كتاب : فتح القدير
المؤلف : كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي

الْمُعْتَبَرَةِ سِوَى نُسْخَةِ هَذَا الْكِتَابِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الشُّرَّاحُ ، وَإِنَّمَا الْمَذْكُورُ فِي سَائِرِ الْكُتُبِ مَوْضِعٌ بِنَفْسِهِ بِالتَّسْمِيَةِ كَمَا وَقَعَ فِي الْكَنْزِ ، وَالْمُخْتَارِ ، أَوْ بِذِكْرِ الْعَمَلِ كَمَا وَقَعَ فِي الْوِقَايَةِ وَبَعْضِ الْمُتُونِ .
( قَوْلُهُ : وَرُبَّمَا يُقَالُ الْإِجَارَةُ قَدْ تَكُونُ عَقْدًا عَلَى الْعَمَلِ ، إلَى قَوْلِهِ : وَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ الْوَقْتِ ) أَقُولُ : فِي هَذَا التَّقْسِيمِ نَوْعُ إشْكَالٍ ، إذْ قَدْ مَرَّ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ أَنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدٌ عَلَى الْمَنَافِعِ بِعِوَضٍ فَكَيْفَ يَصِحُّ تَقْسِيمُهَا إلَى الْعَقْدِ عَلَى الْعَمَلِ وَإِلَى الْعَقْدِ عَلَى الْمَنْفَعَةِ ، وَهَذَا يَلْزَمُ مِنْهُ تَقْسِيمُ الشَّيْءِ إلَى نَفْسِهِ وَإِلَى غَيْرِهِ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ تُحْمَلَ عِبَارَةُ التَّقْسِيمِ عَلَى الْمُسَامَحَةِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ الْإِجَارَةَ قَدْ تَكُونُ عَقْدًا عَلَى مَنْفَعَةِ الْعَمَلِ ، وَقَدْ تَكُونُ عَقْدًا عَلَى مَنْفَعَةِ الْأَعْيَانِ لَكِنَّهُ غَيْرُ مُنْفَهِمٍ مِنْ نَفْسِ اللَّفْظِ كَمَا لَا يَخْفَى .
ثُمَّ أَقُولُ : كَانَ حَقًّا عَلَى الْمُصَنِّفِ أَنْ يُؤَخِّرَ بَيَانَ هَذَا التَّقْسِيمِ الَّذِي ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ كَصَاحِبِ الْأَسْرَارِ وَغَيْرِهِ عَنْ ذِكْرِ الْقِسْمِ الثَّالِثِ مِنْ التَّقْسِيمِ الْمَذْكُورِ فِي نَفْسِ الْكِتَابِ ، وَقَدْ وَسَّطَهُ فِي الْبَيَانِ كَمَا تَرَى ، وَكَأَنَّ صَاحِبَ الْكَافِي تَنَبَّهَ لِسَمَاجَةِ هَذَا التَّحْرِيرِ حَيْثُ أَخَّرَ بَيَانَ هَذَا التَّقْسِيمِ الْمَثْنَى عَنْ تَمَامِ ذِكْرِ أَقْسَامِ ذَلِكَ التَّقْسِيمِ الْمُثَلَّثِ .
وَاعْتَرَضَ صَاحِبُ الْغَايَةِ عَلَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ كَمَا فِي أَجِيرِ الْوَحْدِ حَيْثُ قَالَ : وَلَنَا فِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ إجَارَةَ أَجِيرِ الْوَحْدِ أَيْضًا عَقْدٌ عَلَى الْعَمَلِ ، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ فِيهَا بَيَانُ الْمُدَّةِ وَلِهَذَا جَعَلَهُ صَاحِبُ التُّحْفَةِ أَحَدَ نَوْعَيْ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى الْأَعْمَالِ كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا ، فَلَوْ قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ وَقَدْ تَكُونُ عَقْدًا عَلَى الْمَنْفَعَةِ كَاسْتِئْجَارِ الدُّورِ ، وَالْحَوَانِيتِ وَنَحْوِهَا كَانَ

أَوْلَى .
ا هـ كَلَامُهُ .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ إجَارَةَ أَجِيرِ الْوَحْدِ لَيْسَتْ بِعَقْدٍ عَلَى الْعَمَلِ وَلِهَذَا يَسْتَحِقُّ أَجِيرُ الْوَحْدِ الْأُجْرَةَ بِتَسْلِيمِ نَفْسِهِ فِي الْمُدَّةِ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ قَاطِبَةً كَمَا سَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ ، وَلَوْ كَانَتْ عَقْدًا عَلَى الْعَمَلِ لَمَا اسْتَحَقَّهَا بِدُونِ الْعَمَلِ بَلْ إنَّمَا هِيَ عَقْدٌ عَلَى مَنَافِعِ نَفْسِهِ مُطْلَقًا وَلِهَذَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إيجَابِ مَنَافِعِهِ لِغَيْرِهِ ، وَتَعْيِينُ الْعَمَلِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ كَرَعْيِ الْغَنَمِ وَنَحْوِهِ ؛ لِصَرْفِ لْمَنْفَعَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ إلَى تِلْكَ الْجِهَةِ ، وَسَيَظْهَرُ هَذَا كُلُّهُ فِي بَابِ ضَمَانِ الْأَجِيرِ .
وَجَعَلَ صَاحِبُ التُّحْفَةِ ذَلِكَ أَحَدَ نَوْعَيْ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى الْأَعْمَالِ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْمُصَنِّفِ .
وَلَوْ مَثَّلَ الْمُصَنِّفُ مَا يَكُونُ عَقْدًا عَلَى الْمَنْفَعَةِ بِاسْتِئْجَارِ الدُّورِ وَنَحْوِهَا دُونَ أَجِيرِ الْوَحْدِ لَفَاتَ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ إجَارَةَ أَجِيرِ الْوَحْدِ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ وَهُوَ مَقْصُودٌ لِخَفَاءِ ذَلِكَ عَلَى الْبَعْضِ فَتَنَبَّهْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ الْأَجْرِ مَتَى يُسْتَحَقُّ قَالَ : ( الْأُجْرَةُ لَا تَجِبُ بِالْعَقْدِ وَتُسْتَحَقُّ بِأَحَدِ مَعَانٍ ثَلَاثَةٍ : إمَّا بِشَرْطِ التَّعْجِيلِ ، أَوْ بِالتَّعْجِيلِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ ، أَوْ بِاسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : تُمْلَكُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ الْمَعْدُومَةَ صَارَتْ مَوْجُودَةً حُكْمًا ضَرُورَةَ تَصْحِيحِ الْعَقْدِ فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ فِيمَا يُقَابِلُهُ مِنْ الْبَدَلِ .
وَلَنَا أَنَّ الْعَقْدَ يَنْعَقِدُ شَيْئًا فَشَيْئًا عَلَى حَسَبِ حُدُوثِ الْمَنَافِعِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، وَالْعَقْدُ مُعَاوَضَةٌ ، وَمِنْ قَضِيَّتِهَا الْمُسَاوَاةُ ، فَمِنْ ضَرُورَةِ التَّرَاخِي فِي جَانِبِ الْمَنْفَعَةِ التَّرَاخِي فِي الْبَدَلِ الْآخَرِ .
وَإِذَا اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِي الْأَجْرِ لِتَحَقُّقِ التَّسْوِيَةِ .
وَكَذَا إذَا شَرَطَ التَّعْجِيلَ أَوْ عَجَّلَ ؛ لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ تُثْبِتُ حَقًّا لَهُ وَقَدْ أَبْطَلَهُ .

( بَابُ الْأَجْرِ مَتَى يُسْتَحَقُّ ) .
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ صِحَّةَ الْإِجَارَةِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى أَنْ تَكُونَ الْأُجْرَةُ مَعْلُومَةً احْتَاجَ إلَى بَيَانِ وَقْتِ وُجُوبِهَا فَذَكَرَهُ ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْمَسَائِلِ فِي هَذَا الْبَابِ .
ا هـ كَلَامُهُ .
وَاقْتَفَى أَثَرَهُ فِي هَذَا التَّوْجِيهِ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ .
أَقُولُ : لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ رَكَاكَةُ هَذَا التَّوْجِيهِ وَسَخَافَتُهُ ، إذْ لَا يَسْتَدْعِي ذِكْرُ مُجَرَّدِ أَنَّ صِحَّةَ الْإِجَارَةِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى كَوْنِ الْأُجْرَةِ مَعْلُومَةً بَيَانَ وُجُوبِهَا فَضْلًا عَنْ الِاحْتِيَاجِ إلَى بَيَانِ وَقْتِ وُجُوبِهَا فِي بَابٍ عَلَى حِدَةٍ ، أَلَا يُرَى أَنَّ مَعْلُومِيَّةَ الْبَدَلَيْنِ شَرْطٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْعُقُودِ ؛ وَلَمْ يَحْتَجْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا إلَى بَيَانِ وَقْتِ الْوُجُوبِ فِي بَابٍ عَلَى حِدَةٍ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : لَمَّا كَانَتْ الْإِجَارَةُ تُخَالِفُ غَيْرَهَا فِي تَخَلُّفِ الْمِلْكِ عَنْ الْعَقْدِ بِلَا خِيَارِ شَرْطٍ وَجَبَ إفْرَادُهَا بِبَابٍ عَلَى حِدَةٍ لِبَيَانِ وَقْتِ التَّمَلُّكِ ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْمَسَائِلِ .
ا هـ كَلَامُهُ .
أَقُولُ : فِيهِ شَيْءٌ وَهُوَ أَنَّ تَخَلُّفَ الْمِلْكِ عَنْ الْعَقْدِ يُوجَدُ فِي غَيْرِهَا أَيْضًا كَالْهِبَةِ فَإِنَّ الْمِلْكَ لَا يَثْبُتُ هُنَاكَ أَيْضًا بِنَفْسِ الْعَقْدِ بَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبْضِ كَمَا مَرَّ ، وَكَالْوَصِيَّةِ فَإِنَّ الْمِلْكَ هُنَاكَ أَيْضًا يَتَأَخَّرُ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ فَلَا يَتِمُّ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْإِجَارَةَ تُخَالِفُ غَيْرَهَا فِي تَخَلُّفِ الْمِلْكِ عَنْ الْعَقْدِ بِلَا خِيَارِ شَرْطٍ .
ثُمَّ أَقُولُ : الْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ : لَمَّا كَانَ وَقْتُ اسْتِحْقَاقِ الْأُجْرَةِ مِمَّا وَقَعَ فِيهِ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ أَئِمَّةِ الشَّرْعِ ، وَكَانَ يَتَعَلَّقُ بِهِ كَثِيرٌ مِنْ الْمَسَائِلِ حَسُنَ إفْرَادُ بَابٍ لِبَيَانِ اسْتِحْقَاقِ الْأُجْرَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْمَسَائِلِ ( قَوْلُهُ : الْأُجْرَةُ لَا تَجِبُ بِالْعَقْدِ ) قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ : أَرَادَ وُجُوبَ الْأَدَاءِ ، أَمَّا نَفْسُ الْوُجُوبِ

فَيَثْبُتُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ : الْمُرَادُ نَفْسُ الْوُجُوبِ لَا وُجُوبُ الْأَدَاءِ ، وَبَيَانُ ذَلِكَ إجْمَالًا وَتَفْصِيلًا .
أَمَّا إجْمَالًا فَلِأَنَّ الْأُجْرَةَ لَوْ كَانَتْ عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ الْمُؤَجِّرُ قَبْلَ وُجُودِ أَحَدِ مَعَانٍ ثَلَاثَةٍ لَا يُعْتَقُ ، فَلَوْ كَانَ نَفْسُ الْوُجُوبِ ثَابِتًا لَصَحَّ إعْتَاقُهُ كَمَا فِي الْبَيْعِ .
وَأَمَّا تَفْصِيلًا فَلِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ فَتُعْتَبَرُ الْمُسَاوَاةُ وَلَمْ تُوجَدْ فِي جَانِبِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَا نَفْسُ الْوُجُوبِ ، وَلَا وُجُوبُ الْأَدَاءِ ، فَكَذَا فِي جَانِبِ الْعِوَضِ انْتَهَى .
وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : الْأُجْرَةُ لَا تَجِبُ بِالْعَقْدِ : أَيْ لَا يَجِبُ تَسْلِيمُهَا وَأَدَاؤُهَا بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ ، كَذَا وَجَدْتُ بِخَطِّ شَيْخِي .
وَذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ مَا يُؤَيِّدُ هَذَا فَقَالَ : يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْأُجْرَةَ لَا تُمْلَكُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَلَا يَجِبُ إيفَاؤُهَا إلَّا بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ إذَا لَمْ يُشْتَرَطْ التَّعْجِيلُ فِي الْأُجْرَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ الْأُجْرَةُ عَيْنًا أَوْ دَيْنًا ، هَكَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْجَامِعِ ، وَفِي كِتَابِ التَّحَرِّي .
وَذَكَرَ فِي الْإِجَارَاتِ أَنَّ الْأُجْرَةَ إذَا كَانَتْ عَيْنًا لَا تُمْلَكُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ ، وَإِنْ كَانَتْ دَيْنًا تُمْلَكُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَتَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ ، فَعَامَّةُ الْمَشَايِخِ عَلَى أَنَّ الصَّحِيحَ مَا ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ وَكِتَابِ التَّحَرِّي .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : مَا ذَكَرَهُ فِي الْإِجَارَاتِ قَوْلُ مُحَمَّدٍ أَوَّلًا ، وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ ، وَالتَّحَرِّي قَوْلًا آخِرًا ، إلَى هُنَا لَفْظُ النِّهَايَةِ .
أَقُولُ : تَأْيِيدُ مَا ذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ كَوْنُ مَعْنَى عِبَارَةِ الْكِتَابِ مَا قَالَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ مَمْنُوعٌ ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ : إنَّ الْأُجْرَةَ لَا تُمْلَكُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ قَبْلَ أَنْ قَالَ : وَلَا يَجِبُ إيفَاؤُهَا إلَّا بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ إذَا لَمْ يُشْتَرَطْ التَّعْجِيلُ فِي الْأُجْرَةِ ، فَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ الْأُجْرَةَ لَا

تُمْلَكُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ عِنْدَنَا كَمَا لَا يَجِبُ أَدَاؤُهَا بِنَفْسِ الْعَقْدِ فَتَمَّ ، بِخِلَافِ مَا فِي الْكِتَابِ فَإِنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ شَيْءٌ قَبْلَ أَنْ قَالَ الْأُجْرَةُ لَا تَجِبُ فِي الْعَقْدِ ، فَلَوْ كَانَ مَعْنَاهُ الْأُجْرَةُ لَا يَجِبُ تَسْلِيمُهَا وَأَدَاؤُهَا بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ لَمْ يُفْهَمْ مِنْهُ أَنَّ الْأُجْرَةَ لَا تُمْلَكُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ ، إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ عَدَمُ تَمَلُّكِهَا بِمُجَرَّدِهِ : أَلَا تَرَى أَنَّ الثَّمَنَ مِمَّا يَمْلِكُهُ الْبَائِعُ بِمُجَرَّدِ عَقْدِ الْبَيْعِ بِلَا خِيَارٍ وَلَا يَجِبُ تَسْلِيمُهُ وَأَدَاؤُهُ فِي الْحَالِ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ فِي الْبِيَاعَاتِ الْمُؤَجَّلَةِ بَلْ يَتَأَخَّرُ إلَى حُلُولِ الْأَجَلِ ، فَإِذَا لَمْ يُفْهَمْ مِنْهُ ذَلِكَ لَمْ يَفْدِ مَا هُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَنَا فَلَزِمَ أَنْ لَا يَتِمَّ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : الْأُجْرَةُ لَا تَجِبُ بِالْعَقْدِ مَعْنَاهُ لَا يَجِبُ تَسْلِيمُهَا وَأَدَاؤُهَا بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ ، وَلَيْسَ بِوَاضِحٍ ؛ لِأَنَّ نَفْيَ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ التَّمَلُّكِ كَالْمَبِيعِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُهُ الْمُشْتَرِي بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ وَلَا يَجِبُ تَسْلِيمُهُ مَا لَمْ يَقْبِضْ الثَّمَنَ .
وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ : مَعْنَاهُ لَا تُمْلَكُ ؛ لِأَنَّ مُحَمَّدًا ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ أَنَّ الْأُجْرَةَ لَا تُمْلَكُ وَمَا لَا يُمْلَكُ لَمْ يَجِبْ إيفَاؤُهُ .
وَقَالَ : فَإِنْ قُلْتَ : فَإِذَا لَمْ يَسْتَلْزِمْ نَفْيُ الْوُجُوبِ نَفْيَ التَّمَلُّكِ كَانَ أَعَمَّ مِنْهُ ، وَذِكْرُ الْأَعَمِّ وَإِرَادَةُ الْأَخَصِّ لَيْسَ بِمَجَازٍ شَائِعٍ ؛ لِعَدَمِ دَلَالَةِ الْأَعَمِّ عَلَى الْأَخَصِّ أَصْلًا .
قُلْتُ : أَخْرَجَ الْكَلَامَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْأُجْرَةُ مِمَّا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ وَنَفَى الْوُجُوبَ فِيهَا وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ التَّمَلُّكِ لَا مَحَالَةَ .
انْتَهَى كَلَامُهُ .
أَقُولُ : لَا السُّؤَالُ بِشَيْءٍ وَلَا الْجَوَابُ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ ذِكْرَ الْأَعَمِّ وَإِرَادَةَ الْأَخَصِّ إنَّمَا لَيْسَ

بِمَجَازٍ شَائِعٍ إذَا لَمْ تَتَحَقَّقْ قَرِينَةٌ مُخَصِّصَةٌ ، وَأَمَّا إذَا تَحَقَّقَتْ الْقَرِينَةُ فَذَلِكَ مَجَازٌ شَائِعٌ وُقُوعُهُ فِي كَلِمَاتِ الْقَوْمِ حَتَّى تَعْرِيفَاتِهِمْ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا التَّحَرُّزُ عَمَّا يُورِثُ خَفَاءَ الْمُرَادِ ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ قَدْ تَحَقَّقَتْ الْقَرِينَةُ عَلَى إرَادَةِ الْأَخَصِّ وَهِيَ قَوْلُهُ : وَقَالَ الشَّافِعِيُّ تُمْلَكُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ كَمَا اعْتَرَفَ بِهِ الشَّارِحُ الْمَزْبُورُ حَيْثُ قَالَ فِيمَا بَعْدُ : يَدُلُّ عَلَى هَذَا كُلِّهِ قَوْلُهُ : وَقَالَ الشَّافِعِيُّ تُمْلَكُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ مَحَلُّ الْخِلَافِ مُتَّحِدًا .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ وَنَفَى الْوُجُوبَ فِيهَا أَنَّهُ قَصَدَ نَفْيَ الْوُجُوبِ فِي الذِّمَّةِ بِدُونِ أَنْ يَجْعَلَهُ مَجَازًا عَنْ نَفْيِ التَّمَلُّكِ لَمْ يَكُنْ مُطَابِقًا لِقَوْلِهِ ، وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ : مَعْنَاهُ لَا تُمْلَكُ وَإِنَّمَا مَوْرِدُ السُّؤَالِ ذَلِكَ ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ جَعَلَ نَفْيَ الْوُجُوبِ مَجَازًا عَنْ نَفْيِ التَّمَلُّكِ لِعَلَاقَةِ الِاسْتِلْزَامِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى قَوْلِهِ أَخْرَجَ الْكَلَامَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْأُجْرَةُ مِمَّا يَثْبُتُ بِالذِّمَّةِ ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ كُلَّهَا سَوَاءٌ كَانَتْ عَيْنًا أَوْ دَيْنًا مِمَّا يُمْلَكُ ، وَإِذَا كَانَ مَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ مِنْهَا هُوَ الدَّيْنُ دُونَ الْعَيْنِ فَنَفْيُ التَّمَلُّكِ بِالْعَقْدِ يَنْتَظِمُ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْأُجْرَةِ ، وَلَا يَخْتَصُّ بِمَا هُوَ الْغَالِبُ مِنْهَا وَهُوَ الدَّيْنُ الثَّابِتُ فِي الذِّمَّةِ حَتَّى يَحْتَاجَ إلَى أَنْ يُقَالَ : أَخْرَجَ الْكَلَامَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ ، عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ التَّمَلُّكِ لَا مَحَالَةَ مَمْنُوعٌ ، فَإِنَّ الْعَيْنَ مِمَّا لَا يَجِبُ فِي الذِّمَّةِ مَعَ أَنَّهُ مِمَّا يُمْلَكُ قَطْعًا .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : فَإِنَّ فِي صُورَةِ التَّعْجِيلِ يُوجَدُ الْمِلْكُ بِلَا وُجُوبٍ فَتَأَمَّلْ .
( قَوْلُهُ : وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : تُمْلَكُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ الْمَعْدُومَةَ صَارَتْ مَوْجُودَةً

حُكْمًا ضَرُورَةَ تَصْحِيحِ الْعَقْدِ فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ فِيمَا يُقَابِلُهُ مِنْ الْبَدَلِ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي حَلِّ هَذَا الْمَحَلِّ : وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ الْمَعْدُومَةَ صَارَتْ مَوْجُودَةً ضَرُورَةَ تَصْحِيحِ الْعَقْدِ ؛ وَلِهَذَا صَحَّتْ الْإِجَارَةُ بِأُجْرَةٍ مُؤَجَّلَةٍ ، وَلَوْ لَمْ تُجْعَلْ مَوْجُودَةً كَانَ دَيْنًا بِدَيْنٍ وَهُوَ حَرَامٌ لَا مَحَالَةَ ، وَإِذَا كَانَتْ مَوْجُودَةً وَجَبَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ بِالْعَقْدِ ؛ لِوُجُودِ الْمُقْتَضِي وَانْتِفَاءِ الْمَانِعِ فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ فِيمَا يُقَابِلُهُ مِنْ الْبَدَلِ انْتَهَى .
وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ حَيْثُ قَالَ قَوْلُهُ : لِوُجُودِ الْمُقْتَضِي وَانْتِفَاءِ الْمَانِعِ مَمْنُوعٌ ، فَإِنَّ انْتِفَاءَ الْوُجُودِ حَقِيقَةً مَانِعٌ عَنْهُ انْتَهَى .
أَقُولُ : هَذَا الْإِيرَادُ سَاقِطٌ ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ الْمَعْدُومَةَ إذَا جُعِلَتْ مَوْجُودَةً فِي حُكْمِ الشَّرْعِ يَجِبُ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ ثُبُوتُ الْمِلْكِ بِالْعَقْدِ وَلَا يَبْقَى لِانْتِفَاءِ الْوُجُودِ حَقِيقَةُ صَلَاحِيَّةٍ لِلْمَنْعِ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ إنَّمَا يَجْعَلُهَا مَوْجُودَةً ؛ لِأَجْلِ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْحُكْمُ ، فَلَوْ كَانَ انْتِفَاءُ وُجُودِهَا حَقِيقَةً مَانِعًا عَنْهُ لَزِمَ أَنْ يَلْغُوَ جَعْلُ الشَّرْعِ إيَّاهَا مَوْجُودَةً وَهَذَا خُلْفٌ .
وَعَنْ هَذَا قَالُوا : وَلِلشَّارِعِ وِلَايَةُ جَعْلِ الْمَعْدُومِ حَقِيقَةً مَوْجُودًا كَمَا جَعَلَ النُّطْفَةَ فِي الرَّحِمِ وَلَا حَيَاةَ فِيهَا كَالْحَيِّ حُكْمًا فِي حَقِّ الْإِرْثِ ، وَالْعِتْقِ ، وَالْوَصِيَّةِ عَلَى مَا ذَكَرَ فِي الْكَافِي وَعَامَّةِ الشُّرُوحِ .
نَعَمْ يَرِدُ عَلَى اسْتِدْلَالِ الشَّافِعِيِّ كَلَامٌ آخَرُ مِنْ قِبَلِ أَئِمَّتِنَا كَمَا أُشِيرُ إلَيْهِ فِي عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ ، وَهُوَ أَنَّ جَعْلَ الْمَعْدُومِ مَوْجُودًا فِي الشَّرْعِ إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا إذَا دَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَيْهِ ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَا تَدْعُو الضَّرُورَةُ إلَيْهِ لِإِمْكَانِ تَصْحِيحِ الْعَقْدِ بِطَرِيقٍ آخَرَ أَوْضَحَ وَأَوْسَعَ مِنْهُ وَهُوَ إقَامَةُ الْعَيْنِ الَّتِي هِيَ

سَبَبٌ لِوُجُودِ الْمَنْفَعَةِ كَالدَّارِ مَثَلًا مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ فِي حَقِّ صِحَّةِ الْإِيجَابِ ، وَالْقَبُولِ .
ثُمَّ انْعِقَادُ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَلَى حَسَبِ حُدُوثِ الْمَنَافِعِ ، وَإِقَامَةُ السَّبَبِ مَقَامَ الْمُسَبِّبِ أَصْلٌ شَائِعٌ فِي الشَّرْعِ .
كَإِقَامَةِ السَّفَرِ مَقَامَ الْمَشَقَّةِ ، وَإِقَامَةِ الْبُلُوغِ مَقَامَ كَمَالِ الْعَقْلِ وَهَلُمَّ جَرَّا مِنْ النَّظَائِرِ .
ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : فَإِنْ قِيلَ : الثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ لَا يَتَعَدَّى مَوْضِعَهَا فَلَا يَتَعَدَّى مِنْ صِحَّةِ الْعَقْدِ إلَى إفَادَةِ الْمِلْكِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ الضَّرُورِيَّ إذَا ثَبَتَ يَسْتَتْبِعُ لَوَازِمَهُ ، وَإِفَادَةُ الْمِلْكِ مِنْ لَوَازِمِ الْوُجُودِ عِنْدَ الْعَقْدِ .
انْتَهَى .
أَقُولُ : فِي الْجَوَابِ بَحْثٌ ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَرَادَ أَنَّ إفَادَةَ الْمِلْكِ فِي الْحَالِ مِنْ لَوَازِمِ الْوُجُودِ عِنْدَ الْعَقْدِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ ، كَيْفَ وَقَدْ تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ أَنَّ حُكْمَ الْعَقْدِ يَجُوزُ أَنْ يَنْفَصِلَ عَنْهُ كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ فَإِنَّ الْمِلْكَ فِيهِ يَتَرَاخَى إلَى وَقْتِ سُقُوطِ الْخِيَارِ مَعَ وُجُودِ الْمَبِيعِ عِنْدَ الْعَقْدِ ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ إفَادَةَ الْمِلْكِ وَلَوْ بَعْدَ زَمَانٍ مِنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ فَهُوَ مُسَلَّمٌ ، لَكِنَّ هَذَا لَا يُفِيدُ مُدَّعَى الشَّافِعِيِّ ، فَإِنَّ مُدَّعَاهُ أَنَّ الْأُجْرَةَ تُمْلَكُ فِي الْحَالِ .
وَالْجَوَابُ الْمَزْبُورُ إنَّمَا هُوَ لِتَصْحِيحِ مُدَّعَاهُ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ .
وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى الْجَوَابِ الْمَسْفُورِ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ : إنْ أَرَادَ أَنَّ إفَادَةَ الْمِلْكِ مِنْ لَوَازِمِ الْوُجُودِ حَقِيقَةً فَمُسَلَّمٌ وَلَا يُفِيدُهُ ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهَا مِنْ لَوَازِمِ الْوُجُودِ ، وَلَوْ حُكْمًا فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ انْتَهَى .
أَقُولُ مَا ذَكَرَهُ فِي كُلٍّ مِنْ شِقَّيْ تَرْدِيدِهِ لَيْسَ بِسَدِيدٍ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ سَلَّمَ كَوْنَ إفَادَةِ الْمِلْكِ مِنْ لَوَازِمِ الْوُجُودِ حَقِيقَةً مَعَ أَنَّ إفَادَةَ الْمِلْكِ فِي الْحَالِ كَمَا هُوَ مُدَّعَى الشَّافِعِيِّ لَيْسَ مِنْ لَوَازِمِ

الْوُجُودِ حَقِيقَةً ؛ أَلَا يُرَى أَنَّ الْمَبِيعَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا حَقِيقَةً عِنْدَ الْعَقْدِ مَعَ أَنَّ الْبَيْعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ فِي الْحَالِ كَمَا مَرَّ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْوُجُودَ الْحُكْمِيَّ لَا يَكَادُ أَنْ يُخَالِفَ الْوُجُودَ الْحَقِيقِيَّ فِي اللَّوَازِمِ الشَّرْعِيَّةِ وَإِلَّا لَمْ تَحْصُلْ فَائِدَةٌ فِي جَعْلِ الشَّرْعِ الْوُجُودَ الِاعْتِبَارِيَّ فِي حُكْمِ الْوُجُودِ الْحَقِيقِيِّ ، فَلَمَّا سَلَّمَ أَوَّلًا كَوْنَ إفَادَةِ الْمِلْكِ مِنْ لَوَازِمِ الْوُجُودِ حَقِيقَةً لَزِمَهُ تَسْلِيمُ كَوْنِهَا مِنْ لَوَازِمِ الْوُجُودِ حُكْمًا أَيْضًا ، فَالْوَجْهُ الْوَجِيهُ فِي التَّرْدِيدِ وَفِي الْمَنْعِ ، وَالتَّسْلِيمِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ .
( قَوْلُهُ : وَكَذَا إذَا شَرَطَ التَّعْجِيلَ أَوْ عَجَّلَ ؛ لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ تَثْبُتُ حَقًّا لَهُ وَقَدْ أَبْطَلَهُ ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ : وَاعْتَرَضَ بِأَنَّ شَرْطَ التَّعْجِيلِ فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّهُ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ ، وَفِيهِ نَفْعٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَلَهُ مَطَالِبٌ فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ .
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ إجَارَةً أَوْ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ مُعَاوَضَةً ، وَالْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ ، وَلَيْسَ جَوَازُ اشْتِرَاطِ التَّعْجِيلِ بِاعْتِبَارِهِ ، وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ ، فَإِنَّ تَعْجِيلَ الْبَدَلِ وَاشْتِرَاطَهُ لَا يُخَالِفُهُ مِنْ حَيْثُ الْمُعَاوَضَةِ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِي الْجَوَابِ نَظَرٌ ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ حَيْثِيَّةَ كَوْنِهِ إجَارَةً هِيَ حَيْثِيَّةُ كَوْنِهِ مُعَاوَضَةً مَخْصُوصَةً ، فَمَا يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ مِنْ إحْدَى هَاتَيْنِ الْحَيْثِيَّتَيْنِ يُخَالِفُ مُقْتَضَاهُ مِنْ الْحَيْثِيَّةِ الْأُخْرَى فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ : وَالْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ ، وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ وَهَلَّا يَسْتَلْزِمُ تَسْلِيمُ الْأَوَّلِ تَسْلِيمَ الثَّانِي وَمَنْعُ الثَّانِي مَنْعَ الْأَوَّلِ .
فَإِنْ قِيلَ : مُرَادُهُ بِحَيْثِيَّةِ كَوْنِهِ مُعَاوَضَةً حَيْثِيَّةُ كَوْنِهِ مُعَاوَضَةً مَا مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ خُصُوصِيَّتِهِ فَلَا يَلْزَمُ اتِّحَادُ الْحَيْثِيَّتَيْنِ

.
قُلْنَا : فَيَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ صِحَّةُ اشْتِرَاطِ التَّعْجِيلِ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ مُعَاوَضَةً مَا مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ خُصُوصِيَّةِ كَوْنِهِ إجَارَةً .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ ذَلِكَ الِاعْتِبَارَ لَا يَخْطِرُ بِبَالِ أَحَدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ عِنْدَ اشْتِرَاطِ التَّعْجِيلِ ، عَلَى أَنَّهُمَا لَوْ صَرَّحَا بِأَنَّهُمَا لَوْ شَرَطَا التَّعْجِيلَ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إجَارَةٌ لَمْ يَفْسُدْ الْعَقْدُ قَطْعًا .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ فَإِنَّ تَعْجِيلَ الْبَدَلِ وَاشْتِرَاطَهُ لَا يُخَالِفُهُ مِنْ حَيْثُ الْمُعَاوَضَةِ غَيْرُ تَامٍّ ، فَإِنَّ مِنْ قَضِيَّةِ الْمُعَاوَضَةِ الْمُسَاوَاةَ ، وَبِشَرْطِ تَعْجِيلِ الْأُجْرَةِ قَبْلَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ تَفُوتُ الْمُسَاوَاةُ كَمَا لَا يَخْفَى .
وَالْأَوْلَى فِي الْجَوَابِ مَا ذَكَرَ فِي الْكِفَايَةِ وَشَرْحِ تَاجِ الشَّرِيعَةِ وَهُوَ أَنَّ شَرْطَ التَّعْجِيلِ فِي الْإِجَارَةِ لَا يُخَالِفُهُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ ، فَإِنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ يَقْتَضِي التَّعْجِيلَ كَالْبَيْعِ ، إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ لِمَانِعٍ ، وَهُوَ وُجُوبُ الْمُسَاوَاةِ وَهُوَ حَقُّ الْمُسْتَأْجِرِ ، فَإِذَا أَسْقَطَ حَقَّهُ بِالتَّعْجِيلِ زَالَ الْمَانِعُ فَصَحَّ .
ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَعُورِضَ دَلِيلُنَا بِأَنَّ الْإِبْرَاءَ عَنْ الْأُجْرَةِ ، وَالِارْتِهَانَ عَنْهَا ، وَالْكَفَالَةَ بِهَا صَحِيحَةٌ بِالِاتِّفَاقِ ، وَلَوْلَا الْمِلْكُ لَمَا صَحَّتْ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ صِحَّةَ الْإِبْرَاءِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ مَمْنُوعَةٌ ، وَجَوَّزَهُ مُحَمَّدٌ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ سَبَبٌ فِي جَانِبِ الْأُجْرَةِ ، إذْ اللَّفْظُ صَالِحٌ لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ بِهِ ، وَعَدَمُ الِانْعِقَادِ فِي جَانِبِ الْمَنْفَعَةِ لِضَرُورَةِ الْعَدَمِ وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْأُجْرَةِ فَظَهَرَ الِانْعِقَادُ فِي حَقِّهِ ، وَيَصِحُّ الْإِبْرَاءُ لِوُجُودِهِ بَعْدَ السَّبَبِ ، وَكَذَلِكَ الْكَفَالَةُ كَالْكَفَالَةِ بِمَا يَذُوبُ لَهُ عَلَى فُلَانٍ وَصِحَّةِ الرَّهْنِ ؛ لِأَنَّ مُوجِبَهُ ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ وَاسْتِيفَاءُ الْأَجْرِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ

الْمَنْفَعَةِ صَحِيحٌ بِالتَّعْجِيلِ أَوْ اشْتِرَاطِهِ ، فَكَذَا الرَّهْنُ بِهِ .
انْتَهَى كَلَامُهُ .
أَقُولُ : هَذَا كُلُّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ النِّهَايَةِ ، إلَّا أَنَّ التَّعْلِيلَ الْمَذْكُورَ لِتَجْوِيزِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ الْإِبْرَاءَ عَنْ الْأُجْرَةِ لَيْسَ بِسَدِيدٍ ؛ لِأَنَّهُ كَمَا تَحَقَّقَتْ ضَرُورَةٌ فِي عَدَمِ الِانْعِقَادِ فِي جَانِبِ الْمَنْفَعَةِ ، وَهِيَ كَوْنُ الْمَنَافِعِ مَعْدُومَةً كَذَلِكَ تَحَقَّقَتْ ضَرُورَةٌ فِي عَدَمِ الِانْعِقَادِ فِي جَانِبِ الْأُجْرَةِ أَيْضًا ، وَهِيَ اقْتِضَاءُ عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ الْمُسَاوَاةَ .
وَعَنْ هَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ : وَالْعَقْدُ مُعَاوَضَةٌ ، وَمِنْ قَضِيَّتِهَا الْمُسَاوَاةُ ، فَمِنْ ضَرُورَةِ التَّرَاخِي فِي جَانِبِ الْمَنْفَعَةِ التَّرَاخِي فِي الْبَدَلِ الْآخِرِ ، فَلَا وَجْهَ لِقَوْلِهِ وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْأُجْرَةِ فَظَهَرَ الِانْعِقَادُ فِي حَقِّهِ ، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ التَّعْلِيلَ لَا يَتَمَشَّى أَصْلًا فِيمَا إذَا كَانَتْ الْأُجْرَةُ مَنْفَعَةً أَيْضًا مِنْ خِلَافِ جِنْسِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ صَحِيحٌ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ فِي عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ ، مَعَ أَنَّ كُلًّا مِنْ الْبَدَلَيْنِ مَعْدُومٌ هُنَاكَ قَطْعًا فَلَا فَرْقَ فِي الْجَانِبَيْنِ أَصْلًا كَمَا لَا يَخْفَى .
وَأَوْرَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى قَوْلِهِ فَظَهَرَ الِانْعِقَادُ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ : إنْ أَرَادَ الِانْعِقَادَ فِي حَقِّ الْحُكْمِ فَلَيْسَ بِمُنْعَقِدٍ فِي حَقِّ الْحُكْمِ بِإِجْمَاعِ عُلَمَائِنَا ، وَإِنْ أَرَادَ غَيْرَهُ فَلْيُبَيِّنْ عَلَى أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا سَبَقَ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ أَبْرَأْتَنِي إقْرَارٌ بِالْمَالِ الْمُدَّعَى ، فَلْيُتَأَمَّلْ .
انْتَهَى كَلَامُهُ .
أَقُولُ : قَدْ أَخَذَ أَصْلَ إيرَادِهِ مِنْ الْبَدَائِعِ وَإِنَّهُ سَاقِطٌ .
أَمَّا بَيَانُ أَخْذِهِ مِنْ الْبَدَائِعِ فَلِأَنَّ صَاحِبَ الْبَدَائِعِ ذَكَرَ لِقَوْلِ مُحَمَّدٍ فِي جَوَازِ الْإِبْرَاءِ عَنْ الْأُجْرَةِ وَجْهَيْنِ .
وَأَجَابَ عَنْ الثَّانِي بِمَا ذَكَرَهُ الْقَائِلُ هَاهُنَا حَيْثُ قَالَ : وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنَّ الْإِبْرَاءَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِالْقَبُولِ

، فَإِذَا قَبِلَ الْمُسْتَأْجِرُ فَقَدْ قَصَدَا صِحَّةَ تَصَرُّفِهِمَا وَلَا صِحَّةَ إلَّا بِالْمِلْكِ ، فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ بِمُقْتَضَى التَّصَرُّفِ تَصْحِيحًا لَهُ كَمَا فِي قَوْلِ الرَّجُلِ لِغَيْرِهِ أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَالَ أَعْتَقْتُ ؛ وَلِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إسْقَاطٌ ، وَإِسْقَاطُ الْحَقِّ بَعْدَ سَبَبِ الْوُجُوبِ جَائِزٌ كَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ بَعْدَ الْجُرْحِ قَبْلَ الْمَوْتِ ، وَسَبَبُ الْوُجُوبِ هَاهُنَا مَوْجُودٌ وَهُوَ الْعَقْدُ الْمُنْعَقِدُ .
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ إنْ كَانَ يَعْنِي بِالِانْعِقَادِ الِانْعِقَادَ فِي حَقِّ الْحُكْمِ فَهُوَ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ فِي حَقِّ الْحُكْمِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا ، وَإِنْ كَانَ يَعْنِي بِهِ شَيْئًا آخَرَ فَهُوَ غَيْرُ مَعْقُولٍ .
إلَى هُنَا لَفْظُ الْبَدَائِعِ .
وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّهُ سَاقِطٌ فَلِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالِانْعِقَادِ الِانْعِقَادَ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لَا فِي حَقِّ الْحُكْمِ كَمَا أَفْصَحَ عَنْهُ صَاحِبُ الْمُحِيطِ حَيْثُ قَالَ : وَمَعْنَى جَوَازِ الْإِجَارَةِ عَلَى مَذْهَبِنَا انْعِقَادُ الْعَقْدِ فِيمَا بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ ، وَهُوَ الدَّرَجَةُ الْأُولَى ، وَانْعِقَادُهُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ وَهُوَ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ .
وَقَالَ : أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَيْعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ يَنْعَقِدُ فِيمَا بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَلَا يُفِيدُ الْحُكْمَ فِي الْحَالِ ، ثُمَّ فَسَّرَ انْعِقَادَ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَانْعِقَادَهُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ بِمَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ ، وَمَنْ يَطْلُبُ ذَلِكَ فَلْيُرَاجِعْ مَحَلَّهُ وَهُوَ أَوَاخِرُ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنْ إجَارَاتِ الْمُحِيطِ الْبُرْهَانِيِّ .
وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ ذَلِكَ الْمُورِدُ فِي عِلَاوَتِهِ مِنْ حَدِيثِ الْمُخَالَفَةِ لِمَا سَبَقَ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ فَلَيْسَ بِتَامٍّ أَيْضًا ، إذْ لَا مُخَالَفَةَ بَيْنَ الْمَقَامَيْنِ أَصْلًا كَمَا يَظْهَرُ بِالتَّأَمُّلِ الصَّادِقِ .
ثُمَّ أَقُولُ : لَوْ تَرَكَ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ قَيْدَ الْمُنْعَقِدِ عِنْدَ تَقْرِيرِ الْوَجْهِ الثَّانِي مِنْ وَجْهَيْ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ وَسَبَبُ

الْوُجُوبِ هَاهُنَا مَوْجُودٌ وَهُوَ الْعَقْدُ الْمُنْعَقِدُ بِأَنْ اكْتَفَى بِقَوْلِهِ وَهُوَ الْعَقْدُ لَمَا تَمَشَّى الْجَوَابُ الَّذِي ذَكَرَهُ بِتَرْدِيدِ الْمُرَادِ بِالِانْعِقَادِ أَصْلًا ، وَكَفَى فِي إثْبَاتِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَكَذَا لَوْ لَمْ يَتَعَرَّضْ صَاحِبُ النِّهَايَةِ ، وَالْعِنَايَةِ لِحَدِيثِ الِانْعِقَادِ فِي جَانِبِ الْأُجْرَةِ دُونَ الْمَنْفَعَةِ بِأَنْ اكْتَفَيَا بِأَنْ يُقَالَ : إنَّ الْإِبْرَاءَ وَقَعَ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ ، وَهُوَ الْعَقْدُ فَصَحَّ كَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ بَعْدَ الْجُرْحِ ، كَمَا اكْتَفَى بِهِ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ لِمَا وَرَدَ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ فِي جَانِبِ الْأُجْرَةِ أَيْضًا ، وَكَفَى فِي إثْبَاتِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ نَفْسَهُ وَهُوَ الْإِيجَابُ ، وَالْقَبُولُ الصَّادِرَانِ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مُضَافَيْنِ إلَى مَحَلِّ الْمَنْفَعَةِ ، وَهُوَ الدَّارُ مَثَلًا مَرْبُوطًا أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ كَافٍ فِي السَّبَبِيَّةِ ، وَلَا حَاجَةَ إلَى اعْتِبَارِ انْعِقَادِهِ فِي مَرْتَبَةِ السَّبَبِيَّةِ ، فَإِنَّ الِانْعِقَادَ حُكْمُ الشَّرْعِ يَثْبُتُ وَصْفًا لَهُ شَرْعًا ، وَالْعِلَلُ الشَّرْعِيَّةُ مُغَايِرَةٌ لِلْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ فِي جَوَازِ انْفِكَاكِهَا عَنْ مَعْلُولَاتِهَا ، فَجَازَ أَنْ يُقَالَ : الْعَقْدُ وُجِدَ ، وَالِانْعِقَادُ تَرَاخَى إلَى وُجُودِ الْمَنَافِعِ سَاعَةً فَسَاعَةً ، وَهَذَا هُوَ رَأْيُ بَعْضِ مَشَايِخِنَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ أَئِمَّتِنَا إنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ يَنْعَقِدُ سَاعَةً فَسَاعَةً عَلَى حَسَبِ حُدُوثِ الْمَنَافِعِ كَمَا ذَكَرَ صَاحِبُ الْغَايَةِ فِي صَدْرِ هَذَا الْكِتَابِ وَنَقَلْنَاهُ عَنْهُ هُنَاكَ .
نَعَمْ يَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ الْعَقْدُ انْعِقَادًا قَبْلَ حُدُوثِ الْمَنَافِعِ بِمَعْنَى الِانْعِقَادِ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ دُونَ الِانْعِقَادِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ كَمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمُحِيطِ وَنَقَلْنَاهُ عَنْهُ فِيمَا مَرَّ آنِفًا ، لَكِنَّ الْأَسْلَمَ فِي تَوْجِيهِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ هَاهُنَا هُوَ الطَّرِيقَةُ الْأُخْرَى تَأَمَّلْ تَرْشُدْ .

( وَإِذَا قَبَضَ الْمُسْتَأْجِرُ الدَّارَ فَعَلَيْهِ الْأَجْرُ وَإِنْ لَمْ يَسْكُنْهَا ) ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَ عَيْنِ الْمَنْفَعَةِ لَا يُتَصَوَّرُ فَأَقَمْنَا تَسْلِيمَ الْمَحَلِّ مَقَامَهُ إذْ التَّمَكُّنُ مِنْ الِانْتِفَاعِ يَثْبُتُ بِهِ .
قَالَ : ( فَإِنْ غَصَبَهَا غَاصِبٌ مِنْ يَدِهِ سَقَطَتْ الْأُجْرَةُ ) ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَ الْمَحَلِّ إنَّمَا أُقِيمَ مَقَامَ تَسْلِيمِ الْمَنْفَعَةِ لِلتَّمَكُّنِ مِنْ الِانْتِفَاعِ ، فَإِذَا فَاتَ التَّمَكُّنُ فَاتَ التَّسْلِيمُ ، وَانْفَسَخَ الْعَقْدُ فَسَقَطَ الْأَجْرُ ، وَإِنْ وَجَدَ الْغَصْبَ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ سَقَطَ الْأَجْرُ بِقَدْرِهِ .
إذْ الِانْفِسَاخُ فِي بَعْضِهَا .
قَالَ : ( وَمَنْ اسْتَأْجَرَ دَارًا فَلِلْمُؤَجِّرِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِأُجْرَةِ كُلِّ يَوْمٍ ) ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنْفَعَةً مَقْصُودَةً ( إلَّا أَنْ يُبَيِّنَ وَقْتَ الِاسْتِحْقَاقِ بِالْعَقْدِ ) ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ التَّأْجِيلِ ( وَكَذَلِكَ إجَارَةُ الْأَرَاضِيِ ) لِمَا بَيَّنَّا .
( وَمَنْ اسْتَأْجَرَ بَعِيرًا إلَى مَكَّةَ فَلِلْجَمَّالِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِأُجْرَةِ كُلِّ مَرْحَلَةٍ ) ؛ لِأَنَّ سَيْرَ كُلِّ مَرْحَلَةٍ مَقْصُودٌ .
وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ أَوَّلًا : لَا يَجِبُ الْأَجْرُ إلَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ وَانْتِهَاءِ السَّفَرِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ جُمْلَةُ الْمَنَافِعِ فِي الْمُدَّةِ فَلَا يَتَوَزَّعُ الْأَجْرُ عَلَى أَجْزَائِهَا ، كَمَا إذَا كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ الْعَمَلَ .
وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْمَرْجُوعِ إلَيْهِ أَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي اسْتِحْقَاقَ الْأَجْرِ سَاعَةً فَسَاعَةً لِتَحَقُّقِ الْمُسَاوَاةِ ، إلَّا أَنَّ الْمُطَالَبَةَ فِي كُلِّ سَاعَةٍ تُفْضِي إلَى أَنْ لَا يَتَفَرَّغَ لِغَيْرِهِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ ، فَقَدَّرْنَا بِمَا ذَكَرْنَا .

( قَوْلُهُ : وَإِذَا قَبَضَ الْمُسْتَأْجِرُ الدَّارَ فَعَلَيْهِ الْأَجْرُ وَإِنْ لَمْ يَسْكُنْهَا ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ : هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُقَيَّدَةٌ بِقُيُودٍ .
أَحَدُهَا : التَّمَكُّنُ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ حَتَّى أَنَّهُ إذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ بِأَنْ مَنَعَهُ الْمَالِكُ أَوْ الْأَجْنَبِيُّ أَوْ سَلَّمَ الدَّارَ مَشْغُولَةً بِمَتَاعِهِ لَا يَجِبُ الْأَجْرُ .
وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ الْإِجَارَةُ صَحِيحَةً ، فَإِنَّ فِي الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْأُجْرَةِ حَقِيقَةُ الِاسْتِيفَاءِ .
وَلَا تَجِبُ بِمُجَرَّدِ تَمَكُّنِ الِاسْتِيفَاءِ فِي الْمُدَّةِ .
وَالثَّالِثُ : أَنَّ التَّمَكُّنَ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَكَانِ الَّذِي وَقَعَ الْعَقْدُ فِي حَقِّهِ حَتَّى إذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً إلَى الْكُوفَةِ فَسَلَّمَهَا الْمُؤَجِّرُ وَأَمْسَكَهَا الْمُسْتَأْجِرُ بِبَغْدَادَ حَتَّى مَضَتْ مُدَّةٌ يُمْكِنُهُ الْمَسِيرُ فِيهَا إلَى الْكُوفَةِ فَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ سَاقَهَا مَعَهُ إلَى الْكُوفَةِ وَلَمْ يَرْكَبْهَا وَجَبَ الْأَجْرُ .
وَالرَّابِعُ : أَنْ يَكُونَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الِاسْتِيفَاءِ فِي الْمُدَّةِ ، فَإِنَّهُ لَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً إلَى الْكُوفَةِ فِي هَذَا الْيَوْمِ وَذَهَبَ إلَيْهَا بَعْدَ مُضِيِّ الْيَوْمِ بِالدَّابَّةِ وَلَمْ يَرْكَبْ لَا يَجِبُ الْأَجْرُ ، وَإِنْ تَمَكَّنَ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي أُضِيفَ إلَيْهِ الْعَقْدُ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا تَمَكَّنَ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ .
ا هـ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ اعْتِبَارَ الْقُيُودِ الْمَذْكُورَةِ بِتَحْرِيرٍ آخَرَ : فَإِنْ قِيلَ : كَلَامُ الْمُصَنِّفِ سَاكِتٌ عَنْ أَكْثَرِ هَذِهِ الْقُيُودِ فَمَا وَجْهُهُ ؟ قُلْتُ : وَجْهُهُ الِاقْتِصَارُ لِلِاخْتِصَارِ اعْتِمَادًا عَلَى دَلَالَةِ الْحَالِ وَالْعُرْفِ ، فَإِنَّ حَالَ الْمُسْلِمِ دَالَّةٌ عَلَى أَنْ يُبَاشِرَ الْعَقْدَ الصَّحِيحَ ، وَالْفَاسِدُ مِنْهُ يَمْنَعُهُ عَنْ الْإِقْدَامِ عَلَى الِانْتِفَاعِ ، وَعَلَى أَنَّ الْعَاقِدَ يَجِبُ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ مَا عَقَدَ عَلَيْهِ فَارِغًا عَمَّا يَمْنَعُ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ ، وَالْعُرْفُ

فَاشٍ فِي تَسْلِيمِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي مُدَّةِ الْعَقْدِ وَمَكَانِهِ فَكَانَ مَعْلُومًا عَادَةً ، وَعَلَى أَنَّ الْإِكْرَاهَ ، وَالْغَصْبَ مِمَّا يَمْنَعَانِ عَنْ الِانْتِفَاعِ فَاقْتَصَرَ عَنْ ذِكْرِ ذَلِكَ اعْتِمَادًا عَلَيْهِمَا .
ا هـ كَلَامُهُ .
أَقُولُ : فِي آخَرِ جَوَابِهِ خَلَلٌ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ وَعَلَى أَنَّ الْإِكْرَاهَ ، وَالْغَصْبَ مِمَّا يَمْنَعَانِ عَنْ الِانْتِفَاعِ إنْ كَانَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ عَلَى أَنْ يُبَاشِرَ الْعَقْدَ الصَّحِيحَ أَوْ عَلَى قَوْلِهِ وَعَلَى أَنَّ الْعَاقِدَ يَجِبُ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ مَا عَقَدَ عَلَيْهِ فَارِغًا حَتَّى صَارَ الْمَعْنَى فَإِنَّ حَالَ الْمُسْلِمِ دَالَّةٌ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْإِكْرَاهَ ، وَالْغَصْبَ مِمَّا يَمْنَعَانِ عَنْ الِانْتِفَاعِ ، مَعَ رَكَاكَةِ هَذَا الْمَعْنَى كَمَا لَا يَخْفَى يَلْزَمُ الْفَصْلُ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ ، وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِأَجْنَبِيٍّ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : وَالْعُرْفُ فَاشٍ إلَخْ ، وَإِنْ كَانَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ عَلَى دَلَالَةِ الْحَالِ ، وَالْعُرْفِ حَتَّى صَارَ الْمَعْنَى اعْتِمَادًا عَلَى دَلَالَةِ الْحَالِ وَالْعُرْفِ ، وَعَلَى دَلَالَةِ أَنَّ الْإِكْرَاهَ وَالْغَصْبَ مِمَّا يَمْنَعَانِ عَنْ الِانْتِفَاعِ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَتِمَّ قَوْلُهُ : فَاقْتَصَرَ عَنْ ذِكْرِ ذَلِكَ اعْتِمَادًا عَلَيْهِمَا ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ ضَمِيرَ عَلَيْهِمَا رَاجِعٌ إلَى الْحَالِ وَالْعُرْفِ ، وَعَلَى الْمَعْنَى الْمَزْبُورِ لَا تَصِيرُ عِلَّةُ الِاقْتِصَارِ لِلِاخْتِصَارِ هِيَ الِاعْتِمَادُ عَلَى الْحَالِ ، وَالْعُرْفِ فَقَطْ بَلْ تَصِيرُ عِلَّةُ ذَلِكَ هِيَ الِاعْتِمَادَ عَلَى الْحَالِ وَالْعُرْفِ ، وَعَلَى أَنَّ الْإِكْرَاهَ ، وَالْغَصْبَ مِمَّا يَمْنَعَانِ الِانْتِفَاعَ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ وَعَلَى أَنَّ الْإِكْرَاهَ ، وَالْغَصْبَ مِمَّا يَمْنَعَانِ عَنْ الِانْتِفَاعِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْغَصْبَ أَيْضًا مِنْ الْقُيُودِ الْمُقْتَصَرِ عَنْ ذِكْرِهَا مَعَ أَنَّ الْمُصَنِّفَ ذَكَرَ صُورَةَ الْغَصْبِ صَرَاحَةً كَمَا تَرَى .
( قَوْلُهُ : لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ جُمْلَةُ الْمَنَافِعِ فِي الْمُدَّةِ فَلَا يَتَوَزَّعُ الْأَجْرُ عَلَى

أَجْزَائِهَا كَمَا إذَا كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ الْعَمَلَ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ : لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ جُمْلَةُ الْمَنَافِعِ فِي الْمُدَّةِ ، وَمَا هُوَ جُمْلَةٌ فِي الْمُدَّةِ لَا تَكُونُ مُسْلَمَةً فِي بَعْضِهَا ؛ لِأَنَّ أَجْزَاءَ الْأَعْوَاضِ مُنْطَبِقَةٌ عَلَى أَجْزَاءِ الزَّمَانِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْمُؤَجِّرُ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ جُمْلَةِ الْمَنْفَعَةِ شَيْئًا كَمَا فِي الْمَبِيعِ فَإِنَّهُ مَا لَمْ يُسَلِّمْ جَمِيعَهُ لَا يَسْتَحِقُّ قَبْضَ الثَّمَنِ وَصَارَ كَمَا إذَا كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُوَ الْعَمَلَ ، كَالْخِيَاطَةِ فَإِنَّ الْخَيَّاطَ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنْ الْأُجْرَةِ قَبْلَ الْفَرَاغِ كَمَا سَيَأْتِي .
ا هـ .
أَقُولُ : فِي قَوْلِهِ كَمَا فِي الْمَبِيعِ فَإِنَّهُ مَا لَمْ يُسَلِّمْ جَمِيعَهُ لَا يَسْتَحِقُّ قَبْضَ الثَّمَنِ سَهْوٌ ظَاهِرٌ ، إذْ قَدْ مَرَّ فِي الْبُيُوعِ أَنَّهُ إذَا بِيعَ سِلْعَةٌ بِثَمَنٍ قِيلَ لِلْمُشْتَرِي ادْفَعْ الثَّمَنَ أَوَّلًا ، وَإِذَا بِيعَ سِلْعَةٌ بِسِلْعَةٍ أَوْ ثَمَنٌ بِثَمَنٍ قِيلَ لَهُمَا سَلِّمَا مَعًا ، فَفِي الصُّورَةِ الْأُولَى يَسْتَحِقُّ قَبْضَ الثَّمَنِ قَبْلَ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ ، وَفِي الصُّورَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ يَسْتَحِقُّ قَبْضَ الْبَدَلَيْنِ مَعًا ، وَأَمَّا أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ قَبْضَ الثَّمَنِ إلَّا بَعْدَ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ فَمِمَّا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ ، وَالصَّوَابُ هَاهُنَا مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكَافِي حَيْثُ قَالَ كَمَا فِي الْمَبِيعِ فَإِنَّهُ لَا يَتَوَزَّعُ وُجُوبُ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ عَلَى تَسْلِيمِ الثَّمَنِ بَلْ لَهُ حَقُّ حَبْسِ جُمْلَةِ الْمَبِيعِ مَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ ا هـ .

قَالَ : ( وَلَيْسَ لِلْقَصَّارِ وَالْخَيَّاطِ أَنْ يُطَالِبَ بِأَجْرِهِ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ الْعَمَلِ ) ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ فِي الْبَعْضِ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ فَلَا يَسْتَوْجِبُ بِهِ الْأَجْرَ ، وَكَذَا إذَا عَمِلَ فِي بَيْتِ الْمُسْتَأْجِرِ لَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ قَبْلَ الْفَرَاغِ لِمَا بَيَّنَّا .
قَالَ : ( إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ التَّعْجِيلَ ) لِمَا مَرَّ أَنَّ الشَّرْطَ فِيهِ لَازِمٌ .
قَالَ : ( وَمَنْ اسْتَأْجَرَ خَبَّازًا لِيَخْبِزَ لَهُ فِي بَيْتِهِ قَفِيزًا مِنْ دَقِيقٍ بِدِرْهَمٍ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْأَجْرَ حَتَّى يُخْرِجَ الْخُبْزَ مِنْ التَّنُّورِ ) ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الْعَمَلِ بِالْإِخْرَاجِ .
فَلَوْ احْتَرَقَ أَوْ سَقَطَ مِنْ يَدِهِ قَبْلَ الْإِخْرَاجِ فَلَا أَجْرَ لَهُ لِلْهَلَاكِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ ، ( فَإِنْ أَخْرَجَهُ ثُمَّ احْتَرَقَ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ فَلَهُ الْأَجْرُ ) ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسَلَّمًا إلَيْهِ بِالْوَضْعِ فِي بَيْتِهِ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ مِنْهُ الْجِنَايَةُ .
قَالَ : وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ ، وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ مِثْلَ دَقِيقِهِ وَلَا أَجْرَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ فَلَا يَبْرَأُ إلَّا بَعْدَ حَقِيقَةِ التَّسْلِيمِ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ الْخُبْزَ ، وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ .
قَالَ : ( وَمَنْ اسْتَأْجَرَ طَبَّاخًا لِيَطْبُخَ لَهُ طَعَامًا لِلْوَلِيمَةِ فَالْعُرْفُ عَلَيْهِ ) اعْتِبَارًا لِلْعُرْفِ .
قَالَ : ( وَمَنْ اسْتَأْجَرَ إنْسَانًا لِيَضْرِبَ لَهُ لَبِنًا اسْتَحَقَّ الْأَجْرَ إذَا أَقَامَهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : لَا يَسْتَحِقُّهَا حَتَّى يُشْرِجَهَا ) ؛ لِأَنَّ التَّشْرِيجَ مِنْ تَمَامِ عَمَلِهِ ، إذْ لَا يُؤْمَنُ مِنْ الْفَسَادِ قَبْلَهُ فَصَارَ كَإِخْرَاجِ الْخُبْزِ مِنْ التَّنُّورِ ؛ وَلِأَنَّ الْأَجِيرَ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّاهُ عُرْفًا وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ فِيمَا لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعَمَلَ قَدْ تَمَّ بِالْإِقَامَةِ ، وَالتَّشْرِيجُ عَمَلٌ زَائِدٌ كَالنَّقْلِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهِ قَبْلَ التَّشْرِيجِ بِالنَّقْلِ إلَى مَوْضِعِ الْعَمَلِ ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ

الْإِقَامَةِ ؛ لِأَنَّهُ طِينٌ مُنْتَشِرٌ ، وَبِخِلَافِ الْخُبْزِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ قَبْلَ الْإِخْرَاجِ .
قَالَ : ( وَكُلُّ صَانِعٍ لِعَمَلِهِ أَثَرٌ فِي الْعَيْنِ كَالْقَصَّارِ وَالصَّبَّاغِ فَلَهُ أَنْ يَحْبِسَ الْعَيْنَ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْأَجْرَ ) ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ وَصْفٌ قَائِمٌ فِي الثَّوْبِ فَلَهُ حَقُّ الْحَبْسِ ؛ لِاسْتِيفَاءِ الْبَدَلِ كَمَا فِي الْمَبِيعِ ، وَلَوْ حَبَسَهُ فَضَاعَ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي الْحَبْسِ فَبَقِيَ أَمَانَةً كَمَا كَانَ عِنْدَهُ ، وَلَا أَجْرَ لَهُ لِهَلَاكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : الْعَيْنُ كَانَتْ مَضْمُونَةً قَبْلَ الْحَبْسِ فَكَذَا بَعْدَهُ ، لَكِنَّهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ غَيْرَ مَعْمُولٍ وَلَا أَجْرَ لَهُ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ مَعْمُولًا وَلَهُ الْأَجْرُ ، وَسَيُبَيِّنُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

( قَوْلُهُ : وَكَذَا إذَا عَمِلَ فِي بَيْتِ الْمُسْتَأْجِرِ لَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ قَبْلَ الْفَرَاغِ لِمَا بَيَّنَّا ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : هَذَا وَقَعَ مُخَالِفًا لِعَامَّةِ رِوَايَاتِ الْكُتُبِ مِنْ الْمَبْسُوطِ وَمَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ، وَالذَّخِيرَةِ ، وَالْمُغْنِي وَشَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِفَخْرِ الْإِسْلَامِ وَقَاضِي خَانْ والتمرتاشي وَالْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ فِي بَابِ مَنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا يَعْمَلُ لَهُ فِي بَيْتِهِ .
وَقَالُوا : لَوْ اسْتَأْجَرَ خَيَّاطًا يَخِيطُ لَهُ فِي بَيْتِ الْمُسْتَأْجِرِ قَمِيصًا وَخَاطَ بَعْضَهُ فَسُرِقَ الثَّوْبُ فَلَهُ الْأَجْرُ بِقَدْرِ مَا خَاطَ ، فَإِنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ الْعَمَلِ يَصِيرُ مُسَلَّمًا إلَى صَاحِبِ الثَّوْبِ بِالْفَرَاغِ مِنْهُ ، وَلَا يَتَوَقَّفُ التَّسْلِيمُ فِي ذَلِكَ الْجُزْءِ عَلَى حُصُولِ كَمَالِ الْمَقْصُودِ .
وَذَكَرَ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي مِنْ الذَّخِيرَةِ وَفِي الْإِجَارَةِ الَّتِي تَنْعَقِدُ عَلَى الْعَمَلِ وَيَبْقَى لَهُ أَثَرٌ فِي الْعَيْنِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَيْضًا الْأَجْرُ إلَّا بَعْدَ إيفَاءِ الْعَمَلِ كُلِّهِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ لِلْخَيَّاطِ ، وَالصَّبَّاغِ فِي بَيْتِ صَاحِبِ الْمَالِ حِينَئِذٍ يَكُونُ الْجَوَابُ فِيهِ كَالْجَوَابِ فِي الْجَمَّالِ عَلَى قَوْلِهِ الْآخَرِ يَجِبُ عَلَى الْمُؤَاجِرِ إيفَاءُ الْأَجْرِ بِقَدْرِ مَا اسْتَوْفَى مِنْ الْمَنْفَعَةِ إذَا كَانَ لَهُ حِصَّةٌ مَعْلُومَةٌ مِنْ الْأَجْرِ كَمَا فِي الْجَمَّالِ .
وَذَكَرَ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ : وَلِهَذَا لَوْ اسْتَأْجَرَ خَيَّاطًا ؛ لِيَخِيطَ لَهُ فِي مَنْزِلِهِ كُلَّمَا عَمِلَ عَمَلًا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ بِقَدْرِهِ ، وَهَكَذَا أَيْضًا فِي غَيْرِهَا .
وَلَكِنْ نَقَلَ فِي التَّجْرِيدِ أَنَّ الْحُكْمَ قَدْ ذُكِرَ فِيهِ كَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ فَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ تَبِعَ صَاحِبَ التَّجْرِيدِ أَبَا الْفَضْلِ الْكَرْمَانِيَّ فِي هَذَا الْحُكْمِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِمَا هُوَ الْحَقُّ عِنْدَهُ .
إلَى هُنَا لَفْظُ صَاحِبِ النِّهَايَةِ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ مَا فِي النِّهَايَةِ :

وَأَقُولُ كَلَامُ صَاحِبِ الذَّخِيرَةِ عَلَى مَا نَقَلَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْتِحْقَاقَ بَعْضِ الْأُجْرَةِ إنَّمَا هُوَ إذَا كَانَ لَهُ حِصَّةٌ مَعْلُومَةٌ .
وَأَرَى أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ إذَا عَيَّنَا لِكُلِّ جُزْءٍ حِصَّةً مَعْلُومَةً ، إذْ لَيْسَ لِلْكُمِّ مَثَلًا أَوْ لِلْبَدَنِ أَوْ لِلدَّوَامِلِ حِصَّةٌ مَعْلُومَةٌ مِنْ كُلِّ الثَّوْبِ عَادَةً فَلَمْ تَكُنْ الْحِصَّةُ مَعْلُومَةً إلَّا بِتَعْيِينِهِمَا وَحِينَئِذٍ يَصِيرُ كُلُّ جُزْءٍ بِمَنْزِلَةِ ثَوْبٍ عَلَى حِدَةٍ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ قَدْ فَرَغَ مِنْ عَمَلِهِ فَيَسْتَوْجِبُ أُجْرَةً كَمَا فِي كُلِّ الثَّوْبِ ، وَلَعَلَّ هَذَا مُعْتَمَدُ الْمُصَنِّفِ .
ا هـ كَلَامُهُ .
أَقُولُ : لَيْسَ مَا قَالَهُ بِشَيْءٍ ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ صَاحِبِ الذَّخِيرَةِ مِنْ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ بَعْضِ الْأُجْرَةِ إنَّمَا هُوَ إذَا كَانَ لَهُ حِصَّةٌ مَعْلُومَةٌ إنَّمَا يَكُونُ إذَا عَيَّنَا لِكُلِّ جُزْءٍ حِصَّةً مَعْلُومَةً ، بَلْ يَكُونُ أَيْضًا إذَا كَانَ لَهُ حِصَّةٌ مَعْلُومَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْخِبْرَةِ بِتَوْزِيعِ أُجْرَةِ الْكُلِّ عَلَى كُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ بِدُونِ تَعْيِينِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لِكُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ حِصَّةً مَعْلُومَةً ، بَلْ هُوَ مُرَادُ صَاحِبِ الذَّخِيرَةِ كَمَا سَيَتَّضِحُ بِمَا سَنَذْكُرُهُ .
وَقَوْلُهُ إذْ لَيْسَ لِلْكُمِّ أَوْ لِلْبَدَنِ أَوْ لِلدَّوَامِلِ حِصَّةٌ مَعْلُومَةٌ مِنْ كُلِّ الثَّوْبِ عَادَةً فَمَمْنُوعٌ أَيْضًا .
نَعَمْ لَيْسَ بِشَيْءٍ أَيْضًا مِنْ ذَلِكَ حِصَّةٌ مُعَيَّنَةٌ فِي الْعَقْدِ عَادَةً ، وَهَذَا لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ حِصَّةُ كُلٍّ مِنْهَا مَعْلُومَةً بِتَوْزِيعِ أُجْرَةِ الْكُلِّ عَلَى الْأَجْزَاءِ كَمَا لَا يَخْفَى .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُرَادُ صَاحِبِ الذَّخِيرَةِ بِمَا إذَا كَانَتْ لَهُ حِصَّةٌ مَعْلُومَةٌ مَا إذَا عَيَّنَا لَهُ حِصَّةً مَعْلُومَةً وَصَارَ حِينَئِذٍ كُلُّ جُزْءٍ بِمَنْزِلَةِ ثَوْبٍ عَلَى حِدَةٍ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ قَدْ فَرَغَ مِنْ عَمَلِهِ فَاسْتَوْجَبَ أَجْرَهُ كَمَا فِي كُلِّ الثَّوْبِ لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ فَرْقٌ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ عَمَلُ الْخَيَّاطِ أَوْ

الصَّبَّاغِ فِي بَيْتِ نَفْسِهِ وَبَيْنَ مَا إذَا كَانَ عَمَلُهُ فِي بَيْتِ صَاحِبِ الْمَالِ فِي وُجُوبِ إيفَاءِ الْأَجْرِ ، إذْ لَا كَلَامَ لِأَحَدٍ فِي وُجُوبِ إيفَاءِ الْأَجْرِ بَعْدَ الْفَرَاغِ .
وَقَدْ فَرَّقَ صَاحِبُ الذَّخِيرَةِ بَيْنَهُمَا حَيْثُ قَالَ : وَفِي الْإِجَارَةِ الَّتِي تَنْعَقِدُ عَلَى الْعَمَلِ وَيَبْقَى لَهُ أَثَرٌ فِي الْعَيْنِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إيفَاءُ الْأَجْرِ إلَّا بَعْدَ إيفَاءِ الْعَمَلِ كُلِّهِ ، وَإِنْ كَانَتْ حِصَّةُ مَا اسْتَوْفَى مَعْلُومَةً ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ لِلْخَيَّاطِ ، وَالصَّبَّاغِ فِي بَيْتِ صَاحِبِ الْمَالِ فَحِينَئِذٍ يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ إيفَاءُ الْأَجْرِ بِقَدْرِ مَا اسْتَوْفَى مِنْ الْمَنْفَعَةِ إذَا كَانَتْ لَهُ حِصَّةٌ مَعْلُومَةٌ مِنْ الْأَجْرِ كَمَا فِي الْجَمَّالِ .
انْتَهَى .
وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ وَلَعَلَّ هَذَا مُعْتَمَدُ الْمُصَنِّفِ ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مُخَالِفٌ قَطْعًا لِمَنْطُوقِ مَا فِي الذَّخِيرَةِ وَهُوَ وُجُوبُ إيفَاءِ الْأَجْرِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ بِقَدْرِ مَا اسْتَوْفَى مِنْ الْمَنْفَعَةِ إذَا كَانَ الْعَمَلُ فِي بَيْتِهِ ، وَلَيْسَ بِمُطَابِقٍ أَيْضًا لِمَفْهُومِ قَوْلِهِ إذَا كَانَتْ لَهُ حِصَّةٌ مَعْلُومَةٌ مِنْ الْأَجْرِ وَهُوَ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَيْهِ أَجْرٌ أَصْلًا إذَا لَمْ يَكُنْ لِمَا اسْتَوْفَى مِنْ الْمَنْفَعَةِ حِصَّةٌ مَعْلُومَةٌ مِنْ الْأَجْرِ ؛ لِأَنَّ مَدْلُولَ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَيْهِ الْأَجْرُ مُطْلَقًا : أَيْ سَوَاءٌ كَانَتْ لَهُ حِصَّةٌ مَعْلُومَةٌ مِنْ الْأَجْرِ أَوْ لَا ، فَإِنَّهُ قَالَ : وَكَذَا إذَا عَمِلَ فِي بَيْتِ الْمُسْتَأْجِرِ لَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ قَبْلَ الْفَرَاغِ ، وَكَانَ فِيمَا إذَا عَمِلَ فِي غَيْرِ بَيْتِ الْمُسْتَأْجِرِ لَا يَجِبُ الْأَجْرُ مُطْلَقًا قَبْلَ الْفَرَاغِ بِلَا خِلَافٍ ، فَدَلَّ قَوْلُهُ : وَكَذَا إذَا عَمِلَ فِي بَيْتِ الْمُسْتَأْجِرِ لَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ قَبْلَ الْفَرَاغِ بِلَا خِلَافٍ عَلَى أَنْ لَا يَجِبَ عَلَيْهِ الْأَجْرُ مُطْلَقًا قَبْلَ الْفَرَاغِ فِيمَا إذَا عَمِلَ فِي بَيْتِهِ أَيْضًا ، وَلِأَنَّهُ قَالَ لِمَا بَيَّنَّا ،

وَمُرَادُهُ بِهِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الشُّرَّاحُ قَاطِبَةً هُوَ قَوْلُهُ : لِأَنَّ الْعَمَلَ فِي الْبَعْضِ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَسْتَوْجِبَ الْأَجْرَ قَبْلَ الْفَرَاغِ مُطْلَقًا ، فَأَنَّى يَصْلُحُ مَا فِي الذَّخِيرَةِ ؛ لَأَنْ يَكُونَ مُعْتَمَدَ الْمُصَنِّفِ فِي كَلَامِهِ الْمَذْكُورِ ، وَلَعَمْرِي إنَّ جُمْلَةَ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ هَاهُنَا مَوْهُومٌ مَحْضٌ ، فَكَيْفَ يَنْبَغِي أَنْ يُصَارَ إلَى مِثْلِهِ فِي تَوْجِيهِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَهُوَ عَلَمُ التَّحْقِيقِ وَعَالِمُ التَّدْقِيقِ .
ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ كَأَنَّهُ قَصَدَ دَفْعَ الْوَجْهِ الثَّانِي مِنْ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا آنِفًا لِاخْتِلَالِ رَأْيِ الشَّارِحِ الْمَزْبُورِ هَاهُنَا حَيْثُ قَالَ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى قَوْلِ ذَلِكَ الشَّارِحِ : وَحِينَئِذٍ يَصِيرُ كُلُّ جُزْءٍ بِمَنْزِلَةِ ثَوْبٍ عَلَى حِدَةٍ إلَخْ .
وَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى هَذَا بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ مَا إذَا خَاطَ فِي غَيْرِ بَيْتِ الْمُسْتَأْجِرِ أَنَّهُ إذَا خَاطَ فِي بَيْتِهِ يَجِبُ التَّسْلِيمُ إذَا فَرَغَ مِنْ عَمَلِ ذَلِكَ الْبَعْضِ فَيَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ ، بِخِلَافِ مَا إذَا خَاطَ فِي غَيْرِهِ وَقَالَ فِيهِ بَحْثٌ ، فَإِنَّ اسْتِيجَابَ الْأَجْرِ بِالْفَرَاغِ لَا بِالتَّسْلِيمِ .
ثُمَّ قَالَ : وَجَوَابُهُ ظَاهِرٌ ، فَإِنَّهُ لَوْ هَلَكَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ لَا يَسْتَوْجِبُ أَجْرًا .
ا هـ كَلَامُهُ .
أَقُولُ : جَوَابُهُ عَنْ بَحْثِهِ لَيْسَ بِتَامٍّ إذْ لَا شَكَّ أَنَّ اسْتِيجَابَ الْأَجْرِ يَتَحَقَّقُ بِالْفَرَاغِ ، وَلِهَذَا لَوْ حَبَسَ الْخَيَّاطُ أَوْ الصَّبَّاغُ الثَّوْبَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ وَقَالَ لَا أُعْطِيكَهُ حَتَّى تُعْطِيَنِي الْأَجْرَ فَلَهُ ذَلِكَ عِنْدَ أَئِمَّتِنَا الثَّلَاثَةِ ، كَمَا أَنَّ لِلْبَائِعِ أَنْ يَحْبِسَ الْمَبِيعَ لِقَبْضِ الثَّمَنِ ، صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي الذَّخِيرَةِ وَعَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ ، وَسَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ ، إلَّا أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ الْمَتَاعُ قَبْلَ تَسْلِيمِ الْخَيَّاطِ أَوْ الصَّبَّاغِ إيَّاهُ إلَى صَاحِبِهِ وَلَوْ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ سَقَطَ الْأَجْرُ ،

كَمَا أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ قَبْلَ تَسْلِيمِ الْبَائِعِ إيَّاهُ إلَى الْمُشْتَرِي سَقَطَ الثَّمَنُ فَكَانَ ابْتِدَاءُ تَحَقُّقِ اسْتِيجَابِ الْأَجْرِ فِي اسْتِئْجَارِ نَحْوِ الْقَصَّارِ ، وَالْخَيَّاطِ بِالْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ ، وَإِنْ كَانَ بَقَاؤُهُ وَتَقَرُّرُهُ بِتَسْلِيمِ الْمَتَاعِ إلَى صَاحِبِهِ كَمَا أَنَّ ابْتِدَاءَ تَحَقُّقِ اسْتِحْقَاقِ الثَّمَنِ فِي الْمَبِيعِ بِتَمَامِ الْعَقْدِ وَإِنْ كَانَ بَقَاؤُهُ وَتَقَرُّرُهُ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ إلَى الْمُشْتَرِي ، وَالْكَلَامُ هَاهُنَا فِي ابْتِدَاءِ تَحْقِيقِ اسْتِيجَابِ الْأَجْرِ ، وَلِهَذَا قَالَ فِي الْكِتَابِ : وَلَيْسَ لِلْقَصَّارِ ، وَالْخَيَّاطِ أَنْ يُطَالِبَ بِأُجْرَةٍ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ الْعَمَلِ ، وَلَمْ يَقُلْ حَتَّى يُسَلِّمَ الْمَتَاعَ إلَى صَاحِبِهِ ، فَلَا بُدَّ فِي انْدِفَاعِ الْوَجْهِ الثَّانِي مِنْ الْوُجُوهِ الَّتِي أَوْرَدْنَاهَا عَلَى رَأْيِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ مِنْ ثُبُوتِ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا إذَا عَمِلَ فِي بَيْتِ الْمُسْتَأْجِرِ ، وَبَيْنَ مَا إذَا عَمِلَ فِي غَيْرِ بَيْتِهِ مِنْ جِهَةِ تَحَقُّقِ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ وَعَدَمِ تَحَقُّقِهِ وَلَيْسَ فَلَيْسَ فَتَأَمَّلْ تَرْشُدْ .
( قَوْلُهُ : مَنْ اسْتَأْجَرَ خَبَّازًا لِيَخْبِزَ لَهُ فِي بَيْتِهِ قَفِيزًا مِنْ دَقِيقٍ بِدِرْهَمٍ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْأَجْرَ حَتَّى يَخْرُجَ الْخُبْزُ مِنْ التَّنُّورِ ) قَالَ فِي الْعِنَايَةُ : ذَكَرَ هَذَا لِبَيَانِ حُكْمَيْنِ : أَحَدِهِمَا أَنَّ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ عَمَلِهِ ، وَقَدْ عُلِمَ ذَلِكَ مِنْ مَسْأَلَةِ الْخَيَّاطِ آنِفًا .
وَالثَّانِي أَنَّ فَرَاغَ الْعَمَلِ بِمَاذَا يَكُونُ .
ا هـ .
أَقُولُ : فِيهِ شَيْءٌ ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا عُلِمَ مِنْ مَسْأَلَةِ الْخَيَّاطِ آنِفًا أَنَّ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ عَمَلِهِ يَصِيرُ بَيَانُ ذَلِكَ هَاهُنَا تَحْصِيلَ الْحَاصِلِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْصِدَهُ الْعَاقِلُ .
فَالْوَجْهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا هُوَ بَيَانُ الْحُكْمِ الثَّانِي وَهُوَ أَنَّ الْفَرَاغَ مِنْ الْعَمَلِ فِي الْخَبَّازِ بِمَاذَا

يَكُونُ وَيُرْشِدُ إلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ : لَمْ يَسْتَحِقَّ الْأَجْرَ حَتَّى يَخْرُجَ الْخُبْزُ مِنْ التَّنُّورِ ، وَلَمْ يَقُلْ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ الْعَمَلِ بِإِخْرَاجِ الْخُبْزِ مِنْ التَّنُّورِ ، وَلَوْ كَانَ مُرَادُهُ بَيَانَ الْحُكْمَيْنِ مَعًا لَقَالَ هَكَذَا تَدَبَّرْ .

قَالَ : ( وَكُلُّ صَانِعٍ لَيْسَ لِعَمَلِهِ أَثَرٌ فِي الْعَيْنِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَ الْعَيْنَ لِلْأَجْرِ كَالْحَمَّالِ وَالْمَلَّاحِ ) ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ نَفْسُ الْعَمَلِ وَهُوَ غَيْرُ قَائِمٍ فِي الْعَيْنِ فَلَا يُتَصَوَّرُ حَبْسُهُ فَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الْحَبْسِ وَغَسْلُ الثَّوْبِ نَظِيرُ الْحَمْلِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْآبِقِ حَيْثُ يَكُونُ لِلرَّادِّ حَقُّ حَبْسِهِ لِاسْتِيفَاءِ الْجُعْلِ ، وَلَا أَثَرَ لِعَمَلِهِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ عَلَى شَرَفِ الْهَلَاكِ وَقَدْ أَحْيَاهُ فَكَأَنَّهُ بَاعَهُ مِنْهُ فَلَهُ حَقُّ الْحَبْسِ ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مَذْهَبُ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ .
وَقَالَ زُفَرُ : لَيْسَ لَهُ حَقُّ الْحَبْسِ فِي الْوَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ التَّسْلِيمُ بِاتِّصَالِ الْمَبِيعِ بِمِلْكِهِ فَيَسْقُطَ حَقُّ الْحَبْسِ .
وَلَنَا أَنَّ الِاتِّصَالَ بِالْمَحَلِّ ضَرُورَةُ إقَامَةِ تَسْلِيمِ الْعَمَلِ فَلَمْ يَكُنْ هُوَ رَاضِيًا بِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ تَسْلِيمٌ فَلَا يَسْقُطُ حَقُّ الْحَبْسِ كَمَا إذَا قَبَضَ الْمُشْتَرِي بِغَيْرِ رِضَا الْبَائِعِ .

قَالَ : ( وَإِذَا شَرَطَ عَلَى الصَّانِعِ أَنْ يَعْمَلَ بِنَفْسِهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ غَيْرَهُ ) ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ فِي مَحَلٍّ بِعَيْنِهِ فَيَسْتَحِقُّ عَيْنَهُ كَالْمَنْفَعَةِ فِي مَحَلٍّ بِعَيْنِهِ ( وَإِنْ أَطْلَقَ لَهُ الْعَمَلَ فَلَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَعْمَلُهُ ) ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَمَلٌ فِي ذِمَّتِهِ ، وَيُمْكِنُ إيفَاؤُهُ بِنَفْسِهِ وَبِالِاسْتِعَانَةِ بِغَيْرِهِ بِمَنْزِلَةِ إيفَاءِ الدَّيْنِ .

فَصْلٌ ( وَمَنْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَذْهَبَ إلَى الْبَصْرَةِ فَيَجِيءَ بِعِيَالِهِ فَذَهَبَ فَوَجَدَ بَعْضُهُمْ قَدْ مَاتَ فَجَاءَ بِمَنْ بَقِيَ فَلَهُ الْأَجْرُ بِحِسَابِهِ ) ؛ لِأَنَّهُ أَوْفَى بَعْضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَيَسْتَحِقُّ الْعِوَضَ بِقَدْرِهِ ، وَمُرَادُهُ إذَا كَانُوا مَعْلُومِينَ ( وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَذْهَبَ بِكِتَابِهِ إلَى فُلَانٍ بِالْبَصْرَةِ وَيَجِيءَ بِجَوَابِهِ فَذَهَبَ فَوَجَدَ فُلَانًا مَيِّتًا فَرَدَّهُ فَلَا أَجْرَ لَهُ ) هَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَهُ الْأَجْرُ فِي الذَّهَابِ ؛ لِأَنَّهُ أَوْفَى بَعْضَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، وَهُوَ قَطْعُ الْمَسَافَةِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْأَجْرَ مُقَابَلٌ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَشَقَّةِ دُونَ حَمْلِ الْكِتَابِ لِخِفَّةِ مُؤْنَتِهِ .
وَلَهُمَا أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ نَقْلُ الْكِتَابِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ أَوْ وَسِيلَةٌ إلَيْهِ وَهُوَ الْعِلْمُ بِمَا فِي الْكِتَابِ وَلَكِنَّ الْحُكْمَ مُعَلَّقٌ بِهِ وَقَدْ نَقَضَهُ فَيَسْقُطُ الْأَجْرُ كَمَا فِي الطَّعَامِ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي تَلِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ ( وَإِنْ تَرَكَ الْكِتَابَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ وَعَادَ يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ بِالذَّهَابِ بِالْإِجْمَاعِ ) ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ لَمْ يُنْتَقَضْ .

( وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَذْهَبَ بِطَعَامٍ إلَى فُلَانٍ بِالْبَصْرَةِ فَذَهَبَ فَوَجَدَ فُلَانًا مَيِّتًا فَرَدَّهُ فَلَا أَجْرَ لَهُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ) ؛ لِأَنَّهُ نَقَضَ تَسْلِيمَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، وَهُوَ حَمْلُ الطَّعَامِ ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُنَاكَ قَطْعُ الْمَسَافَةِ عَلَى مَا مَرَّ .

بَابُ مَا يَجُوزُ مِنْ الْإِجَارَةِ وَمَا يَكُونُ خِلَافًا فِيهَا قَالَ : ( وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الدُّورِ وَالْحَوَانِيتِ لِلسُّكْنَى وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ مَا يَعْمَلُ فِيهَا ) ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ الْمُتَعَارَفَ فِيهَا السُّكْنَى فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِ ، وَأَنَّهُ لَا يَتَفَاوَتُ فَصَحَّ الْعَقْدُ ( وَلَهُ أَنْ يَعْمَلَ كُلَّ شَيْءٍ ) لِلْإِطْلَاقِ ( إلَّا أَنَّهُ لَا يُسْكِنُ حَدَّادًا وَلَا قَصَّارًا وَلَا طَحَّانًا ؛ لِأَنَّ فِيهِ ضَرَرًا ظَاهِرًا ) ؛ لِأَنَّهُ يُوهِنُ الْبِنَاءَ فَيَتَقَيَّدُ الْعَقْدُ بِمَا وَرَاءَهَا دَلَالَةً .

( بَابُ مَا يَجُوزُ مِنْ الْإِجَارَةِ وَمَا يَكُونُ خِلَافًا فِيهَا ) .
قَالَ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ : لَمَّا ذَكَرَ مُقَدَّمَاتِ الْإِجَارَةِ ذَكَرَ فِي هَذَا الْبَابِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا وَهُوَ بَيَانُ مَا يَجُوزُ مِنْ عُقُودِ الْإِجَارَةِ وَمَا لَا يَجُوزُ مِنْهَا انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ نَوْعُ خَلَلٍ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِي هَذَا الْبَابِ مَا لَا يَجُوزُ مِنْ الْإِجَارَةِ وَإِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ فِي بَابٍ آخَرَ آتٍ عَقِيبَ هَذَا الْبَابِ وَهُوَ بَابُ الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ ، بَلْ إنَّمَا ذَكَرَ فِي هَذَا الْبَابِ مَا يَجُوزُ مِنْ الْإِجَارَةِ ، وَمَا يَكُونُ خِلَافًا فِيهَا مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ لِلْمُؤَجِّرِ كَمَا وَقَعَ فِي عِنْوَانِ الْبَابِ .
وَقَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ ، وَالْعِنَايَةِ : لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ الْإِجَارَةِ وَشَرْطِهَا وَوَقْتِ اسْتِحْقَاقِ الْأُجْرَةِ ذَكَرَ هُنَا مَا يَجُوزُ مِنْ الْإِجَارَةِ بِإِطْلَاقِ اللَّفْظِ وَتَقْيِيدِهِ ، وَذَكَرَ أَيْضًا مِنْ الْأَفْعَالِ مَا يُعَدُّ خِلَافًا مِنْ الْأَجِيرِ لِلْمُؤَجِّرِ وَمَا لَا يُعَدُّ خِلَافًا انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ أَيْضًا شَيْءٌ فَتَأَمَّلْ ( قَوْلُهُ : وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الدُّورِ ، وَالْحَوَانِيتِ لِلسُّكْنَى ، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ مَا يَعْمَلُ فِيهَا ) قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ : قَوْلُهُ : لِلسُّكْنَى صِلَةُ الدُّورِ ، وَالْحَوَانِيتِ لَا صِلَةُ الِاسْتِئْجَارِ : يَعْنِي وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الدُّورِ ، وَالْحَوَانِيتِ الْمُعَدَّةِ لِلسُّكْنَى لَا أَنْ يَقُولَ زَمَانَ الْعَقْدِ اسْتَأْجَرْتُ هَذِهِ الدَّارَ لِلسُّكْنَى ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَصَّ هَكَذَا وَقْتَ الْعَقْدِ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا غَيْرَ السُّكْنَى ، وَالتَّعْلِيلُ يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْتُ .
انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَمَالَ أَكْثَرُ الشُّرَّاحِ إلَى سِمَتِهِ فِي تَصْوِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، غَيْرَ أَنَّ صَاحِبَ الْغَايَةِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ ذَلِكَ الْمَعْنَى وَصَحَّحَهُ قَالَ : وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ قَوْلُهُ : لِلسُّكْنَى بِالِاسْتِئْجَارِ : أَيْ يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الدُّورِ ، وَالْحَوَانِيتِ لِأَجْلِ السُّكْنَى ، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ مَا يَعْمَلُ

فِيهَا ، وَلَهُ أَنْ يَعْمَلَ كُلَّ شَيْءٍ لَا يُوهِنُ الْبِنَاءَ وَلَا يُفْسِدُهُ ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الْقُدُورِيِّ ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
أَقُولُ : فِيمَا قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ كَلَامٌ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَوْلُهُ : لِلسُّكْنَى صِلَةَ الدُّورِ ، وَالْحَوَانِيتِ وَكَانَ الْمَعْنَى وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الدُّورِ ، وَالْحَوَانِيتِ الْمُعَدَّةِ لِلسُّكْنَى لَمْ يَظْهَرْ لِلتَّقْيِيدِ بِقَوْلِهِ لِلسُّكْنَى فَائِدَةٌ أَصْلًا ؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَقْصِدَ بِهِ الِاحْتِرَازَ عَنْ الدُّورِ ، وَالْحَوَانِيتِ الْغَيْرِ الْمُعَدَّةِ لِلسُّكْنَى ، أَوْ يَقْصِدَ بِهِ مُجَرَّدَ بَيَانِ حَالِ الدُّورِ ، وَالْحَوَانِيتِ بِأَنَّهَا مُعَدَّةٌ لِلسُّكْنَى ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَمَعَ عَدَمِ تَحَقُّقِ دَارٍ أَوْ حَانُوتٍ لَمْ يُعَدَّ لِلسُّكْنَى فِي الْخَارِجِ لَمْ يَصِحَّ الِاحْتِرَازُ ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ الْحُكْمَ فِي اسْتِئْجَارِ كُلِّ دَارٍ وَحَانُوتٍ مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ الْجَوَازُ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ اللَّغْوِ ، فَإِنَّ كَوْنَ الدُّورِ ، وَالْحَوَانِيتِ مِمَّا يُعَدُّ لِلسُّكْنَى غَنِيٌّ عَنْ الْبَيَانِ غَيْرُ خَفِيٍّ عَلَى أَحَدٍ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ لَوْ نَصَّ هَكَذَا وَقْتَ الْعَقْدِ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا غَيْرَ السُّكْنَى مَمْنُوعٌ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَصَّ وَقْتَ الْعَقْدِ عَلَى اسْتِئْجَارِ الدُّورِ ، وَالْحَوَانِيتِ لِأَجْلِ السُّكْنَى وَعَمِلَ فِيهَا غَيْرَ السُّكْنَى مِمَّا هُوَ أَنْفَعُ لِلْبِنَاءِ مِنْ السُّكْنَى يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ ؛ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ فِيمَا لَا يَتَفَاوَتُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ ، وَلِهَذَا إذَا شَرَطَ سُكْنَى وَاحِدٍ فَلَهُ أَنْ يُسْكِنَ غَيْرَهُ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ ، فَفِيمَا هُوَ أَنْفَعُ مِمَّا شَرَطَ وَقْتَ الْعَقْدِ أَوْلَى أَنْ لَا يَعْتَبِرَ التَّقْيِيدَ .
ثُمَّ الْإِنْصَافُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقَعْ فِي عِبَارَةِ مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ قَيْدُ لِلسُّكْنَى فِي وَضْعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَمَا لَمْ يَقَعْ فِي عِبَارَةِ عَامَّةِ مُعْتَبَرَاتِ الْمُتُونِ لَكَانَ أَوْلَى وَأَحْسَنَ كَمَا

لَا يَخْفَى .
( قَوْلُهُ : لِأَنَّ الْعَمَلَ الْمُتَعَارَفَ فِيهَا السُّكْنَى فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِ ) وَرَدَّ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْإِصْلَاحِ ، وَالْإِيضَاحِ كَمَا رَدَّ عَلَى صَدْرِ الشَّرِيعَةِ حَيْثُ قَالَ : لَا ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ الْمُتَعَارَفَ فِيهَا السُّكْنَى فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِ لَا يَتَفَاوَتُ فَصَحَّ الْعَقْدُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْتَظِمُهُ قَوْلُهُ : وَلَهُ أَنْ يَعْمَلَ كُلَّ شَيْءٍ سِوَى مُوهِنِ الْبِنَاءِ ، بَلْ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ كُلَّ عَمَلٍ لَا يَضُرُّ الْبِنَاءَ يَسْتَحِقُّهُ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ .
انْتَهَى كَلَامُهُ .
أَقُولُ : لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ شَطْرَيْ كَلَامِهِ بِسَدِيدٍ .
أَمَّا شَطْرُهُ الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ وَغَيْرِهِ أَنَّ الْعُرْفَ يَصْرِفُ مُطْلَقَ الْعَمَلِ إلَى السُّكْنَى ، وَبَعْدَ ذَلِكَ تَبْقَى أَعْمَالُ السُّكْنَى عَلَى إطْلَاقِهَا ، فَلَهُ أَنْ يَعْمَلَ كُلَّ شَيْءٍ مِنْهَا لِهَذَا الْإِطْلَاقِ سِوَى مَا يُوهِنُ الْبِنَاءَ لِتَحَقُّقِ الضَّرَرِ الظَّاهِرِ فِيهِ .
وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقَوْلِ بِصَرْفِ الْعُرْفِ مُطْلَقَ الْعَمَلِ إلَى أَعْمَالِ السُّكْنَى وَبَيْنَ الْقَوْلِ بِأَنَّ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِ السُّكْنَى لِإِطْلَاقِ عَمَلِ السُّكْنَى نَظَرًا إلَى أَنْوَاعِهِ وَأَصْنَافِهِ وَعَدَمِ التَّفَاوُتِ فِيهِ فَلَا غُبَارَ عَلَيْهِ فِي التَّعْلِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ .
وَأَمَّا شَطْرُهُ الثَّانِي فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ عَمَلٍ لَا يَضُرُّ الْبِنَاءَ يَسْتَحِقُّهُ مُسْتَأْجِرُ الدُّورِ ، وَالْحَوَانِيتِ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ بِدُونِ الْمَصِيرِ إلَى أَنَّ الْمُتَعَارَفَ فِيهَا هُوَ السُّكْنَى لَزِمَ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْعَمَلَ الَّذِي لَيْسَ مِنْ جِنْسِ السُّكْنَى أَيْضًا وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ ، بَلْ صَرَّحُوا فِي عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ بِأَنَّهُ مَصْرُوفٌ بِالْعُرْفِ إلَى عَمَلِ السُّكْنَى ، وَهُوَ لَا يَتَفَاوَتُ فَيَصِحُّ الْعَقْدُ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ ، وَقَالُوا : إنَّ هَذَا اسْتِحْسَانٌ .
وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْعَمَلِ ، وَالِانْتِفَاعِ يَتَنَاوَلُ عَمَلَ السُّكْنَى وَغَيْرَهُ فَيَتَفَاوَتُ فَلَا

يَكُونُ بُدٌّ مِنْ الْبَيَانِ لِلْجَهَالَةِ الْمُفْضِيَةِ إلَى النِّزَاعِ كَمَا فِي اسْتِئْجَارِ الْأَرَاضِيِ لِلزِّرَاعَةِ .
( قَوْلُهُ : وَأَنَّهُ لَا يَتَفَاوَتُ فَصَحَّ الْعَقْدُ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : هَذَا جَوَابٌ عَمَّا عَسَى أَنْ يُقَالَ سَلَّمْنَا أَنَّ السُّكْنَى مُتَعَارَفٌ ، وَلَكِنْ قَدْ تَتَفَاوَتُ السُّكَّانُ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : لَا مِسَاسَ لِهَذَا السُّؤَالِ بِالْمَقَامِ ، إذْ الْكَلَامُ فِي عَدَمِ وُجُوبِ بَيَانِ مَا يُعْمَلُ فِيهَا لَا فِي بَيَانِ مَنْ يَسْكُنُ انْتَهَى .
أَقُولُ : لَعَلَّ لَفْظَ السُّكَّانِ فِي كَلَامِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ وَقَعَ سَهْوًا مِنْ الْكَاتِبِ بَدَلًا مِنْ لَفْظِ السُّكْنَى ، فَحِينَئِذٍ مِسَاسُ السُّؤَالِ بِالْمَقَامِ ظَاهِرٌ .
وَأَمَّا عَلَى مَا وَقَعَ فِي النُّسَخِ الْمَشْهُورَةِ فَالْمُرَادُ لَكِنْ قَدْ تَتَفَاوَتُ السُّكْنَى بِتَفَاوُتِ السُّكَّانِ فِي الْعَمَلِ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ مَا يُعْمَلُ فِيهَا ، وَلَمَّا كَانَ تَفَاوُتُ السُّكَّانِ فِي الْعَمَلِ سَبَبًا لِتَفَاوُتِ نَفْسِ الْعَمَلِ الَّذِي هُوَ السُّكْنَى اكْتَفَى بِذِكْرِ تَفَاوُتِ السُّكَّانِ قَصْرًا لِلْمَسَافَةِ ، وَيُرْشِدُ إلَيْهِ قَوْلُهُ : وَوَجْهُهُ : يَعْنِي وَجْهَ الْجَوَابِ أَنَّ السُّكْنَى لَا تَتَفَاوَتُ ، وَمَا لَا يَتَفَاوَتُ لَا يَشْتَمِلُ عَلَى مَا يُفْسِدُ الْعَقْدَ فَيَصِحُّ .
انْتَهَى .
حَيْثُ قَالَ إنَّ السُّكْنَى لَا تَتَفَاوَتُ ، وَلَمْ يَقُلْ إنَّ السُّكَّانَ لَا يَتَفَاوَتُونَ ، تَدَبَّرْ تَرْشُدْ .
وَقَالَ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ : وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ : وَلِأَنَّهُ لَا يَتَفَاوَتُ ، وَهَكَذَا صَحَّحَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ وَلِهَذَا قَالَ : هَذَا جَوَابٌ عَمَّا عَسَى أَنْ يُقَالَ سَلَّمْنَا أَنَّ السُّكْنَى مُتَعَارَفٌ إلَخْ .
أَقُولُ : كَلَامُهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ لَمْ يُصْحِحْ تِلْكَ النُّسْخَةَ بَلْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهَا قَطُّ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ جَعْلَ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ هَذَا جَوَابًا عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ لَا يَدُلُّ عَلَى نُسْخَةٍ ، وَلِأَنَّهُ بَلْ يَأْبَاهَا إذْ مُقْتَضَى هَذِهِ

النُّسْخَةِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ هَذَا دَلِيلًا آخَرَ مُسْتَقِلًّا ، وَاَلَّذِي يَكُونُ جَوَابًا عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ مُتَمِّمَاتِ مَا قَبْلَهُ فَلَمْ يَصِحَّ قَوْلُهُ : وَلِهَذَا قَالَ هَذَا جَوَابٌ عَمَّا عَسَى أَنْ يُقَالَ إلَخْ ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي لَفْظِ الْعِنَايَةِ بِصَدَدِ الشَّرْحِ عِبَارَةُ هَذِهِ النُّسْخَةِ لَا غَيْرُ فَلَيْسَ كَذَلِكَ أَيْضًا ، بَلْ الْمَذْكُورُ فِيمَا رَأَيْنَاهُ مِنْ نُسَخِ الْعِنَايَةِ عِبَارَةُ وَأَنَّهُ بِدُونِ اللَّامِ .
( قَوْلُهُ : لِأَنَّ فِيهِ ضَرَرًا ظَاهِرًا ؛ لِأَنَّهُ يُوهِنُ الْبِنَاءَ فَيَتَقَيَّدُ الْعَقْدُ بِمَا وَرَاءَهَا دَلَالَةً ) أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : الظَّاهِرُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ أَعْمَالَ السُّكْنَى تَتَفَاوَتُ فَبَعْضٌ مِنْهَا لَا يُوهِنُ الْبِنَاءَ وَبَعْضٌ آخَرُ مِنْهَا يُوهِنُهُ كَالْأَمْثِلَةِ الْمَذْكُورَةِ فَصَارَ مُخَالِفًا لِقَوْلِهِ فِيمَا مَرَّ آنِفًا ، وَأَنَّهُ يَعْنِي السُّكْنَى لَا يَتَفَاوَتُ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ السَّابِقِ أَنَّهُ لَا يَتَفَاوَتُ غَالِبًا فَاَلَّذِي يَضُرُّ الْبِنَاءَ وَيُوهِنُهُ خَارِجٌ عَنْ الْعَقْدِ بِدَلَالَةِ الْحَالِ ، وَذَلِكَ الْقِسْمُ الْغَالِبُ بَاقٍ عَلَى حَالِهِ فَلَهُ أَنْ يَعْمَلَ مِنْ ذَلِكَ مَا شَاءَ فَتَأَمَّلْ .

قَالَ : ( وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْأَرَاضِي لِلزِّرَاعَةِ ) ؛ لِأَنَّهَا مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ مَعْهُودَةٌ فِيهَا ( وَلِلْمُسْتَأْجِرِ الشُّرْبُ وَالطَّرِيقُ ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ ) لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تُعْقَدُ لِلِانْتِفَاعِ ، وَلَا انْتِفَاعَ فِي الْحَالِ إلَّا بِهِمَا فَيَدْخُلَانِ فِي مُطْلَقِ الْعُقَدِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ مِلْكُ الرَّقَبَةِ لَا الِانْتِفَاعُ فِي الْحَالِ ، حَتَّى يَجُوزَ بَيْعُ الْجَحْشِ وَالْأَرْضِ السَّبْخَةِ دُونَ الْإِجَارَةِ فَلَا يَدْخُلَانِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْحُقُوقِ وَقَدْ مَرَّ فِي الْبُيُوعِ ( وَلَا يَصِحُّ الْعَقْدُ حَتَّى يُسَمِّيَ مَا يَزْرَعُ فِيهَا ) ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تُسْتَأْجَرُ لِلزِّرَاعَةِ وَلِغَيْرِهَا وَمَا يُزْرَعُ فِيهَا مُتَفَاوِتٌ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعْيِينِ كَيْ لَا تَقَعَ الْمُنَازَعَةُ ( أَوْ يَقُولَ عَلَى أَنْ يَزْرَعَ فِيهَا مَا شَاءَ ) ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا فَوَّضَ الْخِيَرَةَ إلَيْهِ ارْتَفَعَتْ الْجَهَالَةُ الْمُفْضِيَةُ إلَى الْمُنَازَعَةِ .

( قَوْلُهُ : وَلَا يَصِحُّ الْعَقْدُ حَتَّى يُسَمِّيَ مَا يَزْرَعُ فِيهَا ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تُسْتَأْجَرُ لِلزِّرَاعَةِ وَلِغَيْرِهَا ، وَمَا يُزْرَعُ فِيهَا مُتَفَاوِتٌ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعْيِينِ كَيْ لَا تَقَعَ الْمُنَازَعَةُ ) أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : فِي التَّعْلِيلِ شَائِبَةُ الِاسْتِدْرَاكِ ، إذْ يَكْفِي فِي تَمَامِهِ أَنْ يُقَالَ : لِأَنَّ مَا يُزْرَعُ فِيهَا مُتَفَاوِتٌ ، وَقَوْلُهُ : لِأَنَّهَا قَدْ تُسْتَأْجَرُ لِلزِّرَاعَةِ وَلِغَيْرِهَا لَا يُطَابِقُ الْمُدَّعَى وَلَا نَفْعَ لَهُ فِي إثْبَاتِهِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي صِحَّةِ عَقْدِ اسْتِئْجَارِ الْأَرَاضِي لِلزِّرَاعَةِ مِنْ أَمْرَيْنِ : أَحَدِهِمَا بَيَانُ أَنَّهُ يَسْتَأْجِرُهَا لِلزِّرَاعَةِ ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تُسْتَأْجَرُ لِغَيْرِهَا أَيْضًا فَلَا بُدَّ مِنْ نَفْيِ الْجَهَالَةِ .
وَثَانِيهِمَا بَيَانُ مَا يَزْرَعُ فِيهَا كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ وَلَا يَصِحُّ الْعَقْدُ حَتَّى يُسَمِّيَ مَا يَزْرَعُ فِيهَا ، وَالْمُصَنِّفُ لَمَّا رَأَى انْدِرَاجَ الْأَوَّلِ أَيْضًا الْتِزَامًا فِي مَدْلُولِ قَوْلِهِ حَتَّى يُسَمِّيَ مَا يَزْرَعُ فِيهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَسْمِيَةَ مَا يَزْرَعُ فِيهَا فَرْعُ تَسْمِيَةِ نَفْسِ الزِّرَاعَةِ أَشَارَ إلَى تَعْلِيلِ كِلَا الْأَمْرَيْنِ .
أَمَّا إلَى تَعْلِيلِ الْأَوَّلِ فَبِقَوْلِهِ ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تُسْتَأْجَرُ لِلزِّرَاعَةِ وَلِغَيْرِهَا .
وَأَمَّا إلَى تَعْلِيلِ الثَّانِي فَبِقَوْلِهِ وَمَا يُزْرَعُ فِيهَا مُتَفَاوِتٌ ، فَلَمْ يَكُنْ فِي التَّعْلِيلِ الْمَزْبُورِ اسْتِدْرَاكٌ بَلْ كَانَ فِيهِ زِيَادَةُ فَائِدَةٍ .
وَكَأَنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ تَفَطَّنَ لِهَذِهِ الدَّقِيقَةِ حَيْثُ قَالَ فِي تَقْرِيرِ الْمَقَامِ : وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْأَرَاضِي لِلزِّرَاعَةِ ؛ لِأَنَّهَا مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ مَعْهُودَةٌ فِيهَا ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ أَنَّهُ يَسْتَأْجِرُهَا لِلزِّرَاعَةِ ؛ لِأَنَّهَا تُسْتَأْجَرُ لِغَيْرِهَا أَيْضًا فَلَا بُدَّ مِنْ الْبَيَانِ نَفْيًا لِلْجَهَالَةِ وَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ مَا يَزْرَعُ فِيهَا ؛ لِأَنَّهُ يَتَفَاوَتُ فِي الضَّرَرِ بِالْأَرْضِ وَعَدَمِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعْيِينِ قَطْعًا

لِلْمُنَازَعَةِ انْتَهَى

قَالَ : ( وَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ السَّاحَةُ ؛ لِيَبْنِيَ فِيهَا أَوْ ؛ لِيَغْرِسَ فِيهَا نَخْلًا أَوْ شَجَرًا ) ؛ لِأَنَّهَا مَنْفَعَةٌ تُقْصَدُ بِالْأَرَاضِيِ ( ثُمَّ إذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ لَزِمَهُ أَنْ يَقْلَعَ الْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ وَيُسْلِمَهَا إلَيْهِ فَارِغَةً ) ؛ لِأَنَّهُ لَا نِهَايَةَ لَهُمَا وَفِي إبْقَائِهِمَا إضْرَارًا بِصَاحِبِ الْأَرْضِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا انْقَضَتْ الْمُدَّةُ وَالزَّرْعُ بَقْلٌ حَيْثُ يُتْرَكُ بِأَجْرِ الْمِثْلِ إلَى زَمَانِ الْإِدْرَاكِ ؛ لِأَنَّ لَهُ نِهَايَةٌ مَعْلُومَةٌ فَأَمْكَنَ رِعَايَةُ الْجَانِبَيْنِ .
قَالَ : ( إلَّا أَنْ يَخْتَارَ صَاحِبُ الْأَرْضِ أَنْ يَغْرَمَ لَهُ قِيمَةَ ذَلِكَ مَقْلُوعًا وَيَتَمَلَّكَهُ فَلَهُ ذَلِكَ ) وَهَذَا بِرِضَا صَاحِبِ الْغَرْسِ وَالشَّجَرِ ، إلَّا أَنْ تَنْقُصَ الْأَرْضُ بِقَلْعِهِمَا فَحِينَئِذٍ يَتَمَلَّكُهُمَا بِغَيْرِ رِضَاهُ .
قَالَ : ( أَوْ يَرْضَى بِتَرْكِهِ عَلَى حَالِهِ فَيَكُونَ الْبِنَاءُ لِهَذَا وَالْأَرْضُ لِهَذَا ) ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ فَلَهُ أَنْ لَا يَسْتَوْفِيَهُ .
قَالَ : ( وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : إذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ ، وَفِي الْأَرْضِ رُطَبَةٌ فَإِنَّهَا تُقْلَعُ ) ؛ لِأَنَّ الرِّطَابَ لَا نِهَايَةَ لَهَا فَأَشْبَهَ الشَّجَرَ .

قَالَ : ( وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الدَّوَابِّ لِلرُّكُوبِ وَالْحَمْلِ ) ؛ لِأَنَّهُ مَنْفَعَةٌ مَعْلُومَةٌ مَعْهُودَةٌ ( فَإِنْ أَطْلَقَ الرُّكُوبَ جَازَ لَهُ أَنْ يُرْكِبَ مَنْ شَاءَ ) عَمَلًا بِالْإِطْلَاقِ .
وَلَكِنْ إذَا رَكِبَ بِنَفْسِهِ أَوْ أَرْكَبَ وَاحِدًا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُرْكِبَ غَيْرَهُ ؛ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ مُرَادًا مِنْ الْأَصْلِ ، وَالنَّاسُ يَتَفَاوَتُونَ فِي الرُّكُوبِ فَصَارَ كَأَنَّهُ نَصَّ عَلَى رُكُوبِهِ ( وَكَذَلِكَ إذَا اسْتَأْجَرَ ثَوْبًا لِلُّبْسِ وَأَطْلَقَ جَازَ فِيمَا ذَكَرْنَا ) لِإِطْلَاقِ اللَّفْظِ وَتَفَاوُتِ النَّاسِ فِي اللُّبْسِ ( وَإِنْ قَالَ : عَلَى أَنْ يَرْكَبَهَا فُلَانٌ أَوْ يَلْبَسَ الثَّوْبَ فُلَانٌ فَأَرْكَبَهَا غَيْرَهُ أَوْ أَلْبَسَهُ غَيْرَهُ فَعَطِبَ كَانَ ضَامِنًا ) ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي الرُّكُوبِ وَاللُّبْسِ فَصَحَّ التَّعْيِينُ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَعَدَّاهُ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ لِمَا ذَكَرْنَا .
فَأَمَّا الْعَقَارُ وَمَا لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ إذَا شَرَطَ سُكْنَى وَاحِدٍ فَلَهُ أَنْ يُسْكِنَ غَيْرَهُ ؛ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ غَيْرُ مُفِيدٍ لِعَدَمِ التَّفَاوُتِ الَّذِي يَضُرُّ بِالْبِنَاءِ ، وَاَلَّذِي يَضُرُّ بِالْبِنَاءِ خَارِجٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا .
قَالَ : ( وَإِنْ سَمَّى نَوْعًا وَقَدْرًا مَعْلُومًا يَحْمِلُهُ عَلَى الدَّابَّةِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ خَمْسَةُ أَقْفِزَةِ حِنْطَةٍ فَلَهُ أَنْ يَحْمِلَ مَا هُوَ مِثْلُ الْحِنْطَةِ فِي الضَّرَرِ أَوْ أَقَلُّ كَالشَّعِيرِ وَالسِّمْسِمِ ) ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ تَحْتَ الْإِذْنِ لِعَدَمِ التَّفَاوُتِ ، أَوْ لِكَوْنِهِ خَيْرًا مِنْ الْأَوَّلِ ( وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْمِلَ مَا هُوَ أَضَرُّ مِنْ الْحِنْطَةِ كَالْمِلْحِ وَالْحَدِيدِ ) لِانْعِدَامِ الرِّضَا فِيهِ ( وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا قُطْنًا سَمَّاهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا مِثْلَ وَزْنِهِ حَدِيدًا ) ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَكُونُ أَضَرَّ بِالدَّابَّةِ فَإِنَّ الْحَدِيدَ يَجْتَمِعُ فِي مَوْضِعٍ مِنْ ظَهْرِهَا وَالْقُطْنُ يَنْبَسِطُ عَلَى ظَهْرِهَا .

( قَوْلُهُ : فَإِنْ أَطْلَقَ الرُّكُوبَ جَازَ لَهُ أَنْ يُرْكِبَ مَنْ شَاءَ عَمَلًا بِالْإِطْلَاقِ ) اعْلَمْ أَنَّ اسْتِئْجَارَ الدَّوَابِّ لِلرُّكُوبِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ إمَّا أَنْ يَقُولَ عِنْدَ الْعَقْدِ اسْتَأْجَرْتُهَا لِلرُّكُوبِ وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ شَيْئًا أَوْ زَادَ ، فَعَلَى هَذَا إمَّا أَنْ يَقُولَ عَلَى أَنْ يُرْكِبَ مَنْ شَاءَ أَوْ يَقُولَ عَلَى أَنْ يَرْكَبَ فُلَانٌ ؛ فَفِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَفْسُدُ الْعَقْدُ ؛ لِأَنَّ الرُّكُوبَ مِمَّا يَخْتَلِفُ اخْتِلَافًا فَاحِشًا فَيَكُونُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَجْهُولًا ، فَإِنْ أَرْكَبَ شَخْصًا وَمَضَتْ الْمُدَّةُ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ أَجْرُ الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَلَا يَنْقَلِبُ إلَى الْجَوَازِ .
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَجِبُ الْمُسَمَّى وَيَنْقَلِبُ جَائِزًا ؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ كَانَ لِلْجَهَالَةِ وَقَدْ ارْتَفَعَتْ حَالَةَ الِاسْتِعْمَالِ فَكَأَنَّهَا ارْتَفَعَتْ مِنْ الِابْتِدَاءِ ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ يَنْعَقِدُ سَاعَةً فَسَاعَةً ، فَكُلُّ جُزْءٍ مِنْهُ ابْتِدَاءٌ ، وَإِذَا ارْتَفَعَ الْجَهَالَةُ مِنْ الِابْتِدَاءِ صَحَّ الْعَقْدُ ، فَكَذَا هَاهُنَا .
وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي يَصِحُّ الْعَقْدُ وَيَجِبُ الْمُسَمَّى وَيَتَعَيَّنُ أَوَّلُ مَنْ رَكِبَ سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ أَوْ غَيْرُهُ ؛ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ مُرَادًا مِنْ الْأَصْلِ فَصَارَ كَأَنَّهُ نَصَّ عَلَى رُكُوبِهِ ابْتِدَاءً .
وَفِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَعَدَّاهُ ؛ لِأَنَّهُ تَعْيِينٌ مُفِيدٌ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِهِ فَإِنْ تَعَدَّى صَارَ ضَامِنًا وَحُكْمُ الْحَمْلِ كَحُكْمِ الرُّكُوبِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَوْجُهِ كَذَا قَالُوا .
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الشُّرَّاحَ افْتَرَقُوا فِي تَعْيِينِ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِ الْقُدُورِيِّ : فَإِنْ أَطْلَقَ الرُّكُوبَ جَازَ لَهُ أَنْ يُرْكِبَ مَنْ شَاءَ ، أَيُّ وَجْهٍ مِنْ هَاتِيكَ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ ، فَجَزَمَ فِرْقَةٌ مِنْهُمْ كَتَاجِ الشَّرِيعَةِ وَصَاحِبَيْ الْغَايَةِ ، وَالْعِنَايَةِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ هُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَقُولَ عَلَى

أَنْ تُرْكِبَ مَنْ شِئْتَ ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِطْلَاقِ التَّعْمِيمُ بِدُونِ التَّقْيِيدِ بِرُكُوبِ شَخْصٍ بِعَيْنِهِ كَمَا جَزَمَ بِهِ الْإِمَامُ الزَّاهِدِيُّ وَالْإِمَامُ أَبُو نَصْرٍ الْأَقْطَعُ فِي شَرْحَيْهِمَا لِمُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ ، وَجَوَّزَ فِرْقَةٌ أُخْرَى مِنْهُمْ كَأَصْحَابِ النِّهَايَةِ ، وَالْكِفَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ الْحَمْلَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ : أَحَدِهِمَا آخِرُ أَحْوَالِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ انْقِلَابُ الْعَقْدِ إلَى الْجَوَازِ بَعْدَمَا وَقَعَ فَاسِدًا بِأَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ فَإِنْ أَطْلَقَ الرُّكُوبَ جَازَ لَهُ أَنْ يُرْكِبَ مَنْ شَاءَ لَوْ أَرْكَبَ مَنْ شَاءَ يَنْقَلِبُ الْعَقْدُ إلَى الْجَوَازِ بَعْدَمَا وَقَعَ فَاسِدًا .
وَثَانِيهِمَا الْوَجْهُ الثَّانِي كَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ .
إذَا عَرَفْتَ هَذَا فَأَقُولُ إنَّ تَعْلِيلَ الْمُصَنِّفِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : أَعْنِي قَوْلَهُ فَإِنْ أَطْلَقَ الرُّكُوبَ جَازَ لَهُ أَنْ يُرْكِبَ مَنْ شَاءَ بِقَوْلِهِ عَمَلًا بِالْإِطْلَاقِ يَقْتَضِي أَنْ يَحْمِلَهُ الْمُصَنِّفُ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فَقَطْ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَمَشَّى عِنْدَ الْحَمْلِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي لَا عِنْدَ الْحَمْلِ عَلَى آخِرِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ إذْ لَا شَكَّ أَنَّ عِلَّةَ انْقِلَابِ الْعَقْدِ إلَى الْجَوَازِ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ إنَّمَا هِيَ تَعْيِينُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بَقَاءً لَا إطْلَاقُهُ ، وَإِنَّمَا الْإِطْلَاقُ عِلَّةُ الْفَسَادِ ابْتِدَاءً .
وَعَنْ هَذَا فَسَّرَ صَاحِبُ الْكَافِي مَعْنَى الْإِطْلَاقِ هَاهُنَا بِالْوَجْهِ الثَّانِي ثُمَّ عَلَّلَ الْمَسْأَلَةَ بِمَا عَلَّلَ بِهِ الْمُصَنِّفُ حَيْثُ قَالَ : فَإِنْ أَطْلَقَ بِأَنْ قَالَ عَلَى أَنْ يُرْكِبَ أَوْ يُلْبِسَ مَنْ شَاءَ جَازَ لَهُ أَنْ يُرْكِبَ أَوْ يُلْبِسَ مَنْ شَاءَ عَمَلًا بِإِطْلَاقِ اللَّفْظِ انْتَهَى فَتَدَبَّرْ .
( قَوْلُهُ : وَإِنْ سَمَّى نَوْعًا وَقَدْرًا مَعْلُومًا يَحْمِلُهُ عَلَى الدَّابَّةِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ خَمْسَةُ أَقْفِزَةِ حِنْطَةٍ فَلَهُ أَنْ يَحْمِلَ مَا هُوَ مِثْلُ الْحِنْطَةِ فِي الضَّرَرِ أَوْ أَقَلُّ كَالشَّعِيرِ ، وَالسِّمْسِمِ ) كِلَاهُمَا مِثَالٌ لِمَا هُوَ أَقَلُّ فِي

الضَّرَرِ ، وَأَمَّا مِثَالُ مَا هُوَ مِثْلٌ فِي الضَّرَرِ فَكَمَا إذَا سَمَّى خَمْسَةَ أَقْفِزَةِ حِنْطَةٍ بِعَيْنِهَا فَحَمَلَ خَمْسَةَ أَقْفِزَةِ حِنْطَةٍ أُخْرَى ، وَإِنَّمَا تَرَكَ هَذَا فِي الْكِتَابِ ؛ لِظُهُورِهِ قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ كَالشَّعِيرِ ، وَالسِّمْسِمِ : هَذَا لَفٌّ وَنَشْرٌ ، فَإِنَّ الشَّعِيرَ يَنْصَرِفُ إلَى الْمِثْلِ ، وَالسِّمْسِمُ يَنْصَرِفُ إلَى الْأَقَلِّ إذَا كَانَ التَّقْدِيرُ فِيهَا مِنْ حَيْثُ الْكَيْلُ لَا مِنْ حَيْثُ الْوَزْنُ انْتَهَى .
وَتَبِعَهُ الشَّارِحُ الْكَاكِيُّ كَمَا هُوَ دَأَبُهُ فِي أَكْثَرِ الْأَحْوَالِ .
وَقَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ : قَالَ بَعْضُهُمْ : فِيهِ لَفٌّ وَنَشْرٌ يَرْجِعُ قَوْلُهُ : كَالشَّعِيرِ إلَى قَوْلِهِ مِثْلُ الْحِنْطَةِ ، وَيَرْجِعُ قَوْلُهُ : وَالسِّمْسِمِ إلَى قَوْلِهِ أَقَلُّ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ الشَّعِيرَ لَيْسَ مِثْلَ الْحِنْطَةِ بَلْ أَخَفَّ مِنْهَا ، وَلِهَذَا لَوْ شَرَطَ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا مِائَةَ رَطْلٍ مِنْ الشَّعِيرِ فَحَمَلَ عَلَيْهَا مِائَةَ رَطْلٍ مِنْ الْحِنْطَةِ ضَمِنَ إذَا عَطِبَتْ ، فَلَوْ كَانَ مِثْلًا لَهَا لَمْ يَضْمَنْ ، كَمَا لَوْ شَرَطَ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا حِنْطَةُ زَيْدٍ فَحَمَلَ عَلَيْهَا حِنْطَةَ عَمْرٍو بِذَلِكَ الْكَيْلِ ، بَلْ قَوْلُهُ : كَالشَّعِيرِ ، وَالسِّمْسِمِ جَمِيعًا نَظِيرُ قَوْلِهِ أَقَلُّ ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ أَنَّ فِي الْكَلَامِ لَفًّا وَنَشْرًا فَإِنَّ الشَّعِيرَ يَنْصَرِفُ إلَى الْمِثْلِ ، وَالسِّمْسِمُ يَنْصَرِفُ إلَى الْأَقَلِّ إذَا كَانَ التَّقْدِيرُ مِنْ حَيْثُ الْكَيْلُ ، وَلَيْسَ بِوَاضِحٍ فَإِنَّ السِّمْسِمَ أَيْضًا مِثْلٌ إذَا كَانَ التَّقْدِيرُ مِنْ حَيْثُ الْكَيْلُ .
انْتَهَى كَلَامُهُ .
أَقُولُ : فِيهِ خَبْطٌ وَاضِحٌ ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ التَّقْدِيرُ مِنْ حَيْثُ الْكَيْلُ فَإِنَّمَا يَكُونُ السِّمْسِمُ مِثْلَ الْحِنْطَةِ فِي الْكَيْلِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمِثْلِ ، وَالْأَقَلِّ هَاهُنَا مَا هُوَ مِثْلُ وَأَقَلُّ فِي الضَّرَرِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي نَفْسِ الْكِتَابِ ، وَإِنَّمَا تَكُونُ الْمِثْلِيَّةُ فِي

الضَّرَرِ بِالتَّسَاوِي فِي الْوَزْنِ ، وَالْأَقَلِّيَّةُ فِي الضَّرَرِ بِالْقِلَّةِ فِي الْوَزْنِ ، وَانْتِفَاءُ التَّسَاوِي فِي الْوَزْنِ بَيْنَ السِّمْسِمِ ، وَالْحِنْطَةِ إذَا كَانَ التَّقْدِيرُ مِنْ حَيْثُ الْكَيْلُ أَمْرٌ بَدِيهِيٌّ ، فَكَأَنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ تَوَهَّمَ مِنْ كَوْنِ التَّقْدِيرِ مِنْ حَيْثُ الْكَيْلُ كَوْنَ الْمِثْلِيَّةِ ، وَالْأَقَلِّيَّةِ أَيْضًا مِنْ حَيْثُ الْكَيْلُ وَهُوَ عَجِيبٌ مِنْ مِثْلِهِ .
نَعَمْ يَرُدُّ عَلَى مَا ذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ مَنْعُ كَوْنِ الشَّعِيرِ مِثْلَ الْحِنْطَةِ فِي الضَّرَرِ إذَا كَانَ التَّقْدِيرُ مِنْ حَيْثُ الْكَيْلُ كَمَا أَفْصَحَ عَنْهُ صَاحِبُ الْغَايَةِ .

قَالَ : ( وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَرْكَبَهَا فَأَرْدَفَ مَعَهُ رَجُلًا فَعَطِبَتْ ضَمِنَ نِصْفَ قِيمَتِهَا وَلَا مُعْتَبَرَ بِالثِّقَلِ ) ؛ لِأَنَّ الدَّابَّةَ قَدْ يَعْقِرُهَا جَهْلُ الرَّاكِبِ الْخَفِيفِ وَيَخِفُّ عَلَيْهَا رُكُوبُ الثَّقِيلِ لِعِلْمِهِ بِالْفُرُوسِيَّةِ ، وَلِأَنَّ الْآدَمِيَّ غَيْرُ مَوْزُونٍ فَلَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الْوَزْنِ فَاعْتُبِرَ عَدَدُ الرَّاكِبِ كَعَدَدِ الْجُنَاةِ فِي الْجِنَايَاتِ .

( قَوْلُهُ : وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا ؛ لِيَرْكَبَهَا فَأَرْدَفَ مَعَهُ رَجُلًا فَعَطِبَتْ ضَمِنَ نِصْفَ قِيمَتِهَا ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : قِيلَ وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِكَوْنِهِ رَجُلًا ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَرْدَفَ صَبِيًّا ضَمِنَ بِقَدْرِ ثِقَلِهِ إذَا كَانَ لَا يَسْتَمْسِكُ بِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْحَمْلِ انْتَهَى .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ : وَلِأَنَّ الْآدَمِيَّ غَيْرُ مَوْزُونٍ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ ، وَلَعَلَّ تَصْدِيرَ الْكَلَامِ بِصِيغَةِ التَّمْرِيضِ لِذَلِكَ .
انْتَهَى .
أَقُولُ : لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ الَّذِي لَا يَسْتَمْسِكُ بِنَفْسِهِ لَمَّا صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْحَمْلِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ غَيْرِ الْآدَمِيِّ فَلَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ قَوْلِهِ وَلِأَنَّ الْآدَمِيَّ غَيْرُ مَوْزُونٍ فَلَمْ يَكُنْ مَا قِيلَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ الدَّلِيلِ .
وَيُرْشِدُ إلَيْهِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ حَيْثُ قَالَ : ثُمَّ الْفِقْهُ فِي اعْتِبَارِ عَدَدِ الرَّاكِبِ فِي الْآدَمِيِّ لَا الثِّقَلِ هُوَ أَنَّ الْآدَمِيَّ مَخْصُوصٌ بِعِلْمِ الْفُرُوسِيَّةِ ، وَعَنْ هَذَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ : هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ الْجَوَابِ فِيمَا إذَا أَرْدَفَ مِثْلَهُ ، وَأَمَّا إذَا أَرْدَفَ صَبِيًّا يَضْمَنُ بِقَدْرِ ثِقَلِهِ ، لَكِنَّ هَذَا فِي الصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَسْتَمْسِكُ بِنَفْسِهِ ، وَكَانَ مِثْلُهُ بِمَنْزِلَةِ الْحَمْلِ كَذَا فِي التَّتِمَّةِ ، إلَى هُنَا لَفْظُ النِّهَايَةِ تَأَمَّلْ تَرْشُدْ .
ثُمَّ إنَّهُ لَا مَجَالَ لِلْقَصْدِ إلَى تَضْعِيفِ ذَلِكَ الْقَوْلِ ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا تَقَرَّرَ فِي عَامَّةِ مُعْتَبَرَاتِ الْفَتَاوَى ، وَنَاهِيكَ بِقَوْلِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيِّ ذَلِكَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ : وَمِنْ الْعَجَائِبِ هَاهُنَا أَنَّهُ لَمَّا قَالَ صَاحِبُ الْكَافِي : وَلِأَنَّ الْآدَمِيَّ لَا يُوزَنُ بِالْقَبَّانِ بَدَلَ قَوْلِ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ وَلِأَنَّ الْآدَمِيَّ غَيْرُ مَوْزُونٍ نَقَلَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ وَقَالَ فِيهِ نَظَرٌ ، وَقَدْ شَاهَدْنَا كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ وَزَنُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْقَبَّانِ ؛ لِيَعْرِفُوا وَزْنَهَا ، وَلَكِنْ

لَا يَنْضَبِطُ هَذَا عَلَى مَا لَا يَخْفَى انْتَهَى فَكَأَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ مُرَادَ صَاحِبِ الْكَافِي أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُوزَنَ الْآدَمِيُّ بِالْقَبَّانِ أَصْلًا وَهَلْ يُوجَدُ فِي الْعَالَمِ مِنْ الْمُمْكِنَاتِ الْقَائِمَةِ بِذَاتِهَا شَيْءٌ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُوزَنَ أَصْلًا إلَّا أَنْ يَكُونَ مُجَرَّدًا أَوْ جِسْمًا لَطِيفًا

قَالَ : ( وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا مِقْدَارًا مِنْ الْحِنْطَةِ فَحَمَلَ عَلَيْهَا أَكْثَرَ مِنْهُ فَعَطِبَتْ ضَمِنَ مَا زَادَ الثِّقَلُ ) ؛ لِأَنَّهَا عَطِبَتْ بِمَا هُوَ مَأْذُونٌ فِيهِ وَمَا هُوَ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ وَالسَّبَبُ الثِّقَلُ فَانْقَسَمَ عَلَيْهِمَا ( إلَّا إذَا كَانَ حَمْلًا لَا يُطِيقُهُ مِثْلُ تِلْكَ الدَّابَّةِ فَحِينَئِذٍ يَضْمَنُ كُلَّ قِيمَتِهَا ) لِعَدَمِ الْإِذْنِ فِيهَا أَصْلًا لِخُرُوجِهِ عَنْ الْعَادَةِ .

قَالَ : ( وَإِنْ كَبَحَ الدَّابَّةَ بِلِجَامِهَا أَوْ ضَرَبَهَا فَعَطِبَتْ ضَمِنَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَا : لَا يَضْمَنُ إذَا فَعَلَ فِعْلًا مُتَعَارَفًا ) ؛ لِأَنَّ الْمُتَعَارَفَ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ مُطْلَقِ الْعَقْدِ فَكَانَ حَاصِلًا بِإِذْنِهِ فَلَا يَضْمَنُهُ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْإِذْنَ مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ إذْ يَتَحَقَّقُ السَّوْقُ بِدُونِهِ ، وَإِنَّمَا هُمَا لِلْمُبَالَغَةِ فَيَتَقَيَّدُ بِوَصْفِ السَّلَامَةِ كَالْمُرُورِ فِي الطَّرِيقِ .

( قَوْلُهُ : وَقَالَا : لَا يَضْمَنُ إذَا فَعَلَ فِعْلًا مُتَعَارَفًا ؛ لِأَنَّ الْمُتَعَارَفَ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ مُطْلَقِ الْعَقْدِ إلَخْ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَفِي عِبَارَتِهِ تَسَامُحٌ ؛ لِأَنَّ الْمُتَعَارَفَ مُرَادٌ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ لَا دَاخِلٌ تَحْتَهُ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ اللَّامَ فِي الْمُتَعَارَفِ لِلْعَهْدِ : أَيْ الْكَبْحَ الْمُتَعَارَفَ أَوْ الضَّرْبَ الْمُتَعَارَفَ ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ دَاخِلًا لَا مُرَادًا ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الْمُطْلَقَ يَتَنَاوَلُهُ وَغَيْرَهُ .
ا هـ كَلَامُهُ .
وَتَصَرَّفَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ فِي كُلٍّ مِنْ جَانِبَيْ السُّؤَالِ ، وَالْجَوَابِ .
أَمَّا فِي الْأَوَّلِ فَبِأَنْ قَالَ : وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ بِالدُّخُولِ عَدَمُ الْخُرُوجِ ، وَأَمَّا فِي الثَّانِي فَبِأَنْ قَالَ : وَلَعَلَّ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ أَيْ الْفِعْلَ الْمُتَعَارَفَ .
ا هـ .
أَقُولُ كُلٌّ مِنْ تَصَرُّفَيْهِ سَاقِطٌ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ كَوْنَ الْمُرَادِ بِالدُّخُولِ عَدَمَ الْخُرُوجِ لَا يَدْفَعُ التَّسَامُحَ فِي الْعِبَارَةِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى خِلَافُ الظَّاهِرِ مِنْ لَفْظِ الدُّخُولِ جِدًّا ، فَإِرَادَةُ ذَلِكَ مِنْهُ عَيْنُ التَّسَامُحِ فِي الْعِبَارَةِ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ لَوْ قَالَ فِي تَفْسِيرِ الْمَعْهُودِ : أَيْ الْفِعْلِ الْمُتَعَارَفِ لَمْ يَتِمَّ الْجَوَابُ ، إذْ الْفِعْلُ الْمُتَعَارَفُ مُطْلَقًا مُرَادٌ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ لَا دَاخِلٌ تَحْتَهُ ، وَإِنَّمَا الدَّاخِلُ تَحْتَهُ الْفِعْلُ الْمُتَعَارَفُ الْمَخْصُوصُ وَهُوَ هَاهُنَا الْكَبْحُ الْمُتَعَارَفُ أَوْ الضَّرْبُ الْمُتَعَارَفُ ، وَإِنْ أَرَادَ بِالْفِعْلِ الْمُتَعَارَفِ فِي التَّفْسِيرِ الْكَبْحَ الْمُتَعَارَفَ أَوْ الضَّرْبَ الْمُتَعَارَفَ دُونَ الْفِعْلِ الْمُتَعَارَفِ مُطْلَقًا احْتَاجَ إلَى تَفْسِيرٍ آخَرَ فِي تَبْيِينِ الْمُرَادِ ، فَالْأَوْلَى مَا فِي الْعِنَايَةِ كَمَا لَا يَخْفَى .

قَالَ : ( وَإِنَّ اسْتَأْجَرَهَا إلَى الْحِيرَةِ فَجَاوَزَ بِهَا إلَى الْقَادِسِيَّةِ ثُمَّ رَدَّهَا إلَى الْحِيرَةِ ثُمَّ نَفَقَتْ فَهُوَ ضَامِنٌ ، وَكَذَلِكَ الْعَارِيَّةُ ) وَقِيلَ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إذَا اسْتَأْجَرَهَا ذَاهِبًا لَا جَائِيًا ؛ لِيَنْتَهِيَ الْعَقْدُ بِالْوُصُولِ إلَى الْحِيرَةِ فَلَا يَصِيرُ بِالْعَوْدِ مَرْدُودًا إلَى يَدِ الْمَالِكِ مَعْنًى .
وَأَمَّا إذَا اسْتَأْجَرَهَا ذَاهِبًا وَجَائِيًا فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمُودَعِ إذَا خَالَفَ ثُمَّ عَادَ إلَى الْوِفَاقِ .
وَقِيلَ لَا ، بَلْ الْجَوَابُ مُجْرًى عَلَى الْإِطْلَاقِ .
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمُودَعَ بِأُمُورٍ بِالْحِفْظِ مَقْصُودًا فَبَقِيَ الْأَمْرُ بِالْحِفْظِ بَعْدَ الْعَوْدِ إلَى الْوِفَاقِ فَحَصَلَ الرَّدُّ إلَى يَدِ نَائِبِ الْمَالِكِ ، وَفِي الْإِجَارَةِ وَالْعَارِيَّةِ يَصِيرُ الْحِفْظُ مَأْمُورًا بِهِ تَبَعًا لِلِاسْتِعْمَالِ لَا مَقْصُودًا ، فَإِذَا انْقَطَعَ الِاسْتِعْمَالُ لَمْ يَبْقَ هُوَ نَائِبًا فَلَا يَبْرَأُ بِالْعَوْدِ وَهَذَا أَصَحُّ .
قَالَ : ( وَمَنْ اكْتَرَى حِمَارًا بِسَرْجٍ فَنَزَعَ السَّرْجَ وَأَسْرَجَهُ بِسَرْجٍ تُسْرَجُ بِمِثْلِهِ الْحُمُرُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ) ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ يُمَاثِلُ الْأَوَّلَ تَنَاوَلَهُ إذْنُ الْمَالِكِ ، إذْ لَا فَائِدَةَ فِي التَّقْيِيدِ بِغَيْرِهِ إلَّا إذَا كَانَ زَائِدًا عَلَيْهِ فِي الْوَزْنِ فَحِينَئِذٍ يَضْمَنُ الزِّيَادَةَ ( وَإِنْ كَانَ لَا تُسْرَجُ بِمِثْلِهِ الْحُمُرُ ضَمِنَ ) ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْإِذْنُ مِنْ جِهَتِهِ فَصَارَ مُخَالِفًا ( وَإِنْ أَوْكَفَهُ بِإِكَافٍ لَا يُوكَفُ بِمِثْلِهِ الْحُمُرُ يَضْمَنُ ) لِمَا قُلْنَا فِي السَّرْجِ ، وَهَذَا أَوْلَى ( وَإِنْ أَوْكَفَهُ بِإِكَافٍ يُوكَفُ بِمِثْلِهِ الْحُمُرُ يَضْمَنُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : يَضْمَنُ بِحِسَابِهِ ) ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ يُوكَفُ بِمِثْلِهِ الْحُمُرُ كَانَ هُوَ وَالسَّرْجُ سَوَاءٌ فَيَكُونُ الْمَالِكُ رَاضِيًا بِهِ ، إلَّا إذَا كَانَ زَائِدًا عَلَى السَّرْجِ فِي الْوَزْنِ فَيَضْمَنُ الزِّيَادَةَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِالزِّيَادَةِ فَصَارَ كَالزِّيَادَةِ فِي الْحَمْلِ الْمُسَمَّى إذَا كَانَ مِنْ جِنْسِهِ .

وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْإِكَافَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ السَّرْجِ ؛ لِأَنَّهُ لِلْحَمْلِ ، وَالسَّرْجُ لِلرُّكُوبِ ، وَكَذَا يَنْبَسِطُ أَحَدُهُمَا عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ مَا لَا يَنْبَسِطُ عَلَيْهِ الْآخَرُ فَكَانَ مُخَالِفًا كَمَا إذَا حَمَلَ الْحَدِيدَ وَقَدْ شَرَطَ لَهُ الْحِنْطَةَ .

( قَوْلُهُ : وَفِي الْإِجَارَةِ ، وَالْإِعَارَةِ يَصِيرُ الْحِفْظُ مَأْمُورًا بِهِ تَبَعًا لِلِاسْتِعْمَالِ لَا مَقْصُودًا فَإِذَا انْقَطَعَ الِاسْتِعْمَالُ لَمْ يَبْقَ هُوَ نَائِبًا فَلَا يَبْرَأُ بِالْعَوْدِ ) فَإِنَّهُ لَمَّا جَاوَزَ الْحِيرَةَ صَارَ غَاصِبًا لِلدَّابَّةِ وَدَخَلَتْ الدَّابَّةُ فِي ضَمَانِهِ ، وَالْغَاصِبُ لَا يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ إلَّا بِالرَّدِّ عَلَى الْمَالِكِ أَوْ عَلَى مَنْ هُوَ مَأْمُورٌ بِالْحِفْظِ مِنْ جِهَةِ الْمَالِكِ ، وَلَمْ يُوجَدْ ، كَذَا فِي الْكَافِي وَعَامَّةِ الشُّرُوحِ .
وَنُوقِضَ بِغَاصِبِ الْغَاصِبِ إذَا رَدَّ الْمَغْصُوبَ عَلَى الْغَاصِبِ فَإِنَّهُ يَبْرَأُ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ الرَّدُّ عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ .
وَأُجِيبَ عَنْهُ فِي النِّهَايَةِ وَكَثِيرٍ مِنْ الشُّرُوحِ بِأَنَّا نَزِيدُ فِي الْمَأْخَذِ فَنَقُولُ : إنَّمَا يَبْرَأُ بِالرَّدِّ إلَى أَحَدِ هَذَيْنِ أَوْ إلَى مَنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ سَبَبُ ضَمَانٍ يَرْتَفِعُ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ مِنْ قَبْلُ ، وَالْغَاصِبُ الْأَوَّلُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ سَبَبُ ضَمَانٍ يَرْتَفِعُ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ ، وَعَزَاهُ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ إلَى الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ .
وَقَالَ فِي الْعِنَايَةِ : وَالْجَوَابُ أَنَّ الرَّدَّ عَلَى أَحَدِهِمَا يُوجِبُ الْبَرَاءَةَ أَلْبَتَّةَ ، وَلَيْسَ كُلُّ مَا يُوجِبُ الْبَرَاءَةَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الرَّدُّ عَلَى أَحَدِهِمَا لِجَوَازِ أَنْ تَحْصُلَ الْبَرَاءَةُ بِسَبَبٍ آخَرَ .
وَالسَّبَبُ فِي غَاصِبِ الْغَاصِبِ هُوَ الرَّدُّ إلَى مَنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ سَبَبُ ضَمَانٍ يَرْتَفِعُ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ مِنْ قَبْلُ ا هـ .
أَقُولُ : يَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّ قَوْلَهُ وَلَيْسَ كُلُّ مَا يُوجِبُ الْبَرَاءَةَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الرَّدُّ عَلَى أَحَدِهِمَا ؛ لِجَوَازِ أَنْ تَحْصُلَ الْبَرَاءَةُ بِسَبَبٍ آخَرَ مِمَّا يُنَافِيهِ الْحَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِمْ ، وَالْغَاصِبُ لَا يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ إلَّا بِالرَّدِّ عَلَى الْمَالِكِ أَوْ عَلَى مَنْ هُوَ مَأْمُورٌ بِالْحِفْظِ مِنْ جِهَةِ الْمَالِكِ ، وَمَوْرِدُ النَّقْضِ لَيْسَ إلَّا الْحَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ تِلْكَ الْمُقَدِّمَةِ ، اللَّهُمَّ

إلَّا أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ الْحَصْرُ عَلَى الْقَصْرِ الْإِضَافِيِّ دُونَ الْحَقِيقِيِّ ، فَالْمَعْنَى أَنَّ الْغَاصِبَ لَا يَبْرَأُ إلَّا بِالرَّدِّ عَلَى أَحَدِهِمَا لَا بِالْعَوْدِ ، فَلَا يُنَافِيهِ جَوَازُ أَنْ تَحْصُلَ الْبَرَاءَةُ بِسَبَبٍ آخَرَ ، وَقَصَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ أَنْ يُجِيبَ عَمَّا يَرِدُ عَلَى مَا فِي الْعِنَايَةِ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ : لَا يُقَالُ كَيْفَ يَسْتَقِيمُ الْحَصْرُ الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ وَلَا يَبْرَأُ إلَّا بِالرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ أَوْ نَائِبِهِ لِظُهُورِ صِحَّتِهِ بِالنَّظَرِ إلَى مَا نَحْنُ فِيهِ .
نَعَمْ قَدْ يَكُونُ الْمُسْتَأْجِرُ الَّذِي فَعَلَ مَا فَعَلَ مُسْتَأْجِرًا مِنْ غَاصِبِ الدَّابَّةِ فَتَدَبَّرْ .
ا هـ كَلَامُهُ .
أَقُولُ : لَيْسَ ذَاكَ بِمُسْتَقِيمٍ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ ، وَالْغَاصِبُ لَا يَبْرَأُ إلَّا بِالرَّدِّ عَلَى الْمَالِكِ أَوْ نَائِبِهِ فِي حَيِّزِ الْكُبْرَى مِنْ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ بِأَنْ يُقَالَ : الْمُسْتَأْجِرُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ غَاصِبٌ بِمُجَاوَزَةِ الْحِيرَةِ ، وَكُلُّ غَاصِبٍ لَا يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ إلَّا بِالرَّدِّ عَلَى الْمَالِكِ أَوْ نَائِبِهِ فَهُوَ لَا يَبْرَأُ عَنْهُ إلَّا بِأَحَدِهِمَا ، وَلَمْ يُوجَدْ هُنَا شَيْءٌ مِنْهُمَا ، فَظُهُورُ صِحَّةِ الْحَصْرِ بِالنَّظَرِ إلَى مَا نَحْنُ فِيهِ لَا يُفِيدُ صِحَّتَهُ بِالنَّظَرِ إلَى كُلِّيَّةِ الْكُبْرَى ، وَالْكَلَامِ فِيهَا ، وَلَوْ كَانَ مُرَادُ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ بِقَوْلِهِ وَلَا يَبْرَأُ إلَّا بِالرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ أَوْ نَائِبِهِ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَا يَبْرَأُ إلَّا بِالرَّدِّ عَلَى أَحَدِهِمَا ؛ لِأَنَّ الْغَاصِبَ مُطْلَقًا لَا يَبْرَأُ إلَّا بِالرَّدِّ عَلَى أَحَدِهِمَا لَمَا كَانَ لِلنَّقْضِ بِغَاصِبِ الْغَاصِبِ إذَا رَدَّ الْمَغْصُوبَ عَلَى الْغَاصِبِ مِسَاسٌ بِكَلَامِهِ فَلَا يَكُونُ لِذِكْرِهِ وَجَوَابِهِ عَنْهُ وَجْهٌ .
فَإِنْ قِيلَ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ حِينَئِذٍ بِغَاصِبِ الْغَاصِبِ فِي النَّقْضِ هُوَ الْمُسْتَأْجِرُ الَّذِي اسْتَأْجَرَ مِنْ غَاصِبِ الدَّابَّةِ وَفَعَلَ مَا فَعَلَ الْغَاصِبُ لَا غَاصِبَ الْغَاصِبِ مُطْلَقًا فَيَكُونُ لِلنَّقْضِ الْمَزْبُورِ

مِسَاسٌ بِكَلَامِهِ أَيْضًا .
قُلْنَا : فَلَا يَصِحُّ الْحَصْرُ الْمَزْبُورُ إذْ ذَاكَ بِالنَّظَرِ إلَى مَا نَحْنُ فِيهِ أَيْضًا فَلَا يَتِمُّ الْمَطْلُوبُ .
فَالْمُخَلِّصُ فِي الْجُمْلَةِ لِتَصْحِيحِ مَا فِي الْعِنَايَةِ إنَّمَا هُوَ حَمْلُ الْحَصْرِ عَلَى الْقَصْرِ الْإِضَافِيِّ كَمَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ .
قَالَ فِي النِّهَايَةِ : فَإِنْ قُلْتَ : إلْحَاقُ الْإِجَارَةِ بِالْعَارِيَّةِ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ لِمَا أَنَّ يَدَ الْمُسْتَأْجِرِ كَيَدِ الْمَالِكِ حَتَّى يَرْجِعَ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الضَّمَانِ عَلَى الْمَالِكِ كَالْمُودِعِ بِخِلَافِ الْمُسْتَعِيرِ ، وَكَذَلِكَ مُؤْنَةُ الرَّدِّ عَلَى الْمَالِكِ فِي الْإِجَارَةِ كَمَا فِي الْوَدِيعَةِ بِخِلَافِ الْإِعَارَةِ .
قُلْتُ : هَذَا هُوَ الَّذِي تَشَبَّثَ بِهِ عِيسَى بْنُ أَبَانَ فِي الطَّعْنِ فِي جَوَابِ الْكِتَابِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : رُجُوعُهُ بِالضَّمَانِ لِلْغُرُورِ الْمُتَمَكِّنِ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ ، وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ يَدَهُ لَيْسَ كَيَدِ نَفْسِهِ كَالْمُشْتَرِي يَرْجِعُ بِضَمَانِ الْغُرُورِ ، وَكَذَلِكَ مُؤْنَةُ الرَّدِّ عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا مِنْ الْمَنْفَعَةِ لَهُ فِي النَّقْلِ ، فَأَمَّا يَدُ الْمُسْتَأْجِرِ يَدُ نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُنْتَفِعُ فِي اسْتِمْسَاكِ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ ، إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي اسْتِمْسَاكِ الْعَيْنِ نَفْعٌ لَمَا اخْتَارَ اسْتِمْسَاكَ الْعَيْنِ عَلَى مَا لَهُ مِنْ الْأُجْرَةِ .
ا هـ .
وَعَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ ذَكَرَ طَعْنَ عِيسَى بْنِ أَبَانَ ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الشُّرُوحِ ، وَعَزَاهُ فِي الْكِفَايَةِ إلَى الْمَبْسُوطِ .
وَقَالَ فِي الْعِنَايَةِ : قِيلَ إلْحَاقُ الْإِعَارَةِ بِالْإِجَارَةِ بِقَوْلِهِ وَكَذَلِكَ الْعَارِيَّةُ وَعَكْسُهُ لَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ لِثُبُوتِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا ، فَإِنَّ يَدَ الْمُسْتَأْجِرِ كَيَدِ الْمَالِكِ حَيْثُ يَرْجِعُ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الضَّمَانِ عَلَى الْمَالِكِ كَالْمُودِعِ ، وَمُؤْنَةُ الرَّدِّ عَلَى الْمَالِكِ كَمَا فِي الْوَدِيعَةِ بِخِلَافِ الْإِعَارَةِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الِاتِّحَادَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ

يَرْفَعُ التَّعَدُّدَ فَلَا بُدَّ مِنْ تَفْرِقَةٍ ؛ لِيَتَحَقَّقَ الْإِلْحَاقُ ، وَالِاتِّحَادُ فِي الْمَنَاطِ كَافٍ لِلْإِلْحَاقِ وَهُوَ مَوْجُودٌ ، فَإِنَّ الْمَنَاطَ هُوَ التَّجَاوُزُ عَنْ الْمُسَمَّى مُتَعَدِّيًا ثُمَّ الرُّجُوعُ إلَيْهِ فِيمَا لَمْ يَكُنْ الْحِفْظُ فِيهِ مَقْصُودًا وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِيهِمَا لَا مَحَالَةَ .
ا هـ .
أَقُولُ : هَذَا الْجَوَابُ لَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ ؛ لِأَنَّ الِاتِّحَادَ فِي الْمَنَاطِ الْمَزْبُورِ غَيْرُ كَافٍ لِلْإِلْحَاقِ عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِ التَّفْرِقَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الطَّعْنِ ، بَلْ لَا يَكُونُ ذَلِكَ مَنَاطًا لِلْإِلْحَاقِ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ ، فَإِنَّ يَدَ الْمُسْتَأْجِرِ إنْ كَانَ كَيَدِ الْمَالِكِ كَانَ تَعَدِّي الْمُسْتَأْجِرِ بِالتَّجَاوُزِ عَنْ الْمُسَمَّى فِي حُكْمِ تَعَدِّي الْمَالِكِ فِي مَالِ نَفْسِهِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَضْمَنَ الْمُسْتَأْجِرُ شَيْئًا بِخِلَافِ الْمُسْتَعِيرِ فَلَا يَتِمُّ إلْحَاقُ وَاحِدَةٍ مِنْ الْإِجَارَةِ ، وَالْعَارِيَّةِ بِالْأُخْرَى .
فَالصَّوَابُ فِي الْجَوَابِ مَنْعُ ثُبُوتِ التَّفْرِقَةِ الْمَذْكُورَةِ بِمَنْعِ دَلَالَةِ مَا ذَكَرَ فِي الطَّعْنِ عَلَى كَوْنِ يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ كَيَدِ الْمَالِكِ كَمَا هُوَ حَاصِلُ مَا ذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ وَسَائِرِ الشُّرُوحِ عَلَى مَا نَقَلْنَاهُ آنِفًا ( قَوْلُهُ : كَمَا إذَا حَمَلَ الْحَدِيدَ وَقَدْ شَرَطَ لَهُ الْحِنْطَةَ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : فِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّهُ عَكْسُ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الْمِثَالِ إلَّا إذَا جَعَلَ ذَلِكَ مِثَالًا لِلْمُخَالَفَةِ فَقَطْ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى الِانْبِسَاطِ وَعَدَمِهِ .
ا هـ .
وَقَالَ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ بَعْدَ نَقْلِ مَا قَالَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : قُلْتُ : لَيْسَ فِيهِ عَكْسٌ ؛ لِأَنَّ الْحَدِيدَ قَدْرُ وَزْنِ الْحِنْطَةِ الْمَشْرُوطَةِ لَا يَأْخُذُ مِنْ ظَهْرِ الدَّابَّةِ قَدْرَ مَا تَأْخُذُهُ الْحِنْطَةُ وَهَذَا ظَاهِرٌ .
ا هـ .
أَقُولُ : بَلْ فَسَادُ كَلَامِهِ ظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ تَعْلِيلَهُ يُنَافِي مَا ادَّعَاهُ ، فَإِنَّ الْحَدِيدَ الَّذِي هُوَ قَدْرُ وَزْنِ الْحِنْطَةِ الْمَشْرُوطَةِ إذَا لَمْ يَأْخُذْ مِنْ ظَهْرِ الدَّابَّةِ قَدْرَ مَا تَأْخُذُهُ الْحِنْطَةُ

الْمَشْرُوطَةُ تَعَيَّنَ الْعَكْسُ حَيْثُ كَانَ مَا حَمَلَهُ الْمُسْتَأْجِرُ عَلَى الدَّابَّةِ وَهُوَ الْحَدِيدَ أَقَلَّ انْبِسَاطًا عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ مِمَّا شَرَطَهُ لَهُ فِي الْعَقْدِ وَهُوَ الْحِنْطَةُ ، وَقَدْ كَانَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مَا وَضَعَهُ الْمُكْتَرِي عَلَى الْحِمَارِ ، وَهُوَ الْإِكَافُ أَكْثَرُ انْبِسَاطًا مِمَّا عَيَّنَ لَهُ فِي الْعَقْدِ وَهُوَ السَّرْجُ ، وَهُوَ عَكْسُ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ .

قَالَ : ( وَإِنْ اسْتَأْجَرَ حَمَّالًا لِيَحْمِلَ لَهُ طَعَامًا فِي طَرِيقِ كَذَا فَأَخَذَ فِي طَرِيقٍ غَيْرِهِ يَسْلُكُهُ النَّاسُ فَهَلَكَ الْمَتَاعُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ بَلَغَ فَلَهُ الْأَجْرُ ) وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الطَّرِيقَيْنِ تَفَاوُتٌ ؛ لِأَنَّ عِنْدَ ذَلِكَ التَّقْيِيدَ غَيْرُ مُفِيدٍ ، أَمَّا إذَا كَانَ تَفَاوُتٌ يَضْمَنُ لِصِحَّةِ التَّقْيِيدِ فَإِنَّ التَّقْيِيدَ مُفِيدٌ إلَّا أَنَّ الظَّاهِرَ عَدَمُ التَّفَاوُتِ إذَا كَانَ طَرِيقًا يَسْلُكُهُ النَّاسُ فَلَمْ يُفَصِّلْ ( وَإِنْ كَانَ طَرِيقًا لَا يَسْلُكُهُ النَّاسُ فَهَلَكَ ضَمِنَ ) ؛ لِأَنَّهُ صَحَّ التَّقْيِيدُ فَصَارَ مُخَالِفًا ( وَإِنْ بَلَغَ فَلَهُ الْأَجْرُ ) ؛ لِأَنَّهُ ارْتَفَعَ الْخِلَافُ مَعْنًى ، وَإِنْ بَقِيَ صُورَةً .
قَالَ : ( وَإِنْ حَمَلَهُ فِي الْبَحْرِ فِيمَا يَحْمِلُهُ النَّاسُ فِي الْبَرِّ ضَمِنَ ) لِفُحْشِ التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ( وَإِنْ بَلَغَ فَلَهُ الْأَجْرُ ) لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَارْتِفَاعِ الْخِلَافِ مَعْنًى .

قَالَ : ( وَمَنْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا ؛ لِيَزْرَعَهَا حِنْطَةً فَزَرَعَهَا رُطَبَةً ضَمِنَ مَا نَقَصَهَا ) لِأَنَّ الرِّطَابَ أَضَرُّ بِالْأَرْضِ مِنْ الْحِنْطَةِ لِانْتِشَارِ عُرُوقِهَا فِيهَا وَكَثْرَةِ الْحَاجَةِ إلَى سَقْيِهَا فَكَانَ خِلَافًا إلَى شَرٍّ فَيَضْمَنُ مَا نَقَصَهَا ( وَلَا أَجْرَ لَهُ ) ؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ لِلْأَرْضِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ .

قَالَ : ( وَمَنْ دَفَعَ إلَى خَيَّاطٍ ثَوْبًا لِيَخِيطَهُ قَمِيصًا بِدِرْهَمٍ فَخَاطَهُ قَبَاءً ، فَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ الثَّوْبِ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْقَبَاءَ وَأَعْطَاهُ أَجْرَ مِثْلِهِ لَا يُجَاوَزُ بِهِ دِرْهَمًا ) قِيلَ : مَعْنَاهُ الْقَرْطَفُ الَّذِي هُوَ ذُو طَاقٍ وَاحِدٍ ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ الْقَمِيصِ ، وَقِيلَ هُوَ مُجْرًى عَلَى إطْلَاقِهِ ؛ لِأَنَّهُمَا يَتَقَارَبَانِ فِي الْمَنْفَعَةِ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُضَمِّنُهُ مِنْ غَيْرِ خِيَارٍ ؛ لِأَنَّ الْقَبَاءَ خِلَافُ جِنْسِ الْقَمِيصِ .
وَوَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّهُ قَمِيصٌ مِنْ وَجْهٍ ؛ لِأَنَّهُ يُشَدُّ وَسَطُهُ ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ مُخَالِفًا ؛ لِأَنَّ الْقَمِيصَ لَا يُشَدُّ وَيُنْتَفَعُ بِهِ انْتِفَاعُ الْقَمِيصِ فَجَاءَتْ الْمُوَافَقَةُ وَالْمُخَالَفَةُ فَيَمِيلُ إلَى أَيِّ الْجِهَتَيْنِ شَاءَ ، إلَّا أَنَّهُ يَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ لِقُصُورِ جِهَةِ الْمُوَافَقَةِ ، وَلَا يُجَاوِزُ بِهِ الدِّرْهَمَ الْمُسَمَّى كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي سَائِرِ الْإِجَارَاتِ الْفَاسِدَةِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي بَابِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَلَوْ خَاطَهُ سَرَاوِيلَ وَقَدْ أَمَرَ بِالْقَبَاءِ قِيلَ يَضْمَنُ مِنْ غَيْرِ خِيَارٍ لِلتَّفَاوُتِ فِي الْمَنْفَعَةِ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُخَيَّرُ لِلِاتِّحَادِ فِي أَصْلِ الْمَنْفَعَةِ ، وَصَارَ كَمَا إذَا أُمِرَ بِضَرْبِ طَسْتٍ مِنْ شَبَّةٍ فَضَرَبَ مِنْهُ كُوزًا ، فَإِنَّهُ يُخَيَّرُ كَذَا هَذَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ قَالَ : ( الْإِجَارَةُ تُفْسِدُهَا الشُّرُوطُ كَمَا تُفْسِدُ الْبَيْعَ ) ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَتِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ عَقْدٌ يُقَالُ وَيُفْسَخُ ( وَالْوَاجِبُ فِي الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ أَجْرُ الْمِثْلِ لَا يُجَاوَزُ بِهِ الْمُسَمَّى ) وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ : يَجِبُ بَالِغًا مَا بَلَغَ اعْتِبَارًا بِبَيْعِ الْأَعْيَانِ .
وَلَنَا أَنَّ الْمَنَافِعَ لَا تَتَقَوَّمُ بِنَفْسِهَا بَلْ بِالْعَقْدِ لِحَاجَةِ النَّاسِ فَيُكْتَفَى بِالضَّرُورَةِ فِي الصَّحِيحِ مِنْهَا ، إلَّا أَنَّ الْفَاسِدَ تَبَعٌ لَهُ ، وَيُعْتَبَرُ مَا يُجْعَلُ بَدَلًا فِي الصَّحِيحِ عَادَةً ، لَكِنَّهُمَا إذَا اتَّفَقَا عَلَى مِقْدَارٍ فِي الْفَاسِدِ فَقَدْ أَسْقَطَا الزِّيَادَةَ ، وَإِذَا نَقَصَ أَجْرُ الْمِثْلِ لَمْ يَجِبْ زِيَادَةُ الْمُسَمَّى لِفَسَادِ التَّسْمِيَةِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ مُتَقَوِّمَةٌ فِي نَفْسِهَا وَهِيَ الْمُوجِبُ الْأَصْلِيُّ ، فَإِنْ صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ انْتَقَلَ عَنْهُ وَإِلَّا فَلَا .

( بَابُ الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ ) .
تَأْخِيرُ الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ عَنْ صَحِيحِهَا لَا يَحْتَاجُ إلَى مَعْذِرَةٍ ؛ لِوُقُوعِهَا فِي مَحَلِّهَا كَمَا لَا يَخْفَى ( قَوْلُهُ : وَالْوَاجِبُ فِي الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ أَجْرُ الْمِثْلِ لَا يُجَاوَزُ بِهِ الْمُسَمَّى ) قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ : أَيْ الْوَاجِبُ فِيهَا هُوَ الْأَقَلُّ مِنْ أَجْرِ الْمِثْلِ ، وَمِنْ الْمُسَمَّى ، وَقَالُوا : هَذَا الْحُكْمُ إذَا كَانَ فَسَادُ الْإِجَارَةِ بِسَبَبِ شَرْطٍ فَاسِدٍ لَا بِاعْتِبَارِ جَهَالَةِ الْمُسَمَّى وَلَا بِاعْتِبَارِ عَدَمِ التَّسْمِيَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بِاعْتِبَارٍ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَجِبُ الْأَجْرُ بَالِغًا مَا بَلَغَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الذَّخِيرَةِ وَالْمُغْنِي وَفَتَاوَى قَاضِي خَانٍ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَالْوَاجِبُ فِي الْإِجَارَةِ الَّتِي فَسَدَتْ بِالشُّرُوطِ الْأَقَلُّ مِنْ أَجْرِ الْمِثْلُ وَالْمُسَمَّى ، وَقَالَ : إنَّمَا جُعِلَتْ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ فِي الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ لِلْعَهْدِ كَمَا رَأَيْت بِسِيَاقِ الْكَلَامِ وَدَفْعًا لِمَا قِيلَ الْأَقَلُّ مِنْ الْأَجْرِ ، وَمِنْ الْمُسَمَّى إنَّمَا يَجِبُ إذَا فَسَدَتْ بِشَرْطٍ ، أَمَّا إذَا فَسَدَتْ لِجَهَالَةِ الْمُسَمَّى أَوْ لِعَدَمِ التَّسْمِيَةِ وَجَبَ أَجْرُ الْمِثْلِ بَالِغًا مَا بَلَغَ ، نَقَلَهُ فِي النِّهَايَةِ عَنْ الذَّخِيرَةِ وَالْمُغْنِي وَفَتَاوَى قَاضِي خَانٍ .
ا هـ كَلَامُهُ .
أَقُولُ : فِيهِ شَيْءٌ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ وَالْوَاجِبُ فِي الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ أَجْرُ الْمِثْلِ إلَخْ لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ ، وَلَا دَلَالَةَ لِسِيَاقِ كَلَامِهِ عَلَى كَوْنِ اللَّامِ فِي قَوْلِهِ الْمَذْكُورِ لِلْعَهْدِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ الْإِجَارَةُ تَفْسُدُ بِالشُّرُوطِ كَمَا يَفْسُدُ الْبَيْعُ لَمْ يُذْكَرْ فِي مُخْتَصَرِهِ قُبَيْلَ قَوْلِهِ الْمَذْكُورِ ، بَلْ ذُكِرَ قَبْلَ مِقْدَارِ الْوَرَقَتَيْنِ ، وَوَقَعَ بَيْنَهُمَا مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ مِنْ مَسَائِلِ الْإِجَارَةِ الصَّحِيحَةِ وَالْفَاسِدَةِ بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ بَيْنَهُمَا ارْتِبَاطٌ .
فَلَا مَعْنَى ؛ لَأَنْ يُجْعَلَ سِيَاقُ الْكَلَامِ عِلَّةً لِجَعْلِ اللَّامِ فِي قَوْلِهِ

الْمَذْكُورِ لِلْعَهْدِ .
نَعَمْ قَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي الْبِدَايَةِ وَالْهِدَايَةِ قُبَيْلَ قَوْلِهِ الْمَذْكُورِ كَمَا تَرَى لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي تَصْحِيحِ كَلَامِ الْقُدُورِيِّ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ اللَّامُ فِي الْقَوْلِ الْمَذْكُورِ لِلْعَهْدِ وَكَانَ الْمَعْنَى مَا ذَكَرَهُ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ فِي بَابِ الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ حُكْمَ نَوْعٍ مَخْصُوصٍ فَقَطْ مِنْ الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ وَهُوَ مَا فَسَدَ بِالشُّرُوطِ ، وَأَنْ يَكُونَ حُكْمُ بَاقِي أَنْوَاعِهَا ، وَهِيَ مَا فَسَدَ لِجَهَالَةِ الْمُسَمَّى ، وَمَا فَسَدَ لِعَدَمِ التَّسْمِيَةِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَمَا فَسَدَ بِالشُّيُوعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مَتْرُوكُ الذِّكْرِ بِالْكُلِّيَّةِ غَيْرُ مُبَيَّنٍ أَصْلًا لَا فِي مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ وَلَا فِي الْبِدَايَةِ وَلَا فِي الْهِدَايَةِ وَلَا فِي عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ ، وَهَذَا مِمَّا لَا تَقْبَلُهُ الْفِطْرَةُ السَّلِيمَةُ .
وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّهُ إنْ انْدَفَعَ بِجَعْلِ اللَّامِ فِي الْقَوْلِ الْمَذْكُورِ لِلْعَهْدِ مَا قِيلَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ ، يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ مِنْ الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ بِالشُّرُوطِ مَا لَا يَجِبُ فِيهِ الْأَقَلُّ مِنْ أَجْرِ الْمِثْلِ ، وَمِنْ الْمُسَمَّى بَلْ يَجِبُ فِيهِ أَجْرُ الْمِثْلِ بَالِغًا مَا بَلَغَ ، كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَ دَارًا أَوْ حَانُوتًا سَنَةً بِمِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ يَرُمَّهَا الْمُسْتَأْجِرُ فَإِنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ هُنَاكَ أَجْرُ الْمِثْلِ بَالِغًا مَا بَلَغَ ، صَرَّحَ بِهِ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانٍ وَغَيْرِهَا .
وَذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ أَيْضًا نَقْلًا عَنْ فَتَاوَى قَاضِي خَانٍ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ النَّظَائِرِ الَّتِي صَرَّحَ بِهَا فِي الْمُعْتَبَرَاتِ فَيَنْتَقِضُ بِمِثْلِ ذَلِكَ قَوْلُهُ : الْوَاجِبُ فِي الْإِجَارَةِ الَّتِي فَسَدَتْ بِالشُّرُوطِ الْأَقَلُّ مِنْ أَجْرِ الْمِثْلِ وَالْمُسَمَّى .
ثُمَّ أَقُولُ : الْحَقُّ عِنْدِي أَنَّ اللَّامَ فِي الْقَوْلِ الْمَذْكُورِ لَيْسَ لِلْعَهْدِ كَمَا زَعَمَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ ، بَلْ هُوَ لِلِاسْتِغْرَاقِ أَوْ الْجِنْسِ ، وَأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى

تَقْيِيدِ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ بِأَنَّهُ فِيمَا إذَا كَانَ فَسَادُ الْإِجَارَةِ بِسَبَبِ شَرْطٍ فَاسِدٍ لَا بِاعْتِبَارِ جَهَالَةِ الْمُسَمَّى وَلَا بِاعْتِبَارِ عَدَمِ التَّسْمِيَةِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ ، وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ أَجْرُ الْمِثْلِ لَا يُجَاوَزُ بِهِ الْمُسَمَّى إذَا كَانَ هُنَاكَ مُسَمًّى مَعْلُومٌ ؛ لِأَنَّ مُجَاوَزَةَ الْمُسَمَّى إنَّمَا تُتَصَوَّرُ فِيهِ .
فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ أَجْرٌ مُسَمًّى أَوْ كَانَ الْمُسَمَّى مَجْهُولًا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجَاوَزَ الْمُسَمَّى بِشَيْءٍ أَصْلًا لِلْقَطْعِ بِأَنَّ الْمُجَاوَزَةَ تَقْتَضِي الْحَدَّ الْمَعْلُومَ فَيَلْغُو أَنْ يُقَالَ هُنَاكَ : لَا يُجَاوَزُ الْمُسَمَّى بِأَجْرِ الْمِثْلِ .
فَصَارَ مُلَخَّصُ الْمَعْنَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ أَجْرُ الْمِثْلِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ مُسَمًّى مَعْلُومٌ فَحِينَئِذٍ لَا يُجَاوَزُ بِهِ الْمُسَمَّى بَلْ يَجِبُ الْأَقَلُّ مِنْهُمَا ، فَعُلِمَ مِنْهُ حُكْمُ الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ مُطْلَقًا وَهُوَ وُجُوبُ أَجْرِ الْمِثْلِ بَالِغًا مَا بَلَغَ إنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُسَمًّى مَعْلُومٌ ، وَوُجُوبُ الْأَقَلِّ مِنْ أَجْرِ الْمِثْلِ ، وَمِنْ الْمُسَمَّى إنْ كَانَ هُنَاكَ مُسَمًّى مَعْلُومٌ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الشُّرَّاحَ جَعَلُوا وُجُوبَ الْأَقَلِّ مِنْ أَجْرِ الْمِثْلِ ، وَمِنْ الْمُسَمَّى مَعْنَى مَجْمُوعِ الْكَلَامِ الْمَذْكُورِ فَوَقَعُوا فِيمَا وَقَعُوا ، وَإِذَا جَعَلَ ذَلِكَ مَعْنَى آخِرَ الْكَلَامِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ قَوْلُهُ : لَا يُجَاوَزُ الْمُسَمَّى وَأَبْقَى أَوَّلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَهُوَ وُجُوبُ عَيْنِ أَجْرِ الْمِثْلِ كَمَا فَعَلْنَاهُ كَانَ حُكْمُ الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ مُطْلَقًا مُسْتَوْفًى بِالْكُلِّيَّةِ فِي الْكِتَابِ ، وَلَا يَلْزَمُ شَيْءٌ مِنْ الْمَحْذُورَاتِ ، فَتَأَمَّلْ وَكُنْ الْحَاكِمَ الْفَيْصَلَ .

قَالَ : ( وَمَنْ اسْتَأْجَرَ دَارًا كُلَّ شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ فَالْعَقْدُ صَحِيحٌ فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ فَاسِدٌ فِي بَقِيَّةِ الشُّهُورِ ، إلَّا أَنْ يُسَمِّيَ جُمْلَةَ شُهُورٍ مَعْلُومَةٍ ) ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ كَلِمَةَ كُلٍّ إذَا دَخَلَتْ فِيمَا لَا نِهَايَةَ لَهُ تَنْصَرِفُ إلَى الْوَاحِدِ لِتَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِالْعُمُومِ فَكَانَ الشَّهْرُ الْوَاحِدُ مَعْلُومًا فَصَحَّ الْعَقْدُ فِيهِ ، وَإِذَا تَمَّ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَنْقُضَ الْإِجَارَةَ لِانْتِهَاءِ الْعَقْدِ الصَّحِيحِ ( وَلَوْ سَمَّى جُمْلَةَ شُهُورٍ مَعْلُومَةٍ جَازَ ) ؛ لِأَنَّ الْمُدَّةَ صَارَتْ مَعْلُومَةً .
قَالَ ( وَإِنْ سَكَنَ سَاعَةً مِنْ الشَّهْرِ الثَّانِي صَحَّ الْعَقْدُ فِيهِ وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُؤَجِّرِ أَنْ يُخْرِجَهُ إلَى أَنْ يَنْقَضِيَ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ شَهْرٍ سَكَنَ فِي أَوَّلِهِ سَاعَةً ) ؛ لِأَنَّهُ تَمَّ الْعَقْدُ بِتَرَاضِيهِمَا بِالسُّكْنَى فِي الشَّهْرِ الثَّانِي ، إلَّا أَنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ هُوَ الْقِيَاسُ ، وَقَدْ مَالَ إلَيْهِ بَعْضُ الْمَشَايِخِ ، وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ أَنْ يَبْقَى الْخِيَارُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي اللَّيْلَةِ الْأُولَى مِنْ الشَّهْرِ الثَّانِي وَيَوْمِهَا ؛ لِأَنَّ فِي اعْتِبَارِ الْأَوَّلِ بَعْضَ الْحَرَجِ .

( قَوْلُهُ : وَمَنْ اسْتَأْجَرَ دَارًا كُلَّ شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ فَالْعَقْدُ صَحِيحٌ فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ فَاسِدٌ فِي بَقِيَّةِ الشُّهُورِ ) قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ : فَإِنْ قُلْت : لَوْ كَانَ فَاسِدًا لَجَازَ الْفَسْخُ فِي الْحَالِ : قُلْت : الْإِجَارَةُ مِنْ الْعُقُودِ الْمُضَافَةِ ، وَانْعِقَادُ الْإِجَارَةِ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ فَقَبْلَ الِانْعِقَادِ كَيْفَ تُفْسَخُ انْتَهَى ، وَتَبِعَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ فِي السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ .
أَقُولُ : فِي الْجَوَابِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ انْعِقَادَ الْإِجَارَةِ وَإِنْ كَانَ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ إلَّا أَنَّ عَقْدَهَا قَدْ تَحَقَّقَ فِي الْحَالِ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فَلِمَ لَا يَكْفِي فِي جَوَازِ الْفَسْخِ كَوْنُ الْفَسْخِ بَعْدَ تَحَقُّقِ الْعَقْدِ ، وَقَدْ مَرَّ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْإِجَارَةِ أَنَّ الْإِجَارَةَ مُطْلَقًا تَنْعَقِدُ سَاعَةً فَسَاعَةً عَلَى حَسْبِ حُدُوثِ الْمَنْفَعَةِ ، فَقَالُوا فِي تَوْجِيهِ تَرَاخِي الِانْعِقَادِ إلَى حُدُوثِ الْمَنَافِعِ سَاعَةً فَسَاعَةً مَعَ وُجُودِ عِلَّتِهِ فِي الْحَالِ ، وَهِيَ الْعَقْدُ أَنَّ الِانْعِقَادَ حُكْمُ الشَّرْعِ ، وَالْعِلَلُ الشَّرْعِيَّةُ تُغَايِرُ الْعِلَلَ الْعَقْلِيَّةَ فِي جَوَازِ انْفِكَاكِهَا مِنْ مَعْلُولَاتِهَا ، فَلَوْ لَمْ يَجُزْ الْفَسْخُ قَبْلَ أَوَانِ الِانْعِقَادِ ، وَلَمْ يَكْفِ كَوْنُهُ بَعْدَ تَحَقُّقِ الْعَقْدِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الِانْعِقَادِ لَمَا جَازَ فَسْخُ الْإِجَارَةِ الصَّحِيحَةِ أَيْضًا بِعُذْرٍ أَوْ عَيْبٍ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَنَافِعِ بِتَمَامِهَا ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَحْدُثْ جُزْءٌ مِنْ الْمَنَافِعِ لَمْ يَتَحَقَّقْ الِانْعِقَادُ فِي حَقِّهِ فَيَلْزَمُ الْفَسْخُ قَبْلَ الِانْعِقَادِ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ ، مَعَ أَنَّهُ لَا شَكَّ فِي جَوَازِ ذَلِكَ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ قَاطِبَةً .
وَسَيَجِيءُ فِي الْكِتَابِ ( قَوْلُهُ : وَإِذَا تَمَّ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَنْقُضَ الْإِجَارَةَ لِانْتِهَاءِ الْعَقْدِ الصَّحِيحِ ) قَالَ فِي الْمُحِيطِ الْبُرْهَانِيِّ : وَفِي الْأَصْلِ إذَا اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ مِنْ آخَرَ دَارًا كُلَّ شَهْرٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ هَذَا جَائِزٌ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ

مِنْهُمَا أَنْ يَنْقُضَ الْإِجَارَةَ فِي رَأْسِ الشَّهْرِ ، فَإِنْ سَكَنَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ لَزِمَهُ الْإِجَارَةُ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي .
وَاخْتَلَفَتْ عِبَارَةُ الْمَشَايِخِ فِي تَخْرِيجِ الْمَسْأَلَةِ .
بَعْضُهُمْ قَالَ : أَرَادَ بِقَوْلِهِ جَائِزٌ أَنَّ الْإِجَارَةَ فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ جَائِزَةٌ ، فَأَمَّا فِيمَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ الشُّهُورِ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ لِجَهَالَةِ الْمُدَّةِ إلَّا أَنَّهُ إذَا جَاءَ الشَّهْرُ الثَّانِي ، وَلَمْ يَفْسَخْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْإِجَارَةَ فِي رَأْسِ الشَّهْرِ جَازَتْ الْإِجَارَةُ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي ؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ الثَّانِيَ صَارَ كَالشَّهْرِ الْأَوَّلِ .
وَبَعْضُهُمْ قَالَ لَا ، بَلْ الْإِجَارَةُ جَائِزَةٌ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ كَمَا جَازَتْ فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ ، وَإِطْلَاقُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْكِتَابِ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا جَازَتْ الْإِجَارَةُ فِيمَا وَرَاءَ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ وَإِنْ كَانَتْ الْمُدَّةُ مَجْهُولَةً لِتَعَامُلِ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مُنْكِرٍ ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَأْسَ كُلِّ شَهْرٍ ، وَإِنْ كَانَتْ الْإِجَارَةُ جَائِزَةً فِيمَا زَادَ عَلَى الشَّهْرِ الْأَوَّلِ لِنَوْعِ ضَرُورَةِ بَيَانِهَا أَنَّ مَوْضُوعَ الْإِجَارَةِ أَنْ لَا تُزِيلَ الرَّقَبَةَ عَنْ مِلْكِ الْمُؤَجِّرِ وَلَا تَجْعَلَهَا مِلْكًا لِلْمُسْتَأْجِرِ ، وَمَتَى لَمْ يَثْبُتْ الْخِيَارُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَأْسَ الشَّهْرِ لَزَالَ رَقَبَةُ الْمُسْتَأْجِرِ عَنْ مِلْكِ الْمُؤَجِّرِ مَعْنًى ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ سُكْنَاهَا وَلَا بَيْعَهَا وَلَا هِبَتَهَا أَبَدَ الدَّهْرِ ؛ لِأَنَّهُ لَا نِهَايَةَ لِجُمْلَةِ الشُّهُورِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ فَلِهَذِهِ الضَّرُورَةِ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْخِيَارُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالْمُضِيِّ فِي رَأْسِ كُلِّ شَهْرٍ ، وَإِنْ كَانَتْ الْإِجَارَةُ جَارِيَةً فِي الشَّهْرِ وَفِيمَا زَادَ عَلَى الشَّهْرِ .
وَقَالَ : إلَّا أَنَّ الْمَشَايِخَ بَعْدَ هَذَا اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ إمْكَانِ الْفَسْخِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا رَأْسَ كُلِّ شَهْرٍ ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا ؛ لِأَنَّ رَأْسَ الشَّهْرِ

فِي الْحَقِيقَةِ عِبَارَةٌ عَنْ السَّاعَةِ الَّتِي يَهُلُّ فِيهَا الْهِلَالُ فَكُلَّمَا أَهَلَّ الْهِلَالُ مَضَى رَأْسُ الشَّهْرِ فَلَا يُمْكِنُ الْفَسْخُ بَعْدَ ذَلِكَ الْمُضِيِّ وَقْتَ الْخِيَارِ ، وَقَبْلَ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُهُ الْفَسْخُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِئْ وَقْتُهُ .
وَالصَّحِيحُ فِي هَذَا أَحَدُ الطُّرُقِ الثَّلَاثَةِ : إمَّا أَنْ يَقُولَ الَّذِي يُرِيدُ الْفَسْخَ قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ فَسَخْتُ الْإِجَارَةَ فَيَتَوَقَّفُ هَذَا الْفَسْخُ إلَى انْقِضَاءِ الشَّهْرِ ، وَإِذَا انْقَضَى الشَّهْرُ وَأَهَلَّ الْهِلَالُ عَمِلَ الْفَسْخُ حِينَئِذٍ عَمَلَهُ وَنَفَذَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ نَفَاذًا فِي وَقْتِهِ ، وَالْفَسْخُ إذَا لَمْ يَجِدْ نَفَاذًا فِي وَقْتِهِ يَتَوَقَّفُ إلَى وَقْتِ نَفَاذِهِ ، وَبِهِ كَانَ يَقُولُ أَبُو نَصْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَّامٍ الْبَلْخِيّ ، وَنَظِيرُ هَذَا مَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْبُيُوعِ : اشْتَرَى عَبْدًا عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فَحُمَّ الْعَبْدُ وَفَسَخَ الْمُشْتَرِي الْعَقْدَ بِحُكْمِ الْخِيَارِ لَمْ يَنْفُذْ هَذَا الْفَسْخُ ، بَلْ يَتَوَقَّفُ إلَى أَنْ تَزُولَ الْحُمَّى فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ .
وَقَالَ فِي الْمُضَارَبَةِ : رَبُّ الْمَالِ إذَا فَسَخَ الْمُضَارَبَةَ وَقَدْ صَارَ مَالُ الْمُضَارَبَةِ عُرُوضًا لَمْ يَنْفُذْ الْفَسْخُ لِلْحَالِ بَلْ يَتَوَقَّفُ إلَى أَنْ يَصِيرَ مَالُ الْمُضَارَبَةِ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ فَيَنْفُذُ الْفَسْخُ حِينَئِذٍ ، كَذَا هَاهُنَا ، أَوْ يَقُولَ : الَّذِي يُرِيدُ الْفَسْخَ فِي خِلَالِ الشَّهْرِ فَسَخْتُ الْعَقْدَ رَأْسَ الشَّهْرِ فَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ إذَا أَهَلَّ الْهِلَالُ ، وَيَكُونُ هَذَا فَسْخًا مُضَافًا إلَى رَأْسِ الشَّهْرِ ، وَعَقْدُ الْإِجَارَةِ يَصِحُّ مُضَافًا ، فَكَذَا فَسْخُهُ يَصِحُّ مُضَافًا أَوْ يَفْسَخُ الَّذِي يُرِيدُ الْفَسْخَ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي يَهُلُّ فِيهَا الْهِلَالُ وَيَوْمِهَا ، وَهَذَا الْقَائِلُ يَقُولُ : لَمْ يُرِدْ مُحَمَّدٌ بِقَوْلِهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَنْقُضَ الْإِجَارَةَ رَأْسَ الشَّهْرِ مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ ، وَهُوَ السَّاعَةُ الَّتِي يَهُلُّ فِيهَا الْهِلَالُ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ رَأْسَ الشَّهْرِ مِنْ

حَيْثُ الْعُرْفُ وَالْعَادَةُ وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي يَهُلُّ فِيهَا الْهِلَالُ أَوْ يَوْمُهَا وَهَكَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ : إذَا حَلَفَ الرَّجُلُ لَيَقْضِيَنَّ حَقَّ فُلَانٍ رَأْسَ الشَّهْرِ فَقَضَاهُ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي يَهُلُّ فِيهَا الْهِلَالُ أَوْ فِي يَوْمِهَا لَمْ يَحْنَثْ اسْتِحْسَانًا ، إلَى هُنَا لَفْظُ الْمُحِيطِ وَهَكَذَا ذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ أَيْضًا وَنَقَلَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ عَنْ الذَّخِيرَةِ بِنَوْعِ إجْمَالٍ مِنْهُ .
أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : الطَّرِيقُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي مِنْ الطُّرُقِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ مِمَّا لَا يُسَاعِدُهُ عِبَارَةُ الْأَئِمَّةِ فِي وَضْعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، فَإِنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ فِي الْأَصْلِ : وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَنْقُضَ الْإِجَارَةَ فِي رَأْسِ الشَّهْرِ .
وَالْإِمَامُ قَاضِي خَانٍ قَالَ فِي فَتَاوَاهُ : رَجُلٌ آجَرَ دَارِهِ أَوْ حَانُوتَهُ كُلَّ شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ عِنْدَ تَمَامِ الشَّهْرِ ، وَالْمُصَنِّفُ قَالَ هَاهُنَا ، وَإِذَا تَمَّ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَنْقُضَ الْإِجَارَةَ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مُقْتَضَى هَذِهِ الْعِبَارَاتِ أَنْ يَكُونَ ثُبُوتُ خِيَارِ الْفَسْخِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَ تَمَامِ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ وَدُخُولِ رَأْسِ الشَّهْرِ الثَّانِي لَا قَبْلَ ذَلِكَ ، وَدَلَالَةُ ذَيْنِك الطَّرِيقَيْنِ عَلَى أَنْ يَثْبُتَ لَهُمَا خِيَارُ الْفَسْخِ فِي خِلَالِ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ قَبْلَ تَمَامِهِ .
وَأَقُولُ : يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ نَفَاذُ الْفَسْخِ وَتَأْثِيرُهُ فِي ذَيْنِك الطَّرِيقَيْنِ أَيْضًا عِنْدَ أَنْ يَنْقَضِيَ الشَّهْرُ الْأَوَّلُ ، وَأَهَلَّ هِلَالُ الشَّهْرِ الثَّانِي ، وَإِنْ كَانَ التَّكَلُّمُ بِالْفَسْخِ فِيهِمَا فِي خِلَالِ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْعِبَارَاتُ فِي وَضْعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ ظُهُورَ أَثَرِ ثُبُوتِ الْخِيَارِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَ تَمَامِ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ وَدُخُولِ رَأْسِ الشَّهْرِ الثَّانِي .
هَذَا غَايَةُ مَا يُمْكِنُ فِي

تَوْجِيهِ الطَّرِيقَيْنِ الْمَزْبُورَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ يَنْبُو عَنْهُ ظَاهِرُ اللَّفْظِ .
ثُمَّ إنَّ الْإِمَامَ الزَّيْلَعِيَّ رَدَّ عَلَى مَنْ قَالَ مِنْ الْمَشَايِخِ فِي تَخْرِيجِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : إنَّ الْعَقْدَ جَائِزٌ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ أَيْضًا لِتَعَامُلِ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مُنْكِرٍ ، إلَّا أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خِيَارَ الْفَسْخِ رَأْسَ كُلِّ شَهْرٍ لِنَوْعِ ضَرُورَةٍ حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ : وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ قَالَ مِنْ الْمَشَايِخِ إنَّ الْعَقْدَ صَحِيحٌ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ أَيْضًا لِتَعَامُلِ النَّاسِ ؛ لِأَنَّ التَّعَامُلَ إذَا كَانَ مُخَالِفًا لِلدَّلِيلِ لَا يُعْتَبَرُ .
انْتَهَى .
أَقُولُ : بَلْ لَا مَعْنَى لِمَا قَالَهُ الزَّيْلَعِيُّ ؛ لِأَنَّ التَّعَامُلَ إذَا وَقَعَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مُنْكِرٍ فَقَدْ حَلَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ وَقَعَ كَذَلِكَ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ مَنْ قَالَ مِنْ الْمَشَايِخِ بِجَوَازِ الْعَقْدِ فِي كُلِّ الشُّهُورِ ، وَالْإِجْمَاعُ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ وَالدَّلِيلُ الَّذِي خَالَفَهُ التَّعَامُلُ هَاهُنَا إنَّمَا هُوَ كَوْنُ جَهَالَةِ الْمُدَّةِ مُفْسِدَةً لِلْعَقْدِ ، وَهُوَ مُوجِبُ الْقِيَاسِ ، وَالْقِيَاسُ دَلِيلٌ ظَنِّيٌّ لَا يَصْلُحُ لِمُعَارَضَةِ الدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ أَصْلًا ، فَضْلًا عَنْ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ الْقَطْعِيُّ فِي مُقَابَلَتِهِ ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْجَهَالَةَ الْمُفْسِدَةَ لِلْعَقْدِ إنَّمَا هِيَ الْجَهَالَةُ الْمُفْضِيَةُ إلَى النِّزَاعِ دُونَ مُطْلَقِ الْجَهَالَةِ كَمَا مَرَّ فِي الْبُيُوعِ ، وَجَهَالَةُ الْمُدَّةِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَتْ بِمُفْضِيَةٍ إلَى النِّزَاعِ ، إذْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَقْضُ الْعَقْدِ فِي رَأْسِ كُلِّ شَهْرٍ فَكَيْفَ يَقَعُ النِّزَاعُ .

قَالَ : ( وَإِنْ اسْتَأْجَرَ دَارًا سَنَةً بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ جَازَ وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ قِسْطَ كُلِّ شَهْرٍ مِنْ الْأُجْرَةِ ) ؛ لِأَنَّ الْمُدَّةَ مَعْلُومَةٌ بِدُونِ التَّقْسِيمِ فَصَارَ كَإِجَارَةِ شَهْرٍ وَاحِدٍ فَإِنَّهُ جَائِزٌ وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ قِسْطَ كُلِّ يَوْمٍ ، ثُمَّ يُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ مِمَّا سَمَّى وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ شَيْئًا فَهُوَ مِنْ الْوَقْتِ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ ؛ لِأَنَّ الْأَوْقَاتِ كُلَّهَا فِي حَقِّ الْإِجَارَةِ عَلَى السَّوَاءِ فَأَشْبَهَ الْيَمِينَ ، بِخِلَافِ الصَّوْمِ ؛ لِأَنَّ اللَّيَالِيَ لَيْسَتْ بِمَحَلٍّ لَهُ ( ثُمَّ إنْ كَانَ الْعَقْدُ حِينَ يَهُلُّ الْهِلَالُ فَشُهُورُ السَّنَةِ كُلِّهَا بِالْأَهِلَّةِ ) ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْأَصْلُ ( وَإِنْ كَانَ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ فَالْكُلُّ بِالْأَيَّامِ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ بِالْأَيَّامِ وَالْبَاقِي بِالْأَهِلَّةِ ؛ لِأَنَّ الْأَيَّامَ يُصَارُ إلَيْهَا ضَرُورَةً ، وَالضَّرُورَةُ فِي الْأَوَّلِ مِنْهَا .
وَلَهُ أَنَّهُ مَتَى تَمَّ الْأَوَّلُ بِالْأَيَّامِ ابْتَدَأَ الثَّانِيَ بِالْأَيَّامِ ضَرُورَةً وَهَكَذَا إلَى آخِرِ السَّنَةِ ، وَنَظِيرُهُ الْعِدَّةُ وَقَدْ مَرَّ فِي الطَّلَاقِ .

( قَوْلُهُ : لِأَنَّ الْأَوْقَاتِ كُلَّهَا فِي حَقِّ الْإِجَارَةِ عَلَى السَّوَاءِ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي تَعْلِيلِهِ لِذِكْرِ الشُّهُورِ مَنْكُورًا وَتَبِعَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ .
أَقُولُ : لَيْسَ ذَلِكَ بِسَدِيدٍ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْمَسْأَلَةِ هُوَ السَّنَةُ دُونَ الشُّهُورِ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي مَسْأَلَةِ النَّذْرِ بِالصَّوْمِ أَيْضًا مَنْكُورٌ مَعَ أَنَّ الْجَوَابَ مُخْتَلِفٌ .
وَالصَّوَابُ فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ : لِأَنَّ كُلَّ الْأَوْقَاتِ مَحَلٌّ لِلْإِجَارَةِ ، إذْ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْإِجَارَةِ وَبَيْنَ وَقْتٍ مَا أَصْلًا ، فَإِنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ هُوَ الْفَارِقُ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ بِخِلَافِ الصَّوْمِ ؛ لِأَنَّ اللَّيَالِيَ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لَهُ تَبَصَّرْ .
( قَوْلُهُ : ثُمَّ إنْ كَانَ الْعَقْدُ حِينَ يُهَلُّ الْهِلَالُ ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْهَاءِ عَلَى صِيغَةِ بِنَاءِ الْمَفْعُولِ : أَيْ يُبْصَرُ الْهِلَالُ وَقَالَ : أَرَادَ بِهِ الْيَوْمَ الْأَوَّلَ ، وَرَدَّ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْغَايَةِ حَيْثُ قَالَ : فَسَّرَ بَعْضُهُمْ فِي شَرْحِهِ قَوْلَهُ حِينَ يُهَلُّ بِقَوْلِهِ أَرَادَ بِهِ الْيَوْمَ الْأَوَّلَ ، وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ حِينَ يُهَلُّ الْهِلَالُ بَلْ هُوَ أَوَّلُ اللَّيْلَةِ الْأُولَى مِنْ الشَّهْرِ .
انْتَهَى كَلَامُهُ .
أَقُولُ : نَظَرُهُ سَاقِطٌ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ النِّهَايَةِ قَدْ فَسَّرَ قَوْلَهُ يُهَلُّ الْهِلَالُ بِقَوْلِهِ : أَيْ يُبْصَرُ الْهِلَالُ ، فَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ كَانَ مَعْنَى قَوْلِهِ حِينَ يُهَلُّ الْهِلَالُ حِينَ يُبْصَرُ الْهِلَالُ وَهُوَ أَوَّلُ اللَّيْلَةِ مِنْ الشَّهْرِ قَطْعًا ، وَلَيْسَ مُرَادُهُ بِقَوْلِهِ أَرَادَ بِهِ الْيَوْمَ الْأَوَّلَ تَفْسِيرَ مَعْنَى قَوْلِهِ حِينَ يُهَلُّ الْهِلَالُ ، إذْ قَدْ عُلِمَ مَعْنَاهُ مِنْ تَفْسِيرِهِ السَّابِقِ قَطْعًا ، بَلْ مُرَادُهُ بِذَلِكَ بَيَانُ أَنْ لَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ حِينَ يُهَلُّ الْهِلَالُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيَّ ، وَهُوَ أَوَّلُ اللَّيْلَةِ مِنْ الشَّهْرِ

لِتَعَسُّرِ كَوْنِ الْعَقْدِ فِيهِ ، بَلْ الْمُرَادُ بِهِ مَعْنَاهُ الْعُرْفِيُّ وَهُوَ الْيَوْمُ الْأَوَّلُ مِنْ الشَّهْرِ ، وَهَذَا نَظِيرُ مَا قَالُوا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لَمْ يُرِدْ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ بِرَأْسِ الشَّهْرِ فِي قَوْلِهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَنْقُضَ الْإِجَارَةَ رَأْسَ الشَّهْرِ مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ ، وَهُوَ السَّاعَةُ الَّتِي يَهُلُّ فِيهَا الْهِلَالُ بَلْ رَأْسُ الشَّهْرِ مِنْ حَيْثُ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ ، وَهُوَ اللَّيْلَةُ الَّتِي يُهَلُّ فِيهَا الْهِلَالُ وَيَوْمُهَا فَلَا يَرُدُّ عَلَيْهِ النَّظَرُ الْمَزْبُورُ أَصْلًا .

قَالَ : ( وَيَجُوزُ أَخْذُ أُجْرَةِ الْحَمَّامِ وَالْحَجَّامِ ) أَمَّا الْحَمَّامُ فَلِتَعَارُفِ النَّاسِ وَلَمْ تُعْتَبَرْ الْجَهَالَةُ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ .
قَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ } وَأَمَّا الْحَجَّامُ فَلِمَا رُوِيَ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ وَأَعْطَى الْحَجَّامَ الْأُجْرَةَ } وَلِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ عَلَى عَمَلٍ مَعْلُومٍ بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ فَيَقَعُ جَائِزًا .

قَالَ : ( وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ أُجْرَةِ عَسْبِ التَّيْسِ ) وَهُوَ أَنْ يُؤَجِّرَ فَحْلًا لِيَنْزُوَ عَلَى الْإِنَاثِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ مِنْ السُّحْتِ عَسْبَ التَّيْسِ } وَالْمُرَادُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ .

قَالَ : ( وَلَا الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْأَذَانِ وَالْحَجِّ ، وَكَذَا الْإِمَامَةُ وَتَعْلِيمُ الْقُرْآنِ وَالْفِقْهِ ) وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ طَاعَةٍ يَخْتَصُّ بِهَا الْمُسْلِمُ لَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَصِحُّ فِي كُلِّ مَا لَا يَتَعَيَّنُ عَلَى الْأَجِيرِ ؛ لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ عَلَى عَمَلٍ مَعْلُومٍ غَيْرِ مُتَعَيَّنٍ عَلَيْهِ فَيَجُوزُ .
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { اقْرَءُوا الْقُرْآنَ وَلَا تَأْكُلُوا بِهِ } وَفِي آخِرِ مَا عَهِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ { وَإِنْ اُتُّخِذْتَ مُؤَذِّنًا فَلَا تَأْخُذْ عَلَى الْأَذَانِ أَجْرًا } وَلِأَنَّ الْقُرْبَةَ مَتَى حَصَلَتْ وَقَعَتْ عَنْ الْعَامِلِ وَلِهَذَا تُعْتَبَرُ أَهْلِيَّتُهُ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ الْأَجْرِ مِنْ غَيْرِهِ كَمَا فِي الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ ، وَلِأَنَّ التَّعْلِيمَ مِمَّا لَا يَقْدِرُ الْمُعَلِّمُ عَلَيْهِ إلَّا بِمَعْنًى مِنْ قِبَلِ الْمُتَعَلِّمِ فَيَكُونُ مُلْتَزِمًا مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ فَلَا يَصِحُّ .
وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا اسْتَحْسَنُوا الِاسْتِئْجَارَ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ الْيَوْمَ ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ التَّوَانِي فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ .
فَفِي الِامْتِنَاعِ تَضْيِيعُ حِفْظِ الْقُرْآنِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى .

( قَوْلُهُ : وَلِأَنَّ الْقُرْبَةَ مَتَى حَصَلَتْ وَقَعَتْ عَلَى الْعَامِلِ إلَخْ ) أَقُولُ : يَنْتَقِضُ هَذَا بِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي بَابِ الْحَجِّ عَنْ الْغَيْرِ مِنْ كِتَابِ الْحَجِّ حَيْثُ قَالَ : ثُمَّ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْحَجَّ يَقَعُ عَنْ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ ، وَبِذَلِكَ تَشْهَدُ الْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ فِي الْبَابِ كَحَدِيثِ الْخَثْعَمِيَّةِ فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ فِيهِ { حُجِّي عَنْ أَبِيك وَاعْتَمِرِي } فَإِنَّ ذَلِكَ صَرِيحٌ فِي وُقُوعِ الْقُرْبَةِ عَنْ غَيْرِ الْعَامِلِ .
قَالَ صَاحِبُ الْكَافِي فِي تَقْرِيرِ هَذَا الدَّلِيلِ : وَلِأَنَّ الْقُرْبَةَ مَتَى وَقَعَتْ يَقَعُ ثَوَابُهَا لِلْفَاعِلِ لَا لِغَيْرِهِ .
ا هـ .
أَقُولُ : يُخَالِفُ هَذَا مَا صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ وَصَاحِبُ الْكَافِي أَيْضًا فِي أَوَّلِ بَابِ الْحَجِّ عَنْ الْغَيْرِ مِنْ أَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ ثَوَابَ عَمَلِهِ لِغَيْرِهِ صَلَاةً كَانَتْ أَوْ صَوْمًا أَوْ صَدَقَةً أَوْ غَيْرَهَا عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ ، لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَحَدُهُمَا عَنْ نَفْسِهِ وَالْآخَرُ عَنْ أُمَّتِهِ مِمَّنْ أَقَرَّ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَشَهِدَ لَهُ بِالْبَلَاغِ } فَجَعَلَ ثَوَابَ تَضْحِيَةِ إحْدَى الشَّاتَيْنِ لِأُمَّتِهِ .
ا هـ فَلْيُتَأَمَّلْ .
( قَوْلُهُ : لِأَنَّ التَّعْلِيمَ مِمَّا لَا يَقْدِرُ الْمُعَلِّمُ عَلَيْهِ إلَّا بِمَعْنًى مِنْ قِبَلِ الْمُتَعَلِّمِ فَيَكُونُ مُلْتَزِمًا مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ فَلَا يَصِحُّ ) أَقُولُ : فِيهِ بَحْثٌ ؛ لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ أَنَّ الْمُعَلِّمَ لَا يَسْتَقِلُّ فِي التَّعْلِيمِ بِشَيْءٍ أَصْلًا فَهُوَ مَمْنُوعٌ ، فَإِنَّ التَّلْقِينَ وَالْإِلْقَاءَ فِعْلُ الْمُعَلِّمِ وَحْدَهُ لَا مَدْخَلَ فِيهِ لِلْمُتَعَلِّمِ ، وَإِنَّمَا وَظِيفَتُهُ الْأَخْذُ وَالْفَهْمُ ، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّ لِلْمُتَعَلِّمِ أَيْضًا مَدْخَلًا فِي ظُهُورِ أَثَرِ التَّعْلِيمِ وَفَائِدَتِهِ فَإِنَّ الْمُتَعَلِّمَ مَا لَمْ يَأْخُذْ مَا أَلْقَاهُ الْمُعَلِّمُ وَلَمْ يَفْهَمْ مَا لَقَّنَهُ لَمْ

يَظْهَرْ لِتَعْلِيمِهِ أَثَرٌ وَفَائِدَةٌ فَهُوَ مُسَلَّمٌ ، وَلَكِنَّ الَّذِي يَلْتَزِمُهُ الْمُعَلِّمُ إنَّمَا هُوَ فِعْلُ نَفْسِهِ مِمَّا يَقْدِرُ عَلَيْهِ لَا فِعْلُ الْآخَرِ ، وَلَا مَانِعَ مِنْ أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى فِعْلُ نَفْسِهِ كَمَا لَا يَخْفَى .
فَإِنْ قُلْت : التَّعْلِيمُ وَالتَّعَلُّمُ مُتَّحِدَانِ بِالذَّاتِ ، وَمُخْتَلِفَانِ بِالِاعْتِبَارِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ ، فَيَئُولُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى التَّعْلِيمِ إلَى أَخْذِهَا عَلَى التَّعَلُّمِ الَّذِي هُوَ فِعْلُ الْغَيْرِ .
قُلْت : اتِّحَادُ التَّعْلِيمِ وَالتَّعَلُّمِ بِالذَّاتِ أَمْرٌ غَيْرُ وَاضِحٍ بَلْ غَيْرُ مُسَلَّمٍ ، وَلَوْ سُلِّمَ كَفِي التَّغَايُرُ الِاعْتِبَارِيُّ لَنَا إذْ لَا شَكَّ فِي اخْتِلَافِ التَّعْلِيمِ وَالتَّعَلُّمِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ فَلْيَكُنْ فِي أَخْذِهِ الْأُجْرَةَ عَلَيْهِ كَذَلِكَ فَتَأَمَّلْ ( قَوْلُهُ : وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا : اسْتَحْسَنُوا الِاسْتِئْجَارَ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ الْيَوْمَ ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ التَّوَانِي فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ ، فَفِي الِامْتِنَاعِ تَضْيِيعُ حِفْظِ الْقُرْآنِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى ) أَقُولُ : فِيمَا ذَهَبَ إلَيْهِ هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخُ إشْكَالٌ ، وَهُوَ أَنَّ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ الثَّانِي وَالدَّلِيلِ الثَّالِثِ الْمَارَّيْنِ آنِفًا أَنْ لَا يُمْكِنَ تَحَقُّقُ مَاهِيَّةِ الْإِجَارَةِ ، وَهِيَ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ بِعِوَضٍ فِي الِاسْتِئْجَارِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَنَظَائِرِهِ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى تَسْلِيمِ مَا الْتَزَمَهُ الْمُؤَجِّرُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ ، فَكَيْفَ يَصِحُّ اسْتِحْسَانُ الِاسْتِئْجَارِ فِي هَاتِيك الصُّوَرِ ، وَصِحَّةُ اسْتِحْسَانِهِ فَرْعُ إمْكَانِ تَحَقُّقِ مَاهِيَّةِ الْإِجَارَةِ كَمَا لَا يَخْفَى فَلْيُتَأَمَّلْ فِي دَفْعِ هَذَا الْإِشْكَالِ الْقَوِيِّ لَعَلَّهُ مِمَّا تُسْكَبُ فِيهِ الْعَبَرَاتُ إلَّا أَنْ لَا يُسَلَّمَ صِحَّةُ ذَيْنِك الدَّلِيلَيْنِ .

قَالَ : ( وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْغِنَاءِ وَالنَّوْحِ ، وَكَذَا سَائِرُ الْمَلَاهِي ) ؛ لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَالْمَعْصِيَةُ لَا تُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ .

قَالَ : ( وَلَا يَجُوزُ إجَارَةُ الْمُشَاعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا مِنْ الشَّرِيكِ ، وَقَالَا : إجَارَةُ الْمُشَاعِ جَائِزَةٌ ) وَصُورَتُهُ أَنْ يُؤَاجِرَ نَصِيبًا مِنْ دَارِهِ أَوْ نَصِيبَهُ مِنْ دَارٍ مُشْتَرَكَةٍ مِنْ غَيْرِ الشَّرِيكِ .
لَهُمَا أَنَّ لِلْمُشَاعِ مَنْفَعَةً وَلِهَذَا يَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ ، وَالتَّسْلِيمُ مُمْكِنٌ بِالتَّخْلِيَةِ أَوْ بِالتَّهَايُؤِ فَصَارَ كَمَا إذَا آجَرَ مِنْ شَرِيكِهِ أَوْ مِنْ رَجُلَيْنِ وَصَارَ كَالْبَيْعِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ آجَرَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ فَلَا يَجُوزُ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَ الْمُشَاعِ وَحْدَهُ لَا يُتَصَوَّرُ ، وَالتَّخْلِيَةُ اُعْتُبِرَتْ تَسْلِيمًا لِوُقُوعِهِ تَمْكِينًا وَهُوَ الْفِعْلُ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ التَّمَكُّنُ وَلَا تَمَكُّنَ فِي الْمُشَاعِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِحُصُولِ التَّمَكُّنِ فِيهِ ، وَأَمَّا التَّهَايُؤُ فَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ حُكْمًا لِلْعَقْدِ بِوَاسِطَةِ الْمِلْكِ ، وَحُكْمُ الْعَقْدِ يَعْقُبُهُ وَالْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ شَرْطُ الْعَقْدِ وَشَرْطُ الشَّيْءِ يَسْبِقُهُ ، وَلَا يُعْتَبَرُ الْمُتَرَاخِي سَابِقًا ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا آجَرَ مِنْ شَرِيكِهِ فَالْكُلُّ يَحْدُثُ عَلَى مِلْكِهِ فَلَا شُيُوعَ ، وَالِاخْتِلَافُ فِي النِّسْبَةِ لَا يَضُرُّهُ ، عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْهُ ، وَبِخِلَافِ الشُّيُوعِ الطَّارِئِ ؛ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى التَّسْلِيمِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِلْبَقَاءِ ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا آجَرَ مِنْ رَجُلَيْنِ ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ يَقَعُ جُمْلَةً ثُمَّ الشُّيُوعُ بِتَفَرُّقِ الْمِلْكِ فِيمَا بَيْنَهُمَا طَارِئٌ .

( قَوْلُهُ : وَأَمَّا التَّهَايُؤُ فَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ حُكْمًا لِلْعَقْدِ بِوَاسِطَةِ الْمِلْكِ ، إلَى قَوْلِهِ لَا يُعْتَبَرُ الْمُتَرَاخِي سَابِقًا ) هَذَا جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا أَوْ بِالتَّهَايُؤِ .
وَحَاصِلُهُ أَنَّ التَّهَايُؤَ مِنْ أَحْكَامِ الْعَقْدِ بِوَاسِطَةِ الْمِلْكِ فَهُوَ مُتَأَخِّرٌ عَنْ الْعَقْدُ الْمُوجِبِ لِلْمِلْكِ ، وَهُوَ مُنْتَفٍ لِانْتِفَاءِ شَرْطِهِ ، وَهُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ ، وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِالتَّهَايُؤِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ثُبُوتُ الشَّيْءِ بِمَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ ثُبُوتًا ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ .
وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى مَا فِي الْهِدَايَةِ وَعَلَى مَا فِي الْعِنَايَةِ ، أَمَّا عَلَى مَا فِي الْهِدَايَةِ فَبِأَنْ قَالَ فِيهِ بَحْثٌ فَإِنَّهُمَا لَمْ يَقُولَا إنَّ التَّهَايُؤَ هُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ ، بَلْ يَقُولَانِ يَتَحَقَّقُ التَّسْلِيمُ بِهِ ، فَكَمَا أَنَّ التَّسْلِيمَ حُكْمُ الْعَقْدِ ، وَالْقُدْرَةُ عَلَيْهِ شَرْطٌ فَكَذَلِكَ يُقَالُ فِي التَّهَايُؤِ ، وَأَمَّا عَلَى مَا فِي الْعِنَايَةِ فَبِأَنْ قَالَ يَجُوزُ ثُبُوتُ الْعِلْمِ بِالشَّيْءِ بِمَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ ثُبُوتًا ، وَمَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ مِنْهُ .
ا هـ .
أَقُولُ : كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَاقِطٌ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ كَلَامٌ خَالٍ عَنْ التَّحْصِيلِ ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ هَاهُنَا مِنْ قِبَلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَيْسَ بِمَبْنِيٍّ عَلَى أَنْ يَكُونَ مَدَارُ مَا قَالَهُ صَاحِبَاهُ عَلَى أَنَّ التَّهَايُؤَ هُوَ الْقُدْرَةُ حَتَّى يَصِحَّ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُمَا لَمْ يَقُولَا إنَّ التَّهَايُؤَ هُوَ الْقُدْرَةُ ، بَلْ قَالَا يَتَحَقَّقُ التَّسْلِيمُ بِهِ ، بَلْ ذَاكَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُمَا أَوْ بِالتَّهَايُؤِ فِي قَوْلِهِمَا وَالتَّسْلِيمُ مُمْكِنٌ بِالتَّخْلِيَةِ أَوْ بِالتَّهَايُؤِ يَقْتَضِي جَوَازَ كَوْنِ ثُبُوتِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ بِثُبُوتِ التَّهَايُؤِ فَيُرَدُّ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِهِ أَنْ يُقَالَ ثُبُوتُ التَّهَايُؤِ بَلْ ثُبُوتُ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّهَايُؤِ مُتَأَخِّرٌ عَنْ تَحَقُّقِ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ حُكْمًا لِلْعَقْدِ

بِوَاسِطَةِ الْمِلْكِ .
وَالْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْعَقْدِ لِكَوْنِهَا شَرْطَ جَوَازِهِ فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ثُبُوتُ الْمُتَقَدِّمِ بِثُبُوتِ الْمُتَأَخِّرِ ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَلَا يُعْتَبَرُ الْمُتَرَاخِي سَابِقًا وَلَا غُبَارَ عَلَيْهِ أَصْلًا .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ لَا شَكَّ فِي جَوَازِ ثُبُوتِ الْعِلْمِ بِالشَّيْءِ بِمَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ ثُبُوتًا كَمَا فِي الِاسْتِدْلَالِ مِنْ الْأَثَرِ عَلَى الْمُؤَثِّرِ ، وَلَكِنْ مَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ لَيْسَ مِنْهُ لَا مَحَالَةَ ، إذْ لَا يَشُكُّ عَاقِلٌ فِي أَنْ لَيْسَ مَعْنَى قَوْلِهِمَا وَالتَّسْلِيمُ مُمْكِنٌ بِالتَّخْلِيَةِ أَوْ بِالتَّهَايُؤِ أَنَّ ثُبُوتَ الْعِلْمِ بِإِمْكَانِ التَّسْلِيمِ بِالتَّخْلِيَةِ أَوْ بِالتَّهَايُؤِ ، بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّ ثُبُوتَ نَفْسِ إمْكَانِ التَّسْلِيمِ : أَيْ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ بِالتَّخْلِيَةِ أَوْ بِالتَّهَايُؤِ ، وَمَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا ذَلِكَ ، فَكَانَ الْمُرَادُ بِهِ أَيْضًا مَا أُرِيدَ بِهِ هُنَالِكَ .
( قَوْلُهُ : وَبِخِلَافِ الشُّيُوعِ الطَّارِئِ ؛ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى التَّسْلِيمِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِلْبَقَاءِ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : لَيْسَ لِقَوْلِهِ هَذَا تَعَلُّقٌ ظَاهِرًا إلَّا أَنْ يُجْعَلَ تَمْهِيدًا لِلْجَوَابِ عَنْ قَوْلِهِمَا أَوْ مِنْ رَجُلَيْنِ ، لَكِنْ فِي قَوْلِهِ وَبِخِلَافِ مَا إذَا آجَرَ مِنْ رَجُلَيْنِ نَبْوَةً عَنْ ذَلِكَ تُعْرَفُ بِالتَّأَمُّلِ ا هـ كَلَامُهُ .
أَقُولُ : لَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ مَقْصُودَ الْمُصَنِّفِ مِنْ قَوْلِهِ هَذَا دَفْعُ إشْكَالٍ يَرُدُّ عَلَى دَلِيلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَهُوَ أَنَّ الشُّيُوعَ الطَّارِئَ لَا يُفْسِدُ الْإِجَارَةَ بِالْإِجْمَاعِ مَعَ انْتِفَاءِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ هُنَاكَ أَيْضًا ، وَلَا شَكَّ أَنَّ لِهَذَا تَعَلُّقًا ظَاهِرًا بِمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إلَى أَنْ يُجْعَلَ تَمْهِيدًا لِمَا بَعْدَهُ .
( قَوْلُهُ : وَبِخِلَافِ مَا إذَا آجَرَ مِنْ رَجُلَيْنِ ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ يَقَعُ جُمْلَةً ثُمَّ الشُّيُوعُ بِتَفَرُّقِ الْمِلْكِ فِيمَا بَيْنَهُمَا طَارِئٌ ) قَالَ

تَاجُ الشَّرِيعَةِ : فَإِنْ قُلْت : الشُّيُوعُ مُقَارِنٌ لَا طَارِئٌ فَإِنَّهَا عَقْدٌ مُضَافٌ يُعْقَدُ سَاعَةً فَسَاعَةً فَكَانَ الطَّارِئُ كَالْمُقَارِنِ .
قُلْت : بَقَاءُ الْإِجَارَةِ لَهُ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ ؛ لِأَنَّهَا عَقْدٌ لَازِمٌ فَلَا يَكُونُ مُقَارِنًا .
ا هـ كَلَامُهُ .
وَرَدَّ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ جَوَابَهُ حَيْثُ قَالَ : فَإِنْ قِيلَ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ طَارِئٌ بَلْ هُوَ مُقَارِنٌ ؛ لِأَنَّهَا تَنْعَقِدُ سَاعَةً فَسَاعَةً .
أُجِيبَ بِأَنَّ بَقَاءَ الْإِجَارَةِ لَهُ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ مِنْ وَجْهٍ ؛ لِأَنَّهَا عَقْدٌ لَازِمٌ فَلَا يَكُونُ مُقَارِنًا .
وَقَالَ : وَهُوَ فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الْغَيْرَ اللَّازِمِ هُوَ الَّذِي يَكُونُ لِلْبَقَاءِ فِيهِ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْوَكَالَةِ ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ هُنَا ابْتِدَاءٌ وَبَقَاءٌ سَقَطَ الِاعْتِرَاضُ ، وَإِنَّمَا الْخَصْمُ يَقُولُ لَا بَقَاءَ لِلْعَقْدِ فِيهَا .
ا هـ .
أَقُولُ : كُلٌّ مِنْ أَصْلِ رَدِّهِ وَعِلَاوَتِهِ فَاسِدٌ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ قَوْلَ الْمُجِيبِ ؛ لِأَنَّهَا عَقْدٌ لَازِمٌ نَاظِرٌ إلَى قَوْلِهِ دُونَ وَجْهٍ ، أَوْ إلَى مَجْمُوعِ قَوْلِهِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ ، لَا إلَى قَوْلِهِ مِنْ وَجْهٍ وَحْدَهُ كَمَا تَوَهَّمَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ وَبَنَى عَلَيْهِ رَدَّهُ كَمَا تَرَى ، فَمَعْنَى الْجَوَابِ أَنَّ لِبَقَاءِ الْإِجَارَةِ حُكْمَ الِابْتِدَاءِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ ؛ لِأَنَّهَا عَقْدٌ لَازِمٌ ، فَإِنَّ الْعَقْدَ الْغَيْرَ اللَّازِمِ يَكُونُ لِبَقَائِهِ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِبَقَاءِ الْإِجَارَةِ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ مِنْ وَجْهٍ لَمْ يَكُنْ الشُّيُوعُ مُقَارِنًا لِلْعَقْدِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَلَمْ يَكُنْ الطَّارِئُ كَالْمُقَارِنِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَدَارَ الْجَوَابِ الْمَزْبُورِ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الشُّيُوعِ الطَّارِئِ وَالْمُقَارِنِ مِنْ الْوَجْهِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ ، وَصَاحِبُ الْعِنَايَةِ تَوَهَّمَ الْعَكْسَ حَتَّى طَوَى فِي تَقْرِيرِ الْجَوَابِ قَوْلَ الْمُجِيبِ دُونَ وَجْهٍ ، وَلَمْ يَدْرِ أَنَّ

الْجَوَابَ حِينَئِذٍ لَا يَكُونُ دَافِعًا لِلسُّؤَالِ أَصْلًا بَلْ يَكُونُ مُقَوِّيًا لَهُ كَمَا يَظْهَرُ بِالتَّأَمُّلِ الصَّادِقِ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ ثُبُوتَ الْبَقَاءِ لِعَقْدِ الْإِجَارَةِ مِمَّا لَمْ يُنَازِعْ فِيهِ أَحَدٌ ، فَإِنَّ الْأَصْلَ عِنْدَنَا أَنَّ الْعَيْنَ الْمُسْتَأْجَرَةَ أُقِيمَتْ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ فِي إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَيْهَا ، وَأَنَّ الْعَقْدَ ، وَهُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ الصَّادِرَانِ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مَعَ ارْتِبَاطِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ بَاقٍ شَرْعًا بِبَقَاءِ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ عَلَى السَّلَامَةِ ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَتَجَدَّدُ سَاعَةً فَسَاعَةً هُوَ الِانْعِقَادُ فِي حَقِّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ الْحَادِثَةُ شَيْئًا فَشَيْئًا .
وَهَذَا مَعَ كَوْنِهِ مَعْلُومًا مِمَّا تَقَرَّرَ فِي صَدْرِ كِتَابِ الْإِجَارَةِ مُنْكَشِفٌ بِمَا ذُكِرَ هَاهُنَا فِي الْكَافِي وَكَثِيرٍ مِنْ الشُّرُوحِ ، وَهُوَ أَنَّ الشُّيُوعَ الطَّارِئَ بِأَنْ آجَرَ رَجُلٌ مِنْ رَجُلَيْنِ ثُمَّ مَاتَ أَحَدُ الْمُسْتَأْجَرِينَ أَوْ بِأَنْ آجَرَ رَجُلَانِ مِنْ رَجُلٍ ثُمَّ مَاتَ أَحَدُ الْمُؤَجِّرَيْنِ يَفْسُدُ الْعَقْدُ فِي حَقِّ الْحَيِّ فِي رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ عَنْ خَالِدِ بْنِ صَبِيحٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ يَتَجَدَّدُ انْعِقَادُهَا بِحَسْبِ حُدُوثِ الْمَنَافِعِ ، فَكَانَ هَذَا فِي مَعْنَى الشُّيُوعِ الْمُقْتَرِنِ بِالْعَقْدِ .
وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَبْقَى الْعَقْدُ فِي حَقِّ الْحَيِّ ؛ لِأَنَّ تَجَدُّدَ الِانْعِقَادِ فِي حَقِّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ .
فَأَمَّا أَصْلُ الْعَقْدِ فَمُنْعَقِدٌ لَازِمٌ فِي الْحَالِ ، وَبِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى الشُّيُوعُ طَارِئٌ وَالشُّيُوعُ الطَّارِئُ لَيْسَ نَظِيرَ الْمُقَارِنِ ، كَمَا فِي الْهِبَةِ إذَا ، وَهَبَ كُلَّ الدَّارِ وَسَلَّمَهَا ثُمَّ رَجَعَ فِي نِصْفِهَا ، انْتَهَى مَا فِي الْكَافِي وَكَثِيرٍ مِنْ الشُّرُوحِ ، وَهَكَذَا ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ وَالْأَسْرَارِ أَيْضًا فَتَنَبَّهْ .

قَالَ : ( وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الظِّئْرِ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } وَلِأَنَّ التَّعَامُلَ بِهِ كَانَ جَارِيًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَبْلَهُ وَأَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ .
ثُمَّ قِيلَ : إنَّ الْعَقْدَ يَقَعُ عَلَى الْمَنَافِعِ وَهِيَ خِدْمَتُهَا لِلصَّبِيِّ وَالْقِيَامُ بِهِ وَاللَّبَنُ يُسْتَحَقُّ عَلَى طَرِيقِ التَّبَعِ بِمَنْزِلَةِ الصَّبْغِ فِي الثَّوْبِ .
وَقِيلَ إنَّ الْعَقْدَ يَقَعُ عَلَى اللَّبَنِ ، وَالْخِدْمَةُ تَابِعَةٌ ، وَلِهَذَا لَوْ أَرْضَعَتْهُ بِلَبَنِ شَاةٍ لَا تَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ .
وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ إلَى الْفِقْهِ ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ لَا يَنْعَقِدُ عَلَى إتْلَافِ الْأَعْيَانِ مَقْصُودًا ، كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَ بَقَرَةً ؛ لِيَشْرَبَ لَبَنَهَا .
وَسَنُبَيِّنُ الْعُذْرَ عَنْ الْإِرْضَاعِ بِلَبَنِ الشَّاةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا يَصِحُّ إذَا كَانَتْ الْأُجْرَةُ مَعْلُومَةً اعْتِبَارًا بِالِاسْتِئْجَارِ عَلَى الْخِدْمَةِ .

( قَوْلُهُ : وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الظِّئْرِ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ : اعْلَمْ أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى جَوَازَ إجَارَةِ الظِّئْرِ ؛ لِأَنَّهَا تَرِدُ عَلَى اسْتِهْلَاكِ الْعَيْنِ مَقْصُودًا ، وَهُوَ اللَّبَنُ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اسْتَأْجَرَ شَاةً أَوْ بَقَرَةً مُدَّةً مَعْلُومَةً بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ لِيَشْرَبَ لَبَنَهَا ، لَكِنْ جَوَّزْنَاهَا اسْتِحْسَانًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } ، وَهَذَا الْعَقْدُ لَا يَرِدُ عَلَى الْعَيْنِ ، وَهُوَ اللَّبَنُ مَقْصُودًا ، وَإِنَّمَا يَقَعُ عَلَى فِعْلِ التَّرْبِيَةِ وَالْحَضَانَةِ وَخِدْمَةِ الصَّبِيِّ ، وَاللَّبَنُ يَدْخُلُ فِيهَا تَبَعًا لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ ، وَمِثْلُ هَذَا جَائِزٌ ، كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ صَبَّاغًا لِيَصْبُغَ لَهُ الثَّوْبَ فَإِنَّهَا جَائِزَةٌ .
وَطَرِيقُ الْجَوَازِ أَنْ يَجْعَلَ الْعَقْدَ وَارِدًا عَلَى فِعْلُ الصَّبَّاغِ وَالصَّبْغُ يَدْخُلُ فِيهِ تَبَعًا ، فَلَمْ تَكُنْ الْإِجَارَةُ وَارِدَةً عَلَى اسْتِهْلَاكِ الْعَيْنِ مَقْصُودًا ، وَبِهَذَا خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ فَصْلِ الْبَقَرَةِ وَالشَّاةِ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ عَقْدَ الْإِجَارَةِ يَرِدُ عَلَى اسْتِهْلَاكِ الْعَيْنِ مَقْصُودًا ، كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ إلَى هُنَا لَفْظُ النِّهَايَةِ .
أَقُولُ : هَذَا تَحْرِيرٌ رَكِيكٌ بَلْ مُخْتَلٌّ ؛ لِأَنَّ الْمَشَايِخَ قَدْ كَانُوا مُخْتَلِفِينَ فِي أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي اسْتِئْجَارِ الظِّئْرِ مَا ذَا ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ الْمَنَافِعُ ، وَهِيَ خِدْمَتُهَا لِلصَّبِيِّ ، وَاللَّبَنُ يَقَعُ كَالصَّبْغِ فِي الثَّوْبِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : وَاللَّبَنُ وَالْخِدْمَةُ تَابِعَةٌ عَلَى مَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ ، وَمَدَارُ مَا ذَكَرَ فِي وَجْهِ الْقِيَاسِ هُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي .
وَمَدَارُ مَا ذَكَرَ فِي وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ بِقَوْلِهِ ، وَهَذَا الْعَقْدُ لَا يَرِدُ عَلَى الْعَيْنِ إلَخْ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ ، فَهَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا إنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى جَوَازَهَا لَكِنْ جَوَّزْنَاهَا اسْتِحْسَانًا ، فَيَذْكُرُ فِي وَجْهُ الْقِيَاسِ مَا يَخْتَصُّ بِأَحَدِ

الْقَوْلَيْنِ فِي مَعْنَى هَاتِيك الْمَسْأَلَةِ ، وَفِي وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ مَا يَخْتَصُّ بِالْقَوْلِ الْآخَرِ فِي مَعْنَاهَا .
وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَجْهُ الْقِيَاسِ ، وَلَا يَصِحُّ عَلَى الْآخَرِ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ ، فَلَا يُوجَدُ فِي الْمَسْأَلَةِ قِيَاسٌ وَاسْتِحْسَانٌ عَلَى الْوَجْهِ الْمَزْبُورِ ، عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرَ فِي وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ يَقْتَضِي انْتِفَاءَ ذَلِكَ الْقِيَاسِ رَأْسًا لَا تَرْكَ الْعَمَلِ بِهِ بَعْدَ تَقَرُّرِ ثُبُوتِهِ كَمَا هُوَ حُكْمُ الِاسْتِحْسَانِ فِي مُقَابَلَةِ الْقِيَاسِ عَلَى مَا عُرِفَ تَأَمَّلْ تَقِفْ ( قَوْلُهُ : لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } ) قَالَ الشُّرَّاحُ : يَعْنِي بَعْدَ الطَّلَاقِ .
أَقُولُ : الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ : يَعْنِي بَعْدَ الطَّلَاقِ وَالْعِدَّةِ ؛ لِيُوَافِقَ مَا مَرَّ فِي الْكِتَابِ فِي بَابِ النَّفَقَةِ مِنْ كِتَابِ الطَّلَاقِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا ، وَهِيَ زَوْجَتُهُ أَوْ مُعْتَدَّتُهُ لِتُرْضِعَ وَلَدَهَا لَمْ يَجُزْ انْتَهَى .
وَقَصَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ تَوْجِيهَ كَلَامِهِمْ فَقَالَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ : يَعْنِي بَعْدَ الطَّلَاقِ الْبَائِنِ وَقَالَ : إذْ لَا يَجُوزُ بَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ قَبْلَ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ انْتَهَى .
أَقُولُ : لَيْسَ ذَلِكَ بِتَامٍّ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَعْدَ الطَّلَاقِ الْبَائِنِ أَيْضًا قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فِي رِوَايَةٍ ، وَهِيَ الَّتِي اخْتَارَهَا فِي الْكِتَابِ فِيمَا مَرَّ ، وَعَنْ هَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ هُنَاكَ : وَهَذَا فِي الْمُعْتَدَّةِ عَنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ رِوَايَةً وَاحِدَةً ، وَكَذَا فِي الْمَبْتُوتَةِ فِي رِوَايَةِ النَّهْيِ فَتَدَبَّرْ .
( قَوْلُهُ : وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ إلَى الْفِقْهِ ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ لَا يَنْعَقِدُ عَلَى إتْلَافِ الْأَعْيَانِ مَقْصُودًا إلَخْ ) الْقَوْلُ الْأَوَّلُ اخْتِيَارُ صَاحِبَيْ الذَّخِيرَةِ وَالْإِيضَاحِ ، وَاخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ كَمَا تَرَى .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ حَيْثُ قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ : وَزَعَمَ

بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْمَنْفَعَةُ ، وَهُوَ الْقِيَامُ بِخِدْمَةِ الصَّبِيِّ ، وَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ ، وَأَمَّا اللَّبَنُ فَتَبَعٌ فِيهِ ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ عَيْنٌ وَالْعَيْنُ لَا تُسْتَحَقُّ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ كَلَبَنِ الْأَنْعَامِ .
ثُمَّ قَالَ : وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْعَقْدَ يَرِدُ عَلَى اللَّبَنِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ ، وَهُوَ مَنْفَعَةُ الثَّدْيِ ، وَمَنْفَعَةُ كُلِّ عُضْوٍ عَلَى حَسْبِ مَا يَلِيقُ بِهِ ، هَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ قَالَ : اسْتِحْقَاقُ لَبَنِ الْآدَمِيَّةِ بَعْدَ الْإِجَارَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ ، وَجَوَازُ بَيْعِ لَبَنِ الْأَنْعَامِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهُ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ .
انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَتَعَجَّبَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ مِنْ اخْتِيَارِ الْمُصَنِّفِ مَا أَعْرَضَ عَنْهُ الْإِمَامُ الْكَبِيرُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ بَعْدَ أَنْ رَأَى مِثْلَ هَذَا الدَّلِيلِ الْوَاضِحِ وَالرِّوَايَةِ الْمَنْصُوصَةِ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَرَدَّ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ أَنْ رَوَى تَعَجُّبَهُ مِنْ ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ : وَهُوَ تَقْلِيدٌ صِرْفٌ ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ لَيْسَ بِوَاضِحٍ ؛ لِأَنَّ مَدَارَهُ قَوْلُهُ : لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ ، بَلْ الْمَقْصُودُ هُوَ الْإِرْضَاعُ وَانْتِظَامُ أَمْرِ مَعَاشِ الصَّبِيِّ عَلَى وَجْهٍ خَاصٍّ يَتَعَلَّقُ بِأُمُورٍ وَوَسَائِطَ مِنْهَا اللَّبَنُ فَجَعَلَ الْعَيْنَ الْمَرْئِيَّةَ مَنْفَعَةً .
وَنَقْضُ الْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ أَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ عُقِدَ عَلَى إتْلَافِ الْمَنَافِعِ مَعَ الْغِنَى عَنْ ذَلِكَ بِمَا هُوَ وَجْهٌ صَحِيحٌ لَيْسَ بِوَاضِحٍ ، وَلَا يَتَشَبَّثُ لَهُ بِمَا رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ : اسْتِحْقَاقُ لَبَنِ الْآدَمِيَّةِ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ ، وَجَوَازُ بَيْعِ لَبَنِ الْأَنْعَامِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهُ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَلَئِنْ كَانَ

فَنَحْنُ مَا مَنَعْنَا أَنْ يُسْتَحَقَّ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ .
وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي اسْتِحْقَاقِهِ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ مَقْصُودًا أَوْ تَبَعًا ، وَلَيْسَ فِي كَلَامِ مُحَمَّدٍ مَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
أَقُولُ : خَاتِمَةُ كَلَامِهِ لَيْسَتْ بِصَحِيحَةٍ ، إذْ فِي كَلَامِ مُحَمَّدٍ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ مَقْصُودًا لَا مَحَالَةَ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ اسْتِحْقَاقُ لَبَنِ الْآدَمِيَّةِ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِهِ إلَّا بِأَنْ يَكُونَ اسْتِحْقَاقُهُ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ مَقْصُودًا ، أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّبْغَ فِي الثَّوْبِ يُسْتَحَقُّ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ تَبَعًا مَعَ أَنَّهُ مِمَّا يَجُوزُ بَيْعُهُ قَطْعًا .
ثُمَّ إنَّ لِلشَّارِحِ الْعَيْنِيِّ هَاهُنَا كَلِمَاتٍ كَثِيرَةً مُزَخْرَفَةً ذَكَرَهَا تَقْوِيَةً لِمَا ذَهَبَ إلَيْهِ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ وَرَدًّا عَلَى صَاحِبِ الْعِنَايَةِ مَا ذَكَرَهُ فِي رَدِّهِ عَلَى صَاحِبِ النِّهَايَةِ ، فَإِنْ ذَكَرْنَا كُلَّهَا وَبَيَّنَّا حَالَهَا الْتَزَمْنَا الْإِطْنَابَ بِلَا طَائِلٍ ، وَلَكِنْ لَا عَلَيْنَا أَنْ نَذْكُرَ نُبَذًا مِنْ أَوَّلِهَا وَآخِرِهَا ، قَالَ بَعْدَ نَقْلِ مَا فِي النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ : قُلْت قَوْلُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ هُوَ الْأَقْرَبُ إلَى الْفِقْهِ ؛ لِأَنَّ الْأَعْيَانَ الَّتِي تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا مَعَ بَقَاءِ أَصْلِهَا بِمَنْزِلَةِ الْمَنَافِعِ فَيَجُوزُ إجَارَتُهَا كَالْعَارِيَّةِ لِمَنْ يَنْتَفِعُ بِالْمَتَاعِ ثُمَّ يَرُدُّهُ ، وَالْعَرِيَّةِ لِمَنْ يَأْكُلُ ثَمَرَةَ الشَّجَرَةِ ثُمَّ يَرُدُّهَا ، وَالْمِنْحَةِ لِمَنْ يَشْرَبُ لَبَنَ الشَّاةِ ثُمَّ يَرُدُّهَا ، ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ كَلَامِهِ : وَكَيْفَ يَقُولُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ لِمَا رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ غَيْرُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَهُوَ مِنْ كِبَارِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ وَأَبِي يُوسُفَ الْقَاضِي ، وَكَانَ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْكِبَارِ الصَّالِحِينَ وَكَانَ يُصَلِّي كُلَّ يَوْمٍ مِائَتَيْ رَكْعَةً .

انْتَهَى كَلَامُهُ .
أَقُولُ : كُلُّ مَا قَالَهُ فِي الْأَوَّلِ وَالْآخِرِ فَاسِدٌ .
أَمَّا مَا قَالَهُ فِي الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ مَعْنَى حُدُوثِ الْمَنَافِعِ شَيْئًا فَشَيْئًا أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا بَقَاءٌ أَصْلًا بِنَاءً عَلَى عَدَمِ بَقَاءِ الْأَعْرَاضِ زَمَانَيْنِ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَيْسَ بِمُتَحَقِّقٍ فِي الْأَعْيَانِ فَكَيْفَ تَكُونُ الْأَعْيَانُ بِمَنْزِلَةِ الْمَنَافِعِ ، وَلَوْ سُلِّمَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ إجَارَةُ الْأَعْيَانِ قَطْعًا ، إذْ حَقِيقَةُ الْإِجَارَةِ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ بِعِوَضٍ دُونَ تَمْلِيكِ الْأَعْيَانِ ، فَإِنَّ تَمْلِيكَ الْأَعْيَانِ بِعِوَضٍ هُوَ الْبَيْعُ لَا غَيْرُ ، وَهَذَا أَمْرٌ مُقَرَّرٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ قَاطِبَةً ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ التَّنْظِيرَاتِ أَوْ التَّشْبِيهَاتِ مِمَّا لَا يُجْدِي شَيْئًا .
أَمَّا صُورَةُ الْعَارِيَّةِ فَلِأَنَّ الْعَيْنَ هُنَاكَ بَاقٍ عَلَى حَالِهِ ، وَإِنَّمَا الِانْتِفَاعُ بِالْمَنَافِعِ فَلَا مِسَاسَ لَهَا لِمَا نَحْنُ فِيهِ .
وَأَمَّا الصُّورَتَانِ الْأُخْرَيَانِ فَلِأَنَّ الْمَعْنَى فِيهِمَا ، وَإِنْ كَانَ تَمْلِيكًا لِلْعَيْنِ لَكِنْ لَا بِطَرِيقِ الْإِجَارَةِ بَلْ بِطَرِيقِ الْهِبَةِ وَالْعَطِيَّةِ فَلَا فَائِدَةَ لَهُمَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ، إذْ الْكَلَامُ فِي أَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ لَا يَرِدُ عَلَى الْأَعْيَانِ لَا أَنَّ شَيْئًا مِنْ الْمَعْقُودِ لَا يَرِدُ عَلَيْهِمَا .
وَأَمَّا مَا قَالَهُ فِي الْآخِرِ فَلِأَنَّ الْمُرَادَ بِظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ رِوَايَةُ الْجَامِعَيْنِ وَالزِّيَادَاتِ وَالْمَبْسُوطِ .
وَالْمُرَادُ بِغَيْرِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَهُمْ رِوَايَةٌ غَيْرُهَا ، وَهَذَا مَعَ كَوْنِهِ شَائِعًا فِيمَا بَيْنَهُمْ مَذْكُورٌ فِي مَوَاضِعَ شَتَّى قَدْ صَرَّحَ بِهِ الشُّرَّاحُ قَاطِبَةً حَتَّى ذَلِكَ الشَّارِحُ نَفْسُهُ أَيْضًا فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مُرَادَ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ أَيْضًا هَاهُنَا بِقَوْلِهِ إنَّ مَا رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ لَيْسَ بِظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ رِوَايَةِ تِلْكَ الْكُتُبِ الْأَرْبَعَةِ لِمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ الَّتِي هِيَ

رِوَايَةُ الْمُعْتَدِّ بِهَا جِدًّا ، وَكَوْنُ ابْنِ سِمَاعَةَ مِنْ كِبَارِ الْعُلَمَاءِ الصَّالِحِينَ مِمَّا لَا يُقْدَحُ فِي ذَلِكَ قَطْعًا ، وَمَا الشُّبْهَةُ فِيهِ إلَّا مِنْ الْغَفُولِ عَلَى اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَغَيْرِ ظَاهِرِهَا فَكَأَنَّهُ نَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ( قَوْلُهُ : وَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا يَصِحُّ إذَا كَانَتْ الْأُجْرَةُ مَعْلُومَةً اعْتِبَارًا بِالِاسْتِئْجَارِ عَلَى الْخِدْمَةِ ) قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ مَا ذَكَرْنَا : يَعْنِي مِنْ جَوَازِ الْإِجَارَةِ بِأَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ .
أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ ، إذْ لَوْ كَانَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ مَا ذَكَرْنَا مَا يَعُمُّ الطَّرِيقَيْنِ لَمَا تَمَّ قَوْلُهُ : اعْتِبَارًا بِالِاسْتِئْجَارِ عَلَى الْخِدْمَةِ ؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالِاسْتِئْجَارِ عَلَى الْخِدْمَةِ : أَيْ الْقِيَاسُ عَلَى ذَلِكَ لَا يَصِحُّ عَلَى الطَّرِيقِ الثَّانِي ، فَإِنَّ الْعَقْدَ فِي الِاسْتِئْجَارِ عَلَى الْخِدْمَةِ يَقَعُ عَلَى إتْلَافِ الْمَنْفَعَةِ مَقْصُودًا لَا مَحَالَةَ ، وَفِي اسْتِئْجَارِ الظِّئْرِ يَقَعُ عَلَى إتْلَافِ الْعَيْنِ مَقْصُودًا عَلَى مُوجِبِ الطَّرِيقِ الثَّانِي فَكَيْفَ يَصِحُّ اعْتِبَارُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ .
فَالْحَقُّ أَنَّ مُرَادَهُ بِقَوْلِهِ مَا ذَكَرْنَا مَا اخْتَارَهُ مِنْ رُجْحَانِ الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ عَلَى الطَّرِيقِ الثَّانِي ، وَعَنْ هَذَا قَدَّمَ ذِكْرَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي إثْبَاتِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، وَأَخَّرَ ذِكْرَ الْقِيَاسِ إلَى هُنَا ، فَإِنَّ إثْبَاتَهَا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مُتَمَشٍّ عَلَى كِلَا الطَّرِيقَيْنِ فَنَاسَبَ ذِكْرَهُمَا مُتَّصِلًا بِأَصْلِ الْمَسْأَلَةِ ، وَأَمَّا إثْبَاتُهَا بِالْقِيَاسِ فَمُخْتَصٌّ بِالطَّرِيقِ الْأَوَّلِ فَنَاسَبَ ذِكْرَهُ بَعْدَ تَفْصِيلِ الطَّرِيقَيْنِ وَبَيَانُ مَا هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَهُ مُوَافِقٌ لِلْقِيَاسِ ، فَبِهَذَا التَّحْقِيقِ ظَهَرَ سُقُوطُ السُّؤَالِ وَرَكَاكَةُ الْجَوَابِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بِقَوْلِهِ : فَإِنْ قِيلَ : قَدْ عَلِمَ مِنْ أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ جَوَازَهَا حَيْثُ صَدَّرَ الْحُكْمَ فَاسْتَدَلَّ فَمَا

فَائِدَةُ هَذَا الْكَلَامِ ؟ .
قُلْت : أَثْبَتَ جَوَازَهَا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَوَّلًا ثُمَّ رَجَعَ إلَى إثْبَاتِهَا بِالْقِيَاسِ ، انْتَهَى تَدَبَّرْ تَفْهَمْ .

قَالَ : ( وَيَجُوزُ بِطَعَامِهَا وَكِسْوَتِهَا اسْتِحْسَانًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَالَا : لَا يَجُوزُ ) ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ مَجْهُولَةٌ فَصَارَ كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَهَا لِلْخَبْزِ وَالطَّبْخِ .
لَهُ أَنَّ الْجَهَالَةَ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ ؛ لِأَنَّ فِي الْعَادَةِ التَّوْسِعَةَ عَلَى الْأَظْآرِ شَفَقَةٌ عَلَى الْأَوْلَادِ فَصَارَ كَبَيْعِ قَفِيزٍ مِنْ صُبْرَةٍ ، بِخِلَافِ الْخَبْزِ وَالطَّبْخِ ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِيهِ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ ( وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : فَإِنْ سَمَّى الطَّعَامَ دَرَاهِمَ وَوَصَفَ جِنْسَ الْكِسْوَةِ وَأَجَلَهَا وَذَرْعَهَا فَهُوَ جَائِزٌ ) يَعْنِي بِالْإِجْمَاعِ وَمَعْنَى تَسْمِيَةِ الطَّعَامِ دَرَاهِمَ أَنْ يَجْعَلَ الْأُجْرَةَ دَرَاهِمَ ثُمَّ يَدْفَعُ الطَّعَامَ مَكَانَهُ ، وَهَذَا لَا جَهَالَةَ فِيهِ ( وَلَوْ سَمَّى الطَّعَامَ وَبَيَّنَ قَدْرَهُ جَازَ أَيْضًا ) لِمَا قُلْنَا ، وَلَا يُشْتَرَطُ تَأْجِيلُهُ ؛ لِأَنَّ أَوْصَافَهَا أَثْمَانٌ .
( وَيُشْتَرَطُ بَيَانُ مَكَانِ الْإِيفَاءِ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الْبُيُوعِ ( وَفِي الْكِسْوَةِ يُشْتَرَطُ بَيَانُ الْأَجَلِ أَيْضًا مَعَ بَيَانِ الْقَدْرِ وَالْجِنْسِ ) ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ إذَا صَارَ مَبِيعًا ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ مَبِيعًا عِنْدَ الْأَجَلِ كَمَا فِي السَّلَمِ .

( قَوْلُهُ : وَمَعْنَى تَسْمِيَةِ الطَّعَامِ دَرَاهِمَ أَنْ يَجْعَلَ الْأُجْرَةَ دَرَاهِمَ ثُمَّ يَدْفَعَ الطَّعَامَ مَكَانَهُ ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : وَهَذَا التَّفْسِيرُ الَّذِي ذَكَرَهُ لَا يُسْتَفَادُ مِنْ ذَلِكَ اللَّفْظِ ، وَلَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ : أَيْ سَمَّى الدَّرَاهِمَ الْمُقَدَّرَةَ بِمُقَابَلَةِ طَعَامِهَا ثُمَّ أَعْطَى الطَّعَامَ بِإِزَاءِ الدَّرَاهِمِ الْمُسَمَّاةِ انْتَهَى .
أَقُولُ : لَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ يُسْتَفَادُ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ ذَلِكَ اللَّفْظِ حَتَّى يَصِحَّ طَعْنُهُ فِي الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِأَنَّهُ لَا يُسْتَفَادُ مِنْ ذَلِكَ اللَّفْظِ وَقَبُولِهِ هَذَا الْمَعْنَى ، فَإِنَّ هَذَا الْمَعْنَى إنْ لَمْ يَكُنْ أَكْثَرَ بُعْدًا مِنْ ذَلِكَ اللَّفْظِ مِنْ الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فَلَا أَقَلَّ مِنْ الْمُسَاوَاةِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا صُيِّرَ إلَى حَذْفِ الْمُضَافِ ، وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إلَيْهِ مَقَامَهُ فِي ذَلِكَ اللَّفْظِ : أَيْ لَفْظِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِأَنْ كَانَ تَقْدِيرُهُ إنْ سَمَّى بَدَلَ الطَّعَامِ دَرَاهِمَ كَمَا حَمَلَهُ عَلَيْهِ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ جَازَ أَنْ يُفْهَمَ مِنْهُ أَوَّلُ الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : أَنْ يَجْعَلَ الْأُجْرَةَ دَرَاهِمَ ، وَلَكِنْ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَصْلًا آخِرُهُ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : ثُمَّ يَدْفَعَ الطَّعَامَ مَكَانَهُ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ حَيْثُ قَالَ : لَكِنْ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ أَعْطَى بَدَلَ الدَّرَاهِمِ طَعَامًا ، وَإِنَّمَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ سَمَّى بَدَلَ الطَّعَامِ دَرَاهِمَ لَا غَيْرُ .
انْتَهَى .
وَأَمَّا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ فَلَهُ اشْتِرَاكٌ فِي الْآخَرِ مَعَ الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ ، وَفِي أَوَّلِهِ تَفْصِيلٌ زَائِدٌ عَلَى مَا فِي أَوَّلِ الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ ، فَإِنْ فُهِمَ ذَلِكَ التَّفْصِيلُ مِنْ الْمُضَافِ الْمُقَدَّرِ فِي لَفْظِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ كَانَ الْمَعْنَيَانِ مُتَسَاوِيَيْنِ فِي انْفِهَامِ الْبَعْضِ الْأَوَّلِ مِنْهُمَا مِنْ ذَلِكَ اللَّفْظِ وَعَدَمِ انْفِهَامِ

الْبَعْضِ الْآخَرِ مِنْهُمَا مِنْهُ ، وَإِلَّا كَانَ الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ أَكْثَرَ بُعْدًا مِنْ ذَلِكَ اللَّفْظِ مِنْ الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ ، فَلَا وَجْهَ لِرَدِّ الثَّالِثِ وَقَبُولِ الْأَوَّلِ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ أَنْ نَقَلَ مَا قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : وَهُوَ حَقٌّ ، وَلَكِنْ لَوْ قَدَّرَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ لَفْظَةً بَدَلًا بِأَنْ يُقَالَ أَنْ يَجْعَلَ الْأُجْرَةَ دَرَاهِمَ بَدَلًا آلَ إلَى ذَلِكَ .
انْتَهَى .
أَقُولُ : لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ دُرْبَةٌ بِأَسَالِيبِ الْكَلَامِ أَنَّ تَقْدِيرَ بَدَلًا بَعْدَ أَنْ أَخَذَتْ كَلِمَةُ أَنْ يَجْعَلَ مَفْعُولَيْهَا رَكِيكٌ مِنْ حَيْثُ الْإِعْرَابِ ، وَالْمَعْنَى : فَعَلَيْك بِالتَّأَمُّلِ الصَّادِقِ مَعَ مُلَاحَظَةِ قَوْلِهِ ثُمَّ يَدْفَعَ الطَّعَامَ مَكَانَهُ .
وَذَكَرَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ تَوْجِيهَيْنِ آخَرَيْنِ لِلَّفْظِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ حَيْثُ قَالَ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الطَّعَامُ مَنْصُوبًا عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ : أَيْ لِلطَّعَامِ ، أَوْ الْمُرَادُ بِالتَّسْمِيَةِ هُوَ التَّعْيِينُ : أَيْ عَيْنُ الطَّعَامِ بِدَرَاهِمَ وَتَعْدِيَتُهُ إلَى دَرَاهِمَ بِنَفْسِهِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهُ الْأَصْلِيِّ تَأَمَّلْ .
انْتَهَى كَلَامُهُ .
أَقُولُ : كِلَا التَّوْجِيهَيْنِ مَجْرُوحٌ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ أَنَّ حَذْفَ حَرْفِ الْجَرِّ مَعَ غَيْرِ أَنْ وَأَنَّ إنَّمَا يَجُوزُ فِيمَا يُسْمَعُ نَحْوُ اسْتَغْفَرْتُ اللَّهَ ذَنْبًا : أَيْ مِنْ ذَنْبٍ وَبَغَاهُ الْخَيْرَ : أَيْ بَغَى لَهُ ، وَأَمَّا فِيمَا لَا يُسْمَعُ فَلَا يَجُوزُ ، وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ حَذْفُ الْجَارِّ مِنْ إيَّاكَ مِنْ الْأَسَدِ إذْ لَمْ يُسْمَعْ ، وَعَنْ هَذَا قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ : وَلَا تَقُلْ إيَّاكَ الْأَسَدَ لِامْتِنَاعِ تَقْدِيرِ مِنْ .
انْتَهَى .
وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ أَيْضًا لَمْ يُسْمَعْ فَلَا يَجُوزُ نَزْعُ الْخَافِضِ : أَيْ حَذْفُ حَرْفِ الْجَرِّ وَلِهَذَا لَمْ يَتَعَرَّضْ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ مِنْ الثِّقَاتِ لِهَذَا التَّوْجِيهِ مَعَ ظُهُورِهِ جِدًّا .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْمُرَادُ

بِالتَّسْمِيَةِ هُوَ التَّعْيِينَ لَا يَصِحُّ تَعْدِيَتُهُ إلَى دَرَاهِمَ بِنَفْسِهِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهُ الْأَصْلِيِّ ، وَإِلَّا يَلْزَمُ الْجَمْعُ بَيْنَ مَعْنَى التَّسْمِيَةِ ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ سَوَاءٌ كَانَ اللَّفْظُ حَقِيقَةً فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ أَوْ حَقِيقَةً فِي أَحَدِهِمَا مَجَازًا فِي الْآخَرِ ، إذْ لَا يَجُوزُ عُمُومُ الْمُشْتَرَكِ ، وَلَا الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ عِنْدَنَا عَلَى مَا عُرِفَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ .
( قَوْلُهُ : وَلَا يَشْتَرِطُ تَأْجِيلَهُ ؛ لِأَنَّ أَوْصَافَهَا أَثْمَانٌ ) قَالَ كَثِيرٌ مِنْ ثِقَاتِ الشُّرَّاحِ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ أَوْصَافَهَا : أَيْ أَوْصَافُ الطَّعَامِ عَلَى تَأْوِيلِ الْحِنْطَةِ .
ا هـ .
أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالطَّعَامِ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ مَا يَعُمُّ الْحِنْطَةَ وَغَيْرَهَا ، فَكَيْفَ يَتِمُّ تَأْوِيلُ ذَلِكَ بِالْخَاصِّ فِي مَقَامِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْعَامِّ .
وَالْحَقُّ عِنْدِي أَنَّ مَرْجِعَ الضَّمِيرِ هُوَ الطَّعَامُ بِتَأْوِيلِ كَوْنِهِ أُجْرَةً فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ ، فَالْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الْأُجْرَةَ أَوْصَافُهَا أَوْصَافُ أَثْمَانٍ فَلَا يَشْتَرِطُ تَأْجِيلَهَا ، بِخِلَافِ الْكِسْوَةِ كَمَا سَنَذْكُرُ .
وَالْعَجَبُ أَنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةُ بَعْدَ أَنْ قَالَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَلَا يَشْتَرِطُ تَأْجِيلَهُ : أَيْ تَأْجِيلَهُ الطَّعَامَ الْمُسَمَّى أُجْرَةً سَلَكَ فِي تَأْوِيلِ تَأْنِيثِ ضَمِيرِ أَوْصَافِهَا مَسْلَكَ سَائِرِ الشُّرَّاحِ مِنْ التَّأْوِيلِ بِالْحِنْطَةِ وَقَدْ عَرَفْت .

قَالَ ( وَلَيْسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَمْنَعَ زَوْجَهَا مِنْ وَطْئِهَا ) ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ حَقُّ الزَّوْجِ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إبْطَالِ حَقِّهِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ صِيَانَةً لِحَقِّهِ ، إلَّا أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ يَمْنَعُهُ عَنْ غِشْيَانِهَا فِي مَنْزِلِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَنْزِلَ حَقُّهُ ( فَإِنْ حَبِلَتْ كَانَ لَهُمْ أَنْ يَفْسَخُوا الْإِجَارَةَ إذَا خَافُوا عَلَى الصَّبِيِّ مِنْ لَبَنِهَا ) ؛ لِأَنَّ لَبَنَ الْحَامِلِ يُفْسِدُ الصَّبِيَّ وَلِهَذَا كَانَ لَهُمْ الْفَسْخُ إذَا مَرِضَتْ أَيْضًا ( وَعَلَيْهَا أَنْ تُصْلِحَ طَعَامَ الصَّبِيِّ ) ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ عَلَيْهَا .
وَالْحَاصِلُ أَنْ يُعْتَبَرَ فِيمَا لَا نَصَّ عَلَيْهِ الْعُرْفُ فِي مِثْلِ هَذَا الْبَابِ ، فَمَا جَرَى بِهِ الْعُرْفُ مِنْ غَسْلِ ثِيَابِ الصَّبِيِّ وَإِصْلَاحِ الطَّعَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ عَلَى الظِّئْرِ أَمَّا الطَّعَامُ فَعَلَى وَالِدِ الْوَلَدِ ، وَمَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ أَنَّ الدُّهْنَ وَالرَّيْحَانَ عَلَى الظِّئْرِ فَذَلِكَ مِنْ عَادَةِ أَهْلِ الْكُوفَةِ .

( وَإِنْ أَرْضَعَتْهُ فِي الْمُدَّةِ بِلَبَنِ شَاةٍ فَلَا أَجْرَ لَهَا ) ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَأْتِ بِعَمَلٍ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهَا ، وَهُوَ الْإِرْضَاعُ ، فَإِنَّ هَذَا إيجَارٌ وَلَيْسَ بِإِرْضَاعٍ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ الْأَجْرُ لِهَذَا الْمَعْنَى أَنَّهُ اخْتَلَفَ الْعَمَلُ .

( قَوْلُهُ : فَإِنَّ هَذَا إيجَارٌ وَلَيْسَ بِإِرْضَاعٍ ) فِي الصِّحَاحِ الْوَجُورُ الدَّوَاءُ يُوجَرُ فِي وَسَطِ الْفَمِ : أَيْ يُصَبُّ ، تَقُولُ مِنْهُ وَجَرْتُ الصَّبِيَّ وَأَوْجَرْتُهُ بِمَعْنَى .
ا هـ .
أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إذَا كَانَ هَذَا إيجَارًا لَا إرْضَاعًا فَلَا مَعْنَى ؛ لَأَنْ يَقُولَ فِي الْكِتَابِ فِي وَضْعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : وَإِنْ أَرْضَعَتْهُ فِي الْمُدَّةِ بِلَبَنِ شَاةٍ ، بَلْ الظَّاهِرُ أَنْ يَقُولَ : وَإِنْ أَوْجَرَتْهُ بَدَلَ ، وَإِنْ أَرْضَعَتْهُ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْمُشَاكَلَةِ بِمُلَابَسَةِ مَسْأَلَةِ اسْتِئْجَارِ الظِّئْر الَّتِي وَظِيفَتُهَا الْإِرْضَاعُ تَأَمَّلْ .
فَإِنْ قِيلَ : الظِّئْر أَجِيرٌ خَاصٌّ أَوْ أَجِيرٌ مُشْتَرَكٌ ؟ أُجِيبَ بِأَنَّهَا أَجِيرٌ خَاصٌّ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُ الْمَبْسُوطِ ، فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ : وَلَوْ ضَاعَ الصَّبِيُّ مِنْ يَدِهَا أَوْ وَقَعَ فَمَاتَ أَوْ سُرِقَ مِنْ حُلِيِّ الصَّبِيِّ أَوْ مِنْ ثِيَابِهِ شَيْءٌ لَمْ تَضْمَنْ الظِّئْرُ شَيْئًا ؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْأَجِيرِ الْخَاصِّ ، فَإِنَّ الْعَقْدَ وَرَدَ عَلَى مَنَافِعِهَا فِي الْمُدَّةِ ؛ أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا أَنْ تُؤَجِّرَ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِهِمْ لِمِثْلِ ذَلِكَ الْعَمَلِ ، وَالْأَجِيرُ الْخَاصُّ أَمِينٌ فِيمَا فِي يَدِهِ .
ا هـ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ أَجِيرًا خَاصًّا وَأَنْ تَكُونَ أَجِيرًا مُشْتَرَكًا عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُ الذَّخِيرَةِ ، فَإِنَّهُ قَالَ فِيهَا : وَإِنْ آجَرَتْ الظِّئْرُ نَفْسَهَا مِنْ قَوْمٍ آخَرِينَ تُرْضِعُ صِبْيَانَهُمْ ، وَلَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ أَهْلُهَا الْأَوَّلُونَ حَتَّى يَفْسَخُوا هَذِهِ الْإِجَارَةَ فَأَرْضَعَتْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَفَرَغَتْ فَقَدْ أَثِمَتْ ، وَهَذِهِ جِنَايَةٌ مِنْهَا وَلَهَا الْأَجْرُ كَامِلًا عَلَى الْفَرِيقَيْنِ .
ا هـ .
وَجْهُ الدَّلَالَةِ عَلَى احْتِمَالِهِمَا أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ أَجِيرَ وَحْدٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَمْ تَسْتَحِقَّ الْأَجْرَ كَامِلًا وَأَثِمَتْ بِمَا صَنَعَتْهُ ، وَلَوْ كَانَتْ أَجِيرًا مُشْتَرَكًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ اسْتَحَقَّتْ الْأَجْرَ كَامِلًا وَلَا تَأْثَمُ فَكَانَتْ بَيْنَهُمَا ،

فَقُلْنَا بِأَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ كَامِلًا لِشَبَهِهَا بِالْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ ، وَبِأَنَّهَا تَأْثَمُ لِشَبَهِهَا بِأَجِيرِ الْوَحْدِ .
هَذَا زُبْدَةُ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ هَاهُنَا وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ ، غَيْرَ أَنَّهُ اعْتَرَضَ عَلَى دَلَالَةِ لَفْظِ الْمَبْسُوطِ عَلَى كَوْنِهَا أَجِيرًا خَاصًّا حَيْثُ قَالَ : وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ : لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْأَجِيرِ الْخَاصِّ لَا عَيْنَهُ .
انْتَهَى .
أَقُولُ : نَظَرُهُ سَاقِطٌ ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِدَلَالَةِ لَفْظِ الْمَبْسُوطِ عَلَيْهِ دَلَالَةُ قَوْلِهِ فَإِنَّ الْعَقْدَ وَرَدَ عَلَى مَنَافِعِهَا فِي الْمُدَّةِ ، وَتَنْوِيرُهُ بِقَوْلِهِ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا أَنْ تُؤَجِّرَ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِهِمْ لِمِثْلِ ذَلِكَ الْعَمَلِ ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَدُلُّ قَطْعًا عَلَى أَنَّهَا أَجِيرٌ خَاصٌّ ؛ لِأَنَّ وُرُودَ الْعَقْدُ عَلَى الْمَنْفَعَةِ فِي الْمُدَّةِ وَعَدَمُ جَوَازِ إيجَارِ النَّفْسِ مِنْ غَيْرِ الْمُسْتَأْجَرِ مِنْ خَوَاصِّ الْأَجِيرِ الْخَاصِّ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : بِمَنْزِلَةِ الْأَجِيرِ الْخَاصِّ فَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ بِمَنْزِلَةِ الْأَجِيرِ الْخَاصِّ الْمَعْرُوفِ الَّذِي لَا اشْتِبَاهَ فِيهِ لِأَحَدٍ ، وَهَذَا لَا يُنَافِي أَنْ تَكُونَ هِيَ عَيْنُ جِنْسِ الْأَجِيرِ الْخَاصِّ .
ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ قَالَ : وَلَعَلَّ الْأَوْلَى فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ : إنْ قَدَّمَ الْمُسْتَأْجِرُ ذِكْرَ الْمُدَّةِ بِأَنْ يَقُولَ اسْتَأْجَرْتُكِ سَنَةً لِتُرْضِعِي وَلَدِي هَذَا تَكُونُ خَاصًّا ، وَإِنْ قَدَّمَ ذِكْرَ الْعَمَلِ تَكُونُ مُشْتَرَكًا عَلَى قِيَاسِ مَا قِيلَ فِي اسْتِئْجَارِ الرَّاعِي .
ا هـ .
أَقُولُ : لَيْسَ ذَلِكَ الْجَوَابُ بِتَامٍّ إذْ يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ لَوْ كَانَتْ الظِّئْرُ أَجِيرًا خَاصًّا عَلَى الثَّبَاتِ فِيمَا إذَا قَدَّمَ الْمُسْتَأْجِرُ ذِكْرَ الْمُدَّةِ لَمَا اسْتَحَقَّتْ الْأَجْرَ كَامِلًا إذَا آجَرَتْ نَفْسَهَا مِنْ قَوْمٍ آخَرِينَ لِتُرْضِعَ صِبْيَانَهُمْ مَعَ أَنَّهَا تَسْتَحِقُّهُ كَامِلًا عَلَى الْفَرِيقَيْنِ وَلَكِنْ تَأْثَمُ كَمَا نَقَلْنَاهُ عَنْ الذَّخِيرَةِ ، وَذُكِرَ فِي

سَائِرُ الْمُعْتَبَرَاتِ أَيْضًا .
وَعَنْ هَذَا قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ وَالْمُحِيطِ الْبُرْهَانِيِّ بَعْدَ بَيَانِ اسْتِحْقَاقِهَا الْأَجْرَ كَامِلًا عَلَى الْفَرِيقَيْنِ : وَهَذَا لَا يُشْكِلُ إذَا قَالَ أَبُو الصَّغِيرَةِ لِلظِّئْرِ اسْتَأْجَرْتُكِ لِتُرْضِعِي وَلَدِي هَذَا سَنَةً بِكَذَا ؛ لِأَنَّ الظِّئْرَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَجِيرٌ مُشْتَرَكٌ ؛ لِأَنَّ الْأَبَ أَوْقَعَ الْعَقْدَ أَوَّلًا عَلَى الْعَمَلِ ، وَإِنَّمَا يُشْكِلُ فِيمَا إذَا قَالَ لَهَا اسْتَأْجَرْتُك سَنَةً لِتُرْضِعِي وَلَدِي هَذَا بِكَذَا ؛ لِأَنَّهَا أَجِيرُ وَحْدٍ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ ؛ لِأَنَّهُ أَوْقَعَ الْعَقْدَ عَلَى الْمُدَّةِ أَوَّلًا ، وَلَيْسَ لِأَجِيرِ الْوَحْدِ أَنْ يُؤَجِّرَ نَفْسَهُ مِنْ آخَرَ .
وَإِذَا آجَرَ لَا يَسْتَحِقُّ تَمَامَ الْأَجْرِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ الْأَوَّلِ وَيَأْثَمُ .
وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ أَجِيرَ الْوَحْدِ فِي الرَّضَاعِ يُشْبِهُ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُمْكِنُهُ إيفَاءُ الْعَمَلِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِتَمَامِهِ كَمَا فِي الْخَيَّاطِ وَالْقَصَّارِ ، ثُمَّ لَوْ كَانَتْ أَجِيرَ وَحْدٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَمْ تَسْتَحِقَّ الْأَجْرَ كَامِلًا عَلَى الْأَوَّلِ وَتَأْثَمُ بِمَا صَنَعَتْهُ ، وَلَوْ كَانَتْ أَجِيرًا مُشْتَرَكًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ اسْتَحَقَّتْ الْأَجْرَ كَامِلًا ، وَلَمْ تَأْثَمْ فَإِذَا كَانَتْ بَيْنَهُمَا قُلْنَا بِأَنَّهَا تَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ كَامِلًا لِشَبَهِهَا بِالْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ وَقُلْنَا بِأَنَّهَا تَأْثَمُ لِشَبَهِهَا بِالْأَجِيرِ الْوَحْدِ .
ا هـ .
فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ بِمُجَرَّدِ تَقْدِيمِ الْمُسْتَأْجِرِ ذِكْرَ الْمُدَّةِ لَا يَتِمُّ كَوْنُ الظِّئْرِ أَجِيرَ وَحْدٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّفْصِيلِ وَاعْتِبَارِ الشَّبَهَيْنِ كَمَا ذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ وَالْمُحِيطِ الْبُرْهَانِيِّ وَاخْتَارَهُ الشُّرَّاحُ فِي الْجَوَابِ فَتَبَصَّرْ .

قَالَ : ( وَمَنْ دَفَعَ إلَى حَائِكٍ غَزْلًا لِيَنْسِجَهُ بِالنِّصْفِ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ .
وَكَذَا إذَا اسْتَأْجَرَ حِمَارًا يَحْمِلُ طَعَامًا بِقَفِيزٍ مِنْهُ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ ) ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْأَجْرَ بَعْضَ مَا يَخْرُجُ مِنْ عَمَلِهِ فَيَصِيرُ فِي مَعْنَى قَفِيزِ الطَّحَّانِ ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ ، وَهُوَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ ثَوْرًا لِيَطْحَنَ لَهُ حِنْطَةً بِقَفِيزٍ مِنْ دَقِيقِهِ .
وَهَذَا أَصْلٌ كَبِيرٌ يُعْرَفُ بِهِ فَسَادُ كَثِيرٍ مِنْ الْإِجَارَاتِ ، لَا سِيَّمَا فِي دِيَارِنَا ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ عَاجِزٌ عَنْ تَسْلِيمِ الْأَجْرِ وَهُوَ بَعْضُ الْمَنْسُوجِ أَوْ الْمَحْمُولِ .
إذْ حُصُولُهُ بِفِعْلِ الْأَجِيرِ فَلَا يُعَدُّ هُوَ قَادِرًا بِقُدْرَةِ غَيْرِهِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَأْجَرَهُ لِيَحْمِلَ نِصْفَ طَعَامِهِ بِالنِّصْفِ الْآخَرِ حَيْثُ لَا يَجِبُ لَهُ الْأَجْرُ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ مَلَكَ الْأَجِيرَ فِي الْحَالِ بِالتَّعْجِيلِ فَصَارَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا .
وَمَنْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِحَمْلِ طَعَامٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا لَا يَجِبُ الْأَجْرُ لِأَنَّ مَا مِنْ جُزْءٍ يَحْمِلُهُ إلَّا وَهُوَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ فِيهِ فَلَا يَتَحَقَّقُ تَسْلِيمُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ .
قَالَ ( وَلَا يُجَاوِزُ بِالْأَجْرِ قَفِيزًا ) ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا فَسَدَتْ الْإِجَارَةُ فَالْوَاجِبُ الْأَقَلُّ مَا سَمَّى وَمِنْ أَجْرِ الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِحَطِّ الزِّيَادَةِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَكَا فِي الِاحْتِطَابِ حَيْثُ يَجِبُ الْأَجْرُ بَالِغًا مَا بَلَغَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ ؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى هُنَاكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَلَمْ يَصِحَّ الْحَطُّ .

( قَوْلُهُ : وَهَذَا أَصْلٌ كَبِيرٌ يُعْرَفُ بِهِ فَسَادُ كَثِيرٍ مِنْ الْإِجَارَاتِ لَا سِيَّمَا فِي دِيَارِنَا ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : فَإِنْ قِيلَ : إذَا كَانَ عُرْفُ دِيَارِنَا عَلَى ذَلِكَ فَهَلْ يُتْرَكُ بِهِ الْقِيَاسُ ؟ قُلْنَا : لَا ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَكَانَ ثَابِتًا بِدَلَالَةِ النَّصِّ ، وَمِثْلُهُ لَا يُتْرَكُ بِالْعُرْفِ .
ا هـ .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : سَيَجِيءُ مِنْ الْمُصَنِّفِ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ مَا يُخَالِفُ مَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ حَيْثُ أَطْلَقَ الْقِيَاسَ عَلَى مَا فِي مَعْنَى قَفِيزِ الطَّحَّانِ وَقَالَ يُتْرَكُ بِالْعُرْفِ كَالِاسْتِصْنَاعِ فَرَاجِعْهُ .
ا هـ .
أَقُولُ : مَا سَيَجِيءُ مِنْ الْمُصَنِّفِ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ لَيْسَ بِمُخَالِفٍ لِمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ هَاهُنَا ، فَإِنَّ الْمُصَنِّفَ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ أَنَّ الْمُزَارَعَةَ فَاسِدَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ جَائِزَةٌ عِنْدَ صَاحِبَيْهِ وَذَكَرَ الدَّلِيلَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ قَالَ إلَّا أَنَّ الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهَا وَلِظُهُورِ تَعَامُلِ الْأُمَّةِ بِهَا ، وَالْقِيَاسُ يُتْرَكُ بِالتَّعَامُلِ كَمَا فِي الِاسْتِصْنَاعِ .
ا هـ .
وَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنْ يُطْلِقَ الْقِيَاسَ عَلَى كُلِّ مَا فِي مَعْنَى قَفِيزِ الطَّحَّانِ ، بَلْ إنَّمَا يَقْتَضِي أَنْ يُطْلِقَهُ عَلَى الْمُزَارَعَةِ ، وَهِيَ فِي مَعْنَى قَفِيزِ الطَّحَّانِ مِنْ وَجْهٍ : أَيْ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا اسْتِئْجَارٌ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْ عَمَلِهِ كَمَا ذَكَرَ فِي دَلِيلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى فَسَادِهَا ، وَفِي مَعْنَى الْمُضَارَبَةِ مِنْ وَجْهٍ : أَيْ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا عَقْدُ شَرِكَةٍ بَيْنَ الْمَالِ وَالْعَمَلِ كَمَا ذَكَرَ فِي دَلِيلِ الْإِمَامَيْنِ عَلَى جَوَازِهَا ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّهُ فِي مَعْنَى قَفِيزِ الطَّحَّانِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ؛ لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ مَحْضٌ لَيْسَ فِيهِ شَائِبَةُ الْمُضَارَبَةِ ، فَلِهَذَا قِيلَ : إنَّهُ ثَابِتٌ بِدَلَالَةِ النَّصِّ دُونَ الْقِيَاسِ .
وَلَئِنْ سُلِّمَ مُخَالَفَةُ مَا سَيَجِيءُ مِنْ

الْمُصَنِّفِ هُنَاكَ لِمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ هَاهُنَا فَلَا ضَيْرَ فِيهَا ؛ لِأَنَّ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ ثَابِتٌ بِدَلَالَةِ النَّصِّ فَلَا يُتْرَكُ بِالْعُرْفِ ، وَهُوَ مُخْتَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ .
وَثَانِيهِمَا أَنَّهُ مِنْ حَيْثُ الْقِيَاسُ فَيُتْرَكُ بِالتَّعَامُلِ كَالِاسْتِصْنَاعِ ، وَهُوَ مُخْتَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيِّ وَأُسْتَاذِهِ الْقَاضِي الْإِمَامِ أَبِي عَلِيٍّ النَّسَفِيِّ كَمَا فَصَّلَ فِي الْمَبْسُوطِ وَغَيْرِهِ وَذُكِرَ فِي النِّهَايَةِ ، وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ أَيْضًا ، فَمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ هَاهُنَا عَلَى مَا اخْتَارَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ قَطْعًا ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْمُزَارَعَةِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى مَا اخْتَارَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ وَأُسْتَاذُهُ ، فَإِذَا كَانَ مَدَارُ الْمُخَالَفَةِ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ فَلَا بَأْسَ بِهَا ( قَوْلُهُ : وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَأْجَرَهُ لِيَحْمِلَ نِصْفَ طَعَامِهِ بِالنِّصْفِ الْآخَرِ حَيْثُ لَا يَجِبُ لَهُ الْأَجْرُ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ مَلَكَ الْأَجِيرَ فِي الْحَالِ بِالتَّعْجِيلِ إلَخْ ) قَالَ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ بَعْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ دَلِيلِهَا الْمَزْبُورِ : هَكَذَا قَالُوا ، وَفِيهِ إشْكَالَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الْإِجَارَةَ فَاسِدَةٌ وَالْأُجْرَةَ لَا تُمَلَّكُ بِالصَّحِيحَةِ مِنْهَا بِالْعَقْدِ عِنْدَنَا سَوَاءٌ كَانَتْ عَيْنًا أَوْ دَيْنًا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ ، فَكَيْفَ مَلَكَ هَاهُنَا مِنْ غَيْرِ تَسْلِيمٍ ، وَمِنْ غَيْرِ شَرْطِ التَّعْجِيلِ .
وَالثَّانِي أَنَّهُ قَالَ مَلَكَهُ فِي الْحَالِ ، وَقَوْلُهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ يُنَافِي الْمِلْكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ إذَا مَلَكَهُ إلَّا بِطَرِيقِ الْأُجْرَةُ فَإِذَا لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا فَكَيْفَ يَمْلِكُهُ وَبِأَيِّ سَبَبٍ يَمْلِكُهُ .
ا هـ كَلَامُهُ .
أَقُولُ : كُلٌّ مِنْ إشْكَالَيْهِ سَاقِطٌ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ لَا رَيْبَ أَنَّ وَضْعَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا

سَلَّمَ إلَى الْأَجِيرِ كُلَّ الطَّعَامِ كَمَا يُفْصِحُ عَنْهُ قَوْلُهُمْ فِي تَعْلِيلِهَا ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ مَلَّكَ الْأَجِيرَ فِي الْحَالِ بِالتَّعْجِيلِ ، إذْ تَعْجِيلُ الْأَجْرِ إنَّمَا يَكُونُ بِتَسْلِيمِهِ إلَى الْأَجِيرِ فِي الْحَالِ ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي تَحْرِيرِ نَفْسِ الْمَسْأَلَةِ كَثِيرٌ مِنْ الثِّقَاتِ ، مِنْهُمْ صَاحِبُ النِّهَايَةِ ، وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ حَيْثُ قَالَا : إنَّ هَاهُنَا مَسْأَلَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا مَا إذَا اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَحْمِلَ لَهُ كُرَّ حِنْطَةٍ إلَى بَغْدَادَ مَثَلًا بِنِصْفِهِ كَانَتْ الْإِجَارَةُ فَاسِدَةً ، وَلِلْأَجِيرِ أَجْرُ مِثْلِهِ إنْ كَانَ بَلَغَ إلَى بَغْدَادَ لَا يُجَاوِزُ بِهِ قِيمَةَ نِصْفِ الْكُرِّ .
وَالثَّانِيَةُ أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ لِيَحْمِلَ لَهُ نِصْفَهُ إلَى الْمَكَانِ الْمُعَيَّنِ بِنِصْفِهِ الْبَاقِي ، وَدَفَعَ إلَيْهِ كُلَّهُ وَلَا أَجْرَ لَهُ هَاهُنَا .
وَاَلَّتِي ذَكَرَهَا فِي الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَأْجَرَهُ لِيَحْمِلَ نِصْفَ طَعَامِهِ بِالنِّصْفِ الْآخَرِ هِيَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ ، وَهِيَ مِنْ مَسَائِل إجَارَاتِ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ ا هـ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْمُنَافَاةَ بَيْنَ قَوْلِهِمْ مَلَكَ الْأَجِيرَ فِي الْحَالِ وَبَيْنَ قَوْلِهِمْ لَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ وَلَا يَجِبُ الْأَجْرُ مَمْنُوعَةٌ ، إذْ مَعْنَى الْأَوَّلِ أَنَّهُ يَمْلِكُ الْأَجِيرَ ابْتِدَاءً بِمُوجِبِ الْعَقْدِ وَتَسْلِيمِ الْأَجْرِ إلَى الْأَجِيرِ بِالتَّعْجِيلِ ، وَمَعْنَى الثَّانِي أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ لِبُطْلَانِ الْعَقْدِ قَبْلَ الْعَمَلِ بَعْدَ أَنْ مَلَكَ الْأَجِيرَ بِالتَّسْلِيمِ بِسَبَبِ أَنْ صَارَ شَرِيكًا فِي الطَّعَامِ قَبْلَ إيفَاءِ شَيْءٍ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، وَلَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ ، بَلْ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا يُؤَدِّي إلَى الثَّانِي .
وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّوْفِيقِ قَطْعًا مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ فِي تَعْلِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَقْلًا عَنْ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ لِشَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ وَصَدْرِ الْإِسْلَامِ الْحُمَيْدِيِّ حَيْثُ قَالَ : وَأَمَّا فِي

الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ ، وَهِيَ مَا إذَا اسْتَأْجَرَهُ لِيَحْمِلَ نِصْفَهُ إلَى بَغْدَادَ بِنِصْفِهِ الْبَاقِي وَدَفَعَ إلَيْهِ فَإِنَّمَا سَلَّمَهُ إلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ التَّمْلِيكِ لِنِصْفِ الْكُرِّ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْبَدَلَ نِصْفُ كُرٍّ مُطْلَقٍ لَا نِصْفُ كُرٍّ مَحْمُولٍ إلَى بَغْدَادَ فَصَارَ بِتَسْلِيمِ الْكُرِّ إلَيْهِ مُعَجِّلًا لِلْأُجْرَةِ فَمَلَكَهَا بِنَفْسِ الْقَبْضِ ، وَإِذَا مَلَكَهُ بِالتَّسْلِيمِ بَطَلَ الْعَقْدُ قَبْلَ الْعَمَلِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ شَرِيكًا فِي الْكُرِّ قَبْلَ إيفَاءِ شَيْءٍ مِنْ الْعُقُودِ عَلَيْهِ ، وَمَا قَبْلَ التَّسْلِيمِ فِي الْإِجَارَةِ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ ، فَلَوْ ابْتَدَأَ الْعَقْدَ عَلَى الْعَمَلِ فِي شَيْءٍ الْعَامِلُ فِيهِ شَرِيكُ الْمُسْتَأْجِرِ بَطَلَتْ الْإِجَارَةُ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا ، وَإِذَا بَطَلَتْ الْإِجَارَةُ لَمْ يَجِبْ الْأَجْرُ ، كَذَا فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ لِشَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ وَصَدْرِ الْإِسْلَامِ الْحُمَيْدِيِّ ، إلَى هُنَا لَفْظُ النِّهَايَةِ .
وَبِهَذَا ظَهَرَ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ فِي دَفْعِ الْإِشْكَالِ الثَّانِي مِنْ ذَيْنِك الْإِشْكَالَيْنِ إلَى مَا تَعَسَّفَ فِيهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ حَيْثُ قَالَ : لَعَلَّ مُرَادَهُمْ نَفْيُ الْمِلْكِ ؛ لِأَنَّ وُجُودَهُ يُؤَدِّي إلَى عَدَمِهِ ، وَمَا هُوَ كَذَلِكَ يَبْطُلُ ، فَقَوْلُهُمْ مَلَكَ الْأَجِيرُ فِي الْحَالِ كَلَامٌ وَرَدَ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ فَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ : لَوْ وَجَبَ الْأَجْرُ فِي الصُّورَةِ الْمَفْرُوضَةِ لَمَلَكَ الْأَجِيرُ الْأُجْرَةَ فِي الْحَالِ بِالتَّعْجِيلِ ، وَالتَّالِي بَاطِلٌ إذْ حِينَئِذٍ يَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا فَيُفْضِي إلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْأَجْرِ ، وَكُلُّ لَازِمٍ يُؤَدِّي فَرْضُ وُجُودِهِ إلَى انْتِفَاءِ مَلْزُومِهِ يَكُونُ بَاطِلًا فَكَذَا هَذَا .
ا هـ كَلَامُهُ .
( قَوْلُهُ : لِأَنَّ مَا مِنْ جُزْءٍ يَحْمِلُهُ إلَّا ، وَهُوَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ فِيهِ ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : فِيهِ بَحْثٌ ، فَإِنَّهُ فِي كُلِّ جُزْءٍ عَامِلٌ لِغَيْرِهِ أَيْضًا فَلَا مَعْنَى لِلْحَصْرِ ، وَإِثْبَاتُ الْمَطْلُوبِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى

الْمُبَالَغَةِ فِي التَّشْبِيهِ : أَيْ هُوَ كَعَامِلٍ لِنَفْسِهِ .
ا هـ .
أَقُولُ : هَذَا الْبَحْثُ غَيْرُ مُتَمَشٍّ رَأْسًا ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُ الْحَصْرُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ لَوْ كَانَ مَعْنَاهُ إلَّا ، وَهُوَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ فَقَطْ ، أَمَّا إذَا كَانَ مَعْنَاهُ إلَّا ، وَهُوَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ كَمَا هُوَ عَامِلٌ لِغَيْرِهِ أَيْضًا فَلَا حَصْرَ فِيهِ ، فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ فَلَا مَعْنَى لِلْحَصْرِ إذْ لَمْ يَتَعَيَّنْ الْحَصْرُ فِيهِ .
فَالْوَجْهُ فِي تَمْشِيَةِ الْبَحْثِ هَاهُنَا تَوْسِيعُ الدَّائِرَةِ ، بِأَنْ يُقَالَ : إنْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّهُ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ فَقَطْ فَهُوَ مَمْنُوعٌ ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّهُ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ فَعَدَمُ اسْتِحْقَاقِهِ الْأَجْرَ عَلَى فِعْلِهِ لِنَفْسِهِ لَا يُنَافِي اسْتِحْقَاقَهُ عَلَى فِعْلِهِ لِغَيْرِهِ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ ، وَسَيَأْتِي تَتِمَّةُ هَذَا الْكَلَامِ فِيمَا بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

قَالَ : ( وَمَنْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَخْبِزَ لَهُ هَذِهِ الْعَشَرَةَ الْمَخَاتِيمَ مِنْ الدَّقِيقِ الْيَوْمَ بِدِرْهَمٍ فَهُوَ فَاسِدٌ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فِي الْإِجَارَاتِ : هُوَ جَائِزٌ ) ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ عَمَلًا وَيَجْعَلُ ذِكْرَ الْوَقْتِ لِلِاسْتِعْجَالِ تَصْحِيحًا لِلْعَقْدِ فَتَرْتَفِعُ الْجَهَالَةُ .
وَلَهُ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَجْهُولٌ لِأَنَّ ذِكْرَ الْوَقْتِ يُوجِبُ كَوْنَ الْمَنْفَعَةِ مَعْقُودًا عَلَيْهَا وَذِكْرَ الْعَمَلِ يُوجِبُ كَوْنَهُ مَعْقُودًا عَلَيْهِ وَلَا تَرْجِيحَ ، وَنَفْعُ الْمُسْتَأْجِرِ فِي الثَّانِي وَنَفْعُ الْأَجِيرِ فِي الْأَوَّلِ فَيُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَصِحُّ الْإِجَارَةُ إذَا قَالَ : فِي الْيَوْمِ ، وَقَدْ سَمَّى عَمَلًا ؛ لِأَنَّهُ لِلظَّرْفِ فَكَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ الْعَمَلَ ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ الْيَوْمَ وَقَدْ مَرَّ مِثْلُهُ فِي الطَّلَاقِ .
( قَوْلُهُ : لِأَنَّ ذِكْرَ الْوَقْتِ يُوجِبُ كَوْنَ الْمَنْفَعَةِ مَعْقُودًا عَلَيْهَا ، وَذِكْرَ الْعَمَلِ يُوجِبُ كَوْنَهُ مَعْقُودًا عَلَيْهِ وَلَا تَرْجِيحَ ) أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : لِمَ لَا يَكُونُ تَقْدِيمُ ذِكْرِ الْعَمَلِ مُرَجِّحًا لِكَوْنِ الْعَمَلِ مَعْقُودًا عَلَيْهِ كَمَا كَانَ كَذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ الرَّاعِي عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ فِي مُعْتَبَرَاتِ الْفَتَاوَى بِلَا ذِكْرِ خِلَافٍ هُنَاكَ فَتَأَمَّلْ .

قَالَ : ( وَمَنْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا عَلَى أَنْ يَكْرُبَهَا وَيَزْرَعَهَا أَوْ يَسْقِيَهَا وَيَزْرَعَهَا فَهُوَ جَائِزٌ ) ؛ لِأَنَّ الزِّرَاعَةَ مُسْتَحَقَّةٌ بِالْعَقْدِ ، وَلَا تَتَأَتَّى الزِّرَاعَةُ إلَّا بِالسَّقْيِ وَالْكِرَابِ .
فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَحَقًّا .
وَكُلُّ شَرْطٍ هَذِهِ صِفَتُهُ يَكُونُ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْعَقْدِ فَذِكْرُهُ لَا يُوجِبُ الْفَسَادَ ( فَإِنْ اشْتَرَطَ أَنْ يُثَنِّيَهَا أَوْ يُكْرِيَ أَنْهَارَهَا أَوْ يُسَرْقِنَهَا فَهُوَ فَاسِدٌ ) ؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى أَثَرُهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْعَقْدِ ، وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ .
وَمَا هَذَا حَالُهُ يُوجِبُ الْفَسَادَ ؛ لِأَنَّ مُؤَجِّرَ الْأَرْضِ يَصِيرُ مُسْتَأْجِرًا مَنَافِعَ الْأَجِيرِ عَلَى وَجْهٍ يَبْقَى بَعْدَ الْمُدَّةِ فَيَصِيرُ صَفْقَتَانِ فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ .
ثُمَّ قِيلَ : الْمُرَادُ بِالتَّثْنِيَةِ أَنْ يَرُدَّهَا مَكْرُوبَةً وَلَا شُبْهَةَ فِي فَسَادِهِ .
وَقِيلَ أَنْ يَكْرُبَهَا مَرَّتَيْنِ ، وَهَذَا فِي مَوْضِعٍ تُخْرِجُ الْأَرْضُ الرِّيعَ بِالْكِرَابِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَالْمُدَّةُ سَنَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَإِنْ كَانَتْ ثَلَاثَ سِنِينَ لَا تَبْقَى مَنْفَعَتُهُ ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِكْرِي الْأَنْهَارِ الْجَدَاوِلَ بَلْ الْمُرَادُ مِنْهَا الْأَنْهَارُ الْعِظَامُ هُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّهُ تَبْقَى مَنْفَعَتُهُ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ .
قَالَ : ( وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَزْرَعَهَا بِزِرَاعَةِ أَرْضٍ أُخْرَى فَلَا خَيْرَ فِيهِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : هُوَ جَائِزٌ ، وَعَلَى هَذَا إجَارَةُ السُّكْنَى بِالسُّكْنَى وَاللُّبْسِ بِاللُّبْسِ وَالرُّكُوبِ بِالرُّكُوبِ .
أَنَّ الْمَنَافِعَ بِمَنْزِلَةِ الْأَعْيَانِ حَتَّى جَازَتْ الْإِجَارَةُ بِأُجْرَةِ دَيْنٍ وَلَا يَصِيرُ دَيْنًا بِدَيْنٍ ، وَلَنَا أَنَّ الْجِنْسَ بِانْفِرَادِهِ يُحَرِّمُ النَّسَاءَ عِنْدَنَا فَصَارَ كَبَيْعِ الْقُوهِيِّ بِالْقُوهِيِّ نَسِيئَةً وَإِلَى هَذَا أَشَارَ مُحَمَّدٌ ، وَلِأَنَّ الْإِجَارَةَ جُوِّزَتْ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِلْحَاجَةِ وَلَا حَاجَةَ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا

اخْتَلَفَ جِنْسُ الْمَنْفَعَةِ .

( قَوْلُهُ : لِأَنَّ مُؤَجِّرَ الْأَرْضِ يَصِيرُ مُسْتَأْجِرًا مَنَافِعَ الْأَجِيرِ إلَخْ ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : هَذَا دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى أَصْلِ الْمُدَّعِي فَالظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ : وَلِأَنَّ بِالْوَاوِ لِمُنْتَهًى .
أَقُولُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمَهُ ، فَإِنَّ قَوْلَهُ ؛ لِأَنَّ مُؤَجِّرَ الْأَرْضِ إلَخْ دَلِيلٌ عَلَى قَوْلِهِ ، وَمَا هَذَا حَالُهُ يُوجِبُ الْفَسَادَ عَلَى أَصْلِ الْمُدَّعِي فَالظَّاهِرُ تَرْكُ الْوَاوِ كَمَا وَقَعَ ( قَوْلُهُ : وَقِيلَ أَنْ يَكْرُبَهَا مَرَّتَيْنِ ، وَهَذَا فِي مَوْضِعٍ تُخْرِجُ الْأَرْضُ الرِّيعَ بِالْكِرَابِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَالْمُدَّةُ سَنَةٌ وَاحِدَةٌ ) قَالَ الشُّرَّاحُ : إنَّمَا قَيَّدَ بِهَذَيْنِ الْقَيْدَيْنِ : أَيْ بِالْكِرَابِ مَرَّةً وَبِكَوْنِ الْمُدَّةِ سَنَةً ؛ لِأَنَّهُ إذَا شَرَطَ أَنْ يَكْرُبَهَا مَرَّتَيْنِ فِي مَوْضِعٍ لَا تُخْرِجُ الْأَرْضُ الرِّيعَ إلَّا بِالْكِرَابِ مَرَّتَيْنِ ، أَوْ كَانَتْ تُخْرِجُهُ بِالْكِرَابِ مَرَّةً إلَّا أَنَّ مُدَّةَ الْإِجَارَةِ كَانَتْ ثَلَاثَ سِنِينَ لَا يَكُونُ هَذَا الشَّرْطُ مُفْسِدًا لِلْعَقْدِ ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ فِي الْأَوَّلِ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْعَقْدِ ، وَفِي الثَّانِي لَيْسَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ فَيَجُوزُ .
وَعِبَارَةُ الْعِنَايَةِ : وَالثَّانِي لَيْسَ فِيهِ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مَنْفَعَةٌ لِعَدَمِ بَقَاءِ أَثَرِهِ بَعْدَ الْمُدَّةِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ الثَّانِيَ أَيْضًا مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْعَقْدِ ، وَقَوْلُهُ لَيْسَ فِيهِ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مَنْفَعَةٌ مَمْنُوعٌ ، بَلْ فِيهِ نَفْعٌ لِلْمُسْتَأْجِرِ حَيْثُ لَا تَتَأَتَّى زِرَاعَةٌ إلَّا بِهِ انْتَهَى .
أَقُولُ : لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ شَطْرَيْ كَلَامِهِ بِسَدِيدٍ .
أَمَّا شَطْرُهُ الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ إذَا كَانَتْ الْأَرْضُ تُخْرِجُ الرِّيعَ بِالْكِرَابِ مَرَّةً ، وَلَكِنْ كَانَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ ثَلَاثَ سِنِينَ كَمَا هُوَ الْمُرَادُ بِالثَّانِي فَلَا شَكَّ أَنَّ الْكِرَابَ مَرَّتَيْنِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَا يَكُونُ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْعَقْدِ لِلْقَطْعِ بِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْعَقْدِ فِيهَا بِالْكِرَابِ مَرَّةً

وَاحِدَةً مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى الْكِرَابِ مَرَّةً أُخْرَى ، وَمَا حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ بِدُونِهِ كَيْفَ يَكُونُ مِنْ مُقْتَضَيَاتِهِ .
وَأَمَّا شَطْرُهُ الثَّانِي فَلِأَنَّهُ إذَا كَانَتْ الْأَرْضُ تُخْرِجُ الرِّيعَ بِالْكِرَابِ مَرَّةً فَهَلْ يَقُولُ الْعَاقِلُ لَا تَتَأَتَّى الزِّرَاعَةُ هُنَاكَ إلَّا بِالْكِرَابِ مَرَّتَيْنِ حَتَّى يُتَوَهَّمَ النَّفْعُ لِلْمُسْتَأْجِرِ فِي اشْتِرَاطِ الْكِرَابِ مَرَّتَيْنِ فِي مَوْضِعٍ تُخْرِجُ الْأَرْضُ الرِّيعَ بِالْكِرَابِ مَرَّةً وَكَانَتْ الْمُدَّةُ ثَلَاثَ سِنِينَ .
وَمَنْ قَالَ مِنْ الشُّرَّاحِ لَيْسَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ فَإِنَّمَا خَصَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ بِالذِّكْرِ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ احْتِمَالِ النَّفْعِ فِيهِ أَصْلًا لِلْمُسْتَأْجِرِ ، لَا ؛ لِأَنَّ لَهُ نَفْعًا فِيهِ ، وَإِلَّا لَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ كَمَا لَا يَخْفَى ( قَوْلُهُ : وَلَنَا أَنَّ الْجِنْسَ بِانْفِرَادِهِ يُحَرِّمُ النَّسَاءَ عِنْدَنَا فَصَارَ كَبَيْعِ الْقُوهِيِّ بِالْقُوهِيِّ نَسِيئَةً ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ ) ، وَهُوَ مَا حُكِيَ أَنَّ ابْنَ سِمَاعَةَ كَتَبَ مِنْ بَلْخَ إلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَقَالَ : لِمَ لَا يَجُوزُ إجَارَةُ سُكْنَى دَارٍ بِسُكْنَى دَارٍ ؟ فَكَتَبَ مُحَمَّدٌ فِي جَوَابِهِ : إنَّك أَطَلْت الْفِكْرَةَ فَأَصَابَتْك الْحِيَرَةُ ، وَجَالَسْت الْحِنَّائِيَّ فَكَانَتْ مِنْك زَلَّةٌ ، أَمَا عَلِمْت أَنَّ السُّكْنَى بِالسُّكْنَى كَبَيْعِ الْقُوهِيِّ بِالْقُوهِيِّ نَسَاءٌ .
وَالْحِنَّائِيُّ اسْمُ مُحَدِّثٍ كَانَ يُنْكِرُ الْخَوْضَ عَلَى ابْنِ سِمَاعَةَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَيَقُولُ : لَا بُرْهَانَ لَكُمْ عَلَيْهَا كَذَا فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِفَخْرِ الْإِسْلَامِ وَالْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ وَذُكِرَ فِي عَامَّةِ شُرُوحُ هَذَا الْكِتَابِ أَيْضًا .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : فِي هَذَا الطَّرِيقِ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : الْأَوَّلُ أَنَّ النَّسَاءَ مَا يَكُونُ عَنْ اشْتِرَاطِ أَجَلٍ فِي الْعَقْدِ وَتَأْخِيرُ الْمَنْفَعَةِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ كَذَلِكَ .
وَالثَّانِي أَنَّ النَّسَاءَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ

فِي مُبَادَلَةِ مَوْجُودٍ فِي الْحَالِ بِمَا لَيْسَ كَذَلِكَ ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ كَذَلِكَ ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ بَلْ يَحْدُثَانِ شَيْئًا فَشَيْئًا .
وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُمَا لَمَّا أَقْدَمَا عَلَى عَقْدٍ يَتَأَخَّرُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِيهِ وَيَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا كَانَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي وُجُوبِ التَّأْخِيرِ مِنْ الْمَشْرُوطِ فَأُلْحِقَ بِهِ دَلَالَةً احْتِيَاطًا عَنْ شُبْهَةِ الْحُرْمَةِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ فِي النَّسَاءِ شُبْهَةَ الْحُرْمَةِ ، فَبِالْإِلْحَاقِ بِهِ تَكُونُ شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ ، وَهِيَ لَيْسَتْ بِمُحَرَّمَةٍ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الثَّابِتَ بِالدَّلَالَةِ كَالثَّابِتِ بِالْعِبَارَةِ ، فَبِالْإِلْحَاقِ تَثْبُتُ الشُّبْهَةُ لَا شُبْهَتُهَا .
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الَّذِي لَمْ تَصْحَبْهُ الْبَاءُ يُقَامُ فِيهِ الْعَيْنُ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ ضَرُورَةَ تُحُقِّقَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ دُونَ مَا تَصْحَبُهُ لِفِقْدَانِهَا فِيهِ وَلَزِمَ وُجُودُ أَحَدِهِمَا حُكْمًا وَعَدَمُ الْآخَرِ وَتَحَقُّقُ النَّسَاءِ .
إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
أَقُولُ : فِي الْجَوَابِ عَنْ الْوَجْهِ الثَّانِي بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : الْأَوَّلُ أَنَّهُ إذَا أُقِيمَ الْعَيْنُ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ فِي أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ دُونَ الطَّرَفِ الْآخَرِ وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ الْعَيْنُ الْمَوْجُودُ فِي الْحَالِ مَعْقُودًا عَلَيْهِ فِي الْعَقْدِ لَا تَتَحَقَّقُ الْمُجَانَسَةُ بَيْنَ الْبَدَلَيْنِ ، إذْ لَا مُجَانَسَةَ بَيْنَ الْعَيْنِ وَالْمَنْفَعَةِ فَلَا يُوجَدُ فِي الْعَقْدِ مَا يُحَرِّمُ النَّسَاءَ فَلَا يَتِمُّ الْمَطْلُوبُ .
وَالثَّانِي أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ يُنَافِي الْجَوَابَ الْمَذْكُورَ عَنْ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَى هَذَا الْجَوَابِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ هُوَ الْعَيْنَ الْقَائِمَ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ ، وَمُقْتَضَى ذَلِكَ الْجَوَابِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِيهِ هُوَ نَفْسَ الْمَنْفَعَةِ ؛ لِأَنَّهَا الَّتِي تَتَأَخَّرُ وَتَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَكَانَ بَيْنَهُمَا تَدَافُعٌ .
فَإِنْ قُلْت : الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِيهِ حَقِيقَةً نَفْسُ الْمَنْفَعَةِ

، وَحُكْمًا الْعَيْنُ الْقَائِمُ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ ، فَمَدَارُ الْجَوَابِ عَنْ الْأَوَّلِ عَلَى الْحَقِيقَةِ ، وَمَدَارُ الْجَوَابِ عَنْ الثَّانِي عَلَى الْحُكْمِ فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا .
قُلْت : فِي جَعْلِ الْحُكْمُ الْأَوَّلِ مُرَتَّبًا عَلَى الْحَقِيقَةِ ، وَالثَّانِي مُرَتَّبًا عَلَى الْحُكْمِ دُونَ الْعَكْسِ تَحَكُّمٌ بَلْ احْتِيَالٌ لِفَسَادِ الْعَقْدِ ، وَلَمْ يَجْعَلْ الْأَمْرَ بِالْعَكْسِ تَصْحِيحًا لِلْعَقْدِ حَتَّى يَكُونَ أَوْفَقَ بِقَاعِدَةِ الشَّرْعِ ، وَهِيَ وُجُوبُ تَصْحِيحِ تَصَرُّفِ الْعَاقِلِ مَهْمَا أَمْكَنَ .
ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَيَجُوزُ أَنْ نَسْلُكَ طَرِيقًا آخَر ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ الْمُدَّعَى أَنَّ هَذِهِ الْإِجَارَةَ فَاسِدَةٌ ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا دُونَ الْآخَرِ أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ لَزِمَ النَّسَاءُ ، وَهُوَ بَاطِلٌ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَكَذَلِكَ ؛ لِعَدَمِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ أَيْضًا بَحْثٌ ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ الَّذِي رَدَّدَهُ مَا هُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ حَقِيقَةً ، وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ يَخْتَارُ الشِّقَّ الثَّانِيَ مِنْ التَّرْدِيدِ وَيَكُونُ قَوْلُهُ : وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَكَذَلِكَ لِعَدَمِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ غَيْرَ صَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ حَقِيقَةً مَعْدُومٌ فِي كُلِّ عَقْدِ إجَارَةٍ وَلِهَذَا كَانَ الْقِيَاسُ يَأْبَى جَوَازَهُ ، إلَّا أَنَّا جَوَّزْنَاهُ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهِ فَأَقَمْنَا الدَّارَ مَثَلًا مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ فِي حَقِّ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَيْهَا لِيَرْتَبِطَ الْإِيجَابُ بِالْقَبُولِ كَمَا مَرَّ فِي صَدْرِ كِتَابِ الْإِجَارَاتِ ، فَلَمْ يَكُنْ عَدَمُ مَا هُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ حَقِيقَةً مُبْطِلًا لِعَقْدِ الْإِجَارَةِ قَطُّ ، وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ مَا هُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ حُكْمًا ، وَهُوَ الْعَيْنُ الْقَائِمُ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ يَخْتَارُ الشِّقَّ الْأَوَّلَ مِنْ التَّرْدِيدِ وَيَكُونُ قَوْلُهُ : فَإِنْ كَانَ لَزِمَ النَّسَاءُ ، وَهُوَ بَاطِلٌ غَيْرُ تَامٍّ ؛ لِأَنَّ النَّسَاءَ إنَّمَا يَبْطُلُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ .
وَعَلَى

تَقْدِيرِ أَنْ يَجْعَلَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُوَ الْعَيْنَ الْقَائِمَ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ لَا تَتَحَقَّقُ الْمُجَانَسَةُ بَيْنَ الْبَدَلَيْنِ كَمَا عَرَفْت فِيمَا مَرَّ آنِفًا .
وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى قَوْلِهِ فَإِنْ كَانَ لَزِمَ النَّسَاءُ ، وَهُوَ بَاطِلٌ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ : هَذَا لَا يُتَّجَهُ إلْزَامًا عَلَى الْبَاحِثِ ، فَإِنَّهُ يَخْتَارُ هَذَا الشِّقَّ وَيَمْنَعُ اسْتِلْزَامَهُ لِلْفَسَادِ مُسْتَنِدًا بِأَنَّ مِثْلَهُ مَوْجُودٌ فِي مُبَادَلَةِ السُّكْنَى بِالزِّرَاعَةِ مَثَلًا ، وَهُوَ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ فَلْيُتَأَمَّلْ .
أَقُولُ : هَذَا فِي غَايَةِ السُّقُوطِ ، إذْ لَيْسَ فِي مُبَادَلَةِ السُّكْنَى بِالزِّرَاعَةِ مُبَادَلَةُ الشَّيْءِ بِجِنْسِهِ ، وَاَلَّذِي يُحَرِّمُ النَّسَاءَ بِانْفِرَادِهِ إنَّمَا هُوَ الْجِنْسُ لَا غَيْرُ ، فَلَا مَجَالَ ؛ لَأَنْ يُقَالَ : لِأَنَّ مِثْلَ مَا قِيلَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ بُطْلَانِ النَّسَاءِ مَوْجُودٌ فِي مُبَادَلَةِ السُّكْنَى بِالزِّرَاعَةِ ، وَهَذَا مَعَ ظُهُورِهِ جِدًّا كَيْفَ خَفِيَ عَلَى مِثْلِهِ ، ثُمَّ إنَّ الْإِمَامَ الزَّيْلَعِيَّ اسْتَشْكَلَ أَصْلَ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ حَيْثُ قَالَ فِي التَّبْيِينِ : وَهَذَا مُشْكِلٌ عَلَى الْقَاعِدَةِ ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا جَازَ ، بِخِلَافِ الْجِنْسِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ بِالدَّيْنِ لَا يَجُوزُ ، وَإِنْ كَانَ بِخِلَافِ الْجِنْسِ ، وَلِأَنَّ الْعَقْدَ عَلَى الْمَنَافِعِ يَنْعَقِدُ سَاعَةً فَسَاعَةً عَلَى حَسَبِ حُدُوثِهَا عَلَى مَا بَيَّنَّا مِنْ الْقَاعِدَةِ ، فَقَبْلَ وُجُودِهَا لَا يَنْعَقِدُ عَلَيْهَا الْعَقْدُ فَإِذَا وُجِدَتْ فَقَدْ اُسْتُوْفِيَتْ فَلَمْ يَبْقَ دَيْنًا فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ فِيهَا النَّسِيئَةُ ، فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِهِ غَيْرُ مُخَلِّصٍ ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
أَقُولُ : كُلٌّ مِنْ وَجْهَيْ اسْتِشْكَالِهِ سَاقِطٌ .
أَمَّا وَجْهُ الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ الدَّلِيلَ الْمَذْكُورَ لَا يَقْتَضِي عَدَمَ جَوَازِ الْعَقْدِ بِخِلَافِ الْجِنْسِ أَيْضًا قَوْلُهُ : إنَّ الدَّيْنَ بِالدَّيْنِ لَا يَجُوزُ ، وَإِنْ كَانَ بِخِلَافِ الْجِنْسِ مُسَلَّمٌ ، وَلَكِنْ لَيْسَ فِي مُبَادَلَةِ

الْمَنَافِعِ مُبَادَلَةُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ لَيْسَتْ بِدَيْنٍ ، إذْ الدَّيْنُ مَا ثَبَتَ فِي الذِّمَّةِ وَالْمَنَافِعُ لَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ ، صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي النِّهَايَةِ بَلْ عَامَّةِ الشُّرُوحِ .
وَأَمَّا وَجْهُ الثَّانِي فَلِأَنَّ الِانْعِقَادَ فِي الْعَقْدِ عَلَى الْمَنَافِعِ ، وَإِنْ حَصَلَ سَاعَةً فَسَاعَةً عَلَى حَسَبِ حُدُوثِ الْمَنَافِعِ إلَّا أَنَّ نَفْسَ الْعَقْدِ ، وَهُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ الصَّادِرَانِ عَنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مَعَ ارْتِبَاطِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مَوْجُودٌ بِالْفِعْلِ ، وَهُوَ عِلَّةٌ مَعْلُولُهَا الِانْعِقَادُ ، وَتَأَخُّرُ الْمَعْلُومِ عَنْ الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ جَائِزٌ عَلَى مَا عُرِفَ ، فَمَعْنَى انْعِقَادُ عَقْدِ الْإِجَارَةِ سَاعَةً فَسَاعَةً أَنَّ عَمَلَ الْعِلَّةِ وَنَفَاذَهَا فِي الْمَحَلِّ يَحْصُلُ سَاعَةً فَسَاعَةً ، لَا أَنَّ نَفْسَ الْعَقْدِ يَكُونُ سَاعَةً فَسَاعَةً ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الْإِيجَابَ وَالْقَبُولَ لَا يَصْدُرَانِ عَنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً ، وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا تَقَرَّرَ فِي صَدْرِ كِتَابِ الْإِجَارَةِ ، فَقَبْلَ وُجُودِ الْمَنَافِعِ ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ الِانْعِقَادُ إلَّا أَنَّهُ يَتَحَقَّقُ نَفْسُ الْعَقْدِ ، فَحِينَ أَنْ يَتَحَقَّقَ نَفْسُ الْعَقْدِ ، وَهُوَ أَنَّ صُدُورِهِ عَنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ تَتَحَقَّقُ النَّسِيئَةُ فِي الْمَنَافِعِ قَطْعًا فَيَبْطُلُ الْعَقْدُ فِيمَا إذَا كَانَ الْبَدَلَانِ مَنْفَعَةً ، وَاتَّحَدَ جِنْسُهُمَا كَمَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ، وَيَبْطُلُ قَوْلُهُ : فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ فِيهَا النَّسِيئَةُ تَبَصَّرْ تَرْشُدْ .
( قَوْلُهُ : وَلِأَنَّ الْإِجَارَةَ جُوِّزَتْ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِلْحَاجَةِ ، وَلَا حَاجَةَ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ ) قَالَ الشُّرَّاحُ : لِحُصُولِ مَقْصُودِهِ بِمَا هُوَ لَهُ مِنْ غَيْرِ مُبَادَلَةٍ انْتَهَى .
أَقُولُ : لِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ : لَا نُسَلِّمُ انْتِفَاءَ الْحَاجَةِ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ ، وَلَا حُصُولَ مَقْصُودِهِ بِمَا هُوَ لَهُ مِنْ غَيْرِ مُبَادَلَةٍ ، إذْ لَا يَخْفَى أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى سُكْنَى بَعْضِ الدُّورِ دُونَ بَعْضِهَا ،

وَلَا يَحْصُلُ مَقْصُودُهُ بِسُكْنَى بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ لِاخْتِلَافِ الْمَقَاصِدِ بِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ بِحَسَبِ تَعَدُّدِ الْبِلَادِ بَلْ بِحَسَبِ تَعَدُّدِ الْمَحَالِّ مِنْ بَلَدٍ وَاحِدٍ فَكَمْ مِنْهُمْ يَحْتَاجُ إلَى السُّكْنَى فِي بَلَدٍ آخَرَ أَوْ فِي مَحَلَّةٍ مِنْهُ لِحُصُولِ حَوَائِجِهِ ، وَمُهِمَّاتِهِ فِي ذَلِكَ ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى السُّكْنَى فِي بَلَدٍ آخَرَ أَوْ فِي مَحَلَّةٍ أُخْرَى مِنْ الْبَلَدِ الْأَوَّلِ لِعَدَمِ حُصُولِ تِلْكَ الْحَوَائِجِ وَالْمُهِمَّاتِ هُنَاكَ .
اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ : هَذَا الْقَدْرُ مِنْ الْحَاجَةِ لَا يَكْفِي فِي تَرْكِ الْقِيَاسِ ، وَكَأَنَّهُ أُشِيرَ إلَيْهِ فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ بِأَنْ يُقَالَ : وَالْحَاجَةُ لَا تَمُسُّ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ ، وَإِنَّمَا تَمُسُّ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ ، وَالْكَمَالُ مِنْ بَابِ الْفُضُولِ ، وَالْإِجَارَةُ مَا شُرِعَتْ لِابْتِغَاءِ الْفُضُولِ .
انْتَهَى تَأَمَّلْ تَقِفْ .

قَالَ : ( وَإِذَا كَانَ الطَّعَامُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَاسْتَأْجَرَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ أَوْ حِمَارَ صَاحِبِهِ عَلَى أَنْ يَحْمِلَ نَصِيبَهُ فَحَمَلَ الطَّعَامَ كُلَّهُ فَلَا أَجْرَ لَهُ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَهُ الْمُسَمَّى ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ عَيْنٌ عِنْدَهُ وَبَيْعُ الْعَيْنِ شَائِعًا جَائِزٌ ، وَصَارَ كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَ دَارًا مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ لِيَضَعَ فِيهَا الطَّعَامَ أَوْ عَبْدًا مُشْتَرَكًا لِيَخِيطَ لَهُ الثِّيَابَ وَلَنَا أَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِعَمَلٍ لَا وُجُودَ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ فِعْلٌ حِسِّيٌّ لَا يُتَصَوَّرُ فِي الشَّائِعِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ حُكْمِيٌّ ، وَإِذَا لَمْ يُتَصَوَّرْ تَسْلِيمُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَا يَجِبُ الْأَجْرُ وَلِأَنَّ مَا مِنْ جُزْءٍ يَحْمِلُهُ إلَّا وَهُوَ شَرِيكٌ فِيهِ فَيَكُونُ عَامِلًا لِنَفْسِهِ فَلَا يَتَحَقَّقُ التَّسْلِيمُ ، بِخِلَافِ الدَّارِ الْمُشْتَرَكَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُنَالِكَ الْمَنَافِعُ وَيَتَحَقَّقُ تَسْلِيمُهَا بِدُونِ وَضْعِ الطَّعَامِ ، وَبِخِلَافِ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ مِلْكُ نَصِيبِ صَاحِبِهِ وَأَنَّهُ أَمْرٌ حُكْمِيٌّ يُمْكِنُ إيقَاعُهُ فِي الشَّائِعِ .

( قَوْلُهُ : وَصَارَ كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَ دَارًا مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ لِيَضَعَ فِيهَا الطَّعَامَ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : يَعْنِي الطَّعَامَ الْمُشْتَرَكَ ، وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : وَعِنْدِي لَا حَاجَةَ فِي إتْمَامِ الْكَلَامِ إلَى جَعْلِ الطَّعَامِ مُشْتَرَكًا ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ لِلْمُسْتَأْجِرِ خَاصَّةً يَتَوَجَّهُ إلْزَامُ الشَّافِعِيِّ بِأَنَّ وَضْعَ الطَّعَامِ فِعْلٌ حِسِّيٌّ ، وَالْمُسْتَأْجَرُ هُوَ النَّصِيبُ الشَّائِعُ مِنْ الدَّارِ وَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْفِعْلُ الْحِسِّيُّ انْتَهَى .
أَقُولُ : مَا ذَكَرَهُ فِي بَيَانِ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ فِي إتْمَامِ الْكَلَامِ إلَى جَعْلِ الطَّعَامِ مُشْتَرَكًا كَلَامٌ خَالٍ عَنْ التَّحْصِيلِ ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْإِلْزَامِ فِي قَوْلِهِ يَتَوَجَّهُ إلْزَامُ الشَّافِعِيِّ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُضَافًا إلَى مَفْعُولِهِ أَوْ إلَى فَاعِلِهِ ، وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ لَا يَتِمُّ مَا ذَكَرَهُ .
أَمَّا عَلَى الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ الْمُسْتَشْهَدَ بِهَا مِنْ قِبَلِ الشَّافِعِيِّ ، وَهِيَ جَوَازُ اسْتِئْجَارِ الدَّارِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ الْمُسْتَأْجِرِ وَغَيْرِهِ لِوَضْعِ الطَّعَامِ مِمَّا لَا مُخَالَفَةَ فِيهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ ، بَلْ هِيَ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا ، وَلِهَذَا ذُكِرَتْ فِي دَلِيلِهِ بِطَرِيقِ الِاسْتِشْهَادِ عَلَيْنَا فَكَيْفَ يَتَوَجَّهُ إلْزَامُنَا الشَّافِعِيَّ بِمَا يَقْتَضِي خِلَافَ مَا تَقَرَّرَ عِنْدَنَا ، وَهَلَّا يَصِيرُ ذَلِكَ إلْزَامًا عَلَيْنَا أَيْضًا .
وَأَمَّا عَلَى الثَّانِي فَلِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ مَنَافِعُ الدَّارِ دُونَ الْعَمَلِ ، وَتَسْلِيمُ مَنَافِعِ الدَّارِ يَتَحَقَّقُ بِدُونِ وَضْعِ الطَّعَامِ فَلَا ضَيْرَ هُنَاكَ فِي أَنْ لَا يَكُونَ النَّصِيبُ الشَّائِعُ مَحَلًّا لِلْفِعْلِ الْحِسِّيِّ ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ ، فَإِنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُنَا الْعَمَلُ الَّذِي هُوَ الْفِعْلُ الْحِسِّيُّ ، وَهُوَ لَا يُتَصَوَّرُ فِي الشَّائِعِ فَلَمْ يُتَصَوَّرُ الْإِلْزَامُ عَلَيْنَا مِنْ الشَّافِعِيِّ أَصْلًا .
ثُمَّ أَقُولُ : الظَّاهِرُ عِنْدِي أَيْضًا أَنَّهُ لَا حَاجَةَ هَاهُنَا إلَى

تَقْيِيدِ الطَّعَامِ بِكَوْنِهِ مُشْتَرَكًا وَلِهَذَا لَمْ يُقَيِّدْهُ بِذَلِكَ سَائِرُ الشُّرَّاحِ قَطُّ ، لَكِنْ لَا لِمَا ذَكَرَهُ ذَلِكَ الْقَائِلُ ، بَلْ ؛ لِأَنَّ تَمْشِيَةَ اسْتِشْهَادِ الشَّافِعِيِّ ظَاهِرًا بِالْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى تَقْيِيدِ الطَّعَامِ بِذَلِكَ بَلْ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ اشْتِرَاكِ الدَّارِ بَيْنَ الْمُسْتَأْجِرِ وَغَيْرِهِ كَاشْتِرَاكِ الطَّعَامِ بَيْنَهُمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا ، وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ الَّذِي يَأْتِي مِنْ قِبَلِنَا عَنْ اسْتِشْهَادِ الشَّافِعِيِّ بِتِلْكَ الْمَسْأَلَةِ لَا يَخْتَصُّ بِصُورَةِ تَقْيِيدِ الطَّعَامِ بِذَلِكَ بَلْ يَتِمُّ وَيَجْرِي عَلَى الْإِطْلَاقِ يَشْهَدُ بِذَلِكَ كُلِّهِ التَّأَمُّلُ الصَّادِقُ .
( قَوْلُهُ : وَلَنَا أَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِعَمَلٍ لَا وُجُودَ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ فِعْلٌ حِسِّيٌّ لَا يُتَصَوَّرُ فِي الشَّائِعِ ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ : إذْ الْحَمْلُ يَقَعُ عَلَى مُعَيَّنٍ وَالشَّائِعُ لَيْسَ بِمُعَيَّنٍ .
وَقَالَ : فَإِنْ قِيلَ : إذَا حُمِلَ الْكُلُّ فَقَدْ حُمِلَ الْبَعْضُ لَا مَحَالَةَ فَيَجِبُ الْأَجْرُ .
أُجِيبَ بِأَنَّ حَمْلَ الْكُلِّ حَمْلٌ مُعَيَّنٌ ، وَهُوَ لَيْسَ بِمَعْقُودٍ عَلَيْهِ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِي الْجَوَابِ نَظَرٌ ، وَهُوَ أَنَّ عَدَمَ كَوْنِ حَمْلِ الْكُلِّ مَعْقُودًا عَلَيْهِ لَا يُجْدِي شَيْئًا فِي دَفْعِ السُّؤَالِ ؛ لِأَنَّ حَاصِلَ السُّؤَالِ أَنَّ حَمْلَ الطَّعَامِ وَاقِعٌ عَلَى مُعَيَّنٍ قَطْعًا فَكَانَ مَوْجُودًا ، وَحَمْلُ الْكُلِّ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ حَمْلِ كُلُّ جُزْءٍ مِنْهُ فَقَدْ اسْتَلْزَمَ وُجُودُ حَمْلِ الْكُلِّ وُجُودَ حَمْلِ كُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ لَا مَحَالَةَ ، وَمِنْ جُمْلَةِ الْأَجْزَاءِ نَصِيبُ الْمُسْتَأْجِرِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَجِبَ الْأَجْرُ لِحَمْلِ ذَلِكَ الْجُزْءِ الَّذِي هُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ عَدَمَ كَوْنِ الْكُلِّ مَعْقُودًا عَلَيْهِ لَا يُفِيدُ شَيْئًا فِي دَفْعِ ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مُفِيدًا لَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ السُّؤَالِ وُجُوبَ الْأَجْرِ بِحَمْلِ الْكُلِّ وَلَيْسَ فَلَيْسَ ( قَوْلُهُ : وَلِأَنَّ مَا مِنْ جُزْءٍ يَحْمِلُهُ إلَّا وَهُوَ

شَرِيكُهُ فِيهِ فَيَكُونُ عَامِلًا لِنَفْسِهِ فَلَا يَتَحَقَّقُ التَّسْلِيمُ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : لَا يَخْلُو مِنْ أَنَّهُ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ فَقَطْ أَوْ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ ، وَالْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ فَإِنَّهُ شَرِيكٌ ، وَالثَّانِي حَقٌّ لَكِنَّ عَدَمَ اسْتِحْقَاقِهِ الْأَجْرَ عَلَى فِعْلِهِ لِنَفْسِهِ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا وَقَعَ لِغَيْرِهِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ فَقَطْ ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ لِنَفْسِهِ أَصْلٌ ، وَمُوَافِقٌ لِلْقِيَاسِ ، وَعَمَلَهُ لِغَيْرِهِ لَيْسَ بِأَصْلٍ بَلْ بِنَاءً عَلَى أَمْرٍ مُخَالِفٍ لِلْقِيَاسِ فِي الْحَاجَةِ ، وَهِيَ تَنْدَفِعُ بِجَعْلِهِ عَامِلًا لِنَفْسِهِ لِحُصُولِ مَقْصُودِ الْمُسْتَأْجِرِ فَاعْتَبَرَ جِهَةَ كَوْنُهُ عَامِلًا لِنَفْسِهِ فَقَطْ فَلَمْ يَسْتَحِقَّ الْأَجْرَ .
انْتَهَى كَلَامُهُ .
أَقُولُ : فِي الْجَوَابِ شَيْءٌ ، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ ، وَهِيَ تَنْدَفِعُ بِجَعْلِهِ عَامِلًا لِنَفْسِهِ لِحُصُولِ مَقْصُودِ الْمُسْتَأْجِرِ لَيْسَ بِتَامٍّ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا تَنْدَفِعُ بِجَعْلِهِ عَامِلًا لِنَفْسِهِ حَاجَةُ الْمُسْتَأْجِرِ دُونَ حَاجَةِ الْأَجِيرِ ، فَإِنَّ لَهُ حَاجَةً إلَى الْأَجْرِ كَمَا أَنَّ لِلْمُسْتَأْجِرِ حَاجَةً إلَى الْمَنْفَعَةِ ، وَعَلَى تَقْدِيرِ جَعْلِهِ عَامِلًا لِنَفْسِهِ فَقَطْ لَا تُقْضَى حَاجَتُهُ ، بَلْ إنَّمَا تُقْضَى حَاجَةُ الْمُسْتَأْجِرِ فَقَطْ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ لَمْ يُشْرَعْ لِحَاجَةِ الْمُسْتَأْجِرِ فَقَطْ ، بَلْ إنَّمَا شُرِعَ لِحَاجَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ ، وَإِذَا لَمْ يَجِبْ لِلْأَجِيرِ الْعَامِلِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ أَجْرٌ لَمْ تَنْدَفِعْ الْحَاجَةُ الَّتِي شُرِعَ عَقْدُ الْإِجَارَةِ لَهَا فَلَمْ يَتِمَّ الْجَوَابُ .
وَزَيَّفَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ قَوْلَهُ : وَهِيَ تَنْدَفِعُ بِجَعْلِهِ عَامِلًا لِنَفْسِهِ لِحُصُولِ مَقْصُودِ الْمُسْتَأْجِرِ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ : كَيْفَ يَحْصُلُ مَقْصُودُهُ وَالْأَجِيرُ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُعْطِي لَهُ الْأَجْرَ لَا يَحْمِلُ نَصِيبَ الْمُسْتَأْجِرِ بَلْ يُقَاسِمُ وَيَحْمِلُ نَصِيبَ نَفْسِهِ انْتَهَى .
أَقُولُ :

لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ ، إذْ لَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّ وَضْعَ مَسْأَلَتِنَا فِيمَا إذَا حُمِلَ الْكُلُّ ، وَلَا شَكَّ فِي حُصُولِ مَقْصُودِ الْمُسْتَأْجِرِ فِيهِ ، وَاحْتِمَالُ أَنْ لَا يَحْصُلَ مَقْصُودُهُ فِي صُورَةِ عَدَمِ حَمْلِ الْكُلِّ لَا يَقْدَحُ فِي الْكَلَامِ الْمُبْتَنَى عَلَى وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ كَمَا لَا يَخْفَى ( قَوْلُهُ : وَبِخِلَافِ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ مِلْكُ نَصِيبُ صَاحِبِهِ ، وَأَنَّهُ أَمْرٌ حُكْمِيٌّ يُمْكِنُ إيقَاعُهُ فِي الشَّائِعِ ) هَذَا جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِ الْخَصْمِ عَلَى اسْتِئْجَارِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ لَكِنْ فِي ظَاهِرِهِ خَفَاءٌ ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ بِعِوَضٍ عَلَى مَا مَرَّ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ ، وَنَصِيبُ صَاحِبِهِ إنَّمَا هُوَ فِي عَيْنِ الْعَبْدِ لَا فِي مَنَافِعِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ مِمَّا لَا تَقْبَلُ الشَّرِكَةَ عَلَى مَا نَصُّوا عَلَيْهِ فَكَيْفَ يَكُونُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِي اسْتِئْجَارِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ هُوَ مِلْكَ نَصِيبِ صَاحِبِهِ ، وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ ذَلِكَ فِي الْبَيْعِ الَّذِي هُوَ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ بِعِوَضٍ ، وَعَنْ هَذَا ارْتَكَبَ الشُّرَّاحُ تَقْدِيرَ شَيْءٍ فِي حَلِّ هَذَا الْمَحَلِّ ، فَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ مِلْكُ نَصِيبِ صَاحِبِهِ : أَيْ مَنْفَعَةُ مِلْكِ نَصِيبِ صَاحِبِهِ ، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مَنْفَعَةً لَا فِعْلًا كَالْحَمْلِ صَحَّ إيقَاعُهُ فِي الشَّائِعِ كَمَا قُلْنَا فِي الدَّارِ الْمُشْتَرَكَةِ إنَّ الْعَقْدَ يَرِدُ عَلَى الْمَنْفَعَةِ .
انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ قِيَاسَ الْخَصْمِ إنَّمَا هُوَ عَلَى اسْتِئْجَارِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ لِيَخِيطَ لَهُ الثِّيَابَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْكِتَابِ لَا الِانْتِفَاعِ بِهِ مُطْلَقًا ، فَيَكُونُ الْعَبْدُ الْمُشْتَرَكُ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ أَجِيرًا مُشْتَرَكًا ، وَيَكُونُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُوَ عَمَلَ الْخِيَاطَةِ لَا الْمَنْفَعَةَ مُطْلَقًا ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُوَ الْمَنْفَعَةَ مُطْلَقًا لَوْ كَانَ الْعَبْدُ أَجِيرَ وَحْدٍ وَذَلِكَ

لَيْسَ بِمَقِيسٍ عَلَيْهِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ عَمَلَ الْخِيَاطَةِ فِعْلٌ حِسِّيٌّ كَالْحَمْلِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ إيقَاعُهُ فِي الشَّائِعِ كَالْحَمْلِ فَلَمْ يَتِمَّ الْفَرْقُ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَقَوْلُهُ وَبِخِلَافِ الْعَبْدِ جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِ الْخَصْمِ عَلَى اسْتِئْجَارِ الْعَبْدُ الْمُشْتَرَكِ ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لِلْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ يَمْلِكُ مَنْفَعَةَ نَصِيبِ صَاحِبِهِ ، وَالْمِلْكُ أَمْرٌ حُكْمِيٌّ يُمْكِنُ إيقَاعُهُ فِي الشَّائِعِ كَمَا فِي الْبَيْعِ بِخِلَافِ الْحَمْلِ ؛ لِأَنَّهُ فِعْلٌ حِسِّيٌّ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ أَيْضًا نَظَرٌ ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ مَدَارُ فَرْقِهِ عَلَى أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ هُوَ الْمَنْفَعَةُ ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ هُوَ الْفِعْلُ الْحِسِّيُّ كَمَا يُومِئُ إلَيْهِ إقْحَامُ الْمَنْفَعَةِ فِي قَوْلِهِ يَمْلِكُ مَنْفَعَةَ نَصِيبِ صَاحِبِهِ يُتَّجَهُ عَلَيْهِ مَا أَوْرَدْنَاهُ عَلَى تَقْرِيرِ صَاحِبِ النِّهَايَةِ مِنْ أَنَّ قِيَاسَ الْخَصْمِ عَلَى اسْتِئْجَارِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى فِعْلٍ حِسِّيٍّ هُوَ عَمَلُ الْخِيَاطَةِ لَا عَلَى اسْتِئْجَارِهِ عَلَى الْمَنْفَعَةِ فَلَا يَتِمُّ الْفَرْقُ ، وَإِنْ كَانَ مَدَارُ فَرْقِهِ عَلَى تَحَقُّقِ مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ فِي اسْتِئْجَارِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ ، وَكَوْنِ الْمِلْكِ مِمَّا يُمْكِنُ إيقَاعُهُ فِي الشَّائِعِ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ قَوْلُهُ : يَمْلِكُ مَنْفَعَةَ نَصِيبِ صَاحِبِهِ بِتَقْدِيمِ الْمِلْكِ عَلَى الْمَنْفَعَةِ عَلَى عَكْسِ مَا فِي النِّهَايَةِ .
وَقَوْلُهُ وَالْمِلْكُ أَمْرٌ حُكْمِيٌّ يُمْكِنُ إيقَاعُهُ فِي الشَّائِعِ كَمَا فِي الْبَيْعِ يَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّ مِلْكَ الْمَنْفَعَةِ يَتَحَقَّقُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ بِعِوَضٍ ، فَفِي كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْإِجَارَةِ بِمِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ أَلْبَتَّةَ الْمَنْفَعَةَ الَّتِي وَقَعَ عَلَيْهَا الْعَقْدُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ مَا نَحْنُ فِيهِ أَيْضًا بِاعْتِبَارِ إيقَاعِ مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ فِي الْمُشَاعِ .
لَا يُقَالُ : لَمْ يَتَحَقَّقْ مِلْكُ الْمَنْفَعَةِ فِيمَا نَحْنُ

فِيهِ لِبُطْلَانِ الْإِجَارَةِ فِيهِ ، بِخِلَافِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ : بُطْلَانُ الْإِجَارَةِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ أَوَّلَ الْمَسْأَلَةِ وَقَدْ خَالَفَ فِيهَا الشَّافِعِيَّ .
وَاسْتَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الْإِجَارَةِ فِيهِ أَيْضًا بِوُجُوهٍ : مِنْهَا قِيَاسُهُ عَلَى اسْتِئْجَارِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ لِلْخِيَاطَةِ ، فَبِنَاءُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا عَلَى بُطْلَانِ الْإِجَارَةِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مُصَادَرَةٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ .
وَقَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ : قَوْلُهُ : وَبِخِلَافِ الْعَبْدِ جَوَابٌ عَمَّا قَاسَ عَلَيْهِ فِيمَا إذَا اسْتَأْجَرَ عَبْدًا مُشْتَرَكًا لِيَخِيطَ لَهُ الثِّيَابَ : يَعْنِي أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لِلْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ يَمْلِكُ مَنْفَعَةَ نَصِيبِ صَاحِبِهِ ، وَالْمِلْكُ أَمْرٌ حُكْمِيٌّ فَيُمْكِنُ إثْبَاتُهُ حُكْمًا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حِسًّا ، بِخِلَافِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ حِسِّيٌّ لَا يُتَصَوَّرُ فِي الشَّائِعِ لِعَدَمِ الِامْتِيَازِ حِسًّا ا هـ .
أَقُولُ : مَضْمُونُهُ مُوَافِقٌ لِمَا فِي الْعِنَايَةِ فَفِيهِ مَا فِيهِ فَتَأَمَّلْ فِي التَّوْجِيهِ .

( وَمَنْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ يَزْرَعُهَا أَوْ أَيَّ شَيْءٍ يَزْرَعُهَا فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ ) ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ تُسْتَأْجَرُ لِلزِّرَاعَةِ وَلِغَيْرِهَا ، وَكَذَا مَا يُزْرَعُ فِيهَا مُخْتَلِفٌ ، فَمِنْهُ مَا يَضُرُّ بِالْأَرْضِ مَا لَا يَضُرُّ بِهَا غَيْرُهُ ، فَلَمْ يَكُنْ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَعْلُومًا .
( فَإِنْ زَرَعَهَا وَمَضَى الْأَجَلُ فَلَهُ الْمُسَمَّى ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ .
وَفِي الْقِيَاسِ : لَا يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ فَاسِدًا فَلَا يَنْقَلِبُ جَائِزًا .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْجَهَالَةَ ارْتَفَعَتْ قَبْلَ تَمَامِ الْعَقْدِ فَيَنْقَلِبُ جَائِزًا ، كَمَا إذَا ارْتَفَعَتْ فِي حَالَةِ الْعَقْدِ ، وَصَارَ كَمَا إذَا أَسْقَطَ الْأَجَلَ الْمَجْهُولَ قَبْلَ مُضِيِّهِ وَالْخِيَارَ الزَّائِدَ فِي الْمُدَّةِ .
( وَمَنْ اسْتَأْجَرَ حِمَارًا إلَى بَغْدَادَ بِدِرْهَمٍ وَلَمْ يُسَمِّ مَا يَحْمِلُ عَلَيْهِ فَحَمَلَ مَا يَحْمِلُ النَّاسُ فَنَفَقَ فِي نِصْفِ الطَّرِيقِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ) ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ الْمُسْتَأْجَرَةَ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ ، وَإِنْ كَانَتْ الْأُجْرَةُ فَاسِدَةً ( فَإِنْ بَلَغَ بَغْدَادَ فَلَهُ الْأَجْرُ الْمُسَمَّى اسْتِحْسَانًا ) عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى ( وَإِنْ اخْتَصَمَا قَبْلَ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهِ ) وَفِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى قَبْلَ أَنْ يَزْرَعَ ( نُقِضَتْ الْإِجَارَةُ ) دَفْعًا لِلْفَسَادِ إذْ الْفَسَادُ قَائِمٌ بَعْدُ .

( قَوْلُهُ : فَإِنْ زَرَعَهَا ، وَمَضَى الْأَجَلُ فَلَهُ الْمُسَمَّى ) قَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ : فَإِنْ زَرَعَهَا بَعْدَ مَا فَسَدَ الْعَقْدُ لِلْجَهَالَةِ يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ الزَّرْعُ مَعْقُودًا عَلَيْهِ وَيَنْقَلِبُ الْعَقْدُ إلَى الْجَوَازِ ، وَيَجِبُ الْأَجْرُ الْمُسَمَّى إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَبْلَ نَقْضِ الْقَاضِي الْعَقْدَ .
ا هـ كَلَامُهُ .
أَقُولُ : لَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَبْلَ نَقْضِ الْقَاضِي الْعَقْدَ ، فَإِنَّ مَا ذَكَرَ مِنْ انْقِلَابِ الْعَقْدِ إلَى الْجَوَازِ وَوُجُوبِ الْأَجْرِ الْمُسَمَّى إنَّمَا يُتَصَوَّرُ إذَا كَانَ زَرَعَهَا قَبْلَ نَقْضِ الْقَاضِي الْعَقْدَ .
وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَبْلَ نَقْضِهِ الْعَقْدَ بَلْ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا مَجَالَ لِلِانْقِلَابِ إلَى الْجَوَازِ ؛ لِأَنَّ الْمَنْقُوضَ لَا يَعُودُ إلَّا بِالتَّجْدِيدِ لَا مَحَالَةَ .
وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بَعْدَ نَقْضِ الْقَاضِي الْعَقْدَ ، وَلَعَلَّ لَفْظَةَ " قَبْلَ " فِي قَوْلِهِ قَبْلَ نَقْضِ الْقَاضِي وَقَعَتْ سَهْوًا مِنْ النَّاسِخِ الْأَوَّلِ بَدَلَ لَفْظَةِ " بَعْدَ " ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِيمَا بَعْدُ : وَإِنْ زَرَعَهَا بَعْدَ نَقْضِ الْقَاضِي لَا يَعُودُ جَائِزًا ( قَوْلُهُ : وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْجَهَالَةَ ارْتَفَعَتْ قَبْلَ تَمَامِ الْعَقْدِ فَيَنْقَلِبُ جَائِزًا ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي حَلِّ قَوْلِهِ قَبْلَ تَمَامِ الْعَقْدِ : بِنَقْضِ الْحَاكِمِ ، وَتَبِعَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ .
أَقُولُ : لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ أَنَّ جَعْلَ الْعَقْدِ تَامًّا بِنَقْضِ الْحَاكِمِ مِمَّا لَا تَقْبَلُهُ الْفِطْرَةُ السَّلِيمَةُ ، فَإِنَّ الْعَقْدَ يَنْفَسِخُ مِنْ الْأَصْلِ بِنَقْضِ الْحَاكِمِ إيَّاهُ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَتِمَّ بِهِ ، وَتَمَامُ الشَّيْءِ مِنْ آثَارِ بَقَائِهِ وَاقْتِضَائِهِ .
وَالْحَقُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ قَبْلَ تَمَامِ الْعَقْدِ قَبْلَ تَمَامِ مُدَّةِ الْعَقْدِ عَلَى مَا هُوَ الشَّائِعُ مِنْ حَذْفِ الْمُضَافِ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ : فِي وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ فَإِنْ زَرَعَهَا ، وَمَضَى الْأَجَلُ : وَيُرْشِدُ

إلَيْهِ قَوْلُ صَاحِبِ الْكَافِي فِي التَّعْلِيلِ : وَلَنَا أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ صَارَ مَعْلُومًا قَبْلَ مُضِيِّ الْأَجَلِ فَيَرْتَفِعُ الْفَسَادُ ا هـ .
هَذَا وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ ، وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ : فَإِنْ قِيلَ : وَإِنْ ارْتَفَعَتْ الْجَهَالَةُ بِمُجَرَّدِ الزِّرَاعَةِ لَكِنْ لَمْ يَرْتَفِعْ مَا هُوَ الْمُوجِبُ لِلْفَسَادِ ، وَهُوَ احْتِمَالُ أَنْ يَزْرَعَ مَا يَضُرُّ بِالْأَرْضِ ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَا زَرَعَهَا مُضِرًّا بِالْأَرْضِ فَتَقَعُ بَيْنَهُمَا الْمُنَازَعَةُ بِسَبَبِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلْفَسَادِ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ كَانَ احْتِمَالَ ذَلِكَ وَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ .
فَكَيْفَ يَنْقَلِبُ إلَى الْجَوَازِ بِتَحَقُّقِ شَيْءٍ احْتِمَالُهُ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ ؛ وَلِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ مَجْهُولًا لَا يَتَعَيَّنُ إلَّا بِتَعْيِينِهِمَا صَوْنًا عَنْ الْإِضْرَارِ بِأَحَدِهِمَا ، وَلَا يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِالتَّعْيِينِ ؛ لِمَا أَنَّ الْعَقْدَ قَامَ بِهِمَا ، فَكَذَا تَعْيِينُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ يَنْبَغِي أَنْ يَقُومَ بِهِمَا ، ثُمَّ الِاسْتِعْمَالُ تَعْيِينٌ مِنْ أَحَدِهِمَا فَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ .
وَهَذَا الْإِشْكَالُ هُوَ الَّذِي قَالَهُ صَاحِبُ الْفَوَائِدِ بِقَوْلِهِ وَلِي فِي هَذَا التَّعْلِيلِ إشْكَالٌ هَائِلٌ .
ثُمَّ قَالَ : قُلْنَا الْأَصْلُ إجَارَةُ الْعَقْدِ عِنْدَ انْتِفَاءِ الْمَانِعِ ؛ لِأَنَّ عُقُودَ الْإِنْسَانِ تَصِحُّ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ ، وَالْمَانِعُ الَّذِي فَسَدَ الْعَقْدُ بِاعْتِبَارِهِ تَوَقُّعُ الْمُنَازَعَةِ بَيْنَهُمَا فِي تَعْيِينِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، وَعِنْدَ اسْتِيفَاءِ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ مِنْ الْمَنَافِعِ يَزُولُ هَذَا التَّوَقُّعُ فَيَجُوزُ هَذَا الْعَقْدُ .
انْتَهَى مَا فِي النِّهَايَةِ ، وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ .
أَقُولُ : فِي الْجَوَابِ بَحْثٌ ؛ لِأَنَّ تَوَقُّعَ الْمُنَازَعَةِ بَيْنَهُمَا إنَّمَا يَزُولُ عِنْدَ اسْتِيفَاءِ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ مِنْ الْمَنَافِعِ إذَا لَمْ يَنْفَرِدْ أَحَدُهُمَا بِاسْتِيفَاءِ ذَلِكَ .
وَأَمَّا إذَا انْفَرَدَ أَحَدُهُمَا بِهِ فَلَا يَزُولُ ذَلِكَ أَصْلًا ، وَهَذَا مِمَّا لَا سُتْرَةَ بِهِ ، فَالْكَلَامُ الْفَيْصَلُ أَنَّهُ

إنْ اعْتَبَرَ فِي مَوْضِعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عِلْمَ رَبِّ الْأَرْضِ بِاسْتِعْمَالِ الْمُسْتَأْجِرِ فِي الْأَرْضِ وَرِضَاهُ بِمَا عَمِلَ فِيهَا فَلَا يُتَّجَهُ الْإِشْكَالُ الْمَذْكُورُ رَأْسًا ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَبِرْ فِيهِ ذَلِكَ بَلْ انْقَلَبَ الْعَقْدُ جَائِزًا بِمُجَرَّدِ اسْتِعْمَالِ الْمُسْتَأْجِرِ فِيهَا ، وَمَضَى الْأَجَلُ ، سَوَاءٌ عَلِمَ رَبُّ الْأَرْضِ بِذَلِكَ وَرَضِيَ بِهِ أَوْ لَا ، فَالْإِشْكَالُ الْمَذْكُورُ وَارِدٌ جِدًّا غَيْرُ مُنْدَفِعٍ بِالْجَوَابِ الْمَزْبُورِ قَطْعًا ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

بَابُ ضَمَانِ الْأَجِيرِ قَالَ : ( الْأُجَرَاءُ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَجِيرٌ مُشْتَرَكٌ ، وَأَجِيرٌ خَاصٌّ .
فَالْمُشْتَرَكُ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ حَتَّى يَعْمَلَ كَالصَّبَّاغِ وَالْقَصَّارِ ) ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ هُوَ الْعَمَلَ أَوْ أَثَرَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ لِلْعَامَّةِ ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَهُ لَمْ تَصِرْ مُسْتَحَقَّةً لِوَاحِدٍ ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يُسَمَّى مُشْتَرَكًا .
قَالَ ( وَالْمَتَاعُ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ إنْ هَلَكَ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ ، وَيَضْمَنُهُ عِنْدَهُمَا إلَّا مِنْ شَيْءٍ غَالِبٍ كَالْحَرِيقِ الْغَالِبِ وَالْعَدُوِّ الْمُكَابِرِ ) لَهُمَا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا كَانَا يُضَمِّنَانِ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ ؛ وَلِأَنَّ الْحِفْظَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ إذْ لَا يُمْكِنُهُ الْعَمَلُ إلَّا بِهِ ، فَإِذَا هَلَكَ بِسَبَبٍ يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ كَالْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ كَانَ التَّقْصِيرُ مِنْ جِهَتِهِ فَيَضْمَنُهُ كَالْوَدِيعَةِ إذَا كَانَتْ بِأَجْرٍ ، بِخِلَافِ مَا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ كَالْمَوْتِ حَتْفَ أَنْفِهِ وَالْحَرِيقِ الْغَالِبِ وَغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا تَقْصِيرَ مِنْ جِهَتِهِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْعَيْنَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ حَصَلَ بِإِذْنِهِ ، وَلِهَذَا لَوْ هَلَكَ بِسَبَبٍ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ لَمْ يَضْمَنْهُ ، وَلَوْ كَانَ مَضْمُونًا لَضَمِنَهُ كَمَا فِي الْمَغْصُوبِ ، وَالْحِفْظُ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ تَبَعًا لَا مَقْصُودًا وَلِهَذَا لَا يُقَابِلُهُ الْأَجْرُ ، بِخِلَافِ الْمُودَعِ بِأَجْرٍ ؛ لِأَنَّ الْحِفْظَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ مَقْصُودًا حَتَّى يُقَابِلَهُ الْأَجْرُ .
قَالَ : ( وَمَا تَلِفَ بِعَمَلِهِ ، فَتَخْرِيقُ الثَّوْبِ مِنْ دَقِّهِ وَزَلَقُ الْحَمَّالِ وَانْقِطَاعُ الْحَبْلِ الَّذِي يَشُدُّ بِهِ الْمُكَارِي الْحِمْلَ وَغَرَقُ السَّفِينَةِ مِنْ مَدِّهِ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ ) .
وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْفِعْلِ مُطْلَقًا

فَيَنْتَظِمُهُ بِنَوْعَيْهِ الْمَعِيبِ وَالسَّلِيمِ وَصَارَ كَأَجِيرِ الْوَحْدِ وَمُعِينِ الْقَصَّارِ .
وَلَنَا أَنَّ الدَّاخِلَ تَحْتَ الْإِذْنُ مَا هُوَ الدَّاخِلُ تَحْتَ الْعَقْدِ وَهُوَ الْعَمَلُ الْمُصْلِحُ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْوَسِيلَةُ إلَى الْأَثَرِ وَهُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ حَقِيقَةً ، حَتَّى لَوْ حَصَلَ بِفِعْلِ الْغَيْرِ يَجِبُ الْأَجْرُ فَلَمْ يَكُنْ الْمُفْسِدُ مَأْذُونًا فِيهِ بِخِلَافِ الْمُعِينِ ؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ فَلَا يُمْكِنُ تَقْيِيدُهُ بِالْمُصْلِحِ ؛ لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ عَنْ التَّبَرُّعِ ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ يَعْمَلُ بِالْأَجْرِ فَأَمْكَنَ تَقْيِيدُهُ .
وَبِخِلَافِ أَجِيرِ الْوَحْدِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَانْقِطَاعُ الْحَبْلِ مِنْ قِلَّةِ اهْتِمَامِهِ فَكَانَ مِنْ صَنِيعِهِ قَالَ : ( إلَّا أَنَّهُ لَا يُضَمَّنُ بِهِ بَنِي آدَمَ مِمَّنْ غَرِقَ فِي السَّفِينَةِ أَوْ سَقَطَ مِنْ الدَّابَّةِ وَإِنْ كَانَ بِسَوْقِهِ وَقَوْدِهِ ) ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ ضَمَانُ الْآدَمِيِّ .
وَأَنَّهُ لَا يَجِبُ بِالْعَقْدِ .
وَإِنَّمَا يَجِبُ بِالْجِنَايَةِ وَلِهَذَا يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ ، وَضَمَانُ الْعُقُودِ لَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ .
قَالَ : ( وَإِذَا اسْتَأْجَرَ مَنْ يَحْمِلُ لَهُ دَنًّا مِنْ الْفُرَاتِ فَوَقَعَ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ فَانْكَسَرَ ، فَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي حَمَلَهُ وَلَا أَجْرَ لَهُ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي انْكَسَرَ وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ بِحِسَابِهِ ) أَمَّا الضَّمَانُ فَلِمَا قُلْنَا ، وَالسُّقُوطُ بِالْعِثَارِ أَوْ بِانْقِطَاعِ الْحَبْلِ وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ صَنِيعِهِ ، وَأَمَّا الْخِيَارُ فَلِأَنَّهُ إذَا انْكَسَرَ فِي الطَّرِيقِ ، وَالْحِمْلُ شَيْءٌ وَاحِدٌ تَبَيَّنَ أَنَّهُ وَقَعَ تَعَدِّيًا مِنْ الِابْتِدَاءِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ .
وَلَهُ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ ابْتِدَاءَ الْحَمْلِ حَصَلَ بِإِذْنِهِ فَلَمْ يَكُنْ تَعَدِّيًا ، وَإِنَّمَا صَارَ تَعَدِّيًا عِنْدَ الْكَسْرِ فَيَمِيلُ إلَى أَيِّ الْوَجْهَيْنِ شَاءَ ، وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي لَهُ الْأَجْرُ بِقَدْرِ مَا اسْتَوْفَى ، وَفِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لَا أَجْرَ لَهُ ؛

لِأَنَّهُ مَا اسْتَوْفَى أَصْلًا .

( بَابُ ضَمَانِ الْأَجِيرِ ) .
لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ أَنْوَاعِ الْإِجَارَةِ صَحِيحِهَا وَفَاسِدِهَا شَرَعَ فِي بَيَانِ الضَّمَانِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْعَوَارِضِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَى عَقْدِ الْإِجَارَةِ فَتَحْتَاجُ إلَى بَيَانِهِ ، كَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ ، وَيَقْرُبُ مِنْهُ مَا ذُكِرَ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ فَقَالَ : لَمَّا ذَكَرَ أَنْوَاعَ الْإِجَارَةِ الصَّحِيحَةِ وَالْفَاسِدَةِ شَرَعَ فِي ضَمَانِ الْأَجِيرِ .
ا هـ .
وَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ التَّقْرِيرَيْنِ جَيِّدٌ .
وَأَمَّا صَاحِبُ النِّهَايَةِ فَقَالَ : لَمَّا ذَكَرَ أَبْوَابَ عُقُودِ الْإِجَارَةِ صَحِيحِهَا وَفَاسِدِهَا سَاقَتْ النَّوْبَةُ إلَى ذِكْرِ أَحْكَامٍ بَعْدَ عَقْدِ الْإِجَارَةِ ، وَهِيَ الضَّمَانُ فَذَكَرَهَا فِي هَذَا الْبَابِ ا هـ .
وَيَقْرُبُ مِنْهُ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ حَيْثُ قَالَ : لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَنْوَاعِ الْإِجَارَةِ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْكَامٍ بَعْدَ الْإِجَارَةِ ، وَهِيَ الضَّمَانُ ا هـ .
وَلَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْنَةٍ مَا فِي تَقْرِيرِهِمَا مِنْ الرَّكَاكَةِ حَيْثُ فَسَّرَا الْجَمْعَ بِالْمُفْرَدِ بِقَوْلِهِمَا ، وَهِيَ الضَّمَانُ انْتَهَى .
فَإِنَّ ضَمِيرَ هِيَ رَاجِعٌ إلَى الْأَحْكَامِ ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الضَّمَانَ حُكْمٌ وَاحِدٌ لَا أَحْكَامٌ .
وَلَمَّا ذَاقَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ هَذِهِ الْبَشَاعَةَ تَوَجَّهَ إلَى تَوْجِيهِ ذَلِكَ فَقَالَ : إطْلَاقُ الْأَحْكَامِ عَلَى الضَّمَانِ إمَّا بِاعْتِبَارِ كَثْرَةِ أَفْرَادِهِ أَوْ الْمُرَادِ ، وَهِيَ الضَّمَانُ وُجُودًا وَعَدَمًا ا هـ .
أَقُولُ : تَوْجِيهُ الثَّانِي لَيْسَ بِوَجِيهٍ ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ وُجُودًا وَعَدَمًا أَيْضًا لَا يَصْلُحُ تَفْسِيرًا لِلْأَحْكَامِ ، فَإِنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ عَلَى الْقَوْلِ الصَّحِيحِ ، وَالضَّمَانُ بِاعْتِبَارِ وُجُودِهِ وَعَدَمِهِ إنَّمَا يَصِيرُ اثْنَيْنِ لَا غَيْرُ .
ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ قَالَ : وَالْأَجِيرُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفَاعِلٍ مِنْ بَابِ آجَرَ ، وَاسْمُ الْفَاعِلِ مِنْهُ مُؤَجِّرٌ لَا مُؤَاجِرٌ .
ا هـ .
أَقُولُ : فِيهِ إشْكَالٌ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَاسْمُ الْفَاعِلِ مِنْهُ مُؤَجِّرٌ لَا مُؤَاجِرٌ يُرَى

مُنَاقِضًا لِقَوْلِهِ وَالْأَجِيرُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفَاعِلٍ مِنْ بَابِ آجَرَ ، إذْ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْفَاعِلِ مِنْهُ مُؤَجِّرًا لَا مُؤَاجِرًا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْأَجِيرُ فَعِيلًا بِمَعْنَى مُفْعِلٍ لَا بِمَعْنَى مُفَاعِلٍ فَتَأَمَّلْ .
وَرَدَّ عَلَيْهِ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ : قُلْت هَذَا غَلَطٌ ؛ لِأَنَّ فَعِيلًا بِمَعْنَى فَاعِلٍ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ الثُّلَاثِيِّ ، وَكَيْفَ يَقُولُ بِمَعْنَى مُفَاعِلٍ مِنْ بَابِ آجَرَ : يَعْنِي بِهِ مِنْ الْمَزِيدِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ وَاسْمُ الْفَاعِلِ مِنْهُ مُؤَجِّرٌ .
ا هـ كَلَامُهُ .
أَقُولُ : بَلْ الْغَلَطُ إنَّمَا هُوَ فِي كَلَامِ نَفْسِهِ ، فَإِنَّ الْفَعِيلَ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ كَمَا يَكُونُ مِنْ الثُّلَاثِيِّ يَكُونُ مِنْ الْمَزِيدِ أَيْضًا ، وَعَنْ هَذَا قَالَ الْمُحَقِّقُ الرَّضِيُّ فِي شَرْحِ الْكَافِيَةِ : وَقَدْ جَاءَ فَعِيلٌ مُبَالَغَةَ مُفْعِلٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { عَذَابٌ أَلِيمٌ } أَيْ مُؤْلِمٌ عَلَى رَأْيٍ .
وَقَالَ : وَأَمَّا الْفَعِيلُ بِمَعْنَى الْمُفَاعِلِ كَالْجَلِيسِ وَالْحَسِيبِ فَلَيْسَ لِلْمُبَالَغَةِ فَلَا يَعْمَلُ اتِّفَاقًا ا هـ .
وَقَالَ الْإِمَامُ الْمُطَرِّزِيُّ فِي الْمُغْرِبِ : وَأَمَّا الْأَجِيرُ فَهُوَ مِثْلُ الْجَلِيسِ وَالنَّدِيمِ فِي أَنَّهُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفَاعِلٍ .
ا هـ .
وَهَذَا كُلُّهُ صَرِيحٌ فِي خِلَافِ مَا زَعَمَ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَذُقْ شَيْئًا مِنْ الْعَرَبِيَّةِ .
( قَوْلُهُ : فَالْمُشْتَرَكُ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ حَتَّى يَعْمَلَ كَالصَّبَّاغِ وَالْقَصَّارِ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَالسُّؤَالُ مِنْ وَجْهِ تَقْدِيمِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى الْخَاصِّ دَوْرِيٌّ ا هـ .
يَعْنِي أَنَّ السُّؤَالَ عَنْ وَجْهِ التَّقْدِيمِ يَتَوَجَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ الْعَكْسِ أَيْضًا : أَيْ عَلَى تَقْدِيرِ تَقْدِيمِ الْخَاصِّ عَلَى الْمُشْتَرَكِ فَلَا مُرَجِّحَ سِوَى الِاخْتِيَارِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : يَعْنِي لَوْ قَدَّمَ الْخَاصَّ لَتَوَجَّهَ السُّؤَالُ عَنْ سَبَبِ تَقْدِيمِهِ عَلَى الْمُشْتَرَكِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ لِتَقْدِيمِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ وَجْهًا .
أَمَّا الْمُشْتَرَكُ فَلِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ

الْعَامِّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْخَاصِّ مَعَ كَثْرَةِ مَبَاحِثِهِ .
وَأَمَّا الْخَاصُّ فَلِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُفْرَدِ مِنْ الْمُرَكَّبِ ، لَكِنَّ تَقْدِيمَ الْمُشْتَرَكِ هَاهُنَا ؛ لِأَنَّ الْبَابَ بَابُ ضَمَانِ الْأَجِيرِ وَذَلِكَ فِي الْمُشْتَرَكِ فَتَأَمَّلْ .
فَإِنَّ بِمَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ لَمْ يَظْهَرْ وَجْهُ اخْتِيَارِ تَقْدِيمِ الْمُشْتَرَكِ كَمَا لَا يَخْفَى وَكَانَ لَا بُدَّ مِنْهُ ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
أَقُولُ : مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ لَكِنَّ تَقْدِيمَ الْمُشْتَرَكِ هُنَا إلَخْ لَيْسَ بِتَامٍّ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ مَعْنَى بَابِ ضَمَانِ الْأَجِيرِ بَابُ ضَمَانِ الْأَجِيرِ إثْبَاتًا وَنَفْيًا كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ نَفْسُهُ أَيْضًا فِيمَا قَبْلُ بِقَوْلِهِ أَوْ الْمُرَادِ ، وَهِيَ الضَّمَانُ وُجُودًا وَعَدَمًا ، وَإِلَّا : أَيْ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْنَاهُ ذَلِكَ بَلْ كَانَ مَعْنَاهُ بَابَ إثْبَاتِ الضَّمَانِ لَزِمَ أَنْ لَا يَصِحَّ عُنْوَانُ الْبَابِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَصْلًا ، إذْ لَا ضَمَانَ عِنْدَهُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ وَالْأَجِيرِ الْخَاصِّ ، وَأَنْ لَا يَصِحَّ ذَلِكَ عِنْدَهُمَا أَيْضًا إلَّا فِي بَعْضِ صُوَرٍ مِنْ مَسَائِلِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ وَحْدَهُ كَمَا سَتُحِيطُ بِهِ خَبَرًا ، وَهَذَا مِمَّا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْتَكَبَ ، فَإِذَا كَانَ مَعْنَى عُنْوَانِ الْبَابِ مَا يَعُمُّ إثْبَاتَ الضَّمَانِ وَنَفْيَهُ كَانَ نِسْبَتُهُ إلَى الْمُشْتَرَكِ وَالْخَاصِّ عَلَى السَّوَاءِ فَلَمْ يَتِمَّ قَوْلُهُ : وَذَلِكَ فِي الْمُشْتَرَكِ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ الطَّرَفَيْنِ إذَا كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ لَمْ يَحْتَجْ هُنَاكَ إلَى وَجْهٍ يُرَجِّحُ اخْتِيَارَ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ ، بَلْ لَمْ يُتَصَوَّرُ هُنَاكَ ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مُرَجِّحُ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ هُنَالِكَ نَفْسَ الِاخْتِيَارِ لَا غَيْرُ كَمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ فِي تَقْرِيرِ مُرَادِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ أَنَّ تَرْجِيحَ أَحَدُ الْمُتَسَاوِيَيْنِ بِالِاخْتِيَارِ جَائِزٌ ، وَإِنَّمَا الْمُحَالُ تَرْجِيحُ أَحَدِهِمَا مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ فَظَهَرَ أَنَّ قَوْلَهُ فَإِنَّ

بِمَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ لَمْ يَظْهَرْ وَجْهُ اخْتِيَارِ تَقْدِيمِ الْمُشْتَرَكِ مِمَّا لَا يَضُرُّ بِتَمَامِ مَا ذَكَرَهُ ، وَقَوْلُهُ وَكَانَ لَا بُدَّ مِنْهُ مِمَّا لَا صِحَّةَ لَهُ .
نَعَمْ يُمْكِنُ مَنْعُ تَسَاوِي الطَّرَفَيْنِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ، لَكِنَّهُ أَمْرٌ آخَرُ مُغَايِرٌ لِمَا قَالَهُ فَتَدَبَّرْ .
وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : فَإِنْ قُلْت : هَذَا يَعْنِي تَعْرِيفَ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ بِقَوْلِهِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ حَتَّى يَعْمَلَ تَعْرِيفٌ يَئُولُ عَاقِبَتُهُ إلَى الدَّوْرِ ؛ لِأَنَّ هَذَا حُكْمٌ لَا يَعْرِفُهُ إلَّا مَنْ يَعْرِفُ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ ، ثُمَّ لَوْ كَانَ عَارِفًا بِالْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ لَا يَحْتَاجُ إلَى هَذَا التَّعْرِيفِ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَارِفًا بِهِ قَبْلَ هَذَا لَا يَحْصُلُ لَهُ تَعْرِيفُ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى السُّؤَالِ عَمَّنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ حَتَّى يَعْمَلَ بِمَنْ هُوَ ، فَلَا بُدَّ لِلْمُعَرِّفِ أَنْ يَقُولَ هُوَ الْأَجِيرُ الْمُشْتَرَكُ ، وَهُوَ عَيْنُ الدَّوْرِ .
قُلْت : نَعَمْ كَذَلِكَ ، إلَّا أَنَّ هَذَا تَعْرِيفٌ لِلْخَفِيِّ بِمَا هُوَ أَشْهَرُ مِنْهُ فِي فُهُومُ الْمُتَعَلِّمِينَ ، أَوْ هُوَ تَعْرِيفٌ لِمَا لَمْ يَذْكُرْهُ بِمَا قَدْ سَبَقَ ذِكْرُهُ ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ قَبْلَ هَذَا اسْتِحْقَاقَ الْأَجِيرِ بِالْعَمَلِ بِقَوْلِهِ أَوْ بِاسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي بَابِ الْأَجْرِ مَتَى يَسْتَحِقُّ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ : وَمَا عَرَفْته أَنَّ الْأَجِيرَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ بِاسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَهُوَ الْأَجِيرُ الْمُشْتَرَكُ ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
أَقُولُ : فِي الْجَوَابِ خَلَلٌ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ فِي أَوَّلِ الْجَوَابِ نَعَمْ كَذَلِكَ اعْتِرَافٌ بِلُزُومِ الدَّوْرِ ، وَمَا يَسْتَلْزِمُ الدَّوْرَ يَتَعَيَّنُ فَسَادُهُ وَلَا يُمْكِنُ إصْلَاحُهُ ، فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ إلَّا أَنَّ هَذَا تَعْرِيفٌ لِلْخَفِيِّ إلَخْ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ كَوْنَ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ خَفِيًّا .
وَمَا ذَكَرَ فِي التَّعْرِيفِ أَشْهَرُ مِنْهُ مَمْنُوعٌ ، كَيْفَ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا

صَحَّ الْجَوَابُ إذَا سُئِلَ عَمَّنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ حَتَّى يَعْمَلَ بِمَنْ هُوَ بِأَنَّهُ هُوَ الْأَجِيرُ الْمُشْتَرَكُ .
وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي بَابِ الْأَجْرِ مَتَى يُسْتَحَقُّ بِقَوْلِهِ أَوْ بِاسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ بَلْ هُوَ حُكْمٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ وَالْأَجِيرِ الْخَاصِّ فَإِنَّهُمْ حَصَرُوا هُنَاكَ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِ الْأَجِيرِ مُطْلَقًا لِلْأُجْرَةِ فِي مَعَانٍ ثَلَاثَةٍ هِيَ : شَرْطُ التَّعْجِيلِ ، وَالتَّعْجِيلُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ ، وَاسْتِيفَاءُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، وَلَوْ كَانَ هَذَا الْمَعْنَى الثَّالِثُ مُخْتَصًّا بِالْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ لَزِمَ أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ الْأَجِيرُ الْخَاصُّ الْأُجْرَةَ أَصْلًا فِيمَا إذَا لَمْ يَشْتَرِطْ التَّعْجِيلَ وَلَمْ يُعَجِّلْ وَهُوَ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ ، وَإِذَا كَانَ الْمَذْكُورُ فِيمَا سَبَقَ بِقَوْلِهِ أَوْ بِاسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ حُكْمًا عَامًّا لِلْأَجِيرِ الْخَاصِّ أَيْضًا فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِي تَوْجِيهِ مَعْنَى تَعْرِيفِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ هَاهُنَا بِمَا ذَكَرَ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ : وَمَا عَرَفْته أَنَّ الْأَجِيرَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ بِاسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَهُوَ الْأَجِيرُ الْمُشْتَرَكُ .
ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ ذَكَرَ خُلَاصَةَ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي النِّهَايَةِ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى حَيْثُ قَالَ : قِيلَ وَتَعْرِيفُ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ بِقَوْلِهِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ حَتَّى يَعْمَلَ أَيْضًا تَعْرِيفٌ دَوْرِيٌّ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ قَبْلَ الْعَمَلِ حَتَّى يَعْلَمَ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ فَتَكُونُ مَعْرِفَةُ الْمُعَرِّفِ مَوْقُوفَةً عَلَى مَعْرِفَةِ الْمُعَرَّفِ ، وَهُوَ الدَّوْرُ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ قَدْ عُلِمَ مِمَّا سَبَقَ فِي بَابِ الْأَجْرِ مَتَى يُسْتَحَقُّ أَنَّ بَعْضَ الْأُجَرَاءِ يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ بِالْعَمَلِ فَلَمْ تَتَوَقَّفْ مَعْرِفَتُهُ عَلَى مَعْرِفَةِ الْمُعَرَّفِ .
ا هـ .
أَقُولُ : أَصْلَحَ الْجَوَابَ فِي الْجُمْلَةِ كَمَا تَرَى ،

وَلَكِنْ فِيهِ أَيْضًا خَلَلٌ ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِمَا عُلِمَ مِمَّا سَبَقَ فِي ذَلِكَ الْبَابِ مَا ذَكَرَ هُنَاكَ بِقَوْلِهِ أَوْ بِاسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي النِّهَايَةِ .
يَرُدُّ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا مَرَّ آنِفًا مِنْ أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ عَامٌّ لِلْأَجِيرِ الْخَاصِّ أَيْضًا فَكَيْفَ يَتِمُّ تَعْرِيفُ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ بِذَلِكَ ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ مَا ذَكَرَ هُنَاكَ بِقَوْلِهِ وَلَيْسَ لِلْقَصَّارِ وَالْخَيَّاطِ أَنْ يُطَالِبَ بِالْأُجْرَةِ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ الْعَمَلِ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ قَوْلُهُ : فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْجَوَابِ : قَدْ عُلِمَ مِمَّا سَبَقَ أَنَّ بَعْضَ الْأُجَرَاءِ يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ بِالْعَمَلِ حَيْثُ زَادَ فِيهِ الْبَعْضُ يُتَّجَهُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمَعْلُومَ مِنْ ذَلِكَ حُكْمُ مَادَّةٍ مَخْصُوصَةٍ فَكَيْفَ يَحْصُلُ بِذَلِكَ مَعْرِفَةُ مُطْلَقِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ حَتَّى يَعْمَلَ حَتَّى يَصْلُحَ تَعْرِيفًا لِمُطْلَقِ الْأَجْرِ الْمُشْتَرَكِ فَتَأَمَّلْ .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ الْعَمَلُ أَوْ أَثَرُهُ مُتَكَفِّلٌ لِدَفْعِ هَذَا السُّؤَالِ ، فَإِنَّهُ يُعْلَمُ بِهِ تَعْرِيفَ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا حَتَّى يَعْمَلَ بِمَنْ اُسْتُؤْجِرَ عَلَى الْعَمَلِ أَوْ أَثَرِهِ فَلَا يَلْزَمُ الدَّوْرَ ، وَلَا حَاجَةَ إلَى الْحَوَالَةِ .
انْتَهَى كَلَامُهُ .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ تَعْرِيفَ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ بِمَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ حَتَّى يَعْمَلَ مِمَّا اخْتَارَهُ الْقُدُورِيُّ ، وَذَكَرَهُ فِي مُخْتَصَرِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ مَعَهُ شَيْئًا آخَرَ يَحْصُلُ بِهِ مَعْرِفَةُ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا حَتَّى يَعْمَلَ ، وَالْمُصَنِّفُ أَيْضًا ذَكَرَهُ وَحْدَهُ فِي الْبِدَايَةِ ، وَإِنَّمَا زَادَ عَلَيْهِ التَّعْلِيلَ الْمَذْكُورَ فِي الْهِدَايَةِ ، وَالسُّؤَالُ الْمَزْبُورُ إنَّمَا يَتَّجِهُ عَلَى مَنْ اكْتَفَى بِالتَّعْرِيفِ الْمَذْكُورِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَذْكُرَ مَعَهُ مَا يُفِيدُ مَعْرِفَتَهُ .
وَزِيَادَةُ الْمُصَنِّفِ شَيْئًا يُفِيدُ مَعْرِفَتَهُ ، كَيْفَ

تُصْلِحُ كَلَامَ مَنْ لَمْ يَزِدْهُ ، وَمَاتَ قَبْلَ وِلَادَةِ الْمُصَنِّفِ بِسِنِينَ كَثِيرَةٍ ، وَإِذَا لَمْ يُذْكَرُ مَعَهُ شَيْءٌ يَحْصُلُ بِهِ مَعْرِفَتُهُ ، فَإِمَّا أَنْ تَحْتَاجَ مَعْرِفَتُهُ إلَى مَعْرِفَةِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ الَّذِي هُوَ الْمُعَرَّفُ فَيَلْزَمُ الدَّوْرَ أَوْ لَا تَحْتَاجُ إلَيْهَا بَلْ حَصَلَتْ بِمَا هُوَ مَعْلُومٌ ، وَمَعْهُودٌ فِيمَا سَبَقَ فَلَا بُدَّ فِي الْجَوَابِ مِنْ الْحَوَالَةِ عَلَيْهِ فَلَمْ يَتِمَّ .
قَوْلُهُ : فَلَا يَلْزَمُ الدَّوْرُ وَلَا حَاجَةَ إلَى الْحَوَالَةِ ، نَعَمْ تَمَامُ الْحَوَالَةِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ عِنْدَنَا كَمَا قَرَّرْنَا فِيمَا قَبْلُ ، وَلَكِنَّهُ كَلَامٌ آخَرُ .
ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ الْبَعْضُ مِنْ الْفُضَلَاءِ : ظَاهِرُ قَوْلِهِ فَالْمُشْتَرَكُ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ حَتَّى يَعْمَلَ مَنْقُوضٌ بِالْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ إذَا عَجَّلَ لَهُ الْأَجْرَ أَوْ شَرَطَ التَّعْجِيلَ فَيَحْتَاجُ إلَى نَوْعِ عِنَايَةٍ ، كَأَنْ يُقَالَ : لَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ بِالنَّظَرِ إلَى كَوْنِهِ أَجِيرًا مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ الْأُمُورِ الْخَارِجَةِ انْتَهَى .
أَقُولُ : إنَّمَا يُتَوَهَّمُ الِانْتِقَاضُ بِذَلِكَ ، وَيَحْتَاجُ إلَى نَوْعِ عِنَايَةٍ فِي دَفْعِهِ لَوْ كَانَ مَعْنَى قَوْلِهِ الْمَذْكُورِ الْمُشْتَرَكَ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلَ .
وَأَمَّا إذَا كَانَ مَعْنَاهُ الْمُشْتَرَكُ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا بِدُونِ الْعَمَلِ أَصْلًا كَمَا يَسْتَحِقُّهَا الْأَجِيرُ الْخَاصُّ بِتَسْلِيمِ نَفْسِهِ فِي الْمُدَّةِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ أَصْلًا عَلَى مَا سَيَجِيءُ فَلَا انْتِقَاضَ بِذَلِكَ أَصْلًا ؛ لِأَنَّ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ إذَا لَمْ يَقَعْ مِنْهُ الْعَمَلُ أَصْلًا لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ ، حَتَّى لَوْ كَانَ أَخَذَهَا بِطَرِيقِ التَّعْجِيلِ يَلْزَمُهُ رَدُّهَا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ ، وَكَأَنَّ الْإِمَامَ الزَّيْلَعِيَّ تَدَارَكَ هَذَا الْمَعْنَى حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِ قَوْلِ صَاحِبِ الْكَنْزِ وَلَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ حَتَّى يَعْمَلَ : يَعْنِي الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ إلَّا إذَا عَمِلَ .
انْتَهَى فَتَبَصَّرْ .
ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ

قَالَ : وَقِيلَ قَوْلُهُ : مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ حَتَّى يَعْمَلَ مُفْرَدٌ .
وَالتَّعْرِيفُ بِالْمُفْرَدِ لَا يَصِحُّ عِنْدَ عَامَّةِ الْمُحَقِّقِينَ ، وَإِذَا انْضَمَّ إلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ : كَالصَّبَّاغِ وَالْقَصَّارِ جَازَ أَنْ يَكُونَ تَعْرِيفًا بِالْمِثَالِ ، وَهُوَ صَحِيحٌ ، وَلَكِنَّ قَوْلَهُ : لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ يُنَافِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ عَلَى التَّعْرِيفِ غَيْرُ صَحِيحٍ .
وَقَالَ : وَفِي كَوْنِهِ مُفْرَدًا لَا يَصِحُّ التَّعْرِيفُ بِهِ نَظَرٌ .
وَالْحَقُّ أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ مِنْ التَّعْرِيفَاتِ اللَّفْظِيَّةِ ، وَقَوْلُهُ ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ هُوَ الْعَمَلَ أَوْ أَثَرَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ لِلْعَامَّةِ ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَهُ لَمْ تَصِرْ مُسْتَحَقَّةً لِوَاحِدٍ بَيَانٌ لِمُنَاسَبَةِ التَّسْمِيَةِ ، وَكَأَنَّهُ قَالَ : مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ حَتَّى يَعْمَلَ يُسَمَّى بِالْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ إلَخْ ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ : فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يُسَمَّى مُشْتَرَكًا ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : وَعِنْدِي أَنَّهُ يَعْنِي قَوْلَهُ ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ إلَخْ تَعْلِيلٌ لِلْحُكْمِ الضِّمْنِيِّ الْمُسْتَفَادِ مِنْ التَّعْرِيفِ ، وَهُوَ أَنَّ بَعْضَ الْأُجَرَاءِ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ قَبْلَ الْعَمَلِ ؛ لِأَنَّ قَضِيَّةَ عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ هِيَ الْمُسَاوَاةُ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ، وَلَوْ اسْتَحَقَّ مَنْ اُسْتُؤْجِرَ عَلَى الْعَمَلِ قَبْلَهُ تَبْطُلُ الْمُسَاوَاةُ ، هَذَا هُوَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ ، إلَّا أَنَّ الْمُصَنِّفَ فَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ التَّعْلِيلِ قَوْلَهُ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ لِلْعَامَّةِ لِبَيَانِ مُنَاسَبَةِ التَّسْمِيَةِ فَلْيُتَأَمَّلْ ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
أَقُولُ : مَدَارُ اسْتِخْرَاجِ ذَلِكَ الْبَعْضِ وَرَأْيِهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ عَلَى أَنْ تَكُونَ عِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ الْعَمَلُ أَوْ أَثَرُهُ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ لِلْعَامَّةِ وَلَيْسَتْ كَذَلِكَ ، بَلْ عِبَارَتُهُ هَاهُنَا ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ هُوَ

الْعَمَلَ أَوْ أَثَرَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ لِلْعَامَّةِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ لِلْعَامَّةِ لَيْسَ بِكَلَامٍ مُسْتَقِلٍّ بَلْ هُوَ جَزَاءٌ لِلشَّرْطِ الْمَذْكُورِ فِيمَا قَبْلَهُ ، وَمَجْمُوعُ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ دَاخِلٌ فِي التَّعْلِيلِ غَيْرُ مُتَحَمِّلٍ لِغَيْرِ بَيَانِ مُنَاسَبَةِ التَّسْمِيَةِ ، فَالْحَقُّ مَا قَالَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ عِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ مَا زَعَمَهُ ذَلِكَ الْقَائِلُ وَكَانَ قَوْلُهُ : لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ الْعَمَلُ أَوْ أَثَرُهُ تَعْلِيلًا لِمَا ذَهَبَ إلَيْهِ ذَلِكَ الْقَائِلُ عَلَى مَا قَرَّرَهُ ذَلِكَ الْقَائِلُ لَمَا صَحَّ تَفْرِيعُ الْمُصَنِّفِ قَوْلَهُ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ لِلْعَامَّةِ عَلَى ذَلِكَ التَّعْلِيلِ ؛ لِأَنَّ مَدَارَ ذَلِكَ التَّعْلِيلِ عَلَى مَا قَرَّرَهُ ذَلِكَ الْقَائِلُ أَنْ تَكُونَ قَضِيَّةُ عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ هِيَ الْمُسَاوَاةَ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ كَمَا تَتَحَقَّقُ فِيمَا إذَا كَانَ الْأَجِيرُ مُشْتَرَكًا تَتَحَقَّقُ فِيمَا إذَا كَانَ الْأَجِيرُ خَاصًّا أَيْضًا ، فَلَوْ صَحَّ تَفْرِيعُ قَوْلِهِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ لِلْعَامَّةِ عَلَى ذَلِكَ التَّعْلِيلِ لَزِمَ جَوَازُ أَنْ يَعْمَلَ الْأَجِيرُ الْخَاصُّ أَيْضًا لِلْعَامَّةِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَطْعًا ( قَوْلُهُ : وَلَنَا أَنَّ الدَّاخِلَ تَحْتَ الْإِذْنِ مَا هُوَ الدَّاخِلُ تَحْتَ الْعَقْدِ ، وَهُوَ الْعَمَلُ الْمُصْلِحُ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْوَسِيلَةُ إلَى الْأَثَرِ ، وَهُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ حَقِيقَةً ، حَتَّى لَوْ حَصَلَ بِفِعْلِ الْغَيْرِ يَجِبُ الْأَجْرُ فَلَمْ يَكُنْ الْمُفْسِدُ مَأْذُونًا فِيهِ ) أَقُولُ : فِي تَعْلِيلِ كَوْنِ الدَّاخِلِ تَحْتَ الْعَقْدِ هُوَ الْعَمَلَ الْمُصْلِحَ بِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ قُصُورٌ ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْعَمَلِ وَسِيلَةً إلَى الْأَثَرِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي صُورَةِ تَخْرِيقِ الثَّوْبِ مِنْ دِقِّهِ مِنْ صُوَرِ مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ دُونَ الصُّوَرِ الثَّلَاثِ الْبَاقِيَةِ مِنْهَا إذْ قَدْ مَرَّ فِي أَوَاخِرِ بَابِ الْأَجْرِ مَتَى يُسْتَحَقُّ أَنَّ كُلَّ صَانِعٍ

لِعَمَلِهِ أَثَرٌ فِي الْعَيْنِ كَالْقَصَّارِ وَالصَّبَّاغِ فَلَهُ أَنْ يَحْبِسَ الْعَيْنَ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْأَجْرَ ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ وَصْفٌ قَائِمٌ فِي الثَّوْبِ فَلَهُ حَقُّ الْحَبْسِ لِاسْتِيفَاءِ الْبَدَلِ كَمَا فِي الْبَيْعِ ، وَكُلُّ صَانِعٍ لَيْسَ لِعَمَلِهِ أَثَرٌ فِي الثَّوْبِ فَلَهُ حَقُّ الْحَبْسِ لِاسْتِيفَاءِ الْبَدَلِ كَمَا فِي الْبَيْعُ ، وَكُلُّ صَانِعٍ لَيْسَ لِعَمَلِهِ أَثَرٌ فِي الْعَيْنِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَ الْعَيْنَ لِلْأَجْرِ كَالْحَمَّالِ وَالْمَلَّاحِ ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ نَفْسُ الْعَمَلِ ، وَهُوَ عَيْنٌ قَائِمٌ فِي الْعَيْنِ فَلَا يُتَصَوَّرُ حَبْسُهُ انْتَهَى .
فَقَدْ تَلَخَّصَ مِنْهُ أَنَّ الْعَمَلَ عَلَى نَوْعَيْنِ : نَوْعٌ لَهُ أَثَرٌ فِي الْعَيْنِ كَعَمَلِ الصَّبَّاغِ وَالْقَصَّارِ .
وَنَوْعٌ لَيْسَ لَهُ أَثَرٌ فِي الْعَيْنِ كَعَمَلِ الْحَمَّالِ وَالْمَلَّاحِ .
وَأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ هُوَ الْأَثَرُ ، وَهُوَ الْوَصْفُ الْقَائِمُ فِي الثَّوْبِ ، وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِي النَّوْعِ الثَّانِي نَفْسُ الْعَمَلِ لَا غَيْرُ .
وَلَا شَكَّ أَنَّ هَاتِيك الصُّوَرَ الثَّلَاثَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ مَسَائِلِ الْحَمَّالِ وَالْمَلَّاحِ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِعَمَلِ الصَّانِعِ فِيهَا أَثَرٌ فِي الْعَيْنِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَسِيلَةٌ إلَى الْأَثَرِ ، وَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِيهَا الْأَثَرُ هُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ حَقِيقَةً ، وَقَدْ صَرَّحَ فِيمَا مَرَّ بِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُنَاكَ نَفْسُ الْعَمَلِ ، وَكَذَا قَوْلُهُ : حَتَّى لَوْ حَصَلَ بِفِعْلِ الْغَيْرِ يَجِبُ الْأَجْرُ لَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ عَلَى إطْلَاقِهِ ، إذْ قَدْ مَرَّ أَيْضًا فِي الْبَابِ الْمَزْبُورِ أَنَّهُ إذَا شَرَطَ عَلَى الصَّانِعِ أَنْ يَعْمَلَ بِنَفْسِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ غَيْرَهُ ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ مِنْ مَحَلٍّ بِعَيْنِهِ فَيَسْتَحِقُّ عَيْنَهُ كَالْمَنْفَعَةِ فِي مَحَلٍّ بِعَيْنِهِ انْتَهَى .
نَعَمْ إذَا أَطْلَقَ الْعَمَلَ فَلَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَعْمَلُهُ كَمَا مَرَّ هُنَاكَ أَيْضًا فَكَانَ الدَّلِيلُ خَاصًّا وَالْمُدَّعَى

عَامًّا .
وَالْأَوْلَى فِي التَّعْلِيلِ هَاهُنَا مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكَافِي حَيْثُ قَالَ : لِأَنَّ الدَّاخِلَ تَحْتَ الْإِذْنِ مَا هُوَ الدَّاخِلُ تَحْتَ الْعَقْدِ ، وَهُوَ الْعَمَلُ الْمُصْلِحُ ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ إنَّمَا يَثْبُتُ ضِمْنًا لِلْعَقْدِ وَالْعَقْدُ انْعَقَدَ عَلَى التَّسْلِيمِ ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ يَقْتَضِي سَلَامَةَ الْعَقْدِ عَلَيْهِ مِنْ الْعُيُوبِ كَمَا مَرَّ فِي الْبُيُوعِ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ السَّلِيمُ ثَبَتَ أَنَّ الْمُفْسِدَ غَيْرُ مَعْقُودٍ عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ مَأْذُونًا فِيهِ ، كَمَا لَوْ وَصَفَ نَوْعًا مِنْ الدِّقِّ فَجَاءَ بِنَوْعٍ آخَرَ .
ا هـ .
( قَوْلُهُ : بِخِلَافِ الْعَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ فَلَا يُمْكِنُ تَقْيِيدُهُ بِالْمُصْلِحِ ؛ لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ عَنْ التَّبَرُّعِ وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ يَعْمَلُ بِالْأَجْرِ فَأَمْكَنَ تَقْيِيدُهُ ) .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَلِمُلْتَزِمٍ أَنْ يَلْتَزِمَ جَوَازَ الِامْتِنَاعِ عَنْ التَّبَرُّعِ فِيمَا يَحْصُلُ بِهِ الْمَضَرَّةُ لِغَيْرِ مَنْ تَبَرَّعَ لَهُ .
ا هـ .
وَقَصَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ دَفْعَ ذَلِكَ فَقَالَ : الْحُكْمُ يُدَارُ عَلَى دَلِيلِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ الْحِكْمَةُ أَخَصَّ كَمَا سَبَقَ نَظِيرُهُ فِي الْأَيْمَانِ فَقَوْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ عَنْ التَّبَرُّعِ بَيَانٌ لِحِكْمَةِ عَدَمِ التَّضْمِينِ .
ا هـ .
أَقُولُ : هَذَا لَا يُجْدِي شَيْئًا ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ لَمْ يَنْفِ لُزُومَ الِامْتِنَاعِ عَنْ التَّبَرُّعِ فِي صُورَةِ حُصُولِ الْمَضَرَّةِ بِهِ لِغَيْرِ مَنْ تَبَرَّعَ لَهُ ، بَلْ أَرَادَ مَنْعَ بُطْلَانِ ذَلِكَ اللَّازِمِ بِنَاءً عَلَى الْتِزَامِ جَوَازِ ذَلِكَ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ غَيْرِ الْمُتَبَرِّعِ لَهُ فَلَا فَائِدَةَ هَاهُنَا لِحَدِيثِ جَوَازِ كَوْنِ الْحِكْمَةِ أَخَصَّ ، عَلَى أَنَّ لِصَاحِبِ الْعِنَايَةِ أَنْ يَقُولَ لَا يَصْلُحُ قَوْلُهُ : لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ عَنْ التَّبَرُّعِ بَيَانًا لِحِكْمَةِ عَدَمِ التَّضْمِينِ أَيْضًا ، فَإِنَّهُ إذَا جَازَ الْتِزَامُ امْتِنَاعِهِ عَنْ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْغَيْرِ لَمْ تَظْهَرْ حِكْمَةُ عَدَمِ التَّضْمِينِ ، بَلْ

كَانَ الظَّاهِرُ حِينَئِذٍ هُوَ التَّضْمِينَ كَمَا لَا يَخْفَى .
ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَلَوْ عَلَّلَ بِأَنَّ التَّبَرُّعَ بِالْعَمَلِ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ ، وَهِيَ لَا تَقْتَضِي السَّلَامَةَ كَأَنْ أَسْلَمَ .
ا هـ .
أَقُولُ : وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : هُنَا أَيْضًا كَوْنُ التَّبَرُّعِ بِالْعَمَلِ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ بِالنَّظَرِ إلَى مَنْ تَبَرَّعَ لَهُ لَا يَقْتَضِي جَوَازَ ذَلِكَ إذَا تَضَمَّنَ ضَرَرًا لِغَيْرِ مَنْ تَبَرَّعَ لَهُ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا أَخَذَ أَحَدٌ مِلْكَ الْآخَرِ وَتَبَرَّعَ بِهِ لِغَيْرِهِ بِطَرِيقِ الْهِبَةِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ فَلِمَ لَا يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ إذَا عَمِلَ فِي مِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَتَبَرَّعَ بِالْعَمَلِ لِلْأَجِيرِ فَتَلِفَ بِعَمَلِهِ مِلْكُ الْمُسْتَأْجِرِ فَلْيُتَأَمَّلْ .
( قَوْلُهُ : وَانْقِطَاعُ الْحَبْلِ مِنْ قِلَّةِ اهْتِمَامِهِ فَكَانَ مِنْ صَنِيعِهِ ) هَذَا جَوَابٌ عَمَّا عَسَى أَنْ يُقَالَ : انْقِطَاعُ الْحَبْلِ لَيْسَ مِنْ صَنِيعِ الْأَجِيرِ فَمَا وَجْهُ ذِكْرِهِ مِنْ جُمْلَةِ مَا تَلِفَ بِعَمَلِهِ ؟ فَأَجَابَ بِأَنَّهُ مِنْ قِلَّةِ اهْتِمَامِهِ فَكَانَ مِنْ صَنِيعِهِ ، كَذَا مِنْ الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا .
أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : يُشْكِلُ هَذَا عَلَى مَا مَرَّ مِنْ أَنَّ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ لَا يَضْمَنُ مَا هَلَكَ فِي يَدِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَإِنْ كَانَ الْهَلَاكُ بِسَبَبٍ يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ كَالْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ هُنَاكَ أَيْضًا : إنَّ الْهَلَاكَ مِنْ قِلَّةِ اهْتَامَهُ حَيْثُ لَمْ يَحْتَرِزْ عَمَّا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فَكَانَ مِنْ صَنِيعِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَضْمَنَ بِالِاتِّفَاقِ .
ثُمَّ أَقُولُ : يُمْكِنُ الْفَرْقُ بِأَنَّ التَّقْصِيرَ هُنَاكَ فِي الْحِفْظِ ، وَهُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ تَبَعًا لَا مَقْصُودًا كَمَا مَرَّ فَلَا اعْتِبَارَ لَهُ ، وَأَمَّا هَاهُنَا فَالتَّقْصِيرُ فِي نَفْسِ الْعَمَلِ الَّذِي هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ مَقْصُودًا فَلَهُ اعْتِبَارٌ وَحُكْمٌ ( قَوْلُهُ : لِأَنَّ الْوَاجِبَ ضَمَانُ الْآدَمِيِّ وَأَنَّهُ لَا يَجِبُ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78