كتاب : فتح القدير
المؤلف : كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي

دَلَالَتِهِ بِالِانْفِلَاتِ وَالْأَخْذُ ثَانِيًا إنْشَاءٌ لَمْ يَكُنْ عَنْ عَيْنِ تِلْكَ الدَّلَالَةِ ، وَلَوْ أَمَرَهُ بِقَتْلِهِ بَعْدَمَا أَخَذَهُ يَنْبَغِي أَنْ يَضْمَنَ .
وَعَلَى هَذَا إذَا أَعَارَهُ سِكِّينًا ؛ لِيَقْتُلَهُ بِهَا وَلَيْسَ مَعَ الْآخِذِ مَا يَقْتُلُهُ بِهِ أَوْ قَوْسًا أَوْ نُشَّابًا يَرْمِيهِ بِهِ ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مِنْ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ فِي بَابِ الْإِحْرَامِ عِنْدَ مُسْلِمٍ هَلْ أَعَنْتُمْ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ إعَارَةَ السِّكِّينِ إعَانَةٌ عَلَيْهِ .
وَمَا فِي الْأَصْلِ مِنْ أَنَّهُ لَا جَزَاءَ عَلَى صَاحِبِ السِّكِّينِ حُمِلَ عَلَى مَا إذَا كَانَ الْمُسْتَعِيرُ يَقْدِرُ عَلَى ذَبْحِهِ بِغَيْرِهَا ، وَصَرَّحَ فِي السِّيَرِ بِأَنَّ عَلَى صَاحِبِ السِّكِّينِ الْجَزَاءَ ، وَكَذَا لَوْ دَلَّ عَلَى قَوْسِ وَنُشَّابِ مَنْ رَآهُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ ؛ لِبُعْدِهِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ صَرِيحَ عِبَارَةِ الْأَصْلِ فِي الْإِعَارَةِ أَنَّهُ لَا جَزَاءَ عَلَى صَاحِبِ السِّكِّينِ وَيُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ .
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي الْمَبْسُوطِ : أَكْثَرُ مَشَايِخِنَا يَقُولُونَ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ إذَا كَانَ مَعَ الْمُحْرِمِ الْقَاتِلِ سِلَاحٌ يَقْتُلُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ قَتْلِهِ ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مَا يَقْتُلُ بِهِ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ الْجَزَاءُ ؛ لِأَنَّ التَّمَكُّنَ بِإِعَارَتِهِ لَهُ ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ فِي السِّيَرِ .
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ : وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْجَزَاءُ عَلَى الْمُعِيرِ عَلَى كُلِّ حَالٍ لِوَجْهَيْنِ حَاصِلُ الْأَوَّلِ أَنَّ مَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ تَلِفَ بِأَخْذِ الْمُسْتَعِيرِ لِلصَّيْدِ فَأَخْذُهُ قَتْلٌ حُكْمًا ثُمَّ يَقْتُلُهُ حَقِيقَةً ، وَإِعَارَةُ السِّكِّينِ لَيْسَ بِإِتْلَافٍ حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا ، بِخِلَافِ الدَّلَالَةِ فَإِنَّهُ إتْلَافٌ لِمَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ مِنْ وَجْهٍ حَيْثُ أَعْلَمَ بِهِ مَنْ لَا يَقْدِرُ الصَّيْدُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْهُ .
وَالثَّانِي : أَنَّ إعَارَةَ السِّكِّينِ تَتِمُّ بِالسِّكِّينِ لَا بِالصَّيْدِ فَإِنَّهَا صَحِيحَةٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَيْدٌ إذْ لَا يَتَعَيَّنُ اسْتِعْمَالُهُ فِي قَتْلِ

الصَّيْدِ ، بِخِلَافِ الْإِشَارَةِ إلَى قَتْلِ الصَّيْدِ فَإِنَّهَا مُتَّصِلَةٌ بِالصَّيْدِ لَيْسَ فِيهَا فَائِدَةٌ أُخْرَى سِوَى ذَلِكَ ، وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ إلَّا بِصَيْدٍ هُنَاكَ وَلِذَا يَتَعَلَّقُ وُجُوبُ الْجَزَاءِ بِهَا .
وَلَوْ أَمَرَ الْمُحْرِمُ غَيْرَهُ بِأَخْذِ صَيْدٍ فَأَمَرَ الْمَأْمُورُ آخَرَ فَالْجَزَاءُ عَلَى الْآمِرِ الثَّانِي ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَمَثَّلْ أَمْرَ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْأَمْرِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ دَلَّ الْأَوَّلُ عَلَى الصَّيْدِ وَأَمَرَهُ فَأَمَرَ الثَّانِي ثَالِثًا بِالْقَتْلِ حَيْثُ يَجِبُ الْجَزَاءُ عَلَى الثَّلَاثَةِ ، وَكَذَا الْإِرْسَالُ ؛ فَلَوْ أَرْسَلَ مُحْرِمٌ مُحْرِمًا إلَى مُحْرِمٍ يَدُلُّهُ عَلَى صَيْدٍ فَقَتَلَهُ الْمُرْسَلُ إلَيْهِ فَعَلَى كُلٍّ مِنْ الثَّلَاثَةِ الْجَزَاءُ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ : لَوْ قَالَ خَلْفَ هَذَا الْحَائِطِ صَيْدٌ فَإِذَا صَيْدٌ كَثِيرٌ فَأَخَذَهُ ضَمِنَ الدَّالُّ كُلَّهُ ، فَلَوْ رَأَى وَاحِدًا فَدَلَّ عَلَيْهِ فَإِذَا عِنْدَهُ آخَرُ فَقَتَلَهُمَا الْمَدْلُولُ كَانَ عَلَى الدَّالِّ جَزَاءُ الْأَوَّلِ فَقَطْ .
كَمَا لَوْ دَلَّهُ عَلَى وَاحِدٍ تَنْصِيصًا وَالْبَاقِي بِحَالِهِ .
وَلَوْ قَالَ خُذْ أَحَدَ هَذَيْنِ وَهُوَ يَرَاهُمَا فَقَتَلَهُمَا كَانَ عَلَى الدَّالِّ جَزَاءٌ وَاحِدٌ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَرَاهُمَا فَعَلَيْهِ جَزَاءَانِ ؛ لِأَنَّهُ بِالْأَمْرِ بِأَخْذِ أَحَدِهِمَا دَالٌّ عَلَى الْآخَرِ لَمَّا لَمْ يَعْلَمْ الْمَأْمُورُ بِهِمَا .
( قَوْلُهُ : فَأَشْبَهَ غَرَامَاتِ الْأَمْوَالِ ) مِنْ حَيْثُ إنَّ الضَّمَانَ يَدُورُ مَعَ الْإِتْلَافِ غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِالْعَمْدِ لَا مُطْلَقًا ، فَإِنَّ هَذَا الضَّمَانَ يَتَأَدَّى بِالصَّوْمِ .

( وَالْجَزَاءُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنْ يُقَوَّمَ الصَّيْدُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي قُتِلَ فِيهِ أَوْ فِي أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ مِنْهُ إذَا كَانَ فِي بَرَّيَّةٍ فَيُقَوِّمُهُ ذَوَا عَدْلٍ ، ثُمَّ هُوَ مُخَيَّرٌ فِي الْفِدَاءِ إنْ شَاءَ ابْتَاعَ بِهَا هَدْيًا وَذَبَحَهُ إنْ بَلَغَتْ هَدْيًا ، وَإِنْ شَاءَ اشْتَرَى بِهَا طَعَامًا وَتَصَدَّقَ عَلَى كُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ ، وَإِنْ شَاءَ صَامَ ) عَلَى مَا نَذْكُرُ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ : يَجِبُ فِي الصَّيْدِ النَّظِيرُ فِيمَا لَهُ نَظِيرٌ ، فَفِي الظَّبْيِ شَاةٌ ، وَفِي الضَّبُعِ شَاةٌ ، وَفِي الْأَرْنَبِ عَنَاقٌ ، وَفِي الْيَرْبُوعِ جَفْرَةٌ ، وَفِي النَّعَامَةِ بَدَنَةٌ ، وَفِي حِمَارِ الْوَحْشِ بَقَرَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ } وَمِثْلُهُ مِنْ النَّعَمِ مَا يُشْبِهُ الْمَقْتُولَ صُورَةً ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ لَا تَكُونُ نَعَمًا .
وَالصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَوْجَبُوا النَّظِيرَ مِنْ حَيْثُ الْخِلْقَةُ وَالْمَنْظَرُ فِي النَّعَامَةِ وَالظَّبْيِ وَحِمَارِ الْوَحْشِ وَالْأَرْنَبِ عَلَى مَا بَيَّنَّا .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الضَّبُعُ صَيْدٌ وَفِيهِ شَاةٌ } وَمَا لَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَجِبُ فِيهِ الْقِيمَةُ مِثْلَ الْعُصْفُورِ وَالْحَمَامِ وَأَشْبَاهِهِمَا .
وَإِذَا وَجَبَتْ الْقِيمَةُ كَانَ قَوْلُهُ كَقَوْلِهِمَا .
وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُوجِبُ فِي الْحَمَامَةِ شَاةً وَيُثْبِتُ الْمُشَابَهَةَ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَعُبُّ وَيَهْدِرُ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الْمِثْلَ الْمُطْلَقَ هُوَ الْمِثْلُ صُورَةً وَمَعْنًى ، وَلَا يُمْكِنُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ فَحُمِلَ عَلَى الْمِثْلِ مَعْنًى لِكَوْنِهِ مَعْهُودًا فِي الشَّرْعِ كَمَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ أَوْ لِكَوْنِهِ مُرَادًا بِالْإِجْمَاعِ ، أَوْ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّعْمِيمِ ، وَفِي ضِدِّهِ التَّخْصِيصُ .
وَالْمُرَادُ بِالنَّصِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ فَجَزَاءُ قِيمَةِ مَا قَتَلَ مِنْ

النَّعَمِ الْوَحْشِيِّ .
وَاسْمُ النَّعَمِ يَنْطَلِقُ عَلَى الْوَحْشِيِّ وَالْأَهْلِيِّ ، كَذَا قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَصْمَعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَالْمُرَادُ بِمَا رُوِيَ التَّقْدِيرُ بِهِ دُونَ إيجَابِ الْمُعَيَّنِ .
ثُمَّ الْخِيَارُ إلَى الْقَاتِلِ فِي أَنْ يَجْعَلَهُ هَدْيًا أَوْ طَعَامًا أَوْ صَوْمًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : الْخِيَارُ إلَى الْحَكَمَيْنِ فِي ذَلِكَ ، فَإِنْ حَكَمَا بِالْهَدْيِ يَجِبُ النَّظِيرُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَإِنْ حَكَمَا بِالطَّعَامِ أَوْ بِالصِّيَامِ فَعَلَى مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ .
لَهُمَا أَنَّ التَّخْيِيرَ شُرِعَ رِفْقًا بِمَنْ عَلَيْهِ فَيَكُونُ الْخِيَارُ إلَيْهِ كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ .
وَلِمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ قَوْله تَعَالَى { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا } الْآيَةَ ، ذُكِرَ الْهَدْيُ مَنْصُوبًا لِأَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { يَحْكُمُ بِهِ } وَمَفْعُولٌ لِحُكْمِ الْحَكَمِ ، ثُمَّ ذَكَرَ الطَّعَامَ وَالصِّيَامَ بِكَلِمَةٍ أَوْ فَيَكُونُ الْخِيَارُ إلَيْهِمَا .
قُلْنَا : الْكَفَّارَةُ عُطِفَتْ عَلَى الْجَزَاءِ لَا عَلَى الْهَدْيِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ مَرْفُوعٌ ، وَكَذَا قَوْله تَعَالَى { أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا } مَرْفُوعٌ ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهَا دَلَالَةُ اخْتِيَارِ الْحَكَمَيْنِ ، وَإِنَّمَا يُرْجَعُ إلَيْهِمَا فِي تَقْوِيمِ الْمُتْلَفِ ثُمَّ الِاخْتِيَارِ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى مَنْ عَلَيْهِ ، وَيُقَوَّمَانِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي أَصَابَهُ لِاخْتِلَافِ الْقِيَمِ بِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ ، فَإِنْ كَانَ الْمَوْضِعُ بَرًّا لَا يُبَاعُ فِيهِ الصَّيْدُ يُعْتَبَرُ أَقْرَبُ الْمَوَاضِعِ إلَيْهِ مِمَّا يُبَاعُ فِيهِ وَيُشْتَرَى .
قَالُوا : وَالْوَاحِدُ يَكْفِي وَالْمُثَنَّى أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ أَحْوَطُ وَأَبْعَدُ عَنْ الْغَلَطِ كَمَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ .
وَقِيلَ يُعْتَبَرُ الْمُثَنَّى هَهُنَا بِالنَّصِّ .

( قَوْلُهُ : وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ إلَخْ ) ذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ أَنَّ الْخِلَافَ فِي فُصُولٍ .
الْأَوَّلُ : أَنَّ الْوَاجِبَ عِنْدَهُمَا الْقِيمَةُ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ النَّظِيرُ فِيمَا لَهُ نَظِيرٌ .
الثَّانِي : أَنَّ الَّذِي إلَى الْحَكَمَيْنِ تَقْوِيمُ الْمَقْتُولِ ، فَإِذَا ظَهَرَتْ قِيمَتُهُ فَالْخِيَارُ إلَى الْقَاتِلِ بَيْنَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا هَدْيًا يُهْدِيهِ أَوْ طَعَامًا يَتَصَدَّقُ بِهِ أَوْ يَصُومُ عَنْ كُلِّ طَعَامِ مِسْكِينٍ يَوْمًا ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ إلَى الْحَكَمَيْنِ ، فَإِذَا عَيَّنَا نَوْعًا لَزِمَهُ .
ا هـ .
وَقَالَ غَيْرُهُ : الْخِيَارُ فِي تَعْيِينِ الْهَدْيِ وَالْإِطْعَامِ وَالصِّيَامِ إلَى الْحَكَمَيْنِ ، فَإِذَا حَكَمَا بِالْهَدْيِ فَالْمُعْتَبَرُ فِيمَا لَهُ مِثْلٌ وَنَظِيرٌ مِنْ حَيْثُ الْخِلْقَةُ مَا هُوَ مِثْلُهُ فَفِي الضَّبُعِ شَاةٌ إلَخْ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَشَايِخَ اخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ حَكَى الطَّحَاوِيُّ عَنْهُ أَنَّ الْخِيَارَ إلَى الْحَكَمَيْنِ ، فَإِنْ حَكَمَا عَلَيْهِ بِالْهَدْيِ نَظَرَ الْقَاتِلُ إلَى نَظِيرِهِ مِنْ النَّعَمِ مِنْ حَيْثُ الْخِلْقَةُ إنْ كَانَ الصَّيْدُ مِمَّا لَهُ نَظِيرٌ سَوَاءٌ كَانَتْ قِيمَةُ نَظِيرِهِ مِثْلَ قِيمَتِهِ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ لَا يُنْظَرُ إلَى الْقِيمَةِ فَيَجِبُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَظِيرٌ كَسَائِرِ الطُّيُورِ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ كَمَا قَالَا .
وَحَكَى الْكَرْخِيُّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ : إنَّ الْخِيَارَ إلَى الْقَاتِلِ غَيْرَ أَنَّهُ إنْ اخْتَارَ الْهَدْيَ تَعَيَّنَ النَّظِيرُ فِيمَا لَهُ نَظِيرٌ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَجِبُ النَّظِيرُ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِ أَحَدٍ ، وَلَهُ أَنْ يُطْعِمَ وَيَكُونُ الطَّعَامُ بَدَلًا عَنْ النَّظِيرِ لَا عَنْ الصَّيْدِ كَذَا فِي الْبَدَائِعِ .
وَعَنْ زُفَرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ عَدَمُ جَوَازِ الصَّوْمِ حَالَةَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْهَدْيِ وَالْإِطْعَامِ ، قَاسَهُ عَلَى كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَالظِّهَارِ وَهَدْيِ الْمُتْعَةِ ، وَقَالَ حَرْفُ " أَوْ " لَا يَنْفِي التَّرْتِيبَ كَمَا فِي قُطَّاعِ الطَّرِيقِ .
وَدَفَعَ بِأَنَّ شَرْطَ الْقِيَاسِ عَدَمُ النَّصِّ فِي

الْفَرْعِ ، وَالنَّصُّ الْكَائِنُ فِيهِ يُوجِبُ التَّخْيِيرَ بِحَقِيقَةِ " أَوْ " وَإِعْمَالِهَا فِي مَوْضِعٍ فِي مَجَازِيِّهَا لِدَلِيلٍ لَا يَجُوزُ اعْتِبَارُهَا كَذَلِكَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ ؛ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ فِيهَا .
( قَوْلُهُ : فَفِي الْأَرْنَبِ عَنَاقٌ إلَخْ ) الْعَنَاقُ : الْأُنْثَى مِنْ أَوْلَادِ الْمَعْزِ ، وَالْجَدْيُ الذَّكَرُ ، وَهُمَا دُونَ الْجَذَعِ ، وَالْجَفْرُ : مَا يَبْلُغُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ مِنْ الْعَنَاقِ ، وَالْأُنْثَى جَفْرَةٌ بِالْجِيمِ ( قَوْلُهُ : فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ } ) بِنَاءً عَلَى حَمْلِ الْمِثْلِ عَلَى الْمُمَاثِلِ فِي الصُّورَةِ ، وَلَفْظُ { مِنْ النَّعَمِ } بَيَانٌ لِلْجَزَاءِ أَوْ لِلْمِثْلِ ، وَالْقِيمَةُ لَيْسَتْ نَعَمًا وَلِذَا أَوْجَبَ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ الْمِثْلَ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ فِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ ، أَخْبَرَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ " أَنَّ عُمَرَ قَضَى فِي الضَّبُعِ بِكَبْشٍ ، وَفِي الْغَزَالِ بِعَنْزٍ وَفِي الْأَرْنَبِ بِعَنَاقٍ ، وَفِي الْيَرْبُوعِ بِجَفْرَةٍ " وَرَوَى الشَّافِعِيُّ حَدِيثًا " أَنَّ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَابْنَ عَبَّاسٍ وَمُعَاوِيَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ قَالُوا : فِي النَّعَامَةِ يَقْتُلُهَا الْمُحْرِمُ بَدَنَةٌ مِنْ الْإِبِلِ " ، وَفِيهِ ضَعْفٌ وَانْقِطَاعٌ ، فَلِذَا قَالَ عَقِيبَهُ : إنَّمَا نَقُولُ : إنَّ فِي النَّعَامَةِ بَدَنَةً بِالْقِيَاسِ لَا بِهَذَا الْأَثَرِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ .
ا هـ .
لَكِنْ أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ " فِي حَمَامَةِ الْحَرَمِ شَاةٌ ، وَفِي بَيْضَتَيْنِ دِرْهَمٌ ، وَفِي النَّعَامَةِ جَزُورٌ ، وَفِي الْبَقَرَةِ بَقَرَةٌ ، وَفِي الْحِمَارِ بَقَرَةٌ " ( وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الضَّبُعُ صَيْدٌ وَفِيهِ شَاةٌ } ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ { سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الضَّبُعِ أَصَيْدٌ هُوَ ؟ قَالَ نَعَمْ ، وَيُجْعَلُ فِيهِ كَبْشٌ إذَا أَصَابَهُ الْمُحْرِمُ } وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا

الْحَاكِمُ عَنْ جَابِرٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الضَّبُعُ صَيْدٌ ، فَإِذَا أَصَابَهُ الْمُحْرِمُ فَفِيهِ كَبْشٌ مُسِنٌّ وَيُؤْكَلُ } وَقَالَ صَحِيحٌ ، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ ( قَوْلُهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الْمِثْلَ الْمُطْلَقَ هُوَ الْمِثْلُ صُورَةً وَمَعْنًى ) وَهُوَ الْمُشَارِكُ فِي النَّوْعِ ، وَهُوَ غَيْرُ مُرَادٍ هُنَا بِالْإِجْمَاعِ ، فَبَقِيَ أَنْ يُرَادَ الْمِثْلُ مَعْنًى وَهُوَ الْقِيمَةُ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْمَعْهُودَ فِي الشَّرْعِ فِي إطْلَاقِ لَفْظِ الْمِثْلِ أَنْ يُرَادَ الْمُشَارِكُ فِي النَّوْعِ أَوْ الْقِيمَةِ ، قَالَ تَعَالَى فِي ضَمَانِ الْعُدْوَانِ { فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } وَالْمُرَادُ الْأَعَمُّ مِنْهُمَا .
أَعْنِي الْمُمَاثِلَ فِي النَّوْعِ إذَا كَانَ الْمُتْلَفُ مِثْلِيًّا وَالْقِيمَةَ إذَا كَانَ قِيَمِيًّا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ مَعْنَوِيٌّ ، وَالْحَيَوَانَاتُ مِنْ الْقِيَمِيَّاتِ شَرْعًا إهْدَارًا لِلْمُمَاثَلَةِ الْكَائِنَةِ فِي تَمَامِ الصُّورَةِ فِيهَا تَغْلِيبًا لِلِاخْتِلَافِ الْبَاطِنِيِّ بَيْنَ أَبْنَاءِ نَوْعٍ وَاحِدٍ ، فَمَا ظَنُّك إذَا انْتَفَى الْمُشَارَكَةُ فِي النَّوْعِ أَيْضًا فَلَمْ يَبْقَ إلَّا مُشَاكَلَةٌ فِي بَعْضِ الصُّورَةِ كَطُولِ الْعُنُقِ وَالرِّجْلَيْنِ فِي النَّعَامَةِ مَعَ الْبَدَنَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ ، فَإِذَا حَكَمَ الشَّرْعُ بِانْتِفَاءِ اعْتِبَارِ الْمُمَاثَلَةِ مَعَ الْمُشَاكَلَةِ فِي تَمَامِ الصُّورَةِ وَلَمْ يُضْمَنْ الْمُتْلَفُ بِمَا شَارَكَهُ فِي تَمَامِ نَوْعِهِ بَلْ بِالْمِثْلِ الْمَعْنَوِيِّ فَعِنْدَ عَدَمِهَا وَكَوْنِ الْمُشَاكَلَةِ فِي بَعْضِ الْهَيْئَةِ انْتِفَاءَ الِاعْتِبَارِ أَظْهَرُ ، إلَّا أَنْ لَا يُمْكِنَ وَذَلِكَ بِأَنْ لَا يَكُونَ لِلَفْظٍ مَحْمَلٌ يُمْكِنُ سِوَاهُ ، فَالْوَاجِبُ إذَا عُهِدَ الْمُرَادُ بِلَفْظٍ فِي الشَّرْعِ وَتَرَدَّدَ فِيهِ فِي مَوْضِعٍ يَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْهُودِ وَغَيْرِهِ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْمَعْهُودِ ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ كَذَلِكَ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ ، وَأَنْ يُحْمَلَ حُكْمُ

الصَّحَابَةِ بِالنَّظِيرِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ بِاعْتِبَارِ تَقْدِيرِ الْمَالِيَّةِ : أَيْ بَيَانِ أَنَّ مَالِيَّةَ الْمَقْتُولِ كَمَالِيَّةِ الشَّاةِ الْوَسَطِ لَا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَا يُجْزِي غَيْرُهُ .
بَقِيَ أَنْ يُبَيَّنَ احْتِمَالُ لَفْظِ الْآيَةِ لِذَلِكَ ، وَفِيهَا قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مَرْفُوعٌ مَنُونٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ بِرَفْعِ مِثْلٍ ، وَالْأُخْرَى فَجَزَاءُ مِثْلِ بِإِضَافَةِ الْجَزَاءِ إلَى مِثْلٍ وَهِيَ إضَافَةٌ بَيَانِيَّةٌ فَالْمَعْنَى وَاحِدٌ : أَيْ فَجَزَاءٌ هُوَ مِثْلُ مَا قَتَلَ وَمَضْمُونُ الْآيَةِ شَرْطٌ وَجَزَاءٌ حُذِفَ مِنْهُ الْمُبْتَدَأُ بَعْدَ فَاءِ الْجَزَاءِ أَوْ الْخَبَرُ تَقْدِيرُهُ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ جَزَاءُ مِثْلِ مَا قَتَلَ : أَيْ قِيمَةُ مَا قَتَلَ أَوْ فَعَلَيْهِ جَزَاءٌ .
وَمِنْ النَّعَمِ بَيَانٌ لِمَا قَتَلَ أَوْ لِلْعَائِدِ إلَيْهَا : أَعْنِي الْمَنْصُوبَ الْمَحْذُوفَ أَيْ مَا قَتَلَهُ مِنْ النَّعَمِ الْوَحْشِيِّ ، وَالنَّعَمُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ لُغَةً كَمَا يُطْلَقُ عَلَى الْأَهْلِيِّ فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ ؛ لِأَنَّهُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ .
وقَوْله تَعَالَى { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } جُمْلَةٌ وَاقِعَةٌ صِفَةً لِجَزَاءٍ الَّذِي هُوَ الْقِيمَةُ أَوْ لِمِثْلِ الَّذِي هُوَ هِيَ ؛ لِأَنَّ مِثْلًا لَا تَتَعَرَّفُ بِالْإِضَافَةِ فَجَازَ وَصْفُهَا وَوَصْفُ مَا أُضِيفَ إلَيْهَا بِالْجُمْلَةِ ، وَهَدْيًا حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ بِهِ وَهُوَ الرَّاجِعُ إلَى مَا يُجْعَلُ مَوْصُوفًا مِنْهُمَا وَهِيَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ : أَيْ صَائِرًا هَدْيًا بِهِ وَذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بِوَاسِطَةِ الشِّرَاءِ بِهَا أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ .
وَ { بَالِغَ الْكَعْبَةِ } صِفَةٌ ؛ لِأَنَّ إضَافَتَهُ لَفْظِيَّةٌ فَتُوصَفُ بِهِ النَّكِرَةُ { أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا } مَعْطُوفَانِ عَلَى الْجَزَاءِ ؛ لِأَنَّهُمَا مَرْفُوعَانِ .
وَتَمَامُ مُؤَدَّى التَّرْكِيبِ عَلَى هَذَا ، فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ جَزَاءٌ هُوَ قِيمَةُ مَا قَتَلَهُ مِنْ النَّعَمِ الْوَحْشِيِّ يَحْكُمُ بِهِ : أَيْ بِذَلِكَ الْجَزَاءِ الَّذِي هُوَ الْقِيمَةُ عَدْلَانِ حَالَ

كَوْنِهِ صَائِرًا هَدْيًا بِوَاسِطَةِ الْقِيمَةِ { أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ } إلَى آخِرِهَا : أَيْ الْوَاجِبُ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ الْقِيمَةِ الصَّائِرَةِ هَدْيًا وَمِنْ الْإِطْعَامِ وَالصِّيَامِ الْمَبْنِيَّيْنِ عَلَى تَعَرُّفِ الْقِيمَةِ ، فَقَدْ ظَهَرَ تَأَدِّي الْمَعْنَى الَّذِي ذَهَبْنَا إلَيْهِ مِنْ لَفْظَةِ الْآيَةِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةِ تَكَلُّفٍ فِيهَا ، وَكَوْنُ الْحَالِ مُقَدَّرَةً كَثِيرٌ بَثِيرٌ ، وَهُوَ وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْ عَلَى تَقْدِيرِ الْمُخَالِفِ فِيهَا يَلْزَمُ عَلَى تَقْدِيرِهِ فِي وَصْفِهَا وَهُوَ بَالِغَ الْكَعْبَةِ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ حُكْمُهُمَا بِالْهَدْيِ مَوْصُوفًا بِبُلُوغِهِ إلَى الْكَعْبَةِ حَالَ حُكْمِهِمَا بِهِ عَلَى التَّحْقِيقِ ، بَلْ الْمُرَادُ يُحْكَمَانِ بِهِ مُقَدَّرًا بُلُوغُهُ ، فَلُزُومُ التَّقْدِيرِ ثَابِتٌ غَيْرَ أَنَّهُ يَخْتَلِفُ مَحَلُّهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ ، ثُمَّ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ لَا دَلَالَةَ لِلْآيَةِ عَلَى أَنَّ الِاخْتِيَارَ إلَى الْحَكَمَيْنِ ، بَلْ الظَّاهِرُ مِنْهَا أَنَّهُ إلَى مَنْ عَلَيْهِ فَإِنَّ مَرْجِعَ ضَمِيرِ الْمَحْذُوفِ مِنْ الْخَبَرِ أَوْ مُتَعَلَّقِ الْمُبْتَدَأِ إلَيْهِ : أَعْنِي مَا قَدَّرْنَاهُ مِنْ قَوْلِنَا فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَوْ فَعَلَيْهِ ، وَاَللَّهُ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ أَعْلَمُ ( قَوْلُهُ : لِأَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { يَحْكُمُ بِهِ } ) سَمَّاهُ تَفْسِيرًا ؛ لِأَنَّهُ أَزَالَ الْإِبْهَامَ عَنْهُ فِي الْجُمْلَةِ حَتَّى سَمَّاهُ بَعْضٌ تَمْيِيزًا لِكَوْنِهِ حَالًا وَكُلُّ حَالٍ تَكْشِفُ عَنْ إبْهَامٍ فِي الْجُمْلَةِ : أَعْنِي اعْتِبَارَ أَحْوَالِ مَا هِيَ لَهُ هَذَا .
وَيُقَوَّمُ الصَّيْدُ بِمَا فِيهِ مِنْ الْخِلْقَةِ لَا بِمَا زَادَهُ التَّعْلِيمُ ، فَلَوْ كَانَ بَازِيًا صَيُودًا أَوْ حَمَامًا يَجِيءُ مِنْ بَعِيدٍ قُوِّمَ لَا بِاعْتِبَارِ الصُّيُودِيَّةِ وَالْمَجِيءِ مِنْ بَعِيدٍ ، فَإِذَا كَانَ مَمْلُوكًا كَانَ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِمَالِكِهِ يُعْتَبَرُ فِيهَا مَا يَزِيدُهُ التَّعْلِيمُ وَقِيمَتُهُ لِلْجِنَايَةِ لَا يُعْتَبَرُ فِيهَا ذَلِكَ .
أَمَّا لَوْ كَانَ قِيمَتُهُ زَائِدَةً لِحُسْنِ تَصْوِيتِهِ فَفِي اعْتِبَارِهَا رِوَايَتَانِ : فِي رِوَايَةٍ

لَا تُعْتَبَرُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَصْلِ الصَّيْدِيَّةِ ، وَفِي أُخْرَى تُعْتَبَرُ ؛ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ كَالْحَمَامِ الْمُطَوَّقِ ، أَمَّا فِي الْغَصْبِ فَيُضْمَنُ بِمَا يُشْتَرَى بِهِ فِي الْبَلَدِ إلَّا إذَا كَانَ الْمُحَرَّمُ مِنْ اللَّهْوِ كَقِيمَةِ الدِّيكِ لِنِقَارِهِ وَالْكَبْشِ لِنِطَاحِهِ وَالتَّيْسِ لِلَعِبِهِ .
( قَوْلُهُ : وَقِيلَ يُعْتَبَرُ الْمُثَنَّى ) أَيْ فِي الْحُكْمِ الْمُقَوَّمِ .
وَاَلَّذِينَ لَمْ يُوجِبُوهُ حَمَلُوا الْعَدَدَ فِي الْآيَةِ عَلَى الْأَوْلَوِيَّةِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ زِيَادَةُ الْإِحْكَامِ وَالْإِتْقَانِ ، وَالظَّاهِرُ الْوُجُوبُ ، وَقَصْدُ الْإِحْكَامِ وَالْإِتْقَانِ لَا يُنَافِيهِ بَلْ قَدْ يَكُونُ دَاعِيَتَهُ .

( وَالْهَدْيُ لَا يُذْبَحُ إلَّا بِمَكَّةَ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ } ( وَيَجُوزُ الْإِطْعَامُ فِي غَيْرِهَا ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ .
هُوَ يَعْتَبِرُهُ بِالْهَدْيِ وَالْجَامِعُ التَّوْسِعَةُ عَلَى سُكَّانِ الْحَرَمِ ، وَنَحْنُ نَقُولُ : الْهَدْيُ قُرْبَةٌ غَيْرُ مَعْقُولَةٍ فَيَخْتَصُّ بِمَكَانٍ أَوْ زَمَانٍ .
أَمَّا الصَّدَقَةُ قُرْبَةٌ مَعْقُولَةٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ ( وَالصَّوْمُ يَجُوزُ فِي غَيْرِ مَكَّةَ ) ؛ لِأَنَّهُ قُرْبَةٌ فِي كُلِّ مَكَان ( فَإِنْ ذَبَحَ الْهَدْيَ بِالْكُوفَةِ أَجْزَأَهُ عَنْ الطَّعَامِ ) مَعْنَاهُ إذَا تَصَدَّقَ بِاللَّحْمِ وَفِيهِ وَفَاءٌ بِقِيمَةِ الطَّعَامِ ؛ لِأَنَّ الْإِرَاقَةَ لَا تَنُوبُ عَنْهُ .
وَإِذَا وَقَعَ الِاخْتِيَارُ عَلَى الْهَدْيِ يُهْدِي مَا يُجْزِيهِ فِي الْأُضْحِيَّةِ لِأَنَّ مُطْلَقَ اسْمِ الْهَدْيِ مُنْصَرِفٌ إلَيْهِ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ : يُجْزِي صِغَارُ النَّعَمِ فِيهَا ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَوْجَبُوا عَنَاقًا وَجَفْرَةً .
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ الصِّغَارُ عَلَى وَجْهِ الْإِطْعَامِ : يَعْنِي إذَا تَصَدَّقَ .
وَإِذَا وَقَعَ الِاخْتِيَارُ عَلَى الطَّعَامِ يُقَوَّمُ الْمُتْلَفُ بِالطَّعَامِ عِنْدَنَا ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَضْمُونُ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ ( وَإِذَا اشْتَرَى بِالْقِيمَةِ طَعَامًا تَصَدَّقَ عَلَى كُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُطْعِمَ الْمِسْكِينَ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ صَاعٍ ) ؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ الْمَذْكُورَ يَنْصَرِفُ إلَى مَا هُوَ الْمَعْهُودُ فِي الشَّرْعِ ( وَإِنْ اخْتَارَ الصِّيَامَ يُقَوَّمُ الْمَقْتُولُ طَعَامًا ثُمَّ يَصُومُ عَنْ كُلِّ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ يَوْمًا ) ؛ لِأَنَّ تَقْدِيرَ الصِّيَامِ بِالْمَقْتُولِ غَيْرُ مُمْكِنٍ إذْ لَا قِيمَةَ لِلصِّيَامِ فَقَدَّرْنَاهُ بِالطَّعَامِ ، وَالتَّقْدِيرُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَعْهُودٌ فِي الشَّرْعِ كَمَا فِي بَابِ الْفِدْيَةِ ( فَإِنْ فَضَلَ مِنْ الطَّعَامِ أَقَلُّ مِنْ نِصْفِ صَاعٍ فَهُوَ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ تَصَدَّقَ

بِهِ ، وَإِنْ شَاءَ صَامَ عَنْهُ يَوْمًا كَامِلًا ) ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ أَقَلَّ مِنْ يَوْمِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْوَاجِبُ دُونَ طَعَامِ مِسْكِينٍ يُطْعِمُ قَدْرَ الْوَاجِبِ أَوْ يَصُومُ يَوْمًا كَامِلًا لِمَا قُلْنَا .

( قَوْلُهُ : وَنَحْنُ نَقُولُ إلَخْ ) وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا عُيِّنَ الْهَدْيُ أَحَدَ الْوَاجِبَاتِ عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مُجَرَّدَ التَّصَدُّقِ بِاللَّحْمِ وَإِلَّا لَحَصَلَ التَّصَدُّقُ بِالْقِيمَةِ أَوْ بِلَحْمٍ يَشْتَرِيهِ ، بَلْ الْمُرَادُ التَّقَرُّبُ بِالْإِرَاقَةِ مَعَ التَّصَدُّقِ بِلَحْمِ الْقُرْبَانِ ، وَهُوَ تَبَعٌ مُتَمِّمٌ لِمَقْصُودِهِ فَلَا يَنْعَدِمُ الْإِجْزَاءُ بِفَوَاتِهِ عَنْ ضَرُورَةٍ ، فَلِذَا لَوْ سُرِقَ بَعْدَ الْإِرَاقَةِ أَجْزَأَهُ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ سُرِقَ قَبْلَهَا أَوْ ذُبِحَ بِالْكُوفَةِ فَسُرِقَ لَا يُجْزِيهِ ؛ لِأَنَّ الْقُرْبَةَ هُنَاكَ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِالتَّصَدُّقِ لِاخْتِصَاصِ قُرْبَةِ الْإِرَاقَةِ بِمَكَانٍ مَخْصُوصٍ أَعْنِي الْحَرَمَ ، وَلَا يَتَصَدَّقُ بِشَيْءٍ مِنْ الْجَزَاءِ عَلَى مَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ وَيَجُوزُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْمُسْلِمُ أَحَبُّ ، وَلَوْ أَكَلَ مِنْ الْجَزَاءِ غَرِمَ قِيمَةَ مَا أَكَلَ .
( قَوْلُهُ : وَإِذَا وَقَعَ الِاخْتِيَارُ عَلَى الْهَدْيِ يُهْدِي مَا يُجْزِي فِي الْأُضْحِيَّةِ ) حَتَّى لَوْ لَمْ تَبْلُغْ قِيمَةُ الْمَقْتُولِ إلَّا عَنَاقًا أَوْ حَمَلًا كَفَّرَ بِالْإِطْعَامِ أَوْ الصَّوْمِ لَا بِالْهَدْيِ ، وَلَا يُتَصَوَّرُ التَّكْفِيرُ بِالْهَدْيِ إلَّا أَنْ تَبْلُغَ قِيمَتُهُ جَذَعًا عَظِيمًا مِنْ الضَّأْنِ أَوْ ثَنِيًّا مِنْ غَيْرِهِ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يُكَفِّرُ بِالْهَدْيِ وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ كَقَوْلِ مُحَمَّدٍ ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ أَوْجَبُوا عَنَاقًا وَجَفْرَةً عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَرِيبٍ .
وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ : الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ الْهَدْيُ وَمُطْلَقُهُ فِي الشَّرْعِ يَنْصَرِفُ إلَى مَا يَبْلُغُ ذَلِكَ السِّنَّ ؛ لِأَنَّهُ الْمَعْهُودُ مِنْ إطْلَاقِهِ فِي هَدْيِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ وَالْأُضْحِيَّةِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ .
وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا مَجَازًا فَيَتَقَيَّدُ جَوَازُ اعْتِبَارِهِ بِالْقَرِينَةِ كَمَا لَوْ قَالَ ثَوْبِي هَدْيٌ لَزِمَهُ الثَّوْبُ لِتَقَيُّدِ الْهَدْيِ بِذِكْرِهِ ،

وَلِذَا لَوْ قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ هَدْيٌ لَزِمَهُ شَاةٌ .
ثُمَّ إذَا اخْتَارَ الْهَدْيَ وَبَلَغَ مَا يُضَحِّي بِهِ قَالَ الْمُصَنِّفُ لَا يُذْبَحُ إلَّا بِمَكَّةَ ، يُرِيدُ الْحَرَمَ مُطْلَقًا ، وَلَوْ ذَبَحَهُ فِي الْحِلِّ لَا يُجْزِيهِ مِنْ الْهَدْيِ بَلْ مِنْ الْإِطْعَامِ فَيُشْتَرَطُ أَنْ يُعْطِيَ كُلَّ فَقِيرٍ قَدْرَ قِيمَةِ نِصْفِ صَاعِ حِنْطَةٍ أَوْ صَاعٍ مِنْ غَيْرِهَا ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ اللَّحْمِ مِثْلَ قِيمَةِ الْمَقْتُولِ أَجْزَأَهُ وَإِلَّا فَيُكَمِّلُ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالشَّاةِ الْوَاقِعَةِ هَدْيًا عَلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ كَمَا فِي هَدْيِ الْمُتْعَةِ .
( قَوْلُهُ : وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ : يَجُوزُ الصِّغَارُ عَلَى وَجْهِ الْإِطْعَامِ إلَخْ ) يَتَضَمَّنُ جَوَابَهُمَا : يَعْنِي أَنَّ الْمَنْفِيَّ وُقُوعُ الصِّغَارِ هَدْيًا تَتَعَلَّقُ الْقُرْبَةُ فِيهِ بِنَفْسِهِ بِمُجَرَّدِ الْإِرَاقَةِ لَا جَوَازِهَا مُطْلَقًا بَلْ نُجِيزُهَا بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ إطْعَامًا فَيَجُوزُ كَوْنُ حُكْمِ الصَّحَابَةِ كَانَ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ فِي الصِّغَارِ ، فَمُجَرَّدُ فِعْلِهِمْ ذَلِكَ حِينَئِذٍ لَا يُنَافِي مَا ذَهَبَ إلَيْهِ فَلَا يَنْتَهِضُ عَلَيْهِ ، وَأَمَّا صَيْرُورَةُ وَلَدِ الْهَدْيِ هَدْيًا فَلِلتَّبَعِيَّةِ كَوَلَدِ الْأُضْحِيَّةِ .
( قَوْلُهُ : عِنْدَنَا ) قُيِّدَ بِالظَّرْفِ لِنَفْيِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنَّهُ يُقَوَّمُ النَّظِيرُ عَلَى مَا ذُكِرَ ؛ لِأَنَّهُ الْوَاجِبُ عَيْنًا إذَا كَانَ لِلْمَقْتُولِ نَظِيرٌ .
وَقَوْلُهُ : ( لِأَنَّهُ ) رَاجِعٌ إلَى الْمُتْلَفِ : يَعْنِي الْمُتْلَفَ ( هُوَ الْمَضْمُونُ ) فَلَا مَعْنَى لِتَقَوُّمِ غَيْرِهِ لِجَبْرِهِ ، وَلَوْ سَلِمَ أَنَّ النَّظِيرَ هُوَ الْوَاجِبُ عَيْنًا عِنْدَ اخْتِيَارِ الْهَدْيِ لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ وُجُوبُ تَقْوِيمِهِ عِنْدَ اخْتِيَارِ خَصْلَةٍ أُخْرَى فَكَيْفَ وَهُوَ مَمْنُوعٌ ( قَوْلُهُ : وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُطْعِمَ الْمِسْكِينَ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ صَاعٍ ) وَلَا يُمْنَعُ أَنْ يُعْطِيَهُ أَكْثَرَ ، وَلَوْ كَانَ كُلَّ الطَّعَامِ ، غَيْرَ أَنَّهُ إنْ فَعَلَ أَجْزَأَ عَنْ إطْعَامِ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ وَعَلَيْهِ أَنْ يُكْمِلَ بِحِسَابِهِ وَيَقَعَ

الْبَاقِي تَطَوُّعًا ، بِخِلَافِ الشَّاةِ فِي الْهَدْيِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَصْلَ الْقُرْبَةِ قَدْ حَصَلَتْ بِالْإِرَاقَةِ وَإِطْعَامُهُ تَبَعٌ مُتَمِّمٌ لَهُ .

( وَلَوْ جَرَحَ صَيْدًا أَوْ نَتَفَ شَعْرَهُ أَوْ قَطَعَ عُضْوًا مِنْهُ ضَمِنَ مَا نَقَصَهُ ) اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ كَمَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ ( وَلَوْ نَتَفَ رِيشَ طَائِرٍ أَوْ قَطَعَ قَوَائِمَ صَيْدٍ فَخَرَجَ مِنْ حَيِّزِ الِامْتِنَاعِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ كَامِلَةً ) ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ عَلَيْهِ الْأَمْنَ بِتَفْوِيتِ آلَةِ الِامْتِنَاعِ فَيَغْرَمُ جَزَاءَهُ .

( قَوْلُهُ : ضَمِنَ مَا نَقَصَهُ ) وَإِنْ بَرِئَ وَبَقِيَ لَهُ أَثَرٌ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَمَاتَ أَوْ بَرِئَ فَفِي الْقِيَاسِ يَضْمَنُ مَا نَقَصَ .
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ احْتِيَاطًا كَمَنْ أَخْرَجَ صَيْدًا مِنْ الْحَرَمِ ثُمَّ أَرْسَلَهُ وَلَا يَعْلَمُ أَدْخَلَ الْحَرَمَ أَمْ لَا تَجِبُ قِيمَتُهُ .
وَلَوْ قَلَعَ سِنَّ ظَبْيٍ أَوْ نَتَفَ شَعْرَ صَيْدٍ فَنَبَتَ مَكَانَهَا أَوْ ضَرَبَ عَيْنَهَا فَابْيَضَّتْ ثُمَّ انْجَلَتْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ بِاعْتِبَارِ مَا وَصَلَ إلَيْهِ مِنْ الْأَلَمِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا اعْتِبَارُ الْأَلَمِ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْعِبَادِ حَتَّى أَوْجَبَ عَلَى الْجَانِي ثَمَنَ الدَّوَاءِ وَأُجْرَةِ الطَّبِيبِ إلَى أَنْ يَنْدَمِلَ .
وَفِي مَنَاسِكِ الْكَرْمَانِيِّ : لَوْ ضَرَبَ صَيْدًا فَمَرِضَ فَانْتَقَصَتْ قِيمَتُهُ أَوْ زَادَتْ ثُمَّ مَاتَ كَانَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْقِيمَتَيْنِ مِنْ قِيمَةِ وَقْتِ الْجُرْحِ أَوْ وَقْتِ الْمَوْتِ .
وَلَوْ جَرَحَهُ فَكَفَّرَ ثُمَّ قَتَلَهُ كَفَّرَ أُخْرَى ، فَلَوْ لَمْ يُكَفِّرْ حَتَّى قَتَلَهُ وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ وَمَا نَقَصَتْهُ الْجِرَاحَةُ الْأُولَى سَاقِطٌ .
وَفِي الْجَامِعِ : مُحْرِمٌ بِعُمْرَةٍ جَرَحَ صَيْدًا غَيْرَ مُسْتَهْلَكٍ ثُمَّ أَضَافَ إلَى عُمْرَتِهِ حَجَّةً ثُمَّ جَرَحَهُ كَذَلِكَ فَمَاتَ مِنْهُمَا فَعَلَيْهِ لِلْعُمْرَةِ قِيمَتُهُ صَحِيحًا وَلِلْحَجِّ قِيمَتُهُ وَبِهِ الْجُرْحُ الْأَوَّلُ ، وَلَوْ كَانَ جَرَحَهُ ثُمَّ حَلَّ مِنْ عُمْرَتِهِ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ جَرَحَهُ ثَانِيًا فَعَلَيْهِ لِلْعُمْرَةِ قِيمَتُهُ وَبِهِ الْجُرْحُ الثَّانِي وَلِلْحَجِّ قِيمَتُهُ وَبِهِ الْجُرْحُ الْأَوَّلُ ، وَلَوْ حَلَّ مِنْ الْعُمْرَةِ ثُمَّ قَرَنَ ثُمَّ جَرَحَهُ فَمَاتَ فَعَلَيْهِ لِلْعُمْرَةِ قِيمَتُهُ وَبِهِ الْجُرْحُ الثَّانِي وَلِلْقِرَانِ قِيمَتَانِ وَبِهِ الْجُرْحُ الْأَوَّلُ ، وَلَوْ كَانَ الْأَوَّلُ مُسْتَهْلَكًا بِأَنْ قَطَعَ يَدَهُ وَالثَّانِي غَيْرَ مُسْتَهْلَكٍ وَبَاقِي الْمَسْأَلَةِ بِحَالِهَا فَعَلَيْهِ لِلْعُمْرَةِ قِيمَتُهُ صَحِيحًا لِلْحَالِ

وَلِلْقِرَانِ قِيمَتَانِ وَبِهِ الْجُرْحُ الْأَوَّلُ ، وَلَوْ كَانَ الثَّانِي قَطْعَ يَدٍ أُخْرَى فَهِيَ وَمَا لَوْ كَانَ جُرْحًا غَيْرَ مُسْتَهْلَكٍ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ اسْتِهْلَاكُهُ مَرَّةً ثَانِيَةً .
( قَوْلُهُ : لِأَنَّهُ فَوَّتَ عَلَيْهِ الْأَمْنَ بِتَفْوِيتِ آلَةِ الِامْتِنَاعِ ) يَعْنِي وَكَانَ كَالْإِتْلَافِ ، فَهَذَا كَالْقِيَاسِ الْجَارِي فِي الدَّلَالَةِ مِمَّا قَدَّمْنَاهُ ، فَإِنْ أَدَّى الْجَزَاءَ ثُمَّ قَتَلَهُ لَزِمَهُ جَزَاءٌ آخَرُ ، وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّهِ حَتَّى قَتَلَهُ فَجَزَاءٌ وَاحِدٌ .

( وَمَنْ كَسَرَ بَيْضَ نَعَامَةٍ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ ) وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَلِأَنَّهُ أَصْلُ الصَّيْدِ ، وَلَهُ عَرَضِيَّةُ أَنْ يَصِيرَ صَيْدًا فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ الصَّيْدِ احْتِيَاطًا مَا لَمْ يَفْسُدْ ( فَإِنْ خَرَجَ مِنْ الْبَيْضِ فَرْخٌ مَيِّتٌ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ حَيًّا ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَغْرَمَ سِوَى الْبَيْضَةِ ؛ لِأَنَّ حَيَاةَ الْفَرْخِ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْبَيْضَ مُعَدٌّ ؛ لِيَخْرُجَ مِنْهُ الْفَرْخُ الْحَيُّ ، وَالْكَسْرُ قَبْلَ أَوَانِهِ سَبَبٌ لِمَوْتِهِ فَيُحَالُ بِهِ عَلَيْهِ احْتِيَاطًا ، وَعَلَى هَذَا إذَا ضَرَبَ بَطْنَ ظَبْيَةٍ فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا وَمَاتَتْ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُمَا .

( قَوْلُهُ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ) قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : فِي بَيْضِ النَّعَامِ يُصِيبُهُ الْمُحْرِمُ ثَمَنُهُ .
وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ قَالَ : فِي كُلِّ بَيْضَتَيْنِ دِرْهَمٌ وَفِي كُلِّ بَيْضَةٍ نِصْفُ دِرْهَمٍ .
وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : حَدَّثَنَا ابْنُ الْفُضَيْلِ عَنْ خُصَيْفٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : فِي بَيْضِ النَّعَامِ قِيمَتُهُ .
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ : أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ خُصَيْفٍ بِهِ ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِثْلَهُ عَنْ عُمَرَ مُنْقَطِعًا ، وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَطَاوُسٍ ، وَفِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالدَّارَقُطْنِيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ .
( قَوْلُهُ : مَا لَمْ يَفْسُدْ ) الْأَوْجَهُ وَصْلُهُ بِكَسْرِ بَيْضِ نَعَامَةٍ : أَيْ وَمَنْ كَسَرَ بَيْضَ نَعَامَةٍ مَا لَمْ يَفْسُدْ : أَيْ فِي زَمَنِ عَدَمِ فَسَادِهَا فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ ، وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ نَائِبَةٌ عَنْ ظَرْفِ الزَّمَانِ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ فِي الْبَيْضَةِ الْمَذِرَةِ ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْبَيْضَةِ لَيْسَ لِذَاتِهَا بَلْ لِعَرَضِيَّةِ الصَّيْدِ وَلَيْسَتْ الْمَذِرَةُ بِعَرَضِيَّةِ أَنْ تَصِيرَ صَيْدًا ، فَانْتَفَى بِهَذَا مَا قَالَ الْكَرْمَانِيُّ : إذَا كَسَرَ بَيْضَ نَعَامَةٍ مَذِرَةٍ وَجَبَ الْجَزَاءُ ؛ لِأَنَّ لِقِشْرَتِهَا قِيمَةً ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ نَعَامَةٍ لَا يَجِبُ شَيْءٌ وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ بِالْإِحْرَامِ لَيْسَ التَّعَرُّضُ لِلْقِشْرِ بَلْ لِلصَّيْدِ فَقَطْ وَلَيْسَ لِلْمَذِرَةِ عَرَضِيَّةُ الصَّيْدِيَّةِ .
( قَوْلُهُ : وَالْكَسْرُ قَبْلَ أَوَانِهِ سَبَبٌ لِمَوْتِهِ فَيُحَالُ بِهِ عَلَيْهِ ) يُفِيدُ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ فِيمَا إذَا جُهِلَ أَنَّ مَوْتَهُ مِنْ الْكَسْرِ أَوْ لَا ، فَأَمَّا إذَا عُلِمَ أَنَّ مَوْتَهُ قَبْلَ الْكَسْرِ لَا يَجِبُ فِيهِ شَيْءٌ لِانْعِدَامِ الْإِمَاتَةِ وَلَا فِي الْبَيْضِ ؛ لِعَدَمِ الْعَرَضِيَّةِ ، وَإِذَا ضَمِنَ

الْفَرْخَ لَا يَجِبُ فِي الْبَيْضِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ مَا ضَمَانُهُ لِأَجْلِهِ قَدْ ضَمِنَهُ ، وَلَوْ أَخَذَ الْبَيْضَةَ فَحَضَنَهَا تَحْتَ دَجَاجَةٍ فَفَسَدَتْ لَا يَخْتَلِفُ الْجَوَابُ ، وَلَوْ لَمْ تَفْسُدْ وَخَرَجَ مِنْهَا فَرْخٌ وَطَارَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَكَذَا لَوْ نَفَّرَ صَيْدًا عَنْ بَيْضِهِ فَفَسَدَ ضَمِنَهُ إحَالَةً لِلْفَسَادِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ السَّبَبُ الظَّاهِرُ .
وَلَا يَخْفَى عَلَيْك إذَا تَذَكَّرْت أَنَّ التَّعْلِيلَ الْمَذْكُورَ كَالتَّعْلِيلِ فِي مَسْأَلَةِ الْفَأْرَةِ الَّتِي تُوجَدُ فِي الْبِئْرِ مَيْتَةً لَا يُدْرَى مَتَى وَقَعَتْ حَيْثُ حَكَمَ أَبُو حَنِيفَةَ بِإِضَافَةِ مَوْتِهَا إلَى وُقُوعِهَا فِي الْبِئْرِ وَرَتَّبَ عَلَيْهَا حُكْمَ الْبِئْرِ الَّتِي مَاتَتْ فِيهَا فَأْرَةٌ إحَالَةً عَلَى السَّبَبِ الظَّاهِرِ ، وَهُمَا قَدْ خَالَفَاهُ هُنَاكَ وَوَافَقَاهُ هُنَا فَيُطَالَبَانِ بِالْفَرْقِ الْمُؤَثِّرِ لَا كُلِّ فَرْقٍ .
وَعَلَى هَذَا لَوْ جَرَحَ صَيْدًا فَغَابَ فَوَجَدَهُ مَيِّتًا إنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِسَبَبٍ آخَرَ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ الْجُرْحِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ يَجِبُ الضَّمَانُ احْتِيَاطًا لِلسَّبَبِيَّةِ الظَّاهِرَةِ ، كَمَنْ أَخْرَجَ صَيْدًا مِنْ الْحَرَمِ وَأَرْسَلَهُ وَلَا يَعْلَمُ أَدَخَلَ الْحَرَمَ أَمْ لَا تَجِبُ قِيمَتُهُ .
( قَوْلُهُ : وَعَلَى هَذَا ) أَيْ هَذَا الْأَصْلِ وَهُوَ النِّسْبَةُ إلَى مَا هُوَ سَبَبُ الظَّاهِرِ .
( إذَا ضَرَبَ بَطْنَ ظَبْيَةٍ فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا وَمَاتَتْ الْأُمُّ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُمَا ) أَمَّا الْأُمُّ فَظَاهِرٌ ، وَأَمَّا الْجَنِينُ فَلِأَنَّ ضَرْبَ الْبَطْنِ سَبَبٌ ظَاهِرٌ لِمَوْتِهِ وَقَدْ ظَهَرَ عَقِيبَهُ مَيِّتًا فَيُحَالُ عَلَيْهِ .

( وَلَيْسَ فِي قَتْلِ الْغُرَابِ وَالْحِدَأَةِ وَالذِّئْبِ وَالْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ وَالْفَأْرَةِ وَالْكَلْبِ الْعَقُورِ جَزَاءٌ ) ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { خَمْسٌ مِنْ الْفَوَاسِقِ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ ، الْحِدَأَةُ وَالْحَيَّةُ وَالْعَقْرَبُ ، وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ الْفَأْرَةَ وَالْغُرَابَ وَالْحِدَأَةَ وَالْعَقْرَبَ وَالْحَيَّةَ وَالْكَلْبَ الْعَقُورَ } وَقَدْ ذُكِرَ الذِّئْبُ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ .
وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ الذِّئْبُ ، أَوْ يُقَالُ إنَّ الذِّئْبَ فِي مَعْنَاهُ ، وَالْمُرَادُ بِالْغُرَابِ الَّذِي يَأْكُلُ الْجِيَفَ وَيَخْلِطُ ؛ لِأَنَّهُ يَبْتَدِئُ بِالْأَذَى ، أَمَّا الْعَقْعَقُ فَغَيْرُ مُسْتَثْنًى ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى غُرَابًا وَلَا يَبْتَدِئُ بِالْأَذَى .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْكَلْبَ الْعَقُورَ وَغَيْرَ الْعَقُورِ وَالْمُسْتَأْنَسَ وَالْمُتَوَحِّشَ مِنْهُمَا سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي ذَلِكَ الْجِنْسُ ، وَكَذَا الْفَأْرَةُ الْأَهْلِيَّةُ وَالْوَحْشِيَّةُ سَوَاءٌ .
وَالضَّبُّ وَالْيَرْبُوعُ لَيْسَا مِنْ الْخَمْسِ الْمُسْتَثْنَاةِ ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَبْتَدِئَانِ بِالْأَذَى .

( قَوْلُهُ وَلَيْسَ فِي قَتْلِ الْغُرَابِ ) لَمْ يَقُلْ لَيْسَ فِي قَتْلِ الْمُحْرِمِ إلَخْ جَزَاءٌ ، بَلْ أَطْلَقَ نَفْيَ الْجَزَاءِ فِي قَتْلِهِنَّ ؛ لِيُفِيدَ أَنَّهُ لَا يَسْتَعْقِبُ جَزَاءً فِي الْحَرَمِ وَلَا فِي الْإِحْرَامِ ، فَلِهَذَا اسْتَدَلَّ بِمَا يُفِيدُ إبَاحَةَ قَتْلِهِنَّ فِي الْحَرَمِ وَبِمَا يُفِيدُ فِي الْإِحْرَامِ ، فَالْأَوَّلُ هُوَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { خَمْسٌ مِنْ الْفَوَاسِقِ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ : الْغُرَابُ وَالْحِدَأَةُ ، وَالْعَقْرَبُ وَالْفَأْرَةُ ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ } وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ " الْحَيَّةُ " عِوَضُ الْعَقْرَبِ ، وَقَالَ فِيهِ : { الْغُرَابُ الْأَبْقَعُ } .
وَالثَّانِي مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خَمْسٌ مِنْ الدَّوَابِّ لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِهِنَّ جُنَاحٌ : الْعَقْرَبُ وَالْفَأْرَةُ ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ ، وَالْغُرَابُ وَالْحِدَأَةُ } وَأَخْرَجَاهُ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : حَدَّثَتْنِي إحْدَى نِسْوَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ " فَذَكَرَ الْخَمْسَةَ ، وَزَادَ فِيهِ مُسْلِمٌ " وَالْحَيَّةَ " قَالَ : وَفِي الصَّلَاةِ أَيْضًا .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ { سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ ؟ قَالَ : يَقْتُلُ الْحَيَّةَ وَالْعَقْرَبَ ، وَالْفُوَيْسِقَةَ وَالْكَلْبَ الْعَقُورَ ، وَالْحِدَأَةَ وَالسَّبُعَ الْعَادِيَ ، وَيَرْمِي الْغُرَابَ وَلَا يَقْتُلُهُ } وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ التِّرْمِذِيُّ السَّبُعَ الْعَادِيَ ، وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ ، وَحُمِلَ الْغُرَابُ الْمَنْهِيُّ عَنْ قَتْلِهِ هُنَا عَلَى غَيْرِ الْأَبْقَعِ وَهُوَ الَّذِي يَأْكُلُ الزَّرْعَ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ ، وَإِنَّمَا يَرْمِيهِ ؛ لِيُنَفِّرَهُ عَنْ الزَّرْعِ .
وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ { أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُحْرِمَ بِقَتْلِ الذِّئْبِ وَالْفَأْرَةِ وَالْحِدَأَةِ وَالْغُرَابِ } وَفِيهِ

الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ مُقْتَصِرًا عَلَى الذِّئْبِ ، وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ ، وَأَخْرَجَ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ : يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ الذِّئْبَ وَكُلَّ عَدُوٍّ ، وَلَمْ يُذْكَرْ فِي الْكِتَابِ ، وَهَذَا مَا قَالَ الْمُصَنِّفُ ، وَذُكِرَ الذِّئْبُ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ .
وَأَخْرَجَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَ حَدِيثِ مَالِكٍ وَاللَّيْثِ إلَّا أَنَّهُ قَالَ فِيهِ : { وَالْحَيَّةُ وَالذِّئْبُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ } .
وَقَالَ السَّرَقُسْطِيُّ فِي غَرِيبِهِ : الْكَلْبُ الْعَقُورُ يُقَالُ لِكُلِّ عَاقِرٍ حَتَّى اللِّصِّ الْمُقَاتِلِ .
( قَوْلُهُ : وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ الذِّئْبُ ) وَقِيلَ الْمُرَادُ بِهِ الْأَسَدُ ، أَسْنَدَهُ السَّرَقُسْطِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ : حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ ابْنِ سِيلَانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ : الْكَلْبُ الْعَقُورُ : الْأَسَدُ .
( قَوْلُهُ : أَوْ يُقَالُ إنَّ الذِّئْبَ فِي مَعْنَاهُ ) يَعْنِي فَيَلْحَقُ بِهِ دَلَالَةً ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ ذَلِكَ الْمُوجِبِ لِلْإِلْحَاقِ فِي الدَّلَالَةِ .
وَاَلَّذِي يَدُورُ عَلَيْهِ كَلَامُهُ هُوَ كَوْنُهُنَّ مُبْتَدِئَاتٍ بِالْأَذَى ، وَضَمَّ غَيْرُهُ إلَى ذَلِكَ مُخَالَطَتَهَا : يَعْنِي كَوْنَهَا تَعِيشُ بِالِاخْتِطَافِ وَالِانْتِهَابِ ، وَسَنَذْكُرُ لِهَذَا إتْمَامًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
( قَوْلُهُ : لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي ذَلِكَ الْجِنْسُ ) وَإِنْ كَانَ وَصْفُهُ بِالْعَقُورِ إيمَاءً إلَى الْعِلَّةِ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد فِي الْمَرَاسِيلِ ، وَذُكِرَ الْكَلْبُ مِنْ غَيْرِ وَصْفِهِ بِالْعَقُورِ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ الْجِنْسُ ، وَاَلَّذِي ذُكِرَ وَصْفُهُ بِالْعُقُورِيَّةِ يُرَادُ بِهِ الْكَلْبُ الْوَحْشِيُّ ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ عَقُورًا مُبْتَدِئًا بِالْأَذَى ، فَأَفَادَ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ صَيْدًا لَا شَيْءَ فِيهِ ؛ لِكَوْنِهِ عَقُورًا ، وَيَكُونُ مَا فِي الْمَرَاسِيلِ

تَعْمِيمُ النَّوْعِ بِنَفْيِ الْجَزَاءِ ؛ لِأَنَّ أَحَدَ صِنْفَيْهِ مُؤْذٍ وَهُوَ الصَّيْدُ ، وَالْآخَرُ لَيْسَ بِصَيْدٍ أَصْلًا ، إلَّا أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ بَعْضُ النَّوْعِ الْوَاحِدِ وَحْشِيًّا وَبَعْضُهُ لَا .
فَإِنْ اُسْتُبْعِدَ ذَلِكَ وَادُّعِيَ أَنَّ كُلَّ نَوْعٍ فِطْرَتَهُ فِي الْوَحْشِيَّةِ وَعَدَمِهَا شَامِلَةٌ ، لِكُلِّ أَفْرَادِهِ ثُمَّ يَعْرِضُ لِبَعْضِهَا خِلَافُ الطَّبْعِ الْأَصْلِيِّ مِنْ التَّوَحُّشِ وَالِاسْتِئْنَاسِ .
قُلْنَا عَلَى التَّنَزُّلِ نَخْتَارُ أَنَّ جِنْسَ الْكَلْبِ غَيْرُ وَحْشِيٍّ ، وَإِنْ وُجِدَ مِنْهُ وَحْشِيٌّ فَالتَّوَحُّشُ عَارِضٌ لَهُ فَاقْتَضَى أَنْ لَا يَجِبَ بِقَتْلِ شَيْءٍ مِنْهُ جَزَاءٌ .
وَفَائِدَةُ التَّنْصِيصِ عَلَى وَصْفٍ بِخُصُوصِهِ بِنَفْيِ الْجَزَاءِ : أَعْنِي مَا هُوَ مَعْرُوضُ التَّوَحُّشِ دَفْعُ تَوَهُّمِ أَنَّهُ وَحْشِيٌّ بِالْأَصَالَةِ فَيَجِبُ بِقَتْلِهِ الْجَزَاءُ ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَحْشِيًّا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ لِكَوْنِهِ عَقُورًا ، عَلَى أَنَّ الْحَقَّ جَوَازُ الِانْقِسَامِ .
وَقَوْلُهُمْ الْفَأْرَةُ الْوَحْشِيَّةُ وَالْأَهْلِيَّةُ يُفِيدُهُ ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا حُكِمَ بِإِرَادَةِ حَقِيقَةِ الْكَلْبِ ، أَمَّا إذَا قِيلَ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْكَلْبِ الْعَقُورِ الذِّئْبُ أَوْ الْأَسَدُ فَلَا إشْكَالَ حِينَئِذٍ ، إلَّا أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ الْأَسَدُ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ عَلَى الْأَسَدِ الْعَادِي عِنْدَهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ يُوجِبُونَ الْجَزَاءَ بِقَتْلِ الْأَسَدِ إذَا لَمْ يَصُلْ ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذِهِ الْإِرَادَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ وَأَبِي دَاوُد .
( قَوْلُهُ : وَكَذَا الْفَأْرَةُ الْأَهْلِيَّةُ وَالْوَحْشِيَّةُ ) لِوُجُودِ الْمُبِيحِ فِي الْوَحْشِيَّةِ وَهُوَ فِسْقُهَا ، وَالسِّنَّوْرُ كَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَفِي رِوَايَةِ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدٍ : مَا كَانَ مِنْهُ بَرِّيًّا فَهُوَ مُتَوَحِّشٌ كَالصَّيُودِ يَجِبُ بِقَتْلِهِ الْجَزَاءُ .

( وَلَيْسَ فِي قَتْلِ الْبَعُوضِ وَالنَّمْلِ وَالْبَرَاغِيثِ وَالْقُرَادِ شَيْءٌ ) ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِصُيُودٍ وَلَيْسَتْ بِمُتَوَلِّدَةٍ مِنْ الْبَدَنِ ثُمَّ هِيَ مُؤْذِيَةٌ بِطِبَاعِهَا ، وَالْمُرَادُ بِالنَّمْلِ السُّودُ أَوْ الصُّفْرُ الَّذِي يُؤْذِي ، وَمَا لَا يُؤْذِي لَا يَحِلُّ قَتْلُهَا ، وَلَكِنْ لَا يَجِبُ الْجَزَاءُ لِلْعِلَّةِ الْأُولَى .
.
( قَوْلُهُ : وَلَيْسَتْ بِمُتَوَلِّدَةٍ مِنْ الْبَدَنِ ) احْتِرَازٌ عَنْ الْقَمْلَةِ .
( قَوْلُهُ : وَمَا لَا يُؤْذِي لَا يَحِلُّ قَتْلُهَا ) وَإِنْ كَانَ لَا يَجِبُ بِقَتْلِهَا الْجَزَاءُ ، وَهَكَذَا الْكَلْبُ الْأَهْلِيُّ إذَا لَمْ يَكُنْ مُؤْذِيًا لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ نُسِخَ فَتَقَيَّدَ الْقَتْلُ بِوُجُودِ الْإِيذَاءِ .
( قَوْلُهُ لِلْعِلَّةِ الْأُولَى ) يَعْنِي كَوْنَهَا لَيْسَتْ بِصُيُودٍ وَلَا مُتَوَلِّدَةٍ مِنْ الْبَدَنِ ، وَهُمَا وَإِنْ كَانَا عِلَّتَيْنِ لِلْحُكْمِ الَّذِي هُوَ وُجُوبُ الْجَزَاءِ لَكِنَّ نَفْيَهُمَا مَعًا عِلَّةٌ لِنَفْيِهِ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ إذَا كَانَ يَثْبُتُ بِعِلَلٍ شَتَّى يَكُونُ نَفْيُهُ مَعْلُولًا بِعَدَمِ الْكُلِّ ، إذْ لَوْ ثَبَتَ شَيْءٌ مِنْهَا لَمْ يَنْتِفْ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي قَتْلِ الْقُنْفُذِ رِوَايَتَانِ : فِي رِوَايَةٍ جَعْلُهُ نَوْعًا مِنْ الْفَأْرَةِ ، وَفِي أُخْرَى جَعْلُهُ كَالْيَرْبُوعِ فَفِيهِ الْجَزَاءُ .
وَفِي الْفَتَاوَى : لَا شَيْءَ فِي ابْنِ عِرْسٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ ، وَأَطْلَقَ غَيْرُهُ لُزُومَ الْجَزَاءِ فِي الضَّبِّ وَالْيَرْبُوعِ وَالسَّمُّورِ وَالسِّنْجَابِ وَالدَّلَقِ وَالثَّعْلَبِ وَابْنِ عِرْسٍ وَالْأَرْنَبِ مِنْ غَيْرِ حِكَايَةِ خِلَافٍ فِي شَيْءٍ .

( وَمَنْ قَتَلَ قَمْلَةً تَصَدَّقَ بِمَا شَاءَ ) مِثْلَ كَفٍّ مِنْ طَعَامٍ ؛ لِأَنَّهَا مُتَوَلِّدَةٌ مِنْ التَّفَثِ الَّذِي عَلَى الْبَدَنِ ( وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَطْعَمَ شَيْئًا ) وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُجْزِيهِ أَنْ يُطْعِمَ مِسْكَيْنَا شَيْئًا يَسِيرًا عَلَى سَبِيلِ الْإِبَاحَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُشْبِعًا .
.
( قَوْلُهُ : لِأَنَّهَا مُتَوَلِّدَةٌ مِنْ التَّفَثِ الَّذِي عَلَى الْبَدَنِ ) يُفِيدُ أَنَّ الْجَزَاءَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ قَضَاءُ التَّفَثِ ، فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَأْخُذْهَا مِنْ بَدَنِهِ بَلْ وَجَدَ قَمْلَةً عَلَى الْأَرْضِ فَقَتَلَهَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِلْقَاءَ عَلَى الْأَرْضِ كَالْقَتْلِ تَجِبُ بِهِ الصَّدَقَةُ ، وَلَوْ قَالَ مُحْرِمٌ لِحَلَالٍ ارْفَعْ هَذَا الْقَمْلَ عَنِّي أَوْ دَفَعَ ثَوْبَهُ إلَيْهِ فَفَلَّى مَا فِيهِ مِنْ الْقَمْلِ فَقَتَلَهُ كَانَ عَلَى الْآمِرِ الْجَزَاءُ ، وَكَذَا إذَا أَشَارَ إلَى قَمْلَةٍ فَقَتَلَهَا الْحَلَالُ كَانَ عَلَيْهِ جَزَاؤُهَا ؛ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ مُوجِبَةٌ فِي الصَّيْدِ فَكَذَا مَا فِي حُكْمِهِ ، كَذَا فِي التَّجْنِيسِ .
وَالْقَمْلَتَانِ وَالثَّلَاثُ كَالْوَاحِدَةِ .
وَفِي الزَّائِدِ عَلَى الثَّلَاثِ بَالِغًا مَا بَلَغَ نِصْفَ صَاعٍ ، وَهَذَا إذَا قَتَلَهَا قَصْدًا وَكَذَا لَوْ أَلْقَى ثَوْبَهُ فِي الشَّمْسِ ؛ لِقَصْدِ قَتْلِهَا كَانَ عَلَيْهِ نِصْفُ صَاعِ بُرٍّ وَنَحْوُهُ ، وَلَوْ أَلْقَاهُ لَا لِلْقَتْلِ فَمَاتَتْ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ .

( وَمَنْ قَتَلَ جَرَادَةً تَصَدَّقَ بِمَا شَاءَ ) ؛ لِأَنَّ الْجَرَادَ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ فَإِنَّ الصَّيْدَ مَا لَا يُمْكِنُ أَخْذُهُ إلَّا بِحِيلَةٍ وَيَقْصِدُهُ الْآخِذُ ( وَتَمْرَةٌ خَيْرٌ مِنْ جَرَادَةٍ ) لِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : تَمْرَةٌ خَيْرٌ مِنْ جَرَادَةٍ .
( قَوْلُهُ : لِأَنَّ الْجَرَادَ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ ) عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ .
وَيَشْكُلُ عَلَيْهِ مَا فِي أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ { خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةٍ أَوْ عُمْرَةٍ ، فَاسْتَقْبَلَنَا رِجْلٌ مِنْ جَرَادٍ فَجَعَلْنَا نَضْرِبُهُ بِسِيَاطِنَا وَعِصِيِّنَا فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كُلُوهُ فَإِنَّهُ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ } وَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ فِيهِ شَيْءٌ أَصْلًا ، لَكِنْ تَظَاهَرَ عَنْ عُمَرَ إلْزَامُ الْجَزَاءِ فِيهَا .
فِي الْمُوَطَّأِ أَنْبَأَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ عُمَرَ عَنْ جَرَادَةٍ قَتَلَهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ فَقَالَ عُمَرُ لِكَعْبٍ : تَعَالَ حَتَّى نَحْكُمَ ، فَقَالَ كَعْبٌ : دِرْهَمٌ ، فَقَالَ : عُمَرُ : إنَّك لَتَجِدُ الدَّرَاهِمَ ، لَتَمْرَةٌ خَيْرٌ مِنْ جَرَادَةٍ .
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ بِقِصَّتِهِ ، وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّ كَعْبًا سَأَلَ عُمَرَ فَذَكَرَ مَعْنَاهُ ، وَقَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَاشِدٍ عَنْ مَكْحُولٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سُئِلَ عَنْ الْجَرَادِ يَقْتُلُهُ الْمُحْرِمُ فَقَالَ : تَمْرَةٌ خَيْرٌ مِنْ جَرَادَةٍ ، وَتَبِعَ عُمَرَ أَصْحَابُ الْمَذَاهِبِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَفِي الْمُحِيطِ : مَمْلُوكٌ أَصَابَ جَرَادَةً وَهُوَ مُحْرِمٌ إنْ صَامَ يَوْمًا فَقَدْ زَادَ وَإِنْ شَاءَ جَمَعَهَا حَتَّى تَصِيرَ عِدَّةَ جَرَادٍ ثُمَّ يَصُومَ يَوْمًا .

( وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي ذَبْحِ السُّلَحْفَاةِ ) ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْهَوَامِّ وَالْحَشَرَاتِ فَأَشْبَهَ الْخَنَافِسَ وَالْوَزَغَاتِ ، وَيُمْكِنُ أَخْذُهُ مِنْ غَيْرِ حِيلَةٍ وَكَذَا لَا يُقْصَدُ بِالْأَخْذِ فَلَمْ يَكُنْ صَيْدًا .

( وَمَنْ حَلَبَ صَيْدَ الْحَرَمِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ ) ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ مِنْ أَجْزَاءِ الصَّيْدِ فَأَشْبَهَ كُلَّهُ .

( وَمَنْ قَتَلَ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنْ الصَّيْدِ كَالسِّبَاعِ وَنَحْوِهَا فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ ) إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ الشَّرْعُ وَهُوَ مَا عَدَدْنَاهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَجِبُ الْجَزَاءُ ؛ لِأَنَّهَا جُبِلَتْ عَلَى الْإِيذَاءِ فَدَخَلَتْ فِي الْفَوَاسِقِ الْمُسْتَثْنَاةِ ، وَكَذَا اسْمُ الْكَلْبِ يَتَنَاوَلُ السِّبَاعَ بِأَسْرِهَا لُغَةً .
وَلَنَا أَنَّ السَّبْعَ صَيْدٌ لِتَوَحُّشِهِ ، وَكَوْنِهِ مَقْصُودًا بِالْأَخْذِ إمَّا لِجِلْدِهِ أَوْ لِيُصْطَادَ بِهِ أَوْ لِدَفْعِ أَذَاهُ ، وَالْقِيَاسُ عَلَى الْفَوَاسِقِ مُمْتَنِعٌ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ الْعَدَدِ ، وَاسْمُ الْكَلْبِ لَا يَقَعُ عَلَى السَّبْعِ عُرْفًا وَالْعُرْفُ أَمْلَكُ ( وَلَا يُجَاوَزُ بِقِيمَتِهِ شَاةٌ ) وَقَالَ زُفَرٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : تَجِبُ قِيمَتُهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ اعْتِبَارًا بِمَأْكُولِ اللَّحْمِ .
وَلَنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الضَّبُعُ صَيْدٌ وَفِيهِ الشَّاةُ } وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ قِيمَتِهِ لِمَكَانِ الِانْتِفَاعِ بِجِلْدِهِ لَا ؛ لِأَنَّهُ مُحَارِبٌ مُؤْذٍ ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَا يُزَادُ عَلَى قِيمَةِ الشَّاةِ ظَاهِرًا .

( قَوْلُهُ كَالسِّبَاعِ وَنَحْوِهَا ) فَالسِّبَاعُ كَالْأَسَدِ وَالْفَهْدِ وَالنَّمِرِ وَالْفِيلِ .
فَفِي الْمُحِيطِ : إنْ قَتَلَ خِنْزِيرًا أَوْ قِرْدًا أَوْ فِيلًا تَجِبُ الْقِيمَةُ خِلَافًا لَهُمَا ا هـ .
وَقَوْلُ الْعَتَّابِيِّ : الْفِيلُ الْمُتَوَحِّشُ صَيْدٌ لَيْسَ عَلَى مَا يَنْبَغِي فَإِنَّ الْمُسْتَأْنَسَ يَجِبُ كَوْنُهُ صَيْدًا أَيْضًا لِعُرُوضِ الِاسْتِئْنَاسِ كَمَا قَالُوا فِي الظَّبْيِ وَحِمَارِ الْوَحْشِ إنَّهُمَا صَيْدٌ ، وَإِنْ تَأَلَّفَا .
وَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنْ يَجْرِيَ فِي الْفِيلِ الْمُتَأَلَّفِ رِوَايَتَانِ كَمَا أَنَّ فِي الطُّيُورِ الْمُصَوِّتَةِ رِوَايَتَيْنِ ، وَلَكِنَّ الْمُخْتَارَ فِيهَا أَنَّهَا صَيْدٌ ، وَالْمُرَادُ بِنَحْوِهَا سِبَاعُ الطَّيْرِ كَالْبَازِي وَالصَّقْرِ مُعَلَّمًا وَغَيْرَ مُعَلَّمٍ .
( قَوْلُهُ : وَكَذَا اسْمُ الْكَلْبِ يَتَنَاوَلُ السِّبَاعَ بِأَسْرِهَا ) وَيَدُلُّ عَلَيْهِ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ دَاعِيًا عَلَى عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ : اللَّهُمَّ سَلِّطْ عَلَيْهِ كَلْبًا مِنْ كِلَابِكَ ، فَافْتَرَسَهُ سَبُعٌ } .
( قَوْلُهُ : وَكَوْنُهُ مَقْصُودًا بِالْأَخْذِ ) هَذَا زِيَادَةُ قَيْدٍ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فِي مَعْنَى الصَّيْدِ لَمْ يَذْكُرْهُ فِي تَعْرِيفِهِ السَّابِقِ فَيَلْزَمُ إمَّا فَسَادُ السَّابِقِ أَوْ هَذَا اللَّاحِقِ .
( قَوْلُهُ : لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ الْعَدَدِ ) الْعَدَدُ الْمَنْصُوصُ هُوَ الْخَمْسُ فَيَلْزَمُ مِنْ الْإِلْحَاقِ بِهِ قِيَاسًا أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى شَرْعًا أَكْثَرَ مِنْ خَمْسٍ فَيَبْطُلُ الْعَدَدُ : أَيْ يَنْتَفِي فَائِدَةُ تَخْصِيصِ اسْمِهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَعْدَادِ الْمُحِيطَةِ بِالْمُلْحَقِ وَغَيْرِهِ أَوْ الْإِطْلَاقِ : أَعْنِي ذِكْرَهُ بِاسْمٍ عَامٍّ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : يُقْتَلُ كُلُّ عَادٍ مُنْتَهِبٍ ، وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ وُجُوهٍ : أَمَّا أَوَّلًا فَإِنَّ مِثْلَهُ يَلْزَمُ فِي مَفْهُومِ الصِّفَةِ فَيُقَالُ مَثَلًا : لَوْ جَازَ نِكَاحُ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ لَمْ يَبْقَ لِذِكْرِ الْمُؤْمِنَاتِ فِي قَوْله تَعَالَى { مِنْ فَتَيَاتِكُمْ الْمُؤْمِنَاتِ } فَائِدَةٌ ، وَكَذَا فِي الْمُقَيَّدِ بِالشَّرْطِ وَسَائِرِ الْمَفَاهِيمِ

الْمُخَالِفَةِ ، فَمَا هُوَ جَوَابُكُمْ عَنْ هَذَا فَهُوَ بِعَيْنِهِ جَوَابُنَا عَنْ مَفْهُومِ الْعَدَدِ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَإِنَّ عَدَدَ الْخَمْسِ قَدْ تَحَقَّقَ عَدَمُ قَصْرِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ شَرْعًا وَفُرِغَ مِنْ ذَلِكَ ، فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ النَّصُّ عَلَى الذِّئْبِ وَالْحَيَّةِ أَيْضًا فِي أَحَادِيثَ لَمْ يُنَصَّ فِي صَدْرِهَا عَلَى عَدَدٍ بَلْ قَالَ : يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ كَذَا وَكَذَا إلَى آخِرِ مَا رَوَيْنَاهُ مِنْ قَرِيبٍ ، فَثَبَتَ عَدَمُ إرَادَةِ قَصْرِ ذَلِكَ الْحُكْمِ عَلَى الْخَمْسِ فَانْفَتَحَ بَابُ الْقِيَاسِ ، إذْ حَدِيثُ الْفَوَاسِقِ تَخْصِيصٌ لِلْآيَةِ ، وَدَلِيلُ التَّخْصِيصِ يُعَلِّلُ وَيُلْحَقُ بِمَا أَخْرَجَهُ مَا تُخْرِجُهُ الْعِلَّةُ أَيْضًا بِالِاتِّفَاقِ .
وَأَمَّا ثَالِثًا فَإِنَّ الْمُصَنِّفَ رَحِمَهُ اللَّهُ جَوَّزَ إلْحَاقَ الذِّئْبِ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ ، وَعَلَى تَقْدِيرِهِ يَبْطُلُ أَيْضًا الْعَدَدُ .
وَكَوْنُ الثَّابِتِ دَلَالَةً ثَابِتًا بِالنَّصِّ لَا يَخْرُجُ بِهِ الْحَالُ عَنْ أَنَّهُ بَطَلَ خُصُوصُ الْخَمْسِ .
وَيَجِيءُ فِيهِ عَيْنُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ لَوْ أَرَادَهُ لَذَكَرَ عَدَدًا يُحِيطُ بِهِ مَعَهَا فَيَقُولُ سِتٌّ مِنْ الْفَوَاسِقِ .
سَلَّمْنَاهُ لَكِنَّ الْإِلْحَاقَ بِالدَّلَالَةِ لَا بُدَّ فِيهِ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ مَعْنًى جَامِعٍ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ سِوَى عَلَى فَهْمِ اللُّغَةِ دُونَ أَهْلِيَّةِ الِاجْتِهَادِ وَلِذَا سَمَّاهُ كَثِيرٌ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ وَنُسَمِّيهِ نَحْنُ الثَّابِتَ بِمَعْنَى النَّصِّ لُغَةً ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِهِ فَمَا عَيَّنْتُمُوهُ مِنْ قَوْلِكُمْ ؛ لِأَنَّهَا مُبْتَدِئَاتٌ بِالْأَذَى وَنَحْوِهِ أَوْ غَيْرِهِ فِي إلْحَاقِ الذِّئْبِ فَهُوَ الَّذِي يَلْحَقُ بِاعْتِبَارِ سَائِرِ السِّبَاعِ ، فَإِنْ سَمَّيْتُمْ ذَلِكَ دَلَالَةً فَهَذَا أَيْضًا دَلَالَةٌ .
وَأَمَّا رَابِعًا فَإِنَّا لَمْ نُخْرِجْهُ بِالْقِيَاسِ بَلْ بِالنَّصِّ ، وَهُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَكُلُّ سَبُعٍ عَادٍ } وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَسَنٌ .
فَإِنْ قِيلَ : نَقُولُ مِنْ الرَّأْسِ

يَخْرُجُ مَجْمُوعُ مَا نُصَّ عَلَى إخْرَاجِهِ وَهُوَ الْحَيَّةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ وَالْغُرَابُ وَالذِّئْبُ وَالْحِدَأَةُ وَالسَّبُعُ الْعَادِي .
عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ فِي حَالَةِ اعْتِدَائِهِ وَهُوَ مَا إذَا صَالَ عَلَى الْمُحْرِمِ فَإِنَّهُ حَقِيقَةً اسْمُ الْفَاعِلِ ، وَبِهِ نَقُول : إنَّهُ إذَا صَالَ فَقَتَلَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ ، ثُمَّ نَمْنَعُ الْإِلْحَاقَ ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ نَاسِخٌ عَلَى أُصُولِنَا لَا مُخَصِّصٌ لِاشْتِرَاطِنَا الْمُقَارَنَةَ فِي الْمُخَصِّصِ الْأَوَّلِ ، فَمَا لَمْ يُقَارَنْ بِهِ يَكُونُ الْعُمُومُ مُرَادًا ، فَإِذَا أَخْرَجَ بَعْضَهُ بَعْدَ الْحُكْمِ بِإِرَادَةِ الْكُلِّ كَانَ نَسْخًا ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِالْفَرْدِ الْمُخْرَجِ ، وَالتَّخْصِيصُ بَيَانُ عَدَمِ إرَادَةِ الْمُخْرَجِ ، وَإِذَا كَانَ نَاسِخًا عِنْدَنَا فَلَا يَلْحَقُ إذْ لَا نَسْخَ بِالْقِيَاسِ .
قُلْنَا : لَا نُخْرِجُ بَلْ بِالْقِيَاسِ بِالدَّلَالَةِ ، فَإِنْ أَخَذْتُمْ فِي الْجَامِعِ الدَّلَالِيِّ كَوْنَهَا تَعِيشُ مُخَالِطَةً بِالِاخْتِطَافِ وَالِانْتِهَابِ كَمَا ذَكَرَ بَعْضُهُمْ مَنَعْنَا أَنَّ الْحُكْمَ بِاعْتِبَارِهِ وَأَسْنَدْنَاهُ بِإِخْرَاجِ الذِّئْبِ وَهُوَ لَا يَعِيشُ مُخَالِطًا .
وَالْحَقُّ أَنَّ الْوَجْهَ الْمَذْكُورَ يَصْلُحُ إلْزَامِيًّا لِلْخَصْمِ ؛ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ عِنْدَهُمْ وَهِيَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا مَفْهُومَ الْمُوَافَقَةِ يُشْتَرَطُ فِيهَا كَوْنُ الْمَسْكُوتِ أَوْلَى بِالْحُكْمِ مِنْ الْمَذْكُورِ .
فُهِمَ مَنْعُ الضَّرْبِ مِنْ مَنْعِ التَّأْفِيفِ ، وَلَا تَظْهَرُ أَوْلَوِيَّةُ السِّبَاعِ بِإِبَاحَةِ الْقَتْلِ مِنْ الْفَوَاسِقِ بَلْ غَايَتُهُ الْمُمَاثَلَةُ .
وَأَمَّا إثْبَاتُ مَنْعِ قَتْلِهَا عَلَى أُصُولِنَا فَفِيهِ مَا سَمِعْت ، وَلَعَلَّ لِعَدَمِ قُوَّةِ وَجْهِهِ كَانَ فِي السِّبَاعِ رِوَايَتَانِ كَمَا هُوَ فِي الْمُحِيطِ حَيْثُ قَالَ وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ السِّبَاعُ كُلُّهَا صُيُودٌ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْأَسَدَ كَالْكَلْبِ الْعَقُورِ وَالذِّئْبِ .
وَفِي الْعَتَّابِيِّ : لَا شَيْءَ فِي الْأَسَدِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ :

يَجِبُ ، وَقَدَّمْنَا مِنْ الْبَدَائِعِ التَّصْرِيحَ بِحِلِّ قَتْلِ الْأَسَدِ وَالْفَهْدِ وَالنَّمِرِ أَوَّلَ الْبَابِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ خِلَافٍ .
( قَوْلُهُ : وَاسْمُ الْكَلْبِ لَا يَقَعُ عَلَى السَّبُعِ عُرْفًا ) ظَاهِرُ تَخْصِيصِهِ بِالْعُرْفِ أَنَّهُ يَقَعُ عَلَيْهَا لُغَةً بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَتِمُّ مَقْصُودُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، فَإِنَّ الْخِطَابَ كَانَ مَعَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَلَمْ يَثْبُتْ فِيهِ تَخْصِيصٌ مِنْ الشَّرْعِ بِغَيْرِ السَّبُعِ ، بَلْ ثَبَتَ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ عَلَى مَا سَمِعْته عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ قَوْلِهِ { اللَّهُمَّ سَلِّطْ عَلَيْهِ كَلْبًا } ، فَافْتَرَسَهُ سَبُعٌ فَالْأَوْلَى مَنْعُ وُقُوعِهِ عَلَى السِّبَاعِ حَقِيقَةً لُغَةً وَلَفْظُ الْكَلْبِ فِي دُعَائِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ الْعَامِّ : أَعْنِي الْمُفْتَرِسَ الضَّارِيَ .
لَا يُقَالُ : ادِّعَاؤُنَا أَنَّهُ فِي كُلِّ السِّبَاعِ حَقِيقَةٌ هُوَ دَعْوَى أَنَّهُ فِي كُلِّ مُفْتَرِسٍ ضَارٍّ حَقِيقَةٌ ، وَالْأَفْرَادُ حِينَئِذٍ أَفْرَادُ الْمَعْنَى الْكُلِّيِّ ، فَدَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ كَوْنِهِ فِي الْعَامِّ مَجَازًا كَمَا قُلْتُمْ أَوْ مُشْتَرَكًا مَعْنَوِيًّا ، وَالِاشْتِرَاكُ الْمَعْنَوِيُّ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ عِنْدَ التَّرَدُّدِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَجَازِ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ : ذَلِكَ عِنْدَ التَّرَدُّدِ وَهُوَ عِنْدَ عَدَمِ دَلِيلِ عَدَمِهِ .
وَتَبَادُرُ النَّوْعِ الْمَخْصُوصِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ إطْلَاقِ لَفْظِ الْكَلْبِ دَلِيلُ عَدَمِهِ ، إذْ لَوْ كَانَ لِلْمَعْنَى الْأَعَمِّ لَمْ يَتَبَادَرْ خُصُوصُ بَعْضِهَا ، وَإِذَا تَبَادَرَ خُصُوصُ بَعْضِهَا كَانَ ظَاهِرًا فِي أَنَّ الْوَضْعَ كَانَ لِذَلِكَ الْمُعَيَّنِ فَيَجِبُ اعْتِبَارُهُ لِذَلِكَ وَإِنْ جَازَ عُرُوضُ تَبَادُرِ الْبَعْضِ بِعَيْنِهِ لِعُرُوضِ شُهْرَةٍ وَغَلَبَةِ اسْتِعْمَالٍ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ هُوَ الَّذِي يَجِبُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ لَا الْمُجَوَّزَ إلَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَيْهِ وَيَتَحَقَّقَ كَذَلِكَ .
( قَوْلُهُ : وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الضَّبُعُ صَيْدٌ وَفِيهِ

شَاةٌ } ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ سَبُعٌ ، وَلَيْسَ بِمَعْرُوفٍ بَلْ الْمَعْرُوفُ حَدِيثُ جَابِرٍ قَالَ { سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الضَّبُعِ أَصَيْدٌ هُوَ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، وَيُجْعَلُ فِيهِ كَبْشٌ إذَا صَادَهُ الْمُحْرِمُ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَانْفَرَدَ بِزِيَادَةِ فِيهِ كَبْشٌ ، وَالْبَاقُونَ رَوَوْهُ وَلَمْ يَذْكُرُوهَا فِيهِ .
وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الضَّبُعُ صَيْدٌ ، فَإِذَا أَصَابَهُ الْمُحْرِمُ فَفِيهِ كَبْشٌ مُسِنٌّ وَيُؤْكَلُ } وَهَذَا دَلِيلُ أَكْلِهِ عِنْدَ الْخَصْمِ وَسَيَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ .
وَالْمُصَنِّفُ إنْ اسْتَدَلَّ بِلَفْظِ السَّبُعِ فَغَيْرُ ثَابِتٍ ، وَإِنْ اسْتَدَلَّ بِلَفْظِ الضَّبُعِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ سَبُعٌ عِنْدَنَا وَغَيْرُ مَأْكُولٍ تَقْدِيمًا لِلنَّهْيِ عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ فَنَقُولُ : يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَدْرَ الْمَالِيَّةِ فِي وَقْتِ التَّنْصِيصِ ، وَإِلَّا تَلْزَمُ الْمُعَارَضَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْله تَعَالَى { فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ } عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ قِيمَةُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ .
وَإِذَا كُنْتُمْ قُلْتُمْ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ إنَّ مَا بَيْنَ السِّنَّيْنِ فِي الزَّكَاةِ مِنْ كَوْنِهِ مُقَدَّرًا بِشَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا مَعَ أَنَّهُ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ مِنْ كِتَابِ الصِّدِّيقِ أَنَّ التَّقْدِيرَ بِهِ كَانَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْرُ التَّفَاوُتِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ لَا أَنَّهُ تَقْدِيرٌ لَازِمٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ فَلَأَنْ تَقُولُوا مِثْلَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ ذَلِكَ الْحَدِيثِ فِي الصِّحَّةِ وَكَوْنُ ذَلِكَ مُخَلِّصًا مِنْ الْمُعَارَضَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا أَوْلَى ، وَقَوْلُهُ فِي الْوَجْهِ الْمَعْقُولِ ( وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ قِيمَتِهِ لِمَكَانِ الِانْتِفَاعِ بِجِلْدِهِ لَا ؛ لِأَنَّهُ مُحَارِبٌ مُؤْذٍ ) يَعْنِي ؛ لِأَنَّهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ سَاقِطُ الْجَزَاءِ مَعَ أَنَّهُ يُخَالِفُ قَوْلَهُ قَبْلَهُ بِأَسْطُرٍ ( وَكَوْنُهُ مَقْصُودًا بِالْأَخْذِ إمَّا لِجِلْدِهِ

أَوْ لِيَصْطَادَ بِهِ أَوْ لِدَفْعِ أَذَاهُ ) حَيْثُ زَادَ بَاعِثًا آخَرَ مُعَارَضًا بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ } أَوْجَبَ قِيمَةَ الْمَقْتُولِ مُطْلَقًا فَتَعَيُّنُ قِيمَةِ مُجَرَّدِ جِلْدِهِ فِي بَعْضِ الْمَقْتُولِ خُرُوجٌ عَنْ مُقْتَضَاهُ مَعَ أَنَّ أَخْذَهُ لَمْ يَنْحَصِرْ فِي طَلَبِ جِلْدِهِ كَمَا ذَكَرَهُ هُنَا ، بَلْ قَدْ يَكُونُ لِغَرَضِ أَنْ يَصْطَادَ بِهِ كَمَا ذَكَرَهُ قَبْلَهُ ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ تَجِبُ قِيمَتُهُ .

( وَإِذَا صَالَ السَّبُعُ عَلَى الْمُحْرِمِ فَقَتَلَهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ) وَقَالَ زُفَرٌ : يَجِبُ الْجَزَاءُ اعْتِبَارًا بِالْجَمَلِ الصَّائِلِ .
وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَتَلَ سَبُعًا وَأَهْدَى كَبْشًا وَقَالَ : إنَّا ابْتَدَأْنَاهُ ؛ وَلِأَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ عَنْ التَّعَرُّضِ لَا عَنْ دَفْعِ الْأَذَى ، وَلِهَذَا كَانَ مَأْذُونًا فِي دَفْعِ الْمُتَوَهَّمِ مِنْ الْأَذَى كَمَا فِي الْفَوَاسِقِ فَلَأَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا فِي دَفْعِ الْمُتَحَقَّقِ مِنْهُ أَوْلَى ، وَمَعَ وُجُودِ الْإِذْنِ مِنْ الشَّارِعِ لَا يَجِبُ الْجَزَاءُ حَقًّا لَهُ ، بِخِلَافِ الْجَمَلِ الصَّائِلِ ؛ لِأَنَّهُ لَا إذْنَ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ وَهُوَ الْعَبْدُ .

( قَوْلُهُ : وَقَالَ : إنَّا ابْتَدَأْنَاهُ ) هَذَا غَرِيبٌ لَا يُعْرَفُ ، وَبِتَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ فَإِنَّمَا يُفِيدُ عَدَمَ الْجَزَاءِ إذَا كَانَ الْمُبْتَدِئ السَّبُعَ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ ، وَهُوَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَهُمْ ، وَلَا يُمْكِنُ اسْتِنَادُ عَدَمِ الْوُجُوبِ فِيهِ إلَى الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ ؛ لِأَنَّ الْعَدَمَ الْأَصْلِيَّ قَدْ نُسِخَ بِإِيجَابِ الْجَزَاءِ فِي الصَّيْدِ عَلَى الْعُمُومِ ، فَمَا لَمْ يُخْرِجْهُ دَلِيلٌ صَحِيحٌ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْحُكْمِ الْعَامِّ فَالْأَوْجَهُ الِاسْتِدْلَال بِحَدِيثِ أَبِي دَاوُد الَّذِي ذُكِرَ فِيهِ السَّبْعُ الْعَادِي ، وَالْوَجْهُ الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِدَلَالَةِ نَصِّ قَتْلِ الْفَوَاسِقِ فَإِنَّهُ أَبَاحَهُ لِتَوَهُّمِ الْأَذَى لَهُ : أَيْ لِلْقَاتِلِ أَوْ لِأَبْنَاءِ نَوْعِهِ ، فَمَعَ تَحَقُّقِ الْإِيذَاءِ لَهُ نَفْسِهِ أَوْلَى ، وَإِذَا ثَبَتَ الْإِذْنُ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ سَقَطَ الضَّمَانُ إلَّا أَنْ يُقَيَّدَ الْإِذْنُ بِهِ ، فَمَا لَمْ يُقَيَّدْ الْإِذْنُ بِالضَّمَانِ لَا يَجِبُ ، فَلِذَا قُلْنَا بِوُجُوبِ الْجَزَاءِ إذَا اُضْطُرَّ الْمُحْرِمُ إلَى قَتْلِ الصَّيْدِ لِمَأْكَلِهِ عِنْدَ عَدَمِ صِيَالِهِ لِتَقَيُّدِ الْإِذْنِ فِيهِ بِالْكَفَّارَةِ ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ } الْآيَةَ .
( قَوْلُهُ : بِخِلَافِ الْجَمَلِ الصَّائِلِ فَإِنَّهُ لَا إذْنَ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ ) فَيَضْمَنُهُ لَهُ .
وَطُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَبْدِ إذَا صَالَ بِالسَّيْفِ عَلَى إنْسَانٍ فَقَتَلَهُ الْمَصُولُ عَلَيْهِ لَا يَضْمَنُهُ مَعَ أَنَّهُ لَا إذْنَ أَيْضًا مِنْ مَالِكِهِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْعَبْدَ مَضْمُونٌ فِي الْأَصْلِ حَقًّا لِنَفْسِهِ بِالْآدَمِيَّةِ لَا لِلْمَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ كَسَائِرِ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ أَقْرَانِهِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ ارْتَدَّ أَوْ قَتَلَ يُقْتَلُ ، وَإِذَا كَانَ ضَمَانُ نَفْسِهِ فِي الْأَصْلِ لَهُ سَقَطَ بِمُبِيحٍ جَاءَ مِنْ قَبْلِهِ وَهُوَ الْمُحَارَبَةُ ، وَمَالِيَّةُ الْمَوْلَى فِيهِ وَإِنْ كَانَتْ مُتَقَوِّمَةً مَضْمُونَةً لَهُ فَهِيَ تَبَعٌ لِضَمَانِ النَّفْسِ

فَيَسْقُطُ التَّبَعُ فِي ضِمْنِ سُقُوطِ الْأَصْلِ .

( فَإِنْ اُضْطُرَّ الْمُحْرِمُ إلَى قَتْلِ صَيْدٍ فَقَتَلَهُ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ ) ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ مُقَيَّدٌ بِالْكَفَّارَةِ بِالنَّصِّ عَلَى مَا تَلَوْنَاهُ مِنْ قَبْلُ .

( وَلَا بَأْسَ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَذْبَحَ الشَّاةَ وَالْبَقَرَةَ وَالْبَعِيرَ وَالدَّجَاجَةَ وَالْبَطَّ الْأَهْلِيَّ ) ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَيْسَتْ بِصُيُودٍ ؛ لِعَدَمِ التَّوَحُّشِ ، وَالْمُرَادُ بِالْبَطِّ الَّذِي يَكُونُ فِي الْمَسَاكِنِ وَالْحِيَاضِ ؛ لِأَنَّهُ أَلُوفٌ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ ( وَلَوْ ذَبَحَ حَمَامًا مُسَرْوَلًا فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ ) خِلَافًا لِمَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ .
لَهُ أَنَّهُ أَلُوفٌ مُسْتَأْنَسٌ وَلَا يَمْتَنِعُ بِجَنَاحَيْهِ لِبُطْءِ نُهُوضِهِ ، وَنَحْنُ نَقُولُ : الْحَمَامُ مُتَوَحِّشٌ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ مُمْتَنِعٌ بِطَيَرَانِهِ ، وَإِنْ كَانَ بَطِيءَ النُّهُوضِ ، وَالِاسْتِئْنَاسُ عَارِضٌ فَلَمْ يُعْتَبَرْ ( وَكَذَا إذَا قَتَلَ ظَبْيًا مُسْتَأْنَسًا ) ؛ لِأَنَّهُ صَيْدٌ فِي الْأَصْلِ فَلَا يُبْطِلُهُ الِاسْتِئْنَاسُ كَالْبَعِيرِ إذَا نَدَّ لَا يَأْخُذُ حُكْمَ الصَّيْدِ فِي الْحُرْمَةِ عَلَى الْمُحْرِمِ .
( قَوْلُهُ : مُسَرْوَلًا ) بِفَتْحِ الْوَاوِ : أَيْ فِي رِجْلَيْهِ رِيشٌ كَأَنَّهُ سَرَاوِيلُ قَوْلُهُ : الْحَمَامُ مُتَوَحِّشُ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ ) وَالِاسْتِثْنَاءُ عَارِضٌ ، بِخِلَافِ الْبَطِّ الَّذِي يَكُونُ فِي الْحِيَاضِ وَالْبُيُوتِ فَإِنَّهُ أَلُوفٌ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ .

( وَإِذَا ذَبَحَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا فَذَبِيحَتُهُ مَيْتَةٌ لَا يَحِلُّ أَكْلُهَا ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَحِلُّ مَا ذَبَحَهُ الْمُحْرِمُ لِغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ عَامِلٌ لَهُ فَانْتَقَلَ فِعْلُهُ إلَيْهِ .
وَلَنَا أَنَّ الذَّكَاةَ فِعْلٌ مَشْرُوعٌ وَهَذَا فِعْلٌ حَرَامٌ فَلَا يَكُونُ ذَكَاةً كَذَبِيحَةِ الْمَجُوسِيِّ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَشْرُوعَ هُوَ الَّذِي قَامَ مَقَامَ الْمَيْزِ بَيْنَ الدَّمِ وَاللَّحْمِ تَيْسِيرًا فَيَنْعَدِمُ بِانْعِدَامِهِ ( فَإِنْ أَكَلَ الْمُحْرِمُ الذَّابِحُ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعَلَيْهِ قِيمَةُ مَا أَكَلَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ( وَقَالَا : لَيْسَ عَلَيْهِ جَزَاءُ مَا أَكَلَ ، وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ مُحْرِمٌ آخَرُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ) لَهُمَا أَنَّ هَذِهِ مَيْتَةٌ فَلَا يَلْزَمُ بِأَكْلِهَا إلَّا الِاسْتِغْفَارُ وَصَارَ كَمَا إذَا أَكَلَهُ مُحْرِمٌ غَيْرُهُ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ حُرْمَتَهُ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ مَيْتَةً كَمَا ذَكَرْنَا ، وَبِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَحْظُورُ إحْرَامِهِ ؛ لِأَنَّ إحْرَامَهُ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الصَّيْدَ عَنْ الْمَحَلِّيَّةِ وَالذَّابِحَ عَنْ الْأَهْلِيَّةِ فِي حَقِّ الذَّكَاةِ فَصَارَتْ حُرْمَةُ التَّنَاوُلِ بِهَذِهِ الْوَسَائِطِ مُضَافَةً إلَى إحْرَامِهِ بِخِلَافِ مُحْرِمٍ آخَرَ ؛ لِأَنَّ تَنَاوُلَهُ لَيْسَ مِنْ مَحْظُورَاتِ إحْرَامِهِ .

.
( قَوْلُهُ : لِأَنَّهُ عَامِلٌ لِغَيْرِهِ ) يَقْتَضِي ظَاهِرًا أَنَّ اللَّامَ فِي لِغَيْرِهِ يَتَعَلَّقُ بِذَبْحِهِ لَا بِيَحِلُّ ، وَلَفْظُ الْمَبْسُوطِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَحِلُّ لِلْمُحْرِمِ الْقَاتِلِ وَيَحِلُّ لِغَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ يَقْتَضِي تَعَلُّقَهُ بِيَحِلُّ ، وَهُوَ الْحَقُّ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْهِ .
وَيُمْكِنُ تَوْجِيهُ التَّعْلِيلِ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ بِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَحِلَّ لِلْقَاتِلِ وَحَلَّ لِغَيْرِهِ لَمْ يُنْزِلْهُ الشَّرْعُ عَامِلًا لِنَفْسِهِ بَلْ لِغَيْرِهِ فَصَارَ عَامِلًا لِغَيْرِهِ شَرْعًا وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ هُوَ ذَلِكَ فَانْتَقَلَ فِعْلُهُ إلَيْهِمْ فَحَلَّ لَهُمْ سَوَاءٌ ذَبَحَ لِأَجْلِهِمْ أَوْ لِنَفْسِهِ قَوْلُهُ : وَهَذَا لِأَنَّ الْمَشْرُوعَ إلَخْ ) حَاصِلُهُ إثْبَاتُ الْمُلَازَمَةِ بَيْنَ الْمَشْرُوعِيَّةِ وَالْإِقَامَةِ مَقَامَ الْمَيْزِ ، ثُمَّ نُفِيَ الثَّانِي فَيَنْتَفِي الْأَوَّلُ : أَعْنِي الْمَشْرُوعِيَّةَ وَهُوَ الْمُفَادُ بِقَوْلِهِ فَيَنْعَدِمُ الْمَشْرُوعُ لِانْعِدَامِهِ : أَيْ لِانْعِدَامِ الْفِعْلِ الَّذِي أُقِيمَ ، وَنَحْنُ إلَى غَيْرِ هَذَا الْكَلَامِ أَحْوَجُ فِي إثْبَاتِ الْمَطْلُوبِ .
فَإِنَّ حَاصِلَ هَذَا إثْبَاتُ الْمُقَدِّمَةِ الْقَائِلَةِ وَهَذَا فِعْلٌ حَرَامٌ ، وَهِيَ إنْ كَانَتْ مِنْ الْمُسَلَّمَاتِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ لَمْ يُحْتَجْ إلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَتْ مَمْنُوعَةً عِنْدَهُ لَا يَنْتَهِضُ الْمَذْكُورُ مُثْبِتًا لَهَا عَلَيْهِ ، فَإِنَّهُ إذَا مَنَعَ الْحُرْمَةَ مَنَعَ عَدَمَ الْإِقَامَةِ مُقَامَ الْمَيْزِ لَكِنَّهَا مُسَلَّمَةٌ ، وَنَحْنُ نَحْتَاجُ بَعْدَ تَسْلِيمِ حُرْمَةِ الْفِعْلِ إلَى أَمْرٍ زَائِدٍ ، فَإِنَّ مُجَرَّدَ حُرْمَتِهِ لَا يُوجِبُ حُرْمَةَ اللَّحْمِ مُطْلَقًا ، كَمَا لَوْ ذَبَحَ شَاةَ الْغَيْرِ لَا بِإِذْنِهِ لَا يَصِيرُ لَهَا حُكْمُ الْمَيْتَةِ مَعَ حُرْمَةِ الْفِعْلِ فَيُقَالُ : وَهَذَا فِعْلٌ حِسِّيٌّ مُحَرَّمٌ فَيَكُونُ ذَلِكَ لِقُبْحٍ اُعْتُبِرَ فِي عَيْنِهِ عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ عِنْدَنَا فِي إضَافَةِ التَّحْرِيمِ إلَى الْأَفْعَالِ الْحِسِّيَّةِ أَنَّهُ يُضَافُ الْقُبْحُ إلَى عَيْنِهَا ؛ لِعَدَمِ الْمَانِعِ بِخِلَافِ

الشَّرْعِيَّةِ إلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ كَمَا فِي ذَبْحِ شَاةِ الْغَيْرِ ، وَنَعْنِي بِثُبُوتِ الْقُبْحِ لِذَاتِهِ مَعَ أَنَّهُ إنَّمَا ذُبِحَ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ هُوَ أَنْ يَأْكُلَهُ كَوْنَ الشَّرْعِ اعْتَبَرَهُ قَبِيحًا لِعَيْنِهِ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ عَبَثًا حَيْثُ أَخْرَجَ الذَّابِحَ عَنْ الْأَهْلِيَّةِ وَالْمَذْبُوحَ عَنْ الْمَحَلِّيَّةِ فَصَارَ فِعْلًا فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ فَكَانَ عَبَثًا بِاعْتِبَارِ الشَّارِعِ ، كَمَا لَوْ اشْتَغَلَ عَاقِلٌ بِذَبْحِ حَجَرٍ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ يُعَدُّ جُنُونًا أَوْ سُخْرِيَةً ، بِخِلَافِ شَاةِ الْغَيْرِ فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ إخْرَاجُهَا عَنْ مَحَلِّيَّةِ الذَّبْحِ شَرْعًا لِلْأَجْنَبِيِّ وَإِخْرَاجُهُ عَنْ الْأَهْلِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا فَلَمْ يُعَدَّ عَبَثًا شَرْعًا .
وَإِذَا صَارَ ذَبْحُ الْمُحْرِمِ عَبَثًا شَرْعًا صَارَ قَبِيحًا لِعَيْنِهِ فَلَا يُفِيدُ حُكْمَ الْحِلِّ فِيمَا كَانَ مُحَرَّمَ الْأَكْلِ : أَعْنِي الصَّيْدَ قَبْلَ ذَبْحِهِ .
بَقِيَ دَلِيلُ الْإِخْرَاجَيْنِ ، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا } يُفِيدُهُمَا وقَوْله تَعَالَى { لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } يُفِيدُ إخْرَاجَ الْمُحْرِمِ عَنْ أَهْلِيَّةِ الذَّبْحِ فَقَطْ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْأَوَّلَ أَضَافَ التَّحْرِيمَ إلَى الْعَيْنِ وَهِيَ تُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ ، فَإِنَّ الْأَصْلَ أَنْ تُضَافَ الْأَحْكَامُ إلَى أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ ، فَإِذَا أُضِيفَتْ إلَى الْعَيْنِ كَانَ إخْرَاجًا لَهُ عَنْ مَحَلِّيَّةِ الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ مُتَعَلِّقُ الْحُرْمَةِ بِالْأَصَالَةِ ، فَإِنَّهُ جَعَلَ نَفْسَ هَذَا الْعَيْنِ حَرَامًا وَنَفْسُ الْحَرَامِ لَا يَقْتَرِبُ مِنْهُ فَكَانَ مَنْعًا عَنْ الِاقْتِرَابِ مِنْهُ نَفْسِهِ ، وَهَذَا إخْرَاجُهُ عَنْ الْمَحَلِّيَّةِ .
وَلَوْ قُلْنَا إنَّ إضَافَتَهُ إلَى الْعَيْنِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَجَازًا عَقْلِيًّا لَمْ يَضُرَّنَا ، إذْ الْعُدُولُ عَنْ إضَافَتِهِ إلَى الْفِعْلِ إلَى إضَافَتِهِ إلَى نَفْسِ الْعَيْنِ سَبَبُهُ مَا قُلْنَا .
وَأَفَادَ الثَّانِي أَنَّ التَّحْرِيمَ بِمَعْنًى مِنْ جِهَةِ الذَّابِحِ وَهُوَ الْإِحْرَامُ

فَأَوْجَبَ إخْرَاجَهُ عَنْ الْأَهْلِيَّةِ ، وَالْإِحْرَامُ هُوَ السَّبَبُ فِي الْأَمْرَيْنِ مَعًا عَلَى التَّحْقِيقِ فَلِذَا قَالَ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي تَلِي هَذِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الصَّيْدَ عَنْ الْمَحَلِّيَّةِ وَالذَّابِحَ عَنْ الْأَهْلِيَّةِ ( قَوْلُهُ فَعَلَيْهِ قِيمَةُ مَا أَكَلَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) يَعْنِي سَوَاءٌ أَدَّى ضَمَانَ الْمَذْبُوحِ قَبْلَ الْأَكْلِ أَوْ لَا ، غَيْرَ أَنَّهُ إنْ أَدَّى قَبْلَهُ ضَمِنَ مَا أَكَلَ عَلَى حِدَتِهِ بَالِغًا مَا بَلَغَ ، وَإِنْ كَانَ أَكَلَ قَبْلَهُ دَخَلَ ضَمَانُ مَا أَكَلَ فِي ضَمَانِ الصَّيْدِ فَلَا يَجِبُ لَهُ شَيْءٌ بِانْفِرَادِهِ .
وَقَالَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ لِمُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ : لَا رِوَايَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : يَلْزَمُهُ جَزَاءٌ آخَرُ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : يَتَدَاخَلَانِ ، وَسَوَاءٌ تَوَلَّى صَيْدَهُ بِنَفْسِهِ أَوْ أَمَرَ غَيْرَهُ أَوْ أَرْسَلَ كَلْبَهُ .
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَأْكُلَ الْمُحْرِمُ أَوْ يُطْعِمَ كِلَابَهُ فِي لُزُومِ قِيمَةِ مَا أَطْعَمَ ؛ لِأَنَّهُ انْتَفَعَ بِمَحْظُورِ إحْرَامِهِ ( قَوْلُهُ فَصَارَتْ حُرْمَةُ التَّنَاوُلِ إلَخْ ) يَعْنِي أَنَّ حُرْمَةَ التَّنَاوُلِ بِوَاسِطَةِ أَنَّهُ مَيْتَةٌ وَكَوْنُهُ مَيْتَةً بِوَاسِطَةِ خُرُوجِهِ عَنْ الْأَهْلِيَّةِ وَالصَّيْدِ عَنْ الْمَحَلِّيَّةِ وَثُبُوتِهِمَا مَعًا بِوَاسِطَةِ الْإِحْرَامِ ، فَكَانَ الْأَكْلُ مِنْ مَحْظُورَاتِ إحْرَامِهِ بِوَاسِطَةٍ ، وَسَبَبُ السَّبَبِ سَبَبٌ خُصُوصًا وَهَذِهِ حُرْمَةٌ يُحْتَاطُ فِي إثْبَاتِهَا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ شَرْعِ الْكَفَّارَةِ مَعَ الْعُذْرِ فَيَجِبُ بِهِ الْجَزَاءُ ، وَبِهَذَا التَّعْلِيلِ اسْتَغْنَى الشَّيْخُ عَنْ إيرَادِ الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا ، وَبَيْنَ مَا لَوْ أَكَلَ الْحَلَالُ مِنْ لَحْمٍ ذَبَحَهُ مِنْ صَيْدِ الْحَرَمِ بَعْدَ أَدَاءِ قِيمَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْأَكْلَ لَيْسَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْحَرَمِ بَلْ تَفْوِيتُهُ الْأَمْنَ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ بِحُلُولِهِ فِي الْحَرَمِ فَقَطْ وَقَدْ ضَمِنَهُ إذْ فَوَّتَهُ فَكَانَ حُرْمَتُهُ لِكَوْنِهِ مَيْتَةً فَقَطْ .
وَعَنْ هَذَا مَا فِي خِزَانَةِ الْأَكْمَلِ : لَوْ شَوَى

الْمُحْرِمُ بَيْضَ صَيْدٍ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ وَلِلْحَلَالِ أَكْلُهُ ، وَيُكْرَهُ بَيْعُهُ قَبْلَ ذَلِكَ ، فَإِنْ بَاعَهُ جَازَ وَيَجْعَلُ ثَمَنَهُ فِي الْفِدَاءِ إنْ شَاءَ ، وَكَذَا شَجَرُ الْحَرَمِ وَاللَّبَنُ ، وَكَذَا لَوْ شَوَى جَرَادًا أَوْ بَيْضًا ضَمِنَهُ ، ثُمَّ إنْ أَكَلَهُ لَا جَزَاءَ عَلَيْهِ وَلَا يَحْرُمُ بِخِلَافِ الصَّيْدِ .

( وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَأْكُلَ الْمُحْرِمُ لَحْمَ صَيْدٍ اصْطَادَهُ حَلَالٌ وَذَبَحَهُ إذَا لَمْ يَدُلَّ الْمُحْرِمُ عَلَيْهِ ، وَلَا أَمَرَهُ بِصَيْدِهِ ) خِلَافًا لِمَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَا إذَا اصْطَادَهُ ؛ لِأَجْلِ الْمُحْرِمِ .
لَهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا بَأْسَ بِأَكْلِ الْمُحْرِمِ لَحْمَ صَيْدٍ مَا لَمْ يَصِدْهُ أَوْ يُصَدْ لَهُ } وَلَنَا مَا رُوِيَ { أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ تَذَاكَرُوا لَحْمَ الصَّيْدِ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا بَأْسَ بِهِ } وَاللَّامُ فِيمَا رُوِيَ لَامُ تَمْلِيكٍ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنْ يُهْدِيَ إلَيْهِ الصَّيْدُ دُونَ اللَّحْمِ ، أَوْ مَعْنَاهُ أَنْ يُصَادَ بِأَمْرِهِ .
ثُمَّ شُرِطَ عَدَمُ الدَّلَالَةِ ، وَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ الدَّلَالَةَ مُحَرَّمَةٌ ، قَالُوا : فِيهِ رِوَايَتَانِ .
وَوَجْهُ الْحُرْمَةِ حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ .

( قَوْلُهُ : خِلَافًا لِمَالِكٍ فِيمَا إذَا اصْطَادَهُ لِأَجْلِ الْمُحْرِمِ ) يَعْنِي بِغَيْرِ أَمْرِهِ ، أَمَّا إذَا اصْطَادَ الْحَلَالُ لِمُحْرِمٍ صَيْدًا بِأَمْرِهِ اُخْتُلِفَ فِيهِ عِنْدَنَا ، فَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ تَحْرِيمَهُ عَلَى الْمُحْرِمِ .
وَقَالَ الْجُرْجَانِيُّ : لَا يَحْرُمُ .
قَالَ الْقُدُورِيُّ : هَذَا غَلَطٌ وَاعْتَمَدَ عَلَى رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ .
( قَوْلُهُ : لَهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ) الْحَدِيثُ عَلَى مَا فِي أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ جَابِرٍ { لَحْمُ الصَّيْدِ حَلَالٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ مَا لَمْ تَصِيدُوهُ أَوْ يُصَادُ لَكُمْ } هَكَذَا بِالْأَلِفِ فِي يُصَادَ ، فَعَارَضَهُ الْمُصَنِّفُ ثُمَّ أَوَّلَهُ دَفْعًا لِلْمُعَارَضَةِ .
أَمَّا الْمُعَارَضَةُ فِيمَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ : { تَذَاكَرْنَا لَحْمَ الصَّيْدِ يَأْكُلُهُ الْمُحْرِمُ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَائِمٌ ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُنَا فَاسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : فِيمَ تَتَنَازَعُونَ ؟ فَقُلْنَا : فِي لَحْمِ الصَّيْدِ أَيَأْكُلُهُ الْمُحْرِمُ ؟ فَأَمَرَنَا بِأَكْلِهِ } أَخْرَجَهُ فِي الْآثَارِ .
وَرَوَى الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ خُسْرو الْبَلْخِيّ فِي مُسْنَدِ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّام قَالَ : { كُنَّا نَحْمِلُ الصَّيْدَ صَفِيفًا وَكُنَّا نَتَزَوَّدُهُ وَنَأْكُلُهُ وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } وَاخْتَصَرَهُ مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ .
وَأَمَّا التَّأْوِيلُ فَبِوَجْهَيْنِ ، كَوْنُ اللَّامِ لِلْمِلْكِ وَالْمَعْنَى أَنْ يُصْطَادَ وَيُجْعَلَ لَهُ فَيَكُونُ تَمْلِيكُ عَيْنِ الصَّيْدِ مِنْ الْمُحْرِمِ ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ أَنْ يَتَمَلَّكَهُ فَيَأْكُلَ مِنْ لَحْمِهِ ، وَالْحَمْلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنْ يُصَادَ بِأَمْرِهِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي عَمَلِ

الْإِنْسَانِ لِغَيْرِهِ أَنْ يَكُونَ بِطَلَبٍ مِنْهُ فَلْيَكُنْ مَحْمَلُهُ هَذَا دَفْعًا لِلْمُعَارَضَةِ .
وَقَدْ يُقَالُ : الْقَوَاعِدُ تَقْتَضِي أَنْ لَا يُحْكَمَ هُنَا بِالْمُعَارَضَةِ وَالتَّرْجِيحِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَ طَلْحَةَ فَأَمَرَنَا بِأَكْلِهِ " مُقَيَّدٌ عِنْدَنَا بِمَا إذَا لَمْ يَدُلَّهُ الْمُحْرِمُ وَلَا أَمَرَهُ بِقَتْلِهِ عَلَى مَا هُوَ الْمُخْتَارُ لِلْمُصَنِّفِ إعْمَالًا لِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ ، فَيَجِبُ تَخْصِيصُهُ بِمَا إذَا لَمْ يُصَدْ لِلْمُحْرِمِ بِالْحَدِيثِ الْآخَرِ لِدُخُولِ الظَّنِّيَّةِ فِي دَلَالَتِهِ .
وَحَدِيثُ الزُّبَيْرِ حَاصِلُهُ نَقْلُ وَقَائِعِ أَحْوَالٍ لَا عُمُومَ لَهَا ، فَيَجُوزُ كَوْنُ مَا كَانُوا يَحْمِلُونَهُ مِنْ لُحُومِ الصَّيْدِ لِلتَّزَوُّدِ مِمَّا لَمْ يُصَدْ لِأَجْلِ الْمُحْرِمِينَ ، بَلْ هُوَ الظَّاهِرُ ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَزَوَّدُونَهُ مِنْ الْحَضَرِ ظَاهِرًا ، وَالْإِحْرَامُ بَعْدَ الْخُرُوجِ إلَى الْمِيقَاتِ ، فَالْأَوْلَى بِهِ الِاسْتِدْلَال عَلَى أَصْلِ الْمَطْلُوبِ بِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ عَلَى وَجْهِ الْمُعَارَضَةِ عَلَى مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا سَأَلُوهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يُجِبْ بِحِلِّهِ لَهُمْ حَتَّى سَأَلَهُمْ عَنْ مَوَانِعِ الْحِلِّ أَكَانَتْ مَوْجُودَةً أَمْ لَا ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَمِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا أَوْ أَشَارَ إلَيْهَا ؟ قَالُوا لَا ، قَالَ : فَكُلُوا إذًا } فَلَوْ كَانَ مِنْ الْمَوَانِعِ أَنْ يُصَادَ لَهُمْ لَنَظَمَهُ فِي سِلْكِ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ مِنْهَا فِي التَّفَحُّصِ عَنْ الْمَوَانِعِ لِيُجِيبَ بِالْحُكْمِ عِنْدَ خُلُوِّهِ عَنْهَا ، وَهَذَا الْمَعْنَى كَالصَّرِيحِ فِي نَفْيِ كَوْنِ الِاصْطِيَادِ لِلْمُحْرِمِ مَانِعًا فَيُعَارِضُ حَدِيثَ جَابِرٍ وَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ لِقُوَّةِ ثُبُوتِهِ ، إذْ هُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْكُتُبِ السِّتَّةِ ، بِخِلَافِ ذَلِكَ ، بَلْ قِيلَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ لَحْمُ الصَّيْدِ إلَخْ انْقِطَاعٌ ؛ لِأَنَّ الْمُطَّلِبَ بْنَ حَنْطَبٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ جَابِرٍ عِنْدَ غَيْرِ وَاحِدٍ ، وَكَذَا فِي رِجَالِهِ مَنْ فِيهِ لِينٌ .
وَبَعْدَ ثُبُوتِ مَا ذَهَبْنَا

إلَيْهِ بِمَا ذَكَرْنَا يَقُومُ دَلِيلٌ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ التَّأْوِيلِ هَذَا .
وَيُعَارِضُ الْكُلَّ حَدِيثُ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ فِي مُسْلِمٍ { أَنَّهُ أَهْدَى لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَحْمَ حِمَارٍ ، وَفِي لَفْظٍ : رِجْلَ حِمَارٍ ، وَفِي لَفْظٍ : عَجُزَ حِمَارٍ ، وَفِي لَفْظٍ : شِقَّ حِمَارٍ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ ، فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وَجْهِهِ قَالَ : إنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إلَّا أَنَّا حُرُمٌ } فَإِنَّهُ يَقْتَضِي حُرْمَةَ أَكْلِ الْمُحْرِمِ لَحْمَ الصَّيْدِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ صِيدَ لَهُ أَوْ بِأَمْرِهِ أَوْ لَا ، وَهُوَ مَذْهَبٌ نُقِلَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ مِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَمَذْهَبُنَا مَذْهَبُ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَطَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، أَخْرَجَ عَنْهُمْ ذَلِكَ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ حَدِيثُ مَالِكٍ وَهُوَ أَنَّهُ أَهْدَى لَهُ حِمَارًا أَثْبَتُ مِنْ حَدِيثِ مَنْ قَالَ : إنَّهُ أَهْدَى لَهُ مِنْ لَحْمِ حِمَارٍ : يَعْنِي فَيَكُونُ رَدُّهُ امْتِنَاعُ تَمَلُّكِ الْمُحْرِمِ الصَّيْدَ مَنْعٌ بِأَنَّ الرِّوَايَاتِ كُلَّهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَوَّلَ الْحَدِيثِ تَدُلُّ عَلَى الْبَعْضِيَّةِ .
وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ رِجْلِ حِمَارٍ وَعَجُزِهِ وَشِقِّهِ عَلَى مَا لَا يَخْفَى ، إذْ يَنْدَفِعُ بِإِرَادَةِ رِجْلٍ مَعَهَا الْفَخِذُ وَبَعْضُ جَانِبِ الذَّبِيحَةِ فَوَجَبَ حَمْلُ رِوَايَةِ أَهْدَى حِمَارًا عَلَى أَنَّهُ مِنْ إطْلَاقِ اسْمِ الْكُلِّ عَلَى الْبَعْضِ لِمَا ذَكَرْنَا وَلِتَعَيُّنِهِ لِامْتِنَاعِ عَكْسِهِ ، إذْ إطْلَاقُ الرِّجْلِ عَلَى كُلِّ الْحَيَوَانِ غَيْرُ مَعْهُودٍ ، وَلَا يُطْلَقُ عَلَى زَيْدٍ أُصْبُعٌ وَنَحْوُهُ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لِمَا عُرِفَ مِنْ أَنَّ شَرْطَ إطْلَاقِ اسْمِ الْبَعْضِ عَلَى الْكُلِّ التَّلَازُمُ كَالرَّقَبَةِ عَلَى الْإِنْسَانِ وَالرَّأْسِ فَإِنَّهُ لَا إنْسَانَ دُونَهُمَا ، بِخِلَافِ نَحْوِ الرِّجْلِ وَالظُّفُرِ .
وَأَمَّا إطْلَاقُ الْعَيْنِ عَلَى الرَّبِيئَةِ فَلَيْسَ مِنْ حَيْثُ هُوَ إنْسَانٌ بَلْ مِنْ حَيْثُ هُوَ رَقِيبٌ ،

وَهُوَ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ لَا يَتَحَقَّقُ بِلَا عَيْنٍ عَلَى مَا عُرِفَ فِي التَّحْقِيقَاتِ ، أَوْ هُوَ أَحَدُ مَعَانِي الْمُشْتَرَكِ اللَّفْظِيِّ كَمَا عَدَّهُ لِأَكْثَرَ مِنْهَا .
ثُمَّ إنَّ فِي هَذَا الْحَمْلِ تَرْجِيحًا لِلْأَكْثَرِ أَوْ نَحْكُمُ بِغَلَطِ تِلْكَ الرِّوَايَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الرَّاوِيَ رَجَعَ عَنْهَا تَبَيُّنًا لِغَلَطِهِ .
قَالَ الْحُمَيْدِيُّ : كَانَ سُفْيَانُ يَقُولُ فِي الْحَدِيثِ : { أَهْدَيْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَحْمَ حِمَارٍ وَحْشِيٍّ } ، وَرُبَّمَا قَالَ : يَقْطُرُ دَمًا ، وَرُبَّمَا لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ ، وَكَانَ فِيمَا خَلَا : قَالَ حِمَارٌ وَحْشِيٌّ ، ثُمَّ صَارَ إلَى لَحْمٍ حَتَّى مَاتَ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى رُجُوعِهِ وَثَبَاتِهِ عَلَى مَا رَجَعَ إلَيْهِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لِتَبَيُّنِهِ غَلَطَهُ أَوَّلًا .
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَإِنْ كَانَ أَهْدَى لَهُ لَحْمًا فَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلِمَ أَنَّهُ صِيدَ لَهُ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ .
ا هـ .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّ التَّعْلِيلَ مَا وَقَعَ إلَّا بِالْإِحْرَامِ ، فَلَوْ كَانَ كَمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَقَالَ بِأَنَّك صِدْتَهُ لِأَجْلِي .
قُلْنَا : كَلَامُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ .
يَعْنِي عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ صِيدَ لِأَجْلِهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ مُعَلِّلًا بِالْإِحْرَامِ بِسَبَبِ أَنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ أَكْلِ مَا صِيدَ لِلْمُحْرِمِ ، وَبِهِ يَقَعُ الْجَمْعُ بَيْنَ حَدِيثِ الصَّعْبِ وَحَدِيثَيْ أَبِي قَتَادَةَ وَجَابِرٍ السَّابِقِ عَلَى رَأْيِ مَنْ يَقُولُ : يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ مَا صِيدَ لِأَجْلِهِ .
أَمَّا عَلَى رَأْيِنَا وَهُوَ إبَاحَتُهُ بِغَيْرِ هَذَا الشَّرْطِ فَلَا يَقَعُ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ ، فَإِنَّا قُلْنَا : إنَّهُ يُفِيدُ عَدَمَ اشْتِرَاطِ أَنْ لَا يُصَادَ ؛ لِأَجْلِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، فَإِنْ حُمِلَ حَدِيثُ الصَّعْبِ عَلَى أَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ صِيدَ ؛ لِأَجْلِهِ تَعَارَضَا فَإِنَّمَا يُصَارُ إلَى التَّرْجِيحِ فَيَتَرَجَّحُ حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ بِعَدَمِ اضْطِرَابِهِ أَصْلًا ، بِخِلَافِ حَدِيثِ الصَّعْبِ

فَإِنَّهُ قَالَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ : { إنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَكَلَ مِنْهُ } .
رَوَاهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ عَنْ أَبِيهِ { أَنَّ الصَّعْبَ بْنَ جَثَّامَةَ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَجُزَ حِمَارٍ وَهُوَ بِالْجُحْفَةِ فَأَكَلَ مِنْهُ وَأَكَلَ الْقَوْمُ } وَمَا قِيلَ هَذِهِ رِوَايَةٌ مُنْكَرَةٌ ، فَإِنَّ فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ لَمْ يَأْكُلْ مِنْهَا إلَّا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ ، أَحْسَنُ مِنْهُ أَنْ يُجْمَعَ بَعْدَ ثُبُوتِ صِحَّةِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِأَنَّ الَّذِي تَعَرَّضَتْ لَهُ تِلْكَ الرِّوَايَاتُ لَيْسَ سِوَى أَنَّهُ رَدَّهُ ، وَعَلَّلَ بِالْإِحْرَامِ ، ثُمَّ سَكَتَ الْكُلُّ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ ، فَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ لَمَّا رَدَّهُ مُعَلِّلًا بِذَلِكَ بِنَاءً عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ صِيدَ لِأَجْلِهِ ذَكَرَ لَهُ أَنَّهُ لَمْ يَصِدْهُ لِأَجْلِهِ فَقَبِلَهُ بَعْدَ الرَّدِّ وَأَكَلَ مِنْهُ ، وَهَذَا جَمْعٌ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَشْتَرِطُ عَدَمَ الِاصْطِيَادِ لِأَجْلِهِ ، وَعَلَى قَوْلِ الْكُلِّ مَا قَالَ الْبَيْهَقِيُّ بَعْدَمَا ذَكَرَ الرِّوَايَةَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا قَالَ : وَهَذَا إسْنَادٌ صَحِيحٌ ، فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَكَأَنَّهُ رَدَّ الْحَيَّ وَقَبِلَ اللَّحْمَ .
ا هـ .
إلَّا أَنَّ هَذَا جَمْعٌ بِإِنْشَاءِ إشْكَالٍ آخَرَ وَهُوَ رَدُّ رِوَايَةِ أَنَّهُ رَدَّ اللَّحْمَ وَهِيَ بَعْدَ صِحَّتِهَا ثَبَتَ عَلَيْهَا الرَّاوِي وَرَجَعَ عَمَّا سِوَاهَا عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ ، إلَّا أَنْ يُدَّعَى أَنَّهُ عَبَّرَ بِالْبَعْضِ عَنْ الْكُلِّ فِي رِوَايَةِ رَدِّ اللَّحْمِ وَفِيهِ مَا قَدَّمْنَاهُ .
وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ اضْطِرَابٌ لَيْسَ مِثْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ فَكَانَ هُوَ أَوْلَى .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّ حَدِيثَ أَبِي قَتَادَةَ كَانَ سَنَةَ سِتٍّ فِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ ، وَحَدِيثَ الصَّعْبِ كَانَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَيَكُونُ نَاسِخًا لِمَا قَبْلَهُ .
قُلْنَا أَمَّا إنَّ حَدِيثَ الصَّعْبِ كَانَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدَنَا ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ الطَّبَرِيُّ وَبَعْضُهُمْ وَلَمْ

نَعْلَمْ لَهُمْ فِيهِ ثَبْتًا صَحِيحًا .
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ فَإِنَّهُ وَقَعَ فِي مُسْنَدِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْهُ قَالَ : { انْطَلَقْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ فَأَحْرَمَ أَصْحَابُهُ وَلَمْ أُحْرِمْ } فَسَاقَ الْحَدِيثَ .
فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ خِلَافُ ذَلِكَ ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَرَجَ حَاجًّا فَخَرَجُوا مَعَهُ فَصَرَفَ طَائِفَةً مِنْهُمْ أَبُو قَتَادَةَ وَقَالَ لَهُمْ : خُذُوا سَاحِلَ الْبَحْرِ حَتَّى نَلْتَقِيَ } الْحَدِيثَ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَحُجَّ بَعْدَ الْهِجْرَةِ إلَّا حَجَّةَ الْوَدَاعِ فَكَانَ بِالتَّقْدِيمِ أَوْلَى .
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ حَدِيثُ الْبَهْزِيِّ : أَخْرَجَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ عُمَيْرِ بْنِ سَلَمَةَ الضَّرِيرِ قَالَ : { بَيْنَمَا نَحْنُ نَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَعْضِ أَفْنَاءِ الرَّوْحَاءِ وَهُوَ مُحْرِمٌ إذَا حِمَارٌ مَعْقُورٌ فِيهِ سَهْمٌ قَدْ مَاتَ ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : دَعُوهُ فَيُوشِكُ صَاحِبُهُ أَنْ يَأْتِيَهُ ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَهْزٍ هُوَ الَّذِي عَقَرَ الْحِمَارَ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ رَمْيَتِي فَشَأْنُكُمْ بِهِ ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَبَا بَكْرٍ أَنْ يَقْسِمَهُ بَيْنَ الرِّفَاقِ وَهُمْ مُحْرِمُونَ } وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ تَرْكَ الِاسْتِفْصَالِ فِي وَقَائِعِ الْأَحْوَالِ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْعُمُومِ فِي الْمَقَالِ .

( وَفِي صَيْدِ الْحَرَمِ إذَا ذَبَحَهُ الْحَلَالُ قِيمَتُهُ يَتَصَدَّقُ بِهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ ) ؛ لِأَنَّ الصَّيْدَ اسْتَحَقَّ الْأَمْنَ بِسَبَبِ الْحَرَمِ .
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثٍ فِيهِ طُولٌ { وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا } ( وَلَا يُجْزِيهِ الصَّوْمُ ) ؛ لِأَنَّهَا غَرَامَةٌ وَلَيْسَتْ بِكَفَّارَةٍ ، فَأَشْبَهَ ضَمَانَ الْأَمْوَالِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ يَجِبُ بِتَفْوِيتِ وَصْفٍ فِي الْمَحَلِّ وَهُوَ الْأَمْنُ وَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ بِطَرِيقِ الْكَفَّارَةِ جَزَاءٌ عَلَى فِعْلِهِ ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ بِاعْتِبَارِ مَعْنًى فِيهِ وَهُوَ إحْرَامُهُ ، وَالصَّوْمُ يُصْلِحُ جَزَاءَ الْأَفْعَالِ لَا ضَمَانَ الْمَحَالِّ .
وَقَالَ زُفَرٌ : يُجْزِيهِ الصَّوْمُ اعْتِبَارًا بِمَا وَجَبَ عَلَى الْمُحْرِمِ ، وَالْفَرْقُ قَدْ ذَكَرْنَاهُ ، وَهَلْ يَجْزِيهِ الْهَدْيُ ؟ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ .

( قَوْلُهُ : قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) رَوَى السِّتَّةُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ فَحَمِدَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ : فَإِنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ ، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ النَّهَارِ ، ثُمَّ بَقِيَتْ حُرْمَتُهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ .
لَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا وَلَا تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ : إلَّا الْإِذْخِرَ فَإِنَّهُ لِقُبُورِنَا وَبُيُوتِنَا ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَّا الْإِذْخِرَ } وَالْخَلَى بِالْمُعْجَمَةِ مَقْصُورًا الْحَشِيشُ إذَا كَانَ رَطْبًا وَاخْتِلَاؤُهُ قَطْعُهُ .
( قَوْلُهُ : وَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ إلَخْ ) حَاصِلُ مَا هُنَا أَنَّ حُرْمَةَ الْقَتْلِ ثَابِتَةٌ فِي الصُّورَتَيْنِ ، غَيْرَ أَنَّ سَبَبَهَا فِي الْإِحْرَامِ وُجُوبُ الْجَرْيِ عَلَى مُوجِبِهِ ، فَإِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ الدُّخُولِ فِي حُرْمَةِ عِبَادَةِ الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ بِالْتِزَامِ مَا يُمْنَعُ مِنْهُ حَالَ التَّلَبُّسِ بِهَا كَالدُّخُولِ فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ ، وَمِنْهُ عَدَمُ التَّعَرُّضِ لِلصَّيْدِ فَكَانَ حِكْمَةُ مَنْعِهِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ كَوْنَهُ يُهَيِّجُ النَّفْسَ إلَى حَالَةٍ تُنَافِي حَالَةَ الْإِحْرَامِ الَّتِي هِيَ التَّصَوُّرُ بِصُورَةِ الْمَوْتِ وَالْفَاقَةِ فَإِنَّ فِيهِ ضَرَاوَةً ، وَحَالَةُ الْإِحْرَامِ ضَرَاعَةٌ قَدْ ظَهَرَ أَثَرُهَا أَكْثَرَ مِنْ ظُهُورِهِ فِي سَائِرِ الْعِبَادَاتِ ، أَلَا تَرَى إلَى كَشْفِ الرَّأْسِ وَالتَّلَفُّفِ بِثِيَابِ الْمَوْتِ فَإِذَا قَتَلَهُ فَقَدْ جَنَى عَلَى الْعِبَادَةِ حَيْثُ لَمْ يَجْرِ عَلَى مُوجِبِهَا وَجَبَرَ الْعِبَادَةَ الْمَحْضَةَ بِعِبَادَةٍ مَحْضَةٍ فَدَخَلَهُ الصَّوْمُ .
وَأَمَّا فِي الْحَرَمِ فَسَبَبُهَا إبْقَاءُ أَمْنِهِ الْحَاصِلِ لَهُ شَرْعًا بِسَبَبِ الْإِيوَاءِ إلَى حِمَى اللَّهِ تَعَالَى ، فَإِذَا فَوَّتَهُ وَجَبَ

الْجَزَاءُ ؛ لِتَفْوِيتِ ذَلِكَ الْوَصْفِ الْكَائِنِ فِي الْمَحَلِّ لَا لِجِنَايَةٍ عَلَى عِبَادَةٍ تَلَبَّسَ بِهَا وَالْتَزَمَهَا بِعَقْدٍ خَاصٍّ بِارْتِكَابِ مَحْظُورِهَا فَلَا يَدْخُلُ الصَّوْمُ فِيهِ كَتَفْوِيتِ أَمْنٍ كَائِنٍ لِمَمْلُوكِ رَجُلٍ فِي مَالِهِ لِاسْتِهْلَاكِهِ لَا يَكُونُ بِصَوْمٍ وَنَحْوِهِ بَلْ جَبْرُ الْأَمْنِ الْفَائِتِ بِإِثْبَاتِ أَمْنٍ لِلْفَقِيرِ عَنْ بَعْضِ الْحَاجَاتِ أَنْسَبُ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْمَجْبُورِ ، وَعَلَى وَفْقِ هَذَا وَقَعَ فِي الشَّرْعِ ، إلَّا أَنَّ مُسْتَحِقَّ هَذَا الضَّمَانَ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ .
فَتَجَاذَبَهُ أَصْلَانِ : شِبْهُ الْغَرَامَاتِ اللَّازِمَةِ لِتَفْوِيتِ الْمَحَالِّ ، وَكَوْنُهُ حَقًّا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فَرَتَّبْنَا عَلَى كُلِّ وَجْهٍ مُقْتَضَاهُ مُحْتَاطِينَ فِي التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ فَقُلْنَا : لَا يَدْخُلُهُ الصَّوْمُ نَظَرًا إلَى أَنَّهُ ضَمَانُ مَحَلٍّ .
وَلَا ضَمَانَ عَلَى الصَّبِيِّ لَوْ قَتَلَ صَيْدَ الْحَرَمِ .
وَلَوْ قَتَلَ الصَّيْدَ حَلَالٌ فِي يَدِ حَلَالٍ صَادَهُ مِنْ الْحَرَمِ وَجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَمَانٌ كَامِلٌ لِتَفْوِيتِ كُلِّ الْأَمْنِ الْوَاحِدِ الثَّابِتِ لِلصَّيْدِ ، أَحَدُهُمَا بِالْأَخْذِ ، وَالثَّانِي بِالْقَتْلِ بَعْدَمَا كَانَ بِعَرْضِيَّةِ أَنْ يُطْلِقَهُ ، وَفِي مِثْلَيْهِمَا مِنْ ضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ عَلَى الْآخِذِ .
وَاتَّفَقُوا هُنَا عَلَى رُجُوعِ الْآخِذِ عَلَى الْقَاتِلِ ، أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّهُ فِي الْإِحْرَامِ يَقُولُ يَرْجِعُ الْآخِذُ عَلَى الْقَاتِلِ مَعَ جِنَايَةٍ لَيْسَ ضَمَانَ مَحَلٍّ فَهُنَا أَوْلَى ، وَهُمَا مَنَعَا الرُّجُوعَ هُنَاكَ وَأَثْبَتَاهُ هُنَا ؛ لِأَنَّهُ ضَمَانُ مَحَلٍّ مِنْ وَجْهٍ ، وَفِي ضَمَانِ الْمَحَلِّ يَرْجِعُ عَلَى مَنْ يُقَرِّرُ الضَّمَانَ .
وَإِذَا تَأَمَّلْت رَأَيْت خُصُوصَ الِاعْتِبَارِ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ مِنْ هَذِهِ بِجِهَةٍ دُونَ الْجِهَةِ الْأُخْرَى ؛ لِأَنَّهُ اللَّائِقُ فِيهَا فَتَأَمَّلْ مُسْتَعِينًا بِاَللَّهِ تَعَالَى تَرْشُدْ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
ثُمَّ يَدْخُلُ جَزَاءُ صَيْدِ الْحَرَمِ فِي جَزَاءِ صَيْدِ الْإِحْرَامِ ، فَلَوْ

قَتَلَ مُحْرِمٌ صَيْدَ الْحَرَمِ وَجَبَ عَلَيْهِ جَزَاءٌ وَاحِدٌ عَلَى وَفْقِ جَزَائِهِ لِلْإِحْرَامِ خَاصَّةً .
وَتَحْقِيقُ هَذَا الْمَقَامِ أَنَّ الثَّابِتَ هُنَا حَقٌّ وَاحِدٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِسَبَبِ ارْتِكَابِهِ حُرْمَةً وَاحِدَةً ، وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمُتَحَقِّقَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ قَتْلَهُ وَوَضَعَ لِهَذِهِ الْحُرْمَةِ سَبَبَيْنِ : حُلُولَهُ فِي الْحَرَمِ ، وَوُجُودَ الْإِحْرَامِ ، فَأَيُّهُمَا وُجِدَ اسْتَقَلَّ بِإِثَارَةِ الْحُرْمَةِ ، فَإِذَا وُجِدَا مَعًا وَهُوَ الْإِحْرَامُ فِي الْحَرَمِ لَمْ يَتَحَقَّقْ سِوَى تِلْكَ الْحُرْمَةِ ، وَثُبُوتُ الْأَمْنِ إنَّمَا هُوَ عَنْ هَذِهِ الْحُرْمَةِ وَعَلِمْت أَنَّهَا حُرْمَةٌ وَاحِدَةٌ فَهَهُنَا أَمْرٌ وَاحِدٌ عَنْ حُرْمَةٍ وَاحِدَةٍ فُوِّتَتْ ، غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَتَّبَ عَلَى انْتِهَاكِ الْحُرْمَةِ الْكَائِنِ بِالْقَتْلِ حَالَ كَوْنِهَا عَنْ سَبَبِ الْإِحْرَامِ جَزَاءً يَدْخُلُهُ الصَّوْمُ وَدَلَّ النَّظَرُ السَّابِقُ حَالَ كَوْنِهَا عَنْ حُلُولِ الصَّيْدِ فِي الْحَرَمِ عَلَى وُجُوبِ جَزَاءٍ لَا يَدْخُلُهُ ، فَإِذَا ثَبَتَتْ الْحُرْمَةُ عَنْ السَّبَبَيْنِ جَمِيعًا بِأَنْ كَانَ مُحْرِمًا فِي الْحَرَمِ ثُمَّ اُنْتُهِكَتْ بِالْقَتْلِ فِيهِ تَعَذَّرَ فِي الْجَزَاءِ اللَّازِمِ اعْتِبَارُهُ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا فَلَزِمَ اعْتِبَارُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا فَرَأَيْنَا اعْتِبَارَهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي اعْتَبَرَهُ صَاحِبُ الشَّرْعِ وَهُوَ مَا إذَا كَانَ الْقَتْلُ مَعَ الْإِحْرَامِ هُوَ الْوَجْهُ ؛ لِأَنَّهُ أَقْوَى السَّبَبَيْنِ فَقُلْنَا بِذَلِكَ .
وَإِنَّمَا كَانَ أَقْوَى ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ سَبَبًا لِلضَّمَانِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ بِالنَّصِّ الْقَطْعِيِّ ، قَالَ تَعَالَى { فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ } بِخِلَافِ الْكَوْنِ فِي الْحَرَمِ فَإِنَّ النُّصُوصَ إنَّمَا أَفَادَتْ سَبَبِيَّتَهُ لِحُرْمَةِ التَّعَرُّضِ ، وَلَمْ يُصَرِّحْ بِلُزُومِ الْجَزَاءِ ذَاكَ التَّصْرِيحَ فَظَهَرَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ تَفْوِيتُ أَمْنٍ مُسْتَحَقٍّ كَالْقَتْلِ فِي الْإِحْرَامِ فَوَجَبَ الضَّمَانُ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ : أَعْنِي عَلَى وَجْهٍ لَا يَدْخُلُ فِيهِ الصَّوْمُ وَعَلَيْهِ تَرْدِيدٌ

نُورِدُهُ فِي جِنَايَةِ الْقَارِنِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
( قَوْلُهُ : وَهَلْ يُجْزِيهِ الْهَدْيُ ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ ) فِي رِوَايَةٍ لَا فَلَا يَتَأَدَّى بِالْإِرَاقَةِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ التَّصَدُّقِ بِلَحْمِهِ بَعْدَ أَنْ تَكُونَ قِيمَةُ اللَّحْمِ بَعْدَ الذَّبْحِ مِثْلَ قِيمَةِ الصَّيْدِ لَا إذَا كَانَ دُونَهُ ، وَلِذَا لَوْ سُرِقَ الْمَذْبُوحُ وَجَبَ أَنْ يُقِيمَ غَيْرَهُ مَقَامَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلْإِرَاقَةِ فِي غَرَامَاتِ الْأَمْوَالِ .
وَفِي أُخْرَى يَتَأَدَّى فَتَكُونُ الْأَحْكَامُ الْمَذْكُورَةُ عَلَى عَكْسِهَا ، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ كَوْنُ قِيمَةِ الْهَدْيِ قَبْلَ الذَّبْحِ قِيمَةَ الْمَقْتُولِ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ تَعَالَى وَالْهَدْيُ مَالٌ يُجْعَلُ لِلَّهِ تَعَالَى ، وَإِرَاقَةُ الدَّمِ طَرِيقٌ صَالِحٌ شَرْعًا لِجَعْلِ الْمَالِ لَهُ خَالِصًا كَالتَّصَدُّقِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُضَحِّيَ يَجْعَلُ الْأُضْحِيَّةَ خَالِصَةً لَهُ سُبْحَانَهُ بِإِرَاقَةِ دَمِهَا .

( وَمَنْ دَخَلَ الْحَرَمَ بِصَيْدٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُرْسِلَهُ فِيهِ إذَا كَانَ فِي يَدِهِ ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، فَإِنَّهُ يَقُولُ : حَقُّ الشَّرْعِ لَا يَظْهَرُ فِي مَمْلُوكِ الْعَبْدِ لِحَاجَةِ الْعَبْدِ .
وَلَنَا أَنَّهُ لَمَّا حَصَلَ فِي الْحَرَمِ وَجَبَ تَرْكُ التَّعَرُّضِ لِحُرْمَةِ الْحَرَمِ إذْ صَارَ هُوَ مِنْ صَيْدِ الْحَرَمِ فَاسْتَحَقَّ الْأَمْنَ لِمَا رَوَيْنَا ( فَإِنْ بَاعَهُ رَدَّ الْبَيْعَ فِيهِ إنْ كَانَ قَائِمًا ) ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَمْ يَجُزْ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّعَرُّضِ لِلصَّيْدِ وَذَلِكَ حَرَامٌ ( وَإِنْ كَانَ فَائِتًا فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ ) ؛ لِأَنَّهُ تَعَرُّضٌ لِلصَّيْدِ بِتَفْوِيتِ الْأَمْنِ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ ( وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْمُحْرِمِ الصَّيْدَ مِنْ مُحْرِمٍ أَوْ حَلَالٍ ) لِمَا قُلْنَا .

( قَوْلُهُ : وَمَنْ دَخَلَ الْحَرَمَ بِصَيْدٍ ) أَيْ وَهُوَ حَلَالٌ حَتَّى يَظْهَرَ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مُحْرِمًا وَجَبَ إرْسَالُهُ بِمُجَرَّدِ الْإِحْرَامِ اتِّفَاقًا .
( قَوْلُهُ : خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ) قَاسَهُ عَلَى الِاسْتِرْقَاقِ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يَمْنَعُهُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى وَلَا يَرْفَعُهُ ، حَتَّى إذَا ثَبَتَ حَالُ الْكُفْرِ ثُمَّ طَرَأَ الْإِسْلَامُ لَا يَرْتَفِعُ ، عُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ حَقَّ الشَّرْعِ لَا يَظْهَرُ فِي مَمْلُوكِ الْعَبْدِ بَعْدَ تَقَرُّرِ مِلْكِهِ بِطَرِيقِهِ تَفَضُّلًا مِنْهُ تَعَالَى لِحَاجَةِ الْعَبْدِ وَغِنَاهُ : وَهَذَا كَذَلِكَ ، وَهَذَا مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ .
وَحَاصِلُهُ تَقْرِيرُ الْجَامِعِ وَتَرْكُ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ ، وَتَلْخِيصُهُ مَمْلُوكٌ لِلْعَبْدِ بِطَرِيقٍ صَحِيحٍ فَلَا يَظْهَرُ فِيهِ حَقُّ الشَّرْعِ ، وَإِنْ كَانَ يَمْنَعُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ تَحَقَّقَ كَالِاسْتِرْقَاقِ ، وَلَك فِي اعْتِبَارِ الْقِيَاسِ أَنْ تَجْعَلَهُ مِلْكَ الصَّيْدِ عَلَى الِاسْتِرْقَاقِ أَوْ الصَّيْدِ الْمَمْلُوكِ عَلَى الْمَرْقُوقِ .
( قَوْلُهُ : وَلَنَا إلَخْ ) حَقِيقَتُهُ أَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ بِالنَّصِّ فَيُقَدَّمُ عَلَى الْقِيَاسِ .
تَقْرِيرُهُ : هَذَا صَيْدُ الْحَرَمِ وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَحِلُّ التَّعَرُّضُ لَهُ بِالنَّصِّ فَهَذَا لَا يَحِلُّ التَّعَرُّضُ لَهُ بِالنَّصِّ .
أَمَّا الْأُولَى فَلِأَنَّهُ لَيْسَ يُرَادُ بِصَيْدِ الْحَرَمِ إلَّا مَا كَانَ حَالًّا فِيهِ .
وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَلِإِطْلَاقِ النَّصِّ الْمَذْكُورِ مِنْ السُّنَّةِ وَلَمْ يُوجَدْ مِثْلُهُ فِي الرِّقِّ بَلْ ثَبَتَ شَرْعًا بَقَاؤُهُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ بَلْ عَدَّاهُ إلَى أَوْلَادِ الْإِمَاءِ مِنْ أَزْوَاجِهِنَّ ، وَإِنْ لَمْ يَتَّصِفْ الزَّوْجُ بِالْكُفْرِ قَطُّ ، وَيُمْكِنُ كَوْنُ سِرِّ هَذَا الْفَرْقِ التَّغْلِيظَ عَلَى مَنْ أُمِرَ فَخَالَفَ ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ حُكْمُ هَذِهِ الْمُخَالَفَةِ ، بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يُخَالِفْ ، وَهُوَ الصَّيْدُ ( قَوْلُهُ : فَإِنْ بَاعَهُ ) يَعْنِي بَعْدَمَا أَدْخَلَهُ الْحَرَمَ ( رُدَّ الْبَيْعُ فِيهِ إنْ كَانَ قَائِمًا ) وَوَجَبَتْ قِيمَتُهُ إنْ كَانَ

هَالِكًا سَوَاءٌ بَاعَهُ فِي الْحَرَمِ أَوْ بَعْدَمَا أَخْرَجَهُ إلَى الْحِلِّ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ بِالْإِدْخَالِ مِنْ صَيْدِ الْحَرَمِ فَلَا يَحِلُّ إخْرَاجُهُ بَعْدَ ذَلِكَ .
وَلَوْ تَبَايَعَ الْحَلَالَانِ وَهُمَا فِي الْحَرَمِ الصَّيْدَ وَهُوَ فِي الْحِلِّ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَعَرُّضٍ يَتَّصِلُ بِهِ بِسَاحِلٍ حُكْمًا ، وَلَيْسَ هُوَ بِأَبْلَغَ مِنْ أَمْرِهِ بِذَبْحِ هَذَا الصَّيْدِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ رَمَاهُ مِنْ الْحَرَمِ لِلِاتِّصَالِ الْحِسِّيِّ .

( وَمَنْ أَحْرَمَ وَفِي بَيْتِهِ أَوْ فِي قَفَصٍ مَعَهُ صَيْدٌ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُرْسِلَهُ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُرْسِلَهُ ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَرِّضٌ لِلصَّيْدِ بِإِمْسَاكِهِ فِي مِلْكِهِ فَصَارَ كَمَا إذَا كَانَ فِي يَدِهِ .
وَلَنَا أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا يُحْرِمُونَ وَفِي بُيُوتِهِمْ صُيُودٌ وَدَوَاجِنُ ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ إرْسَالُهَا ، وَبِذَلِكَ جَرَتْ الْعَادَةُ الْفَاشِيَّةُ وَهِيَ مِنْ إحْدَى الْحُجَجِ ؛ وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ تَرْكُ التَّعَرُّضِ وَهُوَ لَيْسَ بِمُتَعَرِّضٍ مِنْ جِهَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَحْفُوظٌ بِالْبَيْتِ وَالْقَفَصِ لَا بِهِ غَيْرَ أَنَّهُ فِي مِلْكِهِ ، وَلَوْ أَرْسَلَهُ فِي مَفَازَةٍ فَهُوَ عَلَى مِلْكِهِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِبَقَاءِ الْمِلْكِ .
وَقِيلَ : إذَا كَانَ الْقَفَصُ فِي يَدِهِ لَزِمَهُ إرْسَالُهُ لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ لَا يَضِيعُ .

( قَوْلُهُ : وَمَنْ أَحْرَمَ وَفِي بَيْتِهِ أَوْ فِي قَفَصٍ مَعَهُ ) قَيَّدَ الْمَسْأَلَةَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي يَدِهِ حَقِيقَةً وَجَبَ الْإِرْسَالُ اتِّفَاقًا ، وَلَوْ هَلَكَ وَهُوَ فِي يَدِهِ وَجَبَ الْجَزَاءُ وَإِنْ كَانَ مَالِكًا لَهُ لِلْجِنَايَةِ عَلَى الْإِحْرَامِ بِعَدَمِ تَرْكِهِ .
فَلِذَا اخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا كَانَ الْقَفَصُ فِي يَدِهِ هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ تَرْكُهُ وَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَضِيعُ أَوْ لَا بِنَاءً عَلَى كَوْنِ الصَّيْدِ فِي يَدِهِ بِكَوْنِ الْقَفَصِ فِيهَا وَلِهَذَا يَصِيرُ غَاصِبًا لَهُ بِغَصْبِ الْقَفَصِ أَوْ لَيْسَ فِيهَا بَلْ بِكَوْنِ الْقَفَصِ فِيهَا ، وَلِذَا جَازَ لِلْمُحَدِّثِ أَخْذُ الْمُصْحَفِ بِغِلَافِهِ .
( قَوْلُهُ وَبِذَلِكَ جَرَتْ الْعَادَةُ الْفَاشِيَةُ ) مِنْ لَدُنْ الصَّحَابَةِ إلَى الْآنَ ، وَهُمْ وَالتَّابِعُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ يُحْرِمُونَ وَفِي بُيُوتِهِمْ حَمَامٌ فِي أَبْرَاجٍ وَعِنْدَهُمْ دَوَاجِنُ وَالطُّيُورُ لَا يُطْلِقُونَهَا .
( وَهِيَ إحْدَى الْحُجَجِ ) فَدَلَّتْ عَلَى أَنَّ اسْتِبْقَاءَهَا فِي الْمِلْكِ مَحْفُوظَةٌ بِغَيْرِ الْيَدِ لَيْسَ هُوَ التَّعَرُّضُ الْمُمْتَنِعُ .
( قَوْلُهُ : وَلَا مُعْتَبَرَ بِبَقَاءِ الْمِلْكِ ) أَيْ لَا يُعْتَبَرُ بَقَاءُ الْمِلْكِ جِنَايَةً عَلَى الصَّيْدِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ الْإِرْسَالَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ إخْرَاجَهُ عَنْ مِلْكِهِ بَلْ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ تَمْلِيكَهُ وَالْعَادَةُ الْفَاشِيَةُ تَنْفِيهِ .

قَالَ ( فَإِنْ أَصَابَ حَلَالٌ صَيْدًا ثُمَّ أَحْرَمَ فَأَرْسَلَهُ مِنْ يَدِهِ غَيْرُهُ يَضْمَنُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَقَالَا : لَا يَضْمَنُ ) ؛ لِأَنَّ الْمُرْسِلَ آمِرٌ بِالْمَعْرُوفِ نَاهٍ عَنْ الْمُنْكَرِ وَ { مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ } وَلَهُ أَنَّهُ مَلَكَ الصَّيْدَ بِالْأَخْذِ مِلْكًا مُحْتَرَمًا فَلَا يَبْطُلُ احْتِرَامُهُ بِإِحْرَامِهِ وَقَدْ أَتْلَفَهُ الْمُرْسِلُ فَيَضْمَنُهُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَخَذَهُ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ .
وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ تَرْكُ التَّعَرُّضِ وَيُمْكِنُهُ ذَلِكَ بِأَنْ يُخَلِّيَهُ فِي بَيْتِهِ ، فَإِذَا قَطَعَ يَدَهُ عَنْهُ كَانَ مُتَعَدِّيًا ، وَنَظِيرُهُ الِاخْتِلَافُ فِي كَسْرِ الْمَعَازِفِ .
( قَوْلُهُ : وَلَهُ أَنَّهُ مَلَكَ الصَّيْدَ بِالْأَخْذِ حَلَالًا مِلْكًا مُحْتَرَمًا ) حَتَّى لَوْ أَخَذَهُ وَهُوَ حَلَالٌ ثُمَّ أَحْرَمَ فَأَرْسَلَهُ ثُمَّ وَجَدَهُ بَعْدَ الْإِحْلَالِ فِي يَدِ شَخْصٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ مَا أَرْسَلَهُ عَنْ اخْتِيَارٍ .
كَذَا عَلَّلَ التُّمُرْتَاشِيُّ ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَرْسَلَهُ مِنْ غَيْرِ إحْرَامٍ يَكُونُ إبَاحَةً ، أَمَّا لَوْ كَانَ صَادَهُ فِي إحْرَامِهِ ثُمَّ أَرْسَلَهُ ثُمَّ حَلَّ فَوَجَدَهُ فِي يَدِ رَجُلٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ مَا مَلَكَهُ بِالْأَخْذِ فِي الْإِحْرَامِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ : وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ تَرْكُ التَّعَرُّضِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا الْمُرْسِلُ آمِرٌ بِمَعْرُوفٍ .
فَأَجَابَ بِأَنَّ الْوَاجِبَ الَّذِي يَجِبُ الْأَمْرُ بِهِ تَرْكُ التَّعَرُّضِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِتَفْوِيتِ يَدِهِ الْحَقِيقِيَّةِ لَا مُطْلَقِ يَدِهِ ، فَإِنْ ادَّعَيَا الثَّانِيَ مَنَعْنَاهُ ، أَوْ الْأَوَّلَ سَلَّمْنَاهُ ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِإِرْسَالِهِ وَلَوْ فِي قَفَصٍ .

( وَإِنْ أَصَابَ مُحْرِمٌ صَيْدًا فَأَرْسَلَهُ مِنْ يَدِهِ غَيْرُهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ بِالِاتِّفَاقِ ) ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ بِالْأَخْذِ ، فَإِنَّ الصَّيْدَ لَمْ يَبْقَ مَحَلًّا لِلتَّمَلُّكِ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا } فَصَارَ كَمَا إذَا اشْتَرَى الْخَمْرَ ( فَإِنْ قَتَلَهُ مُحْرِمٌ آخَرُ فِي يَدِهِ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَزَاؤُهُ ) ؛ لِأَنَّ الْآخِذَ مُتَعَرِّضٌ لِلصَّيْدِ الْآمِنِ ، وَالْقَاتِلُ مُقَرِّرٌ لِذَلِكَ ، وَالتَّقْرِيرُ كَالِابْتِدَاءِ فِي حَقِّ التَّضْمِينِ كَشُهُودِ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ إذَا رَجَعُوا ( وَيَرْجِعُ الْآخِذُ عَلَى الْقَاتِلِ ) وَقَالَ زُفَرٌ : لَا يَرْجِعُ ؛ لِأَنَّ الْآخِذَ مُؤَاخَذٌ بِصُنْعِهِ فَلَا يَرْجِعُ عَلَى غَيْرِهِ .
وَلَنَا أَنَّ الْآخِذَ إنَّمَا يَصِيرُ سَبَبًا لِلضَّمَانِ عِنْدَ اتِّصَالِ الْهَلَاكِ بِهِ ، فَهُوَ بِالْقَتْلِ جَعَلَ فِعْلَ الْآخِذِ عِلَّةً فَيَكُونُ فِي مَعْنَى مُبَاشَرَةِ عِلَّةِ الْعِلَّةِ فَيُحَالُ بِالضَّمَانِ عَلَيْهِ .

( قَوْلُهُ : وَلَنَا أَنَّ الْأَخْذَ إنَّمَا يَصِيرُ سَبَبًا لِلضَّمَانِ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْقَتْلُ ) وَالْمُتَوَجَّهُ قَبْلَ قَتْلِهِ خِطَابُ إرْسَالِهِ وَتَخْلِيَتِهِ ( فَهُوَ بِالْقَتْلِ جَعَلَ فِعْلَ الْآخِذِ عِلَّةً فَيَكُونُ فِي مَعْنَى مُبَاشَرَةِ عِلَّةِ الْعِلَّةِ فَيُحَالُ بِالضَّمَانِ عَلَيْهِ ) وَإِنْ لَمْ يُفَوِّتْ بِهَذَا الْقَتْلِ يَدًا مُحْتَرَمَةً وَلَا مِلْكًا فَإِنَّ الْمُتَعَلِّقَ بِهِمَا ضَمَانٌ يَجِبُ لِذِي الْيَدِ وَالْمِلْكِ ابْتِدَاءً بَدَلَ مِلْكِهِ وَيَدِهِ ، وَهُنَا الْوَاجِبُ عَلَيْهِ لَيْسَ إلَّا الرُّجُوعُ بِمَا غَرِمَهُ ؛ لِكَوْنِهِ السَّبَبَ فِيهِ فَإِنَّهُ مَنُوطٌ بِتَفْوِيتِهِ يَدًا مُعْتَبَرَةً ، كَمَا فِي غَصْبِ الْمُدَبَّرِ ، إذَا قَتَلَهُ إنْسَانٌ فِي يَدِ غَاصِبِهِ فَأَدَّى الْغَاصِبُ قِيمَتَهُ ، وَهُنَا قَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ فَوَّتَ يَدًا مُعْتَبَرَةً فِي حَقِّ التَّمْكِينِ بِهَا مِنْ إسْقَاطِ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْإِرْسَالِ وَدَفَعَ وُجُوبَ الْجَزَاءِ فَهُوَ مُوَرِّطُهُ فِي ذَلِكَ .
وَإِذَا وَجَبَ الرُّجُوعُ بِنِصْفِ الْمَهْرِ عَلَى شُهُودِ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ إذَا رَجَعُوا فَالرُّجُوعُ هُنَا أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الشُّهُودَ قَرَّرُوا مَا كَانَ مُتَوَهَّمَ السُّقُوطِ بَعْدَ تَحَقُّقِ الْوُجُوبِ بِسَبَبِ مُبَاشَرَةِ الزَّوْجِ بِاخْتِيَارِهِ .
وَالْقَاتِلُ هُنَا هُوَ الَّذِي حَقَّقَ سَبَبَ الْوُجُوبِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُتَوَهَّمُ سُقُوطُ الْوَاجِبِ بِهِ لِمَا عُرِفَ مِنْ أَنَّ مُجَرَّدَ الْأَخْذِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْإِرْسَالِ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ سَبَبًا لِلْجَزَاءِ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْقَتْلُ ، وَإِنَّمَا قَالَ : فَيَكُونُ فِي مَعْنَى مُبَاشَرَةِ عِلَّةِ الْعِلَّةِ ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ لَيْسَ عِلَّةَ الْعِلَّةِ ، فَإِنَّ الْعِلَّةَ الْقَتْلُ ، وَالْأَخْذُ لَيْسَ عِلَّةً لِلْقَتْلِ وَلَا جُزْءَ عِلَّةٍ وَلَا سَبَبًا ، بَلْ الْقَتْلُ مُسْتَقِلٌّ بِسَبَبِيَّةِ إيجَابِ الْجَزَاءِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ لَوْ رَمَاهُ مِنْ بَعِيدٍ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَهُ فَالْأَخْذُ قَدْ يَكُونُ شَرْطًا حِسِّيًّا لِلْقَتْلِ وَقَدْ لَا يَكُونُ ، إلَّا أَنَّ مُبَاشَرَةَ الشَّرْطِ فِي الْإِتْلَافِ سَبَبٌ

لِلضَّمَانِ ، كَحَفْرِ الْبِئْرِ فَإِنَّهُ شَرْطٌ لِلْوُقُوعِ وَالْعِلَّةُ ثِقَلُ الْوَاقِعِ ، وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَسْقُطُ سُؤَالَانِ : كَيْفَ يَرْجِعُ وَلَمْ يُفَوِّتْ يَدًا مُحْتَرَمَةً وَلَا مِلْكًا ؟ .
وَأَيْضًا أَنَّ الشَّيْءَ إذَا خَرَجَ عَنْ مَحَلِّيَّةِ الْمِلْكِ لَا يَضْمَنُ مُسْتَهْلِكُهُ وَإِنْ جَنَى مَنْ كَانَ فِي يَدِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : مَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْمُسْلِمِ إذَا غَصَبَ خَمْرَ الذِّمِّيِّ فَاسْتَهْلَكَهُ مُسْلِمٌ آخَرُ فِي يَدِهِ يَضْمَنُ الْآخِذُ لِلذِّمِّيِّ وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُسْتَهْلِكِ ؟ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ اتِّحَادَ اعْتِقَادِ سُقُوطِ تَقَوُّمِهَا مَنَعَ مِنْ رُجُوعِ الْمُسْلِمِ عَلَى ذَلِكَ الْمُسْلِمِ الْمُسْتَهْلِكِ .
هَذَا وَقَدْ أَوْرَدَ فِي النِّهَايَةِ كَيْفَ يَرْجِعُ وَهُوَ قَدْ لَزِمَتْهُ كَفَّارَةٌ تُخْرَجُ بِالصَّوْمِ وَهُوَ إنَّمَا يَرْجِعُ بِضَمَانٍ يَحْبِسُهُ بِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِأَكْثَرَ مِمَّا لَزِمَهُ ؟ .
وَأَجَابَ بِأَنَّ مِثْلَ هَذَا التَّفَاوُتِ لَا يُمْنَعُ كَالْأَبِ إذَا غَصَبَ مُدَبَّرَ ابْنِهِ فَغَصَبَهُ مِنْهُ آخَرُ فَضَمَّنَ الِابْنُ أَبَاهُ فَإِنَّهُ لَا يَحْبِسُهُ .
وَلِلْأَبِ أَنْ يَحْبِسَ مَنْ قَتَلَهُ فِي يَدِهِ .
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ ضَمَانٍ يُفْتِي بِهِ وَضَمَانٍ يُقْضَى بِهِ .
فَإِنَّ زَكَاةَ السَّائِمَةِ تَدْخُلُ تَحْتَ الْقَضَاءِ ، بِخِلَافِ زَكَاةِ سَائِرِ الْأَمْوَالِ فَحَقُّ اللَّهِ تَعَالَى إذَا كَانَ لَهُ طَالِبٌ مُعَيَّنٌ يَكُونُ لَهُ الْمُطَالَبَةُ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَا تَتَعَيَّنُ الْمُطَالَبَةُ .
وَهَذَا قَدْ يُوهِمُ أَنَّ لَهُ الرُّجُوعَ وَإِنْ كَفَّرَ بِغَيْرِ الْمَالِ ، وَقَدْ صَرَّحَ فِي الْمُنْتَقَى بِأَنَّهُ إنَّمَا يَرْجِعُ إذَا كَفَّرَ بِالْمَالِ .
وَنُقِلَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْجُرْجَانِيِّ أَنَّهُ قَالَ : وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْقَاتِلِ صَبِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا أَوْ مَجُوسِيًّا فِي ثُبُوتِ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ .
وَأَصْلُ الْمَسَائِلِ كُلِّهَا أَنَّ تَفْوِيتَ الْأَمْنِ عَلَى الصَّيْدِ يُوجِبُ الْجَزَاءَ ، وَالْأَمْنُ يَكُونُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : بِإِحْرَامِ الصَّائِدِ أَوْ دُخُولِهِ فِي أَرْضِ الْحَرَمِ .
أَوْ

دُخُولِ الصَّيْدِ فِيهِ .
وَأَنَّهُ إذَا تَحَقَّقَ التَّفْوِيتُ لَا يَبْرَأُ بِالشَّكِّ فَلِذَا قُلْنَا : يَجِبُ الْجَزَاءُ فِي إرْسَالِ الْحَلَالِ الصَّيْدَ فِي أَرْضِ الْحِلِّ بَعْدَمَا أَخْرَجَهُ مِنْ أَرْضِ الْحَرَمِ ، وَبِإِرْسَالِ الْمُحْرِمِ إيَّاهُ فِي جَوْفِ الْبَلَدِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ بِهَذَا الْإِرْسَالِ مُمْتَنِعًا ظَاهِرًا ، وَلِذَا لَوْ أَخَذَهُ إنْسَانٌ حَلَالٌ كُرِهَ أَكْلُهُ ا هـ .

( فَإِنْ قَطَعَ حَشِيشَ الْحَرَمِ أَوْ شَجَرَةً لَيْسَتْ بِمَمْلُوكَةٍ ، وَهُوَ مِمَّا لَا يُنْبِتُهُ النَّاسُ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ إلَّا فِيمَا جَفَّ مِنْهُ ) ؛ لِأَنَّ حُرْمَتَهُمَا ثَبَتَتْ بِسَبَبِ الْحَرَمِ ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا وَلَا يُعْضَدُ شَوْكُهَا } وَلَا يَكُونُ لِلصَّوْمِ فِي هَذِهِ الْقِيمَةِ مَدْخَلٌ ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ تَنَاوُلِهَا بِسَبَبِ الْحَرَمِ لَا بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ فَكَانَ مِنْ ضَمَانِ الْمَحَالِّ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَيَتَصَدَّقُ بِقِيمَتِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ ، وَإِذَا أَدَّاهَا مَلَكَهُ كَمَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ .
وَيُكْرَهُ بَيْعُهُ بَعْدَ الْقَطْعِ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِسَبَبٍ مَحْظُورٍ شَرْعًا ، فَلَوْ أُطْلِقَ لَهُ فِي بَيْعِهِ لَتَطَرَّقَ النَّاسُ إلَى مِثْلِهِ ، إلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ الْبَيْعُ مَعَ الْكَرَاهَةِ ، بِخِلَافِ الصَّيْدِ ، وَالْفَرْقُ مَا نَذْكُرُهُ .
وَاَلَّذِي يُنْبِتُهُ النَّاسُ عَادَةً عَرَفْنَاهُ غَيْرَ مُسْتَحَقٍّ لِلْأَمْنِ بِالْإِجْمَاعِ ؛ وَلِأَنَّ الْمُحْرِمَ الْمَنْسُوبَ إلَى الْحَرَمِ وَالنِّسْبَةُ إلَيْهِ عَلَى الْكَمَالِ عِنْدَ عَدَمِ النِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِ بِالْإِنْبَاتِ .
وَمَا لَا يَنْبُتُ عَادَةً إذَا أَنْبَتَهُ إنْسَانٌ الْتَحَقَ بِمَا يَنْبُتُ عَادَةً .
وَلَوْ نَبَتَ بِنَفْسِهِ فِي مِلْكِ رَجُلٍ فَعَلَى قَاطِعِهِ قِيمَتَانِ : قِيمَةٌ لِحُرْمَةِ الْحَرَمِ حَقًّا لِلشَّرْعِ ، وَقِيمَةٌ أُخْرَى ضَمَانًا لِمَالِكِهِ كَالصَّيْدِ الْمَمْلُوكِ فِي الْحَرَمِ ، وَمَا جَفَّ مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ لَا ضَمَانَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِنَامٍ .

( قَوْلُهُ : فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ ) جَعَلَهُ جَوَابَ الْمَسْأَلَةِ لِيُفِيدَ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُهُ الصَّوْمُ .
وَحَاصِلُ وُجُوهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ النَّابِتَ فِي الْحَرَمِ إمَّا إذْخِرٌ أَوْ غَيْرُهُ وَقَدْ جَفَّ أَوْ انْكَسَرَ أَوْ لَيْسَ وَاحِدًا مِنْهَا فَلَا شَيْءَ فِي الْأَوَّلِ .
وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ مَا لَيْسَ وَاحِدًا مِنْهَا إمَّا أَنْ يَكُونَ أَنْبَتَهُ النَّاسُ أَوْ لَا ، فَالْأَوَّلُ لَا شَيْءَ فِيهِ أَيْضًا سَوَاءٌ كَانَ مِنْ جِنْسِ مَا يُسْتَنْبَتُ عَادَةً أَوْ لَا ، وَالثَّانِي وَهُوَ مَا لَا يُنْبِتُهُ النَّاسُ بَلْ نَبَتَ بِنَفْسِهِ ، إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ مَا يُنْبِتُونَهُ أَوْ لَا ، فَلَا شَيْءَ فِي الْأَوَّلِ ، وَالثَّانِي هُوَ الَّذِي فِيهِ الْجَزَاءُ ، فَمَا فِيهِ الْجَزَاءُ هُوَ مَا نَبَتَ بِنَفْسِهِ وَلَيْسَ مِنْ جِنْسِ مَا يُنْبِتُهُ النَّاسُ وَلَا مُنْكَسِرًا وَلَا جَافًّا وَلَا إذْخِرًا .
وَلَا بُدَّ فِي إخْرَاجِ مَا خَرَجَ عَنْ حُكْمِ الْجَزَاءِ مِنْ دَلِيلٍ ، فَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَى أَنَّ الْإِذْخِرَ خَرَجَ بِالنَّصِّ وَمَا أَنْبَتُوهُ بِقِسْمَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَأَمَّا الْجَافُّ وَالْمُنْكَسِرُ فَفِي مَعْنَاهُ ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْأَلْفَاظَ الَّتِي وَرَدَتْ فِي هَذَا الْبَابِ الشَّجَرُ وَالشَّوْكُ وَالْخَلَى .
فَالْخَلَى وَالشَّجَرُ قَدَّمْنَاهُمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَالشَّوْكُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ يَوْمَ الْفَتْحِ إنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ ، إلَى أَنْ قَالَ : لَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ وَلَا يُلْتَقَطُ لُقَطَتُهُ إلَّا مَنْ عَرَّفَهَا وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا } الْحَدِيثَ .
فَالْخَلَى هُوَ الرَّطْبُ مِنْ الْكَلَأِ ، وَكَذَا الشَّجَرُ اسْمٌ لِلْقَائِمِ الَّذِي بِحَيْثُ يَنْمُو فَإِذَا جَفَّ فَهُوَ حَطَبٌ ، وَالشَّوْكُ لَا يُعَارِضُهُ ؛ لِأَنَّهُ أَعَمُّ يُقَالُ عَلَى الرَّطْبِ وَالْجَافِّ فَلْيُحْمَلْ عَلَى أَحَدِ نَوْعَيْهِ دَفْعًا لِلْمُعَارَضَةِ .
وَأَمَّا الَّذِي نَبَتَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْبِتَهُ النَّاسُ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ مَا يُنْبِتُونَهُ فَلَا أَدْرِي مَا الْمَخْرَجُ لَهُ ، غَيْرَ أَنَّ الْمُصَنِّفَ

عَلَّلَ إخْرَاجَ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ مَا يُنْبِتُهُ النَّاسُ بِأَنَّ إنْبَاتَهُمْ يَقْطَعُ كَمَالَ النِّسْبَةِ إلَى الْحَرَمِ .
فَإِنْ صَحَّ أَنْ يُقَالَ : إنَّ كَوْنَهُ مِنْ جِنْسِ مَا يُنْبِتُونَهُ يَمْنَعُ كَمَالَ النِّسْبَةِ إلَيْهِ أُلْحِقَ بِمَا يُنْبِتُونَهُ ، وَإِلَّا فَيَحْتَاجُ إلَى وَجْهٍ آخَرَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
هَذَا وَكُلُّ مَا جَازَ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِي الْحَرَمِ جَازَ إخْرَاجُهُ ، وَمِنْ ذَلِكَ أَحْجَارُ أَرْضِ الْحَرَمِ وَحَصَاهَا إلَّا أَنْ يُبَالِغَ فِي ذَلِكَ فَيَحْفِرَ كَثِيرًا يَضُرُّ بِالْأَرْضِ أَوْ الدُّورِ فَيُمْنَعُ .
( قَوْلُهُ : وَالْفَرْقُ مَا نَذْكُرُهُ ) أَيْ الْفَرْقُ بَيْنَ نَبَاتِ الْحَرَمِ إذَا أَدَّى قِيمَتَهُ حَيْثُ يَصِحُّ بَيْعُهُ ، وَيُكْرَهُ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِسَبَبٍ مَحْظُورٍ وَبَيْنَ الصَّيْدِ حَيْثُ لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ وَإِنْ أَدَّى ضَمَانَهُ مَا سَيَذْكُرُهُ مِنْ قَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ بَيْعَهُ حَيًّا تَعَرُّضٌ لِلصَّيْدِ إلَى آخِرِ مَا يَجِيءُ .
( قَوْلُهُ : فَعَلَى قَاطِعِهِ قِيمَتَانِ ) هَذَا عَلَى قَوْلِهِمَا ، أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يُتَصَوَّرُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَهُ تَمَلُّكُ أَرْضِ الْحَرَمِ بَلْ هِيَ سَوَائِبُ عِنْدَهُ عَلَى مَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

( وَلَا يُرْعَى حَشِيشُ الْحَرَمِ وَلَا يُقْطَعُ إلَّا الْإِذْخِرَ ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا بَأْسَ بِالرَّعْيِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ ضَرُورَةً ، فَإِنَّ مَنْعَ الدَّوَابِّ عَنْهُ مُتَعَذِّرٌ .
وَلَنَا مَا رَوَيْنَا ، وَالْقَطْعُ بِالْمَشَافِرِ كَالْقَطْعِ بِالْمَنَاجِلِ ، وَحَمْلُ الْحَشِيشِ مِنْ الْحِلِّ مُمْكِنٌ فَلَا ضَرُورَةَ ، بِخِلَافِ الْإِذْخِرِ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَثْنَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَجُوزُ قَطْعُهُ وَرَعْيُهُ ، وَبِخِلَافِ الْكَمْأَةِ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ جُمْلَةِ النَّبَاتِ .
( قَوْلُهُ : وَلَنَا مَا رَوَيْنَا ) يَعْنِي قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا " أَيْ لَا يُقْطَعُ ، خَلَاهُ وَاخْتَلَاهُ قَطَعَهُ وَلَا يُعْضَدُ شَوْكُهَا وَالْعَضْدُ : قَطْعُ الشَّجَرِ مِنْ حَدِّ ضَرَبَ فَقَدْ مُنِعَ الْقَطْعُ مُطْلَقًا أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ بِالْمَنَاجِلِ أَوْ الْمَشَافِرِ فَلَا يَحِلُّ الرَّعْيُ وَالضَّرُورَةُ تَنْدَفِعُ بِحَمْلِ الْحَشِيشِ مِنْ الْحِلِّ ، وَمِشْفَرُ كُلِّ شَيْءٍ حَرْفُهُ ، وَمِنْ ذَلِكَ شَفْرَةُ السَّيْفِ حَدُّهُ ، وَشَفِيرُ الْخَنْدَقِ وَالنَّهْرِ وَالْبِئْرِ حَرْفُهُ ، وَمِشْفَرُ الْبَعِيرِ شَفَتُهُ .
( قَوْلُهُ وَبِخِلَافِ الْكَمْأَةِ ) ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ النَّبَاتِ ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِمَا يَظْهَرُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ ، وَالْكَمْأَةُ تُخْلَقُ فِي بَاطِنِهَا لَا يَظْهَرُ مِنْهَا شَيْءٌ .
وَأَيْضًا لَا تَنْمُو وَلَوْ قُدِّرَ كَوْنُهَا نَبَاتًا كَانَتْ مِنْ الْجَافِّ .

( وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلَهُ الْقَارِنُ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ فِيهِ عَلَى الْمُفْرِدِ دَمًا فَعَلَيْهِ دَمَانِ دَمٌ لِحَجَّتِهِ وَدَمٌ لِعُمْرَتِهِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : دَمٌ وَاحِدٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامٍ وَاحِدٍ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَنَا بِإِحْرَامَيْنِ وَقَدْ مَرَّ مِنْ قَبْلُ .
قَالَ ( إلَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ الْمِيقَاتَ غَيْرَ مُحْرِمٍ بِالْعُمْرَةِ أَوْ الْحَجِّ فَيَلْزَمُهُ دَمٌ وَاحِدٌ ) خِلَافًا لِزُفَرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمَّا أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمِيقَاتِ إحْرَامٌ وَاحِدٌ وَبِتَأْخِيرِ وَاجِبٍ وَاحِدٍ لَا يَجِبُ إلَّا جَزَاءٌ وَاحِدٌ .

( قَوْلُهُ : وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلَهُ الْقَارِنُ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ فِيهِ عَلَى الْمُفْرِدِ دَمًا فَعَلَيْهِ دَمَانِ : دَمٌ لِحَجَّتِهِ ، وَدَمٌ لِعُمْرَتِهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : دَمٌ وَاحِدٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامٍ وَاحِدٍ عِنْدَهُ وَعِنْدَنَا بِإِحْرَامَيْنِ ) فَالْجِنَايَةُ عَلَيْهِمَا مُجْتَمِعَيْنِ كَالْجِنَايَةِ عَلَيْهِمَا مُنْفَرِدَيْنِ .
وَأَوْرَدَ فَلِمَ لَمْ يَتَدَاخَلَا كَحُرْمَةِ الْإِحْرَامِ وَالْحَرَمِ فِيمَا إذَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ صَيْدَ الْحَرَمِ إذْ كَانَ عَلَيْهِ جَزَاءٌ وَاحِدٌ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّ حُرْمَةَ الْإِحْرَامِ أَقْوَى مِنْ حُرْمَةِ الْحَرَمِ ؛ لِأَنَّهَا تُوجِبُ حُرُمَاتٍ كَثِيرَةً غَيْرَ الصَّيْدِ ، بِخِلَافِ حُرْمَةِ الْحُرُمِ فَاسْتَتْبَعَتْ أَقْوَى الْحُرْمَتَيْنِ الْأُخْرَى ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ إذَا اجْتَمَعَ مُوجِبَانِ لِحُكْمٍ وَاحِدٍ أُضِيفَ الْحُكْمُ إلَى أَقْوَاهُمَا وَجُعِلَ الْآخَرُ تَبَعًا لَهُ كَالْعَدَمِ .
وَهَذَا كَالْحَافِرِ مَعَ الدَّافِعِ وَالْحَازِّ لِلرَّقَبَةِ مَعَ الْجَارِحِ .
وَإِحْرَامُ الْحَجِّ مُسَاوٍ لِإِحْرَامِ الْعُمْرَةِ ، فَإِنَّ جَمِيعَ مَا يَحْرُمُ بِهِ يَحْرُمُ بِالْآخَرِ فَلَمْ يُمْكِنْ الِاسْتِتْبَاعُ فَيُجْعَلُ كُلٌّ كَأَنْ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ ، كَمَا لَوْ جَرَحَ اثْنَانِ آخَرَ فَمَاتَ .
وَيَرِدُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي دَفْعِ إيجَابِ الشَّافِعِيِّ الْبَدَنَةَ عَلَى مَنْ جَامَعَ فِي الْعُمْرَةِ بَعْدَمَا طَافَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ قِيَاسًا عَلَى وُجُوبِهَا إذَا جَامِع فِي الْحَجِّ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ مِنْ أَنَّهَا سُنَّةٌ وَمَنَعَ افْتِرَاضَهَا فَيَجِبُ عَلَيْهِ شَاةٌ إظْهَارًا لِلتَّفَاوُتِ فَأَظْهَرَ التَّفَاوُتَ فِي الْأَجْزِيَةِ لِلتَّفَاوُتِ فِي الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ، فَلَوْ اتَّحَدَ رُتْبَةُ إحْرَامَيْ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ لَمْ يَصِحَّ مَا ذَكَرَهُ ، وَإِذَا ظَهَرَ التَّفَاوُتُ جَازَ الِاسْتِتْبَاعُ ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ إلَى دَرَجَةِ عَدَمِ الْإِيجَابِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ حُرْمَةَ الْحَرَمِ مُوجِبَةٌ بِانْفِرَادِهَا مَا يُوجِبُهُ الْإِحْرَامُ ، وَمَعَ ذَلِكَ ظَهَرَ التَّفَاوُتُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَوَقَعَ الِاسْتِتْبَاعُ ، وَعِنْدَ

هَذَا نُورِدُ مَا كُنَّا وَعَدْنَا ، وَهُوَ إنْ قَتَلَ الصَّيْدَ مُحْرِمٌ وَاقَعَ جِنَايَةً عَلَى الْإِحْرَامِ فَمُوجِبُ الْجَزَاءِ إنْ كَانَ نَفْسُ انْتِهَاكِ حُرْمَةِ الْقَتْلِ وَجَبَ أَنْ لَا يَتَعَدَّدَ ؛ لِأَنَّهُ لَا تَعَدُّدَ فِي الْحُرْمَةِ بَلْ التَّعَدُّدُ فِي السَّبَبِ عَلَى مَا حَقَّقْنَاهُ فِي مَسْأَلَةِ قَتْلِ الْمُحْرِمِ صَيْدَ الْحَرَمِ ، وَإِنْ كَانَ الْجِنَايَةُ عَلَى الْإِحْرَامِ وَالْإِحْرَامُ مُتَعَدِّدٌ فَيَتَعَدَّدُ الْجَزَاءُ وَجَبَ التَّعَدُّدُ فِي قَتْلِ الْمُحْرِمِ صَيْدَ الْحَرَمِ لِتَعَدُّدِ الْجِنَايَةِ بِتَعَدُّدِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَهُوَ الْإِحْرَامُ وَالْحَرَمُ ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ مَنْعَ قَتْلِ الصَّيْدِ فِيهِ لِإِثْبَاتِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ حُرْمَةً وَجَعْلِهِ حِمَاهُ وَالْقَتْلُ فِيهِ جِنَايَةٌ عَلَى حَرَمِ اللَّهِ ، وَكَوْنُ إحْدَى الْحُرْمَتَيْنِ فَوْقَ الْأُخْرَى لَمْ يُعْرَفْ فِي الشَّرْعِ سَبَبًا لِإِهْدَارِ الْحُرْمَةِ وَجَعْلِهَا تَبَعًا ، بَلْ الْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ حُرْمَةٍ تَسْتَتْبِعُ مُوجِبَهَا سَوَاءٌ سَاوَتْ غَيْرَهَا أَوْ لَا .
وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْوُجُوبَاتِ وَالتَّحْرِيمَاتِ تَتَفَاوَتُ بِالْآكَدِيَّةِ وَقُوَّةِ الثُّبُوتِ وَلَمْ يَسْقُطْ اعْتِبَارُ شَيْءٍ مِنْهَا خُصُوصًا ، وَهَذِهِ الْكَفَّارَةُ ظَهَرَ مِنْ الشَّارِعِ الِاحْتِيَاطُ فِي إثْبَاتِهَا حَيْثُ ثَبَتَتْ مَعَ النِّسْيَانِ وَالِاضْطِرَارِ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ فَلَا يَجُوزُ الِاحْتِيَاطُ فِي إسْقَاطِهَا إلَّا لِمُوجِبٍ لَا مَرَدَّ لَهُ كَثُبُوتِ الْحَاجَةِ إلَى تَكْرِيرِ السَّبَبِ كَثِيرًا كَمَا قُلْنَا فِي تَكْرِيرِ آيَةِ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِلَازِمٍ إذْ لَا حَاجَةَ مُتَحَقِّقَةً فِي تَكْثِيرِ الْقَتْلِ مَعَ الْإِحْرَامِ وَالْحَرَمِ ؛ لِيَسْتَلْزِمَ تَعَدُّدَ الْوَاجِبِ الْحَرَجَ فَيُدْفَعُ بِالتَّدَاخُلِ لُطْفًا وَرَحْمَةً فَيَلْزَمُ التَّدَاخُلُ .
وَالْجَوَابُ مَنْعُ الْحَصْرِ ؛ لِجَوَازِ كَوْنِ الْجَزَاءِ لِإِدْخَالِ النَّقْصِ فِي الْعِبَادَةِ لَا لِكَوْنِهِ جِنَايَةً .
وَالْقَارِنُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى الْإِحْرَامَيْنِ مُدْخِلٌ لِلنَّقْصِ فِي عِبَادَتَيْنِ ، بِخِلَافِ قَتْلِ الْمُحْرِمِ صَيْدَ الْحَرَمِ ، وَذَكَرَ

شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَنَّ وُجُوبَ الدَّمَيْنِ عَلَى الْقَارِنِ إذَا كَانَتْ الْجِنَايَةُ قَبْلَ الْوُقُوفِ فِي الْجِمَاعِ وَغَيْرِهِ ، أَمَّا بَعْدَ الْوُقُوفِ فَفِي الْجِمَاعِ يَجِبُ دَمَانِ وَفِي سَائِرِ الْمَحْظُورَاتِ دَمٌ وَاحِدٌ وَتَقَدَّمَ مَا فِيهِ ( قَوْلُهُ : لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ إلَخْ ) هَذَا وَجْهُ الْمَذْهَبِ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ وَجْهَ قَوْلِ زُفَرٍ لِضَعْفِ كَلَامِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، وَأَمَّا الصُّورَةُ الَّتِي يَجِبُ بِسَبَبِهَا عَلَى الْقَارِنِ دَمَانِ بِسَبَبِ الْمُجَاوَزَةِ فَهِيَ فِيمَا إذَا جَاوَزَ فَأَحْرَمَ بِحَجٍّ ثُمَّ دَخَلَ مَكَّةَ فَأَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ ، وَلَمْ يَعُدْ إلَى الْحِلِّ مُحْرِمًا فَلَيْسَ كِلَاهُمَا لِلْمُجَاوَزَةِ بَلْ الْأَوَّلُ لَهَا وَالثَّانِي لِتَرْكِ مِيقَاتِ الْعُمْرَةِ ، فَإِنَّهُ لَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ الْتَحَقَ بِأَهْلِهَا وَمِيقَاتُهُمْ فِي الْعُمْرَةِ الْحِلُّ .

( وَإِذَا اشْتَرَكَ مُحْرِمَانِ فِي قَتْلِ صَيْدٍ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَزَاءٌ كَامِلٌ ) ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالشَّرِكَةِ يَصِيرُ جَانِيًا جِنَايَةً تَفُوقُ الدَّلَالَةَ فَيَتَعَدَّدُ الْجَزَاءُ بِتَعَدُّدِ الْجِنَايَةِ .
( وَإِذَا اشْتَرَكَ حَلَالَانِ فِي قَتْلِ صَيْدِ الْحَرَمِ فَعَلَيْهِمَا جَزَاءٌ وَاحِدٌ ) ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ بَدَلٌ عَنْ الْمَحَلِّ لَا جَزَاءٌ عَنْ الْجِنَايَةِ فَيَتَّحِدُ بِاتِّحَادِ الْمَحَلِّ ، كَرَجُلَيْنِ قَتَلَا رَجُلًا خَطَأً تَجِبُ عَلَيْهِمَا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفَّارَةٌ .
( قَوْلُهُ : وَإِذَا اشْتَرَكَ مُحْرِمَانِ إلَخْ ) وَجْهُهَا ظَاهِرٌ مِنْ الْكِتَابِ ، وَكَذَا الْفَرْقُ بَيْنَ اشْتِرَاكِ الْمُحْرِمَيْنِ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ وَالْحَلَالَيْنِ فِي صَيْدِ الْحَرَمِ فَارْجِعْ إلَيْهِ .
وَلَوْ اشْتَرَكَ مُحْرِمُونَ وَمُحِلُّونَ فِي قَتْلِ صَيْدِ الْحَرَمِ وَجَبَ جَزَاءٌ وَاحِدٌ يُقْسَمُ عَلَى عَدَدِهِمْ ، وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُحْرِمٍ مَعَ مَا خَصَّهُ مِنْ ذَلِكَ جَزَاءٌ كَامِلٌ ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ مَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ كَصَبِيٍّ وَكَافِرٍ يَجِبُ عَلَى الْحَلَالِ بِقَدْرِ مَا يَخُصُّهُ مِنْ الْقِسْمَةِ لَوْ قُسِمَتْ عَلَى الْكُلِّ .
وَاعْلَمْ أَنَّ قَتْلَ الْحَلَالَيْنِ صَيْدَ الْحَرَمِ إنْ كَانَ بِضَرْبَةٍ فَلَا شَكَّ فِي لُزُومِ كُلٍّ نِصْفُ الْجَزَاءِ ، أَمَّا إذَا كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا ضَرَبَهُ ضَرْبَةً فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا مَا نَقَصَتْهُ ضَرْبَتُهُ .
ثُمَّ يَجِبُ عَلَى كُلٍّ نِصْفُ قِيمَتِهِ مَضْرُوبًا بِضَرْبَتَيْنِ ؛ لِأَنَّ عِنْدَ اتِّحَادِ فِعْلِهِمَا جَمِيعُ الصَّيْدِ صَارَ مُتْلَفًا بِفِعْلِهِمَا فَضَمِنَ كُلٌّ مِنْهُمَا نِصْفَ الْجَزَاءِ ، وَعِنْدَ الِاخْتِلَافِ الْجَزَاءُ الَّذِي تَلِفَ بِضَرْبَةِ كُلٍّ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِإِتْلَافِهِ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ وَالْبَاقِي مُتْلَفٌ بِفِعْلِهِمَا فَعَلَيْهِمَا ضَمَانُهُ ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ .

( وَإِذَا بَاعَ الْمُحْرِمُ الصَّيْدَ أَوْ ابْتَاعَهُ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ ) ؛ لِأَنَّ بَيْعَهُ حَيًّا تَعَرُّضٌ لِلصَّيْدِ الْآمِنِ وَبَيْعُهُ بَعْدَمَا قَتَلَهُ بَيْعُ مَيْتَةٍ .

( قَوْلُهُ : فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ ) لَا شَكَّ فِي حَقِيقَةِ الْبُطْلَانِ إنْ بَاعَهُ بَعْدَ الذَّبْحِ ؛ لِأَنَّهُ مَيْتَةٌ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ حَيًّا فَلَا شَكَّ فِيهِ إذَا كَانَ هُوَ الْمُشْتَرِيَ ؛ لِأَنَّهُ مُحَرَّمُ الْعَيْنِ فِي حَقِّهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا } أَضَافَ التَّحْرِيمَ إلَى الْعَيْنِ فَيَكُونُ سَاقِطَ التَّقَوُّمِ فِي حَقِّهِ كَالْخَمْرِ ، وَهَذَا هُوَ النَّهْيُ الَّذِي أَرَادَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَنْهِيُّ التَّعَرُّضِ وَإِطْلَاقُ اسْمِ النَّهْيِ عَلَى التَّحْرِيمِ إطْلَاقُ اسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ ، وَأَنْتَ عَلِمْت أَنَّ إضَافَةَ التَّحْرِيمِ إلَى الْعَيْنِ تُفِيدُ مَنْعَ سَائِرِ الِانْتِفَاعَاتِ وَالْكُلُّ مُنْدَرِجٌ فِي مُطْلَقِ التَّعَرُّضِ .
وَحَاصِلُهُ إخْرَاجُ الْعَيْنِ عَنْ الْمَحَلِّيَّةِ لِسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ فَيَكُونُ تَعْلِيقُ تَصَرُّفِ مَا بِهَا عَبَثًا فَيَكُونُ قَبِيحًا لِعَيْنِهِ فَيَبْطُلُ ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّهُ إذَا هَلَكَ بَعْدَ الْبَيْعِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَعَلَيْهِمَا جَزَاءَانِ ؛ لِأَنَّهُمَا جَنَيَا عَلَيْهِ صَحِيحٌ إذَا كَانَ الْمُتَبَايِعَانِ مُحْرِمَيْنِ ، فَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ حَلَالًا خُصَّ الْمُشْتَرِي وَقَوْلُهُ وَيَضْمَنُ أَيْضًا الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ لِفَسَادِ الْبَيْعِ .
قَالَ : وَعَلَى هَذَا إذَا وَهَبَ مُحْرِمٌ صَيْدًا مِنْ مُحْرِمٍ فَهَلَكَ عِنْدَهُ يَجِبُ عَلَيْهِ جَزَاءَانِ ضَمَانُهُ لِصَاحِبِهِ لِفَسَادِ الْهِبَةِ وَجَزَاءٌ آخَرُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى مَحَلُّهُ مَا إذَا كَانَ الْبَائِعُ وَالْوَاهِبُ حَلَالَيْنِ .
أَمَّا الْبَيْعُ فَظَاهِرٌ كَذِمِّيٍّ بَاعَ خَمْرًا مِنْ مُسْلِمٍ فَهَلَكَتْ عِنْدَهُ يَضْمَنُهَا لَهُ .
فَإِنْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى أَنَّهُ أَخَذَ هَذَا الصَّيْدَ مُحْرِمًا فَبَاعَهُ يَجِبُ أَنْ لَا يَضْمَنَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ بِهَذَا الْأَخْذِ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَخَذَهُ حَلَالًا ثُمَّ أَحْرَمَ فَبَاعَهُ .
وَأَمَّا الْهِبَةُ فَبَعْدَ أَنْ يَكُونَ الْوَاهِبُ مَالِكًا بِالطَّرِيقِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِيهِ نَظَرٌ .
وَلَوْ تَبَايَعَا صَيْدًا فِي الْحِلِّ

ثُمَّ أَحْرَمَا أَوْ أَحَدُهُمَا ثُمَّ وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِهِ عَيْبًا رَجَعَ بِالنُّقْصَانِ وَلَيْسَ لَهُ الرَّدُّ ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ إذَا أَصَابَ الْمُحْرِمُ صُيُودًا كَثِيرَةً عَلَى قَصْدِ التَّحَلُّلِ وَالرَّفْضِ لِلْإِحْرَامِ فَعَلَيْهِ جَزَاءٌ وَاحِدٌ ؛ لِتَنَاوُلِهِ انْقِطَاعَ الْإِحْرَامِ ، وَإِنْ أَخْطَأَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى وَجْهِ التَّحَلُّلِ وَرَفْضِ الْإِحْرَامِ فَعَلَيْهِ لِكُلٍّ جَزَاءٌ وَعَلَى هَذَا سَائِرُ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ .

( وَمَنْ أَخْرَجَ ظَبْيَةً مِنْ الْحَرَمِ فَوَلَدَتْ أَوْلَادًا فَمَاتَتْ هِيَ وَأَوْلَادُهَا فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُنَّ ) ؛ لِأَنَّ الصَّيْدَ بَعْدَ الْإِخْرَاجِ مِنْ الْحَرَمِ بَقِيَ مُسْتَحِقًّا لِلْأَمْنِ شَرْعًا وَلِهَذَا وَجَبَ رَدُّهُ إلَى مَأْمَنِهِ ، وَهَذِهِ صِفَةٌ شَرْعِيَّةٌ فَتَسْرِي إلَى الْوَلَدِ ( فَإِنْ أَدَّى جَزَاءَهَا ثُمَّ وَلَدَتْ لَيْسَ عَلَيْهِ جَزَاءُ الْوَلَدِ ) ؛ لِأَنَّ بَعْدَ أَدَاءِ الْجَزَاءِ لَمْ تَبْقَ آمِنَةً ؛ لِأَنَّ وُصُولَ الْخَلَفِ كَوُصُولِ الْأَصْلِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( قَوْلُهُ : وَمَنْ أَخْرَجَ ظَبْيَةً مِنْ الْحَرَمِ ) وَهُوَ حَلَالٌ أَوْ مُحْرِمٌ ( قَوْلُهُ وَهَذِهِ ) أَيْ كَوْنُهَا مُسْتَحِقَّةً الْأَمْنَ بِالرَّدِّ إلَى الْمَأْمَنِ ( صِفَةٌ شَرْعِيَّةٌ ) فَالتَّأْنِيثُ هُوَ بِاعْتِبَارِ الْخَبَرِ مِثْلَ قَوْلِك زَيْدٌ هِيَ هَدِيَّةٌ إلَيْك ، وَلَا يَصِحُّ عَلَى اعْتِبَارِ اكْتِسَابِ الْكَوْنِ التَّأْنِيثَ مِنْ الْمُضَافِ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ هُنَا مِمَّا لَا يَصِحُّ حَذْفُهُ وَإِقَامَةُ الْمُضَافِ إلَيْهِ مَقَامَهُ ؛ لِفَسَادِ الْمَعْنَى ؛ لِأَنَّهُ ضَمِيرُ الظَّبْيَةِ ، وَلَا يَصِحُّ الظَّبْيَةُ صِفَةٌ شَرْعِيَّةٌ ، بِخِلَافِ نَحْوِ شَرِقَتْ صَدْرُ الْقَنَاةِ مِنْ الدَّمِ ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ صِفَةَ اسْتِحْقَاقِ الْأَمْنِ صِفَةٌ شَرْعِيَّةٌ كَالرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ فَتَسْرِي إلَى الْوَلَدِ عِنْدَ حُدُوثِهِ كَسَائِرِ الصِّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ فَيَصِيرُ خِطَابُ رَدِّ الْوَلَدِ مُسْتَمِرًّا ، وَإِذَا تَعَلَّقَ خِطَابُ الرَّدِّ كَانَ الْإِمْسَاكُ تَعَرُّضًا لَهُ مَمْنُوعًا .
فَإِذَا اتَّصَلَ الْمَوْتُ بِهِ ثَبَتَ الضَّمَانُ ، بِخِلَافِ وَلَدِ الْمَغْصُوبِ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الضَّمَانِ الْغَصْبُ وَهُوَ إزَالَةُ الْيَدِ وَلَمْ تُوجَدْ فِي حَقِّ الْوَلَدِ ، حَتَّى لَوْ مُنِعَ الْوَلَدُ بَعْدَ طَلَبِ الْمَالِكِ حَتَّى مَاتَ ضَمِنَهُ أَيْضًا .
قَالُوا : وَهَذَا إذَا لَمْ يُؤَدِّ ضَمَانَ الْأُمِّ قَبْلَ الْوِلَادَةِ ، فَإِنْ كَانَ فَعَلَ لَا يَضْمَنُ الْوَلَدَ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ حِينَئِذٍ لَا يَسْرِي إلَيْهِ اسْتِحْقَاقُ الْأَمْنِ بِالرَّدِّ إلَى الْمَأْمَنِ لِانْتِفَاءِ هَذِهِ الصِّفَةِ عَنْ الْأُمِّ قَبْلَ وُجُودِهِ ، حَتَّى لَوْ ذَبَحَ الْأُمَّ وَالْأَوْلَادُ حِلٌّ ؛ لِأَنَّهُ صَيْدُ الْحِلِّ ، وَلَكِنَّهُ يُكْرَهُ ذَكَرَهُ فِي الْغَايَةِ ، وَكُلُّ زِيَادَةٍ فِي هَذَا الصَّيْدِ كَالسِّمَنِ وَالشَّعْرِ فَضَمَانُهُ عِنْدَ مَوْتِهِ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ ، وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ أَنَّ التَّكْفِيرَ : أَعْنِي أَدَاءَ الْجَزَاءِ إنْ كَانَ حَالَ الْقُدْرَةِ عَلَى إعَادَةِ أَمْنِهَا بِالرَّدِّ إلَى الْمَأْمَنِ لَا يَقَعُ بِذَلِكَ كَفَّارَةٌ وَلَا يَحِلُّ بَعْدَهُ التَّعَرُّضُ لَهَا ، بَلْ حُرْمَةُ التَّعَرُّضِ لَهَا

قَائِمَةٌ .
وَإِنْ كَانَ حَالَ الْعَجْزِ عَنْهُ بِأَنْ هَرَبَتْ فِي الْحِلِّ عِنْدَ مَا أَخْرَجَهَا إلَيْهِ خَرَجَ بِهِ عَنْ عُهْدَتِهَا فَلَا يَضْمَنُ مَا يَحْدُثُ بَعْدَ التَّكْفِيرِ مِنْ أَوْلَادِهَا إذَا مُتْنَ ، وَلَهُ أَنْ يَصْطَادَهَا ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْمُتَوَجَّهَ قَبْلَ الْعَجْزِ عَنْ تَأْمِينِهَا إنَّمَا هُوَ خِطَابُ الرَّدِّ إلَى الْمَأْمَنِ وَلَا يَزَالُ مُتَوَجَّهًا مَا كَانَ قَادِرًا ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ الْأَمْنِ إنَّمَا هُوَ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ مَا لَمْ يَعْجِزْ وَلَمْ يُوجَدْ ، فَإِذَا عَجَزَ تَوَجَّهَ خِطَابُ الْجَزَاءِ ، وَقَدْ صَرَّحَ هُوَ بِأَنَّ الْأَخْذَ لَيْسَ سَبَبًا لِلضَّمَانِ بَلْ الْقَتْلُ بِالنَّصِّ ، فَالتَّكْفِيرُ قَبْلَهُ وَاقِعٌ قَبْلَ السَّبَبِ فَلَا يَقَعُ إلَّا نَفْلًا ، فَإِذَا مَاتَتْ بَعْدَ هَذَا الْجَزَاءِ لَزِمَهُ الْجَزَاءُ ؛ لِأَنَّهُ الْآنَ تَعَلَّقَ بِهِ خِطَابُ الْجَزَاءِ ، هَذَا الَّذِي أَدِينُ بِهِ .
وَأَقُولُ : يُكْرَهُ اصْطِيَادُهَا إذَا أَدَّى الْجَزَاءَ بَعْدَ الْهَرَبِ ثُمَّ ظَفِرَ بِهَا لِشُبْهَةِ كَوْنِ دَوَامِ الْعَجْزِ شَرْطَ إجْزَاءِ الْكَفَّارَةِ إلَّا إذَا اصْطَادَهَا ؛ لِيَرُدَّهَا إلَى الْحَرَمِ .

( فُرُوعٌ ) غَصَبَ حَلَالٌ صَيْدَ حَلَالٍ ثُمَّ أَحْرَمَ الْغَاصِبُ وَالصَّيْدُ فِي يَدِهِ لَزِمَهُ إرْسَالُهُ وَضَمَانُ قِيمَتِهِ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ .
فَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ بَلْ دَفَعَهُ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ حَتَّى بَرِئَ مِنْ الضَّمَانِ لَهُ كَانَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ وَقَدْ أَسَاءَ .
وَهَذَا لُغْزٌ ، يُقَالُ غَاصِبٌ يَجِبُ عَلَيْهِ عَدَمُ الرَّدِّ بَلْ إذَا فَعَلَ يَجِبُ بِهِ الضَّمَانُ ، فَلَوْ أَحْرَمَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ ثُمَّ دَفَعَهُ إلَيْهِ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْجَزَاءُ إلَّا إنْ عَطِبَ قَبْلَ وُصُولِهِ إلَى يَدِهِ .
وَلَوْ كَانَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ اصْطَادَهُ وَهُوَ حَلَالٌ وَأَدْخَلَهُ الْحَرَمَ يَضْمَنُ الْغَاصِبُ لَهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا ، وَيَلْزَمُ الْجَزَاءُ بِرَمْيِ الْحَلَالِ مِنْ الْحَرَمِ صَيْدًا فِي الْحِلِّ كَمَا يَلْزَمُ فِي عَكْسِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } يُقَالُ أَحْرَمَ إذَا دَخَلَ فِي أَرْضِ الْحَرَمِ كَأَشْأَمَ إذَا دَخَلَ فِي أَرْضِ الشَّأَمِ ، كَمَا يُقَالُ أَحْرَمَ إذَا دَخَلَ فِي حُرْمَةِ الشَّيْءِ فَبِعُمُومِهِ يُفِيدُهُ ، وَكَذَا إرْسَالُ الْكَلْبِ .
وَقَدَّمْنَا فِي أَوَّلِ فَصْلِ الْجَزَاءِ أَنَّ الْحَلَالَ إذَا رَمَى صَيْدًا فِي الْحِلِّ فَأَصَابَهُ فِي الْحَرَمِ بِأَنْ هَرَبَ إلَى الْحَرَمِ فَأَصَابَهُ السَّهْمُ فِيهِ أَنَّ عَلَيْهِ الْجَزَاءَ ، وَاَلَّذِي صَرَّحَ بِهِ فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ جَزَاءٌ وَلَكِنْ لَا يَحِلُّ تَنَاوُلُهُ ؛ لِأَنَّهُ فِي الرَّمْيِ غَيْرُ مُرْتَكِبٍ لِلنَّهْيِ .
قَالَ : وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ الْمُسْتَثْنَاةُ مِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، فَإِنَّ عِنْدَهُ الْمُعْتَبَرَ حَالَةُ الرَّمْيِ إلَّا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خَاصَّةً فَإِنَّهُ اعْتَبَرَ فِي التَّنَاوُلِ حَالَةَ الْإِصَابَةِ احْتِيَاطًا ؛ لِأَنَّ الْحِلَّ بِالذَّكَاةِ يَحْصُلُ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ عِنْدَ الْإِصَابَةِ ، فَإِذَا كَانَ عِنْدَهَا الصَّيْدُ صَيْدُ الْحَرَمِ لَمْ يَحِلَّ ، وَعَلَى هَذَا إرْسَالُ الْكَلْبِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ مُجَاوَزَةِ الْوَقْتِ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ( وَإِذَا أَتَى الْكُوفِيُّ بُسْتَانَ بَنِي عَامِرٍ فَأَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ ، فَإِنْ رَجَعَ إلَى ذَاتِ عِرْقٍ وَلَبَّى بَطَلَ عَنْهُ دَمُ الْوَقْتِ ، وَإِنْ رَجَعَ إلَيْهِ وَلَمْ يُلَبِّ حَتَّى دَخَلَ مَكَّةَ وَطَافَ لِعُمْرَتِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : إنْ رَجَعَ إلَيْهِ مُحْرِمًا فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ لَبَّى أَوْ لَمْ يُلَبِّ .
وَقَالَ زُفَرُ : لَا يَسْقُطُ لَبَّى أَوْ لَمْ يُلَبِّ لِأَنَّ جِنَايَتَهُ لَمْ تَرْتَفِعْ بِالْعَوْدِ وَصَارَ كَمَا إذَا أَفَاضَ مِنْ عَرَفَاتٍ ثُمَّ عَادَ إلَيْهِ بَعْدَ الْغُرُوبِ .
وَلَنَا أَنَّهُ تَدَارَكَ الْمَتْرُوكَ فِي أَوَانِهِ وَذَلِكَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْأَفْعَالِ فَيَسْقُطُ الدَّمُ ، بِخِلَافِ الْإِفَاضَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَدَارَكْ الْمَتْرُوكَ عَلَى مَا مَرَّ .
غَيْرَ أَنَّ التَّدَارُكَ عِنْدَهُمَا بِعَوْدِهِ مُحْرِمًا ؛ لِأَنَّهُ أَظْهَرَ حَقَّ الْمِيقَاتِ كَمَا إذَا مَرَّ بِهِ مُحْرِمًا سَاكِنًا .
وَعِنْدَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِعَوْدِهِ مُحْرِمًا مُلَبِّيًا ؛ لِأَنَّ الْعَزِيمَةَ فِي الْإِحْرَامِ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ ، فَإِذَا تَرَخَّصَ بِالتَّأْخِيرِ إلَى الْمِيقَاتِ وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاءُ حَقِّهِ بِإِنْشَاءِ التَّلْبِيَةِ فَكَانَ التَّلَافِي بِعَوْدِهِ مُلَبِّيًا ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إذَا أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ بَعْدَ الْمُجَاوَزَةِ مَكَانَ الْعُمْرَةِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا .
وَلَوْ عَادَ بَعْدَمَا ابْتَدَأَ بِالطَّوَافِ ، وَاسْتَلَمَ الْحَجَرَ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ بِالِاتِّفَاقِ ، وَلَوْ عَادَ إلَيْهِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ يَسْقُطُ بِالِاتِّفَاقِ ( وَهَذَا ) الَّذِي ذَكَرْنَا ( إذَا كَانَ يُرِيدُ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ ، فَإِنْ دَخَلَ الْبُسْتَانَ لِحَاجَةٍ فَلَهُ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ، وَوَقْتُهُ الْبُسْتَانُ ، وَهُوَ وَصَاحِبُ الْمَنْزِلِ سَوَاءٌ ) ؛ لِأَنَّ الْبُسْتَانَ غَيْرُ وَاجِبِ التَّعْظِيمِ فَلَا يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ بِقَصْدِهِ ، وَإِذَا دَخَلَهُ الْتَحَقَ بِأَهْلِهِ ، وَلِلْبُسْتَانِيِّ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ لِلْحَاجَةِ فَكَذَلِكَ لَهُ .
وَالْمُرَادُ

بِقَوْلِهِ وَوَقْتُهُ الْبُسْتَانُ جَمِيعُ الْحِلِّ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَرَمِ وَقَدْ مَرَّ مِنْ قَبْلُ ، فَكَذَا وَقْتُ الدَّاخِلِ الْمُلْحَقِ بِهِ ( فَإِنْ أَحْرَمَا مِنْ الْحِلِّ وَوَقَفَا بِعَرَفَةَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمَا شَيْءٌ ) يُرِيدُ بِهِ الْبُسْتَانِيَّ وَالدَّاخِلَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُمَا أَحْرَمَا مِنْ مِيقَاتِهِمَا .

بَابُ مُجَاوَزَةِ الْوَقْتِ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ) فَصَلَهُ عَنْ الْجِنَايَاتِ وَأَخَّرَهُ ؛ لِأَنَّ الْمُتَبَادَرَ مِنْ اسْمِ الْجِنَايَاتِ فِي كِتَابِ الْحَجِّ مَا يَقَعُ جِنَايَةً عَلَى الْإِحْرَامِ وَهِيَ مَا تَكُونُ مَسْبُوقَةً بِهِ ، وَهَذِهِ الْجِنَايَةُ قَبْلَهُ وَلَا تَبَادُرَ أَيْضًا .
ثُمَّ تَحْقِيقُ مَا تَقَعُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْجِنَايَةُ أَمْرَانِ : الْبَيْتُ ، وَالْإِحْرَامُ لَا الْمِيقَاتُ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَجِبْ الْإِحْرَامُ مِنْهُ إلَّا لِتَعْظِيمِ غَيْرِهِ .
فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ أَوْجَبَ تَعْظِيمَ الْبَيْتِ بِالْإِحْرَامِ مِنْ الْمَكَانِ الَّذِي عَيَّنَهُ ، فَإِذَا لَمْ يُحْرِمْ مِنْهُ كَانَ مُخِلًّا بِتَعْظِيمِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَوْجَبَهُ فَيَكُونُ جِنَايَةً عَلَى الْبَيْتِ وَنَقْصًا فِي الْإِحْرَامِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُنْشِئَهُ مِنْ الْمَكَانِ الْأَقْصَى فَلَمْ يَفْعَلْ فَقَدْ أَوْجَدَهُ نَاقِصًا .
( قَوْلُهُ : فَإِنْ رَجَعَ إلَى ذَاتِ عِرْقٍ ) لَيْسَ بِقَيْدٍ بَلْ بِنَاءً عَلَى الظَّاهِرِ مِنْ أَنَّهُ إذَا تَدَارَكَ بِالرُّجُوعِ فَإِنَّمَا يَرْجِعُ إلَى مِيقَاتِهِ الَّذِي جَاوَزَهُ ، وَإِلَّا فَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ إلَى مِيقَاتِهِ أَوْ إلَى مِيقَاتٍ آخَرَ مِنْ مَوَاقِيتِ الْآفَاقِيِّينَ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ : إنْ كَانَ الَّذِي رَجَعَ إلَيْهِ مُحَاذِيًا لِمِيقَاتِهِ أَوْ أَبْعَدَ مِنْهُ فَكَمِيقَاتِهِ ، وَإِلَّا لَمْ يَسْقُطْ الدَّمُ بِالرُّجُوعِ إلَيْهِ ، وَالصَّحِيحُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ ؛ لِمَا قَدَّمْنَاهُ أَنَّ كُلًّا مِنْ الْمَوَاقِيتِ مِيقَاتٌ لِأَهْلِهِ وَلِغَيْرِ أَهْلِهِ بِالنَّصِّ مُطْلَقًا بِلَا اعْتِبَارِ الْمُحَاذَاةِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْآفَاقِيَّ إذَا وَصَلَ إلَى مِيقَاتٍ مِنْ مَوَاقِيتِ الْآفَاقِيِّينَ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَ مِيقَاتٍ آخَرَ فِي طَرِيقِهِ أَوْ لَا .
فَإِنْ كَانَ جَازَ لَهُ مُجَاوَزَتُهُ إلَى الْمِيقَاتِ الْأَخِيرِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ مِنْهُ كَالْمِيقَاتِ الْأَخِيرِ .
فَإِنْ لَمْ يُحْرِمْ حَتَّى جَاوَزَهُ ، فَإِنْ عَادَ قَبْلَ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ إلَى الْمِيقَاتِ فَلَبَّى عِنْدَهُ سَقَطَ عَنْهُ دَمُ

الْمُجَاوَزَةِ اتِّفَاقًا .
وَإِنْ لَمْ يُلَبِّ لَا يَسْقُطُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
عِنْدَهُمَا يَسْقُطُ ، وَإِنْ لَمْ يُلَبِّ ، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَسْقُطُ وَإِنْ لَبَّى فِيهِ .
( قَوْلُهُ : بِخِلَافِ الْإِفَاضَةِ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَدَارَكْ الْمَتْرُوكَ ) ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ إذَا وَقَفَ نَهَارًا إمَّا الْكَوْنُ بِهَا وَقْتَ الْغُرُوبِ أَوْ مَدُّهُ إلَى الْغُرُوبِ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِهِمْ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ .
وَبِالْعَوْدِ بَعْدَ الْغُرُوبِ لَمْ يُتَدَارَكْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا ، أَمَّا مَا نَحْنُ فِيهِ فَالْوَاجِبُ التَّعْظِيمُ بِالْكَوْنِ مُحْرِمًا فِي الْمِيقَاتِ ؛ لِيَقْطَعَ الْمَسَافَةَ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ مُتَّصِفًا بِصِفَةِ الْإِحْرَامِ ، وَهَذَا حَاصِلٌ بِالرُّجُوعِ مُحْرِمًا إلَيْهِ .
وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا تَجِبُ التَّلْبِيَةُ فِيهِ ، إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ أَلْزَمَ ؛ لِسُقُوطِ الدَّمِ التَّلْبِيَةَ تَحْصِيلًا لِلصُّورَةِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ ، وَفِي صُورَةِ إنْشَاءِ الْإِحْرَامِ لَا بُدَّ مِنْ التَّلْبِيَةِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا ، وَكَذَا إذَا أَرَادَ أَنْ يُجْبِرَهُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا رَجَعَ مُحْرِمًا حَتَّى جَاوَزَ الْمِيقَاتَ فَلَبَّى ثُمَّ رَجَعَ وَمَرَّ بِهِ وَلَمْ يُلَبِّ يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ فَوْقَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ فِي تَعْظِيمِ الْبَيْتِ .
( قَوْلُهُ : وَلَوْ عَادَ بَعْدَمَا ابْتَدَأَ بِالطَّوَافِ ) وَلَوْ شَوْطًا ( لَا يَسْقُطُ بِالِاتِّفَاقِ ) ؛ لِأَنَّ السُّقُوطَ بِالرُّجُوعِ بِاعْتِبَارِ مُبْتَدَإِ الْإِحْرَامِ عِنْدَ الْمِيقَاتِ ، وَهَذَا الِاعْتِبَارُ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْأَفْعَالِ يَسْتَلْزِمُ اعْتِبَارَ بُطْلَانِ مَا وُجِدَ مِنْهُ مِنْ الطَّوَافِ ، وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ بَعْدَ وُقُوعِهِ مُعْتَدًّا بِهِ فَكَانَ اعْتِبَارًا مَلْزُومًا ؛ لِلْفَاسِدِ وَمَلْزُومُ الْفَاسِدِ فَاسِدٌ ، وَكَذَا إذَا لَمْ يَعُدْ حَتَّى شَرَعَ فِي الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَطُوفَ ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ بِعَيْنِهِ .
( قَوْلُهُ : وَهَذَا إذَا أَرَادَ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ ) يُوهِمُ ظَاهِرُهُ أَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ إذَا جَاوَزَ غَيْرَ مُحْرِمٍ وَجَبَ الدَّمُ إلَّا أَنْ يَتَلَافَاهُ

مَحِلُّهُ مَا إذَا كَانَ الْكُوفِيُّ قَاصِدًا لِلنُّسُكِ ، فَإِنْ لَمْ يَقْصِدْهُ بَلْ قَصَدَ التِّجَارَةَ أَوْ السِّيَاحَةَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا ذَكَرَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْغَالِبَ فِي قَاصِدِي مَكَّةِ مِنْ الْآفَاقِيِّينَ قَصْدُ النُّسُكِ ، فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ إذَا أَرَادَ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ : إذَا أَرَادَ مَكَّةَ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إنَّمَا يُرِيدُ بَيَانَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ لُزُومِ الْإِحْرَامِ مِنْ الْمِيقَاتِ إنَّمَا هُوَ عَلَى مَنْ قَصَدَ مَكَّةَ ، أَمَّا مَنْ قَصَدَ مَكَانًا آخَرَ مِنْ الْحِلِّ دَاخِلَ الْمِيقَاتِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ مِنْهُ ؛ لِتَعْظِيمِ مَكَّةَ ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ مِنْهُ ؛ لِتَعْظِيمِ مَكَّةَ لَا ؛ لِتَعْظِيمِ ذَلِكَ الْمَكَانِ وَلَا نَفْسِ الْمِيقَاتِ ، وَلِذَا قَابَلَ قَوْلَهُ وَهَذَا إذَا أَرَادَ الْحَجَّ بِقَوْلِهِ فَإِنْ دَخَلَ الْبُسْتَانَ لِحَاجَةٍ إلَخْ ، ثُمَّ مُوجِبُ هَذَا الْحَمْلِ أَنَّ جَمِيعَ الْكُتُبِ نَاطِقَةٌ بِلُزُومِ الْإِحْرَامِ عَلَى مَنْ قَصَدَ مَكَّةَ سَوَاءٌ قَصَدَ النُّسُكَ أَوْ لَا ، وَيَطُولُ تَفْصِيلُ الْمَنْقُولَاتِ فِي ذَلِكَ ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ فِي فَصْلِ الْمَوَاقِيتِ حَيْثُ قَالَ : ثُمَّ الْآفَاقِيُّ إذَا انْتَهَى إلَيْهَا عَلَى قَصْدِ دُخُولِ مَكَّةَ فَعَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ سَوَاءٌ قَصَدَ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ عِنْدَنَا ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { لَا يُجَاوِزُ أَحَدٌ الْمِيقَاتَ إلَّا مُحْرِمًا } وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْإِحْرَامِ ؛ لِتَعْظِيمِ هَذِهِ الْبُقْعَةِ الشَّرِيفَةِ فَيَسْتَوِي فِيهِ التَّاجِرُ وَالْمُعْتَمِرُ وَغَيْرُهُمَا ، وَلَا أَصْرَحَ مِنْ هَذَا شَيْءٌ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَعْلَمَ قَصْدَ الْحَرَمِ فِي كَوْنِهِ مُوجِبًا ؛ لِلْإِحْرَامِ كَقَصْدِ مَكَّةَ .
( قَوْلُهُ : فَإِنْ دَخَلَ الْبُسْتَانَ إلَخْ ) اعْلَمْ أَنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنَّمَا يَجُوزُ لَهُ الْمُجَاوَزَةُ بِغَيْرِ إحْرَامٍ إذَا كَانَ عَلَى قَصْدِ أَنْ يُقِيمَ بِالْبُسْتَانِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ بِغَيْرِ إحْرَامٍ

؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى عَلَى حُكْمِ السَّفَرِ الْأَوَّلِ وَلِذَا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ ، وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ ؛ لِلْمُتَأَمِّلِ

( وَمَنْ دَخَلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ إلَى الْوَقْتِ ، وَأَحْرَمَ بِحَجَّةٍ عَلَيْهِ أَجْزَأَهُ ) ذَلِكَ ( مِنْ دُخُولِهِ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ) وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَجْزِيهِ ، وَهُوَ الْقِيَاسُ اعْتِبَارًا بِمَا لَزِمَهُ بِسَبَبِ النَّذْرِ ، وَصَارَ كَمَا إذَا تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ .
وَلَنَا أَنَّهُ تَلَافَى الْمَتْرُوكَ فِي وَقْتِهِ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ تَعْظِيمُ هَذِهِ الْبُقْعَةِ بِالْإِحْرَامِ ، كَمَا إذَا أَتَاهُ مُحْرِمًا بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ فِي الِابْتِدَاءِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فَلَا يَتَأَدَّى إلَّا بِإِحْرَامٍ مَقْصُودٍ كَمَا فِي الِاعْتِكَافِ الْمَنْذُورِ فَإِنَّهُ يَتَأَدَّى بِصَوْمِ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ دُونَ الْعَامِ الثَّانِي

.
( قَوْلُهُ : وَمَنْ دَخَلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عَامِهِ ) حَاصِلُ الْأَحْكَامِ الْكَائِنَةِ هُنَا أَرْبَعَةٌ .
أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ؛ لِلْآفَاقِيِّ دُخُولُ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ .
ثَانِيهَا : أَنَّ مَنْ دَخَلَهَا بِلَا إحْرَامٍ يَجِبُ عَلَيْهِ إمَّا حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ .
قَالَ فِي الْبَدَائِعِ : فَإِنْ أَقَامَ بِمَكَّةَ حَتَّى تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ ثُمَّ أَحْرَمَ يُرِيدُ قَضَاءَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ بِدُخُولِ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ أَجْزَأَهُ فِي ذَلِكَ مِيقَاتُ أَهْلِ مَكَّةَ فِي الْحَجِّ بِالْحَرَمِ وَفِي الْعُمْرَةِ بِالْحِلِّ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَقَامَ بِمَكَّةَ صَارَ فِي حُكْمِ أَهْلِهَا فَيُجْزِيهِ إحْرَامُهُ مِنْ مِيقَاتِهِمْ .
ا هـ .
وَتَعْلِيلُهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا حَاجَةَ إلَى تَقْيِيدِهِ بِتَحْوِيلِ السَّنَةِ .
ثَالِثُهَا : أَنَّهُ إذَا خَرَجَ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ إلَى الْمِيقَاتِ وَحَجّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ سَقَطَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ بِدُخُولِ مَكَّةَ بِلَا إحْرَامٍ .
رَابِعُهَا : أَنَّهُ إذَا خَرَجَ بَعْدَ مُضِيِّ تِلْكَ السَّنَةِ لَا يَسْقُطُ ، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ بِحَجَّةٍ عَلَيْهِ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهَا مَنْذُورَةً أَوْ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ ، وَكَذَا إذَا أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ مَنْذُورَةٍ وَقَوْلُهُ أَجْزَأَهُ مِنْ دُخُولِ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ : يَعْنِي مِنْ آخِرِ دُخُولٍ دَخَلَهُ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ، فَإِنَّهُ لَوْ دَخَلَ مِرَارًا بِغَيْرِ إحْرَامٍ وَجَبَ عَلَيْهِ ؛ لِكُلِّ مَرَّةٍ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ ، فَإِذَا خَرَجَ فَأَحْرَمَ بِنُسُكٍ أَجْزَأَهُ عَنْ دُخُولِهِ الْأَخِيرِ لَا عَمَّا قَبْلَهُ ، ذَكَرَهُ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ قَالَ : لِأَنَّ الْوَاجِبَ قَبْلَ الْأَخِيرِ صَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فَلَا يَسْقُطُ إلَّا بِالتَّعْيِينِ بِالنِّيَّةِ .
وَفِي الْمَبْسُوطِ : إذَا دَخَلَ مَكَّةَ بِلَا إحْرَامٍ فَوَجَبَ عَلَيْهِ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ فَأَهَلَّ بِهِ بَعْدَ سَنَةٍ مِنْ وَقْتٍ غَيْرِ وَقْتِهِ هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ .
قَالَ : يَجْزِيهِ ذَلِكَ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ فِي السَّنَةِ الْأُولَى لَوْ أَهَلَّ مِنْهُ أَجْزَأَهُ عَمَّا يَلْزَمُهُ مِنْ دُخُولِهَا .
( قَوْلُهُ : اعْتِبَارًا

بِمَا لَزِمَهُ بِالنَّذْرِ ) أَيْ اعْتِبَارًا ؛ لِمَا لَزِمَهُ بِالدُّخُولِ بِغَيْرِ إحْرَامٍ بِمَا لَزِمَهُ بِالنَّذْرِ ، وَفِي الْمَنْذُورِ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ عُهْدَتِهِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ عَنْهُ ، فَكَذَا مَا بِالدُّخُولِ .
( وَلَنَا ) وَهُوَ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ ( أَنَّهُ تَلَافَى الْمَتْرُوكَ فِي وَقْتِهِ إلَخْ ) مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مُحْرِمًا عِنْدَ قَصْدِ دُخُولِ مَكَّةَ مِنْ الْمِيقَاتِ تَعْظِيمًا ؛ لِلْبُقْعَةِ لَا ؛ لِذَاتِ دُخُولِ مَكَّةَ مِنْ حَيْثُ هُوَ دُخُولُهَا ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ وَدَخَلَ هُوَ بِلَا إحْرَامٍ وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاءُ حَقِّهَا الَّذِي لَمْ يَفْعَلْهُ ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَدْخُلَهَا عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ الَّذِي فَوَّتَهُ ، فَإِذَا خَرَجَ إلَى الْمِيقَاتِ فَأَحْرَمَ بِحَجَّةٍ عَلَيْهِ وَقَدِمَ مَكَّةَ فَقَدْ فَعَلَ مَا تَرَكَهُ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ وُجُوبَ أَحَدِ النُّسُكَيْنِ فِيمَا إذَا دَخَلَهَا بِلَا إحْرَامٍ لَيْسَ إلَّا لِوُجُوبِ الْإِحْرَامِ ، إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْإِحْرَامُ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِأَحَدِهِمَا قُلْنَا وَجَبَ عَلَيْهِ أَحَدُهُمَا ، فَإِذَا خَرَجَ إلَى الْمِيقَاتِ فَأَحْرَمَ بِمَا عَلَيْهِ فَقَدْ فَعَلَ مَا كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ بِالدُّخُولِ ، وَهُوَ الْإِحْرَامُ فِي ضِمْنِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ بِسَبَبٍ آخَرَ ، وَصَارَ كَمَا إذَا أَتَاهَا مُحْرِمًا ابْتِدَاءً بِمَا عَلَيْهِ مِنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ مِنْ الْمِيقَاتِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ آخَرُ ؛ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ فِي ضِمْنِ مَا عَلَيْهِ .
بِخِلَافِ مَا إذَا تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ ، فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَقْضِ حَقَّهَا فِي تِلْكَ صَارَ بِتَفْوِيتِهِ دَيْنًا عَلَيْهِ فَصَارَ تَفْوِيتًا مَقْصُودًا مُحْتَاجًا إلَى النِّيَّةِ ، كَمَا إذَا نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ هَذَا الرَّمَضَانَ فَاعْتَكَفَ فِيهِ جَازَ ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَكِفْهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْتَكِفَهُ فِي رَمَضَانَ الْآتِي ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا فَاتَهُ الْمَنْذُورُ الْمُعَيَّنُ تَقَرَّرَ اعْتِكَافُهُ فِي الذِّمَّةِ دَيْنًا فَلَا يَتَأَدَّى إلَّا بِصَوْمٍ مَقْصُودٍ ؛ لِعَوْدِ شَرْطِهِ : أَعْنِي الصَّوْمَ إلَى الْكَمَالِ الْأَصْلِيِّ فَلَا يَتَأَدَّى

فِي ضِمْنِ صَوْمٍ آخَرَ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : لَا فَرْقَ بَيْنَ سَنَةِ الْمُجَاوَزَةِ وَسَنَةٍ أُخْرَى ، فَإِنَّ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ إذَا دَخَلَهَا بِلَا إحْرَامٍ لَيْسَ إلَّا وُجُوبُ الْإِحْرَامِ بِأَحَدِ النُّسُكَيْنِ فَقَطْ .
فَفِي أَيِّ وَقْتٍ فَعَلَ ذَلِكَ يَقَعُ أَدَاءً ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ فِي سَنَةٍ مُعَيَّنَةٍ ؛ لِيَصِيرَ بِفَوَاتِهَا دَيْنًا يُقْضَى .
فَمَهْمَا أَحْرَمَ مِنْ الْمِيقَاتِ بِنُسُكٍ عَلَيْهِ تَأَدَّى هَذَا الْوَاجِبُ فِي ضِمْنِهِ .
وَعَلَى هَذَا إذَا تَكَرَّرَ الدُّخُولُ بِلَا إحْرَامٍ مِنْهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْتَاجَ إلَى التَّعْيِينِ ، وَإِنْ كَانَتْ أَسْبَابًا مُتَعَدِّدَةَ الْأَشْخَاصِ دُونَ النَّوْعِ ، كَمَا قُلْنَا فِيمَنْ عَلَيْهِ صَوْمُ يَوْمَيْنِ مِنْ رَمَضَانَ فَصَامَ يَنْوِي مُجَرَّدَ قَضَاءِ مَا عَلَيْهِ ، وَلَمْ يُعَيِّنْ الْأَوَّلَ وَلَا غَيْرَهُ جَازَ .
وَكَذَا لَوْ كَانَا مِنْ رَمَضَانَيْنِ عَلَى الْأَصَحِّ ، فَكَذَا نَقُولُ إذَا رَجَعَ مِرَارًا فَأَحْرَمَ كُلَّ مَرَّةٍ بِنُسُكٍ حَتَّى أَتَى عَلَى عَدَدِ دَخَلَاتِهِ خَرَجَ عَنْ عُهْدَةِ مَا عَلَيْهِ .

( وَمَنْ جَاوَزَ الْوَقْتَ فَأَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَأَفْسَدَهَا مَضَى فِيهَا وَقَضَاهَا ) ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ يَقَعُ لَازِمًا فَصَارَ كَمَا إذَا أَفْسَدَ الْحَجَّ ( وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَمٌ لِتَرْكِ الْوَقْتِ ) وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ وَهُوَ نَظِيرُ الِاخْتِلَافِ فِي فَائِتِ الْحَجِّ إذَا جَاوَزَ الْوَقْتَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ وَفِيمَنْ جَاوَزَ الْوَقْتَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ وَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ أَفْسَدَ حَجَّتَهُ ، هُوَ يَعْتَبِرُ الْمُجَاوَزَةَ هَذِهِ بِغَيْرِهَا مِنْ الْمَحْظُورَاتِ .
وَلَنَا أَنَّهُ يَصِيرُ قَاضِيًا حَقَّ الْمِيقَاتِ بِالْإِحْرَامِ مِنْهُ فِي الْقَضَاءِ ، وَهُوَ يَحْكِي الْفَائِتَ وَلَا يَنْعَدِمُ بِهِ غَيْرُهُ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ فَوَضَحَ الْفَرْقُ .
( قَوْلُهُ : وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَمٌ ؛ لِتَرْكِ الْوَقْتِ ) ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ وَقَضَاهَا كَوْنُ الْقَضَاءِ بِإِحْرَامٍ مِنْ الْمِيقَاتِ .
وَهَذَا نَظِيرُ الِاخْتِلَافِ فِيمَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ بِلَا إحْرَامٍ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَمَضَى فَفَاتَهُ فَتَحَلَّلَ بِعُمْرَةٍ وَقَضَاهُ مِنْ الْمِيقَاتِ أَوْ جَاوَزَ فَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ فَأَفْسَدَهُ وَقَضَاهُ مِنْ الْمِيقَاتِ لَا دَمَ عَلَيْهِ .
( قَوْلُهُ : هُوَ يَعْتَبِرُ الْمُجَاوَزَةَ هَذِهِ بِغَيْرِهَا مِنْ الْمَحْظُورَاتِ ) كَالتَّطَيُّبِ وَالْحَلْقِ ، إذْ لَوْ تَطَيَّبَ أَوْ حَلَقَ فِي إحْرَامِ نُسُكٍ ثُمَّ أَفْسَدَهُ وَقَضَاهُ وَاجْتَنَبَ الْمَحْظُورَاتِ فِي الْقَضَاءِ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ فَكَذَا هَذَا ( وَلَنَا أَنَّهُ يَصِيرُ قَاضِيًا حَقَّ الْمِيقَاتِ بِالْإِحْرَامِ مِنْهُ فِي الْقَضَاءِ وَهُوَ يَحْكِي الْفَائِتَ ) فَيَنْجَبِرُ بِهِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ النَّقْصَ حَصَلَ بِتَرْكِ الْإِحْرَامِ مِنْ الْمِيقَاتِ وَيَصِيرُ قَاضِيًا حَقَّهُ بِالْقَضَاءِ ، بِخِلَافِ مَا ذُكِرَ ؛ لِأَنَّ الْكَفَّ عَنْ مَحْظُورِ إحْرَامٍ فِيهِ لَا يَنْعَدِمُ بِهِ فِعْلُ مَحْظُورٍ فِي آخَرَ

( وَإِذَا خَرَجَ الْمَكِّيُّ يُرِيدُ الْحَجَّ فَأَحْرَمَ وَلَمْ يَعُدْ إلَى الْحَرَمِ وَوَقَفَ بِعَرَفَةَ فَعَلَيْهِ شَاةٌ ) ؛ لِأَنَّ وَقْتَهُ الْحَرَمُ وَقَدْ جَاوَزَهُ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ، فَإِنْ عَادَ إلَى الْحَرَمِ وَلَبَّى أَوْ لَمْ يُلَبِّ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْآفَاقِيِّ
( قَوْلُهُ : وَإِذَا خَرَجَ الْمَكِّيُّ ) يَعْنِي إلَى الْحِلِّ ( يُرِيدُ الْحَجَّ ) ؛ لِأَنَّهُ لَوْ خَرَجَ إلَى الْحِلِّ لِحَاجَةٍ فَأَحْرَمَ مِنْهُ وَوَقَفَ بِعَرَفَةَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، كَالْآفَاقِيِّ إذَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ قَاصِدًا الْبُسْتَانَ ثُمَّ أَحْرَمَ مِنْهُ ، هَذَا وَإِذَا أَحْرَمَ الْمَكِّيُّ لِلْعُمْرَةِ مِنْ الْحَرَمِ فَعَلَيْهِ دَمٌ إنْ لَمْ يَعُدْ إلَى مِيقَاتِهِ عَلَى مَا عُرِفَ .

( وَالْمُتَمَتِّعُ إذَا فَرَغَ مِنْ عُمْرَتِهِ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ الْحَرَمِ فَأَحْرَمَ وَوَقَفَ بِعَرَفَةَ فَعَلَيْهِ دَمٌ ) ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ وَأَتَى بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمَكِّيِّ ، وَإِحْرَامُ الْمَكِّيِّ مِنْ الْحَرَمِ لِمَا ذَكَرْنَا فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ بِتَأْخِيرِهِ عَنْهُ ( فَإِنْ رَجَعَ إلَى الْحَرَمِ فَأَهَلَّ فِيهِ قَبْلَ أَنْ يَقِفَ بِعَرَفَةَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ) وَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي الْآفَاقِيِّ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
( قَوْلُهُ : لِأَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ إلَى مَكَّةَ إلَخْ ) ظَاهِرُ مَسْأَلَةٍ ذُكِرَتْ فِي الْمَنَاسِكِ أَنَّ بِدُخُولِ أَرْضِ الْحَرَمِ يَصِيرُ لَهُ حُكْمُ أَهْلِ مَكَّةَ فِي الْمِيقَاتِ ، وَهِيَ أَنَّ مَنْ جَاوَزَهُ بِغَيْرِ إحْرَامٍ فَأَحْرَمَ بِحَجَّةٍ ثُمَّ أَحْرَمَ مِنْ الْحَرَمِ بِعُمْرَةٍ لَزِمَهُ دَمَانِ : دَمٌ لِتَرْكِ الْمِيقَاتِ ، وَدَمٌ لِتَرْكِ مِيقَاتِ الْعُمْرَةِ ؛ لِأَنَّهُ فِي حَقِّ مَنْ صَارَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ الْحِلُّ .
ا هـ .
وَلَمْ أَرَ تَقْيِيدَ مَسْأَلَةِ الْمُتَمَتِّعِ بِمَا إذَا خَرَجَ عَلَى قَصْدِ الْحَجِّ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ بِهِ ، وَأَنَّهُ لَوْ خَرَجَ لِحَاجَةٍ إلَى الْحِلِّ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ كَالْمَكِّيِّ .
هَذَا وَفِي مُجَاوَزَةِ الْمَرْقُوقِ مَعَ مَوْلَاهُ بِلَا إحْرَامٍ ثُمَّ أَذِنَ لَهُ مَوْلَاهُ فَأَحْرَمَ مِنْ مَكَّةَ دَمٌ يُؤْخَذُ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ .
، وَإِنْ جَاوَزَهُ صَبِيٌّ أَوْ كَافِرٌ فَأَسْلَمَ أَوْ بَلَغَ الصَّبِيُّ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ إضَافَةِ الْإِحْرَامِ إلَى الْإِحْرَامِ ( قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : إذَا أَحْرَمَ الْمَكِّيُّ بِعُمْرَةٍ وَطَافَ لَهَا شَوْطًا ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فَإِنَّهُ يَرْفُضُ الْحَجَّ ، وَعَلَيْهِ لِرَفْضِهِ دَمٌ ، وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ ) .
( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : رَفْضُ الْعُمْرَةِ أَحَبُّ إلَيْنَا وَقَضَاؤُهَا ، وَعَلَيْهِ دَمٌ ) ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ رَفْضِ أَحَدِهِمَا ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا فِي حَقِّ الْمَكِّيِّ غَيْرُ مَشْرُوعٍ ، وَالْعُمْرَةُ أَوْلَى بِالرَّفْضِ ؛ لِأَنَّهَا أَدْنَى حَالًا وَأَقَلُّ أَعْمَالًا وَأَيْسَرُ قَضَاءً لِكَوْنِهَا غَيْرَ مُؤَقَّتَةٍ ، وَكَذَا إذَا أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ بِالْحَجِّ وَلَمْ يَأْتِ بِشَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ لِمَا قُلْنَا .
فَإِنْ طَافَ لِلْعُمْرَةِ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ رَفَضَ الْحَجَّ بِلَا خِلَافٍ ؛ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ فَتَعَذَّرَ رَفْضُهَا كَمَا إذَا فَرَغَ مِنْهَا ، وَلَا كَذَلِكَ إذَا طَافَ لِلْعُمْرَةِ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَلَهُ أَنَّ إحْرَامَ الْعُمْرَةِ قَدْ تَأَكَّدَ بِأَدَاءِ شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِهَا ، وَإِحْرَامُ الْحَجِّ لَمْ يَتَأَكَّدْ ، وَرَفْضُ غَيْرُ الْمُتَأَكِّدِ أَيْسَرُ ؛ وَلِأَنَّ فِي رَفْضِ الْعُمْرَةِ ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ إبْطَالَ الْعَمَلِ .
وَفِي رَفْضِ الْحَجِّ امْتِنَاعٌ عَنْهُ وَعَلَيْهِ دَمٌ بِالرَّفْضِ أَيُّهُمَا رَفَضَهُ ؛ لِأَنَّهُ تَحَلَّلَ قَبْلَ أَوَانِهِ ؛ لِتَعَذُّرِ الْمُضِيِّ فِيهِ فَكَانَ فِي مَعْنَى الْمُحْصَرِ إلَّا أَنَّ فِي رَفْضِ الْعُمْرَةِ قَضَاءَهَا لَا غَيْرُ ، وَفِي رَفْضِ الْحَجِّ قَضَاؤُهُ وَعُمْرَةٌ ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى فَائِتِ الْحَجِّ ( وَإِنْ مَضَى عَلَيْهِمَا أَجْزَأَهُ ) ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى أَفْعَالَهُمَا كَمَا الْتَزَمَهُمَا ، غَيْرَ أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُمَا وَالنَّهْيُ لَا يَمْنَعُ تَحَقُّقَ الْفِعْلِ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ أَصْلِنَا ( وَعَلَيْهِ دَمٌ ؛ لِجَمْعِهِ بَيْنَهُمَا ) ؛ لِأَنَّهُ تَمَكَّنَ النُّقْصَانُ فِي عَمَلِهِ لِارْتِكَابِهِ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ ، وَهَذَا فِي حَقِّ

الْمَكِّيِّ دَمُ جَبْرٍ ، وَفِي حَقِّ الْآفَاقِيِّ دَمُ شُكْرٍ ( وَمَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ أَحْرَمَ يَوْمَ النَّحْرِ بِحَجَّةٍ أُخْرَى ، فَإِنْ حَلَقَ فِي الْأُولَى لَزِمَتْهُ الْأُخْرَى وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَحْلِقْ فِي الْأُولَى لَزِمَتْهُ الْأُخْرَى وَعَلَيْهِ دَمٌ قَصَّرَ أَوْ لَمْ يُقَصِّرْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَقَالَا : إنْ لَمْ يُقَصِّرْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ) ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ إحْرَامَيْ الْحَجِّ أَوْ إحْرَامَيْ الْعُمْرَةِ بِدْعَةٌ ، فَإِذَا حَلَقَ فَهُوَ وَإِنْ كَانَ نُسُكًا فِي الْإِحْرَامِ الْأَوَّلِ فَهُوَ جِنَايَةٌ عَلَى الثَّانِي ؛ لِأَنَّهُ فِي غَيْرِ أَوَانِهِ فَلَزِمَهُ الدَّمُ بِالْإِجْمَاعِ ، وَإِنْ لَمْ يَحْلِقْ حَتَّى حَجَّ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ فَقَدْ أَخَّرَ الْحَلْقَ عَنْ وَقْتِهِ فِي الْإِحْرَامِ الْأَوَّلِ وَذَلِكَ يُوجِبُ الدَّمَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، فَلِهَذَا سَوَّى بَيْنَ التَّقْصِيرِ وَعَدَمِهِ عِنْدَهُ وَشَرْطُ التَّقْصِيرِ عِنْدَهُمَا .

( بَابُ إضَافَةِ الْإِحْرَامِ إلَى الْإِحْرَامِ ) .
( قَوْلُهُ : قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَخْ ) حَاصِلُ وُجُوهِ مَا إذَا أَحْرَمَ الْمَكِّيُّ بِعُمْرَةٍ فَأَدْخَلَ عَلَيْهَا إحْرَامَ حَجَّةٍ ثَلَاثَةٌ : إمَّا أَنْ يُدْخِلَهُ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ فَتُرْتَفَضُ عُمْرَتُهُ اتِّفَاقًا ، وَلَوْ فَعَلَ هَذَا آفَاقِيٌّ كَانَ قَارِنًا عَلَى مَا أَسْلَفْنَاهُ فِي بَابِ الْقِرَانِ ، أَوْ يُدْخِلَهُ بَعْدَ أَنْ يَطُوفَ أَكْثَرَ الْأَشْوَاطِ فَتُرْتَفَضُ حَجَّتُهُ اتِّفَاقًا ، وَلَوْ فَعَلَ هَذَا آفَاقِيٌّ كَانَ مُتَمَتِّعًا إنْ كَانَ الطَّوَافُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ ، أَوْ بَعْدَ أَنْ طَافَ الْأَقَلَّ فَهِيَ الْخِلَافِيَّةُ عِنْدَهُ يُرْفَضُ الْحَجُّ ؛ لِمَا يَلْزَمُ رَفْضَ الْعُمْرَةِ مِنْ إبْطَالِ الْعَمَلِ .
وَعِنْدَهُمَا الْعُمْرَةُ ؛ لِأَنَّهَا أَدْنَى حَالًا إذْ لَيْسَ مِنْ جِنْسِهَا فَرْضٌ ، بِخِلَافِ الْحَجِّ ، وَأَقَلَّ أَعْمَالًا وَهُوَ ظَاهِرٌ وَأَيْسَرَ قَضَاءً ؛ لِعَدَمِ تَوْقِيتِهَا وَقِلَّةِ أَعْمَالِهَا .
وَلَوْ فَعَلَ هَذَا آفَاقِيٌّ كَانَ قَارِنًا عَلَى مَا اسْتَوْفَيْنَاهُ فِي صَدْرِ بَابِ الْقِرَانِ ، وَكُلُّ مَنْ رَفَضَ نُسُكًا فَعَلَيْهِ دَمٌ ؛ لِمَا رَوَى أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ لِرَفْضِهَا الْعُمْرَةَ بِدَمٍ } ، وَلَوْ مَضَى الْمَكِّيُّ عَلَيْهِمَا ، وَلَمْ يَرْفُضْ شَيْئًا أَجْزَأَهُ ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى أَفْعَالَهُمَا كَمَا الْتَزَمَهُمَا ، غَيْرَ أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } يَعْنِي التَّمَتُّعَ .
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْقِرَانَ دَاخِلٌ فِي مَفْهُومِهِ ، وَسَمَّاهُ الْمُصَنِّفُ نَهْيًا بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى وَهُوَ عَنْ فِعْلٍ شَرْعِيٍّ فَلَا يَمْنَعُ تَحَقُّقَ الْفِعْلِ عَلَى وَجْهِ الشُّرُوعِيَّةِ بِأَصْلِهِ غَيْرَ أَنَّهُ يَتَحَمَّلُ إثْمَهُ كَصِيَامِ يَوْمِ النَّحْرِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ نَذَرَهُ ، ثُمَّ عَلَيْهِ دَمٌ ؛ لِتَمَكُّنِ النُّقْصَانِ فِي نُسُكِهِ بِارْتِكَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِيهِ فَهُوَ دَمُ جَبْرٍ

فَلَا يَتَنَاوَلُ مِنْهُ شَيْئًا ، أَمَّا إنْ كَانَ الْمُضِيُّ عَلَيْهِمَا بَعْدَ أَنْ أَدْخَلَ الْحَجَّ عَلَى الْعُمْرَةِ قَبْلَ الطَّوَافِ ؛ لِلْعُمْرَةِ أَوْ بَعْدَ طَوَافِ الْأَقَلِّ فَظَهَرَ ؛ لِأَنَّهُ قَارِنٌ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ فِعْلِ الْأَكْثَرِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَكَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مُتَمَتِّعٌ ، وَلَيْسَ ؛ لِأَهْلِ مَكَّةَ تَمَتُّعٌ وَلَا قِرَانٌ ، فَلَوْ كَانَ طَوَافُ الْأَكْثَرِ مِنْهُ لِلْعُمْرَةِ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَفِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ عَلَيْهِ الدَّمَ أَيْضًا .
قَالَ : لِأَنَّهُ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَنْ يَفْرَغَ مِنْ الْعُمْرَةِ ، وَلَيْسَ لِلْمَكِّيِّ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا ، فَإِذَا صَارَ جَامِعًا مِنْ وَجْهٍ كَانَ عَلَيْهِ الدَّمُ .
( قَوْلُهُ : وَلَهُ ) أَوْرَدَ وَجْهَيْنِ : الثَّانِيَ مِنْهُمَا دَافِعٌ لِمَا يُتَوَهَّمُ مِمَّا أَوْرَدَهُ بَعْضُ الطَّلَبَةِ عَلَى الْأَوَّلِ .
وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْأَكْثَرُ كَالْكُلِّ فِي اعْتِبَارِ الشَّرْعِ لَزِمَهُ أَنَّ الْأَقَلَّ لَيْسَ لَهُ حُكْمُ الْوُجُودِ فِي اعْتِبَارِهِ بَلْ حُكْمُ الْعَدَمِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ لَيْسَ مَعْنَى الْكُلِّ إلَّا نَفْسُ الشَّيْءِ ، فَعَدَمُ اعْتِبَارِ الْأَقَلِّ كَالْكُلِّ هُوَ عَدَمُ اعْتِبَارِهِ ذَلِكَ الشَّيْءِ مَوْجُودًا فَيَكُونُ مُعْتَبَرًا عَدَمًا ، فَيَلْزَمُ اعْتِبَارُ هَذَا الْبَعْضِ عَدَمًا إذْ لَا عِبْرَةَ بِهِ إلَّا إذَا كَانَ فِي ضِمْنِ الْكُلِّ إذْ لَا تَصِحُّ الْعِبَادَةُ مَا لَمْ تَتِمُّ فَصَارَ فِعْلُ الْبَعْضِ كَعَدَمِ فِعْلِ شَيْءٍ ، وَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ يَرْفُضُ الْعُمْرَةَ فَكَذَا إذَا فَعَلَ الْأَقَلَّ .
وَجَوَابُهُ مَنْعُ كَوْنِ الْأَقَلِّ إذَا لَمْ يَعْتَبِرْ تَمَامَ الشَّيْءِ فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ عَدَمًا ؛ لِجَوَازِ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ عَدَمًا وَلَا كَالْكُلِّ بَلْ يُعْتَبَرُ بِمُجَرَّدِ وُجُودِهِ عِبَادَةً مُنْتَهِضًا سَبَبًا ؛ لِلثَّوَابِ بِنَفْسِهِ إنْ كَانَ الْبَعْضُ يَصْلُحُ عِبَادَةً بِالِاسْتِقْلَالِ ، وَبِوَاسِطَةِ إتْمَامِهِ إنْ لَمْ يَصْلُحْ مَعَ إيجَابِ الْإِتْمَامِ ، وَحِينَئِذٍ هَذَا الْبَعْضُ إنْ كَانَ مِنْ الْأَوَّلِ فَلَا إشْكَالَ .
وَإِنْ كَانَ مِنْ

الثَّانِي فَقَدْ ثَبَتَ بِمُجَرَّدِ وُجُودِهِ اعْتِبَارُهُ وَتَعْلِيقُ خِطَابِ الْإِتْمَامِ بِهِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } وَفِي رَفْضِ الْعُمْرَةِ إبْطَالُهُ فَوَجَبَ إتْمَامُهُ .
وَلْنَذْكُرْ تَقْسِيمًا ضَابِطًا لِفُرُوعِ الْبَابِ ثُمَّ نَنْتَقِلُ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ فَنَقُولُ : الْجَمْعُ إمَّا بَيْنَ إحْرَامَيْ حَجَّتَيْنِ فَصَاعِدًا كَعِشْرِينَ أَوْ عُمْرَتَيْنِ كَذَلِكَ أَوْ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ الْأَوَّلُ إمَّا أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا مَعًا أَوْ عَلَى التَّعَاقُبِ أَوْ عَلَى التَّرَاخِي ، فَإِمَّا بَعْدَ الْحَلْقِ فِي الْأَوَّلِ أَوْ قَبْلَهُ ، وَفِي هَذَا إمَّا أَنْ يَفُوتَهُ الْحَجُّ مِنْ عَامِهِ أَوْ لَا ، فَفِيمَا إذَا أَحْرَمَ بِهِمَا مَعًا أَوْ عَلَى التَّعَاقُبِ لَزِمَاهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ فِي الْمَعِيَّةِ يَلْزَمُهُ إحْدَاهُمَا ، وَفِي التَّعَاقُبِ الْأُولَى فَقَطْ ، وَإِذَا لَزِمَاهُ عِنْدَهُمَا ارْتُفِضَتْ إحْدَاهُمَا بِاتِّفَاقِهِمَا وَيَثْبُتُ حُكْمُ الرَّفْضِ .
وَاخْتَلَفَا فِي وَقْتِ الرَّفْضِ ، فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ عَقِيبَ صَيْرُورَتِهِ مُحْرِمًا بِلَا مُهْلَةٍ .
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ : إذَا شَرَعَ فِي الْأَعْمَالِ ، وَقِيلَ إذَا تَوَجَّهَ سَائِرًا ، وَنَصَّ فِي الْمَبْسُوطِ عَلَى أَنَّهُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ .
وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِيمَا إذَا جَنَى قَبْلَ الشُّرُوعِ فَعَلَيْهِ دَمَانِ ؛ لِلْجِنَايَةِ عَلَى إحْرَامَيْنِ وَدَمٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِارْتِفَاضِ إحْدَاهُمَا قَبْلَهَا .
ا هـ .
( وَمِنْ الْفُرُوعِ ) لَوْ جَامَعَ قَبْلَ أَنْ يَسِيرَ أَوْ يَشْرَعَ عَلَى الْخِلَافِ لَزِمَهُ دَمَانِ ؛ لِلْجِمَاعِ وَدَمٌ ثَالِثٌ ؛ لِلرَّفْضِ ، فَإِنَّهُ يَرْفُضُ إحْدَاهُمَا وَيَمْضِي فِي الْأُخْرَى وَيَقْضِي الَّتِي مَضَى فِيهَا وَحَجَّةً وَعُمْرَةً مَكَانَ الَّتِي رَفَضَهَا .
وَلَوْ قَتَلَ صَيْدًا فَعَلَيْهِ قِيمَتَانِ أَوْ أُحْصِرَ فَدَمَانِ ، هَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ دَمٌ سِوَى دَمِ الرَّفْضِ .
وَإِذَا تَرَاخَى فَأَدْخَلَ بَعْدَ الْحَلْقِ فِي الْأُولَى لَزِمَتْهُ

الثَّانِيَةُ ، وَلَا يَلْزَمُ رَفْضُ شَيْءٍ وَلَا دَمَ عَلَيْهِ ثُمَّ يُتِمَّ أَفْعَالَ الْأُولَى وَيَسْتَمِرُّ مُحْرِمًا إلَى قَابِلٍ فَيَفْعَلُ الثَّانِيَةَ ، وَإِنْ أَحْرَمَ بِهَا قَبْلَ الْحَلْقِ وَلَا فَوَاتَ لَزِمَهُ ، ثُمَّ إنْ وَقَفَ يَوْمَ عَرَفَةَ أَوْ لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ بِالْمُزْدَلِفَةِ رَفَضَهَا وَعَلَيْهِ دَمُ الرَّفْضِ وَحَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ مَكَانَهَا وَيَمْضِي فِيمَا هُوَ فِيهَا ، وَهَذَا قَوْلُهُمَا .
أَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَإِحْرَامُهُ بَاطِلٌ ، وَإِنَّمَا يَرْفُضُهَا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَرْفُضْهَا وَوَقَفَ لَهَا كَانَ مُؤَدِّيًا حَجَّتَيْنِ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَكَذَا فِي لَيْلَةِ الْمُزْدَلِفَةِ لَوْ لَمْ يَرْفُضْهَا وَعَادَ إلَى عَرَفَاتٍ فَوَقَفَ يَصِيرُ مُؤَدِّيًا ؛ لِحَجَّتَيْنِ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ .
وَإِنْ كَانَ بَعْدَ طُلُوعِ فَجْرِ النَّحْرِ لَمْ يَرْفُضْ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ وَقْتَ الْوُقُوفِ قَدْ فَاتَ فَلَا يَكُونُ بِاسْتِدَامَةِ الْإِحْرَامِ مُؤَدِّيًا حَجَّتَيْنِ فِي سَنَةٍ فَيُتِمُّ أَعْمَالَ الْحَجَّةِ الْأُولَى وَيُقِيمُ حَرَامًا ، ثُمَّ إنْ حَلَقَ فِي الْأُولَى لَزِمَهُ دَمُ الْجِنَايَةِ عَلَى إحْرَامِ الثَّانِيَةِ اتِّفَاقًا ، وَإِنْ لَمْ يَحْلِقْ بَلْ اسْتَمَرَّ حَتَّى حَلَّ مِنْ قَابِلٍ لَزِمَهُ دَمٌ ؛ لِتَأْخِيرِ الْحَلْقِ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا ، وَهَلْ يَلْزَمُ دَمٌ آخَرُ ؛ لِلْجَمْعِ ؟ .
قِيلَ : فِيهِ رِوَايَتَانِ ، وَقِيلَ لَيْسَ إلَّا رِوَايَةُ الْوُجُوبِ ، وَهُوَ الْأَوْجَهُ .
وَإِنْ أَحْرَمَ بِالثَّانِيَةِ بَعْدَمَا فَاتَهُ الْحَجُّ وَجَبَ رَفْضُهَا وَدَمٌ وَقَضَاؤُهَا وَقَضَاءُ عُمْرَةٍ ؛ لِأَنَّ فَائِتَ الْحَجِّ ، وَإِنْ تَحَلَّلَ بِأَفْعَالِ عُمْرَةٍ هُوَ مُحْرِمٌ بِالْحَجِّ فَيَصِيرُ جَامِعًا بَيْنَ إحْرَامِ حَجَّتَيْنِ فَيَرْفُضُ الثَّانِيَةَ .
وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ بِعُمْرَتَيْنِ فَفِي الْمَعِيَّةِ وَالتَّعَاقُبِ : أَعْنِي بِلَا فَصْلِ عَمَلِ مَا فِي الْحَجَّتَيْنِ وَالْخِلَافُ فِيمَا يَلْزَمُ وَوَقْتُ الرَّفْضِ إذَا لَزِمَ ، وَفِيمَا إذَا طَافَ ؛ لِلْأُولَى شَوْطًا رَفَضَ الثَّانِيَةَ وَعَلَيْهِ دَمُ الرَّفْضِ وَالْقَضَاءُ ، وَكَذَا هَذَا مَا لَمْ يَفْرُغْ مِنْ السَّعْيِ ، فَإِنْ كَانَ فَرَغَ

مِنْهُ إلَّا الْحَلْقَ لَمْ يَرْفُضْ شَيْئًا وَعَلَيْهِ دَمٌ ؛ لِلْجَمْعِ ، وَهَذِهِ تُؤَيِّدُ رِوَايَةَ لُزُومِهِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَجَّتَيْنِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ ، فَإِنْ حَلَقَ لِلْأُولَى لَزِمَهُ دَمٌ وَاحِدٌ ؛ لِلْجِنَايَةِ عَلَى الثَّانِيَةِ ، وَلَوْ كَانَ جَامَعَ فِي الْأُولَى قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ فَأَفْسَدَهَا ثُمَّ أَدْخَلَ الثَّانِيَةَ يَرْفُضُهَا وَيَمْضِي فِي الْأُولَى حَتَّى يُتِمَّهَا ؛ لِأَنَّ الْفَاسِدَ مُعْتَبَرٌ بِالصَّحِيحِ فِي وُجُوبِ الْإِتْمَامِ ، وَلَوْ كَانَتْ الْأُولَى صَحِيحَةً كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَمْضِيَ فِيهَا وَيَرْفُضَ الثَّانِيَةَ فَكَذَا بَعْدَ فَسَادِهَا .
وَإِنْ نَوَى رَفْضَ الْأُولَى وَالْعَمَلَ فِي الثَّانِيَةِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إلَّا الْأُولَى ، وَمَنْ أَحْرَمَ وَلَا يَنْوِي شَيْئًا فَطَافَ ثَلَاثَةً أَوْ أَقَلَّ ثُمَّ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ رَفَضَهَا ؛ لِأَنَّ الْأُولَى تَعَيَّنَتْ عُمْرَةً حَيْثُ أَخَذَ فِي الطَّوَافِ ؛ لِمَا أَسْلَفْنَاهُ ، فَحِينَ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ أُخْرَى صَارَ جَامِعًا بَيْنَ عُمْرَتَيْنِ فَلِهَذَا يَرْفُضُ الثَّانِيَةَ .
وَأَمَّا الثَّالِثُ وَهُوَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ ، فَإِمَّا أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا الْمَكِّيُّ وَمَنْ بِمَعْنَاهُ كَأَهْلِ الْمَوَاقِيتِ وَمَنْ دُونَهُمْ أَوْ الْآفَاقِيِّ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَيْنِ فَفِي الْكَافِي ؛ لِلْحَاكِمِ أَنَّهُ لَا يَقْرِنُ بَيْنَهُمَا وَلَا يُضِيفُ الْعُمْرَةَ إلَى الْحَجِّ وَلَا الْحَجَّ إلَى الْعُمْرَةِ ، فَإِنْ قَرَنَ بَيْنَهُمَا رَفَضَ الْعُمْرَةَ وَمَضَى فِي الْحَجِّ ، وَكَذَا أَهْلُ الْمَوَاقِيتِ وَمَنْ دُونَهُمْ إلَى مَكَّةَ .
قَالَ : وَكَذَلِكَ إنْ أَحْرَمَ الْمَكِّيُّ أَوَّلًا بِالْعُمْرَةِ مِنْ وَقْتِهَا ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ رَفَضَ عُمْرَتَهُ ، فَإِنْ مَضَى عَلَيْهِمَا حَتَّى يَقْضِيَهُمَا أَجْزَأَهُ وَعَلَيْهِ ؛ لِجَمْعِهِ بَيْنَهُمَا دَمٌ ، فَإِنْ طَافَ لِلْعُمْرَةِ شَوْطًا أَوْ ثَلَاثَةً ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ رَفَضَ الْحَجَّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : يَرْفُضُ الْعُمْرَةَ .
وَإِنْ كَانَ طَافَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ ثُمَّ أَهَلَّ الْحَجَّ قَالَ : هَذَا يَفْرُغُ مِمَّا بَقِيَ مِنْ عُمْرَتِهِ وَيَفْرَغُ

مِنْ حَجَّتِهِ وَعَلَيْهِ دَمٌ ؛ لِأَنَّهُ أَهَلَّ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ عَنْ الْعُمْرَةِ وَهُوَ مَكِّيٌّ وَلَا يَنْبَغِي ؛ لِأَهْلِ مَكَّةَ أَنْ يَجْمَعُوا بَيْنَهُمَا ، وَلَوْ كَانَ كُوفِيًّا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ هَذَا الدَّمُ ا هـ .
وَلَفْظُهُ أَظْهَرُ فِي عَدَمِ رَفْضِ الْحَجِّ مِنْهُ فِي الرَّفْضِ ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ صَاحِبُ الْمَبْسُوطِ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فَقَالَ : لَا يَرْفُضُ وَاحِدًا مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ ، فَكَأَنَّهُ أَحْرَمَ بِهِ بَعْدَ التَّحَلُّلِ مِنْ الْعُمْرَةِ ، وَاخْتَارَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ وَقَوْمٌ أَنَّهُ يَرْفُضُ الْحَجَّ إنْ تَعَذَّرَ رَفَضَ الْعُمْرَةَ ، وَلَوْ كَانَ الْمَكِّيُّ أَهَلَّ أَوَّلًا بِالْحَجِّ فَطَافَ شَوْطًا ثُمَّ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ رَفَضَ الْعُمْرَةَ ، وَإِنْ لَمْ يَرْفُضْهَا وَطَافَ لَهَا وَسَعَى وَفَرَغَ مِنْهَا أَجْزَأَهُ وَعَلَيْهِ دَمٌ ؛ لِأَنَّهُ أَهَلَّ بِهَا قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ حَجَّتِهِ .
وَفِي الْكَافِي : إذَا خَرَجَ الْمَكِّيُّ إلَى الْكُوفَةِ لِحَاجَةٍ فَاعْتَمَرَ فِيهَا وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا ، وَإِنْ قَرَنَ مِنْ الْكُوفَةِ كَانَ قَارِنًا ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ كُوفِيًّا لَوْ قَرَنَ وَطَافَ لِعُمْرَتِهِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ ثُمَّ وَافَى الْحَجَّ فَحَجَّ كَانَ قَارِنًا وَلَمْ يَبْطُلْ عَنْهُ دَمُ الْقِرَانِ ؛ لِرُجُوعِهِ إلَى أَهْلِهِ كَمَا يَبْطُلُ عَنْهُ دَمُ الْمُتْعَةِ .
ا هـ .
وَحَاصِلُهُ أَنَّ عَدَمَ الْإِلْمَامِ بِالْأَهْلِ شَرْطُ التَّمَتُّعِ الْمَشْرُوعِ دُونَ الْقِرَانِ عَلَى مَا أَسْلَفْنَا نَقْلَهُ وَقَرَّرْنَاهُ بِالْبَحْثِ فِي بَابِ التَّمَتُّعِ مِنْ أَنَّ النَّظَرَ يَقْتَضِي اشْتِرَاطَ عَدَمِ الْإِلْمَامِ ؛ لِلْقِرَانِ كَالْمُتْعَةِ .
وَإِنْ كَانَ الثَّانِي وَهُوَ الْآفَاقِيُّ ، فَإِنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا أَوْ أَدْخَلَ إحْرَامَ الْحَجِّ عَلَى إحْرَامِ الْعُمْرَةِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ لَهَا أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ ، أَوْ إنْ لَمْ يَطُفْ شَيْئًا فَهُوَ قَارِنٌ وَعَلَيْهِ دَمُ شُكْرٍ .
وَهَلْ يُشْتَرَطُ فِي كَوْنِ الْجَامِعِ عَلَى أَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ قَارِنًا أَنْ يُؤَدِّيَ طَوَافَ عُمْرَتِهِ أَوْ

أَكْثَرَهُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ تَقَدَّمَ مَا نَقَلْنَاهُ مِنْ عَدَمِ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ وَتَقَدَّمَ مَعَهُ مَا أَوْرَدْنَاهُ عَلَيْهِ .
وَإِنْ أَدْخَلَ فِيهِ بَعْدَ أَرْبَعَةٍ ، فَإِنْ كَانَ فَعَلَهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ غَيْرِ إلْمَامٍ صَحِيحٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ التَّمَتُّعِ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ إنْ حَجَّ مِنْ عَامِهِ ، وَإِلَّا فَهُوَ مُفْرِدٌ بِهِمَا .
وَإِنْ أَدْخَلَ إحْرَامَ الْعُمْرَةِ عَلَى إحْرَامِ الْحَجِّ ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ شَيْئًا مِنْ طَوَافِ الْقُدُومِ فَهُوَ قَارِنٌ مُسِيءٌ وَعَلَيْهِ دَمُ شُكْرٍ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَمَا شَرَعَ فِيهِ وَلَوْ قَلِيلًا فَهُوَ أَكْثَرُ إسَاءَةً وَعَلَيْهِ دَمٌ ، اُخْتُلِفَ فِيهِ ، فَعِنْدَ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ وَفَخْرِ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ دَمُ جَبْرٍ فَلَا يَأْكُلُ مِنْهُ ، وَعِنْدَ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ دَمُ شُكْرٍ ، وَقَوْلُهُمْ رَفْضُ الْعُمْرَةِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مُسْتَحَبٌّ يُؤْنَسُ بِهِ فِي أَنَّهُ دَمُ شُكْرٍ .
وَكَذَا إنْ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ بِعَرَفَةَ وَإِنْ أَهَلَّ بِهَا يَوْمَ النَّحْرِ وَجَبَ رَفْضُهَا إنْ كَانَ قَبْلَ الْحَلْقِ اتِّفَاقًا وَالدَّمُ وَالْقَضَاءُ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ اُخْتُلِفَ فِيهِ ، وَالْأَصَحُّ وُجُوبُ الرَّفْضِ ، وَلَوْ لَمْ يَرْفُضْ فِي الصُّورَتَيْنِ أَجْزَأَهُ وَيَجِبُ عَلَيْهِ دَمٌ ؛ لِلْمُضِيِّ ، وَكَذَا إذَا أَحْرَمَ بِهَا بَعْدَ مَا فَاتَهُ الْحَجُّ قَبْلَ أَنْ يَتَحَلَّلَ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ يَجِبُ رَفْضُ الْعُمْرَةِ ، وَكُلُّ شَيْءٍ رَفَضَهُ يَجِبُ ؛ لِرَفْضِهِ دَمٌ وَقَضَاؤُهُ ، فَإِنْ كَانَ عُمْرَةً لَمْ يَلْزَمْهُ فِي قَضَائِهَا سِوَى عُمْرَةٍ ، وَإِنْ كَانَ حَجَّةً لَزِمَهُ حَجٌّ وَعُمْرَةٌ ، أَمَّا الْحَجَّةُ فَلِلْقَضَاءِ ، وَأَمَّا الْعُمْرَةُ فَلِأَنَّهُ فِي مَعْنَى فَائِتِ الْحَجِّ ، وَهُوَ يَتَحَلَّلُ بِهَا ثُمَّ يَقْضِي الْحَجَّ شَرْعًا ، وَلِذَا قُلْنَا : لَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجَّةِ فِي سَنَتِهِ لَا عُمْرَةَ عَلَيْهِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وَلْنَرْجِعْ ؛ لِنَحِلَّ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ .

( وَمَنْ فَرَغَ مِنْ عُمْرَتِهِ إلَّا التَّقْصِيرَ فَأَحْرَمَ بِأُخْرَى فَعَلَيْهِ دَمٌ لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ الْوَقْتِ ) ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ إحْرَامَيْ الْعُمْرَةِ وَهَذَا مَكْرُوهٌ فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ وَهُوَ دَمُ جَبْرٍ وَكَفَّارَةٍ
( قَوْلُهُ : فَعَلَيْهِ دَمٌ لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ الْوَقْتِ ) ؛ لِأَنَّ وَقْتَهُ بَعْدَ الْحَلْقِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ دَمًا فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَجَّتَيْنِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، وَذَكَرَهُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْعُمْرَتَيْنِ ، وَأَوْجَبَهُ فِي الْمَنَاسِكِ مِنْ الْمَبْسُوطِ فَجَعَلَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ فِيهِ رِوَايَتَيْنِ ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لَا فَرْقَ ، وَسُكُوتُهُ فِي الْجَامِعِ لَيْسَ نَفْيًا بَعْدَ وُجُودِ الْمُوجِبِ ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لَهُ فِي الْعُمْرَتَيْنِ وَهُوَ عَدَمُ الْمَشْرُوعِيَّةِ ثَابِتٌ فِي الْحَجَّتَيْنِ ، وَمَا ذُكِرَ فِي الْفَرْقِ مِنْ أَنَّهُ فِي الْحَجَّتَيْنِ لَا يَصِيرُ جَامِعًا فِعْلًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي أَفْعَالَ الْأُخْرَى إلَّا فِي سَنَةٍ أُخْرَى ، بِخِلَافِ الْعُمْرَةِ فَإِنَّهُ يُؤَدِّي الثَّانِيَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فَيَصِيرُ جَامِعًا فِعْلًا لَا يَتِمُّ ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ بِحَيْثُ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَدَاءِ الْعُمْرَةِ الثَّانِيَةِ لَا يُوجِبُ الْجَمْعَ فِعْلًا فَاسْتَوَيَا ، فَالْأَوْجَهُ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إلَّا رِوَايَةُ الْوُجُوبِ .

( وَمَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ ثُمَّ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ لَزِمَاهُ ) ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مَشْرُوعٌ فِي حَقِّ الْآفَاقِيِّ ، وَالْمَسْأَلَةُ فِيهِ فَيَصِيرُ بِذَلِكَ قَارِنًا لَكِنَّهُ أَخْطَأَ السُّنَّةَ فَيَصِيرُ مُسِيئًا ( وَلَوْ وَقَفَ بِعَرَفَاتٍ وَلَمْ يَأْتِ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ فَهُوَ رَافِضٌ لِعُمْرَتِهِ ) ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ أَدَاؤُهَا إذْ هِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْحَجِّ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ ( فَإِنْ تَوَجَّهَ إلَيْهَا لَمْ يَكُنْ رَافِضًا حَتَّى يَقِفَ ) وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ
( قَوْلُهُ : وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ ) يَعْنِي فِي بَابِ الْقِرَانِ

( فَإِنْ طَافَ لِلْحَجِّ ثُمَّ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ فَمَضَى عَلَيْهِمَا لَزِمَاهُ وَعَلَيْهِ دَمٌ لِجَمْعِهِ بَيْنَهُمَا ) ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مَشْرُوعٌ عَلَى مَا مَرَّ فَيَصِحُّ الْإِحْرَامُ بِهِمَا ، وَالْمُرَادُ بِهَذَا الطَّوَافِ طَوَافُ التَّحِيَّةِ ، وَأَنَّهُ سُنَّةٌ وَلَيْسَ بِرُكْنٍ حَتَّى لَا يَلْزَمَهُ بِتَرْكِهِ شَيْءٌ ، وَإِذَا لَمْ يَأْتِ بِمَا هُوَ رُكْنٌ يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ ثُمَّ بِأَفْعَالِ الْحَجِّ ، فَلِهَذَا لَوْ مَضَى عَلَيْهِمَا جَازَ وَعَلَيْهِ دَمٌ لِجَمْعِهِ بَيْنَهُمَا وَهُوَ دَمُ كَفَّارَةٍ وَجَبْرٍ هُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّهُ بَانٍ أَفْعَالَ الْعُمْرَةِ عَلَى أَفْعَالِ الْحَجِّ مِنْ وَجْهٍ .
( وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَرْفُضَ عُمْرَتَهُ ) ؛ لِأَنَّ إحْرَامَ الْحَجِّ قَدْ تَأَكَّدَ بِشَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَطُفْ لِلْحَجِّ ، وَإِذَا رَفَضَ عُمْرَتَهُ يَقْضِيهَا لِصِحَّةِ الشُّرُوعِ فِيهَا ( وَعَلَيْهِ دَمٌ ) لِرَفْضِهَا ( وَمَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ فِي يَوْمِ النَّحْرِ أَوْ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لَزِمَتْهُ ) لِمَا قُلْنَا ( وَيَرْفُضُهَا ) أَيْ يَلْزَمُهُ الرَّفْضُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَدَّى رُكْنَ الْحَجِّ فَيَصِيرُ بَانِيًا أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ عَلَى أَفْعَالِ الْحَجِّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَقَدْ كُرِهَتْ الْعُمْرَةُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ أَيْضًا عَلَى مَا نَذْكُرُ فَلِهَذَا يَلْزَمُهُ رَفْضُهَا ، فَإِنْ رَفَضَهَا فَعَلَيْهِ دَمٌ ؛ لِرَفْضِهَا ( وَعُمْرَةٌ مَكَانَهَا ) لِمَا بَيَّنَّا ( فَإِنْ مَضَى عَلَيْهَا أَجْزَأَهُ ) ؛ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهَا وَهُوَ كَوْنُهُ مَشْغُولًا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ بِأَدَاءِ بَقِيَّةِ أَعْمَالِ الْحَجِّ فَيَجِبُ تَخْلِيصُ الْوَقْتِ لَهُ تَعْظِيمًا ( وَعَلَيْهِ دَمٌ لِجَمْعِهِ بَيْنَهُمَا ) إمَّا فِي الْإِحْرَامِ أَوْ فِي الْأَعْمَالِ الْبَاقِيَةِ ، قَالُوا : وَهَذَا دَمُ كَفَّارَةٍ أَيْضًا .
وَقِيلَ إذَا حَلَقَ لِلْحَجِّ ثُمَّ أَحْرَمَ لَا يَرْفُضُهَا عَلَى ظَاهِرِ مَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ ، وَقِيلَ يَرْفُضُهَا احْتِرَازًا عَنْ النَّهْيِ .
.

( قَوْلُهُ : وَالْمُرَادُ بِهَذَا الطَّوَافُ ) يَعْنِي فِي قَوْلِهِ فَإِنْ طَافَ ؛ لِلْحَجِّ .
( قَوْلُهُ : وَهُوَ دَمُ كَفَّارَةٍ وَجَبْرٍ هُوَ الصَّحِيحُ ) فَلَا فَرْقَ فِي وُجُوبِ الدَّمِ بَيْنَ الصُّورَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ ، غَيْرَ أَنَّ الدَّمَ فِي الْأُولَى دَمُ الْقِرَانِ ؛ لِلشُّكْرِ اتِّفَاقًا وَفِي الثَّانِيَةِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ .
وَمُخْتَارُ الْمُصَنِّفِ وَفَخْرِ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ دَمُ جَبْرٍ ؛ لِأَنَّهُ بَانٍ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ عَلَى أَفْعَالِ الْحَجِّ مِنْ وَجْهٍ ؛ لِتَقْدِيمِ طَوَافِ الْقُدُومِ .
وَاخْتَارَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ أَنَّهُ شُكْرٌ ، وَإِنْ كَانَ هُوَ أَكْثَرُ إسَاءَةً مِنْ الْأَوَّلِ ، فَإِنَّ هَذَا الطَّوَافَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ رُكْنًا وَلَا وَاجِبًا أَمْكَنَهُ بِنَاءُ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ فَيَصِيرُ بَانِيًا أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ عَلَى أَفْعَالِ الْحَجِّ فَلَا مُوجِبَ لِلدَّمِ جَبْرًا ، وَلَا نُسَلِّمُ بِنَاءَهُ مِنْ وَجْهٍ بِسَبَبِ تَقْدِيمِ بَعْضِ السُّنَنِ ، وَلَوْ سُلِّمَ مَنَعْنَا كَوْنَ هَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْوَجْهِ الِاعْتِبَارِيِّ يُوجِبُ الْجِنَايَةَ الْمُوجِبَةَ لِلدَّمِ .
وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّ طَوَافَ الْقُدُومِ لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ أَصْلًا وَلَا مِنْ سُنَنِ نَفْسِ عِبَادَةِ الْحَجِّ بَلْ هُوَ سُنَّةٌ ؛ لِقُدُومِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَرَكْعَتَيْ التَّحِيَّةِ ؛ لِغَيْرِهِ مِنْ الْمَسَاجِدِ وَلِذَا سَقَطَ بِطَوَافٍ آخَرَ مِنْ مَشْرُوعَاتِ الْوَقْتِ ، حَتَّى لَوْ لَمْ يَدْخُلْ الْمُحْرِمُ بِالْحَجِّ مَكَّةَ إلَّا يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ الْوُقُوفِ سَقَطَ اسْتِنَانُهُ بِفِعْلِ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ ، وَكَذَا الْمُعْتَمِرُ لَا يُسَنُّ فِي حَقِّهِ ؛ لِإِغْنَاءِ طَوَافِ الْعُمْرَةِ عَنْهُ ، كَمَا تَسْقُطُ الرَّكْعَتَانِ بِإِقَامَةِ الْفَرِيضَةِ عِنْدَ الدُّخُولِ ؛ لِحُصُولِ التَّحِيَّةِ تَعْظِيمًا فِي ضِمْنِ الْفَرْضِ ، وَلَوْ كَانَ مُعْتَبِرًا سُنَّةِ نَفْسِ الْعِبَادَةِ تَابِعًا لَهَا لَمْ يَسْقُطْ بِحَالٍ كَمَا لَمْ تَسْقُطْ سُنَّةُ الظُّهْرِ بِفِعْلِ الْفَرْضِ فَكَانَ أَظْهَرَ فِي الدَّفْعِ ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَكُونُ تَقَدُّمُهُ مُوجِبًا بِنَاءِ الْعُمْرَةِ مِنْ ذَلِكَ

الْوَجْهِ أَيْضًا ، وَهَذَا الْوَجْهُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ هُوَ مِنْ كَلَامِهِمْ فِي تَوْجِيهِ سُقُوطِهِ إذَا لَمْ يَدْخُلْ الْمُحْرِمُ مَكَّةَ وَتَوَجَّهَ إلَى عَرَفَاتٍ ، وَيَسْتَلْزِمُ أَنَّ طَوَافَ الْقُدُومِ لَا يُسَنُّ لِلْقَارِنِ ؛ لِأَنَّهُ يَبْدَأُ بِطَوَافِ الْعُمْرَةِ إذَا دَخَلَ فَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ فِي ضِمْنِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ ذَكَرْت فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْآثَارِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَطُوفُ طَوَافَيْنِ فَلَا تَعَارُضَ بِمَا ذَكَرْت مِنْ الْمَعْنَى .
قُلْنَا فَيَلْزَمُ بُطْلَانُ سُقُوطِهِ فِيمَا إذَا لَمْ يَدْخُلْ مَكَّةَ إلَّا بَعْدَ الْوُقُوفِ يَوْمَ النَّحْرِ ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ لَازِمٌ .
وَالْحَقُّ أَنَّ دَلَالَةَ الْآثَارِ عَلَى اسْتِنَانِ طَوَافَيْنِ ؛ لِلْقَارِنِ لَا يَلْزَمُهُ كَوْنُ أَحَدِهِمَا لِلْقُدُومِ ، فَادِّعَاءُ أَنَّهُ طَوَافُ الْقُدُومِ ادِّعَاءُ أَمْرٍ زَائِدٍ عَلَى مُقْتَضَى الدَّلِيلِ ، وَاعْتِقَادِي أَنَّ اسْتِنَانَهُ ؛ لِإِيقَاعِ سَعْيِ الْحَجِّ ، فَإِنَّ السَّعْيَ لَمْ يُشْرَعْ إلَّا مُرَتَّبًا عَلَى طَوَافٍ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ رُخِّصَ فِي تَقْدِيمِ السَّعْيِ عَلَى يَوْمِ النَّحْرِ فَكَانَ الثَّابِتُ فِي الْآثَارِ بَيَانَ طَرِيقِ تَقْدِيمِ سَعْيِ الْحَجِّ لِلْقَارِنِ .
وَعَنْ هَذَا قُلْنَا فِي الْمُتَمَتِّعِ إذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعُمْرَةِ لَهُ أَنْ يَطُوفَ طَوَافًا يَتَنَفَّلُ بِهِ ثُمَّ يَسْعَى بَعْدَهُ ؛ لِلْحَجِّ ، وَلَيْسَ هُوَ طَوَافُ الْقُدُومِ .
نَعَمْ يَقْتَضِي أَنَّ الْقَارِنَ لَوْ لَمْ يُرِدْ تَقْدِيمَ السَّعْيِ لَا يُسَنُّ فِي حَقِّهِ طَوَافٌ آخَرُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْتِزَامِهِ حَالٌ ، وَغَايَةُ مَا يَلْزَمُ إذَا دَلَّ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِنَانِ طَوَافَيْنِ مُطْلَقًا : أَعْنِي غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِقَصْدِ تَقْدِيمِ السَّعْيِ كَوْنُ تَقْدِيمِ السَّعْيِ سُنَّةً لِلْقَارِنِ وَلَا ضَرَرَ فِي الْتِزَامِهِ .

قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ : وَمَشَايِخُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى هَذَا ( فَإِنْ فَاتَهُ الْحَجُّ ثُمَّ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ أَوْ بِحَجَّةٍ فَإِنَّهُ يَرْفُضُهَا ) ؛ لِأَنَّ فَائِتَ الْحَجِّ يَتَحَلَّلُ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقَلِبَ إحْرَامُهُ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ عَلَى مَا يَأْتِيك فِي بَابِ الْفَوَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَيَصِيرُ جَامِعًا بَيْنَ الْعُمْرَتَيْنِ مِنْ حَيْثُ الْأَفْعَالُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَرْفُضَهَا كَمَا لَوْ أَحْرَمَ بِعُمْرَتَيْنِ ، وَإِنْ أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ يَصِيرُ جَامِعًا بَيْنَ الْحَجَّتَيْنِ إحْرَامًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَرْفُضَهَا كَمَا لَوْ أَحْرَمَ بِحَجَّتَيْنِ وَعَلَيْهِ قَضَاؤُهَا لِصِحَّةِ الشُّرُوعِ فِيهَا وَدَمٌ لِرَفْضِهَا بِالتَّحَلُّلِ قَبْلَ أَوَانِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( قَوْلُهُ : قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ : وَمَشَايِخُنَا عَلَى هَذَا ) أَيْ عَلَى وُجُوبِ الرَّفْضِ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْحَلْقِ ، وَصَحَّحَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ عَلَيْهِ وَاجِبَاتٌ مِنْ الْحَجِّ كَالرَّمْيِ وَطَوَافِ الصَّدْرِ وَسُنَّةِ الْمَبِيتِ ، وَقَدْ كُرِهَتْ الْعُمْرَةُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ أَيْضًا فَيَصِيرُ بَانِيًا أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ عَلَى أَفْعَالِ الْحَجِّ بِلَا رَيْبٍ .

بَابُ الْإِحْصَارِ ( وَإِذَا أُحْصِرَ الْمُحْرِمُ بِعَدُوٍّ أَوْ أَصَابَهُ مَرَضٌ فَمَنَعَهُ مِنْ الْمُضِيِّ جَازَ لَهُ التَّحَلُّلُ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَكُونُ الْإِحْصَارُ إلَّا بِالْعَدُوِّ ؛ لِأَنَّ التَّحَلُّلَ بِالْهَدْيِ شُرِعَ فِي حَقِّ الْمُحْصَرِ ؛ لِتَحْصِيلِ النَّجَاةِ وَبِالْإِحْلَالِ يَنْجُو مِنْ الْعَدُوِّ لَا مِنْ الْمَرَضِ .
وَلَنَا أَنَّ آيَةَ الْإِحْصَارِ وَرَدَتْ فِي الْإِحْصَارِ بِالْمَرَضِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ اللُّغَةِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا : الْإِحْصَارُ بِالْمَرَضِ وَالْحَصْرُ بِالْعَدُوِّ وَالتَّحَلُّلُ قَبْلَ أَوَانِهِ لِدَفْعِ الْحَرَجِ الْآتِي مِنْ قِبَلِ امْتِدَادِ الْإِحْرَامِ ، وَالْحَرَجُ فِي الِاصْطِبَارِ عَلَيْهِ مَعَ الْمَرَضِ أَعْظَمُ ، وَإِذَا جَازَ لَهُ التَّحَلُّلُ ( يُقَالُ لَهُ ابْعَثْ شَاةً تُذْبَحُ فِي الْحَرَمِ وَوَاعِدْ مَنْ تَبْعَثُهُ بِيَوْمٍ بِعَيْنِهِ يَذْبَحُ فِيهِ ثُمَّ تَحَلَّلَ ) وَإِنَّمَا يَبْعَثُ إلَى الْحَرَمِ ؛ لِأَنَّ دَمَ الْإِحْصَارِ قُرْبَةٌ ، وَالْإِرَاقَةُ لَمْ تُعْرَفْ قُرْبَةً إلَّا فِي زَمَانٍ أَوْ مَكَان عَلَى مَا مَرَّ فَلَا يَقَعُ قُرْبَةً دُونَهُ فَلَا يَقَعُ بِهِ التَّحَلُّلُ ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } فَإِنَّ الْهَدْيَ اسْمٌ لِمَا يُهْدَى إلَى الْحَرَمِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَتَوَقَّتُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ شُرِعَ رُخْصَةً وَالتَّوْقِيتُ يُبْطِلُ التَّخْفِيفَ .
قُلْنَا : الْمُرَاعَى أَصْلُ التَّخْفِيفِ لَا نِهَايَتُهُ ، وَتَجُوزُ الشَّاةُ ؛ لِأَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ الْهَدْيُ وَالشَّاةُ أَدْنَاهُ ، وَتُجْزِيهِ الْبَقَرَةُ وَالْبَدَنَةُ أَوْ سُبْعُهُمَا كَمَا فِي الضَّحَايَا ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِمَا ذَكَرْنَا بَعْثَ الشَّاةِ بِعَيْنِهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَتَعَذَّرُ ، بَلْ لَهُ أَنْ يَبْعَثَ بِالْقِيمَةِ حَتَّى تُشْتَرَى الشَّاةُ هُنَالِكَ وَتُذْبَحَ عَنْهُ .
وَقَوْلُهُ ثُمَّ تَحَلَّلَ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ الْحَلْقُ أَوْ التَّقْصِيرُ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : عَلَيْهِ

ذَلِكَ ، وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ { ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَلَقَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ ، وَكَانَ مُحْصَرًا بِهَا وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِذَلِكَ } .
وَلَهُمَا أَنَّ الْحَلْقَ إنَّمَا عُرِفَ قُرْبَةً مُرَتَّبًا عَلَى أَفْعَالِ الْحَجِّ فَلَا يَكُونُ نُسُكًا قَبْلَهَا وَفَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ لِيُعَرِّفَ اسْتِحْكَامَ عَزِيمَتِهِمْ عَلَى الِانْصِرَافِ .
( وَإِنْ كَانَ قَارِنًا بَعَثَ بِدَمَيْنِ ) لِاحْتِيَاجِهِ إلَى التَّحَلُّلِ مِنْ إحْرَامَيْنِ ، فَإِنْ بَعَثَ بِهَدْيٍ وَاحِدٍ لِيَتَحَلَّلَ عَنْ الْحَجِّ وَيَبْقَى فِي إحْرَامِ الْعُمْرَةِ لَمْ يَتَحَلَّلْ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّ التَّحَلُّلَ مِنْهُمَا شُرِعَ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ .

بَابُ الْإِحْصَارِ ) هُوَ مِنْ الْعَوَارِضِ النَّادِرَةِ وَكَذَا الْفَوَاتُ فَأَخَّرَهُمَا .
ثُمَّ إنَّ الْإِحْصَارَ وَقَعَ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَقَدَّمَ بَيَانَهُ عَلَى الْفَوَاتِ .
وَالْإِحْصَارُ يَتَحَقَّقُ عِنْدَنَا بِالْعَدُوِّ وَغَيْرِهِ كَالْمَرَضِ وَهَلَاكِ النَّفَقَةِ وَمَوْتِ مَحْرَمِ الْمَرْأَةِ أَوْ زَوْجِهَا فِي الطَّرِيقِ ، وَفِي التَّجْنِيسِ فِي سَرِقَةِ النَّفَقَةِ إنْ قَدَرَ عَلَى الْمَشْيِ فَلَيْسَ بِمُحْصَرٍ ، وَإِلَّا فَمُحْصَرٌ ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ ، وَلَوْ أَحْرَمَتْ وَلَا زَوْجَ لَهَا وَلَا مَحْرَمَ فَهِيَ مُحْصَرَةٌ لَا تَحِلُّ إلَّا بِالدَّمِ ؛ لِأَنَّهَا مُنِعَتْ شَرْعًا آكَدُ مِنْ الْمَنْعِ بِسَبَبِ الْعَدُوِّ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا إحْصَارَ إلَّا بِالْعَدُوِّ .
( قَوْلُهُ : لِأَنَّ التَّحَلُّلَ شُرِعَ فِي حَقِّ الْمُحْصَرِ ؛ لِتَحْصِيلِ النَّجَاةِ ) مِنْ السَّبَبِ الْمَانِعِ ( وَبِالْإِحْلَالِ يَنْجُو مِنْ الْعَدُوِّ لَا الْمَرَضِ ) وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ يَرُدُّ عَلَى هَذَا بِبَادِئِ النَّظَرِ أَنْ يُقَالَ إنْ قُلْت إنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ إلَّا ؛ لِلنَّجَاةِ مِنْ السَّبَبِ مَنَعْنَا الْحَصْرَ ، وَإِنْ أَرَدْت أَنَّهُ مِنْ أَسْبَابِ شَرْعِيَّتِهِ لَمْ يُفِدْ نَفْيُ شَرْعِيَّتِهِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ ، فَلِذَا جَعَلَ بَعْضُهُمْ هَذَا الْوَجْهَ مَبْنِيًّا عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ ، هَكَذَا الْآيَةُ وَرَدَتْ ؛ لِبَيَانِ حُكْمِ إحْصَارِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ وَكَانَ بِالْعَدُوِّ ، وَقَالَ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ { فَإِذَا أَمِنْتُمْ } إلَى آخِرِهَا ، فَعُلِمَ أَنَّ شَرْعِيَّةَ الْإِحْلَالِ فِي الْعَدُوِّ كَانَ ؛ لِتَحْصِيلِ الْأَمْنِ مِنْهُ ، وَبِالْإِحْلَالِ لَا يَنْجُو مِنْ الْمَرَضِ وَلَا يَكُونُ الْإِحْصَارُ بِالْمَرَضِ فِي مَعْنَاهُ ، فَلَا يَكُونُ النَّصُّ الْوَارِدُ فِي الْعَدُوِّ وَارِدًا فِي الْمَرَضِ فَلَا يُلْحَقُ بِهِ دَلَالَةً وَلَا قِيَاسًا ؛ لِأَنَّ شَرْعِيَّةَ التَّحَلُّلِ قَبْلَ أَدَاءِ الْأَفْعَالِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْإِحْرَامِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ .
( وَقَوْلُهُ فَإِنَّهُمْ قَالُوا : الْإِحْصَارُ بِالْمَرَضِ

وَالْحَصْرُ بِالْعَدُوِّ ) أَفَادَ هَذَا أَنَّ مُرَادَهُ بِقَوْلِهِ وَرَدَتْ فِي الْإِحْصَارِ بِالْمَرَضِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ إجْمَاعَهُمْ عَلَى أَنَّ مَدْلُولَ لَفْظِ الْإِحْصَارِ الْمَنْعُ الْكَائِنُ بِالْمَرَضِ وَالْآيَةُ وَرَدَتْ بِذَلِكَ اللَّفْظِ فَيَلْزَمُ إجْمَاعُهُمْ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهَا ذَلِكَ إلَّا بِنَافٍ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ ذَلِكَ نُقِلَ عَنْ الْفَرَّاءِ وَالْكِسَائِيِّ وَالْأَخْفَشِ وَأَبِي عُبَيْدَةَ وَابْنِ السِّكِّيتِ وَالْقُتَبِيِّ وَغَيْرِهِمْ .
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ : عَلَى ذَلِكَ جَمِيعُ أَهْلِ اللُّغَةِ .
ثُمَّ الْمُقَابَلَةُ فِي نَقْلِهِ قَوْلُهُمْ الْإِحْصَارُ بِالْمَرَضِ وَالْحَصْرُ بِالْعَدُوِّ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْإِحْصَارَ خَاصٌّ بِالْمَرَضِ وَالْحَصْرَ خَاصٌّ بِالْعَدُوِّ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ كَوْنُ الْمَنْعِ بِالْمَرَضِ مِنْ مَاصَدَقَاتِ الْإِحْصَارِ ، فَإِنْ أَرَادَ الْأَوَّلَ وَرَدَ عَلَيْهِ كَوْنُ الْآيَةِ ؛ لِبَيَانِ حُكْمِ الْحَادِثَةِ الَّتِي وَقَعَتْ ؛ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَاحْتَاجَ إلَى جَوَابِ صَاحِبِ الْأَسْرَارِ .
وَحَاصِلُهُ كَوْنُ النَّصِّ الْوَارِدِ ؛ لِبَيَانِ حُكْمِ حَادِثَةٍ قَدْ يَنْتَظِمُهَا لَفْظًا وَقَدْ يَنْتَظِمُ غَيْرَهَا مِمَّا يُعْرَفُ بِهِ حُكْمُهَا دَلَالَةً ، وَهَذِهِ الْآيَةُ كَذَلِكَ إذْ يُعْلَمُ مِنْهَا حُكْمُ مَنْعِ الْعَدُوِّ بِطَرِيقٍ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ مَنْعَ الْعَدُوِّ حِسِّيٌّ لَا يَتَمَكَّنُ مَعَهُ مِنْ الْمُضِيِّ ، بِخِلَافِهِ فِي الْمَرَضِ إذْ يَتَمَكَّنُ مِنْهُ بِالْمَحْمَلِ وَالْمَرْكَبِ وَالْخَدَمِ ، فَإِذَا جَازَ التَّحَلُّلُ مَعَ هَذَا فَمَعَ ذَلِكَ أَوْلَى إلَّا أَنَّهُ مُنَافٍ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ الْوَجْهِ الْمَعْقُولِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : وَلِأَنَّ التَّحَلُّلَ إنَّمَا شُرِعَ ؛ لِدَفْعِ الْحَرَجِ الْآتِي مِنْ قِبَلِ امْتِدَادِ الْإِحْرَامِ ، وَالصَّبْرُ عَلَيْهِ مَعَ الْمَرَضِ أَعْظَمُ ، فَإِنَّهُ يُفِيدُ أَنَّ حُكْمَ التَّحَلُّلِ مَعَ الْمَرَضِ أَوْلَى مِنْهُ مَعَ الْعَدُوِّ فَلَا يَكُونُ النَّصُّ عَلَيْهِ مَعَ الْمَرَضِ يُفِيدُهُ مَعَ الْعَدُوِّ بِطَرِيقِ الدَّلَالَة ، وَلَا

تَنْدَفِعُ الْمُنَافَاةُ بِقَوْلِنَا : إنَّ هَذَا مَذْكُورٌ بِطَرِيقِ التَّنَزُّلِ فِي مَعْنَى الْآيَةِ : أَيْ لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّهَا فِي الْإِحْصَارِ بِالْعَدُوِّ فَيَثْبُتُ فِي الْمَرَضِ بِطَرِيقٍ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ عَلَى تَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ مُدَّعًى حَقِيقَتُهُ ، وَعَلَى تَقْدِيرِهِ يَلْزَمُ مَا ذَكَرْنَا .
وَالْأَوْلَى إرَادَةُ الْأَوَّلِ وَهُوَ مَحْمَلُ قَوْلِ أَهْلِ اللُّغَةِ الْإِحْصَارُ بِالْمَرَضِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } وَالْمُرَادُ مَنَعَهُمْ الِاشْتِغَالُ بِالْجِهَادِ وَهُوَ أَمْرٌ رَاجِعٌ إلَى الْعَدُوِّ ، أَوْ الْمُرَادُ أَهْلُ الصُّفَّةِ مَنَعَهُمْ تَعَلُّمُ الْقُرْآنِ أَوْ شِدَّةُ الْحَاجَةِ وَالْجُهْدُ عَنْ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ ؛ لِلتَّكَسُّبِ .
وَقَالَ ابْنُ مَيَّادَةَ : وَمَا هَجْرُ لَيْلَى أَنْ تَكُونَ تَبَاعَدَتْ عَلَيْك وَلَا أَنْ أَحْصَرَتْك شُغُولٌ وَلَيْسَ هُوَ بِالْمَرَضِ .
وَفِي الْكَشَّافِ يُقَالُ : أُحْصِرَ فُلَانٌ إذَا مَنَعَهُ أَمْرٌ مِنْ خَوْفٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ عَجْزٍ ، وَحُصِرَ إذَا حَبَسَهُ عَدُوٌّ عَنْ الْمُضِيِّ أَوْ سِجْنٌ ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْمُحْبَسِ الْحَصِيرُ وَلِلْمَلِكِ الْحَصِيرُ ، هَذَا هُوَ الْأَكْثَرُ فِي كَلَامِهِمْ ا هـ .
وَفِي نِهَايَةِ ابْنِ الْأَثِيرِ يُقَالُ : أَحَصَرَهُ الْمَرَضُ أَوْ السُّلْطَانُ إذَا مَنَعَهُ مِنْ مَقْصِدِهِ فَهُوَ مُحْصَرٌ ، وَحَصَرَهُ إذَا حَبَسَهُ فَهُوَ مَحْصُورٌ ، وَالْمُعَارَضَةُ مَعَ ذَلِكَ بَيْنَ جَوَابِ الشَّيْخَيْنِ قَائِمَةٌ .
وَالْأَقْرَبُ حِينَئِذٍ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ كَوْنُ الْآيَةِ تَنْتَظِمُ الْحَادِثَةَ لَفْظًا وَلَوْ بِعُمُومِهَا ، وَعَلَى التَّقْدِيرِ انْتَفَى نَفْيُ الشَّافِعِيِّ إلْحَاقَ الْمَرَضِ بِالْعَدُوِّ وَقَصْرَ إفَادَةِ الْآيَةِ عَلَى شَرْعِيَّتِهِ لِلنَّجَاةِ مِنْ الْعَدُوِّ ثُمَّ وَجَدْنَاهُ وَاقِعًا فِي الْحَدِيثِ .
رَوَى الْحَجَّاجُ بْنُ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيُّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَنْ كُسِرَ أَوْ عَرِجَ فَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ } فَذُكِرَ ذَلِكَ لِابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَا : صَدَقَ ، رَوَاهُ الْخَمْسَةُ .

قَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَفِي شَرْحِ الْآثَارِ : حَدَّثَنَا فَهْدٌ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنِ مَعْبَدِ بْنِ شَدَّادٍ الْعَبْدِيُّ صَاحِبُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ قَالَ : حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ : لُدِغَ صَاحِبٌ لَنَا وَهُوَ مُحْرِمٌ بِعُمْرَةٍ فَذَكَرْنَاهُ لِابْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ : يَبْعَثُ بِهَدْيٍ وَيُوَاعِدُ أَصْحَابَهُ مَوْعِدًا ، فَإِذَا نُحِرَ عَنْهُ حَلَّ .
وَبِهِ إلَى جَرِيرٍ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : ثُمَّ عَلَيْهِ عُمْرَةٌ بَعْدَ ذَلِكَ .
وَهَذَانِ يُفِيدَانِ شَرْعِيَّتَهُ ؛ لِدَفْعِ أَذَى امْتِدَادِ الْإِحْرَامِ مَعَ الْحَابِسِ عَنْ الْأَعْمَالِ .
وَقَدْ يُقَالُ : حَدِيثُ " مَنْ كُسِرَ " غَيْرُ مُصَرِّحٍ بِجَوَازِ الْإِحْلَالِ فَيَجُوزُ كَوْنُ الْمُرَادِ أَنَّهُ إذَا حُبِسَ بِذَلِكَ حَتَّى فَاتَهُ الْحَجُّ فَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ ، فَإِذَا قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ شَرْعِيَّتَهُ لِلْحَابِسِ مُطْلَقًا اُسْتُفِيدَ جَوَازُهُ ؛ لِمَنْ سُرِقَتْ نَفَقَتُهُ ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ لَا إنْ قَدَرَ كَذَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ .
وَلَا يَبْعُدُ أَنْ لَا يَجِبَ الْمَشْيُ فِي الِابْتِدَاءِ وَيَلْزَمُ بَعْدَ الشُّرُوعِ ، كَالْفَقِيرِ إذَا شَرَعَ فِي الْحَجِّ وَالْمَرْأَةِ إذَا مَاتَ مَحْرَمُهَا فِي الطَّرِيقِ أَوْ زَوْجُهَا فِي غَيْرِ مَحَلِّ إقَامَةٍ وَلَا قَرِيبَ مِنْهُ وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ عَلَى مَا يُعْرَفُ فِي بَابِ الْعِدَّةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَأَمَّا الَّذِي ضَلَّ الطَّرِيقَ فَهُوَ مُحْصَرٌ إلَّا أَنَّهُ يَزُولُ إحْصَارُهُ بِوُجُودِ مَنْ يَبْعَثُ مَعَهُ هَدْيَ التَّحَلُّلِ فَإِنَّهُ بِهِ يَذْهَبُ الْمَانِعُ إذْ يُمْكِنُهُ الذَّهَابُ مَعَهُ إلَى مَكَّةَ ، فَهُوَ كَالْمُحْصَرِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الْهَدْيِ فَيَبْقَى مُحْرِمًا إلَى أَنْ يَحُجَّ إنْ زَالَ الْإِحْصَارُ قَبْلَ فَوَاتِ الْحَجِّ أَوْ يَتَحَلَّلَ بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ إذَا اسْتَمَرَّ الْإِحْصَارُ حَتَّى فَاتَهُ الْحَجُّ .
هَذَا إذَا ضَلَّ فِي

الْحِلِّ ، أَمَّا إنْ ضَلَّ فِي أَرْضِ الْحَرَمِ فَعَلَى قَوْلِ مَنْ أَثْبَتَ الْإِحْصَارَ فِي الْحَرَمِ إذَا لَمْ يَجِدْ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ لَهُ أَنْ يَذْبَحَ إنْ كَانَ مَعَهُ الْهَدْيُ وَيَحِلُّ ، كَذَا ذُكِرَ .
وَاَلَّذِي يَظْهَرُ مِنْ تَعْلِيلِ مَنْعِ الْإِحْصَارِ فِي الْحَرَمِ تَخْصِيصُهُ بِالْعَدُوِّ أَمَّا إنْ أُحْصِرَ فِيهِ بِغَيْرِهِ فَالظَّاهِرُ تَحَقُّقُهُ عَلَى قَوْلٍ لِلْكُلِّ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ .
( قَوْلُهُ : وَوَاعَدَ ) الِاحْتِيَاجُ إلَى الْمُوَاعَدَةِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ ذَبْحُ هَدْيِ الْإِحْصَارِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ ، أَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَلَا حَاجَةَ ؛ لِأَنَّهُمَا عَيَّنَا يَوْمَ النَّحْرِ وَقْتًا لَهُ ، وَقَوْلُهُ ثُمَّ تَحَلَّلَ يُفِيدُ أَنَّهُ لَا يَتَحَلَّلُ قَبْلَهُ حَتَّى لَوْ ظَنَّ الْمُحْصَرُ أَنَّ الْهَدْيَ قَدْ ذُبِحَ فِي يَوْمِ الْمُوَاعَدَةِ فَفَعَلَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ ثُمَّ ظَهَرَ عَدَمُ الذَّبْحِ إذْ ذَاكَ كَانَ عَلَيْهِ مُوجِبُ الْجِنَايَةِ ، وَكَذَا لَوْ ذَبَحَ فِي الْحِلِّ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ ذَبَحَ فِي الْحَرَمِ وَمَا أَكَلَ مِنْهُ الَّذِي مَعَهُ ضَمِنَ قِيمَتَهُ يَتَصَدَّقُ بِهَا عَنْ الْمُحْصَرِ إنْ كَانَ غَنِيًّا .
( قَوْلُهُ : وَإِلَيْهِ ) مَرْجِعُ الضَّمِيرِ التَّوَقُّتُ بِالْحَرَمِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ يَذْبَحُ فِي الْحَرَمِ مَعَ قَوْلِهِ وَالْإِرَاقَةُ لَمْ تُعْرَفْ قُرْبَةً إلَّا فِي زَمَانٍ أَوْ مَكَان ، وَالْآيَةُ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } إمَّا فِي الْإِحْصَارِ بِخُصُوصِهِ أَوْ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ ، أَوْ هُوَ مِنْ عُمُومِ اللَّفْظِ الْوَارِدِ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ فَيَتَنَاوَلُ مَنْعَ الْحَلْقِ قَبْلَ الْأَعْمَالِ فِي الْإِحْصَارِ وَبَعْدَهَا فِي غَيْرِهِ إلَى أَنْ يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ وَبَيَّنَ مَحِلَّهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } وَعَنْهَا قُلْنَا : إذَا لَمْ يَجِدْ الْمُحْصَرُ الْهَدْيَ يَبْقَى مُحْرِمًا حَتَّى يَجِدَهُ فَيَتَحَلَّلَ بِهِ أَوْ يَتَحَلَّلَ بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ إنْ لَمْ يَجِدْهُ حَتَّى فَاتَهُ الْحَجُّ ، فَإِنْ

اسْتَمَرَّ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْوُصُولِ إلَى مَكَّةَ وَلَا إلَى الْهَدْيِ بَقِيَ مُحْرِمًا أَبَدًا هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الْمَعْرُوفُ .
وَلَوْ سُرِقَ الْهَدْيُ بَعْدَ ذَبْحِهِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، فَإِنْ لَمْ يُسْرَقْ تَصَدَّقَ بِهِ ، فَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ الذَّابِحُ ضَمِنَ قِيمَةَ مَا أَكَلَ إنْ كَانَ غَنِيًّا يَتَصَدَّقُ بِهِ عَنْ الْمُحْصَرِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْمُحْصَرِ إنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا قَوَّمَ الْهَدْيَ طَعَامًا وَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى كُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ أَوْ يَصُومُ مَكَانَ كُلِّ مِسْكِينٍ يَوْمًا فَيَتَحَلَّلُ بِهِ ، رَوَاهُ عَنْ عَطَاءٍ .
قَالَ فِي الْأَمَالِي : وَهَذَا أَحَبُّ إلَيَّ .
قُلْنَا : هَذَا قِيَاسٌ يُخَالِفُ النَّصَّ فِي عَيْنِ الْمَقِيسِ فَلَا يُقْبَلُ .
وَقَالَ التُّمُرْتَاشِيُّ : إنْ لَمْ يَجِدْ بَقِيَ مُحْرِمًا .
وَقِيلَ يَصُومُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ يَتَحَلَّلُ ، وَقِيلَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، وَقِيلَ بِإِزَاءِ كُلِّ نِصْفِ صَاعٍ يَوْمًا .
وَمَنْ أُحْصِرَ فَوَصَلَ إلَى مَكَّةَ لَمْ يَبْقَ مُحْصَرًا عَلَى قَوْلِ الْإِمَامِ عَلَى مَا سَيَأْتِي ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْأَعْمَالِ صَبَرَ حَتَّى يَفُوتَهُ الْحَجُّ وَيَتَحَلَّلُ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا فِي الْإِحْصَارِ بِالْعَدُوِّ .
وَكَذَا قِيلَ : لَوْ قَدِمَ قَارِنٌ فَطَافَ وَسَعَى ؛ لِعُمْرَتِهِ وَحَجَّتِهِ ثُمَّ خَرَجَ إلَى بَعْضِ الْآفَاقِ قَبْلَ الْوُقُوفِ وَأُحْصِرَ فَإِنَّهُ يَبْعَثُ بِهَدْيٍ وَيَحِلُّ بِهِ وَيَقْضِي حَجَّةً وَعُمْرَةً لِحَجَّتِهِ وَلَا عُمْرَةَ عَلَيْهِ لِعُمْرَتِهِ مَعَ أَنَّهُ طَافَ ، وَسَعَى لِحَجَّتِهِ ، وَلَا يَحِلُّ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَجِبُ بَعْدَ الْفَوَاتِ .
وَلَوْ أُحْصِرَ عَبْدٌ أَحْرَمَ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ بَعَثَ الْمَوْلَى الْهَدْيَ نَدْبًا ، وَلَوْ كَانَ أَحْرَمَ بِإِذْنِهِ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي وُجُوبِ بَعْثِ الْمَوْلَى وَعَدَمِهِ بَلْ يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ عِنْدَ الْعِتْقِ .
( قَوْلُهُ : وَلَنَا أَنَّ الْمُرَاعَى أَصْلُ التَّخْفِيفِ لَا نِهَايَتُهُ ) لَمْ يُذْكَرْ فِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ اعْتَبَرَ نِهَايَةَ التَّخْفِيفِ ، لَكِنْ

دَعْوَاهُ الْقَائِلَةُ أَنَّ التَّوْقِيتَ يُبْطِلُ التَّخْفِيفَ .
وَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ : إنْ قُلْت إنَّ الْمُرَاعَى نِهَايَةُ التَّخْفِيفِ مَنَعْنَاهُ أَوْ أَصْلُهُ ، فَبِالتَّوْقِيتِ لَا يَنْتَفِي أَصْلُ التَّخْفِيفِ بِالْكُلِّيَّةِ ؛ لِتَيَسُّرِ مَنْ يُرْسِلُ مَعَهُ الْهَدْيَ عَادَةً مِنْ الْمُسَافِرِينَ .
وَأَمَّا الِاسْتِيضَاحُ عَلَى كَوْنِ الْمُرَاعَى أَصْلَ التَّخْفِيفِ بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا يَبْقَى مُحْرِمًا أَبَدًا فَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ لَا يَقُولُ بِهِ ، بَلْ إذَا لَمْ يَجِدْهُ عِنْدَهُ قُوِّمَتْ شَاةٌ وَسَطٌ فَيَصُومُ عَنْ كُلِّ مُدٍّ مِنْ قِيمَتِهَا يَوْمًا ، وَفِي قَوْلٍ عَشَرَةَ أَيَّامٍ كَمَا فِي الْعَجْزِ عَنْ هَدْيِ الْمُتْعَةِ عِنْدَهُ ، وَالْجَوَابُ مَا تَقَدَّمَ وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ التَّرْدِيدُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ .
( قَوْلُهُ : إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ الْحَلْقُ أَوْ التَّقْصِيرُ ) ، وَإِلَّا قَالَ ثُمَّ احْلِقْ وَنَحْوَهُ ، فَلَمَّا عَدَلَ إلَى الْمَعْنَى الْأَعَمِّ اسْتَفَدْنَا عَدَمَ تَعَيُّنِ الْحَلْقِ .
وَقَوْلُهُ : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَطْلَقَهُ عَنْهُمَا ، وَفِي الْكَافِي : إنَّمَا لَا يَحْلِقُ إذَا أُحْصِرَ فِي الْحِلِّ ، أَمَّا إذَا أُحْصِرَ فِي الْحَرَمِ فَيَحْلِقُ ؛ لِأَنَّ الْحَلْقَ مُوَقَّتٌ بِالْحَرَمِ عِنْدَهُمَا ، فَعَلَى هَذَا كَانَ حَلْقُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ لِكَوْنِهِ فِي الْحَرَمِ ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ الْحَرَمِ عَلَى مَا قَدَّمَهُ الْمُصَنِّفُ ، وَلِمَا لَمْ يَقُلْ الْمُصَنِّفُ فِي جَوَابِ أَبِي يُوسُفَ عَنْ حَلْقِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي الْحَرَمِ بَلْ إنَّ حَلْقَهُ كَانَ لَيُعَرَّفُ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَوْ بِتَخْفِيفِهَا مَبْنِيًّا ؛ لِلْمَفْعُولِ اسْتِحْكَامُ عَزِيمَتِهِمْ عَلَى الِانْصِرَافِ أَيْ ؛ لِيُعَرِّفَ الْمُشْرِكِينَ ذَلِكَ فَلَا يَشْتَغِلُوا بِأَمْرِ الْحَرْبِ كَانَ ظَاهِرًا فِي اعْتِقَادِهِ إطْلَاقَ الْوُجُوبِ فَلَا يَجِبُ عِنْدَهُمَا الْحَلْقُ سَوَاءٌ أُحْصِرَ فِي الْحِلِّ أَوْ الْحَرَمِ .
( قَوْلُهُ : لِأَنَّ التَّحَلُّلَ مِنْهُمَا شُرِعَ فِي حَالَةٍ

وَاحِدَةٍ ) أَيْ لَيْسَ غَيْرُ ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَلَا أُحِلُّ حَتَّى أُحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا } فِي الصَّحِيحِ .

( وَلَا يَجُوزُ ذَبْحُ دَمِ الْإِحْصَارِ إلَّا فِي الْحَرَمِ ، وَيَجُوزُ ذَبْحُهُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَالَا : لَا يَجُوزُ الذَّبْحُ لِلْمُحْصَرِ بِالْحَجِّ إلَّا فِي يَوْمِ النَّحْرِ ، وَيَجُوزُ لِلْمُحْصَرِ بِالْعُمْرَةِ مَتَى شَاءَ ) اعْتِبَارًا بِهَدْيِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ ، وَرُبَّمَا يَعْتَبِرَانِهِ بِالْحَلْقِ إذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحَلَّلٌ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ دَمُ كَفَّارَةٍ حَتَّى لَا يَجُوزَ الْأَكْلُ مِنْهُ فَيَخْتَصُّ بِالْمَكَانِ دُونَ الزَّمَانِ كَسَائِرِ دِمَاءِ الْكَفَّارَاتِ ، بِخِلَافِ دَمِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ ؛ لِأَنَّهُ دَمُ نُسُكٍ ، وَبِخِلَافِ الْحَلْقِ ؛ لِأَنَّهُ فِي أَوَانِهِ ؛ لِأَنَّ مُعْظَمَ أَفْعَالِ الْحَجِّ وَهُوَ الْوُقُوفُ يَنْتَهِي بِهِ .

( قَوْلُهُ : وَرُبَّمَا يُعْتَبَرُ أَنَّهُ إلَخْ ) أَمَّا اعْتِبَارُهُمَا إيَّاهُ بِالْحَلْقِ فَبِجَامِعِ أَنَّهُ مُحَلَّلٌ وَهُوَ إلْزَامِيٌّ ، فَإِنَّهُمَا لَا يَقُولَانِ بِتَوَقُّتِ الْحَلْقِ فِي الْحَرَمِ بَلْ مِنْ حَيْثُ السُّنِّيَّةُ ، وَالْمُلْحَقُ هُنَا عِنْدَهُمَا اللُّزُومُ ، وَالْإِلْزَامِيُّ لَا يُفِيدُ فِي الْمَطْلُوبِ شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اعْتَرَفَ الْخَصْمُ بِالْخَطَأِ فِي أَحَدِهِمَا فَقَالَ أَعْتَرِفُ بِالْخَطَإِ فِي أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ عَدَمِ تَوْقِيتِ الذَّبْحِ بِالزَّمَانِ أَوْ تَوْقِيتِ الْحَلْقِ بِهِ لَمْ يَلْزَمْ خَطَؤُهُ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ عَيْنًا .
وَأَمَّا اعْتِبَارُهُمَا بِهَدْيِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ فَبِجَامِعِ أَنَّهُ هَدْيٌ تَتَعَلَّقُ الْقُرْبَةُ فِيهِ بِنَفْسِ الْإِرَاقَةِ ، وَهُوَ مُعَارَضٌ بِالْقِيَاسِ عَلَى سَائِرِ دِمَاءِ الْكَفَّارَاتِ ، وَهَذَا أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْجَامِعَ فِي قِيَاسِهِمَا إنَّمَا هُوَ أَثَرُهُ فِي تَوَقُّتِهِ بِالْمَكَانِ بِسَبَبِ أَنَّهُ اسْمٌ إضَافِيٌّ ، إذْ مَعْنَاهُ مَا يُهْدَى إلَى مَكَان وَذَلِكَ الْمَكَانُ هُوَ الْحَرَمُ بِالِاتِّفَاقِ وَالنَّصِّ ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } وَتَوَقُّتُهُ بِالزَّمَانِ لَيْسَ مَعْلُولًا ؛ لِكَوْنِهِ هَدْيًا ، بَلْ اتَّفَقَ مَعَهُ اتِّفَاقًا حُكْمًا شَرْعِيًّا لَمْ يَظْهَرْ تَأْثِيرُهُ فِيهِ فَكَانَ وَصْفًا طَرْدِيًّا فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ فَلَا يُعَلَّلُ بِهِ ، بِخِلَافِ دِمَاءِ الْكَفَّارَاتِ فَإِنَّ الْكَفَّارَةَ مُؤَثِّرَةٌ فِي سَتْرِ الْجِنَايَةِ ، وَهَذَا كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يَمْنَعُ التَّأْثِيمَ فِي مُبَاشَرَةِ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ كَمَا أَنَّ ذَلِكَ يَرْفَعُهُ ، وَمَعْنَى سَتْرِ الْجِنَايَةِ مُؤَثِّرٌ فِي عَدَمِ التَّأْخِيرِ مَا أَمْكَنَ ، وَلَازِمُهُ جَوَازُهُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ ، مَعَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ } مُطْلَقٌ فَلَا يُنْسَخُ إطْلَاقُهُ بِمَا ذَكَرَاهُ لَوْ صَحَّ .

قَالَ : ( وَالْمُحْصَرُ بِالْحَجِّ إذَا تَحَلَّلَ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ ) هَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَلِأَنَّ الْحَجَّةَ يَجِبُ قَضَاؤُهَا لِصِحَّةِ الشُّرُوعِ فِيهَا وَالْعُمْرَةُ لِمَا أَنَّهُ فِي مَعْنَى فَائِتِ الْحَجِّ ( وَعَلَى الْمُحْصَرِ بِالْعُمْرَةِ الْقَضَاءُ ) وَالْإِحْصَارُ عَنْهَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَنَا .
وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَتَحَقَّقُ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَوَقَّتُ .
وَلَنَا أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأَصْحَابَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أُحْصِرُوا بِالْحُدَيْبِيَةِ وَكَانُوا عُمَّارًا ؛ وَلِأَنَّ شَرْعَ التَّحَلُّلِ لِدَفْعِ الْحَرَجِ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي إحْرَامِ الْعُمْرَةِ ، وَإِذَا تَحَقَّقَ الْإِحْصَارُ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ إذَا تَحَلَّلَ كَمَا فِي الْحَجِّ .

( قَوْلُهُ : هَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ ) وَذَكَرَهُ الرَّازِيّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ ، ثُمَّ ذَكَرَ وَجْهَهُ مِنْ الْقِيَاسِ وَهُوَ عَلَى فَائِتِ الْحَجِّ .
وَقَدْ يُوْرَدُ عَلَيْهِ أَنَّ وُجُوبَ الْعُمْرَةِ عَلَى فَائِتِ الْحَجِّ إنَّمَا هُوَ ؛ لِلتَّحَلُّلِ بِهَا ، وَالْمُحْصَرُ يَتَحَلَّلُ بِالْهَدْيِ فَلَا تَجِبُ الْعُمْرَةُ عَلَيْهِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْهَدْيَ ؛ لِتَعْجِيلِ الْإِحْلَالِ قَبْلَ الْأَعْمَالِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَحَقَّقَ مِنْ الشَّرْعِ أَنَّهُ مَتَى صَحَّ الشُّرُوعُ فِي الْإِحْرَامِ انْعَقَدَ لَازِمًا وَلَا يَخْرُجُ عَنْهُ إلَّا بِأَدَاءِ الْأَفْعَالِ : أَيْ أَفْعَالِ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ ، حَتَّى أَنَّهُ إذَا فَاتَهُ مَا أَحْرَمَ بِهِ مِنْ الْحَجِّ لَمْ يُسَوَّغْ خُرُوجُهُ إلَّا بِأَفْعَالٍ هِيَ أَفْعَالُ عُمْرَةٍ ، وَإِذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ يَنْوِي الْفَرْضَ ثُمَّ ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ كَانَ أَدَّاهُ لَزِمَهُ الْمُضِيُّ فِيهِ ، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ حَيْثُ لَا يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ فِيهِ مَظْنُونُ الْوُجُوبِ .
، وَإِذَا أَفْسَدَهُ وَجَبَ الْمُضِيُّ فِي الْفَاسِدِ وَلَا يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَتِهِ إلَّا بِالْأَفْعَالِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ ، وَإِذَا صَحَّ شُرُوعُ الْمُحْصَرِ لَا يَتَحَلَّلُ بِمُقْتَضَى مَا ذَكَرْنَا إلَّا بِأَفْعَالِ عُمْرَةٍ ، كَفَائِتٍ ؛ لِلْحَجِّ فَإِنَّهُ عَجَزَ عَنْ الْإِتْمَامِ بَعْدَ الشُّرُوعِ ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ وَجَبَ أَنْ يُحْكَمَ بِوُجُوبِ قَضَائِهَا رَدًّا إلَى مَا عُهِدَ مِنْ أَمْرِ الْحَجِّ فِي الشَّرْعِ ، وَأَنَّ الدَّمَ وَجَبَ عَلَيْهِ بِتَعْجِيلِ الْإِحْلَالِ قَبْلَ الْأَعْمَالِ ، وَهُوَ لَا يَنْفِي بَقَاءَ ذَلِكَ الْوَاجِبِ ، وَعَنْ هَذَا قُلْنَا : لَوْ لَمْ يَحِلَّ حَتَّى تَحَقَّقَ بِوَصْفِ الْفَوَاتِ تَحَلَّلَ بِالْأَفْعَالِ بِلَا دَمٍ وَلَا عُمْرَةٍ فِي الْقَضَاءِ ، ثُمَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ وُجُوبِ الْحَجَّةِ وَالْعُمْرَةِ فِي الْقَضَاءِ عَلَى الْمُحْصَرِ هُوَ فِيمَا إذَا قَضَاهَا مِنْ قَابِلٍ ، فَلَوْ قَضَى الْحَجَّةَ مِنْ عَامِهِ لَا تَجِبُ مَعَهَا عُمْرَةٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ كَفَائِتِ الْحَجِّ كَذَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ .

وَعَنْهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةِ التَّعْيِينِ إذَا قَضَاهَا فِي تِلْكَ السَّنَةِ ، ذَكَرَهُمَا مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ .
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ عَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ فِي الْوَجْهَيْنِ وَعَلَيْهِ نِيَّةُ الْقَضَاءِ ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ ، وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافُ وَالتَّفْصِيلُ مَا إذَا أَحْرَمَتْ الْمَرْأَةُ بِحَجَّةِ تَطَوُّعٍ فَمَنَعَهَا زَوْجُهَا وَحَلَّلَهَا ثُمَّ أَذِنَ لَهَا بِالْإِحْرَامِ فَأَحْرَمَتْ مِنْ عَامِهَا أَوْ تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ ، وَإِذَا قَضَاهُمَا مِنْ قَابِلٍ إنْ شَاءَ قَرَنَ بِهِمَا ، وَإِنْ شَاءَ أَفْرَدَهُمَا .
وَاعْلَمْ أَنَّ نِيَّةَ الْقَضَاءِ إنَّمَا تَلْزَمُ إذَا تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ اتِّفَاقًا فِيمَا إذَا كَانَ الْإِحْصَارُ بِحَجِّ نَفْلٍ ، أَمَّا إذَا كَانَ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ فَلَا ؛ لِأَنَّهَا قَدْ بَقِيَتْ عَلَيْهِ حِينَ لَمْ يُؤَدِّهَا فَيَنْوِي حَجَّةَ الْإِسْلَامِ مِنْ قَابِلٍ .
( قَوْلُهُ : لِأَنَّهَا لَا تَتَوَّقَتْ ) فَلَا يَتَحَقَّقُ خَوْفُ الْفَوَاتِ .
قُلْنَا خَوْفُ الْفَوَاتِ لَيْسَ هُوَ الْمُبِيحُ ؛ لِلتَّحَلُّلِ ، وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ التَّحَلُّلُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا فَاتَهُ الْحَجُّ يَتَحَلَّلُ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ ، وَذَلِكَ لَا يَفُوتُ ، فَعُلِمَ أَنَّ التَّحَلُّلَ إنَّمَا أُبِيحَ ؛ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ ضَرَرِ امْتِدَادِ الْإِحْرَامِ مَعَ ظُهُورِ عَجْزِهِ عَنْ الْأَدَاءِ .
وَمِنْ فُرُوعِ الْإِحْصَارِ بِالْعُمْرَةِ : رَجُلٌ أَهَلَّ بِنُسُكٍ مُبْهَمٍ فَأُحْصِرَ قَبْلَ التَّعْيِينِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَبْعَثَ بِهَدْيٍ وَاحِدٍ وَيَقْضِيَ عُمْرَةً اسْتِحْسَانًا .
وَفِي الْقِيَاسِ حَجَّةً وَعُمْرَةً ؛ لِأَنَّ إحْرَامَهُ إنْ كَانَ لِلْحَجِّ لَزِمَاهُ فَكَانَ فِيهِ الِاحْتِيَاطُ لَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ الْمُتَيَقَّنَ وَهُوَ الْعُمْرَةُ فَتَصِيرُ هِيَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ وَلِأَنَّهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْخُرُوجِ عَنْ هَذَا الْإِحْرَامِ بِأَدَاءِ عُمْرَةٍ فَكَذَا بَعْدَهُ .
وَعَنْ هَذَا أَيْضًا قُلْنَا : لَوْ جَامَعَ قَبْلَ التَّعْيِينِ لَزِمَهُ دَمُ الْجِمَاعِ وَالْمُضِيُّ فِي أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ وَقَضَاؤُهَا ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ عَيَّنَ نُسُكًا

فَنَسِيَهُ ثُمَّ أُحْصِرَ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ تَيَقَّنَّا عَدَمَ نِيَّةِ الْحَجِّ وَهُنَا جَازَ كَوْنُ الْمَنْوِيِّ كَانَ الْحَجَّ فَيَحِلُّ بِهَدْيٍ وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ لِهَذَا الِاحْتِيَاطِ .
وَلَوْ أَحْرَمَ بِشَيْئَيْنِ وَالْبَاقِي بِحَالِهِ فَأُحْصِرَ بَعَثَ بِهَدْيَيْنِ وَيَقْضِي حَجَّةً وَعُمْرَتَيْنِ اسْتِحْسَانًا وَقَدْ قَدَّمْنَا هَذِهِ .

( وَعَلَى الْقَارِنِ حَجَّةٌ وَعُمْرَتَانِ ) أَمَّا الْحَجُّ وَإِحْدَاهُمَا فَلِمَا بَيَّنَّا ، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَلِأَنَّهُ مُخْرَجٌ مِنْهَا بَعْدَ صِحَّةِ الشُّرُوعِ فِيهَا .
.
( قَوْلُهُ : وَعَلَى الْقَارِنِ حَجَّةٌ وَعُمْرَتَانِ ) يَقْضِيهِمَا بِقِرَانٍ أَوْ إفْرَادٍ ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَقْضِ فِي سَنَةِ الْإِحْصَارِ ، وَأَمَّا إذَا زَالَ الْإِحْصَارُ بَعْدَ التَّحَلُّلِ بِالذَّبْحِ وَالْوَقْتُ يَسَعُ لِتَجْدِيدِ الْإِحْرَامِ وَالْأَدَاءِ فَفَعَلَ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ عُمْرَةُ الْقِرَانِ عَلَى مَا هُوَ رِوَايَةُ الْأَصْلِ

( فَإِنْ بَعَثَ الْقَارِنُ هَدْيًا وَوَاعَدَهُمْ أَنْ يَذْبَحُوهُ فِي يَوْمٍ بِعَيْنِهِ ثُمَّ زَالَ الْإِحْصَارُ ، فَإِنْ كَانَ لَا يُدْرِكُ الْحَجَّ وَالْهَدْيَ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَوَجَّهَ بَلْ يَصْبِرَ حَتَّى يَتَحَلَّلَ بِنَحْرِ الْهَدْيِ ) لِفَوَاتِ الْمَقْصُودِ مِنْ التَّوَجُّهِ وَهُوَ أَدَاءُ الْأَفْعَالِ ، وَإِنْ تَوَجَّهَ لِيَتَحَلَّلَ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ فَائِتُ الْحَجِّ ( وَإِنْ كَانَ يُدْرِكُ الْحَجَّ وَالْهَدْيَ لَزِمَهُ التَّوَجُّهُ ) لِزَوَالِ الْعَجْزِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْخَلَفِ ، وَإِذَا أَدْرَكَ هَدْيَهُ صَنَعَ بِهِ مَا شَاءَ ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ وَقَدْ كَانَ عَيَّنَهُ لِمَقْصُودٍ اسْتَغْنَى عَنْهُ ( وَإِنْ كَانَ يُدْرِكُ الْهَدْيَ دُونَ الْحَجِّ يَتَحَلَّلُ ) لِعَجْزِهِ عَنْ الْأَصْلِ ( وَإِنْ كَانَ يُدْرِكُ الْحَجَّ دُونَ الْهَدْيِ جَازَ لَهُ التَّحَلُّلُ ) اسْتِحْسَانًا ، وَهَذَا التَّقْسِيمُ لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِهِمَا فِي الْمُحْصَرِ بِالْحَجِّ ؛ لِأَنَّ دَمَ الْإِحْصَارِ عِنْدَهُمَا يَتَوَقَّتُ بِيَوْمِ النَّحْرِ ، فَمَنْ يُدْرِكُ الْحَجَّ يُدْرِكُ الْهَدْيَ ، وَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَفِي الْمُحْصَرِ بِالْعُمْرَةِ يَسْتَقِيمُ بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِعَدَمِ تَوَقُّتِ الدَّمِ بِيَوْمِ النَّحْرِ .
وَجْهُ الْقِيَاسِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ وَهُوَ الْحَجُّ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ ، وَهُوَ الْهَدْيُ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّا لَوْ أَلْزَمْنَاهُ التَّوَجُّهُ لَضَاعَ مَالُهُ ؛ لِأَنَّ الْمَبْعُوثَ عَلَى يَدَيْهِ الْهَدْيُ يَذْبَحُهُ وَلَا يَحْصُلُ مَقْصُودُهُ ، وَحُرْمَةُ الْمَالِ كَحُرْمَةِ النَّفْسِ ، وَلَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ صَبَرَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ أَوْ فِي غَيْرِهِ ؛ لِيُذْبَحَ عَنْهُ فَيَتَحَلَّلُ ، وَإِنْ شَاءَ تَوَجَّهَ لِيُؤَدِّيَ النُّسُكَ الَّذِي الْتَزَمَهُ بِالْإِحْرَامِ وَهُوَ أَفْضَلُ ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْوَفَاءِ بِمَا وَعَدَ ( وَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ ثُمَّ أُحْصِرَ لَا يَكُونُ مُحْصَرًا ) لِوُقُوعِ الْأَمْنِ عَنْ الْفَوَاتِ .

( قَوْلُهُ : فَإِنْ بَعَثَ الْقَارِنُ هَدْيًا ) الصَّوَابُ الْمُحْصَرُ مَكَانَ الْقَارِنِ ، وَهَذَا غَلَطٌ ظَاهِرٌ فِي النُّسَخِ ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ هَذَا الْحُكْمَ لَا يَخُصُّ الْقَارِنَ فَالْحَاجَةُ إلَى بَيَانِهِ مُطْلَقًا لَا عَلَى خُصُوصِ الْقَارِنِ ، وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ الْقَارِنَ إنَّمَا يَبْعَثُ بِدَمَيْنِ .
( قَوْلُهُ : فَإِنْ كَانَ لَا يُدْرِكْ إلَخْ ) حَاصِلُ وُجُوهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ إذَا زَالَ الْإِحْصَارُ بَعْدَ الْبَعْثِ ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يُدْرِكُ الْهَدْيَ وَالْحَجَّ أَوْ لَا يُدْرِكُهُمَا ، أَوْ يُدْرِكُ الْحَجَّ فَقَطْ أَوْ الْهَدْيَ فَقَطْ ، وَهَذَا التَّقْسِيمُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَذَكَرَ أَحْكَامَ الْأَقْسَامِ وَهِيَ ظَاهِرَةٌ .
( قَوْلُهُ : وَإِنْ تَوَجَّهَ ؛ لِيَحِلَّ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ لَهُ ذَلِكَ ) وَلَهُ فِي هَذَا فَائِدَةٌ هِيَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ عُمْرَةٌ فِي الْقَضَاءِ .
فَإِنْ قِيلَ : إذَا كَانَ الْمُحْصَرُ قَارِنًا يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِالْعُمْرَةِ الَّتِي وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِالشُّرُوعِ فِي الْقِرَانِ ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهَا .
قُلْنَا : إنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَدَائِهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَلْزَمُهُ وَهُوَ كَوْنُهُ عَلَى وَجْهٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْحَجُّ إذْ بِفَوَاتِ الْحَجِّ يَفُوتُ ذَلِكَ ( قَوْلُهُ : لَزِمَهُ التَّوَجُّهُ ) وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ بِالْهَدْيِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ ؛ لِعَجْزِهِ عَنْ إدْرَاكِ الْحَجِّ وَقَدْ قَدَرَ عَلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ الْخَلَفُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَصْلِ .
( قَوْلُهُ : وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ ) وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ( قَوْلُهُ : وَلَوْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ لَا يَلْزَمُهُ التَّوَجُّهُ فَكَذَا عَلَى مَالِهِ ) فَإِنَّا رَأَيْنَا الشَّرْعَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ أَنَّهُ أَنْزَلَ الْمَالَ كَالنَّفْسِ حَتَّى أَبَاحَ الْقِتَالَ دُونَهُ وَالْقَتْلُ كَالنَّفْسِ .
وَفِي الْبَدَائِعِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى إدْرَاكِ الْهَدْيِ صَارَ كَأَنَّ الْإِحْصَارَ زَالَ عَنْهُ بِالذَّبْحِ فَيَحِلُّ بِهِ ، وَلِأَنَّ الْهَدْيَ قَدْ

مَضَى ؛ لِسَبِيلِهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْمَبْعُوثِ مَعَهُ بِالذَّبْحِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الذَّهَابِ بَعْدَمَا ذُبِحَ عَنْهُ .
ا هـ .
وَلَا يُثْلِجُ الْخَاطِرَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَتَوَجَّهَ ؛ لِأَنَّ فِيهِ الْإِيفَاءَ بِمَا الْتَزَمَهُ كَمَا الْتَزَمَهُ .

( وَمَنْ أُحْصِرَ بِمَكَّةَ وَهُوَ مَمْنُوعٌ عَنْ الطَّوَافِ وَالْوُقُوفِ فَهُوَ مُحْصَرٌ ) ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْإِتْمَامُ فَصَارَ كَمَا إذَا أُحْصِرَ فِي الْحِلِّ ( وَإِنْ قَدَرَ عَلَى أَحَدِهِمَا فَلَيْسَ بِمُحْصَرٍ ) أَمَّا عَلَى الطَّوَافِ فَلِأَنَّ فَائِتَ الْحَجِّ يَتَحَلَّلُ بِهِ وَالدَّمُ بَدَلٌ عَنْهُ فِي التَّحَلُّلِ ، وَأَمَّا عَلَى الْوُقُوفِ فَلِمَا بَيَّنَّا ، وَقَدْ قِيلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَالصَّحِيحُ مَا أَعْلَمْتُك مِنْ التَّفْصِيلِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

( قَوْلُهُ : وَمَنْ أُحْصِرَ ) بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ ( لَا يَكُونُ مُحْصَرًا ؛ لِوُقُوعِ الْأَمْنِ مِنْ الْفَوَاتِ ) بِتَحَقُّقِ الْفِعْلِ فَلَا يَرِدُ النَّقْضُ بِالْعُمْرَةِ ، فَإِنَّ الْأَمْنَ مِنْ الْفَوَاتِ مُتَحَقِّقٌ فِيهَا مَعَ تَحَقُّقِ الْإِحْصَارِ بِهَا ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ هُنَا أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ الْفِعْلُ بِحَيْثُ لَا يُتَصَوَّرُ بَعْدَهُ فَسَادٌ وَلَا فَوَاتٌ ، وَسَقَطَ بِهِ الْفَرْضُ إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ الطَّوَافُ فِي أَيِّ وَقْتٍ اتَّفَقَ مِنْ عُمَرِهِ ، بِخِلَافِ مَعْنَى عَدَمِ الْفَوَاتِ فِي الْعُمْرَةِ فَلَمْ يَصْدُقْ عَلَيْهِ مَعْنَى الْإِحْصَارِ عَنْ الْحَجِّ ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ الْمَنْعُ عَنْ أَفْعَالِهِ ، وَهَذَا قَدْ فَعَلَ مَا لَهُ حُكْمُ الْكُلِّ فَلَمْ يَلْزَمْ امْتِدَادُ الْإِحْرَامِ الْمُوجِبِ لِلْحَرَجِ ؛ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ الْإِحْلَالِ بِالْحَلْقِ يَوْمَ النَّحْرِ عَنْ كُلِّ مَحْظُورٍ سِوَى النِّسَاءِ ، ثُمَّ إنْ حَلَقَ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ لَزِمَهُ دَمٌ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ الْعُذْرُ الْمُجَوِّزُ لِلْإِحْلَالِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ ؛ لِتَمَكُّنِهِ مِنْهُ عَلَى سُنَنِ الْمَشْرُوعِ الْأَصْلِيِّ ، غَيْرَ أَنَّهُ يَبْقَى الْمَنْعُ فِي يَسِيرٍ وَهُوَ النِّسَاءُ فَيَزُولُ بِالطَّوَافِ ، وَلَا يَعْجِزُ الْمُحْصَرُ عَنْ سَاعَةٍ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ يَجِدُ بِهَا فُرْصَةَ قَدْرِ الطَّوَافِ مُخْتَفِيًا فِي زَمَانٍ قَدْرَ شَهْرٍ ، وَالْمَنْعُ مِنْ النِّسَاءِ فِي هَذَا الْمِقْدَارِ لَا يَسْتَلْزِمُ حَرَجًا يُبِيحُ الْإِحْلَالَ مُطْلَقًا بِغَيْرِ الطَّرِيقِ الْأَصْلِيِّ : أَعْنِي الْحَلْقَ ، بِخِلَافِ الْإِحْصَارِ بِالْعُمْرَةِ وَهُوَ مُحْرِمٌ بِهَا ، هَذَا ، وَإِذَا تَحَقَّقَ الْإِحْصَارُ بَعْدَ مُجَرَّدِ الْوُقُوفِ كَانَ عَلَيْهِ دَمٌ ؛ لِوُقُوفِ الْمُزْدَلِفَةِ وَدَمُ الرَّمْيِ وَدَمَانِ ؛ لِتَأْخِيرِ الْحَلْقِ عَنْ الْمَكَانِ وَتَأْخِيرِ الطَّوَافِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إنْ أَخَّرَهُمَا وَدَمٌ آخَرُ إنْ حَلَقَ فِي الْحِلِّ .
وَاخْتُلِفَ هَلْ لَهُ ذَلِكَ أَمْ لَا ؟ قِيلَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْلِقَ فِي مَكَانِهِ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ ، وَلَوْ أَخَّرَهُ حَتَّى يَحْلِقَ فِي الْحَرَمِ تَأَخَّرَ عَنْ

زَمَانِهِ ، وَتَأْخِيرُهُ عَنْ الزَّمَانِ أَهْوَنُ مِنْهُ فِي غَيْرِ الْمَكَانِ .
وَقِيلَ لَهُ ، إذْ رُبَّمَا لَوْ أَخَّرَهُ ؛ لِيَحْلِقَ فِي الْحَرَمِ يَمْتَدُّ الْإِحْصَارُ فَيَحْتَاجُ إلَى الْحَلْقِ فِي الْحِلِّ فَيَفُوتُ الْمَكَانُ وَالزَّمَانُ ( قَوْلُهُ : وَقَدْ قِيلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ ) وَهُوَ مَا ذَكَرَ عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ : سَأَلْت أَبَا حَنِيفَةَ عَنْ الْمُحْرِمِ يُحْصَرُ بِالْحَرَمِ فَقَالَ : لَا يَكُونُ مُحْصَرًا ، فَقُلْت : أَلَيْسَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُحْصِرَ بِالْحُدَيْبِيَةِ وَهِيَ مِنْ الْحَرَمِ ؟ فَقَالَ : إنَّ مَكَّةَ كَانَتْ يَوْمَئِذٍ دَارَ الْحَرْبِ ، وَأَمَّا الْيَوْمُ فَهِيَ دَارُ الْإِسْلَامِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْإِحْصَارُ فِيهَا .
قَالَ أَبُو يُوسُفَ : أَمَّا أَنَا فَأَقُولُ : إذَا غَلَبَ الْعَدُوُّ عَلَى مَكَّةَ حَتَّى حَالُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَهُوَ مُحْصَرٌ .
وَالْأَصَحُّ أَنَّ التَّفْصِيلَ الْمَذْكُورَ قَوْلُ الْكُلِّ .
وَفِيهِ أَنَّ الْحُدَيْبِيَةَ مِنْ الْحَرَمِ ، وَهُوَ خِلَافُ مَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ أَنَّهَا مِنْ الْحِلِّ ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ مِنْ مَشَايِخِنَا أَنَّ بَعْضَهَا مِنْ الْحَرَمِ ، وَلَوْ صَحَّتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ فَلَا خِلَافَ فِي الْمَعْنَى إذَا لَاحَظْتَ تَعْلِيلَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَبِمُلَاحَظَتِهِ أَيْضًا يَتَّضِحُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ حَمْلِ مَنْعِهِ الْإِحْصَارَ بِالْحَرَمِ عَلَى مَا بِالْعُذْرِ ، إذْ لَا يَخْفَى إمْكَانُ تَحَقُّقِ الْعَجْزِ عَنْ الذَّهَابِ إلَى مَكَّةَ بِشِدَّةِ الْمَرَضِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ مَعَ تَحَقُّقِ الْإِضْرَارِ بِبَقَاءِ الْإِحْرَامِ مَعَ الْمَرَضِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
[ تَقْسِيمٌ ] الْمُتَحَلِّلُ قَبْلَ أَعْمَالِ مَا أَحْرَمَ بِهِ إمَّا مُحْصَرٌ أَوْ فَائِتُ الْحَجِّ أَوْ غَيْرُهُمَا ، وَتَحَلَّلَ الْأَوَّلُ فِي الْحَالِ بِالدَّمِ وَالثَّانِي بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ وَالثَّالِثِ بِلَا شَيْءٍ يَتَقَدَّمُهُ وَهُوَ كُلُّ مَنْ مُنِعَ مِنْ الْمُضِيِّ شَرْعًا ؛ لِحَقِّ الْعَبْدِ ، كَالْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ الْمَمْنُوعَيْنِ ؛ لِحَقِّ الزَّوْجِ وَالْمَوْلَى إذَا

أَحْرَمَا بِغَيْرِ إذْنٍ فَإِنَّ لِلزَّوْجِ وَالْمَوْلَى أَنْ يُحَلِّلَاهُمَا فِي الْحَالِ بِلَا شَيْءٍ ؛ ثُمَّ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَبْعَثَ بِهَدْيٍ يُذْبَحُ عَنْهَا فِي الْحَرَمِ ، وَعَلَى الْعَبْدِ إذَا أُعْتِقَ هَدْيُ الْإِحْصَارِ ، وَعَلَيْهِمَا مَعًا قَضَاءُ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ ، وَسَنَذْكُرُ تَمَامَهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمَسَائِلِ الْمَنْثُورَةِ .

بَابُ الْفَوَاتِ ( وَمَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَفَاتَهُ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ ) ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ وَقْتَ الْوُقُوفِ يَمْتَدُّ إلَيْهِ ( وَعَلَيْهِ أَنْ يَطُوفَ وَيَسْعَى وَيَتَحَلَّلَ وَيَقْضِيَ الْحَجَّ مِنْ قَابِلٍ وَلَا دَمَ عَلَيْهِ ) ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ فَاتَهُ عَرَفَةُ بِلَيْلٍ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ فَلْيَحِلَّ بِعُمْرَةٍ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ } وَالْعُمْرَةُ لَيْسَتْ إلَّا الطَّوَافَ وَالسَّعْيَ ، وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ بَعْدَمَا انْعَقَدَ صَحِيحًا لَا طَرِيقَ لِلْخُرُوجِ عَنْهُ إلَّا بِأَدَاءِ أَحَدِ النُّسُكَيْنِ كَمَا فِي الْإِحْرَامِ الْمُبْهَمِ ، وَهَاهُنَا عَجَزَ عَنْ الْحَجِّ فَتَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْعُمْرَةُ وَلَا دَمَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ التَّحَلُّلَ وَقَعَ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ فَكَانَتْ فِي حَقِّ فَائِتِ الْحَجِّ بِمَنْزِلَةِ الدَّمِ فِي حَقِّ الْمُحْصَرِ فَلَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا .

( بَابُ الْفَوَاتِ ) .
( قَوْلُهُ : لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { مَنْ فَاتَهُ عَرَفَةُ بِلَيْلٍ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ فَلِيَحِلَّ بِعُمْرَةٍ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ } ) رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ ، فَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي سَنَدِهِ رَحْمَةُ بْنُ مُصْعَبٍ ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ : ضَعِيفٌ وَقَدْ تَفَرَّدَ بِهِ ، وَرَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ وَضَعَّفَهُ بِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى ، وَضَعَّفَهُ عَنْ جَمَاعَةٍ .
وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيهِ يَحْيَى بْنُ عِيسَى النَّهْشَلِيُّ ضَعَّفَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَأَسْنَدَ تَضْعِيفَهُ عَنْ ابْنِ مَعِينٍ .
وَقَالَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ : رَوَى لَهُ مُسْلِمٌ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ خُصُوصِ هَذَا الْمَتْنِ الِاسْتِدْلَال عَلَى نَفْيِ لُزُومِ الدَّمِ ، فَإِنَّ مَا سِوَاهُ مِنْ الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ لَا يُعْلَمُ فِيهَا خِلَافٌ .
وَوَجْهُهُ أَنَّهُ شَرَعَ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْفَوَاتِ ، وَكَانَ الْمَذْكُورُ جَمِيعَ مَا لَهُ مِنْ الْحُكْمِ ، وَإِلَّا نَافَى الْحِكْمَةَ ، وَلَيْسَ مِنْ الْمَذْكُورِ لُزُومُ الدَّمِ ، فَلَوْ كَانَ مِنْ حُكْمِهِ لَذَكَرَهُ .
( قَوْلُهُ : كَمَا فِي الْإِحْرَامِ الْمُبْهَمِ ) وَهُوَ أَنْ لَا يَزِيدَ فِي النِّيَّةِ عَلَى مُجَرَّدِ الْإِحْرَامِ ثُمَّ يُلَبِّي فَإِنَّهُ يَصِحُّ ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْهُ إلَّا بِأَدَاءِ أَحَدِ النُّسُكَيْنِ ، وَلَهُ أَنْ يُعَيِّنَ مَا شَاءَ مَا لَمْ يَشْرَعْ فِي الطَّوَافِ ، فَإِذَا شَرَعَ قَبْلَ التَّعْيِينِ تَعَيَّنَتْ الْعُمْرَةُ وَلِذَا قُلْنَا : لَوْ لَمْ يُعَيِّنْ حَتَّى طَافَ أَقَلَّ الْأَشْوَاطِ ثُمَّ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ رَفَضَهَا وَلَزِمَهُ حُكْمُ الرَّفْضِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي إضَافَةِ الْإِحْرَامِ إلَى الْإِحْرَامِ ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ صَارَ جَامِعًا بَيْنَ عُمْرَتَيْنِ ، وَقَدْ أَسْلَفْنَا فِي الْإِحْرَامِ الْمُبْهَمِ شَيْئًا فِي بَابِ الْإِحْرَامِ ، وَالْمُرَادُ بِالصَّحِيحِ فِي قَوْلِهِ : لِأَنَّ الْإِحْرَامَ بَعْدَ مَا انْعَقَدَ صَحِيحًا اللَّازِمُ لِيَخْرُجَ بِهِ الْعَبْدُ وَالزَّوْجَةُ بِغَيْرِ إذْنٍ لَا مُقَابِلَ مَا فَسَدَ .
(

قَوْلُهُ : وَلَا دَمَ عَلَيْهِ ) وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ : عَلَيْهِ الدَّمُ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَلَنَا فِيهِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحَدِيثِ آنِفًا ، وَهُوَ حُجَّةٌ ؛ لِأَنَّ مُسْلِمًا رَوَى ؛ لِلنَّهْشَلِيِّ ، وَمَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ ؛ لِأَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ حِينَ فَاتَهُ الْحَجُّ : اصْنَعْ كَمَا يَصْنَعُ الْمُعْتَمِرُ ثُمَّ قَدْ حَلَلْت ، فَإِذَا أَدْرَكَك الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ فَاحْجُجْ وَأَهْدِ مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ .
وَكَذَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ ؛ لِهَبَّارِ بْنِ الْأَسْوَدِ وَمَنْ مَعَهُ حِينَ فَاتَهُمْ الْحَجُّ .
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ مِثْلُ مَا عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْهُ فَمَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ ؛ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْمُرْ بِهِ حِينَ بَيَانِهِ لِحُكْمِ الْفَوَاتِ ، أَوْ لَمْ يَعْلَمَا فِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا ، وَتَأَيَّدَ بِمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْمَعْنَى فِي الْكِتَابِ وَهُوَ أَنَّ الْعُمْرَةَ لِفَائِتِ الْحَجِّ جُعِلَتْ شَرْعًا شَرْطًا لِلتَّحَلُّلِ ، وَكَانَتْ كَالدَّمِ فِي الْمُحْصَرِ فَلَا يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا .
وَقَوْلُهُ : لِأَنَّ التَّحَلُّلَ إلَخْ الْمُرَادُ أَنَّ لُزُومَ الدَّمِ عَلَى الْمُحْصَرِ ؛ لِكَوْنِهِ تَعَجَّلَ الْإِحْلَالَ قَبْلَ الْأَعْمَالِ ، وَهَذَا قَدْ حَلَّ بِالْأَعْمَالِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ لَا مَا يَتَخَايَلُ مِنْ ظَاهِرِ الْعِبَارَةِ ؛ لِيُقَالَ عَلَيْهِ مُقْتَضَاهُ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَى الْمُحْصَرِ عُمْرَةٌ فِي قَضَاءِ الْحَجَّةِ حِينَئِذٍ

( وَالْعُمْرَةُ لَا تَفُوتُ وَهِيَ جَائِزَةٌ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ إلَّا خَمْسَةَ أَيَّامٍ يُكْرَهُ فِيهَا فِعْلُهَا ، وَهِيَ يَوْمُ عَرَفَةَ ، وَيَوْمُ النَّحْرِ ، وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ ) لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ تَكْرَهُ الْعُمْرَةَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الْخَمْسَةِ ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ أَيَّامُ الْحَجِّ فَكَانَتْ مُتَعَيِّنَةً لَهُ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَنَّهَا لَا تُكْرَهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ قَبْلَ الزَّوَالِ ؛ لِأَنَّ دُخُولَ وَقْتِ رُكْنِ الْحَجِّ بَعْدَ الزَّوَالِ لَا قَبْلَهُ ، وَالْأَظْهَرُ مِنْ الْمَذْهَبِ مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَلَكِنْ مَعَ هَذَا لَوْ أَدَّاهَا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ صَحَّ وَيَبْقَى مُحْرِمًا بِهَا فِيهَا ؛ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ لِغَيْرِهَا وَهُوَ تَعْظِيمُ أَمْرِ الْحَجِّ وَتَخْلِيصُ وَقْتِهِ لَهُ فَيَصِحُّ الشُّرُوعُ .

.
( قَوْلُهُ : لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ ) أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ يَزِيدَ الرِّشْكِ عَنْ مُعَاذَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ .
حَلَّتْ الْعُمْرَةُ فِي السَّنَةِ كُلِّهَا إلَّا أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ : يَوْمُ عَرَفَةَ ، وَيَوْمُ النَّحْرِ ، وَيَوْمَانِ بَعْدَ ذَلِكَ ا هـ .
وَهُوَ يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْكَرَاهَةَ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ وَفِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ مَا يُفِيدُهُ .
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي الْإِمَامِ : رَوَى إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ وَنَافِعٌ عَنْ طَاوُسٍ قَالَ : قَالَ الْبَحْرُ يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ : خَمْسَةُ أَيَّامٍ : يَوْمُ عَرَفَةَ ، وَيَوْمُ النَّحْرِ ، وَالثَّلَاثَةُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ اعْتَمِرْ قَبْلَهَا أَوْ بَعْدَهَا مَا شِئْت .
ا هـ .
هَذَا وَأَمَّا أَفْضَلُ أَوْقَاتِهَا فَرَمَضَانُ .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً } وَفِي طَرِيقٍ ؛ لِمُسْلِمٍ { تُقْضَى حَجَّةً أَوْ حَجَّةٌ مَعِي } وَفِي رِوَايَةٍ ؛ لِأَبِي دَاوُد { تَعْدِلُ حَجَّةً مَعِي } مِنْ غَيْرِ شَكٍّ .
وَكَانَ السَّلَفُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ يُسَمُّونَهَا الْحَجَّ الْأَصْغَرَ .
هَذَا وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْحَجِّ الْوَعْدَ بِعَدَدِ عُمُرَاتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَنَقُولُ : قَدْ { اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَ عُمُرَاتٍ كُلُّهُنَّ بَعْدَ الْهِجْرَةِ } ، وَلَمْ يَعْتَمِرْ مُدَّةَ مُقَامَهُ بِمَكَّةَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ شَيْئًا ، وَذَلِكَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً وَعَنْ هَذَا ادَّعَى مَنْ ادَّعَى أَنَّ السُّنَّةَ فِي الْعُمْرَةِ أَنْ تُفْعَلَ دَاخِلًا إلَى مَكَّةَ لَا خَارِجًا ، بِأَنْ يَخْرُجَ الْمُقِيمُ بِمَكَّةَ إلَى الْحِلِّ فَيَعْتَمِرَ كَمَا يُفْعَلُ الْيَوْمُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَمْنُوعًا ؛ ثُمَّ الْمُرَادُ بِالْأَرْبَعَةِ ، إحْرَامَهُ بِهِنَّ ، فَأَمَّا مَا تَمَّ لَهُ مِنْهَا فَثَلَاثٌ ، وَلِهَذَا قَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ : { اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمْرَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ فَلَمْ يَحْتَسِبْ بِعُمْرَةِ

الْحُدَيْبِيَةِ } ، كَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَكُلُّهُنَّ فِي ذِي الْقَعْدَةِ عَلَى مَا هُوَ الْحَقُّ .
[ الْأُولَى ] عُمْرَةُ الْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتٍّ فَصُدَّ بِهَا فَنَحَرَ الْهَدْيَ بِهَا وَحَلَقَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَرَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ .
[ الثَّانِيَةُ ] عُمْرَةُ الْقَضَاءِ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ ، وَهِيَ قَضَاءٌ عَنْ الْحُدَيْبِيَةِ ، هَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَذَهَبَ مَالِكٌ إلَى أَنَّهَا مُسْتَأْنَفَةٌ لَا قَضَاءٌ عَنْهَا ، وَتَسْمِيَةُ الصَّحَابَةِ وَجَمِيعِ السَّلَفِ إيَّاهَا بِعُمْرَةِ الْقَضَاءِ ظَاهِرٌ فِي خِلَافِهِ ، وَتَسْمِيَةُ بَعْضِهِمْ إيَّاهَا عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ لَا يَنْفِيهِ ، فَإِنَّهُ اتَّفَقَ فِي الْأُولَى مُقَاضَاةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلِ مَكَّةَ عَلَى أَنْ يَأْتِيَ مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ فَيَدْخُلَ مَكَّةَ بِعُمْرَةٍ وَيُقِيمَ بِهَا ثَلَاثًا ، وَهَذَا الْأَمْرُ قَضِيَّةٌ تَصِحُّ إضَافَةُ هَذِهِ الْعُمْرَةِ إلَيْهَا ، فَإِنَّهَا عُمْرَةٌ كَانَتْ عَنْ تِلْكَ الْقَضِيَّةِ فَهِيَ قَضَاءٌ عَنْ تِلْكَ الْقَضِيَّةِ فَتَصِحُّ إضَافَتُهَا إلَى كُلٍّ مِنْهُمَا فَلَا تَسْتَلْزِمُ الْإِضَافَةُ إلَى الْقَضِيَّةِ نَفْيَ الْقَضَاءِ ، وَالْإِضَافَةُ إلَى الْقَضَاءِ يُفِيدُ ثُبُوتَهُ فَيَثْبُتُ مُفِيدُ ثُبُوتِهِ بِلَا مُعَارِضٍ .
وَأَيْضًا فَالْحُكْمُ الثَّابِتُ فِيمَنْ شَرَعَ فِي إحْرَامٍ بِنُسُكٍ فَلَمْ يُتِمَّهُ لِإِحْصَارٍ فَحَلَّ أَنْ يَقْضِيَ وَهَذِهِ تَحْتَمِلُ الْقَضَاءَ فَوَجَبَ حَمْلُهَا عَلَيْهِ ، وَعَدَمُ نَقْلِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَرَ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ بِالْقَضَاءِ لَا يُفِيدُ ذَلِكَ ، بَلْ الْمُفِيدُ لَهُ نَقْلُ الْعَدَمِ لَا عَدَمُ النَّقْلِ .
نَعَمْ هُوَ مِمَّا يُؤْنَسُ بِهِ فِي عَدَمِ الْوُقُوعِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَنُقِلَ ، لَكِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الثَّابِتِ مَا يُوجِبُ الْقَضَاءَ فِي مِثْلِهِ عَلَى الْعُمُومِ فَيَجِبُ الْحُكْمُ بِعِلْمِهِمْ بِهِ وَقَضَائِهَا مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ طَرِيقِ عِلْمِهِمْ .
[ الثَّالِثَةُ ] عُمْرَتُهُ الَّتِي قَرَنَهَا مَعَ حَجَّتِهِ عَلَى مَا أَسْلَفْنَا إثْبَاتَهُ مِنْ

أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّ قَارِنًا أَوْ الَّتِي تَمَتَّعَ بِهَا إلَى الْحَجِّ عَلَى قَوْلِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ حَجَّ مُتَمَتِّعًا ، أَوْ الَّتِي اعْتَمَرَهَا فِي سَفَرِهِ ذَلِكَ عَلَى قَوْلِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ أَفْرَدَ وَاعْتَمَرَ ، وَلَا عِبْرَةَ بِقَوْلِ الرَّابِعِ .
[ الرَّابِعَةُ ] عُمْرَتُهُ مِنْ الْجِعْرَانَةِ لَمَّا خَرَجَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى حُنَيْنٍ وَدَخَلَ بِهَذِهِ الْعُمْرَةِ إلَى مَكَّةَ لَيْلًا وَخَرَجَ مِنْهَا لَيْلًا إلَى الْجِعْرَانَةِ فَبَاتَ بِهَا ، فَلَمَّا أَصْبَحَ وَزَالَتْ الشَّمْسُ خَرَجَ فِي بَطْنِ سَرِفَ حَتَّى جَامَعَ فِي الطَّرِيقِ ، وَمِنْ ثَمَّةَ خَفِيَتْ هَذِهِ الْعُمْرَةُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ .
وَأَمَّا أَنَّهُنَّ كُلُّهُنَّ فِي ذِي الْقَعْدَةِ فَلِمَا ثَبَتَ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ { لَمْ يَعْتَمِرْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا فِي ذِي الْقَعْدَةِ } .
وَأَمَّا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَ عُمَرَ كُلُّهُنَّ فِي ذِي الْقَعْدَةِ ، إلَّا الَّتِي مَعَ حَجَّتِهِ } : عُمْرَةٌ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ أَوْ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ ، وَعُمْرَةٌ مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ ، وَعُمْرَةٌ مِنْ الْجِعْرَانَةِ حَيْثُ قَسَّمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ فِي ذِي الْقَعْدَةِ ، وَعُمْرَةٌ مَعَ حَجَّتِهِ فَلَا يُنَافِيهِ ؛ لِأَنَّ مَبْدَأَ عُمْرَةِ الْقِرَانِ كَانَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَفِعْلُهَا كَانَ فِي ذِي الْحِجَّةِ فَصَحَّ طَرِيقَا الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ .
وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ أَرْبَعًا إحْدَاهُنَّ فِي رَجَبٍ ، فَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ لَمَّا بَلَغَهَا ذَلِكَ : يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَا اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمْرَةً قَطُّ إلَّا وَهُوَ شَاهِدٌ ، وَمَا اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ قَطُّ .
وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَائِشَةَ { خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ

اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُمْرَةٍ فِي رَمَضَانَ } فَقَدْ حَكَمَ الْحُفَّاظُ بِغَلَطِ هَذَا الْحَدِيثِ ، إذْ لَا خِلَافَ أَنَّ عُمَرَهُ كُلَّهَا لَمْ تَزِدْ عَنْ أَرْبَعٍ ، وَقَدْ عَيَّنَهَا أَنَسٌ وَعَدَّهَا وَلَيْسَ فِيمَا ذُكِرَ شَيْءٌ مِنْهَا فِي غَيْرِ ذِي الْقَعْدَةَ سِوَى الَّتِي مَعَ حَجَّتِهِ ، وَقَدْ جَمَعَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْوَجْهِ الصَّحِيحِ ، فَلَوْ كَانَتْ لَهُ عُمْرَةٌ فِي رَجَبٍ وَأُخْرَى فِي رَمَضَانَ لَكَانَتْ سِتًّا ، وَلَوْ كَانَتْ أُخْرَى فِي شَوَّالٍ كَمَا هُوَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ عَائِشَةَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اعْتَمَرَ فِي شَوَّالٍ كَانَتْ سَبْعًا } .
وَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ أَنَّ مَا أَمْكَنَ الْجَمْعُ فِيهِ وَجَبَ ارْتِكَابُهُ دَفْعًا لِلْمُعَارَضَةِ ، وَمَا لَمْ يُمْكِنْ الْجَمْعُ فِيهِ حُكِمَ بِمُقْتَضَى الْأَصَحِّ وَالْأَثْبَتِ ، وَهَذَا أَيْضًا يُمْكِنُ فِيهِ الْجَمْعُ بِإِرَادَةِ عُمْرَةِ الْجِعْرَانَةِ فَإِنَّهُ خَرَجَ إلَى حُنَيْنٍ فِي شَوَّالٍ وَالْإِحْرَامُ بِهَا فِي ذِي الْقَعْدَةِ فَكَانَ مَجَازًا ؛ لِلْقُرْبِ ، هَذَا إنْ صَحَّ وَحُفِظَ ، وَإِلَّا فَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ الثَّابِتُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ عُمَرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ كُلَّهَا فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَقَعَ تَرَدُّدٌ لِبَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنَّ أَفْضَلَ أَوْقَاتِ الْعُمْرَةِ أَشْهُرُ الْحَجِّ أَوْ رَمَضَانُ ، فَفِي رَمَضَانَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْأَفْضَلِيَّةِ ، وَلَكِنَّ فِعْلَهُ لَمَّا لَمْ يَقَعْ إلَّا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ كَانَ ظَاهِرًا أَنَّهُ أَفْضَلُ إذْ لَمْ يَكُنْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَخْتَارُ لِنَبِيِّهِ إلَّا مَا هُوَ الْأَفْضَلُ ، أَوْ أَنَّ رَمَضَانَ أَفْضَلُ بِتَنْصِيصِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ .
وَتَرْكُهُ لِذَلِكَ ؛ لِاقْتِرَانِهِ بِأَمْرٍ يَخُصُّهُ كَاشْتِغَالِهِ بِعِبَادَاتٍ أُخْرَى فِي رَمَضَانَ تَبَتُّلًا وَأَلَّا يَشُقَّ عَلَى أُمَّتِهِ ، فَإِنَّهُ لَوْ اعْتَمَرَ فِيهِ لَخَرَجُوا مَعَهُ وَلَقَدْ كَانَ بِهِمْ رَحِيمًا ، وَقَدْ أَخْبَرَ فِي بَعْضِ الْعِبَادَاتِ أَنَّ تَرْكَهُ لَهَا ؛

لِئَلَّا يَشُقَّ عَلَيْهِمْ مَعَ مَحَبَّتِهِ لَهُ كَالْقِيَامِ فِي رَمَضَانَ بِهِمْ وَمَحَبَّتِهِ لَأَنْ يُسْقِيَ بِنَفْسِهِ مَعَ سُقَاةِ زَمْزَمَ ثُمَّ تَرَكَهُ كَيْ لَا يَغْلِبَهُمْ النَّاسُ عَلَى سِقَايَتِهِمْ ، وَلَمْ يَعْتَمِرْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً .
وَمَا ظَنَّهُ بَعْضُهُمْ مِنْ حَدِيثٍ فِي أَبِي دَاوُد عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ عُمْرَتَيْنِ عُمْرَةً فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَعُمْرَةً فِي شَوَّالٍ } وَلَيْسَ الْمُرَادُ ذِكْرَ جَمِيعِ مَا اعْتَمَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ؛ لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُ اعْتَمَرَ أَكْثَرَ ، فَكَانَ الْمُرَادُ ذِكْرَ أَنَّهُ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ فِي سَنَةٍ يَجِبُ أَنْ يَحْكُمَ فِيهِ بِالْغَلَطِ ، فَإِنَّهُ قَدْ تَظَافَرَ قَوْلُ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ وَغَيْرِهِمْ عَلَى أَنَّهَا أَرْبَعٌ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأُولَى كَانَتْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتٍّ ، ثُمَّ لَمْ يَعْتَمِرْ إلَّا مِنْ قَابِلٍ سَنَةَ سَبْعٍ سِوَى الَّتِي فِي ذِي الْقَعْدَةِ عُمْرَةِ الْقَضَاءِ ، ثُمَّ لَمْ يَخْرُجْ إلَى مَكَّةَ حَتَّى فَتَحَهَا سَنَةَ ثَمَانٍ فِي رَمَضَانَ وَلَمْ يَعْتَمِرْ فِي دُخُولِهِ فِي الْفَتْحِ ، ثُمَّ أُخْرِجَ إلَى حُنَيْنٍ فِي شَوَّالٍ مِنْ تِلْكَ السَّنَةِ ثُمَّ رَجَعَ مِنْهَا فَأَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ فِي ذِي الْقَعْدَةِ ، فَمَتَى اعْتَمَرَ فِي شَوَّالٍ ؟ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ ، وَلَا عِلْمَ إلَّا مَا عَلَّمَ .

( وَالْعُمْرَةُ سُنَّةٌ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : فَرِيضَةٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْعُمْرَةُ فَرِيضَةٌ كَفَرِيضَةِ الْحَجِّ } وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْحَجُّ فَرِيضَةٌ وَالْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ } ؛ وَلِأَنَّهَا غَيْرُ مُؤَقَّتَةٍ بِوَقْتٍ وَتَتَأَدَّى بِنِيَّةِ غَيْرِهَا كَمَا فِي فَائِتِ الْحَجِّ ، وَهَذِهِ أَمَارَةُ النَّفْلِيَّةِ .
وَتَأْوِيلُ مَا رَوَاهُ أَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ بِأَعْمَالٍ كَالْحَجِّ إذْ لَا تَثْبُتُ الْفَرْضِيَّةُ مَعَ التَّعَارُضِ فِي الْآثَارِ .
قَالَ ( وَهِيَ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ ) وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي بَابِ التَّمَتُّعِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( قَوْلُهُ : وَالْعُمْرَةُ سُنَّةٌ ) أَيْ مَنْ أَتَى بِهَا مَرَّةً فِي الْعُمُرِ فَقَدْ أَقَامَ السُّنَّةَ غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِوَقْتٍ غَيْرَ مَا ثَبَتَ النَّهْيُ عَنْهَا فِيهِ ، إلَّا أَنَّهَا فِي رَمَضَانَ أَفْضَلُ ، هَذَا إذَا أَفْرَدَهَا فَلَا يُنَافِيهِ أَنَّ الْقِرَانَ أَفْضَلُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ يَرْجِعُ إلَى الْحَجِّ لَا إلَى الْعُمْرَةِ .
فَالْحَاصِلُ أَنَّ مَنْ أَرَادَ الْإِتْيَانَ بِالْعُمْرَةِ عَلَى وَجْهٍ أَفْضَلَ فِيهَا فَفِي رَمَضَانَ أَوْ الْحَجَّ عَلَى وَجْهٍ أَفْضَلَ فِيهِ فَبِأَنْ يَقْرِنَ مَعَهُ عُمْرَةً .
( قَوْلُهُ : وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : فَرِيضَةٌ ) وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ مِنْ مَشَايِخِ بُخَارَى : فَرْضُ كِفَايَةٍ ، وَقِيلَ هِيَ وَاجِبَةٌ .
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَالدَّارَقُطْنِيّ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فَرِيضَتَانِ لَا يَضُرُّكَ بِأَيِّهِمَا بَدَأْتَ } قَالَ الْحَاكِمُ : الصَّحِيحُ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ مِنْ قَوْلِهِ .
ا هـ .
وَفِيهِ إسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ الْمَكِّيُّ ضَعَّفُوهُ .
قَالَ الْبُخَارِيُّ : مُنْكَرُ الْحَدِيثِ ، وَقَالَ أَحْمَدُ : حَذَفْنَا حَدِيثَهُ ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ مَوْقُوفًا وَهُوَ الصَّحِيحُ .
وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْإِسْلَامُ ؟ قَالَ : أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَأَنْ تُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَأَنْ تَحُجَّ وَتَعْتَمِرَ } قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ : إسْنَادُهُ صَحِيحٌ .
وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي كِتَابِهِ الْمُخَرَّجِ عَلَى صَحِيحِ مُسْلِمٍ قَالَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ : الْحَدِيثُ مُخَرَّجٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ لَيْسَ فِيهِ وَتَعْتَمِرَ ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ فِيهَا شُذُوذٌ ، وَفِيهِ أَحَادِيثُ أُخَرُ لَمْ تَسْلَمْ مِنْ ضَعْفٍ أَوْ عَدَمِ دَلَالَةٍ .
وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ :

{ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ وَاجِبَتَانِ عَلَى مَنْ اسْتَطَاعَ إلَى ذَلِكَ سَبِيلًا } وَعَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ .
وَأَخْرَجَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : { الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فَرِيضَتَانِ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ إلَّا أَهْلَ مَكَّةَ فَإِنَّ عُمْرَتَهُمْ طَوَافُهُمْ ، فَلْيَخْرُجُوا إلَى التَّنْعِيمِ ثُمَّ لْيَدْخُلُوهَا } الْحَدِيثَ ، وَقَالَ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ .
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مُنَاظَرَةِ مَنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ الْقَوْلَ بِوُجُوبِ الْعُمْرَةِ : أَشْبَهُ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ ؛ لِأَنَّهُ قَرَنَهَا بِالْحَجِّ .
وَلَنَا مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ حَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْعُمْرَةِ أَوَاجِبَةٌ هِيَ ؟ قَالَ لَا ، وَأَنْ تَعْتَمِرَ فَهُوَ أَفْضَلُ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ، هَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكَرْخِيِّ ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ : حَدِيثٌ حَسَنٌ لَا غَيْرُ .
قِيلَ هُوَ الصَّحِيحُ ، فَإِنَّ الْحَجَّاجَ بْنَ أَرْطَاةَ هَذَا فِيهِ مَقَالٌ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي بَابِ الْقِرَانِ مَا فِيهِ وَأَنَّهُ لَا يَنْزِلُ بِهِ عَنْ كَوْنِ حَدِيثِهِ حَسَنًا وَالْحَسَنُ حُجَّةٌ اتِّفَاقًا ، وَإِنْ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ إنَّ الْحَجَّاجَ بْنَ أَرْطَاةَ لَا يُحْتَجُّ بِهِ فَقَدْ اتَّفَقَتْ الرُّوَاةُ عَنْ التِّرْمِذِيِّ عَلَى تَحْسِينِ حَدِيثِهِ هَذَا ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ وَالدَّارَقُطْنِيّ بِطَرِيقٍ آخَرَ عَنْ جَابِرٍ فِيهِ يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ وَضَعَّفَهُ .
وَرَوَى عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْحَجُّ جِهَادٌ وَالْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ } وَهُوَ أَيْضًا حُجَّةٌ ، وَقَوْلُ ابْنِ حَزْمٍ إنَّهُ مُرْسَلٌ رَوَاهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ مَاهَانَ الْحَنَفِيِّ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ

وَالسَّلَامُ ، وَتَضْعِيفُ عَبْدِ الْبَاقِي وَمَاهَانُ اعْتَرَضَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي الْإِمَامِ بِأَنَّ عَبْدَ الْبَاقِي بْنَ قَانِعٍ مِنْ كِبَارِ الْحُفَّاظِ وَبَاقِي الْإِسْنَادِ ثِقَاتٌ ، مَعَ أَنَّ الْمُرْسَلَ حُجَّةٌ عِنْدَنَا ، وَإِنَّمَا كَلَامُنَا عَلَى التَّنَزُّلِ .
قَالَ : وَتَضْعِيفُ مَاهَانَ غَيْرُ صَحِيحٍ ، فَقَدْ وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مَشَاهِيرُ وَذَكَرَهُمْ .
وَقَدْ رُوِيَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفِي سَنَدِهِ مَجَاهِيلُ .
وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { الْحَجُّ جِهَادٌ وَالْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ } وَفِيهِ عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ .
قَالَ فِي الْإِمَامِ : مُتَكَلَّمٌ فِيهِ ا هـ .
وَهَذَا الْقَدْرُ لَا يُخْرِجُ حَدِيثَهُ عَنْ الْحَسَنِ فَلَا يَنْزِلُ عَنْ مُطْلَقِ الْحُجِّيَّةِ .
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " الْحَجُّ فَرِيضَةٌ وَالْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ " وَكَفَى بِعَبْدِ اللَّهِ قُدْوَةً .
فَبَعْدَ إرْخَاءِ الْعِنَانِ فِي تَحْسِينِ حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ تَعَدُّدُ طُرُقِهِ يَرْفَعُهُ إلَى دَرَجَةِ الصَّحِيحِ عَلَى مَا حَقَّقْنَاهُ ، كَمَا أَنَّ تَعَدُّدَ طُرُقِ الضَّعِيفِ يَرْفَعُهُ إلَى الْحَسَنِ ؛ لِضَعْفِ الِاحْتِمَالِ بِهَا ، وَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ فَقَامَ رُكْنُ الْمُعَارَضَةِ ، وَالِافْتِرَاضُ لَا يَثْبُتُ مَعَ الْمُعَارَضَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُعَارَضَةَ تَمْنَعُهُ عَنْ إثْبَاتِ مُقْتَضَاهُ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْفَرْضُ الظَّنِّيُّ وَهُوَ الْوُجُوبُ عِنْدَنَا ، وَمُقْتَضَى مَا ذَكَرْنَاهُ أَنْ لَا يَثْبُتَ مُقْتَضَى مَا رَوَيْنَاهُ أَيْضًا ؛ لِلِاشْتِرَاكِ فِي مُوجِبِ الْمُعَارَضَةِ .
فَحَاصِلُ التَّقْرِيرِ حِينَئِذٍ تَعَارُضُ مُقْتَضَيَاتِ الْوُجُوبِ وَالنَّفَلِ فَلَا يَثْبُتُ وَيَبْقَى مُجَرَّدُ فِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ ، وَذَلِكَ

يُوجِبُ السُّنِّيَّةَ فَقُلْنَا بِهَا ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ .
[ فُرُوعٌ ] وَإِنْ اُسْتُفِيدَ شَيْءٌ مِنْهَا مِمَّا تَقَدَّمَ فَإِنِّي لَا أَكْرَهُ تَكْرَارَهَا ، فَإِنَّ تَعَدُّدَ الْمَوَاقِعِ يُوَسِّعُ بَابَ الْوِجْدَانِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ .
إحْرَامُ فَائِتِ الْحَجِّ حَالَ التَّحَلُّلِ بِالْعُمْرَةِ إحْرَامُ الْحَجِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَصِيرُ إحْرَامَ عُمْرَةٍ ، وَعِنْدَ زُفَرَ الْمَفْعُولُ أَيْضًا أَفْعَالُ الْحَجِّ مِنْ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ ؛ لِأَنَّهُ حِينَ عَجَزَ عَنْ الْكُلِّ فَإِنَّهُ يَتَحَلَّلُ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ .
الثَّابِتُ شَرْعًا التَّحَلُّلُ بَعْدَ الْوُقُوفِ لَا قَبْلَهُ ، وَلَا تَحَلُّلَ إلَّا بِطَوَافٍ بَعْدَ فَوَاتِ وَقْتِ الْوُقُوفِ ، فَلَوْ قَدِمَ مُحْرِمٌ بِحَجَّةٍ فَطَافَ وَسَعَى ثُمَّ خَرَجَ إلَى الرَّبَذَةِ مَثَلًا فَأُحْصِرَ بِهَا حَتَّى فَاتَهُ الْحَجُّ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحِلَّ بِعُمْرَةٍ ، وَلَا يَكْفِيهِ طَوَافُ التَّحِيَّةِ وَالسَّعْيِ فِي التَّحَلُّلِ حَتَّى لَوْ كَانَ قَارِنًا ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ عُمْرَتِهِ الَّتِي قَرَنَهَا ؛ لِأَنَّهُ أَدَّاهَا ، وَإِنْ كَانَ قَارِنًا وَلَمْ يَطُفْ شَيْئًا حَتَّى فَاتَهُ يَطُوفُ الْآنَ لِعُمْرَتِهِ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَفُوتُ وَيَسْعَى ، وَلَا يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ عِنْدَهَا ، وَإِنَّمَا يَقْطَعُهَا إذَا أَخَذَ فِي الطَّوَافِ الَّذِي يَتَحَلَّلُ بِهِ عَنْ الْإِحْرَامِ فِي الْحَجِّ .
وَمَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ فَمَكَثَ حَرَامًا حَتَّى دَخَلَتْ أَشْهُرُ الْحَجِّ مِنْ قَابِلٍ فَتَحَلَّلَ بِعُمْرَةٍ ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا ، وَهَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إحْرَامَ حَجِّهِ بَاقٍ ، إذْ لَوْ انْقَلَبَ إحْرَامَ عُمْرَةٍ كَانَ مُتَمَتِّعًا إذْ لَا يَمْنَعُ مِنْ التَّمَتُّعِ تَقَدُّمُ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ عَلَى أَشْهُرِ الْحَجِّ بَعْدَ أَنْ أَوْقَعَ أَفْعَالَهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، وَلَيْسَ لِفَائِتِ الْحَجِّ أَنْ يَحُجَّ بِذَلِكَ الْإِحْرَامِ ، وَإِنْ قُلْنَا بِبَقَاءِ إحْرَامِ

حَجٍّ ، حَتَّى لَوْ مَكَثَ مُحْرِمًا إلَى قَابِلٍ لَمْ يَفْعَلْ أَفْعَالَ عُمْرَةِ التَّحَلُّلِ ، وَأَرَادَ أَنْ يَحُجَّ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ إحْرَامِ حَجِّهِ تَغَيَّرَ شَرْعًا بِالْفَوَاتِ فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ غَيْرُ مُوجِبِهِ ، فَلَا يَتَمَكَّنُ أَبُو يُوسُفَ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا عَلَى صَيْرُورَتِهَا إحْرَامَ عُمْرَةٍ ، وَلَا فَرْقَ فِي وُجُوبِ التَّحَلُّلِ بِعُمْرَةٍ بَيْنَ كَوْنِ الْفَوَاتِ حَالَ الصِّحَّةِ أَوْ بَعْدَمَا فَسَدَ بِالْجِمَاعِ .
وَلَوْ فَاتَهُ الْحَجُّ فَأَهَلَّ بِأُخْرَى طَافَ لِلْفَائِتَةِ وَسَعَى وَرَفَضَ الَّتِي أَدْخَلَهَا ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ التَّحَلُّلِ بِالْعُمْرَةِ جَامَعَ بَيْنَ إحْرَامَيْ حَجَّتَيْنِ ، وَعَلَيْهِ فِيهَا مَا عَلَى الرَّافِضِ .
وَلَوْ نَوَى بِهَذِهِ الَّتِي أَهَلَّ بِهَا قَضَاءَ الْفَائِتَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ بِهَذَا الْإِهْلَالِ شَيْءٌ سِوَى الَّتِي هُوَ فِيهَا ؛ لِأَنَّ إحْرَامَهُ بَعْدَ الْفَوَاتِ بَاقٍ ، وَنِيَّةُ إيجَادِ مَا هُوَ مَوْجُودٌ لَغْوٌ فَيَتَحَلَّلُ بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَيَقْضِي الْفَائِتَ فَقَطْ ، فَلَوْ كَانَ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ رَفَضَهَا أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ جَامِعٌ بَيْنَ عُمْرَتَيْنِ إحْرَامًا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَعَمَلًا عَلَى قَوْلِهِمَا .
وَلَوْ أَهَلَّ رَجُلٌ بِحَجَّتَيْنِ فَقَدِمَ مَكَّةَ وَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ تَحَلَّلَ بِعُمْرَةٍ وَاحِدَةٍ لَا بِعُمْرَتَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ بِالتَّرْكِ وَالشُّرُوعِ رَفَضَ إحْدَاهُمَا ، وَالتَّحَلُّلُ بِالْعُمْرَةِ إنَّمَا يَجِبُ لِغَيْرِ مَا رَفَضَ وَذَلِكَ وَاحِدَةٌ .

بَابُ الْحَجِّ عَنْ الْغَيْرِ الْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ ثَوَابَ عَمَلِهِ لِغَيْرِهِ صَلَاةً أَوْ صَوْمًا أَوْ صَدَقَةً أَوْ غَيْرَهَا عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ ، لِمَا رُوِيَ { عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَحَدَهُمَا عَنْ نَفْسِهِ وَالْآخَرَ عَنْ أُمَّتِهِ مِمَّنْ أَقَرَّ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَشَهِدَ لَهُ بِالْبَلَاغِ } جَعَلَ تَضْحِيَةَ إحْدَى الشَّاتَيْنِ لِأُمَّتِهِ .
وَالْعِبَادَاتُ أَنْوَاعٌ : مَالِيَّةٌ مَحْضَةٌ كَالزَّكَاةِ ، وَبَدَنِيَّةٌ مَحْضَةٌ كَالصَّلَاةِ ، وَمُرَكَّبَةٌ مِنْهُمَا كَالْحَجِّ ، وَالنِّيَابَةُ تَجْرِي فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ فِي حَالَتَيْ الِاخْتِيَارِ وَالضَّرُورَةِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِفِعْلِ النَّائِبِ ، وَلَا تَجْرِي فِي النَّوْعِ الثَّانِي بِحَالٍ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ وَهُوَ إتْعَابُ النَّفْسِ لَا يَحْصُلُ بِهِ ، وَتَجْرِي فِي النَّوْعِ الثَّالِثِ عِنْدَ الْعَجْزِ لِلْمَعْنَى الثَّانِي وَهُوَ الْمَشَقَّةُ بِتَنْقِيصِ الْمَالِ ، وَلَا تَجْرِي عِنْدَ الْقُدْرَةِ لِعَدَمِ إتْعَابِ النَّفْسِ ، وَالشَّرْطُ الْعَجْزُ الدَّائِمُ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ لِأَنَّ الْحَجَّ فَرْضُ الْعُمْرِ ، وَفِي الْحَجِّ النَّفْلِ تَجُوزُ الْإِنَابَةُ حَالَةَ الْقُدْرَةِ لِأَنَّ بَابَ النَّفْلِ أَوْسَعُ ، ثُمَّ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْحَجَّ يَقَعُ عَنْ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ وَبِذَلِكَ تَشْهَدُ الْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ فِي الْبَابِ كَحَدِيثِ الْخَثْعَمِيَّةِ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِيهِ { حُجِّي عَنْ أَبِيكِ وَاعْتَمِرِي } .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَنَّ الْحَجَّ يَقَعُ عَنْ الْحَاجِّ ، وَلِلْآمِرِ ثَوَابُ النَّفَقَةِ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ ، وَعِنْدَ الْعَجْزِ أُقِيمَ الْإِنْفَاقُ مُقَامَهُ كَالْفِدْيَةِ فِي بَابِ الصَّوْمِ .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78