كتاب : فتح القدير
المؤلف : كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي

آخَرَ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ طَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً تَمْلِكُ عَلَيْهَا الرَّجْعَةَ أَوْ أَوْقِعْ عَلَيْهَا الطَّلَاقَ ؛ لِأَنَّ الْإِيقَاعَ وَالطَّلَاقَ الَّذِي يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ بَعْدَهُ لَا يُقَالَانِ لِلْمُتَارَكَةِ وَلَا فِي قَصْدِ الِاسْتِهْزَاءِ فَيُفِيدُ قَصْدَ حَقِيقَتِهِ ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ طَلِّقْهَا فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ لِمُتَارَكَةِ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ طَلَاقٌ مَجَازًا فَصَلُحَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُتَمَسَّكًا لِأَبِي الْقَاسِمِ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ لَفْظَ الطَّلَاقِ الْمُجَرَّدِ يُسْتَعْمَلُ كَثِيرًا فِي الْمُتَارَكَةِ فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ فَكَانَ ذِكْرُهُ ذِكْرَ لَفْظٍ مُشْتَرَكٍ مِنْ حَيْثُ الِاسْتِعْمَالُ بَيْنَ الْإِجَازَةِ وَالرَّدِّ ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ نَحْوِ أَحْسَنْت إلَخْ فَإِنَّهُ لَمْ يُسْتَعْمَلْ لِلْأَمْرَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ بَلْ الظَّاهِرُ مِنْهُ الْإِجَازَةُ وَحَمْلُهُ عَلَى الرَّدِّ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِوَاسِطَةِ جَعْلِهِ اسْتِهْزَاءً ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ النَّظَرُ إلَى حَالِ الْعَبْدِ لَا يُنَافِيهِ لَكِنَّ ظَاهِرَ حَالِ الْعَاقِلِ الْمُسْلِمِ يَنْفِيهِ ؛ لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ فِعْلُ الْجَاهِلِينَ ، وَلِذَا قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي جَوَابِ قَوْلِهِمْ { أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا } { أَعُوذُ بِاَللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ } .
فَتَعَارَضَ الظَّاهِرَانِ وَبَقِيَ نَفْسُ اللَّفْظِ بِمَفْهُومِهِ يُفِيدُ الْإِجَازَةَ بِلَا مُعَارِضٍ ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ فَإِنَّ نَفْسَ اللَّفْظِ يُقَالُ لِلرَّدِّ كَمَا يُقَالُ لِحَقِيقَةِ الطَّلَاقِ الْمُسْتَعْقِبِ لِصِحَّةِ النِّكَاحِ ، وَلِذَا لَمْ يَسْتَعْمِلْ الْمُقَيَّدَ أَعْنِي قَوْلَهُ طَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً تَمْلِكُ الرَّجْعَةَ عَلَيْهَا أَوْ أَوْقِعْ عَلَيْهَا الطَّلَاقَ فِي الْمُتَارَكَةِ جُعِلَ إجَازَةً فَوَجَبَ تَرْجِيحُ قَوْلِ الْفَقِيهِ وَمَنْ مَعَهُ مَا لَمْ يَعْلَمْ قَصْدَ الِاسْتِهْزَاءِ ، لَكِنَّ الْمُصَنِّفَ لَمَّا لَمْ يُوجِبْهُ إلَّا بِأَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ لَا يَكُونُ إلَّا فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ أَفَادَ أَنَّهُ يَثْبُتُ اقْتِضَاءً فَوَرَدَ عَلَيْهِ طَلَبُ الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا لَوْ قَالَ

لِعَبْدِهِ كَفِّرْ عَنْ يَمِينِك بِالْمَالِ أَوْ تَزَوَّجْ أَرْبَعًا لَا يَعْتِقُ مَعَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ إثْبَاتَ الشَّرَائِطِ الَّتِي هِيَ أُصُولٌ لَا تَكُونُ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ كَالْحُرِّيَّةِ وَالْأَهْلِيَّةِ لِلْمُتَحَقِّقِ بِالرِّقِّ وَلَيْسَ مَا نَحْنُ فِيهِ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ ثَابِتٌ لِلْعَبْدِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ لِثُبُوتِهِ تَبَعًا لِلْآدَمِيَّةِ وَالْعَقْلِ ، وَإِنَّمَا تَوَقَّفَ لِاسْتِلْزَامِهِ تَغَيُّبَ مَالِ الْغَيْرِ ، فَقَوْلُهُ طَلِّقْهَا رَجْعِيًّا يَتَضَمَّنُ رَفْعَ الْمَانِعِ اقْتِضَاءً لَا إثْبَاتَ مِلْكِ النِّكَاحِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ ، وَالْمَمْلُوكِيَّةُ شَرْطُ الْعِتْقِ .
وَقَوْلُهُ أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِيَ بِأَلْفٍ يَثْبُتُ بِهِ تَحْوِيلُ الْمَمْلُوكِيَّةِ إلَيْهِ لَا أَصْلُهَا فِي الْعَبْدِ ، وَمَمْلُوكِيَّتُهُ فِي الْعَبْدِ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى مَمْلُوكِيَّتِهِ .
وَعَلَى تَقْرِيرِنَا لَا يَحْتَاجُ إلَى تَكَلُّفِ هَذَا السُّؤَالِ وَجَوَابِهِ .
وَلَوْ أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ بَعْدَ مَا تَزَوَّجَ لَا يَكُونُ إجَازَةً ، فَإِنْ أَجَازَ الْعَبْدُ مَا صَنَعَ جَازَ اسْتِحْسَانًا كَالْفُضُولِيِّ إذَا وَكَّلَ فَأَجَازَ مَا صَنَعَهُ قَبْلَ الْوَكَالَةِ وَكَالْعَبْدِ إذَا زَوَّجَهُ فُضُولِيٌّ فَأَذِنَ لَهُ مَوْلَاهُ فِي التَّزَوُّجِ فَأَجَازَ مَا صَنَعَهُ الْفُضُولِيُّ .
وَلَوْ بَاعَ السَّيِّدُ الْعَبْدَ بَعْدَ أَنْ بَاشَرَ بِلَا إذْنٍ فَلِلْمُشْتَرِي الْإِجَازَةُ .
وَقَالَ زُفَرُ : يَبْطُلُ ، وَكَذَا لَوْ مَاتَ السَّيِّدُ فَوَرِثَ الْعَبْدُ تَوَقَّفَ عَلَى إجَازَةِ الْوَارِثِ ، أَمَّا إذَا كَانَتْ أَمَةً فَتَزَوَّجَتْ بِلَا إذْنٍ ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى فَوَرِثَهَا مَنْ يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا بَطَلَ لِطَرَيَانِ الْحِلِّ النَّافِذِ عَلَى الْمَوْقُوفِ ، وَإِنْ وَرِثَهَا مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا كَأَنْ وَرِثَهَا جَمَاعَةٌ أَوْ امْرَأَةٌ أَوْ ابْنُ الْمَوْلَى وَقَدْ كَانَ الْأَبُ وَطِئَهَا تَوَقَّفَ عَلَى إجَازَةِ الْوَارِثِ .
وَعَلَى هَذَا قَالُوا فِي أَمَةٍ تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهَا فَوَطِئَهَا الزَّوْجُ فَبَاعَهَا الْمَوْلَى لِلْمُشْتَرِي

الْإِجَازَةُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا ؛ لِأَنَّ وَطْءَ الزَّوْجِ يُحَرِّمُهَا ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مُعْتَدَّةً ، فَإِذَا حَاضَتْ بَطَلَ الْعَقْدُ لِحِلِّهَا لِلْمُشْتَرِي ، وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ لَمْ يَطَأْهَا بَطَلَ الْعَقْدُ بِمُجَرَّدِ الشِّرَاءِ لِطَرَيَانِ الْحِلِّ الْبَاتِّ عَلَى الْمَوْقُوفِ .
وَقَالَ زُفَرُ : يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ وَبِالْبَيْعِ .
وَأَصْلُهُ أَنَّ الْمَوْقُوفَ عَلَى إجَازَةِ إنْسَانٍ يَحْتَمِلُ الْإِجَازَةَ مِنْ غَيْرِهِ ، وَعِنْدَهُ لَا ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى الْأَوَّلِ فَلَا يُفِيدُ مِنْ الثَّانِي .
قُلْنَا : إنَّمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ الْمَلِكَ لَهُ لَا لِأَنَّهُ هُوَ وَالثَّانِي مِثْلُهُ فِي ذَلِكَ ، فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ دَائِرٌ مَعَ الْمِلْكِ فَيَنْتَقِلُ بِانْتِقَالِهِ

( وَمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ تَزَوَّجْ هَذِهِ الْأَمَةَ فَتَزَوَّجَهَا نِكَاحًا فَاسِدًا وَدَخَلَ بِهَا فَإِنَّهُ يُبَاعُ فِي الْمَهْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : يُؤْخَذُ مِنْهُ إذَا عَتَقَ ) وَأَصْلُهُ أَنَّ الْإِذْنَ بِالنِّكَاحِ يَنْتَظِمُ الْفَاسِدَ وَالْجَائِزَ عِنْدَهُ ، فَيَكُونُ هَذَا الْمَهْرُ ظَاهِرًا فِي حَقِّ الْمَوْلَى وَعِنْدَهُمَا يَنْصَرِفُ إلَى الْجَائِزِ لَا غَيْرُ فَلَا يَكُونُ ظَاهِرًا فِي حَقِّ الْمَوْلَى فَيُؤَاخَذُ بِهِ بَعْدَ الْعَتَاقِ ، لَهُمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ النِّكَاحِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ الْإِعْفَافُ وَالتَّحْصِينُ وَذَلِكَ بِالْجَائِزِ ، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ يَنْصَرِفُ إلَى الْجَائِزِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّ بَعْضَ الْمَقَاصِدِ حَاصِلٌ وَهُوَ مِلْكُ التَّصَرُّفَاتِ .
وَلَهُ أَنَّ اللَّفْظَ مُطْلَقٌ فَيَجْرِي عَلَى إطْلَاقِهِ كَمَا فِي الْبَيْعِ .
وَبَعْضُ الْمَقَاصِدِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ حَاصِلٌ كَالنَّسَبِ ، وَوُجُوبِ الْمَهْرِ وَالْعِدَّةِ عَلَى اعْتِبَارِ وُجُودِ الْوَطْءِ ، وَمَسْأَلَةُ الْيَمِينِ مَمْنُوعَةٌ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ .

( قَوْلُهُ تَزَوَّجْ هَذِهِ الْأَمَةَ ) التَّقْيِيدُ بِالْأَمَةِ وَالْإِشَارَةِ اتِّفَاقِيٌّ ، فَإِنَّ الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ جَارٍ فِي الْحُرَّةِ وَغَيْرِ الْمُعَيَّنَةِ .
( قَوْلُهُ وَأَصْلُهُ ) أَيْ أَصْلُ الْخِلَافِ الِاخْتِلَافُ فِي أَنَّ الْإِذْنَ لِلْعَبْدِ بِالنِّكَاحِ يَنْتَظِمُ الصَّحِيحَ وَالْفَاسِدَ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَهُمَا يَخُصُّ الصَّحِيحَ .
وَالِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ الْإِذْنَ بِالْبَيْعِ يَعُمُّ الصَّحِيحَ وَالْفَاسِدَ ، وَعَلَى أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالنِّكَاحِ يَخْتَصُّ بِالصَّحِيحِ فَأَلْحَقَاهُ بِالتَّوْكِيلِ بِالنِّكَاحِ ؛ لِأَنَّ عِلَّةَ الْأَصْلِ تَحْصِيلُ الْمَقَاصِدِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ الْإِعْفَافِ وَغَيْرِهِ وَذَلِكَ بِالصَّحِيحِ ، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ يَنْصَرِفُ إلَى الْجَائِزِ فَلَا يَحْنَثُ بِالْفَاسِدِ ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ الْحَلِفُ عَلَى الْإِعْفَافِ وَذَلِكَ بِالصَّحِيحِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ حَلَفَ مَا تَزَوَّجْت حَيْثُ يَحْنَثُ بِالْفَاسِدِ ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ فِي الْمَاضِي الْعَقْدُ ، وَأَلْحَقَهُ بِالْبَيْعِ بِجَامِعِ أَنَّ بَعْضَ الْمَقَاصِدِ حَاصِلٌ مِنْ ثُبُوتِ النَّسَبِ وَالْعِدَّةِ وَالنَّفَقَةِ ، وَذَلِكَ يَكْفِي لِتَصْحِيحِ التَّعْمِيمِ وَإِجْرَاءِ اللَّفْظِ عَلَى إطْلَاقِهِ ، فَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا أَنَّهُ يُبَاعُ فِي الْمَهْرِ فِي الْفَاسِدِ إذَا دَخَلَ بِهَا فِيهِ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَهُمَا لَا ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ تَزَوُّجُ أُخْرَى بِعَقْدٍ صَحِيحٍ عِنْدَهُ لِانْتِهَاءِ الْإِذْنِ بِالْفَاسِدِ وَعِنْدَهُمَا لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ لَمْ يَنْتَهِ بِهِ .
( قَوْلُهُ وَمَسْأَلَةُ الْيَمِينِ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ ) أَيْ طَرِيقَةِ إجْرَاءِ اللَّفْظِ عَلَى عُمُومٍ ( مَمْنُوعَةٌ ) وَالطَّرِيقَةُ الْأُخْرَى أَنَّ الْعَبْدَ فِي النِّكَاحِ مَبْقِيّ عَلَى الْحُرِّيَّةِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ خَوَاصِّ الْآدَمِيَّةِ ، وَالْحَاجَةُ إلَى إذْنِ السَّيِّدِ لِيَثْبُتَ الْمَهْرُ فِي رَقَبَتِهِ لَيْسَ غَيْرُ ، فَكَأَنَّهُ قَالَ لَهُ إذْ قَالَ تَزَوَّجْ اشْغَلْ رَقَبَتَك بِمَهْرٍ ، وَهَذَا يَتَحَقَّقُ بِمَهْرِ مِثْلٍ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ وَبِغَيْرِهِ ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الطَّرِيقَةُ

صَحِيحَةً لِمَا سَيُذْكَرُ مِنْ مِلْكِ السَّيِّدِ إنْكَاحَهُ وَعَدَمِ مِلْكِهِ طَلَاقَهُ وَاسْتِقْلَالُ الْعَبْدِ بِمِلْكِهِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَعْجِزُ عَنْ الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ لِتَبَايُنِ الْأَخْلَاقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، فَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ طَرِيقَةُ الْإِطْلَاقِ .
وَيُجَابُ عَنْ مَسْأَلَةِ الْيَمِينِ بِأَنَّ الْأَيْمَانَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْعُرْفِ ، وَالْعُرْفُ فِيهِ الْحَلِفُ عَلَى التَّزْوِيجِ الَّذِي هُوَ طَرِيقُ الْإِعْفَافِ وَالتَّحْصِينِ وَهُوَ الصَّحِيحُ لَا الْإِعْفَافُ بِالْفِعْلِ فَبَطَلَ مَا يُقَالُ الْإِعْفَافُ بَاطِنِيٌّ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ فَلَا يَلْزَمُ الصَّحِيحُ لِيَظْهَرَ كَوْنُ الْحَلِفِ عَلَيْهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
[ فُرُوعٌ ] الْأَوَّلُ : تَزَوَّجَ الْعَبْدُ بِلَا إذْنٍ فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ فَجَدَّدَ عَلَيْهَا جَازَ بِلَا كَرَاهِيَةٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَمَعَ الْكَرَاهَةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ .
الثَّانِي : زَوَّجَ بِنْتَه مِنْ مُكَاتَبِهِ ثُمَّ مَاتَ الْأَبُ لَا يَفْسُدُ النِّكَاحُ عِنْدَنَا إلَّا إنْ عَجَزَ وَرُدَّ فِي الرِّقِّ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَفْسُدُ لِلْحَالِ لَمِلْكِ زَوْجَتِهِ شَيْئًا مِنْهُ وَلِذَا يَصِحُّ إعْتَاقُهَا إيَّاهُ وَبَدَلُ الْكِتَابَةِ لَهَا .
وَقُلْنَا : لَمْ تَمْلِكْهُ ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ مَا لَمْ يَعْجِزْ ، وَعِنْدَ ذَلِكَ قُلْنَا بِفَسَادِ النِّكَاحِ ، وَإِنَّمَا مَلَكْت مَا فِي ذِمَّتِهِ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ ، وَأَمَّا الْعِتْقُ فِيهِ يَبْرَأُ عَنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ أَوَّلًا ثُمَّ يَعْتِقُ .
الثَّالِثُ : إذَا غُرَّ عَبْدٌ بِحُرِّيَّةٍ أَمَةً فَتَزَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ فَوَلَدَتْ فَالْوَلَدُ عَبْدٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ حُرٌّ بِالْقِيمَةِ كَالْمَغْرُورِ الْحُرِّ

( وَمَنْ زَوَّجَ عَبْدًا مَأْذُونًا لَهُ مَدْيُونًا امْرَأَةً جَازَ ، وَالْمَرْأَةُ أُسْوَةٌ لِلْغُرَمَاءِ فِي مَهْرِهَا ) وَمَعْنَاهُ إذَا كَانَ النِّكَاحُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ سَبَبَ وِلَايَةِ الْمَوْلَى مِلْكُهُ الرَّقَبَةَ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ ، وَالنِّكَاحُ لَا يُلَاقِي حَقَّ الْغُرَمَاءِ بِالْإِبْطَالِ مَقْصُودًا ، إلَّا أَنَّهُ إذَا صَحَّ النِّكَاحُ وَجَبَ الدَّيْنُ بِسَبَبٍ لَا مَرَدّ لَهُ فَشَابَهَ دَيْنَ الِاسْتِهْلَاكِ وَصَارَ كَالْمَرِيضِ الْمَدْيُونِ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَيُمْهِرُ مِثْلَهَا أُسْوَةً لِلْغُرَمَاءِ .
.
( قَوْلُهُ وَمَنْ زَوَّجَ عَبْدًا مَأْذُونًا لَهُ مَدْيُونًا امْرَأَةً جَازَ وَالْمَرْأَةُ أُسْوَةٌ لِلْغُرَمَاءِ ) إذَا كَانَ النِّكَاحُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ أَقَلَّ ، فَلَوْ زَوَّجَهُ مِنْهَا بِأَكْثَرَ طُولِبَ بِالزِّيَادَةِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْغُرَمَاءِ كَدَيْنِ الصِّحَّةِ مَعَ دَيْنِ الْمَرَضِ ، وَهَذَا الْوُجُودُ الْمُقْتَضِي وَهُوَ مِلْكُ الرَّقَبَةِ وَانْتِفَاءُ الْمَانِعِ ، وَمَا يُخَالُ مِنْ أَنَّهُ إبْطَالٌ لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ فِي قَدْرِ الْمَهْرِ لَيْسَ بِهِ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يُلَاقِي حَقَّ الْغُرَمَاءِ بِالْإِبْطَالِ مَقْصُودًا ، بَلْ وَضْعُهُ لِقَصْدِ حِلِّ الْبُضْعِ بِالْمِلْكِ ثُمَّ يَثْبُتُ الْمَهْرُ حُكْمًا لَهُ بِسَبَبٍ لَا مَرَدَّ لَهُ وَهُوَ صِحَّةُ النِّكَاحِ لِصُدُورِهِ مِنْ الْأَهْلِ فِي الْمَحَلِّ ثُمَّ يَلْزَمُهُ بُطْلَانُ حَقِّهِمْ فِي مِقْدَارِهِ إذَا كَانَ مَهْرَ مِثْلِهَا أَوْ أَقَلَّ لِخُصُوصِ أَمْرٍ وَاقِعٍ فَهُوَ لَازِمُ اللَّازِمِ بِاتِّفَاقِ الْحَالِ لَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَكَانَ ضِمْنِيًّا فَلَا يُعْتَبَرُ فِي إثْبَاتِهِ وَنَفْيِهِ إلَّا حَالُ الْمُتَضَمِّنِ لَهُ لَا حَالُهُ ، وَصَارَ كَالْمَرِيضِ الْمَدْيُونِ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً صَحَّ وَكَانَتْ أُسْوَةَ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ لِمَا ذَكَرْنَا

( وَمَنْ زَوَّجَ أَمَتَهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُبَوِّئَهَا بَيْتَ الزَّوْجِ لَكِنَّهَا تَخْدُمُ الْمَوْلَى ، وَيُقَالُ لِلزَّوْجِ مَتَى ظَفِرْت بِهَا وَطِئَتْهَا ) لِأَنَّ حَقَّ الْمَوْلَى فِي الِاسْتِخْدَامِ بَاقٍ وَالتَّبْوِئَةُ إبْطَالٌ لَهُ ( فَإِنْ بَوَّأَهَا مَعَهُ بَيْتًا فَلَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى وَإِلَّا فَلَا ) لِأَنَّ النَّفَقَةَ تُقَابِلُ الِاحْتِبَاسَ ، وَلَوْ بَوَّأَهَا بَيْتًا ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَسْتَخْدِمَهَا لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْحَقَّ بَاقٍ لِبَقَاءِ الْمِلْكِ فَلَا يَسْقُطُ بِالتَّبْوِئَةِ كَمَا لَا يَسْقُطُ بِالنِّكَاحِ .

( قَوْلُهُ وَمَنْ زَوَّجَ أَمَتَهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُبَوِّئَهَا ) وَكَذَا إذَا زَوَّجَ أُمَّ وَلَدِهِ وَمُدَبَّرَتَهُ وَإِنْ شَرَطَ الزَّوْجُ التَّبْوِئَةَ ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ عَلَى الْأَمَةِ غَيْرَ أَنَّ النِّكَاحَ يَبْطُلُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ .
وَمَعْنَى التَّبْوِئَةِ أَنْ يَدْفَعَهَا لِلزَّوْجِ وَلَا يَسْتَخْدِمَهَا ، فَلَوْ كَانَتْ تَذْهَبُ وَتَجِيءُ وَتَخْدُمُ الْمَوْلَى لَا يَكُونُ تَبْوِئَةً .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ يَسْتَخْدِمُهَا نَهَارًا وَيُسَلِّمُهَا لِلزَّوْجِ لَيْلًا .
وَعِنْدَ مَالِكٍ يُسَلِّمُهَا لِلزَّوْجِ لَيْلَةً بَعْدَ ثَلَاثٍ .
قُلْنَا : مِلْكُ السَّيِّدِ ثَابِتٌ فِي الرَّقَبَةِ لَيْلًا وَنَهَارًا وَفِيمَا بَعْدَ الثَّلَاثِ وَالتَّبْوِئَةُ إبْطَالٌ لَهُ فَيَكُونُ إبْطَالُ الْحَقِّ الْأَعْلَى بِالْأَدْنَى وَإِقْدَامُ السَّيِّدِ عَلَى الْعَقْدِ لَا يَسْتَلْزِمُ رِضَاهُ بِالتَّبْوِئَةِ بَلْ بِمُجَرَّدِ إطْلَاقِ وَطْئِهِ إيَّاهَا مَتَى ظَفِرَ بِهَا يَتَوَفَّرُ مُقْتَضَاهُ ، وَهَذَا الْقَدْرُ ثَابِتٌ ، فَإِثْبَاتُ الْقَسَمِ كَذَلِكَ إثْبَاتٌ بِلَا دَلِيلٍ .
لَا يُقَالُ : لَمَّا مَلَكَ مَنَافِعَ بُضْعِهَا لَزِمَهَا تَسْلِيمُهَا ؛ لِأَنَّا نَقُولُ : التَّسْلِيمُ بِالتَّخْلِيَةِ وَالتَّبْوِئَةِ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَيْهَا وَالنَّفَقَةُ عَلَى الْمَوْلَى مَا لَمْ يُبَوِّئْهَا ، وَإِذَا بَوَّأَهَا ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا إلَى خِدْمَتِهِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ ، وَكُلَّمَا بَوَّأَهَا وَجَبَتْ نَفَقَتُهَا عَلَى الزَّوْجِ ، وَكُلَّمَا أَعَادَهَا سَقَطَتْ .
فَإِنْ قُلْت : مَا الْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَشْتَرِطَ الزَّوْجُ التَّبْوِئَةَ فَيُزَوِّجُهُ السَّيِّدُ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ وَلَا يَلْزَمُ الْمَوْلَى التَّبْوِئَةُ وَبَيْنَ أَنْ يَشْتَرِطَ الْحُرُّ الْمُتَزَوِّجُ بِأَمَةِ رَجُلٍ حُرِّيَّةَ أَوْلَادِهِ حَيْثُ يَلْزَمُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَتَثْبُتُ حُرِّيَّةُ مَا يَأْتِي مِنْ الْأَوْلَادِ ، وَهَذَا أَيْضًا شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ نِكَاحُ الْأَمَةِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ قَبُولَ الْمَوْلَى الشَّرْطَ وَالتَّزْوِيجَ عَلَى اعْتِبَارِهِ هُوَ مَعْنَى تَعْلِيقِ الْحُرِّيَّةِ بِالْوِلَادَةِ وَتَعْلِيقُ ذَلِكَ صَحِيحٌ ،

وَعِنْدَ وُجُودِ التَّعْلِيقِ فِيمَا يَصِحُّ يَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ عَنْ مُقْتَضَاهُ فَتَثْبُتُ الْحُرِّيَّةُ عِنْدَ الْوِلَادَةِ جَبْرًا مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ ، بِخِلَافِ اشْتِرَاطِ التَّبْوِئَةِ فَإِنَّ بِتَعْلِيقِهَا لَا تَقَعُ هِيَ عِنْدَ ثُبُوتِ الشَّرْطِ بَلْ يَتَوَقَّفُ وُجُودُهَا عَلَى فِعْلٍ حِسِّيٍّ اخْتِيَارِيٍّ مِنْ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ فَإِذَا امْتَنَعَ لَمْ تُوجَدْ .
فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُعَلَّقَ هُنَا وَعْدٌ يَجِبُ الْإِيفَاءُ بِهِ ، غَيْرَ أَنَّهُ إنْ لَمْ يَفِ بِهِ لَمْ يَثْبُتْ مُتَعَلِّقُهُ : أَعْنِي نَفْسَ الْمَوْعُودِ بِهِ ، وَلَوْ طَلَّقَهَا بَائِنًا وَهِيَ مُبَوَّأَةٌ تَجِبُ لَهَا نَفَقَةُ الْعِدَّةِ ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ مُبَوَّأَةً مِنْ الِابْتِدَاءِ أَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَ رُجُوعِ السَّيِّدِ إلَى اسْتِخْدَامِهَا لَا تَجِبُ ، وَالْمُكَاتَبَةُ كَالْحُرَّةِ لِزَوَالِ يَدِ الْمَوْلَى وَهِيَ فِي يَدِ نَفْسِهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ إذَا لَمْ تَحْبِسْ نَفْسَهَا ظُلْمًا ، وَلَوْ جَاءَتْ الْأَمَةُ بِوَلَدٍ فَنَفَقَتُهُ عَلَى مَوْلَى الْأَمَةِ ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ لَا عَلَى الْأَبِ

قَالَ ( ذَكَرَ تَزْوِيجَ الْمَوْلَى عَبْدَهُ وَأَمَتَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ رِضَاهُمَا ) وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى مَذْهَبِنَا أَنَّ لِلْمَوْلَى إجْبَارَهُمَا عَلَى النِّكَاحِ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا إجْبَارَ فِي الْعَبْدِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ النِّكَاحَ مِنْ خَصَائِصِ الْآدَمِيَّةِ وَالْعَبْدُ دَاخِلٌ تَحْتَ مِلْكِ الْمَوْلَى مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ فَلَا يَمْلِكُ إنْكَاحَهُ ، بِخِلَافِ الْأَمَةِ لِأَنَّهُ مَالِكٌ مَنَافِعَ بُضْعِهَا فَيَمْلِكُ تَمْلِيكَهَا .
وَلَنَا لِأَنَّ الْإِنْكَاحَ إصْلَاحُ مِلْكِهِ لِأَنَّ فِيهِ تَحْصِينَهُ عَنْ الزِّنَا الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْهَلَاكِ أَوْ النُّقْصَانِ فَيَمْلِكُهُ اعْتِبَارًا بِالْأَمَةِ ، بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ وَالْمُكَاتَبَةِ لِأَنَّهُمَا الْتَحَقَا بِالْأَحْرَارِ تَصَرُّفًا فَيُشْتَرَطُ رِضَاهُمَا .

( قَوْلُهُ قَالَ ) أَيْ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ ( ذَكَرَ ) أَيْ مُحَمَّدٌ ( تَزْوِيجَ الْمَوْلَى عَبْدَهُ وَأَمَتَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ رِضَاهُمَا ) أَيْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ ( وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى مَذْهَبِنَا ) ؛ لِأَنَّ الْمَذْهَبَ ( أَنَّ لِلْمَوْلَى إجْبَارَهُمَا ) أَيْ أَنْ يَعْقِدَ لَهُمَا فَيَنْفُذَ عَلَيْهِمَا عَلِمَا وَرَضِيَا أَوْ لَا كَإِجْبَارِ الْوَلِيِّ الصَّغِيرَةَ عَلَى مَا سَلَف ( وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا إجْبَارَ فِي الْعَبْدِ ) بَلْ فِي الْأَمَةِ ( وَهُوَ رِوَايَةٌ ) ذَكَرَهَا ( عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ) صَاحِبُ الْإِيضَاحِ وَالطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ، وَجَعَلَهَا الْوَبَرِيُّ رِوَايَةً شَاذَّةً لِلشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ مَا يَتَنَاوَلُهُ النِّكَاحُ لَا يَمْلِكُهُ الْمَوْلَى فَعُقْدَةُ تَصَرُّفٍ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ فَانْتَفَى كَالْأَجْنَبِيِّ وَكَتَزْوِيجِهِ مُكَاتَبَهُ وَمُكَاتَبَتَهُ ، بِخِلَافِ أَمَتِهِ يَمْلِكُ مَا يَتَنَاوَلُهُ فَيَمْلِكُ تَمْلِيكَهُ .
ثَانِيهِمَا : أَنَّهُ لَا يُفِيدُ إذْ لِلْعَبْدِ التَّطْلِيقُ فِي الْحَالِ فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ ، وَنَحْنُ نَقُولُ مَنَاطُ نَفَاذِ إنْكَاحِهِ عَلَيْهِ مِلْكُهُ لَهُ الْمُقْتَضِي لِتَمَكُّنِهِ مِنْ إصْلَاحِهِ وَدَفْعِ أَسْبَابِ الْهَلَاكِ وَالنُّقْصَانِ عَنْهُ وَهُوَ تَزْوِيجُهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ طَرِيقُ تَحْصِينِهِ عَنْ الزِّنَا الَّذِي هُوَ طَرِيقُ الْهَلَاكِ أَوْ النُّقْصَانِ بِهِ أَوْ فِي مَالِيَّتِهِ لِتَعَيُّبِهِ .
وَأَمَّا جَعْلُ مَنَاطِهِ مِلْكَ مَا يَتَنَاوَلُهُ النِّكَاحُ وَأَنَّهَا عِلَّةٌ مُسَاوِيَةٌ يَنْتَفِي بِانْتِفَائِهَا الْحُكْمُ فَبَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهَا مُنْتَقِضَةٌ طَرْدًا فِي الزَّوْجِ يَمْلِكُ مَا يَتَنَاوَلُهُ النِّكَاحُ مِنْ زَوْجَتِهِ وَلَا يَمْلِكُ تَمْلِيكَهُ وَعَكْسًا بِالْوَلِيِّ لَا يَمْلِكُهُ مِنْ مُولِيَتِهِ وَيَمْلِكُ تَزْوِيجَهَا .
وَأَمَّا نَفْيُ الْفَائِدَةِ فَظَاهِرُ الِانْتِفَاءِ ، بَلْ الظَّاهِرُ عَدَمُ مُبَادَرَتِهِ لِلطَّلَاقِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ مِمَّا تَرْغَبُ فِيهِ النَّفْسُ غَالِبًا وَتَدْعُو إلَيْهِ فَالظَّاهِرُ عَدَمُ طَلَبِ قَطْعِهِ .
وَالثَّانِي أَنَّ حِشْمَةَ السَّيِّدِ فِي قَلْبِ

عَبْدِهِ مَانِعَةٌ مِنْ اجْتِرَائِهِ عَلَيْهِ بِالْمُبَادَرَةِ إلَى نَقْضِ مَا فَعَلَهُ ، فَكَانَ الظَّاهِرُ وُجُودَ الْفَائِدَةِ لَا نَفْيَهَا .
وَأَمَّا إلْحَاقُهُ بِالْمُكَاتَبِ وَالْمُكَاتَبَةِ فَمَعَ الْفَارِقِ ؛ لِأَنَّهُمَا الْتَحَقَا بِالْأَحْرَارِ فِي التَّصَرُّفَاتِ فَلَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ عَلَيْهِمَا إلَّا بِرِضَاهُمَا وَعَنْ هَذَا اسْتَطْرَقْت مَسْأَلَةً نُقِلَتْ مِنْ الْمُحِيطِ هِيَ أَنَّ الْمَوْلَى إذَا زَوَّجَ مُكَاتَبَتَهُ الصَّغِيرَةَ تَوَقَّفَ النِّكَاحُ عَلَى إجَازَتِهَا ؛ لِأَنَّهَا مُلْحَقَةٌ بِالْبَالِغَةِ فِيمَا يَنْبَنِي عَلَى الْكِتَابَةِ ، ثُمَّ إنَّهَا لَوْ لَمْ تُرِدْ حَتَّى أَدَّتْ فَعَتَقَتْ بَقِيَ النِّكَاحُ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ الْمَوْلَى لَا عَلَى إجَازَتِهَا ؛ لِأَنَّهَا بَعْدَ الْعِتْقِ لَمْ تَبْقَ مُكَاتَبَةً وَهِيَ صَغِيرَةٌ وَالصَّغِيرَةُ لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الْإِجَازَةِ ، فَاعْتُبِرَ التَّوَقُّفُ عَلَى إجَازَتِهَا فِي حَالِ رِقِّهَا وَلَمْ يُعْتَبَرْ بَعْدَ الْعِتْقِ ، هَكَذَا تَوَارَدَهَا الشَّارِحُونَ .
وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ عَدَمُ التَّوَقُّفِ عَلَى إجَازَتِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ بَلْ بِمُجَرَّدِ عِتْقِهَا يَنْفُذُ النِّكَاحُ لِمَا صَرَّحُوا بِهِ مِنْ أَنَّهُ إذَا تَزَوَّجَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ فَأَعْتَقَهُ نَفَذَ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَوَقَّفَ فَإِمَّا عَلَى إجَازَةِ الْمَوْلَى وَهُوَ مُمْتَنَعٌ لِانْتِفَاءِ وِلَايَتِهِ ، وَإِمَّا عَلَى الْعَبْدِ فَلَا وَجْهَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ مُصْدَرٌ مِنْ جِهَتِهِ فَكَيْفَ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وَلِأَنَّهُ كَانَ نَافِذًا مِنْ جِهَتِهِ وَإِنَّمَا تَوَقَّفَ عَلَى السَّيِّدِ ، فَكَذَا السَّيِّدُ هُنَا فَإِنَّهُ وَلِيٌّ مُجْبَرٌ ، وَإِنَّمَا التَّوَقُّفُ عَلَى إذْنِهَا لِعَقْدِ الْكِتَابَةِ وَقَدْ زَالَ فَبَقِيَ النَّفَاذُ مِنْ جِهَةِ السَّيِّدِ ، فَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ ، وَكَثِيرًا مَا يُقَلِّدُ السَّاهُونَ السَّاهِينَ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الصَّبِيِّ إذَا زَوَّجَ نَفْسَهُ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهِ فَإِنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى إجَازَةِ وَلِيِّهِ ، فَلَوْ بَلَغَ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّهُ لَا يَنْفُذُ حَتَّى يُجِيزَهُ الصَّبِيُّ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ حِينَ صَدَرَ مِنْهُ لَمْ

يَكُنْ نَافِذًا مِنْ جِهَتِهِ إذْ لَا نَفَاذَ فِي حَالَةِ الصِّبَا أَوْ عَدَمِ أَهْلِيَّةِ الرَّأْيِ ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ وَمَوْلَى الْمُكَاتَبَةِ الصَّغِيرَةِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الصَّغِيرَ وَالصَّغِيرَةَ لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْعِبَارَةِ ، بِخِلَافِ الْبَالِغِ ، وَسَيَأْتِي زِيَادَةٌ فِي ذَلِكَ .
وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال بِقَوْلِهِ تَعَالَى { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ } وَقُدْرَةُ إبْطَالِ مَا أَمْضَاهُ سَيِّدُهُ شَيْءٌ فَيَكُونُ مُنْتَفِيًا فَضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْمَالِ لِسِيَاقِهِ فِي مُقَابَلَةِ { وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا } { فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ } وَلِلْقَطْعِ بِأَنَّهُ يَمْلِكُ الطَّلَاقَ وَهُوَ شَيْءٌ لَيْسَ بِمَالٍ

قَالَ ( وَمَنْ زَوَّجَ أَمَتَهُ ثُمَّ قَتَلَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا زَوْجُهَا فَلَا مَهْرَ لَهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : عَلَيْهِ الْمَهْرُ لِمَوْلَاهَا ) اعْتِبَارًا بِمَوْتِهَا حَتْفَ أَنْفِهَا ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْتُولَ مَيِّتٌ بِأَجَلِهِ فَصَارَ كَمَا إذَا قَتَلَهَا أَجْنَبِيٌّ : وَلَهُ أَنَّهُ مَنَعَ الْمُبْدَلَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَيُجَازَى بِمَنْعِ الْبَدَلِ كَمَا إذَا ارْتَدَّتْ الْحُرَّةُ ، وَالْقَتْلُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا جُعِلَ إتْلَافًا حَتَّى وَجَبَ الْقِصَاصُ وَالدِّيَةُ فَكَذَا فِي حَقِّ الْمَهْرِ .

( قَوْلُهُ وَمَنْ زَوَّجَ أَمَتَهُ ثُمَّ قَتَلَهَا إلَخْ ) السَّيِّدُ فِي تَزْوِيجِهِ مُكَاتَبَتَهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْمَهْرَ بَلْ الْمُكَاتَبَةُ وَفِي تَزْوِيجِ أَمَتِهِ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لَهُ ، فَلَوْ قَتَلَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ سَقَطَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ الزَّوْجِ حَتَّى لَوْ كَانَ الْمَوْلَى قَبَضَهُ يَرُدُّهُ عَلَيْهِ .
وَقَالَا : لَا يَسْقُطُ ، وَالِاتِّفَاقُ عَلَى عَدَمِ سُقُوطِهِ بِقَتْلِهِ إيَّاهَا بَعْدَ الدُّخُولِ وَبِقَتْلِ أَجْنَبِيٍّ وَقَتْلِ الْمَوْلَى زَوْجَهَا وَمَوْتِهَا حَتْفَ أَنْفِهَا .
لَهُمَا أَنَّ الْمَقْتُولَ مَيِّتٌ بِأَجَلِهِ ، وَلَوْ مَاتَتْ حَتْفَ أَنْفِهَا لَمْ يَسْقُطْ بَلْ يَتَقَرَّرُ بِالْمَوْتِ إذْ بِهِ يَنْتَهِي الْعَقْدُ وَبِانْتِهَاءِ الْعَقْدِ يَتَقَرَّرُ الْبَدَلُ فَلَا يَسْقُطُ بِقَتْلِهِ إيَّاهَا بَعْدَ لُزُومِهِ كَقَتْلِ الْأَجْنَبِيِّ إيَّاهَا .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مَنَعَ الْمُبْدَلَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ فَيُجَازَى بِمَنْعِ الْبَدَلِ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمُجَازَاةِ كَمَا لَوْ ارْتَدَّتْ الْحُرَّةُ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ قَبَّلَتْ ابْنَ الزَّوْجِ .
وَالْقَتْلُ وَإِنْ كَانَ مَوْتًا لَكِنَّهُ جُعِلَ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا إتْلَافًا حَتَّى وَجَبَ بِهِ الْقِصَاصُ وَالدِّيَةُ وَالضَّمَانُ فِيمَا لَوْ ذَبَحَ شَاةَ غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَحَلَّهَا لَهُ وَقَدْ ثَبَتَتْ أَحْكَامُهُ كَذَلِكَ فِي حَقِّ الْمَوْلَى حَتَّى لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ فِي الْخَطَأِ ، وَإِنَّمَا سَقَطَتْ الدِّيَةُ وَالْقَوَدُ لِلِاسْتِحَالَةِ ، وَلِهَذَا لَوْ كَانَتْ الْأَمَةُ رَهْنًا عِنْدَ إنْسَانٍ فَقَتَلَهَا سَيِّدُهَا الرَّاهِنُ ضَمِنَ قِيمَتَهَا لَهُ ؛ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْمُجَازَاةِ بِأَنْ كَانَ صَبِيًّا زَوَّجَ أَمَتَهُ وَصِيَّهُ مَثَلًا قَالُوا يَجِبُ أَنْ لَا يَسْقُطَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، بِخِلَافِ الْحُرَّةِ الصَّغِيرَةِ إذَا ارْتَدَّتْ يَسْقُطُ مَهْرُهَا ؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَةَ الْعَاقِلَةَ مِنْ أَهْلِ الْمُجَازَاةِ عَلَى الرِّدَّةِ ، بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِنْ الْأَفْعَالِ ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُحْظَرْ عَلَيْهَا وَالرِّدَّةُ مَحْظُورَةٌ عَلَيْهَا .
أَمَّا الْأَمَةُ فَلَا رِوَايَةَ فِي

رِدَّتِهَا .
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ قِيلَ لَا يَسْقُطُ ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ وَهُوَ الْمُسْقِطُ لَمْ يَجِئْ مِمَّنْ لَهُ الْحَقُّ وَهُوَ الْمَوْلَى ، وَقِيلَ يَسْقُطُ ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ يَجِبُ أَوَّلًا لَهَا ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى الْمَوْلَى بَعْدَ الْفَرَاغِ عَنْ حَاجَتِهَا حَتَّى لَوْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ يُصْرَفُ إلَيْهِ .
وَحَاصِلُ الْخِلَافِ الِاخْتِلَافُ فِي وُجُودِ سَبَبِ السُّقُوطِ فَعِنْدَهُ وُجِدَ وَعِنْدَهُمَا لَمْ يَتَحَقَّقْ فَبَقِيَ وُجُوبُهُ السَّابِقُ عَلَى حَالِهِ .

( وَإِنْ قَتَلَتْ حُرَّةٌ نَفْسَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا زَوْجُهَا فَلَهَا الْمَهْرُ ) خِلَافًا لِزُفَرَ ، هُوَ يَعْتَبِرُهُ بِالرِّدَّةِ وَبِقَتْلِ الْمَوْلَى أَمَتَهُ وَالْجَامِعُ مَا بَيَّنَّاهُ .
وَلَنَا أَنَّ جِنَايَةَ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَشَابَهَ مَوْتَهَا حَتْفَ أَنْفِهَا ، بِخِلَافِ قَتْلِ الْمَوْلَى أَمَتَهُ لِأَنَّهُ مُعْتَبَرٌ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا حَتَّى تَجِبَ الْكَفَّارَةُ عَلَيْهِ .
.

( قَوْلُهُ وَإِنْ قَتَلَتْ حُرَّةٌ نَفْسَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا ) يَسْتَحِقُّهُ وَرَثَتُهَا ( خِلَافًا لِزُفَرَ ) وَلَمْ يُحْكَ خِلَافُ زُفَرَ فِي الْمَبْسُوطِ بَلْ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ قَوْلٌ لَهُ ، وَلَهُ قَوْلٌ آخَرُ بِالسُّقُوطِ ، وَإِنَّمَا قَيَّدَهُ بِالْحُرَّةِ ؛ لِأَنَّ فِي قَتْلِ الْأَمَةِ نَفْسَهَا رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَفِي رِوَايَةٍ لَا يَسْقُطُ كَالْحُرَّةِ بَلْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ لِمَوْلَاهَا لَا لَهَا وَهُوَ لَمْ يُبَاشِرْ مَنْعَ الْبَدَلِ وَهُوَ قَوْلُهُمَا وَقَوْلُ مَالِكٍ وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ ، وَفِي رِوَايَةٍ يَسْقُطُ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْمَمْلُوكِ يُضَافُ إلَى مَالِكِهِ فِي مُوجَبِهِ ، وَلِذَا لَوْ قَتَلَتْ غَيْرَهَا كَانَ الْمُخَاطَبُ بِدَفْعِهَا أَوْ فِدَائِهَا الْمَوْلَى فَكَانَ فِي الْحُكْمِ كَقَتْلِ الْمَوْلَى لَهَا ، وَالْأَوْجَهُ مَا ذُكِرَ فِي وَجْهِ قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنْ الْمَشَايِخِ فِي رِدَّتِهَا بِالسُّقُوطِ وَهُوَ أَنَّ الْمَهْرَ يَجِبُ أَوَّلًا لَهَا ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى الْمَوْلَى .
وَفَائِدَةُ الْأَوَّلِيَّةِ مَا ذُكِرَ أَنَّهُ إذَا كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ قُضِيَ وَلَمْ يُعْطَ الْمَوْلَى إلَّا مَا فَضَلَ .
لِزُفَرَ الْقِيَاسُ عَلَى رِدَّتِهَا الِاتِّفَاقِيَّةِ وَقَتْلِ الْمَوْلَى أَمَتَهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ( وَالْجَامِعُ ) بَيْنَ الْمَقِيسِ وَهُوَ قَتْلُهَا نَفْسَهَا وَالْمَقِيسُ عَلَيْهِ وَهُوَ رِدَّتُهَا ( مَا بَيَّنَّا ) مِنْ مَنْعِ الْمُبْدَلِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ .
وَلَنَا أَنَّ جِنَايَةَ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ هَدَرٌ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا إنَّمَا يُؤَاخَذُ بِهَا فِي الْآخِرَةِ ، وَلِذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ فِي قَاتِلِ نَفْسِهِ ، إنَّهُ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَعْتَبِرَاهُ بَاغِيًا عَلَى نَفْسِهِ ، بِخِلَافِ رِدَّتِهَا فَإِنَّهَا مُعْتَبَرَةٌ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا حَتَّى حُبِسَتْ بِهَا وَعُزِّرَتْ وَانْفَسَخَ نِكَاحُهَا فَيَسْقُطُ بِهَا الْمَهْرُ ، بِخِلَافِ قَتْلِ الْمَوْلَى أَمَتَهُ ؛ لِأَنَّهُ اعْتَبَرَ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا حَتَّى وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ .
وَلَوْ

سُلِّمَ فَقَتْلُهَا نَفْسَهَا تَفْوِيتٌ بَعْدَ الْمَوْتِ وَبِالْمَوْتِ صَارَ الْمَهْرُ لِلْوَرَثَةِ فَلَا يَسْقُطُ بِفِعْلِهَا حَقُّ غَيْرِهَا ، أَمَّا الْأَمَةُ فَمَهْرُهَا مِلْكُ الْمَوْلَى فَكَأَنَّهُ فَعَلَهُ إبْطَالًا لِحَقِّ نَفْسِهِ وَهُوَ يَمْلِكُهُ ، كَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ اُقْتُلْ عَبْدِي فَقَتَلَهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ ، وَلَوْ قَالَ الْحُرُّ اُقْتُلْنِي فَقَتَلَهُ كَانَ عَلَى الْقَاتِلِ الدِّيَةُ ؛ لِأَنَّهُ فِي الْأَوَّلِ مُبْطِلٌ لِحَقِّ نَفْسِهِ ، وَفِي الثَّانِي مُبْطِلٌ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ .
وَاسْتَشْكَلَ بِالْحُرَّةِ يَقْتُلُهَا وَارِثُهَا لَا يَسْقُطُ الْمَهْرُ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ صَارَ مَحْرُومًا بِالْقَتْلِ فَلَمْ يَكُنْ بِالْقَتْلِ مُبْطِلًا حَقَّ نَفْسِهِ فِي الْمَهْرِ .

قَالَ ( وَإِذَا تَزَوَّجَ أَمَةً فَالْإِذْنُ فِي الْعَزْلِ إلَى الْمَوْلَى ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ الْإِذْنَ فِي الْعَزْلِ إلَيْهَا لِأَنَّ الْوَطْءَ حَقُّهَا حَتَّى تَثْبُتَ لَهَا وِلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ ، وَفِي الْعَزْلِ تَنْقِيصُ حَقِّهَا فَيُشْتَرَطُ رِضَاهَا كَمَا فِي الْحُرَّةِ ، بِخِلَافِ الْأَمَةِ الْمَمْلُوكَةِ لِأَنَّهُ لَا مُطَالَبَةَ لَهَا فَلَا يُعْتَبَرُ رِضَاهَا .
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْعَزْلَ يُخِلُّ بِمَقْصُودِ الْوَلَدِ وَهُوَ حَقُّ الْمَوْلَى فَيُعْتَبَرُ رِضَاهُ وَبِهَذَا فَارَقَتْ الْحُرَّةَ .

( قَوْلُهُ وَإِذَا تَزَوَّجَ أَمَةً فَالْإِذْنُ فِي الْعَزْلِ إلَى الْمَوْلَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) الْعَزْلُ جَائِزٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ ، وَكَرِهَهُ قَوْمٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ لِمَا فِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ جُدَامَةَ بِنْتَ وَهْبٍ أُخْتِ عُكَّاشَةَ قَالَتْ { حَضَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أُنَاسٍ فَسَأَلُوهُ عَنْ الْعَزْلِ ؛ قَالَ : ذَاكَ الْوَأْدُ الْخَفِيُّ } وَكَذَا ذَكَرَ شُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ زُرْعَةَ وَصَحَّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ " أَنَّهُ قَالَ هُوَ الْمَوْءُودَةُ الصُّغْرَى " وَصَحَّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْهُ فَقَالَ : مَا كُنْت أَرَى مُسْلِمًا يَفْعَلُهُ ، وَقَالَ نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ : ضَرَبَ عُمَرُ عَلَى الْعَزْلِ بَعْضَ بَنِيهِ .
وَعَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ أَنَّهُمَا : كَانَا يَنْهَيَانِ عَنْ الْعَزْلِ .
وَالصَّحِيحُ الْجَوَازُ ؛ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرٍ " كُنَّا نَعْزِلُ وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ " وَفِي مُسْلِمٍ عَنْهُ : { كُنَّا نَعْزِلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَنْهَنَا } وَفِي السُّنَنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ { أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لِي جَارِيَةً وَأَنَا أَعْزِلُ عَنْهَا وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ تَحْمِلَ وَأَنَا أُرِيدُ مَا يُرِيدُ الرِّجَالُ ، وَإِنَّ الْيَهُودَ تُحَدِّثُ أَنَّ الْعَزْلَ هُوَ الْمَوْءُودَةُ الصُّغْرَى ، قَالَ : كَذَبَتْ يَهُودُ ، لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَخْلُقَهُ مَا اسْتَطَعْتَ أَنْ تَصْرِفَهُ } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ { سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنَّ عِنْدِي جَارِيَةً وَأَنَا أَعْزِلُ عَنْهَا ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ شَيْئًا أَرَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، قَالَ : فَجَاءَ الرَّجُلُ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ الْجَارِيَةَ الَّتِي كُنْتُ ذَكَرْتُهَا لَكَ قَدْ حَمَلَتْ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ } فَهَذِهِ

الْأَحَادِيثُ ظَاهِرَةٌ فِي جَوَازِ الْعَزْلِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَشَرَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ : عَلِيٍّ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَأَبِي أَيُّوبَ وَجَابِرٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ وَخَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ؛ وَحَدِيثُ السُّنَنِ يَدْفَعُ حَدِيثَ جُدَامَةَ ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ فِي السُّنَنِ فَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ ، وَإِنْ وَقَعَ فِيهِ اخْتِلَافٌ عَلَى يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ ، فَقِيلَ فِيهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَانَ عَنْ جَابِرٍ ، وَقِيلَ فِيهِ عَنْ أَبِي مُطِيعِ بْنِ رِفَاعَةَ ، وَقِيلَ عَنْ رِفَاعَةَ ، وَقِيلَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، فَإِنَّ الطُّرُقَ كُلَّهَا صَحِيحَةٌ .
وَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ عِنْدَ يَحْيَى مِنْ حَدِيثِ الْكُلِّ بِهَذِهِ الطُّرُقِ ، لَكِنْ بَقِيَ أَنَّهُمَا إذَا تَعَارَضَا يَجِبُ تَرْجِيحُ حَدِيثِ جُدَامَةَ ؛ لِأَنَّهُ مُخْرَجٌ عَنْ الْأَصْلِ : أَعْنِي الْإِبَاحَةَ الْأَصْلِيَّةَ ، إلَّا أَنَّ كَثْرَةَ الْأَحَادِيثِ تَدُلُّ عَلَى اشْتِهَارِ خِلَافِهِ ، وَقَدْ اتَّفَقَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهَا لَا تَكُونُ مَوْءُودَةً حَتَّى تَمُرَّ عَلَيْهَا التَّارَاتُ السَّبْعُ .
أَسْنَدَ أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : جَلَسَ إلَيَّ عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَالزُّبَيْرُ وَسَعْدٌ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتُذَاكَرُوا الْعَزْلَ فَقَالُوا لَا بَأْسَ بِهِ ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ : إنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهَا الْمَوْءُودَةُ الصُّغْرَى ، فَقَالَ عَلِيٌّ : لَا تَكُونُ مَوْءُودَةً حَتَّى تَمُرَّ عَلَيْهَا التَّارَاتُ السَّبْعُ : حَتَّى تَكُونَ سُلَالَةً مِنْ طِينٍ ، ثُمَّ تَكُونَ نُطْفَةً ، ثُمَّ تَكُونَ عَلَقَةً ، ثُمَّ تَكُونَ مُضْغَةً ، ثُمَّ تَكُونَ عِظَامًا ، ثُمَّ تَكُونَ لَحْمًا ، ثُمَّ تَكُونَ خَلْقًا آخَرَ ، فَقَالَ عُمَرُ : صَدَقْت ، أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَك .
وَفِيهِ خِلَافٌ مَا عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ مِنْ الْمَنْعِ الْمُتَقَدِّمِ ، ثُمَّ فِي

بَعْضِ أَجْوِبَةِ الْمَشَايِخِ الْكَرَاهَةُ وَفِي بَعْضِهَا عَدَمُهَا ، ثُمَّ عَلَى الْجَوَازِ فِي أَمَتِهِ لَا يَفْتَقِرُ إلَى إذْنِهَا ، وَفِي زَوْجَتِهِ الْحُرَّةِ يَفْتَقِرُ إلَى رِضَاهَا ، وَفِي مَنْكُوحَتِهِ الْأَمَةِ يَفْتَقِرُ إلَى الْإِذْنِ وَالْخِلَافُ فِي أَنَّهُ لِلسَّيِّدِ أَوْ لَهَا وَهِيَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَفِي الْفَتَاوَى : إنْ خَافَ مِنْ الْوَلَدِ السُّوءَ فِي الْحُرَّةِ يَسَعُهُ الْعَزْلُ بِغَيْرِ رِضَاهَا لِفَسَادِ الزَّمَانِ فَلْيُعْتَبَرْ مِثْلُهُ مِنْ الْأَعْذَارِ مُسْقِطًا لِإِذْنِهَا .
ثُمَّ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْهِدَايَةِ : وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا ذَكَرَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ وَالْعَتَّابِيُّ وَفِي بَعْضِهَا : وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَهِيَ النُّسْخَةُ الصَّحِيحَةُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بَلْ ذَكَرَ الْجَوَابَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ لِمَوْلَاهَا مِنْ غَيْرِ حِكَايَةِ خِلَافٍ ، وَبِقَرِينَةِ قَوْلِهِ فِي وَجْهِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَوَجْهُ الْمَرْوِيِّ عَنْهُمَا أَنَّ الْوَطْءَ حَقُّهَا حَتَّى إنَّ لَهَا الْمُطَالَبَةَ بِهِ ، وَفِي الْعَزْلِ تَنْقِيصُهُ فَيُشْتَرَطُ رِضَاهَا بِهِ كَالْحُرَّةِ .
وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ حَقَّهَا فِي نَفْسِ الْوَطْءِ قَدْ تَأَدَّى بِالْجِمَاعِ ، فَإِنَّ قَضَاءَ الشَّهْوَةِ بِهِ ؛ وَأَمَّا سَفْحُ الْمَاءِ فَإِنَّمَا فَائِدَتُهُ الْوَلَدُ وَالْحَقُّ فِيهِ لِمَوْلَاهَا ؛ لِأَنَّهُ عَبْدُهُ وَمُسْتَفَادُهُ فَيُشْتَرَطُ إذْنُهُ .
ثُمَّ إذَا عَزَلَ بِإِذْنٍ أَوْ بِغَيْرِ إذْنٍ ثُمَّ ظَهَرَ بِهَا حَبَلٌ هَلْ يَحِلُّ نَفْيُهُ أَمْ لَا ؟ قَالُوا : إنْ لَمْ يَعُدْ إلَيْهَا أَوْ عَادَ وَلَكِنْ بَالَ قَبْلَ الْعَوْدِ حَلَّ نَفْيُهُ وَإِنْ لَمْ يَبُلْ لَمْ يَحِلَّ ، كَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ ؛ لِأَنَّ بَقِيَّةَ الْمَنِيِّ فِي ذَكَرِهِ يَسْقُطُ فِيهَا ، وَلِذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِيمَا إذَا اغْتَسَلَ مِنْ الْجَنَابَةِ قَبْلَ الْبَوْلِ ثُمَّ بَالَ فَخَرَجَ الْمَنِيُّ وَجَبَ عَلَيْهِ إعَادَةُ الْغُسْلِ .
وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ : رَجُلٌ لَهُ جَارِيَةٌ غَيْرُ مُحْصَنَةٍ تَخْرُجُ وَتَدْخُلُ

وَيَعْزِلُ عَنْهَا الْمَوْلَى فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ وَأَكْبَرُ ظَنِّهِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ كَانَ فِي سَعَةٍ مِنْ نَفْيِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ مُحْصَنَةً لَا يَسَعُهُ نَفْيُهُ ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَعْزِلُ فَيَقَعُ الْمَاءُ فِي الْفَرْجِ الْخَارِجِ ثُمَّ يَدْخُلُ فَلَا يَعْتَمِدُ عَلَى الْعَزْلِ ، وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ عِنِّينًا قَالُوا الْخُصُومَةُ لِلْمَوْلَى أَوْ لَهَا عَلَى الْخِلَافِ ، وَهَلْ يُبَاحُ الْإِسْقَاطُ بَعْدَ الْحَبَلِ ؟ يُبَاحُ مَا لَمْ يَتَخَلَّقْ شَيْءٌ مِنْهُ ثُمَّ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ ، قَالُوا : وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِالتَّخْلِيقِ نَفْخَ الرُّوحِ وَإِلَّا فَهُوَ غَلَطٌ لِأَنَّ التَّخْلِيقَ يَتَحَقَّقُ بِالْمُشَاهَدَةِ قَبْلَ هَذِهِ الْمُدَّةِ

( وَإِنْ تَزَوَّجَتْ بِإِذْنِ مَوْلَاهَا ثُمَّ أُعْتِقَتْ فَلَهَا الْخِيَارُ حُرًّا كَانَ زَوْجُهَا أَوْ عَبْدًا ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِبَرِيرَةَ حِينَ عَتَقَتْ { مَلَكْتِ بُضْعَكِ فَاخْتَارِي } فَالتَّعْلِيلُ بِمِلْكِ الْبُضْعِ صَدَرَ مُطْلَقًا فَيَنْتَظِمُ الْفَصْلَيْنِ ، وَالشَّافِعِيُّ يُخَالِفُنَا فِيمَا إذَا كَانَ زَوْجُهَا حُرًّا وَهُوَ مَحْجُوجٌ بِهِ ، وَلِأَنَّهُ يَزْدَادُ الْمِلْكُ عَلَيْهَا عِنْدَ الْعِتْقِ فَيَمْلِكُ الزَّوْجُ بَعْدَهُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ فَتَمْلِكُ رَفْعَ أَصْلِ الْعَقْدِ دَفْعًا لِلزِّيَادَةِ ( وَكَذَلِكَ ) ( الْمُكَاتَبَةُ ) يَعْنِي إذَا تَزَوَّجَتْ بِإِذْنِ مَوْلَاهَا ثُمَّ عَتَقَتْ ، وَقَالَ زُفَرُ : لَا خِيَارَ لَهَا لِأَنَّ الْعَقْدَ نَفَذَ عَلَيْهَا بِرِضَاهَا وَكَانَ الْمَهْرُ لَهَا فَلَا مَعْنَى لِإِثْبَاتِ الْخِيَارِ ، بِخِلَافِ الْأَمَةِ لِأَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ رِضَاهَا .
وَلَنَا أَنَّ الْعِلَّةَ ازْدِيَادُ الْمَلِكِ وَقَدْ وَجَدْنَاهَا فِي الْمُكَاتَبَةِ لِأَنَّ عِدَّتَهَا قُرْءَانِ وَطَلَاقَهَا ثِنْتَانِ .

( قَوْلُهُ وَإِذَا تَزَوَّجَتْ أَمَةٌ بِإِذْنِ مَوْلَاهَا ) أَوْ زَوَّجَهَا هُوَ بِرِضَاهَا أَوْ بِغَيْرِ رِضَاهَا ( ثُمَّ أُعْتِقَتْ فَلَهَا الْخِيَارُ حُرًّا كَانَ زَوْجُهَا أَوْ عَبْدًا ) أَمَّا إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِهِ ثُمَّ أَعْتَقَهَا فَسَيَأْتِي أَنَّهُ يَنْفُذُ النِّكَاحُ بِالْإِعْتَاقِ وَلَا خِيَارَ لَهَا ( وَالشَّافِعِيُّ يُخَالِفُنَا فِيمَا إذَا كَانَ زَوْجُهَا حُرًّا ) فَلَا خِيَارَ لَهَا وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ فِي تَرْجِيحِ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ الْمُتَعَارِضَتَيْنِ فِي زَوْجِ بَرِيرَةَ أَكَانَ حِينَ أُعْتِقَتْ حُرًّا أَوْ عَبْدًا ؟ وَفِي تَرْجِيحِ الْمَعْنَى الْمُعَلَّلِ بِهِ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيَّرَهَا وَكَانَ زَوْجُهَا عَبْدًا } رَوَاهَا الْقَاسِمُ ، وَلَمْ تَخْتَلِفْ الرِّوَايَاتُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا ، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ كَانَ حُرًّا حِينَ أُعْتِقَتْ ، وَهَكَذَا رُوِيَ فِي السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَالتَّرْجِيحُ يَقْتَضِي فِي رِوَايَةِ عَائِشَةَ تَرْجِيحَ أَنَّهُ كَانَ حُرًّا ، وَذَلِكَ أَنَّ رُوَاةَ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ عَائِشَةَ ثَلَاثَةٌ الْأَسْوَدُ وَعُرْوَةُ وَالْقَاسِمُ ؛ فَأَمَّا الْأَسْوَدُ فَلَمْ يُخْتَلَفْ فِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ كَانَ حُرًّا ، وَأَمَّا عُرْوَةُ فَعَنْهُ رِوَايَتَانِ صَحِيحَتَانِ إحْدَاهُمَا أَنَّهُ كَانَ حُرًّا وَالْأُخْرَى أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا ، وَأَمَّا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ فَعَنْهُ أَيْضًا رِوَايَتَانِ صَحِيحَتَانِ إحْدَاهُمَا أَنَّهُ كَانَ حُرًّا وَالْأُخْرَى الشَّكُّ .
وَوَجْهٌ آخَرُ مِنْ التَّرْجِيحِ مُطْلَقًا لَا يَخْتَصُّ بِالْمَرْوِيِّ فِيهِ عَنْ عَائِشَةَ وَهُوَ أَنَّ رِوَايَةَ { خَيَّرَهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ زَوْجُهَا عَبْدًا } يَحْتَمِلُ كَوْنَ الْوَاوِ فِيهِ لِلْعَطْفِ لَا لِلْحَالِ .
وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ إخْبَارٌ بِالْأَمْرَيْنِ ، وَكَوْنُهُ اتَّصَفَ بِالرِّقِّ لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ ذَلِكَ كَانَ حَالَ

عِتْقِهَا هَذَا بَعْدَ احْتِمَالِ أَنْ يُرَادَ بِالْعَبْدِ الْعَتِيقُ مَجَازًا بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ وَهُوَ شَائِعٌ فِي الْعُرْفِ .
وَاَلَّذِي لَا مَرَدَّ لَهُ مِنْ التَّرْجِيحِ أَنَّ رِوَايَةَ كَانَ حُرًّا أَنَصُّ مِنْ كَانَ عَبْدًا لِمَا قُلْنَا ، وَتَثْبُتُ زِيَادَةٌ فَهِيَ أَوْلَى وَأَيْضًا فَهِيَ مُثْبِتَةٌ وَتِلْكَ نَافِيَةٌ لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُ كَانَ حَالَتُهُ الْأَصْلِيَّةُ الرِّقَّ وَالنَّافِي هُوَ الْمُبْقِيهَا وَالْمُثْبِتُ هُوَ الْمُخْرِجُ عَنْهَا .
وَأَمَّا الْمَعْنَى الْمُعَلَّلُ بِهِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ فَالشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ عَيَّنُوهُ بِعَدَمِ الْكَفَاءَةِ وَهُوَ ضَعِيفٌ فَإِنْ ثُبُوتَهَا إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي الِابْتِدَاءِ لَا فِي الْبَقَاءِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَعْسَرَ الزَّوْجُ فِي الْبَقَاءِ أَوْ انْتَفَى نَسَبُهُ لَا يَثْبُتُ لَهَا الْخِيَارُ .
وَأَصْحَابُنَا تَارَةً يُعَلِّلُونَهُ بِزِيَادَةِ الْمَلِكِ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ بِحَيْثُ تَخْلُصُ بِثِنْتَيْنِ فَازْدَادَ الْمَلِكُ عَلَيْهَا ، وَهَذَا مِنْ رَدِّ الْمُخْتَلِفِ إلَى الْمُخْتَلِفِ فَإِنَّ الطَّلَاقَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِالرِّجَالِ لَا بِالنِّسَاءِ ، وَكَأَنَّهُ اعْتِمَادٌ عَلَى إثْبَاتِ الْأَصْلِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ .
وَأَوْرَدَ أَنَّهُ دَفْعُ ضَرَرٍ بِإِثْبَاتِ ضَرَرٍ وَهُوَ رَفْعُ أَصْلِ الْعَقْدِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهَا لَا تَتَمَكَّنُ إلَّا بِهِ مَعَ أَنَّهُ رَضِيَ بِهِ حَيْثُ تَزَوَّجَ أَمَةً مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهَا قَدْ تَعْتِقُ ، ثُمَّ إنَّهُ اسْتَضْعَفَ بِأَنَّ عَدَمَ مِلْكِهِ الثَّالِثَةَ لَا يَسْتَلْزِمُ نُقْصَانَ مَمْلُوكِيَّتِهَا وَلَا مِلْكِهِ الثَّالِثَةَ يَسْتَلْزِمُ طُولَهَا ، فَقَدْ تَطُولُ مَمْلُوكِيَّتُهَا مَعَ مِلْكِهِ ثِنْتَيْنِ بِأَنْ لَا يُطَلِّقَهَا أَصْلًا إلَى الْمَوْتِ فَلَا ضَابِطَ لِذَلِكَ ؛ وَتَارَةً بِعِلَّةٍ مَنْصُوصَةٍ وَهِيَ مِلْكُهَا بُضْعَهَا .
رَوَى أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ بِسَنَدِهِ إلَى { رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لَهَا حِينَ أُعْتِقَتْ مَلَكْتِ بُضْعَكِ فَاخْتَارِي } وَرَوَى ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ : أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ عَنْ دَاوُد بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ

عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِبَرِيرَةَ لَمَّا أُعْتِقَتْ قَدْ عَتَقَ بُضْعُكِ مَعَكِ فَاخْتَارِي } وَهَذَا مُرْسَلٌ وَهُوَ حُجَّةٌ .
وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِبَرِيرَةَ لَمَّا عَتَقَتْ اذْهَبِي ، فَقَدْ عَتَقَ بُضْعُكِ مَعَكِ } وَلَيْسَ لِقَوْلِهِ ذَلِكَ فَائِدَةٌ فِيمَا يَظْهَرُ إلَّا التَّنْبِيهُ عَلَى ثُبُوتِ اخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا ، وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ بَرِيرَةَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا { مَلَكْتِ نَفْسَكِ فَاخْتَارِي } فَقَدْ تَظَافَرَتْ هَذِهِ الطُّرُقُ عَلَى هَذِهِ الْعِلَّةِ ، وَإِذَنْ فَالْوَاجِبُ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْمُعْتَبَرَةُ ، وَيَكُونُ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ التَّعْلِيلِ بِزِيَادَةِ الْمَلِكِ إظْهَارُ حِكْمَةِ هَذِهِ الْعِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ ، وَمُقْتَضَاهُ ثُبُوتُ الْخِيَارِ لَهَا فِيمَا إذَا كَانَ زَوْجُهَا حُرًّا أَوْ عَبْدًا وَفِيمَا إذَا كَانَتْ مُكَاتَبَةً عَتَقَتْ بِأَدَاءِ الْكِتَابَةِ بَعْدَمَا زَوَّجَهَا سَيِّدُهَا بِرِضَاهَا أَوْ غَيْرِهِ وَخَالَفَ زُفَرُ فِي الْمُكَاتَبَةِ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي تَلِي هَذِهِ فِي الْكِتَابِ ، وَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ الْعَقْدَ نَفَذَ بِرِضَاهَا فَلَا خِيَارَ لَهَا ، وَلَوْ صَحَّ لَزِمَ أَنَّ سَيِّدَ الْأَمَةِ لَوْ زَوَّجَهَا بِرِضَاهَا وَمُشَاوَرَتِهَا فِي ذَلِكَ أَنْ لَا خِيَارَ لَهَا وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ .
وَالْأَوْجَهُ فِي اسْتِدْلَالِهِ أَنَّ النَّصَّ لَمْ يَتَنَاوَلْهَا وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَلَكْتِ بُضْعَكِ فَاخْتَارِي } إذْ الْمُكَاتَبَةُ كَانَتْ مَالِكَةً لِبُضْعِهَا قَبْلَ الْعِتْقِ .
وَأُجِيبَ بِالْمَنْعِ ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْبُضْعِ تَابِعٌ لَمِلْكِ نَفْسِهَا وَلَمْ تَكُنْ مَالِكَةً نَفْسَهَا وَإِنَّمَا كَانَتْ مَالِكَةً لِأَكْسَابِهَا .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَلَكْتِ بُضْعَكِ } لَيْسَ مَعْنَاهُ إلَّا مَنَافِعُ بُضْعَكِ إذْ لَا يُمْكِنُ مِلْكُهَا لِعَيْنِهِ وَمِلْكُهَا لِأَكْسَابِهَا تَبَعٌ لِمِلْكِهَا لِمَنَافِعِ

نَفْسِهَا وَأَعْضَائِهَا فَيَلْزَمُ كَوْنُهَا مَالِكَةً لِبُضْعِهَا بِالْمَعْنَى الْمُرَادِ قَبْلَ الْعِتْقِ فَلَمْ يَتَنَاوَلْهَا النَّصُّ ، وَتَرَجَّحَ قَوْلُ زُفَرَ .
وَفِي الْمَبْسُوطِ : لَوْ كَانَتْ حُرَّةً فِي أَصْلِ الْعَقْدِ ثُمَّ صَارَتْ أَمَةً بِأَنْ ارْتَدَّتْ امْرَأَةٌ مَعَ زَوْجِهَا وَلَحِقَا بِدَارِ الْحَرْبِ مَعًا ثُمَّ سُبِيَا مَعًا ثُمَّ عَتَقَتْ فَلَهَا الْخِيَارُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ؛ لِأَنَّهَا بِالْعِتْقِ مَلَكَتْ نَفْسَهَا وَازْدَادَ مِلْكُ الزَّوْجِ عَلَيْهَا .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا خِيَارَ لَهَا ؛ لِأَنَّ بِأَصْلِ الْعَقْدِ ثَبَتَ عَلَيْهَا مِلْكٌ كَامِلٌ بِرِضَاهَا ، ثُمَّ انْتَقَصَ الْمِلْكُ بِعَارِضِ الرِّقِّ فَإِذَا عَتَقَتْ عَادَ الْمِلْكُ إلَى أَصْلِهِ كَمَا كَانَ فَلَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ لَهَا .

( وَإِنْ تَزَوَّجَتْ أَمَةٌ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهَا ثُمَّ أُعْتِقَتْ صَحَّ النِّكَاحُ ) لِأَنَّهَا مِنْ أَهْلِ الْعِبَارَةِ وَامْتِنَاعُ النُّفُوذِ لِحَقِّ الْمَوْلَى وَقَدْ زَالَ ( وَلَا خِيَارَ لَهَا ) لِأَنَّ النُّفُوذَ بَعْدَ الْعِتْقِ فَلَا تَتَحَقَّقُ زِيَادَةُ الْمِلْكِ ، كَمَا إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا بَعْدَ الْعِتْقِ .

( قَوْلُهُ وَإِنْ تَزَوَّجَتْ أَمَةٌ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهَا ثُمَّ أُعْتِقَتْ صَحَّ النِّكَاحُ ) أَيْ نَفَذَ بِمُجَرَّدِ الْعِتْقِ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَمَةِ وَالْعَبْدِ فِي هَذَا الْحُكْمِ ، وَإِنَّمَا فَرَضَهَا فِي الْأَمَةِ لِيُرَتِّبَ عَلَيْهَا الْمَسْأَلَةَ الَّتِي تَلِيهَا تَفْرِيعًا .
وَعَنْ زُفَرَ أَنَّهُ يَبْطُلُ النِّكَاحُ ؛ لِأَنَّ تَوَقُّفَهُ كَانَ عَلَى إجَازَةِ الْمَوْلَى فَلَا يَنْفُذُ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ ، وَلَا يُمْكِنُ إبْقَاؤُهُ مَوْقُوفًا عَلَى إجَارَتِهِ بَعْدَ بُطْلَانِ وِلَايَتِهِ ، وَإِذَا بَطَلَ تَنْفِيذُهُ وَتَوَقُّفُهُ لَزِمَ بُطْلَانُهُ بِالضَّرُورَةِ إذْ لَا وَاسِطَةَ وَصَارَ كَمَا إذَا اشْتَرَتْ ثُمَّ عَتَقَتْ فَإِنَّهُ يَبْطُلُ وَلَا يَتَوَقَّفُ لِمَا قُلْنَا مِنْ عَدَمِ إمْكَانِ الْقِسْمَيْنِ .
وَلَنَا أَنَّ الْأَمَةَ وَالْعَبْدَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَارَةِ وَلِذَا صَحَّ إقْرَارُهُمَا بِالدُّيُونِ وَيُطَالِبَانِ بَعْدَ الْعِتْقِ .
وَأَهْلِيَّةُ الْعِبَارَةِ مِنْ خَوَاصِّ الْآدَمِيَّةِ وَهِيَ مُبْقَاةٌ فِيهِمَا عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ ( وَامْتِنَاعُ النُّفُوذِ لِحَقِّ الْمَوْلَى وَقَدْ زَالَ ) بِالْعِتْقِ .
وَحَاصِلُ هَذَا أَنَّهُ نَافِذٌ مِنْ جِهَتِهَا ، وَيَجِبُ أَنْ يَنْفُذَ مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى مَا دَامَ حَقَّهُ ، فَإِذَا زَالَ بَقِيَ النَّفَاذُ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ تَوَقُّفٍ .
وَأَمَّا الْبُطْلَانُ فَمَا ذُكِرَ فَلَيْسَ لِمَا قَالَ بَلْ لِلُّزُومِ تَحَوُّلِ حُكْمِ الْعَقْدِ الْوَاحِدِ فَإِنَّهُ انْعَقَدَ مُوجِبًا لَمِلْكِ الْمَوْلَى وَلَوْ نَفَذَ بَعْدَ عِتْقِهَا كَانَ مُوجِبًا لِلْمِلْكِ لَهَا .
وَأُورِدَ عَلَى التَّعْلِيلِ النَّقْضُ بِصُوَرٍ ، وَهِيَ مَا لَوْ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ ثُمَّ أَذِنَ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ النِّكَاحُ حَتَّى يُجِيزَ مَا صَنَعَ ، وَمَا إذَا زَوَّجَ فُضُولِيٌّ شَخْصًا ثُمَّ وَكَّلَهُ تَوَقَّفَ عَلَى إجَازَةِ الْفُضُولِيِّ بَعْدَ الْوَكَالَةِ ، وَمَا إذَا زَوَّجَ وَلِيٌّ أَبْعَدُ مَعَ وُجُودِ الْأَقْرَبِ ثُمَّ غَابَ الْأَقْرَبُ أَوْ مَاتَ فَتَحَوَّلَتْ الْوِلَايَةُ إلَى الْمُزَوِّجِ تَوَقَّفَ عَلَى إجَازَةٍ مُسْتَأْنَفَةٍ مِنْهُ ، وَكَذَا سَيِّدُ الْمُكَاتَبَةِ الصَّغِيرَةِ إذَا

زَوَّجَهَا بِلَا إذْنِهَا تَوَقَّفَ عَلَى إجَازَتِهَا ، فَإِذَا أَدَّتْ وَعَتَقَتْ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ النِّكَاحُ إلَّا بِإِجَازَةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ مِنْ السَّيِّدِ مَعَ أَنَّهُ الْمُزَوِّجُ .
أُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي بِأَنَّ الْإِذْنَ وَالتَّوْكِيلَ فَكُّ الْحَجْرِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا يَسْتَقْبِلُ مِنْ وَقْتِهِمَا فَلَا يَعْمَلَانِ فِيمَا قَبْلَهُمَا ، وَكَانَ مُقْتَضَى هَذَا أَنْ لَا يَجُوزَ بِالْإِجَازَةِ أَيْضًا إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَاهُ .
وَعَنْ الثَّالِثِ بِأَنَّ الْأَبْعَدَ لَمْ يَكُنْ وَلِيًّا حِينَ زَوَّجَ ، وَمَنْ لَيْسَ وَلِيًّا فِي شَيْءٍ لَا يَتَأَنَّى فِي عَوَاقِبِهِ وَيُحَكِّمُ الرَّأْيَ فِيهِ بَلْ يَتَوَانَى اتِّكَالًا عَلَى رَأْيِ الْأَقْرَبِ فَلَمْ يَكُنْ النِّكَاحُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَصْلَحِ ظَاهِرًا فَيَجِبُ تَوْقِيفُهُ عَلَى إجَازَتِهِ بَعْدَ صَيْرُورَتِهِ وَلِيًّا لِيَثْبُتَ كَوْنُهُ أَصْلَحَ .
قَالَ فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ : وَبِهَذَا الْحَرْفِ يَقَعُ الِانْفِصَالُ عَنْ النَّقْضِ الرَّابِعِ : يَعْنِي سَيِّدَ الْمُكَاتَبَةِ الصَّغِيرَةِ .
وَقَدْ يُفَرَّقُ بِأَنَّ الْوَلِيَّ الْأَبْعَدَ إنَّمَا يَظْهَرُ فِيهِ تَرْكُ النَّظَرِ بَعْدَ تَسْلِيمِ ظُهُورِهِ فِيهِ لِاعْتِمَادِهِ عَلَى رَأْيِ الْأَقْرَبِ ، أَمَّا هُنَا فَلَا يُتَّجَهُ اعْتِمَادُ الْمَوْلَى عَلَى رَأْيِ الصَّغِيرَةِ فَيَتْرُكُ النَّظَرَ فَكَانَ الظَّاهِرُ النَّظَرَ مِنْهُ لِظُهُورِهِ مِنْ مُجَرَّدِ الدِّينِ وَالنِّسْبَةِ الْخَاصَّةِ مِنْ غَيْرِ مَا يُوجِبُ بُطْلَانَ ظُهُورِهِ فِيهِ فَيَجِبُ الْحُكْمُ بِالنَّفَاذِ بِالْعِتْقِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ وَوَعَدْنَاهُ مِنْ الزِّيَادَةِ وَيَجِبُ لَهَا خِيَارُ الْبُلُوغِ .
( قَوْلُهُ وَلَا خِيَارَ لَهَا ) ؛ لِأَنَّ النُّفُوذَ بَعْدَ الْعِتْقِ وَخِيَارُ الْعِتْقِ إنَّمَا شُرِعَ فِي نِكَاحٍ نَافِذٍ قَبْلَ الْعِتْقِ لِدَفْعِ زِيَادَةِ الْمِلْكِ فَلَا تَتَحَقَّقُ زِيَادَةُ الْمِلْكِ لِذَلِكَ .
وَأُورِدَ يَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ لَهَا الْخِيَارُ ؛ لِأَنَّ بِالِاسْتِنَادِ يَظْهَرُ أَنَّ النَّفَاذَ قَبْلَ الْعِتْقِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الشَّيْءَ يَثْبُتُ ثُمَّ يَسْتَنِدُ ، وَحَالُ ثُبُوتِهِ كَانَ بَعْدَ الْعِتْقِ فَانْتَفَى

الْخِيَارُ بَعْدَهُ

( فَإِنْ كَانَتْ تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ عَلَى أَلْفٍ وَمَهْرُ مِثْلِهَا مِائَةٌ فَدَخَلَ بِهَا زَوْجُهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا مَوْلَاهَا فَالْمَهْرُ لِلْمَوْلَى ) لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنَافِعَ مَمْلُوكَةً لِلْمَوْلَى ( وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا حَتَّى أَعْتَقَهَا فَالْمَهْرُ لَهَا ) لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنَافِعَ مَمْلُوكَةً لَهَا .
وَالْمُرَادُ بِالْمَهْرِ الْأَلْفُ الْمُسَمَّى لِأَنَّ نَفَاذَ الْعَقْدِ بِالْعِتْقِ اسْتَنَدَ إلَى وَقْتِ وُجُودِ الْعَقْدِ فَصَحَّتْ التَّسْمِيَةُ وَوَجَبَ الْمُسَمَّى ، وَلِهَذَا لَمْ يَجِبْ مَهْرٌ آخَرُ بِالْوَطْءِ فِي نِكَاحٍ مَوْقُوفٍ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ اتَّحَدَ بِاسْتِنَادِ النَّفَاذِ فَلَا يُوجِبُ إلَّا مَهْرًا وَاحِدًا .

.
( قَوْلُهُ فَإِنْ كَانَتْ تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ عَلَى أَلْفٍ وَمَهْرُ مِثْلِهَا مِائَةٌ ) نَصَّ عَلَى زِيَادَةِ الْمُسَمَّى عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ ، وَالْجَوَابُ عَلَى التَّفْصِيلِ .
إنْ دَخَلَ بِهَا قَبْلَ الْعِتْقِ فَالْمَهْرُ لِلسَّيِّدِ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنَافِعَ مَمْلُوكَةٍ لَهُ أَوْ بَعْدَهُ فَلَهَا ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنَافِعَ لَهَا .
وَكَانَ يَتَبَادَرُ أَنَّ فِي الْوَطْءِ قَبْلَ الْعِتْقِ مَهْرَ الْمِثْلِ لِلسَّيِّدِ لِعَدَمِ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ حِينَئِذٍ فَكَانَ دُخُولًا فِي نِكَاحٍ مَوْقُوفٍ وَهُوَ كَالْفَاسِدِ حَيْثُ لَا يَحِلُّ الْوَطْءُ فِيهِ فَوَجَبَتْ قِيمَةُ الْبُضْعِ الْمُسْتَوْفَى مَنَافِعُهُ الْمَمْلُوكَةُ لِلسَّيِّدِ فَلَا تَجِبُ الزِّيَادَةُ لَهَا عَلَى هَذَا خِلَافًا لِمَا قِيلَ وَالزِّيَادَةُ لَهَا ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ إنَّمَا تَثْبُتُ بِاعْتِبَارِ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ .
وَهَذَا التَّوْجِيهُ عَلَى اعْتِبَارِ عَدَمِهَا ، وَالثَّابِتُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ لَيْسَ إلَّا مَهْرُ الْمِثْلِ وَهُوَ كُلُّهُ لِلسَّيِّدِ ، ثُمَّ إذَا أُعْتِقَتْ وَوَطِئَهَا يَجِبُ الْمُسَمَّى لَهَا ؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ بِصِحَّةِ الْعَقْدِ فَيَجِبُ مَهْرَانِ الْمُسَمَّى وَمَهْرُ الْمِثْلِ لَكِنْ انْهَدَمَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِسَبَبِ اسْتِنَادِ النَّفَاذِ ؛ لِأَنَّ النَّافِذَ لَيْسَ إلَّا ذَلِكَ الْعَقْدُ ، وَحِينَ صَحَّ الْعَقْدُ لَزِمَ صِحَّةُ التَّسْمِيَةِ وَيَلْزَمُهُ بُطْلَانُ لُزُومِ مَهْرِ الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ مَعَهُ .
لَا يُقَالُ : فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَهْرُ فِي الْوَجْهَيْنِ لَهَا ؛ لِأَنَّهُ بِالِاسْتِنَادِ صَارَتْ مَالِكَةً لِمَنَافِعِ بُضْعِهَا مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ : الِاسْتِنَادُ يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي الْقَائِمِ لَا فِي الْفَائِتِ ، وَمَنَافِعُ الْبُضْعِ فَائِتَةٌ .
وَحِينَ فَاتَتْ فَاتَتْ عَلَى مِلْكِ الْمَوْلَى فَكَانَ بَدَلُهَا لَهُ .
وَقَدْ يُورَدُ فَيُقَالُ : لَوْ اسْتَنَدَ إلَى أَصْلِ الْعَقْدِ يَجِبُ كَوْنُ الْمَهْرِ لِلْمَوْلَى كَمَا لَوْ تَزَوَّجَتْ بِإِذْنِ الْمَوْلَى وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا حَتَّى أَعْتَقَهَا وَهُوَ بِمَعْزِلٍ عَنْ صُورَةِ الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّهَا النَّفَاذُ بِالْعِتْقِ وَبِهِ

تَمْلِكُ مَنَافِعَهَا ، بِخِلَافِ النَّفَاذِ بِالْإِذْنِ وَالرِّقُّ قَائِمٌ .
هَذَا إذَا كَانَتْ الْأَمَةُ كَبِيرَةً ، فَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً فَأَعْتَقَهَا يَبْطُلُ النِّكَاحُ عِنْدَ زُفَرَ ، وَعِنْدَنَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْمَوْلَى إنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا عَصَبَةٌ سِوَاهُ ، فَإِذَا أَجَازَ جَازَ ، فَإِذَا بَلَغَتْ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهَا خِيَارُ الْبُلُوغِ إلَّا إذَا كَانَ الْمُجِيزُ أَبَاهَا أَوْ جَدَّهَا ، وَقَدَّمْنَا فِي بَابِ الْأَوْلِيَاءِ أَنَّهُ يُسْتَغْنَى بِخِيَارِ الْإِدْرَاكِ عَنْ خِيَارِ الْعِتْقِ ؛ لِأَنَّهُ الْمُنَجَّزُ .
( قَوْلُهُ وَلِهَذَا ) أَيْ الِاتِّحَادِ بِالِاسْتِنَادِ ( لَمْ يَجِبْ مَهْرٌ آخَرُ ) أَيْ مَهْرُ الْمِثْلِ ( بِالدُّخُولِ فِي نِكَاحٍ مَوْقُوفٍ ) وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ .

( وَمَنْ وَطِئَ أَمَةَ ابْنِهِ فَوَلَدَتْ مِنْهُ فَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ وَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا وَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ ) وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَدَّعِيَهُ الْأَبُ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ لَهُ وِلَايَةَ تَمَلُّكِ مَالِ ابْنِهِ لِلْحَاجَةِ إلَى الْبَقَاءِ فَلَهُ تَمَلُّكُ جَارِيَتِهِ لِلْحَاجَةِ إلَى صِيَانَةِ الْمَاءِ ، غَيْرَ أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى إبْقَاءِ نَسْلِهِ دُونَهَا إلَى إبْقَاءِ نَفْسِهِ ، فَلِهَذَا يَتَمَلَّكُ الْجَارِيَةَ بِالْقِيمَةِ وَالطَّعَامَ بِغَيْرِ قِيمَةٍ ، ثُمَّ هَذَا الْمِلْكُ يَثْبُتُ قُبَيْلَ الِاسْتِيلَاءِ شَرْطًا لَهُ إذْ الْمُصَحَّحُ حَقِيقَةُ الْمِلْكِ أَوْ حَقُّهُ ، وَكُلُّ ذَلِكَ غَيْرُ ثَابِتٍ لِلْأَبِ فِيهَا حَتَّى يَجُوزَ لَهُ التَّزَوُّجُ بِهَا فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِهِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْوَطْءَ يُلَاقِي مِلْكَهُ فَلَا يَلْزَمُهُ الْعُقْرُ .
وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ : يَجِبُ الْمَهْرُ لِأَنَّهُمَا يُثْبِتَانِ الْمِلْكَ حُكْمًا لِلِاسْتِيلَادِ كَمَا فِي الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ وَحُكْمُ الشَّيْءِ يَعْقُبُهُ وَالْمَسْأَلَةُ مَعْرُوفَةٌ .
.

( قَوْلُهُ وَمَنْ وَطِئَ جَارِيَةَ ابْنِهِ فَوَلَدَتْ مِنْهُ فَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ وَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا وَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ ، وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَدَّعِيَهُ الْأَبُ ) وَلَيْسَ عَبْدًا وَلَا مُكَاتَبًا وَلَا كَافِرًا وَلَا مَجْنُونًا ، فَإِنْ كَانَ الْأَبُ وَاحِدًا مِنْ هَؤُلَاءِ لَمْ تَصِحَّ الدَّعْوَةُ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ ، وَلَوْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ ثُمَّ وَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ تَصِحُّ اسْتِحْسَانًا لَا قِيَاسًا ، وَلَوْ كَانَا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ إلَّا أَنَّ مِلَّتَهُمَا مُخْتَلِفَةٌ جَازَتْ الدَّعْوَةُ مِنْ الْأَبِ .
وَيُشْتَرَطُ أَيْضًا كَوْنُ الْأَمَةِ فِي مِلْكِ الِابْنِ مِنْ وَقْتِ الْعُلُوقِ إلَى الدَّعْوَةِ ، فَلَوْ حَبِلْت فِي غَيْرِ مِلْكِهِ أَوْ فِيهِ وَأَخْرَجَهَا الِابْنُ عَنْ مِلْكِهِ ثُمَّ اسْتَرَدَّهَا لَمْ تَصِحَّ الدَّعْوَةُ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ فَيَسْتَدْعِي قِيَامَ وَقْتِ التَّمَلُّكِ مِنْ حِينِ الْعُلُوقِ إلَى التَّمَلُّكِ ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّتِهَا دَعْوَى الشُّبْهَةِ وَلَا تَصْدِيقُ الِابْنِ وَدَعْوَةُ الْجَدِّ لِأَبٍ كَالْأَبِ ، وَلَا تَصِحُّ دَعْوَةُ الْجَدِّ لِأُمٍّ اتِّفَاقًا .
وَشَرْطُ دَعْوَةِ الْجَدِّ لِأَبٍ أَنْ تَكُونَ حَالَ عَدَمِ وِلَايَةِ الْأَبِ لِمَوْتٍ أَوْ جُنُونٍ أَوْ رِقٍّ أَوْ كُفْرٍ ، وَأَنْ تَثْبُتَ وِلَايَتُهُ مِنْ وَقْتِ الْعُلُوقِ إلَى وَقْتِ الدَّعْوَةِ حَتَّى لَوْ أَتَتْ بِالْوَلَدِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ انْتِقَالِ الْوِلَايَةِ إلَيْهِ لَمْ تَصِحَّ دَعَوْته لِمَا قُلْنَا فِي الْأَبِ .
( قَوْلُهُ وَوَجْهُهُ ) أَيْ وَجْهُ هَذَا الْمَجْمُوعِ ( أَنَّ لِلْأَبِ وِلَايَةَ تَمَلُّكِ مَالِ ابْنِهِ لِلْحَاجَةِ إلَى إبْقَاءِ نَفْسِهِ ) لِمَا سَنَذْكُرُ فَكَذَا إلَى صَوْنِ نَسْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ كَنَفْسِهِ إذْ هُوَ جُزْؤُهُ لَكِنَّ الْحَاجَةَ إلَى إبْقَاءِ النَّفْسِ أَشَدُّ مِنْهَا إلَى حِفْظِ النَّسْلِ ( فَلِذَا يَتَمَلَّكُ الطَّعَامَ بِغَيْرِ قِيمَةٍ وَالْجَارِيَةُ الْقِيمَةُ ) وَيَحِلُّ لَهُ الطَّعَامُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ وَلَا يَحِلُّ لَهُ وَطْءُ جَارِيَةِ ابْنِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ

إلَيْهِ ، كَذَا عِنْدَ الْأَئِمَّةِ إلَّا مَا نُقِلَ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى ، وَيُجْبَرُ الِابْنُ عَلَى الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ دُونَ دَفْعِ الْجَارِيَةِ إلَيْهِ لِلتَّسَرِّي ، فَلِلْحَاجَةِ جَازَ لَهُ التَّمَلُّكُ ، وَلِقُصُورِهَا أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ الْقِيمَةَ مُرَاعَاةً لِلْحَقَّيْنِ وَتَحْصِيلًا لِلْمَقْصُودَيْنِ مَقْصُودِ الْأَبِ وَالِابْنِ إذْ الْبَدَلُ يَقُومُ مَقَامَ الْمُبْدَلِ وَلَا عُقْرَ عَلَيْهِ وَهُوَ مَهْرُ مِثْلِهَا فِي الْجَمَالِ : أَيْ مَا يَرْغَبُ بِهِ فِي مِثْلِهَا جَمَالًا فَقَطْ .
وَأَمَّا مَا قِيلَ مَا يَسْتَأْجِرُ بِهِ مِثْلَهَا لِلزِّنَا لَوْ جَازَ فَلَيْسَ مَعْنَاهُ بَلْ لِلْعَادَةِ أَنَّ مَا يُعْطَى لِذَلِكَ أَقَلُّ مِمَّا يُعْطَى مَهْرًا ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ لِلْبَقَاءِ ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ وَالْعَادَةُ زِيَادَتُهُ عَلَيْهِ ، خِلَافًا لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُمَا يُوجِبَانِ الْعُقْرَ عَلَيْهِ لِثُبُوتِ مِلْكِهِ فِيهَا قُبَيْلَ الْوَطْءِ شَرْطًا لِصِحَّةِ الِاسْتِيلَادِ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَهُ قُبَيْلَ الْعُلُوقِ ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَهُ ضَرُورَةُ صِيَانَةِ الْوَلَدِ وَهِيَ مُنْدَفِعَةٌ بِإِثْبَاتِهِ كَذَلِكَ دُونَ إثْبَاتِهِ قَبْلَ الْوَطْءِ .
قُلْنَا : لَازِمُ كَوْنِ الْفِعْلِ زِنًا ضَيَاعُ الْمَاءِ شَرْعًا ، فَلَوْ لَمْ يَقْدُمْ عَلَيْهِ ثَبَتَ لَازِمُهُ لِاسْتِحَالَةِ ثُبُوتِ الْمَلْزُومِ دُونَ لَازِمِهِ الشَّرْعِيِّ وَإِلَّا فَلَا لُزُومَ ، فَظَهَرَ أَنَّ الضَّرُورَةَ لَا تَنْدَفِعُ إلَّا بِإِثْبَاتِهِ قَبْلَ الْإِيلَاجِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ لَمْ تَحْبَلْ حَيْثُ يَجِبُ الْعُقْرُ وَلَوْ كَانَتْ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ الْأَبِ وَالِابْنِ أَوْ غَيْرِهِ تَجِبُ حِصَّةُ الشَّرِيكِ الِابْنِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْعُقْرِ ، وَقِيمَةُ بَاقِيهَا إذَا حَبِلَتْ لِعَدَمِ تَقْدِيمِ الْمِلْكِ فِي كُلِّهَا لِانْتِفَاءِ مُوجِبِهِ وَهُوَ صِيَانَةُ النَّسْلِ إذْ مَا فِيهَا مِنْ الْمِلْكِ لَهُ يَكْفِي لِصِحَّةِ الِاسْتِيلَادِ ، وَإِذَا صَحَّ ثَبَتَ الْمِلْكُ فِي بَاقِيهَا حُكْمًا لَا شَرْطًا ، ثُمَّ مُقْتَضَى قَوْلِهِ أَنْ لَا تَجِبَ قِيمَةُ الْوَلَدِ بِلَا تَرَدُّدٍ كَقَوْلِنَا لَكِنْ فِي قَوْلٍ تَجِبُ وَلَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ

اتِّفَاقًا ؛ لِأَنَّ شُبْهَةَ الْخِلَافِ فِي أَنَّ الْمِلْكَ ثَبَتَ قَبْلَ الْإِيلَاجِ أَوْ بَعْدَهُ تُسْقِطُ إحْصَانَهُ .

قَالَ ( وَلَوْ كَانَ الِابْنُ زَوَّجَهَا إيَّاهُ فَوَلَدَتْ مِنْهُ لَمْ تَصِرْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَلَا قِيمَةَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ وَوَلَدُهَا حُرٌّ ) لِأَنَّهُ صَحَّ التَّزَوُّجُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ لِخُلُوِّهَا عَنْ مِلْكِ الْأَبِ ، أَلَا يَرَى أَنَّ الِابْنَ مَلَكَهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَمْلِكَهَا الْأَبُ مِنْ وَجْهٍ ، وَكَذَا يَمْلِكُ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ مَا لَا يَبْقَى مَعَهُ مِلْكُ الْأَبِ لَوْ كَانَ ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى انْتِفَاءِ مِلْكِهِ إلَّا أَنَّهُ يَسْقُطُ الْحَدُّ لِلشُّبْهَةِ ، فَإِذَا جَازَ النِّكَاحُ صَارَ مَاؤُهُ مَصُونًا بِهِ فَلَمْ يَثْبُتْ مِلْكُ الْيَمِينِ فَلَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ، وَلَا قِيمَةَ عَلَيْهِ فِيهَا وَلَا فِي وَلَدِهَا لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُمَا ، وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ لِالْتِزَامِهِ بِالنِّكَاحِ وَوَلَدُهَا حُرٌّ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ أَخُوهُ فَيُعْتَقُ عَلَيْهِ .
.

( قَوْلُهُ وَلَوْ كَانَ الِابْنُ زَوَّجَهَا ) أَيْ زَوَّجَ أَمَتَهُ ( إيَّاهُ فَوَلَدَتْ مِنْهُ لَا تَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ لِلْأَبِ وَلَا قِيمَةَ عَلَيْهِ لِلِابْنِ وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ لَهُ وَالْوَلَدُ حُرٌّ ) وَهَذَا لِأَنَّهُ صَحَّ النِّكَاحُ لَهُ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ لَا يَجُوزُ تَزَوُّجُ الْأَبِ جَارِيَةَ الِابْنِ .
وَمَبْنَى الْخِلَافِ فِيهِ أَنَّ الثَّابِتَ لِلْأَبِ فِي جَارِيَةِ ابْنِهِ حَقُّ مِلْكٍ عِنْدَهُ فَيَمْتَنِعُ تَزْوِيجُهُ إيَّاهَا كَأَمَةِ مُكَاتَبِهِ وَالْأَمَةُ الْمُشْتَرَكَةُ وَحَقُّ التَّمَلُّكِ عِنْدَنَا مِنْ وَجْهٍ .
وَاسْتُدِلَّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ أَيْ الِابْنُ يَمْلِكُ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ فِيهَا مَا لَا يَبْقَى مَعَهُ مِلْكُ الْأَبِ ، وَلَوْ قَالَ مَا لَا يُجَامِعُهُ مِلْكُ الْأَبِ كَانَ أَوْلَى فَلَا يَكُونُ لِلْأَبِ فِيهَا مِلْكٌ مِنْ وَجْهٍ ، فَهَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ هِيَ وَطْؤُهُ إيَّاهَا وَانْفِرَادُهُ بِتَزْوِيجِهَا وَإِعْتَاقُهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَضْمَنَ لِلْأَبِ شَيْئًا ، فَهَذِهِ لَوَازِمُ الْمُرَكَّبِ مِنْ مِلْكِهِ وَعَدَمِ مِلْكِ الْأَبِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ .
وَإِذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ إجْمَاعًا لَزِمَ كَوْنُ الْمُرَادِ بِمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ { أَنْتَ وَمَالِكُ لِأَبِيكَ } إثْبَاتُ حَقِّ التَّمَلُّكِ لَا حَقِّ الْمِلْكِ وَهُوَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ النِّكَاحِ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ الْوَاهِبَ يَمْلِكُ التَّزَوُّجَ بِالْمَوْهُوبَةِ وَلَهُ حَقُّ تَمَلُّكِهَا بِالِاسْتِرْدَادِ ، وَأَصْلُ الْحَدِيثِ فِي السُّنَنِ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ { أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لِي مَالًا وَوَالِدًا وَإِنَّ وَالِدِي يَحْتَاجُ إلَى مَالِي ، قَالَ : أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ } وَرُوِيَ { لِوَالِدِكَ ، إنَّ أَوْلَادَكُمْ مِنْ أَطْيَبِ كَسْبِكُمْ فَكُلُوا مِنْ كَسْبِ أَوْلَادِكُمْ } وَأَمَّا مَا رُوِيَ فِيهِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَلَدُ الرَّجُلِ مِنْ كَسْبِهِ مِنْ أَطْيَبِ كَسْبِهِ ، فَكُلُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ } فَتَعَلُّقُهُ بِمُجَرَّدِ الْأَكْلِ .

فَإِنْ قِيلَ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّ حِلَّ الْوَطْءِ وَمَا مَعَهُ دَلِيلُ الْمِلْكِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِثُبُوتِ ذَلِكَ فِي أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرَةِ مَعَ عَدَمِهِ بِدَلِيلِ عَدَمِ إجْزَائِهِمَا عَنْ الْكَفَّارَةِ .
قُلْنَا : بَلْ هُمَا مَمْلُوكَتَانِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَعَدَمُ الْإِجْزَاءِ لِانْعِقَادِ سَبَبِ الْحُرِّيَّةِ فِيهِمَا فَكَانَ نُقْصَانًا فِي رَقِّهِمَا لَا فِي مِلْكِ السَّيِّدِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَجَازَ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي التَّرْكِيبِ ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْمَالَ لِلِابْنِ بِقَوْلِهِ وَمَالُكَ وَهُوَ يُفِيدُ الْمِلْكَ ؛ لِأَنَّهُ حَقِيقَةُ الْإِضَافَةِ فِي مِثْلِهِ ، ثُمَّ أَضَافَهُ مَعَ الِابْنِ لِلْأَبِ بِاللَّامِ الْمُفِيدَةِ لِلْمِلْكِ فِي مِثْلِهِ وَالْعَطْفُ عَطْفٌ مُفْرَدٌ ، وَلَا يُمْكِنُ حَقِيقَةُ الْمِلْكِ فِي الِابْنِ فَلَزِمَ فِي الْمَالِ أَيْضًا نَفْيُ حَقِيقَةِ الْمِلْكِ وَإِلَّا كَانَتْ اللَّامُ لِمَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي إطْلَاقٍ وَاحِدٍ .
بَقِيَ تَعْيِينُ الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ أَهُوَ حَقُّ الْمِلْكِ أَوْ حَقُّ التَّمَلُّكِ ؟ فَقَدْ يُقَالُ : حَقُّ الْمَلِكِ أَقْرَبُ إلَى الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازُ الْأَقْرَبُ إلَيْهَا أَوْلَى ، وَلَكِنَّ الْأَحْكَامَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا تَمْنَعُ حَقَّ الْمَلِكِ ؛ لِأَنَّهُ مِلْكٌ مِنْ وَجْهٍ وَهِيَ تَمْنَعُهُ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا حَقُّ الْمِلْكِ جَازَ النِّكَاحُ بِهِ يَصِيرُ مَاؤُهُ مَصُونًا فَلَا تَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ لِلْأَبِ وَلَا قِيمَةَ عَلَيْهِ فِيهَا وَلَا فِي وَلَدِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُمَا ، وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ لِالْتِزَامِهِ بِالنِّكَاحِ وَوَلَدُهُ حُرٌّ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ أَخُوهُ فَيُعْتَقُ عَلَيْهِ .
وَمَا عَنْ زُفَرَ أَنَّهَا تَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ بِالْفُجُورِ فَأَوْلَى بِالْحِلِّ بَعِيدٌ صُدُورُهُ عَنْهُ فَإِنَّ أُمُومِيَّةَ الْوَلَدِ فَرْعٌ لِمِلْكِ الْأَمَةِ وَمِلْكُهَا يُنَافِي النِّكَاحَ ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ تَفْرِيعًا عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ النِّكَاحِ .

قَالَ ( وَإِذَا كَانَتْ الْحُرَّةُ تَحْتَ عَبْدٍ فَقَالَتْ لِمَوْلَاهُ أَعْتِقْهُ عَنِّي بِأَلْفٍ فَفَعَلَ فَسَدَ النِّكَاحُ ) وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَفْسُدُ ، وَأَصْلُهُ أَنْ يَقَعَ الْعِتْقُ عَنْ الْآمِرِ عِنْدَنَا حَتَّى يَكُونَ الْوَلَاءُ لَهُ ، وَلَوْ نَوَى بِهِ الْكَفَّارَةَ يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَتِهَا ، وَعِنْدَهُ يَقَعُ عَنْ الْمَأْمُورِ لِأَنَّهُ طَلَبَ أَنْ يُعْتِقَ الْمَأْمُورُ عَبْدَهُ عَنْهُ ، وَهَذَا مُحَالٌ لِأَنَّهُ لَا عِتْقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ فَلَمْ يَصِحَّ الطَّلَبُ فَيَقَعُ الْعِتْقُ عَنْ الْمَأْمُورِ .
وَلَنَا أَنَّهُ أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ بِتَقْدِيمِ الْمِلْكِ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ إذْ الْمِلْكُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْعِتْقِ عَنْهُ فَيَصِيرُ قَوْلُهُ أَعْتِقْ طَلَبُ التَّمْلِيكِ مِنْهُ بِالْأَلْفِ ثُمَّ أَمَرَهُ بِإِعْتَاقِ عَبْدِ الْآمِرِ عَنْهُ ، وَقَوْلُهُ أَعْتَقْت تَمْلِيكٌ مِنْهُ ثُمَّ الْإِعْتَاقُ عَنْهُ ، وَإِذَا ثَبَتَ الْمِلْكُ لِلْآمِرِ فَسَدَ النِّكَاحُ لِلتَّنَافِي بَيْن الْمِلْكَيْنِ .

( قَوْلُهُ وَإِذَا كَانَتْ الْحُرَّةُ تَحْتَ عَبْدٍ فَقَالَتْ لِمَوْلَاهُ أَعْتِقْهُ عَنِّي بِأَلْفٍ فَفَعَلَ فَسَدَ النِّكَاحُ ) وَكَذَا إذَا كَانَتْ الْأَمَةُ تَحْتَ حُرٍّ فَقَالَ لِسَيِّدِهَا ذَلِكَ فَسَدَ نِكَاحُهُ ( وَقَالَ زُفَرُ : لَا يَفْسُدُ ، وَأَصْلُ الْخِلَافِ أَنَّ الْعِتْقَ فِيهِ يَقَعُ عَنْ الْآمِرِ عِنْدَنَا حَتَّى يَكُونَ وَلَاؤُهُ لَهُ .
وَلَوْ نَوَى بِهِ الْكَفَّارَةَ تَسْقُطُ عَنْهُ .
وَعِنْدَهُ يَقَعُ عَنْ الْمَأْمُورِ ؛ لِأَنَّهُ طَلَبَ أَنْ يَعْتِقَ الْمَأْمُورُ عَبْدَهُ عَنْهُ ، وَهَذَا مُحَالٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا عِتْقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ فَيَقَعُ عَنْ الْمَأْمُورِ .
وَلَنَا أَنَّهُ أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ بِتَقْدِيمِ الْمِلْكِ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ ) وَالْمُقْتَضَى هُوَ تَصْحِيحُ كَلَامِهَا صَوْنًا لَهُ عَنْ اللَّغْوِ إذْ لَا مَانِعَ مِنْهُ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ أَعْتِقْ هَذَا الْعَبْدَ عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِك لَا يُعْتَقُ الْمُخَاطَبُ تَصْحِيحًا لِكَلَامِ السَّيِّدِ ؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ أَصْلٌ لِلتَّكْفِيرِ بِالْمَالِ وَأَصْلُ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ تَبَعًا لِفَرْعِهِ ، وَلَوْ ثَبَتَ اقْتِضَاءً لَصَارَ تَبَعًا لَهُ فَامْتَنَعَ لِذَلِكَ .
لَا يُقَالُ : مِلْكُ الْآمِرِ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ وَمِثْلُهُ لَا يُوجِبُ انْفِسَاخَ النِّكَاحِ كَالْوَكِيلِ إذَا اشْتَرَى زَوْجَتَهُ لِمُوَكِّلِهِ لَا يَفْسُدُ نِكَاحُهُ مَعَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ أَوَّلًا لَهُ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ : الْمِلْكُ مَلْزُومٌ لِلِانْفِسَاخِ ، فَإِذَا ثَبَتَ ثَبَتَ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ الْأَمَةِ إذَا اشْتَرَيْتُك فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَاشْتَرَاهَا عَتَقَتْ وَفَسَدَ النِّكَاحُ مَعَ عَدَمِ اسْتِقْرَارِ مِلْكِهِ ، وَعَدَمُ الِانْفِسَاخِ فِي مَسْأَلَةِ الْوَكِيلِ لِعَدَمِ ثُبُوتِ الْمِلْكِ أَوَّلًا لَهُ بَلْ ابْتِدَاءً يَثْبُتُ لِلْمُوَكِّلِ فِي الصَّحِيحِ كَالْعَبْدِ يُتَّهَبُ يَقَعُ الْمِلْكُ لِمَوْلَاهُ ابْتِدَاءً وَإِنْ وَقَعَ الْوَكِيلُ لَكِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْمُوَكِّلِ حَالَةَ ثُبُوتِهِ ، وَمِثْلُهُ لَا يُوجِبُ الْفَسْخَ إذْ لَمْ يَخْلُصْ ثُبُوتُهُ لِيَخْلُصَ ثُبُوتُ الْمَلْزُومِ فَيَصِيرَ قَوْلُهُ أَعْتِقْ طَلَبَ

التَّمْلِيكِ مِنْهُ بِالْأَلْفِ وَأَمْرَهُ بِإِعْتَاقِهِ عَنْهُ ( وَقَوْلُهُ أَعْتَقْت تَمْلِيكٌ مِنْهُ ) ضِمْنِيٌّ لِلْإِعْتَاقِ الصَّرِيحِ الْوَاقِعِ جَوَابًا .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَوْ صَرَّحَ بِالْبَيْعِ فَقَالَ بِعْتُك وَأَعْتَقْته لَا يَقَعُ عَنْ الْآمِرِ بَلْ عَنْ الْمَأْمُورِ فَيَثْبُتُ الْبَيْعُ ضِمْنًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَا يَثْبُتُ صَرِيحًا كَبَيْعِ الْأَجِنَّةِ فِي الْأَرْحَامِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الثَّابِتَ مُقْتَضًى يُعْتَبَرُ فِيهِ شُرُوطُ الْمُتَضَمِّنِ لَا شُرُوطُ نَفْسِهِ وَشُرُوطُ الْعِتْقِ الْأَهْلِيَّةُ بِالْمِلْكِ وَالْعَقْلِ وَعَدَمِ الْحَجْرِ وَهُوَ ثَابِتٌ فِي الْمَأْمُورِ ، فَإِذَا صَرَّحَ بِهِ يَثْبُتُ بِشَرْطِ نَفْسِهِ وَالْبَيْعُ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْقَبُولِ وَلَمْ يُوجَدْ ، فَيَعْتِقُ عَنْ نَفْسِهِ

( وَلَوْ قَالَتْ أَعْتِقْهُ عَنِّي وَلَمْ تُسَمِّ مَالًا لَمْ يَفْسُدْ النِّكَاحُ وَالْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : هَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ لِأَنَّهُ يُقَدِّمُ التَّمْلِيكَ بِغَيْرِ عِوَضٍ تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِ ، وَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْقَبْضِ كَمَا إذَا كَانَ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ ظِهَارٍ فَأَمَرَ غَيْرَهُ أَنْ يُطْعِمَ عَنْهُ .
وَلَهُمَا أَنَّ الْهِبَةَ مِنْ شَرْطِهَا الْقَبْضُ بِالنَّصِّ فَلَا يُمْكِنُ إسْقَاطُهُ وَلَا إثْبَاتُهُ اقْتِضَاءً لِأَنَّهُ فِعْلٌ حِسِّيٌّ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ شَرْعِيٌّ ، وَفِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ الْفَقِيرُ يَنُوبُ عَنْ الْآمِرِ فِي الْقَبْضِ ، أَمَّا الْعَبْدُ فَلَا يَقَعُ فِي يَدِهِ شَيْءٌ لِيَنُوبَ عَنْهُ .

.
( قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَتْ ) مَا تَقَدَّمَ كَانَ إذَا ذَكَرَ مَالًا مَعَ الْأَمْرِ .
فَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ أَعْتِقْهُ عَنِيَ فَفَعَلَ الْمَأْمُورُ ، فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَقَعُ عَنْ الْآمِرِ وَيَتَضَمَّنُ الْهِبَةَ وَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْقَبْضِ كَمَا إذَا كَانَ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ ظِهَارٍ فَأَمَرَ غَيْرَهُ أَنْ يُطْعِمَ عَنْهُ فَفَعَلَ يَسْقُطُ عَنْ الْآمِرِ مَعَ أَنَّهُ لَا قَبْضَ هُنَا مِنْهُ ، وَعِنْدَهُمَا عَنْ الْمَأْمُورِ ، وَحَاصِلُ وَجْهِهِمَا أَنَّ فِيهِ شَرْطًا لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ اقْتِضَاءً وَهُوَ الْقَبْضُ ؛ لِأَنَّهُ فِعْلٌ حِسِّيٌّ غَيْرُ الْقَوْلِ ، وَالْفِعْلُ الْحِسِّيُّ لَا يُوجَدُ فِي ضِمْنِ الْقَوْلِ ، فَفِعْلُ الْيَدِ الَّذِي هُوَ الْأَخْذُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَتَضَمَّنَهُ فِعْلُ اللِّسَانِ وَيَكُونُ مَوْجُودًا بِوُجُودِهِ ، بِخِلَافِ الْقَوْلِ فَإِنَّهُ يُتَضَمَّنُ ضِمْنَ قَوْلٍ آخَرَ وَيُعْتَبَرُ مُرَادُهُ مَعَهُ وَهَذَا ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُ أَبِي الْيُسْرِ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَظْهَرُ لَا يَظْهَرُ ، بِخِلَافِ مَا قَاسَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْفَقِيرَ يَكُونُ نَائِبًا عَنْ الْآمِرِ فَيَكُونُ قَابِضًا لَهُ ، ثُمَّ بِالِاسْتِيفَاءِ يَصِيرُ قَابِضًا لِنَفْسِهِ ، أَمَّا الْعَبْدُ فَلَا يَقَعُ فِي يَدِهِ شَيْءٌ بِالْعِتْقِ لِيُمْكِنَ اعْتِبَارُهُ قَابِضَهُ نِيَابَةً أَوَّلًا بَلْ بِالْعِتْقِ تَتْلَفُ مَالِيَّتُهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ نِكَاحِ أَهْلِ الشِّرْكِ ( وَإِذَا تَزَوَّجَ الْكَافِرُ بِلَا شُهُودٍ أَوْ فِي عِدَّةِ كَافِرٍ وَذَلِكَ فِي دِينِهِمْ جَائِزٌ ثُمَّ أَسْلَمَا أُقِرَّا عَلَيْهِ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ زُفَرٌ : النِّكَاحُ فَاسِدٌ فِي الْوَجْهَيْنِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُتَعَرَّضُ لَهُمْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَالْمُرَافَعَةِ إلَى الْحُكَّامِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي كَمَا قَالَ زُفَرٌ .
لَهُ إنَّ الْخِطَابَاتِ عَامَّةٌ مَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ فَتَلْزَمُهُمْ ، وَإِنَّمَا لَا يُتَعَرَّضُ لَهُمْ لِذِمَّتِهِمْ إعْرَاضًا لَا تَقْرِيرًا ، فَإِذَا تَرَافَعُوا أَوْ أَسْلَمُوا وَالْحُرْمَةُ قَائِمَةٌ وَجَبَ التَّفْرِيقُ .
وَلَهُمَا أَنَّ حُرْمَةَ نِكَاحِ الْمُعْتَدَّةِ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا فَكَانُوا مُلْتَزِمِينَ لَهَا ، وَحُرْمَةُ النِّكَاحِ بِغَيْرِ شُهُودٍ مُخْتَلَفٌ فِيهَا وَلَمْ يَلْتَزِمُوا أَحْكَامَنَا بِجَمِيعِ الِاخْتِلَافَاتِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْحُرْمَةَ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهَا حَقًّا لِلشَّرْعِ ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُخَاطَبُونَ بِحُقُوقِهِ ، وَلَا وَجْهَ إلَى إيجَابِ الْعِدَّةِ حَقًّا لِلزَّوْجِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُهُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ تَحْتَ مُسْلِمٍ ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُهُ ، وَإِذَا صَحَّ النِّكَاحُ فَحَالَةُ الْمُرَافَعَةِ وَالْإِسْلَامِ حَالَةُ الْبَقَاءِ وَالشَّهَادَةِ لَيْسَتْ شَرْطًا فِيهَا ، وَكَذَا الْعِدَّةُ لَا تُنَافِيهَا كَالْمَنْكُوحَةِ إذَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ

( بَابُ نِكَاحِ أَهْلِ الشِّرْكِ ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ نِكَاحِ الْمُسْلِمِينَ بِمَرْتَبَتَيْهِ مِنْ الْأَحْرَارِ وَالْأَرِقَّاءِ شَرَعَ فِي بَيَانِ نِكَاحِ الْكُفَّارِ مُطْلَقًا كِتَابِيِّينَ أَوْ غَيْرِهِمْ ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِأَهْلِ الشِّرْكِ إمَّا تَغْلِيبًا وَإِمَّا ذَهَابًا إلَى أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ دَاخِلُونَ فِي الْمُشْرِكِينَ عَلَى مَا اخْتَارَهُ بَعْضُ الصَّحَابَةِ وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ فِي فَصْلِ الْمُحَرَّمَاتِ .
وَإِمَّا إطْلَاقًا لِلْمُشْرِكِينَ عَلَيْهِمْ بِاعْتِبَارِ قَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ عُزَيْرُ ابْنُ اللَّهِ وَالْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ، تَعَالَى اللَّهُ رَبُّ الْعِزَّةِ وَالْكِبْرِيَاءِ عَنْ ذَلِكَ .
وَقَدَّمْنَا أَنَّهُ إنَّمَا أَعْقَبَ بَابَ الْمَهْرِ بِفَصْلِ مُهُورِ الْكُفَّارِ تَتْمِيمًا لَبَابِ الْمَهْرِ تَبَعًا .
وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ نِكَاحٍ صَحِيحٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ صَحِيحٌ إذَا تَحَقَّقَ بَيْنَ أَهْلِ الْكُفْرِ لِتَظَافُرِ الِاعْتِقَادَيْنِ عَلَى صِحَّتِهِ وَلِعُمُومِ الرِّسَالَةِ ، فَحَيْثُ وَقَعَ مِنْ الْكُفَّارِ عَلَى وَفْقِ الشَّرْعِ الْعَامِّ وَجَبَ الْحُكْمُ بِصِحَّتِهِ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ .
وَقَالَ مَالِكٌ : لَا تَصِحُّ أَنْكِحَتُهُمْ بِنَاءً عَلَى تَنَاوُلِ الْخِطَابِ الْعَامِّ إيَّاهُمْ مَعَ مَلْزُومِيَّةِ أَنْكِحَتِهِمْ لِعَدَمِ بَعْضِ الشُّرُوطِ كَالْوِلَايَةِ وَشَهَادَةِ الْمُسْلِمِينَ .
وَاسْتَشْكَلَهُ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ لِثُبُوتِ وِلَايَةِ الْكَافِرِ عَلَى الْكَافِرِ ، وَلِعَدَمِ اشْتِرَاطِ الشَّهَادَةِ فِي الْعَقْدِ عِنْدَهُمْ .
قَالَ : وَلَوْ قُلْنَا إنَّهَا شَرْطٌ فَإِذَا عَقَدَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ لَكِنَّهُمْ يُطْلِقُونَ عَدَمَ الصِّحَّةِ .
قَالَ : فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ مَا صَادَفَ شُرُوطَ الصِّحَّةِ فَهُوَ صَحِيحٌ وَمَا لَا فَفَاسِدٌ .
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ } وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وُلِدْتُ مِنْ نِكَاحٍ لَا مِنْ سِفَاحٍ } وَأَسْلَمَ فَيْرُوزُ عَلَى أُخْتَيْنِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اخْتَرْ إحْدَاهُمَا } وَأَسْلَمَ ابْنُ غَيْلَانَ عَلَى عَشْرٍ فَقَالَ

لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَمْسِكْ أَرْبَعًا } الْحَدِيثَ .
وَمِنْ حِينِ ظَهَرَتْ دَعْوَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ يَتَوَارَدُونَ الْإِسْلَامَ إلَى أَنْ تُوُفِّيَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا قِيلَ عَنْ سَبْعِينَ أَلْفِ مُسْلِمٍ غَيْرِ النِّسَاءِ ، وَلَمْ يُنْقَلْ قَطُّ أَنَّ أَهْلَ بَيْتٍ جَدَّدُوا أَنْكِحَتَهُمْ بِطَرِيقٍ صَحِيحٍ وَلَا ضَعِيفٍ ، وَلَوْ كَانَ لَقَضَتْ الْعَادَةُ بِنَقْلِهِ ، فَعُلِمَ أَنَّهُ قَوْلٌ بَاطِلٌ ( وَقَوْلُهُ وَإِذَا تَزَوَّجَ الْكَافِرُ بِغَيْرِ شُهُودٍ أَوْ فِي عِدَّةِ كَافِرٍ وَذَلِكَ فِي دِينِهِمْ جَائِزٌ ثُمَّ أَسْلَمَا أُقِرَّا عَلَيْهِ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ زُفَرٌ : النِّكَاحُ فَاسِدٌ فِي الْوَجْهَيْنِ ) أَيْ النِّكَاحُ بِغَيْرِ شُهُودٍ وَفِي عِدَّةِ كَافِرٍ ( إلَّا أَنَّا لَا نَتَعَرَّضُ لَهُمْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَالْمُرَافَعَةِ إلَى الْحُكَّامِ ) فَالْوَاوُ بِمَعْنَى أَوْ ( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ) وَهُوَ النِّكَاحُ بِلَا شُهُودٍ ( كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي ) وَهُوَ مَا فِي عِدَّةِ كَافِرٍ ( كَمَا قَالَ زُفَرٌ .
لِزُفَرٍ أَنَّ الْخِطَابَاتِ عَامَّةٌ عَلَى مَا مَرَّ ) فِي الْفَصْلِ الَّذِي بِذَيْلِ بَابِ الْمَهْرِ مِنْ وُجُوبِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ عَلَى الْعُمُومِ لِعُمُومِ الْخِطَابَاتِ وَهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْمُعَامَلَاتِ وَالنِّكَاحُ مِنْهَا ( وَإِنَّمَا لَا يُتَعَرَّضُ لَهُمْ لِذِمَّتِهِمْ إعْرَاضًا لَا تَقْرِيرًا ، فَإِذَا تَرَافَعُوا أَوْ أَسْلَمُوا وَالْحُرْمَةُ قَائِمَةٌ وَجَبَ التَّفْرِيقُ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } وَلَهُمَا وَهُوَ الْفَرْقُ أَنَّ نِكَاحَ الْمُعْتَدَّةِ مُجْمَعٌ عَلَى بُطْلَانِهِ عِنْدَنَا فَكَانُوا مُلْتَزِمِينَ لَهَا عَلَى مَا مَرَّ هُنَاكَ أَيْضًا مِنْ أَنَّ مَذْهَبَهُمَا أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ الْتَزَمُوا أَحْكَامَنَا فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعَامَلَاتِ وَهَذَا تَقْيِيدٌ لَهُ حَيْثُ أَفَادَ أَنَّهُمْ الْتَزَمُوا الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ فِي مِلَّتِنَا لَا مُطْلَقًا ( قَوْلُهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْحُرْمَةَ )

أَيْ حُرْمَةَ النِّكَاحِ بِغَيْرِ شُهُودٍ وَنِكَاحِ الْمُعْتَدَّةِ ( لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهَا حَقًّا لِلشَّرْعِ ) أَيْ الشَّارِعِ ( لِأَنَّهُمْ لَا يُخَاطَبُونَ بِحُقُوقِهِ ، وَلَا وَجْهَ إلَى إيجَابِ الْعِدَّةِ حَقًّا لِلزَّوْجِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُهُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ ) الْكِتَابِيَّةُ ( تَحْتَ مُسْلِمٍ ) طَلَّقَهَا فَإِنَّهُ تَجِبُ الْعِدَّةُ حَقًّا لَهُ ( لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُهُ ) فَلَا يَصِحُّ نِكَاحُ هَذِهِ الْكِتَابِيَّةِ فِيهَا .
( وَإِذَا صَحَّ النِّكَاحُ ) حَالَ صُدُورِهِ ( فَحَالُ الْمُرَافَعَةِ وَالْإِسْلَامِ حَالَةُ الْبَقَاءِ وَالشَّهَادَةِ لَيْسَتْ شَرْطًا فِيهَا ) بَلْ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ لِصِحَّتِهِ ( وَكَذَا الْعِدَّةُ لَا تُنَافِيهَا ) أَيْ لَا تُنَافِي حَالَةَ بَقَاءِ الْعَقْدِ ( كَالْمَنْكُوحَةِ إذَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ ) حَيْثُ يَثْبُتُ وُجُوبُ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا حَالَ قِيَامِ النِّكَاحِ مَعَ زَوْجِهَا وَحُرْمَتِهَا عَلَيْهِ ، وَهَذَا التَّقْرِيرُ يُفِيدُ أَنَّ الْعِدَّةَ لَا تَجِبُ أَصْلًا عِنْدَهُ حَتَّى لَا يَثْبُتَ لِلزَّوْجِ الرَّجْعَةُ بِمُجَرَّدِ طَلَاقِهَا ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَمْلِكُهَا فِي الْعِدَّةِ ، وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا إذَا أَتَتْ بِهِ بَعْدَ الطَّلَاقِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ .
وَبِهِ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ الْمَشَايِخِ .
وَقِيلَ تَجِبُ عِدَّةٌ لَكِنَّهَا ضَعِيفَةٌ لَا تَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ النِّكَاحِ لِضَعْفِهَا كَالِاسْتِبْرَاءِ يَجُوزُ تَزْوِيجُ الْأَمَةِ فِي حَالِ قِيَامِ وُجُوبِهِ عَلَى السَّيِّدِ .
وَقِيلَ الْأَلْيَقُ الْأَوَّلُ لِمَا عُرِفَ مِنْ وُجُوبِ تَرْكِهِمْ وَمَا يَدِينُونَ بِهِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ تَرْكَهُمْ تَحَرُّزًا عَنْ الْغَدْرِ لِعَقْدِ الذِّمَّةِ لَا يَسْتَلْزِمُ صِحَّةَ مَا تَرَكُوا وَإِيَّاهُ كَالْكُفْرِ تَرَكُوا وَإِيَّاهُ وَهُوَ الْبَاطِلُ الْأَعْظَمُ ، وَلَوْ سُلِّمَ لَمْ يَسْتَلْزِمْ عَدَمَ ثُبُوتِ النَّسَبِ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ لِجَوَازِ أَنْ يُقَالَ لَا تَجِبُ ، وَإِذَا عُلِمَ مَنْ لَهُ الْوَلَدُ بِطَرِيقٍ آخَرَ وَجَبَ إلْحَاقُهُ بِهِ بَعْدَ كَوْنِهِ عَنْ فِرَاشٍ صَحِيحٍ ، وَمَجِيئُهَا بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ الطَّلَاقِ

مِمَّا يُفِيدُ ذَلِكَ فَيَلْتَحِقُ بِهِ وَهُمْ لَمْ يَنْقُلُوا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ثُبُوتَهُ وَلَا عَدَمَهُ ، بَلْ اخْتَلَفُوا أَنَّ قَوْلَهُ بِالصِّحَّةِ بِنَاءٌ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهَا فَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ ذَلِكَ أَوَّلًا فَلَا ، فَلَنَا أَنْ نَقُولَ بِعَدَمِهَا وَيَثْبُتُ النَّسَبُ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ .
وَفِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ الْخِلَافَ بَيْنَهُمْ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْمُرَافَعَةُ أَوْ الْإِسْلَامُ وَالْعِدَّةُ قَائِمَةٌ ، أَمَّا إذَا كَانَ بَعْدَ انْقِضَائِهَا فَلَا يُفَرَّقُ بِالْإِجْمَاعِ .
ثُمَّ هُنَا نَظَرَانِ : الْأَوَّلُ مُقْتَضَى تَوْجِيهِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْكُفَّارَ لَا يُخَاطَبُونَ بِالْمُعَامَلَاتِ ، وَهُوَ خِلَافُ مَا ذَكَرَهُ الْمَشَايِخُ فِي الْأُصُولِ مِنْ أَنَّ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِهَا فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا ، وَالْمَسْأَلَةُ لَيْسَتْ مَحْفُوظَةً عَنْ الْمُتَقَدِّمِينَ وَإِنَّمَا اسْتَنْبَطَهَا مَشَايِخُ بُخَارَى مِنْ بَعْضِ تَفْرِيعَاتِهِمْ ، كَمَنْ نَذَرَ صَوْمَ شَهْرٍ ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَ لَا يَلْزَمُهُ النَّذْرُ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَالْعِرَاقِيُّونَ عَلَى أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْكُلِّ .
وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّهُ خِلَافُهُ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ ، وَكَوْنُهُ مِنْ حُقُوقِ الشَّرْعِ لَا يُنَافِي كَوْنَهُ مُعَامَلَةً فَيَلْزَمُ اتِّفَاقُ الثَّلَاثَةِ عَلَى أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِأَحْكَامِ النِّكَاحِ ، غَيْرَ أَنَّ حُكْمَ الْخِطَابِ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ بِبُلُوغِهِ إلَيْهِ ، وَالشُّهْرَةُ تَنْزِلُ مَنْزِلَتَهُ وَهِيَ مُتَحَقِّقَةٌ فِي حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ دُونَ أَهْلِ الْحَرْبِ فَمُقْتَضَى النَّظَرِ التَّفْصِيلُ .
الثَّانِي أَنَّ نَفْيَ أَبِي حَنِيفَةَ الْعِدَّةَ هُنَا إنَّمَا هُوَ فِيمَا إذَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَ عَدَمَهَا ، وَمُقْتَضَاهُ إذَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَ وُجُوبَهَا أَنْ لَا يَصِحَّ ، وَيَجِبُ التَّجْدِيدُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّهُ حِينَ وَقَعَ كَانَ بَاطِلًا فَيَلْزَمُ فِي الْمُهَاجِرَةِ لُزُومُ الْعِدَّةِ إذَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَ ؛ لِأَنَّ الْمُضَافَ إلَى تَبَايُنِ الدَّارِ الْفُرْقَةُ لَا نَفْيُ الْعِدَّةِ .
وَتَعْلِيلُ

النَّفْيِ هُنَاكَ بِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ إظْهَارًا لِخَطَرِ النِّكَاحِ السَّابِقِ ، وَلَا خَطَرَ لِمِلْكِ الْحَرْبِيِّ بِالْآيَةِ .
قَدْ يُشْكِلُ عَلَيْهِ بَقَاءُ مِلْكِهِ لِلنِّكَاحِ إذَا سَبَى الزَّوْجَانِ مَعًا ، وَسَنَذْكُرُ لَهُ تَتِمَّةً

فَإِذَا تَزَوَّجَ الْمَجُوسِيُّ أُمَّهُ أَوْ ابْنَتَهُ ثُمَّ أَسْلَمَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا ) ؛ لِأَنَّ نِكَاحَ الْمَحَارِمِ لَهُ حُكْمُ الْبُطْلَانِ فِيمَا بَيْنَهُمْ عِنْدَهُمَا كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْعِدَّةِ وَوَجَبَ التَّعَرُّضُ بِالْإِسْلَامِ فَيُفَرَّقُ .
وَعِنْدَهُ لَهُ حُكْمُ الصِّحَّةِ فِي الصَّحِيحِ إلَّا أَنَّ الْمَحْرَمِيَّةَ تُنَافِي بَقَاءَ النِّكَاحِ فَيُفَرَّقُ ، بِخِلَافِ الْعِدَّةِ ؛ لِأَنَّهَا لَا تُنَافِيهِ ، ثُمَّ بِإِسْلَامِ أَحَدِهِمَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا وَبِمُرَافَعَةِ أَحَدِهِمَا لَا يُفَرَّقُ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا ، وَالْفَرْقُ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ أَحَدِهِمَا لَا يَبْطُلُ بِمُرَافَعَةِ صَاحِبِهِ إذْ لَا يَتَغَيَّرُ بِهِ اعْتِقَادُهُ ، وَأَمَّا اعْتِقَادُ الْمُصِرِّ لَا يُعَارِضُ إسْلَامَ الْمُسْلِمِ ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى ، وَلَوْ تَرَافَعَا يُفَرَّقُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ مُرَافَعَتَهُمَا كَتَحْكِيمِهِمَا .

( قَوْلُهُ فَإِذَا تَزَوَّجَ مَجُوسِيٌّ أُمَّهُ أَوْ بِنْتَهُ ) أَوْ مُطَلَّقَتَهُ ثَلَاثًا أَوْ جَمَعَ بَيْنَ خَمْسٍ أَوْ أُخْتَيْنِ فِي عُقْدَةٍ ( ثُمَّ أَسْلَمَا ) أَوْ أَحَدُهُمَا ( فُرِّقَ بَيْنَهُمَا ) إجْمَاعًا ( لِأَنَّ نِكَاحَ الْمَحَارِمِ ) وَمَا مَعَهُ ( لَهُ حُكْمُ الْبُطْلَانِ فِيمَا بَيْنَهُمْ عِنْدَهُمَا كَمَا ذَكَرْنَا ) يَعْنِي فِي قَوْلِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ الْتَزَمُوا الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا ، وَهَذِهِ الْأَنْكِحَةُ مُجْمَعٌ عَلَى بُطْلَانِهَا فَيَلْزَمُ حُكْمُهَا ، وَعَلَى مَا حَقَّقْنَا مِنْ أَنَّ الْكُفَّارَ إمَّا مُخَاطَبُونَ بِالْكُلِّ كَقَوْلِ الْعِرَاقِيِّينَ أَوْ بِالْمُعَامَلَاتِ كَقَوْلِ الْبُخَارِيِّينَ يَجِبُ الِاتِّفَاقُ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ عَلَى أَنَّ لَهُ حُكْمَ الْبُطْلَانِ بِاعْتِبَارِ شُيُوعِ خِطَابَاتِ الْأَحْكَامِ فِي دَارِنَا فَتُجْعَلُ نَازِلَةً فِي حَقِّهِمْ ، إذْ لَيْسَ فِي وُسْعِ الْمُبَلِّغِ سِوَى إشَاعَتِهِ دُونَ أَنْ يُوصِلَهُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ ، غَيْرَ أَنَّا تَرَكْنَاهُمْ وَمَا يَدِينُونَ بِأَمْرِ الشَّرْعِ ، فَإِذَا أَسْلَمَا أَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا وَجَبَ التَّفْرِيقُ .
وَأَمَّا عَلَى مَا اخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ وَأَتْبَاعُهُ وَجَعَلَهُ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ الصَّحِيحَ مِنْ أَنَّ لَهُ حُكْمَ الصِّحَّةِ عِنْدَهُ حَتَّى تَجِبَ النَّفَقَةُ إذَا طُلِبَتْ وَلَا يَسْقُطُ إحْصَانُهُ بِالدُّخُولِ فِيهِ ، حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ فَقَذَفَهُ إنْسَانٌ يُحَدُّ خِلَافًا لِمَشَايِخِ الْعِرَاقِ الْقُدُورِيِّ وَغَيْرِهِ فَإِنَّهُمْ لَا يُوجِبُونَ النَّفَقَةَ وَالْإِحْصَانَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ غَيْرُ نَازِلٍ فِي حَقِّهِمْ لِإِنْكَارِهِمْ مَعَ عَدَمِ وِلَايَةِ الْإِلْزَامِ ، فَلِأَنَّ الْمَحْرَمِيَّةَ تُنَافِي الْبَقَاءَ كَمَا تُنَافِي الِابْتِدَاءَ لِكَوْنِهَا عَدَمَ الْمَحَلِّ ؛ وَأَنْتَ عَلِمْت أَنَّ هَذَا كُلَّهُ خِلَافُ مُقْتَضَى النَّظَرِ كَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هُوَ الْوَجْهُ الْمُخْتَارُ ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ ذَلِكَ فِي الْحَرْبِيَّيْنِ لِعَدَمِ شُيُوعِ الْخِطَابِ فِي دَارِ الْحَرْبِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَبْلُغُهُمْ فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ فِي

حَقِّهِمْ فَيَجِبُ التَّعْلِيلُ بِمُنَافَاةِ الْمَحْرَمِيَّةِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ ، وَأَمَّا إذَا تَرَافَعَا فَعَلَى الِاعْتِبَارَيْنِ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا رَضِيَا بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ فَالْقَاضِي كَالْمُحَكِّمِ .
وَأَمَّا بِمُرَافَعَةِ أَحَدِهِمَا فَقَالَا كَذَلِكَ يُفَرَّقُ كَإِسْلَامِ أَحَدِهِمَا .
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا لِلْفَرْقِ بَيْنَ إسْلَامِ أَحَدِهِمَا وَرَفْعِهِ ؛ لِأَنَّ بِإِسْلَامِ أَحَدِهِمَا ظَهَرَتْ حُرْمَةُ الْآخَرِ عَلَيْهِ لِتَغَيُّرِ اعْتِقَادِهِ ( وَاعْتِقَادُ الْمُصِرِّ لَا يُعَارِضُ إسْلَامَ الْمُسْلِمِ ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى ) بِخِلَافِ مُرَافَعَةِ أَحَدِهِمَا وَرِضَاهُ فَإِنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ بِهِ اعْتِقَادُ الْآخَرِ فَبَقِيَ الْأَمْرُ الشَّرْعِيُّ بِعَدَمِ التَّعَرُّضِ لَهُ بِلَا مُعَارِضٍ .
وَالْأَوْجَهُ تَخْرِيجُ الْخِلَافِ فِي مُرَافَعَةِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّهُ حِينَ صَدَرَ كَانَ بَاطِلًا عِنْدَهُمَا ، لَكِنْ تُرِكَ التَّعَرُّضُ لِلْوَفَاءِ بِالذِّمَّةِ فَإِذَا انْقَادَ أَحَدُهُمَا لِحُكْمِ الْإِسْلَامِ كَانَ كَإِسْلَامِهِ وَعِنْدَهُ كَانَ صَحِيحًا ، وَرَفْعُ أَحَدِهِمَا لَا يُرَجِّحُهُ عَلَى الْآخَرِ فِي إبْطَالِ اسْتِحْقَاقِهِ بَلْ يُعَارِضُهُ الْآخَرُ فَيَبْقَى الْحُكْمُ عَلَى الصِّحَّةِ ، هَذَا كُلُّهُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ أَوْ الْمُرَافَعَةِ ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا فَلَا تَفْرِيقَ إلَّا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ عَلَى مَا فِي الْمَبْسُوطِ فِي الذِّمِّيِّينَ أَنَّهُ يُفَرَّقَ إذَا عُلِمَ ذَلِكَ .
لِمَا رُوِيَ : أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ إلَى عُمَّالِهِ : أَنْ فَرِّقُوا بَيْنَ الْمَجُوسِ وَمَحَارِمِهِمْ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَشْهُورٍ بَلْ الْمَعْرُوفُ مَا كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إلَى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ : مَا بَالُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ تَرَكُوا أَهْلَ الذِّمَّةِ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ نِكَاحِ الْمَحَارِمِ وَاقْتِنَاءِ الْخُمُورِ وَالْخَنَازِيرِ ، فَكَتَبَ إلَيْهِ : إنَّمَا بَذَلُوا الْجِزْيَةَ لِيُتْرَكُوا وَمَا يَعْتَقِدُونَ ، وَإِنَّمَا أَنْتَ مُتَّبِعٌ وَلَسْت بِمُبْتَدَعٍ وَالسَّلَامُ .
وَلِأَنَّ الْوُلَاةَ وَالْقُضَاةَ

مِنْ وَقْتِ الْفُتُوحَاتِ إلَى يَوْمِنَا هَذَا لَمْ يَشْتَغِلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِمْ بِمُبَاشَرَتِهِمْ ذَلِكَ فَحَلَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ .
وَفِي الْغَايَةِ مَعْزِيًّا إلَى الْمُحِيطِ : لَوْ طَلَبَتْ الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا التَّفْرِيقَ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا ، وَكَذَا فِي الْخُلْعِ : يَعْنِي إذَا اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا الذِّمِّيِّ ثُمَّ أَمْسَكَهَا فَرَفَعَتْهُ إلَى الْحَاكِمِ فَإِنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ إمْسَاكَهَا ظُلْمٌ وَمَا أَعْطَيْنَاهُمْ الْعَهْدَ عَلَى تَقْرِيرِهِمْ عَلَى الظُّلْمِ ، وَكَذَا فِي الْمُطَلَّقَةِ الثَّلَاثِ ؛ لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الطَّلَاقَ مُزِيلٌ لِلْمِلْكِ وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدُوا خُصُوصَ عَدَدٍ .
وَفِي النِّهَايَةِ لَوْ تَزَوَّجَ أُخْتَيْنِ فِي عُقْدَةٍ ثُمَّ فَارَقَ إحْدَاهُمَا ثُمَّ أَسْلَمَ أَنَّ الْبَاقِيَةَ نِكَاحُهَا عَلَى الصِّحَّةِ حَتَّى أُقِرَّ عَلَيْهِ ا هـ .
وَيَنْبَغِي عَلَى قَوْلِ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّحْقِيقِ أَنْ يُفَرَّقَ لِوُقُوعِ الْعَقْدِ فَاسِدًا وَوَجَبَ التَّعَرُّضُ بِالْإِسْلَامِ .

( وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمُرْتَدُّ مُسْلِمَةً وَلَا كَافِرَةً وَلَا مُرْتَدَّةً ) ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْقَتْلِ ، وَالْإِمْهَالِ ضَرُورَةَ التَّأَمُّلِ ، وَالنِّكَاحُ يَشْغَلُهُ عَنْهُ فَلَا يُشْرَعُ فِي حَقِّهِ ( وَكَذَا الْمُرْتَدَّةُ لَا يَتَزَوَّجُهَا مُسْلِمٌ وَلَا كَافِرٌ ) ؛ لِأَنَّهَا مَحْبُوسَةٌ لِلتَّأَمُّلِ وَخِدْمَةُ الزَّوْجِ تَشْغَلُهَا عَنْهُ ، وَلِأَنَّهُ لَا يَنْتَظِمُ بَيْنَهُمَا الْمَصَالِحَ ، وَالنِّكَاحُ مَا شُرِعَ لِعَيْنِهِ بَلْ لِمَصَالِحِهِ ( فَإِنْ كَانَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مُسْلِمًا فَالْوَلَدُ عَلَى دِينِهِ ، وَكَذَلِكَ إنْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا وَلَهُ وَلَدٌ صَغِيرٌ صَارَ وَلَدُهُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِهِ ) لِأَنَّ فِي جَعْلِهِ تَبَعًا لَهُ نَظَرًا لَهُ ( وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا كِتَابِيًّا وَالْآخَرُ مَجُوسِيًّا فَالْوَلَدُ كِتَابِيٌّ ) ؛ لِأَنَّ فِيهِ نَوْعَ نَظَرٍ لَهُ إذْ الْمَجُوسِيَّةُ شَرٌّ ، وَالشَّافِعِيُّ يُخَالِفُنَا فِيهِ لِلتَّعَارُضِ وَنَحْنُ بَيَّنَّا التَّرْجِيحَ .

( قَوْلُهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمُرْتَدُّ مُسْلِمَةً وَلَا كَافِرَةً ) أَمَّا الْمُسْلِمَةُ فَظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ تَحْتَ كَافِرٍ ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَلِأَنَّهُ مَقْتُولٌ مَعْنًى ، وَكَذَا الْمُرْتَدَّةُ لَا تُزَوَّجُ أَصْلًا ؛ لِأَنَّهَا مَحْبُوسَةٌ لِلتَّأَمُّلِ ، وَمَنَاطُ الْمَنْعِ مُطْلَقًا عَدَمُ انْتِظَامِ مَقَاصِدِ النِّكَاحِ وَهُوَ لَمْ يُشْرَعْ إلَّا لَهَا فَكَانَ أَحَقَّ بِالْمَنْعِ مِنْ مَنْعِ تَزَوُّجِ الْمَرْأَةِ عَبْدَهَا وَبِالْعَكْسِ ( قَوْلُهُ فَإِنْ كَانَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مُسْلِمًا فَالْوَلَدُ عَلَى دِينِهِ ) يَتَحَقَّقُ مِنْ الطَّرَفَيْنِ فِي الْإِسْلَامِ الْعَارِضِ بِأَنْ كَانَا كَافِرَيْنِ فَأَسْلَمَتْ أَوْ أَسْلَمَ ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ قَبْلَ الْعَرْضِ عَلَى الْآخَرِ وَالتَّفْرِيقِ أَوْ بَعْدَهُ فِي مُدَّةٍ يَثْبُتُ النَّسَبُ فِي مِثْلِهَا أَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ صَغِيرٌ قَبْلَ إسْلَامِ أَحَدِهِمَا فَإِنَّهُ بِإِسْلَامِ أَحَدِهِمَا صَارَ ذَلِكَ الْوَلَدُ مُسْلِمًا ، هَذَا إذَا كَانَا فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ ، أَمَّا لَوْ تَبَايَنَتْ دَارُهُمَا بِأَنْ كَانَ الْأَبُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَالْوَلَدُ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ عَلَى الْعَكْسِ فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ أَبِيهِ ، وَسَنَذْكُرُهَا فِي السِّيَرِ فِي فَصْلٍ مِنْ بَابِ الْمُسْتَأْمَنِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَأَمَّا فِي الْإِسْلَامِ الْأَصْلِيِّ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِأَنْ تَكُونَ الْأُمُّ كِتَابِيَّةً وَالْأَبُ مُسْلِمًا ، فَمَا جَاءَتْ بِهِ فَهُوَ مُسْلِمٌ ، وَحِينَئِذٍ لَا حَاجَةَ إلَى التَّنْصِيصِ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِهِ وَكَذَلِكَ إذَا أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا إلَخْ ، فَإِنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي عُمُومِ الْأُولَى وَمِنْ أَفْرَادِهَا ، وَهَذِهِ إجْمَاعِيَّةٌ فَقِسْنَا عَلَيْهَا مَا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا كِتَابِيًّا وَالْآخَرُ مَجُوسِيًّا ، أُمًّا أَوْ أَبًا فَحَكَمْنَا بِأَنَّ الْوَلَدَ كِتَابِيٌّ بِجَامِعِ الْأَنْظَرِ لِلْوَلَدِ فِي الدُّنْيَا بِالِاقْتِرَابِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِالْأَحْكَامِ مِنْ حِلِّ الذَّبِيحَةِ وَالْمُنَاكَحَةِ ، وَفِي الْأُخْرَى بِنُقْصَانِ الْعِقَابِ إذْ الْكِتَابِيَّةُ أَخَفُّ

شَرًّا مِنْ الْمَجُوسِيَّةِ فَيَثْبُتُ الْوَلَدُ كَذَلِكَ وَيَتْبَعُهُ فِي الْأَحْكَامِ ( وَالشَّافِعِيُّ يُخَالِفُنَا فِيهِ ) أَيْ فِيمَا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا كِتَابِيًّا وَالْآخَرُ مَجُوسِيًّا فَيَقُولُ فِيمَا إذَا كَانَ الْأَبُ كِتَابِيًّا وَالْأُمُّ مَجُوسِيَّةً إنَّهُ مَجُوسِيٌّ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْهِ ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ تَغْلِيبًا لِلتَّحْرِيمِ .
وَقَوْلُهُ الْآخَرُ إنَّهُ كِتَابِيٌّ تَبَعًا لِأَبِيهِ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ؛ لِأَنَّ الِانْتِسَابَ إلَى الْأَبِ وَلَوْ كَانَتْ الْأُمُّ كِتَابِيَّةً وَالْأَبُ مَجُوسِيًّا فَهُوَ تَبَعٌ لَهُ قَوْلًا وَاحِدًا فَلَا تَحِلُّ مُنَاكَحَتُهُ وَلَا ذَبِيحَتُهُ فَقَدْ جَعَلَهُ مَجُوسِيًّا مُطْلَقًا .
وَقَوْلُهُ لِلتَّعَارُضِ ، أَيْ تَعَارُضِ الْإِلْحَاقَيْنِ : أَيْ الْإِلْحَاقِ بِأَحَدِهِمَا يُوجِبُ الْحُرْمَةَ وَبِالْآخَرِ يُوجِبُ الْحِلَّ فَيُغَلَّبُ مُوجِبُ الْحُرْمَةِ هُوَ بِالْإِلْحَاقِ بِالْمَجُوسِيِّ ( وَنَحْنُ بَيَّنَّا التَّرْجِيحَ ) بِالْقِيَاسِ بِجَامِعِهِ ، وَهَذِهِ الْأَحْكَامُ إنَّمَا تَثْبُتُ تَبَعًا ، وَالْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ إثْبَاتُ دِيَانَتِهِ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ لَهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا .
وَأَيْضًا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ حَتَّى يَكُونَ أَبَوَاهُ هُمَا اللَّذَانِ يُهَوِّدَانِهِ } الْحَدِيثَ ، جَعَلَ اتِّفَاقَهُمَا نَاقِلًا لَهُ عَنْ الْفِطْرَةِ ، فَإِذَا لَمْ يَتَّفِقَا بَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْفِطْرَةِ أَوْ عَلَى مَا هُوَ أَقْرَبُ إلَى أَصْلِ الْفِطْرَةِ كَذَا قِيلَ ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ .
وَأَمَّا مَا قِيلَ فِي تَرْجِيحِ تَرْجِيحِنَا عَلَى تَرْجِيحِ الشَّافِعِيِّ بِأَنَّ تَرْجِيحَهُ يَرْفَعُ التَّعَارُضَ وَتَرْجِيحَنَا يَدْفَعُهُ فَلَا حَاصِلَ لَهُ إذَا تَأَمَّلْت .
وَاعْلَمْ أَنَّ التَّعَارُضَ هُنَا تَجَوُّزٌ ، فَإِنَّ ثُبُوتَهُ بِثُبُوتِ الْمُتَعَارِضَيْنِ مُسْتَلْزِمَيْنِ لِحُكْمِهِمَا وَلَيْسَ هُنَا إلَّا ثُبُوتُ حُكْمٍ عَلَى تَقْدِيرِ اعْتِبَارٍ ، وَضِدُّهُ عَلَى تَقْدِيرٍ آخَرَ ، فَلَمَّا اشْتَرَكَ مَعَ الْمُعَارَضَةِ فِي تَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا بِالْقَوْلِ بِهِ سُمِّيَ تَعَارُضًا ، وَإِلَّا فَالتَّعَارُضُ تَقَابُلُ

الْحُجَّتَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ وَلَيْسَ هُنَا حُجَّةً فَضْلًا عَنْ ثِنْتَيْنِ .

( وَإِذَا أَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ وَزَوْجُهَا كَافِرٌ عُرِضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ فَإِنْ أَسْلَمَ فَهِيَ امْرَأَتُهُ ، وَإِنْ أَبَى فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا ، وَكَانَ ذَلِكَ طَلَاقًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَإِنْ أَسْلَمَ الزَّوْجُ وَتَحْتَهُ مَجُوسِيَّةٌ عَرَضَ عَلَيْهَا الْإِسْلَامَ ، فَإِنْ أَسْلَمَتْ فَهِيَ امْرَأَتُهُ ، وَإِنْ أَبَتْ فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا وَلَمْ تَكُنْ الْفُرْقَةُ طَلَاقًا ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ ؛ لَا تَكُونُ الْفُرْقَةُ طَلَاقًا فِي الْوَجْهَيْنِ ، وَأَمَّا الْعَرْضُ فَمَذْهَبُنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يُعْرَضُ الْإِسْلَامُ ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَعَرُّضًا لَهُمْ وَقَدْ ضَمِنَّا بِعَقْدِ الذِّمَّةِ أَنْ لَا نَتَعَرَّضَ لَهُمْ ، إلَّا أَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ قَبْلَ الدُّخُولِ غَيْرُ مُتَأَكِّدٍ فَيَنْقَطِعُ بِنَفْسِ الْإِسْلَامِ ، وَبَعْدَهُ مُتَأَكِّدٌ فَيَتَأَجَّلُ إلَى انْقِضَاءِ ثَلَاثِ حِيَضٍ كَمَا فِي الطَّلَاقِ .
وَلَنَا أَنَّ الْمَقَاصِدَ قَدْ فَاتَتْ فَلَا بُدَّ مِنْ سَبَبٍ تُبْتَنَى عَلَيْهِ الْفُرْقَةُ ، وَالْإِسْلَامُ طَاعَةٌ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا فَيُعْرَضُ الْإِسْلَامُ لِتَحْصُلَ الْمَقَاصِدُ بِالْإِسْلَامِ أَوْ تَثْبُتَ الْفُرْقَةُ بِالْإِبَاءِ .
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْفُرْقَةَ بِسَبَبٍ يَشْتَرِكُ فِيهِ الزَّوْجَانِ فَلَا يَكُونُ طَلَاقًا كَالْفُرْقَةِ بِسَبَبِ الْمِلْكِ .
وَلَهُمَا أَنَّ بِالْإِبَاءِ امْتَنَعَ الزَّوْجُ عَنْ الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ بِالْإِسْلَامِ فَيَنُوبُ الْقَاضِي مَنَابَهُ فِي التَّسْرِيحِ كَمَا فِي الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ ، أَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَيْسَتْ بِأَهْلٍ لِلطَّلَاقِ فَلَا يَنُوبُ الْقَاضِي مَنَابَهَا عِنْدَ إبَائِهَا ( ثُمَّ إذَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِإِبَائِهَا فَلَهَا الْمَهْرُ إنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا ) لِتَأَكُّدِهِ بِالدُّخُولِ ( وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا فَلَا مَهْرَ لَهَا ) ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ مِنْ قِبَلِهَا وَالْمَهْرُ لَمْ يَتَأَكَّدْ فَأَشْبَهَ الرِّدَّةَ وَالْمُطَاوَعَةَ .

( قَوْلُهُ وَإِذَا أَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ وَزَوْجُهَا كَافِرٌ ) سَوَاءً كَانَ كِتَابِيًّا أَوْ غَيْرَهُ ، إذْ لَا يَصِحُّ تَزَوُّجُ الْكَافِرِ مُطْلَقًا مُسْلِمَةً ، وَلَوْ وَقَعَ عُوقِبَ وَعُوقِبَتْ أَيْضًا إنْ كَانَتْ عَالِمَةً بِحَالِهِ وَالسَّاعِي بَيْنَهُمَا أَيْضًا امْرَأَةً أَوْ رَجُلًا ، وَلَا يَصِيرُ بِهِ نَاقِضًا لِعَهْدِهِ إنْ كَانَ ذِمِّيًّا فَلَا يُقْتَلُ خِلَافًا لِمَالِكٍ ؛ قَاسَهُ عَلَى مَا إذَا جَعَلَ نَفْسَهُ طَلِيعَةً لِلْمُشْرِكِينَ بِجَامِعِ أَنَّهُ بَاشَرَ مَا ضَمِنَ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ .
قُلْنَا : كَإِلْزَامِ الْمُسْلِمِ بِالْإِسْلَامِ أَنْ لَا يَفْعَلَ مَحْظُورَهُ ، وَبِفِعْلِهِ لَا يَصِيرُ شَرْعًا نَاقِضًا لِإِيمَانِهِ فَبِفِعْلِ الذِّمِّيِّ مَا الْتَزَمَ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ لَا يَصِيرُ نَاقِضًا لِأَمَانِهِ ، وَقَتْلُ الطَّلِيعَةِ ؛ لِأَنَّهُ مُحَارِبٌ مَعْنًى ، وَلَوْ أَسْلَمَ بَعْدَ النِّكَاحِ لَا يُقَرَّانِ عَلَيْهِ وَلَا يَلْحَقُهُ إجَازَةٌ ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ بَاطِلًا .
وَقَالَ فِي إسْلَامِ الرَّجُلِ وَتَحْتَهُ مَجُوسِيَّةٌ ؛ لِأَنَّ كُفْرَ الْمَرْأَةِ مُطْلَقًا لَا يَمْنَعُ تَزَوُّجَ الْمُسْلِمِ بَلْ غَيْرَ الْكِتَابِيَّةِ فَلِهَذَا فَرَضَهَا فِي الْمَجُوسِيَّةِ .
وَحَاصِلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ إذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ اللَّذَيْنِ هُمَا مَجُوسِيَّانِ أَوْ الزَّوْجَةُ مِنْهُمَا مَجُوسِيَّةٌ وَالزَّوْجُ كِتَابِيٌّ أَوْ الزَّوْجَةُ مِنْ الْكِتَابِيَّيْنِ أَوْ الزَّوْجَةُ كِتَابِيَّةٌ وَالزَّوْجُ مَجُوسِيٌّ عُرِضَ عَلَى الْمُصِرِّ الْإِسْلَامُ إذَا كَانَ بَالِغًا أَوْ صَبِيًّا يَعْقِلُ الْأَدْيَانَ ؛ لِأَنَّ رِدَّتَهُ مُعْتَبَرَةٌ فَكَذَا إبَاؤُهُ وَالنِّكَاحُ قَائِمٌ ، فَإِنْ أَبَى فُرِّقَ بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ كَانَ الصَّبِيُّ مَجْنُونًا عُرِضَ عَلَى أَبَوَيْهِ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَعْنَى هَذَا أَنَّ أَيَّ أَلِأَبَوَيْنِ أَسْلَمَ بَقِيَ النِّكَاحُ ؛ لِأَنَّهُ يَتْبَعُ الْمُسْلِمَ مِنْهُمَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَجْنُونًا لَكِنَّهُ لَا يَعْقِلُ الْأَدْيَانَ بَعْدُ اُنْتُظِرَ عَقْلُهُ ؛ لِأَنَّ لَهُ غَايَةً مَعْلُومَةً ، بِخِلَافِ الْجُنُونِ ، هَذَا عَلَى قَوْلِهِمَا .
أَمَّا عَلَى

قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي إبَاءِ الصَّبِيِّ ، قِيلَ لَا يُعْتَبَرُ كَمَا لَا تُعْتَبَرُ رِدَّتُهُ عِنْدَهُ ، وَقِيلَ يُعْتَبَرُ ، وَصَحَّحَهُ بَعْضُهُمْ وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرِّدَّةِ ، وَحُكْمُ الصَّبِيَّةِ كَالصَّبِيِّ وَمَا لَمْ يُفَرِّقْ الْقَاضِي هِيَ امْرَأَتُهُ حَتَّى لَوْ مَاتَ الزَّوْجُ قَبْلَ أَنْ تُسْلِمَ امْرَأَتُهُ الْكَافِرَةُ وَجَبَ لَهَا الْمَهْرُ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ كَانَ قَائِمًا وَيَتَقَرَّرُ بِالْمَوْتِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يُعْرَضُ عَلَى الْمُصِرِّ ؛ لِأَنَّهُ تَعَرُّضٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ، بَلْ إنْ كَانَ الْإِسْلَامُ قَبْلَ الدُّخُولِ انْقَطَعَ النِّكَاحُ فِي الْحَالِ لِعَدَمِ تَأَكُّدِهِ وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ تَأَجَّلَ إلَى انْقِضَاءِ ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ .
وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ ثَلَاثُ حِيَضٍ لَا يَتَأَتَّى عَلَى مَذْهَبِهِ فِي الْعِدَّةِ ، فَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ تَزَوَّجَتْ .
قُلْنَا : اعْتِبَارُ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ قَبْلَ الْفُرْقَةِ وَإِضَافَةُ انْقِطَاعِ النِّكَاحِ إلَى الْإِسْلَامِ لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الشَّرْعِ وَلَا أَصْلَ يَلْحَقُ بِهِ قِيَاسًا بِجَامِعٍ صَحِيحٍ وَلَا سَمْعِيٍّ يُفِيدُهُ ، بَلْ الثَّابِتُ شَرْعًا اعْتِبَارُ الْعِدَّةِ بَعْدَ الْفُرْقَةِ .
وَلَنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ سَبَبٍ تُضَافُ الْفُرْقَةُ إلَيْهِ وَالْإِسْلَامُ عَاصِمٌ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَإِذَا قَالُوهَا فَقَدْ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ } وَاخْتِلَافُ الدِّينِ مُنْتَقَضٌ بِتَزَوُّجِ الْمُسْلِمِ كِتَابِيَّةً ، وَلِأَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى إسْلَامِ الْمُسْلِمِ ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي بِهِ حَصَلَ الِاخْتِلَافُ ، وَكُفْرُ الْمُصِرِّ لَا يَمْنَعُ وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ مِنْ الْأَصْلِ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا إبَاءُ الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّهُ يَصْلُحُ قَاطِعًا فَأَضَفْنَا انْقِطَاعَ النِّكَاحِ إلَيْهِ فَكَانَ هُوَ الْمُنَاسِبُ .
وَفِي الْمُوَطَّإِ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ { أَنَّ ابْنَةَ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ كَانَتْ تَحْتَ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ فَأَسْلَمَتْ يَوْمَ الْفَتْحِ وَهَرَبَ زَوْجُهَا صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ مِنْ الْإِسْلَامِ فَلَمْ

يُفَرِّقْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ حَتَّى أَسْلَمَ صَفْوَانُ } وَاسْتَقَرَّتْ عِنْدَهُ امْرَأَتُهُ بِذَلِكَ النِّكَاحِ وَالتَّعَرُّضُ الْمُمْتَنِعُ الْجَبْرُ ، أَمَّا نَفْسُ الْكَلَامِ مَعَهُ تَخْيِيرًا لَا يَمْتَنِعُ وَلِأَنَّهُ اسْتِعْلَامُ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ هَلْ نَزَلَ بِالْمَرْأَةِ أَوْ لَا ، ثُمَّ تَأَيَّدَ بِمَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْمُعَارَضَةِ أَنَّ عُمَرَ فَرَّقَ بَيْنَ نَصْرَانِيٍّ وَبَيْنَ نَصْرَانِيَّةٍ بِإِبَائِهِ عَنْ الْإِسْلَامِ .
وَذَكَرَ أَصْحَابُنَا أَنَّ رَجُلًا مِنْ تَغْلِبَ أَسْلَمَتْ امْرَأَتُهُ وَهِيَ نَصْرَانِيَّةٌ فَرُفِعَتْ إلَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَقَالَ لَهُ أَسْلِمْ وَإِلَّا فَرَّقْت بَيْنَكُمَا فَأَبَى ، فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا ، وَظَهَرَ حُكْمُهُ بَيْنَهُمْ ، وَلَمْ يُنْقَلْ خِلَافُ أَحَدٍ لَهُ ( قَوْلُهُ وَكَانَ ذَلِكَ ) يَعْنِي تَفْرِيقَ الْقَاضِي عِنْدَ إبَاءِ الزَّوْجِ ( طَلَاقًا ) بَائِنًا .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ التَّفْرِيقِ فِي الصُّورَتَيْنِ فَيَجْعَلُهُ فَسْخًا لَا يَنْقُصُ شَيْئًا مِنْ عَدَدِ الطَّلَاقِ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ يَجْعَلَانِ الْفُرْقَةَ بِإِبَاءِ الزَّوْجِ طَلَاقًا وَبِإِبَاءِ الْمَرْأَةِ فَسْخًا .
لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْفُرْقَةَ بِسَبَبٍ يَشْتَرِكَانِ فِيهِ .
يَعْنِي الْإِبَاءَ فَإِنَّهُ مِمَّنْ أَسْلَمَ عَنْ الْكُفْرِ وَمِمَّنْ لَمْ يُسْلِمْ عَنْ الْإِسْلَامِ أَوْ هُوَ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يُمْكِنُ تَحَقُّقُهُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا ، فَإِذَا وُجِدَ مِنْهُ لَا يَكُونُ طَلَاقًا فَإِنَّهُ يُوجَدُ مِنْهَا وَلَا يَكُونُ طَلَاقًا ، وَالْفَرْضُ وِحْدَةُ السَّبَبِ فَصَارَ كَالْفُرْقَةِ بِسَبَبِ الْمِلْكِ وَخِيَارِ الْبُلُوغِ وَالْمَحْرَمِيَّةِ بِالرَّضَاعِ فَإِنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِيهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَتَحَقَّقُ سَبَبًا مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا فَكَانَ فَسْخًا .
وَلَهُمَا أَنَّهُ فَاتَ الْإِمْسَاكُ بِالْمَعْرُوفِ فَوَجَبَ التَّسْرِيحُ بِإِحْسَانٍ ، فَإِنْ طَلَّقَ وَإِلَّا نَابَ الْقَاضِي مَنَابَهُ فِي ذَلِكَ فَيَكُونُ طَلَاقًا إذَا كَانَ نَائِبًا عَمَّنْ إلَيْهِ الطَّلَاقُ ؛ لِأَنَّهُ

إنَّمَا يَنُوبُ عَنْهُ فِيمَا إلَيْهِ التَّفْرِيقُ بِهِ وَاَلَّذِي إلَيْهِ الطَّلَاقُ .
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَاَلَّذِي إلَيْهَا عِنْدَ قُدْرَتِهَا عَلَى الْفُرْقَةِ شَرْعًا الْفَسْخُ ، فَإِذَا أَبَتْ نَابَ الْقَاضِي مَنَابَهَا فِيمَا إلَيْهَا التَّفْرِيقُ بِهِ فَلَا تَكُونُ الْفُرْقَةُ إلَّا فَسْخًا فَالْقَاضِي نَائِبٌ مَنَابَهُمَا فِيهِمَا ، بِخِلَافِ مَا قَاسَ عَلَيْهِ مِنْ الْمِلْكِ وَالْمَحْرَمِيَّةِ فَإِنَّ الْفُرْقَةَ فِيهِمَا لَا بِهَذَا الْمَعْنَى بَلْ لِلتَّنَافِي .
وَأَمَّا خِيَارُ الْبُلُوغِ فَإِنَّ مِلْكَ الْفُرْقَةِ فِيهِ لِتَطَرُّقِ الْخَلَلِ إلَى الْمَقَاصِدِ بِسَبَبِ قُصُورِ شَفَقَةِ الْعَاقِدِ لِقُصُورِ قَرَابَتِهِ .
وَعَلَى اعْتِبَارِ تَحَقُّقِ هَذَا التَّطَرُّقِ لَا يَكُونُ لِلنِّكَاحِ انْعِقَادٌ مِنْ الْأَصْلِ ، فَالْوَجْهُ فِي الْفُرْقَةِ الْكَائِنَةِ عَنْهُ كَوْنُهَا فَسْخًا .
وَبِخِلَافِ رِدَّتِهِ أَيْضًا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ فِيهَا لِلتَّنَافِي : أَيْ هِيَ تُنَافِي النِّكَاحَ ابْتِدَاءً فَكَذَا بَقَاءً ، وَلِذَا لَا يَحْتَاجُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ ، وَإِنَّمَا اُحْتِيجَ إلَيْهِ فِي خِيَارِ الْبُلُوغِ ؛ لِأَنَّهُ لِدَفْعِ ضَرَرٍ خَفِيٍّ ، وَالضَّرَرُ فِي هَذِهِ جَلِيٌّ وَلَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْإِبَاءِ ، فَعُلِمَ أَنَّ الْإِبَاءَ غَيْرُ مُنَافٍ لِلنِّكَاحِ .
[ فَرْعٌ ] يَقَعُ طَلَاقُ زَوْجِ الْمُرْتَدَّةِ وَزَوْجِ الْمُسْلِمَةِ الْآبِي بَعْدَ التَّفْرِيقِ عَلَيْهِمَا مَا دَامَتَا فِي الْعِدَّةِ ، أَمَّا فِي الْإِبَاءِ فَلِأَنَّ الْفُرْقَةَ بِالطَّلَاقِ ، وَأَمَّا فِي الرِّدَّةِ فَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ بِالرِّدَّةِ غَيْرُ مُتَأَبِّدَةٍ فَإِنَّهَا تَرْتَفِعُ بِالْإِسْلَامِ فَيَقَعُ طَلَاقُهُ عَلَيْهَا فِي الْعِدَّةِ مُسْتَتْبِعًا فَائِدَتُهُ مِنْ حُرْمَتِهَا عَلَيْهِ بَعْدَ الثَّلَاثِ حُرْمَةً مُغَيَّاةً بِوَطْءِ زَوْجٍ آخَرَ .
بِخِلَافِ حُرْمَةِ الْمَحْرَمِيَّةِ فَإِنَّهَا مُتَأَبِّدَةٌ لَا غَايَةَ لَهَا فَلَا يُفِيدُ لُحُوقَ الطَّلَاقِ فَائِدَةً

( وَإِذَا أَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَزَوْجُهَا كَافِرٌ أَوْ أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ وَتَحْتَهُ مَجُوسِيَّةٌ لَمْ تَقَعْ الْفُرْقَةُ عَلَيْهَا حَتَّى تَحِيضَ ثَلَاثَ حِيَضٍ ثُمَّ تَبِينَ مِنْ زَوْجِهَا ) وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَيْسَ سَبَبًا لِلْفُرْقَةِ ، وَالْعَرْضُ عَلَى الْإِسْلَامِ مُتَعَذِّرٌ لِقُصُورِ الْوِلَايَةِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْفُرْقَةِ دَفْعًا لِلْفَسَادِ فَأَقَمْنَا شَرْطَهَا وَهُوَ مُضِيُّ الْحَيْضِ مَقَامَ السَّبَبِ كَمَا فِي حَفْرِ الْبِئْرِ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَدْخُولِ بِهَا وَغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا ، وَالشَّافِعِيُّ يَفْصِلُ كَمَا مَرَّ لَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ .
( قَوْلُهُ وَإِذَا أَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَزَوْجُهَا كَافِرٌ أَوْ أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ وَتَحْتَهُ مَجُوسِيَّةٌ لَمْ تَقَعْ الْفُرْقَةُ حَتَّى تَحِيضَ ثَلَاثَ حِيَضٍ ) إنْ كَانَتْ مِمَّنْ تَحِيضُ وَإِلَّا فَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ ، فَإِنْ أَسْلَمَ الْآخَرُ قَبْلَ انْقِضَاءِ هَذِهِ الْمُدَّةِ فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا ، وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ حَتَّى انْقَضَتْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ ،

وَإِذَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ وَالْمَرْأَةُ حَرْبِيَّةٌ فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْمُسْلِمَةُ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا ، وَسَيَأْتِيك إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ( وَإِذَا أَسْلَمَ زَوْجُ الْكِتَابِيَّةِ فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا ) ؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا ابْتِدَاءً فَلَأَنْ يَبْقَى أَوْلَى .
.

ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَإِذَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ وَالْمَرْأَةُ حَرْبِيَّةٌ ) بِأَنْ كَانَ الَّذِي أَسْلَمَ هُوَ الزَّوْجُ ( فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا ، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْمُسْلِمَةُ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا ) قَالَ ( وَسَيَأْتِيكَ ) يَعْنِي فِي مَسْأَلَةِ الْمُهَاجِرَةِ .
فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا عِدَّةَ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الصُّورَتَيْنِ ، وَعِنْدَهُمَا إذَا كَانَتْ هِيَ الْمُسْلِمَةُ فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَهَكَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ ، وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ قَوْلِ مُحَمَّدٍ فِي السِّيَرِ فِيمَا إذَا أَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْفُرْقَةَ بِشَرْطِهَا وَعَلَيْهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ أُخْرَى بَعْدَ الثَّلَاثِ الْأُوَلِ وَهِيَ فُرْقَةٌ بِطَلَاقٍ وَيَقَعُ طَلَاقُهُ عَلَيْهَا مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ فِي الثَّلَاثِ الْحِيَضِ الْأَوَاخِرِ ، ثُمَّ قَالَ مُحَمَّدٌ : وَيَنْبَغِي فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ لَا يَكُونَ عَلَيْهَا عِدَّةٌ .
وَأَمَّا الطَّحَاوِيُّ فَقَدْ أَطْلَقَ وُجُوبَ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا حَيْثُ قَالَ : وَمَنْ أَسْلَمَتْ امْرَأَتُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ إلَى أَنْ قَالَ : فَإِذَا حَاضَتْهُمَا بَانَتْ وَوَجَبَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ بَعْدَ ذَلِكَ ، ثُمَّ عَلَّلَ الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ فَقَالَ : وَهَذَا : أَيْ تَوَقُّفُ الْبَيْنُونَةِ عَلَى انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ سَبَبٍ تُضَافُ إلَيْهِ الْفُرْقَةُ وَالْإِسْلَامُ غَيْرُ مُنَاسِبٍ لَهُ وَكَذَا الِاخْتِلَافُ ؛ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى إسْلَامِ الْمُسْلِمِ ، وَلِأَنَّهُ مَنْقُوضٌ كَمَا ذَكَرْنَا ، وَكَذَا كُفْرُ الْمُصِرِّ فَلَيْسَ إلَّا الْإِبَاءُ وَهُوَ مُتَعَذِّرٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَأُضِيفَ إلَى شَرْطِ الْبَيْنُونَةِ ، وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْفُرْقَةِ الطَّلَاقُ بِشَرْطِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ، وَلِلْإِضَافَةِ إلَى الشَّرْطِ عِنْدَ تَعَذُّرِهَا إلَى الْعِلَّةِ نَظِيرٌ فِي الشَّرْعِ وَهُوَ حَافِرُ الْبِئْرِ فِي الطَّرِيقِ يُضَافُ ضَمَانُ مَا تَلِفَ بِالسُّقُوطِ فِيهِ إلَى الْحَفْرِ ، وَهُوَ شَرْطٌ ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ ثِقَلُ الْوَاقِعِ .

وَقَوْلُهُ وَالْعَرْضُ عَلَى الْإِسْلَامِ الْوَجْهُ فِيهِ ، وَعَرْضُ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْقَلْبِ ، وَنَظِيرُهُ فِي اللُّغَةِ : عَرَضْت النَّاقَةَ عَلَى الْحَوْضِ ، وَخَرَقَ الثَّوْبُ الْمِسْمَارَ بِنَصَبِ الْمِسْمَارِ ( قَوْلُهُ وَإِذَا أَسْلَمَ زَوْجُ الْكِتَابِيَّةِ فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا ) ظَاهِرٌ .

قَالَ ( وَإِذَا خَرَجَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ إلَيْنَا مِنْ دَارِ الْحَرْبِ مُسْلِمًا وَقَعَتْ الْبَيْنُونَةُ بَيْنَهُمَا ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا تَقَعُ ( وَلَوْ سُبِيَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ وَقَعَتْ الْبَيْنُونَةُ بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ سُبِيَا مَعًا لَمْ تَقَعْ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : وَقَعَتْ ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ السَّبَبَ هُوَ التَّبَايُنُ دُونَ السَّبْيِ عِنْدَنَا وَهُوَ يَقُولُ بِعَكْسِهِ .
لَهُ أَنَّ لِلتَّبَايُنِ أَثَرُهُ فِي انْقِطَاعِ الْوِلَايَةِ ، وَذَلِكَ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْفُرْقَةِ كَالْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ وَالْمُسْلِمِ الْمُسْتَأْمَنِ ، أَمَّا السَّبْيُ فَيَقْتَضِي الصَّفَاءَ لِلسَّابِي وَلَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِانْقِطَاعِ النِّكَاحِ ، وَلِهَذَا يَسْقُطُ الدَّيْنُ عَنْ ذِمَّةِ الْمَسْبِيِّ .
وَلَنَا أَنَّ مَعَ التَّبَايُنِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا لَا تَنْتَظِمُ الْمَصَالِحُ فَشَابَهُ الْمَحْرَمِيَّةَ .

( قَوْلُهُ وَإِذَا خَرَجَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ إلَيْنَا مُسْلِمًا وَقَعَتْ الْبَيْنُونَةُ ) حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى خُرُوجِهِ مُسْلِمًا بَلْ وَذِمِّيًّا كَمَا سَنَذْكُرُ ( قَوْلُهُ فَالْحَاصِلُ أَنَّ السَّبَبَ إلَخْ ) اُخْتُلِفَ فِي أَنَّ تَبَايُنَ الدَّارَيْنِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ هَلْ يُوجِبُ الْفُرْقَةَ بَيْنَهُمَا ؟ فَقُلْنَا نَعَمْ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا ، وَفِي أَنَّ السَّبْيَ هَلْ يُوجِبُ الْفُرْقَةَ أَمْ لَا ؟ فَقُلْنَا لَا ، وَقَالَ نَعَمْ .
وَقَوْلُهُ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ فَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ أَرْبَعُ صُوَرٍ وِفَاقِيَّتَانِ ، وَهُمَا لَوْ خَرَجَ الزَّوْجَانِ إلَيْنَا مَعًا ذِمِّيَّيْنِ أَوْ مُسْلِمَيْنِ أَوْ مُسْتَأْمَنَيْنِ ثُمَّ أَسْلَمَا أَوْ صَارَا ذِمِّيَّيْنِ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ اتِّفَاقًا ، وَلَوْ سَبَى أَحَدُهُمَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ عِنْدَهُ لِلسَّبْيِ وَعِنْدَنَا لِلتَّبَايُنِ .
وَخِلَافِيَّتَانِ إحْدَاهُمَا مَا إذَا خَرَجَ أَحَدُهُمَا إلَيْنَا مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ مُسْتَأْمَنًا ثُمَّ أَسْلَمَ أَوْ صَارَ ذِمِّيًّا عِنْدَنَا تَقَعُ ، فَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ حَلَّ لَهُ التَّزَوُّجُ بِأَرْبَعٍ فِي الْحَالِ وَبِأُخْتِ امْرَأَتِهِ الَّتِي فِي دَارِ الْحَرْبِ إذَا كَانَتْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَعِنْدَهُ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ الَّتِي فِي دَارِ الْحَرْبِ إلَّا فِي الْمَرْأَةِ تَخْرُجُ مُرَاغِمَةً لِزَوْجِهَا أَيْ بِقَصْدِ الِاسْتِيلَاءِ عَلَى حَقِّهِ فَتَبِينُ عِنْدَهُ بِالْمُرَاغَمَةِ وَالْأُخْرَى مَا إذَا سُبِيَ الزَّوْجَانِ مَعًا ؛ فَعِنْدَهُ تَقَعُ الْفُرْقَةُ وَلِلسَّابِي أَنْ يَطَأَهَا بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ ، وَعِنْدَنَا لَا تَقَعُ لِعَدَمِ تَبَايُنِ دَارَيْهِمَا .
وَفِي الْمُحِيطِ : مُسْلِمٌ تَزَوَّجَ حَرْبِيَّةً فِي دَارِ الْحَرْبِ فَخَرَجَ رَجُلٌ بِهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ بَانَتْ مِنْ زَوْجِهَا بِالتَّبَايُنِ ، وَلَوْ خَرَجَتْ الْمَرْأَةُ بِنَفْسِهَا قَبْلَ زَوْجِهَا لَمْ تَبِنْ ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا بِالْتِزَامِهَا أَحْكَامَ الْمُسْلِمِينَ ، إذْ لَا تُمَكَّنُ مِنْ الْعَوْدِ ، وَالزَّوْجُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ

فَلَا تَبَايُنَ يُرِيدُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى إذَا أَخْرَجَهَا الرَّجُلُ قَهْرًا حَتَّى مَلَكَهَا لِتَحَقُّقِ التَّبَايُنِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا حِينَئِذٍ حَقِيقَةً وَحُكْمًا ، أَمَّا حَقِيقَةٌ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا حُكْمًا فَلِأَنَّهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ حُكْمًا وَزَوْجَهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ حُكْمًا .
وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ لِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ ( أَثَرُهُ فِي انْقِطَاعِ الْوِلَايَةِ ) أَيْ وِلَايَةِ مَنْ فِي دَارِ الْحَرْبِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ خَارِجًا إلَيْنَا وَوِلَايَةِ مَنْ فِي دَارِنَا عَلَيْهِ إنْ كَانَ لَاحِقًا بِدَارِ الْحَرْبِ بِحَيْثُ يَتَعَذَّرُ الْإِلْزَامُ عَلَيْهِ ( وَذَلِكَ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْفُرْقَةِ كَالْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ وَالْمُسْلِمِ الْمُسْتَأْمَنِ أَمَّا السَّبْيُ فَيَقْتَضِي الصَّفَاءَ لِلسَّابِي ) وَالصَّفَاءُ هُنَا بِالْمَدِّ : أَيْ الْخُلُوصُ ( وَلَا يَتَحَقَّقُ ) صَفَاؤُهُ لَهُ ( إلَّا بِانْقِطَاعِ النِّكَاحِ وَلِهَذَا ) أَيْ لِثُبُوتِ الصَّفَاءِ بِالسَّبْيِ ( يَسْقُطُ ، مَا عَلَى الْمَسْبِيِّ مِنْ دَيْنٍ ) إنْ كَانَ لِكَافِرٍ عَلَيْهِ لِعَدَمِ احْتِرَامِهِ ، فَكَذَا يَسْقُطُ حَقُّ الزَّوْجِ الْحَرْبِيِّ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الصَّفَاءَ مُوجِبٌ لِمِلْكِ مَا يَحْتَمِلُ التَّمَلُّكَ وَمِلْكُ النِّكَاحِ كَذَلِكَ فَخَلَصَ لَهُ عِنْدَ عَدَمِ احْتِرَامِ الْحَقِّ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ وَصَارَ سُقُوطُ مِلْكِ الزَّوْجِ عَنْهَا كَسُقُوطِهِ عَنْ جَمِيعِ أَمْلَاكِهِ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ .
وَيُؤَيِّدُهُ مِنْ الْمَنْقُولِ { أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ أَسْلَمَ فِي مُعَسْكَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ حِينَ أَتَى بِهِ الْعَبَّاسُ وَزَوْجَتَهُ هِنْدَ بِمَكَّةَ وَهِيَ دَارُ حَرْبٍ إذْ ذَاكَ وَلَمْ يَأْمُرْهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَجْدِيدِ نِكَاحِهِمَا } .
وَلَمَّا فُتِحَتْ مَكَّةُ هَرَبَ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ حَتَّى أَسْلَمَتْ امْرَأَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا وَأَخَذَتْ الْأَمَانَ لِزَوْجِهَا وَذَهَبَتْ فَجَاءَتْ بِهِ وَلَمْ يُجَدَّدْ نِكَاحُهُمَا .
وَتَبَايُنُ الدَّارَيْنِ بَيْنَ أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ زَوْجِ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ

اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ عَنْهَا أَظْهَرُ وَأَشْهَرُ فَإِنَّهَا هَاجَرَتْ إلَى الْمَدِينَةِ وَتَرَكَتْهُ بِمَكَّةَ عَلَى شِرْكِهِ ، ثُمَّ جَاءَ وَأَسْلَمَ بَعْدَ سِنِينَ ، قِيلَ ثَلَاثُ سِنِينَ ، وَقِيلَ سِتٌّ ، وَقِيلَ ثَمَانٍ فَرَدَّهَا عَلَيْهِ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ فَهَذِهِ كُلُّهَا نُصُوصٌ لِمَا عَلَّلْنَا بِهِ .
وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا عَلَى إثْبَاتِ عِلَّتِهِ بِأَنَّ قَوْله تَعَالَى { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ إلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } نَزَلَتْ فِي سَبَايَا أَوْطَاسٍ وَكُنَّ سُبِينَ مَعَ أَزْوَاجِهِنَّ ، وَقَدْ عُلِمَ { أَنَّ مُنَادِيَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَادَى أَلَا لَا تُنْكَحُ الْحَبَالَى حَتَّى يَضَعْنَ ، وَلَا الْحَيَالَى حَتَّى يَحِضْنَ } فَقَدْ اسْتَثْنَى الْمَسْبِيَّاتِ مَعَ أَزْوَاجِهِنَّ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ ، فَظَهَرَ أَنَّ السَّبْيَ يُوجِبُ الْفُرْقَةَ .
وَقَوْلُهُ كَالْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ أَصْلُ قِيَاسٍ وَفَرْعُهُ الْخَارِجُ إلَيْنَا مُسْلِمًا مِنْ دَارِ الْحَرْبِ أَوْ ذِمِّيًّا ، وَالْحُكْمُ عَدَمُ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ بِجَامِعِ عَدَمِ سَبْيِهِمَا فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ الْعَدَمِيِّ بِالْمَعْنَى الْعَدَمِيِّ ، وَعَلَى هَذَا فَالسَّوْقُ لِإِثْبَاتِ الْفَرْعِ ، لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ تَأْثِيرِ التَّبَايُنِ فَحَقُّ اللَّفْظِ هَكَذَا لَا يُؤَثِّرُ فِي الْفُرْقَةِ لِتَخَلُّفِهِ فِي الْمُسْتَأْمَنِ إلَخْ ( قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّ مَعَ التَّبَايُنِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا لَا تَنْتَظِمُ الْمَصَالِحُ ) الَّتِي شُرِعَ النِّكَاحُ لَهَا ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْخَارِجَ إلَيْنَا مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا لَا يَعُودُ ، وَالْكَائِنُ هُنَاكَ لَا يَخْرُجُ إلَيْنَا فَكَانَ التَّبَايُنُ مُنَافِيًا لَهُ ، فَكَانَ اعْتِرَاضُهُ قَاطِعًا ، كَاعْتِرَاضِ الْمَحْرَمِيَّةِ بِالرَّضَاعِ ، وَتَقْبِيلِ ابْنِ الزَّوْجِ بِشَهْوَةٍ مَثَلًا لَمَّا نَافَتْهُ كَانَ اعْتِرَاضُهَا قَاطِعًا .

وَالسَّبْيُ يُوجِبُ مِلْكَ الرَّقَبَةِ وَهُوَ لَا يُنَافِي النِّكَاحَ ابْتِدَاءً فَكَذَلِكَ بَقَاءً وَصَارَ كَالشِّرَاءِ ثُمَّ هُوَ يَقْتَضِي الصَّفَاءَ فِي مَحَلِّ عَمَلِهِ وَهُوَ الْمَالُ لَا فِي مَحَلِّ النِّكَاحِ .
وَفِي الْمُسْتَأْمَنِ لَمْ تَتَبَايَنْ الدَّارُ حُكْمًا لِقَصْدِهِ الرُّجُوعَ .

.
ثُمَّ الشَّرْعُ يُفْسِدُ تَعْيِينَ السَّبْيِ عِلَّةً فَقَالَ ( وَالسَّبْيُ يُوجِبُ مِلْكَ الرَّقَبَةِ ) يَعْنِي يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا غَيْرَ ذَلِكَ ، وَإِذَنْ فَمَا اقْتَضَاهُ مِلْكُ الرَّقَبَةِ لَزِمَ السَّبْيَ تَبَعًا لِمِلْكِهَا ، وَمَا لَا فَلَا ، وَمِلْكُ الرَّقَبَةِ لَا يَقْتَضِي مِلْكَ النِّكَاحِ إلَّا إذَا وَرَدَ عَلَى خَالٍ عَنْ مَمْلُوكِيَّتِهِ أَوْ مَالِكِيَّتِهِ ، وَكَذَا ابْتِدَاءُ النِّكَاحِ وَبَقَاؤُهُ فِي الْعَبْدِ الْمُشْتَرَى فَهُوَ كَسَائِرِ أَسْبَابِ الْمِلْكِ مِنْ الشِّرَاءِ وَالْهِبَةِ وَالْإِرْثِ وَزَوَالِ أَمْلَاكِ الْمَسْبِيِّ لِثُبُوتِ رِقِّهِ ، وَالْعَبْدُ لَا مِلْكَ لَهُ فِي الْمَالِ ، بِخِلَافِ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ مِنْ خَصَائِصِ الْآدَمِيَّةِ فَيَمْلِكُهُ إذَا ابْتَدَأَ وُجُودَهُ بِطَرِيقِ الصِّحَّةِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ سَيِّدُهُ التَّطْلِيقَ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا تَوَقَّفَ فِي الِابْتِدَاءِ عَلَى إذْنِهِ لِمَا يَسْتَلْزِمُ مِنْ تَنْقِيصِ مَالِيَّتِهِ .
وَسُقُوطُ الدَّيْنِ الْكَائِنِ لِكَافِرٍ عَلَى الْمَسْبِيِّ الْحُرِّ لَيْسَ مُقْتَضَى السَّبْيِ بَلْ لِتَعَذُّرِ بَقَائِهِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَبْقَى مَا كَانَ وَهُوَ حِينَ وَجَبَ كَانَ فِي ذِمَّتِهِ لَا شَاغِلًا لِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ .
وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَثْبُتَ بَعْدَ الرِّقِّ بِالسَّبْيِ إلَّا شَاغِلًا لَهَا فَيَصِيرُ الْبَاقِي غَيْرَهُ ، وَلِذَا لَوْ كَانَ الْمَسْبِيُّ عَبْدًا مَدْيُونًا كَذَلِكَ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّيْنُ بِالسَّبْيِ .
نَصَّ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ فِي الْمَأْذُونِ .
فَإِنْ قِيلَ : بَلْ يَجُوزُ كَوْنُ الدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ غَيْرَ مُتَعَلِّقٍ بِرَقَبَتِهِ ، وَلِذَا يَثْبُتُ الدَّيْنُ بِإِقْرَارِهِ بِهِ وَلَا يُبَاعُ فِيهِ .
أُجِيبَ بِمَنْعِ تَعَلُّقِهِ فِي الْعَبْدِ كَذَلِكَ ، وَإِنَّمَا لَا يُطَالَبُ بِإِقْرَارِهِ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ لَا يَسْرِي فِي حَقِّ الْمَوْلَى ، حَتَّى لَوْ ثَبَتَ بِالِاسْتِهْلَاكِ قَطْعًا مُعَايَنَةُ بَيْعٍ فِيهِ .
وَأَمَّا مَا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ قِصَّةِ أَبِي سُفْيَانَ فَالْحَقُّ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ لَمْ يَكُنْ حَسَنَ الْإِسْلَامِ يَوْمئِذٍ بَلْ وَلَا بَعْدَ الْفَتْحِ ، وَهُوَ شَاهَدَ حُنَيْنًا عَلَى مَا

تُفِيدُهُ السِّيَرُ الصَّحِيحَةُ مِنْ قَوْلِهِ حِينَ انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ : لَا تَرْجِعُ هَزِيمَتُهُمْ إلَى الْبَحْرِ .
وَمَا نُقِلَ أَنَّ الْأَزْلَامَ حِينَئِذٍ كَانَتْ مَعَهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَشْهَدُ بِمَا ذَكَرْنَا مِمَّا نُقِلَ مِنْ كَلَامِهِ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْخُرُوجِ إلَى هَوَازِنَ بِحُنَيْنٍ وَإِنَّمَا حَسُنَ إسْلَامُهُ بَعْدَ ذَلِكَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَاَلَّذِي كَانَ إسْلَامُهُ حَسَنًا حِينَ أَسْلَمَ هُوَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ ، وَأَمَّا عِكْرِمَةُ وَحَكِيمٌ فَإِنَّمَا هَرَبَا إلَى السَّاحِلِ وَهُوَ مِنْ حُدُودِ مَكَّةَ فَلَمْ تَتَبَايَنْ دَارُهُمْ .
وَأَمَّا أَبُو الْعَاصِ فَإِنَّمَا رَدَّهَا عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ ، رَوَى ذَلِكَ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ ، وَالْجَمْعُ إذَا أَمْكَنَ أَوْلَى مِنْ إهْدَارِ أَحَدِهِمَا ، وَهُوَ بِحَمْلِ قَوْلِهِ عَلَى النِّكَاحِ الْأَوَّلِ عَلَى مَعْنَى بِسَبَبٍ سَبَقَهُ مُرَاعَاةً لِحُرْمَتِهِ كَمَا يُقَالُ ضَرَبْته عَلَى إسَاءَتِهِ ، وَقِيلَ قَوْلُهُ رَدَّهَا عَلَى النِّكَاحِ الْأَوَّلِ لَمْ يُحْدِثْ شَيْئًا مَعْنَاهُ عَلَى مِثْلِهِ لَمْ يُحْدِثْ زِيَادَةً فِي الصَّدَاقِ وَالْحِبَاءِ وَهُوَ تَأْوِيلٌ حَسَنٌ .
هَذَا وَمَا ذَكَرْنَاهُ مُثْبِتٌ وَعَلَى النِّكَاحِ الْأَوَّلِ نَافٍ ؛ لِأَنَّهُ مُبْقٍ عَلَى الْأَصْلِ .
وَأَيْضًا يُقْطَعُ بِأَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ بَيْنَ زَيْنَبَ وَبَيْنَ أَبِي الْعَاصِ بِمُدَّةٍ تَزِيدُ عَلَى عَشْرِ سِنِينَ ، فَإِنَّهَا أَسْلَمَتْ بِمَكَّةَ فِي ابْتِدَاءِ الدَّعْوَةِ حِينَ دَعَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَوْجَتَهُ خَدِيجَةَ وَبَنَاتَهُ ، وَلَقَدْ انْقَضَتْ الْمُدَّةُ الَّتِي تَبِينُ بِهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ مِرَارًا وَوَلَدَتْ .
وَرُوِيَ أَنَّهَا كَانَتْ حَامِلًا فَأَسْقَطَتْ حِينَ خَرَجَتْ مُهَاجِرَةً إلَى الْمَدِينَةِ ، وَرَوَّعَهَا هَبَّارُ بْنُ الْأَسْوَدِ بِالرُّمْحِ .
وَاسْتَمَرَّ أَبُو الْعَاصِ بْنُ الرَّبِيعِ عَلَى شِرْكِهِ إلَى مَا قُبَيْلَ الْفَتْحِ فَخَرَجَ تَاجِرًا إلَى الشَّامِ ، فَأَخَذَتْ سَرِيَّةُ الْمُسْلِمِينَ مَالَهُ وَأَعْجَزَهُمْ هَرَبًا ثُمَّ دَخَلَ بِلَيْلٍ عَلَى

زَيْنَبَ فَأَجَارَتْهُ ، { ثُمَّ كَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّرِيَّةَ فَرَدُّوا إلَيْهِ مَالَهُ } ، فَاحْتُمِلَ إلَى مَكَّةَ فَأَدَّى الْوَدَائِعَ وَمَا كَانَ أَهْلُ مَكَّةَ أَبْضَعُوا مَعَهُ ، وَكَانَ رَجُلًا أَمِينًا كَرِيمًا ، فَلَمَّا لَمْ يَبْقَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ عُلْقَةٌ قَالَ : يَا أَهْلَ مَكَّةَ هَلْ بَقِيَ لِأَحَدٍ مِنْكُمْ عِنْدِي مَالٌ لَمْ يَأْخُذْهُ ؟ قَالُوا : لَا ، فَجَزَاكَ اللَّهُ عَنَّا خَيْرًا فَقَدْ وَجَدْنَاكَ وَفِيًّا كَرِيمًا ، قَالَ : فَإِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، وَاَللَّهِ مَا مَنَعَنِي مِنْ الْإِسْلَامِ عِنْدَهُ إلَّا تَخَوُّفُ أَنْ تَظُنُّوا أَنِّي إنَّمَا أَرَدْت أَنْ آكُلَ أَمْوَالَكُمْ ، فَلَمَّا أَدَّاهَا اللَّهُ إلَيْكُمْ وَفَرَغْت مِنْهَا أَسْلَمْت ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَمَا ذُكِرَ فِي الرِّوَايَاتِ مِنْ قَوْلِهِمْ وَذَلِكَ بَعْدَ سِتِّ سِنِينَ أَوْ ثَمَانِ سِنِينَ أَوْ ثَلَاثِ سِنِينَ فَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ حِينِ فَارَقَتْهُ بِالْأَبْدَانِ وَذَلِكَ بَعْدَ غَزْوَةِ بَدْرٍ .
وَأَمَّا الْبَيْنُونَةُ فَقَبْلَ ذَلِكَ بِكَثِيرٍ ؛ لِأَنَّهَا إنْ وَقَعَتْ مِنْ حِينِ آمَنَتْ فَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ عِشْرِينَ سَنَةً إلَى إسْلَامِهِ ، وَإِنْ وَقَعَتْ مِنْ حِينِ نَزَلَتْ { وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا } وَهِيَ مَكِّيَّةٌ فَأَكْثَرُ مِنْ عَشْرٍ .
هَذَا غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ حَابِسَهَا قَبْلَ ذَلِكَ إلَى أَنْ أُسِرَ فِيمَنْ أُسِرَ بِبَدْرٍ { وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَغْلُوبًا عَلَى ذَلِكَ قَبْلَ ذَلِكَ ، فَلَمَّا أَرْسَلَ أَهْلُ مَكَّةَ فِي فِدَاءِ الْأَسَارَى أَرْسَلَتْ زَيْنَبُ فِي فِدَائِهِ قِلَادَةً كَانَتْ خَدِيجَةُ أَعْطَتْهَا إيَّاهَا ، فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَقَّ لَهَا فَرَدَّهَا عَلَيْهَا وَأَطْلَقَهُ لَهَا ، فَلَمَّا وَصَلَ جَهَّزَهَا إلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ شَرَطَ عَلَيْهِ ذَلِكَ عِنْدَ إطْلَاقِهِ وَاتَّفَقَ فِي مَخْرَجِهَا

إلَيْهِ مَا اتَّفَقَ مِنْ هَبَّارِ بْنِ الْأَسْوَدِ } .
وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَكَادُ أَنْ يَخْتَلِفَ فِيهِ اثْنَانِ وَبِهِ نَقْطَعُ بِأَنَّ الرَّدَّ كَانَ عَلَى نِكَاحٍ جَدِيدٍ كَمَا هُوَ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ ، وَوَجَبَ تَأْوِيلُ رِوَايَةِ { عَلَى النِّكَاحِ الْأَوَّلِ } كَمَا ذَكَرْنَا .
وَاعْلَمْ أَنَّ بَنَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ تَتَّصِفْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ قَبْلَ الْبَعْثَةِ بِكُفْرٍ لِيُقَالَ آمَنَتْ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ مُؤْمِنَةً ، فَقَدْ اتَّفَقَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَبْعَثْ نَبِيًّا قَطُّ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ ، وَالْوَلَدُ يَتْبَعُ الْمُؤْمِنَ مِنْ الْأَبَوَيْنِ فَلَزِمَ أَنَّهُنَّ لَمْ تَكُنْ إحْدَاهُنَّ قَطُّ إلَّا مُسْلِمَةً ، نَعَمْ قَبْلَ الْبَعْثَةِ كَانَ الْإِسْلَامُ اتِّبَاعُ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَمِنْ حِينِ وَقَعَ الْبَعْثَةُ لَا يَثْبُتُ الْكُفْرُ إلَّا بِإِنْكَارِ الْمُنْكِرِ بَعْدَ بُلُوغِ الدَّعْوَةِ ، وَمِنْ أَوَّلِ ذِكْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَوْلَادِهِ لَمْ تَتَوَقَّفْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ .
وَأَمَّا سَبَايَا أَوْطَاسٍ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النِّسَاءَ سُبِينَ وَحْدَهُنَّ ، وَرِوَايَةُ التِّرْمِذِيِّ تُفِيدُ ذَلِكَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : { أَصَبْنَا سَبَايَا أَوْطَاسٍ وَلَهُنَّ أَزْوَاجٌ فِي قَوْمِهِنَّ ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ إلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } } لَكِنْ بَقِيَ أَنْ يُقَالَ : الْعِبْرَةُ لِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا لِخُصُوصِ السَّبَبِ ، وَمُقْتَضَى اللَّفْظِ حِلُّ الْمَمْلُوكَةِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ سُبِيَتْ وَحْدَهَا أَوْ مَعَ زَوْجٍ ، وَأَمَّا الْمُشْتَرَاةُ مُتَزَوِّجَةً فَخَارِجَةٌ بِالْإِجْمَاعِ فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى مَا سِوَاهَا دَاخِلًا تَحْتَ الْعُمُومِ عَلَى الْإِبَاحَةِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَسْبِيَّةَ مَعَ زَوْجِهَا تُخَصُّ أَيْضًا بِدَلِيلِنَا وَبِمَا نَذْكُرُهُ تَبْقَى الْمَسْبِيَّةُ وَحْدَهَا ذَاتَ بَعْلٍ وَبِلَا بَعْلٍ وَاَللَّهُ سُبْحَانُهُ

أَعْلَمُ .
وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ وَالْمُسْلِمِ الْمُسْتَأْمَنِ .
فَالْجَوَابُ مَنْعُ وُجُودِ التَّبَايُنِ ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعَى عِلَّةً مِنْهُ هُوَ التَّبَايُنُ حَقِيقَةً وَحُكْمًا وَهُوَ يَصِيرُ الْكَائِنُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فِي حُكْمِ الْمَيِّتِ حَتَّى يُعْتَقَ مُدَبَّرُوهُ وَأُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ وَيُقَسَّمَ مِيرَاثُهُ ، وَالْكَائِنُ فِي دَارِنَا مَمْنُوعًا مِنْ الرُّجُوعِ ، وَهَذَا مُنْتَفٍ فِي الْمُسْتَأْمَنِ .
وَإِذَا كَافَأَ مَا ذَكَرَ بَقِيَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى اللَّازِمِ لِلتَّبَايُنِ الْمُوجِبِ لِلْفُرْقَةِ سَالِمًا عَنْ الْمُعَارِضِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ ، وَدَلِيلُ السَّمْعِ أَيْضًا وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { إذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ } إلَى قَوْلِهِ { فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } وَقَدْ أَفَادَ مِنْ ثَلَاثِ نُصُوصٍ عَلَى وُقُوعِ الْفُرْقَةِ وَمِنْ وَجْهٍ اقْتِضَائِيٍّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ }

( وَإِذَا خَرَجَتْ الْمَرْأَةُ إلَيْنَا مُهَاجِرَةً جَازَ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَا : عَلَيْهَا الْعِدَّةُ ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ بَعْدَ الدُّخُولِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَيَلْزَمُهَا حُكْمُ الْإِسْلَامِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا أَثَرُ النِّكَاحِ الْمُتَقَدِّمِ وَجَبَتْ إظْهَارًا لِخَطَرِهِ ، وَلَا خَطَرَ لَمِلْكِ الْحَرْبِيِّ ، وَلِهَذَا لَا تَجِبُ عَلَى الْمَسْبِيَّةِ وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا لَمْ تَتَزَوَّجْ حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا ) وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَصِحُّ النِّكَاحُ وَلَا يَقْرَبُهَا زَوْجُهَا حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا كَمَا فِي الْحُبْلَى مِنْ الزِّنَا .
وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ ثَابِتُ النَّسَبِ فَإِذَا ظَهَرَ الْفِرَاشُ فِي حَقِّ النَّسَبِ يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْمَنْعِ مِنْ النِّكَاحِ احْتِيَاطًا .

.
( قَوْلُهُ وَإِذَا خَرَجَتْ الْمَرْأَةُ إلَيْنَا مُهَاجِرَةً ) أَيْ تَارِكَةً الدَّارَ إلَى أُخْرَى عَلَى عَزْمِ عَدَمِ الْعَوْدِ ، وَذَلِكَ بِأَنْ تَخْرُجَ مُسْلِمَةً أَوْ ذِمِّيَّةً .
هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ حُكْمٌ آخَرُ عَلَى بَعْضِ مَا تَضَمَّنَهُ مَوْضُوعُ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ إذَا خَرَجَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مُهَاجِرًا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ ، وَهَذِهِ إذَا كَانَ الْخَارِجُ مِنْهُمَا الْمَرْأَةَ وَوَقَعَتْ الْفُرْقَةُ اتِّفَاقًا ، هَلْ عَلَيْهَا عِدَّةٌ ؟ فِيهَا خِلَافٌ .
عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا ، فَتَتَزَوَّجُ لِلْحَالِ إلَّا أَنْ تَكُونَ حَامِلًا فَتَتَرَبَّصُ لَا عَلَى وَجْهِ الْعِدَّةِ بَلْ لِيَرْتَفِعَ الْمَانِعُ بِالْوَضْعِ ، وَعِنْدَهُمَا عَلَيْهَا الْعِدَّةُ ثُمَّ اخْتَلَفَا لَوْ خَرَجَ زَوْجُهَا بَعْدَهَا وَهِيَ بَعْدُ فِي هَذِهِ الْعِدَّةِ فَطَلَّقَهَا هَلْ يَلْحَقُهَا طَلَاقُهُ ؟ قَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا يَقَعُ عَلَيْهَا ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ : يَقَعُ .
وَالْأَصْلُ أَنَّ الْفُرْقَةَ إذَا وَقَعَتْ بِالتَّنَافِي لَا تَصِيرُ الْمَرْأَةُ مَحَلًّا لِلطَّلَاقِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تَصِيرُ وَهُوَ أَوْجَهُ إلَّا أَنْ تَكُونَ مَحْرَمِيَّةً لِعَدَمِ فَائِدَةِ الطَّلَاقِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ، وَثَمَرَتُهُ تَظْهَرُ فِيمَا لَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا لَا يَحْتَاجُ زَوْجُهَا فِي تَزَوُّجِهَا إذَا أَسْلَمَ إلَى زَوْجٍ آخَرَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَحْتَاجُ إلَيْهِ .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهَا حُرَّةٌ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ عَلَيْهَا بَعْدَ الْإِصَابَةِ وَالدُّخُولِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَيَلْزَمُهَا حُكْمُ الْعِدَّةِ حَقًّا لِلشَّرْعِ كَالْمُطَلَّقَةِ فِي دَارِنَا مِنْ الْمُسْلِمَاتِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ طَلَّقَهَا الْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ هَاجَرَتْ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ فِي دَارِهِمْ وَهُمْ لَا يُؤَاخَذُونَ بِأَحْكَامِنَا هُنَاكَ ، وَهَذَا عَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ أَصْلَهُمَا أَنَّ الْخِطَابَ يَلْزَمُ الْكُفَّارَ فِي الْمُعَامَلَاتِ ، غَيْرَ أَنَّ شَرْطَهُ الْبُلُوغُ وَأَهْلُ الْحَرْبِ لَا يَبْلُغُهُمْ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِمْ

حُكْمُهُ ، بِخِلَافِ أَهْلِ دَارِنَا مِنْهُمْ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعِدَّةَ إنَّمَا وَجَبَتْ إظْهَارًا لِخَطَرِ النِّكَاحِ الْمُتَقَدِّمِ وَلَا خَطَرَ لَمِلْكِ الْحَرْبِيِّ ، بَلْ أَسْقَطَهُ الشَّرْعُ بِالْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي الْمُهَاجِرَاتِ وَهِيَ { وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } بَعْدَ قَوْلِهِ { وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ } فَقَدْ رَفَعَ الْجُنَاحَ عَنْ نِكَاحِ الْمُهَاجِرَةِ وَأَمَرَ أَنْ لَا يُتَمَسَّكَ بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ جَمْعُ كَافِرَةٍ ، فَلَوْ شَرَطَتْ الْعِدَّةَ لَزِمَ التَّمَسُّكُ بِعُقْدَةِ نِكَاحِهِنَّ الْمَوْجُودَةِ فِي حَالِ كُفْرِهِنَّ ، وَبِهَذَا يَبْطُلُ قَوْلُهُمَا وَجَبَتْ لِحَقِّ الشَّرْعِ كَيْ لَا تَخْتَلِطَ الْمِيَاهُ ، وَاسْتَغْنَيْنَا بِهِ عَنْ إبْطَالِهِ بِأَنَّ الشَّرْعَ أَبْطَلَ النِّكَاحَ بِالتَّبَايُنِ لِمُنَافَاتِهِ لِلنِّكَاحِ فَقَدْ حُكِمَ بِمُنَافَاتِهِ لِلْعِدَّةِ ؛ لِأَنَّهَا أَثَرُهُ حَيْثُ حُكِمَ بِمُنَافَاتِهِ لِمَا لَهُ مِنْ الْأَثَرِ .
فَإِنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَمْنَعَ الْمُلَازَمَةَ ، وَيَقُولَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مُنَافَاةَ الشَّيْءِ تُنَافِي أَثَرَهُ إلَّا إذَا كَانَ جِهَةُ الْمُنَافَاةِ ثَابِتَةً فِي الْأَثَرِ أَيْضًا ، وَهُوَ مُنْتَفٍ ؛ لِأَنَّهُ فِي النِّكَاحِ عَدَمُ انْتِظَامِ الْمَصَالِحِ وَالْعِدَّةُ لَا يَنْفِيهَا عَدَمُ انْتِظَامُ الْمَصَالِحِ بَلْ تُجَامِعُهُ مُدَّةَ بَقَائِهَا إلَى أَنْ تَنْقَضِيَ فَيَجِبُ أَنْ تَثْبُتَ لِمُوجِبِهَا بِلَا مَانِعٍ ، لَكِنْ قَدْ يُقَالُ عِصَمُ الْكَوَافِرِ عَامٌّ يَدْخُلُ فِيهِ الْمَسْبِيَّةُ دُونَ زَوْجِهَا وَالْمَتْرُوكَاتُ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِلْأَزْوَاجِ الْمُهَاجِرِينَ فَلَهُمْ أَنْ يَتَزَوَّجُوا بِأَرْبَعٍ وَبِأُخْتِ الْكَائِنَةِ هُنَاكَ لِعَدَمِ اعْتِبَارِ عِصَمِ الْكَوَافِرِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِلْفُرْقَةِ وَالْمَسْبِيَّةُ مَعَ زَوْجِهَا وَهَذِهِ خُصَّتْ عِنْدَكُمْ فَإِنَّهَا يُتَمَسَّكُ بِعُقْدَتِهَا حَيْثُ قُلْتُمْ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا ، فَجَازَ أَنْ تَخُصَّ الْمُهَاجِرَةَ فِي حَقِّ الْعِدَّةِ بِحَدِيثِ سَبَايَا أَوْطَاسٍ ، فَإِنَّهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ مَنْ انْفَسَخَ نِكَاحُهَا بِالتَّبَايُنِ

لَا يَحِلُّ وَطْؤُهَا قَبْلَ تَرَبُّصٍ ، وَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهَا تَرَبُّصٌ وَهِيَ حُرَّةٌ كَانَ عِدَّةً إجْمَاعًا لِعَدَمِ الْقَائِلِ بِالْفَصْلِ ، وَحِينَئِذٍ فَإِبْطَالُهُ الْوُجُوبَ لِلْخَطَرِ لَا يُفِيدُ إذْ كَانَ لَهُ سَبَبٌ آخَرُ وَهُوَ حَقُّ الشَّرْعِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِوُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ فَإِنَّهُ أَفَادَ أَنْ لَا يُخَلِّيَ فَرْجَ الْمَدْخُولِ بِهَا عَنْ الِامْتِنَاعِ إلَى مُدَّةٍ غَيْرَ أَنَّهُ اعْتَبَرَ مُدَّةَ الِاسْتِبْرَاءِ أَكْثَرَ كَمَا هُوَ دَأْبُ الشَّرْعِ فِي إظْهَارِ التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ فِي مِثْلِهِ .
( قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَتْ ) يَعْنِي الْمُهَاجِرَةَ ( حَامِلًا لَمْ تَتَزَوَّجْ حَتَّى تَضَعَ ) وَقَدَّمْنَا أَنَّهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا بِطَرِيقِ الْعِدَّةِ ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجُوزُ تَزْوِيجُهَا وَلَا يَقْرَبُهَا حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا كَالْحَامِلِ مِنْ الزِّنَا .
وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ حَمْلَهَا ثَابِتُ النَّسَبِ فَظَهَرَ فِي حَقِّ الْمَنْعِ احْتِيَاطًا ، وَإِنَّمَا قَالَ احْتِيَاطًا ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ كَوْنِهِ ثَابِتَ النَّسَبِ إنَّمَا يَقْتَضِي ظَاهِرًا أَنْ لَا تُوطَأَ ؛ لِأَنَّ بِهِ يَصِيرُ سَاقِيًا مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ فَتَعَدِّيهِ الْمَنْعَ إلَى نَفْسِ التَّزَوُّجِ بِلَا وَطْءٍ لِلِاحْتِيَاطِ فَقَطْ ؛ لِأَنَّ بِهِ يَقَعُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْفِرَاشَيْنِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ بِمَنْزِلَةِ الْجَمْعِ بِوَطْءٍ ، وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ عِنْدَهُ تَزَوُّجُ الْأُخْتِ فِي عِدَّةِ الْأُخْتِ وَالْخَامِسَةِ فِي عِدَّةِ الْأَرْبَعِ

قَالَ ( وَإِذَا ارْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ عَنْ الْإِسْلَامِ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِغَيْرِ طَلَاقٍ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : إنْ كَانَتْ الرِّدَّةُ مِنْ الزَّوْجِ فَهِيَ فُرْقَةٌ بِطَلَاقٍ ، هُوَ يَعْتَبِرُهُ بِالْإِبَاءِ وَالْجَامِعُ مَا بَيَّنَّاهُ ، وَأَبُو يُوسُفَ مَرَّ عَلَى مَا أَصَّلْنَا لَهُ فِي الْإِبَاءِ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا .
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الرِّدَّةَ مُنَافِيَةٌ لِلنِّكَاحِ لِكَوْنِهَا مُنَافِيَةً لِلْعِصْمَةِ وَالطَّلَاقُ رَافِعٌ فَتَعَذَّرَ أَنْ تُجْعَلَ طَلَاقًا ، بِخِلَافِ الْإِبَاءِ ؛ لِأَنَّهُ يَفُوتُ الْإِمْسَاكُ بِالْمَعْرُوفِ فَيَجِبُ التَّسْرِيحُ بِالْإِحْسَانِ عَلَى مَا مَرَّ ، وَلِهَذَا تَتَوَقَّفُ الْفُرْقَةُ بِالْإِبَاءِ عَلَى الْقَضَاءِ وَلَا تَتَوَقَّفُ بِالرِّدَّةِ ( ثُمَّ إنْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الْمُرْتَدُّ فَلَهَا كُلُّ الْمَهْرِ إنْ دَخَلَ بِهَا وَنِصْفُ الْمَهْرِ إنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْمُرْتَدَّةُ فَلَهَا كُلُّ الْمَهْرِ إنْ دَخَلَ بِهَا ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَلَا مَهْرَ لَهَا وَلَا نَفَقَةَ ) ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ مِنْ قِبَلِهَا .
.

( قَوْلُهُ وَإِذَا ارْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ عَنْ الْإِسْلَامِ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ ) فِي الْحَالِ ( بِغَيْرِ طَلَاقٍ ) قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي أُخْرَى قَبْلَ الدُّخُولِ هُوَ كَذَلِكَ ، وَأَمَّا بَعْدَهُ فَيُتَوَقَّفُ إلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَإِنْ جَمَعَهُمَا الْإِسْلَامُ قَبْلَ انْقِضَائِهَا يَسْتَمِرُّ النِّكَاحُ وَإِلَّا تَبَيَّنَ الْفِرَاقُ مِنْ وَقْتِ الرِّدَّةِ .
قُلْنَا : هَذِهِ الْفُرْقَةُ لِلتَّنَافِي فَإِنَّ الرِّدَّةَ مُنَافِيَةٌ لِلْعِصْمَةِ مُوجِبَةٌ لِلْعُقُوبَةِ ، وَالْمُنَافِي لَا يَحْتَمِلُ التَّرَاخِي ، بِخِلَافِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُنَافٍ لِلْعِصْمَةِ ، هَذَا جَوَابُ ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ .
وَبَعْضُ مَشَايِخِ بَلْخٍ وَسَمَرْقَنْدَ أَفْتَوْا فِي رِدَّتِهَا بِعَدَمِ الْفُرْقَةِ حَسْمًا لِاحْتِيَالِهَا عَلَى الْخَلَاصِ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ، وَعَامَّةُ مَشَايِخِ بُخَارَى أَفْتَوْا بِالْفُرْقَةِ وَجَبْرِهَا عَلَى الْإِسْلَامِ وَعَلَى النِّكَاحِ مَعَ زَوْجِهَا الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ الْحَسْمَ بِذَلِكَ يَحْصُلُ ، وَلِكُلِّ قَاضٍ أَنْ يُجَدِّدَ النِّكَاحَ بَيْنَهُمَا بِمَهْرٍ يَسِيرٍ وَلَوْ بِدِينَارٍ رَضِيَتْ أَمْ لَا ، وَتُعَزَّرُ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ ، وَلَا تُسْتَرَقُّ الْمُعْتَدَّةُ مَا دَامَتْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَفِي رِوَايَةِ النَّوَادِرِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ تُسْتَرَقُّ ، وَهَذَا الْكَلَامُ فِي الْفُرْقَةِ .
وَأَمَّا كَوْنُهَا طَلَاقًا فَاتَّفَقَ الْإِمَامَانِ هُنَا عَلَى أَنَّهَا مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ وَالْمَرْأَةِ فَسْخٌ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ هِيَ فِي رِدَّةِ الزَّوْجِ طَلَاقٌ وَفِي رِدَّتِهَا فَسْخٌ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ فِي الْإِبَاءِ ، وَكَذَا أَبُو يُوسُفَ ، وَفَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَ الرِّدَّةِ وَالْإِبَاءِ .
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ اعْتِبَارُهُ بِالْإِبَاءِ ( وَالْجَامِعُ مَا بَيَّنَّاهُ ) وَهُوَ أَنَّ بِالْإِبَاءِ امْتَنَعَ عَنْ الْإِمْسَاكِ بِمَعْرُوفٍ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ فَيَنُوبُ الْقَاضِي مَنَابَهُ ، وَقِيلَ مَا بَيَّنَّاهُ مِمَّا حَاصِلُهُ أَنَّ سَبَبَ الْفُرْقَةِ فِعْلٌ مِنْ

الزَّوْجِ إبَاءً أَوْ رِدَّةً ( وَأَبُو يُوسُفَ مَرَّ عَلَى مَا أَصَّلْنَا لَهُ فِي الْإِبَاءِ ) وَهُوَ أَنَّهُ سَبَبٌ يَشْتَرِكَانِ فِيهِ ( وَأَبُو حَنِيفَةَ فَرَّقَ ) بِأَنَّ الرِّدَّةَ مُنَافِيَةٌ لِلنِّكَاحِ ؛ لِأَنَّهَا مُنَافِيَةٌ لِلْعِصْمَةِ لِبُطْلَانِ الْعِصْمَةِ عَنْ نَفْسِهِ وَأَمْلَاكِهِ ، وَمِنْهَا مِلْكُ النِّكَاحِ ، كَذَا قُرِّرَ .
وَالْحَقُّ أَنَّ مُنَافَاتِهَا لِعِصْمَةِ الْأَمْلَاكِ تَبَعٌ لِمُنَافَاتِهَا لِعِصْمَةِ النَّفْسِ ، إذْ بِتِلْكَ الْمُنَافَاةِ صَارَ فِي حُكْمِ الْمَيِّتِ ، وَالطَّلَاقُ لَا يُنَافِي النِّكَاحَ لِثُبُوتِهِ مَعَهُ حَتَّى لَا تَقَعَ الْبَيْنُونَةُ بِمُجَرَّدِهِ بَلْ بِأَمْرٍ زَائِدٍ عَلَيْهِ أَوْ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَلَزِمَ كَوْنَ الْوَاقِعِ بِالرِّدَّةِ غَيْرُ الطَّلَاقِ وَلَيْسَ إلَّا الْفَسْخُ ، بِخِلَافِ الْفُرْقَةِ بِالْإِبَاءِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ لِلْمُنَافَاةِ وَلِذَا بَقِيَ النِّكَاحُ مَا لَمْ يُفَرِّقْ الْقَاضِي ؛ لِأَنَّهَا فُرْقَةٌ بِسَبَبِ فَوَاتِ ثَمَرَاتِ النِّكَاحِ فَوَجَبَ رَفْعُهُ لِارْتِفَاعِ ثَمَرَاتِهِ اللَّاتِي مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ ، فَالْقَاضِي يَأْمُرُهُ بِالْإِمْسَاكِ بِمَعْرُوفٍ بِالْإِسْلَامِ أَوْ التَّسْرِيحِ بِإِحْسَانٍ ، فَإِذَا امْتَنَعَ نَابَ عَنْهُ .
وَفِي الشُّرُوحِ مِنْ تَقْرِيرِ هَذَا الْفَرْقِ أُمُورٌ لَا تَمَسُّ الْمَطْلُوبَ ، وَكَذَا قَوْلُهُ فِي الْهِدَايَةِ وَالطَّلَاقُ رَافِعٌ ؛ لِأَنَّ الرَّافِعَ يُجَامِعُ الْمُنَافِيَ بِالضَّرُورَةِ ، نَعَمْ هُوَ أَعَمُّ يَثْبُتُ مَعَ الْمُنَافِي وَمَعَ الطَّلَاقِ فَلَا يَقَعُ بِهِ فَرْقٌ وَلَا دَخْلَ لَهُ فِيهِ ( ثُمَّ إنْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الْمُرْتَدُّ فَلَهَا كُلُّ الْمَهْرِ إنْ دَخَلَ بِهَا ) وَنَفَقَةُ الْعِدَّةِ أَيْضًا ( وَنِصْفُهُ إنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْمُرْتَدَّةَ فَلَهَا كُلُّ الْمَهْرِ إنْ دَخَلَ بِهَا ) لَا نَفَقَةُ الْعِدَّةِ ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ مِنْ جِهَتِهَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا فَلَا مَهْرَ وَلَا نَفَقَةَ .

قَالَ ( وَإِذَا ارْتَدَّا مَعًا ثُمَّ أَسْلَمَا مَعًا فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا ) اسْتِحْسَانًا .
وَقَالَ زُفَرٌ : يَبْطُلُ ؛ لِأَنَّ رِدَّةَ أَحَدِهِمَا مُنَافِيَةٌ ، وَفِي رِدَّتِهِمَا رِدَّةُ أَحَدِهِمَا .
وَلَنَا مَا رُوِيَ أَنَّ بَنِي حَنِيفَةَ ارْتَدُّوا ثُمَّ أَسْلَمُوا ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ بِتَجْدِيدِ الْأَنْكِحَةِ ، وَالِارْتِدَادُ مِنْهُمْ وَاقِعٌ مَعًا لِجَهَالَةِ التَّارِيخِ .
وَلَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الِارْتِدَادِ مَعًا فَسَدَ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا لِإِصْرَارِ الْآخَرِ عَلَى الرِّدَّةِ ؛ لِأَنَّهُ مُنَافٍ كَابْتِدَائِهَا .
.

.
( قَوْلُهُ وَإِذَا ارْتَدَّا مَعًا ثُمَّ أَسْلَمَا مَعًا فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا اسْتِحْسَانًا ) هَذَا إذَا لَمْ يَلْحَقْ أَحَدُهُمَا بِدَارِ الْحَرْبِ بَعْدَ ارْتِدَادِهِمَا ، فَإِنْ لَحِقَ فَسَدَ لِلتَّبَايُنِ .
وَالْقِيَاسُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ تَقَعُ الْفُرْقَةُ ؛ لِأَنَّ فِي رِدَّتِهِمَا رِدَّةَ أَحَدِهِمَا وَهِيَ مُنَافِيَةٌ لِلنِّكَاحِ ( وَلَنَا ) وَهُوَ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ ( أَنَّ بَنِي حَنِيفَةَ ارْتَدُّوا ثُمَّ أَسْلَمُوا وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ الصَّحَابَةُ بِتَجْدِيدِ الْأَنْكِحَةِ ) وَلَمَّا لَمْ يَأْمُرُوهُمْ بِذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُمْ اعْتَبَرُوا رِدَّتَهُمْ وَقَعَتْ مَعًا ، إذْ لَوْ حُمِلَتْ عَلَى التَّعَاقُبِ لَفَسَدَتْ أَنْكِحَتُهُمْ وَلَزِمَهُمْ التَّجْدِيدُ .
وَعَلِمْنَا مِنْ هَذَا أَنَّ الرِّدَّةَ إذَا كَانَتْ مَعًا لَا تُوجِبُ الْفُرْقَةَ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ عَدَمُ تَعَاقُبِ كُلِّ زَوْجَيْنِ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ أَمَّا جَمِيعُهُمْ فَلَا ؛ لِأَنَّ الرِّجَالَ جَازَ أَنْ يَتَعَاقَبُوا وَلَا تَفْسُدَ أَنْكِحَتُهُمْ إذَا كَانَ كُلُّ رَجُلٍ ارْتَدَّ مَعَ زَوْجَتِهِ ، فَحَكَمَ الصَّحَابَةُ بِعَدَمِ التَّجْدِيدِ لِحُكْمِهِمْ بِذَلِكَ ظَاهِرًا لَا حَمْلًا عَلَيْهِ لِلْجَهْلِ بِالْحَالِ كَالْغَرْقَى وَالْحَرْقَى .
وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ قَيِّمَ الْبَيْتِ إذَا أَرَادَ أَمْرًا تَكُونُ قَرِينَتُهُ فِيهِ قَرِينَتَهُ .
هَذَا وَالْمَذْكُورُ فِي الْحُكْمِ بِارْتِدَادِ بَنِي حَنِيفَةَ فِي الْمَبْسُوطِ مَنْعُهُمَا الزَّكَاةَ ، وَهَذَا يَتَوَقَّفُ عَلَى نَقْلِ أَنَّ مَنْعَهُمْ كَانَ لِجَحْدِ افْتِرَاضِهَا وَلَمْ يُنْقَلْ وَلَا هُوَ لَازِمٌ .
وَقِتَالُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إيَّاهُمْ لَا يَسْتَلْزِمُهُ لِجَوَازِ قِتَالِهِمْ إذَا أَجْمَعُوا عَلَى مَنْعِهِمْ حَقًّا شَرْعِيًّا وَعَطَّلُوهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَدْ يُسْتَدَلُّ لِلِاسْتِحْسَانِ بِالْمَعْنَى وَهُوَ عَدَمُ جِهَةِ الْمُنَافَاةِ ، وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ جِهَةَ الْمُنَافَاةِ بِرِدَّةِ أَحَدِهِمَا عَدَمُ انْتِظَامِ الْمَصَالِحِ بَيْنَهُمَا ، وَالْمُوَافَقَةُ عَلَى الِارْتِدَادِ ظَاهِرٌ فِي انْتِظَامِهَا بَيْنَهُمَا إلَى أَنْ يَمُوتَا

بِقَتْلٍ أَوْ غَيْرِهِ .
وَالْأَوْجَهُ الِاسْتِدْلَال بِوُقُوعِ رِدَّةِ الْعَرَبِ وَقِتَالِهِمْ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ بَنِي حَنِيفَةَ وَمَانِعِي الزَّكَاةِ قَطْعِيٌّ ثُمَّ لَمْ يُؤْمَرُوا بِتَجْدِيدِ الْأَنْكِحَةِ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَا ( قَوْلُهُ وَلَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ ارْتِدَادِهِمَا مَعًا فُسِخَ النِّكَاحُ ) ؛ لِأَنَّ رِدَّةَ الْآخَرِ مُنَافِيَةٌ النِّكَاحَ فَصَارَ بَقَاؤُهَا كَإِنْشَائِهَا الْآنَ حَالَ إسْلَامِ الْآخَرِ حَتَّى إنْ كَانَ الَّذِي عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ هُوَ الزَّوْجُ فَلَا شَيْءَ لَهَا إنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الَّتِي أَسْلَمَتْ ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ ، وَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا كُلُّ الْمَهْرِ فِي الْوَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ يَتَقَرَّرُ بِالدُّخُولِ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ وَالدُّيُونُ لَا تَسْقُطُ بِالرِّدَّةِ .

[ فُرُوعٌ ] الْأَوَّلُ نَصْرَانِيَّةٌ تَحْتَ مُسْلِمٍ تَمَجَّسَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ .
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الزَّوْجَ قَدْ ارْتَدَّ وَالْمَجُوسِيَّةُ لَا تَحِلُّ لِلْمُسْلِمِ فَإِحْدَاثُهَا مَا تَحْرُمُ بِهِ كَالرِّدَّةِ فَقَدْ ارْتَدَّا مَعًا فَلَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ .
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الزَّوْجَ لَا يُقَرُّ عَلَى ذَلِكَ بَلْ يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْمَرْأَةُ تُقَرُّ فَصَارَ كَرِدَّةِ الزَّوْجِ وَحْدَهُ ، وَهَذَا ؛ لِمَا عُرِفَ أَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ فَالِانْتِقَالُ مِنْ كُفْرٍ إلَى كُفْرٍ لَا يُجْعَلُ كَإِنْشَائِهِ فَصَارَ كَمَا لَوْ تَهَوَّدَا فَإِنَّ الْفُرْقَةَ تَقَعُ فِيهِ بِالِاتِّفَاقِ .
وَمُحَمَّدٌ يُفَرِّقُ بِأَنَّ إنْشَاءَ الْمَجُوسِيَّةِ لَا تَحِلُّ لِلْمُسْلِمِ فَإِحْدَاثُهَا كَالِارْتِدَادِ .
بِخِلَافِ الْيَهُودِيَّةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ تَمَجَّسَتْ وَحْدَهَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ ، وَلَوْ تَهَوَّدَتْ لَا تَقَعُ فَافْتَرَقَا .
الثَّانِي يَجُوزُ نِكَاحُ أَهْلِ مِلَلِ الْكُفْرِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا فَيَتَزَوَّجُ الْيَهُودِيُّ مَجُوسِيَّةً وَنَصْرَانِيَّةً ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ حَيْثُ الْكُفْرُ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ نِحَلُهُمْ كَأَهْلِ الْمَذَاهِبِ ، ثُمَّ الْوَلَدُ عَلَى دِينِ الْكِتَابِيِّ مِنْهُمْ .
الثَّالِثُ إذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ وَتَحْتَهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعٍ أَوْ أُخْتَانِ أَوْ أُمٌّ وَبِنْتُهَا وَأَسْلَمْنَ مَعَهُ وَهُنَّ كِتَابِيَّاتٌ ؛ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ إنْ كَانَ تَزَوَّجَهُنَّ فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ فُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُنَّ أَوْ فِي عُقَدٍ فَنِكَاحُ مَنْ يَحِلُّ سَبْقُهُ جَائِزٌ وَنِكَاحُ مَنْ تَأَخَّرَ فَوَقَعَ بِهِ الْجَمْعُ أَوْ الزِّيَادَةُ عَلَى الْأَرْبَعِ بَاطِلٌ .

بَابُ الْقَسْمِ وَإِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ امْرَأَتَانِ حُرَّتَانِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْدِلَ بَيْنَهُمَا فِي الْقَسْمِ بِكْرَيْنِ كَانَتَا أَوْ ثَيِّبَيْنِ أَوْ إحْدَاهُمَا بِكْرًا وَالْأُخْرَى ثَيِّبًا ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ وَمَالَ إلَى إحْدَاهُمَا فِي الْقَسْمِ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ } وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَعْدِلُ فِي الْقَسْمِ بَيْنَ نِسَائِهِ .
وَكَانَ يَقُولُ : اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلَا تُؤَاخِذْنِي فِيمَا لَا أَمْلِكُ : يَعْنِي زِيَادَةَ الْمَحَبَّةِ } وَلَا فَصْلَ فِيمَا رَوَيْنَا .
وَالْقَدِيمَةُ وَالْجَدِيدَةُ سَوَاءٌ لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا وَلِأَنَّ الْقَسْمَ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ وَلَا تَفَاوُتَ بَيْنَهُنَّ فِي ذَلِكَ ، وَالِاخْتِيَارُ فِي مِقْدَارِ الدَّوْرِ إلَى الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ هُوَ التَّسْوِيَةُ دُونَ طَرِيقِهِ .

( بَابُ الْقَسْمِ ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ النِّكَاحِ وَأَقْسَامِهِ بِاعْتِبَارِ مَنْ قَامَ بِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْأَحْرَارِ وَالْأَرِقَّاءِ وَالْكُفَّارِ وَحُكْمِهِ اللَّازِمِ لَهُ مِنْ الْمَهْرِ شَرَعَ فِي حُكْمِهِ الَّذِي لَا يَلْزَمُ وُجُودُهُ وَهُوَ الْقَسْمُ ، وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَثْبُتُ عَلَى تَقْدِيرِ تَعَدُّدِ الْمَنْكُوحَاتِ وَنَفْسُ النِّكَاحِ لَا يَسْتَلْزِمُهُ وَلَا هُوَ غَالِبٌ فِيهِ .
وَالْقَسْمُ بِفَتْحِ الْقَافِ مَصْدَرُ قَسَمَ ، وَالْمُرَادُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمَنْكُوحَاتِ وَيُسَمَّى الْعَدْلُ بَيْنَهُنَّ أَيْضًا ، وَحَقِيقَتُهُ مُطْلَقًا مُمْتَنِعَةٌ كَمَا أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَيْثُ قَالَ { وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ } وَقَالَ تَعَالَى { فَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لَا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } بَعْدَ إحْلَالِ الْأَرْبَعِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ } فَاسْتَفَدْنَا أَنَّ حِلَّ الْأَرْبَعِ مُقَيَّدٌ بِعَدَمِ خَوْفِ عَدَمِ الْعَدْلِ وَثُبُوتَ الْمَنْعِ عَنْ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ عِنْدَ خَوْفِهِ ، فَعُلِمَ إيجَابُهُ عِنْدَ تَعَدُّدِهِنَّ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا } فَلَا يَخُصُّ حَالَةَ تَعَدُّدِهِنَّ ؛ وَلِأَنَّهُنَّ رَعِيَّةُ الرَّجُلِ وَكُلُّ رَاعٍ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَإِنَّهُ فِي أَمْرٍ مُبْهَمٍ يَحْتَاجُ إلَى الْبَيَانِ ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَهُ ، وَصَرَّحَ بِأَنَّهُ مُطْلَقًا لَا يُسْتَطَاعُ ، فَعُلِمَ أَنَّ الْوَاجِبَ مِنْهُ شَيْءٌ مُعَيَّنٌ ، وَكَذَا السُّنَّةُ جَاءَتْ مُجْمَلَةً فِيهِ .
رَوَى أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ فَيَعْدِلُ وَيَقُولُ : اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ : يَعْنِي الْقَلْبَ } أَيْ زِيَادَةَ الْمَحَبَّةِ ، فَظَاهِرُهُ أَنَّ مَا عَدَاهُ مِمَّا هُوَ

دَاخِلٌ تَحْتَ مِلْكِهِ وَقُدْرَتِهِ تَجِبُ التَّسْوِيَةُ فِيهِ ، وَمِنْهُ عَدَدُ الْوَطَآتِ وَالْقُبُلَاتِ وَالتَّسْوِيَةُ فِيهِمَا غَيْرُ لَازِمَةٍ إجْمَاعًا ، وَكَذَا مَا رَوَى أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ وَالْإِمَامُ أَحْمَدَ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ فَمَالَ إلَى إحْدَاهُمَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ } أَيْ مَفْلُوجٌ ، وَلَفْظُ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ { فَمَالَ إلَى إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى } فَلَمْ يُبِنْ فِي مَاذَا ، وَأَمَّا مَا فِي الْكِتَابِ مِنْ زِيَادَةِ قَوْلِهِ فِي الْقَسْمِ فَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِهَا لَكِنْ لَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي أَنَّ الْعَدْلَ الْوَاجِبَ فِي الْبَيْتُوتَةِ وَالتَّأْنِيسِ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنْ يَضْبِطَ زَمَانَ النَّهَارِ فَيُقَدِّرُ مَا عَاشَرَ فِيهِ إحْدَاهُمَا فَيُعَاشِرُ الْأُخْرَى بِقَدْرِهِ بَلْ ذَلِكَ فِي الْبَيْتُوتَةِ ، وَأَمَّا النَّهَارُ فَفِي الْجُمْلَةِ ( قَوْلُهُ وَإِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ امْرَأَتَانِ حُرَّتَانِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْدِلَ بَيْنَهُمَا ) التَّقْيِيدُ بِحُرَّتَيْنِ لِإِخْرَاجِ مَا إذَا كَانَتْ إحْدَاهُمَا أَمَةً وَالْأُخْرَى حُرَّةً لَا لِإِخْرَاجِ الْأَمَتَيْنِ .
ثُمَّ ظَاهِرُ الْعِبَارَةِ لَيْسَ بِجَيِّدٍ فَإِنَّهُ يُعْطِي أَنَّهُمَا إذَا لَمْ يَكُونَا حُرَّتَيْنِ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْدِلَ بَيْنَهُمَا وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ، لَكِنَّ مَعْنَى الْعَدْلِ هُنَا التَّسْوِيَةُ لَا ضِدَّ الْجَوْرِ ، فَإِذَا كَانَتَا حُرَّتَيْنِ أَوْ أَمَتَيْنِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ كَانَتَا حُرَّةً وَأَمَةً فَلَا يَعْدِلُ بَيْنَهُمَا : أَيْ لَا يُسَوِّي بَلْ يَعْدِلُ بِمَعْنَى لَا يَجُورُ ، وَهُوَ أَنْ يَقْسِمَ لِلْحُرَّةِ ضِعْفَ الْأَمَةِ فَالْإِيهَامُ نَشَأَ مِنْ اشْتِرَاكِ اللَّفْظِ .
( قَوْلُهُ : وَالْقَدِيمَةُ وَالْجَدِيدَةُ سَوَاءٌ لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا ) وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ لَا فَصْلَ فِيمَا ذَكَرْنَا فَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ لِمَا ذَكَرْنَا : يَعْنِي مِنْ قَوْلِهِ وَلَا فَصْلَ إلَخْ : يَعْنِي أَنَّ مَا

رَوَيْنَاهُ يُوجِبُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْجَدِيدَةِ وَالْقَدِيمَةِ ، وَكَذَلِكَ مَا تَلَوْنَا مِنْ الْآيَةِ فَنَحْتَجُّ بِهِ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُقِيمُ عِنْدَ الْبِكْرِ الْجَدِيدَةِ أَوَّلَ مَا يَدْخُلُ بِهَا سَبْعًا يَخُصُّهَا بِهَا ثُمَّ يَدُورُ وَعِنْدَ الثَّيِّبِ الْجَدِيدَةِ ثَلَاثًا إلَّا إنْ طَلَبَتْ زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يُبْطِلُ حَقَّهَا وَيَحْتَسِبُ عَلَيْهَا بِتِلْكَ الْمُدَّةِ ، لِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { لِلْبِكْرِ سَبْعٌ وَلِلثَّيِّبِ ثَلَاثٌ ثُمَّ يَعُودُ إلَى أَهْلِهِ } أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْهُ .
وَرَوَى الْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ لِلْبِكْرِ سَبْعًا وَلِلثَّيِّبِ ثَلَاثًا } وَعَنْهُ قَالَ : { مِنْ السُّنَّةِ إذَا تَزَوَّجَ الْبِكْرَ عَلَى الثَّيِّبِ أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا ثُمَّ قَسَمَ ، وَإِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ قَسَمَ } رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي الصَّحِيحَيْنِ .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ { لَمَّا تَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ عَلَيْهَا أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ : إنَّهُ لَيْسَ بِكَ عَلَى أَهْلِك هَوَانٌ ، إنْ شِئْتِ سَبَّعْتُ لَكِ وَإِنْ سَبَّعْتُ لَكِ سَبَّعْتُ لِنِسَائِي } وَهَذَا دَلِيلُ اسْتِثْنَاءِ الشَّافِعِيِّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ يُسْقِطُ حَقَّهَا وَيَحْتَسِبُ عَلَيْهَا بِالْمُدَّةِ إنْ طَلَبَتْ زِيَادَةً عَلَى الثَّلَاثِ وَلِأَنَّهَا لَمْ تَأْلَفْ صُحْبَتَهُ ، وَقَدْ يَحْصُلُ لَهَا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ نَفْرَةٌ فَكَانَ فِي الزِّيَادَةِ إزَالَتُهَا .
وَلَنَا مَا رَوَيْنَا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ وَمَا تَلَوْنَا وَمَا ذَكَرَ مِنْ الْمَعْنَى وَهُوَ قَوْلُهُ ( وَلِأَنَّ الْقَسْمَ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ وَلَا تَفَاوُتَ بَيْنَهُنَّ فِي ذَلِكَ ) فَلَا تَفَاوُتَ بَيْنَهُنَّ فِي الْقَسْمِ .
وَأَمَّا الْمَعْنَى الَّذِي عَلَّلَ بِهِ فَمُعَارَضٌ بِأَنَّ تَخْصِيصَ الْقَدِيمَةِ بِهِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْوَحْشَةَ

فِيهَا مُتَحَقِّقَةٌ وَفِي الْجَدِيدَةِ مُتَوَهَّمَةٌ ، وَإِزَالَةُ تِلْكَ النَّفْرَةِ تُمْكِنُ بِأَنْ يُقِيمَ عِنْدَهَا السَّبْعَ ثُمَّ يُسَبِّعَ لِلْبَاقِيَاتِ وَلَمْ تَنْحَصِرْ تَخْصِيصُهَا .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَرْوِيَّ إنْ لَمْ يَكُنْ قَطْعِيَّ الدَّلَالَةِ فِي التَّخْصِيصِ وَجَبَ تَقْدِيمُ الْآيَةِ ، وَالْحَدِيثُ الْمُطْلَقُ لِوُجُوبِ التَّسْوِيَةِ وَإِنْ كَانَ قَطْعِيًّا وَجَبَ اعْتِبَارُ التَّخْصِيصِ بِالزِّيَادَةِ فَإِنَّهُ لَا يُعَارِضُ مَا رَوَيْنَا وَتَلَوْنَا ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَاهُمَا الْعَدْلُ ، وَإِذَا ثَبَتَ التَّخْصِيصُ شَرْعًا كَانَ هُوَ الْعَدْلُ فَإِنَّا نَرَاهُ لَمْ يَنْحَصِرْ فِي التَّسْوِيَةِ بَلْ يَتَحَقَّقُ مَعَ عَدَمِهَا لِعَارِضٍ وَهُوَ رِقُّ إحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ حَتَّى كَانَ الْعَدْلُ أَنْ يَكُونَ لِإِحْدَاهُمَا يَوْمًا وَلِلْأُخْرَى يَوْمَيْنِ ، فَلْيَكُنْ أَيْضًا بِتَخْصِيصِ الْجَدِيدَةِ الدَّهِشَةِ بِالْإِقَامَةِ سَبْعًا إنْ كَانَتْ بِكْرًا وَثَلَاثًا إنْ كَانَتْ ثَيِّبًا لِتَأْلَفَ بِالْإِقَامَةِ وَتَطْمَئِنَّ .
هَذَا وَكَمَا لَا فَرْقَ بَيْنَ الْجَدِيدَةِ وَالْقَدِيمَةِ كَذَلِكَ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ وَالْمُسْلِمَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ الْحُرَّتَيْنِ وَالْمَجْنُونَةِ الَّتِي لَا يُخَافُ مِنْهَا وَالْمَرِيضَةِ وَالصَّحِيحَةِ وَالرَّتْقَاءِ وَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَالصَّغِيرَةِ الَّتِي يُمْكِنُ وَطْؤُهَا وَالْمُحَرَّمَةِ وَالْمُظَاهَرِ مِنْهَا وَمُقَابِلَاتِهِنَّ ، وَكَذَلِكَ يَسْتَوِي وُجُوبُهُ عَلَى الْعِنِّينِ وَالْمَجْبُوبِ وَالْمَرِيضِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي دَخَلَ بِامْرَأَتِهِ وَمُقَابِلَيْهِمْ .
قَالَ مَالِكٌ : وَيَدُورُ وَلِيُّ الصَّبِيِّ بِهِ عَلَى نِسَائِهِ ؛ لِأَنَّ الْقَسْمَ حَقُّ الْعِبَادِ وَهُمْ مِنْ أَهْلِهِ ، وَصَحَّ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا مَرِضَ اسْتَأْذَنَ نِسَاءَهُ أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ فَأَذِنَّ لَهُ } ( قَوْلُهُ وَالِاخْتِيَارُ فِي مِقْدَارِ الدَّوْرِ إلَى الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ هُوَ التَّسْوِيَةُ دُونَ طَرِيقِهِ ) إنْ شَاءَ يَوْمًا يَوْمًا وَإِنْ شَاءَ يَوْمَيْنِ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا أَرْبَعًا .

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْإِطْلَاقَ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ عَلَى صِرَافَتِهِ ، فَإِنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَدُورَ سَنَةً سَنَةً مَا يُظَنُّ إطْلَاقُ ذَلِكَ لَهُ ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُطْلَقَ لَهُ مِقْدَارُ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ ، وَإِذَا كَانَ وُجُوبُهُ لِلتَّأْنِيسِ وَدَفْعِ الْوَحْشَةِ وَجَبَ أَنْ تُعْتَبَرَ الْمُدَّةُ الْقَرِيبَةُ ، وَأَظُنُّ أَكْثَرَ مِنْ جُمُعَةٍ مُضَارَّةً إلَّا أَنْ تَرْضَيَا بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَالتَّسْوِيَةُ الْمُسْتَحَقَّةُ فِي الْبَيْتُوتَةِ لَا فِي الْمُجَامَعَةِ ؛ لِأَنَّهَا تُبْتَنَى عَلَى النَّشَاطِ .
.

( قَوْلُهُ وَالتَّسْوِيَةُ الْمُسْتَحَقَّةُ فِي الْبَيْتُوتَةِ لَا فِي الْمُجَامَعَةِ ؛ لِأَنَّهَا تُبْتَنَى عَلَى النَّشَاطِ ) وَلَا خِلَافَ فِيهِ .
قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : إنْ تَرَكَهُ لِعَدَمِ الدَّاعِيَةِ وَالِانْتِشَارِ فَهُوَ عُذْرٌ ، وَإِنْ تَرَكَهُ مَعَ الدَّاعِيَةِ إلَيْهِ لَكِنَّ دَاعِيَتَهُ إلَى الضَّرَّةِ أَقْوَى فَهُوَ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ قُدْرَتِهِ ، فَإِنْ أَدَّى الْوَاجِبَ مِنْهُ عَلَيْهِ لَمْ يَبْقَ لَهَا حَقٌّ وَلَمْ يَلْزَمْهُ التَّسْوِيَةُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ تَرْكَ جِمَاعِهَا مُطْلَقًا لَا يَحِلُّ لَهُ ، صَرَّحَ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ جِمَاعَهَا أَحْيَانًا وَاجِبٌ دِيَانَةً لَكِنَّهُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْقَضَاءِ وَالْإِلْزَامِ إلَّا الْوَطْأَةُ الْأُولَى وَلَمْ يُقَدِّرُوا فِيهِ مُدَّةً ، وَيَجِبُ أَنْ لَا يَبْلُغَ بِهِ مُدَّةَ الْإِيلَاءِ إلَّا بِرِضَاهَا وَطِيبِ نَفْسِهَا بِهِ .
هَذَا وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَهُنَّ فِي جَمِيعِ الِاسْتِمْتَاعَاتِ مِنْ الْوَطْءِ وَالْقُبْلَةِ ، وَكَذَا بَيْنَ الْجَوَارِي وَأُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ لِيُحْصِنَهُنَّ عَنْ الِاشْتِهَاءِ لِلزِّنَا وَالْمَيْلِ إلَى الْفَاحِشَةِ ، وَلَا يَجِبُ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ { فَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لَا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } فَأَفَادَ أَنَّ الْعَدْلَ بَيْنَهُنَّ لَيْسَ وَاجِبًا .
هَذَا فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ فَتَشَاغَلَ عَنْهَا بِالْعِبَادَةِ أَوْ السَّرَارِي اخْتَارَ الطَّحَاوِيُّ رِوَايَةَ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ لَهَا يَوْمًا وَلَيْلَةً مِنْ كُلِّ أَرْبَعِ لَيَالٍ وَبَاقِيهَا لَهُ ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يُسْقِطَ حَقَّهَا فِي الثَّلَاثِ بِتَزَوُّجِ ثَلَاثِ حَرَائِرَ ، فَإِنْ كَانَتْ الزَّوْجَةُ أَمَةً فَلَهَا يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ فِي كُلِّ سَبْعٍ ، وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنْ لَا يَتَعَيَّنَ مِقْدَارٌ ؛ لِأَنَّ الْقَسْمَ مَعْنًى نِسْبِيٌّ وَإِيجَابُهُ طَلَبُ إيجَادِهِ وَهُوَ يَتَوَقَّفُ عَلَى وُجُودِ الْمُنْتَسِبِينَ فَلَا يُطْلَبُ قَبْلَ تَصَوُّرِهِ بَلْ يُؤْمَرُ أَنْ يَبِيتَ مَعَهَا وَيَصْحَبَهَا أَحْيَانًا مِنْ غَيْرِ تَوْقِيتٍ ، وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ الْحَدِيثُ

أَنَّ التَّسْوِيَةَ فِي الْمُكْثِ أَيْضًا بَعْدَ الْبَيْتُوتَةِ ، فَفِي السُّنَنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُفَضِّلُ بَعْضًا عَلَى بَعْضٍ فِي الْقَسْمِ فِي مُكْثِهِ عِنْدَنَا ، وَكَانَ قَلَّ يَوْمٌ إلَّا وَهُوَ يَطُوفُ عَلَيْنَا جَمِيعًا فَيَدْنُو مِنْ كُلِّ امْرَأَةٍ مِنَّا مِنْ غَيْرِ مَسِيسٍ حَتَّى يَبْلُغَ إلَى الَّتِي هُوَ فِي يَوْمِهَا فَيَبِيتُ عِنْدَهَا } وَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ النَّوْبَةَ لَا تَمْنَعُ أَنْ يَذْهَبَ إلَى الْأُخْرَى لِيَنْظُرَ فِي حَاجَتِهَا وَيُمَهِّدَ أُمُورَهَا .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ { أَنَّهُنَّ كُنَّ يَجْتَمِعْنَ فِي بَيْتِ الَّتِي يَأْتِيهَا } وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ هَذَا جَائِزٌ بِرِضَا صَاحِبَةِ النَّوْبَةِ إذْ قَدْ تَتَضَيَّقُ لِذَلِكَ وَتَنْحَصِرُ لَهُ .
وَلَوْ تَرَكَ الْقَسْمَ بِأَنْ أَقَامَ عِنْدَ إحْدَاهُنَّ شَهْرًا مَثَلًا أَمَرَهُ الْقَاضِي بِأَنْ يَسْتَأْنِفَ الْعَدْلَ لَا بِالْقَضَاءِ ، فَإِنْ جَارَ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْجَعَهُ عُقُوبَةً ، كَذَا قَالُوا .
وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ أَنْ يُؤْمَرَ بِالْقَضَاءِ إذَا طُلِبَتْ ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ آدَمِيٍّ وَلَهُ قُدْرَةٌ عَلَى إيفَائِهِ

وَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا حُرَّةً وَالْأُخْرَى أَمَةً فَلِلْحُرَّةِ الثُّلُثَانِ مِنْ الْقَسْمِ وَلِلْأَمَةِ الثُّلُثُ ) بِذَلِكَ وَرَدَ الْأَثَرُ ، وَلِأَنَّ حِلَّ الْأَمَةِ أَنْقَصُ مِنْ حِلِّ الْحُرَّةِ فَلَا بُدَّ مِنْ إظْهَارِ النُّقْصَانِ فِي الْحُقُوقِ .
وَالْمُكَاتَبَةُ وَالْمُدَبَّرَةُ وَأُمُّ الْوَلَدِ بِمَنْزِلَةِ الْأَمَةِ ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ فِيهِنَّ قَائِمٌ .
.
.
( قَوْلُهُ وَإِنْ فَلِلْحُرَّةِ الثُّلُثَانِ مِنْ الْقَسْمِ وَلِلْأَمَةِ الثُّلُثُ بِذَلِكَ وَرَدَ الْأَثَرُ ) قَضَى بِهِ أَبُو بَكْرٍ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَبِالْقَضَاءِ عَنْ عَلِيٍّ احْتَجَّ الْإِمَامُ أَحْمَدَ ، وَتَضْعِيفُ ابْنِ حَزْمٍ إيَّاهُ بِالْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو وَبِابْنِ أَبِي لَيْلَى لَيْسَ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُمَا ثَبْتَانِ حَافِظَانِ ، وَإِذَا كَانَتْ الْأَمَةُ مُدَبَّرَةَ رَجُلٍ أَوْ مُكَاتَبَتَهُ أَوْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ فَهِيَ كَالْأَمَةِ لِقِيَامِ الرِّقِّ فِيهِنَّ

قَالَ ( وَلَا حَقَّ لَهُنَّ فِي الْقَسْمِ حَالَةَ السَّفَرِ فَيُسَافِرُ الزَّوْجُ بِمَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَقْرَعَ بَيْنَهُنَّ فَيُسَافِرُ بِمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهَا ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : الْقُرْعَةُ مُسْتَحَقَّةٌ ، لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ إذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ } إلَّا أَنَّا نَقُولُ : إنَّ الْقُرْعَةَ لِتَطْيِيبِ قُلُوبِهِنَّ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الِاسْتِحْبَابِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْمَرْأَةِ عِنْدَ مُسَافَرَةِ الزَّوْجِ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ لَا يَسْتَصْحِبَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ فَكَذَا لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ وَلَا يُحْتَسَبُ عَلَيْهِ بِتِلْكَ الْمُدَّةِ .

( قَوْلُهُ وَلَا حَقَّ لَهُنَّ فِي الْقَسْمِ حَالَةَ السَّفَرِ فَيُسَافِرُ الزَّوْجُ بِمَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَقْرَعَ بَيْنَهُنَّ فَيُسَافِرُ بِمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : الْقُرْعَةُ مُسْتَحَقَّةٌ لِمَا رَوَى ) الْجَمَاعَةُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَمَنْ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ } مُخْتَصَرًا وَمُطَوَّلًا بِحَدِيثِ الْإِفْكِ .
قُلْنَا ذَلِكَ كَانَ اسْتِحْبَابًا لِتَطْيِيبِ قُلُوبِهِنَّ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْفِعْلِ لَا يَقْتَضِي الْوُجُوبَ فَكَيْفَ وَهُوَ مَحْفُوفٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الْقَسْمُ وَاجِبًا عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَعَالَى { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ } وَمِمَّنْ أَرْجَأَ سَوْدَةَ وَجُوَيْرِيَةَ وَأُمَّ حَبِيبَةَ وَصَفِيَّةَ وَمَيْمُونَةَ ، ذَكَرَهُ الْحَافِظُ عَبْدُ الْعَظِيمِ الْمُنْذِرِيُّ ، وَمِمَّنْ آوَى عَائِشَةَ وَالْبَاقِيَاتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ ؛ وَلِأَنَّهُ قَدْ يَثِقُ بِإِحْدَاهُمَا فِي السَّفَرِ وَبِالْأُخْرَى فِي الْحَضَرِ ، وَالْقَرَارُ فِي الْمَنْزِلِ لِحِفْظِ الْأَمْتِعَةِ أَوْ لِخَوْفِ الْفِتْنَةِ ، أَوْ يَمْنَعُ مِنْ سَفَرِ إحْدَاهُمَا كَثْرَةُ سِمَنِهَا فَتَعْيِينُ مَنْ يَخَافُ صُحْبَتَهَا فِي السَّفَرِ لِلسَّفَرِ بِخُرُوجِ قُرْعَتِهَا إلْزَامٌ لِلضَّرَرِ الشَّدِيدِ وَهُوَ مُنْدَفِعٌ بِالنَّافِي لِلْحَرَجِ .
وَأَمَّا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ : أَلَا يَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ لَا يَسْتَصْحِبَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ فَكَذَا لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَظَاهِرٌ فِيهِ مَنْعُ الْمُلَازَمَةِ ، إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ أَنَّ لَهُ أَنْ لَا يُسَافِرَ بِأَحَدٍ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَنْ يَخْتَصَّ وَاحِدَةً بِالسَّفَرِ بِهَا ؛ لِأَنَّ فِي تَرْكِ السَّفَرِ بِالْكُلِّ تَسْوِيَةٌ ، بِخِلَافِ تَخْصِيصِ إحْدَاهُنَّ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ اللَّازِمَ التَّسْوِيَةُ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا بَاتَ عِنْدَ وَاحِدَةٍ لَيْلَةً يَبِيتُ عِنْدَ الْأُخْرَى كَذَلِكَ لَا عَلَى مَعْنَى وُجُوبِ أَنْ

يَبِيتَ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا دَائِمًا ، فَإِنَّهُ لَوْ تَرَكَ الْمَبِيتَ عِنْدَ الْكُلِّ بَعْضَ اللَّيَالِي وَانْفَرَدَ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ .
.

( وَإِنْ رَضِيَتْ إحْدَى الزَّوْجَاتِ بِتَرْكِ قَسْمِهَا لِصَاحِبَتِهَا جَازَ ) ؛ لِأَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يُرَاجِعَهَا وَتَجْعَلَ يَوْمَ نَوْبَتِهَا لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا } ( وَلَهَا أَنْ تَرْجِعَ فِي ذَلِكَ ) ؛ لِأَنَّهَا أَسْقَطَتْ حَقًّا لَمْ يَجِبْ بَعْدُ فَلَا يَسْقُطُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
.

( قَوْلُهُ وَإِنْ رَضِيَتْ إحْدَى الزَّوْجَاتِ بِتَرْكِ قَسْمِهَا لِصَاحِبَتِهَا جَازَ ) هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ بِرِشْوَةٍ مِنْ الزَّوْجِ بِأَنْ زَادَهَا فِي مَهْرِهَا لِتَفْعَلَ أَوْ تَزَوَّجَهَا بِشَرْطِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْرَى فَيُقِيمَ عِنْدَهَا يَوْمَيْنِ وَعِنْدَ الْمُخَاطَبَةِ يَوْمًا فَإِنَّ الشَّرْطَ بَاطِلٌ ، وَلَا يَحِلُّ لَهَا الْمَالُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ ، وَأَمَّا إذَا دَفَعَتْ إلَيْهِ أَوْ حَطَّتْ عَنْهُ مَالًا لِيَزِيدَهَا فَظَاهِرٌ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ وَلَا يَحِلُّ لَهُمَا وَلَهَا أَنْ تَرْجِعَ فِي مَالِهَا ( قَوْلُهُ : لِأَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ ) بِفَتْحَتَيْنِ ( { سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرَاجِعَهَا } إلَخْ ) هَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ طَلَّقَهَا .
قَالَ مُحَمَّدٌ : بَلَغَنَا { عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِسَوْدَةِ بِنْتِ زَمْعَةَ اعْتَدِّي فَسَأَلَتْهُ بِوَجْهِ اللَّهِ أَنْ يُرَاجِعَهَا وَتَجْعَلَ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ لَأَنْ تُحْشَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ أَزْوَاجِهِ } وَاَلَّذِي وَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ لَا يَتَعَرَّضُ لَهُ ، بَلْ إنَّهَا جَعَلَتْ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَاَلَّذِي فِي الْمُسْتَدْرِكِ يُفِيدُ عَدَمَهُ ، وَهُوَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ { قَالَتْ سَوْدَةُ حِينَ أَسَنَّتْ وَفَرِقَتْ أَنْ يُفَارِقَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ يَوْمِي لِعَائِشَةَ ، فَقَبِلَ ذَلِكَ مِنْهَا } قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : فَفِيهَا وَفِي أَشْبَاهِهَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ } الْآيَةَ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ ، وَيُوَافِقُ مَا فِي الْكِتَابِ مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُرْوَةَ : { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَّقَ سَوْدَةَ ، فَلَمَّا خَرَجَ إلَى الصَّلَاةِ أَمْسَكَتْ بِثَوْبِهِ فَقَالَتْ : وَاَللَّهِ مَالِي إلَى الرِّجَالِ مِنْ حَاجَةٍ ، وَلَكِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُحْشَرَ فِي أَزْوَاجِكَ ، قَالَ : فَرَاجَعَهَا وَجَعَلَ يَوْمَهَا

لِعَائِشَةَ } ا هـ وَهُوَ مُرْسَلٌ .
وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ طَلَّقَهَا طَلْقَةً رَجْعِيَّةً فَإِنَّ الْفُرْقَةَ فِيهَا لَا تَقَعُ بِمُجَرَّدِ الطَّلَاقِ بَلْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ، فَمَعْنَى قَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : فَرِقَتْ أَنْ يُفَارِقَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : خَافَتْ أَنْ يَسْتَمِرَّ الْحَالُ إلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَتَقَعُ الْفُرْقَةُ فَيُفَارِقُهَا ، وَلَا يُنَافِيهِ بَلَاغُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فَإِنَّهُ إنَّمَا ذَكَرَ فِي الْكِنَايَاتِ اعْتَدِّي ، وَالْوَاقِعُ بِهَذِهِ الرَّجْعِيُّ لَا الْبَائِنُ .
وَفَرَّعَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهَا إذَا وَهَبَتْ يَوْمَهَا لَهُ فَلَهُ أَنْ يَجْعَلَهُ لِمَنْ شَاءَ مِنْ نِسَائِهِ ، وَإِذَا جَعَلَتْهُ لِضَرَّتِهَا الْمُعَيَّنَةِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْعَلَهُ لِغَيْرِهَا ؛ لِأَنَّ اللَّيْلَةَ حَقُّهَا فَإِذَا صَرَفَتْهُ لِوَاحِدَةٍ تَعَيَّنَ .
وَفَرَّعُوا إذَا كَانَتْ لَيْلَةُ الْوَاهِبَةِ تَلِي لَيْلَةَ الْمَوْهُوبَةِ قَسَمَ لَهَا لَيْلَتَيْنِ مُتَوَالِيَتَيْنِ ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَلِيهَا فَهَلْ لَهُ نَقْلُهَا فَيُوَالِي لَهَا لَيْلَتَيْنِ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ .
وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنْ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِرِضَا الَّتِي تَلِيهَا فِي النَّوْبَةِ ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ .
( قَوْلُهُ وَلَهَا أَنْ تَرْجِعَ ) قَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْحَنَابِلَةِ : لَيْسَ لَهَا الْمُطَالَبَةُ بِهِ فَإِنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْمُعَاوَضَةِ : يَعْنِي عَنْ الطَّلَاقِ ، وَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى صُلْحًا : يَعْنِي قَوْله تَعَالَى { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا } فَيَلْزَمُ كَمَا يَلْزَمُ مَا صُولِحَ عَلَيْهِ مِنْ الْحُقُوقِ ، وَلَوْ مُكِّنَتْ مِنْ طَلَبِ حَقِّهَا بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ فِيهِ تَأْخِيرُ الضَّرَرِ إلَى أَكْمَلِ حَالَتَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ صُلْحًا بَلْ مِنْ أَقْرَبِ أَسْبَابِ الْمُعَادَاةِ ، وَالشَّرِيعَةُ مُنَزَّهَةٌ عَنْ ذَلِكَ ا هـ .
وَهُوَ إنَّمَا يُفِيدُ عَدَمَ الْمُطَالَبَةِ بِمَا مَضَى فِيهِ وَبِهِ نَقُولُ ، إذْ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ

حُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنْ شَرْعِيَّةِ ذَلِكَ الِاصْطِلَاحِ عِنْدَ الْإِعْرَاضِ أَمَّا فِيمَا بَعْدَهُ فَلَا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ فَكَيْفَ يَسْقُطُ ؟ فَإِنْ قِيلَ : يَلْزَمُ ثُبُوتُ الضَّرَرِ وَالْمُعَادَاةِ ، قُلْنَا : لَمْ يُحَرَّمْ عَلَيْهِ طَرِيقُ الْخَلَاصِ وَقَدْ كَانَ يُرِيدُ طَلَاقَهَا لَوْلَا مَا صَالَحَتْهُ عَلَيْهِ ، فَإِذَا أَتْلَفَتْ مَا دَفَعَتْ بِهِ الْمَكْرُوهَ عَنْهَا فَلَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا كَانَ يُرِيدُ فِعْلَهُ وَيَحْصُلُ الْخَلَاصُ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .

[ فُرُوعٌ نَخْتِمُ بِهَا كِتَابَ النِّكَاحِ ] لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الضَّرَائِرِ إلَّا بِالرِّضَا ، وَيُكْرَهُ وَطْءُ إحْدَاهُمَا بِحَضْرَةِ الْأُخْرَى فَلَهَا أَنْ لَا تُجِيبَهُ إذَا طَلَبَ ، وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ أَكْلِ مَا يَتَأَذَّى مِنْ رَائِحَتِهِ ، وَمِنْ الْغَزْلِ ، وَعَلَى هَذَا لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ التَّزَيُّنِ بِمَا يَتَأَذَّى بِرِيحِهِ كَأَنْ يَتَأَذَّى بِرَائِحَةِ الْحِنَّاءِ الْمُخَضَّرِ وَنَحْوِهِ ، وَلَهُ ضَرْبُهَا بِتَرْكِ الزِّينَةِ إذَا كَانَ يُرِيدُهَا وَتَرْكِ الْإِجَابَةِ وَهِيَ طَاهِرَةٌ وَالصَّلَاةِ وَشُرُوطِهَا ، إلَّا أَنْ تَكُونَ ذِمِّيَّةً فَلَيْسَ لَهُ جَبْرُهَا عَلَى غُسْلِ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ عِنْدَنَا ، وَيَضْرِبُهَا عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ مَنْزِلِهِ بِلَا إذْنٍ إلَّا إنْ احْتَاجَتْ إلَى الِاسْتِفْتَاءِ فِي حَادِثَةٍ وَلَمْ يَرْضَ الزَّوْجُ أَنْ يَسْتَفْتِيَ لَهَا وَهُوَ غَيْرُ عَالِمٍ ، وَمَا لَمْ تَقَعْ حَاجَةٌ إلَى الِاسْتِفْتَاءِ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا عَنْ الْخُرُوجِ إلَى مَجْلِسِ الْعِلْمِ ، وَإِلَّا أَنْ يَكُونَ أَبُوهَا زَمِنًا وَلَيْسَ لَهُ مَنْ يَقُومُ عَلَيْهِ مُؤْمِنًا كَانَ أَوْ كَافِرًا فَإِنَّ عَلَيْهَا أَنْ تَعْصِيَ الزَّوْجَ فِي الْمَنْعِ .
وَلَوْ كَانَ لَهُ أُمٌّ شَابَّةٌ تَخْرُجُ إلَى الْوَلِيمَةِ وَالْمُصِيبَةِ أَوْ لِغَيْرِهِمَا لَا يَمْنَعُهَا ابْنُهَا مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ أَنَّ خُرُوجَهَا لِلْفَسَادِ فَحِينَئِذٍ يَرْفَعُ الْأَمْرَ إلَى الْقَاضِي ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ بِالْمَنْعِ مَنَعَهَا لِقِيَامِهِ مَقَامَهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

كِتَابُ الرَّضَاعِ قَالَ ( قَلِيلُ الرَّضَاعِ وَكَثِيرُهُ سَوَاءٌ إذَا حَصَلَ فِي مُدَّةِ الرَّضَاعِ تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَثْبُتُ التَّحْرِيمُ إلَّا بِخَمْسِ رَضَعَاتٍ ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَلَا الْمَصَّتَانِ وَلَا الْإِمْلَاجَةُ وَلَا الْإِمْلَاجَتَانِ } .
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ } الْآيَةَ وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ ، وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ وَإِنْ كَانَتْ لِشُبْهَةِ الْبَعْضِيَّةِ الثَّابِتَةِ بِنُشُوءِ الْعَظْمِ وَإِنْبَاتِ اللَّحْمِ لَكِنَّهُ أَمْرٌ مُبْطَنٌ فَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِفِعْلِ الْإِرْضَاعِ ، وَمَا رَوَاهُ مَرْدُودٌ بِالْكِتَابِ أَوْ مَنْسُوخٌ بِهِ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي مُدَّةِ الرَّضَاعِ لِمَا نُبَيِّنُ .
.

كِتَابُ الرَّضَاعِ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ النِّكَاحِ الْوَلَدَ وَهُوَ لَا يَعِيشُ غَالِبًا فِي ابْتِدَاءِ نَشْأَتِهِ إلَّا بِالرَّضَاعِ وَكَانَ لَهُ أَحْكَامٌ تَتَعَلَّقُ بِهِ وَهِيَ مِنْ آثَارِ النِّكَاحِ الْمُتَأَخِّرَةِ عَنْهُ بِمُدَّةٍ وَجَبَ تَأْخِيرُهُ إلَى آخِرِ أَحْكَامِهِ .
قِيلَ : وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَهُ فِي الْمُحَرَّمَاتِ لَكِنَّهُ أَفْرَدَهُ بِكِتَابٍ عَلَى حِدَةٍ لِاخْتِصَاصِهِ بِمَسَائِلَ كَشَهَادَةِ النِّسَاءِ وَخَلْطِ اللَّبَنِ وَنَحْوِهِ .
وَالْحَقُّ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْمُحَرَّمَاتِ مَا تَتَعَلَّقُ الْمَحْرَمِيَّةُ بِهِ .
وَإِنَّمَا ذَكَرَ هُنَا التَّفَاصِيلَ الْكَثِيرَةَ .
وَالرَّضَاعُ وَالرَّضَاعَةُ بِكَسْرِ الرَّاءِ فِيهِمَا وَفَتْحِهَا أَرْبَعُ لُغَاتٍ وَالرُّضَّعُ الْخَامِسَةُ ، وَأَنْكَرَ الْأَصْمَعِيُّ الْكَسْرَ مَعَ الْهَاءِ ، وَفَعَلَهُ فِي الْفَصِيحِ مِنْ حَدِّ عَلِمَ يَعْلَمُ ، وَأَهْلُ نَجْدٍ قَالُوا مِنْ بَابِ ضَرَبَ وَعَلَيْهِ قَوْلُ السَّلُولِيِّ يَذُمُّ عُلَمَاءَ زَمَانِهِ : وَذَمُّوا لَنَا الدُّنْيَا وَهُمْ يَرْضِعُونَهَا ثُمَّ قِيلَ : كِتَابُ الرَّضَاعِ لَيْسَ مِنْ تَصْنِيفِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّمَا أَلَّفَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ وَنَسَبَهُ إلَيْهِ لِيُرَوِّجَهُ وَلِذَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ أَبُو الْفَضْلِ فِي مُخْتَصَرِهِ الْمُسَمَّى بِالْكَافِي مَعَ الْتِزَامِهِ إيرَادَ كَلَامِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي جَمِيعِ كُتُبِهِ مَحْذُوفَةَ التَّعَالِيلِ .
وَعَامَّتُهُمْ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَوَائِلِ مُصَنَّفَاتِهِ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْحَاكِمُ اكْتِفَاءً بِمَا أَوْرَدَهُ مِنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ .
وَهُوَ فِي اللُّغَةِ : مَصُّ اللَّبَنِ مِنْ الثَّدْيِ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ لَئِيمٌ رَاضِعٌ : أَيْ يَرْضِعُ غَنَمَهُ وَلَا يَحْلُبُهَا مَخَافَةَ أَنْ يُسْمَعَ صَوْتُ حَلْبِهِ فَيُطْلَبُ مِنْهُ اللَّبَنُ .
وَفِي الشَّرْعِ : مَصَّ الرَّضِيعِ اللَّبَنَ مِنْ ثَدْيِ الْآدَمِيَّةِ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ أَيْ مُدَّةِ الرَّضَاعِ الْمُخْتَلَفِ فِي تَقْدِيرِهَا ( قَوْلُهُ قَلِيلُ الرَّضَاعِ وَكَثِيرُهُ سَوَاءٌ إذَا تَحَقَّقَ فِي مُدَّةِ الرَّضَاعِ تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ ) وَبِهِ

قَالَ مَالِكٌ ؛ أَمَّا لَوْ شَكَّ فِيهِ بِأَنْ أَدْخَلَتْ الْحَلَمَةَ فِي فَمِ الصَّغِيرِ وَشَكَّتْ فِي الِارْتِضَاعِ لَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ بِالشَّكِّ ، وَهُوَ كَمَا لَوْ عَلِمَ أَنَّ صَبِيَّةً أَرْضَعَتْهَا امْرَأَةٌ مِنْ قَرْيَةٍ وَلَا يَدْرِي مَنْ هِيَ فَتَزَوَّجَهَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْقَرْيَةِ صَحَّ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ الْمَانِعُ مِنْ خُصُوصِيَّةِ امْرَأَةٍ ، وَالْوَاجِبُ عَلَى النِّسَاءِ أَنْ لَا يُرْضِعْنَ كُلَّ صَبِيٍّ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ ، وَإِذَا أَرْضَعْنَ فَلْيَحْفَظْنَ ذَلِكَ وَيُشْهِرْنَهُ وَيَكْتُبْنَهُ احْتِيَاطًا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَثْبُتُ التَّحْرِيمُ إلَّا بِخَمْسِ رَضَعَاتٍ مُشْبِعَاتٍ فِي خَمْسَةِ أَوْقَاتٍ مُتَفَاصِلَةٍ عُرْفًا .
وَعَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ رِوَايَتَانِ كَقَوْلِنَا وَكَقَوْلِهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَالْمَصَّتَانِ } الْحَدِيثَ .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي حَدِيثَيْنِ صَدَّرَهُ حَدِيثَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَالْمَصَّتَانِ } وَآخِرُهُ عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْحَارِثِ قَالَتْ { دَخَلَ أَعْرَابِيٌّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي بَيْتِي فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي كَانَتْ لِي امْرَأَةٌ فَتَزَوَّجْتُ عَلَيْهَا أُخْرَى ، فَزَعَمَتْ امْرَأَتِي الْأُولَى أَنَّهَا أَرْضَعَتْ الْحُدْثَى رَضْعَةً أَوْ رَضْعَتَيْنِ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا تُحَرِّمُ الْإِمْلَاجَةُ وَالْإِمْلَاجَتَانِ } وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ حَدِيثًا وَاحِدًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَالْمَصَّتَانِ وَلَا الْإِمْلَاجَةُ وَالْإِمْلَاجَتَانِ } فَقَوْلُ شَارِحٍ فِي قَوْلِهِ { وَلَا الْإِمْلَاجَةُ وَالْإِمْلَاجَتَانِ } إنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ .
وَالْإِمْلَاجَةُ : الْإِرْضَاعَةُ ، وَالتَّاءُ لِلْوَحْدَةِ ، وَالْإِمْلَاجُ : الْإِرْضَاعُ ،

وَأَمْلَجَتْهُ أَرْضَعَتْهُ ، وَمَلَجَ هُوَ أُمَّهُ : رَضَعَهَا ، وَهَذَا الْحَدِيثُ لَا يَصْلُحُ لِإِثْبَاتِ مَذْهَبِهِ ، وَقِيلَ يُمْكِنُ أَنْ يُثْبِتَ بِهِ مَذْهَبَهُ بِطَرِيقٍ هُوَ أَنَّ الْمَصَّةَ دَاخِلَةٌ فِي الْمَصَّتَيْنِ فَحَاصِلُهُ لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّتَانِ وَلَا الْإِمْلَاجَتَانِ ، فَنُفِيَ التَّحْرِيمُ عَنْ أَرْبَعٍ فَلَزِمَ أَنْ يَثْبُتَ بِخَمْسٍ وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ مَذْهَبَهُ لَيْسَ التَّحْرِيمُ بِخَمْسِ مَصَّاتٍ بَلْ بِخَمْسٍ مُشْبِعَاتٍ فِي أَوْقَاتٍ ، وَأَمَّا ثَانِيًا ؛ فَلِأَنَّ الْمَصَّةَ غَيْرُ الْإِمْلَاجَةِ ، فَإِنَّ الْمَصَّةَ فِعْلُ الرَّضِيعِ ، وَالْإِمْلَاجَةُ الْإِرْضَاعَةُ فِعْلُ الْمُرْضِعَةِ .
فَحَاصِلُ الْمَعْنَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَى كَوْنَ الْفِعْلَيْنِ مُحَرَّمَيْنِ مِنْهُ وَمِنْهَا ، وَعَلَى هَذَا فَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى حَدِيثًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّ الْإِمْلَاجَ لَيْسَ حَقِيقَةَ الْمُحَرَّمِ بَلْ لَازِمَهُ مِنْ الِارْتِضَاعِ ، فَنَفْيُ تَحْرِيمِ الْإِمْلَاجِ نَفْيُ تَحْرِيمِ لَازِمِهِ ، فَلَيْسَ الْحَاصِلُ مِنْ { لَا تُحَرِّمُ الْإِمْلَاجَتَانِ } إلَّا لَا تُحَرِّمُ لَازِمَهُمَا : أَعْنِي الْمَصَّتَيْنِ فَلَوْ جُمِعَا فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ كَانَ الْحَاصِلُ لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّتَانِ فَلَزِمَ أَنْ لَا يَصِحَّ أَنْ يُرَادَ إلَّا الْمَصَّتَانِ لَا الْأَرْبَعُ .
فَإِنْ قُلْت : فَقَدْ ذَكَرْت آنِفًا حَدِيثًا وَاحِدًا فِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
قُلْت : يَجِبُ كَوْنُ الرَّاوِي وَهُوَ الزُّبَيْرُ أَرَادَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ أَلْفَاظِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي سَمِعَهَا مِنْهُ فِي وَقْتَيْنِ كَأَنَّهُ قَالَ : قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَلَا الْمَصَّتَانِ } وَقَالَ أَيْضًا { لَا تُحَرِّمُ الْإِمْلَاجَةُ وَلَا الْإِمْلَاجَتَانِ } وَقُبِلَ بِطَرِيقٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّهُ نَافٍ لِمَذْهَبِنَا فَيَثْبُتُ بِهِ مَذْهَبُهُ لِعَدَمِ الْقَائِلِ بِالْفَصْلِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ قَالَ بِالْفَصْلِ أَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَدَاوُد وَأَبُو

عُبَيْدٍ وَهَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ ، قَالُوا : الْمُحَرِّمُ ثَلَاثُ رَضَعَاتٍ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ لَا يُعْتَبَرَ قَوْلُهُمْ ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِقُوَّةِ وَجْهِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى وَجْهِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِي أَثْبَتَ بِهِ مَذْهَبَهُ مَا فِي مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : { كَانَ فِيمَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ ، ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسِ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ ، فَتُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأُ مِنْ الْقُرْآنِ } .
قَالُوا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى قُرْبِ النَّسْخِ حَتَّى إنَّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا وَهُوَ لَا يَسْتَقِيمُ إلَّا عَلَى إرَادَةِ نَسْخِ الْكُلِّ وَإِلَّا لَزِمَ ضَيَاعُ بَعْضِ الْقُرْآنِ الَّذِي لَمْ يُنْسَخْ وَعَدَمُهُ كَمَا عَنْ الرَّوَافِضِ ، وَإِلَّا لَوَجَبَ أَنْ يُتْلَى خَمْسُ رَضَعَاتٍ إلَخْ ، فَدَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ الْحُكْمِ بِنَسْخِ الْكُلِّ لِعَدَمِ التِّلَاوَةِ الْآنَ فَيَنْبَغِي أَنْ يُوقَفَ ثُبُوتُ الْحُرْمَةِ عَلَى خَمْسِ رَضَعَاتٍ وَعَدَمُهُ فَيَثْبُتُ قَوْلُ الرَّوَافِضِ ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْقُرْآنِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ تُثْبِتْهُ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَلِذَا بَطَلَ التَّمَسُّكُ بِهِ وَإِنْ كَانَ إسْنَادُهُ صَحِيحًا لِانْقِطَاعِهِ بَاطِنًا وَثَبَتَ نَفْيُ تَحْرِيمِ الْمَصَّةِ وَالْمَصَّتَانِ وَالرَّضَاعُ مُحَرِّمٌ وَجَبَ التَّحْرِيمُ بِالثَّلَاثِ .
وَمَا رُوِيَ عَنْهَا أَنَّهُ كَانَ فِي صَحِيفَةٍ تَحْتَ سَرِيرِي فَلَمَّا مَاتَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَشَاغَلْنَا بِمَوْتِهِ فَدَخَلَتْ دَوَاجِنُ فَأَكَلَتْهَا لَا يَنْفِي ذَلِكَ النَّسْخَ : يَعْنِي كَانَ مَكْتُوبًا وَلَمْ يُغْسَلْ بَعْدُ لِلْقُرْبِ حَتَّى دَخَلَتْ الدَّوَاجِنُ .
وَإِلَّا فَالْقُرْآنُ لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِيهِ وَلَا النَّقْصُ بَعْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَعَالَى { إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } وَمَا قِيلَ لِيَكُنْ نَسْخُ الْكُلِّ وَيَكُونُ النَّسْخُ التِّلَاوَةَ

مَعَ بَقَاءِ الْحُكْمِ وَإِنَّ هَذَا مِمَّا لَا جَوَابَ عَنْهُ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ ادِّعَاءَ بَقَاءَ حُكْمِ الدَّالِّ بَعْدَ نَسْخِهِ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ ، وَإِلَّا فَالْأَصْلُ أَنَّ نَسْخَ الدَّالِّ يَرْفَعُ حُكْمَهُ ، وَأَمَّا مَا نَظَرَ بِهِ مِنْ " الشَّيْخِ وَالشَّيْخَةِ إذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا " فَلَوْلَا مَا عُلِمَ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ لَمْ يَثْبُتْ بِهِ وَإِذَا احْتَاجَ إلَى ثُبُوتِ كَوْنِ الْمُحَرِّمِ الْخَمْسَ وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الْحَدِيثُ مُثْبِتًا لَهُ فَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مُسْتَأْنَفٌ ، وَمَا ذَكَرَ لَهُ أَوَّلًا قَدْ سَمِعْت مَا فِيهِ فَحِينَئِذٍ تَمَسُّكُهُمْ فِي الثَّلَاثِ أَظْهَرُ مِنْ مُتَمَسِّكِهِ فِي الْخَمْسِ وَنَحْنُ إلَى جَوَابِهِ أَحْوَجُ فَكَيْفَ لَا يُعْتَبَرُ ؟ نَعَمْ أَحْسَنُ الْأَدِلَّةِ لَهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ قَالَتْ { جَاءَتْ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ امْرَأَةُ أَبِي حُذَيْفَةَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَرَى فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ مِنْ دُخُولِ سَالِمٍ وَهُوَ حَلِيفُهُ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَرْضِعِي سَالِمًا خَمْسًا تَحْرُمِي بِهَا عَلَيْهِ } إلَّا أَنَّ مُسْلِمًا لَمْ يَذْكُرْ عَدَدًا ، وَكَذَا السُّنَنُ الْمَشْهُورَةُ ، بَلْ نُقِلَ فِي مُسْنَدِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ مُخَالِفًا لَهَا عَلَى مَا فِيهِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ التَّقْدِيرَ مُطْلَقًا مَنْسُوخٌ صَرِيحٌ بِنَسْخِهِ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حِينَ قِيلَ لَهُ : إنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ إنَّ الرَّضْعَةَ لَا تُحَرِّمُ ، فَقَالَ : كَانَ ذَلِكَ ثُمَّ نُسِخَ .
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : آلَ أَمْرُ الرَّضَاعِ إلَى أَنَّ قَلِيلَهُ وَكَثِيرَهُ يُحَرِّمُ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ الْقَلِيلَ يُحَرِّمُ ، وَعَنْهُ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ : إنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ : لَا بَأْسَ بِالرَّضْعَةِ وَالرَّضْعَتَيْنِ .
فَقَالَ : قَضَاءُ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ قَضَاءِ ابْنِ الزُّبَيْرِ ، قَالَ تَعَالَى { وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ

مِنْ الرَّضَاعَةِ } فَهَذَا إمَّا أَنْ يَكُونَ رَدًّا لِلرِّوَايَةِ لِنَسْخِهَا أَوْ لِعَدَمِ صِحَّتِهَا أَوْ لِعَدَمِ إجَازَتِهِ تَقْيِيدَ إطْلَاقِ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَإِنَّهُ تَعَالَى عَلَّقَ التَّحْرِيمَ بِفِعْلِ الرَّضَاعَةِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ ، وَهَذَا مَا قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَمَا رَوَاهُ مَرْدُودٌ بِالْكِتَابِ أَوْ مَنْسُوخٌ بِهِ ، ثُمَّ الَّذِي يَحْرُمُ بِهِ فِي حَدِيثِ سَهْلَةَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُرِدْ أَنْ يُشْبِعَ سَالِمًا خَمْسَ شَبْعَاتٍ فِي خَمْسَةِ أَوْقَاتٍ مُتَفَاصِلَاتٍ جَائِعًا ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ لَا يُشْبِعُهُ مِنْ اللَّبَنِ رِطْلٌ وَلَا رِطْلَانِ فَأَيْنَ تَجِدُ الْآدَمِيَّةُ فِي ثَدْيِهَا قَدْرَ مَا يُشْبِعُهُ ؟ هَذَا مُحَالٌ عَادَةً ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْدُودَ خَمْسًا فِيهِ الْمَصَّاتُ ، ثُمَّ كَيْفَ جَازَ أَنْ يُبَاشِرَ عَوْرَتَهَا بِشَفَتَيْهِ فَلَعَلَّ الْمُرَادَ أَنْ تَحْلُبَ لَهُ شَيْئًا مِقْدَارُهُ خَمْسُ مَصَّاتٍ فَيَشْرَبُهُ وَإِلَّا فَهُوَ مُشْكِلٌ .
هَذَا وَهُوَ مَنْسُوخٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَيْضًا كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ( قَوْلُهُ وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ } ) تَقَدَّمَ فِي اسْتِدْلَالِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ } فَحَدِيثٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مَشْهُورٌ ( قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ وَإِنْ كَانَتْ لِشُبْهَةِ الْبَعْضِيَّةِ ) جَوَابُ سُؤَالٍ هُوَ أَنَّ الْحُرْمَةَ بِالرَّضَاعِ لِاخْتِلَاطِ الْبَعْضِيَّةِ بِسَبَبِ النُّشُوءِ الْكَائِنِ عَنْهُ وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ بِأَدْنَى شَيْءٍ .
أَجَابَ بِأَنَّ ذَلِكَ حِكْمَةٌ ؛ لِأَنَّهُ خَفِيٌّ وَالْأَحْكَامُ لَا تَتَعَلَّقُ بِهَا لِخَفَائِهَا بَلْ الظَّاهِرُ الْمُنْضَبِطُ وَهُوَ فِعْلُ الِارْتِضَاعِ ، فَلَوْ قَالَ : الظَّاهِرُ لَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ مَظِنَّةً لِلْحِكْمَةِ وَمُطْلَقُهُ لَيْسَ مَظِنَّةَ النُّشُوءِ فَلَا يَتَعَلَّقُ التَّحْرِيمُ بِهِ .
قُلْنَا : وَلَا يَتَوَقَّفُ النُّشُوءُ عَلَى خَمْسٍ مُشْبِعَاتٍ بَلْ وَاحِدَةٌ تُفِيدُهُ ،

فَالتَّعَلُّقُ بِخَمْسٍ زِيَادَةٌ تَسْتَلْزِمُ تَأْخِيرَ الْحُرْمَةِ عَنْ وَقْتِ تَعَلُّقِهَا .
وَالْحَقُّ أَنَّ الرَّضَاعَ وَإِنْ قَلَّ يَحْصُلُ بِهِ نُشُوءٌ بِقَدْرِهِ فَكَانَ الرَّضَاعُ مُطْلَقًا مَظِنَّةً بِالنِّسْبَةِ إلَى الصَّغِيرِ .
وَقَوْلُنَا قَوْلُ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ ، وَأَسْنَدَ الرِّوَايَةَ عَنْهُمَا بِهِ النَّسَائِيّ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَجُمْهُورُ التَّابِعِينَ ، هَذَا وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ لِلْبَعْضِيَّةِ ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ لِشُبْهَةِ الْبَعْضِيَّةِ وَإِقَامَةُ السَّبَبِ مَقَامَ الْمُسَبَّبِ إنَّمَا هِيَ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ ، أَمَّا فِي الرَّضَاعِ فَحَقِيقَةُ الْجُزْئِيَّةِ بِاللَّبَنِ هِيَ الْمُحَرَّمَةُ ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ التَّحْرِيمُ يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ حُصُولِ اللَّبَنِ فِي الْجَوْفِ قَبْلَ اسْتِحَالَتِهِ كَانَ الْمُحَرَّمُ شُبْهَتَهَا : أَيْ مَا يَئُولُ إلَى الْجُزْئِيَّةِ .

( ثُمَّ مُدَّةُ الرَّضَاعِ ثَلَاثُونَ شَهْرًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَالَا سَنَتَانِ ) وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَالَ زُفَرٌ : ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ ؛ لِأَنَّ الْحَوْلَ حَسَنٌ لِلتَّحَوُّلِ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ ، وَلَا بُدَّ مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَى الْحَوْلَيْنِ لِمَا نُبَيِّنُ فَيُقَدَّرُ بِهِ .
وَلَهُمَا قَوْله تَعَالَى { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا } وَمُدَّةُ الْحَمْلِ أَدْنَاهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَبَقِيَ لِلْفِصَالِ حَوْلَانِ .
وَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا رَضَاعَ بَعْدَ حَوْلَيْنِ } وَلَهُ هَذِهِ الْآيَةُ .
وَوَجْهُهُ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ شَيْئَيْنِ وَضَرَبَ لَهُمَا مُدَّةً فَكَانَتْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِكَمَالِهَا كَالْأَجَلِ الْمَضْرُوبِ لِلدَّيْنَيْنِ ، إلَّا أَنَّهُ قَامَ الْمُنْقِصُ فِي أَحَدِهِمَا فَبَقِيَ فِي الثَّانِي عَلَى ظَاهِرِهِ ، وَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَغَيُّرِ الْغِذَاءِ لِيَنْقَطِعَ الْإِنْبَاتُ بِاللَّبَنِ وَذَلِكَ بِزِيَادَةِ مُدَّةٍ يَتَعَوَّدُ الصَّبِيُّ فِيهَا غَيْرَهُ فَقُدِّرَتْ بِأَدْنَى مُدَّةِ الْحَمْلِ ؛ لِأَنَّهَا مُغَيَّرَةٌ ، فَإِنَّ غِذَاءَ الْجَنِينِ يُغَايِرُ غِذَاءَ الرَّضِيعِ كَمَا يُغَايِرُ غِذَاءَ الْفَطِيمِ ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى مُدَّةِ الِاسْتِحْقَاقِ ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ النَّصُّ الْمُقَيَّدُ بِحَوْلَيْنِ فِي الْكِتَابِ .

وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الرَّضَاعُ الْمُوجِبُ لِلتَّحْرِيمِ فِي مُدَّةِ الرَّضَاعِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي تَلِيهَا وَهِيَ قَوْلُهُ ( ثُمَّ مُدَّةُ الرَّضَاعِ ) الَّتِي إذَا وَقَعَ الرَّضَاعُ فِيهَا تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ ( ثَلَاثُونَ شَهْرًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَالَا : سَنَتَانِ ) وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ ، وَقَالَ زُفَرُ : ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ ، وَعَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ سَنَتَانِ وَشَهْرٌ ، وَفِي أُخْرَى شَهْرَانِ ، وَفِي أُخْرَى مَا دَامَ مُحْتَاجًا إلَى اللَّبَنِ غَيْرَ مُسْتَغْنٍ عَنْهُ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا حَدَّ لَهُ لِلْإِطْلَاقَاتِ فَيُوجِبُ التَّحْرِيمَ وَلَوْ فِي حَالِ الْكِبَرِ ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ إلَى خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً ، وَقَالَ آخَرُونَ إلَى أَرْبَعِينَ سَنَةٍ ، وَلَا عِبْرَةَ بِهَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ ( قَوْلُهُ : لِأَنَّ الْحَوْلَ حَسَنٌ إلَخْ ) هَذَا وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مُدَّةٍ يَتَعَوَّدُ فِيهَا الصَّبِيُّ غَيْرَ اللَّبَنِ لِيَنْقَطِعَ الْإِنْبَاتُ بِاللَّبَنِ وَذَلِكَ بِزِيَادَةِ مُدَّةٍ يَتَعَوَّدُ فِيهَا الصَّبِيُّ تَغَيُّرَ الْغِذَاءَ وَالْحَوْلُ حَسَنٌ لِلتَّحَوُّلِ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ فَقُدِّرَ بِالثَّلَاثَةِ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ لِمَا نُبَيِّنُ : أَيْ فِي دَلِيلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَلَهُمَا قَوْله تَعَالَى { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا } وَمُدَّةُ الْحَمْلِ أَدْنَاهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَبَقِيَ لِلْفِصَالِ حَوْلَانِ .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا رَضَاعَ بَعْدَ حَوْلَيْنِ } رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ يَرْفَعُهُ هَكَذَا { لَا رَضَاعَ إلَّا مَا كَانَ مِنْ حَوْلَيْنِ } وَظَاهِرٌ أَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ الْأَحْكَامِ وَقَالَ : لَمْ يُسْنِدْهُ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ إلَّا الْهَيْثَمُ بْنُ جَمِيلٍ وَهُوَ ثِقَةٌ حَافِظٌ ا هـ .
وَكَذَا وَثَّقَهُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْعِجْلِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ ، وَرُوِيَ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ

عَنْهُمَا بِلَا رَيْبٍ ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَلِيٌّ وَالدَّارَقُطْنِيّ عَلَى عُمَرَ .
وَأَظْهَرُ الْأَدِلَّةِ لَهُمَا قَوْله تَعَالَى { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } فَجَعَلَ التَّمَامَ بِهِمَا وَلَا مَزِيدَ عَلَى التَّمَامِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةُ .
وَوَجْهُهُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ شَيْئَيْنِ وَضَرَبَ لَهُمَا مُدَّةً فَكَانَتْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِكَمَالِهَا كَالْأَجَلِ الْمَضْرُوبِ لِلدَّيْنَيْنِ عَلَى شَخْصَيْنِ بِأَنْ قَالَ أَجَّلْت الدَّيْنَ الَّذِي لِي عَلَى فُلَانٍ وَالدَّيْنَ الَّذِي لِي عَلَى فُلَانٍ سَنَةً يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ السَّنَةَ بِكَمَالِهَا لِكُلٍّ ، أَوْ عَلَى شَخْصٍ فَيَقُولُ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَعَشْرَةُ أَقْفِزَةٍ إلَى سَنَةٍ فَصَدَّقَهُ الْمَقَرُّ لَهُ فِي الْأَجَلِ ، فَإِذَا مَضَتْ السَّنَةُ يُتِمُّ أَجَلَهُمَا جَمِيعًا إلَّا أَنَّهُ أَقَامَ الْمُنْقَصَ فِي أَحَدِهِمَا : يَعْنِي فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ ، وَهُوَ قَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : " الْوَلَدُ لَا يَبْقَى فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ وَلَوْ بِقَدْرِ فَلْكَةِ مِغْزَلٍ " .
وَفِي رِوَايَةٍ : " وَلَوْ بِقَدْرِ ظِلِّ مِغْزَلٍ " .
وَمِثْلُهُ مِمَّا لَا يُقَالُ إلَّا سَمَاعًا ؛ لِأَنَّ الْمُقَدَّرَاتِ لَا يَهْتَدِي الْعَقْلُ إلَيْهَا وَسَنُخَرِّجُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْوَلَدُ لَا يَبْقَى فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ } فَتَبْقَى مُدَّةُ الْفِصَالِ عَلَى ظَاهِرِهَا ، غَيْرَ أَنَّ هَذَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ لَفْظِ ثَلَاثِينَ مُسْتَعْمَلًا فِي إطْلَاقٍ وَاحِدٍ فِي مَدْلُولِ ثَلَاثِينَ وَفِي أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ ، وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ ، وَكَوْنُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى شَيْئَيْنِ لَا يَنْفِي كَوْنَهُ كَذَلِكَ وَهُوَ الْمُمْتَنِعُ ، وَإِلَّا لَمْ يَمْتَنِعْ ؛ لِأَنَّهُ مَا مِنْ جَمْعٍ إلَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى شَيْئَيْنِ .
وَإِشْكَالٌ

آخَرُ وَهُوَ أَنَّ أَسْمَاءَ الْعَدَدِ لَا يُتَجَوَّزُ بِشَيْءٍ مِنْهَا فِي الْآخِرِ ، نَصَّ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ ؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْإِعْلَامِ عَلَى مُسَمَّيَاتِهَا حَتَّى مُنِعَتْ الصَّرْفَ مَعَ سَبَبٍ وَاحِدٍ فَقَالُوا سِتَّةَ عَشْرَ ضِعْفُ ثَمَانِيَةٍ بِلَا تَنْوِينٍ ، وَمِمَّا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ فِي فَصْلِ الْمَشِيئَةِ مِنْ كِتَابِ الطَّلَاقِ ، إلَّا أَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ نَحْوَ عَشَرَةٍ إلَّا اثْنَيْنِ لَمْ يُرِدْ بِهِ ثَمَانِيَةً بَلْ عَشَرَةً فَأَخْرَجَ ثُمَّ أَسْنَدَ إلَى ثَمَانِيَةٍ ، وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ مُطْلَقًا وَمُخْتَارُ طَائِفَةٍ مِنْ الْمَشَايِخِ فِيمَا إذَا كَانَ اسْتِثْنَاءً مِنْ عَدَدٍ مِنْهُمْ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ وَالْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ خِلَافُ قَوْلِ الْجُمْهُورِ وَقَدْ حَقَّقْنَاهُ فِي الْأُصُولِ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ } الْآيَةَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْوَالِدَاتِ الْمُطَلَّقَاتُ بِقَرِينَةِ { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ } فَإِنَّ الْفَائِدَةَ فِي جَعْلِهِ نَفَقَتَهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ ظِئْرٌ أَوْجَهُ مِنْهَا فِي اعْتِبَارِهِ إيجَابَ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ ، وَمِنْ قَوْله تَعَالَى { لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ } الْآيَةَ ؛ وَلِأَنَّ نَفَقَتَهَا لَا تَخْتَصُّ بِكَوْنِهَا وَالِدَةً مُرْضِعَةً بَلْ مُتَعَلِّقَةً بِالزَّوْجِيَّةِ ، بِخِلَافِ اعْتِبَارِهَا نَفَقَةَ الظِّئْرِ وَيَكُونُ حِينَئِذٍ أُجْرَةً لَهَا ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ لَهَا بِاعْتِبَارِهَا ظِئْرًا غَيْرَ زَوْجَةٍ لَا تَكُونُ إلَّا أُجْرَةً لَهَا ، وَاللَّامُ مِنْ لِمَنْ أَرَادَ مُتَعَلِّقٌ بِيُرْضِعْنَ : أَيْ يُرْضِعْنَ لِلْآبَاءِ الَّذِينَ أَرَادُوا إتْمَامَ الرَّضَاعَةِ وَعَلَيْهِمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ أُجْرَةً لَهُنَّ فِي الْحَوْلَيْنِ ، وَإِذَا كَانَتْ الْوَاوُ مِنْ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ لِلْحَالِ مِنْ فَاعِلِ يُتِمَّ كَانَ أَظْهَرَ فِي تَقْيِيدِ الْأُجْرَةِ

الْمُسْتَحَقَّةِ عَلَى الْآبَاءِ أُجْرَةً لِلْمُطَلَّقَةِ لِحَوْلَيْنِ ، وَغَايَةُ مَا يَلْزَمُ أَنَّهُ كَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ وَعَلَيْهِ أَوْ وَعَلَيْهِمْ لَكِنْ تُرِكَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى عِلَّةِ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَيْهِ وَهُوَ كَوْنُ الْوَلَدِ مَنْسُوبًا إلَيْهِ وَأَنَّ النِّسْبَةَ إلَى الْآبَاءِ .
وَالْحَاصِلُ حِينَئِذٍ : يُرْضِعْنَ حَوْلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ مِنْ الْآبَاءِ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ بِالْأُجْرَةِ ، وَهَذَا لَا يَقْتَضِي أَنَّ انْتِهَاءَ مُدَّةِ الرَّضَاعَةِ مُطْلَقًا بِالْحَوْلَيْنِ ، بَلْ مُدَّةُ اسْتِحْقَاقِ الْأُجْرَةِ بِالْإِرْضَاعِ ، ثُمَّ يَدُلُّ عَلَى بَقَائِهَا فِي الْجُمْلَةِ قَوْله تَعَالَى { فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا } عَطْفًا بِالْفَاءِ عَلَى يُرْضِعْنَ حَوْلَيْنِ فَعَلَّقَ الْفِصَالَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ عَلَى تَرَاضِيهِمَا .
وَقَدْ يُقَالُ : كَوْنُ الدَّلِيلِ دَلَّ عَلَى بَقَاءِ مُدَّةِ الرَّضَاعِ الْمُحَرَّمِ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ ، فَأَيْنَ الدَّلِيلُ عَلَى انْتِهَائِهَا لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ بَعْدَهُمَا بِحَيْثُ لَوْ أَرْضَعَ بَعْدَهَا لَا يَقَعُ التَّحْرِيمُ .
وَمَا ذُكِرَ فِي وَجْهِ زِيَادَتِهَا لَا يُفِيدُ سِوَى أَنَّهُ إذَا أُرِيدَ الْفِطَامُ يَحْتَاجُ إلَيْهَا لِيُعَوَّدَ فِيهَا غَيْرَ اللَّبَنِ قَلِيلًا قَلِيلًا لِتَعَذُّرِ نَقْلِهِ دَفْعَةً .
فَأَمَّا أَنَّهُ يَجِبُ ذَلِكَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ وَيَكُونُ مِنْ تَمَامِ مُدَّةِ التَّحْرِيمِ شَرْعًا فَلَيْسَ بِلَازِمٍ مِمَّا ذُكِرَ مِنْ الْأَدِلَّةِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يُحَرِّمْ إطْعَامَهُ غَيْرَ اللَّبَنِ قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ لِيَلْزَمَ زِيَادَةُ مُدَّةِ التَّعَوُّدِ عَلَيْهِمَا ، فَجَازَ أَنْ يُعَوَّدَ مَعَ اللَّبَنِ غَيْرَهُ قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ بِحَيْثُ تَكُونُ الْعَادَةُ قَدْ اسْتَقَرَّتْ مَعَ انْقِضَائِهِمَا فَيُفْطَمُ عِنْدَهُ عَنْ اللَّبَنِ بِمَرَّةٍ فَلَيْسَتْ الزِّيَادَةُ بِلَازِمَةٍ فِي الْعَادَةِ وَلَا فِي الشَّرْعِ ، فَكَانَ الْأَصَحُّ قَوْلُهُمَا وَهُوَ مُخْتَارُ الطَّحَاوِيِّ ، وَقَوْلُ زُفَرَ عَلَى هَذَا أَوْلَى بِالْبُطْلَانِ وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَحِينَئِذٍ فَقَوْلُهُ تَعَالَى { فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا

وَتَشَاوُرٍ } الْمُرَادُ مِنْهُ قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ فَإِنَّهُ مَوْضِعُ التَّرَدُّدِ فِي أَنَّهُ يَضُرُّ بِالْوَلَدِ أَوْ لَا فَيَتَشَاوَرَانِ لِيَظْهَرَ وَجْهُ الصَّوَابِ فِيهِ .
وَأَمَّا ثُبُوتُ الضَّرَرِ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ فَقَلَّ أَنْ يَقَعَ بِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ فِطَامٌ بَلْ إنْ كَانَ فَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى فَتَمْنَعُهُ الْعُمُومَاتُ الْمَانِعَةُ مِنْ إدْخَالِ الضَّرَرِ عَلَى غَيْرِ الْمُسْتَحِقِّ لَهُ .

قَالَ ( وَإِذَا مَضَتْ مُدَّةُ الرَّضَاعِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالرَّضَاعِ تَحْرِيمٌ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا رَضَاعَ بَعْدَ الْفِصَالِ } وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ بِاعْتِبَارِ النُّشُوءِ وَذَلِكَ فِي الْمُدَّةِ إذْ الْكَبِيرُ لَا يَتَرَبَّى بِهِ ، وَلَا يُعْتَبَرُ الْفِطَامُ قَبْلَ الْمُدَّةِ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا اسْتَغْنَى عَنْهُ .
وَوَجْهُهُ انْقِطَاعُ النُّشُوءِ بِتَغَيُّرِ الْغِذَاءِ وَهَلْ يُبَاحُ الْإِرْضَاعُ بَعْدَ الْمُدَّةِ ؟ فَقِيلَ لَا يُبَاحُ ؛ لِأَنَّ إبَاحَتَهُ ضَرُورِيَّةٌ لِكَوْنِهِ جُزْءُ الْآدَمِيِّ .
.

( قَوْلُهُ وَإِذَا مَضَتْ مُدَّةُ الرَّضَاعِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالرَّضَاعِ تَحْرِيمٌ ) فُطِمَ أَوْ لَمْ يُفْطَمْ ، حَتَّى لَوْ ارْتَضَعَ لَا يَثْبُتُ التَّحْرِيمُ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ بِالتَّحْرِيمِ أَبَدًا لِلْإِطْلَاقَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ثُبُوتِ التَّحْرِيمِ بِهِ ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَكَانَتْ إذَا أَرَادَتْ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا أَحَدٌ مِنْ الرِّجَالِ أَمَرَتْ أُخْتَهَا أُمَّ كُلْثُومٍ أَوْ بَعْضَ بَنَاتِ أُخْتِهَا أَنْ تُرْضِعَهُ خَمْسًا ، وَلِحَدِيثِ سَهْلَةَ الْمُتَقَدِّمِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا كَانَ ثُمَّ نُسِخَ بِآثَارٍ كَثِيرَةٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ تُفِيدُ اتِّفَاقَهُمْ عَلَيْهِ .
فَمِنْهَا مَا قَدَّمْنَاهُ فِي اسْتِدْلَالِهِمَا مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا رَضَاعَ إلَّا مَا كَانَ مِنْ حَوْلَيْنِ } وَقَدَّمْنَا تَخْرِيجَهُ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَلِيٍّ وَعُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا رَضَاعَ بَعْدَ الْفِصَالِ } وَالْمُرَادُ نَفْيُ الْحُكْمِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ هَوِيَّتُهُ بَعْدَهُ ، وَمَا فِي التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا يُحَرِّمُ مِنْ الرَّضَاعِ إلَّا مَا فَتَقَ الْأَمْعَاءَ فِي الثَّدْيِ وَكَانَ قَبْلَ الْفِطَامِ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ يَرْفَعُهُ { لَا يُحَرِّمُ مِنْ الرَّضَاعِ إلَّا مَا أَنْبَتَ اللَّحْمَ وَأَنْشَرَ الْعَظْمَ } يُرْوَى بِالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ : أَيْ أَحْيَاهُ .
وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { ثُمَّ إذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ } وَبِالزَّايِ : أَيْ رَفَعَهُ وَبِزِيَادَةِ الْحَجْمِ يَرْتَفِعُ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدِي رَجُلٌ .
فَقَالَ : يَا عَائِشَةَ مَنْ هَذَا ؟ قُلْت : أَخِي مِنْ

الرَّضَاعَةِ ، فَقَالَ : يَا عَائِشَةَ اُنْظُرْنَ مَنْ إخْوَتُكُنَّ فَإِنَّ الرَّضَاعَةَ مَنْ الْمَجَاعَةِ } يَعْنِي اعْرِفْنَ إخْوَتَكُنَّ لِخَشْيَةِ أَنْ يَكُونَ رَضَاعَةُ ذَلِكَ الشَّخْصِ كَانَتْ فِي حَالَةِ الْكِبَرِ .
فَإِنْ قُلْت : عُرِفَ مِنْ أَصْلِكُمْ أَنَّ عَمَلَ الرَّاوِي بِخِلَافِ مَا رَوَى يُوجِبُ الْحُكْمَ بِنَسْخِ مَا رَوَى فَلَا يُعْتَبَرُ وَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ رِوَايَتِهِ لِلنَّاسِخِ ، وَحَدِيثُ الصَّحِيحَيْنِ وَهُوَ قَوْلُهُ { إنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ } رَوَتْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَعَمَلُهَا بِخِلَافِهِ فَيَكُونُ مَحْكُومًا بِنَسْخِ كَوْنِ رَضَاعِ الْكَبِيرِ مُحَرَّمًا .
قُلْنَا : الْمَعْنَى أَنَّهُ إذَا لَمْ يُعْرَفْ مِنْ الْحَالِ سِوَى أَنَّهُ خَالَفَ مَرْوِيَّهُ حَكَمْنَا بِأَنَّهُ اطَّلَعَ عَلَى نَاسِخِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ظَاهِرًا ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يُخْطِئُ فِي ظَنِّ غَيْرِ النَّاسِخِ نَاسِخًا لَا قَطْعًا .
فَلَوْ اتَّفَقَ فِي خُصُوصِ مَحَلٍّ بِأَنَّ عَمَلَهُ بِخِلَافِ مَرْوِيِّهِ كَانَ لِخُصُوصِ دَلِيلٍ عَلِمْنَاهُ وَظَهَرَ لِلْمُجْتَهِدِ غَلَطُهُ فِي اسْتِدْلَالِهِ بِذَلِكَ الدَّلِيلِ لَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مِمَّا يُحْكَمُ فِيهِ بِنَسْخِ مَرْوِيِّهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَا كَانَ إلَّا لِإِحْسَانِ الظَّنِّ بِنَظَرِهِ ، فَأَمَّا إذَا تَحَقَّقْنَا فِي خُصُوصِ مَادَّةٍ خِلَافِ ذَلِكَ وَجَبَ اعْتِبَارُ مَرْوِيِّهِ بِالضَّرُورَةِ دُونَ رَأْيِهِ .
وَفِي الْمُوَطَّإِ وَسُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ فَقَالَ : إنِّي مَصَصْت عَنْ امْرَأَتِي مِنْ ثَدْيِهَا لَبَنًا فَذَهَبَ فِي بَطْنِي ، فَقَالَ أَبُو مُوسَى لَا أَرَاهَا إلَّا قَدْ حُرِّمَتْ عَلَيْك ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : اُنْظُرْ مَا تُفْتِي بِهِ الرَّجُلَ ، فَقَالَ أَبُو مُوسَى : فَمَا تَقُولُ أَنْتَ ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ : { لَا رَضَاعَةَ إلَّا مَا كَانَ فِي حَوْلَيْنِ } فَقَالَ أَبُو مُوسَى : لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ مَا دَامَ هَذَا الْحَبْرُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ .
هَذِهِ رِوَايَةُ الْمُوَطَّإِ فَرُجُوعُهُ إلَيْهِ بَعْدَ ظُهُورِ النُّصُوصِ الْمُطْلِقَةِ

وَعَمَّا أَفْتَاهُ بِالْحُرْمَةِ لَا يَكُونُ إلَّا لِذِكْرِهِ لِلنَّاسِخِ لَهُ أَوْ لِتَذَكُّرِهِ عِنْدَهُ ، وَغَيْرُ عَائِشَةَ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْبَيْنَ ذَلِكَ وَيَقُلْنَ : لَا نَرَى هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا رُخْصَةً لِسَهْلَةَ خَاصَّةً ، وَلَعَلَّ سَبَبَهُ مَا تَضَمَّنَهُ مِمَّا يُخَالِفُ أُصُولَ الشَّرْعِ حَيْثُ يَسْتَلْزِمُ مَسَّ عَوْرَتِهَا بِشَفَتَيْهِ فَحَكَمْنَ بِأَنَّ ذَلِكَ خُصُوصِيَّةٌ .
وَقِيلَ سَبَبُهُ أَنَّ عَائِشَةَ رَجَعَتْ .
وَفِي الْمُوَطَّإِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ : جَاءَ رَجُلٌ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ : كَانَتْ لِي وَلِيدَةٌ فَكُنْت أُصِيبُهَا فَعَمَدَتْ امْرَأَتِي إلَيْهَا فَأَرْضَعَتْهَا فَدَخَلْتُ عَلَيْهَا فَقَالَتْ : دُونَكَ قَدْ وَاَللَّهِ أَرْضَعْتُهَا ، قَالَ عُمَرُ : أَوْجِعْهَا وَائْتِ جَارِيَتَك فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ رَضَاعَةُ الصَّغِيرِ .
( قَوْلُهُ وَلَا يُعْتَبَرُ الْفِطَامُ قَبْلَ الْمُدَّةِ ) حَتَّى لَوْ فُطِمَ قَبْلَ الْمُدَّةِ ثُمَّ أُرْضِعَ فِيهَا ثَبَتَ التَّحْرِيمُ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا فُطِمَ قَبْلَ الْمُدَّةِ وَصَارَ بِحَيْثُ يَكْتَفِي بِغَيْرِ اللَّبَنِ لَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ إذَا رَضَعَ فِيهَا ، رَوَاهَا الْحَسَنُ عَنْهُ .
وَفِي وَاقِعَاتِ النَّاطِفِيِّ الْفَتْوَى عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، أَنَّهَا تَثْبُتُ مَا لَمْ تَمْضِ إقَامَةٌ لِلْمَظِنَّةِ مَقَامَ الْمَئِنَّةِ ، فَإِنَّ مَا قَبْلَ الْمُدَّةِ مَظِنَّةُ عَدَمِ الِاسْتِغْنَاءِ ( وَهَلْ يُبَاحُ الْإِرْضَاعُ بَعْدَ الْمُدَّةِ ؟ قِيلَ لَا ؛ لِأَنَّهُ جُزْءُ الْآدَمِيِّ فَلَا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إلَّا لِلضَّرُورَةِ ) وَقَدْ انْدَفَعَتْ ، وَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ لِلتَّدَاوِي ، وَأَهْلُ الطِّبِّ يُثْبِتُونَ لِلَبَنِ الْبِنْتِ أَيْ الَّذِي نَزَلَ بِسَبَبِ بِنْتٍ مُرْضِعَةٍ نَفْعًا لِوَجَعِ الْعَيْنِ .
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ ، قِيلَ لَا يَجُوزُ ، وَقِيلَ يَجُوزُ إذَا عُلِمَ أَنَّهُ يَزُولُ بِهِ الرَّمَدُ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ حَقِيقَهُ الْعِلْمِ مُتَعَذِّرَةٌ فَالْمُرَادُ إذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ وَإِلَّا

فَهُوَ مَعْنَى الْمَنْعِ .

قَالَ ( وَيَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ ) لِلْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَا ( إلَّا أُمَّ أُخْتِهِ مِنْ الرَّضَاعِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَلَا يَجُوزُ ) أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّ أُخْتِهِ مِنْ النَّسَبِ ) ؛ لِأَنَّهَا تَكُونُ أُمَّهُ أَوْ مَوْطُوءَةَ أَبِيهِ ، بِخِلَافِ الرَّضَاعِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَ ابْنِهِ مِنْ الرَّضَاعِ ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ مِنْ النَّسَبِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا وَطِئَ أُمَّهَا حُرِّمَتْ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يُوجَدْ هَذَا الْمَعْنَى فِي الرَّضَاعِ .
.

( قَوْلُهُ وَيَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ لِلْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ ) وَهُوَ بِهَذَا اللَّفْظِ ( قَوْلُهُ إلَّا أُمَّ أُخْتِهِ مِنْ الرَّضَاعِ ) يَصِحُّ اتِّصَالُ قَوْلِهِ مِنْ الرَّضَاعِ بِكُلٍّ مِنْ الْأُمِّ وَالْأُخْتِ وَبِهِمَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى .
فَالْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ أُخْتٌ مِنْ النَّسَبِ لَهَا أُمٌّ مِنْ الرَّضَاعَةِ لَمْ تَكُنْ أَرْضَعَتْهُ تَحِلُّ لَهُ .
وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ لَهُ أُخْتٌ مِنْ الرَّضَاعَةِ لَهَا أُمٌّ مِنْ النَّسَبِ تَحِلُّ لَهُ إذَا لَمْ تَكُنْ هِيَ الْمُرْضَعَةُ .
وَالثَّالِثُ أَنْ يُرْضِعَ الصَّبِيَّ وَالصَّبِيَّةَ امْرَأَةٌ وَلِأُخْتِهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ أُمٌّ أُخْرَى مِنْ الرَّضَاعِ يَحِلُّ لِلصَّبِيِّ تِلْكَ الْأُمُّ ، أَمَّا مِنْ جِهَةِ الصِّنَاعَةِ فَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأُمِّ حَالًا مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الْأُمَّ مَعْرِفَةٌ فَيَجِيءُ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ حَالًا مِنْهُ لَا مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ وَلَيْسَ صِفَةً ؛ لِأَنَّهُ مَعْرِفَةٌ : أَعْنِي أُمَّ أُخْتِهِ ، بِخِلَافِ أُخْتِهِ ؛ لِأَنَّهُ مُضَافٌ إلَيْهِ ، وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٍ مِنْ مُسَوِّغَاتِ مَجِيءِ الْحَالِ مِنْهُ ، وَمِثْلُ هَذَا يَجِيءُ فِي أُخْتِ ابْنِهِ ، وَلَوْ قَالَ أُخْتُ وَلَدِهِ كَانَ أَشْمَلَ ، فَالْأَوَّلُ لَهُ ابْنٌ مِنْ النَّسَبِ لَهُ أُخْتٌ مِنْ الرَّضَاعَةِ بِأَنْ ارْتَضَعَ مَعَ أَجْنَبِيَّةٍ مَنْ لَمْ تَكُنْ امْرَأَةَ أَبِيهِ حَلَّتْ لِأَبِيهِ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِنْتَهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَلَا رَبِيبَتُهُ ، وَالثَّانِي لَهُ ابْنٌ مِنْ الرَّضَاعِ بِأَنْ ارْتَضَعَ زَوْجَةَ الرَّجُلِ حَلَّتْ لِلرَّجُلِ أُخْتُهُ مِنْ النَّسَبِ ، وَالثَّالِثُ لَهُ ابْنٌ مِنْ الرَّضَاعِ كَمَا ذَكَرْنَا لَهُ أُخْتٌ مِنْ الرَّضَاعَةِ مِنْ غَيْرِ زَوْجَةِ ذَلِكَ الرَّجُلِ بِأَنْ ارْتَضَعَ ذَلِكَ الْوَلَدُ امْرَأَتَيْنِ حَلَّتْ أُخْتُهُ لِأَبِيهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ .
وَعَلَّلَ اسْتِثْنَاءَ الْأَوَّلِ بِعَدَمِ وُجُودِ الْمُحَرَّمِ مِنْ النَّسَبِ فِيهِ الَّذِي هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ بِخِلَافِ الرَّضَاعِ بَعْدَ تَعْلِيلِهِ الْحُرْمَةَ فِي أُمِّ أُخْتِهِ مِنْ النَّسَبِ بِكَوْنِهَا أُمَّهُ أَوْ مَوْطُوءَةَ أَبِيهِ ، وَكَذَا فِي

تَعْلِيلِهِ إخْرَاجَ أُخْتِ ابْنِهِ مِنْ الرَّضَاعِ بِقَوْلِهِ وَلَمْ يُوجَدْ هَذَا الْمَعْنَى فِي الرَّضَاعِ بَعْدَ تَعْلِيلِهِ حُرْمَةَ أُخْتِ الِابْنِ مِنْ النَّسَبِ بِقَوْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا وَطِئَ أُمَّهَا حُرِّمَتْ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى هَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنْتَهُ لِوُضُوحِ الشِّقِّ الْآخَرِ فَأَفَادَ بِالتَّعْلِيلَيْنِ أَنَّ الْمُحَرَّمَ فِي الرَّضَاعِ وُجُودُ الْمَعْنَى الْمُحَرَّمِ فِي النَّسَبِ لِيُفِيدَ أَنَّهُ إذَا انْتَفَى فِي شَيْءٍ مِنْ صُوَرِ الرَّضَاعِ انْتَفَتْ الْحُرْمَةُ فَيُسْتَفَادُ أَنَّهُ لَا حَصْرَ فِيمَا ذَكَرَ ، وَقَدْ ثَبَتَ كَذَلِكَ الِانْتِفَاءُ فِي صُوَرٍ أُخْرَى : الْأُولَى أُمُّ النَّافِلَةِ مِنْ الرَّضَاعِ بِأَنْ أَرْضَعَتْ نَافِلَتُك أَجْنَبِيَّةً يَجُوزُ التَّزَوُّجُ بِهَا لِانْتِفَاءِ سَبَبِ التَّحْرِيمِ فِي النَّسَبِ وَهِيَ كَوْنُهَا بِنْتًا أَوْ حَلِيلَةَ الِابْنِ .
الثَّانِيَةُ جَدَّةُ وَلَدِك مِنْ الرَّضَاعِ بِأَنْ أَرْضَعَتْ وَلَدَك أَجْنَبِيَّةٌ لَهَا أُمٌّ يَجُوزُ تَزَوُّجُك بِالْأُمِّ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ أُمَّك ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ أُمَّ الْعَمِّ مِنْ الرَّضَاعِ وَأُمَّ الْخَالِ مِنْ الرَّضَاعَةِ ، وَكَذَا عَمَّةَ وَلَدِك ؛ لِأَنَّهَا مِنْ النَّسَبِ أُخْتُك وَلَيْسَتْ أُخْتًا مِنْ الرَّضَاعِ ، وَكَذَا الْمَرْأَةُ يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بِابْنِ أُخْتِهَا مِنْ الرَّضَاعِ وَبِأَخِي وَلَدِهَا وَبِأَبِي حَفِيدِهَا مِنْهُ وَبِجَدِّ وَلَدِهَا مِنْهُ وَخَالِهِ ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي النَّسَبِ لِمَا قُلْنَا فِي حَقِّ الرَّجُلِ ، وَقَدْ جُمِعَتْ فِي قَوْلِهِ : يُفَارِقُ النَّسَبُ الرَّضَاعَ فِي صُوَرْ كَأُمِّ نَافِلَةٍ وَجَدَّةِ الْوَلَدْ وَأُمِّ عَمٍّ وَأُخْتِ ابْنٍ وَأُمِّ أَخٍ وَأُمِّ خَالٍ وَعَمَّةِ ابْنٍ اُعْتُمِدْ وَاسْتُشْكِلَ إلْحَاقُ أُمِّ الْعَمِّ وَأُمِّ الْخَالِ بِأَنَّهُمَا إمَّا أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا جَدَّتَهُ مِنْ الرَّضَاعِ أَوْ مَوْطُوءَةَ جَدِّهِ مِنْ الرَّضَاعِ وَكِلَاهُمَا مُحَرَّمٌ فِي النَّسَبِ ، إلَّا إنْ أَرَادَ بِالْعَمِّ مِنْ الرَّضَاعِ مَنْ رَضَعَ مَعَ أَبِيهِ ، وَبِالْخَالِ مِنْهُ مَنْ رَضَعَ مَعَ أُمِّهِ وَلَهُ أُمٌّ أُخْرَى مِنْ

النَّسَبِ أَوْ الرَّضَاعِ فَحِينَئِذٍ يَسْتَقِيمُ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَمْنَعَ الْحَصْرَ لِجَوَازِ كَوْنِهِمَا لَمْ تُرْضِعْ أَبَاهُ وَلَا أُمَّهُ فَلَا تَكُونُ جَدَّتَهُ مِنْ الرَّضَاعِ وَلَا مَوْطُوءَةَ جَدِّهِ بَلْ أَجْنَبِيَّةً أَرْضَعَتْ عَمَّهُ مِنْ النَّسَبِ وَخَالَهُ ، ثُمَّ قَالَتْ طَائِفَةٌ : هَذَا الْإِخْرَاجُ تَخْصِيصٌ لِلْحَدِيثِ : أَعْنِي { يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ } بِدَلِيلِ الْعَقْلِ ، وَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ تَخْصِيصًا ؛ لِأَنَّهُ أَحَالَ مَا يَحْرُمُ بِالرَّضَاعِ عَلَى مَا يَحْرُمُ بِالنَّسَبِ ، وَمَا يَحْرُمُ بِالنَّسَبِ هُوَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ خِطَابُ تَحْرِيمِهِ وَقَدْ تَعَلَّقَ بِمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِلَفْظِ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ { وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ } فَمَا كَانَ مِنْ مُسَمَّى هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مُتَحَقِّقًا فِي الرَّضَاعِ حُرِّمَ فِيهِ ، وَالْمَذْكُورَاتُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا مِنْ مُسَمَّى تِلْكَ فَكَيْفَ تَكُونُ مُخَصَّصَةً وَهِيَ غَيْرُ مُتَنَاوِلَةٍ ؟ وَلِذَا إذَا خَلَا تَنَاوُلُ الِاسْمِ فِي النَّسَبِ جَازَ النِّكَاحُ ، كَمَا إذَا ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْ اثْنَيْنِ وَلِكُلٍّ مِنْهَا بِنْتٌ جَازَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا أَنْ يَتَزَوَّجَ بِنْتَ الْآخَرِ وَإِنْ كَانَتْ أُخْتَ وَلَدِهِ مِنْ النَّسَبِ .
وَأَنْتَ إذَا حَقَّقْت مَنَاطَ الْإِخْرَاجِ أَمْكَنَك تَسْمِيَةَ صُوَرٍ أُخْرَى ، وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي عِبَارَةِ الْكِتَابِ عَلَى هَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُنْقَطِعًا : أَعْنِي قَوْلَهُ { يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ } إلَّا أُمَّ أُخْتِهِ إلَخْ ، وَعَلَى هَذَا فَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى تَحْرِيمِ حَلِيلَةِ الْأَبِ وَالِابْنِ مِنْ الرَّضَاعِ بِقَوْلِهِ { يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ } مُشْكِلٌ ؛ لِأَنَّ حُرْمَتَهُمَا لَيْسَتْ بِسَبَبِ النَّسَبِ بَلْ بِسَبَبِ الصِّهْرِيَّةِ ، فَإِنَّ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ النَّسَبِ سَبْعٌ وَهُنَّ اللَّاتِي عَدَدْنَاهُنَّ آنِفًا كَمَا فِي آيَةِ الْمُحَرَّمَاتِ وَمَا بَعْدَهُنَّ فِيهَا فَمُحَرَّمَاتٌ بِالرَّضَاعِ وَالصِّهْرِيَّةِ ؛ وَمُقْتَضَى الْحَدِيثِ أَنَّ

مَنْ كَانَتْ أُمًّا مِنْ الرَّضَاعَةِ أَوْ بِنْتًا أَوْ أُخْتًا أَوْ بِنْتَ أَخٍ إلَخْ تُحَرَّمُ ، فَإِثْبَاتُ تَحْرِيمِ حَلِيلَةِ كُلٍّ مِنْ الْأَبِ وَالِابْنِ مِنْ الرَّضَاعَةِ قَوْلٌ بِلَا دَلِيلٍ بَلْ الدَّلِيلُ يُفِيدُ حِلَّهَا وَهُوَ قَيْدُ الْأَصْلَابِ فِي الْآيَةِ وَكَوْنُهُ لِإِخْرَاجِ حَلِيلَةِ الْمُتَبَنِّي لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ لِإِخْرَاجِ حَلِيلَةِ الْأَبِ وَالِابْنِ مِنْ الرَّضَاعِ لِصَلَاحِيَّتِهِ لِذَلِكَ فَكَانَ لِإِخْرَاجِهِمَا أَيْضًا وَلَا يَلْزَمُ كَوْنُ الْحَدِيثِ غَيْرَ مَعْمُولٍ بِهِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ بَلْ يُوَفِّرُ عَلَى كُلٍّ مِنْ الْحَدِيثِ وَالنَّصِّ مُقْتَضَى لَفْظِهِ ، بِخِلَافِ حُرْمَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ مِنْ الرَّضَاعِ فَإِنَّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ يُفِيدُ مَنْعَهُ ؛ لِأَنَّهُ يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ مِنْهُ فَكَذَا الْجَمْعُ بَيْنَ أُخْتَيْنِ مِنْ الرَّضَاعِ .
فَإِنْ قُلْت : فَلْيَثْبُتْ بِالْقِيَاسِ عَلَى حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ بِجَامِعِ الْجُزْئِيَّةِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْجُزْئِيَّةَ الْمُعْتَبَرَةَ فِي حُرْمَةِ الرَّضَاعِ هِيَ الْجُزْئِيَّةُ الْكَائِنَةُ عَنْ النُّشُوءِ وَإِنْبَاتِ اللَّحْمِ لَا مُطْلَقُ الْجُزْئِيَّةِ ، وَهَذِهِ لَيْسَتْ الْجُزْئِيَّةُ الْكَائِنَةُ فِي حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ إذْ لَا إنْبَاتَ لِلَّحْمِ مِنْ الْمَنِيِّ الْمُنْصَبِّ فِي الرَّحِمِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ وَاصِلٍ مِنْ الْأَعْلَى فَهُوَ بِالْحُقْنَةِ أَشْبَهُ مِنْهُ بِالْمَشْرُوبِ حَيْثُ يَخْرُجُ كُلُّهَا شَيْئًا فَشَيْئًا حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهَا شَيْءٌ وَلَا يَسْتَحِيلُ إلَى جَوْهَرِ الْإِنْسَانِ كَمَا يَخْرُجُ الْمَنِيُّ وَلَدًا فَلَا يَبْقَى مِنْهُ فِي الْمَرْأَةِ شَيْءٌ اسْتَحَالَ إلَى جَوْهَرِهَا .

( وَامْرَأَةُ أَبِيهِ أَوْ امْرَأَةُ ابْنِهِ مِنْ الرَّضَاعِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا كَمَا لَا يَجُوزُ ذَلِكَ مِنْ النَّسَبِ ) لِمَا رَوَيْنَا ، وَذَكَرَ الْأَصْلَابَ فِي النَّصِّ لِإِسْقَاطِ اعْتِبَارِ التَّبَنِّي عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ .
.
( قَوْلُهُ وَامْرَأَةُ أَبِيهِ أَوْ امْرَأَةُ ابْنِهِ مِنْ الرَّضَاعِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا كَمَا لَا يَجُوزُ ذَلِكَ مِنْ النَّسَبِ ) أَيْ كَمَا لَا يَجُوزُ تَزَوُّجُ امْرَأَةِ أَبِيهِ أَوْ ابْنِهِ مِنْ النَّسَبِ ، كَذَا لَا يَجُوزُ تَزَوُّجُ امْرَأَةِ أَبِيهِ أَوْ ابْنِهِ مِنْ الرَّضَاعِ .
فَإِنْ قِيلَ : ذِكْرُ الْأَصْلَابِ فِي آيَةِ الْمُحَرَّمَاتِ يُخْرِجُهُمَا .
أُجِيبَ بِأَنَّهَا نَزَلَتْ لِإِسْقَاطِ طَعْنِهِمْ بِسَبَبِ تَزَوُّجِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَوْجَةَ الْمُتَبَنِّي فَالْقَيْدُ لِإِسْقَاطِ حُرْمَةِ زَوْجَتِهِ .
بَقِيَ أَنْ يُقَالَ : فَمِنْ أَيْنَ يَثْبُتُ تَحْرِيمُهُمَا ؟ وَيُجَابُ بِعُمُومِ حَدِيثِ { يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ } وَقَدْ عَلِمْت مَا فِي الْجَوَابَيْنِ .
وَمِنْ فُرُوعِهِمَا فَرْعٌ لَطِيفٌ : وَهُوَ رَجُلٌ زَوَّجَ أُمَّ وَلَدِهِ مِنْ رَضِيعٍ ثُمَّ أَعْتَقَهَا فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ وَوَلَدَتْ مِنْهُ ثُمَّ جَاءَتْ إلَى الرَّضِيعِ الَّذِي كَانَ زَوْجَهَا فَأَرْضَعَتْهُ حُرِّمَتْ عَلَى زَوْجِهَا ؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَ صَارَ ابْنًا لَهُ ، فَلَوْ بَقِيَ النِّكَاحُ صَارَ مُتَزَوِّجًا بِامْرَأَةِ ابْنِهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ ( قَوْلُهُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ) أَيْ فِي فَصْلِ الْمُحَرَّمَاتِ .

( وَلَبَنُ الْفَحْلِ يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ ، وَهُوَ أَنْ تُرْضِعَ الْمَرْأَةُ صَبِيَّةً فَتَحْرُمُ هَذِهِ الصَّبِيَّةُ عَلَى زَوْجِهَا وَعَلَى آبَائِهِ وَأَبْنَائِهِ وَيَصِيرُ الزَّوْجُ الَّذِي نَزَلَ لَهَا مِنْهُ اللَّبَنُ أَبًا لِلْمُرْضَعَةِ ) وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ : لَبَنُ الْفَحْلِ لَا يُحَرِّمُ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ لِشُبْهَةِ الْبَعْضِيَّةِ وَاللَّبَنُ بَعْضُهَا لَا بَعْضُهُ .
وَلَنَا مَا رَوَيْنَا ، وَالْحُرْمَةُ بِالنَّسَبِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَكَذَا بِالرَّضَاعِ .
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : { لِيَلِجْ عَلَيْكِ أَفْلَحُ فَإِنَّهُ عَمُّكِ مِنْ الرَّضَاعَةِ } وَلِأَنَّهُ سَبَبٌ لِنُزُولِ اللَّبَنِ مِنْهَا فَيُضَافُ إلَيْهِ فِي مَوْضِعِ الْحُرْمَةِ احْتِيَاطًا ( وَيَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الرَّجُلُ بِأُخْتِ أَخِيهِ مِنْ الرَّضَاعِ ) ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأُخْتِ أَخِيهِ مِنْ النَّسَبِ وَذَلِكَ مِثْلُ الْأَخِ مِنْ الْأَبِ إذَا كَانَتْ لَهُ أُخْتٌ مِنْ أُمِّهِ جَازَ لِأَخِيهِ مِنْ أَبِيهِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا .
.

( قَوْلُهُ وَلَبَنُ الْفَحْلِ ) هُوَ مِنْ إضَافَةِ الشَّيْءِ إلَى سَبَبِهِ ( يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ ) يَعْنِي اللَّبَنَ الَّذِي نَزَلَ مِنْ الْمَرْأَةِ بِسَبَبِ وِلَادَتِهَا مِنْ رَجُلٍ زَوْجٍ أَوْ سَيِّدٍ يَتَعَلَّق بِهِ التَّحْرِيمُ بَيْنَ مَنْ أَرْضَعَتْهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ الرَّجُلِ بِأَنْ يَكُونَ أَبًا لِلرَّضِيعِ ، فَلَا تَحِلُّ لَهُ إنْ كَانَتْ صَبِيَّةً ؛ لِأَنَّهُ أَبُوهَا وَلَا لِإِخْوَتِهِ ؛ لِأَنَّهُمْ أَعْمَامُهَا وَلَا لِآبَائِهِ ؛ لِأَنَّهُمْ أَجْدَادُهَا وَلَا لِأَعْمَامِهِ ؛ لِأَنَّهُمْ أَعْمَامُ الْأَبِ وَلَا لِأَوْلَادِهِ وَإِنْ كَانُوا مِنْ غَيْرِ الْمُرْضِعَةِ ؛ لِأَنَّهُمْ إخْوَتُهَا لِأَبِيهَا وَلَا لِأَبْنَاءِ أَوْلَادِهِ ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّةَ عَمَّتُهُمْ ، وَإِذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْحُرْمَةُ مِنْ زَوْجِ الْمُرْضِعَةِ فَمِنْهَا أَوْلَى فَلَا تَتَزَوَّجُ أَبَاهَا ؛ لِأَنَّهُ جَدُّهَا لِأُمِّهَا وَلَا أَخَاهَا ؛ لِأَنَّهُ خَالُهَا وَلَا عَمَّهَا ؛ لِأَنَّهَا بِنْتُ بِنْتِ أَخِيهِ وَلَا خَالَهَا ؛ لِأَنَّهَا بِنْتُ بِنْتِ أُخْتِهِ وَلَا أَبْنَاءَهَا وَإِنْ كَانُوا مِنْ غَيْرِ صَاحِبِ اللَّبَنِ ؛ لِأَنَّهُمْ إخْوَتُهَا لِأُمِّهَا .
وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ زَوْجَتَانِ أَرْضَعَتْ كُلٌّ مِنْهُمَا بِنْتًا لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا أُخْتَانِ مِنْ الرَّضَاعِ لِأَبٍ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ تَزَوَّجَتْ بِرَجُلٍ وَهِيَ ذَاتُ لَبَنٍ لِآخَرَ قَبْلَهُ فَأَرْضَعَتْ صَبِيَّةً فَإِنَّهَا رَبِيبَةٌ لِلثَّانِي وَبِنْتٌ لِلْأَوَّلِ فَيَحِلُّ تَزَوُّجُهَا بِأَبْنَاءِ الثَّانِي ، وَلَوْ كَانَ الْمُرْضِعُ صَبِيًّا حَلَّ لَهُ تَزَوُّجُهُ بِبَنَاتِهِ هَذَا مَا لَمْ تَلِدْ مِنْ الثَّانِي ، فَإِذَا وَلَدَتْ مِنْ الثَّانِي فَإِنْ أَرْضَعَتْ رَضِيعًا فَهُوَ وَلَدٌ لِلثَّانِي ، وَإِنْ حَبِلَتْ مِنْ الثَّانِي وَهِيَ ذَاتُ لَبَنٍ مِنْ الْأَوَّلِ فَمَا لَمْ تَلِدْ ، اللَّبَنُ مِنْ الْأَوَّلِ وَالرَّضِيعُ بِهِ وَلَدٌ لَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَثْبُتُ مِنْهُ الْحُرْمَةُ خَاصَّةً ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَدٌ لَهُمَا فَتَثْبُتُ الْحُرْمَةُ مِنْ الزَّوْجَيْنِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : إنْ عُلِمَ أَنَّ

اللَّبَنَ مِنْ الثَّانِي بِأَمَارَةٍ كَزِيَادَةٍ فَهُوَ وَلَدُ الثَّانِي ، وَإِلَّا فَهُوَ وَلَدُ الْأَوَّلِ .
وَعَنْهُ : إنْ كَانَ اللَّبَنُ مِنْ الْأَوَّلِ غَالِبًا فَهُوَ لَهُ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الثَّانِي غَالِبًا فَهُوَ لِلثَّانِي ، وَإِنْ اسْتَوَيَا فَلَهُمَا ، وَبِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْجَدِيدِ ، وَقَدْ حَكَى الْخِلَافَ هَكَذَا : إنْ زَادَ اللَّبَنُ بِالْحَبَلِ فَهُوَ ابْنُهُمَا عِنْدَهُمَا وَابْنُ الْأَوَّلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَكَوْنُهُ ابْنَهُمَا بِزِيَادَةِ اللَّبَنِ مُطْلَقًا أَنْسَبُ بِقَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَا إذَا اخْتَلَطَ لَبَنُ امْرَأَتَيْنِ كَمَا سَيُعْلَمُ فِيهَا ، بِخِلَافِ مَا لَوْ وَلَدَتْ لِلزَّوْجِ فَنَزَلَ لَهَا لَبَنٌ فَأَرْضَعَتْ بِهِ ثُمَّ جَفَّ لَبَنُهَا ثُمَّ دَرَّ لَهَا فَأَرْضَعَتْ بِهِ صَبِيَّةً ، فَإِنَّ لِوَلَدِ زَوْجِ الْمُرْضَعَةِ مِنْ غَيْرِهَا التَّزَوُّجَ بِهَذِهِ الصَّبِيَّةِ ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ لَبَنَ الْفَحْلِ لِيَكُونَ هُوَ أَبَاهَا ، كَمَا لَوْ لَمْ تَلِدْ مِنْ الزَّوْجِ أَصْلًا وَنَزَلَ لَهَا لَبَنٌ فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِإِرْضَاعِهَا تَحْرِيمٌ بَيْنَ ابْنِ زَوْجِهَا وَمَنْ أَرْضَعَتْهُ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِنْتَهُ ؛ لِأَنَّ نِسْبَتَهُ إلَيْهِ بِسَبَبِ الْوِلَادَةِ مِنْهُ ، فَإِذَا انْتَفَتْ انْتَفَتْ النِّسْبَةُ فَكَانَ كَلَبَنِ الْبِكْرِ ، وَلَبَنِ الزِّنَا كَالْحَلَالِ فَإِذَا أَرْضَعَتْ بِهِ بِنْتًا حُرِّمَتْ عَلَى الزَّانِي وَآبَائِهِ وَأَبْنَائِهِ وَأَبْنَاءِ أَبْنَائِهِمْ وَإِنْ سَفَلُوا .
وَفِي التَّجْنِيسِ : مِنْ عَلَامَةِ أَجْنَاسِ النَّاطِفِيِّ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْجُرْجَانِيِّ كَانَ يَقُولُ فِي الدَّرْسِ : لَا يَجُوزُ لِلزَّانِي أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالصَّبِيَّةِ الْمُرْضَعَةِ وَلَا لِأَبِيهِ وَلَا لِأَجْدَادِهِ وَلَا لِأَحَدٍ مِنْ أَوْلَادِهِ وَأَوْلَادِهِمْ ، وَلِعَمِّ الزَّانِي أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهَا ، كَمَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالصَّبِيَّةِ الَّتِي وَلَدَتْ مِنْ الزَّانِي ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهَا مِنْ الزَّانِي حَتَّى يَظْهَرَ فِيهَا حُكْمُ الْقَرَابَةِ ،

وَالتَّحْرِيمُ عَلَى آبَاءِ الزَّانِي وَأَوْلَادِهِ لِاعْتِبَارِ الْجُزْئِيَّةِ وَالْبَعْضِيَّةِ وَلَا جُزْئِيَّةَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْعَمِّ ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي حَقِّ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنْ الزِّنَا فَكَذَا فِي حَقِّ الْمُرْضِعَةِ بِلَبَنِ الزِّنَا .
قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ : وَكَذَا لَوْ لَمْ تَحْبَلْ مِنْ الزِّنَا وَأَرْضَعَتْ لَا بِلَبَنِ الزَّانِي تَحْرُمُ عَلَى الزَّانِي كَمَا تَحْرُمُ بِنْتُهَا عَلَيْهِ مِنْ النَّسَبِ .
وَذَكَرَ الْوَبَرِيُّ أَنَّ الْحُرْمَةَ تَثْبُتُ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ خَاصَّةً مَا لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ حِينَئِذٍ تَثْبُتُ مِنْ الْأَبِ ، وَكَذَا ذَكَرَ الْإِسْبِيجَابِيُّ وَصَاحِبُ الْيَنَابِيعِ ، وَهُوَ أَوْجَهُ ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ مِنْ الزِّنَا لِلْبَعْضِيَّةِ وَذَلِكَ فِي الْوَلَدِ نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ مَائِهِ دُونَ اللَّبَنِ ، إذْ لَيْسَ اللَّبَنُ كَائِنًا عَنْ مَنِيِّهِ ؛ لِأَنَّهُ فَرْعُ التَّغَذِّي بِخِلَافِ الْوَلَدِ ، وَالتَّغَذِّي لَا يَقَعُ إلَّا بِمَا يَدْخُلُ مِنْ أَعْلَى الْمَعِدَةِ لَا مِنْ أَسْفَلِ الْبَدَنِ كَالْحُقْنَةِ فَلَا إنْبَاتَ فَلَا حُرْمَةَ ، بِخِلَافِ ثَابِتِ النَّسَبِ ؛ لِأَنَّ النَّصَّ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ } أَثْبَتَ الْحُرْمَةَ مِنْهُ ، وَبِهِ يُسْتَدَلُّ عَلَى إبْطَالِ قَوْلٍ ضَعِيفٍ لِلشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ مِنْ الزَّوْجِ .
وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ؛ لِأَنَّهُ لَا جُزْئِيَّةَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ مَنْ أَرْضَعَتْهُ زَوْجَتُهُ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ نَزَلَ لِلرَّجُلِ لَبَنٌ فَارْتَضَعَتْهُ صَغِيرَةٌ حَلَّتْ لَهُ فَكَيْفَ تَحْرُمُ بِلَبَنٍ هُوَ سَبَبٌ بَعِيدٌ فِيهِ .
وَلَنَا النَّظَرُ الْمَذْكُورُ ، وَمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ بَعْدَمَا نَزَلَ الْحِجَابُ وَقُلْتُ : وَاَللَّهِ لَا آذَنُ لَهُ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَإِنَّ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي وَإِنَّمَا أَرْضَعَتْنِي

امْرَأَةُ أَبِي الْقُعَيْسِ ، فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ الرَّجُلَ لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي امْرَأَتُهُ ، فَقَالَ : ائْذَنِي لَهُ فَإِنَّهُ عَمُّكِ تَرِبَتْ يَدَاكِ } وَفِي رِوَايَةٍ { تَرِبَتْ يَمِينُكِ } إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الشَّاهِدَةِ بِالْحُكْمِ الْمَذْكُورِ بِحَيْثُ يَتَضَاءَلُ مَعَهَا ذَلِكَ الْمَعْقُولُ .
عَلَى أَنَّهُ قَدْ قِيلَ إنَّهُ لَا يَتَغَذَّى الْوَلَدُ بِهِ ، وَأَمَّا لَبَنُ الرَّجُلِ فَسَيَذْكُرُهُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَإِذَا تَرَجَّحَ عَدَمُ حُرْمَةِ الرَّضِيعَةِ بِلَبَنِ الزَّانِي عَلَى الزَّانِي كَمَا ذَكَرْنَا فَعَدَمُ حُرْمَتِهَا عَلَى مَنْ لَيْسَ اللَّبَنُ مِنْهُ أَوْلَى ، بِخِلَافِ مَا فِي الْخُلَاصَةِ ، وَلِأَنَّهُ يُخَالِفُ الْمَسْطُورَ فِي الْكُتُبِ الْمَشْهُورَةِ إذْ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ بِنْتِ الْمُرْضِعَةِ بِلَبَنِ غَيْرِ الزَّوْجِ عَلَى الزَّوْجِ بِطَرِيقٍ أَوْلَى ، وَتَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي دَلَالَةِ حَدِيثِ { يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ } عَلَى حُرْمَةِ الرَّبِيبَةِ مِنْ الرَّضَاعِ ( قَوْلُهُ : وَلِأَنَّهُ سَبَبٌ لِنُزُولٍ اللَّبَنِ مِنْهَا فَتُضَافُ الْحُرْمَةُ إلَيْهِ احْتِيَاطًا ) كَالْمُصَاهَرَةِ ؛ وَأَنْتَ عَلِمْت الْفَرْقَ بَلْ حَقِيقَةُ الْحَالِ أَنَّ الْبَعْضِيَّةَ تَثْبُتُ بَيْنَ الْمُرْضِعَةِ وَالرَّضِيعِ فَأُثْبِتَتْ حُرْمَةُ الْأَبْنِيَةِ ثُمَّ انْتَشَرَتْ لَوَازِمُ تَحْرِيمِ الْوَلَدِ .
.

( وَكُلُّ صَبِيَّيْنِ اجْتَمَعَا عَلَى ثَدْيٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يَجُزْ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالْأُخْرَى ) هَذَا هُوَ الْأَصْلُ ؛ لِأَنَّ أُمَّهُمَا وَاحِدَةٌ فَهُمَا أَخٌ وَأُخْتٌ ( وَلَا يَتَزَوَّجُ الْمُرْضَعَةَ أَحَدٌ مِنْ وَلَدِ الَّتِي أَرْضَعَتْ ) ؛ لِأَنَّهُ أَخُوهَا وَلَا وَلَدُ وَلَدِهَا ) ؛ لِأَنَّهُ وَلَدُ أَخِيهَا .
.
( قَوْلُهُ وَكُلُّ صَبِيَّيْنِ ) يُرِيدُ صَبِيًّا وَصَبِيَّةً فَغَلَّبَ الْمُذَكَّرَ فِي التَّثْنِيَةِ كَالْقَمَرَيْنِ وَهُوَ أَحَدُ أَسْبَابِ التَّغْلِيبِ كَالْخِفَّةِ فِي الْعُمَرَيْنِ فَإِنَّ عُمَرَ أَخَفُّ مِنْ أَبِي بَكْرٍ ، وَلَوْ ثَنَّى نَحْوَ أَبِي بَكْرٍ فَعِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ يَكُونُ بِتَثْنِيَةِ الْمُضَافِ فَيُقَالُ أَبَوَا بَكْرٍ وَالْكُوفِيُّونَ يُثَنُّونَ الْجُزْأَيْنِ فَيَقُولُونَ أَبَوَا بَكْرَيْنِ ، وَالشُّهْرَةُ كَالْأَقْرَعَيْنِ لِلْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ وَأَخِيهِ ( قَوْلُهُ وَلَا يَتَزَوَّجُ الْمُرْضَعَةَ ) بِفَتْحِ الضَّادِ تُوُورِثَ ، وَيَجُوزُ كَوْنُهَا فَاعِلًا فَيُنْصَبُ أَحَدٌ وَمَفْعُولًا فَيُرْفَعُ ، وَمَا فِي الْكِتَابِ ظَاهِرٌ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ وَلَدِ الَّتِي أَرْضَعَتْهُ رَضَعَ مَعَ الرَّضْعَةِ أَوْ كَانَ سَابِقًا بِالسِّنِّ بِسِنِينَ كَثِيرَةٍ أَوْ مَسْبُوقًا بِارْتِضَاعِهَا بِأَنْ وُلِدَ بَعْدَهَا بِسِنِينَ ، وَكَذَا لَا يَتَزَوَّجُ أُخْتَ الْمُرْضِعَةِ ؛ لِأَنَّهَا خَالَتُهُ .

( وَلَا يَتَزَوَّجُ الصَّبِيُّ الْمُرْضَعُ أُخْتَ زَوْجِ الْمُرْضَعَةِ ؛ لِأَنَّهَا عَمَّتُهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَإِذَا اخْتَلَطَ اللَّبَنُ بِالْمَاءِ وَاللَّبَنُ هُوَ الْغَالِبُ تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ ) وَإِنْ غَلَبَ الْمَاءُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ التَّحْرِيمُ ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ يَقُولُ : إنَّهُ مَوْجُودٌ فِيهِ حَقِيقَةً ، وَنَحْنُ نَقُولُ الْمَغْلُوبُ غَيْرُ مَوْجُودٍ حُكْمًا حَتَّى لَا يَظْهَرَ فِي مُقَابَلَةِ الْغَالِبِ كَمَا فِي الْيَمِينِ ( وَإِنْ اخْتَلَطَ بِالطَّعَامِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ التَّحْرِيمُ ) وَإِنْ كَانَ اللَّبَنُ غَالِبًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَالَا : إذَا كَانَ اللَّبَنُ غَالِبًا يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : قَوْلُهُمَا فِيمَا إذَا لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ ، حَتَّى لَوْ طَبَخَ بِمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا .
لَهُمَا أَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْغَالِبِ كَمَا فِي الْمَاءِ إذَا لَمْ يُغَيِّرْهُ شَيْءٌ عَنْ حَالِهِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الطَّعَامَ أَصْلٌ وَاللَّبَنُ تَابِعٌ لَهُ فِي حَقِّ الْمَقْصُودِ فَصَارَ كَالْمَغْلُوبِ ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِتَقَاطُرِ اللَّبَنِ مِنْ الطَّعَامِ عِنْدَهُ هُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّ التَّغَذِّي بِالطَّعَامِ إذْ هُوَ الْأَصْلُ .
.

( قَوْلُهُ وَإِذَا اخْتَلَطَ اللَّبَنُ بِالْمَاءِ وَاللَّبَنُ هُوَ الْغَالِبُ تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ ، وَإِنْ غَلَبَ الْمَاءُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ التَّحْرِيمُ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ) فَإِنَّ الْأَصَحَّ عِنْدَهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ اللَّبَنُ قَدْرَ خَمْسِ رَضَعَاتٍ حَرَّمَ وَإِلَّا فَلَا ، وَكَذَا الْخَلْطُ بِلَبَنِ الْبَهِيمَةِ وَالدَّوَاءِ عِنْدَهُ وَبِكُلِّ مَائِعٍ أَوْ جَامِدٍ .
وَاعْتَبَرَ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ اللَّبَنُ مُسْتَهْلَكًا ( قَوْلُهُ هُوَ ) أَيْ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ( يَقُولُ إنَّهُ ) أَيْ اللَّبَنَ عَلَى ظَاهِرِ نَقْلِ الْمُصَنِّفِ عَنْهُ ، وَعَلَى مَا هُوَ الْأَصَحُّ فَمَرْجِعُ الضَّمِيرِ الْقَدْرُ الْمُحَرِّمُ ( مَوْجُودٌ فِيهِ حَقِيقَةً ) فَيَسْتَلْزِمُ حُكْمَهُ مِنْ التَّحْرِيمِ ( قَوْلُهُ وَنَحْنُ نَقُولُ ) حَاصِلُهُ الْقِيَاسُ عَلَى الْيَمِينِ عَلَى أَنْ لَا يَشْرَبَ لَبَنًا فَإِنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ الْحِنْثُ بِشُرْبِهِ مَغْلُوبًا بِالْمَاءِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ حُكْمُ الْغَالِبِ ، فَكَذَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ لِذَلِكَ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ حُكْمَ هَذَا الْقِيَاسِ عَدَمُ اعْتِبَارِ الْمَغْلُوبِ شَرْعًا لَا عَدَمُ تَعَلُّقِ التَّحْرِيمِ لِاخْتِلَافِ حُكْمِ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ ؛ لِأَنَّهُ فِي الْأَصْلِ حُرْمَةُ شُرْبِ اللَّبَنِ بِلَا ضَرُورَةٍ لِهَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى .
وَفِي الْفَرْعِ حَلَّ الشُّرْبُ وَالسَّقْيُ غَيْرَ أَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُرْمَةُ النِّكَاحِ ، وَحِينَئِذٍ لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ : بَلْ هُنَاكَ فَارِقٌ وَهُوَ بِنَاءُ الْأَيْمَانِ عَلَى الْعُرْفِ وَالْعُرْفُ لَا يَعْتَبِرُ الْمَغْلُوبَ ، فَلَا يُقَالُ لِشَارِبِ مَاءٍ فِيهِ لَبَنٌ مَغْلُوبٌ شَرِبَ لَبَنًا إلَّا أَنْ يُقَالَ مَخْلُوطًا فَيُقَيِّدُونَهُ ، وَأَمَّا مَا نَحْنُ فِيهِ فَالْحُرْمَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَقَدْ وُجِدَتْ وَالْوَضْعُ مَوْضِعُ الِاحْتِيَاطِ وَلَا مَدْفَعَ لِهَذَا ، إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّهُ إذَا كَانَ مَغْلُوبًا بِالْمَاءِ فَيَكُونُ غَيْرَ مُنْبِتٍ لِذَهَابِ قُوَّتِهِ وَلَا عِبْرَةَ

بِالْمَظِنَّةِ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْخُلُوِّ عَنْ الْمَئِنَّةِ هَذَا إذَا اخْتَلَطَ بِالْمَاءِ ، أَمَّا لَوْ اخْتَلَطَ بِالطَّعَامِ فَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا عَقِيبَ هَذِهِ ، وَقَوْلُهُمَا فِيهَا كَقَوْلِهِمْ فِي الِاخْتِلَاطِ بِالْمَاءِ .
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ تَحْرِيمٌ وَإِنْ غَلَبَ اللَّبَنُ هَذَا إذَا لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ ، أَمَّا إنْ طَبَخَ فَلَا تَحْرِيمَ مُطْلَقًا بِالِاتِّفَاقِ ( لَهُمَا أَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْغَالِبِ فَصَارَ كَالْمَاءِ إذَا لَمْ يُغَيِّرْهُ شَيْءٌ عَنْ حَالِهِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَنَّ الطَّعَامَ أَصْلٌ وَاللَّبَنُ تَابِعٌ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ ) وَهُوَ التَّغَذِّي ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ خَلْطَ اللَّبَنِ بِالطَّعَامِ لَا يَكُونُ لِلرَّضِيعِ إلَّا بَعْدَ تَعَوُّدِهِ بِالطَّعَامِ وَتَغَذِّيهِ بِهِ ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَقِلُّ تَغَذِّيهِ بِاللَّبَنِ وَنُشُوئِهِ مِنْهُ فَقَدْ اجْتَمَعَ فِي جَوْفِهِ مَا يُنْبِتُ وَأَحَدُهُمَا أَكْثَرُ وَهُوَ الطَّعَامُ فَيَصِيرُ الْآخَرُ الرَّقِيقُ مُسْتَهْلَكًا فَلَا يَثْبُتُ التَّحْرِيمُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَرْضُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ اللَّبَنَ غَالِبٌ فِي الْقَصْعَةِ ، أَمَّا عِنْدَ رَفْعِ اللُّقْمَةِ إلَى فِيهِ فَأَكْثَرُ الْوَاصِلِ إلَى جَوْفِهِ الطَّعَامُ حَتَّى لَوْ كَانَ ذَلِكَ الطَّعَامُ رَقِيقًا يُشْرَبُ اعْتَبَرْنَا غَلَبَةَ اللَّبَنِ إنْ غَلَبَ وَأَثْبَتْنَا الْحُرْمَةَ ، ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ : وَلَا مُعْتَبَرَ بِتَقَاطُرِ اللَّبَنِ هُوَ الصَّحِيحُ احْتِرَازًا مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنْ الْمَشَايِخِ إنَّ عَدَمَ إثْبَاتِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْحُرْمَةَ وَاللَّبَنُ غَالِبٌ هُوَ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَقَاطِرًا عِنْدَ رَفْعِ اللُّقْمَةِ ، أَمَّا مَعَهُ فَيَحْرُمُ اتِّفَاقًا ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْقَطْرَةَ إذَا دَخَلَتْ الْجَوْفَ أَثْبَتَتْ التَّحْرِيمَ ، وَالصَّحِيحُ إطْلَاقُ عَدَمِ الْحُرْمَةِ ؛ لِأَنَّ التَّغَذِّي حِينَئِذٍ بِالطَّعَامِ وَالتَّغَذِّي مَنَاطُ التَّحْرِيمِ .

( وَإِنْ اخْتَلَطَ بِالدَّوَاءِ وَاللَّبَنُ غَالِبٌ تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ ) ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ يَبْقَى مَقْصُودًا فِيهِ ، إذْ الدَّوَاءُ لِتَقْوِيَتِهِ عَلَى الْوُصُولِ ، وَإِذَا اخْتَلَطَ اللَّبَنُ بِلَبَنِ الشَّاةِ وَهُوَ الْغَالِبُ تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ ( وَإِنْ غَلَبَ لَبَنُ الشَّاةِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ التَّحْرِيمُ ) اعْتِبَارًا لِلْغَالِبِ كَمَا فِي الْمَاءِ .
.
( قَوْلُهُ فَإِنْ اخْتَلَطَ ) أَيْ اللَّبَنُ بِالدَّوَاءِ .
حَاصِلُهُ أَنَّهُ كَالْمَاءِ ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ إذَا كَانَ غَالِبًا مَعَ الدَّوَاءِ ظَهَرَ قَصْدَانُ الدَّوَاءِ لِتَنْفِيذِهِ وَعَلَى هَذَا إذَا اخْتَلَطَ بِالدُّهْنِ أَوْ النَّبِيذِ تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ سَوَاءٌ أُوجِرَ بِذَلِكَ أَمْ اسْتَعَطَ ( قَوْلُهُ وَإِذَا اخْتَلَطَ اللَّبَنُ بِلَبَنِ شَاةٍ فَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ لَبَنَ الْآدَمِيَّةِ تَعَلَّقَ التَّحْرِيمُ بِشُرْبِ الصَّغِيرِ إيَّاهُ ) أَوْ لَبَنُ الشَّاةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ تَحْرِيمٌ ؛ لِأَنَّ لَبَنَ الشَّاةِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَثَرٌ فِي إثْبَاتِ الْحُرْمَةِ كَانَ كَالْمَاءِ فَيُعْتَبَرُ الْغَالِبُ ، وَلَوْ تَسَاوَيَا وَجَبَ ثُبُوتُ الْحُرْمَةِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَغْلُوبٍ فَلَمْ يَكُنْ مُسْتَهْلَكًا .

( وَإِذَا اخْتَلَطَ لَبَنُ امْرَأَتَيْنِ تَعَلَّقَ التَّحْرِيمُ بِأَغْلَبِهِمَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ صَارَ شَيْئًا وَاحِدًا فَيُجْعَلُ الْأَقَلُّ تَابِعًا لِلْأَكْثَرِ فِي بِنَاءِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ ( وَقَالَ مُحَمَّدٌ ) وَزُفَرٌ ( يَتَعَلَّقُ التَّحْرِيمُ بِهِمَا ) ؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ لَا يَغْلِبُ الْجِنْسَ فَإِنَّ الشَّيْءَ لَا يَصِيرُ مُسْتَهْلَكًا فِي جِنْسِهِ لِاتِّحَادِ الْمَقْصُودِ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذَا رِوَايَتَانِ ، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي الْأَيْمَانِ .
( قَوْلُهُ وَإِذَا اخْتَلَطَ لَبَنُ امْرَأَتَيْنِ تَعَلَّقَ التَّحْرِيمُ بِأَغْلَبِهِمَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ مِنْهُمَا جَمِيعًا وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ رِوَايَةٌ كَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَرِوَايَةٌ كَقَوْلِ مُحَمَّدٍ .
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ جَعْلُ الْأَقَلِّ تَابِعًا لِلْأَكْثَرِ .
وَوَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْجِنْسَ لَا يَغْلِبُ جِنْسَهُ فَلَا يُسْتَهْلَكُ فِيهِ فَلَمْ يَكُنْ مِنْهُمَا تَبَعًا لِلْآخِرِ فَيَثْبُتُ التَّحْرِيمُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا اسْتِقْلَالًا .
قَالَ ( وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي الْأَيْمَانِ ) إذَا حَلَفَ لَا يَشْرَبُ لَبَنَ هَذِهِ الْبَقَرَةِ فَخَلَطَ لَبَنَهَا بِلَبَنِ بَقَرَةٍ أُخْرَى فَشَرِبَهُ وَلَبَنُ الْبَقَرَةِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهَا مَغْلُوبٌ فَفِي النِّهَايَةِ وَالدِّرَايَةِ هُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي بَيَّنَّا .
وَقَالَ شَارِحٌ : عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَحْنَثُ وَعِنْدَهُمَا لَا يَحْنَثُ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ أَصْلًا لِلْخِلَافِ إذَا كَانَ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ وَكَانَ مَيْلُ الْمُصَنِّفِ إلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ حَيْثُ أَخَّرَ دَلِيلَهُ فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مَنْ تَأَخَّرَ كَلَامُهُ فِي الْمُنَاظَرَةِ كَانَ الْقَاطِعُ لِلْآخَرِ ، وَأَصْلُهُ أَنَّ السُّكُوتَ ظَاهِرٌ فِي الِانْقِطَاعِ ، وَرَجَّحَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ قَوْلَ مُحَمَّدٍ أَيْضًا وَهُوَ ظَاهِرٌ .

( وَإِذَا نَزَلَ لِلْبِكْرِ لَبَنٌ فَأَرْضَعَتْ صَبِيًّا تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ ) لِإِطْلَاقِ النَّصِّ وَلِأَنَّهُ سَبَبُ النُّشُوءِ فَتَثْبُتُ بِهِ شُبْهَةُ الْبَعْضِيَّةِ .
.
( قَوْلُهُ وَإِذَا نَزَلَ لِلْبِكْرِ لَبَنٌ تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ لِإِطْلَاقِ النَّصِّ وَلِأَنَّهُ سَبَبُ النُّشُوءِ ) وَعَلَيْهِ الْأَرْبَعَةُ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَرِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ ؛ لِأَنَّهُ نَادِرٌ فَأَشْبَهَ لَبَنَ الرَّجُلِ .
قُلْنَا نُدْرَةُ الْوُجُودِ لَا تَمْنَعُ عَمَلَ الدَّلِيلِ إذَا وُجِدَ ، وَسَنَذْكُرُ لَهُ تَتِمَّةً .

( وَإِذَا حَلَبَ لَبَنَ الْمَرْأَةِ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَوْجَرَ الصَّبِيَّ تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ، هُوَ يَقُولُ : الْأَصْلُ فِي ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ إنَّمَا هُوَ الْمَرْأَةُ ثُمَّ تَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهَا بِوَاسِطَتِهَا ، وَبِالْمَوْتِ لَمْ تَبْقَ مَحَلًّا لَهَا ، وَلِهَذَا لَا يُوجِبُ وَطْؤُهَا حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ .
وَلَنَا أَنَّ السَّبَبَ هُوَ شُبْهَةُ الْجُزْئِيَّةِ وَذَلِكَ فِي اللَّبَنِ لِمَعْنَى الْإِنْشَازِ وَالْإِنْبَاتِ وَهُوَ قَائِمٌ بِاللَّبَنِ ، وَهَذِهِ الْحُرْمَةُ تَظْهَرُ فِي حَقِّ الْمَيِّتَةِ دَفْنًا وَتَيَمُّمًا .
أَمَّا الْحُرْمَةُ فِي الْوَطْءِ لِكَوْنِهِ مُلَاقِيًا لِمَحَلِّ الْحَرْثِ وَقَدْ زَالَ بِالْمَوْتِ فَافْتَرَقَا .
.

( قَوْلُهُ وَإِذَا حَلَبَ لَبَنَ امْرَأَةٍ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَوْجَرَ بِهِ صَبِيٌّ تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ ) وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ ( خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ، هُوَ يَقُولُ الْأَصْلُ فِي ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ إنَّمَا هُوَ الْمَرْأَةُ ثُمَّ تَتَعَدَّى الْحُرْمَةُ إلَى غَيْرِهَا بِوَاسِطَتِهَا وَبِالْمَوْتِ لَمْ تَبْقَ مَحَلًّا لَهَا ، وَلِهَذَا ) أَيْ لِعَدَمِ الْمَحَلِّيَّةِ ( لَا يُوجِبُ وَطْؤُهَا حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ .
وَلَنَا أَنَّ السَّبَبَ الْجُزْئِيَّةُ ) وَحَاصِلُهُ إلْغَاءُ الْفَارِقِ بَيْنَ الْإِجْمَاعِيَّةِ وَهِيَ مَا إذَا كَانَتْ حَيَّةً ، وَالْخِلَافِيَّةِ وَهِيَ مَا إذَا كَانَتْ مَيِّتَةً وَهُوَ مَوْتُهَا ؛ لِأَنَّ حَيَاتَهَا لَيْسَ جُزْءَ السَّبَبِ لِتَنْتَفِيَ الْحُرْمَةُ بِانْتِفَائِهِ بَلْ حُصُولُ الْجُزْئِيَّةِ تَمَامُ الْحِكْمَةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يُحَرِّمُ مِنْ الرَّضَاعِ إلَّا مَا أَنْبَتَ اللَّحْمَ } إلَخْ ، وَهُوَ حَاصِلٌ بِلَبَنِ الْمَيِّتَةِ وَالِارْتِضَاعُ تَمَامُ الْعِلَّةِ ، وَمَوْتُهَا غَيْرُ مَانِعٍ ؛ لِأَنَّ مَانِعِيَّتَهُ إنْ أُضِيفَتْ إلَى انْتِفَاءِ مَحَلِّيَّتِهَا مُطْلَقًا لِلْحُكْمِ مَنَعْنَاهُ لِثُبُوتِ بَعْضِهَا ، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ رَجُلٌ بِهَذِهِ الصَّبِيَّةِ فِي الْحَالِ حَلَّ لَهُ دَفْنُ الْمَيِّتَةِ وَيَمَّمَهَا ؛ لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ أُمُّ زَوْجَتِهِ ، وَأَيْضًا بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهَا ، حَتَّى لَا يَجُوزَ لَهُ الْجَمْعُ بَيْنَ الرَّضِيعَةِ وَبِنْتِ الْمَيِّتَةِ ؛ لِأَنَّهُمَا أُخْتَانِ ، أَوْ بِالنِّسْبَةِ إلَى حُرْمَةِ نِكَاحِهَا فَقَطْ مَنَعْنَا تَأْثِيرَهُ فِي إفَادَةِ الْمَانِعِيَّةِ بَلْ يُفْسِدُهَا انْتِفَاءُ الْحُكْمِ مُطْلَقًا ، فَإِنْ بَيَّنَ الْمَانِعِيَّةَ بِأَنَّ الْحُكْمَ وَهُوَ حُرْمَةَ النِّكَاحِ يَثْبُتُ أَوَّلًا فِيهَا ثُمَّ يَتَعَدَّى .
قُلْنَا إنْ أَرَدْت أَنَّهُ لَا يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهَا إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِهِ فِيهَا مَنَعْنَاهُ ، بَلْ ذَلِكَ عِنْدَ اتِّفَاقِ مَحَلِّيَّتِهَا حِينَئِذٍ مَعَ أَنَّ الْحُرْمَةَ إنَّمَا تَثْبُتُ فِي الْكُلِّ مَعًا شَرْعًا ، وَالتَّقَدُّمُ فِي الْأُمِّ ذَاتِيٌّ لَا زَمَانِيٌّ ، فَإِذَا تَحَقَّقَ الْمَانِعُ فِي

حَقِّهَا ثَبَتَ فِيمَنْ سِوَاهَا ، وَلَوْ عَلَّلَ ابْتِدَاءً بِنَجَاسَةِ اللَّبَنِ أَوْ الْحُرْمَةِ كَرَامَةً إذْ فِيهِ تَكْثِيرُ الْأَعْوَانِ عَلَى الْمَقَاصِدِ وَالسَّكَنِ وَبِالْمَوْتِ تَنَجَّسَ ، فَإِنْ أَرَادَ عَيْنًا مَنَعْنَاهُ ، بَلْ لَبَنُ الْمَيِّتَةِ الطَّاهِرَةِ طَاهِرٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَدْ أَسْلَفْنَا تَوْجِيهَهُ بِأَنَّ التَّنَجُّسَ بِالْمَوْتِ لَمَّا حَلَّتْهُ الْحَيَاةُ قَبْلَهُ وَهُوَ مُنْتَفٍ فِي اللَّبَنِ وَقَدْ كَانَ طَاهِرًا فَيَبْقَى كَذَلِكَ لِعَدَمِ الْمُنَجِّسِ إذْ لَمْ يَطْرَأْ عَلَيْهِ سِوَى الْخُرُوجُ مِنْ بَاطِنٍ إلَى ظَاهِرٍ ، وَالْمُتَيَقَّنُ مِنْ الشَّرْعِ فِيهِ أَنَّهُ لَا يُوجِبُ تَغَيُّرَ وَصْفِهِ ، بِخِلَافِ الْبَوْلِ ، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إنَّمَا قَالَا : تَنَجُّسُهُ بِالْمُجَاوَرَةِ لِلْوِعَاءِ النَّجِسِ وَهُوَ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ الْحُرْمَةِ ، كَمَا لَوْ حَلَبَ فِي إنَاءٍ نَجِسٍ وَأَوْجَرَ بِهِ الصَّبِيَّ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ ، وَإِنْ أَرَادَ التَّنَجُّسَ مَنَعْنَاهُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ .
وَالْوَجُورُ : الدَّوَاءُ يُصَبُّ فِي الْحَلْقِ قَسْرًا بِفَتْحِ الْوَاوِ .
وَالسَّعُوطُ صَبُّهُ فِي الْأَنْفِ .
وَيُقَالُ أَوْجَرْته وَوَجْرَتهُ ( قَوْلُهُ أَمَّا الْحُرْمَةُ فِي الْوَطْءِ ) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى عَدَمِ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ بِوَطْئِهَا بِالْفَرْقِ وَهُوَ أَنَّ سَبَبَ الْحُرْمَةِ فِي الرَّضَاعِ الْإِنْبَاتُ وَالنُّشُوءُ بِوَاسِطَةِ التَّغَذِّي وَفِي حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةُ الْجُزْئِيَّةُ الْحَاصِلَةُ بِوَاسِطَةِ الْوَلَدِ ، وَلَا يُتَصَوَّرُ الْوَلَدُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَلَمْ تُتَصَوَّرُ الْجُزْئِيَّةُ ، بِخِلَافِ الْجُزْئِيَّةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الرَّضَاعِ ؛ لِأَنَّهَا وَاقِعَةٌ فِي ارْتِضَاعِ لَبَنِ الْمَيِّتَةِ .

( وَإِذَا احْتَقَنَ الصَّبِيُّ بِاللَّبَنِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ التَّحْرِيمُ ) وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ كَمَا يَفْسُدُ بِهِ الصَّوْمُ .
وَوَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى الظَّاهِرِ أَنَّ الْمُفْسِدَ فِي الصَّوْمِ إصْلَاحُ الْبَدَنِ وَيُوجَدُ ذَلِكَ فِي الدَّوَاءِ .
فَأَمَّا الْمُحَرَّمُ فِي الرَّضَاعِ فَمَعْنَى النُّشُوءِ وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي الِاحْتِقَانِ ؛ لِأَنَّ الْمُغَذِّي وُصُولُهُ مِنْ الْأَعْلَى .
.

( قَوْلُهُ وَإِذَا احْتَقَنَ ) قَالَ فِي الْمُغْرِبِ : الصَّوَابُ حَقَنَ إذَا عُولِجَ بِالْحُقْنَةِ وَاحْتُقِنَ بِالضَّمِّ غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَهُمْ .
قَالَ فِي النِّهَايَةِ : لَكِنْ ذَكَرَ فِي تَاجِ الْمَصَادِرِ الِاحْتِقَانُ حَقَنَهُ فَدَرَنَ فَجَعَلَهُ مُتَعَدِّيًا ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ انْتَهَى .
يُرِيدُ أَنَّ مَنْعَ الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ عَلَى مَا فِي الْمُغْرِبِ لِعَدَمِ التَّعَدِّي وَإِذْ قَدْ نَصَّ صَاحِبُ تَاجِ الْمَصَادِرِ عَلَى مَا يُفِيدُ أَنَّهُ مُتَعَدٍّ لَمْ يَكُنْ بِنَاؤُهُ لِلْمَفْعُولِ خَطَأً ، وَهَذَا غَلَطٌ ؛ لِأَنَّ مَا فِي تَاجِ الْمَصَادِرِ مِنْ التَّفْسِيرِ لَا يُفِيدُ تَعْدِيَةَ الِافْتِعَالِ مِنْهُ لِلْمَفْعُولِ الصَّرِيحِ كَالصَّبِيِّ فِي عِبَارَةِ الْهِدَايَةِ حَيْثُ قَالَ : وَإِذَا احْتَقَنَ الصَّبِيُّ بَلْ إلَى الْحُقْنَةِ وَهِيَ آلَةُ الِاحْتِقَانِ وَالْكَلَامُ فِي بِنَائِهِ لِلْمَفْعُولِ الَّذِي هُوَ الصَّبِيُّ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ قَاصِرٍ يَجُوزُ بِنَاؤُهُ لِلْمَفْعُولِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَجْرُورِ وَالظَّرْفِ كَجَلَسَ فِي الدَّارِ وَمَرَّ بِزَيْدٍ .
وَلَيْسَ يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ الْبِنَاءِ بِاعْتِبَارِ الْآلَةِ وَالظَّرْفِ جَوَازُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَفْعُولِ ، بَلْ إذَا كَانَ مُتَعَدِّيًا إلَيْهِ بِنَفْسِهِ ، ثُمَّ الِاحْتِقَانُ بِاللَّبَنِ لَا يُوجِبُ الْحُرْمَةَ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأُصُولِ وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ، وَكَذَا لَا يَثْبُتُ بِالْإِقْطَارِ فِي الْإِحْلِيلِ وَالْأُذُنِ وَالْجَائِفَةِ وَالْآمَّةِ كَذَا أَطْلَقَهُ بَعْضُهُمْ .
وَنَصَّ آخَرُونَ عَلَى أَنَّهُ إذَا وَصَلَ إلَى الْجَوْفِ ثَبَتَتْ الْحُرْمَةُ ، وَبَعْضُهُمْ ذَكَرَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ ثُبُوتُ الْحُرْمَةِ بِالْحُقْنَةِ .
وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ الْمَنَاطَ طَرِيقُ الْجُزْئِيَّةِ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الْوَاصِلِ مِنْ السَّافِلِ بَلْ إلَى الْمَعِدَةِ وَذَلِكَ مِنْ الْأَعْلَى فَقَطْ ، وَالْإِقْطَارُ فِي الْإِحْلِيلِ غَايَةُ مَا يَصِلُ إلَى الْمَثَانَةِ فَلَا يَتَغَذَّى بِهِ الصَّبِيُّ ، وَكَذَا فِي الْأُذُنِ لِضِيقِ الثُّقْبِ ،

وَفِيهِ نَظَرٌ لِتَصْرِيحِهِمْ بِالْفِطْرِ بِإِقْطَارِ الدُّهْنِ فِي الْأُذُنِ لِسَرَيَانِهِ فَيَصِلُ إلَى بَاطِنِهِ وَلَا يَمْنَعُهُ ضِيقٌ .
وَالْأَوْجَهُ كَوْنُهُ لَيْسَ مِمَّا يُتَغَذَّى بِهِ وَيُنْبِتُ وَإِنْ حَصَلَ بِهِ رِفْقٌ مِنْ تَرْطِيبٍ وَنَحْوِهِ ، وَالْمُفْسِدُ فِي الصَّوْمِ لَا يُتَوَقَّفُ عَلَيْهِ كَمَا فِي الْحَصَى وَالْحَدِيدِ ، وَالْوَجُورُ وَالسَّعُوطُ تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ اتِّفَاقًا .

( وَإِذَا نَزَلَ لِلرَّجُلِ لَبَنٌ فَأَرْضَعَ بِهِ صَبِيًّا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ التَّحْرِيمُ ) ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِلَبَنٍ عَلَى التَّحْقِيقِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ النُّشُوءُ وَالنُّمُوُّ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ مِمَّنْ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْوِلَادَةُ .
.
( قَوْلُهُ وَإِذَا نَزَلَ لِلرَّجُلِ لَبَنٌ فَأَرْضَعَ بِهِ صَبِيَّةً لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ تَحْرِيمٌ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِلَبَنٍ عَلَى التَّحْقِيقِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ النُّشُوءُ وَالنُّمُوُّ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ مِمَّنْ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْوِلَادَةُ ) وَقَدْ يُذْكَرُ فِي بَعْضِ الْحِكَايَاتِ أَنَّهُ اتَّفَقَ لِرَجُلٍ إرْضَاعُ صَغِيرٍ ، فَإِنْ صَحَّ فَهُوَ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ لَا يُبْنَى الْفِقْهُ بِاعْتِبَارِهِ ، وَعَلَى هَذَا يَلْزَمُ أَنَّهُ لَوْ نَزَلَ لِبِكْرٍ لَمْ تَبْلُغْ سِنَّ الْبُلُوغِ لَبَنٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ ، وَيُحْكَمُ بِأَنَّهُ لَيْسَ لَبَنًا ، كَمَا لَوْ نَزَلَ لِلْبِكْرِ مَاءٌ أَصْفَرُ لَا يَثْبُتُ مِنْ إرْضَاعِهِ تَحْرِيمٌ .
وَالْوَجْهُ الْفَرْقُ بِعَدَمِ التَّصَوُّرِ مُطْلَقًا ، فَإِذَا تَحَقَّقَ لَبَنًا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ ، بِخِلَافِ الرَّجُلِ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَازِمٌ دَائِمًا بِأَنَّهُ لَيْسَ بِلَبَنٍ .

( وَإِذَا شَرِبَ صَبِيَّانِ مِنْ لَبَنِ شَاةٍ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ التَّحْرِيمُ ) ؛ لِأَنَّهُ لَا جُزْئِيَّةَ بَيْنَ الْآدَمِيِّ وَالْبَهَائِمِ وَالْحُرْمَةُ بِاعْتِبَارِهَا .

( قَوْلُهُ وَإِذَا شَرِبَ صَبِيَّانِ مِنْ لَبَنِ شَاةٍ فَلَا رَضَاعَ مُحَرِّمٌ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّهُ لَا جُزْئِيَّةَ بَيْنَ الْآدَمِيِّ وَالْبَهَائِمِ وَالْحُرْمَةُ بِاعْتِبَارِهَا ) اعْلَمْ أَنَّ ثُبُوتَ الْحُرْمَةِ بِالرَّضَاعِ بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ لِلْجُزْئِيَّةِ فَإِنَّ الْوَطْءَ ابْتِذَالٌ وَامْتِهَانٌ وَإِرْقَاقٌ ، وَلِهَذَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { النِّكَاحُ رِقٌّ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ أَيْنَ يَضَعُ كَرِيمَتَهُ } وَلَا يَحْسُنُ صُدُورُهُ مِنْ مُسْتَفِيدِ جُزْءٍ بِنَفْسِهِ وَحَيَاتِهِ لِمُفِيدِهَا إذَا كَانَ الرَّضِيعُ صَبِيًّا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُرْضِعَةِ تَكْرِمَةً لَهَا ، وَجُعِلَتْ فِي الشَّرْعِ أُمًّا لَهُ بِسَبَبِ أَنَّ جُزْأَهَا صَارَ جُزْأَهُ كَمَا أَنَّ الْأُمَّ مِنْ النَّسَبِ كَذَلِكَ إذْ جُزْؤُهُ جُزْأَهَا وَجُزْؤُهُ الْآخَرُ جُزْءَ الْأَبِ ، وَالْبَهَائِمُ لَيْسَتْ بِهَذِهِ الْمَرْتَبَةِ فِي اعْتِبَارِ خَالِقِهَا جَلَّ ذِكْرُهُ فَإِنَّمَا خَلَقَهَا لِابْتِذَالِ الْآدَمِيِّ لَهَا عَلَى إنْحَاءِ الِابْتِذَالِ الْمَأْذُونِ فِيهِ مِنْ مَالِكِهَا سُبْحَانَهُ ، قَالَ تَعَالَى { وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ } وَفِي آيَةٍ أُخْرَى { فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ } وَهُوَ سُبْحَانَهُ مَالِكُ الْأَشْيَاءِ وَالْحَكِيمُ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْعَلِيمُ بِالْقَوَابِلِ الَّتِي بِهَا يَحْصُلُ التَّفْضِيلُ الدُّنْيَوِيُّ ، فَلَمْ يُثْبِتْ سُبْحَانَهُ بِوَاسِطَةِ الِاغْتِذَاءِ بِلَبَنِهَا ، بَلْ وَلَحْمِهَا وَحُصُولُ الْجُزْءِ مِنْهُ مَزِيَّةٌ لَهَا عَلَى الْآدَمِيِّ تُوجِبُ مِثْلَ مَا تُوجِبُ لِمُسَاوِيهِ فِي نَوْعِهِ مِنْ الْإِكْرَامِ وَالِاحْتِرَامِ ، فَلَمْ تُعْتَبَرُ الشَّاةُ أُمَّ الصَّبِيِّ وَإِلَّا لَكَانَ الْكَبْشُ أَبَاهُ ، وَالْأُخْتِيَّةُ فَرْعُ الْأُمِّيَّةِ ، وَكَذَا سَائِرُ الْحُرُمِ بَعْدَهَا إنَّمَا تَثْبُتُ بِتَبَعِيَّةِ الْأُمِّيَّةِ حَتَّى الْأَبَوِيَّةِ فَإِنَّهُ لَا جُزْءَ فِي الرَّضِيعِ مِنْهُ ، بِخِلَافِ الْأَبِ مِنْ النَّسَبِ ؛ لِأَنَّ جُزْأَهُ انْفَصَلَ فِي وَلَدِهِ الَّذِي نَزَلَ اللَّبَنُ بِسَبَبِهِ وَلَمْ يَسْتَقِرَّ فِي الْمَرْأَةِ شَيْءٌ مِنْهُ

بِحَيْثُ يَكُونُ فِي لَبَنِهَا جُزْءٌ مِنْهُ فَكَيْفَ وَاللَّبَنُ إنَّمَا يَتَوَلَّدُ مِنْ الْغِذَاءِ ، وَالْكَائِنُ مِنْ مَاءِ الرَّجُلِ إنَّمَا يَصِلُ مِنْ أَسْفَلَ وَالتَّغَذِّي لِبَقَاءِ الْحَيَاةِ وَالْجُزْءُ لَا يَكُونُ إلَّا مِمَّا يَصِلُ مِنْ الْأَعْلَى إلَى الْمَعِدَةِ وَلَكِنْ لَمَّا أَثْبَتَ الشَّرْعُ أُمِّيَّةَ زَوْجَتِهِ عَنْ إرْضَاعِ لَبَنٍ هُوَ سَبَبٌ فِيهِ أَثْبَتَ لَهُوِيَّةِ الرَّجُلِ الْأُبُوَّةَ وَحِينَ لَا أُمَّ وَلَا أَبَ فَلَا إخْوَةَ وَلَا تَحْرِيمَ .
وَنُقِلَ أَنَّ الْإِمَامَ مُحَمَّدَ بْنَ إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيَّ صَاحِبَ الصَّحِيحِ أَفْتَى فِي بُخَارَى بِثُبُوتِ الْحُرْمَةِ بَيْنَ صَبِيَّيْنِ ارْتَضَعَا شَاةً فَاجْتَمَعَ عُلَمَاؤُهَا عَلَيْهِ وَكَانَ سَبَبُ خُرُوجِهِ مِنْهَا ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
وَمَنْ لَمْ يَدِقَّ نَظَرُهُ فِي مُنَاطَاتِ الْأَحْكَامِ وَحِكَمِهَا كَثُرَ خَطَؤُهُ وَكَانَ ذَلِكَ فِي زَمَنِ الشَّيْخِ أَبِي حَفْصٍ الْكَبِيرِ وَمَوْلِدُهُ مَوْلِدُ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُمَا مَعًا وُلِدَا فِي الْعَامِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَهُوَ عَامُ خَمْسِينَ وَمِائَةٍ .

وَإِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ صَغِيرَةً وَكَبِيرَةً فَأَرْضَعَتْ الْكَبِيرَةُ الصَّغِيرَةَ حُرِّمَتَا عَلَى الزَّوْجِ ) ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ جَامِعًا بَيْنَ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ رَضَاعًا وَذَلِكَ حَرَامٌ كَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا نَسَبًا ( ثُمَّ إنْ لَمْ يَدْخُلْ بِالْكَبِيرَةِ فَلَا مَهْرَ لَهَا ) ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا ( وَلِلصَّغِيرَةِ نِصْفُ الْمَهْرِ ) ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ لَا مِنْ جِهَتِهَا ، وَالِارْتِضَاعُ وَإِنْ كَانَ فِعْلًا مِنْهَا لَكِنَّ فِعْلَهَا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي إسْقَاطِ حَقِّهَا كَمَا إذَا قَتَلَتْ مُوَرِّثَهَا ( وَيَرْجِعُ بِهِ الزَّوْجُ عَلَى الْكَبِيرَةِ إنْ كَانَتْ تَعَمَّدَتْ بِهِ الْفَسَادَ ، وَإِنْ لَمْ تَتَعَمَّدْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا ، وَإِنْ عَلِمَتْ بِأَنَّ الصَّغِيرَةَ امْرَأَتُهُ ) وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَرْجِعُ فِي الْوَجْهَيْنِ ، وَالصَّحِيحُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ ؛ لِأَنَّهَا وَإِنْ أَكَّدَتْ مَا كَانَ عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ وَهُوَ نِصْفُ الْمَهْرِ وَذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى الْإِتْلَافِ لَكِنَّهَا مُسَبَّبَةٌ فِيهِ إمَّا لِأَنَّ الْإِرْضَاعَ لَيْسَ بِإِفْسَادٍ لِلنِّكَاحِ وَضْعًا وَإِنَّمَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْحَالِ ، أَوْ لِأَنَّ إفْسَادَ النِّكَاحِ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِإِلْزَامِ الْمَهْرِ بَلْ هُوَ سَبَبٌ لِسُقُوطِهِ ، إلَّا أَنَّ نِصْفَ الْمَهْرِ يَجِبُ بِطَرِيقِ الْمُتْعَةِ عَلَى مَا عُرِفَ ، لَكِنَّ مِنْ شَرْطِهِ إبْطَالَ النِّكَاحِ ، وَإِذَا كَانَتْ مُسَبَّبَةً يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّعَدِّي كَحَفْرِ الْبِئْرِ ثُمَّ إنَّمَا تَكُونُ مُتَعَدِّيَةً إذَا عَلِمَتْ بِالنِّكَاحِ وَقَصَدَتْ بِالْإِرْضَاعِ الْفَسَادَ ، أَمَّا إذَا لَمْ تَعْلَمْ بِالنِّكَاحِ أَوْ عَلِمَتْ بِالنِّكَاحِ وَلَكِنَّهَا قَصَدَتْ دَفْعَ الْجُوعِ وَالْهَلَاكِ عَنْ الصَّغِيرَةِ دُونَ الْفَسَادِ لَا تَكُونُ مُتَعَدِّيَةً ؛ لِأَنَّهَا مَأْمُورَةٌ بِذَلِكَ ، وَلَوْ عَلِمَتْ بِالنِّكَاحِ وَلَمْ تَعْلَمْ بِالْفَسَادِ لَا تَكُونُ مُتَعَدِّيَةً أَيْضًا ، وَهَذَا مِنَّا اعْتِبَارُ الْجَهْلِ لِدَفْعِ قَصْدِ الْفَسَادِ لَا لِدَفْعِ الْحُكْمِ .
.

( قَوْلُهُ وَإِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ صَغِيرَةً رَضِيعَةً وَكَبِيرَةً فَأَرْضَعَتْ الْكَبِيرَةُ الصَّغِيرَةَ حُرِّمَتَا عَلَى الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ جَامِعًا بَيْنَ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَذَلِكَ حَرَامٌ كَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا نَسَبًا ) ثُمَّ حُرْمَةُ الْكَبِيرَةِ حُرْمَةٌ مُؤَبَّدَةٌ ؛ لِأَنَّهَا أُمُّ امْرَأَتِهِ ، وَالْعَقْدُ عَلَى الْبِنْتِ يُحَرِّمُ الْأُمَّ .
وَأَمَّا الصَّغِيرَةُ فَإِنْ كَانَ اللَّبَنُ الَّذِي أَرْضَعَتْهَا بِهِ الْكَبِيرَةُ نَزَلَ لَهَا مِنْ وَلَدٍ وَلَدَتْهُ لِلرَّجُلِ كَانَتْ حُرْمَتُهَا أَيْضًا مُؤَبَّدَةً كَالْكَبِيرَةِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ أَبًا لَهَا ، وَإِنْ كَانَ نَزَلَ لَهَا مِنْ رَجُلٍ قَبْلَهُ ثُمَّ تَزَوَّجَتْ هَذَا الرَّجُلَ وَهِيَ ذَاتُ لَبَنٍ مِنْ الْأَوَّلِ جَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ثَانِيًا لِانْتِفَاءِ أُبُوَّتِهِ لَهَا ، إلَّا إنْ كَانَ دَخَلَ بِالْكَبِيرَةِ فَيَتَأَبَّدُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الدُّخُولَ بِالْأُمِّ يُحَرِّمُ الْبِنْتَ ، وَأَمَّا حُكْمُ الْمَهْرِ فَلَا يَجِبُ لِلْكَبِيرَةِ إنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَهُوَ الْإِرْضَاعُ وَهُوَ مُسْقِطٌ لِنِصْفِ الْمَهْرِ كَرِدَّتِهَا وَتَقْبِيلِهَا ابْنَ الزَّوْجِ ، وَتَعْلِيلُ السُّقُوطِ بِإِضَافَةِ الْفُرْقَةِ إلَيْهَا يُعْرَفُ مِنْهُ أَنَّ الْكَبِيرَةَ لَوْ كَانَتْ مُكْرَهَةً أَوْ نَائِمَةً فَارْتَضَعَتْهَا الصَّغِيرَةُ أَوْ أَخَذَ شَخْصٌ لَبَنَهَا فَأَوْجَرَ بِهِ الصَّغِيرَةَ أَوْ كَانَتْ الْكَبِيرَةُ مَجْنُونَةً كَانَ لَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ لِانْتِفَاءِ إضَافَةِ الْفُرْقَةِ إلَيْهَا ، وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا كَمَالُ الْمَهْرِ لَكِنْ لَا نَفَقَةَ عِدَّةٍ لَهَا لِجِنَايَتِهَا إنْ لَمْ تَكُنْ مَجْنُونَةً وَنَحْوَهَا .
وَأَمَّا الصَّغِيرَةُ فَلَا يُتَصَوَّرُ الدُّخُولُ بِالرَّضِيعَةِ فَعَلَيْهِ لَهَا نِصْفُ مَهْرِهَا ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ لَا مِنْ جِهَتِهَا ، وَالِارْتِضَاعُ وَإِنْ كَانَ فِعْلَهَا وَبِهِ وَقَعَ الْفَسَادُ لَكِنَّ فِعْلَهَا لَا يُؤَثِّرُ فِي إسْقَاطِ حَقِّهَا لِعَدَمِ خِطَابِهَا بِالْأَحْكَامِ وَصَارَ كَمَا لَوْ قَتَلَتْ مُوَرِّثَهَا فَإِنَّهَا

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78