كتاب : فتح القدير
المؤلف : كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي

وَالدَّابَّةُ تَحْمِلُهَا .
وَأَمَّا التَّهَايُؤُ فِي الِاسْتِغْلَالِ يَجُوزُ فِي الدَّارِ الْوَاحِدَةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَفِي الْعَبْدِ الْوَاحِدِ وَالدَّابَّةِ الْوَاحِدَةِ لَا يَجُوزُ .
وَوَجْهُ الْفَرْقِ هُوَ أَنَّ النَّصِيبَيْنِ ، يَتَعَاقَبَانِ فِي الِاسْتِيفَاءِ ، وَالِاعْتِدَالُ ثَابِتٌ فِي الْحَالِ .
وَالظَّاهِرُ بَقَاؤُهُ فِي الْعَقَارِ وَتَغَيُّرُهُ فِي الْحَيَوَانِ لِتَوَالِي أَسْبَابِ التَّغَيُّرِ عَلَيْهِ فَتَفُوتُ الْمُعَادَلَةُ .
وَلَوْ زَادَتْ الْغَلَّةُ فِي نَوْبَةِ أَحَدِهِمَا عَلَيْهَا فِي نَوْبَةِ الْآخَرِ يَشْتَرِكَانِ فِي الزِّيَادَةِ لِيَتَحَقَّقَ التَّعْدِيلُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ التَّهَايُؤُ عَلَى الْمَنَافِعِ فَاسْتَغَلَّ أَحَدُهُمَا فِي نَوْبَتِهِ زِيَادَةً ، لِأَنَّ التَّعْدِيلَ فِيمَا وَقَعَ عَلَيْهِ التَّهَايُؤُ حَاصِلٌ وَهُوَ الْمَنَافِعُ فَلَا تَضُرُّهُ زِيَادَةُ الِاسْتِغْلَالِ مِنْ بَعْدُ ( وَالتَّهَايُؤُ عَلَى الِاسْتِغْلَالِ فِي الدَّارَيْنِ جَائِزٌ ) أَيْضًا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِمَا بَيَّنَّا ، وَلَوْ فَضَلَ غَلَّةُ أَحَدِهِمَا لَا يَشْتَرِكَانِ فِيهِ بِخِلَافِ الدَّارِ الْوَاحِدَةِ .
وَالْفَرْقُ أَنَّ فِي الدَّارَيْنِ مَعْنَى التَّمْيِيزِ ، وَالْإِفْرَازُ رَاجِحٌ لِاتِّحَادِ زَمَانِ الِاسْتِيفَاءِ ، وَفِي الدَّارِ الْوَاحِدَةِ يَتَعَاقَبُ الْوُصُولُ فَاعْتُبِرَ قَرْضًا وَجُعِلَ كُلُّ وَاحِدٍ فِي نَوْبَتِهِ كَالْوَكِيلِ عَنْ صَاحِبِهِ فَلِهَذَا يَرُدُّ عَلَيْهِ حِصَّتَهُ مِنْ الْفَضْلِ ، وَكَذَا يَجُوزُ فِي الْعَبْدَيْنِ عِنْدَهُمَا اعْتِبَارًا بِالتَّهَايُؤِ فِي الْمَنَافِعِ ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ فِي أَعْيَانِ الرَّقِيقِ أَكْثَرُ مِنْهُ مِنْ حَيْثُ الزَّمَانِ فِي الْعَبْدِ الْوَاحِدِ فَأَوْلَى أَنْ يَمْتَنِعَ الْجَوَازُ ، وَالتَّهَايُؤُ فِي الْخِدْمَةِ جُوِّزَ ضَرُورَةً ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْغَلَّةِ لِإِمْكَانِ قِسْمَتِهَا لِكَوْنِهَا عَيْنًا ، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ هُوَ التَّسَامُحُ فِي الْخِدْمَةِ وَالِاسْتِقْصَاءُ فِي الِاسْتِغْلَالِ فَلَا يَتَقَاسَمَانِ ( وَلَا يَجُوزُ فِي الدَّابَّتَيْنِ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا ) وَالْوَجْهُ مَا بَيَّنَّاهُ فِي الرُّكُوبِ ( وَلَوْ كَانَ

نَخْلٌ أَوْ شَجَرٌ أَوْ غَنَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَتَهَايَئَا عَلَى أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَائِفَةً يَسْتَثْمِرُهَا أَوْ يَرْعَاهَا وَيَشْرَبُ أَلْبَانَهَا لَا يَجُوزُ ) لِأَنَّ الْمُهَايَأَةَ فِي الْمَنَافِعِ ضَرُورَةٌ أَنَّهَا لَا تَبْقَى فَيَتَعَذَّرُ قِسْمَتُهَا ، وَهَذِهِ أَعْيَانٌ بَاقِيَةٌ تَرِدُ عَلَيْهَا الْقِسْمَةُ عِنْدَ حُصُولِهَا .
وَالْحِيلَةُ أَنْ يَبِيعَ حِصَّتَهُ مِنْ الْآخَرِ ثُمَّ يَشْتَرِيَ كُلَّهَا بَعْدَ مُضِيِّ نَوْبَتِهِ أَوْ يَنْتَفِعَ بِاللَّبَنِ بِمِقْدَارٍ مَعْلُومٍ اسْتِقْرَاضًا لِنَصِيبِ صَاحِبِهِ ، إذْ قَرْضُ الْمُشَاعِ جَائِزٌ .

( فَصْلٌ فِي الْمُهَايَأَةِ ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ قِسْمَةِ الْأَعْيَانِ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ قِسْمَةِ الْأَعْرَاضِ الَّتِي هِيَ الْمَنَافِعُ ، وَأَخَّرَهَا عَنْ قِسْمَةِ الْأَعْيَانِ لِكَوْنِ الْأَعْيَانِ أَصْلًا وَالْمَنَافِعِ فَرْعًا عَلَيْهَا .
ثُمَّ إنَّ الْمُهَايَأَةَ فِي اللُّغَةِ : مُفَاعَلَةٌ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْهَيْئَةِ وَهِيَ الْحَالَةُ الظَّاهِرَةُ لِلْمُتَهَيِّئِ لِلشَّيْءِ ، وَإِبْدَالُ الْهَمْزَةِ أَلِفًا لُغَةٌ فِيهَا ، وَالتَّهَايُؤُ تَفَاعُلٌ مِنْهَا وَهُوَ أَنْ يَتَوَاضَعُوا عَلَى أَمْرٍ فَيَتَرَاضَوْا بِهِ ، وَحَقِيقَتُهُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ يَرْضَى بِحَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَيَخْتَارُهَا .
يُقَالُ هَايَأَ فُلَانٌ فُلَانًا وَتَهَايَأَ الْقَوْمُ .
وَفِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ : هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ قِسْمَةِ الْمَنَافِعِ ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ ( قَوْلُهُ الْمُهَايَأَةُ جَائِزَةٌ اسْتِحْسَانًا لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ ) قَالَ الشُّرَّاحُ : وَالْقِيَاسُ يَأْبَى جَوَازَهَا ، لِأَنَّهَا مُبَادَلَةُ الْمَنْفَعَةِ بِجِنْسِهَا ، إذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ يَنْتَفِعُ فِي نَوْبَتِهِ بِمِلْكِ شَرِيكِهِ عِوَضًا عَنْ انْتِفَاعِ شَرِيكِهِ بِمِلْكِهِ فِي نَوْبَتِهِ ا هـ أَقُولُ : فِيهِ شَيْءٌ ، وَهُوَ أَنَّ مَا ذَكَرُوا فِي وَجْهِ إبَاءِ الْقِيَاسِ جَوَازَهَا إنَّمَا يَتِمُّ فِي صُورَةِ التَّهَايُؤِ مِنْ حَيْثُ الزَّمَانِ بِأَنْ يَنْتَفِعَ أَحَدُهُمَا بِعَيْنٍ وَاحِدٍ مُدَّةً وَيَنْتَفِعَ الْآخَرُ بِهِ مُدَّةً أُخْرَى ، لَا فِي صُورَةِ التَّهَايُؤِ مِنْ حَيْثُ الْمَكَانِ كَمَا إذَا تَهَايَأَ فِي دَارٍ عَلَى أَنْ يَسْكُنَ أَحَدُهُمَا نَاحِيَةً وَالْآخَرُ نَاحِيَةً أُخْرَى مِنْهَا ، فَإِنَّ التَّهَايُؤَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ إفْرَازٌ لِجَمِيعِ الْأَنْصِبَاءِ لَا مُبَادَلَةٌ ، وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّأْقِيتُ كَمَا سَيَجِيءُ فِي الْكِتَابِ عَنْ قَرِيبٍ .
وَالظَّاهِرُ مِنْ تَقْرِيرَاتِهِمْ كَوْنُ جَوَازِ التَّهَايُؤِ عَلَى الْإِطْلَاقِ أَمْرًا اسْتِحْسَانِيًّا مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ ، وَمَا ذَكَرُوا فِي بَيَانِهِ لَا يَفِي بِذَلِكَ كَمَا تَرَى ( قَوْلُهُ إلَّا أَنَّ الْقِسْمَةَ أَقْوَى مِنْهُ فِي اسْتِكْمَالِ الْمَنْفَعَةِ ،

لِأَنَّهُ جَمْعُ الْمَنَافِعِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ وَالتَّهَايُؤُ جَمْعٌ عَلَى التَّعَاقُبِ ) أَقُولُ : فِي كُلِّيَّةِ هَذَا التَّعْلِيلِ نَظَرٌ ، إذْ قَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ التَّهَايُؤَ قَدْ يَكُونُ مِنْ حَيْثُ الزَّمَانِ وَقَدْ يَكُونُ مِنْ حَيْثُ الْمَكَانِ ، وَسَيَأْتِي فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ أَيْضًا ، وَالْجَمْعُ عَلَى التَّعَاقُبِ إنَّمَا هُوَ فِي التَّهَايُؤِ مِنْ حَيْثُ الزَّمَانِ ، وَأَمَّا فِي التَّهَايُؤِ مِنْ حَيْثُ الْمَكَانِ فَيَتَحَقَّقُ جَمْعُ الْمَنَافِعِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ كَمَا سَنُحَقِّقُهُ .
نَعَمْ إنَّ الْقِسْمَةَ فِي الْأَعْيَانِ أَقْوَى بِلَا رَيْبٍ مِنْ مُطْلَقِ التَّهَايُؤِ الَّذِي هُوَ قِسْمَةُ الْمَنَافِعِ لِحُصُولِ التَّمَلُّكِ فِي الْأُولَى مِنْ حَيْثُ الذَّاتِ وَالْمَنْفَعَةِ ، وَفِي الثَّانِي مِنْ حَيْثُ الْمَنْفَعَةِ فَحَسْبَ ( قَوْلُهُ وَالتَّهَايُؤُ فِي هَذَا الْوَجْهِ إفْرَازٌ لِجَمِيعِ الْأَنْصِبَاءِ لَا مُبَادَلَةٌ ) وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّأْقِيتُ ، هَذَا إيضَاحٌ أَنَّهُ إفْرَازٌ ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُبَادَلَةً كَانَ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ بِالْعِوَضِ فَيَلْحَقُ بِالْإِجَارَةِ حِينَئِذٍ فَيُشْتَرَطُ التَّأْقِيتُ ، كَذَا فِي الشَّرْحِ .
أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إنْ أُرِيدَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُبَادَلَةً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَانَ مُلْحَقًا بِالْإِجَارَةِ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ التَّأْقِيتُ كَمَا يُشْتَرَطُ فِي الْإِجَارَةِ فَهُوَ مُسَلَّمٌ ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ كَوْنِهِ مُبَادَلَةً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَوْنُهُ إفْرَازًا مِنْ وَجْهٍ حَتَّى يَثْبُتَ كَوْنُهُ إفْرَازًا لِجَمِيعِ الْأَنْصِبَاءِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ إفْرَازًا مِنْ وَجْهٍ وَمُبَادَلَةً مِنْ وَجْهٍ بِأَنْ يَكُونَ إفْرَازًا لِنَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْمَنْفَعَةِ فِي النَّاحِيَةِ الَّتِي يَسْكُنُ هُوَ فِيهَا وَمُبَادَلَةً لِنَصِيبِهِ مِنْهَا فِي النَّاحِيَةِ الْأُخْرَى بِنَصِيبِ الْآخَرِ فِي النَّاحِيَةِ الَّتِي يَسْكُنُ هُوَ فِيهَا ، كَمَا قَالُوا فِي قِسْمَةِ الْأَعْيَانِ عَلَى مَا مَرَّ فِي صَدْرِ كِتَابِ الْقِسْمَةِ أَنَّهَا لَا تُعَرَّى عَنْ الْمُبَادَلَةِ وَالْإِفْرَازِ لِأَنَّ مَا يَجْتَمِعُ لِأَحَدِهِمَا ، بَعْضُهُ

كَانَ لَهُ وَبَعْضُهُ كَانَ لِصَاحِبِهِ فَهُوَ يَأْخُذُهُ عِوَضًا عَمَّا بَقِيَ مِنْ حَقِّهِ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ فَكَانَ مُبَادَلَةً وَإِفْرَازًا ، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُبَادَلَةً وَلَوْ بِوَجْهٍ كَانَ مُلْحَقًا بِالْإِجَارَةِ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ التَّأْقِيتُ كَمَا يُشْتَرَطُ فِي الْإِجَارَةِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ ، لِأَنَّ الْإِجَارَةَ مُبَادَلَةُ الْمَنْفَعَةِ بِالْعِوَضِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ اشْتِرَاطِ التَّأْقِيتِ فِيهَا اشْتِرَاطُهُ فِيمَا هُوَ إفْرَازٌ مِنْ وَجْهٍ وَمُبَادَلَةٌ مِنْ وَجْهٍ .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي تَعْلِيلِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَالتَّهَايُؤُ فِي هَذَا الْوَجْهِ إفْرَازٌ لِجَمِيعِ الْأَنْصِبَاءِ ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَجْمَعُ جَمِيعَ مَنَافِعِ أَحَدِهِمَا فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ شَائِعَةً فِي الْبَيْتَيْنِ ، وَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْآخَرِ انْتَهَى .
وَقَدْ سَبَقَهُ إلَى هَذَا التَّوْجِيهِ تَاجُ الشَّرِيعَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ ، أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّ جَمِيعَ الْمَنَافِعِ الشَّائِعَةِ فِي الْبَيْتَيْنِ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ مُحَالٌ لِعَدَمِ جَوَازِ انْتِقَالِ الْعِوَضِ مِنْ مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ آخَرَ كَمَا تَقَرَّرَ فِي مَحَلِّهِ فَكَيْفَ يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ جَمْعِهَا .
فَإِنْ قُلْت : لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الْقَاضِيَ يَجْمَعُهَا حَقِيقَةً حَتَّى يَتَوَجَّهَ مَا ذَكَرَ ، بَلْ الْمُرَادُ أَنَّ الْقَاضِيَ يَعْتَبِرُ جَمْعَهَا لِئَلَّا يَكُونَ ذَلِكَ التَّهَايُؤُ مُبَادَلَةً فَيُشْتَرَطُ فِيهِ التَّأْقِيتُ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّأْقِيتُ .
قُلْت : اشْتِرَاطُ التَّأْقِيتِ فِيهِ لَيْسَ بِأَصْعَبَ مِنْ اعْتِبَارِ الْمُحَالِ مُتَحَقِّقًا حَتَّى يَرْتَكِبَ الثَّانِيَ لِأَجْلِ دَفْعِ الْأَوَّلِ ، وَأَيْضًا اعْتِبَارُ الْمُحَالِ مُتَحَقِّقًا لَيْسَ بِأَوْلَى وَأَسْهَلَ مِنْ عَدَمِ اعْتِبَارِ شَرْطِ الْإِجَارَةِ هَاهُنَا لِلضِّرْوَةِ حَتَّى يَرْتَكِبَ الْأَوَّلَ دُونَ الثَّانِي وَتَرْكُ كَثِيرٍ مِمَّا يُعْتَبَرُ فِي الشَّرْعِ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ شَائِعٌ فِي قَوَاعِدِ الشَّرْعِ : أَلَا يَرَى إلَى مَا ذَكَرُوا فِيمَا مَرَّ

آنِفًا مِنْ أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى جَوَازَ التَّهَايُؤِ لِأَنَّهُ مُبَادَلَةُ الْمَنْفَعَةِ بِجِنْسِهَا وَهِيَ لَا تَجُوزُ عِنْدَنَا عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي كِتَابِ الْإِجَارَاتِ لَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ فِيهِ لِضَرُورَةِ حَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهِ ، عَلَى أَنَّ لُزُومَ اشْتِرَاطِ التَّأْقِيتِ فِيهِ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ اعْتِبَارِ جَمْعِ الْأَنْصِبَاءِ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ مَمْنُوعٌ ، لِأَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ أَنْ لَوْ كَانَ التَّهَايُؤُ فِي الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ مُبَادَلَةً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ .
وَأَمَّا إذَا كَانَ إفْرَازًا مِنْ وَجْهٍ وَمُبَادَلَةً مِنْ وَجْهٍ فَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ التَّأْقِيتِ فِيمَا هُوَ مُبَادَلَةٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَمَا قَرَّرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ ( قَوْلُهُ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ أَنْ يَسْتَغِلَّ مَا أَصَابَهُ بِالْمُهَايَأَةِ شُرِطَ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ أَوْ لَمْ يُشْتَرَطْ لِحُدُوثِ الْمَنَافِعِ عَلَى مِلْكِهِ ) قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةُ : فَإِنْ قُلْت : الْمَنَافِعُ فِي الْعَارِيَّةِ تَحْدُثُ عَلَى مِلْكِ الْمُسْتَعِيرِ وَمَعَ هَذَا لَا يَمْلِكُ الْإِجَازَةَ قُلْت لِجَوَازِ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ الْمُعِيرُ قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ فَلَا فَائِدَةَ انْتَهَى .
أَقُولُ : جَوَازُ الِاسْتِرْدَادِ قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ هَاهُنَا أَيْضًا مُتَحَقِّقٌ ، إذْ قَدْ مَرَّ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ لَوْ وَقَعَتْ الْمُهَايَأَةُ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ ثُمَّ طَلَبَ أَحَدُهُمَا الْقِسْمَةَ يُقْسَمُ وَتَبْطُلُ الْمُهَايَأَةُ لِكَوْنِ الْقِسْمَةِ أَبْلَغَ ، فَمَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَطْلُبَ الْآخَرُ الْقِسْمَةَ وَتَبْطُلُ الْمُهَايَأَةُ قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ كَيْفَ يَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَسْتَغِلَّ مَا أَصَابَهُ بِالْمُهَايَأَةِ بِنَاءً عَلَى حُدُوثِ الْمَنَافِعِ عَلَى مِلْكِهِ ، وَلَا فَائِدَةَ فِي الِاسْتِغْلَالِ عَلَى تَقْدِيرِ طَلَبِ الْآخَرِ الْقِسْمَةَ قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ كَمَا فِي صُورَةِ الِاسْتِعَارَةِ ( قَوْلُهُ وَلَوْ تَهَايَأَ فِي عَبْدٍ وَاحِدٍ عَلَى أَنْ يَخْدُمَ هَذَا يَوْمًا وَهَذَا يَوْمًا جَازَ وَكَذَا هَذَا فِي الْبَيْتِ الصَّغِيرِ لِأَنَّ الْمُهَايَأَةَ قَدْ تَكُونُ فِي الزَّمَانِ

وَقَدْ تَكُونُ مِنْ حَيْثُ الْمَكَانِ .
وَالْأَوَّلُ مُتَعَيِّنٌ هَاهُنَا ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّ هَذَا إفْرَازٌ أَوْ مُبَادَلَةٌ لِأَنَّهُ عَطَفَهُ عَلَى صُورَةِ الْإِفْرَازِ فَكَانَ مَعْلُومًا انْتَهَى .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِسَدِيدٍ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ مِنْ عَطْفِهِ عَلَى صُورَةِ الْإِفْرَازِ أَنَّهُ أَيْضًا إفْرَازٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَعْطُوفَ فِي حُكْمِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ، لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْعَطْفِ لَا يَقْتَضِي اشْتِرَاكَ الْمَعْطُوفَيْنِ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمَسَائِلِ الْمُتَبَايِنَةِ فِي الْأَحْكَامِ يُعْطَفُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ ، عَلَى أَنَّ التَّهَايُؤَ فِي الْعَبْدِ الْوَاحِدِ وَفِي الْبَيْتِ الصَّغِيرِ تَهَايُؤٌ مِنْ حَيْثُ الزَّمَانِ ، وَلَا مَجَالَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ لَأَنْ يَكُونَ إفْرَازًا كَمَا يُفْهَمُ مِنْ أَدِلَّةِ الْمَسَائِلِ الْآتِيَةِ سِيَّمَا مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ التَّهَايُؤِ عَلَى الِاسْتِغْلَالِ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ وَالتَّهَايُؤِ عَلَى الِاسْتِغْلَالِ فِي الدَّارَيْنِ ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ مِنْ عَطْفِهِ عَلَى صُورَةِ الْإِفْرَازِ أَنَّهُ لَيْسَ إفْرَازًا بِنَاءً عَلَى لُزُومِ التَّغَايُرِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ أَيْضًا ، إذْ يَكْفِي فِي الْعَطْفِ الْمُغَايَرَةُ بَيْنَهُمَا بِحَسْبِ الذَّاتِ ، وَلَا يَلْزَمُ فِيهِ الْمُغَايَرَةُ بَيْنَهُمَا فِي جَمِيعِ الْأَوْصَافِ وَالْأَحْكَامِ حَتَّى يَتِمَّ مَا ذَكَرُوهُ .
وَبِالْجُمْلَةِ لَا دَلَالَةَ لِلْعَطْفِ هَاهُنَا عَلَى كَوْنِ الْمَذْكُورِ بِطَرِيقِ الْعَطْفِ مِنْ قَبِيلِ الْإِفْرَازِ وَالْمُبَادَلَةِ ، فَالتَّشَبُّثُ بِحَدِيثِ الْعَطْفِ هَاهُنَا مِمَّا لَا مَعْنَى لَهُ أَصْلًا كَمَا لَا يَخْفَى ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : فَإِنْ كَانَتْ الْمُهَايَأَةُ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ وَالْمَنْفَعَةُ مُتَفَاوِتَةٌ تَفَاوُتًا يَسِيرًا كَمَا فِي الثِّيَابِ وَالْأَرَاضِيِ تُعْتَبَرُ إفْرَازًا مِنْ وَجْهٍ ، مُبَادَلَةً مِنْ وَجْهٍ حَتَّى لَا يَنْفَرِدَ أَحَدُهُمَا بِهَذِهِ الْمُهَايَأَةِ ، وَإِذَا طَلَبَهَا أَحَدُهُمَا

وَلَمْ يَطْلُبْ الْآخَرُ قِسْمَةَ الْأَصْلِ أُجْبِرَ عَلَيْهَا ، وَقِيلَ تُعْتَبَرُ إفْرَازًا مِنْ وَجْهٍ ، عَارِيَّةً مِنْ وَجْهٍ ، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مُبَادَلَةً لَمَا جَازَتْ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُبَادَلَةَ الْمَنْفَعَةِ بِجِنْسِهَا وَأَنَّهُ يُحَرِّمُ رِبَا النَّسَاءِ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّ الْعَارِيَّةَ لَيْسَ فِيهَا عِوَضٌ وَهَذَا بِعِوَضٍ وَرِبَا النَّسَاءِ ثَابِتٌ عِنْدَ أَحَدِ وَصْفَيْ الْعِلَّةِ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فِيمَا هُوَ مُبَادَلَةٌ فِي الْأَعْيَانِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ انْتَهَى أَقُولُ : هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مَأْخُوذٌ مِنْ الذَّخِيرَةِ وَالْمَبْسُوطِ ، وَقَدْ ذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ أَيْضًا بِنَوْعِ تَفْصِيلٍ وَلَكِنْ فِيهِ بَحْثٌ ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ مَرَّ فِي كِتَابِ الْإِجَارَاتِ أَنَّ إجَارَةَ الْمَنَافِعِ بِجِنْسِهَا كَإِجَارَةِ السُّكْنَى بِالسُّكْنَى وَاللُّبْسِ بِاللُّبْسِ وَالرُّكُوبِ بِالرُّكُوبِ غَيْرُ صَحِيحَةٍ عِنْدَنَا .
وَقَالُوا فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ : إنَّ الْجِنْسَ بِانْفِرَادِهِ يُحَرِّمُ النَّسَاءَ عِنْدَنَا فَصَارَ كَبَيْعِ الْقُوهِيُّ بِالْقُوهِيِّ نَسِيئَةً .
وَقَالَ الْمُصَنِّفُ هُنَاكَ : وَإِلَيْهِ أَشَارَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَلَوْ كَانَ رِبَا النَّسَاءِ عِنْدَ وُجُودِ أَحَدِ وَصْفَيْ الْعِلَّةِ وَهِيَ الْقَدْرُ مَعَ الْجِنْسِ مُخْتَصًّا بِمَوْرِدِ النَّصِّ وَهُوَ الْبَيْعُ غَيْرَ مُتَعَدٍّ إلَى غَيْرِهِ لَمَا تَمَّ .
اسْتَدَلَّ أَئِمَّتُنَا فِي الْإِجَارَاتِ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ إجَارَةِ الْمَنَافِعِ بِجِنْسِهَا بِرِبَا النَّسَاءِ .
نَعَمْ لَنَا دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ ذَلِكَ كَمَا مَرَّ أَيْضًا فِي الْكِتَابِ هُنَاكَ لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ الَّذِي ارْتَضَاهُ فُحُولُ الْفُقَهَاءِ قَاطِبَةً حَتَّى أَشَارَ إلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ كَلَامِهِ السَّابِقِ : وَإِنْ كَانَتْ فِي الْجِنْسِ الْمُخْتَلِفِ كَالدُّورِ وَالْعَبِيدِ تُعْتَبَرُ مُبَادَلَةً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ حَتَّى لَا تَجُوزَ بِدُونِ رِضَاهُمَا ، لِأَنَّ

الْمُهَايَأَةَ قِسْمَةُ الْمَنَافِعِ وَقِسْمَةُ الْمَنَافِعِ مُعْتَبَرَةٌ بِقِسْمَةِ الْأَعْيَانِ وَقِسْمَةُ الْأَعْيَانِ اُعْتُبِرَتْ مُبَادَلَةً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فِي الْجِنْسِ الْمُخْتَلِفِ ، فَكَذَا قِسْمَةُ الْمَنَافِعِ انْتَهَى ، أَقُولُ : وَهَذَا أَيْضًا مَأْخُوذٌ مِنْ الْكُتُبِ الْمَذْكُورَةِ وَلَكِنَّهُ مَحَلُّ بَحْثٍ أَيْضًا .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ مِنْ قَبْلِ أَنَّ التَّهَايُؤَ مِنْ حَيْثُ الْمَكَانِ إفْرَازٌ لِجَمِيعِ الْأَنْصِبَاءِ لَا مُبَادَلَةً ، وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّأْقِيتُ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ التَّهَايُؤَ فِي الْجِنْسِ الْمُخْتَلِفِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ بِأَنْ انْتَفَعَ أَحَدُ الْوَرَثَةِ بِأَحَدِ الْأَجْنَاسِ وَالْآخَرُ بِالْآخَرِ كَمَا فِي الدُّورِ وَالْعَبِيدَ فَيَصِيرُ مِنْ قَبِيلِ التَّهَايُؤِ مِنْ حَيْثُ الْمَكَانِ فَكَيْفَ يَتِمُّ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْمُهَايَأَةَ إنْ كَانَتْ فِي الْجِنْسِ الْمُخْتَلِفِ تُعْتَبَرُ مُبَادَلَةً .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ لَوْ اُعْتُبِرَتْ الْمُهَايَأَةُ فِي الْجِنْسِ الْمُخْتَلِفِ مُبَادَلَةً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَكَانَتْ الْمُهَايَأَةُ فِي الدُّورِ كَإِجَارَةِ السُّكْنَى بِالسُّكْنَى وَفِي الْعَبِيدِ كَإِجَارَةِ الْخِدْمَةِ بِالْخِدْمَةِ .
وَمِثْلُ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْإِجَارَاتِ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعُ قَوْلِهِ كَالدُّورِ وَالْعَبِيدِ مِثَالًا وَاحِدًا ، فَالْمُرَادُ مِثْلُ أَنْ يَتَهَايَأَ عَلَى أَنْ يَسْكُنَ أَحَدُهُمَا الدُّورَ وَيَسْتَخْدِمَ الْآخَرُ الْعَبِيدَ لَكِنَّهُ بَعِيدٌ جِدًّا سِيَّمَا فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ مِنْ قَبْلُ كَمَا فِي الثِّيَابِ وَالْأَرَاضِي .
وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ وَقِسْمَةُ الْأَعْيَانِ اُعْتُبِرَتْ مُبَادَلَةً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مَمْنُوعٌ ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي صَدْرِ كِتَابِ الْقِسْمَةِ أَنَّ قِسْمَةَ الْأَعْيَانِ مُطْلَقًا لَا تُعَرَّى عَنْ مَعْنَى الْإِفْرَازِ ، وَمَعْنَى الْمُبَادَلَةِ إلَّا أَنَّ مَعْنَى الْإِفْرَازِ هُوَ الظَّاهِرُ فِي ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ ، وَمَعْنَى الْمُبَادَلَةِ هُوَ الظَّاهِرُ فِي غَيْرِ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ ، غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ

الْغَيْرَ إنْ كَانَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ أَجْبَرَ الْقَاضِي عَلَى الْقِسْمَةِ عِنْدَ طَلَبِ أَحَدِ الشُّرَكَاءِ ، وَإِنْ كَانَ أَجْنَاسًا مُخْتَلِفَةً لَا يُجْبِرُ الْقَاضِي عَلَى قِسْمَتِهَا لِتَعَذُّرِ الْمُعَادَلَةِ بِاعْتِبَارِ فُحْشِ التَّفَاوُتِ فِي الْمَقَاصِدِ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ : الْمُرَادُ بِمَا ذَكَرَ هَاهُنَا أَنَّ قِسْمَةَ الْأَعْيَانِ فِي الْجِنْسِ الْمُخْتَلِفِ اُعْتُبِرَتْ مُبَادَلَةً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فِي الْحَقِيقَةِ فَلَا يُنَافِي مَا تَقَرَّرَ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ ، لَكِنَّ فِيهِ مَا فِيهِ فَتَأَمَّلْ ( قَوْلُهُ وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ النَّصِيبَيْنِ يَتَعَاقَبَانِ فِي الِاسْتِيفَاءِ وَالِاعْتِدَالُ ثَابِتٌ فِي الْحَالِ ، وَالظَّاهِرُ بَقَاؤُهُ فِي الْعَقَارِ وَتَغَيُّرُهُ فِي الْحَيَوَانِ لِتَوَالِي أَسْبَابِ التَّغَيُّرِ عَلَيْهِ فَتَفُوتُ الْمُعَادَلَةُ ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ : لِأَنَّ الِاسْتِغْلَالَ إنَّمَا يَكُونُ بِالِاسْتِعْمَالِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ عَمَلَهُ فِي الزَّمَانِ الثَّانِي لَا يَكُونُ كَمَا كَانَ فِي الْأَوَّلِ ، لِأَنَّ الْقُوَى الْجُسْمَانِيَّةَ مُتَنَاهِيَةٌ انْتَهَى .
أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : مُقْتَضَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ لَا يَجُوزَ التَّهَايُؤُ فِي الْعَبْدِ الْوَاحِدِ عَلَى نَفْسِ الْمَنَافِعِ كَمَا لَا يَجُوزُ عَلَى الِاسْتِغْلَالِ ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ مَنَافِعَهُ الَّتِي هِيَ أَعْمَالُهُ لَا تَكُونُ فِي الزَّمَانِ الثَّانِي كَمَا كَانَتْ فِي الْأَوَّلِ لِتَنَاهِي الْقُوَى الْجُسْمَانِيَّةِ فَتَفُوتُ الْمُعَادَلَةُ ، مَعَ أَنَّ التَّهَايُؤَ فِي الْعَبْدِ الْوَاحِدِ عَلَى مَنَافِعِهِ جَائِزٌ بِالِاتِّفَاقِ كَالتَّهَايُؤِ عَلَى مَنْفَعَةِ الْبَيْتُ الصَّغِيرِ كَمَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ فِي الْكِتَابِ .
ثُمَّ أَقُولُ : يُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ التَّهَايُؤَ فِي الْعَبْدِ عَلَى الْخِدْمَةِ إنَّمَا جُوِّزَ ضَرُورَةً أَنَّهَا لَا تَبْقَى فَيَتَعَذَّرُ قِسْمَتُهَا ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْغَلَّةِ لِأَنَّهَا أَعْيَانٌ بَاقِيَةٌ تَرِدُ الْقِسْمَةُ عَلَيْهَا فَافْتَرَقَا ، وَسَيَجِيءُ فِي الْكِتَابِ عَيْنُ هَذَا الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَنْفَعَةِ وَالْغَلَّةِ فَتَبَصَّرْ ( قَوْلُهُ وَلَا يَجُوزُ

عِنْدَهُ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ فِي أَعْيَانِ الرَّقِيقِ أَكْثَرُ مِنْهُ مِنْ حَيْثُ الزَّمَانُ فِي الْعَبْدِ الْوَاحِدِ فَأَوْلَى أَنْ يَمْتَنِعَ الْجَوَازُ ) وَعُورِضَ بِأَنْ مَعْنَى الْإِفْرَازِ وَالتَّمْيِيزُ رَاجِعٌ فِي غَلَّةِ الْعَبْدَيْنِ ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَصِلُ إلَى الْغَلَّةِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَصِلُ إلَيْهَا فِيهِ صَاحِبُهُ فَكَانَ كَالْمُهَايَأَةِ فِي الْخِدْمَةِ .
وَأَجَبْت بِأَنَّ التَّفَاوُتَ يَمْنَعُ مِنْ رُجْحَانِ مَعْنَى الْإِفْرَازِ ، بِخِلَافِ الْخِدْمَةِ لِمَا بَيَّنَّا وَمِنْ وَجْهِ الْأَصَحِّ أَنَّ الْمَنَافِعَ مِنْ حَيْثُ الْخِدْمَةِ قَلَّمَا تَتَفَاوَتُ ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ أَقُولُ : فِي الْجَوَابِ نَظَرٌ .
إذْ قَدْ مَرَّ فِي بَيَانِ فَوْتِ الْمُعَادَلَةِ فِي التَّهَايُؤِ فِي الْعَبْدِ الْوَاحِدِ عَلَى الِاسْتِغْلَالِ أَنَّ الِاسْتِغْلَالَ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى حَسْبِ الِاسْتِعْمَالِ .
فَلَمَّا قَلَّ التَّفَاوُتُ فِي الْمَنَافِعِ مِنْ حَيْثُ الْخِدْمَةِ لَزِمَ أَنْ يَقِلَّ التَّفَاوُتُ فِي الْغَلَّةُ أَيْضًا بِالضَّرُورَةِ .
فَلَمْ يَظْهَرْ وَجْهُ الْمُخَالَفَةِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ الشُّرُوحِ ذَكَرُوا مَضْمُونَ الْمُعَارَضَةِ الْمَزْبُورَةِ بِطَرِيقِ بَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ مِنْ قِبَلِ الْإِمَامَيْنِ وَعَزَوْهُ إلَى الْمَبْسُوطِ وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِلْجَوَابِ عَنْهُ أَصْلًا فَتَدَبَّرْ ( قَوْلُهُ وَالتَّهَايُؤُ فِي الْخِدْمَةِ جُوِّزَ ضَرُورَةً وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْغَلَّةِ لِإِمْكَانِ قِسْمَتِهَا لِكَوْنِهَا عَيْنًا ) هَذَا جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا اعْتِبَارًا بِالتَّهَايُؤِ فِي الْمَنَافِعِ ، وَبَيَانُ الضَّرُورَةِ مَا سَيَذْكُرُهُ بَعْدَ هَذَا أَنَّ الْمَنَافِعَ لَا تَبْقَى فَيَتَعَذَّرُ قِسْمَتُهَا .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : عَلَّلَ التَّهَايُؤَ فِي الْمَنَافِعِ مِنْ قَبْلُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ مِنْ حَيْثُ الْخِدْمَةِ قَلَّمَا تَتَفَاوَتُ ، وَعَلَّلَهُ هَاهُنَا بِضَرُورَةِ تَعَذُّرِ الْقِسْمَةِ ، وَفِي ذَلِكَ تَوَارُدُ عِلَّتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ عَلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ بِالشَّخْصِ وَهُوَ

بَاطِلٌ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمَذْكُورَ مِنْ قِبَلِ تَتِمَّةِ هَذَا التَّعْلِيلِ ، لِأَنَّ عِلَّةَ الْجَوَازِ تَعَذُّرُ الْقِسْمَةِ وَقِلَّةُ التَّفَاوُتِ جَمِيعًا ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِلَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ أَقُولُ : لَا السُّؤَالُ بِشَيْءٍ وَلَا الْجَوَابُ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْبَاطِلَ إنَّمَا هُوَ تَوَارُدُ الْعِلَّتَيْنِ الْمُسْتَقِلَّتَيْنِ عَلَى الْوَاحِدِ بِالشَّخْصِ عَلَى طَرِيقِ الِاجْتِمَاعِ لَا تَوَارُدُهُمَا عَلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي مَوْضِعِهِ ، وَاللَّازِمُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ هُوَ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلُ ، إذْ لَا يَخْفَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إيرَادِ الْعِلَلِ الْمُتَعَدِّدَةِ فِي أَمْثَالِ هَذَا الْمَقَامِ هُوَ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَصْلُحُ لِإِفَادَةِ الْمُدَّعِي بِالِاسْتِقْلَالِ بَدَلًا عَنْ الْأُخْرَى ، وَفَائِدَةُ ذَلِكَ بَيَانُ طُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ مُوَصِّلَةٍ إلَى الْمَطْلُوبِ لِيَسْلُكَ الطَّالِبُ أَيَّ طَرِيقٍ شَاءَ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ تَعْلِيلِ الْمُصَنِّفِ بِإِحْدَى الْعِلَّتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ فِي كُلٍّ مِنْ الْمَوْضِعَيْنِ الْمُتَفَرِّقَيْنِ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً ، وَإِلَّا يَلْزَمُ أَنْ لَا يُفِيدَ شَيْءٌ مِنْهَا الْمُدَّعِيَ فِي مَقَامِهِ ضَرُورَةَ عَدَمِ حُصُولِ الْمَطْلُوبِ بِجُزْءِ الْعِلَّةِ ، عَلَى أَنَّ اسْتِقْلَالَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِي الْإِفَادَةِ بَيِّنٌ ، أَمَّا قِلَّةُ التَّفَاوُتِ فَلِأَنَّ الْقَلِيلَ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ فِي عَامَّةِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ وَأَمَّا ضَرُورَةُ تَعَذُّرِ الْقِسْمَةِ فَلِأَنَّ الضَّرُورَاتِ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ عَلَى مَا عُرِفَ ، وَلَيْتَ شِعْرِي مَا ذَا يَصْنَعُ الشَّارِحُ الْمَزْبُورُ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فِيمَا بَعْدُ : وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ هُوَ التَّسَامُحُ فِي الْخِدْمَةِ إلَى آخِرِهِ وَقَدْ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ وَجْهٌ آخَرُ لِإِبْطَالِ الْقِيَاسِ ، وَكَذَا فِي نَظَائِرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَدِلَّةِ الْمُتَعَدِّدَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَسَائِلِ ، فَهَلْ يُجْعَلُ

كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جُزْءَ الْعِلَّةِ لَا عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ .

كِتَابُ الْمُزَارَعَةِ ( قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : الْمُزَارَعَةُ بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ بَاطِلَةٌ ) اعْلَمْ أَنَّ الْمُزَارَعَةَ لُغَةً : مُفَاعَلَةٌ مِنْ الزَّرْعِ .
وَفِي الشَّرِيعَةِ : هِيَ عَقْدٌ عَلَى الزَّرْعِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ .
وَهِيَ فَاسِدَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَ : هِيَ جَائِزَةٌ لِمَا رُوِيَ أَنَّ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ عَلَى نِصْفِ مَا يَخْرُجُ مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ } وَلِأَنَّهُ عَقْدُ شَرِكَةٍ بَيْنَ الْمَالِ وَالْعَمَلِ فَيَجُوزُ اعْتِبَارًا بِالْمُضَارَبَةِ وَالْجَامِعُ دَفْعُ الْحَاجَةِ ، فَإِنَّ ذَا الْمَالِ قَدْ لَا يَهْتَدِي إلَى الْعَمَلِ وَالْقَوِيُّ عَلَيْهِ لَا يَجِدُ الْمَالَ ، فَمَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى انْعِقَادِ هَذَا الْعَقْدِ بَيْنَهُمَا بِخِلَافِ دَفْعِ الْغَنَمِ وَالدَّجَاجِ وَدُودَ الْقَزِّ مُعَامَلَةً بِنِصْفِ الزَّوَائِدِ لِأَنَّهُ لَا أَثَرَ هُنَاكَ لِلْعَمَلِ فِي تَحْصِيلِهَا فَلَمْ تَتَحَقَّقْ شَرِكَةٌ .
وَلَهُ مَا رُوِيَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ الْمُخَابَرَةِ وَهِيَ الْمُزَارَعَةُ } وَلِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْ عَمَلِهِ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى قَفِيزِ الطَّحَّانِ ، وَلِأَنَّ الْأَجْرَ مَجْهُولٌ أَوْ مَعْدُومٌ وَكُلُّ ذَلِكَ مُفْسِدٌ ، وَمُعَامَلَةُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَهْلَ خَيْبَرَ كَانَ خَرَاجَ مُقَاسَمَةٍ بِطَرِيقِ الْمَنِّ وَالصُّلْحِ وَهُوَ جَائِزٌ ( وَإِذَا فَسَدَتْ عِنْدَهُ فَإِنْ سَقَى الْأَرْضَ وَكَرَبَهَا وَلَمْ يَخْرُجْ شَيْءٌ مِنْهُ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ ) لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى إجَارَةٍ فَاسِدَةٍ ، وَهَذَا إذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الْأَرْضِ .
وَإِذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِهِ فَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِ الْأَرْضِ وَالْخَارِجُ فِي الْوَجْهَيْنِ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ لِأَنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِهِ وَلِلْآخَرِ الْأَجْرُ كَمَا فَصَّلْنَا ، إلَّا أَنَّ الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهَا وَلِظُهُورِ تَعَامُلِ الْأُمَّةِ بِهَا .
وَالْقِيَاسُ يُتْرَكُ بِالتَّعَامُلِ كَمَا فِي الِاسْتِصْنَاعِ

( كِتَابُ الْمُزَارَعَةِ ) لَمَّا كَانَ الْخَارِجُ مِنْ الْأَرْضِ فِي عَقْدِ الْمُزَارَعَةُ مِنْ أَنْوَاعِ مَا يَقَعُ فِيهِ الْقِسْمَةُ ذَكَرَ الْمُزَارَعَةَ عَقِيبَ الْقِسْمَةِ ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ ( قَوْلُهُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْمُزَارَعَةُ بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ بَاطِلَةٌ ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ : إنَّمَا قَيَّدَ بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ لِيُبَيِّنَ مَحَلَّ النِّزَاعِ ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُعَيِّنْ أَصْلًا أَوْ عَيَّنَ دَرَاهِمَ مُسَمَّاةً كَانَتْ فَاسِدَةً بِالْإِجْمَاعِ انْتَهَى .
أَقُولُ : يَرُدُّ عَلَى ظَاهِرِهِ أَنَّ الْمُزَارَعَةَ بِالنِّصْفِ وَبِالْخُمُسِ وَبِغَيْرِهِمَا مِنْ الْكُسُورِ مَحَلُّ النِّزَاعِ أَيْضًا فَكَيْفَ يَتَبَيَّنُ بِالتَّقْيِيدِ بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ مَحَلُّ النِّزَاعِ ؟ فَالْوَجْهُ مَا ذُكِرَ فِي سَائِرِ الشُّرُوحُ مِنْ أَنَّهُ إنَّمَا قَيَّدَ بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ مَعَ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الْمُزَارَعَةُ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ عِنْدَهُ تَبَرُّكًا بِلَفْظِ الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ الْمُخَابَرَةِ فَقِيلَ : وَمَا الْمُخَابَرَةُ ؟ قَالَ : الْمُزَارَعَةُ بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ } وَإِنَّمَا خَصَّ فِي الْحَدِيثِ بِذَلِكَ لِمَكَانِ الْعَادَةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِذَلِكَ التَّقْدِيرِ انْتَهَى ، وَاَلَّذِي يُمْكِنُ فِي تَوْجِيهِ مَا فِي الْعِنَايَةِ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِقَوْلِهِ إنَّمَا قَيَّدَ بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ مُقَابَلَةَ التَّقْيِيدِ بِالْإِطْلَاقِ لَا مُقَابَلَةَ التَّقْيِيدِ بِالتَّقْيِيدِ : يَعْنِي أَنَّهُ قَيَّدَ بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَلَمْ يُطْلِقْ عَنْ الْقَيْدِ بِالْكُلِّيَّةِ لَا أَنَّهُ قَيَّدَ بِهَذَا الْقَيْدِ الْمَخْصُوصِ وَهُوَ الثُّلُثُ وَالرُّبُعُ وَلَمْ يُقَيِّدْ بِقَيْدٍ آخَرَ كَالنِّصْفِ وَغَيْرِهِ ، لَكِنَّ فِيهِ مَا فِيهِ كَمَا تَرَى ( قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ عَقْدُ شَرِكَةٍ بَيْنَ الْمَالِ وَالْعَمَلِ فَيَجُوزُ اعْتِبَارًا بِالْمُضَارَبَةِ ) قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ : قُلْت الرِّبْحُ فِي الْمُضَارَبَةِ يَحْصُلُ بِمَالٍ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ وَبِعَمَلٍ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ فَتَنْعَقِدُ شَرِكَةٌ بَيْنَهُمَا فِي الرِّبْحِ

وَهُنَا كَذَلِكَ انْتَهَى .
أَقُولُ : لَمْ يَجُزْ فِي الْمُضَارَبَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ وَالْعَمَلُ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ وَلِهَذَا قَالُوا هُنَاكَ : وَشَرْطُ الْعَمَلِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ وَهُنَا جَازَ لِمَا سَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ إذَا كَانَتْ الْأَرْضُ لِوَاحِدٍ وَالْعَمَلُ وَالْبَقَرُ وَالْبَذْرُ لِوَاحِدٍ جَازَتْ الْمُزَارَعَةُ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْبَذْرَ مَالٌ بَلْ الْبَقَرُ أَيْضًا مَالٌ وَقَدْ اجْتَمَعَا مَعَ الْعَمَلِ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ فَكَيْفَ يَتِمُّ اعْتِبَارُ الْمُزَارَعَةِ مُطْلَقًا بِالْمُضَارَبَةِ فَتَأَمَّلْ ( قَوْلُهُ لِأَنَّهُ لَا أَثَرَ هُنَاكَ لِلْعَمَلِ فِي تَحْصِيلِهَا ) قَالَ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَحَلِّ : لِأَنَّهُ أَيْ الزَّوَائِدَ عَلَى تَأْوِيلِ الزَّائِدِ انْتَهَى .
أَقُولُ : هَذَا تَعَسُّفٌ قَبِيحٌ لَا يَقْبَلُهُ ذُو فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ عِنْدَ مُسَاغٍ أَنْ يَحْمِلَ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ لِأَنَّهُ عَلَى الشَّأْنِ كَمَا لَا يَخْفَى ( قَوْلُهُ وَمُعَامَلَةُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَهْلَ خَيْبَرَ كَانَ خَرَاجَ مُقَاسَمَةٍ بِطَرِيقِ الْمَنِّ وَالصُّلْحِ وَهُوَ جَائِزٌ ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : هَذَا مُخَالِفٌ لِمَا أَسْلَفَهُ فِي بَابِ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ أَنَّ أَرْضَ الْعَرَبِ كُلَّهَا أَرْضُ عُشْرٍ .
فَإِنَّ خَيْبَرَ مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ ا هـ .
أَقُولُ : كَوْنُ خَيْبَرَ مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ مَمْنُوعٌ ، كَيْفَ وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْبَابِ الْمَذْكُورِ أَيْضًا أَنَّ أَرْضَ الْعَرَبُ لَا يُقِرُّ أَهْلُهَا عَلَيْهَا عَلَى الْكُفْرِ ، فَإِنَّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إلَّا الْإِسْلَامُ أَوْ السَّيْفُ ، وَقَدْ { أَقَرَّ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَهْلَ خَيْبَرَ عَلَى أَرَاضِيِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ } ، وَذَكَرُوا حَدَّ أَرْضِ الْعَرَبِ طُولًا وَعَرْضًا فِي الْبَابِ الْمَذْكُورِ ، فَمَنْ أَتْقَنَ ذَاكَ فِي مَوْضِعِهِ لَعَلَّهُ يَحْكُمُ بِأَنَّ خَيْبَرَ لَيْسَتْ مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ قَوْلُهُ وَالْخَارِجُ فِي الْوَجْهَيْنِ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ لِأَنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِهِ ) قِيلَ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ نَمَاءُ

مِلْكِهِ مَنْقُوضٌ بِمَنْ غَصَبَ بَذْرًا فَزَرَعَهُ فَإِنَّ الزَّرْعَ لَهُ وَإِنْ كَانَ نَمَاءُ مِلْكِ صَاحِبِ الْبَذْرِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْغَاصِبَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ بِاخْتِيَارِهِ وَتَحْصِيلِهِ فَكَانَ إضَافَةُ الْحَادِثِ إلَى عَمَلِهِ أَوْلَى ، وَالْمُزَارِعُ عَامِلٌ بِأَمْرِ غَيْرِهِ فَجَعَلَ الْعَمَلَ مُضَافًا إلَى الْآمِرِ .
كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا .
أَقُولُ : النَّقْضُ غَيْرُ وَارِدٍ أَصْلًا ، وَالْجَوَابُ غَيْرُ دَافِعٍ لِمَا ذَكَرَ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الزَّرْعَ فِي الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ لَيْسَ بِنَمَاءِ مِلْكِ صَاحِبِ الْبَذْرِ وَإِنَّمَا هُوَ نَمَاءُ مِلْكِ الْغَاصِبِ ، إذْ قَدْ مَرَّ فِي فَصْلِ مَا يَتَغَيَّرُ بِعَمَلِ الْغَاصِبِ مِنْ كِتَابِ الْغَصْبِ أَنَّهُ إذَا تَغَيَّرَتْ الْعَيْنُ الْمَغْصُوبَةُ بِفِعْلِ الْغَاصِبِ حَتَّى زَالَ اسْمُهَا وَعَظُمَ مَنَافِعُهَا زَالَ مِلْكُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ عَنْهَا وَمَلَكَهَا الْغَاصِبُ وَضَمِنَهَا عِنْدَنَا .
وَمِثْلُ ذَلِكَ بِأَمْثِلَةٍ : مِنْهَا مَا إذَا غَصَبَ حِنْطَةً فَزَرَعَهَا ، فَقَدْ تَبَيَّنَ مِنْهُ أَنَّ الْبَذْرَ بِالْغَصْبِ وَالزَّرْعِ يَصِيرُ مِلْكَ الْغَاصِبِ فَيَكُونُ الزَّرْعُ نَمَاءَ مِلْكِهِ قَطْعًا .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ مَحَلَّ النَّقْضِ إنَّمَا هُوَ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِهِ ، وَمَا ذَكَرَ فِي الْجَوَابِ لَا يُفِيدُ الْفَرْقَ بَيْنَ الْغَاصِبِ وَالْمُزَارِعِ مِنْ جِهَةِ مَوْرِدِ النَّقْضِ ، وَإِنَّمَا يُفِيدُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِ أَحَدِهِمَا عَامِلًا لِنَفْسِهِ بِاخْتِيَارِهِ وَالْآخَرِ عَامِلًا بِأَمْرِ غَيْرِهِ ، وَالْكَلَامُ فِي الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ ( قَوْلُهُ إلَّا أَنَّ الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهَا وَلِظُهُورِ تَعَامُلِ الْأُمَّةِ بِهَا ، وَالْقِيَاسُ يُتْرَكُ بِالتَّعَامُلِ كَمَا فِي الِاسْتِصْنَاعِ ) أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : نَعَمْ إنَّ الْقِيَاسَ يُتْرَكُ بِالتَّعَامُلِ ، وَلَكِنَّ النَّصَّ لَا يُتْرَكُ بِذَلِكَ لِأَنَّ التَّعَامُلَ إجْمَاعٌ عَمَلِيٌّ ، وَالْإِجْمَاعُ لَا يُنْسَخُ بِهِ الْكِتَابُ وَلَا السُّنَّةُ عَلَى مَا عُرِفَ فِي عِلْمُ

الْأُصُولِ .
فَبَقِيَ تَمَسُّكُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِالسُّنَّةِ ، وَهِيَ مَا رُوِيَ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ الْمُخَابَرَةِ وَهِيَ الْمُزَارَعَةُ سَالِمًا عَمَّا يَدْفَعُهُ } فَمَا وَجْهُ الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ لَهُمَا أَنْ يَدْفَعَا ذَلِكَ بِحَمْلِ الْمَرْوِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا إذَا شُرِطَ فِي عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ شَرْطٌ مُفْسِدٌ ، إذْ قَدْ رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَشْتَرِطُونَ فِيهِ شَيْئًا مَعْلُومًا مِنْ الْخَارِجِ لِرَبِّ الْأَرْضِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُفْسِدٌ عِنْدَهُمَا .
وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ صَاحِبُ الْكَافِي حَيْثُ قَالَ : فَإِنْ قِيلَ : التَّعَامُلُ عَلَى خِلَافِ النَّصِّ بَاطِلٌ .
قُلْنَا : النُّصُوصُ الْوَارِدَةُ فِي الْمُجْتَهِدَاتِ صُوَرُ النُّصُوصِ ، وَإِلَّا لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ الْخِلَافُ فِيهَا أَوْ تَحَمُّلُهَا عَلَى مَا إذَا شَرَطَ شَرْطًا مُفْسِدًا ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَشْتَرِطُونَ فِيهَا شَيْئًا مَعْلُومًا مِنْ الْخَارِجِ لِرَبِّ الْأَرْضِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُفْسِدٌ عِنْدَهُمَا ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ

( ثُمَّ الْمُزَارَعَةُ لِصِحَّتِهَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجِيزُهَا شُرُوطٌ : أَحَدُهَا كَوْنُ الْأَرْضُ صَالِحَةً لِلزِّرَاعَةِ ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَا يَحْصُلُ بِدُونِهِ ( وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ رَبُّ الْأَرْضِ وَالْمُزَارِعُ مِنْ أَهْلِ الْعَقْدِ وَهُوَ لَا يَخْتَصُّ بِهِ ) لِأَنَّهُ عَقَدَ مَا لَا يَصِحُّ إلَّا مِنْ الْأَهْلِ ( وَالثَّالِثُ بَيَانُ الْمُدَّةِ ) لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى مَنَافِعِ الْأَرْضِ أَوْ مَنَافِعِ الْعَامِلِ وَالْمُدَّةُ هِيَ الْمِعْيَارُ لَهَا لِيَعْلَمَ بِهَا ( وَالرَّابِعُ بَيَانُ مَنْ عَلَيْهِ الْبَذْرُ ) قَطْعًا لِلْمُنَازَعَةِ وَإِعْلَامًا لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ مَنَافِعُ الْأَرْضِ أَوْ مَنَافِعُ الْعَامِلِ .
( وَالْخَامِسُ بَيَانُ نَصِيبِ مَنْ لَا بَذْرَ مِنْ قِبَلِهِ ) لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ عِوَضًا بِالشَّرْطِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا ، وَمَا لَا يُعْلَمُ لَا يَسْتَحِقُّ شَرْطًا بِالْعَقْدِ .
( وَالسَّادِسُ أَنْ يُخَلِّيَ رَبُّ الْأَرْضِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعَامِلِ ، حَتَّى لَوْ شَرَطَ عَمَلَ رَبِّ الْأَرْضِ يُفْسِدُ الْعَقْدَ ) لِفَوَاتِ التَّخْلِيَةِ ( وَالسَّابِعُ الشَّرِكَةُ فِي الْخَارِجِ بَعْدَ حُصُولِهِ ) لِأَنَّهُ يَنْعَقِدُ شَرِكَةً فِي الِانْتِهَاءِ ، فَمَا يَقْطَعُ هَذِهِ الشَّرِكَةَ كَانَ مُفْسِدًا لِلْعَقْدِ ( وَالثَّامِنُ بَيَانُ جِنْسِ الْبَذْرِ ) لِيَصِيرَ الْأَجْرُ مَعْلُومًا .

( قَوْلُهُ وَالْخَامِسُ بَيَانُ نَصِيبِ مَنْ لَا بَذْرَ مِنْ قِبَلِهِ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ عِوَضًا بِالشَّرْطِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا ) أَقُولُ : لَا شَكَّ أَنَّ بَيَانَ نَصِيبِ كُلٍّ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ ، فَعَدَّ بَيَانَ نَصِيبِ مَنْ لَا بَذْرَ مِنْ قِبَلِهِ مِنْ الشَّرَائِطِ دُونَ بَيَانِ نَصِيبِ الْآخَرِ مِمَّا لَا يُجْدِي كَبِيرَ طَائِلٍ فَتَأَمَّلْ ( قَوْلُهُ وَالسَّابِعُ الشَّرِكَةُ فِي الْخَارِجِ بَعْدَ حُصُولِهِ لِأَنَّهُ يَنْعَقِدُ شَرِكَةً فِي الِانْتِهَاءِ فَمَا يَقْطَعُ هَذِهِ الشَّرِكَةَ كَانَ مُفْسِدًا لِلْعَقْدِ ) قَالَ كَثِيرٌ مِنْ الشُّرَّاحِ : لِأَنَّهُ إذَا شَرَطَ فِيهَا مَا يَقْطَعُ الشَّرِكَةَ فِي الْخَارِجِ تَبْقَى إجَارَةً مَحْضَةً ، وَالْقِيَاسُ يَأْبَى جَوَازَ الْإِجَارَةِ الْمَحْضَةِ بِأَجْرٍ مَعْدُومٍ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ شَيْءٌ ، وَهُوَ أَنَّ الْقِيَاسَ كَمَا يَأْبَى جَوَازَ قِيَاسِ الْإِجَارَةِ الْمَحْضَةِ بِأَجْرٍ مَعْدُومٍ يَأْبَى جَوَازَهَا بِأَجْرٍ مَوْجُودٍ أَيْضًا ، إذَا قَدْ تَقَرَّرَ فِي كِتَابِ الْإِجَارَةِ أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى جَوَازَ الْإِجَارَةِ مُطْلَقًا لِكَوْنِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ الَّذِي هُوَ الْمَنْفَعَةُ غَيْرَ مَوْجُودٍ فِي الْحَالِ ، لَكِنَّا جَوَّزْنَاهَا اسْتِحْسَانًا لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهَا فَكَيْفَ يَتِمُّ الِاسْتِدْلَال بِمُجَرَّدِ أَنْ يَأْبَى الْقِيَاسُ جَوَازَهَا عَلَى فَسَادِ الْمُزَارَعَةِ عَلَى تَقْدِيرِ بَقَائِهَا إجَارَةً مَحْضَةً ، فَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ بَدَلَ قَوْلُهُمْ وَالْقِيَاسُ يَأْبَى جَوَازَ الْإِجَارَةِ الْمَحْضَةِ بِأَجْرٍ مَعْدُومٍ وَالْإِجَارَةُ الْمَحْضَةُ بِأَجْرٍ مَعْدُومٍ فَاسِدَةٌ قَطْعًا .
ثُمَّ أَقُولُ : لَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا غَيْرُ مَا ذَكَرَهُ هَؤُلَاءِ الشُّرَّاحُ ، فَإِنَّهُمْ عَلَّلُوا كَوْنَ مَا يَقْطَعُ هَذِهِ الشَّرِكَةَ مُفْسِدًا لِلْعَقْدِ بِأَنَّهُ إذَا شَرَطَ فِيهَا مَا يَقْطَعُ الشَّرِكَةَ فِي الْخَارِجِ تَبْقَى إجَارَةً مَحْضَةً ، وَالْقِيَاسُ يَأْبَى جَوَازَ الْإِجَارَةِ الْمَحْضَةِ بِأَجْرٍ مَعْدُومٍ ، وَالْمُصَنِّفُ

فَرَّعَ كَوْنَ مَا يَقْطَعُ هَذِهِ الشَّرِكَةَ مُفْسِدًا لِلْعَقْدِ عَلَى مَا قَبْلَهُ حَيْثُ قَالَ فَمَا يَقْطَعُ هَذِهِ الشَّرِكَةَ كَانَ مُفْسِدًا لِلْعَقْدِ فَقَدْ جَعَلَ عِلَّةَ ذَلِكَ مَا قَبْلَهُ وَهُوَ مَضْمُونُ قَوْلِهِ لِأَنَّهُ يَنْعَقِدُ شَرِكَةً فِي الِانْتِهَاءِ فَمُرَادُهُ أَنَّ عَقْدَ الْمُزَارَعَةِ شَرِكَةٌ فِي الِانْتِهَاءِ وَإِنْ كَانَ إجَارَةً فِي الِابْتِدَاءِ فَكَانَ مَعْنَى الشَّرِكَةِ مُعْتَبَرًا فِي انْعِقَادِ الْمُزَارَعَةِ ، فَمَا يَقْطَعُ هَذِهِ الشَّرِكَةَ يَنْفِي الْمَعْنَى الْمُعْتَبَرَ فِي انْعِقَادِهَا فَيُفْسِدُ عَقْدَ الْمُزَارَعَةِ لَا مَحَالَةَ .

قَالَ ( وَهِيَ عِنْدَهُمَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : إنْ كَانَتْ الْأَرْضُ وَالْبَذْرُ لِوَاحِدٍ وَالْبَقَرُ وَالْعَمَلُ لِوَاحِدٍ جَازَتْ الْمُزَارَعَةُ ) لِأَنَّ الْبَقَرَ آلَةُ الْعَمَلِ فَصَارَ كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَ خَيَّاطًا لِيَخِيطَ بِإِبْرَةِ الْخَيَّاطِ ، ( وَإِنْ كَانَ الْأَرْضُ لِوَاحِدٍ وَالْعَمَلُ وَالْبَقَرُ وَالْبَذْرُ لِوَاحِدٍ جَازَتْ ) لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارُ الْأَرْضِ بِبَعْضٍ مَعْلُومٍ مِنْ الْخَارِجِ فَيَجُوزُ كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَهَا بِدَرَاهِمَ مَعْلُومَةٍ ( وَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ وَالْبَذْرُ وَالْبَقَرُ لِوَاحِدٍ وَالْعَمَلُ مِنْ آخَرَ جَازَتْ ) لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِلْعَمَلِ بِآلَةِ الْمُسْتَأْجِرِ فَصَارَ كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَ خَيَّاطًا لِيَخِيطَ ثَوْبَهُ بِإِبْرَتِهِ أَوْ طَيَّانًا لِيُطَيِّنَ بِمَرِّهِ ( وَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ وَالْبَقَرُ لِوَاحِدٍ وَالْبَذْرُ وَالْعَمَلُ لِآخَرَ فَهِيَ بَاطِلَةٌ ) وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَيْضًا ، لِأَنَّهُ لَوْ شَرَطَ الْبَذْرَ وَالْبَقَرَ عَلَيْهِ يَجُوزُ فَكَذَا إذَا شُرِطَ وَحْدَهُ وَصَارَ كَجَانِبِ الْعَامِلِ .
وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ مَنْفَعَةَ الْبَقَرِ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ .
لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْأَرْضِ قُوَّةٌ فِي طَبْعِهَا يَحْصُلُ بِهَا النَّمَاءُ ، وَمَنْفَعَةُ الْبَقَرِ صَلَاحِيَةٌ يُقَامُ بِهَا الْعَمَلُ كُلُّ ذَلِكَ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَمْ يَتَجَانَسَا فَتَعَذَّرَ أَنْ تُجْعَلَ تَابِعَةً لَهَا ، بِخِلَافِ جَانِبِ الْعَامِلِ لِأَنَّهُ تَجَانَسَتْ الْمَنْفَعَتَانِ فَجُعِلَتْ تَابِعَةً لِمَنْفَعَةِ الْعَامِلِ .
وَهَاهُنَا وَجْهَانِ آخَرَانِ لَمْ يَذْكُرْهُمَا : أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ لِأَحَدِهِمَا وَالْأَرْضُ وَالْبَقَرُ وَالْعَمَلُ لِآخَرَ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَتِمُّ شَرِكَةً بَيْنَ الْبَذْرِ وَالْعَمَلِ وَلَمْ يَرِدْ بِهِ الشَّرْعُ .
وَالثَّانِي أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الْبَذْرِ وَالْبَقَرِ .
وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَ الِانْفِرَادِ فَكَذَا عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ ، وَالْخَارِجُ فِي الْوَجْهَيْنِ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ فِي رِوَايَةٍ

اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الْمُزَارَعَاتِ الْفَاسِدَةِ ، وَفِي رِوَايَةٍ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ وَيَصِيرُ مُسْتَقْرِضًا لِلْبَذْرِ قَابِضًا لَهُ لِاتِّصَالِهِ بِأَرْضِهِ .

( قَوْلُهُ وَهِيَ عِنْدَهُمَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ ) وَاعْلَمْ أَنَّ مَسَائِلَ الْمُزَارَعَةِ فِي الْجَوَازِ وَالْفَسَادِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَصْلٍ وَهُوَ أَنَّ الْمُزَارَعَةَ تَنْعَقِدُ إجَارَةً وَتَتِمُّ شَرِكَةً ، وَانْعِقَادُهَا إجَارَةً إنَّمَا هُوَ عَلَى مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ أَوْ عَلَى مَنْفَعَةِ الْعَامِلِ دُونَ مَنْفَعَةِ غَيْرِهِمَا مِنْ مَنْفَعَةِ الْبَقَرِ وَالْبَذْرِ لِأَنَّهَا اسْتِئْجَارٌ بِبَعْضِ الْخَارِجِ .
وَهُوَ لَا يَجُوزُ قِيَاسًا لَكِنَّا جَوَّزْنَاهُ فِي الْأَرْضِ وَالْعَامِلِ لِوُرُودِ الشَّرْعِ بِهِ فِيهِمَا .
أَمَّا فِي الْأَرْضِ فَأَثَرُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَتَعَامُلُ النَّاسِ .
وَأَمَّا فِي الْعَامِلِ فَعَمَلُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَهْلِ خَيْبَرَ .
وَالتَّعَامُلُ لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِهِ فِي الْبَذْرِ وَالْبَقَرُ فَأَخَذْنَا فِيهِمَا بِالْقِيَاسِ .
فَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ صُوَرِ الْجَوَازِ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ اسْتِئْجَارِ الْأَرْضِ أَوْ الْعَامِلِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ أَوْ كَانَ الْمَشْرُوطُ عَلَى أَحَدِهِمَا شَيْئَيْنِ مُتَجَانِسَيْنِ وَلَكِنَّ الْمَنْظُورَ فِيهِ هُوَ اسْتِئْجَارُ الْأَرْضِ أَوْ الْعَامِلِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ لِكَوْنِهِ مَوْرِدَ الْأَثَرِ ، وَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ صُوَرِ عَدَمِ الْجَوَازِ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ اسْتِئْجَارِ الْآخَرِينَ ، أَوْ كَانَ الْمَشْرُوطُ عَلَى أَحَدِهِمَا شَيْئَيْنِ غَيْرَ مُتَجَانِسَيْنِ فَلَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا تَبَعًا لِلْآخَرِ وَلَكِنَّ الْمَنْظُورَ فِيهِ هُوَ اسْتِئْجَارُ غَيْرِ الْأَرْضِ وَالْعَامِلِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ لِعَدَمِ وُرُودِ الشَّرْعِ فِي غَيْرِهِمَا ، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي تَدُورُ عَلَيْهِ مَسَائِلُ الْمُزَارَعَةِ .
كَذَا فِي الشُّرُوحِ ، وَأَشَارَ إلَيْهِ فِي الذَّخِيرَةِ وَجَامِعِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ .
ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةُ بَعْدَ مَا ذَكَرَ الْأَصْلَ الْمَزْبُورَ قَالَ : فَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَلَا عَلَيْنَا فِي تَطْبِيقِ الْوُجُوهِ عَلَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ .
فَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فَهُوَ مِمَّا كَانَ الْمَشْرُوطُ عَلَى أَحَدِهِمَا شَيْئَيْنِ مُتَجَانِسَيْنِ ، فَإِنَّ الْأَرْضَ

وَالْبَذْرَ مِنْ جِنْسٍ وَالْعَمَلَ وَالْبَقَرَ مِنْ جِنْسٍ وَالْمَنْظُورُ إلَيْهِ الِاسْتِئْجَارُ يُجْعَلُ كَأَنَّ الْعَامِلَ اسْتَأْجَرَ الْأَرْضَ أَوْ رَبُّ الْأَرْضِ اسْتَأْجَرَ الْعَامِلَ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ مِمَّا فِيهِ اسْتِئْجَارُ الْأَرْضِ وَالْعَامِلِ .
وَأَمَّا الْوَجْهُ الرَّابِعُ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَبَاطِلٌ ، لِأَنَّ الْمَشْرُوطَ شَيْئَانِ غَيْرُ مُتَجَانِسَيْنِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا تَابِعًا لِلْآخَرِ ، بِخِلَافِ الْمُتَجَانِسَيْنِ فَإِنَّ الْأَشْرَفَ أَوْ الْأَصْلَ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَتْبِعَ الْأَخَسَّ وَالْفَرْعَ ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
أَقُولُ : فِيهِ خَلَلٌ ، لِأَنَّهُ جَوَّزَ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنْ يَجْعَلَ الْعَامِلَ مُسْتَأْجِرًا الْأَرْضَ وَأَنْ يَجْعَلَ رَبَّ الْأَرْضِ مُسْتَأْجِرًا الْعَامِلَ وَلَا مَجَالَ فِيهِ لِلْأَوَّلِ ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَأْجِرُ فِيهِ هُوَ رَبُّ الْأَرْضِ لِأَنَّ الْبَذْرَ كَانَ مِنْ قِبَلِهِ فِي هَذَا الْوَجْهِ ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ فِي الشَّرْطِ الرَّابِعِ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْمُزَارَعَةِ عِنْدَهُمَا أَنَّ الْبَذْرَ إذَا كَانَ مِنْ قِبَلِ رَبِّ الْأَرْضِ كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَنَافِعَ الْعَامِلِ فَكَانَ الْمُسْتَأْجِرُ هُوَ رَبَّ الْأَرْضِ ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ مُسْتَأْجِرًا فِيمَا إذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِهِ ، إذْ يَكُونُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ مَنَافِعَ الْأَرْضِ ، وَعَنْ هَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ جَوَازُ الْمُزَارَعَةِ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ : لِأَنَّ الْبَقَرَ آلَةُ الْعَمَلِ فَصَارَ كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَ خَيَّاطًا لِيَخِيطَ بِإِبْرَةِ الْخَيَّاطِ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ التَّصْرِيحِ بِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ فِي هَذَا الْوَجْهِ هُوَ رَبُّ الْأَرْضِ وَالْعَامِلَ هُوَ الْأَجِيرُ كَالْخَيَّاطِ ( قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ لِوَاحِدٍ وَالْعَمَلُ وَالْبَقَرَةُ وَالْبَذْرُ لِوَاحِدٍ جَازَتْ لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارُ الْأَرْضِ بِبَعْضٍ مَعْلُومٍ مِنْ الْخَارِجِ فَيَجُوزُ كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَهَا بِدَرَاهِمَ مَعْلُومَةٍ ) أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ ، إذْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ

اسْتِئْجَارُ الْأَرْضِ بِبَعْضٍ مَعْلُومٍ كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَهَا بِدَرَاهِمَ مَعْلُومَةٍ ، فَإِنَّ اسْتِئْجَارَ الْأَرْضِ بِبَعْضٍ مِنْ الْخَارِجِ اسْتِئْجَارٌ بِبَعْضٍ مَجْهُولٍ أَوْ مَعْدُومٍ ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُفْسِدٌ كَمَا مَرَّ فِي دَلِيلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْمُزَارَعَةِ ، كَيْفَ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ اسْتِئْجَارًا بِبَعْضٍ مَعْلُومٍ لَكَانَتْ الْمُزَارَعَةُ جَائِزَةً عَلَى مُقْتَضَى الْقِيَاسِ أَيْضًا .
وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي أَنْ لَا تَجُوزَ الْمُزَارَعَةُ مُطْلَقًا لِكَوْنِهَا اسْتِئْجَارًا بِبَعْضِ الْخَارِجِ .
وَهُوَ لَا يَجُوزُ لَكِنَّا جَوَّزْنَاهَا فِيمَا إذَا كَانَتْ اسْتِئْجَارَ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ أَوْ الْعَامِلِ اسْتِحْسَانًا بِالنَّصِّ وَالتَّعَامُلِ وَلَمْ نُجَوِّزْهَا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ عَمَلًا بِالْقِيَاسِ لِعَدَمِ وُرُودِ الشَّرْعِ بِهِ فِيهِ .
فَالْحَقُّ فِي تَعْلِيلِ جَوَازِ هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يُقَالَ : لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارُ الْأَرْضِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ وَهُوَ جَائِزٌ بِالنَّصِّ وَتَعَامُلِ الْأُمَّةِ ( قَوْلُهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَيْضًا .
لِأَنَّهُ لَوْ شُرِطَ الْبَذْرُ وَالْبَقَرُ عَلَيْهِ يَجُوزُ فَكَذَا إذَا شُرِطَ وَحْدَهُ وَصَارَ كَجَانِبِ الْعَامِلِ ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ : وَوَجْهُ غَيْرِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مَا قَالَ فِي الْكِتَابِ : لَوْ شُرِطَ الْبَذْرُ وَالْبَقَرُ عَلَيْهِ : أَيْ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ جَازَ ، فَكَذَا إذَا شُرِطَ الْبَقَرُ وَحْدَهُ وَصَارَ كَجَانِبِ الْعَامِلُ إذَا شُرِطَ الْبَقَرُ عَلَيْهِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْبَذْرَ إذَا اجْتَمَعَ مَعَ الْأَرْضِ اسْتَتْبَعَتْهُ لِلتَّجَانُسِ وَضَعْفِ جِهَةِ الْبَقَرِ مَعَهُمَا فَكَانَ اسْتِئْجَارًا لِلْعَامِلِ ، وَأَمَّا إذَا اجْتَمَعَ الْأَرْضُ وَالْبَقَرُ فَلَمْ تَسْتَتْبِعْهُ ، وَكَذَا فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ فَكَانَ فِي كُلٍّ مِنْ الْجَانِبَيْنِ مُعَارَضَةٌ بَيْنَ اسْتِئْجَارِ الْأَرْضِ وَغَيْرِ الْأَرْضِ وَالْعَامِلِ وَغَيْرِهِ فَكَانَ بَاطِلًا ا هـ أَقُولُ : فِي هَذَا الْجَوَابِ بَحْثٌ أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الْبَذْرَ إذَا اجْتَمَعَ مَعَ الْأَرْضِ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ رَبُّ الْأَرْضِ

مُسْتَأْجِرًا وَالْعَامِلُ أَجِيرًا فَلَا يَبْقَى لِحَدِيثِ اسْتِتْبَاعِ الْأَرْضِ الْبَذْرَ مَحَلٌّ لِأَنَّ الْمَصِيرَ إلَيْهِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ لُزُومُ اسْتِئْجَارِ الْبَذْرِ أَصَالَةً ، وَإِذَا تَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الصُّورَةُ مِنْ قَبِيلِ اسْتِئْجَارِ الْعَامِلِ دُونَ الْجَانِبِ الْآخَرِ لَمْ يَبْقَ احْتِمَالُ لُزُومِ اسْتِئْجَارِ الْبَذْرِ ، سَوَاءٌ اسْتَتْبَعَتْهُ الْأَرْضُ أَمْ لَا فَلَمْ يَكُنْ لِلِاسْتِتْبَاعِ تَأْثِيرٌ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ قَطُّ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ فَكَانَ فِي كُلٍّ مِنْ الْجَانِبَيْنِ مُعَارَضَةٌ بَيْنَ اسْتِئْجَارِ الْأَرْضِ وَغَيْرِ الْأَرْضِ وَالْعَامِلِ .
وَغَيْرُهُ يُشْعِرُ بِجَوَازِ اعْتِبَارِ اسْتِئْجَارِ كُلٍّ مِنْ جَانِبَيْ رَبِّ الْأَرْضِ وَالْعَامِلِ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ .
وَقَدْ مَرَّ مِرَارًا أَنَّ الْبَذْرَ يُعِينُ الْجَانِبَ الَّذِي وُجِدَ فِيهِ لَأَنْ يَكُونَ مُسْتَأْجِرًا لِلْآخَرِ .
فَالْوَجْهُ فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ : إذَا شَرَطَ الْبَذْرَ وَالْبَقَرَ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ كَانَ اسْتِئْجَارًا لِلْعَامِلِ لَا لِغَيْرِهِ أَصْلًا فَكَانَ صَحِيحًا قَطْعًا ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَشْرِطْ الْبَذْرَ عَلَيْهِ بَلْ شَرَطَ عَلَيْهِ الْبَقَرَ وَحْدَهُ كَانَ اسْتِئْجَارًا لِلْأَرْضِ وَغَيْرِهَا الَّذِي هُوَ الْبَقَرُ .
وَلَيْسَ الثَّانِي تَابِعًا لِلْأَوَّلِ لِعَدَمِ التَّجَانُسِ كَمَا بَيَّنَ فِي وَجْهِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَكَانَ بَاطِلًا لِعَدَمِ وُرُودِ الشَّرْعِ لِاسْتِئْجَارِ الْبَقَرِ أَصَالَةً بِبَعْضٍ مِنْ الْخَارِجِ فَتَدَبَّرْ ( قَوْلُهُ وَهَاهُنَا وَجْهَانِ آخَرَانِ لَمْ يَذْكُرْهُمَا إلَخْ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَثَمَّةَ وَجْهٌ آخَرُ لَمْ يَذْكُرَاهُ جَمِيعًا وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِكَ أَرْبَعَةٌ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ وَاحِدٍ وَالْعَمَلُ مِنْ آخَرَ وَالْبَقَرُ مِنْ آخَرَ وَالْأَرْضُ مِنْ آخَرَ .
أَقُولُ : الظَّاهِرُ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْعَقْدِ الْجَارِي بَيْنَ الِاثْنَيْنِ ، وَإِلَّا فَثَمَّةَ وُجُوهٌ أُخَرُ لَمْ يَذْكُرَاهَا وَلَا أَحَدَ غَيْرُهُمَا ، وَهِيَ أَنْ يَشْتَرِكَ ثَلَاثَةٌ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ وَاحِدٍ وَالْعَمَلُ مِنْ آخَرَ

وَالْبَاقِيَانِ مِنْ آخَرَ ، أَوْ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ مِنْ وَاحِدٍ وَالْبَقَرُ مِنْ آخَرَ وَالْبَاقِيَانِ مِنْ آخَرَ ، أَوْ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْبَقَرُ مِنْ وَاحِدٍ وَالْأَرْضُ مِنْ آخَرَ وَالْبَاقِيَانِ مِنْ آخَرَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصُّوَرِ الْمُمْكِنَةِ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ ، فَكَانَ التَّعَرُّضُ هَاهُنَا لِلْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ خُرُوجًا عَنْ الصَّدَدِ ، وَعَنْ هَذَا تَرَى عَامَّةَ الشُّرَّاحِ لَمْ يَتَعَرَّضُوهُ أَصْلًا .
وَالْأَوْلَى هَاهُنَا أَنْ يُقَالَ : وَثَمَّةُ وَجْهٌ آخَرُ لَمْ يَذْكُرَاهُ جَمِيعًا ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْبَقَرُ لِأَحَدِهِمَا وَالْبَوَاقِي الثَّلَاثَةُ لِلْآخَرِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ صَاحِبُ النِّهَايَةِ عِنْدَ بَيَانِ وَجْهِ ضَبْطِ الْأَوْجُهِ فِي صَدْرِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيَانِ انْحِصَارِهَا عَقْلًا فِي سَبْعَةٍ .
وَقَالَ : إنَّ حُكْمَهُ كَحُكْمِ أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ لِأَحَدِهِمَا وَالْبَاقِي لِلْآخَرِ وَهُوَ الْفَسَادُ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ مُتَّصِلًا بِكَلَامِهِ السَّابِقِ : قَالَ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الْآثَارِ : أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنُ الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ وَاصِلِ بْنِ أَبِي جَمِيلٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ { وَقَعَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَلْغَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاحِبَ الْأَرْضِ وَجَعَلَ لِصَاحِبِ الْفَدَّانِ أَجْرًا مُسَمًّى وَجَعَلَ لِصَاحِبِ الْعَمَلِ دِرْهَمًا لِكُلِّ يَوْمٍ وَأَلْحَقَ الزَّرْعَ كُلَّهُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ } .
ثُمَّ قَالَ : وَمَعْنَى قَوْلِهِ أَلْغَى صَاحِبَ الْأَرْضِ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ شَيْئًا مِنْ الْخَارِجِ لَا أَنَّهُ لَا يَسْتَوْجِبُ أَجْرَ مِثْلِ الْأَرْضِ ، وَأَعْطَى لِصَاحِبِ الْعَمَلِ كُلَّ يَوْمٍ دِرْهَمًا لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ أَجْرَ مِثْلِ عَمَلِهِ .
وَلَمْ يَذْكُرْ أَجْرَ الْفَدَّانِ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا مِنْ أَجْرِ الْعَامِلِ انْتَهَى كَلَامُهُ .
أَقُولُ : تَوْجِيهُهُ الْمَرْوِيُّ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِمَا ذَكَرَهُ مَحَلُّ كَلَامٍ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ كَوْنَ مَعْنَى قَوْلِهِ أَلْغَى صَاحِبَ الْأَرْضِ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ شَيْئًا مِنْ

الْخَارِجِ مِمَّا يَأْبَاهُ مُقَابَلَةُ قَوْلِهِ وَجَعَلَ لِصَاحِبِ الْفَدَّانِ أَجْرًا مُسَمًّى وَجَعَلَ لِصَاحِبِ الْعَمَلِ دِرْهَمًا لِكُلِّ يَوْمٍ ، إذْ لَمْ يَجْعَلْ لِصَاحِبِ الْفَدَّانِ وَلِصَاحِبِ الْعَمَلِ أَيْضًا شَيْئًا مِنْ الْخَارِجِ بَلْ جَعَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَجْرًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ الرَّاوِي ، فَكَيْفَ يَحْسُنُ مُقَابَلَتُهُمَا بِإِلْغَاءِ صَاحِبِ الْأَرْضِ بِالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ : ذَلِكَ الْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُسَاعِدُهُ ظَاهِرُ اللَّفْظِ لَكِنَّ الضَّرُورَةَ دَعَتْ إلَيْهِ وَصَارَتْ قَرِينَةً عَلَيْهِ ، إذْ لَا مَحَالَةَ أَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ هُنَاكَ مَا يَقْتَضِي كَوْنَ صَاحِبِ الْأَرْضِ مُتَبَرِّعًا ، فَلَا جَرَمَ أَنَّهُ اسْتَوْجَبَ أَجْرَ مِثْلَ أَرْضِهِ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ أَجْرَ الْفَدَّانِ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا مِنْ أَجْرِ الْعَامِلِ مَنْظُورٌ فِيهِ ، إذَا لَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ التَّوَافُقُ بَيْنَ أَجْرِ الْفَدَّانِ وَأَجْرِ الْعَامِلِ ، بَلْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَجْرُ أَحَدِهِمَا نِصْفَ أَجْرِ الْآخَرِ أَوْ ثُلُثَهُ أَوْ رُبُعَهُ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ فَكَيْفَ يَعْلَمُ أَجْرَ أَحَدِهِمَا مِنْ الْآخَرِ سِيَّمَا إذَا كَانَ الْمُعَيَّنُ مُؤَخَّرًا عَنْ الْمُبْهَمِ فِي الذِّكْرِ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ : كَانَ الْعُرْفُ جَارِيًا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ عَلَى اعْتِبَارِ تَسَاوِيهِمَا فِي الْأَجْرِ فَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَعْلَمَ أَجْرَ أَحَدِهِمَا مِنْ أَجْرِ الْآخَرِ ، لَكِنَّ الْأَظْهَرَ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ عَدَمُ ذِكْرِ أَجْرِ الْفَدَّانِ عَلَى التَّعْيِينِ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ جَزْمِ الرَّاوِي بِعَيْنِ الْأَجْرِ الَّذِي جَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصَاحِبِ الْفَدَّانِ فَقَالَ : وَجَعَلَ لِصَاحِبِ الْفَدَّانِ أَجْرًا مُسَمًّى : يَعْنِي جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْرًا سَمَّاهُ ، وَلَكِنْ لَا أَجْزِمُ بِخُصُوصِهِ كَمَا أَجْزِمُ بِخُصُوصِ مَا جَعَلَهُ لِصَاحِبِ الْعَمَلِ

قَالَ ( وَلَا تَصِحُّ الْمُزَارَعَةُ إلَّا عَلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ ) لِمَا بَيَّنَّا ( وَأَنْ يَكُونَ الْخَارِجُ شَائِعًا بَيْنَهُمَا ) تَحْقِيقًا لِمَعْنَى الشَّرِكَةِ ( فَإِنْ شَرَطَا لِأَحَدِهِمَا قُفْزَانًا مُسَمَّاةً فَهِيَ بَاطِلَةٌ ) لِأَنَّ بِهِ تَنْقَطِعُ الشَّرِكَةُ لِأَنَّ الْأَرْضَ عَسَاهَا لَا تُخْرِجُ إلَّا هَذَا الْقَدْرَ ، فَصَارَ كَاشْتِرَاطِ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ لِأَحَدِهِمَا فِي الْمُضَارَبَةِ ، وَكَذَا إذَا شَرَطَا أَنْ يَرْفَعَ صَاحِبُ الْبَذْرِ بَذْرَهُ وَيَكُونُ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى قَطْعِ الشَّرِكَةِ فِي بَعْضٍ مُعَيَّنٍ أَوْ فِي جَمِيعِهِ بِأَنْ لَمْ يُخْرِجْ إلَّا قَدْرَ الْبَذْرِ فَصَارَ كَمَا إذَا شَرَطَا رَفْعَ الْخَرَاجِ ، وَالْأَرْضُ خَرَاجِيَّةٌ وَأَنْ يَكُونَ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ مُعَيَّنٌ ، بِخِلَافِ مَا إذَا شَرَطَ صَاحِبُ الْبَذْرِ عُشْرَ الْخَارِجُ لِنَفْسِهِ أَوْ لِلْآخَرِ وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ مُعَيَّنٌ مُشَاعٌ فَلَا يُؤَدِّي إلَى قَطْعِ الشَّرِكَةِ ، كَمَا إذَا شَرَطَا رَفْعَ الْعُشْرِ ، وَقِسْمَةُ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا وَالْأَرْضُ عُشْرِيَّةٌ .
قَالَ ( وَكَذَا إذَا ) ( شَرَطَا مَا عَلَى الْمَاذِيَانَاتِ وَالسَّوَّاقِي ) مَعْنَاهُ لِأَحَدِهِمَا ، لِأَنَّهُ إذَا شَرَطَ لِأَحَدِهِمَا زَرْعَ مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ أَفْضَى ذَلِكَ إلَى قَطْعِ الشَّرِكَةِ ، لِأَنَّهُ لَعَلَّهُ لَا يَخْرُجُ إلَّا مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ ، عَلَى هَذَا إذَا شَرَطَ لِأَحَدِهِمَا مَا يَخْرُجُ مِنْ نَاحِيَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَلِآخَرَ مَا يَخْرُجُ مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى ( وَكَذَا إذَا شَرَطَ لِأَحَدِهِمَا التِّبْنَ وَلِلْآخَرِ الْحَبَّ ) لِأَنَّهُ عَسَى أَنْ يُصِيبَهُ آفَةٌ فَلَا يَنْعَقِدُ الْحَبُّ وَلَا يَخْرُجُ إلَّا التِّبْنُ ( وَكَذَا إذَا شَرَطَا التِّبْنَ نِصْفَيْنِ وَالْحَبُّ لِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ ) لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى قَطْعِ الشَّرِكَةِ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الْحَبُّ ( وَلَوْ شَرَطَ الْحَبَّ نِصْفَيْنِ وَلَمْ يَتَعَرَّضَا لِلتِّبْنِ صَحَّتْ ) لِاشْتِرَاطِهِمَا الشَّرِكَةَ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ ، ( ثُمَّ التِّبْنُ يَكُونُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ ) لِأَنَّهُ نَمَاءُ

بَذْرِهِ وَفِي حَقِّهِ لَا يَحْتَاجُ إلَى الشَّرْطِ .
وَالْمُفْسِدُ هُوَ الشَّرْطُ ، وَهَذَا سُكُوتٌ عَنْهُ .
وَقَالَ مَشَايِخُ بَلْخٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ : التِّبْنُ بَيْنَهُمَا أَيْضًا اعْتِبَارًا لِلْعُرْفِ فِيمَا لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ الْمُتَعَاقِدَانِ ، وَلِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلْحَبِّ وَالتَّبَعُ يَقُومُ بِشَرْطِ الْأَصْلِ .
( وَلَوْ شَرَطَا الْحَبَّ نِصْفَيْنِ وَالتِّبْنَ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ صَحَّتْ ) لِأَنَّهُ حُكْمُ الْعَقْدِ ( وَإِنْ شَرَطَا التِّبْنَ لِلْآخَرِ فَسَدَتْ ) لِأَنَّهُ شَرْطٌ يُؤَدِّي إلَى قَطْعِ الشَّرِكَةِ بِأَنْ لَا يَخْرُجَ إلَّا التِّبْنُ وَاسْتِحْقَاقُ غَيْرِ صَاحِبِ الْبَذْرِ بِالشَّرْطِ .
قَالَ ( وَإِذَا صَحَّتْ الْمُزَارَعَةُ فَالْخَارِجُ عَلَى الشَّرْطِ ) لِصِحَّةِ الِالْتِزَامِ ( وَإِنْ لَمْ تُخْرِجْ الْأَرْضُ شَيْئًا فَلَا شَيْءَ لِلْعَامِلِ ) لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ شَرِكَةً ، وَلَا شَرِكَةَ فِي غَيْرِ الْخَارِجِ ، وَإِنْ كَانَتْ إجَارَةً فَالْأَجْرُ مُسَمًّى فَلَا يَسْتَحِقُّ غَيْرَهُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا فَسَدَتْ لِأَنَّ أَجْرَ الْمِثْلِ فِي الذِّمَّةِ وَلَا تَفُوتُ الذِّمَّةُ بِعَدَمِ الْخَارِجِ قَالَ ( وَإِذَا فَسَدَتْ فَالْخَارِجُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ ) لِأَنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِهِ ، وَاسْتِحْقَاقُ الْأَجْرِ بِالتَّسْمِيَةِ وَقَدْ فَسَدَتْ فَبَقِيَ النَّمَاءُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ .
قَالَ ( وَلَوْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ رَبِّ الْأَرْضِ فَلِلْعَامِلِ أَجْرُ مِثْلِهِ لَا يُزَادُ عَلَى مِقْدَارِ مَا شَرَطَ لَهُ مِنْ الْخَارِجِ ) لِأَنَّهُ رَضِيَ بِسُقُوطِ الزِّيَادَةِ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبَى يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ( وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ بَالِغًا مَا بَلَغَ ، لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنَافِعَهُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَتَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَتُهَا إذْ لَا مِثْلَ لَهَا ) وَقَدْ مَرَّ فِي الْإِجَارَاتِ ( وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الْعَامِلِ فَلِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَجْرُ مِثْلِ أَرْضِهِ ) لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنَافِعَ الْأَرْضِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَيَجِبُ رَدُّهَا وَقَدْ تَعَذَّرَ .
وَلَا مِثْلَ لَهَا فَيَجِبُ رَدُّ قِيمَتِهَا .
وَهَلْ يُزَادُ عَلَى مَا شَرَطَ لَهُ مِنْ الْخَارِجِ ؟ فَهُوَ

عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ ( وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَ الْأَرْضِ وَالْبَقَرِ حَتَّى فَسَدَتْ الْمُزَارَعَةُ فَعَلَى الْعَامِلِ أَجْرُ مِثْلِ الْأَرْضِ وَالْبَقَرِ ) هُوَ الصَّحِيحُ ، لِأَنَّ لَهُ مَدْخَلًا فِي الْإِجَارَةِ وَهِيَ إجَارَةٌ مَعْنًى ( وَإِذَا اسْتَحَقَّ رَبُّ الْأَرْضِ الْخَارِجَ لِبَذْرِهِ فِي الْمُزَارَعَةِ الْفَاسِدَةِ طَابَ لَهُ جَمِيعُهُ ) لِأَنَّ النَّمَاءَ حَصَلَ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ لَهُ ( وَإِنْ اسْتَحَقَّهُ الْعَامِلُ أَخَذَ قَدْرَ بَذْرِهِ وَقَدْرَ أَجْرِ الْأَرْضِ وَتَصَدَّقَ بِالْفَضْلِ ) لِأَنَّ النَّمَاءَ يَحْصُلُ مِنْ الْبَذْرِ وَيَخْرُجُ مِنْ الْأَرْضِ ، وَفَسَادُ الْمِلْكِ فِي مَنَافِعِ الْأَرْضِ أَوْجَبَ خُبْثًا فِيهِ .
فَمَا سُلِّمَ لَهُ بِعِوَضٍ طَابَ لَهُ وَمَا لَا عِوَضَ لَهُ تَصَدَّقَ بِهِ

( قَوْلُهُ وَكَذَا إذَا شَرَطَ لِأَحَدِهِمَا التِّبْنَ وَلِلْآخَرِ الْحَبَّ لِأَنَّهُ عَسَى تُصِيبُهُ آفَةٌ فَلَا يَنْعَقِدُ الْحَبُّ وَلَا يَخْرُجُ إلَّا التِّبْنُ ) أَقُولُ : فِي هَذَا التَّعْلِيلِ قُصُورٌ ، إذْ عَلَى تَقْدِيرِ انْعِقَادِ الْحَبِّ أَيْضًا يُفْسِدُ الشَّرْطُ الْمَذْكُورُ عَقْدَ الْمُزَارَعَةِ لِكَوْنِهِ مُؤَدِّيًا إلَى قَطْعِ الشَّرِكَةِ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الْحَبُّ ، وَالشَّرِكَةُ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ لَوَازِمِ صِحَّةِ عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ كَمَا هُوَ الْأَصْلُ الْمُقَرَّرُ الْمَبْنِيُّ عَلَيْهِ الْمَسَائِلُ الْآتِيَةُ كَمَا تَرَى ، فَالْأَوْلَى فِي تَعْلِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يُقَالَ : لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى قَطْعِ الشَّرِكَةِ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الْحَبُّ كَمَا قَالَهُ فِي تَعْلِيلِ الْمَسْأَلَةِ الْآتِيَةِ الْمُتَّصِلَةِ بِهَا .
وَكَأَنَّ صَاحِبَ الْكَافِي تَنَبَّهَ لِمَا قُلْنَا حَيْثُ تَرَكَ التَّعْلِيلَ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ هُنَا ، وَجَمَعَ الْمَسْأَلَتَيْنِ فِي تَعْلِيلٍ وَاحِدٍ فَقَالَ : وَكَذَا لَوْ شَرَطَ لِأَحَدِهِمَا التِّبْنَ وَلِلْآخَرِ الْحَبَّ ، أَوْ شَرَطَ التِّبْنَ نِصْفَيْنِ وَالْحَبَّ لِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ لِأَنَّهُ يَقْطَعُ الشَّرِكَةَ فِي الْحَبِّ وَهُوَ الْمَقْصُودُ انْتَهَى ( قَوْلُهُ وَإِذَا صَحَّتْ الْمُزَارَعَةُ فَالْخَارِجُ عَلَى الشَّرْطِ لِصِحَّةِ الِالْتِزَامِ ، وَإِنْ لَمْ تُخْرِجْ الْأَرْضُ شَيْئًا فَلَا شَيْءَ لِلْعَامِلِ ) أَقُولُ : عِبَارَةُ الْكِتَابِ هَاهُنَا قَاصِرَةٌ عَنْ إفَادَةِ تَمَامِ الْمُرَادِ ، لِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ الصَّحِيحَةَ كَمَا تَكُونُ اسْتِئْجَارًا لِلْعَامِلِ وَذَلِكَ فِيمَا إذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ جَانِبِ رَبِّ الْأَرْضِ كَذَلِكَ تَكُونُ اسْتِئْجَارًا لِلْأَرْضِ وَذَلِكَ فِيمَا إذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ جَانِبِ الْعَامِلِ .
وَقَوْلُهُ وَإِنْ لَمْ تُخْرِجْ الْأَرْضُ شَيْئًا فَلَا شَيْءَ لِلْعَامِلِ يُفِيدُ حُكْمَ الصُّورَةِ الْأُولَى دُونَ الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْحُكْمِ فِي الثَّانِيَةِ عَلَى خِلَافِ الْحُكْمِ فِي الْأُولَى بِمُقْتَضَى قَوْلِهِمْ إنَّ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ فِي

الرِّوَايَاتِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ ، فَكَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ : وَإِنْ لَمْ تُخْرِجْ الْأَرْضُ شَيْئًا فَلَا شَيْءَ لِأَحَدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ .
لَا يُقَالُ : عَلَّلَ الْمُصَنِّفُ قَوْلَهُ وَإِنْ لَمْ تُخْرِجْ الْأَرْضُ شَيْئًا فَلَا شَيْءَ لِلْعَامِلِ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ شَرِكَةً وَلَا شَرِكَةَ فِي غَيْرِ الْخَارِجِ ، وَإِنْ كَانَتْ إجَارَةً فَالْأَجْرُ مُسَمًّى فَلَا يَسْتَحِقُّ غَيْرَهُ .
وَلَمَّا جَرَى هَذَا التَّعْلِيلُ فِي صُورَةِ اسْتِئْجَارِ الْأَرْضِ أَيْضًا فُهِمَ مِنْهُ حُكْمُ هَذِهِ الصُّورَةِ أَيْضًا فَاكْتَفَى بِذِكْرِهِ .
لِأَنَّا نَقُولُ : عِبَارَةُ الْمَسْأَلَةِ عِبَارَةُ مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ ، وَالْمُؤَاخَذَةُ بِقُصُورِهَا فِي إفَادَةِ تَمَامِ الْمُرَادِ إنَّمَا تُرَدُّ عَلَى الْقُدُورِيِّ ، فَالتَّعْلِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ كَيْفَ يَدْفَعُ عَنْهُ التَّقْصِيرَ السَّابِقَ .
وَلَئِنْ سُلِّمَ ذَلِكَ فَلَا نُسَلِّمُ جَرَيَانَ التَّعْلِيلِ الْمَذْكُورِ وَتَمَامُهُ فِي صُورَةِ اسْتِئْجَارِ الْأَرْضِ أَيْضًا ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ عَامَّةَ الشُّرَّاحِ ذَكَرُوا أَنَّ قَوْلَهُ وَإِنْ كَانَتْ إجَارَةً فَالْأَجْرُ مُسَمًّى فَلَا يَسْتَحِقُّ غَيْرَهُ يُشْكِلُ بِمَنْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا بِعَيْنٍ فَعَمِلَ الْأَجِيرُ وَهَلَكَتْ الْعَيْنُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَجْرُ الْمِثْلِ فَلْيَكُنْ هَذَا مِثْلَهُ ، لِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ صَحَّتْ وَالْأَجْرُ مُسَمًّى وَهَلَكَ الْأَجْرُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ .
وَأَجَابُوا عَنْهُ بِأَنَّ الْأَجْرَ هَاهُنَا هَلَكَ بَعْدَ التَّسْلِيمِ لِأَنَّ الْمُزَارِعَ قَبَضَ الْبَذْرَ الَّذِي يَتَفَرَّعُ مِنْهُ الْخَارِجُ وَقَبْضُ الْأَصْلِ قَبْضٌ لِفَرْعِهِ ، وَالْأُجْرَةُ الْعَيْنُ إذَا هَلَكَتْ بَعْدَ التَّسْلِيمِ إلَى الْأَجِيرِ لَا يَجِبُ لِلْأَجِيرِ شَيْءٌ آخَرُ فَكَذَا هَاهُنَا انْتَهَى .
وَلَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ لَا يَتَمَشَّى فِي صُورَةِ اسْتِئْجَارِ الْأَرْضِ فَإِنَّ رَبَّ الْأَرْضِ لَا يَقْبِضُ الْبَذْرَ الَّذِي يَتَفَرَّعُ مِنْهُ الْخَارِجُ حَتَّى يَكُونَ قَبْضُهُ قَبْضًا لِفَرْعِهِ

فَلَمْ يَتِمَّ التَّعْلِيلُ الْمَذْكُورُ فِي حَقِّ هَاتِيك الصُّورَةِ فَتَعَيَّنَ الْقُصُورُ تَأَمَّلْ

قَالَ ( وَإِذَا عُقِدَتْ الْمُزَارَعَةُ فَامْتَنَعَ صَاحِبُ الْبَذْرِ مِنْ الْعَمَلُ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ ) لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْمُضِيُّ فِي الْعَقْدِ إلَّا بِضَرَرٍ يَلْزَمُهُ .
فَصَارَ كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا لِيَهْدِمَ دَارِهِ ( وَإِنْ امْتَنَعَ الَّذِي لَيْسَ مِنْ قِبَلِهِ الْبَذْرُ أَجْبَرَهُ الْحَاكِمُ عَلَى الْعَمَلِ ) لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ بِالْوَفَاءِ بِالْعَقْدِ ضَرَرٌ وَالْعَقْدُ لَازِمٌ بِمَنْزِلَةِ الْإِجَارَةِ ، إلَّا إذَا كَانَ عُذْرٌ يَفْسَخُ بِهِ الْإِجَارَةَ فَيَفْسَخُ بِهِ الْمُزَارَعَةَ .
قَالَ ( وَلَوْ امْتَنَعَ رَبُّ الْأَرْضِ وَالْبَذْرُ مِنْ قِبَلِهِ وَقَدْ كَرَبَ الْمُزَارِعُ الْأَرْضَ فَلَا شَيْءَ لَهُ فِي عَمَلُ الْكِرَابِ ) قِيلَ هَذَا فِي الْحُكْمِ ، فَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى يَلْزَمُهُ اسْتِرْضَاءُ الْعَامِلِ لِأَنَّهُ غَرَّهُ فِي ذَلِكَ .
( قَوْلُهُ وَلَوْ امْتَنَعَ رَبُّ الْأَرْضِ وَالْبَذْرُ مِنْ قِبَلِهِ وَقَدْ كَرَبَ الْمُزَارِعُ الْأَرْضَ فَلَا شَيْءَ لَهُ فِي عَمَلِ الْكِرَابِ ) لِأَنَّ الْمَأْتِيَّ بِهِ مُجَرَّدُ الْمَنْفَعَةِ ، وَهُوَ لَا يَتَقَوَّمُ إلَّا بِالْعَقْدِ ، وَالْعَقْدُ قَوَّمَهُ بِجُزْءٍ مِنْ الْخَارِجِ وَقَدْ فَاتَ ، كَذَا فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ .
وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ ، وَلِأَنَّ الْمُزَارِعَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَ الْأَرْضَ لِيُقِيمَ الْعَمَلَ فِيهَا لِنَفْسِهِ ، وَالْعَامِلُ لِنَفْسِهِ لَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ عَلَى غَيْرِهِ انْتَهَى .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِسَدِيدٍ ، إذَا قَدْ مَرَّ مِرَارًا وَتَقَرَّرَ أَنَّ الْبَذْرَ إذَا كَانَ مِنْ قِبَلِ رَبِّ الْأَرْضِ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَأْجِرُ هُوَ رَبَّ الْأَرْضِ ، وَالْمَفْرُوضُ فِي مَسْأَلَتِنَا أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ رَبِّ الْأَرْضِ فَكَيْفَ يَتِمُّ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْمُزَارِعَ اسْتَأْجَرَ الْأَرْضَ لِيُقِيمَ الْعَمَلَ فِيهَا لِنَفْسِهِ .

قَالَ ( وَإِذَا مَاتَ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بَطَلَتْ الْمُزَارَعَةُ ) اعْتِبَارًا بِالْإِجَارَةِ ، وَقَدْ مَرَّ الْوَجْهُ فِي الْإِجَارَاتِ ، فَلَوْ كَانَ دَفَعَهَا فِي ثَلَاثِ سِنِينَ فَلَمَّا نَبَتَ الزَّرْعُ فِي السَّنَةِ الْأُولَى وَلَمْ يَسْتَحْصِدْ الزَّرْعَ حَتَّى مَاتَ رَبُّ الْأَرْضِ تَرَكَ الْأَرْضَ فِي يَدِ الْمُزَارِعِ حَتَّى يَسْتَحْصِدَ الزَّرْعَ وَيَقْسِمَ عَلَى الشَّرْطِ ، وَتَنْتَقِضُ الْمُزَارَعَةُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ السَّنَتَيْنِ لِأَنَّ فِي إبْقَاءِ الْعَقْدِ فِي السَّنَةِ الْأُولَى مُرَاعَاةً لِلْحَقَّيْنِ ، بِخِلَافِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ ضَرَرٌ بِالْعَامِلِ فَيُحَافِظُ فِيهِمَا عَلَى الْقِيَاسِ ( وَلَوْ مَاتَ رَبُّ الْأَرْضِ قَبْلَ الزِّرَاعَةِ بَعْدَ مَا كَرَبَ الْأَرْضَ وَحَفَرَ الْأَنْهَارَ انْتَقَضَتْ الْمُزَارَعَةُ ) لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إبْطَالُ مَالٍ عَلَى الْمُزَارِعِ ( وَلَا شَيْءَ لِلْعَامِلِ بِمُقَابَلَةِ مَا عَمِلَ ) لِمَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

( قَوْلُهُ وَإِذَا مَاتَ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بَطَلَتْ الْمُزَارَعَةُ اعْتِبَارًا بِالْإِجَارَةِ ) هَذَا جَوَابُ الْقِيَاسِ ، وَأَمَّا فِي الِاسْتِحْسَانِ فَيَبْقَى عَقْدُ الْمُزَارَعَةِ إلَى أَنْ يَسْتَحْصِدَ الزَّرْعَ ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ ، وَعَزَاهُ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ إلَى الْمَبْسُوطِ وَالذَّخِيرَةِ .
وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْعِنَايَةِ : وَاعْلَمْ أَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ وَإِذَا مَاتَ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بَعْدَ الزَّرْعِ لِأَنَّ الَّذِي يَكُونُ قَبْلَهُ مَذْكُورٌ فِيمَا يَلِيه ، وَلَمْ يُفَصِّلْ بَيْنَ مَا إذَا نَبَتَ الزَّرْعُ أَوْ لَمْ يَنْبُتْ .
وَلَكِنَّهُ ذَكَرَ جَوَابَ النَّابِتِ فِي قَوْلِهِ ( وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ ) فَلَمَّا نَبَتَ الزَّرْعُ فِي السَّنَةِ الْأُولَى وَلَمْ يَذْكُرْ جَوَابَ مَا لَمْ يَنْبُتْ عِنْدَ مَوْتِهِ ، وَلَعَلَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ اعْتِمَادًا عَلَى دُخُولِهِ فِي إطْلَاقِ أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ بَحْثٌ ، لِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةُ إنَّمَا هُوَ جَوَابُ الْقِيَاسِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ قَاطِبَةً فَيَدْخُلُ فِيهِ مَا نَبَتَ الزَّرْعُ عِنْدَ مَوْتِهِ وَمَا لَمْ يَنْبُتْ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مُرَادَهُ بِالْجَوَابِ فِي قَوْلِهِ وَلَكِنَّهُ ذَكَرَ جَوَابَ النَّابِتِ فِي قَوْلِهِ فِي وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ : فَلَمَّا نَبَتَ الزَّرْعُ فِي السَّنَةِ الْأُولَى وَلَمْ يَذْكُرْ جَوَابَ مَا لَمْ يَنْبُتْ عِنْدَ مَوْتِهِ إنَّمَا هُوَ جَوَابُ الِاسْتِحْسَانِ ، فَكَيْفَ يَتِمُّ قَوْلُهُ وَلَعَلَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ اعْتِمَادًا عَلَى دُخُولِهِ فِي أَوَّلِ إطْلَاقِ الْمَسْأَلَةِ ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ دُخُولَهُ فِي جَوَابِ الْقِيَاسِ لَا يَقْتَضِي دُخُولَهُ فِي جَوَابِ الِاسْتِحْسَانِ أَيْضًا ، وَعَنْ هَذَا اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الذَّخِيرَةِ حَيْثُ قَالَ : وَإِذَا مَاتَ رَبُّ الْأَرْضِ بَعْدَ الزِّرَاعَةِ قَبْلَ النَّبَاتِ هَلْ تَبْقَى الْمُزَارَعَةُ ؟ فِيهِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ انْتَهَى .

( وَإِذَا فُسِخَتْ الْمُزَارَعَةُ بِدَيْنٍ فَادِحٍ لَحِقَ صَاحِبَ الْأَرْضِ فَاحْتَاجَ إلَى بَيْعِهَا جَازَ ) كَمَا فِي الْإِجَارَةِ ( وَلَيْسَ لِلْعَامِلِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِمَا كَرَبَ الْأَرْضَ وَحَفَرَ الْأَنْهَارَ بِشَيْءٍ ) لِأَنَّ الْمَنَافِعَ إنَّمَا تَتَقَوَّمُ بِالْعَقْدِ وَهُوَ إنَّمَا قُوِّمَ بِالْخَارِجِ فَإِذَا انْعَدَمَ الْخَارِجُ لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ ( وَلَوْ نَبَتَ الزَّرْعُ وَلَمْ يُسْتَحْصَدْ لَمْ تُبَعْ الْأَرْضُ فِي الدَّيْنِ حَتَّى يُسْتَحْصَدَ الزَّرْعُ ) لِأَنَّ فِي الْبَيْعِ إبْطَالَ حَقِّ الْمُزَارِعِ ، وَالتَّأْخِيرُ أَهْوَنُ مِنْ الْإِبْطَالِ ( وَيُخْرِجُهُ الْقَاضِي مِنْ الْحَبْسِ إنْ كَانَ حَبَسَهُ بِالدَّيْنِ لِأَنَّهُ لَمَّا امْتَنَعَ بَيْعَ الْأَرْضِ لَمْ يَكُنْ هُوَ ظَالِمًا وَالْحَبْسُ جَزَاءُ الظُّلْمِ ) .

( قَوْلُهُ وَإِذَا فُسِخَتْ الْمُزَارَعَةُ بِدَيْنٍ فَادِحٍ لِحَقِّ صَاحِبِ الْأَرْضِ فَاحْتَاجَ إلَى بَيْعِهَا جَازَ كَمَا فِي الْإِجَارَةِ ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ : ثُمَّ هَلْ يُحْتَاجُ فِي فَسْخِ الْمُزَارَعَةِ إلَى قَضَاءِ الْقَاضِي أَوْ إلَى الرِّضَا ؟ ذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ فِيهِ اخْتِلَافُ الرِّوَايَاتِ فَقَالَ : لَا بُدَّ لِصِحَّةِ الْفَسْخِ مِنْ الْقَضَاءِ أَوْ الرِّضَا عَلَى رِوَايَةِ الزِّيَادَاتِ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْإِجَارَةِ ، وَعَلَى رِوَايَةِ كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ وَالْإِجَارَاتِ وَالْجَامِعِ الصَّغِيرِ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْقَضَاءِ وَلَا إلَى الرِّضَا ، بَعْضُ مَشَايِخِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ أَخَذُوا بِرِوَايَةِ الزِّيَادَاتِ ، وَبَعْضُهُمْ أَخَذَ بِرِوَايَةِ الْأَصْلِ وَالْجَامِعِ الصَّغِيرِ انْتَهَى .
وَقَالَ فِي الْعِنَايَةِ : وَالتَّشْبِيهُ بِالْإِجَارَةِ يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ اخْتَارَ رِوَايَةَ الزِّيَادَاتِ فَإِنَّهُ عَلَيْهَا لَا بُدَّ لِصِحَّةِ الْفَسْخِ مِنْ الْقَضَاءِ أَوْ الرِّضَا لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْإِجَارَةِ ، وَعَلَى رِوَايَةِ كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ وَالْإِجَارَاتِ وَالْجَامِعِ الصَّغِيرِ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى ذَلِكَ انْتَهَى أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّ التَّشْبِيهَ بِالْإِجَارَةِ إنَّمَا يَصْلُحُ لِلْإِشَارَةِ إلَى أَنَّهُ اخْتَارَ رِوَايَةَ الزِّيَادَاتِ أَنْ لَوْ كَانَتْ الرِّوَايَةُ فِي الْإِجَارَةِ مَقْصُورَةً عَلَى افْتِقَارِ الْفَسْخِ فِيهَا إلَى الْقَضَاءِ أَوْ الرِّضَا ، أَوْ كَأَنَّ الْمُصَنِّفَ قَدْ اخْتَارَ هُنَاكَ صَرِيحًا رِوَايَةَ افْتِقَارِ الْفَسْخِ إلَى أَحَدِهِمَا وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْهُمَا ، فَإِنَّ الْمُصَنِّفَ قَالَ هُنَاكَ : ثُمَّ قَوْلُ الْقُدُورِيِّ فَسْخُ الْقَاضِي إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ يَفْتَقِرُ إلَى قَضَاءِ الْقَاضِي فِي النَّقْضِ ، وَهَكَذَا ذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ فِي عُذْرِ الدَّيْنِ .
وَقَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : وَكُلُّ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ عُذْرٌ فَالْإِجَارَةُ فِيهِ تَنْتَقِضُ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى قَضَاءِ الْقَاضِي انْتَهَى فَتَأَمَّلْ ( قَوْلُهُ وَلَيْسَ لِلْعَامِلِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِمَا كَرَبَ الْأَرْضَ وَحَفَرَ

الْأَنْهَارَ بِشَيْءٍ ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ : الْفَسْخُ بَعْدَ عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ وَعَمَلِ الْعَامِلِ يُتَصَوَّرُ فِي صُوَرٍ ثَلَاثٍ ، ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ صُورَتَيْنِ مِنْهَا ، وَهُمَا مَا إذَا فُسِخَ بَعْدَ مَا كَرَبَ الْأَرْضَ وَحَفَرَ الْأَنْهَارَ ، وَمَا إذَا فُسِخَ بَعْدَ نَبَاتِ الزَّرْعِ قَبْلَ أَنْ يُسْتَحْصَدَ ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا إذَا فُسِخَ بَعْدَ مَا زَرَعَ الْعَامِلُ الْأَرْضَ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَنْبُتْ بَعْدُ حَتَّى لَحِقَ رَبَّ الْأَرْضِ دَيْنٌ فَادِحٌ هَلْ لَهُ أَنْ يَبِيعَ الْأَرْضَ ؟ ذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ أَنَّ فِيهِ اخْتِلَافَ الْمَشَايِخِ ، وَكَانَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الْعَتَّابِيُّ يَقُولُ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ فِي الْأَرْضِ عَيْنُ مَالٍ قَائِمٍ ، لِأَنَّ التَّبْذِيرَ اسْتِهْلَاكٌ وَلِهَذَا قَالُوا : إنَّ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ فَسْخَ الْمُزَارَعَةِ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى اسْتِهْلَاكِ مَالِهِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ يَحْصُلُ لَهُ فِي الْحَالِ ، وَحُصُولُهُ فِي الثَّانِي غَيْرُ مَعْلُومٍ فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا قَبْلَ التَّبْذِيرِ .
وَكَانَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الْحَافِظُ يَقُولُ : لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ التَّبْذِيرَ اسْتِنْمَاءُ مَالٍ وَلَيْسَ بِاسْتِهْلَاكٍ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ الْأَبَ وَالْوَصِيَّ يَمْلِكَانِ زِرَاعَةَ أَرْضِ الصَّبِيِّ وَلَا يَمْلِكَانِ اسْتِهْلَاكَ مَالِ الصَّبِيِّ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ لِلْمُزَارِعِ فِي الْأَرْضِ عَيْنُ مَالٍ قَائِمٍ انْتَهَى .
وَقَالَ فِي الْعِنَايَةِ : لَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ الصُّورَةَ الثَّالِثَةَ ، وَهِيَ مَا إذَا فُسِخَ بَعْدَ مَا زَرَعَ الْعَامِلُ الْأَرْضَ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَنْبُتْ حَتَّى لَحِقَ رَبَّ الْأَرْضِ دَيْنٌ فَادِحٌ هَلْ لَهُ أَنْ يَبِيعَ الْأَرْضَ ؟ فِيهِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ .
قَالَ بَعْضُهُمْ : لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ فِي الْأَرْضِ عَيْنٌ قَائِمٌ ، لِأَنَّ التَّبْذِيرَ اسْتِهْلَاكٌ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا قَبْلَ التَّبْذِيرِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ التَّبْذِيرَ اسْتِنْمَاءٌ وَلَيْسَ بِاسْتِهْلَاكٍ ، وَلِهَذَا يَمْلِكُ الْأَبُ وَالْوَصِيُّ زِرَاعَةَ أَرْضِ الصَّبِيِّ

وَلَا يَمْلِكَانِ اسْتِهْلَاكَ مَالِهِ فَكَانَ لِلْمُزَارِعِ فِي الْأَرْضِ عَيْنٌ قَائِمٌ ، وَلَعَلَّ هَذَا اخْتِيَارُ الْمُصَنِّفِ ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ لِأَنَّ الْبَذْرَ إنْ كَانَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَالُ الْغَيْرِ حَتَّى يَكُونَ مَانِعًا عَنْ الْبَيْعِ ، وَإِنْ كَانَ لِلْعَامِلِ فَقَدْ دَخَلَتْ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ انْتَهَى .
أَقُولُ : إنَّ قَوْلَهُ وَإِنْ كَانَ لِلْعَامِلِ فَقَدْ دَخَلَتْ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ كَلَامٌ خَالٍ عَنْ التَّحْصِيلِ ، لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِدُخُولِهَا فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ دُخُولَهَا فِي نَفْسِ الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ جِدًّا ، إذْ قَدْ اعْتَبَرَ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ نَبَاتَ الزَّرْعِ وَفِي الصُّورَةِ الثَّالِثَةِ عَدَمَ نَبَاتِهِ ، فَأَنَّى يُتَصَوَّرُ دُخُولُ إحْدَاهُمَا فِي الْأُخْرَى .
وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ دُخُولَهَا فِي حُكْمِ الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ فَهُوَ صَحِيحٌ عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ ، لَكِنْ لَا يَصْلُحُ لَأَنْ يَكُونَ وَجْهًا لِعَدَمِ ذِكْرِ تِلْكَ الصُّورَةِ بِالْكُلِّيَّةِ ، لِأَنَّ دُخُولَهَا فِي حُكْمِ الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ إنَّمَا يُعْرَفُ بِبَيَانِ حُكْمِهَا مِنْ قَبْلُ ، وَإِذَا لَمْ يَذْكُرْ تِلْكَ الصُّورَةَ قَطُّ فَمِنْ أَيْنَ يُعْلَمُ أَنَّ حُكْمَهَا كَحُكْمِ الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ كَمَا قَالَ بِهِ بَعْضُ الْمَشَايِخِ ، أَوْ كَحُكْمِ الصُّورَةِ الْأُولَى كَمَا قَالَ بِهِ بَعْضُهُمْ الْآخَرُ وَالْأَوْجَهُ عِنْدِي أَنَّ الْمُصَنِّفَ إنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ تِلْكَ الصُّورَةَ تَأَسِّيًا بِالْإِمَامِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهَا فِي كِتَابِهِ كَمَا بَيَّنَهُ صَاحِبُ الذَّخِيرَةِ حَيْثُ قَالَ : وَإِنْ كَانَ الْمُزَارِعُ قَدْ زَرَعَ الْأَرْضَ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَنْبُتْ بَعْدُ حَتَّى لَحِقَ رَبَّ الْأَرْضِ دَيْنٌ فَادِحٌ هَلْ لَهُ أَنْ يَبِيعَ الْأَرْضَ ؟ لَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي الْكِتَابِ ، وَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهَا انْتَهَى

قَالَ ( وَإِذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الْمُزَارَعَةِ وَالزَّرْعُ لَمْ يُدْرَكْ كَانَ عَلَى الْمُزَارِعِ أَجْرُ مِثْلِ نَصِيبِهِ مِنْ الْأَرْضِ إلَى أَنْ يُسْتَحْصَدَ وَالنَّفَقَةُ عَلَى الزَّرْعِ عَلَيْهِمَا عَلَى مِقْدَارِ حُقُوقِهِمَا ) مَعْنَاهُ حَتَّى يُسْتَحْصَدَ ، لِأَنَّ فِي تَبْقِيَةِ الزَّرْعِ بِأَجْرِ الْمِثْلِ تَعْدِيلَ النَّظَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَيُصَارُ إلَيْهِ ، وَإِنَّمَا كَانَ الْعَمَلُ عَلَيْهِمَا لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ انْتَهَى بِانْتِهَاءِ الْمُدَّةِ وَهَذَا عَمَلٌ فِي الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ رَبُّ الْأَرْضِ وَالزَّرْعُ بَقْلٌ حَيْثُ يَكُونُ الْعَمَلُ فِيهِ عَلَى الْعَامِلِ ، لِأَنَّ هُنَاكَ أَبْقَيْنَا الْعَقْدَ فِي مُدَّتِهِ وَالْعَقْدُ يَسْتَدْعِي الْعَمَلَ عَلَى الْعَامِلِ ، أَمَّا هَاهُنَا الْعَقْدُ قَدْ انْتَهَى فَلَمْ يَكُنْ هَذَا إبْقَاءَ ذَلِكَ الْعَقْدِ فَلَمْ يَخْتَصَّ الْعَامِلُ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ عَلَيْهِ ( فَإِنْ أَنْفَقَ أَحَدُهُمَا بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ وَأَمْرِ الْقَاضِي فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ ) لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ ( وَلَوْ أَرَادَ رَبُّ الْأَرْضِ أَنْ يَأْخُذَ الزَّرْعَ بَقْلًا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ) لِأَنَّ فِيهِ إضْرَارًا بِالْمُزَارِعِ ، ( وَلَوْ ) ( أَرَادَ الْمُزَارِعُ ) أَنْ يَأْخُذَهُ بَقْلًا قِيلَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ اقْلَعْ الزَّرْعَ فَيَكُونُ بَيْنَكُمَا أَوْ أَعْطِهِ قِيمَةَ نَصِيبِهِ أَوْ أَنْفِقْ أَنْتَ عَلَى الزَّرْعُ وَارْجِعْ بِمَا تُنْفِقُهُ فِي حِصَّتِهِ ، لِأَنَّ الْمُزَارِعَ لَمَّا امْتَنَعَ مِنْ الْعَمَلِ لَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ إبْقَاءَ الْعَقْدِ بَعْدَ وُجُودِ الْمَنْهِيِّ نَظَرٌ لَهُ وَقَدْ تَرَكَ النَّظَرَ لِنَفْسِهِ .
وَرَبُّ الْأَرْضِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ هَذِهِ الْخِيَارَاتِ لِأَنَّ بِكُلِّ ذَلِكَ يُسْتَدْفَعُ الضَّرَرُ ( وَلَوْ مَاتَ الْمُزَارِعُ بَعْدَ نَبَاتِ الزَّرْعِ فَقَالَتْ وَرَثَتُهُ نَحْنُ نَعْمَلُ إلَى أَنْ يُسْتَحْصَدَ الزَّرْعُ وَأَبَى رَبُّ الْأَرْضِ فَلَهُمْ ذَلِكَ ) لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ ( وَلَا أَجْرَ لَهُمْ بِمَا عَمِلُوا ) لِأَنَّا أَبْقَيْنَا الْعَقْدَ نَظَرًا لَهُمْ ، فَإِنْ أَرَادُوا قَلْعَ

الزَّرْعِ لَمْ يُجْبَرُوا عَلَى الْعَمَلِ لِمَا بَيَّنَّا ، وَالْمَالِكُ عَلَى الْخِيَارَاتِ الثَّلَاثِ لِمَا بَيَّنَّا .
قَالَ ( وَكَذَلِكَ أُجْرَةُ الْحَصَادِ وَالرِّفَاعِ وَالدِّيَاسِ وَالتَّذْرِيَةِ عَلَيْهِمَا بِالْحِصَصِ .
فَإِنْ شَرَطَاهُ فِي الْمُزَارَعَةِ عَلَى الْعَامِلِ فَسَدَتْ ) وَهَذَا الْحُكْمُ لَيْسَ بِمُخْتَصٍّ بِمَا ذَكَرَ مِنْ الصُّورَةِ وَهُوَ انْقِضَاءُ الْمُدَّةِ وَالزَّرْعُ لَمْ يُدْرَكْ بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْمُزَارَعَاتِ .
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْعَقْدَ يَتَنَاهَى بِتَنَاهِي الزَّرْعِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ فَيَبْقَى مَالٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا وَلَا عَقْدَ فَيَجِبُ مُؤْنَتُهُ عَلَيْهِمَا .
وَإِذَا شَرَطَ فِي الْعَقْدِ ذَلِكَ وَلَا يَقْتَضِيهِ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِهِمَا يَفْسُدُ الْعَقْدُ كَشَرْطِ الْحَمْلِ أَوْ الضِّمْنِ عَلَى الْعَامِلِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ إذَا شَرَطَ ذَلِكَ عَلَى الْعَامِلِ لِلتَّعَامُلِ اعْتِبَارًا بِالِاسْتِصْنَاعِ وَهُوَ اخْتِيَارُ مَشَايِخِ بَلْخٍ .
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ : هَذَا هُوَ الْأَصَحُّ فِي دِيَارِنَا .
فَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ عَمَلٍ قَبْلَ الْإِدْرَاكِ كَالسَّقْيِ وَالْحِفْظِ فَهُوَ عَلَى الْعَامِلِ ، وَمَا كَانَ مِنْهُ بَعْدَ الْإِدْرَاكِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَهُوَ عَلَيْهِمَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ كَالْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ وَأَشْبَاهِهِمَا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ، وَمَا كَانَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَهُوَ عَلَيْهِمَا .
وَالْمُعَامَلَةُ عَلَى قِيَاسُ هَذَا مَا كَانَ قَبْلَ إدْرَاكِ الثَّمَرِ مِنْ السَّقْيِ وَالتَّلْقِيحِ وَالْحِفْظِ فَهُوَ عَلَى الْعَامِلِ ، وَمَا كَانَ بَعْدَ الْإِدْرَاكِ كَالْجَدَادِ وَالْحِفْظِ فَهُوَ عَلَيْهِمَا ؛ وَلَوْ شَرَطَ الْجَدَادَ عَلَى الْعَامِلِ لَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ لَا عُرْفَ فِيهِ .
وَمَا كَانَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَهُوَ عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُ مَالٌ مُشْتَرَكٌ وَلَا عَقْدَ ، وَلَوْ شَرَطَ الْحَصَادَ فِي الزَّرْعِ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ لِعَدَمِ الْعُرْفِ فِيهِ ، وَلَوْ أَرَادَا فَصْلَ الْقَصِيلِ أَوْ جَدَّ التَّمْرِ بُسْرًا أَوْ الْتِقَاطَ الرُّطَبِ فَذَلِكَ عَلَيْهِمَا

لِأَنَّهُمَا أَنْهَيَا الْعَقْدَ لَمَّا عَزَمَا عَلَى الْفَصْلِ وَالْجَدَادِ بُسْرًا فَصَارَ كَمَا بَعْدَ الْإِدْرَاكِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( قَوْلُهُ لِأَنَّ الْمُزَارِعَ لَمَّا امْتَنَعَ مِنْ الْعَمَلِ لَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ إبْقَاءَ الْعَقْدِ بَعْدَ وُجُودِ الْمَنْهِيِّ نَظَرٌ لَهُ وَقَدْ تَرَكَ النَّظَرَ لِنَفْسِهِ ) فَإِنْ قِيلَ : تَرْكُ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ إنَّمَا يَجُوزُ إذَا لَمْ يَتَضَرَّرْ بِهِ غَيْرُهُ وَهَاهُنَا يَتَضَرَّرُ رَبُّ الْأَرْضِ وَاسْتِدْفَاعُ الضَّرَرِ لَيْسَ بِمُنْحَصِرٍ فِيمَا ذَكَرَ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِالْمَنْعِ عَنْ الْقَلْعِ كَرْبُ الْأَرْضِ ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ رَبَّ الْأَرْضِ مُتَعَنِّتٌ فِي طَلَبِ الْقَلْعِ لِانْتِفَاعِهِ بِنَصِيبِهِ وَبِأَجْرِ الْمِثْلِ فَرُدَّ عَلَيْهِ ، بِخِلَافِ الْمُزَارِعِ فَإِنَّهُ يَرُدُّ عَنْ نَفْسِهِ بِالْقَلْعِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرِ الْمِثْلِ فَرُبَّمَا يَخَافُ أَنْ يُصِيبَهُ مِنْ الزَّرْعِ مَا لَا يَفِي بِذَلِكَ ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إنَّ رَبَّ الْأَرْضِ أَيْضًا لَيْسَ بِمُتَعَنِّتٍ فِي طَلَبِ الْقَلْعِ ، بَلْ هُوَ يَرُدُّ عَنْ نَفْسِهِ بِالْقَلْعِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ النَّفَقَةِ عَلَى تَقْدِيرِ الْإِبْقَاءِ ، فَرُبَّمَا يَخَافُ أَنْ يُصِيبَهُ مِنْ الزَّرْعِ مَا لَا يَفِي بِنَفَقَةِ حِصَّتِهِ فَلْيُتَأَمَّلْ ا هـ

كِتَابُ الْمُسَاقَاةِ ( قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْمُسَاقَاةُ بِجُزْءٍ مِنْ الثَّمَرِ بَاطِلَةٌ ، وَقَالَا : جَائِزَةٌ إذَا ذَكَرَ مُدَّةً مَعْلُومَةً وَسَمَّى جُزْءًا مِنْ الثَّمَرِ مُشَاعًا ) وَالْمُسَاقَاةُ : هِيَ الْمُعَامَلَةُ وَالْكَلَامُ فِيهَا كَالْكَلَامِ فِي الْمُزَارَعَةِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : الْمُعَامَلَةُ جَائِزَةٌ ، وَلَا تَجُوزُ الْمُزَارَعَةُ إلَّا تَبَعًا لِلْمُعَامَلَةِ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي هَذَا الْمُضَارَبَةُ ، وَالْمُعَامَلَةُ أَشْبَهُ بِهَا لِأَنَّ فِيهِ شَرِكَةً فِي الزِّيَادَةِ دُونَ الْأَصْلِ .
وَفِي الْمُزَارَعَةِ لَوْ شَرَطَا الشَّرِكَةَ فِي الرِّبْحِ دُونَ الْبَذْرِ بِأَنْ شَرَطَا رَفْعَهُ مِنْ رَأْسِ الْخَارِجِ تَفْسُدُ ، فَجَعَلْنَا الْمُعَامَلَةَ أَصْلًا ، وَجَوَّزْنَا الْمُزَارَعَةَ تَبَعًا لَهَا كَالشُّرْبِ فِي بَيْعِ الْأَرْضِ وَالْمَنْقُولِ فِي وَقْفِ الْعَقَارِ ، وَشَرْطُ الْمُدَّةِ قِيَاسٌ فِيهَا لِأَنَّهَا إجَارَةٌ مَعْنًى كَمَا فِي الْمُزَارَعَةُ .
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ : إذَا لَمْ يُبَيِّنْ الْمُدَّةَ يَجُوزُ وَيَقَعُ عَلَى أَوَّلِ ثَمَرٍ يَخْرُجُ ، لِأَنَّ الثَّمَرَ لِإِدْرَاكِهَا وَقْتٌ مَعْلُومٌ وَقَلَّمَا يَتَفَاوَتُ وَيَدْخُلُ فِيمَا مَا هُوَ الْمُتَيَقَّنُ ، وَإِدْرَاكُ الْبَذْرِ فِي أُصُولِ الرَّطْبَةِ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ إدْرَاكِ الثِّمَارِ ، لِأَنَّ لَهُ نِهَايَةً مَعْلُومَةً فَلَا يُشْتَرَطُ بَيَانُ الْمُدَّةِ ، بِخِلَافِ الزَّرْعِ لِأَنَّ ابْتِدَاءَهُ يَخْتَلِفُ كَثِيرًا خَرِيفًا وَصَيْفًا وَرَبِيعًا ، وَالِانْتِهَاءُ بِنَاءٌ عَلَيْهِ فَتَدْخُلُهُ الْجَهَالَةُ ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا دَفَعَ إلَيْهِ غَرْسًا قَدْ عُلِّقَ وَلَمْ يَبْلُغْ الثَّمَرُ مُعَامَلَةً حَيْثُ لَا يَجُوزُ إلَّا بِبَيَانِ الْمُدَّةِ لِأَنَّهُ يَتَفَاوَتُ بِقُوَّةِ الْأَرَاضِيِ وَضَعْفِهَا تَفَاوُتًا فَاحِشًا ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا دَفَعَ نَخِيلًا أَوْ أُصُولَ رُطَبَةٍ عَلَى أَنْ يَقُومَ عَلَيْهَا أَوْ أَطْلَقَ فِي الرُّطَبَةِ تَفْسُدُ الْمُعَامَلَةُ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لِذَلِكَ نِهَايَةٌ مَعْلُومَةٌ ، لِأَنَّهَا تَنْمُو مَا تُرِكَتْ فِي الْأَرْضِ فَجُهِلَتْ الْمُدَّةُ ( وَيُشْتَرَطُ تَسْمِيَةُ الْجُزْءِ مُشَاعًا )

لِمَا بَيَّنَّا فِي الْمُزَارَعَةِ إذْ شَرْطُ جُزْءٍ مُعَيَّنٍ يَقْطَعُ الشَّرِكَةَ ( فَإِنْ سَمَّيَا فِي الْمُعَامَلَةِ وَقْتًا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ الثَّمَرُ فِيهَا فَسَدَتْ الْمُعَامَلَةُ ) لِفَوَاتِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ الشَّرِكَةُ فِي الْخَارِجِ ( وَلَوْ سَمَّيَا مُدَّةً قَدْ يَبْلُغُ الثَّمَرُ فِيهَا وَقَدْ يَتَأَخَّرُ عَنْهَا جَازَتْ ) لِأَنَّا لَا نَتَيَقَّنُ بِفَوَاتِ الْمَقْصُودِ ، ثُمَّ لَوْ خَرَجَ فِي الْوَقْتِ الْمُسَمَّى فَهُوَ عَلَى الشَّرِكَةِ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ ، وَإِنْ تَأَخَّرَ فَلِلْعَامِلِ أَجْرُ الْمِثْلِ لِفَسَادِ الْعَقْدِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ الْخَطَأَ فِي الْمُدَّةِ الْمُسَمَّاةِ فَصَارَ كَمَا إذَا عَلِمَ ذَلِكَ فِي الِابْتِدَاءِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَخْرُجْ أَصْلًا لِأَنَّ الذَّهَابَ بِآفَةٍ فَلَا يَتَبَيَّنُ فَسَادَ الْمُدَّةِ فَيَبْقَى الْعَقْدُ صَحِيحًا ، وَلَا شَيْءَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ .
قَالَ ( وَتَجُوزُ الْمُسَاقَاةُ فِي النَّخْلِ وَالشَّجَرِ وَالْكَرْمِ وَالرِّطَابِ وَأُصُولِ الْبَاذِنْجَانِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ : لَا تَجُوزُ إلَّا فِي الْكَرْمِ وَالنَّخْلِ ، لِأَنَّ جَوَازَهَا بِالْأَثَرِ وَقَدْ خَصَّهُمَا وَهُوَ حَدِيثُ خَيْبَرَ .
وَلَنَا أَنَّ الْجَوَازَ لِلْحَاجَةِ وَقَدْ عَمَّتْ ، وَأَثَرُ خَيْبَرَ لَا يَخُصُّهُمَا لِأَنَّ أَهْلَهَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فِي الْأَشْجَارِ وَالرِّطَابِ أَيْضًا ، وَلَوْ كَانَ كَمَا زَعَمَ فَالْأَصْلُ فِي النُّصُوصِ أَنْ تَكُونَ مَعْلُولَةً سِيَّمَا عَلَى أَصْلِهِ ( وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْكَرْمِ أَنْ يُخْرِجَ الْعَامِلَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ ) لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي الْوَفَاءِ بِالْعَقْدِ ( وَكَذَا لَيْسَ لِلْعَامِلِ أَنْ يَتْرُكَ الْعَمَلَ بِغَيْرِ عُذْرٍ ) بِخِلَافِ الْمُزَارَعَةِ بِالْإِضَافَةِ إلَى صَاحِبِ الْبَذْرِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ .
قَالَ ( فَإِنْ دَفَعَ نَخْلًا فِيهِ تَمْرٌ مُسَاقَاةً وَالتَّمْرُ يَزِيدُ بِالْعَمَلِ جَازَ وَإِنْ كَانَتْ قَدْ انْتَهَتْ لَمْ يَجُزْ ) وَكَذَا عَلَى هَذَا إذَا دَفَعَ الزَّرْعَ وَهُوَ بَقْلٌ جَازَ ، وَلَوْ اُسْتُحْصِدَ وَأُدْرِكَ لَمْ يَجُزْ ، لِأَنَّ الْعَامِلَ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ بِالْعَمَلِ ،

وَلَا أَثَرَ لِلْعَمَلِ بَعْدَ التَّنَاهِي وَالْإِدْرَاكِ ، فَلَوْ جَوَّزْنَاهُ لَكَانَ اسْتِحْقَاقًا بِغَيْرِ عَمَلٍ وَلَمْ يَرِدْ بِهِ الشَّرْعُ ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ ذَلِكَ لِتَحَقُّقِ الْحَاجَةِ إلَى الْعَمَلِ .
قَالَ ( وَإِذَا فَسَدَتْ الْمُسَاقَاةُ فَلِلْعَامِلِ أَجْرُ مِثْلِهِ ) لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ ، وَصَارَ كَالْمُزَارَعَةِ إذَا فَسَدَتْ .

( كِتَابُ الْمُسَاقَاةِ ) قَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ : كَانَ مِنْ حَقِّ الْوَضْعِ أَنْ يُقَدِّمَ كِتَابَ الْمُسَاقَاةِ عَلَى كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ .
لِأَنَّ الْمُسَاقَاةَ جَائِزَةٌ بِلَا خِلَافٍ .
وَلِهَذَا قَدَّمَ الطَّحَاوِيُّ الْمُسَاقَاةَ عَلَى الْمُزَارَعَةُ فِي مُخْتَصَرِهِ .
إلَّا أَنَّ الْمُزَارَعَةَ لَمَّا كَانَتْ كَثِيرَةَ الْوُقُوعِ فِي عَامَّةِ الْبِلَادِ وَكَانَ الْحَاجَةُ إلَيْهَا أَكْثَرَ مِنْ الْمُسَاقَاةِ فَقُدِّمَتْ عَلَى الْمُسَاقَاةِ .
وَلِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ لَمَّا وَقَعَ فِيهَا الْخِلَافُ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ كَانَتْ الْحَاجَةُ إلَى عِلْمِهَا أَمَسَّ فَقُدِّمَتْ .
وَلِأَنَّ تَفْرِيعَاتِهَا أَكْثَرُ مِنْ تَفْرِيعَاتِ الْمُسَاقَاةِ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِي تَقْرِيرِهِ نَوْعُ خَلَلٍ ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي أَوَائِلِ كَلَامِهِ : لِأَنَّ الْمُسَاقَاةَ جَائِزَةٌ بِلَا خِلَافٍ ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي عَدَمَ وُقُوعِ الْخِلَافِ أَصْلًا فِي جَوَازِ الْمُسَاقَاةِ .
وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَطْعًا لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَمْ يُجَوِّزْهَا كَمَا ذَكَرَ فِي نَفْسِ الْكِتَابِ حَيْثُ قَالَ : قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْمُسَاقَاةُ بِجُزْءٍ مِنْ الثَّمَرِ بَاطِلَةٌ .
وَكَذَا زُفَرُ لَمْ يُجَوِّزْهَا كَمَا ذَكَرَ فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ .
وَقَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ : كَانَ مِنْ حَقِّ الْمُسَاقَاةِ أَنْ تُقَدَّمَ عَلَى الْمُزَارَعَةِ لِكَثْرَةِ مَنْ يَقُولُ بِجَوَازِهَا ، وَلِوُرُودِ الْأَحَادِيثِ فِي مُعَامَلَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَهْلِ خَيْبَرَ ، إلَّا أَنَّ اعْتِرَاضَ مُوجِبَيْنِ صَوَّبَ إيرَادَ الْمُزَارَعَةِ قَبْلَ الْمُسَاقَاةِ : أَحَدُهُمَا شِدَّةُ الِاحْتِيَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الْمُزَارَعَةِ لِكَثْرَةِ وُقُوعِهَا ، وَالثَّانِي كَثْرَةُ تَفْرِيعِ مَسَائِلِ الْمُزَارَعَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُسَاقَاةِ .
أَقُولُ : فِيهِ أَيْضًا شَيْءٌ ، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُمْ وَلِوُرُودِ الْأَحَادِيثِ فِي مُعَامَلَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَهْلِ خَيْبَرَ مَحَلُّ نَظَرٍ ، فَإِنَّ الْأَحَادِيثَ كَمَا وَرَدَتْ فِي حَقِّ الْمُسَاقَاةِ وَرَدَتْ فِي حَقِّ الْمُزَارَعَةِ أَيْضًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ ، سِيَّمَا

الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ بِطُرُقٍ شَتَّى فِي قِصَّةِ أَهْلِ خَيْبَرَ .
وَعَنْ هَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ : وَهِيَ يَعْنِي الْمُزَارَعَةَ فَاسِدَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : جَائِزَةٌ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ عَلَى نِصْفِ مَا يَخْرُجُ مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ } انْتَهَى وَكَأَنَّ كُلًّا مِنْ فَرِيقَيْ الشُّرَّاحِ اطَّلَعَ عَلَى مَا فِي كَلَامِ الْآخَرِ مِنْ الْخَلَلِ حَيْثُ تَرَكَ مَا أَخَلَّ بِهِ الْآخَرُ كَمَا تَرَى ( قَوْلُهُ وَالْمُسَاقَاةُ هِيَ الْمُعَامَلَةُ ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ : وَالْمُسَاقَاةُ هِيَ الْمُعَامَلَةُ بِلُغَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، وَمَفْهُومُهَا اللُّغَوِيُّ هُوَ الشَّرْعِيُّ ، وَهِيَ مُعَاقَدَةُ دَفْعِ الْأَشْجَارِ وَالْكُرُومِ إلَى مَنْ يَقُومُ بِإِصْلَاحِهَا عَلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ سَهْمٌ مَعْلُومٌ مِنْ ثَمَرِهَا انْتَهَى ، وَرَدَّ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْإِصْلَاحِ وَالْإِيضَاحِ حَيْثُ قَالَ : هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ الْمُعَامَلَةِ بِلُغَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، وَفِي الشَّرْعِ عَقْدٌ عَلَى دَفْعِ الشَّجَرِ إلَى مَنْ يُصْلِحُهُ بِجُزْءٍ مِنْ ثَمَرِهِ ، وَقَالَ فِي الْحَاشِيَةِ : فَمَفْهُومُهَا اللُّغَوِيُّ أَعَمُّ مِنْ الشَّرْعِيِّ لَا عَيْنَهُ كَمَا تَوَهَّمَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ انْتَهَى أَقُولُ : لَيْسَ ذَلِكَ بِوَارِدٍ ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُعَامَلَةِ فِي قَوْلِهِ الْمُسَاقَاةُ هِيَ الْمُعَامَلَةُ الْمَعْهُودَةُ بَيْنَ النَّاسِ الْمُسَمَّاةُ بِالْمُسَاقَاةِ بِلُغَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَهِيَ مُعَاقَدَةُ دَفْعُ الْأَشْجَارُ وَالْكُرُومِ إلَى مَنْ يَقُومُ بِإِصْلَاحِهَا عَلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ سَهْمٌ مَعْلُومٌ مِنْ ثَمَرِهَا .
وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَا مُطْلَقَ الْمُعَامَلَةِ الشَّامِلَةِ لِمِثْلِ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَسَائِرِ الْعُقُودِ حَتَّى يَكُونَ مَفْهُومُهَا اللُّغَوِيُّ أَعَمَّ مِنْ مَفْهُومِهَا الشَّرْعِيِّ ، وَإِلَّا يَلْزَمُ أَنْ لَا يَصِحَّ قَوْلُهُ الْمُسَاقَاةُ هِيَ الْمُعَامَلَةُ بِلُغَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ لَا يُطْلِقُونَ لَفْظَ الْمُسَاقَاةِ عَلَى

كُلِّ مُعَامَلَةٍ ، بَلْ إنَّمَا يُطْلِقُونَهُ عَلَى مُعَامَلَةٍ مَخْصُوصَةٍ مَعْهُودَةٍ بَيْنَ النَّاسِ .
وَقَدْ اعْتَرَفَ ذَلِكَ الرَّادُّ أَيْضًا بِأَنَّ الْمُسَاقَاةَ عِبَارَةٌ عَنْ الْمُعَامَلَةِ بِلُغَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مَفْهُومُهَا اللُّغَوِيُّ أَعَمَّ مِنْ الشَّرْعِيِّ كَمَا لَا يَخْفَى ( قَوْلُهُ وَالْكَلَامُ فِيهَا كَالْكَلَامِ فِي الْمُزَارَعَةِ ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ : يَعْنِي شَرَائِطَهَا هِيَ الشَّرَائِطُ الَّتِي ذُكِرْت لِلْمُزَارَعَةِ انْتَهَى أَقُولُ : فِي هَذَا التَّفْسِيرِ خَلَلٌ ، لِأَنَّ الشَّرَائِطَ الَّتِي ذُكِرَتْ لِلْمُزَارَعَةِ لَيْسَ كُلُّهَا شَرْطًا لِلْمُسَاقَاةِ ، فَإِنَّ شَرَائِطَ الْمُسَاقَاةِ أَرْبَعَةٌ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ قَاضِي خَانٍ فِي فَتَاوَاهُ ، وَذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا أَيْضًا .
وَشَرَائِطُ الْمُزَارَعَةِ ثَمَانِيَةٌ كَمَا مَرَّ فِي الْكِتَابِ فِي أَوَائِلِ الْمُزَارَعَةِ ، فَكَيْفَ يَتِمُّ الْقَوْلُ بِأَنَّ شَرَائِطَ الْمُسَاقَاةِ هِيَ الشَّرَائِطُ الَّتِي ذُكِرَتْ لِلْمُزَارَعَةِ ، وَقَدْ سَبَقَ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ إلَى هَذَا التَّفْسِيرِ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ ، وَلَكِنْ قَيَّدَهُ بِمَا يُصْلِحُهُ فِي الْجُمْلَةِ حَيْثُ قَالَ : أَيْ وَشَرَائِطُهَا هِيَ الشَّرَائِطُ الَّتِي ذُكِرَتْ لِلْمُزَارَعَةِ مِمَّا يَصْلُحُ شَرْطًا لِلْمُسَاقَاةِ انْتَهَى .
ثُمَّ أَقُولُ : لَعَلَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ وَالْكَلَامُ فِيهَا كَالْكَلَامِ فِي الْمُزَارَعَةِ أَنَّ الدَّلِيلَ عَلَى جَوَازِهَا أَوْ عَدَمِ جَوَازِهَا عَلَى الْقَوْلَيْنِ كَمَا مَرَّ فِي الْمُزَارَعَةِ ، وَيُرْشِدُ إلَيْهِ قَوْلُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ الْمُعَامَلَةُ جَائِزَةٌ ، وَلَا تَجُوزُ الْمُزَارَعَةُ إلَّا تَبَعًا إلَخْ ، فَإِنَّهُ بَيَانُ قَوْلٍ ثَالِثٍ فَارِقٍ بَيْنَ كَوْنِ الْمُزَارَعَةِ أَصْلًا وَكَوْنِهَا تَبَعًا ، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ وَالْكَلَامُ فِيهَا كَالْكَلَامِ فِي الْمُزَارَعَةِ بَيَانَ شُرُوطِ الْمُسَاقَاةِ كَانَ ذِكْرُهُ بَيْنَ بَيَانِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ أَجْنَبِيًّا كَمَا لَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي فَطَانَةٍ ( قَوْلُهُ لِأَنَّهَا

تَنْمُو مَا تُرِكَتْ فِي الْأَرْضِ فَجُهِلَتْ الْمُدَّةُ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَقَوْلُهُ لِأَنَّهَا تَنْمُو مَا تُرِكَتْ فِي الْأَرْضُ دَلِيلُ الرَّطْبَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ دَلِيلَ النَّخِيلِ وَالرَّطْبَةِ إذَا شَرَطَ الْقِيَامَ عَلَيْهِمَا حَتَّى يَذْهَبَ أُصُولُهُمَا لِأَنَّهُ لَا نِهَايَةَ لِذَلِكَ فَكَانَ غَيْرَ مَعْلُومٍ .
وَفِي نُسْخَةٍ فَكَانَ مَعْلُومًا انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ كَلَامٌ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ كَوْنَ قَوْلِهِ لِأَنَّهَا تَنْمُو مَا تُرِكَتْ فِي الْأَرْضِ دَلِيلُ الرَّطْبَةِ وَحْدَهَا مَمْنُوعٌ ، بَلْ يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ دَلِيلًا عَلَى الْمَجْمُوعِ لِجَرَيَانِهِ فِي الْمَجْمُوعِ ، كَيْفَ لَا وَلَا شَكَّ أَنَّ الدَّلِيلَ وَهُوَ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِذَلِكَ نِهَايَةٌ مَعْلُومَةٌ يَعُمُّ الْمَجْمُوعَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَعُمَّ ذَلِكَ الدَّلِيلُ أَيْضًا الْمَجْمُوعَ عِنْدَ إمْكَانُ ذَلِكَ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْعُذْرِ لِعَدَمِ ذِكْرِ الْمُصَنِّفِ دَلِيلَ النَّخِيلِ وَالرَّطْبَةِ إذَا شَرَطَا الْقِيَامَ عَلَيْهِمَا حَتَّى يَذْهَبَ أُصُولُهُمَا لَيْسَ بِتَامٍّ .
أَمَّا عَلَى النُّسْخَةِ الْأُولَى الَّتِي مَعْنَاهَا لِأَنَّهُ لَا نِهَايَةَ لِذَلِكَ : أَيْ لِزَمَانِ ذَهَابِ أُصُولِهِمَا ، فَكَانَ أَيْ الْمُدَّةُ بِتَأْوِيلِ الْوَقْتِ غَيْرَ مَعْلُومٍ فَلِأَنَّهُ يَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ إنَّمَا يُفِيدُ تَحَقُّقَ تِينِك الصُّورَتَيْنِ أَيْضًا ، وَلَا يَتِمُّ عُذْرًا لِعَدَمِ ذِكْرِ دَلِيلِهِمَا كَمَا هُوَ الْمَقْصُودُ .
وَأَمَّا عَلَى النُّسْخَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي مَعْنَاهَا لِأَنَّهُ لَا نِهَايَةَ لِذَلِكَ فَكَانَ مَعْلُومًا : أَيْ كَانَ دَلِيلُ تِينك الصُّورَتَيْنِ مَعْلُومًا لِظُهُورِ إفْسَادِ جَهَالَةِ الْمُدَّةِ الْعَقْدَ فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى ذِكْرِهِ ، فَلِأَنَّهُ يَرُدُّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْتَضِيَ أَنْ لَا يَذْكُرَ دَلِيلَ الرَّطْبَةِ أَيْضًا ، لِأَنَّ حَاصِلَ ذَلِكَ الدَّلِيلِ أَيْضًا جَهَالَةُ الْمُدَّةِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَذْكُرَ ذَلِكَ أَيْضًا بِنَاءً عَلَى كَوْنِهِ مَعْلُومًا فَتَأَمَّلْ

قَالَ ( وَتَبْطُلُ الْمُسَاقَاةُ بِالْمَوْتِ ) لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْإِجَارَةِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِيهَا ، فَإِنْ مَاتَ رَبُّ الْأَرْضِ وَالْخَارِجُ بُسْرٌ فَلِلْعَامِلِ أَنْ يَقُومَ عَلَيْهِ كَمَا كَانَ يَقُومُ قَبْلَ ذَلِكَ إلَى أَنْ يُدْرِكَ الثَّمَرَ ، وَإِنْ كَرِهَ ذَلِكَ وَرَثَةُ رَبِّ الْأَرْضُ اسْتِحْسَانًا فَيَبْقَى الْعَقْدُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ ، وَلَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الْآخَرِ ( وَلَوْ الْتَزَمَ الْعَامِلُ الضَّرَرَ يُتَخَيَّرُ وَرَثَةُ الْآخَرِ بَيْنَ أَنْ يَقْسِمُوا الْبُسْرَ عَلَى الشَّرْطِ وَبَيْنَ أَنْ يُعْطُوهُ قِيمَةَ نَصِيبِهِ مِنْ الْبُسْرِ وَبَيْنَ أَنْ يُنْفِقُوا عَلَى الْبُسْرِ حَتَّى يَبْلُغَ فَيَرْجِعُوا بِذَلِكَ فِي حِصَّةِ الْعَامِلِ مِنْ الثَّمَرِ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إلْحَاقُ الضَّرَرِ بِهِمْ ) ، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي الْمُزَارَعَةِ ( وَلَوْ مَاتَ الْعَامِلُ فَلِوَرَثَتِهِ أَنْ يَقُومُوا عَلَيْهِ وَإِنْ كَرِهَ رَبُّ الْأَرْضِ ) لِأَنَّ فِيهِ النَّظَرَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ( فَإِنْ أَرَادُوا أَنْ يَصْرِمُوهُ بُسْرًا كَانَ صَاحِبُ الْأَرْضِ بَيْنَ الْخِيَارَاتِ الثَّلَاثَةِ ) الَّتِي بَيَّنَّاهَا .
( وَإِنْ مَاتَا جَمِيعًا فَالْخِيَارُ لِوَرَثَةِ الْعَامِلِ ) لِقِيَامِهِمْ مَقَامَهُ ، وَهَذَا خِلَافَةٌ فِي حَقٍّ مَالِيٍّ وَهُوَ تَرْكُ الثِّمَارِ عَلَى الْأَشْجَارِ إلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ لَا أَنْ يَكُونَ وَارِثُهُ فِي الْخِيَارِ ( فَإِنْ أَبَى وَرَثَةُ الْعَامِلِ أَنْ يَقُومُوا عَلَيْهِ كَانَ الْخِيَارُ فِي ذَلِكَ لِوَرَثَةِ رَبِّ الْأَرْضُ ) عَلَى مَا وَصْفنَا .
قَالَ ( وَإِذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الْمُعَامَلَةِ وَالْخَارِجُ بُسْرٌ أَخْضَرُ فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ ، وَلِلْعَامِلِ أَنْ يَقُومَ عَلَيْهَا إلَى أَنْ يُدْرِكَ لَكِنْ بِغَيْرِ أَجْرٍ ) لِأَنَّ الشَّجَرَ لَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُهُ ، بِخِلَافِ الْمُزَارَعَةِ فِي هَذَا لِأَنَّ الْأَرْضَ يَجُوزُ اسْتِئْجَارُهَا ، وَكَذَلِكَ الْعَمَلُ كُلُّهُ عَلَى الْعَامِلِ هَاهُنَا وَفِي الْمُزَارَعَةِ فِي هَذَا عَلَيْهِمَا ، لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ أَجْرُ مِثْلِ الْأَرْضِ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ عَلَى الْعَامِلِ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الْعَمَلَ وَهَاهُنَا لَا

أَجْرَ فَجَازَ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْعَمَلَ كَمَا يَسْتَحِقُّ قَبْلَ انْتِهَائِهَا .
( قَوْلُهُ وَلَوْ الْتَزَمَ الْعَامِلُ الضَّرَرَ يَتَخَيَّرُ وَرَثَةُ الْآخَرِ بَيْنَ أَنْ يَقْتَسِمُوا الْبُسْرَ عَلَى الشَّرْطِ ، وَبَيْنَ أَنْ يُعْطُوهُ قِيمَةَ نَصِيبِهِ مِنْ الْبُسْرِ ، وَبَيْنَ أَنْ يُنْفِقُوا عَلَى الْبُسْرِ حَتَّى يَبْلُغَ فَيَرْجِعُوا بِذَلِكَ فِي حِصَّةِ الْعَامِلِ مِنْ الثَّمَرِ ) قَالَ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ : وَفِي رُجُوعِهِمْ فِي حِصَّتِهِ فَقَطْ إشْكَالٌ .
وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَرْجِعُوا عَلَيْهِ بِجَمِيعِهِ لِأَنَّ الْعَامِلَ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ بِالْعَمَلِ وَكَانَ الْعَمَلُ كُلُّهُ عَلَيْهِ .
وَلِهَذَا إذَا اخْتَارَ الْمُضِيَّ أَوْ لَمْ يَمُتْ صَاحِبُهُ كَانَ الْعَمَلُ كُلُّهُ عَلَيْهِ .
فَلَوْ رَجَعُوا عَلَيْهِ بِحِصَّتِهِ فَقَطْ يُؤَدِّي إلَى اسْتِحْقَاقِ الْعَامِلِ بِلَا عَمَلٍ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ ، وَكَذَا هَذَا الْإِشْكَالُ وَارِدٌ فِي الْمُزَارَعَةِ أَيْضًا انْتَهَى .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ : قُلْت : لَا إشْكَالَ ، إذْ مَعْنَى الْكَلَامِ يَرْجِعُونَ فِي حِصَّةِ الْعَامِلِ بِجَمِيعِ مَا أَنْفَقُوا لَا بِحِصَّتِهِ كَمَا فَهِمَهُ هَذَا الْعَلَّامَةُ انْتَهَى .
أَقُولُ : مَا قَالَهُ ذَلِكَ الْبَعْضُ مِنْ الْمَعْنَى خِلَافُ مَا صَرَّحُوا بِهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ فَإِنَّ عِبَارَةَ الْكَافِي لِلْعَلَّامَةِ النَّسَفِيِّ وَعِبَارَةَ شَرْحِ الْكَافِي لِلْحَاكِمِ الشَّهِيدِ وَعِبَارَةَ غَايَةِ الْبَيَانِ وَغَيْرَهَا هَكَذَا ، وَإِنْ شَاءُوا أَنْفَقُوا عَلَى الْبُسْرِ حَتَّى يَبْلُغَ وَيَرْجِعُوا بِنِصْفِ نَفَقَتِهِمْ فِي حِصَّةِ الْعَامِلِ مِنْ الثَّمَرِ كَمَا مَرَّ فِي الْمُزَارَعَةِ انْتَهَى .
وَلَا شَكَّ أَنَّهَا صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ مَا يَرْجِعُونَ بِهِ نِصْفُ نَفَقَتِهِمْ لَا جَمِيعَهَا فَأَنَّى يَتَيَسَّرُ الْحَمْلُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ .

قَالَ ( وَتُفْسَخُ بِالْأَعْذَارِ ) لِمَا بَيَّنَّا فِي الْإِجَارَاتِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا وُجُوهَ الْعُذْرِ فِيهَا .
وَمِنْ جُمْلَتِهَا أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ سَارِقًا يَخَافُ عَلَيْهِ سَرِقَةَ السَّعَفِ وَالثَّمَرِ قَبْلَ الْإِدْرَاكِ لِأَنَّهُ يُلْزِمُ صَاحِبَ الْأَرْضِ ضَرَرًا لَمْ يَلْتَزِمْهُ فَتُفْسَخُ بِهِ .
وَمِنْهَا مَرَضُ الْعَامِلِ إذَا كَانَ يُضْعِفُهُ عَنْ الْعَمَلِ ، لِأَنَّ فِي إلْزَامِهِ اسْتِئْجَارَ الْأُجَرَاءِ زِيَادَةَ ضَرَرٍ عَلَيْهِ وَلَمْ يَلْتَزِمْهُ فَيُجْعَلُ ذَلِكَ عُذْرًا ، وَلَوْ أَرَادَ الْعَامِلُ تَرْكَ ذَلِكَ الْعَمَلِ هَلْ يَكُونُ عُذْرًا ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ .
وَتَأْوِيلُ إحْدَاهُمَا أَنْ يَشْتَرِطَ الْعَمَلَ بِيَدِهِ فَيَكُونَ عُذْرًا مِنْ جِهَتِهِ ( وَمَنْ دَفَعَ أَرْضًا بَيْضَاءَ إلَى رَجُلٍ سِنِينَ مَعْلُومَةً يَغْرِسُ فِيهَا شَجَرًا عَلَى أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ وَالشَّجَرُ بَيْنَ رَبِّ الْأَرْضِ وَالْغَارِسِ نِصْفَيْنِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ ) لِاشْتِرَاطِ الشَّرِكَةِ فِيمَا كَانَ حَاصِلًا قَبْلَ الشَّرِكَةِ لَا بِعَمَلِهِ ( وَجَمِيعُ الثَّمَرِ وَالْغَرْسِ لِرَبِّ الْأَرْضِ وَلِلْغَارِسِ قِيمَةُ غَرْسِهِ وَأَجْرُ مِثْلِهِ فِيمَا عَمِلَ ) لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى قَفِيزِ الطَّحَّانِ : إذْ هُوَ اسْتِئْجَارٌ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْ عَمَلِهِ وَهُوَ نِصْفُ الْبُسْتَانُ فَيَفْسُدُ وَتَعَذَّرَ رَدُّ الْغِرَاسِ لِاتِّصَالِهَا بِالْأَرْضِ فَيَجِبُ قِيمَتُهَا وَأَجْرُ مِثْلِهِ لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي قِيمَةِ الْغِرَاسِ لِتَقَوُّمِهَا بِنَفْسِهَا وَفِي تَخْرِيجِهَا طَرِيقٌ آخَرُ بَيَّنَّاهُ فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى ، وَهَذَا أَصَحُّهُمَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( قَوْلُهُ وَلَوْ أَرَادَ الْعَامِلُ تَرْكَ ذَلِكَ الْعَمَلِ هَلْ يَكُونُ عُذْرًا ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ : يَعْنِي فِي كَوْنِ تَرْكِ الْعَمَلِ عُذْرًا رِوَايَتَانِ : فِي إحْدَاهُمَا لَا يَكُونُ عُذْرًا ، وَيُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَازِمٌ لَا يُفْسَخُ إلَّا مِنْ عُذْرٍ وَهُوَ مَا يَلْحَقُهُ بِهِ ضَرَرٌ وَهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ ، وَفِي الْأُخْرَى عُذْرٌ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِي تَفْسِيرِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ بِالْوَجْهِ الْمَذْكُورِ خَلَلٌ ، إذْ يَصِيرُ حَاصِلُ مَعْنَاهُ حِينَئِذٍ فِي كَوْنِ تَرْكِ الْعَمَلِ عُذْرًا رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا كَوْنُهُ عُذْرًا وَالْأُخْرَى عَدَمُ كَوْنِهِ عُذْرًا فَيُؤَدِّي إلَى كَوْنِ الشَّيْءِ ظَرْفًا لِنَفْسِهِ وَلِنَقِيضِهِ وَلَا يَخْفَى بُطْلَانُ ذَلِكَ ، وَالْوَجْهُ عِنْدِي أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فِيهِ رِوَايَتَانِ فِي جَوَابِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ هَلْ يَكُونُ عُذْرًا ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا بِالْإِيجَابِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عُذْرًا ، وَالْأُخْرَى بِالسَّلْبِ وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ عُذْرًا فَحِينَئِذٍ لَا غُبَارَ فِيهِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ ( قَوْلُهُ وَتَأْوِيلُ إحْدَاهُمَا أَنْ يَشْرِطَ الْعَمَلَ بِيَدِهِ فَيَكُونَ عُذْرًا مِنْ جِهَتِهِ ) أَقُولُ : فِيهِ أَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ عُذْرًا مِنْ جِهَتِهِ أَنْ لَوْ تَرَكَ ذَلِكَ الْعَمَلَ اضْطِرَارًا بِسَبَبِ حُدُوثِ مَرَضٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ ، وَأَمَّا إذَا تَرَكَهُ بِالِاخْتِيَارِ فَلَا يَظْهَرُ وَجْهُ كَوْنِهِ عُذْرًا مِنْ جِهَتِهِ ، وَالْكَلَامُ هَاهُنَا فِي التَّرْكِ الِاخْتِيَارِيِّ ، لِأَنَّ التَّرْكَ الِاضْطِرَارِيَّ إنَّمَا يَكُونُ بِسَبَبِ عُذْرٍ مُقَرَّرٍ .
وَقَدْ مَرَّ مَسْأَلَةُ جَوَازِ الْفَسْخِ بِالْأَعْذَارِ رِوَايَةً وَاحِدَةً ، فَذِكْرُ مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ بَعْدَهَا وَبَيَانُ وُقُوعِ الرِّوَايَتَيْنِ فِيهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِتَرْكِ ذَلِكَ الْعَمَلِ فِي قَوْلِهِ وَلَوْ أَرَادَ الْعَامِلُ تَرْكَ ذَلِكَ الْعَمَلِ هُوَ التَّرْكُ الِاخْتِيَارِيُّ لَا غَيْرُ فَتَأَمَّلْ ( قَوْلُهُ وَتَعَذَّرَ رَدُّ الْغِرَاسِ لِاتِّصَالِهَا بِالْأَرْضِ ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ :

يَعْنِي لَوْ وَقَعَ الْغِرَاسُ وَسَلَّمَهَا لَمْ يَكُنْ تَسْلِيمًا لِشَجَرِ الْغِرَاسِ ، بَلْ يَكُونُ تَسْلِيمًا لِقِطْعَةِ خَشَبَةٍ ، وَهُوَ مَا شَرَطَ ذَلِكَ ، بَلْ شَرَطَ تَسْلِيمَ الشَّجَرِ بِقَوْلِهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْأَرْضُ وَالشَّجَرُ بَيْنَ رَبِّ الْأَرْضِ وَالْغَارِسِ نِصْفَيْنِ ، فَلَمَّا لَمْ يُمْكِنْ تَسْلِيمُهَا وَهِيَ نَابِتَةٌ وَجَبَ رَدُّ قِيمَتِهَا انْتَهَى وَاقْتَفَى أَثَرَهُ فِي شَرْحُ هَذَا الْمَحَلِّ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدَّارِيَةِ وَصَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى قَوْلِهِمْ لَوْ قَلَعَ الْغِرَاسَ وَسَلَّمَهَا لَمْ يَكُنْ تَسْلِيمًا لِلشَّجَرِ بَلْ يَكُونُ تَسْلِيمًا لِقِطْعَةِ خَشَبَةٍ حَيْثُ قَالَ : فِيهِ بَحْثٌ ، إذْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ حِينَئِذٍ لَمْ يَكُنْ تَسْلِيمًا لِلشَّجَرِ انْتَهَى .
أَقُولُ : مَنْعُ ذَلِكَ مُكَابَرَةٌ ، لِأَنَّ الشَّجَرَ عَلَى مَا نُصَّ عَلَيْهِ فِي عَامَّةِ كُتُبِ اللُّغَةِ مَا كَانَ عَلَى سَاقٍ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ ، فَإِذَا قَلَعَ الْغِرَاسَ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدُّ فَلَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ لَفْظُ الشَّجَرِ فَلَا يَكُونُ تَسْلِيمُ الْمَقْلُوعِ تَسْلِيمًا لِلشَّجَرِ لَا مَحَالَةَ بَلْ يَكُونُ تَسْلِيمًا لِقِطْعَةِ خَشَبَةٍ كَمَا قَالَهُ هَؤُلَاءِ الشُّرَّاحُ ، نَعَمْ إنَّ قَوْلَهُمْ كَانَ الْمَشْرُوطُ تَسْلِيمَ الشَّجَرِ لَا تَسْلِيمَ قِطْعَةِ خَشَبَةٍ مُسْتَدْرَكٌ لَا يُجْدِي طَائِلًا هَاهُنَا ، لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْغَارِسِ لِلشَّجَرِ لَيْسَ بِمُقْتَضَى الشَّرْطِ بَلْ يَكُونُ الشَّجَرُ مِلْكًا لَهُ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ ، وَلِهَذَا يَجِبُ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ رَدُّ قِيمَةِ تَمَامِ الْغِرَاسِ مَعَ كَوْنِ الْمَشْرُوطِ أَنْ يَكُونَ الْأَرْضُ وَالشَّجَرُ بَيْنَ رَبِّ الْأَرْضِ وَالْغَارِسِ نِصْفَيْنِ تَدَبَّرْ تَرْشُدْ ( قَوْلُهُ وَفِي تَخْرِيجِهَا طَرِيقٌ آخَرُ بَيَّنَّاهُ فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى ) يَعْنِي وَفِي تَخْرِيجِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ طَرِيقٌ آخَرُ : أَيْ دَلِيلٌ آخَرُ سِوَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِنَا هَذَا مِنْ طَرِيقِ قَفِيزِ الطَّحَّانِ بَيَّنَّاهُ : أَيْ بَيَّنَّا ذَلِكَ الطَّرِيقَ الْآخَرَ فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى ،

قَالَ كَثِيرٌ مِنْ الشُّرَّاحِ فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ الطَّرِيقِ : وَهُوَ شِرَاءُ رَبِّ الْأَرْضِ نِصْفَ الْغِرَاسِ مِنْ الْعَامِلِ بِنِصْفِ أَرْضِهِ ، أَوْ شِرَاؤُهُ جَمِيعَ الْغِرَاسِ بِنِصْفِ أَرْضِهِ وَنِصْفِ الْخَارِجِ ، فَكَانَ عَدَمُ جَوَازِ هَذَا الْعَقْدِ لِجَهَالَةِ الْغِرَاسِ نِصْفَهَا أَوْ جَمِيعَهَا لَا لِاعْتِبَارِ مَعْنَى الِاسْتِئْجَارِ الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَى قَفِيزِ الطَّحَّانِ انْتَهَى ، أَقُولُ : يَرُدُّ عَلَى الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ مِمَّا ذَكَرُوهُ وَهِيَ قَوْلُهُمْ أَوْ شِرَاؤُهُ جَمِيعَ الْغِرَاسِ بِنِصْفِ أَرْضِهِ وَنِصْفِ الْخَارِجِ أَنَّهَا لَا تَصْلُحُ لَأَنْ تَكُونَ طَرِيقَ تَخْرِيجِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، لِأَنَّ وَضْعَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْأَرْضُ وَالشَّجَرُ بَيْنَ رَبُّ الْأَرْضِ وَالْغَارِسِ نِصْفَيْنِ .
وَفِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ يَكُونُ جَمِيعُ الْغِرَاسِ لِرَبِّ الْأَرْضِ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْمُنَاصَفَةُ فِي الشَّجَرِ .

كِتَابُ الذَّبَائِحِ قَالَ ( الذَّكَاةُ شَرْطُ حِلِّ الذَّبِيحَةِ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { إلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ } وَلِأَنَّ بِهَا يَتَمَيَّزُ الدَّمُ النَّجِسُ مِنْ اللَّحْمُ الطَّاهِرُ .
وَكَمَا يَثْبُتُ بِهِ الْحِلُّ يَثْبُتُ بِهِ الطَّهَارَةُ فِي الْمَأْكُولِ وَغَيْرُهُ ، فَإِنَّهَا تُنْبِئُ عَنْهَا .
وَمِنْهَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { ذَكَاةُ الْأَرْضِ يُبْسُهَا } وَهِيَ اخْتِيَارِيَّةٌ كَالْجُرْحِ فِيمَا بَيْنَ اللَّبَّةِ وَاللَّحْيَيْنِ ، وَاضْطِرَارِيَّةٌ وَهِيَ الْجُرْحُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنْ الْبَدَنُ .
وَالثَّانِي كَالْبَدَلِ عَنْ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ لَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْأَوَّلِ .
وَهَذَا آيَةُ الْبَدَلِيَّةِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْأَوَّلَ أَعْمَلُ فِي إخْرَاجِ الدَّمِ وَالثَّانِيَ أَقْصَرُ فِيهِ ، فَاكْتَفَى بِهِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْأَوَّلِ ، إذْ التَّكْلِيفُ بِحَسْبِ الْوُسْعِ .
وَمِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ الذَّابِحُ صَاحِبَ مِلَّةِ التَّوْحِيدِ إمَّا اعْتِقَادًا كَالْمُسْلِمِ أَوْ دَعْوَى كَالْكِتَابِيِّ ، وَأَنْ يَكُونَ حَلَالًا خَارِجَ الْحَرَمِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

( كِتَابُ الذَّبَائِحِ ) قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ : الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الْمُزَارَعَةِ وَالذَّبَائِحِ كَوْنُهُمَا إتْلَافًا فِي الْحَالِ لِلِانْتِفَاعِ فِي الْمَآلِ ، فَإِنَّ الْمُزَارَعَةَ إنَّمَا تَكُونُ بِإِتْلَافِ الْحَبِّ فِي الْأَرْضِ لِلِانْتِفَاعِ بِمَا يَنْبُتُ مِنْهَا ، وَالذَّبْحُ إتْلَافُ الْحَيَوَانِ بِإِزْهَاقِ رُوحِهِ فِي الْحَالِ لِلِانْتِفَاعِ بِلَحْمِهِ بَعْدَ ذَلِكَ انْتَهَى .
أَقُولُ : يُتَّجَهُ عَلَى ظَاهِرِ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْمُنَاسَبَةِ أَنَّهُ إنَّمَا يَقْتَضِي تَعْقِيبَ الْمُزَارَعَةِ بِالذَّبَائِحِ دُونَ تَعْقِيبِ الْمُسَاقَاةِ بِالذَّبَائِحِ ، إذْ لَا إتْلَافَ فِي الْمُسَاقَاةِ .
وَاَلَّذِي وَقَعَ فِي تَرْتِيبِ الْكِتَابِ تَعْقِيبُ الْمُسَاقَاةِ بِالذَّبَائِحِ لَا تَعْقِيبُ الْمُزَارَعَةِ بِهَا فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ .
اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ : جَعَلُوا الْمُزَارَعَةَ وَالْمُسَاقَاةَ فِي حُكْمِ شَيْءٍ وَاحِدٍ بِنَاءً عَلَى اتِّحَادِهِمَا فِي أَكْثَرِ الشَّرَائِطِ وَالْأَحْكَامِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي مَبَاحِثِهِمَا ، فَكَانَتْ الْمُنَاسَبَةُ الْمَذْكُورَةُ بَيْنَ الْمُزَارَعَةِ وَالذَّبَائِحِ بِمَنْزِلَةِ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْمُسَاقَاةِ وَالذَّبَائِحِ فَاكْتَفَوْا بِذَلِكَ ، وَعَنْ هَذَا تَرَى كَثِيرًا مِنْ أَصْحَابِ مُعْتَبَرَاتِ الْفَتَاوَى كَالذَّخِيرَةِ وَالْمُحِيطِ وَفَتَاوَى قَاضِي خَانٍ وَغَيْرِهَا اكْتَفَوْا بِذِكْرِ كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ وَجَعَلُوا الْمُسَاقَاةَ بَابًا مِنْهَا وَعَنْوَنَوهَا بِالْمُعَامَلَةِ ، وَذِكْرُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْمُزَارَعَةِ وَالْمُسَاقَاةِ فِي الْكِتَابِ بِكِتَابٍ عَلَى حِدَةٍ لَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِبْدَادِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِذَاتِهَا وَاخْتِصَاصِهَا بِأَحْكَامِهَا ، بَلْ يَكْفِي جِهَةُ التَّغَايُرِ بَيْنَهُمَا فِي الْجُمْلَةِ .
أَلَا يَرَى أَنَّهُمْ ذَكَرُوا الصَّرْفَ بِكِتَابٍ عَلَى حِدَةٍ عَقِيبَ ذِكْرِهِمْ كِتَابَ الْبُيُوعِ مَعَ أَنَّهُ أَنْوَاعُ الْبُيُوعِ قَطْعًا كَمَا صَرَّحُوا بِهِ ، ثُمَّ إنَّ الذَّبَائِحَ جَمْعُ ذَبِيحَةٍ وَهِيَ اسْمُ مَا يُذْبَحُ كَالذَّبْحِ وَالذَّبْحُ مَصْدَرُ ذَبَحَ إذَا قَطَعَ الْأَوْدَاجَ ، كَذَا فِي الْكَافِي وَالْكِفَايَةِ اعْلَمْ

أَنَّ بَعْضَ الْعِرَاقِيِّينَ مِنْ مَشَايِخِنَا ذَهَبُوا إلَى أَنَّ الذَّبْحَ مَحْظُورٌ عَقْلًا لِمَا فِيهِ مِنْ إيلَامِ الْحَيَوَانِ وَلَكِنَّ الشَّرْعَ أَحَلَّهُ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ فِي الْمَبْسُوطِ بَعْدَ نَقْلِ قَوْلِهِمْ : وَهَذَا عِنْدِي بَاطِلٌ ، لِأَنَّ { رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَنَاوَلُ اللَّحْمَ قَبْلَ مَبْعَثِهِ } وَلَا يُظَنُّ بِهِ أَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ ذَبَائِحَ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَذْبَحُونَ بِأَسْمَاءِ الْأَصْنَامِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ كَانَ يَذْبَحُ وَيَصْطَادُ بِنَفْسِهِ ، وَمَا كَانَ يَفْعَلُ مَا كَانَ مَحْظُورًا عَقْلًا كَالْكَذِبِ وَالظُّلْمِ وَالسَّفَهِ انْتَهَى .
وَقَالَ فِي الْعِنَايَةِ بَعْدَ ذِكْرِ ذَلِكَ : أُجِيبَ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا كَانَ يَأْكُلُ ذَبَائِحَ أَهْلُ الْكِتَابِ وَلَيْسَ الذَّبْحُ كَالْكَذِبِ وَالظُّلْمِ .
لِأَنَّ الْمَحْظُورَ الْعَقْلِيَّ ضَرْبَانِ : مَا يُقْطَعُ بِتَحْرِيمِهِ فَلَا يَرِدُ الشَّرْعُ بِإِبَاحَتِهِ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ ، وَمَا فِيهِ نَوْعُ تَجْوِيزٍ مِنْ حَيْثُ تَصَوُّرِ مَنْفَعَةٍ فَيَجُوزُ أَنْ يَرِدَ الشَّرْعُ بِإِبَاحَتِهِ وَيُقَدَّمَ عَلَيْهِ قَبْلَهُ نَظَرًا إلَى نَفْعِهِ كَالْحِجَامَةِ لِلْأَطْفَالِ وَتَدَاوِيهِمْ بِمَا فِيهِ أَلَمٌ لَهُمْ انْتَهَى .
وَقَالَ الْعَيْنِيُّ بَعْدَ نَقْلِ مَا قَالَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ : وَالْجَوَابُ الْمَذْكُورُ فِي الْعِنَايَةِ : قُلْت كُلٌّ مِنْ الْكَلَامَيْنِ لَا يَخْلُو عَنْ نَظَرٍ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَذْبَحُ بِنَفْسِهِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَكَذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ ذَبَائِحِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَكَلَ شَيْئًا مِنْ الذَّبِيحَةِ إلَّا بَعْدَ الْبَعْثَةِ انْتَهَى .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ ، لِأَنَّ كَوْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَنَاوَلُ اللَّحْمَ قَبْلَ الْبَعْثَةِ أَمْرٌ مُتَوَاتِرٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَذْبَحُ بِنَفْسِهِ عِنْدَ شَمْسِ

الْأَئِمَّةِ أَنْ لَا يُظَنَّ بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ ذَبَائِحَ الْمُشْرِكِينَ كَمَا ذَكَرَهُ ، وَالْمُجِيبُ يَمْنَعُ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى جَوَازِ أَنَّهُ كَانَ كَانَ يَأْكُلُ ذَبَائِحَ أَهْلِ الْكِتَابِ .
وَلَا يَلْزَمُهُ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِكَوْنِهِ مَانِعًا لَا مُسْتَدِلًّا فَلَا مَحَلَّ لِنَظَرِهِ أَصْلًا ( قَوْلُهُ قَالَ الذَّكَاةُ شَرْطُ حِلِّ الذَّبِيحَةِ ) قَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ : وَهَذَا وَقَعَ عَلَى خِلَافِ وَضْعِ الْكِتَابِ .
لِأَنَّهُ إذَا ذَكَرَ لَفْظَ قَالَ فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ كَانَ يُشِيرُ بِهِ إلَى مَا ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَوْ مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ ، وَهُنَا لَمْ تَقَعْ الْإِشَارَةُ إلَى أَحَدِهِمَا ، وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْبِدَايَةِ ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُورِدَ لَفْظَ قَالَ أَوْ يَقُولُ قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ مُشِيرًا بِهِ إلَى نَفْسِهِ انْتَهَى .
وَقَالَ الْعَيْنِيُّ بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ : قُلْت هَذَا تَطْوِيلٌ بِلَا فَائِدَةٍ ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ الْكِتَابِ لَفْظَةَ قَالَ بِإِضْمَارِ الْفَاعِلِ وَأَرَادَ بِهِ نَفْسَهُ ، فَهَذَا أَيْضًا مِثْلُهُ ، وَلَا يَلْزَمُ تَعْيِينُ الْفَاعِلِ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ عِنْدَ إسْنَادُ الْقَوْلِ إلَى الْقُدُورِيِّ أَوْ مُحَمَّدِ بْنُ الْحَسَنِ لَمْ يُصَرِّحْ بِفَاعِلِهِ ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ إسْنَادِهِ إلَى نَفْسِهِ ، وَلَا يَخْفَى هَذَا إلَّا عَلَى مَنْ لَمْ يُمَيِّزْ مَسَائِلَ الْقُدُورِيِّ مِنْ مَسَائِلِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، وَمَنْ لَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَهُمَا لَمْ يَسْتَحِقَّ الْخَوْضَ فِي الْهِدَايَةِ انْتَهَى كَلَامُهُ .
أَقُولُ : الْحَقُّ مَا ذَكَرَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ وَقَوْلِ الْعَيْنِيِّ ذَكَرَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ الْكِتَابِ لَفْظَةَ قَالَ بِإِضْمَارِ الْفَاعِلِ وَأَرَادَ بِهِ نَفْسَهُ ، إنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ ذَكَرَهَا فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ الْكِتَابِ مُشِيرًا بِهَا إلَى نَفْسِهِ فَهُوَ فِرْيَةٌ بِلَا مِرْيَةٍ ، فَإِنَّهُ إذَا ذَكَرَهَا فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ كَانَ يُشِيرُ بِهَا إلَى مَا ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ

الصَّغِيرِ أَوْ مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ عَلَى الِاطِّرَادِ كَمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْغَايَةِ ، وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُ ذَكَرَهَا فِي غَيْرِ أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ الْكِتَابِ مُشِيرًا بِهَا إلَى نَفْسِهِ فَهُوَ وَاقِعٌ ، وَلَكِنْ إذَا ذَكَرَهَا فِي مِثْلِ تِلْكَ الْمَوَاضِعِ كَأَنْ يَقُولَ قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ عَلَى مَا وَقَعَ فِي النُّسَخِ الْقَدِيمَةِ أَوْ قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى مَا وَقَعَ فِي النُّسَخِ الْجَدِيدَةِ وَلَمْ يَقَعْ مِنْهُ ذِكْرُ لَفْظَةِ قَالَ وَحْدَهَا فِي مِثْلِ تِلْكَ الْمَوَاضِعِ قَطُّ ، وَهَذَا غَيْرُ خَافٍ عَلَى مَنْ لَهُ دَارِيَةٌ بِأَسَالِيبِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ ، فَالشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ مُكَابِرٌ فِيمَا ذَكَرَهُ هَاهُنَا ( قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { إلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ } ) فَإِنَّ حُكْمَ مَا بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ يُخَالِفُ مَا قَبْلَهُ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى قَبْلَهُ { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ } إلَى آخِرِهِ .
فَاسْتَثْنَى مِنْ الْحُرْمَةِ الْمُذَكَّى فَيَكُونُ حَلَالًا .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَالْمُرَتَّبُ عَلَى الْمُشْتَقِّ مَعْلُولٌ لِلصِّفَةِ الْمُشْتَقِّ مِنْهَا ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْحِلُّ ثَابِتًا بِالشَّرْعِ جُعِلَتْ شَرْطًا انْتَهَى .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا الْكَلَامُ مِنْهُ بِمَعْقُولِ الْمَعْنَى ، لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحِلِّ بِالشَّرْعِ مِمَّا لَا يُنَافِي كَوْنَ الصِّفَةِ الْمُشْتَقِّ مِنْهَا الَّتِي هِيَ الذَّكَاةُ عِلَّةَ الْحُكْمِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى عَلَى ذِي مُسْكَةٍ .

قَالَ ( وَذَبِيحَةُ الْمُسْلِمِ وَالْكِتَابِيِّ حَلَالٌ ) لِمَا تَلَوْنَا .
وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ } وَيَحِلُّ إذَا كَانَ يَعْقِلُ التَّسْمِيَةَ وَالذَّبِيحَةَ وَيَضْبِطُ وَإِنْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ امْرَأَةً ، أَمَّا إذَا كَانَ لَا يَضْبِطُ وَلَا يَعْقِلُ التَّسْمِيَةَ وَالذَّبِيحَةَ لَا تَحِلُّ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ عَلَى الذَّبِيحَةِ شَرْطٌ بِالنَّصِّ وَذَلِكَ بِالْقَصْدِ .
وَصِحَّةُ الْقَصْدِ بِمَا ذَكَرْنَا .
وَالْأَقْلَفُ وَالْمَخْتُونُ سَوَاءٌ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَإِطْلَاقُ الْكِتَابِيِّ يَنْتَظِمُ الْكِتَابِيَّ وَالذِّمِّيَّ وَالْحَرْبِيَّ وَالْعَرَبِيَّ وَالتَّغْلِبِيَّ ، لِأَنَّ الشَّرْطَ قِيَامُ الْمِلَّةِ عَلَى مَا مَرَّ .
قَالَ ( وَلَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَةُ الْمَجُوسِيِّ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ غَيْرَ نَاكِحِي نِسَائِهِمْ وَلَا آكِلِي ذَبَائِحِهِمْ } وَلِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي التَّوْحِيدَ فَانْعَدَمَتْ الْمِلَّةُ اعْتِقَادًا وَدَعْوَى .
قَالَ ( وَالْمُرْتَدِّ ) لِأَنَّهُ لَا مِلَّةَ لَهُ .
فَإِنَّهُ لَا يُقِرُّ عَلَى مَا انْتَقَلَ إلَيْهِ ، بِخِلَافِ الْكِتَابِيِّ إذَا تَحَوَّلَ إلَى غَيْرِ دِينِهِ لِأَنَّهُ يُقِرُّ عَلَيْهِ عِنْدَنَا فَيُعْتَبَرُ مَا هُوَ عَلَيْهِ عِنْدَ الذَّبْحِ لَا مَا قَبْلَهُ .
قَالَ ( وَالْوَثَنِيِّ ) لِأَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُ الْمِلَّةَ .
قَالَ ( وَالْمُحَرَّمُ ) يَعْنِي مِنْ الصَّيْدِ ( وَكَذَا لَا يُؤْكَلُ مَا ذُبِحَ فِي الْحَرَمِ مِنْ الصَّيْدِ ) وَالْإِطْلَاقُ فِي الْمُحَرَّمِ يَنْتَظِمُ الْحِلَّ وَالْحَرَمَ ، وَالذَّبْحُ فِي الْحَرَمِ يَسْتَوِي فِيهِ الْحَلَالُ وَالْمُحْرِمُ ، وَهَذَا لِأَنَّ الذَّكَاةَ فِعْلٌ مَشْرُوعٌ وَهَذَا الصَّنِيعُ مُحَرَّمٌ فَلَمْ تَكُنْ ذَكَاةً ، بِخِلَافِ مَا إذَا ذَبَحَ الْمُحْرِمُ غَيْرَ الصَّيْدِ أَوْ ذَبَحَ فِي الْحَرَمِ غَيْرَ الصَّيْدِ صَحَّ لِأَنَّهُ فِعْلٌ مَشْرُوعٌ ، إذْ الْحَرَمُ لَا يُؤَمِّنُ الشَّاةَ ، وَكَذَا لَا يَحْرُمُ ذَبْحُهُ عَلَى الْمُحْرِمُ .

( قَوْلُهُ وَذَبِيحَةُ الْمُسْلِمِ وَالْكِتَابِيِّ حَلَالٌ ) لِمَا تَلَوْنَا وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ } عَنَى بِقَوْلِهِ لِمَا تَلَوْنَا قَوْله تَعَالَى { إلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ } وَهُوَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وقَوْله تَعَالَى { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ } فِي حَقِّ الْكِتَابِيِّ مِنْ بَابِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ ، كَذَا ذَكَرَهُ تَاجُ الشَّرِيعَةِ ، وَهُوَ الْأَحْسَنُ عِنْدِي أَيْضًا فِي بَيَانِ مُرَادِ الْمُصَنِّفِ هُنَا .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَقَوْلُهُ لِمَا تَلَوْنَا إشَارَةٌ إلَى قَوْله تَعَالَى { إلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ } وَلَمَا اسْتَشْعَرَ أَنْ يُقَالَ { إلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ } عَامٌّ مَخْصُوصٌ لِخُرُوجِ الْوَثَنِيِّ وَالْمُرْتَدِّ وَالْمَجُوسِيِّ فَلَا يَكُونُ قَاطِعًا فِي الْإِفَادَةِ ، ضَمَّ إلَيْهِ قَوْلَهُ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ } إلَى هُنَا كَلَامُهُ أَقُولُ : فِيهِ بَحْثٌ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْخِطَابَ فِي قَوْله تَعَالَى { إلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ } عَامٌّ لِلْكُفَّارِ بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِالْمُؤْمِنِينَ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ وَالسِّيَاقُ فِي النَّظْمِ الشَّرِيفِ ، أَلَا يَرَى أَنَّ مَا قَبْلَهُ أَوَّلَ سُورَةِ الْمَائِدَةِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } وَلَا شَكَّ أَنَّ الْخِطَابَاتِ الْوَاقِعَةَ هُنَا لِلْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً ثُمَّ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِّلَ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ } وَقَالَ الْقَاضِي الْبَيْضَاوِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ : إنَّ قَوْله تَعَالَى { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ } إلَخْ بَيَانٌ لِمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ، فَلَا جَرَمَ وَيَكُونُ الْخِطَابُ فِي { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ } وَ { إلَّا

مَا ذَكَّيْتُمْ } لِلْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً أَيْضًا فَلَا يَكُونُ مِمَّا يَعُمُّ الْوَثَنِيَّ وَنَحْوَهُ ، وَلَئِنْ سُلِّمَ عُمُومُهُ لِلْوَثَنِيِّ وَنَحْوِهِ أَيْضًا فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْعَامِّ الَّذِي خَصَّ مِنْهُ الْبَعْضَ ، بَلْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْعَامِّ الَّذِي نُسِخَ بَعْضُهُ بِإِخْرَاجِ الْوَثَنِيِّ وَالْمَجُوسِيِّ وَالْمُرْتَدِّ مِنْ حُكْمِهِ ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ أَنَّ التَّخْصِيصَ عِنْدَنَا إنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى قَصْرِ الْعَامِّ عَلَى بَعْضِ مَا يَتَنَاوَلُهُ بِمَا هُوَ مُسْتَقِلٌّ مَوْصُولٌ بِالْعَامِّ ، وَأَنَّ قَصْرَهُ عَلَى بَعْضِ مَا يَتَنَاوَلُهُ بِمَا هُوَ مُسْتَقِلٌّ غَيْرُ مَوْصُولٍ بِهِ هُوَ النَّسْخُ لَا التَّخْصِيصَ ، وَأَنَّ الَّذِي لَا يَكُونُ قَطْعِيًّا إنَّمَا هُوَ الْعَامُّ الَّذِي خَصَّ مِنْهُ بَعْضَ مَا يَتَنَاوَلُهُ دُونَ الْعَامِّ الَّذِي نَسَخَ بَعْضَ مَا يَتَنَاوَلُهُ فَإِنَّهُ يَكُونُ قَطْعِيًّا فِي الْبَاقِي بِلَا رَيْبٍ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ قَبِيلِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الَّذِي يُخْرِجُ الْوَثَنِيَّ وَنَحْوَهُ غَيْرُ مَوْصُولٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { إلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ } فَكَانَ قَطْعِيًّا فِي الْإِفَادَةِ .
وَلَئِنْ سُلِّمَ كَوْنُهُ ظَنِّيًّا غَيْرَ قَاطِعٍ فِي الْإِفَادَةِ فَهُوَ كَافٍ فِي إفَادَةِ الْمَطْلُوبِ هُنَا بِلَا حَاجَةٍ إلَى ضَمِّ شَيْءٍ آخَرَ ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ أَيْضًا أَنَّ الدَّلِيلَ الظَّنِّيَّ يُفِيدُ وُجُوبَ الْعَمَلِ وَإِنْ لَمْ يُفِدْ وُجُوبَ الِاعْتِقَادِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الْعَمَلِيَّاتِ وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ مِثْلَ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي قَوْله تَعَالَى { إلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ } يُتَّجَهُ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ } بِأَنْ يُقَالَ أَيْضًا : إنَّهُ عَامٌّ مَخْصُوصٌ لِخُرُوجِ مَا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَيَقْتَضِي أَنْ يُضَمَّ إلَيْهِ أَيْضًا دَلِيلٌ آخَرُ .
وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّ الضَّمَّ الْمَذْكُورَ إنَّمَا يُفِيدُ فِي حَقِّ ذَبِيحَةِ الْكِتَابِيِّ دُونَ ذَبِيحَةِ الْمُسْلِمِ لِاخْتِصَاصِ

الدَّلِيلِ الْمَضْمُومِ بِالْكِتَابِيِّ فَيَلْزَمُ أَنْ يَبْقَى الدَّلِيلُ قَاصِرًا عَنْ إفَادَةِ حِلِّ ذَبِيحَةِ الْمُسْلِمِ عَلَى مَبْنَى زَعْمِ الشَّارِحِ الْمَزْبُورِ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ الدَّلِيلَ الثَّانِيَ إذَا أَفَادَ حِلَّ ذَبِيحَةِ الْكِتَابِيِّ أَفَادَ حِلَّ ذَبِيحَةِ الْمُسْلِمِ أَيْضًا دَلَالَةً .
ثُمَّ إنَّ الْمُرَادَ بِالطَّعَامِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } ذَبَائِحُهُمْ قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : طَعَامُهُمْ ذَبَائِحُهُمْ .
وَاسْتَدَلَّ صَاحِبُ الْكَافِي وَكَثِيرٌ مِنْ الشُّرَّاحِ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُحْمَلُ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالذِّكْرِ فَائِدَةٌ ، إذْ يَسْتَوِي الْكِتَابِيُّ وَغَيْرُهُ فِيمَا سِوَى الذَّبَائِحِ مِنْ الْأَطْعِمَةِ ، فَإِنَّ الْمَجُوسِيَّ إذَا اصْطَادَ سَمَكَةً حَلَّ أَكْلُهَا .
وَرَدَّ عَلَيْهِمْ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ نَقْلِ اسْتِدْلَالِهِمْ الْمَذْكُورِ : وَفِيهِ نَظَرٌ ، فَإِنَّ التَّخْصِيصَ بِاسْمِ الْعَلَمِ لَا يَدُلُّ عَلَى النَّفْيِ عَمَّا سِوَاهُ ا هـ أَقُولُ : لَيْسَ ذَاكَ بِشَيْءٍ ، إذْ لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ أَنَّهُ لَيْسَ مَدَارُ اسْتِدْلَالِهِمْ الْمَذْكُورِ عَلَى أَنَّ التَّخْصِيصَ بِاسْمِ الْعَلَمِ يَدُلُّ عَلَى النَّفْيِ عَمَّا سِوَاهُ ، بَلْ مُرَادُهُمْ كَمَا يُنَادِي عَلَيْهِ كَلَامُهُمْ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى ذَلِكَ لَخَلَا تَخْصِيصُ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالذِّكْرِ فِي كَلَامِ رَبِّ الْعِزَّةُ عَنْ الْفَائِدَةِ تَعَالَى عَنْهُ عُلُوًّا كَبِيرًا ، وَلَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهَذَا الْوَجْهِ مُتَمَشٍّ عَلَى أَصْلِ مَنْ لَا يَقُولُ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ أَيْضًا ، إذْ لَا يَرْضَى أَحَدٌ بِخُلُوِّ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ الْفَائِدَةِ ( قَوْلُهُ وَالْأَقْلَفُ وَالْمَخْتُونُ سَوَاءٌ لِمَا ذَكَرْنَا ) اخْتَلَفَ الشُّرَّاحُ فِي تَعْيِينِ مُرَادِ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ لِمَا ذَكَرْنَا ، فَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَغَايَةُ الْبَيَانِ أَرَادَ بِهِ الْآيَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ وَهُمَا قَوْله تَعَالَى { إلَّا مَا

ذَكَّيْتُمْ } وقَوْله تَعَالَى { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ } لِأَنَّ الْخِطَابَ عَامٌّ ، وَرَدَّهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ نَقْلِهِ : وَفِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّ عَادَتَهُ فِي مِثْلِهِ لِمَا تَلَوْنَا .
وَقَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ : أَرَادَ بِهِ قَوْلَهُ لِأَنَّ حِلَّ الذَّبِيحَةِ يَعْتَمِدُ الْمِلَّةَ .
وَرَدَّهُ أَيْضًا صَاحِبُ الْعِنَايَةِ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ نَقْلِهِ أَيْضًا : وَهَذَا لَيْسَ بِمَذْكُورٍ فِي الْكِتَابِ أَقُولُ : يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ مِنْ جَانِبِ تَاجَ الشَّرِيعَةِ إنَّ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَذْكُورًا فِي الْكِتَابِ صَرَاحَةً إلَّا أَنَّهُ مَذْكُورٌ فِيهِ ضِمْنًا حَيْثُ قَالَ فِيمَا مَرَّ : وَمِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ الذَّابِحُ صَاحِبَ مِلَّةِ التَّوْحِيدِ ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَالْأَوْلَى أَنْ يُجْعَلَ إشَارَةً إلَى الْآيَةِ وَإِلَى قَوْلِهِ وَلِأَنَّ بِهِ يَتَمَيَّزُ الدَّمُ النَّجِسُ مِنْ اللَّحْمِ الطَّاهِرِ وَعَادَتُهُ فِي مِثْلِهِ ذَلِكَ انْتَهَى أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّ قَوْلَهُ وَلِأَنَّ بِهِ يَتَمَيَّزُ الدَّمُ النَّجِسُ مِنْ اللَّحْمِ الطَّاهِرِ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الذَّكَاةِ شَرْطَ حِلِّ الذَّبِيحَةِ وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الذَّبْحِ مَنْ هُوَ كَيْفَ وَتَمَيُّزُ الدَّمِ النَّجِسُ مِنْ اللَّحْمِ الطَّاهِرِ يَحْصُلُ بِذَبْحِ الْوَثَنِيِّ وَالْمَجُوسِيِّ وَالْمُرْتَدِّ أَيْضًا مَعَ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلذَّبْحِ قَطْعًا ، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ لِمَا ذَكَرْنَا تَعْلِيلٌ لِاسْتِوَاءِ الْأَقْلَفِ وَالْمَخْتُونِ فِي الْأَهْلِيَّةِ لِلذَّبْحِ فَكَيْفَ يَصْلُحُ أَنْ يُجْعَلَ إشَارَةً إلَى مَا لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى ذَلِكَ أَصْلًا وَهُوَ قَوْلُهُ لِأَنَّ بِهِ يَتَمَيَّزُ الدَّمُ النَّجِسُ مِنْ اللَّحْمِ الطَّاهِرِ .
ثُمَّ أَقُولُ : هُنَا احْتِمَالٌ آخَرُ أَقْرَبُ مِمَّا ذَكَرُوا ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ لِمَا ذَكَرْنَا إشَارَةً إلَى قَوْلِهِ وَيَحِلُّ إذَا كَانَ يَعْقِلُ التَّسْمِيَةَ وَالذَّبِيحَةَ وَيَضْبِطُ وَإِنْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ امْرَأَةً ، فَإِنَّهُ قَدْ عُلِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَدَارَ حِلِّ الذَّبِيحَةِ

أَنْ يَكُونَ الذَّابِحُ مِمَّنْ يَعْقِلُ التَّسْمِيَةَ وَالذَّبِيحَةَ وَيَضْبِطُ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْأَقْلَفَ وَالْمَخْتُونَ لَا يَتَفَاوَتَانِ فِي ذَلِكَ فَكَانَا سَوَاءً فِي حُكْمِ حِلِّ ذَبِيحَتِهِمَا تَدَبَّرْ تَفْهَمْ

قَالَ ( وَإِنْ تَرَكَ الذَّابِحُ التَّسْمِيَةَ عَمْدًا فَالذَّبِيحَةُ مَيْتَةٌ لَا تُؤْكَلُ وَإِنْ تَرَكَهَا نَاسِيًا أُكِلَ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : أُكِلَ فِي الْوَجْهَيْنِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يُؤْكَلُ فِي الْوَجْهَيْنِ وَالْمُسْلِمُ وَالْكِتَابِيُّ فِي تَرْكُ التَّسْمِيَةُ سَوَاءٌ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عِنْدَ إرْسَالِ الْبَازِي وَالْكَلْبِ ، وَعِنْدَ الرَّمْيِ ، وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْ الشَّافِعِيِّ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَهُ فِي حُرْمَةِ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ نَاسِيًا .
فَمِنْ مَذْهَبِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ يَحْرُمُ ، وَمِنْ مَذْهَبِ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ يَحِلُّ ، بِخِلَافِ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا ، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَالْمَشَايِخُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ : إنَّ مَتْرُوكَ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا لَا يَسَعُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ ، وَلَوْ قَضَى الْقَاضِي بِجَوَازِ بَيْعِهِ لَا يَنْفُذُ لِكَوْنِهِ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ ، لَهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْمُسْلِمُ يَذْبَحُ عَلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى سَمَّى أَوْ لَمْ يُسَمِّ } وَلِأَنَّ التَّسْمِيَةَ لَوْ كَانَتْ شَرْطًا لِلْحِلِّ لَمَا سَقَطَتْ بِعُذْرِ النِّسْيَانِ كَالطَّاهِرَةِ فِي بَابِ الصَّلَاةِ ، وَلَوْ كَانَتْ شَرْطًا فَالْمِلَّةُ أُقِيمَتْ مَقَامَهَا كَمَا فِي النَّاسِي ، وَلَنَا الْكِتَابُ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } الْآيَةَ ، نَهْيٌ وَهُوَ لِلتَّحْرِيمِ .
وَالْإِجْمَاعُ وَهُوَ مَا بَيَّنَّا .
وَالسُّنَّةُ وَهُوَ حَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ فِي آخِرِهِ { فَإِنَّك إنَّمَا سَمَّيْت عَلَى كَلْبِك وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى كَلْبِ غَيْرِك } عَلَّلَ الْحُرْمَةَ بِتَرْكِ التَّسْمِيَةِ .
وَمَالِكٌ يَحْتَجُّ بِظَاهِرِ مَا ذَكَرْنَا ، إذْ لَا فَصْلَ فِيهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ : فِي اعْتِبَارِ ذَلِكَ مِنْ الْحَرَجِ مَا لَا يَخْفَى ،

لِأَنَّ الْإِنْسَانَ كَثِيرُ النِّسْيَانِ وَالْحَرَجُ مَدْفُوعٌ وَالسَّمْعُ غَيْرُ مُجْرًى عَلَى ظَاهِرِهِ ، إذْ لَوْ أُرِيدَ بِهِ لَجَرَتْ الْمُحَاجَّةُ وَظَهَرَ الِانْقِيَادُ وَارْتَفَعَ الْخِلَافُ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلُ .
وَالْإِقَامَةُ فِي حَقِّ النَّاسِي وَهُوَ مَعْذُورٌ لَا يَدُلُّ عَلَيْهَا فِي حَقِّ الْعَامِدِ وَلَا عُذْرَ ، وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ النِّسْيَانِ ثُمَّ التَّسْمِيَةُ فِي ذَكَاةِ الِاخْتِيَارِ تُشْتَرَطُ عِنْدَ الذَّبْحِ وَهِيَ عَلَى الْمَذْبُوحِ .
وَفِي الصَّيْدِ تُشْتَرَطُ عِنْدَ الْإِرْسَالِ وَالرَّمْيِ وَهِيَ عَلَى الْآلَةِ ، لِأَنَّ الْمَقْدُورَ لَهُ فِي الْأَوَّلِ الذَّبْحُ وَفِي الثَّانِي الرَّمْيُ وَالْإِرْسَالُ دُونَ الْإِصَابَةِ فَتُشْتَرَطُ عِنْدَ فِعْلٍ يَقْدِرُ عَلَيْهِ ، حَتَّى إذَا أَضْجَعَ شَاةً وَسَمَّى فَذَبَحَ غَيْرَهَا بِتِلْكَ التَّسْمِيَةِ لَا يَجُوزُ .
وَلَوْ رَمَى إلَى صَيْدٍ وَسَمَّى وَأَصَابَ غَيْرَهُ حَلَّ ، وَكَذَا فِي الْإِرْسَالِ ، وَلَوْ أَضْجَعَ شَاةً وَسَمَّى ثُمَّ رَمَى بِالشَّفْرَةِ وَذَبَحَ بِالْأُخْرَى أُكِلَ ، وَلَوْ سَمَّى عَلَى سَهْمٍ ثُمَّ رَمَى بِغَيْرِهِ صَيْدًا لَا يُؤْكَلُ .

( قَوْلُهُ وَإِنْ تَرَكَ الذَّابِحُ التَّسْمِيَةَ عَمْدًا فَالذَّبِيحَةُ مَيْتَةٌ لَا تُؤْكَلُ وَإِنْ تَرَكَهَا نَاسِيًا أُكِلَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُؤْكَلُ فِي الْوَجْهَيْنِ وَقَالَ مَالِكٌ : لَا تُؤْكَلُ فِي الْوَجْهَيْنِ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَحَلِّ إنْ تَرَكَ الذَّابِحُ التَّسْمِيَةَ عِنْدَ الذَّبْحِ اخْتِيَارِيًّا كَانَ أَوْ اضْطِرَارِيًّا عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا قَالَ الشَّافِعِيُّ بِشُمُولِ الْجَوَازِ ، وَمَالِكٌ بِشُمُولِ الْعَدَمِ وَعُلَمَاؤُنَا فَصَّلُوا ، إنْ تَرَكَهَا عَامِدًا فَالذَّبِيحَةُ مَيْتَةٌ لَا تُؤْكَلُ وَإِنْ تَرَكَهَا نَاسِيًا أُكِلَ انْتَهَى .
أَقُولُ : كَأَنَّهُ حَسِبَ أَنَّهُ أَتَى فِي شَرْحِ هَذَا الْمَحَلِّ بِكَلَامٍ مُجْمَلٍ جَامِعٍ لِأَقْسَامِ الْمَسْأَلَةِ كُلِّهَا لَكِنَّهُ أَخَلَّ بِحَقِّ الْمَقَامِ فِي تَحْرِيرِهِ هَذَا أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ عِنْدَ الذَّبْحِ يُنَافِي تَعْمِيمَ الذَّبْحِ لِلِاخْتِيَارِيِّ وَالِاضْطِرَارِيِّ كَمَا يَقْتَضِيه قَوْلُهُ اخْتِيَارِيًّا كَانَ أَوْ اضْطِرَارِيًّا لِأَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّ كَوْنَ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الذَّبْحِ إنَّمَا تُشْتَرَطُ فِي الذَّكَاةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ ، وَأَمَّا فِي الِاضْطِرَارِيَّةِ فَيُشْتَرَطُ كَوْنُ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الْإِرْسَالِ وَالرَّمْيِ لَا غَيْرُ ، وَسَيَجِيءُ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ أَيْضًا .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ وَالشَّارِحُ الْمَزْبُورِ أَيْضًا فِيمَا بَعْدُ : وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إذَا تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عِنْدَ إرْسَالِ الْبَازِي وَالْكَلْبِ وَعِنْدَ الرَّمْيِ يُنَافِي تَعْمِيمَ الذَّبْحِ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ لِلِاخْتِيَارِيِّ وَالِاضْطِرَارِيِّ ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ الْقِيَاسَ الْمُسْتَفَادَ مِنْ قَوْلِهِ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إذَا تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عِنْدَ إرْسَالِ الْبَازِي إلَى آخِرِهِ يَقْتَضِي عَدَمَ دُخُولِ الْمَقِيسِ فِي جَانِبِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ ( قَوْلُهُ لَهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْمُسْلِمُ يَذْبَحُ عَلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى سَمَّى أَوْ لَمْ يُسَمِّ } ) أَقُولُ : فِيهِ أَنَّ دَلِيلَهُ هَذَا قَاصِرٌ عَنْ إفَادَةِ تَمَامِ مُدَّعَاهُ

لِأَنَّ الْمُسْلِمَ وَالْكِتَابِيَّ فِي تَرْكِ التَّسْمِيَةِ سَوَاءٌ كَمَا مَرَّ آنِفًا ، وَهَذَا الْحَدِيثُ إنَّمَا يَنْتَهِضُ حُجَّةً فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَحْدَهُ ( قَوْلُهُ وَلَنَا الْكِتَابُ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } نَهْيٌ وَهُوَ لِلتَّحْرِيمِ ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ : وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ السَّلَفَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الذِّكْرُ حَالَ الذَّبْحِ لَا غَيْرُ ، وَصِلَةُ عَلَى تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ ، يُقَالُ ذَكَرَ عَلَيْهِ إذَا ذَكَرَ بِاللِّسَانِ ، وَذَكَرَهُ إذَا ذَكَرَ .
بِالْقَلْبِ وَقَوْلُهُ { وَلَا تَأْكُلُوا } عَامٌّ مُؤَكَّدٌ بِمَنْ الِاسْتِغْرَاقِيَّة الَّتِي تُفِيدُ التَّأْكِيدَ ، وَتَأْكِيدُ الْعَامِّ بِنَفْيِ احْتِمَالِ الْخُصُوصِ فَهُوَ غَيْرُ مُحْتَمِلٍ لِلتَّخْصِيصِ فَيَعُمُّ كُلَّ مَا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ حَالَ الذَّبْحِ عَامِدًا كَانَ أَوْ نَاسِيًا ، إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ النَّاسِيَ ذَاكِرًا لِعُذْرٍ كَانَ مِنْ جِهَتِهِ وَهُوَ النِّسْيَانُ فَإِنَّهُ مِنْ الشَّرْعِ بِإِقَامَةِ الْمِلَّةِ مَقَامَ الذِّكْرِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ كَمَا أَقَامَ الْأَكْلَ نَاسِيًا مَقَامَ الْإِمْسَاكِ فِي الصَّوْمِ لِذَلِكَ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ كَلَامٌ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ مُقْتَضَى قَوْلِهِ أَنَّ السَّلَفَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الذِّكْرُ حَالَ الذَّبْحِ لَا غَيْرُ أَنْ يَكُونَ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } دَالًّا عَلَى أَنْ لَا يُؤْكَلَ الْمَذْبُوحُ بِالذَّبْحِ الِاضْطِرَارِيِّ أَصْلًا ، لِأَنَّ ذِكْرَ اسْمِ اللَّهِ عَلَيْهِ إنَّمَا يَكُونُ حَالَ الْإِرْسَالِ وَالرَّمْيِ لَا حَالَ الذَّبْحِ كَمَا نَصُّوا عَلَيْهِ ، فَكَانَ مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ حَالَ الذَّبْحِ فَلَزِمَ أَنْ يَدْخُلَ تَحْتَ النَّهْيِ عَنْ الْأَكْلِ فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ ، مَعَ أَنَّ حِلَّ أَكْلِ الْمَذْبُوحِ بِالذَّبْحِ الِاضْطِرَارِيِّ إذَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ حَالَ الْإِرْسَالِ وَالرَّمْيِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بِلَا رَيْبٍ .
وَأَمَّا

ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ النَّاسِيَ ذَاكِرًا لِعُذْرٍ كَانَ مِنْ جِهَتِهِ وَهُوَ النِّسْيَانُ يُنَافِي قَوْلَهُ فِيمَا قَبْلُ فَهُوَ غَيْرُ مُحْتَمِلٍ لِلتَّخْصِيصِ فَيَعُمُّ كُلَّ مَا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ حَالَ الذَّبْحِ عَامِدًا كَانَ أَوْ نَاسِيًا ، لِأَنَّ جَعْلَ الشَّرْعِ النَّاسِي ، ذَاكِرًا لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ تَخْصِيصِ النَّاسِي مِنْ عُمُومِ قَوْله تَعَالَى { مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } لَمَّا كَانَ عَامِدًا وَنَاسِيًا وَتَخْصِيصُ الشَّيْءِ مِمَّا هُوَ غَيْرُ مُحْتَمِلٍ لِلتَّخْصِيصِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ أَيْضًا فَتَحَقَّقَ التَّنَافِي بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ تَأَمَّلْ تَقِفْ ( قَوْلُهُ وَمَالِكٌ يَحْتَجُّ بِظَاهِرِ مَا ذَكَرْنَا إذْ لَا فَصْلَ فِيهِ ) قَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ : أَيْ لَا فَصْلَ فِي ظَاهِرِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْآيَةِ ، لِأَنَّ قَوْلَهُ { مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهُ عَلَيْهِ } يَشْمَلُ الْعَمْدَ وَالنِّسْيَانَ جَمِيعًا لِعَدَمِ الْقَيْدِ بِأَحَدِهِمَا انْتَهَى .
وَقَالَ فِي الْعِنَايَةِ : اسْتَدَلَّ مَالِكٌ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } فَإِنَّ فِيهِ .
النَّهْيَ بِأَبْلَغِ وَجْهٍ وَهُوَ تَأْكِيدُهُ بِمِنْ الِاسْتِغْرَاقِيَّة عَنْ أَكْلِ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ ، وَهُوَ بِإِطْلَاقِهِ يَقْتَضِي الْحُرْمَةَ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ انْتَهَى .
أَقُولُ : الظَّاهِرُ مِمَّا ذَكَر فِي هَذَيْنِ الشَّرْحَيْنِ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ مَا ذَكَرْنَا فِي قَوْلِهِ ، وَمَالِكٌ يَحْتَجُّ بِظَاهِرِ مَا ذَكَرْنَا هُوَ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } فَيُرَدُّ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ : إنَّ عَادَتَهُ فِي مِثْلِهِ أَنْ يَقُولَ مَا تَلَوْنَا فَمَا مَعْنَى الْمُخَالَفَةِ لَهَا هُنَا ، وَقَدْ مَرَّ نَظِيرُ هَذَا مِنْ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ فِي الصَّفْحَةِ الْأُولَى ، فَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِقَوْلِهِ مَا ذَكَرْنَا فِي قَوْلِهِ وَمَالِكٌ يَحْتَجُّ بِظَاهِرِ مَا ذَكَرْنَا مَجْمُوعَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَا الْكِتَابَ وَحْدَهُ

فَلَا يَلْزَمُهُ تَرْكُ عَادَتُهُ ، لِأَنَّ عَادَتَهُ أَنْ يَقُولَ لِمَا تَلَوْنَا فِيمَا إذَا أَرَادَ الْكِتَابَ وَحْدَهُ ، وَأَنْ يَقُولَ لِمَا رَوَيْنَا فِيمَا إذَا أَرَادَ السُّنَّةَ وَحْدَهَا ، فَلَمَّا أَرَادَ مَجْمُوعَهُمَا هَاهُنَا أَتَى بِكَلِمَةٍ جَامِعَةٍ فَقَالَ : وَمَالِكٌ يَحْتَجُّ بِظَاهِرِ مَا ذَكَرْنَا : يَعْنِي قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهُ عَلَيْهِ } فَحَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ إذْ لَا فَصْلَ فِي ظَاهِرِ كُلٍّ مِنْهُمَا كَمَا تَرَى .

قَالَ ( وَيُكْرَهُ أَنْ يَذْكُرَ مَعَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى شَيْئًا غَيْرَهُ .
وَأَنْ يَقُولَ عِنْدَ الذَّبْحِ : اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ فُلَانٍ ) وَهَذِهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ : إحْدَاهَا أَنْ يَذْكُرَ مَوْصُولًا لَا مَعْطُوفًا فَيُكْرَهُ وَلَا تَحْرُمُ الذَّبِيحَةُ .
وَهُوَ الْمُرَادُ بِمَا قَالَ .
وَنَظِيرُهُ أَنْ يَقُولَ : بِاسْمِ اللَّهِ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ .
لِأَنَّ الشَّرِكَةَ لَمْ تُوجَدْ فَلَمْ يَكُنْ الذَّبْحُ وَاقِعًا لَهُ .
إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ لِوُجُودِ الْقُرْآنِ صُورَةً فَيُتَصَوَّرُ بِصُورَةِ الْمُحَرَّمِ .
وَالثَّانِيَةُ أَنْ يَذْكُرَ مَوْصُولًا عَلَى وَجْهِ الْعَطْفِ وَالشَّرِكَةِ بِأَنْ يَقُولَ : بِاسْمِ اللَّهِ وَاسْمِ فُلَانٍ ، أَوْ يَقُولَ : بِاسْمِ اللَّهِ وَفُلَانٍ .
أَوْ بِاسْمِ اللَّهِ وَمُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ بِكَسْرِ الدَّالِ فَتَحْرُمُ الذَّبِيحَةُ لِأَنَّهُ أَهَلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ .
وَالثَّالِثَةُ أَنْ يَقُولَ مَفْصُولًا عَنْهُ صُورَةً وَمَعْنًى بِأَنْ يَقُولَ قَبْلَ التَّسْمِيَةِ وَقَبْلَ أَنْ يُضْجِعَ الذَّبِيحَةَ أَوْ بَعْدَهُ ، وَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ { النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ الذَّبْحِ اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ هَذِهِ عَنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ مِمَّنْ شَهِدَ لَك بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَلِي بِالْبَلَاغِ } وَالشَّرْطُ هُوَ الذِّكْرُ الْخَالِصُ الْمُجَرَّدُ عَلَى مَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَرِّدُوا التَّسْمِيَةَ حَتَّى لَوْ قَالَ عِنْدَ الذَّبْحِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي لَا يَحِلُّ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ وَسُؤَالٌ ، وَلَوْ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ أَوْ سُبْحَانَ اللَّهِ يُرِيدُ التَّسْمِيَةَ حَلَّ ، وَلَوْ عَطَسَ عِنْدَ الذَّبْحِ فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ لَا يَحِلُّ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ .
لِأَنَّهُ يُرِيدُ بِهِ الْحَمْدَ عَلَى نِعَمِهِ دُونَ التَّسْمِيَةِ .
وَمَا تَدَاوَلَتْهُ الْأَلْسُنُ عِنْدَ الذَّبْحِ وَهُوَ قَوْلُهُ بِاسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ مَنْقُولٌ عَنْ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْله تَعَالَى { فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ }

قَالَ ( وَالذَّبْحُ بَيْنَ الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ ) وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : لَا بَأْسَ بِالذَّبْحِ فِي الْحَلْقِ كُلِّهِ وَسَطِهِ وَأَعْلَاهُ وَأَسْفَلِهِ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الذَّكَاةُ مَا بَيْنَ اللَّبَّةِ وَاللَّحْيَيْنِ } ، وَلِأَنَّهُ مَجْمَعُ الْمَجْرَى وَالْعُرُوقِ فَيَحْصُلُ بِالْفِعْلِ فِيهِ إنْهَارُ الدَّمِ عَلَى أَبْلَغِ الْوُجُوهِ فَكَانَ حُكْمُ الْكُلِّ سَوَاءً .
قَالَ ( وَالْعُرُوقُ الَّتِي تُقْطَعُ فِي الذَّكَاةِ أَرْبَعَةٌ : الْحُلْقُومُ ، وَالْمَرِيءُ ، وَالْوَدَجَانِ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَفْرِ الْأَوْدَاجَ بِمَا شِئْت } .
وَهِيَ اسْمُ جَمْعٍ وَأَقَلُّهُ الثَّلَاثُ فَيَتَنَاوَلُ الْمَرِيءَ وَالْوَدَجَيْنِ ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي الِاكْتِفَاءِ بِالْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ قَطْعُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ إلَّا بِقَطْعِ الْحُلْقُومِ فَيَثْبُتُ قَطْعُ الْحُلْقُومِ بِاقْتِضَائِهِ ، وَبِظَاهِرِ مَا ذَكَرْنَا يَحْتَجُّ مَالِكٌ وَلَا يُجَوِّزُ الْأَكْثَرَ مِنْهَا بَلْ يَشْتَرِطُ قَطْعَ جَمِيعِهَا ( وَعِنْدَنَا إنْ قَطَعَهَا حَلَّ الْأَكْلُ ، وَإِنْ قَطَعَ أَكْثَرَهَا فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) وَقَالَا : لَا بُدَّ مِنْ قَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ وَأَحَدِ الْوَدَجَيْنِ .
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : هَكَذَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ الِاخْتِلَافَ فِي مُخْتَصَرِهِ .
وَالْمَشْهُورُ فِي كُتُبِ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ هَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَحْدَهُ .
وَقَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : إنْ قَطَعَ نِصْفَ الْحُلْقُومِ وَنِصْفَ الْأَوْدَاجِ لَمْ يُؤْكَلْ .
وَإِنْ قَطَعَ أَكْثَرَ الْأَوْدَاجِ وَالْحُلْقُومَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ أُكِلَ .
وَلَمْ يَحْكِ خِلَافًا فَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِيهِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا قَطَعَ الثَّلَاثَ : أَيَّ ثَلَاثٍ كَانَ يَحِلُّ ، وَبِهِ كَانَ يَقُولُ أَبُو يُوسُفَ أَوَّلًا ثُمَّ رَجَعَ إلَى مَا ذَكَرْنَا .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَعْتَبِرُ أَكْثَرَ كُلِّ فَرْدٍ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، لِأَنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِنْهَا أَصْلٌ

بِنَفْسِهِ لِانْفِصَالِهِ عَنْ غَيْرِهِ وَلِوُرُودِ الْأَمْرِ بِفَرْيِهِ فَيُعْتَبَرُ أَكْثَرُ كُلِّ فَرْدٍ مِنْهَا .
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ قَطْعِ الْوَدَجَيْنِ إنْهَارُ الدَّمِ فَيَنُوبُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ ، إذْ كُلُّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مَجْرَى الدَّمِ .
أَمَّا الْحُلْقُومُ فَيُخَالِفُ الْمَرِيءَ فَإِنَّهُ مَجْرَى الْعَلَفِ وَالْمَاءِ ، وَالْمَرِيءُ مَجْرَى النَّفَسِ فَلَا بُدَّ مِنْ قَطْعِهِمَا .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَكْثَرَ يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ ، وَأَيَّ ثَلَاثٍ قَطَعَهَا فَقَدْ قَطَعَ الْأَكْثَرَ مِنْهَا وَمَا هُوَ الْمَقْصُودُ يَحْصُلُ بِهَا هُوَ إنْهَارُ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ وَالتَّوْحِيَةُ فِي إخْرَاجِ الرُّوحِ ، لِأَنَّهُ لَا يَحْيَا بَعْدَ قَطْعِ مَجْرَى النَّفَسِ أَوْ الطَّعَامِ ، وَيَخْرُجُ الدَّمُ بِقَطْعِ أَحَدِ الْوَدَجَيْنِ فَيُكْتَفَى بِهِ تَحَرُّزًا عَنْ زِيَادَةِ التَّعْذِيبِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَطَعَ النِّصْفَ لِأَنَّ الْأَكْثَرَ بَاقٍ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَقْطَعْ شَيْئًا احْتِيَاطًا لِجَانِبِ الْحُرْمَةِ .

( كَيْفِيَّته ) ( قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَفْرِ الْأَوْدَاجَ بِمَا شِئْت } ) قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ : الْفَرْيُ : الْقَطْعُ لِلْإِصْلَاحِ وَالْإِفْرَاءُ : الْقَطْعُ لِلْإِفْسَادِ ، فَيَكُونُ كَسْرُ الْهَمْزَةِ هُنَا أَلْيَقَ انْتَهَى وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ وَالْعِنَايَةِ غَيْرَ أَنَّ صَاحِبَ الْكِفَايَةِ أَتَى بِعَيْنِ لَفْظِهِ .
وَأَمَّا صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فَذَكَرَ لَفْظَ أَنْسَبَ بَدَلَ لَفْظِ أَلْيَقَ وَقَالَ وَلِهَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ بَعْدَ هَذَا الْوُرُودِ الْأَمْرُ بِفَرْيِهِ أَقُولُ : فِيمَا ذَكَرَهُ هَؤُلَاءِ الشُّرَّاحُ نَظَرٌ ، لِأَنَّ صَاحِبَ الْقَامُوسِ عَمَّمَ الْفَرْيَ وَالْإِفْرَاءَ لِلْإِصْلَاحِ وَالْإِفْسَادِ بِلَا فَرْقٍ بَيْنَهُمَا حَيْثُ قَالَ : فَرَاهُ يَفْرِيه : شَقَّهُ فَاسِدًا أَوْ صَالِحًا كَفَرَاهُ وَأَفْرَاهُ انْتَهَى .
فَعَلَى هَذَا لَا يَتِمُّ مَا ذَكَرُوهُ أَصْلًا .
وَأَمَّا صَاحِبُ الْمُغْرِبِ فَقَدْ ذَكَرَ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا ، إلَّا أَنَّهُ جَعَلَ الذَّبْحَ مِنْ قَبِيلِ الْإِفْرَاءِ دُونَ الْفَرْيِ حَيْثُ قَالَ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ : وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْإِفْرَاءِ وَالْفَرْيِ أَنَّهُ قَطْعٌ لِلْإِفْسَادِ وَشَقٌّ كَمَا يَفْرِي الذَّابِحُ السَّبُعَ ، وَالْفَرْيُ قَطْعٌ لِلْإِصْلَاحِ كَمَا يَفْرِي الْخَرَّازُ الْأَدِيمَ انْتَهَى .
فَعَلَى هَذَا لَا يَتِمُّ قَوْلُهُمْ فَيَكُونُ كَسْرُ الْهَمْزَةِ هُنَا أَلْيَقَ ، إذَا لَا شَكَّ أَنَّ الذَّبْحَ إذَا كَانَ مِنْ قَبِيلِ الْإِفْرَاءِ دُونَ الْفَرْيِ كَانَ فَتْحُ الْهَمْزَةِ هُنَا هُوَ الْأَلْيَقَ وَالْأَنْسَبَ ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْمُغْرِبِ قَالَ : وَقَدْ جَاءَ فَرَى بِمَعْنَى أَفْرَى أَيْضًا ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُسْمَعْ بِهِ فِي الْحَدِيثِ انْتَهَى .
فَعَلَى هَذَا لَا مَجَالَ لِكَسْرِ الْهَمْزَةِ فِي الْحَدِيثِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مَسْمُوعٍ فِيهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ أَلْيَقَ وَأَنْسَبَ .
وَأَمَّا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِيمَا بَعْدُ فِي أَثْنَاءِ تَعْلِيلِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ : وَلِوُرُودِ الْأَمْرِ بِفَرْيِهِ فَلَعَلَّهُ جَرَى مِنْهُ عَلَى اسْتِعْمَالِ فَرَى بِمَعْنَى أَفْرَى أَيْضًا كَمَا ذَكَرَ فِي الْمُغْرِبِ ، وَلَا يُنَافِيه

عَدَمُ السَّمَاعِ بِهِ فِي الْحَدِيثِ لِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ فِيمَا بَعْدُ لَفْظُ نَفْسِهِ لَا لَفْظُ الْحَدِيثِ .
أَوْ اخْتِيَارٌ مِنْهُ لِعَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَرْيِ وَالْإِفْرَاءِ مُطْلَقًا كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْقَامُوسِ ، فَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُفْهَمَ هَذَا الْمَقَامُ ( قَوْلُهُ وَهِيَ اسْمُ جَمْعٍ وَأَقَلُّهُ الثَّلَاثُ فَيَتَنَاوَلُ الْمَرِيءَ وَالْوَدَجَيْنِ وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي الِاكْتِفَاءِ بِالْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ : احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّهُ جَمْعُ الْأَوْدَاجِ وَمَا ثَمَّةَ إلَّا الْوَدَجَانِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا مَا يَحْصُلُ بِهِ زُهُوقُ الرُّوحِ وَهُوَ بِقَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ لِأَنَّ الْحَيَوَانَ لَا يَعِيشُ بَعْدَ قَطْعِهِمَا أَقُولُ : يَرُدُّ عَلَى هَذَا الِاحْتِجَاجِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ بِهِ مُجَرَّدَ مَا يَحْصُلُ بِهِ زُهُوقُ الرُّوحِ لَكَفَى قَطْعُ وَاحِدٍ مِنْ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ ، إذْ الْحَيَوَانُ لَا يَعِيشُ بَعْدَ قَطْعِ أَحَدِهِمَا أَيْضًا كَمَا لَا يَخْفَى .
وَقَدْ أَفْصَحَ عَنْهُ الْمُصَنِّفُ فِي تَقْرِيرِ دَلِيلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا بَعْدُ حَيْثُ قَالَ : لِأَنَّهُ لَا يَحْيَا بَعْدَ قَطْعِ مَجْرَى النَّفْسِ أَوْ الطَّعَامِ ، وَمَعَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يَقُلْ بِكِفَايَةِ قَطْعِ أَحَدِهِمَا بَلْ شَرَطَ قَطْعَهُمَا مَعًا ، وَقَالَ فِي الْعِنَايَةِ بَعْدَ ذِكْرِ الِاحْتِجَاجِ الْمَزْبُورِ : وَهُوَ ضَعِيفٌ لَفْظًا وَمَعْنًى ، أَمَّا اللَّفْظُ فَلِأَنَّ الْأَوْدَاجَ لَا دَلَالَةَ لَهَا عَلَى الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ أَصْلًا ، وَأَمَّا مَعْنًى فَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ إسَالَةُ الدَّمِ النَّجِسِ ، وَهُوَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِقَطْعِ مَجْرَاهُ انْتَهَى .
أَقُولُ : مَا ذَكَرَهُ فِي وَجْهِ ضَعْفِهِ لَفْظًا لَيْسَ بِسَدِيدٍ ، إذْ قَدْ ذَكَرَ فِي الِاحْتِجَاجِ الْمَزْبُورِ وَجْهَ دَلَالَةِ الْأَوْدَاجِ عَلَى الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ بِأَنَّهُ جَمْعُ الْأَوْدَاجِ ، وَمَا ثَمَّةَ إلَّا الْوَدَجَانِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا مَا يَحْصُلُ بِهِ زُهُوقُ الرُّوحِ وَهُوَ بِقَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ فَلَا مَعْنَى بَعْدَ ذَلِكَ

لِمُجَرَّدِ نَفْيِ دَلَالَتِهِمَا عَلَيْهِمَا بَلْ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ مَحْذُورٍ كَمَا لَا يَخْفَى ( قَوْلُهُ إلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ قَطْعُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ إلَّا بِقَطْعِ الْحُلْقُومِ فَيَثْبُتُ قَطْعُ الْحُلْقُومِ بِاقْتِضَائِهِ ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : فِيهِ بَحْثٌ ، لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ الَّذِي سَيَذْكُرُهُ فِي تَعْلِيلِ أَبِي حَنِيفَةَ حَمْلُ الْأَوْدَاجِ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ حَيْثُ بَنَى تَعْلِيلَهُ عَلَى قِيَامِ الْأَكْثَرِ مَقَامَ الْكُلِّ فَحِينَئِذٍ يَثْبُتُ قَطْعُ الْحُلْقُومِ بِتَنَاوُلِ اللَّفْظِ لَا بِاقْتِضَائِهِ انْتَهَى .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ ، لِأَنَّ مَا سَيَجِيءُ مِنْ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ فِي تَعْلِيلِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِنْ اقْتَضَى حَمْلَ الْأَوْدَاجِ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الِاسْتِغْرَاقُ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ كَدَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَيْهِ عِبَارَةً ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَتَحَقَّقَ الِاسْتِغْرَاقُ بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى قَطْعِ الثَّلَاثَةِ عِبَارَةً ، وَعَلَى قَطْعِ الرَّابِعِ أَيْضًا اقْتِضَاءً كَمَا ذَكَرَهُ هَاهُنَا ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّهُ يَحْصُلُ مِنْ الْمَجْمُوعِ اسْتِغْرَاقُ الْعُرُوقِ الْأَرْبَعَةِ كُلِّهَا .
وَإِنْ كَانَ مِنْ جِهَتَيْ الدَّلَالَةِ : أَعْنِي الْعِبَارَةَ وَالِاقْتِضَاءَ فَلَا تَدَافُعَ بَيْنَ كَلَامَيْ الْمُصَنِّفِ كَمَا تَوَهَّمَ ( قَوْلُهُ وَيَخْرُجُ الدَّمُ بِقَطْعِ أَحَدِ الْوَدَجَيْنِ فَيُكْتَفَى بِهِ تَحَرُّزًا عَنْ زِيَادَةِ التَّعْذِيبِ ) أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : لَوْ كَانَ فِي قَطْعِ الْوَدَجَيْنِ مَعًا زِيَادَةُ التَّعْذِيبِ وَكَانَ فِي الِاكْتِفَاءِ بِقَطْعِ أَحَدِهِمَا تَحَرُّزٌ عَنْهَا لَمَا كَانَ قَطْعُ الْعُرُوقِ الْأَرْبَعَةِ جَمِيعًا فِي الذَّكَاةِ أَوْلَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الِاكْتِفَاءُ بِقَطْعِ أَحَدِ الْوَدَجَيْنِ أَوْلَى فَإِنَّ تَعْذِيبَ الْحَيَوَانِ بِلَا فَائِدَةٍ مِمَّا يَجِبُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ قَوَاعِدِ الْفِقْهِ ، مَعَ أَنَّهُ صَرَّحَ فِي الشُّرُوحِ وَغَيْرِهَا بِأَنَّ قَطْعَ الْجَمِيعِ أَوْلَى

عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا فَتَأَمَّلْ .
قَالَ فِي الْعِنَايَةِ : لَا يُقَالُ الْأَوْدَاجُ جَمْعٌ دَخَلَ عَلَيْهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ ، وَلَيْسَ ثَمَّةَ مَعْهُودٌ فَيَنْصَرِفُ إلَى الْوَاحِدَةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { لَا يَحِلُّ لَك النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ } لِأَنَّ مَا تَحْتَهُ لَيْسَ أَفْرَادَهُ حَقِيقَةً ، وَالِانْصِرَافُ إلَى الْجِنْسِ فِيمَا يَكُونُ كَذَلِكَ انْتَهَى .
وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ حَيْثُ قَالَ : فِيهِ بَحْثٌ ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى الْجِنْسِ إذَا تَعَذَّرَ حَمْلُهُ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ وَهَاهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ انْتَهَى .
أَقُولُ : لَيْسَ لِهَذَا الْإِيرَادِ مِسَاسٌ بِالْكَلَامِ الْمَذْكُورِ فِي الْعِنَايَةِ ، إذْ لَمْ يَقُلْ فِيهَا إنَّ الْجَمْعَ حُمِلَ هَاهُنَا عَلَى الْجِنْسِ حَتَّى يُمْكِنَ أَنْ يُورِدَ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُعَرَّفَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ إنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى الْجِنْسِ عِنْدَ أَرْبَابُ عِلْمِ الْأُصُولِ إذَا تَعَذَّرَ حَمْلُهُ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ ، وَهَاهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ ، بَلْ قَالَ فِيهَا : إنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ أَفْرَادَهُ حَقِيقَةً ، لِأَنَّ إطْلَاقَهُ عَلَى غَيْرِ الْوَدَجَيْنِ بِطَرِيقِ التَّغْلِيبِ وَالِانْصِرَاف إلَى الْجِنْسِ فِيمَا يَكُونُ كَذَلِكَ : أَيْ فِيمَا يَكُونُ مَا تَحْتَهُ مِنْ أَفْرَادِهِ حَقِيقَةً فَصَارَ حَاصِلُهُ نَفْيَ جَوَازِ الْحَمْلِ عَلَى الْجِنْسِ هَاهُنَا فَلَا يُتَّجَهُ عَلَيْهِ الْإِيرَادُ الْمَذْكُورُ أَصْلًا .

قَالَ ( وَيَجُوزُ الذَّبْحُ بِالظُّفْرِ وَالسِّنِّ وَالْقَرْنِ إذَا كَانَ مَنْزُوعًا حَتَّى لَا يَكُونَ بِأَكْلِهِ بَأْسٌ ، إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ هَذَا الذَّبْحُ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : الْمَذْبُوحُ مَيْتَةٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { كُلُّ مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَأَفْرَى الْأَوْدَاجَ مَا خَلَا الظُّفْرِ وَالسِّنِّ فَإِنَّهُمَا مُدَى الْحَبَشَةِ } وَلِأَنَّهُ فِعْلٌ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فَلَا يَكُونُ ذَكَاةً كَمَا إذَا ذُبِحَ بِغَيْرِ الْمَنْزُوعِ ، وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَنْهِرْ الدَّمَ بِمَا شِئْت } وَيُرْوَى { أَفْرِ الْأَوْدَاجَ بِمَا شِئْت } وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ الْمَنْزُوعِ فَإِنَّ الْحَبَشَةَ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ ، وَلِأَنَّهُ آلَةٌ جَارِحَةٌ فَيَحْصُلُ بِهِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ إخْرَاجُ الدَّمِ وَصَارَ كَالْحَجَرِ وَالْحَدِيدِ ، بِخِلَافِ غَيْرِ الْمَنْزُوعِ لِأَنَّهُ يُقْتَلُ بِالثِّقْلِ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى الْمُنْخَنِقَةِ ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ لِأَنَّ فِيهِ اسْتِعْمَالَ جُزْءِ الْآدَمِيِّ وَلِأَنَّ فِيهِ إعْسَارًا عَلَى الْحَيَوَانِ وَقَدْ أُمِرْنَا فِيهِ بِالْإِحْسَانِ .
قَالَ ( وَيَجُوزُ الذَّبْحُ بِاللِّيطَةِ وَالْمَرْوَةِ وَكُلِّ شَيْءٍ أَنْهَرَ الدَّمَ إلَّا السِّنَّ الْقَائِمَ وَالظُّفْرَ الْقَائِمَ ) فَإِنَّ الْمَذْبُوحَ بِهِمَا مَيْتَةٌ لِمَا بَيَّنَّا ، وَنَصَّ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَلَى أَنَّهَا مَيْتَةٌ لِأَنَّهُ وَجَدَ فِيهِ نَصًّا .
وَمَا لَمْ يَجِدْ فِيهِ نَصًّا يَحْتَاطُ فِي ذَلِكَ ، فَيَقُولُ فِي الْحِلِّ لَا بَأْسَ بِهِ وَفِي الْحُرْمَةِ يَقُولُ يُكْرَهُ أَوْ لَمْ يُؤْكَلْ .
قَالَ ( وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُحِدَّ الذَّابِحُ شَفْرَتَهُ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَةَ ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ } وَيُكْرَهُ أَنْ يُضْجِعَهَا ثُمَّ يُحِدَّ الشَّفْرَةَ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا أَضْجَعَ شَاةً

وَهُوَ يُحِدُّ شَفْرَتَهُ فَقَالَ : لَقَدْ أَرَدْت أَنْ تُمِيتَهَا مَوْتَاتٍ ، هَلَّا حَدَدْتهَا قَبْلَ أَنْ تُضْجِعَهَا } قَالَ ( وَمَنْ بَلَغَ بِالسِّكِّينِ النُّخَاعَ أَوْ قَطَعَ الرَّأْسَ كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ وَتُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ : قَطَعَ مَكَانَ بَلَغَ .
وَالنُّخَاعُ عِرْقٌ أَبْيَضُ فِي عَظْمِ الرَّقَبَةِ ، أَمَّا الْكَرَاهَةُ فَلِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَنَّهُ نَهَى أَنْ تُنْخَعَ الشَّاةُ إذَا ذُبِحَتْ } وَتَفْسِيرُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ : أَنْ يَمُدَّ رَأْسَهُ حَتَّى يَظْهَرَ مَذْبَحُهُ ، وَقِيلَ أَنْ يَكْسِرَ عُنُقَهُ قَبْلَ أَنْ يَسْكُنَ مِنْ الِاضْطِرَابِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ ، وَهَذَا لِأَنَّ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ وَفِي قَطْعِ الرَّأْسِ زِيَادَةَ تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ بِلَا فَائِدَةٍ وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا فِيهِ زِيَادَةَ إيلَامٍ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الذَّكَاةِ مَكْرُوهٌ .
وَيُكْرَهُ أَنْ يَجُرَّ مَا يُرِيدُ ذَبْحَهُ بِرِجْلِهِ إلَى الْمَذْبَحِ ، وَأَنْ تُنْخَعَ الشَّاةُ قَبْلَ أَنْ تَبْرُدَ : يَعْنِي تَسْكُنَ مِنْ الِاضْطِرَابِ ، وَبَعْدَهُ لَا أَلَمَ فَلَا يُكْرَهُ النَّخْعُ وَالسَّلْخُ ، إلَّا أَنَّ الْكَرَاهَةَ لِمَعْنًى زَائِدٍ وَهُوَ زِيَادَةُ الْأَلَمِ قَبْلَ الذَّبْحِ أَوْ بَعْدَهُ فَلَا يُوجِبُ التَّحْرِيمَ فَلِهَذَا قَالَ : تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ .
قَالَ ( فَإِنْ ذَبَحَ الشَّاةَ مِنْ قَفَاهَا فَبَقِيَتْ حَيَّةٌ حَتَّى قَطَعَ الْعُرُوقَ حَلَّ ) لِتَحَقُّقِ الْمَوْتِ بِمَا هُوَ ذَكَاةٌ ، وَيُكْرَهُ لِأَنَّ فِيهِ زِيَادَةَ الْأَلَمِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ فَصَارَ كَمَا إذَا جَرَحَهَا ثُمَّ قَطَعَ الْأَوْدَاجَ ( وَإِنْ مَاتَتْ قَبْلَ قَطْعِ الْعُرُوقِ لَمْ تُؤْكَلْ ) لِوُجُودِ الْمَوْتِ بِمَا لَيْسَ بِذَكَاةٍ فِيهَا .
قَالَ ( وَمَا اسْتَأْنَسَ مِنْ الصَّيْدِ فَذَكَاتُهُ الذَّبْحُ ، وَمَا تَوَحَّشَ مِنْ النَّعَمِ فَذَكَاتُهُ الْعَقْرُ وَالْجُرْحُ ) لِأَنَّ ذَكَاةَ الِاضْطِرَارِ إنَّمَا يُصَارُ إلَيْهِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ ذَكَاةِ الِاخْتِيَارِ عَلَى مَا مَرَّ ، وَالْعَجْزُ مُتَحَقِّقٌ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ ( وَكَذَا مَا

تَرَدَّى مِنْ النَّعَمِ فِي بِئْرٍ وَوَقَعَ الْعَجْزُ عَنْ ذَكَاةِ الِاخْتِيَارِ ) لِمَا بَيَّنَّا .
وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَحِلُّ بِذَكَاةِ الِاضْطِرَارِ فِي الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّ ذَلِكَ نَادِرٌ .
وَنَحْنُ نَقُولُ : الْمُعْتَبَرُ حَقِيقَةُ الْعَجْزِ وَقَدْ تَحَقَّقَ فَيُصَارُ إلَى الْبَدَلِ ، كَيْفَ وَإِنَّا لَا نُسَلِّمُ النُّدْرَةَ بَلْ هُوَ غَالِبٌ .
وَفِي الْكِتَابِ أَطْلَقَ فِيمَا تَوَحَّشَ مِنْ النَّعَمِ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الشَّاةَ إذَا نَدَّتْ فِي الصَّحْرَاءِ فَذَكَاتُهَا الْعَقْرُ ، وَإِنْ نَدَّتْ فِي الْمِصْرِ لَا تَحِلُّ بِالْعَقْرِ لِأَنَّهَا لَا تَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهَا فَيُمْكِنُ أَخْذُهَا فِي الْمِصْرُ فَلَا عَجْزَ ، وَالْمِصْرُ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ فِي الْبَقَرِ وَالْبَعِيرِ لِأَنَّهُمَا يَدْفَعَانِ عَنْ أَنْفُسِهِمَا فَلَا يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهِمَا ، وَإِنْ نَدَّا فِي الْمِصْرِ فَيَتَحَقَّقُ الْعَجْزُ ، وَالصِّيَالُ كَالنَّدِّ إذَا كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهِ ، حَتَّى لَوْ قَتَلَهُ الْمَصُولُ عَلَيْهِ وَهُوَ يُرِيدُ الذَّكَاةَ حَلَّ أَكْلُهُ .
قَالَ ( وَالْمُسْتَحَبُّ فِي الْإِبِلِ النَّحْرُ ، فَإِنْ ذَبَحَهَا جَازَ وَيُكْرَهُ .
وَالْمُسْتَحَبُّ فِي الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ الذَّبْحُ فَإِنْ نَحَرَهُمَا جَازَ وَيُكْرَهُ ) أَمَّا الِاسْتِحْبَابُ فَلِمُوَافَقَةِ السُّنَّةِ الْمُتَوَارَثَةِ وَلِاجْتِمَاعِ الْعُرُوقِ فِيهَا فِي الْمَنْحَرِ وَفِيهِمَا فِي الْمَذْبَحِ ، وَالْكَرَاهَةُ لِمُخَالَفَةِ السُّنَّةِ وَهِيَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ فَلَا تَمْنَعُ الْجَوَازَ وَالْحِلَّ خِلَافًا لِمَا يَقُولُهُ مَالِكٌ إنَّهُ لَا يَحِلُّ .

( قَوْلُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : الْمَذْبُوحُ مَيْتَةٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { كُلُّ مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَأَفْرَى الْأَوْدَاجَ مَا خَلَا الظُّفْرِ وَالسِّنُّ فَإِنَّهُمَا مُدَى الْحَبَشَةِ } ) أَقُولُ : هَذَا الْحَدِيثُ لَا يَدُلُّ عَلَى تَمَامِ مُدَّعَى الشَّافِعِيِّ ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ مُدَّعَاهُ فِي الْبَعْضِ ، فَإِنَّ الْقَرْنَ أَيْضًا دَاخِلٌ فِي الْمُدَّعَى مَعَ أَنَّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ أَكْلِ الْمَذْبُوحِ بِذَلِكَ بَلْ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ حَيْثُ اسْتَثْنَى الظُّفْرَ وَالسِّنَّ فَبَقِيَ مَا عَدَاهُمَا فِي حُكْمِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ ( قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ فِعْلٌ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فَلَا يَكُونُ ذَكَاةً ) أَقُولُ : فِيهِ بَحْثٌ ، لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ إنَّهُ فِعْلٌ غَيْرُ مَشْرُوعٍ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ فَهُوَ مَمْنُوعٌ عِنْدَنَا بَلْ هُوَ أَوَّلُ الْمَسْأَلَةِ ، وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ فَهُوَ مُسَلَّمٌ ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ ذَكَاةً حِينَئِذٍ بَلْ هُوَ أَيْضًا أَوَّلُ الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ عِنْدَنَا ، وَلَكِنَّهُ ذَكَاةٌ يَجُوزُ أَكْلُ الْمَذْبُوحِ بِهِ كَمَا أَفْصَحَ عَنْهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ حَتَّى لَا يَكُونَ بِأَكْلِهِ بَأْسٌ ، إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ هَذَا الذَّبْحُ فَلَمْ يَخْلُ هَذَا التَّعْلِيلُ الْمَذْكُورُ مِنْ قِبَلِ الشَّافِعِيُّ عَنْ الْمُصَادَرَةِ عَلَى الْمَطْلُوبِ كَمَا تَرَى ( قَوْلُهُ وَالنُّخَاعُ عِرْقٌ أَبْيَضُ فِي عَظْمِ الرَّقَبَةِ ) .
قَالَ فِي الْمُغْرِبِ : النُّخَاعُ خَيْطٌ أَبْيَضُ فِي جَوْفِ عَظْمِ الرَّقَبَةِ يَمْتَدُّ إلَى الصُّلْبِ ، وَالْفَتْحُ وَالضَّمُّ لُغَةٌ فِي الْكَسْرِ ، وَمَنْ قَالَ هُوَ عِرْقٌ فَقَدْ سَهَا ، إنَّمَا ذَلِكَ الْبِخَاعُ بِالْبَاءِ يَكُونُ فِي الْقَفَا ، وَمِنْهُ بَخَعَ الشَّاةَ إذَا بَلَغَ بِالذَّبْحِ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ ، فَالْبَخْعُ أَبْلَغُ مِنْ النَّخْعِ انْتَهَى .
وَذَكَرَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ مَا فِي الْمُغْرِبِ بِعَيْنِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَنْسُبْهُ إلَى الْمُغْرِبِ فَصَاحِبُ الْعِنَايَةِ كَأَنَّهُ حَسِبَ أَنَّ صَاحِبَ النِّهَايَةِ ذَكَرَ مَا ذَكَرَهُ هُنَا

مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ حَيْثُ قَالَ : فَسَّرَهُ الْمُصَنِّفُ بِأَنَّهُ عِرْقٌ أَبْيَضُ فِي عَظْمِ الرَّقَبَةِ ، وَنَسَبَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ إلَى السَّهْوِ وَقَالَ : هُوَ خَيْطٌ أَبْيَضُ فِي جَوْفِ عَظْمِ الرَّقَبَةِ يَمْتَدُّ إلَى الصُّلْبِ .
وَرُدَّ بِأَنَّ بَدَنَ الْحَيَوَانِ مُرَكَّبٌ مِنْ عِظَامٍ وَأَعْصَابٍ وَعُرُوقٍ هِيَ شَرَايِينُ وَأَوْتَارٌ وَمَا ثَمَّةَ شَيْءٌ يُسَمَّى بِالْخَيْطِ أَصْلًا ، إلَى هُنَا لَفْظُ الْعِنَايَةِ .
أَقُولُ : الرَّدُّ الْمَذْكُورُ مَرْدُودٌ ، لِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْعِظَامِ وَالْأَعْصَابِ وَالْعُرُوقِ إنَّمَا هُوَ أَعْضَاءٌ مُفْرَدَةٌ لِبَدَنِ الْحَيَوَانِ ، وَلَهُ أَعْضَاءٌ أُخَرُ مُفْرَدَةٌ كَالْغُضْرُوفِ وَالرِّبَاطِ وَالْغِشَاءِ وَاللَّحْمِ وَالشَّحْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَمُرَكَّبَةٌ تَرْكِيبًا أَوَّلِيًّا كَالْعَضَلِ ، أَوْ ثَانِيًا كَالْعَيْنِ ، أَوْ ثَالِثًا كَالْوَجْهِ ، ثُمَّ الرَّأْسُ مَثَلًا عَلَى مَا بُيِّنَ كُلُّهُ فِي كُتُبِ الطِّبِّ .
فَإِنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ وَمَا ثَمَّةَ شَيْءٌ يُسَمَّى بِالْخَيْطِ أَنَّهُ مَا فِي الْأَعْضَاءِ الْمُفْرَدَةِ الْمَخْصُوصَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا شَيْءٌ يُسَمَّى بِالْخَيْطِ فَهُوَ مُسَلَّمٌ ، لَكِنْ لَا يُجْدِي شَيْئًا إذْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِأَنَّ النُّخَاعَ مِنْ تِلْكَ الْأَعْضَاءِ الْمَخْصُوصَةِ حَتَّى يَلْزَمَ مِنْ أَنْ لَا يُسَمَّى شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْأَعْضَاءِ بِالْخَيْطِ أَنْ لَا يَكُونَ النُّخَاعُ خَيْطًا ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ مَا فِي أَعْضَاءِ بَدَنِ الْحَيَوَانِ وَأَجْزَائِهِ مُطْلَقًا شَيْءٌ يُسَمَّى بِالْخَيْطِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ جِدًّا ، كَيْفَ وَلَا شَكَّ أَنَّ النُّخَاعَ مِنْ أَجْزَائِهِ وَكُتُبُ اللُّغَةِ مَشْحُونَةٌ بِتَفْسِيرِهِ بِالْخَيْطِ : مِنْهَا الْمُغْرِبُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي صَدْرِ الْكَلَامِ ، وَمِنْهَا صِحَاحُ الْجَوْهَرِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ : وَهُوَ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ الَّذِي فِي جَوْفِ الْفَقَارِ ، وَمِنْهَا الْقَامُوسُ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ : وَالنُّخَاعُ مُثَلَّثَةٌ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ فِي جَوْفِ الْفَقَارِ يَنْحَدِرُ مِنْ الدِّمَاغِ وَيَتَشَعَّبُ مِنْهُ شُعَبٌ فِي الْجِسْمِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مُعْتَبَرَاتِ كُتُبِ اللُّغَةِ

.

قَالَ ( وَمَنْ نَحَرَ نَاقَةً أَوْ ذَبَحَ بَقَرَةً فَوَجَدَ فِي بَطْنِهَا جَنِينًا مَيِّتًا لَمْ يُؤْكَلْ أَشْعَرَ أَوْ لَمْ يُشْعِرْ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : إذَا تَمَّ خَلْقُهُ أُكِلَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ } وَلِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْأُمِّ حَقِيقَةً لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِهَا حَتَّى يُفْصَلَ بِالْمِقْرَاضِ وَيَتَغَذَّى بِغِذَائِهَا وَيَتَنَفَّسُ بِتَنَفُّسِهَا ، وَكَذَا حُكْمًا حَتَّى يَدْخُلَ فِي الْبَيْعِ الْوَارِدِ عَلَى الْأُمِّ وَيُعْتَقَ بِإِعْتَاقِهَا .
وَإِذَا كَانَ جُزْءًا مِنْهَا فَالْجُرْحُ فِي الْأُمِّ ذَكَاةٌ لَهُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ ذَكَاتِهِ كَمَا فِي الصَّيْدِ .
وَلَهُ أَنَّهُ أَصْلٌ فِي الْحَيَاةِ حَتَّى تُتَصَوَّرَ حَيَاتُهُ بَعْدَ مَوْتِهَا وَعِنْدَ ذَلِكَ يُفْرَدُ بِالذَّكَاةِ ، وَلِهَذَا يُفْرَدُ بِإِيجَابِ الْغُرَّةِ وَيُعْتَقُ بِإِعْتَاقٍ مُضَافٍ إلَيْهِ ، وَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لَهُ وَبِهِ ، وَهُوَ حَيَوَانٌ دَمَوِيٌّ ، وَمَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الذَّكَاةِ وَهُوَ الْمَيْزُ بَيْنَ الدَّمِ وَاللَّحْمِ لَا يَتَحَصَّلُ بِجُرْحِ الْأُمِّ ، إذْ هُوَ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِخُرُوجِ الدَّمِ عَنْهُ فَلَا يُجْعَلُ تَبَعًا فِي حَقِّهِ ، بِخِلَافِ الْجُرْحِ فِي الصَّيْدِ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِخُرُوجِهِ نَاقِصًا فَيُقَامُ مَقَامَ الْكَامِلِ فِيهِ عِنْدَ التَّعَذُّرِ .
وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ تَحَرِّيًا لِجَوَازِهِ كَيْ لَا يَفْسُدَ بِاسْتِثْنَائِهِ ، وَيُعْتَقُ بِإِعْتَاقِهَا كَيْ لَا يَنْفَصِلَ مِنْ الْحُرَّةِ وَلَدَ رَقِيقٍ .

فَصْلٌ فِيمَا يَحِلُّ أَكْلُهُ وَمَا لَا يَحِلُّ قَالَ ( وَلَا يَجُوزُ أَكْلُ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَلَا ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطُّيُورِ ) لِأَنَّ { النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطُّيُورِ وَكُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ } .
وَقَوْلُهُ مِنْ السِّبَاعِ ذُكِرَ عَقِيبَ النَّوْعَيْنِ فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِمَا فَيَتَنَاوَلُ سِبَاعَ الطُّيُورِ وَالْبَهَائِمِ لِأَكْلِ مَا لَهُ مِخْلَبٌ أَوْ نَابٌ .
وَالسَّبُعُ كُلُّ مُخْتَطِفٍ مُنْتَهِبٍ جَارِحٍ قَاتِلٍ عَادٍ عَادَةً .
وَمَعْنَى التَّحْرِيمِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ كَرَامَةُ بَنِي آدَمَ كَيْ لَا يَعْدُوَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَوْصَافِ الذَّمِيمَةِ إلَيْهِمْ بِالْأَكْلِ ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الضَّبُعُ وَالثَّعْلَبُ ، فَيَكُونُ الْحَدِيثُ حُجَّةً عَلَى الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي إبَاحَتِهِمَا ، وَالْفِيلُ ذُو نَابٍ فَيُكْرَهُ ، وَالْيَرْبُوعُ وَابْنُ عِرْسٍ مِنْ السِّبَاعِ الْهَوَامِّ .

( فَصْلٌ فِيمَا يَحِلُّ أَكْلُهُ وَمَا لَا يَحِلُّ ) لَمَّا ذَكَرَ أَحْكَامَ الذَّبَائِحِ شَرَعَ فِي تَفْصِيلِ الْمَأْكُولِ مِنْهَا وَغَيْرِ الْمَأْكُولِ ، إذْ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ مِنْ شَرْعِيَّةِ الذَّبْحِ ، التَّوَصُّلُ إلَى الْأَكْلِ .
وَقَدَّمَ الذَّبْحَ لِأَنَّ وَسِيلَةَ الشَّيْءِ تُقَدَّمُ عَلَيْهِ فِي الذِّكْرِ ( قَوْلُهُ وَقَوْلُهُ مِنْ السِّبَاعِ ذُكِرَ عَقِيبَ النَّوْعَيْنِ فَيَنْصَرِفُ إلَيْهَا فَيَتَنَاوَلُ سِبَاعَ الطُّيُورِ وَالْبَهَائِمِ لَا كُلِّ مَا لَهُ مِخْلَبٌ أَوْ نَابٌ ) قَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ : وَهَكَذَا قَرَّرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ فِي شَرْحِ الْمَبْسُوطِ .
ثُمَّ قَالَ : وَلَنَا فِي هَذَا التَّقْرِيرِ نَظَرٌ لِأَنَّ الثِّقَاتِ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ رَوَوْا الْحَدِيثَ بِأَجْمَعِهِمْ بِتَقْدِيمِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ عَلَى كُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطُّيُورِ فَلَا يَتَمَشَّى هَذَا التَّقْرِيرُ ، وَلَوْ صَحَّتْ تِلْكَ الرِّوَايَةُ فَنَمْنَعُ انْصِرَافَ قَوْلِهِ مِنْ السِّبَاعِ إلَى النَّوْعَيْنِ جَمِيعًا ، لِأَنَّ قَوْلَهُ وَكُلِّ ذِي نَابٍ أَوْلَى بِالِانْصِرَافِ إلَيْهِ لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ انْتَهَى .
أَقُولُ : قَوْلُهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَكُلِّ ذِي نَابٍ أَوْلَى بِالِانْصِرَافِ إلَيْهِ لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ لَيْسَ بِتَامٍّ ، لِأَنَّ كَوْنَهُ أَقْرَبَ إنَّمَا يَقْتَضِي أَوْلَوِيَّةَ انْصِرَافِهِ إلَيْهِ مِنْ انْصِرَافِهِ إلَى أَوَّلِ النَّوْعَيْنِ لَا إلَى النَّوْعَيْنِ جَمِيعًا ، وَمُدَّعَى الشَّيْخَيْنِ انْصِرَافُهُ إلَيْهِمَا مَعًا فَلَا يَقْدَحُ فِيهِ مَا ذَكَرَهُ ، وَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ : بَيَّنَ النَّوْعَ الْأَوَّلَ بِقَوْلِهِ مِنْ الطُّيُورِ وَهُوَ يَأْبَى أَنْ يَكُونَ الْبَيَانُ الْمَذْكُورُ فِي ذَيْلِ النَّوْعِ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُهُ مِنْ السِّبَاعِ مَصْرُوفًا إلَى النَّوْعَيْنِ جَمِيعًا ، إذْ الْمُتَبَادَرُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْ الْبَيَانَيْنِ قَيْدًا لِمَا قُرِنَ بِهِ مِنْ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ مَذْكُورًا بِإِزَاءِ الْآخَرِ فَكَيْفَ يُبْنَى الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ عَلَى مَا هُوَ خِلَافُ الْمُتَبَادَرِ مِنْ الْكَلَامِ فَتَدَبَّرْ ( قَوْلُهُ وَالسَّبُعُ كُلُّ مُخْتَطِفٍ مُنْتَهِبٍ جَارِحٍ

قَاتِلٍ عَادٍ عَادَةً ) قَالَ الشُّرَّاحُ : الْفَرْقُ بَيْنَ الِاخْتِطَافِ وَالِانْتِهَابِ أَنَّ الِاخْتِطَافَ مِنْ فِعْلِ الطُّيُورِ وَالِانْتِهَابَ مِنْ فِعْلِ السِّبَاعِ الْبَهَائِمِ انْتَهَى .
أَقُولُ : فَعَلَى هَذَا كَانَ يَنْبَغِي لِلْمُصَنِّفِ أَنْ يَقُولَ وَالسَّبُعُ كُلُّ مُخْتَطِفٍ أَوْ مُنْتَهِبٍ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرَهُ ، لِأَنَّ قَوْلَهُ وَالسَّبُعُ كُلُّ مُخْتَطِفٍ مُنْتَهِبٍ يُشْعِرُ بِاجْتِمَاعِ الِاخْتِطَافِ وَالِانْتِهَابِ فِي كُلِّ سَبُعٍ وَذَا لَا يُتَصَوَّرُ عَلَى الْفَرْقِ الْمَذْكُورِ كَمَا لَا يَخْفَى

وَكَرِهُوا أَكْلَ الرَّخَمِ وَالْبُعَاثِ لِأَنَّهُمَا يَأْكُلَانِ الْجِيَفَ قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِغُرَابِ الزَّرْعِ ) لِأَنَّهُ يَأْكُلُ الْحَبَّ وَلَا يَأْكُلُ الْجِيَفَ وَلَيْسَ مِنْ سِبَاعِ الطَّيْرِ .

( قَوْلُهُ وَكَرِهُوا أَكْلَ الرَّخَمِ وَالْبُغَاثِ لِأَنَّهُمَا يَأْكُلَانِ الْجِيَفَ ) الرَّخَمُ جَمْعُ رَخَمَةٍ .
وَهُوَ طَائِرٌ أَبْقَعُ يُشْبِهُ النَّسْرَ فِي الْخِلْقَةِ يُقَالُ لَهُ الْأَنُوقُ كَذَا فِي الصِّحَاحِ .
وَالْبُغَاثُ طَائِرٌ أَبْغَثُ إلَى الْغُبْرَةِ دُوَيْنَ الرَّخَمَةِ ، بَطِيءُ الطَّيَرَانِ كَذَا فِي الصِّحَاحِ أَيْضًا مَعْزِيًّا إلَى ابْنِ السِّكِّيتِ .
وَقَالَ فِي الْقَامُوسِ : الْبُغَاثُ مُثَلَّثَةَ الْأَوَّلِ : طَائِرٌ أَغْبَرُ انْتَهَى .
قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ هُنَا الْبُغَاثُ مَا لَا يَصِيدُ مِنْ صِغَارِ الطَّيْرِ وَضِعَافِهِ وَقَالَ بَعْضٌ مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ : كَالْعَصَافِيرِ وَنَحْوِهَا أَقُولُ : هَذَا التَّفْسِيرُ مِنْهُمْ لَا يُنَاسِبُ مَا فِي الْكِتَابِ أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ أَيْضًا كَالْعَصَافِيرِ فَإِنَّهَا مِمَّا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ بِلَا خِلَافٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ مِنْ فَتَاوَى قَاضِي خَانْ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ كَثِيرًا مِمَّا لَا يَصِيدُ مِنْ صِغَارِ الطَّيْرِ وَضِعَافِهِ لَا يَأْكُلُ الْجِيَفَ بَلْ يَأْكُلُ الْحَبَّ كَمَا لَا يَخْفَى ، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْبُغَاثِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ مَا فَسَّرُوهُ بِهِ لَزِمَ أَنْ لَا يَتِمَّ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ لِأَنَّهُمَا يَأْكُلَانِ الْجِيَفَ .
نَعَمْ وَقَعَ فِي بَعْضِ كُتُبِ اللُّغَةِ تَفْسِيرُ الْبُغَاثِ بِمَا فَسَّرَهُ الشُّرَّاحُ بِهِ هَاهُنَا فَإِنَّهُ قَالَ فِي دِيوَانِ الْأَدَبِ : الْبُغَاثُ مَا لَا يَصِيدُ مِنْ الطَّيْرِ ، وَقَالَ فِي الْمُغْرِبِ : الْبُغَاثُ مَا لَا يَصِيدُ مِنْ صِغَارِ الطَّيْرِ كَالْعَصَافِيرِ وَنَحْوِهَا ، وَقَالَ فِي الصِّحَاحِ : قَالَ الْفَرَّاءُ : بُغَاثُ الطَّيْرِ شِرَارُهَا وَمَا لَا يَصِيدُ مِنْهَا .
انْتَهَى ، إلَّا أَنَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يُجْعَلَ تَفْسِيرًا لِمَا فِي الْكِتَابِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْوَجْهَيْنِ .
وَإِنَّمَا التَّفْسِيرُ الْمُنَاسِبُ لِمَا فِي الْكِتَابِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِمَّا ذَكَرَ فِي الصِّحَاحِ أَوَّلًا مَعْزِيًّا إلَى ابْنِ السِّكِّيتِ ، وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْقَامُوسِ أَيْضًا تَبَصَّرْ

تَرْشُدْ .

قَالَ ( وَلَا يُؤْكَلُ الْأَبْقَعُ الَّذِي يَأْكُلُ الْجِيَفَ ، وَكَذَا الْغُدَافُ )

( وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا بَأْسَ بِأَكْلِ الْعَقْعَقِ ) لِأَنَّهُ يُخَلَّطُ فَأَشْبَهَ الدَّجَاجَةَ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُكْرَهُ لِأَنَّ غَالِبَ أَكْلِهِ الْجِيَفُ

قَالَ ( وَيُكْرَهُ أَكْلُ الضَّبُعِ وَالضَّبِّ وَالسُّلَحْفَاةِ وَالزُّنْبُورِ وَالْحَشَرَاتِ كُلِّهَا ) أَمَّا الضَّبُعُ فَلِمَا ذَكَرْنَا ، وَأَمَّا الضَّبُّ فَلِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حِينَ سَأَلَتْهُ عَنْ أَكْلِهِ .
وَهِيَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي إبَاحَتِهِ ، وَالزُّنْبُورُ مِنْ الْمُؤْذِيَاتِ .
وَالسُّلَحْفَاةُ مِنْ خَبَائِثِ الْحَشَرَاتِ وَلِهَذَا لَا يَجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ بِقَتْلِهِ شَيْءٌ ، وَإِنَّمَا تُكْرَهُ الْحَشَرَاتُ كُلُّهَا اسْتِدْلَالًا بِالضَّبِّ لِأَنَّهُ مِنْهَا .

( قَوْلُهُ وَإِنَّمَا تُكْرَهُ الْحَشَرَاتُ كُلُّهَا اسْتِدْلَالًا بِالضَّبِّ لِأَنَّهُ مِنْهَا ) قَالَ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ : أَيْ لِأَنَّ الضَّبَّ مِنْ الْحَشَرَاتِ ، فَإِذَا رُتِّبَ الْحُكْمُ عَلَى الْجِنْسِ يَنْسَحِبُ عَلَى جَمِيعِ أَفْرَادِهِ كَمَا إذَا قَالَ طَبِيبٌ لِمَرِيضٍ لَا تَأْكُلْ لَحْمَ الْبَعِيرِ يَتَنَاوَلُ نَهْيُهُ كُلَّ أَفْرَادِهِ انْتَهَى .
وَاقْتَفَى أَثَرَهُ الْعَيْنِيُّ .
أَقُولُ : لَيْسَ ذَاكَ بِسَدِيدٍ لِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى كَرَاهَةِ الْحَشَرَاتِ كُلِّهَا بِكَرَاهَةِ الضَّبِّ لِكَوْنِهِ مِنْ تِلْكَ الْحَشَرَاتِ إنَّمَا هُوَ مِنْ قَبِيلِ أَنْ يَتَرَتَّبَ الْحُكْمُ عَلَى فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْجِنْسِ فَيَنْسَحِبَ ذَلِكَ الْحُكْمُ عَلَى سَائِرِ أَفْرَادِ ذَاكَ الْجِنْسِ أَيْضًا لَا مِنْ قَبِيلِ أَنْ يَتَرَتَّبَ الْحُكْمُ عَلَى الْجِنْسِ فَيَنْسَحِبَ ذَلِكَ الْحُكْمُ عَلَى جَمِيعِ أَفْرَادِ ذَاكَ الْجِنْسِ أَيْضًا كَمَا تَوَهَّمَهُ ذَانِكَ الشَّارِحَانِ ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ هُوَ أَنَّهُ إنَّمَا تُكْرَهُ الْحَشَرَاتُ كُلُّهَا لِأَنَّ الضَّبَّ مِنْهَا ، وَقَدْ وَرَدَ فِي كَرَاهَةِ أَكْلِهِ النَّصُّ فَيُسْتَدَلُّ بِكَرَاهَةِ أَكْلِهِ عَلَى كَرَاهَةِ أَكْلِ سَائِرِ الْحَشَرَاتِ أَيْضًا بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ لِاشْتِرَاكِ كُلِّهَا فِي عِلَّةِ الْكَرَاهَةِ .
ثُمَّ أَقُولُ : لَيْتَ شِعْرِي لِمَ وَقَعَ الْمُصَنِّفُ فِي هَذَا الْمَضِيقِ وَلَمْ يَتَشَبَّثْ فِي إثْبَاتِ كَرَاهَةِ أَكْلِ الْحَشَرَاتِ كُلِّهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ } وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْحَشَرَاتِ كُلَّهَا مِنْ الْخَبَائِثِ فَحِينَئِذٍ يَتِمُّ الِاسْتِدْلَال بِكَرَاهَةِ الضَّبِّ عَلَى كَرَاهَةِ الْحَشَرَاتِ كُلِّهَا كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ

قَالَ ( وَلَا يَجُوزُ أَكْلُ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَالْبِغَالِ ) لِمَا رَوَى خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ لُحُومِ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ } وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَهْدَرَ الْمُتْعَةَ وَحَرَّمَ لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ يَوْمَ خَيْبَرَ }

قَالَ ( وَيُكْرَهُ لَحْمُ الْفَرَسِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ : لَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ لِحَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ ، وَأَذِنَ فِي لُحُومِ الْخَيْلِ يَوْمَ خَيْبَرَ } وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْله تَعَالَى { وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لَتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } خَرَجَ مَخْرَجَ الِامْتِنَانِ وَالْأَكْلُ مِنْ أَعْلَى مَنَافِعِهَا ، وَالْحَكَمُ لَا يَتْرُكُ الِامْتِنَانَ بِأَعْلَى النِّعَمِ وَيَمْتَنُّ بِأَدْنَاهَا ، وَلِأَنَّهُ آلَةُ إرْهَابِ الْعَدُوِّ فَيُكْرَهُ أَكْلُهُ احْتِرَامًا لَهُ وَلِهَذَا يُضْرَبُ لَهُ بِسَهْمٍ فِي الْغَنِيمَةِ ، وَلِأَنَّ فِي إبَاحَتِهِ تَقْلِيلَ آلَةِ الْجِهَادِ ، وَحَدِيثُ .
جَابِرٍ مُعَارَضٌ بِحَدِيثِ خَالِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَالتَّرْجِيحُ لِلْمُحَرِّمِ .
ثُمَّ قِيلَ : الْكَرَاهَةُ عِنْدَهُ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ .
وَقِيلَ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ .
وَأَمَّا لَبَنُهُ فَقَدْ قِيلَ : لَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي شُرْبِهِ تَقْلِيلُ آلَةِ الْجِهَادِ .

( مَا يَحِلُّ أَكْلُهُ وَمَا لَا يَحِلّ ) ( قَوْلُهُ ثُمَّ قِيلَ الْكَرَاهَةُ عِنْدَهُ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ ، وَقِيلَ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي تَعْلِيلِ كَوْنِ الْأَوَّلِ أَصَحَّ : لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ سَأَلَ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : إذَا قُلْتَ فِي شَيْءٍ أَكْرَهُهُ فَمَا رَأْيُك فِيهِ ؟ قَالَ التَّحْرِيمُ انْتَهَى .
أَقُولُ فِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّ هَذَا إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْأَوَّلِ أَصَحَّ أَنْ لَوْ كَانَ الْمَرْوِيُّ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي هَاتِيكَ الْمَسْأَلَةِ مُنْحَصِرًا فِي لَفْظِ أَكْرَهُهُ فَكَأَنَّ بَعْضَهُمْ حَمَلَهُ عَلَى التَّحْرِيمِ وَبَعْضَهُمْ حَمَلَهُ عَلَى التَّنْزِيهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْمَرْوِيُّ عَنْهُ فِيهَا لَفْظَانِ : أَحَدُهُمَا لَا يُعْجِبُنِي أَكْلُهُ وَبِهِ أَخَذَ مَنْ قَالَ بِكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ ، وَثَانِيهِمَا أَكْرَهُهُ وَبِهِ أَخَذَ مَنْ قَالَ بِكَرَاهَةِ التَّحْرِيمِ ، فَمَبْنَى اخْتِلَافِ الْفَرِيقَيْنِ اخْتِلَافُ اللَّفْظَيْنِ الْمَرْوِيَّيْنِ عَنْهُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشُّرَّاحُ قَاطِبَةً حَتَّى شَارِحَ الْمَزْبُورِ نَفْسِهِ أَيْضًا حَيْثُ قَالَ مُتَّصِلًا بِتَعْلِيلِهِ الْمَذْكُورِ : وَمَبْنَى اخْتِلَافِ الْمَشَايِخِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى اخْتِلَافِ اللَّفْظِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ : رَخَّصَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي لَحْمِ الْخَيْلِ فَأَمَّا أَنَا فَلَا يُعْجِبُنِي أَكْلُهُ وَهَذَا يُلَوِّحُ إلَى التَّنْزِيهِ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : أَكْرَهُهُ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ عَلَى مَا رَوَيْنَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ ا هـ تَأَمَّلْ

قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِأَكْلِ الْأَرْنَبِ ) لِأَنَّ { النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَكَلَ مِنْهُ حِينَ أُهْدِيَ إلَيْهِ مَشْوِيًّا وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِالْأَكْلِ مِنْهُ } ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ السِّبَاعِ وَلَا مِنْ أَكَلَةِ الْجِيَفِ فَأَشْبَهَ الظَّبْيَ

قَالَ ( وَإِذَا ذُبِحَ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ طَهُرَ جِلْدُهُ وَلَحْمُهُ إلَّا الْآدَمِيَّ وَالْخِنْزِيرَ ) فَإِنَّ الذَّكَاةَ لَا تَعْمَلُ فِيهِمَا ، أَمَّا الْآدَمِيُّ فَلِحُرْمَتِهِ وَكَرَامَتِهِ وَالْخِنْزِيرُ لِنَجَاسَتِهِ كَمَا فِي الدِّبَاغِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : الذَّكَاةُ لَا تُؤَثِّرُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي إبَاحَةِ اللَّحْمِ أَصْلًا .
وَفِي طَهَارَتِهِ وَطَهَارَةِ الْجِلْدِ تَبَعًا وَلَا تَبَعَ بِدُونِ الْأَصْلِ وَصَارَ كَذَبْحِ الْمَجُوسِيِّ .
وَلَنَا أَنَّ الذَّكَاةَ مُؤَثِّرَةٌ فِي إزَالَةِ الرُّطُوبَاتِ وَالدِّمَاءِ السَّيَّالَةِ وَهِيَ النَّجِسَةُ دُونَ ذَاتِ الْجِلْدِ وَاللَّحْمِ ، فَإِذَا زَالَتْ طَهُرَ كَمَا فِي الدِّبَاغِ .
وَهَذَا الْحُكْمُ مَقْصُودٌ فِي الْجِلْدِ كَالتَّنَاوُلِ فِي اللَّحْمِ وَفِعْلُ الْمَجُوسِيِّ إمَاتَةٌ فِي الشَّرْعِ فَلَا بُدَّ مِنْ الدِّبَاغِ ، وَكَمَا يَطْهُرُ لَحْمُهُ يَطْهُرُ شَحْمُهُ ، حَتَّى لَوْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ لَا يُفْسِدُهُ خِلَافًا لَهُ .
وَهَلْ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِي غَيْرِ الْأَكْلِ ؟ قِيلَ : لَا يَجُوزُ اعْتِبَارًا بِالْأَكْلِ .
وَقِيلَ يَجُوزُ كَالزَّيْتِ إذَا خَالَطَهُ وَدَكُ الْمَيْتَةِ .
وَالزَّيْتُ غَالِبٌ لَا يُؤْكَلُ وَيُنْتَفَعُ بِهِ فِي غَيْرِ الْأَكْلِ

قَالَ ( وَلَا يُؤْكَلُ مِنْ حَيَوَانِ الْمَاءِ إلَّا السَّمَكَ ) وَقَالَ مَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِإِطْلَاقِ جَمِيعِ مَا فِي الْبَحْرِ .
وَاسْتَثْنَى بَعْضُهُمْ الْخِنْزِيرَ وَالْكَلْبَ وَالْإِنْسَانَ .
وَعَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ أَطْلَقَ ذَاكَ كُلَّهُ ، وَالْخِلَافُ فِي الْأَكْلِ وَالْبَيْعِ وَاحِدٌ لَهُمْ قَوْله تَعَالَى { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْبَحْرِ { هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ وَالْحِلُّ مَيْتَتُهُ } وَلِأَنَّهُ لَا دَمَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إذْ الدَّمَوِيُّ لَا يَسْكُنُ الْمَاءَ وَالْمُحَرَّمُ هُوَ الدَّمُ فَأَشْبَهَ السَّمَكَ .
قُلْنَا : قَوْله تَعَالَى { وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ } وَمَا سِوَى السَّمَكِ خَبِيثٌ .
{ وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ دَوَاءٍ يُتَّخَذُ فِيهِ الضُّفْدَعُ } ، وَنَهَى عَنْ بَيْعِ السَّرَطَانِ وَالصَّيْدُ الْمَذْكُورُ فِيمَا تَلَا مَحْمُولٌ عَلَى الِاصْطِيَادِ وَهُوَ مُبَاحٌ فِيمَا لَا يَحِلُّ ، وَالْمَيْتَةُ الْمَذْكُورَةُ فِيمَا رَوَى مَحْمُولَةٌ عَلَى السَّمَكِ وَهُوَ حَلَالٌ مُسْتَثْنًى مِنْ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ ، أَمَّا الْمَيْتَتَانِ فَالسَّمَكُ وَالْجَرَادُ وَأَمَّا الدَّمَانِ فَالْكَبِدُ وَالطِّحَالُ } قَالَ ( وَيُكْرَهُ أَكْلُ الطَّافِي مِنْهُ ) وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا ، وَلِأَنَّ مَيْتَةَ الْبَحْرِ مَوْصُوفَةٌ بِالْحِلِّ بِالْحَدِيثِ .
وَلَنَا مَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ .
النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { مَا نَضَبَ عَنْهُ الْمَاءُ فَكُلُوا ، وَمَا لَفَظَهُ الْمَاءُ فَكُلُوا ، وَمَا طَفَا فَلَا تَأْكُلُوا } وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مِثْلُ مَذْهَبِنَا ، وَمَيْتَةُ الْبَحْرِ مَا لَفَظَهُ الْبَحْرُ لِيَكُونَ مَوْتُهُ مُضَافًا إلَى الْبَحْرِ لَا مَا مَاتَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ آفَةٍ .

قَوْلُهُ لَهُمْ قَوْله تَعَالَى { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ ) أَقُولُ : الظَّاهِرُ أَنَّ ضَمِيرَ لَهُمْ رَاجِعٌ إلَى جَمِيعِ مَنْ خَالَفَنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ ، إذَا لَمْ يَذْكُرْ فِيمَا بَعْدُ سِوَى دَلِيلِ أَئِمَّتِنَا ، مَعَ أَنَّ التَّمَسُّكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ لَا يَتَمَشَّى عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنْهُمْ بِاسْتِثْنَاءِ الْخِنْزِيرِ وَالْكَلْبِ وَالْإِنْسَانِ كَمَا مَرَّ ذَلِكَ أَيْضًا ، إذْ عَلَى ذَلِكَ الْقَوْلِ يَلْزَمُ الْفَصْلُ كَمَا لَا يَخْفَى فَتَأَمَّلْ ( قَوْلُهُ وَلِأَنَّ مَيْتَةَ الْبَحْرِ مَوْصُوفَةٌ بِالْحِلِّ لِلْحَدِيثِ ) أَقُولُ : لَا يَذْهَبُ عَلَى الْفَطِنِ أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ لَا يُفِيدُ مُدَّعَى مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ بِدُونِ الْمَصِيرِ إلَى إطْلَاقِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ أَيْضًا لِلسَّمَكِ الطَّافِي وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يَظْهَرُ وَجْهُ جَعْلِهِ دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا كَمَا هُوَ مُقْتَضَى تَحْرِيرِ الْمُصَنِّفِ ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا وَإِطْلَاقِ حَدِيثِ حِلِّ مَيْتَةِ الْبَحْرِ .

قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِأَكْلِ الْجِرِّيثِ وَالْمَارْمَاهِي وَأَنْوَاعِ السَّمَكِ وَالْجَرَادِ بِلَا ذَكَاةٍ ) وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَحِلُّ الْجَرَادُ إلَّا أَنْ يَقْطَعَ الْآخِذُ رَأْسَهُ أَوْ يَشْوِيَهُ لِأَنَّهُ صَيْدُ الْبَرِّ ، وَلِهَذَا يَجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ بِقَتْلِهِ جَزَاءٌ يَلِيقُ بِهِ فَلَا يَحِلُّ إلَّا بِالْقَتْلِ كَمَا فِي سَائِرِهِ .
وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَا .
وَسُئِلَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ الْجَرَادِ يَأْخُذُهُ الرَّجُلُ مِنْ الْأَرْضِ وَفِيهَا الْمَيِّتُ وَغَيْرُهُ فَقَالَ : كُلْهُ كُلَّهُ .
وَهَذَا عُدَّ مِنْ فَصَاحَتِهِ ، وَدَلَّ عَلَى إبَاحَتِهِ وَإِنْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ ، بِخِلَافِ السَّمَكِ إذَا مَاتَ مِنْ غَيْرِ آفَةٍ لِأَنَّا خَصَّصْنَاهُ بِالنَّصِّ الْوَارِدِ فِي الطَّافِي ، ثُمَّ الْأَصْلُ فِي السَّمَكِ عِنْدَنَا أَنَّهُ إذَا مَاتَ بِآفَةٍ يَحِلُّ كَالْمَأْخُوذِ ، وَإِذَا مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ مِنْ غَيْرِ آفَةٍ لَا يَحِلُّ كَالطَّافِي ، وَتَنْسَحِبُ عَلَيْهِ فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ بَيَّنَّاهَا فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى .
وَعِنْدَ التَّأَمُّلِ يَقِفُ الْمُبَرِّزُ عَلَيْهَا : مَا إذَا قَطَعَ بَعْضَهَا فَمَاتَ يَحِلُّ أَكْلُ مَا أُبِينَ وَمَا بَقِيَ .
لِأَنَّ مَوْتَهُ بِآفَةٍ وَمَا أُبِينَ مِنْ الْحَيِّ وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا فَمَيْتَتُهُ حَلَالٌ .
وَفِي الْمَوْتِ بِالْحَرِّ وَالْبَرْدِ رِوَايَتَانِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

كِتَابُ الْأُضْحِيَّةِ قَالَ ( الْأُضْحِيَّةُ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ حُرٍّ مُسْلِمٍ مُقِيمٍ مُوسِرٍ فِي يَوْمِ الْأَضْحَى عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ وَلَدِهِ الصِّغَارِ ) أَمَّا الْوُجُوبُ فَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وَالْحَسَنِ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ .
وَعَنْهُ أَنَّهَا سُنَّةٌ ، ذَكَرَهُ فِي الْجَوَامِعِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ .
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَاجِبَةٌ ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ ، وَهَكَذَا ذَكَرَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ الِاخْتِلَافَ .
وَجْهُ السُّنَّةِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ مِنْكُمْ فَلَا يَأْخُذْ مِنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ شَيْئًا } وَالتَّعْلِيقُ بِالْإِرَادَةِ يُنَافِي الْوُجُوبَ ، وَلِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً عَلَى الْمُقِيمِ لَوَجَبَتْ عَلَى الْمُسَافِرِ لِأَنَّهُمَا لَا يَخْتَلِفَانِ فِي الْوَظَائِفِ الْمَالِيَّةِ كَالزَّكَاةِ وَصَارَ كَالْعَتِيرَةِ .
وَوَجْهُ الْوُجُوبِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ وَجَدَ سَعَةً وَلَمْ يُضَحِّ فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا } وَمِثْلُ هَذَا الْوَعِيدِ لَا يَلْحَقُ بِتَرْكِ غَيْرِ الْوَاجِبِ ، وَلِأَنَّهَا قُرْبَةٌ يُضَافُ إلَيْهَا وَقْتُهَا .
يُقَالُ يَوْمَ الْأَضْحَى ، وَذَلِكَ يُؤْذِنُ بِالْوُجُوبِ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ لِلِاخْتِصَاصِ وَهُوَ بِالْوُجُودِ ، وَالْوُجُوبُ هُوَ الْمُفْضِي إلَى الْوُجُودِ ظَاهِرًا بِالنَّظَرِ إلَى الْجِنْسِ ، غَيْرَ أَنَّ الْأَدَاءَ يَخْتَصُّ بِأَسْبَابٍ يَشُقُّ عَلَى الْمُسَافِرِ اسْتِحْضَارُهَا وَيَفُوتُ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ الْجُمُعَةِ ، وَالْمُرَادُ بِالْإِرَادَةِ فِيمَا رُوِيَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَا هُوَ ضِدُّ السَّهْوِ لَا التَّخْيِيرُ .
وَالْعَتِيرَةُ مَنْسُوخَةٌ ، وَهِيَ شَاةٌ تُقَامُ فِي رَجَبٍ عَلَى مَا قِيلَ ، وَإِنَّمَا اخْتَصَّ الْوُجُوبُ بِالْحُرِّيَّةِ لِأَنَّهَا وَظِيفَةٌ مَالِيَّةٌ لَا تَتَأَدَّى إلَّا بِالْمِلْكِ ، وَالْمَالِكُ هُوَ الْحُرُّ ؛ وَبِالْإِسْلَامِ لِكَوْنِهَا قُرْبَةً ، وَبِالْإِقَامَةِ لِمَا بَيَّنَّا ،

وَالْيَسَارِ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ اشْتِرَاطِ السَّعَةِ ؛ وَمِقْدَارُهُ مَا يَجِبُ بِهِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ وَقَدْ مَرَّ فِي الصَّوْمِ ، وَبِالْوَقْتِ وَهُوَ يَوْمُ الْأَضْحَى لِأَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِهِ ، وَسَنُبَيِّنُ مِقْدَارَهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَتَجِبُ عَنْ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ أَصْلٌ فِي الْوُجُوبِ عَلَيْهِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ، وَعَنْ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى نَفْسِهِ فَيَلْحَقُ بِهِ كَمَا فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ .
وَهَذِهِ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا تَجِبُ عَنْ وَلَدِهِ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ ، بِخِلَافِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ لِأَنَّ السَّبَبَ هُنَاكَ رَأْسٌ يَمُونُهُ وَيَلِي عَلَيْهِ وَهُمَا مَوْجُودَانِ فِي الصَّغِيرِ وَهَذِهِ قُرْبَةٌ مَحْضَةٌ .
وَالْأَصْلُ فِي الْقُرَبِ أَنْ لَا تَجِبَ عَلَى الْغَيْرِ بِسَبَبِ الْغَيْرِ وَلِهَذَا لَا تَجِبُ عَنْ عَبْدِهِ وَإِنْ كَانَ يَجِبُ عَنْهُ صَدَقَةُ فِطْرِهِ ، وَإِنْ كَانَ لِلصَّغِيرِ مَالٌ يُضَحِّي عَنْهُ أَبُوهُ أَوْ وَصِيُّهُ مِنْ مَالِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَلِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ : يُضَحِّي مِنْ مَالِ نَفْسِهِ لَا مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ ، فَالْخِلَافُ فِي هَذَا كَالْخِلَافِ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ .
وَقِيلَ لَا تَجُوزُ التَّضْحِيَةُ مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ ، فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ، لِأَنَّ هَذِهِ الْقُرْبَةَ تَتَأَدَّى بِالْإِرَاقَةِ وَالصَّدَقَةُ بَعْدَهَا تَطَوُّعٌ ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ ، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْكُلَ كُلَّهُ .
وَالْأَصَحُّ أَنْ يُضَحِّيَ مِنْ مَالِهِ وَيَأْكُلَ مِنْهُ مَا أَمْكَنَهُ وَيَبْتَاعَ بِمَا بَقِيَ مَا يَنْتَفِعُ بِعَيْنِهِ .

( كِتَابُ الْأُضْحِيَّةِ ) أَوْرَدَ الْأُضْحِيَّةَ عَقِيبَ الذَّبَائِحِ لِأَنَّ الْأُضْحِيَّةَ ذَبِيحَةٌ خَاصَّةٌ وَالْخَاصُّ بَعْدَ الْعَامِّ ، كَذَا قَالُوا .
أَقُولُ : فِيهِ مُنَاقَشَةٌ هِيَ أَنَّهُمْ إنْ أَرَادُوا أَنَّ الْخَاصَّ يَكُونُ بَعْدَ الْعَامِّ فِي الْوُجُودِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّهُ لَا وُجُودَ لِلْعَامِّ إلَّا فِي ضِمْنِ الْخَاصِّ ، وَإِنْ أَرَادُوا أَنَّ الْخَاصَّ يَكُونُ بَعْدَ الْعَامِّ فِي التَّعَقُّلِ فَهُوَ إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَ الْعَامُّ ذَاتِيًّا لِلْخَاصِّ وَكَانَ الْخَاصُّ مَعْقُولًا بِالْكُنْهِ كَمَا عُرِفَ ، وَكَوْنُ الْأَمْرِ كَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مَمْنُوعٌ ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : تَمْيِيزُ الذَّاتِيِّ مِنْ الْعَرَضِيِّ إنَّمَا يَتَعَسَّرُ فِي حَقَائِقِ النَّفْسِ الْأَمْرِيَّةِ .
وَأَمَّا فِي الْأُمُورِ الْوَضْعِيَّةِ وَالِاعْتِبَارِيَّة كَمَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَكُلُّ مَا اُعْتُبِرَ دَاخِلًا فِي مَفْهُومِ شَيْءٍ يَصِيرُ ذَاتِيًّا لِذَلِكَ الشَّيْءِ ، وَيَكُونُ تَصَوُّرُ ذَلِكَ الشَّيْءِ بِالْأُمُورِ الدَّاخِلَةِ فِي مَفْهُومِهِ تَصَوُّرًا لَهُ بِالْكُنْهِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَعْنَى الذَّبْحِ دَاخِلٌ فِي مَعْنَى الْأُضْحِيَّةِ لُغَةً وَشَرِيعَةً فَيَتَوَقَّفُ تَعَقُّلُهَا عَلَى تَعَقُّلِ مَعْنَى الذَّبْحِ فَيَتِمُّ التَّقْرِيبُ عَلَى اخْتِيَارِ الشِّقِّ الثَّانِي تَأَمَّلْ تَقِفْ .
ثُمَّ إنَّ بَيَانَ مَعْنَى الْأُضْحِيَّةِ لُغَةً وَشَرِيعَةً قَدْ اخْتَلَفَتْ فِيهِ عِبَارَاتُ الشُّرَّاحِ ، فَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : أَمَّا لُغَةً فَالْأُضْحِيَّةُ اسْمُ الشَّاةِ وَنَحْوِهَا تُذْبَحُ فِي يَوْمِ الْأَضْحَى انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ نَوْعُ مُخَالَفَةٍ لِمَا ذُكِرَ فِي مَشَاهِيرِ كُتُبِ اللُّغَةِ مِنْ الْقَامُوسِ وَالصِّحَاحِ وَغَيْرِهِمَا ، فَإِنَّ الْمَذْكُورَ فِيهَا أَنَّ الْأُضْحِيَّةَ شَاةٌ تُذْبَحُ يَوْمَ الْأَضْحَى وَلَمْ يُذْكَرْ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا عُمُومُ الْأُضْحِيَّةِ لِشَيْءٍ مِنْ غَيْرِ الشَّاةِ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ لَفْظُ وَنَحْوِهَا فِي عِبَارَةِ صَاحِبِ النِّهَايَةِ ، وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ : الْأُضْحِيَّةُ فِي اللُّغَةِ اسْمُ

مَا يُذْبَحُ فِي يَوْمِ الْأَضْحَى انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ سَمَاحَةٌ ظَاهِرَةٌ ، فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا يُذْبَحُ فِي يَوْمِ الْأَضْحَى مِنْ مِثْلِ الدَّجَاجَةِ وَالْحَمَامَةِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ لَفْظُ الْأُضْحِيَّةِ لَا بِحَسَبِ الشَّرْعِ وَلَا بِحَسَبِ اللُّغَةِ وَقَالَ صَاحِبَا الْكَافِي وَالْكِفَايَةِ : هِيَ مَا يُضَحَّى بِهَا : أَيْ يُذْبَحُ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ خَلَلٌ بَيِّنٌ ، فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا يُذْبَحُ فِي يَوْمِ الْأَضْحَى وَغَيْرِهِ ، وَإِنَّمَا هَذَا مَعْنَى الذَّبِيحَةِ مُطْلَقًا ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأُضْحِيَّةَ أَخَصُّ مِنْهَا .
ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : وَأَمَّا شَرْعًا فَالْأُضْحِيَّةُ اسْمٌ لِحَيَوَانٍ مَخْصُوصٍ وَهُوَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالضَّأْنُ وَالْمَعَزُ بِسِنٍّ مَخْصُوصٍ ، وَهُوَ الثَّنِيُّ فَصَاعِدًا مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ ، وَالْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ يُذْبَحُ بِنِيَّةِ الْقُرْبَةِ فِي يَوْمٍ مَخْصُوصٍ وَهُوَ يَوْمُ الْأَضْحَى عِنْدَ وُجُودِ شَرَائِطِهَا وَسَبَبِهَا انْتَهَى .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَفِي الشَّرِيعَةِ عِبَارَةٌ عَنْ ذَبْحِ حَيَوَانٍ مَخْصُوصٍ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ وَهُوَ يَوْمُ الْأَضْحَى انْتَهَى .
أَقُولُ : يَرُدُّ عَلَى ظَاهِرِهِ أَنَّ الْأُضْحِيَّةَ فِي الشَّرِيعَةِ عِبَارَةٌ عَمَّا يُذْبَحُ مِنْ حَيَوَانٍ مَخْصُوصٍ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ لَا عَنْ ذَبْحِ ذَلِكَ الْحَيَوَانِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ، فَإِنَّ هَذَا مَعْنَى التَّضْحِيَةِ لَا مَعْنَى الْأُضْحِيَّةِ ، وَقَدْ لَوَّحَ إلَيْهِ صَاحِبُ الْإِصْلَاحِ وَالْإِيضَاحِ حَيْثُ قَالَ : هِيَ فِي الشَّرِيعَةِ مَا يُذْبَحُ فِي يَوْمِ الْأَضْحَى بِنِيَّةِ الْقُرْبَةِ .
وَقَالَ فِيمَا نُقِلَ عَنْهُ : وَمَنْ قَالَ عِبَارَةٌ عَنْ ذَبْحِ حَيَوَانٍ مَخْصُوصٍ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ فَإِنَّهُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْأُضْحِيَّةِ وَالتَّضْحِيَةِ وَانْتَهَى .
أَقُولُ : يُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِحَمْلِ الْكَلَامِ عَلَى الْمُسَامَحَةِ بِنَاءً عَلَى ظُهُورِ الْمُرَادِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِذَبْحِ حَيَوَانٍ مَخْصُوصٍ هُوَ الْحَيَوَانُ الْمَذْبُوحُ نَفْسُهُ ، وَهَذَا كَمَا قِيلَ فِي تَعْرِيفِ

الْعِلْمِ بِحُصُولِ صُورَةِ الشَّيْءِ فِي الْعَقْلِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ هُوَ الصُّورَةُ الْحَاصِلَةُ فِي الْعَقْلِ عَلَى الْمُسَامَحَةِ كَمَا حَقَّقَهُ الشَّرِيفُ الْجُرْجَانِيُّ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ مِنْ تَصَانِيفِهِ .
وَطَعَنَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ فِي التَّعْرِيفِ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ : اعْلَمْ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي التَّعْرِيفِ مِنْ قَيْدٍ آخَرَ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ بِسِنٍّ مَخْصُوصٍ لِئَلَّا يَنْتَقِضَ التَّعْرِيفُ انْتَهَى .
أَقُولُ : يُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ أَيْضًا بِأَنَّ قَوْلَهُ حَيَوَانٍ مَخْصُوصٍ يُغْنِي عَنْ ذَلِكَ الْقَيْدِ الْآخَرِ ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْمَخْصُوصِ مَا يَعُمُّ الْمَخْصُوصَ النَّوْعِيَّ وَهُوَ الْأَنْوَاعُ الْأَرْبَعَةُ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالضَّأْنُ وَالْمَعَزُ ، وَالْمَخْصُوصُ السِّنِّيُّ أَيْضًا وَهُوَ الثَّنِيُّ فَصَاعِدًا مِنْ الْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ ، وَالْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ وَحْدَهُ ، فَلَا يَنْتَقِضُ التَّعْرِيفُ بِشَيْءٍ .
نَعَمْ لَوْ فَصَلَهُ كَمَا وَقَعَ فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا لَكَانَ أَظْهَرَ ، لَكِنَّهُ سَلَكَ مَسْلَكَ الْإِجْمَالِ اعْتِمَادًا عَلَى ظُهُورِ تَفْصِيلِ ذَلِكَ فِي تَضَاعِيفِ الْمَسَائِلِ الْآتِيَةِ .
ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : وَأَمَّا شَرَائِطُهَا فَنَوْعَانِ : شَرَائِطُ الْوُجُوبِ ، وَشَرَائِطُ الْأَدَاءِ .
أَمَّا شَرَائِطُ الْوُجُوبِ فَالْيَسَارُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْإِسْلَامُ وَالْوَقْتُ وَهُوَ أَيَّامُ النَّحْرِ ، حَتَّى لَوْ وَلَدَتْ الْمَرْأَةُ وَلَدًا بَعْدَ أَيَّامِ النَّحْرِ لَا تَجِبُ الْأُضْحِيَّةُ لِأَجْلِهِ .
ثُمَّ قَالَ : وَأَمَّا شَرَائِطُ الْأَدَاءِ فَالْوَقْتُ ، وَلَوْ ذَهَبَ الْوَقْتُ تَسْقُطُ الْأُضْحِيَّةُ ، إلَّا أَنَّ فِي حَقِّ الْمُقِيمِينَ بِالْأَمْصَارِ يُشْتَرَطُ شَرْطٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِيدِ ، ثُمَّ قَالَ : وَأَمَّا سَبَبُهَا فَهُوَ الْمُبْهَمُ فِي هَذَا الْكِتَابِ ، فَإِنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْأُضْحِيَّةِ وَوَصْفَ الْقُدْرَةِ فِيهَا بِأَنَّهَا مُمْكِنَةٌ أَوْ مُيَسَّرَةٌ لَمْ يُذْكَرْ لَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَلَا فِي

فُرُوعِهِ ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَأَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ : إنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْأُضْحِيَّةِ الْوَقْتُ وَهُوَ أَيَّامُ النَّحْرِ وَالْغِنَى شَرْطُ الْوُجُوبِ ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِأَنَّ السَّبَبَ إنَّمَا يُعْرَفُ بِنِسْبَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ وَتَعَلُّقِهِ بِهِ ، إذْ الْأَصْلُ فِي إضَافَةِ الشَّيْءِ إلَى الشَّيْءِ أَنْ يَكُونَ حَادِثًا بِهِ سَبَبًا ، وَكَذَا إذَا لَازَمَهُ فَتَكَرَّرَ بِتَكَرُّرِهِ كَمَا عُرِفَ ثُمَّ هَاهُنَا تَكَرُّرُ وُجُوبِ الْأُضْحِيَّةِ بِتَكَرُّرِ الْوَقْتِ ظَاهِرٌ ، وَكَذَلِكَ الْإِضَافَةُ فَإِنَّهُ يُقَالُ يَوْمُ الْأَضْحَى كَمَا يُقَالُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَيَوْمُ الْعِيدِ ، وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ هُوَ إضَافَةُ الْحُكْمِ إلَى سَبَبِهِ كَمَا فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ ، وَلَكِنْ قَدْ يُضَافُ السَّبَبُ إلَى حُكْمِهِ كَمَا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْإِضَافَةِ فِي الْأُضْحِيَّةِ لَمْ تُوجَدْ فِي حَقِّ الْمَالِ ؛ أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَا يُقَالُ أُضْحِيَّةُ الْمَالِ وَلَا مَالُ الْأُضْحِيَّةِ فَلَا يَكُونُ الْمَالُ سَبَبَهَا انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّ الْوَقْتَ لَمَّا كَانَ شَرْطَ وُجُوبِ الْأُضْحِيَّةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ لَمْ يَبْقَ مَجَالٌ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِوُجُوبِهَا ، لِأَنَّ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا وَسَبَبًا لِشَيْءٍ وَاحِدٍ آخَرَ ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ أَنَّ الشَّرْطَ وَالسَّبَبَ قِسْمَانِ قَدْ اُعْتُبِرَ فِي أَحَدِهِمَا مَا يُنَافِي الْآخَرَ ، فَإِنَّهُ قَدْ اُعْتُبِرَ فِي السَّبَبِ أَنْ يَكُونَ مُوصِلًا إلَى الْمُسَبِّبِ فِي الْجُمْلَةِ ، وَفِي الشَّرْطِ أَنْ يَكُونَ مُوصِلًا إلَى الْمَشْرُوطِ أَصْلًا بَلْ كَانَ وُجُودُ الْمَشْرُوطِ مُتَوَقِّفًا عَلَيْهِ ، وَمِنْ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ وَاحِدٌ مُوصِلًا إلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ آخَرَ ، وَأَنْ لَا يَكُونَ مُوصِلًا إلَيْهِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ لِاقْتِضَائِهِ اجْتِمَاعَ النَّقِيضَيْنِ ، وَعَنْ هَذَا قَالُوا فِي الصَّلَاةِ إنَّ الْوَقْتَ سَبَبٌ لِوُجُوبِهَا وَشَرْطٌ لِأَدَائِهَا فَلَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا وَشَرْطًا بِالنِّسْبَةِ إلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ ( قَوْلُهُ الْأُضْحِيَّةُ

وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ حُرٍّ مُسْلِمٍ مُقِيمٍ مُوسِرٍ فِي يَوْمِ الْأَضْحَى ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ أَخْذًا مِنْ النِّهَايَةِ : وَهِيَ وَاجِبَةٌ بِالْقُدْرَةِ الْمُمْكِنَةِ ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُوسِرَ إذَا اشْتَرَى شَاةً لِلْأُضْحِيَّةِ فِي أَوَّلِ يَوْمِ النَّحْرِ وَلَمْ يُضَحِّ حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ ثُمَّ افْتَقَرَ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِعَيْنِهَا أَوْ بِقِيمَتِهَا وَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ الْأُضْحِيَّةُ ، فَلَوْ كَانَتْ بِالْقُدْرَةِ الْمُيَسِّرَةِ لَكَانَ دَوَامُهَا شَرْطًا كَمَا فِي الزَّكَاةِ وَالْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ حَيْثُ تَسْقُطُ بِهَلَاكِ النِّصَابِ وَالْخَارِجِ وَاصْطِلَامِ الزَّرْعِ آفَةً لَا يُقَالُ أَدْنَى مَا يَتَمَكَّنُ بِهِ الْمَرْءُ مِنْ إقَامَتِهَا تَمَلُّكُ قِيمَةِ مَا يَصْلُحُ لِلْأُضْحِيَّةِ وَلَمْ تَجِبْ إلَّا بِمِلْكِ النِّصَابِ .
فَدَلَّ أَنَّ وُجُوبَهَا بِالْقُدْرَةِ الْمُيَسِّرَةِ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ النِّصَابِ لَا يُنَافِي وُجُوبَهَا بِالْمُمَكِّنَةِ كَمَا فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ ، وَهَذَا لِأَنَّهَا وَظِيفَةٌ مَالِيَّةٌ نَظَرًا إلَى شَرْطِهَا وَهُوَ الْحُرِّيَّةُ فَيُشْتَرَطُ فِيهَا الْغِنَى كَمَا فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ .
لَا يُقَالُ : لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ التَّمْلِيكُ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْقُرَبَ الْمَالِيَّةَ قَدْ تَحْصُلُ بِالْإِتْلَافِ كَالْإِعْتَاقِ وَالْمُضَحِّي إنْ تَصَدَّقَ بِاللَّحْمِ فَقَدْ حَصَلَ النَّوْعَانِ : أَعْنِي التَّمْلِيكَ وَالْإِتْلَافَ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ ، وَإِنْ لَمْ يَتَصَدَّقْ حَصَلَ الْأَخِيرُ ، إلَى هُنَا لَفْظُ الْعِنَايَةِ .
وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى قَوْلِهِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُوسِرَ إذَا اشْتَرَى شَاةً لِلْأُضْحِيَّةِ فِي أَوَّلِ يَوْمِ النَّحْرِ وَلَمْ يُضَحِّ حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ إلَخْ حَيْثُ قَالَ فِيهِ : إنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا كَانَ فَقِيرًا حِينَ اشْتَرَاهَا لَهَا وَلَمْ يُضَحِّ حَتَّى مَضَتْ الْأَيَّامُ فَكَذَا الْحُكْمُ .
فَفِي دَلَالَةِ مَا ذَكَرَهُ عَلَى مَطْلُوبِهِ بَحْثٌ ، إذْ لَيْسَ فِي الْفَقِيرِ قُدْرَةٌ لَا مُمَكِّنَةٌ وَلَا مُيَسِّرَةٌ ، فَذَلِكَ لِلِاشْتِرَاءِ بِنِيَّةِ الْأُضْحِيَّةِ لَا لِلْقُدْرَةِ فَلْيُتَأَمَّلْ انْتَهَى .

أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ ، إذْ لَا نِزَاعَ لِأَحَدٍ فِي أَنَّ عِلَّةَ وُجُوبِ الْأُضْحِيَّةِ عَلَى الْمُوسِرِ هِيَ الْقُدْرَةُ عَلَى النِّصَابِ ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ هُنَا فِي أَنَّ الْقُدْرَةَ الَّتِي تَجِبُ بِهَا الْأُضْحِيَّةُ عَلَى الْمُوسِرِ هَلْ هِيَ الْقُدْرَةُ الْمُمَكِّنَةُ أَمْ الْقُدْرَةُ الْمُيَسِّرَةُ ، فَاسْتَدَلَّ صَاحِبُ النِّهَايَةِ عَلَى أَنَّهَا هِيَ الْقُدْرَةُ الْمُمَكِّنَةُ بِمَسْأَلَةٍ ذُكِرَتْ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ ، وَهِيَ أَنَّ الْمُوسِرَ إذَا اشْتَرَى شَاةً لِلْأُضْحِيَّةِ فِي أَوَّلِ أَيَّامِ النَّحْرِ فَلَمْ يُضَحِّ حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ ثُمَّ افْتَقَرَ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِعَيْنِهَا أَوْ بِقِيمَتِهَا وَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ الْأُضْحِيَّةُ ، وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ ، وَلَا شَكَّ فِي اسْتِقَامَةِ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ ، إذْ لَوْ كَانَ وُجُوبُهَا بِالْقُدْرَةِ الْمُيَسِّرَةِ لَكَانَ دَوَامُهَا شَرْطًا عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ ، وَلَا يَضُرُّهُ اشْتِرَاكُ الْمُعْسِرِ مَعَ الْمُوسِرِ فِي حُكْمِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ وُجُوبُ التَّصَدُّقِ بِعَيْنِهَا أَوْ بِقِيمَتِهَا ، لِأَنَّ عِلَّةَ الْوُجُوبِ فِي الْمُعْسِرِ هِيَ الِاشْتِرَاءُ بِنِيَّةِ الْأُضْحِيَّةِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ لَا الْقُدْرَةُ ، وَعِلَّتُهُ فِي الْمُوسِرِ هِيَ الْقُدْرَةُ لَا الِاشْتِرَاءُ بِنِيَّةِ الْأُضْحِيَّةِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ أَيْضًا ، فَبَعْدَ أَنْ تَقَرَّرَ أَنَّ عِلَّتَهُ فِي الْمُوسِرِ هِيَ الْقُدْرَةُ لَا غَيْرُ .
تَكُونُ تِلْكَ الْمَسْأَلَةُ دَلِيلًا وَاضِحًا عَلَى تَعْيِينِ أَنَّ الْمُرَادَ بِتِلْكَ الْقُدْرَةِ هِيَ الْمُمَكِّنَةُ لَا الْمُيَسِّرَةُ ، عَلَى أَنَّ اشْتِرَاكَ الْمُعْسِرِ مَعَ الْمُوسِرِ فِي حُكْمِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ مَمْنُوعٌ إذَا الْوَاجِبُ فِي صُورَةٍ إنْ كَانَ الْمُشْتَرِي مُعْسِرًا هُوَ التَّصَدُّقُ بِعَيْنِهَا حَيَّةً لَا غَيْرُ ، بِخِلَافِ إنْ كَانَ مُوسِرًا كَمَا سَيَجِيءُ فِي الْكِتَابِ مُفَصَّلًا .
وَقَالَ ذَلِكَ الْبَعْضُ : ثُمَّ ظَاهِرُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَتَفُوتُ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ وُجُوبَهَا لَيْسَ بِالْقُدْرَةِ الْمُمَكِّنَةِ ،

وَإِلَّا لَمْ تَسْقُطْ وَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُضَحِّيَ وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِ شَاةً فِي يَوْمِ النَّحْرِ ا هـ .
أَقُولُ : وَلَيْسَ هَذَا أَيْضًا بِشَيْءٍ ، لِأَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ هُنَاكَ فَوَاتُ أَدَاءِ الضَّحِيَّةِ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ لَا سُقُوطُهَا بِالْكُلِّيَّةِ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ أَيْضًا ، فَإِنَّ الْأَدَاءَ وَهُوَ تَسْلِيمُ عَيْنِ الثَّابِتِ بِالْأَمْرِ يَفُوتُ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ فِي الْوَاجِبَاتِ الْمُؤَقَّتَةِ مُطْلَقًا ، لِأَنَّ الْوَقْتَ شَرْطٌ لِأَدَائِهَا عَلَى مَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ .
وَأَمَّا الْقَضَاءُ وَهُوَ تَسْلِيمُ مِثْلِ الْوَاجِبِ بِالْأَمْرِ فَلَا يَسْقُطُ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ ، وَإِنَّمَا الْفَائِتُ بِمُضِيِّهِ شَرْطُ الْوَقْتِ لَا غَيْرُ ، وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِيهِ أَيْضًا أَنَّ الْقَضَاءَ قَدْ يَكُونُ بِمِثْلٍ مَعْقُولٍ كَالصَّلَاةِ لِلصَّلَاةِ ، وَقَدْ يَكُونُ بِمِثْلٍ غَيْرِ مَعْقُولٍ كَالْفِدْيَةِ لِلصَّوْمِ وَثَوَابِ النَّفَقَةِ لِلْحَجِّ ، وَعَدُّوا الْأُضْحِيَّةَ مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي وَقَالُوا : إنَّ أَدَاءَهَا فِي وَقْتِهَا بِإِرَاقَةِ الدَّمِ وَقَضَاءَهَا بَعْدَ مُضِيِّ وَقْتِهَا بِالتَّصَدُّقِ بِعَيْنِهَا أَوْ بِقِيمَتِهَا ، فَقَوْلُ ذَلِكَ الْبَعْضِ ثُمَّ ظَاهِرُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَتَفُوتُ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ وُجُوبَهَا لَيْسَ بِالْقُدْرَةِ الْمُمَكِّنَةِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ ، وَقَوْلُهُ وَإِلَّا لَمْ تَسْقُطْ وَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُضَحِّيَ وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِ شَاةً فِي يَوْمِ النَّحْرِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ ، إذْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِسُقُوطِهَا بَعْدَ وُجُوبِهَا حَتَّى يَصِحَّ قَوْلُهُ وَإِلَّا لَمْ تَسْقُطْ ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِصِحَّةِ أَدَاءِ الْمُؤَقَّتَاتِ بَعْدَ مُضِيِّ وَقْتِهَا حَتَّى يَصِحَّ قَوْلُهُ وَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُضَحِّيَ وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِ شَاةً فِي يَوْمِ النَّحْرِ فَإِنَّ التَّضْحِيَةَ إرَاقَةُ الدَّمِ ، وَهِيَ إنَّمَا تُقْبَلُ فِي وَقْتِ الْأَدَاءِ لَا بَعْدَهُ ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَلْزَمُ بَعْدَهُ قَضَاؤُهَا وَهُوَ إنَّمَا يَكُونُ بِالتَّصَدُّقِ بِعَيْنِهَا أَوْ بِقِيمَتِهَا لَا بِغَيْرِهِ .
ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ

الْبَعْضُ : وَسَيَقُولُ الْمُصَنِّفُ إنَّهَا تُشْبِهُ الزَّكَاةَ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا تَسْقُطُ بِهَلَاكِ الْمَالِ قَبْلَ مُضِيِّ أَيَّامِ النَّحْرِ كَالزَّكَاةِ تَسْقُطُ بِهَلَاكِ النِّصَابِ ، بِخِلَافِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ لِأَنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِهَلَاكِ الْمَالِ بَعْدَ مَا طَلَعَ الْفَجْرُ مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ انْتَهَى .
وَهَذَا كَالصَّرِيحِ فِي أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهَا هُوَ الْقُدْرَةُ الْمُيَسِّرَةُ ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
أَقُولُ : وَهَذَا أَيْضًا سَاقِطٌ جِدًّا ، لِأَنَّ الْأُضْحِيَّةَ إنَّمَا تَسْقُطُ بِهَلَاكِ الْمَالِ قَبْلَ مُضِيِّ أَيَّامِ النَّحْرِ لَا بِهَلَاكِهِ بَعْدَ مُضِيِّهَا ، حَتَّى لَوْ افْتَقَرَ بَعْدَ مُضِيِّهَا كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِعَيْنِهَا أَوْ بِقِيمَتِهَا كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ .
وَوَجْهُ ذَلِكَ مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ مِنْ أَنَّ وُجُوبَ الْأَدَاءِ فِي الْمُؤَقَّتَاتِ الَّتِي يَفْضُلُ الْوَقْتُ عَنْ أَدَائِهَا كَالصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا إنَّمَا يَثْبُتُ آخِرَ الْوَقْتِ ، إذْ هُنَا يَتَوَجَّهُ الْخِطَابُ حَقِيقَةً لِأَنَّهُ فِي ذَلِكَ الْآنَ يَأْثَمُ بِالتَّرْكِ لَا قَبْلَهُ ، حَتَّى إذَا مَاتَ فِي الْوَقْتِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ .
وَالْأُضْحِيَّةُ مِنْ هَاتِيكَ الْمُؤَقَّتَاتِ فَتَسْقُطُ بِهَلَاكِ الْمَالِ قَبْلَ مُضِيِّ وَقْتِهَا ، وَلَا تَسْقُطُ بِهَلَاكِهِ بَعْدَ مُضِيِّ وَقْتِهَا لِتَقَرُّرِ سَبَبِ وُجُوبِ أَدَائِهَا إذْ ذَاكَ ، بَلْ يَلْزَمُ قَضَاؤُهَا بِالتَّصَدُّقِ بِعَيْنِهَا أَوْ بِقِيمَتِهَا ، بِخِلَافِ الزَّكَاةِ فَإِنَّهَا مِنْ الْوَاجِبَاتِ الْمُطْلَقَةِ دُونَ الْمُؤَقَّتَةِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ فَتَسْقُطُ بِهَلَاكِ النِّصَابِ مُطْلَقًا : أَيْ فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ لِاعْتِبَارِ الْقُدْرَةِ الْمُيَسِّرَةِ فِيهَا ، وَمِنْ شَرْطِ تِلْكَ الْقُدْرَةِ بَقَاؤُهَا لِبَقَاءِ الْوَاجِبِ لِئَلَّا يَنْقَلِبَ إلَى الْعُسْرِ كَمَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ، فَلَوْ كَانَ الْمُعْتَبَرُ فِي الْأُضْحِيَّةِ أَيْضًا هُوَ الْقُدْرَةُ الْمُيَسِّرَةُ لَزِمَ أَنْ تَسْقُطَ الْأُضْحِيَّةُ أَدَاءً وَقَضَاءً بِهَلَاكِ الْمَالِ بَعْدَ أَيَّامِ النَّحْرِ أَيْضًا لِكَوْنِ دَوَامِ الْقُدْرَةِ

الْمُيَسِّرَةِ شَرْطًا لَا مَحَالَةَ وَمُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ الْمَزْبُورِ بَيَانُ مُشَابَهَةِ الْأُضْحِيَّةِ بِالزَّكَاةِ فِي مُجَرَّدِ سُقُوطِهَا بِهَلَاكِ الْمَالِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ لَا فِي السُّقُوطِ بِهَلَاكِهِ فِي كُلِّ حَالٍ .
وَمِنْ الْبَيِّنِ فِيهِ قَوْلُهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا تَسْقُطُ بِهَلَاكِ الْمَالِ قَبْلَ مُضِيِّ أَيَّامِ النَّحْرِ كَالزَّكَاةِ بِهَلَاكِ النِّصَابِ حَيْثُ قَيَّدَ هَلَاكَ الْمَالِ بِكَوْنِهِ قَبْلَ مُضِيِّ أَيَّامِ النَّحْرِ فِي سُقُوطِ الْأُضْحِيَّةِ ، وَأَطْلَقَ هَلَاكَ النِّصَابِ فِي سُقُوطِ الزَّكَاةِ ، وَالْعَجَبُ أَنَّ هَذَا الْفَرْقَ مَعَ وُضُوحِهِ كَيْفَ خَفِيَ عَلَى ذَلِكَ الْبَعْضِ حَتَّى جَعَلَ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ كَالصَّرِيحِ فِي خِلَافِهِ ( قَوْلُهُ وَوَجْهُ الْوُجُوبِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ وَجَدَ سَعَةً وَلَمْ يُضَحِّ فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا } وَمِثْلُ هَذَا الْوَعِيدِ لَا يَلْحَقُ بِتَرْكِ غَيْرِ الْوَارِدِ ) اعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ تَرَكَ سُنَّتِي لَمْ تَنَلْهُ شَفَاعَتِي } وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى التَّرْكِ اعْتِقَادًا أَوْ التَّرْكِ أَصْلًا ، فَإِنَّ تَرْكَ السُّنَّةِ أَصْلًا حَرَامٌ قَدْ تَجِبُ الْمُقَاتَلَةُ بِهِ ، لِأَنَّ فِيهِ تَرْكَ الْأَذَانِ وَلَا مُقَاتَلَةَ فِي غَيْرِ الْحَرَامِ ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا .
أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : ذَاكَ التَّأْوِيلُ مُحْتَمَلٌ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الْحَدِيثِ أَيْضًا بِأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " وَلَمْ يُضَحِّ " هُوَ تَرْكُ التَّضْحِيَةِ اعْتِقَادًا أَوْ تَرْكُهَا أَصْلًا فَلَا يَتِمُّ الِاسْتِدْلَال بِهِ عَلَى الْوُجُوبِ كَمَا لَا يَخْفَى ، ثُمَّ قَالَ فِي الْعِنَايَةِ : وَعُورِضَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { كُتِبَتْ عَلَيَّ الْأُضْحِيَّةُ وَلَمْ تُكْتَبْ عَلَيْكُمْ } وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { ضَحُّوا فَإِنَّهَا سُنَّةُ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ } وَبِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَا لَا يُضَحِّيَانِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ مَخَافَةَ أَنْ

يَرَاهَا النَّاسُ وَاجِبَةً .
وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْمَكْتُوبَةَ الْفَرْضُ ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِأَنَّهَا غَيْرُ فَرْضٍ وَإِنَّمَا هِيَ وَاجِبَةٌ وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّهُ مُشْتَرِكُ الْإِلْزَامِ ، فَإِنَّ قَوْلَهُ " ضَحُّوا " أَمْرٌ وَهُوَ لِلْوُجُوبِ ، وَقَوْلُهُ " فَإِنَّهَا سُنَّةُ أَبِيكُمْ " أَيْ طَرِيقَتُهُ ، فَالسُّنَّةُ هِيَ الطَّرِيقَةُ الْمَسْلُوكَةُ فِي الدِّينِ .
وَعَنْ الثَّالِثِ بِأَنَّهُمَا كَانَا لَا يُضَحِّيَانِ فِي حَالَةٍ الْإِعْسَارِ مَخَافَةَ أَنْ يَرَاهَا النَّاسُ وَاجِبَةً عَلَى الْمُعْسِرِينَ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِي تَقْرِيرِهِ الْجَوَابَ عَنْ الثَّانِي خَلَلٌ فَإِنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ مُشْتَرِكُ الْإِلْزَامِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ قَوْلُهُ ضَحُّوا أَمْرًا وَكَانَ الْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ وَجَازَ أَنْ تُحْمَلَ السُّنَّةُ فِي قَوْلِهِ " فَإِنَّهَا سُنَّةُ أَبِيكُمْ " عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمَسْلُوكَةِ فِي الدِّينِ وَهِيَ تَعُمُّ الْوَاجِبَ أَيْضًا تَعَيَّنَ جَانِبُنَا وَلَمْ نَشْتَرِكْ فِي الْإِلْزَامِ قَطُّ ، فَالصَّوَابُ فِي تَقْرِيرِ الْجَوَابِ عَنْ الثَّانِي مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكَافِي حَيْثُ قَالَ : وَقَوْلُهُ ضَحُّوا دَلِيلُنَا لِأَنَّهُ أَمْرٌ فَيُفِيدُ الْوُجُوبَ ، وَقَوْلُهُ فَإِنَّهَا سُنَّةُ أَبِيكُمْ لَا يَنْفِي الْوُجُوبَ لِأَنَّ السُّنَّةَ هِيَ الطَّرِيقَةُ فِي الدِّينِ وَاجِبَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ وَاجِبَةٍ انْتَهَى .
وَأَوْرَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى الْجَوَابِ عَنْ الْأَوَّلِ حَيْثُ قَالَ : فِيهِ بَحْثٌ ، فَإِنَّهُ رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { ثَلَاثٌ كُتِبَتْ عَلَيَّ وَهُنَّ لَكُمْ تَطَوُّعٌ } الْحَدِيثَ انْتَهَى .
أَقُولُ : الْمَقْصُودُ مِنْ الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ دَفْعُ مُعَارَضَةِ الْخَصْمِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { كُتِبَتْ عَلَيَّ الْأُضْحِيَّةُ وَلَمْ تُكْتَبْ عَلَيْكُمْ } وَلَا شَكَّ فِي انْدِفَاعِ تِلْكَ الْمُعَارَضَةِ بِالْجَوَابِ الْمَذْكُورِ ، وَمَا ذَكَرَهُ ذَلِكَ الْبَعْضُ مِنْ رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ لَا يَقْدَحُ فِي تَمَامِ ذَلِكَ الْجَوَابِ بِالنَّظَرِ إلَى مَا

هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ مُعَارَضَةً أُخْرَى لِأَصْلِ الْمُدَّعَى ، وَلَعَلَّ جُمْهُورَ الشُّرَّاحِ إنَّمَا لَمْ يَتَعَرَّضُوا لِلْجَوَابِ عَنْهُ أَصَالَةً لِكَوْنِهِ ضَعِيفًا غَيْرَ صَالِحٍ لِلْمُعَارَضَةِ لِمَا رَوَيْنَا ، لِأَنَّ الدَّارَقُطْنِيّ أَخْرَجَهُ عَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا وَجَابِرٌ الْجُعْفِيُّ ضَعِيفٌ كَمَا ذَكَرَهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ .
وَقَالَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ : وَرُوِيَ مِنْ طُرُقٍ أُخْرَى وَهُوَ ضَعِيفٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ انْتَهَى ( قَوْلُهُ وَبِالْوَقْتِ وَهُوَ يَوْمُ الْأَضْحَى لِأَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِهِ ) أَقُولُ : هُنَا شَائِبَةُ مُصَادَرَةٍ ، لِأَنَّ قَوْلَهُ وَبِالْوَقْتِ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ بِالْحُرِّيَّةِ فِي قَوْلِهِ وَإِنَّمَا اخْتَصَّ الْوُجُوبُ بِالْحُرِّيَّةِ فَيَصِيرُ الْمَعْنَى : وَإِنَّمَا اخْتَصَّ وُجُوبُ الْأُضْحِيَّةِ بِالْوَقْتِ الَّذِي هُوَ يَوْمُ الْأَضْحَى لِأَنَّهَا : أَيْ الْأُضْحِيَّةَ مُخْتَصَّةٌ بِهِ : أَيْ بِذَلِكَ الْوَقْتِ فَيَئُولُ إلَى تَعْلِيلِ الِاخْتِصَاصِ بِالِاخْتِصَاصِ كَمَا تَرَى .
لَا يُقَالُ : الْمَذْكُورُ فِي الْعِلَّةِ اخْتِصَاصُ الْأُضْحِيَّةِ نَفْسِهَا بِذَلِكَ الْوَقْتِ ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْمُدَّعَى اخْتِصَاصُ وُجُوبِ الْأُضْحِيَّةِ فَاللَّازِمُ هُنَا تَعْلِيلُ اخْتِصَاصِ وُجُوبِ الْأُضْحِيَّةِ بِذَلِكَ الْوَقْتِ بِاخْتِصَاصِ نَفْسِ الْأُضْحِيَّةِ بِهِ وَلَا مُصَادَرَةَ فِيهِ .
لِأَنَّا نَقُولُ : لَا مَعْنَى لِاخْتِصَاصِ الْأُضْحِيَّةِ بِذَلِكَ الْوَقْتِ سِوَى اخْتِصَاصِ وُجُوبِهَا بِهِ إذْ لَا شَكَّ فِي إمْكَانِ عَمَلِ التَّضْحِيَةِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِهِ أَنَّ وُجُوبَهَا مُخْتَصٌّ بِهِ فَيَلْزَمُ الْمَحْذُورُ الْمَذْكُورُ ، وَكَأَنَّ صَاحِبَ الْكَافِي تَنَبَّهَ لِهَذَا حَيْثُ غَيَّرَ عِبَارَةَ الْمُصَنِّفِ فِيمَا قَبْلُ فَقَالَ بَدَلَ قَوْلِهِ وَإِنَّمَا اخْتَصَّ الْوُجُوبُ بِالْحُرِّيَّةِ إلَخْ ، وَالتَّقْيِيدُ بِالْحُرِّيَّةِ لِأَنَّهَا قُرْبَةٌ مَالِيَّةٌ مُفْتَقِرَةٌ إلَى الْمِلْكِ وَالْحُرُّ هُوَ الْمَالِكُ ثُمَّ قَالَ : وَالْوَقْتِ

لِاخْتِصَاصِهَا بِهِ فَاللَّازِمُ حِينَئِذٍ تَعْلِيلُ التَّقْيِيدِ بِالْوَقْتِ بِاخْتِصَاصِ الْأُضْحِيَّةِ بِذَلِكَ الْوَقْتِ وَلَا مُصَادَرَةَ فِيهِ .
فَإِنْ قُلْت : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ وَإِنَّمَا اخْتَصَّ الْوُجُوبَ بِالْحُرِّيَّةِ وَإِنَّمَا اخْتَصَّهُ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ بِالْحُرِّيَّةِ عَلَى أَنْ يَكُونَ كَلِمَةُ ( اخْتَصَّ ) مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ ( وَالْوُجُوبَ ) مَفْعُولَهُ وَيَكُونُ مُرَادُهُ هُنَا بِقَوْلِهِ لِأَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِهِ أَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِهِ فِي الشَّرْعِ ، فَاللَّازِمُ تَعْلِيلُ تَخْصِيصِ الْقُدُورِيِّ وُجُوبَ الْأُضْحِيَّةِ بِالْوَقْتِ بِاخْتِصَاصِ الْأُضْحِيَّةِ فِي الشَّرْعِ بِذَلِكَ الْوَقْتِ وَلَا مُصَادَرَةَ فِيهِ .
قُلْت : فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ مَعْنَى الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ بِمَنْزِلَةِ اللَّغْوِ ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بَيَانُ الِاخْتِصَاصِ الشَّرْعِيِّ ، وَتَعْلِيلُ ذَلِكَ الِاخْتِصَاصِ كَمَا فَعَلَهُ بِاخْتِصَاصِهِ بِالْحُرِّيَّةِ وَبِالْإِسْلَامِ وَبِالْإِقَامَةِ وَبِالْيَسَارِ .
وَعَلَى الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْمُبَيَّنُ وَالْمُعَلَّلُ هُنَا مُجَرَّدَ تَخْصِيصِ الْقُدُورِيِّ وُجُوبَهَا بِالْوَقْتِ بِدُونِ أَنْ يُبَيِّنَ وَيُعْلِمَ اخْتِصَاصَهُ الشَّرْعِيَّ بِذَلِكَ الْوَقْتِ بِشَيْءٍ أَصْلًا ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ

قَالَ ( وَيَذْبَحُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَاةً أَوْ يَذْبَحُ بَقَرَةً أَوْ بَدَنَةً عَنْ سَبْعَةٍ ) وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَجُوزَ إلَّا عَنْ وَاحِدٍ ، لِأَنَّ الْإِرَاقَةَ وَاحِدَةٌ وَهِيَ الْقُرْبَةُ ، إلَّا أَنَّا تَرَكْنَاهُ بِالْأَثَرِ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ { نَحَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ وَالْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ } .
وَلَا نَصَّ فِي الشَّاةِ ، فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ .
وَتَجُوزُ عَنْ سِتَّةٍ أَوْ خَمْسَةٍ أَوْ ثَلَاثَةٍ ، ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْأَصْلِ ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ عَنْ السَّبْعَةِ فَعَمَّنْ دُونَهُمْ أَوْلَى ، وَلَا تَجُوزُ عَنْ ثَمَانِيَةٍ أَخْذًا بِالْقِيَاسِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ وَكَذَا إذَا كَانَ نَصِيبُ أَحَدِهِمْ أَقَلَّ مِنْ السُّبُعِ ، وَلَا تَجُوزُ عَنْ الْكُلِّ لِانْعِدَامِ وَصْفِ الْقُرْبَةِ فِي الْبَعْضِ ، وَسَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَقَالَ مَالِكٌ : تَجُوزُ عَنْ أَهْلِ بَيْتٍ وَاحِدٍ وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ سَبْعَةٍ ، وَلَا تَجُوزُ عَنْ أَهْلِ بَيْتَيْنِ وَإِنْ كَانُوا أَقَلَّ مِنْهَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { عَلَى كُلِّ أَهْلِ بَيْتٍ فِي كُلِّ عَامٍ أَضْحَاةٌ وَعَتِيرَةٌ } قُلْنَا : الْمُرَادُ مِنْهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَيِّمُ أَهْلِ الْبَيْتِ لِأَنَّ الْيَسَارَ لَهُ يُؤَيِّدُهُ مَا يُرْوَى { عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فِي كُلِّ عَامٍ أَضْحَاةٌ وَعَتِيرَةٌ } وَلَوْ كَانَتْ الْبَدَنَةُ بَيْنَ نِصْفَيْنِ تَجُوزُ فِي الْأَصَحِّ ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ ثَلَاثَةُ الْأَسْبَاعِ جَازَ نِصْفُ السُّبُعِ تَبَعًا ، وَإِذَا جَازَ عَلَى الشَّرِكَةِ فَقِسْمَةُ اللَّحْمِ بِالْوَزْنِ لِأَنَّهُ مَوْزُونٌ ، وَلَوْ اقْتَسَمُوا جُزَافًا لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا كَانَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْأَكَارِعِ وَالْجِلْدِ اعْتِبَارًا بِالْبَيْعِ .

قَالَ ( وَلَوْ اشْتَرَى بَقَرَةً يُرِيدُ أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ ثُمَّ اشْتَرَكَ فِيهَا سِتَّةٌ مَعَهُ جَازَ اسْتِحْسَانًا ) وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ لِأَنَّهُ أَعَدَّهَا لِلْقُرْبَةِ فَيُمْنَعُ عَنْ بَيْعِهَا تَمَوُّلًا وَالِاشْتِرَاكُ هَذِهِ صِفَتُهُ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ قَدْ يَجِدُ بَقَرَةً سَمِينَةً يَشْتَرِيهَا وَلَا يَظْفَرُ بِالشُّرَكَاءِ وَقْتَ الْبَيْعِ ، وَإِنَّمَا يَطْلُبُهُمْ بَعْدَهُ فَكَانَتْ الْحَاجَةُ إلَيْهِ مَاسَّةً فَجَوَّزْنَاهُ دَفْعًا لِلْحَرَجِ ، وَقَدْ أَمْكَنَ لِأَنَّ بِالشِّرَاءِ لِلتَّضْحِيَةِ لَا يَمْتَنِعُ الْبَيْعُ ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ قَبْلَ الشِّرَاءِ لِيَكُونَ أَبْعَدَ عَنْ الْخِلَافِ ، وَعَنْ صُورَةِ الرُّجُوعِ فِي الْقُرْبَةِ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُكْرَهُ الِاشْتِرَاكُ بَعْدَ الشِّرَاءِ لِمَا بَيَّنَّا .

قَالَ ( وَلَيْسَ عَلَى الْفَقِيرِ وَالْمُسَافِرِ أُضْحِيَّةٌ ) لِمَا بَيَّنَّا .
وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ كَانَا لَا يُضَحِّيَانِ إذَا كَانَا مُسَافِرَيْنِ ، وَعَنْ عَلِيٍّ : وَلَيْسَ عَلَى الْمُسَافِرِ جُمُعَةٌ وَلَا أُضْحِيَّةٌ

قَالَ ( وَوَقْتُ الْأُضْحِيَّةِ يَدْخُلُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ ) ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَهْلِ الْأَمْصَارِ الذَّبْحُ حَتَّى يُصَلِّيَ الْإِمَامُ الْعِيدَ ، فَأَمَّا أَهْلُ السَّوَادِ فَيَذْبَحُونَ بَعْدَ الْفَجْرِ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ ذَبَحَ شَاةً قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلْيُعِدْ ذَبِيحَتَهُ ، وَمَنْ ذَبَحَ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَقَدْ تَمَّ نُسُكُهُ وَأَصَابَ سُنَّةَ الْمُسْلِمِينَ } وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ أَوَّلَ نُسُكِنَا فِي هَذَا الْيَوْمِ الصَّلَاةُ ثُمَّ الْأُضْحِيَّةُ } غَيْرُ أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ فِي حَقِّ مَنْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَهُوَ الْمِصْرِيُّ دُونَ أَهْلِ السَّوَادِ ، لِأَنَّ التَّأْخِيرَ لِاحْتِمَالِ التَّشَاغُلِ بِهِ عَنْ الصَّلَاةِ ، وَلَا مَعْنَى لِلتَّأْخِيرِ فِي حَقِّ الْقَرَوِيِّ وَلَا صَلَاةَ عَلَيْهِ ، وَمَا رَوَيْنَاهُ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي نَفْيِهِمَا الْجَوَازَ بَعْدَ الصَّلَاةِ قَبْلَ نَحْرِ الْإِمَامِ ، ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ مَكَانُ الْأُضْحِيَّةِ ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ فِي السَّوَادِ وَالْمُضَحِّي فِي الْمِصْرِ يَجُوزُ كَمَا انْشَقَّ الْفَجْرُ ، وَلَوْ كَانَ عَلَى الْعَكْسِ لَا يَجُوزُ إلَّا بَعْدَ الصَّلَاةِ .
وَحِيلَةُ الْمِصْرِيِّ إذَا أَرَادَ التَّعْجِيلَ أَنْ يَبْعَثَ بِهَا إلَى خَارِجِ الْمِصْرِ فَيُضَحِّيَ بِهَا كَمَا طَلَعَ الْفَجْرُ ، لِأَنَّهَا تُشْبِهُ الزَّكَاةَ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا تَسْقُطُ بِهَلَاكِ الْمَالِ قَبْلَ مُضِيِّ أَيَّامِ النَّحْرِ كَالزَّكَاةِ بِهَلَاكِ النِّصَابِ فَيُعْتَبَرُ فِي الصَّرْفِ مَكَانُ الْمَحَلِّ لَا مَكَانُ الْفَاعِلِ اعْتِبَارًا بِهَا ، بِخِلَافِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ لِأَنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِهَلَاكِ الْمَالِ بَعْدَمَا طَلَعَ الْفَجْرُ مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ

( قَوْلُهُ وَوَقْتُ الْأُضْحِيَّةِ يَدْخُلُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَهْلِ الْأَمْصَارِ الذَّبْحُ حَتَّى يُصَلِّيَ الْإِمَامُ الْعِيدَ ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ تُشِيرُ إلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ بِقَوْلِهِ وَمَنْ ضَحَّى قَبْلَ الصَّلَاةِ فِي الْمِصْرِ لَا يُجْزِيهِ لِعَدَمِ الشَّرْطِ لَا لِعَدَمِ الْوَقْتِ .
أَقُولُ : فِي هَذَا إشْكَالٌ ، لِأَنَّ الْحَدِيثَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ فِيمَا بَعْدُ وَجَعَلَهُمَا الْأَصْلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَكَذَا سَائِرُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي بَيَانِ وَقْتِ جَوَازِ التَّضْحِيَةِ لَا يَدُلُّ شَيْءٌ مِنْهَا عَلَى دُخُولِ وَقْتِ الْأُضْحِيَّةِ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ فِي حَقِّ أَهْلِ الْأَمْصَارِ ، بَلْ يَدُلُّ ظَاهِرُ كُلٍّ مِنْهَا عَلَى أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِهَا فِي حَقِّ مَنْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَمِنْ أَيْنَ أَخَذَ دُخُولَهَا وَقْتَهَا بِطُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ فِي حَقِّ أَهْلِ الْأَمْصَارِ أَيْضًا ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَتَحَقَّقَ الْمَأْخَذُ لِذَلِكَ فَالْإِشْكَالُ بَاقٍ ، لِأَنَّهُ إذْ لَمْ تَتَأَدَّ الْأُضْحِيَّةُ بِالذَّبْحِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ قَبْلَ الصَّلَاةِ فِي حَقِّ أَهْلِ الْأَمْصَارِ بَلْ لَمْ يُمْكِنْ أَدَاؤُهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ فِي حَقِّهِمْ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الشَّرْطِ فَمَا مَعْنَى جَعْلِ ذَلِكَ الْوَقْتِ قَبْلَ الصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ وَقْتًا لِلْأُضْحِيَّةِ فِي حَقِّ أَهْلِ الْأَمْصَارِ أَيْضًا ، وَمَا ثَمَرَةُ ذَلِكَ ؟ وَالظَّاهِرُ أَنَّ ثَمَرَةَ كَوْنِ وَقْتٍ مَا وَقْتَ الْوَاجِبِ صِحَّةُ أَدَاءِ ذَلِكَ الْوَاجِبِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَلَا أَقَلَّ مِنْ إمْكَانِ أَدَائِهِ فِيهِ فَتَأَمَّلْ .
ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْوِقَايَةِ قَالَ فِي تَحْرِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : وَأَوَّلُ وَقْتِهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ إنْ ذَبَحَ فِي مِصْرٍ ، وَبَعْدَ طُلُوعِ فَجْرِ يَوْمِ النَّحْرِ إنْ ذَبَحَ فِي غَيْرِهِ ، وَآخِرُهُ قُبَيْلَ غُرُوبِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ انْتَهَى .
وَرَدَّ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْإِصْلَاحِ وَالْإِيضَاحِ حَيْثُ

قَالَ فِي مَتْنِهِ : وَأَوَّلُ وَقْتِهَا بَعْدَ طُلُوعِ فَجْرِ يَوْمِ النَّحْرِ ، وَآخِرُهُ قُبَيْلَ غُرُوبِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ ، وَشَرَطَ تَقْدِيمَ الصَّلَاةِ عَلَيْهَا إنْ ذَبَحَ فِي مِصْرٍ ، وَإِنْ ذَبَحَ فِي غَيْرِهِ لَا .
وَقَالَ فِيمَا نُقِلَ عَنْهُ فِي الْحَاشِيَةِ : هَذَا مِنْ الْمَوَاضِعِ الَّتِي أَخْطَأَ فِيهَا تَاجُ الشَّرِيعَةِ حَيْثُ زَعَمَ أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِهَا يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ مَكَانِ الْفِعْلِ وَلَمْ يَتَنَبَّهْ لَهُ تَاجُ الشَّرِيعَةِ .
انْتَهَى كَلَامُهُ .
أَقُولُ : لَا خَطَأَ فِي كَلَامِ تَاجِ الشَّرِيعَةِ أَصْلًا ، فَإِنَّ مُرَادَهُ بِقَوْلِهِ وَأَوَّلُ وَقْتِهَا أَوَّلُ وَقْتِ أَدَائِهَا لَا أَوَّلُ وَقْتِ وُجُوبِهَا ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ إذَا كَانَ تَقْدِيمُ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ شَرْطًا فِي حَقِّ أَهْلِ الْأَمْصَارِ كَانَ أَوَّلُ وَقْتِ أَدَائِهَا فِي حَقِّهِمْ بَعْدَ الصَّلَاةِ ، وَإِنْ كَانَ أَوَّلُ وَقْتِ وُجُوبِهَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ وَيُؤَيِّدُهُ جِدًّا عِبَارَةُ الْإِمَامِ قَاضِي خَانْ فِي فَتَاوَاهُ حَيْثُ قَالَ : وَوَقْتُ الْأَدَاءِ لِمَنْ كَانَ فِي الْمِصْرِ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ عَنْ صَلَاةِ الْعِيدِ انْتَهَى

وَلَوْ ضَحَّى بَعْدَمَا صَلَّى أَهْلُ الْمَسْجِدِ وَلَمْ يُصَلِّ أَهْلُ الْجَبَّانَةِ أَجْزَأَهُ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّهَا صَلَاةٌ مُعْتَبَرَةٌ ، حَتَّى لَوْ اكْتَفَوْا بِهَا أَجْزَأَتْهُمْ وَكَذَا عَلَى عَكْسِهِ .
وَقِيلَ هُوَ جَائِزٌ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا .
( قَوْلُهُ وَلَوْ ضَحَّى بَعْدَمَا صَلَّى أَهْلُ الْمَسْجِدِ وَلَمْ يُصَلِّ أَهْلُ الْجَبَّانَةِ أَجْزَأَهُ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّهَا صَلَاةٌ مُعْتَبَرَةٌ حَتَّى لَوْ اكْتَفَوْا بِهَا أَجْزَأَتْهُمْ ) قَالَ الشُّرَّاحُ : قَوْلُهُ أَجْزَأَهُ اسْتِحْسَانًا يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ قِيَاسًا ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اعْتِبَارَ جَانِبِ أَهْلِ الْجَبَّانَةِ يَمْنَعُ الْجَوَازَ وَاعْتِبَارَ جَانِبِ أَهْلِ الْمَسْجِدِ يُجَوِّزُ ذَلِكَ ، فَإِنَّهُ قَبْلَ الصَّلَاةِ مِنْ وَجْهٍ وَبَعْدَ الصَّلَاةِ مِنْ وَجْهٍ فَوَقَعَ الشَّكُّ ، وَفِي الْعِبَادَاتِ يُؤْخَذُ بِالِاحْتِيَاطِ ، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ انْتَهَى .
أَقُولُ : هُنَا بَحْثٌ ، وَهُوَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ مِنْ وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ لَا يَدْفَعُ وَجْهَ الْقِيَاسِ الَّذِي ذَكَرُوهُ ، لِأَنَّ كَوْنَ صَلَاةِ أَهْلِ الْمَسْجِدِ صَلَاةً مُعْتَبَرَةً لَا يُنَافِي كَوْنَ صَلَاةِ أَهْلِ الْجَبَّانَةِ أَيْضًا صَلَاةً مُعْتَبَرَةً ، كَيْفَ وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَكَذَا عَلَى عَكْسِهِ صَرِيحٌ فِي أَنَّ صَلَاةَ أَهْلِ الْجَبَّانَةِ أَيْضًا صَلَاةٌ مُعْتَبَرَةٌ وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ الْعَكْسُ ، فَإِذَا كَانَتْ كِلْتَا الصَّلَاتَيْنِ مُعْتَبَرَةً وَقَعَ الشَّكُّ فِي جَوَازِ التَّضْحِيَةِ بَعْدَ إحْدَى الصَّلَاتَيْنِ قَبْلَ الْأُخْرَى وَاقْتَضَى الْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ فِي الْعِبَادَاتِ عَدَمَ جَوَازِهَا ، فَلَمْ يَتِمَّ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ فِي مُقَابَلَةِ وَجْهِ الْقِيَاسِ الَّذِي ذَكَرُوهُ فَكَيْفَ يَتْرُكُ بِهِ الْقِيَاسَ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى جَوَابِ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ

قَالَ ( وَهِيَ جَائِزَةٌ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ : يَوْمُ النَّحْرِ وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَيَّامُ التَّشْرِيقِ كُلُّهَا أَيَّامُ ذَبْحٍ } وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا : أَيَّامُ النَّحْرِ ثَلَاثَةٌ أَفْضَلُهَا أَوَّلُهَا وَقَدْ قَالُوهُ سَمَاعًا لِأَنَّ الرَّأْيَ لَا يَهْتَدِي إلَى الْمَقَادِيرِ ، وَفِي الْأَخْبَارِ تَعَارُضٌ فَأَخَذْنَا بِالْمُتَيَقَّنِ وَهُوَ الْأَقَلُّ ، وَأَفْضَلُهَا أَوَّلُهَا كَمَا قَالُوا وَلِأَنَّ فِيهِ مُسَارَعَةً إلَى أَدَاءِ الْقُرْبَةِ وَهُوَ الْأَصْلُ إلَّا لِمُعَارِضٍ .
وَيَجُوزُ الذَّبْحُ فِي لَيَالِيِهَا إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ لِاحْتِمَالِ الْغَلَطِ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ ، وَأَيَّامُ النَّحْرِ ثَلَاثَةٌ ، وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ ثَلَاثَةٌ ، وَالْكُلُّ يَمْضِي بِأَرْبَعَةٍ أَوَّلُهَا نَحْرٌ لَا غَيْرُ وَآخِرُهَا تَشْرِيقٌ لَا غَيْرُ ، وَالْمُتَوَسِّطَانِ نَحْرٌ وَتَشْرِيقٌ ، وَالتَّضْحِيَةُ فِيهَا أَفْضَلُ مِنْ التَّصَدُّقِ بِثَمَنِ الْأُضْحِيَّةِ لِأَنَّهَا تَقَعُ وَاجِبَةً أَوْ سُنَّةً ، وَالتَّصَدُّقُ تَطَوُّعٌ مَحْضٌ فَتَفْضُلُ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهَا تَفُوتُ بِفَوَاتِ وَقْتِهَا ، وَالصَّدَقَةُ يُؤْتَى بِهَا فِي الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا فَنَزَلَتْ مَنْزِلَةَ الطَّوَافِ وَالصَّلَاةِ فِي حَقِّ الْآفَاقِيِّ

( قَوْلُهُ وَهِيَ جَائِزَةٌ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ : يَوْمُ النَّحْرِ وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ ) أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إنَّ قَوْلَهُ وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ يُشْعِرُ بِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ : وَيَوْمَانِ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا كَانَ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ لَيْسَ بِيَوْمِ النَّحْرِ ، وَقَدْ قَالَ فِيمَا بَعْدُ أَيَّامُ النَّحْرِ ثَلَاثَةٌ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ يَوْمُ النَّحْرِ هُوَ يَوْمُ النَّحْرِ الْمَحْضِ ، وَالْيَوْمَانِ اللَّذَانِ بَعْدَهُ لَيْسَا بِنَحْرٍ مَحْضٍ وَإِنَّمَا هُمَا نَحْرٌ وَتَشْرِيقٌ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ .
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ يَوْمَ النَّحْرِ بِالْإِفْرَادِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْعَلَمِ لِلْيَوْمِ الْأَوَّلِ مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ وَهُوَ يَوْمُ الْعِيدِ ، وَأَمَّا أَيَّامُ النَّحْرِ بِالْجَمْعِ فَيَتَنَاوَلُ يَوْمَ الْعِيدِ وَالْيَوْمَيْنِ اللَّذَيْنِ بَعْدَهُ عَلَى السَّوِيَّةِ ، فَلَا تَدَافُعَ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ فِي الْمَقَامَيْنِ تَبَصَّرْ تَرْشُدْ

( وَلَوْ لَمْ يُضَحِّ حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ إنْ كَانَ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ كَانَ فَقِيرًا وَقَدْ اشْتَرَى الْأُضْحِيَّةَ تَصَدَّقَ بِهَا حَيَّةً وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا تَصَدَّقَ بِقِيمَةِ شَاةٍ اشْتَرَى أَوْ لَمْ يَشْتَرِ ) لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الْغَنِيِّ .
وَتَجِبُ عَلَى الْفَقِيرِ بِالشِّرَاءِ بِنِيَّةِ التَّضْحِيَةِ عِنْدَنَا ، فَإِذَا فَاتَ الْوَقْتُ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ إخْرَاجًا لَهُ عَنْ الْعُهْدَةِ ، كَالْجُمُعَةِ تُقْضَى بَعْدَ فَوَاتِهَا ظُهْرًا ، وَالصَّوْمِ بَعْدَ الْعَجْزِ فِدْيَةً

( قَوْلُهُ وَلَوْ لَمْ يُضَحِّ حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ ، إنْ كَانَ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ كَانَ فَقِيرًا وَقَدْ اشْتَرَى الْأُضْحِيَّةَ تَصَدَّقَ بِهَا حَيَّةً ) قَالَ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ : قَيْدُ الْإِيجَابِ عَلَى نَفْسِهِ غَيْرُ مُفِيدٍ ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا بِدُونِ الْإِيجَابِ عَلَى نَفْسِهِ فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ انْتَهَى .
أَقُولُ : لَيْسَ ذَاكَ بِسَدِيدٍ ، لِأَنَّ الْحُكْمَ هُنَا هُوَ التَّصَدُّقُ بِهَا حَيَّةً ، وَلَيْسَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ فِيمَا لَوْ كَانَ وَاجِبًا بِدُونِ الْإِيجَابِ عَلَى نَفْسِهِ ، فَإِنَّ الْحُكْمَ هُنَاكَ هُوَ التَّصَدُّقُ بِقِيمَتِهَا لَا التَّصَدُّقُ بِعَيْنِهَا حَيَّةً كَمَا أَفْصَحَ عَنْهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ ( وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا تَصَدَّقَ بِقِيمَةِ شَاةٍ أَوْ لَمْ يَشْتَرِ ) ( قَوْلُهُ فَإِذَا فَاتَ الْوَقْتُ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ إخْرَاجًا لَهُ عَنْ الْعُهْدَةِ ، كَالْجُمُعَةِ تُقْضَى بَعْدَ فَوَاتِهَا ظُهْرًا ، وَالصَّوْمِ بَعْدَ الْعَجْزِ فِدْيَةً ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَحَلِّ : فَإِذَا فَاتَ وَقْتُ التَّقَرُّبِ بِالْإِرَاقَةِ وَالْحَقُّ مُسْتَحَقٌّ وَجَبَ التَّصَدُّقُ بِالْعَيْنِ أَوْ الْقِيمَةِ إخْرَاجًا لَهُ عَنْ الْعُهْدَةِ كَالْجُمُعَةِ تُقْضَى بَعْدَ فَوَاتِهَا ظُهْرًا ، وَالصَّوْمِ بَعْدَ الْعَجْزِ فِدْيَةً ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ إنَّ قَضَاءَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ فِي الْأَدَاءِ بِجِنْسٍ خِلَافِ جِنْسِ الْأَدَاءِ انْتَهَى .
وَرَدَّ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ حَيْثُ قَالَ قَوْلُهُ وَجَبَ التَّصَدُّقُ بِالْعَيْنِ لَا يُلَائِمُ الِاعْتِبَارَ بِالْجُمُعَةِ وَالصَّوْمِ ، وَمُرَادُ الْمُصَنِّفِ التَّصَدُّقُ بِالْقِيمَةِ لِلْغَنِيِّ الْغَيْرِ الْمُوجِبِ كَمَا لَا يَخْفَى انْتَهَى .
أَقُولُ : ذَاكَ سَاقِطٌ إذْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يُلَائِمُ الِاعْتِبَارَ بِالْجُمُعَةِ وَالصَّوْمِ ، لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِهِمَا مِنْ حَيْثُ إنَّ الْقَضَاءَ بِغَيْرِ الْمِثْلِ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بِقَوْلِهِ وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ إنَّ قَضَاءَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ فِي الْأَدَاءِ بِجِنْسٍ خِلَافِ جِنْسِ الْأَدَاءِ ، وَلَا

يَذْهَبُ عَلَى ذِي فِطْنَةٍ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى مُتَحَقِّقٌ فِي التَّصَدُّقِ بِالْعَيْنِ أَيْضًا ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ فِي الْأَدَاءِ إرَاقَةُ الدَّمِ ، وَالتَّصَدُّقُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْإِرَاقَةِ سَوَاءٌ كَانَ بِالْقِيمَةِ أَوْ بِالْعَيْنِ ، ثُمَّ إنَّ كَوْنَ مُرَادِ الْمُصَنِّفِ بِالتَّصَدُّقِ فِي قَوْلِهِ فَإِذَا فَاتَ الْوَقْتُ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ هُوَ التَّصَدُّقُ بِالْقِيمَةِ لِلْغَنِيِّ الْغَيْرِ الْمُوجِبِ وَحْدَهُ كَمَا زَعَمَهُ ذَلِكَ الْبَعْضُ مِمَّا لَا يُنَاسِبُ شَأْنَ الْمُصَنِّفِ جِدًّا ، إذْ يَلْزَمُ حِينَئِذٍ أَنْ يَتْرُكَ بَيَانَ وَجْهِ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا كَانَ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ كَانَ فَقِيرًا وَقَدْ اشْتَرَاهَا بِنِيَّةِ الْأُضْحِيَّةِ فَيَكُونُ ذَلِكَ تَقْصِيرًا مِنْهُ فِي إفَادَةِ حَقِّ الْمَقَامِ بِلَا ضَرُورَةٍ ، وَحَاشَى لَهُ مِنْ ذَلِكَ .
فَالْحَقُّ أَنَّ مُرَادَهُ بِالتَّصَدُّقِ الْمَذْكُورِ مَا يَعُمُّ التَّصَدُّقَ بِالْعَيْنِ وَبِالْقِيمَةِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بِقَوْلِهِ وَجَبَ التَّصَدُّقُ بِالْعَيْنِ أَوْ الْقِيمَةِ

قَالَ : ( وَلَا يُضَحِّي بِالْعَمْيَاءِ وَالْعَوْرَاءِ وَالْعَرْجَاءِ الَّتِي لَا تَمْشِي إلَى الْمَنْسِكِ وَلَا الْعَجْفَاءِ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { لَا تُجْزِئُ فِي الضَّحَايَا أَرْبَعَةٌ : الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا وَالْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ عَرْجُهَا وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا ، وَالْعَجْفَاءُ الَّتِي لَا تُنْقِي } قَالَ ( وَلَا تُجْزِئُ مَقْطُوعَةُ الْأُذُنِ وَالذَّنَبِ ) .
أَمَّا الْأُذُنُ فَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { اسْتَشْرِفُوا الْعَيْنَ وَالْأُذُنَ } أَيْ اُطْلُبُوا سَلَامَتَهُمَا .
وَأَمَّا الذَّنَبُ فَلِأَنَّهُ عُضْوٌ كَامِلٌ مَقْصُودٌ فَصَارَ كَالْأُذُنِ .
قَالَ ( وَلَا الَّتِي ذَهَبَ أَكْثَرُ أُذُنِهَا وَذَنَبِهَا ، وَإِنْ بَقِيَ أَكْثَرُ الْأُذُنِ وَالذَّنَبِ جَازَ ) لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ بَقَاءً وَذَهَابًا وَلِأَنَّ الْعَيْبَ الْيَسِيرَ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فَجُعِلَ عَفْوًا ، وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي مِقْدَارِ الْأَكْثَرِ .
فَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَنْهُ : وَإِنْ قُطِعَ مِنْ الذَّنَبِ أَوْ الْأُذُنِ أَوْ الْعَيْنِ أَوْ الْأَلْيَةِ الثُّلُثُ أَوْ أَقَلُّ أَجْزَأَهُ ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ لَمْ يُجْزِهِ لِأَنَّ الثُّلُثَ تَنْفُذُ فِيهِ الْوَصِيَّةُ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْوَرَثَةِ فَاعْتُبِرَ قَلِيلًا ، وَفِيمَا زَادَ لَا تَنْفُذُ إلَّا بِرِضَاهُمْ فَاعْتُبِرَ كَثِيرًا ، وَيُرْوَى عَنْهُ الرُّبُعُ لِأَنَّهُ يَحْكِي حِكَايَةَ الْكَمَالِ عَلَى مَا مَرَّ فِي الصَّلَاةِ ، وَيُرْوَى الثُّلُثُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ الْوَصِيَّةِ { الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ } وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : إذَا بَقِيَ الْأَكْثَرُ مِنْ النِّصْفِ أَجْزَأَهُ اعْتِبَارًا لِلْحَقِيقَةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : أَخْبَرْت بِقَوْلِي أَبَا حَنِيفَةَ ، فَقَالَ قَوْلِي هُوَ قَوْلُك .
قِيلَ هُوَ رُجُوعٌ مِنْهُ إلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ قَوْلِي قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِك .
وَفِي كَوْنِ النِّصْفِ مَانِعًا رِوَايَتَانِ عَنْهُمَا كَمَا

فِي انْكِشَافِ الْعُضْوِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ، ثُمَّ مَعْرِفَةُ الْمِقْدَارِ فِي غَيْرِ الْعَيْنِ مُتَيَسَّرٌ ، وَفِي الْعَيْنِ قَالُوا : تُشَدُّ الْعَيْنُ الْمَعِيبَةُ بَعْدَ أَنْ لَا تَعْتَلِفَ الشَّاةُ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ ثُمَّ يُقَرَّبُ الْعَلَفُ إلَيْهَا قَلِيلًا قَلِيلًا ، فَإِذَا رَأَتْهُ مِنْ مَوْضِعٍ أُعْلِمَ عَلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ ثُمَّ تُشَدُّ عَيْنُهَا الصَّحِيحَةُ وَقُرِّبَ إلَيْهَا الْعَلَفُ قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى إذَا رَأَتْهُ مِنْ مَكَان أُعْلِمَ عَلَيْهِ .
ثُمَّ يُنْظَرُ إلَى تَفَاوُتِ مَا بَيْنَهُمَا ، فَإِنْ كَانَ ثُلُثًا فَالذَّاهِبُ الثُّلُثُ ، وَإِنْ كَانَ نِصْفًا فَالنِّصْفُ .

( قَوْلُهُ وَلَا يُضَحِّي بِالْعَمْيَاءِ وَالْعَوْرَاءِ وَإِلَخْ ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : لَمَّا ذَكَرَ مَا يَجُوزُ بِهِ الْأُضْحِيَّةُ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا لَا يَجُوزُ بِهِ الْأُضْحِيَّةُ انْتَهَى .
أَقُولُ : هَذَا لَيْسَ بِسَدِيدٍ ، إذْ لَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِيمَا قَبْلُ مَا يَجُوزُ بِهِ الْأُضْحِيَّةُ ، وَإِنَّمَا يَذْكُرُهُ فِيمَا بَعْدُ بِقَوْلِهِ وَيَجُوزُ أَنْ يُضَحِّيَ بِالْجَمَّاءِ وَالْخَصِيِّ وَالثَّوْلَاءِ إلَى آخِرِهِ .
وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ فِيمَا قَبْلُ إنَّمَا هُوَ صِفَةُ الْأُضْحِيَّةِ مِنْ الْوُجُوبِ أَوْ السُّنِّيَّةِ وَشَرَائِطُهَا مِنْ الْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ وَنَحْوِهِمَا ، وَمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْأُضْحِيَّةُ وَعَدَدِ مَنْ يُذْبَحُ عَنْهُ كُلٌّ مِنْ الشَّاةِ وَالْبَقَرَةِ وَالْبَدَنَةِ وَأَوَّلِ وَقْتِ الْأُضْحِيَّةِ وَعَدَدِ أَيَّامِهَا وَمَا يَتَعَلَّقُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَاتِيكَ الْأُمُورِ مِنْ الْفُرُوعِ وَالْأَحْكَامِ كَمَا حَقَّقَهُ مِنْ قَبْلُ ، وَلَعَلَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ تَدَارَكَهُ حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ : هَذَا بَيَانُ مَا لَا يَجُوزُ التَّضْحِيَةُ بِهِ ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِذِكْرِ مَا يَجُوزُ التَّضْحِيَةُ بِهِ ( قَوْلُهُ وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي مِقْدَارِ الْأَكْثَرِ إلَخْ ) أَقُولُ تَطْبِيقُ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى عِبَارَةِ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ مُشْكِلٌ ، لِأَنَّ عِبَارَتَهَا أَكْثَرُ أُذُنِهَا وَذَنَبِهَا بِصِيغَةِ التَّفْضِيلِ إلَى الْأُذُنِ وَالذَّنَبِ ، وَهِيَ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْجُزْءُ الْبَاقِي مِنْهَا أَقَلَّ ، وَهَذَا غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ .
أَمَّا فِي رِوَايَةِ الرُّبُعِ وَرِوَايَةِ الثُّلُثِ فَظَاهِرٌ ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الرُّبُعَ لَيْسَ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعٍ وَلَا الثُّلُثَ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثَيْنِ .
وَأَمَّا فِي رِوَايَةِ الْأَكْثَرِ مِنْ الثُّلُثِ فَلِأَنَّ الْأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ إذْ لَمْ يُجَاوِزْ النِّصْفَ لَمْ يَصِرْ أَكْثَرَ الْكُلِّ ، وَفِي رِوَايَةِ الْأَكْثَرِ مِنْ الثُّلُثِ عَنْهُ لَمْ يَشْتَرِطْ تَجَاوُزَ

النِّصْفِ وَلَا الْوُصُولَ إلَى النِّصْفِ ، بَلْ اعْتَبَرَ الزِّيَادَةَ عَلَى الثُّلُثِ فِي الْجُمْلَةِ فَلَمْ يَلْزَمْ فِي عَدَمِ الْإِجْزَاءِ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَيْضًا ذَهَابُ أَكْثَرِ الْأُذُنِ وَالذَّنَبِ ، فَكَيْفَ يَرْبُطُ قَوْلَهُ وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي مِقْدَارِ الْأَكْثَرِ بِمَا قَبْلَهُ مِنْ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ ، فَإِنْ قُلْت : لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْأَكْثَرِ فِي عِبَارَةِ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ مَعْنَى التَّفْضِيلِ ، بَلْ هُوَ بِمَعْنَى الْكَثِيرِ كَمَا يُرْشِدُ إلَيْهِ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِي بَيَانِ وَجْهِ رِوَايَةِ الْأَكْثَرِ مِنْ الثُّلُثِ ، وَفِيمَا زَادَ لَا تَنْفُذُ إلَّا بِرِضَاهُمْ فَاعْتُبِرَ كَثِيرًا .
وَقَوْلُهُ فِي بَيَانِ وَجْهِ رِوَايَةِ الثُّلُثِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ الْوَصِيَّةِ { الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ } ثُمَّ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْكَثِيرِ أَيْضًا الْكَثِيرَ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْجُزْءِ الْبَاقِي وَإِلَّا يَعُودُ الْمَحْذُورُ ، بَلْ الْمُرَادُ بِهِ الْكَثِيرُ فِي نَفْسِهِ ، وَالْإِضَافَةُ إلَى الْأُذُنِ وَالذَّنَبِ لِمُجَرَّدِ بَيَانِ مَحَلِّ الْكَثْرَةِ ، فَحِينَئِذٍ يُمْكِنُ تَطْبِيقُ كُلٍّ مِنْ الرِّوَايَاتِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى عِبَارَةِ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ ، قُلْت : شَرْطُ اسْتِعْمَالِ صِيغَةِ التَّفْضِيلِ مُجَرَّدَةً عَنْ مَعْنَى التَّفْضِيلِ أَنْ تَكُونَ عَارِيَّةً عَنْ اللَّامِ وَالْإِضَافَةِ وَمِنْ كَمَا تَقَرَّرَ فِي مَوْضِعِهِ .
وَفِي عِبَارَةِ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ وَقَعَتْ مُضَافَةً فَلَا يَصِحُّ تَجْرِيدُهَا عَنْ مَعْنَى التَّفْضِيلِ عَلَى قَاعِدَةِ الْعَرَبِيَّةِ ، وَلَئِنْ أَغْمَضْنَا عَنْ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ تَعْلِيلُ الْمُصَنِّفِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةَ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ بَقَاءً وَذَهَابًا عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يُحْمَلَ الْأَكْثَرُ عَلَى الْكَثِيرِ الْمُطْلَقِ ، إذْ لَوْ كَانَ لِلْكَثِيرِ مُطْلَقًا حُكْمُ الْكُلِّ بَقَاءً وَذَهَابًا لَزِمَ أَنْ يُعْتَبَرَ الْأُذُنُ وَالذَّنَبُ بَاقِيًا وَذَاهِبًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ ، فِيمَا إذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَاقِي وَالذَّاهِبِ مِنْهُمَا كَثِيرًا فِي نَفْسِهِ

، كَمَا إذَا ذَهَبَ رُبُعُهُمَا أَوْ ثُلُثُهُمَا أَوْ أَكْثَرُ مِنْ ثُلُثِهِمَا فِي الْجُمْلَةِ عَلَى مَا وَقَعَ فِي الرِّوَايَاتِ الْمَذْكُورَةِ فَيَلْزَمُ جَمْعُ الْحُكْمَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ تَأَمَّلْ تَقِفْ

قَالَ ( وَيَجُوزُ أَنْ ) ( يُضَحِّيَ بِالْجَمَّاءِ ) وَهِيَ الَّتِي لَا قَرْنَ لَهَا لِأَنَّ الْقَرْنَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مَقْصُودٌ ، وَكَذَا مَكْسُورَةُ الْقَرْنِ لِمَا قُلْنَا ( وَالْخَصِيِّ ) لِأَنَّ لَحْمَهَا أَطْيَبُ وَقَدْ صَحَّ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ مَوْجُوءَيْنِ } ( وَالثَّوْلَاءِ ) وَهِيَ الْمَجْنُونَةُ ، وَقِيلَ هَذَا إذَا كَانَتْ تَعْتَلِفُ لِأَنَّهُ لَا يُخِلُّ بِالْمَقْصُودِ ، أَمَّا إذَا كَانَتْ لَا تَعْتَلِفُ فَلَا تُجْزِئُهُ .
وَالْجَرْبَاءُ إنْ كَانَتْ سَمِينَةً جَازَ لِأَنَّ الْجَرَبَ فِي الْجِلْدِ وَلَا نُقْصَانَ فِي اللَّحْمِ ، وَإِنْ كَانَتْ مَهْزُولَةً لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْجَرَبَ فِي اللَّحْمِ فَانْتَقَصَ .
وَأَمَّا الْهَتْمَاءُ وَهِيَ الَّتِي لَا أَسْنَانَ لَهَا ؛ فَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي الْأَسْنَانِ الْكَثْرَةُ وَالْقِلَّةُ ، وَعَنْهُ إنْ بَقِيَ مَا يُمْكِنُهُ الِاعْتِلَافُ بِهِ أَجْزَأَهُ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ .
وَالسَّكَّاءُ وَهِيَ الَّتِي لَا أُذُنَ لَهَا خِلْقَةً لَا تَجُوزُ ، لِأَنَّ مَقْطُوعَ أَكْثَرِ الْأُذُنِ إذَا كَانَ لَا يَجُوزُ فَعَدِيمُ الْأُذُنِ أَوْلَى

( وَهَذَا ) الَّذِي ذَكَرْنَا ( إذَا كَانَتْ هَذِهِ الْعُيُوبُ قَائِمَةً وَقْتَ الشِّرَاءِ ، وَلَوْ اشْتَرَاهَا سَلِيمَةً ثُمَّ تَعَيَّبَتْ بِعَيْبٍ مَانِعٍ إنْ كَانَ غَنِيًّا عَلَيْهِ غَيْرُهَا ، وَإِنْ فَقِيرًا تُجْزِئُهُ هَذِهِ ) لِأَنَّ الْوُجُوبَ عَلَى الْغَنِيِّ بِالشَّرْعِ ابْتِدَاءً لَا بِالشِّرَاءِ فَلَمْ تَتَعَيَّنْ بِهِ ، وَعَلَى الْفَقِيرِ بِشِرَائِهِ بِنِيَّةِ الْأُضْحِيَّةِ فَتَعَيَّنَتْ ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ نُقْصَانِهِ كَمَا فِي نِصَابِ الزَّكَاةِ ، وَعَنْ هَذَا الْأَصْلِ قَالُوا : إذَا مَاتَتْ الْمُشْتَرَاةُ لِلتَّضْحِيَةِ ؛ عَلَى الْمُوسِرِ مَكَانَهَا أُخْرَى وَلَا شَيْءَ عَلَى الْفَقِيرِ ، وَلَوْ ضَلَّتْ أَوْ سُرِقَتْ فَاشْتَرَى أُخْرَى ثُمَّ ظَهَرَتْ الْأُولَى فِي أَيَّامِ النَّحْرِ عَلَى الْمُوسِرِ ذَبْحُ إحْدَاهُمَا وَعَلَى الْفَقِيرِ ذَبْحُهُمَا ( وَلَوْ أَضْجَعَهَا فَاضْطَرَبَتْ فَانْكَسَرَتْ رِجْلُهَا فَذَبَحَهَا أَجْزَأَهُ اسْتِحْسَانًا ) عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، لِأَنَّ حَالَةَ الذَّبْحِ وَمُقَدِّمَاتِهِ مُلْحَقَةٌ بِالذَّبْحِ فَكَأَنَّهُ حَصَلَ بِهِ اعْتِبَارًا وَحُكْمًا ( وَكَذَا لَوْ تَعَيَّبَتْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَانْفَلَتَتْ ثُمَّ أُخِذَتْ مِنْ فَوْرِهِ ، وَكَذَا بَعْدَ فَوْرِهِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ ) لِأَنَّهُ حَصَلَ بِمُقَدِّمَاتِ الذَّبْحِ .

قَالَ ( وَالْأُضْحِيَّةُ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ ) لِأَنَّهَا عُرِفَتْ شَرْعًا وَلَمْ تُنْقَلْ التَّضْحِيَةُ بِغَيْرِهَا مِنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلَا مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
قَالَ ( وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ الثَّنِيُّ فَصَاعِدًا .
إلَّا الضَّأْنَ فَإِنَّ الْجَذَعَ مِنْهُ يُجْزِئُ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { ضَحُّوا بِالثَّنَايَا إلَّا أَنْ يُعْسِرَ عَلَى أَحَدِكُمْ فَلْيَذْبَحْ الْجَذَعَ مِنْ الضَّأْنِ } وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { نِعْمَتْ الْأُضْحِيَّةُ الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ } قَالُوا : وَهَذَا إذَا كَانَتْ عَظِيمَةً بِحَيْثُ لَوْ خُلِطَتْ بِالثُّنْيَانِ يَشْتَبِهُ عَلَى النَّاظِرِ مِنْ بَعِيدٍ .
وَالْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ مَا تَمَّتْ لَهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ فِي مَذْهَبِ الْفُقَهَاءِ ، وَذَكَرَ الزَّعْفَرَانِيُّ أَنَّهُ ابْنُ سَبْعَةِ أَشْهُرٍ .
وَالثَّنِيُّ مِنْهَا وَمِنْ الْمَعَزِ سَنَةٌ ، وَمِنْ الْبَقَرِ ابْنُ سَنَتَيْنِ ، وَمِنْ الْإِبِلِ ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ ، وَيَدْخُلُ فِي الْبَقَرِ الْجَامُوسُ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِهِ ، وَالْمَوْلُودُ بَيْنَ الْأَهْلِيِّ وَالْوَحْشِيِّ يَتْبَعُ الْأُمَّ لِأَنَّهَا هِيَ الْأَصْلُ فِي التَّبَعِيَّةِ ، حَتَّى إذَا نَزَا الذِّئْبُ عَلَى الشَّاةِ يُضَحَّى بِالْوَلَدِ .

قَالَ ( وَإِذَا اشْتَرَى سَبْعَةٌ بَقَرَةً لِيُضَحُّوا بِهَا فَمَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ النَّحْرِ وَقَالَتْ الْوَرَثَةُ اذْبَحُوهَا عَنْهُ وَعَنْكُمْ أَجْزَأَهُمْ ، وَإِنْ كَانَ شَرِيكُ السِّتَّةِ نَصْرَانِيًّا أَوْ رَجُلًا يُرِيدُ اللَّحْمَ لَمْ يُجْزِ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ) وَوَجْهُهُ أَنَّ الْبَقَرَةَ تَجُوزُ عَنْ سَبْعَةٍ ، وَلَكِنَّ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ قَصْدُ الْكُلِّ الْقُرْبَةَ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ جِهَاتُهَا كَالْأُضْحِيَّةِ وَالْقِرَانِ وَالْمُتْعَةِ عِنْدَنَا لِاتِّحَادِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ الْقُرْبَةُ ، وَقَدْ وُجِدَ هَذَا الشَّرْطُ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الضَّحِيَّةَ عَنْ الْغَيْرِ عُرِفَتْ قُرْبَةً ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ضَحَّى عَنْ أَمَتِهِ عَلَى مَا رَوَيْنَا مِنْ قَبْلُ ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي لِأَنَّ النَّصْرَانِيَّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا ، وَكَذَا قَصْدُ اللَّحْمِ يُنَافِيهَا .
وَإِذَا لَمْ يَقَعْ الْبَعْضُ قُرْبَةً وَالْإِرَاقَةُ لَا تَتَجَزَّأُ فِي حَقِّ الْقُرْبَةِ لَمْ يَقَعْ الْكُلُّ أَيْضًا فَامْتَنَعَ الْجَوَازُ ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ اسْتِحْسَانٌ .
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ، لِأَنَّهُ تَبَرَّعَ بِالْإِتْلَافِ فَلَا يَجُوزُ عَنْ غَيْرِهِ كَالْإِعْتَاقِ عَنْ الْمَيِّتِ ، لَكِنَّا نَقُولُ : الْقُرْبَةُ قَدْ تَقَعُ عَنْ الْمَيِّتِ كَالتَّصَدُّقِ ، بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ لِأَنَّ فِيهِ إلْزَامَ الْوَلَاءِ عَلَى الْمَيِّتِ ( فَلَوْ ذَبَحُوهَا عَنْ صَغِيرٍ فِي الْوَرَثَةِ أَوْ أُمِّ وَلَدٍ جَازَ ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ قُرْبَةٌ ( وَلَوْ مَاتَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَذَبَحَهَا الْبَاقُونَ بِغَيْرِ إذْنِ الْوَرَثَةِ لَا تُجْزِيهِمْ ) لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ بَعْضُهَا قُرْبَةً ، وَفِيمَا تَقَدَّمَ وُجِدَ الْإِذْنُ مِنْ الْوَرَثَةِ فَكَانَ قُرْبَةً .

قَالَ ( وَيَأْكُلُ مِنْ لَحْمِ الْأُضْحِيَّةِ وَيُطْعِمُ الْأَغْنِيَاءَ وَالْفُقَرَاءَ وَيَدَّخِرُ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ فَكُلُوا مِنْهَا وَادَّخِرُوا } وَمَتَى جَازَ أَكْلُهُ وَهُوَ غَنِيٌّ جَازَ أَنْ يُؤَكِّلَهُ غَنِيًّا

قَالَ ( وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَنْقُصَ الصَّدَقَةَ عَنْ الثُّلُثِ ) لِأَنَّ الْجِهَاتِ ثَلَاثَةٌ : الْأَكْلُ وَالِادِّخَارُ لِمَا رَوَيْنَا ، وَالْإِطْعَامُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ } فَانْقَسَمَ عَلَيْهَا أَثْلَاثًا .
( قَوْلُهُ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَنْقُصَ الصَّدَقَةَ عَنْ الثُّلُثِ لِأَنَّ الْجِهَاتِ ثَلَاثَةٌ : الْأَكْلُ وَالِادِّخَارُ لِمَا رَوَيْنَا ، وَالْإِطْعَامُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ } انْقَسَمَ عَلَيْهَا أَثْلَاثًا ) أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لِلْوُجُوبِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ ، فَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْله تَعَالَى { وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ } وُجُوبُ الْإِطْعَامِ ، وَالْمُدَّعَى اسْتِحْبَابُهُ فَلْيُتَأَمَّلْ فِي الْجَوَابِ

قَالَ ( وَيَتَصَدَّقُ بِجِلْدِهَا ) لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْهَا ( أَوْ يَعْمَلُ مِنْهُ آلَةً تُسْتَعْمَلُ فِي الْبَيْتِ ) كَالنِّطْعِ وَالْجِرَابِ وَالْغِرْبَالِ وَنَحْوِهَا ، لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهِ غَيْرُ مُحَرَّمٍ ( وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ مَا يَنْتَفِعُ بِعَيْنِهِ فِي الْبَيْتِ مَعَ بَقَائِهِ ) اسْتِحْسَانًا ، وَذَلِكَ مِثْلُ مَا ذَكَرْنَا لِأَنَّ لِلْبَدَلِ حُكْمَ الْمُبْدَلِ ، ( وَلَا يَشْتَرِي بِهِ مَا لَا يَنْتَفِعُ بِهِ إلَّا بَعْدَ اسْتِهْلَاكِهِ كَالْخَلِّ وَالْأَبَازِيرِ ) اعْتِبَارًا بِالْبَيْعِ بِالدَّرَاهِمِ .
وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ تَصَرُّفٌ عَلَى قَصْدِ التَّمَوُّلِ ، وَاللَّحْمُ بِمَنْزِلَةِ الْجِلْدِ فِي الصَّحِيحِ ، فَلَوْ بَاعَ الْجِلْدَ أَوْ اللَّحْمَ بِالدَّرَاهِمِ أَوْ بِمَا لَا يَنْتَفِعُ بِهِ إلَّا بَعْدَ اسْتِهْلَاكِهِ تَصَدَّقَ بِثَمَنِهِ ، لِأَنَّ الْقُرْبَةَ انْتَقَلَتْ إلَى بَدَلِهِ ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ بَاعَ جِلْدَ أُضْحِيَّتِهِ فَلَا أُضْحِيَّةَ لَهُ } يُفِيدُ كَرَاهَةَ الْبَيْعِ ، الْبَيْعُ جَائِزٌ لِقِيَامِ الْمِلْكِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ .

( قَوْلُهُ وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ مَا يَنْتَفِعُ بِعَيْنِهِ فِي الْبَيْتِ مَعَ بَقَائِهِ اسْتِحْسَانًا ، وَذَلِكَ مِثْلُ مَا ذَكَرْنَا لِأَنَّ لِلْبَدَلِ حُكْمَ الْمُبْدَلِ ) أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إنَّهُ تَعْلِيلٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ بَاعَ جِلْدَ أُضْحِيَّتِهِ فَلَا أُضْحِيَّةَ لَهُ } فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ بِإِطْلَاقِهِ بَيْعَ الْجِلْدِ بِمَا يَنْتَفِعُ بِعَيْنِهِ مَعَ بَقَائِهِ أَيْضًا ، وَالتَّعْلِيلُ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ غَيْرُ مَقْبُولٍ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ فَلْيُتَأَمَّلْ فِي الدَّفْعِ ( قَوْلُهُ وَلَا يَشْتَرِي بِهِ مَا لَا يَنْتَفِعُ بِهِ إلَّا بَعْدَ اسْتِهْلَاكِهِ كَالْخَلِّ وَالْأَبَازِيرِ اعْتِبَارًا بِالْبَيْعِ بِالدَّرَاهِمِ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ تَصَرُّفٌ عَلَى قَصْدِ التَّمَوُّلِ ) أَقُولُ : فِيهِ بَحْثٌ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ اعْتِبَارَ ذَلِكَ بِالْبَيْعِ بِالدَّرَاهِمِ غَيْرُ وَاضِحٍ ، فَإِنَّ الدَّرَاهِمَ مِمَّا لَا يَنْتَفِعُ بِعَيْنِهَا أَصْلًا ، أَيْ لَا مَعَ بَقَائِهَا وَلَا بَعْدَ اسْتِهْلَاكِهَا ، وَإِنَّمَا هِيَ وَسِيلَةٌ مَحْضَةٌ فَالْمَقْصُودُ مِنْهَا التَّمَوُّلُ لَا غَيْرُ ، بِخِلَافِ مِثْلِ الْخَلِّ وَالْأَبَازِيرِ فَإِنَّهُ مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ اسْتِهْلَاكِهِ ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الِانْتِفَاعَ دُونَ التَّمَوُّلِ ، وَالِانْتِفَاعُ بِنَفْسِ جِلْدِ الْأُضْحِيَّةِ غَيْرُ مُحَرَّمٍ فَكَذَا بِبَدَلِهِ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ عَدَمَ جَوَازِ بَيْعِ جِلْدِ الْأُضْحِيَّةِ بِالدَّرَاهِمِ إنَّمَا ثَبَتَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ ، فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ وَجْهَ الِاسْتِحْسَانِ فِي جَوَازِ بَيْعِهِ بِمَا يُنْتَفَعُ بِعَيْنِهِ مَعَ بَقَائِهِ بِأَنَّهُ جَازَ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِالْجِلْدِ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِالْبَدَلِ ، لِأَنَّ الْبَدَلَ لَهُ حُكْمُ الْمُبْدَلِ .
قَالَ : فَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَجُوزَ بَيْعُ الْجِلْدِ بِالدَّرَاهِمِ أَيْضًا ، إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ

وَالسَّلَامُ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { وَلَا تُعْطِ أَجْرَ الْجَزَّارِ مِنْهَا } فَإِذَا أَعْطَى أَجْرَ الْجَزَّارِ مِنْهَا يَصِيرُ بَائِعَ اللَّحْمِ وَالْجِلْدِ بِالدَّرَاهِمِ وَقَدْ ثَبَتَ الْمَنْعُ عَنْهُ ، بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ انْتَهَى .
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يَتِمُّ قِيَاسُ عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ الْجِلْدِ بِمِثْلِ الْخَلِّ وَالْأَبَازِيرِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِهِ بِالدَّرَاهِمِ كَمَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ اعْتِبَارًا بِالْبَيْعِ بِالدَّرَاهِمِ ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ مِنْ شَرْطِ الْقِيَاسِ أَنْ لَا يَكُونَ حُكْمُ الْأَصْلِ مَعْدُولًا عَنْ الْقِيَاسِ ، فَالْأَظْهَرُ أَنْ يَتْرُكَ الْقِيَاسَ عَلَى الْبَيْعِ بِالدَّرَاهِمِ فِي تَعْلِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، وَيُقَالُ فِي تَعْلِيلِهَا لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا عَنْ عَيْنِ الْجِلْدِ قَائِمًا مَقَامَهُ لِعَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِهِ كَالِانْتِفَاعِ بِعَيْنِ الْجِلْدِ فَلَمْ يَكُنْ حُكْمُهُ كَحُكْمِ عَيْنِ الْجِلْدِ بِخِلَافِ مَا يُنْتَفَعُ بِعَيْنِهِ مَعَ بَقَائِهِ كَمَا مَرَّ ، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ حَيْثُ قَالَ : وَلَهُ أَنْ يَبِيعَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ بِمَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ مِنْ مَتَاعِ الْبَيْتِ كَالْجِرَابِ وَالْمُنْخُلِ ، لِأَنَّ الْبَدَلَ الَّذِي يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ يَقُومُ مَقَامَ الْمُبْدَلِ ، فَكَانَ الْمُبْدَلُ قَائِمًا مَعْنًى وَكَانَ الِانْتِفَاعُ بِهِ كَالِانْتِفَاعِ بِعَيْنِ الْجِلْدِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ بِالدَّرَاهِمِ أَوْ الدَّنَانِيرِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ فَلَا يَقُومُ مَقَامَ الْجِلْدِ فَلَا يَكُونُ الْجِلْدُ قَائِمًا مَعْنًى انْتَهَى

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78