كتاب : فتح القدير
المؤلف : كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي

فَإِنَّ الْيَدَ تَثْبُتُ بِهَا وَيَصِيرُ بِهَا غَاصِبًا .
هَذَا إذَا شَهِدَ كَذَلِكَ لِمَيِّتٍ ، فَلَوْ شَهِدَا لِحَيٍّ ادَّعَى عَيْنًا فِي يَدِ رَجُلٍ كَذَلِكَ : أَيْ شَهِدَا أَنَّهَا كَانَتْ فِي يَدِ هَذَا الْمُدَّعِي مُنْذُ شَهْرٍ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ لَمْ يَذْكُرَا وَقْتًا ، فَعَنْ أَبِي يُوسُفَ هِيَ كَاَلَّتِي لِلْمَيِّتِ فَيَقْضِي لِلْمُدَّعِي بِالْعَيْنِ الْمَذْكُورَةِ .
وَقَالَا : لَا يَقْضِي بِهَا لِلْمُدَّعِي بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ .
لِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْيَدَ مَقْصُودَةٌ كَالْمِلْكِ ، وَلَوْ شَهِدَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَنَّهَا كَانَتْ مِلْكًا لِلْمُدَّعِي تُقْبَلُ عَلَى مَا قَدَّمْنَا فِي الْفُرُوعِ اسْتِصْحَابًا لِمِلْكِهِ إلَى وَقْتِ الدَّعْوَى كَذَا هُنَا اسْتِصْحَابًا لِيَدِهِ إلَى وَقْتِ الدَّعْوَى وَصَارَ كَمَا لَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ أَخَذَهَا مِنْهُ يَقْضِي بِالرَّدِّ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ .
وَجْهُ الظَّاهِرِ مِنْ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ وَجْهُ قَوْلِهِمَا إنَّ الشَّهَادَةَ مَعَ كَوْنِهَا بِيَدِهِ مُنْقَضِيَةً شَهَادَةً بِمَجْهُولٍ لِأَنَّ الْيَدَ مُتَنَوِّعَةٌ إلَى مِلْكٍ وَأَمَانَةٍ وَضَمَانٍ ، وَلَمْ يَلْزَمْ أَحَدُهَا بِعَيْنِهِ لِتَرْتَفِعَ الْجَهَالَةُ فَتَعَذَّرَ الْقَضَاءُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ لِتَعَذُّرِ الْقَضَاءِ بِمَجْهُولٍ ، بِخِلَافِ مِثْلِهَا فِي الْمَيِّتِ لِأَنَّهُ لَزِمَ أَحَدَهَا بِعَيْنِهِ بِالْمَوْتِ وَهُوَ يَدُ الْمِلْكِ فَأَمْكَنَ الْقَضَاءُ ، وَبِخِلَافِ الْأَخْذِ فَإِنَّ لَهُ مُوجِبًا مَعْلُومًا وَهُوَ الرَّدُّ مِنْ حَيْثُ هُوَ أَخْذٌ إلَى أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ ثُبُوتُ أَنَّهُ أَخَذَ حَقَّهُ .
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّهُ فَيَقْضِيَ بِهِ } وَأَيْضًا الْيَدُ مُعَايِنٌ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَيَدُ الْمُدَّعِي مَشْهُودٌ بِهِ مُخْبَرٌ عَنْهُ ، وَلَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ فَيَتَرَجَّحُ قَوْلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَلَا يَقْضِي بِهِ لِلْمُدَّعِي .
وَاسْتَشْكَلَ بِبَيِّنَةِ الْخَارِجِ مَعَ ذِي الْيَدِ ، وَكَذَا بِبَيِّنَةِ مُدَّعِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ مَعَ ذِي الْيَدِ حَيْثُ تَتَرَجَّحُ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ وَمُدَعِّي الْمِلْكِ

.
أُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ مُسَلَّمٌ فِيمَا لَا يَتَنَوَّعُ كَبَيِّنَةِ الْخَارِجِ وَمُدَّعِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ بِخِلَافِ مَا يَتَنَوَّعُ .
وَهَذَا الْجَوَابُ حَاصِلُهُ أَنَّ الْمُعَايَنَةَ كَانَتْ تُقَدَّمُ لَوْ لَمْ تَلْزَمْ الْجَهَالَةُ فِي الْمَقْضِيِّ وَهُوَ فِي التَّحْقِيقِ يَصِيرُ إلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَيَبْطُلُ اسْتِقْلَالُ الثَّانِي بِتَأَمُّلٍ يَسِيرٍ ( قَوْلُهُ وَإِنْ أَقَرَّ إلَخْ ) يَعْنِي لَوْ قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالدَّارِ الَّتِي فِي يَدِهِ هَذِهِ الدَّارُ كَانَتْ فِي يَدِ الْمُدَّعِي دُفِعَتْ لِلْمُدَّعِي ، وَإِنْ كَانَتْ الْيَدُ مُتَنَوِّعَةً لِأَنَّ حَاصِلَ ذَلِكَ جَهَالَةٌ فِي الْمُقَرِّ بِهِ وَهِيَ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ بَلْ يَصِحُّ وَيَلْزَمُ بِالْبَيَانِ ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ شَيْءٌ صَحَّ وَيُجْبَرُ عَلَى الْبَيَانِ ، وَكَذَا لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَقَرَّ بِأَنَّهَا كَانَتْ فِي يَدِ الْمُدَّعِي تُقْبَلُ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ الْإِقْرَارُ وَهُوَ مَعْلُومٌ ، وَإِنَّمَا الْجَهَالَةُ فِي الْمُقَرِّ بِهِ وَهِيَ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَضَاءِ ، كَمَا لَوْ ادَّعَى عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَشَهِدَا عَلَى إقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ شَيْئًا جَازَتْ وَيُؤْمَرُ بِالْبَيَانِ .

[ تَتِمَّةٌ ] شَرْطُ الشَّهَادَةِ بِالْإِرْثِ أَنْ يَشْهَدُوا أَنَّهُ كَانَ لِمُورَثِهِ ، فَلَوْ قَالُوا إنَّهُ لِمُورَثِهِ تَقَدَّمَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ : لَا يَصِحُّ وَلَمْ يَحْكِ خِلَافًا ، لِأَنَّ الْمُورَثَ إنْ كَانَ حَيًّا فَالْمُدَّعِي لَيْسَ خَصْمًا ، وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا فَإِثْبَاتُ الْمِلْكِ لِلْمَيِّتِ حَالًّا مُحَالٌ وَتَقَدَّمَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ إنَّهَا تَصِحُّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ غَيْرُ بَعِيدٍ لِأَنَّا نَقْطَعُ بِأَنَّ الشَّاهِدَ لَمْ يُرِدْ هَذَا الْمَعْنَى بَلْ مَلَكَهُ حَالَ حَيَاتِهِ فَكَانَ كَالْأَوَّلِ ، وَلَا بُدَّ أَنْ يُدْرِكَ الشُّهُودُ الْمَيِّتَ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الْمِلْكِ لَا تَجُوزُ بِالتَّسَامُعِ ، وَلَا بُدَّ أَنْ يُبَيِّنُوا جِهَةَ الِاسْتِحْقَاقِ حَتَّى لَوْ قَالُوا أَخُوهُ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَهُ لَا تُقْبَلُ مَا لَمْ يَقُولُوا لِأَبِيهِ أَوْ لِأُمِّهِ أَوْ لَهُمَا لِأَنَّ الْإِرْثَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْجِهَاتِ ، وَكَذَا لَوْ قَالُوا كَانَ لِجَدِّهِ وَلَمْ يَقُولُوا مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لِأَبِيهِ ثُمَّ مَاتَ أَبُوهُ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَهُ وَلَمْ يَشْتَرِطْهُ أَبِي يُوسُفَ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْخِلَافِيَّةِ غَيْرَ أَنَّهُ يُسْأَلُ الْبَيِّنَةَ عَنْ عَدَدِ الْوَرَثَةِ لِلْقَضَاءِ .
وَإِذَا شَهِدُوا أَنَّهُ كَانَ لِمُورَثِهِ تَرَكَهُ مِيرَاثًا لَهُ وَلَمْ يَقُولُوا لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا سِوَاهُ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَرِثُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ لَا يَقْضِي لِاحْتِمَالِ عَدَمِ اسْتِحْقَاقِهِ أَوْ يَرِثُ عَلَى كُلِّ حَالٍ يُحْتَاطُ لِلْقَاضِي وَيَنْتَظِرُ مُدَّةً هَلْ لَهُ وَارِثٌ آخَرُ أَمْ لَا ثُمَّ يَقْضِي بِكُلِّهِ ، وَإِنْ كَانَ نَصِيبُهُ يَخْتَلِفُ فِي الْأَحْوَالِ يَقْضِي بِالْأَقَلِّ ؛ فَيَقْضِي فِي الزَّوْجِ بِالرُّبْعِ وَالزَّوْجَةِ بِالثُّمُنِ إلَّا أَنْ يَقُولُوا لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَقْضِي بِالْأَكْثَرِ ، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ ، وَلَيْسَ الْأَصْلُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ وَارِثٌ وَيَأْخُذُ الْقَاضِي كَفِيلًا عِنْدَهُمَا لَا عِنْدَهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ .
وَلَوْ قَالُوا :

لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا بِهَذَا الْمَوْضِعِ كَفَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا .

[ فُرُوعٌ ] إذَا شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّ هَذَا وَارِثُ فُلَانٍ لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ وَلَمْ يَذْكُرَا سَبَبًا يَرِثُ بِهِ فَالشَّهَادَةُ بَاطِلَةٌ حَتَّى يُبَيِّنَا سَبَبَ الْإِرْثِ ، وَكَذَا إذَا شَهِدُوا أَنَّهُ أَخُوهُ أَوْ عَمُّهُ أَوْ ابْنُ عَمِّهِ أَوْ جَدُّهُ أَوْ جَدَّتُهُ لَا تُقْبَلُ حَتَّى يُبَيِّنَا طَرِيقَ الْأُخُوَّةِ وَالْعُمُومَةِ : أَيْ يُبَيِّنَا الْأَسْبَابَ الْمُوَرِّثَةَ لِلْمَيِّتِ أَنَّهُ لِأَبٍ أَوْ شَقِيقٌ وَيَنْسُبَا الْمَيِّتَ وَالْوَارِثَ حَتَّى يَلْتَقِيَا إلَى أَبٍ وَاحِدٍ ، وَيَذْكُرُ أَيْضًا أَنَّهُ وَارِثُهُ ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ قَوْلُهُ إرْثُهُ فِي الْأَبِ وَالْأُمِّ وَالْوَلَدِ ؟ قِيلَ يُشْتَرَطُ وَالْفَتْوَى عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ قَوْلُهُ وَارِثُهُ ، وَكَذَا كُلُّ مَنْ لَا يُحْجَبُ بِحَالٍ لَا يُشْتَرَطُ قَوْلُهُ وَارِثُهُ .
وَفِي الشَّهَادَةِ بِأَنَّهُ ابْنُ ابْنِ الْمَيِّتِ أَوْ بِنْتُ ابْنِهِ لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ .
وَفِي الشَّهَادَةِ أَنَّهُ مَوْلَاهُ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ ، وَلَا يُشْتَرَطُ ذِكْرُ اسْمِ أَبٍ الْمَيِّتِ ، حَتَّى لَوْ شَهِدَا أَنَّهُ جَدُّ الْمَيِّتِ أَبُو أَبِيهِ وَوَارِثُهُ وَلَمْ يُسَمُّوا أَبَا الْمَيِّتِ قُبِلَتْ .
وَفِي الْأَقْضِيَةِ شَهِدَا أَنَّهُ جَدُّ الْمَيِّتِ وَقَضَى لَهُ بِهِ ثُمَّ جَاءَ آخَرُ وَادَّعَى أَنَّهُ أَبُو الْمَيِّتِ وَبَرْهَنَ فَالثَّانِي أَحَقُّ بِالْمِيرَاثِ ، وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ أَخُو الْمَيِّتِ وَوَارِثُهُ فَقَضَى بِهِ ثُمَّ شَهِدَ هَذَانِ عَلَى الْآخَرِ أَنَّهُ ابْنُ الْمَيِّتِ لَا يَبْطُلُ الْقَضَاءُ الْأَوَّلُ بَلْ يَضْمَنَانِ لِلِابْنِ مَا أَخَذَ الْأَوَّلُ مِنْ الْإِرْثِ ، وَلَوْ شَهِدَ آخَرَانِ أَنَّ الثَّانِيَ ابْنُ الْمَيِّتِ تُقْبَلُ .
وَفِي الزِّيَادَاتِ : شَهِدَا أَنَّ قَاضِيَ بَلَدِ كَذَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ قَضَى بِأَنَّ هَذَا وَارِثٌ فَلِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ فَالْقَاضِي يَحْتَاطُ وَيَسْأَلُ الْمُدَّعِي عَنْ نَسَبِهِ ، فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهُ أَمْضَى الْقَضَاءَ الْأَوَّلَ لِعَدَمِ الْمُنَازِعِ فِي الْحَالِ ، فَإِنْ جَاءَ آخَرُ وَبَيَّنَ أَنَّهُ وَارِثُهُ ، فَإِنْ كَانَ أَقْرَبَ مِنْ الْأَوَّلِ

قَضَى لِلثَّانِي ، وَإِنْ كَانَ أَبْعَدَ مِنْهُ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ ، وَإِنْ زَاحَمَهُ بِأَنْ كَانَ مَثَلًا الْأَوَّلُ ابْنًا وَالثَّانِي أَبًا قَضَى بِالْمِيرَاثِ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ حَقِّهِمَا لِإِمْكَانِ الْعَمَلِ بِهِمَا .

( بَابٌ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ ) قَالَ ( الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ جَائِزَةٌ فِي كُلِّ حَقٍّ لَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ لِشِدَّةِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا ، إذْ شَاهِدُ الْأَصْلِ قَدْ يَعْجِزُ عَنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ لِبَعْضِ الْعَوَارِضِ ، فَلَوْ لَمْ تَجُزْ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ أَدَّى إلَى إتْوَاءِ الْحُقُوقِ ، وَلِهَذَا جَوَّزْنَا الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ وَإِنْ كَثُرَتْ ، إلَّا أَنَّ فِيهَا شُبْهَةً مِنْ حَيْثُ الْبَدَلِيَّةُ أَوْ مِنْ حَيْثُ إنَّ فِيهَا زِيَادَةَ احْتِمَالٍ ، وَقَدْ أَمْكَنَ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ بِجِنْسِ الشُّهُودِ فَلَا تُقْبَلُ فِيمَا تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ .

( بَابٌ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ شَهَادَةِ الْأُصُولِ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ شَهَادَةِ الْفُرُوعِ ( قَوْلُهُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ ) جَائِزَةٌ فِي كُلِّ ( حَقٍّ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبْهَةِ ) فَخَرَجَ مَا لَا يَثْبُتُ مَعَهَا وَهُوَ الْحُدُودُ وَالْقِصَاصُ .
فَأَمَّا التَّعْزِيرُ فَفِي الْأَجْنَاسِ مِنْ نَوَادِرِ ابْنِ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ : يَجُوزُ فِي التَّعْزِيرِ الْعَفْوُ وَالشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ .
وَنَصَّ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ عَلَى أَنَّ كِتَابَ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي لَا تَجُوزُ فِيهِ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ ، وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ جَائِزَةٌ فِي الْأَقَارِيرِ وَالْحُقُوقِ وَأَقْضِيَةِ الْقُضَاةِ وَكُتُبِهِمْ وَكُلِّ شَيْءٍ إلَّا الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ ، وَبِقَوْلِنَا هَذَا قَالَ أَحْمَدُ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ ، وَأَصَحُّ قَوْلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ : تُقْبَلُ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ أَيْضًا لِأَنَّ الْفُرُوعَ عُدُولٌ ، وَقَدْ نَقَلُوا شَهَادَةَ الْأُصُولِ فَالْحُكْمُ بِشَهَادَةِ الْأُصُولِ لَا بِشَهَادَتِهِمْ وَصَارُوا كَالْمُتَرْجِمِ وَسَيَنْدَفِعُ ( قَوْلُهُ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ ) أَيْ جَوَازُ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَجُوزَ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ وَجَبَتْ عَلَى الْأَصْلِ وَلَيْسَتْ بِحَقٍّ لِلْمَشْهُودِ لَهُ حَتَّى لَا تَجُوزَ الْخُصُومَةُ فِيهَا وَالْإِجْبَارُ عَلَيْهَا .
وَالنِّيَابَةُ فِي الْعِبَادَةِ الْبَدَنِيَّةِ لَا تَجُوزُ لِأَنَّ كَوْنَ قَوْلِ إنْسَانٍ يَنْفُذُ عَلَى مِثْلِهِ وَيَلْزَمُهُ مَا نَسَبَهُ إلَيْهِ وَهُوَ يَنْفِيهِ وَيَبْرَأُ مِنْهُ إنَّمَا عُرِفَ حُجَّةً شَرْعًا عِنْدَ قَدْرٍ مِنْ احْتِمَالِ الْكَذِبِ وَهُوَ مَا فِي شَهَادَةِ الْأُصُولِ لِعَدَمِ الْعِصْمَةِ مِنْ الْكَذِبِ وَالسَّهْوِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً كَذَلِكَ عِنْدَ زِيَادَةِ الِاحْتِمَالِ ، فَكَيْفَ إذَا كَانَ الثَّابِتُ ضَعْفَ ذَلِكَ الِاحْتِمَالِ وَهُوَ فِي شَهَادَةِ الْفَرْعَيْنِ وَإِنْ اخْتَلَفَ مَحَلُّ الْأَدَاءِ ، لِأَنَّ مَحَلَّهُ فِي الْأَصْلَيْنِ فِي إثْبَاتِ حَقِّ الْمُدَّعِي وَفِي

الْفَرْعَيْنِ مَا يَشْهَدَانِ بِهِ مِنْ شَهَادَةِ الْأَصْلَيْنِ ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى الْحَقِّ الْمُدَّعَى بِهِ ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الشَّاهِدُ قَدْ يَعْجِزُ عَنْ الْأَدَاءِ لِمَوْتِهِ أَوْ لِغَيْبَتِهِ أَوْ مَرَضِهِ فَيَضِيعُ الْحَقُّ أَثْبَتَهَا أَهْلُ الْإِجْمَاعِ صِيَانَةً لِحُقُوقِ النَّاسِ .
لَا يُقَالُ : يُسْتَغْنَى عَنْ ذَلِكَ بِجِنْسِ الشُّهُودِ بِأَنْ يُسْتَشْهَدَ عَلَى كُلِّ حَقٍّ عَشَرَةٌ مَثَلًا فَيَبْعُدُ مَوْتُ الْكُلِّ قَبْلَ دَعْوَى الْمُدَّعِي .
لِأَنَّا نَقُولُ : الْمُدَّعِي جَازَ كَوْنُهُ وَارِثَ وَارِثِ صَاحِبِ الْحَقِّ عَلَى مِثْلِهِ ، وَقَدْ انْقَرَضَ الْكُلُّ فَالْحَاجَةُ مُتَحَقِّقَةٌ إلَيْهَا ، وَلَمَّا كَانَتْ الْحُقُوقُ مِنْهَا مَا يُحْتَاطُ فِي إثْبَاتِهِ وَمِنْهَا مَا أَوْجَبَ الشَّرْعُ الِاحْتِيَاطَ فِي دَرْئِهِ وَهُوَ الْحُدُودُ وَالْقِصَاصُ لَوْ أَجَزْنَا فِيهَا الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ مَعَ ثُبُوتِ ضَعْفِ احْتِمَالِ الْكَذِبِ كَانَ خِلَافًا لِلشَّرْعِ وَالْمُصَنِّفُ عَلَّلَ بِهَذَا وَبِمَا فِيهَا مِنْ شُبْهَةِ الْبَدَلِيَّةِ ، فَأَوْرَدَ عَلَى هَذَا لَوْ كَانَتْ بَدَلًا لَمْ تَجُزْ شَهَادَةُ أَصْلٍ مَعَ فَرَعَيْنَ ، إذْ الْبَدَلُ لَا يُجَامِعُ الْأَصْلَ وَلَا شَيْئًا مِنْهُ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْبَدَلِيَّةَ هُنَا بِحَسَبِ الْمَشْهُودِ بِهِ ، فَإِنَّا عَلِمْنَا بِثُبُوتِ الْمَشْهُودِ بِهِ لِلْأُصُولِ فِيهِ شُبْهَةٌ كَمَا ذَكَرْنَا ، وَبِالشَّهَادَةِ عَلَى شَهَادَتِهِمْ تَمَكَّنَتْ فِيهِ شُبْهَةٌ أُخْرَى لَا بِحَسَبِ شَهَادَةِ الْأُصُولِ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمْ عِيَانٌ وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ ، وَبَعْدَ تَحَمُّلِهِ يَرُدُّهُ إلَى التَّعْلِيلِ الْآخَرِ وَهُوَ كَثْرَةُ الِاحْتِمَالِ بِتَأَمُّلٍ يَسِيرٍ فَلَا يَكُونَانِ تَعْلِيلَيْنِ ، وَهُوَ خِلَافُ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ ، لَا جَرَمَ أَنَّ أَصْلَ السُّؤَالِ غَيْرُ وَارِدٍ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَرِدُ عَلَى حَقِيقَةِ الْبَدَلِيَّةِ وَالْمُصَنِّفُ إنَّمَا قَالَ فِيهِ شُبْهَةُ الْبَدَلِيَّةِ لَا حَقِيقَتُهَا .
فَإِنْ قِيلَ : ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ الشَّاهِدَيْنِ لَوْ شَهِدَا عَلَى شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ أَنَّ قَاضِي بَلَدِ كَذَا حَدَّ فُلَانًا فِي قَذْفٍ تُقْبَلُ حَتَّى تَرِدَ

شَهَادَةُ فُلَانٍ .
أُجِيبَ بِأَنْ لَا نَقْضَ ، فَإِنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ فِعْلُ الْقَاضِي وَهُوَ مِمَّا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ ، وَالْمُرَادُ مِنْ الشَّهَادَةِ بِالْحُدُودِ الشَّهَادَةُ بِوُقُوعِ أَسْبَابِهَا الْمُوجِبَةِ لَهَا ، فَأَوْرَدَ أَنَّ فِعْلَ الْقَاضِي مُوجِبٌ لِرَدِّهَا وَرَدُّهَا مِنْ حَدِّهِ فَهُوَ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ .
أُجِيبَ بِالْمَنْعِ بَلْ الْمُوجِبُ لِرَدِّهَا إنْ كَانَ مِنْ حَدِّهِ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَاَلَّذِي يُوجِبُهُ هُوَ الْقَذْفُ نَفْسُهُ عَلَى أَنَّ فِي الْمُحِيطِ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ لَا تُقْبَلُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ

( وَتَجُوزُ شَهَادَةُ شَاهِدَيْنِ عَلَى شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ ) .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَجُوزُ إلَّا الْأَرْبَعُ عَلَى كُلِّ أَصْلٍ اثْنَانِ لِأَنَّ كُلَّ شَاهِدَيْنِ قَائِمَانِ مَقَامَ شَاهِدٍ وَاحِدٍ فَصَارَا كَالْمَرْأَتَيْنِ وَلَنَا قَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَا يَجُوزُ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلٍ إلَّا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ ، وَلِأَنَّ نَقْلَ شَهَادَةِ الْأَصْلِ مِنْ الْحُقُوقِ فَهُمَا شَهِدَا بِحَقٍّ ثُمَّ شَهِدَا بِحَقٍّ آخَرَ فَتُقْبَلُ .

( قَوْلُهُ وَتَجُوزُ شَهَادَةُ شَاهِدَيْنِ ) أَوْ شَهَادَةُ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ ( عَلَى شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ ) يَعْنِي إذَا شَهِدَا عَلَى شَهَادَةِ كُلٍّ مِنْ الشَّاهِدَيْنِ فَيَكُونُ لَهُمَا شَهَادَتَانِ شَهَادَتُهُمَا مَعًا عَلَى شَهَادَةِ هَذَا وَشَهَادَتُهُمَا أَيْضًا عَلَى شَهَادَةِ الْآخَرِ .
أَمَّا لَوْ شَهِدَا عَلَى شَهَادَتِهِمَا بِمَعْنَى شَهِدَ وَاحِدٌ عَلَى شَهَادَةِ أَصْلٍ وَالْآخَرُ عَلَى شَهَادَةِ الْأَصْلِ الْآخَرِ فَلَا يَجُوزُ إلَّا عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ عَلَى مَا نُقِلَ عَنْهُ فِي كُتُبِ أَصْحَابِنَا لَكِنْ فِي كُتُبِ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ .
وَفِي الْجُمْلَةِ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَحْمَدَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَابْنِ شُبْرُمَةَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالْعَنْبَرِيِّ وَعُثْمَانَ الْبَتِّيِّ وَإِسْحَاقَ تَجُوزُ الشَّهَادَةُ ، لِأَنَّ الْفَرْعَ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَصْلِ بِمَنْزِلَةِ رَسُولِهِ فِي إيصَالِ شَهَادَتِهِ إلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَكَأَنَّهُ شَهِدَ بِنَفْسِهِ وَاعْتَبَرُوهُ بِرِوَايَةِ الْأَخْبَارِ ( وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَا تَجُوزُ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلٍ إلَّا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ ) ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَهُوَ بِهَذَا اللَّفْظِ غَرِيبٌ .
وَاَلَّذِي فِي مُصَنَّفِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ : أَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي يَحْيَى الْأَسْلَمِيُّ عَنْ حُسَيْنِ بْنِ ضَمْرَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ : لَا تَجُوزُ عَلَى شَهَادَةِ الْمَيِّتِ إلَّا رَجُلَانِ .
وَأَسْنَدَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ : حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ إسْمَاعِيلَ الْأَزْرَقِ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ : لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الشَّاهِدِ عَلَى الشَّاهِدِ حَتَّى يَكُونَا اثْنَيْنِ ، وَلِأَنَّ شَهَادَةَ كُلٍّ مِنْ الْأَصْلَيْنِ هِيَ الْمَشْهُودُ بِهَا فَلَا بُدَّ أَنْ يَجْتَمِعَ عَلَى كُلِّ مَشْهُودٍ بِهِ شَاهِدَانِ حَتَّى لَوْ كَانَتْ امْرَأَةٌ شَاهِدَةٌ مَعَ الْأُصُولِ لَا يَجُوزُ عَلَى شَهَادَتِهَا إلَّا رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ : لَا تَجُوزُ ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيّ لِأَنَّ الْفَرْعَيْنِ يَقُومَانِ مَقَامَ أَصْلٍ وَاحِدٍ كَالْمَرْأَتَيْنِ ، وَلَا تَقُومُ

الْحُجَّةُ بِهِمَا كَالْمَرْأَتَيْنِ لَمَّا قَامَتَا مَقَامَ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ لَا يَقْضِي بِشَهَادَتِهِمَا ، وَلِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَوْ كَانَ أَصْلًا فَشَهِدَ شَهَادَةً ثُمَّ شَهِدَ مَعَ فَرْعٍ عَلَى شَهَادَةِ الْأَصْلِ الْآخَرِ لَا تَجُوزُ اتِّفَاقًا ، فَكَذَا إذَا شَهِدَا جَمِيعًا عَلَى شَهَادَةِ الْأَصْلَيْنِ .
وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لِلشَّافِعِيِّ تَجُوزُ كَقَوْلِنَا ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ قَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ بِإِطْلَاقِهِ يَنْتَظِمُ مَحَلَّ النِّزَاعِ ، وَلِأَنَّ حَاصِلَ أَمْرِهِمَا أَنَّهُمَا شَهِدَا بِحَقٍّ هُوَ شَهَادَةُ أَحَدِ الْأَصْلَيْنِ ، ثُمَّ شَهِدَ بِحَقٍّ آخَرَ هُوَ شَهَادَةُ الْأَصْلِ الْآخَرِ ، وَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَشْهَدَ شَاهِدَانِ بِحُقُوقٍ كَثِيرَةٍ ، بِخِلَافِ أَدَاءِ الْأَصْلِ بِشَهَادَةِ نَفْسِهِ ثُمَّ بِشَهَادَتِهِ عَلَى الْأَصْلِ الْآخَرِ مَعَ آخَرَ ، فَإِنَّهُ إنَّمَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّ فِيهِ يَجْتَمِعُ الْبَدَلُ وَالْمُبْدَلُ مِنْهُ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ شَهِدَ شَاهِدٌ بِهِ وَشَهِدَ اثْنَانِ عَلَى شَهَادَةِ الْأَصْلِ الْآخَرِ حَيْثُ يَجُوزُ .

( وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ وَاحِدٍ عَلَى شَهَادَةِ وَاحِدٍ ) لِمَا رَوَيْنَا ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ مِنْ الْحُقُوقِ فَلَا بُدَّ مِنْ نِصَابِ الشَّهَادَةِ .
وَقَوْلُهُ ( وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ ) فِيهِ نَظَرٌ ، إذْ كُتُبُهُمْ نَاطِقَةٌ بِأَنَّ شَهَادَةَ الْوَاحِدِ عَلَى الْأَصْلِ لَا تَجُوزُ ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ رِوَايَةً عَنْهُ ، وَإِنَّمَا نَقَلَ هَذَا عَمَّنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي الْجُمْلَةِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْفَرْعَ كَرَسُولٍ ، وَكَرِوَايَةِ الْأَخْبَارِ .
وَيَدْفَعُهُ مَا ذَكَرْنَا عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ حَقٌّ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِاثْنَيْنِ .
وَذَكَرَ فِي الْمُسْتَوْعَبِ لِلْحَنَابِلَةِ عَنْ أَحْمَدَ : لَا بُدَّ مِنْ أَرْبَعَةِ فُرُوعٍ لِيَشْهَدَ كُلُّ فَرَعَيْنَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ الْأَصْلَيْنِ

( وَصِفَةُ الْإِشْهَادِ أَنْ يَقُولَ شَاهِدُ الْأَصْلِ لِشَاهِدِ الْفَرْعِ : اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي أَنِّي أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ أَقَرَّ عِنْدِي بِكَذَا وَأَشْهَدَنِي عَلَى نَفْسِهِ ) لِأَنَّ الْفَرْعَ كَالنَّائِبِ عَنْهُ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّحْمِيلِ وَالتَّوْكِيلِ عَلَى مَا مَرَّ ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَشْهَدَ كَمَا يَشْهَدُ عِنْدَ الْقَاضِي لِيَنْقُلَهُ إلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ ( وَإِنْ لَمْ يَقُلْ أَشْهَدَنِي عَلَى نَفْسِهِ جَازَ ) لِأَنَّ مَنْ سَمِعَ إقْرَارَ غَيْرِهِ حَلَّ لَهُ الشَّهَادَةُ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ لَهُ اشْهَدْ ( وَيَقُولُ شَاهِدُ الْفَرْعِ عِنْدَ الْأَدَاءِ أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانًا أَشْهَدَنِي عَلَى شَهَادَتِهِ أَنَّ فُلَانًا أَقَرَّ عِنْدَهُ بِكَذَا وَقَالَ لِي اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي بِذَلِكَ ) لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ شَهَادَتِهِ ، وَذِكْرِ شَهَادَةِ الْأَصْلِ وَذِكْرِ التَّحْمِيلِ ، وَلَهَا لَفْظٌ أَطْوَلُ مِنْ هَذَا وَأَقْصَرُ مِنْهُ وَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا .

( قَوْلُهُ وَصِفَةُ الْإِشْهَادِ ) أَيْ إشْهَادُ شَاهِدِ الْأَصْلِ شَاهِدَ الْفَرْعِ ( أَنْ يَقُولَ شَاهِدُ الْأَصْلِ لَهُ اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي أَنِّي أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ أَقَرَّ عِنْدِي بِكَذَا وَأَشْهَدَنِي عَلَى نَفْسِهِ ) وَإِنَّمَا شَرَطَ إشْهَادَ الْأَصْلِ الْفَرْعَ فِي شَهَادَةِ الْفَرْعِ ( لِأَنَّهُ كَالنَّائِبِ عَنْهُ فَلَا بُدَّ مِنْ الِاسْتِنَابَةِ ) وَذَلِكَ بِالتَّحْمِيلِ ، بِخِلَافِ شَهَادَةِ الْأَصْلِ تَجُوزُ عَلَى الْمُقِرِّ وَإِنْ لَمْ يَحْمِلْهُ ، وَكَذَا كُلُّ مَنْ شَاهَدَ أَمْرًا غَيْرَ الشَّهَادَةِ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يُحْمَلْ كَالْإِقْرَارِ وَالْبَيْعِ وَالْغَصْبِ ( عَلَى مَا مَرَّ ) يَعْنِي فِي فَصْلِ مَا يَتَحَمَّلُهُ الشَّاهِدُ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ لِأَنَّهُ نَائِبُهُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَقِيقَةَ النَّائِبِ لَمْ يَجُزْ الْقَضَاءُ بِشَهَادَةِ فَرْعَيْنِ عَلَى شَهَادَةِ أَصْلٍ وَأَصْلُ الِامْتِنَاعِ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْخَلَفِ لَكِنَّهُ جَائِزٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا بُدَّ أَنْ يَشْهَدَ ) أَيْ شَاهِدُ الْأَصْلِ عِنْدَ الْفَرْعِ ( كَمَا يَشْهَدُ ) شَاهِدُ الْأَصْلِ ( عِنْدَ الْقَاضِي لِيَنْقُلَهُ الْفَرْعُ إلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ ) شَاهِدُ الْأَصْلِ فِي شَهَادَتِهِ عِنْدَ الْفَرْعِ .
قَوْلُهُ ( وَأَشْهَدَنِي ) يَعْنِي الْمُقِرَّ ( عَلَى نَفْسِهِ ) بِذَلِكَ ( جَازَ ) لِمَا ذَكَرْنَا آنِفًا مِنْ الْفَرْقِ .
وَإِذَا وَقَعَ التَّحْمِيلُ بِمَا ذُكِرَ ( فَيَقُولُ شَاهِدُ الْفَرْعِ عِنْدَ الْأَدَاءِ أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ ) وَيُعَرِّفُهُ ( أَشْهَدَنِي عَلَى شَهَادَتِهِ أَنَّ فُلَانًا أَقَرَّ عِنْدَهُ بِكَذَا وَقَالَ لِي اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي بِذَلِكَ ) فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْفَرْعِ جَرَّ شَاهِدِ الْأَصْلِ فَلَزِمَ فِيهِ خَمْسُ شِينَاتٍ ، وَذَلِكَ ( لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْفَرْعِ مِنْ شَهَادَتِهِ وَذِكْرِ شَهَادَةِ الْأَصْلِ وَالتَّحْمِيلِ ) قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَلَهَا ) أَيْ لِشَهَادَةِ الْأَدَاءِ مِنْ الْفَرْعِ ( لَفْظٌ أَطْوَلُ مِنْ هَذَا وَأَقْصَرُ ) أَمَّا الْأَطْوَلُ فَأَنْ يَقُولَ : أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانًا شَهِدَ عِنْدِي أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ

كَذَا وَأَشْهَدَنِي عَلَى شَهَادَتِهِ وَأَمَرَنِي أَنْ أَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ وَأَنَا الْآنَ أَشْهَدُ عَلَى شَهَادَتِهِ بِذَلِكَ فَيَلْزَمُ ثَمَانُ شِينَاتٍ ، وَأَمَّا الْأَقْصَرُ فَأَنْ يَقُولُ الْفَرْعُ أَشْهَدُ عَلَى شَهَادَةِ فُلَانٍ بِأَنَّ فُلَانًا أَقَرَّ عِنْدَهُ بِكَذَا فَفِيهِ شِينَانِ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ وَأُسْتَاذِهِ أَبِي جَعْفَرٍ ، وَحَكَى فَتْوَى شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ بِهِ ، وَهَكَذَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي السَّيْرِ الْكَبِيرِ وَبِهِ قَالَتْ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ .
وَحُكِيَ أَنَّ فُقَهَاءَ زَمَنِ أَبِي جَعْفَرٍ خَالَفُوا وَاشْتَرَطُوا زِيَادَةَ تَطْوِيلٍ ، فَأَخْرَجَ أَبُو جَعْفَرٍ الرِّوَايَةَ مِنْ السَّيْرِ الْكَبِيرِ فَانْقَادُوا لَهُ .
قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ : فَلَوْ اعْتَمَدَ أَحَدٌ عَلَى هَذَا كَانَ أَسْهَلَ ، وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ يَقْتَضِي تَرْجِيحَ كَلَامِ الْقُدُورِيِّ الْمُشْتَمِلِ عَلَى خَمْسِ شِينَاتٍ حَيْثُ حَكَاهُ ، وَذَكَرَ أَنَّ ثَمَّ أَطْوَلَ مِنْهُ وَأَقْصَرَ ، ثُمَّ قَالَ ( وَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا ) وَذَكَرَ أَبُو نَصْرٍ الْبَغْدَادِيُّ شَارِحُ الْقُدُورِيِّ أَقْصَرَ آخَرَ وَهُوَ ثَلَاثُ شِينَاتٍ .
قَالَ : وَيُمْكِنُ الِاقْتِصَارُ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثِ لَفَظَاتٍ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانًا أَشْهَدَنِي عَلَى شَهَادَتِهِ أَنَّ فُلَانًا أَقَرَّ عِنْدَهُ بِكَذَا ، ثُمَّ قَالَ : وَمَا ذَكَرَ صَاحِبُ الْكِتَابِ : يَعْنِي الْقُدُورِيَّ أَوْلَى وَأَحْوَطُ .
ثُمَّ حَكَى خِلَافًا بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَبَيْنَ أَبِي يُوسُفَ فِي أَنَّ قَوْلَهُ وَقَالَ لِي اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي شَرْطٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ .
قَالَ : وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَقُلْهُ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ أَمَرَهُ أَنْ يَشْهَدَ مِثْلَ شَهَادَتِهِ وَهُوَ كَذِبٌ ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَمَرَهُ عَلَى وَجْهِ التَّحْمِيلِ فَلَا يَثْبُتُ الثَّانِي بِالشَّكِّ .
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ أَمْرَ الشَّاهِدِ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّحَّةِ مَا أَمْكَنَ فَيُحْمَلُ لِذَلِكَ عَلَى التَّحْمِيلِ انْتَهَى .

وَالْوَجْهُ فِي شُهُودِ الزَّمَانِ الْقَوْلُ بِقَوْلِهِمَا وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ الْعَارِفُ الْمُتَدَيِّنُ ، لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْغَالِبِ خُصُوصًا الْمُتَّخِذَ بِهَا مَكْسَبَةً لِلدَّرَاهِمِ ، وَقَوْلُهُمْ فِي إعْطَاءِ الصُّوَرِ : أَشْهَدُ عَلَى شَهَادَةِ فُلَانٍ وَنَحْوُهَا الْمُرَادُ مِنْهُ التَّمْثِيلُ ، وَإِلَّا فَلَا بُدَّ أَنْ يَعْرِفَ شَاهِدَ الْأَصْلِ .
قَالَ فِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى : شُهُودُ الْفَرْعِ يَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَذْكُرُوا أَسْمَاءَ الْأُصُولِ وَأَسْمَاءَ آبَائِهِمْ وَأَجْدَادِهِمْ حَتَّى لَوْ قَالَا نَشْهَدُ أَنَّ رَجُلَيْنِ نَعْرِفُهُمَا أَشْهَدَانَا عَلَى شَهَادَتِهِمَا أَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ بِكَذَا وَقَالَا لَا نُسَمِّيهِمَا .
أَوْ لَا نَعْرِفُ أَسْمَاءَهُمَا لَمْ تُقْبَلْ لِأَنَّهُمَا تَحَمَّلَا مُجَازَفَةً لَا عَنْ مَعْرِفَةِ

( وَمَنْ قَالَ أَشْهَدَنِي : فُلَانٌ عَلَى نَفْسِهِ لَمْ يَشْهَدْ السَّامِعُ عَلَى شَهَادَتِهِ حَتَّى يَقُولَ لَهُ اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي ) لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ التَّحْمِيلِ ، وَهَذَا ظَاهِرٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ الْقَضَاءَ عِنْدَهُ بِشَهَادَةِ الْفُرُوعِ وَالْأُصُولِ جَمِيعًا حَتَّى اشْتَرَكُوا فِي الضَّمَانِ عِنْدَ الرُّجُوعِ ، وَكَذَا عِنْدَهُمَا لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ نَقْلِ شَهَادَةِ الْأُصُولِ لِيَصِيرَ حُجَّةً فَيَظْهَرَ تَحْمِيلُ مَا هُوَ حُجَّةٌ .
.

( قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ أَشْهَدَنِي إلَخْ ) أَيْ إذَا قَالَ شَاهِدٌ عِنْدَ آخَرَ أَشْهَدَنِي فُلَانٌ عَلَى نَفْسِهِ بِكَذَا لَا يَسَعُ السَّامِعَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ حَتَّى يَقُولَ لَهُ اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي بِذَلِكَ .
وَوَجَّهَهُ الْمُصَنِّفُ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ التَّحْمِيلِ .
أَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَلِأَنَّهُ يَقُولُ بِاشْتِرَاكِ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ فِي الضَّمَانِ إذَا رَجَعُوا ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ مُحَمَّدًا يُخَيِّرُ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ بَيْنَ تَضْمِينِ الْفُرُوعِ وَالْأُصُولِ ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مَا يُعْطِيهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ مِنْ أَنَّهُ يُضَمِّنُ الْكُلَّ مَعًا ، فَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْفُرُوعِ لَا يَرْجِعُونَ عَلَى الْأُصُولِ ، بِخِلَافِ الْغَاصِبِ مَعَ غَاصِبِ الْغَاصِبِ يَتَخَيَّرُ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ فِي تَضْمِينِ أَيِّهِمَا شَاءَ ، فَإِنْ ضَمِنَ الْغَاصِبُ رَجَعَ عَلَى غَاصِبِهِ ، وَأَمَّا عِنْدَهُمَا قَالَ فَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ التَّحْمِيلِ ( لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ النَّقْلِ ) يَعْنِي إلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي ( لِيَصِيرَ حُجَّةً فَيَظْهَرَ ) بِالنَّقْلِ ( تَحْمِيلُ مَا هُوَ حُجَّةٌ ) يَعْنِي شَهَادَةَ الْأُصُولِ ، وَهَذَا الْكَلَامُ يَقْتَضِي أَنَّ وُجُوبَ التَّحْمِيلِ لِوُجُوبِ النَّقْلِ ، وَالنَّقْلُ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالتَّحْمِيلِ ، حَتَّى لَوْ سَمِعَ شَاهِدًا يَقُولُ لِرَجُلٍ اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي إلَى آخِرِهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ لِأَنَّهُ إنَّمَا حَمَلَ غَيْرُهُ بِحَضْرَتِهِ ، فَإِذَا نَقَلَ ظَهَرَ لِلْقَاضِي أَنَّهُ وُجِدَ الشَّرْطُ وَهُوَ التَّحْمِيلُ فَتَثْبُتُ عِنْدَهُ الْحُجَّةُ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ سَمِعَ قَاضِيًا يَقُولُ لِآخَرَ قَضَيْت عَلَيْك بِكَذَا أَوْ عَلَى فُلَانٍ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى قَضَائِهِ بِلَا تَحْمِيلٍ لِأَنَّ قَضَاءَهُ حُجَّةٌ كَالْبَيْعِ وَالْإِقْرَارِ ، بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ لَيْسَتْ نَفْسُهَا حُجَّةً حَتَّى تَصِلَ إلَى الْقَاضِي .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : كَوْنُ النَّقْلِ إلَى الْقَاضِي وَالْحُجِّيَّةُ تَتَوَقَّفُ عَلَى التَّحْمِيلِ شَرْعًا مِمَّا يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ إنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ ، وَهُوَ

مُنْتَفٍ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَإِلَّا فَالِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ مَنْ سَمِعَ إقْرَارَ رَجُلٍ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ بِمَا سَمِعَ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يُشْهِدْهُ ، بَلْ وَلَوْ مَنَعَهُ مِنْ الشَّهَادَةِ بِمَا سَمِعَ مِنْهُ فَإِخْرَاجُ الْإِقْرَارِ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدِ بِشَهَادَتِهِ عَلَى فُلَانٍ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ مِنْ الشَّرْعِ .
وَذَكَرَ فِي الْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّةِ فِي وَجْهِهِ أَمْرًا آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ لَهُ مَنْفَعَةُ فِي نَقْلِ شَهَادَتِهِ ، فَإِنَّ شَهَادَتَهُ حَقٌّ عَلَيْهِ يَلْزَمُهُ أَدَاؤُهُ إذَا طَلَبَ مِنْهُ مَنْ هِيَ لَهُ ؛ وَمُقْتَضَى هَذَا أَنْ لَا يَحْتَاجَ إلَى التَّوْكِيلِ وَالتَّحْمِيلِ لِأَنَّ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ إذَا تَبَرَّعَ إنْسَانٌ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ جَازَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَمْرِهِ لَكِنْ فِيهَا مَضَرَّةُ إهْدَارِ وِلَايَتِهِ فِي تَنْفِيذِ قَوْلِهِ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى أَمْرِهِ وَرِضَاهُ فَيُشْتَرَطُ كَمَنْ لَهُ وِلَايَةُ إنْكَاحِ صَغِيرَةٍ لَوْ نَكَحَهَا إنْسَانٌ لَا بِأَمْرِهِ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ

قَالَ ( وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ شُهُودِ الْفَرْعِ إلَّا أَنْ يَمُوتَ شُهُودُ الْأَصْلِ أَوْ يَغِيبُوا مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا أَوْ يَمْرَضُوا مَرَضًا لَا يَسْتَطِيعُونَ مَعَهُ حُضُورَ مَجْلِسِ الْحَاكِمِ ) لِأَنَّ جَوَازَهَا لِلْحَاجَةِ ، وَإِنَّمَا تُمَسُّ عِنْدَ عَجْزِ الْأَصْلِ وَبِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ يَتَحَقَّقُ الْعَجْزُ .
وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا السَّفَرَ لِأَنَّ الْمُعْجِزَ بُعْدُ الْمَسَافَةِ وَمُدَّةُ السَّفَرِ بَعِيدَةٌ حُكْمًا حَتَّى أُدِيرَ عَلَيْهَا عِدَّةٌ مِنْ الْأَحْكَامِ فَكَذَا سَبِيلُ هَذَا الْحُكْمِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ إنْ كَانَ فِي مَكَان لَوْ غَدَا لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَبِيتَ فِي أَهْلِهِ صَحَّ الْإِشْهَادُ إحْيَاءً لِحُقُوقِ النَّاسِ ، قَالُوا : الْأَوَّلُ أَحْسَنُ وَالثَّانِي أَرْفَقُ وَبِهِ أَخَذَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ .

( قَوْلُهُ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ شُهُودِ الْفَرْعِ إلَّا أَنْ يَمُوتَ شُهُودُ الْأَصْلِ أَوْ يَغِيبُوا مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ) وَلَيَالِيِهَا ( فَصَاعِدًا أَوْ يَمْرَضُوا مَرَضًا لَا يَسْتَطِيعُونَ مَعَهُ حُضُورَ مَجْلِسِ الْحَاكِمِ لِأَنَّ جَوَازَهَا لِلْحَاجَةِ ، وَإِنَّمَا تُمَسُّ عِنْدَ عَجْزِ الْأَصْلِ وَبِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ يَتَحَقَّقُ الْعَجْزُ ، وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا السَّفَرَ لِأَنَّ الْمُعْجِزَ بُعْدُ الْمَسَافَةِ ) فَقُدِّرَتْ بِمَسَافَةٍ اعْتَبَرَهَا الشَّرْعُ بَعِيدَةً حَتَّى أَثْبَتَ رُخَصًا عِنْدَهَا مِنْ الْفِطْرِ وَالْقَصْرِ وَامْتِدَادِ مَسْحِ الْخُفِّ وَعَدَمِ وُجُوبِ الْأُضْحِيَّةِ وَالْجُمُعَةِ ( وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ كَانَ فِي مَكَان لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَبِيتَ فِي أَهْلِهِ لَوْ غَدَا لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ صَحَّ شَهَادَةُ الْفُرُوعِ إحْيَاءً لِحُقُوقِ النَّاسِ ، قَالُوا : الْأَوَّلُ أَحْسَنُ ) يَعْنِي مِنْ جِهَةِ الدَّلِيلِ لِمُوَافَقَتِهِ لِحُكْمِ الشَّرْعِ ( وَالثَّانِي أَرْفَقُ إحْيَاءً لِحُقُوقِ النَّاسِ ) وَفِي الذَّخِيرَةِ كَثِيرٌ مِنْ الْمَشَايِخِ أَخَذُوا بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ ( وَبِهِ أَخَذَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ ) وَذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي السَّيْرِ الْكَبِيرِ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ : تَجُوزُ الشَّهَادَةُ كَيْفَمَا كَانَ حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْأَصْلُ فِي زَاوِيَةِ الْمَسْجِدِ فَشَهِدَ الْفَرْعُ فِي زَاوِيَةٍ أُخْرَى تُقْبَلُ .
وَقَالَ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ وَغَيْرُهُ : يَجِبُ أَنْ تَجُوزَ عَلَى قَوْلِهِمَا خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ بِنَاءً عَلَى جَوَازِ التَّوْكِيلِ بِالْخُصُومَةِ يَجُوزُ عِنْدَهُمَا بِلَا رِضَا الْخَصْمِ ، وَعِنْدَهُ لَا إلَّا بِرِضَاهُ وَإِلَّا قُطِعَ ، صَرَّحَ بِهِ عَنْهُمَا فَقَالَ : وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : تُقْبَلُ وَإِنْ كَانُوا فِي الْمِصْرِ .

[ فُرُوعٌ ] خَرِسَ الْأَصْلَانِ أَوْ عَمِيَا أَوْ جُنَّا أَوْ ارْتَدَّا وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَوْ فِسْقًا لَمْ تَجُزْ شَهَادَةُ الْفُرُوعِ

وَتَجُوزُ شَهَادَةُ الِابْنِ عَلَى شَهَادَةِ الْأَبِ دُونَ قَضَائِهِ فِي رِوَايَةٍ ، وَالصَّحِيحُ الْجَوَازُ فِيهِمَا : وَلَوْ شَهِدَ وَاحِدٌ عَلَى شَهَادَةِ نَفْسِهِ وَآخَرَانِ عَلَى شَهَادَةِ غَيْرِهِ صَحَّ ، وَتُقْبَلُ الشَّهَادَةُ فِي النَّسَبِ وَكِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي .
وَفِي الْأَصْلِ : لَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلٍ وَشَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى شَهَادَةِ نَفْسِهِ فِي ذَلِكَ الْحَقِّ فَهُوَ بَاطِلٌ ، لِأَنَّ شَهَادَةَ الْأَصْلِ الْحَاضِرِ عَلَى شَهَادَةِ الْأَصْلِ الْغَائِبِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ ، لِأَنَّهَا لَوْ قُبِلَتْ ثَبَتَ بِشَهَادَةِ الْأَصْلِ الْحَاضِرِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْحَقِّ نِصْفُهُ بِشَهَادَتِهِ وَحْدَهُ وَرُبْعُهُ بِشَهَادَتِهِ مَعَ آخَرَ عَلَى شَهَادَةِ الْأَصْلِ الْغَائِبِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْحَقِّ ، كَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ .
وَلَمْ يَزِدْ فِي شَرْحِ الشَّافِي عَلَى تَعْلِيلِهِ بِأَنَّ شَهَادَتَهُ بِشَهَادَةِ نَفْسِهِ أَصْلٌ وَشَهَادَتُهُ عَلَى غَيْرِهِ بَدَلٌ وَلَا يَجْتَمِعَانِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ شَهِدَ وَاحِدٌ عَلَى شَهَادَةِ نَفْسِهِ وَآخَرَانِ عَلَى شَهَادَةِ آخَرَ يَصِحُّ .
.

وَلَوْ شَهِدَا عَلَى شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ بِشَيْءٍ وَلَمْ يَقْضِ بِشَهَادَتِهِمَا حَتَّى حَضَرَ الْأَصْلَانِ وَنَهَيَا الْفُرُوعَ عَنْ الشَّهَادَةِ صَحَّ النَّهْيُ عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يَصِحُّ ، وَالْأَظْهَرُ الْأَوَّلُ .
وَتُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ وَإِنْ كَثُرُوا .
سَمِعَا قَوْلَ حَاكِمٍ حَكَمْت بِكَذَا عَلَى هَذَا ثُمَّ نُصِّبَ حَاكِمٌ غَيْرُهُ لَهُمَا أَنْ يَشْهَدَا أَنَّ الْقَاضِيَ قَضَى عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَا سَمِعَا مِنْ الْقَاضِي فِي الْمِصْرِ أَوْ سَوَادِهِ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الْأَقْيَسُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ : لَا يَجُوزُ إنْ سَمِعَاهُ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي ، وَهَذَا أَحْوَطُ

قَالَ ( فَإِنْ عَدَّلَ شُهُودَ الْأَصْلِ شُهُودُ الْفَرْعِ جَازَ ) لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ التَّزْكِيَةِ ( وَكَذَا إذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ فَعَدَّلَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ صَحَّ ) لِمَا قُلْنَا ، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً مِنْ حَيْثُ الْقَضَاءِ بِشَهَادَتِهِ لَكِنَّ الْعَدْلَ لَا يُتَّهَمُ بِمِثْلِهِ كَمَا لَا يُتَّهَمُ فِي شَهَادَةِ نَفْسِهِ ، كَيْفَ وَأَنَّ قَوْلَهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَإِنْ رُدَّتْ شَهَادَةُ صَاحِبِهِ فَلَا تُهْمَةَ .
قَالَ ( وَإِنْ سَكَتُوا عَنْ تَعْدِيلِهِمْ جَازُوا نَظَرَ الْقَاضِي فِي حَالِهِمْ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا تُقْبَلُ لِأَنَّهُ لَا شَهَادَةَ إلَّا بِالْعَدَالَةِ ، فَإِذَا لَمْ يَعْرِفُوهَا لَمْ يَنْقُلُوا الشَّهَادَةَ فَلَا يُقْبَلُ .
وَلِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمَأْخُوذَ عَلَيْهِمْ النَّقْلُ دُونَ التَّعْدِيلِ ، لِأَنَّهُ قَدْ يَخْفَى عَلَيْهِمْ ، وَإِذَا نَقَلُوا يَتَعَرَّفُ الْقَاضِي الْعَدَالَةَ كَمَا إذَا حَضَرُوا بِأَنْفُسِهِمْ وَشَهِدُوا قَالَ ( وَإِنْ أَنْكَرَ شُهُودُ الْأَصْلِ الشَّهَادَةَ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَةُ الشُّهُودِ الْفَرْعِ ) لِأَنَّ التَّحْمِيلَ لَمْ يَثْبُتْ لِلتَّعَارُضِ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ وَهُوَ شَرْطٌ .

( قَوْلُهُ فَإِنْ عَدَّلَ شُهُودَ الْأَصْلِ إلَخْ ) شُهُودَ الْأَصْلِ مَنْصُوبٌ مَفْعُولًا وَشُهُودُ الْفَرْعِ فَاعِلٌ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إذَا شَهِدَ الْفَرْعَانِ فَإِنْ عَلِمَ الْقَاضِي عَدَالَةَ كُلٍّ مِنْ الْفُرُوعِ وَالْأُصُولِ قُضِيَ بِمُوجِبِ الشَّهَادَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ عَدَالَةَ الْأُصُولِ وَعَلِمَ عَدَالَةَ الْفُرُوعِ سَأَلَ الْفُرُوعَ عَنْ عَدَالَةِ الْأُصُولِ فَإِنْ عَدَّلُوهُمْ جَازَ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ التَّزْكِيَةِ فَتُقْبَلُ ( وَكَذَا لَوْ شَهِدَا اثْنَانِ فَعَدَّلَ أَحَدُهُمَا ) وَهُوَ مَعْلُومُ الْعَدَالَةِ لِلْقَاضِي ( الْآخِرَ جَازَ ) خِلَافًا لِقَوْلِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ إنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي ذَلِكَ حَيْثُ كَانَ بِتَعْدِيلِهِ رَفِيقَهُ يَثْبُتُ الْقَضَاءُ بِشَهَادَتِهِ ، وَذَلِكَ لِمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ ( غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً إلَى آخِرِهِ ، لَكِنَّ الْعَدْلَ لَا يُتَّهَمُ بِمِثْلِهِ كَمَا لَا يُتَّهَمُ فِي شَهَادَةِ نَفْسِهِ ) يَعْنِي أَنَّ شَهَادَةَ نَفْسِهِ تَتَضَمَّنُ مِثْلَ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ وَهِيَ الْقَضَاءُ بِهَا ، فَكَمَا أَنَّهُ لَمْ يَعْتَبِر الشَّرْعُ مَعَ عَدَالَتِهِ ذَلِكَ مَانِعًا كَذَا مَا نَحْنُ فِيهِ ( وَإِنْ سَكَتُوا ) أَيْ الْفُرُوعُ عَنْ تَعْدِيلِ الْأُصُولِ حِينَ سَأَلَهُمْ الْقَاضِي ( جَازَتْ ) شَهَادَةُ الْفُرُوعِ ( وَنَظَرَ الْقَاضِي ) فِي حَالِ الْأُصُولِ ، فَإِنْ عَدَّلَهُمْ غَيْرُهُمْ قَضَى وَإِلَّا لَا ( وَهَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ ) إذَا سَكَتُوا أَوْ قَالُوا لَا نَعْرِفُ عَدَالَتَهُمْ ( لَا تُقْبَلُ ) شَهَادَةُ الْفُرُوعِ لِأَنَّ قَبُولَهَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا نَقْلُ شَهَادَةٍ وَلَمْ تَثْبُتْ شَهَادَةُ الْأُصُولِ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْفُرُوعِ ( وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَأْخُوذَ ) أَيْ الْوَاجِبَ ( عَلَى الْفُرُوعِ لَيْسَ إلَّا نَقْلُ ) مَا حَمَلَهُمْ الْأُصُولُ ( دُونَ تَعْدِيلِهِمْ ) فَإِنَّهُ قَدْ يَخْفَى حَالُهُمْ عَنْهُمْ ، فَإِنَّهُمْ إذَا نَقَلُوا مَا حَمَلُوهُمْ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَتَعَرَّفَ حَالَهُمْ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ وَصَارَ كَمَا لَوْ حَضَرَ الْأُصُولُ بِنَفْسِهِمْ وَشَهِدُوا

وَحِينَئِذٍ ظَهَرَ أَنْ لَيْسَ سُؤَالُ الْقَاضِي الْفُرُوعَ عَنْ الْأُصُولِ لَازِمًا عَلَيْهِ بَلْ الْمَقْصُودُ أَنْ يَتَعَرَّفَ حَالَهُمْ غَيْرَ أَنَّ الْفُرُوعَ حَاضِرُونَ وَهُمْ أَهْلُ التَّزْكِيَةِ إنْ كَانُوا عُدُولًا فَسُؤَالُهُمْ أَقْرَبُ لِلْمَسَافَةِ مِنْ سُؤَالِ غَيْرِهِمْ ، فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ فَقَدْ قَصُرَتْ الْمَسَافَةُ وَإِلَّا احْتَاجَ إلَى تَعَرُّفِ حَالِهِمْ مِنْ غَيْرِهِمْ ، كَذَا ذَكَرَ الْخِلَافَ النَّاصِحِيُّ فِي تَهْذِيبِ أَدَبِ الْقَاضِي لِلْخَصَّافِ وَصَاحِبِ الْهِدَايَةِ .
وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِيمَا إذَا قَالَ الْفُرُوعُ حِينَ سَأَلَهُمْ الْقَاضِي عَنْ عَدَالَةِ الْأُصُولِ لَا نُخْبِرُك بِشَيْءٍ لَمْ تَقْبَلْ شَهَادَتَهُمَا : أَيْ الْفُرُوعِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، لِأَنَّ هَذَا ظَاهِرٌ فِي الْجَرْحِ كَمَا لَوْ قَالُوا نَتَّهِمُهُمْ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ .
ثُمَّ قَالَ : وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ جَرْحًا .
لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ كَوْنَهُ تَوْقِيفًا فِي حَالِهِمْ فَلَا يَثْبُتُ جَرْحًا بِالشَّكِّ انْتَهَى .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ مِثْلُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهَا تُقْبَلُ وَيُسْأَلُ غَيْرُهُمَا .
وَلَوْ قَالَا : لَا نَعْرِفُ عَدَالَتَهُمَا وَلَا عَدَمَهَا ، فَكَذَا الْجَوَابُ فِيمَا ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيٍّ السُّغْدِيُّ .
وَذَكَرَ الْحَلْوَانِيُّ أَنَّهَا تُقْبَلُ وَيَسْأَلُ عَنْ الْأُصُولِ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقِيَ مَسْتُورًا فَيُسْأَلُ عَنْهُ .
وَذَكَرَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي عَدْلٍ أَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ شَاهِدَيْنِ ثُمَّ غَابَ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً نَحْوَ عِشْرِينَ سَنَةً وَلَا يُدْرَى أَهُوَ عَلَى عَدَالَتِهِ أَمْ لَا ؟ فَشَهِدَا عَلَى تِلْكَ الشَّهَادَةِ وَلَمْ يَجِدْ الْحَاكِمُ مَنْ يَسْأَلُهُ عَنْ حَالِهِ ، إنْ كَانَ الْأَصْلُ مَشْهُورًا كَأَبِي حَنِيفَةَ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ قَضَى بِشَهَادَتِهِمَا عَنْهُ لِأَنَّ عَثْرَةَ الْمَشْهُورِ يُتَحَدَّثُ بِهَا ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَشْهُورٍ لَا يَقْضِي بِهِ ، وَلَوْ أَنَّ فَرَعَيْنَ مَعْلُومًا عَدَالَتُهُمَا شَهِدَا عَنْ أَصْلٍ وَقَالَا لَا خَيْرَ فِيهِ وَزَكَّاهُ غَيْرُهُمَا لَا تُقْبَلُ

شَهَادَتُهُمَا ، وَإِنْ قَالَ ذَلِكَ أَحَدُهُمَا لَا يُلْتَفَتُ إلَى جَرْحِهِ .
وَفِي التَّتِمَّةِ : إذَا شَهِدَ أَنَّهُ عَدْلٌ لَيْسَ فِي الْمِصْرِ مَنْ يَعْرِفُهُ ، فَإِنْ كَانَ لَيْسَ مَوْضِعٌ لِلْمَسْأَلَةِ : يَعْنِي بِأَنْ تُخْفَى فِيهِ الْمَسْأَلَةُ سَأَلَهُمَا عَنْهُ أَوْ بَعَثَ مَنْ يَسْأَلُهُمَا عَنْهُ سِرًّا ، فَإِنْ عَدَّلَاهُ قُبِلَ وَإِلَّا اكْتَفَى بِمَا أَخْبَرَاهُ عَلَانِيَةً ( قَوْلُهُ وَإِنْ أَنْكَرَ شُهُودُ الْأَصْلِ الشَّهَادَةَ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَةُ شُهُودِ الْفَرْعِ ) لِأَنَّ إنْكَارَهُمَا الشَّهَادَةَ إنْكَارٌ لِلتَّحْمِيلِ وَهُوَ شَرْطٌ فِي الْقَبُولِ فَوَقَعَ فِي التَّحْمِيلِ تَعَارُضُ خَبَرِهِمَا بِوُقُوعٍ ، وَخَبَرُ الْأُصُولِ بِعَدَمِهِ وَلَا ثُبُوتَ مَعَ التَّعَارُضِ

( وَإِذَا شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ عَلَى فُلَانَةَ بِنْتِ فُلَانٍ الْفُلَانِيَّةِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، وَقَالَا أَخْبَرَانَا أَنَّهُمَا يَعْرِفَانِهَا فَجَاءَ بِامْرَأَةٍ وَقَالَا : لَا نَدْرِي أَهِيَ هَذِهِ أَمْ لَا فَإِنَّهُ يُقَالُ لِلْمُدَّعِي هَاتِ شَاهِدَيْنِ يَشْهَدَانِ أَنَّهَا فُلَانَةُ ) لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الْمَعْرِفَةِ بِالنِّسْبَةِ قَدْ تَحَقَّقَتْ وَالْمُدَّعِي يَدَّعِي الْحَقَّ عَلَى الْحَاضِرَةِ وَلَعَلَّهَا غَيْرُهَا فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْرِيفِهَا بِتِلْكَ النِّسْبَةِ ، وَنَظِيرُ هَذَا إذَا تَحَمَّلُوا الشَّهَادَةَ بِبَيْعٍ مَحْدُودَةً بِذِكْرِ حُدُودِهَا وَشَهِدُوا عَلَى الْمُشْتَرِي لَا بُدَّ مِنْ آخَرَيْنِ يَشْهَدَانِ عَلَى أَنَّ الْمَحْدُودَ بِهَا فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَكَذَا إذَا أَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّ الْحُدُودَ الْمَذْكُورَةَ فِي الشَّهَادَةِ حُدُودُ مَا فِي يَدِهِ .
.

( قَوْلُهُ وَإِذَا شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ عَلَى فُلَانَةَ بِنْتِ فُلَانٍ الْفُلَانِيَّةِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ) هَكَذَا عِبَارَةُ الْجَامِعِ وَتَمَامُهُ فِيهِ .
فَيَقُولَانِ قَدْ أَخْبَرَانَا أَنَّهُمَا يَعْرِفَانِهَا وَيَجِيئَانِ بِامْرَأَةٍ فَيَقُولَانِ لَا نَدْرِي هِيَ هَذِهِ أَمْ لَا ؟ قَالَ : يُقَالُ لِلْمُدَّعِي هَاتِ شَاهِدَيْنِ يَشْهَدَانِ أَنَّهَا فُلَانَةُ الْفُلَانِيَّةُ بِعَيْنِهَا فَأُجِيزُ الشَّهَادَةَ .
وَالْمُصَنِّفُ أَفْرَدَ فَقَالَ ( فَجَاءَ بِامْرَأَةٍ ) يَعْنِي الْمُدَّعِيَ جَاءَ بِهَا وَهُوَ أَنْسَبُ وَهَذَا ( لِأَنَّ الشَّهَادَةَ ) بِالْأَلْفِ ( عَلَى الْمَعْرِفَةِ بِالنِّسْبَةِ قَدْ تَحَقَّقَتْ ) بِالشَّهَادَةِ الْمَذْكُورَةِ لِلْفُرُوعِ ( وَالْمُدَّعِي يَدَّعِي ) الْأَلْفَ ( عَلَى حَاضِرِهِ جَازَ كَوْنُهَا غَيْرَهَا فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْرِيفِ الْحَاضِرَةِ بِتِلْكَ النِّسْبَةِ ) الَّتِي بِهَا شَهِدَا بِالْأَلْفِ عَلَيْهَا .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَنَظِيرُ هَذَا إذَا تَحَمَّلُوا شَهَادَةً بِبَيْعٍ مَحْدُودَةً ) قَالَ قَاضِي خَانْ : وَهَذَا كَرَجُلَيْنِ يَشْهَدَانِ أَنَّ فُلَانًا اشْتَرَى دَارًا فِي بَلَدِ كَذَا بِحُدُودِ كَذَا وَلَا يَعْرِفَانِ الدَّارَ بِعَيْنِهَا يُقَالُ لِلْمُدَّعِي هَاتِ شَاهِدَيْنِ يَشْهَدَانِ أَنَّ هَذِهِ الْأَرْضَ الْمَحْدُودَةَ بِهَذِهِ الْحُدُودِ فِي يَدِ هَذَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِيَصِحَّ الْقَضَاءُ .
وَهَذَا التَّصْوِيرُ أَوْفَقُ بِالْكِتَابِ حَيْثُ قَالَ : تَحَمَّلُوا الشَّهَادَةَ بِبَيْعٍ مَحْدُودٍ .
وَذَكَرَ التُّمُرْتَاشِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَصَارَ كَرَجُلٍ ادَّعَى مَحْدُودًا فِي يَدِ رَجُلٍ وَشَهِدَ شُهُودُهُ أَنَّ هَذَا الْمَحْدُودَ الْمَذْكُورَ بِهَذِهِ الْحُدُودِ مِلْكُهُ وَفِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الَّذِي فِي يَدِي غَيْرُ مَحْدُودٍ بِهَذِهِ الْحُدُودِ الَّتِي ذَكَرَهَا الشُّهُودُ يُقَالُ لِلْمُدَّعِي هَاتِ شَاهِدَيْنِ أَنَّ الَّذِي فِي يَدِهِ مَحْدُودٌ بِهَذِهِ الْحُدُودِ .
ثُمَّ تَصْوِيرُ الْمُصَنِّفِ يَصْدُقُ فِيمَا إذَا كَانَ الْمُدَّعِي شَفِيعًا وَالْمَحْدُودُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَادَّعَاهُ لِطَلَبِ الشُّفْعَةِ فَقَالَ

الْمُشْتَرِي الْعَيْنُ الَّذِي فِي يَدِي بِطَرِيقِ الشِّرَاءِ لَيْسَ بِهَذِهِ الْحُدُودِ .

قَالَ ( وَكَذَا كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي ) لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ لِكَمَالِ دِيَانَتِهِ وَوُفُورِ وِلَايَتِهِ يَنْفَرِدُ بِالنَّقْلِ ( وَلَوْ قَالُوا فِي هَذَيْنِ الْبَابَيْنِ التَّمِيمِيَّةُ لَمْ يَجُزْ حَتَّى يَنْسُبُوهَا إلَى فَخِذِهَا ) وَهِيَ الْقَبِيلَةُ الْخَاصَّةُ ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّعْرِيفَ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي هَذَا ، وَلَا يَحْصُلُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَامَّةِ وَهِيَ عَامَّةٌ إلَى بَنِي تَمِيمٍ لِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يُحْصَوْنَ وَيَحْصُلُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْفَخِذِ لِأَنَّهَا خَاصَّةٌ .
وَقِيلَ الْفَرْغَانِيَّةُ نِسْبَةٌ عَامَّةٌ وَالْأُوزَجَنْدِيَّةُ خَاصَّةٌ ، ( وَقِيلَ السَّمَرْقَنْدِيَّة وَالْبُخَارِيَّةُ عَامَّةٌ ) وَقِيلَ إلَى السِّكَّةِ الصَّغِيرَةِ خَاصَّةٌ ، وَإِلَى الْمَحَلَّةِ الْكَبِيرَةِ وَالْمِصْرِ عَامَّةٌ .
ثُمَّ التَّعْرِيفُ وَإِنْ كَانَ يَتِمُّ بِذِكْرِ الْجَدِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَاتِ ، فَذِكْرُ الْفَخِذِ يَقُومُ مَقَامَ الْجَدِّ لِأَنَّهُ اسْمُ الْجَدِّ الْأَعْلَى فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ الْجَدِّ الْأَدْنَى ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ ( قَالَ ) يَعْنِي مُحَمَّدًا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ( وَكَذَلِكَ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي ) فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ الْمَسْأَلَتَيْنِ فَإِنَّهُ قَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ فَأُجِيزُ الشَّهَادَةَ ، وَكَذَلِكَ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( إنْ قَالَا فِي هَذَيْنِ الْبَابَيْنِ التَّمِيمِيَّةُ لَمْ يَجُزْ حَتَّى يَنْسِبَاهَا إلَى فَخْذِهَا ) إلَى هُنَا لَفْظُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : يَعْنِي أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا كَتَبَ فِي كِتَابِهِ إلَى الْقَاضِي الْآخَرِ أَنَّ شَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ شَهِدَا عِنْدِي أَنَّ لِفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ الْفُلَانِيِّ عَلَى فُلَانَةَ بِنْتِ فُلَانٍ الْفُلَانِيَّةِ مِائَةَ دِرْهَمٍ فَاقْضِ عَلَيْهَا بِذَلِكَ فَأَحْضَرَ الْمُدَّعِي امْرَأَةً فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ وَقَالَ هِيَ هَذِهِ يَقُولُ لَهُ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ هَاتِ شَاهِدَيْنِ يَشْهَدَانِ أَنَّ الَّتِي أَحْضَرْتهَا هِيَ فُلَانَةُ بِنْتُ فُلَانٍ الْفُلَانِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذَا الْكِتَابِ لِتُمْكِنَ الْإِشَارَةُ إلَيْهَا فِي الْقَضَاءِ عَلَيْهَا .
وَقَوْلُهُ ( إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ إلَخْ ) جَوَابٌ عَنْ مُقَدَّرٍ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْبَلَ قَوْلُ الْقَاضِي وَحْدَهُ لِأَنَّهُ كَشَاهِدِ الْفَرْعِ شَهِدَ عَلَى الْأُصُولِ بِمَا شَهِدُوا بِهِ فَقَالَ إنَّ لِلْقَاضِي زِيَادَةَ وَفَوْرِ وِلَايَةٍ لَيْسَتْ لِلشُّهُودِ فَقَامَتْ تِلْكَ مَعَ دِيَانَتِهِ مَقَامَ قَوْلِ الِاثْنَيْنِ فَانْفَرَدَ بِالنَّقْلِ .
ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ : قَالَ : وَلَوْ قَالُوا فِي هَذَيْنِ فَلَفْظُ قَالَ أَيْضًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ نَقْلًا لِلَفْظِ الْجَامِعِ عَلَى مَا نَقَلْنَاهُ آنِفًا : أَيْ قَالَ فِي الْجَامِعِ : قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَوْ قَالَا فِي هَذَيْنِ الْبَابَيْنِ : أَيْ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَكِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي هِيَ فُلَانَةُ بِنْتُ فُلَانٍ التَّمِيمِيَّةُ لَمْ يَكْفِ حَتَّى يَنْسِبُوهَا إلَى فَخْذِهَا ، يُرِيدُ الْقَبِيلَةَ الْخَاصَّةَ الَّتِي لَيْسَ مَنْ

دُونَهَا أَخَصُّ مِنْهَا ، وَهَذَا عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْ اللُّغَوِيِّينَ وَهُوَ فِي الصِّحَاحِ .
وَفِي الْجَمْهَرَةِ جَعَلَ الْفَخْذَ دُونَ الْقَبِيلَةِ وَفَوْقَ الْبَطْنِ وَأَنَّهُ بِتَسْكِينِ الْخَاءِ وَالْجَمْعُ أَفْخَاذٌ ، وَجَعَلَهُ فِي دِيوَانِ الْأَدَبِ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَأَنَّهُ أَقَلُّ مِنْ الْبَطْنِ وَكَذَا ذَكَرَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ وَالزُّبَيْرُ فَقَالَ : وَالْعَرَبُ عَلَى سِتِّ طَبَقَاتٍ : شَعْبٌ ، وَقَبِيلَةٌ ، وَعِمَارَةٌ ، وَبَطْنٌ ، وَفَخْذٌ ، وَفَصِيلَةٌ ؛ فَالشَّعْبُ تَجْمَعُ الْقَبَائِلَ ، وَالْقَبِيلَةُ تَجْمَعُ الْعَمَائِرَ ، وَالْعِمَارَةُ تَجْمَعُ الْبُطُونَ ، وَالْبَطْنُ تَجْمَعُ الْأَفْخَاذَ وَالْفَخْذُ يَجْمَعُ الْفَصَائِلَ ؛ فَمُضَرُ شَعْبٌ وَكَذَا رَبِيعَةُ وَمَذْحِجُ وَحِمْيَرُ ، وَسُمِّيَتْ شُعُوبًا لِأَنَّ الْقَبَائِلَ تَتَشَعَّبُ مِنْهَا ، وَكِنَانَةُ قَبِيلَةٌ ، وَقُرَيْشٌ عِمَارَةُ ، وَقُصَيٌّ بَطْنٌ ، وَهَاشِمٌ فَخْذُ ، وَالْعَبَّاسُ فَصِيلَةٌ .
وَعَلَى هَذَا فَلَا يَجُوزُ الِاكْتِفَاءُ بِالْفَخْذِ مَا لَمْ يَنْسُبْهَا إلَى الْفَصِيلَةِ لِأَنَّهَا دُونَهَا ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى { وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ } وَقَدَّمْنَا فِي فَصْلِ الْكَفَاءَةِ مَنْ ذَكَرَ بَعْدَ الْفَصِيلَةِ الْعَشِيرَةَ .
وَالْعِمَارَةُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ ، وَالشَّعْبُ بِفَتْحِ الشِّينِ ، وَأَسْلَفْنَا هُنَاكَ ذِكْرَهَا مَنْظُومَةً فِي شَعْرٍ .
ثُمَّ إنَّمَا لَمْ يَكْتَفِ بِذِكْرِ نَحْوِ التَّمِيمِيَّةِ لِأَنَّهَا نِسْبَةٌ عَامَّةٌ فَلَا يَحْصُلُ بِهَا التَّعْرِيفُ وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِذِكْرِ ذَلِكَ .
وَنَقَلَ فِي الْفُصُولِ عَنْ قَاضِي خَانْ : إنْ حَصَلَ التَّعْرِيفُ بِاسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ وَلَقَبِهِ لَا يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِ الْجَدِّ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَحْصُلُ بِذِكْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ لَا يَكْتَفِي بِذَلِكَ .
وَفِي الْفَصْلِ الْعَاشِرِ مِنْ فُصُولِ الْأُسْرُوشَنِيِّ : رَأَيْت بِخَطِّ ثِقَةٍ : لَوْ ذَكَرَ اسْمَهُ وَاسْمَ أَبِيهِ وَفَخِذَهُ وَصِنَاعَتَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ الْجَدَّ تُقْبَلُ .
وَشَرْطُ التَّعْرِيفِ ذِكْرُ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ .
فَعَلَى هَذَا لَوْ ذَكَرَ لَقَبَهُ وَاسْمَهُ وَاسْمَ أَبِيهِ هَلْ يَكْفِي ؟ فِيهِ اخْتِلَافُ

الْمَشَايِخِ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَكْفِي .
وَفِي اشْتِرَاطِ ذِكْرِ الْجَدِّ اخْتِلَافٌ ، فَإِذَا قَضَى الْقَاضِي بِدُونِ ذِكْرِ الْجَدِّ يَنْفُذُ لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي فَصْلٍ مُجْتَهَدٍ فِيهِ ، قَالَ : كَذَا رَأَيْت فِي بَعْضِ الشُّرُوطِ .
وَلَا يَخْفَى أَنْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ التَّعْرِيفِ أَنْ يُنْسَبَ إلَى أَنْ يَعْرِفَهُ الْقَاضِي لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَعْرِفُهُ ، وَلَوْ نَسَبَهُ إلَى مِائَةِ جَدٍّ وَإِلَى صِنَاعَتِهِ وَمَحَلَّتِهِ بَلْ لِيَثْبُتَ بِذَلِكَ الِاخْتِصَاصُ وَيَزُولَ الِاشْتِرَاكُ ، فَإِنَّهُ قَلَّمَا يَتَّفِقُ اثْنَانِ فِي اسْمِهِمَا وَاسْمِ أَبِيهِمَا وَجَدِّهِمَا أَوْ صِنَاعَتِهِمَا وَلَقَبِهِمَا ، فَمَا ذُكِرَ عَنْ قَاضِي خَانْ مِنْ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُعْرَفْ مَعَ ذِكْرِ الْجَدِّ لَا يَكْتَفِي بِذَلِكَ .
الْأَوْجَهُ مِنْهُ مَا نَقَلَ فِي الْفُصُولِ مِنْ أَنَّ شَرْطَ التَّعْرِيفِ ذِكْرُ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ ، غَيْرَ أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي اللَّقَبِ مَعَ الِاسْمِ هَلْ هُمَا وَاحِدٌ أَوْ لَا ، وَنَظِيرُ مَا ذُكِرَ فِي النَّسَبِ مَا ذُكِرَ فِي النِّسْبَةِ إلَى الْبُلْدَانِ فِي حَقِّ مَنْ لَا يُعْرَفُ لَهُ نِسْبَةٌ إلَى جَدٍّ مَشْهُورٍ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ الْفَرْغَانِيَّةُ وَكَذَا الْبَلْخِيَّةُ كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو اللَّيْثِ ( وَقِيلَ السَّمَرْقَنْدِيَّة وَالْبُخَارِيَّةُ عَامَّةٌ ) بِخِلَافِ الْأُوزْجَنْديَّةِ ( وَقِيلَ ) فِي النِّسْبَةِ ( إلَى السِّكَّةِ الصَّغِيرَةِ خَاصَّةٌ وَإِلَى الْمَحَلَّةِ الْكَبِيرَةِ وَالْمِصْرِ عَامَّةٌ ) ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ ( ثُمَّ التَّعْرِيفُ وَإِنْ كَانَ يَتِمُّ بِذِكْرِ الْجَدِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ ) فِي عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ ذِكْرَ الْجَدِّ ( عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَاتِ ، فَذِكْرُ الْفَخِذِ يَقُومُ مَقَامَ الْجَدِّ لِأَنَّ الْفَخِذَ اسْمُ الْجَدِّ الْأَعْلَى ) أَيْ الْجَدُّ الْأَعْلَى فِي ذَلِكَ الْفَخِذِ الْخَاصِّ فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ الْجَدِّ الْخَاصِّ ، وَهَذَا تَعْلِيلٌ لِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْمَنْقُولِ فِي الْجَامِعِ : إنْ قَالَا فِي هَذَيْنِ الْبَابَيْنِ فُلَانَةُ التَّمِيمِيَّةُ لَمْ يَجُزْ حَتَّى يَنْسُبَاهَا إلَى فَخِذِهَا ، فَإِنَّهُ ذَكَرَهُ

فِيمَا إذَا قَالَا فُلَانَةُ بِنْتُ فُلَانٍ الْفُلَانِيَّةُ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ جَدٍّ ، فَعُلِمَ أَنَّ الْفُلَانِيَّةَ يَقُومُ مَقَامَ الْجَدِّ إذَا كَانَ نِسْبَةٌ إلَى أَخَصِّ الْآبَاءِ .

( فَصْلٌ ) ( قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : شَاهِدُ الزُّورِ أُشَهِّرُهُ فِي السُّوقِ وَلَا أُعَزِّرُهُ .
وَقَالَا : نُوجِعُهُ ضَرْبًا وَنَحْبِسُهُ ) وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ .
لَهُمَا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ ضَرَبَ شَاهِدَ الزُّورِ أَرْبَعِينَ سَوْطًا وَسَخَّمَ وَجْهَهُ وَلِأَنَّ هَذِهِ كَبِيرَةٌ يَتَعَدَّى ضَرَرُهَا إلَى الْعِبَادِ وَلَيْسَ فِيهَا حَدٌّ مُقَدَّرٌ فَيُعَزَّرُ .
وَلَهُ أَنَّ شُرَيْحًا كَانَ يُشَهِّرُ وَلَا يَضْرِبُ ، وَلِأَنَّ الِانْزِجَارَ يَحْصُلُ بِالتَّشْهِيرِ فَيَكْتَفِي بِهِ ، وَالضَّرْبُ وَإِنْ كَانَ مُبَالَغَةً فِي الزَّجْرِ وَلَكِنَّهُ يَقَعُ مَانِعًا عَنْ الرُّجُوعِ فَوَجَبَ التَّخْفِيفُ نَظَرًا إلَى هَذَا الْوَجْهِ .
وَحَدِيثُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَحْمُولٌ عَلَى السِّيَاسَةِ بِدَلَالَةِ التَّبْلِيغِ إلَى الْأَرْبَعِينَ وَالتَّسْخِيمِ ثُمَّ تَفْسِيرُ التَّشْهِيرِ مَنْقُولٌ عَنْ شُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ، فَإِنَّهُ كَانَ يَبْعَثُهُ إلَى سُوقِهِ إنْ كَانَ سُوقِيًّا ، وَإِلَى قَوْمِهِ إنْ كَانَ غَيْرَ سُوقِيٍّ بَعْدَ الْعَصْرِ أَجْمَعَ مَا كَانُوا ، وَيَقُولُ : إنَّ شُرَيْحًا يُقْرِئُكُمْ السَّلَامَ وَيَقُولُ : إنَّا وَجَدْنَا هَذَا شَاهِدَ زُورٍ فَاحْذَرُوهُ وَحَذِّرُوا النَّاسَ مِنْهُ .
وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُشَهَّرُ عِنْدَهُمَا أَيْضًا .
وَالتَّعْزِيرُ وَالْحَبْسُ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَاهُ الْقَاضِي عِنْدَهُمَا ، وَكَيْفِيَّةُ التَّعْزِيرِ ذَكَرْنَاهُ فِي الْحُدُودِ ( وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : شَاهِدَانِ أَقَرَّا أَنَّهُمَا شَهِدَا بِزُورٍ لَمْ يُضْرَبَا وَقَالَا يُعَزَّرَانِ ) وَفَائِدَتُهُ أَنَّ شَاهِدَ الزُّورِ فِي حَقِّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحُكْمِ هُوَ الْمُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ بِذَلِكَ ، فَأَمَّا لَا طَرِيقَ إلَى إثْبَاتِ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ لِأَنَّهُ نَفْيٌ لِلشَّهَادَةِ وَالْبَيِّنَاتُ لِلْإِثْبَاتِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : شَاهِدُ الزُّورِ إلَخْ ) أَخَّرَ حُكْمَ شَهَادَةِ الزُّورِ لِأَنَّهَا خِلَافُ الْأَصْلِ ، إذْ الْأَصْلُ الصِّدْقُ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْفِطْرَةِ كَوْنُهَا عَلَى الْحَقِّ وَالِانْحِرَافُ عَنْهُ لِعَارِضٍ مِنْ قِبَلِ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ ، وَشَاهِدُ الزُّورِ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِإِقْرَارِهِ بِذَلِكَ وَلَا يُحْكَمُ بِهِ بِرَدِّ شَهَادَتِهِ لِمُخَالَفَتِهِ الدَّعْوَى أَوْ الشَّاهِدَ الْآخَرَ أَوْ تَكْذِيبُ الْمُدَّعِي لَهُ إذْ قَدْ يَكُونُ مُحِقًّا فِي الْمُخَالَفَةِ أَوْ لِلْمُدَّعِي غَرَضٌ فِي أَذَاهُ .
وَزَادَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَنْ يَشْهَدَ بِمَوْتِ وَاحِدٍ فَيَجِيءَ حَيًّا ، وَلَوْ قَالَ غَلِطْت أَوْ ظَنَنْت ذَلِكَ قِيلَ هُمَا بِمَعْنَى كَذَبْت لِإِقْرَارِهِ بِالشَّهَادَةِ بِغَيْرِ عِلْمٍ .
وَإِذَا ثَبَتَ كَوْنُهُ شَاهِدَ زُورٍ .
فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : يُعَزَّرُ بِتَشْهِيرِهِ عَلَى الْمَلَإِ فِي الْأَسْوَاقِ لَيْسَ غَيْرُ ( وَقَالَا : نُوجِعُهُ ضَرْبًا وَنَحْبِسُهُ ) فَصَارَ مَعْنَى قَوْلِهِ وَلَا أُعَزِّرُهُ لَا أَضُرُّ بِهِ .
فَالْحَاصِلُ الِاتِّفَاقُ عَلَى تَعْزِيرِهِ غَيْرَ أَنَّهُ اكْتَفَى بِتَشْهِيرِ حَالِهِ فِي الْأَسْوَاقِ ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ أَشَدَّ عَلَيْهِ مِنْ الضَّرْبِ خُفْيَةً أَوْ هُمَا أَضَافَا إلَى ذَلِكَ الضَّرْبَ وَالْحَبْسَ وَبِقَوْلِهَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَمَالِكٌ ( لَهُمَا مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ضَرَبَ شَاهِدَ الزُّورِ أَرْبَعِينَ سَوْطًا ) رَوَاهُ ابْن أَبِي شَيْبَةَ : حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ عَنْ حَجَّاجٍ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ أَبِي مَالِكٍ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ إلَى عُمَّالِهِ بِالشَّامِ أَنَّ شَاهِدَ الزُّورِ يُضْرَبُ أَرْبَعِينَ سَوْطًا وَيُسَخَّمُ وَجْهُهُ وَيُحْلَقُ رَأْسُهُ وَيُطَالُ حَبْسُهُ .
وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ مَكْحُولٍ أَنَّ عُمَرَ ضَرَبَ شَاهِدَ الزُّورِ أَرْبَعِينَ سَوْطًا .
وَقَالَ : أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ الْعَلَاءِ .
أَخْبَرَنِي أَبُو الْأَحْوَصِ بْنُ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمَرَ بِشَاهِدِ

الزُّورِ أَنْ يُسَخَّمَ وَجْهُهُ وَتُلْقَى عِمَامَتُهُ فِي عُنُقِهِ وَيُطَافُ بِهِ فِي الْقَبَائِلِ .
فَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِذَلِكَ مِمَّنْ يَرَى تَقْلِيدَ الصَّحَابِيِّ ظَاهِرٌ ، أَمَّا مَنْ لَا يَرَاهُ فَبِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا عَدَمُ النَّكِيرِ فِيمَا فَعَلَ عُمَرُ فَكَانَ إجْمَاعًا ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْإِنْكَارَ لَا يُتَّجَهُ فِيمَا طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ ، فَإِذَا فُرِضَ أَنَّهُ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ النَّكِيرُ عَلَى مُجْتَهِدٍ فِي مَحَلِّ اجْتِهَادِهِ فَلَا حُجَّةَ فِي هَذَا السُّكُوتِ .
وَالثَّانِي أَنَّهُ أَتَى كَبِيرَةً مِنْ الْكَبَائِرِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ؟ قَالُوا : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : الشِّرْكُ بِاَللَّهِ ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ، وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ قَالَ : أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ ، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَا يَسْكُتُ } وَقَرَنَ تَعَالَى بَيْنَهَا وَبَيْنَ الشِّرْكِ فَقَالَ { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ } وَإِذَا كَانَتْ كَبِيرَةً وَلَيْسَ فِيهَا تَقْدِيرٌ شَرْعِيٌّ فَفِيهَا التَّعْزِيرُ ، وَهَذَا لَا يَنْتَهِضُ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَقْتَضِي التَّعْزِيرَ وَهُوَ لَا يَنْفِيهِ ، بَلْ قَالَ بِهِ عَلَى مَا حَقَقْنَاهُ لَكِنَّهُ يَنْفِي الزِّيَادَةَ فِيهِ بِالضَّرْبِ .
وَالْحَقُّ أَنَّهُ يَنْتَهِضُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يَنْفِي ضَرْبَهُ وَهُمَا يُثْبِتَانِهِ ، فَإِنْ كَانَ الضَّرْبُ زِيَادَةً فِي التَّعْزِيرِ فَلْيَكُنْ إذْ قَدْ ثَبَتَتْ الزِّيَادَةُ فِيهِ بِهِ ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ شُرَيْحًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُشَهِّرُ وَلَا يَضْرِبُ ) رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي كِتَابِ الْآثَارِ : أَنَا أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ الْهَيْثَمِ بْنِ أَبِي الْهَيْثَمِ عَمَّنْ حَدَّثَهُ عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ كَانَ إذَا أَخَذَ شَاهِدَ الزُّورِ ، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السُّوقِ قَالَ لِلرَّسُولِ قُلْ لَهُمْ

إنَّ شُرَيْحًا يُعَرِّفُكُمْ وَيَقُولُ لَكُمْ إنَّا وَجَدْنَا هَذَا شَاهِدَ زُورٍ فَاحْذَرُوهُ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْعَرَبِ أَرْسَلَ بِهِ إلَى مَجْلِسِ قَوْمِهِ أَجْمَعَ مَا كَانُوا فَقَالَ لِلرَّسُولِ مِثْلَ مَا قَالَ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى .
وَنَحْوُهُ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ : حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ قَالَ : كَانَ شُرَيْحُ يَبْعَثُ شَاهِدَ الزُّورِ إلَى مَسْجِدِ قَوْمِهِ أَوْ إلَى السُّوقِ وَيَقُولُ إنَّا زَيَّفْنَا شَهَادَةَ هَذَا .
وَفِي لَفْظٍ : كَانَ يَكْتُبُ اسْمَهُ عِنْدَهُ .
وَقَالَ الْخَصَّافُ فِي أَدَبِ الْقَاضِي : حَدَّثَنَا وَكِيعٌ قَالَ : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ قَالَ : كَانَ شُرَيْحُ يَبْعَثُ بِشَاهِدِ الزُّورِ فَأَدْخَلَ بَيْنَ وَكِيعٍ وَأَبِي حُصَيْنٍ سُفْيَانَ .
وَقَدْ يُقَالُ : لَيْسَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَا يُصَرِّحُ بِأَنَّهُ لَمْ يَضُرَّ بِهِ بَلْ لِأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ ، وَلَا يَنْفِي هَذَا أَنْ يَقُولَ مَعَ شَيْءٍ آخَرَ .
ثُمَّ وَجَدْنَا هَذَا الْمُحْتَمَلَ مَرْوِيًّا .
قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقُ : أَنَا الثَّوْرِيُّ عَنْ الْجَعْدِ بْنِ ذَكْوَانَ قَالَ : أُتِيَ شُرَيْحُ بِشَاهِدِ زُورٍ فَنَزَعَ عِمَامَتَهُ عَنْ رَأْسه وَخَفَقَهُ بِالدُّرَّةِ خَفَقَاتٍ وَبَعَثَ بِهِ إلَى مَسْجِدٍ يَعْرِفُهُ النَّاسُ ، غَيْرَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَقُولُ : إنْ فَرَضْنَا أَنَّهُ وَقَعَ الضَّرْبُ وَقَدْ قُلْنَا إنَّهُ إنَّمَا يُعْرَفُ شَاهِدُ الزُّورِ بِإِقْرَارِهِ فَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَدْرِيَ شَاهِدُ الزُّورِ الرَّاجِحُ أَنَّهُ يَفْعَلُ بِهِ ذَلِكَ ، فَقَدْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ لَا يُحْبَسُ وَلَا يُضْرَبُ فَرَجَعَ ، فَحِينَ تَرَتَّبَ عَلَى رُجُوعِهِ الضَّرْبُ وَصَارَ ذَلِكَ مُسْتَقِرًّا فِي النُّفُوسِ يَكُونُ صَارِفًا لَهُ عَنْ الرُّجُوعِ وَحَامِلًا عَلَى التَّمَادِي فَوَجَبَ أَنْ يُتْرَكَ وَيُكْتَفَى بِمَا ذَكَرْت مِنْ التَّعْزِيرِ ، هَذَا بَعْدَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ كَانَ مِمَّنْ كَانَ مِنْهُ بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ لَا بِالنَّقْلِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَازَ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي نَفْيِهِ بِاعْتِبَارِ ثُبُوتِ مَعْنًى آخَرَ .
وَأَمَّا الْجَوَابُ

بِأَنَّ مَا رُوِيَ مِنْ ضَرْبِ عُمَرَ وَالتَّسْخِيمِ كَانَ سِيَاسَةً ، فَإِذَا رَأَى الْحَاكِمُ ذَلِكَ مَصْلَحَةً كَانَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ ، فَقَدْ يُرَدُّ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ كِتَابِ عُمَرَ بِهِ إلَى عُمَّالِهِ فِي الْبِلَادِ .
وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال عَلَى السِّيَاسَةِ بِالتَّبْلِيغِ إلَى الْأَرْبَعِينَ وَلَا يَبْلُغُ بِالتَّعْزِيرِ إلَى الْحُدُودِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يُجِيزُهُ ، وَقَدْ أَجَازَ عَالَمُ الْمَذْهَبِ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْ يَبْلُغَ بِهِ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ وَتِسْعَةٌ وَسَبْعُونَ فَجَازَ كَوْنُ رَأْيِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَذَلِكَ .
وَأَمَّا كَوْنُ التَّسْخِيمِ مُثْلَةً مَنْسُوخَةً فَقَدْ يَكُونُ رَأْيُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْمُثْلَةَ لَيْسَتْ إلَّا فِي قَطْعِ الْأَعْضَاءِ وَنَحْوِهِ مِمَّا يُفْعَلُ فِي الْبَدَنِ وَيَدُومُ ، لَا بِاعْتِبَارِ عَرَضٍ يُغْسَلُ فَيَزُولُ وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ قِيلَ إنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : إنْ رَجَعَ عَلَى سَبِيلِ الْإِصْرَارِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ شَهِدْت فِي هَذِهِ بِالزُّورِ وَلَا أَرْجِعُ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ بِالضَّرْبِ بِالِاتِّفَاقِ ، وَإِنْ رَجَعَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْبَةِ لَا يُعَزَّرُ اتِّفَاقًا ، وَإِنْ كَانَ لَا يُعْرَفُ حَالُهُ فَعَلَى الِاخْتِلَافِ الْمَذْكُورِ .
وَقِيلَ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ .
فَجَوَابُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي التَّائِبِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ التَّعْزِيرِ الِانْزِجَارُ وَقَدْ انْزَجَرَ بِدَاعِي اللَّهِ تَعَالَى .
وَجَوَابُهُمَا فِيمَنْ لَمْ يَتُبْ وَلَا يُخَالِفُ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَالتَّسْخِيمِ بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ بِدَلَالَةِ التَّبْلِيغِ : يُقَالُ سَخَّمَ وَجْهَهُ ، إذَا سَوَّدَهُ مِنْ السُّخَامِ وَهُوَ سَوَادُ الْقِدْرِ ، وَقَدْ جَاءَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ مِنْ الْأَسْحَمِ وَهُوَ الْأَسْوَدُ .
وَفِي الْمُغْنِي : وَلَا يُسَحَّمُ وَجْهُهُ بِالْخَاءِ وَالْحَاءِ

( كِتَابُ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ ) ( قَالَ : إذَا رَجَعَ الشُّهُودُ عَنْ شَهَادَتِهِمْ قَبْلَ الْحُكْمِ بِهَا سَقَطَتْ ) لِأَنَّ الْحَقَّ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْقَضَاءِ وَالْقَاضِي لَا يَقْضِي بِكَلَامٍ مُتَنَاقِضٍ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُمَا مَا أَتْلَفَا شَيْئًا لَا عَلَى الْمُدَّعِي وَلَا عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ( فَإِنْ حَكَمَ بِشَهَادَتِهِمْ ثُمَّ رَجَعُوا لَمْ يُفْسَخْ الْحُكْمُ ) لِأَنَّ آخِرَ كَلَامِهِمْ يُنَاقِضُ أَوَّلَهُ فَلَا يُنْقَضُ الْحُكْمُ بِالتَّنَاقُضِ وَلِأَنَّهُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الصِّدْقِ مِثْلُ الْأَوَّلِ ، وَقَدْ تَرَجَّحَ الْأَوَّلُ بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ ( وَعَلَيْهِمْ ضَمَانُ مَا أَتْلَفُوهُ بِشَهَادَتِهِمْ ) لِإِقْرَارِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِسَبَبِ الضَّمَانِ ، وَالتَّنَاقُضُ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ ، وَسَنُقَرِّرُهُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ( وَلَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ إلَّا بِحَضْرَةِ الْحَاكِمِ ) لِأَنَّهُ فَسْخٌ لِلشَّهَادَةِ فَيَخْتَصُّ بِمَا تَخْتَصُّ بِهِ الشَّهَادَةُ مِنْ الْمَجْلِسِ وَهُوَ مَجْلِسُ الْقَاضِي أَيَّ قَاضٍ كَانَ ، وَلِأَنَّ الرُّجُوعَ تَوْبَةٌ وَالتَّوْبَةُ عَلَى حَسَبِ الْجِنَايَةِ ، فَالسِّرُّ بِالسِّرِّ وَالْإِعْلَانُ بِالْإِعْلَانِ .
وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ الرُّجُوعُ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي ، فَلَوْ ادَّعَى الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ رُجُوعَهُمَا وَأَرَادَ يَمِينَهُمَا لَا يَحْلِفَانِ ، وَكَذَا لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُ ادَّعَى رُجُوعًا بَاطِلًا ، حَتَّى لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ رَجَعَ عِنْدَ قَاضِي كَذَا وَضَمَّنَهُ الْمَالَ تُقْبَلُ لِأَنَّ السَّبَبَ صَحِيحٌ .

( كِتَابُ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ ) لَمَّا كَانَ هَذَا إيجَابَ رَفْعِ الشَّهَادَةِ وَمَا تَقَدَّمَ إيجَابَ إثْبَاتِهَا فَكَانَا مُتَوَازِيَيْنِ فَتَرْجَمَ هَذَا بِالْكِتَابِ كَمَا تَرْجَمَ ذَاكَ لِلْمُوَازَاةِ بَيْنَهُمَا ، وَإِلَّا فَلَيْسَ لِهَذَا أَبْوَابٌ لِتَعَدُّدِ أَنْوَاعِ مَسَائِلِهِ لِيَكُونَ كِتَابًا كَمَا لِذَلِكَ وَلِتَحَقُّقِهِ بَعْدَ الشَّهَادَةِ ، إذْ لَا رَفْعَ إلَّا بَعْدَ الْوُجُودِ نَاسَبَ أَنْ يَجْعَلَ تَعْلِيمَهُ بَعْدَهُ ، كَمَا أَنَّ وُجُودَهُ بَعْدَهُ وَخُصُوصَ مُنَاسَبَتِهِ لِشَهَادَةِ الزُّورِ هُوَ أَنَّ الرُّجُوعَ لَا يَكُونُ غَالِبًا إلَّا لِتَقَدُّمِهَا عَمْدًا أَوْ خَطَأً ( قَوْلُهُ إذَا رَجَعَ الشُّهُودُ عَنْ الشَّهَادَةِ سَقَطَتْ ) عَنْ الِاعْتِبَارِ فَلَا يُقْضَى بِهَا لِأَنَّ كَلَامَهُمْ تَنَاقَضَ حَيْثُ قَالُوا نَشْهَدُ بِكَذَا لَا نَشْهَدُ بِهِ وَلَا يُقْضَى بِالْمُتَنَاقِضِ ، وَلِأَنَّهُ أَيْ كَلَامَهُ الَّذِي نَاقَضَ لَهُ وَهُوَ الْمُتَأَخِّرُ فِي احْتِمَالِهِ الصِّدْقَ كَالْأَوَّلِ ، فَلَيْسَ الْقَضَاءُ بِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ أَوْلَى بِهِ مِنْ الْآخَرِ فَوَقَفَ كُلٌّ مِنْهُمَا .
قَالُوا : وَيُعَزِّرُ الشُّهُودَ سَوَاءً رَجَعُوا قَبْلَ الْقَضَاءِ أَوْ بَعْدَهُ ، وَلَا يَخْلُو عَنْ نَظَرٍ لِأَنَّ الرُّجُوعَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ تَوْبَةٌ عَنْ الزُّورِ إنْ تَعَمَّدَهُ ، أَوْ التَّهَوُّرِ وَالْعَجَلَةِ إنْ كَانَ أَخْطَأَ فِيهِ ، وَلَا تَعْزِيرَ عَلَى التَّوْبَةِ وَلَا عَلَى ذَنْبٍ ارْتَفَعَ بِهَا وَلَيْسَ فِيهِ حَدٌّ مُقَدَّرٌ ( قَوْلُهُ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ ) لِأَنَّهُمْ لَمْ يُتْلِفُوا شَيْئًا عَلَى الْمَشْهُودِ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ ( قَوْلُهُ فَإِنْ حُكِمَ إلَخْ ) إذَا رَجَعُوا قَبْلَ الْحُكْمِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ ، وَإِنْ رَجَعُوا بَعْدَهُ لَمْ يُفْسَخْ الْحُكْمُ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الثَّانِيَ لَيْسَ أَوْلَى مِنْ كَلَامِهِمْ الْأَوَّلِ ، وَلَا الْأَوَّلُ أَوْلَى مِنْ الثَّانِي فَتَعَارَضَا ، وَلَا تَرْجِيحَ قَبْلَ الْحُكْمِ لِأَحَدِ الْكَلَامَيْنِ فَلَا يُحْكَمُ بِأَحَدِهِمَا ، وَبَعْدَهُ تَرَجَّحَ الْأَوَّلُ لِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ لِأَنَّهُ مُؤَكِّدٌ لِحُكْمِهِ وَقَعَ فِي حَالٍ لَا مُعَارِضَ لَهُ

فِيهِ فَلَا يُنْقَضُ الْأَقْوَى بِالْأَدْنَى ، لَكِنَّ عَلَيْهِمْ ضَمَانَ مَا أَتْلَفُوهُ بِشَهَادَتِهِمْ ، وَإِنَّمَا كَانُوا مُتْلِفِينَ بِسَبَبِ لُزُومِ حُكْمِ شَهَادَتِهِمْ : أَعْنِي اتِّصَالَ الْقَضَاءِ الَّذِي لَا يَجُوزُ نَقْضُهُ وَبِالرُّجُوعِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَا يُنْقَضُ الْقَضَاءُ بِهِ كَانُوا مُعْتَرِفِينَ بِأَنَّ تَسَبُّبَهُمْ فِي ذَلِكَ الْإِتْلَافِ كَانَ تَعَدِّيًا لِأَنَّهُ وَقَعَ عَلَى خِلَافِ الْحَقِّ ، وَالتَّسَبُّبُ فِي الْإِتْلَافِ تَعَدِّيًا سَبَبٌ لِلضَّمَانِ .
وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَوَّلًا يَقُولُ : يَنْظُرُ إلَى حَالِ الشُّهُودِ ، إنْ كَانَ حَالُهُمْ عِنْدَ الرُّجُوعِ أَفْضَلَ مِنْ حَالِهِمْ وَقْتَ الْأَدَاءِ فِي الْعَدَالَةِ صَحَّ رُجُوعُهُمْ فِي حَقِّ نَفْسِهِمْ ، وَفِي حَقِّ غَيْرِهِمْ فَيُعَزَّرُونَ وَيُنْقَضُ الْقَضَاءُ وَيُرَدُّ الْمَالُ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانُوا عِنْدَ الرُّجُوعِ كَحَالِهِمْ عِنْدَ الْأَدَاءِ أَوْ دُونَهُ يُعَزَّرُونَ ، وَلَا يُنْقَضُ الْقَضَاءُ ، وَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الشَّاهِدِ .
وَهَذَا قَوْلُ أُسْتَاذِهِ حَمَّادِ بْنِ سُلَيْمَانَ .
ثُمَّ رَجَعَ إلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ رُجُوعُهُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ ، فَلَا يُنْقَضُ الْقَضَاءُ وَلَا يُرَدُّ الْمَالُ عَلَى الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا وَهُوَ قَوْلُهُمَا ( قَوْلُهُ وَلَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ إلَّا بِحَضْرَةِ الْحَاكِمِ ) سَوَاءً كَانَ هُوَ الْقَاضِيَ الْمَشْهُودَ عِنْدَهُ أَوْ غَيْرَهُ ، وَزَادَ جَمَاعَةٌ فِي صِحَّةِ الرُّجُوعِ أَنْ يَحْكُمَ الْقَاضِي بِرُجُوعِهِمَا وَيُضَمِّنَهُمَا الْمَالَ ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ حَيْثُ قَالَ ( وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي ، فَلَوْ ادَّعَى الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ رُجُوعَهُمَا وَأَرَادَ يَمِينَهُمَا ) أَنَّهُمَا لَمْ يَرْجِعَا ( لَا يَحْلِفَانِ وَكَذَا ) لَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى هَذَا الرُّجُوعِ ( لَا تُقْبَلُ لِأَنَّهُ ادَّعَى رُجُوعًا بَاطِلًا ) وَإِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ وَإِلْزَامُ الْيَمِينِ لَا تُقْبَلُ إلَّا عَلَى دَعْوًى صَحِيحَةٍ .
ثُمَّ قَالَ ( حَتَّى لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ رَجَعَ عِنْدَ قَاضِي كَذَا

وَضَمَّنَهُ الْمَالَ تُقْبَلُ ) فَهَذَا ظَاهِرٌ فِي تَقْيِيدِ صِحَّةِ الرُّجُوعِ بِذَلِكَ ، وَنُقِلَ هَذَا عَنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ .
وَاسْتَبْعَدَ بَعْضُهُمْ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ تَوَقُّفَ صِحَّةِ الرُّجُوعِ عَلَى الْقَضَاءِ بِالرُّجُوعِ وَبِالضَّمَانِ ، وَتَرَكَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ مُصَنِّفِي الْفَتَاوَى هَذَا الْقَيْدَ ، وَذَكَرَ أَنَّهُ إمَّا تَرَكَهُ تَعْوِيلًا عَلَى هَذَا الِاسْتِبْعَادِ ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَى اشْتِرَاطِ الْمَجْلِسِ أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ شَاهِدٌ بِالرُّجُوعِ فِي غَيْرِ الْمَجْلِسِ وَأَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ بِهِ وَبِالْتِزَامِ الْمَالِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ ، وَلَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ لَا يَلْزَمُهُ إذَا تَصَادَقَا أَنَّ لُزُومَ الْمَالِ عَلَيْهِ كَانَ بِهَذَا الرُّجُوعِ ، وَلَوْ أَقَرَّ فِي مَجْلِسِ قَاضٍ أَنَّهُ رَجَعَ عِنْدَ قَاضِي كَذَا صَحَّ بِاعْتِبَارِ كَوْنِ هَذَا رُجُوعًا عِنْدَ هَذَا الْقَاضِي لَا الَّذِي أَسْنَدَ رُجُوعَهُ إلَيْهِ ، وَلَوْ رَجَعَا عِنْدَ الْقَاضِي ثُمَّ جَحَدَ تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِمَا وَيَقْضِي بِالضَّمَانِ عَلَيْهِمَا .
ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ لِاشْتِرَاطِ مَجْلِسِ الْحُكْمِ فِي صِحَّةِ الرُّجُوعِ وَجْهَيْنِ : أَوَّلُهُمَا أَنَّ الرُّجُوعَ فَسْخٌ لِلشَّهَادَةِ ، فَكَمَا اُشْتُرِطَ لِلشَّهَادَةِ الْمَجْلِسُ كَذَلِكَ لِفَسْخِهَا ، وَعَلَى الْمُلَازَمَةِ مَنْعٌ ظَاهِرٌ مَعَ إبْدَاءِ الْفَرْقِ بِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْمَجْلِسِ لِيُتَصَوَّرَ الْأَدَاءُ عِنْدَهُ بِالضَّرُورَةِ ، بِخِلَافِ الرُّجُوعِ لِأَنَّ حَاصِلَهُ الْإِقْرَارُ عَلَى نَفْسِهِ يَتَحَقَّقُ سَبَبُ الضَّمَانِ مِنْهُ ، وَالْإِقْرَارُ بِالضَّمَانِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ .
وَأَجَابَ فِي النِّهَايَةِ بِأَنَّ مَا شُرِطَ لِلِابْتِدَاءِ شُرِطَ لِلْبَقَاءِ كَالْبَيْعِ فَإِنَّهُ شُرِطَ فِيهِ وُجُودُ الْمَبِيعِ فَكَذَا فِي فَسْخِهِ ، أَوْ هَذَا أَيْضًا مِمَّا يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ الْمُلَازَمَةِ مَعَ أَنَّ الِاتِّفَاقَ أَنَّ شَرْطَ ذَلِكَ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ إنَّمَا هُوَ لِيَثْبُتَ حُكْمُ الْفَسْخِ وَهُوَ التَّرَادُّ ، وَالتَّرَادُّ يَتَوَقَّفُ عَلَى قِيَامِهِ ، بِخِلَافِ حُكْمِ الرُّجُوعِ فَإِنَّهُ الضَّمَانُ ،

وَيُمْكِنُ إثْبَاتُهُ مَعَ ثُبُوتِهِ دُونَ الْمَجْلِسِ .
ثُمَّ هُوَ قَدْ أَوْرَدَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ شَرْطَ الِابْتِدَاءِ شَرْطُ الْبَقَاءِ فِي السَّلَمِ حَيْثُ يُشْتَرَطُ لِابْتِدَائِهِ حُضُورُ رَأْسِ الْمَالِ دُونَ فَسْخِهِ .
وَأَجَابَ بِمِثْلِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ ذَلِكَ لِأَمْرٍ يَخُصُّ الِابْتِدَاءَ لَا يُوجَدُ فِي الْبَقَاءِ وَهُوَ كَيْ لَا يَلْزَمَ الِافْتِرَاقُ عَنْ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ وَذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ فِي فَسْخِهِ فَلِذَا لَمْ يُشْتَرَطْ فِي فَسْخِهِ مَا شُرِطَ فِي ابْتِدَائِهِ ، وَهَذَا نَحْوُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ شَرْطَ الْمَجْلِسِ ابْتِدَاءٌ لِيُتَصَوَّرَ الْأَدَاءُ بِخِلَافِ الْفَسْخِ .
ثُمَّ تَمْهِيدُ الْجَوَابِ بِأَنَّ مَا شُرِطَ لِلِابْتِدَاءِ شُرِطَ لِلْبَقَاءِ لَا يُنَاسِبُ مَا نَحْنُ فِيهِ وَهُوَ الرَّفْعُ .
نَعَمْ الرَّفْعُ يُرَدُّ عَلَى حَالَةِ بَقَاءِ أَثَرِ الشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحُكْمُ بِهَا ، وَلَوْ تَسَهَّلْنَا إلَى جَعْلِ ذَلِكَ بَقَاءَ نَفْسِ الشَّهَادَةِ لَا يُتَصَوَّرُ كَوْنُ مَجْلِسِ الْحُكْمِ شَرْطًا لِبَقَاءِ الشَّهَادَةِ ، وَلَوْ أَرْخَيَا الْعَنَانَ فِي الْآخَرِ فَإِنَّمَا يَكُونُ الْمَشْرُوطُ لِلْبَقَاءِ الْمَجْلِسَ الْأَوَّلَ الَّذِي كَانَ شَرْطًا لِلْأَدَاءِ ، وَالْمَجْلِسُ الْمَشْرُوطُ هُنَا مَجْلِسٌ آخَرُ .
وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ فِي وَجْهِهِ أَنَّ الرُّجُوعَ فَسْخٌ وَنَقْضٌ لِلشَّهَادَةِ فَكَانَ مُقَابِلًا لَهَا فَاخْتَصَّ بِمَوْضِعِ الشَّهَادَةِ ، وَمَنْعُ الْمُلَازَمَةِ فِيهِ ظَاهِرٌ فَبَيَّنَهُ بِأَنَّ السَّوَادَ وَالْبَيَاضَ لَمَّا كَانَا مُتَضَادَّيْنِ اُشْتُرِطَ لِلتَّضَادِّ اتِّحَادُ الْمَحَلِّ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ اتِّحَادَ الْمَحَلِّ إنَّمَا هُوَ شَرْطُ امْتِنَاعِ اجْتِمَاعِ الْمُتَضَادَّيْنِ لَا شَرْطٌ لِكُلٍّ مِنْ الْمُتَضَادَّيْنِ فِي نَفْسِهِ ، كَمَا أَنَّ مَجْلِسَ شَرْطٍ لِكُلٍّ مِنْ الشَّهَادَةِ وَنَقْضِهَا .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ الرُّجُوعَ تَوْبَةٌ عَنْ ذَنْبِ الْكَذِبِ وَكَانَ ذَلِكَ الذَّنْبُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَتَخْتَصُّ التَّوْبَةُ عَنْهُ بِمَجْلِسِهِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ أَيْضًا غَيْرُ لَازِمٍ فِيهِ فَبَيَّنُوا لَهُ مُلَازَمَةً شَرْعِيَّةً بِحَدِيثِ {

مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ حِينَ بَعَثَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ فَقَالَ أَوْصِنِي ، فَقَالَ : عَلَيْك بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى مَا اسْتَطَعْت ، إلَى أَنْ قَالَ : وَإِذَا عَمِلْت شَرًّا فَأَحْدِثْ تَوْبَةَ السِّرِّ بِالسِّرِّ وَالْعَلَانِيَةَ بِالْعَلَانِيَةِ } وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الْعَلَانِيَةَ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِعْلَانِ فِي مَحَلِّ الذَّنْبِ بِخُصُوصِهِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ بَلْ فِي مِثْلِهِ مِمَّا فِيهِ عَلَانِيَةٌ وَهُوَ إذَا أَظْهَرَ الرُّجُوعَ لِلنَّاسِ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَيْهِ وَبَلَغَ ذَلِكَ الْقَاضِي بِالْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ كَيْ لَا يَكُونَ مُعْلِنًا

( وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ بِمَالٍ فَحَكَمَ الْحَاكِمُ بِهِ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا الْمَالَ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ ) لِأَنَّ التَّسْبِيبَ عَلَى وَجْهِ التَّعَدِّي سَبَّبَ الضَّمَانَ كَحَافِرِ الْبِئْرِ وَقَدْ سَبَّبَا لِلْإِتْلَافِ تَعَدِّيًا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَضْمَنَانِ لِأَنَّهُ لَا عِبْرَةَ لِلتَّسْبِيبِ عِنْدَ وُجُودِ الْمُبَاشَرَةِ .
قُلْنَا : تَعَذَّرَ إيجَابُ الضَّمَانِ عَلَى الْمُبَاشِرِ وَهُوَ الْقَاضِي لِأَنَّهُ كَالْمَلْجَإِ إلَى الْقَضَاءِ ، وَفِي إيجَابِهِ صَرْفُ النَّاسِ عَنْ تَقَلُّدِهِ وَتَعَذُّرُ اسْتِيفَائِهِ مِنْ الْمُدَّعِي لِأَنَّ الْحُكْمَ مَاضٍ فَاعْتُبِرَ التَّسْبِيبُ ، وَإِنَّمَا يَضْمَنَانِ إذَا قَبَضَ الْمُدَّعِي الْمَالَ دَيْنًا كَانَ أَوْ عَيْنًا ، لِأَنَّ الْإِتْلَافَ بِهِ يَتَحَقَّقُ ، لِأَنَّهُ لَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ أَخْذِ الْعَيْنِ وَإِلْزَامِ الدَّيْنِ .
قَالَ ( فَإِنْ رَجَعَ أَحَدُهُمَا ضَمِنَ النِّصْفَ ) وَالْأَصْلُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي هَذَا بَقَاءُ مَنْ بَقِيَ لَا رُجُوعُ مَنْ رَجَعَ وَقَدْ بَقِيَ مَنْ يَبْقَى بِشَهَادَتِهِ نِصْفُ الْحَقِّ

( قَوْلُهُ وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ بِمَالٍ فَحَكَمَ الْحَاكِمُ بِهِ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا الْمَالَ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ) وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُمَا مُسَبِّبَانِ وَلَا عِبْرَةَ بِالتَّسَبُّبِ ، وَإِنْ كَانَ تَعَدِّيًا مَعَ وُجُودِ الْمُبَاشَرَةِ .
قُلْنَا : الْمُبَاشِرُ الْقَاضِي وَالْمُدَّعِي .
وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْقَاضِي اتِّفَاقًا لِأَنَّهُ كَالْمَلْجَإِ إلَى مُبَاشَرَةِ الْقَضَاءِ الَّذِي بِهِ الْإِتْلَافُ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ بِافْتِرَاضِهِ عَلَيْهِ بَعْدَ ظُهُورِ الْعَدَالَةِ ، وَإِذَا أَلْجَأَهُ الشَّرْعُ لَا يَضْمَنُهُ ، وَلِأَنَّهُ يُوجِبُ عَدَمَ قَبُولِ الْقَضَاءِ مِنْ أَحَدٍ .
وَأَمَّا الْمُدَّعِي فَلِأَنَّهُ أَخَذَ بِحَقٍّ ظَاهِرٍ مَاضٍ لِأَنَّ خَبَرَ الرُّجُوعِ لَيْسَ أَوْلَى مِنْ الْأَوَّلِ لِيَنْقُضَ الْحُكْمَ ، وَإِذَا لَمْ يَنْقُضْ لَا يُمْكِنُ جَبْرُهُ عَلَى إعْطَاءِ مَا أَخَذَ بِذَلِكَ الْوَجْهِ الْمَاضِي شَرْعًا .
وَإِذَا تَعَذَّرَ الْإِيجَابُ عَلَى الْمُبَاشِرِ تَعَيَّنَ عَلَى الْمُتَعَدِّي بِالتَّسَبُّبِ كَحَافِرِ الْبِئْرِ فِي الطَّرِيقِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ .
وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْإِمَامِ وَالْعِرَاقِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ الشُّهُودَ يَضْمَنُونَ كَمَذْهَبِنَا ، وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لَا يَنْقُضُ .
وَلَا يَرُدُّ الْمَالَ مِنْ الْمُدَّعِي وَلَا يَضْمَنُ الشُّهُودُ وَهُوَ عَيْنُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَوَّلِ إذَا كَانَ حَالُهُمَا وَقْتَ الرُّجُوعِ مِثْلَهُ عِنْد الْأَدَاءِ .
وَقَدْ نُقِضَ عَلَيْهِ أَيْضًا بِإِيجَابِ الْقِصَاصِ عَلَى الشُّهُودِ إذَا رَجَعُوا بَعْدَ قَتْلِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ مَعَ وُجُودِ الْمُبَاشِرِ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْمُقْتَصُّ وَالْقَاضِي .
وَأُجِيبُ عَنْهُ بِأَنَّ ذَلِكَ لِدَلِيلٍ خَاصٍّ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لِشَاهِدَيْ السَّرِقَةِ بَعْدَمَا قَطَعَ وَرَجَعُوا وَجَاءُوا بِآخَرَ وَقَالُوا هَذَا الَّذِي سَرَقَ : لَوْ عَلِمْت أَنَّكُمَا تَعَدَّيْتُمَا لَقَطَعْت أَيْدِيَكُمَا ، أَخْرَجَهُ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ : بِهَذَا الْقَوْلِ نَقُولُ .
فَإِنْ نُوقِضَ

بِأَنَّهُ لَا يَرَى تَقْلِيدَ الصَّحَابِيِّ أَمْكَنَ الْجَوَابُ عَنْهُ بِأَنِّي إنَّمَا قُلْت بِهِ لِمَا ظَهَرَ مِنْ مَنَاطِهِ مِنْ أَنَّ أَمْرَ الدَّمِ أَشَدُّ مِنْ أَمْرِ الْمَالِ .
قُلْنَا : الْأَشَدِّيَّةُ لَا يَتَوَقَّفُ ثُبُوتُهَا عَلَى ثُبُوتِ الضَّمَانِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا لِجَوَازِهِ بِاعْتِبَارِ أَمْرِ الْآخِرَةِ ، ثُمَّ مَتَى يُقْضَى بِالضَّمَانِ عَلَى الشَّاهِدِ ؟ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( إذَا قَبَضَ الْمُدَّعِي الْمَالَ دَيْنًا كَانَ أَوْ عَيْنًا ) لِأَنَّ هَذَا ضَمَانُ إتْلَافٍ وَالْإِتْلَافُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِأَخْذِهِ مِنْهُ ، وَهَذَا اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ .
وَفَرَّقَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ بَيْنَ كَوْنِ الْمَشْهُودِ بِهِ عَيْنًا فَيَضْمَنَانِ قَبْلَ قَبْضِ الْمُدَّعِي إيَّاهَا بَعْدَ الْقَضَاءِ لَهُ بِهَا أَوْ دَيْنًا فَلَا يَضْمَنَانِ حَتَّى يَقْبِضَهُ الْمُدَّعِي .
وَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ ضَمَانَهُمَا ضَمَانُ إتْلَافٍ ، وَضَمَانُ الْإِتْلَافِ مُقَيَّدٌ بِالْمُمَاثَلَةِ ، فَإِذَا كَانَ الْمَشْهُودُ بِهِ عَيْنًا فَالشَّاهِدَانِ وَإِنْ أَزَالَاهُ عَنْ مِلْكِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِشَهَادَتِهِمَا عِنْدَ اتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهَا حَتَّى لَا يَنْفُذَ تَصَرُّفُهُ فِيهِ ، فَلَوْ أَزَلْنَا قِيمَتَهُ عَنْ مِلْكِهِمَا بِأَخْذِ الضَّمَانِ مِنْهُمَا لَا تَنْتَفِي الْمُمَاثَلَةُ ، أَمَّا إذَا كَانَ الْمَشْهُودُ بِهِ دَيْنًا فَالشَّاهِدَانِ أَوْجَبَا عَلَيْهِ دَيْنًا بِغَيْرِ حَقٍّ ، فَلَوْ اسْتَوْفَى الضَّمَانَ مِنْهُمَا قَبْلَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْمَشْهُودُ لَهُ مِنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ انْتَفَتْ الْمُمَاثَلَةُ لِأَنَّ الْمُسْتَوْفَى مِنْهُمَا عَيْنٌ فِي مُقَابَلَةِ دَيْنٍ أَوْجَبَاهُ ، وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ يُوَافِقُ فِي وَجْهِ الدَّيْنِ ، يَقُولُ فِي الْعَيْنِ : إنَّ الْمِلْكَ وَإِنْ ثَبَتَ فِيهِ لِلْمُدَّعِي بِمُجَرَّدِ الْقَضَاءِ لَكِنَّ الْمَقْضِيَّ عَلَيْهِ يَزْعُمُ أَنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ ، لِأَنَّ الْمَالَ الَّذِي فِي يَدِهِ مِلْكُهُ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الشَّاهِدَ شَيْئًا مَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ يَدِهِ .
قَالَ الْبَزَّازِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي فَتَاوَاهُ : وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْفَتْوَى الضَّمَانُ

بَعْدَ الْقَضَاءِ بِالشَّهَادَةِ قَبَضَ الْمُدَّعِي الْمَالَ أَوْ لَا ، وَكَذَا الْعَقَارُ يُضْمَنُ بَعْدَ الرُّجُوعِ إنْ اتَّصَلَ الْقَضَاءُ بِالشَّهَادَةِ .
فُرُوعٌ ] شَهِدَا أَنَّهُ أَجَّلَهُ إلَى سَنَةٍ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَاهُ حَالًا ثُمَّ يَرْجِعَانِ عَلَى الْمَطْلُوبِ بَعْدَ السَّنَةِ ، وَلَوْ تَوَى مَا عَلَى الْمَطْلُوبِ لَمْ يَرْجِعَا عَلَى الطَّالِبِ بِخِلَافِ الْحَوَالَةِ .
وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ أَبْرَأَهُ أَوْ وَهَبَهُ أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا .
وَلَوْ شَهِدَا عَلَى هِبَةِ عَبْدٍ وَتَسْلِيمٍ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا قِيمَتَهُ لِلْمَالِكِ وَلَا رُجُوعَ لِلْوَاهِبِ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ وَلَا عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُ كَالْعِوَضِ ، وَإِنْ لَمْ يُضَمِّنْ الْوَاهِبُ الشَّاهِدَيْنِ لَهُ الرُّجُوعَ .
شَهِدَا أَنَّهُ بَاعَ عَبْدَهُ بِخَمْسِمِائَةٍ إلَى سَنَةٍ وَقِيمَةُ الْعَبْدِ مِائَةٌ وَقَضَى بِهِ ثُمَّ رَجَعَا يَخْسَرُ الْبَائِعُ بَيْنَ رُجُوعِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي إلَى سَنَةٍ وَبَيْنَ تَضْمِينِ الشَّاهِدَيْنِ قِيمَتَهُ حَالَّةً وَلَا يُضَمِّنُهُمَا الْخَمْسمِائَةِ ، فَإِنْ ضَمَّنَ الشَّاهِدَيْنِ رَجَعَا عَلَى الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ إذَا حَلَّ الْأَجَلُ لِأَنَّهُمَا قَامَا مَقَامَ الْبَائِعِ بِالضَّمَانِ وَطَابَ لَهُمَا قَدْرُ مِائَةٍ وَتَصَدَّقَا بِالْفَضْلِ ( قَوْلُهُ وَالْأَصْلُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي هَذَا بَقَاءُ مَنْ بَقِيَ لَا رُجُوعُ مَنْ رَجَعَ ) وَهَذَا لِأَنَّ الشَّهَادَةَ إنَّمَا تَثْبُتُ الْمَالَ وَالرُّجُوعَ إنَّمَا يُوجِبُ الضَّمَانَ لِأَنَّهُ إتْلَافٌ لَهُ ، فَإِذَا بَقِيَ بَعْدَ رُجُوعِ مَنْ رَجَعَ مَنْ يَسْتَقِلُّ بِإِثْبَاتِ الْمَالِ بَقِيَ الْمَالُ ثَابِتًا فَلَمْ يَتَحَقَّقْ بِالرُّجُوعِ إتْلَافُ شَيْءٍ ، وَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَضْمَنَ مَعَ عَدَمِ إتْلَافِ شَيْءٍ .
وَأَمَّا مَا أَوْرَدَ مِنْ أَنَّهُ يَنْبَغِي إذَا رَجَعَ وَاحِدٌ مِنْ الِاثْنَيْنِ أَنْ لَا يَبْقَى شَيْءٌ مِنْ الْمَالِ لِأَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِ شَيْءٌ أَصْلًا فَيَقْتَضِي أَنْ يُضَمَّنَ الْوَاحِدُ الرَّاجِعُ كُلَّ الْمَالِ وَهُوَ مُصَادِمٌ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى نَفْيِهِ ، وَإِنَّمَا كَانَ الْإِجْمَاعُ عَلَى نَفْيِهِ لِأَنَّ

عَدَمَ ثُبُوتِ شَيْءٍ بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ إنَّمَا هُوَ فِي الِابْتِدَاءِ ، وَلَا يَلْزَمُ فِي حَلِّ الْبَقَاءِ مَا يَلْزَمُ فِي الِابْتِدَاءِ ، وَحِينَئِذٍ فَبَعْدَمَا ثَبَتَ ابْتِدَاءُ شَيْءٍ بِشَهَادَةِ اثْنَيْنِ نُسِبَ إلَى كُلٍّ مِنْهُمَا فِي حَالِ الْبَقَاءِ ثُبُوتُ حِصَّةٍ مِنْهُ بِشَهَادَتِهِ فَتَبْقَى هَذِهِ الْحِصَّةُ مَا بَقِيَ عَلَى شَهَادَتِهِ وَيَكُونُ مُتْلِفًا لَهَا بِرُجُوعِهِ .
إذَا عُرِفَ هَذَا فَإِذَا رَجَعَ أَحَدُ الِاثْنَيْنِ لَزِمَهُ ضَمَانُ النِّصْفِ لِأَنَّهُ أَتْلَفَهُ بِرُجُوعِهِ

( وَإِنْ شَهِدَا بِالْمَالِ ثَلَاثَةً فَرَجَعَ أَحَدُهُمْ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ) لِأَنَّهُ بَقِيَ مَنْ بَقِيَ بِشَهَادَتِهِ كُلُّ الْحَقِّ ، وَهَذَا لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بَاقٍ بِالْحُجَّةِ ، وَالْمُتْلِفُ مَتَى اسْتَحَقَّ ( سَقَطَ الضَّمَانُ فَأَوْلَى أَنْ يَمْتَنِعَ ) فَإِنْ رَجَعَ الْآخَرُ ضَمِنَ ( الرَّاجِعَانِ نِصْفَ الْمَالِ ) لِأَنَّ بِبَقَاءِ أَحَدِهِمْ يَبْقَى نِصْفُ الْحَقِّ
( وَإِنْ شَهِدَ بِالْمَالِ ثَلَاثَةٌ فَرَجَعَ أَحَدُهُمْ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ) لِأَنَّهُ بَقِيَ الْحَقُّ مِنْ غَيْرِ إتْلَافِ شَيْءٍ مِنْهُ بِبَقَاءِ الشَّاهِدَيْنِ وَالِاسْتِحْقَاقُ بَاقٍ بِالْحُجَّةِ ( وَالْمُتْلَفُ مَتَى اُسْتُحِقَّ سَقَطَ الضَّمَانُ ) كَمَا إذَا أَتْلَفَ مَالَ زَيْدٍ فَقُضِيَ بِضَمَانِهِ عَلَيْهِ فَظَهَرَ أَنَّ مُسْتَحِقَّهُ عَمْرٌو فَإِنَّهُ يَأْخُذُهُ وَيَسْقُطُ الضَّمَانُ لِزَيْدٍ ( فَأَوْلَى أَنْ يُمْنَعَ الضَّمَانُ ) وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذَا فَإِنَّ بِالرُّجُوعِ أَتْلَفَ عَلَى الْمَشْهُودِ لَهُ حِصَّتَهُ الَّتِي أَثْبَتَهَا لَهُ بِشَهَادَتِهِ لَهُ وَصَارَتْ مُسْتَحَقَّةً لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ، وَبِبَقَاءِ مَنْ يَبْقَى كُلُّ الْحَقِّ بِهِ ظَهَرَ اسْتِحْقَاقُ الْمَشْهُودِ لَهُ لِتِلْكَ الْحِصَّةِ دُونَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فَيَدْفَعُ الضَّمَانَ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ( فَإِنْ رَجَعَ آخَرُ ) مِنْ الثَّلَاثَةِ ضَمِنَ الرَّاجِعَانِ نِصْفَ الْمَالِ لِأَنَّ بِبَقَاءِ الثَّالِثِ يَبْقَى نِصْفُ الْمَالِ ) فَلَوْ قَالَ الرَّاجِعُ الْأَوَّلُ كَيْفَ أَضْمَنُ بِرُجُوعِ الثَّانِي مَا لَا يَلْزَمُنِي ضَمَانُهُ بِرُجُوعِ نَفْسِي وَقْتَ رُجُوعِي لَا يُقْبَلُ هَذَا ، كَمَا لَا يُقْبَلُ قَوْلُ أَحَدِهِمَا لَوْ رَجَعَ الثَّلَاثَةُ لَا يَلْزَمُنِي شَيْءٌ لِأَنَّ غَيْرِي يَثْبُتُ بِهِ كُلُّ الْحَقِّ فَرُجُوعُ غَيْرِي مُوجِبٌ عَلَيْهِ لَا عَلَيَّ .
وَحَقِيقَةُ الْوَجْهِ أَنَّ تَلَفَ النِّصْفِ وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَسْتَقِلُّ بِهِ رُجُوعُ وَاحِدٍ إذَا فَرَضَ تَحَقُّقَهُ مَعَ رُجُوعِ جَمَاعَةٍ تَحَاصَصُوا الضَّمَانَ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى بِهِ مِنْ الْآخَرِ

( وَإِنْ شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ فَرَجَعَتْ امْرَأَةٌ ضَمِنَتْ رُبُعَ الْحَقِّ ) لِبَقَاءِ ثَلَاثَةِ الْأَرْبَاعِ بِبَقَاءِ مَنْ بَقِيَ ( وَإِنْ رَجَعَتَا ضَمِنَتَا نِصْفَ الْحَقِّ ) لِأَنَّ بِشَهَادَةِ الرَّجُلِ بَقِيَ نِصْفُ الْحَقِّ ( وَإِنْ شَهِدَ رَجُلٌ وَعَشْرَةُ نِسْوَةٍ ثُمَّ رَجَعَ ثَمَانٌ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِنَّ ) لِأَنَّهُ مَنْ يَبْقَى بِشَهَادَتِهِ كُلُّ الْحَقِّ ( فَإِنْ رَجَعَتْ أُخْرَى كَانَ عَلَيْهِنَّ رُبْعُ الْحَقِّ ) لِأَنَّهُ بَقِيَ النِّصْفُ بِشَهَادَةِ الرَّجُلِ وَالرُّبْعُ بِشَهَادَةِ الْبَاقِيَةِ فَبَقِيَ ثَلَاثَةُ الْأَرْبَاعِ ( وَإِنْ رَجَعَ الرَّجُلُ وَالنِّسَاءُ فَعَلَى الرَّجُلِ سُدُسُ الْحَقِّ وَعَلَى النِّسْوَةِ خَمْسَةُ أَسْدَاسِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا عَلَى الرَّجُلِ النِّصْفُ وَعَلَى النِّسْوَةِ النِّصْفُ ) لِأَنَّهُنَّ وَإِنْ كَثُرْنَ يَقُمْنَ مَقَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُنَّ إلَّا بِانْضِمَامِ رَجُلٍ وَاحِدٍ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ كُلَّ امْرَأَتَيْنِ قَامَتَا مَقَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ ، { قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي نُقْصَانِ عَقْلِهِنَّ عُدِّلَتْ شَهَادَةُ اثْنَتَيْنِ مِنْهُنَّ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ } فَصَارَ كَمَا إذَا شَهِدَ بِذَلِكَ سِتَّةُ رِجَالٍ ثُمَّ رَجَعُوا ( وَإِنْ رَجَعَ النِّسْوَةُ الْعَشَرَةُ دُونَ الرَّجُلِ كَانَ عَلَيْهِنَّ نِصْفُ الْحَقِّ عَلَى الْقَوْلَيْنِ ) لِمَا قُلْنَا

( وَإِنْ شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ فَرَجَعَتْ إحْدَاهُمَا ضَمِنَتْ رُبْعَ الْمَالِ لِبَقَاءِ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهِ بِبَقَاءِ مَنْ بَقِيَ ، وَإِنْ رَجَعَتَا ضَمِنَتَا نِصْفَهُ لِأَنَّ بِشَهَادَةِ الرَّجُلِ يَبْقَى نِصْفُ الْحَقِّ ، وَإِنْ شَهِدَ رَجُلٌ وَعَشْرُ نِسْوَةٍ ثُمَّ رَجَعَ ) مِنْهُنَّ ( ثَمَانٌ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِنَّ لِأَنَّهُ بَقِيَ مَنْ يَبْقَى بِشَهَادَتِهِ كُلُّ الْحَقِّ ، فَإِنْ رَجَعَتْ أُخْرَى ضَمِنَ ) التِّسْعُ ( رُبْعَ الْحَقِّ لِبَقَاءِ النِّصْفِ بِشَهَادَةِ الرَّجُلِ ) الْبَاقِي ( وَالرُّبْعِ بِشَهَادَةِ الْبَاقِيَةِ ) ( وَإِنْ رَجَعَ الرَّجُلُ وَالنِّسَاءُ ) فَعَلَى الرَّجُلِ سُدُسُ الْحَقِّ وَعَلَى النِّسْوَةِ خَمْسَةُ أَسْدَاسِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَعِنْدَهُمَا عَلَى الرَّجُلِ النِّصْفُ وَعَلَى النِّسْوَةِ النِّصْفُ لِأَنَّهُنَّ وَإِنْ كَثُرْنَ يُقِمْنَ مَقَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُنَّ إلَّا بِانْضِمَامِ الرَّجُلِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ كُلَّ امْرَأَتَيْنِ قَامَتَا مَقَامَ رَجُلٍ .
{ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نُقْصَانِ عَقْلِهِنَّ عَدَلَتْ شَهَادَةُ كُلِّ اثْنَتَيْنِ مِنْهُنَّ شَهَادَةَ رَجُلٍ } رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ وَأَكْثِرْنَ الِاسْتِغْفَارَ فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ ، فَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَنَا أَكْثَرُ أَهْلِ النَّارِ ؟ قَالَ : تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ ، مَا رَأَيْت مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَغْلَبَ لِذِي لُبٍّ مِنْكُنَّ ، قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا نُقْصَانُ الْعَقْلِ وَالدِّينِ ؟ فَقَالَ : أَمَّا نُقْصَانُ الْعَقْلِ فَشَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ تَعْدِلُ شَهَادَةَ رَجُلٍ فَهَذَا نُقْصَانُ الْعَقْلِ ، وَتَمْكُثُ اللَّيَالِيَ لَا تُصَلِّي وَتُفْطِرُ فِي رَمَضَانَ فَهَذَا نُقْصَانُ الدِّينِ } ( فَصَارَ كَمَا لَوْ شَهِدَ بِذَلِكَ سِتَّةُ رِجَالٍ ثُمَّ رَجَعُوا ، وَإِنْ رَجَعَ النِّسْوَةُ الْعَشْرُ دُونَ الرَّجُلِ كَانَ عَلَيْهِنَّ نِصْفُ

الْحَقِّ عَلَى الْقَوْلَيْنِ ) يَعْنِي بِالِاتِّفَاقِ عَلَى اخْتِلَافِ التَّخْرِيجِ .
فَعِنْدَهُمَا لِأَنَّ الثَّابِتَ بِشَهَادَتِهِنَّ نِصْفُ الْمَالِ وَعِنْدَهُ لِبَقَاءِ مَنْ يَثْبُتُ بِهِ النِّصْفُ وَهُوَ الرَّجُلُ ، كَمَا لَوْ شَهِدَ سِتَّةُ رِجَالٍ ثُمَّ رَجَعَ خَمْسَةٌ ثُمَّ لَيْسَتْ إحْدَاهُنَّ أَوْلَى بِضَمَانِ النِّصْفِ مِنْ الْآخَرِينَ

( وَلَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ وَامْرَأَةٌ بِمَالٍ ثُمَّ رَجَعُوا فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا دُونَ الْمَرْأَةِ ) لِأَنَّ الْوَاحِدَةَ لَيْسَتْ بِشَاهِدَةٍ بَلْ هِيَ بَعْضُ الشَّاهِدِ فَلَا يُضَافُ إلَيْهِ الْحُكْمُ .
( وَلَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ وَامْرَأَةٌ بِمَالٍ ثُمَّ رَجَعُوا ) فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا دُونَ الْمَرْأَةِ لِأَنَّ الْوَاحِدَةَ لَيْسَتْ شَاهِدَةً بَلْ بَعْضٌ شَاهِدٌ لِأَنَّ الْمَرْأَتَيْنِ شَاهِدٌ وَاحِدٌ فَشَهَادَةُ الْوَاحِدَةِ شَطْرُ عِلَّةٍ وَشَطْرُ الْعِلَّةِ لَا يَثْبُتُ بِهِ شَيْءٌ فَكَانَ الْقَضَاءُ لَيْسَ إلَّا بِشَهَادَةِ الرَّجُلَيْنِ فَلَا تَضْمَنُ الْمَرْأَةُ عِنْدَ رُجُوعِهَا شَيْئًا .
وَلَوْ شَهِدَ رَجُلٌ وَثَلَاثُ نِسْوَةٍ ثُمَّ رَجَعَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ وَجَبَ ضَمَانُ نِصْفِ الْمَالِ لِبَقَاءِ مِنْ يَبْقَى بِشَهَادَتِهِ نِصْفَ الْمَالِ أَعْنِي الْمَرْأَتَيْنِ ، ثُمَّ هُوَ عَلَى الرَّجُلِ خَاصَّةً عَلَى قَوْلِهِمَا لِثُبُوتِ النِّصْفِ بِشَهَادَةِ الرَّجُلِ وَالنِّصْفِ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ .
وَيَنْبَغِي فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ النِّصْفَ أَثْلَاثًا عَلَى الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ هُنَا بِشَهَادَةِ الْكُلِّ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ عَلَى الشُّيُوعِ .
ثُمَّ يُقَامُ كُلُّ امْرَأَتَيْنِ مَقَامَ رَجُلٍ ، فَثَلَاثُ نِسْوَةٍ مَقَامُ رَجُلٍ وَنِصْفٍ ، فَإِنْ رَجَعُوا جَمِيعًا فَعِنْدَهُمَا أَنْصَافًا .
وَعِنْدَهُ أَخْمَاسًا عَلَى النِّسْوَةِ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسٍ وَعَلَى الرَّجُلِ خُمُسَانِ

قَالَ ( وَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى امْرَأَةٍ بِالنِّكَاحِ بِمِقْدَارِ مَهْرِ مِثْلِهَا ثُمَّ رَجَعَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا ، وَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَا بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا ) لِأَنَّ مَنَافِعَ الْبُضْعِ غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ عِنْدَ الْإِتْلَافِ لِأَنَّ التَّضْمِينَ يَسْتَدْعِي الْمُمَاثَلَةَ عَلَى مَا عُرِفَ ، وَإِنَّمَا تُضْمَنُ وَتُتَقَوَّمُ بِالتَّمَلُّكِ لِأَنَّهَا تَصِيرُ مُتَقَوِّمَةً ضَرُورَةَ الْمِلْكِ إبَانَةً لِخَطَرِ الْمَحَلِّ ( وَكَذَا إذَا شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ يَتَزَوَّجُ امْرَأَةً بِمِقْدَارِ مَهْرِ مِثْلِهَا ) لِأَنَّهُ إتْلَافٌ بِعِوَضٍ لَمَّا أَنَّ الْبُضْعَ مُتَقَوِّمٌ حَالَ الدُّخُولِ فِي الْمِلْكِ وَالْإِتْلَافُ بِعِوَضٍ كَلَا إتْلَافٍ ، وَهَذَا لِأَنَّ مَبْنَى الضَّمَانِ عَلَى الْمُمَاثَلَةِ وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْإِتْلَافِ بِعِوَضٍ وَبَيْنَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ ( وَإِنْ شَهِدَا بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا الزِّيَادَةَ ) لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَاهَا مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ .

( قَوْلُهُ وَإِنْ شَهِدَا إلَى آخِرِهِ ) إذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى امْرَأَةٍ نِكَاحًا بِقَدْرِ مَهْرِ مِثْلِهَا أَوْ ادَّعَاهُ بِأَقَلَّ بِأَنْ ادَّعَاهُ بِمِائَةٍ وَمَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفٌ فَشَهِدَ بِذَلِكَ شَاهِدَانِ فَقُضِيَ بِمُقْتَضَى شَهَادَتِهِمَا ثُمَّ رَجَعَا لَا يُفْسَخُ النِّكَاحُ بِرُجُوعِهِمَا وَلَا يَضْمَنَانِ شَيْئًا فِي الصُّورَتَيْنِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ .
وَذَكَرَ فِي الْمَنْظُومَةِ فِي صُورَةِ النُّقْصَانِ أَنَّهُمَا يَضْمَنَانِ مَا نَقَصَ عَنْ مَهْرِ مِثْلِهِمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ .
قَالَ فِي بَابِ أَبِي يُوسُفَ : لَوْ أَثْبَتُوا نِكَاحَهَا فَأَوْكَسُوا إنْ رَجَعُوا لَمْ يَضْمَنُوا مَا بَخَسُوا .
ثُمَّ بَيَّنَهُ فِي شَرْحِهِ الْمُسَمَّى بِالْحَصْرِ وَجُعِلَ الْخِلَافُ مَبْنِيًّا عَلَى مَسْأَلَةِ اخْتِلَافِ الزَّوْجَيْنِ فِي قَدْرِ الْمَهْرِ .
فَإِنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ الْقَوْلَ قَوْلُهَا إلَى مَهْرِ مِثْلِهَا فَكَانَ يَقْضِي لَهَا بِأَلْفٍ لَوْلَا هَذِهِ الشَّهَادَةُ فَقَدْ أَتْلَفَا عَلَيْهَا تِسْعَمِائَةٍ .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الْقَوْلُ لِلزَّوْجِ فَلَمْ يَتْلَفَا عَلَى قَوْلِهِ عَلَيْهَا شَيْئًا وَتَبِعَهُ صَاحِبُ الْمَجْمَعِ .
وَمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي الْمَذْهَبِ وَعَلَيْهِ صَاحِبُ النِّهَايَةِ .
وَغَيْرُهُ مِنْ الشَّارِحِينَ لَمْ يَنْقُلُوا سِوَاهُ خِلَافًا وَلَا رِوَايَةً ، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْأُصُولِ كَالْمَبْسُوطِ وَشَرْحِ الطَّحَاوِيِّ وَالذَّخِيرَةِ وَغَيْرِهِمْ ، وَإِنَّمَا نَقَلُوا فِيهَا خِلَافَ الشَّافِعِيِّ ، فَلَوْ كَانَ لَهُمْ شُعُورٌ بِهَذَا الْخِلَافِ الثَّابِتِ فِي الْمَذْهَبِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ لَمْ يَعْرِضُوا عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ وَيَشْتَغِلُوا بِنَقْلِ خِلَافِ الشَّافِعِيِّ .
وَذَكَرُوا وَجْهَهُ بِأَنَّ الْبُضْعَ مُتَقَوِّمٌ لِثُبُوتِ تَقَوُّمِهِ حَالَ الدُّخُولِ ، فَكَذَا فِي غَيْرِهِ لِأَنَّهُ فِي حَالِ الْخُرُوجِ عَيَّنَ ذَلِكَ الَّذِي ثَبَتَ تَقَوُّمُهُ .
وَأَجَابُوا بِحَاصِلِ تَوْجِيهِ الْمُصَنِّفِ بِأَنَّ تَقَوُّمَهُ حَالَ الدُّخُولِ لَيْسَ إلَّا لِإِظْهَارِ خَطَرِهِ حَيْثُ كَانَ مِنْهُ

النَّسْلُ الْمَطْلُوبُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ النَّفْعِ ، كَمَا شُرِطَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى الْعَقْدِ عَلَيْهِ دُونَ سَائِرِ الْعُقُودِ لِذَلِكَ لَا لِاعْتِبَارِهِ مُتَقَوِّمًا فِي نَفْسِهِ كَالْأَعْيَانِ الْمَالِيَّةِ لِأَنَّهُ لَا يُرَدُّ الْمِلْكُ عَلَى رَقَبَتِهِ وَالْمَنَافِعُ لَا تَتَقَوَّمُ فَلَا تُضْمَنُ لِأَنَّ التَّضْمِينَ يَسْتَدْعِي الْمُمَاثَلَةَ بِالنَّصِّ وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْأَعْيَانِ الَّتِي تُحَرَّزُ وَتَتَمَوَّلُ وَالْأَعْرَاضِ الَّتِي تَتَصَرَّمُ وَلَا تَبْقَى .
وَفُرِّعَ فِي النِّهَايَةِ عَلَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ خِلَافِيَّةٌ أُخْرَى ، هِيَ مَا إذَا شَهِدُوا بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ ثُمَّ رَجَعُوا بَعْدَ الْقَضَاءِ بِالْفُرْقَةِ لَمْ يَضْمَنُوا عِنْدَنَا ، وَكَذَا إذَا قَتَلَ رَجُلٌ امْرَأَةَ رَجُلٍ لَا يَضْمَنُ الْقَاتِلُ لِزَوْجِهَا شَيْئًا ، وَكَذَا إذَا ارْتَدَّتْ الْمَرْأَةُ لَا شَيْءَ عَلَيْهَا لِزَوْجِهَا .
وَعِنْدَهُ عَلَيْهَا وَعَلَى الْقَاتِلِ لِلزَّوْجِ مَهْرُ الْمِثْلِ .
وَأَوْرَدَ عَلَى قَوْلِنَا نَقْضًا أَنَّهُمْ أَوْجَبُوا الضَّمَانَ بِإِتْلَافِ مَنَافِعِ الْبُضْعِ حَقِيقَةً فِيمَا إذَا أَكْرَهَ مَجْنُونٌ امْرَأَةً فَزَنَى بِهَا يَجِبُ فِي مَالِهِ مَهْرُ الْمِثْلِ فَكَذَا يَجِبُ فِي الْإِتْلَافِ الْحُكْمِيِّ .
وَأَجَابَ نَقْلًا عَنْ الذَّخِيرَةِ بِأَنَّهُ فِي الْإِتْلَافِ الْحَقِيقِيِّ بِالشَّرْعِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ ، وَالْحُكْمِيُّ دُونَهُ فَلَا يَكُونُ الْوَارِدُ فِيهِ وَارِدًا فِي الْحُكْمِيِّ ، وَنَظِيرُهُ مَا فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ : لَوْ ادَّعَى أَنَّهُ اسْتَأْجَرَ الدَّارَ مِنْ هَذَا شَهْرًا بِعَشْرَةٍ وَأُجْرَةُ مِثْلِهَا مِائَةٌ وَالْمُؤَجِّرُ يُنْكِرُ فَشَهِدَا بِذَلِكَ ثُمَّ رَجَعَا لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا الْمَنْفَعَةَ وَمُتْلِفُ الْمَنْفَعَةَ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ( قَوْلُهُ وَكَذَا لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا إذَا شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ يَتَزَوَّجُ امْرَأَةً بِمَهْرِ مِثْلِهَا ) بِأَنْ ادَّعَتْ امْرَأَةٌ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فَشَهِدَا ثُمَّ رَجَعَا لَا يُفْسَخُ النِّكَاحُ عَلَى كُلِّ حَالٍ بَعْدَمَا قَضَى بِهِ ، وَلَا يَضْمَنَانِ مَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ مِنْ

مَهْرِ الْمِثْلِ لِأَنَّهُمَا عَوَّضَا مِلْكَ الْبُضْعِ وَهُوَ مُتَقَوِّمٌ حِينَ وُرُودِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ ، وَالْإِتْلَافُ بِعِوَضٍ كَلَا إتْلَافٍ ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ مَبْنَى الضَّمَانِ عَلَى الْمُمَاثَلَةِ كَمَا ذَكَرْنَا ، وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْإِتْلَافِ بِعِوَضٍ وَهُوَ الثَّابِتُ فِي حَقِّ الزَّوْجِ ، وَالْإِتْلَافُ بِلَا عِوَضٍ وَهُوَ الَّذِي يُحْكَمُ بِهِ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ ( وَإِنْ شَهِدَا بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا الزِّيَادَةَ ) عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ ( لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَاهَا بِلَا عِوَضٍ ) وَهِيَ مِنْ الْأَعْيَانِ الَّتِي تَقَعُ الْمُمَاثَلَةُ بِالتَّضْمِينِ فِيهَا

قَالَ ( وَإِنْ شَهِدَا بِبَيْعِ شَيْءٍ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ أَوْ أَكْثَرَ ثُمَّ رَجَعَا لَمْ يَضْمَنَا ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِإِتْلَافٍ مَعْنًى نَظَرًا إلَى الْعِوَضِ ( وَإِنْ كَانَ بِأَقَلَّ مِنْ الْقِيمَةِ ضَمِنَا النُّقْصَانَ ) لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا هَذَا الْجُزْءَ بِلَا عِوَضٍ .
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ بَاتًّا أَوْ فِيهِ خِيَارُ الْبَائِعِ ، لِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْبَيْعُ السَّابِقُ فَيُضَافُ الْحُكْمُ عِنْدَ سُقُوطِ الْخِيَارِ إلَيْهِ فَيُضَافُ التَّلَفُ إلَيْهِمْ

( قَوْلُهُ وَإِنْ شَهِدَا بِبَيْعِ شَيْءٍ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ أَوْ أَكْثَرَ ) بِأَنْ ادَّعَى ذَلِكَ مُدَّعٍ فَشَهِدَا لَهُ بِهِ .
( ثُمَّ رَجَعَا لَمْ يَضْمَنَا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِإِتْلَافِ مَعْنًى نَظَرًا إلَى الْعِوَضِ ، وَإِنْ ) شَهِدَا بِهِ ( بِأَقَلَّ مِنْ الْقِيمَةِ ) ثُمَّ رَجَعَا ( ضَمِنَا نُقْصَانَ الْقِيمَةِ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا هَذَا الْقَدْرَ ) عَلَيْهِ ( بِلَا عِوَضٍ ) هَذَا إذَا شَهِدَا بِالْبَيْعِ وَلَمْ يَشْهَدَا بِنَقْدِ الثَّمَنِ ، فَلَوْ شَهِدَا بِهِ وَبِنَقْدِ الثَّمَنِ ثُمَّ رَجَعَا ، فَإِمَّا أَنْ يُنَظِّمَاهَا فِي شَهَادَةٍ وَاحِدَةٍ بِأَنْ شَهِدَا أَنَّهُ بَاعَهُ هَذَا بِأَلْفٍ وَأَوْفَاهُ الثَّمَنَ أَوْ فِي شَهَادَتَيْنِ بِأَنْ شَهِدَا بِالْبَيْعِ فَقَطْ ثُمَّ شَهِدَا بِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ أَوْفَاهُ الثَّمَنَ ، فَفِي الْأَوَّلِ يُقْضَى عَلَيْهِمَا بِقِيمَةِ الْبَيْعِ لَا بِالثَّمَنِ ، وَفِي الثَّانِي يُقْضَى عَلَيْهِمَا بِالثَّمَنِ لِلْبَائِعِ .
وَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ فِي الْأَوَّلِ الْمَقْضِيَّ بِهِ الْبَيْعُ دُونَ الثَّمَنِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْقَضَاءُ بِإِيجَابِ الثَّمَنِ لِاقْتِرَانِهِ بِمَا يُوجِبُ سُقُوطَهُ وَهُوَ الْقَضَاءُ بِالْإِيفَاءِ ، وَلِهَذَا قُلْنَا : لَوْ شَهِدَ اثْنَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ بَاعَ مِنْ هَذَا عَبْدَهُ وَأَقَالَهُ بِشَهَادَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يُقْضَى بِالْبَيْعِ لِأَنَّهُ قَارَنَ الْقَضَاءَ بِهِ مَا يُوجِبُ انْفِسَاخَهُ وَهُوَ الْقَضَاءُ بِالْإِقَالَةِ ، فَكَذَا هَذَا ، وَإِذَا كَانَ الْمَقْضِيُّ بِهِ الْبَيْعَ فَقَطْ وَزَالَ الْمَبِيعُ بِلَا عِوَضٍ فَيَضْمَنَانِ الْقِيمَةَ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ بِشَهَادَتَيْنِ فَإِنَّ الثَّمَنَ يَصِيرُ مَقْضِيًّا بِهِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالثَّمَنِ لَا يُقَارِنُهُ مَا يُسْقِطُهُ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَشْهَدَا بِالْإِيفَاءِ بَلْ شَهِدَا بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَإِذَا صَارَ الثَّمَنُ مَقْضِيًّا بِهِ ضَمِنَاهُ بِرُجُوعِهِمَا .
ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْبَيْعِ بَاتَا أَوْ فِيهِ خِيَارُ الْبَائِعِ لِأَنَّ السَّبَبَ ) يَعْنِي الْبَيْعَ ( هُوَ السَّابِقُ ) حَتَّى اسْتَحَقَّ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ بِزَوَائِدِهِ وَقَدْ أَزَالَاهُ بِشَهَادَتِهِمَا

فَيُضَافُ الْحُكْمُ إلَيْهِ عِنْدَ سُقُوطِ الْخِيَارِ إلَيْهِ ( فَانْضَافَ التَّلَفُ إلَى الشُّهُودِ ) وَهَذَا جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ .
حَاصِلُهُ : يَنْبَغِي أَنْ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُمَا إنَّمَا أَثْبَتَا الْبَيْعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ ، وَبِهِ لَا يَزُولُ مِلْكَهُ عَنْ الْمَبِيعِ وَإِنَّمَا يَزُولُ إذَا لَمْ يُفْسَخْ حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ ، وَإِذَا لَمْ يُفْسَخْ حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ كَانَ مُخْتَارًا فِي إزَالَةِ مِلْكِهِ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ سَبَبَ التَّلَفِ الْعَقْدُ السَّابِقُ وَثُبُوتُهُ بِشَهَادَتِهِمْ فَيُضَافُ إلَيْهِمْ .
غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ سَكَتَ إلَى أَنْ مَضَتْ الْمُدَّةُ وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ رِضَاهُ لِجَوَازِ كَوْنِهِ لِتَحَرُّزِهِ عَنْ أَنْ يُضَافَ إلَيْهِ الْكَذِبُ لِأَنَّهُ قَدْ أَنْكَرَ الْعَقْدَ ، فَإِذَا فَسَخَ كَانَ مُعْتَرِفًا بِصُدُورِهِ مِنْهُ فَيَظْهَرُ لِلنَّاسِ تَنَاقُضُهُ وَكَذِبُهُ ، وَالْعَاقِلُ يَحْتَرِزُ عَنْ مِثْلِهِ ، وَكَذَا لَوْ شَهِدَا بِالْعَقْدِ عَلَى أَنَّ فِيهِ خِيَارُ الْمُشْتَرِي وَمَضَتْ الْمُدَّةُ وَلَمْ يُفْسَخْ وَفِي قِيمَةِ الْمَبِيعِ نُقْصَانٌ عَنْ الثَّمَنِ الَّذِي شَهِدَا بِهِ ضَمِنَاهُ ، وَلَوْ أَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ بِالشِّرَاءِ أَجَازَهُ فِي الْمُدَّةِ سَقَطَ الضَّمَانُ عَنْهُمَا لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَالَهُ بِاخْتِيَارِهِ ، كَمَا لَوْ أَجَازَهُ الْبَائِعُ فِي شَهَادَتِهِمَا بِالْخِيَارِ لَهُ بِثَمَنٍ نَاقِصٍ عَنْ الْقِيمَةِ حَيْثُ يَسْقُطُ أَيْضًا

( وَإِنْ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا نِصْفَ الْمَهْرِ ) لِأَنَّهُمَا أَكَّدَا ضَمَانًا عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ طَاوَعَتْ ابْنَ الزَّوْجِ أَوْ ارْتَدَّتْ سَقَطَ الْمَهْرُ أَصْلًا وَلِأَنَّ الْفُرْقَةَ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي مَعْنَى الْفَسْخِ فَيُوجِبُ سُقُوطَ جَمِيعِ الْمَهْرِ كَمَا مَرَّ فِي النِّكَاحِ ثُمَّ يَجِبُ نِصْفُ الْمَهْرِ ابْتِدَاءً بِطَرِيقِ الْمُتْعَةِ فَكَانَ وَاجِبًا بِشَهَادَتِهِمَا

( قَوْلُهُ وَإِنْ شَهِدَا أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ فَقَضَى بِالْفُرْقَةِ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا نِصْفَ الْمَهْرِ ) هَذَا إذَا كَانَ فِي الْعَقْدِ مَهْرٌ مُسَمًّى ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ضَمِنَا الْمُتْعَةَ لِأَنَّهَا الْوَاجِبَةُ فِيهِ ، وَذَلِكَ ( لِأَنَّهُمَا أَكَّدَا مَا كَانَ عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ ) وَعَلَى الْمُؤَكِّدِ مَا عَلَى الْمُوجِبِ .
أَمَّا كَوْنُهُ عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ فَإِنَّ الْمَهْرَ بِحَيْثُ لَوْ ارْتَدَّتْ الزَّوْجَةُ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَوْ طَاوَعَتْ ابْنَ زَوْجِهَا يَسْقُطُ الْمَهْرُ أَصْلًا .
وَأَمَّا أَنَّ عَلَى الْمُؤَكِّدِ مَا عَلَى الْمُوجِبِ فَبِمَسْأَلَتَيْنِ : هُمَا مَا إذَا أَخَذَ مُحْرِمٌ صَيْدَ الْحَرَمِ فَقَتَلَهُ فِي يَدِهِ آخَرُ يَجِبُ الْجَزَاءُ عَلَى الْآخَرِ وَرَجَعَ بِهِ عَلَى الْقَاتِلِ لِأَنَّهُ أَكَّدَ مَا كَانَ بِحَيْثُ يَسْقُطُ بِأَنْ يَتُوبَ فَيُطْلِقُهُ ، وَمَا إذَا أَكْرَهَ رَجُلٌ آخَرُ عَلَى الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَجَبَ عَلَى الزَّوْجِ نِصْفُ الْمَهْرِ وَرَجَعَ بِهِ عَلَى الْمُكْرِهِ ، وَكَذَلِكَ بِارْتِدَادِهَا وَنَحْوِهِ ( وَلِأَنَّ الْفُرْقَةَ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي مَعْنَى الْفَسْخِ فَتُوجِبُ سُقُوطُ كُلِّ الْمَهْرِ كَمَا مَرَّ فِي النِّكَاحِ ) أَيْ مِنْ بَابِ الْمَهْرِ مِنْ أَنَّ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ يَعُودُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ إلَيْهَا كَمَا كَانَ سَالِمًا فَلَا يَجِبُ بِمُقَابَلَتِهِ شَيْءٌ ( ثُمَّ يَجِبُ نِصْفُ الْمَهْرِ ابْتِدَاءً ) فَقَدْ أَوْجَبَا بِشَهَادَتِهِمَا عَلَيْهِ مَالًا فَيَجِبُ ضَمَانُهُ عَلَيْهِمَا ، وَإِنَّمَا قَالَ فِي مَعْنَى الْفَسْخِ وَلَمْ يَقُلْ فَسْخٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ حَقِيقَةَ الْفَسْخِ وَإِلَّا لَمْ يَنْقُصْ مِنْ عَدَدِ الطَّلَاقِ شَيْءٌ ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ بِسَبَبِ عَوْدِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إلَيْهَا سَالِمًا ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ مَا لَوْ شَهِدَا بِالطَّلَاقِ بَعْدَ الدُّخُولِ مَعَ أَنَّهُ مَذْكُورٌ فِي الْقُدُورِيِّ وَالْبِدَايَةِ .
وَحُكْمُهُ أَنْ لَا يَجِبَ ضَمَانٌ لِأَنَّ الْبُضْعَ لَا تُقَوَّمُ لَهُ حَالَ الْخُرُوجِ ، وَمَا دَفَعَ مِنْ الْمَهْرِ قَدْ اعْتَاضَ عَنْهُ مَنَافِعَ الْبُضْعِ فَلَمْ

يَتْلَفَا عَلَيْهِ مَالًا بِلَا عِوَضٍ .
وَفِي التُّحْفَةِ : لَمْ يَضْمَنَا إلَّا مَا زَادَ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ لِأَنَّ بِقَدْرِ مَهْرِ الْمِثْلِ إتْلَافٌ بِعِوَضٍ وَهُوَ مَنَافِعُ الْبُضْعُ الَّتِي اسْتَوْفَاهَا .
ثُمَّ الْمَعْرُوفُ أَنَّ الشَّاهِدَيْنِ لَا يَضْمَنَانِ سِوَى نِصْفِ الْمَهْرِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ خِلَافٍ .
وَخَرَجَ بَعْضُهُمْ أَنَّ ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
أَمَّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ فَيَضْمَنَانِ لِلْمَرْأَةِ مَا زَادَ عَلَى نِصْفِ الْمَهْرِ إلَى تَمَامِهِ لِأَنَّهُمَا بِرُجُوعِهِمَا زَعَمَا أَنَّ الزَّوْجَ لَمْ يُطَلِّقْهَا وَإِنَّمَا وَقَعَ بِالْقَضَاءِ بِهِ .
فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وُقُوعُهُ بِالْقَضَاءِ كَإِيقَاعِ الزَّوْجِ وَبِإِيقَاعِ الزَّوْجِ لَيْسَ لَهَا إلَّا النِّصْفُ .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ الْقَضَاءُ بِهِ لَيْسَ إيقَاعًا مِنْهُ فَيَبْقَى حَقُّهَا ثَابِتًا فِي كُلِّ الْمَهْرِ وَفَوَّتَاهُ بِشَهَادَتِهِمَا فَقَدْ أَتْلَفَاهُ انْتَهَى .
وَالْوَجْهُ عَدَمُهُ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالْوُقُوعِ إنَّمَا هُوَ عَنْهُ تَكْذِيبًا لَهُ فِي إنْكَارِهِ الطَّلَاقَ .
عَلَى أَنَّ نَقْلَ هَذَا الْخِلَافِ غَرِيبٌ لَيْسَ فِي الْكُتُبِ الْمَشْهُورَةِ فَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ

قَالَ ( وَإِنْ شَهِدَا أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا قِيمَتَهُ ) لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا مَالِيَّةَ الْعَبْدِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ وَالْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَتَحَوَّلُ إلَيْهِمَا بِهَذَا الضَّمَانِ فَلَا يَتَحَوَّلُ الْوَلَاءُ

( قَوْلُهُ وَإِنْ شَهِدَا أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ ) فَقَضَى بِالْعِتْقِ ( ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا قِيمَتَهُ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ ) مَالًا مُتَقَوِّمًا ( بِلَا عِوَضٍ ) فَيَضْمَنَانِ سَوَاءً كَانَا مُوسِرَيْنِ أَوْ مُعَسِّرَيْنِ لِأَنَّهُ ضَمَانُ إتْلَافٍ وَهُوَ لَا يَتَقَيَّدُ بِالْيَسَارِ ( وَالْوَلَاءُ لِلْمَوْلَى لِأَنَّ الْعِتْقَ مِنْ جِهَتِهِ ) وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مُنْكِرًا لِلْعِتْقِ صَارَ مُكَذِّبًا شَرْعًا ، وَإِنَّمَا لَا يَتَحَوَّلُ لِلشَّاهِدَيْنِ بِضَمَانِهِمَا لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَقْبَلُ الِانْتِقَالُ وَلَا يَكُونُ الْوَلَاءُ عِوَضًا نَافِيًا لِلضَّمَانِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ بَلْ هُوَ كَالنَّسَبِ سَبَبٌ يُورَثُ بِهِ .
وَلَوْ كَانَا شَهِدَا بِتَدْبِيرِ الْعَبْدِ وَقَضَى بِهِ كَانَ عَلَيْهِمَا ضَمَانُ مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا وَغَيْرَ مُدَبَّرٍ وَقَدْ سَلَفَ فِي كِتَابِ الْعِتْقِ قَدْرُ نُقْصَانِ التَّدْبِيرِ .
وَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى بَعْدَ رُجُوعِهِمَا فَعَتَقَ مِنْ ثُلُثِ تَرِكَتِهِ كَانَ عَلَيْهِمَا بَقِيَّةُ قِيمَتِهِ عَبْدًا لِوَرَثَتِهِ ، وَلَوْ شَهِدَا بِالْكِتَابَةِ ضَمِنَا تَمَامَ قِيمَتِهِ .
وَالْفَرْقُ أَنَّهُمَا بِالْكِتَابَةِ حَالَا بَيْنَ الْمَوْلَى وَمَالِيَّةِ الْعَبْدِ بِشَهَادَتِهِمَا فَكَانَا غَاصِبَيْنِ فَيَضْمَنَانِ قِيمَتَهُ بِخِلَافِ التَّدْبِيرِ فَإِنَّهُ لَا يَحُولُ بَيْنَ الْمَوْلَى وَبَيْنَ مُدَبَّرِهِ بَلْ يَنْقُصُ مَالِيَّتُهُ ، ثُمَّ إذَا ضَمِنَا تَبِعَا الْمُكَاتَبَ عَلَى نُجُومِهِ لِأَنَّهُمَا قَامَا مَقَامَ الْمَوْلَى حِين ضَمِنَا قِيمَتَهُ ، وَلَا يُعْتَقُ الْمُكَاتَبُ حَتَّى يُؤَدِّيَ إلَيْهِمَا الْجَمِيعَ كَمَا كَانَ كَذَلِكَ مَعَ الْمَوْلَى ، وَوَلَاؤُهُ لِلَّذِي شَهِدَا عَلَيْهِ بِالْكِتَابَةِ ، وَإِنْ عَجَزَ فَرُدَّ فِي الرِّقِّ كَانَ لِمَوْلَاهُ لِأَنَّ رَقَبَتَهُ لَمْ تَصِرْ مَمْلُوكَةً لِلشَّاهِدَيْنِ بِالضَّمَانِ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ لَا يَقْبَلُ النَّقْلَ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ وَيَرُدُّ الْمَوْلَى مَا أَخَذَ مِنْهُمَا لِزَوَالِ حَيْلُولَتِهِمَا بِرَدِّهِ فِي الرِّقِّ ، فَهُوَ كَغَاصِبِ الْمُدَبَّرِ إذَا ضَمِنَ قِيمَتَهُ بَعْدَ إبَاقِهِ ثُمَّ رَجَعَ يَكُونُ مَرْدُودًا عَلَى

الْمَوْلَى وَيَرُدُّ الْمَوْلَى عَلَى الْغَاصِبِ مَا أَخَذَهُ مِنْهُ .
وَلَوْ كَانَا شَهِدَا عَلَى إقْرَارِهِ بِأَنَّ هَذِهِ الْأَمَةَ وُلِدَتْ مِنْهُ فَقَضَى بِذَلِكَ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا لِلْمَوْلَى نُقْصَانَ قِيمَتِهَا وَذَلِكَ بِأَنْ تُقَوَّمَ أَمَةً وَأُمَّ وَلَدٍ لَوْ جَازَ بَيْعُهَا مَعَ الْأُمُومَةِ فَيَضْمَنَانِ مَا بَيْنَ ذَلِكَ ، فَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى بَعْدَ ذَلِكَ فَعَتَقَتْ كَانَ عَلَيْهِمَا بَقِيَّةُ قِيمَتِهَا أَمَةً لِلْوَرَثَةِ وَإِنَّ هُمَا نَصَّا فِي شَهَادَتِهِمَا عَلَى إقْرَارِهِ فِي ابْنٍ فِي يَدِهِ أَنَّهُ مِنْهُ بِأَنْ شَهِدَا أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهَا وَلَدَتْ مِنْهُ هَذَا الْوَلَدَ كَانَ عَلَيْهِمَا مَعَ مَا ذَكَرْنَا لِلْمَوْلَى قِيمَةُ الْوَلَدِ ، فَإِنْ قَبَضَهُمَا ثُمَّ مَاتَ فَوَرِثَهُ هَذَا الِابْنُ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ مِمَّا وَرِثَ مِثْلُ مَا كَانَ الْمَيِّتُ أَخَذَهُ مِنْهُمَا مِنْ قِيمَتِهِ وَقِيمَةِ أُمِّهِ لِأَنَّهُ يَقُولُ الْمَيِّتُ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ وَأَنَّهُ دَيْنٌ فِي تَرِكَتِهِ لَهُمَا .
وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَضْمَنَا لِلْوَرَثَةِ مِقْدَارَ مَا وَرِثَ الِابْنُ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا ، عَلَيْهِمْ بِشَهَادَتِهِمَا

( وَإِنْ شَهِدُوا بِقِصَاصٍ ثُمَّ رَجَعُوا بَعْدَ الْقَتْلِ ضَمِنُوا الدِّيَةَ وَلَا يُقْتَصُّ مِنْهُمْ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : يُقْتَصُّ مِنْهُمْ لِوُجُودِ الْقَتْلِ مِنْهُمْ تَسْبِيبًا فَأَشْبَهَ الْمُكْرِهَ بَلْ أَوْلَى ، لِأَنَّ الْوَلِيَّ يُعَانُ وَالْمُكْرِهَ يُمْنَعُ .
وَلَنَا أَنَّ الْقَتْلَ مُبَاشَرَةَ لَمْ يُوجَدْ ، وَكَذَا تَسْبِيبًا لِأَنَّ التَّسْبِيبَ مَا يُفْضِي إلَيْهِ غَالِبًا ، وَهَاهُنَا لَا يُفْضِي لِأَنَّ الْعَفْوَ مَنْدُوبٌ ، بِخِلَافِ الْمُكْرَهِ لِأَنَّهُ يُؤْثِرُ حَيَاتَهُ ظَاهِرًا ، وَلِأَنَّ الْفِعْلَ الِاخْتِيَارِيَّ مِمَّا يَقْطَعُ النِّسْبَةَ ، ثُمَّ لَا أَقَلَّ مِنْ الشُّبْهَةِ وَهِيَ دَارِئَةٌ لِلْقِصَاصِ بِخِلَافِ الْمَالِ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ وَالْبَاقِي يُعْرَفُ فِي الْمُخْتَلِفِ .

( قَوْلُهُ وَإِذَا شَهِدَا بِقِصَاصٍ ثُمَّ رَجَعَا بَعْدَ الْقَتْلِ ضَمِنَا الدِّيَةَ وَلَا يُقْتَصُّ مِنْهُمَا ) وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ خِلَافًا لِأَشْهَبَ وَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الشُّهُودِ .
وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ إنْ قَالَا أَخْطَأْنَا ضَمِنَّا الدِّيَةَ فِي مَالِهِمَا ، وَإِنْ قَالَا تَعَمَّدْنَا اقْتَصَّ مِنْهُمَا ( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَقْتَصُّ لِوُجُودِ الْقَتْلِ ) مِنْهُمَا ( تَسْبِيبًا فَأَشْبَهَ ) الشَّاهِدَ ( الْمُكْرَهَ ) فَإِنَّهُ تَسَبَّبَ بِشَهَادَتِهِ فِي قَتْلِ الْوَلِيِّ ، كَمَا أَنَّ الْمُكْرَهَ تَسَبَّبَ بِإِكْرَاهِهِ فِي قَتْلِ الْمُكْرَهِ فَيُقْتَلُ كَمَا يُقْتَلُ الْمُكْرَهُ ( بَلْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ لِأَنَّ وَلِيَّ الْقِصَاصِ ) بَعْدَ الشَّهَادَةِ ( يُعَانُ ) عَلَى قَتْلِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَلَا يُنْكِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ ( وَالْمُكْرَهُ ) لَا يُعَانُ عَلَى الْقَتْلِ بِإِكْرَاهِهِ بَلْ ( يُمْنَعُ ) وَيُنْكَرُ عَلَيْهِ لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُ مَحْظُورٌ عَلَيْهِ ( وَلَنَا أَنَّ الْقَتْلَ ) مِنْ الشَّاهِدِ ( لَمْ يُوجَدْ ) تَسْبِيبًا لِأَنَّ التَّسْبِيبَ مَا يُفْضِي إلَيْهِ ) أَيْ إلَى مَا تَسَبَّبَ فِيهِ ( غَالِبًا ) وَالشَّهَادَةُ لَا تُفْضِي إلَى قَتْلِ الْوَلِيِّ عَلَى وَجْهِ الْغَلَبَةِ ، وَإِنْ أَفَضْت إلَى الْقَضَاءِ ، بَلْ كَثِيرًا مَا يَقَعُ ثُمَّ تَقِفُ النَّاسُ فِي الصُّلْحِ عَلَى قَدْرِ الدِّيَةِ بَلْ عَلَى قَدْرِ بَعْضِهَا فَلَمْ تُفِضْ غَالِبًا إلَيْهِ بَلْ قَدْ وَقَدْ ، فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ طَلَبُ التَّشَفِّي ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ الْعَفْوُ بِالْمَالِ يَرَى أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ مَا هُوَ الْأَحَبُّ لِلشَّارِعِ وَحُصُولُ مَالٍ يَنْتَفِعُ بِهِ فَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ دُنْيَا وَأُخْرَى ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا بِالنَّظَرِ إلَى مُجَرَّدِ ذَاتِهِ وَمَفْهُومِهِ يَقْتَضِي كَثْرَةَ وُجُودِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْقَتْلِ فَكَيْفَ إذَا عَلِمَ كَثْرَةَ وُقُوعِهِ ، وَإِذَا انْتَفَى التَّسْبِيبُ مِنْ الشَّاهِدِ حَقِيقَةً انْتَفَى قَتْلُهُ ( بِخِلَافِ الْمُكْرَهِ ) يَعْنِي فَحَالَفَ الْوَلِيُّ الْمُكْرَهَ ( لِأَنَّ ) الْغَالِبَ أَنَّ ( الْإِنْسَانَ يُؤْثِرُ حَيَاتَهُ ) عَلَى حَيَاةِ

غَيْرِهِ فَكَانَ الْمُكْرَهُ بِإِكْرَاهِهِ مُسَبَّبًا حَقِيقَةً حَيْثُ ثَبَتَ بِفِعْلِهِ مَا هُوَ الْمُفْضِي لِلْقَتْلِ بِسَبَبِ الْإِيثَارِ الطَّبِيعِيِّ ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ الشَّاهِدِ عَلَيْهِ لِانْتِفَاءِ الْجَامِعِ وَهُوَ إثْبَاتُ مَا يُفْضِي غَالِبًا إلَى الْفِعْلِ .
وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ ( أَنَّ الْفِعْلَ الِاخْتِيَارِيَّ ) ذِي الِاخْتِيَارِ الصَّحِيحِ أَعْنِي قَتْلَ الْوَلِيِّ الْمُعْتَرِضِ بَعْدَ الشَّهَادَةِ ( مِمَّا يَقْطَعُ نِسْبَةُ الْفِعْلِ ) إلَى الشَّاهِدِ كَمَا عُرِفَ فِيمَنْ فَكَّ إنْسَانٌ قَيْدَهُ فَأَبَقَ بِاخْتِيَارِهِ وَأَمْثَالِهِ ، كَمَنْ دَفَعَ إنْسَانًا فِي بِئْرٍ حَفَرَهَا غَيْرُهُ تَعَدِّيًا فَإِنَّهُ بِدَفْعِهِ الِاخْتِيَارِيِّ انْقَطَعَتْ نِسْبَةُ التَّلَفِ إلَى الْحَافِرِ فَلَا وُجُودَ لِلْمُسَبِّبِ مَعَ الْمُبَاشِرِ مُخْتَارًا بِخِلَافِ الْمُكْرَهِ فَإِنَّهُ وَإِنْ اعْتَرَضَ فِعْلَهُ الِاخْتِيَارِيِّ عَنْ الْإِكْرَاهِ لَكِنَّ اخْتِيَارَهُ اخْتِيَارٌ فَاسِدٌ لِلْإِكْرَاهِ عَلَيْهِ فَكَانَ كَلَا اخْتِيَارٍ ، وَلِذَا لَا يَصِحُّ مَعَ اخْتِيَارِهِ هَذَا الْبَيْعُ وَلَا إجَازَةُ بَيْعِهِ وَلَا إجَارَتُهُ وَنَحْوُهَا فَلَمْ يَصْلُحْ لِقَطْعِ نِسْبَةِ الْفِعْلِ عَنْ الْمُكْرَهِ فَاعْتُبِرَ الْمُكْرَهُ كَآلَةٍ لِلْمُكْرَهِ قَتَلَ بِهَا ذَلِكَ الْقَتِيلَ ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقْطَعْ الِاخْتِيَارَ الصَّحِيحَ النِّسْبَةَ إلَى الشَّاهِدِ فَلَا أَقَلُّ مِنْ أَنْ يُوجِبَ شُبْهَةً فِي إيجَابِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ وَالْقِصَاصُ يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ ( بِخِلَافِ الْمَالِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبْهَةِ ) وَقَوْلُهُ فَأَشْبَهَ الْمُكْرِهِ بِكَسْرِ الرَّاءِ ، وَقَوْلُهُ وَالْمُكْرَهُ يُمْنَعُ بِفَتْحِهَا ، وَالْمُرَادُ بِالْمُخْتَلِفِ مُخْتَلِفُ الرِّوَايَةِ لِلْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ .
وَفِي شَرْحِ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ لِلْعَتَّابِيِّ : إذَا شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَتَلَ فُلَانًا خَطَأً أَوْ عَمْدًا فَقَضَى بِذَلِكَ وَأَخَذَ الْوَلِيُّ الدِّيَةَ فِي الْخَطَإِ وَقُتِلَ الْقَاتِلُ فِي الْعَمْدِ ثُمَّ جَاءَ الْمَشْهُودُ بِقَتْلِهِ حَيًّا ، فَالْعَاقِلَةُ فِي الْخَطَإِ إنْ شَاءُوا رَجَعُوا عَلَى الْآخِذِ لِأَنَّهُ أَخَذَ بِغَيْرِ

حَقٍّ وَلَا يَرْجِعُ هُوَ عَلَى أَحَدٍ ، وَإِنْ شَاءُوا ضَمِنُوا الشُّهُودَ لِأَنَّهُمْ تُسَبَّبُوا لِلتَّلَفِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَهُمْ يَرْجِعُونَ عَلَى الْوَلِيِّ لِأَنَّهُمْ مَلَكُوا الْمَضْمُونَ وَهُوَ الدِّيَةُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْوَلِيَّ أَخَذَ مَالَهُمْ .
وَفِي الْعَمْدِ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْوَلِيِّ وَلَا عَلَى الشُّهُودِ ، لِأَنَّ الْقَضَاءَ أَوْرَثَ شُبْهَةً لَكِنَّهُ تَجِبُ الدِّيَةُ وَيُخَيَّرُ وَرَثَةُ الْمَقْتُولِ بَيْنَ أَنْ يَضْمَنُوا الْوَلِيَّ الدِّيَةَ وَلَا يَرْجِعُ هُوَ عَلَى أَحَدٍ ، وَبَيْنَ أَنْ يَضْمَنُوا الشَّاهِدَيْنِ ، وَهُمَا لَا يَرْجِعَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَمْلِكُوا الْمَضْمُونَ وَهُوَ الدَّمُ لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ التَّمْلِيكَ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَالًا ، وَعِنْدَهُمَا يَرْجِعُونَ بِمَا ضَمِنُوا لِأَنَّ أَدَاءَ الضَّمَانِ انْعَقَدَ سَبَبًا لِمِلْكِ الْمَضْمُونِ لَكِنْ لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ فِي الْمَضْمُونِ لِعَدَمِ قَبُولٍ فَيَثْبُتُ فِي بَدَلِهِ كَمَنْ غَصَبَ مُدَبَّرًا وَغَصَبَهُ آخَرُ وَمَاتَ فِي يَدِهِ وَضَمِنَ الْمَالِكُ الْأَوَّلُ يَرْجِعُ عَلَى الثَّانِي بِمَا ضَمِنَ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا

قَالَ ( وَإِذَا رَجَعَ شُهُودُ الْفَرْعِ ضَمِنُوا ) لِأَنَّ الشَّهَادَةَ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ صَدَرَتْ مِنْهُمْ فَكَانَ التَّلَفُ مُضَافًا إلَيْهِمْ ( وَلَوْ رَجَعَ شُهُودُ الْأَصْلِ وَقَالُوا لَمْ نُشْهِدْ شُهُودَ الْفَرْعِ عَلَى شَهَادَتِنَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ ) لِأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا السَّبَبَ وَهُوَ الْإِشْهَادُ فَلَا يَبْطُلُ الْقَضَاءُ لِأَنَّهُ خَبَرٌ مُحْتَمِلٌ فَصَارَ كَرُجُوعِ الشَّاهِدِ ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْقَضَاءِ ( وَإِنْ قَالُوا أَشْهَدْنَاهُمْ وَغَلِطْنَا ضَمِنُوا وَهَذَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ ) لِأَنَّ الْقَضَاءَ وَقَعَ بِشَهَادَةِ الْفُرُوعِ لِأَنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بِمَا يُعَايِنُ مِنْ الْحُجَّةِ وَهِيَ شَهَادَتُهُمْ .
وَلَهُ أَنَّ الْفُرُوعَ نَقَلُوا شَهَادَةَ الْأُصُولِ فَصَارَ كَأَنَّهُمْ حَضَرُوا

( قَوْلُهُ وَإِذَا رَجَعَ شُهُودُ الْفَرْعِ ضَمِنُوا ) وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ ( لِأَنَّ الشَّهَادَةَ ) الَّتِي ( فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ ) وَهِيَ الَّتِي بِهَا الْقَضَاءُ ( صَدَرَتْ مِنْهُمْ فَكَانَ التَّلَفُ مُضَافًا إلَيْهِمْ .
وَلَوْ رَجَعَ شُهُودُ الْأَصْلِ وَقَالُوا لَمْ نُشْهِدْ شُهُودَ الْفَرْعِ عَلَى شَهَادَتِنَا لَمْ يَضْمَنُوا ) وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ خِلَافًا .
وَفِي شَرْحِ الْقُدُورِيِّ لِأَبِي نَصْرِ الْبَغْدَادِيِّ قَالَ : هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : يَضْمَنُونَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ انْتَهَى .
وَذَكَرَ أَبُو الْمُعِينِ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ فِيمَا إذَا شَهِدَ فَرْعَانِ عَلَى شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَتَلَ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ خَطَأً فَقَضَى بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَقَبَضَهَا الْوَلِيُّ ثُمَّ جَاءَ الْمَشْهُودُ بِقَتْلِهِ حَيًّا لَا يَضْمَنُ الْفُرُوعَ لِعَدَمِ رُجُوعِهِمْ وَعَدَمِ ظُهُورِ كَذِبِهِمْ بِيَقِينٍ لِجَوَازِ أَنَّ الْأَصْلَيْنِ أَشْهَدَاهُمَا غَيْرَ أَنَّ الْوَلِيَّ يَرُدُّ عَلَى الْعَاقِلَةِ مَا أَخَذَ مِنْهَا ، وَلَوْ حَضَرَ الْأَصْلَانِ وَقَالَا لَمْ نُشْهِدْهُمَا لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى إنْكَارِهِمَا وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْأَصْلَيْنِ .
أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فَلِأَنَّهُمَا لَوْ رَجَعَا بِأَنْ قَالَا أَشْهَدْنَاهُمَا بِبَاطِلٍ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا وَإِشْهَادَهُمَا لِلْفَرْعَيْنِ كَانَا فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَلَا يَكُونُ سَبَبًا لِلضَّمَانِ كَالرُّجُوعِ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ ، فَإِذَا لَمْ يَضْمَنَا بِالرُّجُوعِ فَكَذَا إذَا ظَهَرَ الْمَشْهُودُ بِقَتْلِهِ حَيًّا .
فَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَيَضْمَنَانِ بِالرُّجُوعِ .
ثُمَّ قَالَ هُنَا : لَا يَضْمَنَانِ : يَعْنِي قَالَ مُحَمَّدٌ فِي إنْكَارِ الْأُصُولِ الْإِشْهَادَ لَا يَضْمَنُ الْأَصْلَانِ ، ثُمَّ ذَكَرَ تَرَدُّدًا فِي أَنَّهُ قَالَهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ خَاصَّةً أَوْ قَالَهُ اتِّفَاقًا .
وَأَمَّا صَاحِبُ النِّهَايَةِ فَصَرَّحَ بِأَنَّ عَدَمَ الضَّمَانِ بِالْإِجْمَاعِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي

وَجْهِهِ ( لِأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا ) أَيْ شُهُودُ الْأَصْلِ ( السَّبَبَ وَهُوَ الْإِشْهَادُ ، وَذَلِكَ لَا يُبْطِلُ الْقَضَاءَ لِأَنَّهُ خَبَرٌ يَحْتَمِلُ ) الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ ( فَصَارَ كَرُجُوعِ الشَّاهِدِ ) يَعْنِي بَعْدَ الْقَضَاءِ لَا يَنْقُضُ بِهِ الشَّهَادَةَ لِهَذَا ( بِخِلَافِ مَا ) إذَا أَنْكَرُوا الْإِشْهَادَ ( قَبْلَ الْقَضَاءِ ) لَا يَقْضِي بِشَهَادَةِ الْفَرْعَيْنِ كَمَا إذَا رَجَعُوا قَبْلَهُ ، هَذَا إذَا قَالُوا لَمْ نُشْهِدْهُمْ ( فَإِنْ قَالُوا أَشْهَدْنَاهُمْ وَغَلِطْنَا ) أَوْ أَشْهَدْنَاهُمْ وَرَجَعْنَا ( ضَمِنَ الْأُصُولَ ) هَكَذَا أَطْلَقَ الْقُدُورِيُّ وَحَكَمَ الْمُصَنِّفُ بِأَنَّ الضَّمَانَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ .
أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْأُصُولِ .
لِمُحَمَّدٍ أَنَّ الْفَرْعَيْنِ نَقَلَا شَهَادَتَهُمَا إلَى الْمَجْلِسِ وَوَقَعَ الْقَضَاءُ بِهَا كَأَنَّهُمَا حَضَرَا بِأَنْفُسِهِمَا وَأَدَّيَا فَإِذَا رَجَعَا ضَمِنَا .
وَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنْ تَكُونَ شَهَادَتُهُمَا لَيْسَتْ فِي الْمَجْلِسِ حَقِيقَةً لَكِنَّهَا فِيهِ حُكْمًا بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا الْمَنْقُولَةُ فَعَمِلْنَا بِالْحَقِيقَةِ عِنْدَ عَدَمِ الرُّجُوعِ وَبِالْحُكْمِ عِنْدَ الرُّجُوعِ ، وَلَا حَاجَةَ إلَى اعْتِبَارِ الْفَرْعَيْنِ نَائِبَيْنِ عَنْ الْأَصْلَيْنِ فَيَكُونُ فِعْلُهُمَا كَفِعْلِهِمَا لِيَرْتَفِعَ ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَعَمِلَ مَنْعُ الْأَصْلَيْنِ إيَّاهُمَا عَنْ الْأَدَاءِ بَعْدَ التَّحْمِيلِ وَلَا يُعْمَلُ ، فَلَهُمَا بَلْ عَلَيْهِمَا أَنْ يُؤَدِّيَا لَوْ مَنَعَاهُمَا بَعْدَ التَّحْمِيلِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الْقَضَاءَ إنَّمَا وَقَعَ بِشَهَادَةِ الْفُرُوعِ لِأَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ بِشَهَادَةِ الْأُصُولِ ، فَهُوَ كَمَا لَوْ شَهِدُوا بِحَقٍّ آخَرَ إنَّمَا يَقْضِي بِهِ بِشَهَادَتِهِمْ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْقَاضِيَ إنَّمَا يَقْضِي بِمَا عَايَنَ مِنْ الْحُجَّةِ وَهُوَ شَهَادَتُهُمَا .
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقَضَاءَ لَيْسَ إلَّا بِشَهَادَتِهِمَا لَمْ يَضْمَنْ غَيْرَهُمَا ، وَقَدْ أَخَّرَ الْمُصَنِّفُ دَلِيلَ مُحَمَّدٍ وَعَادَتُهُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَجَّحُ عِنْدَهُ

مَا أَخَّرَهُ

( وَلَوْ رَجَعَ الْأُصُولُ وَالْفُرُوعُ جَمِيعًا يَجِبُ الضَّمَانُ عِنْدَهُمَا عَلَى الْفُرُوعِ لَا غَيْرُ ) لِأَنَّ الْقَضَاءَ وَقَعَ بِشَهَادَتِهِمْ : وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ ، إنْ شَاءَ ضَمِنَ الْأُصُولَ وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْفُرُوعَ ، لِأَنَّ الْقَضَاءَ وَقَعَ بِشَهَادَةِ الْفُرُوعِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَا وَبِشَهَادَةِ الْأُصُولِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَ فَيَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا ، وَالْجِهَتَانِ مُتَغَايِرَتَانِ فَلَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا فِي التَّضْمِينِ ( وَإِنْ قَالَ شُهُودُ الْفَرْعِ كَذَبَ شُهُودُ الْأَصْلِ أَوْ غَلِطُوا فِي شَهَادَتِهِمْ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى ذَلِكَ ) لِأَنَّ مَا أُمْضِيَ مِنْ الْقَضَاءِ لَا يُنْتَقَضُ بِقَوْلِهِمْ ، وَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ مَا رَجَعُوا عَنْ شَهَادَتِهِمْ إنَّمَا شَهِدُوا عَلَى غَيْرِهِمْ بِالرُّجُوعِ

( قَوْلُهُ وَلَوْ رَجَعَ الْأُصُولَ وَالْفُرُوعَ جَمِيعًا يَجِبُ الضَّمَانُ عِنْدَهُمَا عَلَى الْفُرُوعِ ) بِنَاءً عَلَى مَا عُرِفَ لَهُمَا مِنْ ( أَنَّ الْقَضَاءَ إنَّمَا وَقَعَ بِشَهَادَةِ الْفُرُوعِ ) وَالضَّمَانُ إنَّمَا يَكُونُ بِرُجُوعِ مَنْ قَضَى بِشَهَادَتِهِ ( وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ ، إنْ شَاءَ ضَمِنَ الْأُصُولَ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْفُرُوعَ لِأَنَّ الْقَضَاءَ وَقَعَ بِشَهَادَةِ الْفُرُوعِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَا ) وَهُوَ قَوْلُهُمَا إنَّ الْقَضَاءَ بِمَا عَايَنَ الْقَاضِي مِنْ الْحُجَّةِ ، وَإِنَّمَا عَايَنَ شَهَادَةَ الْفُرُوعِ ( وَمِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَ ) أَيْ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ أَنَّ الْفُرُوعَ نَقَلُوا شَهَادَةَ الْأُصُولِ ، فَالْقَضَاءُ بِالشَّهَادَةِ الْمَنْقُولَةِ وَهِيَ شَهَادَةُ الْأُصُولِ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْجِهَتَانِ مُتَغَايِرَتَانِ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لِمَ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ الْجِهَتَيْنِ فَيَضْمَنُ كُلًّا مِنْ الْفَرِيقَيْنِ نِصْفَ الْمُتْلَفِ ؟ فَقَالَ هُمَا مُتَغَايِرَتَانِ لِأَنَّ شُهُودَ الْأَصْلِ يَشْهَدُونَ عَلَى أَصْلِ الْحَقِّ وَشُهُودَ الْفَرْعِ يَشْهَدُونَ عَلَى شَهَادَتِهِمْ .
وَقِيلَ لِأَنَّ إحْدَاهُمَا إشْهَادٌ وَالْأُخْرَى أَدَاءٌ لِلشَّهَادَةِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ ، وَلَا مُجَانَسَةَ بَيْنَ الشَّهَادَتَيْنِ فَلَا تُعْتَبَرُ شَهَادَةُ الْفَرِيقَيْنِ بِمَنْزِلَةِ شَهَادَةٍ وَاحِدَةٍ بِأَمْرِ وَاحِدٍ ، فَلِهَذَا لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي التَّضْمِينِ بَلْ أَثْبَتَ لَهُ الْخِيَارَ فِي تَضْمِينِ أَيِّ الْفَرِيقَيْنِ شَاءَ ، وَلَا يَرْجِعُ وَاحِدٌ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ إذَا ضَمِنَ بِمَا أَدَّى عَلَى الْفَرِيقِ الْآخَرِ ، بِخِلَافِ الْغَاصِبِ مَعَ غَاصِبِ الْغَاصِبِ ، فَإِنَّهُ إذَا ضَمِنَ الْغَاصِبُ يَرْجِعُ عَلَى غَاصِبِهِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْ الْفَرِيقَيْنِ مُؤَاخَذٌ بِفِعْلِهِ ، فَإِذَا ضَمِنَهُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ لَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْآخَرِ بِسَبَبِ أَنَّ الْمُتْلِفَ نَقَلَ شَهَادَةَ الْأُصُولِ ، إذْ لَوْلَا إشْهَادُ الْأُصُولِ مَا تَمَكَّنَ الْفُرُوعُ مِنْ النَّقْلِ ، وَلَوْلَا نَقْلُ الْفُرُوعِ لَمْ يَثْبُتْ النَّقْلُ فَكَانَ فِعْلُ

كُلٍّ مِنْ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ فِي حَقِّ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ سَبَبَ الضَّمَانِ .
أَمَّا الْفُرُوعُ فَبِالنَّقْلِ .
وَأَمَّا الْأُصُولُ فَبِتَحْمِيلِهِمْ الْفُرُوعَ عَلَى النَّقْلِ ، إذْ بِتَحْمِيلِهِمْ لَزِمَهُمْ ذَلِكَ شَرْعًا حَتَّى يَأْثَمُوا لَوْ تَرَكُوا النَّقْلَ بِخِلَافِ الْغَاصِبِ مَعَ غَاصِبِهِ

قَالَ ( وَإِنْ رَجَعَ الْمُزَكَّوْنَ عَنْ التَّزْكِيَةِ ضَمِنُوا ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَالَا : لَا يَضْمَنُونَ لِأَنَّهُمْ أَثْنَوْا عَلَى الشُّهُودِ خَيْرًا فَصَارُوا كَشُهُودِ الْإِحْصَانِ .
وَلَهُ أَنَّ التَّزْكِيَةَ إعْمَالٌ لِلشَّهَادَةِ ، إذْ الْقَاضِي لَا يَعْمَلُ بِهَا إلَّا بِالتَّزْكِيَةِ فَصَارَتْ بِمَعْنَى عِلَّةِ الْعِلَّةِ ، بِخِلَافِ شُهُودِ الْإِحْصَانِ لِأَنَّهُ شَرْطٌ مَحْضٌ

( قَوْلُهُ وَإِنْ رَجَعَ الْمُزَكَّوْنَ عَنْ التَّزْكِيَةِ ) بَعْدَ الْقَضَاءِ بِالْمَالِ ( ضَمِنُوا ) الْمَالَ أَطْلَقَهُ الْقُدُورِيُّ .
وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ أَنَّ ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَعِنْدَهُمَا لَا يَضْمَنُونَ لِأَنَّ الْقَضَاءَ الَّذِي بِهِ الْإِتْلَافُ لَمْ يَقَعْ بِالتَّزْكِيَةِ بَلْ بِالشَّهَادَةِ فَلَمْ يُضِفْ التَّلَفَ إلَيْهِمْ فَلَا يَضْمَنُونَ ( وَصَارُوا كَشُهُودِ الْإِحْصَانِ ) إذَا رَجَعُوا بَعْدَ الرَّجْمِ لَا يَضْمَنُونَ الدِّيَةَ بِاتِّفَاقِنَا .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ التَّزْكِيَةَ عِلَّةُ إعْمَالِ الشَّهَادَةِ وَالشَّهَادَةَ عِلَّةُ التَّلَفِ فَصَارَ التَّلَفُ مُضَافًا إلَى التَّزْكِيَةِ لِأَنَّ الْحُكْمَ يُضَافُ إلَى عِلَّةِ الْعِلَّةِ كَمَا يُضَافُ إلَى الْعِلَّةِ بِخِلَافِ الْإِحْصَانِ لِأَنَّهُ لَيْسَ الْعِلَّةُ فِي الْقَتْلِ بَلْ الْعِلَّةُ فِيهِ الزِّنَا ، وَالْإِحْصَانُ لَيْسَ مُثْبِتًا لِلزِّنَا فَشُهُودُهُ لَا يَثْبُتُونَ الزِّنَا ، فَلَيْسَ عِلَّةً لِعِلَّةِ الْقَتْلِ لِيَجِبَ الضَّمَانُ بَلْ هُوَ شَرْطٌ مَحْضٌ : أَيْ عِنْدَ وُجُودِهِ فَيَكُونُ الْحَدُّ كَذَا ، وَتَمَامُ الْمُؤَثِّرِ فِي الْحَدِّ رَجْمًا كَانَ أَوْ جَلْدًا لَيْسَ إلَّا الزِّنَا ، إلَّا أَنَّهُ قَدْ يُقَالُ مِنْ طَرَفِهِمَا إنَّ الْحُكْمَ لَا يُضَافُ إلَى عِلَّةِ الْعِلَّةِ إلَّا عِنْدَ عَدَمِ الْعِلَّةِ وَعِنْدَ وُجُودِهَا لَا يُضَافُ إلَّا إلَيْهَا .
وَهَذَا فَرْعٌ ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ : شَهِدُوا بِالزِّنَا وَزَكَّوْا وَقَالَ الْمُزَكَّوْنَ هُمْ أَحْرَارٌ مُسْلِمُونَ فَرَجَمَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ عَبِيدٌ أَوْ كُفَّارٌ ، فَإِنْ ثَبَتَ الْمُزَكَّوْنَ عَلَى أَنَّهُمْ أَحْرَارٌ مُسْلِمُونَ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ وَلَا عَلَى الشُّهُودِ ، أَمَّا الشُّهُودُ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَتَبَيَّنْ كَذِبُهُمْ فِي الشَّهَادَةِ ، بَلْ الْوَاقِعُ أَنْ لَا شَهَادَةَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ عَبِيدٍ أَوْ كُفَّارٍ .
وَأَمَّا الْمُزَكَّوْنَ فَلِأَنَّهُمْ اعْتَمَدُوا قَوْلَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ ، وَلَيْسَ إخْبَارُهُمْ الْقَاضِيَ بِذَلِكَ شَهَادَةً ، وَأَمَّا لَوْ رَجَعُوا وَقَالُوا تَعَمَّدْنَا الْكَذِبَ فَعَلَيْهِمْ

ضَمَانُ الدِّيَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَعِنْدَهُمَا الدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّ الْمُزَكَّيْنَ مَا أَثْبَتُوا سَبَبَ الْإِتْلَافِ وَهُوَ الزِّنَا ، إنَّمَا أَثْنَوْا عَلَى الشُّهُودِ خَيْرًا .
وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ : جَعَلُوا مَا لَيْسَ بِمُوجَبٍ : أَعْنِي الشَّهَادَةَ مُوجَبًا بِالتَّزْكِيَةِ إلَى آخِرِهِ : يَعْنِي مَا ذَكَرْنَا

( وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ بِالْيَمِينِ وَشَاهِدَانِ بِوُجُودِ الشَّرْطِ ثُمَّ رَجَعُوا فَالضَّمَانُ عَلَى شُهُودِ الْيَمِينِ خَاصَّةً ) لِأَنَّهُ هُوَ السَّبَبُ ، وَالتَّلَفُ يُضَافُ إلَى مُثْبِتِي السَّبَبِ دُونَ الشَّرْطِ الْمَحْضِ : أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بِشَهَادَةِ الْيَمِينِ دُونَ شُهُودِ الشَّرْطِ ، وَلَوْ رَجَعَ شُهُودُ الشَّرْطِ وَحْدَهُمْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ .
وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ يَمِينُ الْعَتَاقِ وَالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ .

( قَوْلُهُ وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ بِالْيَمِينِ ) أَيْ شَهِدُوا بِتَعْلِيقِ طَلَاقِ زَوْجَتِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا بِدُخُولِ الدَّارِ أَوْ بِتَعْلِيقِ عِتْقِ عَبْدِهِ بِهِ ثُمَّ شَهِدَ آخَرَانِ بِدُخُولِ الدَّارِ فَقَضَى بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ ثُمَّ رَجَعَ الْفَرِيقَانِ ( فَالضَّمَانُ ) لِنِصْفِ الْمَهْرِ وَقِيمَةِ الْعَبْدِ ( عَلَى شُهُودِ الْيَمِينِ خَاصَّةً ) وَاحْتُرِزَ بِلَفْظِ خَاصَّةً عَنْ قَوْلِ زُفَرَ فَإِنَّهُ يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ بِالسَّوِيَّةِ .
قَالَ : لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ بِشَهَادَتِهِمْ .
قُلْنَا : الْقَضَاءُ بِالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ إنَّمَا هُوَ بِثُبُوتِ قَوْلِهِ أَنْتَ طَالِقٌ وَأَنْتَ حُرٌّ فَإِنَّهُ الْعِلَّةُ فِي الْوُقُوعِ وَهُوَ الَّذِي سَمَّاهُ الْمُصَنِّفُ السَّبَبَ ، وَذَلِكَ إنَّمَا أَثْبَتَهُ شُهُودُ الْيَمِينِ ، بِخِلَافِ شُهُودِ الدُّخُولِ لِأَنَّ الدُّخُولَ لَمْ يُوضَعْ شَرْعًا عِلَّةً لِطَلَاقٍ وَلَا عَتَاقٍ فَلَمْ يَكُنْ عِلَّةً ، وَإِذَا ضَمِنَ الدَّافِعُ مَعَ وُجُودِ الْحَافِرِ وَهُمَا مُسَبِّبَانِ غَيْرَ أَنَّ الدَّفْعَ مُثْبَتٌ لِسَبَبٍ أَقْرَبَ مِنْ الْحَفْرِ لِأَنَّ الْعِلَّةَ إنَّمَا هِيَ الثِّقَلُ فَلَأَنْ يَضْمَنَ مُبَاشِرُ الْعِلَّةَ دُونَ مُبَاشِرِ السَّبَبِ أَوْلَى .
وَمِنْ هَذَا إذَا رَجَعَ شُهُودُ التَّخْيِيرِ مَعَ شُهُودِ اخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا يَضْمَنُ شُهُودُ الِاخْتِيَارِ خَاصَّةً لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ هُوَ الْعِلَّةُ وَالتَّخْيِيرَ سَبَبٌ ، وَلَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا إذَا شَهِدَا أَنَّهُ تَزَوَّجَ فُلَانَةَ وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ دَخَلَ بِهَا وَقَضَى بِكُلِّ الْمَهْرِ ثُمَّ رَجَعُوا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى شُهُودِ الدُّخُولِ وَإِنْ كَانَ وُجُوبُ الْمَهْرِ بِالتَّزَوُّجِ لِأَنَّ شُهُودَ الدُّخُولِ أَثْبَتُوا أَنَّ الزَّوْجَ اسْتَوْفَى عِوَضَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ بِالتَّزَوُّجِ فَخَرَجَتْ شَهَادَتُهُمَا مِنْ أَنْ تَكُونَ إتْلَافًا ، ثُمَّ مُقْتَضَى مَا فِي وَجْهِ انْفِرَادِ شُهُودِ الْيَمِينِ بِالضَّمَانِ أَنْ يَجِبَ عَلَى شُهُودِ الشَّرْطِ لَوْ رَجَعُوا وَحْدَهُمْ بِتَسَبُّبِهِمْ بِإِثْبَاتِهِمْ مَا يَثْبُتُ السَّبَبُ عِنْدَهُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا رَجَعَ مَعَهُمْ شُهُودُ

الْيَمِينِ ، وَحَكَى الْمُصَنِّفُ فِيهِ اخْتِلَافَ الْمَشَايِخِ .
قَالَ الْعَتَّابِيُّ قَالَ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ : يَضْمَنُونَ لِأَنَّهُمْ تَسَبَّبُوا فِي التَّلَفِ بِغَيْرِ حَقٍّ ، لِأَنَّ لَهُ أَثَرٌ فِي وُجُودِ الْعِلَّةِ عِنْدَهُ فَيَكُونُ سَبَبًا لِلضَّمَانِ عِنْدَ عَدَمِ الْعِلَّةِ ، بِخِلَافِ الْإِحْصَانِ لِأَنَّهُ أَثَّرَ فِي مَنْعِ وُجُودِ الْعِلَّةِ لِأَنَّ الدُّخُولَ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ سَبَّبَ الِامْتِنَاعَ مِنْ الزِّنَا لَا سَبَّبَ إتْيَانَهُ فَلَا يَلْحَقُ بِالْعِلَّةِ .
وَجَعَلَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ هَذَا عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِنَا لِمَعْنَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ كَلَامِ الْعَتَّابِيِّ ، ثُمَّ قَالَ : وَهَذَا غَلَطٌ ، بَلْ الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّ شُهُودَ الشَّرْطِ لَا يَضْمَنُونَ بِحَالٍ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الزِّيَادَاتِ ، لِأَنَّ قَوْلَهُ أَنْتَ حُرٌّ مُبَاشِرُ الْإِتْلَافِ ، وَعِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ يُضَافُ إلَيْهِ لَا إلَى الشَّرْطِ سَوَاءً كَانَ تَعَدِّيًا أَوَّلًا .
بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْحَفْرِ فَالْعِلَّةُ هُنَاكَ ثِقَلُ الْمَاشِي ، وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْ مُبَاشَرَةِ الْإِتْلَافِ فِي شَيْءٍ فَلِهَذَا يُجْعَلُ الْإِتْلَافُ مُضَافًا لِلشَّرْطِ وَهُوَ إزَالَةُ الْمَسْكَةِ .
ثُمَّ لَا يَخْفَى عَلَيْك أَنَّ صُورَةَ رُجُوعِ شُهُودِ الشَّرْطِ وَحْدِهِمْ إذَا أَقَرَّ بِالتَّعْلِيَةِ فَشَهِدَا بِوُجُودِ الشَّرْطِ .
وَأَمَّا لَوْ شَهِدَ اثْنَانِ عَلَيْهِ بِالتَّعْلِيقِ وَآخَرَانِ بِوُجُودِ الشَّرْطِ ثُمَّ رَجَعَ شُهُودُ الشَّرْطِ وَحْدَهُمْ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَلِفَ فِي عَدَمِ الضَّمَانِ عَلَيْهِمْ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( كِتَابُ الْوَكَالَةِ )

( كِتَابُ الْوَكَالَةِ ) أَعْقَبَ الشَّهَادَةَ بِالْوَكَالَةِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْ الشَّاهِدِ وَالْوَكِيلِ سَاعٍ فِي تَحْصِيلِ مُرَادِ غَيْرِهِ مِنْ الْمُوَكِّلِ وَالْمُدَّعِي مُعْتَمِدٌ عَلَيْهِ كُلٌّ مِنْهُمَا .
وَالْوَكَالَةُ لُغَةً بِفَتْحِ الْوَاوِ وَكَسْرِهَا اسْمٌ لِلتَّوْكِيلِ وَهُوَ تَفْوِيضُ أَمْرِك إلَى مَنْ وَكَّلْته اعْتِمَادًا عَلَيْهِ فِيهِ تَرَفُّهًا مِنْك أَوْ عَجْزًا عَنْهُ .
وَالْوَكَالَةُ أَبَدًا إمَّا لِلْعَجْزِ أَوْ لِلتَّرَفُّهِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا لِلضَّعْفِ ، وَلِذَا كَانَ مَعْنَى الْوَكِلِ مَنْ فِيهِ ضَعْفٌ ، وَفُسِّرَ قَوْلُ لَبِيدٍ : وَكَأَنِّي مُلْجِمٌ سَوْذَانِقًا أَجْدَلِيًّا كَرُّهُ غَيْرُ وَكِلْ وَالسَّوْذَانِقُ وَالسَّوْذَقُ وَالسَّوْذَنِيقُ : الشَّاهِينُ ، وَالْأَجْدَلُ : الصَّقْرُ نَسَبَ فَرَسَهُ إلَيْهِ وَوَكَّلَهُ جَعَلَهُ وَكِيلًا : أَيْ مُفَوَّضًا إلَيْهِ الْأَمْرُ ، وَمِنْهُ وَكَلَ أَمْرَهُ إلَى فُلَانٍ ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُ الْحُطَيْئَةِ : فَلَأْيًا قَصَرْت الطَّرَفَ عَنْهُمْ بِحُرَّةِ أَمُونٍ إذَا وَاكَلْتُهَا لَا تَوَاكَلُ يَعْنِي إذَا فَوَّضْت أَمْرَهَا إلَيْهَا لَا تُوَكِّلُ نَفْسَهَا إلَى أَنْ أَحُثَّهَا عَلَى السَّيْرِ بَلْ تَسْتَمِرُّ عَلَى جَدِّهَا فِي السَّيْرِ وَلَا تَضْعُفُ فِيهِ ، أَوْ تَوَكَّلُ قَبْلَ الْوَكَالَةِ وَاتَّكَلْت عَلَيْهِ اعْتَمَدْت وَأَصْلُهُ وَاتَّكَلْت قُلِبَتْ الْوَاوُ يَاءً لِسُكُونِهَا وَانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا ثُمَّ أُبْدِلَتْ تَاءً فَأُدْغِمَتْ فِي تَاءِ الِافْتِعَالِ .
وَأَمَّا الْوَكِيلُ فَهُوَ الْقَائِمُ بِمَا فُوِّضَ إلَيْهِ مِنْ الْأُمُورِ وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ : أَيْ مَوْكُولٌ إلَيْهِ الْأَمْرُ ، فَإِذَا كَانَ قَوِيًّا عَلَى الْأَمْرِ قَادِرًا عَلَيْهِ نَصُوحًا تَمَّ أَمْرُ الْمُوَكِّلِ ، فَإِذَا رَضِيَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا عَنْك وَاعْتَمَدْت عَلَى غَيْرِهِ فَهُوَ الْحِرْمَانُ الْعَظِيمُ ، فَكَيْفَ إذَا أَوْجَبَهُ عَلَيْك لِتَحَقُّقِ مَصْلَحَتِك فَضْلًا مِنْهُ .
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَاِتَّخِذْهُ وَكِيلًا } وَعَلَى هَذَا اسْتِمْرَارُ إحْسَانِهِ وَبِرِّهِ لَا إلَهَ غَيْرُهُ .
وَأَمَّا

شَرْعًا فَالتَّوْكِيلُ إقَامَةُ الْإِنْسَانِ غَيْرَهُ مَقَامَهُ فِي تَصَرُّفٍ مَعْلُومٍ ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ التَّصَرُّفُ مَعْلُومًا ثَبَتَ بِهِ أَدْنَى تَصَرُّفَاتِ الْوَكِيلِ وَهُوَ الْحِفْظُ فَقَطْ .
وَفِي الْمَبْسُوطِ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا فِيمَنْ قَالَ لِآخَرَ وَكَّلْتُك بِمَالِي : إنَّهُ يَمْلِكُ بِهَذَا اللَّفْظِ الْحِفْظَ فَقَطْ .
وَقَالَ الْإِمَامُ الْمَحْبُوبِيُّ : إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ أَنْتَ وَكِيلٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ كَانَ وَكِيلًا بِالْحِفْظِ وَأَمَّا سَبَبُهَا فَدَفْعُ الْحَاجَةِ الْمُتَحَقِّقَةِ إلَيْهَا كَمَا سَيَظْهَرُ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ .

وَأَمَّا رُكْنُهَا فَالْأَلْفَاظُ الْخَاصَّةُ الَّتِي بِهَا تَثْبُتُ مِنْ قَوْلِهِ وَكَّلْتُك بِبَيْعِ هَذَا أَوْ شِرَائِهِ مَعَ اقْتِرَانِهِ بِقَبُولِ الْمُخَاطَبِ صَرِيحًا أَوْ دَلَالَةً فِيمَا إذَا سَكَتَ فَلَمْ يَقْبَلْ أَوْ يَرُدَّ ثُمَّ عَمِلَ فَإِنَّهُ يَنْفُذُ وَيَظْهَرُ بِالْعَمَلِ قَبُولُهُ .
وَرَوَى بِشْرُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ أَحْبَبْت أَنْ تَبِيعَ عَبْدِي هَذَا أَوْ قَالَ هَوَيْت أَوْ رَضِيت أَوْ وَافِقْنِي أَوْ شِئْت أَوْ أَرَدْت أَوْ وَدِدْت وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهُوَ تَوْكِيلٌ .
وَلَوْ قَالَ لَا أَنْهَاك عَنْ طَلَاقِ زَوْجَتِي لَا يَكُونُ تَوْكِيلًا ، فَلَوْ طَلَّقَ لَا يَقَعُ .
وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ لَا أَنْهَاك عَنْ التِّجَارَةِ لَا يَصِيرُ مَأْذُونًا .
وَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ : الْجَوَابُ فِي الْوَكَالَةِ كَذَلِكَ ، أَمَّا فِي الْإِذْنِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا فِي قَوْلِ عُلَمَائِنَا لِأَنَّ الْعَبْدَ بِسُكُوتِ الْمَوْلَى يَصِيرُ مَأْذُونًا وَهَذَا فَوْقَ السُّكُوتِ ، ذَكَرَهُ فِي الذَّخِيرَةِ .
وَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ الْمَعْنَى أَنَّ قَوْلَهُ لَا أَنْهَاك فِي حَالِ عَدَمِ مُبَاشَرَةِ الْعَبْدِ الْبَيْعَ فَوْقَ سُكُوتِهِ إذَا رَآهُ يَبِيعُ ، وَتَقَدَّمَ عَنْ الْمَحْبُوبِيِّ أَنْتَ وَكِيلِي فِي كُلِّ شَيْءٍ يَكُونُ بِالْحِفْظِ ، قَالُوا : فَلَوْ زَادَ فَقَالَ أَنْتَ وَكِيلِي فِي كُلِّ شَيْءٍ جَائِزٌ صُنْعَك أَوْ أَمْرَك ؛ فَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَصِيرُ وَكِيلًا فِي الْبِيَاعَاتِ وَالْإِجَارَاتِ وَالْهِبَاتِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ حَتَّى مَلَكَ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ مَالِهِ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمُعَاوَضَاتِ فَقَطْ ، وَلَا يَلِي الْعِتْقَ وَالتَّبَرُّعَ .
وَفِي فَتَاوَى بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ عَلَيْهِ الْفَتْوَى ، وَكَذَا لَوْ قَالَ طَلَّقْت امْرَأَتَك وَوَقَفْت أَرْضَك الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ .
وَمِثْلُهُ إذَا قَالَ وَكَّلْتُك فِي جَمِيعِ أُمُورِي .
وَلَوْ قَالَ فَوَّضْت أَمْرَ مَالِي إلَيْك يَصِيرُ وَكِيلًا بِالْحِفْظِ فَقَطْ ، وَكَذَا فَوَّضْت أَمْرِي إلَيْك الصَّحِيحُ أَنَّهُ مِثْلُهُ وَفِي الْمَبْسُوطِ : إذَا وَكَّلَهُ بِكُلِّ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ فَهُوَ وَكِيلٌ

بِالْحِفْظِ لَا بِتَقَاضِي بَيْعٍ وَلَا شِرَاءٍ ، وَفَوَّضْت لَك أَمْرَ مُسْتَغَلَّاتِي وَكَانَ أَجْرُهَا مِلْكَ تَقَاضِي الْأُجْرَةِ وَقَبْضِهَا ، وَكَذَا أَمْرَ دُيُونِي مِلْكَ التَّقَاضِي ، وَأَمْرَ دَوَابِّي مِلْكَ الْحِفْظِ وَالرَّعْيِ وَالتَّعْلِيفِ ، وَأَمْرَ مَمَالِيكِي مِلْكَ الْحِفْظِ وَالنَّفَقَةِ ، وَفَوَّضَتْ إلَيْك أَمْرَ امْرَأَتِي مِلْكَ طَلَاقِهَا وَاقْتَصَرَ عَلَى الْمَجْلِسِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ وَكَّلْتُك .
وَالْوِصَايَةُ حَالَةَ الْحَيَاةِ وَكَالَةٌ كَالْوَكَالَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ وِصَايَةٌ لِأَنَّ الْمَنْظُورَ إلَيْهِ الْمَعَانِي .
وَكَّلْتُك فِي كُلِّ أُمُورِي وَأَقَمْتُك مَقَامَ نَفْسِي لَيْسَ تَوْكِيلًا عَامًّا ، فَإِنْ كَانَ لَهُ صِنَاعَةٌ مَعْلُومَةٌ كَالتِّجَارَةِ مَثَلًا يَنْصَرِفُ إلَى ذَلِكَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ صِنَاعَةٌ مَعْلُومَةٌ وَمُعَامَلَاتُهُ مُخْتَلِفَةٌ فَالْوَكَالَةُ بَاطِلَةٌ وَلَوْ قَالَ وَكَّلْتُك فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ الَّتِي يَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِيهَا فَتَوْكِيلٌ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ الْبِيَاعَاتِ وَالْأَنْكِحَةَ .
وَأَمَّا شَرْطُهَا فَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ : وَمِنْ شَرْطِ الْوَكَالَةِ أَنْ يَكُونَ الْوَكِيلُ مِمَّنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ وَتَلْزَمُهُ الْأَحْكَامُ .

وَأَمَّا صِفَتُهَا فَإِنَّهَا مِنْ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ غَيْرِ اللَّازِمَةِ حَتَّى مَلَكَ كُلٌّ مِنْ الْمُوَكِّلِ وَالْوَكِيلِ الْعَزْلَ بِلَا رِضَا الْآخَرِ كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَلِكَوْنِ شَرْعِيَّتِهَا غَيْرَ لَازِمَةٍ رَدَّ الْمُحَقِّقُونَ قَوْلَ بَعْضِ الْمَشَايِخِ فِيمَا لَوْ قَالَ كُلَّمَا عَزَلْتُك فَأَنْتَ وَكِيلٌ لَا يَمْلِكُ عَزْلَهُ لِأَنَّهُ كُلَّمَا عَزَلَهُ تَتَجَدَّدُ وَكَالَتُهُ ، فَإِنَّ تَعْلِيقَ الْوَكَالَةِ بِالشَّرْطِ جَائِزٌ فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ الْوَكَالَةِ مِنْ الْعُقُودِ اللَّازِمَةِ لَا الْجَائِزَةِ فَالْحَقُّ إمْكَانُ عَزْلِهِ .
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي تَحْقِيقِ لَفْظِ الْعَزْلِ ؛ فَقِيلَ أَنْ يَكُونَ عَزَلْتُك عَنْ جَمِيعِ الْوَكَالَاتِ فَيَنْصَرِفُ إلَى الْمُعَلَّقِ وَالْمُنَجَّزِ .
وَقِيلَ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْعَزْلَ فَرْعُ قِيَامِ الْوَكَالَةِ ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمُنَجَّزِ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ عَدَمُ قَبُولِ وُجُودِ الشَّرْطِ ، فَالصَّحِيحُ أَنْ يَقُولَ عَزَلْتُك عَنْ الْوَكَالَةِ الْمُنَفَّذَةِ وَرَجَعْت عَنْ الْوَكَالَةِ الْمُعَلَّقَةِ وَالرُّجُوعُ عَنْهَا صَحِيحٌ وَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ وَظَهِيرُ الدِّينِ : يَجِبُ أَنْ يُقَدِّمَ الرُّجُوعَ عَنْ الْمُعَلَّقَةِ عَلَى الْعَزْلِ عَنْ الْمُنَفَّذَةِ لِأَنَّهُ إذَا قَدَّمَ الْعَزْلَ عَنْ الْمُنَفَّذَةِ تَتَنَجَّزُ وَكَالَةٌ أُخْرَى مِنْ الْمُعَلَّقَةِ .
وَقِيلَ هَذَا إنَّمَا يَلْزَمُ إذَا كَانَ لَفْظُ الرُّجُوعِ يَخُصُّ الْمُعَلَّقَةَ احْتِرَازًا عَنْ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ إنَّ الْإِخْرَاجَ عَنْ الْمُعَلَّقَةِ بِلَفْظِ الْعَزْلِ لَا يَصِحُّ .
وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنَّهُ يَجُوزُ فَلَا وَهُوَ الْمُخْتَارُ .

وَأَمَّا حُكْمُهَا فَجَوَازُ مُبَاشَرَةِ الْوَكِيلِ مَا وُكِّلَ بِهِ وَثُبُوتُ حُكْمِهِ لِلْمُوَكِّلِ .
وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِهِ بِكَوْنِهِ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ الْمَقْصُودَ بِالذَّاتِ مِنْ الْفِعْلِ الْمُوَكَّلِ بِهِ ، وَإِلَّا فَمِنْ أَحْكَامِ الْبَيْعِ التَّمَكُّنُ مِنْ الْمُطَالَبَةِ بِالثَّمَنِ وَالْمَبِيعِ وَالْخُصُومَةِ فِي ذَلِكَ وَلَيْسَ يَثْبُتُ ذَلِكَ لِلْمُوَكِّلِ

قَالَ ( كُلُّ عَقْدٍ جَازَ أَنْ يَعْقِدَهُ الْإِنْسَانُ بِنَفْسِهِ جَازَ أَنْ يُوَكِّلَ بِهِ غَيْرَهُ ) لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَعْجِزُ عَنْ الْمُبَاشَرَةِ بِنَفْسِهِ عَلَى اعْتِبَارِ بَعْضِ الْأَحْوَالِ فَيَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ فَيَكُونَ بِسَبِيلٍ مِنْهُ دَفْعًا لِلْحَاجَةِ وَقَدْ صَحَّ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَّلَ بِالشِّرَاءِ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ وَبِالتَّزْوِيجِ عُمَرَ بْنَ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا } .

( قَوْلُهُ كُلُّ عَقْدٍ جَازَ أَنْ يَعْقِدَهُ الْإِنْسَانُ بِنَفْسِهِ جَازَ أَنْ يُوَكِّلَ بِهِ ) هَذَا ضَابِطٌ لَا حَدٌّ فَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَمْلِكُ بَيْعَ الْخَمْرِ وَيَمْلِكُ تَوْكِيلَ الذِّمِّيِّ بِهِ لِأَنَّ إبْطَالَ الْقَوَاعِدِ بِإِبْطَالِ الطَّرْدِ لَا الْعَكْسَ ، وَلَا يُبْطِلُ طَرْدُهُ عَدَمَ تَوْكِيلِ الذِّمِّيِّ مُسْلِمًا بِبَيْعِ خَمْرِهِ ، وَهُوَ يَمْلِكُهُ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ التَّوَصُّلَ بِهِ بِتَوْكِيلِ الذِّمِّيِّ ، فَصَدَقَ الضَّابِطُ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ كُلُّ عَقْدٍ يَمْلِكُهُ يَمْلِكُ تَوْكِيلَ كُلِّ أَحَدٍ بِهِ بَلْ التَّوَصُّلُ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ ، وَإِنَّمَا يَرُدُّ عَلَيْهِ تَوْكِيلَهُ الْوَكِيلُ الَّذِي لَمْ يُفَوِّضْ إلَيْهِ التَّصَرُّفَ مُطْلَقًا فَإِنَّهُ يَمْلِكُ الْعَقْدَ الَّذِي وُكِّلَ بِهِ وَلَا يَمْلِكُ التَّوْكِيلَ بِهِ ، فَذَكَرُوا أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ يَمْلِكُهُ بِمُجَرَّدِ أَهْلِيَّتِهِ اسْتِبْدَادًا لَا بِنَاءً عَلَى إذْنِ غَيْرِهِ ( قَوْلُهُ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَخْ ) أَمَّا وَكَالَةُ حَكِيمٍ فَرِوَايَةُ أَبِي دَاوُد بِسَنَدٍ فِيهِ مَجْهُولٌ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَفَعَ لَهُ دِينَارًا لِيَشْتَرِيَ لَهُ أُضْحِيَّةً فَاشْتَرَاهَا بِدِينَارٍ وَبَاعَهَا بِدِينَارَيْنِ فَرَجَعَ وَاشْتَرَى أُضْحِيَّةً بِدِينَارٍ وَجَاءَ بِدِينَارٍ وَأُضْحِيَّةً إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَتَصَدَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ وَدَعَا لَهُ أَنْ يُبَارِكَ لَهُ فِي تِجَارَتِهِ } وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ حَكِيمٍ وَقَالَ : لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ، وَحَبِيبٌ عِنْدِي أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ حَكِيمٍ إلَّا أَنَّ هَذَا دَاخِلٌ فِي الْإِرْسَالِ عِنْدَنَا فَيُصَدَّقُ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ صَحَّ إذَا كَانَ حَبِيبٌ إمَامًا ثِقَةً .
وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ شَبِيبِ بْنِ غَرْقَدَةَ قَالَ : حَدَّثَنِي الْحَيُّ عَنْ عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ قَالَ : { أَعْطَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِينَارًا يَشْتَرِي أُضْحِيَّةً أَوْ شَاةً

فَاشْتَرَى شَاتَيْنِ فَبَاعَ إحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ وَأَتَاهُ بِشَاةٍ وَدِينَارٍ فَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ فِي بَيْعِهِ فَكَانَ لَوْ اشْتَرَى تُرَابًا رَبِحَ فِيهِ } وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَأَحْمَدُ عَنْ أَبِي لَبِيدٍ وَاسْمُهُ لُمَازَةُ بْنُ زَبَّارٍ عَنْ عُرْوَةَ فَذَكَرَهُ ، وَاَلَّذِي يَتَحَقَّقُ مِنْ هَذَا ظَنَّ أَنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ وَقَعَتْ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ حَكِيمٍ أَوْ مَعَ عُرْوَةَ أَوْ مَعَ كُلٍّ مِنْهُمَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمَا وَاقِعَتَانِ فَتَثْبُتُ شَرْعِيَّةُ الْوَكَالَةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ .
وَأَمَّا أَنَّهُ وَكَّلَ عُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ : التَّزْوِيجَ فَأَخْرَجَ النَّسَائِيّ عَنْ ثَابِتٍ أَنَّهُ قَالَ : حَدَّثَنِي ابْنُ عُمَرَ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ إلَيْهَا يَخْطُبُهَا فَأَرْسَلَتْ إلَيْهِ إنِّي امْرَأَةٌ مُصْبِيَةٌ ، وَإِنِّي غَيْرَى ، وَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَوْلِيَائِي شَاهِدًا ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمَّا كَوْنُك غَيْرَى فَسَأَدْعُو اللَّهَ فَتَذْهَبُ غَيْرَتُك ، وَأَمَّا كَوْنُك مُصْبِيَةً فَإِنَّ اللَّهَ سَيَكْفِيك صِبْيَانَك ، وَأَمَّا أَنَّ أَحَدًا مِنْ أَوْلِيَائِك لَيْسَ شَاهِدًا فَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَوْلِيَائِك لَا شَاهِدٌ وَلَا غَائِبٌ إلَّا سَيَرْضَى بِهِ ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ : قُمْ يَا عُمَرُ فَزَوِّجْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَزَوَّجَهُ إيَّاهَا } وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ رَاهْوَيْهِ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ : صَحِيحُ الْإِسْنَادِ .
وَاسْمُ ابْنِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ سَعِيدٌ سَمَّاهُ غَيْرُ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ .
وَنَظَرَ فِيهِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ لِعِلَّةٍ بَاطِنَةٍ وَهِيَ أَنَّ عُمَرَ كَانَ إذْ ذَاكَ : يَعْنِي حِينَ تَزَوَّجَهَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سِنُّهُ ثَلَاثَ سِنِينَ فَكَيْفَ يُقَالُ لِمِثْلِهِ زَوِّجْ .
وَاسْتَبْعَدَهُ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ ابْنُ عَبْدِ الْهَادِي قَالَ : وَإِنْ كَانَ الْكَلَابَاذِيُّ وَغَيْرُهُ

قَالَهُ فَإِنَّ ابْنَ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ إنَّهُ وُلِدَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الْهِجْرَةِ إلَى الْحَبَشَةِ .
وَيُقَوِّي هَذَا مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ { أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ ؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : سَلْ هَذِهِ فَأَخْبَرَتْهُ أُمُّهُ أُمُّ سَلَمَةَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَصْنَعُ ذَلِكَ ، فَقَالَ عُمَرُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَك مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِك وَمَا تَأَخَّرَ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمَا وَاَللَّهِ إنِّي لَأَتْقَاكُمْ لِلَّهِ وَأَخْشَاكُمْ لَهُ } وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ كَانَ كَبِيرًا .
ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ ظَاهِرَ اللَّفْظِ يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ وَكِيلًا عَنْ أُمِّهِ لِأَنَّهَا هِيَ الْقَائِلَةُ لَهُ قُمْ يَا عُمَرُ فَزَوِّجْ لَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَإِنَّمَا يُفِيدُ ذَلِكَ حَدِيثٌ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْوَاقِدِيِّ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ أُمَّ سَلَمَةَ إلَى ابْنِهَا عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ ، فَزَوَّجَهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ غُلَامٌ صَغِيرٌ } إلَّا أَنَّهُمْ يُضَعِّفُونَ الْوَاقِدِيَّ خِلَافًا لَنَا .
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وَكَالَةِ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ خِلَافًا لَهُمْ ، إنْ نَظَرْنَا إلَى حَدِيثِ الْوَاقِدِيِّ فَظَاهِرٌ ، وَإِلَى الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فَلِأَنَّهُ لَمْ يُزَوِّجْهَا بِحُكْمِ الْوِلَايَةِ عَلَى أُمِّهِ لِأَنَّ الصَّبِيَّ لَا وِلَايَةَ لَهُ فَيَكُونُ تَزْوِيجُهُ بِحُكْمِ الْوَكَالَةِ .
وَقَدْ قِيلَ إنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هُوَ الْمَقُولُ لَهُ زَوِّجْ وَالْمُزَوِّجُ هُوَ سَلَمَةُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ .
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى شَرْعِيَّةِ الْوَكَالَةِ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ إِسْحَاقَ فِي كِتَابِ الْوَصَايَا : حَدَّثَنِي وَهْبُ بْنُ كَيْسَانَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ { أَرَدْت الْخُرُوجَ إلَى خَيْبَرَ فَأَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى

اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمْت عَلَيْهِ وَقُلْت : إنِّي أُرِيدُ الْخُرُوجَ إلَى خَيْبَرَ ، فَقَالَ : إذَا أَتَيْت وَكِيلِي فَخُذْ مِنْهُ خَمْسَةَ عَشَرَ وَسْقًا ، فَإِنْ ابْتَغَى مِنْك آيَةً فَضَعْ يَدَك عَلَى تَرْقُوَتِهِ } وَابْنُ إِسْحَاقَ عِنْدَنَا مِنْ الثِّقَاتِ .
وَأَمَّا عَلَى تَوْكِيلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَقِيلًا فَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ : كَانَ عَلِيٌّ يَكْرَهُ الْخُصُومَةَ ، فَكَانَ إذَا كَانَتْ لَهُ خُصُومَةٌ وَكَّلَ فِيهَا عَقِيلَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ ، فَلَمَّا كَبِرَ عَقِيلٌ وَكَّلَنِي .
وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ وَكَّلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ بِالْخُصُومَةِ .
وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ : إنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَعْجِزُ إلَى آخِرِهِ .
بَيَانُ حِكْمَةِ شَرْعِيَّةِ الْوَكَالَةِ

قَالَ ( وَتَجُوزُ الْوَكَالَةُ بِالْخُصُومَةِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ ) لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ الْحَاجَةِ إذْ لَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يَهْتَدِي إلَى وُجُوهِ الْخُصُومَاتِ .
وَقَدْ صَحَّ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَّلَ عَقِيلًا ، وَبَعْدَمَا أَسَنَّ وَكَّلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ( وَكَذَا بِإِيفَائِهَا وَاسْتِيفَائِهَا إلَّا فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فَإِنَّ الْوَكَالَةَ لَا تَصِحُّ بِاسْتِيفَائِهَا مَعَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ عَنْ الْمَجْلِسِ ) لِأَنَّهَا تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَشُبْهَةُ الْعَفْوِ ثَابِتَةٌ حَالَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ ، بَلْ هُوَ الظَّاهِرُ لِلنَّدْبِ الشَّرْعِيِّ ، بِخِلَافِ غَيْبَةِ الشَّاهِدِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ عَدَمُ الرُّجُوعِ ، وَبِخِلَافِ حَالَةِ الْحَضْرَةِ لِانْتِفَاءِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ ، وَلَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يُحْسِنُ الِاسْتِيفَاءَ .
فَلَوْ مُنِعَ عَنْهُ يَنْسَدُّ بَابُ الِاسْتِيفَاءِ أَصْلًا ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا تَجُوزُ الْوَكَالَةُ بِإِثْبَاتِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصُ بِإِقَامَةِ الشُّهُودِ أَيْضًا ) وَمُحَمَّدٌ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقِيلَ مَعَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ ، وَقِيلَ هَذَا الِاخْتِلَافُ فِي غَيْبَتِهِ دُونَ حَضْرَتِهِ لِأَنَّ كَلَامَ الْوَكِيلِ يَنْتَقِلُ إلَى الْمُوَكِّلِ عِنْدَ حُضُورِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ مُتَكَلِّمٌ بِنَفْسِهِ .
لَهُ أَنَّ التَّوْكِيلَ إنَابَةٌ وَشُبْهَةُ النِّيَابَةِ يُتَحَرَّزُ عَنْهَا فِي هَذَا الْبَابِ ( كَمَا فِي الشَّهَادَةِ وَكَمَا فِي الِاسْتِيفَاءِ ) وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْخُصُومَةَ شَرْطٌ مَحْضٌ لِأَنَّ الْوُجُوبَ مُضَافٌ إلَى الْجِنَايَةِ وَالظُّهُورَ إلَى الشَّهَادَةِ فَيَجْرِي فِيهِ التَّوْكِيلُ كَمَا فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ التَّوْكِيلُ بِالْجَوَابِ مِنْ جَانِبِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَالْقِصَاصُ .
وَكَلَامُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيهِ أَظْهَرُ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ لَا تَمْنَعُ الدَّفْعَ ، غَيْرَ أَنَّ إقْرَارَ الْوَكِيلِ غَيْرُ مَقْبُولٍ عَلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ شُبْهَةِ عَدَمِ

الْأَمْرِ بِهِ .

( قَوْلُهُ تَجُوزُ الْوَكَالَةُ بِالْخُصُومَةِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ ) لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ الْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يَهْتَدِي إلَى وُجُوهِ الْخُصُومَاتِ الَّتِي بِهَا يَثْبُتُ حَقُّهُ أَوْ يَنْدَفِعُ بِهَا عَنْهُ مَا يَدَّعِيهِ الْآخَرُ .
وَكَذَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِإِيفَاءِ الْحُقُوقِ وَاسْتِيفَائِهَا إلَّا فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ ، وَمَا دُونَ النَّفْسِ فَإِنَّ الْوَكَالَةَ لَا تَصِحُّ بِإِيفَائِهَا وَلَا بِاسْتِيفَائِهَا مَعَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ عَنْ الْمَجْلِسِ ، وَهَذَا يَتَعَلَّقُ بِالِاسْتِيفَاءِ فَقَطْ فَالنَّفْيُ مُطْلَقٌ ، إذْ الْإِيفَاءُ لَيْسَ إلَّا بِتَسْلِيمِ ظَهْرِهِ أَوْ نَفْسِهِ لِإِقَامَةِ الْوَاجِبِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ الْأَمْرُ إلَّا مِنْ الْجَانِي وَلَيْسَ هُوَ الْوَكِيلُ ، فَكَانَ ذَلِكَ قَيْدًا فِي الِاسْتِيفَاءِ ، وَإِنَّمَا لَا يَجُوزُ الِاسْتِيفَاءُ حَالَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ لِأَنَّهَا : أَيْ الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ ، وَشُبْهَةُ الْعَفْوِ ثَابِتَةٌ حَالَ غَيْبَتِهِ بَلْ هُوَ الظَّاهِرُ لِلنَّدْبِ الشَّرْعِيِّ ، قَالَ تَعَالَى { وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } بِخِلَافِ غَيْبَةِ الشَّاهِدِ بِالْحَدِّ وَالْقِصَاصِ فَإِنَّهُ يَسْتَوْفِي ذَلِكَ مَعَ غَيْبَتِهِ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ فِيهِ لَيْسَ إلَّا الرُّجُوعُ ، وَلَيْسَ قَرِيبًا فِي الظَّاهِرِ وَلَا ظَاهِرَ إلَّا مِنْ جِهَةِ الْأَصْلِ وَلَا الْغَالِبِ لِأَنَّ الْأَصْلَ الصِّدْقُ خُصُوصًا مَعَ الْعَدَالَةِ وَالرُّجُوعُ لَيْسَ غَالِبًا ، بَلْ مِنْ نَحْوِ ثَمَانِمِائَةِ عَامٍ لَا يُعْرَفُ إلَّا مَا وَقَعَ عِنْدَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ هَلْ نَدَرَ عِنْدَ غَيْرِهِ أَمْ لَا ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَا وُجُودَ لَهُ فَلَا يَصِيرُ شُبْهَةً يُدَارُ بِاعْتِبَارِهَا حُكْمٌ ( بِخِلَافِ ) الِاسْتِيفَاءِ ( حَالَ حَضْرَةِ الْمُوَكِّلِ ) فَإِنَّ الْوَكَالَةَ بِهِ تَجُوزُ ، فَإِنَّ الْمُسْتَحِقَّ قَدْ لَا يُحْسِنُ الِاسْتِيفَاءَ ، فَلَوْ امْتَنَعَ التَّوْكِيلُ بِهِ بَطَلَ هَذَا الْحَقُّ وَهَذَا فِي الْقِصَاصِ .
وَأَمَّا الْحُدُودُ فَإِنَّ الَّذِي يَلِي اسْتِيفَاءَهَا

الْإِمَامُ ، وَقَدْ لَا يُحْسِنُ فَجَازَ تَوْكِيلُ الْجَلَّادِ وَإِلَّا امْتَنَعَ .
ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ تَعْلِيلَ الْمُصَنِّفِ النَّفْيَ حَالَةَ الْغَيْبَةِ بِثُبُوتِ شُبْهَةِ الْعَفْوِ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ فِي الْقِصَاصِ دُونَ الْحُدُودِ لِأَنَّ الْعَفْوَ فِيهَا لَا يَتَحَقَّقُ أَصْلًا كَمَا أَسْلَفْنَاهُ فِي الْحُدُودِ ، وَلَوْ كَانَ حَدُّ قَذْفٍ وَسَرِقَةٍ لِأَنَّ الْحَقَّ صَارَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَحْدَهُ ، حَتَّى لَوْ عَفَا الْمَسْرُوقُ مِنْهُ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ وَيَقْطَعُهُ ، فَالْوَجْهُ أَنْ يَضُمَّ مَا يَجْرِي فِيهِ مِنْ إمْكَانِ ظُهُورِ شُبْهَةٍ أَوْ غَلَطٍ ، فَبَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ فَيُؤَخَّرُ إلَى أَنْ يَحْضُرَ نَفْسُ الْمُسْتَحِقِّ احْتِيَاطًا لِلدَّرْءِ ( قَوْلُهُ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ ) أَيْ مِنْ جَوَازِ التَّوْكِيلِ بِإِثْبَاتِ الْحُدُودِ : أَيْ مِنْ جِهَةِ الْمَقْذُوفِ وَالْمَسْرُوقِ مِنْهُ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى السَّبَبِ ( قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا تَجُوزُ الْوَكَالَةُ بِإِثْبَاتِهَا ) وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ مُضْطَرِبٌ تَارَةً يُضَمُّ إلَى أَبِي يُوسُفَ وَتَارَةً إلَى أَبِي حَنِيفَةَ ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ تَرْجِيحُهُ ، وَكَذَا فَعَلَ فِي الْمَبْسُوطِ ( وَقِيلَ هَذَا الْخِلَافُ ) بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ( عِنْدَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ ) فَلَوْ وُكِّلَ بِإِثْبَاتِهَا وَهُوَ حَاضِرٌ جَازَ اتِّفَاقًا ( لِأَنَّ كَلَامَ الْوَكِيلِ يَنْتَقِلُ إلَى الْمُوَكِّلِ عِنْدَ حُضُورِهِ .
لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ التَّوْكِيلَ إنَابَةٌ وَشُبْهَةُ النِّيَابَةِ يُحْتَرَزُ عَنْهَا فِي هَذَا الْبَابِ ) أَيْ بَابِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ حَتَّى لَا تَثْبُتَ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَلَا بِكِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي وَلَا بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ فَصَارَ كَالتَّوْكِيلِ بِالِاسْتِيفَاءِ حَالِ الْغَيْبَةِ ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْخُصُومَةَ شَرْطٌ مَحْضٌ ) لِثُبُوتِ الْحَدِّ ( لِأَنَّ وُجُوبَهُ ) إنَّمَا ( يُضَافُ إلَى ) نَفْسِ ( الْجِنَايَةِ ) لَا إلَى الْخُصُومَةِ ( وَالظُّهُورِ ) أَيْ ظُهُورِ الْجِنَايَةِ إنَّمَا

يُضَافُ ( إلَى ) نَفْسِ ( الشَّهَادَةِ ) لَا إلَى السَّعْيِ فِي إثْبَاتِهَا فَكَانَ السَّعْيُ فِي ذَلِكَ حَقًّا ( كَسَائِرِ الْحُقُوقِ ) فَيَجُوزُ لِقِيَامِ الْمُقْتَضَى وَانْتِفَاءِ الْمَانِعِ .
وَقَوْلُهُ سَائِرُ الْحُقُوقِ : أَيْ بَاقِيهَا : أَيْ فَتَجُوزُ الْوَكَالَةُ بِهَذَا الْحَقِّ كَمَا فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ ، وَلَا حَاجَةَ إلَى تَفْسِيرِهِ بِجَمِيعِ الْحُقُوقِ مُعَوِّلًا عَلَى مَا فِي صِحَاحِ الْجَوْهَرِيِّ ثُمَّ تَخْطِئَتِهِ بِأَنَّهُ إنَّمَا هُوَ بِمَعْنَى الْبَاقِي لَا الْجَمِيعِ .
هَذَا وَقَدْ يُمْنَعُ انْتِفَاءُ الْمَانِعِ ، فَإِنَّ هَذِهِ الْخُصُومَةَ لَيْسَ إلَّا السَّعْيَ فِي إثْبَاتِ سَبَبِ الْحَدِّ وَالِاحْتِيَالِ فِيهِ وَوَضَعَ الشَّرْعُ الِاحْتِيَالَ لِإِسْقَاطِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ صَحَّ هَذَا لَمْ يَجُزْ إثْبَاتُهَا مِنْ الْمُوَكِّلِ نَفْسَهُ عَلَى مَا ذَكَرْت لِأَنَّهُ سَاعٍ إلَى آخِرِهِ وَذَلِكَ يُخِلُّ بِالْإِجْمَاعِ .
قُلْنَا الْفَرْقُ أَنَّ الْوَكَالَةَ فِيهَا زِيَادَةُ تَحَيُّلٍ وَزِيَادَةُ تَكَلُّفٍ لِإِثْبَاتِهِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يُوَكِّلُ لِلِاسْتِعَانَةِ عَلَيْهِ لِضَعْفِهِ هُوَ عَنْ الْإِثْبَاتِ وَالشَّرْعُ أَطْلَقَ فِي إثْبَاتِهِ لَا بِذَلِكَ التَّكَلُّفِ الزَّائِدِ وَالتَّهَالُكِ فِيهِ ، بَلْ إذَا عَجَزَ تَرَكَ لِأَنَّهُ عِلَّةُ الدَّرْءِ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلَّذِينَ اتَّبَعُوا مَاعِزًا حِينَ هَرَبَ لَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ { هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ ؟ } أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ ( قَوْلُهُ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ التَّوْكِيلُ بِالْجَوَابِ مِنْ جَانِبِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَالْقِصَاصُ ) أَجَازَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنَعَهُ أَبُو يُوسُفَ ( وَ ) لَا شَكَّ أَنَّ ( كَلَامَ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ أَظْهَرُ ) مِنْهُ بِالْوَكَالَةِ بِإِثْبَاتِهَا ( لِأَنَّ الشُّبْهَةَ ) الَّتِي بِهَا مَنَعَ أَبُو يُوسُفَ هُنَاكَ ( لَا تَمْنَعُ الدَّفْعَ ) بَلْ تَقْتَضِي أَنْ يَقُولَ بِجَوَازِ الْوَكَالَةِ بِدَفْعِهِ ، ثُمَّ لَا يَجُوزُ لِلْمُوَكَّلِ الْإِقْرَارُ عَلَى مُوَكِّلِهِ كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَخِلَافُهُ هَذَا عَجِيبٌ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
ثُمَّ وَجْهُ عَدَمِ صِحَّةِ إقْرَارِ

الْوَكِيلِ مِنْ جِهَةِ الْمَطْلُوبِ هُنَا وَجَوَازُهُ فِي غَيْرِهِ أَنَّ الْوَكَالَةَ بِالْخُصُومَةِ انْصَرَفَتْ إلَى الْجَوَابِ مُطْلَقًا نَوْعًا مِنْ الْمَجَازِ فَنَعْتَبِرُ عُمُومَهُ فِيمَا لَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَنَخُصُّ مِنْهُ الِاعْتِرَافُ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشَّرْعِ الْعَامِّ فِي الدَّرْءِ بِالشُّبُهَاتِ ، وَفِي اعْتِرَافِهِ شُبْهَةُ عَدَمِ الْأَمْرِ بِهِ

( وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ إلَّا بِرِضَا الْخَصْمِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ مَرِيضًا أَوْ غَائِبًا مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا .
وَقَالَا : يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِغَيْرِ رِضَا الْخَصْمِ ) وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَلَا خِلَافَ فِي الْجَوَازِ إنَّمَا الْخِلَافُ فِي اللُّزُومِ .
لَهُمَا أَنَّ التَّوْكِيلَ تَصَرُّفٌ فِي خَالِصِ حَقِّهِ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى رِضَا غَيْرِهِ كَالتَّوْكِيلِ بِتَقَاضِي الدُّيُونِ .
وَلَهُ أَنَّ الْجَوَابَ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْخَصْمِ وَلِهَذَا يَسْتَحْضِرُهُ ، وَالنَّاسُ مُتَفَاوِتُونَ فِي الْخُصُومَةِ ، فَلَوْ قُلْنَا بِلُزُومِهِ يَتَضَرَّرُ بِهِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى رِضَاهُ كَالْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ إذَا كَاتَبَهُ أَحَدُهُمَا يَتَخَيَّرُ الْآخَرُ ، بِخِلَافِ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ لِأَنَّ الْجَوَابَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِمَا هُنَالِكَ ، ثُمَّ كَمَا يَلْزَمُ التَّوْكِيلُ عِنْدَهُ مِنْ الْمُسَافِرِ يَلْزَمُ إذَا أَرَادَ السَّفَرَ لِتَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ ، وَلَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ مُخَدَّرَةً لَمْ تَجْرِ عَادَتُهَا بِالْبُرُوزِ وَحُضُورِ مَجْلِسِ الْحُكْمِ قَالَ الرَّازِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَلْزَمُ التَّوْكِيلُ لِأَنَّهَا لَوْ حَضَرَتْ لَا يُمْكِنُهَا أَنْ تَنْطِقَ بِحَقِّهَا لِحَيَائِهَا فَيَلْزَمُ تَوْكِيلُهَا .
قَالَ : وَهَذَا شَيْءٌ اسْتَحْسَنَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ .

( قَوْلُهُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ ) مِنْ قِبَلِ الْمُدَّعِي أَوْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ( إلَّا بِرِضَا الْخَصْمِ ) إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ مَرِيضًا أَوْ غَائِبًا مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا ( وَقَالَا : يَجُوزُ ) ذَلِكَ ( بِغَيْرِ رِضَا الْخَصْمِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ) قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَلَا خِلَافَ فِي الْجَوَازِ إنَّمَا الْخِلَافُ فِي اللُّزُومِ ) قَالُوا : فَعَلَى هَذَا مَعْنَى قَوْلِنَا لَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ إلَخْ لَا يَلْزَمُ إلَّا بِرِضَا الْآخَرِ .
وَأَنْكَرَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ مِنْ التَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ بِسَبَبِ أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ عِبَارَةِ مُحَمَّدٍ وَالْحَسَنِ وَالطَّحَاوِيِّ وَكَثِيرٍ خِلَافُ ذَلِكَ ، وَسَاقَ عِبَارَاتِهِمْ فَلَمْ تَرُدَّ عَلَى مَا عَلِمُوهُ مِنْ نَحْوِ قَوْلِ الْقُدُورِيِّ الْمَسْطُورِ هُنَا ، وَهُوَ : لَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ إلَّا بِرِضَا الْخَصْمِ ، وَهُمْ قَدْ عَلِمُوا ذَلِكَ وَلَمْ يَشُكُّوا فِيهِ ، وَإِنَّمَا فَسَرُّوهُ بِذَلِكَ .
وَسَبَقَ الْمُصَنِّفُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ إلَى ذَلِكَ فَقَالَ : التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ عِنْدَهُ بِغَيْرِ رِضَا الْخَصْمِ صَحِيحٌ ، لَكِنْ لِلْخَصْمِ أَنْ يَطْلُبَ الْخَصْمَ أَنْ يَحْضُرَ بِنَفْسِهِ وَيُجِيبَ ، وَنَحْوُ هَذَا كَلَامٌ كَثِيرٌ مِمَّا يُفِيدُ أَنَّهُ الْمُرَادُ مِمَّا ذَكَرُوهُ .
وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُعَرِّفْ لِأَحَدٍ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ إذَا وَكَّلَ فَعَلِمَ خَصْمُهُ فَرَضِيَ لَا يَكُونُ رِضَاهُ كَافِيًا فِي تَوَجُّهِ خُصُومَةِ الْوَكِيلِ وَلَا تُسْمَعُ حَتَّى يُجَدِّدَ لَهُ وَكَالَةً أُخْرَى عَلَى مَا هُوَ مُقْتَضَى الظَّوَاهِرِ الَّتِي سَاقَهَا عَلِمُوا أَنَّ الْمُرَادَ بِلَا تَجُوزُ إلَّا بِرِضَاهُ أَنَّهَا لَا تَمْضِي عَلَى الْآخَرِ وَتَلْزَمُ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَرْضَى ، وَمَعْنَى هَذَا لَيْسَ إلَّا أَنَّ اللُّزُومَ عَلَيْهِ مَوْقُوفٌ عَلَى رِضَاهُ وَهُوَ مَعْنَى التَّأْوِيلِ الْمَذْكُورِ ، وَمِنْ الْعِبَارَاتِ الَّتِي نَقَلَهَا مَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ : لَا أَقْبَلُ وَكَالَةً مِنْ حَاضِرٍ

صَحِيحٍ إلَّا أَنْ يَرْضَى خَصْمُهُ ، وَهِيَ قَرِيبَةٌ مِنْ التَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَجِبُ التَّعْوِيلُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْقَوْمُ حَتَّى أَنَّهُ إذَا وَكَّلَ فَرَضِيَ الْآخَرُ لَا يَحْتَاجُ فِي سَمَاعِ خُصُومَةِ الْوَكِيلِ إلَى تَجْدِيدِ وَكَالَةٍ كَمَا هُوَ لَازِمُ مَا اُعْتُبِرَ مِنْ ظَاهِرِ الْعِبَارَةِ لَهُمَا أَنَّ التَّوْكِيلَ ) بِالْخُصُومَةِ ( تَصَرُّفٌ فِي خَالِصِ حَقِّهِ ) لِأَنَّ الْخُصُومَةَ حَقَّهُ الَّذِي لَا يَصُدُّ عَنْهُ فَاسْتِنَابَتُهُ فِيهِ تَصَرُّفٌ فِي خَالِصِ حَقِّهِ ( فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى رِضَا غَيْرِهِ ) وَصَارَ ( كَالتَّوْكِيلِ ) : بِغَيْرِ ذَلِكَ بِتَقَاضِي الدُّيُونِ .
وَلَهُ أَنَّ جَوَابَ الْخَصْمِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى خَصْمِهِ .
وَلِاسْتِحْقَاقِهِ عَلَيْهِ يَسْتَحْضِرُهُ الْحَاكِمُ قَبْلَ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ عَلَيْهِ شَيْءٌ لِيُجِيبَهُ عَمَّا يَدَّعِيه عَلَيْهِ .
وَغَايَةُ مَا ذَكَرْتُمْ أَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي خَالِصِ حَقِّهِ لَكِنَّ تَصَرُّفَ الْإِنْسَانِ فِي خَالِصِ حَقِّهِ إنَّمَا يُنَفَّذُ إذَا لَمْ يَتَعَدَّ إلَى الْإِضْرَارِ بِغَيْرِهِ ( وَ ) لَا شَكَّ أَنَّ ( النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْخُصُومَةِ ) كَمَا صَرَّحَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ الْآخَرِ فَأَقْضِي لَهُ ، فَمَنْ قَضَيْت لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنْ نَارٍ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْوَكِيلَ إنَّمَا يَقْصِدُ عَادَةً لِاسْتِخْرَاجِ الْحِيَلِ وَالدَّعَاوَى الْبَاطِلَةِ لِيَغْلِبَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْحَقُّ مَعَهُ ، كَمَا أَفَادَهُ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ .
وَفِي هَذَا ضَرَرٌ بِالْآخَرِ فَلَا يَلْزَمُ إلَّا بِالْتِزَامِهِ ، وَصَارَ ( كَالْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ إذَا كَاتَبَهُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ ) فَإِنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي خَالِصِ حَقِّهِ ، وَمَعَ هَذَا لَمَّا كَانَ مُتَضَمِّنًا الْإِضْرَارَ بِالْآخَرِ كَانَ لَهُ فَسْخُهَا ، وَكَمَنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا إجَارَتُهُ إيَّاهَا تَصَرُّفٌ فِي حَقِّهِ وَمَمْلُوكِهِ ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِالْمُؤَجِّرِ إذْ كَانَ النَّاسُ

يَخْتَلِفُونَ فِي الرُّكُوبِ ، بِخِلَافِ مَا قَاسَ عَلَيْهِ مِنْ التَّوْكِيلِ بِتَقَاضِي الدَّيْنِ فَإِنَّهُ بِحَقٍّ ثَابِتٍ مَعْلُومٍ يَقْبِضُهُ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ عَلَى الْآخَرِ فِيهِ فَإِنَّ الْقَبْضَ مَعْلُومٌ بِجِنْسِ حَقِّهِ وَعَلَى الْمَطْلُوبِ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ ، وَلِلتَّقَاضِي حَدٌّ مَعْلُومٌ إذَا جَاوَزَهُ مُنِعَ مِنْهُ ، بِخِلَافِ الْخُصُومَةِ فَإِنَّ ضَرَرَهَا أَشَدُّ مِنْ شِدَّةِ التَّقَاضِي ، وَعَدَمُ الْمُسَاهَلَةِ فِي الْقَبْضِ لِتَضَمُّنِهَا التَّحَيُّلَ عَلَى إثْبَاتِ مَا لَيْسَ بِثَابِتٍ أَوْ دَفْعِ مَا هُوَ ثَابِتٌ فَلَا يُقْبَلُ بِغَيْرِ رِضَاهُ ، إلَّا إذَا كَانَ مَعْذُورًا وَذَلِكَ بِسَفَرِهِ فَإِنَّهُ يَعْجَزُ عَنْ الْجَوَابِ بِنَفْسِهِ مَعَ غَيْبَتِهِ أَوْ مَرَضِهِ ، وَتَوْكِيلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرِهِ بِالْخُصُومَةِ إنْ لَمْ يُنْقَلْ فِيهِ اسْتِرْضَاءُ الْخَصْمِ لَمْ يُنْقَلْ عَدَمُهُ فَهُوَ جَائِزُ الْوُقُوعِ فَلَا يَدُلُّ لِأَحَدٍ .
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ : وَاَلَّذِي نَخْتَارُهُ أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا عَلِمَ مِنْ الْمُدَّعِي التَّعَنُّتَ فِي إبَائِهِ التَّوْكِيلَ يَقْبَلُهُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ ، وَإِذَا عَلِمَ مِنْ الْمُوَكِّلِ الْقَصْدَ إلَى الْإِضْرَارِ بِالتَّوْكِيلِ لَا يَقْبَلُهُ إلَّا بِرِضَا الْآخَرِ فَيَتَضَاءَلُ وَقْعُ الضَّرَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ .
ثُمَّ ذَكَرَ فِي حَدِّ الْمَرَضِ : إنْ لَمْ يَسْتَطِعْ الْمَشْيَ وَيَقْدِرُ عَلَى الرُّكُوبِ وَلَوْ عَلَى إنْسَانٍ لَكِنْ يَزْدَادُ مَرَضُهُ صَحَّ التَّوْكِيلُ ، وَإِنْ لَمْ يَزْدَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ لِأَنَّ نَفْسَ الْخُصُومَةِ مَظِنَّةُ زِيَادَةِ سُوءِ الْمِزَاجِ فَلَا يُلْزَمُ بِهِ ( وَكَمَا يَلْزَمُ التَّوْكِيلُ مِنْ الْمُسَافِرِ يَلْزَمُ ) مِنْ الْحَاضِرِ ( عِنْدَ إرَادَةِ السَّفَرِ ) غَيْر أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يُصَدِّقُهُ فِي دَعْوَاهُ بِإِرَادَتِهِ فَيَنْظُرُ إلَى زِيِّهِ وَعِدَّةِ سَفَرِهِ وَيَسْأَلُهُ مَعَ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَخْرُجَ فَيَسْأَلُ رُفَقَاءَهُ عَنْ ذَلِكَ ، كَمَا إذَا أَرَادَ فَسْخَ الْإِجَارَةِ بِعُذْرِ السَّفَرِ فَإِنَّهُ لَا يُصَدِّقُهُ إذَا لَمْ يُصَدِّقْهُ الْآجِرُ فَيَسْأَلُ كَمَا

ذَكَرْنَا ، فَإِنْ قَالُوا نَعَمْ تَحَقَّقَ الْعُذْرُ فِي فَسْخِهَا ( قَوْلُهُ وَلَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ مُخَدَّرَةً ) قَالَ الرَّازِيّ وَهُوَ الْإِمَامُ الْكَبِيرُ أَبُو بَكْرٍ الْجَصَّاصُ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الرَّازِيّ ( يَلْزَمُ التَّوْكِيلُ ) مِنْهَا ( لِأَنَّهَا لَوْ حَضَرَتْ لَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تَنْطِقَ بِحَقِّهَا لِحَيَائِهَا فَيَلْزَمُ تَوْكِيلُهَا ) أَوْ يُضَيِّعُ حَقُّهَا .
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهَذَا شَيْءٌ اسْتَحْسَنَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ يَعْنِي إمَّا عَلَى ظَاهِرِ إطْلَاقِ الْأَصْلِ وَغَيْرِهِ .
عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ الْمُخَدَّرَةِ وَالْبَرْزَةِ ، وَالْفَتْوَى عَلَى مَا اخْتَارُوهُ مِنْ ذَلِكَ ، وَحِينَئِذٍ فَتَخْصِيصُ الرَّازِيّ ثُمَّ تَعْمِيمُ الْمُتَأَخِّرِينَ لَيْسَ إلَّا لِفَائِدَةِ أَنَّهُ الْمُبْتَدِئُ بِتَفْرِيعِ ذَلِكَ وَتَبِعُوهُ .
ثُمَّ ذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ فِي تَفْسِيرِ الْمُخَدَّرَةِ عَنْ الْبَزْدَوِيِّ أَنَّهَا الَّتِي لَا يَرَاهَا غَيْرُ الْمَحَارِمِ مِنْ الرِّجَالِ .
أَمَّا الَّتِي جَلِيَتْ عَلَى الْمِنَصَّةِ فَرَآهَا الرِّجَالُ لَا تَكُونُ مُخَدَّرَةً ، وَلَيْسَ هَذَا بِحَقٍّ ، بَلْ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ قَوْلِهِ وَهِيَ الَّتِي لَمْ تَجْرِ عَادَتُهَا بِالْبُرُوزِ ، فَأَمَّا حَدِيثُ الْمِنَصَّةِ فَقَدْ يَكُونُ عَادَةَ الْعَوَامّ تَفْعَلُهُ بِهَا وَالِدَتُهَا ثُمَّ لَمْ يَعْهَدْ لَهَا بُرُوزٌ وَمُخَالَطَةٌ فِي قَضَاءِ حَوَائِجِهَا بَلْ يَفْعَلُهُ غَيْرُهَا لَهَا ( يَلْزَمُ تَوْكِيلُهَا ) لِأَنَّ فِي إلْزَامِهَا بِالْجَوَابِ تَضْيِيعُ حَقِّهَا ، وَهَذَا شَيْءٌ اسْتَحْسَنَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى .
ثُمَّ إذَا وَكَّلَتْ فَلَزِمَهَا يَمِينٌ بَعَثَ الْحَاكِمُ إلَيْهَا ثَلَاثَةً مِنْ الْعُدُولِ يَسْتَحْلِفُهَا أَحَدُهُمْ وَيَشْهَدُ الْآخَرَانِ عَلَى يَمِينِهَا أَوْ نُكُولِهَا .
وَفِي أَدَبِ الْقَاضِي لِلصَّدْرِ الشَّهِيدِ : إذَا كَانَ الْمُدَّعِي عَلَيْهِ مَرِيضًا أَوْ مُخَدَّرَةً وَهِيَ الَّتِي لَمْ يُعْهَدْ لَهَا خُرُوجٌ إلَّا لِضَرُورَةٍ .
فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي مَأْذُونًا بِالِاسْتِخْلَافِ بَعَثَ نَائِبًا يَفْصِلُ الْخُصُومَةَ هُنَاكَ وَإِنْ لَمْ

يَكُنْ بَعَثَ أَمِينًا وَشَاهِدَيْنِ يَعْرِفَانِ الْمَرْأَةَ وَالْمَرِيضَ ، فَإِنْ بَعَثَهُمَا يَشْهَدَانِ عَلَى إقْرَارِ كُلٍّ مِنْهُمَا أَوْ إنْكَارِهِ مَعَ الْيَمِينِ لِيَنْقُلَاهُ إلَى الْقَاضِي ، وَلَا بُدَّ لِلشَّهَادَةِ مِنْ الْمَعْرِفَةِ ، فَإِذَا شَهِدَا عَلَيْهِمَا قَالَ الْأَمِينُ وَكُلُّ مَنْ يَحْضُرُ مَعَ خَصْمِك مَجْلِسَ الْحُكْمِ فَيَحْضُرُ وَكِيلُهُ وَيَشْهَدَانِ عِنْدَ الْقَاضِي بِإِقْرَارِهِ أَوْ نُكُولِهِ لِتُقَامَ الْبَيِّنَةُ عَلَى ذَلِكَ الْوَكِيلِ .
وَلَوْ تَوَجَّهَ يَمِينٌ عَلَى أَحَدِهِمَا عَرَضَهُ الْأَمِينُ عَلَيْهِ ، فَإِنْ أَبَى الْحَلِفَ عَرَضَهُ ثَلَاثًا ، فَإِذَا نَكَلَ أَمَرَهُ أَنْ يُوَكِّلَ مَنْ يَحْضُرُ الْمَجْلِسَ لِيَشْهَدَا عَلَى نُكُولِهِ بِحَضْرَتِهِ ، فَإِذَا شَهِدَا بِنُكُولِهِ حَكَمَ الْقَاضِي عَلَيْهِ بِالدَّعْوَى بِنُكُولِهِ .
قَالَ السَّرَخْسِيُّ : هَذَا اخْتِيَارُ صَاحِبِ الْكِتَابِ ، فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لِلْقَضَاءِ بِالنُّكُولِ أَنْ يَكُونَ عَلَى أَثَرِ النُّكُولِ .
فَأَمَّا غَيْرُهُ مِنْ الْمَشَايِخِ فَشَرَطُوهُ فَلَا يُمْكِنُ الْقَضَاءُ بِذَلِكَ النُّكُولِ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : الْأَمِينُ يَحْكُمُ عَلَيْهِمَا بِالنُّكُولِ ثُمَّ يَنْقُلُهُ الشَّاهِدَانِ إلَى الْقَاضِي مَعَ وَكِيلِهِمَا فَيَمْضِيه الْقَاضِي .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَقُولُ الْقَاضِي لِلْمُدَّعِي أَتُرِيدُ حَكَمًا يَحْكُمُ بَيْنَكُمَا بِذَلِكَ ثِمَّةً ؟ فَإِذَا رَضِيَ بَعَثَ أَمِينًا بِالتَّحْكِيمِ إلَى الْخَصْمِ يُخْبِرُهُ بِذَلِكَ ، فَإِذَا رَضِيَ بِحُكْمِهِ وَحَكَمَ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا اخْتِلَافَ فِيهِ نَفَذَ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا فِيهِ خِلَافٌ تَوَقَّفَ عَلَى إمْضَاءِ الْقَاضِي .
وَالْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ ، فَإِذَا أَمْضَاهُ نَفَذَ عَلَى الْكُلِّ .
وَفِي الذَّخِيرَةِ مِنْ الْأَعْذَارِ الَّتِي تُوجِبُ لُزُومَ التَّوْكِيلِ بِغَيْرِ رِضَا الْخَصْمِ .
عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : حَيْضُ الْمَرْأَةِ إذَا كَانَ الْقَاضِي يَقْضِي فِي الْمَسْجِدِ ، وَهَذِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : إنْ كَانَتْ طَالِبَةً قُبِلَ مِنْهَا التَّوْكِيلُ بِغَيْرِ رِضَاهُ ، أَوْ مَطْلُوبَةً إنْ أَخَّرَهَا الطَّالِبُ إلَى أَنْ يَخْرُجَ الْقَاضِي

مِنْ الْمَسْجِدِ لَا يُقْبَلُ تَوْكِيلُهَا بِغَيْرِ رِضَا الطَّالِبِ .
وَلَوْ كَانَ الْمُوَكِّلُ مَحْبُوسًا فَعَلَى وَجْهَيْنِ ، إنْ كَانَ فِي حَبْسِ هَذَا الْقَاضِي لَا يُقْبَلُ التَّوْكِيلُ بِلَا رِضَاهُ لِأَنَّ الْقَاضِيَ يُخْرِجُهُ مِنْ السِّجْنِ لِيُخَاصِمَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ، وَإِنْ كَانَ فِي حَبْسِ الْوَالِي وَلَا يُمَكِّنُهُ الْوَالِي مِنْ الْخُرُوجِ لِلْخُصُومَةِ يُقْبَلُ مِنْهُ التَّوْكِيلُ

( قَالَ : وَمِنْ شَرْطِ الْوَكَالَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ مِمَّنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ وَتَلْزَمُهُ الْأَحْكَامُ ) لِأَنَّ الْوَكِيلَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ مِنْ جِهَةِ الْمُوَكِّلِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ مَالِكًا لِيُمَلِّكَهُ مَنْ غَيْرَهُ .

( قَوْلُهُ وَمِنْ شَرْطِ الْوَكَالَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ وَتَلْزَمُ الْأَحْكَامُ ) فَهَذَانِ شَرْطَانِ لِلْوَكَالَةِ فِي الْمُوَكِّلِ .
قِيلَ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ الْأَوَّلُ عَلَى قَوْلِهِمَا ، أَمَّا عَلَى قَوْلِهِ فَلَا لِأَنَّهُ يُجِيزُ تَوْكِيلَ الْمُسْلِمِ الذِّمِّيَّ بِبَيْعِ خَمْرٍ وَشِرَائِهَا وَالْمُسْلِمُ لَا يَمْلِكُهُ ، بَلْ الشَّرْطُ عِنْدَهُ كَوْنُ الْوَكِيلِ مَالِكًا لِذَلِكَ التَّصَرُّفِ الَّذِي وَكَّلَ بِهِ .
وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِمِلْكِهِ لِلتَّصَرُّفِ أَنْ تَكُونَ لَهُ وَلَا شَرْعِيَّةَ فِي جِنْسِ التَّصَرُّفِ بِأَهْلِيَّةِ نَفْسِهِ بِأَنْ يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلًا ، وَهَذَا حَاصِلٌ فِي تَوْكِيلِ الْمُسْلِمِ الذِّمِّيّ بِبَيْعِ خَمْرٍ وَشِرَائِهَا ، ثُمَّ حَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى مَا هَدَاهُ لِذَلِكَ وَهُوَ خَطَأٌ إذْ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَصِحَّ تَوْكِيلُ الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ لِعَدَمِ الْبُلُوغِ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ، بَلْ إذَا وُكِّلَ الصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ يَصِحُّ بَعْدَ أَنْ يَعْقِلَ مَعْنَى الْبَيْعِ .
وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ مَا إذَا قَالَ بِعْ هَذَا بِعَبْدٍ أَوْ اشْتَرِ لِي بِهِ عَبْدًا صَحَّ التَّوْكِيلُ مَعَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مُبَاشَرَةُ الْمُوَكِّلِ لِمِثْلِ هَذَا ، كَمَا لَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ بِعْتُك عَبْدِي هَذَا بِعَبْدٍ أَوْ اشْتَرَيْت هَذَا مِنْك بِعَبْدٍ لَا يَجُوزُ .
أُجِيبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ التَّوْكِيلِ وَالْمُبَاشَرَةِ فِي الْجَهَالَةِ ، فَإِنَّهَا إنَّمَا تُمْنَعُ فِي الْمُبَاشَرَةِ لَا التَّوْكِيلِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا إنَّمَا تُمْنَعُ لِإِفْضَائِهَا إلَى الْمُنَازَعَةِ لَا لِذَاتِهَا ، وَلِذَا لَمْ تُمْنَعْ فِي بَعْضِ الْبُيُوعِ كَبَيْعِ قَفِيزٍ مِنْ صُبْرَةِ طَعَامٍ حَاضِرٍ أَوْ شِرَائِهِ ، وَجَهَالَةُ الْوَصْفِ لَا تُفْضِي إلَيْهَا فِي التَّوْكِيلِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَمْرٍ لَازِمٍ ، بِخِلَافِ الْمُبَاشَرَةِ لِلُزُومِهَا ، ثُمَّ إذَا صَحَّ التَّوْكِيلُ بِذَلِكَ فَإِنْ كَانَ بِالشِّرَاءِ فَاشْتَرَى عَبْدًا بِغَيْرِ عَيْنِهِ لَا يَجُوزُ ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِعَيْنِهِ إنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ مِثْلَ قِيمَةِ الْعَبْدِ الثُّمُنَ أَوْ أَقَلَّ

مِمَّا لَا يَتَغَابَنُ فِيهِ لَا يَجُوزُ ، وَكَذَا فِي الْوَكَالَةِ بِالْبَيْعِ ذَكَرَهُ فِي الذَّخِيرَةِ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ قَوْلَهُ فَإِنْ كَانَ بِالشِّرَاءِ فَاشْتَرَى عَبْدًا بِغَيْرِ عَيْنِهِ لَا يَجُوزُ ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ لَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ لِمَا عُرِفَ مِنْ مَذْهَبِنَا فِي شِرَاءِ أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ أَوْ الثَّوْبَيْنِ أَوْ الثَّلَاثَةِ بِغَيْرِ عَيْنِهِ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ أَيُّهُمَا شَاءَ يَصِحُّ وَهِيَ مَذْكُورَةٌ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ مِنْ الْهِدَايَةِ .
وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُهُ وَتَلْزَمُهُ الْأَحْكَامُ فَلِأَنَّ الْوَكِيلَ يَسْتَفِيدُ الْوِلَايَةَ مِنْ الْمُوَكِّلِ فَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ الْمُوَكِّلِ يَمْلِكُهُ .
ثُمَّ قِيلَ : هُوَ احْتِرَازٌ عَنْ تَوْكِيلِ الْوَكِيلِ فَإِنَّ الْوَكِيلَ لَا يَثْبُتُ لَهُ حُكْمٌ تَصَرُّفًا وَهُوَ الْمِلْكُ ، فَلَا يَصِحُّ تَوْكِيلُهُ إلَّا أَنْ يُصَرِّحَ بِهِ حَقِيقَةً أَوْ مَعْنًى كَمَا سَنَذْكُرُهُ .
وَقِيلَ بَلْ عَنْ الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ الْمَحْجُورَيْنِ فَإِنَّهُمَا لَوْ اشْتَرَيَا شَيْئًا لَا يَمْلِكَانِهِ فَلَا يَصِحُّ تَوْكِيلُهُمَا وَصَحَّحَ .
وَأَوْرَدَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنَّهُ يَلْزَمُ صِحَّةُ تَوْكِيلِ الْوَكِيلِ بِسَبَبِ أَنَّهُ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فَيَمْلِكُ تَمْلِيكَهُ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ مِلْكَهُ شَرْطُ جَوَازِ تَمْلِيكِهِ لَا عِلَّتُهُ لِيَلْزَمَ مِنْ وُجُودِهِ الْوُجُودُ فَجَازَ أَنْ لَا يُوجَدَ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ لِفَقْدِ شَرْطٍ آخَرَ كَمَا مَعَ فَقْدِ الْعِلَّةِ

( وَ ) يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ ( الْوَكِيلُ مِمَّنْ يَعْقِلُ الْعَقْدَ وَيَقْصِدُهُ ) لِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ فِي الْعِبَارَةِ فَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَارَةِ حَتَّى لَوْ كَانَ صَبِيًّا لَا يَعْقِلُ أَوْ مَجْنُونًا كَانَ التَّوْكِيلُ بَاطِلًا .
( قَوْلُهُ وَيُشْتَرَطُ إلَى آخِرِهِ ) مَا تَقَدَّمَ شَرْطُ الْوَكَالَةِ فِي الْمُوَكِّلِ وَهَذَا شَرْطُهَا فِي الْوَكِيلِ وَهُوَ كَوْنُهُ مِمَّنْ يَعْقِلُ الْعَقْدَ وَيَقْصِدُهُ ، أَيْ يَعْقِلُ مَعْنَاهُ : أَيْ مَا يَلْزَمُ وُجُودُهُ مِنْ أَنَّهُ سَالِبٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلٍّ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ جَالِبٌ إلَى كُلٍّ مِنْهُمَا ، فَيَسْلُبُ عَنْ الْبَائِعِ مِلْكَ الْمَبِيعِ وَيَجْلِبُ لَهُ مِلْكَ الْبَدَلِ وَفِي الْمُشْتَرِي قَلْبَهُمَا وَيَقْصِدُهُ لِفَائِدَتِهِ وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ إنَّ هَذَا الشَّرْطَ احْتِرَازٌ عَنْ الْهَزْلِ : يَعْنِي أَنَّ مَنْ شَرَطَ الْوَكَالَةَ أَنْ لَا يَهْزِلَ الْوَكِيلُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ أَيْ ارْتِبَاطٌ بَيْنَ صِحَّةِ الْوَكَالَةِ ، وَكَوْنِ الْوَكِيلِ هَزَلَ فِي بَيْعٍ وَلَوْ كَانَ فِي بَيْعٍ وَكَّلَ بِبَيْعِهِ غَايَتَهُ أَنْ لَا يَصِحَّ ذَلِكَ الْبَيْعِ وَالْوَكَالَةُ صَحِيحَةٌ ، وَخَرَجَ بِهِ الصَّبِيُّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ ذَلِكَ وَالْمَجْنُونُ فَلَا تَصِحُّ وَكَالَةُ أَحَدِهِمَا وَإِنَّمَا اُشْتُرِطَ ذَلِكَ فِي الْوَكِيلِ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ فِي الْعِبَارَةِ ، وَالْمُوَكِّلُ لَا يَصِحُّ عَقْدُهُ وَعِبَارَتُهُ بِهِ إلَّا إذَا كَانَ يَعْقِلُ ذَلِكَ ، وَأَمَّا زِيَادَةُ عَقْلِيَّةِ الْغَبَنِ الْفَاحِشِ مِنْ غَيْرِهِ فَلَا يَنْبَغِي اشْتِرَاطُهُ .
نَعَمْ إنْ وَكَّلَهُ بِأَنْ يَبِيعَهُ لَا بِغَبْنٍ فَاحِشٍ فَحِينَئِذٍ يَنْبَغِي أَنْ تَصِحَّ الْوَكَالَةُ .
وَيُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ بَيْعِ الْوَكِيلِ أَنْ يَتَعَرَّفَهُ قَبْلَ بَيْعِهِ

( وَإِذَا وَكَّلَ الْحُرُّ الْعَاقِلُ الْبَالِغُ أَوْ الْمَأْذُونُ مِثْلَهُمَا جَازَ ) لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ مَالِكٌ لِلتَّصَرُّفِ وَالْوَكِيلَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَارَةِ ( وَإِنْ وَكَّلَا صَبِيًّا مَحْجُورًا يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ أَوْ عَبْدًا مَحْجُورًا جَازَ ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا الْحُقُوقُ وَيَتَعَلَّقُ بِمُوَكِّلِهِمَا ) لِأَنَّ الصَّبِيَّ مِنْ أَهْلِ الْعِبَارَةِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ ، وَالْعَبْدَ مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفِ عَلَى نَفْسِهِ مَالِكٌ لَهُ وَإِنَّمَا لَا يَمْلِكُهُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى ، وَالتَّوْكِيلُ لَيْسَ تَصَرُّفًا فِي حَقِّهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُمَا الْتِزَامُ الْعُهْدَةِ .
أَمَّا الصَّبِيُّ لِقُصُورِ أَهْلِيَّتِهِ وَالْعَبْدُ لِحَقِّ سَيِّدِهِ فَتَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِحَالِ الْبَائِعِ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ صَبِيٌّ أَوْ مَجْنُونٌ لَهُ خِيَارُ الْفَسْخِ لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي الْعَقْدِ عَلَى أَنَّ حُقُوقَهُ تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ ، فَإِذَا ظَهَرَ خِلَافُهُ يَتَخَيَّرُ كَمَا إذَا عَثَرَ عَلَى عَيْبٍ .

( قَوْلُهُ وَإِذَا وَكَّلَ الْحُرُّ الْبَالِغُ أَوْ الْمَأْذُونُ مِثْلَهُمَا جَازَ ) وَأَطْلَقَ فِي الْمَأْذُونِ لِيَشْمَلَ كُلًّا مِنْ الْعَبْدِ وَالصَّبِيِّ الْمَأْذُونَيْنِ فِي التِّجَارَةِ لِاجْتِمَاعِ الشُّرُوطِ وَهِيَ مِلْكُ الْمُوَكِّلِ التَّصَرُّفَ وَلُزُومَ الْأَحْكَامِ وَعَقْلِيَّةُ الْوَكِيلِ مَعْنَى الْعَقْدِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْعَقْلَ مَعَ الْبُلُوغِ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْعَقْلِ يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ ، وَمَعْلُومٌ أَيْضًا أَنَّ قَوْلَهُ مِثْلُهُمَا لَيْسَ بِقَيْدٍ بَلْ مِثْلِهِمَا أَوْ أَعْلَى حَالًا مِنْهُمَا كَتَوْكِيلِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ حُرًّا أَوْ دُونَهُمَا كَتَوْكِيلِ الْحُرِّ الْبَالِغِ عَبْدًا مَأْذُونًا ( قَوْلُهُ وَإِنْ وَكَّلَ صَبِيًّا مَحْجُورًا عَلَيْهِ يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ أَوْ عَبْدًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ جَازَ وَلَا تَتَعَلَّقُ الْحُقُوقُ بِهِمَا بَلْ بِمُوَكِّلِهِمَا ) هَذَا الْكَلَامُ لَهُ مَنْطُوقٌ وَمَفْهُومٌ ، فَمَنْطُوقُهُ ظَاهِرٌ ، وَوَجْهُهُ مَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ ( مِنْ أَنَّ الصَّبِيَّ ) أَيْ الْعَاقِلَ ( مِنْ أَهْلِ الْعِبَارَةِ ) حَتَّى ( نَفَذَ تَصَرُّفُهُ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ ، وَالْعَبْدُ ) مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفِ فِي ( حَقِّ نَفْسِهِ مَالِكٌ لَهُ ، وَإِنَّمَا لَا يَمْلِكُهُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى ، وَالتَّوْكِيلُ لَيْسَ تَصَرُّفًا ) مِنْ الْمُوَكِّلِ ( فِي حَقِّهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُمَا الْتِزَامُ الْعُهْدَةِ ، فَالصَّبِيُّ لِقُصُورِ أَهْلِيَّتِهِ وَالْعَبْدُ لِحَقِّ سَيِّدِهِ فَتَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ ) وَيُعْرَفُ مِنْ كَوْنِ انْتِفَاءِ تَعَلُّقِ الْحُقُوقِ بِالْعَبْدِ لِحَقِّ السَّيِّدِ أَنَّهُ لَوْ أُعْتِقَ بَعْدَ أَنْ بَاشَرَ الشِّرَاءَ لَزِمَتْهُ الْحُقُوقُ ، بِخِلَافِ الصَّبِيِّ لَوْ بَاشَرَ مَا وُكِّلَ بِهِ ثُمَّ بَلَغَ لَا تَرْجِعَ إلَيْهِ .
وَأَمَّا مَفْهُومُهُ فَهُوَ أَنَّ الْوَكِيلَ لَوْ كَانَ صَبِيًّا مَأْذُونًا أَوْ عَبْدًا مَأْذُونًا تَعَلَّقَتْ الْحُقُوقُ بِهِمَا لَكِنَّهُ لَيْسَ بِمُطْلَقٍ بَلْ ذَكَرَ فِيهِ تَفْصِيلًا فِي الذَّخِيرَةِ قَالَ : إنْ كَانَ الْوَكِيلُ صَبِيًّا مَأْذُونًا ، فَإِنْ وُكِّلَ بِالْبَيْعِ بِثَمَنٍ حَالٍّ وَمُؤَجَّلٍ فَبَاعَ لَزِمَتْهُ الْعُهْدَةُ أَوْ

بِالشِّرَاءِ إنْ كَانَ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ لَا تَلْزَمُهُ الْعُهْدَةُ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا فَيُطَالِبُ الْبَائِعَ بِالثَّمَنِ الْآمِرُ لَا الصَّبِيُّ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ ضَمَانُ كَفَالَةٍ لَا ضَمَانُ ثَمَنٍ ، لِأَنَّ ضَمَانَ الثَّمَنِ مَا يُفِيدُ الْمِلْكَ لِلضَّامِنِ فِي الْمُشْتَرِي وَهَذَا لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ لِلضَّامِنِ إنَّمَا الْتَزَمَ مَا لَا عَلَى مُوَكِّلِهِ اسْتَوْجَبَ مِثْلُهُ فِي ذِمَّتِهِ وَهُوَ مَعْنَى الْكَفَالَةِ ، وَالصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ يَلْزَمُهُ ضَمَانُ الثَّمَنِ لَا ضَمَانُ كَفَالَةٍ .
وَأَمَّا إذَا وَكَّلَهُ بِالشِّرَاءِ بِثَمَنِ حَالٍّ فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَلْزَمَهُ الْعُهْدَةُ .
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ تَلْزَمُهُ لِأَنَّ لِلصَّبِيِّ مِلْكًا حُكْمِيًّا فِي الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ يَحْبِسُهُ بِالثَّمَنِ عَنْ الْمُوَكِّلِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ كَمَا لَوْ اشْتَرَى لِنَفْسِهِ ثُمَّ بَاعَهُ مِنْهُ .
وَالصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ مِنْ أَهْلٍ أَنْ يَلْزَمَهُ ضَمَانُ الثَّمَنِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الثَّمَنُ مُؤَجَّلًا لِأَنَّهُ بِمَا يَضْمَنُ مِنْ الثَّمَنِ لَا يَمْلِكُ الْمُشْتَرِي لَا حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا فَإِنَّهُ لَا يَحْبِسُهُ عَنْ الْمُوَكِّلِ إلَى الِاسْتِيفَاءِ ، وَالْعَبْدُ إذَا تَوَكَّلَ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ .
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْعَبْدَ وَالصَّبِيَّ الْمَحْجُورَيْنِ وَإِنْ لَمْ تَتَعَلَّقْ بِهِمَا الْحُقُوقُ فَلِقَبْضِهِمَا الثَّمَنَ وَتَسْلِيمَهَا الْمَبِيعِ اعْتِبَارًا لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ بَعْدَ هَذَا فِي التَّوْكِيلِ بِعَقْدِ السَّلَمِ فَقَالَ : وَالْمُسْتَحِقُّ بِالْعَقْدِ قَبْضَ الْعَاقِدِ وَهُوَ الْوَكِيلُ فَيَصِحُّ قَبْضُهُ وَإِنْ لَمْ تَتَعَلَّقْ بِهِمَا الْحُقُوقُ كَالصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ .
وَفِي الْمَبْسُوطِ : إنْ كَانَ الْمَأْذُونُ مُرْتَدًّا جَازَ بَيْعُهُ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْعِبَارَةِ الْمُعْتَبَرَةِ وَلَكِنْ يَتَوَقَّفُ حُكْمُ الْعُهْدَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، فَإِنْ أَسْلَمَ كَانَتْ الْعُهْدَةُ عَلَيْهِ وَإِلَّا فَعَلَى الْآمِرِ وَعِنْدَهُمَا الْعُهْدَةُ عَلَيْهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَهُوَ نَظِيرُ اخْتِلَافِهِمْ فِي تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ لِنَفْسِهِ بَيْعًا

وَشِرَاءً ، وَنَظِيرُ الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ الْمَحْجُورَيْنِ فِي عَدَمِ تَعَلُّقِ الْحُقُوقِ الرَّسُولُ وَالْقَاضِي وَأَمِينُهُ ( قَوْلُهُ وَالْعَقْدُ ) .

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابُ الْوَكَالَةِ لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ الشَّهَادَاتِ بِأَنْوَاعِهَا وَمَا يَتْبَعُهَا مِنْ الرُّجُوعِ عَنْهَا شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ الْوَكَالَةِ ، إمَّا لِمُنَاسِبَةِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّهَادَةِ وَالْوَكَالَةِ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى { ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ } وقَوْله تَعَالَى حِكَايَةً حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ، وَإِمَّا ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا إيصَالُ النَّفْعِ إلَى الْغَيْرِ بِالْإِعَانَةِ فِي حَقِّهِ ، وَإِمَّا ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَصْلُح سَبَبًا لِاكْتِسَابِ الثَّوَابِ وَالصِّيَانَةِ عَنْ الْعِقَابِ فِي الْمُعَامَلَاتِ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ .
قَالَ صَاحِب الْعِنَايَةِ عَقِبَ الشَّهَادَةِ بِالْوَكَالَةِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ مَدَنِيًّا بِالطَّبْعِ يَحْتَاج فِي مَعَاشِهِ إلَى تَعَاضُدٍ وَتَعَاوُضٍ ، وَالشَّهَادَةُ مِنْ التَّعَاضُدِ وَالْوَكَالَةِ مِنْهُ ؛ وَقَدْ يَكُونُ فِيهَا التَّعَاوُضُ أَيْضًا فَصَارَتْ كَالْمُرَكَّبِ مِنْ الْمُفْرَدِ فَآثَرَ تَأْخِيرَهَا انْتَهَى .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ فِي بَيَانِ قَوْلِهِ وَقَدْ يَكُونُ فِيهَا التَّعَاوُضُ أَيْضًا كَمَا إذَا كَانَ وَكِيلًا بِالْبَيْعِ أَوْ الشِّرَاءِ مَثَلًا انْتَهَى .
أَقُولُ : هَذَا سَهْوٌ ظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ التَّعَاوُضَ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْمِثَالِ إنَّمَا هُوَ فِي مُتَعَلَّقِ الْوَكَالَةِ ، أَعْنِي الْمُوَكَّلَ بِهِ ، وَهُوَ الْبَيْعُ أَوْ الشِّرَاءُ لَا نَفْسُ الْوَكَالَةِ ، وَالْكَلَامُ فِيهَا لَا فِي الْأَوَّلِ ، وَإِلَّا فَقَدْ يَكُونُ التَّعَاوُضُ فِي مُتَعَلَّقِ الشَّهَادَةِ أَيْضًا كَمَا إذَا شَهِدَ بِالْبَيْعِ أَوْ الشِّرَاءِ مَثَلًا .
وَالصَّوَابُ أَنَّ مُرَادَ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ هُوَ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي نَفْسِ الْوَكَالَةِ التَّعَاوُضُ كَمَا إذَا أَخَذَ الْوَكِيلُ الْأُجْرَةَ لِإِقَامَةِ الْوَكَالَةِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ شَرْعًا ، إذْ الْوَكَالَةُ عَقْدٌ جَائِزٌ لَا يَجِبُ عَلَى الْوَكِيلِ إقَامَتُهَا فَيَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ فِيهَا ، بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ فَإِنَّهَا فَرْضٌ يَجِبُ عَلَى الشَّاهِدِ

أَدَاؤُهَا فَلَا يَجُوزُ فِيهَا التَّعَاوُضُ أَصْلًا .
ثُمَّ إنَّ مَحَاسِنَ شَرْعِيَّةِ الْوَكَالَةِ ظَاهِرَةٌ ، إذْ فِيهَا قَضَاءُ حَوَائِجِ الْمُحْتَاجِينَ إلَى مُبَاشَرَةِ أَفْعَالٍ لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهَا بِأَنْفُسِهِمْ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْخَلَائِقَ عَلَى هِمَمٍ شَتَّى وَطَبَائِعَ مُخْتَلِفَةٍ وَأَقْوِيَاءَ وَضُعَفَاءَ ، وَلَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يَرْضَى أَنْ يُبَاشِرَ الْأَعْمَالَ بِنَفْسِهِ ، وَلَا كُلُّ أَحَدٍ يَهْتَدِي إلَى الْمُعَامَلَاتِ ، فَمَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى شَرْعِيَّةِ الْوَكَالَةِ ، فَنَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاشَرَ بَعْضَ الْأُمُورِ بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ تَعْلِيمًا لِسُنَّةِ التَّوَاضُعِ ، وَفَوَّضَ بَعْضَهَا إلَى غَيْرِهِ تَرْفِيهًا لِأَصْحَابِ الْمُرُوءَاتِ .
ثُمَّ إنَّ هَاهُنَا أُمُورًا يُحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَتِهَا تَفْسِيرًا لِلْوَكَالَةِ لُغَةً وَشَرْعًا .
وَدَلِيلُ جَوَازِهَا وَسَبَبِهَا وَرُكْنِهَا وَشَرْطِهَا وَصِفَتِهَا وَحُكْمِهَا .
أَمَّا تَفْسِيرُهَا لُغَةً : فَالْوَكَالَةُ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَكَسْرِهَا اسْمٌ لِلتَّوْكِيلِ ، مِنْ وَكَّلَهُ بِكَذَا إذَا فَوَّضَ إلَيْهِ ذَلِكَ .
وَالْوَكِيلُ هُوَ الْقَائِمُ بِمَا فُوِّضَ إلَيْهِ ، وَالْجَمْعُ الْوُكَلَاءُ كَأَنَّهُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ ؛ لِأَنَّهُ مَوْكُولٌ إلَيْهِ الْأَمْرُ : أَيْ مُفَوَّضٌ إلَيْهِ .
وَأَمَّا شَرْعًا : فَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ إقَامَةِ الْإِنْسَانِ غَيْرَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي تَصَرُّفٍ مَعْلُومٍ .
وَأَمَّا دَلِيلُ جَوَازِهَا فَالْكِتَابُ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إلَى الْمَدِينَةِ } لِأَنَّ ذَاكَ كَانَ تَوْكِيلًا وَقَدْ قَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ بِلَا نَكِيرٍ فَكَانَ شَرِيعَةً لَنَا .
وَالسُّنَّةُ وَهِيَ مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَّلَ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ بِشِرَاءِ الْأُضْحِيَّةِ وَعُرْوَةَ الْبَارِقِيَّ بِهِ أَيْضًا ، وَوَكَّلَ عُمَرَ بْنَ أُمِّ سَلَمَةَ بِالتَّزْوِيجِ } .
وَالْإِجْمَاعُ فَإِنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى جَوَازِهَا مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا ،

وَكَذَا الْمَعْقُولُ يَدُلُّ عَلَيْهِ عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ .
وَأَمَّا سَبَبُهَا فَتَعَلُّقُ الْبَقَاءِ الْمُقَدَّرِ بِتَعَاطِيهَا كَمَا فِي سَائِرِ الْمُعَامَلَاتِ .

وَأَمَّا رُكْنُهَا : فَالْأَلْفَاظُ الَّتِي تَثْبُتُ بِهَا الْوَكَالَةُ كَلَفْظِ وَكَّلْت وَأَشْبَاهِهِ .
رَوَى بِشْرُ بْنُ غِيَاثٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : إذَا قَالَ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ أَحْبَبْت أَنْ تَبِيعَ عَبْدِي هَذَا أَوْ هَوَيْت أَوْ رَضِيت أَوْ شِئْت أَوْ أَرَدْت فَذَاكَ تَوْكِيلٌ وَأَمْرٌ بِالْبَيْعِ .

وَأَمَّا شَرْطُهَا : فَأَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ مِمَّنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ وَتَلْزَمُهُ الْأَحْكَامُ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ ، وَسَتَعْرِفُهُ مَشْرُوحًا .

وَأَمَّا صِفَتُهَا : فَهِيَ أَنَّهَا عَقْدٌ جَائِزٌ غَيْرُ لَازِمٍ حَتَّى يَمْلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُوَكِّلِ وَالْوَكِيلِ الْعَزْلَ بِدُونِ رِضَا صَاحِبِهِ .

وَأَمَّا حُكْمُهَا : فَجَوَازُ مُبَاشَرَةِ الْوَكِيلِ مَا فُوِّضَ إلَيْهِ ( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي مُخْتَصَرِهِ ( كُلُّ عَقْدٍ جَازَ أَنْ يَعْقِدَهُ الْإِنْسَانُ بِنَفْسِهِ جَازَ أَنْ يُوَكِّلَ بِهِ غَيْرَهُ ) هَذِهِ ضَابِطَةٌ يَتَبَيَّنُ بِهَا مَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِهِ لِأَحَدٍ ، فَلَا يُرَدُّ عَلَيْهَا أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَجُوزُ لَهُ عَقْدُ بَيْعِ الْخَمْرِ وَشِرَائِهَا بِنَفْسِهِ .
وَلَوْ وَكَّلَ ذِمِّيًّا بِذَلِكَ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ إبْطَالَ الْقَوَاعِدِ بِإِبْطَالِ الطَّرْدِ لَا الْعَكْسِ عَلَى مَا نَصُّوا عَلَيْهِ .
وَالْعَجَبُ هَاهُنَا أَنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ مَعَ اعْتِرَافِهِ بِذَلِكَ حَيْثُ أَجَابَ عَنْ الِاعْتِرَاضِ بِالصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ بِأَنَّ الْعَكْسَ غَيْرُ لَازِمٍ وَلَيْسَ بِمَقْصُودٍ .
قَالَ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ : هَذِهِ ضَابِطَةٌ يَتَبَيَّنُ بِهَا مَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِهِ وَمَا لَا يَجُوزُ انْتَهَى ، فَإِنَّ الْعَكْسَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَازِمًا وَلَا مَقْصُودًا فِي الضَّوَابِطِ كَيْفَ يَتَبَيَّنُ بِهَذِهِ الضَّابِطَةِ مَا لَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِهِ ، وَقَدْ اُعْتُرِضَ عَلَى طَرْدِ هَذِهِ الضَّابِطَةِ بِوُجُوهٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ الْوَكِيلَ جَازَ لَهُ أَنْ يَعْقِدَ بِنَفْسِهِ ، وَإِذَا وَكَّلَ غَيْرَهُ وَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي ذَلِكَ لَا يَجُوزُ .
وَالثَّانِي : أَنَّ الْإِنْسَانَ جَازَ لَهُ أَنْ يَسْتَقْرِضَ بِنَفْسِهِ ، وَلَوْ وَكَّلَ غَيْرَهُ بِالِاسْتِقْرَاضِ لَا يَجُوزُ .
وَالثَّالِثُ : أَنَّ الذِّمِّيَّ يَمْلِكُ بَيْعَ الْخَمْرِ بِنَفْسِهِ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ الْمُسْلِمَ بِبَيْعِهَا .
وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ يَعْقِدُهُ الْإِنْسَانُ بِنَفْسِهِ هُوَ أَنْ يَكُونَ مُسْتَبِدًّا بِهِ وَالْوَكِيلُ لَيْسَ كَذَلِكَ .
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ مَحَلَّ الْعَقْدِ مِنْ شُرُوطِهِ لِكَوْنِ الْمَحَالِّ شُرُوطًا عَلَى مَا عُرِفَ ، وَذَاكَ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِي التَّوْكِيلِ بِالِاسْتِقْرَاضِ ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ الَّتِي اسْتَقْرَضَهَا الْوَكِيلُ مِلْكَ الْمُقْرِضِ وَالْأَمْرُ بِالتَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ

الْغَيْرِ بَاطِلٌ ، وَرُدَّ هَذَا بِأَنَّهُ مُقَرِّرٌ لِلنَّقْضِ لَا دَافِعٌ .
وَدُفِعَ بِأَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّخَلُّفِ لِمَانِعٍ ، وَقَيْدُ عَدَمِ الْمَانِعِ فِي الْأَحْكَامِ الْكُلِّيَّةِ غَيْرُ لَازِمٍ ، وَنُقِضَ بِالتَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ وَمَا ذَكَرْتُمْ مَوْجُودٌ فِيهِ .
وَفُرِّقَ بِأَنَّ مَحَلَّ عَقْدِ الْوَكَالَةِ فِي الشِّرَاءِ هُوَ الثَّمَنُ وَهُوَ مِلْكُ الْمُوَكِّلِ ، وَفِي الِاسْتِقْرَاضِ الدَّرَاهِمُ الْمُسْتَقْرَضَةُ وَهِيَ لَيْسَتْ مِلْكَهُ .
وَقِيلَ : هَلَّا جَعَلْتُمْ الْمَحَلَّ فِيهِ بَدَلَهَا وَهُوَ مِلْكُ الْمُوَكِّلِ ؟ وَدُفِعَ بِأَنَّ ذَاكَ مَحَلُّ التَّوْكِيلِ بِإِيفَاءِ الْقَرْضِ لَا بِالِاسْتِقْرَاضِ ، هَذَا نِهَايَةُ مَا فِي الْعِنَايَةِ .
أَقُولُ : وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ كَمَا أَنَّ الْأَمْرَ بِالتَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بَاطِلٌ كَذَلِكَ التَّصَرُّفُ بِنَفْسِهِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بَاطِلٌ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِقْرَاضُ بِنَفْسِهِ أَيْضًا بَاطِلًا بِنَاءً عَلَى هَذَا ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ .
ثُمَّ أَقُولُ : يُمْكِنُ أَنْ يُدْفَعَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْمُسْتَقْرِضَ بِنَفْسِهِ مُتَصَرِّفٌ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ وَهُوَ عِبَارَتُهُ دُونَ مِلْكِ غَيْرِهِ وَهُوَ الدَّرَاهِمُ الْمُسْتَقْرَضَةُ .
وَأَمَّا الْمَأْمُورُ بِالِاسْتِقْرَاضِ فَإِنْ تَصَرَّفَ فِي عِبَارَةِ نَفْسِهِ بِأَنْ قَالَ لِلْمُقْرِضِ مَثَلًا أَقْرِضْنِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ كَانَ الِاسْتِقْرَاضُ لِنَفْسِهِ لَا لِلْآمِرِ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَ الْعَشَرَةَ مِنْ الْآمِرِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ ، وَإِنْ تَصَرَّفَ فِي عِبَارَةِ الْآمِرِ بِأَنْ قَالَ مَثَلًا : إنَّ فُلَانًا يَسْتَقْرِضُ مِنْك عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَفَعَلَ الْمُقْرِضُ كَانَتْ الْعَشَرَةُ لِلْآمِرِ ، وَلَكِنَّ الْمَأْمُورَ يَصِيرُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ رَسُولًا لَا وَكِيلًا ، وَالْبَاطِلُ هُوَ الْوَكَالَةُ فِي الِاسْتِقْرَاضِ دُونَ الرِّسَالَةِ فِيهِ ، فَإِنَّ الرِّسَالَةَ مَوْضُوعَةٌ لِنَقْلِ عِبَارَةِ الْمُرْسِلِ ، فَالرَّسُولُ مُعَبِّرٌ وَالْعِبَارَةُ مِلْكُ الْمُرْسِلِ ، فَقَدْ أَمَرَهُ بِالتَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ بِاعْتِبَارِ الْعِبَارَةِ فَيَصِحُّ فِيمَا هُوَ حَقُّهُ .
وَأَمَّا الْوَكَالَةُ

فَغَيْرُ مَوْضُوعَةٍ لِنَقْلِ عِبَارَةِ الْمُوَكِّلِ بَلْ الْعِبَارَةُ لِلْوَكِيلِ فَلَا يُمْكِنُنَا تَصْحِيحُ هَذَا الْأَمْرِ بِاعْتِبَارِ الْعِبَارَةِ كَمَا نُصَّ عَلَيْهِ فِي الذَّخِيرَةِ .
بَقِيَ هَاهُنَا شَيْءٌ وَهُوَ أَنَّ مَا ذُكِرَ مَنْقُوضٌ بِجَوَازِ التَّوْكِيلِ بِالِاسْتِيهَابِ وَالِاسْتِعَارَةِ ؛ وَسَيَأْتِي تَمَامُ بَحْثِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَأُجِيبَ عَنْ الثَّالِثِ بِأَنَّ الذِّمِّيَّ كَمَا يَمْلِكُ بَيْعَ الْخَمْرِ بِنَفْسِهِ يَمْلِكُ تَوْكِيلَ غَيْرِهِ بِبَيْعِهَا أَيْضًا ، حَتَّى أَنَّهُ لَوْ وَكَّلَ ذِمِّيًّا آخَرَ بِبَيْعِهَا يَجُوزُ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ تَوْكِيلُ الْمُسْلِمِ هَاهُنَا لِمَعْنًى فِي الْمُسْلِمِ ، وَهُوَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالِاجْتِنَابِ عَنْهَا وَفِي جَوَازِ التَّوْكِيلِ بِبَيْعِهَا اقْتِرَابُهَا فَكَانَ ذَلِكَ أَمْرًا عَارِضًا فِي الْوَكِيلِ ، وَالْعَوَارِضُ لَا تَقْدَحُ فِي الْقَوَاعِدِ ، حَتَّى أَنَّ قَائِلًا لَوْ قَالَ : كُلُّ مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ حَلَّ لَهُ وَطْؤُهَا لَا يَرِدُ عَلَيْهِ الْحَائِضُ وَالْمُحَرَّمَةُ ، هَذَا زُبْدَةُ مَا فِي أَكْثَرِ الشُّرُوحِ .
وَأَجَابَ عَنْهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ : وَالذِّمِّيُّ جَازَ لَهُ تَوْكِيلُ الْمُسْلِمِ وَالْمُمْتَنِعُ تَوَكُّلُ الْمُسْلِمِ عَنْهُ ، وَلَيْسَ كَلَامُنَا فِي ذَلِكَ لِجَوَازِ أَنْ يَمْنَعَ مَانِعٌ عَنْ التَّوَكُّلِ وَإِنْ صَحَّ التَّوْكِيلُ ، وَقَدْ وُجِدَ الْمَانِعُ وَهُوَ حُرْمَةُ اقْتِرَابِهِ مِنْهَا انْتَهَى .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : هَذَا عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ يَكُونُ جَوَابًا عَنْ النَّقْضِ بِالِاسْتِقْرَاضِ أَيْضًا ، إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُخَالِفًا لِمَا سَيَجِيءُ مِنْ الْمُصَنِّفِ مِنْ أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالِاسْتِقْرَاضِ بَاطِلٌ لَمْ يَذْكُرْهُ الشَّارِحُ فِي مَعْرِضِ الْجَوَابِ ، وَلَمْ يُجِبْ بِمَا أَجَابَ بِهِ غَيْرُهُ مِنْ الشُّرَّاحِ لِذَلِكَ أَيْضًا انْتَهَى .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِسَدِيدٍ ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ هَاهُنَا لَا يَكَادُ يَكُونُ جَوَابًا عَنْ النَّقْضِ بِالِاسْتِقْرَاضِ ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ هُنَاكَ فِي نَفْسِ

التَّوْكِيلِ وَهُوَ بُطْلَانُ الْأَمْرِ بِالتَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ ، وَالْمَانِعُ هَاهُنَا عَلَى رَأْيِهِ إنَّمَا هُوَ حَقُّ التَّوَكُّلِ وَهُوَ حُرْمَةُ اقْتِرَابِ الْمُسْلِمِ مِنْ الْخَمْرِ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ ذَاكَ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ وَلَمْ يُجِبْ بِمَا أَجَابَ بِهِ غَيْرُهُ مِنْ الشُّرَّاحِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مُنَافٍ لِمَا سَيَجِيءُ مِنْ الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالِاسْتِقْرَاضِ بَاطِلٌ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ ، فَلَا وَجْهَ لِدَرْجِ قَوْلِهِ الْمَذْكُورِ فِي حَيِّزِ جَوَابٍ لِمَا فِي قَوْلِهِ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُخَالِفًا لِمَا سَيَجِيءُ مِنْ الْمُصَنِّفِ إلَخْ .
ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ الْقَائِلُ : بَقِيَ فِيهِ بَحْثٌ ، إذْ التَّوْكِيلُ وَالتَّوَكُّلُ كَالْكَسْرِ وَالِانْكِسَارِ ، ثُمَّ لَيْتَ شِعْرِي مَا مَعْنَى جَوَازِهِ انْتَهَى .
أَقُولُ : هَذَا سَاقِطٌ جِدًّا ، إذْ لَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي مُسْكَةٍ أَنَّ الِانْكِسَارَ مُطَاوِعُ الْكَسْرِ فَلَا يَتَحَقَّقُ أَحَدُهُمَا بِدُونِ الْآخَرِ ، بِخِلَافِ التَّوْكِيلِ وَالتَّوَكُّلِ ، فَإِنَّ التَّوْكِيلَ تَفْوِيضُ الْأَمْرِ إلَى الْغَيْرِ ، وَالتَّوَكُّلُ قَبُولُ الْوَكَالَةِ عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ ، وَلَا شَكَّ فِي جَوَازِ تَحَقُّقِ الْأَوَّلِ بِدُونِ الثَّانِي ، ثُمَّ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُتَوَهَّمَ لُزُومُ مُطَاوِعٍ لِكُلِّ فِعْلٍ مُتَعَدٍّ ، أَلَا يَرَى إلَى صِحَّةِ قَوْلِك خَيَّرْته فَلَمْ يَخْتَرْ ، وَصِحَّةُ قَوْلِك نَبَّهْته فَلَمْ يَتَنَبَّهْ وَمَا أَشْبَهَهُمَا ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُك وَكَّلْته فَلَمْ يَتَوَكَّلْ فَلَا إشْكَالَ أَصْلًا .

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَعْلِيلِ جَوَازِ الْوَكَالَةِ فِيمَا ذَكَرَهُ ( لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَعْجِزُ عَنْ الْمُبَاشَرَةِ بِنَفْسِهِ عَلَى اعْتِبَارِ بَعْضِ الْأَحْوَالِ ) بِأَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ شَيْخًا فَانِيًا أَوْ رَجُلًا ذَا وَجَاهَةٍ لَا يَتَوَلَّى الْأُمُورَ بِنَفْسِهِ ( فَيَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ ) فَلَوْ لَمْ يَجُزْ التَّوْكِيلُ لَزِمَ الْحَرَجُ وَهُوَ مُنْتَفٍ بِالنَّصِّ ( فَيَكُونُ ) أَيْ الْإِنْسَانُ ( بِسَبِيلٍ مِنْهُ ) أَيْ مِنْ التَّوْكِيلِ ( دَفْعًا لِحَاجَتِهِ ) وَنَفْيًا لِلْحَرَجِ .
وَاعْتُرِضَ عَلَى هَذَا بِأَنَّهُ دَلِيلٌ أَخَصُّ مِنْ الْمَدْلُولِ وَهُوَ جَوَازُ الْوَكَالَةِ فَإِنَّهَا جَائِزَةٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ عَجْزٌ أَصْلًا .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ بَيَانُ حِكْمَةِ الْحُكْمِ وَهِيَ تُرَاعَى فِي الْجِنْسِ لَا فِي الْأَفْرَادِ .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ ذِكْرِ ذَلِكَ الِاعْتِرَاضِ مَعَ جَوَابِهِ الْمَزْبُورِ : وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ ذَكَرَ الْخَاصَّ وَأَرَادَ الْعَامَّ ، وَهُوَ الْحَاجَةُ ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ لِلْعَجْزِ حَاجَةٌ خَاصَّةٌ وَهُوَ مَجَازٌ شَائِعٌ ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْمَنَاطُ هُوَ الْحَاجَةُ وَقَدْ تُوجَدُ بِلَا عَجْزٍ انْتَهَى .
أَقُولُ : وُجُودُ الْحَاجَةِ بِدُونِ الْعَجْزِ فِي بَابِ الْوَكَالَةِ مَمْنُوعٌ ، فَإِنَّهُمْ صَرَّحُوا وَمِنْهُمْ الشَّارِحُ ابْنُ الْهُمَامِ بِأَنَّ الْوَكَالَةَ أَبَدًا إمَّا لِلْعَجْزِ وَإِمَّا لِلتَّرَفُّهِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ لَيْسَ فِي صُورَةِ التَّرَفُّهِ حَاجَةً فَتَأَمَّلْ ( وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَّلَ بِالشِّرَاءِ ) أَيْ بِشِرَاءِ الْأُضْحِيَّةِ ( حَكِيمَ بْنِ حِزَامٍ ) وَيُكَنَّى أَبَا خَالِدٍ .
وُلِدَ قَبْلَ الْفِيلِ بِثَلَاثَ عَشَرَةَ سَنَةً أَوْ بِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ ، أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَشَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْلِمًا ، وَكَانَ مِنْ وُجُوهِ قُرَيْشٍ وَأَشْرَافِهَا ، وَعَاشَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ سِتِّينَ سَنَةً وَفِي الْإِسْلَامِ سِتِّينَ سَنَةً ، وَمَاتَ بِالْمَدِينَةِ فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَهُوَ ابْنُ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ شَاهِينِ فِي كِتَابِ الْمُعْجَمِ .
وَقَالَ الْكَرْخِيُّ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْوَكَالَةِ فِي مُخْتَصَرِهِ : حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى الْجَوْزِيِّ قَالَ : حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ الدَّوْرَقِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبْزَى عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ عَنْ شَيْخٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ { عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهُ دِينَارًا يَشْتَرِي لَهُ بِهِ أُضْحِيَّةً ، فَاشْتَرَى لَهُ أُضْحِيَّةً بِدِينَارٍ فَبَاعَهَا بِدِينَارَيْنِ ، ثُمَّ اشْتَرَى أُضْحِيَّةً بِدِينَارٍ فَجَاءَهُ بِدِينَارٍ وَأُضْحِيَّةٍ ، فَتَصَدَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالدِّينَارِ وَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ } ( وَبِالتَّزْوِيجِ عُمَرَ بْنَ أُمِّ سَلَمَةَ ) أَيْ وَكَّلَهُ بِتَزْوِيجِ أُمِّهِ أُمِّ سَلَمَةَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَا فِي الشُّرُوحِ .
قَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ : وَلَنَا فِي تَوْكِيلِ عُمَرَ بْنِ أُمِّ سَلَمَةَ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ أُمَّ سَلَمَةَ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ ، كَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ يَوْمَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنَ تِسْعِ سِنِينَ ، قَالَهُ الْوَاقِدِيُّ .
وَيَكُونُ عَلَى هَذَا الْحِسَابِ سِنُّ عُمَرَ بْنِ أُمِّ سَلَمَةَ يَوْمَ تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّهُ سَنَةً وَاحِدَةً فَكَيْفَ يُوَكِّلُهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ طِفْلٌ لَا يَعْقِلُ ؟ انْتَهَى .
وَقَدْ سَبَقَهُ إلَى هَذَا النَّظَرِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ حَيْثُ قَالَ : فِي هَذَا الْحَدِيثِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ عُمَرَ بْنَ أُمِّ سَلَمَةَ كَانَ لَهُ مِنْ الْعُمْرِ يَوْمَ تَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثُ سِنِينَ ، وَكَيْفَ يُقَالُ لِمِثْلِ هَذَا زَوْجٌ .
بَيَانُهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ

الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَزَوَّجَهَا فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ ، وَمَاتَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلِعُمَرَ تِسْعُ سِنِينَ انْتَهَى .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْهَادِي صَاحِبُ التَّنْقِيحِ : قَوْلُهُ إنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَاتَ وَلِعُمَرَ تِسْعُ سِنِينَ بَعِيدٌ وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَهُ الْكَلَابَاذِيُّ وَغَيْرُهُ .
وَقَالَ : قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : إنَّهُ وُلِدَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الْهِجْرَةِ إلَى الْحَبَشَةِ .
وَيُقَوِّي هَذَا مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ { عَنْ عُمَرَ بْنِ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : سَلْ هَذِهِ ، فَأَخْبَرَتْهُ أُمُّهُ أُمُّ سَلَمَةَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَصْنَعُ ذَلِكَ ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَك مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِك وَمَا تَأَخَّرَ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمَا وَاَللَّهِ إنِّي لَأَتْقَاكُمْ لِلَّهِ تَعَالَى وَأَخْشَاكُمْ } وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ كَانَ كَبِيرًا .
وَأَقُولُ : ظَاهِرُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَّلَ إلَخْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ ذِكْرُ الدَّلِيلِ النَّقْلِيِّ عَلَى قَوْلِهِ كُلُّ عَقْدٍ جَازَ أَنْ يَعْقِدَهُ الْإِنْسَانُ بِنَفْسِهِ جَازَ أَنْ يُوَكِّلَ بِهِ غَيْرَهُ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ دَلِيلًا عَقْلِيًّا عَلَيْهِ ، فَيُتَّجَهُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ تَوْكِيلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَادَّتَيْنِ الْمَخْصُوصَتَيْنِ لَا يَدُلُّ عَلَى مَا فِي الدَّعْوَى الْمَذْكُورَةِ مِنْ الْكُلِّيَّةِ ، فَلَعَلَّ الْوَجْهَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ مُجَرَّدَ تَأْيِيدِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ التَّعْلِيلِ الْعَقْلِيِّ الَّذِي مَبْنَاهُ دَفْعُ الْحَاجَةِ بِوُقُوعِ التَّوْكِيلِ عِنْدَ الْحَاجَةِ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا إقَامَةُ دَلِيلٍ مُسْتَقِلٍّ عَلَى دَعْوَى الْكُلِّيَّةِ السَّابِقَةِ ، وَكَأَنَّهُ عَنْ هَذَا قَالَ : وَقَدْ صَحَّ أَنَّ

النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَّلَ إلَخْ ، وَلَمْ يَقُلْ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَّلَ إلَخْ

( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي مُخْتَصَرِهِ : ( وَتَجُوزُ الْوَكَالَةُ بِالْخُصُومَةِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ ) أَيْ فِي جَمِيعِهَا ( لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ الْحَاجَةِ ) يُشِيرُ إلَى قَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَعْجِزُ عَنْ الْمُبَاشَرَةِ بِنَفْسِهِ عَلَى اعْتِبَارِ بَعْضِ الْأَحْوَالِ فَيَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ ( إذْ لَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يَهْتَدِي إلَى وُجُوهِ الْخُصُومَاتِ ) تَعْلِيلٌ لِجَرَيَانِ مَا قَدَّمَهُ هَاهُنَا .
قَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ : أَمَّا التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ فَإِنَّمَا جَازَ لِمَا رَوَيْنَا قَبْلَ هَذَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَّلَ فِي الشِّرَاءِ } ، فَإِذَا جَازَ التَّوْكِيلُ فِيهِ جَازَ فِي غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ عَقْدٍ يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّاهُ الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ جَازَ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ كَالْبَيْعِ ، وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَعْجِزُ عَنْ الْمُبَاشَرَةِ بِنَفْسِهِ فَجَازَ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ لِمَا قَدَّمْنَا انْتَهَى .
أَقُولُ : تَعْلِيلُهُ الثَّانِي الَّذِي هُوَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ لِمَا قَدَّمْنَا صَحِيحٌ لَا رَيْبَ فِيهِ ، وَأَمَّا تَعْلِيلُهُ الْأَوَّلُ فَغَيْرُ صَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ هَاهُنَا فِي التَّوْكِيلِ بِالْخُصُومَاتِ لَا فِي التَّوْكِيلِ فِي الْعُقُودِ ، وَمَا ذَكَرَهُ فِي تَعْلِيلِهِ الْأَوَّلِ إنَّمَا يَتَمَشَّى فِي الْعُقُودِ دُونَ الْخُصُومَاتِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَقَدْ صَحَّ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَكَّلَ عَقِيلًا ) أَيْ وَكَّلَهُ فِي الْخُصُومَاتِ ، وَإِنَّمَا كَانَ يَخْتَارُ عَقِيلًا ؛ لِأَنَّهُ كَانَ ذَكِيًّا حَاضِرَ الْجَوَابِ ؛ حَتَّى حُكِيَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْتَقْبَلَهُ يَوْمًا وَمَعَهُ عَنْزٌ فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى سَبِيلِ الدُّعَابَةِ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ أَحْمَقُ ، فَقَالَ عَقِيلٌ : أَمَّا أَنَا وَعَنْزِي فَعَاقِلَانِ ( وَبَعْدَمَا أَسَنَّ عَقِيلٌ وَكَّلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ ) الطَّيَّارَ رَضِيَ اللَّهُ

تَعَالَى عَنْهُ ، إمَّا ؛ لِأَنَّهُ وَقَّرَ عَقِيلًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِكِبَرِ سِنِّهِ ، أَوْ لِأَنَّهُ انْتَقَصَ ذِهْنَهُ فَوَكَّلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ شَابًّا ذَكِيًّا ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ .
أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ : كَانَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَكْرَهُ الْخُصُومَةَ ، وَكَانَ إذَا كَانَتْ لَهُ خُصُومَةٌ وَكَّلَ فِيهَا عَقِيلَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَلَمَّا كَبِرَ عَقِيلٌ وَكَّلَنِي .
وَأُخْرِجَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ وَكَّلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ بِالْخُصُومَةِ .
وَقَالَ الْخَصَّافُ فِي أَدَبِ الْقَاضِي : حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ أَسَدٍ الْخُرَاسَانِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ جَهْمِ بْنِ أَبِي الْجَهْمِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ لَا يَحْضُرُ الْخُصُومَةَ وَكَانَ يَقُولُ : إنَّ لَهَا قُحَمًا تَحْضُرُهَا الشَّيَاطِينُ ، فَجَعَلَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْخُصُومَةَ إلَى عَقِيلٍ ، فَلَمَّا كَبِرَ وَرَقَّ حَوَّلَهَا إلَيَّ ، فَكَانَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ : مَا قُضِيَ لِوَكِيلِي فَلِي وَمَا قُضِيَ عَلَى وَكِيلِي فَعَلَيَّ انْتَهَى .
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْفَائِقِ : إنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَّلَ أَخَاهُ عَقِيلًا بِالْخُصُومَةِ ، ثُمَّ وَكَّلَ بَعْدَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَكَانَ لَا يَحْضُرُ الْخُصُومَةَ وَيَقُولُ : إنَّ لَهَا لَقُحَمًا ، وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ تَحْضُرُهَا : أَيْ مَهَالِكَ وَشَدَائِدَ .
وَقُحَمُ الطَّرِيقِ مَا صَعُبَ مِنْهُ وَشَقَّ عَلَى سَالِكِهِ انْتَهَى .
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ التَّوْكِيلِ بِالْخُصُومَةِ .
وَفِيهِ دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى أَنْ لَا يَحْضُرَ مَجْلِسَ الْخُصُومَةِ بِنَفْسِهِ ، وَهُوَ مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ لِصُنْعِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : الْأَوْلَى أَنْ يَحْضُرَ بِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ مِنْ الْحُضُورِ إلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي مِنْ

عَلَامَاتِ الْمُنَافِقِينَ ، وَقَدْ وَرَدَ الذَّمُّ عَلَى ذَلِكَ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَإِذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ } ، { إنَّمَا كَانَ قَوْلُ الْمُؤْمِنِينَ إذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } وَجَوَابُهُ أَنَّ تَأْوِيلَ الْآيَةِ الرَّدُّ مِنْ الْمُنَافِقِ وَالْإِجَابَةُ مِنْ الْمُؤْمِنِ اعْتِقَادًا ، كَذَا فِي شَرْحِ أَدَبِ الْقَاضِي .
وَذُكِرَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ

( وَكَذَا بِإِيفَائِهَا وَاسْتِيفَائِهَا ) أَيْ وَكَذَا تَجُوزُ الْوَكَالَةُ بِإِيفَاءِ الْحُقُوقِ وَاسْتِيفَائِهَا لِمَا مَرَّ مِنْ دَفْعِ الْحَاجَةِ ( إلَّا فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فَإِنَّ الْوَكَالَةَ لَا تَصِحُّ بِاسْتِيفَائِهَا ) أَيْ بِاسْتِيفَاءِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ ( مَعَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ عَنْ الْمَجْلِسِ ) وَأَمَّا الْوَكَالَةُ بِإِيفَاءِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فَعَدَمُ صِحَّتِهَا مُطْلَقًا : أَيْ مَعَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ وَمَعَ حُضُورِهِ أَمْرٌ بَيِّنٌ ؛ لِأَنَّ إيفَاءَهَا إنَّمَا يَكُونُ بِتَسْلِيمِ النَّفْسِ أَوْ الْبَدَنِ لِإِقَامَةِ الْعُقُوبَةِ الْوَاجِبَةِ ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ إلَّا مِنْ الْجَانِي ، إذْ إقَامَةُ الْعُقُوبَةِ عَلَى غَيْرِ الْجَانِي ظُلْمٌ صَرِيحٌ .
فَلِذَلِكَ اكْتَفَى الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِنَفْيِ صِحَّةِ الْوَكَالَةِ بِاسْتِيفَائِهَا مَعَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ ، وَقَالَ فِي تَعْلِيلِهِ ( لِأَنَّهَا ) أَيْ الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ ( تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ ) فَلَا تُسْتَوْفَى بِمَنْ يَقُومُ مَقَامَ الْغَيْرِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ ضَرْبِ شُبْهَةٍ كَمَا فِي كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي وَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ ( وَشُبْهَةُ الْعَفْوِ ثَابِتَةٌ حَالَ غَيْبَتِهِ ) أَيْ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ ، وَهَذَا الْوَجْهُ مَخْصُوصٌ بِالْقِصَاصِ ، إذْ الْحُدُودُ لَا يُعْفَى عَنْهَا ، فَالْمُرَادُ أَنَّ فِي الْقِصَاصِ ثُبُوتَ شُبْهَةٍ أُخْرَى حَالَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ وَهِيَ شُبْهَةُ الْعَفْوِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ قَدْ عَفَا وَلَمْ يَشْعُرْ بِهِ الْوَكِيلُ ( بَلْ هُوَ الظَّاهِرُ ) أَيْ بَلْ الْعَفْوُ هُوَ الظَّاهِرُ ( لِلنَّدْبِ الشَّرْعِيِّ ) لِقَوْلِهِ { وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } وَفِي الْقِصَاصِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ يَقُولُ : هُوَ خَالِصُ حَقِّ الْعَبْدِ فَيُسْتَوْفَى بِالتَّوْكِيلِ كَسَائِرِ حُقُوقِهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : هَذِهِ عُقُوبَةٌ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ ، بِخِلَافِ سَائِرِ حُقُوقِهِ فَافْتَرَقَا ( بِخِلَافِ غَيْبَةِ الشَّاهِدِ ) حَيْثُ يَسْتَوْفِيَ الْحُدُودَ

وَالْقِصَاصَ عِنْدَ غَيْبَتِهِ ( لِأَنَّ الظَّاهِرَ عَدَمُ الرُّجُوعِ ) يَعْنِي أَنَّ الشُّبْهَةَ فِي حَقِّ الشَّاهِدِ هِيَ الرُّجُوعُ وَالظَّاهِرُ فِي حَقِّهِ عَدَمُ الرُّجُوعِ ، إذْ الصِّدْقُ هُوَ الْأَصْلُ لَا سِيَّمَا فِي الْعُدُولِ فَلَمْ يَعْتَبِرْ مِثْلَ هَاتَيْكَ الشُّبْهَةِ .
أَقُولُ : يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ الرَّجْمَ مِنْ الْحُدُودِ وَلَا يُسْتَوْفَى عِنْدَ غَيْبَةِ الشُّهُودِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ كَمَا مَرَّ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ ، وَيَقْتَضِي ذَلِكَ اعْتِبَارَ شُبْهَةِ الرُّجُوعِ فِي حَقِّ الشُّهُودِ هُنَاكَ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ : عَدَمُ اسْتِيفَاءِ الْحَدِّ إذْ ذَاكَ لِفَوَاتِ الشَّرْطِ وَهُوَ بُدَاءَةُ الشُّهُودِ بِالرَّجْمِ لَا بِمُجَرَّدِ شُبْهَةِ الرُّجُوعِ فَتَأَمَّلْ ( وَبِخِلَافِ حَالَةِ الْحَضْرَةِ ) أَيْ حَضْرَةِ الْمُوَكِّلِ فِي الْمَجْلِسِ حَيْثُ يُسْتَوْفَى ذَلِكَ عِنْدَهَا ( لِانْتِفَاءِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ ) أَيْ شُبْهَةِ الْعَفْوِ ، فَإِنَّ الْعَفْوَ عِنْدَ حُضُورِ الْمُوَكِّلِ مِمَّا لَا يَخْفَى فَلَا شُبْهَةَ ، أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إنَّ انْتِفَاءَ الشُّبْهَةِ الْمُعَيَّنَةِ لَا يَقْتَضِي انْتِفَاءَ الشُّبْهَةِ مُطْلَقًا ، وَالْحُدُودُ وَالْقِصَاصُ تَنْدَرِئُ بِمُطْلَقِ الشُّبُهَاتِ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ عَلَى أَنَّ شُبْهَةَ الْعَفْوِ مَخْصُوصَةٌ بِالْقِصَاصِ ، فَلَمْ يَظْهَرْ الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَضْرَةِ وَالْغَيْبَةِ فِي اسْتِيفَاءِ الْحُدُودِ أَصْلًا .
وَلَمَا اُسْتُشْعِرَ أَنْ يُقَالَ إذَا كَانَ الْمُوَكِّلُ حَاضِرًا لَمْ يَحْتَجْ إلَى التَّوْكِيلِ بِالِاسْتِيفَاءِ رَأْسًا إذْ هُوَ يَسْتَوْفِيهِ بِنَفْسِهِ أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَلَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يُحْسِنُ الِاسْتِيفَاءَ ) إمَّا لِقِلَّةِ هِدَايَتِهِ ، أَوْ لِأَنَّ قَلْبَهُ لَا يَتَحَمَّلُ ذَلِكَ ( فَلَوْ مُنِعَ عَنْهُ ) أَيْ عَنْ التَّوْكِيلِ بِالِاسْتِيفَاءِ ( يَنْسَدُّ بَابُ الِاسْتِيفَاءِ أَصْلًا ) أَيْ يَنْسَدُّ بَابُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ بِالْكُلِّيَّةِ فَجَازَ التَّوْكِيلُ بِالِاسْتِيفَاءِ عِنْدَ حُضُورِهِ اسْتِحْسَانًا لِئَلَّا يَنْسَدَّ بَابُهُ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ

رَحِمَهُ اللَّهُ ) وَقَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ فِي تَفْسِيرِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ : هَذَا أَيْ جَوَازُ التَّوْكِيلِ بِإِثْبَاتِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَالُوا فِي تَوْجِيهِ تَفْسِيرِهِمْ إيَّاهُ بِهَذَا الْمَعْنَى : لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ وَتَجُوزُ الْوَكَالَةُ بِالْخُصُومَةِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ : أَيْ جَمِيعِهَا وَبِإِيفَائِهَا وَاسْتِيفَائِهَا ، وَاسْتَثْنَى إيفَاءَ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَاسْتِيفَاءَهَا بَقِيَتْ الْخُصُومَةُ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ دَاخِلَةً فِي قَوْلِهِ بِالْخُصُومَةِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ فَقَالَ : هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
أَقُولُ : لَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ هَذَا الَّذِي ارْتَكَبُوهُ فِي حِلِّ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ هَاهُنَا تَكَلُّفٌ بَارِدٌ وَتَعَسُّفٌ شَارِدٌ ، حَيْثُ جَعَلُوا الْبَعْضَ الْغَيْرَ الْمُعَيَّنَ فِي الْكَلَامِ السَّابِقِ بَلْ الدَّاخِلَ فِي مُجَرَّدِ كُلِّيَّتِهِ مُشَارًا إلَيْهِ بِلَفْظِ هَذَا الَّذِي يُشَارُ بِهِ إلَى الْمَحْسُوسِ الْمُشَاهَدِ ، أَوْ إلَى مَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَحْسُوسِ الْمُشَاهَدِ .
ثُمَّ إنَّ هَاهُنَا لَمَنْدُوحَةٌ عَنْ ذَلِكَ بِحَمْلِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى مَعْنًى ظَاهِرٍ مِنْهُ ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ صَرِيحًا فِيمَا مَرَّ آنِفًا مِنْ قَوْلِنَا وَتَجُوزُ الْوَكَالَةُ بِالْخُصُومَةِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا تَجُوزُ الْوَكَالَةُ بِإِثْبَاتِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ بِإِقَامَةِ الشُّهُودِ أَيْضًا ) أَيْ قَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا تَجُوزُ الْوَكَالَةُ بِالْخُصُومَةِ فِي بَعْضٍ مِنْ تِلْكَ الْحُقُوقِ وَهُوَ إثْبَاتُ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ أَيْضًا : أَيْ كَمَا لَا تَجُوزُ الْوَكَالَةُ بِإِيفَاءِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَاسْتِيفَائِهَا بِالِاتِّفَاقِ .
( وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى ، وَقِيلَ مَعَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) يَعْنِي أَنَّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ مُضْطَرِبٌ يُذْكَرُ تَارَةً مَعَ

أَبِي حَنِيفَةَ وَتَارَةً مَعَ أَبِي يُوسُفَ ، وَلَكِنَّ الظَّاهِرَ مِنْ تَحْرِيرِ الْمُصَنِّفِ تَرْجِيحُ الْأَوَّلِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ .
قَالَ فِي الْكَافِي بَعْدَ قَوْلِهِ وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ مُضْطَرِبٌ : وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ ( وَقِيلَ هَذَا الِاخْتِلَافُ ) بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ( فِي غَيْبَتِهِ ) أَيْ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ ( دُونَ حَضْرَتِهِ ) أَيْ هُوَ جَائِزٌ فِي حَضْرَتِهِ بِالِاتِّفَاقِ ( لِأَنَّ كَلَامَ الْوَكِيلِ يَنْتَقِلُ إلَى الْمُوَكِّلِ عِنْدَ حُضُورِهِ ) فَصَارَ كَأَنَّهُ مُتَكَلِّمٌ بِنَفْسِهِ .
( لَهُ ) أَيْ لِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ( أَنَّ التَّوْكِيلَ إنَابَةٌ ) وَالْإِنَابَةُ فِيهَا شُبْهَةٌ لَا مَحَالَةَ ( وَشُبْهَةُ النِّيَابَةِ يُتَحَرَّزُ عَنْهَا فِي هَذَا الْبَابِ ) أَيْ فِي بَابِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ ( كَمَا فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ ) أَيْ كَالشُّبْهَةِ الَّتِي فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ حَتَّى لَا يَثْبُتَ بِهَا الْحُدُودُ وَالْقِصَاصُ بِالِاتِّفَاقِ ، كَمَا لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ وَلَا بِكِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي ( وَكَمَا فِي الِاسْتِيفَاءِ ) أَيْ وَكَالشُّبْهَةِ الَّتِي فِي التَّوْكِيلِ بِاسْتِيفَاءِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ عِنْدَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ فَإِنَّهَا مَانِعَةٌ لِصِحَّةِ التَّوْكِيلِ بِالِاتِّفَاقِ ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْخُصُومَةَ شَرْطٌ مَحْضٌ ) أَيْ لَا حَظَّ لَهَا فِي الْوُجُوبِ وَلَا فِي الظُّهُورِ ( لِأَنَّ الْوُجُوبَ مُضَافٌ إلَى الْجِنَايَةِ وَالظُّهُورَ إلَى الشَّهَادَةِ ) وَالشَّرْطُ الْمَحْضُ حَقٌّ مِنْ الْحُقُوقِ يَجُوزُ لِلْمُوَكِّلِ مُبَاشَرَتُهُ بِنَفْسِهِ ( فَيَجْرِي فِيهِ التَّوْكِيلُ كَمَا فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ ) أَيْ بَاقِيهَا لِقِيَامِ الْمُقْتَضَى وَانْتِفَاءِ الْمَانِعِ .
لَا يُقَالُ : الْمَانِعُ مَوْجُودٌ وَهُوَ الشُّبْهَةُ كَمَا فِي الِاسْتِيفَاءِ وَالشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ عَلَى مَا مَرَّ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ : الشُّبْهَةُ فِي الشَّرْطِ لَا تَصْلُحُ لِلْمَنْعِ ، إذْ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْوُجُوبُ

وَلَا الْوُجُودُ وَلَا الظُّهُورُ ، بِخِلَافِ الِاسْتِيفَاءِ فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْوُجُودُ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ فَإِنَّهَا يَتَعَلَّقُ بِهَا الظُّهُورُ ( وَعَلَى هَذَا خِلَافُ ) الْمَذْكُورِ

( التَّوْكِيلُ بِالْجَوَابِ مِنْ جَانِبِ مَنْ عَلَيْهِ ) أَيْ مِنْ جِهَةِ مَنْ عَلَيْهِ ( الْحَدُّ ) أَوْ الْقِصَاصُ ؛ فَأَجَازَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنَعَهُ أَبُو يُوسُفَ وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ مُضْطَرِبٌ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَكَلَامُ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ ) أَيْ فِي التَّوْكِيلِ بِالْجَوَابِ ( أَظْهَرُ ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ لَا تَمْنَعُ الدَّفْعَ ) يَعْنِي أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْجَوَابِ إنَّمَا يَكُونُ لِلدَّفْعِ ، وَدَفْعُ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ يَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ حَتَّى يَثْبُتَ الْعَفْوُ عَنْ الْقِصَاصِ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَبِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ ، فَالشُّبْهَةُ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي دَلِيلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهَا مُعْتَبَرَةً لَا تُمْنَعُ هَاهُنَا ( غَيْرَ أَنَّ إقْرَارَ الْوَكِيلِ غَيْرُ مَقْبُولٍ عَلَيْهِ ) أَيْ عَلَى مُوَكِّلِهِ : يَعْنِي لَوْ أَقَرَّ الْوَكِيلُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ بِوُجُوبِ الْحَدِّ وَالْقِصَاصِ عَلَى مُوَكِّلِهِ لَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُهُ اسْتِحْسَانًا ( لِمَا فِيهِ ) أَيْ لِمَا فِي إقْرَارِهِ ( مِنْ شُبْهَةِ عَدَمِ الْأَمْرِ بِهِ ) فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ .
وَالْقِيَاسُ أَنْ يُقْبَلَ إقْرَارُهُ لِقِيَامِهِ مَقَامَ مُوَكِّلِهِ بَعْدَ صِحَّةِ التَّوْكِيلِ كَمَا فِي الْإِقْرَارِ بِسَائِرِ الْحُقُوقِ .
وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَتَوْضِيحُهُ أَنَّا حَمَلْنَا التَّوْكِيلَ بِالْخُصُومَةِ عَلَى الْجَوَابِ ؛ لِأَنَّ جَوَابَ الْخَصْمِ مِنْ الْخُصُومَةِ ، وَلَكِنَّ هَذَا نَوْعٌ مِنْ الْمَجَازِ ، فَأَمَّا فِي الْحَقِيقَةِ فَالْإِقْرَارُ ضِدُّ الْخُصُومَةِ ، وَالْمَجَازِ وَإِنْ اُعْتُبِرَ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ فَالْحَقِيقَةُ شُبْهَةٌ مُعْتَبَرَةٌ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ دُونَ مَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ .
كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ ، وَذُكِرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الشُّرُوحِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ جَوَازَ التَّوْكِيلِ بِإِثْبَاتِ الْحُدُودِ عِنْدَ مَنْ جَوَّزَهُ إنَّمَا هُوَ فِي حَدِّ الْقَذْفِ وَحْدِ السَّرِقَةِ .
وَأَمَّا التَّوْكِيلُ بِإِثْبَاتِ حَدِّ الزِّنَا وَحَدِّ الشُّرْبِ فَلَا يَصِحُّ اتِّفَاقًا ؛

لِأَنَّهُ لَا حَقَّ فِيهِمَا لِأَحَدٍ مِنْ الْعِبَادِ ، وَإِنَّمَا تُقَامُ الْبَيِّنَةُ عَلَى وَجْهِ الْحِسْبَةِ ، فَإِذَا كَانَ أَجْنَبِيًّا عَنْهُ لَا يَصِحُّ تَوْكِيلُهُ بِهِ ، نُصَّ عَلَيْهِ فِي الْكَافِي وَالتَّبْيِينِ

( وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ ) سَوَاءٌ كَانَ التَّوْكِيلُ مِنْ قِبَلِ الطَّالِبِ أَوْ مِنْ قِبَلِ الْمَطْلُوبِ ( بِغَيْرِ رِضَا الْخَصْمِ ) وَيَسْتَوِي فِيهِ الشَّرِيفُ وَالْوَضِيعُ وَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ وَالْبِكْرُ وَالثَّيِّبُ ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ وَالْفَتَاوَى ( إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ مَرِيضًا أَوْ غَائِبًا مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا ) يَعْنِي إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ مَعْذُورًا بِعُذْرِ الْمَرَضِ أَوْ السَّفَرِ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ بِدُونِ رِضَا الْخَصْمِ عِنْدَهُ أَيْضًا ( وَقَالَا ) أَيْ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ ( يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِغَيْرِ رِضَا الْخَصْمِ ) أَيْ يَجُوزُ ذَلِكَ عِنْدَهُمَا فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ سَوَاءٌ رَضِيَ الْخَصْمُ أَمْ لَا ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُوَكِّلُ مَعْذُورًا أَمْ لَا ، وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ يَقُولُ : أَوْ لَا يُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْ النِّسَاءِ دُونَ الرِّجَالِ ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ : يُقْبَلُ مِنْ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ جَمِيعًا ( وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ) أَيْضًا ، وَفِي الْخُلَاصَةِ : وَالْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ يُفْتِي بِقَوْلِهِمَا .
وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ .
وَبِهِ أَخَذَ أَبُو الْقَاسِمِ الصَّفَّارُ .
وَقَالَ : شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ : الصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا عَلِمَ بِالْمُدَّعِي التَّعَنُّتَ فِي إبَاءِ الْوَكِيلِ يَقْبَلُ التَّوْكِيلَ وَلَا يَلْتَفِتُ إلَيْهِ ، وَإِنْ عَلِمَ مِنْ الْمُوَكِّلِ الْقَصْدَ إلَى الْإِضْرَارِ بِالْمُدَّعِي لِيَشْتَغِلَ الْوَكِيلُ بِالْحِيَلِ وَالْأَبَاطِيلِ وَالتَّلْبِيسِ لَا يَقْبَلُ مِنْهُ التَّوْكِيلَ .
وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ أَنَّ ذَلِكَ يُفَوَّضُ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ الْأَوَّلِ انْتَهَى .
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَلَا خِلَافَ فِي الْجَوَازِ ) أَيْ لَا خِلَافَ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَبَيْنَ صَاحِبَيْهِ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي الْجَوَازِ ، حَتَّى إذَا وَكَّلَ فَرَضِيَ الْخَصْمُ لَا يَحْتَاجُ فِي سَمَاعِ خُصُومَةِ الْوَكِيلِ إلَى تَجْدِيدِ

وَكَالَةٍ ( إنَّمَا الْخِلَافُ فِي اللُّزُومِ ) مَعْنَاهُ إذَا وَكَّلَ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْخَصْمِ هَلْ يَرْتَدُّ بِرَدِّهِ أَمْ لَا ؟ عِنْدَهُ يَرْتَدُّ خِلَافًا لَهُمْ ، فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَكُونُ مَعْنَى قَوْلِ الْقُدُورِيِّ .
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ إلَّا بِرِضَا الْخَصْمِ : أَيْ لَا يَلْزَمُ ذِكْرُ الْجَوَازِ ، وَأَرَادَ اللُّزُومَ ؛ لِأَنَّ الْجَوَازَ مِنْ لَوَازِمِ اللُّزُومِ فَيَجُوزُ ذِكْرُ اللَّازِمِ وَإِرَادَةُ الْمَلْزُومِ ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ .
وَقَدْ تَصَرَّفَ فِيهِ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ تَحْرِيرًا وَإِيرَادًا حَيْثُ قَالَ : فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ لَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ إلَّا بِرِضَا الْخَصْمِ مَجَازًا لِقَوْلِهِ وَلَا يَلْزَمُ ذِكْرُ الْجَوَازِ ، وَأَرَادَ اللُّزُومَ فَإِنَّ الْجَوَازَ لَازِمُ اللُّزُومِ فَيَكُونُ مِنْ ذِكْرِ اللَّازِمِ وَإِرَادَةِ الْمَلْزُومِ ، وَقَالَ : فِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْجَوَازَ لَازِمُ اللُّزُومِ عُرِفَ ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ .
سَلَّمْنَا لَكِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَجَازٍ انْتَهَى .
أَقُولُ : الظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُ بِقَوْلِهِ لَكِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَجَازٍ الرَّدُّ عَلَى قَوْلِهِ مَجَازًا بِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْمَجَازِ بَلْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْكِنَايَةِ بِنَاءً عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْكَاكِيُّ مِنْ أَنَّ الِانْتِقَالَ فِي الْمَجَازِ مِنْ الْمَلْزُومِ إلَى اللَّازِمِ ، وَفِي الْكِنَايَةِ مِنْ اللَّازِمِ إلَى الْمَلْزُومِ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ لَفْظَ الْمَجَازِ لَمْ يُذْكَرْ فِي تَحْرِيرِ غَيْرِهِ مِنْ الشُّرَّاحِ وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ صِحَّةُ التَّأْوِيلِ الْمَذْكُورِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ سَوَاءٌ كَانَ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ أَوْ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ فَكَانَ مَدَارُ رَدِّهِ الْمَزْبُورَ عَلَى لَفْظٍ زَادَهُ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ فِي بَيَانِ التَّأْوِيلِ الْمَذْكُورِ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُمْ حَقَّقُوا أَنَّ الِانْتِقَالَ فِي الْمَجَازِ وَالْكِنَايَةِ كِلَيْهِمَا مِنْ الْمَلْزُومِ إلَى اللَّازِمِ .
وَرَدُّوا مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْكَاكِيُّ بِأَنَّ

اللَّازِمَ مَا لَمْ يَكُنْ مَلْزُومًا لَمْ يُنْتَقَلْ مِنْهُ إلَى الْمَلْزُومِ ، وَجَعَلُوا الْعُمْدَةَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا جَوَازَ إرَادَةِ الْمَعْنَى الْمَوْضُوعِ لَهُ وَعَدَمَ جَوَازِهَا ، فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ لَفْظُ يَجُوزُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مَجَازًا عَنْ مَعْنًى يَلْزَمُ بِلَا مَحْذُورٍ أَصْلًا .
ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَالْحَقُّ أَنَّ قَوْلَهُ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ إلَّا بِرِضَا الْخَصْمِ فِي قُوَّةِ قَوْلِنَا : التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ غَيْرُ لَازِمٍ ، بَلْ إنْ رَضِيَ بِهِ الْخَصْمُ وَإِلَّا فَلَا فَلَا حَاجَةَ إلَى قَوْلِهِ وَلَا خِلَافَ فِي الْجَوَازِ وَإِلَى التَّوْجِيهِ بِجَعْلِهِ مَجَازًا انْتَهَى .
أَقُولُ : لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ أَنَّ هَذَا كَلَامٌ خَالٍ عَنْ التَّحْصِيلِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ إنَّ قَوْلَهُ لَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ إلَّا بِرِضَا الْخَصْمِ فِي قُوَّةِ قَوْلِنَا التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ غَيْرُ لَازِمٍ أَنَّ مَعْنَى الْأَوَّلِ مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ هُوَ مَعْنَى الثَّانِي بِعَيْنِهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذْ لَا شَكَّ أَنَّ مَعْنَى الْجَوَازِ مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ يُغَايِرُ مَعْنَى اللُّزُومِ ، فَنَفْيُ الْأَوَّلِ يُغَايِرُ نَفْيَ الثَّانِي قَطْعًا ، وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ الثَّانِيَ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ الْأَوَّلِ مَجَازًا أَوْ كِنَايَةً فَلَا وَجْهَ لِقَوْلِهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى قَوْلِهِ وَلَا خِلَافَ فِي الْجَوَازِ ، فَإِنَّ الْمُتَبَادَرَ مِنْ الْأَلْفَاظِ مَعَانِيهَا الْحَقِيقِيَّةُ فَيَتَبَادَرُ إلَى ذِهْنِ النَّاظِرِ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ أَنْ يَكُونَ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي نَفْسِ الْجَوَازِ ، فَدَفَعَ الْمُصَنِّفُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ وَلَا خِلَافَ فِي الْجَوَازِ إنَّمَا الْخِلَافُ فِي اللُّزُومِ فَهَذَا الْكَلَامُ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ .
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْمُصَنِّفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَ بِأَوَّلِ مَنْ حَمَلَ الْخِلَافَ الْمَذْكُورَ عَلَى اللُّزُومِ ، بَلْ سَبَقَهُ إلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ الْمَشَايِخِ مِنْهُمْ الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِ أَدَبِ الْقَاضِي : إنَّ

التَّوْكِيلَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِغَيْرِ رِضَا الْخَصْمِ صَحِيحٌ ، وَلَكِنَّ لِلْخَصْمِ أَنْ يُطَالِبَ الْمُوَكِّلَ بِأَنْ يَحْضُرَ بِنَفْسِهِ وَيُجِيبَ ، وَمِنْهُمْ الْإِمَامُ عَلَاءُ الدِّينِ الْعَالِمُ حَيْثُ قَالَ فِي طَرِيقَةِ الْخِلَافِ : التَّوْكِيلُ بِغَيْرِ رِضَا الْخَصْمِ لَا يَقَعُ لَازِمًا .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ : يَقَعُ لَازِمًا .
وَذُكِرَ فِي الْمُحِيطِ الْبُرْهَانِيِّ أَنَّ رِضَا الْخَصْمِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ التَّوْكِيلِ وَلُزُومِهِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ .
بَعْضُهُمْ قَالُوا : رِضَا الْخَصْمِ عِنْدَهُ لَيْسَ بِشَرْطِ صِحَّةِ التَّوْكِيلِ بَلْ هُوَ شَرْطُ لُزُومِهِ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا بَلْ رِضَا الْخَصْمِ عِنْدَهُ شَرْطُ صِحَّةِ التَّوْكِيلِ ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا بِاخْتِلَافِ أَلْفَاظِ الْكِتَابِ .
ذُكِرَ فِي شُفْعَةِ الْأَصْلِ أَنَّ التَّوْكِيلَ بِغَيْرِ رِضَا الْخَصْمِ بَاطِلٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَذُكِرَ فِي وَكَالَةِ الْأَصْلِ : لَا يُقْبَلُ التَّوْكِيلُ بِغَيْرِ رِضَا الْخَصْمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ التَّوْكِيلَ عِنْدَهُ صَحِيحٌ غَيْرُ لَازِمٍ حَتَّى لَا يَلْزَمَ الْخَصْمَ الْحُضُورُ .
وَالْجَوَابُ لِخُصُومَةِ الْوَكِيلِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ مَرِيضًا مَرَضًا لَا يُمْكِنُهُ الْحُضُورُ بِنَفْسِهِ مَجْلِسَ الْحُكْمِ ، أَوْ غَائِبًا مَسِيرَةَ سَفَرٍ فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ عِنْدَهُ انْتَهَى .
وَهَكَذَا ذُكِرَ فِي الذَّخِيرَةِ أَيْضًا ( لَهُمَا ) أَيْ لِأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ ( أَنَّ التَّوْكِيلَ تَصَرُّفٌ فِي خَالِصِ حَقِّهِ ) أَيْ فِي خَالِصِ حَقِّ الْمُوَكِّلِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُوَكِّلَهُ بِالْخُصُومَةِ أَوْ بِالْجَوَابِ وَكِلَاهُمَا مِنْ خَالِصِ حَقِّهِ .
أَمَّا الْخُصُومَةُ فَلِأَنَّهَا الدَّعْوَى وَهِيَ خَالِصُ حَقِّ الْمُدَّعِي حَتَّى لَا يُجْبَرَ عَلَيْهَا .
وَأَمَّا الْجَوَابُ فَلِأَنَّهُ إمَّا إنْكَارٌ أَوْ إقْرَارٌ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَالِصُ حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ( فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى

رِضَا غَيْرِهِ ) فَصَارَ ( كَالتَّوْكِيلِ بِتَقَاضِي الدُّيُونِ ) وَقَبْضِهَا وَإِيفَائِهَا ( وَلَهُ ) أَيْ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( أَنَّ الْجَوَابَ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْخَصْمِ ) يَعْنِي أَنَّ الْجَوَابَ حَقٌّ وَاجِبٌ لِلْمُدَّعِي عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ( وَلِهَذَا يَسْتَحْضِرُهُ ) أَيْ يَسْتَحْضِرُ الْمُدَّعِي الْخَصْمَ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي قَبْلَ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ عَلَيْهِ شَيْءٌ لِيُجِيبَهُ عَمَّا يَدَّعِيهِ عَلَيْهِ ، وَغَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنْ يَكُونَ التَّوْكِيلُ تَصَرُّفًا فِي خَالِصِ حَقِّ الْمُوَكِّلِ ، لَكِنَّ تَصَرُّفَ الْإِنْسَانِ فِي خَالِصِ حَقِّهِ إنَّمَا يَنْفُذُ إذَا لَمْ يَتَعَدَّ إلَى الْإِضْرَارِ بِالْغَيْرِ ( وَ ) هَاهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ ( النَّاسَ مُتَفَاوِتُونَ فِي الْخُصُومَةِ ) أَيْ مِنْ جِهَةِ الدَّعْوَى وَالْإِثْبَاتِ ، وَمِنْ جِهَةِ الدَّفْعِ وَالْجَوَابِ .
فَرُبَّ إنْسَانٍ يُصَوِّرُ الْبَاطِلَ فِي صُورَةِ الْحَقِّ ، وَرُبَّ إنْسَانٍ لَا يُمْكِنُهُ تَمْشِيَةُ الْحَقِّ عَلَى وَجْهِهِ ، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ .
فَمَنْ قَضَيْت لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذْهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ نَارٍ } ذَكَرَهُ فِي أَدَبِ الْقَاضِي وَالْأَسْرَارِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُوَكَّلُ عَادَةً إلَّا مَنْ هُوَ أَلَدُّ وَأَشَدُّ فِي الْخُصُومَاتِ لِيَغْلِبَ عَلَى الْخَصْمِ ( فَلَوْ قُلْنَا بِلُزُومِهِ ) أَيْ بِلُزُومِ التَّوْكِيلِ بِالْخُصُومَةِ بِلَا رِضَا الْخَصْمِ ( يَتَضَرَّرُ بِهِ ) أَيْ يَتَضَرَّرُ الْخَصْمُ بِهِ ( فَيَتَوَقَّفُ عَلَى رِضَاهُ ) فَصَارَ ( كَالْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ إذَا كَاتَبَهُ أَحَدُهُمَا ) أَيْ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ ( يَتَخَيَّرُ الْآخَرُ ) أَيْ يَتَخَيَّرُ الشَّرِيكُ الْآخَرُ بَيْنَ إمْضَاءِ الْكِتَابَةِ وَفَسْخِهَا ، فَكَانَ تَصَرُّفُ أَحَدِهِمَا مُتَوَقِّفًا عَلَى رِضَا الْآخَرِ ، وَإِنْ كَانَ تَصَرُّفًا فِي خَالِصِ حَقِّهِ لِمَكَانِ ضَرَرِ شَرِيكِهِ .
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ فِي شَرْحِ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ مِنْ قِبَلِ

أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْحُضُورَ وَالْجَوَابَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْقَاضِيَ يَقْطَعُهُ عَنْ أَشْغَالِهِ وَيُحْضِرُهُ لِيُجِيبَ خَصْمَهُ ، وَالنَّاسُ يَتَفَاوَتُونَ فِي هَذَا الْجَوَابِ ؛ فَرُبَّ إنْكَارٍ يَكُونُ أَشَدَّ دَفْعًا لِلْمُدَّعِي مِنْ إنْكَارٍ .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُوَكِّلَ إنَّمَا يَطْلُبُ مِنْ الْوَكِيلِ ذَلِكَ الْأَشَدَّ ، فَإِنَّ النَّاسَ إنَّمَا يَقْصِدُونَ بِهَذَا التَّوْكِيلِ أَنْ يَشْتَغِلَ الْوَكِيلُ بِالْحِيَلِ وَالْأَبَاطِيلِ لِيَدْفَعَ حَقَّ الْخَصْمِ عَنْ الْمُوَكِّلِ وَفِيهِ إضْرَارٌ بِالْخَصْمِ ، وَأَكْثَرُ مَا فِي هَذَا الْبَابِ أَنْ يَكُونَ تَوْكِيلُهُ بِمَا هُوَ مِنْ خَالِصِ حَقِّهِ ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ يَتَّصِلُ بِهِ ضَرَرٌ بِالْغَيْرِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَا لَا يُمْلَكُ بِدُونِ رِضَاهُ انْتَهَى .
كَلَامُهُ .
وَعَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ سَبَقَ الدَّلِيلُ الْمَزْبُورُ فِي الْكَافِي وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ أَيْضًا .
أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ أَصْلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَامٌّ لِصُورَةِ التَّوْكِيلِ مِنْ جَانِبِ الْمُدَّعِي ، وَلِصُورَةِ التَّوْكِيلِ مِنْ جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَمَا أَفْصَحَ عَنْهُ الشُّرَّاحُ قَاطِبَةً فِي صَدْرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَصُرِّحَ بِهِ فِي عَامَّةِ كُتُبِ الْفَتَاوَى أَيْضًا .
وَفِي تَقْرِيرِ الدَّلِيلِ الْمَزْبُورِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ هَؤُلَاءِ الشُّرَّاحِ تَخْصِيصُ ذَلِكَ بِصُورَةِ التَّوْكِيلِ مِنْ جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَمَا تَرَى فَكَانَ تَقْصِيرًا مِنْهُمْ لِتَحَمُّلِهِ التَّقْرِيرَ بِوَجْهٍ يَعُمُّ الصُّورَتَيْنِ مَعًا كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي شَرْحِنَا .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ : وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي خَالِصِ حَقِّهِ ، فَإِنَّ الْجَوَابَ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْخَصْمِ وَلِهَذَا يَسْتَحْضِرُهُ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي ، وَالْمُسْتَحَقُّ لِلْغَيْرِ لَا يَكُونُ خَالِصًا لَهُ .
سَلَّمْنَا خُلُوصَهُ لَهُ لَكِنَّ تَصَرُّفَ الْإِنْسَانِ فِي خَالِصِ حَقِّهِ إنَّمَا يَصِحُّ إذَا لَمْ يَتَضَرَّرْ بِهِ غَيْرُهُ ، وَهَا

هُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْخُصُومَةِ ، فَلَوْ قُلْنَا بِلُزُومِهِ لَتَضَرَّرَ بِهِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى رِضَاهُ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ أَيْضًا نَظَرٌ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ مِنْ قِبَلِ أَبِي حَنِيفَةَ دَلِيلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَنْعِيٌّ لِمَا قَالَاهُ ، وَالْآخَرُ : تَسْلِيمِيٌّ لَهُ ، فَيَرِدُ حِينَئِذٍ عَلَى الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ مَا يَرِدُ عَلَى تَقْرِيرِ صَاحِبِ النِّهَايَةِ وَغَيْرِهِ مِنْ كَوْنِ الدَّلِيلِ مَخْصُوصًا بِإِحْدَى صُورَتَيْ الْمَسْأَلَةِ الْعَامَّةِ الْمُدَّعَاةِ تَأَمَّلْ تَقِفُ .
فَالْوَجْهُ أَنْ يُجْعَلَ الْمَجْمُوعُ دَلِيلًا وَاحِدًا وَيُقَرَّرَ بِوَجْهٍ يَعُمُّ الصُّورَتَيْنِ مَعًا كَمَا فَعَلْنَاهُ فِي شَرْحِنَا ، لَكِنَّ الْإِنْصَافَ أَنَّ تَأْثِيرَ الْمُقَدِّمَةِ الْقَائِلَةِ إنَّ الْجَوَابَ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْخَصْمِ إنَّمَا هُوَ فِي صُورَةِ التَّوْكِيلِ مِنْ جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ الْمُتَأَمِّلِ ( بِخِلَافِ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ مَرِيضًا أَوْ غَائِبًا ، وَالْمُرَادُ بَيَانُ وَجْهِ مُخَالَفَةِ الْمُسْتَثْنَى لِلْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَذَلِكَ ( لِأَنَّ الْجَوَابَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ ) أَيْ غَيْرُ وَاجِبٍ ( عَلَيْهِمَا ) أَيْ عَلَى الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ ( هُنَالِكَ ) أَيْ فِيمَا إذَا كَانَ الْمُوَكِّلُ مَرِيضًا أَوْ مُسَافِرًا لِعَجْزِ الْمَرِيضِ بِالْمَرَضِ وَعَجْزِ الْمُسَافِرِ بِالْغَيْبَةِ ، فَلَوْ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُمَا الْجَوَابُ لَزِمَ الْحَرَجُ وَهُوَ مُنْتَفٍ بِالنَّصِّ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } أَقُولُ : هَاهُنَا شَيْءٌ ، وَهُوَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ الْفَرْقِ إنَّمَا يَنْفُذُ فِي صُورَةِ إنْ كَانَ التَّوْكِيلُ مِنْ جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَأَمَّا فِي صُورَةِ إنْ كَانَ مِنْ جَانِبِ الْمُدَّعِي فَلَا ؛ لِأَنَّ الْجَوَابَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَى الْمُدَّعِي سَوَاءٌ كَانَ صَحِيحًا مُقِيمًا أَوْ مَرِيضًا مُسَافِرًا ، فَإِنَّ الْجَوَابَ إنَّمَا يَجِبُ عَلَى مَنْ يُجْبَرُ عَلَى الْخُصُومَةِ لَا

عَلَى مَنْ لَا يُجْبَرُ عَلَيْهَا ، مَعَ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَامَّةٌ لِلصُّورَتَيْنِ مَعًا كَمَا تَحَقَّقْته ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُزَادَ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ : إنَّ تَوَقُّعَ الضَّرَرِ اللَّازِمِ بِالْمَرَضِ وَالسَّفَرِ مِنْ الْمَوْتِ وَآفَاتِ التَّأْخِيرِ أَشَدُّ مِنْ الضَّرَرِ اللَّازِمِ بِتَفَاوُتِ النَّاسِ فِي الْخُصُومَةِ فَيُتَحَمَّلُ الْأَدْنَى دُونَ الْأَعْلَى .
وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ : وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُوَكِّلَ لَوْ كَانَ غَائِبًا أَدْنَى مُدَّةِ السَّفَرِ أَوْ كَانَ مَرِيضًا فِي الْمِصْرِ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَمْشِيَ عَلَى قَدَمَيْهِ إلَى بَابِ الْقَاضِي كَانَ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ مُدَّعِيًا كَانَ أَوْ مُدَّعًى عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمْشِيَ عَلَى قَدَمَيْهِ وَلَكِنَّهُ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمْشِيَ عَلَى ظَهْرِ دَابَّةٍ أَوْ ظَهْرِ إنْسَانٍ ، فَإِنْ ازْدَادَ مَرَضُهُ بِذَلِكَ صَحَّ التَّوْكِيلُ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَزْدَادُ اخْتَلَفُوا فِيهِ ، قَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ وَهُوَ الصَّحِيحُ انْتَهَى ( ثُمَّ كَمَا يَلْزَمُ التَّوْكِيلُ عِنْدَهُ ) أَيْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ( مِنْ الْمُسَافِرِ يَلْزَمُ إذَا أَرَادَ السَّفَرَ لِتَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ ) إذْ لَوْ لَمْ يَلْزَمْ يَلْحَقُهُ الْحَرَجُ بِالِانْقِطَاعِ عَنْ مَصَالِحِهِ .
وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ : وَكَمَا يَجُوزُ لِلْمُسَافِرِ أَدْنَى مُدَّةِ السَّفَرِ أَنْ يُوَكِّلَ بِغَيْرِ رِضَا الْخَصْمِ يَجُوزُ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ إلَى السَّفَرِ لَكِنْ لَا يُصَدَّقُ أَنَّهُ يُرِيدُ السَّفَرَ ، وَلَكِنَّ الْقَاضِيَ يَنْظُرُ إلَى زِيِّهِ وَعِدَّةِ سَفَرِهِ أَوْ يَسْأَلُ عَمَّنْ يُرِيدُ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهُ فَيَسْأَلُ عَنْ رُفَقَائِهِ كَمَا فِي فَسْخِ الْإِجَارَةِ انْتَهَى

( وَلَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ مُخَدَّرَةً ) اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْمَشَايِخِ فِي تَفْسِيرِ الْمُخَدَّرَةِ ؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : هِيَ الَّتِي لَمْ تَجْرِ عَادَتُهَا بِالْبُرُوزِ وَحُضُورِ الْمَجْلِسِ الْقَاضِي .
وَقَالَ الْإِمَامُ الْبَزْدَوِيُّ : هِيَ الَّتِي لَا يَرَاهَا غَيْرُ الْمَحَارِمِ ، وَأَمَّا الَّتِي جَلَسَتْ عَلَى الْمِنَصَّةِ فَرَآهَا الْأَجَانِبُ لَا تَكُونُ مُخَدَّرَةً ، فَاخْتَارَ الْمُصَنِّفُ التَّفْسِيرَ الْأَوَّلَ حَيْثُ قَالَ ( لَمْ تَجْرِ عَادَتُهَا بِالْبُرُوزِ وَحُضُورِ مَجْلِسِ الْحَاكِمِ ) فَإِنَّ هَذَا صِفَةٌ كَاشِفَةٌ لِمُخَدَّرَةٍ جَارِيَةٍ مَجْرَى التَّفْسِيرِ لَهَا ( قَالَ الرَّازِيّ ) أَرَادَ بِهِ الْإِمَامَ أَبَا بَكْرٍ الْجَصَّاصَ أَحْمَدَ بْنَ عَلِيٍّ الرَّازِيّ صَاحِبَ التَّصَانِيفِ الْكَثِيرَةِ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ وَأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَإِلَيْهِ انْتَهَتْ رِيَاسَةُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ بِبَغْدَادَ بَعْدَ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ ، وَكَانَتْ وِلَادَتُهُ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَثِمِائَةٍ وَمَاتَ سَنَةَ سَبْعِينَ وَثَلَثِمِائَةٍ ( يَلْزَمُ التَّوْكِيلُ ) أَيْ يَلْزَمُ التَّوْكِيلُ مِنْهَا بِلَا رِضَا الْخَصْمِ وَبِدُونِ عُذْرِ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ ( لِأَنَّهَا لَوْ حَضَرَتْ لَا يُمْكِنُهَا أَنْ تَنْطِقَ بِحَقِّهَا لِحَيَائِهَا فَيَلْزَمُ تَوْكِيلُهَا ) دَفْعًا لِلْحَرَجِ ، فَلَوْ وَكَّلَتْ بِالْخُصُومَةِ فَوَجَبَ عَلَيْهَا الْيَمِينُ وَهِيَ لَا تُعْرَفُ بِالْخُرُوجِ وَمُخَالَطَةِ الرِّجَالِ فِي الْحَوَائِجِ يَبْعَثُ إلَيْهَا الْحَاكِمُ ثَلَاثَةً مِنْ الْعُدُولِ يَسْتَحْلِفُهَا أَحَدُهُمْ وَيَشْهَدُ الْآخَرَانِ عَلَى حَلِفِهَا ، وَكَذَا فِي الْمَرِيضَةِ إذَا وَجَبَ عَلَيْهَا يَمِينٌ ؛ لِأَنَّ النِّيَابَةَ لَا تَجْرِي فِي الْأَيْمَانِ ، هَكَذَا ذَكَرَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ فِي أَدَبِ الْقَاضِي ، وَذَكَرَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ يَبْعَثُ إلَى الْمُخَدَّرَةِ وَالْمَرِيضَةِ أَوْ إلَى الْمَرِيضِ خَلِيفَةً فَيَفْصِلُ الْخُصُومَةَ هُنَالِكَ يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ مَجْلِسَ الْخَلِيفَةِ كَمَجْلِسِهِ كَذَا فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ وَغَيْرِهِ ( قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ) أَيْ قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَهَذَا ) أَيْ مَا

قَالَهُ الرَّازِيّ ( شَيْءٌ اسْتَحْسَنَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ ) وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ : وَيَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ الْمُخَدَّرَةِ أَنْ تُوَكِّلَ وَهِيَ الَّتِي لَمْ تُخَالِطْ الرِّجَالَ بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا ، كَذَا ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ .
وَقَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْمَعْرُوفُ بِخُوَاهَرْ زَادَهْ : ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا عَلَى الِاخْتِلَافِ أَيْضًا ، وَعَامَّةُ الْمَشَايِخِ أَخَذُوا بِمَا ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى انْتَهَى

( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( وَمِنْ شَرْطِ الْوَكَالَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ مِمَّنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ ) قِيلَ هَذَا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ ، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَالشَّرْطُ أَنْ يَكُونَ التَّوْكِيلُ حَاصِلًا بِمَا يَمْلِكُهُ الْوَكِيلُ ، فَأَمَّا كَوْنُ الْمُوَكِّلِ مَالِكًا لِلتَّصَرُّفِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى يَجُوزَ عِنْدَهُ تَوْكِيلُ الْمُسْلِمِ الذِّمِّيَّ بِشِرَاءِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَتَوْكِيلُ الْمُحْرِمِ الْحَلَالَ بِبَيْعِ الصَّيْدِ .
وَقِيلَ الْمُرَادُ بِهِ أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِلتَّصَرُّفِ نَظَرًا إلَى أَصْلِ التَّصَرُّفِ وَإِنْ امْتَنَعَ لِعَارِضٍ ، وَبَيْعُ الْخَمْرِ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ فِي الْأَصْلِ ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ بِعَارِضِ النَّهْيِ ، كَذَا فِي الْكَافِي وَالْكِفَايَةِ وَالتَّبْيِينِ .
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ مِمَّنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ : أَيْ مِمَّنْ يَمْلِكُ ذَلِكَ التَّصَرُّفَ الَّذِي وَكَّلَ الْوَكِيلَ بِهِ ، وَقَالَ : قَدْ ذَكَرْنَا فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْوَكَالَةِ مِنْ رِوَايَةِ الذَّخِيرَةِ أَنَّ هَذَا الْقَيْدَ وَقَعَ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ .
وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَمِنْ شَرْطِ الْوَكَالَةِ كَوْنُ التَّوْكِيلِ حَاصِلًا بِمَا يَمْلِكُهُ الْوَكِيلُ ، فَأَمَّا كَوْنُ الْمُوَكِّلِ مَالِكًا لِذَلِكَ التَّصَرُّفِ الَّذِي وَكَّلَ الْوَكِيلَ بِهِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ ، ثُمَّ قَالَ : فَإِنْ قُلْت : يُشْكِلُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْكِتَابِ مَا ذَكَرَهُ فِي الذَّخِيرَةِ بِقَوْلِهِ وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ خُذْ عَبْدِي هَذَا وَبِعْهُ بِعَبْدٍ أَوْ قَالَ اشْتَرِ لِي بِهِ عَبْدًا صَحَّ التَّوْكِيلُ بِهَذَا ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ مُبَاشَرَةُ الْمُوَكِّلِ فِي مِثْلِ هَذَا التَّصَرُّفِ ، فَإِنَّ مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ بِعْتُك هَذَا الْعَبْدَ بِعَبْدٍ أَوْ قَالَ اشْتَرَيْت مِنْك بِهَذَا الْعَبْدِ عَبْدًا لَا يَجُوزُ .
قُلْت : إنَّمَا جَازَ ذَلِكَ فِي التَّوْكِيلِ بِهَذَا وَلَمْ يَجُزْ فِي مُبَاشَرَةِ نَفْسِهِ لِوُجُودِ الْمَعْنَى الْفَارِقِ بَيْنَهُمَا وَهُوَ أَنَّ الْجَهَالَةَ إنَّمَا تَمْنَعُ عَنْ

الْجَوَازِ لِإِفْضَائِهَا إلَى الْمُنَازَعَةِ .
وَأَمَّا إذَا لَمْ تُؤَدِّ إلَيْهَا فَلَا تَمْنَعُ كَمَا فِي بَيْعِ قَفِيزٍ مِنْ صُبْرَةِ طَعَامٍ أَوْ شِرَائِهِ ثُمَّ جَهَالَةُ الْوَصْفِ فِي التَّوْكِيلِ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ لَيْسَ بِأَمْرٍ لَازِمٍ ، وَلَا كَذَلِكَ الْمُبَاشَرَةُ ؛ لِأَنَّهَا لَازِمَةٌ فَتُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ ، وَالْمَانِعُ مِنْ الصِّحَّةِ الْمُنَازَعَةُ لَا نَفْسُ الْجَهَالَةِ انْتَهَى كَلَامُهُ .
أَقُولُ : فِي جَوَابِهِ بَحْثٌ ؛ لِأَنَّ الْفَارِقَ الْمَذْكُورَ فِيهِ إنَّمَا أَفَادَ كَمِّيَّةَ صِحَّةِ التَّوْكِيلِ فِي مَسْأَلَةِ الذَّخِيرَةِ وَعَدَمِ صِحَّةِ الْمُبَاشَرَةِ بِنَفْسِهِ فِي مِثْلِهَا ، وَهَذَا الْقَدْرُ لَا يَدْفَعُ السُّؤَالَ الْمَذْكُورَ بَلْ يُقَوِّيهِ ؛ لِأَنَّهُ حَاصِلُهُ أَنَّ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ مِنْ شَرْطِ الْوَكَالَةِ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ فِي مَسْأَلَةِ الذَّخِيرَةِ مَعَ تَحَقُّقِ الْمَشْرُوطِ فِيهَا .
وَالْفَارِقُ الْمَذْكُورُ يُقَرِّرُ هَذَا الْمَعْنَى كَمَا لَا يَخْفَى .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : إنَّ هَذَا الْقَيْدَ وَقَعَ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ .
وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَمِنْ شَرْطِهَا أَنْ يَكُونَ الْوَكِيلُ مِمَّنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي الْخَمْرِ ، وَلَوْ وَكَّلَ بِهِ جَازَ عِنْدَهُ وَمَنْشَأُ هَذَا التَّوَهُّمِ أَنَّهُ جَعَلَ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ لِلْعَهْدِ : أَيْ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ الَّذِي وَكَّلَ بِهِ ، وَأَمَّا إذَا جُعِلَتْ لِلْجِنْسِ حَتَّى يَكُونَ مَعْنَاهُ يَمْلِكُ جِنْسَ التَّصَرُّفِ احْتِرَازًا عَنْ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ فَيَكُونُ عَلَى مَذْهَبِ الْكُلِّ ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ مِمَّنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فَإِنَّ الْأَنْسَبَ لِكَلِمَةِ " مَنْ " جِنْسُ التَّصَرُّفِ انْتَهَى .
وَأَوْرَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى قَوْلِهِ فَإِنَّ الْأَنْسَبَ لِكَلِمَةِ " مَنْ " جِنْسُ التَّصَرُّفِ ، وَأَجَابَ حَيْثُ قَالَ : لَا يَخْفَى عَلَيْك أَنَّ

مَدْخُولَ كَلِمَةِ " مَنْ " هُوَ قَوْلُهُ مَنْ يَمْلِكُ دُونَ التَّصَرُّفِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ مُرَادَهُ أَنَّ الْمَالِكَ لِلتَّصَرُّفِ الْمَخْصُوصِ لَا يَتَعَدَّدُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ إدْخَالُ " مَنْ " فِي مَنْ يَمْلِكُ انْتَهَى .
أَقُولُ : لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمَهُ ، فَإِنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَالِكَ لِلتَّصَرُّفِ الْمَخْصُوصِ لَا يَتَعَدَّدُ ، أَلَا يَرَى إلَى الْحُقُوقِ الْمُشْتَرَكَةِ مَالًا كَانَتْ أَوْ غَيْرَهُ ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهَا تَصَرُّفًا مَخْصُوصًا ، وَإِنْ وَصَلَ مَبْلَغُهُمْ فِي التَّعَدُّدِ إلَى الْأَلْفِ ، مَثَلًا إذَا كَانَتْ دَارٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ كَثِيرِينَ فَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهَا بِسُكْنَى أَوْ غَيْرِهِ .
وَلَئِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ فَلَا نُسَلِّمُ عَدَمَ اسْتِقَامَةِ إدْخَالِ " مَنْ " حِينَئِذٍ فِي مَنْ يَمْلِكُ ، فَإِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يُتَوَهَّمُ لَوْ كَانَتْ كَلِمَةُ " مَنْ " هَاهُنَا لِلتَّبْعِيضِ ، وَأَمَّا إذَا كَانَتْ لِلتَّبْيِينِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ فِي الْمَقَامِ فَيَسْتَقِيمُ جِدًّا كَمَا لَا يَخْفَى .
ثُمَّ إنَّ مَا ذَكَرَهُ كُلَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى فَهْمِ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ بِكَلِمَةِ " مَنْ " فِي قَوْلِهِ فَإِنَّ الْأَنْسَبَ لِكَلِمَةِ " مَنْ " جِنْسُ التَّصَرُّفِ حَرْفُ الْجَرِّ الدَّاخِلَةُ عَلَى الِاسْمِ الْمَوْصُولِ .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُ بِهَا نَفْسُ الِاسْمِ الْمَوْصُولِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي قَوْلِهِ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ .
إذْ لَوْ كَانَ مَدَارُ كَلَامِهِ زِيَادَةَ حَرْفِ الْجَرِّ لَقَالَ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ مَنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ بِحَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ فَقَطْ ، فَوَجْهُ الْأَنْسَبِيَّةِ حِينَئِذٍ أَنَّ الِاسْمَ الْمَذْكُورَ مِنْ مُبْهَمَاتِ الْمَعَارِفِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي النَّحْوِ وَمِنْ أَلْفَاظِ الْعَامِّ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ جِنْسَ الْمَالِكِ لَا الْفَرْدَ الْمُعَيَّنَ مِنْهُ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الَّذِي يَمْلِكُهُ جِنْسُ الْمَالِكِ هُوَ

جِنْسُ التَّصَرُّفِ دُونَ التَّصَرُّفِ الْمَعْهُودِ ، ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ الْبَعْضُ : إنَّ الْأَنْسَبِيَّةَ قَدْ فَاتَتْ فِي قَوْلِهِ وَيَقْصِدُهُ كَمَا لَا يَخْفَى .
أَقُولُ : هَذَا أَيْضًا لَيْسَ بِسَدِيدٍ ، فَإِنَّ قَوْلَهُ وَيَقْصِدُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْرُونًا بِكَلِمَةِ مَنْ صَرَاحَةً لَكِنَّهُ مَقْرُونٌ بِهَا حُكْمًا فَإِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا هُوَ فِي حَيِّزِ كَلِمَةِ مَنْ وَهُوَ قَوْلُهُ يَعْقِلُ الْعَقْدَ فِي قَوْلِهِ مِمَّنْ يَعْقِلُ الْعَقْدَ .
وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَعْطُوفَ فِي حُكْمِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِالنَّظَرِ إلَى مَا قَبْلَهُ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأَدَبِ ، فَقَدْ حَصَلَتْ الْأَنْسَبِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ هُنَاكَ أَيْضًا .
ثُمَّ إنَّ حَمْلَ التَّصَرُّفِ فِي قَوْلِ الْقُدُورِيِّ : وَمِنْ شَرْطِ الْوَكَالَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ مِمَّنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ عَلَى جِنْسِ التَّصَرُّفِ دُونَ التَّصَرُّفِ الَّذِي وَكَّلَ بِهِ مِمَّا سَبَقَ إلَيْهِ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ حَيْثُ قَالَ : قِيلَ لَا يَسْتَقِيمُ هَذَا الشَّرْطُ إلَّا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ شَرْطُ الْوَكَالَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ مَالِكًا لِلتَّصَرُّفِ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُوَكِّلَ الْمُسْلِمُ الذِّمِّيَّ بِبَيْعِ الْخَمْرِ وَشِرَائِهَا ، وَهُوَ جَائِزٌ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ مَعَ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ بِنَفْسِهِ .
فَعُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ عَلَى مَذْهَبِهِ ، بَلْ الشَّرْطُ عِنْدَهُ أَنْ يَكُونَ الْوَكِيلُ مَالِكًا لِذَلِكَ التَّصَرُّفِ الَّذِي وُكِّلَ بِهِ .
ثُمَّ قَالَ : قُلْت هَذَا الشَّرْطُ الَّذِي شَرَطَهُ الْقُدُورِيُّ يَسْتَقِيمُ عَلَى مَذْهَبِ الْكُلِّ ، وَإِنَّمَا خَصَّ هَذَا الْقَائِلُ الِاسْتِقَامَةَ عَلَى مَذْهَبِهِمَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يُدْرِكُ كُنْهَ كَلَامِ الْقُدُورِيِّ ، إذْ مَضْمُونُ كَلَامِهِ أَنَّ الْوَكَالَةَ لَهَا شَرْطٌ فِي الْمُوَكِّلِ وَشَرْطٌ فِي الْوَكِيلِ .
فَالْأَوَّلُ : أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ مِمَّنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ وَيَلْزَمُهُ الْأَحْكَامُ .
وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْوَكِيلُ مِمَّنْ

يَعْقِلُ الْعَقْدَ وَيَقْصِدُهُ ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ أَنْ يَكُونَ لَهُ وِلَايَةٌ شَرْعًا فِي جِنْسِ التَّصَرُّفِ بِأَهْلِيَّةِ نَفْسِهِ بِأَنْ يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلًا عَلَى وَجْهٍ يُلْزِمُهُ حُكْمَ التَّصَرُّفِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى حَاصِلٌ فِي تَوْكِيلِ الْمُسْلِمِ الذِّمِّيَّ فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ بَيْعًا وَشِرَاءً ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ الْمُوَكِّلَ عَاقِلٌ بَالِغٌ لَهُ وِلَايَةٌ شَرْعًا فِي جِنْسِ التَّصَرُّفِ عَلَى وَجْهٍ يُلْزِمُهُ حُكْمُ التَّصَرُّفِ فِيمَا تَصَرَّفَ بِوِلَايَتِهِ .
وَالشَّرْطُ الْآخَرُ وَهُوَ أَنْ يَعْقِلَ الْعَقْدَ وَيَقْصِدَهُ حَاصِلٌ فِي الْوَكِيلِ أَيْضًا وَهُوَ الذِّمِّيُّ ؛ لِأَنَّهُ يَعْقِلُ مَعْنَى الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَيَقْصِدُهُ ، فَصَحَّ الشَّرْطُ إذَنْ عَلَى مَذْهَبِ الْكُلِّ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
وَرَدَّ عَلَيْهِ الشَّارِحُ ابْنُ الْهُمَامِ حَيْثُ قَالَ : قِيلَ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ الشَّرْطُ الْأَوَّلُ عَلَى قَوْلِهِمَا أَمَّا عَلَى قَوْلِهِ فَلَا ؛ لِأَنَّهُ يُجِيزُ تَوْكِيلَ الْمُسْلِمِ الذِّمِّيَّ بِبَيْعِ خَمْرٍ وَشِرَائِهَا وَالْمُسْلِمُ لَا يَمْلِكُهُ .
أَجَابَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِمُلْكِهِ التَّصَرُّفَ أَنْ يَكُونَ لَهُ وِلَايَةٌ شَرْعِيَّةٌ فِي جِنْسِ التَّصَرُّفِ بِأَهْلِيَّةِ نَفْسِهِ بِأَنْ يَكُونَ عَاقِلًا بَالِغًا ، وَهَذَا حَاصِلٌ فِي تَوْكِيلِ الْمُسْلِمِ الذِّمِّيَّ بِبَيْعِ خَمْرٍ وَشِرَائِهَا ، ثُمَّ حَمِدَ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاهُ لِذَلِكَ ، وَهُوَ خَطَأٌ إذْ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَصِحَّ تَوْكِيلُ الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ لِعَدَمِ الْبُلُوغِ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ، بَلْ إذَا وَكَّلَ الصَّبِيُّ الْمَأْذُونَ يَصِحُّ بَعْدَ أَنْ يَعْقِلَ مَعْنَى الْبَيْعِ انْتَهَى كَلَامُهُ .
أَقُولُ : مَا ذَهَبَ إلَيْهِ صَاحِبُ الْغَايَةِ هَاهُنَا لَيْسَ بِمَثَابَةِ أَنْ يُقَالَ لَهُ هُوَ خَطَأٌ بِمُجَرَّدِ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْهُمَامِ ، فَإِنَّ الَّذِي يُهِمُّهُ فِي تَوْجِيهِ الْمَقَامِ هُوَ قَوْلُهُ الْمُرَادُ بِمِلْكِهِ التَّصَرُّفَ أَنْ يَكُونَ لَهُ وِلَايَةٌ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78