كتاب : فتح القدير
المؤلف : كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي

مَوْجُودًا وَقْتَ الْيَمِينِ وَدَامَتْ الْإِضَافَةُ إلَى وَقْتِ الْفِعْلِ أَوْ انْقَطَعَتْ ثُمَّ وُجِدَتْ بِأَنْ بَاعَ وَطَلَّقَ ثُمَّ اسْتَرَدَّ أَوْ لَمْ يَكُنْ وَقْتُ الْيَمِينِ فَاشْتَرَى عَبْدًا فَكَلَّمَهُ حَنِثَ ، وَكَذَا لَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُ زَوْجَةٌ فَاسْتَحْدَثَ زَوْجَةً يَنْبَغِي أَنْ يَحْنَثَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَلَوْ ارْتَفَعَتْ النِّسْبَةُ الثَّابِتَةُ الَّتِي عَنْهَا صُحِّحَتْ الْإِضَافَةُ بِأَنْ بَاعَ فُلَانٌ عَبْدَهُ وَدَارَهُ وَثَوْبَهُ وَدَابَّته وَعَادَى صَدِيقَهُ وَطَلَّقَ زَوْجَتَهُ فَكَلَّمَ الْعَبْدَ وَالْمَرْأَةَ وَالصَّدِيقَ لَا يَحْنَثُ ، وَكَذَا إذَا لَبِسَ الثَّوْبَ أَوْ دَخَلَ الدَّارَ أَوْ رَكِبَ الدَّابَّةَ لَا يَحْنَثُ لِمَا قُلْنَا إنَّ الْيَمِينَ انْعَقَدَتْ بِاعْتِبَارِ النِّسْبَةِ الْقَائِمَةِ وَقْتَ الْفِعْلِ وَالْحَالُ أَنَّهَا زَائِلَةٌ عِنْدَهُ وَهَذَا الْأَصْلُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَالْيَمِينُ مُنْعَقِدَةٌ فِي الْمَمْلُوكِ عَلَى الْإِضَافَةِ الْقَائِمَةِ وَقْتَ الْفِعْلِ كَمَا ذَكَرْنَا ، وَفِي إضَافَةِ النِّسْبَةِ عَلَى الْقَائِمَةِ وَقْتَ الْيَمِينِ ، فَتَفَرَّعَ عَلَى هَذَا أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ وَعَادَى صَدِيقَهُ وَاسْتَحْدَثَ زَوْجَةً وَصَدِيقًا فَكَلَّمَ الْمُسْتَحْدَثَ لَا يَحْنَثُ ، وَلَوْ كَلَّمَ الْمَتْرُوكَةَ حَنِثَ ، وَهَذَا مَا نَقَلَهُ الْمُصَنِّفُ عَنْهُ مِنْ الزِّيَادَاتِ .
وَوَجْهُهُ مَا جَوَّزْنَاهُ فِي أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ أَنَّهُمَا يَقْصِدَانِ بِالْهَجْرِ لِأَنْفُسِهَا لَا لِغَيْرِهِمَا ، فَكَانَتْ الْإِضَافَةُ لِمُجَرَّدِ تَعْرِيفِ الذَّاتِ الْمَهْجُورَةِ فَلَا يُشْتَرَطُ دَوَامُهَا أَوْ وُجُودُهَا وَقْتَ الْفِعْلِ فَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ أَيْ الْهَجْرُ بِعَيْنِهِ كَمَا فِي الْإِشَارَةِ ، فَإِنَّهُ إذَا قَالَ زَوْجَةُ فُلَانٍ هَذِهِ وَنَحْوهَا مِمَّا إضَافَتُهُ إضَافَةَ نِسْبَةٍ فَالِاتِّفَاقُ أَنَّهُ يَحْنَثُ بِكَلَامِهِ بَعْدَ انْقِطَاعِهَا كَمَا سَيُذْكَرُ وَجْهُ الْمَذْكُورِ فِي الْجَامِعِ .
لِأَبِي حَنِيفَةَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْهَجْرَ لِلْمُضَافِ إلَيْهِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْوَجْهِ ، وَأَقَلُّ مَا فِي

الْبَابِ جَوَازُ كَوْنِ هَجْرِهِ لِنَفْسِهِ وَأَنْ يَكُونَ لِلْمُضَافِ إلَيْهِ ، وَعَلَى الْأَوَّلِ يَحْنَثُ وَعَلَى الثَّانِي لَا فَلَا يَحْنَثُ بِالشَّكِّ ، فَظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَا ذَكَرَهُ فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ قَوْلِهِ الْأَصْلُ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّهُ مَتَى عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى فِعْلٍ فِي مَحَلٍّ مَنْسُوبٍ إلَى الْغَيْرِ بِالْمِلْكِ يُرَاعَى لِلْحِنْثِ وُجُودُ النِّسْبَةِ وَقْتَ وُجُودِ الْفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِالنِّسْبَةِ وَقْتَ الْيَمِينِ إذَا لَمْ تُوجَدْ وَقْتَ الْفِعْلِ ، وَإِنْ كَانَ مَنْسُوبًا إلَى الْغَيْرِ لَا بِالْمِلْكِ يُرَاعَى وُجُودُ النِّسْبَةِ وَقْتَ الْيَمِينِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِهَا وَقْتَ الْفِعْلِ .
ثُمَّ وَجَّهَ الْفَرْقَ بِأَنَّ فِي إضَافَةِ الْمِلْك الْحَامِلِ عَلَى الْيَمِينِ مَعْنًى فِي الْمَالِكِ ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَا تُعَادَى لَعَيْنِهَا .
وَفِي إضَافَةِ النِّسْبَةِ مَعْنًى فِيهِمْ لِأَنَّ الْأَذَى يُتَصَوَّرُ مِنْهُمْ .
وَاسْتُشْكِلَ بِأَنَّ الْعَبْدَ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْأَذَى .
أُجِيبَ بِأَنَّ ابْنَ سِمَاعَةَ ذَكَرَ فِي نَوَادِرِهِ أَنَّهُ يَحْنَثُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِهَذَا .
وَوَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ الْعَبْدَ سَاقِطُ الِاعْتِبَارِ عِنْدَ الْأَحْرَارِ فَإِنَّهُ يُبَاعُ فِي الْأَسْوَاقِ كَالْحِمَارِ ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إنْ كَانَ مِنْهُ أَذًى إنَّمَا يُقْصَدُ هِجْرَانُ سَيِّدِهِ بِهِجْرَانِهِ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ أَعْنِي هَذَا الْأَصْلَ لَا يَصِحُّ إلَّا لِمُحَمَّدٍ فَقَطْ ، فَإِطْلَاقُ جَعْلِهِ أَصْلًا لِهَذِهِ الْمَسَائِلِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَيْهِ يُوهِمُ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ ، أَوْ أَنَّهُ الْأَصْلُ لِصَاحِبِ الْمَذْهَبِ .
هَذَا ، وَرُوِيَ أَنَّ هِشَامًا أَخْبَرَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَجَعَ إلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَ : لَا يَحْنَثُ هَذَا إذَا لَمْ يُعَيِّنْهُ فَلَمْ يَذْكُرْ الْإِشَارَةَ ، فَأَمَّا إنْ عَيَّنَهُ فَذَكَرَ الْإِشَارَةَ بِأَنْ قَالَ عَبْدُ فُلَانٍ هَذَا أَوْ دَارُهُ هَذِهِ أَوْ امْرَأَتُهُ هَذِهِ أَوْ صَدِيقُهُ هَذَا فَبَاعَ الْعَبْدَ وَالدَّارَ وَطَلَّقَ وَعَادَى فَكَلَّمَهُ وَدَخَلَ لَمْ

يَحْنَثْ فِي الْمَمْلُوكِ مِنْ الْعَبْدِ وَالدَّارِ وَحَنِثَ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْمَرْأَةِ وَالصَّدِيقِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبَى يُوسُفَ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ يَحْنَثُ فِي الْكُلِّ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ ، لِأَنَّ الْإِضَافَةَ فِي الْكُلِّ لِلتَّعْرِيفِ كَمَا قَدَّمْنَا ، وَالْإِشَارَةُ أَبْلَغُ مِنْهَا فِيهِ لِكَوْنِهَا قَاطِعَةً لِلشَّرِكَةِ ، بِخِلَافِ التَّعْرِيفِ الْآخَرِ فَلَزِمَ اعْتِبَارُهَا وَسُقُوطُ الْأُخْرَى وَإِذَا اُعْتُبِرَتْ انْعَقَدَتْ الْيَمِينُ عَلَى خُصُوصِ الْعَيْنِ فَلَزِمَ الْحِنْثُ بِتَرْكِ هِجْرَانِهَا بَعْدَ الْإِضَافَةِ كَمَا قَبْلَهُ ، وَهُمَا يَقُولَانِ إنَّ هِجْرَانَ الْمُضَافِ إذَا كَانَ مَمْلُوكًا لَيْسَ لِذَاتِهِ لِسُقُوطِ اعْتِبَارِهَا فَتَقَيَّدَ بِبَقَاءِ النِّسْبَةِ مَعَ الْإِشَارَةِ وَعَدَمِهَا ، بِخِلَافِ غَيْرِ الْمَمْلُوكِ فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ مِمَّا يُعَادَى لِنَفْسِهِ كَمَا يُعَادَى لِغَيْرِهِ فَعِنْدَ عَدَمِ الْإِشَارَةِ اسْتَوَى الْحَالُ فَلَا يَحْنَثُ بِالشَّكِّ وَمَعَ زِيَادَةِ الْإِشَارَةِ تَرَجَّحَ كَوْنُ هَجْرِهِ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ ، فَلَا يَتَقَيَّدُ الْحِنْثُ بِدَوَامِ الْإِضَافَةِ لِأَنَّ كَوْنَ الدَّاعِي إلَى الْيَمِينِ مَعْنًى فِي الْمُضَافِ إلَيْهِ فِي غَيْرِ الْمَمْلُوكِ غَيْرُ ظَاهِرٍ لِعَدَمِ التَّعْيِينِ أَيْ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ وَهُوَ إضَافَةُ الْمِلْكِ لِأَنَّ الدَّاعِي كَمَا يَجُوزُ كَوْنُهُ مَعْنًى فِي الْمُضَافِ إلَيْهِ يَجُوزُ كَوْنُهُ نَفْسُ الْمُضَافِ حَيْثُ كَانَ صَالِحًا لَأَنْ يُعَادَى لِنَفْسِهِ ، وَقَوْلُهُ لَغَتْ الْإِضَافَةَ مَمْنُوعٌ ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ لَمْ تَكُنْ لَهَا فَائِدَةٌ أُخْرَى لَكِنَّ الْوَاقِعَ أَنَّ لَهَا فَائِدَةً وَهِيَ إفَادَةُ أَنَّ الْهِجْرَانَ مَنُوطٌ بِنِسْبَتِهِ إلَى الْمُضَافِ إلَيْهِ لِغَيْظٍ مِنْهُ فَيُعْتَبَرُ كُلٌّ مِنْهَا لِفَائِدَتِهِ .
وَقَدْ رَجَّحَ ابْنُ الْعِزِّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ بِأَنَّ الْعَبْدَ وَإِنْ كَانَ سَاقِطَ الْمَنْزِلَةِ قَدْ يُقْصَدُ بِالْهِجْرَانِ وَالْحَالِفُ لَوْ أَرَادَ هِجْرَانَهُ لِأَجْلِ سَيِّدِهِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى الْإِشَارَةِ ، فَلَمَّا

أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ هَذَا عُلِمَ أَنَّ مُرَادَهُ قَصْدُهُ بِالْهِجْرَانِ ، وَقَالَ وَكَذَلِكَ الدَّارُ وَلَكِنَّ الْعَبْدَ أَظْهَرُ لِظُهُورِ صِحَّةِ قَصْدِهِ بِالْهِجْرَانِ كَمَا فِي الْمَرْأَةِ وَالصَّدِيقِ انْتَهَى .
وَمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ كُلَّ فَائِدَةٍ ؛ فَفَائِدَةُ الْإِشَارَةِ التَّعْرِيفُ ، وَفَائِدَةُ الْإِضَافَةِ بَيَانُ مَنَاطِ الْهَجْرِ .
قَدْ يُدْفَعُ بِأَنَّ الْإِضَافَةَ تَسْتَقِلُّ بِالْفَائِدَتَيْنِ ، فَإِنَّهَا أَيْضًا تُعَرِّفُ الشَّخْصَ الْمَحْلُوفَ عَلَى هَجْرِهِ كَمَا تُفِيدُ الْآخَرَ .
وَجَوَابُهُ أَنَّ الْإِشَارَةَ كَمَا تُفِيدُ التَّعْرِيفَ يَحْصُلُ بِهَا التَّخْصِيصُ أَيْضًا ، وَهَذَا لَا يَحْصُلُ بِالْإِضَافَةِ وَحْدَهَا ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ عَبْدُ فُلَانٍ انْعَقَدَتْ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ لَهُ ، وَفِي قَوْلِهِ عَبْدُ فُلَانٍ هَذَا لَا يَحْنَثُ بِكَلَامِ عَبْدٍ آخَرَ لِفُلَانٍ وَإِنْ كَانَتْ الْإِضَافَةُ تُفِيدُ أَنَّ سَبَبَ هَجْرِ الْعَبْدِ نِسْبَتُهُ لِسَيِّدِهِ ، وَلَكِنَّ الْحِنْثَ فِي الْأَيْمَانِ لَا يَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ بَلْ بِفِعْلِ عَيْنِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ ، وَلَوْ حَلَفَ لَتُعْطِيَنَّ هَذَا الْفَقِيرَ لِفَقْرِهِ لَمْ يَحْنَثْ إذَا لَمْ يُعْطِ غَيْرَهُ مِنْ الْفُقَرَاءِ ، وَهَذَا الْخِلَافُ إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ ، أَمَّا لَوْ نَوَى أَنْ لَا يَدْخُلَهَا مَا دَامَتْ لِفُلَانٍ أَوْ لَا يَدْخُلَهَا وَإِنْ زَالَتْ الْإِضَافَةُ فَعَلَى مَا نَوَى لِأَنَّهُ شَدَّدَ عَلَى نَفْسِهِ فِي الثَّانِي وَنَوَى مُحْتَمَلَ كَلَامِهِ فِي الْأَوَّلِ ، وَرُوِيَ شُذُوذًا عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي دَارِ فُلَانٍ هَذِهِ أَنَّهُ يَحْنَثُ بَعْدَ زَوَالِ الْإِضَافَةِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ وَعَنْهُ أَيْضًا لَا يَحْنَثُ بِالدَّارِ الْمُتَجَدِّدِ مِلْكِهَا لِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يُسْتَحْدَثُ فِيهَا عَادَةً فَإِنَّهَا آخِرُ مَا يُبَاعُ وَأَوَّلُ مَا يُشْتَرَى عَادَةً فَتَقَيَّدَتْ الْيَمِينُ بِالْقَائِمَةِ فِي مِلْكِهِ وَقْتَ الْحَلِفِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْعُرْفَ مُشْتَرَكٌ ، فَإِنَّ الدَّارَ قَدْ تُبَاعُ وَتُشْتَرَى مِرَارًا فَلَا يَصْلُحُ مُقَيَّدًا .
وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّ الْيَمِينَ تَتَقَيَّدُ فِي الْكُلِّ بِالْقَائِمِ فِي مِلْكِهِ وَقْتَ

الْحَلِفِ ، رَوَاهُ بِشْرٌ عَنْهُ قَالَ : إذَا قَالَ دَارَ فُلَانٍ لَا يَتَنَاوَلُ مَا يُسْتَحْدَثُ مِلْكُهُ ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ دَارًا لِفُلَانٍ لِأَنَّ قَوْلَهُ دَارَ فُلَانٍ تَمَامُ الْكَلَامِ بِذِكْرِ الْإِضَافَةِ وَإِلَّا كَانَ مُجْمَلًا فَلَا بُدَّ مِنْ قِيَامِ الْمِلْكِ لِفُلَانٍ وَقْتَ يَمِينِهِ .
وَفِي قَوْلِهِ دَارًا لِفُلَانٍ الْكَلَامُ تَامٌّ بِلَا ذِكْرِ فُلَانٍ فَكَانَ ذِكْرُ فُلَانٍ تَقْيِيدًا لِلْيَمِينِ بِمَا يَكُونُ مُضَافًا إلَى فُلَانٍ وَقْتَ السُّكْنَى ، ثُمَّ فِي الْحَلِفِ لَا يَسْكُنُ دَارًا لِفُلَانٍ لَا يَحْنَثُ بِسُكْنَى دَارٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَ فُلَانٍ وَغَيْرِهِ وَإِنْ قَلَّ نَصِيبُ غَيْرِهِ .
وَفِي بَعْضِ الشُّرُوحِ : لَا أَتَزَوَّجُ بِنْتَ فُلَانٍ لَا يَحْنَثُ بِالْبِنْتِ الَّتِي تُولَدُ بَعْدَ الْيَمِينِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَهُوَ مُشْكَلٌ فَإِنَّهَا إضَافَةُ نِسْبَةٍ فَيَنْبَغِي أَنْ تَنْعَقِدَ عَلَى الْمَوْجُودَةِ حَالَ التَّزَوُّجِ ، فَلَا جَرَمَ أَنَّ فِي التَّفَارِيقِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ إنْ تَزَوَّجْت بِنْتَ فُلَانٍ أَوْ أَمَتَهُ أَنَّهُ عَلَى الْمَوْجُودِ وَالْحَادِثِ

قَالَ ( وَإِنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ صَاحِبَ هَذَا الطَّيْلَسَانِ فَبَاعَهُ ثُمَّ كَلَّمَهُ حَنِثَ ) لِأَنَّ هَذِهِ الْإِضَافَةَ لَا تَحْتَمِلُ إلَّا التَّعْرِيفَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُعَادَى لِمَعْنًى فِي الطَّيْلَسَانِ فَصَارَ كَمَا إذَا أَشَارَ إلَيْهِ ( وَمَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ هَذَا الشَّابَّ فَكَلَّمَهُ وَقَدْ صَارَ شَيْخًا حَنِثَ ) لِأَنَّ الْحُكْمَ تَعَلَّقَ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ إذْ الصِّفَةُ فِي الْحَاضِرِ لَغْوٌ ، وَهَذِهِ الصِّفَةُ لَيْسَتْ بِدَاعِيَةٍ إلَى الْيَمِينِ عَلَى مَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ .

( قَوْلُهُ وَإِنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ صَاحِبَ هَذَا الطَّيْلَسَانِ فَبَاعَهُ صَاحِبُهُ ثُمَّ كَلَّمَهُ حَنِثَ ) بِالْإِجْمَاعِ ( لِأَنَّ هَذِهِ الْإِضَافَةَ لَا تَحْتَمِلُ إلَى التَّعْرِيفِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُعَادَى لِمَعْنًى فِي الطَّيْلَسَانِ فَصَارَ كَمَا لَوْ أَشَارَ إلَيْهِ ) أَيْ إلَى صَاحِبِ الطَّيْلَسَانِ بِأَنْ قَالَ لَا أُكَلِّمُ هَذَا الرَّجُلَ فَتَعَلَّقَتْ الْيَمِينُ بِعَيْنِهِ وَالطَّيْلَسَانُ مُعَرَّبُ تَيْلَسَانَ أَبْدَلُوا التَّاءَ طَاءً مِنْ لِبَاسِ الْعَجَمِ مُدَوَّرٌ أَسْوَدُ لُحْمَتُهُ وَسُدَاهُ صُوفٌ ( قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ هَذَا الشَّابَّ فَكَلَّمَهُ بَعْدَ مَا صَارَ شَيْخًا حَنِثَ لِأَنَّ الْحُكْمَ مُعَلَّقٌ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ إذْ الصِّفَةُ فِي الْحَاضِرِ لَغْوٌ ) وَلَا تَتَقَيَّدُ بِشَبِيبَتِهِ .
وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَقَدَّمَ لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذَا الرُّطَبَ فَأَكَلَهُ بَعْدَمَا صَارَ تَمْرًا لَا يَحْنَثُ مَعَ أَنَّ الصِّفَةَ فِي الْحَاضِرِ لَغْوٌ .
فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ وَهَذِهِ الصِّفَةُ لَيْسَتْ بِدَاعِيَةٍ إلَخْ : يَعْنِي أَنَّ الصِّفَةَ تُعْتَبَرُ فِي الْحَاضِرِ إذَا كَانَتْ دَاعِيَةً وَصِفَةُ الرُّطْبِيَّةِ مِمَّا تَدْعُو بَعْضَ النَّاسِ إلَى الْحَلِفِ عَلَى تَرْكِهِ فَتُقَيَّدُ بِهِ ، بِخِلَافِ الشَّبِيهِ هُنَا فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِدَاعِيَةٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ .
وَفِي الْوَجِيزِ لِبُرْهَانِ الدِّينِ مَحْمُودِ الْبُخَارِيِّ : حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ صَبِيًّا أَوْ غُلَامًا أَوْ شَابًّا أَوْ كَهْلًا فَالْكَلَامُ فِي مَعْرِفَةِ هَؤُلَاءِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ : فِي اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ وَالْعُرْفِ .
أَمَّا اللُّغَةُ قَالُوا الصَّبِيُّ يُسَمَّى غُلَامًا إلَى تِسْعَ عَشَرَةَ ، وَمِنْ تِسْعَ عَشَرَةَ شَابٌّ إلَى أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ ، وَمِنْ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ كَهْلًا إلَى إحْدَى وَخَمْسِينَ ، وَمِنْ إحْدَى وَخَمْسِينَ شَيْخٌ إلَى آخَرِ عُمُرِهِ .
وَأَمَّا الشَّرْعُ فَالْغُلَامُ لِمَنْ لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ الْبُلُوغِ مَعْلُومٌ ، فَإِذَا بَلَغَ صَارَ شَابًّا وَفَتًى .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ مِنْ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ الْكُهُولَةَ ، فَإِذَا بَلَغَ خَمْسِينَ فَهُوَ شَيْخٌ .
قَالَ الْقُدُورِيُّ

: قَالَ أَبُو يُوسُفَ : الشَّابُّ مِنْ خَمْسَ عَشْرَةَ إلَى خَمْسِينَ سَنَةً إلَّا أَنْ يَغْلِبَ عَلَيْهِ الشَّمْطُ قَبْلَ ذَلِكَ ، وَالْكَهْلُ مِنْ ثَلَاثِينَ إلَى آخَرِ عُمْرِهِ ، وَالشَّيْخُ فِيمَا زَادَ عَلَى الْخَمْسِينَ .
وَكَانَ يَقُولُ قَبْلَ هَذَا : الْكَهْلُ مِنْ ثَلَاثِينَ إلَى مِائَةِ سَنَةٍ وَأَكْثَرَ ، وَالشَّيْخُ مِنْ أَرْبَعِينَ إلَى مِائَةٍ ، وَهُنَا رِوَايَاتٌ أُخْرَى وَانْتِشَارٌ ، وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ مَا بِهِ الْإِفْتَاءُ .

( فَصْلٌ ) قَالَ ( وَمَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ حِينًا أَوْ زَمَانًا أَوْ الْحِينَ أَوْ الزَّمَانَ فَهُوَ عَلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ ) لِأَنَّ الْحِينَ قَدْ يُرَادُ بِهِ الزَّمَانُ الْقَلِيلُ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ أَرْبَعُونَ سَنَةً ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنْ الدَّهْرِ } وَقَدْ يُرَادُ بِهِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ } وَهَذَا هُوَ الْوَسَطُ فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْيَسِيرَ لَا يُقْصَدُ بِالْمَنْعِ لِوُجُودِ الِامْتِنَاعِ فِيهِ عَادَةً ، وَالْمُؤَبَّدُ لَا يُقْصَدُ غَالِبًا لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَبَدِ ، وَلَوْ سَكَتَ عَنْهُ يَتَأَبَّدُ فَيَتَعَيَّنُ مَا ذَكَرْنَا .
وَكَذَا الزَّمَانُ يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ الْحِينِ ، يُقَالُ مَا رَأَيْتُك مُنْذُ حِينٍ وَمُنْذُ زَمَانٍ بِمَعْنَى وَهَذَا إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ ، أَمَّا إذَا نَوَى شَيْئًا فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ ( وَكَذَلِكَ الدَّهْرُ عِنْدَهُمَا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الدَّهْرُ لَا أَدْرِي مَا هُوَ ) وَهَذَا الِاخْتِلَافُ فِي الْمُنَكَّرِ وَهُوَ الصَّحِيحُ ، أَمَّا الْمُعَرَّفُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ يُرَادُ بِهِ الْأَبَدُ عُرْفًا .
لَهُمَا أَنَّ دَهْرًا يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ الْحِينِ وَالزَّمَانِ يُقَالُ مَا رَأَيْتُك مُنْذُ حِينٍ وَمُنْذُ دَهْرٍ بِمَعْنَى وَأَبُو حَنِيفَةَ تَوَقَّفَ فِي تَقْدِيرِهِ لِأَنَّ اللُّغَاتِ لَا تُدْرَكُ قِيَاسًا وَالْعُرْفُ لَمْ يُعْرَفْ اسْتِمْرَارُهُ لِاخْتِلَافٍ فِي الِاسْتِعْمَالِ

( فَصْلٌ فِي يَمِينِ مَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ حِينًا أَوْ زَمَانًا ) لَمَّا كَانَ مَا فِيهِ كَالتَّبَعِ لِمَا تَقَدَّمَ تَرْجَمَهُ بِالْفَصْلِ ( وَقَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ حِينًا أَوْ زَمَانًا أَوْ الْحِينُ أَوْ الزَّمَانُ فَهُوَ عَلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ فِي النَّفْيِ ) كَلَا أُكَلِّمُهُ الْحِينَ أَوْ حِينًا ( وَالْإِثْبَاتِ ) نَحْوُ لَأَصُومَنَّ حِينًا أَوْ الْحِينَ أَوْ الزَّمَانَ أَوْ زَمَانًا ، كُلُّ هَذَا إذَا لَمْ يَنْوِ مِقْدَارًا مُعَيَّنًا مِنْ الزَّمَانِ ، فَإِنْ نَوَى مِقْدَارًا صُدِّقَ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْ الْحِينِ وَالزَّمَانِ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَالْمُتَوَسِّطِ وَاسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ ذَلِكَ ، فَفِي الْقَلِيلِ قَوْلُ نَابِغَةِ ذُبْيَانَ : فَبِتُّ كَأَنِّي سَاوَرَتْنِي ضَئِيلَةٌ مِنْ الرَّقْشِ فِي أَنْيَابِهَا السُّمُّ نَاقِعُ تَبَادَرَهَا الرَّاقُونَ مِنْ سُوءِ سُمِّهَا تُطْلِقُهُ حِينًا وَحِينًا تُرَاجِعُ يُرِيدُ أَنَّ السُّمَّ تَارَةً يَخِفُّ أَلَمُهُ وَتَارَةً يَشْتَدُّ ، وَأَمَّا فِي الْكَثِيرِ فَالْمُفَسِّرُونَ فِي هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنْ الدَّهْرِ أَنَّهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً .
وَأَمَّا فِي الْمُتَوَسِّطِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى { تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا } وَذَلِكَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، لِأَنَّ مِنْ حِينِ يَخْرُجُ الطَّلْعُ إلَى أَنْ يَصِيرَ رُطَبًا سِتَّةُ أَشْهُرٍ ، وَلَمَّا وَقَعَ الِاسْتِعْمَالُ كَذَلِكَ وَلَا نِيَّةَ مُعَيَّنَةَ لِلْحَالِفِ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْوَسَطِ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ ، وَلِأَنَّ الْيَسِيرَ لَا يُقْصَدُ بِالْحَلِفِ وَإِلَّا لَمْ يَحْلِفْ لِتَحَقُّقِ الِامْتِنَاعِ عَنْهُ عَادَةً بِلَا يَمِينٍ .
وَالْمَدِيدُ هُوَ أَرْبَعُونَ سَنَةً لَا يُقْصَدُ بِالْحَلِفِ عَادَةً لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْأَبَدِ ، فَمُرِيدُهُ خَارِجٌ عَنْ الْعَادَةِ إذْ لَمْ يُسْمَعْ مَنْ يَقُولُ لَا أُكَلِّمُهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً مُقَيَّدًا بِهَا ، وَلَوْ سَكَتَ عَنْ الْحِينِ وَمَا مَعَهُ تَأَبَّدَ ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ حِينَئِذٍ لَنْ يَرِدَ أَقَلَّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ

الِاسْمُ مِنْ الزَّمَانِ وَلَا الْأَبَدِ وَلَا الْأَرْبَعِينَ فَيُحَكَّمُ الْوَسَطُ فِي الِاسْتِعْمَالِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا ، وَالشَّافِعِيُّ يَصْرِفُهُ إلَى الْأَقَلِّ وَهُوَ سَاعَةٌ وَعَرَفْت أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ وَإِلَّا تَرَكَ ذِكْرُهُ وَيَحْصُلُ بِلَا حَلِفٍ ، وَالزَّمَانُ يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ الْحِينِ ، يُقَالُ مَا رَأَيْتُك مُنْذُ زَمَانٍ كَمَا يُقَالُ مُنْذُ حِينٍ ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ ثَبَتَ اسْتِعْمَالُهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ وَلِأَرْبَعِينَ سَنَةً وَلِأَقَلَّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ ، بَلْ إنَّهُ ثَبَتَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْمَدِيدِ وَالْقَصِيرِ وَالْمُتَوَسِّطِ ، وَهُوَ أَخُو الْحِينِ فِي الْوَضْعِ وَالِاسْتِعْمَالِ فِي ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلُهُ فِي خُصُوصِ الْمُدَّةِ فَيُصْرَفُ إلَى مَا سُمِعَ مُتَوَسِّطًا .
ثُمَّ قِيلَ : هَذَا إنْ تَمَّ فِي زَمَانِ الْمُنَكَّرِ لَمْ يَتِمَّ فِي الْمُعَرَّفِ ، بَلْ الظَّاهِرُ فِيهِ أَنَّهُ لِلْأَبَدِ كَالدَّهْرِ وَالْعُمْرِ وَلِذَا صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْهُ ، فَلَوْ قَالَ لَا أُكَلِّمُهُ الزَّمَانَ إلَّا سَنَةً صَحَّ ، وَعَهْدِيَّةُ السِّتَّةِ أَشْهُرٍ إنَّمَا تَثْبُتُ فِي لَفْظِ الْحِينِ وَكَوْنُ الزَّمَانِ مِثْلُهُ إنْ أُرِيدَ فِي الْوَضْعِ فَمُسَلَّمٌ وَلَا يُفِيدُ ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَنْ يُحْمَلَ اللَّفْظُ عِنْدَ عَدَمِ الْمُعَيَّنِ لِخُصُوصِ مُدَّةٍ عَلَى الْمُدَّةِ الَّتِي اُسْتُعْمِلَ فِيهَا وَسَطًا ، وَإِنْ أُرِيد فِي الِاسْتِعْمَالِ فَيَحْتَاجُ إلَى ثَبْتٍ مِنْ مَوَارِدِ الِاسْتِعْمَالِ وَلَمْ يُوجَدْ هَذَا وَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ السِّتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْيَمِينِ ، بِخِلَافِ لَأَصُومَنَّ حِينًا أَوْ زَمَانًا كَانَ لَهُ أَنْ يُعَيِّنَ أَيَّ سِتَّةِ أَشْهُرٍ شَاءَ وَتَقَدَّمَ الْفَرْقُ ( قَوْلُهُ وَكَذَلِكَ الدَّهْرُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ ) يَعْنِي الْمُنَكَّرَ يَنْصَرِفُ إلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فِي مِقْدَارٍ مِنْ الزَّمَانِ ، فَإِنْ كَانَ عَمِلَ بِهِ اتِّفَاقًا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الدَّهْرُ لَا أَدْرِي مَا هُوَ ، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ فِي الْمُنَكَّرِ هُوَ الصَّحِيحُ احْتِرَازًا عَمَّا ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو

الْمُعِينِ فِي رِوَايَةِ بِشْرِ بْنِ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ : لَا فَرْقَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ قَوْلِهِ دَهْرًا وَالدَّهْرُ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُعَرَّفَ بِالِاتِّفَاقِ يُصْرَفُ إلَى الْأَبَدِ ، وَإِنَّمَا تَوَقُّفُهُ فِي الْمُنَكَّرِ لِأَنَّ اسْتِعْمَالَاتِهِ لَمْ تَثْبُتْ عَلَى الْأَنْحَاءِ الثَّلَاثَةِ الْمَدِيدُ وَالْقَصِيرُ وَالْوَسَطُ ، فَلَمْ يَدْرِ بِمَاذَا يُقَدِّرُ ، وَتَقْدِيرُهُ بِالْمُتَيَقَّنِ وَهُوَ أَقَلُّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الزَّمَانِ فِيهِ مِنْ الِاسْتِبْعَادِ مَا تَقَدَّمَ وَلَمْ يَثْبُتْ تَوْقِيتٌ فِيهِ زَائِدٌ عَلَيْهِ فَلَزِمَ التَّوَقُّفُ .
وَقِيلَ لِأَنَّهُ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الدَّهْرَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ فَإِنَّ الدَّهْرَ هُوَ اللَّهُ } فَإِذَا قَالَ لَا أُكَلِّمُهُ الدَّهْرَ اُحْتُمِلَ أَنَّ الْيَمِينَ مُؤَبَّدَةٌ ، وَالْمَعْنَى وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُهُ وَاَللَّهِ ، فَإِنَّك عَلِمْت أَنَّ حَرْفَ الْقَسَمِ يُحْذَفُ وَيَنْصِبُ الِاسْمَ ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ الظَّرْفَ وَهُوَ الْأَبَدُ ، وَقَوْلُ الشَّاعِرِ : هَلْ الدَّهْرُ إلَّا لَيْلَةٌ وَنَهَارُهَا وَإِلَّا طُلُوعُ الشَّمْسِ ثُمَّ غِيَارُهَا فَالنَّكِرَةُ وَإِنْ كَانَتْ فِي الْإِثْبَاتِ فَهِيَ لِلْعُمُومِ بِقَرِينَةٍ : أَيْ كُلُّ طُلُوعٍ وَكُلُّ غُرُوبٍ إلَخْ ، وَعُرِفَ أَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ فِي الْإِثْبَاتِ لِلْعُمُومِ بِقَرِينَةٍ مِثْلُ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ وَهَذَا الْوَجْهُ يُوجِبُ تَوَقُّفَهُ فِي الْمُعَرَّفِ أَيْضًا لِأَنَّ الَّذِي يُرَادُ بِهِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الْمُعَرَّفُ مِنْهُ لَا الْمُنَكَّرُ ، وَتَوَقُّفُهُ دَلِيلُ فِقْهِهِ وَدِينِهِ وَسُقُوطِ اعْتِبَارِهِ نَفْسِهِ ، رَحِمَنَا اللَّهُ بِهِ ، وَقَدْ نَظَمَ جُمْلَةَ مَا تَوَقَّفَ فِيهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : مَنْ قَالَ لَا أَدْرِي لِمَا لَمْ يَدْرِهِ فَقَدْ اقْتَدَى فِي الْفِقْهِ بِالنُّعْمَانِ فِي الدَّهْرِ وَالْخُنْثَى كَذَاك جَوَابُهُ وَمَحَلُّ أَطْفَالٍ وَوَقْتُ خِتَانِ وَالْمُرَادُ بِالْأَطْفَالِ أَطْفَالُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى مَا قَدَّمْنَا فِي الْجَنَائِزِ

.
فَرْعٌ ] إذَا قَالَ لَا أُكَلِّمُهُ الْعُمْرَ فَهُوَ عَلَى الْأَبَدِ .
وَاخْتَلَفَ جَوَابُ بِشْرِ بْنِ الْوَلِيدِ فِي الْمُنَكَّرِ نَحْوُ عُمْرًا ، فَمَرَّةً قَالَ فِي لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ عُمْرٍ يَقَعُ عَلَى يَوْمٍ وَاحِدٍ ، وَمَرَّةً قَالَ هُوَ مِثْلُ الْحِينِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ

( وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ أَيَّامًا فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ) لِأَنَّهُ اسْمُ جَمْعٍ ذُكِرَ مُنَكَّرًا فَيُتَنَاوَلُ أَقَلَّ الْجَمْعِ وَهُوَ الثَّلَاثُ .
وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ الْأَيَّامَ فَهُوَ عَلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : عَلَى أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ .
وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ الشُّهُورَ فَهُوَ عَلَى عَشَرَةِ أَشْهُرٍ عِنْدَهُ .
وَعِنْدَهُمَا عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا لِأَنَّ اللَّامَ لِلْمَعْهُودِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا ، لِأَنَّهُ يَدُورُ عَلَيْهَا .
وَلَهُ أَنَّهُ جَمْعٌ مُعَرَّفٌ فَيَنْصَرِفُ إلَى أَقْصَى مَا يُذْكَرُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ وَذَلِكَ عَشَرَةٌ ( وَكَذَا الْجَوَابُ عِنْدَهُ فِي الْجُمَعِ وَالسِّنِينَ ) وَعِنْدَهُمَا يَنْصَرِفُ إلَى الْعُمُرِ لِأَنَّهُ لَا مَعْهُودَ دُونَهُ

( قَوْلُهُ وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ أَيَّامًا فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ) ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ ، وَذَكَرَ فِيهِ أَنَّهُ بِالِاتِّفَاقِ ، فَإِنَّهُ قَالَ وَأَجْمَعُوا فِيمَنْ قَالَ إنْ كَلَّمْتُك دُهُورًا أَوْ أَزْمِنَةً أَوْ شُهُورًا أَوْ سِنِينَ أَوْ جُمَعًا أَوْ أَيَّامًا يَقَعُ عَلَى ثَلَاثَةٍ مِنْ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ لِأَنَّهَا أَدْنَى الْجُمَعِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ ، وَذُكِرَ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ أَنَّهَا عَلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ عِنْدَهُ كَالْمُعَرَّفِ .
قَالَ الْإِسْبِيجَابِيُّ : وَالْمَذْكُورُ فِي الْجَامِعِ أَصَحُّ .
وَوَجَّهَهُ الْمُصَنَّفُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ اسْمُ جَمْعٍ مُنَكَّرٍ فَيَتَنَاوَلُ أَقَلَّ الْجُمَعِ وَهُوَ الثَّلَاثُ كَمَا يَتَنَاوَلُ أَكْثَرَ مِنْهُ ، لَكِنْ لَا مُعَيِّنَ لِلزَّائِدِ فَلَزِمَ الْمُتَيَقَّنُ ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي عَبِيدًا وَلَا يَتَزَوَّجُ نِسَاءً يَقَعُ عَلَى ثَلَاثَةٍ .
وَأَوْرَدَ أَنَّ حِكَايَةَ الِاتِّفَاقِ فِي الْمُثُلِ الْمَذْكُورَةِ تُوجِبُ عَدَمَ تَوَقُّفِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي مَعْنَى الدَّهْرِ لِأَنَّ مَنْ لَا يَدْرِي مَعْنَى الْمُفْرَدِ لَا يَدْرِي مَعْنَى الْجَمْعِ ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ إذْ قَوْلُهُ الدُّهُورُ لِثَلَاثَةٍ مِمَّا يُرَادُ بِهِ لَيْسَ فِيهِ تَعْيِينٌ مَعْنَاهُ أَنَّهُ مَا هُوَ ، نَعَمْ يَلْزَمُ لِكُلِّ عَاقِلٍ نَفْيُ أَنْ يُرَادَ بِهِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِمَكَانِ الْجَمْعِ .
وَمِنْ فُرُوعِ الْمُنَكَّرِ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ يَوْمًا إنْ حَلَفَ قَبْلَ الطُّلُوعِ فَهُوَ عَلَى مَا مِنْ الطُّلُوعِ إلَى الْغُرُوبِ ، وَإِنْ حَلَفَ بَعْدَهُ فَهُوَ عَلَى مَا مِنْ وَقْتِ حَلِفِهِ إلَى مِثْلِهِ مِنْ الْيَوْمِ الثَّانِي وَيَدْخُلُ اللَّيْلُ فَإِنْ كَلَّمَهُ لَيْلًا حَنِثَ ، وَلَوْ قَالَ الْيَوْمُ وَقَعَ عَلَى بَقِيَّةِ يَوْمِهِ ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ يَوْمَيْنِ دَخَلَ اللَّيْلُ سَوَاءٌ حَلَفَ بَعْدَ الطُّلُوعِ أَوْ قَبْلَهُ ، وَالْجَوَابُ فِي اللَّيْلِ مِثْلُهُ فِي الْيَوْمِ ( قَوْلُهُ وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ الْأَيَّامَ فَهُوَ عَلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) وَكَذَلِكَ الْجُمَعُ وَالشُّهُورُ وَالسِّنِينَ وَالدُّهُورُ

وَالْأَزْمِنَةُ لِلتَّعْرِيفِ يَنْصَرِفُ إلَى عَشَرَةٍ مِنْ تِلْكَ الْمَعْدُودَاتِ ، فَفِي غَيْرِ الْأَزْمِنَةِ ظَاهِرٌ ، وَفِي الْأَزْمِنَةِ يَلْزَمُهُ خَمْسُ سِنِينَ لِأَنَّ كُلَّ زَمَانٍ سِتَّةُ أَشْهُرٍ عِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ .
وَقَالَا : فِي الْأَيَّامِ يَنْصَرِفُ إلَى أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ ، وَفِي الشُّهُورِ إلَى اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا ، وَفِي الْجُمَعِ وَالسِّنِينَ وَالدُّهُورِ وَالْأَزْمِنَةِ يَنْصَرِفُ إلَى جَمِيعِ الْعُمُرِ وَهُوَ الْأَبَدُ .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ اللَّامَ لِلْعَهْدِ إذَا أَمْكَنَ ، وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ صُرِفَتْ إلَى الِاسْتِغْرَاقِ وَالْعَهْدُ ثَابِتٌ فِي الْأَيَّامِ السَّبْعَةِ فَانْصَرَفَتْ الْأَيَّامُ إلَيْهَا ، وَفِي الشُّهُورِ شُهُورُ السَّنَةِ فَيَنْصَرِفُ التَّعْرِيفُ إلَيْهَا ، وَلَا عَهْدَ فِي خُصُوصٍ فِيمَا سِوَاهُمَا فَيَنْصَرِفُ إلَى اسْتِغْرَاقِ الْجُمَعِ وَالسِّنِينَ وَالدُّهُورِ وَالْأَزْمِنَةِ وَذَلِكَ هُوَ جَمِيعُ الْعُمُرِ أَوْ هِيَ لِلْعَهْدِ فِيهَا أَيْضًا ، فَإِنَّ الْمَعْهُودَ بَعْدَمَا ذَكَرْنَا لَيْسَ إلَّا الْعُمُرُ وَهُوَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ لِأَنَّهُ لَا مَعْهُودَ دُونَهُ : أَيْ دُونَ الْعُمُرِ ، وَحَاصِلُهُ اسْتِغْرَاقُ سِنِي الْعُمُرِ وَجُمَعِهِ .
وَلَهُ أَنَّهُ جَمْعٌ مُعَرَّفٌ بِاللَّامِ فَيَنْصَرِفُ إلَى أَقْصَى مَا عُهِدَ مُسْتَعْمَلًا فِيهِ لَفْظُ الْجُمَعِ عَلَى الْيَقِينِ وَذَلِكَ عَشْرَةٌ ، وَعَهْدِيَّتُهُ كَذَلِكَ فِيمَا إذَا وَقَعَ مُمَيِّزُ الْعَدَدِ قَبْلَهُ فَإِنَّهُ يُقَالُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فَيَكُونُ لَفْظُ أَيَّامٍ مُرَادًا بِهَا الثَّلَاثَةُ بِيَقِينٍ ، وَكَذَا أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ إلَى عَشَرَةٍ ، فَكَانَتْ الْعَشَرَةُ مُنْتَهَى مَا قُطِعَ بِإِرَادَتِهِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ فِيمَا لَا يُحْصَى مِنْ الِاسْتِعْمَالَاتِ فَكَانَ مَعْهُودًا مِنْ لَفْظِ الْجَمْعِ ، بِخِلَافِ قَوْله تَعَالَى { وَقَطَّعْنَاهُمْ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا } وَ { إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا } فَإِنَّ الْجَمْعَ هُنَا وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ يَقِينًا مَا يَزِيدُ عَلَى الْعَشَرَةِ لَكِنَّهُ بِوُجُودِ ذَلِكَ مُرَادًا مَرَّةً لَا يَصِيرُ مَعْهُودًا مِنْ

اللَّفْظِ بِحَيْثُ يُصْرَفُ إلَيْهِ مَتَى ذُكِرَ بِلَا مُعَيِّنٍ وَكَانَ الْمَعْهُودُ مِمَّا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ لَفْظُ الْجَمْعِ يَقِينًا مُسْتَمِرًّا لَيْسَ إلَّا الْعَشَرَةُ فِيمَا دُونَهَا ، وَالْعَشَرَةُ مُنْتَهَى مَا عُهِدَ شَائِعًا إرَادَتُهُ بِهِ قَطْعًا فَيَجِبُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَقَعْ مُمَيِّزًا لِعَدَدٍ نَحْوُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ حَيْثُ أُرِيدَ بِهِ جَمِيعُ الْأَيَّامِ فَإِنَّ اللَّامَ فِيهِ لِلْجِنْسِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِغْرَاقِ ، وَلَا يُنْكَرُ أَنْ يُرَادَ بِاللَّامِ ذَلِكَ ، لَكِنَّ الْمُقَرَّرَ أَنَّهُ حَيْثُ أَمْكَنَ الْعَهْدُ حُمِلَ عَلَيْهِ دُونَ الْجِنْسِ وَالِاسْتِغْرَاقِ ، وَالْعَهْدُ ثَابِتٌ فِيمَا يُرَادُ بِالْجَمْعِ عِنْدَ عَدَمِ قَرِينَةٍ .
وَالْفَرْضُ أَنَّ الْحَالِفَ لَمْ يُرِدْ شَيْئًا بِعَيْنِهِ فَالْوَاجِبُ أَنْ يُصْرَفَ إلَى الْمَعْهُودِ الْمُسْتَمِرِّ ، وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَ أَقْصَى الْمَعْهُودِ وَإِنْ كَانَ مَا دُونَهُ مَعْهُودًا أَيْضًا لِأَنَّهُ كَمَا عُهِدَ اسْتِعْمَالُهُ مُمَيَّزًا فِي الْعَشَرَةِ عُهِدَ فِيمَا دُونَهَا لِاسْتِغْرَاقِ اللَّامِ ، وَلَمَّا كَانَ الِاسْتِغْرَاقُ الَّذِي حُكِمَ بِهِ عِنْدَ عَدَمِ الْعَهْدِ إنَّمَا يَثْبُتُ لِأَنَّ مَدْخُولَ اللَّامِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ عَهْدٌ وَلَا قَرِينَةٌ تَعَيَّنَ غَيْرُ الِاسْتِغْرَاقِ مِنْ الْمَرَاتِبِ حَتَّى صُرِفَ إلَى الْجِنْسِ الصَّالِحِ لِلْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ كَانَ لِلِاسْتِغْرَاقِ وَهُنَا أَيْضًا كَذَلِكَ لَمَّا انْصَرَفَ إلَى الْمَعْهُودِ ، وَالْمَعْهُودُ كُلُّ مَرْتَبَةٍ مِنْ الْمَرَاتِبِ الَّتِي أَوَّلُهَا ثَلَاثَةٌ وَأَقْصَاهَا عَشَرَةٌ وَلَا مُعَيِّنَ كَانَتْ لِاسْتِغْرَاقِ الْمَعْهُودِ ، وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَنْدَفِعُ مَا أَوْرَدَهُ ابْنُ الْعِزِّ مِنْ قَوْلِهِ : وَهَذَا أَيْ كَوْنُ أَقْصَى مَا يُرَادُ بِهِ الْعَشَرَةُ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ ذِكْرِ الْعَدَدِ ، وَإِذَا لَمْ يُذْكَرْ يُسَمَّى الزَّائِدُ عَلَيْهِ بِالْجَمْعِ بِلَا رَيْبٍ ، وَذَكَرَ شَاهِدُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا } .
وَ { إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ } قَالَ : وَلَيْسَ فِي قَوْلِ الْحَالِفِ لَا أُكَلِّمُهُ

الشُّهُورَ اسْمُ الْعَدَدِ ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ أَقْصَى مَا يُذْكَرُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ وَكَذَلِكَ الْأَيَّامُ ، وَإِنَّمَا قُلْنَا : إنَّهُ انْدَفَعَ لِأَنَّك عَلِمَتْ أَنَّ الْقَصْدَ تَعْيِينُ مَا عُهِدَ مُرَادًا بِلَفْظِ الْجَمْعِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِمْرَارِ لِيَحْمِلَ عَلَيْهِ لَفْظَ الْجَمْعِ الْخَاصِّ عِنْدَ عَدَمِ إرَادَةِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ ، فَكَوْنُ لَفْظٍ أُرِيدَ بِهِ غَيْرُ مَا عُهِدَ مُسْتَمِرًّا كَثِيرًا لَا يُوجِبُ نَفْيَ عَهْدِيَّتِهِ فِي غَيْرِهِ ، وَأَمَّا مُشَاحَّتُهُ الْخَبَّازِيَّ حَيْثُ قَالَ الْخَبَّازِيُّ اسْمُ الْجَمْعِ لِلْعَشَرَةِ وَمَا دُونَهَا إلَى الثَّلَاثَةِ حَقِيقَةُ حَالَتَيْ الْإِطْلَاقِ وَاقْتِرَانِهِ بِالْعَدَدِ ، وَلَمَّا زَادَ عَلَى الْعَشَرَةِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عَنْ الْعَدَدِ وَالِاسْمِ مَتَى كَانَ لِلشَّيْءِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ كَانَ أَثْبَتَ مِمَّا هُوَ اسْمٌ لَهُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَلَيْسَتْ بِشَيْءٍ فَإِنَّهُ دَفَعَ كَلَامَهُ هَذَا بِقَوْلِهِ كَأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ الْفَرْقَ بَيْنَ الْجَمْعِ وَاسْمِ الْجَمْعِ فَلِهَذَا قَالَ إنَّهُ لِلْعَشَرَةِ وَمَا دُونَهَا حَقِيقَةً فِي حَالَيْنِ وَلِمَا فَوْقَهَا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَإِنَّمَا قَالُوا هَذَا فِي بَعْضِ أَسْمَاءِ الْجُمُوعِ أَنَّهُ يُطْلَقُ مِنْ الثَّلَاثَةِ إلَى الْعَشَرَةِ كَمَا فِي رَهْطٍ وَذَوْدٍ وَنَفَرٍ إلَى آخَرِ مَا ذَكَرَهُ وَلَمْ يُعْلَمْ أَنَّ الْإِضَافَةَ فِي قَوْلِ الْخَبَّازِيِّ اسْمُ الْجَمْعِ بَيَانِيَّةٌ ، وَالْمَعْنَى الِاسْمُ الَّذِي هُوَ الْجَمْعُ ، وَمِثْلُ هَذَا فِي عِبَارَاتِ جَمِيعِ أَهْلِ الْفُنُونِ أَكْثَرَ وَأَشْهَرَ مِنْ أَنْ يَخْفَى عَلَى نَاظِرٍ فِي الْعِلْمِ ، فَحَاصِلُ كَلَامِ الْخَبَّازِيِّ أَنَّ الْجَمْعَ فِي الْعَشَرَةِ فَمَا دُونَهَا أَثْبَتُ مِنْهُ فِيمَا زَادَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ يُرَادُ بِهِ فِي حَالَتَيْنِ وَالثَّانِي فِي حَالَةٍ ، يَعْنِي فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَى مَا عُهِدَ لَهُ فِي الْحَالَتَيْنِ عِنْدَ عَدَمِ الْمُعَيَّنِ لَازِمًا ، وَحَقِيقَةُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي مَبْدَإِ التَّقْرِيرِ شَرْحٌ لَهُ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
نَعَمْ لِقَائِلٍ أَنْ يُرَجِّحَ قَوْلَهُمَا فِي الْأَيَّامِ

وَالشُّهُورِ بِأَنَّ عَهْدَهُمَا أَعْهَدُ وَذَلِكَ لِأَنَّ عَهْدِيَّةَ الْعَشَرَةِ إنَّمَا هُوَ لِلْجَمْعِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى مَادَّةٍ خَاصَّةٍ : يَعْنِي الْجَمْعَ مُطْلَقًا عَهْدٌ لِلْعَشَرَةِ ، فَإِذَا عَرَضَ فِي خُصُوصِ مَادَّةٍ مِنْ الْجَمْعِ كَالْأَيَّامِ عَهْدِيَّةَ عَدَدٍ غَيْرِهِ كَانَ اعْتِبَارُ هَذَا الْمَعْهُودِ أَوْلَى ، وَقَدْ عُهِدَ فِي الْأَيَّامِ السَّبْعَةِ وَفِي الشُّهُورِ الِاثْنَيْ عَشَرَ فَيَكُونُ صَرْفُ خُصُوصِ هَذَيْنِ الْجَمْعَيْنِ إلَيْهِمَا أَوْلَى ، بِخِلَافِ غَيْرِهِمَا مِنْ الْجُمُوعِ كَالسِّنِينَ وَالْأَزْمِنَةِ ، فَإِنَّهُ لَمْ يُعْهَدْ فِي مَادَّتَيْهِمَا عَدَدٌ آخَرُ فَيُصْرَفُ إلَى مَا اسْتَقَرَّ لِلْجَمْعِ مُطْلَقًا مِنْ إرَادَةِ الْعَشَرَةِ فَمَا دُونَهَا .
فَإِنْ قِيلَ : هَذِهِ مُغَالَطَةٌ فَإِنَّ السَّبْعَةَ الْمَعْهُودَةَ نَفْسُ الْأَزْمِنَةِ الْخَاصَّةِ الْمُسَمَّاةِ بِيَوْمِ السَّبْتِ وَيَوْمِ الْأَحَدِ إلَى آخِرِهِ ، وَالْكَلَامُ فِي لَفْظِ أَيَّامٍ إذَا أُطْلِقَ عَلَى عَهْدٍ مِنْهُ تِلْكَ الْأَزْمِنَةِ الْخَاصَّةِ لِلسَّبْعَةِ لَا شَكَّ فِي عَدَمِ ثُبُوتِهِ فِي الِاسْتِعْمَالِ إذْ لَمْ يَثْبُتْ كَثْرَةُ إطْلَاقِ لَفْظِ أَيَّامٍ وَشُهُورٍ وَيُرَادُ بِهِ يَوْمُ السَّبْتِ وَالْأَحَدِ إلَى الْجُمُعَةِ وَالْمُحَرَّمِ وَصَفَرَ إلَى آخِرِهَا عَلَى الْخُصُوصِ ، بَلْ الْأَزْمِنَةُ الْخَاصَّةُ الْمُسَمَّيَاتُ مُتَكَرِّرَةٌ وَغَيْرُ مُتَكَرِّرَةٍ وَغَيْرُ بَالِغَةٍ السَّبْعَةِ بِحَسَبِ الْمُرَادَاتِ لِلْمُتَكَلِّمِينَ ، فَالْجَوَابُ مَنْعُ تَوَقُّفِ انْصِرَافِ اللَّامِ إلَى الْعَهْدِ عَلَى تَقَدُّمِ الْعَهْدِ عَنْ لَفْظِ النَّكِرَةِ بَلْ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ ، بَلْ لَا فَرْقَ بَيْنَ تَقَدُّمِ الْعَهْدِ بِالْمَعْنَى عَنْ اللَّفْظِ أَوْ لَا عَنْهُ فَإِنَّهُ إذَا صَارَ الْمَعْنَى مَعْهُودًا بِأَيِّ طَرِيقِ فَرْضٍ ثُمَّ أُطْلِقَ اللَّفْظُ الصَّالِحُ لَهُ مُعَرَّفًا بِاللَّامِ انْصَرَفَ إلَيْهِ .
وَقَدْ قَسَّمَ الْمُحَقِّقُونَ الْعَهْدَ إلَى ذِكْرِي وَعِلْمِي وَمَثَّلَ لِلثَّانِي بِقَوْلِهِ تَعَالَى { إذْ هُمَا فِي الْغَارِ } فَإِنَّ ذَاتَ الْغَارِ هِيَ الْمَعْهُودَةُ لَا مِنْ لَفْظٍ سَبَقَ ذِكْرُهُ بَلْ مِنْ وُجُودٍ فِيهِ

، وَعَلَى هَذَا فَيَجِبُ جَعْلُ مَا سَمَّاهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ بِالْعَهْدِ الْخَارِجِيِّ أَعَمُّ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ أَوْ عَهْدٌ بِغَيْرِهِ كَمَا ذَكَرْنَا .
وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُنَا الْعَامُّ يَخُصُّ بِدَلَالَةِ الْعَادَةِ ، فَإِنَّ الْعَهْدَ لَيْسَتْ إلَّا عَمَلًا عُهِدَ مُسْتَمِرًّا ثُمَّ يُطْلَقُ اللَّفْظُ الَّذِي يَعُمُّهَا وَغَيْرُهَا فَيُقَيَّدُ بِهَا لِعَهْدِيَّتِهَا عَمَلًا لَا لَفْظًا وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ

( وَمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ إنْ خَدَمْتنِي أَيَّامًا كَثِيرَةً فَأَنْتَ حُرٌّ فَالْأَيَّامُ الْكَثِيرَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ ) لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْأَيَّامِ ، وَقَالَا : سَبْعَةُ أَيَّامٍ لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَيْهَا تَكْرَارٌ .
وَقِيلَ لَوْ كَانَ الْيَمِينُ بِالْفَارِسِيَّةِ يَنْصَرِفُ إلَى سَبْعَةِ أَيَّامٍ لِأَنَّهُ يُذْكَرُ فِيهَا بِلَفْظِ الْفَرْدِ دُونَ الْجَمْعِ .

( قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ إنْ خَدَمْتنِي أَيَّامًا كَثِيرَةً فَأَنْتَ حُرٌّ فَالْأَيَّامُ الْكَثِيرَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَشَرَةُ أَيَّامٍ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مَا تَنَاوَلَهُ اسْمُ الْأَيَّامِ ) عَلَى الْيَقِينِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ( وَقَالَا : سَبْعَةُ أَيَّامٍ لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَيْهَا تَكْرَارٌ ) وَقَدْ يُقَالُ قَدْ تَقَدَّمَ فِي قَضَاءِ الْفَوَائِتِ أَنَّ الْكَثْرَةَ بِالدُّخُولِ فِي حَدِّ التَّكْرَارِ ، وَمُقْتَضَاهُ إنْ نُظِرَ إلَى الْكَثْرَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى هُنَا أَنْ لَا يَحْنَثَ إلَّا بِثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ ، وَإِنَّمَا لَمْ يُنْظَرْ إلَى الْكَثْرَةِ مِنْ جِهَةِ الْعُرْفِ لِأَنَّ الْعُرْفَ مُخْتَلِفٌ ، فَرُبَّمَا يُقَالُ فِي السَّبْعَةِ كَثِيرَةٌ وَرُبَّمَا يُقَالُ قَلِيلَةٌ ، وَكَذَا الْعَشَرَةُ وَالْعِشْرُونَ فَإِنَّهُ يُقَالُ بِاعْتِبَارَاتٍ وَنِسَبٍ لَمْ تَنْضَبِطْ .
وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنْ لَا نِيَّةَ لِلْقَائِلِ فِي مِقْدَارِ الْكَثِيرِ ، فَفَرَّعَ كُلٌّ عَلَى أَصْلِهِ .
ثُمَّ قَالَ أَبُو الْيُسْرِ : أَمَّا بِلِسَانِنَا فَلَا يَجِيءُ هَذَا الِاخْتِلَافُ بَلْ يُصْرَفُ إلَى أَيَّامِ الْجُمُعَةِ بِالِاتِّفَاقِ ، حَتَّى لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ اكرخدمت كنى مراروزهاي بِسَيَّارِ توازاذي إذَا خَدَمَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ يُعْتَقُ لِأَنَّ فِي لِسَانِنَا تُسْتَعْمَلُ مَعَ جَمِيعِ الْأَعْدَادِ لَفْظَةً روز فَلَا يَجِيءُ مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ انْتِهَاءِ الْأَيَّامِ إلَى الْعَشَرَةِ ، وَهَذَا حَسَنٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
[ فُرُوعٌ ] قَالَ أَوَّلُ يَوْمٍ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ فَهُوَ عَلَى السَّادِسَ عَشَرَ مِنْهُ ، وَآخِرُ يَوْمٍ مِنْ أَوَّلِ هَذَا الشَّهْرِ يَقَعُ عَلَى الْخَامِسَ عَشَرَ مِنْهُ ، وَجُمَعٌ وَسُنُونَ مُنَكَّرٌ يَقَعُ عَلَى ثَلَاثٍ بِالِاتِّفَاقِ .
وَلَوْ حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ كَذَا عِنْدَ رَأْسِ الشَّهْرِ أَوْ عِنْدَ رَأْسِ الْهِلَالِ أَوْ إذَا أَهَلَّ الْهِلَالُ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَلَهُ اللَّيْلَةُ الَّتِي يُهِلُّ فِيهَا وَيَوْمُهَا ، وَإِنْ نَوَى السَّاعَةَ الَّتِي أَهَلَّ فِيهَا صَحَّتْ نِيَّتُهُ لِأَنَّهُ حَقِيقَةُ كَلَامِهِ وَفِيهِ تَغْلِيظٌ عَلَيْهِ .
وَلَوْ قَالَ أَوَّلُ الشَّهْرِ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَلَهُ مِنْ

الْيَوْمِ الْأَوَّلِ إلَى خَامِسَ عَشَرِهِ ، وَإِنْ قَالَ آخِرُ الشَّهْرِ فَمِنْ سَادِسَ عَشَرِهِ إلَى آخِرِهِ ، أَوْ غُرَّةِ الشَّهْرِ فَاللَّيْلَةُ الْأُولَى وَالْيَوْمُ الْأَوَّلُ فِي الْعُرْفِ ، وَإِنْ كَانَ فِي اللُّغَةِ لِلْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ أَوْ سَلْخُ الشَّهْرِ فَالتَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ ، وَإِنْ قَالَ صَلَاةَ الظُّهْرِ فَلَهُ وَقْتُ الظُّهْرِ كُلِّهِ ، وَعِنْدَ طُلُوعُ الشَّمْسِ لَهُ مِنْ حِينَ تَبْدُو إلَى أَنْ تَبْيَضَّ ، وَإِنْ قَالَ وَقْتَ الضَّحْوَةِ فَمِنْ حِينَ تَبْيَضُّ إلَى أَنْ تَزُولَ ، فَفِي أَيِّ وَقْتٍ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ فَعَلَ بَرَّ ، وَإِنْ قَالَ الْمَسَاءُ فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَسَاءَ مَسَاءَانِ ، وَلَوْ قَالَ فِي الشِّتَاءِ وَنَحْوِهِ فَعَنْ مُحَمَّدٍ إنْ كَانَ عِنْدَهُمْ حِسَابٌ يَعْرِفُونَ بِهِ الشِّتَاءَ وَالرَّبِيعَ وَالصَّيْفَ وَالْخَرِيفَ فَهُوَ عَلَى حِسَابِهِمْ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَالشِّتَاءُ مَا يَشْتَدُّ فِيهِ الْبَرْدُ عَلَى الدَّوَامِ ، وَالصَّيْفُ مَا يَشْتَدُّ فِيهِ الْحَرُّ عَلَى الدَّوَامِ ؛ فَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ : الْخَرِيفُ مَا يَنْكَسِرُ فِيهِ الْحَرُّ عَلَى الدَّوَامِ ، وَالرَّبِيعُ مَا يَنْكَسِرُ فِيهِ الْبَرْدُ عَلَى الدَّوَامِ .
وَقَالَ أَبُو اللَّيْثِ : قَالَ مُحَمَّدٌ : لَيْسَ عِنْدَنَا شَيْءٌ فِي مَعْرِفَةِ الصَّيْفِ ، إنَّمَا يَرْجِعُ فِيهِ إلَى قَوْلِ النَّاسِ ، فَإِذَا قَالُوا بِأَجْمَعِهِمْ ذَهَبَ الشِّتَاءُ وَالصَّيْفُ فَهُوَ كَذَلِكَ يُعْتَبَرُ الْعُرْفُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ .
وَفِي الْوَاقِعَاتِ وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْحَالِفُ فِي بَلَدٍ لَهُمْ حِسَابٌ يَعْرِفُونَ بِهِ الصَّيْفَ وَالشِّتَاءَ مُسْتَمِرًّا يَنْصَرِفُ إلَيْهِ ، وَإِلَّا فَأَوَّلُ الشِّتَاءِ مَا يَلْبَسُ النَّاسُ فِيهِ الْحَشْوَ وَالْفَرْوَ ، وَآخِرُهُ مَا يَسْتَغْنِي النَّاسُ فِيهِ عَنْهُمَا ، وَالْفَاصِلُ بَيْنَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ إذَا اسْتَثْقَلَ ثِيَابَ الشِّتَاءِ وَاسْتَخَفَّ ثِيَابَ الصَّيْفِ ، وَالرَّبِيعُ مِنْ آخَرِ الشِّتَاءِ إلَى أَوَّلِ الصَّيْفِ ، وَالْخَرِيفُ مِنْ آخِرِ الصَّيْفِ إلَى أَوَّلِ الشِّتَاءِ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ هَذَا أَيْسَرُ لِلنَّاسِ .
وَقِيلَ إذَا كَانَ عَلَى الْأَشْجَارِ

أَوْرَاقٌ وَثِمَارٌ فَهُوَ صَيْفٌ ، وَإِذَا بَقِيَ الْأَوْرَاقُ دُونَ الثِّمَارِ فَخَرِيفٌ ، وَإِذَا لَمْ يَبْقَ عَلَيْهَا أَوْرَاقٌ فَالشِّتَاءُ ، وَإِذَا خَرَجَتْ الْأَوْرَاقُ دُونَ الثِّمَارِ فَالرَّبِيعُ وَهُوَ إذَا خَرَجَتْ الْأَزْهَارُ .
وَلَوْ قَالَ إلَى وُقُوعِ الثَّلْجِ أَرَادَ وَقْتَ وُقُوعِهِ فَعَلَى ذَلِكَ وَهُوَ الشَّهْرُ الَّذِي يُقَالُ لَهُ بِالْفَارِسِيَّةِ أَذَارٍ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ أَوْ نَوَى حَقِيقَةَ وُقُوعِهِ فَعَلَى حَقِيقَةِ الْوُقُوعِ وَهُوَ الشَّهْرُ الَّذِي يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى كَنْسِهِ لَا يُعْتَبَرُ مَا يَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ وَمَا لَا يَسْتَبِينُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ .
وَلَوْ وَقَعَ الثَّلْجُ فِي بَلَدٍ غَيْرِ بَلَدِ الْحَالِفِ لَا يُعْتَبَرُ بَلْ الْمُعْتَبَرُ وُقُوعُهُ فِي بَلْدَتِهِ حَتَّى لَوْ كَانَ الْحَالِفُ فِي بَلْدَةٍ لَا يَقَعُ بِهَا ثَلْجٌ تَأَبَّدَتْ الْيَمِينُ .
وَلَوْ قَالَ إلَى قُدُومِ الْحَاجِّ فَقَدِمَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ انْتَهَتْ الْيَمِينُ ، وَلَوْ ذَكَرَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَإِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُ اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِيهَا ، فَعَلَى السَّابِعَةِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ ، وَبِهِ أَخَذَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُ لَا يَنْصَرِفُ إلَيْهَا ، وَالْخِلَافُ فِيهِ مَعْرُوفٌ بَيْنَ عُلَمَائِنَا ، فَإِنْ كَانَ حَلَفَ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ لَا يَحْنَثُ عِنْدَ هُمَا حَتَّى يَجِيءَ مِثْلُهُ مِنْ رَمَضَانَ الْقَابِلِ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى يَمْضِي كُلَّ رَمَضَانَ الْقَابِلِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا فِي رَمَضَانَ عِنْدَ الْكُلِّ لَكِنَّهُ يَقُولُ تَتَقَدَّمُ وَتَتَأَخَّرُ ، وَعِنْدَهُمَا فِي لَيْلَةٍ بِعَيْنِهَا لَا تَتَقَدَّمُ وَلَا تَتَأَخَّرُ لَكِنْ لَا تُعْرَفُ .

( بَابُ الْيَمِينِ فِي الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ ) ( وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إذَا وَلَدْت وَلَدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَوَلَدَتْ وَلَدًا مَيِّتًا طَلُقَتْ ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لِأَمَتِهِ إذَا وَلَدْت وَلَدًا فَأَنْتِ حُرَّةٌ ) لِأَنَّ الْمَوْجُودَ مَوْلُودٌ فَيَكُونُ وَلَدًا حَقِيقَةً وَيُسَمَّى بِهِ فِي الْعُرْفِ ، وَيُعْتَبَرُ وَلَدًا فِي الشَّرْعِ حَتَّى تَنْقَضِيَ بِهِ الْعِدَّةُ ، وَالدَّمُ بَعْدَهُ نِفَاسٌ وَأُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ فَتَحَقَّقَ الشَّرْطُ وَهُوَ وِلَادَةُ الْوَلَدِ
( بَابُ الْيَمِينِ فِي الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ ) لَمَّا كَثُرَ وُقُوعُ الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ بَعْدَمَا تَقَدَّمَ قَدَّمَهُ عَلَى مَا بَعْدَهُ ( قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إذَا وَلَدْت فَأَنْتِ طَالِقٌ فَوَلَدَتْ وَلَدًا مَيِّتًا طَلُقَتْ ) وَكَذَا إذَا عَلَّقَ بِهِ عِتْقَ أَمَةٍ لِأَنَّ بِوِلَادَةِ الْمَيِّتِ يَتَحَقَّقُ الشَّرْطُ لِأَنَّ الْمَيِّتَ وُلِدَ حَقِيقَةٌ وَهُوَ ظَاهِرٌ .
وَشَرْعًا حَتَّى تَنْقَضِيَ بِهِ الْعِدَّةُ وَتَصِيرُ بِهِ نُفَسَاءَ إذَا رَأَتْ الدَّمَ فَتَحْرُمُ الصَّلَاةُ عَلَيْهَا وَتَصِيرُ بِهِ الْأَمَةُ أُمَّ وَلَدٍ .
وَفِي الْحَدِيثِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي السِّقْطِ { يَظَلُّ مُحْبَنْطِئًا عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ حَتَّى يُدْخِلَ أَبَوَاهُ الْجَنَّةَ } يُرْوَى بِالْهَمْزَةِ وَهُوَ الْعَظِيمُ الْبَطْنِ الْمُنْتَفِخُ : أَيْ يُنْفَخُ بَطْنُهُ مِنْ الِامْتِلَاءِ مِنْ الْغَضَبِ ، وَبِلَا هَمْزٍ هُوَ الْمُتَغَضَّبُ الْمُسْتَبْطِئُ لِلشَّيْءِ وَالْفِعْلُ مِنْهُمَا احْبَنْطَأَ مَهْمُوزًا وَاحْبَنْطَى مَقْصُورًا ، وَمِنْ هَذَا يُؤْخَذُ أَنَّ السِّقْطَ لَهُ حُكْمُ الْوَلَدِ ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي الْحُكْمِ ، فَلَوْ أَسْقَطَتْ سِقْطًا اسْتَبَانَ بَعْضُ خَلْقِهِ طَلُقَتْ وَعَتَقَتْ أَيْضًا لِأَنَّهُ وَلَدٌ حَتَّى صَارَتْ الْأَمَةُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ ، وَلَوْ لَمْ يَسْتَبِنْ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ لَا يُعْتَبَرْ ، وَتَقَدَّمَ حُكْمُهُ فِي الْحَيْضِ

( وَلَوْ قَالَ إذَا وَلَدْت وَلَدًا فَهُوَ حُرٌّ فَوَلَدَتْ وَلَدًا مَيِّتًا ثُمَّ آخَرَ حَيًّا عَتَقَ الْحَيُّ وَحْدَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : لَا يُعْتَقُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا ) لِأَنَّ الشَّرْطَ قَدْ تَحَقَّقَ بِوِلَادَةِ الْمَيِّتِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَتَنْحَلُّ الْيَمِينُ لَا إلَى جَزَاءٍ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْحُرِّيَّةِ وَهِيَ الْجَزَاءُ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مُطْلَقَ اسْمِ الْوَلَدِ مُقَيَّدٌ بِوَصْفِ الْحَيَاةِ لِأَنَّهُ قَصَدَ إثْبَاتَ الْحُرِّيَّةِ جَزَاءً وَهِيَ قُوَّةٌ حُكْمِيَّةٌ تَظْهَرُ فِي دَفْعِ تَسَلُّطِ الْغَيْرِ وَلَا تَثْبُتُ فِي الْمَيِّتِ فَيَتَقَيَّدُ بِوَصْفِ الْحَيَاةِ فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ إذَا وَلَدْت وَلَدًا حَيًّا ، بِخِلَافِ جَزَاءِ الطَّلَاقِ وَحُرِّيَّةِ الْأُمِّ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ مُقَيَّدًا

( قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ إذَا وَلَدْت وَلَدًا فَهُوَ حُرٌّ فَوَلَدَتْ وَلَدًا مَيِّتًا ثُمَّ آخَرَ حَيًّا عَتَقَ الْحَيُّ وَحْدُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَ : لَا يُعْتَقُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا لِأَنَّ الشَّرْطَ قَدْ تَحَقَّقَ بِوِلَادَةِ الْمَيِّتِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ) آنِفًا لَكِنَّهُ لَيْسَ مَحَلًّا لِلْعِتْقِ فَتَنْحَلُّ الْيَمِينُ بِهِ وَلَا يَنْزِلُ الْجَزَاءُ ، كَمَا لَوْ قَالَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَأَبَانَهَا فَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَدَخَلَتْ انْحَلَّتْ الْيَمِينُ وَلَا يَحْنَثُ ، حَتَّى لَوْ رَجَعَتْ فَدَخَلَتْ لَا يَقَعُ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الشَّرْطَ لَيْسَ إلَّا الْوَلَدُ الْحَيُّ هُنَا ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَهُ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ جَعَلَ الْجَزَاءَ وَصْفًا لِلْمَوْصُوفِ بِالشَّرْطِ وَهُوَ الْوَلَدُ ، وَهَذَا الْوَصْفُ الْخَاصُّ وَهُوَ الْحُرِّيَّةُ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْحَيِّ فَتَقَيَّدَ الْمَوْصُوفُ بِالشَّرْطِ بِالْحَيَاةِ وَإِلَّا لُغِيَ الْكَلَامُ ، فَكَأَنَّهُ قَالَ إذَا وَلَدْت وَلَدًا حَيًّا ، بِخِلَافِ جَزَاءِ الطَّلَاقِ لِلْأُمِّ وَحُرِّيَّتِهَا لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ مُقَيَّدًا لِلْوَلَدِ بِالْحَيِّ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ وَالطَّلَاقَ وَاقِعٌ وَصْفًا لِغَيْرِهِ فَلَا يَلْزَمُ تَقْيِيدُهُ بِهِ .
وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ مَا لَوْ قِيلَ إنْ اشْتَرَيْت عَبْدًا فَهُوَ حُرٌّ فَاشْتَرَى عَبْدًا لِغَيْرِهِ ثُمَّ عَبْدًا لِنَفْسِهِ لَا يُعْتَقُ الثَّانِي لِانْحِلَالِ الْيَمِينِ بِالْأَوَّلِ وَلَمْ يَتَقَيَّدْ ضَرُورَةُ وَصْفِهِ بِالْحُرِّيَّةِ بِعَبْدٍ لِنَفْسِهِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُشْتَرِي لِغَيْرِهِ مَحَلٌّ لِلْإِعْتَاقِ لِصِحَّةِ ثُبُوتِهِ فِيهِ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ مَالِكِهِ فَانْحَلَّتْ الْيَمِينُ بِهِ وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى إضْمَارِ الْمِلْكِ فِيهِ .
أَمَّا الْمَيِّتُ فَلَا يَصِحُّ إيجَابُ الْعِتْقِ فِيهِ لَا مَوْقُوفًا وَلَا غَيْرَهُ ، وَبِهَذَا يَقَعُ الْجَوَابُ عَمَّا قَدْ يُورَدُ مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ إنْ دَخَلْت فَأَنْتِ طَالِقٌ فَإِنَّ الْمَوْصُوفَ بِالْجَزَاءِ هُوَ الْمَوْصُوفُ بِالشَّرْطِ ، وَمَعَ هَذَا لَوْ أَبَانَهَا فَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَدَخَلَتْ انْحَلَّتْ وَلَمْ يَقَعْ بَعْدُ وَلَمْ يُضْمِرْ قَوْلَهُ

إنْ دَخَلْت الدَّارَ فِي عِصْمَتِي وَنَحْوِهِ لِأَنَّهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ مَحَلٌّ لِمِثْلِ هَذَا الْمَعْنَى ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ إنْ تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ صَحَّ وَتَوَقَّفَ عَلَى نِكَاحِهَا فَتَطْلُقُ عِنْدَهُ بِذَلِكَ الطَّلَاقِ .
وَفِي الْإِيضَاحِ لَوْ قَالَ أَوَّلُ عَبْدٍ دَخَلَ عَلَيَّ فَهُوَ حُرٌّ فَأُدْخِلَ عَلَيْهِ عَبْدٌ مَيِّتٌ ثُمَّ عَبْدٌ حَيٌّ يُعْتَقُ الْحَيُّ وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ عَلَى الِاتِّفَاقِ لِأَنَّ الْعُبُودِيَّةَ لَا تَبْقَى بَعْدَ الْمَوْتِ .
وَلَوْ قَالَ أَوَّلُ عَبْدٍ أَمْلِكُهُ فَهُوَ حُرٌّ فَاشْتَرَى عَبْدًا وَنِصْفًا مَعًا عَتَقَ التَّامُّ .
بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ أَوَّلُ كُرٍّ أَمْلِكُهُ فَهُوَ هَدْيٌ فَمَلَك كُرًّا وَنِصْفًا كَذَلِكَ لَمْ يُهْدِ شَيْئًا لِأَنَّ النِّصْفَ يُزَاحِمُ كُلَّ نِصْفٍ مِنْ الْكُرِّ لِأَنَّهُ مَعَ كُلِّ نِصْفٍ مِنْهُ كُرٍّ بِخِلَافِ نِصْفِ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ مُتَّصِلٌ بِالنِّصْفِ الْآخَرِ فَيَكْمُلُ الْعَبْدُ بِنِصْفَيْهِ ، ذَكَرَهُ التُّمُرْتَاشِيُّ والمرغيناني

( وَإِذَا قَالَ أَوَّلُ عَبْدٍ اشْتَرِيهِ فَهُوَ حُرٌّ فَاشْتَرَى عَبْدًا عَتَقَ ) لِأَنَّ الْأَوَّلَ اسْمٌ لِفَرْدٍ سَابِقٍ ( فَإِنْ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ مَعًا ثُمَّ آخَرَ لَمْ يُعْتَقْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ ) لِانْعِدَامِ التَّفَرُّدِ فِي الْأَوَّلَيْنِ وَالسَّبَقِ فِي الثَّالِثِ فَانْعَدَمَتْ الْأَوَّلِيَّةُ ( وَإِنْ قَالَ أَوَّلُ عَبْدٍ أَشْتَرِيه وَحْدَهُ فَهُوَ حُرٌّ عَتَقَ الثَّالِثُ ) لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ التَّفَرُّدُ فِي حَالَةِ الشِّرَاءِ لِأَنَّ وَحْدَهُ لِلْحَالِ لُغَةً وَالثَّالِثُ سَابِقٌ فِي هَذَا الْوَصْفِ ( وَإِنْ قَالَ آخِرُ عَبْدٍ أَشْتَرِيه فَهُوَ حُرٌّ فَاشْتَرَى عَبْدًا ثُمَّ مَاتَ لَمْ يُعْتَقْ ) لِأَنَّ الْآخَرَ اسْمٌ لِفَرْدٍ لَاحِقٍ وَلَا سَابِقَ لَهُ فَلَا يَكُونُ لَاحِقًا ( وَلَوْ اشْتَرَى عَبْدًا ثُمَّ عَبْدًا ثُمَّ مَاتَ عَتَقَ الْآخَرُ ) لِأَنَّهُ فَرْدٌ لَاحِقٌ فَاتَّصَفَ بِالْآخِرِيَّةِ ( وَيُعْتَقُ يَوْمَ اشْتَرَاهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ حَتَّى يَعْتَبِرَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ ، وَقَالَا : يُعْتَقُ يَوْمَ مَاتَ ) حَتَّى يُعْتَبَرَ مِنْ الثُّلُثِ لِأَنَّ الْآخِرِيَّةَ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِعَدَمِ شِرَاءِ غَيْرِهِ بَعْدَهُ وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِالْمَوْتِ فَكَانَ الشَّرْطُ مُتَحَقِّقًا عِنْدَ الْمَوْتِ فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَوْتَ مُعَرَّفٌ فَأَمَّا اتِّصَافُهُ بِالْآخِرِيَّةِ فَمِنْ وَقْتِ الشِّرَاءِ فَيَثْبُتُ مُسْتَنِدًا ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ تَعْلِيقُ الطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ بِهِ ، وَفَائِدَتُهُ تَظْهَرُ فِي جَرَيَانِ الْإِرْثِ وَعَدَمِهِ

( قَوْلُهُ وَإِذَا قَالَ أَوَّلُ عَبْدٍ اشْتَرِيهِ فَهُوَ حُرٌّ ) فَاشْتَرَى عَبْدًا عَتَقَ لِأَنَّ الْأَوَّلَ اسْمٌ لِفَرْدٍ سَابِقٍ فَتَحَقَّقَ بِشِرَائِهِ شَرْطُ الْعِتْقِ فَيُعْتَقُ ، فَإِنْ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ مَعًا ثُمَّ آخَرَ لَمْ يُعْتَقْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ لِانْعِدَامِ التَّفَرُّدِ فِي الْأَوَّلَيْنِ وَالسَّبَقِ فِي الثَّالِثِ فَانْعَدَمَتْ الْأَوَّلِيَّةُ فِيهِ ، وَلَوْ كَانَ قَالَ أَوَّلُ عَبْدٍ أَشْتَرِيه وَحْدَهُ فَهُوَ حُرٌّ عَتَقَ الثَّالِثُ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ التَّفَرُّدُ بِهِ فِي حَالَةِ الشِّرَاءِ لِأَنَّ وَحْدَهُ لِلْحَالِ لُغَةً فَيُقَيَّدُ عَامِلُهُ وَهُوَ الشِّرَاءُ بِمَعْنَاهُ فَيُفِيدُ أَنَّ الشِّرَاءَ فِي حَالِ تَفَرُّدِ الْمُشْتَرِي وَهُوَ صَادِقٌ فِي الثَّالِثِ فَيُعْتَقُ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ أَوَّلُ عَبْدٍ أَمْلِكُهُ وَاحِدًا لَا يُعْتَقُ الثَّالِثُ لِأَنَّ وَاحِدًا يُحْتَمَلُ التَّفَرُّدَ فِي الذَّاتِ فَيَكُونُ حَالًا مُؤَكَّدَةً لِأَنَّ الْوَاقِعَ كَوْنُهُ كَذَلِكَ فِي ذَاتِهِ فَلَا يُعْتَقُ لِأَنَّ كُلًّا مِنْ الْأَوَّلَيْنِ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ أَوَّلُ بِهَذَا الْمَعْنَى فَإِنَّهُ فِي ذَاتِهِ فَرْدٌ وَاحِدٌ وَسَابِقٌ عَلَى مَنْ يَكُونُ بَعْدَهُ فَلَمْ يَكُنْ الثَّالِثُ أَوْلَى بِهَذَا الْمَعْنَى ، وَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ لَوْ قَصَدَ هَذَا الْمَعْنَى يُعْتَقُ كُلٌّ مِنْ الِاثْنَيْنِ السَّابِقَيْنِ ، وَيُحْتَمَلُ كَوْنُهُ بِمَعْنَى الِانْفِرَادِ فِي تَعَلُّقِ الْفِعْلِ بِهِ فَتَكُونُ مُؤَسِّسَةً فَيُعْتَقُ لِأَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ فِي تَعَلُّقِ الْفِعْلِ ، بِخِلَافِ الْأَوَّلَيْنِ فَلَا يُعْتَقُ بِالشَّكِّ .
وَقِيلَ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ الْعَبْدِ وَأَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ الْمَالِكِ : أَيْ حَالَ كَوْنِي مُنْفَرِدًا فَلَا يُعْتَقُ بِالشَّكِّ ، إلَيْهِ أَشَارَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَقَاضِي خَانْ ( قَوْلُهُ وَإِنْ قَالَ آخِرُ عَبْدٍ أَشْتَرِيه فَهُوَ حُرٌّ فَاشْتَرَى عَبْدًا وَمَاتَ الْمَوْلَى لَمْ يُعْتَقْ لِأَنَّ الْآخَرَ فَرْدٌ لَاحِقٌ ) وَالْفَرْضُ أَنْ لَا سَابِقَ لِهَذَا الْعَبْدِ فَلَا يَكُونُ لَاحِقًا فَلَمْ يَتَحَقَّقْ مَنَاطُ الْعِتْقِ فَلَمْ يُعْتَقْ ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَعَ الَّتِي

تَقَدَّمَتْ تَحَقَّقَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي تَحَقُّقِ الْآخِرِيَّةِ وُجُودٌ سَابِقٌ بِالْفِعْلِ ، وَفِي الْأَوَّلِيَّةِ عَدَمُ تَقَدُّمِ غَيْرِهِ لَا وُجُودُ آخِرِ مُتَأَخِّرٍ عَنْهُ ، وَإِلَّا لَمْ يُعْتِقْ الْمُشْتَرِي فِي قَوْلِهِ أَوَّلُ عَبْدٍ أَشْتَرِيه فَهُوَ حُرٌّ إذْ لَمْ يَشْتَرِ بَعْدَهُ غَيْرَهُ ، وَلَوْ اشْتَرَى عَبْدًا ثُمَّ عَبْدًا فِي قَوْلِهِ آخِرُ عَبْدٍ أَشْتَرِيه فَهُوَ حُرٌّ ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى عَتَقَ الْآخَرُ اتِّفَاقًا لِأَنَّهُ فَرْدٌ لَاحِقٌ لَمْ يَعْقُبْهُ غَيْرُهُ .
وَاخْتَلَفُوا فِي وَقْتِ عِتْقِهِ ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُعْتَقُ مِنْ يَوْمِ اشْتَرَاهُ حَتَّى يُعْتَبَرَ عِتْقُهُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ إنْ كَانَ اشْتَرَاهُ فِي الصِّحَّةِ وَإِلَّا عَتَقَ مِنْ الثُّلُثِ ، وَقَالَا : يُعْتَقُ يَوْمَ مَاتَ الْمَوْلَى حَتَّى يُعْتَبَرَ عِتْقُهُ مِنْ الثُّلُثِ سَوَاءٌ اشْتَرَاهُ فِي الصِّحَّةِ أَوْ الْمَرَضِ .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْآخِرِيَّةَ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِعَدَمِ شِرَاءِ غَيْرِهِ بَعْدَهُ إلَى الْمَوْتِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ : إنْ لَمْ أَشْتَرِ بَعْدَك آخَرُ فَأَنْتَ حُرٌّ ، وَلَوْ قَالَهُ كَانَ الشَّرْطُ مُتَحَقِّقًا عِنْدَ الْمَوْتِ فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهِ فَكَذَا إذَا كَانَ مَعْنَاهُ ثَابِتًا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَوْتَ مُعَرِّفٌ لِلشَّرْطِ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ ، وَإِنَّمَا الشَّرْطُ اتِّصَافًا بِالْآخِرِيَّةِ ، وَهَذِهِ الصِّفَةُ حَصَلَتْ لَهُ مِنْ وَقْتِ الشِّرَاءِ ، إلَّا أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ بِعَرْضِيَّةِ الزَّوَالِ بِأَنْ يَشْتَرِيَ بَعْدَهُ غَيْرَهُ ، فَإِذَا مَاتَ وَلَمْ يَشْتَرِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ آخِرًا مِنْ وَقْتِ الشِّرَاءِ فَتَبَيَّنَ بِهِ أَنَّهُ عَتَقَ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ ، كَمَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ حِضْت فَأَنْتِ طَالِقٌ فَرَأَتْ الدَّمَ لَا يُحْكَمُ بِطَلَاقِهَا فِي الْحَالِ بَلْ حَتَّى يَمْتَدَّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، فَإِذَا امْتَدَّ ظَهَرَ أَنَّهَا طَلُقَتْ حِينَ رَأَتْ الدَّمَ حَيْثُ ظَهَرَ أَنَّ ذَلِكَ الدَّمَ كَانَ حَيْضًا وَكَوْنُ صِفَةِ الْآخِرِيَّةِ إنَّمَا تَثْبُتُ بِعَدَمِ شِرَاءِ غَيْرِهِ وَأَنَّ الْعَدَمَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالْمَوْتِ صَحِيحٌ ، لَكِنَّهُ لَمْ

يَجْعَلْ الشَّرْطَ عَدَمَ الشِّرَاءِ بَلْ أَمْرٌ آخَرُ لَا يَتَحَقَّقُ ظُهُورُهُ إلَّا بِهِ فَلَا يَقَعُ عِنْدَهُ مُقْتَصِرًا إلَّا لَوْ كَانَ هُوَ نَفْسُ الشَّرْطِ ، فَإِذَا كَانَ الْمَظْهَرُ لِتَحَقُّقِ الشَّرْطِ ثَبَتَ عِنْدَهُ مُسْتَنِدًا ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا قَالَ آخِرُ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً ثُمَّ أُخْرَى ثُمَّ مَاتَ يَقَعُ عِنْدَ الْمَوْتِ مُقْتَصِرًا عِنْدَهُمَا وَمُسْتَنِدًا عِنْدَهُ .
وَفَائِدَتُهُ : أَيْ فَائِدَةُ هَذَا الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي حِرْمَانِ الْإِرْثِ وَعَدَمِهِ ؛ فَعِنْدَهُمَا تَرِثُ لِأَنَّهُ يُجْعَلُ فَارًّا حَيْثُ حَكَمَا بِطَلَاقِهَا فِي آخِرِ نَفَسٍ مِنْ حَيَاتِهِ وَيَلْزَمُهُ مَهْرُ وَاحِدٍ إنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا ، وَكَذَا إنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا لِانْتِهَاءِ النِّكَاحِ بِالْمَوْتِ ، وَتَعْتَدُّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ وَالطَّلَاقِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ عِدَّةَ الطَّلَاقِ لَا غَيْرُ ، وَلَوْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا كَانَ عَلَيْهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ ، وَعِنْدَهُ لَا تَرِثُ لِأَنَّهَا طَلُقَتْ ثَلَاثًا وَقْتَ تَزَوُّجِهَا ، حَتَّى لَوْ دَخَلَ بِهَا لَزِمَهُ مَهْرٌ بِالدُّخُولِ وَنِصْفُ مَهْرٍ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَتُعْتَبَرُ عِدَّةُ الطَّلَاقِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ إنْ لَمْ أَتَزَوَّجْ عَلَيْك ، فَإِنَّهُ إذَا مَاتَ يُقْتَصَرُ طَلَاقُهَا عَلَى الْحَالِ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِكَوْنِ الشَّرْطِ عَدَمُ التَّزَوُّجِ وَهُوَ أَنْ يَمُوتَ قَبْلَهُ فَيَتَحَقَّقُ بِهِ الشَّرْطُ ، وَلَيْسَ مِثْلُ الْأَوَّلِ لِأَنَّ مَعَ آخِرِ جُزْءٍ مِنْ حَيَاتِهِ آخِرُ جُزْءٍ مِنْ الْعَدَمِ الْمَجْعُولِ شَرْطًا فَلَمْ يَكُنْ الْعَدَمُ السَّابِقُ تَمَامَ الشَّرْطِ ، إذْ مَا لَمْ يَتِمَّ آخِرُ الشَّرْطِ لَا يَتَحَقَّقُ الشَّرْطُ ، بِخِلَافِ الْآخِرِيَّةِ فَإِنَّهَا تَتِمُّ بِذَلِكَ الشَّرْطِ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَاهُ .
وَلَوْ قَالَ آخِرُ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَهَا ثُمَّ أُخْرَى ثُمَّ طَلَّقَ الْأُولَى وَتَزَوَّجَهَا ثُمَّ مَاتَ لَمْ تَطْلُقْ هِيَ وَتَطْلُقُ الَّتِي تَزَوَّجَهَا مَرَّةً ، لِأَنَّ الَّتِي أَعَادَ عَلَيْهَا

التَّزَوُّجَ اتَّصَفَتْ بِالْأَوَّلِيَّةِ فَلَا تَتَّصِفُ بِالْآخِرِيَّةِ ، كَقَوْلِهِ آخِرُ عَبْدٍ أَضْرِبُهُ وَضَرَبَ عَبْدًا ثُمَّ آخَرَ ثُمَّ أَعَادَ الضَّرْبَ عَلَى الْأَوَّلِ ثُمَّ مَاتَ عَتَقَ الَّذِي ضَرَبَهُ ثَانِيًا لَا الْمَعَادُ عَلَيْهِ

( وَمَنْ قَالَ كُلُّ عَبْدٍ بَشَّرَنِي بِوِلَادَةِ فُلَانَةَ فَهُوَ حُرٌّ فَبَشَّرَهُ ثَلَاثَةٌ مُتَفَرِّقِينَ عَتَقَ الْأَوَّلُ ) لِأَنَّ الْبِشَارَةَ اسْمٌ لِخَبَرٍ يُغَيِّرُ بَشَرَةَ الْوَجْهِ ، وَيُشْتَرَطُ كَوْنُهُ سَارًّا بِالْعُرْفِ ، وَهَذَا إنَّمَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الْأَوَّلِ ( وَإِنْ بَشَّرُوهُ مَعًا عَتَقُوا ) لِأَنَّهَا تَحَقَّقَتْ مِنْ الْكُلِّ

( قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ كُلُّ عَبْدٍ بَشَّرَنِي بِوِلَادَةِ فُلَانَةَ فَهُوَ حُرٌّ فَبَشَّرَهُ ثَلَاثَةٌ مُتَفَرِّقِينَ ) أَيْ مُتَعَاقِبِينَ عَتَقَ الْأَوَّلُ مِنْهُمْ فَقَطْ لِأَنَّ الْبِشَارَةَ إنَّمَا تَحَقَّقَتْ مِنْهُ لِأَنَّهَا اسْمٌ لِخَبَرٍ يُغَيِّرُ بَشَرَةَ الْوَجْهِ ، وَيُشْتَرَطُ كَوْنُهُ سَارًّا فِي الْعُرْفِ ، وَأَمَّا فِي اللُّغَةِ فَهُوَ مَا يُغَيِّرُ الْبَشَرَةَ سَارًّا كَانَ أَوْ ضَارًّا ، قَالَ تَعَالَى { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } وَلَكِنْ إذَا وَقَعَ بِمَا يُكْرَهُ قُرِنَ بِذِكْرِ مَا بِهِ الْوَعِيدُ كَمَا فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ ، فَلَوْ ادَّعَى أَنَّهُ فِي اللُّغَةِ أَيْضًا خَاصٌّ بِالْمَحْبُوبِ ، وَمَا وَرَدَ فِي الْمَكْرُوهِ فَمَجَازٌ دُفِعَ بِمَادَّةِ اشْتِقَاقِهِ وَهِيَ الْبَشَرَةُ فَإِنَّهَا تُفِيدُ أَنَّ لِذَلِكَ الْخَبَرَ أَثَرًا فِي الْبَشَرَةِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِخْبَارَ بِمَا يَخَافُهُ الْإِنْسَانُ يُوجِبُ تَغَيُّرَ بَشَرَتِهِ فِي الْمُشَاهَدِ الْمَعْرُوفِ كَمَا يَتَغَيَّرُ بِالْمَحْبُوبِ إلَّا أَنَّ عَلَى الْعُرْفِ بِنَاءَ الْأَيْمَانِ ، وَإِنْ بَشَّرُوهُ مَعًا عَتَقُوا لِأَنَّ الْبِشَارَةَ تَحَقَّقَتْ مِنْ الْكُلِّ .
قَالَ تَعَالَى { وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ } فَنَسَبَهَا إلَى جَمَاعَةٍ فَحَقِيقَتُهَا تَتَحَقَّقُ بِالْأَوَّلِيَّةِ مِنْ فَرْدٍ أَوْ أَكْثَرَ ، وَأَصْلُهُ مَا رُوِيَ أَنَّهُ { صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِابْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ غَضًّا طَرِيًّا كَمَا أُنْزِلَ فَلْيَقْرَأْ بِقِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدِ ، فَابْتَدَرَ إلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ بِالْبِشَارَةِ ، فَسَبَقَ أَبُو بَكْرٍ عُمَرَ ، فَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ : مَتَى ذَكَرَ : بَشَّرَنِي أَبُو بَكْرٍ وَأَخْبَرَنِي عُمَرُ } وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الْبِشَارَةِ إخْبَارٌ بِأَنْ قَالَ إنْ أَخْبَرَنِي وَالْبَاقِي بِحَالِهِ عَتَقَ الْكُلُّ ، ثُمَّ إنْ عَدَّى بِالْبَاءِ بِأَنْ قَالَ إنْ أَخْبَرَنِي بِقُدُومِ فُلَانٍ اشْتَرَطَ فِيهِ الصِّدْقَ لِإِفَادَتِهَا إلْصَاقَ الْخَبَرِ بِنَفْسِ الْقُدُومِ وَلَا يَخْفَى أَنَّهَا إنَّمَا

يُتَصَوَّرُ لُصُوقُهَا الْإِخْبَارَ بِنَفْسِهِ : يَعْنِي بِنَفْسِ الْقُدُومِ لَفْظًا وَهُوَ الْوَاقِعُ فِي الْكَذِبِ ، فَاشْتِرَاطُ الصِّدْقِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَحَقُّقَ الْإِلْصَاقِ إنَّمَا يَكُونُ بِإِلْصَاقِ الْإِخْبَارِ بِنَفْسِ الْوَاقِعِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ إنْ أَخْبَرَنِي أَنَّ فُلَانًا قَدِمَ عَتَقَ كُلُّ مَنْ أَخْبَرَهُ صِدْقًا أَوْ كَذِبًا .
وَقَدْ أَوْرَدَ عَلَى اشْتِرَاطِ الصِّدْقِ فِي الْبِشَارَةِ أَنَّ تَغَيُّرَ الْبَشَرَةِ كَمَا يَحْصُلُ بِالْأَخْبَارِ السَّارَّةِ صِدْقًا كَذَلِكَ يَحْصُلُ كَذِبًا .
وَأُجِيبَ بِمَا لَيْسَ بِمُفِيدٍ ، وَالْوَجْهُ فِيهِ نَقْلُ اللُّغَةِ وَالْعُرْفِ

( وَلَوْ قَالَ إنْ اشْتَرَيْت فُلَانًا فَهُوَ حُرٌّ فَاشْتَرَاهُ يَنْوِي بِهِ كَفَّارَةَ يَمِينِهِ لَمْ يَجُزْ ) لِأَنَّ الشَّرْطَ قِرَانُ النِّيَّةِ بِعِلَّةِ الْعِتْقِ وَهِيَ الْيَمِينُ ، فَأَمَّا الشِّرَاءُ فَشَرْطُهُ ( وَإِنْ اشْتَرَى أَبَاهُ يَنْوِي عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِهِ أَجْزَأَهُ عِنْدَنَا ) خِلَافًا لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ .
لَهُمَا أَنَّ الشِّرَاءَ شَرْطُ الْعِتْقِ ، فَأَمَّا الْعِلَّةُ فَهِيَ الْقَرَابَةُ وَهَذَا لِأَنَّ الشِّرَاءَ إثْبَاتُ الْمِلْكِ وَالْإِعْتَاقُ إزَالَتُهُ وَبَيْنَهُمَا مُنَافَاةٌ .
وَلَنَا أَنَّ شِرَاءَ الْقَرِيبِ إعْتَاقٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَنْ يَجْزِيَ وَلَدٌ وَالِدَهُ إلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ } جَعَلَ نَفْسَ الشِّرَاءِ إعْتَاقًا لِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ غَيْرُهُ وَصَارَ نَظِيرُ قَوْلِهِ سَقَاهُ فَأَرْوَاهُ

( قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ إنْ اشْتَرَيْت فُلَانًا فَهُوَ حُرٌّ فَاشْتَرَاهُ يَنْوِي بِهِ كَفَّارَةَ يَمِينِهِ لَمْ يُجْزِهِ ) لِأَنَّ وُقُوعَهُ كَفَّارَةٌ يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةِ الْكَفَّارَةِ ، وَهَذِهِ النِّيَّةُ يُشْتَرَطُ قِرَانُهَا بِعِلَّةِ الْعِتْقِ وَهِيَ الْيَمِينُ ، وَهَذَا تَسَاهُلٌ ، فَإِنَّ عِلَّةَ الْعِتْقِ هُوَ قَوْلُهُ هُوَ حُرٌّ وَهُوَ جُزْءُ الْيَمِينِ ، فَإِنَّ الْيَمِينَ هُوَ مَجْمُوعُ التَّرْكِيبِ التَّعْلِيقِيِّ ، وَإِذَا كَانَ الشَّرْطُ ذَلِكَ وَالْفَرْضُ أَنَّهُ لَمْ يَنْوِ عِنْدَ التَّكَلُّمِ بِهِ بَلْ عِنْدَ مُبَاشَرَةِ الشَّرْطِ لَمْ يَحْصُلْ شَرْطُ الْكَفَّارَةِ فَلَمْ يَجُزْ عَنْهَا ، وَهَذَا لِأَنَّ الْعِتْقَ وَإِنْ كَانَ يَنْزِلُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ لَكِنَّهُ إنَّمَا يَنْزِلُ بِقَوْلِهِ أَنْتَ حُرٌّ السَّابِقُ فَإِنَّهُ الْعِلَّةُ ، أَمَّا الشِّرَاءُ فَشَرْطُ عَمَلِهَا فَلَا يُعْتَبَرُ وُجُودُ النِّيَّةِ عِنْدَهُ فَصَارَ كَمَا لَوْ قَالَ عَبْدِي حُرٌّ بِلَا نِيَّةٍ ثُمَّ نَوَى عَنْ كَفَّارَةٍ لَا يَجْزِيه لِأَنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ مُتَقَدِّمٌ لَا مُتَأَخِّرٌ ، وَإِنَّمَا صَحَّتْ فِي الصَّوْمِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ حَتَّى لَوْ كَانَ نَوَى عِنْدَهُ إذَا اشْتَرَيْته فَهُوَ حُرٌّ عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِي فَاشْتَرَاهُ عَتَقَ عَنْهَا ، وَكَذَا لَوْ قَالَ هُوَ حُرٌّ يَوْمَ أَشْتَرِيه يُرِيدُ عَنْ كَفَّارَتِي .
وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّ الْجَزَاءَ الْمُعَلَّقَ إنَّمَا يَنْعَقِدُ عِلَّةً عِنْدَ الشَّرْطِ ، وَالشِّرَاءُ هُوَ الشَّرْطُ ، وَقَدْ قُرِنَتْ النِّيَّةُ بِالْعِلَّةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ عَنْهَا لِقِرَانِ النِّيَّةِ بِالْعِلَّةِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ قَبْلَ الشَّرْطِ بِعَرْضِيَّةِ أَنْ يَصِيرَ عِلَّةً اعْتَبَرَ الشَّرْعُ لَهُ حُكْمَ الْعِلِّيَّةِ حَتَّى اُعْتُبِرَتْ الْأَهْلِيَّةُ عِنْدَهُ اتِّفَاقًا ، فَلَوْ كَانَ مَجْنُونًا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ ، وَلَوْ كَانَ مَجْنُونًا عِنْدَ التَّعْلِيقِ لَمْ يُعْتَبَرْ أَصْلًا فَلِذَا يَجِبُ أَنْ تُعْتَبَرَ النِّيَّةُ عِنْدَهُ ( قَوْلُهُ وَإِنْ اشْتَرَى أَبَاهُ يَنْوِيه عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِهِ أَجْزَأَهُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ

وَالشَّافِعِيِّ ) وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَوَّلًا لِأَنَّ الْعِلَّةَ لِلْعِتْقِ هِيَ الْقَرَابَةُ الْمُحَرَّمَةُ لَا شِرَاءُ الْقَرِيبِ لِأَنَّهَا الَّتِي ظَهَرَ أَثَرُهَا فِي وُجُوبِ الصِّلَةِ كَالنَّفَقَةِ فَهِيَ الْمُؤَثِّرَةُ فِي الْعِتْقِ ، وَإِنَّمَا الْمِلْكُ شَرْطُ عَمَلِهَا سَوَاءٌ حَصَلَ بِطَرِيقِ الشِّرَاءِ أَوْ غَيْرِهِ كَالْهِبَةِ وَالْإِرْثِ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الشِّرَاءُ نَفْسُ الْعِلَّةِ فَلَا لِأَنَّهُ لِإِثْبَاتِ الْمِلْكِ وَالْعِتْقُ لِإِزَالَتِهِ وَبَيْنَهُمَا تَنَافٍ فَلَا يَكُونُ الْعِتْقُ مُقْتَضَاهُ .
وَلَنَا أَنَّ شِرَاءَ الْقَرِيبِ إعْتَاقٌ ، لِمَا رَوَى السِّتَّةُ إلَّا الْبُخَارِيُّ كُلُّهُمْ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { لَنْ يَجْزِيَ وَلَدٌ وَالِدَهُ إلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ } يُرِيدُ فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَ هُوَ عِنْدَ ذَلِكَ الشِّرَاءِ ، وَهَذَا لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِي إثْبَاتِ عِتْقِهِ إلَى إعْتَاقٍ زَائِدٍ بَعْدَ الشِّرَاءِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقَرَابَةَ ظَاهِرَةُ الْأَثَرِ فِيهِ شَرْعًا ، وَقَدْ رَتَّبَ عِتْقَهُ عَلَى شِرَائِهِ بِالْفَاءِ لِمَا عَلِمْت مِنْ أَنَّ الْمَعْنَى فَيُعْتِقَ هُوَ فَهُوَ مِثْلُ سَقَاهُ فَأَرْوَاهُ ، وَالتَّرْتِيبُ بِالْفَاءِ يُفِيدُ الْعِلِّيَّةَ عَلَى مَا عُرِفَ مِثْلُ سَهَا فَسَجَدَ وَزَنَى مَاعِزٌ فَرُجِمَ كَمَا بَيَّنَّا فِي وَجْهِ قَوْلِ زُفَرَ وَغَيْرِهِ ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمِلْكَ أَيْضًا كَذَلِكَ بِالنَّصِّ مَعَ أَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى عَيْنِ حِكْمَتِهِ ، وَذَلِكَ أَنَّ فِي تَرْتِيبِ الْعِتْقِ عَلَيْهِ تَحْصِيلًا لِدَفْعِ مَفْسَدَةِ الْقَطِيعَةِ الْحَاصِلَةِ بِمِلْكِهِ إيَّاهُ كَالْبَهَائِمِ وَالْأَمْتِعَةِ وَلِمَصْلَحَةِ الصِّلَةِ ، وَهَذِهِ عَيْنُ حِكْمَةِ الْقَرَابَةِ الَّتِي بِهَا كَانَتْ عِلَّةُ الْعِتْقِ فَوَجَبَ كَوْنُ مَجْمُوعِ الْقَرَابَةِ وَالْمِلْكِ عِلَّةُ الْعِتْقِ وَلِذَا جَمَعْنَا بَيْنَهُمَا ، وَاشْتُهِرَتْ عِبَارَتُنَا الْقَائِلَةُ شِرَاءُ الْقَرِيبِ إعْتَاقٌ

غَيْرَ أَنَّ الشِّرَاءَ عِلَّةُ الْعِلَّةِ ، أَيْ عِلَّةُ جُزْءِ الْعِلَّةِ .
وَلَمَّا كَانَ الشِّرَاءُ الِاخْتِيَارِيُّ هُوَ الْجُزْءُ الْأَخِيرُ مِنْ الْعِلَّةِ بِخِلَافِ الْقَرَابَةِ أُضِيفَ الْحُكْمُ إلَيْهِ وَلَزِمَتْ النِّيَّةُ عِنْدَهُ ، فَإِذَا نَوَى عِنْدَ الشِّرَاءِ أَنْ يَشْتَرِيَهُ عَنْ كَفَّارَتِهِ صَحَّ ، بِخِلَافِ مَا إذَا مَلَكَ الْأَبَ وَغَيْرَهُ بِالْإِرْثِ فَإِنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ فِيهِ بِلَا اخْتِيَارٍ فَلَا يُتَصَوَّرُ النِّيَّةُ فِيهِ فَلَا يُعْتَقُ عَنْ كَفَّارَتِهِ إذَا نَوَاهُ لِأَنَّهَا نِيَّةٌ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ الْعِتْقِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ، بِخِلَافِ مَا إذَا وُهِبَ لَهُ أَوْ أُوصِيَ لَهُ بِهِ أَوْ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَيْهِ فَنَوَى عِنْدَ الْقَبُولِ أَنْ يُعْتِقَ عَنْ كَفَّارَتِهِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ لِسَبْقِهَا مُخْتَارًا فِي السَّبَبِ ، وَبِمَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّرْتِيبِ ظَهَرَ فَسَادُ قَوْلِهِمْ الْعِتْقُ مُسْتَحَقٌّ بِالْقَرَابَةِ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَثْبُتُ قَبْلَ تَمَامِ الْعِلَّةِ .
وَأَمَّا الْمُنَافَاةُ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي قَوْلِهِمْ الشِّرَاءُ يُوجِبُ الْمِلْكَ وَالْإِعْتَاقُ إزَالَتُهُ فَهُوَ بِنَاءً عَلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ فِي قَوْلِنَا شِرَاءُ الْقَرِيبِ إعْتَاقٌ ، وَقَدْ عَلِمْت أَنَّهُ إنَّمَا يُوجِبُ الْمِلْكَ فِي الْقَرِيبِ وَمِلْكُ الْقَرِيبِ عِلَّةُ الْعِتْقِ فَالْإِضَافَةُ إلَيْهِ إضَافَةٌ إلَى عِلَّةٍ بَعِيدَةٍ ، وَالْمُنَافَاةُ إنَّمَا تَثْبُتُ لَوْ كَانَ إزَالَةُ الْمِلْكِ نَفْسُ مُوجِبِ الشِّرَاءِ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ ؛ وَكَانَ الْأَلْيَقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَمَا بَعْدَهَا فَصْلُ الْكَفَّارَةِ

( وَلَوْ اشْتَرَى أُمَّ وَلَدِهِ لَمْ يُجِزْهُ ) وَمَعْنَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَقُولَ لِأَمَةٍ قَدْ اسْتَوْلَدَهَا بِالنِّكَاحِ : إنْ اشْتَرَيْتُك فَأَنْتِ حُرَّةٌ عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِي ثُمَّ اشْتَرَاهَا فَإِنَّهَا تُعْتَقُ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَلَا يَجْزِيه عَنْ الْكَفَّارَةِ لِأَنَّ حُرِّيَّتَهَا مُسْتَحَقَّةٌ بِالِاسْتِيلَادِ فَلَا تَنْضَافُ إلَى الْيَمِينِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لِقِنَّةٍ إنْ اشْتَرَيْتُك فَأَنْتِ حُرَّةٌ عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِي حَيْثُ يَجْزِيه عَنْهَا إذَا اشْتَرَاهَا لِأَنَّ حُرِّيَّتَهَا غَيْرُ مُسْتَحَقَّةٍ بِجِهَةٍ أُخْرَى فَلَمْ تَخْتَلَّ الْإِضَافَةُ إلَى الْيَمِينِ وَقَدْ قَارَنَتْهُ النِّيَّةُ

( قَوْلُهُ وَلَوْ اشْتَرَى أُمَّ وَلَدِهِ لَمْ تُجِزْهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ ) وَإِنْ نَوَى عِنْدَ الشِّرَاءِ كَوْنَ عِتْقِهَا عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِهِ ، قَالُوا : وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَكُونَ تَزَوَّجَ أَمَةً لِغَيْرِهِ فَأَوْلَدَهَا بِالنِّكَاحِ ثُمَّ يَقُولُ لَهَا ( إنْ اشْتَرَيْتُك فَأَنْتِ حُرَّةٌ عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِي ثُمَّ اشْتَرَاهَا فَإِنَّهَا تُعْتَقُ لِوُجُودِ الشَّرْطِ ) وَهُوَ الشِّرَاءُ ( وَلَا تَجْزِيه عَنْ الْكَفَّارَةِ ) وَإِنَّمَا صُوِّرَتْ هَكَذَا لِأَنَّهُ يُرِيدُ الْفَرْقَ بَيْنَ شِرَاءِ الْقَرِيبِ عَنْ الْكَفَّارَةِ وَشِرَاءِ أُمِّ الْوَلَدِ ، وَإِلَّا فَالْحَاصِلُ أَنَّ عِتْقَ أُمِّ الْوَلَدِ عَنْ الْكَفَّارَةِ لَا يَجْزِي مُعَلَّقًا أَوْ مُنْجَزًا ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الشِّرَاءَيْنِ مَعَ أَنَّ الشِّرَاءَ فِي الْفَصْلَيْنِ مَسْبُوقٌ بِمَا يُوجِبُ الْعِتْقَ مِنْ وَجْهٍ وَهُمَا الْقَرَابَةُ وَالِاسْتِيلَادُ أَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ اسْتَحَقَّتْ الْعِتْقَ بِالِاسْتِيلَادِ حَتَّى جُعِلَ إعْتَاقًا مِنْ وَجْهٍ ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا } فَهِيَ قَبْلَ الشِّرَاءِ قَدْ عَتَقَتْ مِنْ وَجْهٍ فَلَمْ يَكُنْ عِتْقُهَا بِالشِّرَاءِ أَوْ تَنْجِيزًا إعْتَاقًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بَلْ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ .
وَالْوَاجِبُ بِالْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْكَفَّارَاتِ إعْتَاقٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، بِخِلَافِ شِرَاءِ الْقَرِيبِ فَإِنَّهُ إعْتَاقٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ الشِّرَاءِ أُعْتِقَ مِنْ وَجْهٍ ( بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لِقِنَّةٍ إنْ اشْتَرَيْتُك فَأَنْتِ حُرَّةٌ عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِي حَيْثُ تَجْزِيه إذَا اشْتَرَاهَا لِأَنَّ حُرِّيَّتَهَا غَيْرُ مُسْتَحَقَّةٍ بِجِهَةٍ أُخْرَى فَلَمْ تَخْتَلَّ إضَافَةُ الْعِتْقِ إلَى الْكَفَّارَةِ وَقَدْ قَارَنَتْهُ النِّيَّةُ ) فَكَمُلَ الْمُوجِبُ

( وَمَنْ ) ( قَالَ إنْ تُسُرِّيت جَارِيَةً فَهِيَ حُرَّةٌ ) فَتَسَرَّى جَارِيَةً كَانَتْ فِي مِلْكِهِ عَتَقَتْ لِأَنَّ الْيَمِينَ انْعَقَدَتْ فِي حَقِّهَا لِمُصَادَفَتِهَا الْمِلْكَ وَهَذَا لِأَنَّ الْجَارِيَةَ مُنَكَّرَةٌ فِي هَذَا الشَّرْطِ فَتَتَنَاوَلُ كُلَّ جَارِيَةٍ عَلَى الِانْفِرَادِ ( وَإِنْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَتَسَرَّاهَا لَمْ تُعْتَقْ ) خِلَافًا لِزُفَرَ فَإِنَّهُ يَقُولُ : التَّسَرِّي لَا يَصِحُّ إلَّا فِي الْمِلْكِ فَكَانَ ذِكْرُهُ ذِكْرَ الْمِلْكِ وَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ إنْ طَلَّقْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ يَصِيرُ التَّزَوُّجُ مَذْكُورًا وَلَنَا أَنَّ الْمِلْكَ يَصِيرُ مَذْكُورًا ضَرُورَةٌ صِحَّةُ التَّسَرِّي وَهُوَ شَرْطٌ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ وَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ صِحَّةِ الْجَزَاءِ وَهُوَ الْحُرِّيَّةُ ، وَفِي مَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ إنَّمَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الشَّرْطِ دُونَ الْجَزَاءِ ، حَتَّى لَوْ قَالَ لَهَا إنْ طَلَّقْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَتَزَوَّجَهَا وَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً لَا تَطْلُقُ ثَلَاثًا فَهَذِهِ وِزَانُ مَسْأَلَتِنَا

( قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ إنْ تُسُرِّيت جَارِيَةً فَهِيَ حُرَّةٌ ) اعْلَمْ أَنَّ التَّسَرِّي هُنَا تَفَعُّلٌ مِنْ السُّرِّيَّةِ وَهُوَ اتِّخَاذُهَا ، وَالسُّرِّيَّةُ إنْ كَانَتْ مِنْ السُّرُورِ فَإِنَّهَا تُسَرُّ بِهَذِهِ الْحَالَةِ وَيُسَرُّ هُوَ بِهَا أَوْ مِنْ السُّرِّ وَالسِّيَادَةِ فَضَمُّ سِينِهَا عَلَى الْأَصْلِ ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ السِّرِّ بِمَعْنَى الْجِمَاعِ أَوْ بِمَعْنَى ضِدِّ الْجَهْرِ فَإِنَّهَا قَدْ تَخْفَى عَنْ الزَّوْجَاتِ الْحَرَائِرِ فَضَمُّهَا مِنْ تَغْيِيرَاتِ النَّسَبِ كَمَا قَالُوا دُهْرِيٌّ بِالضَّمِّ فِي النِّسْبَةِ إلَى الدَّهْرِ وَفِي النِّسْبَةِ إلَى السَّهْلِ مِنْ الْأَرْضِ سُهْلِيٌّ بِالضَّمِّ ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ بِحَسَبِ اعْتِبَارِ مَصْدَرِهِ ، فَإِنْ اُعْتُبِرَ التَّسَرِّي قِيلَ تَسَرَّى بِإِبْدَالِ الْيَاءِ أَلِفًا لِتَحَرُّكِهَا وَانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا ، وَإِنْ اُعْتُبِرَ التَّسَرُّرُ قِيلَ تَسَرَّرَ ، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يُقَالَ أَلَّا تُسِرِّي فِي الْمَصْدَرَيْنِ لِأَنَّهُ اتِّخَاذُ السُّرِّيَّةِ ، لَكِنْ لُوحِظَ فِيهِ أَصْلُ السُّرِّيَّةِ وَهُوَ السُّرُورُ أَوْ السِّرُّ فَاسْتُعْمِلَ بِرَاءَيْنِ بِإِبْدَالِ الْيَاءِ رَاءً ، وَخُصَّتْ لِأَنَّهَا هِيَ الْأَصْلُ ، وَمِنْهُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ عَنْ عَائِشَةَ وَسُئِلَتْ عَنْ الْمُتْعَةِ فَقَالَتْ " لَا نَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا النِّكَاحَ وَالِاسْتِسْرَارَ " وَالْقِيَاسُ الِاسْتِسْرَاءُ بِهَمْزَةٍ هِيَ بَدَلُ الْيَاءِ الْوَاقِعَةِ طَرَفًا بَعْدَ أَلْفٍ سَاكِنَةٍ كَهَمْزَةِ كِسَاءٍ ، وَمَعْنَى التَّسَرِّي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَنْ يُحْصِنَ أَمَتَهُ وَيَعُدُّهَا لِلْجِمَاعِ أَفْضَى إلَيْهِ بِمَائِهِ أَوْ عَزَلَ عَنْهَا .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَنُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنْ لَا يَعْزِلَ مَاءَهُ مَعَ ذَلِكَ ، فَعُرِفَ أَنَّهُ لَوْ وَطِئَ أَمَةً لَهُ وَلَمْ يَفْعَلْ مَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّحْصِينِ وَالْإِعْدَادِ لَا يَكُونُ تَسَرِّيًا وَإِنْ لَمْ يَعْزِلْ عَنْهَا وَإِنْ عَلِقَتْ مِنْهُ .
لَنَا أَنَّ مَادَّةَ اشْتِقَاقِهِ سَوَاءٌ اُعْتُبِرَتْ مِنْ السُّرُورِ أَوْ مَا يَرْجِعُ إلَى الْجِمَاعِ أَوْ غَيْرِ

ذَلِكَ لَا تَقْتَضِي الْإِنْزَالَ فِيهَا لِأَنَّ الْجِمَاعَ وَالسُّرُورَ وَالسِّيَادَةَ كُلٌّ مِنْهَا يَتَحَقَّقُ دُونَهُ ، فَأَخَذَهُ فِي الْمَفْهُومِ وَاعْتِبَارُهُ بِلَا دَلِيلٍ ، وَكَوْنُ الْعُرْفِ فِي التَّسَرِّي تَحْصِينُهَا لِطَلَبِ الْوَلَدِ دَائِمًا مَمْنُوعٌ بَلْ الْعُرْفُ مُشْتَرَكٌ فِي الْمُشَاهَدِ ؛ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقْصِدُ ذَلِكَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْصِدُ مُجَرَّدَ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَلِدَ لَهُ إذَا عُرِفَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّهُ إذَا حَلَفَ لَا يَتَسَرَّى فَاشْتَرَى جَارِيَةً فَحَصَّنَهَا وَوَطِئَهَا حَنِثَ ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ فِي التَّجْرِيدِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَلَوْ قَالَ إنْ تُسُرِّيت جَارِيَةً فَعَبْدِي حُرٌّ فَاشْتَرَى جَارِيَةً فَتَسَرَّاهَا عَتَقَ الْعَبْدُ الَّذِي كَانَ فِي مِلْكِهِ وَقْتَ الْحَلِفِ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ عَبْدٌ فَمَلَك عَبْدًا ثُمَّ اشْتَرَى جَارِيَةً فَتَسَرَّاهَا لَا يُعْتَقُ هَذَا الْعَبْدُ الْمُسْتَحْدَثُ .
وَلَوْ قَالَ إنْ تَسَرَّيْت جَارِيَةً فَهِيَ حُرَّةٌ فَتَسَرَّى جَارِيَةً كَانَتْ فِي مِلْكِهِ يَوْمَ حَلَفَ عَتَقَتْ ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ وَهِيَ إجْمَاعِيَّةٌ .
وَلَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً بَعْدَ الْحَلِفِ فَتَسَرَّاهَا لَا تُعْتَقُ عِنْدَنَا وَلَا عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ .
وَقَالَ زُفَرُ : تُعْتَقُ لِأَنَّ التَّسَرِّي لَا يَصِحُّ إلَّا فِي الْمِلْكِ فَكَانَ ذِكْرُهُ ذِكْرُ الْمِلْكِ فَكَأَنَّهُ قَالَ : إنْ مَلَكْت أَمَةً فَتَسَرَّيْتهَا فَهِيَ حُرَّةٌ ، وَصَارَ كَمَا لَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ إنْ طَلَّقْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ يَصِيرُ التَّزَوُّجُ مَذْكُورًا ، حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَهَا وَطَلَّقَهَا عَتَقَ الْعَبْدُ وَلَنَا أَنَّهُ لَوْ عَتَقَتْ الْمُشْتَرَاةُ لَزِمَ صِحَّةُ تَعْلِيقِ عِتْقِ مَنْ لَيْسَ فِي الْمِلْكِ بِغَيْرِ الْمِلْكِ وَسَبَبِهِ ، وَالتَّالِي بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّسَرِّي لَيْسَ نَفْسُ الْمِلْكِ وَلَا سَبَبُهُ بَلْ قَدْ يَتَّفِقُ بَعْدَهُ وَقَدْ لَا يَتَّفِقُ ، فَإِنَّ حَقِيقَتَهُ لَيْسَ إلَّا إعْدَادُ أَمَةٍ حَصَّنَهَا

لِلْجِمَاعِ ، فَإِنَّمَا يَسْتَلْزِمُ وُجُودُهُ وُجُودَ الْمِلْكِ سَابِقًا عَلَى ابْتِدَاءِ التَّحْصِينِ وَالْإِعْدَادِ أَوْ مُقَارِنًا ، وَهَذَا الْقَدْرُ لَا يَسْتَلْزِمُ إخْطَارَهُ عِنْدَ التَّكَلُّمِ أَصْلًا فَضْلًا عَنْ خُطُورِهِ ، ثُمَّ تَقْدِيرُهُ مُرَادًا لِأَنَّهُ لَيْسَ لَازِمًا بَيِّنًا لِمَدْلُولِ اللَّفْظِ فِي الذِّهْنِ بَلْ لَازِمٌ لِوُجُودِهِ فِي الْخَارِجِ ، وَاللَّوَازِمُ الْخَارِجِيَّةُ لَا يَلْزَمُ تَعَلُّقُهَا تَعَقُّلُ مَا هُوَ مَلْزُومُهَا فِي الْخَارِجِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ إنْ مَلَكْت أَمَةً فَتَسَرَّيْتهَا إلَخْ فَإِنَّهُ صَرَّحَ بِجَعْلِ الشَّرْطِ الْمِلْكَ ، وَبِخِلَافِ مَا قَاسَ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ لِأَجْنَبِيَّةٍ إنْ طَلَّقْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ لِأَنَّ عِتْقَ عَبْدِهِ الْقَائِمِ فِي مِلْكِهِ لَيْسَ لِاعْتِبَارِنَا الشَّرْطَ مَجْمُوعٌ إنْ تَزَوَّجْتُك ثُمَّ طَلَّقْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ ، بَلْ لِاقْتِضَاءِ الشَّرْطِ الْمِلْكَ ، غَيْرَ أَنَّ الشَّرْطَ هُنَاكَ إذَا ثَبَتَ بِمُقْتَضَاهُ ثَبَتَ الْجَزَاءُ وَهُوَ عِتْقُ عَبْدِهِ ، أَمَّا هَاهُنَا لَوْ ثَبَتَ التَّسَرِّي لَا يَثْبُتُ عِتْقُ الْمُتَسَرَّى بِهَا لِاحْتِيَاجِهِ إلَى أَمْرٍ زَائِدٍ عَلَى مُجَرَّدِ الشَّرْطِ شَرْعًا وَهُوَ كَوْنُهُ نَفْسُ الْمِلْكِ أَوْ سَبَبُهُ فَلِهَذَا ثَبَتَ الْمِلْكُ هَاهُنَا ضَرُورَةُ صِحَّةِ التَّسَرِّي بِهِ فَقَطْ لِأَنَّ الثَّابِتَ ضَرُورَةٌ أَمْرٌ لَا يَتَجَاوَزُهَا ، ثُمَّ لَا يَثْبُتُ عِنْدَ التَّسَرِّي عِتْقُهَا لِاحْتِيَاجِ عِتْقِ غَيْرِ الْمَمْلُوكَةِ بِالْإِعْتَاقِ الْمُعَلَّقِ قَبْلَ مِلْكِهَا إلَى كَوْنِهِ مُعَلَّقًا بِالْمِلْكِ أَوْ سَبَبِهِ وَلَمْ يُوجَدْ ، فَظَهَرَ أَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ وِزَانَ مَسْأَلَتِنَا ، وَإِنَّمَا وِزَانُهَا لَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةِ إنْ طَلَّقْتُك وَاحِدَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً .
وَنَحْنُ نَقُولُ فِي هَذِهِ لَا تَطْلُقُ الْأُخْرَيَيْنِ الْبَاقِيَتَيْنِ لَوْ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً بَعْدَ أَنْ تَزَوَّجَ بِهَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ شَرْطَ الطَّلَاقِ الْوَاقِعِ بِالتَّطْلِيقِ الْمُعَلَّقِ قَبْلَ التَّزَوُّجِ كَوْنُهُ مُعَلَّقٌ بِالْمِلْكِ أَوْ سَبَبِهِ وَلَمْ يُوجَدْ

.
نَعَمْ قَدْ يُقَدَّرُ اللَّفْظُ الدَّالُ عَلَى الْمَعْنَى فَيَصِيرُ مُعْتَبَرًا لَفْظًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَدْلُولًا الْتِزَامِيًّا لِتَصْحِيحِ الْجَزَاءِ فِيمَا إذَا عَلِمَ أَنَّ غَرَضَ الْيَمِينِ الْحَمْلُ فَإِنَّهُ يَعْرِفُ قَصْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ لِيُوجَدَ الْجَزَاءُ كَمَا قَدَّرَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَفْظَ حَيًّا فِي قَوْلِهِ إنْ وَلَدْت وَلَدًا فَهُوَ حُرٌّ لِتَصْحِيحِ الْجَزَاءِ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ غَرَضَهُ وُجُودُ الشَّرْطِ وَهُوَ الْوِلَادَةُ وَالْحَمْلُ عَلَيْهَا وَتَخْفِيفُهَا عَلَيْهَا ، فَفِيمَا لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ يُعْرَفُ أَنَّ الْغَرَضَ مَنْعُ الشَّرْطِ بِمَنْعِ نَفْسِهِ عَنْهُ لَا يَجُوزُ التَّقْدِيرُ لِتَصْحِيحِ وُقُوعِ الْجَزَاءِ ، وَحَلَفَ التَّسَرِّي مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ .
هَذَا وَقَدْ أَوْرَدَ عَلَى زُفَرَ أَنَّهُ لَا يَقُولُ بِالْمُقْتَضَى حَتَّى حَكَمَ فِي قَوْلِهِ أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي بِأَلْفٍ أَنَّهُ يُعْتَقُ عَنْ الْمَأْمُورِ فَكَيْفَ خَالَفَ هُنَا وَحَكَمَ بِاعْتِبَارِهِ وَتَقْدِيرِهِ ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُنَا إصْلَاحُهُ لَهُ فَإِنَّ مُنَاقَضَتَهُ لَا تَضُرُّنَا .
وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَابَ بِأَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُ مِنْ بَابِ الْمُقْتَضَى بَلْ مِنْ دَلَالَةِ النَّصِّ حَيْثُ كَانَ فَهْمُ الْمِلْكِ ثَابِتًا عِنْدَ فَهْمِ مَعْنَى التَّسَرِّي .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الدَّلَالَةَ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ صُورَةِ أَصْلٍ وَفَرْعٍ وَعِلَّةٍ حَتَّى قِيلَ هِيَ قِيَاسٌ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُفْتَقَرُ إلَى أَهْلِيَّةِ الِاجْتِهَادِ فِي فَهْمِ حُكْمِ الْمَسْكُوتِ .
فَالْوَجْهُ كَوْنُ هَذَا اللَّفْظُ فِي الْعُرْفِ بِمَعْنَى إنْ وَطَئْتُ مَمْلُوكَةً لِي فَكَانَتْ الدَّلَالَةُ بِطَرِيقِ الْعِبَارَةِ ، وَقَدْ نَقَلْنَا فِي تَحْرِيرِ الْأُصُولِ عَنْ فَخْرِ الْإِسْلَامِ تَفْسِيرًا لِلدَّلَالَةِ بِمَعْنَى دَلَالَةِ الِالْتِزَامِ وَإِنْ لَمْ تَرْضَهُ ، هَذَا وَالتَّحْقِيقُ أَنْ لَيْسَ هَذَا مِنْ الْمُقْتَضَى ، لِأَنَّ الْمُقْتَضَى مَا يَكُونُ ثُبُوتُهُ لِضَرُورَةِ تَصْحِيحِ الْكَلَامِ الظَّاهِرُ عَدَمُ صِحَّتِهِ لُغَةً مِثْلُ " رَفْعِ الْخَطَأِ " أَوْ شَرْعًا مِثْلُ أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي .
وَقَوْلُ الْقَائِلِ إنْ تَسَرَّيْت لَا

يَتَبَادَرُ كَذِبُهُ فَيَحْتَاجُ فِي تَصْحِيحِهِ إلَى التَّقْدِيرِ إزَالَةً لِلْخَطَأِ تَصْحِيحًا لِمَا لَمْ يَصِحَّ ظَاهِرُهُ ، وَهَذَا عَلَى وِزَانِ مَا قُلْنَاهُ فِي إنْ أَكَلْت بَلْ الْحَقُّ أَنَّهُ فِي اللُّغَةِ وَالْعُرْفِ وَاحِدٌ وَهُوَ إعْدَادُ الْمَمْلُوكَةِ إلَخْ لَا الْإِعْدَادُ الْأَعَمُّ مِنْهَا وَمِنْ الْمَزْنِيِّ بِهَا فَهُوَ مَدْلُولُ تَضَمُّنِيٌّ مِنْ قَبِيلِ الْعِبَارَةِ

( وَمَنْ قَالَ كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ تُعْتَقُ أُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ وَمُدَبَّرُوهُ وَعَبِيدُهُ ) لِوُجُودِ الْإِضَافَةِ الْمُطْلَقَةِ فِي هَؤُلَاءِ ، إذْ الْمِلْكُ ثَابِتٌ فِيهِمْ رَقَبَةً وَيَدًا ( وَلَا يُعْتَقُ مُكَاتَبُوهُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُمْ ) لِأَنَّ الْمِلْكَ غَيْرُ ثَابِتٍ يَدًا وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ أَكْسَابَهُ وَلَا يَحِلُّ لَهُ وَطْءُ الْمُكَاتَبَةِ ، بِخِلَافِ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرَةِ فَاخْتَلَّتْ الْإِضَافَةُ فَلَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ

( قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ تُعْتَقُ أُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ وَمُدَبَّرُوهُ وَعَبِيدُهُ لِوُجُودِ الْإِضَافَةِ الْمُطْلَقَةِ فِي هَؤُلَاءِ ) أَيْ إضَافَةُ الْمِلْكِ الْكَامِلِ فِي هَؤُلَاءِ إلَى السَّيِّدِ ثَابِتَةٌ رَقَبَةً وَيَدًا فَدَخَلُوا فَيُعْتَقُونَ ، وَيَدْخُلُ الْإِمَاءُ وَالذُّكُورُ ، وَلَوْ نَوَى الذُّكُورَ فَقَطْ صُدِّقَ دِيَانَةً لَا قَضَاءً لِأَنَّهُ نَوَى التَّخْصِيصَ فِي اللَّفْظِ الْعَامِّ ، وَلَوْ نَوَى السُّودَ دُونَ غَيْرِهِمْ لَا يُصَدَّقُ قَضَاءً وَلَا دِيَانَةً لِأَنَّهُ نَوَى التَّخْصِيصَ بِوَصْفٍ لَيْسَ فِي لَفْظِهِ ذِكْرُهُ وَلَا عُمُومٌ إلَّا اللَّفْظُ فَلَا تَعْمَلُ نِيَّتُهُ ، بِخِلَافِ الرِّجَالِ لِأَنَّ لَفْظَ كُلُّ مَمْلُوكٍ لِلرِّجَالِ حَقِيقَةً لِأَنَّهُ تَعْمِيمُ مَمْلُوكٍ وَهُوَ لِلذَّكَرِ ، وَإِنَّمَا يُقَالُ لِلْأُنْثَى مَمْلُوكَةً ، وَلَكِنْ عِنْدَ الِاخْتِلَاطِ يُسْتَعْمَلُ لَهُمَا الْمَمْلُوكُ عَادَةً : يَعْنِي إذَا عَمَّمَ ( مَمْلُوكٍ ) بِإِدْخَالِ ( كُلُّ ) وَنَحْوِهِ يَشْمَلُ الْإِنَاثَ حَقِيقَةً كَمَا ذُكِرَ فِي جَمْعِ الْمُذَكَّرِ كَالْمُسْلِمِينَ .
وَالْوَاوُ فِي فَعَلُوا عَلَى مَا ذُكِرَ أَنَّهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ حَقِيقَةٌ فِي الْكُلِّ فَلِذَا كَانَ نِيَّةُ الذُّكُورِ خَاصَّةً خِلَافَ الظَّاهِرِ فَلَا يُصَدَّقُ قَضَاءً ، وَلَوْ نَوَى النِّسَاءَ وَحْدَهُنَّ لَا يُصَدَّقُ لَا دِيَانَةً وَلَا قَضَاءً ، وَلَوْ قَالَ لَمْ أَنْوِ الْمُدَبَّرِينَ ، فِي رِوَايَةٍ يُصَدَّقُ دِيَانَةً لَا قَضَاءً ، وَفِي رِوَايَةٍ لَا يُصَدَّقُ لَا دِيَانَةً وَلَا قَضَاءً ( قَوْلُهُ وَلَا يُعْتَقُ مُكَاتَبُوهُ ) يَعْنِي بِقَوْلِهِ كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ وَكَذَا مُعْتَقُ الْبَعْضِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ( لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهِمْ غَيْرُ ثَابِتٍ ) يَدًا وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ أَكْسَابَهُ وَلَا يَحِلُّ لَهُ وَطْءُ الْمُكَاتَبَةِ بِخِلَافِ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرَةِ فَاخْتَلَّتْ إضَافَةُ الْمِلْكِ إلَيْهِمْ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَنْوِيَهُمْ بِلَفْظِ كُلُّ مَمْلُوكٍ وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي لَوْ قَالَ كُلُّ مَرْقُوقٍ لِي حُرٌّ أَنْ يُعْتَقَ الْمُكَاتَبُونَ لِأَنَّ الرِّقَّ فِيهِمْ كَامِلٌ ،

وَلَا تُعْتَقُ أُمُّ الْوَلَدِ إلَّا بِالنِّيَّةِ

( وَمَنْ قَالَ لِنِسْوَةٍ لَهُ هَذِهِ طَالِقٌ أَوْ هَذِهِ وَهَذِهِ طَلُقَتْ الْأَخِيرَةُ وَلَهُ الْخِيَارُ فِي الْأَوَّلِيَّيْنِ ) لِأَنَّ كَلِمَةَ أَوْ لِإِثْبَاتِ أَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ وَقَدْ أَدْخَلَهَا بَيْنَ الْأَوَّلِيَّيْنِ ثُمَّ عَطَفَ الثَّالِثَةَ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ لِأَنَّ الْعَطْفَ لِلْمُشَارَكَةِ فِي الْحُكْمِ فَيَخْتَصُّ بِمَحَلِّهِ فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ إحْدَاكُمَا طَالِقٌ وَهَذِهِ ( وَكَذَا إذَا قَالَ لِعَبِيدِهِ هَذَا حُرٌّ أَوْ هَذَا وَهَذَا عَتَقَ الْأَخِيرُ وَلَهُ الْخِيَارُ فِي الْأَوَّلَيْنِ ) لِمَا بَيَّنَّا .
( قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ لِنِسْوَةٍ لَهُ هَذِهِ طَالِقٌ أَوْ هَذِهِ وَهَذِهِ طَلُقَتْ الْأَخِيرَةُ ، وَلَهُ الْخِيَارُ فِي الْأَوَّلِيَّيْنِ لِأَنَّ كَلِمَةَ أَوْ لِأَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ وَقَدْ أَدْخَلَهَا بَيْنَ الْأَوَّلِيَّيْنِ ثُمَّ عَطَفَ الثَّالِثَةَ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ ) مِنْهُمَا وَالْعَطْفُ يُشْرَكُ فِي حُكْمِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ ، وَحُكْمُهُ هُنَا الطَّلَاقُ الْمُنْجَزُ وَإِنَّمَا التَّوَقُّفُ فِي التَّعْيِينِ ( فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ إحْدَاكُمَا طَالِقٌ وَهَذِهِ ، وَكَذَا إذَا قَالَ لِعَبِيدِهِ هَذَا حُرٌّ أَوْ هَذَا وَهَذَا عَتَقَ الْأَخِيرُ ، وَيُتَخَيَّرُ فِي الْأَوَّلَيْنِ لِمَا بَيَّنَّا ) وَمِثْلُهُ لَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفٌ أَوْ لِفُلَانٍ وَفُلَانٍ كَانَ نِصْفُ الْأَلْفِ لِلثَّالِثِ وَعَلَيْهِ بَيَانُ مَنْ لَهُ النِّصْفُ الْآخَرُ مِنْ الْأَوَّلَيْنِ .
وَقَدْ يُقَالُ الْعَطْفُ بِالْوَاوِ كَمَا يَصِحُّ عَلَى الْأَحَدِ الْمَفْهُومِ مِنْ هَذِهِ أَوْ هَذِهِ يَصِحُّ عَلَى هَذِهِ الثَّانِيَةِ وَحِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُ الطَّلَاقُ فِي الثَّالِثَةِ لِأَنَّ التَّرْدِيدَ حِينَئِذٍ بَيْنَ الْأُولَى فَقَطْ وَالثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ مَعًا فَيَلْزَمُهُ الْبَيَانُ لِذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( بَابُ الْيَمِينِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالتَّزَوُّجِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ) ( وَمَنْ حَلَفَ لَا يَبِيعُ أَوْ لَا يَشْتَرِي أَوْ لَا يُؤَاجِرُ فَوَكَّلَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَحْنَثْ ) لِأَنَّ الْعَقْدَ وُجِدَ لَهُ مِنْ الْعَاقِدِ حَتَّى كَانَتْ الْحُقُوقُ عَلَيْهِ ، وَلِهَذَا لَوْ كَانَ الْعَاقِدُ هُوَ الْحَالِفُ يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ فَلَمْ يُوجَدْ مَا هُوَ الشَّرْطُ وَهُوَ الْعَقْدُ مِنْ الْآمِرِ ، وَإِنَّمَا الثَّابِتُ لَهُ حُكْمُ الْعَقْدِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ ذَلِكَ لِأَنَّ فِيهِ تَشْدِيدًا أَوْ يَكُونَ الْحَالِفُ ذَا سُلْطَانٍ لَا يَتَوَلَّى الْعَقْدَ بِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ نَفْسَهُ عَمَّا يَعْتَادُهُ

( بَابُ الْيَمِينِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالتَّزَوُّجِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالضَّرْبِ ) وَلَمَّا كَانَتْ الْأَيْمَانُ عَلَى هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ أَكْثَرَ مِنْهَا عَلَى الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَالصَّوْمِ وَمَا بَعْدَهَا قَدَّمَهَا عَلَيْهَا .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ بَابٍ عَقَدَهُ فَوُقُوعُهُ أَقَلُّ مِمَّا قَبْلَهُ وَأَكْثَرُ مِمَّا بَعْدَهُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَنَا أَنَّ كُلَّ عَقْدٍ تَرْجِعُ حُقُوقُهُ إلَى الْمُبَاشِرِ وَيَسْتَغْنِي الْوَكِيلُ فِيهِ عَنْ نِسْبَةِ الْعَقْدِ إلَى الْمُوَكِّلِ لَا يَحْنَثُ الْحَالِفُ عَلَى عَدَمِ فِعْلِهِ بِمُبَاشَرَةِ الْمَأْمُورِ لِوُجُودِهِ مِنْ الْمَأْمُورِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَلَا يَحْنَثُ بِفِعْلِ غَيْرِهِ لِذَلِكَ ، وَذَلِكَ كَالْحَلِفِ وَلَا يَبِيعُ وَلَا يَشْتَرِي وَلَا يُؤَجِّرُ وَلَا يَسْتَأْجِرُ وَلَا يُصَالِحُ عَنْ مَالٍ وَلَا يُقَاسِمُ ، وَكَذَا الْفِعْلُ الَّذِي يُسْتَنَابُ فِيهِ وَيَحْتَاجُ الْوَكِيلُ إلَى النِّسْبَةِ إلَى الْمُوَكِّلِ ، كَمَا إذَا حَلَفَ لَا يُخَاصِمُ فُلَانًا فَإِنَّ الْوَكِيلَ يَقُولُ أَدَّعِي لِمُوَكِّلِي ، وَكَذَا الْفِعْلُ الَّذِي يَقْتَصِرُ أَصْلَ الْفَائِدَةِ فِيهِ عَلَى مَحَلِّهِ كَضَرْبِ الْوَلَدِ فَلَا يَحْنَثُ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ ، وَكُلُّ عَقْدٍ لَا تَرْجِعُ حُقُوقُهُ إلَى الْمُبَاشِرِ بَلْ هُوَ فِيهِ سَفِيرٌ وَنَاقِلُ عِبَارَةٍ يَحْنَثُ فِيهِ بِمُبَاشَرَةِ الْمَأْمُورِ كَمَا يَحْنَثُ بِفِعْلِهِ بِنَفْسِهِ ، وَذَلِكَ إذَا حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ فَوَكَّلَ بِهِ أَوْ لَا يُطَلِّقُ أَوْ لَا يُعْتِقُ بِمَالٍ أَوْ بِلَا مَالٍ أَوْ لَا يُكَاتِبُ أَوْ لَا يَهَبُ أَوْ لَا يَتَصَدَّقُ أَوْ لَا يُوصِي أَوْ لَا يَسْتَقْرِضُ أَوْ لَا يُصَالِحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ أَوْ لَا يُودِعُ أَوْ لَا يَقْبَلُ الْوَدِيعَةَ أَوْ لَا يُعِيرُ أَوْ لَا يَسْتَعِيرُ .
وَكَذَا كُلُّ فِعْلٍ تَرْجِعُ مَصْلَحَتُهُ إلَى الْآمِرِ كَحَلِفِهِ لَا يَضْرِبُ عَبْدَهُ وَلَا يَذْبَحُ شَاتَه فَإِنَّهُ يَحْنَثُ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ ، وَمِنْهُ قَضَاءُ الدَّيْنِ وَقَبْضُهُ وَالْكِسْوَةُ وَالْحَمْلُ عَلَى دَابَّتِهِ وَخِيَاطَةُ الثَّوْبِ وَبِنَاءُ الدَّارِ (

قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يَبِيعُ أَوْ لَا يَشْتَرِي أَوْ لَا يُؤَاجِرُ فَوَكَّلَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ الْعَقْدَ وُجِدَ مِنْ الْعَاقِدِ ) لَا مِنْ الْحَالِفِ حَقِيقَةً وَهُوَ ظَاهِرٌ وَحُكْمًا حَتَّى رَجَعَتْ حُقُوقُ الْعَقْدِ إلَيْهِ وَكَانَ هُوَ الْمُطَالَبُ بِالتَّسْلِيمِ لِلثَّمَنِ أَوْ الْمُثَمَّنِ وَالْمُخَاصِمُ بِالْعَيْبِ وَبِالْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ وَالْأُجْرَةِ ( وَلِهَذَا لَوْ كَانَ الْعَاقِدُ ) بِطَرِيقِ الْوَكَالَةِ فِي هَذِهِ ( هُوَ الْحَالِفُ ) لَا يَبِيعُ إلَخْ ( يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ ) لِصِدْقِ أَنَّهُ بَاعَ وَاشْتَرَى وَاسْتَأْجَرَ حَقِيقَةً وَحُكْمًا ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْأَظْهَرِ ، وَعِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ يَحْنَثُ لِأَنَّ بِالْأَمْرِ يَصِيرُ كَأَنَّهُ فَعَلَهُ بِنَفْسِهِ كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَحْلِقُ رَأْسَهُ فَأَمَرَ مَنْ حَلَقَهُ لَهُ حَنِثَ .
قُلْنَا : لَمْ يُوجَدْ الْفِعْلُ مِنْهُ لَا حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا وَهُوَ الشَّرْطُ لِلْحِنْثِ بَلْ مِنْ الْعَاقِدِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا ( وَإِنَّمَا الثَّابِتُ لَهُ حُكْمُ الْعَقْدِ ) الَّذِي هُوَ الْمِلْكُ لَا كُلُّ حُكْمٍ وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ عَلَى الْأَعَمِّ ، بِخِلَافِ الْحَلْقِ لِأَنَّ الْيَمِينَ لَمْ تَنْعَقِدْ فِيهِ عَلَى حَلْقِهِ بِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَادٍ ، وَإِنَّمَا انْعَقَدَتْ عَلَى الْحَلْقِ مُطْلَقًا فَيَحْنَثُ بِفِعْلِ الْغَيْرِ كَمَا لَوْ حَلَقَ بِنَفْسِهِ بِأَنْ كَانَ مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ وَيَفْعَلُهُ .
وَقَوْلُهُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ ذَلِكَ اسْتِثْنَاءً مِنْ قَوْلِهِ لَمْ يَحْنَثْ : يَعْنِي فَإِذَا نَوَى الْبَيْعَ بِنَفْسِهِ أَوْ وَكِيلِهِ يَحْنَثُ بِبَيْعِ الْوَكِيلِ ( أَوْ يَكُونَ الْحَالِفُ ذَا سُلْطَانٍ لَا يَتَوَلَّى الْعُقُودَ بِنَفْسِهِ ) فَإِنَّهُ يَحْنَثُ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ مِنْ الْفِعْلِ لَيْسَ إلَّا الْأَمْرُ بِهِ فَيُوجَدُ سَبَبُ الْحِنْثِ بِوُجُودِ الْأَمْرِ بِهِ لِلْعَادَةِ وَإِنْ كَانَ السُّلْطَانُ رُبَّمَا يُبَاشِرُ بِنَفْسِهِ عَقْدَ بَيْعِ الْمَبِيعَاتِ ، ثُمَّ لَوْ فَعَلَ الْآمِرُ بِنَفْسِهِ يَحْنَثُ أَيْضًا لِانْعِقَادِهِ عَلَى الْأَعَمِّ مِنْ فِعْلِهِ بِنَفْسِهِ أَوْ مَأْمُورِهِ ،

وَلَوْ كَانَ رَجُلًا يُبَاشِرُ بِنَفْسِهِ مَرَّةً وَيُوَكِّلُ أُخْرَى تُعْتَبَرُ الْغَلَبَةُ ، وَكُلُّ فِعْلٍ لَا يَعْتَادُهُ الْحَالِفُ كَائِنًا مَنْ كَانَ كَحَلِفِهِ لَا يَبْنِي وَلَا يُطَيِّنُ الْعَقْدُ كَذَلِكَ

( وَمَنْ حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ أَوْ لَا يُطَلِّقُ أَوْ لَا يُعْتِقُ فَوَكَّلَ بِذَلِكَ حَنِثَ ) لِأَنَّ الْوَكِيلَ فِي هَذَا سَفِيرٌ وَمُعَبِّرٌ وَلِهَذَا لَا يُضِيفُهُ إلَى نَفْسِهِ بَلْ إلَى الْآمِرِ ، وَحُقُوقُ الْعَقْدِ تَرْجِعُ إلَى الْآمِرِ لَا إلَيْهِ ( وَلَوْ قَالَ عَنَيْت أَنْ لَا أَتَكَلَّمَ بِهِ لَمْ يَدِينَ فِي الْقَضَاءِ خَاصَّةً ) وَسَنُشِيرُ إلَى الْمَعْنَى فِي الْفَرْقِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى

( قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ أَوْ لَا يُطَلِّقُ أَوْ لَا يَعْتِقُ فَوَكَّلَ بِذَلِكَ حَنِثَ ) يَعْنِي إذَا فَعَلَهُ الْوَكِيلُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ ، وَوَجْهٌ لِلشَّافِعِيَّةِ وَأَكْثَرِهِمْ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ ، وَإِنَّمَا نِسْبَتُهُ إلَى الْآمِرِ مَجَازٌ ، ثُمَّ إنَّهُ يَحْنَثُ عِنْدَكُمْ بِفِعْلِ نَفْسِهِ كَمَا بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ ، وَفِيهِ جَمْعٌ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ وَأَنْتُمْ تَأْبُونَهُ .
قُلْنَا : لَمَّا لَمْ يَمْلِكْ إضَافَتَهُ إلَى نَفْسِهِ بَلْ لَا يُسْتَغْنَى عَنْ إضَافَتِهِ إلَى مُوَكِّلِهِ كَانَ نَاقِلًا عِبَارَةً لِلْمُوَكِّلِ فَانْضَافَ الْعَقْدُ كُلُّهُ لَفْظًا وَحُكْمًا إلَيْهِ فَيَحْنَثُ بِهِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ فِي الْعُرْفِ لِلْمُتَكَلِّمِ بِكَلَامِ غَيْرِهِ مِنْ شَعْرٍ أَوْ حِكْمَةٍ هَذَا لَيْسَ كَلَامُ هَذَا الرَّجُلِ بَلْ كَلَامُ فُلَانٍ فَكَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ عَدَمَ لُزُومِ أَحْكَامِ هَذَا الْعُقُودِ نَظَرًا إلَى الْفَرْضِ وَهُوَ أَعَمُّ مِمَّا يَلْزَمُ بِمُبَاشَرَتِهِ أَوْ مُبَاشَرَةِ مَأْمُورِهِ وَلَيْسَ فِيهِ جَمْعٌ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ ( وَلَوْ قَالَ عَنَيْت أَنْ لَا أَتَكَلَّمَ بِهِ لَمْ يَدِينَ فِي الْقَضَاءِ خَاصَّةً ) وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى يَدِينُ ، وَلَوْ خَلَعَهَا أَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ بَائِنٌ حَنِثَ ، وَلَوْ آلَى مِنْهَا فَمَضَتْ الْمُدَّةُ حَتَّى بَانَتْ حَنِثَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ طَلَاقٌ مُؤَجَّلٌ فَعِنْدَ مُضِيِّهَا يَقَعُ مُضَافًا إلَى الزَّوْجِ ، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الطَّلَاقَ إنَّمَا وَقَعَ حُكْمًا دَفْعًا لِضَرَرِهَا فَلَا يَكُونُ شَرْطُ الْحِنْثِ مَوْجُودًا .
وَلَوْ كَانَ عِنِّينًا فَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا بَعْدَ الْمُدَّةِ لَمْ يَحْنَثْ فِي قَوْلِ زُفَرَ ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ وَلَوْ زَوَّجَهُ فُضُولِيٌّ فَأَجَازَ بِالْقَوْلِ حَنِثَ ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ لَا يَحْنَثُ .
وَفِي الْإِجَازَةِ بِالْفِعْلِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ .
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ : وَالْأَصَحُّ عِنْدِي لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ يَخْتَصُّ بِالْقَوْلِ فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ الْمُجِيزِ

بِالْفِعْلِ عَاقِدًا لَهُ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ التَّوْكِيلِ بَعْدَ الْيَمِينِ أَوْ قَبْلَهُ .
وَلَوْ وَكَّلَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقَ ثُمَّ حَلَفَ لَا يُطَلِّقُ وَلَا يَعْتِقُ ثُمَّ طَلَّقَ الْوَكِيلُ أَوْ أَعْتَقَ يَحْنَثُ لِأَنَّ عِبَارَةَ الْوَكِيلِ هُنَا مَنْقُولَةٌ إلَيْهِ

( وَلَوْ حَلَفَ لَا يَضْرِبُ عَبْدَهُ أَوْ لَا يَذْبَحُ شَاتَه فَأَمَرَ غَيْرَهُ فَفَعَلَ يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ ) لِأَنَّ الْمَالِكَ لَهُ وِلَايَةُ ضَرْبِ عَبْدِهِ وَذَبْحِ شَاتِه فَيَمْلِكُ تَوْلِيَتَهُ غَيْرَهُ ثُمَّ مَنْفَعَتَهُ رَاجِعَةً إلَى الْآمِرِ فَيَجْعَلُ هُوَ مُبَاشِرًا إذْ لَا حُقُوقَ لَهُ تَرْجِعُ إلَى الْمَأْمُورِ ( وَلَوْ قَالَ عَنَيْت أَنْ لَا أَتَوَلَّى ذَلِكَ بِنَفْسِي دِينَ فِي الْقَضَاءِ ) بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ .
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الطَّلَاقَ لَيْسَ إلَّا تَكَلُّمًا بِكَلَامٍ يُفْضِي إلَى وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا ، وَالْأَمْرُ بِذَلِكَ مِثْلُ التَّكَلُّمِ بِهِ وَاللَّفْظُ يَنْتَظِمُهُمَا ، فَإِذَا نَوَى التَّكَلُّمَ بِهِ فَقَدْ نَوَى الْخُصُوصَ فِي الْعَامِّ فَيَدِينُ دِيَانَةً لَا قَضَاءً ، أَمَّا الذَّبْحُ وَالضَّرْبُ فَفِعْلٌ حِسِّيٌّ يُعْرَفُ بِأَثَرِهِ ، وَالنِّسْبَةُ إلَى الْآمِرِ بِالتَّسْبِيبِ مَجَازٌ ، فَإِذَا نَوَى الْفِعْلَ بِنَفْسِهِ فَقَدْ نَوَى الْحَقِيقَةَ فَيُصَدَّقُ دِيَانَةً وَقَضَاءً

( قَوْلُهُ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَضْرِبُ عَبْدَهُ أَوْ لَا يَذْبَحُ شَاتَه فَأَمَرَ غَيْرَهُ فَفَعَلَ حَنِثَ لِأَنَّ الْمَالِكَ لَهُ وِلَايَةُ ضَرْبِ عَبْدِهِ وَذَبْحِ شَاتِه فَيَمْلِكُ تَوْلِيَتَهُ غَيْرَهُ ) فَلِمِلْكِهِ إيَّاهُ انْتَقَلَ فِعْلُ الضَّرْبِ إلَيْهِ بِوَاسِطَةِ الْأَمْرِ بِهِ ( ثُمَّ مَنْفَعَتُهُ رَاجِعَةٌ إلَى الْآمِرِ ) عَلَى الْخُصُوصِ وَهُوَ مَا يَحْصُلُ مِنْ أَدَبِهِ وَانْزِجَارِهِ فَيُجْعَلُ مُبَاشِرًا إذْ لَا حُقُوقَ تَرْجِعُ إلَى الْمَأْمُورِ وَفَرَضَ الْمَسْأَلَةَ فِي ضَرْبِ عَبْدِهِ احْتِرَازًا عَمَّا لَوْ حَلَفَ لَا يَضْرِبُ حُرًّا فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِالْأَمْرِ بِهِ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ فَلَا يُعْتَبَرُ أَمْرُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْحَالِفُ سُلْطَانًا أَوْ قَاضِيًا لِأَنَّهُمَا يَمْلِكَانِ ضَرْبَ الْأَحْرَارِ حَدًّا وَتَعْزِيرًا فَمَلَكَا الْأَمْرَ بِهِ ( وَلَوْ قَالَ عَنَيْت أَنْ لَا أَتَوَلَّى ذَلِكَ بِنَفْسِي دِينَ فِي الْقَضَاءِ ) ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ .
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الطَّلَاقَ لَيْسَ إلَّا تَكَلُّمًا بِكَلَامٍ شَرْعِيٍّ يُوجِبُ أَثَرًا شَرْعِيًّا فِي الْمَحَلِّ وَهُوَ الْفُرْقَةُ ( وَالْأَمْرُ بِذَلِكَ مِثْلُ التَّكَلُّمِ بِهِ ) لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ كَالرَّسُولِ بِهِ وَلِسَانُ الرَّسُولِ كَلِسَانِ الْمُرْسِلِ بِالْإِجْمَاعِ ، فَإِذَا نَوَى التَّكَلُّمَ بِهِ خَاصَّةً فَقَدْ نَوَى خِلَافَ الظَّاهِرِ فَلَا يُصَدِّقُهُ الْقَاضِي مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ دَاخِلٍ تَحْتَ وِلَايَةِ الْمُرْسِلِ مَعَ فَرْضِ أَنَّ مُقْتَضَيَاتِهِ لَا تَرْجِعُ إلَيْهِ وَهِيَ الْحُقُوقُ ، وَحَقِيقَةُ الْمُرَادِ أَنَّ الطَّلَاقَ وَمَا مَعَهُ لَمَّا كَانَ لَفْظًا يَثْبُتُ عِنْدَهُ أَثَرٌ شَرْعِيٌّ فَالْحَلِفُ عَلَى تَرْكِهِ حَلِفٌ عَلَى أَنْ لَا تُوجَدَ الْفُرْقَةُ مِنْ جِهَتِهِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَتَحَقَّقَ بِمُبَاشَرَتِهِ أَوْ بِمُبَاشَرَةِ الْمَأْمُورِ فَنِيَّةُ أَحَدِهِمَا خِلَافُ الظَّاهِرِ ( أَمَّا الذَّبْحُ وَالضَّرْبُ فَفِعْلٌ حِسِّيٌّ ) لَا يَتَوَقَّفُ تَحَقُّقُ أَثَرِهِ عَلَى الْآمِرِ لِأَنَّ الضَّرْبَ يَثْبُتُ مَعَ أَثَرِهِ مِنْ الْفَاعِلِ بِلَا

إذْنٍ مِنْهُ ، فَنِسْبَةُ الْفِعْلِ إلَى الْآمِرِ مَجَازِيَّةٌ بِاعْتِبَارِ تَسَبُّبِهِ فِيهِ ، فَإِذَا نَوَى أَنْ لَا يَفْعَلَهُ بِنَفْسِهِ فَقَدْ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ ، بِخِلَافِ الْكَلَامِ الْمَجْعُولِ أَسْبَابًا شَرْعِيَّةً لِآثَارٍ شَرْعِيَّةٍ لَا تَثْبُتُ تِلْكَ الْآثَارُ إلَّا بِإِذْنٍ عَنْ وِلَايَةٍ ، فَلَمَّا كَانَ لِلْإِذْنِ فِيهَا أَثَرٌ نَقَلَهَا إلَى الْحَالِفِ ، قَالُوا : وَثُبُوتُ تَصْدِيقِهِ قَضَاءٌ فِي ضَرْبِ الْعَبْدِ رِوَايَةٌ فِي تَصْدِيقِهِ بِ قَضَاءٌ فِي الطَّلَاقِ لِأَنَّ حَقِيقَةَ كَلَامِهِ الْمُبَاشَرَةُ فِيهِمَا فَيُصَدَّقُ فِي الْفَصْلَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَالْحَقُّ أَنَّ الْفَرْقَ ثَابِتٌ وَلَكِنَّ تَأْثِيرَهُ فِي اخْتِلَافِ الْحُكْمِ غَيْرُ ظَاهِرٍ ، فَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ يَتَحَقَّقُ أَثَرُهُ بِلَا إذْنٍ وَالْقَوْلُ لَا يَتَحَقَّقُ أَثَرُهُ الشَّرْعِيُّ إلَّا بِإِذْنٍ لَا يَجْزِمُ عِنْدَهُ بِلُزُومِ الْفَرْقِ الْمَذْكُورِ

( وَمَنْ حَلَفَ لَا يَضْرِبُ وَلَدَهُ فَأَمَرَ إنْسَانًا فَضَرَبَهُ لَمْ يَحْنَثْ ) فِي يَمِينِهِ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ ضَرْبِ الْوَلَدِ عَائِدَةٌ إلَيْهِ وَهُوَ التَّأَدُّبُ وَالتَّثَقُّفُ فَلَمْ يَنْسِبْ فَعَلَهُ إلَى الْآمِرِ ، بِخِلَافِ الْأَمْرِ بِضَرْبِ الْعَبْدِ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الِائْتِمَارِ بِأَمْرِهِ عَائِدَةٌ إلَى الْآمِرِ فَيُضَافُ الْفِعْلُ إلَيْهِ ( وَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ إنْ بِعْت لَك هَذَا الثَّوْبَ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ فَدَسَّ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ ثَوْبَهُ فِي ثِيَابِ الْحَالِفِ فَبَاعَهُ وَلَمْ يَعْلَمْ لَمْ يَحْنَثْ ) لِأَنَّ حَرْفَ اللَّامِ دَخَلَ عَلَى الْبَيْعِ فَيَقْتَضِي اخْتِصَاصَهُ بِهِ ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَفْعَلَهُ بِأَمْرِهِ إذْ الْبَيْعُ تَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ وَلَمْ تُوجَدْ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ إنْ بِعْت ثَوْبًا لَك حَيْثُ يَحْنَثُ إذَا بَاعَ ثَوْبًا مَمْلُوكًا لَهُ ، سَوَاءٌ كَانَ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ عَلِمَ بِذَلِكَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ ، لِأَنَّ حَرْفَ اللَّامِ دَخَلَ عَلَى الْعَيْنِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَيْهِ فَيَقْتَضِي الِاخْتِصَاصَ بِهِ ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لَهُ ، وَنَظِيرُهُ الصِّيَاغَةُ وَالْخِيَاطَةُ وَكُلُّ مَا تَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ ، بِخِلَافِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَضَرْبِ الْغُلَامِ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ النِّيَابَةَ فَلَا يَفْتَرِقُ الْحُكْمُ فِيهِ فِي الْوَجْهَيْنِ .

( قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يَضْرِبُ وَلَدَهُ فَأَمَرَ إنْسَانًا فَضَرَبَهُ لَمْ يَحْنَثْ فِي يَمِينِهِ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ ضَرْبِ الْوَلَدِ عَائِدَةٌ إلَى الْوَلَدِ ) الْمَضْرُوبِ ( وَهِيَ التَّأَدُّبُ وَالتَّثَقُّفُ ) أَيْ التَّقَوُّمُ وَتَرْكُ الِاعْوِجَاجِ فِي الدِّينِ وَالْمُرُوءَةُ وَالْأَخْلَاقُ ( فَلَمْ يُنْسَبْ فِعْلُ الْمَأْمُورِ إلَى الْآمِرِ ) وَإِنْ كَانَ يَرْجِعُ إلَى الْأَبِ أَيْضًا ، لَكِنَّ أَصْلَ الْمَنَافِعِ وَحَقِيقَتَهَا إنَّمَا تَرْجِعُ إلَى الْمُتَّصِفِ بِهَا فَلَا مُوجِبَ لِلنَّقْلِ .
وَأَمَّا فِي عُرْفِنَا وَعُرْفِ عَامَّتِنَا فَإِنَّهُ يُقَالُ ضَرَبَ فُلَانٌ الْيَوْمَ وَلَدَهُ وَإِنْ لَمْ يُبَاشِرْ ، وَيَقُولُ الْعَامِّيُّ لِوَلَدِهِ غَدًا أَسْقِيَك عَلَقَةً ثُمَّ يَذْكُرُ لِمُؤَدِّبِ الْوَلَدِ أَنْ يَضْرِبَهُ فَيَعُدُّ الْأَبَ نَفْسَهُ قَدْ حَقَّقَ إيعَادَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَكْذِبْ ، فَمُقْتَضَاهُ أَنْ يَنْعَقِدَ عَلَى مَعْنَى لَا يَقَعُ بِك ضَرْبٌ مِنْ جِهَتِي وَيَحْنَثُ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ ( قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ إنْ بِعْت لَك هَذَا الثَّوْبَ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ إلَخْ ) لَا شَكَّ أَنَّهُ يَصِحُّ بِعْت لَك هَذَا الثَّوْبَ وَبِعْت هَذَا الثَّوْبَ لَك بِمَعْنًى وَاحِدٍ ، أَمَّا عَلَى جَعْلِ الْمُخَاطَبِ مُشْتَرِيًا لَهُ فِيهِمَا فَاللَّامُ لِلِاخْتِصَاصِ ، وَأَمَّا عَلَى جَعْلِهَا فِيهِمَا لِلتَّعْلِيلِ : أَيْ بِعْته لِأَجَلِك فَهِيَ أَيْضًا تُفِيدُ الِاخْتِصَاصَ عَلَى مَا ذَكَرُوا ، لَكِنَّ الْوَجْهَ الظَّاهِرَ فِي الِاسْتِعْمَالِ أَنَّهُ إذَا وَلِيَتْ اللَّامُ الْفِعْلَ مُتَوَسِّطَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَفْعُولِ نَحْوُ بِعْت لَك هَذَا كَانَتْ لِلتَّعْلِيلِ .
وَوَجْهُ إفَادَتِهَا الِاخْتِصَاصُ هُوَ أَنَّهَا تَضْعِيفٌ مُتَعَلِّقُهَا لِمَدْخُولِهَا وَمُتَعَلِّقُهَا الْفِعْلُ وَمَدْخُولُهَا كَافُّ الْمُخَاطَبِ ، فَتُفِيدُ أَنَّ الْمُخَاطَبَ مُخْتَصٌّ بِالْفِعْلِ ، وَكَوْنُهُ مُخْتَصًّا بِهِ يُفِيدُ أَنَّهُ لَا يُسْتَفَادُ إطْلَاقُ فِعْلِهِ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ وَذَلِكَ يَكُونُ بِأَمْرِهِ ، وَإِذَا بَاعَ بِأَمْرِهِ كَانَ بَيْعُهُ إيَّاهُ مِنْ أَجْلِهِ وَهِيَ لَامُ التَّعْلِيلِ فَصَارَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَبِيعَهُ مِنْ

أَجْلِهِ ، فَإِذَا دَسَّ الْمُخَاطَبُ ثَوْبَهُ بِلَا عِلْمِهِ فَبَاعَهُ لَمْ يَكُنْ بَاعَهُ مِنْ أَجْلِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا بِالْعِلْمِ بِأَمْرِهِ بِهِ ، وَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا كَوْنُ هَذَا لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْأَفْعَالِ الَّتِي تَجْرِي فِيهَا النِّيَابَةُ كَالصِّيَاغَةِ نَحْوُ إنْ صُغْت لَك خَاتَمًا ، وَكَذَا إنْ خِطْت لَك وَإِنْ بَنَيْت لَك بَيْتًا ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ إنْ بِعْت ثَوْبًا لَك حَيْثُ يَحْنَثُ إذَا بَاعَ ثَوْبًا مَمْلُوكًا لِلْمُخَاطَبِ سَوَاءٌ كَانَ بِإِذْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ لِأَنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ يُوجَدُ مَعَ أَمْرِهِ وَعَدَمِ أَمْرِهِ وَهُوَ بَيْعُ ثَوْبٍ مُخْتَصٍّ بِالْمُخَاطَبِ لِأَنَّ اللَّامَ هُنَا أَقْرَبُ إلَى الِاسْمِ الَّذِي هُوَ الثَّوْبُ مِنْهُ لِلْفِعْلِ ، وَالْقُرْبُ مِنْ أَسْبَابِ التَّرْجِيحِ فَيُوجِبُ إضَافَتُهَا الثَّوْبَ إلَى مَدْخُولِهَا عَلَى مَا سَبَقَ ، وَمِثْلُهُ مَا لَوْ وَلِيَتْ فِعْلًا لَا تَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ مِثْلُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَضَرْبِ الْغُلَامِ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ النِّيَابَةَ ، فَلَوْ قَالَ إنْ أَكَلْت لَك طَعَامًا أَوْ طَعَامًا لَك أَوْ شَرِبْت لَك شَرَابًا أَوْ شَرَابًا لَك أَوْ ضَرَبْت لَك غُلَامًا أَوْ غُلَامًا لَك أَوْ دَخَلْت لَك دَارًا أَوْ دَارًا لَك فَإِنَّهُ يَحْنَثُ بِدُخُولِ دَارٍ يَخْتَصُّ بِهَا الْمُخَاطَبُ : أَيْ تُنْسَبُ إلَيْهِ وَأَكْلِ طَعَامٍ يَمْلِكُهُ سَوَاءٌ كَانَ بِأَمْرِهِ أَوْ بِعِلْمِهِ أَوْ دُونَهُمَا .
ثُمَّ ذَكَرَ ظَهِيرُ الدِّينِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْغُلَامِ الْوَلَدُ لِأَنَّ ضَرْبَ الْعَبْدِ يَحْتَمِلُ النِّيَابَةَ وَالْوَكَالَةَ فَكَانَ كَالْإِجَارَةِ ، قَالَ تَعَالَى { وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ } وَقَالَ قَاضِي خَانْ الْمُرَادُ بِهِ الْعَبْدُ لِلْعُرْفِ ، وَلِأَنَّ الضَّرْبَ مِمَّا لَا يُمْلَكُ بِالْعَقْدِ وَلَا يَلْزَمُ وَمَحَلُّ الضَّرْبِ يُمْلَكُ بِهِ فَانْصَرَفَ اللَّامُ إلَى مَا يُمْلَكُ لَا إلَى مَا لَا يُمْلَكُ

( وَمَنْ قَالَ هَذَا الْعَبْدُ حُرٌّ إنْ بِعْته فَبَاعَهُ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ عَتَقَ ) لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ الْبَيْعُ وَالْمِلْكُ فِيهِ قَائِمٌ فَيَنْزِلُ الْجَزَاءُ ( وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ الْمُشْتَرِي إنْ اشْتَرَيْته فَهُوَ حُرٌّ فَاشْتَرَاهُ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ عَتَقَ ) أَيْضًا لِأَنَّ الشَّرْطَ قَدْ تَحَقَّقَ وَهُوَ الشِّرَاءُ وَالْمِلْكُ قَائِمٌ فِيهِ ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِهِمَا ظَاهِرٌ ، وَكَذَا عَلَى أَصْلِهِ لِأَنَّ هَذَا الْعِتْقَ بِتَعْلِيقِهِ وَالْمُعَلَّقُ كَالْمُنْجَزِ ، وَلَوْ نَجَّزَ الْعِتْقَ يَثْبُتُ الْمِلْكُ سَابِقًا عَلَيْهِ فَكَذَا هَذَا

( قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ هَذَا الْعَبْدُ حُرٌّ إنْ بِعْته فَبَاعَهُ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ عَتَقَ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ الْبَيْعُ وَ ) الْفَرْضُ أَنَّ ( الْمِلْكَ فِيهِ قَائِمٌ ) لِأَنَّ خِيَارَ الْبَائِعِ لَا يُوجِبُ خُرُوجَ الْمَبِيعِ مِنْ مِلْكِ الْبَائِعِ ( فَيَنْزِلُ الْجَزَاءُ ) لِوُجُودِ الْمَحَلِّ وَلَوْ بَاعَهُ بَيْعًا فَاسِدًا ، فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِأَنْ كَانَ غَصَبَهُ لَا يَعْتَقُ كَمَا فِي الْبَيْعِ الصَّحِيحِ الْبَاتِّ لِأَنَّهُ كَمَا تَمَّ الْبَيْعُ يَزُولُ الْعَبْدُ عَنْ مِلْكِهِ إلَى الْمُشْتَرِي ؛ قِيلَ وَهَذِهِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَعْلُولَ مَعَ الْعِلَّةِ فِي الْخَارِجِ وَعَقِيبَ الشَّرْطِ ، فَإِنَّ الْبَيْعَ كَمَا هُوَ عِلَّةٌ لِلْمِلْكِ هُوَ شَرْطٌ لِثُبُوتِ الْعِتْقِ لِذَلِكَ الْعَبْدِ فَكَانَ الْمَعْلُولُ وَهُوَ الْمِلْكُ أَسْرَعُ ثُبُوتًا مِنْ الْمَشْرُوطِ الَّذِي هُوَ الْعِتْقُ حَيْثُ وُجِدَ مِلْكُ الْمُشْتَرِي قَبْلَ وُجُودِ الْعِتْقِ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : بَلْ إنَّمَا قَارَنَ الْإِعْتَاقَ زَوَالُ الْمِلْكِ فَلَمْ يَنْزِلْ الْعِتْقُ لِأَنَّهُ بَعْدَهُ فَلَمْ يُصَادِفْ الْمِلْكَ وَتَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا لَلْمُصَنِّفِ فَتَذَّكَّرْهُ ، وَهَذَا عَلَى أَنَّ الْمَعْلُولَ عَقِيبُ الْعِلَّةِ كَمَا هُوَ رَأْيُ الْمُصَنِّفِ ، فَعُرِفَ بِهَذَا وَجْهُ تَقْيِيدِهِ الْمَسْأَلَةَ بِكَوْنِ الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ إنْ بِعْت هَذَا الْعَبْدَ فَهُوَ حُرٌّ فَبَاعَهُ بَيْعًا بَاتًّا لَا يَعْتِقُ ( قَوْلُهُ وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ الْمُشْتَرِي إنْ اشْتَرَيْته فَهُوَ حُرٌّ فَاشْتَرَاهُ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ) يَعْنِي لِلْمُشْتَرِي ( يُعْتَقُ أَيْضًا ) أَمَّا إذَا اشْتَرَاهُ شِرَاءً فَاسِدًا بَاتًّا فَإِنْ كَانَ فِي يَدِهِ مَضْمُونًا بِأَنْ كَانَ غَصَبَهُ عَتَقَ لِأَنَّهُ صَارَ مُعْتَقًا مِلْكَ نَفْسِهِ ، وَلَوْ كَانَ شِرَاءً صَحِيحًا بَاتًّا عَتَقَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّ الشَّرْطَ قَدْ تَحَقَّقَ وَهُوَ الشِّرَاءُ وَالْمِلْكُ قَائِمٌ فِيهِ ، أَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَظَاهِرٌ ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَلِأَنَّ الْعِتْقَ الْوَاقِعَ فِي هَذَا الْعَبْدِ

بِسَبَبِ تَعْلِيقِ هَذَا الْمُشْتَرِي وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ كَالْمُنْجَزِ عِنْدَهُ ، وَهُوَ لَوْ اشْتَرَاهُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ وَأَعْتَقَهُ قَبْلَ إسْقَاطِ الْخِيَارِ يُعْتَقُ وَثَبَتَ الْمِلْكُ سَابِقًا لَهُ شَرْطًا اقْتِضَائِيًّا فَكَذَا هَذَا .
وَأَوْرَدَ طَلَبَ الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا الْبَيْعِ وَبَيْنَ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ لَا يَقَعُ بِهِ الْعِتْقُ فِيمَا إذَا قَالَ إنْ تَزَوَّجْت فَعَبْدِي حُرٌّ فَتَزَوَّجَ نِكَاحًا فَاسِدًا مَعَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْبَيْعَ وَإِنْ لَمْ يَسْتَعْقِبْ الْمِلْكَ فَهُوَ بَيْعٌ تَامٌّ عَلَى وَفْقِ الدَّلِيلِ وَهُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فِي مَحَلِّهِ فَكَانَ وُجُودُهُ وُجُودَ الشَّرْطِ ، بِخِلَافِ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ إذَا صَحَّ كَانَ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ إذْ الْحُرِّيَّةُ تَنْفِي وُرُودَ الْمِلْكِ فَكَيْفَ إذَا كَانَ الْمِلْكُ فَاسِدًا فَلَا يُحْكَمُ بِهَذَا الشَّرْطِ إلَّا إذَا صَحَّ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : لَا وُرُودَ لِهَذَا السُّؤَالِ فَإِنَّ هَذَا الْبَيْعَ وَإِنْ كَانَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ يَعْقُبُ الْمِلْكَ لَهُ بِسَبَبٍ خَاصٍّ فِيهِ وَهُوَ تَعْلِيقُهُ السَّابِقُ عِتْقَ مَنْ يَشْتَرِيه فَإِنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يُنْزِلَ الْعِتْقَ عِنْدَ الشِّرَاءِ لِأَنَّهُ الشَّرْطُ وَيَسْتَلْزِمُ سَبْقَ الْمِلْكِ اقْتِضَاءً وَمِثْلُهُ لَا يُتَصَوَّرُ فِي النِّكَاحِ .
وَأَوْرَدَ مَنْعَ كَوْنِ الْمُعَلَّقِ كَالْمُنْجَزِ لِأَنَّ الْمُنْجَزَ لَوْ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَ الْخِيَارِ وَالْحُكْمِ بِتَقَدُّمِهِ يَلْغُو ، وَالْمُعَلَّقُ لَا يَلْزَمُ إلْغَاؤُهُ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ الْخِيَارِ فَيَنْزِلُ إذْ ذَاكَ وَلَا يَلْغُو .
وَأُجِيبَ لَمَّا أَمْكَنَ أَنْ يَجْرِيَ فِيهِ مَا يَجْرِي فِي الْمُنْجَزِ وَالْعِتْقُ يُحْتَاطُ فِي إثْبَاتِهِ وَجَبَ اعْتِبَارُهُ إذْ ذَاكَ وَإِلَّا جَازَ أَنْ يُفْسَخَ قَبْلَ الْمُدَّةِ فَلَا يُعْتَقُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى أَبَاهُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لَا يُعْتَقُ إلَّا أَنْ تَمْضِيَ الْمُدَّةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِعَدَمِ الْمِلْكِ فَإِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ

تَكَلُّمٌ بِالْإِعْتَاقِ بَعْدَ الشِّرَاءِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ حَتَّى يَسْقُطَ خِيَارُهُ ، وَإِنَّمَا يُعْتَقُ عَلَى الْقَرِيبِ بِحُكْمِ الْمِلْكِ وَلَا مِلْكَ لِلْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ ، وَالشَّارِعُ إنَّمَا عَلَّقَ عِتْقَهُ فِي قَوْلِهِ " مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ " بِالْمِلْكِ لَا بِالشِّرَاءِ ، أَمَّا هُنَا فَالْإِيجَابُ الْمُعَلَّقُ صَارَ مُنْجَزًا عِنْدَ الشَّرْطِ وَصَارَ قَائِلًا أَنْتَ حُرٌّ فَيَنْفَسِخُ الْخِيَارُ ضَرُورَةً

( وَمَنْ قَالَ إنْ لَمْ أَبِعْ هَذَا الْعَبْدَ أَوْ هَذِهِ الْأَمَةَ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ فَأَعْتَقَ أَوْ دَبَّرَ طَلُقَتْ امْرَأَتُهُ ) لِأَنَّ الشَّرْطَ قَدْ تَحَقَّقَ وَهُوَ عَدَمُ الْبَيْعِ لِفَوَاتِ مَحَلِّيَّةِ الْبَيْعِ
( قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ إنْ لَمْ أَبِعْ هَذَا الْعَبْدَ أَوْ هَذِهِ الْأَمَةَ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ فَأَعْتَقَ أَوْ دَبَّرَ ) تَدْبِيرًا مُطْلَقًا ( طَلُقَتْ لِأَنَّ الشَّرْطَ ) وَهُوَ عَدَمُ بَيْعِهِ ( قَدْ تَحَقَّقَ ) بِوُقُوعِ الْيَأْسِ عَنْهُ بِفَوَاتِ الْمَحَلِّيَّةِ بِالْعِتْقِ وَالتَّدْبِيرِ ، فَصَارَ كَمَا لَوْ عَلَّقَ طَلَاقَهَا بِعَدَمِهِ بِلَفْظِ إنْ فَمَاتَ أَوْ مَاتَ الْعَبْدُ فَإِنَّهَا تَطْلُقُ لِوُقُوعِ الْيَأْسِ .
وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ مَنْعَ وُقُوعِ الْيَأْسِ فِي الْعِتْقِ مُطْلَقًا بَلْ فِي الْعَبْدِ ، أَمَّا فِي الْأَمَةِ فَجَازَ أَنْ تَرْتَدَّ بَعْدَ الْعِتْقِ فَتُسْبَى فَيَمْلِكُهَا هَذَا الْحَالِفُ فَيُعْتِقُهَا .
وَفِي التَّدْبِيرِ مُطْلَقًا لِجَوَازِ أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي بِبَيْعِ الْمُدَبَّرِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ مِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ لَا تَطْلُقُ لِهَذَا الِاحْتِمَالِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا تَطْلُقُ لِأَنَّ مَا فُرِضَ مِنْ الْأُمُورِ الْمَوْهُومَةِ الْوُقُوعُ فَلَا يُعْتَبَرُ ، وَلِأَنَّ الْحَلِفَ عَلَى بَيْعِ هَذَا الْمِلْكِ لَا كُلِّ مِلْكٍ .
وَأُجِيبَ أَيْضًا عَنْ الْمُدَبَّرِ بِأَنَّ بَيْعَهُ بَيْعُ قِنٍّ لِانْفِسَاخِ التَّدْبِيرِ بِالْقَضَاءِ فَيُعْتَقُ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْعَبْدِ ذِمِّيًّا أَوْ مُسْلِمًا ، وَيَجْرِي فِيهِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ وَالتَّصْحِيحُ

( وَإِذَا قَالَتْ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا تَزَوَّجْت عَلَيَّ فَقَالَ كُلُّ امْرَأَةٍ لِي طَالِقٌ ثَلَاثًا طَلُقَتْ هَذِهِ الَّتِي حَلَّفَتْهُ فِي الْقَضَاءِ ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا لَا تَطْلُقُ لِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ جَوَابًا فَيَنْطَبِقُ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّ غَرَضَهُ إرْضَاؤُهَا وَهُوَ بِطَلَاقِ غَيْرِهَا فَيَتَقَيَّدُ بِهِ .
وَجْهُ الظَّاهِرِ عُمُومُ الْكَلَامِ وَقَدْ زَادَ عَلَى حَرْفِ الْجَوَابِ فَيُجْعَلُ مُبْتَدِئًا ، وَقَدْ يَكُونُ غَرَضُهُ إيحَاشُهَا حِينَ اعْتَرَضَتْ عَلَيْهِ فِيمَا أَحَلَّهُ الشَّرْعُ وَمَعَ التَّرَدُّدِ لَا يَصْلُحُ مُقَيَّدًا ، وَإِنْ نَوَى غَيْرَهَا يُصَدَّقُ دِيَانَةً لَا قَضَاءً لِأَنَّهُ تَخْصِيصُ الْعَامِّ .

( قَوْلُهُ وَإِذَا قَالَتْ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا تَزَوَّجْت عَلِيَّ فَقَالَ كُلُّ امْرَأَةٍ لِي طَالِقٌ ثَلَاثًا طَلُقَتْ هَذِهِ الَّتِي حَلَّفَتْهُ فِي الْقَضَاءِ ) وَإِنْ قَالَ نَوَيْت غَيْرَهَا صُدِّقَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَتَطْلُقُ فِي الْقَضَاءِ ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَلَمْ يَحْكِ خِلَافًا .
وَذَكَرُوا عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهَا لَا تَطْلُقُ ، وَاخْتَارَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَكَثِيرٌ مِنْ الْمَشَايِخِ لِأَنَّ الْكَلَامَ خَرَجَ جَوَابًا فَيَنْطَبِقُ عَلَى السُّؤَالِ فَكَأَنَّهُ قَالَ كُلُّ امْرَأَةٍ لِي غَيْرُك طَالِقٌ دَلَالَةً ( وَلِأَنَّ غَرَضَهُ إرْضَاؤُهَا ) لَا إيحَاشُهَا .
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ وَلَا مُخَصَّصٌ مُتَيَقَّنٌ ، لِأَنَّهُ إنْ كَانَ فَهُوَ غَرَضُ إرْضَائِهَا .
وَجَازَ كَوْنُ غَرَضِهِ إيحَاشُهَا لِاعْتِرَاضِهَا عَلَيْهِ فِيمَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِكُلٍّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ ، فَالْحُكْمُ بِمُعَيَّنٍ تَحَكُّمٌ ، وَلِأَنَّهُ زَادَ عَلَى قَدْرِ الْجَوَابِ إذْ يَكْفِيه أَنْ يَقُولَ إنْ كُنْت فَعَلْت ذَلِكَ فَهِيَ طَالِقٌ فَلَمَّا لَمْ يَقْتَصِرْ جُعِلَ مُبْتَدِئًا تَحَرُّزًا عَنْ الْإِلْغَاءِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
[ فُرُوعٌ ] قَالَ : لِي إلَيْك حَاجَةٌ أَتَقْضِيهَا لِي ؟ فَقَالَ نَعَمْ ، وَحَلَفَ عَلَى ذَلِكَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ ، فَقَالَ : حَاجَتِي أَنْ تُطَلِّقَ زَوْجَتَك ثَلَاثًا ، لَهُ أَنْ لَا يُصَدِّقَهُ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ .
وَلَوْ حَلَفَ لَيُطِيعَنهُ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُهُ بِهِ وَيَنْهَاهُ عَنْهُ ثُمَّ نَهَاهُ عَنْ جِمَاعِ امْرَأَتِهِ فَجَامَعَهَا الْحَالِفُ لَا يَحْنَثُ إلَّا إذَا كَانَ مَا يَدُلُّ عَلَى قَصْدِهِ إلَى ذَلِكَ عِنْدَ تَحْلِيفِهِ عَلَى الطَّاعَةِ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يُرِيدُونَ بِهِ النَّهْيَ عَنْ جِمَاعِ الْمَرْأَةِ عَادَةً كَمَا لَا يُرِيدُونَ بِهِ النَّهْيَ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ .
حَلَفَ لَا يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ فَكُلُّ طَلَاقٍ يُضَافُ إلَيْهِ يَحْنَثُ بِهِ ، حَتَّى لَوْ وَقَعَ عَلَيْهَا طَلَاقٌ بِمُضِيِّ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ يَحْنَثُ لَا بِمَا لَا يُضَافُ إلَيْهِ فَلَا

يَحْنَثُ بِتَفْرِيقِ الْقَاضِي لِلَّعْنَةِ وَاللِّعَانِ وَلَا بِإِجَازَةِ خُلْعِ الْفُضُولِيِّ بِالْفِعْلِ ، وَيَحْنَثُ لَوْ أَجَازَهُ بِالْقَوْلِ .
قَالَ امْرَأَتُهُ طَالِقٌ ثَلَاثًا إنْ دَخَلْت الدَّارَ الْيَوْمَ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ دَخَلَهَا الْيَوْمَ فَقَالَ عَبْدُهُ حُرٌّ إنْ كَانَا رَأَيَانِي دَخَلْت لَمْ يُعْتَقْ عَبْدُهُ بِقَوْلِهِمَا رَأَيْنَاهُ دَخَلَ حَتَّى يَشْهَدَ آخَرَانِ غَيْرَهُمَا أَنَّ الْأَوَّلَيْنِ رَأَيَاهُ دَخَلَ .
ادَّعَتْ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ فَحَلَفَ بِطَلَاقِ زَوْجَةٍ أُخْرَى لَهُ مَا هِيَ امْرَأَتُهُ فَأَقَامَتْ بَيِّنَةً أَنَّهَا امْرَأَتُهُ فَقَالَ كَانَتْ امْرَأَتِي فَطَلَّقْتهَا قَالَ لَا يَحْنَثُ .
حَلَفَ مَا لَهُ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَشَهِدَا أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ أَلْفًا وَقَضَى بِهَا الْقَاضِي يَحْنَثُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ ، حَتَّى لَوْ كَانَ الْحَلِفُ بِطَلَاقٍ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لَهُ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ شَهِدَ أَنَّهُ أَقْرَضَهُ أَلْفًا وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا لَا يَحْنَثُ فِي قَوْلِهِمَا .
حَلَفَ بِطَلَاقٍ وَلَا يَدْرِي حَلَفَ بِوَاحِدَةٍ أَوْ أَكْثَرَ يَتَحَرَّى وَيَعْمَلُ بِمَا يَقَعُ عَلَيْهِ لِلتَّحَرِّي ، فَإِنْ اسْتَوَى ظَنُّهُ يَأْخُذُ بِالْأَكْثَرِ احْتِيَاطًا .
قَالَ : عَمْرَةُ طَالِقٌ السَّاعَةَ أَوْ زَيْنَبُ إنْ دَخَلَتْ الدَّارَ لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ عَلَى إحْدَاهُمَا حَتَّى تَدْخُلَ الدَّارَ ، فَإِذَا دَخَلَتْ إحْدَاهُمَا خُيِّرَ فِي إيقَاعِهِ عَلَى أَيِّهِمَا شَاءَ .
وَلَوْ اتَّهَمَتْ امْرَأَةٌ بِالسَّرِقَةِ فَأَمَرَتْ زَوْجَهَا أَنْ يَحْلِفَ بِطَلَاقِهَا أَنَّهَا لَمْ تَسْرِقْ فَحَلَفَ فَقَالَتْ قَدْ كُنْت سَرَقْت فَلِلزَّوْجِ أَنْ لَا يُصَدِّقَهَا لِأَنَّهَا صَارَتْ مُتَنَاقِضَةٌ .
حَلَفَ إنْ لَمْ يُجَامِعْ امْرَأَتَهُ أَلْفَ مَرَّةٍ فَهِيَ طَالِقٌ ، قَالُوا هَذَا عَلَى الْمُبَالَغَةِ وَلَا تَقْدِيرَ فِيهِ وَالسَّبْعُونَ كَثِيرٌ .
حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ ابْنَ فُلَانٍ وَلَيْسَ لِفُلَانٍ ابْنٌ فَوُلِدَ لَهُ ابْنٌ فَكَلَّمَهُ يَحْنَثُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، وَلَا يَحْنَثُ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَالْأَصْلُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ وُجُودُ

الْوَلَدِ وَقْتَ الْيَمِينِ وَهُمَا يَعْتَبِرَانِهِ وَقْتَ التَّكَلُّمِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ الْيَمِينِ فِي الْحَجِّ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ ( وَمَنْ قَالَ فِي الْكَعْبَةِ أَوْ فِي غَيْرِهَا عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ إلَى الْكَعْبَةِ فَعَلَيْهِ حِجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ مَاشِيًا وَإِنْ شَاءَ رَكِبَ وَأَهْرَاقَ دَمًا ) وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ مَا لَيْسَ بِقُرْبَةٍ وَاجِبَةٍ وَلَا مَقْصُودَةٍ فِي الْأَصْلِ ، مَأْثُورٌ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَلِأَنَّ النَّاسَ تَعَارَفُوا إيجَابَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِهَذَا اللَّفْظِ فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ عَلَيَّ زِيَارَةُ الْبَيْتِ مَاشِيًا فَيَلْزَمُهُ مَاشِيًا ، وَإِنْ شَاءَ رَكِبَ وَأَرَاقَ دَمًا ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الْمَنَاسِكِ ( وَلَوْ قَالَ عَلَيَّ الْخُرُوجُ أَوْ الذَّهَابُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ) لِأَنَّ الْتِزَامَ الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ بِهَذَا اللَّفْظِ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ ( وَلَوْ قَالَ : عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى الْحَرَمِ أَوْ إلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فِي قَوْلِهِ عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى الْحَرَمِ حِجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ ) وَلَوْ قَالَ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ .
لَهُمَا أَنَّ الْحَرَمَ شَامِلٌ عَلَى الْبَيْتِ ، وَكَذَا الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ فَصَارَ ذِكْرُهُ كَذِكْرِهِ ، بِخِلَافِ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِأَنَّهُمَا مُنْفَصِلَانِ عَنْهُ .
وَلَهُ أَنَّ الْتِزَامَ الْإِحْرَامِ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُهُ بِاعْتِبَارِ حَقِيقَةِ اللَّفْظِ فَامْتَنَعَ أَصْلًا

( بَابُ الْيَمِينِ فِي الْحَجِّ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ ) قَدَّمَهَا بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ لِأَنَّهَا عِبَادَاتٌ فَتَتَرَجَّحُ فِي نَفْسِهَا ، فَيَقْتَضِي ذَلِكَ إنْ تَقَدَّمَ ، إلَّا أَنْ يَعْرِضَ مَا يُوجِبُ تَقْدِيمَ غَيْرِهَا مِنْ كَثْرَةِ الْوُقُوعِ الْمُقْتَضِيَةِ لِأَهَمِّيَّةِ التَّقْدِيمِ ( قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ وَهُوَ فِي الْكَعْبَةِ أَوْ فِي غَيْرِهَا عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ أَوْ إلَى الْكَعْبَةِ ) وَكَذَا عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى مَكَّةَ أَوْ بَكَّةَ بِالْبَاءِ ( فَعَلَيْهِ حِجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ مَاشِيًا وَإِنْ شَاءَ رَكِبَ وَأَهْرَاقَ دَمًا ) وَالتَّقْيِيدُ بِكَوْنِهِ فِي الْكَعْبَةِ مَذْكُورٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِيُفِيدَ أَنَّ وُجُوبَ أَحَدِ النُّسُكَيْنِ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَدْلُولُ اللَّفْظِ وَإِلَّا لَغَا لِأَنَّهُ لَا يَلْتَزِمُ الْمَشْيَ إلَّا لِيَصِلَ إلَيْهِ ، فَإِذَا كَانَ فِيهِ اسْتَحَالَ التَّسَبُّبُ لِحُصُولِهِ .
وَالْحَقُّ أَنْ يُقَالَ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَدْلُولُ اللَّفْظِ ؛ لِأَنَّ الْوَاقِعَ أَنَّ مَدْلُولَ الْمَشْيِ لَيْسَ هُوَ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ ، بَلْ وَلَا يَسْتَلْزِمُهُ لِجَوَازِ أَنْ يَمْشِيَ إلَى الْبَيْتِ وَلَا يَفْعَلَ نُسُكًا ، إمَّا ابْتِدَاءُ مَعْصِيَةٍ وَإِمَّا بِأَنْ يَقْصِدَ مَكَانًا فِي الْحِلِّ دَاخِلَ الْمَوَاقِيتِ لَيْسَ غَيْرُ ، فَإِذَا وَصَلَ إلَيْهِ صَارَ حُكْمُهُ حُكْمَ أَهْلِهِ ، وَلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ وَالْبَيْتَ بِلَا إحْرَامٍ ، وَهَذَا لِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ فِي الْبَيْتِ وَيُوجِبُ الْمَشْيَ إلَيْهِ مَرَّةً أُخْرَى فَيَلْزَمُهُ إذَا خَرَجَ أَنْ يَعُودَ ، كَمَا لَوْ كَانَ فِي بَيْتٍ فَقَالَ ، وَاَللَّهِ لَأَدْخُلَنَّ هَذَا الْبَيْتَ فَإِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ ثُمَّ يَدْخُلَ مَرَّةً ثَانِيَةً ، وَلَا بِاعْتِبَارِ الْحُكْمِ بِذَلِكَ مَجَازًا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ سَبَبُ الْإِحْرَامِ صَوْنًا لَهُ عَنْ اللَّغْوِ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَازِمًا لَهُ لِجَوَازِ أَنْ يَقْصِدَ بِسَيْرِهِ مَكَانًا دَاخِلَ الْمَوَاقِيتِ لَيْسَ غَيْرُ كَمَا ذَكَرْنَا ، وَلَا بِالنَّظَرِ إلَى الْغَالِبِ وَهُوَ أَنَّ الذَّهَابَ إلَى هُنَاكَ

يَكُونُ لِقَصْدِ الْإِحْرَامِ لِمَا عُرِفَ مِنْ إلْغَاءِ الْأَلْفَاظِ وَهِيَ مَا إذَا نَذَرَ الذَّهَابَ إلَى مَكَّةَ كَأَنْ قَالَ : عَلَيَّ الذَّهَابُ أَوْ لِلَّهِ عَلَيَّ الذَّهَابُ إلَى مَكَّةَ أَوْ السَّفَرُ إلَيْهَا أَوْ الرُّكُوبُ إلَيْهَا أَوْ الْمَسِيرُ أَوْ الْمُضِيُّ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مَعَ إمْكَانِ أَنْ يَحْكُمَ بِذَلِكَ فِيهَا صَوْنًا عَنْ اللَّغْوِ ، بَلْ لِأَنَّهُ تُعُورِفَ إيجَابُ أَحَدِ النُّسُكَيْنِ بِهِ فَصَارَ فِيهِ مَجَازًا لُغَوِيًّا وَحَقِيقَةً عُرْفِيَّةً ، مِثْلُ مَا لَوْ قَالَ : عَلَيَّ حِجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ ، وَإِلَّا فَالْقِيَاسُ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ أَنْ لَا يَجِبَ بِهَذَا شَيْءٌ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ مَا لَيْسَ بِقُرْبَةٍ وَاجِبَةٍ وَهُوَ الْمَشْيُ وَلَا مَقْصُودَةٍ فِي الْأَصْلِ .
وَلَوْ قِيلَ بَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ فَإِنَّ الْمَكِّيَّ إذَا قَدِرَ عَلَى الْمَشْيِ يَلْزَمُهُ الْحَجُّ مَاشِيًا ، أُجِيبَ بِأَنَّ الشَّرْطَ لِلُزُومِ النَّذْرِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ بَعْدَ كَوْنِهِ مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا لِنَفْسِهِ لَا لِغَيْرِهِ حَتَّى يَلْزَمَهُ النَّذْرُ بِالْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَالْمَشْيِ الْمَذْكُورِ ، وَكَذَا السَّعْيُ إلَى الْجُمُعَةِ كَذَلِكَ لِمَنْ لَا يَمْلِكُ مَرْكَبًا وَيَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ إلَّا أَنَّهُ قَدْ يُعَكِّرُ عَلَيْهِ الطَّوَافَ فَإِنَّهُ وَاجِبٌ مَقْصُودٌ لِنَفْسِهِ لَا شَرْطَ لِغَيْرِهِ إلَّا أَنْ يُرَادَ مِنْ جِنْسِ الْمَشْيِ إلَى مَكَّةَ .
وَأُورِدَ أَنَّ الِاعْتِكَافَ يَلْزَمُ بِالنَّذْرِ وَلَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبٌ .
أُجِيبَ بِأَنَّ مِنْ شَرْطِهِ الصَّوْمَ وَمِنْ جِنْسِهِ وَاجِبٌ ، وَتَوْجِيهُهُ أَنَّ إيجَابَ الْمَشْرُوطِ إيجَابُ الشَّرْطِ ، وَلَا خَفَاءَ فِي بُعْدِهِ فَإِنَّ وُجُوبَ الصَّوْمِ فَرْعُ وُجُوبِ الِاعْتِكَافِ بِالنَّذْرِ ، وَالْكَلَامُ الْآنَ فِي صِحَّةِ وُجُوبِ الْمَتْبُوعِ فَكَيْفَ يُسْتَدَلُّ عَلَى لُزُومِهِ بِلُزُومِهِ وَلُزُومُ الشَّرْطِ فَرْعُ لُزُومِ الْمَشْرُوطِ ، وَإِنْ اسْتَدَلَّ بِالْإِجْمَاعِ أَوْ النَّصِّ الْمُتَقَدِّمِ فِي حَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الِاعْتِكَافُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِهَذَا الْحَدِيثِ بَلْ

يَصْرِفُونَهُ عَنْ ظَاهِرِهِ لِأَنَّهُمْ وَالشَّافِعِيَّ لَا يُصَحِّحُونَ نَذْرَ الْكَافِرِ .
ثُمَّ قَدْ يُقَالُ تَحَقُّقُ الْإِجْمَاعِ عَلَى لُزُومِ الِاعْتِكَافِ بِالنَّذْرِ يُوجِبُ إهْدَارَ اشْتِرَاطِ وُجُودِ وَاجِبٍ مِنْ جِنْسِهِ ، وَإِذَا تَعَارَفُوهُ لِلْإِيجَابِ صَارَ كَقَوْلِهِ : عَلَيَّ زِيَارَةُ الْبَيْتِ مَاشِيًا فَإِنَّهُ مُوجِبٌ لِذَلِكَ ، وَلَوْ أَرَادَ بِبَيْتِ اللَّهِ بَعْضَ الْمَسَاجِدِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ ، وَكَذَا لَا يَلْزَمُهُ بِقَوْلِهِ : عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوْ مَدِينَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْءٌ .
وَأُورِدَ أَنَّهُ إذَا كَانَ كَقَوْلِهِ : عَلَيَّ حِجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَلْزَمَهُ الْمَشْيُ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ : عَلَيَّ الْحَجُّ لَا يَلْزَمُهُ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْحَقَّ أَنَّ التَّقْدِيرَ عَلَى حِجَّةٍ أَوْ عُمْرَةٍ مَاشِيًا لِأَنَّ الْمَشْيَ لَمْ يُهْدَرْ اعْتِبَارُهُ شَرْعًا ، فَإِنَّهُ رُوِيَ { عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ أُخْتَ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ نَذَرَتْ أَنْ تَمْشِيَ إلَى الْبَيْتِ ، فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَرْكَبَ وَتُهْدِيَ هَدْيًا } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ وَسَنَدُهُ حُجَّةٌ ، وَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ قَالَ { لِتَمْشِ وَلْتَرْكَبْ } فَمَحْمُولٌ إمَّا عَلَى ذِكْرِ بَعْضِ الْمَرْوِيِّ ، وَعَلَى هَذَا اقْتَصَرْنَا فِي كِتَابِ الْحَجِّ : يَعْنِي أَنَّ مَحَلَّ الْإِشْكَالِ جَوَازُ رُكُوبِهَا وَلَوْ أَهْدَتْ ؛ كَمَا لَوْ نَذَرَ الصَّوْمَ بِصِفَةِ التَّتَابُعِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُفَرِّقَ وَيَتَصَدَّقَ ، بَلْ لَوْ فَرَّقَ لَزِمَ اسْتِئْنَافُهُ فَاقْتَصَرَ الرَّاوِي عَلَى ذَلِكَ لِيُفِيدَ دَفْعَ ذَلِكَ ، وَعُرِفَ لُزُومُ الْفِدْيَةِ مِنْ الْحَدِيثِ الْآخَرِ أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ الْجَهْدِ ، فَإِنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ { وَإِنَّهَا لَا تُطِيقُ ذَلِكَ } ثُمَّ يُعْرَفُ لُزُومُ الْفِدْيَةِ مِنْ الْحَدِيثِ الْآخَرِ وَقَدْ ذَكَرْنَا بَقِيَّتَهُ هُنَاكَ ذَيْلًا طَوِيلًا وَفُرُوعًا جَمَّةً ، وَأَنَّ الرَّاجِحَ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ مِنْ بَيْتِهِ لَا مِنْ حَيْثُ يُحْرِمُ فِيهِ مِنْ

الْمِيقَاتِ : يَعْنِي فَالْخِلَافُ فِيمَا إذَا لَمْ يُحْرِمْ مِنْهُ وَهَلْ يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ مِنْهُ أَوْ مِنْ حَيْثُ يُحْرِمُ فِيهِ مِنْ الْمِيقَاتِ ، أَمَّا لَوْ أَحْرَمَ مِنْ بَيْتِهِ لَزِمَهُ الْمَشْيُ مِنْهُ بِالِاتِّفَاقِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ أُخْتِ عُقْبَةَ قَالَ { وَلْتُهْدِ بَدَنَةً } لَكِنَّهُمْ عَمِلُوا بِإِطْلَاقِ الْهَدْيِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحَيْنِ .
وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ حَدِيثِ { عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ قَالَ مَا خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُطْبَةً إلَّا أَمَرَنَا بِالصَّدَقَةِ وَنَهَانَا عَنْ الْمُثْلَةِ ، وَقَالَ : إنَّ مِنْ الْمُثْلَةِ أَنْ يَنْذِرَ الرَّجُلُ أَنْ يَحُجَّ مَاشِيًا ، فَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ مَاشِيًا فَلْيُهْدِ هَدْيًا وَلْيَرْكَبْ } وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ ، لَكِنَّ حَمْلَ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ إذَا كَانَا فِي حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ وَاجِبٌ فَتَجِبُ الْبَدَنَةُ ، ثُمَّ الْمُصَنِّفُ ذَكَرَ هَذَا الْمَذْهَبَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَالْمَرْوِيُّ عَنْ عَلِيٍّ مِنْ طَرِيقِ الشَّافِعِيِّ عَنْ ابْنِ عُلَيَّةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ عَلِيٍّ فِي الرَّجُلِ يَحْلِفُ عَلَى الْمَشْيِ قَالَ : يَمْشِي ، فَإِنْ عَجَزَ رَكِبَ وَأَهْدَى بَدَنَةً .
وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عَلِيٍّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ فِيمَنْ نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ إلَى الْبَيْتِ قَالَ : يَمْشِي ، فَإِذَا أَعْيَا رَكِبَ وَأَهْدَى جَزُورًا .
وَأُخْرِجَ نَحْوُهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَالْحَسَنِ .
وَأَمَّا وُرُودُ الْبَدَنَةِ فِي خُصُوصِ حَدِيثِ أُخْتِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ فَأَسْنَدَ أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ : حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ أُخْتَ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ مَاشِيَةً ، فَسَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ غَنِيٌّ عَنْ نَذْرِ

أُخْتِكَ ، لِتَرْكَبْ وَلْتُهْدِ بَدَنَةً } وَأَمَّا إذَا كَانَ النَّاذِرُ بِمَكَّةَ وَأَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ الْأَحَدَ الَّذِي لَزِمَهُ حَجًّا فَإِنَّهُ يُحْرِمُ مِنْ الْحَرَمِ وَيَخْرُجُ إلَى عَرَفَاتٍ مَاشِيًا إلَى أَنْ يَطُوفَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ كَغَيْرِهِ ، وَإِنْ أَرَادَ إسْقَاطَهُ بِعُمْرَةٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ إلَى الْحِلِّ فَيُحْرِمَ مِنْهُ .
وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ يَلْزَمُ الْمَشْيُ فِي ذَهَابِهِ إلَى الْحِلِّ أَوْ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا بَعْدَ رُجُوعِهِ مِنْهُ مُحْرِمًا .
وَالْوَجْهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ لِمَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْحَجِّ مِنْ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ مِنْ بَلْدَتِهِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ مُحْرِمًا مِنْهَا بَلْ هُوَ ذَاهِبٌ إلَى مَحِلِّ الْإِحْرَامِ لِيُحْرِمَ مِنْهُ : أَعْنِي الْمَوَاقِيتَ فِي الْأَصَحِّ لِمَا قَدَّمْنَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ : لَوْ أَنَّ بَغْدَادِيًّا قَالَ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا فَعَلَيَّ أَنْ أَحُجَّ مَاشِيًا فَلَقِيَهُ بِالْكُوفَةِ فَكَلَّمَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَمْشِيَ مِنْ بَغْدَادَ .
وَلَوْ قَالَ : عَلَيَّ السَّفَرُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ فَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مَعَ إخْوَانِهِ ، وَمِثْلُهُ الشَّدُّ وَالْهَرْوَلَةُ وَالسَّعْيُ إلَى مَكَّةَ ، وَكَذَا عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى أَسْتَارِ الْكَعْبَةِ أَوْ بَابِ الْكَعْبَةِ أَوْ مِيزَابِهَا أَوْ أُسْطُوَانَةِ الْبَيْتِ أَوْ الصَّفَا أَوْ الْمَرْوَةِ إلَى عَرَفَاتٍ وَمُزْدَلِفَةٍ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ .
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى الْحَرَمِ أَوْ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ ، وَقَالَ صَاحِبَاهُ : يَلْزَمُهُ أَحَدُ النُّسُكَيْنِ .
وَالْوَجْهُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّهُ تُعُورِفَ بَعْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إيجَابُ النُّسُكِ بِهِمَا فَقَالَا بِهِ كَمَا تُعُورِفَ بِالْمَشْيِ إلَى الْكَعْبَةِ وَيَرْتَفِعُ الْخِلَافُ ، وَإِلَّا فَالْوَجْهُ الَّذِي ذُكِرَ لَهُمَا مُتَضَائِلٌ وَهُوَ أَنَّ الْحَرَمَ وَالْمَسْجِدَ الْحَرَامَ يَشْتَمِلُ عَلَى الْكَعْبَةِ فَذِكْرُ الْمُشْتَمِلِ ذِكْرٌ لِلْمَشْمُولِ وَهُوَ الْكَعْبَةُ ، وَلَوْ صَرَّحَ بِقَوْلِهِ

لِلَّهِ عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى الْكَعْبَةِ لَزِمَهُ ، فَكَذَا ذِكْرُ الْمُشْتَمِلِ لِأَنَّ إيجَابَ اللَّفْظِ لِتَعَارُفِ عَيْنِهِ فِيهِ ، وَلَيْسَ عَيْنُ الْمَشْيِ إلَى الْحَرَمِ عَيْنِهِ وَهُوَ وَجْهُ أَبِي حَنِيفَةَ

( وَمَنْ قَالَ عَبْدِي حُرٌّ إنْ لَمْ أَحُجَّ الْعَامَ ، وَقَالَ : حَجَجْتُ وَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ ضَحَّى الْعَامَ بِالْكُوفَةِ لَمْ يُعْتَقْ عَبْدُهُ ) ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ : يُعْتَقُ لِأَنَّ هَذِهِ شَهَادَةٌ قَامَتْ عَلَى أَمْرٍ مَعْلُومٍ وَهُوَ التَّضْحِيَةُ ، وَمِنْ ضَرُورَتِهِ انْتِفَاءُ الْحَجِّ فَيَتَحَقَّقُ الشَّرْطُ .
وَلَهُمَا أَنَّهَا قَامَتْ عَلَى النَّفْيِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا نَفْيُ الْحَجِّ لَا إثْبَاتُ التَّضْحِيَةِ لِأَنَّهُ لَا مَطَالِبَ لَهَا فَصَارَ كَمَا إذَا شَهِدُوا أَنَّهُ لَمْ يَحُجَّ الْعَامَ .
غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ هَذَا النَّفْيَ مِمَّا يُحِيطُ عِلْمُ الشَّاهِدِ بِهِ وَلَكِنَّهُ لَا يُمَيَّزُ بَيْنَ نَفْيٍ وَنَفْيٍ تَيْسِيرًا

( قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ : عَبْدِي حُرٌّ إنْ لَمْ أَحُجَّ الْعَامَ فَقَالَ بَعْدَ انْقِضَائِهِ : حَجَجْتُ وَأَقَامَ الْعَبْدُ شَاهِدَيْنِ عَلَى أَنَّهُ ضَحَّى الْعَامَ بِالْكُوفَةِ لَمْ يُعْتَقْ عَبْدُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ) وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، قَالَهُ صَاحِبُ الْمُخْتَلِفِ ، وَكَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ( وَقَالَ مُحَمَّدٌ يُعْتَقُ لِأَنَّ هَذِهِ شَهَادَةٌ قَامَتْ عَلَى أَمْرٍ مُشَاهَدٍ وَهُوَ التَّضْحِيَةُ ) وَكَيْفَ لَا يُقْبَلُ ( وَمِنْ ضَرُورَتِهِ انْتِفَاءُ الْحَجِّ ) ذَلِكَ الْعَامَ ( فَيَتَحَقَّقُ الشَّرْطُ ) فَيُعْتَقُ ( وَلَهُمَا أَنَّهَا قَامَتْ عَلَى النَّفْيِ ) مَعْنًى ( لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا نَفْيُ الْحَجِّ لَا إثْبَاتُ التَّضْحِيَةِ ) فَإِنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى التَّضْحِيَةِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ وَهُوَ الْعَبْدُ لَا حَقَّ لَهُ فِيهَا يَطْلُبُهُ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَمْ يُعَلَّقْ بِهَا ، وَمَا لَا مَطَالِبَ لَهُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْقَضَاءِ ، وَإِذَا بَطَلَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى التَّضْحِيَةِ بَقِيَتْ فِي الْحَاصِلِ عَلَى نَفْيِ الْحَجِّ مَقْصُودًا وَالشَّهَادَةُ عَلَى النَّفْيِ بَاطِلَةٌ .
فَإِنْ قِيلَ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا مُطْلَقًا بَاطِلَةٌ بَلْ النَّفْيُ إذَا كَانَ مِمَّا يَعْلَمُ وَيُحِيطُ بِهِ الشَّاهِدُ صَحَّتْ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ : شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَالَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ وَلَمْ يَقُلْ قَوْلَ النَّصَارَى وَالرَّجُلُ يَقُولُ وَصَلْتُ بِهِ ذَلِكَ قُبِلَتْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ وَبَانَتْ امْرَأَتُهُ لِإِحَاطَةِ عِلْمِ الشَّاهِدِ بِهِ .
أَجَابَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ ( غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ هَذَا نَفْيٌ يُحِيطُ بِهِ عِلْمُ الشَّاهِدِ لَكِنَّهُ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ نَفْيٍ وَنَفْيٍ ) .
فِي عَدَمِ الْقَبُولِ ، بِأَنْ يُقَالَ : النَّفْيُ إذَا كَانَ كَذَا صَحَّتْ الشَّهَادَةُ بِهِ وَإِنْ كَانَ كَذَا لَا تَصِحُّ ( تَيَسُّرًا ) وَدَفْعًا لِلْحَرَجِ اللَّازِمِ فِي تَمْيِيزِ نَفْيٍ مِنْ نَفْيٍ .
وَأَمَّا مَسْأَلَةُ

السِّيَرِ فَالْقَبُولُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا شَهَادَةٌ عَلَى السُّكُوتِ الَّذِي هُوَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ وَصَارَ كَشُهُودِ الْإِرْثِ إذَا قَالُوا : نَشْهَدُ أَنَّهُ وَارِثُهُ لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ حَيْثُ يُعْطِي لَهُ كُلَّ التَّرِكَةِ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ عَلَى الْإِرْثِ وَالنَّفْيُ فِي ضِمْنِهِ وَالْإِرْثُ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ الْقَضَاءِ ، فَأَمَّا النَّحْرُ وَإِنْ كَانَ وُجُودِيًّا وَنَفْيُ الْحَجِّ فِي ضِمْنِهِ لَكِنَّهُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْقَضَاءِ كَمَا ذُكِرَ فَكَانَتْ الشَّهَادَةُ كَعَدَمِهَا فِي حَقِّهِ فَبَقِيَ النَّفْيُ وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِهَا ، وَأَمَّا مَا فِي الْمَبْسُوطِ مِنْ أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى النَّفْيِ تُقْبَلُ فِي الشُّرُوطِ حَتَّى لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ : إنْ لَمْ تَدْخُلْ الدَّارَ الْيَوْمَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَشَهِدَا أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْهَا قُبِلَتْ وَيُقْضَى بِعِتْقِهِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ قَبِيلِ الشُّرُوطِ .
فَأُجِيبُ عَنْهُ بِأَنَّهَا قَامَتْ بِأَمْرٍ ثَابِتٍ مُعَايَنٍ وَهُوَ كَوْنُهُ خَارِجًا فَيَثْبُتُ النَّفْيُ ضِمْنًا وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْعَبْدَ كَمَا لَا حَقَّ لَهُ فِي التَّضْحِيَةِ إذْ لَمْ تَكُنْ هِيَ شَرْطَ الْعِتْقِ فَلَمْ تَصِحَّ الشَّهَادَةُ بِهَا ، كَذَلِكَ لَا حَقَّ لَهُ فِي الْخُرُوجِ لِأَنَّهُ لَمْ يُجْعَلْ الشَّرْطُ بَلْ عَدَمُ الدُّخُولِ كَعَدَمِ الْحَجِّ فِي مَسْأَلَتِنَا ، فَلَمَّا كَانَ الْمَشْهُودُ بِهِ مِمَّا هُوَ وُجُودِيٌّ مُتَضَمِّنٌ لِلْمُدَّعَى بِهِ مِنْ النَّفْيِ الْمَجْعُولِ شَرْطًا قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُدَّعًى بِهِ لِتَضَمُّنِهِ الْمُدَّعَى بِهِ ، كَذَلِكَ يَجِبُ قَبُولُ شَهَادَةِ التَّضْحِيَةِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلنَّفْيِ الْمُدَّعَى بِهِ فَقَوْلُ مُحَمَّدٍ أَوْجَهُ

( وَمَنْ حَلَفَ لَا يَصُومُ فَنَوَى الصَّوْمَ وَصَامَ سَاعَةً ثُمَّ أَفْطَرَ مِنْ يَوْمِهِ حَنِثَ ) لِوُجُودِ الشَّرْطِ إذْ الصَّوْمُ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْمُفْطِرَاتِ عَلَى قَصْدِ التَّقَرُّبِ ( وَلَوْ حَلَفَ لَا يَصُومُ يَوْمًا أَوْ صَوْمًا فَصَامَ سَاعَةً ثُمَّ أَفْطَرَ لَا يَحْنَثُ ) لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الصَّوْمُ التَّامُّ الْمُعْتَبَرُ شَرْعًا وَذَلِكَ بِإِنْهَائِهِ إلَى آخِرِ الْيَوْمِ ، وَالْيَوْمُ صَرِيحٌ فِي تَقْدِيرِ الْمُدَّةِ بِهِ

( قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يَصُومُ فَنَوَى الصَّوْمَ وَأَمْسَكَ سَاعَةً ثُمَّ أَفْطَرَ مِنْ يَوْمِهِ حَنِثَ لِوُجُودِ الشَّرْطِ ) وَهُوَ الصَّوْمُ الشَّرْعِيُّ إذْ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَلَى الْمُفْطِرَاتِ عَلَى قَصْدِ التَّقَرُّبِ وَقَدْ وُجِدَ تَمَامُ حَقِيقَتِهِ ، وَمَا زَادَ عَلَى أَدْنَى إمْسَاكٍ فِي وَقْتِهِ تَكْرَارٌ لِلشَّرْطِ ، وَلِأَنَّ بِمُجَرَّدِ الشُّرُوعِ فِي الْفِعْلِ إذَا تَمَّتْ حَقِيقَتُهُ يُسَمَّى فَاعِلًا ، وَلِذَا أَنْزِلَ إبْرَاهِيمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَابِحًا حَيْثُ أَمَرَّ السِّكِّينَ فِي مَحَلِّ الذَّبْحِ فَقِيلَ لَهُ { قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا } بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ حَقِيقَتُهُ تَتَوَقَّفُ عَلَى أَفْعَالٍ مُخْتَلِفَةٍ كَالصَّلَاةِ ، فَلِذَا قَالَ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يُصَلِّي أَنَّهُ إذَا قَامَ وَقَرَأَ وَرَكَعَ وَسَجَدَ حَنِثَ إذَا قَطَعَ ، فَلَوْ قَطَعَ بَعْدَ الرُّكُوعِ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْوُجُودِ تَمَامُ حَقِيقَتِهَا ( قَوْلُهُ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَصُومُ يَوْمًا أَوْ صَوْمًا لَمْ يَحْنَثْ بِصَوْمِ سَاعَةٍ ) بَلْ بِإِتْمَامِ الْيَوْمِ ، أَمَّا فِي " يَوْمًا " فَظَاهِرٌ ، وَكَذَا فِي " صَوْمًا " لِأَنَّهُ مُطْلَقٌ فَيَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ شَرْعًا فَلِذَا قُلْنَا : لَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمٌ وَجَبَ عَلَيْهِ صَوْمُ يَوْمٍ كَامِلٍ بِالْإِجْمَاعِ ، وَكَذَا إذَا قَالَ : عَلَيَّ صَلَاةٌ تَجِبُ رَكْعَتَانِ عِنْدَنَا لَا يُقَالُ : الْمَصْدَرُ مَذْكُورٌ بِذِكْرِ الْفِعْلِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ حَلِفِهِ لَا يَصُومُ وَلَا يَصُومُ صَوْمًا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْنَثَ فِي الْأَوَّلِ إلَّا بِيَوْمٍ .
لِأَنَّا نَقُولُ : الثَّابِتُ فِي ضِمْنِ الْفِعْلِ ضَرُورِيٌّ لَا يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي غَيْرِ تَحْقِيقِ الْفِعْلِ ، بِخِلَافِ الصَّرِيحِ فَإِنَّهُ اخْتِيَارِيٌّ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمُ الْمُطْلَقِ فَيُوجِبُ الْكَمَالَ .
وَقَدْ أُورِدَ عَلَيْهِ مَا لَوْ قَالَ : لَأَصُومَنَّ هَذَا الْيَوْمَ وَكَانَ بَعْدَ أَنْ أَكَلَ أَوْ بَعْدَ الزَّوَالِ ، أَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : إنْ لَمْ تُصَلِّ الْيَوْمَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَحَاضَتْ مِنْ سَاعَتِهَا أَوْ بَعْدَ مَا صَلَّتْ رَكْعَةً

صَحَّتْ الْيَمِينُ وَطَلُقَتْ فِي الْحَالِ مَعَ أَنَّهُ مَقْرُونٌ بِذِكْرِ الْيَوْمِ وَلَا كَمَالَ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْيَمِينَ تَعْتَمِدُ التَّصَوُّرَ ، وَالصَّوْمُ بَعْدَ الزَّوَالِ وَالْأَكْلُ مُتَصَوَّرٌ كَمَا فِي صُورَةِ النَّاسِي ، وَكَذَا الصَّلَاةُ مِنْ الْحَائِضِ لِأَنَّ دُرُورَ الدَّمِ لَا يَمْنَعُ كَمَا فِي الْمُسْتَحَاضَةِ إلَّا أَنَّهَا لَمْ تَشْرَعْ مَعَ دُرُورٍ هُوَ حَيْضٌ فَفَاتَ شَرْطُ أَدَائِهِ ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْكُوزِ لِأَنَّ مَحَلَّ الْفِعْلِ وَهُوَ الْمَاءُ غَيْرُ قَائِمٍ أَصْلًا فَلَا يُتَصَوَّرُ بِوَجْهٍ ، وَهَاتَانِ الْمَسْأَلَتَانِ إنَّمَا تَصْلُحَانِ مُبْتَدَأَتَيْنِ لِأَنَّ كَلَامَنَا كَانَ فِي الْمُطْلَقِ وَهُوَ لَفْظُ " يَوْمًا " ، وَلَفْظُ " هَذَا الْيَوْمِ " لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْمُطْلَقِ لِأَنَّهُ مُقَيَّدٌ مُعَرَّفٌ وَالْمُطْلَقَاتُ هِيَ النَّكِرَاتُ وَهِيَ أَسْمَاءُ الْأَجْنَاسِ وَإِلَّا فَزَيْدٌ وَعَمْرٌو مُطْلَقٌ وَلَا يَقُولُ بِهِ أَحَدٌ .
وَالْمَسْأَلَتَانِ مُشْكِلَتَانِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لِأَنَّ التَّصَوُّرَ شَرْعًا مُنْتَفٍ ، وَكَوْنُهُ مُمْكِنًا فِي صُورَةٍ أُخْرَى وَهِيَ صُورَةُ النِّسْيَانِ وَالِاسْتِحَاضَةِ لَا يُفِيدُ ، فَإِنَّهُ حَيْثُ كَانَ فِي صُورَةِ الْحَلِفِ مُسْتَحِيلًا شَرْعًا لَمْ يُتَصَوَّرْ الْفِعْلُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْلِفْ إلَّا عَلَى الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ الشَّرْعِيَّيْنِ ، أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فَظَاهِرٌ أَنَّهُمَا تَنْعَقِدَانِ ثُمَّ يَحْنَثُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ التُّمُرْتَاشِيَّ ذَكَرَ أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَصُومُ فَهُوَ عَلَى الْجَائِزِ لِأَنَّهُ لِتَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِالْفَاسِدِ إلَّا إذَا كَانَتْ الْيَمِينُ فِي الْمَاضِي ، وَظَاهِرُهُ يُشْكِلُ عَلَى مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ فَإِنَّهُ حَنَّثَهُ بَعْدَ مَا قَالَ ثُمَّ أَفْطَرَ مِنْ يَوْمِهِ لَكِنَّ مَسْأَلَةَ الْكِتَابِ أَصَحُّ لِأَنَّهَا نَصُّ مُحَمَّدٍ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ

( وَلَوْ حَلَفَ لَا يُصَلِّي فَقَامَ وَقَرَأَ وَرَكَعَ لَمْ يَحْنَثْ ، وَإِنْ سَجَدَ مَعَ ذَلِكَ ثُمَّ قَطَعَ حَنِثَ ) وَالْقِيَاسُ أَنْ يَحْنَثَ بِالِافْتِتَاحِ اعْتِبَارًا بِالشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الصَّلَاةَ عِبَارَةٌ عَنْ الْأَرْكَانِ الْمُخْتَلِفَةِ ، فَمَا لَمْ يَأْتِ بِجَمِيعِهَا لَا يُسَمَّى صَلَاةً ، بِخِلَافِ الصَّوْمِ لِأَنَّهُ رُكْنٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْإِمْسَاكُ وَيَتَكَرَّرُ فِي الْجُزْءِ الثَّانِي ( وَلَوْ حَلَفَ لَا يُصَلِّي صَلَاةً لَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ ) لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الصَّلَاةُ الْمُعْتَبَرَةُ شَرْعًا وَأَقَلُّهَا رَكْعَتَانِ لِلنَّهْيِ عَنْ الْبُتَيْرَاءِ .

( قَوْلُهُ وَلَوْ حَلَفَ لَا يُصَلِّي فَقَامَ وَقَرَأَ وَرَكَعَ ثُمَّ قَطَعَ لَمْ يَحْنَثْ وَالْقِيَاسُ ) يَعْنِي عَلَى الصَّوْمِ ( أَنْ يَحْنَثَ بِالِافْتِتَاحِ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الصَّلَاةَ عِبَارَةٌ عَنْ أَفْعَالٍ مُخْتَلِفَةٍ فَمَا لَمْ يَأْتِ بِهَا لَا تُسَمَّى صَلَاةً ) يَعْنِي لَمْ يُوجَدْ تَمَامُ حَقِيقَتِهَا وَالْحَقِيقَةُ تَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ الْجُزْءِ ( بِخِلَافِ الصَّوْمِ لِأَنَّهُ رُكْنٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْإِمْسَاكُ وَيَتَكَرَّرُ بِالْجُزْءِ الثَّانِي ) وَلِذَا قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ : لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الْحَاصِلِ ؛ لِأَنَّ مَا بَعْدَ صَوْمِ سَاعَةٍ مُكَرَّرٌ مِنْ جِنْسِ مَا مَضَى فَصَارَ صَوْمُ سَاعَةٍ كَالصَّلَاةِ رَكْعَةً ، يَعْنِي لِأَنَّهُ يَجْتَمِعُ فِيهَا تَمَامُ الْحَقِيقَةِ ، ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَإِنْ سَجَدَ مَعَ ذَلِكَ ) يَعْنِي الرُّكُوعَ وَمَا قَبْلَهُ ( ثُمَّ قَطَعَ حَنِثَ ) وَيُشْكِلُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرَ التُّمُرْتَاشِيُّ : حَلَفَ لَا يُصَلِّي يَقَعُ عَلَى الْجَائِزِ كَمَا تَقَدَّمَ فَلَا يَحْنَثُ بِالْفَاسِدِ إلَّا إذَا كَانَ الْيَمِينُ فِي الْمَاضِي : أَيْ حَلَفَ مَا صَلَّيْت وَكَانَ قَدْ صَلَّى فَاسِدَةً لِأَنَّ الصَّلَاةَ الْمَاضِيَةَ يُرَادُ الْخَبَرُ عَنْهَا لَا التَّقَرُّبُ بِهَا وَيَصِحُّ الْخَبَرُ عَنْ الْفَاسِدَةِ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُرَادَ بِالْفَاسِدَةِ أَنْ تَكُونَ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ وَيَكُونَ مَا فِي الذَّخِيرَةِ بَيَانًا لَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ : لَوْ حَلَفَ لَا يُصَلِّيَ فَصَلَّى صَلَاةً فَاسِدَةً بِأَنْ صَلَّى بِغَيْرِ طَهَارَةٍ مَثَلًا لَا يَحْنَثُ اسْتِحْسَانًا ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الِاسْمِ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ وَهُوَ مَا بِهِ حُصُولُ الثَّوَابِ وَسُقُوطُ الْفَرْضِ .
قَالَ : وَلَوْ نَوَى الْفَاسِدَةَ صُدِّقَ دِيَانَةً وَقَضَاءً لِأَنَّ الْفَاسِدَ صَلَاةٌ صُورَةً ، وَإِطْلَاقُ الِاسْمِ عَلَى صُورَتِهِ مَجَازًا جَائِزٌ فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ وَفِيهِ تَغْلِيظٌ عَلَى نَفْسِهِ ، وَمَعَ هَذَا يَحْنَثُ بِالصَّحِيحَةِ أَيْضًا ، وَلَيْسَ فِي هَذَا الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ ، وَإِنَّمَا طَرِيقُهُ أَنَّ فِي الصَّحِيحِ مَا فِي الْفَاسِدَةِ وَزِيَادَةً

عَلَى شَرْطِ الْحِنْثِ فَلَا يَمْنَعُ الْحِنْثَ ، وَلَوْ كَانَ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى الْمَاضِي بِأَنْ قَالَ : إنْ كُنْت صَلَّيْت فَهِيَ عَلَى الْجَائِزَةِ وَالْفَاسِدَةِ ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَ لَا أُصَلِّي وَلَا أُصَلِّي صَلَاةً حَيْثُ يَحْنَثُ بِرَكْعَةٍ فَقَالَ : وَفِي صُورَةٍ : حَذْفُ الْمَفْعُولِ الْمَنْفِيِّ فِعْلُ الصَّلَاةِ لَا كَوْنُ الْمَفْعُولِ صَلَاةً ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالرَّكْعَةِ ، إلَّا أَنَّهُ إذَا قَطَعَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَقَدْ انْتَقَضَ فِعْلُ الصَّلَاةِ وَلَكِنْ بَعْدَ صِحَّتِهِ ، وَالِانْتِقَاضُ إنَّمَا يَظْهَرُ فِي حُكْمٍ يَقْبَلُ الِانْتِقَاضَ ، وَالْحِنْثُ بَعْدَ تَحَقُّقِهِ لَا يَقْبَلُ الِانْتِقَاضَ فَظَهَرَ مِنْ كَلَامِهِ هَذَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْفَاسِدَةِ هِيَ الَّتِي لَمْ يُوصَفْ مِنْهَا شَيْءٌ بِوَصْفِ الصِّحَّةِ فِي وَقْتٍ بِأَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ الشُّرُوعِ غَيْرَ صَحِيحٍ ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ مَا أَوْرَدْنَاهُ فِي الصَّوْمِ وَيَرْتَفِعُ الْإِشْكَالُ هُنَاكَ أَيْضًا .
وَأُورِدَ أَنَّ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ الْقَعْدَةُ وَلَيْسَتْ فِي الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ فَيَجِبُ أَنْ لَا يَحْنَثَ بِهَا .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْقَعْدَةَ مَوْجُودَةٌ بَعْدَ رَفْعِ رَأْسِهِ مِنْ السَّجْدَةِ ، وَهَذَا أَوَّلًا مَبْنِيٌّ عَلَى تَوَقُّفِ الْحِنْثِ عَلَى الرَّفْعِ مِنْهَا وَفِيهِ خِلَافُ الْمَشَايِخِ .
وَالْحَقُّ أَنَّهُ يَتَفَرَّعُ عَلَى الْخِلَافِ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِي ذَلِكَ .
وَمَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ فِي سُجُودِ السَّهْوِ .
وَالْأَوْجَهُ أَنْ لَا يَتَوَقَّفَ لِتَمَامِ حَقِيقَةِ السُّجُودِ بِوَضْعِ بَعْضِ الْوَجْهِ عَلَى الْأَرْضِ .
ثُمَّ لَوْ سُلِّمَ فَلَيْسَتْ تِلْكَ الْقَعْدَةُ هِيَ الرُّكْنَ .
وَالْحَقُّ أَنَّ الْأَرْكَانَ الْحَقِيقِيَّةَ هِيَ الْخَمْسَةُ ، وَالْقَعْدَةُ رُكْنٌ زَائِدٌ عَلَى مَا تَحَرَّرَ ، وَإِنَّمَا وَجَبَتْ لِلْخَتْمِ فَلَا تُعْتَبَرُ رُكْنًا فِي حَقِّ الْحِنْثِ ( قَوْلُهُ وَلَوْ حَلَفَ لَا يُصَلِّي صَلَاةً لَمْ يَحْنَثْ مَا لَمْ يُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهَا الصَّلَاةُ الْمُعْتَبَرَةُ شَرْعًا ) عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ فِي لَا يَصُومُ صَوْمًا ( وَأَقَلُّ الْمُعْتَبَرِ شَرْعًا

صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ لِلنَّهْيِ عَنْ الْبُتَيْرَاءِ ) نَهْيًا يَمْنَعُ الصِّحَّةَ لَوْ فُعِلَتْ .
وَمِنْ فُرُوعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا فِي الذَّخِيرَةِ قَالَ لِعَبْدِهِ : إنْ صَلَّيْتَ رَكْعَةً فَأَنْتَ حُرٌّ فَصَلَّى رَكْعَةً ثُمَّ تَكَلَّمَ لَا يُعْتَقُ .
وَلَوْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ عَتَقَ بِالرَّكْعَةِ الْأُولَى لِأَنَّهُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى مَا صَلَّى رَكْعَةً لِأَنَّهَا بُتَيْرَاءُ بِخِلَافِ الثَّانِيَةِ .
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَذْكُورَةٌ فِي نَوَادِرِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ، فَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ : تَبَيَّنَ بِهَذِهِ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْجَامِعِ قَوْلُ مُحَمَّدٍ : يَعْنِي وَحْدَهُ وَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ ، فَإِنَّ الْمَذْكُورَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ : حَلَفَ لَا يُصَلِّي رَكْعَةً وَصَلَاةُ الرَّكْعَةِ حَقِيقَةً دُونَ مُجَرَّدِ الصُّورَةِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِضَمِّ أُخْرَى إلَيْهَا .
وَالْمَذْكُورُ فِي الْجَامِعِ : حَلَفَ لَا يُصَلِّي وَلَمْ يَقُلْ رَكْعَةً ، وَالْبُتَيْرَاءُ تَصْغِيرُ الْبَتْرَاءِ تَأْنِيثُ الْأَبْتَرِ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَقْطُوعُ الذَّنَبِ ثُمَّ صَارَ يُقَالُ لِلنَّاقِصِ .
وَفِي الْبَيْعِ يَحْنَثُ بِالْفَاسِدِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ وَالْفَرْقُ غَيْرُ خَافٍ .
ثُمَّ إذَا حَلَفَ لَا يُصَلِّي صَلَاةً فَهَلْ يَتَوَقَّفُ حِنْثُهُ عَلَى قُعُودِهِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ بَعْدَ الرَّكْعَتَيْنِ ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ إنْ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى مُجَرَّدِ الْفِعْلِ وَهُوَ إذَا حَلَفَ لَا يُصَلِّي صَلَاةً يَحْنَثُ قَبْلَ الْقَعْدَةِ لَمَا ذَكَرْته ، وَإِنْ عَقَدَهَا عَلَى الْفَرْضِ كَصَلَاةِ الصُّبْحِ أَوْ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْنَثَ حَتَّى يَقْعُدَ .
[ فُرُوعٌ ] حَلَفَ لَا يَؤُمُّ أَحَدًا فَصَلَّى فَجَاءَ نَاسٌ وَاقْتَدَوْا بِهِ فَقَالَ نَوَيْت أَنْ لَا أَؤُمَّ أَحَدًا صُدِّقَ دِيَانَةً لَا قَضَاءً إلَّا إنْ أَشْهَدَ أَنِّي إنَّمَا أُصَلِّي لِنَفْسِي ، وَكَذَا لَوْ صَلَّى هَذَا الْحَالِفُ الْجُمُعَةَ بِالنَّاسِ وَنَوَى أَنْ يُصَلِّيَ لِنَفْسِهِ الْجُمُعَةَ جَازَتْ الْجُمُعَةُ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّ الشَّرْطَ فِيهَا الْجَمَاعَةُ وَقَدْ وُجِدَ وَحَنِثَ قَضَاءً لَا دِيَانَةً .

وَيَنْبَغِي إذَا أَمَّهُمْ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ أَنْ يَكُونَ كَالْأَوَّلِ إنْ أَشْهَدَ صُدِّقَ فِيهِمَا وَإِلَّا فَفِي الدِّيَانَةِ .
وَلَوْ قَالَ مَا صَلَّيْت الْيَوْمَ صَلَاةً يُرِيدُ فِي جَمَاعَةٍ صَحَّتْ نِيَّتُهُ لِأَنَّهَا نَاقِصَةٌ وَالْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ .
وَلَوْ قَالَ مَا صَلَّيْت الْيَوْمَ الظُّهْرَ يُرِيدُ فِي جَمَاعَةٍ ، قَالَ مُحَمَّدٌ : لَا تَسَعُهُ النِّيَّةُ فِي هَذَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا صَلَّى الظُّهْرَ فِي السَّفَرِ ثُمَّ قَالَهُ بِمَعْنَى ظُهْرِ مُقِيمٍ وَسِعَتْهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى .
وَفِي مَا أَخَّرْت صَلَاةً عَنْ وَقْتِهَا وَقَدْ نَامَ فَقَضَاهَا ، اخْتَلَفُوا بِنَاءً عَلَى أَنَّ وَقْتَ التَّذَكُّرِ وَقْتُهَا بِالْحَدِيثِ فَيَصِحُّ أَوَّلًا بَلْ يَنْصَرِفُ إلَى الْوَقْتِ الْأَصْلِيِّ .

بَابُ الْيَمِينِ فِي لُبْسِ الثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ ( وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : إنْ لَبِسْتِ مِنْ غَزْلِكِ فَهُوَ هَدْيٌ فَاشْتَرَى قُطْنًا فَغَزَلَتْهُ وَنَسَجَتْهُ فَلَبِسَهُ فَهُوَ هَدْيٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا : لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُهْدِيَ حَتَّى تَغْزِلَ مِنْ قُطْنٍ مَلَكَهُ يَوْمَ حَلَفَ ) وَمَعْنَى الْهَدْيِ التَّصَدُّقُ بِهِ بِمَكَّةَ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِمَا يُهْدَى إلَيْهَا .
لَهُمَا أَنَّ النَّذْرَ إنَّمَا يَصِحُّ فِي الْمِلْكِ أَوْ مُضَافًا إلَى سَبَبِ الْمِلْكِ وَلَمْ يُوجَدْ لِأَنَّ اللُّبْسَ وَغَزْلَ الْمَرْأَةِ لَيْسَا مِنْ أَسْبَابِ مِلْكِهِ .
وَلَهُ أَنَّ غَزْلَ الْمَرْأَةِ عَادَةً يَكُونُ مِنْ قُطْنِ الزَّوْجِ وَالْمُعْتَادُ هُوَ الْمُرَادُ وَذَلِكَ سَبَبٌ لِمِلْكِهِ ، وَلِهَذَا يَحْنَثُ إذَا غَزَلَتْ مِنْ قُطْنٍ مَمْلُوكٍ لَهُ وَقْتَ النَّذْرِ لِأَنَّ الْقُطْنَ لَمْ يَصِرْ مَذْكُورًا .

بَابُ الْيَمِينِ فِي لُبْسِ الثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ ) قَدَّمَهُ عَلَى الضَّرْبِ وَالْقَتْلِ لِأَنَّ اللُّبْسَ أَكْثَرُ وُقُوعًا مِنْهُ لَا بِقَيْدِ خُصُوصِ الْمَلْبُوسِ ، أَوْ لِأَنَّ شَرْعِيَّتَهُ أَوْسَعُ مِنْ شَرْعِيَّةِ الضَّرْبِ وَالْقَتْلِ .
وَالْحُلِيُّ بِضَمِّ الْحَاءِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ جَمْعُ حَلْيٍ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ كَثُدِيٍّ وَثَدْيٍ ( قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : إنْ لَبِسْتِ مِنْ غَزْلِكِ ) أَيْ ثَوْبًا مِنْ غَزْلِك أَيْ مَغْزُولِك ( فَهُوَ هَدْيٌ ) فَغَزَلَتْ مِنْ قُطْنٍ مَمْلُوكٍ لَهُ وَقْتَ الْحَلِفِ فَلَبِسَهُ فَهُوَ هَدْيٌ اتِّفَاقًا ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ قُطْنٌ أَوْ كَانَ لَكِنْ لَمْ تَغْزِلْ مِنْهُ بَلْ غَزَلَتْ مِنْ قُطْنٍ اشْتَرَاهُ بَعْدَ الْحَلِفِ فَلَبِسَهُ فَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هُوَ هَدْيٌ ( وَقَالَا : لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُهْدِيَهُ حَتَّى تَغْزِلَهُ مِنْ قُطْنِ مِلْكِهِ يَوْمَ حَلَفَ ) أَيْ وَقْتَ الْحَلِفِ ( وَمَعْنَى الْهَدْيِ ) هُنَا ( مَا يُتَصَدَّقُ بِهِ بِمَكَّةَ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِمَا يُهْدَى إلَيْهَا ) فَإِنْ كَانَ نَذَرَ هَدْيَ شَاةٍ أَوْ بَدَنَةٍ فَإِنَّمَا يُخْرِجُهُ عَنْ الْعُهْدَةِ ذَبْحُهُ فِي الْحَرَمِ وَالتَّصَدُّقُ بِهِ هُنَاكَ فَلَا يُجْزِيهِ إهْدَاءُ قِيمَتِهِ .
وَقِيلَ فِي إهْدَاءِ قِيمَةِ الشَّاةِ رِوَايَتَانِ : فَلَوْ سُرِقَ بَعْدَ الذَّبْحِ لَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ ، وَإِنْ نَذَرَ ثَوْبًا جَازَ التَّصَدُّقُ فِي مَكَّةَ بِعَيْنِهِ أَوْ بِقِيمَتِهِ ، وَلَوْ نَذَرَ إهْدَاءَ مَا لَا يُنْقَلُ كَإِهْدَاءِ دَارٍ وَنَحْوِهَا فَهُوَ نَذْرٌ بِقِيمَتِهَا ( وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ النَّذْرَ إنَّمَا يَنْعَقِدُ ) فِيمَا هُوَ ( فِي الْمِلْكِ ) { قَالَ النَّبِيُّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا نَذْرَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ } .
( أَوْ مُضَافًا إلَى سَبَبِ الْمِلْكِ ) مِثْلُ إنْ اشْتَرَيْت كَذَا فَهُوَ هَدْيٌ أَوْ فَعَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فَإِنَّ اللُّبْسَ الْمَجْعُولَ شَرْطًا لَيْسَ سَبَبًا لَمِلْكِ الْمَلْبُوسِ وَلَا مُتَعَلَّقُهُ الَّذِي هُوَ غَزْلُ الْمَرْأَةِ سَبَبًا لِمِلْكِهِ إيَّاهُ

لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْقُطْنَ ، وَلَيْسَ الْغَزْلُ سَبَبًا لِمَلْكِ الْقُطْنِ لِأَنَّ غَزْلَهَا يَكُونُ مِنْ قُطْنِهَا وَيَكُونُ مِنْ قُطْنِهِ ، فَلَا يَصِحُّ النَّذْرُ فِي الْمُشْتَرَى مِنْ الْقُطْنِ إذَا غُزِلَ .
( وَلَهُ أَنَّ غَزْلَ الْمَرْأَةِ عَادَةً يَكُونُ مِنْ قُطْنِ الزَّوْجِ ) لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنْ يَشْتَرِيَ الْقُطْنَ وَيَجْعَلَهُ فِي الْبَيْتِ وَهِيَ تَغْزِلُهُ فَيَكُونُ الْمَغْزُولُ مَمْلُوكًا لَهُ ( وَالْمُعْتَادُ هُوَ الْمُرَادُ ) بِالْأَلْفَاظِ ، فَالتَّعْلِيقُ بِغَزْلِهَا تَعْلِيقٌ بِسَبَبِ مِلْكِهِ لِلثَّوْبِ كَأَنَّهُ قَالَ : إنْ لَبِسْت ثَوْبًا أَمْلِكُهُ بِسَبَبِ غَزْلِك قُطْنَهُ فَهُوَ هَدْيٌ وَلَا حَاجَةَ إلَى تَقْدِيرِ مِلْكِ الْقُطْنِ وَلَا إلَى الِالْتِفَاتِ إلَيْهِ وَإِنْ كَانَ فِي الْوَاقِعِ لَا يَمْلِكُ الْمَغْزُولَ بِالْغَزْلِ إلَّا إذَا كَانَ الْقُطْنُ مَمْلُوكًا لَهُ ، وَحِينَئِذٍ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَمْلِكَ الْقُطْنَ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ فِي حَالِ الْحَلِفِ ، ثُمَّ اسْتَوْضَحَ عَلَى أَنَّ غَزْلَهَا سَبَبٌ عَادِيٌّ لِمِلْكِهِ الْمَغْزُولَ بِقَوْلِهِ ( وَلِهَذَا يَحْنَثُ إذَا غَزَلَتْ مِنْ قُطْنٍ مَمْلُوكٍ لَهُ وَقْتَ النَّذْرِ ) بِالِاتِّفَاقِ ( مَعَ أَنَّ الْقُطْنَ غَيْرُ مَذْكُورٍ ) وَمَا ذَاكَ إلَّا لِكَوْنِ ذِكْرِ الْغَزْلِ ذِكْرَ سَبَبِ الْمِلْكِ فِي الْمَغْزُولِ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى كَوْنِهِ سَبَبًا كَوْنُهُ كُلَّمَا وَقَعَ ثَبَتَ الْحُكْمُ عَنْهُ ، وَكَوْنُ الْغَزْلِ فِي الْعَادَةِ يَكُونُ مِنْ قُطْنٍ مَمْلُوكٍ لَهُ يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ كُلَّمَا وَقَعَ ثَبَتَ عِنْدَهُ مِلْكُ الزَّوْجِ فِي الْمَغْزُولِ ، وَبِهَذَا فَارَقَ مَسْأَلَةَ التَّسَرِّي حَيْثُ لَا يَحْنَثُ فِيهَا بِالشِّرَاءِ بَعْدَ الْحَلِفِ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ إلَى التَّسَرِّي لَيْسَتْ إضَافَةً إلَى سَبَبِ الْمِلْكِ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يُثْبِتُ عِنْدَ التَّسَرِّي أَثَرًا لَهُ بَلْ هُوَ مُتَقَدِّمٌ عَلَيْهِ ، وَبِهَذَا بَطَلَ قَوْلُ مَنْ رَجَّحَ قَوْلَ زُفَرَ فِي مَسْأَلَةِ التَّسَرِّي هَذَا ، وَالْوَاجِبُ فِي دِيَارِنَا أَنْ يُفْتَى بِقَوْلِهِمَا لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَغْزِلُ إلَّا مِنْ كَتَّانِ نَفْسِهَا أَوْ قُطْنِهَا فَلَيْسَ الْغَزْلُ سَبَبًا لِمِلْكِهِ

لِلْمَغْزُولِ عَادَةً فَلَا يَسْتَقِيمُ جَوَابُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيهِ .
[ وَهَذِهِ فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِاللُّبْسِ ] حَلَفَ لَا يَلْبَسُ مِنْ غَزْلِهَا فَلَبِسَ فَلَمَّا بَلَغَ الذَّيْلُ السُّرَّةَ تَذَكَّرَ فَلَمْ يُدْخِلْ يَدَيْهِ فِي الْكُمَّيْنِ وَرِجْلَاهُ بَعْدُ فِي اللِّحَافِ حَنِثَ .
حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا لَا يَحْنَثُ بِلُبْسِ الْقَلَنْسُوَةِ وَالْعِمَامَةِ ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ وَلَمْ يَقُلْ ثَوْبًا حَنِثَ وَالسَّرَاوِيلُ ثَوْبٌ يَحْنَثُ بِهِ ، وَلَوْ قَالَ : هَذَا الثَّوْبَ فَاتَّخَذَ مِنْهُ قَلَنْسُوَةً حَنِثَ .
وَلَوْ ائْتَزَرَ أَوْ ارْتَدَى حَنِثَ سَوَاءٌ الْقَمِيصُ وَغَيْرُهُ ، بِخِلَافِ لَا أَلْبَسُ قَمِيصًا لَا يَحْنَثُ إذَا ائْتَزَرَ بِهِ أَوْ ارْتَدَى فَيَنْعَقِدُ عَلَى اللُّبْسِ الْمُعْتَادِ ، وَكَذَا إذَا حَلَفَ لَا يَلْبَسُ سَرَاوِيلَ فَائْتَزَرَ بِهِ أَوْ تَعَمَّمَ لَا يَحْنَثُ ، وَلَوْ قَالَ هَذَا السَّرَاوِيلَ فَائْتَزَرَ بِهِ أَوْ تَعَمَّمَ حَنِثَ ، وَلَوْ وَضَعَهُ عَلَى عَاتِقِهِ يُرِيدُ حَمْلَهُ لَا يَحْنَثُ .
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ الْقَبَاءَ أَوْ قَبَاءً وَلَمْ يُعَيِّنْ فَوَضَعَهُ عَلَى كَتِفِهِ وَلَمْ يُدْخِلْ يَدَيْهِ لَا يَحْنَثُ ، وَفِي " هَذَا الْقَبَاءِ " يَحْنَثُ لِأَنَّ فِي الْمُنْكَرِ يُعْتَبَرُ اللُّبْسُ الْمُعْتَادُ ، وَفِي الْمُعَيَّنِ الْوَصْفِ لَغْوٌ فَلَا يُعْتَبَرُ اللُّبْسُ الْمُعْتَادُ بَلْ مُطْلَقُ اللُّبْسِ .
وَقَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ : وَاخْتَارَ الْإِمَامُ الْوَالِدُ الْحِنْثَ فِي الْمُنْكَرِ أَيْضًا لِأَنَّهُ يُلْبَسُ أَيْضًا كَذَلِكَ .
وَلَوْ وَضْع الْقَبَاءَ عَلَى اللِّحَافِ وَنَامَ تَحْتَهُ قِيلَ لَا يَحْنَثُ ، وَقِيلَ : بَلْ يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَعَلَ الْقَبَاءَ فَوْقَ الدِّثَارِ حَالَةَ النَّوْمِ يَحْنَثُ ، وَالْمُرَادُ بِالدِّثَارِ مَا يُلْبَسُ فَوْقَ الْقَمِيصِ وَهُوَ الشِّعَارُ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْأَنْصَارُ شِعَارٌ وَالنَّاسُ دِثَارٌ } وَفِي ثَوْبِ فُلَانٍ فَوَضَعَ قَبَاءَهُ عَلَى كَتِفَيْهِ يَحْنَثُ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّهُ لَابِسٌ لَكِنْ لَبِسَ الرِّدَاءَ بِخِلَافِ مَا إذَا ذَكَرَ لَفْظَ الْقَبَاءِ وَلَوْ حَلَفَ لَا

يَلْبَسُ هَذَا الثَّوْبَ فَأُلْقِيَ عَلَيْهِ وَهُوَ نَائِمٌ الْمُخْتَارُ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ مُلْبَسٌ لَا لَابِسٌ ، فَهُوَ كَمَا تَقَدَّمَ إذَا حَلَفَ لَا يُدْخِلُ فَحُمِلَ وَأُدْخِلَ ، فَلَوْ انْتَبَهَ فَأَلْقَاهُ كَمَا انْتَبَهَ لَا يَحْنَثُ ، وَإِنْ تَرَكَ يَحْنَثُ عَلِمَ أَنَّهُ الثَّوْبُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ أَوْ لَا ، وَكَذَا لَوْ أُلْقِيَ عَلَيْهِ وَهُوَ مُنْتَبِهٌ .
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ سَرَاوِيلَ أَوْ خُفًّا فَأَدْخَلَ إحْدَى رِجْلَيْهِ لَا يَحْنَثُ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ مِنْ غَزْلِ فُلَانَةَ لَا يَحْنَثُ بِالزِّيقِ وَالزِّرِّ وَالْعُرْوَةِ ، وَلَوْ لَبِسَ مِنْ غَزْلِهَا وَغَزْلِ غَيْرِهَا حَنِثَ .
أَمَّا لَوْ قَالَ : ثَوْبًا مِنْ غَزْلِهَا لَا يَحْنَثُ ، وَلَوْ كَانَ فِيهِ رُقْعَةٌ مِنْ غَزْلِ غَيْرِهَا حَنِثَ ، وَكَذَا إنْ كَانَ فِيهِ وَصْلَةٌ مِنْ كُمِّهِ أَوْ دِخْرِيصِهِ أَوْ عَلِمَ مِنْ غَزْلِ غَيْرِهَا ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ مِنْ غَزْلِهَا فَلَبِسَ مَا خِيطَ مِنْهُ أَوْ مَا فِيهِ سِلْكَةٌ مِنْهُ لَا يَحْنَثُ ، وَلَوْ لَبِسَ تِكَّةً مِنْ غَزْلِهَا يَحْنَثُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَحْنَثُ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى .
حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا مِنْ نَسْجِ فُلَانٍ فَلَبِسَ ثَوْبًا نَسَجَهُ غِلْمَانُهُ وَفُلَانٌ هُوَ الْمُتَقَبِّلُ عَلَيْهِمْ ، فَإِنْ كَانَ يَعْمَلُ بِيَدِهِ لَا يَحْنَثُ وَإِلَّا حَنِثَ .
لَا يَلْبَسُ حَرِيرًا أَوْ إبْرَيْسَمًا لَا يَحْنَثُ إلَّا بِثَوْبٍ كُلِّهِ أَوْ لُحْمَتِهِ مِنْهُ لَا مَا سُدَاهُ أَوْ عَلِمَهُ مِنْهُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ .
لَا يَلْبَسُ هَذَا الْقُطْنَ وَلَا نِيَّةَ لَهُ انْصَرَفَ إلَى الثَّوْبِ الْمُتَّخَذِ مِنْهُ ، فَلَوْ حَشَا بِهِ ثَوْبًا وَهُوَ الْمُضَرَّبُ لَا يَحْنَثُ وَكَذَا لَا يَلْبَسُ مِنْ غَزْلِ فُلَانَةَ وَلَا نِيَّةَ لَهُ هُوَ عَلَى الثَّوْبِ ، وَإِنْ نَوَى عَيْنَ الْغَزْلِ لَا يَحْنَثُ بِلُبْسِ الثَّوْبِ لِأَنَّهُ يَلْبَسُ الثَّوْبَ لَا الْغَزْلَ وَلَا يَلْبَسُ عَيْنَ الْغَزْلِ .
لَا يَلْبَسُ مِنْ ثِيَابِ فُلَانٍ وَفُلَانٌ يَبِيعُ الثِّيَابَ فَاشْتَرَى مِنْهُ وَلَبِسَ يَحْنَثُ .
لَا يَلْبَسُ كَتَّانًا فَلَبِسَ ثَوْبًا فِيهِ كَتَّانٌ وَغَيْرُهُ حَنِثَ .
لَا يَكْسُو

فُلَانًا فَكَسَاهُ قَلَنْسُوَةً أَوْ خُفَّيْنِ أَوْ جَوْرَبَيْنِ أَوْ أَرْسَلَ إلَيْهِ ثَوْبًا فَلَبِسَهُ حَنِثَ إلَّا إنْ نَوَى كِسْوَتَهُ بِيَدِهِ ، وَلَوْ أَعْطَاهُ دَرَاهِمَ فَاشْتَرَى بِهَا ثَوْبًا فَلَبِسَهُ لَا يَحْنَثُ

( وَمَنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ حُلِيًّا فَلَبِسَ خَاتَمَ فِضَّةٍ لَمْ يَحْنَثْ ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحُلِيٍّ عُرْفًا وَلَا شَرْعًا حَتَّى أُبِيحَ اسْتِعْمَالُهُ لِلرِّجَالِ وَالتَّخَتُّمُ بِهِ لِقَصْدِ الْخَتْمِ ( وَإِنْ كَانَ مِنْ ذَهَبٍ حَنِثَ ) لِأَنَّهُ حُلِيٌّ وَلِهَذَا لَا يَحِلُّ اسْتِعْمَالُهُ لِلرِّجَالِ .
( وَلَوْ لَبِسَ عِقْدَ لُؤْلُؤٍ غَيْرِ مُرَصَّعٍ لَمْ يَحْنَثْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا يَحْنَثُ ) لِأَنَّهُ حُلِيٌّ حَقِيقَةً حَتَّى سُمِّيَ بِهِ فِي الْقُرْآنِ .
وَلَهُ أَنَّهُ لَا يَتَحَلَّى بِهِ عُرْفًا إلَّا مُرَصَّعًا ، وَمَبْنَى الْأَيْمَانِ عَلَى الْعُرْفِ .
وَقِيلَ هَذَا اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ ، وَيُفْتَى بِقَوْلِهِمَا لِأَنَّ التَّحَلِّيَ بِهِ عَلَى الِانْفِرَادِ مُعْتَادٌ

( قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ حُلِيًّا فَلَبِسَ خَاتَمَ فِضَّةٍ لَمْ يَحْنَثْ ) عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ يَحْنَثُ ( لَنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِحُلِيٍّ عُرْفًا وَلَا شَرْعًا ) بِدَلِيلِ أَنَّهُ أُبِيحَ لِلرِّجَالِ مَعَ مَنْعِهِمْ مِنْ التَّحَلِّي بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ، وَإِنَّمَا أُبِيحَ لَهُمْ لِقَصْدِ التَّخَتُّمِ لَا لِلزِّينَةِ فَلَمْ يَكُنْ حُلِيًّا كَامِلًا فِي حَقِّهِمْ وَإِنْ كَانَتْ الزِّينَةُ لَازِمَ وُجُودِهِ لَكِنَّهَا لَمْ تُقْصَدْ بِهِ فَكَانَ عَدَمًا خُصُوصًا فِي الْعُرْفِ الَّذِي هُوَ مَبْنَى الْأَيْمَانِ .
قَالَ الْمَشَايِخُ : هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَصُوغًا عَلَى هَيْئَةِ خَاتَمِ النِّسَاءِ بِأَنْ كَانَ لَهُ فَصٌّ ، فَإِنْ كَانَ حَنِثَ لِأَنَّهُ لُبْسُ النِّسَاءِ ، وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ الزِّينَةُ لَا التَّخَتُّمُ فَكَمُلَ مَعْنَى التَّحَلِّي بِهِ وَصَارَ كَلُبْسِهِ سِوَارًا أَوْ خَلْخَالًا أَوْ قِلَادَةً أَوْ قُرْطًا أَوْ دُمْلُوجًا حَيْثُ يَحْنَثُ بِذَلِكَ كُلِّهِ وَلَوْ مِنْ الْفِضَّةِ .
وَقِيلَ لَا يَحْنَثُ بِخَاتَمِ الْفِضَّةِ مُطْلَقًا ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَلْبَسُهُ النِّسَاءُ وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ ؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ فِي خَاتَمِ الْفِضَّةِ يَنْفِي كَوْنَهُ حُلِيًّا ، وَإِنْ كَانَ زِينَةً ( وَلَوْ كَانَ ) الْخَاتَمُ ( مِنْ ذَهَبٍ حَنِثَ ) مُطْلَقًا بِفَصٍّ وَبِلَا فَصٍّ اتِّفَاقًا ( قَوْلُهُ وَلَوْ لَبِسَ عِقْدَ لُؤْلُؤٍ غَيْرَ مُرَصَّعٍ لَا يَحْنَثُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا يَحْنَثُ ) وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ عِقْدُ زَبَرْجَدٍ أَوْ زُمُرُّدٍ أَوْ يَاقُوتٍ ، وَبِقَوْلِهِمَا قَالَتْ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ حُلِيٌّ حَقِيقَةً فَإِنَّهُ يَتَزَيَّنُ بِهِ وَسُمِّيَ بِهِ فِي الْقُرْآنِ قَالَ تَعَالَى : { وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } وَالْمُسْتَخْرَجُ مِنْ الْبَحْرِ هُوَ اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ ( وَلَهُ أَنَّهُ لَا يُتَحَلَّى بِهِ ) فِي الْعَادَةِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ ( عُرْفًا إلَّا مُرَصَّعًا ) بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ ( وَمَبْنَى الْأَيْمَانِ عَلَى الْعُرْفِ ) لَا عَلَى اسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِ فَيَنْصَرِفُ إلَى الْمُرَصَّعِ فَلَا يَحْنَثُ بِغَيْرِهِ

.
قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ : قِيَاسُ قَوْلِهِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ أَنْ يَلْبَسَ الْغِلْمَانُ وَالرِّجَالُ اللُّؤْلُؤَ ( وَقِيلَ هَذَا اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ ) فِي زَمَانِهِ كَانَ لَا يُتَحَلَّى بِهِ إلَّا مُرَصَّعًا ، وَفِي عُرْفِهِمَا تَحَلَّوْا بِالسَّاذَجِ ( وَيُفْتَى بِقَوْلِهِمَا ) لِأَنَّ الْعُرْفَ الْقَائِمَ أَنَّهُ يُتَحَلَّى بِهِ سَاذَجًا كَمَا يُتَحَلَّى بِهِ مُرَصَّعًا

( وَمَنْ حَلَفَ لَا يَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ فَنَامَ عَلَيْهِ وَفَوْقَهُ قِرَامٌ حَنِثَ ) لِأَنَّهُ تَبَعُ الْفِرَاشِ فَيُعَدُّ نَائِمًا عَلَيْهِ ( وَإِنْ جَعَلَ فَوْقَهُ فِرَاشًا آخَرَ فَنَامَ عَلَيْهِ لَا يَحْنَثُ ) لِأَنَّ مِثْلَ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ تَبَعًا لَهُ فَقَطَعَ النِّسْبَةَ عَنْ الْأَوَّلِ
( قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ ) أَيْ فِرَاشٍ مُعَيَّنٍ ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ عَلَى هَذَا الْفِرَاشِ ، وَبِدَلِيلِ قَوْلِهِ وَإِنْ جَعَلَ فَوْقَهُ فِرَاشًا آخَرَ فَنَامَ عَلَيْهِ لَا يَحْنَثُ ، وَلَوْ كَانَ نَكِرَةً بِأَنْ حَلَفَ لَا يَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ حَنِثَ بِوَضْعِ الْفِرَاشِ عَلَى الْفِرَاشِ لِأَنَّهُ نَامَ عَلَى فِرَاشٍ نَكِرَةٍ ، ثُمَّ إذَا نَامَ عَلَيْهِ ( وَفَوْقَهُ قِرَامٌ حَنِثَ ) لِأَنَّ الْقِرَامَ تَبَعٌ لِلْفِرَاشِ لِأَنَّهُ سَاتِرٌ رَقِيقٌ يُجْعَلُ فَوْقَهُ كَاَلَّتِي تُسَمَّى فِي عُرْفِنَا الْمُلَى : أَيْ الْمِلَاءَةُ الْمَجْعُولَةُ فَوْقَ الطَّرَّاحَةِ ، وَإِذَا كَانَ تَبَعًا لَهُ لَمْ يُعْتَبَرْ وَصَارَ كَأَنَّهُ نَامَ عَلَى نَفْسِ الْفِرَاشِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا جَعَلَ فَوْقَهُ فِرَاشًا آخَرَ فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ إذَا نَامَ عَلَى الْأَعْلَى لِأَنَّهُ مِثْلُهُ ، وَالشَّيْءُ لَا يَكُونُ تَبَعًا لِمِثْلِهِ فَتَنْقَطِعُ النِّسْبَةُ إلَى الْأَسْفَلِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَةٌ غَيْرُ ظَاهِرَةٍ عَنْهُ أَنَّهُ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ يُسَمَّى نَائِمًا عَلَى فِرَاشَيْنِ فَلَمْ تَنْقَطِعْ النِّسْبَةُ وَلَمْ يُصَرِّحْ أَحَدُهُمَا تَبَعًا لِلْآخَرِ .
وَحَاصِلُهُ أَنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ لَيْسَ تَبَعًا لِمِثْلِهِ وَلَا يَضُرُّنَا نَفْيُهُ فِي الْفِرَاشَيْنِ بَلْ كُلُّ أَصْلٍ بِنَفْسِهِ وَيَتَحَقَّقُ الْحِنْثُ بِتَعَارُفِ قَوْلِنَا نَامَ عَلَى فِرَاشَيْنِ وَإِنْ كَانَ لَا يَمَسُّهُ إلَّا الْأَعْلَى

( وَلَوْ حَلَفَ لَا يَجْلِسُ عَلَى الْأَرْضِ فَجَلَسَ عَلَى بِسَاطٍ أَوْ حَصِيرٍ لَمْ يَحْنَثْ ) لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى جَالِسًا عَلَى الْأَرْضِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَرْضِ لِبَاسُهُ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لَهُ فَلَا يُعْتَبَرُ حَائِلًا ( وَإِنْ حَلَفَ لَا يَجْلِسُ عَلَى سَرِيرٍ فَجَلَسَ عَلَى سَرِيرٍ فَوْقَهُ بِسَاطٌ أَوْ حَصِيرٌ حَنِثَ ) لِأَنَّهُ يُعَدُّ جَالِسًا عَلَيْهِ ، وَالْجُلُوسُ عَلَى السَّرِيرِ فِي الْعَادَةِ كَذَلِكَ ، بِخِلَافِ مَا إذَا جَعَلَ فَوْقَهُ سَرِيرًا آخَرَ لِأَنَّهُ مِثْلُ الْأَوَّلِ فَقَطَعَ النِّسْبَةَ عَنْهُ .

( قَوْلُهُ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَجْلِسُ عَلَى الْأَرْضِ فَجَلَسَ عَلَى بِسَاطٍ أَوْ حَصِيرٍ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى جَالِسًا عَلَى الْأَرْضِ ) عُرْفًا فَاعْتَبَرَ الْعُرْفُ كُلًّا مِنْ الْأَرْضِ وَالْبِسَاطِ وَالْحَصِيرِ أَصْلًا ، وَلِهَذَا يُقَالُ : اجْلِسْ عَلَى الْبِسَاطِ لَا تَجْلِسْ عَلَى الْحَصِيرِ ، وَتَارَةً اجْلِسْ عَلَى الْحَصِيرِ لَا تَجْلِسْ عَلَى الْأَرْضِ فَجَعَلَ الْجَالِسَ عَلَى أَحَدِهِمَا غَيْرَ جَالِسٍ عَلَى الْأَرْضِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ جَلَسَ عَلَى ذُيُولِهِ حَيْثُ يُعَدُّ جَالِسًا عَلَى الْأَرْضِ ، وَيُقَالُ : جَلَسَ فُلَانٌ عَلَى الْأَرْضِ فَيَحْنَثُ ، وَسِرُّهُ أَنَّهُ حَيْثُ كَانَ اللِّبَاسُ تَبَعًا لَهُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ نَفْسِهِ فَلَا يُعْتَبَرُ حَائِلًا بَلْ كَأَنَّهُ جَلَسَ بِنَفْسِهِ عَلَى الْأَرْضِ .
نَعَمْ لَوْ خَلَعَ ثَوْبَهُ فَبَسَطَهُ وَجَلَسَ عَلَيْهِ لَا يَحْنَثُ لِارْتِفَاعِ التَّبَعِيَّةِ ( وَلَوْ حَلَفَ لَا يَجْلِسُ عَلَى سَرِيرٍ فَجَلَسَ عَلَى سَرِيرٍ فَوْقَهُ بِسَاطٌ أَوْ حَصِيرٌ ) أَوْ فِرَاشٌ ( حَنِثَ لِأَنَّهُ يُعَدُّ جَالِسًا عَلَيْهِ وَالْجُلُوسُ عَلَى السَّرِيرِ فِي الْعَادَةِ كَذَلِكَ ) أَيْ عَلَى مَا يُفْرَشُ عَلَيْهِ ، يُقَالُ جَلَسَ الْأَمِيرُ عَلَى السَّرِيرِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ فَوْقَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْفُرُشِ ( بِخِلَافِ مَا إذَا جَعَلَ فَوْقَهُ سَرِيرًا آخَرَ ؛ لِأَنَّهُ ) أَيْ الْآخَرَ الْأَعْلَى ( مِثْلُ الْأَوَّلِ ) الْأَسْفَلِ فَلَمْ يُجْعَلْ تَابِعًا لَهُ فِي الْعُرْفِ وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ .
وَفَرَّقَ أَبُو يُوسُفَ عَلَى تِلْكَ الرِّوَايَةِ عَنْهُ فِي الْفِرَاشِ بِالْعُرْفِ ، فَإِنَّهُ يُقَالُ نَامَ عَلَى فِرَاشَيْنِ وَلَا يُقَالُ جَلَسَ عَلَى سَرِيرَيْنِ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا فَوْقَ الْآخَرِ ، بَلْ يُقَالُ جَلَسَ عَلَى سَرِيرٍ فَوْقَ سَرِيرٍ ، وَهَذَا الْحُكْمُ فِي هَذَا الدُّكَّانِ وَهَذَا السَّطْحِ إذَا حَلَفَ لَا يَجْلِسُ عَلَى أَحَدِهِمَا فَبَسَطَ عَلَيْهِ وَجَلَسَ حَنِثَ .
وَلَوْ بَنَى دُكَّانًا فَوْقَ الدُّكَّانِ أَوْ سَطْحًا عَلَى السَّطْحِ إذَا حَلَفَ لَا يَجْلِسُ عَلَى أَحَدِهِمَا انْقَطَعَتْ النِّسْبَةُ عَنْ الْأَسْفَلِ فَلَا يَحْنَثُ بِالْجُلُوسِ عَلَى الْأَعْلَى ، وَلِذَا

كُرِهَتْ الصَّلَاةُ عَلَى سَطْحِ الْكَنِيفِ وَالْإِسْطَبْلِ .
وَلَوْ بَنَى عَلَى ذَلِكَ سَطْحًا آخَرَ فَصَلَّى عَلَيْهِ لَا يُكْرَهُ ، قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو الْمُعِينِ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ .
وَفِي كَافِي الْحَاكِمِ : حَلَفَ لَا يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ فَمَشَى عَلَيْهَا بِنَعْلٍ أَوْ خُفٍّ حَنِثَ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى بِسَاطٍ لَمْ يَحْنَثْ ، وَإِنْ مَشَى عَلَى أَحْجَارٍ حَنِثَ لِأَنَّهَا مِنْ الْأَرْضِ .

( بَابُ الْيَمِينِ فِي الضَّرْبِ وَالْقَتْلِ وَغَيْرِهِ ) ( وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ إنْ ضَرَبْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ فَمَاتَ فَضَرَبَهُ فَهُوَ عَلَى الْحَيَاةِ ) لِأَنَّ الضَّرْبَ اسْمٌ لِفِعْلٍ مُؤْلِمٍ يَتَّصِلُ بِالْبَدَنِ ، وَالْإِيلَامُ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمَيِّتِ ، وَمَنْ يُعَذَّبُ فِي الْقَبْرِ تُوضَعُ فِيهِ الْحَيَاةُ فِي قَوْلِ الْعَامَّةِ وَكَذَلِكَ الْكِسْوَةُ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ التَّمْلِيكُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ ، وَمِنْهُ الْكِسْوَةُ فِي الْكَفَّارَةِ وَهُوَ مِنْ الْمَيِّتِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِهِ السَّتْرَ ، وَقِيلَ بِالْفَارِسِيَّةِ يَنْصَرِفُ إلَى اللُّبْسِ ( وَكَذَا الْكَلَامُ وَالدُّخُولُ ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْكَلَامِ الْإِفْهَامُ وَالْمَوْتُ يُنَافِيهِ ، وَالْمُرَادُ مِنْ الدُّخُولِ عَلَيْهِ زِيَارَتُهُ وَبَعْدَ الْمَوْتِ يُزَارُ قَبْرُهُ لَا هُوَ

( بَابُ الْيَمِينِ فِي الضَّرْبِ وَالْقَتْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ) مِنْ الْغُسْلِ وَالْكِسْوَةِ ( قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ : إنْ ضَرَبْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ فَهُوَ عَلَى الْحَيَاةِ ) حَتَّى إذَا مَاتَ فَضَرَبَهُ لَا يَحْنَثُ ( لِأَنَّ الضَّرْبَ اسْمٌ لِفِعْلٍ مُؤْلِمٍ يَتَّصِلُ بِالْبَدَنِ ) أَوْ اسْتِعْمَالِ آلَةِ التَّأْدِيبِ فِي مَحَلٍّ قَابِلٍ لِلتَّأْدِيبِ ، ( وَالْإِيلَامُ ) وَالْأَدَبُ ( لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمَيِّتِ ) لِأَنَّهُ لَا يَحِسُّ وَلِذَا كَانَ الْحَقُّ أَنَّ الْمَيِّتَ الْمُعَذَّبَ فِي قَبْرِهِ تُوضَعُ فِيهِ الْحَيَاةُ بِقَدْرِ مَا يَحِسُّ بِالْأَلَمِ .
وَالْبِنْيَةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ حَتَّى لَوْ كَانَ مُتَفَرِّقَ الْأَجْزَاءِ بِحَيْثُ لَا تَتَمَيَّزُ الْأَجْزَاءُ بَلْ هِيَ مُخْتَلِطَةٌ بِالتُّرَابِ فَعُذِّبَ جُعِلَتْ الْحَيَاةُ فِي تِلْكَ الْأَجْزَاءِ الَّتِي لَا يَأْخُذُهَا الْبَصَرُ ، وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى ذَلِكَ لَقَدِيرٌ .
وَالْخِلَافُ فِيهِ إنْ كَانَ بِنَاءً عَلَى إنْكَارِ عَذَابِ الْقَبْرِ أَمْكَنَ ، وَإِلَّا فَلَا يُتَصَوَّرُ مِنْ عَاقِلٍ الْقَوْلُ بِالْعَذَابِ مَعَ عَدَمِ الْإِحْسَاسِ .
وَقَدْ أُورِدَ عَلَى أَخْذِ الْإِيلَامِ فِي تَعْرِيفِ الضَّرْبِ قَوْله تَعَالَى { وَخُذْ بِيَدِك ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ } فَقَدْ بَرَّ بِضَرْبِ الضِّغْثِ وَهِيَ حُزْمَةٌ مِنْ رَيْحَانٍ وَنَحْوِهِ وَلَا إيلَامَ فِيهِ .
وَأُجِيبَ أَوَّلًا بِمَنْعِ عَدَمِ الْأَلَمِ فِي ضَرْبِ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْكُلِّيَّةِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَبْضَةٌ مِنْ الشَّجَرِ ، وَإِنْ سَلِمَ فَمَخْصُوصٌ بِأَيُّوبَ .
وَدُفِعَ بِأَنَّهُ تَمَسَّك بِهِ فِي كِتَابِ الْحِيَلِ فِي جَوَازِ الْحِيلَةِ فَلَمْ يَعْتَبِرْهُ .
وَفِي الْكَشَّافِ : هَذِهِ الرُّخْصَةُ بَاقِيَةٌ .
وَالْحَقُّ أَنَّ الْبِرَّ بِضَرْبٍ بِضِغْثٍ بِلَا أَلَمٍ أَصْلًا خُصُوصِيَّةٌ رَحْمَةً لِزَوْجَةِ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ بَقَاءُ شَرْعِيَّةِ الْحِيلَةِ فِي الْجُمْلَةِ حَتَّى قُلْنَا : إذَا حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّهُ مِائَةَ سَوْطٍ وَضَرَبَهُ بِهَا مَرَّةً لَا يَحْنَثُ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يُصِيبَ بَدَنَهُ كُلُّ سَوْطٍ مِنْهَا ،

وَذَلِكَ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِأَطْرَافِهَا قَائِمَةً أَوْ بِأَعْرَاضِهَا مَبْسُوطَةً ، وَالْإِيلَامُ شَرْطٌ فِيهِ ، أَمَّا عَدَمُهُ بِالْكُلِّيَّةِ فَلَا .
وَلَوْ ضَرَبَهُ بِسَوْطٍ وَاحِدٍ لَهُ شُعْبَتَانِ خَمْسِينَ مَرَّةً يَبَرُّ ، وَلَوْ ضَرَبَهُ مِائَةَ سَوْطٍ وَخَفَّفَ بِحَيْثُ لَمْ يَتَأَلَّمْ بِهِ لَا يَبَرُّ لِأَنَّهُ ضَرْبٌ صُورَةً لَا مَعْنًى .
وَلَا بُدَّ مِنْ مَعْنَاهُ ، فَلَا يَبَرُّ إلَّا بِأَنْ يَتَأَلَّمَ ، حَتَّى إنَّ مِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ شَرَطَ فِيمَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ رُءُوسِ الْأَعْوَادِ وَضَرَبَ بِهَا كَوْنَ كُلِّ عُودٍ بِحَالِ لَوْ ضَرَبَ مُنْفَرِدًا بِهِ لَأَوْجَعَ الْمَضْرُوبَ ، وَبَعْضُهُمْ قَالُوا بِالْحِنْثِ عَلَى كُلِّ حَالٍ ، وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ وَهُوَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْأَلَمِ .
[ فُرُوعٌ ] قَالَ : لَأَضْرِبَنَّكَ حَتَّى أَقْتُلَك هُوَ الضَّرْبُ الشَّدِيدُ ، وَمِثْلُهُ حَتَّى أَتْرُكَك لَا حَيٌّ وَلَا مَيِّتٌ ، وَحَتَّى تَسْتَغِيثَ فَهُوَ عَلَى وُجُودِ ذَلِكَ ، وَكَذَا حَتَّى تَبُولَ أَوْ حَتَّى تَبْرُكَ .
وَعِنْدِي أَيْضًا عَلَى الضَّرْبِ الشَّدِيدِ لَأَضْرِبَنَّكَ بِالسَّيْفِ حَتَّى تَمُوتَ ، وَلَأَضْرِبَنَّ وَلَدَك عَلَى الْأَرْضِ حَتَّى يَنْشَقَّ نِصْفَيْنِ ، فَهُوَ عَلَى أَنْ يَضْرِبَ بِهِ الْأَرْضَ وَيَرْكُلَهُ فَقَطْ ، وَخِلَافُ هَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ .
حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّهُ بِالسَّيْفِ حَنِثَ بِضَرْبِهِ بِغِلَافِهِ وَهُوَ فِيهِ ، وَكَذَا بِالسَّوْطِ فَلَفَّهُ بِخِرْقَةٍ وَضَرَبَهُ حَنِثَ .
حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّهُ بِنَصْلِ هَذَا السِّكِّينِ أَوْ بِزُجِّ هَذَا الرُّمْحِ فَنَزَعَهُ وَرَكَّبَ غَيْرَهُ وَضَرَبَهُ بِهِ لَا يَحْنَثُ وَلَوْ قَالَ : إنْ لَقِيتُك فَلَمْ أَضْرِبْك فَعَبْدِي حُرٌّ فَرَآهُ عَلَى سَطْحٍ أَوْ مِنْ بَعِيدٍ بِحَيْثُ لَا تَصِلُ إلَيْهِ يَدُهُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى ضَرْبِهِ لَا يَحْنَثُ ، قَالَ مُحَمَّدٌ : إذَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ فُلَانٍ قَدْرُ مِيلٍ أَوْ أَكْثَرُ فَلَمْ يَلْقَهُ .
حَلَفَ لَا يَضْرِبُ امْرَأَتَهُ فَضَرَبَ أَمَتَهُ : يَعْنِي فَأَصَابَ ضَرْبُهُ الْمَرْأَةَ بِغَيْرِ قَصْدٍ حَنِثَ .
حَلَفَ لَا أُعَذِّبُهُ فَحَبَسَهُ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الْحَبْسَ تَعْذِيبٌ

قَاصِرٌ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْمُطْلَقِ ( قَوْلُهُ وَكَذَا الْكِسْوَةُ ) إذَا حَلَفَ لَيَكْسُوَنَّهُ فَأَلْقَى عَلَيْهِ ثَوْبًا بَعْدَ مَوْتِهِ يَحْنَثُ وَتَقْتَصِرُ الْكِسْوَةُ عَلَى الْحَيَاةِ لِاعْتِبَارِ التَّمْلِيكِ فِي مَفْهُومِهَا ، وَلِذَا لَوْ قَالَ : كَسَوْتُك هَذَا الثَّوْبَ كَانَ هِبَةً ، وَقَدْ جَعَلَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ إحْدَى خِصَالِ الْكَفَّارَةِ ، وَالْمُعْتَبَرُ فِيهَا فِيمَا سِوَى الْإِطْعَامِ التَّمْلِيكُ ، وَالْمَيِّتُ لَيْسَ أَهْلًا لَلتَّمَلُّكِ لِيَصِحَّ التَّمْلِيكُ .
قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ : لَوْ كَانَتْ يَمِينُهُ بِالْفَارِسِيَّةِ يَنْبَغِي أَنْ يَحْنَثَ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ بِالْفَارِسِيَّةِ يُرَادُ بِهِ اللُّبْسُ دُونَ التَّمْلِيكِ ( قَوْلُهُ إلَّا أَنْ يُنْوَى بِهِ السَّتْرَ ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ فَهُوَ عَلَى الْحَيَاةِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ التَّشْبِيهُ فِي قَوْلِهِ : وَكَذَلِكَ الْكِسْوَةُ فَحِينَئِذٍ يَحْنَثُ لِأَنَّ السُّتْرَةَ تَتَحَقَّقُ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ كَمَا فِي الْحَيِّ فَتَنْعَقِدُ يَمِينُهُ عَلَى حَالَتَيْ الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ ، وَذِكْرُ ضَمِيرٍ بِهِ وَهُوَ الْكِسْوَةُ عَلَى تَأْوِيلِ قَوْلِهِ : كَسَوْتُك ، وَقِيلَ عَلَى تَأْوِيلِ الْإِكْسَاءِ وَلَا وُجُودَ لَهُ فِي اللُّغَةِ ( قَوْلُهُ وَكَذَا الْكَلَامُ ) يَعْنِي إذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ اقْتَصَرَ عَلَى الْحَيَاةِ ، فَلَوْ كَلَّمَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْإِفْهَامُ وَالْمَوْتُ يُنَافِيهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْمَعُ فَلَا يَفْهَمُ .
وَأُورِدَ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَهْلِ الْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ : هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا ؟ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَتُكَلِّمُ الْمَوْتَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِي مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْ هَؤُلَاءِ أَوْ مِنْهُمْ } وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ : يَعْنِي مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَإِلَّا فَهُوَ فِي الصَّحِيحِ ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا رَدَّتْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَا

أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ } { إنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى } وَبِأَنَّهُ إنَّمَا قَالَهُ لَهُ عَلَى وَجْهِ الْمَوْعِظَةِ لِلْأَحْيَاءِ لَا لِإِفْهَامِ الْمَوْتَى ، كَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : " السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ، أَمَّا نِسَاؤُكُمْ فَنُكِحَتْ وَأَمَّا أَمْوَالُكُمْ فَقُسِمَتْ ، وَأَمَّا دُورُكُمْ فَقَدْ سُكِنَتْ ، فَهَذَا خَبَرُكُمْ عِنْدَنَا فَمَا خَبَرُنَا عِنْدَكُمْ " وَبِأَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِأُولَئِكَ تَضْعِيفًا لِلْحَسْرَةِ عَلَيْهِمْ ، لَكِنْ بَقِيَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ الْمَيِّتَ لَيَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِهِمْ إذَا انْصَرَفُوا } وَلْيُنْظَرْ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ مِنْ هَذَا الشَّرْحِ ( قَوْلُهُ وَالدُّخُولُ ) يَعْنِي إذَا حَلَفَ لَا يَدْخُلُ عَلَى فُلَانٍ تَقَيَّدَ بِالْحَيَاةِ ، فَلَوْ دَخَلَ عَلَيْهِ مَيِّتًا لَا يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الدُّخُولِ عَلَيْهِ زِيَارَتُهُ أَوْ خِدْمَتُهُ حَتَّى لَا يُقَالَ دَخَلَ عَلَى حَائِطٍ وَلَا عَلَى دَابَّةٍ ، وَالزِّيَارَةُ لِلْمَيِّتِ لَيْسَتْ حَقِيقَةً بَلْ إنَّمَا الْمَزُورُ قَبْرُهُ ، وَلِهَذَا { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ أَلَا فَزُورُوهَا } وَلَمْ يَقُلْ عَنْ زِيَارَةِ الْمَوْتَى

( وَلَوْ قَالَ : إنْ غَسَّلْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ فَغَسَّلَهُ بَعْدَ مَا مَاتَ يَحْنَثُ ) لِأَنَّ الْغُسْلَ هُوَ الْإِسَالَةُ وَمَعْنَاهُ التَّطْهِيرُ وَيَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي الْمَيِّتِ
( قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ : إنْ غَسَّلْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ انْعَقَدَ عَلَى الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ لِأَنَّ الْغُسْلَ الْإِسَالَةُ ) وَالْمَعْنَى الْمُرَادُ بِهِ التَّطْهِيرُ أَوْ إزَالَةُ الْوَسَخِ وَالْكُلُّ يَتَحَقَّقُ فِي حَالَةِ الْمَوْتِ كَالْحَيَاةِ .
وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ فِي الْأَصْلِ أَنَّ كُلَّ فِعْلٍ يُلِذُّ وَيُؤْلِمُ وَيَغُمُّ وَيَسُرُّ يَقَعُ عَلَى الْحَيَاةِ دُونَ الْمَمَاتِ كَالضَّرْبِ وَالشَّتْمِ وَالْجِمَاعِ وَالْكِسْوَةِ وَالدُّخُولِ عَلَيْهِ ا هـ .
وَمِثْلُهُ التَّقْبِيلُ إذَا حَلَفَ لَا يُقَبِّلُهَا فَقَبَّلَهَا بَعْدَ الْمَوْتِ لَا يَحْنَثُ .
وَتَقْبِيلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ بَعْدَ مَا أُدْرِجَ فِي الْكَفَنِ مَحْمُولٌ عَلَى ضَرْبٍ مِنْ الشَّفَقَةِ أَوْ التَّعْظِيمِ .
وَقِيلَ إنْ عَقَدَ عَلَى تَقْبِيلِ مُلْتَحٍ يَحْنَثُ أَوْ عَلَى امْرَأَةٍ لَا يَحْنَثُ وَهُوَ عَلَى الْوَجْهِ .
وَلَوْ حَلَفَ لَا يُغَسِّلُ فُلَانًا أَوْ لَا يَحْمِلُهُ أَوْ لَا يَمَسُّهُ أَوْ لَا يُلْبِسُهُ فَهُوَ عَلَى الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ

( وَمَنْ حَلَفَ لَا يَضْرِبُ امْرَأَتَهُ فَمَدَّ شَعْرَهَا أَوْ خَنَقَهَا أَوْ عَضَّهَا حَنِثَ ) لِأَنَّهُ اسْمٌ لِفِعْلٍ مُؤْلِمٍ وَقَدْ تَحَقَّقَ الْإِيلَامُ ، ( وَقِيلَ لَا يَحْنَثُ فِي حَالِ الْمُلَاعَبَةِ ) لِأَنَّهُ يُسَمَّى مُمَازَحَةً لَا ضَرْبًا

( قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يَضْرِبُ امْرَأَتَهُ فَمَدَّ شَعْرَهَا أَوْ خَنَقَهَا أَوْ عَضَّهَا حَنِثَ ) وَكَذَا لَوْ وَجَأَهَا أَوْ قَرَصَهَا ، وَعَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْنَثَ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَعَارَفُ ضَرْبًا .
وَأُجِيبَ بِمَا عَلَّلَ بِهِ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ أَنَّ الضَّرْبَ اسْمٌ لِفِعْلٍ مُؤْلِمٍ يَتَّصِلُ بِهِ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ كَذَلِكَ .
وَفِي الْمُنْتَقَى : حَلَفَ لَا يَضْرِبُ فُلَانًا فَنَفَضَ ثَوْبَهُ فَأَصَابَ وَجْهَهُ أَوْ رَمَاهُ بِحَجَرٍ أَوْ نُشَّابَةٍ فَأَصَابَهُ لَا يَحْنَثُ .
وَاسْتَشْكَلَ يَمِينُ الضَّرْبِ بِأَنَّهَا إنْ تَعَلَّقَتْ بِصُورَةِ الضَّرْبِ عُرْفًا فَهُوَ إيقَاعُ آلَةِ التَّأْدِيبِ فِي مَحَلٍّ قَابِلٍ لَهُ فَيَجِبُ أَنْ لَا يَحْنَثَ بِالْخَنْقِ وَمَدِّ الشَّعْرِ وَالْعَضِّ لِأَنَّهُ لَا يُتَعَارَفُ ضَرْبًا أَوْ بِمَعْنَاهُ وَهُوَ الْإِيلَامُ فَيَجِبُ أَنْ يَحْنَثَ بِالرَّمْيِ بِالْحَجَرِ أَوْ بِهِمَا فَيَحْنَثُ بِالضَّرْبِ مَعَ الْإِيلَامِ مُمَازَحَةً لَكِنَّهُ لَا يَحْنَثُ وَهُوَ إشْكَالٌ وَارِدٌ .
وَمَا أُجِيبَ بِهِ مِنْ أَنَّ شَرْطَ الْحِنْثِ حُصُولُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَهُوَ الضَّرْبُ لَفْظًا أَوْ عُرْفًا .
مِثَالُهُ حَلَفَ لَا يَبِيعُ كَذَا بِعَشَرَةٍ فَبَاعَهُ بِتِسْعَةٍ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ وَإِنْ وُجِدَ شَرْطُ الْحِنْثِ عُرْفًا لَكِنْ لَمْ يُوجَدْ شَرْطُ الْحِنْثِ لَفْظًا ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ أَنْ لَا يَبِيعَ بِعَشَرَةٍ أَوْ بِأَقَلَّ بَلْ بِأَكْثَرَ .
وَلَوْ بَاعَهُ بِأَكْثَرَ لَا يَحْنَثُ أَيْضًا لِأَنَّهُ وَإِنْ وُجِدَ شَرْطُ الْحِنْثِ لَفْظًا لِأَنَّهُ لَمَّا بَاعَهُ بِأَحَدَ عَشَرَ فَقَدْ بَاعَهُ بِعَشَرَةٍ أَيْضًا لَكِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ عُرْفًا فَلَا يَحْنَثُ غَيْرُ دَافِعٍ بِقَلِيلِ تَأَمُّلٍ .
ثُمَّ قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَغَيْرُهُ : هَذَا يَعْنِي الْحِنْثَ إذَا كَانَ فِي الْغَضَبِ ، أَمَّا إذَا فَعَلَ فِي الْمُمَازَحَةِ فَلَا يَحْنَثُ ، وَلَوْ أَدْمَاهَا لَكِنْ لَا عَلَى قَصْدِ الْإِدْمَاءِ بَلْ وَقَعَ الْخَطَأُ فِي الْمُمَازَحَةِ بِالْيَدِ .
وَعَنْ الْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ أَنَّهُ قَالَ : هَذَا إذَا كَانَتْ بِالْعَرَبِيَّةِ ، أَمَّا إذَا كَانَتْ بِالْفَارِسِيَّةِ

لَا يَحْنَثُ بِمَدِّ الشَّعْرِ وَالْخَنْقِ وَالْعَضِّ ، وَالْحَقُّ أَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ فِي الْعَرَبِيَّةِ أَيْضًا إلَّا أَنَّهُ خِلَافُ الْمَذْهَبِ

( وَمَنْ قَالَ : إنْ لَمْ أَقْتُلْ فُلَانًا فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ وَفُلَانٌ مَيِّتٌ وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ حَنِثَ ) لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى حَيَاةٍ يُحْدِثُهَا اللَّهُ فِيهِ وَهُوَ مُتَصَوَّرٌ فَيَنْعَقِدُ ثُمَّ يَحْنَثُ لِلْعَجْزِ الْعَادِيِّ ( فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ لَا يَحْنَثُ ) لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى حَيَاةٍ كَانَتْ فِيهِ وَلَا تُتَصَوَّرُ فَيَصِيرُ قِيَاسُ مَسْأَلَةِ الْكُوزِ عَلَى الِاخْتِلَافِ ، وَلَيْسَ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلُ الْعِلْمِ هُوَ الصَّحِيحَ .

( قَوْلُهُ : وَمَنْ قَالَ : إنْ لَمْ أَقْتُلْ فُلَانًا فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ وَفُلَانٌ مَيِّتٌ وَالْحَالِفُ عَالِمٌ بِمَوْتِهِ حَنِثَ ) لِأَنَّهُ لَمَّا عَلِمَ بِمَوْتِهِ قَبْلَ حَلِفِهِ وَالْقَتْلُ إزَالَةُ الْحَيَاةِ بِسَبَبٍ عَادِيٍّ مَخْصُوصٍ لَزِمَ أَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى إزَالَةِ حَيَاةِ يُحْدِثُهَا اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ وَذَلِكَ مُتَصَوَّرٌ فَيَنْعَقِدُ بِالِاتِّفَاقِ ، ثُمَّ يَحْنَثُ فِي الْحَالِ لِلْعَجْزِ الْحَالِي الْمُسْتَمِرِّ عَادَةً ( وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ لَا يَحْنَثُ ) لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ لَا مَحَالَةَ عَلَى إزَالَةِ الْحَيَاةِ الْقَائِمَةِ فِيهِ ، وَلَا يُتَصَوَّرُ إزَالَةُ الْقَائِمَةِ وَلَا حَيَاةَ قَائِمَةٌ ( فَكَانَ قِيَاسُ مَسْأَلَةِ الْكُوزِ عَلَى الِاخْتِلَافِ ) السَّابِقِ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَبَيْنَهُمَا ، فَعِنْدَهُ يَنْعَقِدُ وَيَحْنَثُ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ .
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا كَفَّارَةَ لِأَنَّهُ لَا حِنْثَ إذْ لَا انْعِقَادَ ( قَوْلُهُ وَلَيْسَ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ ) أَيْ مَسْأَلَةِ الْكُوزِ ( تَفْصِيلٌ بَيْنَ الْعِلْمِ وَعَدَمِهِ ) بَلْ الْحُكْمُ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ عِنْدَهُمَا سَوَاءٌ عَلِمَ أَنَّ فِيهِ مَاءً وَقْتَ الْحَلِفِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ ( قَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ ) احْتِرَازٌ عَمَّا ذَكَرَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ حَيْثُ قَالَ فِيهِ وَلَوْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الْكُوزَ لَا مَاءَ فِيهِ فَحَلَفَ فَقَالَ : إنْ لَمْ أَشْرَبْ الْمَاءَ الَّذِي فِي هَذَا الْكُوزِ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ بِالِاتِّفَاقِ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَةٌ أُخْرَى لَا يَحْنَثُ عَلِمَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ .
وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ يَعْلَمُ أَنْ لَا مَاءَ فِي هَذَا الْكُوزِ فَحَلَفَ يَنْبَغِي أَنْ تَنْعَقِدَ يَمِينُهُ عِنْدَهُمَا عَلَى مَاءٍ يُحْدِثُهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْكُوزِ وَهُوَ مُتَصَوَّرٌ ثُمَّ الْعَجْزُ الْحَالِيُّ الْمُسْتَمِرُّ يُوجِبُ حِنْثَهُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ فِي الْكُوزِ مَاءً ؛ لِأَنَّ يَمِينَهُ انْعَقَدَتْ عَلَى مَاءٍ فِي الْكُوزِ ، وَلَوْ أَوْجَدَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ مَاءً كَانَ غَيْرَ الْمَحْلُوفِ

عَلَيْهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ شُرْبُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ .

بَابُ الْيَمِينِ فِي تَقَاضِي الدَّرَاهِمِ ( وَمَنْ حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّ دَيْنَهُ إلَى قَرِيبٍ فَهُوَ عَلَى مَا دُونَ الشَّهْرِ ، وَإِنْ قَالَ إلَى بَعِيدٍ فَهُوَ أَكْثَرُ مِنْ الشَّهْرِ ) لِأَنَّ مَا دُونَهُ يُعَدُّ قَرِيبًا ، وَالشَّهْرُ وَمَا زَادَ عَلَيْهِ يُعَدُّ بَعِيدًا ، وَلِهَذَا يُقَالُ عِنْدَ بُعْدِ الْعَهْدِ مَا لَقِيتُك مُنْذُ شَهْرٍ

( بَابُ الْيَمِينِ فِي تَقَاضِي الدَّرَاهِمِ ) التَّقَاضِي : الْمُطَالَبَةُ وَهُوَ سَبَبٌ لِلْقَضَاءِ وَهِيَ مَسَائِلُ الْبَابِ فَتُرْجِمَ الْبَابُ بِمَا هُوَ سَبَبُ مَسَائِلِهِ وَخَصَّ الدَّرَاهِمَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ دَوْرًا فِي الْمُعَامَلَاتِ ( قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّ دَيْنَهُ إلَى قَرِيبٍ ) أَوْ عَاجِلًا ( فَهُوَ مَا دُونَ الشَّهْرِ ) فَإِنْ أَخَّرَهُ إلَى الشَّهْرِ حَنِثَ ( وَإِنْ قَالَ إلَى بَعِيدٍ ) أَوْ آجِلًا ( فَهُوَ عَلَى أَكْثَرِ ) مِنْ شَهْرٍ وَعَلَى ( الشَّهْرِ ) أَيْضًا ، وَلَكِنَّهُ قَصَدَ الطِّبَاقَ بَيْنَ قَوْلِهِ مَا دُونَ الشَّهْرِ وَمَا فَوْقَهُ فَلَا يَحْنَثُ إلَّا بِالْمَوْتِ إذَا مَاتَ لِشَهْرٍ فَصَاعِدًا مِنْ حِينِ حَلَفَ سَنَةً أَوْ أَكْثَرَ بِلَا غَايَةٍ مَحْدُودَةٍ إلَى الْمَوْتِ ، فَإِنْ مَاتَ لِأَقَلَّ مِنْهُ لَا حِنْثَ عَلَيْهِ عَلَى مُقْتَضَى مَا ذَكَرُوا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ : لَيْسَ فِي يَمِينِ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ تَقْدِيرٌ ؛ لِأَنَّهُ إضَافِيٌّ ، فَكُلُّ مُدَّةٍ قَرِيبَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا بَعْدَهَا وَبَعِيدَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا دُونَهَا ، وَمُدَّةُ الدُّنْيَا كُلِّهَا قَرِيبَةٌ بِاعْتِبَارٍ وَبَعِيدَةٌ بِاعْتِبَارٍ آخَرَ ، وَإِنَّمَا يُحْكَمُ بِحِنْثِهِ إذَا مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَهُ .
وَقُلْنَا : هُنَا وَجْهَانِ مِنْ الِاعْتِبَارِ اعْتِبَارُ الْإِضَافَةِ وَلَا ضَبْطَ فِيهَا كَمَا ذَكَرْت ، وَاعْتِبَارُ الْعُرْفِ وَعَلَيْهِ مَبْنَى الْأَيْمَانِ .
وَالْعُرْفُ يَعُدُّ الشَّهْرَ بَعِيدًا فَإِنَّهُ يُقَالُ : مَا رَأَيْتُك مُنْذُ شَهْرٍ عِنْدَ اسْتِبْعَادِ مُدَّةِ الْغَيْبَةِ فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَعَدَمِ النِّيَّةِ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ ، فَأَمَّا إذَا نَوَى بِقَوْلِهِ إلَى قَرِيبٍ وَإِلَى بَعِيدٍ مُدَّةً مُعَيَّنَةً فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى حَتَّى لَوْ نَوَى بِقَوْلِهِ إلَى قَرِيبٍ أَوْ عَاجِلًا سَنَةً أَوْ أَكْثَرَ صَحَّتْ ، وَكَذَا إلَى آخِرِ الدُّنْيَا ؛ لِأَنَّهَا قَرِيبَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْآخِرَةِ ، وَتَقَدَّمَتْ فُرُوعٌ فِيمَا لَوْ حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّهُ ضُحًى أَوْ عِنْدَ الْهِلَالِ وَنَحْوَهَا

( وَمَنْ حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّ فُلَانًا دَيْنَهُ الْيَوْمَ فَقَضَاهُ ثُمَّ وَجَدَ فُلَانٌ بَعْضَهَا زُيُوفًا أَوْ نَبَهْرَجَةً أَوْ مُسْتَحَقَّةً لَمْ يَحْنَثْ الْحَالِفُ ) لِأَنَّ الزِّيَافَةَ عَيْبٌ وَالْعَيْبُ لَا يُعْدِمُ الْجِنْسَ ، وَلِهَذَا لَوْ تَجُوزُ بِهِ صَارَ مُسْتَوْفِيًا ، فَوُجِدَ شَرْطُ الْبِرِّ وَقَبْضُ الْمُسْتَحَقَّةِ صَحِيحٌ وَلَا يَرْتَفِعُ بِرَدِّهِ الْبِرَّ الْمُتَحَقِّقَ ( وَإِنْ وَجَدَهَا رَصَاصًا أَوْ سَتُّوقَةً حَنِثَ ) لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ حَتَّى لَا يَجُوزَ التَّجَوُّزُ بِهِمَا فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ ( وَإِنْ بَاعَهُ بِهَا عَبْدًا وَقَبَضَهُ بَرَّ فِي يَمِينِهِ ) لِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ طَرِيقُهُ الْمُقَاصَّةُ وَقَدْ تَحَقَّقَتْ بِمُجَرَّدِ الْبَيْعِ فَكَأَنَّهُ شَرَطَ الْقَبْضَ لِيَتَقَرَّرَ بِهِ ( وَإِنْ وَهَبَهَا لَهُ ) يَعْنِي الدَّيْنَ ( لَمْ يَبَرَّ ) لِعَدَمِ الْمُقَاصَّةِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ فَعَلَهُ ، وَالْهِبَةُ إسْقَاطٌ مِنْ صَاحِبِ الدَّيْنِ .

( قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّ فُلَانًا دَيْنَهُ الْيَوْمَ فَقَضَاهُ فِيهِ ثُمَّ وَجَدَ فُلَانٌ بَعْضَهَا ) أَيْ بَعْضَ الدَّرَاهِمِ ( زُيُوفًا ) وَهِيَ الْمَغْشُوشَةُ غِشًّا قَلِيلًا بِحَيْثُ يَتَجَوَّزُ التُّجَّارُ بِهَا ، وَإِنَّمَا يَرُدُّهُ بَيْتُ الْمَالِ ( أَوْ نَبَهْرَجَةً ) وَغِشُّهَا أَكْثَرُ مِنْ الزُّيُوفِ يَرُدُّهُ مِنْ التُّجَّارِ الْمُسْتَقْصِي ، وَيَقْبَلُهُ السَّهْلُ مِنْهُمْ ( أَوْ مُسْتَحِقُّهُ لَمْ يَحْنَثْ ) بِذَلِكَ سَوَاءٌ رَدَّ بَدَلَهَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَوْ لَا ؛ ( لِأَنَّ الزَّيْفَ عَيْبٌ ) وَكَذَا نَبَهْرَجَةٌ وَلَفْظُ الزِّيَافَةِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ غَيْرُ عَرَبِيٍّ بَلْ هُوَ مِنْ اسْتِعْمَالِ الْفُقَهَاءِ ( وَالْعَيْبُ ) فِي الْجِنْسِ ( لَا يُعْدِمُ الْجِنْسَ ) أَيْ جِنْسَ الدَّرَاهِمِ ( وَلِهَذَا ) أَيْ وَلِكَوْنِ وَصْفِ الزِّيَافَةِ لَا يُعْدِمُ اسْمَ الدَّرَاهِمِ ( لَوْ تَجَوَّزَ بِهَا ) فِي الصَّرْفِ : أَيْ لَوْ جُعِلَتْ بَدَلًا فِي الصَّرْفِ بِالْجِيَادِ أَوْ جُعِلَتْ رَأْسَ مَالِ السَّلَمِ صَحَّ مَعَ أَنَّ الِافْتِرَاقَ عَنْ غَيْرِ قَبْضٍ مُفْسِدٌ لَهُمَا ، فَعُرِفَ أَنَّهُمَا لَمْ يَنْتَفِ عَنْهُمَا جِنْسُ الدَّرَاهِمِ فَيَبَرُّ فِي الْيَمِينِ بِهِمَا سَوَاءٌ حَلَفَ عَلَى الْقَبْضِ أَوْ الدَّفْعِ ( وَ ) كَذَا قَبْضُ الدَّرَاهِمِ ( الْمُسْتَحَقَّةِ صَحِيحٌ ) وَلِذَا لَوْ أَجَازَ الْمَالِكُ قَبْضَهَا جَازَ ، وَإِذَا بَرَّ فِي دَفْعِ هَذِهِ الْمُسَمَّيَاتِ الثَّلَاثَةِ ، فَلَوْ رَدَّ الزُّيُوفَ أَوْ النَّبَهْرَجَةَ أَوْ اُسْتُرِدَّتْ الْمُسْتَحَقَّةُ لَا يَرْتَفِعُ الْبِرُّ ، وَإِنْ انْتَقَضَ الْقَبْضُ فَإِنَّمَا يُنْتَقَضُ فِي حَقِّ حُكْمٍ يَقْبَلُ الِانْتِقَاضَ ، وَمِثْلُهُ لَوْ دَفَعَ الْمُكَاتَبُ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ وَعَتَقَ فَرَدَّهَا مَوْلَى الْمُكَاتَبِ بِسَبَبِ أَنَّهَا زَيْفٌ أَوْ نَبَهْرَجَةٌ أَوْ مُسْتَحَقَّةٌ لَا يَرْتَفِعُ الْعِتْقُ ( وَلَوْ كَانَتْ رَصَاصًا أَوْ سَتُّوقَةً حَنِثَ ) إذَا انْقَضَى الْيَوْمُ وَلَمْ يَرُدَّ بَدَلَهَا دَرَاهِمَ .
وَالسَّتُّوقَةُ الْمَغْشُوشَةُ غِشًّا زَائِدًا وَهُوَ تَعْرِيبُ سِيّ تُوقَةَ : أَيْ ثَلَاثُ طَبَقَاتٍ طَبَقَتَا الْوَجْهَيْنِ فِضَّةٌ وَمَا بَيْنَهُمَا

نُحَاسٌ وَنَحْوُهُ ؛ ( لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ حَتَّى لَا يَتَجَوَّزَ بِهَا فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ ) وَلَا يُعْتَقُ الْمُكَاتَبُ بِأَدَائِهَا ، فَلَوْ رَدَّهَا الْمَوْلَى ظَهَرَ عَدَمُ عِتْقِ الْعَبْدِ ( قَوْلُهُ وَإِنْ بَاعَهُ ) أَيْ إنْ بَاعَ الْحَالِفُ الْمَدْيُونُ رَبَّ الدَّيْنِ الَّذِي حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّ الْيَوْمَ دَيْنَهُ فِي الْيَوْمِ الْمَحْلُوفِ عَلَى قَضَائِهِ فِيهِ ( عَبْدًا وَقَبَضَهُ ) رَبُّ الدَّيْنِ ( بَرَّ ) الْمَدْيُونُ ( فِي يَمِينِهِ ) ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ لَوْ وَقَعَ بِالدَّرَاهِمِ كَانَ بِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ .
وَهُوَ أَنْ يَثْبُتَ فِي ذِمَّةِ الْقَابِضِ وَهُوَ الدَّائِنُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ لِنَفْسِهِ لِيَتَمَلَّكَهُ وَلِلدَّائِنِ مِثْلُهُ عَلَى الْمُقْبَضِ فَيَلْتَقِيَانِ قِصَاصًا ، فَكَذَا هُنَا إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الدَّرَاهِمِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يُقَاصَصُ بِهِ فَيَبَرُّ فِي يَمِينِهِ بِإِعْطَاءِ الْعَبْدِ قِصَاصًا وَهُوَ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ فِي ذِمَّتِهِ ثَمَنُ الْعَبْدِ وَلَهُ فِي ذِمَّتِهِ مِثْلُهَا فَيَلْتَقِيَانِ قِصَاصًا ، ثُمَّ الْبِرُّ وَقَضَاءُ الدَّيْنِ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الْبَيْعِ قَبَضَ الدَّائِنُ الْعَبْدَ أَوْ لَا ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمَدْيُونِ الْحَالِفِ قَبْلَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ وَعَادَ الدَّيْنُ ، وَلَا يُنْتَقَضُ الْبِرُّ فِي الْيَمِينِ وَإِنَّمَا نَصَّ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ تَأْكِيدًا لِلْبَيْعِ لِيَتَقَرَّرَ الدَّيْنُ عَلَى رَبِّ الدَّيْنِ ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ وَإِنْ وَجَبَ بِالْبَيْعِ لَكِنَّهُ عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ لِجَوَازِ أَنْ يَهْلَكَ الْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَلَوْ كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا وَقَبَضَهُ ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ تَفِي بِالدَّيْنِ بَرَّ وَإِلَّا حَنِثَ ؛ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ ، هَذَا إذَا حَلَفَ الْمَدْيُونُ ، وَكَذَا إذَا حَلَفَ رَبُّ الدَّيْنِ فَقَالَ : إنْ لَمْ أَقْبِضْ مَالِي عَلَيْك الْيَوْمَ أَوْ إنْ لَمْ أَسْتَوْفِ .
قَالَ مُحَمَّدٌ ( فَإِنْ وَهَبَهَا لَهُ لَمْ يَبَرَّ ) يَعْنِي إذَا وَهَبَ رَبُّ الدَّيْنِ الدَّرَاهِمَ الدَّيْنَ فِي الْيَوْمِ قَبْلَ انْقِضَائِهِ

فَقَبِلَ لَمْ يَبَرَّ الْمَدْيُونُ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْبِرِّ الْقَضَاءُ وَلَمْ يُوجَدْ ( لِعَدَمِ الْمُقَاصَّةِ ) وَلِأَنَّ فِعْلَ الْمَدْيُونِ وَالْهِبَةِ فِعْلُ الدَّائِنِ بِالْإِبْرَاءِ فَلَا يَكُونُ فِعْلُ هَذَا فِعْلَ الْآخَرِ .
قَالَ فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ : وَإِذَا لَمْ يَبَرَّ لَمْ يَحْنَثْ أَيْضًا عِنْدَهُمَا لِفَوَاتِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ : يَعْنِي تَعَذُّرَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْقَضَاءُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْيَوْمِ .
وَتَقَدَّمَ فِي مَسْأَلَةِ الْكُوزِ أَنَّ بَقَاءَ التَّصَوُّرِ شَرْطٌ لِبَقَاءِ الْيَمِينِ فِي الْيَمِينِ الْمُؤَقَّتَةِ ، وَهَذِهِ كَذَلِكَ إذْ الْكَلَامُ هُنَا فِي يَمِينٍ مُؤَقَّتَةٍ ، وَإِنْ كَانَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لَمْ يَذْكُرْ الْيَوْمَ .
وَاعْتَرَضَ بَعْضُهُمْ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ ارْتِفَاعَ النَّقِيضَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْبِرَّ نَقِيضُ الْحِنْثِ فَلَا يَرْتَفِعَانِ ، وَهَذَا غَلَطٌ ؛ لِأَنَّ النَّقِيضَيْنِ اللَّذَيْنِ يَجِبُ صِدْقُ أَحَدِهِمَا دَائِمًا هُمَا فِي الْأُمُورِ الْحَقِيقِيَّةِ كَوُجُودِ زَيْدٍ وَعَدَمِهِ ، أَمَّا فِي الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ إذَا تَعَلَّقَ قِيَامُ النَّقِيضَيْنِ بِسَبَبٍ شَرْعِيٍّ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ حُكْمُهُمَا مَا دَامَ السَّبَبُ قَائِمًا ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ ، فَإِنَّ قِيَامَ الْيَمِينِ سَبَبٌ لِثُبُوتِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ لَا مَحَالَةَ مِنْ الْحِنْثِ أَوْ الْبِرِّ شَرْعًا ، فَإِنْ فُرِضَ انْتِفَاؤُهُ انْتَفَى الْحِنْثُ وَالْبِرُّ كَمَا هُوَ قَبْلَ الْيَمِينِ حَيْثُ لَا بِرَّ وَلَا حِنْثَ ، فَإِذَا فُرِضَ ارْتِفَاعُهُ كَانَ الْحَالُ كَمَا هُوَ قَبْلَ وُجُودِهِ ، وَجَمِيعُ مَا أُورِدَ مِنْ الِاسْتِشْهَادِ مِثْلُ قَوْلِ صَاحِبِ الْخُلَاصَةِ لَمْ يَحْنَثْ فِي مَسْأَلَةِ الْكُوزِ ، وَقَوْلُ الْكَرْخِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَمْ يَحْنَثْ لَا فَائِدَةَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْحِنْثِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا يُفِيدُهُ لَهُ قَالُوا بَرَّ وَلَمْ يَحْنَثْ ، وَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ الْبِرُّ وَهُوَ بِفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَلَمْ يَفْعَلْ .
وَاعْلَمْ أَنَّ جَوَابَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : أَعْنِي مَسْأَلَةَ الْهِبَةِ مُقَيَّدٌ بِكَوْنِ الْحَالِفِ عَلَى يَوْمٍ

بِعَيْنِهِ كَمَا أَشَرْنَا إلَى ذَلِكَ ، أَمَّا الْمُطْلَقَةُ بِأَنْ حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّ دَيْنَهُ فَأَبْرَأَهُ أَوْ وَهَبَهُ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَحْنَثُ بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّ التَّصَوُّرَ لَا يُشْتَرَطُ بَقَاؤُهُ فِي الْيَمِينِ الْمُطْلَقَةِ بَلْ فِي الِابْتِدَاءِ ، وَحِينَ حَلَفَ كَانَ الدَّيْنُ قَائِمًا فَكَانَ تَصَوُّرُ الْبِرِّ ثَابِتًا فَانْعَقَدَتْ ثُمَّ حَنِثَ بَعْدَ مُضِيِّ زَمَنٍ يَقْدِرُ فِيهِ عَلَى الْقَضَاءِ بِالْيَأْسِ مِنْ الْبِرِّ بِالْهِبَةِ

( وَمَنْ حَلَفَ لَا يَقْبِضُ دَيْنَهُ دِرْهَمًا دُونَ دِرْهَمٍ فَقَبَضَ بَعْضَهُ لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَقْبِضَ جَمِيعَهُ ) لِأَنَّ الشَّرْطَ قَبْضُ الْكُلِّ وَلَكِنَّهُ بِوَصْفِ التَّفَرُّقِ ، أَلَا يُرَى أَنَّهُ أَضَافَ الْقَبْضَ إلَى دَيْنٍ مُعَرَّفٍ مُضَافٍ إلَيْهِ فَيَنْصَرِفُ إلَى كُلِّهِ فَلَا يَحْنَثُ إلَّا بِهِ ( فَإِنْ قَبَضَ دَيْنَهُ فِي وَزَنَيْنَ لَمْ يَتَشَاغَلْ بَيْنَهُمَا إلَّا بِعَمَلِ الْوَزْنِ لَمْ يَحْنَثْ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِتَفْرِيقٍ ) لِأَنَّهُ قَدْ يَتَعَذَّرُ قَبْضُ الْكُلِّ دُفْعَةً وَاحِدَةً عَادَةً فَيَصِيرُ هَذَا الْقَدْرُ مُسْتَثْنًى عَنْهُ

( قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يَقْبِضُ دَيْنَهُ دِرْهَمًا دُونَ دِرْهَمٍ فَقَبَضَ بَعْضَهُ لَمْ يَحْنَثْ ) بِمُجَرَّدِ قَبْضِ ذَلِكَ الْبَعْضِ بَلْ يَتَوَقَّفُ حِنْثُهُ عَلَى قَبْضِ بَاقِيهِ ، فَإِذَا قَبَضَهُ حَنِثَ ( لِأَنَّ الشَّرْطَ ) أَيْ شَرْطَ الْحِنْثِ ( قَبْضُ الْكُلِّ بِوَصْفِ التَّفَرُّقِ ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْقَبْضَ ) الْمُتَفَرِّقَ ( إلَى كُلِّ الدَّيْنِ ) حَيْثُ قَالَ : لَا أَقْبِضُ دَيْنِي وَهُوَ اسْمٌ لِكُلِّهِ فَلَا يَحْنَثُ إلَّا بِتَمَامِهِ مُتَفَرِّقًا ، غَيْرَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ التَّفَرُّقُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ لِتَعَدُّدِ الْوَزْنِ لَا يَحْنَثُ إذَا كَانَ لَمْ يَتَشَاغَلْ بَيْنَ الْوَزْنَتَيْنِ إلَّا بِعَمَلِ الْوَزْنِ ؛ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ جَامِعٌ لِلْمُتَفَرِّقَاتِ فَكَانَ الْوَزْنَتَانِ كَوَزْنَةٍ وَاحِدَةٍ ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَشَاغَلَ بِعَمَلٍ آخَرَ ؛ لِأَنَّهُ بِهِ يَخْتَلِفُ مَجْلِسُ الْقَبْضِ عَلَى مَا عُرِفَ ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَتَعَذَّرُ قَبْضُهُ بِوَزْنَةٍ وَاحِدَةٍ لِكَثْرَتِهِ فَجُعِلَ التَّفْرِيقُ الْكَائِنُ بِهَذَا السَّبَبِ مُسْتَثْنًى .
وَالْمَسْأَلَةُ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ مُؤَقَّتَةٌ هَكَذَا إذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ مِائَةُ دِرْهَمٍ فَقَالَ عَبْدِي حُرٌّ إنْ أَخَذْتُهَا مِنْك الْيَوْمَ دِرْهَمًا دُونَ دِرْهَمٍ فَأَخَذَ مِنْهَا خَمْسَةً وَلَمْ يَأْخُذْ مَا بَقِيَ حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ حِنْثِهِ أَخْذُ كُلِّ الْمِائَةِ عَلَى التَّفْرِيقِ .
وَلَوْ قَالَ : إنْ أَخَذْتُ مِنْهَا الْيَوْمَ مِنْك دِرْهَمَيْنِ دُونَ دِرْهَمٍ فَأَخَذَ خَمْسَةً وَلَمْ يَأْخُذْ مَا بَقِيَ حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ حَنِثَ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْحِنْثِ أَخْذَ بَعْضِ الْمِائَةِ مُتَفَرِّقًا ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ وَقَدْ وُجِدَ

( وَمَنْ قَالَ : إنْ كَانَ لِي إلَّا مِائَةُ دِرْهَمٍ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ فَلَا يَمْلِكُ إلَّا خَمْسِينَ دِرْهَمًا لَمْ يَحْنَثْ ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ عُرْفًا نَفْيُ مَا زَادَ عَلَى الْمِائَةِ وَلِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْمِائَةِ اسْتِثْنَاؤُهَا بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا ( وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ غَيْرَ مِائَةٍ أَوْ سِوَى مِائَةٍ ) لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ أَدَاةُ الِاسْتِثْنَاءِ .

( قَوْلُهُ : وَمَنْ قَالَ : إنْ كَانَ لِي إلَّا مِائَةُ دِرْهَمٍ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ فَلَمْ يَمْلِكْ إلَّا خَمْسِينَ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ عُرْفًا نَفْيُ مَا زَادَ عَلَى الْمِائَةِ ) فَيَصْدُقُ عَلَى الْخَمْسِينَ ، إذْ يَصْدُقُ أَنَّ الْخَمْسِينَ لَيْسَ زَائِدًا عَلَى الْمِائَةِ .
وَأَمَّا بِالنَّظَرِ إلَى اللَّفْظِ فَلَا يَصِحُّ إلَّا عَلَى جَعْلِ الْمُسْتَثْنَى مَسْكُوتًا عَلَى حُكْمِهِ ، فَإِنَّ مَعْنَى اللَّفْظِ لَيْسَ لِي مَالٌ إلَّا مِائَةٌ فَالْمِائَةُ مُخْرَجَةٌ مِنْ نَفْيِ الْمَالِ ، فَإِذَا قُلْنَا : إنَّ الْمُسْتَثْنَى مَسْكُوتٌ فَتَكُونُ الْمِائَةُ غَيْرَ مَحْكُومٍ عَلَيْهَا بِأَنَّهَا فِي مِلْكِهِ بَلْ وَلَا مُتَعَرَّضًا لَهَا بِإِثْبَاتٍ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ ، وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ الْمَشَايِخِ .
وَأَمَّا عَلَى جَعْلِهِ مُثْبَتًا بِطَرِيقِ الْإِشَارَةِ كَمَا هُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ أُخْرَى ، أَوْ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ وَهُوَ مُخْتَارُنَا ، وَصَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ فَقَالَ : الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ فِي هَذَا الْكِتَابِ فَيَحْنَثُ لَفْظًا ؛ لِأَنَّهُ حَلَفَ عَلَى أَنَّ لَهُ مِائَةً .
وَأَمَّا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ ( وَلِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْمِائَةِ اسْتِثْنَاؤُهَا بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا ) فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ وَجْهٌ مُقَابِلٌ لِقَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ عُرْفًا إلَخْ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَدْلُولًا لَهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ إخْرَاجَهَا لَيْسَ إلَّا مِنْ النَّفْيِ ، وَحَاصِلُهُ إخْرَاجُ جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْمِائَةِ مِنْ عَدَمِ الْمِلْكِ ، فَلَوْ صَحَّ كَانَ الْحَلِفُ عَلَى نَفْيِ خَمْسِينَ مِنْ مِلْكِهِ فَكَانَ يَحْنَثُ فَلَيْسَ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ إلَّا وَجْهَ الْعُرْفِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ ادَّعَى أَنَّهُ أَعْطَى زَيْدًا مِائَةً مَثَلًا فَقَالَ زَيْدٌ : لَمْ يُعْطِنِي إلَّا خَمْسِينَ فَقَالَ : إنْ كُنْت أَعْطَيْته إلَّا مِائَةً فَإِنَّهُ يَحْنَثُ بِالْأَقَلِّ ، وَكَذَا إذَا اُخْتُلِفَ فِي قَدْرِ الدَّيْنِ فَقَالَ : لِي عَلَيْهِ مِائَةٌ وَقَالَ الْآخَرُ : خَمْسُونَ فَقَالَ : إنْ كَانَ لِي عَلَيْهِ إلَّا مِائَةٌ فَهَذَا لِنَفْيِ النُّقْصَانِ ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ

بِيَمِينِهِ الرَّدَّ عَلَى الْمُنْكَرِ .
وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : عَبْدُهُ حُرٌّ إنْ كُنْتُ أَمْلِكُ إلَّا خَمْسِينَ فَمَلَكَ عَشَرَةً لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّهَا بَعْضُ الْمُسْتَثْنَى ، وَلَوْ مَلَكَ زِيَادَةً عَلَى الْخَمْسِينَ إنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ مَالِ الزَّكَاةِ حَنِثَ وَإِلَّا لَا ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ : مَالِي صَدَقَةٌ يَنْصَرِفُ إلَى مَالِ الزَّكَاةِ أَوْ حَلَفَ مَا لِي مَالٌ لَا يَحْنَثُ إلَّا بِمَالِ الزَّكَاةِ .
وَفِي خِزَانَةِ الْأَكْمَلِ : لَوْ قَالَ امْرَأَتُهُ طَالِقٌ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ وَلَهُ عُرُوضٌ وَضِيَاعٌ وَدُورٌ لِغَيْرِ التِّجَارَةِ لَمْ يَحْنَثْ ، وَالْمَسْأَلَةُ تَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

مَسَائِلُ مُتَفَرِّقَةٌ ] ( وَإِذَا حَلَفَ لَا يَفْعَلُ كَذَا تَرَكَهُ أَبَدًا ) لِأَنَّهُ نَفَى الْفِعْلَ مُطْلَقًا فَعَمَّ الِامْتِنَاعُ ضَرُورَةَ عُمُومِ النَّفْيِ ( وَإِنْ حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ كَذَا فَفَعَلَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً بَرَّ فِي يَمِينِهِ ) لِأَنَّ الْمُلْتَزَمَ فِعْلٌ وَاحِدٌ غَيْرُ عَيْنٍ ، إذْ الْمَقَامُ مَقَامُ الْإِثْبَاتِ فَيَبَرُّ بِأَيِّ فِعْلٍ فَعَلَهُ ، وَإِنَّمَا يَحْنَثُ بِوُقُوعِ الْيَأْسِ عَنْهُ وَذَلِكَ بِمَوْتِهِ أَوْ بِفَوْتِ مَحَلِّ الْفِعْلِ .

[ مَسَائِلُ مُتَفَرِّقَةٌ ] أَيْ هَذِهِ الْمَسَائِلُ مَسَائِلُ مُتَفَرِّقَةٌ فَتَكُونُ الْإِشَارَةُ لِأَمْرٍ حَاضِرٍ فِي الذِّهْنِ أَوْ تَأَخَّرَ وَضْعُ التَّرْجَمَةِ عَنْ وَضْعِ الْمَسَائِلِ فَتَكُونُ الْإِشَارَةُ عَلَى ظَاهِرِهَا ، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَادَ تَقَدُّمُ التَّرْجَمَةِ ، فَإِنَّ مِنْ عَادَةِ الْمُصَنِّفِينَ أَنْ يَذْكُرُوا لِمَا شَذَّ عَنْ الْأَبْوَابِ هَذِهِ التَّرْجَمَةَ وَنَحْوَهَا ( قَوْلُهُ : وَإِذَا حَلَفَ لَا يَفْعَلُ كَذَا تَرَكَهُ أَبَدًا ؛ لِأَنَّهُ نَفَى الْفِعْلَ فَعَمَّ الِامْتِنَاعُ ) فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ الْمُسْتَقْبِلَةِ ( ضَرُورَةَ عُمُومِ النَّفْيِ ) لِلْفِعْلِ الْمُتَضَمِّنِ لِلْمَصْدَرِ النَّكِرَةِ فَلَوْ وُجِدَ مَرَّةً لَمْ يَكُنْ النَّفْيُ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ ثَابِتًا ( وَإِنْ حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ كَذَا بَرَّ بِالْفِعْلِ مَرَّةً وَاحِدَةً ؛ لِأَنَّ الْمُلْتَزَمَ فِعْلٌ وَاحِدٌ غَيْرُ عَيْنٍ ، إذْ الْمَقَامُ مَقَامُ الْإِثْبَاتِ فَيَبَرُّ بِأَيِّ فِعْلٍ فَعَلَهُ ) سَوَاءٌ كَانَ مُكْرَهًا فِيهِ أَوْ نَاسِيًا أَصِيلًا أَوْ وَكِيلًا عَنْ غَيْرِهِ ، وَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ لَا يُحْكَمْ بِوُقُوعِ الْحِنْثِ حَتَّى يَقَعَ الْيَأْسُ عَنْ الْفِعْلِ ( وَذَلِكَ بِمَوْتِ الْحَالِفِ ) قَبْلَ الْفِعْلِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُوصِيَ بِالْكَفَّارَةِ ( أَوْ بِفَوْتِ مَحِلِّ الْفِعْلِ ) كَمَا لَوْ حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّ زَيْدًا أَوْ لَيَأْكُلَنَّ هَذَا الرَّغِيفَ فَمَاتَ زَيْدٌ أَوْ أَكَلَ الرَّغِيفَ قَبْلَ أَكْلِهِ فَحِينَئِذٍ يَحْنَثُ ، هَذَا إذَا كَانَتْ الْيَمِينُ مُطْلَقَةً كَمَا أَرَيْنَاك ، فَلَوْ كَانَتْ مُقَيَّدَةً مِثْلُ لَآكُلَنَّهُ فِي هَذَا الْيَوْمِ سَقَطَتْ بِفَوَاتِ مَحِلِّ الْفِعْلِ قَبْلَ مُضِيِّ الْوَقْتِ عِنْدَهُمَا عَلَى مَا سَلَفَ فِي مَسْأَلَةِ الْكُوزِ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ ، وَلَوْ مَاتَ الْحَالِفُ قَبْلَ مُضِيِّهِ لَا حِنْثَ عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَةَ ، وَلَوْ جُنَّ الْحَالِفُ فِي يَوْمِهِ حَنِثَ عِنْدَنَا خِلَافًا لِأَحْمَدَ .

( وَإِذَا اسْتَحْلَفَ الْوَالِي رَجُلًا لِيُعْلِمَنَّهُ بِكُلِّ دَاعِرٍ دَخَلَ الْبَلَدَ فَهَذَا عَلَى حَالِ وِلَايَتِهِ خَاصَّةً ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ دَفْعُ شَرِّهِ أَوْ شَرِّ غَيْرِهِ بِزَجْرِهِ فَلَا يُفِيدُ فَائِدَتَهُ بَعْدَ زَوَالِ سَلْطَنَتِهِ ، وَالزَّوَالُ بِالْمَوْتِ وَكَذَا بِالْعَزْلِ إلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ

( قَوْلُهُ وَإِذَا اسْتَحْلَفَ الْوَالِي رَجُلًا لِيُعْلِمَنَّهُ بِكُلِّ دَاعِرٍ دَخَلَ الْمَدِينَةَ ) وَهُوَ بِالدَّالِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَتَيْنِ كُلُّ مُفْسِدٍ وَجَمْعُهُ دُعَّارٌ مِنْ الدَّعْرِ وَهُوَ الْفَسَادُ ، وَمِنْهُ دَعِرَ الْعَوْدَ يَدْعَرُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ فِي الْمَاضِي وَفَتْحِهَا فِي الْمُضَارِعِ إذَا فَسَدَ ( فَهُوَ عَلَى حَالِ وِلَايَتِهِ خَاصَّةً ) فَلَوْ عُزِلَ لَا يَلْزَمُهُ إخْبَارُهُ بَعْدَ ذَلِكَ ، هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَهَذَا التَّخْصِيصُ فِي الزَّمَانِ يَثْبُتُ بِدَلَالَةِ الْحَالِ وَهُوَ الْعِلْمُ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الِاسْتِحْلَافِ زَجْرُهُ بِمَا يَدْفَعُ شَرَّهُ أَوْ شَرَّ غَيْرِهِ بِزَجْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا زُجِرَ دَاعِرٌ انْزَجَرَ دَاعِرٌ آخَرُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِي حَالِ وِلَايَتِهِ ؛ لِأَنَّهَا حَالُ قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ ( فَلَا يُفِيدُ فَائِدَتَهُ بَعْدَ زَوَالِ سَلْطَنَتِهِ وَالزَّوَالُ بِالْمَوْتِ وَكَذَا بِالْعَزْلِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ) وَإِذَا سَقَطَتْ الْيَمِينُ لَا تَعُودُ وَلَوْ عَادَ إلَى الْوِلَايَةِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ إعْلَامُهُ بَعْدَ الْعَزْلِ أَيْضًا ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ ؛ لِأَنَّهُ مُفِيدٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُعَادَ فَيَزْجُرَهُ لِتَقَدُّمِ مَعْرِفَتِهِ بِحَالِهِ وَهَذَا بَعِيدٌ .
وَفِي شَرْحِ الْكَنْزِ أَيْضًا : ثُمَّ إنَّ الْحَالِفَ لَوْ عَلِمَ بِالدَّاعِرِ وَلَمْ يُعْلِمْهُ بِهِ لَمْ يَحْنَثْ إلَّا إذَا مَاتَ هُوَ أَوْ الْمُسْتَحْلَفُ أَوْ عُزِلَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْنَثُ فِي الْيَمِينِ الْمُطْلَقَةِ إلَّا بِالْيَأْسِ إلَّا إذَا كَانَتْ مُؤَقَّتَةً فَيَحْنَثُ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ مَعَ الْإِمْكَانِ ا هـ .
وَلَوْ حُكِمَ بِانْعِقَادِ هَذِهِ لِلْفَوْرِ لَمْ يَكُنْ بَعِيدًا نَظَرًا إلَى الْمَقْصُودِ وَهُوَ الْمُبَادَرَةُ لِزَجْرِهِ وَدَفْعِ شَرِّهِ ، فَالدَّاعِي يُوجِبُ التَّقْيِيدَ بِالْفَوْرِ : أَيْ فَوْرِ عِلْمِهِ بِهِ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ حَلَّفَ رَبُّ الدَّيْنِ غَرِيمَهُ أَوْ الْكَفِيلَ أَنْ لَا يَخْرُجَ عَنْ الْبَلَدِ إلَّا

بِإِذْنِهِ يَتَقَيَّدُ بِحَالِ قِيَامِ الدَّيْنِ وَالْكَفَالَةِ ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ إنَّمَا يَصِحُّ مِمَّنْ لَهُ وِلَايَةُ الْمَنْعِ ، وَكَذَا لَا تَخْرُجُ امْرَأَتُهُ إلَّا بِإِذْنِهِ تَقَيُّدًا بِقِيَامِ الزَّوْجِيَّةِ ، وَإِذَا زَالَ الدَّيْنُ وَالزَّوْجِيَّةُ سَقَطَتْ ثُمَّ لَا تَعُودُ الْيَمِينُ بِعَوْدِهِمَا ، بِخِلَافِ مَا لَوْ حَلَفَ لَا تَخْرُجُ امْرَأَتُهُ مِنْ الدَّارِ فَإِنَّهُ لَا يَتَقَيَّدُ بِهِ ، إذْ لَمْ يَذْكُرْ الْإِذْنَ فَلَا مُوجِبَ لِتَقْيِيدِهِ بِزَمَانِ الْوِلَايَةِ فِي الْإِذْنِ ، وَكَذَا الْحَالُ فِي حَلِفِهِ عَلَى الْعَبْدِ مُطْلَقًا وَمُقَيَّدًا ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا بِغَيْرِ إذْنِك طَالِقٌ فَطَلَّقَ امْرَأَتَهُ طَلَاقًا بَائِنًا أَوْ ثَلَاثًا ثُمَّ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِهَا طَلُقَتْ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَتَقَيَّدْ يَمِينُهُ بِبَقَاءِ النِّكَاحِ ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَتَقَيَّدُ بِهِ لَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ تَسْتَفِيدُ وِلَايَةَ الْإِذْنِ وَالْمَنْعِ بِعَقْدِ النِّكَاحِ

( وَمَنْ حَلَفَ أَنْ يَهَبَ عَبْدَهُ لِفُلَانٍ فَوَهَبَهُ وَلَمْ يَقْبَلْ بَرَّ فِي يَمِينِهِ ) خِلَافًا لِزُفَرَ فَإِنَّهُ يَعْتَبِرُهُ بِالْبَيْعِ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ مِثْلُهُ .
وَلَنَا أَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَيَتِمُّ بِالْمُتَبَرِّعِ وَلِهَذَا يُقَالُ وُهِبَ وَلَمْ يَقْبَلْ ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ إظْهَارُ السَّمَاحَةِ وَذَلِكَ يَتِمُّ بِهِ ، أَمَّا الْبَيْعُ فَمُعَاوَضَةٌ فَاقْتَضَى الْفِعْلَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ

( قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَيَهَبَنَّ عَبْدَهُ لِفُلَانٍ فَوَهَبَهُ وَلَمْ يَقْبَلْ بَرَّ فِي يَمِينِهِ ) الْأَصْلُ أَنَّ اسْمَ عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالصَّرْفِ وَالسَّلَمِ وَالنِّكَاحِ وَالرَّهْنِ وَالْخُلْعِ بِإِزَاءِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ مَعًا ، وَفِي عُقُودِ التَّبَرُّعَاتِ بِإِزَاءِ الْإِيجَابِ فَقَطْ كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْعَارِيَّةِ وَالْعَطِيَّةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْعُمْرِيِّ وَالنِّحْلِيِّ وَالْإِقْرَارِ وَالْهَدِيَّةِ .
وَقَالَ زَفَرُ : هِيَ كَالْبَيْعِ .
وَفِي الْبَيْعِ وَمَا مَعَهُ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهُ لِلْمَجْمُوعِ .
فَلِذَا وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ : بِعْتُك أَمْسِ هَذَا الثَّوْبَ فَلَمْ تَقْبَلْ فَقَالَ : بَلْ قَبِلْت أَوْ آجَرْتُك هَذِهِ الدَّارَ فَلَمْ تَقْبَلْ فَقَالَ بَلْ قَبِلْت الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي وَالْمُسْتَأْجِرِ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْبَيْعِ تَضَمَّنَ إقْرَارَهُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ ، وَقَوْلُهُ : لَمْ تَقْبَلْ رُجُوعٌ عَنْهُ ، وَكَذَا عَلَى عَدَمِ الْحِنْثِ إذَا حَلَفَ لَا يَبِيعُ فَأَوْجَبَ فَقَطْ ، وَعَلَى الْحِنْثِ إذَا حَلَفَ لَيَبِيعَنَّ الْيَوْمَ فَأَوْجَبَ فِيهِ فَقَطْ ، وَوَقَعَ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ لَوْ كَانَ بِلَفْظِ الْهِبَةِ ، فَعِنْدَنَا يَبَرُّ الْإِيجَابُ ، وَعِنْدَهُ يَحْنَثُ .
ثُمَّ اسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ لِزُفَرَ بِاعْتِبَارِهِ بِالْبَيْعِ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ عَقْدَ الْهِبَةِ ( تَمْلِيكُ مِثْلِهِ ) حَتَّى يَتَوَقَّفَ تَمَامُ سَبَبِيَّتِهِ عَلَى الْقَبُولِ فَلَا يَكُونُ هُوَ : أَيْ عَقْدُ الْهِبَةِ بِلَا قَبُولٍ كَالْإِيجَابِ فِي الْبَيْعِ ، ثُمَّ لَا يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ بَلْ بِمُجَرَّدِ إيجَابِ الْهِبَةِ وَالْقَبُولِ مِنْ الْآخَرِ بَرَّ لِتَمَامِ السَّبَبِ ، وَإِنَّمَا الْقَبْضُ شَرْطُ حُكْمِهِ وَالسَّبَبُ يَتِمُّ دُونَهُ كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ .
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ : يُشْتَرَطُ مَعَهُ الْقَبْضُ فَلَا يَبَرُّ حَتَّى يَقْبِضَ الْآخَرُ ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ بِلَا حُكْمٍ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَلَنَا أَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَيَتِمُّ بِالْمُتَبَرِّعِ ) أَيْ الْهِبَةُ اسْمٌ

لِلتَّبَرُّعِ ، فَإِذَا تَبَرَّعَ وُجِدَ الْمُسَمَّى فَيَحْنَثُ ، وَلَا يُرَادُ تَمَامُهُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ إلَّا عَلَى مَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ بِهِ قَبْلَ الْقَبُولِ ، إلَّا أَنَّ بِالرَّدِّ يُنْتَقَضُ دَفْعًا لِضَرَرِ الْمِنَّةِ بِلَا اخْتِيَارٍ وَنَحْوِهِ مِنْ فَسْخِ نِكَاحِ الزَّوْجَةِ الْمَرْقُوقَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا مُعَوِّلَ وَلَا عَمَلَ عَلَى هَذَا ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الْقَبُولِ لِتَمَامِ الْعَقْدِ فَكَانَ فِي احْتِيَاجِهِ إلَى الْقَبُولِ فِي تَمَامِ الْعَقْدِ وَوُقُوعِهِ سَبَبًا لِمِلْكِ الْآخَرِ كَالْبَيْعِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إنَّمَا يَتِمُّ بِهِ مَا هُوَ مِنْ جِهَتِهِ وَهُوَ التَّمْلِيكُ ، وَبِهَذَا الْقَدْرِ لَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْآخَرِ وَإِنْ كَانَ بِلَا بَدَلٍ حَتَّى يَظْهَرَ رِضَاهُ بِذَلِكَ بِلَفْظِهِ الْمُفِيدِ لَهُ فَهُوَ كَالْبَيْعِ فِي هَذَا الْقَدْرِ ، وَحَقِيقَةُ الْخِلَافِ إنَّمَا هُوَ فِي تَعْيِينِ مُسَمَّيَاتٍ شَرْعِيَّةٍ لِأَلْفَاظٍ هِيَ لَفْظُ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَأَخَوَاتِهِمَا ، وَلَا سَبِيلَ إلَى ذَلِكَ إلَّا بِالنَّقْلِ أَوْ الِاسْتِدْلَالِ ، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ إطْلَاقِ لَفْظِ بَاعَ فُلَانٌ كَذَا أَوْ بِعْت كَذَا يُفْهَمُ مِنْهُ وُقُوعُ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ حُكِمَ بِأَنَّ اسْمَ الْبَيْعِ لِلْمَجْمُوعِ ، ثُمَّ وَقَعَ النِّزَاعُ فِي اسْمِ الْهِبَةِ فَقَالَ زُفَرُ هُوَ كَذَلِكَ ، وَاسْتَدَلَّ الْأَصْحَابُ بِالنَّقْلِ وَهُوَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ الصَّعْبَ بْنَ جَثَّامَةَ أَهْدَى إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِمَارَ وَحْشٍ وَهُوَ بِالْأَبْوَاءِ أَوْ بِوَدَّانَ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ ، فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وَجْهِهِ قَالَ : إنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إلَّا أَنَّا حُرُمٌ } فَقَدْ أُطْلِقَ اسْمُ الْإِهْدَاءِ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ فَقَطْ لِفَرْضِ أَنَّهُ رَدَّهُ عَلَيْهِ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ أَهْدَى إمَّا حِكَايَةُ قَوْلِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ أَهْدَيْتُ لَك هَذَا أَوْ حِكَايَةُ فِعْلٍ ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ يُفِيدُ أَنَّ اسْمَ الْهِدَايَةِ يَتِمُّ بِمُجَرَّدِ فِعْلِ الْوَاهِبِ قَبْلَ الْآخَرِ أَوْ لَا

.
وَاسْتَدَلَّ أَيْضًا بِقَوْلِنَا : وَهَبْت لِفُلَانٍ فَلَمْ يَقْبَلْ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْهُمَا بِلَازِمٍ ؛ لِأَنَّ غَايَةَ مَا فِيهِ أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُطْلِقَ لَفْظَ الْهِبَةِ وَالْهَدِيَّةِ عَلَى مُجَرَّدِ الْإِيجَابِ بِقَرِينَةٍ كَقَوْلِهِ فَلَمْ يَقْبَلْ ، وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ عَلَيْهِ فَقَطْ كَمَا يُقَالُ عَلَى الْمَجْمُوعِ ، وَكَوْنُهُ ظَهَرَ فِي مَوْضِعٍ أَنَّهُ اُسْتُعْمِلَ فِي مُجَرَّدِ الْإِيجَابِ بِقَرِينَةٍ لَا يُفِيدُ الْحُكْمَ بِأَنَّهُ هُوَ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي يَجِبُ الْحُكْمُ بِهِ عَلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِ الْقَرِينَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ : بِعْته هَذَا الثَّوْبَ بِأَلْفٍ فَلَمْ يَقْبَلْ لَمْ يَكُنْ مُخْطِئًا وَيَكُونُ مُسْتَعْمِلًا لِاسْمِ الْكُلِّ فِي الْجُزْءِ ، فَلَوْ دَلَّ صِحَّةُ قَوْلِ الْقَائِلِ وَهَبْت فَلَمْ يَقْبَلْ عَلَى أَنَّ وَضْعَ لَفْظِ الْهِبَةِ لِمُجَرَّدِ الْإِيجَابِ دَلَّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ : بِعْته فَلَمْ يَقْبَلْ عَلَى أَنَّ الْبَيْعَ لِمُجَرَّدِ الْإِيجَابِ وَالْإِثْبَاتِ .
وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال بِقَوْلِ الصِّدِّيقِ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : كُنْت نَحَلْتُك عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ مَالِ الْعَالِيَةِ وَإِنَّك لَمْ تَكُونِي حُزْتِيهِ .
فَسَمَّاهُ نِحْلًى قَبْلَ الْقَبْضِ ، فَإِنَّمَا يَنْتَهِضُ عَلَى إحْدَى رِوَايَتَيْ زُفَرَ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ فِيهِ الْقَبْضُ أَيْضًا ، وَلَسْنَا نُصَحِّحُهَا بَلْ الْمُعْتَبَرُ الْمَجْمُوعُ مِنْ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ ، وَالْقَبْضُ شَرْطُ الْحُكْمِ لَا مِنْ تَمَامِ السَّبَبِ وَمُسَمَّى اللَّفْظِ .
وَأَمَّا الْوَجْهُ الْقَائِلُ : إنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْهِبَةِ إظْهَارُ السَّمَاحَةِ وَهُوَ يَتِمُّ بِالْإِيجَابِ : يَعْنِي فَالظَّاهِرُ أَنَّ الِاسْمَ بِإِزَاءِ مَا يَتِمُّ بِهِ الْمَقْصُودُ مِنْ الْعَقْدِ فَلَا يَخْفَى أَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ ، وَإِلَّا كَانَتْ أَسْمَاءُ الْأُمُورِ الَّتِي لَهَا غَايَاتٌ أَسْمَاءً لِتِلْكَ الْغَايَاتِ .
وَأَيْضًا فَقَصْدُ الْإِظْهَارِ لِلسَّمَاحَةِ هُوَ عَيْنُ الْمُرَاءَاةِ ، وَلَا يَنْبَغِي حَمْلُ فِعْلِ جَمِيعِ الْعُقَلَاءِ عَلَيْهِ ، بَلْ اللَّازِمُ كَوْنُ الْمَقْصُودِ مِنْهَا وُصُولَ

النَّفْعِ لِلْحَبِيبِ وَالْفَقِيرِ الْأَجْنَبِيِّ ، وَهَذَا أَلْيَقُ أَنْ يُجْعَلَ مَقْصُودًا لِلْعُقَلَاءِ فَيَجِبُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ ، وَعَلَى اعْتِبَارِهِ لَا يَتَحَقَّقُ الْوُصُولُ إلَّا بِمَجْمُوعِ الْقَبُولِ وَالْإِيجَابِ ، وَأَقَرَّ بِهَا أَنَّهُ اسْمٌ لِلتَّبَرُّعِ كَمَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ .
وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَيَتِمُّ بِالْمُتَبَرِّعِ وَإِنْ كَانَ تَمَامُ السَّبَبِ يَتَوَقَّفُ عَلَى شَيْءٍ آخَرَ ، فَهُوَ اسْمٌ لِجُزْءِ السَّبَبِ إنْ سَلِمَ هَذَا ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْقَرْضُ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ قَبُولَ الْمُسْتَقْرِضِ لَا بُدَّ مِنْهُ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ فِي حُكْمِ الْمُعَاوَضَةِ ، فَلَوْ قَالَ أَقْرَضَنِي فُلَانٌ أَلْفًا فَلَمْ أَقْبَلْ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ .
وَنُقِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ رِوَايَتَانِ .
وَالْإِبْرَاءُ يُشْبِهُ الْبَيْعَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُفِيدُ الْمِلْكَ بِاللَّفْظِ دُونَ قَبْضٍ .
وَالْهِبَةُ ؛ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ بِلَا عِوَضٍ ، وَلِهَذَا ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ أَنَّ فِي الْقَرْضِ وَالْإِبْرَاءِ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا ، وَقَالَ الْحَلْوَانِيُّ فِيهَا كَالْهِبَةِ .
قِيلَ وَالْأَشْبَهُ أَنْ يَلْحَقَ الْإِبْرَاءُ الْهِبَةَ لِعَدَمِ الْعِوَضِ ، وَالْقَرْضُ بِالْبَيْعِ لِلْعِوَضِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِبْرَاءَ لَهُ شَبَهَانِ : شَبَهٌ بِالْإِسْقَاطِ ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ وَصْفٌ فِي الذِّمَّةِ لَا عَيْنُ مَالٍ ، فَبِاعْتِبَارِهِ قُلْنَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُولِ .
وَشَبَهٌ بِالتَّمْلِيكَاتِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَآلَهُ إلَى عَيْنِ الْمَالِ حَتَّى جَرَتْ أَحْكَامُ الْمَالِ عَلَيْهِ فِي بَابِ الزَّكَاةِ ، وَلِهَذَا قُلْنَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ وَلَا يُقْبَلُ التَّعْلِيقُ ، وَلَا يُعْلَمُ خِلَافٌ فِي أَنَّ الِاسْتِقْرَاضَ كَالْهِبَةِ .
[ فُرُوعٌ ] حَلَفَ لَا يُوصِي بِوَصِيَّةٍ فَوَهَبَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ لَا يَحْنَثُ ، وَكَذَا لَوْ اشْتَرَى أَبَاهُ فِي مَرَضِهِ فَعَتَقَ عَلَيْهِ ، وَلَوْ حَلَفَ لَيَهَبَنَّهُ الْيَوْمَ مِائَةَ دِرْهَمٍ فَوَهَبَهُ مِائَةً لَهُ عَلَى آخَرَ وَأَمَرَهُ بِقَبْضِهَا بَرَّ ، وَلَوْ مَاتَ الْوَاهِبُ قَبْلَ قَبْضِ الْمَوْهُوبِ لَهُ لَا يَتَمَكَّنُ

مِنْ قَبْضِهِ ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مِلْكًا لِلْوَرَثَةِ .
وَفِي شَرْحِ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ لِلْعَتَّابِيِّ أَنَّ الْإِبَاحَةَ وَالْوَصِيَّةَ وَالْإِقْرَارَ وَالِاسْتِخْدَامَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الْقَبُولُ مِنْ الْآخَرِ .
وَلَوْ قَالَ لِعَبْدٍ : إنْ وَهَبَك فُلَانٌ مِنِّي فَأَنْتَ حُرٌّ فَوَهَبَهُ مِنْهُ إنْ كَانَ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْوَاهِبِ لَا يَعْتِقُ سَلَّمَهُ إلَيْهِ أَوْ لَا ، وَإِنْ كَانَ وَدِيعَةً فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ إنْ بَدَأَ الْوَاهِبُ فَقَالَ : وَهَبْتُكَهُ لَا يُعْتَقُ قَبِلَ أَوْ لَمْ يَقْبَلْ ، وَإِنْ بَدَأَ الْمَوْهُوبُ لَهُ فَقَالَ وُهِبْتُهُ مِنْك عَتَقَ .
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَهَبُ عَبْدَهُ مِنْ فُلَانٍ فَوَهَبَهُ لَهُ أَجْنَبِيٌّ فَأَجَازَ الْحَالِفُ الْهِبَةَ حَنِثَ كَذَا رَوَاهُ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ .
وَلَا يَهَبُ عَبْدَهُ لِفُلَانٍ فَوَهَبَهُ لَهُ عَلَى عِوَضٍ حَنِثَ .
حَلَفَ لَا يَسْتَدِينُ دَيْنًا فَتَزَوَّجَ لَا يَحْنَثُ .
وَلَوْ حَلَفَ لَا يُشَارِكُهُ ثُمَّ شَارَكَهُ بِمَالٍ ابْنِهِ الصَّغِيرِ فَالشَّرِيكُ هُوَ الِابْنُ لَا الْأَبُ ؛ لِأَنَّهُ لَا رِبْحَ لِلْأَبِ فِي الْمَالِ ، وَتَنْعَقِدُ يَمِينُ نَفْيِ الشَّرِكَةِ عَلَى مَا عَلَيْهِ عَادَاتُ النَّاسِ مِنْ الشَّرِكَةِ فِي التِّجَارَاتِ دُونَ الْأَعْيَانِ ، فَلَوْ اشْتَرَيَا عَبْدًا لَمْ يَحْنَثْ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ : لَا يَكُونُ بَيْنِي وَبَيْنَهُ شَرِكَةٌ فِي شَيْءٍ حَيْثُ يَحْنَثُ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ وَرِثَا شَيْئًا لَا يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُشَارِكْهُ مُخْتَارًا إنَّمَا لَزِمَهُ حُكْمًا أَحَبَّ أَوْ كَرِهَ

( وَمَنْ حَلَفَ لَا يَشُمُّ رَيْحَانًا فَشَمَّ وَرْدًا أَوْ يَاسَمِينًا لَا يَحْنَثُ ) لِأَنَّهُ اسْمٌ لِمَا لَا سَاقَ لَهُ وَلَهُمَا سَاقٌ
( قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يَشَمُّ رَيْحَانًا فَشَمَّ وَرْدًا أَوْ يَاسَمِينًا لَمْ يَحْنَثْ ) وَيَشَمُّ هُوَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالشِّينِ مُضَارِعُ شَمِمْت الطِّيبَ بِكَسْرِ الْمِيمِ فِي الْمَاضِي هَذِهِ هِيَ اللُّغَةُ الْفَصِيحَةُ الْمَشْهُورَةُ ، وَأَمَّا شَمَمْت الطِّيبَ أَشُمُّهُ بِفَتْحِ الْمِيمِ فِي الْمَاضِي وَضَمِّهَا فِي الْمُضَارِعِ فَقَدْ أَنْكَرَهَا بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ وَقَالَ هُوَ خَطَأٌ وَصُحِّحَ عَدَمُهُ فَقَدْ نَقَلَهَا الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ وَإِنْ كَانَتْ لَيْسَتْ بِفَصِيحَةٍ .
ثُمَّ يَمِينُ الشَّمِّ تَنْعَقِدُ عَلَى الشَّمِّ الْمَقْصُودِ ، فَلَوْ حَلَفَ لَا يَشَمُّ طِيبًا فَوَجَدَ رِيحَهُ لَمْ يَحْنَثْ وَلَوْ وَصَلَتْ الرَّائِحَةُ إلَى دِمَاغِهِ .
وَفِي الْمُغْرِبِ : الرَّيْحَانُ كُلُّ مَا طَابَ رِيحُهُ مِنْ النَّبَاتِ .
وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ : مَا لِسَاقِهِ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ كَمَا لِوَرَقِهِ .
وَقِيلَ فِي عُرْفِ أَهْلِ الْعِرَاقِ اسْمٌ لِمَا لَا سَاقَ لَهُ مِنْ الْبُقُولِ مِمَّا لَهُ رَائِحَةٌ مُسْتَلَذَّةٌ .
وَقِيلَ اسْمٌ لِمَا لَيْسَ لَهُ شَجَرٌ ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى { وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ } ثُمَّ قَالَ { وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانِ } وَلِأَنَّ الرَّيْحَانَ إنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى مَا يَنْبُتُ مِنْ بَزْرِهِ مِمَّا لَا شَجَرَ لَهُ وَلِعَيْنِهِ رَائِحَةٌ مُسْتَلَذَّةٌ ، وَشَجَرُ الْوَرْدِ وَالْيَاسَمِينِ لَيْسَ لِعَيْنِهِ رَائِحَةٌ إنَّمَا الرَّائِحَةُ لِلزَّهْرِ خَاصَّةً ، هَذَا وَاَلَّذِي يَجِبُ أَنْ يُعَوَّلَ عَلَيْهِ فِي دِيَارِنَا إهْدَارُ ذَلِكَ كُلِّهِ ؛ لِأَنَّ الرَّيْحَانَ مُتَعَارَفٌ لِنَوْعٍ وَهُوَ رَيْحَانُ الْحَمَاحِمِ ، وَأَمَّا كَوْنُ الرَّيْحَانِ التَّرْنَجِيِّ مِنْهُ فَيُمْكِنُ أَنْ لَا يَكُونَ ؛ لِأَنَّهُمْ يُلْزِمُونَهُ التَّقْيِيدَ فَيُقَالُ رَيْحَانٌ تُرُنْجِيٌّ ، وَعِنْدَنَا يُطْلِقُونَ اسْمَ الرَّيْحَانِ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ إلَّا الْحَمَاحِمُ فَلَا يَحْنَثُ إلَّا بِعَيْنِ ذَلِكَ النَّوْعِ

( وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي بَنَفْسَجًا وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَهُوَ عَلَى دُهْنِهِ ) اعْتِبَارًا لِلْعُرْفِ وَلِهَذَا يُسَمَّى بَائِعُهُ بَائِعَ الْبَنَفْسَجِ وَالشِّرَاءُ يَنْبَنِي عَلَيْهِ وَقِيلَ فِي عُرْفِنَا يَقَعُ عَلَى الْوَرَقِ ( وَإِنْ حَلَفَ عَلَى الْوَرْدِ فَالْيَمِينُ عَلَى الْوَرَقِ ) لِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِ وَالْعُرْفُ مُقَرِّرٌ لَهُ ، وَفِي الْبَنَفْسَجِ قَاضٍ عَلَيْهِ .
( قَوْلُهُ : وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي بَنَفْسَجًا فَهُوَ عَلَى دُهْنِهِ ) دُونَ وَرَقِهِ فَلَا يَحْنَثُ بِوَرَقِهِ .
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ يَحْنَثُ بِهِ أَيْضًا بِعُمُومِ الْمَجَازِ ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى الْعُرْفِ فَكَانَ فِي عُرْفِ أَهْلِ الْكُوفَةِ بَائِعُ الْوَرَقِ لَا يُسَمَّى بَائِعَ الْبَنَفْسَجِ وَإِنَّمَا يُسَمَّى بِهِ بَائِعَ الدُّهْنِ ثُمَّ صَارَ كُلٌّ يُسَمَّى بِهِ فِي أَيَّامِ الْكَرْخِيِّ فَقَالَ بِهِ ، وَأَمَّا فِي عُرْفِنَا فَيَجِبُ أَنْ لَا يَنْعَقِدَ إلَّا عَلَى نَفْسِ النَّبَاتِ فَلَا يَحْنَثُ بِالدُّهْنِ أَصْلًا كَمَا قَالَ فِي الْوَرْدِ وَالْحِنَّاءِ إنَّ الْيَمِينَ عَلَى شِرَائِهِمَا يَنْصَرِفُ إلَى الْوَرَقِ ؛ لِأَنَّهُمَا اسْمٌ لِلْوَرَقِ وَالْعُرْفُ مُقَرِّرٌ لَهُ بِخِلَافِهِ فِي الْبَنَفْسَجِ .

[ فُرُوعٌ مُتَفَرِّقَةُ الْأَصْنَافِ ] إذَا حَلَفَ عَلَى الدَّجَاجِ نَفْيًا أَوْ إثْبَاتًا وَكَذَا الْحَمَلُ وَالْإِبِلُ وَالْبَعِيرُ وَالْجَزُورُ وَالْبَقَرُ وَالْبَقَرَةُ وَالْبَغْلُ وَالْبَغْلَةُ وَالشَّاةُ وَالْغَنَمُ وَالْحِمَارُ وَالْخَيْلُ يَتَنَاوَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى وَالتَّاءُ لِلْوَحْدَةِ ، قَالَ قَائِلُهُمْ : لَمَّا مَرَرْت بِدَيْرِ هِنْدٍ أَرَّقَنِي صَوْتُ الدَّجَاجِ وَضَرْبٌ بِالنَّوَاقِيسِ وَالصَّوْتُ إنَّمَا هُوَ لِلدِّيكِ ، وَفِي الْحَدِيثِ { فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ شَاةٌ } وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ الْبَقَرَةُ : لَا تَتَنَاوَلُ الثَّوْرَ وَلَيْسَ بِذَلِكَ ، وَالثَّوْرُ وَالْكَبْشُ وَالدِّيكُ لِلذَّكَرِ ، وَالْبِرْذَوْنُ لِلْعَجَمِيِّ ، وَالْبَقَرُ لَا يَتَنَاوَلُ الْجَامُوسَ لِلْعُرْفِ .

حَلَفَ لَا يَفْعَلُ كَذَا وَلَا كَذَا فَفَعَلَ وَاحِدًا مِنْهُمَا حَنِثَ ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ حَرْفَ النَّفْيِ فَقَالَ لَا أَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا فَكَذَلِكَ يَحْنَثُ .

حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِمَّا يَجِيءُ بِهِ فُلَانٌ فَجَاءَ بِحِمَّصٍ فَطَبَخَ فَأَكَلَ مِنْ مَرَقِهِ وَفِيهِ طَعْمُ الْحِمَّصِ حَنِثَ ، ذَكَرَهَا فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانَ .
وَعَلَى هَذَا يَجِبُ فِي مَسْأَلَةِ الْحَلِفِ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا فَأَكَلَ مِنْ مَرَقِهِ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ أَنْ يُقَيِّدَ بِمَا إذَا لَمْ يَجِدْ طَعْمَ اللَّحْمِ .

حَلَفَ لَا يَشْرَبُ حَرَامًا مِنْ هَذَا الْجِنْسِ فَقَاءَ وَشَرِبَ قَيْأَهُ لَا يَحْنَثُ .

قَالَ لِعَبْدِهِ : إنْ سَقَيْت الْحِمَارَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَذَهَبَ بِهِ فَسَقَاهُ فَلَمْ يَشْرَبْ عَتَقَ ؛ لِأَنَّهُ سَقَاهُ لَكِنَّهُ لَمْ يَشْرَبْ .

حَلَفَ لَا يَشْرَبُ عَصِيرًا فَعُصِرَ عُنْقُودٌ فِي حَلْقِهِ لَا يَحْنَثُ ، وَلَوْ عَصَرَهُ فِي كَفِّهِ فَحَسَاهُ حَنِثَ ، أَمَّا لَوْ قَالَ : لَا يَدْخُلُ حَلْقِي حَنِثَ فِيهِمَا .
وَفِي الْفَتَاوَى : هَذَا فِي عُرْفِهِمْ ، أَمَّا عُرْفُنَا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ حَانِثًا ؛ لِأَنَّ مَاءَ الْعِنَبِ لَا يُسَمَّى عَصِيرًا فِي أَوَّلِ مَا يُعْصَرُ .

حَلَفَ عَلَى امْرَأَتِهِ لَا تَسْكُنُ هَذِهِ الدَّارَ وَهِيَ فِيهَا وَبَابُهَا مُغْلَقٌ وَلِلدَّارِ حَافِظٌ فَهِيَ مَعْذُورَةٌ حَتَّى يُفْتَحَ الْبَابُ وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَتَسَوَّرَ الْحَائِطَ .
قَالَ الْفَقِيهُ : وَبِهِ نَأْخُذُ .
قَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ : فُرِّقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا لَوْ قَالَ : إنْ لَمْ أَخْرُجْ مِنْ هَذَا الْمَنْزِلِ الْيَوْمَ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ فَقُيِّدَ وَمُنِعَ مِنْ الْخُرُوجِ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ .

وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَهِيَ فِي بَيْتِ وَالِدِهَا : إنْ لَمْ تَحْضُرِي اللَّيْلَةَ فَمَنَعَهَا الْوَالِدُ مِنْ الْحُضُورِ مَنْعًا حِسِّيًّا حَنِثَ .
قَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ : هَذَا فِي فَتَاوَى الْفَضْلِيِّ ، وَذَكَرَ بَعْدَ هَذَا أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ ، قَالَ : وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَحْنَثُ ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَبَيْنَ عَدَمِ الْفِعْلِ ، وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ قَدْ يَجْعَلُ الْمَوْجُودَ مَعْدُومًا بِالْعُذْرِ كَالْإِكْرَاهِ وَغَيْرِهِ ، وَلَا يُجْعَلُ الْمَعْدُومُ مَوْجُودًا وَإِنْ وُجِدَ الْعُذْرُ ا هـ .
يَعْنِي وَقَدْ أُكْرِهَتْ عَلَى السُّكْنَى وَهُوَ فِعْلٌ ، وَالْمُكْرَهُ عَلَى الْفِعْلِ لَا يُضَافُ الْفِعْلُ إلَيْهِ فَلَا يَحْنَثُ ، وَقَدْ صَرَّحَ بِجَوَابِ الشَّيْخِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ فِيمَنْ قَالَ : إنْ لَمْ أَخْرُجْ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ الْيَوْمَ فَقُيِّدَ الْحَالِفُ وَمُنِعَ أَيَّامًا أَنَّهُ يَحْنَثُ وَهُوَ الصَّحِيحُ .
وَفِي الْخُلَاصَةِ : لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ سَكَنْت هَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَكَانَ لَيْلًا فَهِيَ مَعْذُورَةٌ حَتَّى تُصْبِحَ .
وَلَوْ قَالَ الرَّجُلُ لَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا وَهُوَ الصَّحِيحُ إلَّا لِخَوْفِ لِصٍّ وَغَيْرِهِ وَهَذَا مَا سَلَفَ الْوَعْدُ بِهِ .

قَالَ كُلُّ عَبْدٍ لِي حُرٌّ وَلَهُ عَبْدٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ لَا يُعْتَقُ لِانْصِرَافِهِ إلَى التَّامِّ ، وَمِثْلُهُ لَا آكُلُ مِمَّا اشْتَرَاهُ فُلَانٌ فَاشْتَرَاهُ مَعَ آخَرَ فَصَارَ مُشْتَرَكًا لَا يَحْنَثُ لَوْ أَكَلَ مِنْهُ ، وَيَعْتِقُ عَبْدُهُ الْمَأْذُونُ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ ، وَلَا يَعْتِقُ عَبْدُ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا كَانَ عَبْدُهُ مُسْتَغْرِقًا كَسْبَهُ وَرَقَبَتَهُ بِالدَّيْنِ وَإِنْ نَوَى الْمَوْلَى عِتْقَهُمْ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ إنْ نَوَاهُ عَتَقَ وَإِلَّا فَلَا ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إنْ نَوَاهُ عَتَقَ وَإِلَّا فَلَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَا .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ عَتَقُوا جَمِيعًا فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا .

قَالَ لِغَيْرِهِ وَاَللَّهِ لَتَفْعَلَنَّ كَذَا وَلَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَهُوَ حَالِفٌ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ الْمُخَاطَبُ حَنِثَ وَإِنْ أَرَادَ بِهِ الِاسْتِحْلَافَ فَهُوَ اسْتِحْلَافٌ وَلَا شَيْءَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا إذَا لَمْ يَفْعَلْ .
وَلَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ أَقْسَمْت أَوْ أَقْسَمْت بِاَللَّهِ عَلَيْك لَتَفْعَلَنَّ كَذَا أَوْ قَالَ أَشْهَدُ بِاَللَّهِ أَوْ أَشْهَدُ عَلَيْك أَوْ لَمْ يَقُلْ عَلَيْك فَالْحَالِفُ هُوَ الْمُبْتَدِئُ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَرَادَ الِاسْتِفْهَامَ فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ أَيْضًا .
وَلَوْ قَالَ : عَلَيْك عَهْدُ اللَّهِ إنْ فَعَلْت فَقَالَ : نَعَمْ فَالْحَالِفُ الْمُجِيبُ وَلَا يَمِينَ عَلَى الْمُبْتَدِئِ وَإِنْ نَوَاهُ .

اشْتَرَى مَنًّا مِنْ اللَّحْمِ فَقَالَتْ امْرَأَتُهُ : هُوَ أَقَلُّ مِنْ مَنٍّ وَحَلَفَتْ عَلَيْهِ فَقَالَ : إنْ لَمْ يَكُنْ مَنًّا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَإِنَّهُ يُطْبَخُ قَبْلَ أَنْ يُوزَنَ فَلَا يَحْنَثُ هُوَ وَلَا الْمَرْأَةُ .

حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ خُبْزِ خَتْنِهِ فَسَافَرَ الْخَتْنُ وَخَلَّفَ لِامْرَأَتِهِ دَقِيقًا نَفَقَةً فَأَكَلَ مِنْهُ حَنِثَ ؛ لِأَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ .
قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ : هَذَا إذَا لَمْ يُفْرِزْ قَدْرًا لَكِنْ قَالَ لَهَا : كُلِي مِنْ دَقِيقِي بِقَدْرِ مَا يَكْفِيكِ ، أَمَّا إذَا أَفْرَزَ قَدْرًا مِنْ الدَّقِيقِ وَأَعْطَاهَا إيَّاهُ صَارَ مِلْكًا لَهَا فَلَا يَحْنَثُ .
قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ : وَفِي الْفَتَاوَى : حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ مَالِ فُلَانٍ فَتَنَاهَدَا فَأَكَلَ الْحَالِفُ لَا يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا آكِلٌ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ فِي الْعُرْفِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ .
قَالَ : قُلْت لِلْقَاضِي الْإِمَامِ : لَوْ كَانَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ صَبِيًّا لَا يَجُوزُ هَذَا ، وَلَوْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ آكِلًا مِنْ مَالِ نَفْسِهِ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ ، قَالَ : نَعَمْ اسْتَصْوَبَنِي وَلَكِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِالْخِلَافِ ا هـ .
وَأَقُولُ : الْفَرْقُ أَنَّ عَدَمَ الْحِنْثِ لِأَكْلِ كُلٍّ مِنْ الْمُتَنَاهِدَيْنِ مَالَ نَفْسِهِ عُرْفًا لَا حَقِيقَةَ ، وَعَلَى الْعُرْفِ تَبْتَنِي الْأَيْمَانُ فَلَمْ يَحْنَثْ ، وَعَدَمُ جَوَازِ التَّنَاهُدِ مَعَ الصَّبِيِّ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ آكِلٍ مَالَ نَفْسِهِ حَقِيقَةً بَلْ بَعْضُ مَالِ الصَّبِيِّ أَيْضًا .
وَفِي الْخُلَاصَةِ : حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ خُبْزِ فُلَانٍ فَأَكَلَ خُبْزًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ فُلَانٍ يَحْنَثُ .
وَقَالَ فِي مَجْمُوعِ النَّوَازِلِ : لَا يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّهُ أَكَلَ حِصَّتَهُ .

وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ مَالِ فُلَانٍ فَمَاتَ فُلَانٌ وَهُوَ وَارِثُهُ فَأَكَلَ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ سِوَاهُ أَوْ كَانَ فَأَكَلَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ لَا يَحْنَثُ وَإِلَّا حَنِثَ .

وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رَغِيفًا لِفُلَانٍ فَأَكَلَ رَغِيفَيْنِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ يَحْنَثُ .

فِي مَجْمُوعِ النَّوَازِلِ : وَكَذَا دَارٌ بَيْنَ أُخْتَيْنِ قَالَ زَوْجُ إحْدَاهُمَا إنْ دَخَلْت إلَّا فِي نَصِيبِك فَأَنْتِ طَالِقٌ وَهِيَ غَيْرُ مَقْسُومَةٍ فَدَخَلَتْ لَا يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّهَا مَا دَخَلَتْ فِي غَيْرِ نَصِيبِهَا .

وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارًا لِفُلَانٍ فَدَخَلَ دَارًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ لَا يَحْنَثُ .

وَلَوْ حَلَفَ لَا يَزْرَعُ أَرْضَ فُلَانٍ فَزَرَعَ أَرْضًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّ نِصْفَ الْأَرْضِ يُسَمَّى أَرْضًا وَنِصْفَ الدَّارِ لَا يُسَمَّى دَارًا .

وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ مَالِ فُلَانٍ فَأَكَلَ مِنْ حَبٍّ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حَنِثَ .
وَلَوْ اشْتَرَى بِدَرَاهِمَ مُشْتَرِكَةٍ بَيْنَهُمَا لَمْ يَحْنَثْ .

وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ طَبِيخِ فُلَانٍ فَأَكَلَ مِمَّا طَبَخَهُ مَعَ غَيْرِهِ حَنِثَ .

وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ قِدْرِ فُلَانٍ فَأَكَلَ مِنْ قِدْرٍ طَبَخَهَا فُلَانٌ لَمْ يَحْنَثْ .

وَفِي الْأَصْلِ لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ طَعَامٍ اشْتَرَاهُ فُلَانٌ فَأَكَلَ مِنْ طَعَامٍ اشْتَرَاهُ مَعَ غَيْرِهِ حَنِثَ إلَّا إذَا نَوَى شِرَاءَهُ وَحْدَهُ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا اشْتَرَاهُ فُلَانٌ أَوْ يَمْلِكُهُ فَلَبِسَ ثَوْبًا اشْتَرَاهُ فُلَانٌ مَعَ غَيْرِهِ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ اسْمٌ لِلْكُلِّ فَلَا يَقَعُ عَلَى الْبَعْضِ .
وَمِثْلُهُ لَا يَدْخُلُ دَارًا اشْتَرَاهَا فُلَانٌ فَدَخَلَ دَارًا اشْتَرَاهَا فُلَانٌ مَعَ غَيْرِهِ لَا يَحْنَثُ .

وَفِي مَجْمُوعِ النَّوَازِلِ : امْرَأَةٌ وَهَبَتْ طَيْرًا فَقَالَ لَهَا زَوْجُهَا : إكراز نرددايكي تَوّ بحرم فَأَنْتِ طَالِقٌ فَوَهَبَتْ مِنْ آخَرَ فَأَكَلَ الْحَالِفُ يَحْنَثُ .
قَالَ صَاحِبُ الْخُلَاصَةِ : وَعَلَى قِيَاسِ مَا يَأْتِي يَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْنَثَ .
صُورَتُهَا فِي الْفَتَاوَى : حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ ثَمَنِ غَزْلِ فُلَانَةَ فَبَاعَتْ غَزْلَهَا وَوَهَبَتْ الثَّمَنَ لِابْنِهَا ثُمَّ وَهَبَ الِابْنُ لِلْحَالِفِ فَاشْتَرَى بِهِ شَيْئًا فَأَكَلَهُ لَا يَحْنَثُ .
قَالَ وَهَذَا أَصَحُّ مِنْ الْأَوَّلِ .

وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : لَوْ قَالَ : إنْ أَكَلْت الْيَوْمَ إلَّا رَغِيفًا أَوْ إنْ تَغَدَّيْت بِرَغِيفٍ فَعَبْدِي حُرٌّ فَأَكَلَ رَغِيفًا ثُمَّ أَكَلَ بَعْدَهُ تَمْرًا أَوْ فَاكِهَةً حَنِثَ .
وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانَ : حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الْيَوْمَ إلَّا رَغِيفًا مَعَ الْخَلِّ أَوْ الزَّيْتِ أَوْ اللَّبَنِ لَا يَكُونُ حَانِثًا ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَقْتَضِي الْمُجَانَسَةَ الْمَعْنَى الْمَطْلُوبُ ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ لَا تُجَانِسُ الرَّغِيفَ فِي الْمَعْنَى الْمَطْلُوبِ وَهُوَ الْأَكْلُ وَهَذَا خِلَافُ الْأَوَّلِ .

وَلَوْ قَالَ : إنْ أَكَلْت الْيَوْمَ أَكْثَرَ مِنْ رَغِيفٍ فَهُوَ عَلَى الْخُبْزِ خَاصَّةً .
وَفِي الْفَتَاوَى : حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذِهِ الْخَابِيَةَ الَّتِي فِيهَا الزَّيْتُ فَأَكَلَ بَعْضَهَا حَنِثَ وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الْأَكْلِ بَيْعٌ فَبَاعَ النِّصْفَ لَا يَحْنَثُ .

وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذِهِ الْبَيْضَةَ لَا يَحْنَثُ حَتَّى يَأْكُلَ كُلَّهَا وَكَذَا فِي الْبَيْضَتَيْنِ .
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذَا الشَّيْءَ كَالرَّغِيفِ مَثَلًا فَأَكَلَ بَعْضَهُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ : إنْ كَانَ شَيْئًا يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْكُلَهُ كُلَّهُ فِي مَرَّةٍ لَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ بَعْضِهِ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إذَا أَكَلَ بَعْضَ مَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَأْكُلَ كُلَّهُ فِي مَجْلِسِهِ يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ وَهُوَ الصَّحِيحُ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : كُلُّ شَيْءٍ يَأْكُلُهُ الرَّجُلُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ أَوْ يَشْرَبُهُ فِي شَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ فَالْحَلِفُ عَلَى جَمِيعِهِ لَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ بَعْضِهِ ، لَكِنْ فِي الْفَتَاوَى لِلْقَاضِي : حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذَا الرَّغِيفَ فَأَكَلَ وَبَقِيَ مِنْهُ شَيْءٌ يَسِيرٌ يَحْنَثُ ، فَإِنْ نَوَى كُلَّهُ صَحَّتْ نِيَّتُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَهَلْ يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ فِيهِ رِوَايَتَانِ ا هـ .
وَكَأَنَّ الْمُرَادَ أَنْ يَتْرُكَ شَيْئًا قَلِيلًا جِدًّا بِحَيْثُ لَا يُقَالُ إلَّا أَنَّ فُلَانًا أَكَلَ جَمِيعَ الرَّغِيفِ لِقِلَّةِ الْمَتْرُوكِ وَإِلَّا فَقَدْ سَمِعْت مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ وَنَصَّ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّهُ إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذَا الرَّغِيفَ لَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ الْبَعْضِ .
وَتَقَدَّمَ مِنْ النُّصُوصِ لَوْ قَالَ : هَذَا الرَّغِيفُ عَلَيَّ حَرَامٌ حَنِثَ بِأَكْلِ لُقْمَةٍ مِنْهُ .
قَالَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانَ : قَالَ مَشَايِخُنَا : الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ حَانِثًا ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : هَذَا الرَّغِيفُ عَلَيَّ حَرَامٌ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ : وَاَللَّهِ لَا آكُلُ هَذَا الرَّغِيفَ ، وَلَوْ قَالَ هَكَذَا لَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ الْبَعْضِ .

قَالَ إبْرَاهِيمُ : سَمِعْت أَبَا يُوسُفَ يَقُولُ فِيمَنْ قَالَ كُلَّمَا أَكَلْت اللَّحْمَ أَوْ كُلَّمَا شَرِبْت الْمَاءَ فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ فَأَكَلَ فَعَلَيْهِ فِي كُلِّ لُقْمَةٍ مِنْ اللَّحْمِ فِي كُلِّ نَفَسٍ مِنْ الْمَاءِ دِرْهَمٌ .

حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا وَفُلَانًا لَا يَحْنَثُ حَتَّى يُكَلِّمَهُمَا إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الْحِنْثَ بِأَحَدِهِمَا فَيَحْنَثُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا ، أَمَّا لَوْ قَالَ : لَا أُكَلِّمُهُمَا أَوْ قَالَ بِالْفَارِسِيَّةِ : اين دوكس سحون نكويم وَنَوَى وَاحِدًا لَا تَصِحُّ نِيَّتُهُ ، ذَكَرَهُ فِي الْمُحِيطِ .
قَالَ : وَيَنْبَغِي أَنْ تَصِحَّ ؛ لِأَنَّ الْمُثَنَّى يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْوَاحِدُ ، فَإِنْ نَوَى ذَلِكَ وَفِيهِ تَغْلِيظٌ عَلَى نَفْسِهِ يَصِحُّ ا هـ .
فَهُوَ مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا كَانَ فِيهِ تَغْلِيظٌ عَلَى نَفْسِهِ .
وَلَوْ قَالَ فُلَانًا أَوْ فُلَانًا حَنِثَ بِأَحَدِهِمَا ، وَكَذَا لَوْ قَالَ فُلَانًا وَلَا فُلَانًا .
وَفِي مَجْمُوعِ النَّوَازِلِ : لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا يَوْمًا وَيَوْمَيْنِ وَثَلَاثَةً فَهُوَ عَلَى سِتَّةِ أَيَّامٍ ، وَلَوْ قَالَ لَا أُكَلِّمُهُ لَا يَوْمًا وَلَا يَوْمَيْنِ وَلَا ثَلَاثَةً فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ .

حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ دَارِ فُلَانٍ فَأَكَلَ مِنْهَا شَيْئًا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ : يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْيَمِينِ الِامْتِنَاعُ عَنْ جَمِيعِ الْمَأْكُولَاتِ ، وَقَالَ غَيْرُهُ : لَا يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ جَمِيعَ الْمَأْكُولَاتِ وَالْمَشْرُوبَاتِ ، أَمَّا لَوْ قَالَ بِالْفَارِسِيَّةِ فَلَا شَكَّ فِي تَنَاوُلِ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ .

حَلَفَ لَا يَغْتَسِلُ مِنْ امْرَأَتِهِ مِنْ جَنَابَةٍ فَجَامَعَهَا ثُمَّ جَامَعَ أُخْرَى أَوْ عَلَى الْعَكْسِ يَحْنَثُ وَإِنْ لَمْ يَغْتَسِلْ ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ انْعَقَدَتْ عَلَى الْجِمَاعِ كِنَايَةً .
وَلَوْ نَوَى حَقِيقَةَ الْغُسْلِ حَنِثَ أَيْضًا إذَا اغْتَسَلَ ؛ لِأَنَّهُ اغْتَسَلَ عَنْهَا وَعَنْ غَيْرِهَا فَيَحْنَثُ ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَتَوَضَّأُ مِنْ الرُّعَافِ وَغَيْرِهِ حَنِثَ .

وَلَوْ حَلَفَ لَا يَحِلُّ تِكَّتَهُ عَلَى امْرَأَتِهِ إنْ أَرَادَ أَنَّهُ يُجَامِعُ صَحَّ وَهُوَ مُولٍ ، وَإِنْ لَمْ يُرِدْ إنْ فَتَحَ سَرَاوِيلَهُ لِلْبَوْلِ ثُمَّ جَامَعَهَا لَا يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّ فَتْحَ سَرَاوِيلِهِ عَلَيْهَا أَنْ يَفْتَحَ لِأَجْلِ جِمَاعِهَا ، وَإِنْ فَتَحَهُ لِجِمَاعِهَا وَلَمْ يُجَامِعْ قَالُوا : يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حَانِثًا لِوُجُودِ شَرْطِ الْحِنْثِ .

وَلَوْ حَلَفَ لَا يَحِلُّ تِكَّتَهُ فِي الْغُرْبَةِ فَجَامَعَ مِنْ غَيْرِ حَلِّ التِّكَّةِ إنْ نَوَى عَيْنَ حَلِّهَا لَا يَحْنَثُ وَصُدِّقَ قَضَاءً ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ يَحْنَثُ وَنَحْوُ هَذَا قَوْلُهُ : إنْ اغْتَسَلْت مِنْ الْحَرَامِ فَعَانَقَ أَجْنَبِيَّةً فَأَنْزَلَ قَالُوا : يُرْجَى أَنْ لَا يَكُونَ حَانِثًا وَيَكُونَ يَمِينُهُ عَلَى الْجِمَاعِ .
وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ لَوْ حَلَفَتْ لَا تَغْسِلُ رَأْسَهَا مِنْ جَنَابَةِ زَوْجِهَا فَجَامَعَهَا مُكْرَهَةً قَالَ الصَّفَّارُ : أَرْجُو أَنْ لَا تَحْنَثَ .
فَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ : لِأَنَّ قَوْلَهَا كِنَايَةٌ عَنْ الْجِمَاعِ ، فَإِذَا كَانَتْ مُكْرَهَةً عَلَيْهِ لَا تَحْنَثْ .
وَلَوْ قَالَ لَهَا عِنْدَ إرَادَتِهِ الْجِمَاعَ : إنْ لَمْ تُمَكِّنِينِي أَوْ لَمْ تَدْخُلِي مَعِي فِي الْبَيْتِ فَلَمْ تَفْعَلْ أَوْ فَعَلَتْ بَعْدَ سَاعَةٍ إنْ كَانَ بَعْدَ سُكُونِ شَهْوَتِهِ حَنِثَ وَإِلَّا لَا

وَفِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ : حَلَفَ لَا يُجَامِعُ امْرَأَتَهُ فَجَامَعَهَا فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ لَا يَحْنَثُ ، فَإِنْ قَالَ : عَنَيْت فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ يَحْنَثُ بِهِمَا .

وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : إنْ فَعَلْت حَرَامًا فِي هَذِهِ السَّنَةِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَهَذَا عَلَى الْجِمَاعِ ، فَإِنْ عَلِمَتْهُ بِأَنَّ فِعْلَهُ بِمُعَايَنَتِهَا بِتَدَاخُلِ الْفَرْجَيْنِ وَتَعْرِفُ أَنَّهَا لَيْسَتْ مَمْلُوكَةً لَهُ وَلَا زَوْجَةً أَوْ شَهِدَ عِنْدَهَا أَرْبَعَةٌ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ شَهَادَةٌ عَلَى الزِّنَا وَالزِّنَا لَا يَثْبُتُ إلَّا بِذَلِكَ ، وَلَوْ أَقَرَّ لَهَا كَفَى مَرَّةً لَا يَسَعُهَا الْمُقَامُ مَعَهُ ، فَإِنْ جَحَدَ عِنْدَ الْحَاكِمِ أَنَّهُ فَعَلَ وَلَيْسَ لِامْرَأَتِهِ بَيِّنَةٌ حَلَّفَتْهُ عِنْدَ الْحَاكِمِ ، فَإِنْ حَلَفَ وَسِعَهَا الْمُقَامُ مَعَهُ .
قُلْت : فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُقَيِّدُ مَسْأَلَةَ مَا إذَا عَلِمَتْ أَنَّهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا يَقِينًا ثُمَّ أَنْكَرَ فَإِنَّهَا لَا تُمَكِّنُهُ أَبَدًا ، وَإِذَا لَمْ تَسْتَطِعْ مَنْعَهُ عَنْهَا لَهَا أَنْ تَسُمَّهُ .

وَلَوْ قَالَ لَهَا بِالْفَارِسِيَّةِ : اكرتو باكسي حرام كِنْهُ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَأَبَانَهَا فَجَامَعَهَا فِي الْعِدَّةِ طَلُقَتْ عِنْدَهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا يَعْتَبِرَانِ عُمُومَ اللَّفْظِ ، وَأَبُو يُوسُفَ يَعْتَبِرُ الْغَرَضَ ، فَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ لَا يَحْنَثُ فَلَا تَطْلُقُ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى ، ذَكَرَهُ فِي الْخُلَاصَةِ وَغَيْرِهَا .
وَلَوْ قَالَ الْآخَرُ إنْ فَعَلْت فَلَمْ أَفْعَلْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنْ لَمْ يَفْعَلْ عَلَى فَوْرِ فِعْلِهِ حَنِثَ .

حَلَفَ لَا يَعْرِفُهُ وَهُوَ يَعْلَمُ شَخْصَهُ وَنَسَبَهُ وَلَا يَعْرِفُ اسْمَهُ ، فَفِي الْبَالِغِ لَا يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ الْبَالِغِ كَذَلِكَ ، وَيَحْنَثُ فِي الصَّغِيرِ ، وَعَلَيْهِ فُرِّعَ مَا لَوْ وُلِدَ لِرَجُلٍ وَلَدٌ فَأَخْرَجَهُ إلَى جَارٍ لَهُ وَلَمْ يُسَمِّهِ بَعْدُ فَرَآهُ الْجَارُ ثُمَّ حَلَفَ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ هَذَا الصَّبِيَّ يَحْنَثُ .

وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَدَخَلَ بِهَا وَلَا يَدْرِي اسْمَهَا فَحَلَفَ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُهَا لَا يَحْنَثُ ، وَكَذَا لَوْ حَلَفَ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ هَذَا الرَّجُلَ وَهُوَ يَعْرِفُهُ بِوَجْهِهِ دُونَ اسْمِهِ لَا يَحْنَثُ إلَّا أَنْ يَعْنِيَ بِهِ مَعْرِفَةَ وَجْهِهِ فَيَحْنَثُ ؛ لِأَنَّهُ شَدَّدَ عَلَى نَفْسِهِ .

وَلَوْ حَلَفَ لَا يَفْعَلُ مَا دَامَ فُلَانٌ فِي هَذِهِ الْبَلْدَةِ فَخَرَجَ فَفَعَلَ ثُمَّ رَجَعَ فُلَانٌ فَفَعَلَهُ ثَانِيًا لَا يَحْنَثُ .

حَلَفَ لَا أَتْرُكُ فُلَانًا يَفْعَلُ كَذَا كَلَا يَمُرُّ أَوْ لَا يَذْهَبُ مِنْ هُنَا أَوْ لَا يَدْخُلُ يَبَرُّ بِقَوْلِهِ لَهُ لَا تَفْعَلْ لَا تَخْرُجْ لَا تَمُرَّ أَطَاعَهُ أَوْ عَصَاهُ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ .

كِتَابُ الْحُدُودِ

( كِتَابُ الْحُدُودِ ) لَمَّا اشْتَمَلَتْ الْأَيْمَانُ عَلَى بَيَانِ الْكَفَّارَةِ وَهِيَ دَائِرَةٌ بَيْنَ الْعُقُوبَةِ وَالْعِبَادَةِ أَوَّلَاهَا الْحُدُودَ الَّتِي هِيَ عُقُوبَاتٌ مَحْضَةٌ انْدِفَاعًا إلَى بَيَانِ الْأَحْكَامِ بِتَدْرِيجٍ ، وَلَوْلَا مَا يُعَارِضُ هَذِهِ الْمُنَاسَبَةَ مِنْ لُزُومِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْعِبَادَاتِ الْمَحْضَةِ لَكَانَ إيلَاءُ الْحُدُودِ الصَّوْمَ أَوْجَهُ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى بَيَانِ كَفَّارَةِ الْإِفْطَارِ الْمُغَلَّبِ فِيهَا جِهَةُ الْعُقُوبَةِ حَتَّى تَدَاخَلَتْ عَلَى مَا عُرِفَ ، بِخِلَافِ كَفَّارَةِ الْأَيْمَانِ الْمُغَلَّبِ فِيهَا جِهَةُ الْعِبَادَةِ ، لَكِنْ كَانَ يَكُونُ التَّرْتِيبُ حِينَئِذٍ الصَّلَاةَ ثُمَّ الْأَيْمَانَ ثُمَّ الصَّوْمَ ثُمَّ الْحُدُودَ ثُمَّ الْحَجَّ ، فَيَقَعُ مِنْ الْفَصْلِ بَيْنَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي هِيَ جِنْسٌ وَاحِدٌ بِالْأَجْنَبِيِّ مَا يُبْعِدُ بَيْنَ الْأَخَوَاتِ الْمُتَّحِدَةِ فِي الْجِنْسِ الْقَرِيبِ وَيُوجِبُ اسْتِعْمَالَ الشَّارِعِ لَهَا كَذَلِكَ ، لَكِنَّهُ قَالَ { بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ : شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } الْحَدِيثَ ، ثُمَّ مَحَاسِنُ الْحُدُودِ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ بِبَيَانٍ وَتُكْتَبُ بِبَيَانٍ ؛ لِأَنَّ الْفَقِيهَ وَغَيْرَهُ يَسْتَوِي فِي مَعْرِفَةِ أَنَّهَا لِلِامْتِنَاعِ عَنْ الْأَفْعَالِ الْمُوجِبَةِ لِلْفَسَادِ ؛ فَفِي الزِّنَا ضَيَاعُ الذُّرِّيَّةِ وَإِمَاتَتُهَا مَعْنًى بِسَبَبِ اشْتِبَاهِ النَّسَبِ ، وَلَا يَلْزَمُ بِمَوْتِ الْوَلَدِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ تُهْمَةِ النَّاسِ الْبُرَآءِ وَغَيْرِهِ ؛ وَلِذَا نُدِبَ عُمُومُ النَّاسِ إلَى حُضُورِ حَدِّهِ وَرَجْمِهِ .
وَفِي بَاقِي الْحُدُودِ زَوَالُ الْعَقْلِ وَإِفْسَادُ الْأَعْرَاضِ وَأَخْذُ أَمْوَالِ النَّاسِ وَقُبْحُ هَذِهِ الْأُمُورِ مَرْكُوزٌ فِي الْعُقُولِ وَلِذَا لَمْ تُبَحْ الْأَمْوَالُ وَالْأَعْرَاضُ وَالزِّنَا وَالسُّكْرُ فِي مِلَّةٍ مِنْ الْمِلَلِ وَإِنْ أُبِيحَ الشُّرْبُ ، وَحِينَ كَانَ فَسَادُ هَذِهِ الْأُمُورِ عَامًّا كَانَتْ الْحُدُودُ الَّتِي هِيَ مَانِعَةٌ مِنْهَا حُقُوقَ اللَّهِ عَلَى الْخُلُوصِ ، فَإِنَّهَا حُقُوقُهُ تَعَالَى عَلَى الْخُصُوصِ أَبَدًا تُفِيدُ مَصَالِحَ

عَامَّةً ، وَلِذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ : وَالْمَقْصُودُ مِنْ شَرْعِيَّتِهِ لِلِانْزِجَارِ عَمَّا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْعِبَادُ ؛ وَالْعِبَارَةُ الْمَشْهُورَةُ فِي بَيَانِ حِكْمَةِ شَرْعِيَّتِهَا الزَّجْرُ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الزَّجْرُ يُرَادُ لِلِانْزِجَارِ عَدَلَ الْمُصَنِّفُ إلَى قَوْلِهِ الِانْزِجَارَ ، إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ : وَالطَّهَارَةُ لَيْسَتْ بِأَصْلِيَّةٍ إلَى آخِرِهِ : أَيْ الطَّهَارَةُ مِنْ ذَنْبٍ بِسَبَبِ الْحَدِّ يُفِيدُ أَنَّهُ مَقْصُودٌ أَيْضًا مِنْ شَرْعِيَّتِهَا لَكِنَّهُ لَيْسَ مَقْصُودًا أَصْلِيًّا بَلْ هُوَ تَبَعٌ لِمَا هُوَ الْأَصْلُ مِنْ الِانْزِجَارِ وَهُوَ خِلَافُ الْمَذْهَبِ ، فَإِنَّ الْمَذْهَبَ أَنَّ الْحَدَّ لَا يَعْمَلُ فِي سُقُوطِ إثْمٍ قَبْلَ سَبَبِهِ أَصْلًا ، بَلْ لَمْ يُشْرَعْ إلَّا لِتِلْكَ الْحِكْمَةِ ، وَأَمَّا ذَلِكَ فَقَوْلُ طَائِفَةٍ كَثِيرَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَاسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ { إنَّ مَنْ أَصَابَ مِنْ هَذِهِ الْمَعَاصِي شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْهَا شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ إلَى اللَّهِ إنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ } وَاسْتَدَلَّ الْأَصْحَابُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي قُطَّاعِ الطَّرِيقِ ذَلِكَ أَيْ التَّقْتِيلُ وَالصَّلْبُ وَالنَّفْيُ بِأَنَّ { لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إلَّا الَّذِينَ تَابُوا } فَأَخْبَرَ أَنَّ جَزَاءَ فِعْلِهِمْ عُقُوبَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ وَعُقُوبَةٌ أُخْرَوِيَّةٌ ، إلَّا مَنْ تَابَ فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ تَسْقُطُ عَنْهُ الْعُقُوبَةُ الْأُخْرَوِيَّةُ .
وَبِالْإِجْمَاعِ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ لَا تُسْقِطُ الْحَدَّ فِي الدُّنْيَا ، وَيَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ الْحَدِيثُ عَلَى مَا إذَا تَابَ فِي الْعُقُوبَةِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الظَّاهِرُ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ ضَرْبَهُ أَوْ رَجْمَهُ يَكُونُ مَعَهُ تَوْبَةٌ مِنْهُ لِذَوْقِهِ مُسَبَّبَ فِعْلَهُ فَيُقَيَّدُ بِهِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ ، وَتَقْيِيدُ الظَّنِّيِّ عِنْدَ مُعَارَضَةِ الْقَطْعِيِّ لَهُ مُتَعَيِّنٌ ، بِخِلَافِ الْعَكْسِ ،

وَإِنَّمَا أَرَادَ الْمُصَنِّفُ أَنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ لِلطُّهْرَةِ فَأَدَّاهُ بِعِبَارَةٍ غَيْرِ جَيِّدَةٍ ، وَلِذَا اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِشَرْعِيَّتِهِ فِي حَقِّ الْكَافِرِ ، وَلَا طُهْرَةَ فِي حَقِّهِ مِنْ الذَّنْبِ بِالْحَدِّ : يَعْنِي أَنَّ عُقُوبَةَ الذَّنْبِ لَمْ تَرْتَفِعْ بِمُجَرَّدِ الْحَدِّ بَلْ بِالتَّوْبَةِ مَعَهُ إنْ وُجِدَ ، وَلَمْ تَتَحَقَّقْ فِي حَقِّهِ ؛ لِأَنَّ التَّوْبَةَ عِبَادَةٌ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا .
وَأَمَّا مَنْ يَقُولُ : إنَّ الْحَدَّ بِمُجَرَّدِهِ يُسْقِطُ إثْمَ ذَلِكَ السَّبَبِ الْخَاصِّ الَّذِي حُدَّ بِهِ ، فَإِنْ قَالَ : إنَّ الْحَدَّ لَا يُسْقِطُ عَنْ الْكَافِرِ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ سَمْعِيٍّ فِي ذَلِكَ إذْ السَّمْعُ إنَّمَا يُوجِبُ لُزُومَ عُقُوبَةِ الْكُفْرِ فِي حَقِّهِ لَا بِتَضَاعُفِ عَذَابِ الْكُفْرِ عَلَيْهِ ، فَإِذَا فُرِضَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الْحَدَّ مُسْقِطًا لِعُقُوبَةِ مَعْصِيَةٍ صَارَ الْفَاعِلُ لَهَا إذَا حُدَّ بِمَنْزِلَةِ مَا إذَا لَمْ يَفْعَلْهَا فَلَا يُضَمُّ إلَى عَذَابِ الْكُفْرِ عَذَابُ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ إذَا حُدَّ بِهَا الْكَافِرُ إلَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ سَمْعِيٌّ عَلَى ذَلِكَ .
وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال عَلَى عَدَمِ كَوْنِ الْحَدِّ مُسْقِطًا بِأَنَّهُ يُقَامُ عَلَيْهِ وَهُوَ كَارِهٌ لَهُ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِجَوَازِ التَّكْفِيرِ بِمَا يُصِيبُ الْإِنْسَانَ مِنْ الْمَكَارِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
ثُمَّ تَحْقِيقُ الْعِبَارَةِ مَا قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ : إنَّهَا مَوَانِعُ قَبْلَ الْفِعْلِ زَوَاجِرُ بَعْدَهُ : أَيْ الْعِلْمُ بِشَرْعِيَّتِهَا يَمْنَعُ الْإِقْدَامَ عَلَى الْفِعْلِ وَإِيقَاعُهَا بَعْدَهُ يَمْنَعُ مِنْ الْعَوْدِ إلَيْهِ

قَالَ : الْحَدُّ لُغَةً : هُوَ الْمَنْعُ ، وَمِنْهُ الْحَدَّادُ لِلْبَوَّابِ .
وَفِي الشَّرِيعَةِ : هُوَ الْعُقُوبَةُ الْمُقَدَّرَةُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى حَتَّى لَا يُسَمَّى الْقِصَاصُ حَدًّا لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ وَلَا التَّعْزِيرُ لِعَدَمِ التَّقْدِيرِ .
وَالْمَقْصِدُ الْأَصْلِيُّ مِنْ شَرْعِهِ الِانْزِجَارُ عَمَّا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْعِبَادُ ، وَالطَّهَارَةُ لَيْسَتْ أَصْلِيَّةً فِيهِ بِدَلِيلِ شَرْعِهِ فِي حَقِّ الْكَافِرِ .

( قَوْلُهُ الْحَدُّ لُغَةً الْمَنْعُ ) وَعَلَيْهِ قَوْلُ نَابِغَةَ ذُبْيَانَ : إلَّا سُلَيْمَانَ إذْ قَالَ الْإِلَهُ لَهُ قُمْ فِي الْبَرِّيَّةِ فَاحْدُدْهَا عَنْ الْفَنَدِ وَهُوَ الْخَطَأُ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُلَامُ صَاحِبُهُ عَلَيْهِ ، كَذَا ذَكَرَهُ الْأَعْلَمُ فِي شَرْحِ دِيوَانِهِ ، وَكُلُّ مَانِعِ شَيْءٍ فَهُوَ حَادٌّ لَهُ ، وَحَدَّادٌ إذَا صِيغَ لِلْمُبَالَغَةِ .
وَمِنْهُ قِيلَ لِلْبَوَّابِ لِمَنْعِهِ مِنْ الدُّخُولِ وَالسَّجَّانُ حَدَّادٌ لِمَنْعِهِ مِنْ الْخُرُوجِ بِلَا شَكٍّ ، وَإِنْ كَانَ الْبَيْتُ الَّذِي اسْتَشْهَدَ بِهِ لَا يُفِيدُ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : يَقُولُ لِي الْحَدَّادُ وَهُوَ يَقُودُنِي إلَى السِّجْنِ لَا تَجْزَعْ فَمَا بِك مِنْ بَاسِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ كَوْنُ الْقَائِلِ الَّذِي كَانَ يَقُودُهُ هُوَ السَّجَّانَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ غَيْرَهُ مِمَّنْ يُوصِلُهُ إلَيْهِ فَإِنَّهُ حَدَّادٌ لَهُ إذْ يَمْنَعُهُ مِنْ الذَّهَابِ إلَى حَالِ سَبِيلِهِ ، وَلِلْخَمَّارِ حَدَّادٌ لِمَنْعِهِ الْخَمْرَ فِي قَوْلِ الْأَعْشَى : فَقُمْنَا وَلَمَّا يَصِحْ دِيكُنَا إلَى جَوْنَةٍ عِنْدَ حَدَّادِهَا وَسَمَّى أَهْلُ الِاصْطِلَاحِ الْمُعَرِّفَ لِلْمَاهِيَّةِ حَدًّا لِمَنْعِهِ مِنْ الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ ، وَحُدُودُ الدَّارِ نِهَايَاتُهَا لِمَنْعِهَا عَنْ دُخُولِ مِلْكِ الْغَيْرِ فِيهَا وَخُرُوجِ بَعْضِهَا إلَيْهِ .
وَفِي الشَّرْعِ قَالَ الْمُصَنِّفُ : هُوَ الْعُقُوبَةُ الْمُقَدَّرَةُ حَقًّا لِلَّهِ ، فَلَا يُسَمَّى الْقِصَاصُ حَدًّا ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ وَلَا التَّعْزِيرُ لِعَدَمِ التَّقْدِيرِ عَلَى مَا عَلَيْهِ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُقَدَّرَ نَوْعٌ مِنْهُ وَهُوَ التَّعْزِيرُ بِالضَّرْبِ لَكِنَّهُ لَا يَنْحَصِرُ فِي الضَّرْبِ بَلْ يَكُونُ بِغَيْرِهِ مِنْ حَبْسٍ وَعَرْكِ أُذُنٍ وَغَيْرِهِ عَلَى مَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَهَذَا الِاصْطِلَاحُ هُوَ الْمَشْهُورُ .
وَفِي اصْطِلَاحٍ آخَرَ لَا يُؤْخَذُ الْقَيْدُ الْأَخِيرُ فَيُسَمَّى الْقِصَاصُ حَدًّا ، فَالْحَدُّ هُوَ الْعُقُوبَةُ الْمُقَدَّرَةُ شَرْعًا غَيْرَ أَنَّ الْحَدَّ عَلَى هَذَا قِسْمَانِ : مَا يَصِحُّ فِيهِ الْعَفْوُ ، وَمَا لَا

يَقْبَلُهُ .
وَعَلَى الْأَوَّلِ الْحَدُّ مُطْلَقًا لَا يَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ بَعْدَ ثُبُوتِ سَبَبِهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ ، وَعَلَيْهِ ابْتَنَى عَدَمُ جَوَازِ الشَّفَاعَةِ فِيهِ فَإِنَّهَا طَلَبُ تَرْكِ الْوَاجِبِ ، وَلِذَا أَنْكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ حِينَ شَفَعَ فِي الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَالَ { أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ } وَأَمَّا قَبْلَ الْوُصُولِ إلَى الْإِمَامِ وَالثُّبُوتِ عِنْدَهُ تَجُوزُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَ الرَّافِعِ لَهُ إلَى الْحَاكِمِ لِيُطْلِقَهُ ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّام وَقَالَ : إذَا بَلَغَ إلَى الْإِمَامِ فَلَا عَفَا اللَّهُ عَنْهُ إنْ عَفَا ، وَهَذَا لِأَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ ، فَالْوُجُوبُ لَا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ الْفِعْلِ بَلْ عَلَى الْإِمَامِ عِنْدَ الثُّبُوتِ عِنْدَهُ

قَالَ ( الزِّنَا يَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ ) وَالْمُرَادُ ثُبُوتُهُ عِنْدَ الْإِمَامِ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ ، وَكَذَا الْإِقْرَارُ لِأَنَّ الصِّدْقَ فِيهِ مُرَجَّحٌ لَا سِيَّمَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِثُبُوتِهِ مَضَرَّةٌ وَمَعَرَّةٌ ، وَالْوُصُولُ إلَى الْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ مُتَعَذِّرٌ ، فَيُكْتَفَى بِالظَّاهِرِ .
قَالَ ( فَالْبَيِّنَةُ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَةٌ مِنْ الشُّهُودِ عَلَى رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ بِالزِّنَا ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ } وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } { وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلَّذِي قَذَفَ امْرَأَتَهُ ائْتِ بِأَرْبَعَةٍ يَشْهَدُونَ عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِكَ } وَلِأَنَّ فِي اشْتِرَاطِ الْأَرْبَعَةِ يَتَحَقَّقُ مَعْنَى السَّتْرِ وَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ وَالْإِشَاعَةُ ضِدُّهُ

( قَوْلُهُ الزِّنَا يَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ ) ابْتَدَأَ بِحَدِّ الزِّنَا لِكَثْرَةِ وُقُوعِ سَبَبِهِ مَعَ قَطْعِيَّتِهِ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ، بِخِلَافِ السَّرِقَةِ فَإِنَّهَا لَا تَكْثُرُ كَثْرَتَهُ ، وَالشُّرْبُ وَإِنْ كَثُرَ فَلَيْسَ حَدُّهُ بِتِلْكَ الْقَطِيعَةِ ، وَالزِّنَا مَقْصُورٌ فِي اللُّغَةِ الْفُصْحَى لُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْقُرْآنُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا } وَتُمَدُّ فِي لُغَةِ نَجْدٍ ، وَعَلَيْهَا قَالَ الْفَرَزْدَقُ : أَبَا طَاهِرٍ مَنْ يَزْنِ يُعْرَفْ زِنَاؤُهُ وَمَنْ يَشْرَبْ الْخُرْطُومَ يُصْبِحْ مُسْكِرًا بِفَتْحِ الْكَافِ وَتَشْدِيدِهَا مِنْ التَّسْكِيرِ ، وَالْخُرْطُومُ مِنْ أَسْمَاءِ الْخَمْرِ ، قَالَ : وَالْمُرَادُ ثُبُوتُهُ عِنْدَ الْحُكَّامِ ، أَمَّا ثُبُوتُهُ فِي نَفْسِهِ فَبِإِيجَادِ الْإِنْسَانِ لِلْفِعْلِ ؛ لِأَنَّهُ فِعْلٌ حِسِّيٌّ ، وَسَيَذْكُرُ الْمُصَنِّفُ تَعْرِيفَ الزِّنَا فِي بَابِ الْوَطْءِ الَّذِي يُوجِبُ الْحَدَّ وَهُنَاكَ نَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ ، وَخُصَّ بِالْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ لِنَفْيِ ثُبُوتِهِ بِعِلْمِ الْإِمَامِ ، وَعَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ ، وَكَذَا سَائِرُ الْحُدُودِ .
وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَنَقَلَ قَوْلًا عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ وَهُوَ الْقِيَاسُ ؛ لِأَنَّ الْحَاصِلَ بِالْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ دُونَ الْحَاصِلِ بِمُشَاهَدَةِ الْإِمَامِ .
قُلْنَا : نَعَمْ ، لَكِنَّ الشَّرْعَ أَهْدَرَ اعْتِبَارَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ الْكَاذِبُونَ } وَنُقِلَ فِيهِ إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ ، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ : لِأَنَّهَا دَلِيلٌ ظَاهِرٌ تَعْلِيلٌ لِلْوَاقِعِ مِنْ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى ثُبُوتِهِ بِالْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ فَإِنَّهَا يَثْبُتُ بِهَا غَيْرُ مُفْتَقِرٍ إلَى هَذَا الْمَعْنَى .
وَحَاصِلُهُ لَمَّا تَعَذَّرَ الْقَطْعُ اكْتَفَى بِالظَّاهِرِ ، وَهُوَ فِي الْبَيِّنَةِ وَفِي الْإِقْرَارِ أَظْهَرُ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِسَبَبِ الْحَدِّ يَسْتَلْحِقُ مَضَرَّةً فِي الْبَدَنِ وَمَعَرَّةً فِي الْعَرْضِ تُوجِبُ نِكَايَةً فِي الْقَلْبِ فَلَمْ يَكُنْ

الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ إلَّا مَعَ الصِّدْقِ دَفْعًا لِضَرَرِ الْآخِرَةِ عَلَى الْقَوْلِ بِسُقُوطِهِ بِالْحَدِّ إنْ لَمْ يَتُبْ وَقَصْدًا إلَى تَحْقِيقِ النِّكَايَةِ لِنَفْسِهِ إذْ وَرْطَتُهُ فِي أَسْبَابِ سُخْطِ اللَّهِ تَعَالَى لِيَنَالَ دَرَجَةَ أَهْلِ الْعَزْمِ ( قَوْلُهُ فَالْبَيِّنَةُ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَةٌ مِنْ الشُّهُودِ ) لَيْسَ فِيهِمْ امْرَأَةٌ ( عَلَى رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ بِالزِّنَا ) ، وَيَجُوزُ كَوْنُ الزَّوْجِ مِنْهُمْ عِنْدَنَا ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ، هُوَ يَقُولُ هُوَ مُتَّهَمٌ وَنَحْنُ نَقُولُ : التُّهْمَةُ مَا تُوجِبُ جَرَّ نَفْعٍ ، وَالزَّوْجُ مُدْخِلٌ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ عَلَى نَفْسِهِ لُحُوقَ الْعَارِ وَخُلُوَّ الْفِرَاشِ خُصُوصًا إذَا كَانَ لَهُ مِنْهَا أَوْلَادٌ صِغَارٌ ، وَإِنَّمَا كَانَتْ الشُّهُودُ أَرْبَعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَاسْتُشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى { ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِالزِّنَا : يَعْنِي هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ { ائْتِ بِأَرْبَعَةٍ يَشْهَدُونَ عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِكَ وَإِلَّا فَحَدٌّ فِي ظَهْرِكَ } فَلَمْ يُحْفَظْ عَلَى مَا ذُكِرَ ، وَاَلَّذِي فِي الْبُخَارِيِّ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ الْبَيِّنَةُ وَإِلَّا فَحَدٌّ فِي ظَهْرِكَ } نَعَمْ أَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ : حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ أَبِي مُسْلِمٍ الْجَرْمِيُّ ، حَدَّثَنَا مَخْلَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ عَنْ هِشَامٍ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : { أَوَّلُ لِعَانٍ كَانَ فِي الْإِسْلَامِ أَنَّ شَرِيكَ ابْنَ سَحْمَاءَ قَذَفَهُ هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ بِامْرَأَتِهِ ، فَرَفَعَتْهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَرْبَعَةَ شُهُودٍ وَإِلَّا فَحَدٌّ فِي ظَهْرِكَ } وَالْمَسْأَلَةُ وَهِيَ اشْتِرَاطُ الْأَرْبَعَةِ قَطْعِيَّةٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا .
ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ حِكْمَةَ اشْتِرَاطِ الْأَرْبَعَةِ تَحْقِيقُ مَعْنَى السَّتْرِ الْمَنْدُوبِ إلَيْهِ ، وَاقْتَصَرَ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78