كتاب : فتح القدير
المؤلف : كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي

قَالَ ( وَعَرَفَاتٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ إلَّا بَطْنَ عُرَنَةَ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { عَرَفَاتٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ عُرَنَةَ ، وَالْمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ وَارْتَفِعُوا عَنْ وَادِي مُحَسِّرٍ } .
قَالَ ( وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَقِفَ بِعَرَفَةَ عَلَى رَاحِلَتِهِ ) لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَفَ عَلَى نَاقَتِهِ ( وَإِنْ وَقَفَ عَلَى قَدَمَيْهِ جَازَ ) وَالْأَوَّلُ أَفْضَلُ لِمَا بَيَّنَّا ( وَيَنْبَغِي أَنْ يَقِفَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ ) لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَفَ كَذَلِكَ ، وَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { خَيْرُ الْمَوَاقِفِ مَا اسْتَقْبَلْتَ بِهِ الْقِبْلَةَ } ( وَيَدْعُو وَيُعَلِّمُ النَّاسَ الْمَنَاسِكَ ) لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَدْعُو يَوْمَ عَرَفَةَ مَادًّا يَدَيْهِ كَالْمُسْتَطْعِمِ الْمِسْكِينِ وَيَدْعُو بِمَا شَاءَ } وَإِنْ وَرَدَ الْآثَارُ بِبَعْضِ الدَّعَوَاتِ ، وَقَدْ أَوْرَدْنَا تَفْصِيلَهَا فِي كِتَابِنَا الْمُتَرْجَمُ بِ ( عِدَّةِ النَّاسِكِ فِي عِدَّةٍ مِنْ الْمَنَاسِكِ ) بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى .

( قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ } ) رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ عَدِيدَةٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { كُلُّ عَرَفَةَ مَوْقِفٌ وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ عُرَنَةَ ، وَكُلُّ الْمُزْدَلِفَةِ مَوْقِفٌ وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ مُحَسِّرٍ ، وَكُلُّ مِنًى مَنْحَرٌ إلَّا مَا وَرَاءَ الْعَقَبَةِ } وَفِيهِ الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْعُمَرِيُّ مَتْرُوكٌ .
وَمِنْ حَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ ، وَفِيهِ { وَكُلُّ فِجَاجِ مِنًى مَنْحَرٌ وَلَمْ يَسْتَثْنِ ، وَكُلُّ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ذَبْحٌ } رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى الْأَشْدَقِ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ وَهُوَ مُنْقَطِعٌ ، فَإِنَّ ابْنَ الْأَشْدَقِ لَمْ يَدْرِك جُبَيْرًا .
وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَأَدْخَلَ فِيهِ بَيْنَ سُلَيْمَانَ وَجُبَيْرٍ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي حُسَيْنٍ ، وَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ ، لَكِنْ قَالَ الْبَزَّارُ : ابْنُ أَبِي حُسَيْنٍ لَمْ يَلْقَ جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ ، قَالَ : وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا هَذَا الْحَدِيثَ ، لِأَنَّا لَا نَحْفَظُ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي كُلِّ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ذَبْحٌ إلَّا فِيهِ فَذَكَرْنَاهُ ، وَبَيَّنَّا الْعِلَّةَ فِيهِ ا هـ .
وَرُوِيَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنْهُ مَرْفُوعًا { عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ عُرَنَةَ ، وَالْمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ مُحَسِّرٍ } ا هـ .
وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ بِلَفْظِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَفِي سَنَدِهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعُمَرِيُّ الْمُضَعَّفُ .
وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ أَيْضًا نَحْوُهُ سَوَاءٌ وَأَعَلَّهُ بِيَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فَثَبَتَ بِهَذَا كُلِّهِ ثُبُوتُ هَذَا الْحَدِيثِ وَعَدَمُ ثُبُوتِ تِلْكَ الزِّيَادَةِ : أَعْنِي " كُلُّ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ذَبْحٌ "

لِلِانْفِرَادِ بِهَا مَعَ الِانْقِطَاعِ وَالِاتِّفَاقِ عَلَى مَا سِوَاهَا سِوَى ذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءِ ( قَوْلُهُ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ عَلَى نَاقَتِهِ ) هُوَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ فَارْجِعْ إلَيْهِ ( قَوْلُهُ وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَخْ ) رَوَى الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي تَارِيخِ أَصْبَهَانَ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّلْتِ عَنْ ابْن شِهَابٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا { خَيْرُ الْمَجَالِسِ مَا اُسْتُقْبِلَ بِهِ الْقِبْلَةَ وَأَمَّا خَيْرُ الْمَوَاقِفِ فَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِهِ } .
وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي الْأَدَبِ حَدِيثًا طَوِيلًا وَسَكَتَ عَنْهُ أَوَّلُهُ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ شَرَفًا ، وَإِنَّ شَرَفَ الْمَجَالِسِ مَا اُسْتُقْبِلَ بِهِ الْقِبْلَةَ } وَأُعِلَّ بِهِشَامِ بْنِ زِيَادٍ .
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ يَرْفَعُهُ { أَكْرَمُ الْمَجَالِسِ مَا اُسْتُقْبِلَ بِهِ الْقِبْلَةَ } وَهُوَ مَعْلُولٌ بِحَمْزَةَ النَّصِيبِيِّ وَنُسِبَ لِلْوَضْعِ ( قَوْلُهُ وَيَدْعُو ) عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ { كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ عَرَفَةَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيك لَهُ ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } وَقِيلَ لِابْنِ عُيَيْنَةَ : هَذَا ثَنَاءٌ فَلِمَ سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُعَاءً ؟ فَقَالَ : الثَّنَاءُ عَلَى الْكَرِيمِ دُعَاءٌ لِأَنَّهُ يَعْرِفُ حَاجَتَهُ .
وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَقِفُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ بِالْمَوْقِفِ مُسْتَقْبِلًا بِوَجْهِهِ ثُمَّ

يَقُولُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مِائَةَ مَرَّةٍ ، ثُمَّ يَقْرَأُ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } مِائَةَ مَرَّةٍ ، ثُمَّ يَقُولُ : اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْت عَلَى إبْرَاهِيمَ وَآلِ إبْرَاهِيمَ إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ وَعَلَيْنَا مَعَهُمْ مِائَةَ مَرَّةٍ ، إلَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : يَا مَلَائِكَتِي إنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُ وَشَفَّعْتُهُ فِي نَفْسِهِ ، وَلَوْ سَأَلَنِي عَبْدِي هَذَا لَشَفَّعْتُهُ فِي أَهْلِ الْمَوْقِفِ } رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَهُوَ مَتْنٌ غَرِيبٌ فِي إسْنَادِهِ مَنْ اُتُّهِمَ بِالْوَضْعِ .
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ { جَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَلِمَاتٌ أَسْأَلُ عَنْهُنَّ ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : اجْلِسْ ، وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ ثَقِيفٍ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَلِمَاتٌ أَسْأَلُ عَنْهُنَّ ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : سَبَقَكَ الْأَنْصَارِيُّ ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ : إنَّهُ رَجُلٌ غَرِيبٌ وَإِنَّ لِلْغَرِيبِ حَقًّا فَابْدَأْ بِهِ ، فَأَقْبَلَ عَلَى الثَّقَفِيِّ وَسَاقَ الْحَدِيثَ ، إلَى أَنْ قَالَ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى الْأَنْصَارِيِّ فَقَالَ : إنْ شِئْتَ أَخْبَرْتُكَ عَمَّا جِئْتَ تَسْأَلُنِي ، وَإِنْ شِئْتَ تَسْأَلُنِي فَأُخْبِرُكَ ، فَقَالَ : لَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَخْبِرْنِي عَمَّا جِئْتُ أَسْأَلُكَ ، فَقَالَ : جِئْت تَسْأَلُ عَنْ الْحَاجِّ مَا لَهُ وَسَاقَ الْحَدِيثَ ، إلَى أَنْ قَالَ فَإِذَا وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَنْزِلُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ : اُنْظُرُوا إلَى عِبَادِي شُعْثًا غُبْرًا ، اشْهَدُوا أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ ذُنُوبَهُمْ وَإِنْ كَانَتْ عَدَدَ قَطْرِ السَّمَاءِ وَرَمْلِ عَالِجٍ ، وَإِذَا رَمَى الْجِمَارَ لَا يَدْرِي أَحَدٌ مَا لَهُ حَتَّى يَتَوَفَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَإِذَا قَضَى آخِرَ طَوَافِهِ بِالْبَيْتِ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ } رَوَاهُ الْبَزَّارُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَاللَّفْظُ

لَهُ .
وَرَوَى أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { كَانَ فُلَانٌ رِدْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ عَرَفَةَ ، فَجَعَلَ الْفَتَى يُلَاحِظُ النِّسَاءَ وَيَنْظُرُ إلَيْهِنَّ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ابْنَ أَخِي إنَّ هَذَا يَوْمٌ مَنْ مَلَكَ فِيهِ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ وَلِسَانَهُ غُفِرَ لَهُ } .
وَمِنْ مَأْثُورَاتِ الْأَدْعِيَةِ : اللَّهُمَّ اجْعَلْ لِي فِي قَلْبِي نُورًا وَفِي سَمْعِي نُورًا وَفِي بَصَرِي نُورًا .
اللَّهُمَّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي .
اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ وَسَاوِسِ الصَّدْرِ وَشَتَاتِ الْأَمْرِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ .
اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ مَا يَلِجُ فِي اللَّيْلِ وَشَرِّ مَا يَلِجُ فِي النَّهَارِ وَشَرِّ مَا تَهُبُّ بِهِ الرِّيَاحُ وَشَرِّ بَوَائِقِ الدَّهْرِ .
اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ تَحَوُّلِ عَافِيَتِك وَفُجْأَةِ نِقْمَتِك وَجَمِيعِ سَخَطِك ، وَأَعْطِنِي فِي هَذِهِ الْعَشِيَّةِ أَفْضَلَ مَا تُؤْتِي أَحَدًا مِنْ خَلْقِك ، وَكُلُّ حَاجَةٍ فِي نَفْسِهِ يَسْأَلُهَا فَإِنَّهُ يَوْمُ إفَاضَةِ الْخَيْرَاتِ مِنْ الْجَوَادِ الْعَظِيمِ .
وَحَدِيثُ { كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَدْعُو مَادًّا يَدَيْهِ كَالْمُسْتَطْعِمِ } رَوَاهُ الْبَزَّارُ بِسَنَدِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ الْفَضْلِ قَالَ { رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَاقِفًا بِعَرَفَةَ مَادًّا يَدَيْهِ كَالْمُسْتَطْعِمِ ، أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا } وَأُعِلَّ بِحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ضَعَّفَهُ النَّسَائِيّ وَابْنُ مَعِينٍ .
قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ : هُوَ حُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْهَاشِمِيُّ وَهُوَ مِمَّنْ يُكْتَبُ حَدِيثُهُ فَإِنِّي لَمْ أَرَ لَهُ حَدِيثًا مُنْكَرًا جَاوَزَ الْمِقْدَارَ .
وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { رَأَيْتُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَدْعُو بِعَرَفَةَ يَدَاهُ إلَى صَدْرِهِ كَالْمُسْتَطْعِمِ الْمِسْكِينِ }

قَالَ ( وَيَنْبَغِي لِلنَّاسِ أَنْ يَقِفُوا بِقُرْبِ الْإِمَامِ ) لِأَنَّهُ يَدْعُو وَيُعَلِّمُ فَيَعُوا وَيَسْمَعُوا ( وَيَنْبَغِي أَنْ يَقِفَ وَرَاءَ الْإِمَامِ ) لِيَكُونَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ ، وَهَذَا بَيَانُ الْأَفْضَلِيَّةِ لِأَنَّ عَرَفَاتٍ كُلَّهَا مَوْقِفٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا .
( قَوْلُهُ وَيَنْبَغِي لِلنَّاسِ أَنْ يَقِفُوا بِقُرْبِ الْإِمَامِ ) وَكُلَّمَا كَانَ إلَى الْإِمَامِ أَقْرَبَ فَهُوَ أَفْضَلُ وَغُسْلُ عَرَفَةَ تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْغُسْلِ

قَالَ ( وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَغْتَسِلَ قَبْلَ الْوُقُوفِ وَيَجْتَهِدَ فِي الدُّعَاءِ ) أَمَّا الِاغْتِسَالُ فَهُوَ سُنَّةٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ ، وَلَوْ اكْتَفَى بِالْوُضُوءِ جَازَ كَمَا فِي الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَعِنْدَ الْإِحْرَامِ .
وَأَمَّا الِاجْتِهَادُ فَلِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اجْتَهَدَ فِي الدُّعَاءِ فِي هَذَا الْمَوْقِفِ لِأُمَّتِهِ فَاسْتُجِيبَ لَهُ إلَّا فِي الدِّمَاءِ وَالْمَظَالِمِ ( وَيُلَبِّي فِي مَوْقِفِهِ سَاعَةً بَعْدَ سَاعَةٍ ) وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ كَمَا يَقِفُ بِعَرَفَةَ لِأَنَّ الْإِجَابَةَ بِاللِّسَانِ قَبْلَ الِاشْتِغَالِ بِالْأَرْكَانِ .
وَلَنَا مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا زَالَ يُلَبِّي حَتَّى أَتَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ } وَلِأَنَّ التَّلْبِيَةَ فِيهِ كَالتَّكْبِيرِ فِي الصَّلَاةِ فَيَأْتِي بِهَا إلَى آخِرِ جُزْءٍ مِنْ الْإِحْرَامِ .

( قَوْلُهُ { فَاسْتُجِيبَ لَهُ إلَّا فِي الدِّمَاءِ وَالْمَظَالِمِ } ) رَوَى ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ عَبَّاسٍ بْنِ مِرْدَاسٍ أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِيهِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا لِأُمَّتِهِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ ، فَأُجِيبَ : إنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ مَا خَلَا الْمَظَالِمَ فَإِنِّي آخُذُ لِلْمَظْلُومِ مِنْهُ ، فَقَالَ : أَيْ رَبِّ إنْ شِئْتَ أَعْطَيْتَ الْمَظْلُومَ الْجَنَّةَ وَغَفَرْتَ لِلظَّالِمِ فَلَمْ يُجَبْ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ ، فَلَمَّا أَصْبَحَ بِالْمُزْدَلِفَةِ أَعَادَ الدُّعَاءَ فَأُجِيبَ إلَى مَا سَأَلَ ، قَالَ : فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَوْ قَالَ فَتَبَسَّمَ ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي إنَّ هَذِهِ لَسَاعَةٌ مَا كُنْتَ لِتَضْحَكَ فِيهَا فَمَا الَّذِي أَضْحَكَكَ ، أَضْحَكَ اللَّهُ سِنَّكَ ؟ قَالَ : إنَّ عَدُوَّ اللَّهِ إبْلِيسَ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ اسْتَجَابَ دُعَائِي وَغَفَرَ لِأُمَّتِي أَخَذَ التُّرَابَ فَجَعَلَ يَحْثُوهُ عَلَى رَأْسِهِ وَيَدْعُو بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ فَأَضْحَكَنِي مَا رَأَيْت مِنْ جَزَعِهِ } وَرَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ وَأَعَلَّهُ بِكِنَانَةَ ، وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي كِتَابِ الضُّعَفَاءِ : كِنَانَةُ بْنُ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيُّ يَرْوِي عَنْ أَبِيهِ ، وَرَوَى عَنْهُ ابْنُهُ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ جِدًّا ، فَلَا أَدْرِي التَّخْلِيطَ فِي حَدِيثِهِ مِنْهُ أَوْ مِنْ أَبِيهِ ، وَمِنْ أَيِّهِمَا كَانَ فَهُوَ سَاقِطُ الِاحْتِجَاجِ وَذَلِكَ لِعِظَمِ مَا أَتَى مِنْ الْمَنَاكِيرِ عَنْ الْمَشَاهِيرِ .
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَفِيهِ { فَلَمَّا كَانَ غَدَاةَ الْمُزْدَلِفَةِ أَعَادَ الدُّعَاءَ فَأَجَابَهُ اللَّهُ تَعَالَى إنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ ، قَالَ : فَتَبَسَّمَ } الْحَدِيثَ ثُمَّ قَالَ : وَهَذَا الْحَدِيثُ لَهُ شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِ الشُّعَبِ ، فَإِنْ صَحَّ بِشَوَاهِدِهِ فَفِيهِ الْحُجَّةُ ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } وَظُلْمُ بَعْضِهِمْ

بَعْضًا دُونَ الشِّرْكِ ا هـ .
قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ : وَرَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ { وَقَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَاتٍ وَقَدْ كَادَتْ الشَّمْسُ أَنْ تَئُوبَ فَقَالَ : يَا بِلَالُ أَنْصِتْ النَّاسَ ، فَقَامَ بِلَالٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ : أَنْصِتُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَنَصَتَ النَّاسُ فَقَالَ : مَعَاشِرَ النَّاسِ أَتَانِي جِبْرِيلُ آنِفًا فَأَقْرَأَنِي مِنْ رَبِّي السَّلَامَ وَقَالَ : إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ غَفَرَ لِأَهْلِ عَرَفَاتٍ وَأَهْلِ الْمَشْعَرِ وَضَمِنَ عَنْهُمْ التَّبَعَاتِ ، فَقَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا لَنَا خَاصَّةً ؟ قَالَ : هَذَا لَكُمْ وَلِمَنْ أَتَى مِنْ بَعْدِكُمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : كَثُرَ خَيْرُ رَبِّنَا وَطَابَ } .
وَفِي كِتَابِ الْآثَارِ قَالَ مُحَمَّدٌ : أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَالِكٍ الْهَمْدَانِيُّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : خَرَجْنَا فِي رَهْطٍ نُرِيدُ مَكَّةَ حَتَّى إذَا كُنَّا بِالرَّبَذَةِ رُفِعَ لَنَا خِبَاءٌ فَإِذَا فِيهِ أَبُو ذَرٍّ فَأَتَيْنَا فَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ ، فَرَفَعَ جَانِبَ الْخِبَاءِ فَرَدَّ السَّلَامَ فَقَالَ : مِنْ أَيْنَ أَقْبَلَ الْقَوْمُ ؟ فَقُلْنَا : مِنْ الْفَجِّ الْعَمِيقِ ، قَالَ : فَأَيْنَ تَؤُمُّونَ ؟ قُلْنَا : الْبَيْتَ الْعَتِيقَ ، قَالَ : آللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ مَا أَشْخَصَكُمْ غَيْرُ الْحَجِّ ؟ فَكَرَّرَ ذَلِكَ عَلَيْنَا مِرَارًا ، فَحَلَفْنَا لَهُ فَقَالَ : انْطَلَقُوا إلَى نُسُكِكُمْ ثُمَّ اسْتَقْبِلُوا الْعَمَلَ .
وَفِي مُوَطَّإِ مَالِكٍ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَا رُئِيَ الشَّيْطَانُ يَوْمًا هُوَ أَصْغَرُ وَلَا أَدْحَرُ وَلَا أَغْيَظُ مِنْهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ ، وَمَا ذَاكَ إلَّا لِمَا يَرَى مِنْ تَنَزُّلِ الرَّحْمَةِ وَتُجَاوِزُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ ،

إلَّا مَا رُئِيَ يَوْمَ بَدْرٍ فَإِنَّهُ قَدْ رَأَى جِبْرِيلَ يَزَعُ الْمَلَائِكَةَ } ( قَوْلُهُ وَلَنَا مَا رُوِيَ ) أَخْرَجَهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ فِي كُتُبِهِمْ عَنْ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ } وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَحَلَّفَهُ عَلَيْهِ فَزَادَ فِيهِ ابْنُ مَاجَهْ { فَلَمَّا رَمَاهَا قَطَعَ التَّلْبِيَةَ } وَالْوَجْهُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ الْمَعْنَى يَقْتَضِي أَنْ لَا يَقْطَعَ إلَّا عِنْدَ الْحَلْقِ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ بَاقٍ قَبْلَهُ ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ : فَيَأْتِي بِهَا إلَى آخِرِ الْأَحْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي الْإِحْرَامِ فَإِنَّهَا كَالتَّكْبِيرِ وَآخِرُهُ مَعَ الْقَعْدَةِ لِأَنَّهَا آخِرُ الْأَحْوَالِ

قَالَ ( فَإِذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ أَفَاضَ الْإِمَامُ وَالنَّاسُ مَعَهُ عَلَى هَيِّنَتِهِمْ حَتَّى يَأْتُوا الْمُزْدَلِفَةَ ) لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دَفَعَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ ، وَلِأَنَّ فِيهِ إظْهَارَ مُخَالَفَةِ الْمُشْرِكِينَ ، وَكَانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَمْشِي عَلَى رَاحِلَتِهِ فِي الطَّرِيقِ عَلَى هَيِّنَتِهِ ، فَإِنْ خَافَ الزِّحَامَ فَدَفَعَ قَبْلَ الْإِمَامِ وَلَمْ يُجَاوِزْ حُدُودَ عَرَفَةَ أَجْزَأَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يُفِضْ مِنْ عَرَفَةَ ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَقِفَ فِي مَقَامِهِ كَيْ لَا يَكُونَ آخِذًا فِي الْأَدَاءِ قَبْلَ وَقْتِهَا وَلَوْ مَكَثَ قَلِيلًا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَإِفَاضَةِ الْإِمَامِ لِخَوْفِ الزِّحَامِ فَلَا بَأْسَ بِهِ .
لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بَعْدَ إفَاضَةِ الْإِمَامِ دَعَتْ بِشَرَابٍ فَأَفْطَرَتْ ثُمَّ أَفَاضَتْ .

قَوْلُهُ فَإِذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ أَفَاضَ الْإِمَامُ وَالنَّاسُ مَعَهُ عَلَى هِينَتِهِمْ ) أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أَنْ قَالَ : ثُمَّ أَفَاضَ حِينَ غَرَبَتْ الشَّمْسُ وَأَرْدَفَ خَلْفَهُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ وَجَعَلَ يُشِيرُ بِيَدِهِ عَلَى هِينَتِهِ وَالنَّاسُ يَضْرِبُونَ يَمِينًا وَشِمَالًا ، فَجَعَلَ يَلْتَفِتُ إلَيْهِمْ وَيَقُولُ : أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ السَّكِينَةُ ، ثُمَّ أَتَى جَمْعًا فَصَلَّى بِهِمْ الصَّلَاتَيْنِ جَمِيعًا ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى قُزَحَ فَوَقَفَ عَلَيْهِ } صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ .
وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ { فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ ، إلَى أَنْ قَالَ : وَدَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ شَنَقَ لِلْقَصْوَاءِ الزِّمَامَ حَتَّى إنَّ رَأْسَهَا لِيُصِيبَ مَوْرِكَ رَحْلِهِ وَهُوَ يَقُولُ بِيَدِهِ إلَى مِنًى : أَيُّهَا النَّاسُ السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ ، كُلَّمَا أَتَى جَبَلًا أَرْخَى لَهَا حَتَّى تَصْعَدَ } وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ أَيْضًا عَنْ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { وَكَانَ رَدِيفَ رَسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ وَغَدَاةَ جَمْعٍ لِلنَّاسِ حِينَ أَفَاضَ : عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ ، وَهُوَ كَافٌّ نَاقَتَهُ حَتَّى دَخَلَ مُحَسِّرًا وَهُوَ مِنْ مِنًى فَقَالَ : عَلَيْكُمْ بِحَصَى الْخَذْفِ } فَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَسِيرُ الْعَنَقَ فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ } وَفُسِّرَ بِأَنَّ الْعَنَقَ خُطًا فَسِيحَةٌ مَحْمُولٌ عَلَى خُطَا النَّاقَةِ ، لِأَنَّهَا فَسِيحَةٌ فِي نَفْسِهَا إذَا لَمْ تَكُنْ مُثْقَلَةً جِدًّا .
( قَوْلُهُ وَلِأَنَّ فِيهِ إظْهَارُ مُخَالَفَةِ الْمُشْرِكِينَ ) فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَدْفَعُونَ قَبْلَ الْغُرُوبِ عَلَى مَا رَوَى الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ { خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَاتٍ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى

عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ : أَمَّا بَعْدُ ، فَإِنَّ أَهْلَ الشِّرْكِ وَالْأَوْثَانِ كَانُوا يَدْفَعُونَ مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ إذَا كَانَتْ الشَّمْسُ عَلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ كَأَنَّهَا عَمَائِمُ الرِّجَالِ عَلَى رُءُوسِهَا وَإِنَّا نَدْفَعُ بَعْدَ أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ ، وَكَانُوا يَدْفَعُونَ مِنْ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ إذَا كَانَتْ الشَّمْسُ مُنْهَبِطَةً } وَقَالَ : صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ ، قَالَ : وَقَدْ صَحَّ بِهَذَا سَمَاعُ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا كَمَا يَتَوَهَّمُ رِعَاعُ أَصْحَابِنَا أَنَّ لَهُ رُؤْيَةً بِلَا سَمَاعٍ .
( قَوْلُهُ فَإِنْ خَافَ الزِّحَامَ فَدَفَعَ قَبْلَ الْإِمَامِ ) أَيْ قَبْلَ الْغُرُوبِ ( وَلَمْ يُجَاوِزْ حُدُودَ عَرَفَةَ ) قُيِّدَ بِهِ لِأَنَّهُ لَوْ جَاوَزَهَا قَبْلَ الْإِمَامِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَجَبَ عَلَيْهِ دَمٌ .
وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ إذَا دَفَعَ قَبْلَ الْغُرُوبِ وَإِنْ كَانَ لِحَاجَةٍ بِأَنْ نَدَّ بَعِيرُهُ فَتَبِعَهُ ، إنْ جَاوَزَ عَرَفَةَ بَعْدَ الْغُرُوبِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ جَاوَزَ قَبْلَهُ فَعَلَيْهِ دَمٌ ، فَإِنْ لَمْ يَعُدْ أَصْلًا أَوْ عَادَ بَعْدَ الْغُرُوبِ لَمْ يَسْقُطْ الدَّمُ ، وَإِنْ عَادَ قَبْلَهُ فَدَفَعَ مَعَ الْإِمَامِ بَعْدَ الْغُرُوبِ سَقَطَ عَلَى الصَّحِيحِ لِأَنَّهُ تَدَارَكَهُ فِي وَقْتِهِ .
وَجْهُ مُقَابِلِهِ أَنَّ الْوَاجِبَ مَدُّ الْوُقُوفِ إلَى الْغُرُوبِ وَقَدْ فَاتَ وَلَمْ يُتَدَارَكْ فَيَتَقَرَّرُ مُوجِبُهُ وَهُوَ الدَّمُ .
قُلْنَا : وُجُوبُ الْمَدِّ مُطْلَقًا مَمْنُوعٌ بَلْ الْوَاجِبُ مَقْصُودُ النَّفْرِ بَعْدَ الْغُرُوبِ وَوُجُوبُ الْمَدِّ لِيَقَعَ النَّفْرُ كَذَلِكَ فَهُوَ لِغَيْرِهِ ، وَقَدْ وُجِدَ الْمَقْصُودُ فَسَقَطَ مَا وَجَبَ لَهُ كَالسَّعْيِ لِلْجُمُعَةِ فِي حَقِّ مَنْ فِي الْمَسْجِدِ .
وَغَايَةُ الْأَمْرِ فِيهِ أَنْ يُهْدِرَ مَا وَقَفَهُ قَبْلَ دَفْعِهِ فِي حَقِّ الرُّكْنِ ، وَيَعْتَبِرَ عَوْدَهُ الْكَائِنَ فِي الْوَقْتِ ابْتِدَاءَ وُقُوفِهِ ، أَلَيْسَ بِذَلِكَ يَحْصُلُ الرُّكْنُ مِنْ غَيْرِ لُزُومِ دَمٍ .
وَلَوْ تَأَخَّرَ الْإِمَامُ عَنْ الْغُرُوبِ دَفَعَ النَّاسُ قَبْلَهُ لِدُخُولِ وَقْتِهِ ، وَيُكْثِرُ مِنْ

الِاسْتِغْفَارِ وَالذِّكْرِ مِنْ حِينِ يُفِيضُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ } وَقَالَ تَعَالَى { ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } ( قَوْلُهُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ ) رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِسَنَدِهِ عَنْهَا : أَنَّهَا كَانَتْ تَدْعُو بِشَرَابٍ فَتُفْطِرُ ثُمَّ تُفِيضُ ، فَحَمَلَهُ الْمُصَنِّفُ عَلَى أَنَّ فِعْلَهَا كَانَ لِقَصْدِ التَّأْخِيرِ لِخِفَّةِ الزِّحَامِ ، وَيَجُوزُ أَنَّهُ كَانَ لِلِاحْتِيَاطِ فِي تَمَكُّنِ الْوَقْتِ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ كَرَاهَةِ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ لِمَنْ يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ سُوءَ خُلُقِهِ .
وَقُزَحُ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالْعَدْلِ مِنْ قَازِحٍ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ قَزَحَ الشَّيْءَ إذَا ارْتَفَعَ ، وَهُوَ جَبَلٌ صَغِيرٌ فِي آخِرِ الْمُزْدَلِفَةِ ، وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْخُلَ الْمُزْدَلِفَةَ مَاشِيًا وَالْغُسْلُ لِدُخُولِهَا

قَالَ ( وَإِذَا أَتَى مُزْدَلِفَةَ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَقِفَ بِقُرْبِ الْجَبَلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُقَيَّدَةُ يُقَالُ لَهُ قُزَحَ ) لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَفَ عِنْدَ هَذَا الْجَبَلِ ، وَكَذَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، وَيَتَحَرَّزُ فِي النُّزُولِ عَنْ الطَّرِيقِ كَيْ لَا يَضُرَّ بِالْمَارَّةِ فَيَنْزِلُ عَنْ يَمِينِهِ أَوْ يَسَارِهِ .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقِفَ وَرَاءَ الْإِمَامِ لِمَا بَيَّنَّا فِي الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ .
قَالَ ( وَيُصَلِّي الْإِمَامُ بِالنَّاسِ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ ) وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ : بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ اعْتِبَارًا بِالْجَمْعِ بِعَرَفَةَ .
وَلَنَا رِوَايَةُ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ } وَلِأَنَّ الْعِشَاءَ فِي وَقْتِهِ فَلَا يُفْرِدُ بِالْإِقَامَةِ إعْلَامًا ، بِخِلَافِ الْعَصْرِ بِعَرَفَةَ لِأَنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى وَقْتِهِ فَأَفْرَدَ بِهَا لِزِيَادَةِ الْإِعْلَامِ ( وَلَا يَتَطَوَّعُ بَيْنَهُمَا ) لِأَنَّهُ يُخِلُّ بِالْجَمْعِ ، وَلَوْ تَطَوَّعَ أَوْ تَشَاغَلَ بِشَيْءٍ أَعَادَ الْإِقَامَةَ لِوُقُوعِ الْفَصْلِ ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُعِيدَ الْأَذَانَ كَمَا فِي الْجَمْعِ الْأَوَّلِ بِعَرَفَةَ ، إلَّا أَنَّا اكْتَفَيْنَا بِإِعَادَةِ الْإِقَامَةِ ، لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الْمَغْرِبَ بِمُزْدَلِفَةَ ثُمَّ تَعَشَّى ثُمَّ أَفْرَدَ الْإِقَامَةَ لِلْعِشَاءِ } .
وَلَا تُشْتَرَطُ الْجَمَاعَةُ لِهَذَا الْجَمْعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ الْمَغْرِبَ مُؤَخَّرَةٌ عَنْ وَقْتِهَا ، بِخِلَافِ الْجَمْعِ بِعَرَفَةَ لِأَنَّ الْعَصْرَ مُقَدَّمٌ عَلَى وَقْتِهِ .

( قَوْلُهُ وَلَنَا رِوَايَةُ جَابِرٍ ) رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ : حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِجَمْعٍ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَةٍ وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا } وَهُوَ مَتْنٌ غَرِيبٌ ، وَاَلَّذِي فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ الثَّابِتِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ { أَنَّهُ صَلَّاهُمَا بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ } وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ : { جَمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِجَمْعٍ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِإِقَامَةٍ وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا وَلَا عَلَى إثْرِ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ { أَفَضْنَا مَعَ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَلَمَّا بَلَغْنَا جَمْعًا صَلَّى بِنَا الْمَغْرِبَ ثَلَاثًا وَالْعِشَاءَ رَكْعَتَيْنِ بِإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ ابْنُ عُمَرَ : هَكَذَا صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْمَكَانِ } وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ الْحُسَيْنِ بْنِ حَفْصٍ : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِجَمْعٍ بِإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ } .
وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ أَشْعَثَ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : أَقْبَلْت مَعَ ابْنِ عُمَرَ مِنْ عَرَفَاتٍ إلَى الْمُزْدَلِفَةِ ، فَلَمْ يَكُنْ يَفْتُرُ عَنْ التَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ حَتَّى أَتَيْنَا مُزْدَلِفَةَ فَأَذَّنَ وَأَقَامَ ، أَوْ أَمَرَ إنْسَانًا فَأَذَّنَ وَأَقَامَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ ، ثُمَّ الْتَفَتَ إلَيْنَا فَقَالَ الصَّلَاةَ ، فَصَلَّى الْعِشَاءَ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ دَعَا بِعَشَائِهِ ، قَالَ : وَأَخْبَرَنِي عِلَاجُ بْنُ عَمْرٍو بِمِثْلِ حَدِيثِ أُبَيٍّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقِيلَ لِابْنِ

عُمَرَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ : صَلَّيْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَكَذَا ، فَقَدْ عَلِمْت مَا فِي هَذَا مِنْ التَّعَارُضِ ، فَإِنْ لَمْ يُرَجَّحْ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الصَّحِيحَانِ عَلَى مَا انْفَرَدَ بِهِ صَحِيحُ مُسْلِمٍ وَأَبُو دَاوُد حَتَّى تَسَاقَطَا كَانَ الرُّجُوعُ إلَى الْأَصْلِ يُوجِبُ تَعَدُّدَ الْإِقَامَةِ بِتَعَدُّدِ الصَّلَاةِ كَمَا فِي قَضَاءِ الْفَوَائِتِ ، بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ الصَّلَاةَ الثَّانِيَةَ هُنَا وَقْتِيَّةٌ ، فَإِذَا أُقِيمَ لَلْأُولَى الْمُتَأَخِّرَةِ عَنْ وَقْتِهَا الْمَعْهُودِ كَانَتْ الْحَاضِرَةُ أَوْلَى أَنْ يُقَامَ لَهَا بَعْدَهَا .
وَيَنْبَغِي أَنْ يُصَلِّيَ الْفَرْضَ قَبْلَ حَطِّ رَحْلِهِ بَلْ يُنِيخُ جِمَالَهُ وَيَعْقِلُهَا ، وَهَذِهِ لَيْلَةٌ جَمَعَتْ شَرَفَ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُجْتَهَدَ فِي إحْيَائِهَا بِالصَّلَاةِ وَالتِّلَاوَةِ وَالذِّكْرِ وَالتَّضَرُّعِ ( قَوْلُهُ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَخْ ) لَا أَصْلَ لِهَذَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
بَلْ هُوَ فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ فَعَلَهُ ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ وَلَفْظُهُ قَالَ : { فَلَمَّا أَتَى جَمْعًا أَذَّنَ وَأَقَامَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ ثَلَاثًا ثُمَّ تَعَشَّى ثُمَّ أَذَّنَ وَأَقَامَ فَصَلَّى الْعِشَاءَ رَكْعَتَيْنِ } .
وَكَيْفَ يَسُوغُ لِلْمُصَنِّفِ أَنْ يَعْتَبِرَ هَذَا حَدِيثًا حُجَّةً عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُصَرِّحٌ بِصُدُورِ تَعَدُّدِ الْإِقَامَةِ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ ، وَالْمُصَنِّفُ مِنْ قَرِيبٍ يُنَاضِلُ عَلَى أَنَّهُ صَلَّاهُمَا بِإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَّا حَجَّةٌ وَاحِدَةٌ ، فَإِنْ كَانَ قَدْ ثَبَتَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ الْأَوَّلُ فَقَدْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ صَلَّاهُمَا مِنْ غَيْرِ تَخَلُّلِ عَشَاءٍ بَيْنَهُمَا بِإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَسْتَحِيلُ اعْتِقَادُ الثَّانِي ، وَإِلَّا لَزِمَ اعْتِقَادُ أَنَّهُ تَعَشَّى وَلَا تَعَشَّى وَأَفْرَدَ الْإِقَامَةَ

وَلَا أَفْرَدَهَا ، وَهَذَا لِأَنَّ رِوَايَةَ الْحَدِيثِ لِلِاحْتِجَاجِ فَرْعُ اعْتِقَادِ صِحَّتِهِ ( قَوْلُهُ لِأَنَّ الْمَغْرِبَ مُؤَخَّرَةٌ عَنْ وَقْتِهَا ) وَأَدَاءُ صَلَاةٍ بَعْدَ وَقْتِهَا عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ .

قَالَ ( وَمَنْ صَلَّى الْمَغْرِبَ فِي الطَّرِيقِ لَمْ يُجْزِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَعَلَيْهِ إعَادَتُهَا مَا لَمْ يَطْلُعْ الْفَجْرُ ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : يُجْزِيه وَقَدْ أَسَاءَ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا صَلَّى بِعَرَفَاتٍ لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ أَدَّاهَا فِي وَقْتِهَا فَلَا تَجِبُ إعَادَتُهَا كَمَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ ، إلَّا أَنَّ التَّأْخِيرَ مِنْ السُّنَّةِ فَيَصِيرُ مُسِيئًا بِتَرْكِهِ .
وَلَهُمَا مَا رُوِيَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ لِأُسَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي طَرِيقِ الْمُزْدَلِفَةِ : الصَّلَاةُ أَمَامَكَ } مَعْنَاهُ : وَقْتُ الصَّلَاةِ .
وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ التَّأْخِيرَ وَاجِبٌ ، وَإِنَّمَا وَجَبَ لِيُمْكِنَهُ الْجَمْعَ بَيْن الصَّلَاتَيْنِ بِالْمُزْدَلِفَةِ فَكَانَ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ مَا لَمْ يَطْلُعْ الْفَجْرُ لِيَصِيرَ جَامِعًا بَيْنَهُمَا ، وَإِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ لَا يُمْكِنُهُ الْجَمْعُ فَسَقَطَتْ الْإِعَادَةُ .

( قَوْلُهُ لَمْ يُجْزِهِ ) الْخَارِجُ مِنْ الدَّلِيلِ وَالتَّقْرِيرِ صَرِيحًا أَنَّ الْإِعَادَةَ وَاجِبَةٌ وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ بِعَدَمِ الْإِجْزَاءِ وَإِلَّا وَجَبَ الْإِعَادَةُ مُطْلَقًا بَلْ لَمْ تَكُنْ إعَادَةً بَلْ أَدَاءً فِي الْوَقْتِ وَقَضَاءً خَارِجَهُ .
وَحَاصِلُ الدَّلِيلِ أَنَّ الظَّنِّيَّ أَفَادَ تَأَخُّرَ وَقْتِ الْمَغْرِبِ فِي خُصُوصِ هَذَا الْيَوْمِ لِيُتَوَصَّلَ إلَى الْجَمْعِ بِجَمْعٍ ، وَإِعْمَالُ مُقْتَضَاهُ وَاجِبٌ مَا لَمْ يَلْزَمْ تَقْدِيمٌ عَلَى الْقَاطِعِ ، وَهُوَ بِإِيجَابِ أَدَاءِ الْمَغْرِبِ بَعْدَ الْكَوْنِ بِمُزْدَلِفَةَ مَا لَمْ يَطْلُعْ الْفَجْرُ ، فَإِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ انْتَفَى إمْكَانُ تَدَارُكِ هَذَا الْوَاجِبِ وَتَقَرَّرَ الْمَأْثَمُ ، إذْ لَوْ وَجَبَ بَعْدَهُ كَانَ حَقِيقَةُ عَدَمِ الْإِجْزَاءِ فِيمَا هُوَ مُوَقَّتٌ قَطْعًا وَفِيهِ التَّقَدُّمُ الْمُمْتَنِعُ ، وَعَنْ ذَلِكَ قُلْنَا إذَا بَقِيَ فِي الطَّرِيقِ طَوِيلًا حَتَّى عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُدْرِكُ مُزْدَلِفَةَ قَبْلَ الْفَجْرِ جَازَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ الْمَغْرِبَ فِي الطَّرِيقِ .
وَإِذْ قَدْ عَرَفْت هَذَا فَلَوْلَا تَعْلِيلُ ذَلِكَ الظَّنِّيِّ بِأَنَّ التَّأَخُّرَ وَالتَّأْخِيرَ لِلْجَمْعِ لَوَجَبَ أَنَّ الْإِعَادَةَ لَازِمَةٌ مُطْلَقًا لَكِنْ مَا وَجَبَ لِشَيْءٍ يَنْتَفِي وُجُوبُهُ عِنْدَ تَحَقُّقِ انْتِفَاءِ ذَلِكَ الشَّيْءِ .
بَقِيَ الْكَلَامُ فِي إفَادَةِ صُورَةِ ذَلِكَ الظَّنِّيِّ وَهُوَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ " دَفَعَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ عَرَفَةَ حَتَّى إذَا كَانَ بِالشِّعْبِ نَزَلَ فَبَالَ ثُمَّ تَوَضَّأَ وَلَمْ يُسْبِغْ الْوُضُوءَ .
فَقُلْت لَهُ الصَّلَاةَ ، فَقَالَ : الصَّلَاةُ أَمَامَك ، فَرَكِبَ فَلَمَّا جَاءَ الْمُزْدَلِفَةَ نَزَلَ فَتَوَضَّأَ فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ ثُمَّ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ ، ثُمَّ أَنَاخَ كُلُّ إنْسَانٍ بَعِيرَهُ فِي مَنْزِلِهِ ثُمَّ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَصَلَّاهَا وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا " ا هـ .
وَقَوْلُهُ الصَّلَاةُ أَمَامَك الْمُرَادُ وَقْتُهَا ، وَقَدْ يُقَالُ : مُقْتَضَاهُ وُجُوبُ الْإِعَادَةِ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ أَدَّاهَا قَبْلَ

وَقْتِهَا الثَّابِتِ بِالْحَدِيثِ ، فَتَعْلِيلُهُ بِأَنَّهُ لِلْجَمْعِ فَإِذَا فَاتَ سَقَطَتْ الْإِعَادَةُ تَخْصِيصٌ لِلنَّصِّ بِالْمَعْنَى الْمُسْتَنْبَطِ مِنْهُ ، وَمَرْجِعُهُ إلَى تَقْدِيمِ الْمَعْنَى عَلَى النَّصِّ ، وَكَلِمَتُهُمْ عَلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ لَعَيْنِ النَّصِّ لَا لِمَعْنَى النَّصِّ .
لَا يُقَالُ : لَوْ أَجْرَيْنَاهُ فِي إطْلَاقِهِ أَدَّى إلَى تَقْدِيمِ الظَّنِّيِّ عَلَى الْقَاطِعِ .
لِأَنَّا نَقُولُ : ذَلِكَ لَوْ قُلْنَا بِافْتِرَاضِ ذَلِكَ ، لَكُنَّا نَحْكُمُ بِالْإِجْزَاءِ وَنُوجِبُ إعَادَةَ مَا وَقَعَ مُجْزِيًا شَرْعًا مُطْلَقًا ، وَلَا بِدَعَ فِي ذَلِكَ فَهُوَ نَظِيرُ وُجُوبِ إعَادَةِ صَلَاةٍ أُدِّيت مَعَ كَرَاهَةِ التَّحْرِيمِ حَيْثُ يُحْكَمُ بِإِجْزَائِهَا وَتَجِبُ إعَادَتُهَا مُطْلَقًا ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ

قَالَ ( وَإِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ يُصَلِّي الْإِمَامُ بِالنَّاسِ الْفَجْرَ بِغَلَسٍ ) لِرِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَلَّاهَا يَوْمَئِذٍ بِغَلَسٍ } وَلِأَنَّ فِي التَّغْلِيسِ دَفْعَ حَاجَةِ الْوُقُوفِ فَيَجُوزُ كَتَقْدِيمِ الْعَصْرِ بِعَرَفَةَ
( قَوْلُهُ وَإِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ ) أَيْ فَجْرُ يَوْمِ النَّحْرِ ( قَوْلُهُ لِرِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ) فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ { مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى صَلَاةً إلَّا لِمِيقَاتِهَا إلَّا صَلَاتَيْنِ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِجَمْعٍ وَصَلَّى الْفَجْرَ يَوْمَئِذٍ قَبْلَ مِيقَاتِهَا } يُرِيدُ قَبْلَ وَقْتِهَا الَّذِي اعْتَادَ صَلَاتَهَا فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ ، لِأَنَّهُ غَلَّسَ بِهَا يُبَيِّنُهُ لَفْظُ الْبُخَارِيِّ { وَالْفَجْرَ حِينَ بَزَغَ الْفَجْرُ } وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ { قَبْلَ مِيقَاتِهَا بِغَلَسٍ } فَأَفَادَ أَنَّ الْمُعْتَادَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ الْإِسْفَارُ بِالْفَجْرِ وَأَخْرَجَا { أَنَّهُ صَلَّى بِجَمْعٍ الصَّلَاتَيْنِ جَمِيعًا وَصَلَّى الْفَجْرَ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ }

( ثُمَّ وَقَفَ وَوَقَفَ مَعَهُ النَّاسُ وَدَعَا ) لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَفَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَدْعُو حَتَّى رُوِيَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { فَاسْتُجِيبَ لَهُ دُعَاؤُهُ لِأُمَّتِهِ حَتَّى الدِّمَاءِ وَالْمَظَالِمِ } ثُمَّ هَذَا الْوُقُوفُ وَاجِبٌ عِنْدَنَا وَلَيْسَ بِرُكْنٍ ، حَتَّى لَوْ تَرَكَهُ بِغَيْرِ عُذْرٍ يَلْزَمُهُ الدَّمُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : إنَّهُ رُكْنٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } وَبِمِثْلِهِ تَثْبُتُ الرُّكْنِيَّةُ .
وَلَنَا مَا رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَّمَ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ بِاللَّيْلِ ، وَلَوْ كَانَ رُكْنًا لَمَا فَعَلَ ذَلِكَ ، وَالْمَذْكُورُ فِيمَا تَلَا الذِّكْرُ وَهُوَ لَيْسَ بِرُكْنٍ بِالْإِجْمَاعِ ، وَإِنَّمَا عَرَفْنَا الْوُجُوبَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ وَقَفَ مَعَنَا هَذَا الْمَوْقِفَ وَقَدْ كَانَ أَفَاضَ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ عَرَفَاتٍ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ } عَلَّقَ بِهِ تَمَامَ الْحَجِّ وَهَذَا يَصْلُحُ أَمَارَةً لِلْوُجُوبِ ، غَيْرَ أَنَّهُ إذَا تَرَكَهُ بِعُذْرٍ بِأَنْ يَكُونَ بِهِ ضَعْفٌ أَوْ عِلَّةٌ أَوْ كَانَتْ امْرَأَةٌ تَخَافُ الزِّحَامَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِمَا رَوَيْنَا .

( قَوْلُهُ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَخْ ) تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ قَوْلُهُ { فَصَلَّى الْفَجْرَ حِينَ تَبَيَّنَ لَهُ الصُّبْحُ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ ، ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ حَتَّى أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَدَعَاهُ وَكَبَّرَهُ وَهَلَّلَهُ وَوَحَّدَهُ فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا فَدَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ } الْحَدِيثَ .
وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ حَتَّى رُوِيَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ إلَخْ قَالُوا : هُوَ وَهْمٌ ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي حَدِيثِ الْعَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ .
وَلَوْ اتَّجَهَ أَنْ يُقَالَ الْحَدِيثُ مِنْ رِوَايَةِ كِنَانَةِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ فَيُصَدَّقُ أَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ انْدَفَعَ ، لَكِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ إذَا أُطْلِقَ لَا يُرَادُ بِهِ إلَّا عَبْدُ اللَّهِ الْمُلَقَّبُ بِالْحَبْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ( قَوْلُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إنَّهُ رُكْنٌ ) هَذَا سَهْوٌ فَإِنَّ كُتُبَهُمْ نَاطِقَةٌ بِأَنَّهُ سُنَّةٌ .
وَفِي الْمَبْسُوطِ ذُكِرَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ مَكَانَ الشَّافِعِيِّ .
وَفِي الْأَسْرَارِ ذُكِرَ عَلْقَمَةُ .
وَجْهُ الرُّكْنِيَّةِ قَوْله تَعَالَى { فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } قُلْنَا غَايَةُ مَا يُفِيدُ إيجَابَ الْكَوْنِ فِي الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ بِالِالْتِزَامِ لِأَجْلِ الذِّكْرِ ابْتِدَاءً ، وَهَذَا لِأَنَّ الْأَمْرَ فِيهَا إنَّمَا هُوَ بِالذِّكْرِ عِنْدَهُ لَا مُطْلَقًا فَلَا يَتَحَقَّقُ الِامْتِثَالُ إلَّا بِالْكَوْنِ عِنْدَهُ ، فَالْمَطْلُوبُ هُوَ الْمُقَيَّدُ فَيَجِبُ الْقَيْدُ ضَرُورَةً لَا قَصْدًا ، فَإِذَا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ نَفْسَ الذِّكْرِ الَّذِي هُوَ مُتَعَلِّقُ الْأَمْرِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ انْتَفَى وُجُوبُ الْأَمْرِ فِيهِ بِالضَّرُورَةِ فَانْتَفَى الرُّكْنِيَّةُ وَالْإِيجَابُ مِنْ الْآيَةِ ، وَإِنَّمَا عَرَفْنَا الْإِيجَابَ بِغَيْرِهَا ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ شَهِدَ صَلَاتَنَا هَذِهِ وَوَقَفَ مَعَنَا حَتَّى يَدْفَعَ وَقَدْ وَقَفَ

بِعَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ } قَالَ الْحَاكِمُ : صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ كَافَّةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ ، وَهُوَ قَاعِدَةٌ مِنْ قَوَاعِدِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ عَلَى أَصْلِهِمَا ، لِأَنَّ عُرْوَةَ بْنَ مُضَرِّسٍ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ إلَّا الشَّعْبِيُّ ، وَقَدْ وَجَدْنَا عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ قَدْ حَدَّثَ عَنْهُ ، ثُمَّ أَخْرَجَ : عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسٍ قَالَ { جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَوْقِفِ فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَيْتُ مِنْ جَبَلِ طَيِّئٍ أَكْلَلْتُ مَطِيَّتِي وَأَتْعَبْتُ نَفْسِي ، وَاَللَّهِ مَا بَقِيَ جَبَلٌ مِنْ تِلْكَ الْجِبَالِ إلَّا وَقَفْتُ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : مَنْ أَدْرَكَ مَعَنَا هَذِهِ الصَّلَاةَ : يَعْنِي صَلَاةَ الصُّبْحِ وَقَدْ أَتَى عَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ وَقَضَى تَفَثَهُ } عَلَّقَ بِهِ تَمَامَ الْحَجِّ ، وَهُوَ يَصْلُحُ لِإِفَادَةِ الْوُجُوبِ لِعَدَمِ الْقَطْعِيَّةِ .
فَكَيْفَ مَعَ حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ { كَانَ يُقَدِّمُ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ فَيَقِفُونَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ بِالْمُزْدَلِفَةِ بِلَيْلٍ فَيَذْكُرُونَ اللَّهَ مَا بَدَا لَهُمْ ثُمَّ يَرْجِعُونَ قَبْلَ أَنْ يَقِفَ الْإِمَامُ وَقَبْلَ أَنْ يَدْفَعَ ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدَمُ مِنًى لِصَلَاةِ الْفَجْرِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدَمُ بَعْدَ ذَلِكَ ، فَإِذَا قَدِمُوا رَمَوْا الْجَمْرَةَ ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ : رَخَّصَ فِي ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
وَمَا أَخْرَجَ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَدِّمُ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ بِغَلَسٍ وَيَأْمُرُهُمْ أَنْ لَا يَرْمُوا الْجَمْرَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ } فَإِنَّ بِذَلِكَ تَنْتَفِي الرُّكْنِيَّةُ لِأَنَّ الرُّكْنَ لَا يَسْقُطُ لِلْعُذْرِ ، بَلْ إنْ كَانَ عُذْرٌ يَمْنَعُ أَصْلَ الْعِبَادَةِ سَقَطَتْ كُلُّهَا أَوْ أُخِّرَتْ ، أَمَّا إنْ شَرَعَ فِيهَا فَلَا تَتِمُّ إلَّا بِأَرْكَانِهَا وَكَيْفَ وَلَيْسَتْ هِيَ سِوَى

أَرْكَانِهَا ؟ فَعِنْدَ عَدَمِ الْأَرْكَانِ لَمْ يَتَحَقَّقْ مُسَمَّى تِلْكَ الْعِبَادَةِ أَصْلًا

قَالَ ( وَالْمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ إلَّا وَادِيَ مُحَسِّرٍ ) لِمَا رَوَيْنَا مِنْ قَبْلُ .
قَالَ ( فَإِذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ أَفَاضَ الْإِمَامُ وَالنَّاسُ مَعَهُ حَتَّى يَأْتُوا مِنًى ) قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ عَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : هَكَذَا وَقَعَ فِي نُسَخِ الْمُخْتَصَرِ وَهَذَا غَلَطٌ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إذَا أَسْفَرَ أَفَاضَ الْإِمَامُ وَالنَّاسُ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دَفَعَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ .

( قَوْلُهُ وَالْمُزْدَلِفَةُ إلَخْ ) وَهِيَ تَمْتَدُّ إلَى وَادِي مُحَسِّرٍ بِكَسْرِ السِّينِ الْمُشَدَّدَةِ قَبْلَهَا حَاءٌ مُهْمَلَةٌ مَفْتُوحَةٌ .
وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَقِفَ وَرَاءَ الْإِمَامِ بِقُزَحَ ، قِيلَ هُوَ الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ .
وَفِي كَلَامِ الطَّحَاوِيِّ إنَّ لِلْمُزْدَلِفَةِ ثَلَاثَةَ أَسْمَاءٍ : الْمُزْدَلِفَةُ ، وَالْمَشْعَرُ الْحَرَامُ ، وَجَمْعٌ .
وَالْمَأْزِمَانِ بِوَادِي مُحَسِّرٍ ، وَأَوَّلُ مُحَسِّرٍ مِنْ الْقَرْنِ الْمُشْرِفِ مِنْ الْجَبَلِ الَّذِي عَلَى يَسَارِ الذَّاهِبِ إلَى مِنًى ، سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّ فِيلَ أَصْحَابِ الْفِيلِ أَعْيَا فِيهِ ، وَأَهْلُ مَكَّةَ يُسَمُّونَهُ وَادِيَ النَّارِ .
قِيلَ لِأَنَّ شَخْصًا اصْطَادَ فِيهِ فَنَزَلَتْ نَارٌ مِنْ السَّمَاءِ فَأَحْرَقَتْهُ ، وَآخِرُهُ أَوَّلُ مِنًى ، وَهِيَ مِنْهُ إلَى الْعَقَبَةِ الَّتِي يَرْمِي بِهَا الْجَمْرَةَ يَوْمَ النَّحْرِ ، وَلَيْسَ وَادِي مُحَسِّرٍ مِنْ مِنًى وَلَا مِنْ الْمُزْدَلِفَةِ فَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ وَمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ إلَّا وَادِيَ مُحَسِّرٍ مُنْقَطِعٌ .
وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ الْقُدُورِيِّ وَالْهِدَايَةِ وَغَيْرِهِمَا فِي قَوْلِهِمْ مُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ ، إلَّا وَادِيَ مُحَسِّرٍ ، وَكَذَا عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ إلَّا بَطْنَ عُرَنَةَ أَنَّ الْمَكَانَيْنِ لَيْسَا مَكَانَ وُقُوفٍ ، فَلَوْ وَقَفَ فِيهِمَا لَا يُجْزِيهِ كَمَا لَوْ وَقَفَ فِي مِنًى سَوَاءٌ قُلْنَا إنَّ عُرَنَةَ وَمُحَسِّرًا مِنْ عَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ أَوْ لَا ، وَهَكَذَا ظَاهِرُ الْحَدِيثِ الَّذِي قَدَّمْنَا تَخْرِيجَهُ ، وَكَذَا عِبَارَةُ الْأَصْلِ مِنْ كَلَامِ مُحَمَّدٍ .
وَوَقَعَ فِي الْبَدَائِعِ : وَأَمَّا مَكَانُهُ : يَعْنِي الْوُقُوفَ بِمُزْدَلِفَةَ فَجُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ مُزْدَلِفَةَ ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَنْزِلَ فِي وَادِي مُحَسِّرٍ .
وَرَوَى الْحَدِيثَ ثُمَّ قَالَ : وَلَوْ وَقَفَ بِهِ أَجْزَأَهُ مَعَ الْكَرَاهَةِ ، وَذُكِرَ مِثْلُ هَذَا فِي بَطْنِ عُرَنَةَ : أَعْنِي قَوْلَهُ إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَقِفَ فِي بَطْنِ عُرَنَةَ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ ذَلِكَ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ وَادِي

الشَّيْطَانِ ا هـ .
وَلَمْ يُصَرِّحْ فِيهِ بِالْإِجْزَاءِ مَعَ الْكَرَاهَةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي وَادِي مُحَسِّرٍ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْكَلَامَ فِيهِمَا وَاحِدٌ ، وَمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ مَشْهُورٍ مِنْ كَلَامِ الْأَصْحَابِ ، بَلْ الَّذِي يَقْتَضِيهِ كَلَامُهُمْ عَدَمُ الْإِجْزَاءِ ، وَأَمَّا الَّذِي يَقْتَضِيه النَّظَرُ إنْ لَمْ يَكُنْ إجْمَاعٌ عَلَى عَدَمِ إجْزَاءِ الْوُقُوفِ بِالْمَكَانَيْنِ هُوَ أَنَّ عُرَنَةَ وَوَادِيَ مُحَسِّرٍ إنْ كَانَا مِنْ مُسَمَّى عَرَفَةَ وَالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ يُجْزِي الْوُقُوفُ بِهِمَا ، وَيَكُونُ مَكْرُوهًا لِأَنَّ الْقَاطِعَ أَطْلَقَ الْوُقُوفَ بِمُسَمَّاهُمَا مُطْلَقًا ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ مَنَعَهُ فِي بَعْضِهِ فَقَيَّدَهُ ، وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لَا تَجُوزُ فَيَثْبُتُ الرُّكْنُ بِالْوُقُوفِ فِي مُسَمَّاهُمَا مُطْلَقًا ، وَالْوُجُوبُ فِي كَوْنِهِ فِي غَيْرِ الْمَكَانَيْنِ الْمُسْتَثْنَيَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَكُونَا مِنْ مُسَمَّاهُمَا لَا يُجْزِي أَصْلًا ، وَهُوَ ظَاهِرٌ وَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ .
هَذَا وَأَوَّلُ وَقْتِ الْوُقُوفِ بِمُزْدَلِفَةَ إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ ، وَآخِرُهُ طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْهُ ، فَلَا يَجُوزُ قَبْلَ الْفَجْرِ عِنْدَنَا ، وَالْمَبِيتُ بِمُزْدَلِفَةَ لَيْلَةَ النَّحْرِ سُنَّةٌ ( قَوْلُهُ وَهَذَا غَلَطٌ ) هُوَ كَمَا قَالَ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَفَاضَ حِينَ أَسْفَرَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ } كَحَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ وَغَيْرِهِ ، فَارْجِعْ إلَى اسْتِقْرَائِهَا .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ فِي حَدِّهِ إذَا صَارَ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ قَدْرَ رَكْعَتَيْنِ دَفَعَ ، وَهَذَا بِطَرِيقِ التَّقْرِيبِ ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ هَذَا حَالُ الْوُقُوفِ .
أَمَّا الْمَبِيتُ بِهَا فَسُنَّةٌ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي تَرْكِهِ .
وَلَا يُشْتَرَطُ النِّيَّةُ لِلْوُقُوفِ كَوُقُوفِ عَرَفَةَ ، وَلَوْ مَرَّ بِهَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَبِيتَ بِهَا جَازَ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِحُصُولِ الْوُقُوفِ ضَمِنَ الْمُرُورِ كَمَا فِي عَرَفَةَ .
وَلَوْ وَقَفَ بَعْدَ مَا أَفَاضَ الْإِمَامُ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ

أَجْزَأَهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ وَقَفَ بَعْدَ إفَاضَةِ الْإِمَامِ .
وَلَوْ دَفَعَ قَبْلَ النَّاسِ أَوْ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ الْفَجْرَ بَعْدَ الْفَجْرِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ إلَّا أَنَّهُ خَالَفَ السُّنَّةَ إذْ السُّنَّةُ مَدُّ الْوُقُوفِ إلَى الْإِسْفَارِ وَالصَّلَاةُ مَعَ الْإِمَامِ

قَالَ ( فَيَبْتَدِئُ بِجَمْرَةِ الْعَقَبَةِ فَيَرْمِيهَا مِنْ بَطْنِ الْوَادِي بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ مِثْلَ حَصَى الْخَذَفِ ) لِأَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَتَى مِنًى لَمْ يُعَرِّجْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ } ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { عَلَيْكُمْ بِحَصَى الْخَذْفِ لَا يُؤْذِي بَعْضُكُمْ بَعْضًا } وَلَوْ رَمْيَ بِأَكْبَرَ مِنْهُ جَازَ لِحُصُولِ الرَّمْيِ ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَرْمِي بِالْكِبَارِ مِنْ الْأَحْجَارِ كَيْ لَا يَتَأَذَّى بِهِ غَيْرُهُ ( وَلَوْ رَمَاهَا مِنْ فَوْقِ الْعَقَبَةِ أَجْزَأَهُ ) لِأَنَّ مَا حَوْلَهَا مَوْضِعُ النُّسُكِ ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي لِمَا رَوَيْنَا

( قَوْلُهُ فَيَرْمِيهَا مِنْ بَطْنِ الْوَادِي إلَخْ ) فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ { فَدَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ حَتَّى أَتَى بَطْنَ مُحَسِّرٍ فَحَرَّكَ قَلِيلًا ، ثُمَّ سَلَكَ الطَّرِيقَ الْوُسْطَى الَّتِي تَخْرُجُ عَلَى الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى حَتَّى أَتَى الْجَمْرَةَ الَّتِي عِنْدَ الشَّجَرَةِ فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ } وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ سُلَيْمَان بْنِ عَمْرٍو بْنِ الْأَحْوَصِ عَنْ أُمِّهِ قَالَتْ { رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْمِي الْجَمْرَةَ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي وَهُوَ رَاكِبٌ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ وَرَجُلٌ مِنْ خَلْفِهِ يَسْتُرُهُ ، فَسَأَلْتُ عَنْ الرَّجُلِ فَقَالُوا : الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ ، وَازْدَحَمَ النَّاسُ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ لَا يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ، وَإِذَا رَمَيْتُمْ الْجَمْرَةَ فَارْمُوا بِمِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ } وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ { رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَى الْجَمْرَةَ بِمِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ { أَنَّهُ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ ، فَقِيلَ لَهُ : إنَّ نَاسًا يَرْمُونَهَا مِنْ فَوْقِهَا ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ : هَذَا وَاَلَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ مَقَامُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ } وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ كَانَ إذَا رَمَى الْجَمْرَةَ الْأُولَى رَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ ثُمَّ يَنْحَدِرُ أَمَامَهَا فَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ رَافِعًا يَدَيْهِ يَدْعُو ، وَكَانَ يُطِيلُ الْوُقُوفَ وَيَأْتِي الْجَمْرَةَ الثَّانِيَةَ فَيَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ كُلَّمَا رَمَى بِحَصَاةٍ ، ثُمَّ يَنْحَدِرُ ذَاتَ الْيَسَارِ مِمَّا يَلِي الْوَادِيَ فَيَقِفُ مُسْتَقْبِلَ الْبَيْتِ رَافِعًا يَدَيْهِ يَدْعُو ، ثُمَّ يَأْتِي الْجَمْرَةَ الَّتِي عِنْدَ الْعَقَبَةِ فَيَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ كُلَّمَا

رَمَاهَا بِحَصَاةٍ ثُمَّ يَنْصَرِفُ وَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا } .
( قَوْلُهُ إلَّا أَنَّهُ لَا يَرْمِي بِالْكِبَارِ مِنْ الْأَحْجَارِ ) أَطْلَقَ فِي مَنْعِ الْكِبَارِ بَعْدَمَا أَطْلَقَ فِي تَجْوِيزِ الْكِبَارِ بِقَوْلِهِ وَلَوْ رَمَى بِأَكْبَرَ مِنْهَا جَازَ ، فَعُلِمَ إرَادَةُ تَقْيِيدِ كُلٍّ مِنْهُمَا ، فَالْمُرَادُ بِالْأَوَّلِ الْأَكْبَرُ مِنْهَا قَلِيلًا ، وَالْمُرَادُ بِالثَّانِي الْأَكْبَرُ مِنْهَا كَثِيرًا كَالصَّخْرَةِ الْعَظِيمَةِ وَنَحْوِهَا وَمَا يَقْرُبُ مِنْهَا ، وَيَجِبُ كَوْنُ الْمَنْعِ عَلَى وَجْهِ الْكَرَاهَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ مُقْتَضَى ظَاهِرِ الدَّلِيلِ مَنْعُ الْأَكْبَرِ مِنْ حَصَى الْخَذْفِ مُطْلَقًا وَهُوَ مَا رَوَيْنَاهُ آنِفًا ، فَلَمَّا أَجَازُوا الْأَكْبَرَ قَلِيلًا ، وَلَوْ كَانَ مِثْلَ حَصَاةِ الْخَذْفِ عُلِمَ أَنَّ الْأَمْرَ بِحَصَى الْخَذْفِ مَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ نَظَرًا إلَى تَعْلِيلِهِ بِتَوَهُّمِ الْأَذَى ، وَيَلْزَمُهُ الْإِجْزَاءُ بِرَمْيِ الصَّخَرَاتِ فَيَكُونُ الْمَنْعُ مِنْهَا مَنْعَ كَرَاهَةٍ لِتَوَقُّعِ الْأَذَى بِهَا ( قَوْلُهُ وَلَوْ رَمَاهَا مِنْ فَوْقِ الْعَقَبَةِ أَجْزَأَهُ ) إلَّا أَنَّهُ خِلَافُ السُّنَّةِ فَفِعْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ أَسْفَلِهَا سُنَّةٌ لَا لِأَنَّهُ الْمُتَعَيَّنُ .
وَلِذَا ثَبَتَ رَمْيُ خَلْقٍ كَثِير فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ مِنْ أَعْلَاهَا كَمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَمْ يَأْمُرُوهُمْ بِالْإِعَادَةِ وَلَا أَعْلَنُوا بِالنِّدَاءِ بِذَلِكَ فِي النَّاسِ .
وَكَانَ وَجْهُ اخْتِيَارِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِذَلِكَ هُوَ وَجْهُ اخْتِيَارِهِ حَصَى الْخَذْفِ فَإِنَّهُ يُتَوَقَّعُ الْأَذَى إذَا رَمَوْا مِنْ أَعْلَاهَا لِمَنْ أَسْفَلِهَا فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ مُرُورِ النَّاسِ فَيُصِيبُهُمْ ، بِخِلَافِ الرَّمْيِ مِنْ أَسْفَلَ مَعَ الْمَارِّينَ مِنْ فَوْقِهَا إنْ كَانَ

( وَيُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ ) كَذَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ( وَلَوْ سَبَّحَ مَكَانَ التَّكْبِيرِ أَجْزَأَهُ ) لِحُصُولِ الذِّكْرِ وَهُوَ مِنْ آدَابِ الرَّمْيِ ( وَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا ) لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقِفْ عِنْدَهَا ( وَيَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ مَعَ أَوَّلِ حَصَاةٍ ) لِمَا رَوَيْنَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
رَوَى جَابِرٌ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ التَّلْبِيَةَ عِنْدَ أَوَّلِ حَصَاةٍ رَمَى بِهَا جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ } .

( قَوْلُهُ وَيُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ كَذَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ ) تَقَدَّمَ الرِّوَايَةُ عَنْهُمَا آنِفًا ، وَقَدَّمْنَاهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَأُمِّ سُلَيْمَانَ .
وَظَاهِرُ الْمَرْوِيَّاتِ مِنْ ذَلِكَ الِاقْتِصَارُ عَلَى : اللَّهُ أَكْبَرُ ، غَيْرَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ أَنَّهُ يَقُولُ : اللَّهُ أَكْبَرُ رَغْمًا لِلشَّيْطَانِ وَحِزْبِهِ .
وَقِيلَ : يَقُولُ أَيْضًا : اللَّهُمَّ اجْعَلْ حَجِّي مَبْرُورًا وَسَعْيِي مَشْكُورًا وَذَنْبِي مَغْفُورًا ( قَوْلُهُ وَلَوْ سَبَّحَ مَكَانَ التَّكْبِيرِ أَجْزَأَهُ ) وَكَذَا غَيْرُ التَّسْبِيحِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى كَالتَّهْلِيلِ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ تَكْبِيرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذِّكْرُ لَا خُصُوصُهُ .
وَيُمْكِنُ حَمْلُ التَّكْبِيرِ فِي لَفْظِ الرُّوَاةِ عَلَى مَعْنَاهُ مِنْ التَّعْظِيمِ كَمَا قُلْنَا فِي تَكْبِيرِ الِافْتِتَاحِ ، فَيَدْخُلُ كُلُّ ذِكْرٍ لَفْظًا لَا مَعْنًى فَقَطْ ، لَكِنْ فِيهِ بُعْدٌ بِسَبَبِ أَنَّ الْمَعْرُوفَ مِنْ إطْلَاقِهِمْ لَفْظَ كَبِّرْ اللَّهَ وَنَحْوَهُ إرَادَةُ مَا كَانَ تَعْظِيمًا بِلَفْظِ التَّكْبِيرِ ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ غَيْرَهُ قَالُوا سَبَّحَ اللَّهَ وَوَحَّدَهُ أَوْ ذَكَرَ اللَّهَ ، فَهَذَا الْمُعْتَادُ بِبُعْدِ هَذَا الْحَمْلِ ( قَوْلُهُ وَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا ) عَلَى هَذَا تَضَافَرَتْ الرِّوَايَاتُ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَلَمْ تَظْهَرْ حِكْمَةُ تَخْصِيصِ الْوُقُوفِ وَالدُّعَاءِ بِغَيْرِهَا مِنْ الْجَمْرَتَيْنِ ، فَإِنْ تَخَايَلَ أَنَّهُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ لِكَثْرَةِ مَا عَلَيْهِ مِنْ الشُّغْلِ كَالذَّبْحِ وَالْحَلْقِ وَالْإِفَاضَةِ إلَى مَكَّةَ فَهُوَ مُنْعَدِمٌ فِيمَا بَعْدَهُ مِنْ الْأَيَّامِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ كَوْنُ الْوُقُوفِ يَقَعُ فِي جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ فِي الطَّرِيقِ فَيُوجِبَ قَطْعَ سُلُوكِهَا عَلَى النَّاسِ وَشِدَّةَ الزِّحَامِ الْوَاقِفِينَ وَالْمَارِّينَ ، وَيُفْضِي ذَلِكَ إلَى ضَرَرٍ عَظِيمٍ ، بِخِلَافِهِ فِي بَاقِي الْجِمَارِ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ فِي نَفْسِ الطَّرِيقِ بَلْ بِمَعْزِلٍ مُنْضَمٍّ عَنْهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( قَوْلُهُ وَيَقْطَعُ

التَّلْبِيَةَ مَعَ أَوَّلِ حَصَاةٍ لِمَا رَوَيْنَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ) يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ لِمَا ثَبَتَ لَنَا رَفْعُ رِوَايَتِهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ : أَيْ لِمَا اشْتَمَلْت عَلَيْهِ رِوَايَتُنَا لَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَوَاهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ ، وَهَذِهِ عِنَايَةٌ دَعَا إلَيْهَا أَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ رِوَايَةُ ذَلِكَ عَنْهُ فِي الْكِتَابِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ فِي بَحْثِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ } أَخْرَجَهُ السِّتَّةُ ، وَقَدَّمْنَاهُ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَإِقْسَامِهِ عَلَيْهِ .
وَفِي الْبَدَائِعِ : فَإِنْ زَارَ الْبَيْتَ قَبْلَ أَنْ يَرْمِيَ وَيَحْلِقَ وَيَذْبَحَ قَطَعَ التَّلْبِيَةَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُلَبِّي مَا لَمْ يَحْلِقْ أَوْ تَزُولُ الشَّمْسُ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ ، رِوَايَةٌ كَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَرِوَايَةُ ابْنِ سِمَاعَةَ : مَنْ لَمْ يَرْمِ قَطَعَ التَّلْبِيَةَ إذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ يَوْمَ النَّحْرِ ، وَرِوَايَةُ هِشَامٍ : إذَا مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ ، وَظَاهِرُ رِوَايَتِهِ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَجْهُ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَمْ يَتَحَلَّلْ لَهُ بِهَذَا الطَّوَافِ شَيْءٌ فَكَانَ كَعَدَمِهِ فَلَا يَقْطَعُهَا إلَّا إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ لِأَنَّ أَصْلَهُ أَنَّ رَمْيَ يَوْمِ النَّحْرِ يَتَوَقَّتُ بِالزَّوَالِ فَيَفْعَلُ بَعْدَهُ قَضَاءً فَصَارَ فَوَاتُهُ عَنْ وَقْتِهِ كَفِعْلِهِ فِي وَقْتِهِ ، وَعِنْدَ فِعْلِهِ فِيهِ يَقْطَعُهَا كَذَا عِنْدَ فَوَاتِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا حَلَقَ قَبْلَ الرَّمْيِ لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ إحْرَامِهِ بِاعْتِبَارِ الْغَالِبِ وَلَا تَلْبِيَةَ فِي غَيْرِ الْإِحْرَامِ .
وَلَهُمَا أَنَّ الطَّوَافَ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الرَّمْيِ وَالْحَلْقِ وَالذَّبْحِ لَكِنْ وَقَعَ بِهِ التَّحَلُّلُ فِي الْجُمْلَةِ عَنْ النِّسَاءِ حَتَّى يَلْزَمَهُ بِالْجِمَاعِ بَعْدَهُ شَاةٌ لَا بَدَنَةٌ فَلَمْ يَكُنْ الْإِحْرَامُ قَائِمًا مُطْلَقًا ، وَلَمْ تُشْرَعْ التَّلْبِيَةُ إلَّا فِي الْإِحْرَامِ

الْمُطْلَقِ .
وَلَوْ ذَبَحَ قَبْلَ الرَّمْيِ وَهُوَ مُتَمَتِّعٌ أَوْ قَارِنٌ يَقْطَعُهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا إنْ كَانَ مُفْرِدًا لِأَنَّ الذَّبْحَ مُحَلِّلٌ فِي الْجُمْلَةِ فِي حَقِّهِمَا بِخِلَافِ الْمُفْرِدِ .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَقْطَعُ إذْ لَا تَحَلُّلَ بِهِ بَلْ بِالرَّمْيِ وَالْحَلْقِ

ثُمَّ كَيْفِيَّةُ الرَّمْيِ أَنْ يَضَعَ الْحَصَاةَ عَلَى ظَهْرِ إبْهَامِهِ إلَى مِنًى وَيَسْتَعِينُ بِالْمِسْبَحَةِ .
وَمِقْدَارُ الرَّمْيِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الرَّامِي وَبَيْنَ مَوْضِعِ السُّقُوطِ خَمْسَةُ أَذْرُعٍ فَصَاعِدًا ، كَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ مَا دُونَ ذَلِكَ يَكُونُ طَرْحًا .
وَلَوْ طَرَحَهَا طَرْحًا أَجْزَأَهُ لِأَنَّهُ رَمَى إلَى قَدَمَيْهِ إلَّا أَنَّهُ مُسِيءٌ لِمُخَالَفَتِهِ السُّنَّةَ ، وَلَوْ وَضَعَهَا وَضْعًا لَمْ يُجْزِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِرَمْيٍ ، وَلَوْ رَمَاهَا فَوَقَعَتْ قَرِيبًا مِنْ الْجَمْرَةِ يَكْفِيهِ لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ ، وَلَوْ وَقَعَتْ بَعِيدًا مِنْهَا لَا يُجْزِيه لِأَنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ قُرْبَةً إلَّا فِي مَكَان مَخْصُوصٍ .

( قَوْلُهُ ثُمَّ كَيْفِيَّةُ الرَّمْيِ أَنْ يَضَعَ الْحَصَاةَ عَلَى ظَهْرِ إبْهَامِهِ وَيَسْتَعِينَ بِالْمِسْبَحَةِ ) هَذَا التَّفْسِيرُ يَحْتَمِلُ كُلًّا مِنْ تَفْسِيرَيْنِ قِيلَ بِهِمَا : أَحَدُهُمَا أَنْ يَضَعَ طَرَفَ إبْهَامِهِ إلَى مِنًى عَلَى وَسَطِ السَّبَّابَةِ وَيَضَعَ الْحَصَاةَ عَلَى ظَهْرِ الْإِبْهَامِ كَأَنَّهُ عَاقِدٌ سَبْعِينَ فَيَرْمِيَهَا وَعُرِفَ مِنْهُ أَنَّ الْمَسْنُونَ فِي كَوْنِ الرَّمْيِ بِالْيَدِ الْيُمْنَى .
وَالْآخَرُ أَنْ يُحَلِّقَ سَبَّابَتَهُ وَيَضَعَهَا عَلَى مِفْصَلِ إبْهَامِهِ كَأَنَّهُ عَاقِدٌ عَشْرَةً ، وَهَذَا فِي التَّمَكُّنِ مِنْ الرَّمْيِ بِهِ مَعَ الزَّحْمَةِ وَالْوَهْجَةُ عُسْرٌ .
وَقِيلَ : يَأْخُذُهَا بِطَرَفَيْ إبْهَامِهِ وَسَبَّابَتِهِ ، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ لِأَنَّهُ أَيْسَرُ وَالْمُعْتَادُ ، وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَوْلَوِيَّةِ تِلْكَ الْكَيْفِيَّةِ سِوَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { فَارْمُوا مِثْلَ حَصَى الْخَذْفِ } وَهَذَا لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ كَيْفِيَّةِ الرَّمْيِ الْمَطْلُوبَةِ كَيْفِيَّةَ الْخَذْفِ ، وَإِنَّمَا هُوَ تَعْيِينُ ضَابِطِ مِقْدَارِ الْحَصَاةِ إذَا كَانَ مِقْدَارُ مَا يُخْذَفُ بِهِ مَعْلُومًا لَهُمْ .
وَأَمَّا مَا زَادَ فِي رِوَايَةِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ بَعْدَ قَوْلِهِ { عَلَيْكُمْ بِحَصَى الْخَذْفِ } مِنْ قَوْلِهِ وَيُشِيرُ بِيَدِهِ كَمَا يَخْذِفُ الْإِنْسَانُ : يَعْنِي عِنْدَ مَا نَطَقَ بِقَوْلِهِ { عَلَيْكُمْ بِحَصَى الْخَذْفِ } أَشَارَ بِصُورَةِ الْخَذْفِ بِيَدِهِ ، فَلَيْسَ يَسْتَلْزِمُ طَلَبَ كَوْنِ الرَّمْيِ بِصُورَةِ الْخَذْفِ لِجَوَازِ كَوْنِهِ لِيُؤَكِّدَ كَوْنَ الْمَطْلُوبِ حَصَى الْخَذْفِ كَأَنَّهُ قَالَ : خُذُوا حَصَى الْخَذْفِ الَّذِي هُوَ هَكَذَا لِيُشِيرَ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ فِي كَوْنِهِ حَصَى الْخَذْفِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا يُعْقَلُ فِي خُصُوصِ وَضْعِ الْحَصَاةِ فِي الْيَدِ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ وَجْهُ قُرْبَةٍ ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ غَرَضٌ شَرْعِيٌّ بَلْ بِمُجَرَّدِ صِغَرِ الْحَصَاةِ .
وَلَوْ أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ فِيهِ إشَارَةٌ إلَى كَوْنِ الرَّمْيِ خَذْفًا عَارَضَهُ كَوْنُهُ وَضْعًا غَيْرَ مُتَمَكِّنٍ وَالْيَوْمُ يَوْمُ زَحْمَةٍ

يُوجِبُ نَفْيَ غَيْرِ الْمُتَمَكِّنِ ( قَوْلُهُ وَلَوْ طَرَحَهَا طَرْحًا أَجْزَأَهُ ) يُفِيدُ أَنَّ الْمَرْوِيَّ عَنْ الْحَسَنِ تَعْيِينُ الْأُولَى ، وَأَنَّ مُسَمَّى الرَّمْيِ لَا يَنْتَفِي فِي الطَّرْحِ رَأْسًا بَلْ إنَّمَا فِيهِ مَعَهُ قُصُورٌ فَتَثْبُتُ الْإِسَاءَةُ بِهِ ، بِخِلَافِ وَضْعِ الْحَصَاةِ وَضْعًا فَإِنَّهُ لَا يُجْزِي لِانْتِفَاءِ حَقِيقَةِ الرَّمْيِ بِالْكُلِّيَّةِ ( قَوْلُهُ وَلَوْ رَمَاهَا فَوَقَعَتْ قَرِيبًا مِنْ الْجَمْرَةِ ) قَدْرَ ذِرَاعٍ وَنَحْوِهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُقَدِّرْهُ كَأَنَّهُ اعْتَمَدَ عَلَى اعْتِبَارِ الْقُرْبِ عُرْفًا وَضِدُّهُ الْبُعْدُ فِي الْعُرْفِ ، فَمَا كَانَ مِثْلُهُ يُعَدُّ بَعِيدًا عُرْفًا لَا يَجُوزُ ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الْبَعِيدِ وَالْقَرِيبِ ، حَتَّى إنَّ مَا لَيْسَ بَعِيدًا فَهُوَ قَرِيبٌ وَمَا لَيْسَ قَرِيبًا فَهُوَ الْبَعِيدُ وَلَعَلَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ ، إذْ قَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ مِنْ الشَّيْءِ بِحَيْثُ يُقَالُ فِيهِ لَيْسَ بِقَرِيبٍ مِنْهُ وَلَا بَعِيدٍ ، وَالظَّاهِرُ عَلَى هَذَا التَّعْوِيلِ عَلَى الْقُرْبِ وَعَدَمِهِ ، فَمَا لَيْسَ بِقَرِيبٍ لَا يَجُوزُ لَا عَلَى الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ .
وَلَوْ وَقَعَتْ عَلَى ظَهْرِ رَجُلٍ أَوْ مَحْمَلٍ وَثَبَتَتْ عَلَيْهِ حَتَّى طَرَحَهَا الْحَامِلُ كَانَ عَلَيْهِ إعَادَتُهَا ، وَلَوْ وَقَعَتْ عَلَيْهِ فَنَبَتْ عَنْهُ وَوَقَعَتْ عِنْدَ الْجَمْرَةِ بِنَفْسِهَا أَجْزَأَهُ ، وَمَقَامُ الرَّامِي بِحَيْثُ يَرَى مَوْقِعَ حَصَاهُ .
وَمَا قُدِّرَ بِهِ بِخَمْسَةِ أَذْرُعٍ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ فَذَاكَ تَقْدِيرُ أَقَلِّ مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَكَانِ فِي الْمَسْنُونِ ، أَلَا تَرَى إلَى تَعْلِيلِهِ فِي الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ مَا دُونَ ذَلِكَ يَكُونُ طَرْحًا

وَلَوْ رَمَى بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ جُمْلَةً فَهَذِهِ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ تَفَرُّقُ الْأَفْعَالِ ، وَيَأْخُذُ الْحَصَى مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ شَاءَ إلَّا مِنْ عِنْدِ الْجَمْرَةِ فَإِنَّ ذَاكَ يُكْرَهُ لِأَنَّ مَا عِنْدَهَا مِنْ الْحَصَى مَرْدُودٌ ، هَكَذَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ فَيَتَشَاءَمُ بِهِ وَمَعَ هَذَا لَوْ فَعَلَ أَجْزَأَهُ لِوُجُودِ فِعْلِ الرَّمْيِ .
وَيَجُوزُ الرَّمْيُ بِكُلِّ مَا كَانَ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِعْلُ الرَّمْيِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالطِّينِ كَمَا يَحْصُلُ بِالْحَجَرِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا رَمَى بِالذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ لِأَنَّهُ يُسَمَّى نِثَارًا لَا رَمْيًا .

( قَوْلُهُ وَلَوْ رَمَى بِسَبْعٍ جُمْلَةً فَهِيَ وَاحِدَةٌ ) فَيَلْزَمُهُ سِتٌّ سِوَاهَا وَالسَّابِعُ وَأَكْثَرُ مِنْهَا وَاحِدٌ ( قَوْلُهُ وَيَأْخُذُ الْحَصَى مِنْ أَيْ مَوْضِعٍ شَاءَ إلَّا مِنْ عِنْدِ الْجَمْرَةِ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ ) يَتَضَمَّنُ خِلَافَ مَا قِيلَ إنَّهُ يَلْتَقِطُهَا مِنْ الْجَبَلِ الَّذِي عَلَى الطَّرِيقِ مِنْ مُزْدَلِفَةَ ، قَالَ بَعْضُهُمْ : جَرَى التَّوَارُثُ بِذَلِكَ ، وَمَا قِيلَ يَأْخُذُهَا مِنْ الْمُزْدَلِفَةِ سَبْعًا رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ فَقَطْ فَأَفَادَ أَنَّهُ لَا سُنَّةَ فِي ذَلِكَ يُوجِبُ خِلَافُهَا الْإِسَاءَةَ ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُهَا مِنْ جَمْعٍ ، بِخِلَافِ مَوْضِعِ الرَّمْيِ لِأَنَّ السَّلَفَ كَرِهُوهُ لِأَنَّهُ الْمَرْدُودُ .
وَقَوْلُهُ وَبِهِ وَرَدَ الْأَثَرُ كَأَنَّهُ مَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ .
قُلْت لِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : مَا بَالُ الْجِمَارِ تُرْمَى مِنْ وَقْتِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلَمْ تَصِرْ هِضَابًا تَسُدُّ الْأُفُقَ ؟ فَقَالَ : أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ مَنْ تُقُبِّلَ حَجُّهُ رُفِعَ حَصَاهُ وَمَنْ لَمْ يُقْبَلْ تُرِكَ حَصَاهُ ؟ قَالَ مُجَاهِدٌ : لَمَّا سَمِعْت هَذَا مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَعَلْت عَلَى حَصَيَاتِي عَلَامَةً ، ثُمَّ تَوَسَّطْت الْجَمْرَةَ فَرَمَيْت مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ثُمَّ طَلَبْت فَلَمْ أَجِدْ بِتِلْكَ الْعَلَامَةِ شَيْئًا ( قَوْلُهُ وَمَعَ هَذَا لَوْ فَعَلَ ) وَأَخَذَهَا مِنْ مَوْضِعِ الرَّمْيِ ( أَجْزَأَهُ ) مَعَ الْكَرَاهَةِ وَمَا هِيَ إلَّا كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ .
وَيُكْرَهُ أَنْ يَلْتَقِطَ حَجَرًا وَاحِدًا فَيُكْسَرَ سَبْعِينَ حَجَرًا صَغِيرًا كَمَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الْيَوْمَ ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَغْسِلَ الْحَصَيَاتِ قِيلَ أَنْ يَرْمِيَهَا لِيَتَيَقَّنَ طَهَارَتَهَا فَإِنَّهُ يُقَامُ بِهَا قُرْبَةٌ ، وَلَوْ رَمَى بِمُتَنَجِّسَةٍ بِيَقِينٍ كُرِهَ وَأَجْزَأَهُ ( قَوْلُهُ وَيَجُوزُ الرَّمْيُ بِكُلِّ مَا كَانَ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ ) كَالْحَجَرِ وَالطِّينِ وَالنُّورَةِ وَالْكُحْلِ وَالْكِبْرِيتِ وَالزِّرْنِيخِ وَكَفٍّ مِنْ تُرَابٍ .
وَظَاهِرُ

إطْلَاقِهِ جَوَازُ الرَّمْيِ بِالْفَيْرُوزَجِ وَالْيَاقُوتِ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ ، وَفِيهِمَا خِلَافٌ مَنَعَهُ الشَّارِحُونَ وَغَيْرُهُمْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ كَوْنَ الْمَرْمِيِّ بِهِ يَكُونُ الرَّمْيُ بِهِ اسْتِهَانَةَ شَرْطٍ ، وَأَجَازَهُ بَعْضُهُمْ بِنَاءً عَلَى نَفْيِ ذَلِكَ الِاشْتِرَاطِ وَمِمَّنْ ذَكَرَ جَوَازَهُ الْفَارِسِيُّ فِي مَنَاسِكِهِ .
وَقَوْلُهُ بِخِلَافِ مَا لَوْ رَمَى بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِأَنَّهُ يُسَمَّى نِثَارًا لَا رَمْيًا جَوَابٌ عَنْ مُقَدَّرٍ مِنْ جِهَةِ الشَّافِعِيِّ : لَوْ تَمَّ مَا ذَكَرْتُمْ فِي تَجْوِيزِ الطِّينِ مِنْ كَوْنِ الثَّابِتِ مَعَهُ فِعْلَ الرَّمْيِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى مَا بِهِ الرَّمْيُ لَجَازَ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ، بَلْ وَبِمَا لَيْسَ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ كَاللُّؤْلُؤِ وَالْمَرْجَانِ وَالْجَوْهَرِ وَالْعَنْبَرِ وَالْكُلُّ مَمْنُوعٌ عِنْدَكُمْ .
فَأَجَابَ بِأَنَّهُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ يُسَمَّى نِثَارًا لَا رَمْيًا فَلَمْ يَجُزْ لِانْتِفَاءِ مُسَمَّى الرَّمْيِ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ يَصْدُقُ اسْمُ الرَّمْيِ مَعَ كَوْنِهِ يُسَمَّى نِثَارًا ، فَغَايَةُ مَا فِيهِ أَنَّهُ رَمْيٌ خُصَّ بِاسْمٍ آخَرَ بِاعْتِبَارِ خُصُوصِ مُتَعَلِّقِهِ ، وَلَا تَأْثِيرَ لِذَلِكَ فِي سُقُوطِ اسْمِ الرَّمْيِ عَنْهُ وَلَا صُورَتِهِ .
وَأَيْضًا فَهُوَ جَوَابٌ قَاصِرٌ إذْ لَا يَعُمُّ مَا ذَكَرْنَا مِمَّا لَيْسَ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ ثُبُوتَ اسْمِ النِّثَارِ أَيْضًا فِيمَا بِاللُّؤْلُؤِ وَالْعَنْبَرِ أَيْضًا وَهُوَ غَيْرُ بَعِيدٍ ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ فِيهِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ يَصْدُقُ اسْمٌ إلَخْ ، وَلَوْ غَيَّرَ أَصْلَ الْجَوَابِ إلَى اشْتِرَاطِ الِاسْتِهَانَةِ انْدَفَعَ الْكُلُّ لَكِنَّهُ يُطَالَبُ بِدَلِيلِ اعْتِبَارِهِ ، وَلَيْسَ فِيهِ سِوَى ثُبُوتِ فِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالْحَجَرِ إذْ لَا إجْمَاعَ فِيهِ ، وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ بِمُجَرَّدِهِ التَّعْيِينَ كَرَمْيِهِ مِنْ أَسْفَلِ الْجَمْرَةِ لَا مِنْ أَعْلَاهَا وَغَيْرِهِ ، وَلَوْ اسْتَلْزَمَهُ تَعَيَّنَ الْحَجَرُ وَهُوَ مَطْلُوبُ الْخَصْمِ ، ثُمَّ لَوْ تَمَّ نَظَرَ إلَى مَا

أُثِرَ مِنْ أَنَّ الرَّمْيَ رَغْمًا لِلشَّيْطَانِ إذْ أَصْلُهُ رَمْيُ نَبِيِّ اللَّهِ عِنْدَ الْجِمَارِ لَمَّا عَرَضَ لَهُ عِنْدَهَا لِلْإِغْوَاءِ بِالْمُخَالَفَةِ اسْتَلْزَمَ جَوَازَ الرَّمْيِ بِمِثْلِ الْخَشَبَةِ وَالرَّثَّةِ وَالْبَعْرَةِ وَهُوَ مَمْنُوعٌ ، عَلَى أَنَّ أَكْثَرَ الْمُحَقِّقِينَ عَلَى أَنَّهَا أُمُورٌ تَعَبُّدِيَّةٌ لَا يُشْتَغَلُ بِالْمَعْنَى فِيهَا .
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إمَّا أَنْ يُلَاحِظَ مُجَرَّدَ الرَّمْيِ أَوْ مَعَ الِاسْتِهَانَةِ أَوْ خُصُوصِ مَا وَقَعَ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالْأَوَّلُ يَسْتَلْزِمُ الْجَوَازَ بِالْجَوَاهِرِ ، وَالثَّانِي بِالْبَعْرَةِ وَالْخَشَبَةِ الَّتِي لَا قِيمَةَ لَهَا وَالثَّالِثُ بِالْحَجَرِ خُصُوصًا ، فَلْيَكُنْ هَذَا أَوْلَى لِكَوْنِهِ أَسْلَمَ وَالْأَصْلُ فِي أَعْمَالِ هَذِهِ الْمَوَاطِنِ إلَّا مَا قَامَ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ تَعَيُّنِهِ كَمَا فِي الرَّمْيِ أَسْفَلَ الْجَمْرَةِ مِمَّا ذَكَرْنَا

قَالَ ( ثُمَّ يَذْبَحُ إنْ أَحَبَّ ثُمَّ يَحْلِقُ أَوْ يُقَصِّرُ ) لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { إنَّ أَوَّلَ نُسُكِنَا فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نَرْمِيَ ثُمَّ نَذْبَحَ ثُمَّ نَحْلِقَ } وَلِأَنَّ : الْحَلْقَ مِنْ أَسْبَابِ التَّحَلُّلِ ، وَكَذَا الذَّبْحُ حَتَّى يَتَحَلَّلَ بِهِ الْمُحْصَرُ فَيُقَدِّمَ الرَّمْيَ عَلَيْهِمَا ، ثُمَّ الْحَلْقُ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ الذَّبْحُ ، وَإِنَّمَا عَلَّقَ الذَّبْحَ بِالْمَحَبَّةِ لِأَنَّ الدَّمَ الَّذِي يَأْتِي بِهِ الْمُفْرِدُ تَطَوُّعٌ وَالْكَلَامُ فِي الْمُفْرِدِ ( وَالْحَلْقُ أَفْضَلُ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ } الْحَدِيثَ ، ظَاهِرٌ بِالتَّرَحُّمِ عَلَيْهِمْ ، لِأَنَّ الْحَلْقَ أَكْمَلُ فِي قَضَاءِ التَّفَثِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ ، وَفِي التَّقْصِيرِ بَعْضُ التَّقْصِيرِ فَأَشْبَهَ الِاغْتِسَالَ مَعَ الْوُضُوءِ .
وَيَكْتَفِي فِي الْحَلْقِ بِرُبْعِ الرَّأْسِ اعْتِبَارًا بِالْمَسْحِ ، وَحَلْقُ الْكُلِّ أَوْلَى اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
وَالتَّقْصِيرُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ رُءُوسِ شَعْرِهِ مِقْدَارَ الْأُنْمُلَةِ .
قَالَ ( وَقَدْ حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إلَّا النِّسَاءَ ) وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَإِلَّا الطِّيبَ أَيْضًا لِأَنَّهُ مِنْ دَوَاعِي الْجِمَاعِ وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيهِ { حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إلَّا النِّسَاءَ } وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ .
وَلَا يَحِلُّ لَهُ الْجِمَاعُ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ عِنْدَنَا ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ بِالنِّسَاءِ فَيُؤَخَّرُ إلَى تَمَامِ الْإِحْلَالِ

( قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " إنَّ أَوَّلَ نُسُكِنَا " إلَخْ ) غَرِيبٌ ، وَإِنَّمَا أَخْرَجَ الْجَمَاعَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ عَنْ أَنَسٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى مِنًى فَأَتَى الْجَمْرَةَ فَرَمَاهَا ، ثُمَّ أَتَى مَنْزِلَهُ بِمِنًى فَنَحَرَ ، ثُمَّ قَالَ لِلْحَلَّاقِ خُذْ وَأَشَارَ إلَى جَانِبِهِ الْأَيْمَنِ ثُمَّ الْأَيْسَرِ ، ثُمَّ جَعَلَ يُعْطِيهِ النَّاسَ } ، وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ السُّنَّةَ فِي الْحَلْقِ الْبُدَاءَةُ بِيَمِينِ الْمَحْلُوقِ رَأْسُهُ وَهُوَ خِلَافُ مَا ذُكِرَ فِي الْمَذْهَبِ وَهَذَا الصَّوَابُ ( قَوْلُهُ فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ الذَّبْحُ ) حَتَّى يَصِيرَ كَأَنَّ الْحَلْقَ لَمْ يَقَعْ فِي مَحْضِ الْإِحْرَامِ ( قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ) فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { اللَّهُمَّ ارْحَمْ الْمُحَلِّقِينَ ، قَالُوا : وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : اللَّهُمَّ ارْحَمْ الْمُحَلِّقِينَ .
قَالُوا : وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : اللَّهُمَّ ارْحَمْ الْمُحَلِّقِينَ ، قَالُوا : وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ وَالْمُقَصِّرِينَ } وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ { فَلَمَّا كَانَتْ الرَّابِعَةُ قَالَ : وَالْمُقَصِّرِينَ } وَقَوْلُهُ ظَاهَرَ هُوَ بِفَتْحِ الْهَاءِ فِعْلٌ مَاضٍ ، وَمِنْ لَا شَعْرَ عَلَى رَأْسِهِ يُجْرِي الْمُوسَى عَلَى رَأْسِهِ وُجُوبًا لِأَنَّ الْوَاجِبَ شَيْئَانِ إجْرَاؤُهُ مَعَ الْإِزَالَةِ ، فَمَا عَجَزَ عَنْهُ سَقَطَ دُونَ مَا لَمْ يَعْجِزْ عَنْهُ .
وَقِيلَ اسْتِحْبَابًا لِأَنَّ وُجُوبَ الْإِجْرَاءِ لِلْإِزَالَةِ لَا لَعَيْنِهِ ، فَإِذَا سَقَطَ مَا وَجَبَ لِأَجْلِهِ سَقَطَ هُوَ .
عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُقَالُ بِمَنْعِ وُجُوبِ عَيْنِ الْإِجْرَاءِ وَإِنْ كَانَ لِلْإِزَالَةِ ، بَلْ الْوَاجِبُ طَرِيقُ الْإِزَالَةِ ، وَلَوْ فُرِضَ بِالنُّورَةِ أَوْ الْحَرْقِ أَوْ النَّتْفِ ، وَإِنْ عَسُرَ فِي أَكْثَرِ الرُّءُوسِ أَوْ قَاتَلَ غَيْرَهُ فَنَتَفَهُ أَجْزَأَ عَنْ الْحَلْقِ قَصْدًا .
وَلَوْ تَعَذَّرَ الْحَلْقُ لِعَارِضٍ تَعَيَّنَ التَّقْصِيرُ أَوْ التَّقْصِيرُ تَعَيَّنَ الْحَلْقُ

كَأَنْ لَبَّدَهُ بِصَمْغٍ فَلَا يَعْمَلُ فِيهِ الْمِقْرَاضُ ، وَمَنْ تَعَذَّرَ إجْرَاءُ الْآلَةِ عَلَى رَأْسِهِ صَارَ حَلَالًا كَاَلَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى مَسْحِ رَأْسِهِ فِي الْوُضُوءِ لِآفَةٍ .
قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَنْ عَلَى رَأْسِهِ قُرُوحٌ لَا يَسْتَطِيعُ إجْرَاءَ الْمُوسِي عَلَيْهِ وَلَا يَصِلُ إلَى تَقْصِيرِهِ حَلَّ بِمَنْزِلَةِ مَنْ حَلَقَ ، وَالْأَحْسَنُ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ الْإِحْلَالَ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يُؤَخِّرْهُ ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ بِهِ قُرُوحٌ لَكِنَّهُ خَرَجَ إلَى الْبَادِيَةِ فَلَمْ يَجِدْ آلَةً أَوْ مِنْ يُحْلِقْهُ لَا يُجْزِيهِ إلَّا الْحَلْقُ أَوْ التَّقْصِيرُ ، وَلَيْسَ هَذَا بِعُذْرٍ ، وَيُعْتَبَرُ فِي سُنَّةِ الْحَلْقِ الْبُدَاءَةُ بِيَمِينِ الْحَالِقِ لَا الْمَحْلُوقِ وَيَبْدَأُ بِشِقِّهِ الْأَيْسَرِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا آنِفًا أَنَّ مُقْتَضَى النَّصِّ الْبُدَاءَةُ بِيَمِينِ الرَّأْسِ .
وَيُسْتَحَبُّ دَفْنُ شَعْرِهِ وَيَقُولُ عِنْدَ الْحَلْقِ : الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَا هَدَانَا وَأَنْعَمَ عَلَيْنَا .
اللَّهُمَّ هَذِهِ نَاصِيَتِي بِيَدِك فَتَقَبَّلْ مِنِّي وَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي .
اللَّهُمَّ اُكْتُبْ لِي بِكُلِّ شَعْرَةٍ حَسَنَةً وَامْحُ بِهَا عَنِّي سَيِّئَةً وَارْفَعْ لِي بِهَا دَرَجَةً ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَلِلْمُحَلِّقَيْنِ وَالْمُقَصِّرِينَ يَا وَاسِعَ الْمَغْفِرَةِ آمِينَ .
وَإِذَا فَرَغَ فَلْيُكَبِّرْ وَلِيَقُلْ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قَضَى عَنَّا نُسُكَنَا ، اللَّهُمَّ زِدْنَا إيمَانًا وَيَقِينًا ، وَيَدْعُو لِوَالِدَيْهِ وَالْمُسْلِمِينَ ( قَوْلُهُ وَيَكْتَفِي فِي الْحَلْقِ بِرُبْعِ الرَّأْسِ اعْتِبَارًا بِالْمَسْحِ وَحَلْقُ الْكُلِّ أَوْلَى اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) قَالَ الْكَرْمَانِيُّ : فَإِنْ حَلَقَ أَوْ قَصَّرَ أَقَلَّ مِنْ النِّصْفِ أَجْزَأَ وَهُوَ مُسِيءٌ ، وَلَا يَأْخُذُ مِنْ شَعْرِ غَيْرِ رَأْسِهِ وَلَا مِنْ ظُفْرِهِ ، فَإِنْ فَعَلَ لَمْ يَضُرَّهُ لِأَنَّهُ أَوَانُ التَّحَلُّلِ ، وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يَحْصُلُ بِهِ التَّحَلُّلُ لِأَنَّهُ مِنْ قَضَاءِ التَّفَثِ كَذَا عَلَّلَهُ فِي الْمَبْسُوطِ ،

وَفِي الْمُحِيطِ : أُبِيحَ لَهُ التَّحَلُّلُ فَغَسَلَ رَأْسَهُ بِالْخِطْمِيِّ أَوْ قَلَّمَ ظُفْرَهُ قَبْلَ الْحَلْقِ عَلَيْهِ دَمٌ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ بَاقٍ لِأَنَّهُ لَا تَحَلُّلَ إلَّا بِالْحَلْقِ فَقَدْ جَنَى عَلَيْهِ بِالطِّيبِ .
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ : لَا دَمَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ أُبِيحَ لَهُ التَّحَلُّلُ فَيَقَعُ بِهِ التَّحَلُّلُ .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ اتَّفَقَ كُلٌّ مِنْ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ عَلَى أَنَّهُ يُجْزِي فِي الْحَلْقِ الْقَدْرُ الَّذِي قَالَ إنَّهُ يُجْزِي فِي الْمَسْحِ فِي الْوُضُوءِ .
وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْهُمْ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ كَمَا تُفِيدُهُ عِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ ، لِأَنَّهُ يَكُونُ قِيَاسًا بِلَا جَامِعٍ يَظْهَرُ أَثَرُهُ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ عَلَى تَقْدِيرِ الْقِيَاسِ وُجُوبُ الْمَسْحِ وَمَحَلُّهُ الْمَسْحُ ، وَحُكْمَ الْفَرْعِ وُجُوبُ الْحَلْقِ وَمَحَلُّهُ الْحَلْقُ لِلتَّحَلُّلِ ، وَلَا يَظُنُّ أَنَّ مَحَلَّ الْحُكْمِ الرَّأْسُ إذْ لَا يَتَّحِدُ الْأَصْلُ وَالْفَرْعُ ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَصْلَ وَالْفَرْعَ هُمَا مَحَلَّا الْحُكْمِ الْمُشَبَّهِ بِهِ وَالْمُشَبَّهِ ، وَالْحُكْمُ هُوَ الْوُجُوبُ مَثَلًا ، وَلَا قِيَاسَ يُتَصَوَّرُ عِنْدَ اتِّحَادِ مَحَلِّهِ إذْ لَا اثْنَيْنِيَّةَ ، وَحِينَئِذٍ فَحُكْمُ الْأَصْلِ وَهُوَ وُجُوبُ الْمَسْحِ لَيْسَ فِيهِ مَعْنًى يُوجِبُ جَوَازَ قَصْرِهِ عَلَى الرُّبْعِ ، وَإِنَّمَا فِيهِ نَفْسُ النَّصِّ الْوَارِدِ فِيهِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ } بِنَاءً إمَّا عَلَى الْإِجْمَالِ وَالْتِحَاقِ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بَيَانًا أَوْ عَلَى عَدَمِهِ ، وَالْمُفَادُ بِسَبَبِ الْبَاءِ إلْصَاقُ الْيَدِ كُلِّهَا بِالرَّأْسِ لِأَنَّ الْفِعْلَ حِينَئِذٍ يَصِيرُ مُتَعَدِّيًا إلَى الْآلَةِ بِنَفْسِهِ فَيَشْمَلُهَا ، وَتَمَامُ الْيَدِ يَسْتَوْعِبُ الرُّبْعَ عَادَةً فَتَعَيَّنَ قَدْرُهُ ، لَا أَنَّ فِيهِ مَعْنًى ظَهَرَ أَثَرُهُ فِي الِاكْتِفَاءِ بِالرُّبْعِ أَوْ بِالْبَعْضِ مُطْلَقًا أَوْ تَعَيَّنَ الْكُلُّ ، وَهُوَ مُتَحَقِّقٌ فِي وُجُوبِ حَلْقِهَا عِنْدَ التَّحَلُّلِ مِنْ

الْإِحْرَامِ لِيَتَعَدَّى الِاكْتِفَاءُ بِالرُّبْعِ مِنْ الْمَسْحِ إلَى الْحَلْقِ ، وَكَذَا الْآخَرَانِ ، وَإِذَا انْتَفَتْ صِحَّةُ الْقِيَاسِ فَالْمَرْجِعُ فِي كُلٍّ مِنْ الْمَسْحَةِ وَحَلْقِ التَّحَلُّلِ مَا يُفِيدُهُ نَصُّهُ الْوَارِدُ فِيهِ ، وَالْوَارِدُ فِي الْمَسْحِ دَخَلَتْ فِيهِ الْبَاءُ عَلَى الرَّأْسِ الَّتِي هِيَ الْمَحَلُّ فَأَوْجَبَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ التَّبْعِيضَ ، وَعِنْدَنَا وَعِنْدَ مَالِكٍ لَا ، بَلْ الْإِلْصَاقَ ، غَيْرَ أَنَّا لَاحَظْنَا تَعَدِّيَ الْفِعْلِ لِلْآلَةِ فَيَجِبُ قَدْرُهَا مِنْ الرَّأْسِ ، وَلَمْ يُلَاحِظْهُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فَاسْتَوْعَبَ الْكُلَّ أَوْ جَعَلَهُ صِلَةً كَمَا فِي { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ } فِي آيَةِ التَّيَمُّمِ ، فَاقْتَضَى وُجُوبَ اسْتِيعَابِ الْمَسْحِ .
وَأَمَّا الْوَارِدُ فِي الْحَلْقِ فَمِنْ الْكِتَابِ قَوْله تَعَالَى { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ آمَنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ } مِنْ غَيْرِ بَاءٍ .
وَالْآيَةُ فِيهَا إشَارَةٌ إلَى طَلَبِ تَحْلِيقِ الرُّءُوسِ أَوْ تَقْصِيرِهَا وَلَيْسَ فِيهَا مَا هُوَ الْمُوجِبُ لِطَرِيقِ التَّبْعِيضِ عَلَى اخْتِلَافِهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ دُخُولُ الْبَاءِ عَلَى الْمَحَلِّ .
وَمِنْ السُّنَّةِ فِعْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهُوَ الِاسْتِيعَابُ ، فَكَانَ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ فِي الْحَلْقِ وُجُوبَ الِاسْتِيعَابِ كَمَا هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَهُوَ الَّذِي أَدِينُ لِلَّهِ بِهِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ ( قَوْلُهُ وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ ) يُفِيدُ أَنَّ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ مَالِكٌ قِيَاسٌ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ أَصْلَهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ قَدْ يُتْرَكُ ذِكْرُهُ كَثِيرًا إذَا كَانَ أَصْلُهُ ظَاهِرًا أَوْ لَهُ أُصُولٌ كَثِيرَةٌ وَهُنَا كَذَلِكَ .
وَحَاصِلُهُ : الطِّيبُ مِنْ دَوَاعِي الْمُحَرَّمِ وَهُوَ الْجِمَاعُ فَيَحْرُمُ قِيَاسًا عَلَى الْمَسِّ بِشَهْوَةٍ فِي الِاعْتِكَافِ وَالِاسْتِبْرَاءِ فَأَجَابَ بِأَنَّهُ فِي مُعَارَضَةِ النَّصِّ لَكِنْ قَدْ اسْتَدَلَّ لِمَالِكٍ بِحَدِيثٍ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ

قَالَ { مِنْ سُنَّةِ الْحَجِّ إنْ رَمَى الْجَمْرَةَ الْكُبْرَى حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ حُرِّمَ عَلَيْهِ إلَّا النِّسَاءَ وَالطِّيبَ حَتَّى يَزُورَ الْبَيْتَ } وَقَالَ عَلَى شَرْطِهِمَا ا هـ .
وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ مِنْ السُّنَّةِ حُكْمُهُ الرَّفْعُ .
وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِطَرِيقٍ مُنْقَطِعٍ أَنَّهُ قَالَ { إذَا رَمَيْتُمْ الْجَمْرَةَ فَقَدْ حَلَّ لَكُمْ مَا حُرِّمَ إلَّا النِّسَاءَ وَالطِّيبَ } ذَكَرَهُ وَانْقِطَاعَهُ فِي الْإِمَامِ .
وَلَنَا مَا أَخْرَجَ النَّسَائِيّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنْ الْحَسَنِ الْعَرَبِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ { إذَا رَمَيْتُمْ الْجَمْرَةَ فَقَدْ حَلَّ لَكُمْ كُلُّ شَيْءٍ إلَّا النِّسَاءَ فَقَالَ رَجُلٌ وَالطِّيبُ فَقَالَ أَمَّا أَنَا فَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُضَمِّخُ رَأْسَهُ بِالْمِسْكِ أَفَطِيبٌ هُوَ أَمْ لَا } وَأَمَّا مَا فِي الْكِتَابِ فَهُوَ مَا أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ : حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { إذَا رَمَى أَحَدُكُمْ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ فَقَدْ حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إلَّا النِّسَاءَ } وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِسَنَدٍ فِيهِ الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ وَالدَّارَقُطْنِيّ بِسَنَدٍ آخَرَ هُوَ فِيهِ أَيْضًا قَالَ { إذَا رَمَيْتُمْ وَحَلَقْتُمْ وَذَبَحْتُمْ } وَقَالَ لَمْ يَرْوِهِ إلَّا الْحُجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ { طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ وَيَوْمَ النَّحْرِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ بِطِيبٍ فِيهِ مِسْكٌ } وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَمْرَةَ عَنْهَا قَالَتْ { طَيَّبْتُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِحَرَمِهِ حِينَ أَحْرَمَ وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يُفِيضَ }

( ثُمَّ الرَّمْيُ لَيْسَ مِنْ أَسْبَابِ التَّحَلُّلِ عِنْدَنَا ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ .
هُوَ يَقُولُ : إنَّهُ يَتَوَقَّتُ بِيَوْمِ النَّحْرِ كَالْحَلْقِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَتِهِ فِي التَّحْلِيلِ .
وَلَنَا أَنَّ مَا يَكُونُ مُحَلَّلًا يَكُونُ جِنَايَةً فِي غَيْرِ أَوَانِهِ كَالْحَلْقِ ، وَالرَّمْيِ لَيْسَ بِجِنَايَةٍ فِي غَيْرِ أَوَانِهِ ، بِخِلَافِ الطَّوَافِ لِأَنَّ التَّحَلُّلَ بِالْحَلْقِ السَّابِقِ لَا بِهِ .

( قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّ مَا يَكُونُ مُحَلِّلًا يَكُونُ جِنَايَةً فِي غَيْرِ أَوَانِهِ كَالْحَلْقِ ) يَعْنِي هَذَا هُوَ الْأَصْلُ لِأَنَّ التَّحَلُّلَ مِنْ الْعِبَادَةِ هُوَ الْخُرُوجُ مِنْهَا وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ بِرُكْنِهَا بَلْ إمَّا بِمُنَافِيهَا أَوْ بِمَا هُوَ مَحْظُورُهَا هُوَ أَقَلُّ مَا يَكُونُ ، بِخِلَافِ دَمِ الْإِحْصَارِ لِأَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ لِلْحَاجَةِ إلَى التَّحَلُّلِ قَبْلَ أَوَانِ إطْلَاقِ مُبَاشَرَةِ الْمَحْظُورِ تَحَلُّلًا ، فَإِنْ قِيلَ : يَرُدُّ الطَّوَافُ فَإِنَّهُ مُحَلِّلٌ مِنْ النِّسَاءِ وَلَيْسَ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ ؟ أَجَابَ بِمَنْعِ كَوْنِهِ مُحَلِّلًا بَلْ التَّحَلُّلُ عِنْدَهُ بِالْحَلْقِ السَّابِقِ لَا بِهِ غَايَةُ الْأَمْرِ بَعْضُ أَحْكَامِ الْحَلْقِ يُؤَخَّرُ إلَى وَقْتِهِ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا مِنْ السَّمْعِيَّاتِ يُفِيدُ أَنَّهُ هُوَ السَّبَبُ لِلتَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ .
وَعَنْ هَذَا نُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْحَلْقَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَهُوَ عِنْدَنَا وَاجِبٌ لِأَنَّ التَّحَلُّلَ الْوَاجِبَ لَا يَكُونُ إلَّا بِهِ ، وَيَحْمِلُونَ مَا ذَكَرْنَا عَلَى إضْمَارِ الْحَلْقِ : أَيْ إذَا رَمَى وَحَلَقَ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا فِي بَعْضِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ عَطْفِهِ عَلَى الشَّرْطِ فِي رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ .
قَوْله تَعَالَى { ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ } وَهُوَ الْحَلْقُ وَاللُّبْسُ عَلَى مَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، وَقَوْلُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ إنَّهُ الْحَلْقُ وَقَصُّ الْأَظْفَارِ قَوْله تَعَالَى { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ آمَنِينَ مُحَلِّقِينَ } الْآيَةَ ، أَخْبَرَ بِدُخُولِهِمْ مُحَلِّقِينَ فَلَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِ التَّحْلِيقِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَالَةَ الدُّخُولِ فِي الْعُمْرَةِ لِأَنَّهَا حَالٌ مُقَدَّرَةٌ ، ثُمَّ هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى اخْتِيَارِهِمْ فَلَا بُدَّ مِنْ الْوُجُوبِ الْحَامِلِ عَلَى الْوُجُودِ فَيُوجَدُ الْمُخْبَرُ بِهِ ظَاهِرًا وَغَالِبًا لِتَطَابُقِ الْأَخْبَارِ ، غَيْرَ أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ ظَنِّيٌّ فَيَثْبُتُ بِهِ الْوُجُوبُ لَا الْقَطْعُ .
وَلَوْ غَسَلَ رَأْسَهُ بِالْخِطْمِيِّ بَعْدَ الرَّمْيِ قَبْلَ

الْحَلْقِ لَزِمَهُ دَمٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى الْأَصَحِّ ، لِأَنَّ إحْرَامَهُ بَاقٍ لَا يَزُولُ إلَّا بِالْحَلْقِ

قَالَ ( ثُمَّ يَأْتِي مَكَّةَ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ أَوْ مِنْ الْغَدِ أَوْ مِنْ بَعْدِ الْغَدِ ، فَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ طَوَافَ الزِّيَارَةِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ ) لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا حَلَقَ أَفَاضَ إلَى مَكَّةَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ ثُمَّ عَادَ إلَى مِنًى وَصَلَّى الظُّهْرَ بِمِنًى } .
وَوَقْتُهُ أَيَّامُ النَّحْرِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَطَفَ الطَّوَافَ عَلَى الذَّبْحِ قَالَ { فَكُلُوا مِنْهَا } ثُمَّ قَالَ { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } فَكَانَ وَقْتُهُمَا وَاحِدًا .
وَأَوَّلُ وَقْتِهِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ ، لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ مِنْ اللَّيْلِ وَقْتُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَالطَّوَافُ مُرَتَّبٌ عَلَيْهِ ، وَأَفْضَلُ هَذِهِ الْأَيَّامِ أَوَّلُهَا كَمَا فِي التَّضْحِيَةِ .
وَفِي الْحَدِيثِ { أَفْضَلُهَا أَوَّلُهَا } ( فَإِنْ كَانَ قَدْ سَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَقِيبَ طَوَافِ الْقُدُومِ لَمْ يَرْمُلْ فِي هَذَا الطَّوَافِ وَلَا سَعْيَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُقَدِّمْ السَّعْيَ رَمَلَ فِي هَذَا الطَّوَافِ وَسَعَى بَعْدَهُ ) لِأَنَّ السَّعْيَ لَمْ يُشَرَّعْ إلَّا مَرَّةً وَالرَّمَلُ مَا شُرِعَ إلَّا مَرَّةً فِي طَوَافٍ بَعْدَهُ سَعْيٌ ( وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ هَذَا الطَّوَافِ ) لِأَنَّ خَتْمَ كُلِّ طَوَافٍ بِرَكْعَتَيْنِ فَرْضًا كَانَ لِلطَّوَافِ أَوْ نَفْلًا لِمَا بَيَّنَّا .
قَالَ ( وَقَدْ حَلَّ لَهُ النِّسَاءَ ) وَلَكِنْ بِالْحَلْقِ السَّابِقِ إذْ هُوَ الْمُحَلَّلُ لَا بِالطَّوَافِ ، إلَّا أَنَّهُ أَخَّرَ عَمَلَهُ فِي حَقِّ النِّسَاءِ .

قَوْلُهُ لِمَا رُوِيَ إلَخْ ) هَذَا دَلِيلٌ يَخُصُّ يَوْمَ النَّحْرِ بِالْإِضَافَةِ ، لَا أَنَّهُ يُفِيدُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّهُ يُفِيضُ فِي أَحَدِ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ فَكَانَ الْأَحْسَنُ أَنْ يُقَدِّمَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ وَأَفْضَلُ هَذِهِ الْأَيَّامِ أَوَّلُهَا لِيَكُونَ دَلِيلَ السُّنَّةِ ، وَيَثْبُتُ الْجَوَازُ فِي الْيَوْمَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ بِالْمَعْنَى وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ وَوَقْتُهُ أَيَّامَ النَّحْرِ إلَخْ ، وَأَمَّا حَدِيثُ { أَفْضَلُهَا أَوَّلُهَا } فَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِهِ .
ثُمَّ الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَفَاضَ يَوْمَ النَّحْرِ ثُمَّ رَجَعَ فَصَلَّى الظُّهْرَ بِمِنًى } قَالَ نَالَ نَافِعٌ : وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُفِيضُ يَوْمَ النَّحْرِ ثُمَّ يَرْجِعُ فَيُصَلِّي الظُّهْرَ بِمِنًى وَيَذْكُرُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهُ .
وَاَلَّذِي فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ الثَّابِتِ فِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مَنْ كُتُبِ السُّنَنِ خِلَافُ ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ { ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَفَاضَ إلَى الْبَيْتِ فَصَلَّى الظُّهْرَ بِمَكَّةَ } وَلَا شَكَّ أَنَّ أَحَدَ الْخَبَرَيْنِ وَهْمٌ .
وَثَبَتَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مِثْلُ حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ بِطَرِيقٍ فِيهِ ابْنُ إِسْحَاقَ وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَا هُوَ الْحَقُّ ، وَلِهَذَا قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ : هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَإِذَا تَعَارَضَا وَلَا بُدَّ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ فِي أَحَدِ الْمَكَانَيْنِ فَفِي مَكَّةَ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَوْلَى لِثُبُوتِ مُضَاعَفَةِ الْفَرَائِضِ فِيهِ .
وَلَوْ تَجَشَّمْنَا الْجَمْعَ حَمَلْنَا فِعْلَهُ بِمِنًى عَلَى الْإِعَادَةِ بِسَبَبٍ اطَّلَعَ عَلَيْهِ يُوجِبُ نُقْصَانَ الْمُؤَدَّى أَوْ لَا ( قَوْلُهُ فَكَانَ وَقْتُهُمَا وَاحِدًا ) يَعْنِي فَكَانَ وَقْتُ الذَّبْحِ وَقْتًا لِلطَّوَافِ لَا وَقْتَ الطَّوَافِ ، فَإِنَّ الطَّوَافَ لَا يَتَوَقَّتُ بِأَيَّامِ النَّحْرِ حَتَّى يَفُوتَ بِفَوَاتِهَا بَلْ وَقْتُهُ الْعُمْرُ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ تَأْخِيرُهُ

عَنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ ، وَحِينَئِذٍ فَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْعَطْفِ أَنَّهُ عَطْفُ طَلَبِ الطَّوَافِ عَلَى الْأَكْلِ مِنْ الْأُضْحِيَّةَ الْمَلْزُومِ لِلذَّبْحِ فِي قَوْله تَعَالَى { فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } فَكَانَ عَلَى الذَّبْحِ اللَّازِمِ .
وَمِنْ ضَرُورَةِ جَمْعِ طَلَبِهِمَا مُطْلَقًا إطْلَاقُ الْإِتْيَانِ بِكُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ حِينِ يَتَحَقَّقُ وَقْتُ أَحَدِهِمَا ، الذَّبْحُ يَتَحَقَّقُ وَقْتُهُ مِنْ فَجْرِ النَّحْرِ فَمِنْهُ يَتَحَقَّقُ وَقْتُ الطَّوَافِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ وَقْتَ الطَّوَافِ أَوَّلُهُ طُلُوعُ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ لَا مِنْ لَيْلَتِهِ كَمَا يَقُولُهُ الشَّافِعِيُّ لِأَنَّ ذَلِكَ وَقْتُ الْوُقُوفِ وَلَا آخِرَ لَهُ ، بَلْ مُدَّةُ وَقْتِهِ الْعُمْرُ ، إلَّا أَنَّهُ يَجِبُ فِعْلُهُ قَبْلَ مُضِيِّ أَيَّامِ النَّحْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، خِلَافًا لَهُمَا ، بَلْ ذَلِكَ عِنْدَ هُمَا لِلسُّنَّةِ يُكْرَهُ خِلَافُهَا وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ [ وَهَذِهِ فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِالطَّوَافِ ] مَكَانُ الطَّوَافِ دَاخِلُ الْمَسْجِدِ ، فَلَوْ طَافَ مِنْ وَرَاءِ السَّوَارِي أَوْ مِنْ وَرَاءِ زَمْزَمَ أَجْزَأَهُ ، وَإِنْ طَافَ مِنْ وَرَاءِ الْمَسْجِدِ لَا يَجُوزُ وَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ .
وَفِي مَوْضِعٍ : إنْ كَانَتْ حِيطَانُهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ لَمْ يُجْزِهِ ، يَعْنِي بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَتْ حِيطَانُهُ مُنْهَدِمَةً ، وَالْأَوَّلُ أَصْوَبُ .
يَعْنِي وَقَعَ ذِكْرُ الْحِيطَانِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَكِنَّهُ اتِّفَاقِيٌّ لَا مُعْتَبَرَ الْمَفْهُومِ لِمَا يُفْهَمُ مِنْ التَّعْلِيلِ فِي أَصْلِ الْمَبْسُوطِ ، فَأَمَّا إذَا طَافَ مِنْ وَرَاءِ الْمَسْجِدِ فَكَانَتْ حِيطَانُهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ لَمْ يُجْزِهِ لِأَنَّهُ طَافَ بِالْمَسْجِدِ لَا بِالْبَيْتِ ، أَرَأَيْت لَوْ طَافَ بِمَكَّةَ كَانَ يُجْزِيهِ ؛ وَإِنْ كَانَ الْبَيْتُ فِي مَكَّةَ ، أَرَأَيْت لَوْ طَافَ بِالدُّنْيَا أَكَانَ يُجْزِيهِ مِنْ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ لَا يُجْزِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَهَذَا مِثْلُهُ ا هـ .
وَلَا شَكَّ أَنَّ

الطَّائِفَ بِمَكَّةَ يُقَالُ فِيهِ طَائِفٌ بِمَكَّةَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ حِيطَانَ سُوَرٍ ، وَكَذَا بِالْمَسْجِدِ ، وَهَذَا لِأَنَّ النِّسْبَةَ : أَعْنِي نِسْبَةَ الطَّوَافِ إلَى الْكَعْبَةِ إنَّمَا تَثْبُتُ بِقُرْبٍ مِنْهَا مُنَاسِبٍ ، وَلَوْلَا أَنَّ الْمَسْجِدَ لَهُ حُكْمُ الْبُقْعَةِ الْوَاحِدَةِ وَإِنْ انْتَشَرَتْ أَطْرَافُهُ لَكَانَ يُنَاسَبُ الْقَوْلَ بِعَدَمِ الْإِجْزَاءِ بِالطَّوَافِ فِي حَوَاشِيهِ تَحْتَ الْأَبْنِيَةِ لِلْبُعْدِ الَّذِي قَدْ يَقْطَعُ النِّسْبَةَ إلَيْهِ ، حَتَّى إنَّ مَنْ دَارَ هُنَاكَ إنَّمَا يُقَالُ : كَانَ فُلَانٌ يَدُورُ فِي الْمَسْجِدِ كَأَنَّهُ يَتَأَمَّلُ بُقَعَهُ وَأَبْنِيَتَهُ ، وَلَا يُقَالُ فِي الْعُرْفِ : كَانَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ .
وَأَوَّلُ مَا يَبْدَأُ بِهِ دَاخِلُ الْمَسْجِدِ الطَّوَافُ مُحْرِمًا أَوْ غَيْرَ مُحْرِمٍ دُونَ الصَّلَاةِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ صَلَاةٌ فَائِتَةٌ أَوْ خَافَ فَوْتَ الْوَقْتِيَّةِ وَلَوْ الْوِتْرَ أَوْ سُنَّةً رَاتِبَةً أَوْ فَوْتَ الْجَمَاعَةِ فَيُقَدِّمُ الصَّلَاةَ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ عَلَى الطَّوَافِ ، كَمَا لَوْ دَخَلَ فِي وَقْتٍ مُنِعَ النَّاسُ الطَّوَافَ فِيهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا فَطَوَافُ تَحِيَّةٍ ، وَإِنْ كَانَ بِالْحَجِّ فَطَوَافُ الْقُدُومِ إنْ كَانَ دُخُولُهُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ فَطَوَافُ الْفَرِيضَةِ يُغْنِي عَنْهُ ، وَلَوْ نَوَاهُ وَقَعَ عَنْ الْفَرْضِ ، وَإِنْ كَانَ بِالْعُمْرَةِ فَبِطَوَافِ الْعُمْرَةِ ، وَلَا يُسَنُّ طَوَافُ الْقُدُومِ لَهُ ، وَلَوْ نَوَاهُ وَقَعَ عَنْ الْعُمْرَةِ .
وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا مِنْ الْبَيْتِ فِي طَوَافِهِ إذَا لَمْ يُؤْذِ أَحَدًا .
وَالْأَفْضَلُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَكُونَ فِي حَاشِيَةِ الْمَطَافِ ، وَيَكُونُ طَوَافُهُ مِنْ وَرَاءِ الشَّاذَرْوَانِ كَيْ لَا يَكُونَ بَعْضُ طَوَافِهِ بِالْبَيْتِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مِنْهُ .
وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ : الشَّاذَرْوَانُ لَيْسَ مِنْ الْبَيْتِ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ مِنْهُ حَتَّى لَا يَجُوزَ الطَّوَافُ عَلَيْهِ ، وَالشَّاذَرْوَانُ هُوَ تِلْكَ الزِّيَادَةُ الْمُلْصَقَةُ بِالْبَيْتِ مِنْ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ إلَى فُرْجَةِ الْحِجْرِ .
قِيلَ بَقِيَ

مِنْهُ حِينَ عَمَّرَتْهُ قُرَيْشٌ وَضَيَّقَتْ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ بِطَرِيقٍ لَا مَرَدَّ لَهُ كَثُبُوتِ كَوْنِ بَعْضِ الْحِجْرِ مِنْ الْبَيْتِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُنَا لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْبَيْتَ هُوَ الْجِدَارُ الْمَرْئِيُّ قَائِمًا إلَى أَعْلَاهُ .
وَيَنْبَغِي أَنْ يُبْدَأَ بِالطَّوَافِ مِنْ جَانِبِ الْحِجْرِ الَّذِي يَلِي الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ لِيَكُونَ مَارًّا عَلَى جَمِيعِ الْحِجْرِ بِجَمِيعِ بَدَنِهِ فَيَخْرُجَ مِنْ خِلَافِ مَنْ يَشْتَرِطُ الْمُرُورَ كَذَلِكَ عَلَيْهِ ، وَشَرْحُهُ أَنْ يَقِفَ مُسْتَقْبِلًا عَلَى جَانِبِ الْحِجْرِ بِحَيْثُ يَصِيرُ جَمِيعُ الْحِجْرِ عَنْ يَمِينِهِ ثُمَّ يَمْشِي كَذَلِكَ مُسْتَقْبِلًا حَتَّى يُجَاوِزَ الْحِجْرَ ، فَإِذَا جَاوَزَهُ انْفَتَلَ وَجَعَلَ يَسَارَهُ إلَى الْبَيْتِ وَهَذَا فِي الِافْتِتَاحِ خَاصَّةً .
وَإِذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ الْمَكْتُوبَةُ أَوْ الْجِنَازَةُ خَرَجَ مِنْ طَوَافِهِ إلَيْهَا ، وَكَذَا إذَا كَانَ فِي السَّعْيِ ، ثُمَّ إذَا فَرَغَ وَعَادَ بَنَى عَلَى مَا كَانَ طَافَهُ وَلَا يَسْتَقْبِلُهُ ، وَكَذَا إذَا خَرَجَ لِتَجْدِيدِ وُضُوءٍ .
وَلَا يُكْرَهُ الطَّوَافُ فِي الْأَوْقَاتِ الَّتِي تُكْرَهُ فِيهَا الصَّلَاةُ ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُصَلِّي رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ فِيهَا بَلْ يَصْبِرُ إلَى أَنْ يَدْخُلَ مَا لَا كَرَاهَةَ فِيهِ .
وَيُكْرَهُ وَصْلُ الْأَسَابِيعِ وَهُوَ مَذْهَبُ عُمَرَ وَغَيْرِهِ .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ بِشَرْطِ أَنْ يَنْفَصِلَ عَنْ وِتْرٍ مِنْهَا .
وَمَعَ الْكَرَاهَةِ لَوْ طَافَ أُسْبُوعًا ثُمَّ شَوْطًا أَوْ شَوْطَيْنِ مِنْ آخِرَ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ أُسْبُوعَيْنِ لَا يَقْطَعُ الْأُسْبُوعَ الَّذِي شَرَعَ فِيهِ بَلْ يُتِمُّهُ .
وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَطُوفَ مُنْتَعِلًا إذَا كَانَتَا طَاهِرَتَيْنِ أَوْ بِخُفِّهِ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى ثَوْبِهِ نَجَاسَةٌ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ كَرِهْت لَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ .
وَالرُّكْنُ فِي الطَّوَافِ أَرْبَعَةُ أَشْوَاطٍ ، فَمَا زَادَ إلَى السَّبْعَةِ وَاجِبٌ نَصَّ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ وَسَنَذْكُرُ مَا عِنْدَنَا

فِيهِ .
وَقِيلَ : الرُّكْنُ ثَلَاثَةُ أَشْوَاطٍ وَثُلُثَا شَوْطٍ .
وَافْتِتَاحُ الطَّوَافِ مِنْ الْحَجَرِ سُنَّةٌ ، فَلَوْ افْتَتَحَهُ مِنْ غَيْرِهِ أَجْزَأَ وَكُرِهَ عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ ، وَنَصَّ مُحَمَّدٌ فِي الرُّقَيَّاتِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِيهِ فَجَعَلَهُ شَرْطًا .
وَلَوْ قِيلَ إنَّهُ وَاجِبٌ لَا يَبْعُدُ لِأَنَّ الْمُوَاظَبَةَ مِنْ غَيْرِ تَرْكِ مَرَّةٍ دَلِيلُهُ فَيَأْثَمُ بِهِ وَيُجْزِيهِ .
وَلَوْ كَانَ فِي آيَةِ الطَّوَافِ إجْمَالٌ لَكَانَ شَرْطًا كَمَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لَكِنَّهُ مُنْتَفٍ فِي حَقِّ الِابْتِدَاءِ فَيَكُونُ مُطْلَقُ التَّطَوُّفِ هُوَ الْفَرْضُ ، وَافْتِتَاحُهُ مِنْ الْحَجَرِ وَاجِبٌ لِلْمُوَاظَبَةِ ، كَمَا قَالُوا فِي جَعْلِ الْكَعْبَةِ عَنْ يَسَارِهِ حَالَ الطَّوَافِ أَنَّهُ وَاجِبٌ ، حَتَّى لَوْ طَافَ مَنْكُوسًا بِأَنْ جَعَلَهَا عَنْ يَمِينِهِ اعْتَدَّ بِهِ فِي ثُبُوتِ التَّحَلُّلِ وَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ ، فَإِنْ رَجَعَ وَلَمْ يُعِدْ فِيهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ .
وَفِي الْكَافِي لِلْحَاكِمِ الَّذِي هُوَ جَمْعُ كَلَامِ مُحَمَّدٍ : يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يُنْشِدَ الشِّعْرَ فِي طَوَافِهِ أَوْ يَتَحَدَّثَ أَوْ يَبِيعَ أَوْ يَشْتَرِيَ ، فَإِنْ فَعَلَهُ لَمْ يَفْسُدْ طَوَافُهُ .
وَيُكْرَهُ أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ بِالْقُرْآنِ فِيهِ ، وَلَا بَأْسَ فِي قِرَاءَتِهِ فِي نَفْسِهِ ا هـ .
وَفِي الْمُنْتَقَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَقْرَأَ فِي طَوَافِهِ ، وَلَا بَأْسَ بِذِكْرِ اللَّهِ .
وَصَرَّحَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّجْنِيسِ بِأَنَّ الذِّكْرَ أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَاءَةِ فِي الطَّوَافِ ، وَلَيْسَ يَنْبُو عَمَّا ذَكَرَ الْحَاكِمُ لِأَنَّهُ لَا بَأْسَ فِي الْأَكْثَرِ لِخِلَافِ الْأَوْلَى ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَلَ فِي الشِّعْرِ بَيْنَ أَنْ يُعَرَّى عَنْ حَمْدٍ أَوْ ثَنَاءٍ فَيُكْرَهُ وَإِلَّا فَلَا .
وَقِيلَ يُكْرَهُ فِي الْحَالَيْنِ .
كَمَا هُوَ ظَاهِرُ جَوَابِ الرِّوَايَةِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَدْيَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْأَفْضَلُ وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ فِي الطَّوَافِ قِرَاءَةٌ بَلْ الذِّكْرُ وَهُوَ الْمُتَوَارَثُ عَنْ السَّلَفِ وَالْمُجْمَعُ عَلَيْهِ فَكَانَ

أَوْلَى .
وَأَمَّا كَرَاهَةُ الْكَلَامِ فَالْمُرَادُ فُضُولُهُ إلَّا مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ .
وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُفْتِيَ فِي الطَّوَافِ وَيَشْرَبَ مَاءً إنْ احْتَاجَ إلَيْهِ ، وَلَا يُلَبِّي حَالَةَ الطَّوَافِ فِي طَوَافِ الْقُدُومِ ، وَمَنْ طَافَ رَاكِبًا أَوْ مَحْمُولًا أَوْ سَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ كَذَلِكَ إنْ كَانَ بِعُذْرٍ جَازَ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ عُذْرٍ فَمَا دَامَ بِمَكَّةَ يُعِيدُ ، فَإِنْ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ بِلَا إعَادَةٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِأَنَّ الْمَشْيَ وَاجِبٌ عِنْدَنَا ، عَلَى هَذَا نَصَّ الْمَشَايِخُ وَهُوَ كَلَامُ مُحَمَّدٍ .
وَمَا فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ مِنْ قَوْلِهِ الطَّوَافُ مَاشِيًا أَفْضَلُ تَسَاهُلٌ أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى النَّافِلَةِ .
لَا يُقَالُ : بَلْ يَنْبَغِي فِي النَّافِلَةِ أَنْ تَجِبَ صَدَقَةٌ لِأَنَّهُ إذَا شَرَعَ فِيهِ وَجَبَ فَوَجَبَ الْمَشْيُ ، لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّ شُرُوعَهُ لَمْ يَكُنْ بِصِفَةِ الْمَشْيِ وَالشُّرُوعُ إنَّمَا يُوجِبُ مَا شُرِعَ فِيهِ .
وَلَوْ طَافَ زَحْفًا لِعُذْرٍ أَجْزَأَهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَبِلَا عُذْرٍ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ أَوْ الدَّمُ .
وَلَوْ كَانَ الْحَامِلُ مُحْرِمًا أَجْزَأَهُ عَنْ طَوَافِهِ الْمُوَقَّتِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَرْضًا كَانَ أَوْ سُنَّةً ، قِيلَ إلَّا أَنْ يَقْصِدَ حَمْلَ الْمَحْمُولِ فَلَا يُجْزِيهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ نِيَّةَ الطَّوَافِ الْوَاقِعِ جُزْءَ نُسُكٍ لَيْسَتْ شَرْطًا ، بَلْ الشَّرْطُ أَنْ لَا يَنْوِيَ شَيْئًا آخَرَ ، وَلِذَا لَوْ طَافَ طَالِبًا لِغَرِيمٍ أَوْ هَارِبًا مِنْ عَدُوٍّ لَا يُجْزِيهِ ، بِخِلَافِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ ، وَسَنَذْكُرُ الْفَرْقَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْفَصْلِ الْآتِي .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ مَنْ طَافَ طَوَافًا فِي وَقْتِهِ وَقَعَ عَنْهُ بَعْدَ أَنْ يَنْوِيَ أَصْلَ الطَّوَافِ نَوَاهُ بِعَيْنِهِ أَوْ لَا ، أَوْ نَوَى طَوَافًا آخَرَ لِأَنَّ النِّيَّةَ تُعْتَبَرُ فِي الْإِحْرَامِ لِأَنَّهُ عَقَدَ عَلَى الْأَدَاءِ فَلَا يُعْتَبَرُ فِي الْأَدَاءِ ، فَلَوْ قَدِمَ مُعْتَمِرٌ وَطَافَ وَقَعَ عَنْ الْعُمْرَةِ ، وَإِنْ كَانَ حَاجًّا قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ وَقَعَ لِلْقُدُومِ ،

وَإِنْ كَانَ قَارِنًا وَقَعَ الْأَوَّلُ لِلْعُمْرَةِ وَالثَّانِي لِلْقُدُومِ ، وَلَوْ كَانَ فِي يَوْمِ النَّحْرِ إذَا طَافَ فَهُوَ لِلزِّيَارَةِ ، وَإِنْ طَافَ بَعْدَ مَا حَلَّ النَّفْرَ فَلِلصَّدَرِ وَلَوْ كَانَ نَوَاهُ لِلتَّطَوُّعِ .
قِيلَ لِأَنَّ غَيْرَ هَذَا الطَّوَافِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةِ التَّعْيِينِ ، وَيَلْغُو غَيْرُهَا كَصَوْمِ رَمَضَانَ وَيَحْتَاجُ إلَى أَصْلِهِمَا .
وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ خُصُوصَ ذَلِكَ الْوَقْتِ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ خُصُوصَ ذَلِكَ الطَّوَافِ بِسَبَبِ أَنَّهُ فِي إحْرَامِ عِبَادَةٍ اقْتَضَتْ وُقُوعَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَلَا يُشْرَعُ غَيْرُهُ كَمَنْ سَجَدَ فِي إحْرَامِ الصَّلَاةِ يَنْوِي سَجْدَةَ شُكْرٍ أَوْ نَفْلٍ أَوْ تِلَاوَةٍ عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ تَقَعُ عَنْ سَجْدَةِ الصَّلَاةِ لِذَلِكَ الِاسْتِحْقَاقِ فَكَانَ مُقْتَضَى هَذَا أَنْ لَا يَحْتَاجَ إلَى نِيَّةٍ أَصْلًا كَسَجْدَةِ الصَّلَاةِ ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ هَذَا الرُّكْنُ لَا يَقَعُ فِي مَحْضِ إحْرَامِ الْعِبَادَةِ الَّذِي اقْتَرَنَ بِهِ النِّيَّةُ بَلْ بَعْدَ انْحِلَالِ أَكْثَرِهِ وَجَبَ لَهُ أَصْلُ النِّيَّةِ دُونَ التَّعْيِينِ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ ، بِخِلَافِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ .
وَاعْلَمْ أَنَّ دُخُولَ الْبَيْتِ مُسْتَحَبٌّ إذَا لَمْ يُؤْذِ أَحَدًا ، ثَبَتَ دُخُولُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إيَّاهُ عَلَى مَا أَسْلَفْنَاهُ فِي بَابِ الصَّلَاةِ فِي الْكَعْبَةِ ، وَأَنَّهُ دَعَا وَكَبَّرَ فِي نَوَاحِيهِ .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ دَخَلَ الْبَيْتَ دَخَلَ فِي حَسَنَةٍ وَخَرَجَ مِنْ سَيِّئَةٍ مَغْفُورًا لَهُ } رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ .
وَيَنْبَغِي أَنْ يَقْصِدَ مُصَلَّاهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا دَخَلَهَا مَشَى قِبَلَ وَجْهِهِ وَجَعَلَ الْبَابَ قِبَلَ ظَهْرِهِ حَتَّى يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِدَارِ الَّذِي قِبَلَ وَجْهِهِ قَرِيبٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ ، ثُمَّ يُصَلِّي يَتَوَخَّى مُصَلَّى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : عَجَبًا لِلْمَرْءِ

الْمُسْلِمِ إذَا دَخَلَ الْكَعْبَةَ كَيْفَ يَرْفَعُ بَصَرَهُ قِبَلَ السَّقْفِ يَدَّعِ ذَلِكَ إجْلَالًا لِلَّهِ تَعَالَى وَإِعْظَامًا ، دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا خَلَفَ بَصَرُهُ مَوْضِعَ سُجُودِهِ حَتَّى خَرَجَ مِنْهَا ، وَكَانَ الْبَيْتُ فِي زَمَنِهِ عَلَى سِتَّةِ أَعْمِدَةٍ وَلَيْسَتْ الْبَلَاطَةُ الْخَضْرَاءُ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ مُصَلَّاهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، فَإِذَا صَلَّى إلَى الْجِدَارِ يَضَعُ خَدَّهُ عَلَيْهِ وَيَسْتَغْفِرُ وَيَحْمَدُ ثُمَّ يَأْتِي الْأَرْكَانَ فَيَحْمَدُ وَيُهَلِّلُ وَيُسَبِّحُ وَيُكَبِّرُ وَيَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى مَا شَاءَ وَيَلْزَمُ الْأَدَبَ مَا اسْتَطَاعَ بِظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ وَمَا تَقُولُهُ الْعَامَّةُ مِنْ الْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَهُوَ مَوْضِعٌ عَالٍ فِي جِدَارِ الْبَيْتِ بِدْعَةٌ بَاطِلَةٌ لَا أَصْلَ لَهَا .
وَالْمِسْمَارُ الَّذِي وَسَطَ الْبَيْتِ يُسَمُّونَهُ سُرَّةَ الدُّنْيَا يَكْشِفُ أَحَدُهُمْ سُرَّتَهُ وَيَضَعُهَا عَلَيْهِ فِعْلُ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ فَضْلًا عَنْ عِلْمٍ ( قَوْلُهُ مَا شَرَعَ إلَّا مَرَّةً فِي طَوَافٍ بَعْدَهُ سَعْيٌ ) لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إنَّمَا سَعَى فِي طَوَافِ الْعُمْرَةِ الْمُفْرَدَةِ : أَعْنِي عُمْرَةَ الْقَضَاءِ وَالْعُمْرَةِ الَّتِي قَرَنَ إلَى حَجَّتِهِ ، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَجَّ قَارِنًا عَلَى مَا نُبَيِّنُ فِي بَابِ الْقِرَانِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ( قَوْلُهُ لِمَا بَيَّنَّا ) وَلَمْ يَقُلْ لِمَا رَوَيْنَا : أَعْنِي قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَلْيُصَلِّ الطَّائِفُ لِكُلِّ أُسْبُوعٍ رَكْعَتَيْنِ } لِأَنَّهُ ذَكَرَ هُنَاكَ وَجْهَ التَّمَسُّكِ بِهِ لِلْوُجُوبِ حَيْثُ قَالَ : وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ ، فَقَوْلُهُ لِمَا بَيَّنَّا يَشْمَلُ جَمِيعَ الْمَرْوِيِّ مَعَ مَا ذُكِرَ مِنْ وَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ

قَالَ ( وَهَذَا الطَّوَافُ هُوَ الْمَفْرُوضُ فِي الْحَجِّ ) وَهُوَ رُكْنٌ فِيهِ إذْ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } وَيُسَمَّى طَوَافُ الْإِفَاضَةِ وَطَوَافَ يَوْمِ النَّحْرِ ( وَيُكْرَهُ تَأْخِيرُهُ عَنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ مُوَقَّتٌ بِهَا ( وَإِنْ أَخَّرَهُ عَنْهَا لَزِمَهُ دَمٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) وَسَنُبَيِّنُهُ فِي بَابِ الْجِنَايَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
قَالَ ( ثُمَّ يَعُودُ إلَى مِنًى فَيُقِيمُ بِهَا ) لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَجَعَ إلَيْهَا كَمَا رَوَيْنَا ، وَلِأَنَّهُ بَقِيَ عَلَيْهِ الرَّمْيُ وَمَوْضِعُهُ بِمِنًى ( فَإِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ مِنْ الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ رَمَى الْجِمَارَ الثَّلَاثَ فَيَبْدَأُ بِاَلَّتِي تَلِي مَسْجِدَ الْخَيْفِ فَيَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ وَيَقِفُ عِنْدَهَا ، ثُمَّ يَرْمِي الَّتِي مِثْلَ ذَلِكَ وَيَقِفُ عِنْدَهَا ، ثُمَّ يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ كَذَلِكَ وَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا ) هَكَذَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَا نَقَلَ مِنْ نُسُكِ رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُفَسِّرًا ، وَيَقِفُ عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ فِي الْمَقَامِ الَّذِي يَقِفُ فِيهِ النَّاسُ وَيَحْمَدُ اللَّهَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ وَيُهَلِّلُ وَيُكَبِّرُ وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَيَدْعُو بِحَاجَتِهِ وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا فِي سَبْعِ مَوَاطِنَ } وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ .
وَالْمُرَادُ رَفْعُ الْأَيْدِي بِالدُّعَاءِ .
وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي دُعَائِهِ فِي هَذِهِ الْمَوَاقِفِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْحَاجِّ وَلِمَنْ اسْتَغْفَرَ لَهُ الْحَاجُّ } ثُمَّ الْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ رَمْيٍ بَعْدَهُ رَمْيٌ يَقِفُ بَعْدَهُ لِأَنَّهُ فِي وَسَطِ الْعِبَادَةِ فَيَأْتِي بِالدُّعَاءِ فِيهِ ، وَكُلُّ رَمْيٍ لَيْسَ بَعْدَهُ رَمْيٍ لَا يَقِفُ

لِأَنَّ الْعِبَادَةَ قَدْ انْتَهَتْ ، وَلِهَذَا لَا يَقِفُ بَعْدَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ أَيْضًا .

( قَوْلُهُ إذْ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } ) عَلَى ذَلِكَ إجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ ( قَوْلُهُ كَمَا رَوَيْنَا ) يَعْنِي قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ " إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا حَلَقَ أَفَاضَ إلَى مَكَّةَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ " إلَخْ ( قَوْلُهُ وَإِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ إلَخْ ) أَفَادَ أَنَّ وَقْتَ الرَّمْيِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي لَا يَدْخُلُ إلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ ، وَكَذَا فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ وَسَيَتَبَيَّنُ ( قَوْلُهُ فَيَبْتَدِئُ بِاَلَّتِي تَلِي مَسْجِدَ الْخَيْفِ إلَخْ ) هَلْ هَذَا التَّرْتِيبُ مُتَعَيَّنٌ أَوْ لَا ؟ مُخْتَلَفٌ فِيهِ ، فَفِي الْمَنَاسِكِ لَوْ بَدَأَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي بِجَمْرَةِ الْعَقَبَةِ ثُمَّ بِالْوُسْطَى ثُمَّ بِاَلَّتِي تَلِي مَسْجِدَ الْخَيْفِ ، فَإِنْ أَعَادَ عَلَى الْوُسْطَى ثُمَّ عَلَى الْعَقَبَةِ فِي يَوْمِهِ فَحَسَنٌ لِأَنَّ التَّرْتِيبَ سُنَّةٌ وَإِنْ لَمْ يُعِدْ أَجْزَأَهُ .
وَفِي الْمُحِيطِ : فَإِنْ رَمَى كُلَّ جَمْرَةٍ بِثَلَاثٍ أَتَمَّ الْأُولَى بِأَرْبَعٍ ثُمَّ أَعَادَ الْوُسْطَى بِسَبْعٍ ثُمَّ الْعَقَبَةَ بِسَبْعٍ ، وَإِنْ كَانَ رَمَى كُلَّ وَاحِدَةٍ بِأَرْبَعٍ أَتَمَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ بِثَلَاثٍ ثَلَاثٍ وَلَا يُعِيدُ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ وَكَأَنَّهُ رَمَى الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ بَعْدَ الْأُولَى ، وَإِنْ اسْتَقْبَلَ رَمْيَهَا فَهُوَ أَفْضَلُ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ : لَوْ رَمَى الْجَمَرَاتِ الثَّلَاثَ فَإِذَا فِي يَدِهِ أَرْبَعُ حَصَيَاتٍ لَا يَدْرِي مِنْ أَيَّتُهُنَّ هُنَّ يَرْمِيهِنَّ عَلَى الْأَوْلَى وَيَسْتَقْبِلُ الْبَاقِيَتَيْنِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا مِنْ الْأَوْلَى فَلَمْ يَجُزْ رَمْيُ الْأُخْرَيَيْنِ ، وَلَوْ كُنَّ ثَلَاثًا أَعَادَ عَلَى كُلِّ جَمْرَةٍ وَاحِدَةً ، وَلَوْ كَانَتْ حَصَاةً أَوْ حَصَاتَيْنِ أَعَادَ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ وَاحِدَةً وَيُجْزِيهِ لِأَنَّهُ رَمَى كُلَّ وَاحِدَةٍ بِأَكْثَرِهَا ا هـ .
وَهَذَا صَرِيحٌ فِي الْخِلَافِ ، وَاَلَّذِي يُقْوَى عِنْدِي اسْتِنَانُ التَّرْتِيبِ لَا تَعَيُّنُهُ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
بِخِلَافِ تَعْيِينِ الْأَيَّامِ كُلِّهَا لِلرَّمْيِ ،

وَالْفَرْقُ لَا يَخْفَى عَلَى مُحَصِّلٍ .
وَلَوْ تَرَكَ حَصَاةً مِنْ الْبَعْضِ لَا يَدْرِي مِنْ أَيَّتِهَا أَعَادَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ حَصَاةً لِيَبْرَأَ بِيَقِينٍ .
وَلَوْ رَمَى فِي الْيَوْمِ الثَّانِي الْوُسْطَى وَالثَّالِثَةَ وَلَمْ يَرْمِ الْأُولَى ، فَإِنْ رَمَى الْأُولَى وَأَعَادَ عَلَى الْبَاقِيَتَيْنِ فَحَسَنٌ ، وَإِنْ رَمَى الْأُولَى وَحْدَهَا جَازَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ( قَوْلُهُ وَيَقِفُ عِنْدَهَا ) أَيْ عِنْدَ الْجَمْرَةِ بَعْدَ تَمَامِ الرَّمْيِ لَا عِنْدَ كُلِّ حَصَاةٍ ، وَقَوْلُهُ هَكَذَا رَوَى جَابِرٌ .
الَّذِي فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ إنَّمَا هُوَ التَّعَرُّضُ لِرَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ لَيْسَ غَيْرُ ، وَغَيْرُ ذَلِكَ يُعْرَفُ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ .
وَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْبُخَارِيِّ وَهُوَ قَوْلُهُ { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا رَمَى الْجَمْرَةَ الْأُولَى } إلَخْ يُبَيِّنُ كَيْفِيَّةَ الْوُقُوفِ وَمَوْضِعَهُ ، وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُطِيلُهُ رَافِعًا يَدَيْهِ ، فَارْجِعْ إلَيْهِ تَسْتَغْنِ بِهِ عَنْهُ وَعَنْ حَدِيثِ { لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا فِي سَبْعِ مَوَاطِنَ } مَعَ زِيَادَاتٍ أُخَرَ .
وَقَوْلُهُ فِي الْمَقَامِ الَّذِي يَقِفُ فِيهِ النَّاسُ تَعْيِينٌ لِمَحَلِّهِ وَإِفَادَةُ أَنَّهُ لَمْ يَتَغَيَّرْ بَلْ النَّاسُ تَوَارَثُوهُ فَمَا هُمْ عَلَيْهِ هُوَ الَّذِي كَانَ .
وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ نَقْلًا : يُرِيدُ بِالْمَقَامِ الَّذِي يَقُومُ فِيهِ النَّاسُ أَعْلَى الْوَادِي ، وَاَلَّذِي صَرَّحَ بِهِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ يَنْحَدِرُ فِي الْأُولَى أَمَامَهَا فَيَقِفُ ، وَيَنْحَدِرُ فِي الثَّانِيَةِ ذَاتَ الْيَسَارِ مِمَّا يَلِي الْوَادِيَ ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ فِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ .
وَفِي الْبُخَارِيِّ أَيْضًا عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّهُ كَانَ يَرْمِي الْجَمْرَةَ الدُّنْيَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ عَلَى إثْرِ كُلِّ حَصَاةٍ ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ فَيُسْهِلُ وَيَقُومُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ قِيَامًا طَوِيلًا يَدْعُو وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ ، ثُمَّ يَرْمِي الْجَمْرَةَ الْوُسْطَى كَذَلِكَ فَيَأْخُذُ ذَاتَ الشِّمَالِ

فَيُسْهِلُ وَيَقُومُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ قِيَامًا طَوِيلًا فَيَدْعُو وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ ، ثُمَّ يَرْمِي الْجَمْرَةَ ذَاتَ الْعَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي وَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا وَيَقُولُ هَكَذَا رَأَيْتُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَفْعَلُ هَذَا } .
وَإِنَّمَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ حِذَاءَ مَنْكِبَيْهِ قِيلَ يَقِفُ قَدْرَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ .
وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا لَا يَسْتَطِيعُ الرَّمْيَ يُوضَعُ فِي يَدِهِ وَيَرْمِي بِهَا أَوْ يَرْمِي عَنْهُ غَيْرُهُ ، وَكَذَا الْمُغْمَى عَلَيْهِ .
وَلَوْ رَمَى بِحَصَاتَيْنِ إحْدَاهُمَا لِنَفْسِهِ وَالْأُخْرَى لِآخَرَ جَازَ وَيُكْرَهُ ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتْرُكَ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ مَعَ الْإِمَامِ بِمَسْجِدِ الْخَيْفِ .
وَيُكْثِرُ مِنْ الصَّلَاةِ فِيهِ أَمَامَ الْمَنَارَةِ عِنْدَ الْأَحْجَارِ

قَالَ ( فَإِذَا كَانَ مِنْ الْغَدِ رَمَى الْجِمَارَ الثَّلَاثَ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ كَذَلِكَ ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَتَعَجَّلَ النَّفْرَ إلَى مَكَّةَ نَفَرَ ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُقِيمَ رَمَى الْجِمَارَ الثَّلَاثَ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ لِمَنْ اتَّقَى } وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُقِيمَ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَبَرَ حَتَّى رَمَى الْجِمَارَ الثَّلَاثَ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ } .
وَلَهُ أَنْ يَنْفِرَ مَا لَمْ يَطْلُعْ الْفَجْرُ مِنْ الْيَوْمِ الرَّابِعِ فَإِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْفِرَ لِدُخُولِ وَقْتِ الرَّمْيِ ، وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَإِنْ ) ( قَدَّمَ الرَّمْيَ فِي هَذَا الْيَوْمِ ) يَعْنِي الْيَوْمَ الرَّابِعَ ( قَبْلَ الزَّوَالِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ ) ( جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ ، وَقَالَا لَا يَجُوزُ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الْأَيَّامِ ، وَإِنَّمَا التَّفَاوُتُ فِي رُخْصَةِ النَّفْرِ ، فَإِذْ لَمْ يَتَرَخَّصْ اُلْتُحِقَ بِهَا ، وَمَذْهَبُهُ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ أَثَرُ التَّخْفِيفِ فِي هَذَا الْيَوْمِ فِي حَقِّ التَّرْكِ فَلَأَنْ يَظْهَرَ فِي جَوَازِهِ فِي الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا أَوْلَى ، بِخِلَافِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي حَيْثُ لَا يَجُوزُ الرَّمْيُ فِيهِمَا إلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ الرِّوَايَةِ ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ فِيهِمَا فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْمَرْوِيِّ .
فَأَمَّا يَوْمُ النَّحْرِ فَأَوَّلُ وَقْتِ الرَّمْيِ مِنْ وَقْتِ طُلُوعِ الْفَجْرِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : أَوَّلُهُ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ لِلرِّعَاءِ أَنْ يَرْمُوا لَيْلًا } .
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تَرْمُوا جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ إلَّا مُصْبِحِينَ } وَيَرْوِي { حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ }

فَيَثْبُتُ أَصْلُ الْوَقْتِ بِالْأَوَّلِ وَالْأَفْضَلِيَّةُ بِالثَّانِي .
وَتَأْوِيلُ مَا رُوِيَ اللَّيْلَةَ الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ ، وَلِأَنَّ لَيْلَةَ النَّحْرِ وَقْتُ الْوُقُوفِ وَالرَّمْيِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ فَيَكُونُ وَقْتُهُ بَعْدَهُ ضَرُورَةً .
ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَمْتَدُّ هَذَا الْوَقْتُ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ أَوَّلَ نُسُكِنَا فِي هَذَا الْيَوْمِ الرَّمْيُ } ، جَعَلَ الْيَوْمَ وَقْتًا لَهُ وَذَهَابَهُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَمْتَدُّ إلَى وَقْتِ الزَّوَالِ ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَا .
وَإِنْ أَخَّرَ إلَى اللَّيْلِ رَمَاهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِحَدِيثِ الدُّعَاءِ .
وَإِنْ أَخَّرَ إلَى الْغَدِ رَمَاهُ لِأَنَّهُ وَقْتُ جِنْسِ الرَّمْيِ ، وَعَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِتَأْخِيرِهِ عَنْ وَقْتِهِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ .

( قَوْلُهُ فَإِذَا كَانَ مِنْ الْغَدِ ) هُوَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ وَهُوَ الْمُلَقَّبُ بِيَوْمِ النَّفْرِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْفِرَ فِيهِ بَعْدَ الرَّمْيِ وَالْيَوْمُ الرَّابِعُ آخِرُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ يُسَمَّى يَوْمَ النَّفْرِ الثَّانِي ( قَوْلُهُ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَخْ ) وَرَوَى أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ يَبْلُغُ بِهِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ { أَفَاضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ آخِرِ يَوْمٍ حِينَ صَلَّى الظُّهْرَ .
يَعْنِي يَوْمَ النَّحْرِ ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى مِنًى فَمَكَثَ بِهَا لَيَالِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ يَرْمِي الْجَمْرَةَ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ } الْحَدِيثَ .
قَالَ الْمُنْذِرِيّ : حَدِيثٌ حَسَنٌ ، رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ ( قَوْلُهُ وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ ) فَإِنَّ عِنْدَهُ إذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ مِنْ الْيَوْمِ الثَّالِثِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْفِرَ حَتَّى يَرْمِيَ ، قَالَ : لِأَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ الْخِيَارُ فِي الْيَوْمِ وَإِنَّمَا يَمْتَدُّ الْيَوْمُ إلَى الْغُرُوبِ .
وَقُلْنَا : لَيْسَ اللَّيْلُ وَقْتًا لِرَمْيِ الْيَوْمِ الرَّابِعِ فَيَكُونُ خِيَارُهُ فِي النَّفْرِ بَاقِيًا فِيهِ كَمَا قَبْلَ الْغُرُوبِ مِنْ الثَّالِثِ فَإِنَّهُ خُيِّرَ فِيهِ فِي النَّفْرِ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ وَقْتَ رَمْيِ الرَّابِعِ وَهَذَا ثَابِتٌ فِي لَيْلَتِهِ ( قَوْلُهُ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الْأَيَّامِ ) أَيْ بَاقِي الْأَيَّامِ الَّتِي يَرْمِي فِيهَا الْجَمَرَاتِ كُلَّهَا وَهُمَا الثَّانِي وَالثَّالِثُ ( قَوْلُهُ وَمَذْهَبُهُ ) أَيْ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ) أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ : إذَا انْتَفَخَ النَّهَارُ مِنْ يَوْمِ النَّفْرِ فَقَدْ حَلَّ الرَّمْيُ وَالصَّدَرُ .
وَالِانْتِفَاخُ الِارْتِفَاعُ ، وَفِي سَنَدِهِ طَلْحَةُ بْنُ عَمْرٍو ضَعَّفَهُ الْبَيْهَقِيُّ ( قَوْلُهُ أَوْلَى ) مِمَّا يُمْنَعُ لِجَوَازِ أَنْ يُرَخَّصَ فِي تَرْكِهِ مَا لَمْ يَطْلُعْ الْفَجْرُ ، فَإِذَا طَلَعَ مُنِعَ مِنْ تَرْكِهِ أَصْلًا وَلَزِمَهُ أَنْ

يُقِيمَهُ فِي وَقْتِهِ .
وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُعْتَمَدَ فِي تَعْيِينِ الْوَقْتِ لِلرَّمْيِ فِي الْأَوَّلِ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ وَفِيمَا بَعْدَهُ مِنْ بَعْدِ الزَّوَالِ لَيْسَ إلَّا فِعْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَكَذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ مَعْقُولٍ ، فَلَا يَدْخُلُ وَقْتُهُ قَبْلَ الْوَقْتِ الَّذِي فَعَلَهُ فِيهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَمَا لَا يَفْعَلُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَكَانِ الَّذِي رَمَى فِيهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَإِنَّمَا رَمَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الرَّابِعِ بَعْدَ الزَّوَالِ فَلَا يَرْمِي قَبْلَهُ .
وَبِهَذَا الْوَجْهِ يَنْدَفِعُ الْمَذْكُورُ لِأَبِي حَنِيفَةَ لَوْ قُرِّرَ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ عَلَى الْيَوْمِ الْأَوَّلِ لَا إذَا قُرِّرَ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ ( قَوْلُهُ بِخِلَافِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ ) أَيْ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لَا الرَّمْيِ ( وَالثَّانِي ) مِنْهَا فَإِنَّهُمَا الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ الرَّمْيِ وَالثَّالِثُ مِنْهُ ( قَوْلُهُ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ الرِّوَايَةِ ) احْتِرَازٌ عَمَّا عَنْ أَبِي حَنِيفَة رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ : أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ لَا يَرْمِيَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ ، فَإِنْ رَمَى قَبْلَ ذَلِكَ أَجْزَأَهُ وَحُمِلَ الْمَرْوِيُّ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى اخْتِيَارِ الْأَفْضَلِ .
وَجْهُ الظَّاهِرِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ وُجُوبِ اتِّبَاعِ الْمَنْقُولِ لِعَدَمِ الْمَعْقُولِيَّةِ وَلَمْ يَظْهَرْ أَثَرُ تَخْفِيفٍ فِيهَا بِتَجْوِيزِ التَّرْكِ لِيَنْفَتِحَ بَابُ التَّخْفِيفِ بِالتَّقْدِيمِ ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ يَحْتَاجُ إلَيْهَا أَبُو حَنِيفَة وَحْدَهُ ( قَوْلُهُ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَخَّصَ لِلرِّعَاءِ أَنْ يَرْمُوا لَيْلًا } ) أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَذَكَرَهُ .
وَرَوَاهُ أَيْضًا فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ عَطَاءٍ مُرْسَلًا ، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ وَزَادَ فِيهِ { وَأَيَّةَ سَاعَةٍ شَاءُوا

مِنْ النَّهَارِ } وَحَمَلَهُ الْمُصَنِّفُ عَلَى اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ لِمَا عُرِفَ أَنَّ وَقْتَ رَمْيِ كُلِّ يَوْمٍ إذَا دَخَلَ مِنْ النَّهَارِ امْتَدَّ إلَى آخِرِ اللَّيْلَةِ الَّتِي تَتْلُو ذَلِكَ النَّهَارَ فَيُحْمَل عَلَى ذَلِكَ ، فَاللَّيَالِي فِي الرَّمْيِ تَابِعَةٌ لِلْأَيَّامِ السَّابِقَةِ لَا اللَّاحِقَةِ ، بِدَلِيلِ مَا فِي السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَدِّمُ ضُعَفَاءَ أَهْلِهِ بِغَلَسٍ وَيَأْمُرُهُمْ أَنْ لَا يَرْمُوا الْجَمْرَةَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ } وَمَا رَوَى الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ ضَعَفَةَ بَنِي هَاشِمٍ أَنْ يَرْتَحِلُوا مِنْ جَمْعٍ بِلَيْلٍ وَيَقُولُ : أَبَنِيَّ لَا تَرْمُوا الْجَمْرَةَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ } وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ : حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي دَاوُد قَالَ : حَدَّثَنَا الْمُقَدَّمِيُّ .
حَدَّثَنَا فُضَيْلٍ بْنُ سُلَيْمَانَ ، حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ ، أَخْبَرَنَا كُرَيْبٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْمُرُ نِسَاءَهُ وَثَقَلَهُ صَبِيحَةَ جَمْعٍ أَنْ يُفِيضُوا مَعَ أَوَّلِ الْفَجْرِ بِسَوَادٍ وَلَا يَرْمُوا الْجَمْرَةَ إلَّا مُصْبِحِينَ } حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ بْنُ خُزَيْمَةَ ، حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ ، حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ عَنْ مِقْسَمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ فِي الثَّقَلِ وَقَالَ : لَا تَرْمُوا الْجِمَارَ حَتَّى تُصْبِحُوا } فَأَثْبَتْنَا الْجَوَازَ بِهَذَيْنِ وَالْفَضِيلَةَ بِمَا قَبْلَهُ .
وَفِي النِّهَايَةِ نَقْلًا مِنْ مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ أَنَّ مَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ وَقْتُ الْجَوَازِ مَعَ الْإِسَاءَةِ ، وَمَا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إلَى الزَّوَالِ وَقْتٌ مَسْنُونٌ ، وَمَا بَعْدَ الزَّوَالِ إلَى الْغُرُوبِ وَقْتُ الْجَوَازِ بِلَا إسَاءَةٍ ،

وَاللَّيْلُ وَقْتُ الْجَوَازِ مَعَ الْإِسَاءَةِ ا هـ .
وَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ مَحْمَلِ ثُبُوتِ الْإِسَاءَةِ عَدَمَ الْعُذْرِ حَتَّى لَا يَكُونَ رَمْيُ الضَّعَفَةِ قَبْلَ الشَّمْسِ وَرَمْيُ الرِّعَاءِ لَيْلًا يُلْزِمُهُمْ الْإِسَاءَةَ ، وَكَيْفَ بِذَلِكَ بَعْدَ التَّرْخِيصِ ، وَيَثْبُتُ وَصْفُ الْقَضَاءِ فِي الرَّمْيِ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِيهِ سِوَى ثُبُوتِ الْإِسَاءَةِ إنْ لَمْ يَكُنْ لِعُذْرٍ

قَالَ ( فَإِنْ رَمَاهَا رَاكِبًا أَجْزَأَهُ ) لِحُصُولِ فِعْلِ الرَّمْيِ ( وَكُلُّ رَمْيٍ بَعْدَهُ رَمْيٌ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَرْمِيَهُ مَاشِيًا وَإِلَّا فَيَرْمِيهِ رَاكِبًا ) لِأَنَّ الْأَوَّلَ بَعْدَهُ وُقُوفٌ وَدُعَاءٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَيَرْمِيهِ مَاشِيًا لِيَكُونَ أَقْرَبَ إلَى التَّضَرُّعِ ، وَبَيَانُ الْأَفْضَلِ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ .

( قَوْلُهُ وَبَيَانُ الْأَفْضَلِ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) حُكِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْجَرَّاحِ قَالَ : دَخَلْتُ عَلَى أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ ، فَفَتَحَ عَيْنَيْهِ وَقَالَ : الرَّمْيُ رَاكِبًا أَفْضَلُ أَمْ مَاشِيًا ؟ فَقُلْت : مَاشِيًا ، فَقَالَ : أَخْطَأْت ، فَقُلْت : رَاكِبًا ، فَقَالَ : أَخْطَأَتْ ، ثُمَّ قَالَ : كُلُّ رَمْيٍ بَعْدَهُ وُقُوفٌ ، فَالرَّمْيُ مَاشِيًا أَفْضَلُ ، وَمَا لَيْسَ بَعْدَهُ وُقُوفٌ فَالرَّمْيُ رَاكِبًا أَفْضَلُ ، فَقُمْت مِنْ عِنْدِهِ فَمَا انْتَهَيْت إلَى بَابِ الدَّارِ حَتَّى سَمِعْت الصُّرَاخَ بِمَوْتِهِ ، فَتَعَجَّبْتُ مِنْ حِرْصِهِ عَلَى الْعِلْمِ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْحَالَةِ .
وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ : قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : الرَّمْيُ كُلُّهُ رَاكِبًا أَفْضَلُ ا هـ ، لِأَنَّهُ رُوِيَ رُكُوبُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيهِ كُلِّهِ ، وَكَأَنَّ أَبَا يُوسُفَ يَحْمِلُ مَا رُوِيَ مِنْ رُكُوبِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي رَمْيِ الْجِمَارِ كُلِّهَا عَلَى أَنَّهُ لَيُظْهِرُ فِعْلَهُ فَيُقْتَدَى بِهِ وَيُسْأَلُ وَيُحْفَظُ عَنْهُ الْمَنَاسِكُ كَمَا ذُكِرَ فِي طَوَافِهِ رَاكِبًا ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ ، فَلَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ هَذَا الْعَامِ } وَفِي الظَّهِيرِيَّةِ أَطْلَقَ اسْتِحْبَابَ الْمَشْيِ ، قَالَ ، يُسْتَحَبُّ الْمَشْيُ إلَى الْجِمَارِ ، وَإِنْ رَكِبَ إلَيْهَا فَلَا بَأْسَ بِهِ وَالْمَشْيُ أَفْضَلُ .
وَتَظْهَرُ أَوْلَوِيَّتُهُ لِأَنَّا إذَا حَمَلْنَا رُكُوبَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَا قُلْنَا يَبْقَى كَوْنُهُ مُؤَدِّيًا عِبَادَةً ، وَأَدَاؤُهَا مَاشِيًا أَقْرَبُ إلَى التَّوَاضُعِ وَالْخُشُوعِ ، وَخُصُوصًا فِي هَذَا الزَّمَانِ فَإِنَّ عَامَّةَ الْمُسْلِمِينَ مُشَاةٌ فِي جَمِيعِ الرَّمْيِ فَلَا يَأْمَنُ مِنْ الْأَذَى بِالرُّكُوبِ بَيْنَهُمْ لِلزَّحْمَةِ

وَيُكْرَهُ أَنْ لَا يَبِيتَ بِمِنًى لَيَالِي الرَّمْيِ لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَاتَ بِمِنًى ، وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُؤَدِّبُ عَلَى تَرْكِ الْمَقَامِ بِهَا .
وَلَوْ بَاتَ فِي غَيْرِهَا مُتَعَمِّدًا لَا يَلْزَمُ شَيْءٌ عِنْدَنَا ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ وَجَبَ لِيَسْهُلَ عَلَيْهِ الرَّمْيُ فِي أَيَّامِهِ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ فَتَرْكُهُ لَا يُوجِبُ الْجَابِرَ .

( قَوْلُهُ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ) فَإِنَّهُ وَاجِبٌ عِنْدَهُ ، ثُمَّ قِيلَ : يَلْزَمُهُ بِتَرْكِهِ مَبِيتَ لَيْلَةٍ مُدٌّ وَمُدَّانِ لِلَيْلَتَيْنِ وَدَمٌ لِثَلَاثٍ ( قَوْلُهُ لِأَنَّهُ وَجَبَ ) أَيْ ثَبَتَ إذْ هُوَ سُنَّةٌ عِنْدَنَا يَلْزَمُ بِتَرْكِهِ الْإِسَاءَةُ عَلَى مَا يُفِيدُهُ لَفْظُ الْكَافِي حَيْثُ اسْتَدَلَّ بِأَنَّ الْعَبَّاسَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { اسْتَأْذَنَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ فَأَذِنَ لَهُ } ، ثُمَّ قَالَ : وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمَا رَخَّصَ فِي تَرْكِهَا لِأَجْلِ السِّقَايَةِ ا هـ .
فَعُلِمَ أَنَّهُ سُنَّةٌ ، وَتَبِعَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ ، وَبِحَدِيثِ الْعَبَّاسِ هَذَا اسْتَدَلَّ ابْنُ الْجَوْزِيِّ لِلشَّافِعِيِّ عَلَى الْوُجُوبِ وَقَالَ : وَلَوْلَا أَنَّهُ وَاجِبٌ لَمَا احْتَاجَ إلَى إذْنٍ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ إذْ مُخَالَفَةُ السُّنَّةِ عِنْدَهُمْ كَانَ مُجَانِبًا جِدًّا خُصُوصًا إذَا انْضَمَّ إلَيْهَا الِانْفِرَادُ عَنْ جَمِيعِ النَّاسِ مَعَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، فَاسْتَأْذَنَ لِإِسْقَاطِ الْإِسَاءَةِ الْكَائِنَةِ بِسَبَبِ عَدَمِ مُوَافَقَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَعَ مُرَافَقَتِهِ فَإِنَّهُ أَفْظَعُ مِنْهُ حَالَ عَدَمِ الْمُرَافَقَةِ ، بَلْ هُوَ جَفَاءٌ لِمَا فِيهِ مِنْ إظْهَارِ الْمُخَالَفَةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِسُوءِ الْأَدَبِ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَبِيتُ بِمِنًى عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَكَثَ بِمِنًى لَيَالِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ يَرْمِي الْجَمْرَةَ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ } وَنَفْسُ حَدِيثِ الْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُفِيدُهُ ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُؤَدِّبُ عَلَى تَرْكِ الْمَبِيتِ بِمِنًى اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِهِ .
نَعَمْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَنْهَى أَنْ يَبِيتَ أَحَدٌ مِنْ وَرَاءِ الْعَقَبَةِ ، وَكَانَ يَأْمُرُهُمْ أَنْ يَدْخُلُوا مِنًى .
وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا نَحْوَهُ .
وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَنَامَ أَحَدٌ أَيَّامَ مِنًى بِمَكَّةَ .
وَأَخْرَجَ فِي تَقْدِيمِ الثَّقَلِ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ عُمَارَةَ قَالَ : عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَنْ قَدَّمَ ثَقَلَهُ مِنْ مِنًى لَيْلَةَ يَنْفِرُ فَلَا حَجَّ لَهُ .
وَقَالَ أَيْضًا : حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ عَنْ عُمَرَ قَالَ : مَنْ قَدَّمَ ثَقَلَهُ قَبْلَ النَّفْرِ فَلَا حَجَّ لَهُ ا هـ : يَعْنِيَ الْكَمَالَ

قَالَ ( وَيُكْرَهُ أَنْ يُقَدِّمَ الرَّجُلُ ثِقَلَهُ إلَى مَكَّةَ وَيُقِيمَ حَتَّى يَرْمِيَ ) لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَمْنَعُ مِنْهُ وَيُؤَدِّبُ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّهُ يُوجِبُ شَغْلَ قَلْبِهِ ( وَإِذَا نَفَرَ إلَى مَكَّةَ نَزَلَ بِالْمُحَصَّبِ ) وَهُوَ الْأَبْطَحُ وَهُوَ اسْمُ مَوْضِعٍ قَدْ نَزَلَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ نُزُولُهُ قَصْدًا هُوَ الْأَصَحُّ حَتَّى يَكُونَ النُّزُولُ بِهِ سُنَّةً عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ { إنَّا نَازِلُونَ غَدًا بِالْخَيْفِ خَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمَ الْمُشْرِكُونَ فِيهِ عَلَى شِرْكِهِمْ } يُشِيرُ إلَى عَهْدِهِمْ عَلَى هِجْرَانِ بَنِي هَاشِم فَعَرَفْنَا أَنَّهُ نَزَلَ بِهِ إرَاءَةً لِلْمُشْرِكَيْنِ لَطِيفُ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ ، فَصَارَ سُنَّةً كَالرَّمَلِ فِي الطَّوَافِ .

( قَوْلُهُ وَهُوَ الْأَبْطَحُ ) قَالَ فِي الْإِمَامِ : وَهُوَ مَوْضِعٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَمِنًى وَهُوَ إلَى مِنًى أَقْرَبُ ، وَهَذَا لَا تَحْرِيرَ فِيهِ .
وَقَالَ غَيْرُهُ : هُوَ فِنَاءُ مَكَّةَ حَدُّهُ مَا بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ الْمُتَّصِلِينَ بِالْمَقَابِرِ إلَى الْجِبَالِ الْمُقَابِلَةِ لِذَلِكَ مُصْعِدًا فِي الشِّقِّ الْأَيْسَرِ وَأَنْتَ ذَاهِبٌ إلَى مِنًى مُرْتَفِعًا مِنْ بَطْنِ الْوَادِي ، وَلَيْسَتْ الْمَقْبَرَةُ مِنْ الْمُحَصَّبِ ، وَيُصَلِّي فِيهِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ ، وَيَهْجَعُ هَجْعَةً ثُمَّ يَدْخُلُ مَكَّةَ ( قَوْلُهُ هُوَ الْأَصَحُّ ) يُحْتَرَزُ بِهِ عَنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ : لَمْ يَكُنْ قَصْدًا فَلَا يَكُونُ سُنَّةً لِمَا أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : لَيْسَ الْمُحَصَّبُ بِشَيْءٍ إنَّمَا هُوَ مَنْزِلٌ نَزَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ قَالَ : " لَمْ يَأْمُرْنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَنْزِلَ الْأَبْطَحَ حِينَ خَرَجَ مِنْ مِنًى ، وَلَكِنْ جِئْت وَضَرَبْت قُبَّتَهُ فَجَاءَ فَنَزَلَ " .
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهُ قَصَدَهُ وَلَيْسَ بِسُنَّةٍ لِأَنَّهُ قَصَدَهُ لِمَعْنَى التَّسْهِيلِ .
رَوَى السِّتَّةُ عَنْهَا قَالَتْ : { إنَّمَا نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُحَصَّبَ } لِيَكُونَ أَسْمَحَ لِخُرُوجِهِ وَلَيْسَ بِسُنَّةٍ فَمَنْ شَاءَ نَزَلَهُ وَمَنْ شَاءَ لَمْ يَنْزِلْهُ .
وَجْهُ الْمُخْتَارِ مَا نَقَلَهُ الْمُصَنِّفُ وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ الْجَمَاعَةُ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ : { قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ تَنْزِلُ غَدًا فِي حَجَّتِهِ ؟ فَقَالَ : هَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مَنْزِلًا ؟ قَالَ : نَحْنُ نَازِلُونَ بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمَتْ قُرَيْشٌ عَلَى الْكُفْرِ : يَعْنِي الْمُحَصَّبَ } الْحَدِيثَ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ بِمِنًى نَحْنُ نَازِلُونَ غَدًا بِخَيْفِ

بَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ } وَذَلِكَ أَنَّ قُرَيْشًا وَبَنِي كِنَانَةَ تَحَالَفَتْ عَلَى بَنِي الْمُطَّلِبِ أَنْ لَا يُنَاكِحُوهُمْ وَلَا يُبَايِعُوهُمْ حَتَّى يُسَلِّمُوا إلَيْهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَعْنِي بِذَلِكَ الْمُحَصَّبَ ا هـ .
فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّهُ نَزَلَهُ قَصْدًا لِيَرَى لَطِيفَ صُنْعِ اللَّهِ بِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ فِيهِ نِعْمَتَهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ عِنْدَ مُقَايَسَةِ نُزُولِهِ بِهِ الْآنَ إلَى حَالِهِ قَبْلَ ذَلِكَ : أَعْنِي حَالَ انْحِصَارِهِ مِنْ الْكُفَّارِ فِي ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَهَذَا أَمْرٌ يَرْجِعُ إلَى مَعْنَى الْعِبَادَةِ ، ثُمَّ هَذِهِ النِّعْمَةُ الَّتِي شَمِلَتْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ النَّصْرِ وَالِاقْتِدَارِ عَلَى إقَامَةِ التَّوْحِيدِ وَتَقْرِيرِ قَوَاعِدِ الْوَضْعِ الْإِلَهِيِّ الَّذِي دَعَا اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ عِبَادَهُ لِيَنْتَفِعُوا بِهِ فِي دُنْيَاهُمْ وَمَعَادِهِمْ لَا شَكَّ فِي أَنَّهَا النِّعْمَةُ الْعُظْمَى عَلَى أُمَّتِهِ لِأَنَّهُمْ مَظَاهِرُ الْمَقْصُودِ مِنْ ذَلِكَ الْمُؤَزَّرُ ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَدِيرٌ بِتَفَكُّرِهَا وَالشُّكْرِ التَّامِّ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا عَلَيْهِ أَيْضًا فَكَانَ سُنَّةً فِي حَقِّهِمْ لِأَنَّ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِي ذَلِكَ يَتَحَقَّقُ فِي حَقِّهِمْ أَيْضًا .
وَعَنْ هَذَا حَصَّبَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ .
أَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانُوا يَنْزِلُونَ بِالْأَبْطَحِ } وَأَخْرَجَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ كَانَ يَرَى التَّحَصُّبَ سُنَّةً وَكَانَ يُصَلِّي الظُّهْرَ يَوْمَ النَّفْرِ بِالْمُحَصَّبِ ، قَالَ نَافِعٌ : قَدْ حَصَّبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ ا هـ .
وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يَكُونُ كَالرَّمَلِ ، وَلَا عَلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْإِرَاءَةَ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يُرَادَ بِهَا إرَاءَةُ الْمُشْرِكِينَ وَلَمْ يَكُنْ بِمَكَّةَ مُشْرِكٌ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ .
بَلْ الْمُرَادُ إرَاءَةُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ كَانَ لَهُمْ

عِلْمٌ بِالْحَالِ الْأَوَّلِ

قَالَ ( ثُمَّ دَخَلَ مَكَّةَ وَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ لَا يَرْمُلُ فِيهَا وَهَذَا طَوَافُ الصَّدْرِ ) وَيُسَمَّى طَوَافَ الْوَدَاعِ وَطَوَافٌ آخَرُ عَهِدَهُ بِالْبَيْتِ لِأَنَّهُ يُوَدِّعُ الْبَيْتَ وَيَصْدُرُ بِهِ ( وَهُوَ وَاجِبٌ عِنْدَنَا ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلْيَكُنْ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ الطَّوَافَ } وَرَخَّصَ لِلنِّسَاءِ الْحُيَّضِ تَرْكَهُ .
قَالَ ( إلَّا عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ ) لِأَنَّهُمْ لَا يُصْدَرُونَ وَلَا يُوَدِّعُونَ ، وَلَا رَمَلَ فِيهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ شُرِعَ مَرَّةً وَاحِدَةً .
وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ بَعْدَهُ لِمَا قَدَّمْنَا

( قَوْلُهُ لِأَنَّهُ يُوَدِّعُ الْبَيْتَ ) وَلِهَذَا كَانَ الْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْعَلَهُ آخِرَ طَوَافِهِ .
وَفِي الْكَافِي لِلْحَاكِمِ : وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُقِيمَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا شَاءَ ، وَلَكِنَّ الْأَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ طَوَافُهُ حِينَ يَخْرُجُ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَالْحَسَنِ : إذَا اشْتَغَلَ بَعْدَهُ بِعَمَلٍ بِمَكَّة يُعِيدُهُ لِأَنَّهُ لِلصَّدَرِ ، وَإِنَّمَا يَعْتَدُّ بِهِ إذَا فَعَلَهُ حِينَ يَصْدُرُ .
وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ إنَّمَا قَدِمَ مَكَّةَ لِلنُّسُكِ ، فَحِينَ تَمَّ فَرَاغُهُ مِنْهُ جَاءَ أَوَانُ الصَّدَرِ فَطَوَافُهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ لَهُ إذَا الْحَالُ أَنَّهُ عَلَى عَزْمِ الرُّجُوعِ .
نَعَمْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إذَا طَافَ لِلصَّدَرِ ثُمَّ أَقَامَ إلَى الْعِشَاءِ قَالَ : أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَطُوفَ طَوَافًا آخَرَ كَيْ لَا يَكُونَ بَيْنَ طَوَافِهِ وَنَفْرِهِ حَائِلٌ ، لَكِنَّ هَذَا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْبَابِ تَحْصِيلًا لِمَفْهُومِ الِاسْمِ عَقِيبَ مَا أُضِيفَ إلَيْهِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِحَتْمٍ إذْ لَا يُسْتَغْرَبُ فِي الْعُرْفِ تَأْخِيرُ السَّفَرِ عَنْ الْوَدَاعِ بَلْ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ فِيهِ أَنْ يُوقِعَ عِنْدَ إرَادَةِ السَّفَرِ ، وَأَمَّا وَقْتُهُ عَلَى التَّعْيِينِ فَأَوَّلُهُ بَعْدَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ إذَا كَانَ عَلَى عَزْمِ السَّفَرِ ، حَتَّى لَوْ طَافَ لِذَلِكَ ثُمَّ أَطَالَ الْإِقَامَةَ بِمَكَّةَ وَلَوْ سَنَةً وَلَمْ يَنْوِ الْإِقَامَةَ بِهَا وَلَمْ يَتَّخِذْهَا دَارًا جَازَ طَوَافُهُ وَلَا آخِرَ لَهُ وَهُوَ مُقِيمٌ ، بَلْ لَوْ أَقَامَ عَامًا لَا يَنْوِي الْإِقَامَةَ فَلَهُ أَنْ يَطُوفَهُ وَيَقَعُ أَدَاءً .
وَلَوْ نَفَرَ وَلَمْ يَطُفْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ فَيَطُوفَهُ مَا لَمْ يُجَاوِزْ الْمَوَاقِيتَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ جَدِيدٍ ، فَإِنْ جَاوَزَهَا لَمْ يَجِبْ الرُّجُوعُ عَيْنًا ، بَلْ إمَّا أَنْ يَمْضِيَ وَعَلَيْهِ دَمٌ ، وَإِمَّا أَنْ يَرْجِعَ فَيَرْجِعَ بِإِحْرَامٍ جَدِيدٍ لِأَنَّ الْمِيقَاتَ لَا يُجَاوَزُ بِلَا إحْرَامٍ فَيُحْرِمَ بِعُمْرَةٍ ، فَإِذَا رَجَعَ ابْتَدَأَ بِطَوَافِ الْعُمْرَةِ ثُمَّ بِطَوَافِ الصَّدَرِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ

لِتَأْخِيرِهِ وَقَالُوا : الْأَوْلَى أَنْ لَا يَرْجِعَ وَيُرِيقَ دَمًا لِأَنَّهُ أَنْفَعُ لِلْفُقَرَاءِ وَأَيْسَرُ عَلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ دَفْعِ ضَرَرِ الْتِزَامِ الْإِحْرَامِ وَمَشَقَّةِ الطَّرِيقِ ( قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ) أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ حَجَّ الْبَيْتَ فَلْيَكُنْ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ ، إلَّا الْحُيَّضَ فَرَخَّصَ لَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } قَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ إلَّا أَنَّهُ خُفِّفَ عَنْ الْمَرْأَةِ الْحَائِضِ } لَا يُقَالُ : أَمْرُ نَدْبٍ بِقَرِينَةِ الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْوَدَاعُ .
لِأَنَّا نَقُولُ : لَيْسَ هَذَا يَصْلُحُ صَارِفًا عَنْ الْوُجُوبِ لِجَوَازِ أَنْ يُطْلَبَ حَتْمًا لِمَا فِي عَدَمِهِ مِنْ شَائِبَةِ عَدَمِ التَّأَسُّفِ عَلَى الْفِرَاقِ ، وَشِبْهِ عَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِهِ عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْوَدَاعِ لَيْسَ مَذْكُورًا فِي النُّصُوصِ ، بَلْ أَنْ يُجْعَلَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بِالطَّوَافِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُولًا بِغَيْرِهِ مِمَّا لَمْ نَقِفْ عَلَيْهِ ، وَلَوْ سَلِمَ فَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ دَلَالَةُ الْقَرِينَةِ إذَا لَمْ يَفْقَهَا مَا يَقْتَضِي خِلَافَ مُقْتَضَاهَا ، وَهُنَا كَذَلِكَ فَإِنَّ لَفْظَ التَّرْخِيصِ يُفِيدُ أَنَّهُ حَتْمٌ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يُرَخَّصْ لَهُ لِأَنَّ مَعْنَى عَدَمِ التَّرْخِيصِ فِي الشَّيْءِ هُوَ تَحْتِيمُ طَلَبِهِ إذْ التَّرْخِيصُ فِيهِ هُوَ إطْلَاقُ تَرْكِهِ فَعَدَمُهُ عَدَمُ إطْلَاقِ تَرْكِهِ ، وَمِمَّا يُفِيدُ أَيْضًا أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى حَقِيقَتِهِ مِنْ الْوُجُوبِ مَا وَقَعَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ { كَانَ النَّاسُ يَنْصَرِفُونَ فِي كُلِّ وَجْهٍ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا يَنْصَرِفَنَّ أَحَدٌ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ } فَهَذَا النَّهْيُ وَقَعَ مُؤَكَّدًا بِالنُّونِ الثَّقِيلَةِ ، وَهُوَ يُؤَكِّدُ مَوْضُوعَ اللَّفْظِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ ( قَوْلُهُ وَلَيْسَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ )

وَمَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمِيقَاتِ وَكَذَا مَنْ اتَّخَذَ مَكَّةَ دَارًا ثُمَّ بَدَا لَهُ الْخُرُوجُ لَيْسَ عَلَيْهِمْ طَوَافُ صَدَرٍ ، وَكَذَا فَائِتُ الْحَجِّ لِأَنَّ الْعَوْدَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّهُ صَارَ كَالْمُعْتَمِرِ ، وَلَيْسَ عَلَى الْمُعْتَمِر طَوَافُ الصَّدَرِ ذَكَرَهُ فِي التُّحْفَةِ .
وَفِي إثْبَاتِهِ عَلَى الْمُعْتَمِرِ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ .
وَفِي الْبَدَائِعِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَطُوفَ الْمَكِّيُّ طَوَافَ الصَّدَرِ لِأَنَّهُ وُضِعَ لِخَتْمِ أَفْعَالِ الْحَجِّ ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُوجَدُ فِي أَهْلِ مَكَّةَ .
وَفَصَلَ فِيمَنْ اتَّخَذَ مَكَّةَ دَارًا بَيْنَ إنْ نَوَى الْإِقَامَةَ بِهَا قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ النَّفْرُ الْأَوَّلُ فَلَا طَوَافَ عَلَيْهِ لِلصَّدَرِ ، وَإِنْ نَوَاهُ بَعْدَهُ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَسْقُطُ عَنْهُ فِي الْحَالَيْنِ إلَّا إذَا كَانَ شَرَعَ فِيهِ

( ثُمَّ يَأْتِي زَمْزَمَ فَيَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا ) لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اسْتَقَى دَلْوًا بِنَفْسِهِ فَشَرِبَ مِنْهُ ثُمَّ أَفْرَغَ بَاقِيَ الدَّلْوِ فِي الْبِئْرِ } وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَأْتِيَ الْبَابَ وَيُقَبِّلُ الْعَتَبَةَ ( ثُمَّ يَأْتِي الْمُلْتَزَمَ ، وَهُوَ مَا بَيْنَ الْحَجَرِ إلَى الْبَابِ فَيَضَعُ صَدْرَهُ وَوَجْهَهُ عَلَيْهِ وَيَتَشَبَّثُ بِالْأَسْتَارِ سَاعَةً ثُمَّ يَعُودُ إلَى أَهْلِهِ ) هَكَذَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَعَلَ بِالْمُلْتَزَمِ ذَلِكَ .
قَالُوا : وَيَنْبَغِي أَنْ يَنْصَرِفَ وَهُوَ يَمْشِي وَرَاءَهُ وَوَجْهُهُ إلَى الْبَيْتِ مُتَبَاكِيًا مُتَحَسِّرًا عَلَى فِرَاقِ الْبَيْتِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ .
فَهَذَا بَيَانُ تَمَامِ الْحَجِّ .

( قَوْلُهُ وَيَأْتِي زَمْزَمَ ) أَيْ بَعْدَ تَقْبِيلِ الْعَتَبَةِ وَالْتِزَامِ الْمُلْتَزَمِ فَيَشْرَبُ مِنْهُ وَيُفْرِغُ عَلَى جَسَدِهِ بَاقِيَ الدَّلْوِ وَيَقُولُ : اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك رِزْقًا وَاسِعًا وَعِلْمًا نَافِعًا وَشِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ كَذَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَسَنَضُمُّ إلَى هَذَا مَا يَتَيَسَّرُ مِنْ قَرِيبٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ رَاجِعًا إلَى أَهْلِهِ مُقَهْقِرًا .
وَإِذَا خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ يَخْرُجُ مِنْ الثَّنِيَّةِ السُّفْلَى مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ لِمَا رَوَى الْجَمَاعَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَدْخُلُ مِنْ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا وَيَخْرُجُ مِنْ الثَّنِيَّةِ السُّفْلَى } ( قَوْلُهُ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اسْتَقَى } إلَخْ ) الَّذِي فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ يُفِيدُ أَنَّهُمْ نَزَعُوا لَهُ كَذَا فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ وَمُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى زَمْزَمَ فَنَزَعْنَا لَهُ دَلْوًا فَشَرِبَ ثُمَّ مَجَّ فِيهَا ثُمَّ أَفْرَغْنَاهَا فِي زَمْزَمَ .
ثُمَّ قَالَ : لَوْلَا أَنْ تُغْلَبُوا عَلَيْهَا لَنَزَعْتُ بِيَدِي } وَمَا رَوَاهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اسْتَقَى بِنَفْسِهِ دَلْوًا رَوَاهُ فِي كِتَابِ الطَّبَقَاتِ مُرْسَلًا .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا أَفَاضَ نَزَعَ بِالدَّلْوِ : يَعْنِي مِنْ زَمْزَمَ لَمْ يَنْزِعْ مَعَهُ أَحَدٌ ، فَشَرِبَ ثُمَّ أَفْرَغَ بَاقِيَ الدَّلْوِ فِي الْبِئْرِ وَقَالَ : لَوْلَا أَنْ يَغْلِبَكُمْ النَّاسُ عَلَى سِقَايَتِكُمْ لَمْ يَنْزِعْ مِنْهَا أَحَدٌ غَيْرِي ، قَالَ : فَنَزَعَ هُوَ بِنَفْسِهِ الدَّلْوَ فَشَرِبَ مِنْهَا لَمْ يُعِنْهُ عَلَى نَزْعِهَا أَحَدٌ } وَقَدْ يُجْمَعُ بِأَنَّ مَا فِي هَذَا كَانَ بِعَقِبِ طَوَافِ الْوَدَاعِ ، وَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَا مَعَهُ كَانَ عَقِيبَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ ، وَلَفْظُهُ

ظَاهِرٌ فِيهِ حَيْثُ قَالَ { فَأَفَاضَ إلَى الْبَيْتِ فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ ، فَأَتَى بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَسْقُونَ عَلَى زَمْزَمَ فَقَالَ : انْزِعُوا } الْحَدِيثَ .
وَطَوَافُهُ لِلْوَدَاعِ كَانَ لَيْلًا كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ ، وَرَقَدَ رَقْدَةً بِالْمُحَصَّبِ ثُمَّ رَكِبَ إلَى الْبَيْتِ فَطَافَ بِهِ } وَلَكِنْ قَدْ يُعَكِّرُهُ مَا رَوَاهُ الْأَزْرَقِيُّ فِي تَارِيخِ مَكَّةَ : حَدَّثَنِي جَدِّي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْوَلِيدِ الْأَزْرَقِيِّ ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفَاضَ فِي نِسَائِهِ لَيْلًا فَطَافَ عَلَى رَاحِلَتِهِ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنِهِ وَيُقَبِّلُ طَرَفَ الْمِحْجَنِ ، ثُمَّ أَتَى زَمْزَمَ فَقَالَ : انْزِعُوا ، فَلَوْلَا أَنْ تُغْلَبُوا لَنَزَعْتُ مَعَكُمْ ثُمَّ أَمَرَ بِدَلْوٍ فَنُزِعَ لَهُ مِنْهَا فَشَرِبَ } الْحَدِيثَ ، إلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّ أَزْوَاجَهُ أَفَضْنَ لِطَوَافِ الْإِفَاضَةِ لَيْلًا فَمَضَى مَعَهُنَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
( فَصْلٌ فِي فَضْلِ مَاءٍ زَمْزَمَ ، تَكْثِيرًا لِلْفَائِدَةِ وَتَرْغِيبًا لِلْعَابِدِينَ ) عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خَيْرُ مَاءٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مَاءُ زَمْزَمَ ، فِيهِ طَعَامُ طُعْمٍ وَشِفَاءُ سَقَمٍ ، وَشَرُّ مَاءٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مَاءٌ بِوَادِي بَرَهُوتَ بِقُبَّةِ حَضْرَمَوْتَ كَرِجْلِ الْجَرَادِ يُصْبِحُ يَتَدَفَّقُ وَتُمْسِي لَا بِلَالَ فِيهَا } رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ ، وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ ، وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ أَيْضًا .
وَبَرَهُوتُ بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَالرَّاءِ وَضَمِّ الْهَاءِ وَآخِرُهُ تَاءٌ مُثَنَّاةٌ .
وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { زَمْزَمُ طَعَامُ طُعْمٍ

وَشِفَاءُ سَقَمٍ } رَوَاهُ الْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ .
وَطُعْمٌ بِضَمِّ الطَّاءِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ : أَيْ طَعَامٌ يُشْبِعُ .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " كُنَّا نُسَمِّيهَا شُبَاعَةَ : يَعْنِي زَمْزَمَ ، وَكُنَّا نَجِدُهَا نِعْمَ الْعَوْنِ عَلَى الْعِيَالِ " رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَيْضًا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ ، إنْ شَرِبْتَهُ تَسْتَشْفِي شَفَاكَ اللَّهُ ، وَإِنْ شَرِبْتَهُ لِشِبَعِكَ أَشْبَعَكَ اللَّهُ ، وَإِنْ شَرِبْتَهُ لِقَطْعِ ظَمَئِكَ قَطَعَهُ اللَّهُ ، وَهِيَ هَزْمَةُ جِبْرِيلَ وَسُقْيَا اللَّهِ إسْمَاعِيلَ } رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَسَكَتَ عَنْهُ مَعَ أَنَّ شَيْخَهُ فِيهِ عُمَرُ بْنُ حَسَنِ الْأُشْنَانِيُّ ، تَأَثَّمَهُ الذَّهَبِيُّ فِي الْمِيزَانِ بِسُكُوتِهِ مَعَ أَنَّ ابْنَ الْحَسَنِ الْأُشْنَانِيَّ الْقَاضِي أَبَا الْحُسَيْنِ ضَعَّفَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ ، وَجَاءَ عَنْهُ أَنَّهُ كَذَّبَهُ وَلَهُ بَلَايَا قَالَ : وَهُوَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ بَاطِلٌ لَمْ يَرْوِهِ ابْنُ عُيَيْنَةَ ، بَلْ الْمَعْرُوفُ حَدِيثُ جَابِرٍ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُؤَمَّلِ .
وَدُفِعَ بِأَنَّ الْأُشْنَانِيَّ لَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ حَتَّى يُلْزِمَ الدَّارَقُطْنِيّ شَرْحَ حَالِهِ ، وَقَدْ سَلِمَ الذَّهَبِيُّ ثِقَةً مِنْ بَيْنِ الْأُشْنَانِيِّ وَابْنِ عُيَيْنَةَ وَلِهَذَا انْحَصَرَ الْقَدْحُ عَنْهُ فِيهِ ، لَكِنْ قَدْ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ قَالَ : حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَمْشَادٍ الْعَدْلُ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هِشَامٍ بِهِ ، وَزَادَ فِيهِ { وَإِنْ شَرِبْتَهُ مُسْتَعِيذًا أَعَاذَك اللَّهُ } قَالَ : وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا شَرِبَ مَاءَ زَمْزَمَ قَالَ : اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك عِلْمًا نَافِعًا وَشِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ .
وَقَالَ : صَحِيحُ الْإِسْنَادِ إنْ سَلِمَ مِنْ الْجَارُودِ ، وَقِيلَ قَدْ سَلِمَ مِنْهُ فَإِنَّهُ صَدُوقٌ .
وَقَالَ الْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ وَالْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ : لَكِنَّ الرَّاوِيَ مُحَمَّدَ بْنَ هِشَامٍ

الْمَرْوَزِيِّ لَا أَعْرِفُهُ ا هـ .
وَقَالَ غَيْرُهُ مِمَّنْ يُوثَقُ بِسَعَةِ حَالِهِ وَهُوَ قَاضِي الْقُضَاةِ شِهَابُ الدِّينِ الْعَسْقَلَانِيُّ هُوَ ابْنُ حَجَرٍ عَلِيُّ بْنُ حَمْشَادٍ مِنْ الْأَثْبَاتِ ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ أَوَّلَ الْحُرُوفِ ثُمَّ مِيمٌ سَاكِنَةٌ بَعْدَهَا شِينٌ مُعْجَمَةٌ ، وَشَيْخُهُ مُحَمَّدُ بْنُ هِشَامٍ ثِقَةٌ .
وَالْهَزْمَةُ بِفَتْحِ الْهَاءِ : أَنْ تَغْمُرَ مَوْضِعًا بِيَدِك أَوْ رِجْلِك فَيَصِيرَ .
فِيهِ حُفْرَةٌ ، فَقَدْ ثَبَتَ صِحَّةُ هَذَا الْحَدِيثِ إلَّا مَا قِيلَ إنَّ الْجَارُودَ تَفَرَّدَ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ بِوَصْلِهِ ، وَمِثْلُهُ لَا يُحْتَجُّ بِهِ إذَا انْفَرَدَ فَكَيْفَ إذَا خَالَفَ ؟ وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ وَابْنِ أَبِي عُمَرَ وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ لَازَمَ ابْنَ عُيَيْنَةَ أَكْثَرَ مِنْ الْجَارُودِ فَيَكُونُ أَوْلَى .
وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِي نَحْتَاجُ إلَيْهِ الْحُكْمُ بِصِحَّةِ الْمَتْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَا عَلَيْنَا كَوْنُهُ مِنْ خُصُوصِ طَرِيقٍ بِعَيْنِهِ .
وَهُنَا أُمُورٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ : مِنْهَا أَنَّ مِثْلَهُ لَا مَجَالَ لِلرَّأْيِ فِيهِ فَوَجَبَ كَوْنُهُ سَمَاعًا ، وَكَذَا إنْ قُلْنَا الْعِبْرَةُ فِي تَعَارُضِ الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ وَالْإِرْسَالِ لِلْوَاصِلِ بَعْدَ كَوْنِهِ ثِقَةً لَا لِلْأَحْفَظِ وَلَا غَيْرِهِ ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ صَحَّ تَصْحِيحُ نَفْسِ ابْنِ عُيَيْنَةَ لَهُ فِي ضِمْنِ حِكَايَةٍ حَكَاهَا أَبُو بَكْرٍ الدِّينَوَرِيُّ فِي الْجُزْءِ الرَّابِعِ مِنْ الْمُجَالَسَةِ قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ قَالَ : كُنَّا عِنْدَ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ فَحَدَّثَنَا بِحَدِيثِ { مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ } فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الْمَجْلِسِ ثُمَّ عَادَ فَقَالَ : يَا أَبَا مُحَمَّدٍ أَلَيْسَ الْحَدِيثُ الَّذِي قَدْ حَدَّثَتْنَا فِي مَاءِ زَمْزَمَ صَحِيحًا ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ الرَّجُلُ : فَإِنِّي شَرِبْت الْآنَ دَلْوًا مِنْ زَمْزَمَ عَلَى أَنَّك تُحَدِّثُنِي بِمِائَةِ حَدِيثٍ ، فَقَالَ لَهُ سُفْيَانُ : اُقْعُدْ فَقَعَدَ فَحَدَّثَ بِمِائَةِ حَدِيثٍ .
فَبِجَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا لَا

يُشَكُّ بَعْدُ فِي صِحَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ سَوَاءٌ كَانَ عَلَى اعْتِبَارِهِ مَوْصُولًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَوْ حُكْمًا بِصِحَّةِ الْمُرْسَلِ لِمَجِيئِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مِمَّا سَنَذْكُرُهُ ، أَوْ حُكْمًا بِأَنَّهُ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِسَبَبِ أَنَّهُ مِمَّا لَا يُدْرَكُ بِالرَّأْيِ .
وَأَعْنِي بِالْمُرْسَلِ ذَلِكَ الْمَوْقُوفَ عَلَى مُجَاهِدٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ لَا مَجَالَ لِلرَّأْيِ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ مُجَاهِدٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَعَلَى مَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ فِي السُّنَنِ كَذَلِكَ .
وَأَمَّا مَجِيئُهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ، فَرَوَى أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُؤَمَّلِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا الزُّبَيْرِ يَقُولُ : سَمِعْت جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ } هَذَا لَفْظُهُ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ وَلَفْظُهُ عِنْدَ أَحْمَدَ { مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ مِنْهُ } وَقَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ : وَهَذَا إسْنَادٌ حَسَنٌ ، وَإِنَّمَا حَسَّنَهُ مَعَ أَنَّهُ ذَكَرَ لَهُ عِلَّتَانِ ضَعْفُ ابْنِ الْمُؤَمَّلِ وَكَوْنُ الرَّاوِي عَنْهُ فِي مُسْنَدِ ابْنِ مَاجَهْ الْوَلِيدَ بْنَ مُسْلِمٍ وَهُوَ يُدَلِّسُ وَقَدْ عَنْعَنَهُ لِأَنَّ ابْنَ الْمُؤَمَّلِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ ، وَاخْتَلَفَ فِيهِ قَوْلُ ابْنِ مَعِينٍ قَالَ مَرَّةً ضَعِيفٌ ، وَقَالَ مَرَّةً لَا بَأْسَ بِهِ ، وَقَالَ مَرَّةً صَالِحٌ .
وَمَنْ ضَعَّفَهُ فَإِنَّمَا ضَعَّفَهُ مِنْ جِهَةِ حِفْظِهِ كَقَوْلِ أَبِي زُرْعَةَ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَأَبِي حَاتِمٍ فِيهِ : لَيْسَ بِقَوِيٍّ ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : سَيِّئُ الْحِفْظِ مَا عِلْمنَا فِيهِ مَا يُسْقِطُ عَدَالَتَهُ ، فَهُوَ حِينَئِذٍ مِمَّنْ يُعْتَبَرُ بِحَدِيثِهِ ، وَإِذَا جَاءَ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِهِ صَارَ حَسَنًا ، وَلَا شَكَّ فِي مَجِيءِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ كَذَلِكَ .
وَأَمَّا الْعِلَّةُ الثَّانِيَةُ فَمُنْتَفِيَةٌ ، فَإِنَّ الْحَدِيثَ مَعْرُوفٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ

بْنِ الْمُؤَمَّلِ مِنْ غَيْرِ رِوَايَةِ الْوَلِيدِ فَإِنَّهُ فِي رِوَايَةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ هَكَذَا : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْوَلِيدِ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُؤَمَّلِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ إلَخْ ، فَقَدْ ثَبَتَ حُسْنُهُ مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ ، فَإِذَا انْضَمَّ إلَيْهِ مَا قَدَّمْنَاهُ حُكِمَ بِصِحَّتِهِ .
وَفِي فَوَائِدِ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْمُقْرِي مِنْ طَرِيقِ سُوَيْد بْنِ سَعِيدٍ الْمَذْكُورِ قَالَ : رَأَيْت ابْنَ الْمُبَارَكِ دَخَلَ زَمْزَمَ فَقَالَ : اللَّهُمَّ إنَّ ابْنَ الْمُؤَمَّلِ حَدَّثَنِي عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ اللَّهُمَّ فَإِنِّي أَشْرَبُهُ لِعَطَشِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ } .
وَمَا عَنْ سُوَيْد عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّهُ قَالَ : اللَّهُمَّ إنَّ ابْنَ الْمُؤَمَّلِ حَدَّثَنَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ مَحْكُومٌ بِانْقِلَابِهِ عَلَى سُوَيْد فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ بَلْ الْمَعْرُوفُ فِي السَّنَدِ الْأَوَّلِ .
وَهَذِهِ زِيَادَاتٌ عَنْ السَّائِبِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : { اشْرَبُوا مِنْ سِقَايَةِ الْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ مِنْ السُّنَّةِ } .
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَفِيهِ رَجُلٌ مَجْهُولٌ .
وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُمْ شَرِبُوهُ لِمَقَاصِدَ فَحَصَلَتْ ، فَمِنْهُمْ صَاحِبُ ابْنِ عُيَيْنَةَ الْمُتَقَدِّمُ .
وَعَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ شَرِبَهُ لِلرَّمْيِ فَكَانَ يُصِيبُ فِي كُلِّ عَشَرَةٍ تِسْعَةً ، وَشَرِبَهُ الْحَاكِمُ لِحُسْنِ التَّصْنِيفِ وَلِغَيْرِ ذَلِكَ فَكَانَ أَحْسَنَ أَهْلِ عَصْرِهِ تَصْنِيفًا .
قَالَ شَيْخُنَا قَاضِي الْقُضَاةِ شِهَابُ الدِّينِ الْعَسْقَلَانِيُّ الشَّافِعِيُّ .
وَلَا يُحْصَى كَمْ شَرِبَهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ لِأُمُورٍ نَالُوهَا ، قَالَ : وَأَنَا شَرِبْته فِي بِدَايَةِ طَلَبِ الْحَدِيثِ أَنْ يَرْزُقَنِي اللَّهُ حَالَةَ الذَّهَبِيِّ فِي حِفْظِ الْحَدِيثِ ، ثُمَّ حَجَجْت بَعْدَ مُدَّةٍ تَقْرُبُ مِنْ عِشْرِينَ سَنَةً وَأَنَا أَجِد مِنْ نَفْسِي الْمَزِيدَ عَلَى تِلْكَ الرُّتْبَةِ ، فَسَأَلْت رُتْبَةً أَعْلَى مِنْهَا وَأَرْجُو

اللَّهَ أَنْ أَنَالَ ذَلِكَ مِنْهُ ا هـ .
وَجَمِيعُ مَا تَضَمَّنَهُ هَذَا الْفَصْلُ غَالِبُهُ مِنْ كَلَامِهِ وَقَلِيلٌ مِنْهُ مِنْ كَلَامِ الْحَافِظِ عَبْدِ الْعَظِيمِ الْمُنْذِرِيِّ ، وَالْعَبْدُ الضَّعِيفُ يَرْجُو اللَّهَ سُبْحَانَهُ شَرِبَهُ لِلِاسْتِقَامَةِ وَالْوَفَاةِ عَلَى حَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ مَعَهَا ( قَوْلُهُ هَكَذَا رُوِيَ ) رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ عَمْرٍو بْنِ شُعَيْبٍ قَالَ : { طُفْتُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ ، فَلَمَّا جِئْنَا دُبُرَ الْكَعْبَةِ قُلْتُ : أَلَا تَتَعَوَّذُ ؟ قَالَ : أَتَعَوَّذُ بِاَللَّهِ مِنْ النَّارِ ، ثُمَّ مَضَى حَتَّى اسْتَلَمَ الْحَجَرَ وَقَامَ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْبَابِ ، فَوَضَعَ صَدْرَهُ وَوَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ وَكَفَّيْهِ هَكَذَا ، وَبَسَطَهُمَا بَسْطًا ثُمَّ قَالَ : هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ } .
وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَقَالَ فِيهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ : فَيَكُونُ شُعَيْبٌ وَمُحَمَّدٌ قَدْ طَافَا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ ا هـ .
وَهُوَ مُضَعَّفٌ بِالْمُثَنَّى بْنِ الصَّبَّاحِ ، وَالْمُرَادُ بِعَبْدِ اللَّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ جَدِّ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ الْأَعْلَى ، صَرَّحَ بِتَسْمِيَتِهِ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي رِوَايَتِهِ بِسَنَدٍ أَجْوَدَ مِنْهُ .
وَأَمَّا تَعْيِينُ مَحَلِّ الْمُلْتَزَمِ فَأَسْنَدَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَا بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْبَابِ مُلْتَزَمٌ } وَأَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ عَنْ عَبَّادِ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَرْفُوعًا ، وَوَقَفَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ : حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : هَذَا الْمُلْتَزَمُ مَا بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْبَابِ ، وَكَذَا هُوَ فِي الْمُوَطَّإِ بَلَاغًا ، وَلِمِثْلِهِ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ لِعَدَمِ اسْتِقْلَالِ الْعَقْلِ بِهِ ، هَذَا وَالْمُلْتَزَمُ مِنْ الْأَمَاكِنِ الَّتِي يُسْتَجَابُ فِيهَا الدُّعَاءُ نُقِلَ ذَلِكَ

عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : فَوَاَللَّهِ مَا دَعَوْت قَطُّ إلَّا أَجَابَنِي .
وَفِي رِسَالَةِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ الدُّعَاءَ مُسْتَجَابٌ هُنَاكَ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا : فِي الطَّوَافِ ، وَعِنْدَ الْمُلْتَزَمِ ، وَتَحْتَ الْمِيزَابِ ، وَفِي الْبَيْتِ ، وَعِنْدَ زَمْزَمَ ، وَخَلْفَ الْمَقَامِ ، وَعَلَى الصَّفَا ، وَعَلَى الْمَرْوَةِ ، وَفِي السَّعْيِ ، وَفِي عَرَفَاتٍ ، وَفِي مُزْدَلِفَةَ ، وَفِي مِنًى ، وَعِنْدَ الْجَمَرَاتِ .
وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّهُ يُسْتَجَابُ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْبَيْتِ وَفِي الْحَطِيمِ ، لَكِنَّ الثَّانِيَ هُوَ تَحْتَ الْمِيزَابِ ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْخُلَ الْبَيْتَ وَقَدْ قَدَّمْنَا آدَابَهُ فِي الْفُرُوعِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ فِي الطَّوَافِ فَارْجِعْ إلَيْهَا .

( فَصْلٌ ) ( فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ الْمُحْرِمُ مَكَّةَ وَتَوَجَّهَ إلَى عَرَفَاتٍ وَوَقَفَ بِهَا ) عَلَى مَا بَيَّنَّا ( سَقَطَ عَنْهُ طَوَافُ الْقُدُومِ ) لِأَنَّهُ شُرِعَ فِي ابْتِدَاءِ الْحَجِّ عَلَى وَجْهٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ سَائِرُ الْأَفْعَالِ ، فَلَا يَكُونُ الْإِتْيَانُ بِهِ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ الْوَجْهِ سُنَّةً ( وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ بِتَرْكِهِ ) لِأَنَّهُ سُنَّةٌ ، وَبِتَرْكِ السُّنَّةِ لَا يَجِبُ الْجَابِرُ
( فَصْلٌ ) حَاصِلُهُ مَسَائِلُ شَتَّى مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ هِيَ عَوَارِضُ خَارِجَةٌ عَنْ أَصْلِ التَّرْتِيبِ ، وَهِيَ تَتْلُو الصُّورَةَ السَّلِيمَةَ ، وَهِيَ مَا أَفَادَهُ مِنْ ابْتِدَاءِ الْحَجِّ بِقَوْلِهِ فَإِنْ كَانَ مُفْرِدًا نَوَى بِتَلْبِيَتِهِ الْحَجَّ ، إلَى أَنْ قَالَ : فَهَذَا بَيَانُ تَمَامِ الْحَجِّ

( وَمَنْ أَدْرَكَ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ مَا بَيْنَ زَوَالِ الشَّمْسِ مِنْ يَوْمِهَا إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ ) فَأَوَّلُ وَقْتِ الْوُقُوفِ بَعْدَ الزَّوَالِ عِنْدَنَا لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَفَ بَعْدَ الزَّوَالِ ، وَهَذَا بَيَانُ أَوَّلِ الْوَقْتِ .
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ بِلَيْلٍ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ ، وَمَنْ فَاتَهُ عَرَفَةُ بِلَيْلٍ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ } وَهَذَا بَيَانُ آخِرِ الْوَقْتِ .
وَمَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ كَانَ يَقُولُ : إنَّ أَوَّلَ وَقْتِهِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ أَوْ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَهُوَ مَحْجُوجٌ عَلَيْهِ بِمَا رَوَيْنَا ( ثُمَّ إذَا وَقَفَ بَعْدَ الزَّوَالِ وَأَفَاضَ مِنْ سَاعَتِهِ أَجْزَأَهُ ) عِنْدَنَا لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَهُ بِكَلِمَةٍ أَوْ فَإِنَّهُ قَالَ { الْحَجُّ عَرَفَةَ فَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ سَاعَةً مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ } وَهِيَ كَلِمَةُ التَّخْيِيرِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يُجْزِيهِ إلَّا أَنْ يَقِفَ فِي الْيَوْمِ وَجُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ ، وَلَكِنَّ الْحُجَّةَ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَاهُ

( قَوْلُهُ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَفَ بَعْد الزَّوَالِ } ) تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ ، وَقَالَ { مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ } إلَخْ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ بِلَيْلٍ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ ، وَمَنْ فَاتَهُ عَرَفَاتٌ بِلَيْلٍ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ ، فَلْيُحِلَّ بِعُمْرَةٍ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ } وَفِي سَنَدِهِ رَحْمَةُ بْنُ مُصْعَبٍ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ : وَلَمْ يَأْتِ بِهِ غَيْرُهُ وَفِي ذِكْرِ الْجُمْلَتَيْنِ مَعًا أَحَادِيثُ أُخَرُ لَمْ تَسْلَمْ ، وَأَخْرَجَهُ الْأَرْبَعَةُ مُقْتَصِرًا عَلَى الْجُمْلَةِ الْأُولَى عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمُرَ الدِّيلِيِّ { أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِعَرَفَةَ فَسَأَلُوهُ ، فَأَمَرَ مُنَادِيًا يُنَادِي : الْحَجُّ عَرَفَةَ ، فَمَنْ جَاءَ لَيْلَةَ جَمْعٍ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ } .
الْحَدِيثَ ، وَمَا أَظُنُّ أَنَّ فِي مَعْنَى الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ خِلَافًا بَيْنَ الْأَئِمَّةِ فَيُحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِهِ .
وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ هَذَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيّ فِي الصَّحَابَةِ وَرَوَى لَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ حَدِيثًا آخَرَ فِي النَّهْيِ عَنْ الْمُزَفَّتِ ، وَبِهِ بَطَلَ قَوْلُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ لَمْ يُرْوَ عَنْهُ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ ( قَوْلُهُ فَهُوَ مَحْجُوجٌ عَلَيْهِ بِمَا رَوَيْنَا ) حُجَّةُ مَالِك الْحَدِيثُ الَّذِي سَنَذْكُرُهُ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْحَجُّ عَرَفَةَ ، فَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ سَاعَةً مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ } وَتَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ عُرْوَةَ بْنَ مُضَرِّسٍ وَلَيْسَ فِيهِ لَفْظُ الْحَجُّ عَرَفَةَ ، وَهُوَ فِي حَدِيثِ الدِّيلِيِّ ، فَمَجْمُوعُ هَذَا اللَّفْظِ يَتَحَصَّلُ مِنْ مَجْمُوعِ الْحَدِيثَيْنِ .
وَحَاصِلُ حُجَّةِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ فِعْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ مِنْ الزَّوَالِ ، وَهُوَ وَقَعَ بَيَانًا لِوَقْتِ الْوُقُوفِ الَّذِي دَلَّتْ

الْإِشَارَةُ عَلَى افْتِرَاضِهِ فِي قَوْله تَعَالَى { فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ } وَعَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ : إنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ لَمْ يَثْبُتْ غَيْرُ ذَلِكَ الْفِعْلُ ، فَأَمَّا إذَا ثَبَتَ قَوْلٌ أَيْضًا فِيهِ يُصَرِّحُ بِأَنَّ وَقْتَهُ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى ذَلِكَ الْقَدْرِ عُرِفَ بِهِ أَنَّ فِعْلَهُ كَانَ بَيَانًا لِسُنَّةِ الْوُقُوفِ الْأَوْلَى فِيهِ ، وَيَثْبُتُ بِالْقَوْلِ بَيَانُ أَصْلِ الْوَقْتِ الْمُبَاحِ وَغَيْرِهِ ، فَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لِلْحَجَّاجِ حِينَ زَالَتْ الشَّمْسُ : السَّاعَةُ إنْ أَرَدْت السُّنَّةَ ، مُرَادٌ بِهِ السُّنَّةُ الِاصْطِلَاحِيَّةُ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ الذَّهَابُ إلَى الْمَوْقِفِ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ بَلْ لَوْ أَخَّرَهُ جَازَ ( قَوْلُهُ وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يُجْزِيهِ إنْ وَقَفَ مِنْ النَّهَارِ إلَّا أَنْ يَقِفَ فِي الْيَوْمِ وَجُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ ) التَّحْرِيرُ فِي الْعِبَارَةِ أَنْ يُقَالَ : وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يُجْزِيهِ إنْ وَقَفَ مِنْ النَّهَارِ إلَّا أَنْ يَقِفَ مَعَهُ جُزْءًا مِنْ اللَّيْلِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَقِفْ إلَّا مِنْ اللَّيْلِ أَجْزَأَهُ عِنْدَهُ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْجَمْعَ بَيْنَ جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ مَعَ جُزْءٍ مِنْ النَّهَارِ لِمَنْ وَقَفَ بِالنَّهَارِ وَهُوَ بِأَنْ يُفِيضَ بَعْدَ الْغُرُوبِ ، وَمَلْجَؤُهُ فِعْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ مِثْلُ مَا قُلْنَا مَعَهُ فِي أَنَّ أَوَّلَ الْوَقْتِ مِنْ الزَّوَالِ .
وَيَرِدُ عَلَيْهِ هُنَا مِثْلُ مَا أَوْرَدْنَاهُ عَلَيْنَا مِنْ جِهَتِهِ هُنَاكَ ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ قَوْلٌ يُفِيدُ عَدَمَ تَعَيُّنِ ذَلِكَ ، وَبِهِ يَقَعُ الْبَيَانُ كَالْفِعْلِ فَتُحْمَلُ الْإِفَاضَةُ بَعْدَ الْغُرُوبِ عَلَى أَنَّهُ السُّنَّةُ الْوَاجِبَةُ ، وَقَبْلَهُ عَلَى أَنَّهُ الرُّكْنُ بِالْقَوْلِ الْمَذْكُورِ مَعَ تَرْكِ الْوَاجِبِ

( وَمَنْ اجْتَازَ بِعَرَفَاتٍ نَائِمًا أَوْ مُغْمًى عَلَيْهِ أَوْ لَا يَعْلَمُ أَنَّهَا عَرَفَاتٌ جَازَ عَنْ الْوُقُوفِ ) لِأَنَّ مَا هُوَ الرُّكْنُ قَدْ وُجِدَ وَهُوَ الْوُقُوفُ ، وَلَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ بِالْإِغْمَاءِ وَالنَّوْمِ كَرُكْنِ الصَّوْمِ ، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ لِأَنَّهَا لَا تَبْقَى مَعَ الْإِغْمَاءِ ، وَالْجَهْلُ يُخِلُّ بِالنِّيَّةِ وَهِيَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِكُلِّ رُكْنٍ
( قَوْلُهُ لِأَنَّ مَا هُوَ الرُّكْنُ قَدْ وُجِدَ وَهُوَ الْوُقُوفُ ) وَالْمَشْيُ وَإِنْ أَسْرَعَ لَا يَخْلُو عَنْ قَلِيلِ وُقُوفٍ عَلَى مَا قُرِّرَ فِي فَنِّهِ ، وَالْوُقُوفُ بِمُزْدَلِفَةَ عَلَى هَذَا يُجْزِيهِ الْكَوْنُ بِهَا وَلَوْ نَائِمًا أَوْ مَارًّا لَا يَعْلَمُ أَنَّهَا مُزْدَلِفَةُ ( قَوْلُهُ وَهِيَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِكُلِّ رُكْنٍ ) إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الرُّكْنُ مِمَّا يَسْتَقِلُّ عِبَادَةً مَعَ عَدَمِ إحْرَامِ تِلْكَ الْعِبَادَةِ فَيَحْتَاجُ فِيهِ إلَى أَصْلِ النِّيَّةِ ، وَعَنْ هَذَا وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْوُقُوفِ وَالطَّوَافِ ، فَإِنَّهُ لَوْ طَافَ هَارِبًا أَوْ طَالِبًا لِهَارِبٍ أَوْ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ الْبَيْتُ الَّذِي يَجِبُ الطَّوَافُ بِهِ لَا يُجْزِيهِ لِعَدَمِ النِّيَّةِ .
وَلَوْ نَوَى أَصْلَ الطَّوَافِ جَازَ .
وَلَوْ عَيَّنَ جِهَةً غَيْرَ الْفَرْضِ مَعَ أَصْلِ النِّيَّةِ لَغَتْ ، حَتَّى لَوْ طَافَ يَوْمَ النَّحْرِ عَنْ نَذْرٍ وَقَعَ عَنْ طَوَافِ الزِّيَارَةِ وَلَمْ يُجْزِهِ عَنْ النَّذْرِ ، وَلِأَنَّ الْوُقُوفَ يُؤَدَّى فِي إحْرَامٍ مُطْلَقٍ فَأَغْنَتْ النِّيَّةُ عِنْدَ الْعَقْدِ عَنْ الْأَدَاءِ عَنْهَا فِيهِ ، بِخِلَافِ الطَّوَافِ يُؤَدَّى بَعْدَ التَّحَلُّلِ مِنْ الْإِحْرَامِ بِالْحَلْقِ فَلَا يُغْنِي وُجُودُهَا عِنْدَ الْإِحْرَامِ عَنْهَا فِيهِ ، وَهَذَا الْفَرْقُ لَا يَتَأَتَّى إلَّا فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ لَا الْعُمْرَةِ وَالْأَوَّلُ يَعُمُّهُمَا

( وَمَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فَأَهَلَّ عَنْهُ رُفَقَاؤُهُ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَقَالَا : لَا يَجُوزُ ، وَلَوْ أَمَرَ إنْسَانًا بِأَنْ يُحْرِمَ عَنْهُ إذَا أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَوْ نَامَ فَأَحْرَمَ الْمَأْمُورُ عَنْهُ صَحَّ ) بِالْإِجْمَاعِ حَتَّى إذَا أَفَاقَ أَوْ اسْتَيْقَظَ وَأَتَى بِأَفْعَالِ الْحَجِّ جَازَ .
لَهُمَا أَنَّهُ لَمْ يُحْرِمْ بِنَفْسِهِ وَلَا أَذِنَ لِغَيْرِهِ بِهِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِالْإِذْنِ وَالدَّلَالَةُ تَقِفُ عَلَى الْعِلْمِ ، وَجَوَازُ الْإِذْنِ بِهِ لَا يَعْرِفُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ فَكَيْفَ يَعْرِفُهُ الْعَوَامُّ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَمَرَ غَيْرَهُ بِذَلِكَ صَرِيحًا .
وَلَهُ أَنَّهُ لَمَّا عَاقَدَهُمْ عَقْدَ الرُّفْقَةِ فَقَدْ اسْتَعَانَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِيمَا يَعْجِزُ عَنْ مُبَاشَرَتِهِ بِنَفْسِهِ .
وَالْإِحْرَامُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِهَذَا السَّفَرِ فَكَانَ الْإِذْنُ بِهِ ثَابِتًا دَلَالَةً ، وَالْعِلْمُ ثَابِتٌ نَظَرًا إلَى الدَّلِيلِ وَالْحُكْمُ يُدَارُ عَلَيْهِ .

( قَوْلُهُ وَمَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فَأَهَلَّ عَنْهُ رُفَقَاؤُهُ جَازَ ) الرَّفِيقُ قَيْدٌ عِنْدَ بَعْضِهِمْ وَلَيْسَ بِقَيْدٍ عِنْدَ آخَرِينَ ، حَتَّى لَوْ أَهَلَّ غَيْرُ رُفَقَائِهِ عَنْهُ جَازَ وَهُوَ الْأَوْلَى لِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْإِعَانَةِ لَا الْوِلَايَةِ ، وَدَلَالَةُ الْإِعَانَةِ قَائِمَةٌ عِنْدَ كُلِّ مَنْ عَلِمَ قَصْدَهُ رَفِيقًا كَانَ أَوْ لَا .
وَأَصْلُهُ أَنَّ الْإِحْرَامَ شَرْطٌ عِنْدَنَا اتِّفَاقًا كَالْوُضُوءِ وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ وَإِنْ كَانَ لَهُ شِبْهُ الرُّكْنِ فَجَازَتْ النِّيَابَةُ فِيهِ بَعْدَ وُجُودِ نِيَّةِ الْعِبَادَةِ مِنْهُ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ بَلَدِهِ ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَافَقَةَ هَلْ تَكُونُ أَمْرًا بِهِ دَلَالَةٌ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهُ أَوْ لَا ، فَقَالَا : لَا ، لِأَنَّ الْمُرَافَقَةَ إنَّمَا تُرَادُ لِأُمُورِ السَّفَرِ لَا غَيْرُ فَلَا تَتَعَدَّى إلَى الْإِحْرَامِ ، بَلْ الظَّاهِرُ مَنْعُ غَيْرِهِ عَنْهُ لِيَتَوَلَّاهُ بِنَفْسِهِ فَيَحُوزُ ثَوَابَ ذَلِكَ ، وَلِأَنَّ دَلَالَةَ الْإِنَابَةِ فِيهِ إنَّمَا تَثْبُتُ إذَا كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَ النَّاسِ .
وَصِحَّةُ الْإِذْنِ بِالْإِحْرَامِ عَنْ غَيْرِهِ لَا يَعْرِفُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَفَقِّهَةِ فَكَيْفَ بِالْعَامِّيِّ وَهَذَا الْوَجْهُ يَعُمُّ مَنْعَ الرَّفِيقِ وَغَيْرِهِ نَصًّا وَالْأَوَّلُ دَلَالَةً .
وَلَهُ أَنَّ عَقْدَ الرُّفْقَةِ اسْتِعَانَةُ كُلٍّ مِنْهُمْ بِكُلٍّ مِنْهُمْ فِيمَا يَعْجَزُ عَنْهُ فِي سَفَرِهِ ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ بِهَذَا السَّفَرِ إلَّا الْإِحْرَامَ ، وَهُوَ أَهَمُّهَا إنْ كَانَ مَثَلًا يُقْصَدُ التِّجَارَةَ مَعَ الْحَجِّ فَكَانَ عَقْدُ السَّفَرِ اسْتِعَانَةً فِيهِ إذَا عَجَزَ عَنْهُ كَمَا هُوَ فِي حِفْظِ الْأَمْتِعَةِ وَالدَّوَابِّ أَوْ أَقْوَى .
فَكَانَتْ دَلَالَةُ الْإِذْنِ ثَابِتَةً وَالْعِلْمُ بِجَوَازِهِ ثَابِتٌ نَظَرًا إلَى الدَّلِيلِ الَّذِي دَلَّ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِنَابَةِ فِي الْإِحْرَامِ وَهُوَ كَوْنُهُ شَرْطًا وَالشَّرْطُ تَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ ، كَمَنْ أَجْرَى الْمَاءَ عَلَى أَعْضَاءِ مُحْدِثٍ فَإِنَّهُ يَصِيرُ بِذَلِكَ مُتَوَضِّئًا ، أَوْ غَطَّى عَوْرَةَ عُرْيَانٍ

فَإِنَّهُ يَصِيرُ بِذَلِكَ مُحَصِّلًا لِلشَّرْطِ ، وَذَلِكَ أَنَّ الدَّلِيلَ الشَّرْعِيَّ مَنْصُوبٌ فَيُقَامُ وُجُودُهُ مَقَامَ الْعِلْمِ بِهِ فِي حَقِّ كُلِّ مَنْ كُلِّفَ بِطَلَبِ الْعِلْمِ ، وَلِذَا لَا يُعْذَرُ بِالْجَهْلِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، بِخِلَافِ مَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَجَهِلَ وُجُوبَ الصَّلَاةِ مَثَلًا لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ .
فَإِنْ قِيلَ : يَنْبَغِي أَنْ يُجَرِّدُوهُ وَيُلْبِسُوهُ الْإِزَارَ وَالرِّدَاءَ لِأَنَّ النِّيَابَةَ ظَهَرَ أَنَّ مَعْنَاهَا إيجَادُ الشَّرْطِ فِي الْمَنُوبِ عَنْهُ كَالتَّوْضِئَةِ ، لَكِنَّ الْوَاقِعَ أَنْ لَيْسَ مَعْنَى الْإِحْرَامِ عَنْهُ ذَلِكَ ، بَلْ أَنْ يُحْرِمُوا هُمْ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ فَيَصِيرَ هُوَ مُحْرِمًا بِذَلِكَ الْإِحْرَامِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُجَرِّدُوهُ ، حَتَّى إذَا أَفَاقَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْأَفْعَالُ وَالْكَفُّ عَنْ الْمَحْظُورَاتِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحْرِمَ بِنَفْسِهِ .
فَالْجَوَابُ التَّجْرِيدُ وَإِلْبَاسُ غَيْرِ الْمَخِيطِ لَيْسَ وِزَانَ التَّوْضِئَةِ الَّتِي هِيَ الشَّرْطُ ، إذْ لَيْسَ ذَلِكَ الْإِحْرَامَ بَلْ كَفٌّ عَنْ بَعْضِ الْمَحْظُورَاتِ ، أَعْنِي لُبْسَ الْمَخِيطِ ، وَإِنَّمَا الْإِحْرَامُ وَصْفٌ شَرْعِيٌّ هُوَ صَيْرُورَتُهُ مُحْرِمًا عَلَيْهِ أَشْيَاءُ مُوجِبًا عَلَيْهِ الْمُضِيَّ فِي أَفْعَالٍ مَخْصُوصَةٍ .
وَآلَةُ ثُبُوتِ هَذَا الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ الْمُسَمَّى بِالْإِحْرَامِ نِيَّةُ الْتِزَامِ نُسُكٍ مَعَ التَّلْبِيَةِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا .
وَنِيَابَتُهُمْ إنَّمَا هِيَ بِذَلِكَ الْمَعْنَى فِي الشَّرْطِ ، فَوَجَبَ كَوْنُ الَّذِي هُوَ إلَيْهِمْ أَنْ يَنْوُوا وَيُلَبُّوا عَنْهُ فَيَصِيرُ هُوَ بِذَلِكَ مُحْرِمًا ، كَمَا لَوْ نَوَى هُوَ وَلَبَّى ، وَيَنْتَقِلُ إحْرَامُهُمْ إلَيْهِ حَتَّى كَانَ لِلرَّفِيقِ أَنْ يُحْرِمَ عَنْ نَفْسِهِ مَعَ ذَلِكَ .
وَإِذَا بَاشَرَ مَحْظُورَ الْإِحْرَامِ لَزِمَهُ جَزَاءٌ وَاحِدٌ ، بِخِلَافِ الْقَارِنِ لِأَنَّهُ فِي إحْرَامَيْنِ وَهَذَا فِي إحْرَامٍ وَاحِدٍ لِانْتِقَالِ ذَلِكَ الْإِحْرَامِ إلَى الْمَنُوبِ عَنْهُ شَرْعًا .
وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِيمَا لَوْ اسْتَمَرَّ مُغْمًى عَلَيْهِ إلَى وَقْتِ أَدَاءِ الْأَفْعَالِ ، هَلْ يَجِبُ أَنْ

يَشْهَدُوا بِهِ الْمَشَاهِدَ فَيُطَافُ بِهِ وَيُسْعَى وَيُوقَفَ أَوْ لَا بَلْ مُبَاشَرَةُ الرُّفْقَةِ لِذَلِكَ عَنْهُ تُجْزِيهِ ، فَاخْتَارَ طَائِفَةٌ الْأَوَّلَ ، وَعَلَيْهِ يَمْشِي التَّقْرِيرُ الْمَذْكُورُ ، وَاخْتَارَ آخَرُونَ الثَّانِيَ وَجَعَلَهُ فِي الْمَبْسُوطِ الْأَصَحَّ وَإِنَّمَا ذَلِكَ أَوْلَى لَا مُتَعَيَّنٌ .
وَعَلَى هَذَا يَجِبُ كَوْنُ الدَّلِيلِ الَّذِي دَلَّ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِنَابَةِ فِي الْإِحْرَامِ الَّذِي أُقِيمَ وُجُودُهُ مَقَامَ الْعِلْمِ بِهِ هُوَ كَوْنُ هَذِهِ الْعِبَادَةِ : أَعْنِي الْحَجَّ عَنْ نَفْسِهِ مِمَّا تَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ عِنْدَ الْعَجْزِ كَمَا فِي اسْتِنَابَةِ الَّذِي زَمِنَ بَعْدَ الْقُدْرَةِ وَأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فَأَوْصَى بِهِ ، غَيْرَ أَنَّهُ إنْ أَفَاقَ قَبْلَ الْأَفْعَالِ تَبَيَّنَ أَنَّ عَجْزَهُ كَانَ فِي الْإِحْرَامِ فَقَطْ فَصَحَّتْ نِيَابَتُهُمْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَا فِيهِ ثُمَّ يَجْرِي هُوَ بِنَفْسِهِ عَلَى مُوجِبِهِ ، فَإِنْ لَمْ يُفِقْ تَحَقَّقَ عَجْزُهُ عَنْ الْكُلِّ فَأَجْرَوْا هُمْ عَلَى مُوجِبِهِ ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الرَّفِيقَ بِفِعْلِ الْمَحْظُورَاتِ شَيْءٌ عَنْ هَذَا الْإِحْرَامِ ، بِخِلَافِ النَّائِبِ فِي الْحَجِّ عَنْ الْمَيِّتِ ، وَلِأَنَّهُ يَتَوَقَّعُ إفَاقَةَ هَذَا فِي كُلِّ سَاعَةٍ ، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ الْأَدَاءُ بِنَفْسِهِ لِعَدَمِ الْعَجْزِ فَنَقَلْنَا الْإِحْرَامَ إلَيْهِ ، لِأَنَّا لَوْ لَمْ نَنْقُلْ الْإِحْرَامَ إلَيْهِ مَعَ هَذَا الِاحْتِمَالِ لَفَاتَهُ الْحَجُّ إذَا أَفَاقَ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ ، وَهُوَ أَنْ يُفِيقَ بَعْدَ يَوْمِ عَرَفَةَ لِعَدَمِ الْعَجْزِ عَنْ بَاقِي الْأَفْعَالِ مَعَ الْعَجْزِ عَنْ تَجْدِيدِ الْإِحْرَامِ لِلْأَدَاءِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ .
وَمَا جُعِلَ عَقْدُ الرُّفْقَةِ أَوْ الْعِلْمِ بِحَالِهِ دَلِيلَ الْإِذْنِ إلَّا كَيْ لَا يَفُوتَ مَقْصُودُهُ مِنْ هَذَا السَّفَرِ ، بِخِلَافِ الْمَيِّتِ انْتَفَى فِيهِ ذَلِكَ فَانْتَفَى مُوجِبُ النَّقْلِ عَنْ الْمُبَاشِرِ لِلْإِحْرَامِ .
وَذَكَرَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ : إذَا أُغْمِيَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ فَطِيفَ بِهِ الْمَنَاسِكَ فَإِنَّهُ يُجْزِيهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا جَمِيعًا لِأَنَّهُ هُوَ الْفَاعِلُ

وَقَدْ سَبَقَتْ النِّيَّةُ مِنْهُ ، فَهُوَ كَمَنْ نَوَى الصَّلَاةَ فِي ابْتِدَائِهَا ثُمَّ أَدَّى الْأَفْعَالَ سَاهِيًا لَا يَدْرِي مَا يَفْعَلُ أَجْزَأَهُ لِسَبْقِ النِّيَّةِ ا هـ .
وَيُشْكِلُ عَلَيْهِ اشْتِرَاطُ النِّيَّةِ لِبَعْضِ أَرْكَانِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ وَهُوَ الطَّوَافُ .
بِخِلَافِ سَائِرِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَلَمْ تُوجَدْ مِنْهُ هَذِهِ النِّيَّةُ .
وَالْأَوْلَى فِي التَّعْلِيلِ أَنَّ جَوَازَ الِاسْتِنَابَةِ فِيمَا يَعْجَزُ عَنْهُ ثَابِتٌ بِمَا قُلْنَا .
فَتَجُوزُ النِّيَابَةُ فِي هَذِهِ الْأَفْعَالِ .
وَيُشْتَرَطُ نِيَّتُهُمْ الطَّوَافَ إذَا حَمَلُوهُ فِيهِ كَمَا تُشْتَرَطُ نِيَّتُهُ ، إلَّا أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي عَدَمَ تَعَيُّنِ حَمْلِهِ وَالشُّهُودِ ، وَلَا أَعْلَمُ تَجْوِيزَ ذَلِكَ عَنْهُمْ .
فِي الْمُنْتَقَى .
رَوَى عِيسَى بْنُ أَبَانَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : رَجُلٌ أَحْرَمَ وَهُوَ صَحِيحٌ ثُمَّ أَصَابَهُ عَتَهٌ فَقَضَى بِهِ أَصْحَابُهُ الْمَنَاسِكَ وَوَقَفُوا بِهِ فَلَبِثَ بِذَلِكَ سِنِينَ ثُمَّ أَفَاقَ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ .
قَالَ : وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ إذَا قَدِمَ مَكَّةَ وَهُوَ صَحِيحٌ أَوْ مَرِيضٌ إلَّا أَنَّهُ يَعْقِلُ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَحَمَلَهُ أَصْحَابُهُ وَهُوَ مُغْمًى عَلَيْهِ فَطَافُوا بِهِ فَلَمَّا قَضَى الطَّوَافَ أَوْ بَعْضَهُ أَفَاقَ وَقَدْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ وَلَمْ يُتِمَّ يَوْمًا أَجْزَأَهُ عَنْ طَوَافِهِ .
وَفِيهِ أَيْضًا : لَوْ أَنَّ رَجُلًا مَرِيضًا لَا يَسْتَطِيعُ الطَّوَافَ إلَّا مَحْمُولًا وَهُوَ يَعْقِلُ نَامَ مِنْ غَيْرِ عَتَهٍ فَحَمَلَهُ أَصْحَابُهُ وَهُوَ نَائِمٌ فَطَافُوا بِهِ ، أَوْ أَمَرَهُمْ أَنْ يَحْمِلُوهُ وَيَطُوفُوا بِهِ فَلَمْ يَفْعَلُوا حَتَّى نَامَ ثُمَّ احْتَمَلُوهُ وَهُوَ نَائِمٌ فَطَافُوا بِهِ أَوْ حَمَلُوهُ حِينَ أَمَرَهُمْ بِحَمْلِهِ وَهُوَ مُسْتَيْقِظٌ فَلَمْ يَدْخُلُوا بِهِ الطَّوَافَ حَتَّى نَامَ فَطَافُوا بِهِ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ .
رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُمْ إذَا طَافُوا بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ لَا يُجْزِيهِ ، وَلَوْ أَمَرَهُمْ ثُمَّ نَامَ فَحَمَلُوهُ بَعْدَ

ذَلِكَ وَطَافُوا بِهِ أَجْزَأَهُ ، وَكَذَلِكَ إنْ دَخَلُوا بِهِ الطَّوَافَ أَوْ تَوَجَّهُوا بِهِ نَحْوَهُ فَنَامَ وَطَافُوا بِهِ أَجْزَأَهُ .
وَلَوْ قَالَ لِبَعْضِ مَنْ عِنْدَهُ : اسْتَأْجِرْ لِي مَنْ يَطُوفُ بِي وَيَحْمِلُنِي ثُمَّ غَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ وَنَامَ وَلَمْ يَمْضِ الَّذِي أَمَرَهُ بِذَلِكَ مِنْ فَوْرِهِ بَلْ تَشَاغَلَ بِغَيْرِهِ طَوِيلًا ثُمَّ اسْتَأْجَرَ قَوْمًا يَحْمِلُونَهُ وَأَتَوْهُ وَهُوَ نَائِمٌ فَطَافُوا بِهِ قَالَ : أَسْتَحْسِنُ إذَا كَانَ عَلَى فَوْرِهِ ذَلِكَ أَنَّهُ يَجُوزُ .
فَأَمَّا إذَا طَالَ ذَلِكَ وَنَامَ فَأَتَوْهُ وَحَمَلُوهُ وَهُوَ نَائِمٌ لَا يُجْزِيهِ عَنْ الطَّوَافِ ، وَلَكِنَّ الْإِحْرَامَ لَازِمٌ بِالْأَمْرِ .
قَالَ : وَالْقِيَاسُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنْ لَا يُجْزِيهِ حَتَّى يَدْخُلَ الطَّوَافَ وَهُوَ مُسْتَيْقِظٌ يَنْوِي الدُّخُولَ فِيهِ ، لَكِنَّا اسْتَحْسَنَّا إذَا حَضَرَ ذَلِكَ فَنَامَ وَقَدْ أَمَرَ أَنْ يُحْمَلَ فَطَافَ بِهِ أَنَّهُ يُجْزِيهِ .
وَحَاصِلُ هَذِهِ الْفُرُوعِ الْفَرْقُ بَيْنَ النَّائِمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ فِي اشْتِرَاطِ صَرِيحِ الْإِذْنِ وَعَدَمِهِ ، ثُمَّ فِي النَّائِمِ قِيَاسٌ وَاسْتِحْسَانٌ .
اسْتَأْجَرَ رِجَالًا فَحَمَلُوا امْرَأَةً فَطَافُوا بِهَا وَنَوَوْا الطَّوَافَ أَجْزَأَهُمْ وَلَهُمْ الْأُجْرَةُ وَأَجْزَأَ الْمَرْأَةَ .
وَإِنْ نَوَى الْحَامِلُونَ طَلَبَ غَرِيمٍ لَهُمْ الْمَحْمُولُ يَعْقِلُ وَقَدْ نَوَى الطَّوَافَ أَجْزَأَ الْمَحْمُولُ دُونَ الْحَامِلِينَ ، وَإِنْ كَانَ مُغْمًى عَلَيْهِ لَمْ يُجْزِهِ لِانْتِفَاءِ النِّيَّةِ مِنْهُ وَمِنْهُمْ .
أَمَّا جَوَازُ الطَّوَافِ فَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ حِينَ أَحْرَمَتْ نَوَتْ الطَّوَافَ ضِمْنًا ، وَإِنَّمَا تُرَاعَى النِّيَّةُ وَقْتَ الْإِحْرَامِ لِأَنَّهُ وَقْتُ الْعَقْدِ عَلَى الْأَدَاءِ .
وَأَمَّا اسْتِحْقَاقُ الْأَجْرِ فَلِأَنَّ الْإِجَارَةَ وَقَعَتْ عَلَى عَمَلٍ مَعْلُومٍ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ وَضْعًا ، وَإِذَا حَمَلُوهَا وَطَافُوا وَلَا يَنْوُونَ الطَّوَافَ بَلْ طَلَبَ غَرِيمٍ لَا يُجْزِيهَا إذَا كَانَتْ مُغْمًى عَلَيْهَا لِأَنَّهُمْ مَا أَتَوْا بِالطَّوَافِ وَإِنَّمَا أَتَوْا بِطَلَبِ الْغَرِيمِ وَالْمُنْتَقَلُ إلَيْهَا إنَّمَا هُوَ فِعْلُهُمْ فَلَا

يُجْزِيهَا إلَّا إذَا كَانَتْ مُفِيقَةً وَنَوَتْ الطَّوَافَ

قَالَ ( وَالْمَرْأَةُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ كَالرَّجُلِ ) لِأَنَّهَا مُخَاطَبَةٌ كَالرَّجُلِ ( غَيْرَ أَنَّهَا لَا تَكْشِفُ رَأْسَهَا ) لِأَنَّهُ عَوْرَةٌ ( وَتَكْشِفُ وَجْهَهَا ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا } ( وَلَوْ سَدَلَتْ شَيْئًا عَلَى وَجْهِهَا وَجَافَتْهُ عَنْهُ جَازَ ) هَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، وَلِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِظْلَالِ بِالْمُحْمَلِ ( وَلَا تَرْفَعُ صَوْتَهَا بِالتَّلْبِيَةِ ) لِمَا فِيهِ مِنْ الْفِتْنَةِ ( وَلَا تَرْمُلُ وَلَا تَسْعَى بَيْنَ الْمِيلَيْنِ ) لِأَنَّهُ مُخِلٌّ بِسِتْرِ الْعَوْرَةِ ( وَلَا تَحْلِقُ وَلَكِنْ تُقَصِّرُ ) لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى النِّسَاءَ عَنْ الْحَلْقِ وَأَمَرَهُنَّ بِالتَّقْصِيرِ } وَلِأَنَّ حَلْقَ الشَّعْرِ فِي حَقِّهَا مُثْلَةٌ كَحَلْقِ اللِّحْيَةِ فِي حَقِّ الرَّجُلِ ( وَتَلْبَسُ مِنْ الْمَخِيطِ مَا بَدَا لَهَا ) لِأَنَّ فِي لُبْسِ غَيْرِ الْمَخِيطِ كَشْفُ الْعَوْرَةِ .
قَالُوا : وَلَا تَسْتَلِمُ الْحَجَرَ إذَا كَانَ هُنَاكَ جَمْعٌ ، لِأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ عَنْ مُمَاسَّةِ الرِّجَالِ إلَّا أَنْ تَجِدَ الْمَوْضِعَ خَالِيًا .

( قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا } ) تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْإِحْرَامِ وَلَا شَكَّ فِي ثُبُوتِهِ مَوْقُوفًا ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ قَالَتْ : { كَانَ الرُّكْبَانُ يَمُرُّونَ بِنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْرِمَاتٌ ، فَإِذَا حَاذَوْنَا سَدَلَتْ إحْدَانَا جِلْبَابَهَا مِنْ رَأْسِهَا عَلَى وَجْهِهَا ، فَإِذَا جَاوَزُونَا كَشَفْنَاهُ } .
قَالُوا : وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ تَسْدِلَ عَلَى وَجْهِهَا شَيْئًا وَتُجَافِيَهُ ، وَقَدْ جَعَلُوا لِذَلِكَ أَعْوَادًا كَالْقُبَّةِ تُوضَعُ عَلَى الْوَجْهِ وَيُسْدَلُ فَوْقَهَا الثَّوْبُ ، وَدَلَّتْ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ مَنْهِيَّةٌ عَنْ إبْدَاءِ وَجْهِهَا لِلْأَجَانِبِ بِلَا ضَرُورَةٍ ، وَكَذَا دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَيْهِ ( قَوْلُهُ وَتَلْبَسُ مِنْ الْمَخِيطِ مَا بَدَا لَهَا ) كَالدِّرْعِ وَالْقَمِيصِ وَالْخُفَّيْنِ وَالْقُفَّازَيْنِ ، لَكِنْ لَا تَلْبَسُ الْمُوَرَّسَ وَالْمُزَعْفَرَ وَالْمُعَصْفَرَ

قَالَ ( وَمَنْ قُلِّدَ بَدَنَةً تَطَوُّعًا أَوْ نَذْرًا أَوْ جَزَاءَ صَيْدٍ أَوْ شَيْئًا مِنْ الْأَشْيَاءِ وَتَوَجَّهَ مَعَهَا يُرِيدُ الْحَجَّ فَقَدْ أَحْرَمَ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ قَلَّدَ بَدَنَةً فَقَدْ أَحْرَمَ } وَلِأَنَّ سَوْقَ الْهَدْيِ فِي مَعْنَى التَّلْبِيَةِ فِي إظْهَارِ الْإِجَابَةِ لِأَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ إلَّا مَنْ يُرِيدُ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ ، وَإِظْهَارُ الْإِجَابَةِ قَدْ يَكُونُ بِالْفِعْلِ كَمَا يَكُونُ بِالْقَوْلِ فَيَصِيرُ بِهِ مُحْرِمًا لِاتِّصَالِ النِّيَّةِ بِفِعْلٍ وَهُوَ مِنْ خَصَائِصِ الْإِحْرَامِ .
وَصِفَةُ التَّقْلِيدِ أَنْ يَرْبِطَ عَلَى عُنُقِ بَدَنَتِهِ قِطْعَةَ نَعْلٍ أَوْ عُرْوَةَ مُزَادَةٍ أَوْ لِحَاءَ شَجَرَةٍ ( فَإِنْ قَلَّدَهَا وَبَعَثَ بِهَا وَلَمْ يَسْقِهَا لَمْ يَصِرْ مُحْرِمًا ) لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : { كُنْتُ أَفْتِلُ قَلَائِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَبَعَثَ بِهَا وَأَقَامَ فِي أَهْلِهِ حَلَالًا } ( فَإِنْ تَوَجَّهَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَصِرْ مُحْرِمًا حَتَّى يُلْحِقَهَا ) لِأَنَّ عِنْدَ التَّوَجُّهِ إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ هَدْيٌ يَسُوقُهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إلَّا مُجَرَّدَ النِّيَّةِ ، وَبِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا ، فَإِذَا أَدْرَكَهَا وَسَاقَهَا أَوْ أَدْرَكَهَا فَقَدْ اقْتَرَنَتْ نِيَّتُهُ بِعَمَلٍ هُوَ مِنْ خَصَائِصِ الْإِحْرَامِ فَيَصِيرُ مُحْرِمًا كَمَا لَوْ سَاقَهَا فِي الِابْتِدَاءِ .
قَالَ ( إلَّا فِي بَدَنَةِ الْمُتْعَةِ فَإِنَّهُ مُحْرِمٌ حِينَ تَوَجَّهَ ) مَعْنَاهُ إذَا نَوَى الْإِحْرَامَ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ .
وَجْهُ الْقِيَاسِ فِيهِ مَا ذَكَرْنَا .
وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذَا الْهَدْيَ مَشْرُوعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ نُسُكًا مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ وَضْعًا لِأَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِمَكَّةَ ، وَيَجِبُ شُكْرًا لِلْجَمْعِ بَيْنَ أَدَاءِ النُّسُكَيْنِ ، وَغَيْرُهُ قَدْ يَجِبُ بِالْجِنَايَةِ وَإِنْ لَمْ يَصِلْ إلَى مَكَّةَ فَلِهَذَا اكْتَفَى فِيهِ بِالتَّوَجُّهِ ، وَفِي غَيْرِهِ تَوَقُّفٌ عَلَى حَقِيقَةِ الْفِعْلِ

( قَوْلُهُ أَوْ جَزَاءُ صَيْدٍ ) إمَّا بِأَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ جَزَاءُ صَيْدٍ فِي حَجَّةٍ سَابِقَةٍ فَقَلَّدَهُ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ أَوْ جَزَاءُ صَيْدِ الْحَرَمِ اشْتَرَى بِقِيمَتِهِ هَدْيًا ( قَوْلُهُ وَتَوَجَّهَ مَعَهَا يُرِيدُ الْحَجَّ ) أَفَادَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ : التَّقْلِيدُ وَالتَّوَجُّهُ مَعَهَا وَنِيَّةُ النُّسُكِ .
وَمَا فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ : لَوْ قَلَّدَ بَدَنَةً بِغَيْرِ نِيَّةِ الْإِحْرَامِ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا ، وَلَوْ سَاقَهَا هَدْيًا قَاصِدًا إلَى مَكَّةَ صَارَ مُحْرِمًا بِالسَّوْقِ نَوَى الْإِحْرَامَ أَوْ لَمْ يَنْوِ مُخَالِفٌ لِمَا فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ فَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ .
وَمَا فِي الْإِيضَاحِ مِنْ قَوْلِهِ السُّنَّةُ أَنْ يُقَدِّمَ التَّلْبِيَةَ عَلَى التَّقْلِيدِ لِأَنَّهُ إذَا قَلَّدَهَا فَرُبَّمَا تَسِيرُ فَيَصِيرُ شَارِعًا فِي الْإِحْرَامِ وَالسُّنَّةُ أَنْ يَكُونَ الشُّرُوعُ بِالتَّلْبِيَةِ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى مَا إذَا كَانَ الْمُقَلِّدُ نَاوِيًا ( قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ قَلَّدَ بَدَنَةً } إلَخْ ) غَرِيبٌ مَرْفُوعًا ، وَوَقَفَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ : حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : مَنْ قَلَّدَ فَقَدْ أَحْرَمَ .
حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : مَنْ قَلَّدَ أَوْ جَلَّلَ أَوْ أَشْعَرَ فَقَدْ أَحْرَمَ .
ثُمَّ أَخْرَجَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا قَلَّدَ فَقَالَ : أَمَّا هَذَا فَقَدْ أَحْرَمَ .
وَوَرَدَ مَعْنَاهُ مَرْفُوعًا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، وَمِنْ طَرِيقِهِ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَطَاءِ بْنِ أَبِي لَبِيبَةَ أَنَّهُ سَمِعَ بَنِي جَابِرٍ يُحَدِّثَانِ عَنْ أَبِيهِمَا جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ { بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ مَعَ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إذْ شَقَّ قَمِيصَهُ حَتَّى خَرَجَ مِنْهُ فَسُئِلَ فَقَالَ : وَاعَدَتْهُمْ

يُقَلِّدُونَ هَدْيِي الْيَوْمَ فَنَسِيتُ } وَذَكَرَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ مِنْ جِهَةِ الْبَزَّارِ قَالَ : وَلِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ثَلَاثَةُ أَوْلَادٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَمُحَمَّدٌ وَعَقِيلٌ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَنْ هُمَا مِنْ الثَّلَاثَةِ .
وَأَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَطَاءٍ ، وَضَعَّفَ ابْنُ عَبْدِ الْحَقِّ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَطَاءٍ وَوَافَقَهُمَا ابْنُ الْقَطَّانِ .
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الصَّائِغُ الْمَكِّيُّ ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ ، حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ ، أَخْبَرَنِي ثَعْلَبَةُ بْنُ أَبِي مَالِكٍ الْقُرَظِيّ : أَنَّ قَيْسَ بْنَ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ الْأَنْصَارِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ صَاحِبَ لِوَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ الْحَجَّ فَرَجَّلَ أَحَدَ شِقَّيْ رَأْسِهِ ، فَقَامَ غُلَامُهُ فَقَلَّدَ هَدْيَهُ ، فَنَظَرَ إلَيْهِ قَيْسٌ فَأَهَلَّ وَحَلَّ شِقَّ رَأْسِهِ الَّذِي رَجَّلَهُ وَلَمْ يُرَجِّلْ الشِّقَّ الْآخَرَ .
وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ مُخْتَصَرًا عَنْ ابْنِ شِهَابٍ بِأَنَّ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ الْأَنْصَارِيَّ وَكَانَ صَاحِبَ لِوَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ الْحَجَّ فَرَجَّلَ ا هـ ( قَوْلُهُ أَوْ لِحَاءَ شَجَرَةٍ ) هُوَ بِالْمَدِّ قِشْرُهَا ، وَالْمَعْنِيُّ بِالتَّقْلِيدِ إفَادَةُ أَنَّهُ عَنْ قَرِيبٍ يَصِيرُ جِلْدًا كَهَذَا اللِّحَاءِ وَالنَّعْلِ فِي الْيُبُوسَةِ لِإِرَاقَةِ دَمِهِ ، وَكَانَ فِي الْأَصْلِ يُفْعَلُ ذَلِكَ كَيْ لَا تُهَاجَ عَنْ الْوُرُودِ وَالْكَلَإِ وَلِتَرِدَ إذَا ضَلَّتْ لِلْعِلْمِ بِأَنَّهَا هَدْيٌ ( قَوْلُهُ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ) أَخْرَجَ السِّتَّةُ عَنْهَا { بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهَدْيِ فَأَنَا فَتَلْتُ قَلَائِدَهَا بِيَدَيَّ مِنْ عِهْنٍ كَانَ عِنْدَنَا ثُمَّ أَصْبَحَ فِينَا حَلَالًا يَأْتِي مَا يَأْتِي الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِهِ } وَفِي لَفْظٍ { لَقَدْ رَأَيْتُنِي أَفْتِلُ الْقَلَائِدَ لِرَسُولِ

اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَبْعَثُ بِهِ ثُمَّ يُقِيمُ فِينَا حَلَالًا } وَأَخْرَجَا وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ { أَنَّهُ أَتَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَ لَهَا : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ إنَّ رَجُلًا يَبْعَثُ بِالْهَدْيِ إلَى الْكَعْبَةِ وَيَجْلِسُ فِي الْمِصْرِ فَيُوصِي أَنْ تُقَلَّدَ بَدَنَتُهُ فَلَا يَزَالُ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ مُحْرِمًا حَتَّى يَحِلَّ النَّاسُ ، قَالَ : فَسَمِعْتُ تَصْفِيقَهَا مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ فَقَالَتْ : لَقَدْ كُنْتُ أَفْتِلُ قَلَائِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَبْعَثُ هَدْيَهُ إلَى الْكَعْبَةِ ، فَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ مَا أُحِلَّ لِلرَّجُلِ مِنْ أَهْلِهِ حَتَّى يَرْجِعَ النَّاسُ } ا هـ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ { مِنْ أَهْدَى هَدْيًا حَرُمَ عَلَيْهِ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْحَاجِّ ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : لَيْسَ كَمَا قَالَ ، أَنَا فَتَلْت قَلَائِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِي ثُمَّ قَلَّدَهَا ثُمَّ بَعَثَ بِهَا مَعَ أَبِي فَلَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْءٌ أَحَلَّهُ اللَّهُ لَهُ حَتَّى نَحَرَ الْهَدْيَ } وَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ يُخَالِفَانِ حَدِيثَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَطَاءٍ صَرِيحًا فَيَجِبُ الْحُكْمُ بِغَلَطِهِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ التَّقْلِيدَ مَعَ عَدَمِ التَّوَجُّهِ مَعَهَا لَا يُوجِبُ الْإِحْرَامَ .
وَأَمَّا مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْآثَارِ مُطْلَقَةً فِي إثْبَاتِ الْإِحْرَامِ فَقَيَّدْنَاهَا بِهِ حَمْلًا لَهَا عَلَى مَا إذَا كَانَ مُتَوَجِّهًا جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ وَشَرَطْنَا النِّيَّةَ مَعَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا عِبَادَةَ إلَّا بِالنِّيَّةِ بِالنَّصِّ فَكُلُّ شَيْءٍ رُوِيَ مِنْ التَّقْلِيد مَعَ عَدَمِ الْإِحْرَامِ ، فَمَا كَانَ مَحَلُّهُ إلَّا فِي حَالِ عَدَمِ التَّوَجُّهِ وَالنِّيَّةِ فَلَا يُعَارِضُ الْمَذْكُورَ شَيْءٌ مِنْهَا .
وَمَا فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ : لَوْ لَبَّى وَلَمْ يَنْوِ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا فِي الرِّوَايَةِ الظَّاهِرَةِ مُشْعِرٌ بِأَنَّ هُنَاكَ رِوَايَةً

بِعَدَمِ اشْتِرَاطِهَا مَعَ التَّلْبِيَةِ ، وَمَا أَظُنُّهُ إلَّا نَظَرَ إلَى بَعْضِ الْإِطْلَاقَاتِ ، وَيَجِبُ فِي مِثْلِهَا الْحَمْلُ عَلَى إرَادَةِ الصَّحِيحِ وَأَنْ لَا تُجْعَلَ رِوَايَةً ( قَوْلُهُ فَإِذَا أَدْرَكَهَا وَسَاقَهَا أَوْ أَدْرَكَهَا ) رَدَّدَ بَيْنَ السَّوْقِ وَعَدَمِهِ لِاخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ فِيهِ .
شَرَطَ فِي الْمَبْسُوطِ السَّوْقَ مَعَ اللُّحُوقِ ، وَلَمْ يَشْتَرِطْهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ .
وَقَالَ فِي الْأَصْلِ : وَيَسُوقُهُ وَيَتَوَجَّهُ مَعَهُ وَهُوَ أَمْرٌ اتِّفَاقِيٌّ ، فَلَوْ أَدْرَكَ فَلَمْ يَسُقْ وَسَاقَ غَيْرُهُ فَهُوَ كَسَوْقِهِ لِأَنَّ فِعْلَ الْوَكِيلِ بِحَضْرَةِ الْمُوَكِّلِ كَفِعْلِ الْمُوَكِّلِ ( قَوْلُهُ إلَّا فِي هَدْيِ الْمُتْعَةِ ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ لَمْ يَصِرْ مُحْرِمًا حَتَّى يَلْحَقَهَا يَعْنِي حِينَ خَرَجَ عَلَى إثْرِهَا وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْهَا اسْتِحْسَانًا .
وَهُنَا قَيْدٌ لَا بُدَّ مِنْهُ وَهُوَ أَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ مُحْرِمًا فِي هَدْيِ الْمُتْعَةِ بِالتَّقْلِيدِ ، وَالتَّوَجُّهِ إذَا حَصَلَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، فَإِنْ حَصَلَا فِي غَيْرِهَا لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا مَا لَمْ يُدْرِكْهَا وَيَسِرْ مَعَهَا ، كَذَا فِي الرُّقَيَّاتِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ تَقْلِيدَ هَدْيِ الْمُتْعَةِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ لَا عِبْرَةَ بِهِ مِنْ أَفْعَالِ الْمُتْعَةِ ، وَأَفْعَالُ الْمُتْعَةِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ لَا يُعْتَدُّ بِهَا فَيَكُونُ تَطَوُّعًا .
وَفِي هَدْيِ التَّطَوُّعِ مَا لَمْ يُدْرِكْهُ وَيَسِرْ مَعَهُ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا .
وَذَكَرَ أَبُو الْيُسْرِ : دَمُ الْقِرَانِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَالْمُتْعَةِ ، وَجْهُ الْقِيَاسِ ظَاهِرٌ .
وَحَاصِلُ وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ زِيَادَةُ خُصُوصِيَّةِ هَدْيِ الْمُتْعَةِ بِالْحَجِّ ، فَالتَّوَجُّهُ إلَيْهِ تَوَجُّهٌ إلَى مَا فِيهِ زِيَادَةُ خُصُوصِيَّةٍ بِالْحَجِّ حَتَّى شَرَطَ لِذَبْحِهِ الْحَرَمَ وَيَبْقَى بِسَبَبِ سَوْقِهِ الْإِحْرَامُ ، فَلَمَّا ظَهَرَ أَثَرُهُ فِي الْإِحْرَامِ بَقَاءً أَظْهَرْنَا لَهُ فِي ابْتِدَائِهِ نَوْعَ اخْتِصَاصٍ ، وَهُوَ أَنَّ بِالتَّوَجُّهِ إلَيْهِ مَعَ قَصْدِ الْإِحْرَامَ يَصِيرُ مُحْرِمًا ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ قَدْ يَجِبُ

بِالْجِنَايَةِ وَإِنْ لَمْ يَصِلْ إلَى مَكَّةَ وَيَذْبَحُ قَبْلَ مَكَّةَ وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ أَثَرٌ شَرْعًا فِي الْإِحْرَامِ أَصْلًا

( فَإِنْ جَلَّلَ بَدَنَةً أَوْ أَشْعَرَهَا أَوْ قَلَّدَ شَاةً لَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا ) لِأَنَّ التَّجْلِيلَ لِدَفْعِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالذُّبَابِ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ خَصَائِصِ الْحَجِّ .
وَالْإِشْعَارُ مَكْرُوهٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَلَا يَكُونُ مِنْ النُّسُكِ فِي شَيْءٍ .
وَعِنْدَهُمَا إنْ كَانَ حَسَنًا فَقَدْ يُفْعَلُ لِلْمُعَالَجَةِ ، بِخِلَافِ التَّقْلِيدِ لِأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْهَدْيِ ، وَتَقْلِيدُ الشَّاةِ غَيْرُ مُعْتَادٍ وَلَيْسَ بِسُنَّةٍ أَيْضًا .

قَالَ ( وَالْبُدْنُ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : مِنْ الْإِبِلِ خَاصَّةً لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ الْجُمُعَةِ { فَالْمُتَعَجِّلُ مِنْهُمْ كَالْمُهْدِي بَدَنَةً ، وَاَلَّذِي يَلِيهِ كَالْمُهْدِي بَقَرَةً } فَصَلَ بَيْنَهُمَا .
وَلَنَا أَنَّ الْبَدَنَةَ تُنْبِئُ عَنْ الْبَدَانَةِ وَهِيَ الضَّخَامَةُ ، وَقَدْ اشْتَرَكَا فِي هَذَا الْمَعْنَى وَلِهَذَا يُجْزِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ سَبْعَةٍ .
وَالصَّحِيحُ مِنْ الرِّوَايَةِ فِي الْحَدِيثِ { كَالْمُهْدِي جَزُورًا } وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

( قَوْلُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إلَخْ ) هَذَا خِلَافٌ فِي مَفْهُومِ لَفْظِ الْبَدَنَةِ إمَّا فِي أَنَّهُ هَلْ هُوَ فِي اللُّغَةِ كَذَلِكَ أَوْ لَا فَقُلْنَا نَعَمْ وَنَقَلْنَا كَلَامَ أَهْلِ اللُّغَةِ فِيهِ .
قَالَ الْخَلِيلُ : الْبَدَنَةُ نَاقَةٌ أَوْ بَقَرَةٌ تُهْدَى إلَى مَكَّةَ .
قَالَ النَّوَوِيُّ : هُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ اللُّغَةِ .
وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ : الْبَدَنَةُ نَاقَةٌ أَوْ بَقَرَةٌ .
وَإِمَّا فِي أَنَّهُ فِي اللُّغَةِ كَذَلِكَ اتِّفَاقًا ، وَلَكِنَّهُ هَلْ هُوَ فِي الشَّرْعِ عَلَى الْمَفْهُومِ مِنْهُ لُغَةً ؟ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَوْ لَا فَقُلْنَا نَعَمْ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا .
فَإِذَا طُلِبَ مِنْ الْمُكَلَّفِ بَدَنَةٌ خَرَجَ عَنْ الْعُهْدَةِ بِالْبَقَرَةِ كَمَا يَخْرُجُ بِالْجَزُورِ .
وَعِنْدَهُ لَا يَخْرُجُ إلَّا بِالْجَزُورِ .
لَهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْأُولَى فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً } الْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
فَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَالصَّحِيحُ مِنْ الرِّوَايَةِ فِي الْحَدِيثِ كَالْمُهْدِي جَزُورًا غَيْرُ صَحِيحٍ ، بَلْ هِيَ أَصَحُّ لِأَنَّهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا ، وَرِوَايَةُ الْجَزُورِ فِي مُسْلِمٍ فَقَطْ وَلَفْظُهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { عَلَى كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ مَلَكٌ يَكْتُبُ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ مِثْلُ الْجَزُورِ ، ثُمَّ صَغَّرَ إلَى مِثْلِ الْبَيْضَةِ } الْحَدِيثَ .
بَلْ الْجَوَابُ أَنَّ التَّخْصِيصَ بِاسْمٍ خَاصٍّ لَا يَنْفِي الدُّخُولَ بِاسْمٍ عَامٍّ ، وَغَايَةُ مَا يَلْزَمُ مِنْ الْحَدِيثِ أَنَّهُ أَرَادَ بِالِاسْمِ الْأَعَمِّ فِي الْأَوَّلِ وَهُوَ الْبَدَنَةُ خُصُوصَ بَعْضِ مَا يَصْلُحُ لَهُ وَهُوَ الْجَزُورُ ، لَا كُلُّ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ بِقَرِينَةِ إعْطَاءِ الْبَقَرَةِ لِمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فِي مَقَامَ إظْهَارِ التَّفَاوُتِ فِي الْأَجْرِ لِلتَّفَاوُتِ فِي الْمُسَارَعَةِ ، وَهَذَا لَا يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ فِي الشَّرْعِ خُصُوصُ الْجَزُورِ إلَّا ظَاهِرًا بِنَاءً عَلَى إرَادَةِ

الْأَخَصِّ بِخُصُوصِهِ بِالْأَعَمِّ لَكِنْ يَلْزَمُهُ النَّقْلُ .
وَالْحُكْمُ بِاسْتِعْمَالِ لَفْظٍ فِي خُصُوصِ بَعْضِ مَا صَدَقَاتِهِ مَعَ الْحُكْمِ بِبَقَاءِ مَا اسْتَقَرَّ لَهُ عَلَى حَالِهِ أَسْهَلُ مِنْ الْحُكْمِ بِنَقْلِهِ عَنْهُ بِسَبَبِ اسْتِعْمَالٍ مِنْ الِاسْتِعْمَالَاتِ مِنْ غَيْرِ كَثْرَةٍ فِيهِ عِنْدَ تَعَارُضِ الْحُكْمَيْنِ وَلُزُومِ أَحَدِهِمَا مَعَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ مِنْ لِسَانِ أَهْلِ الْعُرْفِ الَّذِي يَدَّعِي نَقْلَهُ إلَيْهِ خِلَافُهُ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ { كُنَّا نَنْحَرُ الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ ، فَقِيلَ : وَالْبَقَرَةُ ؟ فَقَالَ : وَهَلْ هِيَ إلَّا مِنْ الْبُدْنِ } ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ .
فَرْعٌ اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ فِي بَدَنَةٍ فَقَلَّدَهَا أَحَدُهُمْ صَارُوا مُحْرِمِينَ إنْ كَانَ بِأَمْرِ الْبَقِيَّةَ وَسَارُوا مَعَهَا .
وَيُسْتَحَبُّ التَّجْلِيلُ وَالتَّصَدُّقُ بِالْجِلِّ لِأَنَّهُ أَعْمَلُ فِي الْكَرَامَةِ ، وَهَدَايَاهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَتْ مُجَلَّلَةً مُقَلَّدَةً .
وَقَالَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { تَصَدَّقْ بِجِلَالِهَا وَخِطَامِهَا } وَالتَّقْلِيدُ أَحَبُّ مِنْ التَّجْلِيلِ لِأَنَّ لَهُ ذِكْرًا فِي الْقُرْآنِ ، إلَّا فِي الشَّاةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِسُنَّةٍ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ .

بَابُ الْقِرَانِ ( الْقِرَانُ أَفْضَلُ مِنْ التَّمَتُّعِ وَالْإِفْرَادِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : الْإِفْرَادُ أَفْضَلُ .
وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : التَّمَتُّعُ أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَانِ لِأَنَّ لَهُ ذِكْرًا فِي الْقُرْآنِ وَلَا ذِكْرَ لِلْقِرَانِ فِيهِ .
وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْقِرَانُ رُخْصَةٌ } وَلِأَنَّ فِي الْإِفْرَادِ زِيَادَةَ التَّلْبِيَةِ وَالسَّفَرَ وَالْحَلْقَ وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { يَا آلَ مُحَمَّدٍ أَهِلُّوا بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ مَعًا } وَلِأَنَّ فِيهِ جَمْعًا بَيْنَ الْعِبَادَتَيْنِ فَأَشْبَهَ الصَّوْمَ مَعَ الِاعْتِكَافِ وَالْحِرَاسَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَعَ صَلَاةِ اللَّيْلِ .
وَالتَّلْبِيَةُ غَيْرُ مَحْصُورَةٍ وَالسَّفَرُ غَيْرُ مَقْصُودٍ ، وَالْحَلْقُ خُرُوجٌ عَنْ الْعِبَادَةِ فَلَا تَرْجِيحَ بِمَا ذُكِرَ .
وَالْمَقْصِدُ بِمَا رُوِيَ نَفْيُ قَوْلِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ إنَّ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ .
وَلِلْقِرَانِ ذِكْرٌ فِي الْقُرْآنِ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْله تَعَالَى { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } أَنْ يُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ عَلَى مَا رَوَيْنَا مِنْ قَبْلُ .
ثُمَّ فِيهِ تَعْجِيلُ الْإِحْرَامِ وَاسْتِدَامَةُ إحْرَامِهِمَا مِنْ الْمِيقَاتِ إلَى أَنْ يَفْرُغَ مِنْهُمَا ، وَلَا كَذَلِكَ التَّمَتُّعُ فَكَانَ الْقِرَانُ أَوْلَى مِنْهُ .
وَقِيلَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَارِنَ عِنْدَنَا يَطُوفُ طَوَافَيْنِ وَيَسْعَى سَعْيَيْنِ ، وَعِنْدَهُ طَوَافًا وَاحِدًا سَعْيًا وَاحِدًا .

( بَابُ الْقِرَانِ ) الْمُحْرِمُ إنْ أَفْرَدَ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ فَمُفْرِدٌ بِالْحَجِّ ، وَإِنْ أَفْرَدَ بِالْعُمْرَةِ فَإِمَّا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ أَوْ قَبْلَهَا إلَّا أَنَّهُ أَوْقَعَ أَكْثَرَ أَشْوَاطِ طَوَافِهَا فِيهَا أَوَّلًا .
الثَّانِي مُفْرِدٌ بِالْعُمْرَةِ ، وَالْأَوَّلُ أَيْضًا كَذَلِكَ إنْ لَمْ يَحُجَّ مِنْ عَامِهِ ، أَوْ حَجَّ وَأَلَمَّ بِأَهْلِهِ بَيْنَهُمَا إلْمَامًا صَحِيحًا ، وَإِنْ حَجَّ وَلَمْ يُلِمَّ بِأَهْلِهِ بَيْنَهُمَا إلْمَامًا صَحِيحًا فَمُتَمَتِّعٌ ، وَسَيَأْتِي مَعْنَى الْإِلْمَامِ الصَّحِيحِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَإِنْ لَمْ يُفْرِدْ الْإِحْرَامَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَلْ أَحْرَمَ بِهِمَا مَعًا ، أَوْ أَدْخَلَ إحْرَامَ الْحَجِّ عَلَى إحْرَامِ الْعُمْرَةِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ لِلْعُمْرَةِ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ فَقَارِنٌ بِلَا إسَاءَةٍ ، وَإِنْ أَدْخَلَ إحْرَامَ الْعُمْرَةِ عَلَى إحْرَامِ الْحَجِّ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ لِلْقُدُومِ وَلَوْ شَوْطًا فَقَارِنٌ مُسِيءٌ ، لِأَنَّ الْقَارِنَ مَنْ يَبْنِي الْحَجَّ عَلَى الْعُمْرَةِ فِي الْأَفْعَالِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَبْنِيَهُ أَيْضًا فِي الْإِحْرَامِ أَوْ يُوجِدَهُمَا مَعًا ، فَإِذَا خَالَفَ أَسَاءَ وَصَحَّ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ أَنْ يَبْنِيَ الْأَفْعَالَ إذَا لَمْ يَطُفْ شَوْطًا ، فَإِنْ لَمْ يُحْرِمْ بِالْعُمْرَةِ حَتَّى طَافَ شَوْطًا رَفَضَ .
الْعُمْرَةَ وَعَلَيْهِ قَضَاؤُهَا وَدَمٌ لِلرَّفْضِ لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ التَّرْتِيبِ ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ لَا طَوَافَ قُدُومٍ لِلْعُمْرَةِ .
هَذَا كَلَامُهُمْ فِي الْقَارِنِ ، وَمُقْتَضَاهُ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ فِي الْقِرَانِ إيقَاعُ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ .
وَيُشْكِلُ عَلَيْهِ مَا عَنْ مُحَمَّدٍ : لَوْ طَافَ فِي رَمَضَانَ لِعُمْرَتِهِ فَهُوَ قَارِنٌ ، وَلَكِنْ لَا دَمَ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَطُفْ لِعُمْرَتِهِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، وَسَيَأْتِيك تَحْقِيقُ الْمَقَامِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي بَابِ التَّمَتُّعِ ( قَوْلُهُ الْقِرَانُ أَفْضَلُ إلَخْ ) الْمُرَادُ بِالْإِفْرَادِ فِي الْخِلَافِيَّةِ أَنْ يَأْتِيَ بِكُلٍّ مِنْهُمَا مُفْرِدًا خِلَافًا لِمَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ مِنْ قَوْلِهِ : حَجَّةٌ

كُوفِيَّةٌ وَعُمْرَةٌ كُوفِيَّةٌ أَفْضَلُ عِنْدِي مِنْ الْقِرَانِ ، أَمَّا مَعَ الِاقْتِصَارِ عَلَى إحْدَاهُمَا فَلَا إشْكَالَ أَنَّ الْقِرَانَ أَفْضَلُ بِلَا خِلَافٍ .
وَحَقِيقَةُ الْخِلَافِ تَرْجِعُ إلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ فِي حَجَّتِهِ قَارِنًا أَوْ مُفْرِدًا أَوْ مُتَمَتِّعًا ، فَاَلَّذِي يُهِمُّنَا النَّظَرُ فِي ذَلِكَ ، وَلْنُقَدِّمْ عَلَيْهِ اسْتِدْلَالَ الْمُصَنِّفِ لِنُوفِيَ بِتَقْرِيرِ الْكِتَابِ ثُمَّ نَرْجِعُ إلَى تَحْرِيرِ النَّظَرِ فِي ذَلِكَ .
اسْتَدَلَّ لِلْخُصُومِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْقِرَانُ رُخْصَةٌ } وَلَا يُعْرَفُ هَذَا الْحَدِيثُ .
وَلِلْمَذْهَبِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَا أَهْلَ مُحَمَّدٍ أَهِلُّوا بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ مَعًا } رَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ بِسَنَدِهِ ، وَسَنَذْكُرُهُ عِنْدَ تَحْقِيقِ الْحَقِّ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
وَنَقُولُ : اخْتَلَفَتْ الْأُمَّةُ فِي إحْرَامِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
فَذَهَبَ قَائِلُونَ إلَى أَنَّهُ أَحْرَمَ مُفْرِدًا وَلَمْ يَعْتَمِرْ فِي سُفْرَتِهِ تِلْكَ ، وَآخَرُونَ إلَى أَنَّهُ أَفْرَدَ وَاعْتَمَرَ فِيهَا مِنْ التَّنْعِيمِ ، وَآخَرُونَ إلَى أَنَّهُ تَمَتَّعَ وَلَمْ يَحِلَّ لِأَنَّهُ سَاقَ الْهَدْيَ ، وَآخَرُونَ إلَى أَنَّهُ تَمَتَّعَ وَحَلَّ ، وَآخَرُونَ إلَى أَنَّهُ قَرَنَ فَطَافَ طَوَافًا وَاحِدًا وَسَعَى سَعْيًا وَاحِدًا لِحَجَّتِهِ وَعُمْرَتِهِ ، وَآخَرُونَ إلَى أَنَّهُ قَرَنَ فَطَافَ طَوَافَيْنِ وَسَعَى سَعْيَيْنِ لَهُمَا وَهَذَا مَذْهَبُ عُلَمَائِنَا .
وَجْهُ الْأَوَّلِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ { خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ ، فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ ، وَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَجَّةٍ } فَهَذَا التَّقْسِيمُ يُفِيدُ أَنَّ مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ لَمْ يَضُمَّ إلَيْهِ غَيْرَهُ .
وَلِمُسْلِمٍ عَنْهَا { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَهَلَّ بِالْحَجِّ مُفْرِدًا } .
وَلِلْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ

اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَحْدَهُ } وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْرَدَ الْحَجَّ } وَلِلْبُخَارِيِّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ { حَجَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ أَنَّهُ أَوَّلُ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً ، ثُمَّ عُمَرُ مِثْلَ ذَلِكَ ، ثُمَّ حَجَّ عُثْمَانُ فَرَأَيْتُهُ أَوَّلُ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ .
ثُمَّ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ فَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً ، ثُمَّ مُعَاوِيَةُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ، ثُمَّ حَجَجْتُ مَعَ أَبِي الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ وَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً ، ثُمَّ رَأَيْتُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً ، ثُمَّ آخِرُ مَنْ رَأَيْتُ يَفْعَلُ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ ، ثُمَّ لَمْ يَنْقُضْهَا بِعُمْرَةٍ وَلَا أَحَدٌ مِمَّنْ مَضَى ، مَا كَانُوا يَبْدَءُونَ بِشَيْءٍ حِينَ يَضَعُونَ أَقْدَامَهُمْ أَوَّلَ مِنْ الطَّوَافِ ثُمَّ لَا يَحِلُّونَ وَقَدْ رَأَيْتُ أُمِّي وَخَالَتِي حِينَ تَقْدَمَانِ لَا تَبْدَآنِ بِشَيْءٍ أَوَّلَ مِنْ الْبَيْتِ تَطُوفَانِ بِهِ ثُمَّ لَا تَحِلَّانِ } .
فَهَذِهِ كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَفْرَدَ ، وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ مَعَ كَثْرَةِ مَا نُقِلَ أَنَّهُ اعْتَمَرَ بَعْدَهُ ، فَلَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِأَنَّهُ فَعَلَهُ ، وَمَنْ ادَّعَاهُ فَإِنَّمَا اعْتَمَدَ عَلَى مَا رَأَى مِنْ فِعْلِ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنْ اعْتِمَارِهِمْ بَعْدَ الْحَجِّ مِنْ التَّنْعِيمِ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ وَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ ، وَقَدْ تَمَّ بِهَذَا مَذْهَبُ الْإِفْرَادِ .
وَجْهُ الْقَائِلِينَ أَنَّهُ كَانَ مُتَمَتِّعًا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَهْدَى فَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ مِنْ ذِي

الْحُلَيْفَةِ ، فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ قَالَ لِلنَّاسِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَهْدَى فَلَا يَحِلُّ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَجَّهُ ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْدَى فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَلْيَحْلِلْ ثُمَّ يُهِلَّ بِالْحَجِّ وَلْيُهْدِ ، وَلَمْ يَحْلِلْ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى قَضَى حَجَّهُ وَنَحَرَ هَدْيَهُ } وَعَنْ عَائِشَةَ { تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَمَتَّعْنَا مَعَهُ } بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ { تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَمَتَّعْنَا مَعَهُ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالْبُخَارِيُّ بِمَعْنَاهُ .
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيُّ : أَنَّ أَبَا مُوسَى كَانَ يُفْتِي بِالْمُتْعَةِ ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : قَدْ عَلِمْت أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ فَعَلَهُ وَأَصْحَابَهُ ، وَلَكِنِّي كَرِهْت أَنْ يَظَلُّوا مُعَرِّسِينَ بِهِنَّ فِي الْأَرَاكِ ثُمَّ يَرُوحُونَ فِي الْحَجِّ تَقْطُرُ رُءُوسُهُمْ فَهَذَا اتِّفَاقٌ مِنْهُمَا عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ مُتَمَتِّعًا .
وَقَدْ عَلِمْت مِنْ هَذَا أَنَّ الَّذِينَ رَوَوْا عَنْهُ الْإِفْرَادَ عَائِشَةُ ، وَابْنُ عُمَرَ رَوَوْا عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ مُتَمَتِّعًا .
وَأَمَّا رِوَايَةُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ فَقَوْلُهُ فِي الْكُلِّ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً ، يَعْنِي ثُمَّ لَمْ يَكُنْ إحْرَامُ الْحَجِّ يُفْعَلُ بِهِ عُمْرَةٌ بِفَسْخِهِ ، فَإِنَّمَا هُوَ دَلِيلُ تَرْكِ النَّاسِ فَسْخَ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ لِمَا عَلِمُوا مِنْ دَلِيلِ مَنْعِهِ مِمَّا أَسْلَفْنَاهُ فِي كِتَابِ الْحَجِّ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ ثُمَّ لَمْ يَنْقُضْهَا بِعُمْرَةٍ إلَخْ .
ثُمَّ صَرَّحَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ السَّابِقِ بِأَنَّهُ لَمْ يَحِلَّ حَتَّى قَضَى حَجَّهُ فَثَبَتَ الْمَطْلُوبُ .
وَأَمَّا مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ أَحَلَّ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ { قَصَّرْتُ عَنْ رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِشْقَصٍ } قَالُوا : وَمُعَاوِيَةُ أَسْلَمَ بَعْدَ الْفَتْحِ

وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا فِي الْفَتْحِ فَلَزِمَ كَوْنُهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَكَوْنُهُ عَنْ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ لِمَا زَادَهُ أَبُو دَاوُد فِي رِوَايَتِهِ مِنْ قَوْلِهِ عِنْدَ الْمَرْوَةِ وَالتَّقْصِيرُ فِي الْحَجِّ إنَّمَا يَكُونُ فِي مِنًى .
فَدَفَعَهُ بِأَنَّ الْأَحَادِيثَ الدَّالَّةَ عَلَى عَدَمِ إحْلَالِهِ جَاءَتْ مَجِيئًا مُتَظَافِرًا يَقْرُبُ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ مِنْ الشُّهْرَةِ الَّتِي هِيَ قَرِيبَةٌ مِنْ التَّوَاتُرِ كَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ السَّابِقِ ، وَمَا تَقَدَّمَ فِي الْفَسْخِ مِنْ الْأَحَادِيثِ وَحَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ الثَّابِتِ فِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ وَكَثِيرٍ ، وَسَيَأْتِي شَيْءٌ مِنْهَا فِي أَدِلَّةِ الْقِرَانِ .
وَلَوْ انْفَرَدَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى حَدِيث مُعَاوِيَةَ .
فَكَيْفَ وَالْحَالُ مَا أَعْلَمْنَاك فَلَزِمَ فِي حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ الشُّذُوذُ عَنْ الْجَمِّ الْغَفِيرِ ، فَإِمَّا هُوَ خَطَأٌ ، أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى عُمْرَةِ الْجِعْرَانَةِ ، فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ إذْ ذَاكَ ، وَهِيَ عُمْرَةٌ خَفِيَتْ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ لِأَنَّهَا كَانَتْ لَيْلًا عَلَى مَا فِي التِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيُّ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَرَجَ مِنْ الْجِعْرَانَةِ لَيْلًا مُعْتَمِرًا فَدَخَلَ مَكَّةَ لَيْلًا ، فَقَضَى عُمْرَتَهُ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ لَيْلَتِهِ } الْحَدِيثَ .
قَالَ : فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ خَفِيَتْ عَلَى النَّاسِ ، وَعَلَى هَذَا فَيَجِبُ الْحُكْمُ عَلَى الزِّيَادَةِ الَّتِي فِي سُنَنِ النَّسَائِيّ وَهِيَ قَوْلُهُ { فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ } بِالْخَطَإِ ، وَلَوْ كَانَتْ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ ، إمَّا لِنِسْيَانٍ مِنْ مُعَاوِيَةَ أَوْ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ عَنْهُ .
وَنَحْنُ نَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ : لَا شَكَّ أَنْ تَتَرَجَّحَ رِوَايَةُ تَمَتُّعِهِ لِتَعَارُضِ الرِّوَايَةِ عَمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ الْإِفْرَادُ ، وَسَلَامَةِ رِوَايَةِ غَيْرِهِ مِمَّنْ رَوَى التَّمَتُّعَ دُونَ الْإِفْرَادِ ، وَلَكِنَّ التَّمَتُّعَ بِلُغَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَعُرْفِ الصَّحَابَةِ أَعَمُّ مِنْ الْقِرَانِ كَمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ ، وَإِذَا كَانَ أَعَمَّ مِنْهُ

احْتَمَلَ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْفَرْدُ الْمُسَمَّى بِالْقِرَانِ فِي الِاصْطِلَاحِ الْحَادِثِ وَهُوَ مُدَّعَانَا ، وَأَنْ يُرَادَ بِهِ الْفَرْدُ الْمَخْصُوصُ بِاسْمِ التَّمَتُّعِ فِي ذَلِكَ الِاصْطِلَاحِ ، فَعَلَيْنَا أَنْ نَنْظُرَ أَوَّلًا فِي أَنَّهُ أَعَمُّ فِي عُرْفِ الصَّحَابَةِ أَوْ لَا ، وَثَانِيًا فِي تَرْجِيحِ أَيِّ الْفَرْدَيْنِ بِالدَّلِيلِ ، وَالْأَوَّلُ يَبِينُ فِي ضِمْنِ التَّرْجِيحِ وَثَمَّ دَلَالَاتٌ أُخَرُ عَلَى التَّرْجِيحِ مُجَرَّدَةٌ عَنْ بَيَانِ عُمُومِهِ عُرْفًا .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ : اجْتَمَعَ عَلِيٌّ وَعُثْمَانُ بِعُسْفَانَ فَكَانَ عُثْمَانُ يَنْهَى عَنْ الْمُتْعَةِ ، فَقَالَ عَلِيٌّ : مَا تُرِيدُ إلَى أَمْرٍ فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنْهَى عَنْهُ ؟ فَقَالَ عُثْمَانُ : دَعْنَا مِنْك ، فَقَالَ عَلِيٌّ : إنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَدَعَك ، فَلَمَّا رَأَى عَلِيٌّ ذَلِكَ أَهَلَّ بِهِمَا جَمِيعًا .
هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ .
وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ : اخْتَلَفَ عَلِيٌّ وَعُثْمَانُ بِعُسْفَانَ فِي الْمُتْعَةِ فَقَالَ عَلِيٌّ مَا تُرِيدُ إلَّا أَنْ تَنْهَى عَنْ أَمْرٍ فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَلِيٌّ أَهَلَّ بِهِمَا جَمِيعًا فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُهِلًّا بِهِمَا ، وَسَيَأْتِيك عَنْ عَلِيٍّ التَّصْرِيحُ بِهِ ، وَيُفِيدُ أَيْضًا أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا تَمَتُّعٌ ، فَإِنَّ عُثْمَانَ كَانَ يَنْهَى عَنْ الْمُتْعَةِ وَقَصَدَ عَلِيٌّ إظْهَارَ مُخَالَفَتِهِ تَقْرِيرًا لِمَا فَعَلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَأَنَّهُ لَمْ يُنْسَخْ فَقَرَنَ ، وَإِنَّمَا تَكُونُ مُخَالَفَةً إذَا كَانَتْ الْمُتْعَةُ الَّتِي نَهَى عَنْهَا عُثْمَانُ هِيَ الْقِرَانُ فَدَلَّ عَلَى الْأَمْرَيْنِ اللَّذَيْنِ عَيَّنَاهُمَا وَتَضَمَّنَ اتِّفَاقُ عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ عَلَى أَنَّ الْقِرَانَ مِنْ مُسَمَّى التَّمَتُّعِ ، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ حَمْلُ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ : { تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى التَّمَتُّعِ الَّذِي نُسَمِّيهِ

قِرَانًا } لَوْ لَمْ يَكُنْ عَنْهُ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ اللَّفْظَ ، فَكَيْفَ وَقَدْ وُجِدَ عَنْهُ مَا يُفِيدُ مَا قُلْنَاهُ ، وَهُوَ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّهُ قَرَنَ الْحَجَّ مَعَ الْعُمْرَةِ وَطَافَ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا ، ثُمَّ قَالَ : هَكَذَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } فَظَهَرَ أَنَّ مُرَادَهُ بِلَفْظِ الْمُتْعَةِ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ الْفَرْدُ الْمُسَمَّى بِالْقِرَانِ ، وَكَذَا يَلْزَمُ مِثْلُ هَذَا فِي قَوْلِ عِمْرَانِ بْنِ حُصَيْنٍ { تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَمَتَّعْنَا مَعَهُ } لَوْ لَمْ يُوجَدْ عَنْهُ غَيْرُ ذَلِكَ فَكَيْفَ وَقَدْ وُجِدَ ، وَهُوَ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ لِمُطَرِّفٍ : أُحَدِّثُك حَدِيثًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَنْفَعَك بِهِ { إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ بَيْنَ حَجٍّ وَعُمْرَةٍ ثُمَّ لَمْ يَنْهَ عَنْهُ حَتَّى مَاتَ وَلَمْ يَنْزِلْ قُرْآنٌ يُحَرِّمُهُ } وَكَذَا يَجِبُ مِثْلُ مَا قُلْنَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ : تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، إلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ ، لَوْ لَمْ يُوجَدْ عَنْهَا مَا يُخَالِفُهُ فَكَيْفَ وَقَدْ وَجَدَ ، مَا هُوَ ظَاهِرٌ فِيهِ ، وَهُوَ مَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ النُّفَيْلِيِّ : حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ .
حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ مُجَاهِدٍ ، سُئِلَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : { كَمْ اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : مَرَّتَيْنِ } ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : لَقَدْ عَلِمَ ابْنُ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ ثَلَاثًا سِوَى الَّتِي قَرَنَ بِحَجَّتِهِ .
وَكَذَا مَا فِي مُسْلِمٍ مِنْ أَنَّ أَبَا مُوسَى كَانَ يُفْتِي بِالْمُتْعَةِ : يَعْنِي بِقِسْمَيْهَا .
وَقَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَهُ : قَدْ عَلِمْت أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهُ وَأَصْحَابُهُ : أَيْ فَعَلُوا مَا يُسَمَّى مُتْعَةً فَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَعَلَ النَّوْعَ الْمُسَمَّى

بِالْقِرَانِ وَهُمْ فَعَلُوا النَّوْعَ الْمَخْصُوصَ بِاسْمِ الْمُتْعَةِ فِي عُرْفِنَا بِوَاسِطَةِ فَسْخِ الْحَجِّ إلَى عُمْرَةٍ .
وَيَدُلُّ عَلَى اعْتِرَافِ عُمَرَ بِهِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَادِي الْعَقِيقِ يَقُولُ أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ رَكْعَتَيْنِ وَقُلْ عُمْرَةً فِي حَجَّةٍ } وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ امْتِثَالِ مَا أُمِرَ بِهِ فِي مَنَامِهِ الَّذِي هُوَ وَحْيٌ .
وَمَا فِي أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ مَنْصُورٍ وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ الْأَعْمَشِ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ الصُّبَيّ بْنِ مَعْبَدٍ التَّغْلِبِيِّ قَالَ : { أَهْلَلْتُ بِهِمَا مَعًا ، فَقَالَ عُمَرُ : هُدِيتَ لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
وَرُوِيَ مِنْ طُرُقٍ أُخْرَى وَصَحَّحَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ قَالَ : وَأَصَحُّهُ إسْنَادُ حَدِيثِ مَنْصُورٍ وَالْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ الصُّبَيّ عَنْ عُمَرَ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ { سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُلَبِّي بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ جَمِيعًا ، قَالَ بَكْرٌ فَحَدَّثْتُ ابْنَ عُمَرَ فَقَالَ لَبَّى بِالْحَجِّ وَحْدَهُ ، فَلَقِيتُ أَنَسًا فَحَدَّثْتُهُ بِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ فَقَالَ أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَا تَعُدُّونَا إلَّا صِبْيَانًا ، سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : لَبَّيْكَ حَجًّا وَعُمْرَةً } وَقَوْلُ ابْنِ الْجَوْزِيِّ إنَّ أَنَسًا كَانَ إذْ ذَاكَ صَبِيًّا لِقَصْدِ تَقْدِيمِ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ عَلَيْهِ غَلَطٌ ، بَلْ كَانَ سَنُّ أَنَسٍ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ عِشْرِينَ سَنَةً أَوْ إحْدَى وَعِشْرِينَ أَوْ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ سَنَةً أَوْ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ سَنَةً ، وَذَلِكَ أَنَّهُ اُخْتُلِفَ فِي أَنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ تِسْعِينَ مِنْ الْهِجْرَةِ أَوْ إحْدَى وَتِسْعِينَ أَوْ اثْنَيْنِ وَتِسْعِينَ أَوْ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ

، ذَكَرَ ذَلِكَ الذَّهَبِيُّ فِي كِتَابِ الْعِبَرِ ، وَقَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَسِنُّهُ عَشْرَ سِنِينَ فَكَيْفَ يَسُوغُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِسِنِّ الصِّبَا إذْ ذَاكَ مَعَ أَنَّهُ إنَّمَا بَيْنَ ابْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ فِي السِّنِّ سَنَةٌ وَاحِدَةٌ أَوْ سَنَةٌ وَبَعْضُ سَنَةٍ .
ثُمَّ إنَّ رِوَايَةَ ابْنِ عُمَرَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْإِفْرَادَ مُعَارَضَةٌ بِرِوَايَتِهِ عَنْهُ التَّمَتُّعَ كَمَا أَسْمَعْنَاك وَعَلِمْت أَنَّ مُرَادَهُ بِالتَّمَتُّعِ الْقِرَانُ كَمَا حَقَّقْته ، وَثَبَتَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فِعْلُهُ وَنِسْبَتُهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا ، لَمْ يَخْتَلِفْ عَلَى أَنَسٍ أَحَدٌ مِنْ الرُّوَاةِ فِي أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ قَارِنًا ، قَالُوا : اتَّفَقَ عَنْ أَنَسٍ سِتَّةَ عَشَرَ رَاوِيًا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَرَنَ مَعَ زِيَادَةِ مُلَازَمَتِهِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ كَانَ خَادِمَهُ لَا يُفَارِقُهُ ، حَتَّى إنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ { كُنْتُ آخُذُ بِزِمَامِ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ تَقْصَعُ بِجَرَّتِهَا وَلُعَابُهَا يَسِيلُ عَلَى يَدِي وَهُوَ يَقُولُ : لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ مَعًا } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَحُمَيْدٍ وَيَحْيَى بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهُمْ سَمِعُوا أَنَسًا يَقُولُ { سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهَلَّ بِهِمَا لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا } وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ مَعًا } .
وَرَوَى النَّسَائِيّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أَسْمَاءَ عَنْ أَنَسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ حِينَ صَلَّى الظُّهْرَ } وَرَوَى الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ أَنَسٍ مِثْلَهُ .
وَذَكَرَ وَكِيعٌ : حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بْنُ

سُلَيْمٍ قَالَ : سَمِعْت أَنَسًا مِثْلَهُ قَالَ : وَحَدَّثَنَا ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ عَنْ أَنَسٍ مِثْلَهُ .
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ { اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَ عُمَرَ } فَذَكَرَهَا وَقَالَ { عُمْرَةً مَعَ حَجَّةٍ } وَذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ : حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ وَحُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ عَنْ أَنَسٍ مِثْلَهُ ، فَهَؤُلَاءِ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ ذَكَرْنَا فَلَمْ تَبْقَ شُبْهَةٌ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ فِي تَقْدِيمِ الْقِرَانِ .
وَفِي أَبِي دَاوُد عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ { كُنْتُ مَعَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْيَمِينِ } الْحَدِيثَ ، إلَى أَنْ قَالَ فِيهِ : { قَالَ : فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يَعْنِي عَلِيًّا فَقَالَ لِي : كَيْفَ صَنَعْتُ ؟ قُلْتُ : أَهْلَلْتُ بِإِهْلَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : فَإِنِّي سُقْتُ الْهَدْيَ وَقَرَنْتُ } وَذَكَرَ الْحَدِيثَ .
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ سُرَاقَةَ بِإِسْنَادٍ كُلُّهُ ثِقَاتٌ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ قَالَ : وَقَرَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ } .
وَرَوَى النَّسَائِيّ عَنْ { مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ : كُنْت جَالِسًا عِنْدَ عُثْمَانَ فَسَمِعَ عَلِيًّا يُلَبِّي بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ فَقَالَ : أَلَمْ تَكُنْ تَنْهَى عَنْ هَذَا ؟ فَقَالَ : بَلَى ، وَلَكِنَّنِي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُلَبِّي جَمِيعًا فَلَمْ أَدَعْ فِعْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِكَ } ، وَهَذَا مَا وَعَدْنَاك مِنْ الصَّرِيحِ عَنْ } عَلِيٍّ .
وَرَوَى أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيِّ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ } وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدٍ فِيهِ الْحُجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ ، وَفِيهِ مَقَالٌ ،

وَلَا يَنْزِلُ حَدِيثُهُ عَنْ الْحَسَنِ مَا لَمْ يُخَالِفْ أَوْ يَنْفَرِدْ .
قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ : مَا بَقِيَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَحَدٌ أَعْرَفُ بِمَا يَخْرُجُ مِنْ رَأْسِهِ مِنْهُ وَعِيبَ عَلَيْهِ التَّدْلِيسُ وَقَالَ : مَنْ سَلِمَ مِنْهُ .
وَقَالَ أَحْمَدُ : كَانَ مِنْ الْحُفَّاظِ .
وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ ، لَيْسَ بِالْقَوِيِّ وَهُوَ صَدُوقٌ يُدَلِّسُ .
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ : إذَا قَالَ حَدَّثَنَا فَهُوَ صَالِحٌ لَا يُرْتَابُ فِي حِفْظِهِ ، وَهَذِهِ الْعِبَارَاتُ لَا تُوجِبُ طَرْحَ حَدِيثِهِ .
وَرَوَى أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ الْهِرْمَاسِ بْنِ زِيَادٍ الْبَاهِلِيِّ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَنَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ } وَرَوَى الْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إلَى ابْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ : إنَّمَا { جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنْ لَا يَحُجَّ بَعْدَ عَامِهِ ذَلِكَ } .
وَرَوَى أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَنَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَطَافَ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا } وَرُوِيَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { أَهِلُّوا يَا آلَ مُحَمَّدٍ بِعُمْرَةٍ فِي حَجٍّ } وَهُوَ الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْكِتَابِ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ عَنْ { حَفْصَةَ قَالَتْ : قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا بَالُ النَّاسِ حَلُّوا وَلَمْ تَحِلَّ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ ؟ قَالَ : إنِّي قَلَّدْتَ هَدْيِي } الْحَدِيثَ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي عُمْرَةٍ يَمْتَنِعُ مِنْهَا التَّحَلُّلُ قَبْلَ تَمَامِ أَعْمَالِ الْحَجِّ ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ إلَّا لِلْقَارِنِ فَهَذَا وَجْهٌ إلْزَامِيٌّ ، فَإِنَّ سَوْقَ الْهَدْيِ عِنْدَ هُمَا لَا يَمْنَعُ الْمُتَمَتِّعَ عَنْ التَّحَلُّلِ ، وَالِاسْتِقْصَاءُ وَاسِعٌ ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَةٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
هَذَا وَمِمَّا يُمْكِنُ الْجَمْعُ

بِهِ بَيْنَ رِوَايَاتِ الْإِفْرَادِ وَالتَّمَتُّعِ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ رِوَايَاتِ الْإِفْرَادِ سَمَاعَ مَنْ رَوَاهُ تَلْبِيَتَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالْحَجِّ وَحْدَهُ ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ إفْرَادِ ذِكْرِ نُسُكٍ فِي التَّلْبِيَةِ وَعَدَمِ ذِكْرِ شَيْءٍ أَصْلًا وَجَمْعِهِ أُخْرَى مَعَ نِيَّةِ الْقِرَانِ فَهُوَ نَظِيرُ سَبَبِ الِاخْتِلَافِ فِي تَلْبِيَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَكَانَتْ دُبُرَ الصَّلَاةِ أَوْ اسْتِوَاءَ نَاقَتِهِ أَوْ حِينَ عَلَا عَلَى الْبَيْدَاءِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فِي أَوَائِلِ بَابِ الْإِحْرَامِ .
هَذَا وَأَمَّا أَنَّهُ حِينَ قَرَنَ طَافَ طَوَافَيْنِ وَسَعَى سَعْيَيْنِ فَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِ ، وَلْنَرْجِعْ إلَى تَقْرِيرِ التَّرْجِيحَاتِ الْمَعْنَوِيَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ ( قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ ) أَيْ الْقِرَانَ ( جَمَعَ بَيْنَ الْعِبَادَتَيْنِ فَأَشْبَهَ الصَّوْمَ مَعَ الِاعْتِكَافِ وَالْحِرَاسَةَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَعَ صَلَاةِ اللَّيْلِ ) وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ فِي الْأَدَاءِ مُتَعَذِّرٌ ، بِخِلَافِ الصَّوْمِ مَعَ الِاعْتِكَافِ وَالْحِرَاسَةِ مَعَ الصَّلَاةِ ، وَإِنَّمَا الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا حَقِيقَةٌ فِي الْإِحْرَامِ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ الْأَرْكَانِ عِنْدَنَا بَلْ شَرْطٌ فَلَا يَتِمُّ التَّشْبِيهُ .
وَأَيْضًا عَلِمْت أَنَّ مَوْضِعَ الْخِلَافِ مَا إذَا أَتَى بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ، لَكِنْ أَفْرَدَ كُلًّا مِنْهُمَا فِي سُفْرَةٍ وَاحِدَةٍ يَكُونُ الْقِرَانُ وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ إحْرَامَيْهِمَا أَفْضَلَ ، فَمُلَاقَاةُ التَّشْبِيهِ تَكُونُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا صَامَ يَوْمًا بِلَا اعْتِكَافٍ ثُمَّ اعْتَكَفَ يَوْمًا آخَرَ بِلَا صَوْمٍ أَوْ حَرَسَ لَيْلَةً بِلَا صَلَاةٍ وَصَلَّى لَيْلَةً بِلَا حِرَاسَةٍ يَكُونُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَفْضَلُ ، وَهَذَا لَيْسَ بِضَرُورِيٍّ فَيَحْتَاجُ إلَى الْبَيَانِ وَلَا يَكُونُ إلَّا بِسَمْعٍ لِأَنَّ تَقْدِيرَ الْأَثْوِبَةِ وَالْأَفْضَلِيَّةِ لَا يَكُونُ إلَّا بِهِ .
( قَوْلُهُ وَالتَّلْبِيَةُ إلَخْ ) دَفْعٌ لِتَرْجِيحِ الْإِفْرَادِ بِزِيَادَةِ

التَّلْبِيَةِ وَالسَّفَرِ وَالْحَلْقِ ، فَقَالَ ( التَّلْبِيَةُ غَيْرُ مَحْصُورَةٍ ) يَعْنِي لَا يَلْزَمُ زِيَادَتُهَا فِي الْإِفْرَادِ عَلَى الْقِرَانِ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَحْصُورَةٍ وَلَا مُقَدَّرَ لِكُلِّ نُسُكٍ قَدْرٌ مِنْهَا فَيَجُوزُ زِيَادَةُ تَلْبِيَةِ مَنْ قَرَنَ عَلَى مَنْ أَفْرَدَ كَمَا يَجُوز قَلْبُهُ ( وَالسَّفَرُ غَيْرُ مَقْصُودٍ ) إلَّا لِلنُّسُكِ فَهُوَ فِي نَفْسِهِ غَيْرُ عِبَادَةٍ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَصِيرُ عِبَادَةً بِنِيَّةِ النُّسُكِ بِهِ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُعْتَبَرَ نَفْسُ النُّسُكِ الَّذِي هُوَ أَقَلُّ سَفَرًا أَفْضَلَ مِنْ الْأَكْثَرِ سَفَرًا لِخُصُوصِيَّةٍ فِيهِ اعْتَبَرَهَا الشَّارِعُ ، فَإِنْ ظَهَرْنَا عَلَيْهَا وَإِلَّا حَكَمْنَا بِالْأَفْضَلِيَّةِ تَعَبُّدًا ، وَقَدْ عَلِمْنَا الْأَفْضَلِيَّةَ بِالْعِلْمِ بِأَنَّهُ قَرَنَ لِظُهُورِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَعْبُدَ اللَّهَ تَعَالَى هَذِهِ الْعِبَادَةَ الْوَاجِبَةَ الَّتِي لَمْ تَقَعْ لَهُ فِي عُمْرِهِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً إلَّا عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ فِيهَا ( وَالْحَلْقُ خُرُوجٌ عَنْ الْعِبَادَةِ ) فَلَا يُوجِبُ زِيَادَتُهُ بِالتَّكَرُّرِ زِيَادَةَ أَفْضَلِيَّةِ مَا لَمْ يَتَكَرَّرْ فِيهِ كَمَا قُلْنَا فِيمَا قَبْلَهُ ( وَالْمَقْصِدُ بِمَا رُوِيَ ) أَيْ بِالرُّخْصَةِ فِيمَا رُوِيَ الْقِرَانُ رُخْصَةً لَوْ صَحَّ ( نَفْيُ قَوْلِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ : الْعُمْرَةُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ ) فَكَانَ تَجْوِيزُ الشَّرْعِ إيَّاهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ حَتَّى لَا يَحْتَاجَ إلَى وَقْتٍ آخَرَ أَلْبَتَّةَ رُخْصَةَ إسْقَاطٍ فَكَانَ أَفْضَلَ ، فَإِنَّ رُخْصَةَ الْإِسْقَاطِ هِيَ الْعَزِيمَةُ فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ حَيْثُ كَانَتْ نَسْخًا لِلشَّرْعِ الْمَطْلُوبِ رَفْضُهُ ، وَأَقَلُّ مَا فِي الْبَابِ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ لِأَنَّ فِي فِعْلِهِ بَعْدَ تَقَرُّرِ الشَّرْعِ الْمَطْلُوبِ إظْهَارُهُ وَرَفْضِ الْمَطْلُوبِ رَفْضُهُ .
وَهُوَ أَقْوَى فِي الْإِذْعَانِ وَالْقَبُولِ مِنْ مُجَرَّدِ اعْتِقَادِ حَقِّيَّتِهِ وَعَدَمِ فِعْلِهِ ، وَهَذَا مِنْ الْخُصُوصِيَّاتِ ، وَكَثِيرٌ فِي هَذَا الشَّرْحِ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى مِثْلُهُ إذَا تُتُبِّعَ ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا

بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ ( قَوْلُهُ وَلِلْقِرَانِ ذِكْرٌ فِي الْقُرْآنِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ مَالِكٍ لِلتَّمَتُّعِ ذِكْرٌ فِي الْقُرْآنِ وَلَا ذِكْرَ لِلْقِرَانِ فِيهِ فَقَالَ بَلْ فِيهِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } عَلَى مَا رَوَيْنَا مِنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إتْمَامُهَا أَنْ تُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِك ، وَعَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْخِلَافِيَّةِ نَفْسُ ذِكْرِ التَّمَتُّعِ ذِكْرُ الْقِرَانِ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْهُ فَذِكْرُهُ ذِكْرُ كُلٍّ مِنْ أَنْوَاعِهِ ضِمْنًا ، وقَوْله تَعَالَى { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ } عَلَى هَذَا مَعْنَاهُ مَنْ تَرَفَّقَ بِالْعُمْرَةِ فِي وَقْتِ الْحَجِّ تَرَفُّقًا غَايَتُهُ الْحَجُّ ، وَسَمَّاهُ تَمَتُّعًا لِمَا قُلْنَا إنَّهَا كَانَتْ مَمْنُوعَةً عِنْدَ الْجَاهِلِيَّةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ تَعْظِيمًا لِلْحَجِّ بِأَنْ لَا يُشْرَكَ مَعَهُ فِي وَقْتِهِ شَيْءٌ .
فَلَمَّا أَبَاحَهَا الْعَزِيزُ جَلَّ جَلَالُهُ فِيهِ كَانَ تَوْسِعَةً وَتَيْسِيرًا لِمَا فِيهِ مِنْ إسْقَاطِ مُؤْنَةِ سَفَرٍ آخَرَ أَوْ صَبَرَ إلَى أَنْ يَنْقَضِيَ وَقْتُ الْحَجِّ فَكَانَ الْآتِي بِهِ مُتَمَتِّعًا بِنِعْمَةِ التَّرَفُّقِ بِهِمَا فِي وَقْتِ أَحَدِهِمَا ( قَوْلُهُ وَعِنْدَهُ طَوَافًا وَاحِدًا إلَخْ ) فَلَمَّا كَانَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا نُقْصَانُ أَفْعَالٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى إفْرَادِ كُلٍّ مِنْهُمَا كَانَ إفْرَادُ كُلٍّ مِنْهُمَا أَوْلَى مِنْ الْجَمْعِ

قَالَ ( وَصِفَةُ الْقِرَانِ أَنْ يُهِلَّ بِالْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ مَعًا مِنْ الْمِيقَاتِ وَيَقُولُ عَقِيبَ الصَّلَاةِ : اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَيَسِّرْهُمَا لِي وَتَقَبَّلْهُمَا مِنِّي ) لِأَنَّ الْقِرَانَ هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مِنْ قَوْلِك قَرَنْت الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ إذَا جَمَعْت بَيْنَهُمَا ، وَكَذَا إذَا أَدْخَلَ حَجَّةً عَلَى عُمْرَةٍ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ لَهَا أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ لِأَنَّ الْجَمْعَ قَدْ تَحَقَّقَ إذْ الْأَكْثَرُ مِنْهَا قَائِمٌ ، وَمَتَى عَزَمَ عَلَى أَدَائِهِمَا يَسْأَلُ التَّيْسِيرَ فِيهِمَا وَقَدَّمَ الْعُمْرَةَ عَلَى الْحَجِّ فِيهِ وَلِذَلِكَ يَقُولُ : لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ مَعًا لِأَنَّهُ يَبْدَأُ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ فَكَذَلِكَ يَبْدَأُ بِذِكْرِهَا ، وَإِنْ أَخَّرَ ذَلِكَ فِي الدُّعَاءِ وَالتَّلْبِيَةِ لَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ ، وَلَوْ نَوَى بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَذْكُرْهُمَا فِي التَّلْبِيَةِ أَجْزَأَهُ اعْتِبَارًا بِالصَّلَاةِ ( فَإِذَا دَخَلَ مَكَّةَ ابْتَدَأَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ يَرْمُلُ فِي الثَّلَاثِ الْأُوَلِ مِنْهَا ، وَيَسْعَى بَعْدَهَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، وَهَذِهِ أَفْعَالُ الْعُمْرَةِ ، ثُمَّ يَبْدَأُ بِأَفْعَالِ الْحَجِّ فَيَطُوفُ طَوَافَ الْقُدُومِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ وَيَسْعَى بَعْدَهُ كَمَا بَيَّنَّا فِي الْمُفْرِدِ ) وَيُقَدِّمُ أَفْعَالَ الْعُمْرَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ } وَالْقِرَانُ فِي مَعْنَى الْمُتْعَةِ .
وَلَا يَحْلِقُ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ لِأَنَّ ذَلِكَ جِنَايَةٌ عَلَى إحْرَامِ الْحَجِّ ، وَإِنَّمَا يَحْلِقُ فِي يَوْمِ النَّحْرِ كَمَا يَحْلِقُ الْمُفْرِدُ ، وَيَتَحَلَّلُ بِالْحَلْقِ عِنْدَنَا لَا بِالذَّبْحِ كَمَا يَتَحَلَّلُ الْمُفْرِدُ ثُمَّ هَذَا مَذْهَبُنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَطُوفُ طَوَافًا وَاحِدًا وَيَسْعَى سَعْيًا وَاحِدًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } وَلِأَنَّ مَبْنَى الْقِرَانِ عَلَى التَّدَاخُلِ حَتَّى اكْتَفَى فِيهِ بِتَلْبِيَةٍ

وَاحِدَةٍ وَسَفَرٍ وَاحِدٍ وَحَلْقٍ وَاحِدٍ فَكَذَلِكَ فِي الْأَرْكَانِ وَلَنَا أَنَّهُ لَمَّا طَافَ صُبَيُّ بْنُ مَعْبَدٍ طَوَافَيْنِ وَسَعَى سَعْيَيْنِ قَالَ لَهُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : هُدِيتَ لِسُنَّةِ نَبِيِّك ، وَلِأَنَّ الْقِرَانَ ضَمُّ عِبَادَةٍ إلَى عِبَادَةٍ وَذَلِكَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِأَدَاءِ عَمَلِ كُلِّ وَاحِدٍ عَلَى الْكَمَالِ ، وَلِأَنَّهُ لَا تَدَاخُلَ فِي الْعِبَادَاتِ .
وَالسَّفَرُ لِلتَّوَسُّلِ ، وَالتَّلْبِيَةُ لِلتَّحْرِيمِ ، وَالْحَلْقُ لِلتَّحَلُّلِ ، فَلَيْسَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ بِمَقَاصِدَ ، بِخِلَافِ الْأَرْكَانِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ شَفْعَيْ التَّطَوُّعِ لَا يَتَدَاخَلَانِ وَبِتَحْرِيمَةٍ وَاحِدَةٍ يُؤَدِّيَانِ وَمَعْنَى مَا رَوَاهُ دَخَلَ وَقْتُ الْعُمْرَةِ فِي وَقْتِ الْحَجِّ

( قَوْلُهُ عَقِيبَ الصَّلَاةِ ) أَيْ سُنَّةِ الْإِحْرَامِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ ( قَوْلُهُ وَالْقِرَانُ فِي مَعْنَى التَّمَتُّعِ ) وَعَلَى مَا قُلْنَاهُ فِي قَوْله تَعَالَى { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ } يُفِيدُ تَقْدِيمَ الْعُمْرَةِ فِي الْقِرَانِ بِنَظْمِ الْآيَةِ لَا بِالْإِلْحَاقِ ( قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } ) تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ ، وَتَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّهُ قَرَنَ فَطَافَ طَوَافًا وَاحِدًا لَهُمَا ثُمَّ قَالَ هَكَذَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
أَجَابَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ : وَلَنَا أَنَّهُ لَمَّا طَافَ صُبَيُّ بْنُ مَعْبَدٍ طَوَافَيْنِ وَسَعَى سَعْيَيْنِ قَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : هُدِيتَ لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ .
ثُمَّ حَمَلَ الدُّخُولَ عَلَى الدُّخُولِ فِي الْوَقْتِ ، وَذَلِكَ أَنَّ ظَاهِرَهُ غَيْرُ مُرَادٍ اتِّفَاقًا ، وَإِلَّا كَانَ دُخُولُهَا فِي الْحَجِّ غَيْرَ مُتَوَقِّفٍ عَلَى نِيَّةِ الْقِرَانِ بَلْ كُلُّ مَنْ حَجَّ يَكُونُ قَدْ حُكِمَ بِأَنَّ حَجَّهُ تَضَمَّنَ عُمْرَةً وَلَيْسَ كَذَلِكَ اتِّفَاقًا .
بَقِيَ أَنْ يُرَادَ الدُّخُولُ وَقْتًا أَوْ تَدَاخَلُ الْأَفْعَالِ بِشَرْطِ نِيَّةِ الْقِرَانِ وَالدُّخُولُ وَقْتًا ثَابِتٌ اتِّفَاقًا وَهُوَ مُحْتَمَلُهُ وَهُوَ مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ فَوَجَبَ الْحَمْلُ عَلَيْهِ ، بِخِلَافِ الْمُحْتَمَلِ الْآخَرِ لِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَمُخَالِفٌ لِلْمَعْهُودِ الْمُسْتَقِرِّ شَرْعًا فِي الْجَمْعِ بَيْنَ عِبَادَتَيْنِ وَهُوَ كَوْنُهُ بِفِعْلِ أَفْعَالِ كُلٍّ مِنْهُمَا ، أَلَا تَرَى أَنَّ شَفْعَيْ التَّطَوُّعِ لَا يَتَدَاخَلَانِ إذَا أَحْرَمَ لَهُمَا بِتَحْرِيمَةٍ وَاحِدَةٍ ؟ وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ هَذَا الْجَوَابَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى صِحَّةِ حَدِيثِ صُبَيِّ بْنِ مَعْبَدٍ عَلَى النَّصِّ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ ، وَاَلَّذِي قَدَّمْنَاهُ مِنْ تَصْحِيحِهِ فِي أَدِلَّةِ الْقِرَانِ إنَّمَا نَصُّهُ عَنْ الصُّبَيّ قَالَ : أَهْلَلْت بِهِمَا مَعًا ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : هُدِيت لِسُنَّةِ

نَبِيِّك ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ الصُّبَيّ بْنِ مَعْبَدٍ قَالَ : كُنْت رَجُلًا أَعْرَابِيًّا نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمْت ، فَأَتَيْت رَجُلًا مِنْ عَشِيرَتِي يُقَالُ لَهُ هُذَيْمُ بْن ثَرْمَلَةَ فَقُلْت : يَا هَنَاهُ إنِّي حَرِيصٌ عَلَى الْجِهَادِ وَإِنِّي وَجَدْت الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ مَكْتُوبَتَيْنِ عَلَيَّ فَكَيْفَ لِي بِأَنْ أَجْمَعَ بَيْنَهُمَا ؟ فَقَالَ لِي : اجْمَعْهُمَا وَاذْبَحْ مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ ، فَأَهْلَلْت فَلَمَّا أَتَيْت الْعُذَيْبَ لَقِيَنِي سَلْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ وَزَيْدُ بْنُ صُوحَانَ وَأَنَا أُهِلُّ بِهِمَا مَعًا ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخِرِ : مَا هَذَا بِأَفْقَهَ مِنْ بَعِيرِهِ ، قَالَ : فَكَأَنَّمَا أُلْقِيَ عَلَيَّ جَبَلٌ حَتَّى أَتَيْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَقُلْت : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنِّي كُنْت رَجُلًا أَعْرَابِيًّا نَصْرَانِيًّا وَإِنِّي أَسْلَمْت وَإِنِّي حَرِيصٌ عَلَى الْجِهَادِ ، وَإِنِّي وَجَدْت الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ مَكْتُوبَتَيْنِ عَلَيَّ ، فَأَتَيْت رَجُلًا مِنْ قَوْمِي فَقَالَ لِي اجْمَعْهَا وَاذْبَحْ مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ ، وَإِنِّي أَهْلَلْت بِهِمَا جَمِيعًا ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : هُدِيَتْ لِسُنَّةِ نَبِيِّك صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ا هـ .
وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ قَالَ لَهُ ذَلِكَ عَقِيبَ طَوَافِهِ وَسَعْيِهِ مَرَّتَيْنِ .
لَا جَرَمَ أَنَّ صَاحِبَ الْمَذْهَبِ رَوَاهُ عَلَى النَّصِّ الَّذِي هُوَ حُجَّةٌ ، وَإِنَّمَا قَصَرَهُ الْمُصَنِّفُ .
وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَوَى عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ الصُّبَيّ بْنِ مَعْبَدٍ قَالَ : أَقْبَلْت مِنْ الْجَزِيرَةِ حَاجًّا قَارِنًا فَمَرَرْت بِسَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ وَزَيْدِ بْنِ صُوحَانَ وَهُمَا مُنِيخَانِ بِالْعُذَيْبِ ، فَسَمِعَانِي أَقُولُ : لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ مَعًا ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا : هَذَا أَضَلُّ مِنْ بَعِيرِهِ ، وَقَالَ الْآخَرُ : هَذَا أَضَلُّ مِنْ كَذَا وَكَذَا ، فَمَضَيْت حَتَّى إذَا قَضَيْت نُسُكِي مَرَرْت بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَسَاقَهُ إلَى أَنْ قَالَ فِيهِ : قَالَ يَعْنِي

عُمَرَ لَهُ : فَصَنَعْت مَاذَا ؟ قَالَ : مَضَيْت فَطُفْت طَوَافًا لِعُمْرَتِي وَسَعَيْت سَعْيًا لِعُمْرَتِي ثُمَّ عُدْت فَفَعَلْت مِثْلَ ذَلِكَ لِحَجِّي ، ثُمَّ بَقِيت حَرَامًا مَا أَقَمْنَا أَصْنَعُ كَمَا يَصْنَعُ الْحَاجُّ حَتَّى قَضَيْت آخِرَ نُسُكِي ، قَالَ : هُدِيَتْ لِسُنَّةِ نَبِيِّك صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَأَعَادَهُ ، وَفِيهِ : كُنْت حَدِيثَ عَهْدٍ بِنَصْرَانِيَّةٍ فَأَسْلَمْت فَقَدِمْت الْكُوفَةَ أُرِيدُ الْحَجَّ ، فَوَجَدْت سَلْمَانَ بْنَ رَبِيعَةَ وَزَيْدَ بْنَ صُوحَانَ يُرِيدَانِ الْحَجَّ ، وَذَلِكَ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، فَأَهَلَّ سَلْمَانُ وَزَيْدٌ بِالْحَجِّ وَحْدَهُ وَأَهَلَّ الصُّبَيّ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَقَالَا : وَيْحَك تُمْتِعُ وَقَدْ نَهَى عُمَرُ عَنْ الْمُتْعَةِ ، وَاَللَّهِ لَأَنْتَ أَضَلُّ مِنْ بَعِيرِك فَسَاقَهُ ، وَفِيهِ مَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ التَّمَتُّعَ فِي عُرْفِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَتَابِعِيهِمْ يَعُمُّ الْقِرَانَ وَالتَّمَتُّعَ بِالْعُرْفِ الْوَاقِعِ الْآنَ .
وَأَيْضًا الْمُعَارَضَةُ بَيْنَ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَرِوَايَاتِهِمْ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الِاكْتِفَاءَ بِطَوَافٍ وَاحِدٍ وَسَعْيٍ وَاحِدٍ ثَابِتَةٌ ، فَتَقَدَّمَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِعْلًا وَرِوَايَةُ الِاكْتِفَاءِ بِوَاحِدٍ وَكَذَا مِنْ غَيْرِهِ .
وَصَحَّ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ عَدَمُهُ ، فَمِنْ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَخْرَجَ النَّسَائِيّ فِي سُنَنِهِ الْكُبْرَى عَنْ حَمَّادِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ : { طُفْتُ مَعَ أَبِي وَقَدْ جَمَعَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ ، فَطَافَ لَهُمَا طَوَافَيْنِ وَسَعَى لَهُمَا سَعْيَيْنِ ، وَحَدَّثَنِي أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَعَلَ ذَلِكَ ، وَحَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ ذَلِكَ } .
وَحَمَّادٌ هَذَا إنْ ضَعَّفَهُ الْأَزْدِيُّ فَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ فَلَا يَنْزِلُ حَدِيثُهُ عَنْ الْحَسَنِ .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي كِتَابِ الْآثَارِ : أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ،

حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ عَنْ أَبِي نَصْرٍ السُّلَمِيِّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : إذَا أَهْلَلْت بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَطُفْ لَهُمَا طَوَافَيْنِ وَاسْعَ لَهُمَا سَعْيَيْنِ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، قَالَ مَنْصُورٌ .
فَلَقِيت مُجَاهِدًا وَهُوَ يُفْتِي بِطَوَافٍ وَاحِدٍ لِمَنْ قَرَنَ ، فَحَدَّثْته بِهَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ : لَوْ كُنْت سَمِعْته لَمْ أُفْتِ إلَّا بِطَوَافَيْنِ ، وَأَمَّا بَعْدَهُ فَلَا أُفْتِي إلَّا بِهِمَا .
وَلَا شُبْهَةَ فِي هَذَا السَّنَدِ مَعَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِطُرُقٍ كَثِيرَةٍ مُضَعَّفَةٍ تَرْتَقِي إلَى الْحَسَنِ ، غَيْرَ أَنَّا تَرَكْنَاهَا وَاقْتَصَرْنَا عَلَى مَا هُوَ الْحُجَّةُ بِنَفْسِهِ بِلَا ضَمٍّ .
وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِسَنَدٍ فِيهِ مَجْهُولٌ وَقَالَ وَقَالَ : مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ حِينَ يَقْدَمُ وَبِالصَّفَا وَبِالْمَرْوَةِ ثُمَّ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ لِلزِّيَارَةِ ا هـ .
وَهُوَ صَرِيحٌ فِي مُخَالَفَةِ النَّصِّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَقَوْلُ ابْنِ الْمُنْذِرِ : لَوْ كَانَ ثَابِتًا عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى { مَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ أَجْزَأَهُ عَنْهُمَا طَوَافٌ وَاحِدٌ وَسَعْيٌ وَاحِدٌ } مَدْفُوعٌ بِأَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَفَعَهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا أَسْمَعْنَاك فَوَقَعَتْ الْمُعَارَضَةُ ، فَكَانَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ أَقْيَسَ بِأُصُولِ الشَّرْعِ فَرَجَحَتْ وَثَبَتَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ أَيْضًا رَفْعُهُ .
وَهُوَ مَا أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الْأَزْدِيِّ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُد عَنْ شُعْبَةَ عَنْ حُمَيْدٍ بْنِ هِلَالٍ عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافَ طَوَافَيْنِ وَسَعَى سَعْيَيْنِ } ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى هَذَا قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ ثِقَةٌ ، وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي كِتَابِ الثِّقَاتِ ، غَيْرَ أَنَّ

الدَّارَقُطْنِيّ نَسَبَ إلَيْهِ فِي خُصُوصِ هَذَا الْحَدِيثِ الْوَهْمَ فَقَالَ : يُقَالُ إنَّ يَحْيَى حَدَّثَ بِهِ مِنْ حِفْظِهِ فَوَهِمَ ، وَالصَّوَابُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَنَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ ، وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الطَّوَافِ وَلَا السَّعْيِ .
وَيُقَالُ : إنَّهُ رَجَعَ عَنْ ذِكْرِ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَحَدَّثَ بِهِ عَلَى الصَّوَابِ ، ثُمَّ أَسْنَدَ عَنْهُ بِهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَرَنَ ، قَالَ : وَقَدْ خَالَفَهُ غَيْرُهُ فَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ الطَّوَافَ .
ثُمَّ أَسْنَدَ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دَاوُد وَبِذَلِكَ الْإِسْنَادِ أَيْضًا أَنَّهُ قَرَنَ ا هـ .
وَحَاصِلُ مَا ذُكِرَ أَنَّهُ ثِقَةٌ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ ذَكَرَ زِيَادَةً عَلَى غَيْرِهِ .
وَالزِّيَادَةُ مِنْ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ .
وَمَا أُسْنِدَ إلَيْهِ غَايَةُ مَا فِيهِ أَنَّهُ اقْتَصَرَ مَرَّةً عَلَى بَعْضِ الْحَدِيثِ وَهَذَا لَا يَسْتَلْزِمُ رُجُوعَهُ وَاعْتِرَافَهُ بِالْخَطَإِ .
فَكَثِيرًا يَقَعُ مِثْلُ هَذَا .
وَثَبَتَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِثْلُ ذَلِكَ أَيْضًا .
قَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ : حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ زَاذَانَ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ زِيَادِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ عَلِيًّا وَابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَا فِي الْقِرَانِ : يَطُوفُ طَوَافَيْنِ وَيَسْعَى سَعْيَيْنِ ، فَهَؤُلَاءِ أَكَابِرُ الصَّحَابَةِ عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَعِمْرَانُ بْنُ الْحُصَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
فَإِنْ عَارَضَ مَا ذَهَبُوا إلَيْهِ رِوَايَةً وَمَذْهَبًا رِوَايَةَ غَيْرِهِمْ وَمَذْهَبَهُ كَانَ قَوْلُهُمْ وَرِوَايَتُهُمْ مُقَدَّمَةً مَعَ مَا يُسَاعِدُ قَوْلَهُمْ وَرِوَايَتَهُمْ مِمَّا اسْتَقَرَّ فِي الشَّرْعِ مِنْ ضَمِّ عِبَادَةٍ إلَى أُخْرَى أَنَّهُ بِفِعْلِ أَرْكَانِ كُلٍّ مِنْهُمَا ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ

قَالَ ( فَإِنْ طَافَ طَوَافَيْنِ لِعُمْرَتِهِ وَحَجَّتِهِ وَسَعَى سَعْيَيْنِ يُجْزِيهِ ) لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا هُوَ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ وَقَدْ أَسَاءَ بِتَأْخِيرِ سَعْيِ الْعُمْرَةِ وَتَقْدِيمُ طَوَافِ التَّحِيَّةِ عَلَيْهِ وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ .
أَمَّا عِنْدَهُمَا فَظَاهِرٌ لِأَنَّ التَّقْدِيمَ وَالتَّأْخِيرَ فِي الْمَنَاسِكِ لَا يُوجِبُ الدَّمَ عِنْدَهُمَا .
وَعِنْدَهُ طَوَافُ التَّحِيَّةِ سُنَّةٌ وَتَرْكُهُ لَا يُوجِبُ الدَّمَ فَتَقْدِيمُهُ أَوْلَى .
وَالسَّعْيُ بِتَأْخِيرِهِ بِالِاشْتِغَالِ بِعَمَلٍ آخَرَ لَا يُوجِبُ الدَّمَ فَكَذَا بِالِاشْتِغَالِ بِالطَّوَافِ .
( قَوْلُهُ فَإِنْ طَافَ طَوَافَيْنِ وَسَعَى سَعْيَيْنِ ) أَيْ وَالَى بَيْنَ الْأُسْبُوعَيْنِ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَبَيْنَ سَعْيَيْنِ لَهُمَا

قَالَ ( وَإِذَا رَمَى الْجَمْرَةَ يَوْمَ النَّحْرِ ذَبَحَ شَاةً أَوْ بَقَرَةً أَوْ بَدَنَةً أَوْ سُبُعَ بَدَنَةٍ فَهَذَا دَمُ الْقِرَانِ ) لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمُتْعَةِ وَالْهَدْيُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِيهَا ، وَالْهَدْيُ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي بَابِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَأَرَادَ بِالْبَدَنَةِ هَاهُنَا الْبَعِيرَ وَإِنْ كَانَ اسْمُ الْبَدَنَةِ يَقَعُ عَلَيْهِ وَعَلَى الْبَقَرَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَكَمَا يَجُوزُ سُبُعُ الْبَعِيرِ يَجُوزُ سُبُعُ الْبَقَرَةِ ( فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يَذْبَحُ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ آخِرُهَا يَوْمُ عَرَفَةَ وَسَبْعَةَ أَيَّامٍ إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } فَالنَّصُّ وَإِنْ وَرَدَ فِي التَّمَتُّعِ فَالْقِرَانُ مِثْلُهُ لِأَنَّهُ مُرْتَفِقٌ بِأَدَاءِ النُّسُكَيْنِ .
وَالْمُرَادُ بِالْحَجِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَقْتُهُ لِأَنَّ نَفْسَهُ لَا يَصْلُحُ ظَرْفًا ، إلَّا أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَصُومَ قَبْلَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ وَيَوْمَ التَّرْوِيَةَ وَيَوْمَ عَرَفَةَ لِأَنَّ الصَّوْمَ بَدَلٌ عَنْ الْهَدْيِ فَيُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهُ إلَى آخِرِ وَقْتِهِ رَجَاءَ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الْأَصْلِ ( وَإِنْ صَامَهَا بِمَكَّةَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الْحَجِّ جَازَ ) وَمَعْنَاهُ بَعْدَ مُضِيِّ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لِأَنَّ الصَّوْمَ فِيهَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ مُعَلَّقٌ بِالرُّجُوعِ ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الْمَقَامَ فَحِينَئِذٍ يُجْزِيهِ لِتَعَذُّرِ الرُّجُوعِ .
وَلَنَا أَنَّ مَعْنَاهُ رَجَعْتُمْ عَنْ الْحَجِّ : أَيْ فَرَغْتُمْ ، إذْ الْفَرَاغُ سَبَبُ الرُّجُوعِ إلَى أَهْلِهِ فَكَانَ الْأَدَاءُ بَعْدَ السَّبَبِ فَيَجُوزُ

( قَوْلُهُ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمُتْعَةِ وَالْهَدْيُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِيهَا ) فَيَلْحَقُ بِهَا فِيهِ دَلَالَةً لِأَنَّ وُجُوبَهُ فِي الْمُتْعَةِ لِشُكْرِ نِعْمَةِ إطْلَاقِ التَّرَفُّقِ بِهِمَا فِي وَقْتِ الْحَجِّ بِشَرْطِهِ عَلَى مَا نَذْكُرُ ، وَعَلَى مَا هُوَ الْحَقُّ مِمَّا قَرَّرْنَاهُ إيجَابُ الْهَدْي بِالنَّصِّ فِي الْمُتْعَةِ إيجَابٌ فِي الْقِرَانِ وَغَيْرِهِ ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْمُتْعَةِ عُرْفًا ، وَيَجِبُ الدَّمُ بَعْدَ الرَّمْيِ قَبْلَ الْحَلْقِ .
فَإِنْ حَلَقَ قَبْلَهُ لَزِمَهُ دَمٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( قَوْلُهُ فَإِنْ لِمَ يَكُنْ لَهُ مَا يَذْبَحُ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إلَخْ ) شَرْطُ إجْزَائِهَا وُجُودُ الْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَإِنْ كَانَ فِي شَوَّالٍ ، وَكُلَّمَا أَخَّرَهَا إلَى آخِرِ وَقْتِهَا فَهُوَ أَفْضَلُ لِرَجَاءِ أَنْ يُدْرِكَ الْهَدْيَ ، وَلِذَا كَانَ الْأَفْضَلُ أَنْ يَجْعَلَهَا السَّابِعَ مِنْ ذِي الْحَجَّةِ وَيَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمَ عَرَفَةَ .
وَأَمَّا صَوْمُ السَّبْعَةِ فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ عَلَى الرُّجُوعِ عَنْ مِنًى بَعْدَ إتْمَامِ أَعْمَالِ الْوَاجِبَاتِ لِأَنَّهُ مُعَلَّقٌ بِالرُّجُوعِ قَالَ تَعَالَى { وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ } وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ عُدِمَ قَبْلَ وُجُودِهِ ، فَتَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ تَقْدِيمٌ عَلَى وَقْتِهِ ، بِخِلَافِ صَوْمِ الثَّلَاثَةِ فَإِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِهِ فِي الْحَجِّ ، قَالَ تَعَالَى { فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ } وَالْمُرَادُ وَقْتُهُ لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِ أَعْمَالِهِ ظَرْفًا لَهُ ، فَإِذَا صَامَ بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَقَدْ صَامَ فِي وَقْتِهِ فَيَجُوزُ ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْهَدْيِ فِي خِلَالِ الثَّلَاثَةِ أَوْ بَعْدَهَا قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ لَزِمَهُ الْهَدْيُ وَسَقَطَ الصَّوْمُ لِأَنَّهُ خُلْفٌ ، وَإِذَا قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ تَأْدِي الْحُكْمِ بِالْخُلْفِ بَطَلَ الْخُلْفُ ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْحَلْقِ قَبْلَ أَنْ يَصُومَ السَّبْعَةَ فِي أَيَّامِ الذَّبْحِ أَوْ بَعْدَهَا لَمْ يَلْزَمْهُ الْهَدْيُ لِأَنَّ التَّحَلُّلَ قَدْ حَصَلَ بِالْحَلْقِ ،

فَوُجُودُ الْأَصْلِ بَعْدَهُ لَا يَنْقُضُ الْخُلْفَ كَرُؤْيَةِ الْمُتَيَمِّمِ الْمَاءَ بَعْدَ الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ ، وَكَذَا لَوْ لَمْ يَجِدْ حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ الذَّبْحِ ثُمَّ وَجَدَ الْهَدْيَ لِأَنَّ الذَّبْحَ مُؤَقَّتٌ بِأَيَّامِ النَّحْرِ ، فَإِذَا مَضَتْ فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ إبَاحَةُ التَّحَلُّلِ بِلَا هَدْيٍ وَكَأَنَّهُ تَحَلَّلَ ثُمَّ وَجَدَهُ ، وَلَوْ صَامَ فِي وَقْتِهِ مَعَ وُجُودِ الْهَدْيِ يُنْظَرُ ، فَإِنْ بَقِيَ الْهَدْيُ إلَى يَوْمِ النَّحْرِ لَمْ يُجْزِهِ لِلْقُدْرَةِ عَلَى الْأَصْلِ ، وَإِنْ هَلَكَ قَبْلَ الذَّبْحِ جَازَ لِلْعَجْزِ عَنْ الْأَصْلِ فَكَانَ الْمُعْتَبَرُ وَقْتَ التَّحَلُّلِ ( قَوْلُهُ إذْ الْفَرَاغُ سَبَبُ الرُّجُوعِ ) هَذَا تَعْيِينٌ لِلْعَلَاقَةِ فِي إطْلَاقِ الرُّجُوعِ عَلَى الْفَرَاغِ فِي الْآيَةِ فَذُكِرَ الْمُسَبِّبَ وَأُرِيدَ السَّبَبُ ، وَبِهِ صَرَّحَ فِي الْكَافِي ، لَكِنَّ الشَّأْنَ فِي دَلِيلِ إرَادَةِ الْمَجَازِ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ رَجَعَ إلَى مَكَّةَ غَيْرَ قَاصِدٍ لِلْإِقَامَةِ بِهَا حَتَّى تَحَقَّقَ رُجُوعُهُ إلَى غَيْرِ أَهْلِهِ وَوَطَنِهِ ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَتَّخِذَهَا وَطَنًا كَانَ لَهُ أَنْ يَصُومَ بِهَا مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ مِنْهُ الرُّجُوعُ إلَى وَطَنِهِ بَلْ إلَى غَيْرِهِ ، وَإِنَّمَا عَرَضَ الِاسْتِيطَانُ بَعْدَ ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ الرُّجُوعِ ثُمَّ لَمْ يَتَحَقَّقْ بَعْدَ صَيْرُورَتِهَا وَطَنًا رُجُوعٌ لِيَكُونَ رُجُوعًا إلَى وَطَنِهِ .
وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَّخِذْ وَطَنًا أَصْلًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَطَنٌ بَلْ مُسْتَمِرٌّ عَلَى السِّيَاحَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ صَوْمُهَا بِهَذَا النَّصِّ ، وَلَا يَتَحَقَّقُ فِي حَقِّهِ سِوَى الرُّجُوعِ عَنْ الْأَعْمَال .
فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الرُّجُوعُ عَنْهَا .
وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ فَيَكُونُ أَدَاءً بَعْدَ السَّبَبِ فَيَجُوزُ عَلَى هَذَا مَعْنَاهُ بَعْدَ سَبَبِ الرُّجُوعِ .
وَفِيهِ نَظَرٌ ، فَإِنَّ تَرَتُّبَ الْجَوَازِ إنَّمَا هُوَ عَلَى وُجُودِ سَبَبِ الْحُكْمِ لَا سَبَبِ شَيْءٍ آخَرَ ، وَالْحُكْمُ هُنَا وُجُوبُ الصَّوْمِ وَجَوَازُهُ عَنْ الْوَاجِبِ ، وَسَبَبُ الْأَوَّلِ وَهُوَ وُجُوبُ

الصَّوْمِ إنَّمَا هُوَ التَّمَتُّعُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } أَيْ كَامِلَةٌ فِي كَوْنِهَا قَائِمَةً مَقَامَ الْهَدْيِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهُ .
وَالثَّانِي مُسَبَّبٌ عَنْ نَفْسِ الْأَدَاءِ فِي وَقْتِهِ بِشَرْطِهِ وَهُوَ الْعَجْزُ عَنْ الْهَدْيِ ، لِمَا عُرِفَ مِنْ أَنَّ الْمَأْمُورَ إذَا أَتَى بِهِ كَذَلِكَ يَثْبُتُ لَهُ صِفَةُ الْجَوَازِ وَانْتِفَاءُ الْكَرَاهَةِ بِنَفْسِ الْإِتْيَانِ بِهِ فَلَمْ يَكُنْ حَاجَةً إلَى ذِكْرِهِ ، بَلْ إذَا أَتَى بِهِ بَعْدَ الْفَرَاغَ قَبْلَ الرُّجُوعِ فَقَدْ أَتَى بِهِ فِي وَقْتِهِ بِالنَّصِّ فَيَجُوزُ

( فَإِنْ فَاتَهُ الصَّوْمُ حَتَّى أَتَى يَوْمَ النَّحْرِ لَمْ يُجْزِهِ إلَّا الدَّمُ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَصُومُ بَعْدَ هَذِهِ الْأَيَّامِ لِأَنَّهُ صَوْمٌ مُوَقَّتٌ فَيَقْضِي كَصَوْمِ رَمَضَانَ .
وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَصُومُ فِيهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ } وَهَذَا وَقْتُهُ .
وَلَنَا النَّهْيُ الْمَشْهُورُ عَنْ الصَّوْمِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فَيَتَقَيَّدُ بِهِ النَّصُّ أَوْ يَدْخُلُهُ النَّقْصُ فَلَا يَتَأَدَّى بِهِ مَا وَجَبَ كَامِلًا ، وَلَا يُؤَدِّي بَعْدَهَا لِأَنَّ الصَّوْمَ بَدَلٌ وَالْأَبْدَالُ لَا تُنْصَبُ إلَّا شَرْعًا ، وَالنَّصُّ خَصَّهُ بِوَقْتِ الْحَجِّ وَجَوَازُ الدَّمِ عَلَى الْأَصْلِ .
وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ أَمَرَ فِي مِثْلِهِ بِذَبْحِ الشَّاةِ ، فَلَوْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْهَدْيِ تَحَلَّلَ وَعَلَيْهِ دَمَانِ : دَمُ التَّمَتُّعِ ، وَدَمُ التَّحَلُّلِ قَبْلَ الْهَدْيِ

( قَوْلُهُ فَيَتَقَيَّدُ بِهِ ) أَيْ بِالنَّهْيِ الْمَشْهُورِ عَنْ صَوْمِ هَذِهِ الْأَيَّامِ ( النَّصُّ ) وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ } : لِأَنَّ الْمَشْهُورَ يَتَقَيَّدُ إطْلَاقُ الْكِتَابِ بِهِ فَيَتَقَيَّدُ وَقْتُ الْحَجِّ الْمُطْلَقِ بِمَا لَمْ يُنْهَ عَنْهُ ( قَوْلُهُ أَوْ يَدْخُلُهُ النَّقْصُ ) أَيْ يَدْخُلُ الصَّوْمَ النَّقْصُ لِلنَّهْيِ عَنْهُ فَلَا يَتَأَدَّى بِهِ الْكَامِلُ الَّذِي هُوَ مَطْلُوبُ الْمُطْلَقِ ، وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ دُخُولَ النَّقْصِ إنَّمَا يُعْرَفُ بِالنَّهْيِ فَهُوَ الْمُقَيَّدُ .
وَغَايَةُ مَا هُنَاكَ أَنْ يَكُونَ تَقْيِيدُ النَّهْيِ بِعِلَّةِ دُخُولِ النَّقْصِ لِلنَّهْيِ عَنْهُ ؛ فَعَلَى هَذَا فَالْأَوْلَى إبْدَالُ " أَوْ " بِإِذْ فَيُقَالُ بِهِ فَيَتَقَيَّدُ بِهِ النَّصُّ إذْ يَدْخُلُهُ النَّقْصُ .
هَذَا وَأَمَّا مَا فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا : لَمْ يُرَخَّصْ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَنْ يَضْمَنَ إلَّا لِمَنْ لَمْ يَجِدْ الْهَدْيَ .
قِيلَ : وَهَذَا شَبِيهٌ بِالْمُسْنَدِ قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَبَلَغَنِي أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ يَرْوِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا .
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا مِنْ كَلَامِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ : الصَّوْمُ لِمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ إلَى يَوْمِ عَرَفَةَ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا وَلَمْ يَصُمْ صَامَ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ .
فَعَلَى أَصْلِنَا لَوْ صَحَّ رَفْعُهُ لَمْ يُعَارِضْ النَّهْيَ الْعَامَّ لَوْ وَازَنَهُ فَكَيْفَ وَذَلِكَ أَشْهَرُ ؟ وَعَلَى أَصْلِهِمْ لَا يُخَصُّ مَا لَمْ يُجْزَمْ بِرَفْعِهِ وَصِحَّتِهِ ، الْمُرْسَلُ عِنْدَهُمْ مِنْ قَبِيلِ الضَّعِيفِ لَوْ تَحَقَّقَ ، فَكَيْفَ وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ بَلَاغًا وَغَيْرُهُ مَوْقُوفًا ، وَلَوْ تَمَّ عَلَى أَصْلِهِمْ لَمْ يَلْزَمْنَا اعْتِبَارُهُ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78