كتاب : فتح القدير
المؤلف : كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي

أُكَلِّمُهُمْ وَهَذَا الرَّغِيفُ عَلَيَّ حَرَامٌ عَلَى مَا نَقَلَ قَاضِي خَانْ عَنْ الْمَشَايِخِ .

( وَلَوْ قَالَ كُلُّ حِلٍّ عَلَيَّ حَرَامٌ فَهُوَ عَلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ غَيْرَ ذَلِكَ ) وَالْقِيَاسُ أَنْ يَحْنَثَ كَمَا فَرَغَ لِأَنَّهُ بَاشَرَ فِعْلًا مُبَاحًا وَهُوَ التَّنَفُّسُ وَنَحْوُهُ ، هَذَا قَوْلُ زَفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمَقْصُودَ وَهُوَ الْبِرُّ لَا يَتَحَصَّلُ مَعَ اعْتِبَارِ الْعُمُومِ ، وَإِذَا سَقَطَ اعْتِبَارُهُ يَنْصَرِفُ إلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ لِلْعُرْفِ فَإِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِيمَا يَتَنَاوَلُ عَادَةً .
وَلَا يَتَنَاوَلُ الْمَرْأَةَ إلَّا بِالنِّيَّةِ لِإِسْقَاطِ اعْتِبَارِ الْعُمُومِ .
وَإِذَا نَوَاهَا كَانَ إيلَاءً وَلَا تُصْرَفُ الْيَمِينُ عَنْ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ ، وَهَذَا كُلُّهُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
وَمَشَايِخُنَا قَالُوا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ عَنْ غَيْرِ نِيَّةٍ لِغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى ، وَكَذَا يَنْبَغِي فِي قَوْلِهِ حَلَالٌ يُرْوَى حَرَامٌ لِلْعُرْفِ .
وَاخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ هرجه بردست رَاسَتْ كيرم بِرِوَيْ حَرَامٌ أَنَّهُ هَلْ تُشْتَرَطُ النِّيَّةُ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يُجْعَلُ طَلَاقًا مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ لِلْعُرْفِ .

( قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ كُلُّ حَلَالٍ عَلَيَّ حَرَامٌ فَهُوَ عَلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ غَيْرَ ذَلِكَ ) فَإِذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ حَنِثَ وَلَا يَحْنَثُ بِجِمَاعِ زَوْجَتِهِ ( وَالْقِيَاسُ أَنْ يَحْنَثَ كَمَا فَرَّغَ لِأَنَّهُ بَاشَرَ فِعْلًا مُبَاحًا وَهُوَ التَّنَفُّسُ وَنَحْوُهُ ) كَفَتْحِ الْعَيْنَيْنِ وَتَحْرِيكِ الْجَفْنَيْنِ ( وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ ) بِنَاءً عَلَى انْعِقَادِهِ عَلَى الْعُمُومِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ ( وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمَقْصُودَ وَهُوَ الْبِرُّ لَا يَحْصُلُ مَعَ اعْتِبَارِ الْعُمُومِ ) وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يُعْقَدْ لِلْحِنْثِ ابْتِدَاءً : أَيْ لَا يَكُونُ الْغَرَضُ مِنْ عَقْدِ الْيَمِينِ الْحِنْثَ فَكَانَ ذَلِكَ قَرِينَةً صَارِفَةً عَنْ صِرَافَةِ الْعُمُومِ ( وَإِذَا سَقَطَ اعْتِبَارُهُ يَنْصَرِفُ إلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ لِلْعُرْفِ فَإِنَّهُ ) أَيْ هَذَا اللَّفْظُ ( يُسْتَعْمَلُ فِيمَا يُتَنَاوَلُ عَادَةً ) وَهُوَ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ ، فَظَهَرَ ، أَنَّ مَا قِيلَ إنَّهُ تَعَذَّرَ الْحَمْلُ عَلَى الْعُمُومِ فَيُحْمَلُ عَلَى أَخَصِّ الْخُصُوصِ لَا يَصِحُّ إذْ لَيْسَ مَجْمُوعُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ أَخَصَّ الْخُصُوصِ بَلْ حُمِلَ عَلَى مَا تُعُورِفَ فِيهِ اللَّفْظُ .
( وَلَا يَتَنَاوَلُ الْمَرْأَةَ إلَّا بِالنِّيَّةِ لِإِسْقَاطِ اعْتِبَارِ الْعُمُومِ ) فِي غَيْرِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ مَعَ صَلَاحِيَّةِ اللَّفْظِ ، فَإِذَا نَوَاهَا اتَّصَلَتْ النِّيَّةُ بِلَفْظٍ صَالِحٍ فَصَحَّ فِيهِ دُخُولُهَا فِي الْإِرَادَةِ ، بِخِلَافِ نَحْوِ اسْقِنِي إذَا أُرِيدَ بِهِ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ لِعَدَمِ الصَّلَاحِيَّةِ ، فَلَوْ وَقَعَ كَانَ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ ( وَإِذَا نَوَاهَا كَانَ إيلَاءً ) لِأَنَّ الْحَلِفَ عَلَى قُرْبَانِهَا إيلَاءٌ وَلَا يَنْصَرِفُ عَنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فَأَيَّهَا فَعَلَ حَنِثَ ، وَإِذَا كَانَ إيلَاءً فَهُوَ إيلَاءٌ مُؤَبَّدٌ ، فَإِنْ تَرَكَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ بَانَتْ إلَى آخِرِ أَحْكَامِ الْإِيلَاءِ الْمُؤَبَّدِ .
( وَهَذَا كُلُّهُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَمَشَايِخِنَا ) أَيْ مَشَايِخِ بَلْخٍ كَأَبِي بِكْرٍ الْإِسْكَافِ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ

وَالْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ ( قَالُوا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ مُنَجَّزًا لِغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ ) فِي الطَّلَاقِ فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ ، وَبِهِ أَخَذَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ : وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى .
وَقَالَ الْبَزْدَوِيُّ فِي مَبْسُوطِهِ : هَكَذَا قَالَ مَشَايِخُ سَمَرْقَنْدَ ، وَلَمْ يَتَّضِحْ لِي عُرْفُ النَّاسِ فِي هَذَا لِأَنَّ مَنْ لَا امْرَأَةَ لَهُ يَحْلِفُ بِهِ كَمَا يَحْلِفُ ذُو الْحَلِيلَةِ ، وَلَوْ كَانَ الْعُرْفُ مُسْتَفِيضًا فِي ذَلِكَ لَمَا اسْتَعْمَلَهُ إلَّا ذُو الْحَلِيلَةِ ، فَالصَّحِيحُ أَنْ يُقَيَّدَ الْجَوَابُ فِي هَذَا وَيَقُولُ إنْ نَوَى الطَّلَاقَ يَكُونُ طَلَاقًا ، فَأَمَّا مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ فَالِاحْتِيَاطُ أَنْ يَقِفَ الْإِنْسَانُ فِيهِ وَلَا يُخَالِفَ الْمُتَقَدِّمِينَ .
وَاعْلَمْ أَنَّ مِثْلَ هَذَا اللَّفْظِ لَمْ يُتَعَارَفْ فِي دِيَارِنَا بَلْ الْمُتَعَارَفُ فِيهِ حَرَامٌ عَلَى كَلَامِك وَنَحْوُهُ كَأَكْلِ كَذَا وَلُبْسِهِ دُونَ الصِّيغَةِ الْعَامَّةِ ، وَتَعَارَفُوا أَيْضًا الْحَرَامُ يَلْزَمُنِي ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ الطَّلَاقَ مُعَلَّقًا فَإِنَّهُمْ يَذْكُرُونَ بَعْدَهُ لَا أَفْعَلُ كَذَا أَوْ لَأَفْعَلَنَّ ، وَهُوَ مِثْلُ تَعَارُفِهِمْ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَا أَفْعَلُ كَذَا فَإِنَّهُ يُرَادُ بِهِ إنْ فَعَلْت كَذَا فَهِيَ طَالِقٌ وَيَجِبُ إمْضَاؤُهُ عَلَيْهِمْ .
وَفِي التَّتِمَّةِ : لَوْ قَالَ حَلَالُ اللَّهِ عَلَيَّ حَرَامٌ أَوْ قَالَ حَلَالُ خداي وَلَهُ امْرَأَةٌ يَنْصَرِفُ إلَيْهَا مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ امْرَأَةٌ يَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ : وَكَذَا يَنْبَغِي فِي حَلَالِ بروي حَرَامٌ لِلْعُرْفِ : يَعْنِي يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ عَلَى مَا اخْتَارَهُ لِلْفَتْوَى ( وَاخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ هرجه بردست راست كيرم بروى حرام أَنَّهُ هَلْ يُشْتَرَطُ النِّيَّةُ أَوْ لَا .
وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يُجْعَلُ طَلَاقًا مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ لِلْعُرْفِ ) قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ : لَا يُصَدَّقُ أَنَّهُ لَمْ يَنْوِ .
وَلَوْ قَالَ هرجه بدست راست كيرفته أُمّ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ كيرم .
وَلَوْ قَالَ هرجه

بدست حُبْ كيرم ، فِي مَجْمُوعِ النَّوَازِلِ : لَا يَكُونُ طَلَاقًا وَإِنْ نَوَى .
وَلَوْ قَالَ هرجه بدست رَاسَتْ كيرفتم لَا يَكُونُ طَلَاقًا لِأَنَّ الْعُرْفَ فِي قَوْلِهِ كيرم وَلَا عُرْفَ فِي قَوْلِهِ كيرفتم .
وَلَوْ قَالَ هرجه بدست كيرم وَلَمْ يَقُلْ رَاسَتْ أَوَجَبَ فَهُوَ كَقَوْلِهِ هرجه بدست كيرم .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي انْصِرَافِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ عَرَبِيَّةً أَوْ فَارِسِيَّةً إلَى مَعْنًى بِلَا نِيَّةِ التَّعَارُفِ فِيهِ فَإِنْ لَمْ يُتَعَارَفْ سُئِلَ عَنْ نِيَّتِهِ .
وَفِيمَا يَنْصَرِفُ بِلَا نِيَّةٍ لَوْ قَالَ أَرَدْت غَيْرَهُ لَا يُصَدِّقُهُ الْقَاضِي وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ مُصَدَّقٌ .
.

( وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا مُطْلَقًا فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ نَذَرَ وَسَمَّى فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمَا سَمَّى } .

( قَوْلُهُ وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا مُطْلَقًا ) أَيْ غَيْرَ مُعَلَّقٍ بِشَرْطٍ كَأَنْ يَقُولَ لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ شَهْرٍ أَوْ حَجَّةٌ أَوْ صَدَقَةٌ أَوْ صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ وَنَحْوُهُ مِمَّا هُوَ طَاعَةٌ مَقْصُودَةٌ لِنَفْسِهَا وَمِنْ جِنْسِهَا وَاجِبٌ ( فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهَا ) وَهَذِهِ شُرُوطُ لُزُومِ النَّذْرِ ، فَخَرَجَ النَّذْرُ بِالْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِنَفْسِهِ ، وَكَذَا النَّذْرُ بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبٌ ، وَأَمَّا كَوْنُ الْمَنْذُورِ مَعْصِيَةً يَمْنَعُ انْعِقَادَ النَّذْرِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ إذَا كَانَ حَرَامًا لِعَيْنِهِ أَوْ لَيْسَ فِيهِ جِهَةُ الْقُرْبَةِ ، فَإِنَّ الْمَذْهَبَ أَنَّ نَذْرَ صَوْمِ يَوْمِ الْعِيدِ يَنْعَقِدُ ، وَيَجِبُ الْوَفَاءُ بِصَوْمِ يَوْمٍ غَيْرِهِ ، وَلَوْ صَامَهُ خَرَجَ عَنْ الْعُهْدَةِ .
وَلَنَا فِيهِ بَحْثٌ ذَكَرْنَاهُ فِي مُخْتَصَرِ الْأُصُولِ ، وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ عَيْنًا لِحَدِيثٍ وَرَدَ فِيهِ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ قَالَ فِيهِ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ : كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ .
وَمَعَ ذَلِكَ فَالْحَدِيثُ غَيْرُ صَحِيحٍ وَبَيَّنَ عِلَّتَهُ ، وَكَذَا قَالَ التِّرْمِذِيُّ ، وَقَوْلُهُ فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ : أَيْ مِنْ حَيْثُ هُوَ قُرْبَةٌ لَا بِكُلِّ وَصْفٍ الْتَزَمَهُ بِهِ أَوْ عَيْنٍ وَهُوَ خِلَافِيَّةُ زُفَرَ .
فَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَذَا الدِّرْهَمِ فَتَصَدَّقَ بِغَيْرِهِ عَنْ نَذْرِهِ أَوْ نَذَرَ التَّصَدُّقَ فِي هَذَا الْيَوْمِ فَتَصَدَّقَ فِي غَدٍ أَوْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَى هَذَا الْفَقِيرِ فَتَصَدَّقَ عَلَى غَيْرِهِ عَنْ نَذْرِهِ أَجُزْأَهُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا لِزُفَرَ .
لَهُ أَنَّهُ أَتَى بِغَيْرِ مَا نَذَرَهُ .
وَلَنَا أَنَّ لُزُومَ مَا الْتَزَمَهُ بِاعْتِبَارِ مَا هُوَ قُرْبَةٌ لَا بِاعْتِبَارَاتٍ أُخَرَ لَا دَخْلَ لَهَا فِي صَيْرُورَتِهِ قُرْبَةً وَقَدْ أَتَى بِالْقُرْبَةِ الْمُلْتَزَمَةِ ، وَكَذَا إذَا نَذَرَ رَكْعَتَيْنِ فِي

الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَأَدَّاهَا فِي أَقَلَّ شَرَفًا مِنْهُ أَوْ فِيمَا لَا شَرَفَ لَهُ أَجُزْأَهُ خِلَافًا لِزُفَرَ .
وَأَفْضَلُ الْأَمَاكِنِ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ ، ثُمَّ مَسْجِدُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ مَسْجِدُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، ثُمَّ الْجَامِعُ ، ثُمَّ مَسْجِدُ الْحَيِّ ، ثُمَّ الْبَيْتُ لَهُ أَنَّهُ نَذَرَ بِزِيَادَةِ قُرْبَةٍ فَيَلْزَمُ .
قُلْنَا : عُرِفَ مِنْ الشَّرْعِ أَنَّ الْتِزَامَهُ مَا هُوَ قُرْبَةٌ مُوجِبٌ ، وَلَمْ يَثْبُتْ مِنْ الشَّرْعِ اعْتِبَارُ تَخْصِيصِ الْعَبْدِ الْعِبَادَةَ بِمَكَانٍ ، بَلْ إنَّمَا عُرِفَ ذَلِكَ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يَتَعَدَّى لُزُومُ أَصْلِ الْقُرْبَةِ بِالْتِزَامِهِ إلَى لُزُومِ التَّخْصِيصِ بِمَكَانٍ فَكَانَ مُلْغًى وَبَقِيَ لَازِمًا بِمَا هُوَ قُرْبَةٌ .
فَإِنْ قُلْت : مِنْ شُرُوطِ النَّذْرِ كَوْنُهُ بِغَيْرِ مَعْصِيَةٍ فَكَيْفَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ إذَا نَذَرَ رَكْعَتَيْنِ بِلَا وُضُوءٍ يَصِحُّ نَذْرُهُ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ مُحَمَّدًا أَهْدَرَهُ لِذَلِكَ .
وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَإِنَّمَا صَحَّحَهُ بِوُضُوءٍ لِأَنَّ الْتِزَامَ الْمَشْرُوطِ الْتِزَامُ الشَّرْطِ .
فَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِغَيْرِ وُضُوءٍ لَغْوٌ لَا يُؤَثِّرُ ، وَنَظِيرُهُ إذَا نَذَرَهُمَا بِلَا قِرَاءَةٍ أَلْزَمْنَاهُ رَكْعَتَيْنِ بِقِرَاءَةٍ ، أَوْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَةً وَاحِدَةً أَلْزَمْنَاهُ رَكْعَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا أَلْزَمْنَاهُ بِأَرْبَعٍ .
وَقَالَ زُفَرُ : لَا يَصِحُّ النَّذْرُ فِي الْأُولَيَيْنِ لِأَنَّ الصَّلَاةَ بِلَا قِرَاءَةٍ وَالرَّكْعَةُ الْوَاحِدَةُ غَيْرُ قُرْبَةٍ .
وَفِي الثَّالِثَةِ وَهِيَ مَا إذَا نَذَرَ بِثَلَاثٍ يَلْزَمُهُ رَكْعَتَانِ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ رَكْعَةً بَعْدَ الثِّنْتَيْنِ فَصَارَ كَمَا إذَا الْتَزَمَهَا مُفْرَدَةً عَلَى قَوْلِهِ .
وَلَنَا مَعْنَى مَا قَدَّمْنَاهُ وَهُوَ أَنَّ الِالْتِزَامَ بِشَيْءٍ الْتِزَامٌ بِمَا لَا صِحَّةَ إلَّا بِهِ ، وَلَا صِحَّةَ لِلصَّلَاةِ بِلَا قِرَاءَةٍ ، وَلَا لِلرَّكْعَةِ إلَّا بِضَمِّ الثَّانِيَةِ ، فَكَانَ مُلْتَزِمًا الْقِرَاءَةَ وَالثَّانِيَةَ .
وَاحْتَاجَ مُحَمَّدٌ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْتِزَامِ الصَّلَاةِ بِلَا

وُضُوءٍ حَيْثُ أَبْطَلَهُ وَالْتِزَامِهَا بِلَا قِرَاءَةٍ حَيْثُ أَجَازَهُ .
وَالْفَرْقُ أَنَّ الصَّلَاةَ بِلَا طَهَارَةٍ لَيْسَتْ عِبَادَةً أَصْلًا ، وَبِلَا قِرَاءَةٍ تَكُونُ عِبَادَةً كَصَلَاةِ الْأُمِّيِّ ، وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ وَإِنْ كَانَتْ تَقَدَّمَتْ مُتَفَرِّقَةً إلَّا أَنَّ هَذَا الْمَكَانَ مَحَلُّهَا بِالْأَصَالَةِ فَلَمْ أَرَ إخْلَاءً مِنْهَا نَصِيحَةً لِدِينِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ نَذَرَ وَسَمَّى فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمَا سَمَّى } ) وَهَذَا دَلِيلُ لُزُومِ الْوَفَاءِ بِالْمَنْذُورِ وَهُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ إلَّا أَنَّهُ مُسْتَغْنًى عَنْهُ ، فَفِي لُزُومِ الْمَنْذُورِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ ، قَالَ تَعَالَى { وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ } وَصَرَّحَ الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ بِأَنَّ الْمَنْذُورَ وَاجِبٌ لِلْآيَةِ ، وَتَقَدَّمَ الِاعْتِرَاضُ بِأَنَّهَا تُوجِبُ الِافْتِرَاضَ لِلْقَطْعِيَّةِ .
وَالْجَوَابُ بِأَنَّهَا مُؤَوَّلَةٌ إذْ خُصَّ مِنْهَا النَّذْرُ بِالْمَعْصِيَةِ وَمَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبٌ فَلَمْ تَكُنْ قَطْعِيَّةَ الدَّلَالَةِ .
وَمِنْ السُّنَّةِ كَثِيرٌ مِنْهَا حَدِيثٌ فِي الْبُخَارِيِّ { مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ } رَوَتْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى وُجُوبِ الْإِيفَاءِ بِهِ ، وَبِهِ اسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ بِافْتِرَاضِ الْإِيفَاءِ بِالنَّذْرِ .
[ فُرُوعٌ ] إذَا نَذَرَ شَهْرًا فَإِمَّا بِعَيْنِهِ كَرَجَبٍ وَجَبَ التَّتَابُعُ ، لَكِنْ لَوْ أَفْطَرَ يَوْمًا لَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ كَرَمَضَانَ لَوْ أَفْطَرَ فِيهِ يَوْمًا لَا يَلْزَمُهُ إلَّا قَضَاؤُهُ ، كَذَا هَذَا ، وَإِنْ بِغَيْرِ عَيْنِهِ كَشَهْرٍ إنْ شَاءَ تَابَعَهُ وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَهُ ، وَإِنْ شَرَطَ التَّتَابُعَ لَزِمَهُ ، وَلَوْ الْتَزَمَ بِالنَّذْرِ أَكْثَرَ مِمَّا يَمْلِكُهُ لَزِمَهُ مَا يَمْلِكُهُ هُوَ الْمُخْتَارُ .
قَالَ الطَّحَاوِيُّ : إذَا أَضَافَ النَّذْرَ إلَى سَائِرِ الْمَعَاصِي كَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَقْتُلَ فُلَانًا كَانَ يَمِينًا وَلَزِمَهُ الْكَفَّارَةُ

بِالْحِنْثِ ، وَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُطْعِمَ الْمَسَاكِينَ يَقَعُ عَلَى عَشَرَةٍ .
عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، لِلَّهِ عَلَيَّ طَعَامُ مِسْكِينٍ لَزِمَهُ نِصْفُ صَاعٍ حِنْطَةً اسْتِحْسَانًا ، لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُعْتِقَ هَذِهِ الرَّقَبَةَ وَهُوَ يَمْلِكُهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يُعْتِقَهَا ، فَإِنْ لَمْ يُعْتِقْهَا أَثِمَ وَلَا يُجْبِرُهُ الْقَاضِي .
قَالَ إنْ بَرِئْت مِنْ مَرَضِي فَعَلَيَّ شَاةٌ أَذْبَحُهَا أَوْ ذَبَحْت شَاةً لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ .
وَلَوْ قَالَ أَذْبَحُهَا وَأَتَصَدَّقُ بِلَحْمِهَا لَزِمَهُ .
قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَذْبَحَ جَزُورًا فَأَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهِ فَذَبَحَ مَكَانَهُ سَبْعَ شِيَاهٍ جَازَ .

( وَإِنْ عَلَّقَ النَّذْرَ بِشَرْطٍ فَوُجِدَ الشَّرْطُ فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِنَفْسِ النَّذْرِ ) لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ ، وَلِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ كَالْمُنَجَّزِ عِنْدَهُ ( وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ وَقَالَ : إذَا قَالَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ حَجَّةٌ أَوْ صَوْمُ سَنَةٍ أَوْ صَدَقَةُ مَا أَمْلِكُهُ أَجْزَأَهُ مِنْ ذَلِكَ كَفَّارَةُ يَمِينٍ .
وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ) وَيَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ بِالْوَفَاءِ بِمَا سَمَّى أَيْضًا .
وَهَذَا إذَا كَانَ شَرْطًا لَا يُرِيدُ كَوْنَهُ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْيَمِينِ وَهُوَ الْمَنْعُ وَهُوَ بِظَاهِرِهِ نَذْرٌ فَيَتَخَيَّرُ وَيَمِيلُ إلَى أَيِّ الْجِهَتَيْنِ شَاءَ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ شَرْطًا يُرِيدُ كَوْنَهُ كَقَوْلِهِ إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي لِانْعِدَامِ مَعْنَى الْيَمِينِ فِيهِ وَهَذَا التَّفْصِيلُ هُوَ الصَّحِيحُ .

( قَوْلُهُ وَإِنْ عَلَّقَ النَّذْرَ بِشَرْطٍ فَوُجِدَ الشَّرْطُ فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِنَفْسِ النَّذْرِ لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ ) الَّذِي رَوَيْنَاهُ مِنْ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ فَإِنَّهُ أَمَرَ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِمُنْجَزٍ وَلَا مُعَلَّقٍ .
وَلِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ كَالْمُنْجَزِ عِنْدَهُ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ عِنْدَ الشَّرْطِ لِلَّهِ عَلَيَّ كَذَا .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ : أَيْ عَنْ لُزُومِ عَيْنِ الْمَنْذُورِ إذَا كَانَ مُعَلَّقًا بِالشَّرْطِ : أَيْ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ فِعْلِهِ بِعَيْنِهِ وَكَفَّارَةِ يَمِينٍ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ .
فَإِذَا قَالَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ حَجَّةٌ أَوْ صَوْمُ سَنَةٍ إنْ شَاءَ حَجَّ أَوْ صَامَ سَنَةً وَإِنْ شَاءَ كَفَّرَ .
فَإِنْ كَانَ فَقِيرًا صَارَ مُخَيَّرًا بَيْنَ صَوْمِ سَنَةٍ وَصَوْمِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، وَالْأَوَّلُ وَهُوَ لُزُومُ الْوَفَاءِ بِهِ عَيْنًا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
وَالتَّخْيِيرُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي النَّوَادِرِ .
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ خَالِدٍ التِّرْمِذِيِّ قَالَ : خَرَجْت حَاجًّا فَلَمَّا دَخَلْت الْكُوفَةَ قَرَأْت كِتَابَ النُّذُورِ وَالْكَفَّارَاتِ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ ، فَلَمَّا انْتَهَيْت إلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَالَ قِفْ .
فَإِنَّ مِنْ رَأْيِي أَنْ أَرْجِعَ ، فَلَمَّا رَجَعْت مِنْ الْحَجِّ إذَا أَبُو حَنِيفَةَ قَدْ تُوُفِّيَ ، فَأَخْبَرَنِي الْوَلِيدُ بْنُ أَبَانَ أَنَّهُ رَجَعَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَبْعَةِ أَيَّامٍ وَقَالَ يَتَخَيَّرُ ، وَبِهَذَا كَانَ يُفْتِي إسْمَاعِيلُ الزَّاهِدُ .
وَقَالَ الْوَلْوَالِجِيُّ : مَشَايِخُ بَلْخٍ وَبُخَارَى يُفْتُونَ بِهَذَا وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ .
قَالَ : لِكَثْرَةِ الْبَلْوَى فِي هَذَا الزَّمَانِ .
وَجْهُ الظَّاهِرِ النُّصُوصَ مِنْ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَالْأَحَادِيثِ .
وَوَجْهُ رِوَايَةِ النَّوَادِرِ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ } فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَسْقُطَ بِالْكَفَّارَةِ مُطْلَقًا فَيَتَعَارَضُ

فَيُحْمَلُ مُطْلَقُ الْإِيفَاءِ بِعَيْنِهِ عَلَى الْمُنَجَّزِ .
وَمُقْتَضَى سُقُوطِهِ بِالْكَفَّارَةِ عَلَى الْمُعَلَّقِ .
وَلَا يُشْكِلُ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ مُنْتَفٍ فِي الْحَالِ فَالنَّذْرُ فِيهِ مَعْدُومٌ فَيَصِيرُ كَالْيَمِينِ فِي أَنَّ سَبَبَ الْإِيجَابِ وَهُوَ الْحِنْثُ مُنْتَفٍ حَالَ التَّكَلُّمِ فَيُلْحَقُ بِهِ .
بِخِلَافِ النَّذْرِ الْمُنَجَّزِ لِأَنَّهُ نَذْرٌ ثَابِتٌ فِي وَقْتِهِ فَيُعْمَلُ فِيهِ حَدِيثُ الْإِيفَاءِ .
وَاخْتَارَ الْمُصَنِّفُ وَالْمُحَقِّقُونَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّرْطِ الَّذِي تُجْزِئُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ الشَّرْطُ الَّذِي لَا يُرِيدُ كَوْنَهُ مِثْلَ دُخُولِ الدَّارِ وَكَلَامِ فُلَانٍ ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يُرِدْ كَوْنَهُ يُعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ كَوْنَ الْمَنْذُورِ حَيْثُ جَعَلَهُ مَانِعًا مِنْ فِعْلِ ذَلِكَ الشَّرْطِ لِأَنَّ تَعْلِيقَ النَّذْرِ عَلَى مَا لَا يُرِيدُ كَوْنَهُ بِالضَّرُورَةِ يَكُونُ لِمَنْعِ نَفْسِهِ عَنْهُ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُرِيدُ إيجَابَ الْعِبَادَاتِ دَائِمًا وَإِنْ كَانَتْ مَجْلَبَةً لِلثَّوَابِ مَخَافَةَ أَنْ يُثْقَلَ فَيَتَعَرَّضَ لِلْعِقَابِ ، وَلِهَذَا صَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ نَهَى عَنْ النَّذْرِ وَقَالَ إنَّهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ } الْحَدِيثَ ، وَأَمَّا الشَّرْطُ الَّذِي يُرِيدُ كَوْنَهُ مِثْلَ قَوْلِهِ إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي أَوْ قَدِمَ غَائِبِي أَوْ مَاتَ عَدُوِّي فَلِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ شَهْرٍ فَوُجِدَ الشَّرْطُ لَا يُجْزِيهِ إلَّا فِعْلُ عَيْنِ الْمَنْذُورِ .
لِأَنَّهُ إذَا أَرَادَ كَوْنَهُ كَانَ مُرِيدًا كَوْنَ النَّذْرِ فَكَانَ النَّذْرُ فِي مَعْنَى الْمُنَجَّزِ فَيَنْدَرِجُ فِي حُكْمِهِ وَهُوَ وُجُوبُ الْإِيفَاءِ بِهِ فَصَارَ مَحْمَلُ مَا يَقْتَضِي الْإِيفَاءَ الْمُنَجَّزِ وَالْمُعَلَّقِ الْمُرَادِ كَوْنُهُ ، وَمَحْمَلُ مَا يُقْتَضَى إجْزَاءَ الْكَفَّارَةِ الْمُعَلَّقِ الَّذِي لَا يُرَادُ كَوْنُهُ وَهُوَ الْمُسَمَّى عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ نَذْرُ اللَّجَاجِ .
وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ فِيهِ كَهَذَا التَّفْصِيلُ الَّذِي اخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ .
وَاَسْتَدَلَّ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي التَّحْقِيقِ لِلِاكْتِفَاءِ فِي خُصُوصِ هَذَا النَّذْرِ بِحَدِيثِ

مُسْلِمٍ مَعَ أَنَّهُ مُطْلَقٌ ، وَلَيْسَ هَذَا إلَّا لِمَا قُلْنَا ، وَهَذَا التَّقْرِيرُ أَوْلَى مِمَّا قِيلَ لِأَنَّ الشَّرْطَ إذَا لَمْ يُرَدْ كَوْنُهُ كَانَ فِي مَعْنَى الْيَمِينِ فَإِنَّهَا تُعْقَدُ لِلْمَنْعِ فَأَجْزَأَ فِيهِ الْكَفَّارَةُ .
بِخِلَافِ الَّذِي يُرِيدُ كَوْنَهُ فَإِنَّهُ وَرَدَ عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ أَنَّ الْيَمِينَ كَمَا يَكُونُ لِلْمَنْعِ يَكُونُ لِلْحَمْلِ فَلَا يَخْتَصُّ مَعْنَاهَا بِمَا لَا يُرَادُ كَوْنُهُ فَالْفَرْقُ عَلَى هَذَا تَحَكُّمٌ .

قَالَ ( وَمَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ مُتَّصِلًا بِيَمِينِهِ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَقَدْ بَرَّ فِي يَمِينِهِ } إلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الِاتِّصَالِ لِأَنَّهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ رُجُوعٌ وَلَا رُجُوعَ فِي الْيَمِينِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

( قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ ) أَيْ عَلَى مَحْلُوفٍ عَلَيْهِ ( فَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ مُتَّصِلًا بِيَمِينِهِ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ ) وَكَذَا إذَا نَذَرَ وَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ مُتَّصِلًا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ قَالَ مُحَمَّدٌ : بَلَغَنَا ذَلِكَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ ، وَكَذَلِكَ قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { سَتَجِدُنِي إنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا } وَلَمْ يَصْبِرْ وَلَمْ يُعَدَّ مُخْلِفًا لِوَعْدِهِ ، وَتَقَدَّمَ فِي الطَّلَاقِ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : يَلْزَمُهُ حُكْمُ الْيَمِينِ وَالنَّذْرِ لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَتَغَيَّرُ بِذِكْرِهِ حُكْمٌ ، وَلِلْجُمْهُورِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَقَالَ : التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَلِأَنَّهُ تَعْلِيقٌ لِلْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى : أَعْنِي إذَا قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَخْرُجُ الْيَوْمَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَقَدْ عَلَّقَ خُرُوجَهُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِذَا خَرَجَ لَا يَحْنَثُ ، فَإِنَّ الْمَعْنَى إنْ شَاءَ اللَّهُ عَدَمَ الْخُرُوجِ لَا أَخْرُجُ فَإِذَا خَرَجَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَشَأْ عَدَمَ الْخُرُوجِ ، وَهَذَا يَنْتَهِضُ عَلَى مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى ، أَمَّا فِي الطَّلَاقِ فَالْكَلَامُ مَعَهُ بِحَسَبِ الْمَعْنَى عُسْرٌ .
فَإِنَّهُ إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالْمَشِيئَةِ هُوَ أَنْتِ طَالِقٌ وَلَا مَعْنَى لَهُ لِأَنَّهُ قَدْ شَاءَ اللَّهُ قَوْلَهُ .
وَقَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ هُوَ الْمُوجِبُ لِلْقَطْعِ بِشَرْطِهِ فَلَا يُمْكِنُ إعْدَامُهُ ، فَلَوْ جَعَلَ مَصْرُوفًا إلَى الْوُقُوعِ عَلَى مَعْنَى أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ وُقُوعَ طَلَاقِك فَخِلَافُ اللَّفْظِ ، ثُمَّ لَا يُجْدِي لِأَنَّهُ قَدْ شَاءَ اللَّهُ وُقُوعَ طَلَاقِهَا إذْ قَدْ شَاءَ تَلَفُّظَهُ

بِأَنْتِ طَالِقٌ غَيْرَ مُعَلَّقٍ بِشَرْطٍ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالْمَشِيئَةِ إنْ كَانَ لَفْظَ أَنْتِ طَالِقٌ فَقَدْ شَاءَ حَيْثُ وُجِدَ فَيُوجَدُ حُكْمُهُ أَوْ نَفْسُ الْوُقُوعِ فَقَدْ شَاءَهُ حَيْثُ شَاءَ عِلَّتَهُ وَهُوَ تَلَفُّظُهُ .
وَمَا فِي الطَّلَاقِ تَقَدَّمَ تَضْعِيفُهُ ، وَهَذَا مَا وَعُدْنَاهُ فِي الطَّلَاقِ ، ثُمَّ شَرْطُ عَمَلِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِبْطَالِ الِاتِّصَالُ ، وَمَا انْقَطَعَ بِتَنَفُّسٍ أَوْ سُعَالٍ وَنَحْوِهِ لَا يَضُرُّ .
.

( بَابُ الْيَمِينِ فِي الدُّخُولِ وَالسُّكْنَى ) ( وَمَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ الْكَعْبَةَ أَوْ الْمَسْجِدَ أَوْ الْبِيعَةَ أَوْ الْكَنِيسَةَ لَمْ يَحْنَثْ ) لِأَنَّ الْبَيْتَ مَا أُعِدَّ لِلْبَيْتُوتَةِ وَهَذِهِ الْبِقَاعُ مَا بُنِيَتْ لَهَا ( وَكَذَا إذَا دَخَلَ دِهْلِيزًا أَوْ ظُلَّةَ بَابِ الدَّارِ ) لِمَا ذَكَرْنَا ، وَالظُّلَّةُ مَا تَكُونُ عَلَى السِّكَّةِ ، وَقِيلَ إذَا كَانَ الدِّهْلِيزُ بِحَيْثُ لَوْ أُغْلِقَ الْبَابُ يَبْقَى دَاخِلًا وَهُوَ مُسْقَفٌ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ يُبَاتُ فِيهِ عَادَةً ( وَإِنْ دَخَلَ صُفَّةً حَنِثَ ) لِأَنَّهَا تُبْنَى لِلْبَيْتُوتَةِ فِيهَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ فَصَارَ كَالشَّتْوِيِّ وَالصَّيْفِيِّ .
وَقِيلَ هَذَا إذَا كَانَتْ الصُّفَّةُ ذَاتَ حَوَائِطَ أَرْبَعَةٍ ، وَهَكَذَا كَانَتْ صِفَافُهُمْ .
وَقِيلَ الْجَوَابُ مُجْرًى عَلَى إطْلَاقِهِ وَهُوَ الصَّحِيحُ .

( بَابُ الْيَمِينِ فِي الدُّخُولِ وَالسُّكْنَى ) أَرَادَ بَيَانَ الْأَفْعَالِ الَّتِي يُحْلَفُ عَلَيْهَا فِعْلًا فِعْلًا فَبَدَأَ بِفِعْلِ السُّكْنَى لِأَنَّ أَوَّلَ الْأَفْعَالِ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَيْهَا الْإِنْسَانُ أَنْ يَحُلَّ مَكَانًا ثُمَّ يَفْعَلَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ اللُّبْسِ وَالْأَكْلِ وَغَيْرِهِ ، وَكُلٌّ مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَإِنْ كَانَ مِنْ الضَّرُورِيَّاتِ لَكِنَّ حَاجَةَ الْحُلُولِ فِي مَكَان أَلْزَمُ لِلْجِسْمِ مِنْ أَكْلِهِ وَلُبْسِهِ ( قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ بَيْتًا فَدَخَلَ الْكَعْبَةَ أَوْ الْمَسْجِدَ أَوْ الْكَنِيسَةَ ) وَهُوَ مُتَعَبَّدُ الْيَهُودِ أَوْ الْبِيعَةُ وَهُوَ مُتَعَبَّدُ النَّصَارَى لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْأَيْمَانَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْعُرْفِ عِنْدَنَا لَا عَلَى الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ كَمَا نُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَلَا عَلَى الِاسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِيِّ كَمَا عَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَلَا عَلَى النِّيَّةِ مُطْلَقًا كَمَا عَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ إنَّمَا يَتَكَلَّمُ بِالْكَلَامِ الْعُرْفِيِّ : أَعْنِي الْأَلْفَاظَ الَّتِي يُرَادُ بِهَا مَعَانِيهَا الَّتِي وُضِعَتْ لَهَا فِي الْعُرْفِ ، كَمَا أَنَّ الْعَرَبِيَّ حَالَ كَوْنِهِ بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ إنَّمَا يَتَكَلَّمُ بِالْحَقَائِقِ اللُّغَوِيَّةِ فَوَجَبَ صَرْفُ أَلْفَاظِ الْمُتَكَلِّمِ إلَى مَا عُهِدَ أَنَّهُ الْمُرَادُ بِهَا .
ثُمَّ مِنْ الْمَشَايِخِ مَا جَرَى عَلَى هَذَا الْإِطْلَاقِ فَحَكَمَ فِي الْفَرْعِ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ الذَّخِيرَةِ والمرغيناني وَهُوَ مَا إذَا حَلَفَ لَا يَهْدِمُ بَيْتًا فَهَدَمَ بَيْتَ الْعَنْكَبُوتِ أَنَّهُ يَحْنَثُ بِأَنَّهُ خَطَأٌ ، وَمِنْهُمْ مِنْ قَيَّدَ حَمْلَ الْكَلَامِ عَلَى الْعُرْفِ بِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْعَمَلِيُّ بِحَقِيقَتِهِ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا يُصَيِّرُ الْمُعْتَبَرَ الْحَقِيقَةَ اللُّغَوِيَّةَ إلَّا مَا مِنْ الْأَلْفَاظِ لَيْسَ لَهُ وَضْعٌ لُغَوِيٌّ بَلْ أَحْدَثَهُ أَهْلُ الْعُرْفِ ، وَأَنَّ مَا لَهُ وَضْعٌ لُغَوِيٌّ وَوَضْعٌ عُرْفِيٌّ يُعْتَبَرُ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيُّ وَإِنْ تَكَلَّمَ بِهِ مُتَكَلِّمٌ مِنْ

أَهْلِ الْعُرْفِ ، وَهَذَا يَهْدِمُ قَاعِدَةَ حَمْلِ الْأَيْمَانِ عَلَى الْعُرْفِ فَإِنَّهُ لَمْ يُصَيِّرْ الْمُعْتَبَرَ إلَّا اللُّغَةَ إلَّا مَا تَعَذَّرَ وَهَذَا بَعِيدٌ ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَا يَتَكَلَّمُ إلَّا بِالْعُرْفِ الَّذِي بِهِ التَّخَاطُبُ سَوَاءٌ كَانَ عُرْفَ اللُّغَةِ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ أَوْ غَيْرَهَا إنْ كَانَ مِنْ غَيْرِهَا .
نَعَمْ مَا وَقَعَ اسْتِعْمَالُهُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَأَهْلِ الْعُرْفِ تُعْتَبَرُ اللُّغَةُ عَلَى أَنَّهَا الْعُرْفُ ، فَأَمَّا الْفَرْعُ الْمَذْكُورُ فَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّهُ إنْ كَانَ نَوَاهُ فِي عُمُومِ بَيْتًا حَنِثَ ، وَإِنْ لَمْ يَخْطِرْ لَهُ وَجَبَ أَنْ لَا يَحْنَثَ لِانْصِرَافِ الْكَلَامِ إلَى الْمُتَعَارَفِ عِنْدَ إطْلَاقِ لَفْظِ بَيْتٍ ، وَظَهَرَ أَنَّ مُرَادَنَا بِانْصِرَافِ الْكَلَامِ إلَى الْعُرْفِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ كَانَ مُوجِبُ الْكَلَامِ مَا يَكُونُ مَعْنًى عُرْفِيًّا لَهُ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ نِيَّةُ شَيْءٍ وَاللَّفْظُ يَحْتَمِلُهُ انْعَقَدَ الْيَمِينُ بِاعْتِبَارِهِ ، إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَالْكَعْبَةُ وَإِنْ أُطْلِقَ عَلَيْهَا بَيْتٌ فِي قَوْله تَعَالَى { إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةِ } وَكَذَا الْمَسْجِدُ فِي قَوْله تَعَالَى { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ } وَكَذَا بَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ وَبَيْتُ الْحَمَامِ ، وَلَكِنْ إذَا أُطْلِقَ الْبَيْتُ فِي الْعُرْفِ فَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ مَا يُبَاتُ فِيهِ عَادَةً فَدَخَلَ الدِّهْلِيزُ إذَا كَانَ كَبِيرًا بِحَيْثُ يُبَاتُ فِيهِ لِأَنَّ مِثْلَهُ يُعْتَادُ بَيْتُوتَةً لِلضُّيُوفِ فِي بَعْضِ الْقُرَى وَفِي الْمُدُنِ يَبِيتُ فِيهِ بَعْضُ الْأَتْبَاعِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ فَيَحْنَثُ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ إذَا أُغْلِقَ الْبَابُ صَارَ دَاخِلًا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ مِنْ الدَّارِ وَلَهُ سِعَةٌ يَصْلُحُ لِلْمَبِيتِ مُسَقَّفٌ يَحْنَثُ بِدُخُولِهِ ، وَعَلَى هَذَا يَحْنَثُ بِالصُّفَّةِ سَوَاءٌ كَانَ لَهَا أَرْبَعُ حَوَائِطَ كَمَا هِيَ صِفَافُ الْكُوفَةِ أَوْ ثَلَاثَةٌ عَلَى مَا صَحَّحَهُ الْمُصَنِّفُ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مُسَقَّفًا كَمَا هِيَ صِفَافُ

دِيَارِنَا لِأَنَّهُ يُبَاتُ فِيهِ ، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ مُفَتَّحه وَاسِعٌ ، وَكَذَا الظُّلَّةُ إذَا كَانَ مَعْنَاهَا مَا هُوَ دَاخِلُ الْبَابِ مُسَقَّفًا ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ سَابَاطًا وَهُوَ مَا عَلَى ظَاهِرِ الْبَابِ فِي الشَّارِعِ مِنْ سَقْفٍ لَهُ جُذُوعٌ أَطْرَافُهَا عَلَى جِدَارِ الْبَابِ وَأَطْرَافُهَا الْأُخْرَى عَلَى جِدَارِ الْجَارِ الْمُقَابِلِ لَهُ ، وَسَيَأْتِي أَنَّ السَّقْفَ لَيْسَ شَرْطًا فِي مُسَمَّى الْبَيْتِ فَيَحْنَثُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الدِّهْلِيزُ مُسَقَّفًا .

( وَمَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارًا فَدَخَلَ دَارًا خَرِبَةً لَمْ يَحْنَثْ ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَدَخَلَهَا بَعْدَ مَا انْهَدَمَتْ وَصَارَتْ صَحْرَاءَ حَنِثَ ) لِأَنَّ الدَّارَ اسْمٌ لِلْعَرْصَةِ عِنْدَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ ، يَقُولُ دَارٌ عَامِرَةٌ ، وَقَدْ شَهِدَتْ أَشْعَارُ الْعَرَبِ بِذَلِكَ وَالْبِنَاءُ وَصْفٌ فِيهَا غَيْرَ أَنَّ الْوَصْفَ فِي الْحَاضِرِ لَغْوٌ وَفِي الْغَائِبِ مُعْتَبَرٌ .

( قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارًا فَدَخَلَ دَارًا خَرِبَةً لَمْ يَحْنَثْ ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَدَخَلَهَا بَعْدَ مَا انْهَدَمَتْ وَصَارَتْ صَحْرَاءَ حَنِثَ لِأَنَّ اسْمَ الدَّارِ لِلْعَرْصَةِ عِنْدَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ فَيُقَالُ دَارٌ عَامِرَةٌ وَدَارٌ غَيْرُ عَامِرَةٍ فِي الْعَجَمِ وَالْعَرَبِ ، وَقَدْ شَهِدَتْ أَشْعَارُ الْعَرَبِ بِذَلِكَ ) قَالَ نَابِغَةُ ذُبْيَانَ وَاسْمُهُ زِيَادُ بْنُ مُعَاوِيَةَ : يَا دَارَ مَيَّةَ بِالْعَلْيَاءِ فَالسَّنَدِ أَقْوَتْ وَطَالَ عَلَيْهَا سَالِفُ الْأَبَدِ وَقَفْت فِيهَا أُصَيْلَانًا أُسَائِلُهَا عَيَّتْ جَوَابًا وَمَا بِالرَّبْعِ مِنْ أَحَدِ إلَّا الْأَوَارِي لَأْيًا مَا أُبَيِّنُهَا وَالنُّؤْيُ كَالْحَوْضِ بِالْمَظْلُومَةِ الْجَلَدِ إذَا كَانَتْ الدَّارُ بِالْعَلْيَاءِ فَالسَّنَدِ وَهُوَ ارْتِفَاعُ الْجَبَلِ بِحَيْثُ يُسْنَدُ إلَيْهِ : أَيْ يُصْعَدُ لَمْ يَضُرَّهَا السَّيْلُ ، وَأَقْوَتْ أَقْفَرَتْ ، وَطَالَ عَلَيْهَا سَالِفُ الْأَبَدِ بِالْبَاءِ السَّالِفُ الْمَاضِي ، وَالْأَبَدُ الدَّهْرُ : أَيْ طَالَ عَلَيْهَا مَاضِي الزَّمَانِ ، وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنْ خَرَابِهَا .
وَأُصَيْلَانًا تَصْغِيرٌ جَمْعُ أَصِيلٍ أُصْلَانٌ كَبَعِيرٍ وَبُعْرَانٍ وَهُوَ عَشِيَّةُ النَّهَارِ وَقَدْ تُبْدَلُ نُونُهُ لَامًا فَيُقَالُ أُصَيْلَالٌ ، وَإِنَّمَا صَغَّرَهُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى قِصَرِ الْوَقْتِ الَّذِي وَقَفَ فِيهِ لِلْمُسَاءَلَةِ .
وَهَذَا السُّؤَالُ تَوَجُّعٌ وَتَحَسُّرٌ ، وَعَيَّتْ جَوَابًا عَجَزَتْ .
يُقَالُ فِي تَعَبِ الْبَدَنِ إعْيَاءٌ وَالْفِعْلُ أَعْيَا وَفِي كَلَامِ اللِّسَانِ عِيٌّ .
وَرُئِيَ فَاضِلٌ قَادِمًا إلَى الْمَدِينَةِ مَاشِيًا فَقِيلَ لَهُ مَوْلَانَا عَيَّ أَمْ أَعْيَا ؟ فَقَالَ بَلْ أُعْيِيت ، فَوَضْعُ أَعْيَتْ جَوَابًا فِي الْبَيْتِ الْمَذْكُورِ مَكَانَ عَيَّتْ خِلَافُ الْمَعْرُوفِ .
وَالْأَوَارِي جَمْعُ آرِيِّ وَهِيَ مَحَابِسُ الْخَيْلِ وَمَرَابِطُهَا ، وَاللَّأْيُ الْبُطْءُ : أَيْ تَبَيُّنِي لَهَا بِبُطْءٍ فَاسْتَلْزَمَ تَعَبًا ، فَمَنْ فَسَّرَ اللَّأْيَ بِالشِّدَّةِ فَهُوَ بِاللَّازِمِ ، فَإِنَّ الْبُطْءَ فِي التَّبَيُّنِ لَا يَكُونُ إلَّا لِتَعَبٍ فِيهِ .
وَالنُّؤْيُ حَاجِزٌ مِنْ

تُرَابٍ يُجْعَلُ حَوْلَ الْخِبَاءِ لِمَنْعِ السَّيْلِ مِنْ دُخُولِهِ ، وَمَا وَقَعَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ أَنَّهُ حَفِيرَةٌ غَلَطٌ ، وَمَا عَسَى أَنْ يَبْلُغَ عُمْقُ الْحَفِيرَةِ حَتَّى تَمْنَعَ السَّيْلَ فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ بِئْرًا امْتَلَأَتْ فِي لَحْظَةٍ وَفَاضَتْ ، وَإِنَّمَا هُوَ مَا ذَكَرْنَا ، وَلِذَا قَالَ فِي الْبَيْتِ بَعْدَهُ : رَدَّتْ عَلَيْهِ أَقَاصِيَهُ وَلِيدَةٌ ضَرْبَ الْوَلِيدَةِ بِالْمِسْحَاةِ فِي الثَّأَدِ يَعْنِي رَدَّتْ الْوَلِيدَةُ وَهِيَ الْأَمَةُ الشَّابَّةُ مَا تَبَاعَدَ مِنْ النُّؤْىِ بِسَبَبِ تَهَدُّمِهِ عَلَيْهِ بِضَرْبِ الْمِسْحَاةِ فِي الثَّأَدِ وَهِيَ الْأَرْضُ النَّدِيَّةُ .
قَالَ الْأَعْلَمُ : وَهُوَ مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ ، وَأَرَادَ بِالْمَظْلُومَةِ الْأَرْضَ الَّتِي لَمْ تُمْطَرْ ، وَالْجَلَدُ الصُّلْبَةُ ، فَيَكُونُ النُّؤْيُ وَالْوَتَدُ أَشَدَّ ثَبَاتًا فِيهَا وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ : يَا دَارَ مَاوِيَّةَ بِالْحَائِلِ فَالسَّهَبِ فَالْخَبَّتَيْنِ مِنْ عَاقِلِ صُمَّ صَدَاهَا وَعَفَا رَسْمُهَا وَاسْتَعْجَمَتْ عَنْ مَنْطِقِ السَّائِلِ يُرِيدُ أَنَّهَا مُقْفِرَةٌ لَا أَنِيسَ بِهَا فَيَسْمَعُ صَوْتَهُ وَلَا أَحَدَ يَتَكَلَّمُ فَيُجِيبُهُ الصَّدَى .
وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى بِابْنَةِ الْجَبَلِ .
وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ : لِمَنْ طَلَلٌ أَبْصَرْته فَشَجَانِي كَخَطِّ زَبُورٍ فِي عَسِيبِ يَمَانِي دِيَارٌ لِهِنْدٍ وَالرَّبَابُ وَفَرْنَنِي لَيَالِينَا بِالنَّعْفِ مِنْ بَدَلَانِي يُرِيدُ أَنَّهَا دَرَسَتْ وَخَفِيَتْ الْآثَارُ كَخَفَاءِ خَطِّ الْكِتَابِ وَدِقَّتِهِ إذَا كَانَ فِي عَسِيبٍ يَمَانٍ وَكَانَ أَهْلُ الْيُمْنِ يَكْتُبُونَ عُهُودَهُمْ فِي عَسِيبِ النَّخْلَةِ فَهَذِهِ الْأَشْعَارُ وَمَا لَا يُحْصَى كَثْرَةً تَشْهَدُ بِأَنَّ اسْمَ الدَّارِ لِلْعَرْصَةِ لَيْسَ غَيْرُ ، لِأَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمِينَ بِهَذِهِ الْأَشْعَارِ لَا يُرِيدُونَ بِالِاسْمِ إلَّا الْعَرْصَةَ فَقَطْ فَإِنَّ هَذِهِ الدِّيَارَ الَّتِي ذَكَرُوهَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا بِنَاءٌ أَصْلًا بَلْ هِيَ عَرَصَاتٌ مَنْزُولَاتٌ إنَّمَا يَضَعُونَ فِيهَا الْأَخْبِيَةَ لَا أَبْنِيَةَ الْحَجَرِ وَالْمَدَرِ فَصَحَّ أَنَّ الْبِنَاءَ وَصْفٌ فِيهَا غَيْرُ لَازِمٍ ، وَإِنَّمَا

اللَّازِمُ فِيهَا كَوْنُهَا قَدْ نَزَلَتْ ، غَيْرَ أَنَّهَا فِي عُرْفِ أَهْلِ الْمُدُنِ .
لَا يُقَالُ إلَّا بَعْدَ الْبِنَاءِ فِيهَا .
وَلَوْ انْهَدَمَ بَعْدَ ذَلِكَ بَعْضُهَا قِيلَ دَارٌ خَرَابٌ فَيَكُونُ هَذَا الْوَصْفُ جُزْءَ الْمَفْهُومِ لَهَا ، فَأَمَّا إذَا مُحِيَتْ الْأَبْنِيَةُ بِالْكُلِّيَّةِ وَعَادَتْ سَاحَةً فَالظَّاهِرُ أَنَّ إطْلَاقَ اسْمِ الدَّارِ فِي الْعُرْفِ عَلَيْهَا كَهَذِهِ دَارُ فُلَانٍ مَجَازٌ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ ، فَالْحَقِيقَةُ أَنْ يُقَالَ كَانَتْ دَارًا ، وَإِذَا عُرِفَ ذَلِكَ فَإِذَا حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارًا فَدَخَلَ دَارًا خَرِبَةً بِأَنْ صَارَتْ لِأَبْنَاءِ بِمَا لَا يَحْنَثُ ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ فَإِنَّهُ قَالَ فِي مُقَابِلِهِ فِيمَا إذَا حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَدَخَلَهَا بَعْدَ مَا صَارَتْ صَحْرَاءَ حَنِثَ ، وَإِنَّمَا تَقَعُ الْمُقَابَلَةُ بَيْنَ الْمُعَيَّنِ وَالْمُنَكَّرِ فِي الْحُكْمِ إذَا تَوَارَدَ حُكْمُهُمَا عَلَى مَحَلٍّ ، فَأَمَّا إذَا دَخَلَ بَعْدَمَا زَالَتْ بَعْضُ حِيطَانِهَا فَهَذِهِ دَارٌ خَرِبَةٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يَحْنَثَ فِي الْمُنَكَّرِ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ نِيَّةٌ ، وَإِنَّمَا وَقَعَتْ هَذِهِ الْمُفَارَقَةُ لِأَنَّ الْبِنَاءَ وَإِنْ كَانَ وَصْفًا فِيهَا يَعْنِي مُعْتَبَرًا فِيهَا غَيْرَ أَنَّ الْوَصْفَ فِي الْحَاضِرِ لَغْوٌ لِأَنَّ ذَاتَه تَتَعَرَّفُ بِالْإِشَارَةِ فَوْقَ مَا تَتَعَرَّفُ بِالْوَصْفِ ، وَفِي الْغَائِبِ مُعْتَبَرٌ لِأَنَّهُ الْمُعَرِّفُ لَهُ .

( وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَخَرِبَتْ ثُمَّ بُنِيَتْ أُخْرَى فَدَخَلَهَا يَحْنَثُ ) لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الِاسْمَ بَاقٍ بَعْدَ الِانْهِدَامِ ، ( وَإِنْ جُعِلَتْ مَسْجِدًا أَوْ حَمَّامًا أَوْ بُسْتَانًا أَوْ بَيْتًا فَدَخَلَهُ لَمْ يَحْنَثْ ) لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ دَارًا لِاعْتِرَاضِ اسْمٍ آخَرَ عَلَيْهِ ، وَكَذَا إذَا دَخَلَهُ بَعْدَ انْهِدَامِ الْحَمَّامِ وَأَشْبَاهِهِ لِأَنَّهُ لَا يَعُودُ اسْمَ الدَّارِيَةِ .

( قَوْلُهُ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَخَرِبَتْ ثُمَّ بُنِيَتْ دَارًا أُخْرَى فَدَخَلَهَا حَنِثَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الِاسْمَ بَاقٍ بَعْدَ الِانْهِدَامِ ، وَلَوْ بُنِيَتْ مَسْجِدًا أَوْ حَمَّامًا أَوْ بُسْتَانًا أَوْ بُنِيَتْ بَيْتًا فَدَخَلَهُ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهَا لَمْ تَبْقَ دَارًا ) وَكَذَا إذَا غَلَبَ عَلَيْهَا الْمَاءُ أَوْ جُعِلَتْ نَهْرًا فَدَخَلَهُ لِاعْتِرَاضِ اسْمٍ آخَرَ عَلَيْهِ وَكَذَا إذَا دَخَلَهُ بَعْدَمَا انْهَدَمَ الْمَبْنِيُّ ثَانِيًا مِنْ الْحَمَّامِ وَمَا مَعَهُ لِأَنَّهُ لَا يَعُودُ اسْمُ الدَّارِيَّةِ بِيَاءٍ مُشَدَّدَةٍ ، وَكَذَا إذَا بَنَى دَارًا بَعْدَمَا انْهَدَمَ مَا بُنِيَ ثَانِيًا مِنْ الْحَمَّامِ وَنَحْوِهِ لِأَنَّهَا غَيْرُ تِلْكَ الدَّارِ الَّتِي مَنَعَ نَفْسَهُ مِنْ الدُّخُولِ فِيهَا .
وَيَرِدُ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ أَنَّ الْبِنَاءَ إنْ كَانَ جُزْءَ مَفْهُومِ الدَّارِ عُرْفًا فَعَدَمُ الْحِنْثِ إذَا زَالَ فِي الْمُنَكَّرِ حَقٌّ لَكِنَّ ثُبُوتَ الْحِنْثِ فِي الْمُشَارِ إلَيْهَا بَعْدَمَا صَارَتْ صَحْرَاءَ مُشْكِلٌ لِأَنَّ كَوْنَ الْإِشَارَةِ تُعَيِّنُ الذَّاتَ إنَّمَا يَقْتَضِي تَعَيُّنُ هَذَا الْبِنَاءِ مَعَ السَّاحَةِ مَحْلُوفًا عَلَيْهِ وَفْد انْتَفَى ، وَيَقْتَضِي أَيْضًا أَنَّهُ لَوْ دَخَلَهَا بَعْدَمَا انْهَدَمَتْ وَبُنِيَتْ دَارًا أُخْرَى لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ هَذَا الْبِنَاءَ الثَّانِيَ لَيْسَ عَيْنَ ذَلِكَ وَالْحُكْمُ عِنْدَهُمْ خِلَافُهُ .
فَإِنْ قِيلَ : الْحَلِفُ إذَا وَقَعَ عَلَى مُعَيَّنٍ وَقَعَ عَلَى كُلِّ جُزْءٍ فَيَحْنَثُ بِوُجُودِ الْجُزْءِ الْوَاحِدِ .
قُلْنَا : مَمْنُوعٌ بَلْ عَلَى الْمَجْمُوعِ كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ زَيْدًا وَعُمْرًا أَوْ أَهْلَ الْكُوفَةِ لَا يَحْنَثُ بِكَلَامِ أَحَدِهِمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جُزْءًا ، بَلْ الْمُعْتَبَرُ كَوْنُ الْعَرْصَةِ بُنِيَتْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ عَدَمُ الْحِنْثِ فِي الْمُنَكَّرِ فِيمَا إذَا دَخَلَهَا بَعْدَمَا انْهَدَمَتْ وَصَارَتْ صَحْرَاءَ لِوُجُودِ تَمَامِ الْمُسَمَّى .
.

( وَإِنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذَا الْبَيْتَ فَدَخَلَهُ بَعْدَمَا انْهَدَمَ وَصَارَ صَحْرَاءَ لَمْ يَحْنَثْ ) لِزَوَالِ اسْمِ الْبَيْتِ لِأَنَّهُ لَا يُبَاتُ فِيهِ ، حَتَّى لَوْ بَقِيَتْ الْحِيطَانُ وَسَقَطَ السَّقْفُ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ يُبَاتُ فِيهِ وَالسَّقْفُ وَصْفٌ فِيهِ ( وَكَذَا إذَا بَنَى بَيْتًا آخَرَ فَدَخَلَهُ لَمْ يَحْنَثْ ) لِأَنَّ الِاسْمَ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ الِانْهِدَامِ .
( قَوْلُهُ وَإِذَا حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذَا الْبَيْتَ فَدَخَلَهُ بَعْدَمَا انْهَدَمَ وَصَارَ صَحْرَاءَ لَمْ يَحْنَثْ ) لِأَنَّ اسْمَ الْبَيْتِ قَدْ زَالَ بِالِانْهِدَامِ لِزَوَالِ مُسَمَّاهُ وَهُوَ الْبِنَاءُ الَّذِي يُبَاتُ فِيهِ ، بِخِلَافِ الدَّارِ لِأَنَّهَا تُسَمَّى دَارًا وَلَا بِنَاءَ فِيهَا ، فَلَوْ بَقِيَتْ الْحِيطَانُ وَزَالَ السَّقْفُ حَنِثَ لِأَنَّهُ يُبَاتُ فِيهِ وَالسَّقْفُ وَصْفٌ فِيهِ ، وَهَذَا يُفِيدُك أَنَّ ذِكْرَ السَّقْفِ فِي الدِّهْلِيزِ مِنْ قَوْلِهِ وَهُوَ مُسَقَّفٌ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ لِأَنَّهُ مُعْتَادٌ لِلْبَيْتُوتَةِ كَمَا قَدَّمْنَا ، وَالْبَيْتُ لَا يَلْزَمُ فِي مَفْهُومِهِ السَّقْفُ فَقَدْ تَكُونُ مُسَقَّفًا وَهُوَ الْبَيْتُ الشِّتْوِيُّ وَغَيْرُ مُسَقَّفٍ وَهُوَ الصَّيْفِيُّ ( وَكَذَا إذَا بَنَى بَيْتًا آخَرَ فَدَخَلَهُ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الِاسْمَ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ الِانْهِدَامِ ) وَهَذَا الْمَبْنِيُّ غَيْرُ الْبَيْتِ الَّذِي مَنَعَ نَفْسَهُ دُخُولَهُ .
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ بَيْتًا فَدَخَلَ بَيْتَ شَعْرٍ أَوْ فُسْطَاطًا إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ حَنِثَ وَإِلَّا لَا يَحْنَثُ .
.

قَالَ ( وَمَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَوَقَفَ عَلَى سَطْحِهَا حَنِثَ ) لِأَنَّ السَّطْحَ مِنْ الدَّارِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُعْتَكِفَ لَا يَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ بِالْخُرُوجِ إلَى سَطْحِ الْمَسْجِدِ .
وَقِيلَ فِي عُرْفِنَا لَا يَحْنَثُ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ .
قَالَ ( وَكَذَا إذَا دَخَلَ دِهْلِيزَهَا ) وَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي تَقَدَّمَ ( وَإِنْ وَقَفَ فِي طَاقِ الْبَابِ بِحَيْثُ إذَا أُغْلِقَ الْبَابُ كَانَ خَارِجًا لَمْ يَحْنَثْ ) لِأَنَّ الْبَابَ لِإِحْرَازِ الدَّارِ وَمَا فِيهَا فَلَمْ يَكُنْ الْخَارِجُ مِنْ الدَّارِ .

( قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَوَقَفَ عَلَى سَطْحِهَا ) مِنْ غَيْرِ دُخُولٍ مِنْ الْبَابِ بِأَنْ ظَفِرَ مِنْ سَطْحٍ إلَى سَطْحِهَا ( حَنِثَ لِأَنَّ السَّطْحَ مِنْ الدَّارِ ، أَلَّا يُرَى أَنَّ الْمُعْتَكِفَ لَا يَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ بِالْخُرُوجِ إلَى سَطْحِ الْمَسْجِدِ ) فَلَوْ عُدَّ السَّطْحُ خَارِجًا فَسَدَ .
وَقَدْ يُقَالُ الْمَبْنَى مُخْتَلِفٌ فَإِنَّ الْأَيْمَانَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْعُرْفِ فَجَازَ كَوْنُ بَعْضِ مَا هُوَ فِي حُكْمِ الْمَسْجِدِ خَارِجًا فِي الْعُرْفِ ؛ أَلَا يُرَى أَنَّ فِنَاءَ الْمَسْجِدِ لَهُ حُكْمُ الْمَسْجِدِ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ حَتَّى جَازَ اقْتِدَاءُ مَنْ فِيهِ بِمَنْ فِي الْمَسْجِدِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ خَارِجٌ فَالْأَقْرَبُ مَا قِيلَ الدَّارُ عِبَارَةٌ عَمَّا أَحَاطَتْ بِهِ الدَّائِرَةُ ، وَهَذَا حَاصِلٌ فِي عُلُوِّ الدَّارِ وَسَطْحِهَا ، وَهَذَا يَتِمُّ إذَا كَانَ السَّطْحُ بِحَضِيرٍ ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَضِيرٌ فَلَيْسَ هُوَ إلَّا فِي هَوَاءِ الدَّارِ فَلَا يَحْنَثُ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ عُرْفٌ أَنَّهُ يُقَالُ إنَّهُ دَاخِلُ الدَّارِ .
وَالْحَقُّ أَنَّ السَّطْحَ لَا شَكَّ أَنَّهُ مِنْ الدَّارِ لِأَنَّهُ مِنْ أَجْزَائِهَا حِسًّا لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ الْقِيَامِ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ فِي الْعُرْفِ دَخَلَ الدَّارَ بَلْ لَا يَتَعَلَّقُ لَفْظُ دَخَلَ إلَّا بِجَوْفِ الدَّارِ حَتَّى صَحَّ أَنْ يُقَالَ لَمْ يَدْخُلْ الدَّارَ وَلَكِنْ صَعِدَ السَّطْحَ مِنْ خَارِجٍ بِحَبْلٍ ، وَهَذَا فِي عُرْفِ مَنْ لَيْسَ أَهْلَ اللِّسَانِ فَطَابَقَ عُرْفُ الْعَجَمِ .
وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَ قَوْلِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ بِأَنْ يُحْمَلَ جَوَابُ الْمُتَقَدِّمِينَ بِالْحِنْثِ عَلَى مَا إذَا كَانَ لِلسَّطْحِ حَضِيرٌ وَجَوَابُ الْمُتَأَخِّرِينَ الْمُعَبِّرُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ وَقِيلَ فِي عُرْفِنَا يَعْنِي عُرْفَ الْعَجَمِ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَضِيرٌ اتَّجَهَ وَهَذَا اعْتِقَادِيٌّ ( قَوْلُهُ وَقِيلَ فِي عُرْفِنَا لَا يَحْنَثُ ) أَيْ بِالْوُقُوفِ عَلَى السَّطْحِ .
وَكَذَا لَا يَحْنَثُ بِالصُّعُودِ عَلَى شَجَرَةٍ دَاخِلَهَا لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى دَاخِلَ الدَّارِ مَا لَمْ يَدْخُلْ

جَوْفَهَا ، وَكَذَا إذَا قَامَ عَلَى حَائِطٍ مِنْهَا ( قَوْلُهُ وَكَذَا إذَا دَخَلَ دِهْلِيزهَا ) يَعْنِي يَحْنَثُ وَيَجِبُ فِيهِ التَّفْصِيلُ الْمُتَقَدِّمُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَوَائِطُ وَهُوَ مُسَقَّفٌ .
وَأَنْتَ عَلِمْت أَنَّ السَّقْفَ لَيْسَ لَازِمًا فِي مُسَمَّى الْبَيْتِ بَلْ فِي مُسَمَّى الْبَيْتِ الشِّتْوِيِّ ، قَوْلُهُ وَإِنْ وَقَفَ فِي طَاقِ الْبَابِ وَهُوَ بِحَيْثُ إذَا أُغْلِقَ الْبَابُ كَانَ خَارِجًا عَنْ الْبَابِ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ الْبَابَ لِإِحْرَازِ الدَّارِ وَمَا فِيهَا فَلَمْ يَكُنْ الْخَارِجُ عَنْ الْبَابِ فِي الدَّارِ ) وَلَوْ أَدْخَلَ رَأْسَهُ أَوْ إحْدَى رِجْلَيْهِ أَوْ حَلَفَ لَا يَخْرُجُ فَأَخْرَجَ إحْدَاهُمَا أَوْ رَأْسَهُ لَمْ يَحْنَثْ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَمَالِكٌ رَحِمَهُمُ اللَّهُ { وَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَاوِلُ عَائِشَةَ رَأْسَهُ لِتُصْلِحَهُ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فِي الْمَسْجِدِ وَهِيَ فِي بَيْتِهَا } لِأَنَّ قِيَامَهُ بِالرِّجْلَيْنِ فَلَا يَكُونُ بِإِحْدَاهُمَا دَاخِلًا وَلَا خَارِجًا .
وَفِي هَذَا خِلَافٌ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي الْخُلَاصَةِ : لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ خَرَجْت إلَّا بِإِذْنِي فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَقَامَتْ عَلَى أَسْقُفَّةِ الْبَابِ وَبَعْضُ قَدَمِهَا بِحَالٍ لَوْ أُغْلِقَ الْبَابُ كَانَ ذَلِكَ الْمِقْدَارُ دَاخِلًا وَبَعْضُهُ الْبَاقِي خَارِجًا إنْ كَانَ اعْتِمَادُهَا عَلَى النِّصْفِ الْخَارِجِ حَنِثَ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى النِّصْفِ الدَّاخِلِ أَوْ عَلَيْهِمَا لَا يَحْنَثُ .
قَالَ : وَفِي الْمُحِيطِ لَوْ أَدْخَلَ إحْدَى رِجْلَيْهِ لَا يَحْنَثُ ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّيْخَانِ الْإِمَامَانِ شَمْسَا الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ وَالسَّرْخَسِيُّ .
هَذَا إذَا كَانَ يَدْخُلُ قَائِمًا ، فَأَمَّا إذَا كَانَ يَدْخُلُ مُسْتَلْقِيًا عَلَى ظَهْرِهِ أَوْ بَطْنِهِ أَوْ جَنْبِهِ فَقَدْ خَرَجَ حَتَّى صَارَ بَعْضُهُ دَاخِلَ الدَّارِ إنْ كَانَ الْأَكْثَرُ دَاخِلَ الدَّارِ يَصِيرُ دَاخِلًا ، وَإِنْ كَانَ سَاقَاهُ خَارِجًا وَلَوْ تَنَاوَلَ بِيَدِهِ شَيْئًا مِنْ دَاخِلٍ لَا يَحْنَثُ .

[ فُرُوعٌ ] حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَأُدْخِلَ مُكْرَهًا : أَيْ مَحْمُولًا لَا يَحْنَثُ ، فَإِنْ أُدْخِلَ وَهُوَ بِحَالٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَنْعِ لَكِنْ رَضِيَ بِقَلْبِهِ اخْتَلَفُوا ، وَالْأَصَحُّ لَا يَحْنَثُ ، فَلَوْ خَرَجَ بَعْدَ دُخُولِهِ مُكْرَهًا : أَيْ مَحْمُولًا ثُمَّ دَخَلَ هَلْ يَحْنَثُ اخْتَلَفُوا .
قَالَ السَّيِّدُ أَبُو شُجَاعٍ : لَا يَحْنَثُ ، وَهَكَذَا فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ .
وَقَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ : الْأَصَحُّ أَنَّهُ يَحْنَثُ ، وَسَيَأْتِي لَهُ تَتِمَّةٌ .
وَلَوْ اشْتَدَّ فِي الْمَشْيِ فَوَقَعَ فِي الْبَابِ يَحْنَثُ ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَدَخَلَ بَيْتًا مِنْهَا قَدْ أُشْرِعَ إلَى السِّكَّةِ حَنِثَ إذَا كَانَ أَحَدُ بَابَيْهِ فِي السِّكَّةِ وَالْآخَرُ فِي الدَّارِ ، وَكَذَا لَوْ دَخَلَ فِي عُلُوِّهَا عَلَى الطَّرِيقِ وَلَهُ بَابٌ فِي الدَّارِ ، وَكَذَا الْكَنِيفُ إذَا كَانَ بَابُهُ فِي الدَّارِ .
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ بَلْخَ أَوْ مَدِينَةَ كَذَا فَعَلَى الْعُمْرَانِ ، بِخِلَافِ كُورَةِ بُخَارَى أَوْ رُسْتَاقَ ، كَذَا إذَا دَخَلَ أَرْضَهَا حَنِثَ .
وَالْفَتْوَى فِي زَمَانِنَا أَنَّ كُورَةَ بُخَارَى عَلَى الْعُمْرَانِ ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ إذَا حَلَفَ لَا يَدْخُلُ كُورَةَ مِصْرَ وَهُوَ بِالشَّامِّ فَبِدُخُولِ الْعَرِيشِ يَحْنَثُ ، وَعَلَى الْحَمْلِ عَلَى الْعُمْرَانِ لَا يَحْنَثُ حَتَّى يَدْخُلَهَا ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ بَغْدَادَ فَمَرَّ بِهَا فِي سَفِينَةٍ بِدِجْلَةَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَحْنَثُ ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَحْنَثُ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى .
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ الْفُرَاتَ فَدَخَلَتْ سَفِينَتُهُ فِي الْفُرَاتِ أَوْ دَخَلَ جِسْرًا لَا يَحْنَثُ .
وَلَوْ قَالَ إنْ وَضَعْت قَدَمَيَّ فِي دَارِ فُلَانٍ فَكَذَا فَوَضَعَ إحْدَى رِجْلَيْهِ فِيهَا لَا يَحْنَثُ عَلَى جَوَابِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ وَضْعَ الْقَدَمِ هُنَا مَجَازٌ عَنْ الدُّخُولِ وَلَا يَحْنَثُ فِي الْحَلِفِ لَا يَدْخُلُ بِوَضْعِ إحْدَى رِجْلَيْهِ .
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذَا الْمَسْجِدَ فَهُدِمَ ثُمَّ بُنِيَ مَسْجِدًا فَدَخَلَهُ يَحْنَثُ كَالدَّارِ .
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ سِكَّةَ فُلَانٍ فَدَخَلَ

مَسْجِدًا فِيهَا وَلَمْ يَدْخُلْهَا لَا يَحْنَثُ فِي الْمُخْتَارِ .
قَالَ فِي مَجْمُوعِ النَّوَازِلِ : هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَا مَسْجِدَ بَابٍ فِي السِّكَّةِ ، وَكَذَا إذَا دَخَلَ بَيْتًا فِي طَرِيقِ السِّكَّةِ إنْ كَانَ لَهُ بَابٌ فِيهَا حَنِثَ ، وَإِنْ كَانَ ظُهْرُهُ فِيهَا وَبَابُهُ فِي سِكَّةٍ أُخْرَى لَا يَحْنَثُ ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ ، وَلَوْ كَانَ لَهُ بَابَانِ بَابٌ فِيهَا وَبَابٌ فِي غَيْرِهَا حَنِثَ .
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ مِنْ بَابِ هَذِهِ الدَّارِ فَدَخَلَهَا مِنْ غَيْرِ بَابِهَا لَا يَحْنَثُ ، وَلَوْ كَانَ لَهَا بَابٌ حِينَ حَلَفَ فَجُهِلَ لَهَا بَابٌ آخَرُ فَدَخَلَ مِنْهُ حَنِثَ لِأَنَّ الْحَلِفَ عَلَى بَابٍ مَنْسُوبٌ إلَيْهَا فَيَسْتَوِي الْقَدِيمُ وَالْحَادِثُ إلَّا إنْ عَيَّنَ ذَلِكَ الْبَابَ فِي حَلِفِهِ ، وَلَوْ نَوَاهُ وَلَمْ يُعَيِّنْهُ فِي حَلِفِهِ لَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ .
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارًا فَدَخَلَ قَنَاةً حَتَّى صَارَ تَحْتَهَا إنْ كَانَ لَهَا مِفْتَحٌ فِي الدَّارِ يُنْتَفَعُ بِهِ بِأَنْ يَسْتَقُوا مِنْهُ حَنِثَ إذَا وَصَلَ هُنَاكَ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ إنَّمَا هُوَ لِإِضَاءَةِ الْقَنَاةِ لَا يَحْنَثُ .
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذَا الْفُسْطَاطَ فَقُوِّضَ وَضُرِبَ فِي مَكَانٍ آخَرَ فَدَخَلَهُ حَنِثَ .

قَالَ ( وَمَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ وَهُوَ فِيهَا لَمْ يَحْنَثْ بِالْقُعُودِ حَتَّى يَخْرُجَ ثُمَّ يَدْخُلَ ) اسْتِحْسَانًا .
وَالْقِيَاسُ أَنْ يَحْنَثَ لِأَنَّ الدَّوَامَ لَهُ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الدُّخُولَ لَا دَوَامَ لَهُ لِأَنَّهُ انْفِصَالٌ مِنْ الْخَارِجِ إلَى الدَّاخِلِ .

( قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ وَهُوَ فِيهَا لَمْ يَحْنَثْ ) بِالْمُكْثِ فِيهَا أَيَّامًا وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْقُعُودِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ حَتَّى يَدْخُلَ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْهَا اسْتِحْسَانًا .
وَالْقِيَاسُ أَنْ يَحْنَثَ بِالْمُكْثِ وَإِنْ قَصُرَ لِأَنَّ الدَّوَامَ لَهُ حُكْمُ ابْتِدَاءِ الدُّخُولِ حَتَّى صَحَّتْ إرَادَتُهُ بِهِ : أَعْنِي لَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ وَنَوَى بِهِ الْمُكْثَ وَالْقَرَارَ فِيهَا صَحَّ ، حَتَّى لَوْ دَخَلَ ابْتِدَاءً لَا يَحْنَثُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ( وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الدُّخُولَ ) حَقِيقَةً لُغَةً وَعُرْفًا فِي الِانْفِصَالِ مِنْ الْخَارِجِ إلَى الدَّاخِلِ وَلَا دَوَامَ لِذَلِكَ ، فَلَيْسَ الدَّوَامُ مَفْهُومَهُ وَلَا جُزْءَ مَفْهُومِهِ ، وَكَوْنُهُ مِمَّا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِاللَّفْظِ مَجَازًا لِأَنَّهُ لَازِمٌ لِلدُّخُولِ عَادَةً وَإِنَّ قَلَّ إذْ كَانَ الدُّخُولُ يُرَادُ لِلْمُكْثِ لَا يَقْتَضِي الْحِنْثَ بِهِ لِأَنَّ الْيَمِينَ لَا تَنْعَقِدُ عَلَى الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ لِلَّفْظِ بَلْ الْحَقِيقِيِّ .
وَكَذَا لَوْ كَانَ حَلَفَ لَيَدْخُلَنَّهَا غَدًا وَهُوَ فِيهَا فَمَكَثَ حَتَّى مَضَى الْغَدُ حَنِثَ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْهَا فِيهِ إذْ لَمْ يَخْرُجْ ، وَلَوْ نَوَى بِالدُّخُولِ الْإِقَامَةَ فِيهِ لَمْ يَحْنَثْ .
وَعَلَى هَذَا قَدْ يُقَالُ لَيْسَ هُنَا قِيَاسٌ فِي مُقَابَلَةِ الِاسْتِحْسَانِ فَإِنَّ الْقِيَاسَ الْكَائِنَ فِي مُقَابَلَتِهِ هُوَ مَا يَتَبَادَرُ وَيَتَسَارَعُ إلَى الذِّهْنِ ، وَلَا يَتَسَارَعُ لِأَحَدٍ مِنْ لَفْظِ أَدْخُلُ مَعْنَى أَسْتَمِرُّ مُقِيمًا فَيُقْضَى الْعَجَبُ مِنْ زُفَرَ بِقَوْلِهِ بِالْحِنْثِ .
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَيْهَا الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ إلَّا فِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ كَقَوْلِ زُفَرَ .
وَنَظِيرُ الْمَسْأَلَةِ حَلَفَ لَا يَخْرُجُ وَهُوَ خَارِجٌ لَا يَحْنَثُ حَتَّى يَدْخُلَ ثُمَّ يَخْرُجَ ، وَكَذَا لَا يَتَزَوَّجُ وَهُوَ مُتَزَوِّجٌ وَلَا يَتَطَهَّرُ وَهُوَ مُتَطَهِّرٌ فَاسْتَدَامَ النِّكَاحُ وَالطَّهَارَةُ لَا يَحْنَثُ .
بِخِلَافِ الْمَسَائِلِ الَّتِي ذَكَرَهَا بِقَوْلِهِ لَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ

هَذَا الثَّوْبَ وَهُوَ لَابِسُهُ ، وَكَذَا لَا يَرْكَبُ هَذِهِ الدَّابَّةَ وَهُوَ رَاكِبُهَا أَوْ لَا يَسْكُنُ هَذِهِ الدَّارَ وَهُوَ سَاكِنُهَا فَمَكَثَ قَلِيلًا حَنِثَ ، فَلَوْ نَزَعَ الثَّوْبَ مِنْ سَاعَتِهِ أَوْ نَزَلَ أَوْ أَخَذَ فِي النَّقْلَةِ لَمْ يَحْنَثْ خِلَافًا لِزُفَرَ .
أَمَّا الْأَوَّلُ وَهُوَ الْحِنْثُ بِمُكْثِهِ فَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَفَاعِيلَ لَهَا دَوَامٌ بِحُدُوثِ أَمْثَالِهَا ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ لَهَا كُلَّمَا رَكِبْت دَابَّةً فَأَنْتِ طَالِقٌ وَهِيَ رَاكِبَةٌ فَمَكَثَتْ سَاعَةً يُمْكِنُهَا النُّزُولُ فِيهَا طَلُقَتْ ، فَإِنْ مَكَثَتْ سَاعَةً أُخْرَى كَذَلِكَ طَلُقَتْ أُخْرَى ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ كُلَّمَا رَكِبْت دَابَّةً فَرَكِبَ لَزِمَهُ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ وَإِنْ طَالَ مُكْثُهُ ، لِأَنَّ لَفْظَ رَكِبْت لِذَا لَمْ يَكُنْ الْحَالِفُ رَاكِبًا يُرَادُ بِهِ إنْشَاءَ الرُّكُوبِ فَلَا يَحْنَثُ بِالِاسْتِمْرَارِ وَإِنْ كَانَ لَهُ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ ، بِخِلَافِ حَلِفِ الرَّاكِبِ لَا يَرْكَبُ فَإِنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْأَعَمُّ مِنْ ابْتِدَاءِ الْفِعْلِ وَمَا فِي حُكْمِهِ عُرْفًا ، وَاسْتُوْضِحَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ لَهَا دَوَامٌ بِتَجَدُّدِ أَمْثَالِهَا بِقَوْلِهِ أَلَا يُرَى أَنَّهُ يُضْرَبُ لَهَا مُدَّةٌ فَيُقَالُ رَكِبْت يَوْمًا وَلَبِسْت يَوْمًا وَسَكَنْت شَهْرًا .
بِخِلَافِ الدُّخُولِ فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ دَخَلْت يَوْمًا بِمَعْنَى ضَرْبِ الْمُدَّةِ وَالتَّوْقِيتِ لِنَفْسِ الدُّخُولِ ، بَلْ يُقَالُ فِي مَجَارِي الْكَلَامِ دَخَلْت عَلَيْهِ يَوْمًا مُرَادًا بِهِ إمَّا مُجَرَّدُ بَيَانِ الظَّرْفِيَّةِ لَا التَّقْدِيرُ ، وَإِمَّا مُطْلَقُ الْوَقْتِ إذَا كَانَ لَا يَمْتَدُّ فَيُرَادُ بِهِ مَا يَعُمُّ النَّهَارَ وَاللَّيْلَ .
وَذَلِكَ أَعْنِي عَدَمَ ضَرْبِ الْمُدَّةِ تَقْدِيرًا لِلدُّخُولِ دَلِيلٌ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَجَدُّدُ أَمْثَالٍ يَصِيرُ بِهِ مُتَكَرِّرًا لِيَحْنَثَ بِحُدُوثِ الْمُتَكَرِّرَاتِ فَلَا يَحْنَثُ إلَّا بِابْتِدَاءِ الْفِعْلِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِهِ الْبَقَاءَ .
وَهَذِهِ عَلَى عَكْسِهِ يَنْعَقِدُ بِمُقْتَضَى مُطْلَقِ اللَّفْظِ عَلَى الْأَعَمِّ مِنْ الِابْتِدَاءِ وَالْبَقَاءِ .
وَأَمَّا الِابْتِدَاءُ فَقَطْ

فَمُحْتَمَلُهُ حَتَّى لَوْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ لَا أَسْكُنُ وَأَرْكَبُ وَأَلْبَسُ ابْتِدَاءَ الْفِعْلِ فَقَطْ صَدَقَ لِأَنَّهُ مُحْتَمَلُ كَلَامِهِ فَلَا يَحْنَثُ بِاسْتِمْرَارِهِ سَاكِنًا وَرَاكِبًا .
وَفَرَّعَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى كَوْنِ هَذِهِ لَهَا تَجَدُّدُ أَمْثَالٍ يَصِيرُ بِهَا فِي مَعْنَى الِابْتِدَاءِ أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ وَهُوَ لَابِسٌ لَيَلْبَسُ هَذَا الثَّوْبَ غَدًا وَاسْتَمَرَّ لَابِسَهُ حَتَّى مَضَى الْغَدُ لَا يَحْنَثُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ نَزَعَهُ ثُمَّ لَبِسَهُ فِي الْغَدِ .
ثُمَّ إنَّهُ إنَّمَا يَحْنَثُ بِتَأْخِيرِ سَاعَةٍ إذَا أَمْكَنَهُ النَّقْلُ فِيهَا .
فَأَمَّا إذَا لَمْ يَقْدِرْ بِأَنْ كَانَ بِعُذْرِ اللَّيْلِ وَخَوْفِ اللِّصِّ أَوْ مَنْعِ ذِي السُّلْطَانِ أَوْ عَدَمِ مَوْضِعٍ يَنْتَقِلُ إلَيْهِ حِينَئِذٍ أَوْ أُغْلِقَ عَلَيْهِ الْبَابُ فَلَمْ يَسْتَطِعْ فَتْحَهُ أَوْ كَانَ شَرِيفًا أَوْ ضَعِيفًا لَا يَقْدِرُ عَلَى حَمْلِ الْمَتَاعِ بِنَفْسِهِ وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يَنْقُلُهَا لَا يَحْنَثُ وَيُلْحَقُ ذَلِكَ الْوَقْتُ بِالْعَدَمِ لِلْعُذْرِ ، وَأَوْرَدَ مَا ذَكَرَ الْفَضْلِيُّ فِيمَنْ قَالَ إنْ لَمْ أَخْرُجْ مِنْ هَذَا الْمَنْزِلِ الْيَوْمَ فَهِيَ طَالِقٌ فَقُيِّدَ أَوْ مُنِعَ مِنْ الْخُرُوجِ حَنِثَ .
وَكَذَا إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَفِي مَنْزِلِ أَبِيهَا إنْ لَمْ تَحْضُرِي اللَّيْلَةَ مَنْزِلِي فَطَالِقٌ فَمَنَعَهَا أَبُوهَا حَنِثَ .
أُجِيبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ كَوْنِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ عَدَمًا فَيَحْنَثُ بِتَحَقُّقِهِ كَيْفَمَا كَانَ لِأَنَّ الْعَدَمَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الِاخْتِيَارِ وَكَوْنُهُ فِعْلًا فَيَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ كَالسُّكْنَى لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الِاخْتِيَارِيُّ وَيَنْعَدِمُ بِعَدَمِهِ فَيَصِيرُ مَسْكَنًا لَا سَاكِنًا فَلَمْ يَتَحَقَّقْ شَرْطُ الْحِنْثِ ، وَسَنَذْكُرُهُ فِي فُرُوعٍ وَنُوضِحُ الْوَجْهَ بِأَتَمَّ إنْ شَاءَ اللَّهُ ، وَكَذَا لَوْ بَقِيَ أَيَّامًا فِي طَلَبِ مَسْكَنٍ وَتَرَكَ الْأَمْتِعَةَ وَالْأَهْلَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ لَا يَحْنَثُ فِي الصَّحِيحِ لِأَنَّ طَلَبَ الْمَنْزِلِ مِنْ عَمَلِ النَّقْلِ وَصَارَ مُدَّةُ الطَّلَبِ مُسْتَثْنَاةً إذَا لَمْ يُفَرِّطْ فِي الطَّلَبِ ، وَهَذَا إذَا

خَرَجَ مِنْ سَاعَتِهِ فِي طَلَبِ الْمَنْزِلِ .
وَلَوْ أَخَذَ فِي النَّقْلَةِ شَيْئًا فَشَيْئًا ، فَإِنْ كَانَتْ النَّقَلَاتُ لَا تَفْتُرُ لَا يَحْنَثُ ، وَلَوْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَنْقُلُ مَتَاعَهُ فِي يَوْمٍ لَيْسَ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَلَا يَلْزَمُهُ النَّقْلُ بِأَسْرَعِ الْوُجُوهِ بَلْ بِقَدْرِ مَا يُسَمَّى نَاقِلًا فِي الْعُرْفِ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَوَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّ الْحِنْثَ قَدْ وُجِدَ بِمَا وُجِدَ مِنْ الْقَدْرِ الْيَسِيرِ مِنْ السُّكْنَى وَالرُّكُوبِ وَاللُّبْسِ .
وَلَنَا أَنَّ الْيَمِينَ تُعْقَدُ لِلْبِرِّ لَا لِلْحِنْثِ ابْتِدَاءً وَإِنْ وَجَبَ الْحِنْثُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ ، وَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْيَمِينِ وَضْعًا الْبِرَّ وَجَبَ اسْتِثْنَاءُ مِقْدَارِ مَا يُحَقِّقُهُ مِنْ الزَّمَانِ وَهُوَ قَدْرُ مَا يُمْكِنُهُ فِيهِ النُّزُولُ وَالنَّقْلَةُ وَالنَّزْعُ .

( وَلَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ هَذَا الثَّوْبَ وَهُوَ لَابِسُهُ فَنَزَعَهُ فِي الْحَالِ لَمْ يَحْنَثْ ) وَكَذَا إذَا حَلَفَ لَا يَرْكَبُ هَذِهِ الدَّابَّةَ وَهُوَ رَاكِبُهَا فَنَزَلَ مِنْ سَاعَتِهِ لَمْ يَحْنَثْ ، وَكَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ هَذِهِ الدَّارَ وَهُوَ سَاكِنُهَا فَأَخَذَ فِي النَّقْلَةِ مِنْ سَاعَتِهِ .
وَقَالَ زُفَرُ : يَحْنَثُ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَإِنْ قَلَّ .
وَلَنَا أَنَّ الْيَمِينَ تُعْقَدُ لِلْبِرِّ فَيُسْتَثْنَى مِنْهُ زَمَانُ تَحْقِيقِهِ ( فَإِنْ لَبِثَ عَلَى حَالِهِ سَاعَةً حَنِثَ ) لِأَنَّ هَذِهِ الْأَفَاعِيلَ لَهَا دَوَامٌ بِحُدُوثِ أَمْثَالِهَا ؛ أَلَا يُرَى أَنَّهُ يُضْرَبُ لَهَا مُدَّةٌ يُقَالُ رَكِبْت يَوْمًا وَلَبِسْت يَوْمًا بِخِلَافِ الدُّخُولِ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ دَخَلْت يَوْمًا بِمَعْنَى الْمُدَّةِ وَالتَّوْقِيتِ وَلَوْ نَوَى الِابْتِدَاءَ الْخَالِصَ يُصَدَّقُ لِأَنَّهُ مُحْتَمَلُ كَلَامِهِ .

قَالَ ( وَمَنْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ هَذِهِ الدَّارَ فَخَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَتَاعِهِ وَأَهْلِهِ فِيهَا وَلَمْ يُرِدْ الرُّجُوعَ إلَيْهَا حَنِثَ ) لِأَنَّهُ يُعَدُّ سَاكِنَهَا بِبَقَاءِ أَهْلِهِ وَمَتَاعِهِ فِيهَا عُرْفًا ، فَإِنَّ السُّوقِيَّ عَامَّةَ نَهَارِهِ فِي السُّوقِ وَيَقُولُ أَسْكُنُ سِكَّةَ كَذَا ، وَالْبَيْتُ وَالْمَحَلَّةُ بِمَنْزِلَةِ الدَّارِ .
وَلَوْ كَانَ الْيَمِينُ عَلَى الْمِصْرِ لَا يَتَوَقَّفُ الْبِرُّ عَلَى نَقْلِ الْمَتَاعِ وَالْأَهْلِ فِيمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ سَاكِنًا فِي الَّذِي انْتَقَلَ عَنْهُ عُرْفًا .
بِخِلَافِ الْأَوَّلِ وَالْقَرْيَةُ بِمَنْزِلَةِ الْمِصْرِ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْجَوَابِ .
ثُمَّ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا بُدَّ مِنْ نَقْلِ كُلِّ الْمَتَاعِ ، حَتَّى لَوْ بَقِيَ وَتَدٌ يَحْنَثُ لِأَنَّ السُّكْنَى قَدْ ثَبَتَ بِالْكُلِّ فَيَبْقَى مَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنْهُ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ .
يُعْتَبَرُ نَقْلُ الْأَكْثَرِ لِأَنَّ نَقْلَ الْكُلِّ قَدْ يَتَعَذَّرُ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ : يُعْتَبَرُ نَقْلُ مَا يَقُومُ بِهِ كَدَخْدَائِيَّتِهِ لِأَنَّ مَا وَرَاء ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ السُّكْنَى .
قَالُوا : هَذَا أَحْسَنُ وَأَرْفَقُ بِالنَّاسِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَنْتَقِلَ إلَى مَنْزِلٍ آخَرَ بِلَا تَأْخِيرٍ حَتَّى يَبَرَّ ، فَإِنْ انْتَقَلَ إلَى السِّكَّةِ أَوْ إلَى الْمَسْجِدِ قَالُوا لَا يَبَرُّ ، دَلِيلُهُ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّ مَنْ خَرَجَ بِعِيَالِهِ مِنْ مِصْرِهِ فَمَا لَمْ يَتَّخِذْ وَطَنًا آخَرَ يَبْقَى وَطَنُهُ الْأَوَّلُ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ كَذَا هَذَا .
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

( قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ هَذِهِ الدَّارَ فَخَرَجَ هُوَ وَتَرَكَ مَتَاعَهُ وَأَهْلَهُ فِيهَا وَلَمْ يُرِدْ الرُّجُوعَ حَنِثَ ) وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فَرْعُ الَّتِي قَبْلَهَا ، لَمَّا كَانَ بِالْأَخْذِ فِي النَّقْلَةِ مِنْ سَاعَتِهِ يَبَرُّ ذَكَرَ مَعْنَى النَّقْلَةِ الَّتِي بِهَا يَتَحَقَّقُ الْبِرُّ ، فَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي كَوْنِهِ مُنْتَقِلًا مِنْ الدَّارِ مِنْ نَقْلِ الْأَهْلِ وَالْمَالِ ، وَكَذَا الْحَلِفُ عَلَى أَنْ لَا يَسْكُنَ فِي هَذِهِ الْمُحَلَّةِ أَوْ السِّكَّةِ لَوْ خَرَجَ بِنَفْسِهِ عَازِمًا عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ أَبَدًا حَنِثَ ، وَإِنْ خَرَجَ عَلَى عَزْمِ أَنْ يُرْسِلَ مَنْ يَنْقُلُهُمْ لِأَنَّهُ يُعَدُّ الْمُتَأَهِّلُ سَاكِنًا بِمَحِلِّ سُكْنَى أَهْلِهِ وَمَالِهِ عُرْفًا .
وَاسْتَشْهَدَ لِلْعُرْفِ بِأَنَّ السُّوقِيَّ عَامَّةَ نَهَارِهِ فِي السُّوقِ بِحَيْثُ لَا يَخْرُجُ عَنْهُ إلَّا لَيْلًا أَوْ بَعْضَ اللَّيْلِ أَيْضًا وَيَقُولُ أَنَا سَاكِنٌ فِي مُحَلَّةِ كَذَا وَذَلِكَ لِقَرَارِ أَهْلِهِ وَمَالِهِ بِهَا ، وَبِهَذَا الْقَوْلِ قَالَ أَحْمَدُ وَمَالِكٌ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَحْنَثُ إذَا خَرَجَ بِنِيَّةِ التَّحْوِيلِ .
قِيلَ وَهَذَا الْخِلَافُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ عِنْدَهُ لِحَقِيقَةِ اللَّفْظِ ، وَلَا تُعْتَبَرُ الْعَادَةُ بِخِلَافِهَا وَهُوَ إذَا خَرَجَ بِنِيَّةِ عَدَمِ الْعَوْدِ فَقَدْ انْتَقَلَ ، إذْ لَا شَكَّ فِي أَنَّهُ بِنَفْسِهِ انْتَقَلَ .
وَعِنْدَنَا الْعِبْرَةُ لِلْعَادَةِ لِطُرُوِّهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ .
وَالْحَالِفُ يُرِيدُ ذَلِكَ ظَاهِرًا فَيُحْمَلُ كَلَامُهُ عَلَيْهِ .
وَالْعَادَةُ أَنَّ مَنْ كَانَ أَهْلُهُ بِمَكَانٍ بِبَلْدَةٍ هُوَ بِهَا فَهُوَ سَاكِنٌ فِيهِ عَمَلًا بِالْعُرْفِ فَبَنَى اللَّفْظَ عَلَيْهِ ، وَهَذَا إذَا كَانَ الْحَالِفُ مُسْتَقِلًّا بِسُكْنَاهُ قَائِمًا عَلَى عِيَالِهِ ، فَإِنْ كَانَ سُكْنَاهُ تَبَعًا كَابْنٍ كَبِيرٍ سَاكِنٍ مَعَ أَبِيهِ أَوْ امْرَأَةٍ مَعَ زَوْجِهَا .
فَلَوْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا لَا يَسْكُنُ هَذِهِ فَخَرَجَ بِنَفْسِهِ وَتَرَكَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ وَهِيَ زَوْجَهَا وَمَالَهَا لَا يَحْنَثُ ، وَقَيَّدَهُ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ أَيْضًا

بِأَنْ يَكُونَ حَلِفَهُ بِالْعَرَبِيَّةِ ، فَلَوْ عَقَدَ بِالْفَارِسِيَّةِ لَا يَحْنَثُ إذَا خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَتَرَكَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ وَإِنْ كَانَ مُسْتَقِلًّا بِسُكْنَاهُ .
نَعَمْ لِقَائِلٍ أَنْ يَنْظُرَ فِيمَا اُسْتُشْهِدَ بِهِ لِلْعُرْفِ وَذَلِكَ أَنَّ السُّوقِيَّ إنَّمَا يَقُولُ أَنَا سَاكِنٌ فِي مُحَلَّةِ كَذَا وَهُوَ عَلَى نِيَّةِ الْعَوْدِ فَلَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى ثُبُوتِ السُّكْنَى فِيمَا إذَا خَرَجَ عَازِمًا عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ كَمَا هِيَ صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ ، فَالْوَجْهُ تَرْكُ خُصُوصِ هَذَا الشَّاهِدِ وَيَدَّعِي أَنَّ الْعُرْفَ عَلَى أَنَّهُ سَاكِنٌ مَا لَمْ يَنْقُلْ أَهْلَهُ وَمَالَهُ حَتَّى إنَّهُ يُقَالُ بَعْدَ خُرُوجِهِ كَذَلِكَ فُلَانٌ يُرِيدُ أَنْ يَنْتَقِلَ عَنْ مَسْكَنِهِ وَلَكِنْ لَمْ يَنْتَقِلْ بَعْدُ ( قَوْلُهُ وَلَوْ كَانَ الْيَمِينُ عَلَى الْمِصْرِ إلَى آخِرِهِ ) مَا تَقَدَّمَ كَانَ فِيمَا إذَا حَلَفَ لَا يَسْكُنُ هَذِهِ الدَّارَ وَمِثْلُهُ الْبَيْتُ وَالسِّكَّةُ وَالْمُحَلَّةُ وَهِيَ تُسَمَّى فِي عُرْفِنَا الْجَارَةُ .
فَلَوْ كَانَ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ هَذَا الْمِصْرَ أَوْ هَذِهِ الْمَدِينَةَ قَالَ : لَا يَتَوَقَّفُ الْبِرُّ عَلَى نَقْلِ الْمَتَاعِ وَالْأَهْلِ فِيمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، نَقَلَهُ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ عَنْ أَمَالِي أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ سَاكِنًا فِي الْمِصْرِ الَّذِي انْتَقَلَ عَنْهُ بِنَفْسِهِ وَإِنْ تَرَكَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ عُرْفًا فَلَا يُقَالُ لِمَنْ أَهْلُهُ بِالْبَصْرَةِ وَمَالُهُ وَهُوَ بِنَفْسِهِ قَاطِنٌ بِالْكُوفَةِ هُوَ سَاكِنٌ بِالْبَصْرَةِ ( وَالْقَرْيَةُ بِمَنْزِلَةِ الْمِصْرِ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْجَوَابِ ) فَلَوْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ هَذِهِ الْقَرْيَةَ أَوْ الْبَلْدَةَ وَهِيَ قَرْيَةٌ فَانْتَقَلَ إلَى قَرْيَةٍ أُخْرَى وَتَرَكَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ فِي الْأُولَى لَا يَحْنَثُ ، وَقَوْلُهُ فِي الصَّحِيحِ احْتِرَازٌ عَمَّنْ قَالَ هِيَ كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ الدَّارَ فَيَحْنَثُ .
( قَوْلُهُ ثُمَّ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا بُدَّ ) فِي كَوْنِهِ انْتَقَلَ مِنْ الدَّارِ وَمَا شَاكَلَهَا مِمَّا ذَكَرْنَا ( مِنْ نَقْلِ كُلِّ

الْمَتَاعِ ، حَتَّى لَوْ بَقِيَ وَتَدٌ وَنَحْوُهُ يَحْنَثُ لِأَنَّ السُّكْنَى مِنْ الْحَالِفِ تَثْبُتُ بِالْكُلِّ فَتَبْقَى مَا بَقِيَ مِنْهُ شَيْءٌ ) فِي الْمَبْسُوطِ : وَهَذَا أَصْلٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى جَعَلَ صِفَةَ السُّكُونِ فِي الْعَصِيرِ مَانِعًا مِنْ أَنْ يَكُونَ خَمْرًا ، وَبَقَاءُ مُسْلِمٍ وَاحِدٍ مِنَّا فِي بَلْدَةٍ ارْتَدَّ أَهْلُهَا مَانِعًا مِنْ أَنْ تَصِيرَ دَارَ حَرْبٍ إلَّا أَنَّ مَشَايِخَنَا قَالُوا هَذَا إذَا كَانَ الْبَاقِي يَتَأَتَّى بِهِ السُّكْنَى ، وَأَمَّا بَقَاءُ مِكْنَسَةٍ أَوْ وَتَدٍ أَوْ قِطْعَةِ حَصِيرٍ لَا يَبْقَى فِيهَا سَاكِنًا فَلَا يَحْنَثُ .
وَحَقِيقَةُ وَجْهِ دَفْعِهِ أَنَّ قَوْلَهُ السُّكْنَى تَثْبُتُ بِالْكُلِّ إنْ أَرَادَ أَنَّ مَجْمُوعَ الْكُلِّ هُوَ الْعِلَّةُ فِي سُكْنَاهُ مَعَ انْقِطَاعِ نَفْسِهِ إلَى الْقَرَارِ فِي الْمَكَانِ مَنَعْنَاهُ ، وَإِلَّا لَزِمَ أَنَّهُ لَوْ سَرَقَ بَعْضَ تِلْكَ الْأَمْتِعَةِ انْتَفَتْ السُّكْنَى فَعُلِمَ أَنَّ السُّكْنَى تَثْبُتُ مَعَ الْكُلِّ بِاتِّفَاقِ الْحَالِ فَإِنَّمَا هِيَ مَنُوطَةٌ فِي الْعُرْفِ بِقَرَارِهِ عَلَى وَجْهِ الِانْقِطَاعِ إلَيْهِ مَعَ مَا يَتَأَتَّى بِهِ دَفْعُ الْحَاجَاتِ الْكَائِنَةِ فِي السُّكْنَى فَكَانَتْ السُّكْنَى ثَابِتَةً مَعَ الْكُلِّ وَبِدُونِ الْكُلِّ ، عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ هُنَا بِاعْتِبَارِ الْعُرْفِ وَالْعُرْفُ يَعُدُّ مَنْ خَرَجَ لَا يُرِيدُ الْعَوْدَ وَنَقَلَ أَهْلَهُ وَبَعْضُ مَالِهِ يُرِيدُ أَنْ يَنْقُلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ تَرَكَهُ لِتَفَاهَتِهِ وَعَدَمِ الِالْتِفَاتِ إلَيْهِ تَارِكًا لِسُكْنَى ذَلِكَ الْمَكَانِ ( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يُعْتَبَرُ فِي الْبِرِّ نَقْلُ الْأَكْثَرِ لِأَنَّ نَقْلَ الْكُلِّ قَدْ يَتَعَذَّرُ ) بِأَنْ يَغْفُلَ عَنْ شَيْءٍ كَإِبْرَةٍ فِي شَقِّ حَائِطٍ أَوْ يَتَعَسَّرُ ( وَقَالَ مُحَمَّدٌ : يُعْتَبَرُ فِي الْبِرِّ نَقْلُ مَا يَقُومُ بِهِ كَدَخْدَائِيَّتِهِ ) أَيْ سُكْنَاهُ فِيمَا انْتَقَلَ إلَيْهِ ( لِأَنَّ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ السُّكْنَى ) إذْ لَيْسَ مِنْ حَاجَتِهَا .
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ ( قَالُوا : هَذَا أَحْسَنُ وَأَرْفَقُ بِالنَّاسِ فِي نَفْيِ الْحِنْثِ ) عَنْهُمْ ، وَمِنْهُمْ مَنْ صَرَّحَ

بِأَنَّ الْفَتْوَى عَلَيْهِ .
وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ كَصَاحِبِ الْمُحِيطِ وَالْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ وَالْكَافِي عَلَى أَنَّ الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَدَارَ هُنَا لَيْسَ عَلَى نَقْلِ الْكُلِّ لِيَقُومَ الْأَكْثَرُ مَقَامَهُ بَلْ عَلَى الْعُرْفِ فِي أَنَّهُ سَاكِنٌ أَوْ لَا .
وَالْحَقُّ أَنَّ مَنْ خَرَجَ عَلَى نِيَّةِ تَرْكِ الْمَكَانِ وَعَدَمِ الْعَوْدِ إلَيْهِ وَنَقَلَ مِنْ أَمْتِعَتِهِ فِيهِ مَا يَقُومُ بِهِ أَمْرُ سُكْنَاهُ وَهُوَ عَلَى نِيَّةِ قَفْلِ الْبَاقِي يُقَالُ لَيْسَ سَاكِنًا فِي هَذَا الْمَكَانِ بَلْ انْتَقَلَ عَنْهُ وَسَكَنَ فِي الْمَكَانِ الْفُلَانِيِّ ، وَهَذَا الْخِلَافُ فِي نَقْلِ الْأَمْتِعَةِ أَمَّا الْأَهْلُ فَلَا بُدَّ فِي الْبِرِّ مِنْ نَقْلِهِمْ كُلِّهِمْ اتِّفَاقًا ( قَوْلُهُ وَيَنْبَغِي أَنْ يَنْتَقِلَ إلَى مَنْزِلٍ آخَرَ حَتَّى يَبَرَّ ) بِالِاتِّفَاقِ ، فَإِنَّهُ لَوْ انْتَقَلَ إلَى السِّكَّةِ أَوْ الْمَسْجِدِ لَمْ يَبَرَّ بِالِاتِّفَاقِ فَإِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا قِيلَ يَحْنَثُ وَعَلَيْهِ اقْتَصَرَ نَقْلُ الْمُصَنِّفِ اسْتِدْلَالًا بِمَا فِي الزِّيَادَاتِ .
كُوفِيٌّ نَقَلَ عِيَالَهُ إلَى مَكَّةَ لِيَتَوَطَّنَ فَلَمَّا تَوَطَّنَ بِمَكَّةَ بَدَا لَهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى خُرَاسَانَ فَمَرَّ بِالْكُوفَةِ يُصَلِّي بِهَا رَكْعَتَيْنِ لِأَنَّ وَطَنَهُ بِالْكُوفَةِ انْتَقَضَ بِوَطَنِهِ بِمَكَّةَ ، وَإِنْ بَدَا لَهُ فِي الطَّرِيقِ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ إلَى مَكَّةَ صَلَّى بِالْكُوفَةِ مَارًّا عَلَيْهَا أَرْبَعًا لِأَنَّ وَطَنَهُ الْأَوَّلَ بِالْكُوفَةِ قَائِمٌ مَا لَمْ يَتَّخِذْ وَطَنًا آخَرَ ، فَكَذَا هُنَا يَبْقَى وَطَنُهُ الْأَوَّلُ مَا لَمْ يَتَّخِذْ وَطَنًا آخَرَ .
وَقِيلَ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ سَاكِنًا .
وَقَالَ أَبُو اللَّيْثِ : إنْ سَلَّمَ دَارِهِ بِإِجَارَةٍ أَوْ رَدَّ الْمُسْتَأْجَرَةَ إلَى الْمُؤَاجِرِ لَا يَحْنَثُ وَإِنْ لَمْ يَتَّخِذْ دَارًا أُخْرَى ، وَإِطْلَاقُ عَدَمِ الْحِنْثِ أَوْجَهُ ، وَكَوْنُ وَطَنِهِ بَاقِيًا فِي حَقِّ إتْمَامِ الصَّلَاةِ مَا لَمْ يَسْتَوْطِنْ غَيْرَهُ لَا يَسْتَلْزِمُ تَسْمِيَتَهُ سَاكِنًا عُرْفًا بِذَلِكَ الْمَكَانِ بَلْ يُقْطَعُ مِنْ الْعُرْفِ فِيمَنْ نَقَلَ

أَهْلَهُ وَأَمْتِعَتَهُ وَخَرَجَ مُسَافِرًا أَنْ لَا يُقَالَ فِيهِ إنَّهُ سَاكِنٌ فِي تِلْكَ الْحَالِ بَلْ يُقَالُ فِيهِ حَالَ السَّفَرِ انْتَقَلَ عَنْ سُكْنَى هَذَا الْمَكَانِ وَهُوَ قَاصِدٌ سُكْنَى كَذَا .
وَإِذَا لَمْ يَتَحَرَّرْ لَهُ قَصْدُ مَكَان مُعَيَّنٍ قِيلَ هُوَ الْآنَ غَيْرُ سَاكِنٍ فِي مَكَان حَتَّى يُنْظَرَ أَيْنَ يَسْكُنُ ، وَإِذَا ثَبَتَ نَفْيُ تِلْكَ السُّكْنَى ثَبَتَ الْبِرُّ .
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

( بَابُ الْيَمِينِ فِي الْخُرُوجِ وَالْإِتْيَانِ وَالرُّكُوبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ) قَالَ ( وَمَنْ حَلَفَ لَا يَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ فَأَمَرَ إنْسَانًا فَحَمَلَهُ فَأَخْرَجَهُ حَنِثَ ) لِأَنَّ فِعْلَ الْمَأْمُورِ مُضَافٌ إلَى الْآمِرِ فَصَارَ كَمَا إذَا رَكِبَ دَابَّةً فَخَرَجَتْ ( وَلَوْ أَخْرَجَهُ مُكْرَهًا لَمْ يَحْنَثْ ) لِأَنَّ الْفِعْلَ لَمْ يَنْتَقِلْ إلَيْهِ لِعَدَمِ الْأَمْرِ ( وَلَوْ حَمَلَهُ بِرِضَاهُ لَا بِأَمْرِهِ لَا يَحْنَثُ ) فِي الصَّحِيحِ ، لِأَنَّ الِانْتِقَالَ بِالْأَمْرِ لَا بِمُجَرَّدِ الرِّضَا .

بَابُ الْيَمِينِ فِي الْخُرُوجِ وَالْإِتْيَانِ وَالرُّكُوبِ ) الْخُرُوجُ مُقَابِلٌ لِلدُّخُولِ فَنَاسَبَ إعْقَابُهُ بِهِ ، وَيَعْقُبُ الْخُرُوجَ الرُّكُوبُ ثُمَّ الرُّجُوعُ وَهُوَ الْإِتْيَانُ ، فَلَمَّا ارْتَبَطَتْ أَوْرَدَهَا فِي بَابِ الْخُرُوجِ ( قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ ) أَوْ الدَّارِ أَوْ الْبَيْتِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَأَمَرَ إنْسَانًا فَحَمَلَهُ فَأَخْرَجَهُ حَنِثَ لِأَنَّ فِعْلَ الْمَأْمُورِ مُضَافٌ إلَى الْآمِرِ فَصَارَ كَمَا لَوْ رَكِبَ دَابَّةً فَخَرَجَتْ بِهِ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ ، لِأَنَّ فِعْلَ الدَّابَّةِ مُضَافٌ إلَيْهِ كَذَا هَذَا .
وَلَوْ أَخْرَجَهُ مُكْرَهًا لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ الْفِعْلَ وَهُوَ الْخُرُوجُ لَمْ يَنْتَقِلْ إلَى الْحَالِفِ لِعَدَمِ الْأَمْرِ وَهُوَ الْمُوجِبُ لِلنَّقْلِ ، وَالْمُرَادُ مِنْ الْإِخْرَاجِ مُكْرَهًا هُنَا أَنْ يَحْمِلَهُ وَيُخْرِجَهُ كَارِهًا لِذَلِكَ الْإِكْرَاهِ الْمَعْرُوفِ ، وَهُوَ أَنْ يَتَوَعَّدَهُ حَتَّى يَفْعَلَ .
فَإِنَّهُ إذَا تَوَعَّدَهُ فَخَرَجَ بِنَفْسِهِ حَنِثَ لِمَا عُرِفَ أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَعْدَمُ الْفِعْلَ عِنْدَنَا ، وَنَظِيرُهُ مَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذَا الطَّعَامَ فَأُكْرِهَ عَلَيْهِ حَتَّى أَكَلَهُ حَنِثَ .
وَلَوْ أَوْجَرَ فِي حَلْقِهِ لَا يَحْنَثُ ، وَلَوْ حَمَلَهُ بِرِضَاهُ لَا بِأَمْرِهِ لَا يَحْنَثُ فِي الصَّحِيحِ .
وَقِيلَ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الِامْتِنَاعِ فَلَمْ يَفْعَلْ صَارَ كَالْآمِرِ .
وَجْهُ الصَّحِيحِ أَنَّ الِانْتِقَالَ بِالْأَمْرِ لَا بِمُجَرَّدِ الرِّضَا وَلَمْ يُوجَدْ الْأَمْرُ وَلَا الْفِعْلُ مِنْهُ فَلَا يُنْسَبُ الْفِعْلُ إلَيْهِ .
وَلَوْ قِيلَ قَصْرُ الِانْتِقَالِ عَلَى الْآمِرِ مَحِلُّ النِّزَاعِ لِأَنَّ مَنْ يَقُولُ يَحْنَثُ يَجْعَلُ الرِّضَا أَيْضًا فَلَا دَفْعَ بِفَرْعٍ اتِّفَاقِيٍّ ، وَهُوَ مَا إذَا أَمَرَهُ أَنْ يُتْلِفَ مَالَهُ فَفَعَلَ لَا يَضْمَنُ الْمُتْلِفُ لِانْتِسَابِ الْإِتْلَافِ إلَيْهِ بِالْأَمْرِ ، فَلَوْ أَتْلَفَهُ وَهُوَ سَاكِتٌ يَنْظُرُ فَلَمْ يَنْهَهُ ضَمِنَ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ لِأَحَدٍ بَيْنَ كَوْنِهِ رَاضِيًا أَوْ لَا ، ثُمَّ إذَا لَمْ يَحْنَثْ بِإِخْرَاجِهِ مَحْمُولًا لِإِنْسَانٍ

أَوْ بِهُبُوبِ رِيحٍ حَمَلَتْهُ هَلْ تَنْحَلُ الْيَمِينُ ؟ قَالَ السَّيِّدُ أَبُو شُجَاعٍ : تَنْحَلُّ وَهُوَ أَرْفَقُ بِالنَّاسِ .
وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ الْمَشَايِخِ : لَا تَنْحَلُّ وَهُوَ الصَّحِيحُ .
ذَكَرَهُ التُّمُرْتَاشِيُّ وَقَاضِي خَانْ .
وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إنَّمَا لَا يَحْنَثُ لِانْقِطَاعِ نِسْبَةِ الْفِعْلِ إلَيْهِ ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ كَيْفَ تَنْحَلُّ الْيَمِينُ فَبَقِيَتْ عَلَى حَالِهَا فِي الذِّمَّةِ .
وَيَظْهَرُ أَثَرُ هَذَا الْخِلَافِ فِيمَا لَوْ دَخَلَ بَعْدَ هَذَا الْإِخْرَاجِ هَلْ يَحْنَثُ ؟ فَمَنْ قَالَ انْحَلَّتْ قَالَ لَا يَحْنَثُ .
وَهَذَا بَيَانُ كَوْنِهِ أَرْفَقَ بِالنَّاسِ .
وَمَنْ قَالَ لَمْ تَنْحَلَّ قَالَ حَنِثَ وَوَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ وَهُوَ الصَّحِيحُ .

قَالَ ( وَلَوْ حَلَفَ لَا يَخْرُجُ مِنْ دَارِهِ إلَّا إلَى جِنَازَةٍ فَخَرَجَ إلَيْهَا ثُمَّ أَتَى حَاجَةً أُخْرَى لَمْ يَحْنَثْ ) لِأَنَّ الْمَوْجُودَ خُرُوجٌ مُسْتَثْنًى ، وَالْمُضِيَّ بَعْدَ ذَلِكَ لَيْسَ بِخُرُوجٍ .
( قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يَخْرُجُ مِنْ دَارِهِ إلَّا إلَى جِنَازَةٍ ) وَنَحْوِهِ فَخَرَجَ إلَى جِنَازَةٍ ثُمَّ ذَهَبَ إلَى حَاجَاتٍ لَهُ أُخْرَى لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ الْخُرُوجَ الْمَوْجُودَ مِنْهُ إلَى الْجِنَازَةِ مُسْتَثْنًى مِنْ الْخُرُوجِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ ، وَالْمُضِيُّ بَعْدَ ذَلِكَ لَيْسَ بِخُرُوجٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ إلَّا الِانْفِصَالُ مِنْ الْبَاطِنِ إلَى الظَّاهِرِ وَالذَّهَابُ لَيْسَ كَذَلِكَ .

( وَلَوْ حَلَفَ لَا يَخْرُجُ إلَى مَكَّةَ فَخَرَجَ يُرِيدُهَا ثُمَّ رَجَعَ حَنِثَ ) لِوُجُودِ الْخُرُوجِ عَلَى قَصْدِ مَكَّةَ وَهُوَ الشَّرْطُ ، إذْ الْخُرُوجُ هُوَ الِانْفِصَالُ مِنْ الدَّاخِلِ إلَى الْخَارِجِ ( وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْتِيهَا لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَدْخُلَهَا ) لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ الْوُصُولِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا } وَلَوْ حَلَفَ لَا يَذْهَبُ إلَيْهَا قِيلَ هُوَ كَالْإِتْيَانِ ، وَقِيلَ هُوَ كَالْخُرُوجِ وَهُوَ الْأَصَحُّ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ الزَّوَالِ .

( قَوْلُهُ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَخْرُجُ إلَى مَكَّةَ ) أَوْ دَارِ فُلَانٍ فَخَرَجَ مُرِيدًا مَكَّةَ أَوْ دَارَ فُلَانٍ ثُمَّ بَدَا لَهُ فَرَجَعَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ حَنِثَ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْخُرُوجَ هُوَ الِانْفِصَالُ مِنْ الدَّاخِلِ إلَى الْخَارِجِ وَقَدْ وُجِدَ بِقَصْدِ .
مَكَّةَ وَهُوَ الْمَحْلُوفُ عَلَى عَدَمِهِ فَيَحْنَثُ بِهِ رَجَعَ أَوْ لَمْ يَرْجِعْ .
وَمُقْتَضَى هَذَا أَنْ يَحْنَثَ إذَا رَجَعَ وَإِنْ لَمْ يُجَاوِزْ عِمْرَانَ مِصْرِهِ وَقَدْ قَالُوا إنَّمَا يَحْنَثُ إذَا جَاوَزَ عِمْرَانَهُ عَلَى قَصْدِهَا كَأَنَّهُ ضَمَّنَ لَفْظَ أَخْرُجُ مَعْنَى أُسَافِرُ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ الْمُضِيَّ إلَيْهَا سَفَرٌ لَكِنَّ عَلَى هَذَا لَوْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا مُدَّةُ سَفَرٍ يَنْبَغِي أَنْ يَحْنَثَ بِمُجَرَّدِ انْفِصَالِهِ مِنْ الدَّاخِلِ ( قَوْلُهُ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْتِيهَا ) فَخَرَجَ بِقَصْدِهَا ( لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَدْخُلَهَا لِأَنَّ الْإِتْيَانَ عِبَارَةٌ عَنْ الْوُصُولِ ، قَالَ تَعَالَى { فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا } وَلَوْ حَلَفَ لَا يَذْهَبُ إلَيْهَا قِيلَ هُوَ كَالْإِتْيَانِ ) فَلَا يَحْنَثُ حَتَّى يَدْخُلَهَا وَهُوَ قَوْلُ نُصَيْرٍ .
قَالَ تَعَالَى { اذْهَبَا إلَى فِرْعَوْنَ } وَالْمُرَادُ الْوُصُولُ إلَيْهِ وَتَبْلِيغُهُ الرِّسَالَةَ ( وَقِيلَ الذَّهَابُ كَالْخُرُوجِ ) وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ وَاخْتَارَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَهُوَ الْأَصَحُّ ) قَالَ تَعَالَى { لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ } أَيْ يُزِيلَهُ ، فَبِمُجَرَّدِ تَحَقُّقِ الزَّوَالِ تَحَقَّقَ الْحِنْثُ ، وَكَوْنُهُ اُسْتُعْمِلَ مُرَادًا بِهِ الْوُصُولُ فِي { اذْهَبَا إلَى فِرْعَوْنَ } لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَازِمٌ فِي اسْتِعْمَالَاتِهِ ، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا مَعَ الْوُصُولِ وَمَعَ عَدَمِهِ فَيَكُونَ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْخُرُوجِ بِلَا وُصُولٍ وَالْخُرُوجِ الْمُتَّصِلِ بِهِ وُصُولٌ .
فَلَا يَتَعَيَّنُ أَحَدُهُمَا لِتَحَقُّقِ الْمُسَمَّى بِمُجَرَّدِ الِانْفِصَالِ ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَنْوِ بِالذَّهَابِ شَيْئًا .
وَلَوْ نَوَى بِهِ الْخُرُوجَ أَوْ الْإِتْيَانَ صَحَّتْ نِيَّتُهُ .
ثُمَّ فِي الْخُرُوجِ

وَالذَّهَابِ إلَيْهِ يُشْتَرَطُ لِلْحِنْثِ الْخُرُوجُ عَنْ قَصْدٍ .
وَفِي الْإِتْيَانِ إلَيْهِ لَا يُشْتَرَطُ الْقَصْدُ لِلْحِنْثِ .
بَلْ إذَا وَصَلَ إلَيْهِ حَنِثَ قَصَدَ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ .
كَذَا فِي جَامِعِ قَاضِي خَانْ وَالْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ .

( وَإِنْ حَلَفَ لَيَأْتِيَنَّ الْبَصْرَةَ فَلَمْ يَأْتِهَا حَتَّى مَاتَ حَنِثَ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ ) لِأَنَّ الْبِرَّ قَبْلَ ذَلِكَ مَرْجُوٌّ .
( قَوْلُهُ وَإِنْ حَلَفَ لَيَأْتِيَنَّ الْبَصْرَةَ ) هَذَا وَنَحْوُهُ مِنْ الْأَفْعَالِ الْمُسْتَقْبَلَةِ إذَا حَلَفَ عَلَى أَنْ يَفْعَلَهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ .
فَإِمَّا أَنْ يُطْلِقَهَا أَوْ يُؤَقِّتَهَا بِوَقْتٍ مِثْلَ لَأَفْعَلَنَّ غَدًا أَوْ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ .
فَفِي الْمُطْلَقَةِ مِثْلِ لَيَضْرِبَنَّ زَيْدًا أَوْ لَيُعْطِيَنَّ فُلَانًا أَوْ لَيُطَلِّقَنَّ زَوْجَتَهُ لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَقَعَ الْيَأْسُ عَنْ الْبِرِّ لِأَنَّ الْيَمِينَ تَبْقَى مَا أَمْكَنَ الْبِرُّ .
وَحَيْثُ لَمْ يُقَيَّدْ الْيَمِينُ بِوَقْتٍ يَفُوتُ الْبِرُّ بِفَوَاتِهِ لَمْ يَسْقُطْ الْيَمِينُ وَلَمْ يَلْزَمْ انْحِلَالُهَا فَتَبْقَى إلَى أَنْ يَقَعَ الْيَأْسُ عَنْ الْبِرِّ فَيُحْكَمُ حِينَئِذٍ بِالْحِنْثِ ، وَلَا يَقَعُ الْيَأْسُ إلَّا فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْحَيَاةِ ، فَإِنْ كَانَ الْحَلِفُ بِطَلَاقِهَا لَيَفْعَلَنَّ وَلَمْ يَفْعَلْ حَنِثَ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَوْتِهِ وَمَوْتِهَا فِي الصَّحِيحِ وَتَقَدَّمَتْ هَذِهِ فِي الطَّلَاقِ ، وَفِي الْمُقَيَّدَةِ تَتَعَلَّقُ بِآخِرِ الْوَقْتِ ، فَلَوْ مَاتَ قَبْلَ مُضِيِّ الْوَقْتِ وَلَمْ يَفْعَلْ لَمْ يَحْنَثْ .
فَإِذَا قَالَ إنْ لَمْ أَفْعَلْ كَذَا غَدًا فَعَبْدِي حُرٌّ فَمَاتَ قَبْلَ الْغُرُوبِ وَلَمْ يَفْعَلْ لَا يُعْتَقُ عَبْدُهُ .

( وَلَوْ حَلَفَ لَيَأْتِيَنَّهُ غَدًا إنْ اسْتَطَاعَ فَهَذَا عَلَى اسْتِطَاعَةِ الصِّحَّةِ دُونَ الْقُدْرَةِ ، وَفَسَّرَهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَقَالَ : إذَا لَمْ يَمْرَضْ وَلَمْ يَمْنَعْهُ السُّلْطَانُ وَلَمْ يَجِئْ أَمْرٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى إتْيَانِهِ فَلَمْ يَأْتِهِ حَنِثَ ، وَإِنْ عَنَى اسْتِطَاعَةَ الْقَضَاءِ دَيْنٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ) وَهَذَا لِأَنَّ حَقِيقَةَ الِاسْتِطَاعَةِ فِيمَا يُقَارِنُ الْفِعْلَ وَيُطْلَقُ الِاسْمُ عَلَى سَلَامَةِ الْآلَاتِ وَصِحَّةِ الْأَسْبَابِ فِي الْمُتَعَارَفِ .
فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ وَتَصِحُّ نِيَّةُ الْأَوَّلِ دِيَانَةً لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ ثُمَّ قِيلَ وَتَصِحُّ قَضَاءً أَيْضًا لِمَا بَيَّنَّا ، وَقِيلَ لَا تَصِحُّ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ .

( قَوْلُهُ وَلَوْ حَلَفَ ) أَيْ بِاَللَّهِ أَوْ بِطَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ ( لَيَأْتِيَنَّهُ غَدًا إنْ اسْتَطَاعَ ) وَصُورَتُهُ فِي التَّعْلِيقِ أَنْ يَقُولَ امْرَأَتِي طَالِقٌ إنْ لَمْ آتِك غَدًا إنْ اسْتَطَعْت ، وَلَا نِيَّةَ لَهُ تَصْرِفُ الِاسْتِطَاعَةَ إلَى سَلَامَةِ آلَاتِ الْفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَصِحَّةِ أَسْبَابِهِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَعَارَفُ فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَتَعَرَّفُ إلَيْهِ ، وَهَذَا مَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ اسْتِطَاعَةُ الصِّحَّةِ دُونَ الِاسْتِطَاعَةِ الَّتِي هِيَ الْقُدْرَةُ الَّتِي لَا تَسْبِقُ الْفِعْلَ بَلْ تُخْلَقُ مَعَهُ بِلَا تَأْثِيرٍ لَهَا فِيهِ لِأَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى ، وَلَوْ أَرَادَ هَذِهِ بِقَوْلِهِ إنْ اسْتَطَعْت صَحَّتْ إرَادَتُهَا ، فَإِذَا لَمْ يَأْتِهِ لِعُذْرٍ مِنْهُ أَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ لَا يَحْنَثُ كَأَنَّهُ قَالَ لَآتِيَنك إنْ خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى إتْيَانِي أَوْ إلَّا أَنْ لَا يَخْلُقَ إتْيَانِي ، وَهُوَ إذَا لَمْ يَأْتِ لَمْ يُخْلَقْ إتْيَانُهُ وَلَا اسْتِطَاعَةُ الْإِتْيَانِ الْمُقَارِنَةُ وَإِلَّا لَأَتَى ، وَإِذَا صَحَّتْ إرَادَتُهَا فَهَلْ يُصَدَّقُ دِيَانَةً وَقَضَاءً أَوْ دِيَانَةً فَقَطْ ؟ قِيلَ يُصَدَّقُ دِيَانَةً فَقَطْ لِأَنَّهُ نَوَى خِلَافَ الظَّاهِرِ ، وَهُوَ قَوْلُ الرَّازِيّ ، وَقِيلَ دِيَانَةً وَقَضَاءً لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ إذَا كَانَ اسْمُ الِاسْتِطَاعَةِ يُطْلَقُ بِالِاشْتِرَاكِ عَلَى كُلٍّ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ .
وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا لَكِنْ تُعُورِفَ اسْتِعْمَالُهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عَنْ الْقَرِينَةِ لِأَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ بِخُصُوصِهِ وَهُوَ سَلَامَةُ آلَاتِ الْفِعْلِ وَصِحَّةُ أَسْبَابِهِ فَصَارَ ظَاهِرًا فِيهِ بِخُصُوصِهِ فَلَا يُصَدِّقُهُ الْقَاضِي فِي خِلَافِ الظَّاهِرِ .

( وَمَنْ حَلَفَ لَا تَخْرُجُ امْرَأَتُهُ إلَّا بِإِذْنِهِ فَأَذِنَ لَهَا مَرَّةً فَخَرَجَتْ ثُمَّ خَرَجَتْ مَرَّةً أُخْرَى بِغَيْرِ إذْنِهِ حَنِثَ وَلَا بُدَّ مِنْ الْإِذْنِ فِي كُلِّ خُرُوجٍ ) لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى خُرُوجٌ مَقْرُونٌ بِالْإِذْنِ ، وَمَا وَرَاءَهُ دَاخِلٌ فِي الْحَظْرِ الْعَامِّ .
وَلَوْ نَوَى الْإِذْنَ مَرَّةً يُصَدَّقُ دِيَانَةً لَا قَضَاءً لِأَنَّهُ مُحْتَمَلُ كَلَامِهِ لَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ ( وَلَوْ قَالَ إلَّا أَنْ آذَنَ لَك فَأَذِنَ لَهَا مَرَّةً وَاحِدَةً فَخَرَجَتْ ثُمَّ خَرَجَتْ بَعْدَهَا بِغَيْرِ إذْنِهِ لَمْ يَحْنَثْ ) لِأَنَّ هَذِهِ كَلِمَةُ غَايَةٍ فَتَنْتَهِي الْيَمِينُ بِهِ كَمَا إذَا قَالَ حَتَّى آذَنَ لَك .

( قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا تَخْرُجُ امْرَأَتُهُ إلَّا بِإِذْنِهِ فَأَذِنَ لَهَا مَرَّةً فَخَرَجَتْ ثُمَّ خَرَجَتْ مَرَّةً أُخْرَى بِغَيْرِ إذْنِهِ حَنِثَ ) وَلَا بُدَّ مِنْ الْإِذْنِ فِي كُلِّ خُرُوجٍ ، وَمِثْلُهُ إنْ خَرَجَتْ إلَّا بِقِنَاعٍ وَنَحْوِهِ ، لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى فِي قَوْلِهِ إلَّا بِإِذْنِي خُرُوجٌ مَقْرُونٌ بِالْإِذْنِ ، فَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ الْخُرُوجِ الْمُلْصَقِ بِالْإِذْنِ دَاخِلٌ فِي الْحَظْرِ الْعَامِّ ، وَهُوَ النَّكِرَةُ الْمُؤَوَّلَةُ مِنْ الْفِعْلِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ ، فَإِنَّ الْمَعْنَى لَا تَخْرُجِي خُرُوجًا إلَّا خُرُوجًا بِإِذْنِي ، وَطَرِيقُ إسْقَاطِ هَذَا الْإِذْنِ أَنْ يَقُولَ كُلَّمَا أَرَدْت الْخُرُوجَ فَقَدْ أَذِنْت لَك فَإِنْ قَالَ ذَلِكَ ثُمَّ نَهَاهَا لَمْ يَعْمَلْ نَهْيُهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ .
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَوْ أَذِنَ لَهَا مَرَّةً ثُمَّ نَهَى عَمِلَ نَهْيُهُ اتِّفَاقًا فَكَذَا بَعْدَ الْإِذْنِ الْعَامِّ .
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنَّمَا عَمِلَ نَهْيُهُ بَعْدَ الْمَرَّةِ لِأَنَّهُ مُفِيدٌ لِبَقَاءِ الْيَمِينِ بَعْدَهُ .
بِخِلَافِ النَّهْيِ بَعْدَ الْإِذْنِ الْعَامِّ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ لِارْتِفَاعِ الْيَمِينِ بِالْإِذْنِ الْعَامِّ .
وَلَوْ أَذِنَ لَهَا إذْنًا غَيْرَ مَسْمُوحٍ لَمْ يَكُنْ إذْنًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : هُوَ إذْنٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ الْمَسْمُوعِ وَغَيْرِهِ .
وَلَهُمَا أَنَّ الْإِذْنَ إنَّمَا سُمِّيَ إذْنًا لِكَوْنِهِ مُعَلَّمًا أَوْ لِوُقُوعِهِ فِي الْإِذْنِ وَلَمْ يُوجَدْ .
ثَمَّ انْعِقَادُ الْيَمِينِ عَلَى الْإِذْنِ فِي قَوْلِهِ إنْ خَرَجْت إلَّا بِإِذْنِي فَأَنْتِ طَالِقٌ ، أَوْ وَاَللَّهِ لَا تَخْرُجِينَ إلَّا بِإِذْنِي مُقَيَّدٌ بِبَقَاءِ النِّكَاحِ ، لِأَنَّ الْإِذْنَ إنَّمَا يَصِحُّ لِمَنْ لَهُ الْمَنْعُ وَهُوَ مِثْلُ السُّلْطَانِ إذَا حَلَّفَ إنْسَانًا لَيَرْفَعَن إلَيْهِ خَبَرَ كُلِّ دَاعِرٍ فِي الْمَدِينَةِ كَانَ عَلَى مُدَّةِ وِلَايَتِهِ ، فَلَوْ أَبَانَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَخَرَجَتْ بِلَا إذْنٍ لَا تَطْلُقُ ، وَإِنْ كَانَ زَوَالُ الْمِلْكِ لَا يُبْطِلُ الْيَمِينَ عِنْدَنَا لِأَنَّهَا لَمْ

تَنْعَقِدْ عَلَى مُدَّةِ بَقَاءِ النِّكَاحِ .
وَلَوْ نَوَى الْإِذْنَ مَرَّةً وَاحِدَةً بِاللَّفْظِ الْمَذْكُورِ يُصَدَّقُ دِيَانَةً لَا قَضَاءً لِأَنَّهُ مُحْتَمَلُ كَلَامِهِ لَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ فَلِذَا لَا يُصَدِّقُ الْقَاضِي ، أَمَّا إنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ .
فَظَاهِرُ مِمَّا قَرَّرْنَاهُ ، وَأَمَّا إنَّهُ مُحْتَمَلُ كَلَامِهِ فَلِأَنَّ الْإِذْنَ مَرَّةً مُوجِبُ الْغَايَةِ فِي قَوْلِهِ لَا تَخْرُجِي حَتَّى آذَنَ لَك ، وَبَيْنَ الْغَايَةِ وَالِاسْتِثْنَاءِ مُنَاسَبَةٌ مِنْ حَيْثُ إنَّ حُكْمَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ وَالْغَايَةِ مُخَالِفٌ لِمَا قَبْلَهُمَا ، فَيُسْتَعَارُ إلَّا بِإِذْنِي لِمَعْنًى حَتَّى آذَنَ وَفِي حَتَّى آذَنَ تَنْحَلُّ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ .
وَقَدْ بَحَثَ بَعْضُهُمْ فِي حَتَّى أَنَّهَا أَيْضًا تُوجِبُ التَّكْرَارَ .
وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا } { فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ } وَنَحْنُ نَقُولُ إنْ قَامَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ التَّكْرَارَ يُرَادُ فَلَا نِزَاعَ .
وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي أَنَّهُ هَلْ هُوَ مُؤَدَّى اللَّفْظِ فَقُلْنَا لَا ، فَإِنَّهُ إذَا قَالَ حَتَّى آذَنَ لَك يَكُونُ قَدْ جَعَلَ النَّهْيَ عَنْ الْخُرُوجِ مُطْلَقًا مُغَيًّا بِوُجُودِ مَا هُوَ إذْنٌ .
وَبِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ الْإِذْنِ يَتَحَقَّقُ مَا هُوَ إذْنٌ فَيَتَحَقَّقُ غَايَةُ النَّهْيِ فَيَزُولُ الْمَنْعُ الْمُضَافُ إلَى اللَّفْظِ .
فَإِنْ كَانَ مَنْعٌ آخَرُ فَبِغَيْرِهِ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ أَوْ عُلِمَ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ خِلَافُ مُقْتَضَاهُ ، وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ إلَّا بِإِذْنِي أَنَّهُ تَنْتَهِي الْيَمِينُ بِخُرْجَةٍ وَاحِدَةٍ بِإِذْنِ الزَّوْجِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَلَا تَطْلُقُ بِالْخُرُوجِ بَعْدَهُ بِلَا إذْنٍ .
وَفِي وَجْهٍ كَقَوْلِنَا وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيّ وَالْقَفَّالِ ( قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ إلَّا أَنْ آذَنَ لَك فَأَذِنَ لَهَا مَرَّةً وَاحِدَةً ثُمَّ خَرَجَتْ بَعْدَهَا بِغَيْرِ إذْنِهِ لَمْ يَحْنَثْ ) وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ لُزُومُ تَكْرَارِ الْإِذْنِ فِيهِ أَيْضًا مِثْلُ إلَّا بِإِذْنِي وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ لِأَنَّ الْمَعْنَى إلَّا خُرُوجًا

بِإِذْنِي لِأَنَّ أَنْ وَالْفِعْلَ فِي تَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ وَلَا يَصِحُّ إلَّا خُرُوجًا إذْنِي فَلَزِمَ إرَادَةُ الْبَاءِ فَصَارَ بِإِذْنِي .
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ .
أَمَّا مَا ذُكِرَ مِنْ إرَادَةِ الْبَاءِ مَحْذُوفَةً أَوْ مَا قُلْنَا مِنْ جَعْلِهَا بِمَعْنَى حَتَّى مَجَازًا : أَيْ حَتَّى آذَنَ لَك ، وَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ كَالْأَوَّلِ .
وَعَلَى الثَّانِي يَنْعَقِدُ عَلَى إذْنٍ وَاحِدٍ .
وَإِذَا لَزِمَ فِي إلَّا أَنْ آذَنَ لَك أَحَدُ الْمَجَازَيْنِ وَجَبَ الرَّاجِحُ مِنْهُمَا .
وَمَجَازُ غَيْرِ الْخَذْفِ أَوْلَى مِنْ مَجَازِ الْحَذْفِ عِنْدَهُمْ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي وَصْفِ اللَّفْظِ ، وَمَجَازُ الْحَذْفِ تَصَرُّفٌ فِي ذَاتِهِ بِالْإِعْدَامِ مَعَ الْإِرَادَةِ ، ثُمَّ هُوَ مُوَافِقٌ لِلِاسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِيِّ ، قَالَ تَعَالَى { لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمْ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ } فَإِنْ قِيلَ : قَدْ تَحَقَّقَ بِمَعْنَى مَا بِإِضْمَارِ الْبَاءِ أَيْضًا فِي قَوْله تَعَالَى { لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ } الْآيَةَ ، وَالثَّابِتُ وُجُوبُ تَكْرَارِ الْإِذْنِ .
أُجِيبَ بِالْمَنْعِ ، بَلْ وُجُوبُ التَّكْرَارِ بِغَيْرِهِ مِنْ الْأَدِلَّةِ الْمُوجِبَةِ مَنْعَ دُخُولِ الْإِنْسَانِ بَيْتَ غَيْرِهِ فَضْلًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا بِإِذْنِهِ ، وَكَذَا كُلُّ مَا كَانَ مِثْلَ هَذَا وَهُوَ كَثِيرٌ مِثْلُ { وَمَا تَشَاءُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } { وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } { وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا } { لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّ كُلًّا مِنْهَا يَسْتَقِلُّ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْمَنْعِ أَوْ الْفِعْلِ مَعَ كُلِّ مُتَكَرِّرٍ ، فَإِنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ لَمْ يَكُنْ دَلِيلٌ عَلَى التَّكْرَارِ سِوَاهُ .
وَقَدْ أُجِيبَ أَيْضًا عَنْ الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّ لُزُومَ تَكْرَارِ الْإِذْنِ لِلْعِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ

فِيهَا مِنْ قَوْله تَعَالَى { إنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ } فَأَلْزَمَ بَعْضُ الْمُحَشِّينَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لِأَنَّ خُرُوجَ الْمَرْأَةِ بِغَيْرِ إذْنِ الزَّوْجِ مِمَّا يُؤْذِي الزَّوْجَ أَيْضًا ، وَهَذَا ذُهُولٌ عَظِيمٌ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْعِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ فِي قَوْله تَعَالَى { إنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ } الْمَنْعُ الَّذِي هُوَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ ، وَهُوَ يَثْبُتُ بِالْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ .
أَمَّا هُنَا فَالنَّظَرُ فِيمَا تَنْعَقِدُ عَلَيْهِ يَمِينُ الْحَالِفِ وَيَلْزَمُ بِعَدَمِهِ الْكَفَّارَةُ ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِاللَّفْظِ النَّاصِّ عَلَى الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ لَا بِالْعِلَّةِ لَوْ صَرَّحَ بِهَا بِأَنْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَشْرَبُ مَاءَ الْعِنَبِ الْمُشْتَدِّ لِإِسْكَارِهِ فَإِنَّهُ لَوْ شَرِبَ مِزْرًا لَا يَقُولُ أَحَدٌ إنَّهُ حَنِثَ وَلَزِمَهُ كَفَّارَةٌ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَحْلِفْ عَلَيْهِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مُسْكِرًا ، فَكَيْفَ إذَا لَمْ يُصَرِّحْ بِهَا بَلْ اُسْتُنْبِطَتْ كَمَا فَعَلَ هَذَا الْبَاحِثُ حَيْثُ اسْتَنْبَطَ أَنَّ الزَّوْجَ يَكْرَهُ خُرُوجَ زَوْجَتِهِ بِلَا إذْنٍ .
نَعَمْ قَدْ قَالَ : لَا تَجِدُ دَلِيلًا يَدُلُّ عَلَى مَنْعِ كُلِّ دُخُولٍ إلَّا بِإِذْنٍ ، وَكُلُّ مَشِيئَةٍ لِلْعِبَادِ إلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَكُلُّ قَوْلٍ إنِّي فَاعِلٌ غَدًا كَذَا إلَّا بِقِرَانِهِ بِالْمَشِيئَةِ سِوَى الْأَدِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ خُصُوصًا فِي الْأَخِيرِ .
وَلَوْ فُرِضَ الْإِجْمَاعُ عَلَى ذَلِكَ فَمُسْتَنَدُ الْإِجْمَاعِ لَيْسَ إلَّا هَذِهِ الْأَدِلَّةُ .
وَأَقَلُّ مَا فِي الْبَابِ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ هَذَا الْمَجَازِ أَكْثَرَ وَالْكَثْرَةُ مِنْ أَسْبَابِ التَّرْجِيحِ ، وَحِينَئِذٍ كَوْنُ غَيْرِ مَجَازِ الْحَذْفِ أَوْلَى يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِ مَا يَكُونُ الْحَذْفُ فِيهِ مُطَّرِدًا مُسْتَمِرًّا مَفْهُومًا مِنْ اللَّفْظِ بِلَا زِيَادَةِ تَأَمُّلٍ .
وَأَنْتَ عَلِمْت أَنَّ حَذْفَ حَرْفِ الْجَرِّ مَعَ أَنْ وَأَنَّ مُطَّرِدٌ وَهُنَا لَفْظَانِ آخَرَانِ هُمَا إلَى أَنْ آذَنَ لَك ، وَيَجِبُ أَنْ يُسْلَكَ بِهِ مَسْلَكُ حَتَّى ،

وَبِغَيْرِ إذْنِي ، وَيَجِبُ فِيهِ تَكْرَارُ الْإِذْنِ مِثْلُ إلَّا بِإِذْنِي لِأَنَّ الْمَعْنَى فِيهِمَا وَاحِدٌ مَعَ وُجُودِ الْبَاءِ ، وَهَذَا كُلُّهُ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا إلَّا بِإِذْنِ فُلَانٍ أَوْ حَتَّى يَأْذَنَ أَوْ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ أَوْ إلَّا أَنْ يَقْدُمَ فُلَانٌ أَوْ حَتَّى يَقْدُمَ ، أَوْ قَالَ لِرَجُلٍ فِي دَارِهِ وَاَللَّهِ لَا تَخْرُجُ إلَّا بِإِذْنِي فَإِنَّهُ لَا يَتَكَرَّرُ الْيَمِينُ فِي هَذَا كُلِّهِ لِأَنَّ قُدُومَ فُلَانٍ لَا يَتَكَرَّرُ عَادَةً ، وَالْإِذْنُ فِي الْكَلَامِ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا يُوجَدُ مِنْ الْكَلَامِ بَعْدَ الْإِذْنِ ، وَكَذَا خُرُوجُ الرَّجُلِ مِمَّا لَا يَتَكَرَّرُ عَادَةً ، بِخِلَافِ الْإِذْنِ لِلزَّوْجَةِ فَإِنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا ذَلِكَ الْخُرُوجَ الْمَأْذُونَ فِيهِ عَادَةً لَا كُلَّ خُرُوجٍ ، إلَّا بِنَصٍّ صَرِيحٍ فِيهِ مِثْلُ أَذِنْت لَك أَنْ تَخْرُجِي كُلَّمَا أَرَدْت الْخُرُوجَ وَنَحْوِهِ ، فَكَانَ الِاقْتِصَارُ فِي هَذَا الْوُجُودِ الصَّارِفِ عَنْ التَّكْرَارِ ، لَا لِأَنَّ الْعُرْفَ فِي الْكُلِّ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ بَلْ مُؤَدَّى اللَّفْظِ مَا ذَكَرْنَا ، وَثُبُوتُ خِلَافِهِ لِلصَّارِفِ الْعُرْفِيِّ ، ثُمَّ ذَلِكَ الْمُؤَدَّى اللَّفْظِيُّ فِي مِثْلِ إنْ خَرَجْت إلَّا بِإِذْنِي ، وَإِلَّا أَنْ آذَنَ لَك لَمْ يَقَعْ الْعُرْفُ بِخِلَافِهِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ كَذَلِكَ .

( وَلَوْ أَرَادَتْ الْمَرْأَةُ الْخُرُوجَ فَقَالَ إنْ خَرَجْت فَأَنْتِ طَالِقٌ فَجَلَسَتْ ثُمَّ خَرَجَتْ لَمْ يَحْنَثْ ) وَكَذَلِكَ إذَا أَرَادَ رَجُلٌ ضَرْبَ عَبْدِهِ فَقَالَ لَهُ آخَرُ إنْ ضَرَبْته فَعَبْدِي حُرٌّ فَتَرَكَهُ ثُمَّ ضَرَبَهُ وَهَذِهِ تُسَمَّى يَمِينَ فَوْرٍ .
وَتَفَرَّدَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِإِظْهَارِهِ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ مُرَادَ الْمُتَكَلِّمِ الرَّدُّ عَنْ تِلْكَ الضَّرْبَةِ وَالْخُرْجَةِ عُرْفًا ، وَمَبْنَى الْأَيْمَانِ عَلَيْهِ .
( وَلَوْ قَالَ لَهُ رَجُلٌ اجْلِسْ فَتَغَدَّ عِنْدِي قَالَ إنْ تَغَدَّيْت فَعَبْدِي حُرٌّ فَخَرَجَ فَرَجَعَ إلَى مَنْزِلِهِ وَتَغَدَّى لَمْ يَحْنَثْ ) لِأَنَّ كَلَامَهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْجَوَابِ فَيَنْطَبِقُ عَلَى السُّؤَالِ فَيَنْصَرِفُ إلَى الْغَدَاءِ الْمَدْعُوِّ إلَيْهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ إنْ تَغَدَّيْت الْيَوْمَ لِأَنَّهُ زَادَ عَلَى حَرْفِ الْجَوَابِ فَيُجْعَلُ مُبْتَدَءًا .

( قَوْلُهُ وَلَوْ أَرَادَتْ الْمَرْأَةُ الْخُرُوجَ فَقَالَ إنْ خَرَجْت فَأَنْتِ طَالِقٌ فَجَلَسَتْ ثُمَّ خَرَجَتْ لَمْ يَحْنَثْ ، وَكَذَلِكَ إذَا أَرَادَ رَجُلٌ ضَرْبَ عَبْدِهِ فَقَالَ لَهُ آخَرُ إنْ ضَرَبْته فَعَبْدِي حُرٌّ فَتَرَكَهُ ثُمَّ ضَرَبَهُ ، وَهَذِهِ تُسَمَّى يَمِينُ الْفَوْرِ ، انْفَرَدَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِإِظْهَارِهَا ) وَكَانَتْ الْيَمِينُ فِي عُرْفِهِمْ قِسْمَيْنِ : مُؤَبَّدَةٌ وَهِيَ أَنْ يَحْلِفَ مُطْلَقًا وَمُؤَقَّتَةٌ وَهِيَ أَنْ يَحْلِفَ أَنْ لَا يَفْعَلَ كَذَا الْيَوْمَ أَوْ هَذَا الشَّهْرَ .
فَأَخْرَجَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَمِينَ الْفَوْرِ وَهِيَ يَمِينٌ مُؤَبَّدَةٌ لَفْظًا مُؤَقَّتَةٌ مَعْنًى تَتَقَيَّدُ بِالْحَالِ ، وَهِيَ مَا يَكُونُ جَوَابًا لِكَلَامٍ يَتَعَلَّقُ بِالْحَالِ مِثْلَ أَنْ يُقَالَ لِآخَرَ تَعَالَ تَغَدَّ عِنْدِي فَيَقُولَ إنْ تَغَدَّيْت فَعَبْدِي حُرٌّ فَيَتَقَيَّدُ بِالْحَالِ .
فَإِذَا تَغَدَّى فِي يَوْمِهِ فِي مَنْزِلِهِ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ حِينَ وَقَعَ جَوَابًا تَضَمَّنَ إعَادَةَ مَا فِي السُّؤَالِ وَالْمَسْئُولِ الْحَالِيِّ فَيَنْصَرِفُ الْحَلِفُ إلَى الْغَدَاءِ الْحَالِيِّ لِتَقَعَ الْمُطَابَقَةُ فَلَزِمَ الْحَالُ بِدَلَالَةِ الْحَالِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ إنْ تَغَدَّيْت الْيَوْمَ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ إذَا تَغَدَّى فِي مَنْزِلِهِ مِنْ يَوْمِهِ لِأَنَّهُ زَادَ عَلَى الْجَوَابِ فَيُعْتَبَرُ مُبْتَدِئًا لَا مُجِيبًا فَيُعْمَلُ بِظَاهِرِ لَفْظِهِ وَيُلْغَى ظَاهِرُ الْحَالِ ، وَإِلْغَاؤُهُ أَوْلَى مِنْ إلْغَاءِ لَفْظٍ صَرِيحٍ فِي مَعْنَاهُ أَوْ مَا يَكُونُ بِنَاءً عَلَى أَمْرٍ حَالِيٍّ ، كَامْرَأَةٍ تَهَيَّأَتْ لِلْخُرُوجِ فَحَلَفَ لَا تَخْرُجُ فَإِذَا جَلَسَتْ سَاعَةً ثُمَّ خَرَجَتْ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ قَصْدَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ الْخُرُوجِ الَّذِي تَهَيَّأَتْ لَهُ فَكَأَنَّهُ قَالَ إنْ خَرَجْت السَّاعَةَ ، وَمِنْهُ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَضْرِبَ عَبْدَهُ فَحَلَفَ عَلَيْهِ لَا يَضْرِبُهُ .
فَإِذَا تَرَكَهُ سَاعَةً بِحَيْثُ يَذْهَبُ فَوْرُ ذَلِكَ ثُمَّ ضَرَبَهُ لَا يَحْنَثُ لِذَلِكَ بِعَيْنِهِ .
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ يَحْنَثُ .
وَهُوَ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ

عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى كُلِّ غَدَاءٍ وَخُرُوجٍ وَضَرْبٍ .
فَاعْتُبِرَ الْإِطْلَاقُ اللَّفْظِيُّ وَهُوَ الْقِيَاسُ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا ذَكَرْنَا .
وَالْكَلَامُ فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْحَالِفِ نِيَّةٌ .

( وَمَنْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةَ فُلَانٍ فَرَكِبَ دَابَّةَ عَبْدٍ مَأْذُونٍ لَهُ مَدْيُونٍ أَوْ غَيْرِ مَدْيُونٍ لَمْ يَحْنَثْ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ لَا يَحْنَثُ وَإِنَّ نَوَى لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لِلْمَوْلَى فِيهِ عِنْدَهُ ، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ غَيْرَ مُسْتَغْرِقٍ أَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يَنْوِهِ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهِ لِلْمَوْلَى لَكِنَّهُ يُضَافُ إلَى الْعَبْدِ عُرْفًا ، وَكَذَا شَرْعًا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَهُوَ لِلْبَائِعِ } الْحَدِيثَ فَتَخْتَلُّ الْإِضَافَةُ إلَى الْمَوْلَى فَلَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا : يَحْنَثُ إذَا نَوَاهُ لِاخْتِلَالِ الْإِضَافَةِ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : يَحْنَثُ وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ لِاعْتِبَارِ حَقِيقَةِ الْمِلْكِ إذْ الدَّيْنُ لَا يَمْنَعُ وُقُوعَهُ لِلسَّيِّدِ عِنْدَهُمَا .

( قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةَ فُلَانٍ ) اعْلَمْ أَنَّهُ إذَا حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةَ فُلَانٍ انْعَقَدَ عَلَى حِمَارِهِ وَبَغْلَتِهِ وَفَرَسِهِ ، فَلَوْ رَكِبَ جَمَلَهُ أَوْ فِيلَهُ لَمْ يَحْنَثْ وَإِنْ كَانَ اسْمُ الدَّابَّةِ لِمَا يَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ ، لِأَنَّ الْعُرْفَ خَصَّصَهُ بِالْمَرْكُوبِ الْمُعْتَادِ وَالْمُعْتَادُ هُوَ رُكُوبُ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ فَيَتَقَيَّدُ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْجَمَلُ مِمَّا يُرْكَبُ أَيْضًا فِي الْأَسْفَارِ وَبَعْضِ الْأَوْقَاتِ فَلَا يَحْنَثُ بِالْجَمَلِ إلَّا إذَا نَوَاهُ ، وَكَذَا الْفِيلُ وَالْبَقَرُ إذَا نَوَاهُ حَنِثَ وَإِلَّا لَا .
وَيَنْبَغِي إنْ كَانَ الْحَالِفُ مِنْ الْبَدْوِ أَنْ يَنْعَقِدَ عَلَى الْجَمَلِ أَيْضًا بِلَا نِيَّةٍ لِأَنَّ رُكُوبَهَا مُعْتَادٌ لَهُمْ ، وَكَذَا إذَا كَانَ حَضَرِيًّا جَمَّالًا وَالْمَحْلُوفُ عَلَى دَابَّتِهِ جَمَّالٌ دَخَلَ فِي يَمِينِهِ بِلَا نِيَّةٍ .
وَإِذَا كَانَ مُقْتَضَى اللَّفْظِ انْعِقَادُهَا عَلَى الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ .
فَلَوْ نَوَى بَعْضَهَا دُونَ بَعْضٍ بِأَنْ نَوَى الْحِمَارَ دُونَ الْفَرَسِ مَثَلًا لَا يُصَدَّقُ دِيَانَةً وَلَا قَضَاءً ، لِأَنَّ نِيَّةَ الْخُصُوصِ لَا تَصِحُّ فِي غَيْرِ اللَّفْظِ ، وَسَيَأْتِي تَمَامُهُ فِي الْفَصْلِ الَّذِي بَعْدَهُ ، وَلَوْ حُمِلَ عَلَى دَابَّتِهِ مُكْرَهًا لَا يَحْنَثُ عَلَى وِزَانِ مَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ مَرْكَبًا وَلَا نِيَّةَ لَهُ حَنِثَ بِكُلِّ مَرْكَبٍ سَفِينَةٍ أَوْ مَحْمَلٍ أَوْ دَابَّةٍ وَلَوْ رَكِبَ دَابَّةَ عَبْدٍ مَأْذُونٍ لَهُ مَدْيُونٍ أَوْ غَيْرِ مَدْيُونٍ لَمْ يَحْنَثْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ دَابَّةَ عَبْدِهِ فَيَحْنَثُ بِهِ .
إلَّا إذَا كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ حِينَئِذٍ بِرُكُوبِهَا وَإِنْ نَوَى دَابَّةَ الْعَبْدِ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لِلْمَوْلَى فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَأَمَّا أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِرُكُوبِ دَابَّةِ الْعَبْدِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ كَانَ لَكِنَّهُ غَيْرُ مُسْتَغْرِقٍ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ فَلِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهِ

وَإِنْ كَانَ لِلْمَوْلَى لَكِنَّهُ عَرَضَتْ إضَافَتُهُ إلَى الْعَبْدِ عُرْفًا وَشَرْعًا .
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ ، وَإِنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ فَثَمَرَتُهُ لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعَ } أَخْرَجَهُ السِّتَّةُ كُلُّهُمْ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَاخْتَلَّتْ إضَافَةُ الْمَالِ إلَى الْمَوْلَى وَإِنْ كَانَ مِلْكًا لَهُ فَقَصْرُ الْإِطْلَاقِ عَنْ تَنَاوُلِهِ إلَّا بِالنِّيَّةِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا : وَهُوَ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ عَلَيْهِ مُسْتَغْرِقٌ أَوْ غَيْرُ مُسْتَغْرِقٍ يَحْنَثُ إذَا نَوَاهُ ، فَتَحَقَّقَ خِلَافُهُ لِأَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ وَنَوَاهُ فَإِنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَحْنَثُ لِعَدَمِ السَّيِّدِ لِمَا فِي يَدِهِ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هُوَ مَمْلُوكٌ لِلسَّيِّدِ وَإِنْ اسْتَغْرَقَ فَيَحْنَثُ بِنِيَّتِهِ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : يَحْنَثُ فِي الْوُجُوهِ الْخَمْسَةِ ، وَهِيَ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ أَوْ غَيْرُ مُسْتَغْرِقٍ نَوَى دَابَّةَ الْعَبْدِ أَوْ لَمْ يَنْوِ لِاعْتِبَارِهِ حَقِيقَةَ الْمِلْكِ فِي الدَّابَّةِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهَا : أَيْ انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ عَلَى كُلِّ دَابَّةٍ يَمْلِكُهَا الْمَحْلُوفُ عَلَى دَابَّتِهِ ، وَمَا فِي يَدِ الْمَأْذُونِ مِلْكُ السَّيِّدِ وَإِنْ كَانَ مَدْيُونًا مُسْتَغْرِقًا فَيَتَحَقَّقُ الْحِنْثُ بِرُكُوبِهَا ، وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَسْعَدُ بِالْعُرْفِ هُنَا ، فَإِنَّهُ يُقَالُ هَذِهِ دَابَّةُ عَبْدِ فُلَانٍ ، وَتِلْكَ دَابَّةُ سَيِّدِهِ فَيَنْصَرِفُ الْيَمِينُ إلَى مَا يُضِيفُهُ الْعُرْفُ إلَيْهِ لَا إلَى مَا يُضِيفُهُ الْمِلْكُ إلَيْهِ مَعَ إضَافَةِ الْعُرْفِ إيَّاهُ إلَى غَيْرِهِ ، وَأَقَلُّ مَا يَجِبُ إذَا صَارَتْ هَذِهِ الدَّابَّةُ تُضَافُ إلَى كُلٍّ مِنْهُمَا أَنْ لَا يَنْعَقِدَ

عَلَيْهَا إلَّا بِقَصْدِهَا ، لِأَنَّهُ إنْ نُظِرَ إلَى إضَافَتِهَا إلَيْهِ انْعَقَدَتْ عَلَيْهَا ، وَإِنْ نُظِرَ إلَى إضَافَتِهَا إلَى غَيْرِهِ لَمْ تَنْعَقِدْ عَلَيْهِ فَلَا يَنْعَقِدُ عَلَيْهَا إلَّا أَنْ يَنْوِيَهَا غَيْرَ أَنَّهُ يَقُولُ إذَا كَانَ دَيْنُهُ مُسْتَغْرِقًا انْقَطَعَتْ الْإِضَافَةُ إلَى السَّيِّدِ بِالْكُلِّيَّةِ لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ لِأَنَّ الْعُرْفَ مَا كَانَ يُضِيفُهُ إلَى السَّيِّدِ مَعَ إضَافَتِهِ إلَى الْعَبْدِ إلَّا بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ ، فَإِذَا انْتَفَى انْتَفَى .

( بَابُ الْيَمِينِ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ ) قَالَ ( وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ النَّخْلَةِ فَهُوَ عَلَى ثَمَرِهَا ) لِأَنَّهُ أَضَافَ الْيَمِينَ إلَى مَا لَا يُؤْكَلُ فَيَنْصَرِفُ إلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهُ وَهُوَ الثَّمَرُ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لَهُ فَيَصْلُحُ مَجَازًا عَنْهُ ، لَكِنَّ الشَّرْطَ أَنْ لَا يَتَغَيَّرَ بِصُنْعِهِ جَدِيدَةً حَتَّى لَا يَحْنَثَ بِالنَّبِيذِ وَالْخَلِّ وَالدِّبْسِ الْمَطْبُوخِ .

( بَابُ الْيَمِينِ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ ) أَعْقَبَهُ الْخُرُوجُ لِأَنَّ الْخُرُوجَ مِنْ الْمَنْزِلِ يُرَادُ لِتَحْصِيلِ مَا بِهِ بَقَاءُ الْبِنْيَةِ مِنْ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ إلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ } عَلَى مَا يُقَالُ .
وَالْأَكْلُ إيصَالُ مَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْمَضْغُ إلَى الْجَوْفِ وَإِنْ ابْتَلَعَهُ بِلَا مَضْغٍ .
وَالشُّرْبُ إيصَالُ مَا لَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْمَضْغُ كَالْمَاءِ وَاللَّبَنِ وَالنَّبِيذِ هَكَذَا فِي التَّجْرِيدِ .
وَذَكَرَ الزندوستي أَنَّ الْأَكْلَ عِبَارَةٌ عَنْ عَمَلِ الشِّفَاهِ وَالْحَلْقِ .
وَالذَّوْقَ عِبَارَةٌ عَنْ عَمَلِ الشِّفَاهِ دُونَ الْحَلْقِ .
وَالِابْتِلَاعَ عِبَارَةٌ عَنْ عَمَلِ الْحَلْقِ دُونَ الشِّفَاهِ .
وَالْمَصَّ عِبَارَةٌ عَنْ عَمَلِ اللَّهَاةِ .
فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ فِي فَمِهِ شَيْءٌ فَحَلَفَ لَا يَأْكُلُ فَابْتَلَعَهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْنَثَ .
وَفِي فَتَاوَى أَبِي اللَّيْثِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَحْنَثُ وَهُوَ الصَّوَابُ .
إذْ لَا شَكَّ فِي أَنَّهُ أَكَلَ إذَا كَانَ مِمَّا يُمْضَغُ عَلَى تَفْسِيرِهِ بِإِيصَالِ مَا بِحَيْثُ يُمْضَغُ إلَى الْجَوْفِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَهُ عَمَلُ الشِّفَاهِ إنَّمَا يُرَادُ حَرَكَتُهَا فَهُوَ فِي الْكُلِّ ، وَيَلْزَمُ أَنْ يَحْنَثَ بِبَلْعِ مَا كَانَ فِي فَمِهِ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ حَرَكَةِ شَفَتَيْهِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ مِنْ عَمَلِ الشِّفَاهِ هَشْمُهَا .
وَالْحَقُّ أَنَّ الذَّوْقَ عَمَلُ الْفَمِ لِمُجَرَّدِ مَعْرِفَةِ الطَّعْمِ وَصَلَ إلَى الْجَوْفِ أَوْ لَا .
قِيلَ فَكُلُّ أَكْلٍ ذَوْقٌ وَلَيْسَ كُلُّ ذَوْقٍ أَكْلًا فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا عُمُومٌ مُطْلَقٌ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْأَكْلَ إذَا كَانَ إيصَالَ مَا بِحَيْثُ يُهْشَمُ لَمْ يَكُنْ عَمَلُ الْفَمِ مُعْتَبَرًا فِي مَفْهُومِهِ .
وَإِنْ كَانَ قَدْ يَتَحَقَّقُ مَعَهُ فَقَدْ لَزِمَ أَنَّ بَيْنَهُمَا عُمُومًا مِنْ وَجْهٍ فَيَجْتَمِعَانِ فِي إيصَالِ مَا هُشِمَ فَإِنَّ الْهَشْمَ عَمَلُ الْفَمِ : أَعْنِي الْحَنَكَيْنِ ، وَيَنْفَرِدُ الذَّوْقُ فِيمَا لَمْ يُوصَلْ وَالْأَكْلُ فِيمَا اُبْتُلِعَ بِلَا مَضْغٍ مِمَّا

بِحَيْثُ يُمْضَغُ وَلَا يُعْرَفُ طَعْمُهُ إلَّا بِالْمَضْغِ كَقَلْبِ اللَّوْزِ وَالْجَوْزِ ، لَكِنَّ فِي الْمُحِيطِ : حَلَفَ لَا يَذُوقُ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ يَحْنَثُ ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ أَوْ لَا يَشْرَبُ لَا يَحْنَثُ بِالذَّوْقِ .
وَمَا رَوَى هِشَامٌ : حَلَفَ لَا يَذُوقُ فَيَمِينُهُ عَلَى الذَّوْقِ حَقِيقَةً وَهُوَ أَنْ لَا يَصِلَ إلَى جَوْفِهِ إلَّا أَنْ يَتَقَدَّمَهُ كَلَامٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ تَعَالَى تَغَدَّ مَعِي فَحَلَفَ لَا يَذُوقُ مَعَهُ طَعَامًا وَشَرَابًا ، فَهَذَا عَلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَدَمَ الْوُصُولِ إلَى الْجَوْفِ مَفْهُومٌ مِنْ مَفْهُومِ الذَّوْقِ ، فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْنَثَ بِالْأَكْلِ فِي الْحَلِفِ عَلَى الذَّوْقِ ، وَاَلَّذِي يَغْلِبُ ظَنُّهُ أَنَّ مَسْأَلَةَ الْمُحِيطِ يُرَادُ بِهَا الْأَكْلُ الْمُقْتَرِنُ بِالْمَضْغِ أَوْ الْبَلْعِ لِمَا لَا يَتَوَقَّفُ مَعْرِفَةُ طَعْمِهِ عَلَى الْمَضْغِ ، لِأَنَّا نَقْطَعُ بِأَنَّ ابْتِلَاعَ قَلْبِ لَوْزَةٍ لَا يُقَالُ فِيهِ ذَاقَ اللَّوْزَ وَلَا يَحْنَثُ بِبَلْعِهَا ، وَإِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ شَيْئًا مِمَّا لَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْمَضْغُ فَخَلَطَهُ بِغَيْرِهِ مِمَّا يُؤْكَلُ فَأَكَلَهُ مَعَهُ حَنِثَ ، وَلَوْ عَنَى بِالذَّوْقِ الْأَكْلَ لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ .
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ عِنَبًا أَوْ رُمَّانًا فَجَعَلَ يَمْتَصُّهُ وَيَرْمِي ثُفْلَهُ وَيَبْتَلِعُ الْمُتَحَصِّلَ بِالْمَصِّ لَا يَحْنَثُ ، لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ أَكْلًا وَلَا شُرْبًا بَلْ مَصٌّ .
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَبَنًا فَشَرِبَهُ لَا يَحْنَثُ .
وَلَوْ ثَرَدَ فِيهِ فَأَوْصَلَهُ إلَى جَوْفِهِ حَنِثَ ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ لَبَنًا فَثَرَدَ فِيهِ فَأَكَلَهُ لَا يَحْنَثُ ، وَلَوْ شَرِبَهُ حَنِثَ .
قِيلَ هَذَا إذَا حَلَفَ بِالْعَرَبِيَّةِ ، أَمَّا إذَا حَلَفَ بِالْفَارِسِيَّةِ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ مُطْلَقًا وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ كُلًّا مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ يُسَمَّى خردن ، فَإِذَا قَالَ نمى خرم بِلَا نِيَّةٍ صُدِّقَ عَلَيْهِمَا فَيَحْنَثُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا وَهَذَا حَقٌّ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذَا الرَّغِيفَ فَجَفَّفَهُ

وَدَقَّهُ ثُمَّ مَرَسَهُ بِالْمَاءِ فَشَرِبَهُ لَا يَحْنَثُ ، وَلَوْ أَكَلَهُ مَبْلُولًا حَنِثَ ، وَالسَّوِيقُ إذَا شَرِبَهُ بِالْمَاءِ يَكُونُ شُرْبًا لَا أَكْلًا .
فَإِنْ بَلَّهُ بِالْمَاءِ فَأَكَلَهُ حَنِثَ ( قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ النَّخْلَةِ فَهُوَ عَلَى ثَمَرِهَا ) بِالْمُثَلَّثَةِ : أَيْ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا لِأَنَّهُ أَضَافَ الْيَمِينَ إلَى مَا لَا يُؤْكَلُ ، وَمِثْلُهُ لَا يَحْلِفُ عَلَى عَدَمِ أَكْلِهِ لِأَنَّهُ مُمْتَنِعُ الْأَكْلِ قَبْلَ الْيَمِينِ فَيَلْغُو الْحَلِفُ فَوَجَبَ لِتَصْحِيحِ كَلَامِ الْعَاقِلِ صَرْفُهَا إلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا تَجَوُّزًا بِاسْمِ السَّبَبِ وَهُوَ النَّخْلَةُ فِي الْمُسَبَّبِ وَهُوَ الْخَارِجُ لِأَنَّهَا سَبَبٌ فِيهِ لَكِنْ بِلَا تَغَيُّرٍ بِصُنْعٍ جَدِيدٍ ، فَلَا يَحْنَثُ بِالنَّبِيذِ وَالْخَلِّ وَالنَّاطِفِ وَالدِّبْسِ الْمَطْبُوخِ .
وَاحْتُرِزَ بِهِ عَنْ غَيْرِ الْمَطْبُوخِ وَهُوَ مَا يَسِيلُ بِنَفْسِهِ مِنْ الرُّطَبِ وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى فِي عُرْفِنَا صَقْرُ الرُّطَبِ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ بِالرُّطَبِ وَالتَّمْرِ وَالْبُسْرِ وَالرَّامِخِ وَالْجُمَّارِ وَالطَّلْعِ وَهَذَا لِأَنَّ مَا تَوَقَّفَ عَلَى الصَّنْعَةِ لَيْسَ مِمَّا خَرَجَ مُطْلَقًا وَلِذَا عَطَفَ عَلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى { لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ } وَقِيلَ لِأَنَّ مَا تَحَصَّلَ بِالصَّنْعَةِ لَيْسَ مِمَّا خَرَجَ ابْتِدَاءً مِنْ النَّخْلَةِ ، وَمِنْ ابْتِدَاءِ الْغَايَةِ ، وَكُلُّ مَا يَخْرُجُ عَلَى وَجْهِ الِابْتِدَاءِ انْعَقَدَ عَلَيْهِ يَمِينُهُ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ " مِنْ " الْمَذْكُورَةَ فِي كَلَامِهِ دَاخِلَةٌ عَلَى النَّخْلَةِ تَبْعِيضِيَّةٌ لَا ابْتِدَائِيَّةٌ ، نَعَمْ مِنْ الْمَذْكُورَةِ فِي التَّأْوِيلِ : أَعْنِي قَوْلَهُ لَا آكُلُ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْ النَّخْلَةِ ابْتِدَائِيَّةٌ وَهُوَ غَيْرُ مَذْكُورٍ وَكَأَنَّهُ اُعْتُبِرَ كَالْمَذْكُورِ ؛ وَمِثْلُهُ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الْكَرْمِ فَهُوَ عَلَى عِنَبِهِ وَحِصْرِمِهِ وَزَبِيبِهِ وَعَصِيرِهِ .
وَفِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ دِبْسِهِ وَالْمُرَادُ عَصِيرُهُ فَإِنَّهُ مَاءُ الْعِنَبِ وَهُوَ مَا يَخْرُجُ بِلَا صُنْعٍ عِنْدَ انْتِهَاءِ

نُضْجِ الْعِنَبِ ، وَلِأَنَّهُ كَانَ كَامِنًا بَيْنَ الْقِشْرِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الْعِنَبِ لَا يَحْنَثُ بِزَبِيبِهِ وَعَصِيرِهِ لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ لَيْسَتْ مَهْجُورَةً فَيَتَعَلَّقُ الْحَلِفُ بِمُسَمَّى الْعِنَبِ ، ثُمَّ انْصِرَافُ الْيَمِينِ إلَى مَا يَخْرُجُ فِي الْحَلِفِ لَا يَأْكُلُ مِنْ الشَّجَرَةِ فِيمَا إذَا كَانَ لَهَا ثَمَرَةٌ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا ثَمَرَةٌ انْعَقَدَتْ عَلَى ثَمَنِهَا فَيَحْنَثُ بِهِ : أَيْ إذَا اشْتَرَى بِهِ مَأْكُولًا .
[ فَرْعٌ ] حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ فَقَطَعَ غُصْنًا مِنْهَا وَوَصَلَهُ بِشَجَرَةٍ أُخْرَى فَأَكَلَ مِنْ ثَمَرَةِ تِلْكَ الشَّجَرَةِ مِنْ هَذَا الْغُصْنِ لَا يَحْنَثُ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَحْنَثُ .

( وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الْبُسْرِ فَصَارَ رُطَبًا فَأَكَلَهُ لَمْ يَحْنَثْ .
وَكَذَا إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الرُّطَبِ أَوْ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ فَصَارَ تَمْرًا أَوْ صَارَ اللَّبَنُ شِيرَازًا لَمْ يَحْنَثْ ) لِأَنَّ صِفَةَ الْبُسُورَةِ وَالرُّطُوبَةِ دَاعِيَةٌ إلَى الْيَمِينِ ، وَكَذَا كَوْنُهُ لَبَنًا فَيَتَقَيَّدُ بِهِ ، وَلِأَنَّ اللَّبَنَ مَأْكُولٌ فَلَا يَنْصَرِفُ الْيَمِينُ إلَى مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ هَذَا الصَّبِيَّ أَوْ هَذَا الشَّابَّ فَكَلَّمَهُ بَعْدَ مَا شَاخَ لِأَنَّ هِجْرَانَ الْمُسْلِمِ بِمَنْعِ الْكَلَامِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَلَمْ يُعْتَبَرْ الدَّاعِي دَاعِيًا فِي الشَّرْعِ .

( قَوْلُهُ وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الْبُسْرِ فَصَارَ رُطَبًا فَأَكَلَهُ لَمْ يَحْنَثْ .
وَكَذَا إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الرُّطَبِ فَصَارَ تَمْرًا أَوْ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ فَصَارَ شِيرَازًا ) أَيْ رَائِيًا وَهُوَ الْخَاثِرُ إذَا اُسْتُخْرِجَ مَاءَهُ فَأَكَلَهُ ( لَا يَحْنَثُ ) لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ بِصِفَةٍ دَاعِيَةٍ إلَى الْيَمِينِ تَقَيَّدَ بِهِ فِي الْمُعَرَّفِ وَالْمُنَكَّرِ .
فَإِذَا زَالَتْ زَالَ الْيَمِينُ عَنْهُ ، وَمَا لَا تَصْلُحُ دَاعِيَةً اُعْتُبِرَ فِي الْمُنَكَّرِ دُونَ الْمُعَرَّفِ ؛ وَصِفَةُ الْبُسُورَةِ وَالرُّطُوبَةِ مِمَّا قَدْ تَدْعُو إلَى الْيَمِينِ بِحَسَبِ الْأَمْزِجَةِ ، وَكَذَا صِفَةُ اللَّبَنِيَّةِ فَإِذَا زَالَتْ مَا عَقَدَ عَلَيْهِ الْيَمِينَ فَأَكَلَهُ أَكَلَ مَا لَمْ تَنْعَقِدْ عَلَيْهِ ، وَيُخَصُّ اللَّبَنُ وَجْهُ ذِكْرِهِ بِقَوْلِهِ وَلِأَنَّ اللَّبَنَ مَأْكُولٌ فَلَا يَنْعَقِدُ إلَّا عَلَى عَيْنِهِ لَا عَلَى مَا يَصِيرُ إلَيْهِ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ غَيْرُ مَهْجُورَةٍ فَلَا يَحْنَثُ بِشِيرَازِهِ وَلَا بِسَمْنِهِ وَزُبْدِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ هَذَا الصَّبِيَّ أَوْ هَذَا الشَّابَّ فَكَلَّمَهُ بَعْدَمَا شَاخَ لِأَنَّ هِجْرَانَ الْمُسْلِمِ بِمَنْعِ الْكَلَامِ مَعَهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَلَمْ يُعْتَبَرْ مَا يُخَالُ دَاعِيًا إلَى الْيَمِينِ مِنْ جَهْلِهِ وَسُوءِ أَدَبِهِ إذَا كَانَ الشَّارِعُ مَنَعَنَا مِنْ هِجْرَانِ الْمُسْلِمِ مُطْلَقًا مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ الدَّاعِيَ قَدْ يَكُونُ كَذَا وَكَذَا فَوَجَبَ الِاتِّبَاعُ ، وَنُظِرَ فِيهِ بِأَنَّ الْهِجْرَانَ قَدْ يَجُوزُ أَوْ يَجِبُ إذَا كَانَ لِلَّهِ بِأَنْ كَانَ يَتَكَلَّمُ بِمَا هُوَ مَعْصِيَةٌ أَوْ يُخْشَى فِتْنَةٌ أَوْ فَسَادٌ عَرَضَهُ بِكَلَامِهِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الشَّارِعَ مَنَعَ الْهِجْرَانَ مُطْلَقًا فَحَيْثُ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ لَا يُحْكَمُ إلَّا أَنَّهُ وُجِدَ الْمُسَوِّغَ ، وَإِذَا وُجِدَ اُعْتُبِرَ الدَّاعِيَ فَتَقَيَّدَ بِصِبَاهُ وَشَبِيبَتِهِ وَنَذْكُرُ مَا فِيهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي تَلِيهَا .

( وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمَ هَذَا الْحَمَلِ فَأَكَلَ بَعْدَمَا صَارَ كَبْشًا حَنِثَ ) لِأَنَّ صِفَةَ الصِّغَرِ فِي هَذَا لَيْسَتْ بِدَاعِيَةٍ إلَى الْيَمِينِ فَإِنَّ الْمُمْتَنِعَ عَنْهُ أَكْثَرُ امْتِنَاعًا عَنْ لَحْمِ الْكَبْشِ .

( قَوْلُهُ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ لَحْمِ هَذَا الْحَمَلِ فَأَكَلَ مِنْهُ بَعْدَمَا صَارَ كَبْشًا حَنِثَ لِأَنَّ صِفَةَ الصِّغَرِ فِي هَذَا لَيْسَتْ دَاعِيَةً إلَى الْيَمِينِ ) فَلَا تَقْيِيدَ بِهِ فَانْعَقَدَتْ عَلَى ذَاتِهِ فَيَحْنَثُ بِهِ كَبْشًا لِوُجُودِ ذَاتِهِ فِيهِ ، وَإِنَّمَا قُلْنَا لَيْسَتْ دَاعِيَةً لِأَنَّ الصِّغَرَ دَاعٍ إلَى الْأَكْلِ لَا إلَى عَدَمِهِ ، فَالْمُمْتَنِعُ عَنْهُ مَعَ صُلُوحِهِ أَشَدُّ امْتِنَاعًا عَنْهُ كَبْشًا ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ لِأَنَّ الْحَمَلَ لَيْسَ مَحْمُودًا فِي الضَّأْنِ لِكَثْرَةِ رُطُوبَاتِهِ زِيَادَةً حَتَّى قِيلَ فِيهِ النَّحِسُ بَيْنَ الْجَيِّدَيْنِ بِخِلَافَةِ كَبْشًا فَإِنَّ لَحْمَهُ حِينَئِذٍ أَكْثَرُ قُوَّةً وَتَقْوِيَةً لِلْبَدَنِ لِقِلَّةِ رُطُوبَاتِهِ فَصَارَ كَالْحَلِفِ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الرُّطَبِ فَأَكَلَهُ تَمْرًا لَا يَحْنَثُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ إيرَادَ مِثْلِ هَذَا وَمَا قَبْلَهُ فِي مَسْأَلَةِ لَا أُكَلِّمُ هَذَا الصَّبِيَّ ذُهُولٌ عَنْ وَضْعِ هَذِهِ الْمَسَائِلَ وَنِسْيَانٌ أَنَّهَا بُنِيَتْ عَلَى الْعُرْفِ فَيُصْرَفُ اللَّفْظُ إلَى الْمُعْتَادَةِ فِي الْعَمَلِ وَالْعُرْفِ فِي الْقَوْلِ ، وَأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَوْ أَرَادَ مَعْنًى تَصِحُّ إرَادَتُهُ مِنْ اللَّفْظِ لَا يُمْنَعُ مِنْهُ .
فَفِي مَسْأَلَةِ الْحَمَلِ الْعُمُومُ يُفَضِّلُونَهُ وَهُوَ عِنْدَهُمْ غِذَاءٌ فِي غَايَةِ الصَّلَاحِ وَمَا يُدْرِكُ نَحِسَهُ إلَّا أَفْرَادٌ عَرَفُوا شَيْئًا مِنْ الطِّبِّ فَوَجَبَ بِحُكْمِ الْعُرْفِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ أَنْ يُصْرَفَ الْيَمِينُ إلَى ذَاتِ الْحَمَلِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ صَالِحًا فِي الْغَايَةِ عِنْدَ الْعُمُومِ لَا يُحْكَمُ عَلَى الْفَرْدِ مِنْ الْعُمُومِ أَنَّهُ عَلَى خِلَافِهِمْ فَيَنْصَرِفُ حَلِفُهُ إلَيْهِمْ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا تُعْتَبَرَ الْحَمَلِيَّةُ قَيْدًا ، وَكَذَا الصَّبِيُّ لَمَّا كَانَ مَوْضِعَ الشَّفَقَةِ وَالرَّحْمَةِ عِنْدَ الْعُمُومِ ، وَفِي الشَّرْعِ لَمْ يُجْعَلْ الصِّبَا دَاعِيَةً إلَى الْيَمِينِ فِي حَقِّ الْعُمُومِ فَيَنْصَرِفُ إلَى ذَاتِهِ ، وَهَذَا لَا يَنْفِي كَوْنَ حَالِفٍ مِنْ النَّاسِ عَرَفَ عَدَمَ طِيبِ الْحَمَلِ وَسُوءَ أَدَبِ صَبِيٍّ عَلِمَ أَنَّهُ

لَا يَرْدَعُهُ إلَّا تَرْكُ الْكَلَامِ مَعَهُ ، أَوْ عَلِمَ أَنَّ الْكَلَامَ مَعَهُ يَضُرُّهُ فِي عِرْضِهِ أَوْ دِينِهِ فَعَقَدَ يَمِينَهُ فِي الْأَوَّلِ عَلَى مُدَّةِ كَوْنِهِ حَمَلًا ، وَفِي الثَّانِي عَلَى مُدَّةِ صِبَاهُ .
فَإِنَّا نَقُولُ : لَوْ أَرَادَ حَالِفٌ تَقْيِيدَهُ بِالْحَمَلِيَّةِ وَالصِّبَا لَمْ نَمْنَعْهُ وَصَرَفْنَا يَمِينَهُ حَيْثُ صَرَفَهَا ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ إذَا لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَإِنَّمَا يُسْلَكُ بِهِ مَا عَلَيْهِ الْعُمُومُ أَخْطَئُوا فِيهِ أَوْ أَصَابُوا فَلْيَكُنْ هَذَا مِنْك بِبَالٍ فَإِنَّك تَدْفَعُ بِهِ كَثِيرًا مِنْ أَمْثَالِ هَذَا الْغَلَطِ الْمُورَدِ عَلَى الْأَئِمَّةِ .

قَالَ ( وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ بُسْرًا فَأَكَلَ رُطَبًا لَمْ يَحْنَثْ ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِبُسْرٍ .
( قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ بُسْرًا فَأَكَلَ رُطَبًا لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِبُسْرٍ ) وَالْيَمِينُ انْعَقَدَتْ عَلَى خُصُوصِ صِفَةِ الْبُسْرِيَّةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهَا دَاعِيَةٌ لِلْيَمِينِ .

( وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رُطَبًا أَوْ بُسْرًا أَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رُطَبًا وَلَا بُسْرًا فَأَكَلَ مُذَنِّبًا حَنِثَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا لَا يَحْنَثُ فِي الرُّطَبِ ) يَعْنِي بِالْبُسْرِ الْمُذَنِّبِ وَلَا فِي الْبُسْرِ بِالرُّطَبِ الْمُذَنِّبِ لِأَنَّ الرُّطَبَ الْمُذَنِّبَ يُسَمَّى رُطَبًا وَالْبُسْرَ الْمُذَنِّبَ يُسَمَّى بُسْرًا فَصَارَ كَمَا إذَا كَانَ الْيَمِينُ عَلَى الشِّرَاءِ .
وَلَهُ أَنَّ الرُّطَبَ الْمُذَنِّبَ مَا يَكُونُ فِي ذَنَبِهِ قَلِيلُ بُسْرٍ ، وَالْبُسْرَ الْمُذَنِّبَ عَلَى عَكْسِهِ فَيَكُونُ آكِلُهُ آكِلَ الْبُسْرِ وَالرُّطَبِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مَقْصُودٌ فِي الْأَكْلِ بِخِلَافِ الشِّرَاءِ لِأَنَّهُ يُصَادِفُ الْجُمْلَةَ فَيَتْبَعُ الْقَلِيلُ فِيهِ الْكَثِيرَ .
( وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي رُطَبًا فَاشْتَرَى كِبَاسَةَ بُسْرٍ فِيهَا رُطَبٌ لَا يَحْنَثُ ) لِأَنَّ الشِّرَاءَ يُصَادِفُ الْجُمْلَةَ وَالْمَغْلُوبَ تَابِعٌ ( وَلَوْ كَانَتْ الْيَمِينُ عَلَى الْأَكْلِ يَحْنَثُ ) لِأَنَّ الْأَكْلَ يُصَادِفُهُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَكَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مَقْصُودًا وَصَارَ كَمَا إذَا حَلَفَ لَا يَشْتَرِي شَعِيرًا أَوْ لَا يَأْكُلُهُ فَاشْتَرَى حِنْطَةً فِيهَا حَبَّاتُ شَعِيرٍ وَأَكَلَهَا يَحْنَثُ فِي الْأَكْلِ دُونَ الشِّرَاءِ لِمَا قُلْنَا .

( قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ بُسْرًا أَوْ رُطَبًا أَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ بُسْرًا وَلَا رُطَبًا فَأَكَلَ بُسْرًا مُذَنِّبًا ) بِكَسْرِ النُّونِ : وَهُوَ مَا بَدَا الْإِرْطَابُ مِنْ ذَنَبِهِ ( حَنِثَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا لَا يَحْنَثُ ) هَكَذَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ الْخِلَافَ ، وَأَكْثَرُ كُتُبِ الْفِقْهِ الْمُعْتَبَرَةِ مِثْلِ الْمَبْسُوطِ وَشُرُوحِهِ وَكَافِي الْحَاكِمِ وَشَرْحِ الطَّحَاوِيِّ للإسبيجابي وَشُرُوحِ الْجَامِعَيْنِ وَالْإِيضَاحِ وَالْأَسْرَارِ وَالْمَنْظُومَةِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يَغْلِبُ ظَنُّ خَطَأِ خِلَافِهِ ذُكِرَ فِيهَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَصُوَرُ الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعٌ : وَهُمَا مَا إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رُطَبًا فَأَكَلَ رُطَبًا مُذَنِّبًا ، وَمَا إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ بُسْرًا فَأَكَلَ بُسْرًا مُذَنِّبًا فَإِنَّهُ يَحْنَثُ فِي هَاتَيْنِ اتِّفَاقًا .
وَخِلَافِيَّتَانِ : وَهُمَا مَا إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رُطَبًا فَأَكَلَ بُسْرًا مُذَنِّبًا .
وَأَمَّا إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ بُسْرًا فَأَكَلَ رُطَبًا مُذَنِّبًا فَإِنَّهُ يَحْنَثُ فِي هَاتَيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ .
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْبُسْرَ الْمُذَنِّبَ لَا يُسَمَّى رُطَبًا لِأَنَّ الرُّطَبَ فِيهِ مَقْلُوبٌ وَأَنَّ الرُّطَبَ الَّذِي فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْبُسْرِيَّةِ لَا يُسَمَّى بُسْرًا فَلَمْ يَفْعَلْ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ فَلَا يَحْنَثُ .
وَكَذَا لَا يَحْنَثُ فِي شِرَائِهِمَا بِحَلِفِهِ لَا يَشْتَرِي بُسْرًا أَوْ رُطَبًا .
وَوَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ أَكْلَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ هُوَ أَكْلُ رُطَبٍ وَبُسْرٍ فَيَحْنَثُ بِهِ لَا بِالْكُلِّ وَهَذَا لِأَنَّ أَكْلَ كُلِّ جُزْءٍ مَقْصُودٌ لِأَنَّهُ يَمْضَغُ وَيَبْلَغُ بِمَضْغٍ وَابْتِلَاعٍ يَخُصُّهُ فَلَا يَتْبَعُ الْقَلِيلُ مِنْهُ الْكَثِيرَ ، بِخِلَافِ الشِّرَاءِ فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِجُمْلَةٍ لِلْمُشْتَرِي مِنْهُمَا فَيَكُونُ الْقَلِيلُ فِيهِ تَبَعًا لِلْكَثِيرِ .
وَكَذَا لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَشْتَرِيَ رُطَبًا فَاشْتَرَى كِبَاسَةَ بُسْرٍ فِيهَا رُطَبٌ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الشِّرَاءَ صَادَفَ الْمَجْمُوعَ فَكَانَ الرُّطَبُ

تَابِعًا ، وَكَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ شَعِيرًا فَأَكَلَ حِنْطَةً فِيهَا شَعِيرٌ حَبَّةً حَبَّةً حَنِثَ ، وَإِنْ حَلَفَ عَلَى الشِّرَاءِ لَمْ يَحْنَثْ ذَكَرَهُ الشَّهِيدُ فِي كَافِيهِ .
وَقَدْ يُقَالُ أَوَّلًا التَّعْلِيلُ لِلْمَذْكُورِ يَقْتَصِرُ عَلَى مَا فَصَلَهُ فَأَكَلَهُ وَحْدَهُ .
أَمَّا لَوْ أَكَلَ ذَلِكَ الْمَحَلَّ مَخْلُوطًا بِبَعْضِ الْبُسْرِ تَحَقَّقَتْ التَّبَعِيَّةُ فِي الْأَكْلِ ، وَثَانِيًا هُوَ بِنَاءً عَلَى انْعِقَادِ الْيَمِينِ عَلَى الْحَقِيقَةِ لَا الْعُرْفِ وَإِلَّا فَالرُّطَبُ الَّذِي فِيهِ بُقْعَةُ بُسْرٍ لَا يُقَالُ لِآكِلِهِ آكِلُ بُسْرٍ فِي الْعُرْفِ فَكَانَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَقْعَدَ بِالْمَبْنَى ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا فَأَكَلَ لَحْمَ السَّمَكِ لَا يَحْنَثُ ) وَالْقِيَاسُ أَنْ يَحْنَثَ لِأَنَّهُ يُسَمَّى لَحْمًا فِي الْقُرْآنِ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ التَّسْمِيَةَ مَجَازِيَّةٌ لِأَنَّ اللَّحْمَ مُنْشَؤُهُ مِنْ الدَّمِ وَلَا دَمَ فِيهِ لِسُكُونِهِ فِي الْمَاءِ ( وَإِنْ أَكَلَ لَحْمَ خِنْزِيرٍ أَوْ لَحْمَ إنْسَانٍ يَحْنَثُ ) لِأَنَّهُ لَحْمٌ حَقِيقِيٌّ إلَّا أَنَّهُ حَرَامٌ .
وَالْيَمِينُ قَدْ تُعْقَدُ لِلْمَنْعِ مِنْ الْحَرَامِ ( وَكَذَا إذَا أَكَلَ كَبِدًا أَوْ كَرِشًا ) لِأَنَّهُ لَحْمٌ حَقِيقَةً فَإِنَّ نُمُوَّهُ مِنْ الدَّمِ وَيُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ اللَّحْمِ .
وَقِيلَ فِي عُرْفِنَا لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ لَحْمًا .

( قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا إلَخْ ) تَنْعَقِدُ هَذِهِ الْيَمِينُ عَلَى لَحْمِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْجَامُوسِ وَالْغَنَمِ وَالطُّيُورِ مَطْبُوخًا وَمَشْوِيًّا ، وَفِي حِنْثِهِ بِالنِّيءِ خِلَافٌ الْأَظْهَرُ لَا يَحْنَثُ ، وَعِنْدَ الْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ يَحْنَثُ ، فَلَوْ أَكَلَ لَحْمَ السَّمَكِ لَا يَحْنَثُ ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَحْنَثَ وَهُوَ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ سُمِّيَ لَحْمًا فِي الْقُرْآنِ ، قَالَ تَعَالَى { لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا } أَيْ مِنْ الْبَحْرِ وَهُوَ السَّمَكُ ، وَبِهِ اسْتَدَلَّ سُفْيَانُ لِمَنْ اسْتَفْتَاهُ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا فَأَكَلَ سَمَكًا فَرَجَعَ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ ارْجِعْ فَاسْأَلْهُ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَجْلِسُ عَلَى بِسَاطٍ فَجَلَسَ عَلَى الْأَرْضِ ، فَسَأَلَهُ فَقَالَ لَا يَحْنَثُ ، فَقَالَ أَلَيْسَ أَنَّهُ قَالَ تَعَالَى { وَاَللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْضَ بِسَاطًا } فَقَالَ لَهُ سُفْيَانُ : كَأَنَّك السَّائِلُ الَّذِي سَأَلْتنِي أَمْسِ ؟ فَقَالَ نَعَمْ ، فَقَالَ سُفْيَانُ : لَا يَحْنَثُ فِي هَذَا وَلَا فِي الْأَوَّلِ ، فَرَجَعَ عَنْ ذَلِكَ الْقَوْلِ .
وَظَهَرَ أَنَّ تَمَسُّكَ أَبِي حَنِيفَةَ إنَّمَا هُوَ بِالْعُرْفِ لَا بِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ التَّسْمِيَةَ الَّتِي وَقَعَتْ فِي الْقُرْآنِ مَجَازِيَّةٌ لَا حَقِيقِيَّةٌ لِأَنَّ اللَّحْمَ مُنْشَؤُهُ مِنْ الدَّمِ وَلَا دَمَ فِي السَّمَكِ لِسُكُونِهِ الْمَاءَ ، وَلِذَا حَلَّ بِلَا ذَكَاةٍ .
فَإِنَّهُ يُنْقَضُ بِالْأَلْيَةِ فَإِنَّهَا تَنْعَقِدُ مِنْ الدَّمِ ، وَلَا يَحْنَثُ بِأَكْلِهَا لِمَكَانِ الْعُرْفِ وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُسَمَّى لَحْمًا وَلَا تَذْهَبُ أَوْهَامُ أَهْلِ الْعُرْفِ إلَيْهِ عِنْدَ إطْلَاقِ اسْمِ اللَّحْمِ ، وَلِذَا لَوْ قَالَ اشْتَرِ لَحْمًا فَاشْتَرَى سَمَكًا عُدَّ مُخَالِفًا ، وَأَيْضًا يَمْنَعُ أَنَّ اسْمَ اللَّحْمِ بِاعْتِبَارِ الِانْعِقَادِ مِنْ الدَّمِ بَلْ بِاعْتِبَارِ الِالْتِحَامِ وَالْأَيْمَانُ لَا تُبْنَى عَلَى الِاسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِيِّ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةً فَرَكِبَ كَافِرًا أَوْ لَا

يَجْلِسُ عَلَى وَتَدٍ فَجَلَسَ عَلَى جَبَلٍ لَا يَحْنَثُ مَعَ تَسْمِيَتِهَا فِي الْقُرْآنِ دَابَّةً وَأَوْتَادًا ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا لَمْ يَنْوِ ، أَمَّا إذَا نَوَاهُ فَأَكَلَ سَمَكًا طَرِيًّا أَوْ مَالِحًا حَنِثَ .
[ فَرْعٌ ] لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا فَأَكَلَ مِنْ مَرَقِهِ لَا يَحْنَثُ إلَّا إذَا كَانَ نَوَاهُ ( قَوْلُهُ وَإِنْ أَكَلَ لَحْمَ خِنْزِيرٍ أَوْ لَحْمَ إنْسَانٍ يَحْنَثُ ) لِأَنَّهُ لَحْمٌ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّهُ حَرَامٌ وَالْيَمِينُ تَنْعَقِدُ عَلَى الْحَرَامِ مَنْعًا وَحَمْلًا وَإِنْ وَجَبَ فِي الْحَمْلِ أَنْ يَحْنَثَ ، بِخِلَافِ النَّذْرِ لِلنَّصِّ { لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى } وَلَمَّا كَانَ يَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْأَيْمَانَ تُبْنَى عَلَى الْعُرْفِ وَلَا تَذْهَبُ الْأَوْهَامُ فِي أَكْلِ اللَّحْمِ إلَى أَكْلِ لَحْمِ الْآدَمِيِّ وَالْخِنْزِيرِ وَإِنْ سُمِّيَ فِي الْعُرْفِ لَحْمُ الْآدَمِيِّ لَحْمًا وَكَذَا لَحْمُ الْخِنْزِيرِ ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْعُرْفُ فِي قَوْلِنَا أَكَلَ فُلَانٌ لَحْمًا كَمَا فَعَلْنَا فِي لَا يَرْكَبُ دَابَّةَ فُلَانٍ اُعْتُبِرَ الْعُرْفُ فِي رَكِبَ فَإِنَّ الْمُتَبَادِرَ مِنْهُ رُكُوبُ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ فَتَقَيَّدَ الرُّكُوبُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ بِهِ .
ثُمَّ نَقَلَ الْعَتَّابِيُّ خِلَافَهُ فَقَالَ : قِيلَ الْحَالِفُ إذَا كَانَ مُسْلِمًا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْنَثَ لِأَنَّ أَكْلَهُ لَيْسَ بِمُتَعَارَفٍ ، وَمَبْنَى الْأَيْمَانِ عَلَى الْعُرْفِ قَالَ وَهُوَ الصَّحِيحُ .
وَفِي الْكَافِي عَلَيْهِ الْفَتْوَى .
وَمَا قِيلَ الْعُرْفُ الْعَمَلِيُّ لَا يُقَيِّدُ اللَّفْظَ غَيْرُ صَحِيحٍ ، وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ فِي نِكَاحِ الْفُضُولِيِّ رَدَّا عَلَى الْمُصَنِّفِ هُنَاكَ .
وَأَوْرَدَ أَنَّ الْكَفَّارَةَ فِيهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ فَكَيْفَ تَجِبُ بِفِعْلٍ هُوَ حَرَامٌ مَحْضٌ ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْحِلَّ وَالْحُرْمَةَ إنَّمَا يُرَاعَيَانِ فِي السَّبَبِ وَالسَّبَبُ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ وَالْيَمِينِ وَإِنْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِالْيَمِينِ وَالْحِنْثِ ، وَإِنَّمَا عَلِقَ بِهِمَا حَتَّى لَا يَجُوزَ تَقْدِيمُ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْحِنْثِ وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ هُوَ الْيَمِينُ وَحْدَهُ لِيَكُونَ سَبَبُ

الْكَفَّارَةِ مَوْصُوفًا بِالْإِبَاحَةِ وَالْحُرْمَةِ الْإِبَاحَةُ لِلْيَمِينِ وَالْحَظْرُ لِلْحِنْثِ ، وَهَذَا انْصِرَافٌ عَنْ الْمَذْهَبِ الْمُجْمَعِ عَلَى نَقْلِهِ مِنْ أَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْحِنْثُ وَكَوْنُهُ الْيَمِينَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَإِلْقَاءُ الشَّرَاشِرِ عَلَيْهِ ، وَكَانَ يُغْنِي عَنْ التَّهَالُكِ فِي إثْبَاتِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ تَسْلِيمًا أَنَّ الْيَمِينَ سَبَبٌ ، وَلَكِنَّا شَرَطْنَا لِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ الْحِنْثَ لِمَا ذُكِرَ ، وَحِينَئِذٍ لَا خِلَافَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ ، وَيُوجِبُ بُطْلَانَ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ فِي الْجَوَابِ مِنْ أَنَّ الْإِضَافَةَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ إلَى الشَّرْطِ لَا إلَى السَّبَبِ ، وَكُلُّ هَذَا بِسَبَبِ الْتِزَامِ أَنَّ الْكَفَّارَةَ فِي الْيَمِينِ لِسَتْرِ الْجِنَايَةِ الثَّابِتَةِ بِالْحِنْثِ ، وَنَحْنُ جَعَلْنَاهَا جَبْرًا لِحُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى الْفَائِتَةِ بِالْحِنْثِ مَعْصِيَةً كَانَ الْحِنْثُ أَوْ طَاعَةً وَاجِبَةً أَوْ مَنْدُوبَةً ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحِنْثَ إذَا كَانَ وَاجِبًا اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ حَرَامًا ، وَمَا يُظَنُّ مِنْ أَنَّهُ يَصِحُّ وَاجِبًا حَرَامًا مِنْ وَجْهَيْنِ تَوَهُّمٌ ، وَإِلَّا فَمَعْنَى الْوَاجِبِ الْحَرَامِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ خِطَابُ الشَّرْعِ نَهْيًا عَنْهُ وَطَلَبًا لَهُ ، فَكَيْفَ يَكُونُ بِعَيْنِهِ مَطْلُوبَ الْعَدَمِ مَطْلُوبَ الْإِيجَادِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا وَهْمًا مِنْ الْأَوْهَامِ ، وَمِثْلُهُ فِي كَفَّارَةِ الْإِحْرَامِ تَثْبُتُ ، وَلَا جِنَايَةَ إذَا كَانَ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ ( قَوْلُهُ وَكَذَا إذَا أَكَلَ كَبِدًا أَوْ كَرِشًا ) أَوْ رِئَةً أَوْ قَلْبًا أَوْ طِحَالًا : يَعْنِي يَحْنَثُ لِأَنَّ نَمْوَةَ مِنْ الدَّمِ وَيُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ اللَّحْمِ .
وَقِيلَ فِي عُرْفِنَا لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ لَحْمًا .
قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ : هَذَا فِي عُرْفِ أَهْلِ الْكُوفَةِ ، وَفِي عُرْفِنَا لَا يَحْنَثُ ، وَذَكَرَهُ فِي الْمُحِيطِ أَيْضًا .
وَلَوْ أَكَلَ الرَّأْسَ وَالْأَكَارِعَ يَحْنَثُ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأَصَحِّ .
وَلَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ الشَّحْمِ وَالْأَلْيَةِ إلَّا إذَا نَوَاهُ فِي

اللَّحْمِ .
بِخِلَافِ شَحْمِ الظَّهْرِ يَحْنَثُ بِهِ بِلَا نِيَّةٍ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِلَّحْمِ فِي الْوُجُودِ ، وَيُقَالُ فِي الْعُرْفِ لَحْمٌ سَمِينٌ .

( وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ أَوْ لَا يَشْتَرِي شَحْمًا لَمْ يَحْنَثْ إلَّا فِي شَحْمِ الْبَطْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَا : يَحْنَثُ فِي شَحْمِ الظَّهْرِ أَيْضًا ) وَهُوَ اللَّحْمُ السَّمِينُ لِوُجُودِ خَاصِّيَّةِ الشَّحْمِ فِيهِ وَهُوَ الذَّوْبُ بِالنَّارِ .
وَلَهُ أَنَّهُ لَحْمٌ حَقِيقَةً ؛ أَلَا تَرَاهُ أَنَّهُ يَنْشَأُ مِنْ الدَّمِ وَيُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَهُ وَتَحْصُلُ بِهِ قُوَّتُهُ وَلِهَذَا يَحْنَثُ بِأَكْلِهِ فِي الْيَمِينِ عَلَى أَكْلِ اللَّحْمِ ، وَلَا يَحْنَثُ بِبَيْعِهِ فِي الْيَمِينِ عَلَى بَيْعِ الشَّحْمِ ، وَقِيلَ هَذَا بِالْعَرَبِيَّةِ ، فَأَمَّا اسْمُ بِيه بِالْفَارِسِيَّةِ لَا يَقَعُ عَلَى شَحْمِ الظَّهْرِ بِحَالٍ .

( قَوْلُهُ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ أَوْ لَا يَشْتَرِي شَحْمًا لَمْ يَحْنَثْ إلَّا فِي شَحْمِ الْبَطْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : يَحْنَثُ فِي شَحْمِ الظَّهْرِ وَهُوَ اللَّحْمُ السَّمِينُ لِوُجُودِ خَاصِّيَّةَ الشَّحْمِ فِيهِ وَهُوَ الذَّوْبُ بِالنَّارِ ) فَلَزِمَ كَوْنُهُ مِنْ نَفْسِ مُسَمَّاهُ ، وَلِذَا اسْتَثْنَى فِي قَوْله تَعَالَى { حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا } فَيَحْنَثُ بِهِ ( وَلَهُ أَنَّهُ لَحْمٌ حَقِيقَةً لِأَنَّهُ يَنْشَأُ مِنْ الدَّمِ وَيُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ اللَّحْمِ ) فِي اتِّخَاذِ أَلْوَانِ الطَّعَامِ وَالْقَلَايَا فَيُجْعَلُ قِطَعًا وَيُلْقَى فِيهَا لِيُؤْكَلَ أَكْلَ اللَّحْمِ وَلَا يُفْعَلُ ذَلِكَ بِالشَّحْمِ ( وَتَحْصُلُ بِهِ قُوَّتُهُ ، وَلِهَذَا يَحْنَثُ بِأَكْلِهِ فِي الْيَمِينِ عَلَى أَنْ لَا يَأْكُلَ اللَّحْمَ ، وَلَا يَحْنَثُ بِبَيْعِهِ فِي الْيَمِينِ عَلَى أَنْ لَا يَبِيعَ شَحْمًا ) وَالْقَاطِعُ بِنَفْيِ قَوْلِهِمَا إنَّ الْعُرْفَ لَا يُفْهَمُ مِنْ اسْمِ الشَّحْمِ إلَّا مَا فِي الْبَطْنِ وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى بَائِعُهُ شَحَّامًا فِي الْعُرْفِ ، وَبَائِعُ ذَلِكَ يُسَمَّى لَحَّامًا ، وَالْأَيْمَانُ لَا تُبْنَى عَلَى الْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ فَلَا يَضُرُّ تَسْمِيَتُهَا شَحْمًا فِي آيَةِ الِاسْتِثْنَاءِ .
وَقَوْلُ بَعْضِ الشَّارِحِينَ شَحْمُ الظَّهْرِ إمَّا أَلْيَةٌ أَوْ لَحْمٌ أَوْ شَحْمٌ لَا قَائِلَ إنَّهُ أَلْيَةٌ وَلَيْسَ بِلَحْمٍ لِأَنَّهُ يُذَوَّبُ دُونَ اللَّحْمِ .
وَأَيْضًا يُقَالُ لَهُ شَحْمُ الظَّهْرِ لَا لَحْمُ الظَّهْرِ فَتَعَيَّنَ أَنَّهُ شَحْمٌ فَيَحْنَثُ بِأَكْلِهِ بَعْدَمَا ذَكَرْنَا لَا يُفِيدُ عَلَى أَنَّا نَمْنَعُ كَوْنَهُ لَيْسَ بِلَحْمٍ .
وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يَذُوبُ مُعَارَضٌ بِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ اللَّحْمِ كَمَا ذَكَرْنَا ، وَبِهِ يَلْزَمُ كَوْنُ الذَّوْبِ لَيْسَ لَازِمًا مُخْتَصًّا ، وَاللَّوَازِمُ جَازَ كَوْنُهَا مُسَاوِيَةً لِمَلْزُومِهَا وَكَوْنُهَا أَعَمَّ مِنْهُ فَتَشْتَرِكُ الْأَنْوَاعُ الْمُتَبَايِنَةُ فِي لَازِمٍ وَاحِدٍ فَجَازَ كَوْنُ الذَّوْبِ يَتَحَقَّقُ فِيمَا لَيْسَ بِلَحْمٍ وَفِي بَعْضِ مَا هُوَ لَحْمٌ وَلَا ضَرَرَ

فِي ذَلِكَ وَكَذَا نَمْنَعُ أَنَّهُ لَا يُقَالُ لَهُ لَحْمُ الظَّهْرِ بَلْ نَقْطَعُ أَنَّهُ يُقَالُ لَهُ لَحْمٌ سَمِينٌ ، وَلَوْ قِيلَ هَذَا لَحْمُ الظَّهْرِ أَوْ مِنْ الظَّهْرِ لَمْ يُعَدَّ مُخْطِئًا ، وَلِذَا صَحَّحَ غَيْرُ وَاحِدٍ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْأَصَحِّ ، وَمَا فِي الْكَافِي مِنْ قَوْلِهِ فَصَارَتْ الشُّحُومُ أَرْبَعَةً : شَحْمُ الظَّهْرِ .
وَشَحْمٌ مُخْتَلِطٌ بِالْعَظْمِ ، وَشَحْمٌ عَلَى ظَاهِرِ الْأَمْعَاءِ .
وَشَحْمُ الْبَطْنِ ، فَفِي شَحْمِ الْبَطْنِ يَحْنَثُ بِالِاتِّفَاقِ ، وَالثَّلَاثَةُ عَلَى الِاخْتِلَافِ لَا يَخْلُو مِنْ نَظَرٍ ، بَلْ لَا يَنْبَغِي خِلَافٌ فِي عَدَمِ الْحِنْثِ بِمَا فِي الْعَظْمِ .
قَالَ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ : إنَّ أَحَدًا لَمْ يَقُلْ بِأَنَّ مُخَّ الْعَظْمِ شَحْمٌ ا هـ .
وَكَذَا لَا يَنْبَغِي خِلَافٌ فِي الْحِنْثِ بِمَا عَلَى الْأَمْعَاءِ لِأَنَّهُ لَا يُخْتَلَفُ فِي تَسْمِيَتِهِ شَحْمًا ( قَوْلُهُ وَقِيلَ هَذَا ) أَيْ الْخِلَافُ فِيمَا إذَا قَالَ بِالْعَرَبِيَّةِ ، فَأَمَّا اسْمُ بيه بِالْفَارِسِيَّةِ فَلَا يَقَعُ عَلَى شَحْمِ الظَّهْرِ بِحَالٍ فَلَا يَحْنَثُ إذَا عَقَدَ بِالْفَارِسِيَّةِ بِأَنْ قَالَ : نمى خرم بيه ثُمَّ أَكَلَ شَحْمَ الظَّهْرِ .

( وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي أَوْ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا أَوْ شَحْمًا فَاشْتَرَى أَلْيَةً أَوْ أَكَلَهَا لَمْ يَحْنَثْ ) لِأَنَّهُ نَوْعٌ ثَالِثٌ حَتَّى لَا يُسْتَعْمَلَ اسْتِعْمَالَ اللُّحُومِ وَالشُّحُومِ .
( قَوْلُهُ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ أَوْ لَا يَشْتَرِي لَحْمًا أَوْ قَالَ شَحْمًا فَاشْتَرَى أَلْيَةً أَوْ أَكَلَهَا لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ نَوْعٌ ثَالِثٌ لَا يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ اللُّحُومِ وَالشُّحُومِ ) وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِهِ فِي حَلِفِهِ عَلَى اللَّحْمِ خِلَافًا لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ ، وَلَا فِي يَمِينِ الشَّحْمِ خِلَافًا لِأَحْمَدَ لِلْعُرْفِ وَالْعَادَةِ ، وَأَمَّا أَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ الشَّحْمِ فَفِيهِ نَظَرٌ إلَّا أَنْ يُرَادَ جَمِيعُ اسْتِعْمَالَاتِهِ .

[ فُرُوعٌ ] حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمَ شَاةٍ فَأَكَلَ لَحْمَ عَنْزٍ يَحْنَثُ .
وَقَالَ أَبُو اللَّيْثِ : لَا يَحْنَثُ مِصْرِيًّا كَانَ الْحَالِفُ أَوْ قَرَوِيًّا ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى لِتَغَيُّرِ الْعُرْفِ فِيهِ .
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمَ بَقَرٍ فَأَكَلَ لَحْمَ الْجَامُوسِ يَحْنَثُ لَا فِي عَكْسِهِ لِأَنَّهُ نَوْعٌ لَا يَتَنَاوَلُ الْأَعَمَّ .
وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ : يَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْنَثَ فِي الْفَصْلَيْنِ لِأَنَّ النَّاسَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمَا .
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ طَعَامًا سَمَّاهُ فَمَضَغَهُ حَتَّى دَخَلَ جَوْفَهُ شَيْءٌ مِنْ مَائِهِ ثُمَّ أَلْقَاهُ لَا يَحْنَثُ ، وَلَوْ فَعَلَ هَذَا فِي الْعِنَبِ فَازْدَرَدَ .
فَإِنْ رَمَى الْقِشْرَ وَالْحَبَّ وَابْتَلَعَ الْمَاءَ لَا يَحْنَثُ ، وَإِنْ رَمَى قِشْرَهُ فَقَطْ وَابْتَلَعَ الْمَاءَ وَالْحَبَّ حَنِثَ لِأَنَّهُ أَكَلَ الْأَكْثَرَ .
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ شَيْئًا مِنْ الْحَلْوَى فَأَيَّ شَيْءٍ أَكَلَهُ مِنْ الْحَلْوَى مِنْ الْخَبِيصِ أَوْ الْعَسَلِ أَوْ السُّكَّرِ أَوْ النَّاطِفِ حَنِثَ ، ذَكَرَهُ فِي الْأَصْلِ .
قَالَ الْإِمَامُ النَّسَفِيُّ فِي شَرْحِ الشَّافِعِيِّ : هَذَا فِي عُرْفِهِمْ ، أَمَّا فِي عُرْفِنَا لَا يَحْنَثُ بِالْعَسَلِ وَالسُّكَّرِ وَالْخَبِيصِ .
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِلْحًا فَأَكَلَ طَعَامًا مَالِحًا يَحْنَثُ ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الْفُلْفُلَ فَأَكَلَ طَعَامًا فِيهِ فُلْفُلٌ ، إنْ وَجَدَ طَعْمَ الْفُلْفُلِ يَحْنَثْ .
وَالْفَقِيهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمِلْحِ وَالْفُلْفُلِ ، فِي الْفُلْفُلِ يَحْنَثُ لِأَنَّ عَيْنَهُ غَيْرُ مَأْكُولٍ فَيَنْصَرِفُ الْيَمِينُ إلَى مَا يُتَّخَذُ فِيهِ ، بِخِلَافِ الْمِلْحِ فَلَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يَأْكُلْ عَيْنَهُ مُفْرَدًا أَوْ مَعَ غَيْرِهِ ، إلَّا إذَا كَانَ وَقْتَ الْحَلِفِ دَلَالَةٌ عَلَى صَرْفِهِ إلَى الطَّعَامِ الْمَالِحِ ، وَيَقُولُ الْفَقِيهُ يُفْتِي .
وَفِي الْخُلَاصَةِ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ مِلْحِ خَتْنِهِ فَأَخَذَ مَاءً وَمِلْحًا وَجَعَلَهُمَا فِي الْعَجِينِ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ تَلَاشَى .
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَبَنًا فَطُبِخَ بِأُرْزٍ فَأَكَلَهُ ذَكَرَ النَّسَفِيُّ لَا يَحْنَثُ وَإِنْ

رُئِيَتْ عَيْنُهُ وَلَمْ يَجْعَلْ فِيهِ مَاءً .
وَفِي مَجْمُوعِ النَّوَازِلِ : إذَا كَانَ يُرَى عَيْنُهُ وَيُوجَدُ طَعْمُهُ يَحْنَثُ .
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ زَعْفَرَانًا فَأَكَلَ كَعْكًا عَلَى وَجْهِهِ زَعْفَرَانٌ يَحْنَثُ .
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذَا السَّمْنَ فَجَعَلَهُ خَبِيصًا فَأَكَلَهُ يَحْنَثُ ، إلَّا إذَا وَجَدَ طَعْمَهُ وَلَمْ يَرَ عَيْنَهُ فَلَا يَحْنَثُ .
وَكَذَا عَلَى هَذَا التَّمْرُ إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُهُ فَجَعَلَهُ عَصِيدَةً فَأَكَلَهَا لَا يَحْنَثُ ، وَفِي أَكْلِ هَذَا السُّكَّرِ لَا يَحْنَثُ بِمَصِّ مَائِهِ ، وَلَا يَأْكُلُ لَحْمًا يَشْتَرِيهِ فُلَانٌ فَأَكَلَ مِنْ لَحْمِ سَخْلَةٍ اشْتَرَاهَا فُلَانٌ لَا يَحْنَثُ ، وَعَلَى أَنَّ لَيْسَ فِي بَيْتِهِ مَرَقَةٌ وَهِيَ فِي بَيْتِهِ قَلِيلَةٌ لَا يَعُدُّهَا إذَا عَلِمَ بِهَا أَوْ كَثِيرَةٌ فَاسِدَةٌ لَا يَحْنَثُ ، وَلَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الْقَدْرِ وَقَدْ غُرِفَ مِنْهُ شَيْءٌ قَبْلَ الْيَمِينِ لَا يَحْنَثُ بِأَكْلِهِ ، كَمَا لَوْ سَخَّنَتْ الْمَحْلُوفُ عَلَى طَعَامِهَا مَا طَبَخَهُ غَيْرُهَا .
وَفِي التَّجْرِيدِ : قِيلَ اسْمُ الطَّبْخِ يَقَعُ بِوَضْعِ الْقِدْرِ لَا بِإِيقَادِ النَّارِ ، وَقِيلَ لَوْ أَوْقَدَ غَيْرُهَا فَوَضَعَتْ هِيَ الْقِدْرَ لَا يَحْنَثُ ا هـ .
وَفِي عُرْفِنَا لَيْسَ وَاضِعُ الْقِدْرِ طَابِخًا قَطْعًا وَمُجَرَّدُ الْإِيقَادِ كَذَلِكَ ، وَمِثْلُهُ يُسَمَّى صَبِيُّ الطَّبَّاخِ : يَعْنِي مُعِينَهُ ، وَالطَّبَّاخُ هُوَ الْمُرَكَّبُ بِوَضْعِ التَّوَابِلِ وَإِنْ لَمْ يُوقِدْ .
وَفِي الْمُنْتَقَى عَنْ مُحَمَّدٍ : حَلَفَ عَلَى مَا لَا يُؤْكَلُ أَنْ لَا يَأْكُلَهُ فَاشْتَرَى بِهِ مَا يُؤْكَلُ فَأَكَلَهُ حَنِثَ ، وَلَوْ حَلَفَ عَلَى مَا يُؤْكَلُ فَاشْتَرَى بِهِ مَا يُؤْكَلُ فَأَكَلَهُ لَا يَحْنَثُ ، فَعَقْدُ الْيَمِينِ فِي الْأَوَّلِ عَلَى بَدَلِهِ .
حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِمَّا يَمْلِكُهُ فُلَانٌ فَأَكَلَ مِنْهُ بَعْدَ خُرُوجِهِ عَنْ مِلْكِهِ لَا يَحْنَثُ ، وَكَذَا مِمَّا اشْتَرَاهُ إذَا بَاعَهُ فَأَكَلَهُ ، وَكَذَا مِنْ مِيرَاثِهِ إذَا أَخْرَجَهُ الْوَارِثُ عَنْ مِلْكِهِ وَيَحْنَثُ قَبْلَهُ ، بِخِلَافِ مَا زَرَعَ فُلَانٌ يَحْنَثُ بِهِ عِنْدَ الزَّارِعِ ، وَمَنْ اشْتَرَى مِنْهُ

لِأَنَّ الزَّرْعَ لَا يَنْسَخُهُ الشِّرَاءُ ، أَمَّا لَوْ اشْتَرَى شَخْصٌ ذَلِكَ الزَّرْعَ فَبَذَرَهُ وَأَكَلَ مِنْهُ لَا يَحْنَثُ ، وَمِثْلُهُ مِنْ طَعَامٍ يَصْنَعُهُ فُلَانٌ فَصَنَعَهُ وَبَاعَهُ فَأَكَلَ يَحْنَثُ ، وَكَذَا مِنْ كَسْبِ فُلَانٍ فَاكْتَسَبَ وَمَاتَ فَوَرِثَ عَنْهُ فَأَكَلَهُ حَنِثَ ، وَلَوْ انْتَقَلَ بِشِرَاءٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ وَنَحْوِهَا لَمْ يَحْنَثْ ، وَلَا يَشْتَرِي ثَوْبًا مَسَّهُ فُلَانٌ فَمَسَّهُ فُلَانٌ فَبَاعَهُ مِنْهُ حَنِثَ .
حَلَفَ لَا يَأْكُلُ حَرَامًا فَاشْتَرَى بِدِرْهَمٍ غَصْبٍ طَعَامًا فَأَكَلَهُ لَا يَحْنَثُ لِمَا عُرِفَ أَنَّ الثَّمَنَ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ فَيَصِيرُ عَلَيْهِ إثْمُ الدِّرْهَمِ ، أَمَّا لَوْ أَكَلَ خُبْزًا غَصَبَهُ حَنِثَ ، وَلَوْ اشْتَرَى بِذَلِكَ الْخُبْزِ لَحْمًا لَا يَحْنَثُ : يَعْنِي إذَا أَكَلَ اللَّحْمَ .
وَلَوْ أَكَلَ لَحْمَ كَلْبٍ أَوْ قِرْدٍ لَا يَحْنَثُ عِنْدَ أَسَدِ بْنِ عَمْرٍو ، وَقَالَ نَصْرٌ : بِهِ نَأْخُذُ .
وَقَالَ الْحَسَنُ : كُلُّهُ حَرَامٌ .
قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ : مَا كَانَ فِيهِ اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ لَا يَكُونُ حَرَامًا مُطْلَقًا وَهُوَ حَسَنٌ ، وَلَوْ اُضْطُرَّ لِأَكْلِ الْحَرَامِ أَوْ الْمَيْتَةِ اخْتَلَفُوا ، وَالْمُخْتَارُ يَحْنَثُ ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَتَانِ .
وَلَوْ كَانَ الْمَغْصُوبُ بُرًّا فَطَحَنَهُ إنْ أَعْطَى مِثْلَهُ قَبْلَ أَنْ يَأْكُلَهُ لَمْ يَحْنَثْ ، وَإِنْ أَكَلَهُ قَبْلَ ذَلِكَ حَنِثَ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ ثَابِتَةٌ مَا لَمْ يُؤَدِّ الضَّمَانَ .
وَفِي الْأَجْنَاسِ الْمَعْتُوهُ وَالْمُكْرَهُ إذَا فَعَلَا شَيْئًا حَرَامًا فَهُوَ لَيْسَ بِحَلَالٍ لَهُمَا .
وَلَوْ أَكَلَ مِنْ الْكَرْمِ الَّذِي دَفَعَهُ مُعَامَلَةً لَا يَحْنَثُ ، أَمَّا عِنْدَهُمَا فَلَا يُشْكِلُ ، وَعِنْدَهُ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ عَقْدٌ فَاسِدٌ ، فَإِنَّمَا أَكَلَ مِلْكَ نَفْسِهِ .

( وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ الْحِنْطَةِ لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَقْضِمَهَا ، وَلَوْ أَكَلَ مِنْ خُبْزِهَا لَمْ يَحْنَثْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَا : إنْ أَكَلَ مِنْ خُبْزِهَا حَنِثَ أَيْضًا ) لِأَنَّهُ مَفْهُومٌ مِنْهُ عُرْفًا .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ لَهُ حَقِيقَةً مُسْتَعْمَلَةً فَإِنَّهَا تُقْلَى وَتُغْلَى وَتُؤْكَلُ قَضْمًا وَهِيَ قَاضِيَةٌ عَلَى الْمَجَازِ الْمُتَعَارَفِ عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ عِنْدَهُ .
وَلَوْ قَضَمَهَا حَنِثَ عِنْدَهُمَا هُوَ الصَّحِيحُ لِعُمُومِ الْمَجَازِ ، كَمَا إذَا حَلَفَ لَا يَضَعُ قَدَمَهُ فِي دَارِ فُلَانٍ .
وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ فِي الْخُبْزِ حَنِثَ أَيْضًا .

( قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ الْحِنْطَةِ يَعْنِي وَلَا نِيَّةَ لَهُ ) لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَقْضِمَهَا غَيْرَ نِيئَةٍ ، وَلَوْ قَضَمَهَا نِيئَةً لَمْ يَحْنَثْ ، وَكَذَا لَوْ أَكَلَ مِنْ خُبْزِهَا أَوْ دَقِيقِهَا أَوْ سَوِيقِهَا ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، وَقَالَا : إنْ أَكَلَ مِنْ خُبْزِهَا أَيْضًا حَنِثَ لِأَنَّ الْأَكْلَ مِنْ خُبْزِهَا مَفْهُومٌ مِنْهُ عُرْفًا ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ لَهُ حَقِيقَةً مُسْتَعْمَلَةً : يَعْنِي يُسْتَعْمَلُ لَفْظُ أَكَلَ الْحِنْطَةَ حَقِيقَةً : أَيْ فِي مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ وَهُوَ أَنْ يَأْكُلَ عَيْنَ الْحِنْطَةِ فَإِنَّهُ مَعْنًى ثَابِتٌ ، فَإِنَّ النَّاسَ يَغْلُونَ الْحِنْطَةَ وَيَأْكُلُونَهَا وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى فِي عُرْفِ بِلَادِنَا بَلِيلَةً ، وَتُقْلَى : أَيْ تُوضَعُ جَافَّةً فِي الْقِدْرِ ثُمَّ تُؤْكَلُ قَضْمًا ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ حَقِيقَةَ الْقَضْمِ بِخُصُوصِهَا وَهُوَ الْأَكْلُ بِأَطْرَافِ الْأَسْنَانِ بَلْ أَنْ يَأْكُلَ عَيْنَهَا بِأَطْرَافِ الْأَسْنَانِ أَوْ بِسُطُوحِهَا ، فَإِذَا ثَبَتَ لِلَّفْظِ حَقِيقَةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ فَهِيَ أَوْلَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ الْمَجَازِ الْمُتَعَارَفِ وَهُوَ أَنْ يُرَادَ بِأَكْلِ الْحِنْطَةِ أَكْلُ خُبْزِهَا وَصَارَ كَمَا إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ الْبَقَرَةِ أَوْ الشَّاةِ فَأَكَلَ لَبَنَهَا أَوْ سَمْنَهَا أَوْ زُبْدَهَا أَوْ مِنْ هَذِهِ الْبَيْضَةِ فَأَكَلَ مِنْ فَرْخِهَا لَا يَحْنَثُ لِانْعِقَادِ الْيَمِينِ عَلَى عَيْنِهَا إذَا كَانَ مَأْكُولًا وَهُمَا يَعْكِسَانِ هَذَا الْأَصْلَ وَيَرَيَانِ الْمَجَازَ الْمُتَعَارَفَ أَوْلَى ، وَرُجِّحَ قَوْلُهُمَا بِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ إنَّمَا يُرِيدُ الْعُرْفَ .
فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ انْصَرَفَ إلَيْهِ ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْبَقَرَةِ وَالْبَيْضَةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلَّفْظِ مَجَازٌ أَشْهَرُ لِيُرَجَّحَ عَلَى الْحَقِيقَةِ .
وَاَلَّذِي يَغْلِبُ أَنَّ التَّعَارُفَ وَالْأَكْثَرِيَّةَ لِوُجُودِ الْمَعْنَى وَهُوَ نَفْسُ فِعْلُ أَكْلِ خُبْزِ الْحِنْطَةِ لَا لِاسْتِعْمَالِ لَفْظِ أَكَلْت الْيَوْمَ الْحِنْطَةَ أَوْ لَا آكُلُ حِنْطَةً فِيهِ بَلْ لَفْظُ أَكَلْت حِنْطَةً يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ

بِهِ أَكْلُ عَيْنِهَا كَمَا يُرَادُ مَا يُخْبَزُ مِنْ دَقِيقِهَا فَيَتَرَجَّحُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ لِتَرَجُّحِ الْحَقِيقَةِ عِنْدَ مُسَاوَاةِ الْمَجَازِ ، لَا يُقَالُ : أَكْثَرِيَّةُ الْمَعْنَى تُوجِبُ أَكْثَرِيَّةَ اللَّفْظِ الَّذِي يَدُلُّ بِهِ عَلَيْهِ .
لِأَنَّا نَقُولُ : لَا يَلْزَمُ ذَلِكَ إلَّا إذَا لَمْ يَكُنْ إلَّا لَفْظٌ وَاحِدٌ يَدُلُّ بِهِ ، وَلَيْسَ هُنَا كَذَلِكَ لِأَنَّهُ يُقَالُ أَكَلْت خُبْزَ الْحِنْطَةِ ، وَيُقَالُ أَكَلْت الْحِنْطَةَ ، بَلْ الْآنَ لَا يُتَعَارَفُ فِي أَكْلِ الْخُبْزِ مِنْهَا إلَّا لَفْظٌ آخَرُ وَهُوَ أَكَلْت الْخُبْزَ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ أَكْلَ الْخُبْزِ فَيَحْنَثُ بِهِ لَا بِالْقَضْمِ أَوْ الْقَضْمُ فَلَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ الْخُبْزِ اتِّفَاقًا ، وَقَضَمَ يَقْضِمُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ فِي الْمَاضِي وَفَتْحِهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ .
وَقَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ احْتِرَازٌ عَنْ رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ عِنْدَهُمَا إذَا قَضَمَهَا .
وَصَحَّحَهَا فِي الذَّخِيرَةِ .
وَرَجَّحَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَقَاضِي خَانْ رِوَايَةَ الْجَامِعِ أَنَّهُ يَحْنَثُ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ : وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ حَنِثَ فِي الْخُبْزِ أَيْضًا فَإِنَّهُ يُفِيدُ أَنَّهُ يَحْنَثُ بِالْقَضْمِ ، وَلَا يَلْزَمُ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ حَقِيقَةً وَمَجَازًا بَلْ يَكُونُ مِنْ عُمُومِ الْمَجَازِ ، كَمَنْ حَلَفَ لَا يَضَعُ قَدَمَهُ فِي دَارِ فُلَانٍ يَحْنَثُ بِالدُّخُولِ زَحْفًا لِجَعْلِهِ مَجَازًا فِي الدُّخُولِ .
وَلَوْ أَكَلَ مِنْ سَوِيقِهَا حَنِثَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ فَيَحْتَاجُ أَبُو يُوسُفَ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْخُبْزِ وَالسَّوِيقِ .
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْحِنْطَةَ إذَا ذُكِرَتْ مَقْرُونَةً بِالْأَكْلِ يُرَادُ بِهَا الْخُبْزُ دُونَ السَّوِيقِ ، وَمُحَمَّدٌ اعْتَبَرَ عُمُومَ الْمَجَازِ ، وَهَذَا الْخِلَافُ إذَا حَلَفَ عَلَى حِنْطَةٍ مُعَيَّنَةٍ ، أَمَّا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ حِنْطَةً يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ .
جَوَابُهُ كَجَوَابِهِمَا ذَكَرَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ تَحَكُّمٌ .
وَالدَّلِيلُ الْمَذْكُورُ الْمُتَّفَقُ عَلَى إيرَادِهِ فِي جَمِيعِ الْكُتُبِ يَعُمُّ الْمُعَيَّنَةَ

وَالْمُنَكَّرَةَ وَهُوَ أَنَّ عَيْنَهَا مَأْكُولٌ .

( وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الدَّقِيقِ فَأَكَلَ مِنْ خُبْزِهِ حَنِثَ ) لِأَنَّ عَيْنَهُ غَيْرُ مَأْكُولٍ فَانْصَرَفَ إلَى مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ ( وَلَوْ اسْتَفَّهُ كَمَا هُوَ لَا يَحْنَثُ ) هُوَ الصَّحِيحُ لِتَعَيُّنِ الْمَجَازِ مُرَادًا .
( قَوْلُهُ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الدَّقِيقِ فَأَكَلَ مِنْ خُبْزِهِ حَنِثَ لِأَنَّ عَيْنَهُ غَيْرُ مَأْكُولٍ فَانْصَرَفَ الْيَمِينُ إلَى مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ ) فَيَحْنَثُ بِعَصِيدَتِهِ .
وَفِي النَّوَازِلِ لَوْ اتَّخَذَ مِنْهُ خَبِيصًا أَخَافُ أَنْ يَحْنَثَ ، فَلَوْ اسْتَفَّ عَيْنَهُ لَا يَحْنَثُ لِتَعَيُّنِ الْمَجَازِ وَهُوَ مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ مُرَادًا فِي الْعُرْفِ فَلَا يَحْنَثُ بِغَيْرِهِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ وَإِذَا نَوَاهُ لَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ الْخُبْزِ ، وَقَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ حَقِيقَةُ كَلَامِهِ .
قُلْنَا نَعَمْ وَلَكِنْ حَقِيقَةٌ مَهْجُورَةٌ وَلَمَّا تَعَيَّنَ إرَادَةُ الْمَجَازِ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْحَقِيقَةِ كَمَنْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ إنْ نَكَحْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ فَزَنَى بِهَا لَا يَحْنَثُ لِانْصِرَافِ يَمِينِهِ إلَى الْعَقْدِ فَلَمْ يَتَنَاوَلْ الْوَطْءَ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ .

( وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ خُبْزًا فَيَمِينُهُ عَلَى مَا يُعْتَادُ أَهْلُ الْمِصْرِ أَكْلَهُ خُبْزًا ) وَذَلِكَ خُبْزُ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُعْتَادُ فِي غَالِبِ الْبُلْدَانِ ( وَلَوْ أَكَلَ مِنْ خُبْزِ الْقَطَائِفِ لَا يَحْنَثُ ) لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى خُبْزًا مُطْلَقًا إلَّا إذَا نَوَاهُ لِأَنَّهُ مُحْتَمَلُ كَلَامِهِ ( وَكَذَا لَوْ أَكَلَ خُبْزَ الْأُرْزِ بِالْعِرَاقِ لَمْ يَحْنَثْ ) لِأَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَادٍ عِنْدَهُمْ حَتَّى لَوْ كَانَ بِطَبَرِسْتَانَ أَوْ فِي بَلْدَةٍ طَعَامُهُمْ ذَلِكَ يَحْنَثُ .

( قَوْلُهُ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ خُبْزًا فَيَمِينُهُ عَلَى مَا يَعْتَادُهُ أَهْلُ مِصْرِهِ خُبْزًا وَذَلِكَ خُبْزُ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ لِأَنَّهُ الْمُعْتَادُ فِي غَالِبِ الْبُلْدَانِ ) وَلَوْ كَانَ أَهْلُ بَلَدِهِ لَا يُعْتَادُونَ أَكْلَ الشَّعِيرِ لَا يَحْنَثُ بِهِ .
وَلَوْ اعْتَادُوا خُبْزَ الذُّرَةِ كَالْحِجَازِ وَالْيُمْنِ حَنِثَ بِأَكْلِهِ وَلَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ الْقَطَائِفِ .
وَيَنْبَغِي أَنْ يَحْنَثَ بِأَكْلِ الْكَمَاجِ لِأَنَّهُ خُبْزٌ وَزِيَادَةٌ ، فَالِاخْتِصَاصُ بِاسْمٍ لِلزِّيَادَةِ لَا لِلنَّقْصِ ، وَلَا يَحْنَثُ بِالثَّرِيدِ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى خُبْزًا مُطْلَقًا .
وَفِي الْخُلَاصَةِ : حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الْخُبْزِ فَأَكَلَهُ بَعْدَمَا تَفَتَّتَ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى خُبْزًا ، وَلَا يَحْنَثُ بِالْعَصِيدِ وَالطَّطْمَاجِ ، وَلَا يَحْنَثُ لَوْ دَقَّهُ فَشَرِبَهُ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي حِيلَةِ أَكْلِهِ أَنْ يَدُقَّهُ فَيُلْقِيَهُ فِي عَصِيدَةٍ وَيُطْبَخُ حَتَّى يَصِيرَ الْخُبْزُ هَالِكًا ، وَلَا يَحْنَثُ فِي خُبْزِ الْأُرْزِ إلَّا أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحَالِفُ فِي بَلْدَةٍ يَعْتَادُونَهُ كَمَا فِي طَبَرِسْتَانَ وَالنِّسْبَةُ إلَيْهَا طَبَرِيٌّ وَهُوَ اسْمُ آمُلَ وَأَعْمَالِهَا .
قَالَ السَّمْعَانِيُّ : سَمِعْت الْقَاضِيَ أَبَا بَكْرٍ الْأَنْصَارِيَّ بِبَغْدَادَ يَقُولُ إنَّمَا هِيَ تَبَرِسْتَانُ لِأَنَّ أَهْلَهَا كَانُوا يُحَارِبُونَ بِالْفَاسِ فَعُرِّبَ فَقِيلَ طَبَرِسْتَانُ .
وَقَالَ الْقُتَبِيُّ : طَبَرِسْتَانُ مَعْنَاهُ بِالْفَارِسِيَّةِ أَخَذَهُ الْفَاسُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى ، وَالْمُرَادُ بِالْفَاسِ الطَّبَرُ وَهُوَ مُعَرَّبُ تَبَرَ ، وَهَذَا لَا يُنَافِي مَا قَالَ السَّمْعَانِيُّ بِقَلِيلِ تَأَمُّلٍ قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ غَفَرَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ : وَقَدْ سُئِلْت لَوْ أَنَّ بَدْوِيًّا اعْتَادَ أَكْلَ خُبْزِ الشَّعِيرِ فَدَخَلَ بَلْدَةً الْمُعْتَادُ فِيهَا أَكْلُ خُبْزِ الْحِنْطَةِ وَاسْتَمَرَّ هُوَ لَا يَأْكُلُ إلَّا الشَّعِيرَ فَحَلَفَ لَا يَأْكُلُ خُبْزًا فَقُلْت : يَنْعَقِدُ عَلَى عُرْفِ نَفْسِهِ فَيَحْنَثُ بِالشَّعِيرِ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْعَقِدْ عَلَى عُرْفِ النَّاسِ إلَّا إذَا كَالَ

الْحَالِفُ يَتَعَاطَاهُ فَهُوَ مِنْهُمْ فِيهِ فَيُصْرَفُ كَلَامُهُ إلَيْهِ لِذَلِكَ ، وَهَذَا مُنْتَفٍ فِيمَنْ لَمْ يُوَافِقْهُمْ بَلْ هُوَ مُجَانِبٌ لَهُمْ .

( وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الشِّوَاءَ فَهُوَ عَلَى اللَّحْمِ دُونَ الْبَاذِنْجَانِ وَالْجَزَرِ ) لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ اللَّحْمُ الْمَشْوِيُّ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ مَا يُشْوَى مِنْ بِيضٍ أَوْ غَيْرِهِ لِمَكَانِ الْحَقِيقَةِ .
( قَوْلُهُ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ شِوَاءً فَهُوَ عَلَى اللَّحْمِ فَقَطْ دُونَ الْبَاذِنْجَانِ وَالْجَزَرِ ) الْمَشْوِيَّيْنِ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ فِي الْعُرْفِ ذَلِكَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُشْوَى مِنْ بِيضٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ كَالْفُولِ الْأَخْضَرِ الَّذِي يُسَمَّى فِي عُرْفِنَا شَوِيُّ الْعَرَبِ وَقَوْلُنَا فِي ذَلِكَ قَوْلُ أَحْمَدَ .

( وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الطَّبِيخَ فَهُوَ عَلَى مَا يُطْبَخُ مِنْ اللَّحْمِ ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ اعْتِبَارًا لِلْعُرْفِ ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّعْمِيمَ مُتَعَذِّرٌ فَيُصْرَفُ إلَى خَاصٍّ هُوَ مُتَعَارَفٌ وَهُوَ اللَّحْمُ الْمَطْبُوخُ بِالْمَاءِ إلَّا إذَا نَوَى غَيْرَ ذَلِكَ لِأَنَّ فِيهِ تَشْدِيدًا ، وَإِنْ أَكَلَ مِنْ مَرَقِهِ يَحْنَثْ لِمَا فِيهِ مِنْ أَجْزَاءِ اللَّحْمِ وَلِأَنَّهُ يُسَمَّى طَبِيخًا .
( قَوْلُهُ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الطَّبِيخَ فَهُوَ عَلَى مَا يُطْبَخُ مِنْ اللَّحْمِ ) يَعْنِي بِالْمَاءِ حَتَّى إنَّ مَا يُتَّخَذُ قَلِيَّةً مِنْ اللَّحْمِ لَا يُسَمَّى طَبِيخًا فَلَا يَحْنَثُ بِهِ ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ بِالْعُرْفِ لِأَنَّ التَّعْمِيمَ مُتَعَذِّرٌ لِأَنَّ الدَّوَاءَ مِمَّا يُطْبَخُ ، وَكَذَا الْفُولُ الَّذِي يُسَمَّى فِي عُرْفِنَا الْفُولُ الْحَارُّ ، وَلَا يُقَالُ لِآكِلِهِ آكِلُ طَبِيخًا فَيَنْصَرِفُ إلَى خَاصٍّ هُوَ أَخَصُّ الْخُصُوصِ وَهُوَ اللَّحْمُ الْمَطْبُوخُ بِمَرَقٍ وَهُوَ مُتَعَارَفٌ ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ غَيْرَهُ مِنْ الْبَاذِنْجَانِ مِمَّا يُطْبَخُ فَيَحْنَثُ بِهِ ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَحْنَثُ بِالْأُرْزِ الْمَطْبُوخِ بِلَا لَحْمٍ .
وَفِي الْخُلَاصَةِ : يَحْنَثُ بِالْأُرْزِ إذَا طُبِخَ بِوَدَكٍ فَإِنَّهُ يُسَمَّى طَبِيخًا ، بِخِلَافِ مَا لَوْ طُبِخَ بِزَيْتٍ أَوْ سَمْنٍ .
قَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ : الطَّبِيخُ يَقَعُ عَلَى الشَّحْمِ أَيْضًا ، وَلَا شَكَّ أَنَّ اللَّحْمَ بِالْمَاءِ طَبِيخٌ ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي أَنَّهُ هُوَ الْمُتَعَارَفُ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِهِ ، وَلَوْ أَكَلَ مِنْ مَرَقِ اللَّحْمِ حَنِثَ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ : لِمَا فِيهِ مِنْ أَجْزَاءِ اللَّحْمِ ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا فَأَكَلَ الْمَرَقَ الَّذِي طُبِخَ فِيهِ اللَّحْمُ حَنِثَ ، وَقَدَّمْنَاهُ مِنْ الْمَنْقُولِ خِلَافُهُ .
وَالْوَجْهُ مَا ذَكَرَهُ ثَانِيًا مِنْ قَوْلِهِ وَلِأَنَّهُ يُسَمَّى طَبِيخًا : يَعْنِي فِي الْعُرْفِ ، بِخِلَافِ مَرَقِ اللَّحْمِ فَإِنَّهُ لَا يُسَمَّى لَحْمًا فِي الْعُرْفِ .

( وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الرُّءُوسَ فَيَمِينُهُ عَلَى مَا يُكْبَسُ فِي التَّنَانِيرِ وَيُبَاعُ فِي الْمِصْرِ ) وَيُقَالُ يُكْنَسُ ( وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رَأْسًا فَهُوَ عَلَى رُءُوسِ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ عَلَى الْغَنَمِ خَاصَّةً ، وَهَذَا اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ كَانَ الْعُرْفُ فِي زَمَنِهِ فِيهِمَا وَفِي زَمَنِهِمَا فِي الْغَنَمِ خَاصَّةً وَفِي زَمَانِنَا يُفْتَى عَلَى حَسَبِ الْعَادَةِ كَمَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْمُخْتَصَرِ .

( قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الرُّءُوسَ فَيَمِينُهُ عَلَى مَا يُكْبَسُ فِي التَّنَانِيرِ ) فِي تِلْكَ الْبَلْدَةِ وَيُبَاعُ فِيهَا مِنْ رُءُوسِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ .
وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رَأْسًا فَهُوَ عَلَى رُءُوسِ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : عَلَى الْغَنَمِ خَاصَّةً ، وَهَذَا اخْتِلَافُ عَصْرٍ ، فَكَانَ الْعُرْفُ فِي زَمَنِهِ فِيهَا ثُمَّ صَارَ فِي الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ ، فَرَجَعَ أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ انْعِقَادِهِ فِي حَقِّ رُءُوسِ الْإِبِلِ وَفِي زَمَانِهِمَا فِي الْغَنَمِ خَاصَّةً فَوَجَبَ عَلَى الْمُفْتِي أَنْ يُفْتِيَ بِمَا هُوَ الْمُعْتَادُ فِي كُلِّ مِصْرٍ وَقَعَ فِيهِ حَلِفُ الْحَالِفِ كَمَا هُوَ فِي مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَأَوْرَدَ أَنَّ الْعَادَةَ كَمَا هِيَ فِي الرُّءُوسِ مُقْتَصِرَةٌ عَلَى رُءُوسِ الْغَنَمِ أَوْ الْبَقَرِ مَعَهَا كَذَلِكَ فِي اللَّحْمِ مُقْتَصِرَةٌ عَلَى لَحْمِ مَا يَحِلُّ ، إذْ لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِبَيْعِ لَحْمِ الْآدَمِيِّ وَالْخِنْزِيرِ وَأَكْلِهِ ، مَعَ أَنَّ الْيَمِينَ انْعَقَدَتْ بِاعْتِبَارِهِمَا فَحَنِثَ بِأَكْلِ لَحْمِهِمَا إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّهُ فِيهَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ : يَعْنِي اللُّغَوِيَّةَ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَجَبَ اعْتِبَارُ التَّعَارُفِ حِينَئِذٍ ، وَاللَّحْمُ يُمْكِنُ فِيهِ أَكْلُ كُلِّ مَا يُسَمَّى لَحْمًا فَانْعَقَدَ بِاعْتِبَارِهِ ، بِخِلَافِ الرُّءُوسِ لَا يُمْكِنُ أَكْلُ حَقِيقَتِهَا إذْ هِيَ مَجْمُوعُ الْعَظْمِ مَعَ اللَّحْمِ فَيَصِيرُ إلَى الْمُتَعَارَفِ وَنَقَصَ بِالشِّرَاءِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ فِي الرُّءُوسِ عَلَى الْعُمُومِ وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَنْعَقِدْ يَمِينُ الشِّرَاءِ عَلَى الْعُمُومِ فِيهَا .
أُجِيبَ بِالْمَنْعِ بَلْ مِنْ الرُّءُوسِ مَا لَا يُمْكِنُ بَيْعُهُ كَرَأْسِ الْآدَمِيِّ ، وَبِهَذَا خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا أُورِدَ عَلَى مَسْأَلَةِ الْحَلِفِ لَا يَرْكَبُ دَابَّةً أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ إذَا رَكِبَ كَافِرًا وَهُوَ دَابَّةٌ حَقِيقَةً

فَأَمْكَنَ الْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَجْرِ عَلَى عُمُومِهِ ، فَإِنَّ إمْكَانَ الْعَمَلِ بِحَقِيقَةِ عُمُومِهِ مُنْتَفٍ إذْ مِنْ الدَّوَابِّ النَّمْلُ وَمَا هُوَ أَصْغَرُ مِنْهَا وَلَا يُمْكِنُ رُكُوبُهُ فَيَصِيرُ إلَى الْمُتَعَارَفِ ، وَهَذَا يَهْدِمُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ إنَّمَا يَتَكَلَّمُ بِالْعُرْفِ الَّذِي بِهِ التَّخَاطُبُ فَوَجَبَ عِنْدَ عَدَمِ نِيَّتِهِ أَنْ يُحْكَمَ بِأَنَّ الْمُرَادَ مَا عَلَيْهِ الْعُرْفُ ، وَتَقَدَّمَ تَصْحِيحُ الْعَتَّابِيِّ وَغَيْرِهِ فِي لَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَالْآدَمِيِّ عَدَمَ الْحِنْثِ وَلَيْسَ إلَّا بِنَاءً عَلَى هَذَا الْأَصْلِ ، وَلَوْ كَانَ هَذَا الْأَصْلُ الْمَذْكُورُ مَنْظُورًا إلَيْهِ لَمَا تَجَاسَرَ أَحَدٌ عَلَى خِلَافِهِ فِي الْفُرُوعِ .
.

( وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ فَاكِهَةً فَأَكَلَ عِنَبًا أَوْ رُمَّانًا أَوْ رُطَبًا أَوْ قِثَّاءً أَوْ خِيَارًا لَمْ يَحْنَثْ ، وَإِنْ أَكَلَ تُفَّاحًا أَوْ بِطِّيخًا وَمِشْمِشًا حَنِثَ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : حَنِثَ فِي الْعِنَبِ وَالرُّطَبِ وَالرُّمَّانِ أَيْضًا ) وَالْأَصْلُ أَنَّ الْفَاكِهَةَ اسْمٌ لِمَا يُتَفَكَّهُ بِهِ قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ : أَيْ يُتَنَعَّمُ بِهِ زِيَادَةً عَلَى الْمُعْتَادِ ، وَالرُّطَبُ وَالْيَابِسُ فِيهِ سَوَاءً بَعْدَ أَنْ يَكُونَ التَّفَكُّهُ بِهِ مُعْتَادًا حَتَّى لَا يَحْنَثَ بِيَابِسِ الْبِطِّيخِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي التُّفَّاحِ وَأَخَوَاتِهِ فَيَحْنَثُ بِهَا وَغَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْقِثَّاءِ وَالْخِيَارِ لِأَنَّهُمَا مِنْ الْبُقُولِ بَيْعًا وَأَكْلًا فَلَا يَحْنَثُ بِهِمَا .
وَأَمَّا الْعِنَبُ وَالرُّطَبُ وَالرُّمَّانُ فَهُمَا يَقُولَانِ إنَّ مَعْنَى التَّفَكُّهِ مَوْجُودٌ فِيهَا فَإِنَّهَا أَعَزُّ الْفَوَاكِهِ وَالتَّنَعُّمُ بِهَا يَفُوقُ التَّنَعُّمَ بِغَيْرِهَا ، وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : إنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِمَّا يُتَغَذَّى بِهَا وَيُتَدَاوَى بِهَا فَأَوْجَبَ قُصُورًا فِي مَعْنَى التَّفَكُّهِ لِلِاسْتِعْمَالِ فِي حَاجَةِ الْبَقَاءِ وَلِهَذَا كَانَ الْيَابِسُ مِنْهَا مِنْ التَّوَابِلِ أَوْ مِنْ الْأَقْوَاتِ .

( قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ فَاكِهَةً فَأَكَلَ عِنَبًا أَوْ رُمَّانًا أَوْ رُطَبًا أَوْ قِثَّاءً أَوْ خِيَارًا لَمْ يَحْنَثْ ، وَإِنْ أَكَلَ تُفَّاحًا أَوْ بِطِّيخًا أَوْ مِشْمِشًا حَنِثَ ) وَكَذَا يَحْنَثُ بِالْخَوْخِ وَالسَّفَرْجَلِ وَالْإِجَّاصِ وَالْكُمَّثْرَى ، وَهَذَا التَّفْصِيلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : يَحْنَثُ فِي الْعِنَبِ وَالرُّطَبِ وَالرُّمَّانِ أَيْضًا ، وَالْأَصْلُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ أَنَّ الْفَاكِهَةَ اسْمٌ لِمَا يُتَفَكَّهُ بِهِ قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ : أَيْ يُتَنَعَّمُ وَيُتَلَذَّذُ بِهِ زِيَادَةً عَلَى الْمُعْتَادِ مِنْ الْغِذَاءِ الْأَصْلِيِّ وَلِهَذَا يُقَالُ النَّارُ فَاكِهَةُ الشِّتَاءِ وَالْمِزَاحُ فَاكِهَةٌ وَالرُّطَبُ وَالْيَابِسُ فِيهِ : أَيْ فِي مَعْنَى التَّفَكُّهِ سَوَاءً بَعْدَ أَنْ يَكُونَ التَّفَكُّهُ بِهِ مُعْتَادًا فِي الْحَالَيْنِ ، فَإِنْ خَصَّتْ الْعَادَةُ التَّفَكُّهَ بِإِحْدَى الْحَالَتَيْنِ دُونَ الْأُخْرَى كَالْبِطِّيخِ فَإِنَّهَا خَصَّتْ التَّفَكُّهَ بِهِ فِي حَالِ رُطُوبَتِهِ دُونَ حَالِ يُبْسِهِ لَمْ يَحْنَثْ بِأَكْلِهِ يَابِسًا ، وَهَذَا مَعْنَى : أَيْ مَعْنَى التَّفَكُّهِ بِأَنْ يُؤْكَلَ زِيَادَةً عَلَى الْغِذَاءِ مَوْجُودٌ فِي التُّفَّاحِ وَالْبِطِّيخِ وَالْمِشْمِشِ فَيَحْنَثُ بِهَا اتِّفَاقًا وَغَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْقِثَّاءِ وَالْخِيَارِ لِأَنَّهُمَا مِنْ الْبُقُولِ بَيْعًا وَأَكْلًا حَتَّى يُوضَعَانِ عَلَى الْمَائِدَةِ كَمَا يُوضَعُ الْبَقْلُ وَنَحْوُهُ فَلَا يَحْنَثُ بِهِمَا اتِّفَاقًا ، وَأَمَّا الْعِنَبُ وَالرُّطَبُ وَالرُّمَّانُ وَهِيَ مَحِلُّ الْخِلَافِ فَوَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ مَعْنَى التَّفَكُّهِ مَوْجُودٌ فِيهَا بَلْ هِيَ أَعَزُّ الْفَوَاكِهِ ، وَالتَّنَعُّمُ بِهَا يَفُوقُ التَّنَعُّمَ بِغَيْرِهَا مِنْ الْفَوَاكِهِ فَيَحْنَثُ بِهَا ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ : هِيَ مِمَّا يُتَغَذَّى بِهَا مُنْفَرِدَةً حَتَّى يُسْتَغْنَى بِهَا فِي الْجُمْلَةِ فِي قِيَامِ الْبَدَنِ وَمَقْرُونَةً مَعَ الْخُبْزِ وَيُتَدَاوَى بِبَعْضِهَا كَالرُّمَّانِ فِي بَعْضِ عَوَارِضِ الْبَدَنِ ، وَلَا يُنْكَرُ أَنَّهَا يُتَفَكَّهُ بِهَا ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتْ قَدْ تُسْتَعْمَلُ

أَصَالَةً لِحَاجَةِ الْبَقَاءِ قَصُرَ مَعْنَى التَّفَكُّهِ فَلَا يَحْنَثُ بِأَحَدِهَا إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ فَيَحْنَثُ بِالثَّلَاثَةِ اتِّفَاقًا ، وَلِهَذَا كَانَ الْيَابِسُ مِنْهَا مِنْ التَّوَابِلِ كَحَبِّ الرُّمَّانِ وَمِنْ الْأَقْوَاتِ وَهُوَ التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ .
وَالْمَشَايِخُ قَالُوا : هَذَا اخْتِلَافُ زَمَانٍ ، فَفِي زَمَانِهِ لَا يَعُدُّونَهَا مِنْ الْفَوَاكِهِ فَأَفْتَى عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ وَفِي زَمَانِهِمَا عُدَّتْ مِنْهَا فَأَفْتَيَا بِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : الِاسْتِدْلَال الْمَذْكُورُ لِأَبِي حَنِيفَةَ يُخَالِفُ هَذَا الْجَمْعَ ، فَإِنَّ مَبْنَى هَذَا الْعُرْفُ ، وَالِاسْتِدْلَالُ الْمَذْكُورُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ مَبْنَاهُ اللُّغَةُ حَيْثُ قَالَ الْفَاكِهَةُ مَا يُتَفَكَّهُ بِهِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ لُغَةً ، وَالتَّفَكُّهُ بِالشَّيْءِ مَا يُتَنَعَّمُ بِهِ زِيَادَةً عَلَى الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ أَصَالَةً ، وَهَذَا مَعْنَى اللُّغَةِ ، وَاسْتِعْمَالُ الْعِنَبِ وَأَخَوَيْهِ لَيْسَ كَذَلِكَ دَائِمًا فَقَصُرَ إلَخْ أَمْكَنَ الْجَوَابُ بِجَوَازِ كَوْنِ الْعُرْفِ وَافَقَ اللُّغَةَ فِي زَمَنِهِ ثُمَّ خَالَفَهَا فِي زَمَانِهِمَا .
فَإِنْ قِيلَ : وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ مَا ذَكَرَ آنِفًا مِنْ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ اللُّغَةُ إلَّا أَنْ لَا يُمْكِنَ فَيُعْتَبَرُ الْعُرْفُ ، فَإِنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِهِمَا ذَلِكَ ، فَالْجَوَابُ أَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ لِجَوَازِ أَنْ يَمْنَعَا كَوْنَ الِاسْتِقْلَالِ بِهِ أَحْيَانَا بِالنِّسْبَةِ إلَى بَعْضِ النَّاسِ يُؤَثِّرُ فِي نَقْصِ كَوْنِهِ مِمَّا يُتَفَكَّهُ بِهِ .

( وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْتَدِمُ فَكُلُّ شَيْءٍ اُصْطُبِغَ بِهِ فَهُوَ إدَامٌ وَالشِّوَاءُ لَيْسَ بِإِدَامٍ وَالْمِلْحُ إدَامٌ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : كُلُّ مَا يُؤْكَلُ مَعَ الْخُبْزِ غَالِبًا فَهُوَ إدَامٌ ) وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ الْإِدَامَ مِنْ الْمُوَادَمَةِ وَهِيَ الْمُوَافَقَةُ وَكُلُّ مَا يُؤْكَلُ مَعَ الْخُبْزِ مُوَافِقٌ لَهُ كَاللَّحْمِ وَالْبِيضِ وَنَحْوِهِ .
وَلَهُمَا أَنَّ الْإِدَامَ مَا يُؤْكَلُ تَبَعًا ، وَالتَّبَعِيَّةُ فِي الِاخْتِلَاطِ حَقِيقَةٌ لِيَكُونَ قَائِمًا بِهِ ، وَفِي أَنْ يُؤْكَلَ عَلَى الِانْفِرَادِ حُكْمًا ، وَتَمَامُ الْمُوَافَقَةِ فِي الِامْتِزَاجِ أَيْضًا ، وَالْخَلُّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْمَائِعَاتِ لَا يُؤْكَلُ وَحْدَهُ بَلْ يُشْرَبُ ، وَالْمِلْحُ لَا يُؤْكَلُ بِانْفِرَادِهِ عَادَةً وَلِأَنَّهُ يَذُوبُ فَيَكُونُ تَبَعًا ، بِخِلَافِ اللَّحْمِ وَمَا يُضَاهِيهِ لِأَنَّهُ يُؤْكَلُ وَحْدَهُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّشْدِيدِ ، وَالْعِنَبُ وَالْبِطِّيخُ لَيْسَا بِإِدَامٍ هُوَ الصَّحِيحُ .

( قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْتَدِمُ فَكُلُّ شَيْءٍ اُصْطُبِغَ بِهِ فَهُوَ إدَامٌ ) كَالْخَلِّ وَالزَّيْتِ وَالْعَسَلِ وَاللَّبَنِ وَالزُّبْدِ وَالسَّمْنِ وَالْمَرَقِ وَالْمِلْحِ لِأَنَّهُ يَئُولُ إلَى الذَّوْبِ فِي الْفَمِ وَيَحْصُلُ بِهِ صَبْغُ الْخُبْزِ ، وَاصْطُبِغَ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ وَهُوَ افْتِعَالٌ مِنْ الصَّبْغِ ، وَلَمَّا كَانَ ثُلَاثِيُّهُ وَهُوَ صَبَغَ مُتَعَدِّيًا إلَى وَاحِدٍ جَاءَ الِافْتِعَالُ مِنْهُ لَازِمًا فَلَا يُقَالُ اصْطَبَغَ الْخُبْزَ لِأَنَّهُ لَا يَصِلُ إلَى الْمَفْعُولِ بِنَفْسِهِ حَتَّى يُقَامَ مَقَامَ الْفَاعِلِ إذَا بُنِيَ الْفِعْلُ لَهُ فَإِنَّمَا يُقَامُ غَيْرُهُ مِنْ الْجَارِ وَالْمَجْرُورِ وَنَحْوِهِ ، فَلِذَا يُقَالُ اُصْطُبِغَ بِهِ وَلَا يُقَالُ اصْطَبَغَ الْخُبْزَ ، وَمَا لَمْ يَصْبُغْ الْخُبْزَ مِمَّا لَهُ جُرْمٌ كَجُرْمِ الْخُبْزِ وَهُوَ بِحَيْثُ يُؤْكَلُ وَحْدَهُ لَيْسَ بِإِدَامٍ كَاللَّحْمِ وَالْبِيضِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ ، وَهَذَا التَّفْصِيلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : مَا يُؤْكَلُ مَعَ الْخُبْزِ غَالِبًا فَهُوَ إدَامٌ ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا يُصْبَغُ بِهِ كَالْخَلِّ وَمَا ذَكَرْنَا إدَامٌ بِالْإِجْمَاعِ ، وَمَا يُؤْكَلُ وَحْدَهُ غَالِبًا كَالْبِطِّيخِ وَالْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَأَمْثَالِهَا لَيْسَ إدَامًا بِالْإِجْمَاعِ : أَيْ بِالِاتِّفَاقِ عَلَى مَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي الْبِطِّيخِ وَالْعِنَبِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ ، خِلَافًا لِمَا قِيلَ إنَّهُمَا عَلَى الْخِلَافِ ، وَمِمَّنْ صَحَّحَ الِاتِّفَاقَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ .
وَفِي الْمُحِيطِ قَالَ مُحَمَّدٌ : التَّمْرُ وَالْجَوْزُ لَيْسَا بِإِدَامٍ ، وَكَذَا الْعِنَبُ وَالْبِطِّيخُ وَالْبَقْلُ ، وَكَذَا سَائِرُ الْفَوَاكِهِ ، وَلَوْ كَانَ فِي بَلَدٍ يُؤْكَلَانِ تَبَعًا لِلْخُبْزِ يَكُونُ إدَامًا ، أَمَّا الْبُقُولُ فَلَيْسَتْ بِإِدَامٍ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ آكِلَهَا لَا يُسَمَّى مُؤْتَدِمًا إلَّا مَا قَدْ يُقَالُ فِي أَهْلِ الْحِجَازِ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَكْلِهِمْ الْكُرَّاثَ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الْبُقُولُ

وَالْبَصَلُ وَسَائِرُ الثِّمَارِ إدَامٌ .
وَفِي التَّمْرِ عِنْدَهُ وَجْهَانِ : فِي وَجْهٍ إدَامٌ لِمَا رُوِيَ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَعَ تَمْرَةً عَلَى كِسْرَةٍ وَقَالَ هَذِهِ إدَامُ هَذِهِ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَفِي وَجْهٍ آخَرَ : لَيْسَ إدَامًا لِأَنَّهُ فَاكِهَةً كَالزَّبِيبِ .
وَاخْتَلَفُوا فِي الْجُبْنِ وَالْبِيضِ وَاللَّحْمِ ، فَجَعَلَهَا مُحَمَّدٌ إدَامًا لِأَنَّهَا لَا تُؤْكَلُ وَحْدَهَا غَالِبًا فَكَانَتْ تَبَعًا لِلْخُبْزِ وَمُوَافَقَةً لَهُ ، وَالْمُؤَادَمَةُ الْمُوَافَقَةُ وَمِنْهُ { قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُغِيرَةِ حِينَ خَطَبَ امْرَأَةً : لَوْ نَظَرْتَ إلَيْهَا فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا } أَيْ يُوَفَّقَ ، فَمَا يُؤْكَلُ غَالِبًا تَبَعًا لِلْخُبْزِ مُوَافِقًا لَهُ إدَامٌ وَالْجُبْنُ وَأَخَوَاهُ كَذَلِكَ ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { سَيِّدُ الْإِدَامِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ اللَّحْمُ } رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
وَيُقَالُ إنَّ مَلِكَ الرُّومِ كَتَبَ إلَى مُعَاوِيَةَ أَنْ ابْعَثْ إلَيَّ بِشَرِّ إدَامٍ عَلَى يَدِ شَرِّ رَجُلٍ ، فَبَعَثَ إلَيْهِ جُبْنًا عَلَى يَدِ رَجُلٍ يَسْكُنُ فِي بَيْتِ أَصْهَارِهِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ ، وَبِقَوْلِ مُحَمَّدٍ أَخَذَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ .
وَلَهُمَا أَنَّ الْإِدَامَ مَا يُؤْكَلُ تَبَعًا ، فَمَا يُؤْكَلُ وَحْدَهُ وَلَوْ أَحْيَانَا لَيْسَ إدَامًا وَهَذَا لِأَنَّهُ مِنْ الْمُؤَادَمَةِ وَهِيَ الْمُوَافَقَةُ وَذَلِكَ بِأَنْ يَصِيرَ مَعَ الْخُبْزِ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ وَهِيَ بِأَنْ يَقُومَ بِهِ قِيَامَ الصَّبْغِ بِالثَّوْبِ وَهُوَ أَنْ يَنْغَمِسَ فِيهِ جِسْمُهُ إذْ حَقِيقَةُ الْقِيَامِ غَيْرُ مُرَادَةٍ لِأَنَّ الْخَلَّ وَنَحْوَهُ لَيْسَ عَرَضَا يَقُومُ بِالْجَوْهَرِ .
وَالْأَجْرَامُ الْمَذْكُورَةُ مِنْ الْبِيضِ وَمَا مَعَهُ لَيْسَ كَذَلِكَ فَلَيْسَتْ بِإِدَامٍ .
وَيَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ إنْ اُعْتُبِرَ فِي مُسَمَّى الْإِدَامِ بِحَيْثُ يُؤْكَلُ تَبَعًا لِلْخُبْزِ مُوَافِقًا ، سَلَّمْنَاهُ وَلَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ مَا ذُكِرَ لِأَنَّهُ كَذَلِكَ .
وَإِنْ اُعْتُبِرَ فِيهِ كَوْنُهُ لَا يُؤْكَلُ إلَّا تَبَعًا

مَنَعْنَاهُ .
نَعَمْ مَا لَا يُؤْكَلُ إلَّا تَبَعًا مُوَافِقًا أَكْمَلُ فِي مُسَمَّى الْإِدَامِ ، لَكِنَّ الْإِدَامَ لَا يَخُصُّ اسْمُهُ الْأَكْمَلَ مِنْهُ .
وَاسْتُدِلَّ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَيْضًا بِأَنَّهُ يُرْفَعُ إلَى الْفَمِ وَحْدَهُ بَعْدَ الْخُبْزِ أَوْ قَبْلَهُ فَلَا تَتَحَقَّقُ التَّبَعِيَّةُ ، بِخِلَافِ الْمُصْطَبَغِ بِهِ .
وَأُجِيبَ عَنْ الْحَدِيثِ بِأَنَّ كَوْنَهُ سَيِّدَ الْإِدَامِ لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ إدَامًا ، إذْ قَدْ يُقَالُ فِي الْخَلِيفَةِ سَيِّدُ الْعَجَمِ وَلَيْسَ هُوَ مِنْهُمْ .
وَأَمَّا حِكَايَةُ مُعَاوِيَةَ فَيَتَوَقَّفُ الِاسْتِدْلَال بِهَا عَلَى صِحَّتِهَا وَهِيَ بَعِيدَةٌ مِنْهَا إذْ يَبْعُدُ مِنْ إمَامٍ عَالِمٍ أَنْ يَتَكَلَّفَ إرْسَالَ شَخْصٍ إلَى بِلَادِ الرُّومِ مُلْتَزِمًا لِمُؤْنَتِهِ لِغَرَضٍ مُهْمَلٍ لِكَافِرٍ .
وَالسُّكْنَى فِي بَيْتِ الصِّهْرِ فَقَطْ لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ السَّاكِنُ شَرَّ رَجُلٍ ، فَآثَارُ الْبُطْلَانِ تَلُوحُ عَلَى هَذِهِ الْقِصَّةِ ، وَدَفْعُ الِاسْتِدْلَالِ لَهُمَا بِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ التَّبَعِيَّةُ فِي الْأَكْلِ ، وَالْأَكْلُ هُوَ فِعْلُ الْفَمِ وَالْحَلْقِ وَهُمَا مُخْتَلِطَانِ فِيهِ ثَمَّةَ فَتَحْصُلُ التَّبَعِيَّةُ حِينَئِذٍ .
وَيُدْفَعُ بِأَنَّ كَوْنَ التَّبَعِيَّةِ فِي الْفَمِ بَعْدَ رَفْعِ كُلٍّ عَلَى حِدَتِهِ تُحَكَّمُ إذْ هُمَا فِيهِ إذًا جِسْمَانِ مُتَكَافِئَانِ لَا يَكُونُ أَحَدُهُمَا تَبَعًا لِلْآخَرِ ، بِخِلَافِ مَا رُفِعَ صِبْغًا لِلْخُبْزِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ سَدُّ الْجُوعِ بِالْخُبْزِ لَا بِالصِّبْغِ .
وَأَمَّا الْجِسْمَانِ الْمُتَكَافِئَانِ فَكُلٌّ يَصْلُحُ لِرَفْعِ الْجُوعِ غَيْرَ مُفْتَقِرٍ إلَى الْآخَرِ فِي رَفْعِهِ .
قَالَ التُّمُرْتَاشِيُّ : وَهَذَا الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمْ عَلَى عَكْسِ اخْتِلَافِهِمْ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ إلَّا رَغِيفًا فَأَكَلَ مَعَهُ الْبِيضَ وَنَحْوَهُ لَمْ يَحْنَثْ عِنْدَهُمَا وَحَنِثَ عِنْد مُحَمَّدٍ .

( وَإِذَا حَلَفَ لَا يَتَغَدَّى فَالْغَدَاءُ الْأَكْلُ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى الظُّهْرِ وَالْعَشَاءُ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ ) لِأَنَّ مَا بَعْدَ الزَّوَالِ يُسَمَّى عِشَاءً وَلِهَذَا تُسَمَّى الظُّهْرُ إحْدَى صَلَاتَيْ الْعِشَاءِ فِي الْحَدِيثِ ( وَالسُّحُورُ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ ) لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ السَّحَرِ وَيُطْلَقُ عَلَى مَا يَقْرُبُ مِنْهُ .
ثُمَّ الْغَدَاءُ وَالْعَشَاءُ مَا يُقْصَدُ بِهِ الشِّبَعُ عَادَةً وَتُعْتَبَرُ عَادَةُ أَهْلِ كُلِّ بَلْدَةٍ فِي حَقِّهِمْ ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الشِّبَعِ .

( قَوْلُهُ وَإِذَا حَلَفَ لَا يَتَغَدَّى فَالْغَدَاءُ الْأَكْلُ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى الظُّهْرِ وَالْعَشَاءُ ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالْمَدِّ ( مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ ) وَهَذَا تَسَاهُلٌ مَعْرُوفُ الْمَعْنَى لَا يُعْتَرَضُ بِهِ .
فَإِنَّ الْغَدَاءَ وَالْعَشَاءَ اسْمٌ لِمَا يُؤْكَلُ فِي الْوَقْتَيْنِ لَا لِلْأَكْلِ فِيهِمَا .
فَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ فَالتَّغَدِّي الْأَكْلُ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ ، وَالتَّعَشِّي الْأَكْلُ مِنْ الظُّهْرِ إلَخْ ، لِأَنَّ مَا بَعْدَ الظُّهْرِ يُسَمَّى عِشَاءً بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَلِهَذَا سُمِّيَ الظُّهْرُ إحْدَى صَلَاتَيْ الْعِشَاءِ فِي الْحَدِيثِ ، إذْ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ { صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إحْدَى صَلَاتَيْ الْعِشَاءِ } وَفُسِّرَتْ بِأَنَّهَا الظُّهْرُ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ .
هَذَا وَتَفْسِيرُ التَّغَدِّي بِالْأَكْلِ مِنْ الْفَجْرِ إلَى آخِرِهِ مَذْكُورٌ فِي التَّجْرِيدِ .
وَفِي الْخُلَاصَةِ وَوَقْتُ التَّغَدِّي مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إلَى الزَّوَالِ ، وَيُشْبِهُ كَوْنَهُ نَقْلًا عَنْ الْفَتَاوَى الصُّغْرَى وَفِيهَا التَّسَحُّرُ بَعْدَ ذَهَابِ ثُلُثَيْ اللَّيْلِ ، وَيُوَافِقُهُ مَا عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ إلَى السَّحَرِ قَالَ : إذَا دَخَلَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَخِيرِ فَكَلَّمَهُ لَمْ يَحْنَثْ وَقَالَ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ : وَقْتُ الْغَدَاءِ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إلَى وَقْتِ الزَّوَالِ ، وَوَقْتُ الْعَشَاءِ مِنْ بَعْدِ الزَّوَالِ إلَى أَنْ يَمْضِيَ أَكْثَرُ اللَّيْلِ ، وَوَقْتُ السُّحُورِ مِنْ مُضِيِّ أَكْثَرِ اللَّيْلِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ ، ثُمَّ قَالَ : هَذَا فِي عُرْفِهِمْ ، وَأَمَّا فِي عُرْفِنَا : وَقْتُ الْعَشَاءِ مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعَصْرِ انْتَهَى .
فَعُرْفُهُمْ كَانَ مُوَافِقًا لِلُّغَةِ لِأَنَّ الْغَدْوَةَ اسْمٌ لِأَوَّلِ النَّهَارِ ، وَمَا قَبْلَ الزَّوَالِ أَوَّلُهُ فَالْأَكْلُ فِيهِ تَغَدٍّ ، وَقَدْ أُطْلِقَ السُّحُورُ غَدَاءً فِي { قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ هَلُمَّ إلَى الْغَدَاءِ الْمُبَارَكِ } وَلَيْسَ إلَّا مَجَازًا

لِقُرْبِهِ مِنْ الْغَدَاةِ ، وَكَذَا السُّحُورُ لَمَّا كَانَ لَا يُؤْكَلُ فِي السَّحَرِ وَالسَّحَرُ مِنْ الثُّلُثِ الْأَخِيرِ سُمِّيَ مَا يُؤْكَلُ فِي النِّصْفِ الثَّانِي لِقُرْبِهِ مِنْ الثُّلُثِ الْأَخِيرِ سَحُورًا بِفَتْحِ السِّينِ وَالْأَكْلُ فِيهِ تَسَحُّرًا ، وَالتَّضَحِّي الْأَكْلُ فِي وَقْتِ الضُّحَى وَيُسَمَّى الضَّحَاءُ أَيْضًا بِالْفَتْحِ وَالْمَدِّ ، وَوَقْتُ الضُّحَى مِنْ حِينَ تَحِلُّ الصَّلَاةُ إلَى أَنْ تَزُولَ ، وَأَصْلُ هَذِهِ فِي مَسَائِلِ الْقَضَاءِ .
قَالَ السَّرَخْسِيُّ فِيمَنْ حَلَفَ لَيُعْطِيَن فُلَانًا حَقَّهُ ضَحْوَةً : فَوَقْتُ الضَّحْوَةِ مِنْ حِينَ تَبْيَضُّ الشَّمْسُ إلَى أَنْ تَزُولَ ، وَإِنْ قَالَ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أَوْ حَتَّى تَطْلُعَ فَلَهُ مِنْ حِينَ تَطْلُعُ إلَى أَنْ تَبْيَضَّ لِأَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ .
وَالنَّهْيُ يَمْتَدُّ إلَى أَنْ تَبْيَضَّ .
وَالْمَسَاءُ مَسَاءَانِ أَحَدُهُمَا مَا بَعْدَ الزَّوَالِ ، وَالْآخَرُ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ ، فَأَيَّهمَا نَوَى صَحَّتْ نِيَّتُهُ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ حَلَفَ بَعْدَ الزَّوَالِ لَا يَفْعَلُ كَذَا حَتَّى يُمْسِيَ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَهُوَ عَلَى غَيْبُوبَةِ الشَّمْسِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ الْيَمِينِ عَلَى الْمَسَاءِ الْأَوَّلِ فَيُحْمَلُ عَلَى الْمَسَاءِ الثَّانِي وَهُوَ مَا بَعْدَ الْغُرُوبِ ، وَذَكَرَ الْوَلْوَالِجِيُّ : وَالضَّحْوَةُ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ السَّاعَةِ الَّتِي تَحِلُّ فِيهَا الصَّلَاةُ إلَى نِصْفِ النَّهَارِ ، وَالتَّصْبِيحُ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إلَى ارْتِفَاعِ الضَّحْوَةِ : يَعْنِي الْكُبْرَى لِأَنَّهُ مِنْ الْإِصْبَاحِ وَهَذَا يُعْرَفُ بِتَسْمِيَةِ أَهْلِ اللُّغَةِ .
وَلَوْ حَلَفَ لَيَأْتِيَنه غَدْوَةً فَهَذَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى نِصْفِ النَّهَارِ ( قَوْلُهُ ثُمَّ الْغَدَاءُ وَالْعَشَاءُ مَا يُقْصَدُ بِهِ الشِّبَعُ عَادَةً ) وَكَذَا السُّحُورُ ، فَلَوْ أَكَلَ لُقْمَةً أَوْ لُقْمَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ مِمَّا لَمْ يَبْلُغْ نِصْفَ الشِّبَعِ لَا يَحْنَثُ بِحَلِفِهِ مَا تَغَدَّيْت وَلَا تَعَشَّيْت وَلَا تَسَحَّرْت .
وَيُرَدُّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي

رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ : { تَعَشَّوْا وَلَوْ بِكَفٍّ مِنْ حَشَفٍ فَإِنَّ تَرْكَ الْعَشَاءِ مَهْرَمَةٌ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ كَفًّا مِنْ حَشَفٍ لَا يَبْلُغُ فِي الْعَادَةِ نِصْفَ الشِّبَعِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْعُرْفَ الطَّارِئَ يُفِيدُ أَنَّهُ مَعَ الشِّبَعِ لِلْقَطْعِ مَا بِقَوْلِهِمْ مَا تَغَدَّيْت الْيَوْمَ أَوْ مَا تَعَشَّيْت الْبَارِحَةَ وَإِنْ كَانَ أَكَلَ لُقْمَةً أَوْ لُقْمَتَيْنِ وَكَذَا يُعْتَبَرُ فِي الْغَدَاءِ وَأَخَوَيْهِ فِي حَقِّ أَهْلِ كُلِّ بَلَدٍ مَا يَعْتَادُونَهُ مِنْ مَأْكُولِهِمْ ، فَلَوْ كَانَ عَادَتُهُمْ أَكْلَ الْخُبْزِ فِي الْغَدَاءِ أَوْ اللَّحْمِ أَوْ اللَّبَنِ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ حَتَّى إنَّ الْحَضَرِيَّ إذَا حَلَفَ عَلَى تَرْكِ الْغَدَاءِ فَشَرِبَ اللَّبَنَ لَمْ يَحْنَثْ ، وَالْبَدْوِيُّ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ غِذَاءُ أَهْلِ الْبَادِيَةِ ، وَلَوْ أَكَلَ غَيْرَ الْخُبْزِ مِنْ أُرْزٍ أَوْ تَمْرٍ أَوْ غَيْرِهِمَا مِمَّا هُوَ غَيْرُ مُعْتَادٍ التَّغَدِّي بِهِ حَتَّى شَبِعَ لَمْ يَحْنَثْ أَيْضًا .
.

( وَمَنْ قَالَ إنْ لَبِسْت أَوْ أَكَلْت أَوْ شَرِبْت فَعَبْدِي حُرٌّ ، وَقَالَ عَنَيْت شَيْئًا دُونَ شَيْءٍ لَمْ يُدَنْ فِي الْقَضَاءِ وَغَيْرِهِ ) لِأَنَّ النِّيَّةَ إنَّمَا تَصِحُّ فِي الْمَلْفُوظِ وَالثَّوْبُ وَمَا يُضَاهِيهِ غَيْرُ مَذْكُورٍ تَنْصِيصًا وَالْمُقْتَضَى لَا عُمُومَ لَهُ فَلَغَتْ نِيَّةَ التَّخْصِيصِ فِيهِ ( وَإِنْ قَالَ إنْ لَبِسْت ثَوْبًا أَوْ أَكَلْت طَعَامًا أَوْ شَرِبْت شَرَابًا لَمْ يُدَنْ فِي الْقَضَاءِ خَاصَّةً ) لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ فِي مَحَلِّ الشَّرْطِ فَتَعُمُّ فَعُمِلَتْ نِيَّةُ التَّخْصِيصِ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ فَلَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ .

( قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ إنْ لَبِسْت أَوْ أَكَلْت أَوْ شَرِبْت فَعَبْدِي حُرٌّ وَقَالَ نَوَيْت شَيْئًا دُونَ شَيْءٍ ) مِنْ الْمَلْبُوسِ أَوْ الْمَأْكُولِ أَوْ الْمَشْرُوبِ فِي إنْ أَكَلْت وَإِنْ شَرِبْت لَمْ تَصِحَّ نِيَّتُهُ لَا فِي الْقَضَاءِ وَلَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ، فَأَيَّ شَيْءٍ أَكَلَ أَوْ لَبِسَ أَوْ شَرِبَ حَنِثَ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَصِحُّ نِيَّتُهُ دِيَانَةً ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ، وَاخْتَارَهَا الْخَصَّافُ لِأَنَّ النِّيَّةَ إنَّمَا تَصِحُّ فِي الْمَلْفُوظِ لِتَعْيِينِ بَعْضِ مُحْتَمَلَاتِهِ .
وَالثَّوْبُ فِي إنْ لَبِسْت وَالْمَأْكُولَ وَالْمَشْرُوبَ فِي إنْ أَكَلْت وَإِنْ شَرِبْت غَيْرُ مَذْكُورٍ تَنْصِيصًا فَلَمْ تُصَادِفْ النِّيَّةُ مَحَلَّهَا فَلَغَتْ .
فَإِنْ قِيلَ : إنْ لَمْ يَكُنْ مَذْكُورًا تَنْصِيصًا فَهُوَ مَذْكُورٌ تَقْدِيرًا وَهُوَ كَالْمَذْكُورِ تَنْصِيصًا .
أُجِيبَ بِأَنَّ تَقْدِيرَهُ لِضَرُورَةِ اقْتِضَاءِ الْأَكْلِ مَأْكُولًا ، وَكَذَا اللُّبْسُ وَالشُّرْبُ ، وَالْمُقْتَضَى لَا عُمُومَ لَهُ عِنْدَنَا ، وَلِأَنَّ ثُبُوتَهُ ضَرُورِيٌّ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا وَالضَّرُورَةُ فِي تَصْحِيحِ الْكَلَامِ ، وَتَصْحِيحُهُ لَا يَتَوَقَّفُ إلَّا عَلَى مَأْكُولٍ لَا عَلَى مَأْكُولٍ هُوَ كَذَا فَلَا تَصِحُّ إرَادَتُهُ ، فَمَبْنَى الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْفُرُوعِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ الِاخْتِلَافُ فِي أَنَّ الْمُقْتَضَى لَا عُمُومَ لَهُ أَوْ لَهُ عُمُومٌ عَلَى مَا ذَكَرُوا ، أَمَّا لَوْ قَالَ إنْ لَبِسْت ثَوْبًا أَوْ أَكَلْت طَعَامًا أَوْ شَرِبْت شَرَابًا وَقَالَ عَنَيْت شَيْئًا دُونَ شَيْءٍ فَإِنَّهُ يَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لَا فِي الْقَضَاءِ ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ اللَّفْظَ الْعَامَّ الْقَابِلَ لِلتَّخْصِيصِ فَصَحَّتْ نِيَّتُهُ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ فَتَعُمُّ لِمَآلِهَا إلَى كَوْنِهَا فِي سِيَاقِ النَّفْيِ بِسَبَبِ أَنَّ الشَّرْطَ الْمُثْبَتَ فِي الْيَمِينِ يَكُونُ الْحَلِفُ عَلَى نَفْيِهِ لِأَنَّ الْمَعْنَى نَفْيُ لُبْسِ الثَّوْبِ فَكَأَنَّهُ قَالَ لَا أَلْبَسُ ثَوْبًا إلَّا أَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ فَلَا يَقْبَلُهُ الْقَاضِي مِنْهُ .

فَإِنْ قِيلَ : يُعْتَبَرُ تَخْصِيصًا لِلْمَصْدَرِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِالْفِعْلِ فَإِنَّهُ مَذْكُورٌ بِذِكْرِ الْفِعْلِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الطَّلَاقِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْمَصْدَرَ أَيْضًا ضَرُورِيٌّ لِلْفِعْلِ وَالضَّرُورَةُ مُنْدَفِعَةٌ بِلَا تَعْمِيمٍ ، وَهَذَا يُخَالِفُ مَا تَقَدَّمَ فِي مَسْأَلَةِ طَلِّقِي نَفْسَك حَيْثُ جَعَلَ الْمَصْدَرَ مَذْكُورًا بِذِكْرِ الْفِعْلِ فَقَبْلَ الْعُمُومِ حَتَّى صَحَّتْ نِيَّةُ الثَّلَاثِ ، بَلْ الْحَقُّ عَلَى هَذَا أَنَّهُ عَامٌّ ، وَكَمَا قُلْتُمْ فِي قَوْلِهِ إنْ خَرَجْت فَعَبْدِي حُرٌّ وَنَوَى السَّفَرَ مَثَلًا يُصَدَّقُ دِيَانَةً فَلَا يَحْنَثُ بِالْخُرُوجِ إلَى غَيْرِهِ تَخْصِيصًا لِنَفْسِ الْخُرُوجِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ نَوَى الْخُرُوجَ إلَى مَكَان خَاصٍّ كَبَغْدَادَ حَيْثُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْمَكَانَ غَيْرَ مَذْكُورٍ ، فَكَذَا يُرَادُ تَخْصِيصُ فِعْلِ الْأَكْلِ ، وَهَكَذَا قَوْلُكُمْ فِيمَا إذَا حَلَفَ لَا يُسَاكِنُ فُلَانًا وَنَوَى الْمُسَاكَنَةَ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ أَنَّهُ يَصِحُّ ، وَهُوَ تَخْصِيصٌ لِلْمَصْدَرِ الْمَضْمُونِ لِلْفِعْلِ .
قُلْنَا : ذَلِكَ الْمَصْدَرُ وَإِنْ عَمَّ بِسَبَبِ أَنَّهُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ لِأَنَّ الْفِعْلَ فِي سِيَاقِهِ ، لَكِنَّهُ لَا يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ لِأَنَّ عُمُومَهُ ضَرُورَةٌ تُحَقِّقُ الْفِعْلَ فِي النَّفْيِ ، فَإِنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ فِي خُصُوصِ مَحَلِّهِ الْخَاصِّ : أَعْنِي بَعْدَ لَفْظَةِ لَا فِي لَا آكُلُ إلَّا بِتَحَقُّقِ ذَلِكَ الْمَصْدَرِ هُنَاكَ ، وَمَا لَيْسَ ثُبُوتُهُ إلَّا ضَرُورَةً أَمْرٌ لَا يَثْبُتُ بِاعْتِبَارِهِ غَيْرَهُ ، وَلَا يَثْبُتُ مَا هُوَ زَائِدٌ عَلَيْهِ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ الْفِعْلِ فِي النَّفْيِ ثُبُوتُ الْمَصْدَرِ الْعَامِّ ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ الْفِعْلِ ثُبُوتُ التَّصَرُّفِ بِالتَّخْصِيصِ فَلَا يَقْبَلُهُ ، بِخِلَافِ إنْ أَكَلْت أَكْلًا فَإِنَّ الِاسْمَ حِينَئِذٍ مَذْكُورٌ صَرِيحًا فَيَقْبَلُ نِيَّةَ التَّخْصِيصِ هُوَ لَا يُشَكِّلُ الْفَرْقَ لِأَنَّ أَكْلَ الْمَذْكُورِينَ لَيْسَ عَيْنَ الْأَكْلِ الضِّمْنِيِّ لِلْفِعْلِ الضَّرُورِيِّ الثُّبُوتِ فَقَامَ الْمَذْكُورُ مَقَامَ الِاسْمِ وَقَبْلَ التَّخْصِيصِ .

وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْخُرُوجِ فَقَدْ أَنْكَرَهَا الْقُضَاةُ الْأَرْبَعَةُ الْقَاضِي أَبُو الْهَيْثَمِ وَالْقَاضِي أَبُو خَازِمٍ وَالْقَاضِي الْقُمِّيُّ وَالْقَاضِي أَبُو طَاهِرٍ الدَّبَّاسُ ، وَحَمَلُوا مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيهَا عَلَى مَا لَوْ قَالَ إنْ خَرَجْت خُرُوجًا وَكَأَنَّهَا سَقَطَتْ مِنْ الْكَاتِبِ .
وَمَنْ الْتَزَمَهَا أَجَابَ بِأَنَّ الْخُرُوجَ فِي نَفْسِهِ مُتَنَوِّعٌ إلَى سَفَرٍ وَغَيْرِهِ حَتَّى اخْتَلَفَتْ أَحْكَامُهُمَا قُبِلَتْ إرَادَةُ أَحَدِ نَوْعَيْهِ وَبِهِ أُجِيبَ عَنْ مَسْأَلَةِ الْمُسَاكَنَةِ ، فَإِنَّهَا مُتَنَوِّعَةٌ إلَى كَامِلَةٍ وَهِيَ الْمُسَاكَنَةُ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ ، وَمُطْلَقَةٌ وَهِيَ مَا تَكُونُ فِي دَارٍ ، فَإِرَادَةُ الْمُسَاكَنَةِ فِي بَيْتٍ إرَادَةُ أَخَصِّ أَنْوَاعِهَا ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا حَلَفَ لَا يَغْتَسِلُ أَوْ لَا يَنْكِحُ ثُمَّ قَالَ عَنَيْت مِنْ جَنَابَةٍ أَوْ امْرَأَةٍ دُونَ امْرَأَةٍ لَا يُصَدَّقُ قَضَاءً وَلَا دِيَانَةً ، لِأَنَّ الِاغْتِسَالَ غَيْرُ مُتَنَوِّعٍ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ إمْرَارِ الْمَاءِ وَالتَّنَوُّعُ فِي أَسْبَابِهِ .
وَكَذَا لَا يَسْكُنُ دَارَ فُلَانٍ وَقَالَ عَنَيْت بِأَجْرٍ وَلَمْ يَسْبِقْ قَبْلَ ذَلِكَ كَلَامٌ بِأَنْ اسْتَأْجَرَهَا مِنْهُ أَوْ اسْتَعَارَهَا فَأَبَى فَحَلَفَ يَنْوِي السُّكْنَى بِالْإِجَارَةِ أَوْ الْإِعَارَةِ لَا يَصِحُّ حَتَّى لَوْ سَكَنَهَا بِغَيْرِ أَجْرٍ حَنِثَ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ دَارًا اشْتَرَاهَا فُلَانٌ وَعَنَى اشْتَرَاهَا لِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ يُصَدَّقُ لِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْ الشِّرَاءِ لِأَنَّهُ مُتَنَوِّعٌ إلَى مَا يُوجِبُ الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي وَمَا يُوجِبُهُ لِغَيْرِهِ فَتَصِحُّ نِيَّةُ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ ، بِخِلَافِ السُّكْنَى نَفْسِهَا لِأَنَّهَا لَا تَتَنَوَّعُ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ إلَّا الْكَيْنُونَةُ فِي الدَّارِ عَلَى وَجْهِ الْقَرَارِ ، وَإِنَّمَا تَخْتَلِفُ بِالصِّفَةِ وَلَا يَصِحُّ تَخْصِيصُ الصِّفَةِ لِأَنَّهَا لَمْ تُذْكَرْ بِخِلَافِ الْجِنْسِ ، وَكَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ امْرَأَةً وَنَوَى كُوفِيَّةً أَوْ بَصَرِيَّةً لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ تَخْصِيصُ الصِّفَةِ ، وَلَوْ نَوَى حَبَشِيَّةً أَوْ عَرَبِيَّةً

صَحَّتْ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ تَخْصِيصٌ فِي الْجِنْسِ كَأَنَّ الِاخْتِلَافَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْآبَاءِ اخْتِلَافٌ بِالْجِنْسِ وَبِالنِّسْبَةِ إلَى الْبِلَادِ اخْتِلَافٌ بِالصِّفَةِ ، وَكَأَنَّ السِّرَّ فِي ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ ذِكْرَ لَفْظِ امْرَأَةٍ أَوْ رَجُلٍ عَيْنُ ذِكْرِ وَلَدٍ لَهُ آبَاءُ إلَى آدَمَ فَكَأَنَّهُ قَالَ كُلُّ مَنْ كَانَ لَهَا أَبٌ مِنْ وَلَدِ آدَمَ وَأَرَادَ بَعْضَ الْآبَاءِ دُونَ بَعْضٍ وَلَيْسَ الصِّفَاتُ مَذْكُورَةً بِعَيْنِ وَلَدِ آدَمَ وَإِنْ كَانَ لَا يَخْلُو الْمَوْجُودُ عَنْ صِفَةٍ فَثُبُوتُهَا مُقْتَضَى الْوُجُودِ لَا اللَّفْظِ .
وَالْحَقُّ أَنَّ الْأَفْعَالَ الْخَارِجِيَّةَ لَا تُتَصَوَّرُ أَنْ تَكُونَ إلَّا نَوْعًا وَاحِدًا ، لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْغُسْلِ وَنَحْوِهِ ، وَلَا بَيْنَ الْخُرُوجِ وَنَحْوِهِ مِنْ الشِّرَاءِ ، فَكَمَا أَنَّ اتِّحَادَ الْغُسْلِ بِسَبَبِ أَنَّهُ لَيْسَ إلَّا إمْرَارُ الْمَاءِ كَذَلِكَ الْخُرُوجُ لَيْسَ إلَّا قَطْعُ الْمَسَافَةِ غَيْرَ أَنَّهُ يُوصَفُ بِالطُّولِ وَالْقِصَرِ فِي الزَّمَانِ فَلَا تَصِيرُ مُنْقَسِمَةً إلَى نَوْعَيْنِ إلَّا بِاخْتِلَافِ الْأَحْكَامِ شَرْعًا ، فَإِنَّ عِنْدَ ذَلِكَ عَلِمْنَا اعْتِبَارَ الشَّرْعِ إيَّاهَا كَذَلِكَ كَمَا فِي الْخُرُوجِ الْمُخْتَلِفِ الْأَحْكَامِ فِي السَّفَرِ وَغَيْرِهِ وَالشِّرَاءِ لِنَفْسِهِ وَغَيْرِهِ فَإِنَّهُ مُخْتَلِفٌ حُكْمُهُمَا فَيُحْكَمُ بِتَعَدُّدِ النَّوْعِ فِي ذَلِكَ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُسَاكَنَةَ وَالسُّكْنَى لَيْسَ فِيهِمَا لِاخْتِلَافِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ لِطَائِفَةٍ مِنْهُمَا بِالنِّسْبَةِ إلَى طَائِفَةٍ أُخْرَى وَكُلٌّ فِي نَفْسِهِ نَوْعٌ لِأَنَّ الْكُلَّ قَرَارٌ فِي الْمَكَانِ .
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ الْمَفْعُولَ فِي لَا آكُلُ وَلَا أَلْبَسُ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْمُقْتَضَى لِأَنَّ الْمُقْتَضَى مَا يُقَدَّرُ لِتَصْحِيحِ الْمَنْطُوقِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ مِمَّا يُحْكَمُ بِكَذِبِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ مِثْلَ " رُفِعَ الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ " أَوْ بِعَدَمِ صِحَّتِهِ شَرْعًا مَثَلَ أَعْتِقْ عَبْدَك وَلَيْسَ قَوْلُ الْقَائِلِ لَا آكُلُ يُحْكَمُ بِكَذِبِ قَائِلِهِ

بِمُجَرَّدِهِ وَلَا مُتَضَمِّنًا حُكْمًا لَا يَصِحُّ شَرْعًا .
نَعَمْ الْمَفْعُولُ : أَعْنِي الْمَأْكُولَ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ وُجُودِ فِعْلِ الْآكِلِ ، وَمِثْلُهُ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْمُقْتَضَى وَإِلَّا كَانَ كُلُّ كَلَامٍ كَذَلِكَ إذْ لَا بُدَّ أَنْ يُسْتَدْعَى مَعْنَاهُ زَمَانًا وَمَكَانًا ، فَكَانَ لَا يُفَرَّقُ بَيْنَ قَوْلِنَا الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ مَرْفُوعَانِ ، وَبَيْنَ قَامَ زَيْدٌ وَجَلَسَ عَمْرٌو ، فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ حَذْفِ الْمَفْعُولِ اقْتِصَارًا وَتَنَاسِيًا ، وَطَائِفَةٌ مِنْ الْمَشَايِخِ وَإِنْ فَرَّقُوا بَيْنَ الْمُقْتَضَى وَالْمَحْذُوفِ وَجَعَلُوا الْمَحْذُوفَ يَقْبَلُ الْعُمُومَ ، فَلَنَا أَنْ نَقُولَ : عُمُومُهُ لَا يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ ، وَقَدْ صَرَّحَ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ جَمْعٌ بِأَنَّ مِنْ الْعُمُومَاتِ مَا لَا يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ مِثْلُ الْمَعَانِي إذَا قُلْنَا بِأَنَّ الْعُمُومَ مِنْ عَوَارِضِ الْمَعَانِي كَمَا هُوَ مِنْ عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ وَغَيْرُ ذَلِكَ .
فَكَذَلِكَ هَذَا الْمَحْذُوفُ إذْ لَيْسَ فِي حُكْمِ الْمَنْطُوقِ لِتَنَاسِيهِ وَعَدَمِ الِالْتِفَاتِ إلَيْهِ ، إذْ لَيْسَ الْغَرَضُ إلَّا الْإِخْبَارُ بِمُجَرَّدِ الْفِعْلِ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ أَنَّ الْفِعْلَ الْمُتَعَدِّيَ قَدْ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ لِمَا قُلْنَا وَالِاتِّفَاقُ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ التَّخْصِيصِ فِي بَاقِي الْمُتَعَلَّقَاتِ مِنْ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ ، حَتَّى لَوْ نَوَى لَا يَأْكُلُ فِي مَكَان دُونَ آخَرَ أَوْ زَمَانٍ لَا تَصِحُّ نِيَّتُهُ بِالِاتِّفَاقِ .
وَمِنْ صُوَرِ تَخْصِيصِ الْحَالِ أَنْ يَقُولَ لَا أُكَلِّمُ هَذَا الرَّجُلَ وَهُوَ قَائِمٌ وَنَوَى فِي حَالِ قِيَامِهِ فَنِيَّتُهُ لَغْوٌ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لَا أُكَلِّمُ هَذَا الرَّجُلَ الْقَائِمَ فَإِنَّ نِيَّتَهُ تُعْمَلُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَالْفَرْقُ بِأَنَّ الْمَفْعُولَ فِي حُكْمِ الْمَذْكُورِ إذْ لَا يُعْقَلُ الْفِعْلُ إلَّا بِعَقْلِيَّتِهِ مَمْنُوعٌ بَلْ نَقْطَعُ بِتَعَقُّلِ مَعْنَى الْمُتَعَدِّي بِدُونِ إخْطَارِهِ ، فَإِنَّمَا هُوَ لَازِمٌ لِوُجُودِهِ لَا مَدْلُولًا لِلَّفْظِ .
هَذَا ، وَكَوْنُ إرَادَةِ نَوْعٍ لَيْسَ تَخْصِيصًا مِنْ الْعَامِّ مِمَّا

يَقْبَلُ الْمَنْعَ لِأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ قَصْرٍ عَامٍّ عَلَى بَعْضِ مُتَنَاوَلَاتِهِ ، وَأَقْرَبُ الْأُمُورِ إلَيْك قَوْلُهُ { لَا تَقْتُلُوا النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ } تَخْصِيصٌ لِاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ، وَالنِّسَاءُ نَوْعٌ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ الْمُشْرِكِينَ ، وَمَعْنَى تَخْصِيصِ النَّوْعِ لَيْسَ إلَّا إخْرَاجُ جَمِيعِ أَفْرَادِهِ كَمَا نَحْنُ فِيهِ تَخْصِيصُ السَّفَرِ تَخْصِيصُ كُلِّ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ السَّفَرِ فَيَسْتَمِرُّ الْإِشْكَالُ فِي يَمِينِ الْمُسَاكَنَةِ وَالْخُرُوجِ وَقَدْ أَنْكَرَ هَذِهِ مَنْ ذَكَرْنَا .
وَلَا يُجَابُ بِمَا ذُكِرَ فِي الذَّخِيرَةِ جَوَابًا عَنْ إيرَادِ قَائِلٍ لَوْ صَحَّتْ نِيَّةُ الشِّرَاءِ لِنَفْسِهِ فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ بَيَانُ نَوْعٍ لَا بَيَانُ تَخْصِيصٍ كَانَ يَجِبُ أَنْ يُصَدَّقَ فِي الْقَضَاءِ كَمَا فِي الْخُرُوجِ ، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ أَنْتِ بَائِنٌ قُلْنَا نِيَّةُ الشِّرَاءِ لِنَفْسِهِ بَيَانُ نَوْعٍ مِنْ وَجْهٍ وَتَخْصِيصٌ عَامٌّ مِنْ وَجْهٍ فِي حَقِّ الْحُقُوقِ لِأَنَّ الشِّرَاءَ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ سَوَاءٌ فِي حَقِّ الْحُقُوقِ ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ هُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَلَهُ عُمُومٌ ، فَإِذَا نَوَى أَحَدَهُمَا كَانَ تَخْصِيصًا ، وَلَكِنْ فِي حَقِّ الْمِلْكِ بَيَانُ نَوْعٍ لِأَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ فِي حَقِّ الْمِلْكِ فَوَفَّرْنَا عَلَى الشَّبَهَيْنِ حَظَّهُمَا فَقُلْنَاهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ بَيَانُ نَوْعٍ يَصِحُّ هَذَا الْبَيَانُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الِاسْمُ مَلْفُوظًا ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ تَخْصِيصٌ لَمْ يَجُزْ فِي الْقَضَاءِ .
وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَنْتِ بَائِنٌ يَصِحُّ نِيَّةً أَيَّ أَنْوَاعِ الْبَيْنُونَةِ شَاءَ مِنْ عِصْمَةِ النِّكَاحِ وَغَيْرِهَا لِأَنَّ الْأَعَمَّ فِي الْإِثْبَاتِ لَا يَعُمُّ اسْتِغْرَاقًا .
بِخِلَافِهِ فِي النَّفْيِ لَوْ قُلْت رَأَيْت رَجُلًا لَا يَعُمُّ أَصْنَافَ الرِّجَالِ اسْتِغْرَاقًا بِخِلَافِ مَا رَأَيْت رَجُلًا .

( وَمَنْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ دِجْلَةَ فَشَرِبَ مِنْهَا بِإِنَاءٍ لَمْ يَحْنَثْ ) حَتَّى يَكْرَعَ مِنْهَا كَرْعًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا : إذَا شَرِبَ مِنْهَا بِإِنَاءٍ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ مُتَعَارَفُ الْمَفْهُومِ .
وَلَهُ أَنَّ كَلِمَةَ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ وَحَقِيقَتُهُ فِي الْكَرْعِ وَهِيَ مُسْتَعْمَلَةٌ ، وَلِهَذَا يَحْنَثُ بِالْكَرْعِ إجْمَاعًا فَمُنِعَتْ الْمَصِيرَ إلَى الْمَجَازِ وَإِنْ كَانَ مُتَعَارَفًا .

( قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ دِجْلَةَ فَشَرِبَ مِنْهَا بِإِنَاءٍ لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَكْرَعَ مِنْهَا كَرْعًا ) أَيْ يَتَنَاوَلَ بِفَمِهِ مِنْ نَفْسِ النَّهْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ : يَعْنِي إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ ، أَمَّا إذَا نَوَى بِإِنَاءٍ حَنِثَ بِهِ إجْمَاعًا ، وَقَالَا : إنْ شَرِبَ مِنْهَا كَيْفَمَا شَرِبَ بِإِنَاءٍ أَوْ بِيَدِهِ أَوْ كَرْعًا حَنِثَ لَا فَرْقً بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ قَوْلِهِ مِنْ مَاءِ دِجْلَةَ حَيْثُ يَحْنَثُ بِالشُّرْبِ مِنْ مَائِهَا بِإِنَاءٍ أَوْ كَرْعًا فِي دِجْلَةَ أَوْ نَهْرٍ آخَرَ يَأْخُذُ مِنْ دِجْلَةَ لِأَنَّ نِسْبَةَ الْمَاءِ إلَيْهَا ثَابِتَةٌ فِي جَمْعِ هَذِهِ الصُّوَرِ .
وَقَوْلُهُمَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ ، وَجْهُهُ أَنَّهُ هُوَ الْمُتَعَارَفُ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِنَا شَرِبَتْ مِنْ دِجْلَةَ ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مَجَازًا إمَّا مَجَازُ حَذْفٍ ، أَيْ مِنْ مَاءِ دِجْلَةَ ، أَوْ مَجَازُ عَلَاقَةٍ بِأَنْ يُعَبِّرَ بِدِجْلَةَ عَنْ مَائِهَا وَهُوَ أَوْلَى مِنْ مَجَازِ الْحَذْفِ لِأَكْثَرِيَّتِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ وَلِشُهْرَةِ جَرْيِ النَّهْرِ مُقَرِّرِينَ لَهُ بِأَنَّ عَلَاقَتَهُ الْمُجَاوَرَةُ ، ثُمَّ هُوَ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ يُرَادَ بِهِ نَفْسُ الْكَرْعِ فَيُصْرَفُ إلَيْهِ فَيَعُمُّ الْكَرْعَ وَغَيْرَهُ ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَضَعُ قَدَمَهُ فِي دَارِ فُلَانٍ يَحْنَثُ بِالدُّخُولِ كَيْفَمَا كَانَ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ اسْتَلْقَى وَأَدْخَلَ قَدَمَيْهِ فَقَطْ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ دُخُولًا وَالْيَمِينُ انْعَقَدَتْ عَلَيْهِ .
وَلَهُ أَنَّ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ لِلْكَلَامِ الْكَرْعُ وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ لِلْعَرَبِ وَأَهْلِ الْعُرْفِ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ الرِّعَاءِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْعُرْفِ يَفْعَلُونَهُ .
وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَنَّهُ أَتَى قَوْمًا فَقَالَ : هَلْ عِنْدَكُمْ مَاءٌ بَاتَ فِي شَنٍّ وَإِلَّا كَرَعْنَا } وَإِذَا كَانَ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ مُسْتَعْمَلًا كَانَتْ الْحَقِيقَةُ مُسْتَعْمَلَةً فَيَنْعَقِدُ عَلَيْهَا الْيَمِينُ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ لَمَّا لَمْ تُهْجَرْ كَانَتْ أَوْلَى مِنْ الْمَجَازِ ، وَلِهَذَا يَحْنَثُ بِالْكَرْعِ

إجْمَاعًا ، إلَّا أَنَّهُمَا يَقُولَانِ حَنِثَ بِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مِنْ أَفْرَادِ الْمَجَازِ لَا بِاعْتِبَارِ إرَادَةِ الْحَقِيقَةِ بِذَلِكَ فَلَا يَلْزَمُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ وَلَا إهْدَارُ هَذَا الْقِسْمِ ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ الْكَرْعَ حَقِيقَةَ اللَّفْظِ لِأَنَّ مِنْ هُنَا لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ ، فَالْمَعْنَى ابْتِدَاءُ الشُّرْبِ مِنْ نَفْسِ دِجْلَةَ ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِوَضْعِ الْفَمِ عَلَيْهَا نَفْسِهَا ، فَإِذَا وَضَعَ الْفَمَ عَلَى يَدِهِ أَوْ كُوزٍ وَنَحْوِهِ فِيهِ مَاؤُهَا لَمْ يُصَدِّقْ حَقِيقَةَ اللَّفْظِ وَهُوَ وَضْعُ فَمِهِ عَلَى نَفْسِهَا ، وَأَمَّا مَا فِي الْهِدَايَةِ مِنْ أَنَّهَا لِلتَّبْعِيضِ فَإِنَّمَا يَصْلُحُ تَوْجِيهًا لِقَوْلِهِمَا لِأَنَّ الْمَعْنَى حِينَئِذٍ لَا أَشْرَبُ بَعْضَ مَاءِ دِجْلَةَ ، إذْ لَوْ أُرِيدَ حَقِيقَةُ دِجْلَةَ لَمْ يَكُنْ لِلْكَلَامِ مَعْنًى لِأَنَّ نَفْسَ دِجْلَةَ وَهُوَ الْأَرْضُ الْمَشْقُوقَةُ نَهْرًا لَيْسَ مِمَّا يُشْرَبُ ، وَلَوْ أُرِيدَ مَجَازُ دِجْلَةَ وَهُوَ مَاؤُهَا صَحَّتْ لِلتَّبْعِيضِ وَيَصِيرُ الْمُرَادُ لَا أَشْرَبُ مِنْ مَاءِ دِجْلَةَ وَهُوَ نَفْسُ قَوْلِهِمَا فَيَحْنَثُ بِالْكَرْعِ وَغَيْرِهِ لِأَنَّهُ مَاءُ دِجْلَةَ ، وَعَلَى هَذَا فَيُتَّجَهُ قَوْلُهُمَا بَعْدَ الْوَجْهِ الْمَشْهُورِ : وَفِي تَقَدُّمِ الْمَجَازِ الْمُتَعَارَفِ ، وَهُوَ أَنَّ الْكَلَامَ عِنْدَ عَدَمِ قَرِينَةِ إرَادَةِ الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ انْصَرَفَ إلَى الْمَشْهُورِ مِنْهُ وَإِنْ جُعِلَتْ مِنْ لِلْبَيَانِ بِأَنْ يُقَالَ وَضْعُ الْفَمِ عَلَى نَفْسِ دِجْلَةَ لَا يُفْعَلُ وَهُوَ الْحَقِيقَةُ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهَا لِلِابْتِدَاءِ فَلَزِمَ أَنْ يُرَادَ بِلَفْظِ دِجْلَةَ مَاؤُهَا جَازَ أَنْ تَكُونَ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ .
فَالْمَعْنَى : لَا يَشْرَبُ بَعْضَ مَاءِ دِجْلَةَ ، أَوْ لِلِابْتِدَاءِ وَالْمَعْنَى : لَا يَكُونُ ابْتِدَاءُ الشُّرْبِ مِنْ مَاءِ دِجْلَةَ فَيَحْنَثُ بِشُرْبِ مَائِهَا كَرْعًا وَغَيْرَهُ .
وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { إنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهْرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ } إلَى قَوْلِهِ { إلَّا مَنْ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ } مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ

يُفِيدُ أَنَّ مَا بِالْيَدِ يُخَالِفُ الشُّرْبَ مِنْهُ فَغَلَطٌ ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ ، وَالِاتِّصَالُ أَوْلَى إذَا أَمْكَنَ وَهُوَ مُمْكِنٌ بَلْ الْمَعْنَى عَلَيْهِ ، فَإِنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ اُبْتُلُوا بِتَرْكِ الشُّرْبِ مِنْ النَّهْرِ شُرْبَ كِفَايَةٍ وَرِيٍّ ، فَإِنَّ حَاصِلَ الْمَعْنَى مَنْ شَرِبَ مِنْهُ مُطْلَقًا قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا كَافِيًا فَلَيْسَ مِنِّي إلَّا مَنْ شَرِبَ مِنْهُ قَدْرَ كَفِّهِ تَحْقِيقًا بِأَنَّ اغْتَرَفَهَا .
وَاَلَّذِي انْتَظَمَ عَلَيْهِ رَأْيُ أَصْحَابِنَا فِي الدَّرْسِ فِي تَوْجِيهِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ اسْمَ الدِّجْلَةِ عَلَى قَوْلِ الْكُلِّ حَقِيقَةٌ فِي نَفْسِ النَّهْرِ دُونَ الْمَاءِ .
وَإِرَادَةُ وَضْعِ فَمِهِ عَلَى نَفْسِ أَجْزَائِهِ مُنْتَفٍ ، فَالْمُرَادُ لَيْسَ إلَّا وَضْعُهُ عَلَى الْمَاءِ الْكَائِنِ فِيهَا ، وَحِينَئِذٍ جَازَ كَوْنُ الِاسْمِ حَقِيقَةً فِيهِ مُشْتَرَكًا أَوْ مَجَازًا ، فَإِنْ فُرِضَ مُشْتَرَكًا فَلَا إشْكَالَ أَنَّ حَقِيقَةَ اللَّفْظِ : أَعْنِي مَجْمُوعَ التَّرْكِيبِ بِوَضْعِ الْفَمِ فِي مَائِهَا حَالَ كَوْنِهِ فِي خُصُوصِ ذَلِكَ الْمَحِلِّ وَإِنْ فُرِضَ مَجَازًا فِي هَذَا الْمَاءِ ، فَمَعْنَى قَوْلِهِ لِلَّفْظِ حَقِيقَةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ إلَخْ أَنَّ التَّرْكِيبَ حَقِيقَةٌ فِي وَصْلِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ لِلَا أَشْرَبُ بِالْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ لِدِجْلَةَ وَهُوَ الْمَاءُ الْكَائِنُ فِي النَّهْرِ الْخَالِصِ وَحِينَئِذٍ جَازَ كَوْنُ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ ، وَالْمَعْنَى : لَا أَشْرَبُ بَعْضَ دِجْلَةَ : أَيْ الْمَاءَ الْخَاصَّ فِي الْمَكَانِ الْخَاصِّ ، فَظَهَرَ إمْكَانُ كَوْنِهَا لِلتَّبْعِيضِ مَعَ صِحَّةِ قَوْلِهِ لِلَّفْظِ : أَيْ التَّرْكِيبُ حَقِيقَةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ هِيَ الشُّرْبُ مِنْ نَفْسِ الْمَاءِ الْكَائِنِ فِي الْمَكَانِ الْخَاصِّ ثُمَّ يَتَرَجَّحُ مَجَازُهُ فِي الْمُفْرَدِ : أَعْنِي دِجْلَةَ الْمُسْتَعْمَلَ فِي مَائِهَا بِقَيْدِ كَوْنِهِ فِي نَفْسِ النَّهْرِ عَلَى مَجَازِهِمَا وَهُوَ دِجْلَةُ فِي مَائِهَا لَا بِهَذَا الْقَيْدِ حَتَّى حَنِثَ بِالشُّرْبِ مِنْهُ بِإِنَاءٍ وَمِنْ نَهْرٍ صَغِيرٍ يَأْخُذُ مِنْهَا بِأَنَّهُ مَجَازٌ أَقْرَبُ

إلَى الْحَقِيقَةِ : أَعْنِي دِجْلَةَ بِمَعْنَى النَّهْرِ .
وَنَظِيرُ الْمَسْأَلَتَيْنِ مَا لَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ هَذَا الْكُوزِ فَصَبَّ الْمَاءَ الَّذِي فِيهِ فِي كُوزٍ آخَرَ فَشَرِبَ مِنْهُ لَا يَحْنَثُ بِالْإِجْمَاعِ .
وَلَوْ قَالَ مِنْ مَاءِ هَذَا الْكُوزِ فَصَبَّ فِي كُوزٍ آخَرَ فَشَرِبَ مِنْهُ حَنِثَ بِالْإِجْمَاعِ .
وَكَذَا لَوْ قَالَ مِنْ هَذَا الْحُبِّ أَوْ مِنْ مَاءِ هَذَا الْحُبِّ فَنَقَلَ إلَى حُبٍّ آخَرَ .
وَلَوْ قَالَ مِنْ هَذَا الْحُبِّ أَوْ مِنْ هَذَا الْبِئْرِ قَالَ أَبُو سَهْلٍ الشَّرْعِيُّ : لَوْ كَانَ الْحُبُّ أَوْ الْبِئْرُ مَلْآنُ فَيَمِينُهُ عَلَى الْكَرْعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِإِمْكَانِ الْعَمَلِ بِالْحَقِيقَةِ ، وَعِنْدَهُمَا عَلَى الِاعْتِرَافِ .
وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ عَلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ الِاعْتِرَافِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَلْآن فَيَمِينُهُ عَلَى الِاغْتِرَاف .
وَلَوْ تَكَلَّفَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَكَرَعَ مِنْ أَسْفَلِ الْحُبِّ وَالْبِئْرِ اخْتَلَفُوا ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ لِعَدَمِ الْعُرْفِ بِالْكَرْعِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ .

[ فُرُوعٌ ] لَوْ قَالَ لَا أَشْرَبُ مِنْ الْفُرَاتِ فَشَرِبَ مِنْ نَهْرٍ أَخَذَ مِنْهُ لَمْ يَحْنَثْ إجْمَاعًا ، أَمَّا عِنْدَهُ ، فَلِأَنَّ يَمِينَهُ عَلَى الْكَرْعِ ، وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّهُ مِثْلُ الْفُرَاتِ فِي إمْسَاكِ الْمَاءِ فَيَقْطَعُ النِّسْبَةَ فَخَرَجَ عَنْ عُمُومِ الْمَجَازِ .
أَمَّا لَوْ قَالَ لَا أَشْرَبُ مِنْ مَاءِ الْفُرَاتِ فَشَرِبَ مِنْ نَهْرٍ أَخَذَ مِنْهُ حَنِثَ لِأَنَّ يَمِينَهُ عَلَى مَاءٍ مَنْسُوبٍ إلَى الْفُرَاتِ ، وَالنِّسْبَةُ لَا تَنْقَطِعُ بِالْأَنْهَارِ الصِّغَارِ .
وَلَوْ قَالَ لَا أَشْرَبُ مَاءً فُرَاتًا يَحْنَثُ بِكُلِّ مَاءٍ عَذْبٍ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ .
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ مَاءِ الْمَطَرِ فَجَرَتْ الدِّجْلَةُ بِمَاءِ الْمَطَرِ فَشَرِبَ لَمْ يَحْنَثْ .
وَلَوْ شَرِبَ مِنْ مَاءِ وَادٍ سَالَ مِنْ الْمَطَرِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مَاءٌ قَبْلَ ذَلِكَ أَوْ مِنْ مَاءِ مَطَرٍ مُسْتَنْقَعٍ حَنِثَ .
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ هَذَا الْمَاءِ فَانْجَمَدَ فَأَكَلَهُ لَا يَحْنَثُ ، فَإِنْ ذَابَ فَشَرِبَ حَنِثَ .
قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ : هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا إذَا حَلَفَ لَا يَجْلِسُ عَلَى الْبِسَاطِ فَجَعَلَهُ خُرْجًا فَجَلَسَ عَلَيْهِ لَا يَحْنَثُ ، فَإِنْ فَتَقَهُ فَصَارَ بِسَاطًا فَجَلَسَ عَلَيْهِ حَنِثَ .
وَفِي فَتَاوَى مُحَمَّدِ بْنِ الْوَلِيدِ : لَا يَحْنَثُ إذَا شَرِبَهُ لِانْقِطَاعِهِ النِّسْبَةَ الْأُولَى لِانْتِسَابِهِ إلَى الْجَمْدِ ، وَلَوْ كَانَ فِي الْحِلِّ حَنِثَ لِأَنَّ النِّسْبَةَ لَا تَنْقَطِعُ .
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ وَسَطِ دِجْلَةَ فَوَسَطُهُ مَا لَمْ يُطْلَقْ عَلَيْهِ اسْمُ الشَّطِّ وَذَلِكَ قَدْرُ ثُلُثِ النَّهْرِ أَوْ رُبُعِهِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا لَا يَتَأَتَّى فِي النِّيلِ لِأَنَّ الشَّطَّ يَنْتَفِي قَبْلَ الرُّبُعِ أَيْضًا لِسِعَتِهِ .
وَمَنْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ نَبِيذًا فَهُوَ الْمُسْكِرُ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ وَلَوْ مَطْبُوخًا لِأَنَّ الصَّالِحِينَ يُسَمُّونَهُ شَارِبَ خَمْرٍ ، وَلَوْ نَوَى الْمُسْكِرَ يَحْنَثُ بِكُلِّ مُسْكِرٍ .
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ شَرَابًا حَنِثَ بِشُرْبِ الْمَاءِ وَالنَّبِيذِ ، وَكَذَا بِالْمُسَمَّى عِنْدَنَا أَقْسِمَةً وَفُقَّاعًا لَا

يَشْرَبُ الْخَلَّ وَالسَّمْنَ وَالزَّيْتَ وَالْعَسَلَ .
وَقِيلَ لَا يَحْنَثُ بِالْمَاءِ وَهُوَ الظَّاهِرُ لِأَنَّ الْعُرْفَ فِي اسْمِ الشَّرَابِ لِغَيْرِ الْمَاءِ وَيَحْنَثُ بِشُرْبِ اللِّينُوفَرِ .
وَقِيلَ لَا يَقَعُ عَلَى الْمُتَّخَذِ مِنْ الْحُبُوبِ .
حَلَفَ لَا يَشْرَبُ بِغَيْرِ إذْنِ فُلَانٍ فَأَعْطَاهُ فُلَانٌ وَلَمْ يَأْذَنْ بِلِسَانِهِ .
فِي الْخُلَاصَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَحْنَثَ ، وَهَذَا دَلِيلُ الرِّضَا وَلَيْسَ بِإِذْنٍ .
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ خَمْرًا فَمَزَجَهَا بِغَيْرِ جِنْسِهَا كَالْأَقْسِمَةِ وَنَحْوِهِ يُعْتَبَرُ بِالْغَالِبِ ، وَإِنَّمَا تُعْرَفُ الْغَلَبَةُ بِاللَّوْنِ وَالطَّعْمِ فَيُعْتَبَرُ الْغَالِبُ مِنْهُمَا ، كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي النَّوَادِرِ فِيمَا إذَا حَلَفَ لَا يَشْرَبُ لَبَنًا فَصَبَّ عَلَيْهِ مَاءً وَشَرِبَهُ يَحْنَثُ إنْ كَانَ اللَّوْنُ لَوْنَ اللَّبَنِ وَيُوجَدُ طَعْمُهُ ، وَإِنْ كَانَ لَوْنَ الْمَاءِ لَا يَحْنَثُ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ تُعْتَبَرُ الْغَلَبَةُ مِنْ حَيْثُ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ بِالْأَجْزَاءِ ، وَإِنْ كَانَ سِوَاهُ حَنِثَ اسْتِحْسَانًا .
وَأَمَّا إذَا خَلَطَهُ بِجِنْسِهِ بِأَنْ حَلَفَ عَلَى لَبَنِ بَقَرَةٍ فَخَلَطَهُ بِلَبَنِ بَقَرَةٍ أُخْرَى ؛ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هُوَ كَالْجِنْسَيْنِ يُعْتَبَرُ الْغَالِبُ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَحْنَثُ بِكُلِّ حَالٍ لِأَنَّ الْجِنْسَ عِنْدَهُ لَا يَغْلِبُ الْجِنْسَ بَلْ يَتَكَثَّرُ بِجِنْسِهِ ، وَهَذَا الْخِلَافُ فِيمَا يَمْتَزِجُ بِالْمَزْجِ ، أَمَّا فِيمَا لَا يَمْتَزِجُ كَالدُّهْنِ يَحْنَثُ بِالِاتِّفَاقِ إذَا عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى الدُّهْنِ .

( وَإِنْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ مَاءِ دِجْلَةَ فَشَرِبَ مِنْهَا بِإِنَاءٍ حَنِثَ ) لِأَنَّهُ بَعْدَ الِاعْتِرَافِ بَقِيَ مَنْسُوبًا إلَيْهِ وَهُوَ الشَّرْطُ فَصَارَ كَمَا إذَا شَرِبَ مِنْ مَاءِ نَهْرٍ يَأْخُذُ مِنْ دِجْلَةَ .

( مَنْ قَالَ إنْ لَمْ أَشْرَبْ الْمَاءَ الَّذِي فِي هَذَا الْكُوزِ الْيَوْمَ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ وَلَيْسَ فِي الْكُوزِ مَاءٌ لَمْ يَحْنَثْ ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ مَاءٌ فَأُهْرِيقَ قَبْلَ اللَّيْلِ لَمْ يَحْنَثْ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَحْنَثُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ ) يَعْنِي إذَا مَضَى الْيَوْمُ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا كَانَ الْيَمِينُ بِاَللَّهِ تَعَالَى .
وَأَصْلُهُ أَنَّ مِنْ شَرْطِ انْعِقَادِ الْيَمِينِ وَبَقَائِهِ تُصَوَّرُ الْبِرِّ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ الْيَمِينَ إنَّمَا تُعْقَدُ لِلْبِرِّ فَلَا بُدَّ مِنْ تَصَوُّرِ الْبِرِّ لِيُمْكِنَ إيجَابُهُ .
وَلَهُ أَنَّهُ أَمْكَنَ الْقَوْلُ بِانْعِقَادِهِ مُوجِبًا لِلْبِرِّ عَلَى وَجْهٍ يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْخُلْفِ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ .
قُلْنَا : لَا بُدَّ مِنْ تَصَوُّرِ الْأَصْلِ لِيَنْعَقِدَ فِي حَقِّ الْخُلْفِ وَلِهَذَا لَا يَنْعَقِدُ الْغَمُوسُ مُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ ( وَلَوْ كَانَتْ الْيَمِينُ مُطْلَقَةً ؛ فَفِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لَا يَحْنَثُ عِنْدَهُمَا ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَحْنَثُ فِي الْحَالِ ، وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي يَحْنَثُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ) فَأَبُو يُوسُفَ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُطْلَقِ وَالْمُوَقَّتِ .
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ التَّوْقِيتَ لِلتَّوْسِعَةِ فَلَا يَجِبُ الْفِعْلُ إلَّا فِي آخِرِ الْوَقْتِ فَلَا يَحْنَثُ قَبْلَهُ ، وَفِي الْمُطْلَقِ يَجِبُ الْبِرُّ كَمَا فُرِغَ وَقَدْ عَجَزَ فَيَحْنَثُ فِي الْحَالِ وَهُمَا فَرَّقَا بَيْنَهُمَا .
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ فِي الْمُطْلَقِ يَجِبُ الْبِرُّ كَمَا فُرِغَ ، فَإِذَا فَاتَ الْبِرُّ بِفَوَاتِ مَا عُقِدَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ كَمَا إذَا مَاتَ الْحَالِفُ وَالْمَاءُ بَاقٍ ؛ أَمَّا فِي الْمُؤَقَّتِ فَيَجِبُ الْبِرُّ فِي الْجُزْءِ الْأَخِيرِ مِنْ الْوَقْتِ وَعِنْدَ ذَلِكَ لَمْ تَبْقَ مَحَلِّيَّةُ الْبِرِّ لِعَدَمِ التَّصَوُّرِ فَلَا يَجِبُ الْبِرُّ فِيهِ فَتَبْطُلُ الْيَمِينُ كَمَا إذَا عَقَدَهُ ابْتِدَاءً فِي هَذِهِ الْحَالَةِ .

( قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ إنْ لَمْ أَشْرَبْ الْمَاءَ الَّذِي فِي هَذَا الْكُوزِ الْيَوْمَ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ وَلَيْسَ فِي الْكُوزِ مَاءٌ لَمْ يَحْنَثْ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَاءٌ فَأُهْرِيقَ قَبْلَ اللَّيْلِ لَمْ يَحْنَثْ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ) سَوَاءٌ عَلِمَ وَقْتَ الْحَلِفِ أَنَّ فِيهِ مَاءً أَوْ لَمْ يَعْلَمْ ( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَحْنَثُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إذَا مَضَى الْيَوْمُ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إذَا كَانَ الْيَمِينُ بِاَللَّهِ تَعَالَى ، وَأَصْلُهُ ) أَيْ أَصْلُ هَذَا الْخِلَافِ أَنَّ تَصَوُّرَ الْبِرِّ شَرْطٌ لِانْعِقَادِ الْيَمِينِ الْمُطْلَقَةِ عَنْ الْوَقْتِ وَلِبَقَاءِ الْيَمِينِ الْمُقَيَّدَةِ بِالْوَقْتِ عِنْدَهُمَا إلَى وُجُوبِ الْبِرِّ ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَوَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يُشْتَرَطُ تَصَوُّرُ الْبِرِّ فِي انْعِقَادِ الْيَمِينِ الْمُطْلَقَةِ وَلَا لِبَقَاءِ الْمُقَيَّدَةِ ، وَهُوَ وَجْهٌ آخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ .
وَمِمَّا ابْتَنَى عَلَى الْخِلَافِ : لَوْ حَلَفَ لَيَقْتُلَن زَيْدًا الْيَوْمَ فَمَاتَ زَيْدٌ قَبْلَ مُضِيِّ الْيَوْمِ لَا يَحْنَثُ عِنْدَهُمَا ، وَيَحْنَثُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ الْيَوْمِ ، وَكَذَا لَوْ حَلَفَ لَيَقْتُلَنهُ وَهُوَ مَيِّتٌ وَالْحَالِفُ جَاهِلٌ بِمَوْتِهِ لَا يَحْنَثُ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لَهُ ، وَإِنَّمَا شَرَطْنَا جَهْلَهُ بِمَوْتِهِ عِنْدَهُمَا لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَالِمًا بِمَوْتِهِ انْعَقَدَتْ وَحَنِثَ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ الْيَمِينَ انْعَقَدَتْ عَلَى إزَالَةِ حَيَاةٍ يُحْدِثُهَا اللَّهُ فِيهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا لِأَنَّهُ عَقَدَهَا عَلَى حَيَاتِهِ الْقَائِمَةِ فِي ظَنِّهِ وَالْوَاقِعُ انْتِفَاؤُهَا فَكَانَ الْبِرُّ غَيْرَ مُتَصَوَّرٍ كَمَسْأَلَةِ الْكُوزِ فَإِنَّهُ وَإِنْ أَمْكَنَ إحْدَاثُ اللَّهِ تَعَالَى الْمَاءَ فِيهِ لَكِنَّهُ مَاءٌ آخَرُ غَيْرُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ .
فَإِنَّ الْحَلِفَ كَانَ عَلَى الْمَاءِ الْكَائِنِ فِيهِ حَالَ الْحَلِفِ وَلَا مَاءَ فِيهِ إذْ ذَاكَ فَلِذَا لَا يَنْعَقِدُ عِنْدَهُمَا .
وَكَذَا إذَا حَلَفَ لَيَأْكُلَن هَذَا الرَّغِيفَ

الْيَوْمَ فَأَكَلَ قَبْلَ اللَّيْلِ أَوْ لَيَقْضِيَن فُلَانًا دِينَهُ غَدًا وَفُلَانٌ قَدْ مَاتَ وَلَا عِلْمَ لَهُ أَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ مُضِيِّ الْغَدِ أَوْ قَضَاهُ قَبْلَهُ أَوْ أَبْرَأهُ فُلَانٌ قَبْلَهُ لَمْ تَنْعَقِدْ عِنْدَهُمَا وَانْعَقَدَتْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَكَذَا لَوْ قَالَ لِزَيْدٍ إنْ رَأَيْت عَمْرًا فَلَمْ أُعْلِمْك فَعَبْدِي حُرٌّ فَرَآهُ زَيْدٌ فَسَكَتَ وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا أَوْ قَالَ هُوَ عَمْرٌو لَا يُعْتَقُ عِنْدَهُمَا لِفَوَاتِ الْإِعْلَامِ فَلَمْ تَبْقَ الْيَمِينُ ، وَعِنْدَهُ يُعْتَقُ لِبَقَاءِ الْيَمِينِ وَفَوَاتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ .
وَكَذَا إذَا حَلَفَ لَا يُعْطِيهِ حَتَّى يَأْذَنَ فُلَانٌ فَمَاتَ فُلَانٌ ثُمَّ أَعْطَاهُ لَمْ يَحْنَثْ خِلَافًا لَهُ ، وَكَذَا لَيَضْرِبَنهُ أَوْ لَيُكَلِّمَنهُ .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْيَمِينَ إنَّمَا تُعْقَدُ لِلْبِرِّ حَمْلًا أَوْ مَنْعًا أَوْ لِإِظْهَارِ مَعْنَى الصِّدْقِ فَكَانَ مَحِلُّهَا خَبَرًا يُمْكِنُ فِيهِ الْبِرُّ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فَاتَ وَلَا انْعِقَادَ إلَّا فِي مَحِلِّهَا ، وَإِذَا لَمْ تَنْعَقِدْ فَلَا حِنْثَ ، وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ أَمْكَنَ اعْتِبَارُهَا مُنْعَقِدَةً لِلْبِرِّ عَلَى وَجْهٍ يَظْهَرُ فِي الْخُلْفِ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ كَمَا قُلْنَا فِي الْحَلِفِ عَلَى مَسِّ السَّمَاءِ أَوْ لَيَقْلِبَن هَذَا الْحَجَرَ ذَهَبًا حَيْثُ يَنْعَقِدُ مَعَ اسْتِحَالَتِهِ عَادَةً ، ثُمَّ يَحْنَثُ فِي الْحَالِ لِمَا قُلْنَا .
قُلْنَا لَا بُدَّ مِنْ تَصَوُّرِ الْأَصْلِ لِيَنْعَقِدَ فِي حَقِّ الْخُلْفِ لِأَنَّهُ فَرْعُ الْأَصْلِ فَيَنْعَقِدُ أَوَّلًا فِي حَقِّهِ ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى الْخُلْفِ لِلْعَجْزِ الظَّاهِرِ ، وَلِذَا لَمْ تَنْعَقِدْ الْغَمُوسُ مُوجِبَةً لِلْكَفَّارَةِ حَيْثُ كَانَ لِلْبِرِّ مُسْتَحِيلًا فِيهَا ، وَلَوْ كَانَتْ الْيَمِينُ مُطْلَقَةً عَنْ الْوَقْتِ بِأَنْ لَمْ يَذْكُرْ الْيَوْمَ فَفِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ، وَهُوَ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْكُوزِ مَاءٌ لَا يَحْنَثُ عِنْدَهُمَا لِعَدَمِ انْعِقَادِهَا لِعَدَمِ تَصَوُّرِ الْبِرِّ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَحْنَثُ لِلْحَالِ ، وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي وَهُوَ مَا إذَا كَانَ فِيهِ مَاءٌ

فَأُهْرِيقَ يَحْنَثُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ( قَوْلُهُ فَأَبُو يُوسُفَ فَرَّقَ إلَخْ ) لَا شَكَّ أَنَّ هُنَا أَرْبَعُ صُوَرٍ : صُورَتَانِ فِي الْمُقَيَّدَةِ بِالْيَوْمِ أَوْ وَقْتٍ آخَرَ جُمُعَةٍ أَوْ شَهْرٍ وَهُمَا أَنْ يَكُونَ فِي الْكُوزِ مَاءٌ وَقْتَ الْحَلِفِ وَأَنْ لَا يَكُونَ ، وَصُورَتَانِ فِي الْمُطْلَقَةِ عِنْدَهُمَا هَاتَانِ أَيْضًا ؛ فَفِي الْمُقَيَّدَةِ وَلَا مَاءَ لَا تَنْعَقِدُ عِنْدَهُمَا لِعَدَمِ تَصَوُّرِ الْبِرِّ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْحِنْثُ وَتَنْعَقِدُ عِنْدَهُ وَيَحْنَثُ لِلْحَالِ لِلْعَجْزِ الدَّائِمِ عَنْ الْبِرِّ مِنْ وَقْتِ الْحَلِفِ إلَى الْمَوْتِ ، وَفِي الْمُقَيَّدَةِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ تَنْعَقِدُ بِهِ اتِّفَاقًا ، فَإِذَا أُهْرِيقَ قَبْلَ آخِرِ الْوَقْتِ بَطَلَتْ عِنْدَهُمَا لِانْعِقَادِهَا ثُمَّ طَرَأَ الْعَجْزُ عَنْ الْفِعْلِ قَبْلَ آخِرِ الْمُدَّةِ لِفَوَاتِ شَرْطِ بَقَائِهَا وَهُوَ تَصَوُّرُ الْبِرِّ حَالَ الْبَقَاءِ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ ، وَعِنْدَهُ يَتَأَخَّرُ الْحِنْثُ إلَى آخِرِ جُزْءٍ مِنْ الْوَقْتِ فَهُنَاكَ يَحْنَثُ .
وَفِي الْمُطْلَقَةِ وَلَا مَاءَ لَا تَنْعَقِدُ عِنْدَهُمَا ، وَعِنْدَهُ تَنْعَقِدُ ، وَيَحْنَثُ لِلْعَجْزِ الْحَالِيِّ الَّذِي لَا يُرْجَى زَوَالُهُ ، وَفِي الْمُطْلَقَةِ وَفِيهِ مَاءٌ تَنْعَقِدُ اتِّفَاقًا لِإِمْكَانِ الْبِرِّ عِنْدَهُمَا ، فَإِذَا أُرِيقَ حَنِثَ اتِّفَاقًا .
أَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَبِطَرِيقٍ أَوْلَى مِمَّا قَبْلَهُ ، وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ تَصَوُّرَ الْبِرِّ لَيْسَ شَرْطًا فِي الْمُطْلَقَةِ إلَّا لِانْعِقَادِهَا فَقَطْ وَقَدْ وُجِدَ حَالَ الِانْعِقَادِ لِفَرْضِ وُجُودِ الْمَاءِ حَالَ الْحَلِفِ ، فَقَدْ فَرَّقَ أَبُو يُوسُفَ بَيْنَ الْمُقَيَّدَةِ فَأَوْجَبَ الْحِنْثَ مُطْلَقًا آخِرَ الْوَقْتِ وَبَيْنَ الْمُطْلَقَةِ إذَا كَانَ الْمَاءُ مَوْجُودًا حَالَ الْحَلِفِ فَأَوْجَبَ الْحِنْثَ حَالَ الْإِرَاقَةِ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا فَالْحِنْثُ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الْيَمِينِ .
وَلَا فَرْقَ أَنَّ التَّأْقِيتَ لِلتَّوْسِعَةِ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْفِعْلِ فَلَا يَتَعَيَّنُ الْفِعْلُ عَلَيْهِ إلَّا فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ الْوَقْتِ ، وَإِنْ كَانَ التَّأْخِيرُ لَا يُرْجَى لَهُ

فَائِدَةٌ فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَاءٌ وَقْتَ الْحَلِفِ لَكِنَّ اللَّفْظَ مَا أَوْجَبَ انْعِقَادَ الْيَمِينِ فِي حَقِّ الْفِعْلِ مُضَيَّقًا مُتَعَيَّنًا إلَّا فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْهُ فَلَا يَحْنَثُ قَبْلَهُ .
وَكَذَا إذَا كَانَ فِيهِ مَاءٌ فَصُبَّ لِهَذَا بِعَيْنِهِ ، بِخِلَافِ الْمُطْلَقَةِ وَلَا مَاءَ فَإِنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي تَأْخِيرِ الْحِنْثِ .
وَإِنْ كَانَتْ الْيَمِينُ الْمُطْلَقَةُ لَا يَقَعُ الْحِنْثُ فِيهَا إلَّا بِمَوْتِ الْحَالِفِ أَوْ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فِي مِثْلِ حَلِفِهِ عَلَى ضَرْبِهِ أَوْ طَلَاقِهَا .
فَإِنَّ ذَلِكَ إذَا كَانَ الْبِرُّ مَرْجُوًّا وَلَا رَجَاءَ لَهُ هُنَا .
وَفِيمَا إذَا كَانَ الْمَاءُ مَوْجُودًا لَا يَثْبُتُ هَذَا الْيَأْسُ إلَّا عِنْدَ الْإِرَاقَةِ فَيَحْنَثُ إذْ ذَاكَ ، وَهُمَا أَيْضًا يَحْتَاجَانِ إلَى الْفَرْقِ لِأَنَّهُ لَا يَحْنَثُ عِنْدَهُمَا إذَا ذَكَرَ الْوَقْتَ فَأُهْرِيقَ قَبْلَ آخِرِهِ .
وَإِذَا لَمْ يَذْكُرْ فَأُهْرِيقَ يَحْنَثُ .
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْوَقْتَ إذَا ذُكِرَ كَانَ الْبِرُّ وَاجِبًا عَلَيْهِ فِي الْجُزْءِ الْأَخِيرِ وَعِنْدَهُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ فَائِتٌ فَكَأَنَّهُ حَلَفَ إذْ ذَاكَ لَيَشْرَبَن مَا فِي هَذَا الْكُوزِ الْيَوْمَ .
وَعَلِمْت بِهَذَا أَنَّ اشْتِرَاطَهُمَا بَقَاءَ التَّصَوُّرِ لِبَقَاءِ الْيَمِينِ الْمُؤَقَّتَةِ هُوَ فِي الْمَعْنَى اشْتِرَاطُ التَّصَوُّرِ لِانْعِقَادِ الْيَمِينِ الْمُطْلَقَةِ .
بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَذْكُرْ الْوَقْتَ فَإِنَّ الْبِرَّ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ ، فَإِذَا فَاتَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ حَنِثَ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : وُجُوبُ الْبِرِّ فِي الْمُطْلَقَةِ فِي الْحَالِ إنْ كَانَ بِمَعْنَى تُعِنْهُ حَتَّى يَحْنَثَ فِي ثَانِي الْحَالِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى الْوُجُوبِ الْمُوَسَّعِ إلَى الْمَوْتِ فَيَحْنَثُ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ الْحَيَاةِ فَالْمُؤَقَّتَةُ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَحْنَثُ إلَّا فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ الْوَقْتِ الَّذِي ذَكَرَهُ فَذَلِكَ الْجُزْءُ بِمَنْزِلَةِ آخِرِ جُزْءٍ مِنْ الْحَيَاةِ فَلِأَيِّ شَيْءٍ تَبْطُلُ الْيَمِينُ عِنْدَ آخِرِ أَجْزَاءِ الْوَقْتِ فِي الْمُؤَقَّتَةِ وَلَمْ تَبْطُلْ عِنْدَ آخِرِ

جُزْءٍ مِنْ الْحَيَاةِ فِي الْمُطْلَقَةِ .
وَمِنْ فَوَائِدِ هَذِهِ الْخِلَافِيَّةِ مَا لَوْ قَالَ رَجُلٌ لِامْرَأَتِهِ إنْ لَمْ تَهَبِي لِي صَدَاقَك الْيَوْمَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَقَالَ أَبُوهَا إنْ وَهَبْت لَهُ صَدَاقَك فَأُمُّك طَالِقٌ ، فَحِيلَةُ عَدَمِ حِنْثِهِمَا أَنْ تَشْتَرِيَ مِنْهُ بِمَهْرِهَا ثَوْبًا مَلْفُوفًا وَتَقْبِضَهُ ، فَإِذَا مَضَى الْيَوْمُ لَمْ يَحْنَثْ أَبُوهَا لِأَنَّهَا لَمْ تَهَبْ صَدَاقَهَا وَلَا الزَّوْجُ لِأَنَّهَا عَجَزَتْ عَنْ الْهِبَةِ عِنْدَ الْغُرُوبِ لِأَنَّ الصَّدَاقَ سَقَطَ عَنْ الزَّوْجِ بِالْبَيْعِ ، ثُمَّ إذَا أَرَادَتْ عَوْدَ الصَّدَاقِ رَدَّتْهُ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ .

قَالَ ( وَمَنْ حَلَفَ لَيَصْعَدَن السَّمَاءَ أَوْ لَيَقْلِبَن هَذَا الْحَجَرَ ذَهَبًا انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ وَحَنِثَ عَقِيبَهَا ) وَقَالَ زُفَرُ : لَا تَنْعَقِدُ لِأَنَّهُ مُسْتَحِيلٌ عَادَةً فَأَشْبَهَ الْمُسْتَحِيلَ حَقِيقَةً فَلَا يَنْعَقِدُ .
وَلَنَا أَنَّ الْبِرَّ مُتَصَوَّرٌ حَقِيقَةً لِأَنَّ الصُّعُودَ إلَى السَّمَاءِ مُمْكِنٌ حَقِيقَةً ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَصْعَدُونَ السَّمَاءَ وَكَذَا تَحَوُّلُ الْحَجَرِ ذَهَبًا بِتَحْوِيلِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَإِذَا كَانَ مُتَصَوَّرًا يَنْعَقِدُ الْيَمِينُ مُوجِبًا لِخُلْفِهِ ثُمَّ يَحْنَثُ بِحُكْمِ الْعَجْزِ الثَّابِتِ عَادَةً .
كَمَا إذَا مَاتَ الْحَالِفُ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ مَعَ احْتِمَالِ إعَادَةِ الْحَيَاةِ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْكُوزِ ، لِأَنَّ شُرْبَ الْمَاءِ الَّذِي فِي الْكُوزِ وَقْتَ الْحَلِفِ وَلَا مَاءَ فِيهِ لَا يُتَصَوَّرُ فَلَمْ يَنْعَقِدْ .

( قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَيَصْعَدَن السَّمَاءَ أَوْ لَيَقْلِبَن هَذَا الْحَجَرَ ذَهَبًا انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ وَحَنِثَ عَقِيبَهَا ) يَعْنِي إذَا حَلَفَ مُطْلَقًا كَمَا هِيَ فِي الْكِتَابِ .
أَمَّا إذَا وَقَّتَ فَقَالَ لَأَصْعَدَن غَدًا لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى بِمُضِيِّ ذَلِكَ الْوَقْتِ ، حَتَّى لَوْ مَاتَ قَبْلَهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ إذْ لَا حَنِثَ .
وَقَالَ زُفَرُ : لَا يَنْعَقِدُ أَصْلًا لِأَنَّهُ مُسْتَحِيلٌ عَادَةً فَيُجْعَلُ كَالْمُسْتَحِيلِ حَقِيقَةً كَمَاءِ الْكُوزِ فَلَا تَنْعَقِدُ .
وَلَنَا أَنَّ صُعُودَ السَّمَاءِ مُمْكِنٌ وَلِذَا صَعِدَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَبَعْضُ الْأَنْبِيَاءِ ، وَكَذَا تَحْوِيلُ الْحَجَرِ ذَهَبًا بِتَحْوِيلِ اللَّهِ بِخَلْعِهِ صِفَةَ الْحَجَرِيَّةِ وَإِلْبَاسِ صِفَةِ الذَّهَبِيَّةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْجَوَاهِرَ كُلَّهَا مُتَجَانِسَةٌ مُسْتَوِيَةٌ فِي قَبُولِ الصِّفَاتِ أَوْ بِإِعْدَامِ الْأَجْزَاءِ الْحَجَرِيَّةِ وَإِبْدَالِهَا بِأَجْزَاءٍ ذَهَبِيَّةٍ .
وَالتَّحْوِيلُ فِي الْأَوَّلِ أَظْهَرُ وَهُوَ مُمْكِنٌ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى مَا هُوَ الْحَقُّ ، وَلَعَلَّهُ مِنْ إثْبَاتِ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ فَكَانَ لَا الْبِرُّ مُتَصَوَّرًا فَتَنْعَقِدُ الْيَمِينُ مُوجِبَةً لِخُلْفِهِ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ لِلْعَجْزِ الثَّابِتِ عَادَةً فَلَا يُرْجَى زَوَالُهُ وَصَارَ كَمَا إذَا مَاتَ الْحَالِفُ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ فِي آخِرِ جُزْءٍ كَمَا قُلْنَا مَعَ احْتِمَالِ إعَادَةِ الْحَيَاةِ فِيهِ فَيَثْبُتُ مَعَهُ احْتِمَالُ أَنْ يَفْعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ .
وَلَكِنْ لَمْ يُعْتَبَرْ ذَلِكَ الِاحْتِمَالُ بِخِلَافِ الْعَادَةِ فَحُكِمَ بِالْحِنْثِ إجْمَاعًا ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْكُوزِ لِأَنَّ شُرْبَ الْمَاءِ الَّذِي فِي الْكُوزِ الَّذِي لَا مَاءَ فِيهِ لَا يُمْكِنُ وَلَا تَتَعَلَّقُ الْقُدْرَةُ بِهِ فَلِذَا لَمْ تَنْعَقِدْ .
فَمَحَطُّ الْخِلَافِ أَنَّهُ أَلْحَقَ الْمُسْتَحِيلَ عَادَةً بِالْمُسْتَحِيلِ حَقِيقَةً وَنَحْنُ نَمْنَعُهُ ، وَكُلُّ مَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ مِنْ لَفْظٍ مُتَصَوَّرٍ فَمَعْنَاهُ مُمْكِنٌ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ مُتَعَقَّلًا مُتَفَهَّمًا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( بَابُ الْيَمِينِ فِي الْكَلَامِ ) قَالَ ( وَمَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا فَكَلَّمَهُ وَهُوَ بِحَيْثُ يَسْمَعُ إلَّا أَنَّهُ نَائِمٌ حَنِثَ ) لِأَنَّهُ قَدْ كَلَّمَهُ وَوَصَلَ إلَى سَمْعِهِ لَكِنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ لِنَوْمِهِ فَصَارَ كَمَا إذَا نَادَاهُ وَهُوَ بِحَيْثُ يَسْمَعُ لَكِنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ لِتَغَافُلِهِ .
وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْمَبْسُوطِ شَرْطٌ أَنْ يُوقِظَهُ ، وَعَلَيْهِ عَامَّةُ مَشَايِخِنَا ، لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَتَنَبَّهْ كَانَ إذَا نَادَاهُ مِنْ بَعِيدٍ وَهُوَ بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُ صَوْتَهُ .

( بَابُ الْيَمِينِ فِي الْكَلَامِ ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ الْأَفْعَالِ الَّتِي هِيَ أَهَمُّ مِنْ الْكَلَامِ كَالْأَكْلِ وَالسُّكْنَى وَتَوَابِعِهِمَا شَرَعَ فِي الْكَلَامِ إذْ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ إيصَالِ مَا فِي نَفْسِهِ إلَى غَيْرِهِ لِتَحْصِيلِ مَقَاصِدِهِ .
وَبَدَأَ بِالْكَلَامِ الْأَعَمِّ مِنْ خُصُوصِيَّاتِ الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ وَغَيْرِهَا لِتَقَدُّمِ الْأَعَمِّ عَلَى الْخُصُوصِيَّاتِ ( قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا فَكَلَّمَهُ وَهُوَ بِحَيْثُ يَسْمَعُ كَلَامَهُ ) لِقُرْبِ مَكَانِهِ مِنْهُ ( إلَّا أَنَّهُ نَائِمٌ حَنِثَ ) لِأَنَّهُ قَدْ كَلَّمَهُ وَوَصَلَ إلَى سَمْعِهِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ لِنَوْمِهِ فَصَارَ كَمَا إذَا نَادَاهُ وَهُوَ بِحَيْثُ يَسْمَعُ لَكِنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ لِتَغَافُلِهِ : أَيْ لِغَفْلَتِهِ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْعِلْمَ بِوُصُولِ صَوْتِهِ إلَى صِمَاخِهِ غَيْرُ ثَابِتٍ فَأُدِيرَ عَلَى مَظِنَّةِ ذَلِكَ فَحُكِمَ بِهِ وَهُوَ كَوْنُهُ بِحَيْثُ لَوْ كَانَ مُصْغَيَا سَالِمًا وَلِهَذَا لَوْ كَانَ أَصَمَّ حَنِثَ .
وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْمَبْسُوطِ شَرْطٌ أَنْ يُوقِظَهُ ، فَإِنَّهُ فِي بَعْضِهَا فَنَادَاهُ أَوْ أَيْقَظَهُ ، وَفِي بَعْضِهَا فَنَادَاهُ وَأَيْقَظَهُ .
قَالَ : وَاخْتَارَهُ مَشَايِخُنَا لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَنْتَبِهْ بِكَلَامِهِ صَارَ كَمَا إذَا نَادَاهُ مِنْ بَعِيدٍ جِدًّا بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُ صَوْتَهُ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُمَيِّزَ حُرُوفَهُ ، وَفِي ذَلِكَ يَكُونُ لَاغِيًا لَا مُتَكَلِّمًا مُنَادِيًا ، وَصَارَ كَمَا لَوْ كَانَ مَيِّتًا لَا يَحْنَثُ بِكَلَامِهِ ، بِخِلَافِ الْأَصَمِّ لِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ كَلَّمَهُ إذَا كَانَ بِحَيْثُ لَوْلَا الصَّمَمُ سَمِعَ ، لَا يُقَالُ : يَصِحُّ مِثْلُ هَذَا فِي الْمَيِّتِ .
لِأَنَّا نَقُولُ : يَمِينُهُ لَا تَنْعَقِدُ إلَّا عَلَى الْحَيِّ لِأَنَّ الْمُتَعَارَفَ هُوَ الْكَلَامُ مَعَهُ ، وَلِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ الْحَلِفِ عَلَى تَرْكِ الْكَلَامِ إظْهَارُ الْمُقَاطَعَةِ وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمَيِّتِ وَالْبَعِيدِ الَّذِي لَا شُعُورَ لَهُ بِنِدَائِهِ وَكَلَامِهِ ، لَكِنَّ مَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ

فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ : إذَا نَادَى الْمُسْلِمُ أَهْلَ الْحَرْبِ بِالْأَمَانِ مِنْ مَوْضِعٍ يَسْمَعُونَ إلَّا أَنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ لِشُغْلِهِمْ بِالْحَرْبِ فَهُوَ أَمَانٌ ، قَالَ السَّرَخْسِيُّ هَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الصَّحِيحَ فِي مَسْأَلَةِ الْأَيْمَانِ الْحِنْثُ وَإِنْ لَمْ يُوقِظْهُ انْتَهَى .
وَقَدْ فَرَّقَ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِأَنَّ الْأَمَانَ يُحْتَاطُ فِي إثْبَاتِهِ .
وَقِيلَ يُحْكَمُ فِيهَا بِالْخِلَافِ ، فَعِنْدَهُ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ يَجْعَلَ النَّائِمَ كَالْمُسْتَيْقِظِ وَعِنْدَهُمَا لَا يَحْنَثُ ، وَالْمُرَادُ بِمَا نُسِبَ إلَيْهِ مَا ذُكِرَ فِي بَابِ التَّيَمُّمِ مِنْ أَنَّ الْمُتَيَمِّمَ إذَا مَرَّ وَهُوَ نَائِمٌ عَلَى مَاءٍ وَلَا عِلْمَ لَهُ بِهِ يَنْتَقِضُ تَيَمُّمُهُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هُنَاكَ مَا فِيهَا مِنْ الِاسْتِبْعَادِ لِلْمَشَايِخِ ؛ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مُسْتَيْقِظًا حَقِيقَةً وَإِلَى جَانِبِهِ حَفِيرَةُ مَاءٍ لَا يَعْلَمُ بِهَا لَا يَنْتَقِضُ تَيَمُّمُهُ فَكَيْف بِالنَّائِمِ حَتَّى حَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى النَّاعِسِ ، وَأُضِيفَ إلَى هَذِهِ مَسَائِلُ تَزِيدُ عَلَى عِشْرِينَ جُعِلَ فِيهَا النَّائِمُ كَالْمُسْتَيْقِظِ .
وَفِي الذَّخِيرَةِ : لَا يَحْنَثُ حَتَّى يُكَلِّمَهُ بِكَلَامٍ مُسْتَأْنَفٍ بَعْدَ الْيَمِينِ مُنْقَطِعٌ عَنْهَا لَا مُتَّصِلٌ ، فَلَوْ قَالَ مَوْصُولًا إنْ كَلَّمْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ فَاذْهَبِي أَوْ اُخْرُجِي أَوْ قُومِي أَوْ شَتَمَهَا أَوْ زَجَرَهَا مُتَّصِلًا لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ هَذَا مِنْ تَمَامِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ ، فَلَا يَكُونُ مُرَادًا بِالْيَمِينِ إلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا ، وَهُوَ وَجْهٌ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأَظْهَرِ وَأَحْمَدُ وَمَالِكٌ وَفِي الْمُنْتَقَى : لَوْ قَالَ فَاذْهَبِي أَوْ اذْهَبِي لَا تَطْلُقُ ، وَلَوْ قَالَ اذْهَبِي طَلُقَتْ لِأَنَّهُ مُنْقَطِعٌ عَنْ الْيَمِينِ .
وَأَمَّا مَا فِي نَوَادِرِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ : لَا أُكَلِّمُك الْيَوْمَ أَوْ غَدًا حَنِثَ لِأَنَّهُ كَلَّمَهُ الْيَوْمَ بِقَوْلِهِ أَوْ غَدًا فَلَا شَكَّ فِي عَدَمِ صِحَّتِهِ لِأَنَّهُ كَلَامٌ وَاحِدٌ ، فَإِنَّهُ إذَا أَرَادَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى

أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ لَا يُقَالُ إلَّا كَذَلِكَ ، وَعَلَى هَذَا إذَا قَالَ لِآخَرَ إنْ ابْتَدَأْتُك بِكَلَامٍ فَعَبْدِي حُرٌّ فَالْتَقَيَا فَسَلَّمَ كُلٌّ عَلَى الْآخَرِ مَعًا لَا يَحْنَثُ وَانْحَلَّتْ يَمِينُهُ لِعَدَمِ تَصَوُّرِ أَنْ يُكَلِّمَهُ بَعْدَ ذَلِكَ ابْتِدَاءً .
وَلَوْ قَالَ لَهَا إنْ ابْتَدَأْتُك بِكَلَامٍ وَقَالَتْ هِيَ لَهُ كَذَلِكَ لَا يَحْنَثُ إذَا كَلَّمَهَا لِأَنَّهُ لَمْ يَبْتَدِئْهَا ، وَلَا تَحْنَثُ بَعْدَ ذَلِكَ لِعَدَمِ تَصَوُّرِ ابْتِدَائِهَا .
وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ فَسَلَّمَ عَلَى قَوْمٍ هُوَ فِيهِمْ حَنِثَ لَا أَنْ لَا يَقْصِدَهُ فَيُصَدَّقُ دِيَانَةً لَا قَضَاءً ، وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَضَاءً أَيْضًا .
أَمَّا لَوْ قَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ إلَّا عَلَى وَاحِدٍ صُدِّقَ قَضَاءً عِنْدَنَا ، وَلَوْ سَلَّمَ مِنْ الصَّلَاةِ فَإِنْ كَانَ إمَامًا قِيلَ إنْ كَانَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ عَنْ يَمِينِهِ لَا يَحْنَثُ ، وَإِنْ كَانَ عَنْ يَسَارِهِ يَحْنَثُ لِأَنَّ الْأُولَى وَاقِعَةٌ فِي الصَّلَاةِ فَلَا يَحْنَثُ بِهَا بِخِلَافِ الثَّانِيَةِ .
وَقِيلَ لَا يَحْنَثُ بِهَا لِأَنَّهَا فِي الصَّلَاةِ مِنْ وَجْهٍ ، وَكَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ لَا يَحْنَثُ بِهِمَا وَهُوَ الصَّحِيحُ وَالْأَصَحُّ مَا فِي الشَّافِي أَنَّهُ يَحْنَثُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ غَيْرَهُ .
وَفِي شَرْحِ الْقُدُورِيِّ فِيمَا إذَا كَانَ إمَامًا يَحْنَثُ إذَا نَوَاهُ وَإِنْ كَانَ مُقْتَدِيًا فَعَلَى ذَلِكَ التَّفْصِيلِ عِنْدَهُمَا .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَحْنَثُ مُطْلَقًا لِأَنَّ سَلَامَ الْإِمَامِ يُخْرِجُ الْمُقْتَدِي عَنْ الصَّلَاةِ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ .
وَلَوْ دَقَّ عَلَيْهِ الْبَابَ فَقَالَ مَنْ حَنِثَ .
وَقَالَ أَبُو اللَّيْثِ : لَوْ قَالَ بِالْفَارِسِيَّةِ كَيَّسَتْ لَا يَحْنَثُ ، وَلَوْ قَالَ كَيْ ترحنث ، وَبِهِ أَخَذَ وَهُوَ الْمُخْتَارُ ، وَلَوْ نَادَاهُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ فَقَالَ لَبَّيْكَ أَوْ لَبَّى حَنِثَ ، وَلَوْ كَلَّمَهُ الْحَالِفُ بِكَلَامٍ لَا يَفْهَمُهُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ فَفِيهِ اخْتِلَافُ الرِّوَايَتَيْنِ .
وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَأْمُرَهُ بِشَيْءٍ فَقَالَ وَقَدْ مَرَّ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ يَا

حَائِطَ اسْمَعْ افْعَلْ كَيْتَ وَكَيْتَ فَسَمِعَهُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ وَفَهِمَهُ لَا يَحْنَثُ قَالَهُ فِي الذَّخِيرَةِ .
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَتَكَلَّمُ فَنَاوَلَ امْرَأَتَهُ شَيْئًا وَقَالَهَا حَنِثَ .
وَلَوْ جَاءَ كَافِرٌ يُرِيدُ الْإِسْلَامَ فَبَيَّنَ الْإِسْلَامَ مُسْمِعًا لَهُ وَلَمْ يُوَجِّهْ إلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ .
وَفِي الْمُحِيطِ .
لَوْ سَبَّحَ الْحَالِفُ لِلْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ لِلسَّهْوِ أَوْ فَتَحَ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةَ وَهُوَ مُقْتَدٍ لَمْ يَحْنَثْ ، وَخَارِجُ الصَّلَاةِ يَحْنَثُ .
وَلَوْ كَتَبَ إلَيْهِ كِتَابًا أَوْ أَرْسَلَ رَسُولًا لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى كَلَامًا عُرْفًا خِلَافًا لِمَالِكٍ وَأَحْمَدَ .
وَاسْتِدْلَالُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا } أُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ مَبْنَى الْأَيْمَانِ عَلَى الْعُرْفِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ لَا يَكُونُ إلَّا بِاللِّسَانِ فَلَا يَكُونُ بِالْإِشَارَةِ وَلَا الْكِتَابَةِ ، وَالْإِخْبَارُ وَالْإِقْرَارُ وَالْبِشَارَةُ تَكُونُ بِالْكِتَابَةِ لَا بِالْإِشَارَةِ ، وَالْإِيمَاءِ وَالْإِظْهَارِ وَالْإِفْشَاءِ وَالْإِعْلَامِ يَكُونُ بِالْإِشَارَةِ أَيْضًا .
فَإِنْ نَوَى فِي ذَلِكَ كُلِّهِ : أَيْ فِي الْإِظْهَارِ وَالْإِفْشَاءِ وَالْإِعْلَامِ وَالْإِخْبَارِ كَوْنَهُ بِالْكَلَامِ وَالْكِتَابَةِ دُونَ الْإِشَارَةِ دِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى .
وَلَوْ حَلَفَ لَا يُحَدِّثُهُ لَا يَحْنَثُ إلَّا أَنْ يُشَافِهَهُ ، وَكَذَا لَا يُكَلِّمُهُ يُقْتَصَرُ عَلَى الْمُشَافَهَةِ .
وَلَوْ قَالَ لَا أُبَشِّرُهُ فَكَتَبَ إلَيْهِ حَنِثَ .
وَفِي قَوْلِهِ إنْ أَخْبَرْتَنِي أَنَّ فُلَانًا قَدِمَ وَنَحْوَهُ يَحْنَثُ بِالصِّدْقِ وَالْكَذِبِ .
وَلَوْ قَالَ بِقُدُومِهِ وَنَحْوِهِ فَعَلَى الصِّدْقِ خَاصَّةً ، وَكَذَا إنْ أَعْلَمْتنِي ، وَكَذَا الْبِشَارَةُ وَمِثْلُهُ إنْ كَتَبْت إلَيَّ أَنَّ فُلَانًا قَدِمَ فَكَتَبَ قَبْلَ قُدُومِهِ فَوَصَلَ إلَيْهِ الْكِتَابُ حَنِثَ سَوَاءٌ وَصَلَ إلَيْهِ قَبْلَ قُدُومِهِ أَوْ بَعْدَهُ ، بِخِلَافِ إنْ كَتَبْت إلَيَّ بِقُدُومِهِ لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَكْتُبَ بِقُدُومِهِ

الْوَاقِعَ .
وَذَكَرَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ : سَأَلَنِي هَارُونُ الرَّشِيدُ عَمَّنْ حَلَفَ لَا يَكْتُبُ إلَى فُلَانٍ فَأَمَرَ مَنْ يَكْتُبُ إلَيْهِ بِإِيمَاءٍ أَوْ إشَارَةٍ هَلْ يَحْنَثُ ؟ فَقُلْت نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إذَا كَانَ مِثْلُك .
قَالَ السَّرَخْسِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّ السُّلْطَانَ لَا يَكْتُبُ بِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا يَأْمُرُ وَمِنْ عَادَتِهِمْ الْأَمْرُ بِالْإِيمَاءِ وَالْإِشَارَةِ .
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَقْرَأُ كِتَابَ فُلَانٍ فَنَظَرَ فِيهِ حَتَّى فَهِمَهُ لَا يَحْنَثُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَيَحْنَثُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْوُقُوفُ عَلَى مَا فِيهِ لَا عَيْنَ التَّلَفُّظِ بِهِ .
وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا وَفُلَانًا لَمْ يَحْنَثْ بِكَلَامِ أَحَدِهِمَا إلَّا أَنْ يَنْوِيَ كُلًّا مِنْهُمَا فَيَحْنَثُ بِكَلَامِ أَحَدِهِمَا ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى وَإِنْ ذُكِرَ خِلَافُهُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ

( وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ إلَّا بِإِذْنِهِ فَأَذِنَ لَهُ وَلَمْ يَعْلَمْ بِالْإِذْنِ حَتَّى كَلَّمَهُ حَنِثَ ) لِأَنَّ الْإِذْنَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْأَذَانِ الَّذِي هُوَ الْإِعْلَامُ ، أَوْ مِنْ الْوُقُوعِ فِي الْإِذْنِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالسَّمَاعِ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الْإِذْنَ هُوَ الْإِطْلَاقُ ، وَأَنَّهُ يَتِمُّ بِالْآذِنِ كَالرِّضَا .
قُلْنَا : الرِّضَا مِنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ ، وَلَا كَذَلِكَ الْإِذْنُ عَلَى مَا مَرَّ .

( قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ إلَّا بِإِذْنِهِ فَأَذِنَ لَهُ وَلَمْ يَعْلَمْ بِالْإِذْنِ حَتَّى كَلَّمَهُ حَنِثَ لِأَنَّ الْإِذْنَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْأَذَانِ ) أَيْ بِالِاشْتِقَاقِ الْكَبِيرِ ( أَوْ مِنْ الْوُقُوعِ فِي الْإِذْنِ وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالسَّمَاعِ ) قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا يَحْنَثُ ) وَهَذِهِ رِوَايَةٌ عَنْهُ كَمَا ذَكَرَهُ الْأَقْطَعُ فِي شَرْحِهِ حَيْثُ قَالَ ظَاهِرُ قَوْلِهِمْ يَحْنَثُ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا يَحْنَثُ .
وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ أَنَّ الْإِذْنَ هُوَ الْإِطْلَاقُ ، وَأَنَّهُ يَتِمُّ بِالْآذِنِ كَالرِّضَا ، فَإِنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ إلَّا بِرِضَا فُلَانٍ فَرَضِيَ وَلَمْ يَعْلَمْ الْحَالِفُ حَتَّى كَلَّمَهُ لَا يَحْنَثُ .
أَجَابَ الْمُصَنِّفُ بِأَنَّ الرِّضَا مِنْ عَمَلِ الْقَلْبِ وَلَا كَذَلِكَ الْإِذْنُ ، نَعَمْ هُوَ يَتَضَمَّنُ الرِّضَا ظَاهِرًا لَكِنَّ مَعْنَاهُ الْإِعْلَامُ بِالرِّضَا فَلَا يَتَحَقَّقُ بِمُجَرَّدِ الرِّضَا ، وَمَا نُوقِضَ بِهِ مِنْ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي التَّتِمَّةِ وَالْفَتَاوَى الصُّغْرَى إذَا أَذِنَ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ وَالْعَبْدُ لَا يَعْلَمُ يَصِحُّ الْإِذْنُ حَتَّى إذَا عَلِمَ يَصِيرُ مَأْذُونًا .
دُفِعَ بِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى نَقِيضِ مَقْصُودِ الْمَوْرِدِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى عَدَمِ الْإِذْنِ قَبْلَ الْعِلْمِ حَيْثُ قَالَ : حَتَّى إذَا عَلِمَ صَارَ مَأْذُونًا فَعَرَفَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ قَبْلَ الْعِلْمِ حُكْمُ الْإِذْنِ .
يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا فِي الشَّامِلِ فِي قِسْمِ الْمَبْسُوطِ : أَذِنَ لِعَبْدِهِ فَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ وَلَا أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ فَتَصَرَّفَ الْعَبْدُ ثُمَّ عَلِمَ بِإِذْنِهِ لَمْ يَجُزْ تَصَرُّفُهُ ، غَايَةُ مَا فِيهِ أَنَّ الْإِذْنَ يَثْبُتُ مَوْقُوفًا عَلَى الْعِلْمِ فَسَقَطَ تَكَلُّفُ جَوَابِهِ .
وَقَوْلُهُ عَلَى مَا مَرَّ : يَعْنِي مَا تَقَدَّمَ آنِفًا مِنْ قَوْلِهِ لِأَنَّ الْإِذْنَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْأَذَانِ إلَخْ

قَالَ ( وَإِنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ شَهْرًا فَهُوَ مِنْ حِينِ حَلَفَ ) لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَذْكُرْ الشَّهْرَ لَتَأَبَّدَ الْيَمِينُ فَذَكَرَ الشَّهْرَ لِإِخْرَاجِ مَا وَرَاءَهُ فَبَقِيَ الَّذِي يَلِي يَمِينَهُ دَخْلًا عَمَلًا بِدَلَالَةِ حَالِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ وَاَللَّهِ لَأَصُومَنَّ شَهْرًا لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَذْكُرْ الشَّهْرَ لَمْ تَتَأَبَّدْ الْيَمِينُ فَكَانَ ذِكْرُهُ لِتَقْدِيرِ الصَّوْمِ بِهِ وَأَنَّهُ مُنَكِّرٌ فَالتَّعْيِينُ إلَيْهِ

( قَوْلُهُ وَإِنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ شَهْرًا فَهُوَ ) أَيْ ابْتِدَاءُ الشَّهْرِ ( مِنْ حِينِ حَلَفَ ) لِأَنَّ دَلَالَةَ حَالِهِ وَهُوَ غَيْظُهُ الْبَاعِثُ عَلَى الْحَلِفِ يُوجِبُ تَرْكَ الْكَلَامِ مِنْ الْآنِ ، وَنَظِيرُهُ إذَا أَجَّرَهُ شَهْرًا لِأَنَّ الْعُقُودَ تُرَادُ لِدَفْعِ الْحَاجَةِ الْقَائِمَةِ فِي الْحَالِ ظَاهِرًا ، فَكَانَ ابْتِدَاؤُهُ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَعْتَبِرْ مِنْ الْحَالِ فَسَدَ الْعَقْدُ لِجَهَالَةِ الْمُدَّةِ بِجَهَالَةِ ابْتِدَائِهَا وَكَذَا آجَالُ الدُّيُونِ ، وَأَمَّا الْأَجَلُ فِي قَوْلِهِ كَفَلْت لَك بِنَفْسِهِ إلَى شَهْرٍ ؛ اُخْتُلِفَ فِي أَنَّهَا لِبَيَانِ ابْتِدَاءِ الْمُدَّةِ أَوْ لِانْتِهَائِهَا ، فَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لِانْتِهَاءِ الْمُطَالَبَةِ فَلَا يَلْزَمُ بِإِحْضَارِهِ بَعْدَ الشَّهْرِ وَأَلْحَقَاهَا بِآجَالِ الدُّيُونِ فَجَعَلَاهَا لِبَيَانِ ابْتِدَائِهَا فَلَا يَلْزَمُ بِإِحْضَارِهِ قَبْلَ الشَّهْرِ ، وَهُوَ أَحْسَنُ لِأَنَّ الْأَجَلَ فِي مِثْلِهِ لِلتَّرْفِيهِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَأَصُومَنَّ شَهْرًا فَإِنَّهُ نَكِرَةً فِي الْإِثْبَاتِ ، وَإِنَّمَا يُوجِبُ شَهْرًا شَائِعًا يُعَيِّنُهُ الْحَلِفُ وَلَا مُوجِبَ لِصَرْفِهِ إلَى الْحَالِ وَأَمَّا الْمُصَنِّفُ لَوْ لَمْ يَذْكُرْ الشَّهْرَ تَتَأَبَّدُ فَكَانَ ذِكْرُ الشَّهْرِ لِإِخْرَاجِ مَا وَرَاءَهُ فَبَقِيَ مَا يَلِي يَمِينُهُ دَاخِلًا عَمَلًا بِدَلَالَةِ حَالِهِ ، فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ وَجْهٌ وَاحِدٌ حَيْثُ لَمْ يَعْطِفْ قَوْلَهُ عَمَلًا بِدَلَالَةِ حَالِهِ بِالْوَاوِ ، وَمِنْ الشَّارِحِينَ مَنْ قَرَّرَهُ وَجْهَيْنِ لِأَنَّ دَلَالَةَ الْحَالِ وَحْدَهَا تَسْتَقِلُّ بِصَرْفِ الِابْتِدَاءِ إلَى مَا يَلِي الْحَلِفَ كَمَا ذَكَرْنَا ، وَمَا قَبْلَهُ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ أَطْلَقَ تَأَبَّدَ مُتَّصِلًا بِالْإِيجَابِ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ ذِكْرَ الشَّهْرِ لَا دَلَالَةَ لَهُ سِوَى عَلَى تَقْدِيرِ الْمُدَّةِ الْخَاصَّةِ ثُمَّ الزَّائِدُ عَلَيْهِ مُنْتَفٍ بِالْأَصْلِ لَا بِدَلَالَتِهِ عَلَى النَّفْي ، وَلَوْ فُرِضَ لَهُ دَلَالَةً عَلَى نَفْيِ الزَّائِدِ عَلَيْهِ لَمْ يَلْزَمْ كَوْنُ ذَلِكَ الزَّائِدِ هُوَ مَا يَلِي شَهْرًا

ابْتِدَاؤُهُ مِنْ الْحَالِ فَلِذَا جَعَلَ الْمُصَنِّفُ قَوْلَهُ عَمَلًا بِدَلَالَةِ حَالِهِ هُوَ الْمُعَيَّنُ لِابْتِدَائِهَا فَكَانَ وَجْهًا وَاحِدًا ، إلَّا أَنَّك عَلِمْت مِنْ تَقْرِيرِنَا أَنْ لَا حَاجَةَ إلَى مَا قَدَّمَهُ مِنْ لُزُومِ التَّأْبِيدِ وَالْإِخْرَاجِ .
وَأَمَّا مَا فَرَّعَ عَلَى اسْتِقْلَالِ الْإِخْرَاجِ مِمَّا ذَكَرَهُ التُّمُرْتَاشِيُّ مِنْ قَوْلِهِ إنْ تَرَكْت الصَّوْمَ شَهْرًا أَوْ كَلَامَهُ شَهْرًا تَنَاوَلَ شَهْرًا مِنْ حِينِ حَلَفَ لِأَنَّ تَرْكَ الصَّوْمِ وَالْكَلَامِ مُطْلَقًا يَتَنَاوَلُ الْأَبَدَ فَذَكَرَ الْوَقْتَ لِإِخْرَاجِ مَا وَرَاءَهُ ، وَكَذَا إنْ لَمْ أُسَاكِنْهُ فَالْكُلُّ مُشْكِلٌ بَلْ لَوْ تَرَكَ الصَّوْمَ شَهْرًا فِي عُمْرِهِ حَنِثَ وَإِنْ لَمْ يَتْرُكْهُ مُتَّصِلًا بِالْحَلِفِ وَهُوَ تَحْمِيلُ اللَّفْظِ مَا لَمْ يُوجِبْهُ .
نَعَمْ إنْ كَانَ فِي مِثْلِهِ عُرْفٌ يَصْرِفُهُ إلَى الْوَصْلِ بِالْحَلِفِ وَإِلَّا فَلَا

( وَإِنْ حَلَفَ لَا يَتَكَلَّمُ فَقَرَأَ الْقُرْآنَ فِي صَلَاتِهِ لَا يَحْنَثُ .
وَإِنْ قَرَأَ فِي غَيْرِ صَلَاتِهِ حَنِثَ ) وَعَلَى هَذَا التَّسْبِيحُ وَالتَّهْلِيلُ وَالتَّكْبِيرُ ، وَفِي الْقِيَاسِ يَحْنَثُ فِيهِمَا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ كَلَامٌ حَقِيقَةٌ .
وَلَنَا أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ لَيْسَ بِكَلَامٍ عُرْفًا وَلَا شَرْعًا ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ } وَقِيلَ فِي عُرْفِنَا لَا يَحْنَثُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى مُتَكَلِّمًا بَلْ قَارِئًا وَمُسَبِّحًا

( قَوْلُهُ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَتَكَلَّمُ فَقَرَأَ الْقُرْآنَ فِي الصَّلَاةِ لَا يَحْنَثُ ، وَإِنْ قَرَأَ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ حَنِثَ ، وَعَلَى هَذَا التَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ ) إذَا فَعَلَهُ فِي الصَّلَاةِ لَا يَحْنَثُ وَخَارِجِهَا يَحْنَثُ ، وَهَذَا جَوَابُ الِاسْتِحْسَانِ .
وَفِي الْقِيَاسِ يَحْنَثُ فِيهِمَا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ أَيْ الْقُرْآنَ وَالذَّكَرَ كَلَامٌ حَقِيقَةٌ .
وَلَنَا أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ لَيْسَ بِكَلَامٍ عُرْفًا وَلَا شَرْعًا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ ، وَإِنَّ مِمَّا أَحْدَثَ أَنْ لَا يُتَكَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ } فَقِيلَ عَلَيْهِ إنَّمَا نَفَى عَنْهَا كَلَامَ النَّاسِ ، وَلَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْكَلَامِ مُطْلَقًا ، وَهَذَا التَّفْصِيلُ جَوَابُ ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ ، وَلَمَّا كَانَ مَبْنَى الْأَيْمَانِ عَلَى الْعُرْفِ ، وَفِي الْعُرْفِ الْمُتَأَخِّرِ لَا يُسَمَّى التَّسْبِيحُ وَالْقُرْآنُ أَيْضًا وَمَا مَعَهُ كَلَامًا حَتَّى إنَّهُ يُقَالُ لِمَنْ سَبَّحَ طُولَ يَوْمِهِ أَوْ قَرَأَ لَمْ يَتَكَلَّمْ الْيَوْمَ بِكَلِمَةٍ اخْتَارَ الْمَشَايِخُ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ أَيْضًا بِجَمِيعِ ذَلِكَ خَارِجَ الصَّلَاةِ ، وَاخْتِيرَ لِلْفَتْوَى مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ : أَيْ تَفْرِيقٍ بَيْنَ عَقْدِ الْيَمِينِ بِالْعَرَبِيَّةِ وَالْفَارِسِيَّةِ .
وَمَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مِنْ أَنَّهُ لَوْ قَالَ كُلَّمَا تَكَلَّمْت بِكَلَامٍ حَسَنٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَقَالَتْ " سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ " طَلُقَتْ وَاحِدَةً ، وَلَوْ قَالَتْ بِلَا عَطْفٍ : سُبْحَانَ اللَّهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ اللَّهُ أَكْبَرُ طَلُقَتْ ثَلَاثًا لِأَنَّهُ كَلَامٌ مُتَعَدِّدٌ بِالِاسْتِئْنَافِ كُلٌّ بِخِلَافِ الْمَعْطُوفِ لِأَنَّهُ كَلَامٌ وَاحِدٌ .
وَقَدْ يُدْفَعُ بِأَنَّ الْكَلَامَ فِي مُطْلَقِ

الْكَلَامِ عُرْفًا لَا فِيمَا قُيِّدَ بِقَيْدٍ أَصْلًا .
وَأَمَّا الشِّعْرُ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ بِهِ لِأَنَّهُ كَلَامٌ مَنْظُومٌ ، وَفِي الْحَدِيثِ { أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا شَاعِرٌ كَلِمَةُ لَبِيدٍ : أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ وَكُلُّ نَعِيمٍ لَا مَحَالَةَ زَائِلُ } وَعُرِفَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِالْكِتَابَةِ وَالْإِيمَاءِ وَنَحْوِهِ .

( وَلَوْ قَالَ يَوْمَ أُكَلِّمُ فُلَانًا فَأَمْرَأَتْهُ طَالِقٌ فَهُوَ عَلَى اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ) لِأَنَّ اسْمَ الْيَوْمِ إذَا قُرِنَ بِفِعْلٍ لَا يَمْتَدُّ يُرَادُ بِهِ مُطْلَقُ الْوَقْتِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ } وَالْكَلَامُ لَا يَمْتَدُّ ( وَإِنْ عَنِيَ النَّهَارَ خَاصَّةً دِينَ فِي الْقَضَاءِ ) لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِيهِ أَيْضًا .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ خِلَافُ الْمُتَعَارَفِ

( قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ يَوْمَ أُكَلِّمُ فُلَانًا فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ فَهُوَ عَلَى اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ) فَإِنْ كَلَّمَهُ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا حَنِثَ ، ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي وَجْهِهِ : لِأَنَّ اسْمَ الْيَوْمِ إذَا قُرِنَ بِفِعْلٍ لَا يَمْتَدُّ يُرَادُ بِهِ مُطْلَقُ الْوَقْتِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ } وَلَا فَرْقَ بَيْنَ التَّوْلِيَةِ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا ، وَالْكَلَامُ لَا يَمْتَدُّ ؛ قِيلَ فِي وَجْهِهِ لِأَنَّهُ عَرَضٌ لَا يَقْبَلُ الِامْتِدَادَ إلَّا بِتَجَدُّدِ الْأَمْثَالِ كَالضَّرْبِ وَالْجُلُوسِ وَالسَّفَرِ وَالرُّكُوبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ .
وَذَلِكَ عِنْدَ الْمُوَافَقَةِ صُورَةٌ وَمَعْنَى ، وَالْكَلَامُ الثَّانِي يُفِيدُ مَعْنًى غَيْرَ مُفَادِ الْأَوَّلِ فَلَيْسَ مِثْلًا .
وَمَا قِيلَ الْكَلَامُ يَتَنَوَّعُ إلَى خَبَرٍ وَاسْتِخْبَارٍ وَأَمْرٍ وَنَهْيٍ فَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْكَلَامِ الْمُطْلَقِ أَنَّهُ مُمْتَدٌّ ، فَقَدْ يُقَالُ وَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ مُطْلَقًا أَنَّهُ غَيْرُ مُمْتَدٍّ إذْ كُلُّ نَوْعٍ مِنْهُ عَلَى هَذَا مُمْتَدٌّ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ الْكَلَامِ لَيْسَ إلَّا الْأَلْفَاظُ مُفِيدَةً مَعْنًى كَيْفَمَا كَانَ فَتَحَقَّقَتْ الْمُمَاثَلَةُ سَوَاءٌ كَانَ الْمُفَادُ مِنْ نَوْعِ الْأَوَّلِ أَوْ لَا ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ الْقَوْلَانِ ، وَلِذَا قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْعَزِيزِ : الصَّحِيحُ أَنْ يُقَالَ الطَّلَاقُ مِمَّا لَا يَمْتَدُّ لِأَنَّ الْكَلَامَ مِمَّا يَمْتَدُّ يُقَالُ كَلَّمْته يَوْمًا ، وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ الْمَظْرُوفِ أَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِ الْمُضَافِ إلَيْهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ أَمْرُك بِيَدِك يَوْمَ يَقْدَمُ فُلَانٌ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ هَذَا الْأَصْلِ فِي الطَّلَاقِ وَاخْتِلَافِ عِبَارَاتِهِمْ فِيهِ .
وَأَنَّ الْأَوْلَى الِاعْتِبَارُ بِالْعَامِلِ الْمُعْتَبَرِ وَاقِعًا فِيهِ عِنْدَ تَحَقُّقِ مَعْنَى مَا أُضِيفَ إلَيْهِ الظَّرْفُ وَعَدَمُهُ لِجَعْلِ الْيَوْمِ لِمُطْلَقِ الْوَقْتِ وَعَدَمِهِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ ، بِخِلَافِ مَا أُضِيفَ إلَيْهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَقْصُودًا إلَّا لِتَعْيِينِ مَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ مَا قُصِدَ إلَى إثْبَاتِ مَعْنَاهُ بِالْقَصْدِ

الْأَوَّلِ .
وَاسْتُشْكِلَ بِمَا لَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا الْيَوْمَ وَلَا غَدًا وَلَا بَعْدَ غَدٍّ فَكَلَّمَهُ لَيْلًا لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ اللَّيْلَ لَمْ يَدْخُلْ ، وَكَذَا لَوْ قَالَ فِي كُلِّ يَوْمٍ لَمْ يَدْخُلْ اللَّيْلُ ذُكِرَ ذَلِكَ فِي التَّتِمَّةِ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَهَذَا لَا يُرَدُّ عَلَى مَا هُوَ الْمُخْتَارُ مِنْ اعْتِبَارِ الْمَقْصُودِ مِنْ التَّرْكِيبِ كَمَا ذَكَرْنَا بَلْ عَلَى مَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ .
وَجَوَابُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْيَوْمِ فِيهِ النَّهَارُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى بِدَلَالَةِ إعَادَةِ حَرْفِ النَّفْيِ عِنْدَ ذِكْرِ الْغَدِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِذِكْرِهِ فَائِدَةٌ ، حَتَّى لَوْ قَالَ لَا أُكَلِّمُهُ الْيَوْمَ وَغَدًا وَبَعْدَ غَدٍّ تَدْخُلُ اللَّيْلَةُ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَهُوَ كَقَوْلِهِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ .
وَفِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ ذِكْرُ كَلِمَةِ " فِي " فِي كُلِّ يَوْمٍ لِتَجْدِيدِ الْكَلَامِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي أَنْتِ طَالِقٌ فِي كُلِّ يَوْمٍ تَطْلُقُ ثَلَاثًا فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، وَلَوْ قَالَ كُلُّ يَوْمٍ تَطْلُقُ وَاحِدَةً ، وَلَا يَتَحَقَّقُ التَّجْدِيدُ لَوْ أُرِيدَ بِالْيَوْمِ مُطْلَقُ الْوَقْتِ ( قَوْلُهُ وَإِنْ عَنِيَ النَّهَارَ خَاصَّةً ) أَيْ بِلَفْظِ الْيَوْمِ ( دِينَ ) أَيْ صُدِّقَ ( فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِيهِ ) أَيْ لِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ كَثِيرًا فَيَقْبَلُهُ الْقَاضِي وَإِنْ كَانَ فِيهِ تَخْفِيفٌ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ النَّهَارِ وَمُطْلَقِ الْوَقْتِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ خِلَافُ الْمُتَعَارَفِ فَكَانَ الظَّاهِرُ فَلَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ

( وَلَوْ قَالَ لَيْلَةَ أُكَلِّمُ فُلَانًا فَهُوَ عَلَى اللَّيْلِ خَاصَّةً ) لِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي سَوَادِ اللَّيْلِ كَالنَّهَارِ لِلْبَيَاضِ خَاصَّةً ، وَمَا جَاءَ اسْتِعْمَالُهُ فِي مُطْلَقِ الْوَقْتِ ( وَلَوْ قَالَ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا إلَّا أَنْ يَقْدَمَ فُلَانٌ أَوْ قَالَ حَتَّى يَقْدَمَ فُلَانٌ أَوْ قَالَ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ فُلَانٌ أَوْ حَتَّى يَأْذَنَ فُلَانٌ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ فَكَلَّمَهُ قَبْلَ الْقُدُومِ وَالْإِذْنِ حَنِثَ ، وَلَوْ كَلَّمَهُ بَعْدَ الْقُدُومِ وَالْإِذْنِ لَمْ يَحْنَثْ ) لِأَنَّهُ غَايَةٌ وَالْيَمِينُ بَاقِيَةٌ قَبْلَ الْغَايَةِ وَمُنْتَهِيَةٌ بَعْدَهَا فَلَا يَحْنَثُ بِالْكَلَامِ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْيَمِينِ ( وَإِنْ مَاتَ فُلَانٌ سَقَطَتْ الْيَمِينُ ) خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ الْمَمْنُوعَ عَنْهُ كَلَامٌ يَنْتَهِي بِالْإِذْنِ وَالْقُدُومِ وَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ الْمَوْتِ مُتَصَوَّرُ الْوُجُودِ فَسَقَطَتْ الْيَمِينُ .
وَعِنْدَهُ التَّصَوُّرُ لَيْسَ بِشَرْطٍ ، فَعِنْدَ سُقُوطِ الْغَايَةِ تَتَأَبَّدُ الْيَمِينُ .

قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ لَيْلَةَ أُكَلِّمُ فُلَانًا فَهُوَ عَلَى اللَّيْلِ خَاصَّةً ) لِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي سَوَادِهِ كَالنَّهَارِ لِلْبَيَاضِ خَاصَّةً ، وَمَا نَافِيَةٌ ، وَجَاءَ اسْتِعْمَالُهُ فِي مُطْلَقِ الْوَقْتِ كَمَا جَاءَ فِي لَفْظِ الْيَوْمِ .
وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ قَوْلَ الْقَائِلِ : وَكُنَّا حَسِبْنَا كُلَّ بَيْضَاءَ شَحْمَةً لَيَالِي لَاقَيْنَا جِذَامًا وَحِمْيَرَا سَقَيْنَاهُمْ كَأْسًا سُقِينَا بِمِثْلِهَا وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْمَوْتِ أَصْبَرَا وَالْمُرَادُ مُطْلَقُ الْوَقْتِ فَإِنَّ الْحَرْبَ لَمْ تَكُنْ لَيْلًا .
أَجَابَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ بِأَنَّ الْمَذْكُورَ اللَّيَالِيَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ ، وَذِكْرُ أَحَدِ الْعَدَدَيْنِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ يَنْتَظِمُ مَا بِإِزَائِهِ مِنْ الْآخَرِ ، وَلَا كَذَلِكَ الْمُفْرَدُ : يَعْنِي ذِكْرَ اللَّيَالِيِ يَنْتَظِمُ النُّهُرَ الَّتِي بِإِزَائِهَا ، كَمَا أَنَّ ذِكْرَ الْأَيَّامِ يَنْتَظِمُ اللَّيَالِي الَّتِي بِإِزَائِهَا .
قَالَ تَعَالَى { أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ } وَفِي آيَةٍ أُخْرَى ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا وَالْقِصَّةُ وَاحِدَةٌ وَلَيْسَ الْكَلَامُ إلَّا فِي الْمُفْرَدِ ، فَإِنَّ ذِكْرَ اللَّيْلَةِ لَا يَسْتَتْبِعُ الْيَوْمَ وَلَا بِالْقَلْبِ .
وَنَظَرَ فِيهِ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ الشَّاعِرَ قَصَدَ أَنَّ الْمُلَاقَاةَ كَانَتْ مُسْتَوْعِبَةً لِلَّيَالِيِ تَتْبَعُهَا أَيَّامٌ بِقَدْرِهَا ، وَالْمُتَعَارَفُ فِي مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ إنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ الْوَقْتُ لَا الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي ، وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْوَاقِعَ قَدْ يَكُونُ أَنَّ الْحَرْبَ دَامَتْ بَيْنَهُمْ أَيَّامًا وَلَيَالِيهَا ، وَهَذَا كَثِيرُ الْوُقُوعِ ، فَأَرَادَ أَنْ يُخْبِرَ بِالْوَاقِعِ فَعَبَّرَ عَنْهُ بِمَا يُفِيدُهُ وَلَا دَخْلَ لِذَلِكَ فِي خُصُوصِ عُرِفَ .
( قَوْلِهِ وَلَوْ قَالَ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا إلَّا أَنْ يَقْدَمَ فُلَانٌ أَوْ قَالَ حَتَّى يَقْدَمَ فُلَانٌ أَوْ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ فُلَانٌ أَوْ حَتَّى يَأْذَنَ فُلَانٌ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ فَكَلَّمَهُ قَبْلَ الْقُدُومِ أَوْ الْإِذْنِ حَنِثَ ، وَلَوْ كَلَّمَهُ بَعْدَ الْقُدُومِ وَالْإِذْنِ

لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ غَايَةٌ ) أَيْ لِأَنَّ الْقُدُومَ وَالْإِذْنَ غَايَةٌ لِعَدَمِ الْكَلَامِ لِمَا قَدَّمْنَا أَنَّ فِعْلَ الشَّرْطِ الْمُثْبَتِ فِي الْيَمِينِ يَكُونُ لِلْمَنْعِ مِنْهُ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى الْمَنْفِيِّ بِهِ وَبِالْقَلْبِ ؛ فَقَوْلُهُ إنْ كَلَّمْته حَتَّى يَقْدَمَ بِمَعْنَى لَا أُكَلِّمُهُ حَتَّى يَقْدَمَ وَإِنْ وَقَعَ خِلَافُ ذَلِكَ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ ، وَإِذَا كَانَ غَايَةٌ لِعَدَمِ الْكَلَامِ فَالْيَمِينُ مَعْقُودَةٌ عَلَى الْكَلَامِ حَالَ عَدَمِ الْإِذْنِ فَتَبْقَى الْيَمِينُ مَا بَقِيَ عَدَمُ الْإِذْنِ الْوَاقِعِ غَايَةً فَيَقَعُ الْحِنْثُ بِالْكَلَامِ حَالَ عَدَمِهِ وَيَنْتَهِي بَعْدَ الْغَايَةِ لِأَنَّهَا مُقَيَّدَةٌ بِهِ فَلَا يَحْنَثُ : الْكَلَامُ بَعْدَ مَجِيئِهِ وَإِذْنِهِ ، أَمَّا أَنَّ حَتَّى غَايَةٌ فَظَاهِرٌ ، وَإِمَّا أَنَّ إلَّا أَنْ غَايَةٌ فَلِأَنَّ بِهِ يَنْتَهِي مَنْعُ الْكَلَامِ فَشَابَهَتْ الْغَايَةَ إذَا كَانَتْ الْغَايَةُ لِمَنْعِهِ فَأَطْلَقَ عَلَيْهَا اسْمَهَا ، وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى { لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمْ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ } أَيْ إلَى مَوْتِهِمْ .
وَقِيلَ هِيَ اسْتِثْنَاءٌ عَلَى حَالِهَا وَفِيهِ شَيْءٌ ، وَهُوَ أَنَّ تَقْدِيرَ الِاسْتِثْنَاءِ فِيهَا إنَّمَا يَكُونُ مِنْ الْأَوْقَاتِ أَوْ الْأَحْوَالِ عَلَى مَعْنَى " امْرَأَتُهُ طَالِقٌ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ أَوْ الْأَحْوَالِ إلَّا وَقْتَ قُدُومِ فُلَانٍ أَوْ إذْنِهِ وَإِلَّا حَالَ قُدُومِهِ أَوْ إذْنِهِ بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ إلَى الْمَصْدَرِ الْمُنْسَبِكِ مِنْ أَنْ يَقْدَمَ وَأَنْ يَأْذَنَ ، فَإِنَّ تَقْدِيرَ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ إلَّا إذْنُهُ وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ تَقْيِيدَ الْكَلَامِ بِوَقْتِ الْإِذْنِ وَالْقُدُومِ ، فَيَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ كَلَّمَهُ بَعْدَ الْقُدُومِ أَوْ الْإِذْنِ حَنِثَ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ أَوْقَاتِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ إلَّا ذَلِكَ الْوَقْتَ وَهُوَ غَيْرُ الْوَاقِعِ ، ثُمَّ أَوْرَدَ أَنَّ " إلَّا أَنْ شَرْطٌ لَا غَايَةٌ لِأَنَّهَا شَرْطٌ فِي قَوْلِهِ امْرَأَتُهُ طَالِقٌ إلَّا أَنْ يَقْدَمَ زَيْدٌ فَإِنَّ الْمَعْنَى إنْ لَمْ يَقْدَمْ زَيْدٌ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهَا

إنَّمَا تَكُونُ لِلْغَايَةِ فِيمَا يُحْتَمَلُ التَّأْقِيتُ وَالطَّلَاقُ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُهُ : يَعْنِي فَتَكُونُ فِيهِ لِلشَّرْطِ ا هـ .
وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْكَلَامَ مِمَّا يَمْتَدُّ لِأَنَّهُ الشَّرْطُ هُنَا بِخِلَافِ مَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ ، وَلِمَا كَانَ مَظِنَّةُ أَنْ يَعْتَرِضَ بِأَنَّ الشَّرْطَ وَهُوَ إلَّا أَنْ يَقْدَمَ مُثْبَتٌ فَالْمَفْهُومُ أَنَّ الْقُدُومَ شَرْطُ الطَّلَاقِ لَا عَدَمُهُ .
وَجَّهَهُ شَارِحٌ آخَرُ فَقَالَ وَإِنَّمَا حُمِلَ عَلَى إنْ لَمْ يَقْدَمْ فِي مَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ لَا عَلَى أَنْ قَدِمَ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْقُدُومَ رَافِعًا لِلطَّلَاقِ فَيَكُونُ الْقُدُومُ عَلَمًا عَلَى الْوُقُوعِ ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ مَعْنَى التَّرْكِيبِ وُقُوعُ الطَّلَاقِ فِي الْحَالِ مُسْتَمِرٌّ إلَى قُدُومِ فُلَانٍ فَيَرْتَفِعُ فَيَكُونُ قُدُومُهُ عَلَمًا عَلَى الْوُقُوعِ قَبْلَهُ ، وَالْمُتَحَقِّقُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ حَالَ قُدُومِ فُلَانٍ وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِقَوْلِنَا إنْ لَمْ يَقْدَمْ ، فَحَيْثُ لَمْ يُمْكِنْ ارْتِفَاعُهُ بَعْدَ وُقُوعِهِ بِالْقُدُومِ وَأَمْكَنَ وُقُوعُهُ عِنْدَ عَدَمِ الْقُدُومِ اُعْتُبِرَ الْمُمْكِنُ فَجُعِلَ عَدَمُ الْقُدُومِ شَرْطًا وَهُوَ حَاصِلُ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ لَمْ يَقْدَمْ فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ إلَّا أَنْ يَمُوتَ فُلَانٌ قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ أَوْ يَأْذَنَ لِأَنَّهُ مُطْلَقٌ كَقَوْلِهِ إنْ لَمْ أُطَلِّقُك فَأَنْتِ طَالِقٌ .
قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ : وَمَهْمَا أَمْكَنَ الْمَصِيرُ إلَى هَذَا الْمَجَازِ : يَعْنِي الْغَايَةَ لَا يُصَارُ إلَى ذَلِكَ الْمَجَازِ : يَعْنِي الشَّرْطَ لِأَنَّ فِي هَذَا إجْرَاءُ الْمَجَازِ فِي مُجَرَّدِ الِاسْتِثْنَاءِ ، وَفِي ذَلِكَ إجْرَاؤُهُ فِي اسْتِثْنَاءِ الْقُدُومِ ، لِأَنَّا نَجْعَلُ اسْتِثْنَاءَ الْقُدُومِ مَجَازًا عَنْ اشْتِرَاطِ عَدَمِ الْقُدُومِ وَإِجْرَاءِ الْمَجَازِ أَوْلَى مِنْهُ فِي الْمَجْمُوعِ ( قَوْلُهُ وَإِنْ مَاتَ فُلَانٌ سَقَطَتْ الْيَمِينُ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ الْمَمْنُوعَ مِنْهُ كَلَامٌ يَنْتَهِي ) الْمَنْعُ مِنْهُ ( بِالْإِذْنِ وَالْقُدُومِ وَلَمْ يَبْقَ ) الْإِذْنُ وَلَا الْقُدُومُ ( بَعْدَ مَوْتِ مَنْ إلَيْهِ

الْإِذْنُ وَالْقُدُومُ مُتَصَوَّرُ الْوُجُودِ ) فَلَمْ يَبْقَ الْبِرُّ مُتَصَوَّرُ الْوُجُودِ ، وَبَقَاءُ تَصَوُّرِهِ شَرْطٌ لِبَقَاءِ الْيَمِينِ الْمُؤَقَّتَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ عَلَى مَا مَرَّ ، وَهَذَا الْيَمِينُ مُؤَقَّتَةٌ بِوَقْتِ الْإِذْنِ وَالْقُدُومِ إذْ بِهِمَا يُتَمَكَّنُ مِنْ الْبِرِّ إذْ يُتَمَكَّنُ مِنْ الْكَلَامِ بِلَا حِنْثٍ فَيَسْقُطُ بِسُقُوطِ تَصَوُّرِ الْبِرِّ .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ التَّصَوُّرُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَعِنْدَ سُقُوطِ الْغَايَةِ تَتَأَبَّدُ الْيَمِينُ ، فَأَيُّ وَقْتٍ كَلَّمَهُ فِيهِ يَحْنَثُ .
فَإِنْ قِيلَ : لَا نُسَلِّمُ عَدَمَ تَصَوُّرِ الْبِرِّ بِمَوْتِهِ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَادِرٌ عَلَى إعَادَةِ فُلَانٍ فَيُمْكِنُ أَنْ يَقْدَمَ وَيَأْذَنَ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْحَيَاةَ الْمُعَادَةَ غَيْرُ الْحَيَاةِ الْمَحْلُوفِ عَلَى إذْنِهِ فِيهَا وَقُدُومِهِ وَهِيَ الْحَيَاةُ الْقَائِمَةُ حَالَةَ الْحَلِفِ لِأَنَّ تِلْكَ عَرَضٌ تَلَاشِي لَا يُمْكِنُ إعَادَتُهَا بِعَيْنِهَا ، وَإِنْ أُعِيدَتْ الرُّوحُ فَإِنَّ الْحَيَاةَ غَيْرُ الرُّوحِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ لَازِمٌ لِلرُّوحِ فِيمَا لَهُ رُوحٌ

( وَمَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ عَبْدَ فُلَانٍ وَلَمْ يَنْوِ عَبْدًا بِعَيْنِهِ أَوْ امْرَأَةَ فُلَانٍ أَوْ صَدِيقَ فُلَانٍ فَبَاعَ فُلَانٌ عَبْدَهُ أَوْ بَانَتْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ أَوْ عَادَى صَدِيقَهُ فَكَلَّمَهُمْ لَمْ يَحْنَثْ ) لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى فِعْلٍ وَاقِعٍ فِي مَحَلٍّ مُضَافٍ إلَى فُلَانٍ ، إمَّا إضَافَةُ مِلْكٍ أَوْ إضَافَةُ نِسْبَةٍ وَلَمْ يُوجَدْ فَلَا يَحْنَثُ ، قَالَ هَذَا فِي إضَافَةِ الْمِلْكِ بِالِاتِّفَاقِ .
وَفِي إضَافَةِ النِّسْبَةِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَحْنَثُ كَالْمَرْأَةِ وَالصِّدِّيقِ .
قَالَ فِي الزِّيَادَاتِ : لِأَنَّ هَذِهِ الْإِضَافَةِ لِلتَّعْرِيفِ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ وَالصَّدِيقَ مَقْصُودَانِ بِالْهِجْرَانِ فَلَا يُشْتَرَطُ دَوَامُهَا فَيَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِعَيْنِهِ كَمَا فِي الْإِشَارَةِ .
وَوَجْهُ مَا ذُكِرَ هَاهُنَا وَهُوَ رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ غَرَضُهُ هِجْرَانَهُ لِأَجْلِ الْمُضَافِ إلَيْهِ وَلِهَذَا لَمْ يُعَيِّنْهُ فَلَا يَحْنَثُ بَعْدَ زَوَالِ الْإِضَافَةِ بِالشَّكِّ ( وَإِنْ كَانَتْ يَمِينُهُ عَلَى عَبْدٍ بِعَيْنِهِ بِأَنْ قَالَ عَبْدُ فُلَانٍ هَذَا أَوْ امْرَأَةُ فُلَانٍ بِعَيْنِهَا أَوْ صَدِيقُ فُلَانٍ بِعَيْنِهِ لَمْ يَحْنَثْ فِي الْعَبْدِ وَحَنِثَ فِي الْمَرْأَةِ وَالصَّدِيقِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : يَحْنَثُ فِي الْعَبْدِ أَيْضًا ) وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ ( وَإِنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ فُلَانٍ هَذِهِ فَبَاعَهَا ثُمَّ دَخَلَهَا فَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ ) وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ أَنَّ الْإِضَافَةَ لِلتَّعْرِيفِ وَالْإِشَارَةِ أَبْلَغُ مِنْهَا فِيهِ لِكَوْنِهَا قَاطِعَةً لِلشَّرِكَةِ ، بِخِلَافِ الْإِضَافَةِ فَاعْتُبِرَتْ الْإِشَارَةُ وَلُغِيَتْ الْإِضَافَةُ وَصَارَ كَالصَّدِيقِ وَالْمَرْأَةِ .
وَلَهُمَا أَنَّ الدَّاعِي إلَى الْيَمِينِ مَعْنًى فِي الْمُضَافِ إلَيْهِ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَعْيَانَ لَا تُهْجَرُ وَلَا تُعَادَى لِذَوَاتِهَا ، وَكَذَا الْعَبْدُ لِسُقُوطِ مَنْزِلَتِهِ بَلْ لِمَعْنًى فِي مُلَّاكِهَا فَتَتَقَيَّدُ الْيَمِينُ بِحَالِ قِيَامِ الْمِلْكِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْإِضَافَةُ

إضَافَةَ نِسْبَةٍ كَالصَّدِيقِ وَالْمَرْأَةِ لِأَنَّهُ يُعَادَى لِذَاتِهِ فَكَانَتْ الْإِضَافَةُ لِلتَّعْرِيفِ وَالدَّاعِي الْمَعْنَى فِي الْمُضَافِ إلَيْهِ غَيْرُ ظَاهِرٍ لِعَدَمِ التَّعْيِينِ ، بِخِلَافِ ، مَا تَقَدَّمَ

( قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ عَبْدَ فُلَانٍ وَلَمْ يَنْوِ عَبْدًا لَهُ بِعَيْنِهِ ) إنَّمَا أَرَادَ مَنْ يُنْسَبُ إلَيْهِ بِالْعُبُودِيَّةِ أَوْ امْرَأَةَ فُلَانٍ إلَخْ .
اعْلَمْ أَنَّهُ إذَا حَلَفَ عَلَى هِجْرَانِ مَحَلِّ مُضَافٍ إلَى فُلَانٍ كَلَا يُكَلِّمُ عَبْدَ فُلَانٍ أَوْ زَوْجَتَهُ أَوْ صَدِيقَهُ أَوْ لَا يَدْخُلُ دَارِهِ أَوْ لَا يَلْبَسُ ثَوْبَهُ أَوْ لَا يَرْكَبُ فَرَسَهُ أَوْ لَا يَأْكُلُ مِنْ طَعَامِهِ فَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْإِضَافَةَ فِي الْكُلِّ مَعْرِفَةٌ لِعَيْنِ مَا عَقَدَ الْيَمِينَ عَلَى هَجْرِهِ سَوَاءٌ كَانَتْ إضَافَةَ مِلْكٍ كَعَبْدِهِ وَدَارِهِ وَدَابَّتِهِ أَوْ إضَافَةَ نِسْبَةٍ أُخْرَى غَيْرِ الْمَلِكِ كَزَوْجَتِهِ وَصَدِيقِهِ ، فَالْإِضَافَةُ مُطْلَقًا تُفِيدُ النِّسْبَةَ وَالنِّسْبَةُ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهَا نِسْبَةُ مِلْكٍ أَوْ غَيْرِهِ فَلَا يَصِحُّ جَعْلُ إضَافَةِ النِّسْبَةِ تُقَابِلُ إضَافَةَ الْمَلِكِ كَمَا فَعَلَ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ لِأَنَّهُ تَقَابُلٌ بَيْنَ الْأَعَمِّ وَالْأَخَصِّ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِخُصُوصِ عُرْفٍ اصْطِلَاحِيٍّ وَهُوَ مَحْمَلُ الْجَعْلِ الْمَذْكُورِ لِلْمُصَنِّفِ ، وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْإِضَافَةُ مُطْلَقًا لِلتَّعْرِيفِ فَبَعْدَ ذَلِكَ إمَّا أَنْ يُقْرِنَ بِهِ لَفْظَ الْإِشَارَةِ كَقَوْلِهِ لَا يُكَلِّمُ عَبْدَهُ هَذَا أَوْ زَوْجَتَهُ هَذِهِ أَوْ لَا ، فَعَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ الْإِشَارَةِ الظَّاهِرُ أَنَّ الدَّاعِي فِي الْيَمِينِ كَرَاهَتُهُ فِي الْمُضَافِ إلَيْهِ وَإِلَّا لَعَرَّفَهُ بِاسْمِ الْعَلَمِ ، ثُمَّ أَعْقَبَهُ بِالْإِضَافَةِ أَنَّ عَرَضَ اشْتِرَاكِ مِثْلِ لَا أُكَلِّمُ رَاشِدًا عَبْدَ فُلَانٍ لِيُزِيلَ الِاشْتِرَاكَ الْعَارِضَ فِي اسْمِ رَاشِدٍ أَوْ فُلَانَةَ زَوْجَةَ فُلَانٍ كَذَلِكَ ، فَلَمَّا اقْتَصَرَ عَلَى الْإِضَافَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ اسْمَهُ وَلَا أَشَارَ إلَيْهِ كَانَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لِمَعْنًى فِي الْمُضَافِ إلَيْهِ ، وَإِنْ احْتَمَلَ أَنْ يَهْجُرَ بَعْضَهَا لِذَاتِهِ أَيْضًا كَالزَّوْجَةِ وَالصَّدِيقِ فَلَا يُصَارُ إلَيْهِ بِالِاحْتِمَالِ ، وَحِينَئِذٍ فَالْيَمِينُ مُنْعَقِدَةٌ عَلَى هَجْرِ الْمُضَافِ حَالَ قِيَامِ الْإِضَافَةِ وَقْتَ الْفِعْلِ بِأَنْ كَانَ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78