِ أَيْضًا بِأَنَّهُ مُدَّعٍ رَدَّ الْوَدِيعَةِ وَيُجْبَرُ عَلَى الْخُصُومَةِ مَعَ أَنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ حَدٌّ عَامٌّ صَحِيحٌ .
ثُمَّ إنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ كُلَّهُ عَلَى تَسْلِيمِ اعْتِبَارِ جَانِبِ الصُّورَةِ أَيْضًا فِيمَا إذَا ادَّعَى الْمُودَعُ رَدَّ الْوَدِيعَةِ ، وَأَمَّا عَلَى تَقْدِيرِ إنْ كَانَ الْمُعْتَبَرُ هُوَ جَانِبُ الْمَعْنَى دُونَ جَانِبِ الصُّورَةِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَسَيَجِيءُ فِي الْكِتَابِ فَلَا يَتَوَجَّهُ النَّقْضُ بِالْعَكْسِ أَصْلًا .
وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَلَى بَعْضِ مُقَدِّمَاتِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ هَاهُنَا حَيْثُ قَالَ : فِيهِ كَلَامٌ ، وَهُوَ أَنَّ فِي صُورَةِ

الْوَدِيعَةِ لَيْسَ فِي ذِمَّةِ الْمُودَعِ شَيْءٌ مِنْ الْمَالِ حَتَّى يَكُونَ دَعْوَى الرَّدِّ مِنْهُ دَعْوَى الْبَرَاءَةِ بَعْدَ الشُّغْلِ ، بَلْ إنَّمَا هِيَ مُجَرَّدُ إنْكَارِ الضَّمَانِ وَثُبُوتُ الشَّيْءِ فِي ذِمَّتِهِ ، بِخِلَافِ صُورَةِ الدَّيْنِ ، وَأُشِيرَ إلَى هَذَا فِي الْكَافِي ا هـ .
أَقُولُ : نَعَمْ قَدْ أُشِيرَ إلَيْهِ ، بَلْ صَرَّحَ بِهِ فِي الْكَافِي وَعَامَّةِ الشُّرُوحِ .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ رَآهُ وَاطَّلَعَ عَلَيْهِ وَلَكِنْ بَعْدَ ذَلِكَ لَهُ أَنْ يَقُولَ سَلَّمْنَا أَنَّ فِي صُورَةِ الْوَدِيعَةِ لَيْسَ فِي ذِمَّةِ الْمُودَعِ شَيْءٌ مِنْ الْمَالِ ، وَلَكِنْ فِي عُهْدَتِهِ حِفْظُ مَالِ الْوَدِيعَةِ ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي كِتَابِ الْوَدِيعَةِ أَنَّهَا عَقْدُ اسْتِحْفَاظٍ ، وَأَنَّ حُكْمَهَا وُجُوبُ الْحِفْظِ عَلَى الْمُودَعِ فَكَانَ دَعْوَى الرَّدِّ مِنْهُ دَعْوَى الْبَرَاءَةِ بَعْدَ اشْتِغَالِ ذِمَّتِهِ بِالْحِفْظِ ، وَالْفَرَاغُ لَيْسَ بِأَصْلٍ بَعْدَ الِاشْتِغَالِ فَيَتَمَشَّى كَلَامُهُ ، وَيَتِمُّ مَرَامُهُ وَأَمَّا قَوْلُهُ وَلِهَذَا قُلْنَا إذَا ادَّعَى الْمَدْيُونُ بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ بِدَفْعِ الدَّيْنِ إلَخْ ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا عَلَى مُجَرَّدِ الِاشْتِرَاكِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ فِي كَوْنِ الْفَرَاغِ لَيْسَ بِأَصْلٍ بَعْدَ الِاشْتِغَالِ ، وَإِنْ كَانَتَا مُخْتَلِفَتَيْنِ بِكَوْنِ الِاشْتِغَالِ فِي إحْدَاهُمَا بِالْمَالِ وَفِي الْأُخْرَى بِالْحِفْظِ ، فَاَلَّذِي يَقْطَعُ عِرْقَ إيرَادِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ هَاهُنَا مَا قَدَّمْنَاهُ لَا غَيْرُ ( وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : فِي الْأَصْلِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُوَ الْمُنْكِرُ ، وَهَذَا صَحِيحٌ ) لِمَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ } وَرُوِيَ { الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ } ( لَكِنَّ الشَّأْنَ فِي مَعْرِفَتِهِ ) أَيْ مَعْرِفَةِ الْمُنْكِرِ ( وَالتَّرْجِيحِ بِالْفِقْهِ ) أَيْ بِالْمَعْنَى دُونَ الصُّورَةِ ( عِنْدَ الْحُذَّاقِ مِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ لِلْمَعَانِي دُونَ الصُّوَرِ فَإِنَّ الْمُودَعَ إذَا قَالَ رَدَدْت الْوَدِيعَةَ

فَالْقَوْلُ لَهُ مَعَ الْيَمِينِ وَإِنْ كَانَ مُدَّعِيًا لِلرَّدِّ صُورَةً لِأَنَّهُ يُنْكِرُ الضَّمَانَ ) تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ فَالْقَوْلُ لَهُ مَعَ الْيَمِينِ .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : يَعْنِي إذَا تَعَارَضَ الْجِهَتَانِ فِي صُورَةٍ فَالتَّرْجِيحُ لِإِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى يَكُونُ بِالْفِقْهِ : أَيْ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى دُونَ الصُّورَةِ ، فَإِنَّ الْمُودَعَ إذَا قَالَ رَدَدْت الْوَدِيعَةَ فَهُوَ يَدَّعِي الرَّدَّ صُورَةً ، فَلَوْ أَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً قُبِلَتْ ، وَالْقَوْلُ لَهُ مَعَ يَمِينِهِ أَيْضًا فَكَانَ مُدَّعًى عَلَيْهِ ، فَإِذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ اعْتَبَرَ الصُّورَةَ ، وَإِذَا عَجَزَ عَنْهَا اعْتَبَرَ مَعْنَاهَا ، فَإِنَّهُ يُنْكِرُ الضَّمَانَ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ ا هـ .
أَقُولُ : شَرْحُ هَذَا الْمَقَامِ بِهَذَا الْوَجْهِ لَا يَكَادُ يَصِحُّ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلْمَشْرُوحِ لِأَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ وَالتَّرْجِيحُ بِالْفِقْهِ عِنْدَ الْحُذَّاقِ مِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ لِلْمَعَانِي دُونَ الصُّوَرِ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْمَعَانِي لَا غَيْرُ ، وَقَوْلُ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ : فَإِذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ اعْتَبَرَ الصُّورَةَ وَإِذَا عَجَزَ عَنْهَا اعْتَبَرَ مَعْنَاهُ مُخَالِفٌ لَهُ لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الصُّورَةَ أَيْضًا مُعْتَبَرَةٌ فَيَصِيرُ هَذَا مِنْ قَبِيلِ الْعَمَلِ بِالْجِهَتَيْنِ لَا مِنْ قَبِيلِ تَرْجِيحِ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ أَوَّلَ هَذَا الشَّرْحِ مُخَالِفٌ لِآخِرِهِ ، فَإِنَّ قَوْلَهُ فِي الْأَوَّلِ إذَا تَعَارَضَ الْجِهَتَانِ فِي صُورَةٍ فَالتَّرْجِيحُ لِإِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى يَكُونُ بِالْفِقْهِ : أَيْ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى دُونَ الصُّورَةِ ، صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْمُعْتَبَرَ جِهَةُ الْمَعْنَى دُونَ جِهَةِ الصُّورَةِ ، وَقَوْلُهُ فِي الْآخَرِ فَإِذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ اعْتَبَرَ الصُّورَةَ وَإِذَا عَجَزَ عَنْهَا اعْتَبَرَ مَعْنَاهَا ، صَرِيحٌ فِي أَنَّ كِلْتَا الْجِهَتَيْنِ مُعْتَبَرَتَانِ .
ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ قَصَدَ تَوْجِيهَ كَلَامِ صَاحِبِ

الْعِنَايَةِ هَاهُنَا وَتَبْيِينَ مَرَامِهِ فَقَالَ : الْمُرَادُ بِالْجِهَتَيْنِ الْإِنْكَارُ الصُّورِيُّ وَالْإِنْكَارُ الْمَعْنَوِيُّ لَا الِادِّعَاءُ الصُّورِيُّ وَالْإِنْكَارُ الْمَعْنَوِيُّ عَلَى مَا يُتَوَهَّمُ مِنْ ظَاهِرِ كَلَامِهِ ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُعْتَبَرٌ حَيْثُ تُقْبَلُ بَيِّنَةُ الرَّدِّ أَيْضًا فَلَا يَظْهَرُ تَرْجِيحُ الْمَعْنَوِيِّ ا هـ .
أَقُولُ : هَذَا أَيْضًا غَيْرُ صَحِيحٍ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الشَّرْحَ لَا يُطَابِقُ الْمَشْرُوحَ حِينَئِذٍ أَيْضًا ، فَإِنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ لِلْمَعَانِي دُونَ الصُّوَرِ فَإِنَّ الْمُودَعَ إذَا قَالَ رَدَدْت الْوَدِيعَةَ فَالْقَوْلُ لَهُ مَعَ الْيَمِينِ ، وَإِنْ كَانَ مُدَّعِيًا لِلرَّدِّ صُورَةً يَدُلُّ قَطْعًا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالصُّورَةِ هَاهُنَا الِادِّعَاءُ الصُّورِيُّ حَيْثُ جَعَلَ الصُّورَةَ قَيْدًا لِلِادِّعَاءِ فِي قَوْلِهِ وَإِنْ كَانَ مُدَّعِيًا لِلرَّدِّ صُورَةً .
وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَلِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلتَّعَارُضِ بَيْنَ الْإِنْكَارِ الصُّورِيِّ وَالْإِنْكَارِ الْمَعْنَوِيِّ ؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُرَادَ بِالتَّعَارُضِ هَاهُنَا مُجَرَّدُ التَّخَالُفِ فِي الْحَقِيقَةِ أَوْ التَّنَافِي فِي الصِّدْقِ ، وَكِلَاهُمَا غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ بَيْنَ الْإِنْكَارِ الصُّورِيِّ وَالْإِنْكَارِ الْمَعْنَوِيِّ .
أَمَّا عَدَمُ تَحَقُّقِ الْأَوَّلِ بَيْنَهُمَا فَظَاهِرٌ ، وَأَمَّا عَدَمُ تَحَقُّقِ الثَّانِي بَيْنَهُمَا فَلِأَنَّ الْمُنْكِرَ الْمَعْنَوِيَّ فِيمَا إذَا قَالَ الْمُودَعُ رَدَدْت الْوَدِيعَةَ هُوَ الْمُودَعُ بِالْفَتْحِ حَيْثُ يُنْكِرُ الضَّمَانَ ، وَالْمُنْكِرُ الصُّورِيُّ هُوَ الْمُودِعُ بِالْكَسْرِ حَيْثُ يُنْكِرُ الرَّدَّ ، وَلَا تَنَافِي بَيْنَ إنْكَارَيْهِمَا فِي الصِّدْقِ لِجَوَازِ أَنْ يَصْدُقَا مَعًا بِأَنْ لَا يَرُدَّ الْمُودَعُ الْوَدِيعَةَ وَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ لِهَلَاكِ الْوَدِيعَةِ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ مِنْهُ ، فَإِذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ شَيْءٌ مِنْ مَعْنَى التَّعَارُضِ بَيْنَهُمَا فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ الْجِهَتَانِ فِي قَوْلِهِ : يَعْنِي إذَا تَعَارَضَ الْجِهَتَانِ .
وَأَيْضًا إنَّمَا يُتَصَوَّرُ

التَّعَارُضُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِمَا فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ ، وَمَحَلُّ الْإِنْكَارِ الصُّورِيِّ مُغَايِرٌ لِمَحَلِّ الْإِنْكَارِ الْمَعْنَوِيِّ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لِقِيَامِ أَحَدِهِمَا بِالْمُودِعِ بِالْكَسْرِ وَالْآخَرِ بِالْمُودَعِ بِالْفَتْحِ فَلَا يُتَصَوَّرُ التَّعَارُضُ بَيْنَهُمَا ، بِخِلَافِ الِادِّعَاءِ الصُّورِيِّ وَالْإِنْكَارِ الْمَعْنَوِيِّ فَإِنَّهُ يَتَحَقَّقُ بَيْنَهُمَا التَّعَارُضُ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ قَطْعًا ، وَمَحَلُّهُمَا وَاحِدٌ وَهُوَ الْمُودَعُ بِالْفَتْحِ فَكَانَ مَوْقِعًا لِلتَّعَارُضِ وَنِعْمَ مَا قِيلَ وَلَنْ يُصْلِحَ الْعَطَّارُ مَا أَفْسَدَ الدَّهْرُ ثُمَّ إنَّ الْحَقَّ عِنْدِي أَنْ يُشْرَحَ هَذَا الْمُقَامَ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ عِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا تَعَارَضَتْ الْجِهَتَانِ : أَيْ جِهَةُ الِادِّعَاءِ الصُّورِيِّ وَجِهَةُ الْإِنْكَارِ الْمَعْنَوِيِّ فَالتَّرْجِيحُ بِالْفِقْهِ : أَيْ بِالْمَعْنَى عِنْدَ الْحُذَّاقِ مِنْ أَصْحَابِنَا ، فَإِنَّ الِاعْتِبَارَ لِلْمَعَانِي دُونَ الصُّوَرِ ، فَإِنَّ الْمُودَعَ إذَا قَالَ رَدَدْت الْوَدِيعَةَ فَالْقَوْلُ لَهُ مَعَ يَمِينِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يُنْكِرُ الضَّمَانَ مَعْنًى وَلَا يُعْتَبَرُ كَوْنُهُ مُدَّعِيًا لِلرَّدِّ صُورَةً ، وَأَنْ يُقَالَ فِي وَجْهِ قَبُولِ بَيِّنَةِ الْمُودِعِ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ : إنَّمَا تُقْبَلُ بَيِّنَةُ الْمُودِعِ إذَا أَقَامَهَا عَلَى الرَّدِّ لِدَفْعِ الْيَمِينِ عَنْهُ ، فَإِنَّ الْبَيِّنَةَ قَدْ تُقْبَلُ لِدَفْعِ الْيَمِينِ عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ فِي مَوَاضِعَ شَتَّى مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ ، مِنْهَا مَا ذَكَرَهُ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ فِي شَرْحِ الْوِقَايَةِ فِي مَسْأَلَةِ اخْتِلَافِ الزَّوْجَيْنِ فِي قَدْرِ الْمَهْرِ حَيْثُ قَالَ : إنَّ الْمَرْأَةَ تَدَّعِي الزِّيَادَةَ ، فَإِنْ أَقَامَتْ بَيِّنَةً قُبِلَتْ ، وَإِنْ أَقَامَ الزَّوْجُ تُقْبَلُ أَيْضًا لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ تُقْبَلُ لِدَفْعِ الْيَمِينِ كَمَا إذَا أَقَامَ الْمُودَعُ بَيِّنَةً عَلَى رَدِّ الْوَدِيعَةِ عَلَى الْمَالِكِ تُقْبَلُ ا هـ .
فَحِينَئِذٍ يَتَّضِحُ الْمُرَادُ وَيَرْتَفِعُ الْفَسَادُ

قَالَ ( وَلَا تُقْبَلُ الدَّعْوَى حَتَّى يَذْكُرَ شَيْئًا مَعْلُومًا فِي جِنْسِهِ وَقَدْرِهِ ) لِأَنَّ فَائِدَةَ الدَّعْوَى الْإِلْزَامُ بِوَاسِطَةِ إقَامَةِ الْحُجَّةِ ، وَالْإِلْزَامُ فِي الْمَجْهُولِ لَا يَتَحَقَّقُ ( فَإِنْ كَانَ عَيْنًا فِي يَدِ الْمُدَّعَى ) عَلَيْهِ كُلِّفَ إحْضَارَهَا لِيُشِيرَ إلَيْهَا بِالدَّعْوَى ، وَكَذَا فِي الشَّهَادَةِ وَالِاسْتِحْلَافِ ، لِأَنَّ الْإِعْلَامَ بِأَقْصَى مَا يُمْكِنُ شَرْطٌ وَذَلِكَ بِالْإِشَارَةِ فِي الْمَنْقُولِ لِأَنَّ النَّقْلَ مُمْكِنٌ وَالْإِشَارَةُ أَبْلَغُ فِي التَّعْرِيفِ ، وَيَتَعَلَّقُ بِالدَّعْوَى وُجُوبُ الْحُضُورِ ، وَعَلَى هَذَا الْقُضَاةُ مِنْ آخِرِهِمْ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَوُجُوبُ الْجَوَابِ إذَا حَضَرَ لِيُفِيدَ حُضُورُهُ وَلُزُومُ إحْضَارِ الْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ لِمَا قُلْنَا وَالْيَمِينِ إذَا أَنْكَرَهُ ، وَسَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى

( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( وَلَا تُقْبَلُ الدَّعْوَى حَتَّى يَذْكُرَ شَيْئًا مَعْلُومًا فِي جِنْسِهِ ) كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْحِنْطَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ( وَقَدْرَهُ ) مِثْلَ كَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا أَوْ دِينَارًا أَوْ كُرًّا .
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا فِي دَعْوَى الدَّيْنِ لَا فِي دَعْوَى الْعَيْنِ ، فَإِنَّ الْعَيْنَ إذَا كَانَتْ حَاضِرَةً تَكْفِي الْإِشَارَةُ إلَيْهَا بِأَنَّ هَذِهِ مِلْكٌ لِي ، وَإِنْ كَانَتْ غَائِبَةً يَجِبُ أَنْ يَذْكُرَ قِيمَتَهَا عَلَى مَا سَيُفَصَّلُ .
فَإِنْ قُلْتَ : عِبَارَةُ الْكِتَابِ لَا تَدُلُّ عَلَى التَّقْيِيدِ قُلْتُ : نَعَمْ ، إلَّا أَنَّ الْعِبَارَةَ وَقَعَتْ كَذَلِكَ فِي عَامَّةِ مُعْتَبَرَاتِ الْمُتُونِ فَلَعَلَّهَا بِنَاءً عَلَى انْفِهَامِ الْمُرَادِ بِهَا مِمَّا يُذْكَرُ بَعْدَهَا مِنْ تَفْصِيلِ أَحْوَالِ دَعْوَى الْأَعْيَانِ ، وَمَعَ هَذَا قَدْ تَصَدَّى صَدْرُ الشَّرِيعَةِ فِي شَرْحِ الْوِقَايَةِ لِبَيَانِ الْمُرَادِ بِهَا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ إيضَاحًا لِلْمَقَامِ .
وَأَمَّا بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فَلَمَّا فَهِمُوا الْخَفَاءَ فِيهَا غَيَّرُوهَا فِي مُتُونِهِمْ إلَى التَّصْرِيحِ بِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ الدَّعَاوَى عَلَى حِدَةٍ مَعَ بَيَانِ شَرَائِطِهِ الْمَخْصُوصَةِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ ( لِأَنَّ فَائِدَةَ الدَّعْوَى الْإِلْزَامُ ) أَيْ الْإِلْزَامُ عَلَى الْخَصْمِ ( بِوَاسِطَةِ إقَامَةِ الْحُجَّةِ ، وَالْإِلْزَامُ فِي الْمَجْهُولِ لَا يَتَحَقَّقُ .
) أَقُولُ : فِيهِ بَحْثٌ .
وَهُوَ أَنَّ عَدَمَ تَحَقُّقِ الْإِلْزَامِ فِي الْمَجْهُولِ مَمْنُوعٌ ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْمَجْهُولِ صَحِيحٌ ، وَقَدْ مَرَّ فِي صَدْرِ كِتَابِ الدَّعْوَى أَنَّ حُكْمَ الدَّعْوَى الصَّحِيحَةِ وُجُوبُ الْجَوَابِ عَلَى الْخَصْمِ إمَّا بِالْإِقْرَارِ وَإِمَّا بِالْإِنْكَارِ ، فَعَلَى تَقْدِيرِ إنْ أَجَابَ الْخَصْمُ بِالْإِقْرَارِ يُمْكِنُ الْإِلْزَامُ عَلَيْهِ فِي الْمَجْهُولِ أَيْضًا لِكَوْنِهِ مُؤَاخَذًا بِإِقْرَارِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ تَصِحَّ الدَّعْوَى فِيهِ أَيْضًا لِظُهُورِ فَائِدَتِهَا عَلَى تَقْدِيرِ الْجَوَابِ بِالْإِقْرَارِ .

وَبِالْجُمْلَةِ إنَّ الْإِلْزَامَ كَمَا يَتَحَقَّقُ بِوَاسِطَةِ حُجَّةِ الْبَيِّنَةِ كَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِوَاسِطَةِ حُجَّةِ الْإِقْرَارِ ، فَإِنْ لَمْ يُتَصَوَّرْ الْأَوَّلُ فِي دَعْوَى الْمَجْهُولِ يُتَصَوَّرْ الثَّانِي فِيهَا فَلَا يَتِمُّ الْمَطْلُوبُ .
لَا يُقَالُ : إقْرَارُ الْخَصْمِ مُحْتَمَلٌ لَا مُحَقَّقٌ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْإِلْزَامُ فِي دَعْوَى الْمَجْهُولِ بَلْ يُحْتَمَلُ .
لِأَنَّا نَقُولُ : الْمُرَادُ بِتَحَقُّقِ الْإِلْزَامِ الَّذِي عُدَّ فَائِدَةَ الدَّعْوَى إمْكَانُ تَحَقُّقِهِ دُونَ وُقُوعِهِ بِالْفِعْلِ ، وَإِلَّا يَلْزَمْ أَنْ لَا تَتَحَقَّقَ الْفَائِدَةُ فِي كَثِيرٍ مِنْ دَعَاوَى الْمَعْلُومِ أَيْضًا ، كَمَا إذَا عَجَزَ الْمُدَّعِي عَنْ الْبَيِّنَةِ وَلَمْ يُقِرَّ الْخَصْمُ بِمَا ادَّعَاهُ بَلْ أَنْكَرَ وَحَلَفَ إذًا حِينَئِذٍ لَا يَقَعُ الْإِلْزَامُ بِالْفِعْلِ قَطْعًا ( فَإِنْ كَانَ ) أَيْ الْمُدَّعَى ( عَيْنًا فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كُلِّفَ إحْضَارَهَا ) أَيْ كُلِّفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إحْضَارَ الْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ إلَى مَجْلِسِ الْحُكْمِ ( لِيُشِيرَ ) أَيْ الْمُدَّعِي ( إلَيْهَا بِالدَّعْوَى ) هَذَا الَّذِي ذُكِرَ لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَكَذَا فِي الشَّهَادَةِ وَالِاسْتِحْلَافِ ) يَعْنِي إذَا شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى الْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ أَوْ اُسْتُحْلِفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَيْهَا كُلِّفَ إحْضَارَهُ إلَى مَجْلِسِ الْحُكْمِ لِيُشِيرَ الشُّهُودُ إلَيْهَا عِنْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ ، وَلِيُشِيرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إلَيْهَا عِنْدَ الْحَلِفِ ( لِأَنَّ الْإِعْلَامَ بِأَقْصَى مَا يُمْكِنُ شَرْطٌ ، وَذَلِكَ بِالْإِشَارَةِ فِي الْمَنْقُولِ لِأَنَّ النَّقْلَ مُمْكِنٌ وَالْإِشَارَةُ أَبْلَغُ فِي التَّعْرِيفِ ) حَتَّى قَالُوا فِي الْمَنْقُولَاتِ الَّتِي يَتَعَذَّرُ نَقْلُهَا كَالرَّحَى وَنَحْوِهِ حَضَرَ الْقَاضِي عِنْدَهَا أَوْ بَعَثَ أَمِينًا ، كَذَا فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ ( وَيَتَعَلَّقُ بِالدَّعْوَى ) أَيْ بِالدَّعْوَى الصَّحِيحَةِ : أَيْ بِمُجَرَّدِهَا ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ ( وُجُوبُ الْحُضُورِ ) أَيْ وُجُوبُ حُضُورِ الْخَصْمِ مَجْلِسَ الْقَاضِي ( وَعَلَى

هَذَا الْقُضَاةُ ) أَيْ عَلَى وُجُوبِ حُضُورِ الْخَصْمِ مَجْلِسَ الْقَاضِي بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى الصَّحِيحَةِ الْقُضَاةُ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى { وَإِذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ } إلَى قَوْلِهِ { بَلْ أُولَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ } سَمَّاهُمْ ظَالِمِينَ لِإِعْرَاضِهِمْ عِنْدَ الطَّلَبِ ( مِنْ آخِرِهِمْ ) أَيْ مِنْ آخِرِهِمْ إلَى أَوَّلِهِمْ وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : أَيْ بِأَجْمَعِهِمْ ، وَهَذَا أَيْضًا صَحِيحٌ بِالنَّظَرِ إلَى الْمَآلِ .
وَقَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ : أَيْ مِنْ أَوَّلِهِمْ إلَى آخِرِهِمْ وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ ، وَهَذَا بَعِيدٌ عَنْ عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ كَمَا لَا يَخْفَى ( فِي كُلِّ عَصْرٍ ) فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَعَلَهُ ، وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَعَلَا ذَلِكَ ، وَالتَّابِعُونَ بَعْدَ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ فَعَلُوا ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرِ مُنْكِرٍ ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ فَحَلَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ ( وَوُجُوبُ الْجَوَابِ إذَا حَضَرَ ) عَطْفٌ عَلَى وُجُوبِ الْحُضُورِ : أَيْ وَيَتَعَلَّقُ بِالدَّعْوَى الصَّحِيحَةِ أَيْضًا وُجُوبُ الْجَوَابِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِنَعَمْ أَوْ بِلَا ( لِيُفِيدَ حُضُورُهُ ) أَيْ حُضُورَ الْخَصْمِ ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ حُضُورِهِ الْجَوَابُ ( وَلُزُومُ إحْضَارِ الْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ ) أَيْ وَيَتَعَلَّقُ بِالدَّعْوَى الصَّحِيحَةِ أَيْضًا لُزُومُ أَنْ يُحْضِرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْعَيْنَ الْمُدَّعَاةَ إلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي ( لِمَا قُلْنَا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِيُشِيرَ إلَيْهَا بِالدَّعْوَى ( وَالْيَمِينِ ) بِالْجَرِّ عَطْفٌ عَلَى إحْضَارِ الْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ ، فَالْمَعْنَى : وَيَتَعَلَّقُ بِالدَّعْوَى الصَّحِيحَةِ أَيْضًا لُزُومُ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ( إذَا أَنْكَرَهُ ) أَيْ إذَا أَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَا ادَّعَاهُ الْمُدَّعِي وَعَجَزَ

الْمُدَّعِي عَنْ الْبَيِّنَةِ ( وَسَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ) أَيْ وَسَنَذْكُرُ لُزُومَ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي آخِرِ هَذَا الْبَابِ

قَالَ ( وَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَاضِرَةً ذَكَرَ قِيمَتَهَا لِيَصِيرَ الْمُدَّعَى مَعْلُومًا ) لِأَنَّ الْعَيْنَ لَا تُعْرَفُ بِالْوَصْفِ ، وَالْقِيمَةُ تُعْرَفُ بِهِ وَقَدْ تَعَذَّرَ مُشَاهَدَةُ الْعَيْنِ وَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ : يُشْتَرَطُ مَعَ بَيَانِ الْقِيمَةِ ذِكْرُ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ .

( قَالَ : وَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَاضِرَةً ذَكَرَ قِيمَتَهَا ) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ : أَيْ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ الْعَيْنُ الْمُدَّعَاةُ حَاضِرَةً فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَلْ كَانَتْ غَائِبَةً لَا يَدْرِي مَكَانَهَا ذَكَرَ الْمُدَّعِي قِيمَةَ الْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ الْغَائِبَةِ ( لِيَصِيرَ الْمُدَّعِي مَعْلُومًا ) فَتَصِحُّ الدَّعْوَى بِوُقُوعِهَا عَلَى مَعْلُومٍ ( لِأَنَّ الْعَيْنَ لَا تُعْرَفُ بِالْوَصْفِ ) لِإِمْكَانِ مُشَارَكَةِ أَعْيَانٍ كَثِيرَةٍ فِيهِ ، وَإِنْ بُولِغَ فِيهِ فَذَكَرَ الْوَصْفَ لَا يُفِيدُ ( وَالْقِيمَةُ تُعْرَفُ بِهِ ) أَيْ وَالْقِيمَةُ شَيْءٌ تُعْرَفُ الْعَيْنُ بِهِ فَذِكْرُهَا يُفِيدُ ( وَقَدْ تَعَذَّرَ مُشَاهَدَةُ الْعَيْنِ ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مِنْ قَوْلِهِ وَالْقِيمَةُ تُعْرَفُ بِهِ : أَيْ وَالْقِيمَةُ شَيْءٌ تُعْرَفُ بِهِ : يَعْنِي وَالْحَالُ أَنَّ الْمُشَاهَدَةَ مُتَعَذِّرَةٌ فَيَكُونُ ذِكْرُ الْقِيمَةِ إذْ ذَاكَ أَقْصَى مَا يُمْكِنُ الْإِعْلَامُ .
وَقَدْ جَعَلَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ الْجُمْلَةَ الْمَزْبُورَةَ حَالِيَّةً مِنْ قَوْلِهِ لِأَنَّ الْعَيْنَ لَا تُعْرَفُ بِالْوَصْفِ فَعَلَيْك الِاخْتِبَارُ ثُمَّ الِاخْتِيَارُ ( وَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ : يُشْتَرَطُ مَعَ بَيَانِ الْقِيمَةِ ذِكْرُ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ ) قَالَ صَاحِبُ الْكَافِي نَقْلًا عَنْ الْقَاضِي فَخْرِ الدِّينِ وَصَاحِبِ الذَّخِيرَةِ : وَإِنْ كَانَ الْعَيْنُ غَائِبًا وَادَّعَى أَنَّهُ فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَأَنْكَرَ أَنْ بَيَّنَ الْمُدَّعِي قِيمَتَهُ وَصِفَتَهُ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ وَتُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ ، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ الْقِيمَةَ وَقَالَ غَصَبَ مِنِّي عَيْنَ كَذَا وَلَا أَدْرِي أَنَّهُ هَالِكٌ أَمْ قَائِمٌ وَلَا أَدْرِي كَمْ كَانَتْ قِيمَتُهُ ذُكِرَ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ أَنَّهُ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ رُبَّمَا لَا يَعْرِفُ قِيمَةَ مَالِهِ ، فَلَوْ كُلِّفَ بَيَانَ الْقِيمَةِ لَتَضَرَّرَ بِهِ ا هـ .
وَقَالَ صَاحِبَا النِّهَايَةِ وَالْكِفَايَةِ نَقْلًا عَنْ الْإِمَامِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ الْبَزْدَوِيِّ : إذَا كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ مُخْتَلَفًا فِيهَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُكَلِّفَ الْمُدَّعِيَ

بَيَانَ الْقِيمَةِ ، وَإِذَا كَلَّفَهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ لَا يَعْرِفُ قِيمَةَ مَالِهِ ، فَلَوْ كَلَّفَهُ بَيَانَ الْقِيمَةِ فَقَدْ أَضَرَّ بِهِ ، إذْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الْوُصُولُ إلَى حَقِّهِ ، ثُمَّ قَالَ : وَإِذَا سَقَطَ بَيَانُ الْقِيمَةِ مِنْ الْمُدَّعِي سَقَطَ عَنْ الشُّهُودِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى ا هـ .
وَقَالَ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ بَعْدَ نَقْلِ مَا ذُكِرَ فِي الْكَافِي : فَإِذَا سَقَطَ بَيَانُ الْقِيمَةِ عَنْ الْمُدَّعِي سَقَطَ عَنْ الشُّهُودِ أَيْضًا ، بَلْ أَوْلَى لِأَنَّهُمْ أَبْعَدُ عَنْ مُمَارَسَتِهِ ا هـ .
وَقَالَ صَاحِبُ الدُّرَرِ وَالْغُرَرِ بَعْدَ نَقْلِ مَا فِي الْكَافِي : أَقُولُ فَائِدَةُ صِحَّةِ الدَّعْوَى مَعَ هَذِهِ الْجَهَالَةِ الْفَاحِشَةِ تَوَجُّهُ الْيَمِينِ عَلَى الْخَصْمِ إذَا أَنْكَرَ ، وَالْجَبْرُ عَلَى الْبَيَانِ إذَا أَقَرَّ أَوْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ فَلْيُتَأَمَّلْ ، فَإِنَّ كَلَامَ الْكَافِي لَا يَكُونُ كَافِيًا إلَّا بِهَذَا التَّحْقِيقِ ، الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى التَّوْفِيقِ انْتَهَى .
أَقُولُ : يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْفَائِدَةِ جَارٍ فِي جَمِيعِ صُوَرِ دَعْوَى الْمَجْهُولِ دَيْنًا كَانَ أَوْ عَيْنًا ، فَيَقْتَضِي صِحَّةَ دَعْوَى الْمَجْهُولِ مُطْلَقًا مَعَ أَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّ مِنْ شَرَائِطِ صِحَّةِ الدَّعْوَى كَوْنَ الْمُدَّعَى مَعْلُومًا غَيْرَ مَجْهُولٍ ، وَأَنَّ رِوَايَةَ صِحَّةِ دَعْوَى الْعَيْنِ مَعَ جَهَالَةِ الْقِيمَةِ إنَّمَا وَرَدَتْ فِي دَعْوَى الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ فَقَطْ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي دَفْعِهِ إنَّ مُجَرَّدَ جَرَيَانِ الْفَائِدَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي جَمِيعِ صُوَرِ دَعْوَى الْمَجْهُولِ لَا يَقْتَضِي صِحَّةَ دَعْوَى الْمَجْهُولِ مُطْلَقًا ، بَلْ لَا بُدَّ لِصِحَّةِ الدَّعْوَى مِنْ عِلَّةٍ مُقْتَضِيَةٍ لَهَا غَيْرِ فَائِدَةٍ مُتَرَتِّبَةٍ عَلَيْهَا ، وَقَدْ بَيَّنُوا تَحَقُّقَ الْعِلَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِصِحَّةِ الدَّعْوَى فِي صُورَةِ دَعْوَى الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ الْمَجْهُولَةِ ، وَهِيَ أَنَّ الْإِنْسَانَ رُبَّمَا لَا يَعْرِفُ قِيمَةَ مَالِهِ ، فَلَوْ كُلِّفَ بَيَانَ الْقِيمَةِ لَتَضَرَّرَ بِهِ .

وَبَقِيَ بَيَانُ الْفَائِدَةِ فِيهَا فَبَيَّنَهَا صَاحِبُ الدُّرَرِ وَالْغَرَرِ ، بِخِلَافِ سَائِرِ صُوَرِ دَعْوَى الْمَجْهُولِ إذْ لَمْ يَتَحَقَّقْ فِيهَا عِلَّةٌ مُقْتَضِيَةٌ لِصِحَّةِ الدَّعْوَى فَلَا يُفِيدُ جَرَيَانَ الْفَائِدَةِ الْمَذْكُورَةِ فِيهَا ، وَلَكِنْ يَرِدُ حِينَئِذٍ أَنْ يُقَالَ : إنَّ مِثْلَ تِلْكَ الْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ يَتَحَقَّقُ فِي غَيْرِ تِلْكَ الصُّورَةِ أَيْضًا مِنْ صُوَرِ دَعْوَى الْمَجْهُولِ ، كَمَا إذَا كَانَ لِمُوَرِّثِ رَجُلٍ دُيُونٌ فِي ذِمَمِ النَّاسْ وَلَمْ يَعْرِفْ الْوَارِثُ جِنْسَ تِلْكَ الدُّيُونِ وَلَا قَدْرَهَا أَوْ لَمْ يَعْرِفْ أَحَدَهُمَا ، فَلَوْ كُلِّفَ ذَلِكَ الْوَارِثُ فِي دَعْوَى تِلْكَ الدُّيُونِ عَلَى الْمَدْيُونِ بِبَيَانِ جِنْسِهَا أَوْ قَدْرِهَا لَتَضَرَّرَ بِهِ ، إذْ الْإِنْسَانُ رُبَّمَا لَا يَعْرِفُ قَدْرَ مَالِ مُوَرِّثِهِ وَلَا جِنْسَهُ عِنْدَ كَوْنِ ذَلِكَ الْمَالِ فِي يَدِ مُوَرِّثِهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَعْرِفَهُمَا عِنْدَ كَوْنِهِ فِي ذِمَمِ النَّاسِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَصِحَّ دَعْوَى مِثْلِ تِلْكَ الدُّيُونِ الْمَجْهُولَةِ مِثْلُ مَا قِيلَ فِي صِحَّةِ دَعْوَى الْأَعْيَانِ الْغَائِبَةِ الْمَجْهُولَةِ مَعَ أَنَّهُ مِمَّا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ .
ثُمَّ أَقُولُ : الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِمْ : وَإِذَا سَقَطَ بَيَانُ الْقِيمَةِ عَنْ الْمُدَّعِي سَقَطَ عَنْ الشُّهُودِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى أَنَّ فِي دَعْوَى الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ تُسْمَعُ الدَّعْوَى مَعَ جَهَالَةِ قِيمَةِ الْمُدَّعَى وَتُقْبَلُ الشَّهَادَةُ مَعَ جَهَالَةِ قِيمَةِ الْمَشْهُودِ بِهِ ، لَكِنَّهُ مُشْكِلٌ جِدًّا ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ بَعْدَ أَنْ سَمِعَ هَذِهِ الدَّعْوَى وَقَبِلَ هَذِهِ الشَّهَادَةَ لَمْ يَحْكُمْ لِلْمُدَّعِي عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَالْقَضَاءُ بِالْمَجْهُولِ غَيْرُ مُمْكِنٍ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي صَدْرِ كِتَابِ الدَّعْوَى حَيْثُ قَالُوا : إنَّ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الدَّعْوَى كَوْنَ الْمُدَّعَى مَعْلُومًا ، وَعَلَّلُوهُ بِعَدَمِ إمْكَانِ الْقَضَاءِ بِالْمَجْهُولِ ، لَا يُقَالُ : الْقَاضِي يُجْبِرُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِبَيَانِ قِيمَةِ مَا ادَّعَى عَلَيْهِ فَيَحْكُمُ عَلَيْهِ بِمَا بَيَّنَ فَلَا يَكُونُ الْقَضَاءُ

بِالْمَجْهُولِ .
لِأَنَّا نَقُولُ : الْجَبْرُ عَلَيْهِ إنَّمَا يَصِحُّ لَوْ أَقَرَّ بِمَا ادَّعَى عَلَيْهِ عَلَى الْجَهَالَةِ ، فَإِنَّ التَّجْهِيلَ حِينَئِذٍ يَصِيرُ مِنْ جِهَتِهِ حَيْثُ أَجْمَلَ مَا اعْتَرَفَ بِلُزُومِهِ عَلَيْهِ فَعَلَيْهِ الْبَيَانُ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ .
وَأَمَّا إذَا لَمْ يُقِرَّ بِهِ بَلْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ كَمَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَلَمْ يَكُنْ التَّجْهِيلُ مِنْ جِهَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَلَمْ يَحْمِلْ شَيْئًا فَلَا وَجْهَ لِإِجْبَارِهِ عَلَى الْبَيَانِ بِمُقْتَضَى قَوَاعِدِ الْفِقْهِ فَبَقِيَ الْإِشْكَالُ .
فَإِنْ قُلْت : الْقَاضِي لَا يَحْكُمُ بِقِيمَةِ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ بَلْ يَحْكُمُ بِرَدِّ تِلْكَ الْعَيْنِ نَفْسِهَا إلَى صَاحِبِهَا وَالْجَهَالَةُ فِي قِيمَةِ تِلْكَ الْعَيْنِ لَا فِي نَفْسِهَا فَلَا يَلْزَمُ الْقَضَاءُ بِالْمَجْهُولِ .
قُلْت : قَدْ مَرَّ فِي الْكِتَابِ أَنَّ الْعَيْنَ إنَّمَا تُعْرَفُ بِالْقِيمَةِ لَا بِغَيْرِهَا فَالْجَهَالَةُ فِي قِيمَةِ الْعَيْنِ جَهَالَةٌ فِي نَفْسِهَا ، وَأَيْضًا إذَا حَكَمَ الْقَاضِي بِرَدِّ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ إلَى صَاحِبِهَا فَعَجَزَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ عَنْ رَدِّهَا إلَى صَاحِبِهَا وَلَمْ يَرُدَّهَا إلَيْهِ فَالْقَاضِي إنْ حَكَمَ بَعْدَ ذَلِكَ بِقِيمَةِ تِلْكَ الْعَيْنِ يَعُودُ الْإِشْكَالُ ، وَإِنْ لَمْ يَحْكُمْ بِهَا يُضَيِّعُ حَقَّ الْمُدَّعِي وَلَا يَظْهَرُ لِسَمَاعِ دَعْوَاهُ وَقَبُولِ بَيِّنَتِهِ فَائِدَةٌ .
فَإِنْ قِيلَ : الْقَاضِي لَا يَحْكُمُ عَلَى الْخَصْمِ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَالِ بَلْ يَحْبِسُهُ لِيَرُدَّ الْعَيْنَ الْمُدَّعَاةَ إلَى الْمُدَّعِي فَفَائِدَةُ سَمَاعِ الدَّعْوَى وَقَبُولِ الْبَيِّنَةِ هِيَ الْحَبْسُ .
قُلْنَا : إلَى مَتَى يَحْبِسُهُ ، إنْ حَبَسَهُ أَبَدًا يَصِيرُ ظَالِمًا لَهُ بَعْدَ أَنْ ظَهَرَ عَجْزُهُ عَنْ رَدِّهَا إلَى الْمُدَّعِي بِأَنْ يَمْضِيَ عَلَى الْحَبْسِ مُدَّةٌ يَعْلَمُ بِهَا أَنَّهُ لَوْ بَقِيَتْ الْعَيْنُ الْمُدَّعَاةُ لَأَظْهَرَهَا عَلَى مَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ ، وَإِنْ حَبَسَهُ إلَى مُدَّةِ ظُهُورِ عَجْزِهِ عَنْ رَدِّهَا إلَى الْمُدَّعِي ثُمَّ خَلَّى سَبِيلَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُلْزِمَهُ الضَّمَانَ

فَمِثْلُ ذَلِكَ لَمْ يُعْهَدْ فِي الشَّرْعِ عِنْدَ إثْبَاتِ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ .
وَبِالْجُمْلَةِ لَا يَخْلُو الْمَقَامُ عَلَى كُلِّ حَالٍ عَنْ ضَرْبٍ مِنْ الْإِشْكَالِ

قَالَ ( وَإِنْ ادَّعَى عَقَارًا حَدَّدَهُ وَذَكَرَ أَنَّهُ فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَأَنَّهُ يُطَالِبُهُ بِهِ ) لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ التَّعْرِيفُ بِالْإِشَارَةِ لِتَعَذُّرِ النَّقْلِ فَيُصَارُ إلَى التَّجْدِيدِ فَإِنَّ الْعَقَارَ يُعْرَفُ بِهِ ، وَيَذْكُرُ الْحُدُودَ الْأَرْبَعَةَ ، وَيَذْكُرُ أَسْمَاءَ أَصْحَابِ الْحُدُودِ وَأَنْسَابَهُمْ ، وَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْجَدِّ لِأَنَّ تَمَامَ التَّعْرِيفِ بِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى مَا عُرِفَ هُوَ الصَّحِيحُ ، وَلَوْ كَانَ الرَّجُلُ مَشْهُورًا يَكْتَفِي بِذِكْرِهِ ، فَإِنْ ذَكَرَ ثَلَاثَةً مِنْ الْحُدُودِ يُكْتَفَى بِهَا عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ لِوُجُودِ الْأَكْثَرِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا غَلِطَ فِي الرَّابِعَةِ لِأَنَّهُ يُخْتَلَفُ بِهِ الْمُدَّعَى وَلَا كَذَلِكَ بِتَرْكِهَا ، وَكَمَا يُشْتَرَطُ التَّحْدِيدُ فِي الدَّعْوَى يُشْتَرَطُ فِي الشَّهَادَةِ .
وَقَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ وَذَكَرَ أَنَّهُ فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا بُدَّ مِنْهُ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَنْتَصِبُ خَصْمًا إذَا كَانَ فِي يَدِهِ ، وَفِي الْعَقَارِ لَا يُكْتَفَى بِذِكْرِ الْمُدَّعِي وَتَصْدِيقِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ فِي يَدِهِ بَلْ لَا تَثْبُتُ الْيَدُ فِيهِ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ أَوْ عِلْمِ الْقَاضِي هُوَ الصَّحِيحُ نَفْيًا لِتُهْمَةِ الْمُوَاضَعَةِ إذْ الْعَقَارُ عَسَاهُ فِي يَدِ غَيْرِهِمَا بِخِلَافِ الْمَنْقُولِ لِأَنَّ الْيَدَ فِيهِ مُشَاهَدَةٌ .
وَقَوْلُهُ وَأَنَّهُ يُطَالِبُهُ بِهِ لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ حَقُّهُ فَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِهِ ، وَلِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَرْهُونًا فِي يَدِهِ أَوْ مَحْبُوسًا بِالثَّمَنِ فِي يَدِهِ ، وَبِالْمُطَالَبَةِ يَزُولُ هَذَا الِاحْتِمَالُ ، وَعَنْ هَذَا قَالُوا فِي الْمَنْقُولِ يَجِبُ أَنْ يَقُولَ فِي يَدِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ .

( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( وَإِنْ ادَّعَى عَقَارًا حَدَّدَهُ ) أَيْ ذَكَرَ الْمُدَّعِي حُدُودَهُ ( وَذَكَرَ أَنَّهُ ) أَيْ الْعَقَارَ ( فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَأَنَّهُ يُطَالِبُهُ بِهِ ) أَيْ وَذَكَرَ أَنَّ الْمُدَّعِيَ يُطَالِبُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْمُدَّعَى .
أَقُولُ : هَكَذَا وَقَعَ وَضْعُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي عَامَّةِ مُعْتَبَرَاتِ الْمُتُونِ ، وَلَكِنْ فِيهِ قُصُورٌ إذْ الْمُتَبَادَرُ مِنْهُ أَنَّ ذِكْرَ حُدُودِ الْعَقَارِ كَافٍ فِي تَعْرِيفِهِ عِنْدَ الدَّعْوَى ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذْ قَدْ صَرَّحَ فِي مُعْتَبَرَاتِ الْفَتَاوَى بَلْ فِي بَعْضِ شُرُوحِ الْهِدَايَةِ أَيْضًا بِأَنَّهُ إذَا وَقَعَتْ الدَّعْوَى فِي الْعَقَارِ فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْبَلْدَةِ الَّتِي فِيهَا الدَّارُ وَمِنْ ذِكْرِ الْمَحَلَّةِ وَمِنْ ذِكْرِ السِّكَّةِ وَمِنْ ذِكْرِ الْحُدُودِ .
وَقَالَ فِي الْخُلَاصَةِ : تَصِحُّ الدَّعْوَى إذَا بَيَّنَ الْمِصْرَ وَالْمَحَلَّةَ وَالْمَوْضِعَ وَالْحُدُودَ .
وَقِيلَ ذِكْرُ الْمَحَلَّةِ وَالسُّوقِ وَالسِّكَّةِ لَيْسَ بِلَازِمٍ ، وَذِكْرُ الْمِصْرِ أَوْ الْقَرْيَةِ لَازِمٌ انْتَهَى .
وَقَدْ صَرَّحَ فِي مُعْتَبَرَاتِ الْفَتَاوَى أَيْضًا بِأَنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْبُدَاءَةِ ، فَقَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْفَقِيهُ الْحَاكِمُ أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّمَرْقَنْدِيُّ فِي شُرُوطِهِ : إذَا وَقَعَ الدَّعْوَى فِي الْعَقَارِ فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْبَلْدَةِ الَّتِي فِيهَا الدَّارُ ، ثُمَّ مِنْ ذِكْرِ الْمَحَلَّةِ ، ثُمَّ مِنْ ذِكْرِ السِّكَّةِ ، فَيَبْدَأُ أَوَّلًا بِذِكْرِ الْكُورَةِ ثُمَّ بِالْمَحَلَّةِ اخْتِيَارًا لِقَوْلِ مُحَمَّدٍ ، فَإِنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَهُ أَنْ يَبْدَأَ بِالْأَعَمِّ ثُمَّ يَنْزِلَ مِنْهُ إلَى الْأَخَصِّ .
وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ الْبَغْدَادِيُّ : يَبْدَأُ بِالْأَخَصِّ ثُمَّ بِالْأَعَمِّ ، فَيَقُولُ دَارٌ فِي سِكَّةِ كَذَا فِي مَحَلَّةِ كَذَا فِي كُورَةِ كَذَا وَقَاسَهُ عَلَى النَّسَبِ حَيْثُ يَقُولُ فُلَانٌ ثُمَّ يَقُولُ ابْنُ فُلَانٍ ثُمَّ يَذْكُرُ الْجَدَّ .
فَيَبْدَأُ بِمَا هُوَ الْأَقْرَبُ ثُمَّ يَتَرَقَّى إلَى الْأَبْعَدِ .
قَالَ : فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ

الْفُصُولَيْنِ بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا الِاخْتِلَافِ مَا قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ أَحْسَنُ ، لِأَنَّ الْعَامَّ يُعْرَفُ بِالْخَاصِّ وَلَا يُعْرَفُ الْخَاصُّ بِالْعَامِّ وَفَصْلُ النَّسَبِ حُجَّةٌ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْأَعَمَّ اسْمُهُ ، فَإِنَّ جَعْفَرًا فِي الدُّنْيَا كَثِيرٌ ، فَإِنْ عُرِفَ فِيهَا وَإِلَّا تَرَقَّى إلَى الْأَخَصِّ فَيَقُولُ ابْنُ مُحَمَّدٍ وَهَذَا أَخَصُّ ، فَإِنْ عُرِفَ فِيهَا وَإِلَّا تَرَقَّى إلَى الْجَدِّ انْتَهَى .
وَقَالَ فِي الْمُحِيطِ : اخْتَلَفَ أَهْلُ الشُّرُوطِ فِي الْبُدَاءَةِ بِالْأَعَمِّ أَوْ بِالْأَخَصِّ ، وَأَهْلُ الْعِلْمِ بِالْخِيَارِ فِي الْبُدَاءَةِ بِأَيِّهِمَا شَاءَ انْتَهَى .
وَقَالَ عِمَادُ الدِّينِ فِي فُصُولِهِ : قُلْت اخْتِلَافَاتُ أَهْلِ الشُّرُوطِ أَنَّهُ يَنْزِلُ مِنْ الْأَعَمِّ إلَى الْأَخَصِّ ، أَوْ مِنْ الْأَخَصِّ إلَى الْأَعَمِّ إجْمَاعٌ مِنْهُمْ عَلَى شَرْطِيَّةِ الْبَيَانِ انْتَهَى .
فَقَدْ تَلَخَّصَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ كُلِّهِ أَنَّ ذِكْرَ الْحُدُودِ لَيْسَ بِكَافٍ فِي تَعْرِيفِ الْعَقَارِ ، بَلْ لَا بُدَّ أَيْضًا مِنْ ذِكْرِ الْبَلْدَةِ وَالْمَحَلَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ عَلَى مَا قُرِّرَ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ لُزُومِ التَّحْدِيدِ فِي دَعْوَى الْعَقَارِ ( لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ التَّعْرِيفُ بِالْإِشَارَةِ لِتَعَذُّرِ النَّقْلِ ) أَيْ نَقْلِ الْعَقَارِ ( فَيُصَارُ إلَى التَّحْدِيدِ ، فَإِنَّ الْعَقَارَ يُعْرَفُ بِهِ ) أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إنَّ تَعَذَّرَ النَّقْلِ لَا يَقْتَضِي تَعَذُّرَ التَّعْرِيفِ بِالْإِشَارَةِ لِجَوَازِ أَنْ يَحْضُرَ الْقَاضِي عِنْدَ الْعَقَارِ أَوْ يَبْعَثَ أَمِينَهُ إلَيْهِ فَيُشِيرَ الْمُدَّعَى إلَيْهِ فِي مَحْضَرِ الْقَاضِي أَوْ أَمِينِهِ بِعَيْنِ مَا قَالُوا فِي الْمَنْقُولَاتِ الَّتِي يَتَعَذَّرُ نَقْلُهَا كَالرَّحَى وَنَحْوِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا مَرَّ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يَدْفَعَ بِأَنَّ الْمَنْقُولَاتِ الَّتِي يُتَعَذَّرُ نَقْلُهَا نَادِرَةٌ فَالْتُزِمَ فِيهَا حُضُورُ الْقَاضِي أَوْ أَمِينِهِ عِنْدَهَا لِعَدَمِ تَأَدِّيهِ إلَى الْحَرَجِ ، بِخِلَافِ الْعَقَارَاتِ فَإِنَّهَا كَثِيرَةٌ ، فَلَوْ كُلِّفَ الْقَاضِي بِحُضُورِهِ عِنْدَهَا أَوْ بَعَثَ أَمِينَهُ

إلَيْهَا لَأَدَّى إلَى الْحَرَجِ فَافْتَرَقَا ( وَيَذْكُرُ الْحُدُودَ الْأَرْبَعَةَ وَيَذْكُرُ أَسْمَاءَ أَصْحَابِ الْحُدُودِ وَأَنْسَابَهُمْ ، وَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْجَدِّ لِأَنَّ تَمَامَ التَّعْرِيفِ بِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى مَا عُرِفَ هُوَ الصَّحِيحُ ) احْتِرَازٌ عَمَّا رُوِيَ عَنْهُمَا أَنَّ ذِكْرَ الْأَبِ يَكْفِي ( وَلَوْ كَانَ الرَّجُلُ مَشْهُورًا ) مِثْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى ( يَكْتَفِي بِذِكْرِهِ ) يَعْنِي لَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ حِينَئِذٍ لِحُصُولِ التَّعْرِيفِ بِالِاسْمِ بِلَا ذِكْرِ النَّسَبِ .
وَفِي الدَّارِ لَا بُدَّ مِنْ التَّحْدِيدِ وَإِنْ كَانَتْ مَشْهُورَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا لَا يُشْتَرَطُ لِأَنَّ الشُّهْرَةَ مُغْنِيَةٌ عَنْهُ ، وَلَهُ إنْ قَدَّرَهَا لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا إلَّا بِالتَّحْدِيدِ ، كَذَا فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ ( فَإِنْ ذَكَرَ ثَلَاثَةً مِنْ الْحُدُودِ يَكْتَفِي بِهَا عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ لِوُجُودِ الْأَكْثَرِ ) دَلِيلٌ لَنَا : يَعْنِي أَنَّ إقَامَةَ الْأَكْثَرِ مَقَامَ الْكُلِّ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ فَنَعْمَلُ بِهِ هَاهُنَا أَيْضًا ( بِخِلَافِ مَا إذَا غَلِطَ فِي الرَّابِعَةِ ) أَيْ فِي الْحَدِّ الرَّابِعِ وَأَنَّثَهُ الْمُصَنِّفُ بِاعْتِبَارِ الْجِهَةِ يَعْنِي إذَا ذَكَرَ الْحُدُودَ الثَّلَاثَةَ وَسَكَتَ عَنْ الرَّابِعِ جَازَ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ .
وَأَمَّا إذَا ذَكَرَ الْحَدَّ الرَّابِعَ أَيْضًا وَغَلِطَ فِيهِ فَلَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَ زُفَرَ ( لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِهِ ) أَيْ بِالْغَلَطِ ( الْمُدَّعِي وَلَا كَذَلِكَ بِتَرْكِهَا ) وَنَظِيرُ مَا إذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ بِالْبَيْعِ وَقَبْضِ الثَّمَنِ وَتَرَكَا ذِكْرَ الثَّمَنِ جَازَ ، وَلَوْ غَلِطَا فِي الثَّمَنِ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمَا لِأَنَّهُ صَارَ عَقْدًا آخَرَ بِالْغَلَطِ ، وَبِهَذَا الْفَرْقِ بَطَلَ قِيَاسُ زُفَرَ التَّرْكَ عَلَى الْغَلَطِ ( وَكَمَا يُشْتَرَطُ التَّحْدِيدُ فِي الدَّعْوَى يُشْتَرَطُ فِي الشَّهَادَةِ ) فَيَجْرِي فِي الثَّانِيَةِ مَا يَجْرِي فِي الْأُولَى ( وَقَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ ) أَيْ قَوْلُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( وَذَكَرَ أَنَّهُ ) يَعْنِي

الْعَقَارَ ( فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا بُدَّ مِنْهُ لِأَنَّهُ ) أَيْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ( إنَّمَا يَنْتَصِبُ خَصْمًا ) أَيْ فِي دَعْوَى الْعَيْنِ ( إذَا كَانَ فِي يَدِهِ ) أَيْ إذَا كَانَ الْمُدَّعَى فِي يَدِهِ ( وَفِي الْعَقَارِ لَا يُكْتَفَى بِذِكْرِ الْمُدَّعِي وَتَصْدِيقِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ ) أَيْ الْعَقَارَ ( فِي يَدِهِ بَلْ لَا تَثْبُتُ الْيَدُ فِيهِ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ ) بِأَنْ يَشْهَدَ الشُّهُودُ أَنَّهُمْ عَايَنُوا أَنَّ ذَلِكَ الْعَقَارَ الْمُدَّعَى فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، حَتَّى لَوْ قَالُوا سَمِعْنَا إقْرَارَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِأَنَّهُ فِي يَدِهِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ ، وَكَذَا الْحَالُ فِي غَيْرِ هَذِهِ الصُّورَةِ ، وَقَدْ لَا يُفَرِّقُ الشُّهُودُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَسْأَلَهُمْ الْقَاضِي أَعَنْ مُعَايَنَةٍ تَشْهَدُونَ أَمْ عَنْ سَمَاعٍ ، كَذَا ذُكِرَ فِي مُعْتَبَرَاتِ الْفَتَاوَى ( أَوْ عِلْمِ الْقَاضِي ) عَطْفٌ عَلَى الْبَيِّنَةِ أَيْ أَوْ بِعِلْمِ الْقَاضِي أَنَّ ذَلِكَ الْعَقَارَ الْمُدَّعَى فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ( هُوَ الصَّحِيحُ ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ فَإِنَّ عِنْدَهُمْ يَكْفِي تَصْدِيقُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ فِي يَدِهِ ، وَإِنَّمَا لَا تَثْبُتُ الْيَدُ فِي الْعَقَارِ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ أَوْ عِلْمِ الْقَاضِي عَلَى الْقَوْلِ الصَّحِيحِ ( نَفْيًا لِتُهْمَةِ الْمُوَاضَعَةِ إذْ الْعَقَارُ عَسَاهُ ) أَيْ لَعَلَّهُ ( فِي يَدِ غَيْرِهِمَا ) أَيْ غَيْرِ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ .
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : أَيْ يَحْتَمِلُ أَنَّهُمَا تَوَاضَعَا عَلَى أَنْ يُصَدِّقَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْمُدَّعِيَ بِأَنَّ الْعَقَارَ فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِيَحْكُمَ الْقَاضِي بِالْيَدِ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَتَّى يَتَصَرَّفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِيهِ ، وَهُوَ فِي الْوَاقِعِ فِي يَدِ الثَّالِثِ فَكَانَ ذَلِكَ قَضَاءً بِالتَّصَرُّفِ فِي مَالِ الْغَيْرِ ، وَيُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى نَقْضِ الْقَضَاءِ عِنْدَ ظُهُورِهِ أَنَّهُ فِي يَدِ الثَّالِثِ ا هـ كَلَامُهُ .
وَقَدْ اقْتَفَى أَثَرَهُ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ بِهَذَا الْمَعْنَى صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ

ثُمَّ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ ثُمَّ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ .
أَقُولُ : هَذَا خَبْطٌ عَظِيمٌ مِنْهُمْ ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الصُّورَةِ الْمَزْبُورَةِ لَا يَدَّعِي عَلَى أَحَدٍ شَيْئًا بَلْ يُصَدِّقُ الْمُدَّعِي فِي قَوْلِهِ إنَّ الْعَقَارَ فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تَصْدِيقَ الْآخَرِ لَيْسَ بِدَعْوَى عَلَيْهِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ هُنَاكَ مِنْ الْقَاضِي الْحُكْمُ بِالْيَدِ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَالْحُكْمُ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ يَقْتَضِي سَابِقَةَ الدَّعْوَى .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ الْحُكْمَ مِنْ الْقَاضِي لَا يَصِحُّ إلَّا بِحُجَّةٍ مِنْ الْبَيِّنَةِ أَوْ الْإِقْرَارِ وَقَدْ انْتَفَتْ بِقِسْمَيْهَا فِي تِلْكَ الصُّورَةِ .
أَمَّا انْتِفَاءُ الْبَيِّنَةِ فَلِأَنَّ الْمَفْرُوضَ أَنْ لَا تَقُومَ بَيِّنَةٌ عَلَى ثُبُوتِ الْيَدِ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ .
وَأَمَّا انْتِفَاءُ الْإِقْرَارِ فَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ هُوَ الْإِخْبَارُ بِحَقٍّ لِلْغَيْرِ عَلَى نَفْسِهِ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَلَا مِنْ الْمُدَّعِي بِالنِّسْبَةِ إلَى حَقِّ الْيَدِ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ ، فَإِذَا لَمْ تَتَحَقَّقْ الْحُجَّةُ أَصْلًا لِثُبُوتِ الْيَدِ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ لَمْ يَصِحَّ الْحُكْمُ مِنْ الْقَاضِي بِالْيَدِ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُنَاكَ ، فَبَطَلَ قَوْلُهُمْ لِيَحْكُمَ الْقَاضِي بِالْيَدِ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ إلَخْ .
وَالصَّوَابُ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا هُوَ أَنَّ الْعَقَارَ قَدْ يَكُونُ فِي يَدِ غَيْرِهِمَا ، وَهُمَا يَتَوَاضَعَانِ عَلَى أَنْ يُصَدَّقَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي أَنَّ ذَلِكَ الْعَقَارَ فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَيُقِيمُ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِأَنَّ ذَلِكَ الْعَقَارَ لَهُ فَيَحْكُمُ الْقَاضِي لِلْمُدَّعِي بِكَوْنِهِ لَهُ فَيَصِيرُ هَذَا قَضَاءً لَهُ بِمَالِ الْغَيْرِ الَّذِي كَانَ ذَلِكَ الْعَقَارُ فِي يَدِهِ فِي الْوَاقِعِ وَيُفْضِي ذَلِكَ إلَى نَقْضِ الْقَضَاءِ عِنْدَ ظُهُورِهِ فِي يَدِ ذَلِكَ الْغَيْرِ ، وَلَقَدْ أَفْصَحَ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ فِي فَتَاوَاهُ عَنْ هَذَا حَيْثُ قَالَ

: وَذَكَرَ الْخَصَّافُ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ رَجُلًا لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى رَجُلٍ أَنَّ فِي يَدِهِ الدَّارَ الَّتِي حَدُّهَا كَذَا وَبَيَّنَ حُدُودَهَا فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يَسْمَعُ دَعْوَاهُ وَلَا يَقْبَلُ بَيِّنَتَهُ عَلَى الْمِلْكِ مَا لَمْ يُقِمْ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الدَّارَ فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُقِيمُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ لِتَوَهُّمِ أَنَّهُمَا تَوَاضَعَا فِي مَحْدُودٍ فِي يَدِ ثَالِثٍ عَلَى أَنْ يَدَّعِيَهُ أَحَدُهُمَا فَيَقُولَ الْآخَرُ بِأَنَّهَا فِي يَدِهِ وَيُقِيمَ الْمُدَّعِي بَيِّنَتَهُ عَلَيْهِ أَنَّهَا لَهُ وَالدَّارُ فِي يَدِ غَيْرِهِمَا ، وَهَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّ هَذَا قَضَاءٌ عَلَى الْمُسَخَّرِ ا هـ ( بِخِلَافِ الْمَنْقُولِ لِأَنَّ الْيَدَ فِيهِ مُشَاهَدَةٌ ) فَلَا مَجَالَ لِلْمُوَاضَعَةِ الْمَذْكُورَةِ ( وَقَوْلُهُ ) أَيْ قَوْلُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( وَأَنَّهُ يُطَالِبُهُ بِهِ لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ حَقُّهُ فَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِهِ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : فِي عِبَارَتِهِ تَسَامُحٌ لِأَنَّهُ يَئُولُ إلَى تَقْدِيرٍ فَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِ الْمُطَالَبَةِ فَتَأَمَّلْ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ فَكَانَ مَعْنَاهُ الْمُطَالَبُ حَقُّهُ فَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِهِ ا هـ كَلَامُهُ .
أَقُولُ : كُلٌّ مِنْ إيرَادِهِ وَجَوَابِهِ سَاقِطٌ .
أَمَّا سُقُوطُ الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي طَلَبِهِ لَيْسَ بِرَاجِعٍ إلَى حَقِّهِ كَمَا تَوَهَّمَهُ ، بَلْ هُوَ رَاجِعٌ إلَى مَا يَرْجِعُ إلَيْهِ ضَمِيرُ حَقِّهِ وَهُوَ الْمُدَّعِي ؛ فَالْمَعْنَى الْمُطَالَبَةُ حَقُّ الْمُدَّعِي فَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِ الْمُدَّعِي حَتَّى يَجِبَ عَلَى الْقَاضِي إعَانَتُهُ فَلَا مُسَامَحَةَ أَصْلًا .
وَأَمَّا سُقُوطُ الثَّانِي فَمِنْ وَجْهَيْنِ : الْأَوَّلُ أَنَّ الْمُطَالَبَةَ مِنْ طَالَبَهُ بِكَذَا فَالْمُطَالَبُ الْمَفْعُولُ هَاهُنَا هُوَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَاَلَّذِي دَخَلَ عَلَيْهِ الْبَاءُ هُوَ الْمُدَّعِي ، فَلَوْ كَانَ الْمَعْنَى الْمُطَالَبُ حَقُّ الْمُدَّعِي صَارَ الْمَعْنَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَقُّ الْمُدَّعِي ، وَلَا خَفَاءَ فِي فَسَادِهِ .
وَالثَّانِي أَنَّ

الْمُدَّعَى أَيْضًا لَيْسَ بِحَقِّ الْمُدَّعِي أَلْبَتَّةَ ، بَلْ إنْ ثَبَتَ دَعْوَى الْمُدَّعِي يَكُونُ الْمُدَّعَى حَقَّهُ وَإِلَّا فَلَا ، فَفِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ مِنْ أَيْنَ ثَبَتَ أَنَّهُ حَقُّهُ حَتَّى يَتِمَّ أَنْ يُقَالَ هُوَ حَقُّهُ فَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِهِ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّهُ حَقُّهُ فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ أَيْضًا عَلَى زَعْمِهِ ، لَكِنَّهُ يَحْتَاجُ حِينَئِذٍ إلَى تَقْدِيرِ قَيْدٍ عَلَى زَعْمِهِ كَمَا يَحْتَاجُ إلَى جَعْلِ الْمَصْدَرِ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ شَأْنَ الْمُصَنِّفِ بِمَعْزِلٍ عَنْ مِثْلِ هَذَا التَّعَسُّفِ وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : وَلَا يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ الْمُطَالَبَةُ اسْمَ مَفْعُولٍ وَالتَّأْنِيثُ بِتَأْوِيلِ الْأَرْضِ وَنَحْوِهَا ا هـ .
أَقُولُ : هَذَا بَعِيدٌ عَنْ الْحَقِّ ، وَأَبْعَدُ مِمَّا قَالَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي جَوَابِهِ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي سُقُوطِ جَوَابِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ مِنْ الْوَجْهَيْنِ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ مُقْتَضَاهُ التَّعْبِيرُ عَنْ كُلِّ مَطْلُوبٍ بِصِيغَةِ التَّأْنِيثِ وَتَأْوِيلُ كُلِّ مَطْلُوبٍ مُذَكَّرٌ بِمُؤَنَّثٍ ، وَهَذَا مِمَّا لَا تَقْبَلُهُ الْفِطْرَةُ السَّلِيمَةُ ، بِخِلَافِ مَا قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ ( وَلِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ) أَيْ الْمُدَّعَى ( مَرْهُونًا فِي يَدِهِ ) أَيْ فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ( أَوْ مَحْبُوسًا بِالثَّمَنِ فِي يَدِهِ ) فَلَا تَصِحُّ الدَّعْوَى قَبْلَ أَدَاءِ الدَّيْنِ أَوْ قَبْلَ أَدَاءِ الثَّمَنِ ( وَبِالْمُطَالَبَةِ يَزُولُ هَذَا الِاحْتِمَالُ ) إذْ لَوْ كَانَ مَرْهُونًا أَوْ مَحْبُوسًا بِالثَّمَنِ لَمَا طَالَبَ بِالِانْتِزَاعِ مِنْ ذِي الْيَدِ قَبْلَ أَدَاءِ الدَّيْنِ أَوْ الثَّمَنِ ( وَعَنْ هَذَا ) أَيْ بِسَبَبِ هَذَا الِاحْتِمَالِ ( قَالُوا ) أَيْ الْمَشَايِخُ ( فِي الْمَنْقُولِ ) أَيْ فِي دَعْوَى الْمَنْقُولِ ( يَجِبُ أَنْ يَقُولَ فِي يَدِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ ) أَيْ يَجِبُ أَنْ يَقُولَ الْمُدَّعِي هَذَا الشَّيْءُ الَّذِي أَدَّعِيهِ فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَقٍّ إزَالَةً لِهَذَا الِاحْتِمَالِ ، فَإِنَّ الْعَيْنَ فِي يَدِ ذِي الْيَدِ فِي تَيْنِكَ

الصُّورَتَيْنِ بِحَقٍّ .
أَقُولُ : يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ إنْ كَانَ ذَكَرَ الْمُطَالَبَةَ مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي دَعْوَى الْمَنْقُولِ أَيْضًا فَقَدْ حَصَلَ زَوَالُ الِاحْتِمَالِ الْمَذْكُورِ فِيهَا بِذِكْرِ الْمُطَالَبَةِ ، كَمَا فِي دَعْوَى الْعَقَارِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَجِبَ زِيَادَةٌ بِغَيْرِ حَقٍّ فِي دَعْوَى الْمَنْقُولِ ، كَمَا لَا تَجِبُ فِي دَعْوَى الْعَقَارِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَكَرَ الْمُطَالَبَةَ مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي دَعْوَى الْمَنْقُولِ يَكُونُ الدَّلِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي وُجُوبِ ذِكْرِ الْمُطَالَبَةِ فِي دَعْوَى الْعَقَارِ وَدَعْوَى الدَّيْنِ وَهُوَ قَوْلُهُ لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ حَقُّ الْمُدَّعِي فَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِهِ مَنْقُوضًا بِصُورَةِ دَعْوَى الْمَنْقُولِ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِنَوْعِ بَسْطٍ فِي الْكَلَامِ وَتَحْقِيقٍ فِي الْمَقَامِ ، وَهُوَ أَنَّ ذِكْرَ الْمُطَالَبَةِ مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي دَعْوَى الْمَنْقُولِ أَيْضًا عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الدَّلِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي دَعْوَى الْعَقَارِ وَفِي دَعْوَى الدَّيْنِ ، لَكِنْ لَا يَجِبُ ذِكْرُهَا قَبْلَ إحْضَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْمَنْقُولَ إلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي ، بَلْ إنَّمَا يَجِبُ ذِكْرُهَا بَعْدَ إحْضَارِهِ إلَيْهِ لِأَنَّ إعْلَامَ الْمُدَّعِي بِأَقْصَى مَا يُمْكِنُ شَرْطٌ ، وَذَلِكَ فِي الْمَنْقُولِ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْإِشَارَةِ كَمَا مَرَّ ، فَمَا لَمْ يُحْضِرْ الْمَنْقُولَ إلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي لَمْ تَحْصُلْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ ، وَمَا لَمْ يَحْصُلْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ لَمْ يَصِرْ مَعْلُومًا بِمَا يَجِبُ إعْلَامُهُ بِهِ ، وَمَا لَمْ يَصِرْ مَعْلُومًا بِهَذَا لَمْ تَتَحَقَّقْ الْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ الْمُطَالَبَةِ بِهِ ، يُرْشِدُ إلَيْهِ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِيمَا سَيَأْتِي ، لِأَنَّ صَاحِبَ الذِّمَّةِ قَدْ حَضَرَ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْمُطَالَبَةُ حَيْثُ يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ مَا بَقِيَ شَيْءٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ تَمَامُ الدَّعْوَى لَمْ يَجِبْ ذِكْرُ الْمُطَالَبَةِ .
وَلَا شَكَّ أَنَّ إحْضَارَ الْمَنْقُولِ إلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ تَمَامُ الدَّعْوَى ، فَلَمْ يَجِبْ قَبْلَهُ عَلَى

الْمُدَّعِي ذِكْرُ الْمُطَالَبَةِ ، فَلَمَّا لَمْ يَجِبْ قَبْلَهُ عَلَيْهِ ذِكْرُهَا وَجَبَ عَلَيْهِ إذْ ذَاكَ أَنْ يَقُولَ فِي يَدِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ إزَالَةً لِلِاحْتِمَالِ الْمَذْكُورِ حَتَّى يَجِبَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إحْضَارُ الْمُدَّعَى الْمَنْقُولِ إلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي ، وَيَصِحُّ لِلْقَاضِي تَكْلِيفُهُ بِإِحْضَارِهِ إلَيْهِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الِاحْتِيَاجَ إلَى زِيَادَةِ قَيْدِ بِغَيْرِ حَقٍّ فِي دَعْوَى الْمَنْقُولِ لِأَجْلِ أَنْ يَجِبَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إحْضَارُ الْمُدَّعَى إلَى مَجْلِسِ الْحُكْمِ ، وَوُجُوبُ إحْضَارِ الْمُدَّعَى إلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي مُخْتَصٌّ بِدَعْوَى الْمَنْقُولِ كَمَا مَرَّ فِي الْكِتَابِ فَوَجَبَ زِيَادَةُ الْقَيْدِ الْمَذْكُورِ فِي دَعْوَى الْمَنْقُولِ دُونَ غَيْرِهَا .
ثُمَّ لَمَّا زِيدَ الْقَيْدُ الْمَذْكُورُ فِي دَعْوَى الْمَنْقُولِ قَبْلَ إحْضَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْمُدَّعَى إلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي وَزَالَ الِاحْتِمَالُ الْمَذْكُورُ بِهِ لَمْ يَبْقَ لِذِكْرِ الْمُطَالَبَةِ فِيهَا بَعْدَ إحْضَارِهِ إلَيْهِ إلَّا عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ ، وَهِيَ أَنَّ الْمُطَالَبَةَ حَقُّهُ فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهِ كَمَا هِيَ الْعِلَّةُ فَقَطْ فِي دَعْوَى الدَّيْنِ ، بِخِلَافِ دَعْوَى الْعَقَارِ فَإِنَّ لِذِكْرِ الْمُطَالَبَةِ فِيهَا عِلَّتَيْنِ كَمَا ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ ، وَبِهَذَا الْبَسْطِ وَالتَّحْقِيقِ تَبَيَّنَ انْدِفَاعُ اعْتِرَاضِ صَدْرِ الشَّرِيعَةِ عَلَى الْقَوْمِ حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِهِ لِلْوِقَايَةِ : أَقُولُ هَذِهِ الْعِلَّةُ تَشْمَلُ الْعَقَارَ أَيْضًا ، فَلَا أَدْرِي مَا وَجْهُ تَخْصِيصِ الْمَنْقُولِ بِهَذَا الْحُكْمِ ا هـ .
ثُمَّ إنَّ هَاهُنَا كَلِمَاتٍ أُخْرَى لِلْفُضَلَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ ، فَلَا عَلَيْنَا أَنْ نَنْقُلَهَا وَنَتَكَلَّمَ عَلَيْهَا .
فَاعْلَمْ أَنَّ صَاحِبَ الدُّرَرِ وَالْغُرَرِ أَجَابَ عَنْ اعْتِرَاضِ صَدْرِ الشَّرِيعَةِ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ : إنَّ دِرَايَةَ وَجْهِهِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ مُسَلَّمَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا أَنَّ دَعْوَى الْأَعْيَانِ لَا تَصِحُّ إلَّا عَلَى ذِي الْيَدِ ، كَمَا قَالَ فِي الْهِدَايَةِ : إنَّمَا يَنْتَصِبُ خَصْمًا إذَا كَانَ فِي يَدِهِ .

وَالثَّانِيَةُ أَنَّ الشُّبْهَةَ مُعْتَبَرَةٌ يَجِبُ دَفْعُهَا لَا شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ ، كَمَا قَالُوا إنَّ شُبْهَةَ الرِّبَا مُلْحَقَةٌ بِالْحَقِيقَةِ لَا شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ .
إذَا عَرَفْتهمَا فَاعْلَمْ أَنَّ فِي ثُبُوتِ الْيَدِ عَلَى الْعَقَارِ شُبْهَةً لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُشَاهَدٍ ، بِخِلَافِ الْمَنْقُولِ فَإِنَّهُ فِيهِ مُشَاهَدَةٌ فَوَجَبَ دَفْعُهَا فِي دَعْوَى الْعَقَارِ بِإِثْبَاتِهِ بِالْبَيِّنَةِ لِتَصِحَّ الدَّعْوَى ، وَبَعْدَ ثُبُوتِهِ يَكُونُ احْتِمَالُ كَوْنِ الْيَدِ لِغَيْرِ الْمَالِكِ بِحَقِّ شُبْهَةِ الشُّبْهَةِ فَلَا تُعْتَبَرُ .
وَأَمَّا الْيَدُ فِي الْمَنْقُولِ فَلِكَوْنِهِ مُشَاهَدًا لَا يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِهِ لَكِنْ فِيهِ شُبْهَةُ كَوْنِ الْيَدِ لِغَيْرِ الْمَالِكِ فَوَجَبَ دَفْعُهَا لِتَصِحَّ الدَّعْوَى ا هـ .
وَرَدَّ عَلَيْهِ هَذَا الْجَوَابَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ قَدْ صَرَّحَ فِي الْهِدَايَةِ وَالشُّرُوحِ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْمُطَالَبَةِ فِي الْعَقَارِ أَيْضًا لِيَزُولَ احْتِمَالُ كَوْنِهِ مَرْهُونًا أَوْ مَحْبُوسًا بِالثَّمَنِ ، وَيُعْلَمُ مِنْ هَذَا أَنَّهُمْ اعْتَبَرُوا ذَلِكَ الِاحْتِمَالَ وَأَوْجَبُوا دَفْعَهُ فِي الْعَقَارِ أَيْضًا ، وَهَذَا لَيْسَ مِنْ شُبْهَةِ الشُّبْهَةِ الَّتِي لَمْ يَعْتَبِرُوهَا كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْمُتَدَبِّرِ فَتَدَبَّرْ ا هـ .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : وَإِنْ أَرَدْت تَحْقِيقَ الْمَقَامِ وَتَلْخِيصَ الْكَلَامِ ، فَاسْتَمِعْ لِمَا يُتْلَى عَلَيْك مُسْتَعِينًا بِالْمَلِكِ الْعَلَّامِ ، وَمُسْتَمِدًّا مِنْ وَلِيِّ الْفَيْضِ وَالْإِلْهَامِ ، فَأَقُولُ : لَا شَكَّ أَنَّ فِي الْعَقَارِ شُبْهَةً فِي ثُبُوتِ الْيَدِ عَلَى الْمُدَّعِي ثُمَّ شُبْهَةً فِي كَوْنِهَا بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَأَنَّ الثَّانِيَةَ شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ ، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ لِمَنْ تَتَبَّعَ أَقَاوِيلَهُمْ ، وَأَنَّ شُبْهَةَ الشُّبْهَةِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ إلَّا إذَا انْدَفَعَتْ الشُّبْهَةُ فَإِنَّ شُبْهَةَ الشُّبْهَةِ حِينَئِذٍ تَكُونُ مُعْتَبَرَةً ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُمْ إذَا شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا بِامْرَأَةٍ غَائِبَةٍ فَإِنَّهُ يُحَدُّ لِأَنَّ الَّذِي فِيهِ هُوَ شُبْهَةُ دَعْوَى النِّكَاحِ إذَا حَضَرَتْ ثُمَّ شُبْهَةُ

صِدْقِهَا فِي تِلْكَ الدَّعْوَى فَلَا تُعْتَبَرُ لِكَوْنِهَا شُبْهَةَ الشُّبْهَةِ .
وَأَمَّا إذَا حَضَرَتْ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ وَادَّعَتْ النِّكَاحَ لَا يُحَدُّ الرَّجُلُ اعْتِبَارًا لِشُبْهَةِ الصِّدْقِ .
إذَا تَحَقَّقَتْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتُ فَنَقُولُ : لَوْ أَتَى مُدَّعِي الْعَقَارِ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ وَقَالَ هُوَ فِي يَدِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَدْ قَرَعَ سَمْعَك مِنْ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي كَلَامٍ مُثْبَتٍ أَوْ مَنْفِيٍّ تَقْيِيدٌ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ فَمَنَاطُ الْإِفَادَةِ هُوَ ذَلِكَ الْقَيْدُ يَلْزَمُ عَكْسُ الْمَقْصُودِ ، وَهُوَ الِاهْتِمَامُ بِدَفْعِ شُبْهَةِ الشُّبْهَةِ مَعَ بَقَاءِ الشُّبْهَةِ بِحَالِهَا ، فَأَحَالُوا دَفْعَهَا إلَى كَلَامٍ مُسْتَقِلٍّ مُتَأَخِّرٍ بِحَسَبِ الرُّتْبَةِ عَنْ ثُبُوتِ الْيَدِ وَهُوَ قَوْلُ الْمُدَّعِي أُطَالِبُهُ فَإِنَّ فِي تِلْكَ الرُّتْبَةِ انْدَفَعَتْ الشُّبْهَةُ بِطَرِيقِهَا وَبَقِيَتْ شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ شُبْهَةً مُعْتَبَرَةً بِخِلَافِ الْمَنْقُولِ فَإِنَّ ثُبُوتَ الْيَدِ فِيهِ مُشَاهَدَةٌ لَا شُبْهَةَ فِيهِ فَأَوْجَبُوا تِلْكَ الزِّيَادَةِ لِتَنْدَفِعَ بِهَا شُبْهَةُ كَوْنِ الْيَدِ بِحَقٍّ .
أَوْ نَقُولُ : لَوْ زَادَ الْمُدَّعِي قَوْلَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ فِي دَعْوَى الْعَقَارِ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ وَمِنْ جُمْلَتِهِ ، وَلَمْ يَنْدَفِعْ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ ، شُبْهَةُ كَوْنِهِ فِي يَدِ غَيْرِهِ يَلْزَمُ اعْتِبَارُ شُبْهَةِ الشُّبْهَةِ وَالْمُطَالَبَةُ مُتَأَخِّرَةٌ مَرْتَبَةً عَنْ ثُبُوتِ الْيَدِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ انْدِفَاعِهَا بِهِ مَحْذُورٌ كَمَا نَبَّهْت عَلَيْهِ ، بِخِلَافِ الْمَنْقُولِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شُبْهَةُ كَوْنِهِ فِي يَدِ غَيْرِهِ ، فَاغْتَنِمْ هَذَا فَإِنَّهُ هُوَ الْكَلَامُ الْفَصْلُ وَالْقَوْلُ الْجَزْلُ .
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْمُطَالَبَةَ فِي الْمَنْقُولِ كَالْمُطَالَبَةِ فِي الدُّيُونِ لَيْسَ لِدَفْعِ الِاحْتِمَالِ بَلْ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِالْعَقَارِ ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
وَأَقُولُ : مَا ذَكَرَهُ ذَلِكَ الْفَاضِلُ هَاهُنَا وَسَمَّاهُ بِالتَّحْقِيقِ مِمَّا لَا يُجْدِي طَائِلًا وَمَا هُوَ بِذَلِكَ التَّلْقِيبِ بِحَقِيقٍ .
أَمَّا أَوَّلًا

فَلِأَنَّ خُلَاصَةَ كَلَامِهِ هِيَ أَنَّ مُدَّعِي الْعَقَارِ لَوْ أَتَى بِتِلْكَ الزِّيَادَةِ وَجَعَلَهَا قَيْدًا لِلْكَلَامِ الْأَوَّلِ وَقَصَدَ بِهَا دَفْعَ شُبْهَةِ كَوْنِ الْيَدِ بِحَقٍّ لَزِمَ اعْتِبَارُ شُبْهَةِ الشُّبْهَةِ وَالِاهْتِمَامُ بِدَفْعِهَا مَعَ بَقَاءِ الشُّبْهَةِ وَهِيَ شُبْهَةُ كَوْنِهِ فِي يَدِ الْغَيْرِ بِحَالِهَا إذَا لَمْ تَنْدَفِعْ هَذِهِ الشُّبْهَةُ قَبْلَ ثُبُوتِ الْيَدِ ، وَقَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ أَنَّ شُبْهَةَ الشُّبْهَةِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ قَبْلُ انْدِفَاعِ الشُّبْهَةِ ، فَأَحَالُوا دَفْعَ شُبْهَةِ الشُّبْهَةِ إلَى كَلَامٍ مُسْتَقِلٍّ مُتَأَخِّرٍ فِي الرُّتْبَةِ عَنْ ثُبُوتِ الْيَدِ وَهُوَ قَوْلُ الْمُدَّعِي أُطَالِبُهُ ، فَإِنَّ فِي تِلْكَ الْمَرْتَبَةِ انْدَفَعَتْ الشُّبْهَةُ وَبَقِيَتْ شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ مُعْتَبَرَةً ، بِخِلَافِ الْمَنْقُولِ فَإِنَّ ثُبُوتَ الْيَدِ فِيهِ مُشَاهَدٌ فَلَيْسَ فِيهِ شُبْهَةُ كَوْنِهِ فِي يَدِ غَيْرِهِ فَأَوْجَبُوا تِلْكَ الزِّيَادَةَ لِيَنْدَفِعَ بِهَا شُبْهَةُ كَوْنِ الْيَدِ بِحَقٍّ لَكِنَّهَا لَيْسَتْ بِتَامَّةٍ ؛ لِأَنَّ الْحَاصِلَ مِنْهَا أَنْ لَا يَصِحَّ الْإِتْيَانُ بِتِلْكَ الزِّيَادَةِ فِي دَعْوَى الْعَقَارِ عَلَى أَنْ تُجْعَلَ تِلْكَ الزِّيَادَةُ قَيْدًا لِلْكَلَامِ الْأَوَّلِ ، وَهَذَا لَا يُنَافِي صِحَّةَ الْإِتْيَانِ بِهَا عَلَى أَنْ تُجْعَلَ كَلَامًا مُسْتَقِلًّا بِأَنْ يَقُولَ الْمُدَّعِي إنَّهُ فِي يَدِهِ وَإِنَّ يَدَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ ، فَإِنَّ الزِّيَادَةَ حِينَئِذٍ تَصِيرُ كَلَامًا مُسْتَقِلًّا كَمَا تَرَى وَتَصِيرُ مُتَأَخِّرًا فِي الرُّتْبَةِ عَنْ ثُبُوتِ الْيَدِ كَقَوْلِهِ أُطَالِبُهُ لِأَنَّهُ كَمَا أَنَّ حَقَّ ذِكْرِ الْمُطَالَبَةِ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ ثُبُوتِ الْيَدِ ، كَذَلِكَ حَقُّ ذِكْرِ أَنَّ يَدَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ بَعْدَ ثُبُوتِهَا ، إذْ قَبْلَ ثُبُوتِ الْيَدِ كَمَا لَا فَائِدَةَ فِي الْمُطَالَبَةِ لَا فَائِدَةَ أَيْضًا فِي بَيَانِ أَنَّ يَدَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَهَذَا مِمَّا لَا سُتْرَةَ بِهِ فَلَمْ يَظْهَرْ وَجْهُ عَدَمِ تِلْكَ الزِّيَادَةِ مُطْلَقًا فِي دَعْوَى الْمَنْقُولِ .
وَبِالْجُمْلَةِ إنَّ مَا ذَكَرَهُ وَجْهٌ لَفْظِيٌّ مَخْصُوصٌ بِصُورَةِ كَوْنِ الزِّيَادَةِ

قَيْدًا لِلْكَلَامِ الْأَوَّلِ لَا وَجْهٌ فِقْهِيٌّ عَامٌّ لِجَمِيعِ صُوَرِ الزِّيَادَةِ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ قَطْعًا .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَبْقَى الْإِشْكَالُ فِي الْمَقَامِ بِأَنَّ شُبْهَةَ كَوْنِ الْيَدِ بِحَقٍّ تَنْدَفِعُ فِي دَعْوَى الْمَنْقُولِ أَيْضًا بِالْمُطَالَبَةِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ تُتْرَكَ الزِّيَادَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي دَعْوَى الْمَنْقُولِ كَمَا تُتْرَكُ فِي دَعْوَى الْعَقَارِ ، وَلَا يَنْحَلُّ هَذَا الْإِشْكَالُ بِمَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْمُطَالَبَةَ فِي الْمَنْقُولِ كَالْمُطَالَبَةِ فِي الدُّيُونِ لَيْسَ لِدَفْعِ الِاحْتِمَالِ بَلْ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِالْعَقَارِ انْتَهَى ؛ لِأَنَّ دَفْعَ الِاحْتِمَالِ الْمَذْكُورِ يَحْصُلُ قَطْعًا مِنْ ذِكْرِ الْمُطَالَبَةِ فِي الْمَنْقُولِ أَيْضًا فَلَا يُدْفَعُ : أَيْ لَا يُقْصَدُ بِهَا دَفْعُ ذَلِكَ الِاحْتِمَالِ فِي الْمَنْقُولِ اسْتِدْرَاكُ الزِّيَادَةِ الْمَذْكُورَةِ فِيهِ .
وَأَمَّا مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ التَّحْقِيقِ فَيَنْدَفِعُ بِهِ هَذَا الْإِشْكَالُ كَمَا يَنْدَفِعُ بِهِ اعْتِرَاضُ صَدْرِ الشَّرِيعَةِ كَمَا تَحَقَّقْته مِنْ قَبْلُ .
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هُدَانَا اللَّهُ

قَالَ ( وَإِنْ كَانَ حَقًّا فِي الذِّمَّةِ ذُكِرَ أَنَّهُ يُطَالِبُهُ بِهِ ) لِمَا قُلْنَا ، وَهَذَا لِأَنَّ صَاحِبَ الذِّمَّةِ قَدْ حَضَرَ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْمُطَالَبَةُ لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ تَعْرِيفِهِ بِالْوَصْفِ لِأَنَّهُ يُعْرَفُ بِهِ

( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( وَإِنْ كَانَ حَقًّا فِي الذِّمَّةِ ) أَيْ وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى حَقًّا ثَابِتًا فِي الذِّمَّةِ : يَعْنِي إنْ كَانَ دَيْنًا لَا عَيْنًا ( ذُكِرَ أَنَّهُ يُطَالِبُهُ بِهِ ) يَعْنِي ذُكِرَ أَنَّهُ يُطَالِبُهُ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُشْتَرَطَ فِيهِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الْعَيْنِ عَلَى مَا فَصَّلَ فِيمَا مَرَّ ( لِمَا قُلْنَا ) تَعْلِيلٌ لِمُجَرَّدِ ذِكْرِ الْمُطَالَبَةِ فِيهِ وَإِشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ حَقُّهُ فَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِهِ ( وَهَذَا ) أَيْ الِاكْتِفَاءُ فِيهِ بِذِكْرِ الْمُطَالَبَةِ ( لِأَنَّ صَاحِبَ الذِّمَّةِ قَدْ حَضَرَ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْمُطَالَبَةُ كَمَا لَا بُدَّ مِنْ تَعْرِيفِهِ ) أَيْ تَعْرِيفِ مَا فِي الذِّمَّةِ وَهُوَ الدَّيْنُ ( بِالْوَصْفِ ) أَيْ بِالصِّفَةِ ؛ فَالْمَعْنَى : لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ تَعْرِيفِهِ بِالْوَصْفِ كَمَا لَا بُدَّ مِنْ تَعْرِيفِهِ بِالْجِنْسِ وَالْقَدْرِ عَلَى مَا عُرِفَ فِيمَا مَرَّ مِنْ قَوْلِ الْقُدُورِيِّ ، وَلَا تُقْبَلُ الدَّعْوَى حَتَّى يَذْكُرَ شَيْئًا مَعْلُومًا فِي جِنْسِهِ وَقَدْرِهِ ( لِأَنَّهُ يُعْرَفُ بِهِ ) أَيْ لِأَنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ يُعْرَفُ بِالْوَصْفِ : أَيْ الصِّفَةِ ، بِأَنْ يُقَالَ إنَّهُ جَيِّدٌ أَوْ وَسَطٌ أَوْ رَدِيءٌ بَعْدَ أَنْ يَذْكُرَ جِنْسَهُ وَقَدْرَهُ ، وَلَكِنْ إنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِ الصِّفَةِ فِيمَا إذَا كَانَ الْمُدَّعَى دَيْنًا وَزْنِيًّا إنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ نُقُودٌ مُخْتَلِفَةٌ .
أَمَّا إذَا كَانَ فِي الْبَلَدِ نَقْدٌ وَاحِدٌ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ كَمَا ذُكِرَ فِي الشُّرُوحِ وَمُعْتَبَرَاتِ الْفَتَاوَى ، وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِالْوَصْفِ هَاهُنَا مَعْنَى الصِّفَةِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ ، لَكِنَّ الْأَظْهَرَ مِنْ حَيْثُ مَعْنَى الْمَقَامِ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِهِ مَعْنَى الْبَيَانِ ، فَالْمَعْنَى : لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ تَعْرِيفِ مَا فِي الذِّمَّةِ أَيْضًا بِالْبَيَانِ : أَيْ بِبَيَانِ مَا يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِهِ مِنْ جِنْسِهِ وَقَدْرِهِ مُطْلَقًا ، وَمِنْ نَوْعِهِ وَصِفَتِهِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ عَلَى مَا فَصَّلَ فِي

النِّهَايَةِ وَالْكِفَايَةِ نَقْلًا عَنْ الذَّخِيرَةِ وَفُصُولِ الْأُسْرُوشَنِيِّ .
وَبِالْجُمْلَةِ لَا بُدَّ فِي كُلِّ جِنْسٍ مِنْ الْإِعْلَامِ بِأَقْصَى مَا يُمْكِنُ بِهِ التَّعْرِيفُ

قَالَ ( وَإِذَا صَحَّتْ الدَّعْوَى سَأَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْهَا ) لِيَنْكَشِفَ لَهُ وَجْهُ الْحُكْمِ ( فَإِنْ اعْتَرَفَ قُضِيَ عَلَيْهِ بِهَا ) لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مُوجِبٌ بِنَفْسِهِ فَيَأْمُرُهُ بِالْخُرُوجِ عَنْهُ ( وَإِنْ أَنْكَرَ سَأَلَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " أَلَك بَيِّنَةٌ ؟ فَقَالَ لَا ، فَقَالَ : لَك يَمِينُهُ " سَأَلَ وَرَتَّبَ الْيَمِينَ عَلَى فَقْدِ الْبَيِّنَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ السُّؤَالِ لِيُمْكِنَهُ الِاسْتِحْلَافُ

( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( وَإِذَا صَحَّتْ الدَّعْوَى ) أَيْ وَإِذَا صَحَّتْ الدَّعْوَى بِشُرُوطِهَا ( سَأَلَ ) أَيْ الْقَاضِي ( الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْهَا ) أَيْ عَنْ الدَّعْوَى ( لِيَنْكَشِفَ لَهُ وَجْهُ الْحُكْمِ ) أَيْ لِيَنْكَشِفَ لِلْقَاضِي وَجْهُ الْحُكْمِ : أَيْ طَرِيقُهُ إنْ ثَبَتَ حَقُّ الْمُدَّعِي فَإِنَّ الْحُكْمَ مِنْهُ يَكُونُ بِأَحَدِ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ : الْبَيِّنَةُ وَالْإِقْرَارُ وَالنُّكُولُ .
وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا طَرِيقٌ مَخْصُوصٌ مِنْ الْقَضَاءِ فَلَا بُدَّ مِنْ السُّؤَالِ لِيَنْكَشِفَ لَهُ طَرِيقُ حُكْمِهِ ( فَإِنْ اعْتَرَفَ قُضِيَ عَلَيْهِ بِهَا ) أَيْ فَإِنْ اعْتَرَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَضَى الْقَاضِي عَلَيْهِ بِالدَّعْوَى بِمَعْنَى الْمُدَّعَى أَوْ بِمُوجِبِ الدَّعْوَى .
ثُمَّ إنَّ إطْلَاقَ لَفْظِ الْقَضَاءِ هَاهُنَا تَوَسُّعٌ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ حُجَّةٌ بِنَفْسِهِ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَضَاءِ ، فَكَانَ الْحُكْمُ مِنْ الْقَاضِي إلْزَامًا لِلْخُرُوجِ عَنْ مُوجِبِ مَا أَقَرَّ بِهِ ، بِخِلَافِ الْبَيِّنَةِ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَصِيرُ حُجَّةً بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهَا ، فَإِنَّ الشَّهَادَةَ خَبَرٌ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ ، وَقَدْ جَعَلَهَا الْقَاضِي حُجَّةً بِالْقَضَاءِ بِهَا وَأَسْقَطَ جَانِبَ احْتِمَالِ الْكَذِبِ فِي حَقِّ الْعَمَلِ بِهَا ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ وَغَيْرِهَا ، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ ( لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مُوجِبٌ بِنَفْسِهِ فَيَأْمُرُهُ ) أَيْ يَأْمُرُ الْقَاضِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ( بِالْخُرُوجِ عَنْهُ ) أَيْ عَمَّا يُوجِبُهُ الْإِقْرَارُ ( وَإِنْ أَنْكَرَ ) أَيْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ( سَأَلَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ ) أَيْ طَلَبَ الْقَاضِي مِنْ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ ( لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ) أَيْ لِقَوْلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلْمُدَّعِي ( أَلَك الْبَيِّنَةُ ؟ فَقَالَ لَا ) أَيْ قَالَ الْمُدَّعِي لَا بَيِّنَةَ لِي ( فَقَالَ ) أَيْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( لَك يَمِينُهُ ) أَيْ يَمِينُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ( سَأَلَ ) أَيْ سَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الْمُدَّعِيَ عَنْ الْبَيِّنَةِ ( وَرَتَّبَ الْيَمِينَ عَلَى فَقْدِ الْبَيِّنَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ السُّؤَالِ ) أَيْ فَلَا بُدَّ لِلْقَاضِي مِنْ السُّؤَالِ عَنْ الْبَيِّنَةِ ( لِيُمْكِنَهُ الِاسْتِحْلَافُ ) أَيْ لِيُمْكِنَ الْقَاضِيَ اسْتِحْلَافُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عِنْدَ فَقْدِ الْبَيِّنَةِ

.
قَالَ ( فَإِنْ أَحْضَرَهَا قُضِيَ بِهَا ) لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ عَنْهَا ( وَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ وَطَلَبَ يَمِينَ خَصْمِهِ ) اسْتَحْلَفَهُ ( عَلَيْهَا ) لِمَا رَوَيْنَا ، وَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِهِ لِأَنَّ الْيَمِينَ حَقُّهُ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ كَيْفَ أُضِيفَ إلَيْهِ بِحَرْفِ اللَّامِ فَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِهِ .

( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( فَإِنْ أَحْضَرَهَا ) أَيْ فَإِنْ أَحْضَرَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى وَفْقِ دَعْوَاهُ ( قَضَى بِهَا ) أَيْ قَضَى الْقَاضِي بِالْبَيِّنَةِ ( لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ عَنْهَا ) أَيْ عَنْ الدَّعْوَى لِتَرَجُّحِ جَانِبِ الصِّدْقِ عَلَى الْكَذِبِ بِالْبَيِّنَةِ وَهِيَ : أَيْ الْبَيِّنَةُ فَعِيلَةٌ مِنْ الْبَيَانِ لِأَنَّهَا دَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ يَظْهَرُ بِهَا الْحَقُّ مِنْ الْبَاطِلِ ، وَقِيلَ فَيْعَلَةٌ مِنْ الْبَيْنِ إذْ بِهَا يَقَعُ الْفَصْلُ بَيْنَ الصَّادِقِ وَالْكَاذِبِ كَذَا فِي الْكَافِي ( وَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ ) أَيْ وَإِنْ عَجَزَ الْمُدَّعِي عَنْ إحْضَارِ الْبَيِّنَةِ ( وَطَلَبَ يَمِينَ خَصْمِهِ ) وَهُوَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ( اسْتَحْلَفَهُ عَلَيْهَا ) أَيْ اسْتَحْلَفَ الْقَاضِي خَصْمَهُ عَلَى دَعْوَاهُ ( لِمَا رَأَيْنَا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَك يَمِينُهُ بَعْدَ أَنْ قَالَ الْمُدَّعِي لَا ( وَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِهِ ) أَيْ مِنْ طَلَبِ الْمُدَّعِي اسْتِحْلَافَ خَصْمِهِ ( لِأَنَّ الْيَمِينَ حَقُّهُ ) أَيْ حَقُّ الْمُدَّعِي ( أَلَا يَرَى أَنَّهُ كَيْفَ أُضِيفَ إلَيْهِ بِحَرْفِ اللَّامِ ) أَيْ كَيْفَ أُضِيفَ الْيَمِينُ إلَى الْمُدَّعِي بِحَرْفِ اللَّامِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَك يَمِينُهُ } وَالْإِضَافَةُ إلَيْهِ بِحَرْفِ اللَّامِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلِاخْتِصَاصِ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ حَقُّهُ ، وَإِنَّمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ أُضِيفَ بِتَذْكِيرِ الْفِعْلِ مَعَ كَوْنِهِ مُسْنَدًا إلَى ضَمِيرِ الْيَمِينِ الَّتِي هِيَ مُؤَنَّثٌ عَلَى تَأْوِيلِ الْقَسَمِ أَوْ الْحَلِفِ .
قَالَ صَاحِبُ الْكَافِي : وَالْفِقْهُ فِيهِ : أَيْ فِي كَوْنِ الْيَمِينِ حَقَّ الْمُدَّعِي أَنَّ الْمُدَّعِيَ يَزْعُمُ أَنَّهُ أَتْوَى حَقَّهُ بِإِنْكَارِهِ فَشُرِعَ الِاسْتِحْلَافُ ، حَتَّى لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمَ يَكُونُ إتْوَاءً بِمُقَابَلَةِ إتْوَاءً ، فَإِنَّ الْيَمِينَ الْفَاجِرَةَ تَدَعُ الدِّيَارَ بَلَاقِعَ وَأَلَّا يَنَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الثَّوَابَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ صَادِقًا ، وَلَا يَتَضَرَّرُ بِهِ

بِوَجْهٍ انْتَهَى .
وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ بَعْدَ ذِكْرِ مَا فِي الْكَافِي : ثُمَّ إنَّمَا رَتَّبَ الْيَمِينَ عَلَى الْبَيِّنَةِ لَا عَلَى الْعَكْسِ ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الدَّعْوَى لَيْسَتْ بِمُوجِبَةٍ اسْتِحْقَاقَ الْمُدَّعِي لِلْمُدَّعَى لِأَنَّ فِيهِ إسَاءَةَ الظَّنِّ بِالْآخَرِ ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فَوَجَبَ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْمُدَّعِي لِإِثْبَاتِ اسْتِحْقَاقِهِ بِهَا ، فَيُطَالِبُهُ الْقَاضِي بِذَلِكَ لَا عَلَى وَجْهِ الْإِلْزَامِ عَلَيْهِ بَلْ عَلَى وَجْهِ التَّذْكِيرِ لَهُ ، فَلَوْ قَدَّمْنَا الْيَمِينَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ نَظَرٌ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، إذْ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ مَشْرُوعَةٌ بَعْدَ الْيَمِينِ ، فَلَوْ حَلَّفْنَاهُ أَوَّلًا ثُمَّ أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ افْتَضَحَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ انْتَهَى .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ مَا فِي النِّهَايَةِ : وَفِيهِ نَظَرٌ ، وَبَيَّنَ وَجْهَ النَّظَرِ فِيمَا نُقِلَ عَنْهُ حَيْثُ قَالَ : وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الشَّرْعَ لَوْ وَرَدَ بِتَقْدِيمِ الْيَمِينِ لَمَا كَانَتْ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ بَعْدَ ذَلِكَ مَشْرُوعَةً ، كَمَا إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَإِنَّ الْيَمِينَ بَعْدَهَا لَيْسَتْ بِمَشْرُوعَةٍ ا هـ .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : قَوْلُهُ لَمَّا كَانَتْ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ بَعْدَ ذَلِكَ مَشْرُوعَةً فِيهِ بَحْثٌ ، بَلْ تَكُونُ مَشْرُوعِيَّةُ الْبَيِّنَةِ إذَا عَجَزَ عَنْ الْيَمِينِ بِأَنْ نَكَلَ فَلْيُتَأَمَّلْ ا هـ .
أَقُولُ : بَحْثُهُ هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ مُرَادَ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ بِقَوْلِهِ الْمَذْكُورِ لَمَّا كَانَتْ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ بَعْدَ تَحَقُّقِ الْيَمِينِ وَصُدُورِهِ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَشْرُوعَةً يُرْشِدُ إلَيْهِ قَطْعًا قَوْلُهُ كَمَا إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَإِنَّ الْيَمِينَ بَعْدَهَا لَيْسَتْ بِمَشْرُوعَةٍ ، وَمُرَادُ صَاحِبِ النِّهَايَةِ أَيْضًا بِقَوْلِهِ إذْ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ مَشْرُوعَةٌ بَعْدَ الْيَمِينِ مَشْرُوعِيَّةَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ بَعْدَ تَحَقُّقِ الْيَمِينِ وَصُدُورِهِ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ افْتِضَاحَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ إنَّمَا يَلْزَمُ فِي

هَذِهِ الصُّورَةِ ، فَاحْتِمَالُ كَوْنِ مَشْرُوعِيَّةِ الْبَيِّنَةِ إذَا عَجَزَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ الْيَمِينِ بِأَنْ نَكَلَ لَا يُفِيدُ فِي دَفْعِ نَظَرِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ عَمَّا قَالَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ ، عَلَى أَنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ فِي نَفْسِهِ لِأَنَّ النُّكُولَ عَنْ الْيَمِينِ لَيْسَ بِعَجْزٍ عَنْهَا ، إذْ هُوَ حَالَةٌ اخْتِيَارِيَّةٌ دَالَّةٌ عَلَى صِدْقِ الْمُدَّعِي ، بِخِلَافِ الْعَجْزِ عَنْ الْبَيِّنَةِ عَلَى مَا لَا يَخْفَى .
ثُمَّ أَقُولُ : بَقِيَ نَظَرٌ آخَرُ فِي كَلَامِ صَاحِبِ النِّهَايَةِ ، وَهُوَ مَشْرُوعِيَّةُ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ بَعْدَ الْيَمِينِ تَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ افْتِضَاحُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ مَحْذُورًا شَرْعِيًّا ؛ لِأَنَّ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ بَعْدَ الْيَمِينِ تَسْتَلْزِمُ الِافْتِضَاحَ الْمَزْبُورَ ، وَمَشْرُوعِيَّةُ إقَامَتِهَا بَعْدَ الْيَمِينِ تَقْتَضِي حُسْنَهَا ، فَإِنَّ كُلَّ مَا هُوَ مَشْرُوعٌ فَهُوَ حَسَنٌ عِنْدَنَا ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا يَسْتَلْزِمُ الْحُسْنَ الشَّرْعِيَّ فَهُوَ حُسْنٌ شَرْعِيُّ أَيْضًا فَلَا يَصِيرُ الِافْتِضَاحُ الْمَزْبُورُ مَحْذُورًا شَرْعِيًّا فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ فَتَأَمَّلْ .

( بَابُ الْيَمِينِ ) ( وَإِذَا قَالَ الْمُدَّعِي لِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ وَطَلَبَ الْيَمِينَ لَمْ يُسْتَحْلَفْ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، مَعْنَاهُ حَاضِرَةٌ فِي الْمِصْرِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يُسْتَحْلَفُ لِأَنَّ الْيَمِينَ حَقُّهُ بِالْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ ، فَإِذَا طَالَبَهُ بِهِ يُجِيبُهُ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ ثُبُوتَ الْحَقِّ فِي الْعَيْنِ مُرَتَّبٌ عَلَى الْعَجْزِ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ لِمَا رَوَيْنَا فَلَا يَكُونُ حَقُّهُ دُونَهُ ، كَمَا إذَا كَانَتْ الْبَيِّنَةُ حَاضِرَةً فِي الْمَجْلِسِ وَمُحَمَّدٌ مَعَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِيمَا ذَكَرَهُ الْخَصَّافُ ، وَمَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ .
قَالَ ( وَلَا تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي ، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ } قَسَمَ وَالْقِسْمَةُ تُنَافِي الشَّرِكَةَ ، وَجَعَلَ جِنْسَ الْأَيْمَانِ عَلَى الْمُنْكِرِينَ وَلَيْسَ وَرَاءَ الْجِنْسِ شَيْءٌ ، وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

بَابُ الْيَمِينِ ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : وَهَذَا التَّرْتِيبُ مِنْ التَّرْتِيبِ الْوُجُودِيِّ لِمَا أَنَّ مَشْرُوعِيَّةَ الْيَمِينِ بَعْدَ الْعَجْزِ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ ، فَلَمَّا ذَكَرَ حُكْمَ الْبَيِّنَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ذَكَرَ فِي هَذَا الْبَابِ حُكْمَ الْيَمِينِ ا هـ .
أَقُولُ : فِيهِ شَيْءٌ ، وَهُوَ أَنَّ كَوْنَ مَشْرُوعِيَّةِ الْيَمِينِ بَعْدَ الْعَجْزِ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ لَا يَجْرِي عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي رِوَايَةٍ كَمَا سَيَظْهَرُ فِي صَدْرِ هَذَا الْبَابِ ، فَلَمْ يَكُنْ مَا ذَكَرَهُ وَجْهًا جَامِعًا لِأَقْوَالِ أَئِمَّتِنَا ، عَلَى أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ فِيمَا تَقَدَّمَ حَالَ الْبَيِّنَةِ إجْمَالًا ذَكَرَ فِيهِ أَيْضًا حَالَ الْيَمِينِ إجْمَالًا ، فَهُمَا مُشْتَرِكَانِ فِي الذِّكْرِ الْإِجْمَالِيِّ فِيمَا قَبْلَ هَذَا الْبَابِ ، وَأَمَّا تَفَاصِيلُ أَحْكَامِ الْبَيِّنَاتِ فَتُذْكَرُ فِيمَا بَعْدَ هَذَا الْبَابِ كَمَا تُذْكَرُ تَفَاصِيلُ أَحْكَامِ الْيَمِينِ فِي هَذَا الْبَابِ ، فَلَمْ يَظْهَرْ كَوْنُ تَرْتِيبِ الْكِتَابِ عَلَى التَّرْتِيبِ الْوُجُودِيِّ ؛ فَالْأَوْلَى مَا قَالَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ مِنْ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ الْخَصْمَ إذَا أَنْكَرَ الدَّعْوَى وَعَجَزَ الْمُدَّعِي عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَطَلَبِ الْيَمِينِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْلِفَ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ الْأَحْكَامَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْيَمِينِ انْتَهَى .
وَقَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ : أَقُولُ مَا كَانَ يَحْتَاجُ هَاهُنَا إلَى الْفَصْلِ بِالْبَابِ ، بَلْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَسُوقَ الْكَلَامَ مُتَوَالِيًا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ صِحَّةَ الدَّعْوَى رَتَّبَ عَلَيْهَا الْحُكْمَ بِالْإِقْرَارِ وَالْبَيِّنَةِ وَالْيَمِينِ انْتَهَى .
وَقَالَ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ بَعْدَ نَقْلِ مَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ : قُلْت الَّذِي رَتَّبَهُ الْمُصَنِّفُ هُوَ الْأَصْلُ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ الْيَمِينُ مَشْرُوعَةً بَعْدَ فَقْدِ الْبَيِّنَةِ تَعَيَّنَ ذِكْرُهَا بَعْدَهَا بِأَحْكَامِهَا وَشَرَائِطِهَا انْتَهَى .
أَقُولُ : هَذَا الْكَلَامُ مِنْهُ فِي مَعْرِضِ الْجَوَابِ عَمَّا

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78