كتاب : فتح القدير
المؤلف : كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي

قَالَ ( وَلَا يُعْطِي أُجْرَةَ الْجَزَّارِ مِنْ الْأُضْحِيَّةِ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { تَصَدَّقْ بِجِلَالِهَا وَخِطَامِهَا وَلَا تُعْطِ أَجْرَ الْجَزَّارِ مِنْهَا شَيْئًا } وَالنَّهْيُ عَنْهُ نَهْيٌ عَنْ الْبَيْعِ أَيْضًا لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ .

قَالَ ( وَيُكْرَهُ أَنْ يَجُزَّ صُوفَ أُضْحِيَّتِهِ وَيَنْتَفِعَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَهَا ) لِأَنَّهُ الْتَزَمَ إقَامَةَ الْقُرْبَةِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الذَّبْحِ لِأَنَّهُ أُقِيمَتْ الْقُرْبَةُ بِهَا كَمَا فِي الْهَدْيِ ، وَيُكْرَهُ أَنْ يَحْلُبَ لَبَنَهَا فَيَنْتَفِعَ بِهِ كَمَا فِي الصُّوفِ .

قَالَ ( وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَذْبَحَ أُضْحِيَّتَهُ بِيَدِهِ إنْ كَانَ يُحْسِنُ الذَّبْحَ ) وَإِنْ كَانَ لَا يُحْسِنُهُ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِغَيْرِهِ ، وَإِذَا اسْتَعَانَ بِغَيْرِهِ يَنْبَغِي أَنْ يَشْهَدَهَا بِنَفْسِهِ { لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِفَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قُومِي فَاشْهَدِي أُضْحِيَّتَك ، فَإِنَّهُ يُغْفَرُ لَك بِأَوَّلِ قَطْرَةٍ مِنْ دَمِهَا كُلُّ ذَنْبٍ }

قَالَ ( وَيُكْرَهُ أَنْ يَذْبَحَهَا الْكِتَابِيُّ ) لِأَنَّهُ عَمَلٌ هُوَ قُرْبَةٌ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا ، فَلَوْ أَمَرَهُ فَذَبَحَ جَازَ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الذَّكَاةِ ، وَالْقُرْبَةُ أُقِيمَتْ بِإِنَابَتِهِ وَنِيَّتِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَمَرَ الْمَجُوسِيَّ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الذَّكَاةِ فَكَانَ إفْسَادًا

قَالَ ( وَإِذَا غَلِطَ رَجُلَانِ فَذَبَحَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أُضْحِيَّةَ الْآخَرِ أَجْزَأَ عَنْهُمَا وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ ، وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ مَنْ ذَبَحَ أُضْحِيَّةَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ وَهُوَ ضَامِنٌ لِقِيمَتِهَا ، وَلَا يُجْزِئُهُ عَنْ الْأُضْحِيَّةِ فِي الْقِيَاسِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَجُوزُ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الذَّابِحِ ، وَهُوَ قَوْلُنَا .
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ ذَبَحَ شَاةَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَيَضْمَنُ ، كَمَا إذَا ذَبَحَ شَاةً اشْتَرَاهَا الْقَصَّابُ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهَا تَعَيَّنَتْ لِلذَّبْحِ لِتَعَيُّنِهَا لِلْأُضْحِيَّةِ حَتَّى وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا بِعَيْنِهَا فِي أَيَّامِ النَّحْرِ .
وَيُكْرَهُ أَنْ يُبْدِلَ بِهَا غَيْرَهَا فَصَارَ الْمَالِكُ مُسْتَعِينًا بِكُلِّ مَنْ يَكُونُ أَهْلًا لِلذَّبْحِ آذِنًا لَهُ دَلَالَةً لِأَنَّهَا تَفُوتُ بِمُضِيِّ هَذِهِ الْأَيَّامِ ، وَعَسَاهُ يَعْجَزُ عَنْ إقَامَتِهَا بِعَوَارِضَ فَصَارَ كَمَا إذَا ذَبَحَ شَاةً شَدَّ الْقَصَّابُ رِجْلَهَا ، فَإِنْ قِيلَ : يَفُوتُهُ أَمْرٌ مُسْتَحَبٌّ وَهُوَ أَنْ يَذْبَحَهَا بِنَفْسِهِ أَوْ يَشْهَدَ الذَّبْحَ فَلَا يَرْضَى بِهِ .
قُلْنَا : يَحْصُلُ لَهُ بِهِ مُسْتَحَبَّانِ آخَرَانِ ، صَيْرُورَتُهُ مُضَحِّيًا لِمَا عَيَّنَهُ ، وَكَوْنُهُ مُعَجِّلًا بِهِ فَيَرْتَضِيهِ ، وَلِعُلَمَائِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ مَسَائِلُ اسْتِحْسَانِيَّةٌ ، وَهِيَ أَنَّ مَنْ طَبَخَ لَحْمَ غَيْرِهِ أَوْ طَحَنَ حِنْطَتَهُ أَوْ رَفَعَ جَرَّتَهُ فَانْكَسَرَتْ أَوْ حَمَّلَ عَلَى دَابَّتِهِ فَعَطِبَتْ كُلُّ ذَلِكَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمَالِكِ يَكُونُ ضَامِنًا ، وَلَوْ وَضَعَ الْمَالِكُ اللَّحْمَ فِي الْقِدْرِ وَالْقِدْرَ عَلَى الْكَانُونِ وَالْحَطَبَ تَحْتَهُ ، أَوْ جَعَلَ الْحِنْطَةَ فِي الدَّوْرَقِ وَرَبَطَ الدَّابَّةَ عَلَيْهِ ، أَوْ رَفَعَ الْجَرَّةَ وَأَمَالَهَا إلَى نَفْسِهِ أَوْ حَمَّلَ عَلَى دَابَّتِهِ فَسَقَطَ فِي الطَّرِيقِ ، فَأَوْقَدَ هُوَ النَّارَ فِيهِ وَطَبَخَهُ ، أَوْ سَاقَ الدَّابَّةَ فَطَحَنَهَا ، أَوْ أَعَانَهُ عَلَى رَفْعِ الْجَرَّةِ فَانْكَسَرَتْ

فِيمَا بَيْنَهُمَا ، أَوْ حَمَّلَ عَلَى دَابَّتِهِ مَا سَقَطَ فَعَطِبَتْ لَا يَكُونُ ضَامِنًا فِي هَذِهِ الصُّوَرِ كُلِّهَا اسْتِحْسَانًا لِوُجُودِ الْإِذْنِ دَلَالَةً .
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ : ذَبَحَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أُضْحِيَّةَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ صَرِيحًا فَهِيَ خِلَافِيَّةُ زُفَرَ بِعَيْنِهَا وَيَتَأَتَّى فِيهَا الْقِيَاسُ وَالِاسْتِحْسَانُ كَمَا ذَكَرْنَا ، فَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَسْلُوخَةً مِنْ صَاحِبِهِ ، وَلَا يُضَمِّنُهُ لِأَنَّهُ وَكِيلُهُ فِيمَا فَعَلَ دَلَالَةً ، فَإِذَا كَانَا قَدْ أَكَلَا ثُمَّ عَلِمَا فَلْيُحَلِّلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ وَيُجْزِيهِمَا ، لِأَنَّهُ لَوْ أَطْعَمَهُ فِي الِابْتِدَاءِ يَجُوزُ ، وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا فَكَذَا لَهُ أَنْ يُحَلِّلَهُ فِي الِانْتِهَاءِ وَإِنْ ، تَشَاحَّا فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُضَمِّنَ صَاحِبَهُ قِيمَةَ لَحْمِهِ ثُمَّ يَتَصَدَّقُ بِتِلْكَ الْقِيمَةِ لِأَنَّهَا بَدَلٌ عَنْ اللَّحْمِ فَصَارَ كَمَا لَوْ بَاعَ أُضْحِيَّتَهُ ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّضْحِيَةَ لَمَّا وَقَعَتْ عَنْ صَاحِبِهِ كَانَ اللَّحْمُ لَهُ

( قَوْلُهُ فَصَارَ كَمَا لَوْ بَاعَ أُضْحِيَّتَهُ ) قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ فِي بَيَانِ مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ : يَعْنِي أَنَّهُ لَوْ بَاعَ أُضْحِيَّتَهُ وَاشْتَرَى بِثَمَنِهَا غَيْرَهَا ، فَلَوْ كَانَ غَيْرُهَا أَنْقَضَ مِنْ الْأُولَى تَصَدَّقَ بِمَا فَضَلَ عَلَى الثَّانِيَةِ ، وَلَوْ لَمْ يَشْتَرِ حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ تَصَدَّقَ بِثَمَنِهَا كُلِّهِ انْتَهَى .
أَقُولُ : قَدْ تَكَلَّمُوا فِي بَيَانِ مُرَادِ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ الْمَذْكُورِ جِدًّا حَيْثُ جَعَلُوهُ صُورَتَيْنِ ، فَزَادُوا فِي الصُّورَةِ الْأُولَى اشْتَرَى غَيْرَهَا بِثَمَنِهَا ، وَاعْتَبَرُوا التَّصَدُّقَ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ فِي بَعْضِ الثَّمَنِ دُونِ كُلِّهِ ، وَزَادُوا فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ مَضَى أَيَّامُ النَّحْرِ ، وَلَيْسَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، وَلَيْسَ فِي الْمَقَامِ مَا يَقْتَضِي شَيْئًا مِنْهَا كَمَا لَا يَخْفَى ، مَعَ أَنَّ الْأَمْرَ فِي مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ عَلَى طَرَفِ التَّمَامِ بِحَمْلِهِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ : أَيْ كَمَا لَوْ بَاعَ لَحْمَ أُضْحِيَّتِهِ ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ الْإِشَارَةَ إلَى مَا مَرَّ فِي الْكِتَابِ مِنْ قَوْلِهِ وَلَوْ بَاعَ الْجِلْدَ وَاللَّحْمَ بِالدَّرَاهِمِ أَوْ بِمَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ إلَّا بِاسْتِهْلَاكِهِ تَصَدَّقَ بِثَمَنِهِ تَدَبَّرْ

وَمَنْ أَتْلَفَ لَحْمَ أُضْحِيَّةِ غَيْرِهِ كَانَ الْحُكْمُ مَا ذَكَرْنَاهُ

( قَوْلُهُ وَمَنْ أَتْلَفَ لَحْمَ أُضْحِيَّةِ غَيْرِهِ كَانَ الْحُكْمُ مَا ذَكَرْنَاهُ ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ .
وَقَوْلُهُ وَمَنْ أَتْلَفَ لَحْمَ أُضْحِيَّةِ غَيْرِهِ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ وَإِنْ تَشَاحَّا : يَعْنِي إنْ تَشَاحَّا عَنْ التَّحْلِيلِ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتْلِفًا لَحْمَ أُضْحِيَّةِ صَاحِبِهِ ، وَمَنْ أَتْلَفَ لَحْمَ أُضْحِيَّةِ صَاحِبِهِ كَانَ الْحُكْمُ فِيهِ مَا ذَكَرْنَاهُ وَهُوَ قَوْلُهُ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُضَمِّنَ صَاحِبَهُ قِيمَةَ لَحْمِهِ انْتَهَى ، أَقُولُ لَيْسَ هَذَا التَّوْجِيهُ بِوَجِيهٍ .
فَإِنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ فَإِنْ تَشَاحَّا فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُضَمِّنَ صَاحِبَهُ قِيمَةَ لَحْمِهِ مَسْأَلَةٌ تَامَّةٌ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ دَلِيلٍ مُغَايِرٍ لَهَا ، وَفِي التَّوْجِيهِ الْمَذْكُورِ قَدْ أَخَذَ مُقَدَّمَ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَإِنْ تَشَاحَّا وَضُمَّ إلَيْهِ تَالٍ مُغَايِرٌ لِتَالِي الْمَسْأَلَةِ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْكِتَابِ أَصْلًا ، فَصَارَ إنْ تَشَاحَّا عَنْ التَّحْلِيلِ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتْلِفًا لَحْمَ أُضْحِيَّةِ صَاحِبِهِ ، وَجَعَلَ ذَلِكَ صُغْرَى الدَّلِيلِ وَجَعَلَ كُبْرَاهُ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ بَعْدَ الْمُقَدِّمَاتِ الْكَثِيرَةِ ، وَمَنْ أَتْلَفَ لَحْمَ أُضْحِيَّةِ غَيْرِهِ كَانَ الْحُكْمُ مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ وَالْحَقُّ عِنْدِي أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ وَمَنْ أَتْلَفَ لَحْمَ أُضْحِيَّةِ غَيْرِهِ كَانَ الْحُكْمُ مَا ذَكَرْنَاهُ مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ وَهَذَا لِأَنَّ التَّضْحِيَةَ لَمَّا وَقَعَتْ مِنْ صَاحِبِهِ كَانَ اللَّحْمُ لَهُ .
فَمَا قَبْلَهُ بِمَنْزِلَةِ الصُّغْرَى وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْكُبْرَى ، وَمَجْمُوعُهُمَا دَلِيلٌ تَامٌّ عَلَى أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَإِنْ تَشَاحَّا فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُضَمِّنَ صَاحِبَهُ قِيمَةَ لَحْمِهِ فَمَعْنَى الدَّلِيلِ أَنَّ تَضْحِيَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمَّا وَقَعَتْ مِنْ صَاحِبِهِ كَانَ اللَّحْمُ الَّذِي أَتْلَفَهُ بِالْأَكْلِ لِصَاحِبِهِ لَا لِنَفْسِهِ .
وَمَنْ أَتْلَفَ لَحْمَ أُضْحِيَّةِ غَيْرِهِ كَانَ الْحُكْمُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَضْمِينِ

صَاحِبِهِ إيَّاهُ قِيمَةَ لَحْمِهِ ، وَلَيْتَ شِعْرِي أَنَّ صَاحِبَ التَّوْجِيهِ الْأَوَّلِ مَاذَا يَصْنَعُ فِي حَقِّ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّضْحِيَةَ لَمَّا وَقَعَتْ مِنْ صَاحِبِهِ كَانَ اللَّحْمُ لَهُ فَهَلْ يَجْعَلُهُ وَحْدَهُ دَلِيلًا آخَرَ عَلَى أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ أَمْ يَجْعَلُهُ مُتَّصِلًا بِشَيْءٍ آخَرَ غَيْرِ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ ، فَانْظُرْ وَتَبَصَّرْ هَلْ يَتَيَسَّرُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ؟

( وَمَنْ غَصَبَ شَاةً فَضَحَّى بِهَا ضَمِنَ قِيمَتَهَا وَجَازَ عَنْ أُضْحِيَّتِهِ ) لِأَنَّهُ مَلَكَهَا بِسَابِقِ الْغَصْبِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أُودِعَ شَاةً فَضَحَّى بِهَا لِأَنَّهُ يُضَمِّنُهُ بِالذَّبْحِ فَلَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ لَهُ إلَّا بَعْدَ الذَّبْحِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

كِتَابُ الْكَرَاهِيَةِ قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : تَكَلَّمُوا فِي مَعْنَى الْمَكْرُوهِ .
وَالْمَرْوِيُّ عَنْ مُحَمَّدٍ نَصًّا أَنَّ كُلَّ مَكْرُوهٍ حَرَامٌ ، إلَّا أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِدْ فِيهِ نَصًّا قَاطِعًا لَمْ يُطْلِقْ عَلَيْهِ لَفْظَ الْحَرَامِ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إلَى الْحَرَامِ أَقْرَبُ ، وَهُوَ يَشْتَمِلُ عَلَى فُصُولٍ مِنْهَا :

( كِتَابُ الْكَرَاهِيَةِ ) أَوْرَدَ الْكَرَاهِيَةَ بَعْد الْأُضْحِيَّةِ ؛ لِأَنَّ عَامَّةَ مَسَائِلِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لَمْ تَخْلُ مِنْ أَصْلٍ أَوْ فَرْعٍ تَرِدُ فِيهِ الْكَرَاهَةُ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ التَّضْحِيَةَ فِي لَيَالِي أَيَّامِ النَّحْرِ مَكْرُوهَةٌ ، وَكَذَا التَّصَرُّفُ فِي الْأُضْحِيَّةِ بِجَزِّ صُوفِهَا وَحَلْبِ لَبَنِهَا وَإِبْدَالِ غَيْرِهَا مَكَانَهَا ، وَكَذَلِكَ ذَبْحُ الْكِتَابِيِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، كَمَا أَنَّ الْأَمْرَ فِي كِتَابِ الْكَرَاهِيَةِ كَذَلِكَ كَذَا فِي الشُّرُوحِ .
ثُمَّ إنَّ عِبَارَاتِ الْكُتُبِ قَدْ اخْتَلَفَتْ فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ ، فَقَدْ سَمَّاهُ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِاسْمِ الْكَرَاهِيَةِ ، وَعَلَيْهِ وَضَعَ الطَّحَاوِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ وَتَبِعَهُمَا الْمُصَنِّفُ ، وَسَمَّاهُ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ بِالِاسْتِحْسَانِ وَعَلَيْهِ كُتُبُ كَثِيرٍ مِنْ مَشَايِخِنَا كَالْكَافِي لِلْحَاكِمِ الشَّهِيدِ وَالْمَبْسُوطِ وَالْمُحِيطِ وَالذَّخِيرَةِ وَالْمُغْنِي وَغَيْرِهَا ، وَسَمَّاهُ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ بِالْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ ، وَتَبِعَهُ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ وَالْإِمَامُ قَاضِي خَانْ فِي فَتَاوَاهُ ، وَكَذَا وَقَعَ فِي التُّحْفَةِ وَالتَّتِمَّةِ وَالْإِيضَاحِ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا .
أَمَّا وَجْهُ التَّسْمِيَةِ بِالْكَرَاهِيَةِ فَلِأَنَّ بَيَانَ الْمَكْرُوهِ أَهَمُّ لِوُجُوبِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ .
وَأَمَّا وَجْهُ التَّسْمِيَةِ بِالِاسْتِحْسَانِ فَلِأَنَّ فِيهِ مَا حَسَّنَهُ الشَّرْعُ وَمَا قَبَّحَهُ وَلَفْظُ الِاسْتِحْسَانِ أَحْسَنُ فَلُقِّبَ بِهِ ، أَوْ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَسَائِلِهِ اسْتِحْسَانٌ لَا مَجَالَ لِلْقِيَاسِ فِيهَا ، وَأَمَّا وَجْهُ التَّسْمِيَةِ بِالْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ فَلِأَنَّ الْحَظْرَ الْمَنْعُ وَالْإِبَاحَةَ الْإِطْلَاقُ ، وَفِيهِ مَا مَنَعَ عَنْهُ الشَّرْعُ وَمَا أَبَاحَهُ .
كَذَا ذَكَرَ وَجْهَ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي الِاخْتِيَارِ شَرْحُ الْمُخْتَارِ .
وَفِي شَرْحِ الْكَنْزِ لِلْإِمَامِ الزَّيْلَعِيِّ : ثُمَّ إنَّ الْكَرَاهِيَةَ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ كَرِهَ الشَّيْءَ كَرْهًا وَكَرَاهَةً وَكَرَاهِيَةً ، قَالَ فِي الْمِيزَانِ : هِيَ ضِدُّ

الْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ، وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ } فَالْمَكْرُوهُ خِلَافُ الْمَنْدُوبِ وَالْمَحْبُوبِ لُغَةً ، وَالْكَرَاهَةُ لَيْسَتْ بِضِدٍّ لِلْإِرَادَةِ عِنْدَنَا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَارِهٌ لِلْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي : أَيْ لَيْسَ بِرَاضٍ بِهِمَا وَلَا مُحِبٍّ لَهُمَا ، وَإِنْ كَانَ الْكُفْرُ وَالْمَعَاصِي بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَشِيئَتِهِ .
وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ هِيَ ضِدُّ الْإِرَادَةِ أَيْضًا عَلَى مَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْكَلَامِ ، وَأَمَّا مَعْنَى الْكَرَاهِيَةِ فِي الشَّرِيعَةِ فَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي الْكِتَابِ ( قَوْلُهُ قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : تَكَلَّمُوا فِي مَعْنَى الْمَكْرُوهِ ) يَعْنِي اخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّرْعِ فِي مَعْنَى الْمَكْرُوهِ ، فَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ نَصَّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَكْرُوهٍ حَرَامٌ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِدْ فِيهِ نَصًّا قَاطِعًا لَمْ يُطْلِقْ عَلَيْهِ لَفْظَ الْحَرَامِ فَكَانَ نِسْبَةُ الْمَكْرُوهِ إلَى الْحَرَامِ عِنْدَهُ كَنِسْبَةِ الْوَاجِبِ إلَى الْفَرْضِ فِي أَنَّ الْأَوَّلَ ثَابِتٌ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ وَالثَّانِيَ ثَابِتٌ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إلَى الْحَرَامِ أَقْرَبُ .
ثُمَّ إنَّ هَذَا حَدُّ الْمَكْرُوهِ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ ، وَأَمَّا كَرَاهَةُ الْمَكْرُوهِ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ فَإِلَى الْحِلِّ أَقْرَبُ ، هَذَا خُلَاصَةُ مَا ذَكَرُوا فِي الْكُتُبِ ، وَلِبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ هُنَا كَلِمَاتٌ طَوِيلَةُ الذَّيْلِ لَا حَاصِلَ لَهَا تَرَكْنَا التَّعَرُّضَ لَهَا لِمَا فِي تَضَاعِيفِهَا مِنْ الِاخْتِلَالِ كَرَاهَةَ الْإِطْنَابِ

فَصْلٌ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ ( قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : يُكْرَهُ لُحُومُ الْأُتُنِ وَأَلْبَانُهَا وَأَبْوَالُ الْإِبِلِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : لَا بَأْسَ بِأَبْوَالِ الْإِبِلِ ) وَتَأْوِيلُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهَا لِلتَّدَاوِي ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْجُمْلَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ فِي الصَّلَاةِ وَالذَّبَائِحِ فَلَا نُعِيدُهَا ، وَاللَّبَنُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ اللَّحْمِ فَأَخَذَ حُكْمَهُ

( قَوْلُهُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُكْرَهُ لُحُومُ الْأُتُنِ وَأَلْبَانُهَا وَأَبْوَالُ الْإِبِلِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : لَا بَأْسَ بِأَبْوَالِ الْإِبِلِ ) قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ : خَصَّ الْأُتُنَ مَعَ كَرَاهَةِ لَحْمِ سَائِرِ الْحُمُرِ لِيَسْتَقِيمَ عَطْفُ الْأَلْبَانِ عَلَيْهِ ، إذْ اللَّبَنُ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ الْأَتَانِ انْتَهَى .
يَعْنُونَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ تُكْرَهُ لُحُومُ الْحُمُرِ وَأَلْبَانُهَا لَرَجَعَ الضَّمِيرُ فِي أَلْبَانِهَا إلَى الْحُمُرِ الْمَذْكُورِ فِيمَا قِيلَ ، وَذَلِكَ يَعُمُّ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ ، فَلَا يَسْتَقِيمُ عَطْفُ الْأَلْبَانِ مُضَافَةً إلَى الضَّمِيرِ الرَّاجِعِ إلَى مُطْلَقِ الْجَرِّ عَلَى مَا قَبْلَهَا ؛ لِأَنَّ الْأَلْبَانَ لَا تُتَصَوَّرُ فِي ذُكُورِ الْحُمُرِ ، وَإِنَّمَا تَتَحَقَّقُ فِي إنَاثِهَا الَّتِي هِيَ الْأُتُنُ .
نَعَمْ يُمْكِنُ تَصْحِيحُ ذَلِكَ أَيْضًا بِتَقْدِيرٍ وَتَأْوِيلٍ ، لَكِنَّ مُرَادَهُمْ عَدَمُ اسْتِقَامَةِ ذَلِكَ نَظَرًا إلَى ظَاهِرِ التَّرْكِيبِ فَسَقَطَتْ عَنْ كَلَامِهِمْ مُؤَاخَذَةُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَقَالَ ذَلِكَ الْبَعْضُ : وَإِنَّمَا خَصَّ كَرَاهَةَ لَحْمِ الْأُتُنِ بِالذِّكْرِ وَلَمْ يَذْكُرْ كَرَاهَةَ لَحْمِ غَيْرِهَا مِمَّا سَبَقَ فِي كِتَابِ الذَّبَائِحِ ، لِأَنَّهُ لَمَّا عَنْوَنَ الْفَصْلَ بِأَنَّهُ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ ، وَقَدْ ذَكَرَ فِي الذَّبَائِحِ جَمِيعَ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَلَوْ أَعَادَ كُلَّهَا يَلْزَمُ التَّكْرَارُ فَذَكَرَ بَعْضًا مِنْهَا تَذْكِيرًا لِلْبَوَاقِي انْتَهَى .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا مِمَّا يُعْتَدُّ بِهِ ؛ لِأَنَّ حَدِيثَ عِنْوَانِ الْفَصْلِ بِأَنَّهُ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ لَا يُفِيدُ شَيْئًا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ أَصْلًا ، فَإِنَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي هَذَا الْفَصْلِ غَيْرُ مُنْحَصِرٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، بَلْ كَثِيرٌ مِنْ الْمَسَائِلِ الْآتِيَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْفَصْلِ مِنْ مَسَائِلِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ أَيْضًا ، فَيَصِحُّ عِنْوَانُ الْفَصْلِ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ ، سَوَاءٌ لَمْ تُذْكَرْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهِ أَصْلًا أَوْ ذَكَرَ مَعَهَا غَيْرَهَا

أَيْضًا مِمَّا سَبَقَ فِي الذَّبَائِحِ .
وَأَمَّا حَدِيثُ ذِكْرِ بَعْضٍ مِنْ الْمَسَائِلِ السَّابِقَةِ فِي الذَّبَائِحِ تَذْكِيرًا لِلْبَوَاقِي فَغَيْرُ تَامٍّ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ مَا ذَكَرَ مَرَّ وَبُيِّنَ مُسْتَوْفًى تَذْكِيرًا لِبَوَاقِي الْمَذْكُورَاتِ لَيْسَ مِنْ دَأْبِ الْمُصَنِّفِينَ وَلَا مِمَّا يَهُمُّ أَصْلًا ، ثُمَّ أَقُولُ : الْأَوْجُهُ أَنْ يُقَالَ : إنَّمَا خَصَّ الْأُتُنَ بِالذِّكْرِ مَعَ كَرَاهَةِ لُحُومِ غَيْرِهَا أَيْضًا ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ قَدْ ذُكِرَ فِي الذَّبَائِحِ مُسْتَوْفًى ، وَكَرَاهَةُ لُحُومِ الْأُتُنِ إنَّمَا ذُكِرْت هَاهُنَا تَوْطِئَةً لِكَرَاهَةِ أَلْبَانِهَا الَّتِي لَمْ تُذْكَرْ فِيمَا مَرَّ قَطُّ ، وَلَا مَدْخَلَ لِكَرَاهَةِ لُحُومِ غَيْرِهَا فِي التَّوْطِئَةِ لِذَلِكَ فَلَا جَرَمَ خَصَّ الْأُتُنَ بِالذِّكْرِ دُونَ غَيْرِهَا .
ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ الْبَعْضُ : وَأَمَّا حُكْمُ أَبْوَالِ الْإِبِلِ فَإِنَّمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِيمَا سَبَقَ ، وَذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ هَاهُنَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، فَلَيْسَ فِيهِ التَّكْرَارُ حَتَّى يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الِاعْتِذَارِ انْتَهَى كَلَامُهُ .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِكَلَامٍ صَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ أَيْضًا ذَكَرَهُ هَاهُنَا فِي الْهِدَايَةِ وَالْبِدَايَةِ فَلَزِمَهُ التَّكْرَارُ قَطْعًا ، وَإِنَّمَا لَمْ يَلْزَمْهُ التَّكْرَارُ لَوْ ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُصَنِّفُ هَاهُنَا .
وَأَمَّا كَوْنُ مَأْخَذِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هَاهُنَا مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فَلَا يُجْدِي شَيْئًا فِي دَفْعِ التَّكْرَارِ ؛ لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ لَيْسَ فِي حَيِّزِ الِاجْتِهَادِ ، فَكُلُّ مَا ذَكَرَهُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ مُجْتَهِدٍ ، فَإِذَا ذَكَرَ مَسْأَلَةً مَرَّتَيْنِ لَزِمَ التَّكْرَارُ لَا مَحَالَةَ ( قَوْلُهُ وَتَأْوِيلُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لَا بَأْسَ بِهِ لِلتَّدَاوِي ) إنَّمَا احْتَاجَ الْمُصَنِّفُ إلَى هَذَا التَّأْوِيلِ ؛ لِأَنَّ مَذْهَبَ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ بَوْلَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ نَجِسٌ لِمَا مَرَّ فِي كِتَابِ الطَّهَارَاتِ فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ شُرْبُهُ حَرَامًا .
وَالْمَفْهُومُ مِنْ

قَوْلِهِ هَاهُنَا : وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : لَا بَأْسَ بِأَبْوَالِ الْإِبِلِ حِلُّ شُرْبِهَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا .
فَأَوَّلَ الْمُصَنِّفُ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ الْمَذْكُورَ هَاهُنَا بِنَفْيِ الْبَأْسِ عَنْ شُرْبِهَا لِلتَّدَاوِي ، وَشُرْبُهَا لِلتَّدَاوِي لَيْسَ بِحَرَامٍ عِنْدَهُ ، وَإِنْ كَانَتْ نَجِسًا تَمَسُّكًا بِقِصَّةِ الْعُرَنِيِّينَ كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الطَّهَارَاتِ .
قَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ فِي هَذَا الْمَقَامِ : وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : لَا بَأْسَ بِذَلِكَ ، فَمُنْصَرِفٌ إلَى لَحْمِ الْفَرَسِ خَاصَّةً ، لِأَنَّ بَوْلَ الْإِبِلِ نَجِسٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا ، إلَّا أَنَّهُ أَطْلَقَ شُرْبَهُ لِلتَّدَاوِي ، وَقَدْ مَرَّ فِي كِتَابِ الطَّهَارَاتِ فِي فَصْلِ الْبِئْرِ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ لَفْظَ مُحَمَّدٍ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ هَكَذَا : مُحَمَّدٌ عَنْ يَعْقُوبَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ : أَكْرَهُ شُرْبَ أَبْوَالِ الْإِبِلِ وَأَكْلَ لُحُومِ الْفَرَسِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : لَا بَأْسَ بِذَلِكَ إلَى هُنَا لَفْظُ مُحَمَّدٍ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، وَقَدْ اعْتَرَفَ بِهِ الشَّارِحُ الْمَذْكُورُ حَيْثُ ذَكَرَ لَفْظَهُ هَكَذَا بِعَيْنِهِ : وَلَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّ عِبَارَةَ كُلِّهِ فِي قَوْلِهِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ كُلِّهِ تَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مُنْصَرِفًا إلَى لَحْمِ الْفَرَسِ خَاصَّةً ، بَلْ يَقْتَضِي شُمُولَهُ لِأَبْوَالِ الْإِبِلِ أَيْضًا ( قَوْلُهُ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْجُمْلَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ فِي الصَّلَاةِ وَالذَّبَائِحِ فَلَا نُعِيدُهَا ) أَقُولُ : فِي رَوَاجِ هَذِهِ الْحَوَالَةِ بَحْثٌ ، فَإِنَّ أَلْبَانَ الْأُتُنِ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَلَمْ تُبَيِّنْ فِيمَا تَقَدَّمَ قَطُّ ، وَكَذَا أَبْوَالُ الْإِبِلِ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَلَمْ تُبَيِّنْ فِي شَيْءٍ مِنْ كِتَابَيْ الصَّلَاةِ وَالذَّبَائِحِ ، وَإِنَّمَا بُيِّنَتْ فِي كِتَابِ الطَّهَارَاتِ فِي فَصْلِ الْبِئْرِ فِي ضِمْنِ بَيَانِ بَوْلِ مَا يُؤْكَلُ

لَحْمُهُ مُطْلَقًا ، وَعَنْ هَذَا قَالَ صَاحِبُ الْكَافِي وَقَدْ مَرَّتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ وَالذَّبَائِحِ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يَتَمَحَّلَ فِي تَوْجِيهِ كُلٍّ مِنْ هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ .
أَمَّا فِي تَوْجِيهِ الصُّورَةِ الْأُولَى مِنْهُمَا فَبِأَنْ يُحْمَلَ الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي قَوْلِهِ قَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْجُمْلَةَ عَلَى مَا عَدَا الْأَلْبَانِ بِقَرِينَةِ بَيَانِ كَرَاهَةِ اللَّبَنِ بَعْدَ قَوْلِهِ فَلَا نُعِيدُهَا بِقَوْلِهِ وَاللَّبَنُ يَتَوَلَّدُ مِنْ اللَّحْمِ فَأَخَذَ حُكْمَهُ .
وَأَمَّا فِي تَوْجِيهِ الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ مِنْهُمَا فَبِأَنَّ الطَّهَارَةَ لَمَّا كَانَتْ مِنْ شُرُوطِ الصَّلَاةِ وَمَبَادِيهَا عَبَّرَ الْمُصَنِّفُ عَنْ كِتَابِ الطَّهَارَاتِ بِكِتَابِ الصَّلَاةِ مُسَامَحَةً .
قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ : وَإِنَّمَا قَالَ فِي الصَّلَاةِ مَعَ أَنَّ الْبَيَانَ لَمْ يَكُنْ فِيهَا بَلْ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ فِي فَصْلِ الْبِئْرِ إشَارَةً إلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ مَسَائِلَ الطَّهَارَةِ فِي فَصْلٍ مِنْ فُصُولِ كِتَابِ الصَّلَاةِ كَمَا وَقَعَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ وَأَنْ لَا يُتَرْجَمَ لَهَا كِتَابٌ عَلَى حِدَةٍ انْتَهَى .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ مَآلَهُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِتَعْبِيرِهِ الْمَذْكُورِ الْإِشَارَةَ إلَى تَقْبِيحِ نَفْسِهِ فِيمَا فَعَلَهُ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ مِنْ تَرْجَمَةِ الطَّهَارَاتِ بِكِتَابٍ عَلَى حِدَةٍ دُونَ فَصْلٍ مِنْ فُصُولِ كِتَابِ الصَّلَاةِ ، وَهَلْ يَلِيقُ بِالْعَاقِلِ أَنْ يَقْصِدَ الْإِشَارَةَ إلَى مِثْلِ ذَلِكَ .
عَلَى أَنَّ الشُّرَّاحَ ذَكَرُوا قَاطِبَةً فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ وَجْهًا وَجِيهًا لِإِيرَادِ الطَّهَارَةِ فِي كِتَابٍ مُسْتَقِلٍّ ، فَكَوْنُ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ مَسَائِلَ الطَّهَارَةِ فِي فَصْلٍ مِنْ فُصُولِ الصَّلَاةِ مَمْنُوعٌ ، وَعَنْ هَذَا تَرَى أَكْثَرَ ثِقَاتِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ ذَكَرُوا مَسَائِلَ الطَّهَارَةِ فِي كِتَابٍ عَلَى حِدَةٍ وَقَالَ ذَلِكَ الْبَعْضُ : ثُمَّ إنَّ الْمُصَنِّفَ بَيَّنَ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ شُرْبَ أَبْوَالِ الْإِبِلِ حَرَامٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ

مُطْلَقًا ، وَحَلَالٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ مُطْلَقًا ، وَلِلتَّدَاوِي فَقَطْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ .
وَذَكَرَ أَدِلَّتَهُمْ هُنَاكَ ، لَكِنْ بُنِيَ دَلِيلُ مُحَمَّدٍ عَلَى طَهَارَتِهِ ، مَعَ أَنَّ اسْتِلْزَامَ طَهَارَتِهِ حِلُّ شُرْبِهِ غَيْرُ ظَاهِرٍ ، وَأَنَّ طَهَارَتَهُ لَمْ تَلْزَمْ عِنْدَهُ إلَّا مِنْ حِلِّهِ الثَّابِتِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَا وُضِعَ شِفَاؤُكُمْ فِيمَا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } كَمَا سَبَقَ ، فَبِنَاءُ حِلِّهِ عَلَى طَهَارَتِهِ دَوْرٌ ظَاهِرٌ ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
أَقُولُ : حَدِيثُ الدَّوْرِ سَاقِطٌ جِدًّا ؛ لِأَنَّ حِلَّهُ إنَّمَا يَكُونُ عِلَّةً لِطَهَارَتِهِ فِي الْعَقْلِ بِأَنْ يَصِيرَ دَلِيلًا عَلَيْهَا .
وَأَمَّا طَهَارَتُهُ فَإِنَّمَا تَكُونُ عِلَّةً لِحِلِّهِ فِي الْخَارِجِ فَاخْتَلَفَتْ الْجِهَةُ ، وَهَذَا نَظِيرُ مَا قَالُوا فِي الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ أَنَّ الْحُمَّى عِلَّةٌ لِلْعُفُونَةِ فِي الذِّهْنِ وَالْعُفُونَةُ عِلَّةٌ لِلْحُمَّى فِي الْخَارِجِ ، فَالِاسْتِدْلَالُ بِالْحُمَّى عَلَى الْعُفُونَةِ بُرْهَانٌ إنِّيٌّ وَبِعَكْسِهِ بُرْهَانٌ لَمِّيٌّ وَلَا دَوْرَ أَصْلًا ، وَهَكَذَا الْحَالُ بَيْنَ كُلِّ مُؤَثِّرٍ وَأَثَرِهِ .
فَإِنَّ الْأَوَّلَ عِلَّةٌ لِلثَّانِي فِي الْخَارِجِ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي عِلَّةً لِلْأَوَّلِ فِي الْعَقْلِ : أَيْ دَلِيلًا عَلَيْهِ ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ اسْتِدْلَالُنَا بِوُجُودِ الْعَالَمِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ

، قَالَ ( وَلَا يَجُوزُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالِادِّهَانُ وَالتَّطَيُّبُ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الَّذِي يَشْرَبُ فِي إنَاءِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ { إنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ } { وَأُتِيَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِشَرَابٍ فِي إنَاءِ فِضَّةٍ فَلَمْ يَقْبَلْهُ وَقَالَ : نَهَانَا عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي الشُّرْبِ فَكَذَا فِي الِادِّهَانِ وَنَحْوِهِ ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ وَلِأَنَّهُ تَشَبُّهٌ بِزِيِّ الْمُشْرِكِينَ وَتَنَعُّمٌ بِنِعَمِ الْمُتْرَفِينَ وَالْمُسْرِفِينَ ، وَقَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : يُكْرَهُ وَمُرَادُهُ التَّحْرِيمُ وَيَسْتَوِي فِيهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ لِعُمُومِ النَّهْيِ ، وَكَذَلِكَ الْأَكْلُ بِمِلْعَقَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالِاكْتِحَالُ بِمِيلِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَكَذَا مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ كَالْمُكْحُلَةِ وَالْمِرْآةِ وَغَيْرِهِمَا لِمَا ذَكَرْنَا .

( قَوْلُهُ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي الشُّرْبِ فَكَذَا فِي الِادِّهَانِ وَنَحْوِهِ ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ ) أَيْ لِأَنَّ الِادِّهَانَ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ وَنَحْوِهِ فِي مَعْنَى الشُّرْبِ مِنْهَا ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْ ذَلِكَ اسْتِعْمَالٌ لَهَا ، وَالْمُحَرَّمُ هُوَ الِاسْتِعْمَالُ بِأَيْ وَجْهٍ كَانَ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّجَبُّرِ وَالْإِسْرَافِ فَيَشْمَلُ الِادِّهَانَ وَالتَّطَيُّبَ أَيْضًا .
وَفِي النِّهَايَةِ قِيلَ : صُورَةُ الِادِّهَانِ الْمُحَرَّمِ هُوَ أَنْ يَأْخُذَ آنِيَةَ الذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ وَيَصُبَّ الدُّهْنَ عَلَى الرَّأْسِ .
أَمَّا إذَا أَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا وَأَخَذَ الدُّهْنَ ، ثُمَّ صَبَّهُ عَلَى الرَّأْسِ مِنْ الْيَدِ لَا يُكْرَهُ .
كَذَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الذَّخِيرَةِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ا هـ .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ : وَرَأَى أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْمُكْحُلَةِ فَإِنَّ الْكُحْلَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَنْفَصِلَ عَنْهَا حِينَ الِاكْتِحَالِ .
وَمَعَ ذَلِكَ فَقَطْ ذَكَرَهُ فِي الْمُحَرَّمَاتِ انْتَهَى .
أَقُولُ : يُمْكِنُ دَفْعُ الْمُخَالَفَةِ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ بِأَنَّ الْمُحَرَّمَ فِي أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَآلَاتِهَا هُوَ اسْتِعْمَالُهَا ، وَاسْتِعْمَالُ آنِيَةِ الذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ عِنْدَ إرَادَةِ الِادِّهَانِ مِنْهَا إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ بِأَخْذِ آنِيَتِهِمَا وَصَبِّ الدُّهْنِ مِنْهَا عَلَى الْبَدَنِ لَا بِإِدْخَالِ الْيَدِ فِيهَا وَأَخْذِ الدُّهْنِ ، ثُمَّ صَبِّهِ عَلَى الْبَدَنِ .
وَأَمَّا اسْتِعْمَالُ مُكْحُلَةِ الذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ فَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ عَادَةً بِإِدْخَالِ الْمِيلِ فِيهَا ثُمَّ الِاكْتِحَالُ بِهِ فَانْفِصَالُ الْكُحْلِ عَنْهَا حِينَ الِاكْتِحَالِ لَا يَقْدَحُ فِي تَحَقُّقِ اسْتِعْمَالِهَا فَافْتَرَقَا .
وَاعْتَرَضَ صَاحِبُ التَّسْهِيلِ عَلَى مَا قِيلَ فِي صُورَةِ الِادِّهَانِ الْمُحَرَّمِ بِوَجْهٍ آخَرَ .
وَهُوَ أَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يُكْرَهَ إذَا أَخَذَ الطَّعَامَ مِنْ آنِيَةِ الذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ بِمِلْعَقَةٍ ثُمَّ أَكَلَ مِنْهَا ، وَكَذَا إذَا أَخَذَهُ بِيَدِهِ وَأَكَلَهُ مِنْهَا .

وَأَجَابَ عَنْهُ صَاحِبُ الدُّرَرِ وَالْغُرَرِ بِمَا يَقْرَبُ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ فِي دَفْعِ مَا قَالَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي الْمُكْحُلَةِ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ ذَلِكَ الِاعْتِرَاضِ أَقُولُ : مَنْشَؤُهُ الْغَفْلَةُ عَنْ مَعْنَى عِبَارَةِ الْمَشَايِخِ وَعَدَمُ الْوُقُوفِ عَلَى مُرَادِهِمْ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ مِنْ فِي قَوْلِهِمْ مِنْ إنَاءِ ذَهَبٍ ابْتِدَائِيَّةٌ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ مُرَادَهُمْ أَنَّ الْأَدَوَاتِ الْمَصْنُوعَةَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ إنَّمَا يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهَا إذَا اُسْتُعْمِلَتْ فِيمَا صُنِعَتْ لَهُ بِحَسَبِ مُتَعَارَفِ النَّاسِ ، فَإِنَّ الْأَوَانِيَ الْكَبِيرَةَ الْمَصْنُوعَةَ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِأَجْلِ أَكْلِ الطَّعَامِ إنَّمَا يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهَا إذَا أَكَلَ الطَّعَامَ مِنْهَا بِالْيَدِ أَوْ الْمِلْعَقَةِ ؛ لِأَنَّهَا وُضِعَتْ لِأَجْلِ ابْتِدَاءِ الْأَكْلِ مِنْهَا بِالْيَدِ أَوْ الْمِلْعَقَةِ فِي الْعُرْفِ .
وَأَمَّا إذَا أَخَذَ مِنْهَا وَوَضَعَ عَلَى مَوْضِعٍ مُبَاحٍ فَأَكَلَ مِنْهُ لَمْ يَحْرُمْ لِانْتِفَاءِ ابْتِدَاءِ الِاسْتِعْمَالِ مِنْهَا ، وَكَذَا الْأَوَانِي الصَّغِيرَةُ الْمَصْنُوعَةُ لِأَجْلِ الِادِّهَانِ وَنَحْوِهِ إنَّمَا يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهَا إذَا أُخِذَتْ وَصُبَّ مِنْهَا الدُّهْنُ عَلَى الرَّأْسِ أَوْ عَلَى الْيَدِ ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا صُنِعَتْ لِأَجْلِ الِادِّهَانِ مِنْهَا بِذَلِكَ الْوَجْهِ .
وَأَمَّا إذَا أَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا وَأَخَذَ الدُّهْنَ وَصَبَّهُ عَلَى الرَّأْسِ مِنْ الْيَدِ فَلَا يُكْرَهُ لِانْتِفَاءِ ابْتِدَاءِ الِاسْتِعْمَالِ مِنْهَا ، فَظَهَرَ أَنَّ مُرَادَهُمْ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ الِاسْتِعْمَالِ الْمُتَعَارَفِ مِنْ ذَلِكَ الْمُحَرَّمِ ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
أَقُولُ : فِيهِ نَوْعُ اسْتِدْرَاكٍ بَلْ اخْتِلَالٍ ، فَإِنَّ قَوْلَهُ مَنْشَؤُهُ الْغَفْلَةُ عَنْ مَعْنَى الْمَشَايِخِ ثُمَّ بَيَانُهُ إيَّاهُ بِقَوْلِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ " مِنْ " فِي قَوْلِهِمْ مِنْ إنَاءِ ذَهَبٍ ابْتِدَائِيَّةٌ أَمْرٌ زَائِدٌ بَلْ مُخْتَلٌّ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي عِبَارَةِ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِكَلِمَةِ فِي بِدَلَ

كَلِمَةِ مِنْ ، وَعَلَيْهِ عِبَارَةُ الْكِتَابِ وَالْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَالْمُحِيطِ وَالذَّخِيرَةِ وَعَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ ، وَإِنَّمَا وَقَعَتْ كَلِمَةُ مِنْ فِي كَلَامِ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الْمُتُونِ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِلِابْتِدَاءِ فِي تَمْشِيَةِ الْجَوَابِ الَّذِي ذَكَرَهُ هَاهُنَا ، إذْ يَكْفِي فِيهَا الْفَرْقُ بَيْنَ الِاسْتِعْمَالِ الْمُتَعَارَفِ وَغَيْرِهِ ، سَوَاءٌ كَانَ الِاسْتِعْمَالُ فِي الِابْتِدَاءِ أَوْ فِي الِانْتِهَاءِ ، يَظْهَرُ ذَلِكَ بِالتَّأَمُّلِ الصَّادِقِ وَالذَّوْقِ السَّلِيمِ .
ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْجَوَابَ الْمَذْكُورَ ، وَطَعَنَ فِي بَعْضِ عِبَارَاتِهِ قَالَ : وَالْحَقُّ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ صُوَرِ الِادِّهَانِ لَيْسَ بِمَا ذَكَرَهُ الْمُجِيبُ .
بَلْ بِوُجُودِ مُمَاسَّةِ الْيَدِ بِالْإِنَاءِ وَقْتَ الِاسْتِعْمَالِ فِي الصُّورَتَيْنِ وَعَدَمِهَا فِي الثَّالِثَةِ ، فَإِنَّ لِلْمُمَاسَّةِ تَأْثِيرًا فِي الْحُرْمَةِ كَمَا سَيَجِيءُ مِنْ وُجُوبِ الِاتِّقَاءِ عَنْ مَوْضِعِ الْفِضَّةِ فِي الْإِنَاءِ الْمُفَضَّضِ أَوْ الْمُضَبَّبِ وَقْتَ الشُّرْبِ فَتَأَمَّلْ انْتَهَى .
أَقُولُ : يَرُدُّ عَلَى هَذَا الْفَرْقِ الَّذِي زَعَمَهُ حَقًّا النَّقْضُ الَّذِي أَوْرَدَهُ صَاحِبُ التَّسْهِيلِ ، فَإِنَّهُ إذَا أَخَذَ الطَّعَامَ مِنْ آنِيَةِ الذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ بِمِلْعَقَةٍ ، ثُمَّ أَكَلَ مِنْهَا أَوْ أَخَذَهُ بِيَدِهِ وَأَكَلَهُ مِنْهَا لَمْ يُوجَدْ هُنَاكَ مُمَاسَّةُ الْيَدِ بِالْآنِيَةِ مَعَ أَنَّهُ يُكْرَهُ بِلَا شَكٍّ ، فَالْمُخْلَصُ الْكُلِّيُّ هُنَا إنَّمَا يَحْصُلُ بِالْمَصِيرِ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الِاسْتِعْمَالِ الْمُتَعَارَفِ وَغَيْرِهِ لَا بِغَيْرِ ذَلِكَ ، وَأَمَّا الْإِنَاءُ الْمُفَضَّضُ أَوْ الْمُضَبَّبُ فَبِمَعْزِلٍ عَمَّا نَحْنُ فِيهِ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِخَالِصِ فِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ بَلْ هُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ لَوْحٍ وَفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ ، فَاعْتَبَرَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي حُرْمَةِ الشُّرْبِ مِنْهُ مُمَاسَّةَ الْعُضْوِ بِالْجُزْءِ الَّذِي هُوَ الْفِضَّةُ أَوْ الذَّهَبُ وَلَمْ يَعْتَبِرْهَا صَاحِبَاهُ ، وَلِكُلٍّ مِنْ الْجَانِبَيْنِ أَصْلٌ يَأْتِي

بَيَانُهُ

قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِاسْتِعْمَالِ آنِيَةٍ الرَّصَاصِ وَالزُّجَاجِ وَالْبَلُّورِ وَالْعَقِيقِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُكْرَهُ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي التَّفَاخُرِ بِهِ .
قُلْنَا : لَيْسَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ مِنْ عَادَتِهِمْ التَّفَاخُرُ بِغَيْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ .
قَالَ ( وَيَجُوزُ الشُّرْبُ فِي الْإِنَاءِ الْمُفَضَّضِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالرُّكُوبُ عَلَى السَّرْجِ الْمُفَضَّضِ وَالْجُلُوسُ عَلَى الْكُرْسِيِّ الْمُفَضَّضِ وَالسَّرِيرِ الْمُفَضَّضِ إذَا كَانَ يَتَّقِي مَوْضِعَ الْفِضَّةِ ) وَمَعْنَاهُ : يَتَّقِي مَوْضِعَ الْفَمِ ، وَقِيلَ هَذَا وَمَوْضِعُ الْيَدِ فِي الْأَخْذِ وَفِي السَّرِيرِ وَالسَّرْجِ مَوْضِعُ الْجُلُوسِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يُكْرَهُ ذَلِكَ ، وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ يُرْوَى مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ وَيُرْوَى مَعَ أَبِي يُوسُفَ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْإِنَاءُ الْمُضَبَّبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْكُرْسِيُّ الْمُضَبَّبُ بِهِمَا ، وَكَذَا إذَا جَعَلَ ذَلِكَ فِي السَّيْفِ وَالْمِشْحَذِ وَحَلْقَةِ الْمَرْأَةِ ، أَوْ جَعَلَ الْمُصْحَفَ مُذَهَّبًا أَوْ مُفَضَّضًا ، وَكَذَا الِاخْتِلَافُ فِي اللِّجَامِ وَالرِّكَابِ وَالثَّفْرِ إذَا كَانَ مُفَضَّضًا ، وَكَذَا الثَّوْبُ فِيهِ كِتَابَةٌ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ عَلَى هَذَا ، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ فِيمَا يَخْلُصُ ، فَأَمَّا التَّمْوِيهُ الَّذِي لَا يَخْلُصُ فَلَا بَأْسَ بِهِ بِالْإِجْمَاعِ .
لَهُمَا أَنَّ مُسْتَعْمِلَ جُزْءٍ مِنْ الْإِنَاءِ مُسْتَعْمِلَ جَمِيعِ الْأَجْزَاءِ فَيُكْرَهُ ، كَمَا إذَا اسْتَعْمَلَ مَوْضِعَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ ذَلِكَ تَابِعٌ وَلَا مُعْتَبَرَ بِالتَّوَابِعِ فَلَا يُكْرَهُ .
كَالْجُبَّةِ الْمَكْفُوفَةِ بِالْحَرِيرِ وَالْعَلَمِ فِي الثَّوْبِ وَمِسْمَارِ الذَّهَبِ فِي الْفَصِّ .

( قَوْلُهُ لَهُمَا أَنَّ مُسْتَعْمِلَ جُزْءٍ مِنْ الْإِنَاءِ مُسْتَعْمِلُ جَمِيعِ الْأَجْزَاءِ فَيُكْرَهُ ) جَمْعُهَا فِي التَّعْلِيلِ جَرْيًا عَلَى رِوَايَةِ كَوْنِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ أَبِي يُوسُفَ ، وَإِنْ كَانَ أَفْرَدَ أَبَا يُوسُفَ فِي بَيَانِ الْحُكْمِ فِيمَا قَبْلُ .
وَأَمَّا صَاحِبُ الْكَافِي فَأَفْرَدَهُ هَاهُنَا أَيْضًا حَيْثُ قَالَ : احْتَجَّ أَبُو يُوسُفَ بِعُمُومِ مَا وَرَدَ مِنْ النَّهْيِ .
وَرَدَّ عَلَيْهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ نَقْلِ مَا فِي الْكَافِي : قُلْت وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ الشُّرْبِ فِي إنَاءِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ كَمَا سَبَقَ ، وَصِدْقُهُ عَلَى الْمُفَضَّضِ وَالْمُضَبَّبِ مَمْنُوعٌ .
وَقَالَ فِي الْحَاشِيَةِ رَدًّا لِمَا فِي الْكَافِي مِنْ احْتِجَاجِ أَبِي يُوسُفَ .
أَقُولُ : لَيْسَ ذَاكَ بِتَامٍّ ؛ لِأَنَّ مَا وَرَدَ مِنْ النَّهْيِ عَنْ الشُّرْبِ فِي إنَاءِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إنْ لَمْ يَعُمَّ الْمُفَضَّضَ وَالْمُضَبَّبَ عِبَارَةُ يَعُمُّهُمَا دَلَالَةً كَعُمُومِهِ لِلِادِّهَانِ مِنْهُ وَنَحْوِهِ ، وَكَعُمُومِهِ لِلْأَكْلِ بِمِلْعَقَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالِاكْتِحَالِ بِمِيلِ الذَّهَبِ ، وَكَذَا مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ كَالْمُكْحُلَةِ وَالْمِرْآةِ وَغَيْرِهِمَا ، فَإِنَّ الْمَدَارَ فِي كُلِّهَا تَنَاوُلُ النَّهْيِ الْوَارِدِ الْمَذْكُورِ لِكُلٍّ مِنْهَا دَلَالَةً كَمَا صَرَّحُوا بِهِ .
وَعَنْ هَذَا قَالَ فِي الْمُحِيطِ الْبُرْهَانِيِّ حُجَّتُهُمَا الْعُمُومَاتُ الْوَارِدَةُ بِالنَّهْيِ عَنْ اسْتِعْمَالِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ .
وَمَنْ اسْتَعْمَلَ إنَاءً كَانَ مُسْتَعْمِلًا كُلَّ جُزْءٍ مِنْهُ فَكُرِهَ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحُرْمَةَ فِي اسْتِعْمَالِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي الْإِنَاءِ وَغَيْرِهِ إنَّمَا كَانَتْ لِلتَّشَبُّهِ بِالْأَكَاسِرَةِ وَالْجَبَابِرَةِ .
فَكُلُّ مَا كَانَ بِهَذَا الْمَعْنَى يُكْرَهُ ، بِخِلَافِ خَاتَمِ الْفِضَّةِ وَالْمِنْطَقَةِ حَيْثُ لَا يُكْرَهُ ؛ لِأَنَّ الرُّخْصَةَ جَاءَتْ فِي ذَلِكَ نَصًّا ، أَمَّا هَاهُنَا بِخِلَافِهِ ، إلَى هُنَا لَفْظُ الْمُحِيطِ تَأَمَّلْ .
وَقَالَ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ : لِأَبِي يُوسُفَ مَا رُوِيَ عَنْ

ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { مَنْ شَرِبَ فِي إنَاءِ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ إنَاءٍ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ } رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ انْتَهَى .
وَرَدَّ عَلَيْهِ أَيْضًا ذَلِكَ الْبَعْضُ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ : قُلْت لَوْ ثَبَتَ هَذَا كَانَ حُجَّةً قَاطِعَةً عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، لَكِنْ لَمْ نَجِدْهُ فِي رِوَايَاتِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ إلَّا خَالِيًا عَنْ زِيَادَةِ " أَوْ إنَاءٍ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ " وَقَالَ فِي الْحَاشِيَةِ : رُدَّ لِمَا ذَكَرَهُ الزَّيْلَعِيُّ مِنْ احْتِجَاجِ أَبِي يُوسُفَ انْتَهَى .
أَقُولُ : عَدَمُ وِجْدَانِهِ تِلْكَ الزِّيَادَةَ فِيمَا رَآهُ مِنْ رِوَايَاتِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُجُودِهَا فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لَمْ يَرَ مَحَلَّهَا ، وَقَدْ بَيَّنَ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ طَرِيقَ إخْرَاجِ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْحَدِيثِ حَيْثُ قَالَ : رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ ، فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ الْبَعْضُ مُجَرَّدَ عَدَمِ اطِّلَاعِهِ عَلَى ذَلِكَ رَدًّا لَهُ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ فُرْسَانِ مَيْدَانِ عِلْمِ الْحَدِيثِ كَمَا لَا يَخْفَى

قَالَ ( وَمَنْ أَرْسَلَ أَجِيرًا لَهُ مَجُوسِيًّا أَوْ خَادِمًا فَاشْتَرَى لَحْمًا فَقَالَ اشْتَرَيْته مِنْ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ أَوْ مُسْلِمٍ وَسِعَهُ أَكْلُهُ ) ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْكَافِرِ مَقْبُولٌ فِي الْمُعَامَلَاتِ ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ صَحِيحٌ لِصُدُورِهِ عَنْ عَقْلٍ وَدِينٍ يُعْتَقَدُ فِيهِ حُرْمَةُ الْكَذِبِ وَالْحَاجَةُ مَاسَّةٌ إلَى قَبُولِهِ لِكَثْرَةِ وُقُوعِ الْمُعَامَلَاتِ ( وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ لَمْ يَسَعْهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ ) مَعْنَاهُ : إذَا كَانَ ذَبِيحَةَ غَيْرِ الْكِتَابِيِّ وَالْمُسْلِمِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَبِلَ قَوْلَهُ فِي الْحِلِّ أَوْلَى أَنْ يَقْبَلَ فِي الْحُرْمَةِ .
قَالَ ( وَيَجُوزُ أَنْ يُقْبَلَ فِي الْهَدِيَّةِ وَالْإِذْنِ قَوْلُ الْعَبْدِ وَالْجَارِيَةِ وَالصَّبِيِّ ) ؛ لِأَنَّ الْهَدَايَا تُبْعَثُ عَادَةً عَلَى أَيْدِي هَؤُلَاءِ ، وَكَذَا لَا يُمْكِنُهُمْ اسْتِصْحَابُ الشُّهُودِ عَلَى الْإِذْنِ عِنْدَ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ وَالْمُبَايَعَةِ فِي السُّوقِ ، فَلَوْ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُمْ يُؤَدِّي إلَى الْحَرَجِ .
وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : إذَا قَالَتْ جَارِيَةٌ لِرَجُلٍ بَعَثَنِي مَوْلَايَ إلَيْك هَدِيَّةً وَسِعَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا أَخْبَرَتْ بِإِهْدَاءِ الْمَوْلَى غَيْرَهَا أَوْ نَفْسَهُ لِمَا قُلْنَا ( قَالَ وَيُقْبَلُ فِي الْمُعَامَلَاتِ قَوْلُ الْفَاسِقِ ، وَلَا يُقْبَلُ فِي الدِّيَانَاتِ إلَّا قَوْلُ الْعَدْلِ ) ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْمُعَامَلَاتِ يَكْثُرُ وُجُودُهَا فِيمَا بَيْنَ أَجْنَاسِ النَّاسِ ، فَلَوْ شَرَطْنَا شَرْطًا زَائِدًا يُؤَدِّي إلَى الْحَرَجِ فَيُقْبَلُ قَوْلُ الْوَاحِدِ فِيهَا عَدْلًا كَانَ أَوْ فَاسِقًا كَافِرًا أَوْ مُسْلِمًا عَبْدًا أَوْ حُرًّا ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى دَفْعًا لِلْحَرَجِ .
أَمَّا الدِّيَانَاتُ فَلَا يَكْثُرُ وُقُوعُهَا حَسَبِ وُقُوعِ الْمُعَامَلَاتِ فَجَازَ أَنْ يَشْتَرِطَ فِيهَا زِيَادَةَ شَرْطٍ ، فَلَا يُقْبَلُ فِيهَا إلَّا قَوْلُ الْمُسْلِمِ الْعَدْلِ ؛ لِأَنَّ الْفَاسِقَ مُتَّهَمٌ وَالْكَافِرَ لَا يَلْتَزِمُ الْحُكْمَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُلْزِمَ الْمُسْلِمَ ، بِخِلَافِ الْمُعَامَلَاتِ ؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يُمْكِنُهُ

الْمَقَامُ فِي دِيَارِنَا إلَّا بِالْمُعَامَلَةِ .
وَلَا يَتَهَيَّأُ لَهُ الْمُعَامَلَةُ إلَّا بَعْدَ قَبُولِ قَوْلِهِ فِيهَا فَكَانَ فِيهِ ضَرُورَةً ، وَلَا يُقْبَلُ فِيهَا قَوْلُ الْمَسْتُورِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهَا جَرْيًا عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ الْقَضَاءُ بِهِ ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ هُوَ وَالْفَاسِقُ فِيهِ سَوَاءٌ حَتَّى يُعْتَبَرَ فِيهِمَا أَكْبَرُ الرَّأْيِ .

( قَوْلُهُ مَعْنَاهُ إذَا كَانَ ذَبِيحَةَ غَيْرِ الْكِتَابِيِّ وَالْمُسْلِمِ ) أَقُولُ : كَانَ الْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ : مَعْنَاهُ إذَا كَانَ قَوْلُهُ غَيْرَ ذَلِكَ بِأَنْ قَالَ اشْتَرَيْته مِنْ غَيْرِ الْكِتَابِيِّ وَالْمُسْلِمِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْبَيَانِ هُنَا كَوْنُ قَوْلِ الْكَافِرِ مَقْبُولًا فِيمَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الْمُعَامَلَاتِ سَوَاءٌ تَضَمَّنَ الْحِلَّ أَوْ الْحُرْمَةَ ، لَا كَوْنُ ذَبِيحَةِ الْمُسْلِمِ وَالْكِتَابِيِّ مِمَّا يُؤْكَلُ دُونَ ذَبِيحَةِ غَيْرِهِمَا فَإِنَّهُ مِنْ مَسَائِلِ كِتَابِ الذَّبَائِحِ وَقَدْ مَرَّ مُسْتَوْفًى ، وَعِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ تُوهِمُ أَصَالَةَ الثَّانِي كَمَا تَرَى .
ثُمَّ إنَّهُ لَوْ قَالَ فِي الْمَتْنِ : وَإِنْ قَالَ غَيْرَ ذَلِكَ بَدَلِ قَوْلِهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرُ ذَلِكَ لَكَانَ أَظْهَرُ مِنْ الْكُلِّ ، وَكَانَ أَوْفَقُ لِمَا قَبْلَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ وَقَالَ اشْتَرَيْته مِنْ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ أَوْ مُسْلِمٍ ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُغَيِّرْ لَفْظَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ تَبَرُّكًا بِهِ ( قَوْلُهُ لِأَنَّهُ لَمَّا قُبِلَ قَوْلُهُ فِي الْحِلِّ أَوْلَى أَنْ يُقْبَلَ فِي الْحُرْمَةِ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَحَلِّ : قَوْلُهُ لِأَنَّهُ لَمَّا قُبِلَ قَوْلُهُ فِي الْحِلِّ : يَعْنِي فِي قَوْلِهِ وَسِعَهُ أَكْلُهُ ، فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْحِلَّ لَا مَحَالَةَ أَوْلَى أَنْ يُقْبَلَ فِي الْحُرْمَةِ ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ مُرَجَّحَةٌ عَلَى الْحِلِّ دَائِمًا انْتَهَى .
أَقُولُ : فِي تَفْسِيرِهِ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِي الْحِلِّ بِقَوْلِهِ يَعْنِي فِي قَوْلِهِ وَسِعَهُ أَكْلُهُ رَكَاكَةٌ جِدًّا ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَسِعَهُ أَكْلُهُ جَوَابُ الْمَسْأَلَةِ فَهُوَ فِي قُوَّةِ أَنْ يُقَالَ يُقْبَلَ قَوْلُهُ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ ثَمَرَةُ قَبُولِ قَوْلِهِ فِي ذَلِكَ ، فَلَوْ كَانَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا بِقَوْلِهِ فِي الْحِلِّ فِي قَوْلِهِ وَسِعَهُ أَكْلُهُ يَصِيرُ مَعْنَى كَلَامِهِ لَمَّا قُبِلَ قَوْلُهُ فِي قَبُولِ قَوْلِهِ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ .
وَلَا حَاصِلَ لَهُ بَلْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ اللَّغْوِ مِنْ الْكَلَامِ .
وَالْحَقُّ عِنْدِي فِي شَرْحِ

كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هُنَا أَنْ يُقَالَ : يَعْنِي أَنَّهُ لَمَّا قُبِلَ قَوْلُهُ فِي الْحِلِّ : أَيْ فِيمَا يَتَضَمَّنُ الْحِلَّ وَهُوَ قَوْلُهُ اشْتَرَيْته مِنْ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ أَوْ مُسْلِمٍ فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ إثْبَاتَ حِلِّ أَكْلِ مَا اشْتَرَاهُ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ قَاطِبَةً أَوْلَى أَنْ يُقْبَلَ قَوْلُهُ فِي الْحُرْمَةِ : أَيْ فِيمَا يَتَضَمَّنُ الْحُرْمَةَ وَهُوَ قَوْلُهُ اشْتَرَيْته مِنْ غَيْرِ الْكِتَابِيِّ وَالْمُسْلِمِ فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ إثْبَاتَ حُرْمَةِ مَا اشْتَرَاهُ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ أَيْضًا تَبَصَّرْ ( قَوْلُهُ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا أَخْبَرَتْ بِإِهْدَاءِ الْمَوْلَى غَيْرَهَا أَوْ نَفْسَهَا لِمَا قُلْنَا ) قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ : قَوْلُهُ لِمَا قُلْنَا رَاجِعٌ إلَى قَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ الْهَدَايَا تُبْعَثُ عَادَةً عَلَى أَيْدِي هَؤُلَاءِ انْتَهَى .
أَقُولُ : لِمَانِعٍ أَنْ يَمْنَعَ أَنَّ نَفْسَ الْجَوَارِي وَالْعَبِيدِ تُبْعَثُ عَادَةً عَلَى أَيْدِي هَؤُلَاءِ ، بِخِلَافِ إهْدَاءِ غَيْرِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ الْهَدَايَا فَإِنَّهَا تُبْعَثُ عَادَةً عَلَى أَيْدِيهِمْ بِلَا مَجَالِ النَّكِيرِ مِنْ أَحَدٍ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ : قَوْلُهُ لِمَا قُلْنَا إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ فَلَوْ لَمْ يَقْبَلْ قَوْلَهُمْ يُؤَدِّي إلَى الْحَرَجِ ، وَتَبِعَهُ الْعَيْنِيُّ .
أَقُولُ : وَلِمَانِعٍ أَنْ يَمْنَعَ أَنَّ عَدَمَ قَبُولِ قَوْلِهِمْ فِي إهْدَاءِ مَوَالِيهِمْ أَنْفُسَهُمْ يُؤَدِّي إلَى الْحَرَجِ لِإِمْكَانِ إهْدَائِهِمْ عَلَى أَيْدِي غَيْرِهِمْ مِنْ سَائِرِ الْعَبِيدِ وَالْجَوَارِي أَوْ الصِّبْيَانِ وَعَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى غَيْرِهِمْ أَصْلًا نَادِرٌ لَا يُعَدُّ مِثْلُهُ مُؤَدِّيًا إلَى الْحَرَجِ بِخِلَافِ إهْدَاءِ الْهَدَايَا مُطْلَقًا عَلَى أَيْدِي غَيْرِ جِنْسِ الْعَبِيدِ وَالْجَوَارِي وَالصِّبْيَانِ فَإِنَّ فِيهِ حَرَجًا بَيِّنًا سِيَّمَا فِي إهْدَاءِ الْأُمُورِ الْخَسِيسَةِ ( قَوْلُهُ وَيَقْبَلُ فِي الْمُعَامَلَاتِ قَوْلَ الْفَاسِقِ وَلَا يَقْبَلُ فِي الدِّيَانَاتِ إلَّا قَوْلَ الْعَدْلِ ) قَالَ فِي التَّلْوِيحِ : قِيلَ ذَكَرَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ فِي مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ أَنَّ إخْبَارَ الْمُمَيِّزِ الْغَيْرِ

الْعَدْلِ يُقْبَلُ فِي مِثْلِ الْوَكَالَةِ وَالْهَدَايَا مِنْ غَيْرِ انْضِمَامِ التَّحَرِّي ، وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ التَّحَرِّي وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي كَلَامِ الْإِمَامِ السَّرَخْسِيِّ .
وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ ذَكَرَ الْقَيْدَ فِي كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، فَقِيلَ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ فِي كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ تَفْسِيرًا لِهَذَا فَيُشْتَرَطُ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَطَ اسْتِحْسَانًا وَلَا يُشْتَرَطُ رُخْصَةً ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ انْتَهَى .
أَقُولُ : يُشْكِلُ عَلَى التَّوْجِيهِ الْأَوَّلِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُعَامَلَاتِ وَالدِّيَانَاتِ لِأَنَّ قَوْلَ الْفَاسِقِ يُقْبَلُ فِي الدِّيَانَاتِ أَيْضًا بِشَرْطِ التَّحَرِّي كَمَا سَيَأْتِي التَّصْرِيحُ بِهِ فِي الْكِتَابِ ، وَكَذَا يَشْكُلُ ذَلِكَ عَلَى التَّوْجِيهِ الثَّالِثِ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَهِيَ رِوَايَةُ الِاشْتِرَاطِ ، فَالظَّاهِرُ الْمُنَاسِبُ عِنْدِي هُوَ التَّوْجِيهُ الثَّانِي .
فَإِنَّ الْفَرْقَ الْمَذْكُورَ يَسْتَقِيمُ حِينَئِذٍ ، إذْ لَا رُخْصَةَ لِقَبُولِ قَوْلِ الْفَاسِقِ فِي الدِّيَانَاتِ بِدُونِ التَّحَرِّي ( قَوْلُهُ وَلَا يُقْبَلُ فِيهَا قَوْلُ الْمَسْتُورِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهَا جَرْيًا عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ الْقَضَاءُ بِهِ ) قَالَ الشُّرَّاحُ : وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ أَحَدِ شَطْرَيْ الشَّهَادَةِ لِيَكُونَ الْخَبَرُ مُلْزِمًا ، وَقَدْ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْعَدَدِ فَبَقِيَ اعْتِبَارُ الْعَدَالَةِ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ بَحْثٌ لِأَنَّ أَصْلَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الشَّهَادَةِ أَنْ يَقْتَصِرَ الْحَاكِمُ عَلَى ظَاهِرِ الْعَدَالَةِ إذَا لَمْ يَطْعَنْ الْخَصْمُ فِيمَا عَدَا الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ كَمَا تَقَرَّرَ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ ، فَكَانَ أَحَدُ شَطْرَيْ الشَّهَادَةِ عِنْدَهُ ظَاهِرَ الْعَدَالَةِ دُونَ حَقِيقَتِهَا ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمَسْتُورَ ظَاهِرُ الْعَدَالَةِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْمُسْلِمُونَ

عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ، إلَّا مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ } فَفِي غَيْرِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَيْضًا لَمْ يَلْزَمْ عَدَمُ اعْتِبَارِ أَحَدِ شَطْرَيْ الشَّهَادَةِ فَلَمْ يَدُلَّ مَا ذَكَرُوهُ عَلَى أَصَحِّيَّةِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : لَيْسَ مَقْصُودُهُمْ بَيَانَ أَصَحِّيَّةِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الشَّهَادَةِ بَلْ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ فَسَادُ الزَّمَانِ مِنْ عَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِرِوَايَةِ الْمَسْتُورِ مَا لَمْ تَتَبَيَّنْ عَدَالَتُهُ ، كَمَا لَمْ تُعْتَبَرْ شَهَادَتُهُ فِي الْقَضَاءِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ مَا لَمْ يُظْهِرُ عَدَالَتَهُ .
وَعَنْ هَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ : وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا فِي هَذَا الزَّمَانِ .
وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّوْجِيهَ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ نَقْلًا عَنْ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ حَيْثُ قَالَ : قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ فِي أُصُولِهِ : وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَدْلِ فِي رِوَايَةِ الْأَخْبَارِ لِثُبُوتِ الْعَدَالَةِ ظَاهِرًا بِالْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا " الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ " وَلِهَذَا جَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ الْقَضَاءَ بِشَهَادَةِ الْمَسْتُورِ فِيمَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ إذَا لَمْ يَطْعَنْ الْخَصْمُ ، وَلَكِنْ مَا ذَكَرَهُ فِي الِاسْتِحْسَانِ أَصَحُّ فِي زَمَانِنَا ، فَإِنَّ الْفِسْقَ غَالِبٌ فِي أَهْلِ هَذَا الزَّمَانِ فَلَا يَعْتَمِدُ عَلَى رِوَايَةِ الْمَسْتُورِ مَا لَمْ تَتَبَيَّنْ عَدَالَتُهُ ، كَمَا لَا تُعْتَبَرُ شَهَادَتُهُ فِي الْقَضَاءِ قَبْلَ أَنْ تَظْهَرَ عَدَالَتُهُ انْتَهَى .
وَبِمَا ذَكَرْنَا تَبَيَّنَ اخْتِلَالُ تَحْرِيرِ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي هَذَا الْمَقَامِ حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْمَسْتُورِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ : أَيْ وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الدِّيَانَاتِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
ثُمَّ قَالَ

: وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ أَحَدِ شَطْرَيْ الشَّهَادَةِ لِيَكُونَ الْخَبَرُ مُلْزِمًا ، وَقَدْ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْعَدَدِ فَبَقِيَ اعْتِبَارُ الْعَدَالَةِ انْتَهَى .
فَإِنَّهُ جَعَلَ مَا ذَكَرُوهُ وَجْهًا لِأَصَحِّيَّةِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَجْهًا لِنَفْسِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، فَيُرَدُّ عَلَيْهِ قَطْعًا أَنَّ حَقِيقَةَ الْعَدَالَةِ لَيْسَتْ بِأَحَدِ شَطْرَيْ الشَّهَادَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، بَلْ يَكْفِي ظَاهِرُ الْعَدَالَةِ عِنْدَهُ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ ظَاهِرَ الْعَدَالَةِ مُتَحَقِّقٌ فِي الْمَسْتُورِ فَمَا مَعْنَى اعْتِبَارِ حَقِيقَةِ الْعَدَالَةِ فِي قَبُولِ قَوْلِهِ فِي الدِّيَانَاتِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ فَتَدَبَّرْ

قَالَ ( وَيُقْبَلُ فِيهَا قَوْلُ الْعَبْدِ وَالْحُرِّ وَالْأَمَةِ إذَا كَانُوا عُدُولًا ) ؛ لِأَنَّ عِنْدَ الْعَدَالَةِ الصِّدْقُ رَاجِحٌ وَالْقَبُولُ لِرُجْحَانِهِ .
فَمِنْ الْمُعَامَلَاتِ مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَمِنْهَا التَّوْكِيلُ .
وَمِنْ الدِّيَانَاتِ الْإِخْبَارُ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ حَتَّى إذَا أَخْبَرَهُ مُسْلِمٌ مَرْضِيٌّ لَمْ يَتَوَضَّأْ بِهِ وَيَتَيَمَّمُ ، وَلَوْ كَانَ الْمُخْبِرُ فَاسِقًا أَوْ مَسْتُورًا تَحَرَّى ، فَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ يَتَيَمَّمُ وَلَا يَتَوَضَّأُ بِهِ ، وَإِنْ أَرَاقَ الْمَاءَ ثُمَّ تَيَمَّمَ كَانَ أَحْوَطَ ، وَمَعَ الْعَدَالَةِ يَسْقُطُ احْتِمَالُ الْكَذِبِ فَلَا مَعْنَى لِلِاحْتِيَاطِ بِالْإِرَاقَةِ ، أَمَّا التَّحَرِّي فَمُجَرَّدُ ظَنٍّ .
وَلَوْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ كَاذِبٌ يَتَوَضَّأُ بِهِ وَلَا يَتَيَمَّمُ لِتَرَجُّحِ جَانِبِ الْكَذِبِ بِالتَّحَرِّي ، وَهَذَا جَوَابُ الْحُكْمِ .
فَأَمَّا فِي الِاحْتِيَاطِ فَيَتَيَمَّمُ بَعْدَ الْوُضُوءِ لِمَا قُلْنَا .
وَمِنْهَا الْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ زَوَالُ الْمِلْكِ ، وَفِيهَا تَفَاصِيلُ وَتَفْرِيعَاتٌ ذَكَرْنَاهَا فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى .

( قَوْلُهُ وَيُقْبَلُ فِيهَا قَوْلُ الْعَبْدِ وَالْحُرِّ وَالْأَمَةِ إذَا كَانُوا عُدُولًا ) أَقُولُ : لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ ذِكْرَ الْحُرِّ هَاهُنَا خَالٍ عَنْ الْفَائِدَةِ ، إذْ لَا يُشْتَبَهُ عَلَى أَحَدٍ قَبُولُ قَوْلِ الْحُرِّ فِي كُلِّ أَمْرٍ خَطِيرٍ إذَا كَانَ عَدْلًا ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ ، وَلَعَلَّ صَاحِبَ الْكَافِي ذَاقَ بَشَاعَةَ ذِكْرِ الْحُرِّ هَاهُنَا فَقَالَ : وَيُقْبَلُ فِيهَا قَوْلُ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ إذَا كَانَا عَدْلَيْنِ بِدُونِ ذِكْرِ الْحُرِّ .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ : وَقَوْلُهُ وَيُقْبَلُ فِيهَا : أَيْ فِي الدِّيَانَاتِ قَوْلُ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ وَالْأَمَةِ لِأَنَّ خَبَرَ هَؤُلَاءِ فِي أُمُورِ الدِّينِ كَخَبَرِ الْحُرِّ إذَا كَانُوا عُدُولًا كَمَا فِي رِوَايَةِ الْأَخْبَارِ انْتَهَى .
أَقُولُ : قَدْ زَادَ هَذَا الشَّارِحُ فِي الطُّنْبُورِ نَغَمَةً حَيْثُ أَتَى بِمَحْذُورٍ آخَرَ فِي كَلَامِ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ قَالَ : لِأَنَّ خَبَرَ هَؤُلَاءِ فِي أُمُورِ الدِّينِ كَخَبَرِ الْحُرِّ وَلَا شَكَّ أَنَّ كَلِمَةَ هَؤُلَاءِ مِنْ جُمُوعِ أَسْمَاءِ الْإِشَارَةِ فَتَكُونُ هَاهُنَا إشَارَةً إلَى الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ وَهِيَ الْعَبْدُ وَالْحُرُّ وَالْأَمَةُ ، فَيَصِيرُ مَعْنَى كَلَامِ الشَّارِحِ الْمَذْكُورِ : لِأَنَّ خَبَرَ الْعَبْدِ وَالْحُرِّ وَالْأَمَةِ فِي أُمُورِ الدِّينِ كَخَبَرِ الْحُرِّ إذَا كَانُوا عُدُولًا فَيَدْخُلُ الْمُشَبَّهُ بِهِ فِي الْمُشَبَّهِ وَلَا يَخْفَى فَسَادُهُ .
وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : وَيُقْبَلُ فِيهَا : أَيْ فِي الدَّيَّانَاتِ قَوْلُ الْعَبْدِ وَالْحُرِّ وَالْأَمَةِ ؛ لِأَنَّ فِي أُمُورِ الدِّينِ خَبَرَ الْعَبْدِ كَخَبَرِ الْحُرِّ كَمَا فِي رِوَايَةِ الْإِخْبَارِ ، وَتَبِعَهُ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ كَمَا هُوَ دَأْبُهُ فِي أَكْثَرِ الْمَوَاضِعِ .
أَقُولُ فِي كَلَامِهِمَا أَيْضًا نَوْعٌ مَحْذُورٌ ، لِأَنَّهُمَا جَعَلَا الْحُرَّ مَقِيسًا عَلَيْهِ أَوْ مُشَبَّهًا بِهِ ، وَهُوَ دَاخِلٌ أَيْضًا فِي الْمُدَّعَى هَاهُنَا فَكَانَ يَلْزَمُ إثْبَاتُهُ أَيْضًا هُنَا ، فَكَيْفَ يَتِمُّ أَنْ يَجْعَلَ مَقِيسًا عَلَيْهِ أَوْ

مُشَبَّهًا بِهِ لِأَحَدِ قَرِينَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ حَالَ نَفْسِهِ ، فَالتَّعْلِيلُ التَّامُّ الشَّامِلُ لِلْكُلِّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ عِنْدَ الْعَدَالَةِ الصِّدْقُ رَاجِحٌ وَالْقَبُولُ لِرُجْحَانِهِ ( قَوْلُهُ وَإِنْ أَرَاقَ الْمَاءَ ثُمَّ تَيَمَّمَ كَانَ أَحْوَطَ ) أَقُولُ : هَذَا مُشْكِلٌ عِنْدِي ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ كَانَ نَجَاسَةُ الْمَاءِ رَاجِحَةً عِنْدَهُ ، فَإِذَا أَرَاقَ هَذَا الْمَاءَ عَلَى أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ كَانَ الرَّاجِحُ أَنْ تَتَنَجَّسَ تِلْكَ الْأَعْضَاءُ ، وَإِذَا تَنَجَّسَتْ أَعْضَاؤُهُ لَمْ تَجُزْ صَلَاتُهُ مَا لَمْ تَطْهُرْ .
وَالْمَفْرُوضُ انْتِفَاءُ مَاءٍ آخَرَ مُطَهَّرٍ ، وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ التَّيَمُّمُ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الِاحْتِيَاطُ إذْ ذَاكَ فِي تَرْكِ الْإِرَاقَةِ لِتَأَدِّيهَا إلَى مَحْذُورٍ شَدِيدٍ ، بِخِلَافِ الِاحْتِيَاطِ بِالتَّيَمُّمِ بَعْدَ الْوُضُوءِ فِيمَا إذَا كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ كَاذِبٌ كَمَا سَيَأْتِي مِنْ بَعْدُ ، فَإِنَّ التَّيَمُّمَ هُنَاكَ بِشَيْءٍ طَاهِرٍ فَلَا يَلْزَمُ مَحْذُورٌ أَصْلًا فَلْيُتَأَمَّلْ ( قَوْلُهُ وَمَعَ الْعَدَالَةِ يَسْقُطُ احْتِمَالُ الْكَذِبِ فَلَا مَعْنَى لِلِاحْتِيَاطِ بِالْإِرَاقَةِ ) أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : لَا نُسَلِّمُ سُقُوطَ احْتِمَالِ الْكَذِبِ مَعَ مُجَرَّدِ الْعَدَالَةِ بِدُونِ أَنْ يَصِلَ حَدُّ التَّوَاتُرِ .
كَيْفَ وَقَدْ صَرَّحُوا فِي عِلْمِ الْأُصُولِ بِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ وَإِنْ كَانَ صَحَابِيًّا لَا يُوجِبُ الْيَقِينَ ، بَلْ احْتِمَالُ الْكَذِبِ قَائِمٌ ، وَإِنْ كَانَ مَرْجُوحًا ، وَإِلَّا لَزِمَ الْقَطْعُ بِالنَّقِيضَيْنِ عِنْدَ إخْبَارِ الْعَدْلَيْنِ بِهِمَا وَلِهَذَا قَالُوا إنَّهُ لَا يُفِيدُ إلَّا غَلَبَةَ الظَّنِّ دُونَ الْيَقِينِ ، وَيُوَافِقُ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ فِيمَا مَرَّ ؛ لِأَنَّ عِنْدَ الْعَدَالَةِ الصِّدْقُ رَاجِحٌ وَالْقَبُولُ لِرُجْحَانِهِ وَالْجَوَابُ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِاحْتِمَالِ الْكَذِبِ فِي قَوْلِهِ وَمَعَ الْعَدَالَةِ يَسْقُطُ احْتِمَالُ الْكَذِبِ هُوَ الِاحْتِمَالُ الظَّاهِرُ الَّذِي يُعْتَدُّ بِهِ شَرْعًا دُونَ مُطْلَقِ

الِاحْتِمَالِ ، وَعَنْ هَذَا قَالَ صَاحِبُ الْكَافِي : وَمَعَ الْعَدَالَةِ سَقَطَ احْتِمَالُ الْكَذِبِ شَرْعًا ؛ لِأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ الِانْزِجَارِ عَنْ الْمَعَاصِي وَالْكَذِبِ مِنْهَا فَكَانَ مُنْزَجِرًا عَنْهُ انْتَهَى .
فَإِنْ قُلْت : إذَا بَقِيَ احْتِمَالُ مَا لِلْكَذِبِ فِي الْعَدَالَةِ فَمَا مَعْنَى لِلِاحْتِيَاطِ بِالْإِرَاقَةِ .
قُلْت : مُرَادُهُ أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلِاحْتِيَاطِ بِالْإِرَاقَةِ فِي صُورَةِ الْعَدَالَةِ احْتِيَاطًا بِهَا مِثْلَ الِاحْتِيَاطِ بِهَا فِي صُورَةِ التَّحَرِّي فِي خَبَرِ الْفَاسِقِ أَوْ الْمَسْتُورِ .
فَإِنْ قُلْت : إذَا كَانَ مُفَادُ خَبَرِ الْعُدُولِ هُوَ الظَّنُّ دُونَ الْيَقِينِ فَمَا مَعْنَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فِي مُقَابَلَةِ ذَلِكَ ، وَأَمَّا التَّحَرِّي فَمُجَرَّدُ ظَنٍّ ؟ قُلْت : مَعْنَاهُ أَنَّهُ مُجَرَّدُ تَخْمِينٍ وَظَنٍّ لَا غَلَبَةِ ظَنٍّ ، بِخِلَافِ عَدَالَةِ الْمُخْبِرِ فَإِنَّ الْحَاصِلَ هُنَاكَ غَلَبَةُ الظَّنِّ ، وَهِيَ أَقْوَى مِنْ الْأَوَّلِ فَافْتَرَقَا

قَالَ ( وَمَنْ دُعِيَ إلَى وَلِيمَةٍ أَوْ طَعَامٍ فَوَجَدَ ثَمَّةَ لَعِبًا أَوْ غِنَاءً فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَقْعُدَ وَيَأْكُلَ ) قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : اُبْتُلِيت بِهَذَا مَرَّةً فَصَبَرْت .
وَهَذَا لِأَنَّ إجَابَةَ الدَّعْوَةِ سُنَّةٌ .
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ لَمْ يُجِبْ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ } فَلَا يَتْرُكُهَا لِمَا اقْتَرَنَ بِهَا مِنْ الْبِدْعَةِ مِنْ غَيْرِهِ ، كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَاجِبَةُ الْإِقَامَةِ وَإِنْ حَضَرَتْهَا نِيَاحَةٌ ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْمَنْعِ مَنَعَهُمْ ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ يَصْبِرْ ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ مُقْتَدًى بِهِ ، فَإِنْ كَانَ مُقْتَدًى وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى مَنْعِهِمْ يَخْرُجُ وَلَا يَقْعُدُ ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ شِينُ الدِّينِ وَفَتْحُ بَابِ الْمَعْصِيَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، وَالْمَحْكِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْكِتَابِ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ مُقْتَدًى بِهِ ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى الْمَائِدَةِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْعُدَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُقْتَدًى لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } وَهَذَا كُلُّهُ بَعْدَ الْحُضُورِ ، وَلَوْ عَلِمَ قَبْلَ الْحُضُورِ لَا يَحْضُرُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْزَمْهُ حَقُّ الدَّعْوَةِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا هَجَمَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَزِمَهُ ، وَدَلَّتْ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَنَّ الْمَلَاهِيَ كُلَّهَا حَرَامٌ حَتَّى التَّغَنِّي بِضَرْبِ الْقَضِيبِ .
وَكَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ اُبْتُلِيت ، لِأَنَّ الِابْتِلَاءَ بِالْمُحَرَّمِ يَكُونُ .

( قَوْلُهُ وَهَذَا لِأَنَّ إجَابَةَ الدَّعْوَى سُنَّةٌ .
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ لَمْ يُجِبْ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ } فَلَا يَتْرُكُهَا لِمَا اقْتَرَنَ بِهَا مِنْ الْبِدْعَةِ مِنْ غَيْرِهِ ، كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَاجِبَةُ الْإِقَامَةِ ، وَإِنْ حَضَرَتْهَا نِيَاحَةٌ ) قِيلَ عَلَيْهِ أَنَّهُ قِيَاسُ السُّنَّةِ عَلَى الْفَرْضِ وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَحَمُّلِ الْمَحْذُورِ لِإِقَامَةِ الْفَرْضِ تَحَمُّلُهُ لِإِقَامَةِ السُّنَّةِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهَا سُنَّةٌ فِي قُوَّةِ الْوَاجِبِ لِوُرُودِ الْوَعِيدِ عَلَى تَارِكِهَا ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ لَمْ يُجِبْ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ } كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَعَامَّةِ الشُّرُوحِ .
أَقُولُ : الْجَوَابُ مَنْظُورٌ فِيهِ ، لِأَنَّهُمْ إنْ أَرَادُوا بِقَوْلِهِمْ إنَّهَا سُنَّةٌ فِي قُوَّةِ الْوَاجِبِ أَنَّهَا مِثْلُ الْوَاجِبِ فِي الْأَحْكَامِ كَمَا يُفْصِحُ عَنْهُ قَوْلُ صَاحِبَيْ النِّهَايَةِ وَالْكِفَايَةِ فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ فِيهَا عَلَى وِفَاقِ مَا يَثْبُتُ فِي الْوَاجِبِ ، فَهُوَ مُشْكِلٌ عَلَى قَوَاعِدِ عِلْمِ الْأُصُولِ ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِيهِ كَوْنُ السُّنَّةِ قَسِيمًا لِلْوَاجِبِ وَمُغَايِرَةً لَهُ فِي الْأَحْكَامِ حَيْثُ صَرَّحُوا فِيهِ بِأَنَّ الْوَاجِبَ مِمَّا كَانَ فِعْلُهُ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهِ مَعَ مَنْعِ تَرْكِهِ ، وَالسُّنَّةَ مِمَّا كَانَ فِعْلُهُ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهِ بِلَا مَنْعِ تَرْكِهِ ، وَأَنَّ تَارِكَ الْوَاجِبِ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ بِالنَّارِ وَتَارِكَ السُّنَّةِ لَا يَسْتَحِقُّهَا بَلْ يَسْتَحِقُّ حِرْمَانَ الشَّفَاعَةِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ الِاشْتِرَاكُ فِي الْأَحْكَامِ ، وَإِنْ أَرَادُوا بِقَوْلِهِمْ إنَّهَا سُنَّةٌ فِي قُوَّةِ الْوَاجِبِ مُجَرَّدَ بَيَانِ تَأَكُّدِ سُنِّيَّتِهَا فَهُوَ لَا يُجْدِي نَفْعًا فِي دَفْعِ السُّؤَالِ .
إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَحَمُّلِ الْمَحْذُورِ لِإِقَامَةِ الْوَاجِبِ تَحَمُّلُهُ لِإِقَامَةِ السُّنَّةِ ، وَإِنْ كَانَتْ مُؤَكَّدَةً تَأَكُّدًا تَامًّا لِظُهُورِ التَّفَاوُتِ بَيْنَهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ وَالْأَحْكَامِ فَلَا يَتِمُّ الْقِيَاسُ

عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ فَرْضٌ لَا وَاجِبٌ مَحْضٌ ، فَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ إجَابَةُ الدَّعْوَةِ فِي حُكْمِ الْوَاجِبِ بَلْ نَفْسُ الْوَاجِبِ لَا يَنْدَفِعُ السُّؤَالُ أَيْضًا ، إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَحَمُّلِ الْمَحْذُورِ لِإِقَامَةِ الْفَرْضِ تَحَمُّلُهُ لِإِقَامَةِ الْوَاجِبِ لِثُبُوتِ الْفَرْضِ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ دُونَ الْوَاجِبِ ، وَلِهَذَا يَكْفُرُ جَاحِدُ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي فَلَا وَجْهَ لِلْقِيَاسِ .
وَأَجَابَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ عَنْ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ : وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ وَجْهُ التَّشْبِيهِ اقْتِرَانُ الْعِبَادَةِ بِالْبِدْعَةِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ صِفَةِ تِلْكَ الْعِبَادَةِ ا هـ .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ تَشْبِيهَ إجَابَةِ الدَّعْوَى بِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ فِي مُجَرَّدِ الِاقْتِرَانِ بِالْبِدْعَةِ مَعَ ظُهُورِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ لَا يُفِيدُ شَيْئًا فِقْهِيًّا ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَاجِبَةَ الْإِقَامَةِ وَإِنْ حَضَرَتْهَا نِيَاحَةٌ كَلَامًا زَائِدًا خَارِجًا عَنْ صَنْعَةِ الْفِقْهِ وَحَاشَى لَهُ .
ثُمَّ أَقُولُ : يُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْ ذَلِكَ السُّؤَالِ بِوَجْهٍ آخَرَ ، وَهُوَ أَنَّ إجَابَةَ الدَّعْوَةِ وَإِنْ كَانَتْ سُنَّةً عِنْدَنَا ابْتِدَاءً إلَّا أَنَّهَا تَنْقَلِبُ إلَى الْوَاجِبِ بَقَاءً : أَيْ بَعْدَ الْحُضُورِ إلَى مَحَلٍّ حَيْثُ يَلْزَمُهُ حَقُّ الدَّعْوَةِ بِالْتِزَامِهِ إجَابَتَهَا كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِيمَا بَعْدُ ، فَيَصِيرُ هَذَا نَظِيرَ الصَّلَاةِ النَّافِلَةِ فَإِنَّهَا تَنْقَلِبُ إلَى الْوَاجِبِ بَلْ إلَى الْفَرْضِ بِالْتِزَامِ إقَامَتِهَا بِالشُّرُوعِ فِيهَا كَمَا تَقَرَّرَ فِي مَحَلِّهِ ، وَلِذَلِكَ لَوْ عَلِمَ الْمَدْعُوُّ الْبِدْعَةَ قَبْلَ الْحُضُورِ لَزِمَهُ تَرْكُ إجَابَةِ الدَّعْوَةِ كَمَا سَيَجِيءُ ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَاجِبَةَ الْإِقَامَةِ وَإِنْ حَضَرَتْهَا نِيَاحَةٌ قِيَاسُ الْوَاجِبِ عَلَى الْوَاجِبِ فِي الْمَآلِ فَيَنْدَفِعُ الْإِشْكَالُ .
ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْإِصْلَاحِ وَالْإِيضَاحِ رَدَّ الدَّلِيلَ الْمَذْكُورَ فِي

الْكِتَابِ حَيْثُ قَالَ لَا ؛ لِأَنَّ إجَابَةَ الدَّعْوَةِ سُنَّةٌ فَلَا تُتْرَكُ بِسَبَبِ بِدْعَةٍ كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ يَحْضُرُهَا النِّيَاحَةُ ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ مُطْلَقَ الدَّعْوَةِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ إجَابَتَهَا سُنَّةٌ ، وَإِنْ أَرَادَ الدَّعْوَةَ عَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ ، بَلْ لِأَنَّ حَقَّ الدَّعْوَةِ يَلْزَمُهُ بَعْدَ الْحُضُورِ لَا قَبْلَهُ ، إلَى هَاهُنَا كَلَامُهُ .
وَقَصَدَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ الْجَوَابَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : ثُمَّ الْمُرَادُ بِالْإِجَابَةِ الْمَسْنُونَةِ فِي قَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ إجَابَةَ الدَّعْوَةِ سُنَّةٌ مَا يَعْلَمُ الْإِجَابَةَ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً وَالْإِجَابَةُ انْتِهَاءً فَقَطْ حَتَّى يَتِمَّ تَقْرِيبُ الدَّلِيلِ ؛ لِأَنَّ فَرْضَ الْمَسْأَلَةِ فِي دَعْوَةٍ اقْتَرَنَتْ بِلَهْوٍ ، وَفِيهَا لَا تُسَنُّ الْإِجَابَةُ ابْتِدَاءً كَمَا سَيَجِيءُ ، فَإِذَا عَرَفَ الْمَدْعُوُّ ذَلِكَ قَبْلَ الْإِجَابَةِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِجَابَةُ أَصْلًا .
وَأَمَّا إذَا هَجَمَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَعْرِفْهُ كَمَا هُوَ الْمَفْرُوضُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فَوَجَدَ ثَمَّةَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْجُلُوسُ وَالصَّبْرُ وَالْأَكْلُ ، وَهَذَا إجَابَةُ انْتِهَاءٍ ، فَبِهَذَا يَنْطَبِقُ الدَّلِيلُ عَلَى الْمُدَّعِي فَلَا يَرُدُّ عَلَيْهِ مَا قِيلَ إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ : لِأَنَّ إجَابَةَ الدَّعْوَةِ سُنَّةٌ أَنَّ إجَابَةَ مُطْلَقِ الدَّعْوَةِ سُنَّةٌ فَلَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ لِمَا سَيَجِيءُ أَنَّ الدَّعْوَةَ إذَا قَارَنَتْ شَيْئًا مِنْ اللَّهْوِ لَمْ يَلْزَمْهُ حَقُّ الدَّعْوَةِ ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ إجَابَةَ الدَّعْوَةِ عَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ كَذَلِكَ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ .
وَوَجْهُ الِانْدِفَاعِ ظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْهُ حَقُّ الدَّعْوَةِ ابْتِدَاءً لَكِنْ يَلْزَمُهُ انْتِهَاءً إذَا هَجَمَ فَتَأَمَّلْ إلَى هُنَا كَلَامُ ذَلِكَ الْبَعْضِ .
أَقُولُ : لَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي فَطَانَةٍ أَنَّ هَذَا كَلَامٌ خَالٍ عَنْ التَّحْصِيلِ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً .
أَمَّا خُلُوُّهُ عَنْ التَّحْصِيلِ ابْتِدَاءً فَلِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِإِجَابَةِ الدَّعْوَةِ انْتِهَاءً فَقَطْ ، إذْ لَا يُتَصَوَّرُ تَحَقُّقُ إجَابَةِ

الدَّعْوَةِ انْتِهَاءً بِدُونِ تَحَقُّقِهَا ابْتِدَاءً ؛ لِأَنَّ عَدَمَ تَحَقُّقِ إجَابَةِ الدَّعْوَةِ مِنْ الْمَدْعُوِّ ابْتِدَاءً إنَّمَا يُصَوَّرُ بِعَدَمِ مَجِيئِهِ إلَى مَحَلِّ الدَّعْوَةِ أَصْلًا لِأَجْلِ تِلْكَ الدَّعْوَةِ ، فَإِذَنْ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ إجَابَةُ تِلْكَ الدَّعْوَةِ انْتِهَاءً ؟ وَإِجَابَتُهَا انْتِهَاءً فَرْعُ مَجِيئِهِ إلَى مَحَلِّ الدَّعْوَةِ أَوَّلًا وَلَيْسَ فَلَيْسَتْ ، وَإِنَّمَا الَّذِي يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُ عَكْسُ ذَلِكَ ، وَهُوَ الْإِجَابَةُ ابْتِدَاءً فَقَطْ ، كَمَا إذَا دُعِيَ إلَى وَلِيمَةٍ أَوْ غَيْرِهَا فَأَجَابَ وَذَهَبَ إلَى مَحَلِّ الدَّعْوَةِ فَوَجَدَ ثَمَّةَ لَعِبًا أَوْ غِنَاءً فَلَمْ يَقْعُدْ وَلَمْ يَأْكُلْ فَإِنَّهُ يُوجَدُ هُنَاكَ الْإِجَابَةُ ابْتِدَاءً لَا انْتِهَاءً كَمَا لَا يَخْفَى ، وَصُورَتُهَا الشَّرْعِيَّةُ فِيمَا إذَا كَانَ الْمَدْعُوُّ مُقْتَدًى وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى مَنْعِهِمْ كَمَا سَيَجِيءُ فِي الْكِتَابِ وَالْعَجَبُ أَنَّ ذَلِكَ الْقَائِلَ ذَكَرَ الْإِجَابَةَ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً وَالْإِجَابَةَ انْتِهَاءً فَقَطْ ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْإِجَابَةَ ابْتِدَاءً فَقَطْ ، وَكَتَبَ تَحْتَ قَوْلِهِ وَالْإِجَابَةَ انْتِهَاءً فَقَطْ ، أَمَّا عَكْسُهُ وَهُوَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ هَاهُنَا فَلَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُ ا هـ .
فَزَعَمَ مَا هُوَ مُتَصَوَّرُ الْوُقُوعِ غَيْرَ مُتَصَوَّرِ الْوُقُوعِ وَبِالْعَكْسِ ، وَلَمْ يَدْرِ أَنَّ تَحَقُّقَ انْتِهَاءِ الشَّيْءِ فِي الْخَارِجِ يَسْتَلْزِمُ تَحَقُّقَ ابْتِدَائِهِ فِيهِ دُونَ الْعَكْسِ كَمَا لَا يَخْفَى .
وَأَمَّا خُلُوُّ كَلَامِهِ عَنْ التَّحْصِيلِ انْتِهَاءً فَلِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ قَوْلِهِ وَوَجْهُ الِانْدِفَاعِ ظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْهُ حَقُّ الدَّعْوَةِ ابْتِدَاءً لَكِنْ يَلْزَمُهُ انْتِهَاءً إذَا هَجَمَ أَنَّهُ اخْتَارَ كَوْنَ الْمُرَادِ أَنَّ إجَابَةَ مُطْلَقِ الدَّعْوَةِ سُنَّةٌ ، لِأَنَّ عَدَمَ لُزُومِ حَقِّ الدَّعْوَةِ ابْتِدَاءً لَكِنْ يَلْزَمُهُ انْتِهَاءً كَانَ مِنْ مُتَفَرِّعَاتِ مَنْعِ ذَلِكَ ، وَلَكِنْ مَا ذَكَرَهُ فِي وَجْهِ الِانْدِفَاعِ لَيْسَ بِسَدِيدٍ ؛ لِأَنَّهُ إذَا عَلِمَ الْمَدْعُوُّ قَبْلَ الْحُضُورِ أَنَّ الدَّعْوَةَ

قَارَنَتْ شَيْئًا مِنْ الْبِدْعَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِجَابَةُ أَصْلًا كَمَا سَيَجِيءُ فِي الْكِتَابِ ، وَذَكَرَهُ ذَلِكَ الْقَائِلُ أَيْضًا فِي أَثْنَاءِ كَلَامِهِ ، وَيَكْفِي لِسَنَدِ مَنْعٍ أَنَّ إجَابَةَ مُطْلَقِ الدَّعْوَةِ سُنَّةٌ هَذِهِ الصُّورَةُ فَقَطْ ، فَلَا وَجْهَ لِقَوْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْهُ حَقُّ الدَّعْوَةِ ابْتِدَاءً لَكِنْ يَلْزَمُهُ انْتِهَاءً إذَا هَجَمَ ؛ لِأَنَّ لُزُومَ حَقِّ الدَّعْوَةِ لِلْمَدْعُوِّ انْتِهَاءً إذَا هَجَمَ عَلَيْهِ إنَّمَا يَكُونُ بِأَنْ عَلِمَ ذَلِكَ بَعْدَ الْحُضُورِ ، وَهُوَ صُورَةٌ أُخْرَى غَيْرُ الصُّورَةِ الْأُولَى الَّتِي هِيَ السَّنَدُ لِلْمَنْعِ الْمَذْكُورِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ حَقُّ الدَّعْوَةِ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى لَا ابْتِدَاءً وَلَا انْتِهَاءً ، فَكَيْفَ يَكُونُ مَا ذَكَرَهُ وَجْهًا لِلِانْدِفَاعِ .
وَالصَّوَابُ فِي الْجَوَابِ عَمَّا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْإِصْلَاحِ وَالْإِيضَاحِ اخْتِيَارُ الشِّقِّ الثَّانِي مِنْ تَرْدِيدِهِ ، وَهُوَ كَوْنُ الْمُرَادِ أَنَّ إجَابَةَ الدَّعْوَةِ عَلَى وَجْهِ السُّنِّيَّةِ فَتَكُونُ الْإِجَابَةُ سُنَّةً وَبَيَانُ تَمَامِ تَقْرِيبِ الدَّلِيلِ بِأَنَّ الدَّعْوَةَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ إنْ دُعِيَ إلَى وَلِيمَةٍ أَوْ طَعَامٍ وَلَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ شَيْءٍ مِنْ الْبِدَعِ أَصْلًا .
وَالثَّانِي إنْ دُعِيَ إلَى ذَلِكَ وَيَذْكُرُ حِينَ الدَّعْوَةِ أَنَّ ثَمَّةَ شَيْئًا مِنْ الْبِدَعِ وَلَمْ يَعْلَمْهُ الْمَدْعُوُّ قَبْلَ الْحُضُورِ وَلَكِنْ هَجَمَ عَلَيْهِ ، وَالثَّالِثِ إنْ دُعِيَ إلَى ذَلِكَ وَذَكَرَ أَنَّ ثَمَّةَ شَيْئًا مِنْ الْبِدَعِ فَعَلِمَهُ الْمَدْعُوُّ قَبْلَ الْحُضُورِ .
فَفِي الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ كَانَتْ الدَّعْوَةُ عَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ فَتَكُونُ الْإِجَابَةُ سُنَّةً .
وَفِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ لَمْ تَكُنْ الدَّعْوَةُ عَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ فَلَا تَكُونُ الْإِجَابَةُ لَازِمَةً لِلْمَدْعُوِّ أَصْلًا ، وَالْمَسْأَلَةُ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا مِنْ الْوَجْهِ الثَّانِي مِنْ تِلْكَ الْأَوْجُهِ فَيَتَمَشَّى فِيهَا الدَّلِيلُ الْمَذْكُورُ فَيَتِمُّ التَّقْرِيبُ تَأَمَّلْ تَقِفْ .
( قَوْلُهُ وَهَذَا كُلُّهُ بَعْدَ الْحُضُورِ

وَلَوْ عَلِمَ قَبْلَ الْحُضُورِ لَا يَحْضُرُ ) أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ يَعُمُّ مَا بَعْدَ الْحُضُورِ وَمَا قَبْلَهُ ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ أَنَّ الْمُعَرَّفَ بِاللَّامِ إذَا لَمْ تَكُنْ لِلْعَهْدِ الْخَارِجِيِّ فَهُوَ لِلِاسْتِغْرَاقِ ، وَالدَّعْوَةُ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ لَمْ يُجِبْ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ } مُعَرَّفَةٌ بِاللَّامِ ، وَلَمْ يَظْهَرْ هُنَاكَ مَعْهُودٌ خَارِجِيٌّ فَهِيَ لِلِاسْتِغْرَاقِ فَتَعُمُّ كُلَّ دَعْوَةٍ ، وَالْجَوَابُ أَنَّهُ إنْ كَانَ عَامًّا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ فَهُوَ مَخْصُوصٌ بِالنُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ الِاجْتِنَابِ عَنْ اقْتِرَابِ تِلْكَ الْبِدَعِ بِلَا ضَرُورَةٍ تَوْفِيقًا بَيْنَ النُّصُوصِ مَهْمَا أَمْكَنَ ، وَقَدْ دَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَى الصَّبْرِ فِيمَا إذَا عَلِمَ بَعْدَ الْحُضُورِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَزِمَهُ حَقُّ الدَّعْوَةِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا عَلِمَ قَبْلَ الْحُضُورِ إذْ لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ هُنَاكَ كَمَا بَيَّنَهُ الْمُصَنِّفُ هُنَاكَ فَافْتَرَقَا .
( قَوْلُهُ وَدَلَّتْ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَنَّ الْمَلَاهِيَ كُلَّهَا حَرَامٌ حَتَّى التَّغَنِّي بِضَرْبِ الْقَضِيبِ ) ؛ لِأَنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ أَطْلَقَ اسْمَ اللَّعِبِ وَالْغِنَاءِ بِقَوْلِهِ فَوَجَدَ ثَمَّةَ اللَّعِبَ وَالْغِنَاءَ وَهُوَ اللَّهْوُ حَرَامٌ ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ ، وَهَذَا الْقَدْرُ مِنْ التَّعْلِيلِ كَافٍ فِي بَيَانِ دَلَالَةِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَنَّ الْمَلَاهِيَ كُلَّهَا حَرَامٌ هُوَ الصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ عِنْدِي ، وَقَدْ زَادَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ عَلَى ذَلِكَ كَلَامًا آخَرَ حَيْثُ قَالُوا : فَاللَّعِبُ وَهُوَ اللَّهْوُ حَرَامٌ بِالنَّصِّ ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَهْوُ الْمُؤْمِنِ بَاطِلٌ إلَّا فِي ثَلَاثٍ : تَأْدِيبِهِ فَرَسَهُ وَفِي رِوَايَةٍ مُلَاعَبَتِهِ بِفَرَسِهِ ، وَرَمْيِهِ عَنْ قَوْسِهِ ، وَمُلَاعَبَتِهِ مَعَ أَهْلِهِ } وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ لَيْسَ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِ فَكَانَ بَاطِلًا انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ كَلَامٌ ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ زِيَادَةَ قَوْلِهِمْ

بِالنَّصِّ فِي قَوْلِهِمْ فَاللَّعِبُ وَهُوَ اللَّهْوُ حَرَامٌ بِالنَّصِّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الدَّلِيلَ عَلَى حُرْمَةِ اللَّهْوِ هُوَ النَّصُّ ، وَالْكَلَامُ فِي دَلَالَةِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى ذَلِكَ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُؤْتَ بِتِلْكَ الزِّيَادَةُ إذْ يَكُونُ قَوْلُهُمْ فَاللَّعِبُ وَهُوَ اللَّهْوُ حَرَامٌ إذْ ذَاكَ مُتَفَرِّعًا عَلَى مَا قَبْلَهُ وَهُوَ إطْلَاقُ مُحَمَّدٍ اسْمَ اللَّعِبِ وَالْغِنَاءِ بِقَوْلِهِ فَوَجَدَ ثَمَّةَ اللَّعِبَ وَالْغِنَاءَ ، فَيَصِيرُ حَاصِلُ التَّعْلِيلِ أَنَّ مُحَمَّدًا لَمَّا أَطْلَقَ اسْمَ اللَّعِبِ وَالْغِنَاءِ فِي هَاتِيكَ الْمَسْأَلَةِ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِنَوْعٍ عُلِمَ أَنَّ اللَّعِبَ الَّذِي هُوَ اللَّهْوُ حَرَامٌ مُطْلَقًا ، وَهُوَ جَيِّدٌ مُفِيدٌ لِلْمُدَّعِي .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُمْ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ لَيْسَ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِ فَكَانَ بَاطِلًا يُنَافِي قَوْلَهُمْ فِي أَوَّلِ التَّعْلِيلِ ؛ لِأَنَّ مُحَمَّدًا أَطْلَقَ اسْمَ اللَّعِبِ وَالْغِنَاءِ ، إذْ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ لَا يَكُونَ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي هَاتِيكَ الْمَسْأَلَةِ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ اسْمُ اللَّعِبِ فِيهَا مُطْلَقًا ، بَلْ أَنْ يَكُونَ مُقَيَّدًا بِغَيْرِ هَذِهِ الثَّلَاثِ .
لَا يُقَالُ : مُرَادُهُمْ بِإِطْلَاقِ مُحَمَّدٍ اسْمَ اللَّعِبِ إطْلَاقُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا عَدَا هَذِهِ الثَّلَاثَ لَا بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ لَعِبٍ فَلَا تَنَافِي .
لِأَنَّا نَقُولُ : لَا يُسَاعِدُهُ لَفْظُ مُحَمَّدٍ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا أَخَذُوا إطْلَاقَ اسْمِ اللَّعِبِ مِنْ قَوْلِهِ فَوَجَدَ ثَمَّةَ اللَّعِبَ وَالْغِنَاءَ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ قَوْلَهُ الْمَذْكُورَ إنَّمَا يَقْتَضِي الْإِطْلَاقَ بِالنِّسْبَةِ إلَى جِنْسِ اللَّعِبِ لَا بِالنِّسْبَةِ إلَى بَعْضٍ مِنْهُ وَهُوَ مَا عَدَا الثَّلَاثَ الْمَذْكُورَةَ .
ثُمَّ أَقُولُ : بَقِيَ شَيْءٌ فِي أَصْلِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ ، وَهُوَ أَنْ لَوْ اُعْتُبِرَتْ دَلَالَةُ الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى أَنَّ الْمَلَاهِيَ كُلَّهَا حَرَامٌ وَجَازَ الْعَمَلُ بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ لَزِمَ الْقَوْلُ بِحُرْمَةِ الصُّوَرِ الثَّلَاثِ

الْمُسْتَثْنَاةِ فِي الْحَدِيثِ أَيْضًا وَلَمْ يَقُلْ بِهَا أَحَدٌ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ : تِلْكَ الثَّلَاثُ مُسْتَثْنَاةٌ فِي كَلَامِ مُحَمَّدٍ تَقْدِيرًا بِنَاءً عَلَى كَوْنِهَا مُسْتَثْنَاةً فِي الْحَدِيثِ صَرِيحًا ، وَيَجْعَلُ شُهْرَةَ الْحَدِيثِ قَرِينَةً عَلَى ذَلِكَ .
ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ قَالَ : لَا يُقَالُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ } وَالْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَيْسَتْ بِحَرَامٍ ؛ لِأَنَّ الْحَاصِلَ مِنْ هَذَا الْقِيَاسِ بَعْضُ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ لَيْسَ بِحَرَامٍ ، وَهُوَ مَا اسْتَثْنَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ { لَهْوُ الْمُؤْمِنِ بَاطِلٌ إلَّا فِي ثَلَاثٍ : تَأْدِيبِهِ فَرَسَهُ ، وَرَمْيِهِ عَنْ قَوْسِهِ ، وَمُلَاعَبَتِهِ مَعَ أَهْلِهِ } انْتَهَى كَلَامُهُ .
أَقُولُ : أَرَادَ بِالْقِيَاسِ فِي قَوْلِهِ : لِأَنَّ الْحَاصِلَ مِنْ هَذَا الْقِيَاسِ بَعْضُ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ لَيْسَ بِحَرَامٍ الْقِيَاسَ الْمَنْطِقِيَّ الَّذِي ذُكِرَ فِي السُّؤَالِ عَلَى الشَّكْلِ الثَّالِثِ مِنْ الْأَشْكَالِ الْأَرْبَعَةِ بِقِسْمَةِ الِاقْتِرَانِيِّ وَبِالْحَاصِلِ مِنْهُ نَتِيجَةً ، وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ بَعْضُ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ إلَى جُزْئِيَّةِ تِلْكَ النَّتِيجَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الشَّكْلَ الثَّالِثَ لَا يُنْتِجُ إلَّا جُزْئِيَّةً كَمَا تَقَرَّرَ فِي مَوْضِعِهِ فَبَطَلَ قَوْلُ بَعْضِ الْفُضَلَاءِ هُنَا : لَكِنَّ الْقِيَاسَ الْأَوَّلَ يَقْتَضِي الْكُلِّيَّةَ كَمَا لَا يَخْفَى ، فَكَأَنَّهُ غَفَلَ عَنْ كَوْنِ الْقِيَاسِ الْمَذْكُورِ عَلَى الشَّكْلِ الثَّالِثِ أَوْ عَنْ كَوْنِ نَتِيجَةِ الشَّكْلِ الثَّالِثِ جُزْئِيَّةً لَا غَيْرُ ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ هُنَا : إنَّ شَرْطَ إنْتَاجِ الشَّكْلِ الثَّالِثِ كُلِّيَّةً إحْدَى مُقَدِّمَتَيْهِ وَهِيَ هَاهُنَا مُنْتَفِيَةٌ انْتَهَى .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا أَيْضًا بِصَحِيحٍ ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ كِلْتَا مُقَدِّمَتَيْ الْقِيَاسِ الْمَذْكُورِ كُلِّيَّتَانِ صُغْرَاهُمَا مُوجَبَةٌ كُلِّيَّةٌ وَكُبْرَاهُمَا سَالِبَةٌ كُلِّيَّةٌ ، وَإِنْ حَمَلَ السَّلْبَ فِي الثَّانِيَةِ عَلَى

رَفْعِ الْإِيجَابِ الْكُلِّيِّ دُونَ السَّلْبِ الْكُلِّيِّ فَكُلِّيَّةُ الْأُولَى مُقَرَّرَةٌ ، وَأَدَاةُ صُوَرِ الْكُلِّيَّةِ هِيَ اللَّامُ الاستغراقية الدَّاخِلَةُ عَلَى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ، وَلَيْسَتْ أَدَاةُ صُوَرِهَا بِمُنْحَصِرَةٍ فِي لَفْظَةِ كُلٍّ ، بَلْ كُلُّ مَا يَدُلُّ عَلَى الْكُلِّيَّةِ مِنْ الْأَلْفَاظِ فَهُوَ أَدَاةُ صُوَرِهَا كَمَا صَرَّحُوا بِهِ .
ثُمَّ أَقُولُ : فِي الْجَوَابِ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ نَظَرٌ ، فَإِنَّ قَوْلَهُ ؛ لِأَنَّ الْحَاصِلَ مِنْ هَذَا الْقِيَاسِ بَعْضُ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ لَيْسَ بِحَرَامٍ جَيِّدٌ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ وَهُوَ مَا اسْتَثْنَاهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَلَا ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ الْمَذْكُورَ إنَّمَا يُنْتِجُ أَنَّ بَعْضَ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ وَهُوَ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَيْسَ بِحَرَامٍ ، فَإِنَّ الَّذِي كَانَ حَدًّا أَوْسَطَ فِي ذَلِكَ الْقِيَاسِ هُوَ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ، فَهِيَ الْمُرَادُ بِالْبَعْضِ فِي النَّتِيجَةِ ، وَنَظِيرُ هَذَا مَا إذَا قُلْنَا كُلُّ إنْسَانٍ حَيَوَانٌ وَلَا شَيْءَ مِنْ الْإِنْسَانِ بِفَرَسٍ ، فَإِنَّهُ يَنْتُجُ أَنَّ بَعْضَ الْحَيَوَانِ الَّذِي هُوَ الْإِنْسَانُ لَيْسَ بِفَرَسٍ لَا أَنَّ بَعْضَهُ أَيْ بَعْضَهُ كَانَ لَيْسَ بِفَرَسٍ ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِلْحَدِّ الْأَوْسَطِ تَأْثِيرٌ ، وَدَخَلَ فِي النَّتِيجَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَطْعًا ؛ وَهَذَا كُلُّهُ غَيْرُ خَافٍ عَلَى مَنْ لَهُ دُرْبَةٌ بِعِلْمِ الْمِيزَانِ .
فَإِذَا كَانَتْ النَّتِيجَةُ فِي الْقِيَاسِ الْمَذْكُورِ أَنَّ بَعْضَ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ الَّذِي هُوَ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَيْسَ بِحَرَامٍ فَلَا مَعْنَى لِتَخْصِيصِهِ بِالصُّوَرِ الثَّلَاثِ الْمُسْتَثْنَاةِ فِي الْحَدِيثِ ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَحْرُمُ مِنْ أُمُورِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَثِيرٌ لَا يُحْصَى فَمَا الْوَجْهُ لِلتَّخْصِيصِ عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْجَوَابِ لَا يَحْسِمُ مَادَّةَ السُّؤَالِ لِإِمْكَانِ أَنْ يُورَدَ السُّؤَالُ بِصُورَةِ الْقِيَاسِ الِاسْتِثْنَائِيِّ .
وَيُقَالُ : لَوْ كَانَتْ الْمَلَاهِي كُلُّهَا حَرَامًا لَكَانَتْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا أَيْضًا حَرَامًا لِأَنَّهَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ، لِقَوْلِهِ

تَعَالَى { اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ } وَلَكِنَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا لَيْسَتْ بِحَرَامٍ ، يَنْتُجُ أَنَّ الْمَلَاهِيَ كُلَّهَا لَيْسَتْ بِحَرَامٍ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجَوَابَ الْمَذْكُورَ لَا يَتَمَشَّى حِينَئِذٍ .
فَالصَّوَابُ فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ لَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ } أَنَّهَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ حَقِيقَةً بَلْ الْمُرَادُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهَا كَلَعِبٍ وَلَهْوٍ عَلَى طَرِيقِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ : يَعْنِي أَنَّهَا كَاللَّعِبِ وَاللَّهْوِ فِي سُرْعَةِ فَنَائِهَا وَانْقِضَائِهَا ، صَرَّحَ بِهِ فِي التَّفْسِيرِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ حُرْمَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا عَدَمُ حُرْمَةِ اللَّعِبِ وَاللَّهْوِ أَيْضًا كَمَا لَا يَخْفَى ( قَوْلُهُ وَكَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ اُبْتُلِيت ؛ لِأَنَّ الِابْتِلَاءَ بِالْمُحَرَّمِ يَكُونُ ) يَعْنِي وَدَلَّ أَيْضًا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ اُبْتُلِيت عَلَى أَنَّ الْمَلَاهِيَ كُلَّهَا حَرَامٌ ؛ لِأَنَّ الِابْتِلَاءَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْمُحَرَّمِ ، وَقَدْ أَشَارَ إلَى هَذَا الْقَصْرِ بِتَقْدِيمِ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ عَلَى الْفِعْلِ فِي قَوْلِهِ بِالْمُحَرَّمِ يَكُونُ .
أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : دَلَالَةُ قَوْلِهِ اُبْتُلِيت عَلَى حُرْمَةِ مَا وَجَدَهُ ثَمَّةَ مُسَلَّمَةٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الِابْتِلَاءَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْمُحَرَّمِ .
وَأَمَّا دَلَالَتُهُ عَلَى حُرْمَةِ كُلِّ الْمَلَاهِي كَمَا هُوَ الْمُدَّعَى فَمَمْنُوعَةٌ ، كَيْفَ ، وَقَدْ قَالَ اُبْتُلِيت بِهَذَا مَرَّةً انْتَهَى .
وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا اُبْتُلِيَ بِهِ مَرَّةً لَا يَكُونُ كُلَّ الْمَلَاهِي ، بَلْ إنَّمَا يَكُونُ شَيْئًا مُعَيَّنًا مِنْهَا .
وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِ الْوِقَايَةِ .
قَالُوا قَوْلُهُ اُبْتُلِيت يَدُلُّ عَلَى الْحُرْمَةِ ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : إنَّ الصَّبْرَ عَلَى الْحَرَامِ لِإِقَامَةِ السُّنَّةِ لَا يَجُوزُ ، وَالصَّبْرُ الَّذِي قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ جَازَ أَنْ يَكُونَ جَالِسًا مُعْرِضًا عَنْ ذَلِكَ اللَّهْوِ مُنْكِرًا لَهُ غَيْرَ مُشْتَغِلٍ

وَلَا مُتَلَذِّذٍ بِهِ ا هـ .
أَقُولُ : ذَلِكَ سَاقِطٌ ؛ لِأَنَّ إجَابَةَ الدَّعْوَةِ وَإِنْ كَانَتْ سُنَّةً ابْتِدَاءً إلَّا أَنَّهَا تَصِيرُ وَاجِبَةً بَقَاءً حَيْثُ يَلْزَمُهُ حَقُّ الدَّعْوَةِ بَعْدَ الْحُضُورِ لِالْتِزَامِهِ الْإِجَابَةَ بِالْحُضُورِ ، كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي سَائِرِ النَّوَافِلِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَنَحْوِهِمَا ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهَا تَصِيرُ وَاجِبَةً بِالشُّرُوعِ فِيهَا فَكَانَ الصَّبْرُ عَلَى الْحَرَامِ فِيمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لِإِقَامَةِ الْوَاجِبِ فَيَجُوزُ كَمَا فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ إذَا حَضَرَتْهَا النِّيَاحَةُ ، وَقَدْ مَرَّ مِنَّا مِثْلُ هَذَا الْجَوَابِ فِيمَا قَبْلُ فَتَذَكَّرْ .
ثُمَّ إنَّ جَوَازَ كَوْنِ أَبِي حَنِيفَةَ جَالِسًا مُعْرِضًا عَنْ ذَلِكَ اللَّهْوِ مُنْكِرًا لَهُ غَيْرَ مُشْتَغِلٍ وَلَا مُتَلَذِّذٍ بِهِ لَا يَدْفَعُ حُرْمَةَ ذَلِكَ اللَّهْوِ وَلَا حُرْمَةَ الْجُلُوسِ عَلَيْهِ ، إذْ قَدْ ذَكَرَ فِي الْكَافِي وَالشُّرُوحِ أَنَّ الصَّدْرَ الشَّهِيدَ رَوَى فِي كَرَاهِيَةِ الْوَاقِعَاتِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { اسْتِمَاعُ الْمَلَاهِي مَعْصِيَةٌ ، وَالْجُلُوسُ عَلَيْهَا فِسْقٌ ، وَالتَّلَذُّذُ بِهَا مِنْ الْكُفْرِ } وَمَدْلُولُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ مُجَرَّدَ الْجُلُوسِ عَلَى فِسْقِ اللَّهْوِ فَأَنَّى يُتَصَوَّرُ اخْتِيَارُ ذَلِكَ مِنْ مِثْلِ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ لَوْ لَمْ يُعَارِضْ وُجُوبَ إجَابَةِ الدَّعْوَةِ بَعْدَ الْحُضُورِ شَرٌّ مِنْ ذَلِكَ فَتَأَمَّلْ .
وَقَدْ أَوْرَدَ صَاحِبُ الْإِصْلَاحِ وَالْإِيضَاحِ مَا أَوْرَدَهُ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ مَعَ زِيَادَةِ بَعْضٍ مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ سِيَّمَا فِي أَوَّلِ إيرَادِهِ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ ، وَدَلَّ قَوْلُهُ عَلَى حُرْمَةِ كُلِّ الْمَلَاهِي ؛ لِأَنَّ الِابْتِلَاءَ بِالْمُحَرَّمِ يَكُونُ كَذَا قَالُوا وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ الِابْتِلَاءَ يُسْتَعْمَلُ فِيمَا هُوَ مَحْظُورُ الْعَوَاقِبِ وَلَوْ كَانَ مُبَاحًا ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ اُبْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ } الْحَدِيثَ .
ثُمَّ إنَّ الصَّبْرَ عَلَى الْحَرَامِ رِعَايَةً لِحَقِّ الدَّعْوَةِ لَا يَجُوزُ ، لِأَنَّ

السُّنَّةَ تُتْرَكُ حَذَرًا عَنْ ارْتِكَابِ الْمَحْظُورِ ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ جَلَسَ مُعْرِضًا عَنْ ذَلِكَ اللَّهْوِ مُنْكِرًا لَهُ غَيْرَ مُسْتَمِعٍ لَهُ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ مِنْهُ الْجُلُوسُ عَلَى اللَّهْوِ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ مُبْتَلًى بِحَرَامٍ انْتَهَى .
وَقَدْ نَقَلَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بِتَقْصِيرٍ وَتَحْرِيفٍ وَعَزَاهُ فِي الْحَاشِيَةِ إلَى صَاحِبِ الْإِصْلَاحِ وَالْإِيضَاحِ ، ثُمَّ قَصَدَ رَدَّهُ فَأَتَى بِكَلَامٍ مُفَصَّلٍ مُشَوَّشٍ قَابِلٍ لِلدَّخْلِ وَالْخَرْجِ تَرَكْنَا ذِكْرَهُ وَبَيَانَ مَا فِيهِ تَحَاشِيًا عَنْ الْإِطْنَابِ الْمُمِلِّ ، وَمَنْ شَاءَ فَلْيُرَاجِعْ كِتَابَهُ .

فَصْلٌ فِي اللُّبْسِ قَالَ ( لَا يَحِلُّ لِلرِّجَالِ لُبْسُ الْحَرِيرِ وَيَحِلُّ لِلنِّسَاءِ ) { ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ وَقَالَ : إنَّمَا يَلْبَسُهُ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ } وَإِنَّمَا حَلَّ لِلنِّسَاءِ بِحَدِيثٍ آخَرَ ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ عِدَّةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْهُمْ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ وَبِإِحْدَى يَدَيْهِ حَرِيرٌ وَبِالْأُخْرَى ذَهَبٌ وَقَالَ : هَذَانِ مُحَرَّمَانِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حَلَالٌ لِإِنَاثِهِمْ } وَيُرْوَى { حِلٌّ لِإِنَاثِهِمْ } ( إلَّا أَنَّ الْقَلِيلَ عَفْوٌ وَهُوَ مِقْدَارُ ثَلَاثَةِ أَصَابِعَ أَوْ أَرْبَعَةٍ كَالْأَعْلَامِ وَالْمَكْفُوفِ بِالْحَرِيرِ ) لِمَا رُوِيَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ إلَّا مَوْضِعَ إصْبَعَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ أَوْ أَرْبَعَةٍ } أَرَادَ الْأَعْلَامَ .
وَعَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَنَّهُ كَانَ يَلْبَسُ جُبَّةً مَكْفُوفَةً بِالْحَرِيرِ }

( فَصْلٌ فِي اللُّبْسِ ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : لَمَّا ذَكَرَ مُقَدِّمَاتِ مَسَائِلِ الْكَرَاهِيَةِ ذَكَرَ مَا يَتَوَارَدُ عَلَى الْإِنْسَانِ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ بِالْفُصُولِ فَقَدَّمَ اللُّبْسَ عَلَى الْوَطْءِ ؛ لِأَنَّ الِاحْتِيَاجَ إلَى اللُّبْسِ أَشَدُّ مِنْهُ إلَى الْوَطْءِ ، انْتَهَى كَلَامُهُ ، وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَلَكِنْ بِعِبَارَةٍ أَقْصَرَ .
أَقُولُ : صُدُورُ هَذَا التَّوْجِيهِ مِنْهُمَا فِي غَايَةِ الِاسْتِبْعَادِ فَإِنَّ مُقْتَضَاهُ الْغَفْلَةُ عَمَّا تَقَدَّمَ مِنْ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ الْمَعْقُودِ لِبَيَانِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ ، وَمَا ذَكَرَهُ فِيهِ مِنْ مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ مُتَعَلِّقَةٍ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ مَقْصُودَةٍ بِالذَّاتِ غَيْرِ صَالِحَةٍ لَأَنْ تَكُونَ مِنْ مُقَدِّمَاتِ مَسَائِلِ الْكَرَاهِيَةِ كَمَا تَرَى .
وَالصَّوَابُ فِي وَجْهِ التَّرْتِيبِ أَنْ يُقَالَ : قَدَّمَ فَصْلَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ ؛ لِأَنَّ احْتِيَاجَ الْإِنْسَانِ إلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ أَشَدُّ ، وَعَقَّبَهُ بِفَصْلِ اللُّبْسِ فَقَدَّمَهُ عَلَى فَصْلِ الْوَطْءِ ؛ لِأَنَّ احْتِيَاجَ الْإِنْسَانِ إلَى اللُّبْسِ أَكْثَرُ مِنْ احْتِيَاجِهِ إلَى الْوَطْءِ لِتَحَقُّقِ الْأَوَّلِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ دُونَ الثَّانِي ، وَقَدْ أُشِيرَ إلَى هَذَا التَّوْجِيهِ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ ( قَوْلُهُ وَإِنَّمَا حَلَّ لِلنِّسَاءِ بِحَدِيثٍ آخَرَ وَهُوَ مَا رَوَاهُ عِدَّةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ إلَى آخِرِهِ ) لَمَّا ذَكَرَ حُرْمَةَ لُبْسِ الْحَرِيرِ عَلَى الرِّجَالِ وَحِلَّهُ لِلنِّسَاءِ ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى الْحُرْمَةِ بِمَا يَعُمُّ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ لَزِمَهُ أَنْ يَقُولَ : وَإِنَّمَا حَلَّ لِلنِّسَاءِ بِحَدِيثٍ آخَرَ .
فَإِنْ قِيلَ : الْمُحَرَّمُ وَالْمُبِيحُ إذَا اجْتَمَعَا يُجْعَلُ الْمُحَرَّمُ مُتَأَخِّرًا كَيْ لَا يَلْزَمُ النَّسْخُ مَرَّتَيْنِ ، وَهُنَا لَوْ تَأَخَّرَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هَذَانِ حَرَامَانِ الْحَدِيثَ ، يَلْزَمُ النَّسْخُ مَرَّتَيْنِ فِي حَقِّ الْإِنَاثِ فَيَجْعَلُ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { حِلٌّ لِإِنَاثِهِمْ } مُقَدَّمًا .
قُلْنَا : قَوْلُهُ { إنَّمَا

يَلْبَسُهُ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ } يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِقَوْلِهِ { حَرَامَانِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي } ؛ لِأَنَّ هَذَا وَعِيدٌ لَا بَيَانُ حُكْمٍ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ تَقْلِيلًا لِلنَّسْخِ ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ " هَذَانِ حَرَامَانِ " الْحَدِيثُ نَصٌّ لِبَيَانِ التَّفْرِقَةِ فِي حَقِّ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ لِلذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ .
وَقَوْلُهُ { إنَّمَا يَلْبَسُهُ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ } لِبَيَانِ الْوَعِيدِ فِي حَقِّ مَنْ لَبِسَ الْحَرَامَ فَكَانَا كَالظَّاهِرِ وَالنَّصِّ ، وَالنَّصُّ رَاجِحٌ عَلَى الظَّاهِرِ .
أَوْ نَقُولُ : الدَّلِيلُ دَلَّ عَلَى أَنَّ مُقْتَضَى الْحِلِّ لِلْإِنَاثِ مُتَأَخِّرٌ ، وَهُوَ اسْتِعْمَالُ الْإِنَاثِ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ ، وَهَذَا آيَةٌ قَاطِعَةٌ عَلَى تَأَخُّرِهِ ، كَذَا ذُكِرَ السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ فِي شَرْحِ تَاجِ الشَّرِيعَةِ وَالْكِفَايَةِ .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي تَقْرِيرِ السُّؤَالِ : وَالْجَوَابُ هُنَا .
فَإِنْ قِيلَ : الْحَدِيثُ الدَّالُّ عَلَى حِلِّهِ لَهُنَّ إمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْأَوَّلِ فَيُنْسَخُ بِهِ أَوْ بَعْدَهُ فَيَتَعَارَضَانِ ؛ لِأَنَّ الْعَامَّ كَالْخَاصِّ فِي إفَادَةِ الْقَطْعِ عِنْدَنَا أَوْ لَا يُعْلَمُ التَّارِيخُ فَيُجْعَلُ الْمُحَرَّمَ مُتَأَخِّرًا لِئَلَّا يَلْزَمَ النَّسْخُ مَرَّتَيْنِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّهُ بَعْدَهُ بِدَلِيلِ اسْتِعْمَالِهِنَّ إيَّاهُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ ، وَذَلِكَ آيَةٌ قَاطِعَةٌ عَلَى تَأَخُّرِهِ فَيُنْسَخُ بِهِ الْمُحَرَّمُ ، وَتَكْرَارُ النَّسْخِ بِالدَّلِيلِ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ انْتَهَى كَلَامُهُ .
أَقُولُ : تَقْرِيرُ السُّؤَالِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ لَيْسَ بِسَدِيدٍ ، لِأَنَّ التَّرْدِيدَ الْمُثَلَّثَ الْمَذْكُورَ فِيهِ قَبِيحٌ جِدًّا بَلْ مُخْتَلُّ الْمَعْنَى ، فَإِنَّهُ إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ فِي الشِّقِّ الثَّانِي فَيَتَعَارَضَانِ أَنَّهُمَا حِينَئِذٍ يَتَعَارَضَانِ فَيَتَسَاقَطَانِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ، إذْ الْمُؤَخَّرُ يَكُونُ نَاسِخًا لِلْمُقَدَّمِ

أَلْبَتَّةَ عِنْدَ التَّعَارُضِ وَالتَّسَاوِي فِي الْقُوَّةِ ، وَإِنَّمَا التَّسَاقُطُ فِيمَا إذَا لَمْ يُعْلَمْ التَّارِيخُ ، وَلَمْ يُمْكِنْ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِطَلَبِ الْمُخَلِّصِ كَمَا تَقَرَّرَ كُلُّ ذَلِكَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ ، وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُمَا يَتَعَارَضَانِ وَيَكُونُ الْمُؤَخَّرُ نَاسِخًا لِلْمُقَدَّمِ فَهُوَ يَدْفَعُ السُّؤَالَ عَنْ الْمَقَامِ فَلَا وَجْهَ لِدَرْجِهِ فِي جَانِبِ السُّؤَالِ .
وَأَقُولُ : فِي الْجَوَابِ الَّذِي ذَكَرَهُ أَيْضًا شَيْءٌ ، وَهُوَ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي الشُّرُوحِ وَسَائِرِ الْمُعْتَبَرَاتِ أَنَّهُ قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ : لُبْسُ الْحَرِيرِ حَرَامٌ عَلَى النِّسَاءِ أَيْضًا لِعُمُومِ النَّهْيِ .
وَلِمَا حَدَّثَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِي دَاوُد عَنْ شُعْبَةَ قَالَ : أَخْبَرَنِي أَبُو ذُبْيَانَ قَالَ : سَمِعْت ابْنَ الزُّبَيْرِ يَخْطُبُ يَقُولُ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ لَا تُلْبِسُوا نِسَاءَكُمْ الْحَرِيرَ فَإِنِّي سَمِعْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ } فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ سِيَّمَا ابْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنْكَرُوا اسْتِعْمَالَ النِّسَاءِ الْحَرِيرِ فَكَيْفَ يَتِمُّ أَنْ يُقَالَ فِي الْجَوَابِ إنَّهُ بَعْدَهُ بِدَلِيلِ اسْتِعْمَالِهِنَّ إيَّاهُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فَتَأَمَّلْ .
ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : فَإِنْ قِيلَ : قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " هَذَانِ حَرَامَانِ " إشَارَةٌ إلَى جُزْئِيَّيْنِ ، فَمِنْ أَيْنَ الْعُمُومُ ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ الْجِنْسُ ، وَلَئِنْ كَانَ شَخْصًا فَغَيْرُهُ مُلْحَقٌ بِهِ بِالدَّلَالَةِ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ بَحْثٌ ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ أَنَّ عِبَارَةَ النَّصِّ تُرَجَّحُ عَلَى إشَارَتِهِ وَإِشَارَتُهُ تُرَجَّحُ عَلَى دَلَالَتِهِ ، فَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ غَيْرُ الشَّخْصِ الْمُشَارِ إلَيْهِ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " هَذَانِ

حَرَامَانِ " الْحَدِيثَ مُلْحَقًا بِهِ بِالدَّلَالَةِ يَلْزَمُ أَنْ يُرَجَّحَ الْحَدِيثُ الدَّالُّ عِبَارَةً أَوْ إشَارَةً عَلَى حُرْمَةِ لُبْسِ الْحَرِيرِ مُطْلَقًا عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّمَا يَلْبَسُهُ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ } عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي حَقِّ مَا أَفَادَهُ دَلَالَةً ، وَهُوَ حِلُّ لُبْسِ الْحَرِيرِ الَّذِي هُوَ غَيْرُ الشَّخْصِ الْمُشَارِ إلَيْهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لِلنِّسَاءِ ، فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَنْتَهِضَ هَذَا الْحَدِيثُ حُجَّةً لِحِلِّ لُبْسِ الْحَرِيرِ الْغَيْرِ الْمُشَارِ إلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ لِلنِّسَاءِ فَمِنْ أَيْنَ ثَبَتَ الْعُمُومُ

.
قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِتَوَسُّدِهِ وَالنَّوْمِ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : يُكْرَهُ ) وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ذَكَرَ قَوْلَ مُحَمَّدٍ وَحْدَهُ ، وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْمَشَايِخِ ، وَكَذَا الِاخْتِلَافُ فِي سِتْرِ الْحَرِيرِ وَتَعْلِيقِهِ عَلَى الْأَبْوَابِ .
لَهُمَا الْعُمُومَاتُ ، وَلِأَنَّهُ مِنْ زِيِّ الْأَكَاسِرَةِ وَالْجَبَابِرَةِ وَالتَّشَبُّهُ بِهِمْ حَرَامٌ .
وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إيَّاكُمْ وَزِيَّ الْأَعَاجِمِ .
وَلَهُ مَا رُوِيَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَلَسَ عَلَى مِرْفَقَةِ حَرِيرٍ } ، وَقَدْ كَانَ عَلَى بِسَاطِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِرْفَقَةُ حَرِيرٍ ، وَلِأَنَّ الْقَلِيلَ مِنْ الْمَلْبُوسِ مُبَاحٌ كَالْأَعْلَامِ فَكَذَا الْقَلِيلَ مِنْ اللُّبْسِ وَالِاسْتِعْمَالِ ، وَالْجَامِعُ كَوْنُهُ نَمُوذَجًا عَلَى مَا عُرِفَ .

( قَوْلُهُ وَلَا بَأْسَ بِتَوَسُّدِهِ وَالنَّوْمِ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : يُكْرَهُ ) قَالَ الشُّرَّاحُ : يَعْنِي لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ جَمِيعًا بِخِلَافِ اللُّبْسِ ، وَمَأْخَذُهُمْ الْخُلَاصَةُ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهَا : وَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ فِي هَذَا سَوَاءٌ ، بِخِلَافِ اللُّبْسِ .
وَعَنْ هَذَا قَالَ فِي النِّهَايَةِ ، كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ ، وَقَالَ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ : ذَكَرَهُ فِي الْخُلَاصَةِ .
أَقُولُ : تَعْمِيمُ قَوْلِ الْإِمَامَيْنِ هُنَا لِلْمَرْأَةِ أَيْضًا مُشْكِلٌ ، فَإِنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " حَلَالٌ لِإِنَاثِهِمْ " لَيْسَ بِمُقَيَّدٍ بِاللُّبْسِ بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ يَعُمُّ التَّوَسُّدَ وَالنَّوْمَ عَلَيْهِ أَيْضًا ، وَهُمَا مَعَ كَوْنِهِمَا مُسْتَدِلِّينَ عَلَى مُدَّعَاهُمَا هَاهُنَا بِالْعُمُومَاتِ كَيْفَ يَتْرُكَانِ الْعَمَلَ بِعُمُومِ هَذَا الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ الَّذِي رَوَتْهُ جَمَاعَةٌ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ( قَوْلُهُ لَهُمَا الْعُمُومَاتُ ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : وَهِيَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ قَوْلِهِ { نَهَى عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ } وَقَوْلِهِ { إنَّمَا يَلْبَسُهُ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ } وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهُ اسْتَقْبَلَ جَيْشًا مِنْ الْغُزَاةِ رَجَعُوا بِغَنَائِمَ وَلَبِسُوا الْحَرِيرَ فَلَمَّا وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَيْهِمْ أَعْرَضَ عَنْهُمْ ، فَقَالُوا : لِمَ أَعْرَضَتْ عَنَّا ؟ قَالَ : لِأَنِّي رَأَيْت عَلَيْكُمْ ثِيَابَ أَهْلِ النَّارِ انْتَهَى .
وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي بَيَانِ الْمُرَادِ مِنْ الْعُمُومَاتِ بِهَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ ، أَقُولُ : حَمْلُ الْعُمُومَاتِ عَلَى هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ لَا يَكَادُ يَتِمُّ ؛ لِأَنَّ مَدْلُولَ كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ إنَّمَا هُوَ حُرْمَةُ لُبْسِ الْحَرِيرِ ، وَالْكَلَامُ هَاهُنَا فِي تَوَسُّدِهِ وَالنَّوْمِ عَلَيْهِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا لَيْسَا بِلُبْسٍ ، إلَّا أَنْ يُقَالَ لِمَنْ تَوَسَّدَ شَيْئًا أَوْ نَامَ عَلَيْهِ إنَّهُ لَبِسَهُ لَا فِي اللُّغَةِ وَلَا فِي الْعُرْفِ فَأَنَّى يُوجَدُ الْعُمُومُ ، اللَّهُمَّ

إلَّا أَنْ يُقَالَ : التَّوَسُّدُ وَالِافْتِرَاشُ وَإِنْ لَمْ يَكُونَا لُبْسًا فِي الْحَقِيقَةِ إلَّا أَنَّهُمَا فِي حُكْمِ اللُّبْسِ فِي تَحَقُّقِ الِاسْتِعْمَالِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِمَا فَصَارَ مُلْحَقَيْنِ بِاللُّبْسِ عِنْدَهُمَا ، وَكَانَ مُرَادُهُمَا بِالْعُمُومِ هُوَ الْعُمُومُ دَلَالَةً لَا عِبَارَةً لَكِنَّهُ تَعَسُّفٌ جِدًّا كَمَا لَا يَخْفَى .
وَقَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ فِي بَيَانِ الْعُمُومَاتِ .
هِيَ " وَهَذَانِ حَرَامَانِ " الْحَدِيثَ ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَأَنْ أَتَّكِئَ عَلَى جَمْرَةِ الْغَضَا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَّكِئَ عَلَى مِرْفَقَةِ حَرِيرٍ } وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَتَى بِدَابَّةٍ عَلَى سَرْجِهَا حَرِيرٌ فَقَالَ : هَذَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَنَا فِي الْآخِرَةِ انْتَهَى .
وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ فِي هَذَا الْبَيَانِ .
أَقُولُ : هَذَا أَشْبَهُ مِنْ الْأَوَّلِ ، وَلَكِنْ فِيهِ أَيْضًا شَيْءٌ ، فَإِنَّ الْعُمُومَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ ظَاهِرٌ حَيْثُ لَمْ يُقَيِّدْ الْحُرْمَةَ فِيهِ بِشَيْءٍ مِنْ اللُّبْسِ وَالتَّوَسُّدِ وَغَيْرِهِمَا ، وَأَمَّا فِي الْأَخِيرَيْنِ فَلَا ، لِأَنَّ الثَّانِيَ مَخْصُوصٌ بِالِاتِّكَاءِ وَالثَّالِثَ مَخْصُوصٌ بِمَا يَفْعَلُ فِي السَّرْجِ مِنْ الْقُعُودِ وَالِافْتِرَاشِ فَلَمْ يَظْهَرْ فِي شَيْءٍ مِنْهُمَا الْعُمُومُ إلَّا أَنْ يَنْظُرَ فِي الثَّالِثِ إلَى مُجَرَّدِ قَوْلِهِ هَذَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَنَا فِي الْآخِرَةِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَمَّا قَبْلَهُ فَحِينَئِذٍ يَتَحَمَّلُ الْعُمُومَ كَمَا تَرَى

قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِلُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ فِي الْحَرْبِ عِنْدَهُمَا ) لِمَا رَوَى الشَّعْبِيُّ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَخَّصَ فِي لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ فِي الْحَرْبِ } وَلِأَنَّ فِيهِ ضَرُورَةً فَإِنَّ الْخَالِصَ مِنْهُ أَدْفَعُ لِمَعَرَّةِ السِّلَاحِ وَأَهْيَبُ فِي عَيْنِ الْعَدُوِّ لِبَرِيقِهِ ( وَيُكْرَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) ؛ لِأَنَّهُ لَا فَصْلَ فِيمَا رَوَيْنَاهُ ، وَالضَّرُورَةُ انْدَفَعَتْ بِالْمَخْلُوطِ وَهُوَ الَّذِي لُحْمَتُهُ حَرِيرٌ وَسَدَّاهُ غَيْرُ ذَلِكَ ، وَالْمَحْظُورُ لَا يُسْتَبَاحُ إلَّا لِضَرُورَةٍ .
وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَخْلُوطِ قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِلُبْسِ مَا سُدَاه حَرِيرٌ وَلُحْمَتُهُ غَيْرُ حَرِيرٍ كَالْقُطْنِ وَالْخَزِّ فِي الْحَرْبِ وَغَيْرِهِ ) لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا يَلْبَسُونَ الْخَزَّ ، وَالْخَزُّ مُسْدًى بِالْحَرِيرِ ، وَلِأَنَّ الثَّوْبَ إنَّمَا يَصِيرُ ثَوْبًا بِالنَّسْجِ وَالنَّسْجُ بِاللُّحْمَةِ فَكَانَتْ هِيَ الْمُعْتَبَرَةُ دُونَ السَّدَى .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : أَكْرَهُ ثَوْبَ الْقَزِّ يَكُونُ بَيْنَ الْفَرْوِ وَالظِّهَارَةِ ، وَلَا أَرَى بِحَشْوِ الْقَزِّ بَأْسًا ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ مَلْبُوسٌ وَالْحَشْوَ غَيْرُ مَلْبُوسٍ .
قَالَ ( وَمَا كَانَ لُحْمَتُهُ حَرِيرًا وَسَدَاهُ غَيْرَ حَرِيرٍ لَا بَأْسَ بِهِ فِي الْحَرْبِ ) لِلضَّرُورَةِ ( وَيُكْرَهُ فِي غَيْرِهِ ) لِانْعِدَامِهَا ، وَالِاعْتِبَارُ لِلُّحْمَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا .

( قَوْلُهُ وَالْمَحْظُورُ لَا يُسْتَبَاحُ إلَّا لِضَرُورَةٍ ) قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ : قَوْلُهُ وَالْمَحْظُورُ لَا يُسْتَبَاحُ إلَّا لِضَرُورَةٍ يُوهِمُ أَنَّهُ مَا لُحْمَتُهُ حَرِيرٌ وَسَدَّاهُ غَيْرُهُ مُبَاحٌ فِي غَيْرِ الْحَرْبِ أَيْضًا .
فَحَقَّ التَّعْبِيرُ وَالضَّرُورَةُ انْدَفَعَتْ بِإِبَاحَةِ الْأَدْنَى فَلَا حَاجَةَ إلَى اسْتِبَاحَةِ الْأَعْلَى ، وَلَوْ حَمَلْنَا الْمَعْنَى عَلَى الْمَحْظُورِ لَا يُسْتَبَاحُ إلَّا لِضَرُورَةٍ فَإِذَا أَمْكَنَ انْدِفَاعُهَا بِالْأَدْنَى مِنْهُ لَا يُصَارُ إلَى اسْتِبَاحَةِ الْأَعْلَى كَانَ الْكَلَامُ مِنْ قَبِيلِ الْإِيجَازِ الْمُخِلِّ ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ ، فَإِنَّ جَمِيعَ مُقَدِّمَاتِهِ مَجْرُوحٌ .
أَمَّا قَوْلُهُ وَالْمَحْظُورُ لَا يُسْتَبَاحُ إلَّا لِضَرُورَةٍ يُوهِمُ أَنَّ مَا لُحْمَتُهُ حَرِيرٌ وَسَدَّاهُ غَيْرُ مُبَاحٍ فِي غَيْرِ الْحَرْبِ أَيْضًا ، فَلِأَنَّ ذَلِكَ الْإِيهَامَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ أَنْ لَوْ تَحَقَّقَتْ الضَّرُورَةُ فِي غَيْرِ الْحَرْبِ أَيْضًا وَلَيْسَ فَلَيْسَ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ فَحَقَّ التَّعْبِيرُ وَالضَّرُورَةُ انْدَفَعَتْ بِإِبَاحَةِ الْأَدْنَى فَلَا حَاجَةَ إلَى اسْتِبَاحَةِ الْأَعْلَى فَلِأَنَّ حَقَّ التَّعْبِيرِ كَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ .
وَيُرَدُّ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِبَاحَةُ الْأَعْلَى لِلتَّوْسِعَةِ بِهَا لَا لِلْحَاجَةِ إلَيْهَا فَلَا بُدَّ فِي دَفْعِ ذَلِكَ مِنْ الْمَصِيرِ إلَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَالْمَحْظُورُ لَا يُسْتَبَاحُ إلَّا لِضَرُورَةٍ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ وَلَوْ حَمَلْنَا الْمَعْنَى إلَى قَوْلِهِ كَانَ الْكَلَامُ مِنْ قَبِيلِ الْإِيجَازِ الْمُخِلِّ فَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى مِنْ قَبِيلِ الْإِيجَازِ الْمُخِلِّ أَنْ لَوْ كَانَ قَوْلُهُ فَإِذَا أَمْكَنَ انْدِفَاعُهَا بِالْأَدْنَى مِنْهُ لَا يُصَارُ إلَى اسْتِبَاحَةِ الْأَعْلَى مُقَدَّرًا فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ .
وَأَمَّا إذَا كَانَ مَضْمُونُ ذَلِكَ الْقَوْلِ مَفْهُومًا مِنْ الْمُقَدِّمَةِ السَّابِقَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ وَالضَّرُورَةُ انْدَفَعَتْ بِالْمَخْلُوطِ كَمَا هُوَ حَقِيقَةُ الْحَالِ فَلَا يُوجَدُ الْإِيجَازُ

الْمُخِلُّ فِي الْكَلَامِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ كَمَا لَا يَخْفَى ؛ وَكَأَنَّ ذَلِكَ الْبَعْضَ لَمْ يُلَاحِظْ ارْتِبَاطَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ .
أَعْنِي قَوْلَهُ وَالْمَحْظُورُ لَا يُسْتَبَاحُ إلَّا لِضَرُورَةٍ بِالْمُقَدِّمَةِ السَّابِقَةِ عَلَيْهَا ، وَهِيَ قَوْلُهُ وَالضَّرُورَةُ انْدَفَعَتْ بِالْمَخْلُوطِ .
وَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَهُ وَالضَّرُورَةُ انْدَفَعَتْ بِالْمَخْلُوطِ شُرُوعٌ فِي الْجَوَابِ عَنْ دَلِيلِهِمَا الْعَقْلِيِّ ، وَهُوَ قَوْلُهُمَا وَلِأَنَّ فِيهِ ضَرُورَةً إلَخْ ، وَقَدْ اعْتَرَفَ بِهِ ذَلِكَ الْبَعْضُ فِي شَرْحِهِ الْمُقَامِ .
ثُمَّ لَا يَذْهَبُ عَلَى الْفَطِنِ أَنَّ الْجَوَابَ عَنْ ذَلِكَ لَا يَتِمُّ بِمُقَدِّمَةٍ وَاحِدَةٍ ، فَقَوْلُهُ وَالْمَحْظُورُ لَا يُسْتَبَاحُ إلَّا لِضَرُورَةٍ مِنْ تَمَامِ الْجَوَابِ .
وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمَحْظُورَ الشَّرْعِيَّ لَا يُسْتَبَاحُ إلَّا لِضَرُورَةٍ ، وَالضَّرُورَةُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ قَدْ انْدَفَعَتْ بِالْمَخْلُوطِ الَّذِي لُحْمَتُهُ حَرِيرٌ وَسَدَّاهُ غَيْرُ ذَلِكَ ، فَلَا مَجَالَ لِاسْتِبَاحَةِ الْخَالِصِ مِنْهُ ، فَالْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ فِي تَقْرِيرِ الْمُصَنِّفِ مُقَدِّمَةٌ فِي الْمَعْنَى إلَّا أَنَّهُ أَخَّرَهَا فِي الذِّكْرِ لِكَوْنِ مِسَاسِ الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى بِدَلِيلِهَا الْعَقْلِيِّ أَكْثَرَ ، وَتَأْثِيرِهَا فِي الْجَوَابِ عَنْ ذَلِكَ الدَّلِيلِ أَظْهَرَ ، فَلَا غُبَارَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا أَصْلًا تَأَمَّلْ تَرْشُدْ .
( قَوْلُهُ وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَخْلُوطِ ) أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ مَا رَوَاهُ تَرْخِيصُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ فِي الْحَرْبِ وَالْحَمْلُ عَلَى الْمَخْلُوطِ إنْ صَحَّ فِي الْحَرِيرِ لَا يَصِحُّ فِي الدِّيبَاجِ ؛ لِأَنَّ الدِّيبَاجَ فِي اللُّغَةِ وَالْعُرْفِ مَا كَانَ كُلُّهُ حَرِيرًا .
قَالَ فِي الْمُغْرِبِ الدِّيبَاجُ الَّذِي سَدَّاهُ وَلُحْمَتُهُ إبْرَيْسَمُ .
وَقَالَ الشُّرَّاحُ : جُمْلَةُ وُجُوهِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةٌ : الْأَوَّلُ مَا يَكُونُ كُلُّهُ حَرِيرًا وَهُوَ الدِّيبَاجُ لَا يَجُوزُ لُبْسُهُ فِي غَيْرِ الْحَرْبِ بِالِاتِّفَاقِ ، وَأَمَّا فِي

الْحَرْبِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَجُوزُ وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ .
وَالثَّانِي مَا يَكُونُ سَدَّاهُ حَرِيرًا وَلُحْمَتُهُ غَيْرَهُ فَلَا بَأْسَ بِلُبْسِهِ فِي الْحَرْبِ وَغَيْرِهِ .
وَالثَّالِثُ عَكْسُ الثَّانِي وَهُوَ مُبَاحٌ فِي الْحَرْبِ دُونَ غَيْرِهِ ، فَقَدْ صَرَّحُوا فِي كَلَامِهِمْ هَذَا بِأَنَّ الدِّيبَاجَ مَا كَانَ كُلُّهُ حَرِيرًا فَلَا مَجَالَ لِلْحَمْلِ عَلَى الْمَخْلُوطِ فِي حَقِّهِ .
( قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الثَّوْبَ إنَّمَا يَصِيرُ ثَوْبًا بِالنَّسْجِ وَالنَّسْجُ بِاللُّحْمَةِ فَكَانَتْ هِيَ الْمُعْتَبَرَةُ دُونَ السَّدَى ) قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ فِي تَعْلِيلِ هَذَا ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ إذَا تَعَلَّقَ بَعْلَةٍ ذَاتِ وَصْفَيْنِ يُضَافُ الْحُكْمُ إلَى آخِرِهِمَا ، وَاللُّحْمَةُ آخِرُهُمَا انْتَهَى .
وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ : وَقَدْ يُقَالُ لِأَنَّ الثَّوْبَ لَا يَكُونُ ثَوْبًا إلَّا بِهِمَا ، وَالشَّيْءُ إذَا تَعَلَّقَ وُجُودُهُ بِشَيْئَيْنِ يُضَافُ إلَى آخِرِهِمَا وُجُودًا .
أَقُولُ : لَا يَخْفَى أَنَّ الْمُصَنِّفَ لَمْ يَعْتَبِرْ فِي التَّعْلِيلِ كَوْنَ اللُّحْمَةِ آخِرَ جُزْءٍ مِنْ الثَّوْبِ وَلَمْ يَلْتَفِتْ فِيهِ إلَى الْمُقَدِّمَةِ الْقَائِلَةِ : إذَا تَعَلَّقَ وُجُودُ شَيْءٍ بِشَيْئَيْنِ يُضَافُ إلَى آخِرِهِمَا وُجُودًا ، فَيَكُونُ كُلٌّ مِمَّا مَا ذَكَرَ دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا مُنْقَطِعًا عَلَى الْآخِرِ يُرْشِدُك إلَيْهِ قَوْلُ الزَّيْلَعِيِّ : لِأَنَّ الثَّوْبَ لَا يَصِيرُ ثَوْبًا إلَّا بِالنَّسْجِ وَالنَّسْجُ بِاللُّحْمَةِ فَكَانَتْ هِيَ الْمُعْتَبَرَةُ .
أَوْ نَقُولُ : الثَّوْبُ لَا يَكُونُ ثَوْبًا إلَّا بِهِمَا فَتَكُونُ الْعِلَّةُ ذَاتَ وَجْهَيْنِ فَيُعْتَبَرُ آخِرُهُمَا وَهُوَ اللُّحْمَةُ انْتَهَى .
لَكِنْ لَا يَخْفَى عَلَيْك أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ النَّسْجَ يَكُونُ بِاللُّحْمَةِ وَهْمٌ بَلْ هُوَ بِاللُّحْمَةِ وَالسَّدَى مَعًا فَالتَّعْوِيلُ عَلَى الدَّلِيلِ الثَّانِي ، وَلِهَذَا عَدَلَ عَنْهُ صَاحِبُ الْكَافِي وَقَالَ : وَلِأَنَّهُ بِالنَّسْجِ يَصِيرُ ثَوْبًا وَهُوَ بِاللُّحْمَةِ وَالسَّدَى فَيُضَافُ كَوْنُهُ ثَوْبًا إلَى آخِرِ الْأَمْرَيْنِ وَهُوَ اللُّحْمَةُ ، وَجُعِلَتْ حُكْمًا فِي الْإِبَاحَةِ .
ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَ

مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَبَيْنَ مَا نَقَلْنَاهُ مِنْ الدَّلِيلَيْنِ مَعَ كَوْنِهِ ظَاهِرًا خُفِيَ عَلَى بَعْضُ الشُّرَّاحِ حَيْثُ عَلَّلَ الْأَوَّلَ بِالثَّانِي ، إلَى هُنَا لَفْظُ ذَلِكَ الْبَعْضِ .
أَقُولُ : لَمْ يُصِبْ ذَلِكَ فِي رَأْيِهِ هَاهُنَا ، بَلْ خَرَجَ عَنْ سُنَنِ السَّدَادِ ، إذْ لَا يَخْفَى عَلَى ذِي مُسْكَةٍ أَنَّ الدَّلِيلَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ لَا يُفِيدُ الْمُدَّعِيَ بِدُونِ الْمَصِيرِ إلَى الْمُقَدِّمَةِ الْقَائِلَةِ إنَّ الْحُكْمَ إذَا تَعَلَّقَ بِشَيْئَيْنِ يُضَافُ إلَى آخِرِهِمَا ؛ لِأَنَّ النَّسْجَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِاللُّحْمَةِ وَالسَّدَى مَعًا لَا بِاللُّحْمَةِ وَحْدَهَا إذْ النَّسْجُ إنَّمَا هُوَ تَرْكِيبُ اللُّحْمَةِ بِالسَّدَى كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فَلَا يَثْبُتُ كَوْنُ الِاعْتِبَارِ بِاللُّحْمَةِ دُونَ السَّدَى إلَّا بِمُلَاحَظَةِ تِلْكَ الْمُقَدِّمَةِ ، فَإِذَا لَمْ يُفِدْ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ الْمُدَّعِيَ بِدُونِ الْمَصِيرِ إلَى تِلْكَ الْمُقَدِّمَةِ لَمْ يَبْقَ احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ هَذَا دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا وَتِلْكَ الْمُقَدَّمَةُ دَلِيلًا آخَرَ ، فَلَا جَرَمَ نَبَّهَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ عَلَى كَوْنِ تِلْكَ الْمُقَدِّمَةِ مُعْتَبَرَةً فِيمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِضَمِّهِمْ إيَّاهَا إلَيْهِ بِطَرِيقِ التَّعْلِيلِ لِقَوْلِهِ فَكَانَتْ هِيَ الْمُعْتَبَرَةُ دُونَ السَّدَى وَأَصَابُوا فِيمَا فَعَلُوا حَيْثُ حَمَلُوا الدَّلِيلَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ عَلَى الْمَعْنَى الصَّحِيحِ التَّامِّ مَعَ تَحَمُّلِ كَلَامِهِ إيَّاهُ ، فَإِنَّ عَدَمَ اعْتِبَارِهِ فِي التَّعْلِيلِ كَوْنَ اللُّحْمَةِ آخِرَ جُزْءٍ مِنْ الثَّوْبِ لَيْسَ اعْتِبَارًا لِعَدَمِهِ ، وَعَدَمُ الْتِفَاتِهِ فِيهِ إلَى التَّصْرِيحِ بِتِلْكَ الْمُقَدِّمَةِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِنَاءً عَلَى ظُهُورِ اعْتِبَارِهَا فِيهِ وَاعْتِمَادًا عَلَى تَقَرُّرِهِ فِي كَلِمَاتِ الْمَشَايِخِ ، وَلَيْسَ فِي كَلَامِهِ مَا يَمْنَعُهُ فَإِنَّهُ قَالَ : وَالنَّسْجُ بِاللُّحْمَةِ بِدُونِ الْقَصْرِ عَلَيْهَا فَكَأَنَّهُ قَالَ : وَتَمَامُ النَّسْجِ أَوْ آخِرُ النَّسْجِ بِاللُّحْمَةِ .
وَالْعَجَبُ مِنْ ذَلِكَ الْبَعْضِ أَنَّهُ مَعَ اعْتِرَافِهِ بِبُطْلَانِ مَا ذَكَرَهُ

الْمُصَنِّفُ بِدُونِ اعْتِبَارِ حَدِيثِ إضَافَةِ الْحُكْمِ إلَى آخِرِ الْجُزْأَيْنِ حَيْثُ قَالَ : لَكِنْ لَا يَخْفَى عَلَيْك أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ النَّسْجَ يَكُونُ بِاللُّحْمَةِ وَهْمٌ ، بَلْ هُوَ بِاللُّحْمَةِ وَالسَّدَى مَعًا جَعَلَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا بِدُونِ الْمَصِيرِ إلَى تِلْكَ الْمُقَدِّمَةِ فَاخْتَارَ بُطْلَانَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّعْلِيلِ حِينَئِذٍ ، وَشَنَّعَ عَلَى الشُّرَّاحِ الْمُصْلِحِينَ كَلَامَهُ بِعَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ ، وَمَا غَرَّهُ إلَّا عِبَارَةُ الزَّيْلَعِيِّ ، وَلَمْ يَنْظُرْ أَوْ لَمْ يَلْتَفِتْ إلَى مَا وَقَعَ فِي كَلَامِ فُحُولِ الْمَشَايِخِ مِنْ جَعْلِ الْمَجْمُوعِ دَلِيلًا وَاحِدًا مِنْهُمْ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ فَإِنَّهُ قَالَ فِي تَقْرِيرِ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ إنَّ الثَّوْبَ يَصِيرُ ثَوْبًا بِاللُّحْمَةِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ ثَوْبًا بِالنَّسْجِ ، وَالنَّسْجُ تَرْكِيبُ اللُّحْمَةِ بِالسَّدَى فَكَانَتْ اللُّحْمَةُ كَالْوَصْفِ الْأَخِيرِ فَيُضَافُ الْحُكْمُ إلَيْهِ انْتَهَى .
وَمِنْهُمْ صَاحِبُ الْمُحِيطِ فَإِنَّهُ أَيْضًا قَالَ فِي تَقْرِيرِ ذَلِكَ : لِأَنَّ الثَّوْبَ إنَّمَا يَصِيرُ ثَوْبًا بِالنَّسْجِ ، وَالنَّسْجُ إنَّمَا يَتَأَتَّى بِاللُّحْمَةِ آخِرُهُمَا فَيُضَافُ صَيْرُورَتُهُ ثَوْبًا عَلَى اللُّحْمَةِ ، فَإِذَا كَانَتْ اللُّحْمَةُ مِنْ الْحَرِيرِ كَانَ الْكُلُّ حَرِيرًا حُكْمًا انْتَهَى .
وَمِنْهُمْ صَاحِبُ الْكَافِي فَإِنَّهُ أَيْضًا جَمَعَ كَمَا نَقَلَهُ ذَلِكَ الْبَعْضُ ، ثُمَّ إنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الزَّيْلَعِيِّ بِقَوْلِهِ أَوْ نَقُولُ إلَخْ تَقْرِيرُ ذَلِكَ الدَّلِيلِ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِقَيْدِ النَّسْجِ لَا ذِكْرُ دَلِيلٍ آخَرَ مُسْتَقِلٍّ مُغَايِرٍ لِلْأَوَّلِ فِي الْمَعْنَى وَالْمَآلِ ، يُرْشِدُ إلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ : وَلِأَنَّ اللُّحْمَةَ هِيَ الَّتِي تَظْهَرُ فِي الْمَنْظَرِ فَتَكُونُ الْعِبْرَةُ بِمَا يَظْهَرُ دُونَ مَا يَخْفَى انْتَهَى حَيْثُ أَعَادَ حَرْفَ التَّعْلِيلِ وَهِيَ اللَّامُ فِي هَذَا الدَّلِيلِ إشَارَةً إلَى اسْتِقْلَالِهِ .
فَلَوْ كَانَ مُرَادُهُ بِمَا

ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ أَوْ نَقُولُ إلَخْ إيرَادَ دَلِيلٍ آخَرَ مُسْتَقِلٍّ لَأَعَادَ اللَّامَ فِيهِ أَيْضًا تَبَصَّرْ

قَالَ ( وَلَا يَجُوزُ لِلرِّجَالِ التَّحَلِّي بِالذَّهَبِ ) لِمَا رَوَيْنَا ( وَلَا بِالْفِضَّةِ ) لِأَنَّهَا فِي مَعْنَاهُ ( إلَّا بِالْخَاتَمِ وَالْمِنْطَقَةِ وَحِلْيَةِ السَّيْفِ مِنْ الْفِضَّةِ ) تَحْقِيقًا لِمَعْنَى النَّمُوذَجِ ، وَالْفِضَّةُ أَغْنَتْ عَنْ الذَّهَبِ إذْ هُمَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ ، كَيْفَ وَقَدْ جَاءَ فِي إبَاحَةِ ذَلِكَ آثَارٌ .
وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : وَلَا يَتَخَتَّمُ إلَّا بِالْفِضَّةِ ، وَهَذَا نَصٌّ عَلَى أَنَّ التَّخَتُّمَ بِالْحَجَرِ وَالْحَدِيدِ وَالصُّفْرِ حَرَامٌ .
{ وَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَجُلٍ خَاتَمَ صُفْرٍ فَقَالَ : مَالِي أَجِدُ مِنْك رَائِحَةَ الْأَصْنَامِ .
وَرَأَى عَلَى آخَرَ خَاتَمَ حَدِيدٍ فَقَالَ : مَالِي أَرَى عَلَيْك حِلْيَةَ أَهْلِ النَّارِ } وَمِنْ النَّاسِ مَنْ أَطْلَقَ الْحَجَرَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ يَشْبُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَجَرٍ ، إذْ لَيْسَ لَهُ ثِقَلُ الْحَجَرِ ، وَإِطْلَاقُ الْجَوَابِ فِي الْكِتَابِ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِهِ ( وَالتَّخَتُّمُ بِالذَّهَبِ عَلَى الرِّجَالِ حَرَامٌ ) لِمَا رَوَيْنَا .
وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ التَّخَتُّمِ بِالذَّهَبِ } وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ التَّحْرِيمُ ، وَالْإِبَاحَةُ ضَرُورَةُ الْخَتْمِ أَوْ النَّمُوذَجِ ، وَقَدْ انْدَفَعَتْ بِالْأَدْنَى وَهُوَ الْفِضَّةُ ، وَالْحَلْقَةُ هِيَ الْمُعْتَبَرَةُ ؛ لِأَنَّ قِوَامَ الْخَاتَمِ بِهَا ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْفَصِّ حَتَّى يَجُوزَ أَنْ يَكُونَ مِنْ حَجَرٍ وَيَجْعَلَ الْفَصَّ إلَى بَاطِنِ كَفِّهِ بِخِلَافِ النِّسْوَانِ ؛ لِأَنَّهُ تَزَيُّنٌ فِي حَقِّهِنَّ ، وَإِنَّمَا يَتَخَتَّمُ الْقَاضِي وَالسُّلْطَانُ لِحَاجَتِهِ إلَى الْخَتْمِ ، وَأَمَّا غَيْرُهُمَا فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَتْرُكَهُ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ

( قَوْلُهُ وَلَا يَجُوزُ لِلرِّجَالِ التَّحَلِّيَ بِالذَّهَبِ لِمَا رَوَيْنَا وَلَا بِالْفِضَّةِ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَاهُ ) أَقُولُ : لِمَانِعٍ أَنْ يَمْنَعَ كَوْنَهُ فِي مَعْنَاهُ ، كَيْفَ وَقَدْ صَرَّحَ فِيمَا بَعْدُ بِأَنَّهَا أَدْنَى مِنْهُ حَيْثُ قَالَ فِي تَعْلِيلِ حُرْمَةِ التَّخَتُّمِ بِالذَّهَبِ عَلَى الرِّجَالِ .
وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ التَّحْرِيمُ ، وَالْإِبَاحَةُ ضَرُورَةُ التَّخَتُّمِ أَوْ النَّمُوذَجُ وَقَدْ انْدَفَعَتْ بِالْأَدْنَى وَهُوَ الْفِضَّةُ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْأَدْنَى لَا يَكُونُ فِي مَعْنَى الْأَعْلَى .
وَتَوْضِيحُهُ أَنَّ مَقْصُودَ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ : لِأَنَّهَا فِي مَعْنَاهُ إثْبَاتُ عَدَمِ جَوَازِ التَّحَلِّي بِالْفِضَّةِ لِلرِّجَالِ بِدَلَالَةِ النَّصِّ الْوَارِدِ فِي حُرْمَةِ الذَّهَبِ عَلَى الرِّجَالِ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { هَذَانِ حَرَامَانِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي } وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ أَنَّ شَرْطَ دَلَالَةِ النَّصِّ أَنْ يَكُونَ الْمَسْكُوتُ عَنْهُ أَوْلَى مِنْ الْمَنْطُوقِ فِي الْحُكْمِ الثَّابِتِ لِلْمَنْطُوقِ أَوْ مُسَاوِيًا لَهُ فِيهِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَدْنَى مِنْهُ ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ فِي الْفِضَّةِ كَذَلِكَ لِمَا عَرَفْت ( قَوْلُهُ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ أَطْلَقَ فِي الْحَجَرِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ يَشْبُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَجَرٍ ، إذْ لَيْسَ لَهُ ثِقَلُ الْحَجَرِ ) أَقُولُ : الِاسْتِدْلَال عَلَى عَدَمِ حُرْمَةِ التَّخَتُّمِ بِالْيَشْبِ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَجَرٍ مِمَّا لَا حَاصِلَ لَهُ ؛ لِأَنَّ مَا لَيْسَ بِحَجَرٍ قَدْ يَكُونُ مِمَّا يَحْرُمُ التَّخَتُّمُ بِهِ بِلَا خِلَافٍ كَالْحَدِيدِ وَالصُّفْرِ ، وَلَمْ يَرِدْ نَصٌّ فِي حُرْمَةِ التَّخَتُّمِ بِالْحَجَرِ كَوُرُودِهِ فِي الذَّهَبِ وَالْحَدِيدِ وَالصُّفْرِ حَتَّى يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنْ نَفْيِ كَوْنِهِ حَجَرًا هُوَ الِاحْتِرَازُ عَنْ كَوْنِهِ مَوْرِدَ نَصِّ الْحُرْمَةِ ، بَلْ وَرَدَ النَّصُّ فِي جَوَازِ التَّخَتُّمِ بِبَعْضِ الْأَحْجَارِ كَالْعَقِيقِ ، فَإِنَّهُ رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَخَتَّمُ بِالْعَقِيقِ } وَقَالَ { تَخَتَّمُوا بِالْعَقِيقِ فَإِنَّهُ

مُبَارَكٌ } كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ .
فَكَانَ التَّشَبُّثُ بِكَوْنِهِ حَجَرًا أَظْهَرَ نَفْعًا فِي إثْبَاتِ مُدَّعِي مَنْ قَالَ بِعَدَمِ حُرْمَةِ التَّخَتُّمِ بِهِ مِنْ نَفْيِ كَوْنِهِ حَجَرًا ، وَعَنْ هَذَا قَالَ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَفِي فَتَاوَاهُ : ظَاهِرُ لَفْظِ الْكِتَابِ يَقْتَضِي كَرَاهَةَ التَّخَتُّمِ بِالْحَجَرِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ يَشْبُ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِذَهَبٍ وَلَا حَدِيدٍ وَلَا صُفْرٍ ، بَلْ هُوَ حَجَرٌ ، وَقَدْ رُوِيَ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ تَخَتَّمَ بِالْعَقِيقِ } ، انْتَهَى كَلَامُهُ ( قَوْلُهُ وَالتَّخَتُّمُ بِالذَّهَبِ عَلَى الرِّجَالِ حَرَامٌ ) قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ : هَذَا تَصْرِيحٌ بِمَا عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ إلَّا بِالْخَاتَمِ ، إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَهُ تَوْطِئَةً لِمَا فَصَّلَهُ مِنْ دَلَائِلِهِ انْتَهَى .
أَقُولُ : لَيْسَ ذَاكَ بِسَدِيدٍ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ إلَّا بِالْخَاتَمِ إلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرِّجَالِ التَّحَلِّيَ بِالْخَاتَمِ ؛ لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَلَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ التَّحَلِّيَ بِالذَّهَبِ وَلَا بِالْفِضَّةِ .
وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ بِلَا رَيْبٍ ، وَمَا ذَكَرَهُ هَاهُنَا حُرْمَةُ التَّخَتُّمِ بِالذَّهَبِ عَلَى الرِّجَالِ فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا تَصْرِيحًا بِمَا عَلِمَ مِنْ قَوْلِهِ إلَّا بِالْخَاتَمِ .
وَالتَّخَالُفُ بَيْنَ نَفْيِ جَوَازِ الشَّيْءِ وَإِثْبَاتِهِ ضَرُورِيٌّ .
وَلَوْ قَالَ هَذَا تَصْرِيحٌ بِمَا فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ مِنْ الْفِضَّةِ فِي قَوْلِهِ إلَّا بِالْخَاتَمِ وَالْمِنْطَقَةِ وَحِلْيَةِ السَّيْفِ مِنْ الْفِضَّةِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ مُعْتَبَرٌ فِي الرِّوَايَاتِ بِالِاتِّفَاقِ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ تَأَمَّلْ .

قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِمِسْمَارِ الذَّهَبِ يُجْعَلُ فِي حَجَرِ الْفَصِّ ) أَيْ فِي ثُقْبِهِ ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ كَالْعَلَمِ فِي الثَّوْبِ فَلَا يُعَدُّ لَابِسًا لَهُ .
قَالَ ( وَلَا تُشَدُّ الْأَسْنَانُ بِالذَّهَبِ وَتُشَدُّ بِالْفِضَّةِ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا بَأْسَ بِالذَّهَبِ أَيْضًا .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ مِثْلَ قَوْلِ كُلٍّ مِنْهُمَا .
لَهُمَا { أَنَّ عَرْفَجَةَ بْنَ أَسْعَدَ الْكِنَانِيَّ أُصِيبَ أَنْفُهُ يَوْمَ الْكُلَابِ فَاِتَّخَذَ أَنْفًا مِنْ فِضَّةٍ فَأَنْتَنَ .
فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَنْ يَتَّخِذَ أَنْفًا مِنْ ذَهَبٍ } وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ التَّحْرِيمُ وَالْإِبَاحَةُ لِلضَّرُورَةِ ، وَقَدْ انْدَفَعَتْ بِالْفِضَّةِ وَهِيَ الْأَدْنَى فَبَقِيَ الذَّهَبُ عَلَى التَّحْرِيمِ .
وَالضَّرُورَةُ فِيمَا رُوِيَ لَمْ تَنْدَفِعْ فِي الْأَنْفِ دُونَهُ حَيْثُ أَنْتَنَ .
قَالَ ( وَيُكْرَهُ أَنْ يَلْبَسَ الذُّكُورُ مِنْ الصِّبْيَانِ الذَّهَبَ وَالْحَرِيرَ ) ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ لَمَّا ثَبَتَ فِي حَقِّ الذُّكُورِ وَحَرُمَ اللُّبْسُ حَرُمَ الْإِلْبَاسُ كَالْخَمْرِ لَمَّا حَرُمَ شُرْبُهَا حَرُمَ سَقْيُهَا .
قَالَ ( وَتُكْرَهُ الْخِرْقَةُ الَّتِي تُحْمَلُ فَيُمْسَحُ بِهَا الْعَرَقُ ) ؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ تَجَبُّرٍ وَتَكَبُّرٍ ( وَكَذَا الَّتِي يُمْسَحُ بِهَا الْوُضُوءَ أَوْ يُمْتَخَطُ بِهَا ) وَقِيلَ إذَا كَانَ عَنْ حَاجَةٍ لَا يُكْرَهُ وَهُوَ الصَّحِيحُ ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ إذَا كَانَ عَنْ تَكَبُّرٍ وَتَجَبُّرٍ وَصَارَ كَالتَّرَبُّعِ فِي الْجُلُوسِ ( وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَرْبِطَ الرَّجُلُ فِي أُصْبُعِهِ أَوْ خَاتَمِهِ الْخَيْطَ لِلْحَاجَةِ ) وَيُسَمَّى ذَلِكَ الرَّتَمُ وَالرَّتِيمَةُ .
وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ .
قَالَ قَائِلُهُمْ : لَا يَنْفَعَنَّكَ الْيَوْمَ إنْ هَمَّتْ بِهِمْ كَثْرَةُ مَا تُوصِي وَتَعْقَادُ الرَّتَمِ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَرَ بَعْضَ أَصْحَابِهِ بِذَلِكَ ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَبَثٍ لِمَا فِيهِ مِنْ الْغَرَضِ الصَّحِيحِ وَهُوَ التَّذَكُّرُ عَنْدَ النِّسْيَانِ .

فَصْلٌ فِي الْوَطْءِ وَالنَّظَرِ وَاللَّمْسِ قَالَ ( وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْظُرَ الرَّجُلُ إلَى الْأَجْنَبِيَّةِ إلَّا وَجْهَهَا وَكَفَّيْهَا ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } قَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ؛ مَا ظَهَرَ مِنْهَا الْكُحْلُ وَالْخَاتَمُ ، وَالْمُرَادُ مَوْضِعُهُمَا وَهُوَ الْوَجْهُ وَالْكَفُّ ، كَمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالزِّينَةِ الْمَذْكُورَةِ مَوْضِعُهَا ، وَلِأَنَّ فِي إبْدَاءِ الْوَجْهِ وَالْكَفِّ ضَرُورَةً لِحَاجَتِهَا إلَى الْمُعَامَلَةِ مَعَ الرِّجَالِ أَخْذًا وَإِعْطَاءً وَغَيْرَ ذَلِكَ ، وَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُبَاحُ النَّظَرُ إلَى قَدِمَهَا .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُبَاحُ ؛ لِأَنَّ فِيهِ بَعْضَ الضَّرُورَةِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُبَاحُ النَّظَرُ إلَى ذِرَاعِهَا أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَبْدُو مِنْهَا عَادَةً قَالَ ( فَإِنْ كَانَ لَا يَأْمَنُ الشَّهْوَةَ لَا يَنْظُرُ إلَى وَجْهِهَا إلَّا لِحَاجَةٍ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ نَظَرَ إلَى مَحَاسِنِ امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ عَنْ شَهْوَةٍ صُبَّ فِي عَيْنَيْهِ الْآنُكُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } فَإِذَا خَافَ الشَّهْوَةَ لَمْ يَنْظُرْ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ تَحَرُّزًا عَنْ الْمُحَرَّمِ .
وَقَوْلُهُ لَا يَأْمَنُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُبَاحُ إذَا شَكَّ فِي الِاشْتِهَاءِ كَمَا إذَا عَلِمَ أَوْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ ذَلِكَ

( فَصْلٌ فِي الْوَطْءِ وَالنَّظَرِ وَاللَّمْسِ ) لَا يَذْهَبُ عَلَى النَّاظِرِ فِي الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ مَا يَتَعَلَّقُ مِنْهَا بِالْوَطْءِ إنَّمَا هِيَ مَسْأَلَةُ جَوَازِ الْعَزْلِ عَنْ أَمَتِهِ بِغَيْرِ إذْنِهَا ، وَعَدَمُ جَوَازِ ذَلِكَ فِي الْحُرَّةِ إلَّا بِإِذْنِهَا ، وَأَنَّ تِلْكَ الْمَسْأَلَةَ مَعَ كَوْنِ الْمَقْصُودِ مِنْهَا بَيَانَ مَحَلِّ جَوَازِ الْعَزْلِ وَغَيْرِ مَحَلِّهِ لَا بَيَانَ حَالِ الْوَطْءِ نَفْسِهِ ، قَدْ ذُكِرَتْ فِي آخِرِ هَذَا الْفَصْلِ ، فَالْمُنَاسِبُ أَنْ يُؤَخِّرَ ذِكْرَ الْوَطْءِ فِي عِنْوَانِ الْفَصْلِ أَيْضًا فَيُقَالُ : فَصْلٌ فِي النَّظَرِ وَاللَّمْسِ وَالْوَطْءِ عَلَى تَرْتِيبِ ذِكْرِ الْمَسَائِلِ الْآتِيَةِ كَمَا وَقَعَ فِي الْكَافِي .
وَالْأَنْسَبُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُبَدِّلَ الْوَطْءَ بِالْعَزْلِ فِي التَّعْبِيرِ بَعْدَ التَّأْخِيرِ لِيَحْصُلَ تَمَامُ الْمُوَافَقَةِ بَيْنَ عِنْوَانِ الْفَصْلِ وَمَسَائِلِهِ .
ثُمَّ إنَّ مَسَائِلَ النَّظَرِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ : نَظَرُ الرَّجُلِ إلَى الْمَرْأَةِ ، وَنَظَرُ الْمَرْأَةِ إلَى الرَّجُلِ ، وَنَظَرُ الرَّجُلِ إلَى الرَّجُلِ ، وَنَظَرُ الْمَرْأَةِ إلَى الْمَرْأَةِ : وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ مِنْهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ أَيْضًا : نَظَرِ الرَّجُلِ إلَى الْأَجْنَبِيَّةِ الْحُرَّةِ ، وَنَظَرِهِ إلَى مَنْ يَحِلُّ لَهُ مِنْ الزَّوْجَةِ وَالْأَمَةِ ، وَنَظَرِهِ إلَى ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ ، وَنَظَرِهِ إلَى أَمَةِ الْغَيْرِ .
فَبَدَأَ فِي الْكِتَابِ بِأَوَّلِ الْأَقْسَامِ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ كَمَا تَرَى ( قَوْلُهُ قَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : مَا ظَهَرَ مِنْهَا الْكُحْلُ وَالْخَاتَمُ ، وَالْمُرَادُ مَوْضِعُهُمَا وَهُوَ الْوَجْهُ وَالْكَفُّ ) أَقُولُ : الظَّاهِرُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ نَقْلِ قَوْلِ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ هَاهُنَا إنَّمَا هُوَ الِاسْتِدْلَال عَلَى جَوَازِ أَنْ يَنْظُرَ الرَّجُلُ إلَى وَجْهِ الْأَجْنَبِيَّةِ وَكَفَّيْهَا بِقَوْلِهِمَا فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى { إلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } فَإِنَّ فِي تَفْسِيرِهِ أَقْوَالًا مِنْ الصَّحَابَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمُدَّعَى هَاهُنَا شَيْءٌ مِنْهَا سِوَى

قَوْلِهِمَا ، لَكِنَّ دَلَالَةَ قَوْلِهِمَا عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ وَاضِحٍ أَيْضًا ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ مَوْضِعَ الْكُحْلِ هُوَ الْعَيْنُ لَا الْوَجْهُ كُلُّهُ ، وَكَذَا مَوْضِعُ الْخَاتَمِ هُوَ الْأُصْبُعُ لَا الْكَفُّ كُلُّهُ ، وَالْمُدَّعَى جَوَازُ النَّظَرِ إلَى وَجْهِ الْأَجْنَبِيَّةِ كُلِّهِ وَإِلَى كَفَّيْهَا بِالْكُلِّيَّةِ ، فَالْأَوْلَى فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى ذَلِكَ هُوَ الْمَصِيرُ إلَى مَا جَاءَ مِنْ الْأَخْبَارِ فِي الرُّخْصَةِ فِي النَّظَرِ إلَى وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا : مِنْهَا مَا رُوِيَ { أَنَّ امْرَأَةً عَرَضَتْ نَفْسَهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَظَرَ إلَى وَجْهِهَا وَلَمْ يَرَ فِيهَا رَغْبَةً } .
وَمِنْهَا مَا رُوِيَ { أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ دَخَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهَا ثِيَابٌ رِقَاقٌ ، فَأَعْرَضَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : يَا أَسْمَاءُ إنَّ الْمَرْأَةَ إذَا بَلَغَتْ الْمَحِيضَ لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يُرَى مِنْهَا إلَّا هَذَا وَهَذَا وَأَشَارَ إلَى وَجْهِهِ وَكَفَّيْهِ } وَمِنْهَا مَا رُوِيَ " أَنَّ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَمَّا نَاوَلَتْ أَحَدَ ابْنَيْهَا بِلَالًا أَوْ أَنَسًا قَالَ : رَأَيْت كَفَّهَا كَأَنَّهَا فَلْقَةُ قَمَرٍ " : أَيْ قِطْعَتُهُ ، فَدَلَّ عَلَى أَنْ لَا بَأْسَ بِالنَّظَرِ إلَى وَجْهِ الْمَرْأَةِ وَكَفِّهَا

( وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَمَسَّ وَجْهَهَا وَلَا كَفَّيْهَا وَإِنْ كَانَ يَأْمَنُ الشَّهْوَةَ ) لِقِيَامِ الْمُحَرَّمِ وَانْعِدَامِ الضَّرُورَةِ وَالْبَلْوَى ، بِخِلَافِ النَّظَرِ لِأَنَّ فِيهِ بَلْوَى .
وَالْمُحَرَّمُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ مَسَّ كَفَّ امْرَأَةٍ لَيْسَ مِنْهَا بِسَبِيلٍ وُضِعَ عَلَى كَفِّهِ جَمْرَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَهَذَا إذَا كَانَتْ شَابَّةً تُشْتَهَى ، أَمَّا إذَا كَانَتْ عَجُوزًا لَا تُشْتَهَى فَلَا بَأْسَ بِمُصَافَحَتِهَا وَمَسِّ يَدِهَا لِانْعِدَامِ خَوْفِ الْفِتْنَةِ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُدْخِلُ بَعْضَ الْقَبَائِلِ الَّتِي كَانَ مُسْتَرْضَعًا فِيهِمْ وَكَانَ يُصَافِحُ الْعَجَائِزَ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْتَأْجَرَ عَجُوزًا لِتُمَرِّضَهُ ، وَكَانَتْ تَغْمِزُ رِجْلَيْهِ وَتُفَلِّي رَأْسَهُ ، وَكَذَا إذَا كَانَ شَيْخًا يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَيْهَا لِمَا قُلْنَا ، فَإِنْ كَانَ لَا يَأْمَنُ عَلَيْهَا لَا تَحِلُّ مُصَافَحَتُهَا لِمَا فِيهِ مِنْ التَّعْرِيضِ لِلْفِتْنَةِ .
وَالصَّغِيرَةُ إذَا كَانَتْ لَا تُشْتَهَى يُبَاحُ مَسُّهَا وَالنَّظَرُ إلَيْهَا لِعَدَمِ خَوْفِ الْفِتْنَةِ .

( الْمَرْأَةُ الْأَجْنَبِيَّةُ ) ( قَوْلُهُ وَهَذَا إذَا كَانَتْ شَابَّةً تُشْتَهَى ، أَمَّا إذَا كَانَتْ عَجُوزًا لَا تُشْتَهَى فَلَا بَأْسَ بِمُصَافَحَتِهَا وَمَسِّ يَدِهَا لِانْعِدَامِ خَوْفِ الْفِتْنَةِ ) قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ : يُرِيدُ أَنَّ حُرْمَةَ مَسِّ الْوَجْهِ وَالْكَفِّ تَخْتَصُّ بِمَا إذَا كَانَتْ شَابَّةً ، أَمَّا إذَا كَانَتْ عَجُوزًا لَا تُشْتَهَى فَلَا بَأْسَ بِمَسِّهِمَا انْتَهَى .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِشَرْحٍ صَحِيحٍ ، إذْ لَمْ يُذْكَرْ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَلَا فِي غَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ عَدَمُ الْبَأْسِ بِمَسِّ وَجْهِ الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ وَإِنْ كَانَتْ عَجُوزًا ، وَإِنَّمَا الْمَذْكُورُ هُنَا وَفِي سَائِرِ الْكُتُبِ عَدَمُ الْبَأْسِ بِمَسِّ كَفِّهَا إذَا كَانَتْ عَجُوزًا ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَافِحُ الْعَجَائِزَ فِي الْبَيْعَةِ وَلَا يُصَافِحُ الشَّوَابَّ } كَمَا ذَكَرَ فِي الْمُحِيطِ وَغَيْرِهِ ، وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ كَمَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ .
نَعَمْ ظَاهِرُ الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ وَهُوَ قَوْلُهُ لِانْعِدَامِ خَوْفِ الْفِتْنَةِ لَا يَأْبَى عَنْ التَّعْمِيمِ ، لَكِنْ لَا مَجَالَ لِاخْتِرَاعِ مَسْأَلَةٍ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ بِدُونِ أَنْ تُذْكَرَ فِي الْكُتُبِ نَقْلًا عَنْ الْأَئِمَّةِ أَوْ الْمَشَايِخِ .
ثُمَّ إنَّ تَاجَ الشَّرِيعَةِ اعْتَرَضَ عَلَى قَوْلِهِ لِانْعِدَامِ خَوْفِ الْفِتْنَةِ ، وَأَجَابَ حَيْثُ قَالَ : فَإِنْ قُلْت : هَذَا تَعْلِيلٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ ، وَهُوَ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ مَنْ مَسَّ كَفَّ امْرَأَةٍ لَيْسَ مِنْهَا بِسَبِيلٍ وُضِعَ عَلَى كَفِّهِ جَمْرَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .
قُلْت : الْمُرَادُ امْرَأَةٌ تَدْعُو النَّفْسُ إلَى مَسِّهَا ، أَمَّا إذَا تَهَرَّبَتْ الْعَيْنُ مِنْ رُؤْيَتِهَا وَانْزَوَى الْخَاطِرُ مِنْ لِقَائِهَا فَلَا ، انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ .
أَقُولُ : يُرَدُّ الِاعْتِرَاضُ الْمَذْكُورُ عَلَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فِيمَا بَعْدُ ، وَكَذَا إذَا كَانَ شَيْخًا يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَيْهَا لِمَا قُلْنَا .

فَإِنَّ قَوْلَهُ لِمَا قُلْنَا إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِانْعِدَامِ خَوْفِ الْفِتْنَةِ كَمَا لَا يَخْفَى ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ بَعْضُ الشُّرَّاحِ .
وَلَا يَتَمَشَّى الْجَوَابُ الْمَذْكُورُ هُنَاكَ إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ تِلْكَ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا إذَا كَانَتْ شَابَّةً تُشْتَهَى ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ عَطْفُهَا عَلَى قَوْلِهِ إذَا كَانَتْ عَجُوزًا لَا تُشْتَهَى ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الشَّابَّةَ الْمُشْتَهَاةَ مِمَّنْ تَدْعُو النَّفْسُ إلَى مَسِّهَا فَكَانَتْ دَاخِلَةً تَحْتَ النَّصِّ الْمَذْكُورِ فَلَا مَحَالَةَ يَكُونُ التَّعْلِيلُ بِقَوْلِهِ لِمَا قُلْنَا تَعْلِيلًا فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ كَمَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ .
فَإِنْ قُلْت : تِلْكَ الْمَسْأَلَةُ مُقَيَّدَةٌ بِأَنْ يَأْمَنَ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَيْهَا فَلَا تَتَحَقَّقُ دَعْوَتُهَا النَّفْسَ إلَى مَسِّهَا فِي تِلْكَ الصُّورَةِ .
قُلْت : إنْ لَمْ تَتَحَقَّقْ دَعْوَتُهَا النَّفْسَ إلَى مَسِّهَا بِالْفِعْلِ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ فَمِنْ شَأْنِهَا ذَلِكَ فِي كُلِّ حَالٍ .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُ بِالْمَرْأَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي النَّصِّ الْمَذْكُورِ هِيَ الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ لَأَنْ تَدْعُوَ النَّفْسَ إلَى مَسِّهَا لَا الَّتِي تَحَقَّقَتْ فِيهَا دَعْوَتُهَا إلَيْهِ بِالْفِعْلِ .
وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ لَا يَثْبُتَ حُرْمَةُ مَسِّ الرَّجُلِ الشَّابِّ الْمَرْأَةَ الْأَجْنَبِيَّةَ الشَّابَّةَ إذَا أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَيْهَا تَأَمَّلْ تَقِفْ .
( قَوْلُهُ وَكَذَا إذَا كَانَ شَيْخًا يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَيْهَا ) قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ : اشْتِرَاطُ أَمْنِهِ عَلَيْهَا مَحَلُّ تَأَمُّلٍ لِعَدَمِ كَوْنِ ذَلِكَ فِي وُسْعِهِ لِعَدَمِ الْوُقُوفِ عَلَيْهِ ا هـ .
أَقُولُ : يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ بِالْقَرَائِنِ الْحَالِيَّةِ أَوْ بِالتَّجْرِبَةِ فِي نَظَائِرِهَا ، فَجَازَ اشْتِرَاطُ أَمْنِهِ عَلَيْهَا أَيْضًا بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ ( قَوْلُهُ فَإِنْ كَانَ لَا يَأْمَنُ عَلَيْهَا لَا تَحِلُّ مُصَافَحَتُهَا ) قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ : تَخْصِيصُ عَدَمِ أَمْنِهِ بِكَوْنِهِ عَلَيْهَا غَيْرُ ظَاهِرٍ أَيْضًا ، فَإِنْ جَعَلْنَا الضَّمِيرَ فِي عَلَيْهَا لِلنَّفْسِ يَلْزَمُ

التَّخْصِيصُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ انْتَهَى .
أَقُولُ : الضَّمِيرُ فِي عَلَيْهَا لِلْمَرْأَةِ ، وَوَجْهُ تَخْصِيصِ عَدَمِ الْأَمْنِ عَلَيْهَا بِالذِّكْرِ ظَاهِرٌ وَهُوَ حُصُولُ الْعِلْمِ بِحُكْمِ عَدَمِ الْأَمْنِ عَلَى نَفْسِهِ دَلَالَةً مِنْ بَيَانِ حُكْمِ عَدَمِ الْأَمْنِ عَلَيْهَا عِبَارَةً ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ تَحِلَّ مُصَافَحَتُهَا عِنْدَ عَدَمِ الْأَمْنِ عَلَيْهَا لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْرِيضِ الْغَيْرِ لِلْفِتْنَةِ فَلَأَنْ لَا تَحِلَّ مُصَافَحَتُهَا عِنْدَ عَدَمِ الْأَمْنِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُبَاشَرَةِ لِلْفِتْنَةِ بِنَفْسِهِ .

قَالَ ( وَيَجُوزُ لِلْقَاضِي إذَا أَرَادَ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهَا وَلِلشَّاهِدِ إذَا أَرَادَ أَدَاءَ الشَّهَادَةِ عَلَيْهَا النَّظَرُ إلَى وَجْهِهَا وَإِنْ خَافَ أَنْ يَشْتَهِيَ ) لِلْحَاجَةِ إلَى إحْيَاءِ حُقُوقِ النَّاسِ بِوَاسِطَةِ الْقَضَاءِ وَأَدَاءِ الشَّهَادَةِ ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَقْصِدَ بِهِ أَدَاءَ الشَّهَادَةِ أَوْ الْحُكْمَ عَلَيْهَا لَا قَضَاءَ الشَّهْوَةِ تَحَرُّزًا عَمَّا يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ وَهُوَ قَصْدُ الْقَبِيحِ .
وَأَمَّا النَّظَرُ لِتَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ إذَا اشْتَهَى قِيلَ يُبَاحُ .
وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُبَاحُ ؛ لِأَنَّهُ يُوجَدُ مَنْ لَا يَشْتَهِي فَلَا ضَرُورَةَ ، بِخِلَافِ حَالَةِ الْأَدَاءِ .

( قَوْلُهُ وَيَجُوزُ لِلْقَاضِي إذَا أَرَادَ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهَا ، وَلِلشَّاهِدِ إذَا أَرَادَ الشَّهَادَةَ عَلَيْهَا النَّظَرُ إلَى وَجْهِهَا ، وَإِنْ خَافَ أَنْ يَشْتَهِيَ لِلْحَاجَةِ إلَى إحْيَاءِ حُقُوقِ النَّاسِ بِوَاسِطَةِ الْقَضَاءِ وَأَدَاءِ الشَّهَادَةِ ) قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ : وَقَدْ يُنَوَّرُ ذَلِكَ بِإِبَاحَةِ النَّظَرِ إلَى الْعَوْرَةِ الْغَلِيظَةِ عِنْدَ الزِّنَا لِإِقَامَةِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ .
ثُمَّ قَالَ : خَطَرَ بِبَالِي هَاهُنَا إشْكَالٌ .
وَهُوَ أَنَّ شُهُودَ الزِّنَا كَمَا صَرَّحُوا فِي الْكُتُبِ بَيْنَ حِسْبَتَيْنِ : إقَامَةِ الْحَدِّ ، وَالتَّحَرُّزِ عَنْ الْهَتْكِ ، وَالسَّتْرُ أَفْضَلُ ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي شَهِدَ بِهِ عِنْدَهُ : { لَوْ سَتَرْته بِثَوْبِك لَكَانَ خَيْرًا لَك } وَلَيْسَ فِي الْحُدُودِ حُقُوقُ النَّاسِ إلَّا فِي السَّرِقَةِ ، وَلِهَذَا يَجِبُ أَنْ يَشْهَدَ بِالْمَالِ فَيَقُولُ أَخَذَ إحْيَاءً لِحَقِّ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ وَلَا يَقُولُ سَرَقَ مُحَافَظَةً عَلَى السَّتْرِ ، فَلَمْ يَكُنْ مَا ذَكَرَ مِنْ التَّنْوِيرِ فِي شَيْءٍ أَصْلًا لِانْعِدَامِ الْحَاجَةِ وَانْتِفَاءِ الضَّرُورَةِ فِي الشَّهَادَةِ بِالزِّنَا .
ثُمَّ دَفَعْته بِمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ شُرَّاحِ الْهِدَايَةِ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ مِنْ أَنَّ هَذَا : يَعْنِي كَوْنَ السَّتْرِ أَفْضَلَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ لَمْ يَعْتَدَّ الزِّنَا وَلَمْ يَهْتِكْ بِهِ ، وَأَمَّا إذَا وَصَلَ الْحَالُ إلَى إشَاعَتِهِ وَالتَّهَتُّكِ بِهِ بَلْ بَعْضُهُمْ رُبَّمَا افْتَخَرَ بِهِ فَيَجِبُ كَوْنُ الشَّهَادَةِ بِهِ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهَا ؛ لِأَنَّ مَطْلُوبَ الشَّارِعِ إخْلَاءُ الْأَرْضِ مِنْ الْفَوَاحِشِ وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِالتَّوْبَةِ وَبِالزَّجْرِ .
فَإِذَا ظَهَرَ الشَّرَهُ فِي الزِّنَا مَثَلًا وَعَدَمُ الْمُبَالَاةِ بِهِ بِإِشَاعَتِهِ .
فَإِخْلَاءُ الْأَرْضِ بِالتَّوْبَةِ احْتِمَالٌ يُقَابِلُهُ ظُهُورُ عَدَمِهَا .
فَيَجِبُ تَحْقِيقُ السَّبَبِ الْآخَرِ لِلْإِخْلَاءِ وَهُوَ الْحَدُّ بِخِلَافِ مَنْ زَلَّ مَرَّةً أَوْ مِرَارًا مُتَسَتِّرًا مُتَخَوِّفًا مُتَنَدِّمًا عَلَيْهِ فَإِنَّهُ مَحَلُّ اسْتِحْبَابِ سَتْرِ

الشَّاهِدِ انْتَهَى .
أَقُولُ : مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ شُرَّاحِ الْهِدَايَةِ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ لَا يَدْفَعُ الْإِشْكَالَ الَّذِي خَطَرَ بِبَالِ ذَلِكَ الْقَائِلِ إلَّا فِي مَادَّةٍ جُزْئِيَّةٍ ، وَهِيَ مَا إذَا وَصَلَ الْحَالُ إلَى إشَاعَةِ الْفَاحِشَةِ وَالتَّهَتُّكِ بِهَا لَا فِيمَا سِوَاهَا ، فَإِنَّ السَّتْرَ فِيهِ أَفْضَلُ بِلَا شُبْهَةٍ .
مَعَ أَنَّ النَّظَرَ إلَى الْعَوْرَةِ الْغَلِيظَةِ عِنْدَ الزِّنَا لِإِقَامَةِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ مُبَاحٌ هُنَاكَ أَيْضًا فَكَفَى بِذَلِكَ إشْكَالًا .
فَلَمْ يَتِمَّ قَوْلُهُ ثُمَّ دَفَعْته بِمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ شُرَّاحِ الْهِدَايَةِ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ .
ثُمَّ أَقُولُ فِي دَفْعِ ذَلِكَ الْإِشْكَالِ بِالْكُلِّيَّةِ : إنَّ الْحَاجَةَ إلَى النَّظَرِ إلَى الْعَوْرَةِ الْغَلِيظَةِ عِنْدَ الزِّنَا وَالضَّرُورَةِ مُتَحَقَّقَانِ فِي الشَّهَادَةِ بِالزِّنَا مُطْلَقًا فِي تَحْصِيلِ إحْدَى الْحِسْبَتَيْنِ وَهِيَ إقَامَةُ الْحَدِّ بِإِقَامَةِ الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا ، إذْ لَا يَتَيَسَّرُ إقَامَةُ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ بِدُونِ النَّظَرِ إلَى الْعَوْرَةِ الْغَلِيظَةِ عِنْدَ الزِّنَا ، وَإِنْ لَمْ تَتَحَقَّقْ الْحَاجَةُ إلَيْهِ وَلَا الضَّرُورَةُ فِي تَحْصِيلِ الْحِسْبَةِ الْأُخْرَى وَهِيَ التَّحَرُّزُ عَنْ التَّهَتُّكِ .
فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَنَالَ الْحِسْبَةَ الْأُولَى يَحْتَاجُ وَيَضْطَرُّ إلَى النَّظَرِ إلَيْهَا فَيُبَاحُ لَهُ النَّظَرُ إلَيْهَا إذْ ذَاكَ ، إذْ يَكْفِي فِي إبَاحَةِ ذَلِكَ الْحَاجَةُ إلَيْهِ ، وَالضَّرُورَةُ بِالنِّسْبَةِ إلَى تَحْصِيلِ خُصُوصِ الْحِسْبَةِ ، وَلَا يَتَوَقَّفُ إبَاحَتُهُ عَلَى الْحَاجَةِ إلَيْهِ وَالضَّرُورَةِ الْمُطْلَقَتَيْنِ : أَيْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَلَا عَلَى أَنْ لَا يَكُونَ فَوْقَ تِلْكَ الْحِسْبَةِ حِسْبَةٌ أُخْرَى أَفْضَلُ مِنْهَا ؛ أَلَا يُرَى أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً فَلَا بَأْسَ لَهُ بِأَنْ يَنْظُرَ إلَيْهَا ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَشْتَهِيهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَقْصُودَهُ إقَامَةُ السُّنَّةِ لَا قَضَاءُ الشَّهْوَةِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ ، مَعَ أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى النَّظَرِ إلَيْهَا وَالضَّرُورَةَ إنَّمَا يَتَحَقَّقَانِ فِي إقَامَةِ تِلْكَ

السُّنَّةِ لَا مُطْلَقًا لِإِمْكَانِ تَرْكِ تَزَوُّجِهَا الدَّاعِي إلَى النَّظَرِ إلَيْهَا وَإِنْ كَانَ فَوْقَ تِلْكَ السُّنَّةِ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهَا مِنْ الْوَاجِبَاتِ بَلْ مِنْ بَعْضِ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَاتِ فَقَدْ انْدَفَعَ ذَلِكَ الْإِشْكَالُ بِحَذَافِيرِهِ .

( وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَنْظُرَ إلَيْهَا وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَشْتَهِيهَا ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيهِ { أَبْصِرْهَا فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا } وَلِأَنَّ مَقْصُودَهُ إقَامَةُ السُّنَّةِ لَا قَضَاءُ الشَّهْوَةِ .

( وَيَجُوزُ لِلطَّبِيبِ أَنْ يَنْظُرَ إلَى مَوْضِعِ الْمَرَضِ مِنْهَا ) لِلضَّرُورَةِ ( وَيَنْبَغِي أَنْ يُعَلِّمَ امْرَأَةً مُدَاوَاتَهَا ) لِأَنَّ نَظَرَ الْجِنْسِ إلَى الْجِنْسِ أَسْهَلُ ( فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا يَسْتُرُ كُلَّ عُضْوٍ مِنْهَا سِوَى مَوْضِعِ الْمَرَضِ ) ثُمَّ يَنْظُرُ وَيَغُضُّ بَصَرَهُ مَا اسْتَطَاعَ ؛ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ بِالضَّرُورَةِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا وَصَارَ كَنَظَرِ الْخَافِضَةِ وَالْخَتَّانِ .

( وَكَذَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ النَّظَرُ إلَى مَوْضِعِ الِاحْتِقَانِ مِنْ الرَّجُلِ ) لِأَنَّهُ مُدَاوَاةٌ وَيَجُوزُ لِلْمَرَضِ وَكَذَا لِلْهُزَالِ الْفَاحِشِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ؛ لِأَنَّهُ أَمَارَةُ الْمَرَضِ .
قَالَ ( وَيَنْظُرُ الرَّجُلُ مِنْ الرَّجُلِ إلَى جَمِيعِ بَدَنِهِ إلَّا مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ إلَى رُكْبَتِهِ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { عَوْرَةُ الرَّجُلِ مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ إلَى رُكْبَتِهِ } وَيُرْوَى { مَا دُونَ سُرَّتِهِ حَتَّى يُجَاوِزَ رُكْبَتَيْهِ } وَبِهَذَا ثَبَتَ أَنَّ السُّرَّةَ لَيْسَتْ بِعَوْرَةٍ خِلَافًا لِمَا يَقُولُهُ أَبُو عِصْمَةَ وَالشَّافِعِيُّ ، وَالرُّكْبَةُ عَوْرَةٌ خِلَافًا لِمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ ، وَالْفَخِذُ عَوْرَةٌ خِلَافًا لِأَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ ، وَمَا دُونَ السُّرَّةِ إلَى مَنْبَتِ الشَّعْرِ عَوْرَةٌ خِلَافًا لِمَا يَقُولُهُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْكَمَارِيُّ مُعْتَمِدًا فِيهِ الْعَادَةَ ؛ لِأَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِهَا مَعَ النَّصِّ بِخِلَافِهِ ، وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { الرُّكْبَةُ مِنْ الْعَوْرَةِ } وَأَبْدَى الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سُرَّتَهُ فَقَبَّلَهَا أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ لِجَرْهَدٍ : { وَارِ فَخِذَك ، أَمَا عَلِمْت أَنَّ الْفَخِذَ عَوْرَةٌ ؟ } وَلِأَنَّ الرُّكْبَةَ مُلْتَقَى عَظْمِ الْفَخِذِ وَالسَّاقِ فَاجْتَمَعَ الْمُحَرَّمُ وَالْمُبِيحُ وَفِي مِثْلِهِ يَغْلِبُ الْمُحَرَّمُ ، وَحُكْمُ الْعَوْرَةِ فِي الرُّكْبَةِ أَخَفُّ مِنْهُ فِي الْفَخِذِ ، وَفِي الْفَخِذِ أَخَفُّ مِنْهُ فِي السَّوْأَةِ ، حَتَّى أَنَّ كَاشِفَ الرُّكْبَةِ يُنْكَرُ عَلَيْهِ بِرِفْقٍ وَكَاشِفَ الْفَخِذِ يُعَنَّفُ عَلَيْهِ وَكَاشِفَ السَّوْءَةِ يُؤَدَّبُ إنْ لَجَّ

( قَوْلُهُ وَيَنْظُرُ الرَّجُلُ مِنْ الرَّجُلِ إلَى جَمِيعِ بَدَنِهِ إلَّا مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ إلَى رُكْبَتِهِ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : هَذَا هُوَ الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ أَصْلِ التَّقْسِيمِ .
أَقُولُ : لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ، بَلْ هُوَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنْهُ كَمَا لَا يُشْتَبَهُ عَلَى مَنْ نَظَرَ إلَى تَقْسِيمِهِ فِي صَدْرِ هَذَا الْفَصْلِ ( قَوْلُهُ وَبِهَذَا ثَبَتَ أَنَّ السُّرَّةَ لَيْسَتْ بِعَوْرَةٍ خِلَافًا لِمَا يَقُولُهُ أَبُو عِصْمَةَ وَالشَّافِعِيُّ ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : وَأَبُو عِصْمَةَ هُوَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ الْمَرْوَزِيِّ ، فَإِنَّهُ يَقُولُ : إنَّ السُّرَّةَ أَحَدُ حَدَّيْ الْعَوْرَةِ فَتَكُونُ مِنْ الْعَوْرَةِ كَالرُّكْبَةِ .
ثُمَّ قَالَ : وَقَوْلُهُ وَالشَّافِعِيُّ بِالْعَطْفِ عَلَى أَبِي عِصْمَةَ فِي إثْبَاتِ أَنَّ السُّرَّةَ عَوْرَةٌ عِنْدَهُمَا كَأَنَّهُ وَقَعَ سَهْوًا لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَعْلِيلِ أَبِي عِصْمَةَ فِي إثْبَاتِ أَنَّ السُّرَّةَ عَوْرَةٌ بِقَوْلِهِ إنَّهَا أَحَدُ حَدَّيْ الْعَوْرَةِ فَتَكُونُ عَوْرَةً كَالرُّكْبَةِ ، فَإِنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ لِمَنْ يَقُولُ بِأَنَّ الرُّكْبَةَ عَوْرَةٌ وَالشَّافِعِيُّ لَا يَقُولُ بِكَوْنِ الرُّكْبَةِ عَوْرَةً .
وَالثَّانِي أَنَّ الشَّافِعِيَّ عَلَّلَ فِي إثْبَاتِ أَنَّ الرُّكْبَةَ لَيْسَتْ مِنْ الْعَوْرَةِ بِقَوْلِهِ إنَّهَا حَدٌّ لِلْعَوْرَةِ فَلَا تَكُونُ مِنْ الْعَوْرَةِ كَالسُّرَّةِ ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ لَا يَدْخُلُ فِي الْمَحْدُودِ ، وَهَذَا تَنْصِيصٌ مِنْهُ عَلَى أَنَّ السُّرَّةَ لَيْسَتْ بِعَوْرَةٍ ا هـ .
وَرَدَّ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ حَيْثُ قَالَ : قِيلَ عَطْفُ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَبِي عِصْمَةَ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ ؛ لِأَنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ الرُّكْبَةُ عَوْرَةٌ وَهُوَ لَا يَقُولُ بِهِ ، وَهَذَا سَاقِطٌ ؛ لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ لَمْ يُعَلِّلْ بِهَذَا التَّعْلِيلِ فِي هَذَا الْكِتَابِ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْمَذْهَبَ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبُهُمَا وَاحِدًا وَالْمَأْخَذُ مُتَعَدِّدًا ، فَالْمَذْكُورُ يَكُونُ تَعْلِيلًا لِأَبِي عِصْمَةَ ، وَتَعْلِيلُ الشَّافِعِيِّ

غَيْرُ ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّ السُّرَّةَ مَحَلُّ الِاشْتِهَاءِ انْتَهَى .
أَقُولُ : قَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ لِعَدَمِ اسْتِقَامَةِ الْعَطْفِ الْمَزْبُورِ وَجْهَيْنِ ، وَقَدْ نَقَلَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَحَدَ ذَيْنِكَ الْوَجْهَيْنِ وَأَجَابَ عَنْهُ كَمَا تَرَى ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْوَجْهِ الْآخَرِ أَصْلًا فَكَأَنَّهُ لَمْ يَظْفَرْ بِالْجَوَابِ عَنْهُ فَبَقِيَ الْإِشْكَالُ فِي الْعَطْفِ الْوَاقِعِ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ وَلَا بُدَّ مِنْ دَفْعِهِ .
فَأَقُولُ : فِي الْجَوَابِ الْقَاطِعِ لِعِرْقِ الْإِشْكَالِ : إنَّ فِي السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ ثَلَاثَ رِوَايَاتٍ عَنْ الشَّافِعِيِّ : إحْدَاهَا أَنَّ السُّرَّةَ عَوْرَةٌ وَالرُّكْبَةَ لَيْسَتْ بِعَوْرَةٍ كَمَا هُوَ مَدْلُولُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا وَفِي كِتَابِ الصَّلَاةِ أَيْضًا .
وَالثَّانِيَةُ أَنَّهُمَا لَيْسَتَا بِعَوْرَةٍ كَمَا ذُكِرَ فِي وَجِيزِ الشَّافِعِيَّةِ .
وَالثَّالِثَةُ أَنَّهُمَا عَوْرَةٌ .
وَذَكَرَ صَاحِبُ الْغَايَةِ هَاتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ وَقَالَ : لِلْأُولَى مِنْهُمَا .
وَهَذَا أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ .
وَإِذْ قَدْ تَقَرَّرَ هَذَا فَجَازَ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيلُ الشَّافِعِيِّ فِي إثْبَاتِ أَنَّ الرُّكْبَةَ لَيْسَتْ مِنْ الْعَوْرَةِ بِقَوْلِهِ إنَّهَا حَدٌّ لِلْعَوْرَةِ فَلَا تَكُونُ مِنْ الْعَوْرَةِ كَالسُّرَّةِ مَبْنِيًّا عَلَى قَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ ، وَهَذَا لَا يُنَافِي اشْتِرَاكَهُ مَعَ أَبِي عِصْمَةَ فِي قَوْلِهِ الْآخَرِ الْوَاقِعِ فِي الرِّوَايَةِ الثَّالِثَةِ عَنْهُ ، بَلْ لَا يُنَافِي أَيْضًا اشْتِرَاكَهُ مَعَهُ فِي تَعْلِيلِهِ بِقَوْلِهِ إنَّهَا أَحَدُ حَدَّيْ الْعَوْرَةِ فَتَكُونُ عَوْرَةً كَالرُّكْبَةِ بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ الْقَوْلِ فَلَا مَحْذُورَ فِي الْعَطْفِ الْمَذْكُورِ أَصْلًا تَأَمَّلْ تَقِفْ .
( قَوْلُهُ وَأَبْدَى الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا سُرَّتَهُ فَقَبَّلَهَا أَبُو هُرَيْرَةَ ) هَذَا جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ أَبِي عِصْمَةَ وَالشَّافِعِيِّ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ : كُنْت أَمْشِي مَعَ

الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي بَعْضِ طُرُقِ الْمَدِينَةِ ، فَلَقِيَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ ، فَقَالَ لِلْحَسَنِ : اكْشِفْ لِي عَنْ بَطْنِك جُعِلْت فِدَاءَك حَتَّى أُقَبِّلَ حَيْثُ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُهُ ، قَالَ : فَكَشَفَ عَنْ بَطْنِهِ فَقَبَّلَ سُرَّتَهُ .
وَلَوْ كَانَتْ مِنْ الْعَوْرَةِ لَمَا كَشَفَهَا .
قَالَ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ بَعْدَ بَيَانِ هَذَا الْمَحَلِّ بِهَذَا الْمِنْوَالِ : وَفِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ خِلَافُ هَذَا : حَدَّثَنَا أَبُو مُسْلِمٍ الْكَشِّيُّ ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ عُمَيْرِ بْنِ إِسْحَاقَ ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ لَقِيَ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَقَالَ لَهُ : ارْفَعْ ثَوْبَك حَتَّى أُقَبِّلَ حَيْثُ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُ ، فَرَفَعَ عَنْ بَطْنِهِ وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى سُرَّتِهِ انْتَهَى .
وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بَعْدَمَا نَقَلَ مَا ذَكَرَهُ الْعَيْنِيُّ : قُلْت لَا مُخَالَفَةَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ لِإِمْكَانِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَسِّ وَالتَّقْبِيلِ .
وَلَوْ سَلَّمَ فَذَلِكَ لَا يَضُرُّنَا بَلْ يُثْبِتُ مُدَّعَانَا بِالْأَوْلَوِيَّةِ انْتَهَى .
أَقُولُ : كَأَنَّ ذَلِكَ الْبَعْضَ خَبْطٌ فِي اسْتِخْرَاجِ مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ حَيْثُ حَسِبَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى سُرَّتِهِ وَوَضَعَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَدَهُ عَلَى سُرَّةِ الْحَسَنِ فَبَنَى عَلَيْهِ عَدَمَ الْمُخَالَفَةِ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِإِمْكَانِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَسِّ وَالتَّقْبِيلِ : يَعْنِي أَنَّ وَضْعَ أَبِي هُرَيْرَةَ يَدَهُ عَلَى سُرَّةِ الْحَسَنِ مَسٌّ لَهَا ، وَهُوَ لَا يُنَافِي تَقْبِيلَهُ إيَّاهَا فَلَا مُخَالَفَةَ بَيْنَهُمَا ، ثُمَّ بَنَى عَلَيْهِ أَيْضًا كَلَامَهُ التَّسْلِيمِيِّ : يَعْنِي لَوْ سَلَّمَ الْمُخَالَفَةَ بَيْنَهُمَا فَمَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ لَا يَضُرُّنَا ، بَلْ يُثْبِتُ مُدَّعَانَا هَاهُنَا وَهُوَ أَنْ لَا تَكُونَ السُّرَّةُ مِنْ الْعَوْرَةِ بِالْأَوْلَوِيَّةِ ، فَإِنَّ عَدَمَ جَوَازِ مَسِّ الْعَوْرَةِ بِوَضْعِ الْيَدِ عَلَيْهَا

أَوْلَى مِنْ عَدَمِ جَوَازِ تَقْبِيلِهَا ، فَإِذَا وَضَعَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَدَهُ عَلَى سُرَّةِ الْحَسَنِ وَلَمْ يَمْنَعْهُ الْحَسَنُ ثَبَتَ أَنَّ السُّرَّةَ لَيْسَتْ مِنْ الْعَوْرَةِ ، لَكِنْ لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى تَمْيِيزٍ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى سُرَّتِهِ وَضَعَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ يَدَهُ عَلَى سُرَّةِ نَفْسِهِ ، وَعَنْ هَذَا قَالَ : وَوَضَعَ يَدَهُ ، بِالْوَاوِ دُونَ فَوَضَعَ يَدَهُ بِالْفَاءِ كَمَا قَالَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى فَقَبَّلَ سُرَّتَهُ ، وَالْأُسْلُوبُ الْمُقَرَّرُ فِي الْحِكَايَةِ عَنْ الِاثْنَيْنِ إدْخَالُ الْفَاءِ عِنْدَ الِانْتِقَالِ إلَى حِكَايَةِ قَوْلِ الْآخَرِ أَوْ فِعْلِهِ أَوْ تَرْكِ الْعَاطِفِ وَالسُّلُوكُ مَسْلَكُ الِاسْتِئْنَافِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ } وَإِذْ قَدْ كَانَ مَعْنَى رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ وَوَضَعَ الْحَسَنُ يَدَهُ عَلَى سُرَّتِهِ كَانَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ مُخَالِفَةً لِلرِّوَايَةِ الْأُولَى لِعَدَمِ تَيَسُّرِ تَقْبِيلِ سُرَّةِ الْحَسَنِ عِنْدَ وَضْعِهِ يَدَهُ عَلَى سُرَّتِهِ ، ثُمَّ إنَّهُ إنْ كَانَ مَقْصُودُ الْحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ وَضْعِ يَدِهِ عَلَى سُرَّتِهِ فِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ التَّحَرُّزَ عَنْ انْكِشَافِ نَفْسِ السُّرَّةِ عِنْدَ رَفْعِ ثَوْبِهِ عَنْ بَطْنِهِ يُشْعِرُ فِعْلُهُ الْمَذْكُورُ بِكَوْنِ السُّرَّةِ مِنْ الْعَوْرَةِ وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُهُ مِنْهُ التَّحَرُّزَ عَنْ انْكِشَافِ مَا تَحْتَ السُّرَّةِ لَا يَدُلُّ فِعْلُهُ الْمَذْكُورُ عَلَى كَوْنِ نَفْسِ السُّرَّةِ مِنْ الْعَوْرَةِ فَلَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ جَزْمٌ بِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ .

( وَمَا يُبَاحُ النَّظَرُ إلَيْهِ لِلرَّجُلِ مِنْ الرَّجُلِ يُبَاحُ الْمَسُّ ) لِأَنَّهُمَا فِيمَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ سَوَاءٌ .
قَالَ ( وَيَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَنْظُرَ مِنْ الرَّجُلِ إلَى مَا يَنْظُرُ الرَّجُلُ إلَيْهِ مِنْهُ إذَا أَمِنَتْ الشَّهْوَةَ ) لِاسْتِوَاءِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِي النَّظَرِ إلَى مَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ كَالثِّيَابِ وَالدَّوَابِّ .
وَفِي كِتَابِ الْخُنْثَى مِنْ الْأَصْلِ : أَنَّ نَظَرَ الْمَرْأَةِ إلَى الرَّجُلِ الْأَجْنَبِيِّ بِمَنْزِلَةِ نَظَرِ الرَّجُلِ إلَى مَحَارِمِهِ ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ أَغْلَظُ ، فَإِنْ كَانَ فِي قَلْبِهَا شَهْوَةٌ أَوْ أَكْبَرُ رَأْيِهَا أَنَّهَا تَشْتَهِي أَوْ شَكَّتْ فِي ذَلِكَ يُسْتَحَبُّ لَهَا أَنْ تَغُضَّ بَصَرَهَا ، وَلَوْ كَانَ النَّاظِرُ هُوَ الرَّجُلُ إلَيْهَا وَهُوَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَمْ يَنْظُرْ ، وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى التَّحْرِيمِ .
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الشَّهْوَةَ عَلَيْهِنَّ غَالِبَةٌ وَهُوَ كَالْمُتَحَقِّقِ اعْتِبَارًا ، فَإِذَا اشْتَهَى الرَّجُلُ كَانَتْ الشَّهْوَةُ مَوْجُودَةً فِي الْجَانِبَيْنِ ، وَلَا كَذَلِكَ إذَا اشْتَهَتْ الْمَرْأَةُ ؛ لِأَنَّ الشَّهْوَةَ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ فِي جَانِبِهِ حَقِيقَةً وَاعْتِبَارًا فَكَانَتْ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ ، وَالْمُتَحَقِّقُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فِي الْإِفْضَاءِ إلَى الْمُحَرَّمِ أَقْوَى مِنْ الْمُتَحَقِّقِ فِي جَانِبٍ وَاحِدٍ .

( قَوْلُهُ وَمَا يُبَاحُ لِلرَّجُلِ النَّظَرُ إلَيْهِ مِنْ الرَّجُلِ يُبَاحُ الْمَسُّ ؛ لِأَنَّهُمَا فِيمَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ سَوَاءٌ ) أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : اسْتِوَاؤُهُمَا فِيهِ مَمْنُوعٌ ، كَيْفَ وَقَدْ مَرَّ أَنَّ وَجْهَ الْأَجْنَبِيَّةِ وَكَفَّيْهَا لَيْسَتَا بِعَوْرَةٍ حَيْثُ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهِمَا إذَا أَمِنَ الشَّهْوَةَ ، وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَمَسَّهُمَا وَإِنْ أَمِنَ الشَّهْوَةَ فَلَمْ يَسْتَوِ النَّظَرُ وَالْمَسُّ فِيهَا .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : الْمُرَادُ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِيهِ مَا لَمْ يَرِدْ النَّصُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ كَمَا فِي الصُّورَةِ الْمَارَّةِ ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَنْ مَسَّ كَفَّ امْرَأَةٍ لَيْسَ مِنْهَا بِسَبِيلٍ وُضِعَ عَلَى كَفِّهِ جَمْرَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } فَمَا ذُكِرَ هَاهُنَا مِنْ حَدِيثِ الِاسْتِوَاءِ مُقْتَضًى الْقِيَاسَ ، وَمَا مَرَّ مُوجِبٌ النَّصَّ فَلَا تَنَافِي بَيْنَهُمَا تَدَبَّرْ .
( قَوْلُهُ وَيَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَنْظُرَ مِنْ الرَّجُلِ إلَى مَا يَنْظُرُ الرَّجُلُ إلَيْهِ مِنْهُ إذَا أَمِنَ الشَّهْوَةَ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : قَوْلُهُ وَيَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَنْظُرَ مِنْ الرَّجُلِ إلَى مَا يَنْظُرُ الرَّجُلُ إلَيْهِ مِنْهُ عَكْسُ هَذَا الْقِسْمِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ .
أَقُولُ : لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فِي الظَّاهِرِ .
إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقِسْمِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ هُوَ الَّذِي ذُكِرَ قُبَيْلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، أَعْنِي قَوْلَهُ وَيَنْظُرُ الرَّجُلُ مِنْ الرَّجُلِ إلَى جَمِيعِ بَدَنِهِ إلَّا مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ إلَى رُكْبَتِهِ فَإِنَّهُ الصَّالِحُ لَأَنْ يُعْنَوْنَ بِمَا نَحْنُ فِيهِ .
وَلَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّ هَذَا الَّذِي ذُكِرَ هُنَا لَيْسَ بِعَكْسِ ذَاكَ .
وَإِنَّمَا هَذَا عَكْسُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ الْمَذْكُورِ فِي صَدْرِ الْفَصْلِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِالْقِسْمِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ هُوَ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ الْمَذْكُورُ فِي صَدْرِ الْفَصْلِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُصَنِّفَ لَمَّا لَمْ يَسْتَوْفِ بَعْدُ أَقْسَامَ ذَلِكَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ بَلْ أَدْخَلَ فِي

خِلَالِهَا الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ الْأُخَرَ مِنْ أَصْلِ التَّقْسِيمِ كَمَا سَتُحِيطُ بِهِ خَبَرًا لَمْ يَكُنْ فَارِغًا عَنْ بَيَانِ ذَلِكَ الْقِسْمِ بِالْكُلِّيَّةِ .
بَلْ كَانَ فِي عُهْدَتِهِ الْآنَ بَيَانُ مَا بَقِيَ مِنْهُ ، فَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ جَازَ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْهُ الشَّارِحُ الْمَزْبُورُ بِالْقِسْمِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَبْعَدًا عِنْدَ مَنْ لَهُ سَلَامَةُ الْفِطْرَةِ .
ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ طَعَنَ فِي تَحْرِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ حَيْثُ قَالَ : وَلَوْ نَكَرَ الرَّجُلُ الثَّانِي كَانَ أَوْلَى .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ إذْ لَا يَخْفَى عَلَى ذِي مُسْكَةٍ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيَانُ حَالِ الْجِنْسِ مُطْلَقًا لَا بَيَانُ بَعْضٍ مَنْ أَفْرَادِهِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُعَيَّنٍ فَالْأَوْلَى أَنْ يُعَرَّفَ الرَّجُلُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مَعًا تَعْرِيفَ الْجِنْسِ لَا أَنْ يُنَكَّرَ الثَّانِي وَلَا الْأَوَّلُ تَأَمَّلْ تَفْهَمْ .

قَالَ ( وَتَنْظُرُ الْمَرْأَةُ مِنْ الْمَرْأَةِ إلَى مَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهِ مِنْ الرَّجُلِ ) لِوُجُودِ الْمُجَانَسَةِ ، وَانْعِدَامِ الشَّهْوَةِ غَالِبًا كَمَا فِي نَظَرِ الرَّجُلِ إلَى الرَّجُلِ ، وَكَذَا الضَّرُورَةُ قَدْ تَحَقَّقَتْ إلَى الِانْكِشَافِ فِيمَا بَيْنَهُنَّ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ نَظَرَ الْمَرْأَةِ إلَى الْمَرْأَةِ كَنَظَرِ الرَّجُلِ إلَى مَحَارِمِهِ ، بِخِلَافِ نَظَرِهَا إلَى الرَّجُلِ ؛ لِأَنَّ الرِّجَالَ يَحْتَاجُونَ إلَى زِيَادَةِ الِانْكِشَافِ لِلِاشْتِغَالِ بِالْأَعْمَالِ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ .

( قَوْلُهُ وَتَنْظُرُ الْمَرْأَةُ مِنْ الْمَرْأَةِ إلَى مَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهِ مِنْ الرَّجُلِ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : هَذَا هُوَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنْ أَصْلِ التَّقْسِيمِ .
أَقُولُ : بَلْ هَذَا هُوَ الْقِسْمُ الرَّابِعُ مِنْهُ كَمَا لَا يُشْتَبَهُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أُولِي النُّهَى ، وَلَمْ أَدْرِ كَيْفَ خَفِيَ عَلَيْهِ مِثْلُ ذَلِكَ .
وَالْعَجَبُ أَنَّهُ قَدْ اُبْتُلِيَ بِمِثْلَيْهِ فِيمَا مَرَّ كَمَا عَرَفْته وَأَصَرَّ عَلَيْهِ ، وَلَعَلَّ حِكْمَةَ زَلَّتِهِ فِي هَذَا الْفَصْلِ مَا وَقَعَ مِنْهُ مِنْ سُوءِ الظَّنِّ بِالْمُصَنِّفِ حَيْثُ قَالَ فِيمَا بَعْدُ : وَالتَّسَامُحُ فِي رِعَايَةِ التَّرْتِيبِ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ ظَاهِرٌ فَصَدَرَ مِنْ نَفْسِهِ مَا هُوَ أَشَدُّ قُبْحًا مِنْهُ ( قَوْلُهُ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ نَظَرَ الْمَرْأَةِ إلَى الْمَرْأَةِ كَنَظَرِ الرَّجُلِ إلَى مَحَارِمِهِ ) يَعْنِي لَا تَنْظُرُ إلَى ظَهْرِهَا وَبَطْنِهَا .
وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ صَاحِبِ الْكَافِي : حَتَّى لَا يُبَاحَ لَهَا النَّظَرُ إلَى ظَهْرِهَا وَبَطْنِهَا .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَحَلِّ : يَعْنِي لَا تَنْظُرُ إلَى ظَهْرِهَا وَبَطْنِهَا وَفَخِذِهَا كَمَا سَيَأْتِي انْتَهَى .
أَقُولُ : ذِكْرُ الْفَخِذِ هَاهُنَا مُسْتَدْرَكٌ بَلْ مُخِلٍّ ؛ لِأَنَّ عَدَمَ جَوَازِ نَظَرِ الْمَرْأَةِ إلَى فَخِذِ الْمَرْأَةِ قَدْ تَقَرَّرَ فِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ الْفَخِذَ لَيْسَ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يَنْظُرَ الرَّجُلُ إلَيْهِ مِنْ الرَّجُلِ .
وَاَلَّذِي لَا بُدَّ لَهُ هُنَا مِنْهُ بَيَانُ مَا يَمْتَازُ بِهِ الْقَوْلُ الثَّانِي عَنْ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ .
وَهُوَ أَنْ لَا تَنْظُرَ إلَى ظَهْرِهَا وَبَطْنِهَا أَيْضًا ، وَذِكْرُ الْفَخِذِ فِي هَذَا .
الْأَثْنَاءِ يُوهِمُ جَوَازَ النَّظَرِ إلَيْهِ فِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ

قَالَ ( وَيَنْظُرُ الرَّجُلُ مِنْ أَمَتِهِ الَّتِي تَحِلُّ لَهُ وَزَوْجَتِهِ إلَى فَرْجِهَا ) وَهَذَا إطْلَاقٌ فِي النَّظَرِ إلَى سَائِرِ بَدَنِهَا عَنْ شَهْوَةٍ وَغَيْرِ شَهْوَةٍ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { غُضَّ بَصَرَك إلَّا عَنْ أَمَتِك وَامْرَأَتِك } وَلِأَنَّ مَا فَوْقَ ذَلِكَ مِنْ الْمَسِّ وَالْغَشَيَانِ مُبَاحٌ فَالنَّظَرُ أَوْلَى ، إلَّا أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ لَا يَنْظُرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى عَوْرَةِ صَاحِبِهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ فَلْيَسْتَتِرْ مَا اسْتَطَاعَ وَلَا يَتَجَرَّدَانِ تَجَرُّدَ الْعِيرِ } وَلِأَنَّ ذَلِكَ يُورِثُ النِّسْيَانَ لِوُرُودِ الْأَثَرِ .
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ : الْأَوْلَى أَنْ يَنْظُرَ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي تَحْصِيلِ مَعْنَى اللَّذَّةِ .

( قَوْلُهُ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { غُضَّ بَصَرَك إلَّا عَنْ أَمَتِك وَامْرَأَتِك } ) قَالَ فِي الْكَافِي بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ : وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : { كُنْت أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ ، وَكُنْت أَقُولُ بَقِّ لِي بَقِّ لِي .
وَهُوَ يَقُولُ بَقِّ لِي بَقِّ لِي } وَلَوْ لَمْ يَكُنْ النَّظَرُ مُبَاحًا لَمَا تَجَرَّدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيْنَ يَدَيْ صَاحِبِهِ انْتَهَى .
وَقَصَدَ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ تَزْيِيفَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْمُدَّعَى هَاهُنَا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الِاسْتِدْلَالَ بِذَلِكَ : قُلْت : لَا يَتِمُّ الِاسْتِدْلَال بِهَذَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ اغْتِسَالُهُمَا مَعًا بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَاقِبَيْنِ وَلَكِنْ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ .
وَلَئِنْ سَلَّمْنَا فَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا كَانَ يَنْظُرُ إلَى فَرْجِ الْآخَرِ .
كَيْفَ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ { قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَرَ مِنِّي وَلَمْ أَرَ مِنْهُ } انْتَهَى .
أَقُولُ : لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ كَلَامِهِ الْمَنْفِيِّ وَالتَّسْلِيمِيِّ بِصَحِيحٍ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ قَوْلَهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَكُنْت أَقُولُ بَقِّ لِي بَقِّ لِي وَهُوَ يَقُولُ لِي بَقِّ لِي يَدُلُّ قَطْعًا عَلَى أَنْ يَكُونَ اغْتِسَالُهُمَا مَعًا .
إذْ لَوْ كَانَ عَلَى التَّعَاقُبِ لَمَا صَحَّ مِنْ الْمُتَقَدِّمِ مِنْهُمَا طَلَبُ تَبْقِيَةِ الْمَاءِ مِنْ الْآخَرِ ، إذْ الْمُبَاشِرُ أَوَّلًا هُوَ الْمُتَقَدِّمُ فَالتَّبْقِيَةُ وَظِيفَتُهُ لَا وَظِيفَةُ الْآخَرِ ، فَلَا مَعْنَى لِطَلَبِهَا مِنْ الْآخَرِ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْمُدَّعَى هَاهُنَا مُجَرَّدُ جَوَازِ النَّظَرِ إلَى الْفَرْجِ لَا لُزُومُ وُقُوعِهِ أَلْبَتَّةَ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تَجَرُّدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيْنَ يَدَيْ صَاحِبِهِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ فَإِنَّ التَّجَرُّدَ سَبَبٌ لِرُؤْيَةِ الْعَوْرَةِ عَادَةً ، فَلَوْ

لَمْ يَكُنْ النَّظَرُ إلَيْهَا مُبَاحًا لِلزَّوْجِ لَمَا وَقَعَ التَّجَرُّدُ مِنْهُمَا لِلْقَطْعِ بِتَحَرُّزِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مَظَانِّ الْحُرْمَةِ .
ثُمَّ إنَّ مُجَرَّدَ جَوَازِ النَّظَرِ إلَى فَرْجِ الزَّوْجِ لَا يُنَافِي عَدَمَ وُقُوعِهِ مِنْهُمَا تَأَدُّبًا عَلَى مُقْتَضَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ .
فَلَا تَدَافُعَ بَيْنَ حَدِيثَيْ عَائِشَةَ أَصْلًا .

قَالَ ( وَيَنْظُرُ الرَّجُلُ مِنْ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ إلَى الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ وَالصَّدْرِ وَالسَّاقَيْنِ وَالْعَضُدَيْنِ .
وَلَا يَنْظُرُ إلَى ظَهْرِهَا وَبَطْنِهَا وَفَخِذِهَا ) .
وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ } الْآيَةَ ، وَالْمُرَادُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَوَاضِعُ الزِّينَةِ وَهِيَ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ السَّاعِدُ وَالْأُذُنُ وَالْعُنُقُ وَالْقَدَمُ ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مَوْضِعُ الزِّينَةِ ، بِخِلَافِ الظَّهْرِ وَالْبَطْنِ وَالْفَخِذِ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ مَوَاضِعِ الزِّينَةِ ، وَلِأَنَّ الْبَعْضَ يَدْخُلُ عَلَى الْبَعْضِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ وَاحْتِشَامٍ وَالْمَرْأَةُ فِي بَيْتِهَا فِي ثِيَابِ مِهْنَتِهَا عَادَةً ، فَلَوْ حَرُمَ النَّظَرُ إلَى هَذِهِ الْمَوَاضِعِ أَدَّى إلَى الْحَرَجِ ، وَكَذَا الرَّغْبَةُ تَقِلُّ لِلْحُرْمَةِ الْمُؤَبَّدَةِ فَقَلَّمَا تُشْتَهَى ، بِخِلَافِ مَا وَرَاءَهَا ، لِأَنَّهَا لَا تَنْكَشِفُ عَادَةً .
وَالْمَحْرَمُ مِنْ لَا تَجُوزُ الْمُنَاكَحَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا عَلَى التَّأْبِيدِ بِنَسَبٍ كَانَ أَوْ بِسَبَبٍ كَالرَّضَاعِ وَالْمُصَاهَرَةِ لِوُجُودِ الْمَعْنَيَيْنِ فِيهِ ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْمُصَاهَرَةُ بِنِكَاحٍ أَوْ سِفَاحٍ فِي الْأَصَحِّ لِمَا بَيَّنَّا .
قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَمَسَّ مَا جَازَ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهِ مِنْهَا ) لِتَحَقُّقِ الْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ فِي الْمُسَافَرَةِ وَقِلَّةِ الشَّهْوَةِ لِلْمَحْرَمِيَّةِ ، بِخِلَافِ وَجْهِ الْأَجْنَبِيَّةِ وَكَفَّيْهَا حَيْثُ لَا يُبَاحُ الْمَسُّ وَإِنْ أُبِيحَ النَّظَرُ ؛ لِأَنَّ الشَّهْوَةَ مُتَكَامِلَةٌ ( إلَّا إذَا كَانَ يَخَافُ عَلَيْهَا أَوْ عَلَى نَفْسِهِ الشَّهْوَةَ ) فَحِينَئِذٍ لَا يَنْظُرُ وَلَا يَمَسُّ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ ، وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا الْبَطْشُ } ، وَحُرْمَةُ الزِّنَا بِذَوَاتِ الْمَحَارِمِ أَغْلَظُ فَيُجْتَنَبُ .

( قَوْلُهُ وَيَنْظُرُ الرَّجُلُ مِنْ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ إلَى الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ وَالصَّدْرِ وَالسَّاقَيْنِ وَالْعَضُدَيْنِ .
وَلَا يَنْظُرُ إلَى ظَهْرِهَا وَبَطْنِهَا وَفَخِذِهَا ) أَقُولُ : كَانَ الْأَنْسَبُ أَنْ لَا يَذْكُرَ الْفَخِذَ هَاهُنَا ، فَإِنَّهُ لَمَّا تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ عَدَمُ جَوَازِ أَنْ يَنْظُرَ الرَّجُلُ مِنْ الرَّجُلِ مُطْلَقًا : أَيْ وَإِنْ كَانَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ إلَى مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ إلَى رُكْبَتِهِ عُلِمَ عَدَمُ جَوَازِ أَنْ يَنْظُرَ الرَّجُلُ مِنْ الْمَرْأَةِ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ إلَى مَا بَيْنَ سُرَّتِهَا إلَى رُكْبَتِهَا بِالْأَوْلَوِيَّةِ ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ أَغْلَظُ ، وَعَنْ هَذَا لَمْ يَتَعَرَّضْ صَاحِبُ الْمُحِيطِ فِي هَذَا الْمَقَامِ لِذَكَرِ شَيْءٍ مِمَّا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ حَيْثُ قَالَ : وَلَا يَحِلُّ أَنْ يَنْظُرَ إلَى بَطْنِهَا وَلَا إلَى ظَهْرِهَا وَلَا إلَى جَنْبِهَا ، وَلَا يَمَسَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ انْتَهَى .
وَظَهَرَ مِنْهُ أَيْضًا أَنَّ ذِكْرَ الْجَنْبِ أَحَقُّ مِنْ ذِكْرِ الْفَخِذِ هَاهُنَا .
فَإِنْ قُلْت : الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ الْفَخِذِ فِي الْكِتَابِ بَيَانُ الْوَاقِعِ وَالتَّصْرِيحُ بِمَا عُلِمَ الْتِزَامًا مِمَّا تَقَدَّمَ .
قُلْت : فَحِينَئِذٍ كَانَ الْأَنْسَبُ أَنْ يُقَالَ : بَدَلُ وَفَخِذِهَا مَا بَيْنَ سُرَّتِهَا إلَى رُكْبَتِهَا كَمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ حَيْثُ قَالَ : وَلَا يَحِلُّ النَّظَرُ إلَى ظَهْرِهَا وَبَطْنِهَا وَإِلَى مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ مِنْهَا وَمَسُّهَا انْتَهَى ، فَإِنَّ فِيهِ عُمُومَ الْإِفَادَةِ .
فَإِنْ قُلْت : الْمَقْصُودُ بِالِاكْتِفَاءِ بِذِكْرِ الْفَخِذِ هُوَ السُّلُوكُ مَسْلَكَ الدَّلَالَةِ فِي إفَادَةِ حُرْمَةِ النَّظَرِ إلَى مَا عَدَاهُ أَيْضًا مِمَّا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ بِالْأَوْلَوِيَّةِ .
قُلْت : فَحِينَئِذٍ كَانَ الْأَحَقُّ الِاكْتِفَاءَ بِذِكْرِ الرُّكْبَةِ ، فَإِنَّ حُكْمَ الْعَوْرَةِ فِي الرُّكْبَةِ أَخَفُّ مِنْهُ فِي الْفَخِذِ ، وَفِي الْفَخِذِ أَخَفُّ مِنْهُ فِي السَّوْءَةِ كَمَا تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ ، فَبِذِكْرِ الْفَخِذِ لَا يُعْلَمُ حُكْمُ الرُّكْبَةِ

دَلَالَةً لِكَوْنِهَا أَخَفَّ مِنْهُ فِي حُرْمَةِ النَّظَرِ .
وَأَمَّا بِذِكْرِ الرُّكْبَةِ فَيُعْلَمُ حُكْمُ الْفَخِذِ والسَّوْءَةِ أَيْضًا دَلَالَةً بِالْأَوْلَوِيَّةِ لِكَوْنِهِمَا أَقْوَى مِنْهَا فِي حُرْمَةِ النَّظَرِ .
ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ قَصَدَ حِلَّ بَعْضِ عِبَارَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ : وَأَصْلُ التَّرْكِيبِ ذَوَاتُ الرَّحِمِ الْمَحَارِمِ عَلَى أَنَّ الْمَحَارِمَ صِفَةُ الذَّوَاتِ ، وَقَدْ يُحْذَفُ الرَّحِمُ فَيُقَالُ ذَوَاتُ الْمَحَارِمِ بِطَرِيقِ الْمُسَامَحَةِ ، وَالنُّكْتَةُ فِيهِ شُمُولُ الْمَسْأَلَةِ لِلْمَحْرَمِ بِسَبَبٍ كَمَا سَيَجِيءُ ، وَجَعْلُ الْمَحْرَمَ هَاهُنَا مَصْدَرًا مِيمِيًّا بِمَعْنَى الْحُرْمَةِ مَعَ عَدَمِ اسْتِعْمَالِهِ فِيهِ لَا يُلَائِمُهُ تَفْسِيرُهُ بِمَا سَيَجِيءُ فَتَأَمَّلْ ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
أَقُولُ : فِيهِ خَلَلٌ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ أَصْلُ التَّرْكِيبِ الْمَذْكُورِ ذَوَاتَ الرَّحِمِ الْمَحَارِمِ عَلَى أَنَّ الْمَحَارِمَ صِفَةُ الذَّوَاتِ فَحُذِفَ الرَّحِمُ وَأُضِيفَتْ الذَّوَاتُ إلَى الْمَحَارِمِ بِطَرِيقِ الْمُسَامَحَةِ كَانَ مَدْلُولُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُخْتَصًّا بِالْمَحْرَمِ بِنَسَبٍ ، إذْ الرَّحِمُ لَا يُتَصَوَّرُ فِي غَيْرِ النَّسَبِ فَلَا مَجَالَ ؛ لَأَنْ تَكُونَ النُّكْتَةُ فِي حَذْفِ الرَّحِمِ وَإِضَافَةِ الذَّوَاتِ إلَى الْمَحَارِمِ شُمُولَ الْمَسْأَلَةِ لِلْمَحْرَمِ بِسَبَبٍ ؛ لِأَنَّ النُّكْتَةَ فِي الْعِبَارَةِ لَا تَصْلُحُ أَنَّ تُغَيِّرَ الْمَعْنَى بِالْكُلِّيَّةِ حَتَّى تَنْقُلَهُ مِنْ الْخُصُوصِ إلَى الْعُمُومِ .
وَبِالْجُمْلَةِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى التَّرْكِيبِ الْمَذْكُورِ ذَوَاتِ الرَّحِمِ الْمَحَارِمِ ، وَبَيْنَ أَنْ تَشْمَلَ الْمَسْأَلَةُ الْمَذْكُورَةُ الْمَحْرَمَ بِسَبَبِ تَنَافٍ لَا يَخْفَى .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ وَجَعْلُ الْمَحْرَمِ هَاهُنَا مَصْدَرًا مِيمِيًّا بِمَعْنَى الْحُرْمَةِ مَعَ عَدَمِ اسْتِعْمَالِهِ فِيهِ لَا يُلَائِمُهُ تَفْسِيرُهُ بِمَا سَيَجِيءُ لَيْسَ بِسَدِيدٍ ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْ قَوْلِهِ مَعَ عَدَمِ اسْتِعْمَالِهِ فِيهِ وَمِنْ قَوْلِهِ لَا يُلَائِمُهُ تَفْسِيرُهُ بِمَا سَيَجِيءُ فِي حَيِّزِ الْمَنْعِ .

أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ قَالَ فِي الْمُغْرِبِ : وَالْمَحْرَمُ الْحَرَامُ وَالْحُرْمَةُ أَيْضًا .
وَقَالَ فِي الْبَدَائِعِ : النِّسَاءُ فِي هَذَا الْبَابِ سَبْعَةُ أَنْوَاعٍ .
نَوْعٌ مِنْهُنَّ الْمَنْكُوحَاتُ ، وَنَوْعٌ مِنْهُنَّ الْمَمْلُوكَاتُ ، وَنَوْعٌ مِنْهُنَّ ذَوَاتُ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ كَالْأُمِّ وَالْبِنْتِ وَالْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ ، وَنَوْعٌ مِنْهُنَّ ذَوَاتُ الْمَحْرَمِ بِلَا رَحِمٍ وَهُنَّ الْمَحَارِمُ مِنْ جِهَةِ الرَّضَاعِ وَالْمُصَاهَرَةِ ، وَنَوْعٌ مِنْهُنَّ مَمْلُوكَاتُ الْأَغْيَارِ ، وَنَوْعٌ مِنْهُنَّ مَنْ لَا رَحِمَ لَهُنَّ وَلَا مَحْرَمَ وَهُنَّ الْأَجْنَبِيَّاتُ الْحَرَائِرُ ، وَنَوْعٌ مِنْهُنَّ مِنْ ذَوَاتِ الرَّحِمِ بِلَا مَحْرَمٍ كَبِنْتِ الْعَمِّ وَالْعَمَّةِ وَالْخَالِ وَالْخَالَةِ ا هـ .
وَلَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ أَنَّ الْمَحْرَمَ الْمَذْكُورَ ثَمَّةَ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ إنَّمَا يَصْلُحُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْحَرَامِ مَا ذُكِرَ فِي قَوْلِهِ ذَوَاتَ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ ، وَالْبَاقِي مِنْهُ بِمَعْنَى الْحُرْمَةِ لَا غَيْرُ كَمَا فِي قَوْلِهِ ذَوَاتَ الْمَحْرَمِ بِلَا رَحِمٍ ، وَقَوْلِهِ مَنْ لَا رَحِمَ لَهُنَّ وَلَا مَحْرَمَ ، وَقَوْلِهِ ذَوَاتُ الرَّحِمِ بِلَا مَحْرَمٍ يَظْهَرُ كُلُّ ذَلِكَ بِالتَّأَمُّلِ الصَّادِقِ وَالذَّوْقِ الصَّحِيحِ .
وَقَالَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ : وَلَا بَأْسَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْظُرَ مِنْ أُمِّهِ وَابْنَتِهِ وَأُخْتِهِ الْبَالِغَةِ وَكُلِّ ذَاتِ رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ كَالْجَدَّاتِ وَأَوْلَادِ الْأَوْلَادِ وَالْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ إلَى شَعْرِهَا وَرَأْسِهَا وَصَدْرِهَا وَبَدَنِهَا وَعُنُقِهَا وَعَضُدِهَا وَسَاقِهَا ، وَلَا يَنْظُرْ إلَى ظَهْرِهَا وَبَطْنِهَا وَلَا إلَى مَا بَيْنَ سُرَّتِهَا إلَى أَنْ تُجَاوِزَ الرُّكْبَةَ ، وَكَذَا إلَى كُلِّ ذَاتِ مَحْرَمٍ بِرَضَاعٍ أَوْ صِهْرِيَّةٍ كَزَوْجَةِ الْأَبِ وَالْجَدِّ وَإِنْ عَلَا وَزَوْجَةِ الِابْنِ وَأَوْلَادِ الْأَوْلَادِ وَإِنْ سَفَلُوا ، وَابْنَةِ الْمَرْأَةِ الْمَدْخُولِ بِهَا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا فَهِيَ كَالْأَجْنَبِيَّةِ انْتَهَى .
وَلَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ أَيْضًا أَنَّ الْمَحْرَمَ الْمَذْكُورَ فِي

قَوْلِهِ وَكَذَا إلَى كُلِّ ذَاتِ مَحْرَمٍ بِرَضَاعٍ أَوْ صِهْرِيَّةٍ بِمَعْنَى الْحُرْمَةِ دُونَ الْحَرَامِ ، إذْ لَا مَعْنَى لَأَنْ يُقَالَ : كُلُّ ذَاتِ حَرَامٍ : أَيْ صَاحِبَةِ حَرَامٍ ؛ لِأَنَّ الْحَرَامَ هِيَ صَاحِبَةُ الْحُرْمَةِ نَفْسِهَا فَلَا مَعْنَى لِإِضَافَةِ الذَّاتِ إلَيْهِ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ إنَّمَا لَا يُلَائِمُهُ تَفْسِيرُهُ بِمَا سَيَجِيءُ لَوْ كَانَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِمَا سَيَجِيءُ تَفْسِيرَ الْمَحْرَمِ الَّذِي هُوَ مُفْرَدُ الْمَحَارِمِ فِي قَوْلِهِ وَيَنْظُرُ الرَّجُلُ مِنْ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ .
وَأَمَّا إذَا كَانَ مُرَادُهُ بِذَلِكَ تَفْسِيرَ الْمَحْرَمِ بِمَعْنَى الْحَرَامِ الْمَأْخُوذِ مِنْ مَجْمُوعِ قَوْلِهِ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ لَا مِنْ قَوْلِهِ مَحَارِمِهِ فَقَطْ فَلَا يَلْزَمُ عَدَمُ الْمُلَاءَمَةِ كَمَا لَا يَخْفَى .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ هُوَ الثَّانِي .
وَيُعَضِّدُهُ تَقْرِيرُ صَاحِبِ الْمُحِيطِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ حَيْثُ قَالَ : وَأَمَّا النَّظَرُ إلَى ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ فَنَقُولُ : يُبَاحُ النَّظَرُ إلَى مَوْضِعِ زِينَتِهَا الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ .
ثُمَّ قَالَ : وَذَوَاتُ الْمَحَارِمِ مَنْ حَرُمَ عَلَيْهِ نِكَاحُهُنَّ بِالنَّسَبِ نَحْوَ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ وَالْجَدَّاتِ وَالْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ وَبَنَاتِ الْأَخِ وَبَنَاتِ الْأُخْتِ ، أَوْ بِالسَّبَبِ كَالرَّضَاعِ وَالْمُصَاهَرَةِ انْتَهَى .
فَإِنَّهُ فَسَّرَ ذَوَاتَ الْمَحَارِمِ بِمَا فَسَّرَ بِهِ الْمُصَنِّفُ الْمَحْرَمَ نَفْسَهُ .
ثُمَّ إنَّ التَّحْقِيقَ فِي مَعْنَى التَّرْكِيبِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ قَوْلُهُمْ ذَوَاتُ مَحَارِمِهِ أَنَّهُ إذَا أُرِيدَ بِهِ مَنْ حَرُمَ عَلَيْهِ نِكَاحُهُنَّ بِالنَّسَبِ وَحْدَهُ .
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ ذَوَاتِ الرَّحِمِ الْمَحَارِمِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَحَارِمُ صِفَةَ الذَّوَاتِ وَتَكُونَ جَمْعَ مَحْرَمٍ بِمَعْنَى حَرَامٍ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ ذَوَاتِ الْحُرُمَاتِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَحَارِمُ جَمْعَ مَحْرَمٍ بِمَعْنَى الْحُرْمَةِ .
وَأَمَّا إذَا أُرِيدَ بِهِ مَنْ حَرُمَ عَلَيْهِ نِكَاحُهُنَّ بِنَسَبٍ أَوْ سَبَبٍ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ فَلَا مَجَالَ

لِتَقْدِيرِ الرَّحِمِ لِكَوْنِهِ مُنَافِيًا لِلتَّعْمِيمِ بَلْ يَتَعَيَّنُ الْمَعْنَى الثَّانِي .
( قَوْلُهُ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ } الْآيَةَ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ : وَقَوْلُهُ وَالْأَصْلُ فِيهِ : أَيْ فِي جَوَازِ مَا جَازَ وَعَدَمِ جَوَازِ مَا لَمْ يَجُزْ عَلَى تَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ قَوْله تَعَالَى { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } الْآيَةَ ، وَتَبِعَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ أَقُولُ فِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ الْمَذْكُورَةَ إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ مَا جَازَ وَهُوَ النَّظَرُ إلَى مَوَاضِعِ الزِّينَةِ .
وَلَا تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ مَا لَمْ يَجُزْ .
وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ آيَةٌ أُخْرَى وَهِيَ قَوْله تَعَالَى { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ } كَمَا أَفْصَحَ عَنْهُ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ حَيْثُ قَالَ : وَلَا يَحِلُّ النَّظَرُ إلَى ظَهْرِهَا وَبَطْنِهَا وَلَا مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ مِنْهَا وَمَسُّهَا لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ } إلَّا أَنَّهُ رَخَّصَ لِلْمَحَارِمِ النَّظَرَ إلَى مَوَاضِعِ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ } الْآيَةَ ، فَبَقِيَ غَضُّ الْبَصَرِ عَمَّا وَرَاءَهَا مَأْمُورًا بِهِ ، وَإِذَا لَمْ يَحِلَّ النَّظَرُ فَالْمَسُّ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ أَقْوَى انْتَهَى ، أَوْ آيَةُ الظِّهَارِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ صَاحِبُ الْمُحِيطِ حَيْثُ قَالَ : وَلَا يَحِلُّ أَنْ يَنْظُرَ إلَى بَطْنِهَا وَلَا إلَى ظَهْرِهَا وَلَا إلَى جَنْبِهَا وَلَا يَمَسَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ .
وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى الظِّهَارَ فِي كِتَابِهِ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا .
وَصُورَةُ الظِّهَارِ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ كَظَهْرِ أُمِّي ، وَلَوْلَا أَنَّ ظَهْرَهَا مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ نَظَرًا وَمَسًّا لَمَا سَمَّى الظِّهَارَ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا .
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي الظَّهْرِ ثَبَتَ فِي الْبَطْنِ وَالْجَنْبَيْنِ انْتَهَى فَتَأَمَّلْ ( قَوْلُهُ

وَلِأَنَّ الْبَعْضَ يَدْخُلُ عَلَى الْبَعْضِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ وَاحْتِشَامٍ وَالْمَرْأَةُ فِي بَيْتِهَا فِي ثِيَابِ مِهْنَتِهَا عَادَةً ، فَلَوْ حَرُمَ النَّظَرُ إلَى هَذِهِ الْمَوَاضِعِ أَدَّى إلَى الْحَرَجِ ) قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ : وَتَقْرِيرُ هَذَا الدَّلِيلِ وَاضِحٌ ، إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ يَدْخُلُ عَلَى الْبَعْضِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ يُشْكِلُ بِمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ فِي مَسَائِلِ الدُّخُولِ فِي بَيْتِ الْغَيْرِ أَنَّهُ إذَا كَانَ مِنْ مَحَارِمِهِ فَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ ، فَرُبَّمَا كَانَتْ مَكْشُوفَةَ الْعَوْرَةِ فَيَقَعُ بَصَرُهُ عَلَيْهَا فَيَكْرَهَانِ ذَلِكَ ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِآثَارٍ انْتَهَى كَلَامُهُ .
أَقُولُ : مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ إنَّ الْبَعْضَ يَدْخُلُ عَلَى الْبَعْضِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ أَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بَيْنَ النَّاسِ عَلَى دُخُولِ بَعْضِ الْمَحَارِمِ عَلَى بَعْضِهِمْ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ ، لَا أَنَّهُ أَمْرٌ مَنْدُوبٌ فِي الشَّرْعِ وَمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ حُكْمُ الشَّرْعِ فِي أَمْرِ الدُّخُولِ فِي بَيْتِ الْغَيْرِ فَإِنَّهُ قَالَ .
وَأَمَّا حُكْمُ الدُّخُولِ : فِي بَيْتِ الْغَيْرِ فَالدَّاخِلُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ أَجْنَبِيًّا أَوْ مِنْ مَحَارِمِهِ ، فَإِنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا فَلَا يَحِلُّ لَهُ الدُّخُولُ فِيهِ ، ثُمَّ قَالَ : وَإِنْ كَانَ مِنْ مَحَارِمِهِ فَلَا يَدْخُلُ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ أَيْضًا ، وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ إلَى مَوَاضِعِ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ ، ثُمَّ قَالَ : إلَّا أَنَّ الْأَمْرَ فِي الِاسْتِئْذَانِ عَلَى الْمَحَارِمِ أَسْهَلُ وَأَيْسَرُ ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ مُطْلَقُ النَّظَرِ إلَى مَوَاضِعِ الزِّينَةِ مِنْهَا شَرْعًا انْتَهَى .
فَقَدْ تَلَخَّصَ مِنْهُ أَنَّ الدُّخُولَ فِي بَيْتِ الْأَجْنَبِيِّ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ حَرَامٌ ، وَالدُّخُولَ فِي بَيْتِ مَحَارِمِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ مَكْرُوهٌ ، وَيَكْفِي فِي التَّأَدِّي إلَى الْحَرَجِ جَرَيَانُ الْعَادَةِ بَيْنَ النَّاسِ بِدُخُولِ بَعْضِ الْمَحَارِمِ عَلَى بَعْضِهِمْ بِلَا اسْتِئْذَانٍ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا لَا

يُمْدَحُ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ ، وَالْحَرَجُ مَدْفُوعٌ شَرْعًا فَلَا إشْكَالَ ( قَوْلُهُ وَالْمَحْرَمُ مَنْ لَا تَجُوزُ الْمُنَاكَحَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا عَلَى التَّأْبِيدِ بِنَسَبٍ كَانَ أَوْ سَبَبٍ كَالرَّضَاعِ وَالْمُصَاهَرَةِ لِوُجُودِ الْمَعْنَيَيْنِ فِيهِ ) يَعْنِي بِالْمَعْنَيَيْنِ الضَّرُورَةَ وَقِلَّةَ الرَّغْبَةِ ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ .
وَفِي عِبَارَةِ بَعْضِهِمْ : يَعْنِي الْحَرَجَ وَقِلَّةَ الرَّغْبَةِ .
قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ : فَإِنْ قُلْت : فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْطَعَ إذَا سَرَقَ الْمَرْءُ مِنْ بَيْتِ أُمِّهِ مِنْ الرَّضَاعِ لِجَوَازِ الدُّخُولِ مِنْ غَيْرِ احْتِشَامٍ وَاسْتِئْذَانٍ فَوَقَعَ نُقْصَانٌ فِي الْحِرْزِ .
قُلْت : لَا يُقْطَعُ عِنْدَ الْبَعْضِ .
وَأَمَّا جَوَازُ الدُّخُولِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ فَمَمْنُوعٌ ، ذَكَرَ خُوَاهَرْ زَادَهْ أَنَّ الْمَحَارِمَ مِنْ جِهَةِ الرَّضَاعِ لَا يَكُونُ لَهُمْ الدُّخُولُ مِنْ غَيْرِ حِشْمَةٍ وَاسْتِئْذَانٍ وَلِهَذَا يُقْطَعُونَ بِسَرِقَةِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ ، انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَاقْتَفَى أَثَرَهُ الْعَيْنِيُّ فِي ذِكْرِ هَذَا السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ بِعَيْنِهِمَا .
أَقُولُ : لَيْسَ الْجَوَابُ بِتَامٍّ ، أَمَّا قَوْلُهُ قُلْت لَا يُقْطَعُ عِنْدَ الْبَعْضِ فَلِأَنَّ عَدَمَ الْقَطْعِ عِنْدَ الْبَعْضِ هُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ كَمَا مَرَّ فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ لَا يَدْفَعُ السُّؤَالَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ فَإِنَّ كَوْنَ الْمَحْرَمِ بِسَبَبِ الرَّضَاعِ فِي حُكْمِ الْمَحْرَمِ بِالنَّسَبِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَإِذَا كَانَتْ الْعِلَّةُ فِي ذَلِكَ وُجُودَ الْمَعْنَيَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ كَمَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ يَتَوَجَّهُ السُّؤَالُ الْمَذْكُورُ عَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِ وَهُوَ الْقَوْلُ الْمُخْتَارُ وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ ، وَلَا يَدْفَعُهُ عَدَمُ الْقَطْعِ عِنْدَ الْبَعْضِ كَمَا لَا يَخْفَى .
وَأَمَّا قَوْلُهُ وَأَمَّا جَوَازُ الدُّخُولِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ فَمَمْنُوعٌ ، وَتَأْيِيدُ ذَلِكَ بِمَا ذَكَرَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ

خُوَاهَرْ زَادَهْ فَلِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَحَارِمِ مِنْ جِهَةِ الرَّضَاعِ الدُّخُولُ مِنْ غَيْرِ حِشْمَةٍ وَاسْتِئْذَانٍ لَمْ يَصِحَّ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ لِوُجُودِ الْمَعْنَيَيْنِ فِيهِ ، فَإِنَّ وُجُودَ أَحَدِ ذَيْنِك الْمَعْنَيَيْنِ فِيهِ يَتَوَقَّفُ عَلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ الدُّخُولُ مِنْ غَيْرِ حِشْمَةٍ وَاسْتِئْذَانٍ كَمَا تَحَقَّقْته ، وَمَبْنَى السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ كَمَا يُفْصِحُ عَنْهُ الْفَاءُ فِي قَوْلِ السَّائِلِ فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْطَعَ إذَا سَرَقَ الْمَرْءُ مِنْ بَيْتِ أُمِّهِ مِنْ الرَّضَاعِ ، فَالْأَوْلَى فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى كَوْنِ الْمَحْرَمِ بِسَبَبٍ فِي حُكْمِ الْمَحْرَمِ بِنَسَبٍ أَنْ يُصَارَ إلَى الدَّلِيلِ النَّقْلِيِّ كَمَا فَعَلَهُ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ حَيْثُ قَالَ : وَأَمَّا النَّوْعُ الرَّابِعُ وَهُوَ ذَوَاتُ الْمَحْرَمِ بِلَا رَحِمٍ فَحُكْمُهُنَّ حُكْمُ ذَوَاتِ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ } وَرُوِيَ { أَنَّ أَفْلَحَ اسْتَأْذَنَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، فَسَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : لِيَلِجَ عَلَيْك فَإِنَّهُ عَمُّك أَرْضَعَتْك امْرَأَةُ أَخِيهِ } انْتَهَى .
وَقَالَ فِي الْمَبْسُوطِ بَعْدَ مَا ذَكَرَ حُكْمَ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ بِالنَّسَبِ وَالْمُحَرَّمَةِ بِالرَّضَاعِ وَكَذَلِكَ الْمُحَرَّمَةُ بِالْمُصَاهَرَةِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَوَّى بَيْنَهُمَا بِقَوْلِهِ { فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا } .

( وَلَا بَأْسَ بِالْخَلْوَةِ وَالْمُسَافَرَةِ بِهِنَّ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تُسَافِرْ الْمَرْأَةُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا إلَّا وَمَعَهَا زَوْجُهَا أَوْ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهَا } وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَلَا لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ لَيْسَ مِنْهَا بِسَبِيلٍ فَإِنَّ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ } وَالْمُرَادُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَحْرَمًا ، فَإِنْ احْتَاجَ إلَى الْإِرْكَابِ وَالْإِنْزَالِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَمَسَّهَا مِنْ وَرَاءِ ثِيَابِهَا وَيَأْخُذَ ظَهْرَهَا وَبَطْنَهَا دُونَ مَا تَحْتَهُمَا إذَا أَمِنَا الشَّهْوَةَ ، فَإِنْ خَافَهَا عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَيْهَا تَيَقُّنًا أَوْ ظَنًّا أَوْ شَكًّا فَلْيَجْتَنِبْ ذَلِكَ بِجَهْدِهِ ، ثُمَّ إنْ أَمْكَنَهَا الرُّكُوبَ بِنَفْسِهَا يَمْتَنِعُ عَنْ ذَلِكَ أَصْلًا ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهَا يَتَكَلَّفُ بِالثِّيَابِ كَيْ لَا تُصِيبَهُ حَرَارَةُ عُضْوِهَا ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ الثِّيَابَ يَدْفَعُ الشَّهْوَةَ عَنْ قَلْبِهِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ .
( ذَوَاتُ الْمَحَارِمِ ) ( قَوْلُهُ وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَلَا لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ لَيْسَ مِنْهَا بِسَبِيلٍ فَإِنَّ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ } وَالْمُرَادُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَحْرَمًا ) أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : كَوْنُ الْمُرَادِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَحْرَمًا لَيْسَ بِأَجْلَى مِنْ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إذَا لَمْ يَكُنْ زَوْجًا ، فَبِهَذَا الِاحْتِمَالِ كَيْفَ يَثْبُتُ الْمُدَّعَى ، وَلَئِنْ سَلَّمَ كَوْنَ الْمُرَادِ ذَلِكَ فَجَوَازُ أَنْ يَخْلُوَ الرَّجُلُ بِامْرَأَةٍ ذَاتِ مَحْرَمٍ مِنْهُ لَا يُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ إلَّا بِطَرِيقِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ وَهُوَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَنَا .

قَالَ ( وَيَنْظُرُ الرَّجُلُ مِنْ مَمْلُوكَةِ غَيْرِهِ إلَى مَا يَجُوزُ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهِ مِنْ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ ) لِأَنَّهَا تَخْرُجُ لِحَوَائِجِ مَوْلَاهَا وَتَخْدُمُ أَضْيَافَهُ وَهِيَ فِي ثِيَابِ مِهْنَتِهَا ، فَصَارَ حَالُهَا خَارِجَ الْبَيْتِ فِي حَقِّ الْأَجَانِبِ كَحَالِ الْمَرْأَةِ دَاخِلَهُ فِي حَقِّ مَحَارِمِهِ الْأَقَارِبِ .
وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا رَأَى جَارِيَةً مُتَقَنِّعَةً عَلَاهَا بِالدُّرَّةِ ، وَقَالَ : أَلْقِي عَنْك الْخِمَارَ يَا دَفَارُ أَتَتَشَبَّهِينَ بِالْحَرَائِرِ ؟ وَلَا يَحِلُّ النَّظَرُ إلَى بَطْنِهَا وَظَهْرِهَا خِلَافًا لِمَا يَقُولُهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَنَّهُ يُبَاحُ إلَّا إلَى مَا دُونَ السُّرَّةِ إلَى الرُّكْبَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ كَمَا فِي الْمَحَارِمِ ، بَلْ أَوْلَى لِقِلَّةِ الشَّهْوَةِ فِيهِنَّ وَكَمَالِهَا فِي الْإِمَاءِ .
وَلَفْظَةُ الْمَمْلُوكَةِ تَنْتَظِمُ الْمُدَبَّرَةُ وَالْمُكَاتَبَةُ وَأُمُّ الْوَلَدِ لِتَحَقُّقِ الْحَاجَةِ ، وَالْمُسْتَسْعَاةُ كَالْمُكَاتَبَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى مَا عُرِفَ ، وَأَمَّا الْخَلْوَةُ بِهَا وَالْمُسَافَرَةُ مَعَهَا فَقَدْ قِيلَ يُبَاحُ كَمَا فِي الْمَحَارِمِ ، وَقَدْ قِيلَ لَا يُبَاحُ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ فِيهِنَّ ، وَفِي الْإِرْكَابِ وَالْإِنْزَالِ اعْتَبَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ الضَّرُورَةَ فِيهِنَّ وَفِي ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ مُجَرَّدَ الْحَاجَةِ .
قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَمَسَّ ذَلِكَ إذَا أَرَادَ الشِّرَاءَ ، وَإِنْ خَافَ أَنْ يَشْتَهِيَ ) كَذَا ذَكَرَهُ فِي الْمُخْتَصَرِ ، وَأَطْلَقَ أَيْضًا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَلَمْ يُفَصِّلْ .
قَالَ مَشَايِخُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ : يُبَاحُ النَّظَرُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَإِنْ اشْتَهَى لِلضَّرُورَةِ ، وَلَا يُبَاحُ الْمَسُّ إذَا اشْتَهَى أَوْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ اسْتِمْتَاعٍ ، وَفِي غَيْرِ حَالَةِ الشِّرَاءِ يُبَاحُ النَّظَرُ وَالْمَسُّ بِشَرْطِ عَدَمِ الشَّهْوَةِ .
قَالَ ( وَإِذَا حَاضَتْ الْأَمَةُ لَمْ تَعْرِضْ فِي إزَارٍ وَاحِدٍ ) وَمَعْنَاهُ بَلَغَتْ ، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الظَّهْرَ وَالْبَطْنَ مِنْهَا عَوْرَةٌ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ

أَنَّهَا إذَا كَانَتْ تُشْتَهَى وَيُجَامَعُ مِثْلُهَا فَهِيَ كَالْبَالِغَةِ لَا تَعْرِضُ فِي إزَارٍ وَاحِدٍ لِوُجُودِ الِاشْتِهَاءِ .

قَالَ ( وَالْخَصِيُّ فِي النَّظَرِ إلَى الْأَجْنَبِيَّةِ كَالْفَحْلِ ) لِقَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : الْخِصَاءُ مِثْلُهُ فَلَا يُبِيحُ مَا كَانَ حَرَامًا قَبْلَهُ وَلِأَنَّهُ فَحْلٌ يُجَامِعُ .
وَكَذَا الْمَجْبُوبُ ؛ لِأَنَّهُ يَسْحَقُ وَيُنْزِلُ ، وَكَذَا الْمُخَنَّثُ فِي الرَّدِيءِ مِنْ الْأَفْعَالِ ؛ لِأَنَّهُ فَحْلٌ فَاسِقٌ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُؤْخَذُ فِيهِ بِمُحْكَمِ كِتَابِ اللَّهِ الْمُنَزَّلِ فِيهِ ، وَالطِّفْلُ الصَّغِيرُ مُسْتَثْنًى بِالنَّصِّ .

( قَوْلُهُ وَالْخَصِيُّ فِي النَّظَرِ إلَى الْأَجْنَبِيَّةِ كَالْفَحْلِ لِقَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : الْخِصَاءُ مِثْلُهُ فَلَا يُبِيحُ مَا كَانَ حَرَامًا قَبْلَهُ ) قَالَ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ : هَا هُنَا إيرَادَانِ عَلَى الْمُصَنِّفِ الْأَوَّلُ أَنَّ هَذَا لَمْ يَثْبُتْ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، وَإِنَّمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنِّفِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ فَضْلٍ عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ رَجُلٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : خِصَاءُ الْبَهَائِمِ مِثْلُهُ ، ثُمَّ تَلَا { وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ } وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنِّفِهِ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ الْخِصَاءُ مِثْلُهُ ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الْحَجِّ .
الثَّانِي أَنَّ هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى مُدَّعَاكُمْ ، فَإِنَّ كَوْنَ الْخِصَاءِ مِثْلِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نَظَرَ الْخَصِيِّ إلَى الْأَجْنَبِيَّةِ كَالْفَحْلِ ، إلَى هَاهُنَا كَلَامُهُ .
أَقُولُ : كُلٌّ مِنْ إيرَادَيْهِ سَاقِطٌ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ حَاصِلَهُ عَدَمُ ثُبُوتِ هَذَا الْقَوْلِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عِنْدَهُ بِطَرِيقِ الْإِسْنَادِ ، وَهُوَ لَا يَقْتَضِي عَدَمَ ثُبُوتِهِ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِينَ بِطَرِيقِ الْإِسْنَادِ أَوْ بِطَرِيقِ الْإِرْسَالِ ، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي عَامَّةِ كُتُبِ أَصْحَابِنَا بِطَرِيقِ الْإِرْسَالِ ، وَتَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ أَنَّ مُرْسَلَ الصَّحَابِيِّ مَقْبُولٌ بِالْإِجْمَاعِ ، وَمُرْسَلَ الْقَرْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ وَإِنْ لَمْ يُقْبَلْ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِدُونِ أَنْ يَثْبُتَ اتِّصَالُهُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ كَمَرَاسِيلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ إلَّا أَنَّهُ يُقْبَلُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ مَالِكٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، حَتَّى قَالُوا إنَّهُ فَوْقَ الْمُسْنَدِ ، وَمُرْسَلُ مَنْ دُونَ هَؤُلَاءِ يُقْبَلُ عِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِنَا وَيُرَدُّ عِنْدَ الْبَعْضِ ، فَهَذَا الْقَوْلُ الْمُرْسَلُ إلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إنْ كَانَ مِنْ مَرَاسِيلِ الْقَرْنِ الثَّانِي أَوْ الثَّالِثِ فَلَا شَكَّ فِي

كَوْنِهِ مَقْبُولًا عِنْدَنَا ، وَإِنْ كَانَ مِنْ مَرَاسِيلِ مَنْ دُونَ الْقَرْنِ الثَّالِثِ فَهُوَ أَيْضًا مَقْبُولٌ عَلَى الْقَوْلِ الْمُخْتَارِ مِنْ أَصْحَابِنَا .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ قَوْلَهُ فَلَا يُبِيحُ مَا كَانَ حَرَامًا قَبْلَهُ مِنْ كَلَامِ عَائِشَةَ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَقْرِيرَاتُ الثِّقَاتِ فِي عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ ، فَدَلَالَةُ أَثَرِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَلَى الْمُدَّعَى أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يَخْفَى .
ثُمَّ أَقُولُ : وَلَكِنْ بَقِيَ هَاهُنَا شَيْءٌ وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ ذُكِرَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ فِيمَا لَمْ يُعْلَمْ اتِّفَاقُ سَائِرِ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ وَلَا اخْتِلَافُهُمْ فِيهِ إنَّمَا يُوجِبُ التَّقْلِيدَ فِيمَا لَا يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ ؛ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ لَهُ إلَّا السَّمَاعُ أَوْ الْكَذِبُ ، وَالثَّانِي مُنْتَفٍ فَتَعَيَّنَ الْأَوَّلُ لَا فِيمَا يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ بِالرَّأْيِ مِنْهُمْ مَشْهُورٌ وَالْمُجْتَهِدُ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ مِمَّا يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ ، وَلِهَذَا اسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ الَّذِي مَرْجِعُهُ الْقِيَاسُ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ حَيْثُ قَالُوا : وَلِأَنَّهُ فَحْلٌ يُجَامِعُ ، وَلَمْ يُعْلَمْ اتِّفَاقُ سَائِرِ الصَّحَابَةِ عَلَى قَوْلِ عَائِشَةَ الْمَذْكُورِ هُنَا فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يُوجِبَ التَّقْلِيدَ فَكَيْفَ يَتِمُّ الِاسْتِدْلَال بِهِ ( قَوْلُهُ وَكَذَا الْمَجْبُوبُ لِأَنَّهُ يَسْحَقُ وَيُنْزِلُ ) قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ : وَيَسْحَقُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَيُنْزِلُ بِضَمِّهَا : أَيْ يَفْعَلُ الْإِنْزَالَ .
وَلَا حَاجَةَ إلَى تَقْدِيرِ الْمَفْعُولِ كَمَا فَعَلَهُ الْعَيْنِيُّ حَيْثُ قَالَ الْمَنِيَّ بَعْدَ قَوْلِهِ وَيُنْزِلُ انْتَهَى .
أَقُولُ : الصَّوَابُ مَا فَعَلَهُ الْعَيْنِيُّ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعْنَى يُنْزِلُ هُنَا يَفْعَلُ الْإِنْزَالَ كَانَ هَذَا الْفِعْلُ الْمُتَعَدِّي مُنَزَّلًا مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ لِلْقَصْدِ إلَى نَفْسِ الْفِعْلِ كَمَا فِي نَحْوِ قَوْلِك فُلَانٌ يُعْطِي : أَيْ يَفْعَلُ الْإِعْطَاءَ .
وَيُوجَدُ هَذِهِ الْحَقِيقَةُ عَلَى

مَا ذُكِرَ فِي الْمِفْتَاحِ وَغَيْرِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِصَحِيحٍ هُنَا ، إذْ لَا يَثْبُتُ الْمَطْلُوبُ بِمُجَرَّدِ كَوْنِ الْمَجْبُوبِ فَاعِلَ حَقِيقَةِ الْإِنْزَالِ .
فَإِنَّ هَذَا يَتَحَقَّقُ بِإِنْزَالِهِ الْبَوْلَ وَنَحْوِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِعِلَّةٍ لِحُرْمَةِ النَّظَرِ إلَى الْأَجْنَبِيَّةِ لَا مَحَالَةَ ، وَإِنَّمَا الْعِلَّةُ لَهَا شَهْوَةُ الْمَنِيِّ فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ مَفْعُولِ يُنْزِلُ هُنَا بِالْمَنِيِّ حَتَّى يَتِمَّ الْمَطْلُوبُ ( قَوْلُهُ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُؤْخَذُ فِيهِ بِمُحْكَمِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُنَزَّلِ فِيهِ ) أَيْ يُؤْخَذُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا ، كَذَا فِي شَرْحِ تَاجِ الشَّرِيعَةِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : أَيْ فِي الْمُخَنَّثِ الَّذِي فِي أَعْضَائِهِ لِينٌ وَتَكَسُّرٌ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ وَلَا يَشْتَهِي النِّسَاءَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِخْدَامِ انْتَهَى .
أَقُولُ : الْحَقُّ مَا قَالَهُ تَاجُ الشَّرِيعَةِ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنَّهُ يُؤْخَذُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ الْمَارَّةِ : أَعْنِي الْخَصِيَّ وَالْمَجْبُوبَ وَالْمُخَنَّثَ بِمُحْكَمِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى بِلَا رَيْبٍ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ } وَكَذَا قَوْله تَعَالَى { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ } الْآيَةَ ، فَمَا مَعْنَى تَخْصِيصِ ذَلِكَ بِالثَّالِثِ وَحْدِهِ مَعَ إمْكَانِ حَمْلِهِ عَلَى الثَّلَاثَةِ جَمِيعًا ، وَمَقْصُودُ الْمُصَنِّفِ مِنْ كَلَامِهِ هَذَا بَيَانُ دَلِيلٍ آخَرَ أَقْوَى مِمَّا ذَكَرَهُ .
أَوَّلًا جَامِعٍ لِلصُّوَرِ الثَّلَاثِ مَعًا كَمَا تَرَى .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ كَلِمَةَ الْحَاصِلِ تَقْتَضِي فِي الِاسْتِعْمَالِ تَفْصِيلًا سَابِقًا يَكُونُ مَا ذُكِرَ فِي حَيِّزِهَا تَلْخِيصًا لِذَلِكَ التَّفْصِيلِ ، وَهَذَا إنَّمَا يُتَصَوَّرُ هُنَا إذَا كَانَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ هَذَا نَاظِرًا إلَى مَجْمُوعِ الصُّوَرِ الثَّلَاثِ الْمَارَّةِ لَا إلَى الصُّورَةِ الثَّالِثَةِ وَحْدَهَا ، سِيَّمَا لَوْ أُرِيدَ بِالضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ يُؤْخَذُ فِيهِ الْمُخَنَّثُ بِالْمَعْنَى الْغَيْرِ الْمَذْكُورِ فِيمَا

مَرَّ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِخْدَامِ كَمَا زَعَمَهُ ذَلِكَ الْبَعْضُ ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ حِينَئِذٍ لِلْكَلِمَةِ الْحَاصِلِ مِسَاسٌ بِمَا قَبْلَهَا أَصْلًا كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْنَةٍ .

قَالَ ( وَلَا يَجُوزُ لِلْمَمْلُوكِ أَنْ يَنْظُرَ مِنْ سَيِّدَتِهِ إلَّا مَا يَجُوزُ لِلْأَجْنَبِيِّ النَّظَرُ إلَيْهِ مِنْهَا ) .
وَقَالَ مَالِكٌ : هُوَ كَالْمَحْرَمِ ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ مُتَحَقِّقَةٌ لِدُخُولِهِ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ .
وَلَنَا أَنَّهُ فَحْلٌ غَيْرُ مَحْرَمٍ وَلَا زَوْجٍ ، وَالشَّهْوَةُ مُتَحَقِّقَةٌ لِجَوَازِ النِّكَاحِ فِي الْجُمْلَةِ وَالْحَاجَةُ قَاصِرَةٌ ؛ لِأَنَّهُ يَعْمَلُ خَارِجَ الْبَيْتِ .
وَالْمُرَادُ بِالنَّصِّ الْإِمَاءُ ، قَالَ سَعِيدٌ وَالْحَسَنُ وَغَيْرُهُمَا : لَا تَغُرَّنَّكُمْ سُورَةُ النُّورِ فَإِنَّهَا فِي الْإِنَاثِ دُونَ الذُّكُورِ

قَوْلُهُ وَالْمُرَاد بِالنَّصِّ الْإِمَاء قَالَ سَعِيدٌ وَالْحَسَنُ وَغَيْرُهُمَا لَا تَغُرَّنَّكُمْ سُورَةُ النُّورِ فَإِنَّهَا فِي الْإِنَاثِ دُونَ الذُّكُورِ ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ أَطْلَقَ اسْمَ سَعِيدٍ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِالنِّسْبَةِ لِيَصِحَّ تَنَاوُلُهُ لِلسَّعِيدَيْنِ عَلَى مَا رَوَيْنَا مِنْ رِوَايَةِ الْمَبْسُوطِ انْتَهَى .
وَتَبِعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ فِي هَذَا التَّوْجِيهِ .
وَرَدَّهُ صَاحِبُ الْغَايَةِ حَيْثُ قَالَ : أَرَادَ بِهِ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ لِمَا ذَكَرْنَا عَنْ الْكَشَّافِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي شَرْحِهِ : إنَّمَا أَطْلَقَ السَّعِيدَ لِيَتَنَاوَلَ السَّعِيدَيْنِ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ وَسَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ ، وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ لِلْمُشْتَرَكِ عُمُومٌ فِي مَوْضِعِ الْإِثْبَاتِ وَهُوَ فَاسِدٌ انْتَهَى .
أَقُولُ : نَظَرُهُ سَاقِطٌ ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَ هَؤُلَاءِ الشُّرَّاحِ بِالتَّنَاوُلِ فِي قَوْلِهِمْ لِيَتَنَاوَلَ السَّعِيدَيْنِ هُوَ التَّنَاوُلُ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ لَا التَّنَاوُلُ عَلَى سَبِيلِ الشُّمُولِ وَالْعُمُومِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُشْتَرَكَ يَتَنَاوَلُ مَعَانِيَهُ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ ، وَلَقَدْ صَرَّحُوا بِهِ حَتَّى قَالَ الْمُحَقِّقُ التَّفْتَازَانِيُّ فِي التَّلْوِيحِ : وَالْمُشْتَرَكُ مُسْتَغْرِقٌ لِمَعَانِيهِ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ ، وَاَلَّذِي لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا دُونَ الشَّافِعِيِّ إنَّمَا هُوَ عُمُومُ الْمُشْتَرَكِ لِمُعَايَنَةٍ عَلَى سَبِيلِ الشُّمُولِ فِي إطْلَاقِ وَاحِدٍ كَمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ ، وَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ مِنْ عِبَارَةِ هَؤُلَاءِ الشُّرَّاحِ .
وَقَالَ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ بَعْدَ نَقْلِ كَلَامِ هَؤُلَاءِ الشُّرَّاحِ : وَنَظَرَ صَاحِبُ الْغَايَةِ فِيهِ .
قُلْت : نَظَرُهُ وَارِدٌ وَلَكِنَّ تَعْلِيلَهُ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ ، أَمَّا وُرُودُهُ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَعْمِلْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ لَفْظَ سَعِيدٍ مِنْ غَيْرِ نِسْبَةٍ ، وَأَرَادَ بِهِ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ أَوْ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ .
وَأَمَّا أَنَّ تَعْلِيلَهُ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ فَلِأَنَّهُ ادَّعَى فِيهِ لُزُومَ عُمُومِ الْمُشْتَرَكِ ، وَلَا

نُسَلِّمُ ثُبُوتَ الِاشْتِرَاكِ هَاهُنَا ؛ لِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ مَا وُضِعَ لَمَعَانٍ انْتَهَى .
أَقُولُ : كِلَا دَخْلَيْهِ لَيْسَ بِشَيْءٍ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ الْعِلْمَ هُوَ لَفْظُ سَعِيدٍ لَا مَجْمُوعُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، فَعَدَمُ اسْتِعْمَالِ السَّلَفِ لَفْظَ سَعِيدٍ مِنْ غَيْرِ نِسْبَةٍ فِي سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ لَيْسَ لِعَدَمِ صِحَّةِ إطْلَاقِ لَفْظِ سَعِيدٍ وَحْدَهُ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمَا ، وَإِلَّا لَمَا كَانَ عَلَمًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَلْ لِقَصْدِهِمْ زِيَادَةَ إظْهَارِ الْمُرَادِ وَتَعْيِينِهِ ، وَإِذَا كَانَ مَقْصُودُ الْمُصَنِّفِ تَنَاوُلَ لَفْظِ سَعِيدٍ هَاهُنَا لِلسَّعِيدَيْنِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ هَؤُلَاءِ الشُّرَّاحُ لَزِمَهُ تَرْكُ النِّسْبَةِ وَصَحَّ الْإِطْلَاقُ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ لَفْظَ سَعِيدٍ عَلَمٌ مُشْتَرَكٌ ، وَالْأَعْلَامُ الْمُشْتَرَكَةُ مِمَّا تَقَرَّرَ أَمَرَهُ فِي عِلْمِ النَّحْوِ فَكَيْفَ يُمْنَعُ ثُبُوتُ الِاشْتِرَاكِ هَاهُنَا .
وَقَوْلُهُ لِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ مَا وُضِعَ لَمَعَانٍ لَا يُجْدِي شَيْئًا ، لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِالْمَعَانِي مَا يُسْتَفَادُ مِنْ اللَّفْظِ فَهُوَ مُتَحَقِّقٌ فِي الْعَلَمِ الْمُشْتَرَكِ أَيْضًا بِلَا رَيْبٍ .
وَإِنْ أَرَادَ بِهَا الصُّوَرَ الْعَقْلِيَّةَ الْمُقَابِلَةَ لِلْأَعْيَانِ الْخَارِجِيَّةَ فَلَيْسَتْ تِلْكَ بِمُعْتَبَرَةٍ فِي مَعْنَى الْمُشْتَرَكِ ، فَإِنَّ الْمُشْتَرَكَ مَا وُضِعَ لِمُتَعَدِّدٍ بِوَضْعِ مُتَعَدِّدٍ : أَيِّ شَيْءٍ كَانَ ذَلِكَ الْمُتَعَدِّدُ الْمَوْضُوعُ لَهُ ، وَالْأَمْرُ فِي الْعَلَمِ الْمُشْتَرَكِ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ مُسَمَّيَاتِهِ بِوَضْعٍ وَاحِدٍ بَلْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَضْعٌ مُسْتَقِلٌّ كَمَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ .
ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ عَلَّلَ كَوْنَ الْمُرَادِ بِالنَّصِّ الْإِمَاءَ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ : وَلِأَنَّ الذُّكُورَ مُخَاطَبُونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ } فَلَوْ دَخَلُوا فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ }

لَزِمَ التَّعَارُضُ انْتَهَى .
أَقُولُ : لَيْسَ ذَاكَ بِصَحِيحٍ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ يُنْتَقَضُ بِخِطَابِ الْإِنَاثِ أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ } فَإِنَّ مُقْتَضَى مَا ذَكَرَهُ أَنْ لَا تَدْخُلَ الْإِمَاءُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } بِنَاءً عَلَى لُزُومِ التَّعَارُضِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْله تَعَالَى { وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ } مَعَ أَنَّ دُخُولَ الْإِمَاءِ فِيهِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ اللَّازِمَ مِنْ كَوْنِ الذُّكُورِ مِنْ الْمَمَالِيكِ مُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ } دُخُولُهُمْ فِي جَانِبِ الْغَاضِّينَ مِنْ أَبْصَارِهِمْ لَا فِي جَانِبِ مَنْ يَجِبُ غَضُّ الْبَصَرِ عَنْهُ وَهُوَ الَّذِي مُنِعَ النَّظَرُ إلَيْهِ ، فَإِنَّ كَلِمَةَ مِنْ فِي قَوْله تَعَالَى مِنْ أَبْصَارِهِمْ لِلتَّبْعِيضِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُفَسِّرُونَ ، فَكَأَنَّ الْمَعْنَى يَغُضُّوا بَعْضًا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَهُوَ غَيْرُ مُعَيَّنٍ فَكَانَتْ تِلْكَ الْآيَةُ مُجْمَلَةً فِي حَقِّ مَنْ مُنِعَ النَّظَرُ إلَيْهِ ، فَلَوْ دَخَلَ الذُّكُورُ مِنْ الْمَمَالِيكِ فِي قَوْله تَعَالَى { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } لَمْ يَلْزَمْ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ أَصْلًا ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ إحْدَى الْآيَتَيْنِ مُبَيِّنَةً لِمَا فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى مِنْ الْإِجْمَالِ ، وَهُوَ مَعْنًى صَحِيحٌ حَسَنٌ مُقَرَّرٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ ، فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ لَا يَدْخُلَ فِيهِ ذُكُورُ الْمَمَالِيكِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا ، وَكَذَا نَظَائِرُهُ مِنْ قَوْله تَعَالَى { إلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ } إلَى آخِرِ الْآيَةِ كُلِّهَا مُبَيِّنَةً لِلْإِجْمَالِ الْوَاقِعِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ دَقَّقَ النَّظَرَ وَحَقَّقَ .

قَالَ ( وَيَعْزِلُ عَنْ أَمَتِهِ بِغَيْرِ إذْنِهَا وَلَا يَعْزِلُ عَنْ زَوْجَتِهِ إلَّا بِإِذْنِهَا ) { ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ الْعَزْلِ عَنْ الْحُرَّةِ إلَّا بِإِذْنِهَا ، وَقَالَ لِمَوْلَى أَمَةٍ : اعْزِلْ عَنْهَا إنْ شِئْت } ، وَلِأَنَّ الْوَطْءَ حَقُّ الْحُرَّةِ قَضَاءً لِلشَّهْوَةِ وَتَحْصِيلًا لِلْوَلَدِ وَلِهَذَا تُخَيِّرُ فِي الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ ، وَلَا حَقَّ لِلْأَمَةِ فِي الْوَطْءِ فَلِهَذَا لَا يُنْقَصُ حَقُّ الْحُرَّةِ بِغَيْرِ إذْنِهَا وَيَسْتَبِدُّ بِهِ الْمَوْلَى وَلَوْ كَانَ تَحْتَهُ أَمَةَ غَيْرِهِ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي النِّكَاحِ .

( قَوْلُهُ وَلَوْ كَانَ تَحْتَهُ أَمَةُ غَيْرِهِ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي النِّكَاحِ ) يَعْنِي قَوْلَهُ وَإِذَا تَزَوَّجَ أَمَةً فَالْإِذْنُ فِي الْعَزْلِ إلَى الْمَوْلَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ الْإِذْنَ إلَيْهَا .
قَالَ فِي الْبَدَائِعِ ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ لَهَا حَقًّا فِي قَضَاءِ الشَّهْوَةِ وَالْعَزْلُ يُوجِبُ النَّقْصَ فِيهِ ، وَلَا يَجُوزُ الْبَخْسُ بِحَقِّ الْإِنْسَانِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ .
وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْكَرَاهِيَةَ فِي الْحُرَّةِ لِمَكَانِ خَوْفِ فَوْتِ الْوَلَدِ الَّذِي لَهَا فِيهِ حَقٌّ .
وَالْحَقُّ هَاهُنَا فِي الْوَلَدِ لِلْمَوْلَى دُونَ الْأَمَةِ ، وَقَوْلُهُمَا فِيهِ نُقْصَانُ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ .
قُلْنَا : نَعَمْ لَكِنَّ حَقَّهَا فِي أَصْلِ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ لَا فِي وَصْفِ الْكَمَالِ ؛ أَلَا يُرَى أَنَّ مِنْ الرِّجَالِ مَنْ لَا مَاءَ لَهُ وَهُوَ يُجَامِعُ امْرَأَتَهُ مِنْ غَيْرِ إنْزَالٍ وَلَا يَكُونُ لَهَا حَقُّ الْخُصُومَةِ ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ حَقَّهَا فِي أَصْلِ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ لَا فِي وَصْفِ الْكَمَالِ انْتَهَى .
وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ حَيْثُ قَالَ : أَقُولُ : إنَّمَا لَمْ يَكُنْ لَهَا حَقُّ الْخُصُومَةِ لِعَدَمِ صُنْعِ الزَّوْجِ فِيهِ ، بِخِلَافِ الْعَزْلِ فَإِنَّهُ بِصُنْعِهِ وَلِهَذَا يَحْتَاجُ إلَى رِضَاهَا ، فِي الْعَزْلِ لَا فِيهِ انْتَهَى .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ عَدَمَ صُنْعِ الزَّوْجِ فِيهِ لَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا حَقُّ الْخُصُومَةِ ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ حَقَّهَا لَا يَسْقُطُ بِمُجَرَّدِ عَدَمِ صُنْعِ الزَّوْجِ فِيمَا يُبْطِلُ حَقَّهَا ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ لِلزَّوْجَةِ حَقَّ الْخُصُومَةِ فِي الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ لَمْ يَكُونَا بِصُنْعِ الزَّوْجِ ، فَتَعَيَّنَّ أَنَّ الْوَجْهَ فِي أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا حَقُّ الْخُصُومَةِ فِيمَنْ لَا مَاءَ لَهُ وَهُوَ يُجَامِعُهَا مِنْ غَيْرِ إنْزَالٍ كَوْنُ حَقِّهَا فِي أَصْلِ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ لَا فِي وَصْفِ الْكَمَالِ ، فَكَذَا فِي الْعَزْلِ تَدَبَّرْ .

فَصْلٌ فِي الِاسْتِبْرَاءِ وَغَيْرِهِ قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَإِنَّهُ لَا يَقْرَبُهَا وَلَا يَلْمِسُهَا وَلَا يُقَبِّلُهَا وَلَا يَنْظُرُ إلَى فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا ) وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي سَبَايَا أَوْطَاسٍ { أَلَا لَا تُوطَأُ الْحَبَالَى حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ، وَلَا الْحَيَالَى حَتَّى يُسْتَبْرَأْنَ بِحَيْضَةٍ } أَفَادَ وُجُوبَ الِاسْتِبْرَاءِ عَلَى الْمَوْلَى ، وَدَلَّ عَلَى السَّبَبِ فِي الْمَسْبِيَّةِ وَهُوَ اسْتِحْدَاثُ الْمِلْكِ وَالْيَدِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَوْجُودُ فِي مَوْرِدِ النَّصِّ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحِكْمَةَ فِيهِ التَّعَرُّفُ عَنْ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ صِيَانَةً لِلْمِيَاهِ الْمُحْتَرَمَةِ عَنْ الِاخْتِلَاطِ وَالْأَنْسَابِ عَنْ الِاشْتِبَاهِ ، وَذَلِكَ عِنْدَ حَقِيقَةِ الشُّغْلِ أَوْ تَوَهُّمِ الشُّغْلِ بِمَاءٍ مُحْتَرَمٍ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ ثَابِتَ النَّسَبِ ، وَيَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي لَا عَلَى الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ الْحَقِيقِيَّةَ إرَادَةُ الْوَطْءِ ، وَالْمُشْتَرِي هُوَ الَّذِي يُرِيدُهُ دُونَ الْبَائِعِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ ، غَيْرَ أَنَّ الْإِرَادَةَ أَمْرٌ مُبْطَنٌ فَيُدَارُ الْحُكْمُ عَلَى دَلِيلِهَا ، وَهُوَ التَّمَكُّنُ مِنْ الْوَطْءِ وَالتَّمَكُّنُ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْمِلْكِ وَالْيَدِ فَانْتَصَبَ سَبَبًا وَأُدِيرَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ تَيْسِيرًا ، فَكَانَ السَّبَبُ اسْتِحْدَاثَ مِلْكِ الرَّقَبَةِ الْمُؤَكَّدِ بِالْيَدِ وَتَعَدِّي الْحُكْمِ إلَى سَائِرِ أَسْبَابِ الْمِلْكِ كَالشِّرَاءِ وَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ وَالْخُلْعِ وَالْكِتَابَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ

فَصْلٌ فِي الِاسْتِبْرَاءِ وَغَيْرِهِ ) قَالَ الشُّرَّاحُ : أَخَّرَ الِاسْتِبْرَاءَ ؛ لِأَنَّهُ احْتِرَازٌ عَنْ وَطْءٍ مُقَيَّدٍ ، وَالْمُقَيَّدُ بَعْدَ الْمُطْلَقِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : فَإِنْ قُلْتَ : أَيْنَ الِاحْتِرَازُ عَنْ الْوَطْءِ الْمُطْلَقِ فِيمَا سَبَقَ ؟ قُلْتُ : فُهِمَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ أَوْ الْإِشَارَةِ ، فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ اللَّمْسَ ، فَالنَّهْيُ عَنْ الْمَسِّ نَهْيٌ عَنْهُ فَلِهَذَا عَنْوَنَهُ بِالْوَطْءِ فَتَأَمَّلْ انْتَهَى .
أَقُولُ : لَا السُّؤَالُ بِشَيْءٍ وَلَا الْجَوَابُ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُمْ مَا قَالُوا : لِأَنَّ الِاحْتِرَازَ عَنْ الْوَطْءِ الْمُقَيَّدِ بَعْدَ الِاحْتِرَازِ عَنْ الْوَطْءِ الْمُطْلَقِ حَتَّى يَتَوَجَّهَ السُّؤَالُ بِأَيْنَ الِاحْتِرَازُ عَنْ الْوَطْءِ الْمُطْلَقِ فِيمَا سَبَقَ ، بَلْ مُرَادُهُمْ أَنَّ الْوَطْءَ الْمُقَيَّدَ نَفْسَهُ بَعْدَ الْوَطْءِ الْمُطْلَقِ نَفْسِهِ ، فَأَخَّرَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْوَطْءِ الْمُقَيَّدِ ، وَهُوَ الِاسْتِبْرَاءُ عَمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْوَطْءِ الْمُطْلَقِ ، وَكَيْفَ يُتَوَهَّمُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُمْ أَنَّ الِاحْتِرَازَ عَنْ الْوَطْءِ الْمُقَيَّدِ بَعْدَ الِاحْتِرَازِ عَنْ الْوَطْءِ الْمُطْلَقِ ، وَانْتِفَاءُ الْمُقَيَّدِ لَا يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءَ الْمُطْلَقِ كَمَا لَا يَخْفَى فَأَنَّى يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ الِاحْتِرَازُ عَنْ الْوَطْءِ الْمُقَيَّدِ بَعْدَ الِاحْتِرَازِ عَنْ الْوَطْءِ الْمُطْلَقِ .
وَأَمَّا تَحَقُّقُ الْمُقَيَّدِ فَيَسْتَلْزِمُ تَحَقُّقَ الْمُطْلَقِ فِي ضِمْنِهِ فَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ : الْوَطْءُ الْمُقَيَّدُ بَعْدَ الْوَطْءِ الْمُطْلَقِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَكَّبَ بَعْدَ الْمُفْرَدِ كَمَا صُرِّحَ بِهِ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ مَبْنَاهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ الِاحْتِرَازَ عَنْ الْمُقَيَّدِ بَعْدَ الِاحْتِرَازِ عَنْ الْمُطْلَقِ وَقَدْ عَرَفْت مَا فِيهِ ، وَأَيْضًا لَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ فَلِهَذَا عَنْوَنَهُ بِالْوَطْءِ ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْمَسِّ إذَا كَانَ نَهْيًا عَنْ الْوَطْءِ كَانَ الْعُنْوَانُ بِالْمَسِّ عُنْوَانًا بِالْوَطْءِ أَيْضًا ، فَكَانَ يَنْبَغِي

أَنْ لَا يُعَنْوِنَ الْفَصْلَ السَّابِقَ بِالْوَطْءِ اسْتِقْلَالًا ، كَمَا لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ النَّهْيَ عَنْ الْوَطْءِ اسْتِقْلَالًا .
ثُمَّ أَقُولُ : الظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُمْ بِالْوَطْءِ الْمُطْلَقِ الْمَذْكُورِ فِيمَا تَقَدَّمَ مَا فِي مَسْأَلَةِ الْعَزْلِ الْمَذْكُورَةِ قُبَيْلَ فَصْلِ الِاسْتِبْرَاءِ ، فَإِنَّ الْعَزْلَ أَنْ يَطَأَ الرَّجُلُ فَإِذَا قَرُبَ الْإِنْزَالُ أَخْرَجَ فَيُنْزِلُ خَارِجَ الْفَرْجِ ، وَأَنَّ مُرَادَهُمْ بِالْوَطْءِ الْمُقَيَّدِ هَاهُنَا مَا قُيِّدَ بِزَمَانٍ ، فَإِنَّ الْوَطْءَ فِي الِاسْتِبْرَاءِ مُقَيَّدٌ بِالزَّمَانِ كَمَا سَتَعْرِفُهُ وَفِي الْعَزْلِ مُطْلَقٌ عَنْهُ ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَطْءِ الْمَذْكُورِ فِي عُنْوَانِ الْفَصْلِ السَّابِقِ أَيْضًا مَا فِي ضِمْنِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ كَمَا نَبَّهْت عَلَيْهِ فِي صَدْرِ ذَلِكَ الْفَصْلِ ( قَوْلُهُ وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَإِنَّهُ لَا يَقْرَبُهَا وَلَا يَلْمِسُهَا وَلَا يُقَبِّلُهَا وَلَا يَنْظُرُ إلَى فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا ) أَقُولُ : فِي إطْلَاقِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَظَرٌ ، فَإِنَّ مَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً كَانَتْ تَحْتَ نِكَاحِهِ أَوْ كَانَتْ تَحْتَ نِكَاحِ غَيْرِهِ وَلَكِنْ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا بَعْدَ أَنْ اشْتَرَاهَا وَقَبَضَهَا أَوْ كَانَتْ مُعْتَدَّةَ الْغَيْرِ فَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بَعْدَ أَنْ اشْتَرَاهَا وَقَبَضَهَا لَمْ يَلْزَمْهُ الِاسْتِبْرَاءُ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الصُّوَرِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ ، وَسَيَظْهَرُ مِمَّا ذَكَرُوا فِي حِيلَةِ الِاسْتِبْرَاءِ مَعَ أَنَّ كُلًّا مِنْ هَاتَيْكِ الصُّوَرِ دَاخِلَةٌ فِي إطْلَاقِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَمَا تَرَى .
فَكَانَ الْمُنَاسِبُ تَقْيِيدَهَا بِمَا يُخْرِجُ تِلْكَ الصُّوَرَ ( قَوْلُهُ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَوْجُودُ فِي مَوْرِدِ النَّصِّ ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : فِي الْحَصْرِ كَلَامٌ ، فَإِنَّ السَّبْيَ مِنْ جُمْلَةِ مَا وُجِدَ فِي مَوْرِدِ النَّصِّ وَهُوَ يَصْلُحُ لِلسَّبَبِيَّةِ .
فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُمَلَّكَ فِي صُورَةِ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْخُلْعِ وَالْكِتَابَةِ يُسْتَبْرَأُ صِيَانَةً لِمَائِهِ ثُمَّ يُبَاشِرُ السَّبَبَ فَلَا حَاجَةَ إلَى اسْتِبْرَاءَ الْمُمَلَّكِ

حِينَئِذٍ انْتَهَى .
أَقُولُ : كَلَامُهُ سَاقِطٌ ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ حَصْرُ مَا يَصْلُحُ لِلسَّبَبِيَّةِ فِي مَوْرِدِ النَّصِّ فِي اسْتِحْدَاثِ الْمِلْكِ وَالْيَدِ ، فَالْمَعْنَى ؛ لِأَنَّهُ أَيْ اسْتِحْدَاثُ الْمِلْكِ وَالْيَدِ هُوَ الْمَوْجُودُ الصَّالِحُ لِلسَّبَبِيَّةِ فِي مَوْرِدِ النَّصِّ وَقَوْلُ ذَلِكَ الْقَائِلِ وَهُوَ يَصْلُحُ لِلسَّبَبِيَّةِ مَمْنُوعٌ ، فَإِنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْحِكْمَةِ فِيهِ وَالْعِلَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ إنَّمَا تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ فِيهِ هُوَ اسْتِحْدَاثُ الْمِلْكِ وَالْيَدِ مِنْ غَيْرِ مَدْخَلٍ فِيهِ لِلسَّبْيِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ تَأَمَّلَ فِي تَقْرِيرِ الْمُصَنِّفِ فِي بَيَانِ الْحِكْمَةِ فِيهِ وَبَيَانِ عِلَّتِهِ الْحَقِيقِيَّةِ ، وَمَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَيْهَا ، عَلَى أَنَّ تَاجَ الشَّرِيعَةِ قَدْ تَكَفَّلَ بِبَيَانِ عَدَمِ مَدْخَلِيَّةِ السَّبْيِ فِي السَّبَبِيَّةِ بِأَوْضَحِ وَجْهٍ حَيْثُ قَالَ لَا يُقَالُ الْمُوجِبُ كَوْنُهَا مَسْبِيَّةً لِأَنَّ كَوْنَهَا مَسْبِيَّةٍ إضَافَةٌ وَالْإِضَافَاتُ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي الْعِلَّةِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اُعْتُبِرَ ذَلِكَ انْسَدَّ بَابُ الْقِيَاسِ وَأَنَّهُ مَفْتُوحٌ بِالنُّصُوصِ ، فَلَمْ يَبْقَ هَاهُنَا إلَّا كَوْنُهَا مَمْلُوكَةٍ رَقَبَةً وَيَدًا وَهُوَ الْمُؤْثَرُ كَمَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ انْتَهَى .
ثُمَّ إنَّ قَوْلَ ذَلِكَ الْقَائِلِ فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُمَلَّكَ فِي صُورَةِ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْخُلْعِ وَالْكِتَابَةِ يَسْتَبْرِئُ صِيَانَةً لِمَائِهِ ثُمَّ يُبَاشِرُ السَّبَبَ فَلَا حَاجَةَ إلَى اسْتِبْرَاءِ الْمُمَلَّكِ حِينَئِذٍ مَمْنُوعٌ أَيْضًا ، فَإِنَّ عِلَّةَ الِاسْتِبْرَاءِ هِيَ إرَادَةُ الْوَطْءِ وَالْمُشْتَرِي هُوَ الَّذِي يُرِيدُهُ دُونَ الْبَائِعِ ، وَلِهَذَا يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ عَلَى الْمُشْتَرِي لَا عَلَى الْبَائِعِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ .
فَمِنْ أَيْنَ كَانَ اسْتِبْرَاءُ الْمُمَلَّكِ قَبْلَ مُبَاشَرَتِهِ السَّبَبَ ظَاهِرًا .
وَلَئِنْ سَلِمَ كَوْنُهُ ظَاهِرًا بِالنَّظَرِ إلَى مَا هُوَ اللَّائِقُ بِحَالِ الْمُسْلِمِ مِنْ صِيَانَةِ مَائِهِ ، فَذَلِكَ لَا يُنَافِي وُجُوبَ الِاسْتِبْرَاءِ عَلَى

الْمُمَلَّكِ .
بِنَاءً عَلَى تَوَهُّمِ شَغْلِ الرَّحِمِ بِمَاءٍ مُحْتَرَمٍ فَإِنَّ مُجَرَّدَ تَوَهُّمِهِ كَافٍ فِي وُجُوبِهِ كَمَا سَيَظْهَرُ مِنْ الْبَيَانِ الْآتِي فِي الْكِتَابِ ( قَوْلُهُ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْحِكْمَةَ فِيهِ التَّعَرُّفُ عَنْ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ صِيَانَةً لِلْمِيَاهِ الْمُحْتَرَمَةِ عَنْ الِاخْتِلَاطِ وَالْأَنْسَابِ عَنْ الِاشْتِبَاهِ ) أَوْرَدَ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْإِصْلَاحِ وَالْإِيضَاحِ حَيْثُ قَالَ يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ انْعِلَاقَ الْوَلَدِ الْوَاحِدِ مِنْ مَاءَيْنِ لِعَدَمِ إمْكَانِ الِاخْتِلَاطِ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا مَرَّ فِي بَابِ التَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ فَكَيْفَ بَنَوْا هَاهُنَا حِكْمَةَ الِاسْتِبْرَاءِ عَلَى جَوَازِهِ انْتَهَى ؟ أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ إذْ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالِاخْتِلَاطِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِمْ صِيَانَةً لِلْمِيَاهِ الْمُحْتَرَمَةِ عَنْ الِاخْتِلَاطِ الْحَقِيقِيِّ ، بَلْ الْمُرَادُ بِهِ هُوَ الِاخْتِلَاطُ الْحُكْمِيُّ وَهُوَ أَنْ لَا يَتَبَيَّنَ أَنَّ الْوَلَدَ مِنْ أَيِّ مَاءٍ انْعَلَقَ يُرْشِدُ إلَيْهِ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَالْأَنْسَابِ عَنْ الِاشْتِبَاهِ ، وَيُفْصِحُ عَنْهُ قَوْلُ صَاحِبِ الْكَافِي فِي تَعْلِيلِ الِاخْتِلَاطِ إذْ لَوْ وَطِئَهَا قَبْلَ أَنْ يَتَعَرَّفَ بَرَاءَةَ رَحِمِهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَلَا يَدْرِي أَنَّهُ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ انْتَهَى .
وَاَلَّذِي يُنْكِرُونَهُ إنَّمَا هُوَ اخْتِلَاطُ الْمَاءَيْنِ اخْتِلَاطًا حَقِيقِيًّا ، فَلَا تَدَافُعَ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ فِي الْمَقَامَيْنِ ( قَوْلُهُ وَذَلِكَ عِنْدَ حَقِيقَةِ الشَّغْلِ أَوْ تَوَهُّمِ الشَّغْلِ بِمَاءٍ مُحْتَرَمٍ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ ثَابِتَ النَّسَبِ ) لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ فِي مَرْجِعِ ضَمِيرِ هُوَ فِي قَوْلِهِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ ثَابِتَ النَّسَبِ نَوْعُ اشْتِبَاهٍ ، وَعَنْ هَذَا قَدْ افْتَرَقَتْ آرَاءُ النَّاظِرِينَ فِيهِ فَقَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ : قَوْلُهُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ ثَابِتَ النَّسَبِ : أَيْ الْمُرَادُ مِنْ تَوَهُّمِ الشَّغْلِ بِمَاءٍ مُحْتَرَمٍ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ بِحَيْثُ يُمْكِنُ إثْبَاتُ نَسَبِهِ مِنْ غَيْرِهِ

انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ خَلَلٌ ، فَإِنَّ تَفْسِيرَهُ الْمَذْكُورَ يُشْعِرُ بِإِرْجَاعِهِ ضَمِيرَ هُوَ إلَى تَوَهُّمِ الشَّغْلِ بِمَاءٍ مُحْتَرَمٍ ، وَلَيْسَ بِسَدِيدٍ ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ فِي حَقِيقَةِ الشَّغْلِ بِمَاءٍ مُحْتَرَمٍ أَيْضًا كَذَلِكَ فَلَا وَجْهَ لِلتَّخْصِيصِ بِتَوَهُّمِ الشَّغْلِ ، عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ مَا يُصَحِّحُ حَمْلَ قَوْلِهِ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ ثَابِتَ النَّسَبِ بِالْمُوَاطَأَةِ عَلَى ضَمِيرِ هُوَ الرَّاجِعِ إلَى تَوَهُّمِ الشَّغْلِ عَلَى مُقْتَضَى تَقْرِيرِهِ ، وَلَا يَتِمُّ الْمَعْنَى بِدُونِ ذَلِكَ ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ تَوَهُّمَ الشَّغْلِ بِمَاءٍ مُحْتَرَمٍ لَيْسَ نَفْسُ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ ثَابِتَ النَّسَبِ حَتَّى يَصِحَّ حَمْلُهُ عَلَيْهِ بِالْمُوَاطَأَةِ تَأَمَّلْ .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : قَوْلُهُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ ثَابِتَ النَّسَبِ : أَيْ الِاسْتِبْرَاءُ لَأَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ ثَابِتَ النَّسَبِ ، وَحَذْفُ الْجَارِّ مَعَ أَنَّ وَأَنْ قِيَاسٌ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ أَيْضًا خَلَلٌ ، فَإِنَّ الِاسْتِبْرَاءَ مَعَ كَوْنِهِ بَعِيدًا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى عَنْ أَنْ يَكُونَ مَرْجِعًا لِضَمِيرِ هُوَ هَاهُنَا لَيْسَ هُوَ لَأَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ ثَابِتَ النَّسَبِ بَلْ لِإِرَادَةِ الْوَطْءِ نَظَرًا إلَى عِلَّتِهِ وَلِتَعَرُّفِ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ نَظَرًا إلَى حِكْمَتِهِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ عِبَارَةُ الْكِتَابِ فِيمَا قَبْلُ وَمَا بَعْدُ ، كَيْفَ وَلَوْ لَمْ يَدَّعِ الْمُشْتَرِي نَسَبَ الْوَلَدِ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الْمُشْتَرَاةُ بَعْدَ أَنْ اسْتَبْرَأَهَا لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُ ذَلِكَ الْوَلَدِ مِنْهُ لِكَوْنِ فِرَاشِ الْأَمَةِ ضَعِيفًا عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَحَلِّهِ ، فَمَا مَعْنَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ لَأَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ ثَابِتَ النَّسَبِ فَتَأَمَّلْ .
وَأَقُولُ : فِي حِلِّ الْمَقَامِ : إنَّ ضَمِيرَ هُوَ هَاهُنَا رَاجِعٌ إلَى مَاءٍ مُحْتَرَمٍ مَذْكُورٍ قُبَيْلَهُ .
فَالْمَعْنَى ، وَهُوَ أَيْ الْمَاءُ الْمُحْتَرَمُ بِأَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ ثَابِتَ النَّسَبِ عَلَى حَذْفِ الْجَارِ مِنْ كَلِمَةِ إنْ كَمَا هُوَ الْقِيَاسُ عَلَى مَا عُرِفَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ ، وَكَوْنُ

الْوَلَدِ ثَابِتَ النَّسَبِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِأَنْ تَكُونَ الْأَمَةُ مِنْ قَبْلُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ نِكَاحًا أَوْ يَمِينًا فَتَدَبَّرْ .
قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ : وَإِنَّمَا قَيَّدَهُ بِمَاءٍ مُحْتَرَمٍ وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ فِي غَيْرِ الْمُحْتَرَمِ كَذَلِكَ ، فَإِنَّ الْجَارِيَةَ إذَا كَانَتْ حَامِلًا مِنْ الزِّنَا لَا يَحِلُّ وَطْؤُهَا ؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَ الْكَلَامَ مَخْرَجَ أَوْضَاعِ الشَّرْعِ ؛ لِأَنَّ وَضْعَ الشَّرْعِ أَنْ لَا يَكُونَ إلَّا فِي الْحَلَالِ انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي خُلَاصَةِ هَذَا التَّوْجِيهِ حَيْثُ قَالَ فِي بَيَانِ مَاءٍ مُحْتَرَمٍ : بِأَنْ لَا يَكُونَ مِنْ بَغْيٍ ، وَقَالَ : وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ فِي غَيْرِ الْمُحْتَرَمِ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْجَارِيَةَ الْحَامِلَ مِنْ الزِّنَا لَا يَحِلُّ وَطْؤُهَا حَمْلًا لِلْحَالِ عَلَى الصَّلَاحِ انْتَهَى .
وَسَلَكَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي تَوْجِيهِ التَّقْيِيدِ بِمَاءٍ مُحْتَرَمٍ مَسْلَكًا آخَرَ ، وَقَصَدَ رَدَّ التَّوْجِيهِ الْأَوَّلِ حَيْثُ قَالَ : وَلَا يَكُونُ مِنْ بَغْيٍ لِمَا سَبَقَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ أَنَّ نِكَاحَ الْمُزَنِيَّةِ وَوَطْأَهَا جَائِزٌ بِلَا اسْتِبْرَاءٍ ، فَإِذَا جَازَ وَطْؤُهَا بِلَا اسْتِبْرَاءٍ مَعَ تَحَقُّقِ الزِّنَا فَجَوَازُهُ مَعَ احْتِمَالِهِ أَوْلَى ، وَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ النَّقْضُ بِالْجَارِيَةِ الْحَامِلِ مِنْ الزِّنَا ، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ وَطْؤُهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ شَغْلٌ مُحَقَّقٌ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ حِلِّ وَطْئِهَا لِذَلِكَ عَدَمُ حِلِّهِ لِشَغْلٍ مُحْتَمَلٍ ، عَلَى أَنَّ عَدَمَ جَوَازِ وَطْئِهَا لَيْسَ لِاحْتِرَامِ الْمَاءِ بَلْ لِئَلَّا يَسْقِيَ مَاؤُهُ زَرْعَ غَيْرِهِ كَمَا مَرَّ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
أَقُولُ : فِيهِ خَلَلٌ مِنْ وُجُوهٍ : الْأَوَّلُ أَنَّ قَوْلَهُ لِمَا سَبَقَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ أَنَّ نِكَاحَ الْمُزَنِيَّةِ وَوَطْأَهَا جَائِزٌ بِلَا اسْتِبْرَاءٍ لَيْسَ بِتَعْلِيلٍ صَحِيحٍ لِلْمُدَّعَى هَاهُنَا ؛ لِأَنَّ جَوَازَ نِكَاحِ الْمُزَنِيَّةِ وَجَوَازَ وَطْئِهَا لِلزَّوْجِ بِلَا اسْتِبْرَاءٍ لَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ وَطْءِ

الْجَارِيَةِ الْمُزَنِيَّةِ لِلْمُتَمَلِّكِ بِلَا اسْتِبْرَاءٍ .
كَيْفَ وَاَلَّذِي سَبَقَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ هُوَ أَنَّهُ إذَا رَأَى امْرَأَةً تَزْنِي فَتَزَوَّجَهَا حَلَّ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا أُحِبُّ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا مَا لَمْ يَسْتَبْرِئْهَا ؛ لِأَنَّهُ احْتَمَلَ الشَّغْلُ بِمَاءِ الْغَيْرِ فَوَجَبَ التَّنَزُّهُ كَمَا فِي الشِّرَاءِ .
وَلَهُمَا أَنَّ الْحُكْمَ بِجَوَازِ النِّكَاحِ أَمَارَةُ الْفَرَاغِ فَلَا يُؤْمَرُ بِالِاسْتِبْرَاءِ ، بِخِلَافِ الشِّرَاءِ ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ مَعَ الشَّغْلِ .
فَقَدْ تَلَخَّصَ مِنْهُ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ فِي الشِّرَاءِ مُطْلَقًا ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الِاسْتِبْرَاءِ فِي نِكَاحِ الْمُزَنِيَّةِ ، وَالْكَلَامُ هَاهُنَا فِي الشِّرَاءِ وَنَحْوِهِ مِنْ التَّمَلُّكَاتِ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ أَصْلًا .
وَالثَّانِي أَنَّ قَوْلَهُ فَإِذَا جَازَ وَطْؤُهَا بِلَا اسْتِبْرَاءٍ صَحَّ مَعَ تَحَقُّقِ الزِّنَا فَجَوَازُهُ مَعَ احْتِمَالِهِ أَوْلَى لَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ احْتِمَالِ الزِّنَا لَوْ كَانَ مُجَوِّزًا لِلْوَطْءِ بِلَا اسْتِبْرَاءٍ لَارْتَفَعَ وُجُوبُ الِاسْتِبْرَاءِ فِي بَابِ تَمَلُّكِ الْجَارِيَةِ بِالْكُلِّيَّةِ ، إذْ احْتِمَالُ الزِّنَا غَيْرُ مُنْتَفٍ فِي كُلِّ جَارِيَةٍ مَمْلُوكَةٍ ، وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ أَنَّهُ إذَا جَازَ وَطْؤُهَا بِلَا اسْتِبْرَاءٍ فِي صُورَةِ النِّكَاحِ مَعَ تَحَقُّقِ الزِّنَا فَجَوَازُهُ مَعَ احْتِمَالِهِ أَوْلَى فِي تِلْكَ الصُّورَةِ لَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ كَمَا لَا يَخْفَى .
وَالثَّالِثُ أَنَّ قَوْلَهُ فِي دَفْعِ النَّقْضِ بِالْجَارِيَةِ الْحَامِلِ مِنْ الزِّنَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لِشَغْلٍ مُحَقَّقٍ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ حِلِّ وَطْئِهَا لِذَلِكَ عَدَمُ حِلِّهِ لِشَغْلٍ مُحْتَمَلٍ .
إنَّمَا يَتِمُّ أَنْ لَوْ كَانَ الِاحْتِرَامُ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ بِمَاءٍ مُحْتَرَمٍ قَيْدًا لِتَوَهُّمِ الشَّغْلِ فَقَطْ لَا لِمَجْمُوعِ حَقِيقَةِ الشَّغْلِ وَتَوَهُّمِ الشَّغْلِ مَعًا .
وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنْ يَكُونَ قَيْدًا لِلْمَجْمُوعِ .
وَقَدْ

أَفْصَحَ عَنْهُ ذَلِكَ الْبَعْضُ مِنْ قَبْلُ حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ ثَابِتَ النَّسَبِ : وَهُوَ أَيْ احْتِرَامُ الْمَاءِ سَوَاءٌ اشْتَغَلَ بِهِ الرَّحِمُ حَقِيقَةً أَوْ تَوَهُّمًا أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ الْحَاصِلُ مِنْهُ ثَابِتَ النَّسَبِ انْتَهَى .
فَإِذَا كَانَ قَيْدًا لِلْمَجْمُوعِ يَرِدُ النَّقْضُ بِالْجَارِيَةِ الْحَامِلِ مِنْ الزِّنَا فَإِنَّ رَحِمَهَا مُشْتَغِلٌ حَقِيقَةً بِمَاءٍ غَيْرِ مُحْتَرَمٍ مَعَ وُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ فِيهَا أَيْضًا .
وَالرَّابِعُ أَنَّ قَوْلَهُ عَلَى أَنَّ عَدَمَ جَوَازِ وَطْئِهَا لَيْسَ لِاحْتِرَامِ الْمَاءِ بَلْ لِئَلَّا يَسْقِيَ مَاؤُهُ زَرْعَ غَيْرِهِ كَمَا مَرَّ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ مِمَّا لَا حَاصِلَ لَهُ هَاهُنَا ، فَإِنَّ مَدَارَ النَّقْضِ الْمَذْكُورِ عَلَى عَدَمِ احْتِرَامِ الْمَاءِ فِي الْحَامِلِ مِنْ الزِّنَا حَيْثُ وَجَبَ الِاسْتِبْرَاءُ فِي الْجَارِيَةِ الْحَامِلِ مِنْ الزِّنَا أَيْضًا مَعَ عَدَمِ احْتِرَامِ الْمَاءِ فِيهَا فَانْتَقَضَ بِهَا التَّقْيِيدُ بِمَاءٍ مُحْتَرَمٍ عَكْسًا .
وَالْقَوْلُ بِأَنَّ عَدَمَ جَوَازِ وَطْئِهَا لَيْسَ لِاحْتِرَامِ الْمَاءِ فِيهَا لَا يَدْفَعُ النَّقْضَ بَلْ يُؤَيِّدُهُ كَمَا لَا يَخْفَى ( قَوْلُهُ غَيْرَ أَنَّ الْإِرَادَةَ أَمْرٌ مُبْطَنٌ فَيُدَارُ الْحُكْمُ عَلَى دَلِيلِهَا وَهُوَ التَّمَكُّنُ مِنْ الْوَطْءِ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي بَيَانِ هَذَا : فَإِنَّ صَحِيحَ الْمِزَاجِ إذَا تَمَكَّنَ مِنْهُ أَرَادَهُ .
وَرَدَّ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ حَيْثُ قَالَ : فِيهِ بَحْثٌ ، فَإِنَّ غَيْرَ صَحِيحِ الْمِزَاجِ مَمْنُوعٌ أَيْضًا عَنْ الْوَطْءِ وَدَوَاعِيهِ .
وَقَالَ : وَلَعَلَّ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ : فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُتَمَكِّنَ مِنْهُ يُرِيدُهُ .
وَالتَّمَكُّنُ إنَّمَا يَثْبُتُ إلَخْ ، وَالْمُرَادُ مِنْ التَّمَكُّنِ هُوَ التَّمَكُّنُ الشَّرْعِيُّ انْتَهَى .
أَقُولُ : كُلٌّ مِنْ إيرَادِهِ وَمَا اخْتَارَهُ لَيْسَ بِتَامٍّ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ كَوْنَ غَيْرِ صَحِيحِ الْمِزَاجِ مَمْنُوعًا أَيْضًا عَنْ الْوَطْءِ وَدَوَاعِيهِ مَمْنُوعٌ ، فَإِنَّ غَيْرَ صَحِيحِ الْمِزَاجِ عَاجِزٌ عَنْ الْوَطْءِ ، وَالْمَنْعُ عَنْ

الشَّيْءِ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ ؛ أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَا مَعْنَى لَأَنْ يُقَالَ الْأَعْمَى مَمْنُوعٌ عَنْ النَّظَرِ إلَى الْمُحَرَّمَاتِ .
وَعَنْ هَذَا قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ فِي بَيَانِ أَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ يَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي لَا عَلَى الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ نَهَى عَنْ الْوَطْءِ ، وَالنَّهْيُ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ عِنْدَ تَمَكُّنِ الْوَطْءِ وَالتَّمَكُّنُ لِلْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَمَلِّكُ لَا عَلَى الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّهُ مُعْرِضٌ انْتَهَى .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ كَيْفَ يَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ التَّمَكُّنِ هَاهُنَا هُوَ التَّمَكُّنُ الشَّرْعِيُّ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّمَكُّنَ الشَّرْعِيَّ مِمَّا هُوَ مُحَرَّمٌ شَرْعًا غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ ، وَالْوَطْءَ قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ مُحَرَّمٌ قَطْعًا ، وَلَا شَكَّ أَنَّ عِلَّةَ الِاسْتِبْرَاءِ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَيْهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ دَلِيلُهَا أَيْضًا مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ ، وَالْمَفْرُوضُ أَنَّهُ هُوَ التَّمَكُّنُ مِنْ الْوَطْءِ ، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ التَّمَكُّنِ هُوَ التَّمَكُّنُ الشَّرْعِيُّ دُونَ التَّمَكُّنِ الطَّبَعِيِّ لَزِمَ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ الْمُحَرَّمِ الشَّرْعِيِّ تَمَكُّنًا شَرْعِيًّا وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَحْذُورِ تَأَمَّلْ .

وَكَذَا يَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ وَمِنْ الْمَرْأَةِ وَالْمَمْلُوكِ وَمِمَّنْ لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا ، وَكَذَا إذَا كَانَتْ الْمُشْتَرَاةُ بِكْرًا لَمْ تُوطَأْ لِتَحَقُّقِ السَّبَبِ وَإِدَارَةِ الْأَحْكَامِ عَلَى الْأَسْبَابِ دُونَ الْحُكْمِ لِبُطُونِهَا فَيُعْتَبَرُ تَحَقُّقُ السَّبَبِ عِنْدَ تَوَهُّمِ الشُّغْلِ .
وَكَذَا لَا يُجْتَزَأُ بِالْحَيْضَةِ الَّتِي اشْتَرَاهَا فِي أَثْنَائِهَا وَلَا بِالْحَيْضَةِ الَّتِي حَاضَتْهَا بَعْدَ الشِّرَاءِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَلَا بِالْوِلَادَةِ الْحَاصِلَةِ بَعْدَهَا قَبْلَ الْقَبْضِ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ اسْتِحْدَاثُ الْمِلْكِ وَالْيَدِ ، وَالْحُكْمُ لَا يَسْبِقُ السَّبَبَ ، وَكَذَا لَا يُجْتَزَأُ بِالْحَاصِلِ قَبْلَ الْإِجَازَةِ فِي بَيْعِ الْفُضُولِيِّ وَإِنْ كَانَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي ، وَلَا بِالْحَاصِلِ بَعْدَ الْقَبْضِ فِي الشِّرَاءِ الْفَاسِدِ قَبْلَ أَنْ يَشْتَرِيَهَا شِرَاءً صَحِيحًا لِمَا قُلْنَا .

( قَوْلُهُ وَكَذَا يَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ وَمِنْ الْمَرْأَةِ وَالْمَمْلُوكِ وَمِمَّنْ لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا ، وَكَذَا إذَا كَانَتْ الْمُشْتَرَاةُ بِكْرًا لَمْ تُوطَأْ لِتَحَقُّقِ السَّبَبِ وَإِدَارَةِ الْأَحْكَامِ عَلَى الْأَسْبَابِ دُونَ الْحُكْمِ لِخَفَائِهَا ) وَعَنْ هَذَا قَالُوا : إنَّ الْحِكْمَةَ تُرَاعَى فِي الْجِنْسِ لَا فِي كُلِّ فَرْدٍ .
وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ فِي شَرْحِ الْوِقَايَةِ .
وَأَجَابَ حَيْثُ قَالَ : يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ الْحِكْمَةَ لَا تُرَاعَى فِي كُلِّ فَرْدٍ وَلَكِنْ تُرَاعَى فِي الْأَنْوَاعِ الْمَضْبُوطَةِ ، فَإِذَا كَانَتْ الْأَمَةُ بِكْرًا أَوْ مُشْتَرَاةً مِمَّنْ لَا يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا مِنْهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ الِاسْتِبْرَاءُ ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الشَّغْلِ بِالْمَاءِ الْمُحْتَرَمِ مُتَيَقِّنٌ فِي هَذِهِ الْأَنْوَاعِ ، وَالْجَوَابُ أَنَّهُ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالنَّصِّ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي سَبَايَا أَوْطَاسٍ { أَلَا لَا تُوطَأُ الْحَبَالَى حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ، وَلَا الْحَيَالَى حَتَّى يُسْتَبْرَأْنَ بِحَيْضَةٍ } فَإِنَّ السَّبَايَا لَا تَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهَا بِكْرٌ أَوْ مَسْبِيَّةٌ مِنْ امْرَأَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَمَعَ هَذَا حَكَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُكْمًا عَامًّا فَلَا يَخْتَصُّ بِالْحِكْمَةِ ، فَإِذَا ثَبَتَ الْحُكْمُ فِي السَّبْيِ عَلَى الْعُمُومِ ثَبَتَ فِي سَائِرِ أَسْبَابِ الْمِلْكِ كَذَلِكَ قِيَاسًا ، فَإِنَّ الْعِلَّةَ مَعْلُومَةٌ ، ثُمَّ تَأَيَّدَ ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
وَأَجَابَ صَاحِبُ الْإِصْلَاحِ وَالْإِيضَاحِ عَنْ الِاعْتِرَاضِ الْمَذْكُورِ بِوَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ : إنَّ تَوَهُّمَ الشَّغْلِ ثَابِتٌ فِي الْبِكْرِ وَفِي الْمُشْرَبَةِ مِمَّنْ لَا يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا مِنْهُ .
أَمَّا فِي الْأُولَى فَلِأَنَّ احْتِمَالَ وُصُولِ الْمَاءِ إلَى الرَّحِمِ قَائِمٌ بِدُونِ زَوَالِ الْعَذْرَةِ .
وَأَمَّا فِي الثَّانِيَةِ فَلِمَا ذُكِرَ فِي الْكَافِي مِنْ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ التَّوَهُّمُ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الْمَالِكِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ .
وَرُدَّ الْجَوَابُ الَّذِي ذَكَرَهُ

صَدْرُ الشَّرِيعَةِ : بِأَنَّ الِاعْتِرَاضَ الْمَذْكُورَ لَيْسَ عَلَى الْحُكْمِ حَتَّى يَنْدَفِعَ بِبَيَانِ وَجْهِ ثُبُوتِهِ عَامًّا .
بَلْ عَلَى الْحِكْمَةِ بِأَنَّهَا لَا تَصْلُحُ حِكْمَةً لِعَدَمِ اطِّرَادِهَا بِحَسَبِ الْأَنْوَاعِ الْمَضْبُوطَةِ انْتَهَى .
وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ الرَّدِّ هَذَا الرَّدُّ مَرْدُودٌ ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ عَلَى أَنَّ وُجُوبَ رِعَايَةِ الْحِكْمَةِ فِي الْأَنْوَاعِ لِيَعُمَّ الْحُكْمُ تِلْكَ الْأَنْوَاعَ لَا لِتَكُونَ الْحِكْمَةُ حِكْمَةً .
فَحَاصِلُهُ أَنَّ الْحُكْمَ عَامٌّ لِتِلْكَ الْأَنْوَاعِ هَاهُنَا بِالْحَدِيثِ فَلَا حَاجَةَ إلَى ثُبُوتِ الْحِكْمَةِ فِيهَا ا هـ .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ ، فَإِنَّ شَرْعَ الصَّانِعِ الْحَكِيمِ لَا يَخْلُو عَنْ الْحِكْمَةِ وَالْفَائِدَةِ ، فَمِنْهَا مَا لَا يَتَيَسَّرُ وُقُوفُ الْبَشَرِ عَلَيْهِ ، وَمِنْهَا مَا يَتَيَسَّرُ ذَلِكَ .
وَلَمَّا كَانَ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ قَبِيلِ الثَّانِي تَعَرَّضَ الْفُقَهَاءُ قَاطِبَةً لِبَيَانِ الْحِكْمَةِ فِيهِ فَقَالُوا إنَّهَا تُعَرِّفُ بَرَاءَةَ الرَّحِمِ صِيَانَةً لِلْمِيَاهِ الْمُحْتَرَمَةِ عَنْ الِاخْتِلَاطِ وَالْأَنْسَابِ عَنْ الِاشْتِبَاهِ ، وَذَلِكَ عِنْدَ حَقِيقَةِ الشَّغْلِ أَوْ تَوَهُّمِ الشَّغْلِ بِمَاءٍ مُحْتَرَمٍ ، وَهَذَا لَا يُنَافِي ثُبُوتَ عُمُومِ الْحُكْمِ بِدَلِيلٍ مِنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ ، فَإِنَّ الدَّلِيلَ الشَّرْعِيَّ فِي كُلِّ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ وَهُوَ غَيْرُ الْحِكْمَةِ فِيهِ ، وَلَا يَدْفَعُ الْحَاجَةَ إلَى ثُبُوتِ الْحِكْمَةِ فِيهِ ؛ فَقَوْلُهُ فَحَاصِلُهُ أَنَّ الْحُكْمَ عَامٌّ لِتِلْكَ الْأَنْوَاعِ هَاهُنَا بِالْحَدِيثِ فَلَا حَاجَةَ إلَى ثُبُوتِ الْحِكْمَةِ فِيهَا خُرُوجٌ عَنْ سُنَنِ الصَّوَابِ جِدًّا ، فَإِنَّ مَآلَهُ الِاعْتِرَافُ بِعَدَمِ صَلَاحِيَّةِ مَا عَدَّهُ أَسَاطِينُ الْفُقَهَاءِ حِكْمَةً فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَأَنْ يَكُونَ حِكْمَةً فِيهَا ، وَهَذَا مِمَّا لَا يَتَجَاسَرُ عَلَيْهِ الْمُتَشَرِّعُ .
ثُمَّ أَقُولُ : بَقِيَ شَيْءٌ آخَرُ فِي جَوَابِ صَدْرِ الشَّرِيعَةِ ، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ فَإِذَا ثَبَتَ الْحُكْمُ فِي السَّبْيِ

عَلَى الْعُمُومِ ثَبَتَ فِي سَائِرِ أَسْبَابِ الْمِلْكِ كَذَلِكَ قِيَاسًا لَيْسَ بِتَامٍّ ، فَإِنَّ النَّصَّ وَرَدَ فِي الْمَسْبِيَّةِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لِتَحَقُّقِ الْمُطْلَقِ لِلِاسْتِمْتَاعِ بِمَا وَهُوَ الْمِلْكُ كَمَا صُرِّحَ بِهِ فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا ، وَشَرْطُ الْقِيَاسِ أَنْ لَا يَكُونَ حُكْمُ الْأَصْلِ مَعْدُولًا عَنْ سُنَنِ الْقِيَاسِ كَمَا عُرِفَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ فَأَنَّى يَتَيَسَّرُ إثْبَاتُ الْحُكْمِ فِي سَائِرِ أَسْبَابِ الْمِلْكِ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ .
فَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ دَلَالَةً بَدَلَ قَوْلِهِ قِيَاسًا .
فَإِنَّ الشَّرْطَ الْمَذْكُورَ مُنْتَفٍ فِي الدَّلَالَةِ فَيَسْتَقِيمُ الْمَعْنَى تَبَصَّرْ

( وَيَجِبُ فِي جَارِيَةٍ لِلْمُشْتَرِي فِيهَا شِقْصٌ فَاشْتَرَى الْبَاقِيَ ) ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ قَدْ تَمَّ الْآنَ ، وَالْحُكْمُ يُضَافُ إلَى تَمَامِ الْعِلَّةِ ، وَيُجْتَزَأُ بِالْحَيْضَةِ الَّتِي حَاضَتْهَا بَعْدَ الْقَبْضِ وَهِيَ مَجُوسِيَّةٌ أَوْ مُكَاتَبَةٌ بِأَنْ كَاتَبَهَا بَعْدَ الشِّرَاءِ ثُمَّ أَسْلَمَتْ الْمَجُوسِيَّةُ أَوْ عَجَزَتْ الْمُكَاتَبَةُ لِوُجُودِهَا بَعْدَ السَّبَبِ وَهُوَ اسْتِحْدَاثُ الْمِلْكِ وَالْيَدِ إذْ هُوَ مُقْتَضٍ لِلْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ لِمَانِعٍ كَمَا فِي حَالَةِ الْحَيْضِ

( وَلَا يَجِبُ ) ( الِاسْتِبْرَاءُ إذَا رَجَعَتْ الْآبِقَةُ أَوْ رُدَّتْ الْمَغْصُوبَةُ أَوْ الْمُؤَاجَرَةُ ) أَوْ فُكَّتْ الْمَرْهُونَةُ لِانْعِدَامِ السَّبَبِ وَهُوَ اسْتِحْدَاثُ الْمِلْكِ وَالْيَدِ وَهُوَ سَبَبٌ مُتَعَيَّنٌ فَأُدِيرَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ وُجُودًا وَعَدَمًا ، وَلَهَا نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ كَتَبْنَاهَا فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى .
وَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الِاسْتِبْرَاءِ وَحُرْمَةُ الْوَطْءِ حَرُمَ الدَّوَاعِي لِإِفْضَائِهَا إلَيْهِ .
أَوْ لِاحْتِمَالِ وُقُوعِهَا فِي غَيْرِ الْمِلْكِ عَلَى اعْتِبَارِ ظُهُورِ الْحَبَلِ وَدَعْوَةِ الْبَائِعِ .
بِخِلَافِ الْحَائِضِ حَيْثُ لَا تَحْرُمُ الدَّوَاعِي فِيهَا لِأَنَّهُ لَا يُحْتَمَلُ الْوُقُوعُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ ، وَلِأَنَّهُ زَمَانُ نَفْرَةٍ فَالْإِطْلَاقُ فِي الدَّوَاعِي لَا يُفْضِي إلَى الْوَطْءِ وَالرَّغْبَةُ فِي الْمُشْتَرَاةِ قَبْلَ الدُّخُولِ أَصْدَقُ الرَّغَبَاتِ فَتُفْضِي إلَيْهِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ الدَّوَاعِيَ فِي الْمَسْبِيَّةِ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهَا لَا تَحْرُمُ ؛ لِأَنَّهَا لَا يُحْتَمَلُ وُقُوعُهَا فِي غَيْرِ الْمِلْكِ لِأَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ بِهَا حَبَلٌ لَا تَصِحُّ دَعْوَةُ الْحَرْبِيِّ ، بِخِلَافِ الْمُشْتَرَاةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا .

الِاسْتِبْرَاءُ إذَا رَجَعَتْ الْآبِقَةُ أَوْ رُدَّتْ الْمَغْصُوبَةُ أَوْ الْمُؤَاجَرَةُ أَوْ فُكَّتْ الْمَرْهُونَةُ ( قَوْلُهُ وَلَمْ يَذْكُرْ الدَّوَاعِيَ فِي الْمَسْبِيَّةِ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهَا لَا تَحْرُمُ ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ : وَاسْتُشْكِلَ ذَلِكَ حَيْثُ تَعَدَّى الْحُكْمُ مِنْ الْأَصْلِ وَهِيَ الْمَسْبِيَّةُ إلَى الْفَرْعِ وَهُوَ غَيْرُهَا بِتَغْيِيرٍ حَيْثُ حُرِّمَتْ الدَّوَاعِي فِي غَيْرِ الْمَسْبِيَّةِ دُونَهَا .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ اقْتِضَاءِ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ التَّعَدِّيَ إنْ كَانَ بِالْقِيَاسِ فَالْجَوَابُ الْمَذْكُورُ غَيْرُ دَافِعٍ ، ؛ لِأَنَّ عَدَمَ التَّغْيِيرِ شَرْطُ الْقِيَاسِ كَمَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ وَانْتِفَاءُ الشَّرْطِ يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءَ الْمَشْرُوطِ .
وَالثَّانِي أَنَّ مَا دَلَّ عَلَى حُرْمَةِ الدَّوَاعِي فِي غَيْرِ الْمَسْبِيَّةِ أَمْرَانِ : الْإِفْضَاءُ ، وَالْوُقُوعُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ ، فَإِنْ لَمْ تُحَرَّمْ بِالثَّانِي فَلْتُحَرَّمْ بِالْأَوَّلِ .
إذَا الْحُرْمَةُ تُؤْخَذُ بِالِاحْتِيَاطِ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ التَّعْدِيَةَ هَاهُنَا بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ لِلَّاحِقِ دَلَالَةُ حُكْمِ الدَّلِيلِ لَمْ يَكُنْ لِلْمُلْحَقِ بِهِ لِعَدَمِهِ ، وَالدَّلِيلُ هُنَا أَنَّ حُرْمَةَ الدَّوَاعِي فِي هَذَا الْبَابِ مُجْتَهَدٌ فِيهِ وَلَمْ يَقُلْ بِهَا الشَّافِعِيُّ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ .
فَلَمَّا كَانَ عِلَّتُهَا فِي الْمَسْبِيَّةِ أَمْرًا وَاحِدًا لَمْ تُعْتَبَرْ ، وَلَمَّا كَانَ فِي غَيْرِهَا أَمْرَانِ تَعَاضَدَا اُعْتُبِرَتْ ، إلَى هُنَا لَفْظُ الْعِنَايَةِ .
أَقُولُ : فِي قَوْلِهِ فَلَمَّا كَانَ عِلَّتُهَا فِي الْمَسْبِيَّةِ أَمْرًا وَاحِدًا لَمْ تُعْتَبَرْ نَظَرٌ ، فَإِنَّ الْعِلَّةَ إذَا كَانَتْ عِلَّةً صَحِيحَةً تَامَّةً فَوَحْدَتُهَا لَا تُنَافِي اعْتِبَارَهَا .
وَلَا تَضُرُّ بِالْعَمَلِ بِهَا وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ مِمَّا وَقَعَ الِاجْتِهَادُ فِي خِلَافِهِ ، كَيْفَ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ أَنَّ الْعِلَّةَ الْوَاحِدَةَ لَا تَكْفِي فِي الْمَسَائِلِ

الْخِلَافِيَّةِ ، بَلْ نَرَى كَثِيرًا مِنْ الْخِلَافِيَّاتِ قَدْ اكْتَفَوْا فِيهَا بِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ .
وَالْحُرْمَةُ مِمَّا يُؤْخَذُ فِيهِ بِالِاحْتِيَاطِ فَكَانَ الِاكْتِفَاءُ فِيهَا بِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ أَوْلَى .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِفْضَاءَ إلَى الْحَرَامِ عِلَّةٌ صَحِيحَةٌ تَامَّةٌ .
وَلِهَذَا قَالُوا فِي تَعْلِيلِ حُرْمَةِ الدَّوَاعِي قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ فِي غَيْرِ الْمَسْبِيَّةِ لِإِفْضَائِهَا إلَى الْوَطْءِ الْحَرَامِ أَوْ لِاحْتِمَالِ وُقُوعِهَا فِي مِلْكِ الْغَيْرِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كَلِمَةَ أَوْ تَدُلُّ عَلَى اسْتِقْلَالِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْعِلَّتَيْنِ ، وَاكْتَفَوْا فِي تَعْلِيلِ حُرْمَةِ الدَّوَاعِي فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَسَائِلِ بِالْعِلَّةِ الْأُولَى كَمَا فِي الظِّهَارِ وَالِاعْتِكَافِ وَالْإِحْرَامِ ، وَفِي الْمَنْكُوحَةِ إذَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ كَمَا سَيَجِيءُ فِي الْكِتَابِ .
هَذَا وَقَدْ أَوْرَدَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ عَلَى قَوْلِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ : وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ التَّعْدِيَةَ هُنَا بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ لِلَّاحِقِ دَلَالَةُ حُكْمِ الدَّلِيلِ لَمْ يَكُنْ لِلْمُلْحَقِ بِهِ لِعَدَمِهِ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ : وَلَا يَخْفَى أَنَّ كَوْنَ هَذَا مِنْ قَبِيلِ الدَّلَالَةِ دُونَ الْقِيَاسِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ انْتَهَى .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِمُسْتَقِيمٍ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الْمَنْعَ وَظِيفَةُ الْمُجِيبِ .
فَإِنَّ حَاصِلَ جَوَابِهِ مَنْعُ كَوْنِ التَّعْدِيَةِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ حَتَّى يَلْزَمَ الْمَحْذُورُ الْمَذْكُورُ فِي النَّظَرِ وَهُوَ تَعْدِيَةُ الْحُكْمِ مِنْ الْأَصْلِ إلَى الْفَرْعِ بِتَغْيِيرٍ كَمَا عُرِفَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ ، وَالِاسْتِنَادُ بِأَنَّهَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ وَلَا اسْتِحَالَةَ لِلتَّغْيِيرِ فِي هَذَا الطَّرِيقِ ، فَمُقَابَلَةُ مَنْعِهِ بِمَنْعِ كَوْنِ هَذَا مِنْ قَبِيلِ الدَّلَالَةِ دُونَ الْقِيَاسِ خُرُوجٌ عَنْ قَوَاعِدِ آدَابِ الْمُنَاظَرَةِ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ مَنْعَ كَوْنِ التَّعْدِيَةِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ قَبِيلِ الدَّلَالَةِ دُونَ الْقِيَاسِ سَاقِطٌ

جِدًّا ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ مِنْ شَرْطِ الْقِيَاسِ أَنْ لَا يَكُونَ حُكْمُ الْأَصْلِ مَعْدُولًا عَنْ الْقِيَاسِ .
وَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِيمَا مَرَّ أَنَّ حُكْمَ الِاسْتِبْرَاءِ ثَابِتٌ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لِتَحَقُّقِ الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ لِلِاسْتِمْتَاعِ فَلَا مَجَالَ لِلْقِيَاسِ فِيهِ ، وَإِنَّمَا يَتَيَسَّرُ الْإِلْحَاقُ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ ، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ هَاهُنَا بِقَوْلِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فَلَا وَجْهَ لِلْمَنْعِ الْمَذْكُورِ بَعْدَ ذَلِكَ .
ثُمَّ إنَّ لِذَلِكَ الْبَعْضِ فِي هَذَا الْمَقَامِ كَلِمَاتٌ أُخْرَى وَاهِيَةٌ يَطُولُ بِذِكْرِهَا الْكَلَامُ بِلَا طَائِلٍ فَصَفَحْنَا عَنْ التَّعَرُّضِ لَهَا دَوْمًا لِلِاخْتِصَارِ ( قَوْلُهُ بِخِلَافِ الْمُشْتَرَاةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ .
وَقَوْلُهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ وَالرَّغْبَةُ فِي الْمُشْتَرَاةِ أَصْدَقُ الرَّغَبَاتِ انْتَهَى .
وَتَبِعَهُ الْعَيْنِيُّ .
أَقُولُ : هَذَا خَبْطٌ ظَاهِرٌ ، إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَسْبِيَّةِ وَالْمُشْتَرَاةِ فِي كَوْنِ الرَّغْبَةِ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَصْدَقُ الرَّغَبَاتِ .
فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُشِيرَ الْمُصَنِّفُ فِي بَيَانِ الْخِلَافِ بَيْنَهُمَا إلَى مَا لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِيهِ أَصْلًا ، وَإِنَّمَا الصَّوَابُ أَنَّ قَوْلَهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ أَوْ لِاحْتِمَالِ وُقُوعِهَا فِي غَيْرِ الْمِلْكِ عَلَى اعْتِبَارِ ظُهُورِ الْحَبَلِ وَدَعْوَةِ الْبَائِعِ إذْ هُوَ الْفَارِقُ بَيْنَ الْمَسْبِيَّةِ وَالْمُشْتَرَاةِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَطْعًا قَوْلُهُ لِأَنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ وُقُوعَهَا فِي مِلْكِ الْغَيْرِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ بِهَا حَبَلٌ لَا تَصِحُّ دَعْوَةُ الْحَرْبِيِّ ا هـ .

( وَالِاسْتِبْرَاءُ فِي الْحَامِلِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ ) لِمَا رَوَيْنَا ( وَفِي ذَوَاتِ الْأَشْهُرِ بِالشَّهْرِ ) ؛ لِأَنَّهُ أُقِيمَ فِي حَقِّهِنَّ مَقَامَ الْحَيْضِ كَمَا فِي الْمُعْتَدَّةِ ، وَإِذَا حَاضَتْ فِي أَثْنَائِهِ بَطَلَ الِاسْتِبْرَاءُ بِالْأَيَّامِ لِلْقُدْرَةِ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ كَمَا فِي الْمُعْتَدَّةِ .
فَإِنْ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا تَرَكَهَا ، حَتَّى إذَا تَبَيَّنَ أَنْ لَيْسَتْ بِحَامِلٍ وَقَعَ عَلَيْهَا وَلَيْسَ فِيهِ تَقْدِيرٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
وَقِيلَ يَتَبَيَّنُ بِشَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرَةُ أَيَّامٍ ، وَعَنْهُ شَهْرَانِ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ اعْتِبَارًا بِعِدَّةِ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ فِي الْوَفَاةِ .
وَعَنْ زُفَرَ سَنَتَانِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ .
( قَوْلُهُ وَالِاسْتِبْرَاءُ فِي الْحَامِلِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ لِمَا رَوَيْنَا ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَقَوْلُهُ لِمَا رَوَيْنَا إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَلَا الْحَيَالَى حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } انْتَهَى .
أَقُولُ : قَدْ سَهَا الشَّارِحُ الْمَذْكُورُ فِي لَفْظِ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْمُصَنِّفُ فِيمَا مَرَّ حَيْثُ قَالَ { وَلَا الْحَيَالَى حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } مَعَ أَنَّ لَفْظَهُ { أَلَا لَا تُوطَأُ الْحَبَالَى حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ، وَلَا الْحَيَالَى حَتَّى يُسْتَبْرَأْنَ } وَلَعَمْرِي إنَّ هَذَا كَانَ أَظْهَرَ مِنْ أَنْ يَخْفَى فَكَأَنَّ السَّهْوَ وَقَعَ مِنْ طُغْيَانِ الْقَلَمِ فَاَللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا .

قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِالِاحْتِيَالِ لِإِسْقَاطِ الِاسْتِبْرَاءِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ ) وَقَدْ ذَكَرْنَا الْوَجْهَيْنِ فِي الشُّفْعَةِ .
وَالْمَأْخُوذُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ فِيمَا إذَا عَلِمَ أَنَّ الْبَائِعَ لَمْ يَقْرَبْهَا فِي طُهْرِهَا ذَلِكَ ، وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ فِيمَا إذَا قَرِبَهَا .
وَالْحِيلَةُ إذَا لَمْ يَكُنْ تَحْتَ الْمُشْتَرِي حُرَّةٌ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا قَبْلَ الشِّرَاءِ ثُمَّ يَشْتَرِيَهَا .
وَلَوْ كَانَتْ فَالْحِيلَةُ أَنْ يُزَوِّجَهَا الْبَائِعُ قَبْلَ الشِّرَاءِ أَوْ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الْقَبْضِ مِمَّنْ يُوثَقُ بِهِ ثُمَّ يَشْتَرِيَهَا وَيَقْبِضَهَا ثُمَّ يُطَلِّقَ الزَّوْجُ ؛ لِأَنَّ عِنْدَ وُجُودِ السَّبَبِ وَهُوَ اسْتِحْدَاثُ الْمِلْكِ الْمُؤَكَّدِ بِالْقَبْضِ إذَا لَمْ يَكُنْ فَرْجُهَا حَلَالًا لَهُ لَا يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ .
وَإِنَّ حَلَّ بَعْدَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ أَوَانُ وُجُودِ السَّبَبِ كَمَا إذَا كَانَتْ مُعْتَدَّةَ الْغَيْرِ .

( قَوْلُهُ وَالْحِيلَةُ إذَا لَمْ يَكُنْ تَحْتَ الْمُشْتَرِي حُرَّةٌ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا قَبْلَ الشِّرَاءِ ثُمَّ يَشْتَرِيَهَا ) قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ : أَطْلَقَ الْمَسْأَلَةَ وَلَمْ يُقَيِّدْهَا بِكَوْنِ الْقَبْضِ قَبْلَ الشِّرَاءِ لَا يَعُدُّهُ مَعَ وُجُوبِ هَذَا التَّقْيِيدِ .
قَالَ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ فِي فَتَاوَاهُ فِي تَصْوِيرِ الْمَسْأَلَةِ : إذَا أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ الْجَارِيَةَ يَتَزَوَّجُهَا الْمُشْتَرِي قَبْلَ الشِّرَاءِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي نِكَاحِهِ حُرَّةٌ ، ثُمَّ يُسَلِّمُهَا إلَيْهِ الْمَوْلَى ثُمَّ يَشْتَرِي فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الِاسْتِبْرَاءُ .
ثُمَّ قَالَ : وَإِنَّمَا شَرَطَ تَسْلِيمَ الْجَارِيَةِ قَبْلَ الشِّرَاءِ كَيْ لَا يُوجَدَ الْقَبْضُ بِحُكْمِ الشِّرَاءِ بَعْدَ فَسَادِ النِّكَاحِ .
يُرِيدُ أَنَّهُ يَتَحَقَّقُ حِينَئِذٍ سَبَبُ وُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ .
وَهُوَ حُدُوثُ الْمِلْكِ الْمُؤَكَّدِ بِالْقَبْضِ وَقْتَ عَدَمِ كَوْنِ فَرْجِهَا حَلَالًا لَهُ .
بِخِلَافِ مَا لَوْ سَلَّمَهَا قَبْلَ الشِّرَاءِ فَإِنَّ الْقَبْضَ السَّابِقَ بِحُكْمِ التَّزَوُّجِ وَإِنْ عَرَضَ لَهُ كَوْنُهُ قَبْضًا بِحُكْمِ الشِّرَاءِ .
إلَى هُنَا كَلَامُ ذَلِكَ الْبَعْضِ .
أَقُولُ : فِيهِ خَلَلٌ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ جَزَمَ بِوُجُوبِ تَقْيِيدِهِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِكَوْنِ الْقَبْضِ قَبْلَ الشِّرَاءِ لَا بَعْدَهُ .
وَاسْتَشْهَدَ عَلَيْهِ بِمَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ فِي فَتَاوَاهُ وَلَيْسَ بِتَامٍّ .
فَإِنَّ مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ إنَّمَا هُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْمَشَايِخِ وَمُخْتَارُ نَفْسِهِ .
وَأَمَّا عَامَّةُ الْمَشَايِخِ فَلَمْ يَشْتَرِطُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَوْنَ الْقَبْضِ قَبْلَ الشِّرَاءِ .
وَعَنْ هَذَا قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ وَالْمُحِيطِ الْبُرْهَانِيِّ : وَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَحْتَ الْمُشْتَرِي حُرَّةٌ فَلِإِسْقَاطِ الِاسْتِبْرَاءِ حِيلَةٌ أُخْرَى .
وَهِيَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا الْمُشْتَرِي قَبْلَ الشِّرَاءِ ثُمَّ يَشْتَرِيَهَا وَيَقْبِضَهَا فَلَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِبْرَاءُ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ يُثْبِتُ لَهُ عَلَيْهَا الْفِرَاشَ ، فَإِنَّمَا اشْتَرَاهُ وَهِيَ فِي فِرَاشِهِ .
وَقِيَامُ

الْفِرَاشِ لَهُ عَلَيْهَا دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ عَلَى فَرَاغِ رَحِمِهَا مِنْ مَاءِ الْغَيْرِ انْتَهَى .
وَالْمُصَنِّفُ قَدْ اخْتَارَ قَوْلَ هَؤُلَاءِ فَلِذَلِكَ أَطْلَقَ الْمَسْأَلَةَ ، وَلَمْ يُقَيِّدْهَا بِكَوْنِ الْقَبْضِ قَبْلَ الشِّرَاءِ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ يُرِيدُ أَنَّهُ يَتَحَقَّقُ حِينَئِذٍ سَبَبُ وُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ وَهُوَ حُدُوثُ الْمِلْكِ الْمُؤَكَّدِ بِالْقَبْضِ وَقْتَ عَدَمِ كَوْنِ فَرْجِهَا حَلَالًا لَهُ لَيْسَ بِسَدِيدٍ ؛ لِأَنَّ حُدُوثَ الْمِلْكِ الْمُؤَكَّدِ بِالْقَبْضِ وَقْتَ عَدَمِ كَوْنِ فَرْجِهَا حَلَالًا لَهُ لَا يُوجِبُ الِاسْتِبْرَاءَ بَلْ يَقْتَضِي سُقُوطَ الِاسْتِبْرَاءِ ؛ أَلَا يُرَى إلَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فِيمَا بَعْدُ ؛ لِأَنَّ عِنْدَ وُجُوبِ السَّبَبِ وَهُوَ اسْتِحْدَاثُ الْمِلْكِ الْمُؤَكَّدِ بِالْقَبْضِ إذَا لَمْ يَكُنْ فَرْجُهَا حَلَالًا لَا يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ وَإِنْ حَلَّ بَعْدَ ذَلِكَ .
وَكَانَ الصَّوَابُ أَنْ يَقُولَ : وَهُوَ حُدُوثُ الْمِلْكِ الْمُؤَكَّدِ بِالْقَبْضِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فَرْجُهَا حَلَالًا لَهُ بِفَسَادِ النِّكَاحِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ تَأَمَّلْ تَقِفْ .
ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ الْبَعْضُ : ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْكَافِي سَلَكَ طَرِيقَةَ الْمُصَنِّفِ وَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَى هَذَا الشَّرْطِ ، إلَّا أَنَّهُ صَوَّرَ الْمَسْأَلَةَ بِصُورَةِ تَأْخِيرِ التَّسْلِيمِ تَنْصِيصًا عَلَى عَدَمِ الِاشْتِرَاطِ بِهِ ، وَعَلَّلَ الْمَسْأَلَةَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى سُقُوطِ الِاسْتِبْرَاءِ فِي الصُّورَتَيْنِ مَعًا فَقَالَ : وَالْحِيلَةُ إنْ لَمْ تَكُنْ تَحْتَ الْمُشْتَرِي حُرَّةٌ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا قَبْلَ الشِّرَاءِ ثُمَّ يَشْتَرِيَهَا فَيَقْبِضَهَا فَلَا يَلْزَمُ الِاسْتِبْرَاءُ ، لِأَنَّ بِالنِّكَاحِ ثَبَتَ لَهُ عَلَيْهَا الْفِرَاشُ .
وَإِنَّمَا اشْتَرَاهَا وَهِيَ فِرَاشُهُ .
وَقِيَامُ الْفِرَاشِ لَهُ عَلَيْهَا دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ عَلَى تَبَيُّنِ فَرَاغِ رَحِمِهَا مِنْ مَاءِ الْغَيْرِ ، ثُمَّ الْحِلُّ لَهُ لَمْ يَتَجَدَّدْ بِمِلْكِ الرَّقَبَةِ ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ حَلَالًا لَهُ بِالنِّكَاحِ قَبْلَ ذَلِكَ انْتَهَى .
فَإِنْ قُلْت : لَا نُسَلِّمُ عَدَمَ تَجَدُّدِ الْحِلِّ بِمِلْكِ الْيَمِينِ .
فَإِنَّهَا وَإِنْ

كَانَتْ حَلَالًا لَهُ بِالنِّكَاحِ إلَّا أَنَّهُ زَالَ ذَلِكَ بِزَوَالِهِ بِالشِّرَاءِ ، فَزَمَانُ الشِّرَاءِ خَالٍ عَنْ الْحِلِّ .
أَمَّا عَنْ الْحِلِّ الْحَاصِلِ بِالنِّكَاحِ فَظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّهُ زَمَانُ زَوَالِهِ .
وَأَمَّا عَنْ الْحِلِّ الْحَاصِلِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ فَلِأَنَّهُ يَسْتَعْقِبُهُ الشِّرَاءُ ، فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ مَا لَمْ يَفْرُغْ عَنْ التَّلَفُّظِ بِلَفْظِ اشْتَرَيْت بَعْدَ إيجَابِ الْبَائِعِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ الْحِلُّ .
قُلْت : هَذِهِ مُغَالَطَةٌ ؛ لِأَنَّ وُجُودَ الْعِلَّةِ يُقَارِنُ وُجُودَ الْمَعْلُولِ لَا يَسْتَعْقِبُهُ ، فَزَمَانُ التَّلَفُّظِ بِالْحَرْفِ الْأَخِيرِ فِي اشْتَرَيْت هُوَ زَمَانُ وُجُودِ الشِّرَاءِ وَالْحِلِّ وَزَوَالِ النِّكَاحِ .
لَا يُقَالُ : سَلَّمْنَا أَنَّ نَوْعَ الْحِلِّ مُسْتَمِرٌّ وَلَا يُوجَدُ زَمَانٌ خَالٍ عَنْ الْحِلِّ وَلَمْ يَحْدُثْ نَوْعُ الْحِلِّ ، إلَّا أَنَّهُ حَدَثَ حِلٌّ هُوَ أَثَرُ مِلْكِ الْيَمِينِ .
وَذَلِكَ كَافٍ فِي وُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ ؛ لِأَنَّا نَمْنَعُ ذَلِكَ ، بَلْ الْوَاجِبُ حُصُولُ الْحِلِّ بِمِلْكِ الْعَيْنِ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ حَلَالًا بِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ ، هَذَا غَايَةُ تَوْجِيهِ كَلَامِهِ لَكِنَّهُ يُعَدُّ مَحَلَّ نَظَرٍ .
إذْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : الشِّرَاءُ سَبَبُ الْمِلْكِ وَحِلُّ الْوَطْءِ حُكْمُهُ وَحُكْمُ الشَّيْءِ يَتَعَقَّبُهُ ، فَزَمَانُ وُجُودِ الْمِلْكِ خَالٍ عَنْ الْحِلِّ مُطْلَقًا فَيَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ تَقَدَّمَ التَّسْلِيمُ أَوْ لَا ، فَلَمْ يَصْلُحْ مَا ذَكَرَهُ حِيلَةً لِإِسْقَاطِهِ أَصْلًا فَتَأَمَّلْ ، فَإِنَّ هَذَا مِنْ الْمَطَارِحِ ، إلَى هُنَا لَفْظُ ذَلِكَ الْبَعْضِ .
أَقُولُ : مَا أَوْرَدَهُ فِي خَاتِمَةِ كَلَامِهِ لَيْسَ بِشَيْءٍ ، فَإِنَّهُ إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ وَحُكْمُ الشَّيْءِ يَتَعَقَّبُهُ أَنَّهُ يَتَعَقَّبُهُ زَمَانًا أَلْبَتَّةَ فَهُوَ مَمْنُوعٌ جِدًّا ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ يَتَعَقَّبُهُ ذَاتًا : أَيْ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ فَهُوَ مُسَلَّمٌ .
وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ زَمَانُ وُجُودِ الْمِلْكِ خَالِيًا عَنْ الْحِلِّ مُطْلَقًا .
وَبِالْجُمْلَةِ لُزُومُ تَأَخُّرِ حُكْمِ الشَّيْءِ عَنْ الشَّيْءِ زَمَانًا مَمْنُوعٌ ،

وَلُزُومُ تَأَخُّرِهِ عَنْهُ ذَاتًا مُسَلَّمٌ ضَرُورَةَ كَوْنِ حُكْمِ الشَّيْءِ مُتَفَرِّعًا عَلَيْهِ ، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ خُلُوُّ زَمَانٍ مَا عَنْ الْحِلِّ مُطْلَقًا فِيمَنْ نَحْنُ فِيهِ حَتَّى يَجِبَ الِاسْتِبْرَاءُ

قَالَ ( وَلَا يَقْرَبُ الْمَظَاهِرُ وَلَا يَلْمِسُ وَلَا يُقَبِّلُ وَلَا يَنْظُرُ إلَى فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ حَتَّى يُكَفِّرَ ) ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا حَرُمَ الْوَطْءُ إلَى أَنْ يُكَفِّرَ حَرُمَ الدَّوَاعِي لِلْإِفْضَاءِ إلَيْهِ .
لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ سَبَبَ الْحَرَامِ حَرَامٌ كَمَا فِي الِاعْتِكَافِ وَالْإِحْرَامِ وَفِي الْمَنْكُوحَةِ إذَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ ، بِخِلَافِ حَالَةِ الْحَيْضِ وَالصَّوْمِ ؛ لِأَنَّ الْحَيْضَ يَمْتَدُّ شَطْرَ عُمْرِهَا وَالصَّوْمَ يَمْتَدُّ شَهْرًا فَرْضًا وَأَكْثَرُ الْعُمْرِ نَفْلًا ، فَفِي الْمَنْعِ عَنْهَا بَعْضُ الْحَرَجِ ، وَلَا كَذَلِكَ مَا عَدَدْنَاهَا لِقُصُورِهَا مُدَدِهَا .
وَقَدْ صَحَّ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ وَيُضَاجِعُ نِسَاءَهُ وَهُنَّ حُيَّضٌ }

( قَوْلُهُ : لِأَنَّ الْحَيْضَ يَمْتَدُّ شَطْرَ عُمْرِهَا ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : أَيْ يَقْرُبُ مِنْ شَطْرِ عُمْرِهَا وَهُوَ عَشْرَةُ أَيَّامٍ فِي كُلِّ شَهْرٍ فَكَانَ قَرِيبًا مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَهِيَ نِصْفُ الشَّهْرِ انْتَهَى .
وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ .
وَقَالَ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ : أَيْ قَرِيبُ شَطْرِ عُمْرِهَا وَهُوَ الثُّلُثُ .
أَوْ الْمُرَادُ الْبَعْضُ انْتَهَى .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ مَا فِي النِّهَايَةِ : وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّهُ يُشِيرُ إلَى أَنَّ الشَّطْرَ هُوَ النِّصْفُ ، وَيَتَقَوَّى بِذَلِكَ اسْتِدْلَالُ الشَّافِعِيِّ عَلَيْنَا بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ أَكْثَرَ الْحَيْضِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا انْتَهَى .
أَقُولُ : نَظَرُهُ سَاقِطٌ جِدًّا ، فَإِنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ عَلَيْنَا هُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي نُقْصَانِ دِينِ الْمَرْأَةِ { تَقْعُدُ إحْدَاهُنَّ شَطْرَ عُمْرِهَا لَا تَصُومُ وَلَا تُصَلِّي } وَوَجْهُ اسْتِدْلَالِهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ زَمَانُ الْحَيْضِ ، وَالشَّطْرُ هُوَ النِّصْفُ فَكَانَ أَكْثَرُ مُدَّةِ الْحَيْضِ خَمْسَةَ عَشْرَةَ يَوْمًا .
وَقَالَ الشُّرَّاحُ هُنَاكَ حَتَّى صَاحِبُ الْعِنَايَةِ نَفْسُهُ : لَيْسَ الْمُرَادُ بِالشَّطْرِ فِي الْحَدِيثِ حَقِيقَتَهُ ؛ لِأَنَّ فِي عُمْرِهَا زَمَانُ الصِّغَرِ وَمُدَّةُ الْحَبَلِ وَزَمَانُ الْإِيَاسِ وَلَا تَحِيضُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا يُقَارِبُ الشَّطْرَ ، وَإِذَا قَدَّرْنَا الْعَشَرَةَ بِهَذِهِ الْآثَارِ كَانَ مُقَارِبًا لِلشَّطْرِ وَحَصَلَ التَّوْفِيقُ انْتَهَى .
فَظَهَرَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا كَانَ الشَّطْرُ هُوَ النِّصْفُ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ صَاحِبُ النِّهَايَةِ هُنَا وَنَصَّ عَلَيْهِ الْجَوْهَرِيُّ فِي صِحَاحِهِ وَالْمُطَرِّزِيُّ فِي الْمُغْرِبِ لَا يَتَقَوَّى اسْتِدْلَالُ الشَّافِعِيِّ عَلَيْنَا بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ ، بَلْ لَا يَتَمَشَّى اسْتِدْلَالُهُ بِهِ عَلَيْنَا أَصْلًا حَيْثُ لَمْ يَكُنْ مَجَالٌ لِكَوْنِ الشَّطْرِ هُنَاكَ عَلَى حَقِيقَتِهِ لِعَدَمِ مُسَاعَدَةِ عُمْرِ الْمَرْأَةِ لَهَا كَمَا بَيَّنُوا ، بَلْ لَا

بُدَّ وَأَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْمَجَازِ بِأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ مَا يُقَارِبُ الشَّطْرَ كَمَا ذَكَرُوا قَاطِبَةً هُنَاكَ .
وَعَلَيْهِ جَرَى صَاحِبُ النِّهَايَةِ هُنَا أَيْضًا ، فَكَأَنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ نَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ .
ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ قَالَ فِي هَذَا الْمَقَامِ : وَشَطْرُ الشَّيْءِ نِصْفُهُ وَبَعْضُهُ ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا هُوَ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ صَاحِبُ النِّهَايَةِ ، وَلِهَذَا أَوَّلَهُ بِمَا يَقْرُبُ مِنْ شَطْرِهِ وَقَالَ : فَإِنَّهُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَةَ يَوْمًا وَهِيَ نِصْفُ الشَّهْرِ فَكَأَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ الشَّطْرَ لَا يَجِيءُ إلَّا بِمَعْنَى النِّصْفِ انْتَهَى كَلَامُهُ .
أَقُول : لَيْسَ هَذَا بِسَدِيدٍ ؛ لِأَنَّ مَجِيءَ الشَّطْرِ بِمَعْنَى الْبَعْضِ إنَّمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْقَامُوسِ حَيْثُ قَالَ : الشَّطْرُ نِصْفُ الشَّيْءِ وَجُزْؤُهُ .
وَمِنْهُ حَدِيثُ الْإِسْرَاءِ " فَوَضَعَ شَطْرَهَا " أَيْ بَعْضَهَا انْتَهَى .
وَلَكِنَّ ذَاكَ لَيْسَ بِقَطْعِيٍّ فِي أَنْ يَكُونَ الشَّطْرُ حَقِيقَةً فِي مَعْنَى الْبَعْضِ أَيْضًا ، فَإِنَّ أَكْثَرَ كُتُبِ اللُّغَةِ غَيْرُ مُتَكَفِّلٍ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ ، وَلَئِنْ سَلِمَ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي مَعْنَى الْبَعْضِ أَيْضًا فَلَيْسَ مَعْنَى الْبَعْضِ بِمُنَاسِبٍ لِلْمَقَامِ ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ تَحَقُّقِ الْحَيْضِ فِي بَعْضِ عُمْرِهَا لَا يَقْتَضِي الْحَرَجَ فِي الْمَنْعِ عَنْ الدَّوَاعِي أَيْضًا حَالَةَ الْحَيْضِ .
وَإِنَّمَا الَّذِي يَقْتَضِي الْحَرَجَ فِي ذَلِكَ تَحَقُّقُ الْحَيْضِ فِي نِصْفِ عُمْرِهَا أَوْ فِي قَرِيبٍ مِنْ نِصْفِ عُمْرِهَا لِطُولِ مُدَّةِ الْحَيْضِ إذْ ذَاكَ ، وَهُوَ الْمُفْضِي إلَى الْحَرَجِ .
فَلِذَلِكَ حَمَلَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ الشَّطْرَ الْوَاقِعَ فِي عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا عَلَى النِّصْفِ ، وَأَوَّلَهُ بِالْقَرِيبِ مِنْ النِّصْفِ لِيُوَافِقَ مَذْهَبَنَا فِي أَكْثَرِ مُدَّةِ الْحَيْضِ .

قَالَ ( وَمَنْ لَهُ أَمَتَانِ أُخْتَانِ فَقَبَّلَهُمَا بِشَهْوَةٍ فَإِنَّهُ لَا يُجَامِعُ وَاحِدَةً مِنْهُمَا وَلَا يُقَبِّلُهَا وَلَا يَمَسُّهَا بِشَهْوَةٍ وَلَا يَنْظُرُ إلَى فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ حَتَّى يَمْلِكَ فَرْجَ الْأُخْرَى غَيْرُهُ بِمِلْكٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ يُعْتِقُهَا ) ، وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ الْمَمْلُوكَتَيْنِ لَا يَجُوزُ وَطْئًا لِإِطْلَاقِ قَوْله تَعَالَى { وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ } وَلَا يُعَارَضُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } ؛ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ لِلْمُحَرَّمِ ، وَكَذَا لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الدَّوَاعِي لِإِطْلَاقِ النَّصِّ ، وَلِأَنَّ الدَّوَاعِيَ إلَى الْوَطْءِ بِمَنْزِلَةِ الْوَطْءِ فِي التَّحْرِيمِ عَلَى مَا مَهَّدْنَاهُ مِنْ قَبْلُ ، فَإِذَا قَبَّلَهُمَا فَكَأَنَّهُ وَطِئَهُمَا ، وَلَوْ وَطِئَهُمَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُجَامِعَ إحْدَاهُمَا وَلَا أَنْ يَأْتِيَ بِالدَّوَاعِي فِيهِمَا ، فَكَذَا إذَا قَبَّلَهُمَا وَكَذَا إذَا مَسَّهُمَا بِشَهْوَةٍ أَوْ نَظَرَ إلَى فَرْجِهِمَا بِشَهْوَةٍ لِمَا بَيَّنَّا إلَّا أَنْ يَمْلِكَ فَرْجَ الْأُخْرَى غَيْرُهُ بِمِلْكٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ يُعْتِقَهَا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا حَرُمَ عَلَيْهِ فَرْجُهَا لَمْ يَبْقَ جَامِعًا .
وَقَوْلُهُ بِمِلْكٍ أَرَادَ بِهِ مِلْكَ يَمِينٍ فَيَنْتَظِمُ التَّمْلِيكُ بِسَائِرِ أَسْبَابِهِ بَيْعًا أَوْ غَيْرَهُ ، وَتَمْلِيكُ الشِّقْصِ فِيهِ كَتَمْلِيكِ الْكُلِّ ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ يَحْرُمُ بِهِ ، وَكَذَا إعْتَاقُ الْبَعْضِ مِنْ إحْدَاهُمَا كَإِعْتَاقِ كُلِّهَا ، وَكَذَا الْكِتَابَةُ كَالْإِعْتَاقِ فِي هَذَا لِثُبُوتِ حُرْمَةِ الْوَطْءِ بِذَلِكَ كُلِّهِ ، وَبِرَهْنِ إحْدَاهُمَا وَإِجَارَتِهَا وَتَدْبِيرِهَا لَا تَحِلُّ الْأُخْرَى ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهَا لَا تَخْرُجُ بِهَا عَنْ مِلْكِهِ ، وَقَوْلُهُ أَوْ نِكَاحٍ أَرَادَ بِهِ النِّكَاحَ الصَّحِيحَ .
أَمَّا إذَا زَوَّجَ إحْدَاهُمَا نِكَاحًا فَاسِدًا لَا يُبَاحُ لَهُ وَطْءُ الْأُخْرَى إلَّا أَنْ يَدْخُلَ الزَّوْجُ بِهَا فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ الْعِدَّةُ عَلَيْهَا ، وَالْعِدَّةُ كَالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ فِي التَّحْرِيمِ .
وَلَوْ وَطِئَ إحْدَاهُمَا حَلَّ

لَهُ وَطْءُ الْمَوْطُوءَةِ دُونَ الْأُخْرَى ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ جَامِعًا بِوَطْءِ الْأُخْرَى لَا بِوَطْءِ الْمَوْطُوءَةِ .
وَكُلُّ امْرَأَتَيْنِ لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا نِكَاحًا فِيمَا ذَكَرْنَاهُ بِمَنْزِلَةِ الْأُخْتَيْنِ .

( قَوْلُهُ وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ الْمَمْلُوكَتَيْنِ لَا يَجُوزُ وَطْئًا لِإِطْلَاقِ قَوْله تَعَالَى { وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ } وَلَا يُعَارَضُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } ؛ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ لِلْمَحْرَمِ ) قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ : فَإِنْ قُلْت : الْأَصْلُ فِي الدَّلَائِلِ الْجَمْعُ وَأَمْكَنَ هُنَا بِأَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ { وَأَنْ تَجْمَعُوا } عَلَى النِّكَاحِ ، وَقَوْلُهُ { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } عَلَى مِلْكِ الْيَمِينِ .
قُلْت : الْمَعْنَى الَّذِي يُحَرِّمُ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ نِكَاحًا وُجِدَ هُنَا وَهُوَ قَطِيعَةُ الرَّحِمِ فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ هُنَا أَيْضًا وَلِأَنَّ قَوْلَهُ { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } مَخْصُوصٌ إجْمَاعًا ، فَإِنَّ أُمَّهُ وَأُخْتَهُ مِنْ الرَّضَاعِ وَالْأَمَةَ الْمَجُوسِيَّةَ حَرَامٌ فَلَا يُعَارِضُ مَا لَيْسَ بِمَخْصُوصٍ وَهُوَ الْمُحَرِّمُ لِلْجَمْعِ انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ وَالشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ .
أَقُولُ : فِي كُلٍّ مِنْ وَجْهَيْ الْجَوَابِ نَظَرٌ .
أَمَّا فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ حَاصِلَهُ أَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ { وَأَنْ تَجْمَعُوا } عَلَى النِّكَاحِ يَثْبُتُ حُكْمُ حُرْمَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَطْئًا بِمِلْكِ الْيَمِينِ أَيْضًا دَلَالَةً لِوُجُودِ الْمَعْنَى الْمُحَرَّمِ فِيهِ أَيْضًا وَهُوَ قَطِيعَةُ الرَّحِمِ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِتَامٍّ ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ عِبَارَةَ النَّصِّ وَإِشَارَتَهُ تُرَجَّحَانِ عَلَى دَلَالَةِ النَّصِّ عِنْدَ التَّعَارُضِ .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ إفَادَةَ عُمُومِ قَوْله تَعَالَى { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } حِلُّ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ الْمَمْلُوكَتَيْنِ وَطْئًا بِالْعِبَارَةِ ، وَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِالْإِشَارَةِ ، فَيَلْزَمُ أَنْ يُتْرَكَ بِهَا دَلَالَةُ الْآيَةِ الْأُخْرَى عَلَى حُرْمَةِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَطْئًا عَلَى مُقْتَضَى قَاعِدَةِ الْأُصُولِ .
وَأَمَّا فِي الْوَجْهِ الثَّانِي فَلِأَنَّ حَاصِلَهُ أَنَّ قَوْله تَعَالَى { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ }

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78