كتاب : فتح القدير
المؤلف : كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي

( وَمَنْ ادَّعَى عَلَى عَبْدٍ مَالًا وَكَفَلَ لَهُ رَجُلٌ بِنَفْسِهِ فَمَاتَ الْعَبْدُ بَرِئَ الْكَفِيلُ ) لِبَرَاءَةِ الْأَصِيلِ كَمَا إذَا كَانَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ بِنَفْسِهِ حُرًّا .
.
( قَوْلُهُ وَمَنْ ادَّعَى عَلَى عَبْدٍ مَالًا وَكَفَلَ رَجُلٌ بِنَفْسِهِ فَمَاتَ الْعَبْدُ بَرِئَ الْكَفِيلُ لِبَرَاءَةِ الْأَصِيلِ ) وَهُوَ ظَاهِرٌ ، لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ كَوْنِ الْمَكْفُولِ بِهِ حُرًّا أَوْ عَبْدًا ، وَإِنَّمَا فَرَضَهَا فِي الْعَبْدِ لِيُرَتِّبَ عَلَيْهَا مَسْأَلَةَ دَعْوَى الرَّقَبَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ .

قَالَ ( فَإِنْ ادَّعَى رَقَبَةَ الْعَبْدِ فَكَفَلَ بِهِ رَجُلٌ فَمَاتَ الْعَبْدُ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ ضَمِنَ الْكَفِيلُ قِيمَتَهُ ) لِأَنَّ عَلَى الْمَوْلَى رَدَّهَا عَلَى وَجْهٍ يَخْلُفُهَا قِيمَتُهَا ، وَقَدْ الْتَزَمَ الْكَفِيلُ ذَلِكَ وَبَعْدَ الْمَوْتِ تَبْقَى الْقِيمَةُ وَاجِبَةً عَلَى الْأَصِيلِ فَكَذَا عَلَى الْكَفِيلِ ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ .
( فَلَوْ كَانَ ادَّعَى رَقَبَةَ الْعَبْدِ فَكَفَلَ بِهِ رَجُلٌ فَمَاتَ الْعَبْدُ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْعَبْدَ كَانَ لَهُ ضَمِنَ الْكَفِيلُ قِيمَتَهُ ) لِأَنَّ عَلَى الْمَوْلَى رَدَّ رَقَبَةِ الْعَبْدِ عَلَى وَجْهٍ يُخَلِّفُهَا قِيمَتَهَا ( وَقَدْ الْتَزَمَ الْكَفِيلُ ذَلِكَ ، وَبَعْدَ الْمَوْتِ الْقِيمَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى الْأَصِيلِ فَكَذَا عَلَى الْكَفِيلِ ) فَهُوَ كَمَا لَوْ كَفَلَ بِالْمَغْصُوبِ حَيْثُ يُؤْخَذُ بِرَدِّ عَيْنِهِ ، فَإِنْ عَجَزَ فَبِقِيمَتِهِ .
فَحَاصِلُهُ أَنَّهُ كَفَلَ بِمَالٍ هُوَ رَقَبَةُ الْعَبْدِ وَالْمَكْفُولُ عَنْهُ الْمَوْلَى ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَفَلَ بِالْمَالِ الَّذِي عَلَى الْعَبْدِ فَمَاتَ يَجِبُ ضَمَانُهُ وَالْمَكْفُولُ عَنْهُ فِيهِ هُوَ الْعَبْدُ ، وَكَذَا عَنْ الْحُرِّ فَمَاتَ الْحُرُّ مُفْلِسًا لَا يَبْرَأُ الْكَفِيلُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ، بِخِلَافِ مَنْ كَفَلَ عَنْ الْمُفْلِسِ بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْخِلَافِ فِيهِ .

قَالَ ( وَإِذَا كَفَلَ الْعَبْدُ عَنْ مَوْلَاهُ بِأَمْرِهِ فَعَتَقَ فَأَدَّاهُ أَوْ كَانَ الْمَوْلَى كَفَلَ عَنْهُ فَأَدَّاهُ بَعْدَ الْعِتْقِ لَمْ يَرْجِعْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ ) وَقَالَ زُفَرُ : يَرْجِعُ ، وَمَعْنَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنْ لَا يَكُونَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ حَتَّى تَصِحَّ كَفَالَتُهُ بِالْمَالِ عَنْ الْمَوْلَى إذَا كَانَ بِأَمْرِهِ ، أَمَّا كَفَالَتُهُ عَنْ الْعَبْدِ فَتَصِحُّ عَلَى كُلِّ حَالٍ .
لَهُ أَنَّهُ تَحَقَّقَ الْمُوجِبُ لِلرُّجُوعِ وَهُوَ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِهِ وَالْمَانِعُ وَهُوَ الرِّقُّ قَدْ زَالَ .
وَلَنَا أَنَّهَا وَقَعَتْ غَيْرَ مُوجِبَةٍ لِلرُّجُوعِ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى عَبْدِهِ دَيْنًا وَكَذَا الْعَبْدُ عَلَى مَوْلَاهُ ، فَلَا تَنْقَلِبُ مُوجِبَةً أَبَدًا كَمَنْ كَفَلَ عَنْ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَأَجَازَهُ .

.
( قَوْلُهُ وَإِذَا كَفَلَ الْعَبْدُ عَنْ مَوْلَاهُ بِأَمْرِهِ فَعَتَقَ فَأَدَّى أَوْ كَانَ الْمَوْلَى كَفَلَ عَنْ عَبْدِهِ وَأَدَّى بَعْدَ عِتْقِ عَبْدِهِ لَمْ يَرْجِعْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ ) بِشَيْءٍ ( وَ ) نُقِلَ ( عَنْ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) فِي شَرْحِ الْجَامِعِ ( أَنَّهُ يَرْجِعُ ) قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَمَعْنَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ) يَعْنِي ضَمَانَ الْعَبْدِ عَنْ سَيِّدِهِ ( أَنْ لَا يَكُونَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ حَتَّى تَصِحَّ كَفَالَتُهُ عَنْ سَيِّدِهِ ) وَهَذَا لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ كَفَالَةَ الْعَبْدِ لَا تَصِحُّ مُطْلَقًا لِأَنَّ الْكَفَالَةَ إنَّمَا تَصِحُّ مِمَّنْ يَصِحُّ مِنْهُ التَّبَرُّعُ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ أَوَّلَ الْبَابِ فَلِذَا لَا تَصِحُّ مِنْ الصَّبِيِّ غَيْرِ الْمَأْذُونِ ، غَيْرَ أَنَّ أَمْرَ السَّيِّدِ لَهُ بِهَا فَكٌّ لِلْحَجْرِ عَنْهُ فِيهِ فَتَصِحُّ حَتَّى تُبَاعَ رَقَبَتُهُ فِي دَيْنِ الْكَفَالَةِ إذَا كَفَلَ لِغَيْرِ السَّيِّدِ بِإِذْنِ السَّيِّدِ ، فَإِذَا كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ لَا يَمْلِكُ السَّيِّدُ مَالِيَّتَهُ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِهَا فَلَا يَعْمَلُ أَمْرُهُ إيَّاهُ بِالْكَفَالَةِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَإِنَّ لِمَوْلَاهُ الْحَقَّ فِي مَالِيَّتِهِ فَيَعْمَلُ إذْنُهُ لَهُ فِي أَنْ يَكْفُلَ عَنْهُ .
وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْهِدَايَةِ : وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَيْسَتْ صَحِيحَةً لِمَا بَيَّنَّا .
أَمَّا كَفَالَةُ السَّيِّدِ عَنْ الْعَبْدِ فَصَحِيحَةٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ سَوَاءٌ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ أَوْ لَا .
فَإِنْ قِيلَ : دَيْنُ الْعَبْدِ الَّذِي يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى يُقْضَى مِنْ مَالِيَّتِهِ وَهِيَ مِلْكُ الْمَوْلَى فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي هَذِهِ الْكَفَالَةِ ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ الْفَائِدَةَ شَغْلُ ذِمَّةِ الْمَوْلَى بِالْمُطَالَبَةِ مَعَ الدَّيْنِ أَوَّلًا مَعَهُ لِيُقْضَى مِنْ جَمِيعِ أَمْوَالِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكْفُلْ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ عَيْنًا إلَّا أَنْ يُسَلِّمَهُ لِيُبَاعَ ، وَقَدْ لَا يَفِي ثَمَنَهُ بِالدَّيْنِ فَلَا يَصِلُ لِلْغُرَمَاءِ إلَى تَمَامِ الدَّيْنِ وَبِالْكَفَالَةِ يَصِلُونَ (

لِزُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ تَحَقَّقَ الْمُوجِبُ لِلرُّجُوعِ وَهُوَ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِهِ وَالْمَانِعُ وَهُوَ كَوْنُهُ عَبْدَهُ ) وَلَا يَسْتَوْجِبُ وَاحِدٌ مِنْ السَّيِّدِ وَالْعَبْدِ دَيْنًا عَلَى الْآخَرِ ( قَدْ زَالَ ) بِالْعِتْقِ فَإِنَّ الْأَدَاءَ مِنْهُمَا بَعْدَهُ فَيَجِبُ الرُّجُوعُ ( وَلَنَا أَنَّهَا وَقَعَتْ ) مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا ( غَيْرَ مُوجِبَةٍ لِلرُّجُوعِ ) بِمَا قُلْنَا إنَّ وَاحِدًا مِنْهُمَا لَا يَسْتَوْجِبُ دَيْنًا عَلَى الْآخَرِ فَلَا تَنْقَلِبُ مُوجِبَةً أَبَدًا كَمَنْ كَفَلَ عَنْ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ ) فَبَلَغَهُ ( فَأَجَازَ فَأَدَّى الْكَفِيلُ لَا يَرْجِعُ ) لِأَنَّ مَعْنَى الْأَمْرِ وَإِنْ تَحَقَّقَ فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ لَمْ يُوجِبْ حُكْمَ الِابْتِدَاءِ وَهُوَ الرُّجُوعُ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ مَا يَقَعُ لَازِمًا لَا يَكُونُ لِبَقَائِهِ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ .
وَهَذِهِ الْكَفَالَةُ حِينَ وَقَعَتْ وَقَعَتْ غَيْرَ مُوجِبَةٍ لِلرُّجُوعِ لِمَا قُلْنَا مِنْ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ السَّيِّدِ وَالْعَبْدِ لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى الْآخَرِ دَيْنًا إلَّا أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ مَدْيُونًا فَحِينَئِذٍ يَثْبُتُ لَهُ الدَّيْنُ عَلَى السَّيِّدِ ، وَإِذَا وَقَعَتْ غَيْرَ مُوجِبَةٍ فَلَوْ انْقَلَبَتْ مُوجِبَةً كَانَ فِي حَالِ الْبَقَاءِ وَلَيْسَ لِبَقَائِهَا حُكْمُ الِابْتِدَاءِ لِأَنَّهَا تَقَعُ لَازِمَةً ، وَقَدْ طُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ وَبَيْنَ الرَّاهِنِ إذَا أَعْتَقَ الْعَبْدَ الرَّهْنَ وَهُوَ مُعْسِرٌ فَإِنَّ الْعَبْدَ يَسْعَى فِي ذَلِكَ الدَّيْنِ ثُمَّ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى سَيِّدِهِ فَلِمَ لَا يَرْجِعُ هُنَا ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ اسْتِيجَابَ الدَّيْنِ عَلَى مَوْلَاهُ وَقَعَ بَعْدَ الْعِتْقِ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ تَنَافٍ وَقْتَ اسْتِيجَابِ الدَّيْنِ لِحُرِّيَّتِهِمَا إذْ ذَاكَ فَجَازَ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمَوْلَى ، أَمَّا هُنَا فَزَمَانُ اسْتِيجَابِ الدَّيْنِ وَهُوَ زَمَانُ الْكَفَالَةِ كَانَ عَبْدًا فِيهِ .

( وَلَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِمَالِ الْكِتَابَةِ حُرٌّ تَكَفَّلَ بِهِ أَوْ عَبْدٌ ) لِأَنَّهُ دَيْنٌ ثَبَتَ مَعَ الْمُنَافِي فَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ صِحَّةِ الْكَفَالَةِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ عَجَزَ نَفْسُهُ سَقَطَ ، وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ ، وَإِثْبَاتُهُ مُطْلَقًا يُنَافِي مَعْنَى الضَّمِّ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِهِ الِاتِّحَادُ ، وَبَدَلُ السِّعَايَةِ كَمَالِ الْكِتَابَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ كَالْمُكَاتَبِ عِنْدَهُ .

.
( قَوْلُهُ وَلَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ حُرٌّ تَكَفَّلَ بِهِ أَوْ عَبْدٌ ) وَكَذَا لَا تَجُوزُ بِمَالٍ آخَرَ لِلسَّيِّدِ عَلَى الْمُكَاتَبِ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ عَقْدُ الْكِتَابَةِ ( ثَبَتَ مَعَ الْمُنَافِي ) وَهُوَ عَبْدِيَّتُهُ لِلسَّيِّدِ الْمُكَاتَبِ لِأَنَّهُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي نَفْيَ الدَّيْنِ لِلسَّيِّدِ عَلَى عَبْدِهِ ، وَإِنْ ثَبَتَ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ لِتَحْقِيقِ الْعِتْقِ لِتَشَوُّفِ الشَّارِعِ إلَيْهِ فَيَقْتَصِرُ عَلَيْهِ ( فَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ صِحَّةِ الْكَفَالَةِ ، وَلِأَنَّ الْمُكَاتَبَ لَوْ عَجَّزَ نَفْسُهُ سَقَطَ ) هَذَا الدَّيْنُ ( وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ ) أَيْ إثْبَاتُ هَذَا الدَّيْنِ ( عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عَلَى الْكَفِيلِ ) وَهُوَ كَوْنُهُ إذَا عَجَزَ الْكَفِيلُ نَفْسُهُ يَسْقُطُ عَنْهُ ( وَإِثْبَاتُهُ مُطْلَقًا ) فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ عَنْ هَذَا الْوَصْفِ ( يُنَافِي مَعْنَى الضَّمِّ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِهِ الِاتِّحَادَ ) وَلَوْ أَثْبَتَاهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ عَلَى الْكَفِيلِ وَعَلَى تَمْكِينِهِ مِنْ إسْقَاطِهِ عَلَى الْأَصِيلِ لَمْ يَتَّحِدْ الدَّيْنُ عَلَيْهِمَا ( وَبَدَلُ السِّعَايَةِ كَمَالِ الْكِتَابَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ كَالْمُكَاتَبِ عِنْدَهُ ) لِلْعِلَّةِ الْأُولَى ، لِأَنَّ لَهُ أَحْكَامَ الْعَبْدِ عِنْدَهُ حَتَّى لَا تُقْبَلَ شَهَادَتُهُ ، وَلَا يَتَزَوَّجُ أَكْثَرَ مِنْ ثِنْتَيْنِ وَيُنَصِّفُ حَدَّهُ .
وَقَسْمُهَا دُونَ الْعِلَّةِ الثَّانِيَةِ إذْ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَسْقُطَ عَنْهُ دَيْنُ السِّعَايَةِ بِتَعْجِيزِ نَفْسِهِ ، وَعِنْدَهُمَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهِ لِأَنَّهُ حُرٌّ مَدْيُونٌ عِنْدَهُمَا ، وَأَمَّا الْكَفَالَةُ لِلْمُكَاتَبِ بِدَيْنٍ لَهُ عَلَى السَّيِّدِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَجَائِزَةٌ .
وَأَمَّا الْعَبْدُ التَّاجِرُ إذَا أَدَانَ مَوْلَاهُ دَيْنًا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ وَأَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا لَهُ فَالْكَفَالَةُ بَاطِلَةٌ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى مَوْلَاهُ دَيْنًا ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ صَحَّتْ الْكَفَالَةُ لِأَنَّ كَسْبَهُ حَقُّ

الْغُرَمَاءِ لَا السَّيِّدِ فَكَانَ الدَّيْنُ وَاجِبًا فِي ذِمَّتِهِ كَمَا فِي ذِمَّةِ غَيْرِهِ فَصَحَّتْ الْكَفَالَةُ ، وَالْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ مِثْلُ ذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ لَا تَصِحُّ ، وَإِنْ كَانَ صَحَّتْ .

( كِتَابُ الْحَوَالَةِ ) .

كِتَابُ الْحَوَالَةِ ) الْحَوَالَةُ تُنَاسِبُ الْكَفَالَةَ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا عَقْدُ الْتِزَامِ مَا عَلَى الْأَصِيلِ لِلتَّوَثُّقِ ، إلَّا أَنَّ الْحَوَالَةَ تَتَضَمَّنُ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ بَرَاءَةً مُقَيَّدَةً عَلَى مَا سَتَعْلَمُ ، بِخِلَافِ الْكَفَالَةِ لَا تَتَضَمَّنُهُ فَكَانَتْ كَالْمُرَكَّبِ مَعَ الْمُفْرَدِ ، وَالْمُفْرَدُ مُقَدَّمٌ فَأَخَّرَ الْحَوَالَةَ عَنْهَا .
وَأَيْضًا أَثَرُ الْكَفَالَةِ أَقْرَبُ إلَى الْأَصْلِ وَهُوَ عَدَمُ السُّقُوطِ بِهِ الثُّبُوتُ وَأَثَرُ الْحَوَالَةِ أَبْعَدُ مِنْهُ .
وَالْحَوَالَةُ اسْمٌ مِنْ الْإِحَالَةِ ، وَمِنْهُ يُقَالُ أَحَلْت زَيْدًا بِمَا لَهُ عَلَى عَمْرٍو فَاحْتَالَ أَيْ قَبِلَ فَأَنَا مُحِيلٌ وَزَيْدٌ مُحَالٌ ، وَيُقَالُ مُحْتَالٌ وَالْمَالُ مُحْتَالٌ بِهِ وَالرَّجُلُ مُحَالٌ عَلَيْهِ ، وَيُقَالُ مُحْتَالٌ عَلَيْهِ .
فَتَقْدِيرُ الْأَصْلِ فِي مُحْتَالٍ الْوَاقِعِ فَاعِلًا مُحْتَوِلٌ بِكَسْرِ الْوَاوِ ، وَفِي الْوَاقِعِ مَفْعُولًا مُحْتَوَلٌ بِالْفَتْحِ كَمَا يُقَدَّرُ فِي مُخْتَارِ الْفَاعِلِ مُخْتِيرٌ بِكَسْرِ الْيَاءِ وَبِفَتْحِهَا فِي مُخْتَارٍ الْمَفْعُولِ ، وَإِمَّا صِلَةٌ لَهُ مَعَ الْمُحْتَالِ الْفَاعِلِ فَلَا حَاجَةَ إلَيْهَا ، بَلْ الصِّلَةُ مَعَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ لَفْظَةٌ عَلَيْهِ فَهُمَا مُحْتَالٌ وَمُحْتَالٌ عَلَيْهِ ، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بِعَدَمِ الصِّلَةِ وَبِصِلَةٍ عَلَيْهِ .
وَفِي الْمُغْرِبِ تَرْكِيبُ الْحَوَالَةِ يَدُلُّ عَلَى الزَّوَالِ وَالنَّقْلِ ، وَمِنْهُ التَّحْوِيلُ وَهُوَ نَقْلُ الشَّيْءِ مِنْ مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ ، وَيُقَالُ لِلْمُحْتَالِ حَوِيلُ أَيْضًا ، فَالْمُحِيلُ هُوَ الْمَدْيُونُ وَالْمُحَالُ وَالْمُحْتَالُ رَبُّ الدَّيْنِ ، وَالْمُحَالُ عَلَيْهِ وَالْمُحْتَالُ عَلَيْهِ هُوَ الَّذِي الْتَزَمَ ذَلِكَ الدَّيْن لِلْمُحْتَالِ وَالْمُحْتَالُ بِهِ نَفْسُ الدَّيْنِ .
وَهِيَ فِي الشَّرْعِ نَقْلُ الْمُطَالَبَةِ مِنْ ذِمَّةِ الْمَدْيُونِ إلَى ذِمَّةِ الْمُلْتَزِمِ ، بِخِلَافِ الْكَفَالَةِ فَإِنَّهَا ضَمٌّ فِي الْمُطَالَبَةِ لَا نَقْلٌ فَلَا يُطَالَبُ الْمَدْيُونُ بِالِاتِّفَاقِ ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ أَنَّ الدَّيْنَ أَيْضًا يَنْتَقِلُ أَوَّلًا وَسَنَذْكُرُهُ مِنْ

قَرِيبٍ ، فَلَوْ أُرِيدَ التَّعْرِيفُ عَلَى قَوْلِ النَّاقِلِينَ بِخُصُوصِهِمْ قِيلَ نَقْلُ الدَّيْنِ أَوْ وَقَوْلُ النَّافِينَ قِيلَ نَقْلُ الْمُطَالَبَةِ فَقَطْ .

قَالَ ( وَهِيَ جَائِزَةٌ بِالدُّيُونِ ) قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ أُحِيلَ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ } وَلِأَنَّهُ الْتَزَمَ مَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ فَتَصِحُّ كَالْكَفَالَةِ ، وَإِنَّمَا اخْتَصَّتْ بِالدُّيُونِ لِأَنَّهَا تُنْبِئُ عَنْ النَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ ، وَالتَّحْوِيلُ فِي الدَّيْنِ لَا فِي الْعَيْنِ .

.
( قَوْلُهُ وَهِيَ جَائِزَةٌ بِالدُّيُونِ ) قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ ، وَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا بِلَفْظِ أُحِيلَ مَعَ لَفْظِ يَتْبَعُ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فَرِوَايَةُ الطَّبَرَانِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْأَوْسَطِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ ، وَمَنْ أُحِيلَ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ } وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ { وَمَنْ أُحِيلَ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَحْتَلْ } قِيلَ : وَقَدْ يُرْوَى فَإِذَا أُحِيلَ بِالْفَاءِ فَيُفِيدُ أَنَّ الْأَمْرَ بِالِاتِّبَاعِ لِلْمُلَاءَةِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ إذَا كَانَ الْغَنِيُّ ظُلْمًا ، فَإِذَا أُحِيلَ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ فِي الظُّلْمِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
ثُمَّ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ الْمَذْكُورَ أَمْرُ اسْتِحْبَابٍ ، وَعَنْ أَحْمَدَ لِلْوُجُوبِ ، وَالْحَقُّ الظَّاهِرُ أَنَّهُ أَمْرُ إبَاحَةٍ هُوَ دَلِيلُ جَوَازِ نَقْلِ الدَّيْنِ شَرْعًا أَوْ الْمُطَالَبَةُ ، فَإِنَّ بَعْضَ الْأَمْلِيَاءِ عِنْدَهُ مِنْ اللَّدَدِ فِي الْخُصُومَةِ وَالتَّعْسِيرِ مَا تَكْثُرُ بِهِ الْخُصُومَةُ وَالْمُضَارَّةُ ، فَمَنْ عُلِمَ مِنْ حَالِهِ هَذَا لَا يَطْلُبُ الشَّارِعُ اتِّبَاعَهُ بَلْ عَدَمُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَكْثِيرِ الْخُصُومَاتِ وَالظُّلْمِ ، وَأَمَّا مَنْ عُلِمَ مِنْهُ الْمُلَاءَةُ وَحُسْنُ الْقَضَاءِ فَلَا شَكَّ فِي أَنَّ اتِّبَاعَهُ مُسْتَحَبٌّ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّخْفِيفِ عَلَى الْمَدْيُونِ وَالتَّيْسِيرِ عَلَيْهِ ، وَمَنْ لَا يُعْلَمُ حَالُهُ فَمُبَاحٌ لَكِنْ لَا يُمْكِنُ إضَافَةُ هَذَا التَّفْصِيلِ إلَى النَّصِّ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ مَعْنَيَيْنِ مَجَازِيَّيْنِ لِلَفْظِ الْأَمْرِ فِي إطْلَاقٍ وَاحِدٍ ، فَإِنْ جُعِلَ لِلْأَقْرَبِ أُضْمِرَ مَعَهُ الْقَيْدُ وَإِلَّا فَهُوَ دَلِيلُ الْجَوَازِ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِهَا دَفْعًا لِلْحَاجَةِ ، وَإِنَّمَا خُصَّتْ بِالدَّيْنِ لِأَنَّ النَّقْلَ الَّذِي تَضَمَّنَهُ نَقْلٌ شَرْعِيٌّ وَهُوَ لَا

يُتَصَوَّرُ فِي الْأَعْيَانِ ، بَلْ الْمُتَصَوَّرُ فِيهَا النَّقْلُ الْحِسِّيُّ فَكَانَتْ نَقْلَ الْوَصْفِ الشَّرْعِيِّ وَهُوَ الدَّيْنُ .

قَالَ ( وَتَصِحُّ الْحَوَالَةُ بِرِضَا الْمُحِيلِ وَالْمُحْتَالِ وَالْمُحْتَالِ عَلَيْهِ ) أَمَّا الْمُحْتَالُ فَلِأَنَّ الدَّيْنَ حَقُّهُ وَهُوَ الَّذِي يَنْتَقِلُ بِهَا وَالذِّمَمُ مُتَفَاوِتَةٌ فَلَا بُدَّ مِنْ رِضَاهُ ، وَأَمَّا الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ فَلِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ الدَّيْنُ وَلَا لُزُومَ بِدُونِ الْتِزَامِهِ ، وَأَمَّا الْمُحِيلُ فَالْحَوَالَةُ تَصِحُّ بِدُونِ رِضَاهُ ذَكَرَهُ فِي الزِّيَادَاتِ لِأَنَّ الْتِزَامَ الدَّيْنِ مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَهُوَ لَا يَتَضَرَّرُ بِهِ بَلْ فِيهِ نَفْعُهُ لِأَنَّهُ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ بِأَمْرِهِ .

( قَوْلُهُ وَتَصِحُّ الْحَوَالَةُ بِرِضَا الْمُحِيلِ وَالْمُحْتَالِ وَالْمُحْتَالِ عَلَيْهِ .
أَمَّا الْمُحْتَالُ فَلِأَنَّ الدَّيْنَ حَقُّهُ وَهُوَ ) أَيْ الدَّيْنُ ( الَّذِي يَنْتَقِلُ بِهَا ) أَيْ بِالْحَوَالَةِ ( وَالذِّمَمُ مُتَفَاوِتَةٌ ) فِي حُسْنِ الْقَضَاءِ وَالْمَطْلِ ( فَلَا بُدَّ مِنْ رِضَاهُ ) وَإِلَّا لَزِمَ الضَّرَرُ بِإِلْزَامِهِ إتْبَاعَ مَنْ لَا يُوفِيهِ ( وَأَمَّا الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ فَلِأَنَّهُ ) الَّذِي ( يَلْزَمُهُ الدَّيْنُ وَلَا لُزُومَ إلَّا بِالْتِزَامِهِ ) وَلَوْ كَانَ مَدْيُونًا لِلْمُحِيلِ لِأَنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي الِاقْتِضَاءِ مِنْ بَيْنِ سَهْلٍ مُيَسِّرٍ وَصَعْبٍ مُعَسِّرٍ ( وَأَمَّا الْمُحِيلُ فَالْحَوَالَةُ تَصِحُّ بِلَا رِضَاهُ ذَكَرَهُ فِي الزِّيَادَاتِ لِأَنَّ الْتِزَامَ الدَّيْنِ مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَهُوَ ) أَيْ الْمُحِيلُ ( لَا يَتَضَرَّرُ بِهِ بَلْ فِيهِ نَفْعُهُ ) عَاجِلًا بِانْدِفَاعِ الْمُطَالَبَةِ عَنْهُ فِي الْحَالِّ وَآجِلًا بِعَدَمِ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ ( لِأَنَّهُ لَا يَرْجِعُ إلَّا بِأَمْرِهِ ) وَحَيْثُ تَثْبُتُ الْحَوَالَةُ بِغَيْرِ رِضَاهُ كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ ، وَأَوَّلَ فِي الْأَوْضَحِ الْمَذْكُورِ فِي الْقُدُورِيِّ بِمَا إذَا كَانَ لِلْمُحِيلِ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ دَيْنٌ بِقَدْرِ مَا يَقْبَلُ الْحَوَالَةَ ، فَإِنَّ قَبُولَ الْحَوَالَةِ حِينَئِذٍ مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ يَكُونُ إسْقَاطًا لِمُطَالَبَةِ الْمُحِيلِ عَنْ نَفْسِهِ : أَعْنِي نَفْسَ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ فَلَا تَصِحُّ إلَّا بِرِضَاهُ ، كَذَا فِي الْخَبَّازِيَّةِ .
وَاشْتِرَاطُ رِضَا الْمُحِيلِ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ ، قَالُوا لِأَنَّ الْمُحِيلَ إيفَاءُ مَا عَلَيْهِ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ شَاءَ فَلَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ بَعْضُ الْجِهَاتِ قَهْرًا .
وَنَقْلُ ابْنُ قُدَامَةَ أَنَّ رِضَا الْمُحِيلِ لَا خِلَافَ فِيهِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ : وَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ رَجُلٌ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ لَك عَلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ أَلْفٌ فَاحْتَلْ بِهَا عَلَيَّ فَرَضِيَ الطَّالِبُ وَأَجَازَ صَحَّتْ الْحَوَالَةُ حَتَّى لَا يَكُونَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَسَنُبَيِّنُ الْحَقَّ فِيهِ عِنْدَنَا .

هَذَا وَلَا تَصِحُّ الْحَوَالَةُ فِي غَيْبَةِ الْمُحْتَالِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ كَمَا قُلْنَا فِي الْكَفَالَةِ إلَّا أَنْ يَقْبَلَ رَجُلٌ الْحَوَالَةَ لِلْغَائِبِ فَتَتَوَقَّفُ إجَازَتُهُ إذَا بَلَغَهُ ، وَكَذَا لَا يُشْتَرَطُ حَضْرَةُ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ ، حَتَّى لَوْ أَحَالَ عَلَى غَائِبٍ فَبَلَغَهُ فَأَجَازَ صَحَّتْ .

قَالَ ( وَإِذَا تَمَّتْ الْحَوَالَةُ بَرِئَ الْمُحِيلُ مِنْ الدَّيْنِ بِالْقَبُولِ ) وَقَالَ زُفَرُ : لَا يَبْرَأُ اعْتِبَارًا بِالْكَفَالَةِ ، إذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقْدُ تَوَثُّقٍ ، وَلَنَا أَنَّ الْحَوَالَةَ لِلنَّقْلِ لُغَةٌ ، وَمِنْهُ حَوَالَةُ الْغِرَاسِ وَالدَّيْنُ مَتَى انْتَقَلَ عَنْ الذِّمَّةِ لَا يَبْقَى فِيهَا .
أَمَّا الْكَفَالَةُ فَلِلضَّمِّ وَالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى وِفَاقِ الْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةِ وَالتَّوَثُّقِ بِاخْتِيَارِ الْأَمْلَأِ وَالْأَحْسَنِ فِي الْقَضَاءِ ، وَإِنَّمَا يُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ إذَا نَقَدَ الْمُحِيلُ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ عَوْدُ الْمُطَالَبَةِ إلَيْهِ بِالتَّوَى فَلَمْ يَكُنْ مُتَبَرِّعًا .

( قَوْلُهُ وَإِذَا تَمَّتْ الْحَوَالَةُ بِالْقَبُولِ بَرِئَ الْمُحِيلُ مِنْ الدَّيْنِ ) هَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ الْمَشَايِخِ وَهُوَ الْمُصَحَّحُ مِنْ الْمَذْهَبِ ، وَقَوْلُ طَائِفَةٍ أُخْرَى : لَا يَبْرَأُ إلَّا مِنْ الْمُطَالَبَةِ فَقَطْ ( وَقَالَ زُفَرُ : لَا يَبْرَأُ ) مِنْ الْمُطَالَبَةِ أَيْضًا ، فَالنَّظَرُ فِي خِلَافِ الْمَشَايِخِ أَوَّلًا حَتَّى يَثْبُتَ الْمَذْهَبُ ثُمَّ يُنْظَرُ فِي خِلَافِ زُفَرَ ، فَالْقَائِلُونَ إنَّ الْمَذْهَبَ لَا يَبْرَأُ عَنْ الدَّيْنِ اسْتَدَلُّوا بِمَسَائِلَ ذَكَرَهَا مُحَمَّدٌ تَقْتَضِي ذَلِكَ .
فَمِنْهَا أَنَّ الْمُحْتَالَ إذَا أَبْرَأَ الْمُحْتَالَ عَلَيْهِ يَصِحُّ وَلَا يَرْتَدُّ بِرَدِّهِ كَإِبْرَاءِ الْكَفِيلِ ؛ وَلَوْ انْتَقَلَ أَصْلُ الدَّيْنِ إلَى ذِمَّةِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ وَجَبَ أَنْ يَرْتَدَّ بِرَدِّهِ كَمَا لَوْ أَبْرَأَ الْمُحْتَالُ الْمُحِيلَ قَبْلَ الْحَوَالَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّمْلِيكِ .
وَمِنْهَا أَنَّ الْمُحِيلَ إذَا نَقَدَ الْمُحْتَالُ مَالَهُ بَعْدَ الْحَوَالَةِ يُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ ، فَلَوْ انْتَقَلَ أَصْلُ الدَّيْنِ بِالْحَوَالَةِ كَانَ مُتَبَرِّعًا بِمَالِ الْمُحْتَالِ فَلَا يُجْبَرُ عَلَى قَبُولِهِ لِغَيْرِهِ .
وَمِنْهَا أَنَّ الْمُحْتَالَ إذَا وَكَّلَ الْمُحِيلُ بِقَبْضِ مَالِ الْحَوَالَةِ مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ ، وَلَوْ انْتَقَلَ الدَّيْنُ صَارَ الْمُحِيلُ أَجْنَبِيًّا عَنْهُ ، وَتَوْكِيلُ الْأَجْنَبِيِّ بِقَبْضِ الدَّيْنِ صَحِيحٌ .
وَمِنْهَا أَنَّ الْمُحْتَالَ إذَا أَبْرَأَ الْمُحْتَالَ عَلَيْهِ لَا يَرْجِعُ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ عَلَى الْمُحِيلِ ، فَلَوْ كَانَتْ الْحَوَالَةُ بِأَمْرِ الْمُحِيلِ وَلَوْ وُهِبَ مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمُحِيلِ كَمَا فِي الْكَفِيلِ إلَّا إنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُحِيلِ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَإِلَّا الْتَقَيَا قِصَاصًا ، وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ يَتَحَوَّلُ إلَى ذِمَّتِهِ كَانَ الْإِبْرَاءُ وَالْهِبَةُ فِي حَقِّهِ سَوَاءٌ فَلَا يَرْجِعُ .
وَالْقَائِلُونَ إنَّ الْمَذْهَبَ يَنْتَقِلُ الدَّيْنُ اسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْمُحْتَالَ إذَا وُهِبَ الدَّيْنَ مِنْ الْمُحِيلِ أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْ الدَّيْنِ بَعْدَ

الْحَوَالَةِ لَا يَصِحُّ إبْرَاؤُهُ وَهِبَتُهُ ، وَلَوْ بَقِيَ الدَّيْنُ فِي ذِمَّتِهِ صَحَّ ، وَجَعَلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ هَذَا الْخِلَافَ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ ؛ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَنْتَقِلُ الدَّيْنُ وَالْمُطَالَبَةُ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تَنْتَقِلُ الْمُطَالَبَةُ لَا الدَّيْنُ .
قَالَ : وَفَائِدَةُ هَذَا الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي مَسْأَلَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا أَنَّ الرَّاهِنَ إذَا حَالَ الْمُرْتَهِنَ بِالدَّيْنِ فَلَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ الرَّهْنَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ كَمَا لَوْ أَبْرَأهُ عَنْهُ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَسْتَرِدُّهُ كَمَا لَوْ أَجَّلَ الدَّيْنَ بَعْدَ الرَّهْنِ .
وَالثَّانِيَةُ إذَا أَبْرَأَ الطَّالِبُ الْمُحِيلَ بَعْدَ الْحَوَالَةِ لَا يَصِحُّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ بَرِئَ بِالْحَوَالَةِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَصِحُّ وَبَرِئَ الْمُحِيلُ لِأَنَّ أَصْلَ الدَّيْنِ بَاقٍ فِي ذِمَّتِهِ ، وَإِنَّمَا تَحَوَّلَتْ الْمُطَالَبَةُ لَيْسَ غَيْرُ ، وَقَدْ أَنْكَرَ هَذَا الْخِلَافَ بَيْنَهُمَا بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ وَقَالَ : لَمْ يُنْقَلْ عَنْ مُحَمَّدٍ نَصٌّ بِنَقْلِ الْمُطَالَبَةِ دُونَ الدَّيْنِ ، بَلْ ذَكَرَ أَحْكَامًا مُتَشَابِهَةً وَاعْتَبَرَ الْحَوَالَةَ فِي بَعْضِهَا تَأْجِيلًا وَجَعَلَ الْمُحَوَّلَ بِهَا الْمُطَالَبَةَ لَا الدَّيْنَ ، وَاعْتَبَرَهَا فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ إبْرَاءً وَجَعَلَ الْمُحَوَّلَ بِهَا الْمُطَالَبَةَ وَالدَّيْنَ ، وَإِنَّمَا فَعَلَ هَكَذَا لِأَنَّ اعْتِبَارَ حَقِيقَةِ اللَّفْظِ يُوجِبُ نَقْلَ الْمُطَالَبَةِ وَالدَّيْنِ ، إذْ الْحَوَالَةُ مُنْبِئَةٌ عَنْ النَّقْلِ وَقَدْ أُضِيفَ إلَى الدَّيْنِ ، وَاعْتِبَارُ الْمَعْنَى يُوجِبُ تَحْوِيلَ الْمُطَالَبَةِ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ تَأْجِيلٌ مَعْنًى ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا مَاتَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ مُفْلِسًا يَعُودُ الدَّيْنُ إلَى ذِمَّةِ الْمُحِيلِ ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى التَّأْجِيلِ ، فَاعْتَبَرَ الْمَعْنَى فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ وَاعْتَبَرَ الْحَقِيقَةَ فِي بَعْضِهَا ، نَعَمْ يَحْتَاجُ إلَى بَيَانِ كَمِّيَّةِ خُصُوصِ الِاعْتِبَارِ فِي كُلِّ مَكَان ، وَسَيُجِيبُ الْمُصَنِّفُ عَنْ بَعْضِهَا فِي خِلَافِيَّةِ زُفَرَ هَذِهِ .
إذَا عُرِفَ الْمَذْهَبُ حِينَئِذٍ

جِئْنَا إلَى خِلَافِ زُفَرَ لَهُ الِاعْتِبَارُ بِالْكَفَالَةِ بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا عَقْدُ تَوَثُّقٍ وَلَمْ يَنْتَقِلْ فِيهَا دَيْنٌ وَلَا مُطَالَبَةٌ بَلْ تَحَقَّقَ فِيهَا اشْتِرَاكٌ فِي الْمُطَالَبَةِ ، وَلِأَنَّ عَدَمَ الِانْتِقَالِ أَدُخِلَ فِي مَعْنَى التَّوَثُّقِ إذْ يَصِيرُ لَهُ مُكْنَةُ أَنْ يُطَالِبَ كُلًّا مِنْهُمَا فَكَذَا هَذَا .
( وَلَنَا أَنَّ الْحَوَالَةَ لِلنَّقْلِ لُغَةً وَمِنْهُ حَوَالَةُ الْغِرَاسِ ) فَوَجَبَ نَقْلُ الدَّيْنِ ( وَالدَّيْنُ إذَا انْتَقَلَ عَنْ الذِّمَّةِ لَا يَبْقَى فِيهَا ، أَمَّا الْكَفَالَةُ فَلِلضَّمِّ ) لُغَةً لِأَنَّهَا مِنْ الْكِفْلِ وَهُوَ الضَّمُّ فَوَجَبَ فِيهَا اعْتِبَارُ ضَمِّ الذِّمَّةِ إلَى الذِّمَّةِ ( لِأَنَّ الْأَحْكَامَ ) يَعْنِي الْعُقُودَ ( الشَّرْعِيَّةَ ) الْمُسَمَّاةَ بِأَسْمَاءٍ تُعْتَبَرُ فِيهَا مَعَانِي تِلْكَ الْأَسْمَاءِ وَهُوَ فَائِدَةُ اخْتِصَاصِهَا بِأَسْمَائِهَا .
( قَوْلُهُ عَقْدُ تَوَثُّقٍ ) وَالتَّوَثُّقُ أَنْ يُطَالِبَ كُلًّا مِنْهُمَا .
قُلْنَا بَلْ التَّوَثُّقُ لَمْ يَنْحَصِرْ فِي ذَلِكَ بَلْ يَصْدُقُ بِاخْتِيَارِ الْأَمْلَأِ وَالْأَيْسَرِ فِي الْقَضَاءِ فَيُكْتَفَى بِهِ فِي تَحْقِيقِ مَعْنَى التَّوَثُّقِ فِي مُسَمَّى لَفْظِ الْحَوَالَةِ غَيْرَ مُتَوَقِّفٍ عَلَى خُصُوصِ مَا ذُكِرَ مِنْ التَّوَثُّقِ ، وَهَذَا الدَّلِيلُ يَنْتَهِضُ عَلَى زُفَرَ فَإِنَّهُ قَالَ بِبَقَاءِ الدَّيْنِ وَالْمُطَالَبَةِ عَلَى الْأَصِيلِ .
أَمَّا الطَّائِفَةُ مِنْ الْمَشَايِخِ الْقَائِلُونَ بِنَقْلِ الْمُطَالَبَةِ دُونَ الدَّيْنِ فَلَا ، فَإِنَّهُ إذَا قَالَ : الْحَوَالَةُ تُنَبِّئُ عَنْ النَّقْلِ فَيُعْتَبَرُ فِيهَا ذَلِكَ .
قَالُوا : سَلَّمْنَا ، وَاعْتِبَارُ نَقْلِ الْمُطَالَبَةِ كَافٍ فِي تَحْقِيقِ مَعْنَى النَّقْلِ غَيْرُ مُتَوَقِّفٍ عَلَى نَقْلِ الدَّيْنِ كَمَا قُلْت .
لِزُفَرَ إنَّ تَحْقِيقَ التَّوَثُّقِ يَحْصُلُ بِاخْتِيَارِ الْإِمْلَا إلَخْ غَيْرَ مُتَوَقِّفٍ عَلَى كُلٍّ كَمَا يَحْصُلُ بِهِ التَّوَثُّقُ .
وَقَوْلُهُ يُجْبَرُ إلَخْ جَوَابُ نُقِضَ مِنْ قِبَلِ زُفَرَ وَهُوَ مِمَّا سَبَقَ مِنْ أَدِلَّةِ الْقَائِلِينَ مِنْ الْمَشَايِخِ بِعَدَمِ نَقْلِ الدَّيْنِ وَهُوَ أَنَّ الْمُحِيلَ إذَا نَقَدَ

الْمُحْتَالَ الدَّيْنَ الْمُحَالَ بِهِ قَبْلَ نَقْدِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ أُجْبِرَ الْمُحْتَالُ عَلَى الْقَبُولِ ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الدَّيْنُ بَاقِيًا عَلَى الْمُحِيلِ لَمْ يُجْبَرْ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مُتَبَرِّعٌ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ فَلَا يُجْبَرُ عَلَى قَبُولِهِ .
أَجَابَ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ عَلَى تَقْدِيرِ النَّقْلِ أَنْ يَكُونَ مُتَبَرِّعًا مَحْضًا ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ لَوْ لَمْ يَكُنْ عَوْدُ الدَّيْنِ الْمُنْتَقِلِ إلَيْهِ بِعَيْنِهِ مُمْكِنًا مَخُوفًا قَدْ يُتَوَقَّعُ ، فَأَمَّا إنْ كَانَ فَلَا لِأَنَّهُ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ دَافِعٌ عَنْ نَفْسِهِ الْمُطَالَبَةَ عَلَى تَقْدِيرِ تَحَقُّقِ سَبَبِهَا ، فَهَذَا الْجَوَابُ يَدْفَعُ هَذَا الْوَارِدَ مِنْ حَيْثُ هُوَ نَقْضٌ لِزُفَرَ وَدَلِيلٌ لِتِلْكَ الطَّائِفَةِ ، وَقَدْ نُقِضَ مِنْ قِبَلِ زُفَرَ بِوُجُودِ الْحَوَالَةِ وَلَا نَقْلَ أَصْلًا بِمَا إذَا وَقَعَتْ بِغَيْرِ إذْنِ الْمُحِيلِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ مَعْنَى النَّقْلِ يَتَحَقَّقُ فِيهِ بَعْدَ أَدَاءِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ حَتَّى لَا يَبْقَى إذْ ذَاكَ عَلَى الْمُحِيلِ شَيْءٌ ، إلَّا أَنَّهُ قَدْ يُقَالُ لَوْ صَحَّ هَذَا لَصَحَّ أَنْ يُقَالَ الْكَفَالَةُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ فِيهَا نَقْلُ الدَّيْنِ أَيْضًا بِهَذَا الْوَجْهِ لِأَنَّهُ إذَا أَدَّى الْكَفِيلُ لَا يَبْقَى عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ شَيْءٌ .
وَالْحَقُّ أَنَّ أَصْلَ الْجَوَابِ سَاقِطٌ فَإِنَّ انْتِفَاءَ الدَّيْنِ عَنْ الْمُحِيلِ بِأَدَاءِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ لَيْسَ هُوَ نَقْلُ الدَّيْنِ بَلْ انْتِفَاؤُهُ مِنْ الْوُجُودِ بِالْكُلِّيَّةِ ، وَلَيْسَ هَذَا نَقْلَهُ بَلْ نَقْلُهُ تَحَوُّلُهُ مِنْ مُحَالٍ إلَى مَحَلِّ ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ .
وَعِنْدِي أَنَّ الْجَوَابَ هُوَ أَنَّ الْحَوَالَةَ بِغَيْرِ إذْنِ الْمُحِيلِ لَيْسَتْ حَوَالَةً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْحَوَالَةِ إنْ كَانَ فِعْلُ الْمُحِيلِ الْإِحَالَةَ أَوْ الْحَاصِلُ مِنْ فِعْلِهِ فَهُوَ مُنْتَفٍ لِانْتِفَاءِ الْفِعْلِ مِنْهُ ، وَالنَّقْلُ إنَّمَا هُوَ فِي حَقِيقَتِهَا وَلِهَذَا أَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ هَذَا الْمَعْنَى وَأَخْرَجُوهُ مِنْ الْحَوَالَةِ وَسَمَّوْهُ حَمَالَةً ، وَحُكْمُهَا شَطْرُ

حُكْمِ الْحَوَالَةِ وَهُوَ اللُّزُومُ عَلَى الْمُتَحَمِّلِ دُونَ الشَّطْرِ الْآخَرِ وَهُوَ انْتِقَالُ الدَّيْنِ عَنْ الْمَدْيُونِ فَلَمْ تَكُنْ حَوَالَةً وَإِلَّا اسْتَعْقَبَتْ تَمَامَ حُكْمِهَا وَهَذَا مَا وُعِدْنَاهُ .

قَالَ ( وَلَا يَرْجِعُ الْمُحْتَالُ عَلَى الْمُحِيلِ إلَّا أَنْ يَتْوَى حَقَّهُ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَرْجِعُ وَإِنْ تَوِيَ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ حَصَلَتْ مُطْلَقَةً فَلَا تَعُودُ إلَّا بِسَبَبٍ جَدِيدٍ .
وَلَنَا أَنَّهَا مُقَيَّدَةٌ بِسَلَامَةِ حَقِّهِ لَهُ إذْ هُوَ الْمَقْصُودُ ، أَوْ تَنْفَسِخُ الْحَوَالَةُ لِفَوَاتِهِ لِأَنَّهُ قَابِلٌ لِلْفَسْخِ فَصَارَ كَوَصْفِ السَّلَامَةِ فِي الْمَبِيعِ .
قَالَ ( وَالتَّوَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ : إمَّا أَنْ يَجْحَدَ الْحَوَالَةَ وَيَحْلِفَ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ عَلَيْهِ ، أَوْ يَمُوتَ مُفْلِسًا ) لِأَنَّ الْعَجْزَ عَنْ الْوُصُولِ يَتَحَقَّقُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَهُوَ التَّوَى فِي الْحَقِيقَةِ ( وَقَالَا هَذَانِ الْوَجْهَانِ .
وَوَجْهٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنْ يَحْكُمَ الْحَاكِمُ بِإِفْلَاسِهِ حَالَ حَيَاتِهِ ) وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِفْلَاسَ لَا يَتَحَقَّقُ بِحُكْمِ الْقَاضِي عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا ، لِأَنَّ مَالَ اللَّهِ غَادٍ وَرَائِحٌ .

( قَوْلُهُ وَلَمْ يَرْجِعْ الْمُحْتَالُ عَلَى الْمُحِيلِ إلَّا أَنْ يُتْوَى حَقُّهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَرْجِعُ وَإِنْ تَوِيَ ) بِمَوْتٍ أَوْ إفْلَاسٍ أَوْ غَيْرِهِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَاللَّيْثِ وَأَبِي عُبَيْدٍ .
وَعَنْ أَحْمَدَ إذَا كَانَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مُفْلِسًا وَلَمْ يَعْلَمْ الطَّالِبُ بِذَلِكَ فَلَهُ الرُّجُوعُ إلَّا أَنْ يَرْضَى بَعْدَ الْعِلْمِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، لِأَنَّ الْإِفْلَاسَ عَيْبٌ فِي الْمُحَالِ عَلَيْهِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِسَبَبِهِ كَالْمَبِيعِ ، وَلِأَنَّ الْمُحِيلَ غَرَّهُ فَهُوَ كَمَا لَوْ دَلَّسَ الْمَبِيعَ يَرْجِعُ بِهِ ( لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ ) الْحَاصِلَةَ بِالِانْتِقَالِ ( حَصَلَتْ مُطْلَقَةً فَلَا تَعُودُ إلَّا بِسَبَبٍ جَدِيدٍ ) وَلَا سَبَبَ فَلَا عَوْدَ .
وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ كَانَ لَهُ عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا دَيْنٌ فَأَحَالَهُ بِهِ عَلَى آخَرَ فَمَاتَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ فَقَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ اخْتَرْت عَلِيًّا فَقَالَ لَهُ أَبْعَدَك اللَّهُ فَمَنَعَ رُجُوعَهُ ، وَنَحْنُ نَمْنَعُ كَوْنَ الْبَرَاءَةِ مُطْلَقَةً بَلْ هِيَ مُقَيَّدَةٌ مَعْنًى بِشَرْطِ السَّلَامَةِ وَإِنْ كَانَتْ مُطْلَقَةً ، وَهَذَا الْقَيْدُ ثَبَتَ بِدَلَالَةِ الْحَالِ وَهُوَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ شَرْعِ الْحَوَالَةِ لَيْسَ مُجَرَّدَ الْوُجُوبِ عَلَى الثَّانِي لِأَنَّ الذِّمَمَ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْقَدْرِ مُتَسَاوِيَةٌ ، وَإِنَّمَا تَتَفَاوَتُ فِي إحْسَانِ الْقَضَاءِ وَعَدَمِهِ ، فَالْمَقْصُودُ التَّوَصُّلُ إلَى الِاسْتِيفَاءِ مِنْ الْمَحَلِّ الثَّانِي عَلَى الْوَجْهِ الْأَحْسَنِ ، وَإِلَّا لَمْ يَنْتَقِلْ عَنْ الْأَوَّلِ فَصَارَتْ السَّلَامَةُ مِنْ الْمَحَلِّ الثَّانِي كَالْمَشْرُوطِ فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ ، فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ الْمَشْرُوطُ عَادَ حَقُّهُ عَلَى الْأَصِيلِ فَصَارَ كَمَا لَوْ صَالَحَ عَلَى عَيْنٍ فَهَلَكَتْ قَبْلَ التَّسْلِيمِ يَعُودُ الدَّيْنُ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ مَا ثَبَتَتْ مُطْلَقَةً بَلْ بِعِوَضٍ ، فَإِذَا لَمْ يُسَلَّمْ يَعُودُ .
يُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا فِي الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ

إذَا مَاتَ مُفْلِسًا قَالَ : يَعُودُ الدَّيْنُ إلَى ذِمَّةِ الْمُحِيلِ ، وَقَالَ لَا تَوَى عَلَى مَالِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ .
وَلَفْظُ الْأَسْرَارِ قَالَ : إذَا تَوِيَ الْمَالُ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ عَادَ الدَّيْنُ عَلَى الْمُحِيلِ كَمَا كَانَ ، وَلَا تَوَى عَلَى مَالِ مُسْلِمٍ .
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ عَنْ شُرَيْحٍ بِمِثْلِ ذَلِكَ ، وَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ مُتَعَارِضَانِ ، فَإِنْ كَانَا صَحِيحَيْنِ أَوْ لَمْ يَثْبُتَا فَقَدْ تَكَافَآ .
هَذَا وَاخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُهُمْ فِي كَيْفِيَّةِ الْعَوْدِ فَقِيلَ بِفَسْخِ الْحَوَالَةِ أَيْ بِفَسْخِهَا الْمُحْتَالَ وَيُعَادُ الدَّيْنُ كَالْمُشْتَرِي إذَا وَجَدَ بِالْمَبِيعِ عَيْبًا ، وَقِيلَ تَنْفَسِخُ وَيَعُودُ الدَّيْنُ كَالْمَبِيعِ إذَا هَلَكَ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَقِيلَ فِي الْمَوْتِ عَنْ إفْلَاسٍ تَنْفَسِخُ وَيَعُودُ .
وَفِي الْجُحُودِ يُفْسَخُ وَيُعَادُ ، وَفِي طَرِيقَةِ الْخِلَافِ قَالُوا لَوْ مَاتَ الْمُحِيلُ وَالْمُحَالُ عَلَيْهِ مُفْلِسَيْنِ لَا يَرْجِعُ فَكَذَا مَا نَحْنُ فِيهِ .
قُلْنَا : لَا نُسَلِّمُ بَلْ لَهُ الرُّجُوعُ إلَّا أَنَّهُ سَقَطَتْ الْمُطَالَبَةُ بِالْإِعْسَارِ وَلِهَذَا كُلَّمَا ظَهَرَ لِأَحَدِهِمَا مَالٌ أَخَذَهُ كَمَا فِي الْكَفِيلِ وَالْمَكْفُولِ عَنْهُ إذَا مَاتَا مُفْلِسَيْنِ تَبْطُلُ الْكَفَالَةُ ، ثُمَّ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُطَالَبَةَ لَا تَثْبُتُ حَالَةَ حَيَاةِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ .
قَالُوا : مَالُ الْحَوَالَةِ جُعِلَ كَالْمَقْبُوضِ ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَالْمَقْبُوضِ لَأَدَّى إلَى الِافْتِرَاقِ عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ ، وَلِأَنَّهُ تَجُوزُ الْحَوَالَةُ بِرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ وَالصَّرْفِ ، وَلَوْلَا أَنَّهُ كَالْمَقْبُوضِ لَمْ تَجُزْ الْحَوَالَةُ .
وَإِذَا مَاتَ الْمُحِيلُ مُفْلِسًا لَا يَكُونُ الْمُحْتَالُ أُسْوَةً لِلْغُرَمَاءِ ، وَإِذَا كَانَ كَالْمَقْبُوضِ لَا يَرْجِعُ .
قُلْنَا : لَيْسَ كَالْمَقْبُوضِ وَإِلَّا لَجَازَ لِلْمُحْتَالِ أَنْ يَشْتَرِيَ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ .
وَقَوْلُهُمْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَالْمَقْبُوضِ صَارَ دَيْنًا بِدَيْنٍ إنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ كَانَ الْقَصْدُ

مِنْهُ الْمُعَاوَضَةَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ كَالْقَرْضِ .
وَأَمَّا الصَّرْفُ وَالسَّلَمُ فَحُجَّةٌ لَنَا لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَالْمَقْبُوضِ لَجَازَ أَنْ يَتَفَرَّقَا عَنْ الْمَجْلِسِ مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ إذَا أَحَالَ بِهِمَا فَلَوْ افْتَرَقَا مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ يَفْسُدُ الْعَقْدُ ، وَلَوْ كَانَتْ الْحَوَالَةُ قَبْضًا لَكَانَ هَذَا افْتِرَاقًا بَعْدَ الْقَبْضِ فَلَا يَفْسُدُ الْعَقْدُ ، وَأَمَّا كَوْنُ الْمُحْتَالِ لَا يَصِيرُ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ إذَا مَاتَ الْمُحِيلُ وَلَا مَالَ لَهُ سِوَى مَا عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ فَمَمْنُوعٌ .
قَالَ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ : وَلَوْ أَنَّ الْمُحَالَ أَخَّرَ الْحَوِيلَ سَنَةً ثُمَّ مَاتَ الْمُحِيلُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ آخَرُ سِوَى دَيْنِ الْمُحَالِ يُقْسَمُ دَيْنُهُ عَلَى الْحَوِيلِ بَيْنَ الْمُحَالِ وَبَيْنَ الْغُرَمَاءِ بِالْحِصَصِ لِأَنَّ هَذَا مَالُ الْمُحِيلِ وَلَمْ يَصِرْ بِالْحَوَالَةِ مِلْكًا لِلْمُحَالِ لِأَنَّ تَمْلِيكَ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لَا يُتَصَوَّرُ لَكِنْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْمُحَالِ وَبِهَذَا لَا يَصِيرُ الْمُحَالُ أَخَصَّ بِهِ مَا لَمْ تَثْبُتْ الْيَدُ بِدَلِيلِ أَنَّ الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يَتَعَلَّقُ حَقُّ صَاحِبِ الدَّيْنِ بِرَقَبَتِهِ وَكَسْبِهِ لَوْ وَجَبَ بَعْدَ ذَلِكَ دَيْنٌ آخَرُ كَانَ رَقَبَتُهُ ثَمَّ وَكَسْبُهُ بَيْنَ الْكُلِّ بِالْحِصَصِ انْتَهَى .
وَإِذَا عُرِفَ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِالتَّوَى بَيْنَ التَّوَى بِقَوْلِهِ ( وَالتَّوَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِكُلٍّ مِنْ أَمْرَيْنِ : إمَّا أَنْ يَجْحَدَ الْحَوَالَةَ وَيَحْلِفَ وَلَا بَيِّنَةَ عَلَيْهِ ) لِلْمُحْتَالِ وَلَا لِلْمُحِيلِ ، فَقَوْلُهُ ( لَهُ ) يَعْنِي كُلًّا مِنْ الْمُحِيلِ وَالْمُحْتَالِ ( أَوْ يَمُوتَ مُفْلِسًا ) لَا مَالَ لَهُ مُعَيَّنًا وَلَا دَيْنًا وَلَا كَفِيلَ عَنْهُ بِدَيْنِ الْمُحْتَالِ ، وَعِنْدَهُمَا بِهَذَيْنِ .
وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَحْكُمَ حَاكِمٌ بِإِفْلَاسِهِ ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَفْلِيسَ الْقَاضِي يَصِحُّ عِنْدَهُمَا ، وَعِنْدَهُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ يُتَوَهَّمُ ارْتِفَاعُهُ بِحُدُوثِ مَالٍ لَهُ فَلَا يَعُودُ

بِتَفْلِيسِ الْقَاضِي عَلَى الْمُحِيلِ .
وَالتَّوَى التَّلَفُ ، يُقَالُ مِنْهُ تَوِيَ بِوَزْنِ عَلِمَ يَتْوَى وَهُوَ تَوٍ وَتَاوٍ .
وَلَوْ قَالَ الْمُحْتَالُ مَاتَ مُفْلِسًا وَقَالَ الْمُحِيلُ بِخِلَافِهِ فَفِي الشَّافِي وَالْمَبْسُوطِ : الْقَوْلُ لِلطَّالِبِ مَعَ الْيَمِينِ عَلَى الْعِلْمِ لِأَنَّهُ مُتَمَسِّكٌ بِالْأَصْلِ وَهُوَ الْعُسْرَةُ ، وَلَوْ كَانَ حَيًّا فَزَعَمَ أَنَّهُ مُفْلِسٌ فَالْقَوْلُ لَهُ فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ .
وَفِي شَرْحِ النَّاصِحِيِّ : الْقَوْلُ لِلْمُحِيلِ مَعَ الْيَمِينِ لِإِنْكَارِهِ عَوْدَ الدَّيْنِ .

قَالَ ( وَإِذَا طَالَبَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ الْمُحِيلَ بِمِثْلِ مَالِ الْحَوَالَةِ فَقَالَ الْمُحِيلُ أَحَلْت بِدَيْنٍ لِي عَلَيْك لَك يُقْبَلُ قَوْلُهُ وَكَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ الدَّيْنِ ) لِأَنَّ سَبَبَ الرُّجُوعِ قَدْ تَحَقَّقَ وَهُوَ قَضَاءُ دَيْنِهِ بِأَمْرِهِ إلَّا أَنَّ الْمُحِيلَ يَدَّعِي عَلَيْهِ دَيْنًا وَهُوَ يُنْكِرُ وَالْقَوْلُ لِلْمُنْكِرِ ، وَلَا تَكُونُ الْحَوَالَةُ إقْرَارًا مِنْهُ بِالدَّيْنِ عَلَيْهِ لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ بِدُونِهِ .
( قَوْلُهُ وَإِذَا طَالَبَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ الْمُحِيلَ بِمِثْلِ مَالِ الْحَوَالَةِ فَقَالَ الْمُحِيلُ ) إنَّمَا ( أُحِلْت بِدَيْنٍ لِي عَلَيْك لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ وَعَلَيْهِ مِثْلُ الدَّيْنِ لِأَنَّ سَبَبَ الرُّجُوعِ قَدْ تَحَقَّقَ فِي حَقِّهِ وَهُوَ قَضَاؤُهُ دَيْنَهُ بِأَمْرِهِ ، وَلِأَنَّ الْمُحِيلَ يَدَّعِي دَيْنًا عَلَيْهِ وَهُوَ يُنْكِرُ وَالْقَوْلُ لِلْمُنْكِرِ ) وَلَا يُقَالُ : قَبُولُ الْحَوَالَةِ مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ إقْرَارٌ بِالدَّيْنِ عَلَيْهِ .
لِأَنَّا نَقُولُ : لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ قَبُولِ الْحَوَالَةِ ذَلِكَ ، بَلْ قَدْ تَكُونُ مِمَّا عَلَيْهِ وَهِيَ الْمُقَيَّدَةُ وَقَدْ تَكُونُ مُطْلَقَةً وَالْمُطْلَقَةُ هِيَ حَقِيقَةُ الْحَوَالَةِ أَمَّا الْمُقَيَّدَةُ فَوَكَالَةٌ بِالْأَدَاءِ مِنْ وَجْهِ الْقَبْضِ .

قَالَ ( وَإِذَا طَالَبَ الْمُحِيلُ الْمُحْتَالَ بِمَا أَحَالَهُ بِهِ فَقَالَ إنَّمَا أَحَلْتُك لِتَقْبِضَهُ لِي وَقَالَ الْمُحْتَالُ لَا بَلْ أَحَلْتنِي بِدَيْنٍ كَانَ لِي عَلَيْك فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُحِيلِ ) لِأَنَّ الْمُحْتَالَ يَدَّعِي عَلَيْهِ الدَّيْنَ وَهُوَ يُنْكِرُ وَلَفْظَةُ الْحَوَالَةِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْوَكَالَةِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ .

( وَإِذَا طَالَبَ الْمُحِيلُ الْمُحْتَالَ بِمَا أَحَالَهُ بِهِ فَقَالَ إنَّمَا أَحَلْتُك لِتَقْبِضَهُ لِي وَقَالَ الْمُحْتَالُ لَا بَلْ أَحَلْتنِي بِدَيْنٍ كَانَ لِي عَلَيْك ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُحِيلِ لِأَنَّ الْمُحْتَالَ يَدَّعِي عَلَيْهِ ) أَيْ عَلَى الْمُحِيلِ ( الدَّيْنَ وَهُوَ يُنْكِرُ ) فَالْقَوْلُ لَهُ لِأَنَّ فَرَاغَ الذِّمَّةِ هُوَ الْأَصْلُ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي وَجْهٍ ، وَفِي وَجْهٍ آخَرَ الْقَوْلُ لِلطَّالِبِ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ بِالدَّيْنِ ظَاهِرًا ، فَمَا قَالَهُ الْمُحِيلُ تَوْكِيلٌ فَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ .
وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ ( وَلَفْظَةُ الْحَوَالَةِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْوَكَالَةِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ ) جَوَابٌ عَنْهُ وَهُوَ بِنَاءً عَلَى تَسَاوِيهِمَا فِي الِاسْتِعْمَالِ ، وَمَنْعُ كَوْنِهَا بِالدَّيْنِ أَظْهَرُ فَالْحَوَالَةُ مُتَوَاطِئٌ فِيهِمَا وَإِلَّا فَادِّعَاؤُهُ مَجَازًا مُتَعَارَفًا يَخُصُّ قَوْلَهُمَا فَإِنَّ الْحَقِيقَةَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْمَجَازِ الْمُتَعَارَفِ ، وَقَدْ تَكَلَّفَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ حِينَ اسْتَبْعَدَ التَّوَاطُؤَ وَتَقْدِيمَ الْمَجَازِ الْمُتَعَارَفِ فَحَمَلَهَا عَلَى مَا إذَا اسْتَوْفَى الْمُحْتَالُ الْأَلْفَ الْمُحَالَ بِهَا وَقَدْ كَانَ الْمُحِيلُ بَاعَ مَتَاعًا مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْأَلْفِ فَيَقُولُ الْمُحْتَالُ كَانَ الْمَتَاعُ مِلْكِي وَكُنْت وَكِيلًا فِي بَيْعِهِ عَنِّي وَالْمَقْبُوضُ مَالِيٌّ وَيَقُولُ الْمُحِيلُ كَانَ الْمَتَاعُ مِلْكِي وَإِنَّمَا بِعْتُهُ لِنَفْسِي فَالْقَوْلُ لِلْمُحِيلِ ، لِأَنَّ أَصْلَ الْمُنَازَعَةِ وَقَعَ بَيْنَهُمَا فِي مِلْكِ ذَلِكَ الْمَتَاعِ وَالْيَدِ كَانَ لِلْمُحِيلِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَهُ انْتَهَى .
وَظَاهِرُهُ تَخْصِيصُ الْمَسْأَلَةِ بِنَحْوِ هَذِهِ الصُّورَةِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ جَوَابُ الْمَسْأَلَةِ مُطْلَقٌ فِي سَائِرِ الْأُمَّهَاتِ .
وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ بَعْدَ تَجْوِيزِ كَوْنِ لَفْظِ أَحَلْتُك بِأَلْفٍ يُرَادُ بِهِ أَلْفٌ لِلْمُحِيلِ لِأَنَّ ثُبُوتَ الدَّيْنِ عَلَى الْإِنْسَانِ لَا يُمْكِنُ بِمِثْلِ هَذِهِ الدَّلَالَةِ بَلْ لَا بُدَّ

مِنْ الْقَطْعِ بِهَا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ أَوْ دَلَالَتِهِ ، مِثْلُ : لَهُ عَلَيَّ أَوْ فِي ذِمَّتِي لِأَنَّ فَرَاغَ الذِّمَّةِ كَانَ ثَابِتًا بِيَقِينٍ فَلَا يَلْزَمُ فِيهِ ضَرَرُ شَغْلِ ذِمَّتِهِ إلَّا بِمِثْلِهِ مِنْ اللَّفْظِ ، وَمِنْهُ نَحْوُ قَوْلِهِ اتَّزِنْهَا فِي جَوَابِ لِي عَلَيْك أَلْفٌ لِلتَّيَقُّنِ بِعَوْدِ الضَّمِيرِ فِي اتَّزِنْهَا عَلَى الْأَلْفِ الْمُدَّعَاةِ ، بِخِلَافِ مُجَرَّدِ قَوْلِهِ أَحَلْتُك .

قَالَ ( وَمَنْ أَوْدَعَ رَجُلًا أَلْفَ دِرْهَمٍ وَأَحَالَ بِهَا عَلَيْهِ آخَرَ فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّهُ أَقْدَرُ عَلَى الْقَضَاءِ ، فَإِنْ هَلَكَتْ بَرِئَ ) لِتَقَيُّدِهَا بِهَا ، فَإِنَّهُ مَا الْتَزَمَ الْأَدَاءَ إلَّا مِنْهَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِالْمَغْصُوبِ لِأَنَّ الْفَوَاتَ إلَى خُلْفٍ كَلَا فَوَاتَ ، وَقَدْ تَكُونُ الْحَوَالَةُ مُقَيَّدَةً بِالدَّيْنِ أَيْضًا ، وَحُكْمُ الْمُقَيَّدَةِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنْ لَا يَمْلِكَ الْمُحِيلُ مُطَالَبَةَ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْمُحْتَالِ عَلَى مِثَالِ الرَّهْنِ وَإِنْ كَانَ أُسْوَةً لِلْغُرَمَاءِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُحِيلِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَ لَهُ مُطَالَبَتُهُ فَيَأْخُذُهُ مِنْهُ لَبَطَلَتْ الْحَوَالَةُ وَهِيَ حَقُّ الْمُحْتَالِ .
بِخِلَافِ الْمُطْلَقَةِ لِأَنَّهُ لَا تَعَلُّقَ لِحَقِّهِ بِهِ بَلْ بِذِمَّتِهِ فَلَا تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ بِأَخْذِ مَا عَلَيْهِ أَوْ عِنْدَهُ .

( قَوْلُهُ وَمَنْ أَوْدَعَ رَجُلًا أَلْفَ دِرْهَمٍ وَأَحَالَ بِهَا عَلَيْهِ آخَرَ فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّهُ أَقْدَرُ عَلَى الْقَضَاءِ ) لِتَيَسُّرِ مَا يُقْضَى بِهِ وَحُضُورِهِ ، بِخِلَافِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ ( فَإِنْ هَلَكَتْ بَرِئَ ) الْمُحَالُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمُودِعُ ( لِتَقَيُّدِهَا بِهَا ) أَيْ لِتَقَيُّدِ الْحَوَالَةِ الْوَدِيعَةِ الَّتِي هَلَكَتْ ( فَإِنَّهُ ) أَيْ الرَّجُلُ ( مَا الْتَزَمَ الْأَدَاءَ إلَّا مِنْهَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْحَوَالَةُ مُقَيَّدَةً ) بِعَيْنِ ( مَغْصُوبٍ ) عَرْضٍ أَوْ أَلْفِ دِرْهَمٍ مَثَلًا ، فَإِنَّهُ إذَا هَلَكَ الْمَغْصُوبُ الْمُحَالُ بِهِ لَا تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ وَلَا يَبْرَأُ الْمُحَالُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْغَاصِبِ رَدُّ الْعَيْنِ ، فَإِنْ عَجَزَ رَدَّ الْمِثْلَ أَوْ الْقِيمَةَ ، فَإِذَا هَلَكَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ لَا يَبْرَأُ ( لِأَنَّ ) لَهُ خُلْفًا وَ ( الْفَوَاتُ إلَى خُلْفٍ كَلَا فَوَاتٍ ) فَبَقِيَتْ مُتَعَلِّقَةً بِخُلْفِهِ فَيُرَدُّ خُلْفُهُ عَلَى الْمُحْتَالِ ( وَقَدْ تَكُونُ الْحَوَالَةُ مُقَيَّدَةً بِالدَّيْنِ أَيْضًا ) بِأَنْ يُحِيلَهُ بِدَيْنِهِ الَّذِي لَهُ عَلَى فُلَانٍ الْمُحَالِ عَلَيْهِ فَصَارَتْ الْمُقَيَّدَةُ بِالتَّفْصِيلِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : مُقَيَّدَةٌ بِعَيْنِ أَمَانَةٍ ، وَبِعَيْنٍ مَضْمُونَةٍ ، وَبِدَيْنٍ خَاصٍّ ( وَحُكْمُ الْمُقَيَّدَةِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ ) أَعْنِي الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ ( أَنْ لَا يَمْلِكَ الْمُحِيلُ مُطَالَبَةَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ ) بِذَلِكَ الْعَيْنِ وَلَا بِذَلِكَ الدَّيْنِ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ ) لَمَّا قُيِّدَتْ بِهَا ( تَعَلَّقَ حَقُّ الطَّالِبِ بِهِ ) وَهُوَ اسْتِيفَاءُ دَيْنِهِ مِنْهُ ( عَلَى مِثَالِ الرَّهْنِ ) وَأَخْذُ الْمُحِيلِ يُبْطِلُ هَذَا الْحَقَّ فَلَا يَجُوزُ ؛ فَلَوْ دَفَعَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ الْعَيْنَ أَوْ الدَّيْنَ إلَى الْمُحِيلِ ضَمِنَهُ لِلطَّالِبِ فَإِنَّهُ اسْتَهْلَكَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْمُحْتَالِ كَمَا إذَا اسْتَهْلَكَ الرَّهْنَ أَحَدٌ يَضْمَنُهُ لِلْمُرْتَهِنِ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ .
وَلَمَّا كَانَ تَشْبِيهُ الْمُصَنِّفِ بِالرَّهْنِ يَتَبَادَرُ أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ الْمُحِيلُ وَعَلَيْهِ

دَيْنٌ آخَرُ غَيْرُ دَيْنِ الْمُحْتَالِ يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَصَّ الْمُحْتَالُ بِذَلِكَ الدَّيْنِ الَّذِي أُحِيلَ بِهِ أَوْ الْعَيْنِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، بَيَّنَهُ الْمُصَنِّفُ فَقَالَ ( وَإِنْ كَانَ ) أَيْ الْمُحْتَالُ ( أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ ) فِيهِ ( بَعْدَ مَوْتِ الْمُحِيلِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَ ) لِلْمُحِيلِ ( حَقُّ الْمُطَالَبَةِ ) بِمَا أَحَالَ بِهِ مِنْ الْأَمْرِ الْمُعَيَّنِ ( فَيَأْخُذُهُ مِنْهُ بَطَلَتْ الْحَوَالَةُ وَ ) الْوَاقِعُ ( أَنَّهَا حَقُّ الْمُحْتَالِ ) فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُبْطِلَ حَقَّهُ ، وَتُرِكَ الْفَرْقُ بَيْنَ الرَّهْنِ وَالْمُحَالِ بِهِ دَيْنًا أَوْ عَيْنًا ، وَالْفَرْقُ مَا قَدَّمْنَاهُ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ حَقُّ الْمُحْتَالِ مُتَعَلِّقًا بِالْعَيْنِ الْمَخْصُوصَةِ أَوْ الدَّيْنِ كَمَا يَتَعَلَّقُ حَقُّ الدَّائِنِ بِالرَّهْنِ الْمُعَيَّنِ لَكِنْ لَيْسَ لَهُ يَدٌ وَلَا مِلْكٌ وَالْمُرْتَهِنُ لَهُ يَدٌ ثَابِتَةٌ مَعَ الِاسْتِحْقَاقِ فَكَانَ لَهُ زِيَادَةُ اخْتِصَاصٍ ، وَإِذَا كَانَ الْمُحْتَالُ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ فَلَوْ قُسِّمَ ذَلِكَ الدَّيْنُ أَوْ الْعَيْنُ بَيْنَ غُرَمَاءِ الْمُحِيلِ وَأَخَذَ الْمُحْتَالُ حِصَّتَهُ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ بِبَقِيَّةِ دَيْنِهِ ، وَهُوَ ظَاهِرٌ لِتَقَيُّدِ الْحَوَالَةِ بِذَلِكَ الْمُقْسَمِ .
هَذَا وَمِنْ أَحْكَامِ الْحَوَالَةِ الْمُقَيَّدَةِ بِالدَّيْنِ أَوْ الْعَيْنِ أَنَّهُ لَوْ أَبْرَأَ الْمُحْتَالُ الْمُحْتَالَ عَلَيْهِ صَحَّ الْإِبْرَاءُ وَكَانَ لِلْمُحِيلِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ بِدَيْنِهِ ، وَلَوْ وَهَبَ الْمُحْتَالُ دَيْنَهُ مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ أَوْ مَاتَ الْمُحْتَالُ لَهُ وَوَرِثَهُ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ لِلْمُحِيلِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ .
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْهِبَةَ مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ ، وَكَذَا الْإِرْثُ ، فَمَلَكَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ مَا فِي ذِمَّتِهِ بِالْهِبَةِ فَهُوَ كَمَا لَوْ مَلَكَهُ بِالْأَدَاءِ ، وَلَوْ أَدَّى لَا يَرْجِعُ الْمُحِيلُ عَلَيْهِ ، فَكَذَا إذَا مَلَكَهُ بِالْهِبَةِ ، بِخِلَافِ الْإِبْرَاءِ فَإِنَّهُ فِي الْأَصْلِ مَوْضُوعٌ لِلْإِسْقَاطِ فَلَا يَمْلِكُ بِهِ

الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ مَا فِي ذِمَّتِهِ وَإِنَّمَا خَرَجَ بِهِ عَنْ ضَمَانِهِ لِلْمُحْتَالِ دَيْنُهُ وَهُوَ الشَّاغِلُ لِدَيْنِ الْمُحِيلِ فَبَقِيَ دَيْنُ الْمُحِيلِ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ بِلَا شَاغِلٍ فَيَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ وَقَوْلُهُ بِخِلَافِ الْمُطْلَقَةِ ) يَتَّصِلُ بِقَوْلِهِ لَا يَمْلِكُ الْمُحِيلُ مُطَالَبَةَ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ بِالْعَيْنِ الْمُحَالِ بِهِ وَالدَّيْنِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْحَوَالَةَ قِسْمَانِ ، مُقَيَّدَةٌ كَمَا ذَكَرْنَا ، وَمُطْلَقَةٌ .
وَهِيَ أَنْ يَقُولَ الْمُحِيلُ لِلطَّالِبِ أَحَلْتُك بِالْأَلْفِ الَّتِي لَك عَلَى هَذَا الرَّجُلِ وَلَمْ يَقُلْ لِيُؤَدِّيَهَا مِنْ الْمَالِ الَّذِي لِي عَلَيْهِ ، فَإِذَا أَحَالَ كَذَلِكَ وَلَهُ عِنْدَ ذَلِكَ الرَّجُلِ وَدِيعَةٌ أَوْ مَغْصُوبَةٌ أَوْ دَيْنٌ كَانَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِهِ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ الشَّأْنُ ( لَا تَعَلُّقَ لِحَقِّ الْمُحْتَالِ بِهِ ) أَيْ بِذَلِكَ الْعَيْنِ أَوْ الدَّيْنِ لِوُقُوعِهَا مُطْلَقَةً عَنْهُ ( بَلْ بِذِمَّةِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ ) وَفِي الذِّمَّةِ سَعَةٌ ( فَيَأْخُذُ دَيْنَهُ أَوْ عَيْنَهُ مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ لَا تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ ) وَمَا عَلَيْهِ يَرْجِعُ إلَى الدَّيْنِ أَوْ الْغَصْبِ أَوْ عِنْدَهُ يَرْجِعُ إلَى الْوَدِيعَةِ .
وَمِنْ الْمُطْلَقَةِ أَنْ يُحِيلَ عَلَى رَجُلٍ لَيْسَ لَهُ عِنْدَهُ وَلَا عَلَيْهِ شَيْءٌ .
وَتَنْقَسِمُ الْمُطْلَقَةُ إلَى حَالَّةٍ وَمُؤَجَّلَةٍ .
فَالْحَالَّةُ أَنْ يُحِيلَ الطَّالِبُ بِأَلْفٍ وَهِيَ عَلَى الْمُحِيلِ حَالَّةٌ فَتَكُونُ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ حَالَّةً لِأَنَّ الْحَوَالَةَ لِتَحْوِيلِ الدَّيْنِ فَيَتَحَوَّلُ بِالصِّفَةِ الَّتِي هِيَ عَلَى الْأَصِيلِ وَلَيْسَ لِلْمُحْتَالِ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْأَصِيلِ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ ، وَلَكِنْ لَهُ إذَا لُوزِمَ أَنْ يُلَازِمَهُ ، وَإِذَا حُبِسَ أَنْ يَحْبِسَهُ .
وَالْمُطْلَقَةُ الْمُؤَجَّلَةُ لَهُ عَلَى رَجُلٍ أَلْفٌ إلَى سَنَةٍ فَأَحَالَ الطَّالِبُ عَلَيْهِ إلَى سَنَةٍ كَانَتْ عَلَيْهِ إلَى سَنَةٍ ؛ وَلَوْ حَصَلَتْ الْحَوَالَةُ مُبْهَمَةً لَمْ يَذْكُرْهُ مُحَمَّدٌ ، وَقَالُوا : يَنْبَغِي أَنْ تَثْبُتَ مُؤَجَّلَةً كَمَا فِي الْكَفَالَةِ لِأَنَّهُ

تَحَمَّلَ مَا عَلَى الْأَصِيلِ بِأَيِّ صِفَةٍ كَانَ ، فَلَوْ مَاتَ الْمُحِيلُ لَمْ يَحِلَّ الْمَالُ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ حُلُولَ الْأَجَلِ فِي حَقِّ الْأَصِيلِ لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْ الْأَجَلِ بِمَوْتِهِ ، وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُحَالِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ حَيٌّ مُحْتَاجٌ إلَى الْأَجَلِ ، وَلَوْ حَلَّ عَلَيْهِ إنَّمَا يَحِلُّ بِنَاءً عَلَى حُلُولِهِ عَلَى الْأَصِيلِ فَلَا وَجْهَ لَهُ لِأَنَّ الْأَصِيلَ بَرِيءٌ عَنْ الدَّيْنِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَالْتَحَقَ بِالْأَجَانِبِ ؛ وَلَوْ مَاتَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ قَبْلَ الْأَجَلِ وَالْمُحِيلُ حَيٌّ حَلَّ الْمَالُ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْ الْأَجَلِ بِمَوْتِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً رَجَعَ الطَّالِبُ عَلَى الْمُحِيلِ إلَى أَجَلِهِ لِأَنَّ الْأَجَلَ سَقَطَ حُكْمًا لِلْحَوَالَةِ وَقَدْ اُنْتُقِضَتْ الْحَوَالَةُ بِمَوْتِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ مُفْلِسًا فَيُنْتَقَضُ مَا فِي ضِمْنِهَا وَهُوَ سُقُوطُ الْأَجَلِ ، كَمَا لَوْ بَاعَ الْمَدْيُونُ بِدَيْنٍ مُؤَجَّلٍ عَبْدًا مِنْ الطَّالِبِ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ الْعَبْدُ عَادَ الْأَجَلُ لِأَنَّ سُقُوطَ الْأَجَلِ كَانَ بِحُكْمِ الْبَيْعِ وَقَدْ اُنْتُقِضَ كَذَا هُنَا .

قَالَ ( وَيُكْرَهُ السَّفَاتِجُ وَهِيَ قَرْضٌ اسْتَفَادَ بِهِ الْمُقْرِضُ سُقُوطَ خَطَرِ الطَّرِيقِ ) وَهَذَا نَوْعُ نَفْعٍ اُسْتُفِيدَ بِهِ وَقَدْ { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَرْضٍ جَرَّ نَفْعًا } .

( قَوْلُهُ وَيُكْرَهُ السَّفَاتِجُ ) جَمْعُ سَفْتَجَةٍ بِضَمِّ السِّينِ وَفَتْحِ التَّاءِ وَهُوَ تَعْرِيبُ سُفْتَهَ وَهُوَ الشَّيْءُ الْمُحْكَمُ ، سُمِّيَ هَذَا الْقَرْضُ بِهِ لِإِحْكَامِ أَمْرِهِ .
وَصُورَتُهُ أَنْ يَدْفَعَ فِي بَلْدَةٍ إلَى مُسَافِرٍ قَرْضًا لِيَدْفَعَهُ إلَى صَدِيقِهِ أَوْ وَكِيلِهِ مَثَلًا فِي بَلْدَةٍ أُخْرَى لِيَسْتَفِيدَ بِهِ أَمْرَ خَطَرِ الطَّرِيقِ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ قَرْضٍ جَرَّ نَفْعًا ، رَوَاهُ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ حَفْصِ بْنِ حَمْزَةَ ، أَنْبَأَنَا سَوَّارُ بْنُ مُصْعَبٍ عَنْ عُمَارَةَ الْهَمْدَانِيِّ قَالَ : سَمِعْت عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُلُّ قَرْضٍ جَرَّ نَفْعًا فَهُوَ رِبًا } وَهُوَ مُضَعَّفٌ بِسَوَّارِ بْنِ مُصْعَبٍ ، قَالَ عَبْدُ الْحَقِّ : مَتْرُوكٌ ، وَكَذَا قَالَ غَيْرُهُ .
وَرَوَاهُ أَبُو الْجَهْمِ فِي جُزْئِهِ الْمَعْرُوفِ عَنْ سَوَّارٍ أَيْضًا .
وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ عَنْ جَابِرِ بْنِ سُمْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { السُّفْتَجَاتُ حَرَامٌ } وَأَعَلَّهُ بِعَمْرِو بْنِ مُوسَى بْنِ وَجِيهٍ ضَعَّفَهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَعِينٍ ، وَذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ .
وَأَحْسَنُ مَا هُنَا مَا عَنْ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنِّفِهِ : حَدَّثَنَا خَالِدُ الْأَحْمَرُ عَنْ حَجَّاجٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ : كَانُوا يَكْرَهُونَ كُلَّ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً .
وَفِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى وَغَيْرِهَا : إنْ كَانَ السَّفْتَجُ مَشْرُوطًا فِي الْقَرْضِ فَهُوَ حَرَامٌ ، وَالْقَرْضُ بِهَذَا الشَّرْطِ فَاسِدٌ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَشْرُوطًا جَازَ .
وَصُورَةُ الشَّرْطِ مَا فِي الْوَاقِعَاتِ رَجُلٌ أَقْرَضَ رَجُلًا مَالًا عَلَى أَنْ يَكْتُبَ لَهُ بِهِ إلَى بَلَدِ كَذَا فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ ، وَإِنْ أَقْرَضَهُ بِغَيْرِ شَرْطٍ وَكَتَبَ جَازَ ، وَكَذَا لَوْ قَالَ اُكْتُبْ لِي سَفْتَجَةً إلَى مَوْضِعِ كَذَا عَلَى أَنْ أُعْطِيَك هُنَا فَلَا خَيْرَ فِيهِ .
وَفِي كِفَايَةِ

الْبَيْهَقِيّ : سَفَاتِجُ التُّجَّارِ مَكْرُوهَةٌ ، ثُمَّ قَالَ : إلَّا أَنْ يُقْرِضَ مُطْلَقًا ثُمَّ يَكْتُبَ السُّفْتَجَةَ فَلَا بَأْسَ بِهِ ، كَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَضَاهُ بِأَحْسَنَ مِمَّا لَهُ عَلَيْهِ لَا يُكْرَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَشْرُوطًا قَالُوا : إنَّمَا يَحِلُّ ذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ عُرْفٌ ظَاهِرٌ ، فَإِنْ كَانَ يَعْرِفُ أَنَّ ذَلِكَ يُفْعَلُ لِذَلِكَ فَلَا .
وَاَلَّذِي يُحْكَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَمْ يَقْعُدْ فِي ظِلِّ جِدَارِ غَرِيمِهِ فَلَا أَصْلَ لَهُ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ انْتِفَاعًا بِمِلْكِهِ ، كَيْفَ وَلَمْ يَكُنْ مَشْرُوطًا وَلَا مُتَعَارَفًا ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَ الْقُدُورِيُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ هُنَا لِأَنَّهَا مُعَامَلَةٌ فِي الدُّيُونِ كَالْكَفَالَةِ وَالْحَوَالَةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( كِتَابُ أَدَبِ الْقَاضِي )
( كِتَابُ أَدَبِ الْقَاضِي ) لَمَّا كَانَ أَكْثَرُ الْمُنَازَعَاتِ فِي الدُّيُونِ وَالْبِيَاعَاتِ وَالْمُنَازَعَاتِ مُحْتَاجَةً إلَى قَطْعِهَا أَعْقَبَهَا بِمَا هُوَ الْقَاطِعُ لَهَا وَهُوَ الْقَضَاءُ .
وَالْأَدَبُ الْخِصَالُ الْحَمِيدَةُ وَالْقَاضِي مُحْتَاجٌ إلَيْهَا فَأَفَادَهَا ، وَهُوَ أَنَّ ذِكْرَ مَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَفْعَلَهُ وَيَكُونُ عَلَيْهِ ؛ وَسُمِّيَتْ الْخِصَالُ الْحَمِيدَةُ أَدَبًا لِأَنَّهَا تَدْعُو إلَى الْخَيْرِ ، وَالْأَدَبُ فِي الْأَصْلِ مِنْ الْأَدْبِ بِسُكُونِ الدَّالِ هُوَ الْجَمْعُ وَالدُّعَاءُ ، وَهُوَ أَنْ تَجْمَعَ النَّاسَ وَتَدْعُوَهُمْ إلَى طَعَامِك ، يُقَالُ مِنْهُ أَدَبَ زَيْدٌ يَأْدِبُ أَدْبًا بِوَزْنِ ضَرَبَ يَضْرِبُ ضَرْبًا إذَا دَعَاك إلَى طَعَامِهِ فَهُوَ آدِبٌ ، وَالْمَأْدُبَةُ الطَّعَامُ الْمَصْنُوعُ الْمَدْعُوُّ إلَيْهِ ، وَمِنْهُ قَوْلُ طَرَفَةَ بْنِ الْعَبْدِ يَمْدَحُ قَوْمَهُ بَنِي بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ : وَرِثُوا السُّؤْدُدَ عَنْ آبَائِهِمْ ثُمَّ سَادُوا سُؤْدُدًا غَيْرَ زُمَرْ نَحْنُ فِي الْمَشْتَاةِ نَدْعُو الْجَفَلَى لَا تَرَى الْآدِبَ فِينَا يَنْتَقِرْ وَمِنْهُ مَا ذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ : إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مَأْدَبَةُ اللَّهِ ، فَمَنْ دَخَلَ فِيهِ فَهُوَ آمِنٌ .
وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا مَأْدَبَةُ اللَّهِ فَتَعَلَّمُوا مِنْ مَأْدَبَتِهِ ، بِفَتْحِ الدَّالِ : أَيْ تَأْدِيبِهِ ، وَكَانَ الْأَحْمَرُ يَجْعَلُهُمَا لُغَتَيْنِ .
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : لَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا يَقُولُ هَذَا غَيْرَهُ .
وَأَمَّا الْقَضَاءُ فَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : يُسْتَعْمَلُ لَمَعَانٍ كُلُّهَا تَرْجِعُ إلَى الْخَتْمِ وَالْفَرَاغِ مِنْ الْأَمْرِ : يَعْنِي بِإِكْمَالِهِ .
وَفِي الشَّرْعِ يُرَادُ بِهِ الْإِلْزَامُ ، وَيُقَالُ لَهُ الْحُكْمُ لِمَا فِيهِ مِنْ مَنْعِ الظَّالِمِ عَنْ الظُّلْمِ مِنْ الْحِكْمَةِ الَّتِي تُجْعَلُ فِي رَأْسِ الْفَرَسِ .
.

وَأَمَّا وَصْفُ الْقَضَاءِ فَفَرْضُ كِفَايَةٍ ، فَلَوْ امْتَنَعَ الْكُلُّ أَثِمُوا هَذَا إذَا كَانَ السُّلْطَانُ لَا يَفْصِلُ بِنَفْسِهِ ، فَإِنْ فَعَلَ لَمْ يَأْثَمُوا كَمَا فِي الْبَزَّازِيَّةِ ، وَلِلسُّلْطَانِ أَنْ يُكْرِهَ مَنْ يَعْلَمُ قُدْرَتَهُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إيصَالِ الْحُقُوقِ إلَى أَرْبَابِهَا بِإِلْزَامِ الْمَانِعِينَ مِنْهَا ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِالْقَضَاءِ ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ تَعَالَى { وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } وَقَبْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَاوُد بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعْ الْهَوَى } { وَبَعَثَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا قَاضِيًا عَلَى الْيَمَنِ وَمُعَاذًا وَقَالَ لَهُ : بِمَ تَقْضِي ؟ فَقَالَ : بِكِتَابِ اللَّهِ ، قَالَ : فَإِنْ لَمْ تَجِدْ ، قَالَ : بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : فَإِنْ لَمْ تَجِدْ ، قَالَ : أَجْتَهِدُ بِرَأْيِي فَأَقَرَّهُ } وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ .

قَالَ ( وَلَا تَصِحُّ وِلَايَةُ الْقَاضِي حَتَّى يَجْتَمِعَ فِي الْمُوَلَّى شَرَائِطُ الشَّهَادَةِ وَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ ) أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ حُكْمَ الْقَضَاءِ يُسْتَقَى مِنْ حُكْمِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ ، فَكُلُّ مَنْ كَانَ أَهْلًا لِلشَّهَادَةِ يَكُونُ أَهْلًا لِلْقَضَاءِ وَمَا يُشْتَرَطُ لِأَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ يُشْتَرَطُ لِأَهْلِيَّةِ الْقَضَاءِ .

( قَوْلُهُ لَا تَصِحُّ وِلَايَةُ الْقَاضِي حَتَّى يَجْتَمِعَ فِي الْمَوْلَى شَرَائِطُ الشَّهَادَةِ وَيَكُونَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ ) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ .
وَذَكَرَ الْمَوْلَى عَلَى لَفْظِ الْمَفْعُولِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّهُ أَلْقَى عَلَيْهِ الْفِعْلَ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ لَهُ مِنْهُ كَمَا هُوَ الْأَوْلَى ( أَمَّا الْأَوَّلُ ) وَهُوَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ ( فَلِأَنَّ حُكْمَ الْقَضَاءِ يُسْتَقَى مِنْ حُكْمِ الشَّهَادَةِ ) يَعْنِي : كُلٌّ مِنْ الْقَضَاءِ وَالشَّهَادَةِ يَسْتَمِدُّ مِنْ سِرٍّ وَاحِدٍ هُوَ شُرُوطُ الشَّهَادَةِ مِنْ الْإِسْلَامِ وَالْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ وَالْحُرِّيَّةِ وَكَوْنِهِ غَيْرَ أَعْمَى وَلَا مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ ، وَالْكَمَالُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا عَفِيفًا عَالِمًا بِالسُّنَّةِ وَبِطَرِيقِ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ مِنْ الْقُضَاةِ .
[ فَرْعٌ ] قُلِّدَ عَبْدٌ فَعَتَقَ جَازَ أَنْ يَقْضِيَ بِتِلْكَ الْوِلَايَةِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى تَجْدِيدٍ ، كَمَا لَوْ تَحَمَّلَ الشَّهَادَةَ حَالَ الرِّقِّ ثُمَّ عَتَقَ ، كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْقَضَاءِ .
وَذَكَرَ بَعْدَ وَرَقَةٍ : لَوْ قُلِّدَ قَضَاءُ مِصْرَ لِصَبِيٍّ فَأَدْرَكَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِذَلِكَ الْأَمْرِ ، وَلَوْ قُلِّدَ كَافِرٌ الْقَضَاءَ فَأَسْلَمَ قَالَ مُحَمَّدٌ : هُوَ عَلَى قَضَائِهِ ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى تَوْلِيَةٍ ثَانِيَةٍ فَصَارَ الْكَافِرُ كَالْعَبْدِ .
وَالْفَرْقُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَهُ وِلَايَةٌ وَبِهِ مَانِعٌ ، وَبِالْعِتْقِ وَالْإِسْلَامِ يَرْتَفِعُ ، أَمَّا الصَّبِيُّ فَلَا وِلَايَةَ لَهُ أَصْلًا .
وَمَا فِي الْفُصُولِ : لَوْ قَالَ لِصَبِيٍّ أَوْ كَافِرٍ إذَا أَدْرَكْت فَصَلِّ بِالنَّاسِ أَوْ اقْضِ بَيْنَهُمْ جَازَ لَا يُخَالِفُ مَا ذُكِرَ فِي الصَّبِيِّ ، لِأَنَّ هَذَا تَعْلِيقُ الْوِلَايَةِ وَالْمُعَلَّقُ مَعْدُومٌ قَبْلَ الشَّرْطِ ، وَمَا تَقَدَّمَ تَنْجِيزٌ ، وَإِذَا لَمْ تَصِحَّ وِلَايَةُ الصَّبِيِّ قَاضِيًا لَا يَصِحُّ سُلْطَانًا ، فَمَا فِي زَمَانِنَا مِنْ تَوْلِيَةِ ابْنٍ صَغِيرٍ لِلسُّلْطَانِ إذَا مَاتَ فَقَدْ سَأَلَهُ فِي فَتَاوَى النَّسَفِيِّ وَصَرَّحَ بِعَدَمِ وِلَايَتِهِ وَقَالَ :

يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الِاتِّفَاقُ عَلَى وَالٍ عَظِيمٍ يَصِيرُ سُلْطَانًا ، وَتَقْلِيدُ الْقَضَاءِ مِنْهُ غَيْرَ أَنَّهُ يُعِدُّ نَفْسَهُ تَبَعًا لِابْنِ السُّلْطَانِ تَعْظِيمًا وَهُوَ السُّلْطَانُ فِي الْحَقِيقَةِ انْتَهَى .
وَمُقْتَضَى هَذَا أَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى تَجْدِيدٍ بَعْدَ بُلُوغِهِ ، وَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا إنْ عَزَلَ ذَلِكَ الْوَالِي الْعَظِيمُ نَفْسَهُ مِنْ السَّلْطَنَةِ ، وَذَلِكَ أَنَّ السُّلْطَانَ لَا يَنْعَزِلُ إلَّا بِعَزْلِهِ نَفْسَهُ وَهَذَا غَيْرُ وَاقِعٍ .
وَأَمَّا الذُّكُورَةُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ إلَّا لِلْقَضَاءِ فِي الْحُدُودِ وَالدِّمَاءِ فَتَقْضِي الْمَرْأَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ إلَّا فِيهِمَا .

وَالْفَاسِقُ أَهْلٌ لِلْقَضَاءِ حَتَّى لَوْ قُلِّدَ يَصِحُّ ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَلَّدَ كَمَا فِي حُكْمِ الشَّهَادَةِ فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْبَلَ الْقَاضِي شَهَادَتَهُ ، وَلَوْ قَبِلَ جَازَ عِنْدَنَا .
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي قَضَاءِ الْفَاسِقِ ، فَأَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَا تَصِحُّ وِلَايَتُهُ كَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ كَمَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ .
وَعَنْ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ فِي النَّوَادِرِ مِثْلُهُ ، لَكِنَّ الْغَزَالِيَّ قَالَ : اجْتِمَاعُ هَذِهِ الشُّرُوطِ مِنْ الْعَدَالَةِ وَالِاجْتِهَادِ وَغَيْرِهِمَا مُتَعَذِّرٌ فِي عَصْرِنَا لِخُلُوِّ الْعَصْرِ عَنْ الْمُجْتَهِدِ وَالْعَدْلِ ، فَالْوَجْهُ تَنْفِيذُ قَضَاءِ كُلِّ مَنْ وَلَّاهُ السُّلْطَانُ ذُو شَوْكَةٍ وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا فَاسِقًا ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عِنْدَنَا ، فَلَوْ قُلِّدَ الْجَاهِلُ الْفَاسِقُ صَحَّ وَيُحْكَمُ بِفَتْوَى غَيْرِهِ وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَلَّدَ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إنْ كَانَ فِي الرَّعِيَّةِ عَدْلٌ عَالِمٌ لَا يَحِلُّ تَوْلِيَةُ مَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ ، وَلَوْ وُلِّيَ صَحَّ عَلَى مِثَالِ شَهَادَةِ الْفَاسِقِ لَا يَحِلُّ قَبُولُهَا ، وَإِنْ قَبِلَ نَفَّذَ الْحُكْمَ بِهَا ، وَفِي غَيْرِ مَوْضِعٍ ذَكَرَ الْأَوْلَوِيَّةَ : يَعْنِي الْأَوْلَى أَنْ لَا تُقْبَلَ شَهَادَتُهُ ، وَإِنْ قَبِلَ جَازَ ، وَمُقْتَضَى الدَّلِيلِ أَنْ لَا يَحِلُّ أَنْ يَقْضِيَ بِهَا فَإِنْ قَضَى جَازَ وَنَفَذَ .

وَلَوْ كَانَ الْقَاضِي عَدْلًا فَفَسَقَ بِأَخْذِ الرِّشْوَةِ أَوْ غَيْرِهِ لَا يَنْعَزِلُ وَيَسْتَحِقُّ الْعَزْلَ ، وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ وَعَلَيْهِ مَشَايِخُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : الْفَاسِقُ لَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ كَمَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عِنْدَهُ ، وَعَنْ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ : إذَا قُلِّدَ الْفَاسِقُ ابْتِدَاءً يَصِحُّ ، وَلَوْ قُلِّدَ وَهُوَ عَدْلٌ يَنْعَزِلُ بِالْفِسْقِ لِأَنَّ الْمُقَلَّد اعْتَمَدَ عَدَالَتَهُ فَلَمْ يَكُنْ رَاضِيًا بِتَقْلِيدِهِ دُونَهَا .

( وَلَوْ كَانَ الْقَاضِي عَدْلًا ) قَبْلَ الْوِلَايَةِ فَوُلِّيَ ( فَفَسَقَ ) وَجَازَ ( بِأَخْذِ الرِّشْوَةِ وَغَيْرِهَا ) مِنْ أَسْبَابِ الْفِسْقِ ( لَا يَنْعَزِلُ وَيَسْتَحِقُّ الْعَزْلَ هَذَا هُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ وَعَلَيْهِ مَشَايِخُنَا ) الْبُخَارِيُّونَ وَالسَّمَرْقَنْدِيُّونَ وَمَعْنَى يَسْتَحِقُّ الْعَزْلَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى السُّلْطَانِ عَزْلُهُ ذَكَرَهُ فِي الْفُصُولِ .
وَقِيلَ إذَا وُلِّيَ عَدْلًا ثُمَّ فَسَقَ انْعَزَلَ لِأَنَّ عَدَالَتَهُ فِي مَعْنَى الْمَشْرُوطَةِ فِي وِلَايَتِهِ ، لِأَنَّهُ حِينَ وَلَّاهُ عَدْلًا اعْتَمَدَ عَدَالَتَهُ فَكَانَتْ وِلَايَتُهُ مُقَيَّدَةً بِعَدَالَتِهِ فَتَزُولُ بِزَوَالِهَا ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَوْ لَزِمَ ذَلِكَ انْعَزَلَ فَإِنَّ الْوِلَايَةَ تَقْبَلُ التَّقْيِيدَ وَالتَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ كَمَا إذَا قَالَ لَهُ إذَا وَصَلْت إلَى بَلْدَةِ كَذَا فَأَنْتَ قَاضِيهَا ، وَإِذَا وَصَلْت إلَى مَكَّةَ فَأَنْتَ أَمِيرُ الْمَوْسِمِ ، وَالْإِضَافَةُ كَأَنْ يَقُولَ : جَعَلْتُك قَاضِيًا فِي رَأْسِ الشَّهْرِ ، وَيُسْتَثْنَى مِنْهَا كَأَنْ يَقُولَ جَعَلْتُك قَاضِيًا إلَّا فِي قَضِيَّةِ فُلَانٍ أَوْ لَا تَنْظُرُ فِي قَضِيَّةِ كَذَا ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ ذَلِكَ إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ اخْتِيَارِ وِلَايَتِهِ لِصَلَاحِهِ تَقْيِيدُهَا بِهِ عَلَى وَجْهٍ تَزُولُ بِزَوَالِهِ فَلَا يَنْعَزِلُ .
وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ انْدَفَعَ الْمُوَرِّدُ مِنْ أَنَّ الْبَقَاءَ أَسْهَلُ مِنْ الِابْتِدَاءِ ، وَفِي الِابْتِدَاءِ يَجُوزُ وِلَايَةُ الْفَاسِقِ ، فَفِي الْبَقَاءِ لَا يَنْعَزِلُ .
وَاتَّفَقُوا فِي الْإِمْرَةِ وَالسَّلْطَنَةِ عَلَى عَدَمِ الِانْعِزَالِ بِالْفِسْقِ لِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ .
ثُمَّ الدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ تَعْلِيقِ الْإِمَارَةِ وَإِضَافَتِهَا { قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَعَثَ الْبَعْثَ إلَى مُؤْتَةَ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ إنْ قُتِلَ زَيْدٌ فَجَعْفَرٌ أَمِيرُكُمْ وَإِنْ قُتِلَ جَعْفَرٌ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ } وَهَذِهِ الْقِصَّةُ مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهَا جَمِيعُ أَهْلِ السِّيَرِ وَالْمَغَازِي .
ثُمَّ الرِّشْوَةُ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ : مِنْهَا مَا

هُوَ حَرَامٌ عَلَى الْآخِذِ وَالْمُعْطِي وَهُوَ الرِّشْوَةُ عَلَى تَقْلِيدِ الْقَضَاءِ وَالْإِمَارَةِ لَا يَصِيرُ قَاضِيًا .
الثَّانِي ارْتِشَاءُ الْقَاضِي لِيَحْكُمَ وَهُوَ كَذَلِكَ حَرَامٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ثُمَّ لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ فِي تِلْكَ الْوَاقِعَةِ الَّتِي ارْتَشَى فِيهَا سَوَاءٌ كَانَ بِحَقٍّ أَوْ بِبَاطِلٍ .
أَمَّا فِي الْحَقِّ فَلِأَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فَلَا يَحِلُّ أَخْذُ الْمَالِ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا فِي الْبَاطِلِ فَأَظْهَرُ .
وَحُكِيَ فِي الْفُصُولِ فِي نَفَاذِ قَضَاءِ الْقَاضِي فِيمَا ارْتَشَى فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : لَا يَنْفُذُ فِيمَا ارْتَشَى فِيهِ ، وَيَنْفُذُ فِيمَا سِوَاهُ .
وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ ، لَا يَنْفُذُ فِيهِمَا ، يَنْفُذُ فِيهِمَا ، وَهُوَ مَا ذَكَرَ الْبَزْدَوِيُّ ، وَهُوَ حَسَنٌ لِأَنَّ حَاصِلَ أَمْرِ الرِّشْوَةِ فِيمَا إذَا قَضَى بِحَقٍّ أَجَابَهَا فِسْقُهُ وَقَدْ فُرِضَ أَنَّ الْفِسْقَ لَا يُوجِبُ الْعَزْلَ فَوِلَايَتُهُ قَائِمَةٌ وَقَضَاؤُهُ بِحَقٍّ فَلِمَ لَا يَنْفُذُ ، وَخُصُوصُ هَذَا الْفِسْقِ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ ، وَغَايَةُ مَا وُجِّهَ بِهِ أَنَّهُ إذَا ارْتَشَى عَامِلٌ لِنَفْسِهِ أَوْ وَلَدِهِ يَعْنِي وَالْقَضَاءُ عَمَلُ اللَّهِ تَعَالَى وَارْتِشَاءُ الْقَاضِي أَوْ وَلَدِهِ أَوْ مَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ أَوْ بَعْضِ أَعْوَانِهِ سَوَاءٌ إذَا كَانَ بِعِلْمِهِ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَرْتَشِيَ ثُمَّ يَقْضِيَ أَوْ يَقْضِيَ ثُمَّ يَرْتَشِيَ ، وَفِيهِ لَوْ أَخَذَ الرِّشْوَةَ ثُمَّ بَعَثَ إلَى شَافِعِيٍّ لِيَقْضِيَ لَا يَنْفُذُ قَضَاءُ الثَّانِي ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ عَمِلَ فِي هَذَا لِنَفْسِهِ حِينَ أَخَذَ الرِّشْوَةَ وَإِنْ كَانَ كَتَبَ إلَى الثَّانِي لِيَسْمَعَ الْخُصُومَةَ وَأَخَذَ مِثْلَ أَجْرِ الْكِتَابِ صَحَّ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ ، وَاَلَّذِي قُلِّدَ بِوَاسِطَةِ الشُّفَعَاءِ كَاَلَّذِي قُلِّدَ احْتِسَابًا فِي أَنَّهُ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَحِلُّ طَلَبُ الْوِلَايَةِ بِالشُّفَعَاءِ .
الثَّالِثُ : أَخَذَ الْمَالَ لِيُسَوِّيَ أَمْرَهُ عِنْدَ السُّلْطَانِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ أَوْ جَلْبًا لِلنَّفْعِ وَهُوَ حَرَامٌ عَلَى الْآخَرِ لَا الدَّافِعِ ، وَحِيلَةُ حِلِّهَا لِلْآخِذِ أَنْ

يَسْتَأْجِرَهُ يَوْمًا إلَى اللَّيْلِ أَوْ يَوْمَيْنِ فَتَصِيرَ مَنَافِعُهُ مَمْلُوكَةً ثُمَّ يَسْتَعْمِلَهُ فِي الذَّهَابِ إلَى السُّلْطَانِ لِلْأَمْرِ الْفُلَانِيِّ .
وَفِي الْأَقْضِيَةِ قَسَّمَ الْهَدِيَّةَ وَجَعَلَ هَذَا مِنْ أَقْسَامِهَا فَقَالَ : حَلَالٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ كَالْإِهْدَاءِ لِلتَّوَدُّدِ .
وَحَرَامٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ كَالْإِهْدَاءِ لِيُعِينَهُ عَلَى الظُّلْمِ ، حَلَالٌ مِنْ جَانِبِ الْمُهْدِي حَرَامٌ عَلَى الْآخِذِ وَهُوَ أَنْ يُهْدِيَ لِيَكُفَّ عَنْهُ الظُّلْمُ .
وَالْحِيلَةُ أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ إلَخْ ، قَالَ : هَذَا إذَا كَانَ فِيهِ شَرْطٌ ، أَمَّا إذَا كَانَ الْإِهْدَاءُ بِلَا شَرْطٍ وَلَكِنْ يَعْلَمُ يَقِينًا أَنَّهُ إنَّمَا يُهْدِي إلَيْهِ لِيُعِينَهُ عِنْدَ السُّلْطَانِ فَمَشَايِخُنَا عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ ، وَلَوْ قَضَى حَاجَتَهُ بِلَا شَرْطٍ وَلَا طَمَعٍ فَأَهْدَى إلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ حَلَالٌ لَا بَأْسَ بِهِ ، وَمَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ كَرَاهَتِهِ فَوَرَعٌ .
الرَّابِعُ مَا يُدْفَعُ لِدَفْعِ الْخَوْفِ مِنْ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ حَلَالٌ لِلدَّافِعِ حَرَامٌ عَلَى الْآخِذِ ، لِأَنَّ دَفْعَ الضَّرَرِ عَنْ الْمُسْلِمِ وَاجِبٌ وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْمَالِ لِيَفْعَلَ الْوَاجِبَ .

وَهَلْ يَصْلُحُ الْفَاسِقُ مُفْتِيًا ؟ قِيلَ لَا لِأَنَّهُ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَخَبَرُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي الدِّيَانَاتِ ، وَقِيلَ يَصْلُحُ لِأَنَّهُ يَجْتَهِدُ كُلَّ الْجَهْدِ فِي إصَابَةِ الْحَقِّ حَذَارِ النِّسْبَةِ إلَى الْخَطَإِ ، وَأَمَّا الثَّانِي فَالصَّحِيحُ أَنَّ أَهْلِيَّةَ الِاجْتِهَادِ شَرْطُ الْأَوْلَوِيَّةِ .
( وَهَلْ يَصْلُحُ الْفَاسِقُ مُفْتِيًا قِيلَ لَا لِأَنَّهُ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ ) وَقَدْ ظَهَرَتْ خِيَانَتُهُ لِلدِّينِ ( وَقِيلَ يُسْتَفْتَى لِأَنَّهُ يَجْتَهِدُ كُلَّ الْجَهْدِ حَذَارِ أَنْ يَنْسُبَهُ فُقَهَاءُ عَصْرِهِ إلَى الْخَطَإِ .
وَأَمَّا الثَّانِي ) وَهُوَ اشْتِرَاطُ أَهْلِيَّةِ الِاجْتِهَادِ ( فَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَيْسَتْ شَرْطًا لِلْوِلَايَةِ بَلْ لِلْأَوْلَوِيَّةِ ) .

فَأَمَّا تَقْلِيدُ الْجَاهِلِ فَصَحِيحٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَهُوَ يَقُولُ : إنَّ الْأَمْرَ بِالْقَضَاءِ يَسْتَدْعِي الْقُدْرَةَ عَلَيْهِ وَلَا قُدْرَةَ دُونَ الْعِلْمِ .
وَلَنَا أَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَقْضِيَ بِفَتْوَى غَيْرِهِ ، وَمَقْصُودُ الْقَضَاءِ يَحْصُلُ بِهِ وَهُوَ إيصَالُ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ .

( فَأَمَّا تَقْلِيدُ الْجَاهِلِ فَصَحِيحٌ عِنْدَنَا ) وَيُحْكَمُ بِفَتْوَى غَيْرِهِ ( خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ) وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَقَوْلُهُمْ رِوَايَةٌ عَنْ عُلَمَائِنَا نَصُّ مُحَمَّدٍ فِي الْأَصْلِ ، أَنَّ الْمُقَلَّدَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا وَلَكِنَّ الْمُخْتَارَ خِلَافُهُ .
قَالُوا : الْقَضَاءُ يَسْتَدْعِي الْقُدْرَةَ عَلَيْهِ وَلَا قُدْرَةَ بِدُونِ الْعِلْمِ .
قُلْنَا : يُمْكِنُهُ الْقَضَاءُ بِفَتْوَى غَيْرِهِ ( وَمَقْصُودُ الْقَضَاءِ وَهُوَ إيصَالُ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ ) وَرَفْعُ الظُّلْمِ ( وَيَحْصُلُ بِهِ ) فَاشْتِرَاطُهُ ضَائِعٌ ، وَالْمُرَادُ بِالْعِلْمِ لَيْسَ مَا يَقْطَعُ بِصَوَابِهِ بَلْ مَا يَظُنُّهُ الْمُجْتَهِدُ ، فَإِنَّهُ لَا قَطْعَ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ ، وَإِذَا قَضَى بِقَبُولِ مُجْتَهِدٍ فِيهِ فَقَدْ قَضَى بِذَلِكَ الْعِلْمِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ ، وَكَوْنُ مُعَاذٍ قَالَ : أَجْتَهِدُ بِرَأْيِي لَا يَلْزَمُهُ اشْتِرَاطُهُ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ مُعَاذٌ الْإِجْمَاعَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً فِي زَمَنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَيْضًا عَنْ الْغَزَالِيِّ تَوْجِيهَ خِلَافَهُ فَيُقَلَّدُ فِي هَذَا الزَّمَانِ .
فِي بَعْضِ نُسَخِ الْهِدَايَةِ : الِاسْتِدْلَال عَلَى تَقْلِيدِ الْمُقَلِّدِ بِتَقْلِيدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا الْيَمَنَ وَلَمْ يَكُنْ مُجْتَهِدًا فَلَيْسَ بِشَيْءٍ ، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دَعَا لَهُ بِأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ قَلْبَهُ وَيُثَبِّتَ لِسَانَهُ .
فَإِنْ كَانَ بِهَذَا الدُّعَاءِ رُزِقَ أَهْلِيَّةَ الِاجْتِهَادِ فَلَا إشْكَالَ ، وَإِلَّا فَقَدْ حَصَلَ لَهُ الْمَقْصُودُ مِنْ الِاجْتِهَادِ وَهُوَ الْعِلْمُ وَالسَّدَادُ ، وَهَذَا غَيْرُ ثَابِتٍ فِي غَيْرِهِ ، وَسَنَذْكُرُ سَنَدَ حَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ مَا ذُكِرَ فِي الْقَاضِي ذُكِرَ فِي الْمُفْتِي فَلَا يُفْتِي إلَّا الْمُجْتَهِدُ ، وَقَدْ اسْتَقَرَّ رَأْيُ الْأُصُولِيِّينَ عَلَى أَنَّ الْمُفْتِيَ هُوَ الْمُجْتَهِدُ ، وَأَمَّا غَيْرُ الْمُجْتَهِدِ مِمَّنْ يَحْفَظُ أَقْوَالَ الْمُجْتَهِدِ فَلَيْسَ بِمُفْتٍ ، وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ إذَا سُئِلَ

أَنْ يَذْكُرَ قَوْلَ الْمُجْتَهِدِ كَأَبِي حَنِيفَةَ عَلَى جِهَةِ الْحِكَايَةِ ، فَعُرِفَ أَنَّ مَا يَكُونُ فِي زَمَانِنَا مِنْ فَتْوَى الْمَوْجُودِينَ لَيْسَ بِفَتْوَى ، بَلْ هُوَ نَقْلُ كَلَامِ الْمُفْتِي لِيَأْخُذَ بِهِ الْمُسْتَفْتِي ، وَطَرِيقُ نَقْلِهِ كَذَلِكَ عَنْ الْمُجْتَهِدِ أَحَدُ أَمْرَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهِ سَنَدٌ إلَيْهِ أَوْ يَأْخُذَهُ مِنْ كِتَابٍ مَعْرُوفٍ تَدَاوَلَتْهُ الْأَيْدِي ، نَحْوُ كُتُبِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَنَحْوُهَا مِنْ التَّصَانِيفِ الْمَشْهُورَةِ لِلْمُجْتَهِدِينَ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ عَنْهُمْ أَوْ الْمَشْهُورِ ، وَشَهِدَ هَكَذَا ذِكْرُ الرَّازِيّ فَعَلَى هَذَا لَوْ وَجَدْنَا بَعْضَ نُسَخِ النَّوَادِرِ فِي زَمَانِنَا لَا يَحِلُّ عُزُوُّ مَا فِيهَا إلَى مُحَمَّدٍ وَلَا إلَى أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهَا لَمْ تُشْتَهَرْ فِي عَصْرِنَا فِي دِيَارِنَا وَلَمْ تُتَدَاوَلْ .
نَعَمْ إذَا وُجِدَ النَّقْلُ عَنْ النَّوَادِرِ مَثَلًا فِي كِتَابٍ مَشْهُورٍ مَعْرُوفٍ كَالْهِدَايَةِ وَالْمَبْسُوطِ كَانَ ذَلِكَ تَعْوِيلًا عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابِ ، فَلَوْ كَانَ حَافِظًا لِلْأَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفَةِ لِلْمُجْتَهِدِينَ وَلَا يَعْرِفُ الْحُجَّةَ وَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الِاجْتِهَادِ لِلتَّرْجِيحِ لَا يَقْطَعُ بِقَوْلٍ مِنْهَا يُفْتِي بِهِ ، بَلْ يَحْكِيهَا لِلْمُسْتَفْتِي فَيَخْتَارُ الْمُسْتَفْتِي مَا يَقَعُ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ الْأَصْوَبُ ذَكَرَهُ فِي بَعْضِ الْجَوَامِعِ .
وَعِنْدِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ حِكَايَةُ كُلِّهَا بَلْ يَكْفِيهِ أَنْ يَحْكِيَ قَوْلًا مِنْهَا فَإِنَّ الْمُقَلِّدَ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ أَيَّ مُجْتَهِدٍ شَاءَ ، فَإِذَا ذَكَرَ أَحَدَهَا فَقَلَّدَهُ حَصَلَ الْمَقْصُودُ ، نَعَمْ لَا يَقْطَعُ عَلَيْهِ فَيَقُولُ جَوَابُ مَسْأَلَتِك كَذَا بَلْ يَقُولُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ حُكْمُ هَذَا كَذَا ، نَعَمْ لَوْ حَكَى الْكُلَّ فَالْأَخْذُ بِمَا يَقَعُ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ الْأَصْوَبُ أَوْلَى .
وَالْعَامِّيُّ لَا عِبْرَةَ بِمَا يَقَعُ فِي قَلْبِهِ مِنْ صَوَابِ الْحُكْمِ وَخَطَئِهِ ، وَعَلَى هَذَا إذَا اسْتَفْتَى فَقِيهَيْنِ : أَعْنِي مُجْتَهِدَيْنِ فَاخْتَلَفَا عَلَيْهِ الْأَوْلَى أَنْ يَأْخُذَ

بِمَا يَمِيلُ إلَيْهِ قَلْبُهُ مِنْهُمَا .
وَعِنْدِي أَنَّهُ لَوْ أَخَذَ بِقَوْلِ الَّذِي لَا يَمِيلُ إلَيْهِ قَلْبُهُ جَازَ لِأَنَّ مَيْلَهُ وَعَدَمَهُ سَوَاءٌ ، وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ تَقْلِيدُ مُجْتَهِدٍ وَقَدْ فَعَلَ أَصَابَ ذَلِكَ الْمُجْتَهِدُ أَوْ أَخْطَأَ .
وَقَالُوا الْمُنْتَقِلُ مِنْ مَذْهَبٍ إلَى مَذْهَبٍ آخَرَ بِاجْتِهَادٍ وَبُرْهَانٍ آثِمٌ يَسْتَوْجِبُ التَّعْزِيرَ فَبِلَا اجْتِهَادٍ وَبُرْهَانٍ أَوْلَى ، وَلَا بُدَّ أَنْ يُرَادَ بِهَذَا الِاجْتِهَادِ مَعْنَى التَّحَرِّي وَتَحْكِيمِ الْقَلْبِ لِأَنَّ الْعَامِّيَّ لَيْسَ لَهُ اجْتِهَادٌ .
ثُمَّ حَقِيقَةُ الِانْتِقَالِ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ فِي حُكْمِ مَسْأَلَةٍ خَاصَّةٍ قَلَّدَ فِيهِ وَعَمِلَ بِهِ ، وَإِلَّا فَقَوْلُهُ قَلَّدْت أَبَا حَنِيفَةَ فِيمَا أَفْتَى مِنْ الْمَسَائِلِ مَثَلًا وَالْتَزَمْت الْعَمَلَ بِهِ عَلَى الْإِجْمَالِ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ صُوَرَهَا لَيْسَ حَقِيقَةَ التَّقْلِيدِ بَلْ هَذَا حَقِيقَةُ تَعْلِيقِ التَّقْلِيدِ أَوْ وَعَدَ بِهِ ، لِأَنَّهُ الْتَزَمَ أَنْ يَعْمَلَ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، فِيمَا يَقَعُ لَهُ مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي تَتَعَيَّنُ فِي الْوَقَائِعِ ، فَإِنْ أَرَادُوا هَذَا الِالْتِزَامَ فَلَا دَلِيلَ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ الْمُجْتَهِدِ الْمُعَيَّنِ بِإِلْزَامِهِ نَفْسَهُ ذَلِكَ قَوْلًا أَوْ نِيَّةً شَرْعًا ، بَلْ الدَّلِيلُ اقْتَضَى الْعَمَلَ بِقَوْلِ الْمُجْتَهِدِ فِيمَا احْتَاجَ إلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } وَالسُّؤَالُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ طَلَبِ حُكْمِ الْحَادِثَةِ الْمُعَيَّنَةِ ، وَحِينَئِذٍ إذَا ثَبَتَ عِنْدَهُ قَوْلُ الْمُجْتَهِدِ وَجَبَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ بِهِ ، وَالْغَالِبُ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ إلْزَامَاتٌ مِنْهُمْ لِكَفِّ النَّاسِ عَنْ تَتَبُّعِ الرُّخَصِ وَإِلَّا أَخَذَ الْعَامِّيُّ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ بِقَوْلِ مُجْتَهِدٍ قَوْلُهُ أَخَفُّ عَلَيْهِ .
وَأَنَا لَا أَدْرِي مَا يَمْنَعُ هَذَا مِنْ النَّقْلِ أَوْ الْعَقْلِ وَكَوْنُ الْإِنْسَانِ يَتَّبِعُ مَا هُوَ أَخَفُّ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَوْلِ مُجْتَهِدٍ مُسَوَّغٌ لَهُ الِاجْتِهَادُ مَا عَلِمْت مِنْ الشَّرْعِ ذَمَّهُ عَلَيْهِ ، وَكَانَ صَلَّى

اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ مَا خَفَّفَ عَنْ أُمَّتِهِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
.

وَيَنْبَغِي لِلْمُقَلِّدِ أَنْ يَخْتَارَ مَنْ هُوَ الْأَقْدَرُ وَالْأَوْلَى لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ قَلَّدَ إنْسَانًا عَمَلًا وَفِي رَعِيَّتِهِ مَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَجَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ } .

( قَوْلُهُ وَيَنْبَغِي لِلْمُقَلِّدِ ) وَهُوَ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ التَّقْلِيدِ ( أَنْ يَخْتَارَ مَنْ هُوَ أَقْدَرُ وَأَوْلَى ) لِدِيَانَتِهِ وَعِفَّتِهِ وَقُوَّتِهِ دُونَ غَيْرِهِ وَيَرْزُقُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ .
وَلَا بَأْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَأْخُذَ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا مُثْرِيًا وَإِنْ احْتَسَبَ فَهُوَ أَفْضَلُ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي مَالِ الْيَتِيمِ إذَا عَمِلَ فِيهِ الْوَصِيُّ { وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ ، وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } وَذُكِرَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَرْزُقُ سُلَيْمَانَ بْنَ رَبِيعَةَ الْبَاهِلِيَّ عَلَى الْقَضَاءِ كُلَّ شَهْرٍ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ لِأَنَّهُ فَرَّغَ نَفْسَهُ لِلْعَمَلِ لِلْمُسْلِمِينَ ، فَكَانَتْ كِفَايَتُهُ وَعِيَالُهُ عَلَيْهِمْ .
قَالُوا : وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَرْزُقُ شُرَيْحًا كُلَّ شَهْرٍ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَرَزَقَهُ عَلِيٌّ خَمْسِمِائَةٍ وَذَلِكَ لِقِلَّةِ عِيَالِهِ فِي زَمَنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَوْ رُخْصِ السِّعْرِ وَكَثْرَةِ عِيَالِهِ فِي زَمَنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَوْ غَلَاءِ السِّعْرِ ، فَرِزْقُ الْقَاضِي لَا يُقَدَّرُ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَجْرٍ لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ عَلَى الْقَضَاءِ .
وَإِنَّمَا يَخْتَارُ الْأَوْلَى لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى عِصَابَةٍ وَفِي تِلْكَ الْعِصَابَةِ مَنْ هُوَ أَرْضَى لِلَّهِ مِنْهُ فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَجَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ } وَقَالَ : صَحِيحُ الْإِسْنَادِ .
وَتَعَقَّبَ بِحُسَيْنِ بْنِ قَيْسٍ فَإِنَّهُ ضَعِيفٌ ، وَضَعَّفَهُ الْعُقَيْلِيُّ وَقَالَ : إنَّمَا يُعْرَفُ هَذَا مِنْ كَلَامِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ حُسَيْنٍ هَذَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ تَوَلَّى مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا

فَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ هُوَ أَوْلَى بِذَلِكَ وَأَعْلَمُ مِنْهُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَجَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ } وَرَوَى أَبُو يَعْلَى الْمُوصِلِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { أَيُّمَا رَجُلٍ اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى عَشَرَةِ أَنْفُسٍ وَعَلِمَ أَنَّ فِي الْعَشَرَةِ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ فَقَدْ غَشَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَجَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ } وَاَلَّذِي لَهُ وِلَايَةُ التَّقْلِيدِ الْخَلِيفَةُ وَالسُّلْطَانُ الَّذِي نَصَّبَهُ الْخَلِيفَةُ وَأَطْلَقَ لَهُ التَّصَرُّفَ ، وَكَذَا الَّذِي وَلَّاهُ السُّلْطَانُ نَاحِيَةً وَجَعَلَ لَهُ خَرَاجَهَا وَأَطْلَقَ لَهُ التَّصَرُّفَ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُوَلِّيَ وَيَعْزِلَ ، كَذَا قَالُوا .
وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ لَا يُصَرِّحَ لَهُ بِالْمَنْعِ أَوْ يَعْلَمَ ذَلِكَ بِعُرْفِهِمْ فَإِنَّ نَائِبَ الشَّامِ وَحَلَبَ فِي دِيَارِنَا يُطْلِقُ لَهُمْ التَّصَرُّفَ فِي الرَّعِيَّةِ وَالْخَرَاجِ وَلَا يُوَلُّونَ الْقُضَاةَ وَلَا يَعْزِلُونَ ، وَلَوْ وُلِّيَ فَحُكْمُ الْمُوَلَّى ثُمَّ جَاءَ بِكِتَابٍ لِلسُّلْطَانِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ إمْضَاءً لِلْقَضَاءِ ، وَالْحُرِّيَّةُ شَرْطٌ فِي السُّلْطَانِ وَفِي التَّقْلِيدِ بِالْأَصَالَةِ لَا بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ ، فَإِنَّ السُّلْطَانَ إذَا أَمَّرَ عَبْدَهُ عَلَى نَاحِيَةٍ وَأَمَّرَهُ أَنْ يُنَصِّبَ الْقَاضِيَ جَازَ ، فَإِنْ نَصَّبَهُ كَنَصْبِ السُّلْطَانِ بِنَفْسِهِ .

وَفِي حَدِّ الِاجْتِهَادِ كَلَامٌ عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ .
وَحَاصِلُهُ أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ حَدِيثٍ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْفِقْهِ لِيَعْرِفَ مَعَانِيَ الْآثَارِ أَوْ صَاحِبَ فِقْهٍ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْحَدِيثِ لِئَلَّا يَشْتَغِلَ بِالْقِيَاسِ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَقِيلَ أَنْ يَكُونَ مَعَ ذَلِكَ صَاحِبَ قَرِيحَةٍ يَعْرِفُ بِهَا عَادَاتِ النَّاسِ لِأَنَّ مِنْ الْأَحْكَامِ مَا يَبْتَنِي عَلَيْهَا .

( قَوْلُهُ وَفِي حَدِّ الِاجْتِهَادِ كَلَامٌ عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ .
وَحَاصِلَهُ ) الْكَلَامِ ( أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ حَدِيثٍ لَهُ مَعْرِفَةٌ فِي الْفِقْهِ لِيَعْرِفَ مَعَانِيَ الْآثَارِ أَوْ صَاحِبَ فِقْهٍ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْحَدِيثِ لِئَلَّا يَشْتَغِلَ بِالْقِيَاسِ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ ) وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ عَلَى الْأَوَّلِ نِسْبَتُهُ إلَى مَعْرِفَةِ الْحَدِيثِ أَكْثَرَ مِنْ مَعْرِفَتِهِ بِالْفِقْهِ ، وَفِي الثَّانِي عَكْسُهُ .
ثُمَّ إنَّ الْمُصَنِّفَ رَتَّبَ عَلَى الْأَوَّلِ كَوْنَهُ حِينَئِذٍ يَعْرِفُ مَعَانِيَ الْآثَارِ ، وَالْمُرَادُ بِمَعَانِي الْآثَارِ الْمَعَانِي الَّتِي هِيَ مُنَاطَاةُ الْأَحْكَامِ الدَّالَّةِ عَلَيْهَا أَلْفَاظُ الْحَدِيثِ ، وَعَلَى الثَّانِي سَلَامَتُهُ مِنْ الْقِيَاسِ مَعَ مُعَارَضَةِ النَّصِّ وَقَدْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُمَا قَوْلَانِ ، وَلَا شَكَّ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُمَا مُتَضَادَّانِ لِأَنَّ كَوْنَهُ أَدْرَى بِالْحَدِيثِ مِنْ الْفِقْهِ يُضَادُّ كَوْنَهُ أَدْرَى بِالْفِقْهِ مِنْ الْحَدِيثِ ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ يَحْتَاجُ إلَى الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا وَهُوَ تَحَرُّزُهُ مِنْ الْقِيَاسِ فِي مُعَارَضَةِ النَّصِّ وَمَعْرِفَةِ مَعَانِي الْآثَارِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الْقِيَاسِ .
فَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ " صَاحِبَ حَدِيثٍ وَفِقْهٍ " لِيَعْرِفَ مَعَانِيَ الْآثَارِ ، وَيَمْتَنِعَ عَنْ الْقِيَاسِ ، بِخِلَافِ النَّصِّ .
وَالْحَاصِلُ أَنْ يَعْلَمَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ بِأَقْسَامِهِمَا مِنْ عِبَارَتِهِمَا وَإِشَارَتِهِمَا وَدَلَالَتِهِمَا وَاقْتِضَائِهِمَا وَبَاقِي الْأَقْسَامِ نَاسِخِهِمَا وَمَنْسُوخِهِمَا وَمُنَاطَاةِ أَحْكَامِهِمَا وَشُرُوطِ الْقِيَاسِ وَالْمَسَائِلِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا لِئَلَّا يَقَعَ فِي الْقِيَاسِ فِي مُقَابَلَةِ الْإِجْمَاعِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ لِأَنَّهُ قَدْ يُقَدِّمُهُ عَلَى الْقِيَاسِ فَلَا يَقِيسُ فِي مُعَارَضَةِ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ وَيَعْلَمُ عُرْفَ النَّاسِ وَهَذَا قَوْلُهُ ( وَقِيلَ أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ قَرِيحَةٍ إلَخْ ) فَهَذَا الْقِيلُ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي الْمُجْتَهِدِ ، فَمَنْ أَتْقَنَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ فَهُوَ أَهْلٌ لِلِاجْتِهَادِ فَيَجِبُ

عَلَيْهِ أَنْ يَعْمَلَ بِاجْتِهَادِهِ وَهُوَ أَنْ يَبْذُلَ جَهْدَهُ فِي طَلَبِ الظَّنِّ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ عَنْ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ وَلَا يُقَلِّدُ أَحَدًا .

قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِالدُّخُولِ فِي الْقَضَاءِ لِمَنْ يَثِقُ بِنَفْسِهِ أَنْ يُؤَدِّيَ فَرْضَهُ ) لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ تَقَلَّدُوهُ وَكَفَى بِهِمْ قُدْوَةٌ ، وَلِأَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ لِكَوْنِهِ أَمْرًا بِالْمَعْرُوفِ .

( قَوْلُهُ وَلَا بَأْسَ بِالدُّخُولِ فِي الْقَضَاءِ لِمَنْ يَثِقُ بِنَفْسِهِ أَنْ يُؤَدِّيَ فَرْضَهُ ، لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ تَقَلَّدُوا وَلِأَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ لِكَوْنِهِ أَمْرًا بِالْمَعْرُوفِ ) أَمَّا إنَّ الصَّحَابَةَ تَقَلَّدُوا فَحَدِيثُ مُعَاذٍ مَعْرُوفٌ .
وَكَذَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لِرِوَايَةِ أَبِي دَاوُد عَنْ عَلِيٍّ قَالَ { بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْيَمَنِ قَاضِيًا ، فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ تُرْسِلُنِي وَأَنَا حَدِيثُ السِّنِّ وَلَا عِلْمَ لِي بِالْقَضَاءِ ؟ فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ سَيَهْدِي قَلْبَك وَيُثَبِّتُ لِسَانَك ، فَإِذَا جَلَسَ بَيْنَ يَدَيْك الْخَصْمَانِ فَلَا تَقْضِيَنَّ حَتَّى تَسْمَعَ مِنْ الْآخَرِ كَمَا سَمِعْت مِنْ الْأَوَّلِ ، فَإِنَّهُ حَرِيٌّ أَنْ يَتَبَيَّنَ لَك الْقَضَاءُ ، قَالَ : فَمَا زِلْت قَاضِيًا أَوْ مَا شَكَكْت فِي قَضَاءٍ بَعْدُ } وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَالطَّيَالِسِيُّ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ : صَحِيحُ الْإِسْنَادِ ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ وَفِيهِ { فَضَرَبَ صَدْرِي وَقَالَ : اللَّهُمَّ أَهْدِ قَلْبَهُ وَثَبِّتْ لِسَانَهُ ، قَالَ : فَمَا شَكَكْت } الْحَدِيثَ ، وَصَحَّحَهُ أَيْضًا الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ { بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى الْيَمَنِ فَقَالَ : عَلِّمْهُمْ الشَّرَائِعَ وَاقْضِ بَيْنَهُمْ } الْحَدِيثَ ، وَصَحَّحَهُ ثُمَّ قَلَّدَ عَلِيٌّ شُرَيْحًا الْإِمَامَ .
وَأَمَّا إنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ فَقَدْ قَدَّمْنَاهُ ، غَيْرَ أَنَّ مُقْتَضَاهُ أَنْ يَكُونَ الدُّخُولُ فِيهِ مُسْتَحَبًّا ؛ وَعِبَارَةُ لَا بَأْسَ أَكْثَرُ اسْتِعْمَالِهَا فِي الْمُبَاحِ وَمَا تَرْكُهُ أَوْلَى .
وَحَاصِلُ مَا هُنَا أَنَّهُ إنْ لَمْ يَأْمَنْ عَلَى نَفْسِهِ الْحَيْفَ : أَيْ الْجَوْرَ أَوْ عَدَمَ إقَامَةِ الْعَدْلِ كُرِهَ لَهُ الدُّخُولُ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ لِأَنَّ الْغَالِبَ الْوُقُوعُ فِي مَحْظُورِهِ حِينَئِذٍ وَإِنْ أُمِنَ أُبِيحَ رُخْصَةً ، وَالتَّرْكُ هُوَ الْعَزِيمَةُ لِأَنَّهُ وَإِنْ أُمِنَ فَالْغَالِبُ هُوَ خَطَأُ ظَنِّ مَنْ

ظَنَّ مِنْ نَفْسِهِ الِاعْتِدَالَ فَيَظْهَرُ مِنْهُ خِلَافُهُ فَيُؤَخِّرُهُ عَنْ الِاسْتِحْبَابِ .
هَذَا إذَا لَمْ تَنْحَصِرْ الْأَهْلِيَّةُ فِيهِ ، وَإِنْ انْحَصَرَتْ صَارَ فَرْضَ عَيْنٍ وَعَلَيْهِ ضَبْطُ نَفْسِهِ ، إلَّا إنْ كَانَ السُّلْطَانُ مِمَّنْ يُمْكِنُ أَنْ يَفْصِلَ الْخُصُومَاتِ وَيَتَفَرَّغُ لِذَلِكَ .
وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَنْ جُعِلَ عَلَى الْقَضَاءِ فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ } حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ .
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ اُسْتُقْضِيَ فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ } وَحُكِيَ أَنَّ بَعْضَ الْقُضَاةِ اسْتَخَفَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ ثُمَّ دَعَا مَنْ يُسَوِّي لَهُ لِحْيَتَهُ فَبَيْنَمَا هُوَ يَحْلِقُ لَهُ تَحْتَ لِحْيَتِهِ فِي حُلْقُومِهِ إذَا عَطَسَ الْقَاضِي فَأَلْقَى الْمُوسَى رَأْسَهُ ، وَقَدْ جَاءَ فِي التَّحْذِيرِ مِنْ الْقَضَاءِ آثَارٌ .
وَقَدْ اجْتَنَبَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَبَرَ عَلَى الضَّرْبِ وَالسَّجْنِ حَتَّى مَاتَ فِي السِّجْنِ وَقَالَ : الْبَحْرُ عَمِيقٌ فَكَيْفَ أَعْبُرُ بِالسِّبَاحَةِ ؟ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : الْبَحْرُ عَمِيقٌ وَالسَّفِينَةُ وَثِيقٌ وَالْمَلَّاحُ عَالِمٌ .
فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : كَأَنَّ بِك قَاضِيًا .
وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ كَقَوْلِ أَبِي قِلَابَةَ : مَا وَجَدْت الْقَاضِيَ إلَّا كَسَابِحٍ فِي بَحْرٍ فَكَمْ يَسْبَحُ حَتَّى يَغْرَقَ .
وَكَانَ دُعِيَ لِلْقَضَاءِ فَهَرَبَ حَتَّى أَتَى الشَّامَ فَوَافَقَ مَوْتَ قَاضِيهَا ، فَهَرَبَ حَتَّى أَتَى الْيَمَامَةَ .
وَاجْتَنَبَهُ كَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ .
وَقُيِّدَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ نَيِّفًا وَثَلَاثِينَ يَوْمًا أَوْ نَيِّفًا وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا لِيَتَقَلَّدَهُ .
وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ { عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ يَا أَبَا ذَرٍّ إنِّي أُحِبُّ لَك مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي ، لَا تَأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَيْنِ وَلَا تَوَلَّيَنَّ مَالَ الْيَتِيمِ } وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ :

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ : اثْنَانِ فِي النَّارِ ، وَوَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ : رَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ ، وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَلَمْ يَقْضِ وَجَارٍ فِي الْحُكْمِ فَهُوَ فِي النَّارِ ، وَرَجُلٌ لَمْ يَعْرِفْ الْحَقَّ فَقَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ } وَفِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { يُدْعَى بِالْقَاضِي الْعَادِلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَلْقَى مِنْ شِدَّةِ الْحِسَابِ مَا يَتَمَنَّى أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ بَيْنَ اثْنَيْنِ فِي عُمُرِهِ } وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَنْ وَلِيَ عَشَرَةً فَحَكَمَ بَيْنَهُمْ بِمَا أَحَبُّوا أَوْ كَرِهُوا جِيءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَغْلُولَةً يَدَاهُ إلَى عُنُقِهِ ، فَإِنْ حَكَمَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَمْ يَرْتَشِ فِي حُكْمِهِ وَلَمْ يَحِفْ فَكَّ اللَّهُ عَنْهُ غُلَّهُ ، وَإِنْ حَكَمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَارْتَشَى فِي حُكْمِهِ وَحَافَ فِيهِ شُدَّتْ يَسَارُهُ إلَى يَمِينِهِ ثُمَّ رُمِيَ بِهِ فِي جَهَنَّمَ } وَرَوَى النَّسَائِيّ عَنْ مَكْحُولٍ : لَوْ خُيِّرْت بَيْنَ ضَرْبِ عُنُقِي وَبَيْنَ الْقَضَاءِ لَاخْتَرْت ضَرْبَ عُنُقِي .
وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ قَالَ : اُسْتُعْمِلَ أَبُو الدَّرْدَاءِ عَلَى الْقَضَاءِ فَأَصْبَحَ النَّاسُ يُهَنُّونَهُ بِالْقَضَاءِ ، فَقَالَ : أَتُهَنُّونَنِي بِالْقَضَاءِ وَقَدْ جُعِلْت عَلَى رَأْسٍ مَهْوَاةٍ مَنْزِلَتُهَا أَبْعَدُ مِنْ عَدَنَ وَأَبْيَنَ .
وَأَمَّا مَا فِي الْبُخَارِيِّ { سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ : إمَامٌ عَادِلٌ } فَلَا يُنَافِي مَجِيئُهُ أَوَّلًا مَغْلُولَةً يَدُهُ إلَى عُنُقِهِ إلَى أَنْ يَفُكَّهَا عَدْلُهُ فَيُظِلَّهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ فَلَا يُعَارَضُ .

قَالَ ( وَيُكْرَهُ الدُّخُولُ فِيهِ لِمَنْ يَخَافُ الْعَجْزَ عَنْهُ وَلَا بَأْسَ عَلَى نَفْسِهِ الْحَيْفُ فِيهِ ) كَيْ لَا يَصِيرَ شَرْطًا لِمُبَاشَرَتِهِ الْقَبِيحَ ، وَكَرِهَ بَعْضُهُمْ الدُّخُولَ فِيهِ مُخْتَارًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " مَنْ جُعِلَ عَلَى الْقَضَاءِ فَكَأَنَّمَا ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ " وَالصَّحِيحُ أَنَّ الدُّخُولَ فِيهِ رُخْصَةٌ طَمَعًا فِي إقَامَةِ الْعَدْلِ وَالتَّرْكُ عَزِيمَةٌ فَلَعَلَّهُ يُخْطِئُ ظَنُّهُ وَلَا يُوَفَّقُ لَهُ أَوْ لَا يُعِينُهُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْإِعَانَةِ إلَّا إذَا كَانَ هُوَ أَهْلًا لِلْقَضَاءِ دُونَ غَيْرِهِ فَحِينَئِذٍ يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ التَّقَلُّدُ صِيَانَةً لِحُقُوقِ الْعِبَادِ وَإِخْلَاءً لِلْعَالَمِ عَنْ الْفَسَادِ .

قَالَ ( وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَطْلُبَ الْوِلَايَةَ وَلَا يَسْأَلَهَا ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ طَلَبَ الْقَضَاءَ وُكِلَ إلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أُجْبِرَ عَلَيْهِ نَزَلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ يُسَدِّدُهُ } وَلِأَنَّ مَنْ طَلَبَهُ يَعْتَمِدُ عَلَى نَفْسِهِ فَيَحْرُمُ ، وَمَنْ أُجْبِرَ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ عَلَى رَبِّهِ فَيُلْهَمُ .
.
( قَوْلُهُ وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَطْلُبَ الْوِلَايَةَ وَلَا يَسْأَلَهَا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ طَلَبَ الْقَضَاءَ وُكِلَ إلَى نَفْسِهِ } إلَخْ ) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ سَأَلَ الْقَضَاءَ وُكِلَ إلَى نَفْسِهِ ، وَمَنْ أُجْبِرَ عَلَيْهِ نُزِّلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ يُسَدِّدُهُ } وَلَفْظُ أَبِي دَاوُد { مَنْ طَلَبَ الْقَضَاءَ وَاسْتَعَانَ عَلَيْهِ } وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا { مَنْ ابْتَغَى الْقَضَاءَ وَسَأَلَ فِيهِ شُفَعَاءَ وُكِلَ إلَى نَفْسِهِ ، وَمَنْ أُكْرِهَ عَلَيْهِ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَلَكًا يُسَدِّدُهُ } وَقَالَ : حَسَنٌ غَرِيبٌ ، وَهُوَ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ إسْرَائِيلَ يُرِيدُ سَنَدَ الْأَوَّلِ ، وَأَصَحُّ مِنْ الْكُلِّ حَدِيثُ الْبُخَارِيِّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سُمْرَةَ لَا تَسْأَلْ الْإِمَارَةَ فَإِنَّك إنْ أُوتِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْت إلَيْهَا ، وَإِنْ أُوتِيتَهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْت عَلَيْهَا } وَإِذَا كَانَ طَلَبُ الْوِلَايَةِ أَنْ يُوكِلَ إلَى نَفْسِهِ وَجَبَ أَنْ لَا يَحِلَّ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مَعْلُومٌ وُقُوعُ الْفَسَادِ مِنْهُ لِأَنَّهُ مَحْذُورٌ .

( ثُمَّ يَجُوزُ التَّقَلُّدُ مِنْ السُّلْطَانِ الْجَائِرِ كَمَا يَجُوزُ مِنْ الْعَادِلِ ) لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ تَقَلَّدُوهُ مِنْ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالْحَقُّ كَانَ بِيَدِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي نَوْبَتِهِ ، وَالتَّابِعِينَ تَقَلَّدُوهُ مِنْ الْحَجَّاجِ وَكَانَ جَائِرًا إلَّا إذَا كَانَ لَا يُمَكِّنُهُ مِنْ الْقَضَاءِ بِحَقٍّ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَا يَحْصُلُ بِالتَّقَلُّدِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ يُمْكِنُهُ .

قَوْلُهُ وَيَجُوزُ التَّقَلُّدُ مِنْ السُّلْطَانِ الْجَائِرِ كَمَا يَجُوزُ مِنْ الْعَادِلِ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ تَقَلَّدُوهُ مِنْ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالْحَقُّ كَانَ بِيَدِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي نَوْبَتِهِ ، وَالتَّابِعِينَ تَقَلَّدُوا مِنْ الْحَجَّاجِ ) هَذَا تَصْرِيحٌ بِجَوْرِ مُعَاوِيَةَ ، وَالْمُرَادُ فِي خُرُوجِهِ لَا فِي أَقْضِيَتِهِ ، ثُمَّ إنَّمَا يَتِمُّ إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ وَلِيَ الْقَضَاءَ قَبْلَ تَسْلِيمِ الْحَسَنِ لَهُ ، وَأَمَّا بَعْدَ تَسْلِيمِهِ فَلَا ، وَيُسَمَّى ذَلِكَ الْعَامُ عَامَ الْجَمَاعَةِ ، وَاسْتَقْضَى مُعَاوِيَةُ أَبَا الدَّرْدَاءِ بِالشَّامِ وَبِهَا مَاتَ ، وَكَانَ مُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْتَشَارَهُ فِيمَنْ يُوَلَّى بَعْدَهُ فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِفُضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ فَوَلَّاهُ الشَّامَ بَعْدَهُ .
وَقَوْلُهُ فِي نَوْبَتِهِ : نَوْبَةُ عَلِيٍّ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ هِيَ كَوْنُهُ رَابِعًا بَعْدَ عُثْمَانَ ، وَقَيَّدَ بِنَوْبَتِهِ احْتِرَازًا عَنْ قَوْلِ الرَّوَافِضِ إنَّهُ كَانَ أَحَقَّ بِهَا فِي سَائِرِ النُّوَبِ حَتَّى مِنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَإِنَّمَا كَانَ الْحَقُّ مَعَهُ فِي تِلْكَ النَّوْبَةِ لِصِحَّةِ بَيْعَتِهِ وَانْعِقَادِهَا فَكَانَ عَلَى الْحَقِّ فِي قِتَالِ أَهْلِ الْجَمَلِ وَقِتَالِ مُعَاوِيَةَ بِصِفِّينَ .
{ وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِعَمَّارٍ سَتَقْتُلُك الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ } وَقَدْ قَتَلَهُ أَصْحَابُ مُعَاوِيَةَ يُصَرِّحُ بِأَنَّهُمْ بُغَاةٌ ، " وَلَقَدْ أَظْهَرَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا النَّدَمَ كَمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الِاسْتِيعَابِ قَالَ : قَالَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لِابْنِ عُمَرَ : يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَا مَنَعَك أَنْ تَنْهَانِي عَنْ مَسِيرِي ؟ قَالَ : رَأَيْت رَجُلًا غَلَبَ عَلَيْك : يَعْنِي ابْنَ الزُّبَيْرِ ، فَقَالَتْ : أَمَا وَاَللَّهِ لَوْ نَهَيْتنِي مَا خَرَجْت " .
.
وَأَمَّا الْحَجَّاجُ فَحَالُهُ مَعْرُوفٌ فِي تَارِيخِ الْبُخَارِيِّ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ : كَانَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ أَبِي مُوسَى عَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ

فَعَزَلَهُ الْحَجَّاجُ وَجَعَلَ أَخَاهُ مَكَانَهُ .
وَأَسْنَدَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ عَنْ ضَمْرَةَ قَالَ : اسْتَقْضَى الْحَجَّاجُ أَبَا بُرْدَةَ بْنَ أَبِي مُوسَى وَأَجْلَسَ مَعَهُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ ، ثُمَّ قُتِلَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمَاتَ الْحَجَّاجُ بَعْدَهُ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ .
.
وَفِي تَارِيخِ أَصْبَهَانَ لِلْحَافِظِ أَبِي نُعَيْمٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ الْأُمَوِيِّ : وَلِيَ الْقَضَاءَ بِأَصْبَهَانَ لِلْحَجَّاجِ ثُمَّ عَزَلَهُ الْحَجَّاجُ وَأَقَامَ مَحْبُوسًا بِوَاسِطَ ، فَلَمَّا هَلَكَ الْحَجَّاجُ رَجَعَ إلَى أَصْبَهَانَ وَتُوُفِّيَ بِهَا .
وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ فِي بَابِ الِاسْتِسْقَاءِ : طَلْحَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفٍ أَبُو مُحَمَّدٍ الَّذِي يُقَالُ لَهُ طَلْحَةُ النَّدَى ابْنُ أَخِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ تَقَلَّدَ الْقَضَاءَ مِنْ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَلَى الْمَدِينَةِ ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ يَرْوِي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
وَقَوْلُهُ ( إلَّا إذَا كَانَ لَا يُمَكِّنُهُ مِنْ الْقَضَاءِ بِحَقٍّ ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ يَجُوزُ التَّقَلُّدُ مِنْ السُّلْطَانِ الْجَائِرِ ( لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَا يَحْصُلُ مِنْ التَّقَلُّدِ ) حِينَئِذٍ وَهُوَ ظَاهِرٌ .
هَذَا وَإِذَا لَمْ يَكُنْ سُلْطَانٌ وَلَا مَنْ يَجُوزُ التَّقَلُّدُ مِنْهُ كَمَا هُوَ فِي بَعْضِ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ غَلَبَ عَلَيْهِمْ الْكُفَّارُ كَقُرْطُبَةَ فِي بِلَادِ الْمَغْرِبِ الْآنَ وَبَلَنْسِيَةَ وَبِلَادِ الْحَبَشَةِ وَأَقَرُّوا الْمُسْلِمِينَ عِنْدَهُمْ عَلَى مَالٍ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ يَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَّفِقُوا عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَجْعَلُونَهُ وَالِيًا فَيُوَلَّى قَاضِيًا أَوْ يَكُونُ هُوَ الَّذِي يَقْضِي بَيْنَهُمْ وَكَذَا يُنَصِّبُوا لَهُمْ إمَامًا يُصَلِّي بِهِمْ الْجُمُعَةَ .

[ فُرُوعٌ فِي الْعَزْلِ ] لِلسُّلْطَانِ عَزْلُ الْقَاضِي بِرِيبَةٍ وَبِلَا رِيبَةٍ ، وَلَا يَنْعَزِلُ حَتَّى يَبْلُغَهُ الْعَزْلُ وَيَنْعَزِلُ نَائِبُهُ بِعَزْلِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ الْقَاضِي يَنْعَزِلُ نَائِبُهُ .

وَكَثِيرٌ مِنْ الْمَشَايِخِ عَلَى أَنَّ النَّائِبَ لَا يَنْعَزِلُ بِعَزْلِ الْقَاضِي لِأَنَّهُ نَائِبٌ لِلسُّلْطَانِ ، وَيَنْعَزِلُ الْقَاضِي بِعَزْلِهِ نَفْسِهِ إذَا بَلَّغَ السُّلْطَانَ ، وَمَا لَمْ يَبْلُغْهُ لَا يَنْعَزِلُ كَعَزْلِ الْوَكِيلِ نَفْسِهِ لَا يَنْعَزِلُ حَتَّى يُبَلِّغَ الْمُوَكِّلَ .
وَقِيلَ لَا يَنْعَزِلُ الْقَاضِي بِعَزْلِ نَفْسِهِ لِأَنَّ قَضَاءَهُ صَارَ حَقًّا لِلْعَامَّةِ فَلَا يَمْلِكُ إبْطَالَهُ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ : لَا يَنْعَزِلُ بِعَزْلِ السُّلْطَانِ حَتَّى يَأْتِيَ قَاضٍ آخَرُ صِيَانَةً لِحُقُوقِ النَّاسِ ، وَمِثْلُهُ وَصِيُّ الْقَاضِي إذَا عَزَلَ نَفْسَهُ يَشْتَرِطُ عِلْمَ الْقَاضِي ، وَيَجُوزُ تَعْلِيقَ الْعَزْلِ بِالشَّرْطِ .
وَمِنْ صُوَرِهِ : إذَا كَتَبَ الْخَلِيفَةُ إلَيْهِ إذَا وَصَلَك كِتَابِي هَذَا فَأَنْتَ مَعْزُولٌ لَا يَنْعَزِلُ حَتَّى يَصِلَ إلَيْهِ الْكِتَابُ .
وَلَمْ يُجِزْ ظَهِيرُ الدِّينِ تَعْلِيقَ الْعَزْلِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ ، وَيَنْعَزِلُ خُلَفَاءُ الْقَاضِي بِمَوْتِهِ وَلَا يَنْعَزِلُ أُمَرَاءُ الْخَلِيفَةِ ، وَلَوْ قُلِّدَ رَجُلٌ قَضَاءَ بَلْدَةِ قَاضٍ هَلْ يَنْعَزِلُ ؟ الْأَوَّلُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا يَنْعَزِلُ .
قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ : وَهُوَ الْأَشْبَهُ .
وَلَوْ شَرَطَ فِي الْقَضَاءِ شَرْطًا مِثْلُ أَنْ لَا يَمْتَثِلَ أَمْرَ أَحَدٍ فَخَالَفَ انْعَزَلَ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُتْرَكُ الْقَاضِي عَلَى الْقَضَاءِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ ثُمَّ يَعْزِلُهُ وَيَقُولُ أَشْغَلْنَاك اذْهَبْ فَاشْتَغِلْ بِالْعِلْمِ ثُمَّ ائْتِنَا .
.

قَالَ ( وَمَنْ قُلِّدَ الْقَضَاءَ يُسَلَّمُ إلَيْهِ دِيوَانُ الْقَاضِي الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ ) وَهُوَ الْخَرَائِطُ الَّتِي فِيهَا السِّجِلَّاتُ وَغَيْرُهَا ، لِأَنَّهَا وُضِعَتْ فِيهَا لِتَكُونَ حُجَّةً عِنْدَ الْحَاجَةِ فَتُجْعَلُ فِي يَدِ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ الْقَضَاءِ .
ثُمَّ إنْ كَانَ الْبَيَاضُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَظَاهِرٌ ، وَكَذَا إذَا كَانَ مِنْ مَالِ الْخُصُومِ فِي الصَّحِيحِ لِأَنَّهُمْ وَضَعُوهَا فِي يَدِهِ لِعَمَلِهِ وَقَدْ انْتَقَلَ إلَى الْمُوَلَّى ، وَكَذَا إذَا كَانَ مِنْ مَالِ الْقَاضِي هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ اتَّخَذَهُ تَدَيُّنًا لَا تَمَوُّلًا ، وَيَبْعَثُ أَمِينَيْنِ لِيَقْبِضَاهَا بِحَضْرَةِ الْمَعْزُولِ أَوْ أَمِينِهِ وَيَسْأَلَانِهِ شَيْئًا فَشَيْئًا ، وَيَجْعَلَانِ كُلَّ نَوْعٍ مِنْهَا فِي خَرِيطَةٍ كَيْ لَا يَشْتَبِهَ عَلَى الْمُوَلَّى ، وَهَذَا السُّؤَالُ لِكَشْفِ الْحَالِ لَا لِلْإِلْزَامِ .

( قَوْلُهُ وَمَنْ قُلِّدَ الْقَضَاءَ يَسْأَلُ ) أَيْ أَوَّلَ مَا يَبْدَأُ بِهِ مِنْ الْأَعْمَالِ .
هَذَا وَهُوَ أَنْ يَسْأَلَ : أَيْ يَطْلُبُ مِنْ الْقَاضِي الْمُنْعَزِلِ دِيوَانَهُ ثُمَّ فَسَّرَ دِيوَانَهُ بِأَنَّهُ ( الْخَرَائِطُ الَّتِي فِيهَا السِّجِلَّاتُ وَغَيْرُهَا ) مِنْ كُتُبِ الْأَوْقَافِ وَكُتُبِ نَصْبِ الْأَوْصِيَاءِ وَالْمُحَاضِرِ وَالصُّكُوكِ وَتَقْدِيرِ النَّفَقَاتِ لِلْأَيْتَامِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّا اقْتَضَاهُ الْحَالُ ، وَإِنَّمَا يَطْلُبُهُ ( لِأَنَّهَا ) إنَّمَا ( وُضِعَتْ ) عِنْدَ الْقَاضِي ( لِتَكُونَ حُجَّةً ) وَوَثِيقَةً مَحْفُوظَةً ( عِنْدَ ) الْقَاضِي إذَا وَقَعَتْ ( الْحَاجَةُ ) إلَى الْحُجَّةِ وَمَعْرِفَةِ الْأَحْوَالِ ( فَتُجْعَلُ عِنْدَ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ النَّظَرِ ) فِي أُمُورِهِمْ وَمَا كَانَتْ عِنْدَ الْأَوَّلِ إلَّا لِأَنَّهُ كَذَلِكَ ( ثُمَّ إنْ كَانَ الْبَيَاضُ ) الَّذِي كَتَبَ فِيهِ الْقَاضِي وَرَقًا أَوْ رِقًّا ( مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَظَاهِرٌ ، وَكَذَا إذَا كَانَ مِنْ مَالِ أَرْبَابِ الْقَضَايَا فِي الصَّحِيحِ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِهِ ) لِأَنَّهُ لِلْقَاضِي لَا لِأَنَّهُ مِلْكُ الذَّاتِ ( وَقَدْ انْتَقَلَ ) الْقَضَاءُ ( إلَى ) الْقَاضِي ( الْمُوَلَّى وَإِنْ كَانَ مِلْكَ الْقَاضِي فَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ لِأَنَّهُ اتَّخَذَهُ تَدَيُّنًا ) لِيَحْفَظَ بِهِ أُمُورَ النَّاسِ وَحَاجَاتِهِمْ ( لَا تَمَوُّلًا ، وَيَبْعَثُ ) الْمُوَلَّى ( اثْنَيْنِ ) أَوْ وَاحِدًا مَأْمُونًا ( لِيَقْبِضَاهَا بِحَضْرَةِ الْمَعْزُولِ أَوْ ) مِنْ ( أَمِينِهِ وَيَسْأَلَانِ ) أَعْنِي الْأَمِينَيْنِ ( الْمَعْزُولَ شَيْئًا فَشَيْئًا وَيَجْعَلَانِ كُلَّ نَوْعٍ فِي خَرِيطَةٍ ) مَثَلًا الصُّكُوكُ فِي خَرِيطَةٍ وَالنَّفَقَاتُ فِي خَرِيطَةٍ وَكُتُبُ الْأَوْقَافِ فِي خَرِيطَةٍ لِيَكُونَ أَسْهَلَ لِلتَّنَاوُلِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا خَلَطَ الْكُلَّ فَإِنَّ فِي الْكَشْفِ عَنْهُ حِينَئِذٍ عُسْرًا شَدِيدًا ، وَفِي عُرْفِ دِيَارِنَا لَيْسَ عِنْدَ الْقَاضِي صُكُوكُ النَّاسِ وَلَا كُتُبُ أَوْقَافِهِمْ ، بَلْ إذَا كَانَ الْقَاضِي هُوَ نَاظِرُ الْوَقْفِ ( وَهَذَا السُّؤَالُ لِكَشْفِ الْحَالِ ) لَا لِيَلْزَمَ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَى الْجَوَابِ مِنْ الْقَاضِي فَإِنَّهُ الْتَحَقَ

بِسَائِرِ الرَّعَايَا بِالْعَزْلِ ، ثُمَّ إذَا قَبَضَاهُ خَتْمًا عَلَيْهِ خَوْفًا مِنْ طُرُوُّ التَّغْيِيرِ .
وَأَمَّا مَا قِيلَ يَكْتُبَانِ عَدَدَ ضِيَاعِ الْوُقُوفِ وَمَوَاضِعَهَا فَلَيْسَ إلَى ذَلِكَ حَاجَةٌ ، فَإِنَّ كُتُبَ الْأَوْقَافِ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى عَدَدِ الضِّيَاعِ الْمَوْقُوفَةِ وَالدُّورَ وَالْحَوَانِيتُ مَحْدُودَةٌ .

قَالَ ( وَيَنْظُرُ فِي حَالِ الْمَحْبُوسِينَ ) لِأَنَّهُ نُصِّبَ نَاظِرًا ( فَمَنْ اعْتَرَفَ بِحَقٍّ أَلْزَمَهُ إيَّاهُ ) لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مُلْزِمٌ ( وَمَنْ أَنْكَرَ لَمْ يَقْبَلْ قَوْلَ الْمَعْزُولِ عَلَيْهِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ ) لِأَنَّ بِالْعَزْلِ الْتَحَقَ بِالرَّعَايَا ، وَشَهَادَةُ الْفَرْدِ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَتْ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ ( فَإِنْ لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ لَمْ يُعَجِّلْ بِتَخْلِيَتِهِ حَتَّى يُنَادَى عَلَيْهِ وَيَنْظُرَ فِي أَمْرِهِ ) لِأَنَّ فِعْلَ الْقَاضِي الْمَعْزُولِ حَقٌّ ظَاهِرًا فَلَا يُعَجِّلُ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ .

( قَوْلُهُ وَيَنْظُرُ فِي حَالِ الْمَحْبُوسِينَ ) فَيَبْعَثُ إلَى السِّجْنِ مَنْ يُحْصِيهِمْ وَيَأْتِيهِ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَخْبَارِهِمْ وَيَسْأَلُ الْمَحْبُوسَ عَنْ سَبَبِ حَبْسِهِ لِأَنَّ الْقَاضِيَ نَاظِرٌ فِي أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ وَهَؤُلَاءِ مُسْلِمُونَ مَحْبُوسُونَ ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَثْبُتَ عِنْدَهُ سَبَبٌ يُوجِبُ حَبْسَهُمْ ، وَثُبُوتُهُ عِنْدَ الْأَوَّلِ لَيْسَ حُجَّةً يَعْتَمِدُهَا الثَّانِي فِي حَبْسِ هَؤُلَاءِ ، لِأَنَّ قَوْلَ الْأَوَّلِ لَمْ يَبْقَ حُجَّةً ( فَمَنْ اعْتَرَفَ بِحَقٍّ أَلْزَمَهُ إيَّاهُ ) وَرَدَّهُ إلَى السِّجْنِ إلَّا أَنْ يَبْلُغَ الْمِقْدَارَ الَّذِي يَخْرُجُ بِهِ مِنْ السِّجْنِ عِنْدَهُ إذَا لَمْ يَثْبُتْ لَهُ مَالٌ ، وَكَذَا مَنْ أَنْكَرَ وَشَهِدَ الشُّهُودُ عَلَيْهِ وَالْقَاضِي يَعْرِفُ هَؤُلَاءِ الشُّهُودَ بِالْعَدَالَةِ ، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ عَدَالَتَهُمْ أَخَذَ مِنْهُمْ كَفِيلًا وَأَطْلَقَهُمْ حَتَّى يَنْظُرَ فِي حَالِهِمْ ، فَإِنْ ظَهَرَتْ عَدَالَةُ الشُّهُودِ رَدَّهُ إلَى السِّجْنِ إذَا طَلَبَهُ الْخَصْمُ ( وَلَوْ أَخْبَرَ الْقَاضِي الْمَعْزُولُ بِسَبَبِ حَبْسِهِمْ لَا يُقْبَلُ لِأَنَّهُ الْتَحَقَ ) بِوَاحِدٍ مِنْ ( الرَّعَايَا وَشَهَادَةُ الْفَرْدِ لَيْسَتْ حُجَّةً ) مُوجِبَةً لِلْعَمَلِ ( لَا سِيَّمَا ) وَهِيَ ( عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ ) وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ .
وَقَالَ أَحْمَدُ : يُقْبَلُ قَوْلُهُ بَعْدَ الْعَزْلِ كَمَا قَبْلَ الْعَزْلِ لِأَنَّهُ أَمِينُ الشَّرْعِ ، وَعِنْدَ مَالِكٍ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ قَبْلَ الْعَزْلِ أَيْضًا إلَّا بِحُجَّةٍ ( وَإِذَا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ الْمَعْزُولِ عَلَيْهِ وَلَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ ) بِمَا وَجَبَ حَبْسُهُ ( لَا يُعَجِّلُ ) بِإِطْلَاقِهِ ( لِأَنَّ فِعْلَ الْقَاضِي ظَاهِرًا ) مَا كَانَ إلَّا ( بِحَقٍّ ) فَيُحْتَاطُ لِخَصْمِهِ الْغَائِبُ فَيُنَادَى عَلَيْهِ ، وَصِفَتُهُ أَنْ يَأْمُرَ كُلَّ يَوْمٍ إذَا جَلَسَ مُنَادِيًا يُنَادِي فِي مَحَلَّتِهِ مَنْ كَانَ يَطْلُبُ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ الْمَحْبُوسَ بِحَقٍّ فَلْيَأْتِ إلَى الْقَاضِي يَفْعَلُ ذَلِكَ أَيَّامًا ، فَإِذَا حَضَرَ وَادَّعَى وَهُوَ عَلَى جُحُودِهِ ابْتَدَأَ الْحُكْمَ بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ أَخَذَ

مِنْهُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ إذْ لَعَلَّهُ مَحْبُوسٌ بِحَقٍّ لِغَائِبٍ ، وَأَمَارَتُهُ أَنَّهُ فِي حَبْسِ قَاضٍ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بِحَقٍّ ، فَإِنْ قَالَ لَا كَفِيلَ لِي وَأَبَى أَنْ يُعْطِيَ كَفِيلًا وَجَبَ أَنْ يَحْتَاطَ نَوْعًا آخَرَ مِنْ الِاحْتِيَاطِ فَيُنَادِيَ شَهْرًا فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ أَحَدٌ أَطْلَقَهُ .
وَقِيلَ أَخْذُ الْكَفِيلِ هُنَا قَوْلُهُمَا .
أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا كَمَا قَالَ فِي أَصْحَابِ الْمِيرَاثِ إذَا اقْتَسَمُوا عَلَى مَا سَيَأْتِي ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّ أَخْذَ الْكَفِيلِ هُنَا اتِّفَاقٌ .
وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَالَ ظَاهِرًا حَقٌّ لِهَذَا الْوَارِثِ ، وَفِي ثُبُوتِ وَارِثٍ آخَرَ شَكٌّ فَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ حَقِّهِ إلَى زَمَانِ حُصُولِ الْكَفِيلِ لِأَمْرٍ مَوْهُومٍ ، وَهُنَا الظَّاهِرُ أَنَّ حَبْسَهُ بِحَقٍّ لِظُهُورِ أَنَّ فِعْلَ الْقَاضِي بِحَقٍّ وَلَكِنَّهُ مَجْهُولٌ ، فَلَيْسَ أَخْذُ الْكَفِيلِ لِمَوْهُومٍ ، وَلَوْ قِيلَ فَبِالنَّظَرِ إلَى هَذَا الظَّاهِرِ يَجِبُ أَنْ لَا يُطْلِقَهُ بِقَوْلِهِ إنِّي مَظْلُومٌ حَتَّى تَمْضِيَ مُدَّةٌ يُطْلَقُ فِيهَا مُدَّعِي الْإِعْسَارِ كَانَ جَيِّدًا .

( وَيَنْظُرُ فِي الْوَدَائِعِ وَارْتِفَاعِ الْوُقُوفِ فَيَعْمَلُ فِيهِ عَلَى مَا تَقُومُ بِهِ الْبَيِّنَةُ أَوْ يَعْتَرِفُ بِهِ مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ ) لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ حُجَّةٌ .
( قَوْلُهُ وَيَنْظُرُ فِي الْوَدَائِعِ وَارْتِفَاعِ الْأَوْقَافِ ) الْكَائِنَةِ تَحْتَ أَيْدِي أُمَنَاءِ الْقَاضِي ، وَاَلَّذِي فِي دِيَارِنَا مِنْ هَذَا أَنَّ أَمْوَالَ الْأَوْقَافِ تَحْتَ أَيْدِي جَمَاعَةٍ يُوَلِّيهِمْ الْقَاضِي النَّظَرَ أَوْ الْمُبَاشَرَةَ فِيهَا وَوَدَائِعَ الْيَتَامَى تَحْتَ يَدِ الَّذِي يُسَمَّى أَمِينُ الْحُكْمِ ( فَيَعْمَلُ ) فِيهَا ( عَلَى ) حَسَبِ ( مَا تَقُومُ بِهِ الْبَيِّنَةُ ) أَنَّهُ لِفُلَانٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ( أَوْ يَعْتَرِفُ ) الَّذِي هُوَ فِي يَدِهِ .

( وَلَا يَقْبَلُ قَوْلَ الْمَعْزُولِ ) لِمَا بَيَّنَّا ( إلَّا أَنْ يَعْتَرِفَ الَّذِي هُوَ فِي يَدِهِ أَنَّ الْمَعْزُولَ سَلَّمَهَا إلَيْهِ فَيَقْبَلُ قَوْلَهُ فِيهَا ) لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ أَنَّ الْيَدَ كَانَتْ لِلْقَاضِي فَيَصِحُّ إقْرَارُ الْقَاضِي كَأَنَّهُ فِي يَدِهِ فِي الْحَالِ ، إلَّا إذَا بَدَأَ بِالْإِقْرَارِ لِغَيْرِهِ ثُمَّ أَقَرَّ بِتَسْلِيمِ الْقَاضِي فَيُسَلِّمُ مَا فِي يَدِهِ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ الْأَوَّلِ لِسَبْقِ حَقِّهِ وَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ لِلْقَاضِي بِإِقْرَارِهِ الثَّانِي وَيُسَلَّمُ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْقَاضِي .

( وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْمَعْزُولِ ) عَلَى مَنْ هِيَ فِي يَدِهِ إذَا أَنْكَرَ وَقَالَ هِيَ لِي إلَّا بِبَيِّنَةٍ ( لِمَا بَيَّنَّاهُ ) أَنَّهُ الْتَحَقَ بِوَاحِدٍ مِنْ الرَّعَايَا ، بِخِلَافِ الْقَاضِي لِأَنَّهُ هُوَ الْمَخْصُوصُ بِأَنْ يَكْتَفِيَ بِقَوْلِهِ فِي الْإِلْزَامِ حَتَّى إنَّ الْخَلِيفَةَ الَّذِي قَلَّدَ الْقَاضِيَ لَوْ أَخْبَرَ الْقَاضِيَ أَنَّهُ شَهِدَ عِنْدَهُ الشُّهُودُ بِكَذَا لَا يَقْضِي بِهِ حَتَّى يَشْهَدَ عِنْدَهُ الْخَلِيفَةُ مَعَ آخَرَ ، وَالْوَاحِدُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ ( إلَّا أَنْ يَعْتَرِفَ الَّذِي فِي يَدِهِ أَنَّ ) الْقَاضِيَ ( الْمَعْزُولَ ) سَلَّمَهَا إلَيْهِ فَحِينَئِذٍ إمَّا أَنْ يَقُولَ سَلِّمْهَا إلَيَّ وَلَا أَدْرِي لِمَنْ هِيَ ، أَوْ يَقُولَ سَلِّمْهَا إلَيَّ وَقَالَ هِيَ لِفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ وَهُوَ الَّذِي أَقَرَّ لَهُ الْقَاضِي الْمَعْزُولُ : فَفِي هَذَيْنِ يُقْبَلُ قَوْلُ الْمَعْزُولِ فِيهِمَا لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِإِقْرَارِ مَنْ فِي يَدِهِ أَنَّ الْيَدَ فِيهَا كَانَتْ لِلْقَاضِي فَيُقْبَلُ إقْرَارُ الْقَاضِي فِيهَا كَمَا لَوْ كَانَتْ فِي يَدِهِ حَالَ إقْرَارِهِ ، أَوْ يَقُولَ دَفَعَهُ إلَيَّ الْقَاضِي الْمَعْزُولُ وَهُوَ لِفُلَانٍ ، وَقَالَ الْمَعْزُولُ بَلْ لِفُلَانٍ رَجُلٍ آخَرَ فَالْقَوْلُ مَا قَالَ الْمَعْزُولُ ، وَيُدْفَعُ لِمَنْ أَقَرَّ بِهِ لَهُ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالْيَدِ لِلْقَاضِي فَصَارَ كَأَنَّ الْمَالَ فِي يَدِهِ فَأَقَرَّ بِهِ لِوَاحِدٍ وَأَقَرَّ بِهِ هَذَا الرَّجُلُ لِآخَرَ وَفِيهِ يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْقَاضِي فَكَذَا هَذَا أَوْ بَدَأَ بِالْإِقْرَارِ لِفُلَانٍ فَقَالَ هُوَ لِفُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ ثُمَّ قَالَ دَفَعَهُ إلَيَّ الْقَاضِي فَفِي هَذَا يُؤْمَرُ بِالتَّسْلِيمِ إلَى مَنْ أَقَرَّ لَهُ الْأَمِينُ ، وَيَضْمَنُ مِثْلَهُ إنْ كَانَ مِثْلِيًّا أَوْ قِيمَتَهُ لِلْمَعْزُولِ فَيَدْفَعُهُ الْمَعْزُولُ إلَى مَنْ أَقَرَّ لَهُ بِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا بَدَأَ بِالْإِقْرَارِ صَحَّ إقْرَارُهُ وَلَزِمَ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِمَا هُوَ فِي يَدِهِ ، فَلَمَّا قَالَ دَفَعَهُ إلَيَّ الْقَاضِي فَقَدْ أَقَرَّ أَنَّ الْيَدَ كَانَتْ لِلْقَاضِي وَالْقَاضِي يُقِرُّ بِهِ لِغَيْرِ مَنْ أَقَرَّ هُوَ بِهِ لَهُ فَيَصِيرُ هُوَ

مُتْلِفًا لِذَلِكَ عَلَى مَنْ أَقَرَّ لَهُ الْقَاضِي بِإِقْرَارِهِ لِغَيْرِهِ فَيَضْمَنُهُ .
هَذَا وَأَمَّا لَوْ شَهِدَ قَوْمٌ أَنَّهُمْ سَمِعُوا الْقَاضِيَ الْأَوَّلَ يَقُولُ اسْتَوْدَعْت فُلَانًا مَالَ فُلَانٍ الْيَتِيمِ وَجَحَدَ مَنْ فِي يَدِهِ أَوْ شَهِدُوا عَلَى بَيْعِهِ مَالَ فُلَانٍ الْيَتِيمِ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ وَيُؤْخَذُ الْمَالُ لِمَنْ ذَكَرَهُ ، وَكَذَا لَوْ مَاتَ الْأَوَّلُ وَاسْتُقْضِيَ غَيْرُهُ فَشَهِدَ بِذَلِكَ .
[ فَرْعٌ يُنَاسِبُ هَذَا ] لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّ الْقَاضِيَ قَضَى لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ بِكَذَا أَوْ قَالَ الْقَاضِي لَمْ أَقْضِ بِشَيْءٍ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمَا عِنْدَهُمَا .
وَيُعْتَبَرُ قَوْلُ الْقَاضِي ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تُقْبَلُ وَيَنْفُذُ ذَلِكَ .

قَالَ ( وَيَجْلِسُ لِلْحُكْمِ جُلُوسًا ظَاهِرًا فِي الْمَسْجِدِ ) كَيْ لَا يَشْتَبِهَ مَكَانُهُ عَلَى الْغُرَبَاءِ وَبَعْضِ الْمُقِيمِينَ ، وَالْمَسْجِدُ الْجَامِعُ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَشْهَرُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : يُكْرَهُ الْجُلُوسُ فِي الْمَسْجِدِ لِلْقَضَاءِ لِأَنَّهُ يَحْضُرُهُ الْمُشْرِكُ وَهُوَ نَجَسٌ بِالنَّصِّ وَالْحَائِضُ وَهِيَ مَمْنُوعَةٌ عَنْ دُخُولِهِ .
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّمَا بُنِيَتْ الْمَسَاجِدُ لِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْحُكْمِ } .
{ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْصِلُ الْخُصُومَةَ فِي مُعْتَكَفِهِ } وَكَذَا الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ كَانُوا يَجْلِسُونَ فِي الْمَسَاجِدِ لِفَصْلِ الْخُصُومَاتِ ، وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ عِبَادَةٌ فَيَجُوزُ إقَامَتُهَا فِي الْمَسْجِدِ كَالصَّلَاةِ .
وَنَجَاسَةُ الْمُشْرِكِ فِي اعْتِقَادِهِ لَا فِي ظَاهِرِهِ فَلَا يَمْنَعُ مِنْ دُخُولِهِ ، وَالْحَائِضُ تُخْبِرُ بِحَالِهَا فَيَخْرُجُ الْقَاضِي إلَيْهَا أَوْ إلَى بَابِ الْمَسْجِدِ أَوْ يَبْعَثُ مَنْ يَفْصِلُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ خَصْمِهَا كَمَا إذَا كَانَتْ الْخُصُومَةُ فِي الدَّابَّةِ .
وَلَوْ جَلَسَ فِي دَارِهِ لَا بَأْسَ بِهِ وَيَأْذَنُ لِلنَّاسِ بِالدُّخُولِ فِيهَا ، وَيَجْلِسُ مَعَهُ مَنْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ لِأَنَّ فِي جُلُوسِهِ وَحْدَهُ تُهْمَةً .

( قَوْلُهُ وَيَجْلِسُ لِلْحُكْمِ جُلُوسًا ظَاهِرًا كَيْ لَا يَشْتَبِهَ مَكَانُهُ عَلَى الْغُرَبَاءِ وَبَعْضِ الْمُقِيمِينَ ) وَفِي الْخُلَاصَةِ : وَلَا يُتْعِبُ نَفْسَهُ فِي طُولِ الْجُلُوسِ وَلَكِنْ يَجْلِسُ فِي طَرَفَيْ النَّهَارِ ، وَكَذَا الْمُفْتِي وَالْفَقِيهُ ( وَالْمَسْجِدُ الْجَامِعُ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَشْهَرُ ) ثُمَّ الَّذِي تُقَامُ فِيهِ الْجَمَاعَاتُ وَإِنْ لَمْ تُصَلَّ فِيهِ الْجُمُعَةُ .
قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ : هَذَا إذَا كَانَ الْجَامِعُ فِي وَسَطِ الْبَلَدِ ، أَمَّا إذَا كَانَ فِي طَرَفٍ مِنْهَا فَلَا لِزِيَادَةِ الْمَشَقَّةِ عَلَى أَهْلِ الشُّقَّةِ الْمُقَابِلَةِ لَهُ ، فَالْأَوْلَى أَنْ يَخْتَارَ مَسْجِدًا فِي وَسَطِ الْبَلَدِ وَفِي السُّوقِ .
وَيَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ فِي بَيْتِهِ وَحَيْثُ كَانَ إلَّا أَنَّ الْأَوْلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَبِقَوْلِنَا قَالَ أَحْمَدُ وَمَالِكٌ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ ( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُكْرَهُ الْجُلُوسُ فِي الْمَسْجِدِ لِلْقَضَاءِ لِأَنَّهُ ) أَيْ الْقَضَاءُ ( يَحْضُرُهُ الْمُشْرِكُ وَهُوَ نَجَسٌ بِالنَّصِّ ) قَالَ تَعَالَى { إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ } ( وَالْحَائِضُ وَهِيَ مَمْنُوعَةٌ عَنْ دُخُولِهِ ) وَلِأَنَّ الْمَسَاجِدَ بُنِيَتْ لِلصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ ، وَالْخُصُومَاتُ تَقْتَرِنُ بِالْمَعَاصِي كَثِيرًا مِنْ الْيَمِينِ الْغَمُوسِ وَالْكَذِبِ فِي الدَّعَاوَى ( وَلَنَا ) مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ اللِّعَانِ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ ، وَفِيهِ { فَتَلَاعَنَا فِي الْمَسْجِدِ وَأَنَا شَاهِدٌ } وَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ أَحَدِهِمَا كَاذِبًا حَانِثًا فِي يَمِينٍ غَمُوسٍ ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ { أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ دَيْنًا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا حَتَّى سَمِعَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي بَيْتِهِ فَخَرَجَ إلَيْهِمَا حَتَّى كَشَفَ سُجُفَ حُجْرَتِهِ فَنَادَى : يَا كَعْبُ ، فَقَالَ : لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَأَشَارَ بِيَدِهِ أَنْ ضَعْ الشَّطْرَ مِنْ دَيْنِك ، قَالَ كَعْبُ : قَدْ فَعَلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : قُمْ

فَاقْضِهِ } وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مُسْنِدًا إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ { بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُنَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ إذْ أَتَى رَجُلٌ فَتَخَطَّى النَّاسَ حَتَّى قَرُبَ إلَيْهِ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقِمْ عَلَيَّ الْحَدَّ ، فَقَالَ : اجْلِسْ فَجَلَسَ ، ثُمَّ قَامَ الثَّانِيَةَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقِمْ عَلَيَّ الْحَدَّ ، فَقَالَ اجْلِسْ فَجَلَسَ ثُمَّ قَامَ الثَّالِثَةَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقِمْ عَلَيَّ الْحَدَّ ، قَالَ وَمَا حَدُّك ؟ قَالَ : أَتَيْت امْرَأَةً حَرَامًا ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ انْطَلِقُوا بِهِ فَاجْلِدُوهُ وَلَمْ يَكُنْ تَزَوَّجَ ، فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تَجْلِدُ الَّتِي خَبُثَ بِهَا ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ صَاحِبَتُك ؟ قَالَ : فُلَانَةُ فَدَعَاهَا ثُمَّ سَأَلَهَا ، فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَذَبَ عَلَيَّ وَاَللَّهِ إنِّي لَا أَعْرِفُهُ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ شَاهِدُك ؟ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لِي شَاهِدٌ ، فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ حَدَّ الْفِرْيَةِ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } وَأَمَّا إنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ كَانُوا يَجْلِسُونَ فِي الْمَسَاجِدِ لِفَصْلِ الْخُصُومَاتِ فَنُقِلَ بِالْمَعْنَى : يَعْنِي وَقَعَ مِنْهُمْ هَذَا ، وَلَا يَكَادُ يَشُكُّ فِي أَنَّ عُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَقَعَ لَهُمَا ذَلِكَ .
وَمَنْ تَتَبَّعَ السِّيَرَ رَأَى مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا كَثِيرًا .
فَفِي الْبُخَارِيِّ : " لَاعَنَ عُمَرُ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
" .
وَأَسْنَدَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ إلَى الْحَسَنِ أَنَّهُ رَأَى عُثْمَانَ قَضَى فِي الْمَسْجِدِ وَذَكَرَ الْقِصَّةَ فِي ذَلِكَ ، فَمَا قِيلَ إنَّهُ غَرِيبٌ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْمُرَاد رِوَايَةُ هَذَا اللَّفْظِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ .
وَفِي الطَّبَقَاتِ لِابْنِ سَعْدٍ بِسَنَدِهِ إلَى رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ " أَنَّهُ رَأَى أَبَا بَكْرِ

بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ يَقْضِي فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَ الْقَبْرِ .
" ، وَكَانَ عَلَى الْقَضَاءِ بِالْمَدِينَةِ فِي وِلَايَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَسْنَدَ إلَى سَعِيدِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ بَانَكَ .
قَالَ : رَأَيْت سَعْدَ بْنَ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ يَقْضِي فِي الْمَسْجِدِ وَكَانَ قَدْ وُلِّيَ قَضَاءَ الْمَدِينَةِ .
وَإِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ قَالَ : لَمَّا وَلَّى أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ إمْرَةَ الْمَدِينَةِ لَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَلَّى أَبَا طُوَالَةَ الْقَضَاءَ بِهَا فَكَانَ يَقْضِي فِي الْمَسْجِدِ ، قَالَ : أَبُو طُوَالَةَ ثِقَةٌ يَرْوِي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ .
وَإِلَى إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ قَالَ : رَأَيْت شُرَيْحًا يَقْضِي فِي الْمَسْجِدِ ، وَإِلَى الْأَسْوَدِ بْنِ شَيْبَانَ قَالَ : رَأَيْت الشَّعْبِيَّ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ قَاضِي الْكُوفَةِ يَقْضِي فِي الْمَسْجِدِ ، وَكُلُّ قَضَاءٍ صَدَرَ مِنْ هَؤُلَاءِ كَانَ بَيْنَ السَّلَفِ مَشْهُورًا وَفِيهِمْ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَلَمْ يُرْوَ إنْكَارُهُ عَنْ أَحَدٍ .
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ { إنَّمَا بُنِيَتْ الْمَسَاجِدُ لِذِكْرِ اللَّهِ وَالْحُكْمِ } فَلَمْ يُعْرَفْ ، وَإِنَّمَا أَخْرَجَ مُسْلِمٌ حَدِيثَ { الْأَعْرَابِيَّ الَّذِي قَامَ يَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَهْ مَهْ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا تَزْرِمُوهُ دَعُوهُ فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ ، ثُمَّ دَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَالْقَذَرِ ، وَإِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ ، قَالَ : وَأَمَرَ رَجُلًا مِنْ الْقَوْمِ فَدَعَا بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَشَنَّهُ عَلَيْهِ } وَأَمَّا نَجَاسَةُ الْمُشْرِكِ فَفِي الِاعْتِقَادِ عَلَى مَعْنَى التَّشْبِيهِ ( وَالْحَائِضُ تُخْبِرُ بِحَالِهَا لِيَخْرُجَ إلَيْهَا الْقَاضِي ) أَوْ يُرْسِلَ نَائِبَهُ ( كَمَا لَوْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي دَابَّةٍ ، وَلَوْ جَلَسَ فِي دَارِهِ

فَحَسَنٌ بِ ) شَرْطِ ( أَنْ يَأْذَنَ لِلنَّاسِ ) عَلَى الْعُمُومِ وَلَا يَمْنَعُ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ لِأَنَّ لِكُلِّ أَحَدٍ حَقًّا فِي مَجْلِسِهِ ، وَعَلَى قِيَاسِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْجِدِ أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ فِي وَسَطِ الْبَلَدِ .
وَفِي الْمَبْسُوطِ : وَلَا يَقْضِي وَهُوَ يَمْشِي أَوْ يَسِيرُ عَلَى دَابَّتِهِ لِأَنَّهُ إذْ ذَاكَ غَيْرُ مُعْتَدِلِ الْحَالِ ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ الِاسْتِخْفَافِ بِالْقَضَاءِ ، وَلِأَنَّهُ مَشْغُولٌ بِمَا هُوَ فِيهِ ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَّكِئَ لِأَنَّهُ نَوْعُ جِلْسَةٍ كَالتَّرَبُّعِ وَغَيْرِهِ ، وَطِبَاعُ النَّاسِ فِي الْجُلُوسِ مُخْتَلِفَةٌ ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَقْضِيَ وَهُوَ غَضْبَانُ أَوْ فَرْحَانُ أَوْ جَائِعٌ أَوْ عَطْشَانُ أَوْ مَهْمُومٌ أَوْ نَاعِسٌ أَوْ فِي حَالِ بَرْدٍ شَدِيدٍ أَوْ حَرٍّ أَوْ وَهُوَ يُدَافِعُ الْأَخْبَثَيْنِ أَوْ بِهِ حَاجَةٌ إلَى الْجِمَاعِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا يَقْضِي حَالَ شَغْلِ قَلْبِهِ ، وَأَصْلُهُ حَدِيثُ { لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ } مَعْلُولٌ بِهِ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَطَوَّعَ بِالصَّوْمِ فِي الْيَوْمِ الَّذِي يُرِيدُ الْجُلُوسَ وَلَا يَسْمَعُ مِنْ رَجُلٍ حُجَّتَيْنِ فَأَكْثَرَ إلَّا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ قَلِيلًا ، وَلَا يُقَدِّمُ رَجُلًا جَاءَ الْآخَرُ قَبْلَهُ ، وَلَا يَضْرِبُ فِي الْمَسْجِدِ حَدًّا وَلَا تَعْزِيرًا ( وَ ) يَنْبَغِي أَنْ ( يَجْلِسَ مَعَهُ مَنْ كَانَ يُجَالِسُهُ قَبْلَ ذَلِكَ لِأَنَّ فِي جُلُوسِهِ وَحْدَهُ تُهْمَةً ) الرِّشْوَةَ أَوْ الظُّلْمَ .
وَرُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا كَانَ يَحْكُمُ حَتَّى يَحْضُرَ أَرْبَعٌ مِنْ الصَّحَابَةِ ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَحْضُرَ مَجْلِسَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَيُشَاوِرَهُمْ ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُحْضِرُ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا حَتَّى قَالَ أَحْمَدُ : يَحْضُرُ مَجْلِسَهُ الْفُقَهَاءُ مِنْ كُلِّ مَذْهَبٍ وَيُشَاوِرُهُمْ فِيمَا يُشْكِلُ عَلَيْهِ .
وَفِي الْمَبْسُوطِ : فَإِنْ دَخَلَهُ حَصْرٌ فِي قُعُودِهِمْ عِنْدَهُ أَوْ شُغْلِهِ عَنْ شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ جَلَسَ وَحْدَهُ ، فَإِنَّ طِبَاعَ النَّاسِ تَخْتَلِفُ ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْنَعُهُمْ حِشْمَةُ

الْفُقَهَاءِ مِنْ فَصْلِ الْقَضَاءِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَزْدَادُ قُوَّةً عَلَى ذَلِكَ ، فَإِذَا كَانَ مِمَّنْ يَدْخُلُهُ حَصْرٌ جَلَسَ وَحْدَهُ .
وَفِي الْمَبْسُوطِ مَا حَاصِلُهُ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَعْتَذِرَ لِلْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ وَيُبَيِّنَ لَهُ وَجْهَ قَضَائِهِ وَيُبَيِّنَ لَهُ أَنَّهُ فَهِمَ حُجَّتَهُ ، وَلَكِنَّ الْحُكْمَ فِي الشَّرْعِ كَذَا يَقْتَضِي الْقَضَاءَ عَلَيْهِ فَلَمْ يُمْكِنْ غَيْرُهُ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَدْفَعَ لِشِكَايَتِهِ لِلنَّاسِ ، وَنِسْبَتِهِ إلَى أَنَّهُ جَارٍ عَلَيْهِ .
وَمَنْ يَسْمَعْ يُخَلِّ ، فَرُبَّمَا تُفْسِدُ الْعَامَّةُ غَرَضَهُ وَهُوَ بَرِيءٌ ، وَإِذَا أَمْكَنَ إقَامَةُ الْحَقِّ مَعَ عَدَمِ إيغَارِ الصُّدُورِ كَانَ أَوْلَى .

قَالَ ( وَلَا يَقْبَلُ هَدِيَّةً إلَّا مِنْ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ أَوْ مِمَّنْ جَرَتْ عَادَتُهُ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِمُهَادَاتِهِ ) لِأَنَّ الْأَوَّلَ صِلَةُ الرَّحِمِ وَالثَّانِيَ لَيْسَ لِلْقَضَاءِ بَلْ جَرَى عَلَى الْعَادَةِ ، وَفِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ يَصِيرُ آكِلًا بِقَضَائِهِ ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ لِلْقَرِيبِ خُصُومَةٌ لَا يَقْبَلُ هَدِيَّتَهُ ، وَكَذَا إذَا زَادَ الْمُهْدِي عَلَى الْمُعْتَادِ أَوْ كَانَتْ لَهُ خُصُومَةٌ لِأَنَّهُ لِأَجْلِ الْقَضَاءِ فَيَتَحَامَاهُ .

( قَوْلُهُ وَلَا يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ ) الْحَاصِلُ أَنَّ الْمُهْدِيَ إمَّا لَهُ خُصُومَةٌ أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَتْ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ لَهُ عَادَةٌ بِمُهَادَاتِهِ أَوْ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ خُصُومَةٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَادَةٌ بِذَلِكَ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِسَبَبِ قَرَابَةٍ أَوْ صَدَاقَةٍ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْبَلَ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ عَادَةٌ بِذَلِكَ جَازَ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَزِيدَ عَلَى الْمِقْدَارِ الْمُعْتَادِ قَبْلَ الْقَضَاءِ فَإِنْ زَادَ لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ .
وَذَكَرَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَالُ الْمُهْدِي قَدْ زَادَ فَبِقَدْرِ مَا زَادَ مَالُهُ إذَا زَادَ فِي الْهَدِيَّةِ لَا بَأْسَ بِقَبُولِهَا ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَقْبَلَ الْهَدِيَّةَ مِنْ الْقَرِيبِ إلَّا إذَا كَانَ لَهُ عَادَةٌ بِالْمُهَادَاةِ كَغَيْرِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْقَرِيبِ قَبْلَ الْقَضَاءِ عَادَةً فَأَهْدَى بَعْدَ الْقَضَاءِ لَا يَقْبَلُ .
وَعِبَارَةُ الْهِدَايَةِ مَعَ الْقُدُورِيِّ حَيْثُ قَالَ : وَلَا يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ إلَّا مِنْ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ أَوْ مِمَّنْ لَهُ عَادَةٌ قَبْلَ الْقَضَاءِ تُفِيدُ قَبُولَهَا مِنْ الْقَرِيبِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ عَادَةٌ بِالْمُهَادَاةِ قَبْلُ إذَا لَمْ تَكُنْ خُصُومَةٌ .
وَالْوَجْهُ هُوَ ظَاهِرُ النِّهَايَةِ .
ثُمَّ صَرَّحَ فِي مَسْأَلَةِ الدَّعْوَى عَنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ بِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ فِي أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ هَدِيَّتَهُ إلَّا إذَا كَانَ لَهُ عَادَةٌ ، نَعَمْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي الْقَرِيبِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ عَادَةٌ بِمُهَادَاةٍ قَبْلَ الْقَضَاءِ إنْ كَانَ ذَلِكَ لِفَقْرٍ ثُمَّ أَيْسَرَ بَعْدَ ذَلِكَ بَعْدَ وِلَايَةِ قَرِيبِهِ فَصَارَ يُهْدَى إلَيْهِ جَازَ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمَانِعَ مَا كَانَ إلَّا الْفَقْرَ ، وَهَذَا عَلَى شِبْهِ قَوْلِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ فِي الزِّيَادَةِ : إذَا كَثُرَ مَالُهُ .
ثُمَّ إذَا أَخَذَ الْهَدِيَّةَ فِي مَوْضِعٍ لَا يُبَاحُ أَخْذُهَا قِيلَ يَضَعُهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّهَا بِسَبَبِ عَمَلِهِ لَهُمْ وَعَامَّتُهُمْ عَلَى أَنَّهُ يَرُدُّهَا عَلَى أَرْبَابِهَا إنْ عَرَفَهُمْ ، وَإِلَيْهِ

أَشَارَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُمْ أَوْ كَانُوا بَعِيدًا حَتَّى تَعَذَّرَ الرَّدُّ فَفِي بَيْتِ الْمَالِ وَيَكُونُ حُكْمُهَا حُكْمَ اللُّقَطَةِ ، فَإِنْ جَاءَ الْمَالِكُ يَوْمًا يُعْطَاهَا ، وَكُلُّ مَنْ عَمِلَ لِلْمُسْلِمِينَ عَمَلًا حُكْمُهُ فِي الْهَدِيَّةِ حُكْمُ الْقَاضِي .
وَفِي شَرْحِ الْأَقْطَعِ : الْفَرْقُ بَيْنَ الرِّشْوَةِ وَالْهَدِيَّةِ أَنَّ الرِّشْوَةَ يُعْطِيهِ بِشَرْطِ أَنْ يُعِينَهُ ، وَالْهَدِيَّةُ لَا شَرْطَ مَعَهَا انْتَهَى .
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ { اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا مِنْ الْأَزْدِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَةِ ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ : هَذَا لَكُمْ وَهَذَا لِي ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : هَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ بَيْتِ أُمِّهِ فَيَنْظُرَ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لَا } قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ : كَانَتْ الْهَدِيَّةُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَدِيَّةً وَالْيَوْمَ رِشْوَةٌ ، ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ .
وَاسْتَعْمَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَبَا هُرَيْرَةَ فَقَدِمَ بِمَالٍ فَقَالَ لَهُ : مِنْ أَيْنَ لَك هَذَا ؟ قَالَ : تَلَاحَقَتْ الْهَدَايَا ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ هَلَّا قَعَدْت فِي بَيْتِك فَتَنْظُرَ أَيُهْدَى لَك أَمْ لَا ، فَأَخَذَ ذَلِكَ مِنْهُ وَجَعَلَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَتَعْلِيلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْهَدِيَّةِ الَّتِي سَبَبُهَا الْوِلَايَةُ ، وَلِهَذَا لَوْ زَادَ الْمُهْدِي عَلَى الْمُعْتَادِ أَوْ كَانَتْ لَهُ خُصُومَةٌ كُرِهَ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هُوَ مُحَرَّمٌ كَالرِّشْوَةِ .
هَذَا وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَدِيَّةُ الْمُسْتَقْرِضِ لِلْمُقْرِضِ كَالْهَدِيَّةِ لِلْقَاضِي إنْ كَانَ الْمُسْتَقْرِضُ لَهُ عَادَةٌ قَبْلَ اسْتِقْرَاضِهِ فَأَهْدَى إلَى الْمُقْرِضِ فَلِلْمُقْرِضِ أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ قَدْرَ مَا كَانَ يُهْدِيهِ بِلَا زِيَادَةٍ .

وَلَا يَحْضُرُ دَعْوَةً إلَّا أَنْ تَكُونَ عَامَّةً لِأَنَّ الْخَاصَّةَ لِأَجْلِ الْقَضَاءِ فَيُتَّهَمُ بِالْإِجَابَةِ ، بِخِلَافِ الْعَامَّةِ ، وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْجَوَابِ قَرِيبُهُ وَهُوَ قَوْلُهُمَا .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُجِيبُهُ وَإِنْ كَانَتْ خَاصَّةً كَالْهَدِيَّةِ ، وَالْخَاصَّةُ مَا لَوْ عَلِمَ الْمُضِيفُ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَحْضُرُهَا لَا يَتَّخِذُهَا .

( قَوْلُهُ وَلَا يَحْضُرُ دَعْوَةً إلَّا إذَا كَانَتْ عَامَّةً ) يَعْنِي وَلَا خُصُومَةَ لِصَاحِبِ الْوَلِيمَةِ الْعَامَّةِ ( وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْجَوَابِ قَرِيبُهُ ) فَلَا يُجِيبُ دَعْوَتَهُ إلَّا إذَا كَانَتْ عَامَّةً وَلَا خُصُومَةَ لَهُ ( وَعَنْ مُحَمَّدٍ يُجِيبُ قَرِيبُهُ وَإِنْ كَانَتْ خَاصَّةً ) هَكَذَا حَكَى الْخِلَافَ الطَّحَاوِيُّ .
وَقَالَ الْخَصَّافُ : يُجِيبُ الْخَاصَّةَ لِقَرِيبِهِ بِلَا خِلَافٍ لِصِلَةِ الرَّحِمِ ، وَعَلَى تَقْدِيرِ الْخِلَافِ طُولِبَ بِالْفَرْقِ فِي الْقَرِيبِ بَيْنَ الْهَدِيَّةِ ، قَالَ : يُقْبَلُ مِنْهُ مُطْلَقًا ، وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ جَرْي الْعَادَةِ وَغَيْرِهِ ، وَفِي الدَّعْوَى فَصَلَ بَيْنَ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ كَمَا ذَكَرَ فِي الْمَتْنِ .
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ : قَالُوا مَا ذُكِرَ فِي الضِّيَافَةِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا كَانَ الْمُحَرَّمُ لَمْ يَجْرِ بَيْنَهُمَا الدَّعْوَةُ وَالْمُهَادَاةُ وَصِلَةُ الْقَرَابَةُ وَأَحْدَثَ بَعْدَ الْقَضَاءِ ذَلِكَ فَإِذَا كَانَتْ الْحَالَةُ هَذِهِ فَهُوَ وَالْأَجْنَبِيُّ سَوَاءٌ .
وَمَا فِي الْهَدِيَّةِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ جَرَى بَيْنَهُمَا الْمُهَادَاةُ وَصِلَةُ الْقَرَابَةِ قَبْلَ الْقَضَاءِ ، فَإِذَا أَهْدَى بَعْدَ الْقَضَاءِ لَا بَأْسَ بِقَبُولِهِ انْتَهَى .
فَقَدْ آلَ الْحَالُ إلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْقَرِيبِ وَالْغَرِيبِ فِي الْهَدِيَّةِ وَالضِّيَافَةِ سِوَى ذَلِكَ لِإِمْكَانِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ .
وَاخْتُلِفَ فِي الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ فَقِيلَ مَا دُونَ الْعَشَرَةِ خَاصَّةٌ وَالْعَشَرَةُ وَمَا فَوْقَهَا عَامَّةٌ .
وَقَالَ الْمُصَنِّفُ ( الْخَاصَّةُ ) هِيَ ( الَّتِي لَوْ عَلِمَ الْمُضِيفُ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَحْضُرُهَا لَا يَتَّخِذُهَا ) وَالْعَامَّةُ هِيَ الَّتِي يَتَّخِذُهَا حَضَرَهَا الْقَاضِي أَوْ لَا .
وَعِنْدِي أَنَّ مَا حُكِيَ عَنْ الْقَاضِي أَبِي عَلِيٍّ النَّسَفِيِّ وَهُوَ أَنَّ الْعَامَّةَ دَعْوَةُ الْعُرْسِ وَالْخِتَانِ وَمَا سِوَاهُمَا خَاصَّةٌ حَسَنٌ فَإِنَّ الْغَالِبَ هُوَ كَوْنُ الدَّعْوَةِ الْعَامَّةِ هَاتَيْنِ ، وَرُبَّمَا مَضَى عُمَرُ وَلَمْ يَعْرِفْ مَنْ اصْطَنَعَ طَعَامًا عَامًا ابْتِدَاءً لِعَامَّةِ النَّاسِ بَلْ لَيْسَ

إلَّا لِهَاتَيْنِ الْخَصْلَتَيْنِ أَوْ لِمَخْصُوصٍ مِنْ النَّاسِ وَلِأَنَّهُ أَضْبَطُ ، فَإِنَّ مَعْرِفَةَ كَوْنِ الرَّجُلِ لَوْ لَمْ يَحْضُرْ الْقَاضِي لَمْ يَصْنَعْ أَوْ يَصْنَعُ غَيْرَ مُحَقَّقٍ فَإِنَّهُ أَمْرٌ مُبْطَنٌ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ لَوَائِحُ لَيْسَ كَضَبْطِ هَذَا ، وَيَكْفِي عَادَةُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ وَعَادَةُ النَّاسِ هِيَ مَا ذَكَرَ النَّسَفِيُّ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ : يَحْضُرُ الْوَلَائِمَ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَحْضُرُ وَهُوَ الَّذِي كَانَ يَقْضِي .
قُلْنَا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْلُومَ الْعِصْمَةِ عِنْدَ الْكُلِّ لَا يَضُرُّهُ حُضُورٌ وَلَا قَبُولُ هَدِيَّةٍ فَلَقَدْ أُبْعِدَتْ .

قَالَ ( وَيَشْهَدُ الْجِنَازَةَ وَيَعُودُ الْمَرِيضَ ) لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتَّةُ حُقُوقٍ } وَعَدَّ مِنْهَا هَذَيْنِ .
( قَوْلُهُ وَيَشْهَدُ الْجِنَازَةَ وَيَعُودُ الْمَرِيضَ ) الْمُرَادُ مَرِيضٌ لَا خُصُومَةَ لَهُ وَإِلَّا لَا يَعُودُهُ ، وَإِنَّمَا وَجَبَ ذَلِكَ لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ : رَدُّ السَّلَامِ ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ ، وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ ، وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَك فَانْصَحْ لَهُ } فَهَذِهِ هِيَ السَّادِسَةُ .
وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَقَالَ فِيهِ { : وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ يُشَمِّتُهُ } .
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمُفْرَدِ فِي الْأَدَبِ مِنْ حَدِيثِ { عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زِيَادِ بْنِ أَنْعُمَ الْإِفْرِيقِيِّ قَالَ : كُنَّا غُزَاةً فِي الْبَحْرِ زَمَنَ مُعَاوِيَةَ ، فَانْضَمَّ مَرْكَبُنَا إلَى مَرْكَبِ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ ، فَلَمَّا حَضَرَ غَدَاؤُنَا أَرْسَلْنَا إلَيْهِ فَأَتَانَا وَقَالَ : دَعَوْتُمُونِي وَأَنَا صَائِمٌ فَلَمْ يَكُنْ لِي بُدٌّ مِنْ أَنْ أُجِيبَكُمْ لِأَنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إنَّ لِلْمُسْلِمِ عَلَى أَخِيهِ سِتَّ خِصَالٍ وَاجِبَةٍ ، إنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْهَا فَقَدْ تَرَكَ حَقًّا وَاجِبًا عَلَيْهِ لِأَخِيهِ : يُسَلِّمُ عَلَيْهِ إذَا لَقِيَهُ ، وَيُجِيبُهُ إذَا دَعَاهُ ، وَيُشَمِّتُهُ إذَا عَطَسَ ، وَيَعُودُهُ إذَا مَرِضَ ، وَيَحْضُرُهُ إذَا مَاتَ ، وَيَنْصَحُهُ إذَا اسْتَنْصَحَهُ } وَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِ الْوُجُوبِ فِيهِ عَلَى الْأَعَمِّ مِنْ الْوُجُوبِ فِي اصْطِلَاحِ الْفِقْهِ الْحَادِثِ ، فَإِنَّ ظَاهِرَهُ وُجُوبُ الِابْتِدَاءِ بِالسَّلَامِ ، وَكَوْنُ الْوُجُوبِ وُجُوبَ عَيْنٍ فِي الْجِنَازَةِ فَالْمُرَادُ بِهِ أَمْرٌ ثَابِتٌ عَلَيْهِ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ نَدْبًا أَوْ وُجُوبًا بِالِاصْطِلَاحِ .

( وَلَا يُضَيِّفُ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ دُونَ خَصْمِهِ ) لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ذَلِكَ ، وَلِأَنَّ فِيهِ تُهْمَةً .
قَالَ ( وَإِذَا حَضَرَا سَوَّى بَيْنَهُمَا فِي الْجُلُوسِ وَالْإِقْبَالِ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إذَا اُبْتُلِيَ أَحَدُكُمْ بِالْقَضَاءِ فَلْيُسَوِّ بَيْنَهُمْ فِي الْمَجْلِسِ وَالْإِشَارَةِ وَالنَّظَرِ } ( وَلَا يُسَارُّ أَحَدَهُمَا وَلَا يُشِيرُ إلَيْهِ وَلَا يُلَقِّنُهُ حُجَّةً ) لِلتُّهْمَةِ وَلِأَنَّ فِيهِ مَكْسَرَةً لِقَلْبِ الْآخَرِ فَيَتْرُكُ حَقَّهُ ( وَلَا يَضْحَكُ فِي وَجْهِ أَحَدِهِمَا ) لِأَنَّهُ يَجْتَرِئُ عَلَى خَصْمِهِ ( وَلَا يُمَازِحُهُمْ وَلَا وَاحِدًا مِنْهُمْ ) لِأَنَّهُ يُذْهِبُ بِمَهَابَةِ الْقَضَاءِ .

( قَوْلُهُ وَلَا يُضَيِّفُ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ دُونَ خَصْمِهِ ) الْآخَرِ ، لِمَا رَوَى إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ { جَاءَ رَجُلٌ فَنَزَلَ عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَضَافَهُ ، فَلَمَّا قَالَ إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُخَاصِمَ ، قَالَ لَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : تَحَوَّلْ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَانَا أَنْ نُضَيِّفَ الْخَصْمَ إلَّا وَمَعَهُ خَصْمُهُ } .
وَكَذَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ ثُمَّ الدَّارَقُطْنِيُّ .
( وَلِأَنَّ فِيهِ تُهْمَةَ ) الْمَيْلِ .
( قَوْلُهُ وَإِذَا حَضَرَا سَوَّى بَيْنَهُمَا فِي الْجُلُوسِ وَالْإِقْبَالِ ) لِمَا رَوَى إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ : أَخْبَرَنَا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ ، حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ التَّمِيمِيُّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ اُبْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَلْيُسَوِّ بَيْنَهُمْ فِي الْمَجْلِسِ وَالْإِشَارَةِ وَالنَّظَرِ ، وَلَا يَرْفَعْ صَوْتَهُ عَلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ أَكْثَرَ مِنْ الْآخَرِ } وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ عَبَّادِ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ اُبْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَلْيَعْدِلْ بَيْنَهُمْ فِي لَحْظِهِ وَإِشَارَتِهِ وَمَقْعَدِهِ } وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَتَبَ إلَى أَبِي مُوسَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ الْأَشْعَرِيِّ أَنْ : آسِ بَيْنَ النَّاسِ فِي وَجْهِك وَعَدْلِك وَمَجْلِسِك حَتَّى لَا يَطْمَعَ شَرِيفٌ فِي حَيْفِك وَلَا يَيْأَسُ ضَعِيفٌ مِنْ عَدْلِك .
( وَلَا يَسَّارِ أَحَدَهُمَا وَلَا يُشِيرُ إلَيْهِ وَلَا يُلَقِّنُهُ حُجَّتَهُ لِلتُّهْمَةِ وَلِأَنَّ فِيهِ مَكْسَرَةً لِقَلْبِ الْآخَرِ فَيَتْرُكُ حَقَّهُ وَلَا يَضْحَكُ فِي وَجْهِ أَحَدِهِمَا لِأَنَّهُ يَجْتَرِئُ بِذَلِكَ عَلَى خَصْمِهِ ، وَلَا يُمَازِحُهُمْ وَلَا وَاحِدًا مِنْهُمْ لِأَنَّهُ يَذْهَبُ بِمَهَابَةِ الْقَضَاءِ )

وَالْمُسْتَحَبُّ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يُجْلِسَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَلَا يُجْلِسُ وَاحِدًا عَنْ يَمِينِهِ وَالْآخَرَ عَنْ يَسَارِهِ لِأَنَّ لِلْيَمِينِ فَضْلًا ، وَلِذَا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخُصُّ بِهِ أَبَا بَكْرٍ دُونَ عُمَرَ .
وَفِي أَبِي دَاوُد { أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ خَاصَمَهُ عَمْرُو بْنُ الزُّبَيْرِ إلَى سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ وَهُوَ عَلَى السَّرِيرِ قَدْ أَجْلَسَ عَمْرَو بْنَ الزُّبَيْرِ عَلَى السَّرِيرِ ، فَلَمَّا جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَسَّعَ لَهُ سَعِيدٌ مِنْ شِقِّهِ الْآخَرِ فَقَالَ هُنَا ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ : الْأَرْضَ الْأَرْضَ قَضَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَوْ قَالَ : سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَجْلِسَ الْخَصْمَانِ بَيْنَ يَدَيْ الْقَاضِي .
} .
وَفِي النَّوَازِلِ وَالْفَتَاوَى الْكُبْرَى : خَاصَمَ السُّلْطَانُ مَعَ رَجُلٍ فَجَلَسَ السُّلْطَانُ مَعَ الْقَاضِي فِي مَجْلِسِهِ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَقُومَ مِنْ مَقَامِهِ وَيَجْلِسَ خَصْمُ السُّلْطَانِ فِيهِ وَيَقْعُدَ هُوَ عَلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَقْضِي بَيْنَهُمَا .
وَبِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَظْهَرُ أَنَّ الْقَاضِيَ يَصْلُحُ قَاضِيًا عَلَى السُّلْطَانِ الَّذِي وَلَّاهُ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قِصَّةُ شُرَيْحٍ مَعَ عَلِيٍّ فَإِنَّهُ قَامَ فَأَجْلَسَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَجْلِسَهُ ، وَيَنْبَغِي لِلْخَصْمَيْنِ أَنْ يَجْثُوَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَا يَتَرَبَّعَانِ وَلَا يَقْعَيَانِ ، وَلَوْ فَعَلَا ذَلِكَ مَنَعَهُمَا الْقَاضِي تَعْظِيمًا لِلْحُكْمِ كَمَا يَجْلِسُ الْمُتَعَلِّمُ بَيْنَ يَدَيْ الْمُعَلِّمِ تَعْظِيمًا لَهُ فَيَكُونُ بُعْدُهُمَا عَنْهُ قَدْرَ ذِرَاعَيْنِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرْفَعَا أَصْوَاتَهُمَا ، وَيُسْنِدُ الْقَاضِي ظَهْرَهُ إلَى الْمِحْرَابِ ، وَهَذَا رَسْمُ زَمَانِنَا .
قَالُوا : وَهُوَ أَحْسَنُ لِأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِفِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
أَمَّا فِي زَمَنِ الْخَصَّافِ وَغَيْرِهِ فَكَانَ الْقَاضِي يَجْلِسُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ ؛ وَيَقِفُ

أَعْوَانُ الْقَاضِي بَيْنَ يَدَيْهِ لِيَكُونَ أَهَيْبَ .
وَإِذَا حَضَرَا فَالْقَاضِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ابْتَدَأَ فَقَالَ مَا لَكُمَا وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُمَا حَتَّى يَبْتَدِئَاهُمَا بِالنُّطْقِ ، وَبَعْضُ الْقُضَاةِ يَخْتَارُ السُّكُوتَ وَلَا يُكَلِّمُهُمَا بِشَيْءٍ غَيْرِ مَا بَيْنَهُمَا ، فَإِذَا تَكَلَّمَ الْمُدَّعِي أَسْكَتَ الْآخَرَ حَتَّى يَفْهَمَ حُجَّتَهُ لِأَنَّ فِي تَكَلُّمِهِمَا مَعًا شَغَبًا وَقِلَّةَ حِشْمَةٍ لِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ ، ثُمَّ يَسْتَنْطِقُ الْآخَرَ وَإِنْ لَمْ يَسْأَلْ الْمُدَّعِي ذَلِكَ .
وَقِيلَ لَا إلَّا بَعْدَ سُؤَالِ الْمُدَّعِي بِأَنْ يَقُولَ اسْأَلْهُ لِكَيْ يَتَفَكَّرَ فِي الدَّعْوَى لِتَظْهَرَ لَهُ صِحَّتُهَا ، وَإِلَّا قَالَ قُمْ فَصَحِّحْ دَعْوَاك ، وَإِذَا صَحَّتْ الدَّعْوَى يَقُولُ فَمَاذَا تُرِيدُ أَنْ أَصْنَعَ ، فَإِنْ قَالَ أُرِيدُ جَوَابَهُ سَأَلَهُ .
وَالْأَصَحُّ عِنْدَنَا أَنَّهُ يَسْتَنْطِقُهُ ابْتِدَاءً لِلْعِلْمِ بِالْمَقْصُودِ ، وَإِذَا كَانَتْ الْخُصُومَةُ بَيْنَ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقَدُّمِهِنَّ مَعَهُمْ ، وَاخْتَارَ مُحَمَّدٌ أَنْ يُقَدِّمَ الدَّعْوَى الْأَوَّلُ فَالْأَوَّلُ ، وَيَضَعَ عَلَى ذَلِكَ أَمِينًا لَا يَرْتَشِي يَعْرِفُهُ السَّابِقُ ، وَلْيُبَكِّرْ عَلَى بَابِ الْقَاضِي وَلَا يَكُونُ عِنْدَهُ طَمَعٌ ، وَلَوْ أَشْكَلَ السَّابِقُ يَقْرَعُ بَيْنَهُمْ وَلَا يَسْتَعْجِلُ عَلَى الْخُصُومِ بَلْ يَتَمَهَّلُ مَعَهُمْ فَإِنَّ بِالْعُجَالَةِ تَنْقَطِعُ الْحُجَّةُ وَيُذْهَلُ عَنْهَا ، وَلِهَذَا لَا يُخَوِّفُهُمْ فَيَكُونُ مَهِيبًا لَا تَخَافُهُ النَّاسُ .
وَأَنْكَرَ الْأَئِمَّةُ مَا رَأَوْا مِنْ أَخْذِ بَوَّابِ الْقَاضِي شَيْئًا لِيُمَكِّنَّهُ مِنْ الدُّخُولِ وَهُوَ يَعْلَمُ .
قَالُوا : هَذَا فَسَادٌ عَظِيمٌ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَمْنَعَ أَحَدًا مِنْ التَّقَدُّمِ إلَى بَابِ الْقَاضِي فِي حَاجَةٍ ، وَالْمَأْخُوذُ عَلَى ذَلِكَ رِشْوَةٌ مُحَرَّمَةٌ ، وَعَلَى هَذَا يُقَاسُ حَالُ الَّذِي يُسَمَّى فِي زَمَانِنَا نَقِيبَ الْقَاضِي .
قِيلَ : وَيَنْبَغِي أَنْ يَقُومَ بَيْنَ يَدَيْهِ إذَا جَلَسَ لِلْحُكْمِ رَجُلٌ يَمْنَعُ النَّاسَ مِنْ التَّقَدُّمِ إلَيْهِ مَعَهُ سَوْطٌ يُقَالُ لَهُ الْجِلْوَازُ ،

وَصَاحِبُ الْمَجْلِسِ يُقِيمُ الْخُصُومَ بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَى الْبُعْدِ وَالشُّهُودُ بِقُرْبٍ مِنْ الْقَاضِي ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْقِيَامَ بَيْنَ يَدَيْ الْقَاضِي لِلْخُصُومَةِ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا ، بَلْ أَنْ يُجْلِسَهُمَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَهَذِهِ أَيْضًا مِنْ الْمُحْدَثَاتِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْحَاجَةِ إلَيْهِ .
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ إذَا سَافَرَ اسْتَصْحَبَ رَجُلًا سَيِّئَ الْأَدَبِ ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ : أَمَا عَلِمْت أَنَّ الشَّرَّ بِالشَّرِّ يُدْفَعُ .
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ النَّاسَ مُخْتَلِفُو الْأَحْوَالِ وَالْأَدَبِ .
وَقَدْ حَدَثَ فِي هَذَا الزَّمَانِ أُمُورٌ وَسُفَهَاءُ فَيَعْمَلُ بِمُقْتَضَى الْحَالِ مُرَادًا بِهِ الْخَيْرَ لَا حِشْمَةَ النَّفْسِ الْمُؤَدِّي إلَى الْإِعْجَابِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ فِيهِ عِبْسَةٌ بِلَا غَضَبٍ ، وَأَنْ يَلْزَمَ التَّوَاضُعَ مِنْ غَيْرِ وَهْنٍ وَلَا ضَعْفٍ ، وَلَا يَتْرُكُ شَيْئًا مِنْ الْحَقِّ ، وَيَتَّخِذُ كَاتِبًا أَمِينًا صَالِحًا يَكْتُبُ الْمَحَاضِرَ وَالسِّجِلَّاتِ عَارِفًا بِهَا كَيْ لَا يَقَعَ السِّجِلُّ فَاسِدًا بِالْإِخْلَالِ بِبَعْضِ الشُّرُوطِ كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ السِّجِلَّاتِ وَالْمَحَاضِرَ ، وَيُقْعِدُهُ حَيْثُ يَرَى مَا يَكْتُبُ وَيَكْتُبُ خُصُومَةَ كُلٍّ مِنْهُمَا وَشَهَادَةَ شُهُودِهِمَا فِي صَحِيفَةٍ وَهِيَ الْمَحْضَرُ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ ، بِخِلَافِ عُرْفِ الْعَادَةِ الْيَوْمَ بِمِصْرَ .

قَالَ ( وَيُكْرَهُ تَلْقِينُ الشَّاهِدِ ) وَمَعْنَاهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ أَتَشْهَدُ بِكَذَا وَكَذَا ، وَهَذَا لِأَنَّهُ إعَانَةٌ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ فَيُكْرَهُ كَتَلْقِينِ الْخَصْمِ .
وَاسْتَحْسَنَهُ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ التُّهْمَةِ لِأَنَّ الشَّاهِدَ قَدْ يَحْصُرُ لِمَهَابَةِ الْمَجْلِسِ فَكَانَ تَلْقِينُهُ إحْيَاءً لِلْحَقِّ بِمَنْزِلَةِ الْإِشْخَاصِ وَالتَّكْفِيلِ .

( قَوْلُهُ وَيُكْرَهُ تَلْقِينُ الشَّاهِدِ ) وَهُوَ أَنْ يَقُولَ لَهُ الْقَاضِي كَلَامًا يَسْتَفِيدُ بِهِ الشَّاهِدُ عِلْمًا وَعَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ وَجْهٌ لِلشَّافِعِيِّ لَا بَأْسَ بِهِ لِمَنْ اسْتَوْلَتْهُ الْحِيرَةُ أَوْ الْهَيْبَةُ فَتَرَكَ شَيْئًا مِنْ شَرَائِطِ الشَّهَادَةِ فَيُعِينُهُ بِقَوْلِهِ أَتَشْهَدُ بِكَذَا وَكَذَا بِشَرْطِ كَوْنِهِ ( فِي غَيْرِ مَوْضِعِ التُّهْمَةِ ) أَمَّا فِيهَا بِأَنْ ادَّعَى الْمُدَّعِي أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ يُنْكِرُ الْخَمْسَمِائَةِ وَشَهِدَ الشَّاهِدُ بِأَلْفٍ فَيَقُولُ الْقَاضِي يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَبْرَأَهُ مِنْ الْخَمْسِمِائَةِ وَاسْتَفَادَ الشَّاهِدُ بِذَلِكَ عِلْمًا فَوُفِّقَ بِهِ فِي شَهَادَتِهِ كَمَا وُفِّقَ الْقَاضِي فَهَذَا لَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ كَمَا فِي تَلْقِينِ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ .
وَفِي الْمَبْسُوطِ : مَا قَالَاهُ عَزِيمَةٌ لِأَنَّ الْقَاضِيَ مَنْهِيٌّ عَنْ اكْتِسَابِ مَا يَجُرُّ إلَيْهِ تُهْمَةَ الْمَيْلِ وَتَلْقِينُ الشَّاهِدِ لَا يَخْلُو مِنْهُ .
وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رُخْصَةٌ ، فَإِنَّهُ لَمَّا اُبْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ شَاهِدُ الْحَصْرِ عِنْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ مَجْلِسَ الْقَضَاءِ مُهَابٌ فَيَضِيعُ الْحَقُّ إذَا لَمْ يُعِنْهُ عَلَى أَدَاءِ الشَّهَادَةِ ، وَيَحْصَرُ مُضَارِعُ حَصِرَ مِنْ بَابِ عَلِمَ إذَا امْتَنَعَ عَلَيْهِ وَضَاقَ صَدْرُهُ بِهِ ، وَتَقَدَّمَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ ، وَأَيْضًا أَمْرًا بِإِكْرَامِ الشُّهُودِ فَإِنَّ اللَّهَ يُحْيِي بِهِمْ الْحُقُوقَ ، وَهَذَا التَّلْقِينُ إعَانَةٌ وَإِكْرَامٌ حَيْثُ لَا يُنْسَبُ إلَيْهِ الْقُصُورُ .
وَقَوْلُهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَشْخَاصِ هُوَ إرْسَالُ شَخْصٍ لِيَأْتِيَ بِخَصْمِهِ ، يُقَالُ شَخَصَ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ إذَا ذَهَبَ مِنْ حَدٍّ مَنَعَ .
قِيلَ وَتَأْخِيرُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَتَسْمِيَتُهُ بِالِاسْتِحْسَانِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مُخْتَارُ الْمُصَنِّفِ ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ اسْتَحْسَنَهُ مَعْنَاهُ لَهُ دَلِيلُ الِاسْتِحْسَانِ الِاصْطِلَاحِيِّ ، وَقَدْ لَا يَلْزَمُ وَيَكْفِي كَوْنُهُ آخِرُ دَلِيلٍ فِي ذَلِكَ .
وَفِي فَتَاوَى

قَاضِي خَانٍ : لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ بِنَفْسِهِ بَلْ يُفَوِّضُ ذَلِكَ إلَى غَيْرِهِ ، وَبِهِ قَالَتْ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ .
وَعَنْ أَحْمَدَ يَتَّخِذُ وَكِيلًا لَا يُعْرَفُ أَنَّهُ وَكِيلُ الْقَاضِي تَحَرُّزًا عَنْ الْمُحَابَاةِ ، وَشَرَطَ شُرَيْحٌ عَلَى عُمَرَ حِينَ وَلَّاهُ أَنْ لَا أَبِيعَ وَلَا أَشْتَرِيَ وَلَا أَرْتَشِيَ ، وَقَالَ بَعْضُ أَشْيَاخِ الْمَالِكِيَّةِ ، يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَرْتَفِعَ عَنْ طَلَبِ الْعَوَارِيّ مِنْ الْمَاعُونِ وَالدَّابَّةِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ : لَا بَأْسَ أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ ، وَيَنْبَغِي لِلْخُصُومِ إذَا وَصَلَّوْا أَنْ لَا يُسَلِّمُوا عَلَى الْقَاضِي ، فَإِذَا سَلَّمُوا لَا يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي رَدُّ سَلَامِهِمْ ، فَإِنْ رَدَّ يَقْتَصِرُ عَلَى قَوْلِهِ وَعَلَيْكُمْ وَيَخْرُجُ فِي أَحْسَنِ ثِيَابِهِ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .

( فَصْلٌ فِي الْحَبْسِ ) قَالَ ( وَإِذَا ثَبَتَ الْحَقُّ عِنْدَ الْقَاضِي وَطَلَبَ صَاحِبُ الْحَقِّ حَبْسَ غَرِيمِهِ لَمْ يُعَجِّلْ بِحَبْسِهِ وَأَمَرَهُ بِدَفْعِ مَا عَلَيْهِ ) لِأَنَّ الْحَبْسَ جَزَاءُ الْمُمَاطَلَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ ظُهُورِهَا ، وَهَذَا إذَا ثَبَتَ الْحَقُّ بِإِقْرَارِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ كَوْنَهُ مُمَاطِلًا فِي أَوَّلِ الْوَهْلَةِ فَلَعَلَّهُ طَمِعَ فِي الْإِمْهَالِ فَلَمْ يَسْتَصْحِبْ الْمَالُ ، فَإِذَا امْتَنَعَ بَعْدَ ذَلِكَ حَبَسَهُ لِظُهُورِ مَطْلِهِ ، أَمَّا إذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ حَبَسَهُ كَمَا ثَبَتَ لِظُهُورِ الْمَطْلِ بِإِنْكَارِهِ .
قَالَ ( فَإِنْ امْتَنَعَ حَبْسُهُ فِي كُلِّ دَيْنٍ لَزِمَهُ بَدَلًا عَنْ مَالٍ حَصَلَ فِي يَدِهِ كَثَمَنِ الْمَبِيعِ أَوْ الْتَزَمَهُ بِعَقْدٍ كَالْمَهْرِ وَالْكَفَالَةِ ) لِأَنَّهُ إذَا حَصَلَ الْمَالُ فِي يَدِهِ ثَبَتَ غِنَاهُ بِهِ ، وَإِقْدَامُهُ عَلَى الْتِزَامِهِ بِاخْتِيَارِهِ دَلِيلُ يَسَارِهِ إذْ هُوَ لَا يَلْتَزِمُ إلَّا مَا يَقْدِرُ عَلَى أَدَائِهِ ، وَالْمُرَادُ بِالْمَهْرِ مُعَجَّلُهُ دُونَ مُؤَجَّلِهِ .
قَالَ ( وَلَا يَحْبِسُهُ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ إذَا قَالَ إنِّي فَقِيرٌ إلَّا أَنْ يُثْبِتَ غَرِيمُهُ أَنَّ لَهُ مَالًا فَيَحْبِسَهُ ) لِأَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ دَلَالَةُ الْيَسَارِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ ، وَعَلَى الْمُدَّعِي إثْبَاتُ غِنَاهُ ، وَيُرْوَى أَنَّ الْقَوْلَ لِمَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْعُسْرَةُ .
وَيُرْوَى أَنَّ الْقَوْلَ لَهُ إلَّا فِيمَا بَدَلُهُ مَالٌ .
وَفِي النَّفَقَةِ الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ إنَّهُ مُعْسِرٌ ، وَفِي إعْتَاقِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ الْقَوْلُ لِلْمُعْتِقِ ، وَالْمَسْأَلَتَانِ تُؤَدِّيَانِ الْقَوْلَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ ، وَالتَّخْرِيجُ عَلَى مَا قَالَ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ لَيْسَ بِدَيْنٍ مُطْلَقٍ بَلْ هُوَ صِلَةٌ حَتَّى تَسْقُطَ النَّفَقَةُ بِالْمَوْتِ عَلَى الِاتِّفَاقِ ، وَكَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ضَمَانُ الْإِعْتَاقِ ، ثُمَّ فِيمَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُدَّعِي إنَّ لَهُ مَالًا ، أَوْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ فِيمَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ

عَلَيْهِ يَحْبِسُهُ شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً ثُمَّ يَسْأَلُ عَنْهُ فَالْحَبْسُ لِظُهُورِ ظُلْمِهِ فِي الْحَالِ ، وَإِنَّمَا يَحْبِسُهُ مُدَّةً لِيَظْهَرَ مَالُهُ لَوْ كَانَ يُخْفِيهِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَمْتَدَّ الْمُدَّةُ لِيُفِيدَ هَذِهِ الْفَائِدَةَ فَقَدَّرَهُ بِمَا ذَكَرَهُ ، وَيُرْوَى غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ التَّقْدِيرِ بِشَهْرٍ أَوْ أَرْبَعَةٍ إلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ التَّقْدِيرَ مُفَوَّضٌ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْأَشْخَاصِ فِيهِ .
قَالَ ( فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ مَالٌ خُلِّيَ سَبِيلُهُ ) يَعْنِي بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ النَّظِرَةَ إلَى الْمَيْسَرَةِ فَيَكُونُ حَبْسُهُ بَعْدَ ذَلِكَ ظُلْمًا ؛ .
وَلَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى إفْلَاسِهِ قَبْلَ الْمُدَّةِ تُقْبَلُ فِي رِوَايَةٍ ، وَلَا تُقْبَلُ فِي رِوَايَةٍ ، وَعَلَى الثَّانِيَةِ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ .
قَالَ فِي الْكِتَابِ خُلِّيَ سَبِيلُهُ وَلَا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غُرَمَائِهِ ، وَهَذَا كَلَامٌ فِي الْمُلَازَمَةِ وَسَنَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ الْحَجْرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

( فَصْلٌ فِي الْحَبْسِ ) أَحْكَامُ الْقَضَاءِ كَثِيرَةٌ فَذَكَرَ مِنْهَا مَا ذَكَرَ ، وَمِنْهَا الْحَبْسُ ، إلَّا أَنَّهُ اخْتَصَّ بِأَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ فَأَفْرَدَهُ بِفَصْلٍ عَلَى حِدَتِهِ .
وَالْحَبْسُ مَشْرُوعٌ بِالْكِتَابِ لِأَنَّهُ الْمُرَادُ بِالنَّفْيِ الْمَذْكُورِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { أَوْ يُنْفَوْا مِنْ الْأَرْضِ } وَبِالسُّنَّةِ عَلَى مَا سَلَفَ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَبَسَ رَجُلًا فِي تُهْمَةٍ } .
وَذَكَرَ الْخَصَّافُ { أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ اقْتَتَلُوا فَقَتَلُوا بَيْنَهُمْ قَتِيلًا ، فَبَعَثَ إلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَبَسَهُمْ } وَلَمْ يَكُنْ فِي عَهْدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ سِجْنٌ ، إنَّمَا كَانَ يَحْبِسُ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ الدِّهْلِيزِ حَتَّى اشْتَرَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَارًا بِمَكَّةَ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ وَاِتَّخَذَهُ مَحْبِسًا .
وَقِيلَ بَلْ لَمْ يَكُنْ فِي زَمَنِ عُمَرَ وَلَا عُثْمَانَ أَيْضًا إلَى زَمَنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَبَنَاهُ ، وَهُوَ أَوَّلُ سِجْنٍ بُنِيَ فِي الْإِسْلَامِ .
قَالَ فِي الْفَائِقِ : إنَّ عَلِيًّا بَنَى سِجْنًا مِنْ قَصَبٍ فَسَمَّاهُ نَافِعًا ، فَنَقَبَهُ اللُّصُوصُ وَتَسَيَّبَ النَّاسُ مِنْهُ ، ثُمَّ بَنَى سِجْنًا مِنْ مَدَرٍ فَسَمَّاهُ مَخِيسًا ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَلَا تَرَانِي كَيِّسًا مُكَيِّسَا بَنَيْت بَعْدَ نَافِعٍ مُخَيَّسَا بَابًا حَصِينًا وَأَمِينًا كَيِّسَا وَالْمُخَيَّسُ مَوْضِعُ التَّخْيِيسِ وَهُوَ التَّذْلِيلُ ، وَالْكَيْسُ حُسْنُ التَّأَنِّي فِي الْأُمُورِ ، وَالْكَيِّسُ الْمَنْسُوبُ إلَى الْكَيْسِ .
وَأَرَادَ بِالْأَمِينِ السَّجَّانَ الَّذِي نَصَبَهُ فِيهِ ، وَالْمَحْبُوسُ فِي الدَّيْنِ لَا يَخْرُجُ لِصَوْمِ رَمَضَانَ وَلَا لِعِيدٍ وَلَا لِجُمُعَةٍ وَلَا لِصَلَاةِ جَمَاعَةٍ وَلَا لِحَجِّ فَرِيضَةٍ وَلَا لِحُضُورِ جِنَازَةِ بَعْضِ أَهْلِهِ وَلَوْ أَعْطَى كَفِيلًا بِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ شُرِعَ لِيَضْجَرَ قَلْبُهُ فَيُسَارِعَ لِلْقَضَاءِ ، وَلِهَذَا قَالُوا : يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَوْضِعًا خَشِنًا وَلَا يُبْسَطُ لَهُ فِرَاشٌ وَلَا وِطَاءٌ

وَلَا يَدْخُلُ لَهُ أَحَدٌ يَسْتَأْنِسُ بِهِ .
وَقِيلَ يَخْرُجُ بِكَفِيلٍ لِجِنَازَةِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ وَالْأَوْلَادِ ، وَفِي غَيْرِهِمْ لَا وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى .
وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ إبْطَالُ حَقٍّ آدَمِيٍّ بِلَا مُوجِبٍ وَمَوْتُ الْأَبِ وَنَحْوُهُ غَيْرُ مُبْطِلٍ بِنَفْسِهِ .
نَعَمْ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْ يَقُومُ بِحُقُوقِ دَفْنِهِ فَعَلَ ذَلِكَ .
وَسُئِلَ مُحَمَّدٌ عَمَّا إذَا مَاتَ وَالِدُهُ أَيَخْرُجُ فَقَالَ لَا .
وَلَوْ مَرِضَ فِي السِّجْنِ فَأَضْنَاهُ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ خَادِمٌ لَا يَخْرُجُ حَتَّى يَمُوتَ ، إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ خَادِمٌ يَخْرُجُ لِأَنَّهُ قَدْ يَمُوتُ بِسَبَبِ عَدَمِ الْمُمَرِّضِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ مَقْضِيًّا لِلتَّسَبُّبِ فِي هَلَاكِهِ ؛ وَلَوْ احْتَاجَ إلَى الْجِمَاعِ تَدْخُلُ زَوْجَتُهُ أَوْ جَارِيَتُهُ فَيَطَؤُهَا حَيْثُ لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ ، وَقِيلَ يُمْنَعُ مِنْهُ لِأَنَّ الْجِمَاعَ لَيْسَ مِنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ ، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ دُخُولِ أَهْلِهِ وَجِيرَانِهِ لِلسَّلَامِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قَدْ يُفْضِي إلَى الْمَقْصُودِ مِنْ الْإِيفَاءِ بِمَشُورَتِهِمْ وَرَأْيِهِمْ وَيُمْنَعُونَ مِنْ طُولِ الْمُكْثِ .
وَالْمَالُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ فِي الْحَبْسِ ، فَيُحْبَسُ فِي الدِّرْهَمِ وَمَا دُونَهُ لِأَنَّ ظُلْمَهُ يَتَحَقَّقُ بِمَنْعِ ذَلِكَ .
( قَوْلُهُ وَإِذَا ثَبَتَ الْحَقُّ عِنْدَ الْقَاضِي وَطَلَبَ صَاحِبُهُ حَبْسَ غَرِيمِهِ لَمْ يُعَجِّلْ بِحَبْسِهِ حَتَّى يَأْمُرَهُ بِدَفْعِ مَا عَلَيْهِ ، لِأَنَّ الْحَبْسَ جَزَاءُ الْمُمَاطَلَةِ ) بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَفَسَّرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ إحْلَالَ عِرْضِهِ بِإِغْلَاظِ الْقَوْلِ لَهُ وَعُقُوبَتِهِ بِالْحَبْسِ ( فَلَا بُدَّ مِنْ ظُهُورِ الْمُمَاطَلَةِ ) وَلَمْ تَظْهَرْ بِمُجَرَّدِ ثُبُوتِ الْحَقِّ بِالْإِقْرَارِ ( إذْ لَعَلَّهُ طَمَعَ فِي الْإِمْهَالِ فَلَمْ يَسْتَصْحِبْ الْمَالَ ) وَإِنَّمَا يَظْهَرُ إذَا أَمَرَهُ بَعْدَ إقْرَارِهِ فَامْتَنَعَ ( أَمَّا إذَا ظَهَرَ بِالْبَيِّنَةِ فَيَحْبِسُهُ كَمَا ظَهَرَ لِظُهُورِ

الْمُمَاطَلَةِ بِإِنْكَارِهِ ) .
وَفِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ .
: وَعَنْ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ عَكْسُ هَذَا ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ لَا يَحْبِسُهُ لِأَوَّلِ وَهْلَةٍ لِأَنَّهُ يَعْتَذِرُ بِأَنِّي مَا كُنْت أَعْلَمُ أَنَّ عَلَيَّ دَيْنًا لَهُ بِخِلَافِهِ بِالْإِقْرَارِ لِأَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِالدَّيْنِ وَلَمْ يَقْضِهِ حَتَّى أَحْوَجَهُ إلَى شَكْوَاهُ ؛ وَعَلَى قَوْلِ الْخَصَّافِ لَا يَحْبِسُهُ حَتَّى يَأْمُرَهُ فِي الْإِقْرَارِ وَالْبَيِّنَةِ .
( قَوْلُهُ فَإِنْ امْتَنَعَ ) أَيْ بَعْدَ أَمْرِهِ بِقَضَائِهِ ( حَبَسَهُ فِي كُلِّ دَيْنٍ لَزِمَهُ بَدَلًا عَنْ مَالٍ حَصَلَ فِي يَدِهِ كَ ) الْقَرْضِ وَثَمَنِ الْمَبِيعِ أَوْ الْتَزَمَهُ بِعَقْدٍ كَالْمَهْرِ وَالْكَفَالَةِ لِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ الْمَالُ فِي يَدِهِ ثَبَتَ غِنَاهُ ( بِهِ ) وَالْمُرَادُ بِالْغِنَى الْقُدْرَةُ عَلَى الْإِيفَاءِ ، وَإِلَّا فَالدَّيْنُ قَدْ يَكُونُ دُونَ النِّصَابِ وَيُحْبَسُ بِهِ : يَعْنِي إذَا دَخَلَ الْمَالُ فِي يَدِهِ ثَبَتَتْ قُدْرَتُهُ عَلَى إيفَائِهِ ، وَمَا لَمْ يَكُنْ بَدَلَ مَالٍ لَكِنَّهُ لَزِمَهُ عَنْ عَقْدٍ الْتَزَمَهُ كَالْمَهْرِ وَالْكَفَالَةِ لِأَنَّ إقْدَامَهُ عَلَى مُبَاشَرَةِ مَا يُلْزِمُ ذَلِكَ الْمَالَ دَلِيلُ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فَيَحْبِسُهُ ، وَلَا يَسْمَعُ قَوْلَهُ إنِّي فَقِيرٌ لِأَنَّهُ كَالْمُنَاقِضِ لِوُجُودِ دَلَالَةِ الْيَسَارِ ( وَلَا يَحْبِسُهُ فِيمَا سِوَى هَذَيْنِ ) النَّوْعَيْنِ ( إذَا قَالَ إنِّي فَقِيرٌ إلَّا أَنْ يُثْبِتَ غَرِيمُهُ أَنَّ لَهُ مَالًا فَيَحْبِسَهُ ) حِينَئِذٍ ( لِأَنَّهُ وَجَدَ دَلَالَةَ الْيَسَارِ ) أَيْ قُدْرَتَهُ عَلَى الدَّيْنِ الْمُدَّعَى بِهِ ، هَكَذَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ ( وَيُرْوَى أَنَّ الْقَوْلَ لِمَنْ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ ) أَيْ فِيمَا كَانَ بَدَلَ مَالٍ أَوْ لَزِمَهُ بِعَقْدٍ أَوْ حُكْمًا لِفِعْلِهِ لَا لِعَقْدٍ كَالْإِتْلَافِ وَضَمَانِ الْغَصْبِ وَهُوَ قَوْلُ الْخَصَّافِ ( لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْعُسْرَةُ ) فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ لِأَنَّهُ خُلِقَ عَدِيمَ الْمَالِ ، وَلِهَذَا قَالَ : إذَا ثَبَتَ الْحَقُّ فَلَا يَحْبِسُهُ حَتَّى يَسْأَلَهُ أَلَك مَالٌ أَوْ لَا ، فَإِنْ قَالَ لَا

اسْتَحْلَفَهُ فَإِنْ نَكَلَ حَبَسَهُ ، وَإِنْ حَلَفَ أَطْلَقَهُ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى قُدْرَتِهِ .
وَعِنْدَنَا يَحْبِسُهُ وَلَا يَسْأَلُهُ ، فَإِنْ قَالَ أَنَا فَقِيرٌ حِينَئِذٍ يَنْظُرُ ( وَيُرْوَى أَنَّ الْقَوْلَ لَهُ ) أَيْ لِلْمَدْيُونِ ( إلَّا فِيمَا بَدَلُهُ مَالٌ ) كَالْقَرْضِ وَثَمَنِ الْمَبِيعِ بِخِلَافِ الْمَهْرِ وَالْكَفَالَةِ فَإِنَّ الْقَوْلَ فِيهِمَا قَوْلُ الْمُدَّعِي .
وَنَسَبَ الْخَصَّافُ هَذَا الْقَوْلَ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ : يَحْكُمُ الزِّيُّ إنْ كَانَ بِزِيِّ الْفُقَرَاءِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي الْفَقْرِ إلَّا أَنْ يُثْبِتَ الْمُدَّعِي قُدْرَتَهُ ، وَإِنْ كَانَ بِزِيِّ الْأَغْنِيَاءِ فَالْقَوْلُ لِلْمُدَّعِي إلَّا فِي الْفُقَهَاءِ وَالْعَلَوِيَّةِ وَالْعَبَّاسِيَّةِ لَا يَحْكُمُ الزِّيُّ لِأَنَّهُمْ يَتَكَلَّفُونَ فِي لِبَاسِهِمْ مَعَ فَقْرِهِمْ وَحَاجَتِهِمْ ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَوْ كَانَ عَلَى الْمَطْلُوبِ زِيُّ الْفُقَرَاءِ فَادَّعَى الْمُدَّعِي أَنَّهُ غَيْرُ زِيِّهِ وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ زِيُّ الْأَغْنِيَاءِ قَبْلَ أَنْ يَحْضُرَ مَجْلِسَ الْحُكْمِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَسْأَلُ الْمُدَّعِيَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ ، فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ زِيُّ الْأَغْنِيَاءِ جُعِلَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُدَّعِي ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْبَيَانِ حَكَمَ زِيُّهُ فِي الْحَالِ فَيُجْعَلُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَدْيُونِ ، وَكُلَّمَا تَعَارَضَتْ بَيِّنَةُ الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ الْيَسَارِ لِأَنَّ مَعَهَا زِيَادَةَ عِلْمٍ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ الْمُدَّعِي أَنَّهُ مُوسِرٌ وَهُوَ يَقُولُ أَعْسَرْت بَعْدَ ذَلِكَ وَأَقَامَ بَيِّنَةً بِذَلِكَ فَإِنَّهَا تَقَدُّمُ لِأَنَّ مَعَهَا عِلْمًا بِأَمْرٍ حَادِثٍ وَهُوَ حُدُوثُ ذَهَابِ الْمَالِ .
ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ مَسْأَلَتَيْنِ مَحْفُوظَتَيْنِ نَصًّا عَنْ أَصْحَابِنَا بِلَا خِلَافٍ : إحْدَاهُمَا أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا ادَّعَتْ أَنَّهُ مُوسِرٌ لِتَأْخُذَ نَفَقَةَ الْيَسَارِ وَقَالَ إنَّهُ مُعْسِرٌ لِيُعْطِيَ نَفَقَةَ الْإِعْسَارِ أَنَّ الْقَوْلَ لِلزَّوْجِ ، وَالثَّانِيَةُ

أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ إذَا أَعْتَقَ نَصِيبَهُ وَزَعَمَ أَنَّهُ مُعْسِرٌ فَلَا يَضْمَنُ لِلسَّاكِتِ شَيْئًا وَلَكِنْ يُسْتَسْعَى الْعَبْدُ وَقَالَ شَرِيكُهُ بَلْ مُوسِرٌ لِيَضْمَنَهُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُعْتِقِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ وَالْمَسْأَلَتَانِ تُؤَيِّدَانِ الْقَوْلَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ ) يَعْنِي قَوْلَ الْقَائِلِ الْقَوْلُ لِمَنْ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ ، وَقَوْلُ الْقَائِلِ الْقَوْلُ لِمَنْ عَلَيْهِ إلَّا فِيمَا بَدَلُهُ مَالٌ .
أَمَّا تَأْيِيدُهُمَا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ جَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَ الزَّوْجِ وَالْمُعْتِقِ ، فَلَوْ كَانَ الصَّحِيحُ الْمَذْكُورَ أَوْ لَا ، كَانَ الْقَوْلُ لِلْمَرْأَةِ وَالشَّرِيكِ السَّاكِتِ فِي دَعْوَى الْيَسَارِ ، وَأَمَّا تَأْيِيدُهُمَا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ بَدَلُ الْمَهْرِ وَبَدَلُ الْعِتْقِ مَالًا جُعِلَ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ عَلَيْهِ ، فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّ الصَّحِيحَ هُوَ الْقَوْلَانِ الْأَخِيرَانِ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ اسْتَرْوَحَ فِي الْأَوَّلِ فَقَالَ : أَمَّا تَأْيِيدُهُمَا لِقَوْلِ مَنْ قَالَ الْقَوْلُ لَهُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ فَظَاهِرٌ ، وَذَكَرَ فِي الثَّانِي مَا ذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّهُمَا يُبْطِلَانِ الْقَوْلَ الْمُفَصَّلَ فِي الْكِتَابِ بَيْنَ كَوْنِ الدَّيْنِ مُلْتَزَمًا بِمَالٍ أَوْ بِعَقْدٍ ، فَلَا يَكُونُ الْقَوْلُ لِلْمَطْلُوبِ وَكَوْنُهُ بِخِلَافِهِمَا فَالْقَوْلُ لِلْمَطْلُوبِ ، فَإِنَّ الْبَدَلَ فِيهِمَا مُلْتَزَمٌ بِعَقْدٍ أَوْ شِبْهِهِ ، وَهُوَ الْفِعْلُ الْحَسَنُ الْمَوْضُوعُ سَبَبًا : أَعْنِي الْعِتْقَ ، وَيُؤَيِّدَانِ الْقَوْلَ الْأَخِيرَ وَهُوَ أَنَّ الْقَوْلَ لِلْمَدْيُونِ إلَّا فِيمَا بَدَلُهُ مَالٌ فَإِنَّ الْبَدَلَ فِي الْمَسْأَلَةِ لَيْسَ مَالًا ، وَيَجْعَلُ الْقَوْلَ لِلْمَدْيُونِ تَأَيُّدُ الْقَوْلِ بِأَنَّ مَا بَدَلُهُ لَيْسَ بِمَالٍ يَكُونُ الْقَوْلُ فِيهِ لِلْمَطْلُوبِ وَإِنْ الْتَزَمَهُ بِعَقْدٍ ، ثُمَّ هَذِهِ الثَّانِيَةُ بِاعْتِبَارِ صِدْقِهَا مَعَ جُزْءِ كُلٍّ مِنْ الْقَوْلَيْنِ بِمُطَابَقَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا يُوهِمُ أَنَّهُ يُفِيدُ الشُّمُولَ وَإِلَّا فَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ كَوْنِهِ الْقَوْلَ لِلْمَطْلُوبِ فِيمَا

إذَا الْتَزَمَ بِعَقْدٍ وَالْبَدَلُ لَيْسَ بِمَالٍ كَوْنُ الْقَوْلِ لَهُ فِي جَمِيعِ الدُّيُونِ .
فَمَا فِي النِّهَايَةِ وَالدِّرَايَةِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ قَوْلِهِ بَعْدَ تَوْجِيهِ التَّأْيِيدِ فَكَانَ الصَّحِيحُ هُمَا الْقَوْلَانِ تَسَاهُلٌ ظَاهِرٌ .
وَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الصِّحَّةِ وَهُمَا مُتَبَايِنَانِ ، فَإِنَّ كَوْنَ الْقَوْلِ لِلْمَطْلُوبِ فِي الْكُلِّ إذَا كَانَ هُوَ الصَّحِيحَ لَا يَكُونُ الْمُفَصَّلُ بَيْنَ كَوْنِ بَدَلِ الدَّيْنِ مَالًا فَالْقَوْلُ لِلْمُدَّعِي ، أَوْ غَيْرَ مَالٍ فَالْقَوْلُ لِلْمَطْلُوبِ صَحِيحًا .
فَاَلَّذِي لَا شُبْهَةَ فِيهِ إنَّمَا يُبْطِلَانِ الْقَوْلَ الْمَذْكُورَ فِي الْكِتَابِ لَيْسَ غَيْرُ .
وَأَجَابَ الْمُصَنِّفُ عَنْ الْإِبْطَالِ الْمَذْكُورِ بِأَنَّ دَيْنَ النَّفَقَةِ وَضَمَانَ الْعِتْقِ لَيْسَ بِدَيْنٍ مُطْلَقٍ بَلْ هُوَ صِلَةٌ وَاجِبَةٌ وَلِذَا سَقَطَتْ النَّفَقَةُ بِالْمَوْتِ بِالِاتِّفَاقِ ، وَكَذَا ضَمَانُ الْإِعْتَاقِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ ( وَالتَّخْرِيجُ عَلَى مَا قَالَ فِي الْكِتَابِ إلَخْ ) فَلَمْ يُرِدْ نَقْضًا فَيَرْجِعَ قَوْلُ الْكِتَابِ الْمُفَصَّلِ عَلَى قُوَّتِهِ وَثُبُوتِهِ ( ثُمَّ فِيمَا ) إذَا ( كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُدَّعِي إنَّ لَهُ مَالًا أَوْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ يُحْبَسُ ) الْمَدْيُونُ ( شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً ثُمَّ يُسْأَلُ عَنْهُ فَالْحَبْسُ لِظُهُورِ الْمُمَاطَلَةِ ثُمَّ إنَّمَا يُحْبَسُ مُدَّةً لِيَظْهَرَ مَالُهُ ) فَيُؤَدِّيَ مَا عَلَيْهِ ( فَلَا بُدَّ أَنْ تَمْتَدَّ تِلْكَ الْمُدَّةُ لِيُفِيدَ هَذِهِ الْفَائِدَةَ فَقَدَّرَهُ بِمَا ذَكَرَهُ ) وَهُوَ شَهْرَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ ، وَهُوَ رِوَايَةُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي كِتَابِ الْحَوَالَةِ وَالْكَفَالَةِ ( وَيُرْوَى غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ التَّقْدِيرِ بِشَهْرٍ ) وَهُوَ اخْتِيَارُ الطَّحَاوِيِّ لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى الشَّهْرِ فِي حُكْمِ الْآجِلِ وَمَا دُونَ الشَّهْرِ فِي حُكْمِ الْعَاجِلِ فَصَارَ أَدْنَى الْأَجَلِ شَهْرًا وَالْأَقْصَى لَا غَايَةَ لَهُ فَيُقَدَّرُ بِشَهْرٍ .
وَرُوِيَ ( أَوْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ إلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ ) وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي

حَنِيفَةَ : أَيْ مَا بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ إلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ .
( قَوْلُهُ وَالصَّحِيحُ إلَخْ ) ذَكَرَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ نَحْوَهُ وَكَذَا الصَّدْرُ الشَّهِيدُ ، فَالتَّقْدِيرُ فِي هَذَا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بَلْ هُوَ مُفَوَّضٌ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي إذْ الْمَقْصُودُ بِالْحَبْسِ أَنْ يَضْجَرَ قَلْبُهُ فَيَقْضِيَهُ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ ، وَهَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ إنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْقَاضِي بَعْدَ مُدَّةٍ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ فَرَّجَ عَنْ نَفْسِهِ فَيَسْأَلُ عَنْهُ جِيرَانَهُ وَأَهْلَ الْخِبْرَةِ بِهِ ، فَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عِنْدَهُ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ أَبَّدَ حَبْسَهُ ، وَإِنْ قَالُوا إنَّهُ ضَيِّقُ الْحَالِ أَطْلَقَهُ ، وَلَوْ رَأَى أَنْ يَسْأَلَ قَبْلَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْحَبْسِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ .
وَأَمَّا السُّؤَالُ قَبْلَ الْحَبْسِ وَقَبُولُ بَيِّنَةِ الْإِعْسَارِ فَفِيهِ اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ عَنْ مُحَمَّدٍ : فِي رِوَايَةٍ تُقْبَلُ قَبْلَ الْحَبْسِ وَبِهِ أَفْتَى مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ حَمَّادِ بْنِ أَبِي حَنِيفَةَ وَنُصَيْرُ بْنُ يَحْيَى وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ ، وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ قَبْلَ الْحَبْسِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ .
قِيلَ وَهُوَ الْأَصَحُّ ، فَإِنَّ بَيِّنَةَ الْإِعْسَارِ بَيِّنَةٌ عَلَى النَّفْيِ فَلَا تُقْبَلُ حَتَّى تَتَأَيَّدَ بِمُؤَيِّدٍ وَبَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ تَأَيَّدَتْ ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ لَمْ يَتَحَمَّلْ ضِيقَ السِّجْنِ وَمَرَارَتِهِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ سُؤَالَ الْقَاضِي بَعْدَ الْمُدَّةِ لِلِاحْتِيَاطِ وَإِلَّا فَبَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ الَّتِي يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّ الْقَاضِي أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ دَفَعَهُ وَجَبَ إطْلَاقُهُ إنْ لَمْ يُقِمْ الْمُدَّعِي بَيِّنَةَ يَسَارِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى سُؤَالٍ ، وَإِلَيْهِ يُشِيرُ قَوْلُهُ فَإِنْ لَمْ يَنْكَشِفْ لَهُ مَالٌ خَلَّى سَبِيلَهُ ، وَلَوْ طَلَبَ الْمَدْيُونُ يَمِينَ الْمُدَّعِي أَنَّهُ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مُعْسِرٌ حَلَفَ ، فَإِنْ نَكَلَ أَطْلَقَهُ ، وَلَوْ قَبْلَ الْحَبْسِ ، وَإِنْ

حَلَفَ أَبَّدَ حَبْسَهُ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَعْنَاهُ مَا لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ عَلَى حُدُوثِ عُسْرَتِهِ .
قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ فِي كَيْفِيَّةِ شَهَادَةِ الْإِعْسَارِ أَنْ يَقُولَ : أَشْهَدُ أَنَّهُ مُفْلِسٌ لَا نَعْلَمُ لَهُ مَالًا سِوَى كِسْوَتِهِ الَّتِي عَلَيْهِ وَثِيَابِ لَيْلِهِ وَقَدْ اخْتَبَرْنَا أَمْرَهُ سِرًّا وَعَلَانِيَةً ، بِخِلَافِ مَا إذَا مَضَتْ الْمُدَّةُ فَسَأَلَ فَإِنَّهُ يَكْفِي الْوَاحِدُ الْعَدْلُ فِي إخْبَارِهِ بِالْعُسْرَةِ ، وَالِاثْنَانِ أَحْوَطُ .
وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا لَفْظَةُ الشَّهَادَةِ ذَكَرَهُ فِي بَابِ الْحَبْسِ مِنْ كَفَالَةِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ

وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : رَجُلٌ أَقَرَّ عِنْدَ الْقَاضِي بِدَيْنٍ فَإِنَّهُ يَحْبِسُهُ ثُمَّ يَسْأَلُ عَنْهُ ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا أَبَّدَ حَبْسَهُ ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا خَلَّى سَبِيلَهُ ، وَمُرَادُهُ إذَا أَقَرَّ عِنْدَ غَيْرِ الْقَاضِي أَوْ عِنْدَهُ مَرَّةً وَظَهَرَتْ مُمَاطَلَتُهُ وَالْحَبْسُ أَوَّلًا وَمُدَّتُهُ قَدْ بَيَّنَّاهُ فَلَا نُعِيدُهُ .
( قَوْلُهُ وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : رَجُلٌ أَقَرَّ بِدَيْنٍ عِنْدَ الْقَاضِي فَإِنَّهُ يَحْبِسُهُ ثُمَّ يَسْأَلُ عَنْ حَالِهِ ) إنَّمَا ذَكَرَهُ لِمَا فِي ظَاهِرُهُ مِنْ الْمُخَالَفَةِ لِمَا قَدَّمَهُ مِنْ قَوْلِهِ إذَا ثَبَتَ الدَّيْنُ بِالْإِقْرَارِ لَا يَحْبِسُهُ فِي أَوَّلِ الْوَهْلَةِ ، فَإِنَّ هَذَا ظَاهِرٌ فِي وَصْلِ الْحَبْسِ بِإِقْرَارِهِ فَذَكَرَهُ لِيُؤَوِّلَهُ بِقَوْلِهِ ( وَمُرَادُهُ إذَا أَقَرَّ عِنْدَ غَيْرِ الْقَاضِي أَوْ عِنْدَهُ مَرَّةً وَظَهَرَتْ مُمَاطَلَتُهُ فَتَرَافَعَا ) إلَى الْقَاضِي فَإِنَّهُ يَحْبِسُهُ بِمُجَرَّدِ جَوَابِهِ أَنَّهُ لَمْ يُعْطِهِ إلَى الْآنَ شَيْئًا

قَالَ ( وَيُحْبَسُ الرَّجُلُ فِي نَفَقَةِ زَوْجَتِهِ ) لِأَنَّهُ ظَالِمٌ بِالِامْتِنَاعِ ( وَلَا يُحْبَسُ وَالِدٌ فِي دَيْنِ وَلَدِهِ ) لِأَنَّهُ نَوْعُ عُقُوبَةٍ فَلَا يَسْتَحِقُّهُ الْوَلَدُ عَلَى الْوَالِدِ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ ( إلَّا إذَا امْتَنَعَ مِنْ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ ) لِأَنَّ فِيهِ إحْيَاءً لِوَلَدِهِ ، وَلِأَنَّهُ لَا يُتَدَارَكُ لِسُقُوطِهَا بِمُضِيِّ الزَّمَانِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( قَوْلُهُ وَيُحْبَسُ الرَّجُلُ فِي نَفَقَةِ زَوْجَتِهِ لِأَنَّهُ ظَالِمٌ بِالِامْتِنَاعِ ) وَيَتَحَقَّقُ ذَلِكَ بِأَنْ تُقَدِّمَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ يَوْمِ فَرْضِ النَّفَقَةِ وَإِنْ كَانَ مِقْدَارُ النَّفَقَةِ قَلِيلًا كَالدَّانَقِ إذَا رَأَى الْقَاضِي ذَلِكَ ، فَأَمَّا بِمُجَرَّدِ فَرْضِهَا لَوْ طَلَبَتْ حَبْسَهُ لَمْ يَحْبِسْهُ لِأَنَّ الْعُقُوبَةَ تُسْتَحَقُّ بِالظُّلْمِ ، وَالظُّلْمُ بِالْمَنْعِ بَعْدَ الْوُجُوبِ وَلَمْ يَتَحَقَّقْ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ إذَا لَمْ يَفْرِضْ لَهَا وَلَمْ يُنْفِقْ الزَّوْجُ عَلَيْهَا فِي يَوْمٍ يَنْبَغِي إذَا قَدَّمَتْهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي أَنْ يَأْمُرَهُ بِالْإِنْفَاقِ فَإِنْ رَجَعَ فَلَمْ يُنْفِقْ أَوْجَعَهُ عُقُوبَةً ، وَإِنْ كَانَتْ النَّفَقَةُ سَقَطَتْ بَعْدَ الْوُجُوبِ فَهُوَ ظَالِمٌ لَهَا وَهُوَ قِيَاسُ مَا أَسْلَفْنَاهُ فِي بَابِ الْقَسْمِ مِنْ قَوْلِهِمْ إذَا لَمْ يَقْسِمْ لَهَا فَرَفَعَتْهُ إلَى الْقَاضِي يَأْمُرُهُ بِالْقَسْمِ وَعَدَمِ الْجَوْرِ ، فَإِنْ ذَهَبَ وَلَمْ يَقْسِمْ فَرَفَعَتْهُ أَوْجَعَهُ عُقُوبَةً ، وَإِنْ كَانَ مَا ذَهَبَ لَهَا مِنْ الْحَقِّ لَا يَقْضِي وَيَحْصُلُ بِذَلِكَ ضَرَرٌ كَبِيرٌ .
( قَوْلُهُ وَلَا يُحْبَسُ وَالِدٌ فِي دَيْنِ وَلَدِهِ فَإِنَّهُ عُقُوبَةٌ ) وَلَا يَسْتَحِقُّ الْوَالِدُ عُقُوبَةً لِأَجْلِ الْوَلَدِ لِأَنَّ التَّأْفِيفَ لَمَّا حَرُمَ كَانَ الْحَبْسُ حَرَامًا لِأَنَّهُ فَوْقَهُ ، وَكَذَا لَا يُحَدُّ لَهُ إذَا قَذَفَهُ وَلَا يُقْتَصُّ مِنْهُ إذَا قَتَلَهُ ، أَمَّا إذَا امْتَنَعَ مِنْ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُحْبَسُ ، وَكَذَا كُلُّ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ فَأَبَى عَنْ الْإِنْفَاقِ أَبًا كَانَ أَوْ أُمًّا أَوْ جَدًّا ، لِأَنَّ فِي تَرْكِ الْإِنْفَاقِ سَعْيًا فِي هَلَاكِهِمْ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُحْبَسَ الْوَالِدُ لِقَصْدِهِ إلَى إهْلَاكِ الْوَلَدِ ( وَلِأَنَّهُ لَا يُتَدَارَكُ لِسُقُوطِهَا ) أَيْ لِسُقُوطِ النَّفَقَةِ ( بِمُضِيِّ الزَّمَانِ ) بِخِلَافِ الدَّيْنِ فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ .
وَفِي الذَّخِيرَةِ وَالْعَبْدُ لَا يُحْبَسُ لِمَوْلَاهُ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَيْهِ دَيْنًا ، وَلَا الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ الْمَأْذُونِ غَيْرِ

الْمَدْيُونِ لِأَنَّ كَسْبَهُ لِمَوْلَاهُ فَكَيْفَ يُحْبَسُ لَهُ ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ حُبِسَ لِأَنَّهُ لِلْغُرَمَاءِ فِي التَّحْقِيقِ ، وَيُحْبَسُ مَوْلَى الْمُكَاتَبِ لِلْمُكَاتَبِ إذَا لَمْ يَكُنْ دَيْنُهُ مِنْ جِنْسٍ بَدَلِ الْكِتَابَةِ لِأَنَّ فِي الْجِنْسِ لَهُ حَقُّ أَخْذِهِ .
فَإِذَا أَخَذَ يَلْتَقِيَانِ قِصَاصًا وَفِي غَيْرِ جِنْسِهِ لَا تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ .
وَالْمُكَاتَبُ فِي أَكْسَابِهِ كَالْحُرِّ فَلَهُ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ فَيُحْبَسُ لِمَطْلِهِ ، أَمَّا الْمُكَاتَبُ فَلَا يُحْبَسُ بِدَيْنِ الْكِتَابَةِ لِمَوْلَاهُ لِأَنَّهُ بِالِامْتِنَاعِ لَا يَصِيرُ ظَالِمًا ، وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ غَيْرُ بَدَلِ الْكِتَابَةِ يُحْبَسُ فِيهِ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ فَسْخِ ذَلِكَ الدَّيْنِ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ .
وَعَنْ بَعْضِ مَشَايِخِنَا هُمَا سَوَاءٌ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ إسْقَاطِهِ بِتَعْجِيزِ نَفْسِهِ فَيَسْقُطُ الدَّيْنُ عَنْهُ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى عَبْدِهِ دَيْنًا ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ بَدَلَ الْكِتَابَةِ صِلَةٌ مِنْ وَجْهٍ بِخِلَافِ سَائِرِ الدُّيُونِ .

( بَابُ كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي ) .
قَالَ ( وَيُقْبَلُ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي فِي الْحُقُوقِ إذَا شَهِدَ بِهِ عِنْدَهُ ) لِلْحَاجَةِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ ( فَإِنْ شَهِدُوا عَلَى خَصْمٍ حَاضِرٍ حَكَمَ بِالشَّهَادَةِ ) لِوُجُودِ الْحُجَّةِ ( وَكَتَبَ بِحُكْمِهِ ) وَهُوَ الْمَدْعُوُّ سِجِلًّا ( وَإِنْ شَهِدُوا بِهِ بِغَيْرِ حَضْرَةِ الْخَصْمِ لَمْ يَحْكُمْ ) لِأَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ لَا يَجُوزُ ( وَكَتَبَ بِالشَّهَادَةِ ) لِيَحْكُمَ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ بِهَا وَهَذَا هُوَ الْكِتَابُ الْحُكْمِيُّ ، وَهُوَ نَقْلُ الشَّهَادَةِ فِي الْحَقِيقَةِ ، وَيَخْتَصُّ بِشَرَائِطَ نَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَجَوَازُهُ لِمِسَاسِ الْحَاجَةِ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ قَدْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الْجَمْعُ بَيْنَ شُهُودِهِ وَخَصْمِهِ فَأَشْبَهَ الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ .
وَقَوْلُهُ فِي الْحُقُوقِ يَنْدَرِجُ تَحْتَهُ الدَّيْنُ وَالنِّكَاحُ وَالنَّسَبُ وَالْمَغْصُوبُ وَالْأَمَانَةُ الْمَجْحُودَةُ وَالْمُضَارَبَةُ الْمَجْحُودَةُ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ ، وَهُوَ يُعْرَفُ بِالْوَصْفِ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْإِشَارَةِ ، وَيُقْبَلُ فِي الْعَقَارِ أَيْضًا لِأَنَّ التَّعْرِيفَ فِيهِ بِالتَّحْدِيدِ .

( بَابُ كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي ) هَذَا أَيْضًا مِنْ أَحْكَامِ الْقَضَاءِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْوُجُودِ إلَّا بِقَاضِيَيْنِ فَهُوَ كَالْمُرَكَّبِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحَبْسِ ، وَالْعَمَلُ بِكِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لِأَنَّهُ لَا يَزِيدُ عَلَى إخْبَارِهِ بِنَفْسِهِ ، وَالْقَاضِي لَوْ أَخْبَرَ قَاضِيَ الْبَلَدِ الْأُخْرَى بِأَنَّهُ ثَبَتَ عِنْدَهُ بِبَيِّنَةٍ قَبِلَهَا حَقُّ فُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ الْكَائِنِ فِي بَلَدِ الْقَاضِي الْآخَرِ لَمْ يَجُزْ الْعَمَلُ بِهِ لِأَنَّ إخْبَارَ الْقَاضِي لَا يُثْبِتُ حُجَّةً فِي غَيْرِ مَحَلِّ وِلَايَتِهِ فَكِتَابُهُ أَوْلَى أَنْ لَا يُعْمَلَ بِهِ ، لَكِنَّهُ جَازَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَى ذَلِكَ ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ شُهُودِهِ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِأَنْ كَانَ فِي بَلَدَيْنِ فَجُوِّزَ إعَانَةً عَلَى إيصَالِ الْحُقُوقِ لِمُسْتَحِقِّيهَا وَمَا وَجْهُ الْقِيَاسِ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ شُبْهَةِ التَّزْوِيرِ فَإِنَّ الْخَطَّ وَالْخَتْمَ يُشْبِهُ الْخَطَّ وَالْخَتْمَ فَلَيْسَ بِذَاكَ لِأَنَّ هَذِهِ الشُّبْهَةَ مُنْتَفِيَةٌ بِاشْتِرَاطِ شَهَادَةِ الشُّهُودِ عَلَى نَسْبِهِ مَا فِيهِ إلَى الْقَاضِي الْمُرْسَلِ وَأَنَّهُ خَتَمَهُ .
وَقِيلَ أَصْلُهُ مَا رَوَى الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَتَبَ : أَنْ وَرِّثْ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضَّبَابِيِّ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَيْهِ .
لَا يُقَالُ : لَا نُسَلِّمُ مِسَاسَ الْحَاجَةِ إلَى كِتَابِ الْقَاضِي لِأَنَّ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى الْكِتَابِ يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَا عَلَى شَهَادَةِ الْأُصُولِ وَيُؤَدُّونَ عِنْدَ الْقَاضِي الثَّانِي فَلَمْ يُحْتَجْ إلَيْهِ لِأَنَّا نَقُولُ : فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ يَحْتَاجُ الْقَاضِي الثَّانِي إلَى تَعْدِيلِ الْأُصُولِ وَقَدْ يَتَعَذَّرُ ذَلِكَ فِي بَلَدِهِ ، وَبِالْكِتَابِ يَسْتَغْنِي عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَكْتُبُ بِعَدَالَةِ الَّذِينَ شَهِدُوا عِنْدَهُ .
( قَوْلُهُ وَيُقْبَلُ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى

الْقَاضِي فِي الْحُقُوقِ ) أَيْ الَّتِي تَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ ، بِخِلَافِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ ( إذَا شَهِدَ بِهِ ) أَيْ بِالْكِتَابِ ( عِنْدَ الْقَاضِي ) الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ مِنْ أَنَّ الْمَشْهُورَ فِيهِ مَا هُوَ عَنْ قَرِيبٍ .
ثُمَّ فَصَّلَ فَقَالَ ( فَإِنْ شَهِدُوا عَلَى خَصْمٍ حَاضِرٍ حَكَمَ بِالشَّهَادَةِ ) يُرِيدُ بِالْخَصْمِ الْحَاضِرِ مَنْ كَانَ وَكِيلًا مِنْ جِهَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوْ مُسَخَّرًا وَهُوَ مَنْ يُنَصِّبُهُ الْقَاضِي وَكِيلًا عَنْ الْغَائِبِ لِيَسْمَعَ الدَّعْوَى عَلَيْهِ ، وَإِلَّا لَوْ أَرَادَ بِالْخَصْمِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَمْ يَبْقَ حَاجَةٌ إلَى الْكِتَابِ إلَى الْقَاضِي الْآخَرِ ، لِأَنَّ الْخَصْمَ حَاضِرٌ عِنْدَ هَذَا الْقَاضِي وَقَدْ حَكَمَ عَلَيْهِ ( وَ ) إذَا حَكَمَ ( كَتَبَ بِحُكْمِهِ ) إلَى قَاضِي الْبَلَدِ الَّتِي فِيهَا الْمُوَكِّلُ لِيَقْتَضِيَ مِنْهُ الْحَقَّ ( وَ ) هَذَا الْكِتَابُ الْمُتَضَمِّنُ لِلْحُكْمِ ( هُوَ الْمَدْعُوُّ سِجِلًّا ) فِي عُرْفِهِمْ ( وَإِذَا شَهِدُوا بِلَا خَصْمٍ حَاضِرٍ لَمْ يَحْكُمْ ) لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ قَضَاءٌ عَلَى غَائِبٍ ( وَ ) إنَّمَا ( يَكْتُبُ بِالشَّهَادَةِ إلَى الْقَاضِي الْآخَرِ لِيَحْكُمَ ) هُوَ ( بِهَا وَهَذَا هُوَ الْكِتَابُ الْحُكْمِيُّ ) فِي عُرْفِهِمْ نَسَبُوهُ إلَى الْحُكْمِ بِاعْتِبَارِ مَا يَئُولُ ( وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ نَقْلُ الشَّهَادَةِ ) إلَى ذَلِكَ الْقَاضِي ، وَسَنَذْكُرُ شُرُوطَ الْحُكْمِ مِنْ الْقَاضِي الثَّانِي بِهِ .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْكِتَابَيْنِ أَنَّ السِّجِلَّ يَلْزَمُ الْعَمَلُ بِهِ وَإِنْ كَانَ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ لَا يَرَى ذَلِكَ الْحُكْمَ لِصُدُورِ الْحُكْمِ فِي مَحَلٍّ مُجْتَهَدٍ فِيهِ ، وَالْكِتَابُ الْحُكْمِيُّ لَا يَلْزَمُ إذَا كَانَ يُخَالِفُهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ حُكْمٌ فِي مَحَلِّ اجْتِهَادٍ فَلَهُ أَنْ لَا يَقْبَلَهُ وَلَا يَعْمَلَ بِهِ ( وَيَنْدَرِجُ فِي الْحُقُوقِ الدَّيْنُ وَالنِّكَاحُ وَالنَّسَبُ وَالْمَغْصُوبُ وَالْأَمَانَةُ الْمَجْحُودَةُ وَالْمُضَارَبَةُ الْمَجْحُودَةُ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ ، وَهُوَ يُعْرَفُ بِالْوَصْفِ غَيْرَ مُحْتَاجٍ إلَى الْإِشَارَةِ ) وَاسْتَشْكَلَ بِأَنَّ فِي

دَعْوَى النِّكَاحِ لَا بُدَّ مِنْ الْإِشَارَةِ إلَى الرَّجُلِ وَإِلَى الْمَرْأَةِ ، وَكَذَا فِي الْأَمَانَةِ وَالْمَغْصُوبِ فَكَانَتْ هَذِهِ بِمَنْزِلَةِ الْأَعْيَانِ الْمُدَّعَى بِهَا .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُدَّعَى بِهِ نَفْسُ النِّكَاحِ وَالْغَصْبِ وَنَحْوِهِ ، وَذَلِكَ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْإِشَارَةِ لِأَنَّهَا مِنْ الْأَفْعَالِ ، وَإِنْ كَانَ يَلْزَمُ فِي ضِمْنِهِ الْإِشَارَةُ إلَى الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ إذْ كُلٌّ خَصْمٌ ، وَالْإِشَارَةُ إلَى الْخَصْمِ شَرْطٌ .
وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ إذَا لَزِمَتْهُ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ ضِمْنًا أَوْ قَصْدًا تَتَعَذَّرُ عَلَى شُهُودِ الْقَاضِي الْكَاتِبِ .
فَالْحَقُّ أَنَّ الْإِشَارَةَ لَا تَلْزَمُ مِنْ الْأُصُولِ إلَى الْخَصْمِ الْغَائِبِ ، بَلْ يَشْهَدُونَ عَلَى مُسَمَّى الِاسْمِ الْخَاصِّ وَالنَّسَبِ وَالشُّهْرَةِ ، فَإِذَا وَصَلَ الْكِتَابُ هُنَاكَ يَقَعُ التَّعْيِينُ كَمَا سَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَيَكْتُبُ فِيهَا كَمَا يَكْتُبُ فِي الدَّيْنِ وَالْعَبْدِ ( وَيُقْبَلُ فِي الْعَقَارِ أَيْضًا ) إذَا بَيَّنَ حُدُودَهَا الْأَرْبَعَ ( لِأَنَّ التَّعْرِيفَ يَحْصُلُ بِهِ )

وَلَا يُقْبَلُ فِي الْأَعْيَانِ الْمَنْقُولَةِ لِلْحَاجَةِ إلَى الْإِشَارَةِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُقْبَلُ فِي الْعَبْدِ دُونَ الْأَمَةِ لِغَلَبَةِ الْإِبَاقِ فِيهِ دُونَهَا .
وَعَنْهُ أَنَّهُ يُقْبَلُ فِيهِمَا بِشَرَائِطَ تُعْرَفُ فِي مَوْضِعِهَا .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُقْبَلُ فِي جَمِيعِ مَا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ وَعَلَيْهِ الْمُتَأَخِّرُونَ .
.

وَلَا يُقْبَلُ فِي الْأَعْيَانِ الْمَنْقُولَةِ ) كَالْحِمَارِ وَالثَّوْبِ وَالْعَبْدِ ( لِلْحَاجَةِ إلَى الْإِشَارَةِ ) فِيهَا ( وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قُبِلَ فِي الْعَبْدِ دُونَ الْأَمَةِ لِغَلَبَةِ الْإِبَاقِ فِي الْعَبْدِ ) لِأَنَّهُ يَخْدُمُ خَارِجَ الْبَيْتِ فَإِبَاقُهُ مُتَيَسِّرٌ فَلِمِسَاسِ الْحَاجَةِ فِيهِ جَوَّزَهُ ، بِخِلَافِ الْأَمَةِ لِأَنَّهَا دَاخِلُ الْبَيْتِ فَلَا يَتَيَسَّرُ لَهَا تَيَسُّرُهُ لَهُ ( وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُقْبَلُ فِي جَمِيعِ مَا يُنْقَلُ ) مِنْ الدَّوَابِّ وَالثِّيَابِ وَالْإِمَاءِ ( وَعَلَيْهِ الْمُتَأَخِّرُونَ ) وَنَصَّ الْإِسْبِيجَابِيُّ عَلَى أَنَّ الْفَتْوَى عَلَيْهِ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ ، فَإِنَّ الْمَانِعَ مِنْهُ مَا كَانَ إلَّا الْحَاجَةَ إلَى الْإِشَارَةِ فِي الْأَعْيَانِ وَهِيَ غَائِبَةٌ فِي بَلَدِ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ فِي الدَّيْنِ أَيْضًا لَا بُدَّ مِنْ الْإِشَارَةِ إلَى الْمَدْيُونِ لِيُقْضَى عَلَيْهِ وَمَعَ ذَلِكَ اكْتَفَى بِاسْمِهِ وَشُهْرَتِهِ فِي الْإِثْبَاتِ عَلَيْهِ ، وَقَبُولُ الْقَاضِي الْكَاتِبِ الشَّهَادَةَ عَلَيْهِ ، وَمَا ذَاكَ إلَّا لِأَنَّ عِنْدَ الْقَضَاءِ مِنْ الثَّانِي يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْإِشَارَةِ وَالتَّعْيِينِ ، وَيَتَبَيَّنُ ذَلِكَ بِإِيرَادِ الصُّوَرِ ، فَصُورَةُ الدَّيْنِ إذَا شَهِدُوا عَلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ الْفُلَانِيِّ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا ذَكَرَهُ الْحَسَنُ فِي الْمُجَرَّدِ مِنْ فُلَانٍ قَاضِي كُورَةِ كَذَا إلَى فُلَانٍ قَاضِي كُورَةِ كَذَا سَلَامٌ عَلَيْك فَإِنِّي أَحْمَدُ إلَيْك اللَّهَ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ .
أَمَّا بَعْدُ : فَإِنَّ رَجُلًا أَتَانِي يُقَالُ لَهُ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ وَذَكَرَ أَنَّ لَهُ حَقًّا عَلَى رَجُلٍ فِي كُورَةِ كَذَا وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْمُجَرَّدِ يُقَالُ لَهُ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ الْفُلَانِيُّ عَلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ الْفُلَانِيِّ وَلَا بُدَّ مِنْهُ كَمَا سَنَذْكُرُ ، وَسَأَلَنِي أَنْ أَسْمَعَ بَيِّنَتَهُ وَأَكْتُبَ إلَيْك بِمَا يَسْتَقِرُّ عِنْدِي مِنْ ذَلِكَ ، فَسَأَلَتْهُ الْبَيِّنَةَ فَأَتَانِي بِعِدَّةٍ مِنْهُمْ فُلَانٌ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ وَيُحَلِّيهِمْ

وَيَنْسُبُهُمْ فَشَهِدُوا عِنْدِي أَنَّ لِفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ الْفُلَانِيِّ عَلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ الْفُلَانِيِّ كَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا دَيْنًا حَالًّا ، وَسَأَلَنِي أَنْ أُحَلِّفَهُ بِاَللَّهِ مَا قَبَضَ مِنْهَا شَيْئًا وَلَا قَبَضَهُ لَهُ قَابِضٌ بِوَكَالَةٍ وَلَا احْتَالَ بِشَيْءٍ مِنْهَا وَحَلَّفْته فَحَلَفَ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ مَا قَبَضَ مِنْ هَذَا الْمَالِ الَّذِي قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ عِنْدِي وَلَا قَبَضَهُ لَهُ وَكِيلٌ وَلَا أَحَالَهُ وَلَا قَبَضَهُ لَهُ قَابِضٌ وَأَنَّهَا لَهُ عَلَيْهِ فَسَأَلَنِي أَنْ أَكْتُبَ لَهُ كِتَابًا إلَيْك بِمَا اسْتَقَرَّ عِنْدِي مِنْ ذَلِكَ فَكَتَبْت إلَيْك هَذَا الْكِتَابَ وَأَشْهَدْت عَلَيْهِ شُهُودًا أَنَّهُ كِتَابِي وَخَاتَمِي وَقَرَأَتْهُ عَلَى الشُّهُودِ .
قَالَ ثُمَّ يُطْوَى الْكِتَابُ وَيُخْتَمُ عَلَيْهِ ، فَإِنْ خَتَمَ عَلَيْهِ شُهُودُهُ فَهُوَ أَوْثَقُ ثُمَّ يَكْتُبُ عَلَيْهِ عِنْوَانَ الْكِتَابِ مِنْ فُلَانٍ قَاضِي كُورَةِ كَذَا إلَى فُلَانٍ قَاضِي كُورَةِ كَذَا ثُمَّ يَدْفَعُهُ إلَى الْمُدَّعِي ، فَإِذَا أَتَى بِهِ الْمُدَّعِي إلَى الْقَاضِي الَّذِي بِالْكُورَةِ فَذَكَرَ أَنَّ هَذَا كِتَابُ الْقَاضِي إلَيْهِ سَأَلَهُ الْبَيِّنَةَ عَلَى كِتَابِ الْقَاضِي ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْمَعَ بَيِّنَةَ الْمُدَّعِي حَتَّى يَحْضُرَ الْخَصْمُ ، فَإِذَا أَحْضَرَهُ وَأَقَرَّ أَنَّهُ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ الْفُلَانِيُّ قَبِلَ بَيِّنَتَهُ وَسَمِعَ بِهِ ، فَإِنْ أَنْكَرَ قَالَ لَهُ جِئْنِي بِالْبَيِّنَةِ أَنَّ هَذَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ الْفُلَانِيُّ ، فَإِنْ جَاءَ بِهَا وَعُدِّلُوا سَمِعَ بَيِّنَةَ الْمُدَّعِي حِينَئِذٍ عَلَى أَنَّ هَذَا كِتَابُ الْقَاضِي الَّذِي ذُكِرَ ، فَيَقُولُ لَهُمْ : أَقَرَأَ عَلَيْكُمْ مَا فِيهِ ؟ ، فَإِذَا قَالُوا قَرَأَهُ عَلَيْنَا وَأَشْهَدْنَا أَنَّ هَذَا كِتَابُهُ وَخَتْمُهُ فَإِذَا سَمِعَ مِنْهُمْ لَا يَفُكُّ الْخَاتَمَ حَتَّى يَسْأَلَ عَنْهُمْ ، فَإِذَا عُدِّلُوا لَا يَفُكُّهُ أَيْضًا حَتَّى يَحْضُرَ الْخَصْمُ ، فَإِذَا حَضَرَ فَكَّهُ وَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ وَعَلَيْهِ ، فَإِنْ أَقَرَّ أَلْزَمَهُ إيَّاهُ ، وَإِنْ أَنْكَرَ قَالَ أَلَك حُجَّةٌ وَإِلَّا قَضَيْت عَلَيْك ،

فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حُجَّةٌ قَضَى عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ حُجَّةٌ قَبِلَهَا ، وَإِنْ قَالَ لَسْت أَنَا فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ الَّذِي شَهِدُوا عَلَيْهِ بِهَذَا الْمَالِ لِزَيْدٍ بَلْ هُوَ آخَرُ ، قَالَ لَهُ هَاتِ بَيِّنَةً أَنَّ فِي هَذِهِ الصِّنَاعَةِ أَوْ الْقَبِيلَةِ رَجُلًا يَنْتَسِبُ بِمِثْلِ مَا تَنْتَسِبُ إلَيْهِ وَإِلَّا أَلْزَمْتُك مَا شَهِدَ بِهِ الشُّهُودُ ، فَإِنْ جَاءَ بِبَيِّنَةٍ عَلَى أَنَّ فِي تِلْكَ الْقَبِيلَةِ أَوْ الصِّنَاعَةِ مَنْ يَنْتَسِبُ بِمِثْلِ مَا نُسِبَ إلَيْهِ أَبْطَلَ الْكِتَابَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي تِلْكَ الْقَبِيلَةِ أَوْ الصِّنَاعَةِ أَحَدٌ عَلَى اسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ قَضَى عَلَيْهِ انْتَهَى .
فَقَدْ عَلِمْت أَنَّ التَّعْيِينَ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْإِشَارَةِ يَحْصُلُ بِآخِرِهِ الْأَمْرُ قَبْلَ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ ، وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ مَوَاضِعُ وَإِنْ كَانَتْ ظَاهِرَةً نُنَبِّهُ عَلَيْهَا : مِنْهَا قَوْلُهُ فِي شُهُودِ الْكِتَابِ مِنْهُمْ فُلَانٌ وَفُلَانٌ وَيُحَلِّيهِمْ وَيَنْسُبُهُمْ لَمْ يَذْكُرُ كَتْبَ عَدَالَتِهِمْ وَلَا بُدَّ مِنْهَا ، وَقَالُوا لَوْ كَتَبَ وَأَقَامَ شُهُودًا عُدُولًا عَرَفْتهمْ بِالْعَدَالَةِ أَوْ سَأَلْت عَنْهُمْ فَعَدَلُوا كَفَى عَنْ تَسْمِيَتِهِمْ وَنَسَبِهِمْ ، وَعِنْدِي لَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ أَحْرَارٌ عُدُولٌ إذَا لَمْ يُسَمِّهِمْ .
وَاَلَّذِي يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ مُحَمَّدٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَسْمِيَتِهِمْ وَنِسْبَةِ كُلٍّ مِنْهُمْ وَمُصَلَّاهُ وَحِرْفَتِهِ إنْ تَاجِرًا فَتَاجِرٌ أَوْ مُزَارِعًا فَمُزَارِعٌ ، وَالْمَقْصُودُ تَتْمِيمُ تَعْرِيفِ الشُّهُودِ ، ثُمَّ يَذْكُرُ أَنَّهُ عَرَفَهُمْ بِالْعَدَالَةِ أَوْ عَدَلُوا لِأَنَّ الْخَصْمَ إذَا أَحْضَرَهُ الثَّانِي قَدْ يَكُونُ لَهُ مَطْعَنٌ فِيهِمْ أَوْ فِي أَحَدِهِمْ فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِهِمْ لَهُ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الطَّعْنِ إنْ كَانَ ، وَإِلَّا فَيَقُولُ سَمُّوهُمْ لِي فَإِنِّي قَدْ يَكُونُ لِي فِيهِمْ مَطْعَنٌ .
وَمِنْهَا قَوْلُهُ إلَى فُلَانٍ قَاضِي كُورَةِ كَذَا إنَّمَا يَصِحُّ إذَا كَانَ الْقَاضِي وَاحِدًا فَإِنْ كَانَ لَهَا قَاضِيَانِ لَا يَصِحُّ .
وَمِنْهَا قَوْلُهُ فِي الْمُدَّعِي يُقَالُ لَهُ

فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ يَتِمُّ التَّعْرِيفُ فِي قَوْلِهِمَا وَعِنْدَهُ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْجَدِّ ، وَكَذَا الْخِلَافُ لَوْ ذَكَرَ قَبِيلَتَهُ أَوْ صِنَاعَتَهُ وَإِنْ ذَكَرَ اسْمَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ اسْمَ الْأَبِ لَكِنْ نَسَبَهُ إلَى قَبِيلَتِهِ أَوْ فَخِذِهِ فَقَالَ فُلَانٌ التَّمِيمِيُّ أَوْ الْكُوفِيُّ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ تَعْرِيفًا بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ كَانَ مَشْهُورًا لَا يَحْتَاجُ إلَى هَذَا .
وَقِيلَ وَلَا بُدَّ أَنْ يَذْكُرَ ادَّعَى الْمُدَّعِي أَنَّهُ غَائِبٌ مِنْ هَذَا الْبَلَدِ مَسِيرَةَ سَفَرٍ لِأَنَّ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ اخْتِلَافًا فِي الْمَسَافَةِ الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي ، فَجَمَاعَةٌ مِنْ مَشَايِخِنَا قَالُوا : لَا يَجُوزُ فِيمَا دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي وَجْهٍ .
وَحَكَى الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ فِيمَا دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ : هَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ .
وَمِنْهَا خَتْمُ الشُّهُودِ لَيْسَ بِلَازِمٍ بَلْ هُوَ أَوْثَقُ كَمَا قَالَ .
وَمِنْهَا قَوْلُهُ وَعُدِّلُوا ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ لَا يَفُكُّ الْخَتْمَ حَتَّى يُعَدَّلَ شُهُودُ الْكِتَابِ وَفِيهِ خِلَافٌ سَيُذْكَرُ ، وَإِنْ كَانَتْ دَارًا قَالَ وَادَّعَى أَنَّ لَهُ دَارًا فِي بَلَدِ كَذَا فِي مَحَلَّةِ كَذَا وَذَكَرَ حُدُودَهَا فِي يَدِ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ يَعْرِفُهُ عَلَى وَجْهِ التَّمَامِ .
وَلَوْ ذَكَرُوا ثَلَاثَةَ حُدُودٍ كَفَى اسْتِحْسَانًا خِلَافًا لِزُفَرَ ، وَلَوْ غَلِطُوا فِي بَعْضِ الْحُدُودِ بَطَلَ الْكِتَابُ .
وَصُورَةُ كِتَابِ الْعَبْدِ الْآبِقِ مِنْ مِصْرٍ بَعْدَ الْعُنْوَانِ وَالسَّلَامِ أَنْ يَكْتُبَ شَهِدَ عِنْدِي فُلَانٌ وَفُلَانٌ بِأَنَّ الْعَبْدَ الْهِنْدِيَّ الَّذِي يُقَالُ لَهُ فُلَانٌ حِلْيَتُهُ كَذَا وَقَامَتُهُ كَذَا وَسِنُّهُ كَذَا وَقِيمَتُهُ كَذَا مِلْكُ فُلَانٍ الْمُدَّعِي ، وَقَدْ أَبَقَ إلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّة وَهُوَ الْيَوْمَ فِي يَدِ فُلَانٍ

بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَشْهَدُ عَلَى كِتَابِهِ شَاهِدَيْنِ مُسَافِرَيْنِ إلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّة عَلَى مَا فِيهِ وَعَلَى خَتْمِهِ كَمَا سَيُذْكَرُ ، فَإِذَا وَصَلَ وَفَعَلَ الْقَاضِي مَا تَقَدَّمَ وَفَتَحَ الْكِتَابَ دَفَعَ الْعَبْدَ إلَى الْمُدَّعِي مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقْضَى لَهُ بِهِ لِأَنَّ الشُّهُودَ الَّذِينَ شَهِدُوا بِمِلْكِ الْعَبْدِ لِلْمُدَّعِي لَمْ يَشْهَدُوا بِحَضْرَةِ الْعَبْدِ وَيَأْخُذُ كَفِيلًا بِنَفْسِ الْعَبْدِ مِنْ الْمُدَّعِي وَيَجْعَلُ خَاتَمًا مِنْ الْقَاضِي فِي كَتِفِ الْعَبْدِ وَلَا حَاجَةَ إلَى هَذَا إلَّا لِدَفْعِ مَنْ يَتَعَرَّضُ لَهُ وَيَتَّهِمُهُ بِسَرِقَتِهِ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَا حَاجَةَ وَيَكْتُبُ كِتَابًا إلَى قَاضِي مِصْرٍ وَيَشْهَدَانِ عَلَى كِتَابِهِ عَلَى مَا عُرِفَ ، فَإِذَا وَصَلَ الْكِتَابُ إلَيْهِ فَعَلَ مَا يَفْعَلُ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ ، ثُمَّ يَأْمُرُ الْمُدَّعِي أَنْ يُحْضِرَ شُهُودَهُ لِيَشْهَدُوا بِالْإِشَارَةِ إلَى الْعَبْدِ أَنَّهُ مِلْكُهُ ، فَإِذَا شَهِدُوا قَضَى لَهُ بِهِ وَكَتَبَ إلَى قَاضِي الْإِسْكَنْدَرِيَّة بِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ لِيُبَرِّئَ كَفِيلَهُ .
وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ قَاضِيَ مِصْرٍ لَا يَقْضِي بِالْعَبْدِ لِلْمُدَّعِي لِأَنَّ الْخَصْمَ غَائِبٌ ، وَلَكِنْ يَكْتُبُ كِتَابًا آخَرَ إلَى قَاضِي الْإِسْكَنْدَرِيَّة وَيَذْكُرُ فِيهِ مَا جَرَى عِنْدَهُ وَيُشْهِدُ عَلَى كِتَابِهِ وَخَتْمِهِ وَيَرُدُّ الْعَبْدَ مَعَهُ إلَيْهِ لِيَقْضِيَ بِهِ بِحَضْرَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَيَفْعَلُ ذَلِكَ وَيُبَرِّئُ الْكَفِيلَ .
وَصُورَتُهُ فِي الْجَوَارِي كَمَا فِي الْعَبْدِ ، إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ الْمَكْتُوبَ إلَيْهِ لَا يَدْفَعُ الْجَارِيَةَ إلَى الْمُدَّعِي بَلْ يَبْعَثُهَا عَلَى يَدِ أَمِينٍ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ إذَا أَرْسَلَهَا مَعَ الْمُدَّعِي يَطَؤُهَا لِاعْتِمَادِهِ أَنَّهَا مِلْكُهُ .
قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ : وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ قَالَا : هَذَا فِيهِ بَعْضُ الْقُبْحِ ، فَإِنَّهُ إذَا دَفَعَ الْعَبْدَ يَسْتَخْدِمُهُ قَهْرًا وَيَسْتَغِلُّهُ ، فَيَأْكُلُ مِنْ غَلَّتِهِ قَبْلَ أَنْ يَثْبُتَ مِلْكُهُ فِيهِ بِالْقَضَاءِ وَرُبَّمَا يَظْهَرُ الْعَبْدُ لِغَيْرِهِ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ ضَمَّ

مُحَمَّدٍ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ بِنَاءً عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ ، وَكَلَامُنَا عَلَى الرِّوَايَةِ عَنْ مُحَمَّدٍ الْمُخْتَارَةِ لِلْفَتْوَى الْمُوَافِقَةِ لِلْوَجْهِ وَالْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ ، وَإِذَا عَرَفْت هَذَا فَالزَّوْجَةُ الْمُدَّعَى بِاسْتِحْقَاقِهَا فِي بَلَدِ الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ لَا بُدَّ أَنْ تُجْعَلَ مِنْ قَبِيلِ الْأَمَةِ فَيَجْرِي فِيهَا مَا يَجْرِي فِيهَا لِأَنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ تَجْرِيَ مَجْرَى الدُّيُونِ ، لِأَنَّهَا إذَا قَالَتْ لَسْت أَنَا فُلَانَةَ الْمَشْهُودَ عَلَى أَنَّهَا زَوْجَةٌ الْمُدَّعِي الْمَذْكُورِ وَلَمْ تَقْدِرْ عَلَى بَيِّنَةِ أَنَّ فِي قَبِيلَتِهَا مَنْ هُوَ عَلَى اسْمِهَا وَنَسَبِهَا أَنْ تُدْفَعَ إلَى الْمُدَّعِي يَطَؤُهَا

قَالَ ( وَلَا يُقْبَلُ الْكِتَابُ إلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ ) لِأَنَّ الْكِتَابَ يُشْبِهُ الْكِتَابَ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِحُجَّةٍ تَامَّةٍ وَهَذَا لِأَنَّهُ مُلْزِمٌ فَلَا بُدَّ مِنْ الْحُجَّةِ ، بِخِلَافِ كِتَابِ الِاسْتِئْمَانِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُلْزِمٍ ، وَبِخِلَافِ رَسُولِ الْقَاضِي إلَى الْمُزَكَّى وَرَسُولِهِ إلَى الْقَاضِي لِأَنَّ الْإِلْزَامَ بِالشَّهَادَةِ لَا بِالتَّزْكِيَةِ

( قَوْلُهُ وَلَا يُقْبَلُ الْكِتَابُ ) أَيْ لَا يَقْبَلُ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ الْكِتَابُ ( إلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ ) عَلَى أَنَّهُ كِتَابُ الْقَاضِي فُلَانٍ الْكَاتِبِ وَأَنَّهُ خَتْمُهُ وَأَنَّ فِيهِ كَذَا وَكَذَا ، وَلَا بُدَّ مِنْ إسْلَامِهِمَا فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الذِّمِّيِّينَ عَلَى كُتَّابِ الْقَاضِي الْمُسْلِمِينَ ، وَلَوْ كَانَ الْكِتَابُ لِذِمِّيٍّ عَلَى ذِمِّيٍّ لِأَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ عَلَى فِعْلِ الْمُسْلِمِ ، وَهَذَا لِأَنَّ قَبُولَ شَهَادَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ كَانَ لِلْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ إذْ قَلَّمَا يَحْضُرُ الْمُسْلِمُونَ مُعَامَلَاتِهِمْ خُصُوصًا الْأَنْكِحَةَ وَالْوَصَايَا ، وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ فِي كِتَابِ الْقَاضِي وَخَتْمِهِ ، وَلَمْ يَشْرِطْ الشَّعْبِيُّ الشَّهَادَةَ عَلَيْهِ ، وَكَذَا الْحَسَنُ أَسْنَدَ الْخَصَّافَ إلَى عَمْرِو بْنِ أَبِي زَائِدَةَ أَوْ عُمَيْرٍ قَالَ : جِئْت بِكِتَابٍ مِنْ قَاضِي الْكُوفَةِ إلَى إيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ فَجِئْت وَقَدْ عُزِلَ وَاسْتُقْضِيَ الْحَسَنُ فَدَفَعْت كِتَابِي إلَيْهِ فَقَبِلَهُ وَلَمْ يَسْأَلْنِي الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ فَفَتَحَهُ ثُمَّ نَشَرَهُ فَوَجَدَ لِي فِيهِ شَهَادَةَ شَاهِدَيْنِ عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ بِخَمْسِمِائَةٍ ، فَقَالَ لِرَجُلٍ يَقُومُ عَلَى رَأْسِهِ اذْهَبْ بِهَذَا الْكِتَابِ إلَى زِيَادَةَ فَقُلْ لَهُ أَرْسِلْ إلَى فُلَانٍ فَخُذْ مِنْهُ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ فَادْفَعْهَا إلَى هَذَا وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَالْإِصْطَخْرِيُّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَأَبُو يُوسُفَ فِي رِوَايَةٍ ، فَالشَّرْطُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ يَعْرِفُ خَطَّ الْقَاضِي الْكَاتِبِ وَخَتْمَهُ قِيَاسًا عَلَى كِتَابِ الِاسْتِئْمَانِ ، وَعَلَى رَسُولِ الْقَاضِي إلَى الْمُزَكِّي وَرَسُولِ الْمُزَكِّي إلَى الْقَاضِي .
قُلْنَا : الْفَرْقُ أَنَّ هَذَا نَقْلٌ مُلْزِمٌ ، إذْ يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ وَيَعْمَلَ بِهِ ، وَلَا بُدَّ لِلْمُلْزِمِ مِنْ الْحُجَّةِ وَهِيَ الْبَيِّنَةُ ، بِخِلَافِ كِتَابِ أَهْلِ الْحَرْبِ فَإِنَّهُ لَيْسَ مُلْزِمًا إذْ لِلْإِمَامِ أَنْ يُعْطِيَهُمْ مَا طَلَبُوهُ ، وَلَهُ أَنْ

لَا .
وَأَمَّا الرَّسُولُ فَلِأَنَّ التَّزْكِيَةَ لَيْسَتْ مُلْزِمَةً ، وَإِنَّمَا الْمُلْزِمُ هُوَ الْبَيِّنَةُ .
وَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ رَسُولِ الْقَاضِي وَبَيْنَ كِتَابِهِ حَيْثُ يُقْبَلُ كِتَابُهُ وَلَا يُقْبَلُ رَسُولُهُ فَلِأَنَّ غَايَةَ رَسُولِهِ أَنْ يَكُونَ كَنَفْسِهِ ، وَقَدَّمْنَا أَنَّهُ لَوْ ذَكَرَ مَا فِي كِتَابِهِ لِذَلِكَ الْقَاضِي بِنَفْسِهِ لَا يَقْبَلُهُ ، وَكَانَ الْقِيَاسُ فِي كِتَابِهِ كَذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ أُجِيزَ بِإِجْمَاعِ التَّابِعِينَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ .
فَإِنْ قُلْت : فَكَيْفَ عَمِلَ الْحَسَنُ بِالْكِتَابِ وَهُوَ لَمْ يَكْتُبْ إلَّا إلَى قَاضٍ آخَرَ غَيْرِهِ ؟ فَالْجَوَابُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَالَ إلَى إيَاسٍ الْقَاضِي بِالْبَصْرَةِ وَإِلَى كُلِّ قَاضٍ يَرَاهُ مِنْ قُضَاةِ الْمُسْلِمِينَ ، فَإِنَّهُ إذَا كَتَبَ كَذَلِكَ كَانَ لِكُلِّ قَاضٍ رُفِعَ إلَيْهِ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ بِلَا خِلَافٍ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَتَبَ مَنْ الْأَوَّلُ إلَى مَنْ يَبْلُغُهُ كِتَابِي هَذَا مِنْ قُضَاةِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ لِأَحَدٍ مِنْ الْقُضَاةِ ، وَأَجَازَهُ أَبُو يُوسُفَ أَيْضًا قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ : وَعَلَيْهِ عَمَلُ النَّاسِ الْيَوْمَ .
[ فَرْعٌ ] يَجُوزُ عَلَى كِتَابِ الْقَاضِي الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ كَمَا جَازَ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ .
وَلَوْ كَتَبَ الْقَاضِي إلَى الْأَمِيرِ الَّذِي وَلَّاهُ أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ ثُمَّ قَصَّ الْقِصَّةَ وَهُوَ مَعَهُ فِي الْمِصْرِ فَجَاءَ بِهِ ثِقَةٌ يَعْرِفُهُ الْأَمِيرُ ، فَفِي الْفَتَاوَى لَا يُقْبَلُ لِأَنَّ إيجَابَ الْعَمَلِ بِالْبَيِّنَةِ ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ اسْمَهُ وَاسْمَ أَبِيهِ .
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ : يَجُوزُ لِلْأَمِيرِ أَنْ يُمْضِيَهُ لِأَنَّهُ مُتَعَارَفٌ وَلَا يَلِيقُ بِالْقَاضِي أَنْ يَأْتِيَ فِي كُلِّ حَادِثَةٍ إلَى الْأَمِيرِ لِيُخْبِرَهُ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أَرْسَلَ إلَيْهِ بِذَلِكَ رَسُولًا ثِقَةً كَانَ عِبَارَةُ رَسُولِهِ كَعِبَارَتِهِ فِي جَوَازِ الْعَمَلِ بِهِ ، فَكَذَا إذَا أَرْسَلَ كِتَابَهُ وَلَمْ يَجْرِ الرَّسْمُ فِي مِثْلِهِ مِنْ مِصْرٍ إلَى مِصْرٍ فَشَرْطُنَا

هُنَاكَ شَرْطُ كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي .

قَالَ ( وَيَجِبُ أَنْ يَقْرَأَ الْكِتَابَ عَلَيْهِمْ لِيَعْرِفُوا مَا فِيهِ أَوْ يُعْلِمَهُمْ بِهِ ) لِأَنَّهُ لَا شَهَادَةَ بِدُونِ الْعِلْمِ ( ثُمَّ يَخْتِمُهُ بِحَضْرَتِهِمْ وَيُسَلِّمُهُ إلَيْهِمْ ) كَيْ لَا يُتَوَهَّمَ التَّغْيِيرُ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، لِأَنَّ عِلْمَ مَا فِي الْكِتَابِ وَالْخَتْمِ بِحَضْرَتِهِمْ شَرْطٌ ، وَكَذَا حِفْظُ مَا فِي الْكِتَابِ عِنْدَهُمَا وَلِهَذَا يُدْفَعُ إلَيْهِمْ كِتَابٌ آخَرُ غَيْرُ مَخْتُومٍ لِيَكُونَ مَعَهُمْ مُعَاوَنَةٌ عَلَى حِفْظِهِمْ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ آخِرًا : شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ ، وَالشَّرْطُ أَنْ يُشْهِدَهُمْ أَنَّ هَذَا كِتَابُهُ وَخَتْمُهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْخَتْمَ لَيْسَ بِشَرْطٍ أَيْضًا فَسَهَّلَ فِي ذَلِكَ لَمَّا اُبْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ وَلَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ .
وَاخْتَارَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
قَالَ ( وَإِذَا وَصَلَ إلَى الْقَاضِي لَمْ يَقْبَلْهُ إلَّا بِحَضْرَةِ الْخَصْمِ ) لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ حُضُورِهِ ، بِخِلَافِ سَمَاعِ الْقَاضِي الْكَاتِبَ لِأَنَّهُ لِلنَّقْلِ لَا لِلْحُكْمِ .
قَالَ ( فَإِذَا سَلَّمَهُ الشُّهُودُ إلَيْهِ نَظَرَ إلَى خَتْمِهِ ، فَإِذَا شَهِدُوا أَنَّهُ كِتَابُ فُلَانٍ الْقَاضِي سَلَّمَهُ إلَيْنَا فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ وَقَرَأَهُ عَلَيْنَا وَخَتَمَهُ فَتَحَهُ الْقَاضِي وَقَرَأَهُ عَلَى الْخَصْمِ وَأَلْزَمَهُ مَا فِيهِ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : إذَا شَهِدُوا أَنَّهُ كِتَابُهُ وَخَاتَمُهُ قَبِلَهُ عَلَى مَا مَرَّ ، وَلَمْ يُشْتَرَطْ فِي الْكِتَابِ ظُهُورُ الْعَدَالَةِ لِلْفَتْحِ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَفُضُّ الْكِتَابَ بَعْدَ ثُبُوتِ الْعَدَالَةِ ، كَذَا ذَكَرَهُ الْخَصَّافُ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يُحْتَاجُ إلَى زِيَادَةِ الشُّهُودِ وَإِنَّمَا يُمْكِنُهُمْ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ بَعْدَ قِيَامِ الْخَتْمِ ، وَإِنَّمَا يَقْبَلُهُ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ إذَا كَانَ الْكَاتِبُ عَلَى الْقَضَاءِ ، حَتَّى لَوْ مَاتَ

أَوْ عُزِلَ أَوْ لَمْ يَبْقَ أَهْلًا لِلْقَضَاءِ قَبْلَ وُصُولِ الْكِتَابِ لَا يَقْبَلُهُ لِأَنَّهُ الْتَحَقَ بِوَاحِدٍ مِنْ الرَّعَايَا ، وَلِهَذَا لَا يُقْبَلُ إخْبَارُهُ قَاضِيًا آخَرَ فِي غَيْرِ عَمَلِهِ أَوْ فِي غَيْرِ عَمَلِهِمَا ، وَكَذَا لَوْ مَاتَ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ إلَّا إذَا كَتَبَ إلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ قَاضِي بَلْدَةِ كَذَا وَإِلَى كُلِّ مَنْ يَصِلُ إلَيْهِ مِنْ قُضَاةِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ غَيْرَهُ صَارَ تَبَعًا لَهُ وَهُوَ مُعَرَّفٌ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَتَبَ ابْتِدَاءً إلَى كُلِّ مَنْ يَصِلُ إلَيْهِ عَلَى مَا عَلَيْهِ مَشَايِخُنَا رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّهُ غَيْرُ مُعَرَّفٍ ، وَلَوْ كَانَ مَاتَ الْخَصْمُ يَنْفُذُ الْكِتَابُ عَلَى وَارِثِهِ لِقِيَامِهِ مَقَامَهُ .

( قَوْلُهُ وَيَجِبُ أَنْ يَقْرَأَ الْكِتَابَ عَلَيْهِمْ ) شُرُوعٌ فِي بَيَانِ الشُّرُوطِ الْمَوْعُودِ بِذِكْرِهَا فِي قَوْلِهِ وَيَخْتَصُّ بِشَرَائِطَ نَذْكُرُهَا .
وَالْحَاصِلُ إنْ شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى مَا فِي الْكِتَابِ فَلَا بُدَّ حِينَئِذٍ مِنْ أَنْ يَقْرَأَهُ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعْلِمَهُمْ مَا فِيهِ : أَيْ بِإِخْبَارِهِ لِأَنَّهُ لَا شَهَادَةَ بِلَا عِلْمٍ بِالْمَشْهُودِ بِهِ كَمَا لَوْ شَهِدُوا بِأَنَّ هَذَا الصَّكَّ مَكْتُوبٌ عَلَى فُلَانٍ لَا يُفِيدُ مَا لَمْ يَشْهَدُوا بِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ الدَّيْنِ وَاشْتِرَاطُ عِلْمِهِمْ بِمَا فِي كِتَابِ الْقَاضِي قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَمَالِكٍ فِي رِوَايَةٍ .
وَمِنْ أَنْ يَشْهَدُوا أَنَّهُ خَتَمَهُ وَذَلِكَ بِأَنْ يَخْتِمَهُ بِحَضْرَتِهِمْ وَيُسَلِّمَهُ إلَيْهِمْ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ مُعَنْوَنًا : أَيْ مَكْتُوبًا فِيهِ الْعُنْوَانُ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ وَهُوَ اسْمُ الْكَاتِبِ وَاسْمُ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ وَنَسَبُهُمَا وَالشَّرْطُ الْعُنْوَانُ الْبَاطِنُ ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ وَكَانَ مُعَنْوَنًا فِي الظَّاهِرِ لَا يَقْبَلُهُ لِتُهْمَةِ التَّغْيِيرِ ، وَعَنْ هَذَا قِيلَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَعَهُ نُسْخَةٌ أُخْرَى مَفْتُوحَةٌ لِيَسْتَعِينُوا بِهَا عَلَى حِفْظِ مَا فِي الْكِتَابِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ التَّذَكُّرِ مِنْ وَقْتِ الشَّهَادَةِ إلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ عِنْدَهُمَا .
( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ آخِرًا : شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ ، فَالشَّرْطُ أَنْ يُشْهِدَهُمْ أَنَّ هَذَا كِتَابُهُ وَخَتْمُهُ ) بَعْدَمَا كَانَ أَوَّلًا يَقُولُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ( وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا أَنَّ الْخَتْمَ لَيْسَ بِشَرْطٍ أَيْضًا رَخَّصَ فِي ذَلِكَ لَمَّا اُبْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ وَلَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ ، وَهَذَا اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأُمَّةِ السَّرَخْسِيِّ ) وَلَا شَكَّ عِنْدِي فِي صِحَّتِهِ فَإِنَّ الْفَرْضَ إذَا كَانَ عَدَالَةَ الشُّهُودِ وَهُمْ حَمَلَةُ الْكِتَابِ فَلَا يَضُرُّهُ كَوْنُهُ غَيْرَ مَخْتُومٍ مَعَ شَهَادَتِهِمْ أَنَّهُ كِتَابُهُ ، نَعَمْ إذَا كَانَ الْكِتَابُ مَعَ

الْمُدَّعِي يَنْبَغِي أَنْ يَشْتَرِطَ الْخَتْمَ لِاحْتِمَالِ التَّغْيِيرِ إلَّا أَنْ يَشْهَدُوا بِمَا فِيهِ حِفْظًا ، فَالْوَجْهُ إنْ كَانَ الْكِتَابُ مَعَ الشُّهُودِ أَنْ لَا تُشْتَرَطَ مَعْرِفَتُهُمْ لِمَا فِيهِ وَلَا الْخَتْمُ ، بَلْ تَكْفِي شَهَادَتُهُمْ أَنَّهُ كِتَابُهُ مَعَ عَدَالَتِهِمْ ، وَإِنْ كَانَ مَعَ الْمُدَّعِي اُشْتُرِطَ حِفْظُهُمْ لِمَا فِيهِ فَقَطْ وَمِنْ الشُّرُوطِ أَنْ يَكْتُبَ فِيهِ التَّارِيخَ ، فَلَوْ لَمْ يَكْتُبْ لَا يُقْبَلُ ، وَذَلِكَ لِيَنْظُرَ هَلْ هُوَ كَانَ قَاضِيًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَوْ لَا ، وَكَذَا إنْ شَهِدُوا عَلَى أَصْلِ الْحَادِثَةِ وَلَمْ يَكُنْ مَكْتُوبًا لَا تُقْبَلُ .
وَفِي خِزَانَةِ الْفِقْهِ : يَجُوزُ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي فِي الْمِصْرَيْنِ ، وَمِنْ قَاضِي مِصْرٍ إلَى قَاضِي رُسْتَاقٍ ، وَلَا يَجُوزُ مِنْ قَاضِي رُسْتَاقٍ إلَى قَاضِي مِصْرٍ انْتَهَى .
وَاَلَّذِي يَنْبَغِي أَنَّ بَعْدَ عَدَالَةِ شَهَادَةِ شُهُودِ الْأَصْلِ وَالْكِتَابِ لَا فَرْقَ ، وَلَوْ كَانَ الْعُنْوَانُ مِنْ فُلَانٍ إلَى فُلَانٍ أَوْ مِنْ أَبِي فُلَانٍ إلَى أَبِي فُلَانٍ لَا يُقْبَلُ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الِاسْمِ أَوْ الْكُنْيَةِ لَا يَتَعَرَّفُ بِهِ إلَّا أَنْ تَكُونَ الْكُنْيَةُ مَشْهُورَةً مِثْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى ، وَكَذَلِكَ النِّسْبَةُ إلَى أَبِيهِ فَقَطْ مِثْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَقِيلَ تُقْبَلُ الْكُنْيَةُ الْمَشْهُورَةُ كَأَبِي حَنِيفَةَ عَلَى رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ ، وَلَا تَجُوزُ فِي سَائِرِ الرِّوَايَاتِ لِأَنَّ النَّاسَ يَشْتَرِكُونَ فِي الْكُنَى غَيْرَ أَنَّ بَعْضَهُمْ يَشْتَهِرُ بِهَا فَلَا يَعْلَمُ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ أَنَّ الْمَكْنِيَّ هُوَ الَّذِي اُشْتُهِرَ بِهَا أَوْ غَيْرُهُ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَتَبَ إلَى قَاضِي بَلْدَةِ كَذَا فَإِنَّهُ فِي الْغَالِبِ يَكُونُ وَاحِدًا فَيَحْصُلُ التَّعْرِيفُ بِالْإِضَافَةِ إلَى مَحَلِّ الْوِلَايَةِ ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ أَبُو يُوسُفَ الْعُنْوَانَ أَيْضًا بَلْ إذَا لَمْ يَكُنْ مُعَنْوَنًا وَكَانَ مَخْتُومًا وَشَهِدُوا بِالْخَتْمِ كَفَى .
( قَوْلُهُ وَإِذَا وَصَلَ إلَى الْقَاضِي لَمْ يَقْبَلْهُ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْخَصْمِ )

وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ : لَمْ يُفْتَكَّ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْخَصْمِ كَمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يَقْرَؤُهُ إلَّا بِحُضُورِهِ لَا مُجَرَّدِ قَبُولِهِ فَإِنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ ، وَتَرْتِيبُ الْحَالِ أَنَّهُ إذَا وَصَلَ الْمُدَّعِي إلَى الْقَاضِي جَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَصْمِهِ ، فَإِنْ اعْتَرَفَ اسْتَغْنَى عَنْ الْكِتَابِ ، وَإِنْ أَنْكَرَ قَالَ لَهُ هَلْ لَك حُجَّةٌ ، فَإِنْ قَالَ مَعِي كِتَابُ الْقَاضِي إلَيْك طَالَبَهُ بِالْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ ، فَإِذَا حَضَرُوا أَحْضَرَ خَصْمَهُ إنْ لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا فَيَشْهَدُونَ بِحَضْرَتِهِ أَنَّهُ كِتَابُ الْقَاضِي سَلَّمَهُ إلَيْنَا فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ وَقَرَأَهُ عَلَيْنَا فَحِينَئِذٍ افْتَكَّهُ وَقَرَأَهُ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَقْرَأْهُ إلَّا بِحُضُورِهِ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ الْكِتَابَ فِي الْمَعْنَى ( بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ ) عَلَى الشَّهَادَةِ لِأَنَّ الْقَاضِيَ يَنْقُلُ أَلْفَاظَ الشُّهُودِ بِكِتَابِهِ إلَى الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ كَمَا أَنَّ شَاهِدَ الْفَرْعِ يَنْقُلُ شَهَادَةَ شَاهِدِ الْأَصْلِ بِعِبَارَتِهِ ( بِخِلَافِ الْقَاضِي الْكَاتِبِ ) فَإِنَّهُ يَسْمَعُ مِنْ الْأُصُولِ الشَّهَادَةَ وَإِنْ كَانَ الْخَصْمُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ غَائِبًا ( لِأَنَّ سَمَاعَهُ لَيْسَ لِلْحُكْمِ بَلْ لِلنَّقْلِ ) فَكَانَ سَمَاعُهُ بِمَنْزِلَةِ تَحَمُّلِ الْفَرْعِ لِشَهَادَةِ الْأَصْلِ ، وَفِي التَّحَمُّلِ لَا يُشْتَرَطُ حُضُورُ الْخَصْمِ كَذَا هَذَا ، وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ الِاكْتِفَاءُ بِشَهَادَةِ أَنَّهُ كِتَابُهُ وَخَتْمُهُ ( وَلَمْ يَشْتَرِطْ فِي الْكِتَابِ ظُهُورُ الْعَدَالَةِ ) فِي شُهُودِ الْكِتَابِ ( لِلْفَتْحِ ) حَيْثُ قَالَ فَإِذَا شَهِدُوا إلَخْ فَتَحَهُ وَلَمْ يَقُلْ فَإِذَا شَهِدُوا وَعُدِّلُوا .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَفُضُّ الْكِتَابَ بَعْدَ ثُبُوتِ الْعَدَالَةِ ، ذَكَرَهُ الْخَصَّافُ ) وَاحْتَرَزَ بِهِ عَمَّا ذَكَرَ فِي الْمُغْنِي فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ : وَذَكَرَ الْخَصَّافُ لَا يُفْتَحُ قَبْلَ ظُهُورِ الْعَدَالَةِ ، ثُمَّ قَالَ : مَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ أَصَحُّ : أَيْ

تَجْوِيزُ الْفَتْحِ قَبْلَ ظُهُورِهَا بَعْدَ الشَّهَادَةِ بِأَنَّهُ كِتَابُهُ .
وَوَجَّهَهُ الْمُصَنِّفُ بِمَا ذَكَرَهُ الْخَصَّافُ .
مِنْ أَنَّهُ رُبَّمَا يَحْتَاجُ إلَى زِيَادَةِ الشُّهُودِ بِأَنْ ارْتَابَ فِي هَؤُلَاءِ فَيَقُولُ زِدْنِي شُهُودًا ، وَلَا يُمْكِنُ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ مِنْ الْمَزِيدِينَ إلَّا حَالَ قِيَامِ الْخَتْمِ .
[ فَرْعٌ ] لَوْ سَمِعَ الْخَصْمُ بِوُصُولِ كِتَابِ الْقَاضِي إلَى قَاضِي بَلَدِهِ فَهَرَبَ إلَى بَلْدَةٍ أُخْرَى كَانَ لِلْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ أَنْ يَكْتُبَ إلَى قَاضِي تِلْكَ الْبَلْدَةِ بِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ مِنْ كِتَابِ الْقَاضِي ، فَكَمَا جَوَّزْنَا لِلْأَوَّلِ الْكِتَابَةَ نُجَوِّزُ لِلثَّانِي وَالثَّالِثِ وَهَلُمَّ جَرًّا لِلْحَاجَةِ .
وَلَوْ كَتَبَ فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ يَدِهِ حَتَّى رَجَعَ الْخَصْمُ لَمْ يَحْكُمْ عَلَيْهِ بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ الَّتِي سَمِعَهَا مِنْ شُهُودِ الْكِتَابِ ، بَلْ يُعِيدُ الْمُدَّعِي شَهَادَتَهُمْ لِأَنَّ سَمَاعَهُ الْأَوَّلَ كَانَ لِلنَّقْلِ فَلَا يَسْتَفِيدُ بِهِ وِلَايَةَ الْقَضَاءِ وَإِنَّمَا يَسْتَفِيدُهَا لَوْ كَانَ الْخَصْمُ حَاضِرًا وَقْتَ شَهَادَتِهِمْ ( وَإِنَّمَا يَقْبَلُهُ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ ) هَذَا شَرْطٌ آخَرُ لِقَبُولِ الْكِتَابِ وَالْعَمَلِ بِهِ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي الْكَاتِبُ عَلَى قَضَائِهِ إلَى أَنْ يَمْضِيَ أَمْرُ الْكِتَابِ ، فَلَوْ أَنَّهُ مَاتَ أَوْ عُزِلَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ أَوْ خَرَجَ عَنْ أَهْلِيَّةِ الْقَضَاءِ بِجُنُونٍ أَوْ عَمًى ، قَالُوا أَوْ فِسْقٍ ، وَإِنَّمَا يَتَخَرَّجُ عَلَى الْقَوْلِ بِالْعَزْلِ بِالْفِسْقِ بَطَلَ الْكِتَابُ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ : يُعْمَلُ بِهِ ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ لِأَنَّ كِتَابَ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي كَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ ، لِأَنَّهُ يَنْقُلُ بِهِ شَهَادَةَ الَّذِينَ شَهِدُوا عِنْدَهُ إلَى الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ ، وَالنَّقْلُ قَدْ تَمَّ بِالْكِتَابَةِ فَكَانَ كَشُهُودِ الْفَرْعِ إذَا مَاتُوا بَعْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ قَبْلَ الْقَضَاءِ أَوْ مَاتَ الْأَصْلُ بَعْدَ أَدَاءِ الْفَرْعِ فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ الْقَضَاءَ .
وَحَاصِلُ الْجَوَابِ فِي الذَّخِيرَةِ مَنْعُ

تَمَامِ النَّقْلِ بِمُجَرَّدِ الْقَضَاءِ بَلْ حَتَّى يَصِلَ وَيَقْرَأَهُ ، لِأَنَّ هَذَا النَّقْلَ بِمَنْزِلَةِ الْقَضَاءِ ، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ إلَّا مِنْ الْقَاضِي فَلَا يَتِمُّ إلَّا بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ وَلَا يَجِبُ إلَّا بِقِرَاءَتِهِ ؛ وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْعِبَارَةَ الْجَيِّدَةَ أَنْ يُقَالَ لَوْ مَاتَ قَبْلَ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ لَا قَبْلَ وُصُولِهِ ، لِأَنَّ وُصُولَهُ قَبْلَ ثُبُوتِهِ عِنْدَ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ وَقِرَاءَتِهِ لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ شَيْئًا فَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ ( الْتَحَقَ بِوَاحِدٍ مِنْ الرَّعَايَا ) يَعْنِي قَبْلَ تَمَامِ الْقَضَاءِ ( وَلِهَذَا لَا يُقْبَلُ إخْبَارُهُ قَاضِيًا آخَرَ ) غَيْرَ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ ( فِي غَيْرِ عَمَلِهِ أَوْ غَيْرِ عَمَلِهِمَا ) وَلَوْ كَانَ عَلَى قَضَائِهِ لِأَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَمَلِ الْآخَرِ كَوَاحِدٍ مِنْ الرَّعَايَا غَيْرَ أَنَّ الْكِتَابَ خُصَّ مِنْ ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ ، وَلَوْ مَاتَ بَعْدَ وُصُولِ الْكِتَابِ وَقِرَاءَتِهِ عَمِلَ بِهِ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ ، هَكَذَا ذَكَرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
( وَكَذَا لَوْ مَاتَ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ ) أَوْ عُزِلَ وَوُلِّيَ غَيْرُهُ لَا يَعْمَلُ الَّذِي قَامَ مَقَامَهُ عِنْدَنَا ( إلَّا إذَا ) كَانَ ( كَتَبَ إلَى فُلَانٍ قَاضِي بَلَدِ كَذَا وَإِلَى كُلِّ مَنْ يَصِلُ إلَيْهِ مِنْ قُضَاةِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ غَيْرَهُ صَارَ تَبَعًا لَهُ ) وَقَدْ قَدَّمْنَا مَا هُنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ : يَعْمَلُ بِهِ لِأَنَّ الْمُعَوَّلَ عَلَيْهِ شَهَادَةُ الشُّهُودِ عَلَى مَا تَحَمَّلُوهُ ، وَمَنْ تَحَمَّلَ وَشَهِدَ وَجَبَ عَلَى كُلِّ قَاضٍ الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِ وَصَارَ كَمَا لَوْ كَتَبَ وَإِلَى كُلِّ قَاضٍ وَصَلَ إلَيْهِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْكَاتِبَ لَمَّا خَصَّ الْأَوَّلَ بِالْكِتَابَةِ فَقَدْ اعْتَمَدَ عَدَالَتَهُ وَأَمَانَتَهُ ، وَالْقُضَاةُ مُتَفَاوِتُونَ فِي أَدَاءِ الْأَمَانَةِ فَصَحَّ التَّعْيِينُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَرْدَفَهُ بِقَوْلِهِ وَإِلَى كُلِّ مَنْ يَصِلُ إلَيْهِ مِنْ قُضَاةِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ هُنَاكَ اعْتَمَدَ عَلَى عِلْمِ الْكُلِّ وَأَمَانَتِهِمْ فَكَأَنَّ الْكُلَّ مَكْتُوبٌ إلَيْهِمْ مُعَيَّنِينَ .
أَمَّا لَوْ

كَتَبَ ابْتِدَاءً إلَى كُلِّ مَنْ يَصِلُ إلَيْهِ كِتَابِي هَذَا مِنْ قُضَاةِ الْمُسْلِمِينَ وَحُكَّامِهِمْ فَقَدَّمْنَا أَنَّهُ أَجَازَهُ أَبُو يُوسُفَ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَمَنَعَهُ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُحَمَّدًا مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَالْوَجْهُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ إعْلَامَ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ وَإِنْ كَانَ شَرْطًا فَالْعُمُومُ يُعْلَمُ كَمَا يُعْلَمُ الْخُصُوصُ وَلَيْسَ الْعُمُومُ مِنْ قَبِيلِ الْإِجْمَالِ وَالتَّجْهِيلِ فَصَارَ قَصْدِيَّتُهُ وَتَبَعِيَّتُهُ سَوَاءً .
( وَلَوْ مَاتَ الْخَصْمُ يَنْفُذُ الْكِتَابُ عَلَى وَارِثِهِ لِقِيَامِهِ مَقَامَهُ ) سَوَاءٌ كَانَ تَارِيخُ الْكِتَابِ قَبْلَ مَوْتِ الْمَطْلُوبِ أَوْ بَعْدَهُ وَلَا خِلَافَ فِيهِ .

( وَلَا يُقْبَلُ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ ) لِأَنَّ فِيهِ شُبْهَةَ الْبَدَلِيَّةِ فَصَارَ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ ، وَلِأَنَّ مَبْنَاهُمَا عَلَى الْإِسْقَاطِ وَفِي قَبُولِهِ سَعْيٌ فِي إثْبَاتِهِمَا

( قَوْلُهُ وَلَا يُقْبَلُ كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ ) وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ يُقْبَلُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ لِأَنَّ الِاعْتِمَادَ عَلَى الشُّهُودِ وَقَدْ شَهِدُوا .
قُلْنَا ( لِأَنَّ فِيهِ ) أَيْ فِي كِتَابِ الْقَاضِي ( شُبْهَةَ الْبَدَلِيَّةِ فَصَارَ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ ) لَا يُقَامُ بِهِ الْحَدُّ لِأَنَّ مَبْنَى الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ عَلَى الْإِسْقَاطِ بِالشُّبُهَاتِ ( وَفِي قَبُولِ الْكِتَابِ سَعْيٌ ) وَاحْتِيَاطٌ ( فِي إثْبَاتِهِمَا ) وَعُرِفَ مِنْ تَقْرِيرِنَا أَنَّ الْمَعْنَى عَلَى عَدَمِ الْوَاوِ فِي قَوْلِهِ وَلِأَنَّ مَبْنَاهُمَا إلَخْ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَاعْلَمْ أَنَّك رُبَّمَا تَطَّلِعُ عَلَى فُرُوعٍ كَثِيرَةٍ فِي الْكُتُبِ فِيهَا تَصْرِيحٌ بِمَنْعِ الْكِتَابِ فِيهَا مِثْلُ مَا ذَكَرَ فِي الْخُلَاصَةِ وَغَيْرِهَا : فِي رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ ادَّعَيَا وَلَدًا وَقَالَا هُوَ مَعْرُوفُ النَّسَبِ مِنَّا هُوَ فِي يَدِ فُلَانٍ اسْتَرَقَّهُ فِي بَلْدَةِ كَذَا وَطَلَبَا الْكِتَابَ لَا يَكْتُبُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَإِنْ ادَّعَيَا النَّسَبَ وَلَمْ يَذْكُرَا الِاسْتِرْقَاقَ يَكْتُبُ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ دَعْوَى النَّسَبِ مُجَرَّدًا فَكَانَ كَدَعْوَى الدِّينِ .
بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لِأَنَّهُ يُرِيدُ دَفْعَ الرِّقِّ فَهُوَ كَدَعْوَى أَنَّهُ عَبْدِيٌ .
[ فَرْعٌ ] هَلْ يَكْتُبُ الْقَاضِي بِعِلْمِهِ ؟ فِي الْخُلَاصَةِ هُوَ كَالْقَضَاءِ بِعِلْمِهِ ، وَالتَّفَاوُتُ هُنَا أَنَّ الْقَاضِيَ يَكْتُبُ بِالْعِلْمِ الْحَاصِلِ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِالْإِجْمَاعِ ، كَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ .
وَلَوْ أَقَامَ شَاهِدًا وَاحِدًا عِنْدَ الْقَاضِي وَسَأَلَ أَنْ يَكْتُبَ بِذَلِكَ كِتَابًا إلَى قَاضٍ آخَرَ فَعَلَ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ لَهُ شَاهِدٌ فِي مَحَلِّ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ وَيَكْتُبُ فِي الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ وَيُبَيِّنُ الْأَجَلَ لِيُطَالِبَهُ إذَا حَلَّ هُنَاكَ ، وَلَوْ قَالَ اسْتَوْفَى غَرِيمِي دَيْنَهُ أَوْ أَبْرَأَنِي مِنْهُ وَأَقَامَ عَلَيْهِ بَيِّنَةً وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَقْدَمَ الْبَلْدَةَ الَّتِي هُوَ فِيهَا وَأَخَافُ أَنْ يَأْخُذَنِي بِهِ ،

فَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَكْتُبُ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَكْتُبُ .
وَأَجْمَعُوا أَنَّهُ لَوْ قَالَ : جَحَدَنِي الِاسْتِيفَاءُ أَوْ الْإِبْرَاءُ مَرَّةً يَكْتُبُ ، وَكَذَا إذَا ادَّعَى أَنَّ الشَّفِيعَ الْغَائِبَ سَلَّمَ الشُّفْعَةَ وَأَقَامَ بَيِّنَةً وَطَلَبَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ هَلْ يَكْتُبُ ؟ هُوَ عَلَى الْخِلَافِ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ ، وَكَذَا امْرَأَةٌ ادَّعَتْ الطَّلَاقَ عَلَى زَوْجِهَا الْغَائِبِ وَأَشْهَدَتْ وَطَلَبَتْ الْكِتَابَ هُوَ عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا .
وَلَوْ قَالَتْ طَلَّقَنِي ثَلَاثًا وَانْقَضَتْ عِدَّتِي وَتَزَوَّجْت بِآخَرَ وَأَخَافُ أَنْ يُنْكِرَ الطَّلَاقَ فَأَحْضَرَتْهُ وَقَالَتْ لِلْقَاضِي سَلْهُ حَتَّى إذَا أَنْكَرَ أَقَمْت عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ فَالْقَاضِي يَسْأَلُهُ بِلَا خِلَافٍ ، وَالْقِيَاسُ فِي الْكُلِّ سَوَاءٌ وَهَذَا احْتِيَاطٌ .

( فَصْلٌ آخِرُ ) ( وَيَجُوزُ قَضَاءُ الْمَرْأَةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ إلَّا فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ ) اعْتِبَارًا بِشَهَادَتِهَا .
وَقَدْ مَرَّ الْوَجْهُ .

( فَصْلٌ آخَرُ ) .
( قَوْلُهُ وَيَجُوزُ قَضَاءُ الْمَرْأَةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ إلَّا فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ ) وَقَالَ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ : لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ نَاقِصَةُ الْعَقْلِ لَيْسَتْ أَهْلًا لِلْخُصُومَةِ مَعَ الرِّجَالِ فِي مَحَافِلِ الْخُصُومِ ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَقَدْ مَرَّ الْوَجْهُ ) يَعْنِي وَجْهَ جَوَازِ قَضَائِهَا ، وَهُوَ أَنَّ الْقَضَاءَ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ كَالشَّهَادَةِ وَالْمَرْأَةُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ فَتَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ .
وَقِيلَ هُوَ قَوْلُهُ قَبْلُ لِأَنَّ فِيهِ شُبْهَةَ الْبَدَلِيَّةِ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا إنَّمَا يَخُصُّ وَجْهَ اسْتِثْنَاءِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَجْعَلَ كُلًّا مِنْهُمَا ، وَالْمُصَنِّفُ لَمْ يَنْصِبْ الْخِلَافَ لِيَحْتَاجَ إلَى الْجَوَابِ عَنْ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ مَا ذَكَرَ غَايَةُ مَا يُفِيدُ مَنْعُ أَنْ تَسْتَقْضِيَ وَعَدَمُ حِلِّهِ ، وَالْكَلَامُ فِيمَا لَوْ وُلِّيَتْ وَأَثِمَ الْمُقَلِّدُ بِذَلِكَ أَوْ حَكَّمَهَا خَصْمَانِ فَقَضَتْ قَضَاءً مُوَافِقًا لِدِينِ اللَّهِ أَكَانَ يَنْفُذُ أَمْ لَا ؟ لَمْ يَنْتَهِضُ الدَّلِيلُ عَلَى نَفْيِهِ بَعْدَ مُوَافَقَتِهِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَا أَنْ يَثْبُتَ شَرْعًا سَلْبَ أَهْلِيَّتِهَا ، وَلَيْسَ فِي الشَّرْعِ سِوَى نُقْصَانِ عَقْلِهَا ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَى حَدِّ سَلْبِ وِلَايَتِهَا بِالْكُلِّيَّةِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَصْلُحُ شَاهِدَةً وَنَاظِرَةً فِي الْأَوْقَافِ وَوَصِيَّةً عَلَى الْيَتَامَى وَذَلِكَ النُّقْصَانُ بِالنِّسْبَةِ وَالْإِضَافَةِ ، ثُمَّ هُوَ مَنْسُوبٌ إلَى الْجِنْسِ فَجَازَ فِي الْفَرْدِ خِلَافُهُ ؛ أَلَا تَرَى إلَى تَصْرِيحِهِمْ بِصِدْقِ قَوْلِنَا : الرَّجُلُ خَيْرٌ مِنْ الْمَرْأَةِ مَعَ جَوَازِ كَوْنِ بَعْضِ أَفْرَادِ النِّسَاءِ خَيْرًا مِنْ بَعْضِ أَفْرَادِ الرِّجَالِ ، وَلِذَلِكَ النَّقْصِ الْغَرِيزِيِّ نَسَبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ يُوَلِّيهِنَّ عَدَمَ الْفَلَاحِ ، فَكَانَ الْحَدِيثُ مُتَعَرِّضًا

لِلْمُوَلِّينَ وَلَهُنَّ بِنَقْصِ الْحَالِ ، وَهَذَا حَقٌّ لَكِنَّ الْكَلَامَ فِيمَا لَوْ وُلِّيَتْ فَقَضَتْ بِالْحَقِّ لِمَاذَا يَبْطُلُ ذَلِكَ الْحَقُّ .

( وَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْتَخْلِفَ عَلَى الْقَضَاءِ إلَّا أَنْ يُفَوَّضَ إلَيْهِ ذَلِكَ ) لِأَنَّهُ قُلِّدَ الْقَضَاءَ دُونَ التَّقْلِيدِ بِهِ فَصَارَ كَتَوْكِيلِ الْوَكِيلِ ، بِخِلَافِ الْمَأْمُورِ بِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ حَيْثُ يَسْتَخْلِفُ لِأَنَّهُ عَلَى شَرَفِ الْفَوَاتِ لِتَوَقُّتِهِ فَكَانَ الْأَمْرُ بِهِ إذْنًا بِالِاسْتِخْلَافِ دَلَالَةً وَلَا كَذَلِكَ الْقَضَاءُ .
وَلَوْ قَضَى الثَّانِي بِمَحْضَرٍ مِنْ الْأَوَّلِ أَوْ قَضَى الثَّانِي فَأَجَازَ الْأَوَّلُ جَازَ كَمَا فِي الْوَكَالَةِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ حَضَرَهُ رَأْيُ الْأَوَّلِ وَهُوَ الشَّرْطُ ، وَإِذَا فُوِّضَ إلَيْهِ يَمْلِكُهُ فَيَصِيرُ الثَّانِي نَائِبًا عَنْ الْأَصِيلِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْأَوَّلُ عَزْلَهُ إلَّا إذَا فُوِّضَ إلَيْهِ الْعَزْلَ هُوَ الصَّحِيحُ .
.

( قَوْلُهُ وَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْتَخْلِفَ عَلَى الْقَضَاءِ ) فِي صِحَّةٍ وَلَا مَرَضٍ ( إلَّا أَنْ يُفَوَّضَ ذَلِكَ إلَيْهِ ) فَيَمْلِكَهُ كَمَا أَنَّهُ إذَا صَرَّحَ فِيهِ بِالْمَنْعِ يَمْتَنِعُ مِنْهُ وَهَذَا ( لِأَنَّهُ قُلِّدَ الْقَضَاءَ دُونَ التَّقْلِيدِ بِهِ فَصَارَ كَالْوَكِيلِ ) لَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ ( بِخِلَافِ الْمَأْمُورِ بِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ حَيْثُ ) جَازَ لَهُ أَنْ ( يَسْتَخْلِفَ ) لِأَنَّهُ لِتَوَقُّتِهِ بِحَيْثُ لَوْ عَرَضَ فِي وَقْتِهِ مَا يَمْنَعُهُ كَانَ لَا إلَى خُلْفٍ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِنْسَانَ غَرَضٌ لِلْأَعْرَاضِ فَكَانَ الْمُوَلَّى لَهُ آذِنًا فِي اسْتِخْلَافِهِ دَلَالَةً بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَخْلِفُ سَمِعَ الْخُطْبَةَ ، أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ سَمِعَهَا فَلَا لِأَنَّهَا مِنْ شَرَائِطِ افْتِتَاحِ الْجُمُعَةِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَاسْتَخْلَفَ مَنْ لَمْ يَشْهَدْ الْخُطْبَةَ حَيْثُ يَجُوزُ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ هُنَاكَ بَانٍ وَلَيْسَ بِمُفْتَتِحٍ ، وَالْخُطْبَةُ شَرْطُ الِافْتِتَاحِ وَقَدْ وُجِدَ فِي حَقِّ الْأَصْلِ ، وَلِذَا لَوْ أَفْسَدَهَا هَذَا الْخَلِيفَةُ وَاسْتَفْتَحَ يَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ الْخُطْبَةَ لِأَنَّ شُرُوعَهُ فِيهَا صَحِيحٌ ، وَبِهَذَا الشُّرُوعِ الْتَحَقَ بِمَنْ شَهِدَ الْخُطْبَةَ حُكْمًا ، وَبِخِلَافِ الْمُسْتَعِيرِ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُعِيرَ بِشَرْطِهِ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْمَنَافِعَ لِنَفْسِهِ فَكَانَ لَهُ تَمْلِيكُهَا ، بِخِلَافِ وِلَايَةِ الْقَضَاءِ فَإِنَّمَا هِيَ إذْنٌ فِي أَنْ يَعْمَلَ لِغَيْرِهِ ، وَهَذَا مَا قَالُوا : مَنْ قَامَ مَقَامَ غَيْرِهِ لِغَيْرِهِ لَا يَكُونُ لَهُ إقَامَةُ غَيْرِهِ مُقَامَ نَفْسِهِ ، وَمَنْ قَامَ مَقَامَ غَيْرِهِ لِنَفْسِهِ كَانَ لَهُ ، وَبِخِلَافِ الْوَصِيِّ يَمْلِكُ الْإِيصَاءَ وَالتَّوْكِيلَ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ أَيْضًا لِأَنَّ ثُبُوتَهَا بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَرُبَّمَا يَعْجِزُ الْوَصِيُّ عَنْ الْمُبَاشَرَةِ بِنَفْسِهِ وَالْمُوصِي قَدْ مَاتَ فَلَا يُمْكِنُ رَجْعُهُ إلَى رَأْيِهِ فَتَضَمَّنَ الْإِيصَاءُ الْإِذْنَ بِالِاسْتِخْلَافِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ قَضَى الثَّانِي بِمَحْضَرٍ مِنْ الْأَوَّلِ أَوْ قَضَى ) بِغَيْبَتِهِ فَبَلَغَهُ (

فَأَجَازَ جَازَ كَمَا فِي الْوَكَالَةِ ) إذَا وَكَّلَ الْوَكِيلُ غَيْرَهُ فَتَصَرَّفَ بِحَضْرَتِهِ أَوْ بِغَيْبَتِهِ فَأَجَازَهُ نَفَذَ ( لِأَنَّهُ حَضَرَهُ رَأْيُ الْأَوَّلِ وَهُوَ الشَّرْطُ ) فَإِنَّهُ الْمَقْصُودُ بِتَوْكِيلِهِ ، وَتَحْقِيقُ حَالِهِ أَنَّهُ فُضُولِيٌّ ابْتِدَاءً وَكِيلٌ انْتِهَاءً ، وَلَا يَمْتَنِعُ إذْ قَدْ يَجُوزُ فِي الِانْتِهَاءِ وَالْبَقَاءِ مَا لَا يَجُوزُ فِي الِابْتِدَاءِ خُصُوصًا وَقَدْ فُرِضَ زَوَالُ الْمَانِعِ مِنْ الصِّحَّةِ فِي الِابْتِدَاءِ أَوْ هُوَ كَوْنُهُ لَيْسَ مِمَّا حَضَرَهُ رَأْيُهُ ( وَإِذَا فُوِّضَ إلَيْهِ ) الِاسْتِخْلَافُ ( يَمْلِكُهُ فَيَصِيرُ الثَّانِي نَائِبًا عَنْ الْأَصِيلِ ) يَعْنِي السُّلْطَانَ ( حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْأَوَّلُ عَزْلَهُ ) إلَّا إذَا كَانَ الْمُقَلِّدُ قَالَ لَهُ وَلِّ مَنْ شِئْت وَاسْتَبْدِلْ مَنْ شِئْت فَحِينَئِذٍ يَمْلِكُ عَزْلَهُ ، أَوْ قَالَ جَعَلْتُك قَاضِي الْقُضَاةِ فَإِنَّ قَاضِيَ الْقُضَاةِ هُوَ الَّذِي يَتَصَرَّفُ فِيهِمْ مُطْلَقًا تَقْلِيدًا وَعَزْلًا ، وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ .

قَالَ ( وَإِذَا رُفِعَ إلَى الْقَاضِي حُكْمُ حَاكِمٍ أَمْضَاهُ إلَّا أَنْ يُخَالِفَ الْكِتَابَ أَوْ السُّنَّةَ أَوْ الْإِجْمَاعَ بِأَنْ يَكُونَ قَوْلًا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ .
وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ فَقَضَى بِهِ الْقَاضِي ثُمَّ جَاءَ قَاضٍ آخَرُ يَرَى غَيْرَ ذَلِكَ أَمْضَاهُ ) .
وَالْأَصْلُ أَنَّ الْقَضَاءَ مَتَى لَاقَى فَصْلًا مُجْتَهَدًا فِيهِ يُنْفِذُهُ وَلَا يَرُدُّهُ غَيْرُهُ ، لِأَنَّ اجْتِهَادَ الثَّانِي كَاجْتِهَادِ الْأَوَّلِ ، وَقَدْ يُرَجَّحُ الْأَوَّلُ بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ فَلَا يُنْقَضُ بِمَا هُوَ دُونَهُ .

( قَوْلُهُ وَإِذَا رُفِعَ إلَى الْقَاضِي حُكْمُ حَاكِمٍ أَمْضَاهُ إلَّا أَنْ يُخَالِفَ الْكِتَابَ أَوْ السُّنَّةَ ) الْمَشْهُورَةَ ( أَوْ الْإِجْمَاعَ بِأَنْ يَكُونَ قَوْلًا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ ) وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْقُدُورِيِّ : أَوْ يَكُونُ قَوْلًا إلَخْ ( وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ فَقَضَى بِهِ الْقَاضِي ثُمَّ جَاءَ قَاضٍ آخَرُ يَرَى غَيْرَ ذَلِكَ أَمْضَاهُ ) قَالُوا : إنَّمَا أَعَادَهُ لِأَنَّ فِي عِبَارَةِ الْجَامِعِ فَائِدَتَيْنِ لَيْسَتَا فِي الْقُدُورِيِّ : إحْدَاهُمَا تَقْيِيدُهُ بِالْفُقَهَاءِ ، أَفَادَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِالْخِلَافِ لَا يَنْفُذُ .
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ : وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ .
وَالثَّانِيَةُ : التَّقْيِيدُ بِكَوْنِ الْقَاضِي يَرَى غَيْرَ ذَلِكَ ، فَإِنَّ الْقُدُورِيَّ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِهَذَا فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ رَأْيُهُ فِي ذَلِكَ مُوَافِقًا لِحُكْمِ الْأَوَّلِ أَمْضَاهُ ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لَهُ لَا يُمْضِيهِ ، فَأَبَانَتْ رِوَايَةُ الْجَامِعِ أَنَّ الْإِمْضَاءَ عَامٌّ فِيمَا سِوَى الْمُسْتَثْنَيَاتِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ مُخَالِفًا لِرَأْيِهِ أَوْ مُوَافِقًا : يَعْنِي بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي عِبَارَةِ الْجَامِعِ عَلَى كَوْنِهِ عَالِمًا بِالْخِلَافِ ، وَإِنَّمَا مُفَادُهُ أَنَّ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ الَّذِي اخْتَلَفَ فِيهِ عَالِمًا بِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ ، أَوْ غَيْرَ عَالِمٍ فَإِنَّهُ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ عَالِمًا ، ثُمَّ جَاءَ قَاضٍ آخَرُ يَرَى خِلَافَ ذَلِكَ الَّذِي حَكَمَ بِهِ هَذَا أَمْضَاهُ فَرُبَّمَا يُفِيدُ أَنَّ الثَّانِيَ عَالِمٌ بِالْخِلَافِ ، وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْمُنَفِّذُ وَالْكَلَامُ فِي الْقَاضِي الْأَوَّلِ الَّذِي يُنَفِّذُ هَذَا الْآخَرُ حُكْمَهُ ، وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِالْخِلَافِ بِطَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الدَّلَالَةِ .
نَعَمْ فِي الْجَامِعِ التَّنْصِيصُ عَلَى أَنَّهُ يُنَفِّذُهُ وَإِنْ كَانَ خِلَافَ رَأْيِهِ ، وَكَلَامُ

الْقُدُورِيِّ يُفِيدُهُ أَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ : إذَا رُفِعَ إلَيْهِ حُكْمُ حَاكِمٍ أَمْضَاهُ وَهُوَ أَعَمُّ يَنْتَظِمُ مَا إذَا كَانَ مُوَافِقًا لِرَأْيِهِ أَوْ مُخَالِفًا ، وَإِنَّمَا فِي الْجَامِعِ النُّصُوصِيَّةُ عَلَيْهِ إذَا كَانَ مُخَالِفًا .
وَقَوْلُهُ إلَّا أَنْ يُخَالِفَ إلَخْ حَاصِلُهُ بَيَانُ شَرْطِ جَوَازِ الِاجْتِهَادِ ، وَمِنْهُ يُعْلَمُ كَوْنُ الْمَحَلِّ مُجْتَهَدًا فِيهِ حَتَّى تَجُوزَ مُخَالَفَتُهُ أَوْ لَا ، فَشَرْطُ حِلِّ الِاجْتِهَادِ أَنْ لَا يَكُونَ مُخَالِفًا لِلْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ : يَعْنِي الْمَشْهُورَةَ ، مِثْلُ { الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ } فَلَوْ قَضَى بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ لَا يَنْفُذُ وَيَتَوَقَّفُ عَلَى إمْضَاءِ قَاضٍ آخَرَ ذَكَرَهُ فِي أَقْضِيَةِ الْجَامِعِ ، وَفِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ يَنْفُذُ مُطْلَقًا ، ثُمَّ يُرَادُ بِالْكِتَابِ الْمُجْمَعِ عَلَى مُرَادِهِ أَوْ مَا يَكُونُ مَدْلُولٌ لَفْظُهُ وَلَمْ يَثْبُتْ نَسْخُهُ وَلَا تَأْوِيلُهُ بِدَلِيلٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ .
فَالْأَوَّلُ مِثْلُ { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } الْآيَةَ ، لَوْ قَضَى قَاضٍ بِحِلِّ أُمِّ امْرَأَتِهِ كَانَ بَاطِلًا لَا يَنْفُذُ .
وَالثَّانِي مِثْلُ { وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } وَلَا يَنْفُذُ الْحُكْمُ بِحِلِّ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا ، وَهَذَا لَا يَنْضَبِطُ فَإِنَّ النَّصَّ قَدْ يَكُونُ مُؤَوَّلًا فَيَخْرُجُ عَنْ ظَاهِرِهِ ، فَإِذَا مَنَعْنَاهُ يُجَابُ بِأَنَّهُ مُؤَوَّلٌ بِالْمَذْبُوحِ لِلْأَنْصَابِ أَيَّامَ الْجَاهِلِيَّةِ فَيَقَعُ الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ مُؤَوَّلٌ أَوْ لَيْسَ بِمُؤَوَّلٍ ، فَلَا يَكُونُ حُكْمُ أَحَدِ الْمُتَنَاظِرِينَ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُؤَوَّلٍ قَاضِيًا عَلَى غَيْرِهِ بِمَنْعِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ .
نَعَمْ قَدْ يَتَرَجَّحُ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِثُبُوتِ دَلِيلِ التَّأْوِيلِ فَيَقَعُ الِاجْتِهَادُ فِي بَعْضِ أَفْرَادِ هَذَا الْقِسْمِ أَنَّهُ مِمَّا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ أَوْ لَا ، وَلِذَا نَمْنَعُ نَحْنُ نَفَاذَ الْقَضَاءِ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ وَيُجِيزُونَهُ وَبِالْعَكْسِ ، وَلَقَدْ نُقِلَ الْخِلَافُ فِي الْحِلِّ عِنْدَنَا

أَيْضًا وَإِنْ كَانَ كَثِيرٌ لَمْ يَحْكُوا الْخِلَافَ .
فَفِي الْخُلَاصَةِ فِي رَابِعِ جِنْسٍ مِنْ الْفَصْلِ الرَّابِعِ مِنْ أَدَبِ الْقَاضِي قَالَ : وَأَمَّا الْقَضَاءُ بِحِلِّ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا فَجَائِزٌ عِنْدَهُمَا ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ انْتَهَى .
وَأَمَّا عَدَمُ تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ بِكَوْنِهِ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ عَلَى الْحُكْمِ أَوْ عَلَى تَأْوِيلِ السَّمْعِيِّ أَوْ بِنَقْلِ عَدَمِ تَسْوِيغِ فُقَهَاءِ الْعَصْرِ اجْتِهَادَهُ ، وَذَلِكَ مِثْلُ اجْتِهَادِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي جَوَازِ بَيْعِ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ لَمْ يَقْبَلْهُ الصَّحَابَةُ مِنْهُ ، فَلَوْ قَضَى بِهِ قَاضٍ لَا يَنْفُذُ حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ ، وَهَذَا هُوَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ وَفِيمَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ لَا يُعْتَبَرُ مُخَالَفَةُ الْبَعْضِ ، وَلَا يَعْنِي أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ بَلْ لَا يُعْتَبَرُ فِي جَوَازِ الِاجْتِهَادِ ، وَلَمْ يُرِدْ بِالْبَعْضِ مَا دُونَ النِّصْفِ أَوْ مَا دُونَ الْكُلِّ بَلْ الْوَاحِدَ وَالِاثْنَيْنِ وَإِلَّا لَمْ يُعْتَبَرْ قَضَاءً فِي مَحَلٍّ مُجْتَهَدٍ فِيهِ أَصْلًا ، إذْ مَا مِنْ مَحَلِّ اجْتِهَادٍ إلَّا وَأَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ أَقَلُّ مِنْ الْفَرِيقِ الْآخَرِ ، إذْ لَا يُضْبَطُ تَسَاوِي الْفَرِيقَيْنِ وَلِذَا لَمْ يُمَثِّلُوهُ قَطُّ إلَّا بِخِلَافِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَنَحْوِهِ ، وَهُوَ خِلَافُ رَجُلٍ وَاحِدٍ ، فَالْمُرَادُ إذَا اتَّفَقَ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ عَلَى حُكْمٍ فَخَالَفَهُمْ وَاحِدٌ لَا يَصِيرُ الْمَحَلُّ بِذَلِكَ مَحَلَّ اجْتِهَادٍ حَتَّى لَا يَنْفُذَ الْقَضَاءُ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ الْوَاحِدَ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِ الْبَاقِينَ ، ثُمَّ هَذَا أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِمْ سَوَّغُوا اجْتِهَادَهُ ذَلِكَ أَوْ لَا .
وَاَلَّذِي صَحَّحَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَاخْتَارَهُ أَنَّ الْوَاحِدَ الْمُخَالِفَ إنْ سَوَّغُوا لَهُ اجْتِهَادَهُ لَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْإِجْمَاعِ ، وَإِنْ لَمْ يُسَوِّغُوا لَا يَصِيرُ الْمَحَلُّ مُجْتَهَدًا فِيهِ .
قَالَ : وَإِلَيْهِ أَشَارَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ لِأَنَّ ذَلِكَ كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ

خِلَافٌ لَا اخْتِلَافٌ .
ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ : الْمُعْتَبَرُ الِاخْتِلَافُ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ : يَعْنِي أَنْ يَكُونَ الْمَحَلُّ مَحَلَّ اجْتِهَادٍ يَتَحَقَّقُ الْخِلَافُ فِيهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ .
وَقَدْ يَحْتَمِلُ بَعْضُ الْعِبَارَاتِ ضَمَّ التَّابِعِينَ ، وَعَلَيْهِ فَرَّعَ الْخَصَّافُ أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَنْقُضَ الْقَضَاءَ بِبَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ التَّابِعِينَ .
وَقَدْ حُكِيَ فِي هَذَا الْخِلَافِ عِنْدَنَا ، فَقِيلَ هَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ ، أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فَيَجُوزُ قَضَاؤُهُ وَلَا يُفْسَخُ .
وَفِي النَّوَازِلِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا يَنْفُذُ الْقَضَاءُ بِهِ ، فَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ : هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَنْبَنِي عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ الْمُتَأَخِّرَ يَرْفَعُ الْخِلَافَ الْمُتَقَدِّمَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ .
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لَا يُرْفَعُ : يَعْنِي اخْتَلَفَتْ الصَّحَابَةُ فِي جَوَازِ بَيْعِهِنَّ ، فَعَنْ عَلِيٍّ الْجَوَازُ وَعُمَرُ وَغَيْرُهُ عَلَى مَنْعِهِ ، ثُمَّ أَجْمَعَ التَّابِعُونَ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِهِنَّ فَكَانَ قَضَاءُ الْقَاضِي بِهِ عَلَى خِلَافِ الْإِجْمَاعِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَيُبْطِلُهُ الثَّانِي .
وَعِنْدَهُمَا لَمَّا لَمْ يُرْفَعْ اخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ وَقَعَ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ فَلَا يَنْقُضُهُ الثَّانِي ، وَلَكِنْ قَالَ الْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ فِي التَّقْوِيمِ : إنَّ مُحَمَّدًا رَوَى عَنْهُمْ جَمِيعًا أَنَّ الْقَضَاءَ بِبَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ لَا يَجُوزُ ، فَقَدْ عَلِمْت مَا هُنَا مِنْ تَشَعُّبِ الِاخْتِلَافِ فِي الرِّوَايَةِ .
وَبِنَاءً عَلَى اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْخِلَافِ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ فِي كَوْنِ الْمَحَلِّ اجْتِهَادِيًّا قَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يُبْطِلَ مَا قَضَى بِهِ الْقَاضِي الْمَالِكِيُّ وَالشَّافِعِيُّ بِرَأْيِهِ : يَعْنِي إنَّمَا يَلْزَمُ إذَا كَانَ قَوْلُ مَالِكٍ أَوْ الشَّافِعِيِّ وَافَقَ قَوْلَ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَوْ التَّابِعِينَ الْمُخْتَلِفِينَ فَلَا يُنْقَضُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مُخْتَلِفٌ بَيْنَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ

لَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا قَوْلُ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ بَلْ الْخِلَافُ مُقْتَضَبٌ فِيهَا بَيْنَ الْإِمَامَيْنِ لِلْقَاضِي أَنْ يُبْطِلَهُ إذَا خَالَفَ رَأْيَهُ .
وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ ، فَإِنْ صَحَّ أَنَّ مَالِكًا وَأَبَا حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيَّ مُجْتَهِدُونَ فَلَا شَكَّ فِي كَوْنِ الْمَحَلِّ اجْتِهَادِيًّا وَإِلَّا فَلَا ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ أَهْلُ اجْتِهَادٍ وَرِفْعَةٍ ، وَلَقَدْ نَرَى فِي أَثْنَاءِ الْمَسَائِلِ جَعْلَ الْمَسْأَلَةِ اجْتِهَادِيَّةً ، بِخِلَافٍ بَيْنَ الْمَشَايِخِ حَتَّى يَنْفُذَ الْقَضَاءُ بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَكَيْفَ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ إذَا لَمْ يُعْرَفْ الْخِلَافُ إلَّا بَيْنَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ ، يُؤَيِّدُهُ مَا فِي الذَّخِيرَةِ عَنْ الْحَلْوَانِيِّ أَنَّ الْأَبَ إذَا خَلَعَ الصَّغِيرَةَ عَلَى صَدَاقِهَا وَرَآهُ خَيْرًا لَهَا بِأَنْ كَانَتْ لَا تُحْسِنُ الْعِشْرَةَ مَعَ زَوْجِهَا فَإِنَّ عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ يَصِحُّ وَيَزُولُ الصَّدَاقُ عَنْ مِلْكِهَا وَيَبْرَأُ الزَّوْجُ عَنْهُ ، فَإِذَا قَضَى بِهِ قَاضٍ نَفَذَ .
وَفِي حَيْضِ مِنْهَاجِ الشَّرِيعَةِ عَنْ مَالِكٍ فِيمَنْ طَلَّقَهَا فَمَضَى عَلَيْهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ لَمْ تَرَ دَمًا فَإِنَّهَا تَعْتَدُّ بَعْدَهُ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ ، فَإِذَا قَضَى بِذَلِكَ قَاضٍ يَنْبَغِي أَنْ يُنَفِّذَ لِأَنَّهُ مُجْتَهَدٌ فِيهِ ، إلَّا أَنَّهُ نُقِلَ مِثْلُهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ يَجِبُ حِفْظُهَا لِأَنَّهَا كَثِيرَةُ الْوُقُوعِ ، ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْمُنْتَقَى أَنَّ الْعِبْرَةَ بِكَوْنِ الْمَحَلِّ مُجْتَهَدًا فِيهِ اشْتِبَاهُ الدَّلِيلِ لَا حَقِيقَةُ الْخِلَافِ .
قَالَ : أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا قَضَى بِإِبْطَالِ طَلَاقِ الْمُكْرَهِ نَفَذَ لِأَنَّهُ مُجْتَهَدٌ فِيهِ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ اشْتِبَاهِ الدَّلِيلِ إذْ اعْتِبَارُ الطَّلَاقِ بِسَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِ يَنْفِي حُكْمَهُ ، وَكَذَا لَوْ قَضَى فِي حَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ ثُمَّ رُفِعَ إلَى قَاضٍ آخَرَ يَرَى خِلَافَ ذَلِكَ يُنَفِّذُهُ ، وَلَيْسَ طَرِيقُ الْقَضَاءِ الْأَوَّلِ كَوْنَهُ فِي مُخْتَلَفٍ

فِيهِ ، وَإِنَّمَا طَرِيقُهُ أَنَّ الْقَضَاءَ الْأَوَّلَ حَصَلَ فِي مَوْضِعِ اشْتِبَاهِ الدَّلِيلِ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ ، إذْ ظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى { فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ } يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ شَهَادَتِهِنَّ مَعَ الرِّجَالِ مُطْلَقًا وَإِنْ وَرَدَتْ فِي الْمُدَايَنَةِ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِعُمُومِ اللَّفْظِ ، وَلَمْ يَرِدْ نَصٌّ قَاطِعٌ فِي إبْطَالِ شَهَادَةِ النِّسَاءِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ ؛ وَلَوْ قَضَى بِجَوَازِ نِكَاحٍ بِلَا شُهُودٍ نَفَذَ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مُخْتَلَفٌ فِيهَا ، فَمَالِكٌ وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ يَشْتَرِطَانِ الْإِعْلَانَ لَا الشُّهُودَ ، وَقَدْ اُعْتُبِرَ خِلَافُهُمَا لِأَنَّ الْمَوْضِعَ مَوْضِعُ اشْتِبَاهِ الدَّلِيلِ ، إذْ اعْتِبَارُ النِّكَاحِ بِسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ يَقْتَضِي أَنْ لَا تُشْتَرَطَ الشَّهَادَةُ انْتَهَى .
وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ إذَا كَانَتْ مُعَارَضَةُ الْمَعْنَى لِلدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ النَّصَّ تُوجِبُ اشْتِبَاهَ الدَّلِيلِ فَيَصِيرُ الْمَحَلُّ مَحَلَّ اجْتِهَادٍ يَنْفُذُ الْقَضَاءُ فِيهِ ، فَكُلُّ خِلَافٍ بَيْنَ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ أَوْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ أَوْ أَحَدِهِمْ مَحَلُّ اشْتِبَاهِ الدَّلِيلِ حِينَئِذٍ إذْ لَا يَخْلُو عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ نَقْضُهُ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى كَوْنِهِ بَيْنَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ ، وَلَا بَأْسَ بِذِكْرِ مَوَاضِعَ نَصَّ فِيهَا أَهْلُ الْمَذْهَبِ بِعَيْنِهَا إذَا قَضَى الْقَاضِي بِالْقِصَاصِ يَحْلِفُ الْمُدَّعِي أَنَّ فُلَانًا قَتَلَهُ وَهُنَاكَ لَوْثٌ مِنْ عَدَاوَةٍ ظَاهِرَةٍ كَقَوْلِ مَالِكٍ لَا يَنْفُذُ لِمُخَالَفَةِ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ { الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ } مَعَ أَنَّ مَعَهُ ظَاهِرًا فِي حَدِيثِ مُحَيِّصَةُ وَحُوَيِّصَةَ نَذْكُرُهُ فِي الْقَسَامَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى رَبُّ الْعَالَمِينَ .
وَلَوْ قَضَى بِحِلِّ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا بِمُجَرَّدِ عَقْدِ الثَّانِي بِلَا دُخُولٍ كَقَوْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ لَا يَنْفُذُ لِذَلِكَ أَيْضًا وَهُوَ حَدِيثُ الْعُسَيْلَةِ .
وَفِي السِّيَرِ مِنْ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ : إذَا قَضَى أَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَمْلِكُونَ مَا

اسْتَوْلَوْا عَلَيْهِ لَا يَنْفُذُ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ ، وَلَوْ قَضَى بِشَهَادَةِ الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ نَفَذَ .
وَفِي الْفُصُولِ نَقْلًا عَنْ فَتَاوَى رَشِيدِ الدِّينِ : الزَّوْجُ الثَّانِي إذَا طَلَّقَهَا بَعْدَ الدُّخُولِ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا ثَانِيًا وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَتَزَوَّجَهَا الْأَوَّلُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَحَكَمَ الْحَاكِمُ بِصِحَّةِ هَذَا النِّكَاحِ يَنْفُذُ لِأَنَّ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ مَسَاغًا وَهُوَ صَرِيحٌ { ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } وَهُوَ أَيْضًا مَذْهَبُ زُفَرَ .
وَلَوْ قَضَى فِي الْمَأْذُونِ فِي نَوْعٍ أَنَّهُ مَأْذُونٌ فِيهِ فَقَطْ كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ يَصِيرُ مُتَّفِقًا .
وَلَوْ قَضَى بِنِصْفِ الْجِهَازِ فِيمَنْ طَلُقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ وَقَدْ قَبَضَتْ الْمَهْرَ فَتَجَهَّزَتْ لَا يَنْفُذُ لِأَنَّهُ خِلَافُ الْجُمْهُورِ ، وَيَنْفُذُ الْقَضَاءُ بِجَوَازِ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ .
وَلَوْ قَضَى بِعَدَمِ جَوَازِ عَفْوِ الزَّوْجَةِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ بِنَاءً عَلَى قَوْلِ الْبَعْضِ إنَّهُ لَا حَقَّ لَهَا فِي الْقِصَاصِ لَا يَنْفُذُ .
وَلَوْ زَنَى بِأُمِّ امْرَأَتِهِ فَقَضَى بِإِقْرَارِ الْبِنْتِ مَعَهُ نَفَذَ .
وَحَكَى فِي الْفُصُولِ فِيمَا إذَا زَنَى بِامْرَأَةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَ بِنْتَهَا فَقَضَى بِجَوَازِهِ خِلَافًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَنْفُذُ لِلنَّصِّ عَلَيْهِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَجُوزُ ، وَبِصِحَّةِ السَّلَمِ فِي الْحَيَوَانِ يَنْفُذُ ، وَيَنْفُذُ بِالْقُرْعَةِ فِي رَقِيقٍ أَعْتَقَ الْمَيِّتُ وَاحِدًا مِنْهُمْ وَبِالشَّهَادَةِ لِأَبِيهِ ، وَعَكْسُهُ يَنْفُذُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَلَا يَنْفُذُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ ، وَبِالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ فِيمَا دُونَ مُدَّةِ السَّفَرِ نَفَذَ وَبِشَهَادَةِ شُهُودٍ عَلَى وَصِيَّةٍ مَخْتُومَةٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْرَأَهَا عَلَيْهِمْ الْمَيِّتُ أَمْضَاهُ الْآخَرُ وَبِصِحَّةِ النِّكَاحِ الْمُوَقَّتِ بِأَيَّامٍ نَفَذَ وَلَوْ عَقَدَا مُوَقَّتًا بِلَفْظِ الْمُتْعَةِ ، نَحْوُ مَتِّعِينِي بِنَفْسِك عَشَرَةَ أَيَّامٍ لَا يَنْفُذُ .

وَلَوْ قَضَى بِرَدِّ زَوْجَتِهِ بِالْعُيُوبِ مِنْ الْعَمَى وَالْجُنُونِ نَفَذَ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ بِرَدِّهَا بِالْعُيُوبِ الْخَمْسَةِ ، وَكَذَا بِصِحَّةِ رَدِّ الزَّوْجَةِ لَهُ .
وَلَوْ قَضَى بِسُقُوطِ الْمَهْرِ بِالتَّقَادُمِ بِلَا إقْرَارٍ وَلَا بَيِّنَةٍ لَمْ يَنْفُذْ ، وَكَذَا إذَا قَضَى أَنْ لَا يُؤَجَّلَ الْعِنِّينُ .
هَذَا فِي الْقَضَاءِ بِالْمُجْتَهَدِ فِيهِ .
أَمَّا إذَا كَانَ نَفْسُ الْقَضَاءِ مُجْتَهَدًا فِيهِ فَهَذِهِ فُرَيْعَاتٌ مِنْهُ ، وَأَصْلُهُ أَنَّ الْخِلَافَ إذَا كَانَ فِي نَفْسِ الْقَضَاءِ وَالْوَاقِعُ تَوَقَّفَ عَلَى إمْضَاءِ قَاضٍ آخَرَ فَإِنْ أَمْضَاهُ لَيْسَ لِلثَّالِثِ نَقْضُهُ لِأَنَّ قَضَاءَ الثَّانِي هُوَ الَّذِي وَقَعَ فِي مُجْتَهَدٍ فِيهِ : أَعْنِي قَضَاءَ الْأَوَّلِ .
وَعَلَيْهِ فَرْعٌ إذَا قَضَى بِالْحَجْرِ عَلَى الْمُفْسِدِ لِلْفَسَادِ لَا يَنْفُذُ لِتَحَقُّقِ الْخِلَافِ فِي الْقَضَاءِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى إمْضَاءِ قَاضٍ آخَرَ ، وَقِيلَ أَنْ يُمْضِيَ الثَّانِي نَقْضَهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ قَضَاءً فِي مُجْتَهَدٍ فِيهِ ، وَكَذَا لَوْ قَضَى لِامْرَأَتِهِ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ فَالْقَاضِي الثَّانِي مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُجِيزَهُ أَوْ يَرُدَّهُ لِأَنَّ الْخِلَافَ وَقَعَ فِي نَفْسِ الْقَضَاءِ ، وَمِنْهُ مَا لَوْ قَضَى الْمَحْدُودُ أَوْ الْأَعْمَى .
وَأَمَّا قَضَاءُ السُّلْطَانِ فِي أَمْرٍ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَنْفُذُ ، وَقِيلَ لَا يَنْفُذُ .
فَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَا يَنْفُذُ يَحْتَاجُ فِي نَفَاذِهِ إلَى أَنْ يُنْفِذَهُ قَاضٍ آخَرُ .
وَقِيلَ فِي مَسْأَلَةِ الْحَجْرِ فِي صِحَّةِ نَقْضِ الثَّانِي إنَّ قَضَاءَ الْأَوَّلِ لَيْسَ بِقَضَاءٍ لِعَدَمِ الْمَقْضِيِّ لَهُ وَعَلَيْهِ نَفَذَ قَضَاءُ الثَّانِي بِإِطْلَاقِهِ عَنْ الْحَجْرِ .
( قَوْلُهُ وَالْأَصْلُ ) حَاصِلُهُ تَوْجِيهُ أَنَّ الْقَاضِيَ الثَّانِيَ يُنَفِّذُ خِلَافَ رَأْيِهِ فِي الْمَرْفُوعِ إلَيْهِ وَهُوَ أَنَّ اجْتِهَادَ الثَّانِي فِي الْبُطْلَانِ كَاجْتِهَادِ الْأَوَّلِ فِي الصِّحَّةِ مَثَلًا فَتَعَارَضَ اجْتِهَادَاهُمَا وَتَرَجَّحَ الْأَوَّلُ بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ فَلَا يَنْقُضُهُ الثَّانِي بِاجْتِهَادٍ هُوَ دُونَهُ .

( وَلَوْ قَضَى فِي الْمُجْتَهَدِ فِيهِ مُخَالِفًا لِرَأْيِهِ نَاسِيًا لِمَذْهَبِهِ نَفَذَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَإِنْ كَانَ عَامِدًا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ ) وَوَجْهُ النَّفَاذِ أَنَّهُ لَيْسَ بِخَطَأٍ بِيَقِينٍ ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَنْفُذُ فِي الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّهُ قَضَى بِمَا هُوَ خَطَأٌ عِنْدَهُ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى ، ثُمَّ الْمُجْتَهَدُ فِيهِ أَنْ لَا يَكُونَ مُخَالِفًا لِمَا ذَكَرْنَا .
وَالْمُرَادُ بِالسُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ مِنْهَا وَفِيمَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ لَا يُعْتَبَرُ مُخَالَفَةُ الْبَعْضِ وَذَلِكَ خِلَافٌ وَلَيْسَ بِاخْتِلَافٍ وَالْمُعْتَبَرُ الِاخْتِلَافُ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ

( قَوْلُهُ وَلَوْ قَضَى فِي الْمُجْتَهَدِ فِيهِ مُخَالِفًا لِرَأْيِهِ نَاسِيًا لِمَذْهَبِهِ نَفَذَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) رِوَايَةً وَاحِدَةً ( وَإِنْ كَانَ عَامِدًا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ ) عَنْهُ ( وَوَجْهُ النَّفَاذِ أَنَّهُ لَيْسَ بِخَطَأٍ بِيَقِينٍ ) لِأَنَّ رَأْيَهُ يَحْتَمِلُ الْخَطَأَ وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ عِنْدَهُ الصَّوَابَ ، وَرَأْيُ غَيْرِهِ يَحْتَمِلُ الصَّوَابَ وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ عِنْدَهُ خَطَأَهُ فَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا خَطَأً بِيَقِينٍ ، فَكَانَ حَاصِلُهُ قَضَاءً فِي مَحَلٍّ مُجْتَهَدٍ فِيهِ فَيَنْفُذُ .
وَوَجْهُ عَدَمِ النَّفَاذِ أَنَّ قَضَاءَهُ مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّهُ غَيْرُ حَقٍّ عَبَثٌ فَلَا يُعْتَبَرُ كَمَنْ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ فَوَقَعَ تَحَرِّيهِ إلَى جِهَةٍ فَصَلَّى إلَى غَيْرِهَا لَا يَصِحُّ لِاعْتِقَادِهِ خَطَأَ نَفْسِهِ ، فَكَذَا هَذَا ، وَبِهِ أَخَذَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْأُوزْجَنْدِيُّ .
وَبِالْأَوَّلِ أَخَذَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ وَفَرَّعَ بَعْضُهُمْ عَلَيْهِ أَنَّ مَا يَفْعَلُهُ الْقُضَاةُ مِنْ الْإِرْسَالِ إلَى الشَّافِعِيِّ لِيَحْكُمَ بِبُطْلَانِ الْيَمِينِ الْمُضَافَةِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِشَرْطِ كَوْنِ الْقَاضِي الْمُرْسَلِ يَرَى بُطْلَانَهُ كَالشَّافِعِيِّ وَإِلَّا كَانَ مُقَلِّدًا لِغَيْرِهِ لِيَفْعَلَ مَا هُوَ الْبَاطِلُ عِنْدَهُ وَهُوَ بَاطِلٌ .
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْمُعِينِ : هَذَا خِلَافُ مَا عَلَيْهِ السَّلَفِ ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَتَقَلَّدُونَ الْقَضَاءَ مِنْ الْخُلَفَاءِ وَيَرَوْنَ مَا يَحْكُمُونَ بِهِ نَافِذًا وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِرَأْيِ الْخُلَفَاءِ انْتَهَى .
وَأَوْكَدُ الْأُمُورِ فِي هَذَا حُكْمُ شُرَيْحٍ بِمَا يُخَالِفُ رَأْيَ عَلِيٍّ كَثِيرًا وَهُوَ يَعْلَمُ وَيُوَافِقُهُ كَمَا عَلِمَ فِي رَدِّهِ شَهَادَةَ الْحَسَنِ لَهُ وَعُمَرَ قَبْلَهُ ، فَقِيلَ صَحَّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَلَّدَ أَبَا الدَّرْدَاءِ الْقَضَاءَ فَاخْتَصَمَ إلَيْهِ رَجُلَانِ فَقَضَى لِأَحَدِهِمَا ثُمَّ لَقِيَ الْمَقْضِيَّ عَلَيْهِ عُمَرُ فَسَأَلَهُ عَنْ حَالِهِ فَقَالَ : قَضَى عَلَيَّ فَقَالَ : لَوْ كُنْت مَكَانَهُ قَضَيْت لَك ، قَالَ : فَمَا يَمْنَعُك ؟ فَقَالَ عُمَرُ : لَيْسَ هُنَا نَصٌّ

وَالرَّأْيُ مُشْتَرَكٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ .
وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْقَاضِيَ الْمُرْسِلَ يَقْطَعُ بِأَنَّ مَا يَفْعَلُهُ الْقَاضِي الْمُرْسَلُ إلَيْهِ مَأْمُورٌ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، فَظَنُّهُ بُطْلَانَهُ مَعْنَاهُ ظَنُّهُ عَدَمَ مُطَابَقَتِهِ لِحُكْمِ اللَّهِ الثَّابِتِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ، لَكِنَّ الْقَطْعَ بِأَنَّ الْمُكَلَّفَ بِهِ مِنْهُ تَعَالَى لَيْسَ إصَابَةَ ذَلِكَ بَلْ الْعَمَلُ بِمَظْنُونِهِ ، وَإِنْ خَالَفَ حُكْمَهُ تَعَالَى فَقَدْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْمَلَ بِخِلَافِ حُكْمِهِ تَعَالَى فَكَانَ إرْسَالُ الْحَنَفِيِّ إلَيْهِ إرْسَالًا لَأَنْ يَحْكُمَ بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّ اللَّهَ جَوَّزَ لَهُ أَنْ يَقُولَ هَذَا الْقَوْلَ وَأَنْ يَعْمَلَ بِهِ مَنْ أَفْتَاهُ بِهِ أَوْ حَكَمَ بِهِ عَلَيْهِ ، وَاقْتِصَارُ الْمُصَنِّفِ عَلَى وَجْهِ النَّفَاذِ دَلِيلُ أَنَّهُ الْمُرَجَّحُ عِنْدَهُ .
هَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ( وَعِنْدَهُمَا لَا يَنْفُذُ فِي الْوَجْهَيْنِ ) يَعْنِي وَجْهَ النِّسْيَانِ وَالْعَمْدِ ( لِأَنَّهُ قَضَى بِمَا هُوَ خَطَأٌ عِنْدَهُ ) وَقَدْ تَضَمَّنَ وَجْهُ أَبِي حَنِيفَةَ جَوَابَهُ بِيَسِيرِ تَأَمُّلٍ ، وَمَعَ ذَلِكَ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ كَصَاحِبِ الْمُحِيطِ الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا .
وَذَكَرَ فِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى أَنَّ الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ الْفَتْوَى .
وَالْوَجْهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَنْ يُفْتَى بِقَوْلِهِمَا لِأَنَّ التَّارِكَ لِمَذْهَبِهِ عَمْدًا لَا يَفْعَلُهُ إلَّا لِهَوًى بَاطِلٍ لَا لِقَصْدٍ جَمِيلٍ .
وَأَمَّا النَّاسِي فَلِأَنَّ الْمُقَلِّدَ مَا قَلَّدَهُ إلَّا لِيَحْكُمَ بِمَذْهَبِهِ لَا بِمَذْهَبِ غَيْرِهِ ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْقَاضِي الْمُجْتَهِدِ .
فَأَمَّا الْمُقَلِّدُ فَإِنَّمَا وَلَّاهُ لِيَحْكُمَ بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ مَثَلًا فَلَا يَمْلِكُ الْمُخَالَفَةَ فَيَكُونُ مَعْزُولًا بِالنِّسْبَةِ إلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ .
هَذَا وَفِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ ذَكَرَ الْخِلَافَ فِي حَمْلِ الْإِقْدَامِ عَلَى الْقَضَاءِ بِخِلَافِ مَذْهَبِهِ .
وَقَالَ : وَجْهُ مَنْ قَالَ بِالْجَوَازِ أَنَّ الْقَاضِيَ مَأْمُورٌ

بِالْمُشَاوَرَةِ وَقَدْ تَقَعُ عَلَى خِلَافِ رَأْيِهِ .
وَجْهُ الْمَنْعِ قَوْله تَعَالَى { وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } الْآيَةَ .
وَاتِّبَاعُهُ غَيْرَ رَأْيِهِ اتِّبَاعُ هَوَى غَيْرِهِ .
وَالْوَجْهُ الصَّحِيحُ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ مَأْمُورٌ بِالْعَمَلِ بِمُقْتَضَى ظَنِّهِ إجْمَاعًا ، وَهَذَا بِخِلَافِ مُقْتَضَى ظَنِّهِ وَعَمَلِهِ هُنَا لَيْسَ إلَّا قَضَاؤُهُ ، بِخِلَافِ الْمُرْسَلِ إلَى مَنْ يَرَى خِلَافَ رَأْيِهِ لِيَحْكُمَ هُوَ فَإِنَّهُ لَمْ يَحْكُمْ فِيهِ بِشَيْءٍ .
هَذَا وَمِنْ تَتِمَّةِ الْيَمِينِ الْمُضَافَةِ أَنَّهُ إذَا فَسَخَ الْيَمِينَ الْمُضَافَةَ بَعْدَ التَّزَوُّجِ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَجْدِيدِ الْعَقْدِ ، وَلَوْ وَطِئَهَا الزَّوْجُ بَعْدَ النِّكَاحِ قَبْلَ الْفَسْخِ ثُمَّ فَسَخَ حُكِيَ عَنْ بُرْهَانِ الْأَئِمَّةِ يَكُونُ الْوَطْءُ حَلَالًا ، وَلَوْ كَانَتْ الْيَمِينُ كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً وَفُسِخَتْ الْيَمِينُ ثُمَّ تَزَوَّجَ بِأُخْرَى هَلْ يَحْتَاجُ إلَى الْفَسْخِ فِي كُلِّ امْرَأَةٍ ؟ ذُكِرَ فِيهِ خِلَافٍ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَحْتَاجُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا .
وَفِي الْمُنْتَقَى ذَكَرَ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَحْتَاجُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَحْتَاجُ .
وَاخْتَلَفَ فِيهِ الْمَشَايِخُ أَيْضًا .
وَحِيلَةُ أَنْ لَا يَحْتَاجَ فِي كُلِّ امْرَأَةٍ أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي عِنْدَ تَزَوُّجِ امْرَأَةٍ بِبُطْلَانِ الْيَمِينِ الْوَاقِعَةِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ قَيْدِ فَسْخِهَا فِي حَقِّ تِلْكَ الْمَرْأَةِ ، وَسَنَذْكُرُ فِي أَمْرِ الْفَتْوَى فِيهَا كَلَامًا آخَرَ فِي بَابِ التَّحْكِيمِ .

قَالَ ( وَكُلُّ شَيْءٍ قَضَى بِهِ الْقَاضِي فِي الظَّاهِرِ بِتَحْرِيمِهِ فَهُوَ فِي الْبَاطِنِ كَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) وَكَذَا إذَا قَضَى بِإِحْلَالٍ ، وَهَذَا إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى بِسَبَبٍ مُعَيَّنٍ وَهِيَ مَسْأَلَةُ قَضَاءِ الْقَاضِي فِي الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ بِشَهَادَةِ الزُّورِ وَقَدْ مَرَّتْ فِي النِّكَاحِ

( قَوْلُهُ وَكُلُّ شَيْءٍ قَضَى بِهِ الْقَاضِي فِي الظَّاهِرِ بِتَحْرِيمِهِ فَهُوَ فِي الْبَاطِنِ كَذَلِكَ ) أَيْ هُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَرَامٌ وَإِنْ كَانَ الشُّهُودُ الَّذِينَ قَضَى بِهِمْ كَذَبَةً وَالْقَاضِي لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ ( وَكَذَا إذَا قَضَى بِإِحْلَالٍ ) يَكُونُ حَلَالًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ بِشَهَادَةِ الزُّورِ ( وَهَذَا ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ مَشْرُوطٌ بِمَا ( إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى بِسَبَبٍ مُعَيَّنٍ ) لِلْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي النِّكَاحِ الْمُعَنْوَنَةُ بِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ بِشَهَادَةِ الزُّورِ بِغَيْرِ عِلْمِ الْقَاضِي نَافِذٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بَاطِنًا خِلَافًا لِصَاحِبَيْهِ وَبَاقِي الْأَئِمَّةِ .
وَمِنْ الْمِثْلِ : ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى امْرَأَةٍ نِكَاحًا وَهِيَ جَاحِدَةٌ وَأَقَامَ بَيِّنَةَ زُورٍ فَقَضَى بِالنِّكَاحِ بَيْنَهُمَا حَلَّ لِلْمُدَّعِي وَطْؤُهَا وَلَهَا التَّمْكِينُ خِلَافًا لَهُمْ ، وَكَذَا إذَا ادَّعَتْ نِكَاحًا عَلَى رَجُلٍ وَهُوَ يَجْحَدُهُ ، وَمِنْهَا قَضَى بِبَيْعِ أَمَةٍ بِشَهَادَةِ زُورٍ بِأَنْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ بَاعَهَا مِنْهُ أَوْ أَنَّك اشْتَرَيْتهَا حَلَّ لِلْمُنْكِرِ وَطْؤُهَا إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ الزُّورُ وَقَضَى بِهَا ، وَكَذَا فِي الْفُسُوخِ بِالْبَيْعِ وَالْإِقَالَةِ .
وَفِي الْهِبَةِ رِوَايَتَانِ .
وَمِنْهَا ادَّعَتْ أَنَّ الزَّوْجَ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَهُوَ يُنْكِرُ فَأَقَامَتْ بَيِّنَةَ زُورٍ فَقَضَى بِالْفُرْقَةِ فَتَزَوَّجَتْ بِآخَرَ حَلَّ لَهُ وَطْؤُهَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ عَلِمَ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ ، وَلَا يَحِلُّ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ إذَا كَانَ عَالِمًا بِكَذِبِ الشُّهُودِ .
وَمِنْ صُوَرِ التَّحْرِيمِ : صَبِيٌّ وَصَبِيَّةٌ سُبِيَا فَكَبِرَا وَأُعْتِقَا ثُمَّ تَزَوَّجَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ فَجَاءَ حَرْبِيٌّ مُسْلِمًا وَأَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهُمَا وَلَدَاهُ قَضَى الْقَاضِي بَيْنَهُمَا بِالْفُرْقَةِ ، فَإِنْ رَجَعَ الشُّهُودُ أَوْ تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ شُهُودُ زُورٍ لَا يَحِلُّ لِلزَّوْجِ وَطْؤُهَا عِنْدَهُ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالْحُرْمَةِ

نَفَذَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا .
وَمُحَمَّدٌ فِي هَذَا الْفَرْعِ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ حَقِيقَةَ كَذِبِ الشُّهُودِ ، وَأَجْمَعُوا فِي الْأَمْلَاكِ الْمُرْسَلَةِ عَنْ تَعْيِينِ سَبَبِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ بَاطِنًا ، وَالْوَجْهُ فِي الْأَصْلِ .
وَالْفَرْقُ تَقَدَّمَ قُبَيْلَ بَابِ الْأَوْلِيَاءِ وَالْأَكِفَّاءِ ، وَمِنْ الْأَوْجُهِ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَوْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَمْرِ الزَّوْجِ نَفَذَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فَبِأَمْرِ اللَّهِ أَوْلَى ، وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِذَلِكَ مِنْهُ جَلَّ وَعَلَا ، وَأَمَّا الِاسْتِشْهَادُ بِتَفْرِيقِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ يَنْفُذُ بَاطِنًا وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا كَاذِبًا فَلَيْسَ بِشَيْءٍ .
وَفِي الْخُلَاصَةِ : وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ ثُمَّ أَنْكَرَ وَحَلَفَ فَقَضَى لَهُ بِهَا لَا يَحِلُّ وَطْؤُهَا ، وَأَنَّ الشُّهُودَ لَوْ ظَهَرُوا عَبِيدًا أَوْ كُفَّارًا أَوْ مَحْدُودِينَ لَا يَنْفُذُ بَاطِنًا .
وَفِيهَا رَجُلٌ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ أَلْبَتَّةَ وَنَوَى وَاحِدَةً بَائِنَةً أَوْ رَجْعِيَّةً فَقَضَى الْقَاضِي بِأَنَّهَا ثَلَاثًا أَخْذًا بِقَوْلِ عَلِيٍّ نَفَذَ الْقَضَاءُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ إنْ كَانَ الزَّوْجُ مُجْتَهِدًا يَتْبَعُ رَأْيَ الْقَاضِي عِنْدَ مُحَمَّدٍ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَتْبَعُ رَأْيَ الْقَاضِي إنْ كَانَ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ مَقْضِيًّا لَهُ يَتْبَعُ أَشَدَّ الْأَمْرَيْنِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ عَامِّيًّا فَإِنْ اسْتَفْتَى فَمَا أَفْتَاهُ بِهِ الْمُفْتِي صَارَ كَالثَّابِتِ بِالِاجْتِهَادِ عِنْدَهُ وَإِنْ لَمْ يَسْتَفْتِ أَخَذَ بِمَا قُضِيَ بِهِ انْتَهَى .
وَالْوَجْهُ عِنْدِي قَوْلُ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ اتِّصَالَ الْقَضَاءِ بِالِاجْتِهَادِ الْكَائِنِ لِلْقَاضِي يُرَجِّحُهُ عَلَى اجْتِهَادِ الزَّوْجِ وَالْأَخْذُ بِالرَّاجِحِ مُتَعَيِّنٌ ، وَكَوْنُهُ لَا يَرَاهُ حَلَالًا إنَّمَا يَمْنَعُهُ مِنْ الْقُرْبَانِ قَبْلَ الْقَضَاءِ ، أَمَّا بَعْدَهُ وَبَعْدَ نَفَاذِهِ بَاطِنًا كَمَا فُرِضَتْ الْمَسْأَلَةُ فَلَا .

قَالَ ( وَلَا يَقْضِي الْقَاضِي عَلَى غَائِبٍ إلَّا أَنْ يَحْضُرَ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَجُوزُ لِوُجُودِ الْحُجَّةِ وَهِيَ الْبَيِّنَةُ فَظَهَرَ الْحَقُّ .
وَلَنَا أَنَّ الْعَمَلَ بِالشَّهَادَةِ لِقَطْعِ الْمُنَازَعَةِ ، وَلَا مُنَازَعَةَ دُونَ الْإِنْكَارِ وَلَمْ يُوجَدْ ، وَلِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْإِقْرَارَ وَالْإِنْكَارَ مِنْ الْخَصْمِ فَيَشْتَبِهُ وَجْهُ الْقَضَاءِ لِأَنَّ أَحْكَامَهُمَا مُخْتَلِفَةٌ ، وَلَوْ أَنْكَرَ ثُمَّ غَابَ فَكَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّرْطَ قِيَامُ الْإِنْكَارِ وَقْتَ الْقَضَاءِ ، وَفِيهِ خِلَافُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَمَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ قَدْ يَكُونُ نَائِبًا بِإِنَابَتِهِ كَالْوَكِيلِ أَوْ بِإِنَابَةِ الشَّرْعِ كَالْوَصِيِّ مِنْ جِهَةِ الْقَاضِي ، وَقَدْ يَكُونُ حُكْمًا بِأَنْ كَانَ مَا يَدَّعِي عَلَى الْغَائِبِ سَبَبًا لِمَا يَدَّعِيهِ عَلَى الْحَاضِرِ وَهَذَا فِي غَيْرِ صُورَةٍ فِي الْكُتُبِ ، أَمَّا إذَا كَانَ شَرْطًا لِحَقِّهِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِهِ فِي جَعْلِهِ خَصْمًا عَنْ الْغَائِبِ وَقَدْ عُرِفَ تَمَامُهُ فِي الْجَامِعِ

( قَوْلُهُ وَلَا يَقْضِي الْقَاضِي عَلَى غَائِبٍ إلَّا أَنْ يَحْضُرَ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَجُوزُ ) إذَا كَانَ غَائِبًا عَنْ الْبَلَدِ أَوْ فِيهَا وَهُوَ مُسْتَتِرٌ قَوْلًا وَاحِدًا وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ ، وَإِنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ غَيْرَ مُخْتَفٍ فَلَهُ قَوْلَانِ أَصَحُّهُمَا لَا يَحْكُمُ عَلَيْهِ بِدُونِ حُضُورِهِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ .
وَالْفَرْقُ أَنَّ فِي الْمُسْتَتِرِ تَضْيِيعُ الْحُقُوقِ لَوْ لَمْ يَحْكُمْ وَفِي غَيْرِهِ لَا .
احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ } فَاشْتِرَاطُ حُضُورِ الْخَصْمِ زِيَادَةٌ عَلَيْهِ بِلَا دَلِيلٍ .
وَلَنَا { قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ حِينَ اسْتَقْضَاهُ عَلَى الْيَمَنِ لَا تَقْضِ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ بِشَيْءٍ حَتَّى تَسْمَعَ كَلَامَ الْآخَرِ } وَقَدَّمْنَاهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ وَتَصْحِيحِهِ وَتَحْسِينِهِ ، فَعُلِمَ أَنَّ جَهَالَةَ كَلَامِهِ مَانِعَةٌ مِنْ الْقَضَاءِ ، وَذَلِكَ ثَابِتٌ مَعَ غَيْبَتِهِ وَغَيْبَةِ مَنْ يَقُومُ مَعَهُ ، وَلِأَنَّ حُجِّيَّةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى وَجْهٍ يُوجِبُ الْعَمَلَ بِهَا مَوْقُوفٌ عَلَى عَجْزِ الْمُنْكِرِ عَنْ الدَّفْعِ وَالطَّعْنِ فِيهَا ، وَالْعَجْزُ عَنْهُ لَا يُعْلَمُ إلَّا مَعَ حُضُورِهِ أَوْ نَائِبِهِ ، وَلِأَنَّ شَرْطَ الْعَمَلِ بِهَا الْإِنْكَارُ حَتَّى لَا تُسْمَعَ عَلَى مُقِرٍّ ، وَلَا يُقْضَى بِهَا إذَا اعْتَرَضَ الْإِقْرَارُ قَبْلَ الْقَضَاءِ وَبِغَيْبَتِهِ يَفُوتُ الْعِلْمُ بِوُجُودِ شَرْطِ الْعَمَلِ بِهِ وَهُوَ الْإِنْكَارُ ، وَمَا لَمْ يُعْلَمْ بِوُجُودِ الشَّرْطِ لَا يُحْكَمُ بِثُبُوتِ الْمَشْرُوطِ وَهُوَ صِحَّةُ الْحُكْمِ ، وَلَا يَكْتَفِي فِي الْحُكْمِ بِثُبُوتِهِ كَوْنُهُ الْأَصْلَ لِأَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ وُجُودُ أَمْرٍ فَلَا بُدَّ مِنْ ثُبُوتِ وُجُودِهِ ، وَلِذَا قُلْنَا جَمِيعًا فِيمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ إنْ لَمْ تَدْخُلْ الدَّارَ الْيَوْمَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَمَضَى الْيَوْمُ وَقَالَ السَّيِّدُ دَخَلْت وَقَالَ الْعَبْدُ لَمْ أَدْخُلْ لَا يُحْكَمُ بِوُجُودِ الْعِتْقِ لِوُجُودِ الشَّرْطِ بِنَاءً عَلَى

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78