كتاب : فتح القدير
المؤلف : كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي

( فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ الْقَارِنُ مَكَّةَ وَتَوَجَّهَ إلَى عَرَفَاتٍ فَقَدْ صَارَ رَافِضًا لِعُمْرَتِهِ بِالْوُقُوفِ ) لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ أَدَاؤُهَا لِأَنَّهُ يَصِيرُ بَانِيًا أَفْعَالَ الْعُمْرَةِ عَلَى أَفْعَالِ الْحَجِّ ، وَذَلِكَ خِلَافُ الْمَشْرُوعِ .
وَلَا يَصِيرُ رَافِضًا بِمُجَرَّدِ التَّوَجُّهِ هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَيْضًا .
وَالْفَرْقُ لَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُصَلِّي الظُّهْرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إذَا تَوَجَّهَ إلَيْهَا أَنَّ الْأَمْرَ هُنَالِكَ بِالتَّوَجُّهِ مُتَوَجِّهٌ بَعْدَ أَدَاءِ الظُّهْرِ ، وَالتَّوَجُّهُ فِي الْقِرَانِ وَالتَّمَتُّعِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ قَبْلَ أَدَاءِ الْعُمْرَةِ فَافْتَرَقَا .
قَالَ ( وَسَقَطَ عَنْهُ دَمُ الْقِرَانِ ) لِأَنَّهُ لَمَّا ارْتَفَضَتْ الْعُمْرَةُ لَمْ يَرْتَفِقْ بِأَدَاءِ النُّسُكَيْنِ ( وَعَلَيْهِ دَمٌ لِرَفْضِ الْعُمْرَةِ ) بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهَا ( وَعَلَيْهِ قَضَاؤُهَا ) لِصِحَّةِ الشُّرُوعِ فِيهَا فَأَشْبَهَ الْمُحْصَرَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( قَوْلُهُ فَقَدْ صَارَ رَافِضًا لِعُمْرَتِهِ ) أَطْلَقَ فِيهِ ، وَفِي كَافِي الْحَاكِمِ قَالَ مُحَمَّدٌ : لَا يَصِيرُ رَافِضًا لِعُمْرَتِهِ حَتَّى يَقِفَ بِعَرَفَةَ بَعْدَ الزَّوَالِ ا هـ .
وَهُوَ حَقٌّ لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ لَيْسَ وَقْتًا لِلْوُقُوفِ فَحُلُولُهُ بِهَا كَحُلُولِهِ بِغَيْرِهَا ( قَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ ) احْتِرَازٌ عَنْ رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَرْفُضُهَا بِمُجَرَّدِ التَّوَجُّهِ لِأَنَّهُ مِنْ خَصَائِصِ الْحَجِّ فَيَرْتَفِضُ بِهِ كَمَا تَرْتَفِضُ الْجُمُعَةُ بَعْدَ الظُّهْرِ بِالتَّوَجُّهِ إلَيْهَا عِنْدَهُ ، وَالصَّحِيحُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ .
وَالْفَرْقُ أَنَّ إقَامَةَ مَا هُوَ مِنْ خُصُوصِيَّاتِ الشَّيْءِ مَقَامَهُ إنَّمَا هُوَ عِنْدَ كَوْنِ ذَلِكَ الشَّيْءِ مَطْلُوبًا مَأْمُورًا بِهِ ، وَهُنَا الْقَارِنُ مَأْمُورٌ بِضِدِّ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ قَبْلَ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ ، فَهُوَ مَأْمُورٌ بِالرُّجُوعِ لِيُرَتِّبَ الْأَفْعَالَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ فَلَا يُقَامُ التَّوَجُّهُ مَقَامَ نَفْسِ الْوُقُوفِ لِأَنَّهُ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ احْتِيَاطًا لِإِثْبَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ ، بِخِلَافِ الْجُمُعَةِ عَلَى مَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنْ الْكِتَابِ ، وَكَذَا إذَا وَقَفَ بَعْدَ أَنْ طَافَ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ فَإِنَّهُ يَرْفُضُ الْعُمْرَةَ ، وَلَوْ كَانَ طَافَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ لَمْ يَصِرْ رَافِضًا لِلْعُمْرَةِ بِالْوُقُوفِ وَأَتَمَّهَا يَوْمَ النَّحْرِ وَهُوَ قَارِنٌ .
وَإِنْ لَمْ يَطُفْ لِعُمْرَتِهِ حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ بَلْ طَافَ وَسَعَى يَنْوِي عَنْ حَجَّتِهِ ثُمَّ وَقَفَ بِعَرَفَةَ لَمْ يَكُنْ رَافِضًا لِعُمْرَتِهِ ، وَكَانَ طَوَافُهُ وَسَعْيُهُ لَهَا وَهُوَ رَجُلٌ لَمْ يَطُفْ لِلْحَجِّ فَيَرْمُلُ فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ وَيَسْعَى بَعْدَهُ ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْمَأْتِيَّ بِهِ إذَا كَانَ مِنْ جِنْسِ مَا هُوَ مُتَلَبَّسٌ بِهِ فِي وَقْتٍ يَصْلُحُ لَهُ يَنْصَرِفُ إلَى مَا هُوَ مُتَلَبَّسٌ بِهِ .
وَعَنْ هَذَا قَوْلُنَا : لَوْ طَافَ وَسَعَى لِلْحَجِّ ثُمَّ طَافَ وَسَعَى لِعُمْرَةٍ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَكَانَ الْأَوَّلُ عَنْ الْعُمْرَةِ وَالثَّانِي عَنْ الْحَجِّ .

وَهَذَا كَمَنْ سَجَدَ فِي الصَّلَاةِ بَعْدَ الرُّكُوعِ يَنْوِي سَجْدَةَ تِلَاوَةٍ عَلَيْهِ انْصَرَفَ إلَى سَجْدَةِ الصَّلَاةِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .

بَابُ التَّمَتُّعِ ( التَّمَتُّعُ أَفْضَلُ مِنْ الْإِفْرَادِ عِنْدَنَا ) وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْإِفْرَادَ أَفْضَلُ ؛ لِأَنَّ الْمُتَمَتِّعَ سَفَرُهُ وَاقِعٌ لِعُمْرَتِهِ وَالْمُفْرِدَ سَفَرُهُ وَاقِعٌ لِحَجَّتِهِ .
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ فِي التَّمَتُّعِ جَمْعًا بَيْنَ الْعِبَادَتَيْنِ فَأَشْبَهَ الْقِرَانَ ثُمَّ فِيهِ زِيَادَةُ نُسُكٍ وَهِيَ إرَاقَةُ الدَّمِ وَسَفَرُهُ وَاقِعٌ لِحَجَّتِهِ ، وَإِنْ تَخَلَّلَتْ الْعُمْرَةُ ؛ لِأَنَّهَا تَبَعُ الْحَجِّ كَتَخَلُّلِ السُّنَّةِ بَيْنَ الْجُمُعَةِ وَالسَّعْيِ إلَيْهَا .

( بَابُ التَّمَتُّعِ ) ( قَوْلُهُ : وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ فِي التَّمَتُّعِ جَمْعًا بَيْنَ الْعِبَادَتَيْنِ فَأَشْبَهَ الْقِرَانَ ) حَقِيقَةُ هَذَا الْوَجْهِ أَنَّهُ ثَبَتَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَجَّ قَارِنًا } ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا ارْتَكَبَهُ أَفْضَلُ خُصُوصًا فِي عِبَادَةِ فَرِيضَةٍ لَمْ يَفْعَلْهَا إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فِي عُمْرِهِ ، ثُمَّ رَأَيْنَا الْمَعْنَى الَّذِي بِهِ كَانَ الْقِرَانُ أَفْضَلَ مُتَحَقِّقًا فِي التَّمَتُّعِ دُونَ الْإِفْرَادِ فَيَكُونَ أَفْضَلَ مِنْهُ ، وَذَلِكَ الْمَعْنَى هُوَ مَا يَلْزَمُ كَوْنِهِ جَمَعَا بَيْنَ الْعِبَادَتَيْنِ فِي وَقْتِ الْحَجِّ مِنْ زِيَادَةِ التَّحَقُّقِ بِالْإِذْعَانِ وَالْقَبُولِ لِلْمَشْرُوعِ النَّاسِخِ لِشَرْعِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي الْمَطْلُوبِ رَفْضَهُ ، ثُمَّ هَذَا أَرْفَقُ فَوَجَبَ دَمٌ لِلشُّكْرِ عَلَى أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا إطْلَاقُ الِارْتِفَاقِ بِالْعُمْرَةِ فِي وَقْتِ الْحَجِّ حَتَّى خَفَّتْ الْمُؤْنَةُ بِالنِّسْبَةِ إلَى لُزُومِ إنْشَاءِ سَفَرٍ آخَرَ لِلْعُمْرَةِ أَوْ التَّأْخِيرِ بَعْدَ قَضَاءِ الْأَفْعَالِ لِيُنْشِئَ أُخْرَى مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ ، وَهَذَا شُكْرٌ عَلَى أَمْرٍ دُنْيَوِيٍّ .
وَثَانِيهِمَا تَوْفِيقُهُ لِلتَّحَقُّقِ بِهَذَا الْإِذْعَانِ الشَّرْعِيِّ الْمَطْلُوبِ تَحْقِيقُهُ وَإِظْهَارُهُ وَجَعْلَهُ مَظْهَرًا لَهُ ، فَإِنْ أَكْمَلَ مِنْ مُجَرَّدِ اعْتِقَادِ الْحِقْبَةِ مِنْ غَيْرِ تَحَقُّقٍ بِهِ بِالْفِعْلِ ، وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى أَمْرٍ أُخْرَوِيٍّ ، وَلِهَذَا تَسْمَعُهُمْ يَقُولُونَ تَارَةً وُفِّقَ لِأَدَاءِ النُّسُكَيْنِ وَمَرَّةً تَرَفَّقَ بِأَدَائِهِمَا فِي سَفْرَةٍ وَاحِدَةٍ ، فَزَادَتْ الْفَضِيلَةُ بِشَرْعِيَّةِ هَذَا الدَّمِ ؛ لِأَنَّهُ زَادَ فِي النُّسُكِ عِبَادَةً أُخْرَى شُكْرًا لَا جَبْرًا لِنُقْصَانٍ مُتَمَكِّنٍ فِيهِ ، غَيْرَ أَنَّ الْقِرَانَ زَادَ عَلَيْهِ بِاسْتِدَامَةِ الْإِحْرَامِ إلَى يَوْمِ النَّحْرِ بِهِمَا وَالْمُسَارَعَةِ إلَى إحْرَامِ الْحَجِّ ، فَبِالْأَمْرَيْنِ يُفَضَّلُ عَلَى تَمَتُّعٍ لَمْ يُسَقْ فِيهِ هَدْيٌ حَتَّى حَلَّ التَّحَلُّلُ .
وَبِالثَّانِي عَلَى التَّمَتُّعِ الَّذِي سِيقَ فِيهِ الْهَدْيُ فَوَجَبَ اسْتِدَامَةُ الْإِحْرَامِ

فِيهِ .
( قَوْلُهُ : وَسَفَرُهُ وَاقِعٌ لِحَجَّتِهِ إلَخْ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ : لِأَنَّ سَفَرَهُ وَاقِعٌ لِعُمْرَتِهِ وَهُوَ ظَاهِرٌ مِنْ الْكِتَابِ .

( وَالْمُتَمَتِّعُ عَلَى وَجْهَيْنِ مُتَمَتِّعٌ بِسَوْقِ الْهَدْيِ وَمُتَمَتِّعٌ لَا يَسُوقُ الْهَدْيَ ) وَمَعْنَى التَّمَتُّعِ التَّرَفُّقُ بِأَدَاءِ النُّسُكَيْنِ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُلِمَّ بِأَهْلِهِ بَيْنَهُمَا إلْمَامًا صَحِيحًا ، وَيَدْخُلُهُ اخْتِلَافَاتٌ نُبَيِّنُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

( قَوْلُهُ : وَمَعْنَى التَّمَتُّعِ التَّرَفُّقُ بِأَدَاءِ النُّسُكَيْنِ ) وَيَنْبَغِي أَنْ يُزَادَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَلَمْ يَقُلْ أَنْ يُحْرِمَ بِهِمَا بَلْ ذَكَرَ أَدَاءَهُمَا ، فَعُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ التَّمَتُّعِ وُجُودُ الْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، بَلْ أَدَاؤُهَا فِيهَا أَوْ أَدَاءُ أَكْثَرِ طَوَافِهَا ، فَلَوْ طَافَ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ فِي رَمَضَانَ ثُمَّ دَخَلَ شَوَّالٌ فَطَافَ الْأَرْبَعَةَ الْبَاقِيَةَ ثُمَّ حَجَّ فِي عَامِهِ كَانَ مُتَمَتِّعًا فَتَحْرِيرُ الضَّابِطِ لِلتَّمَتُّعِ أَنْ يَفْعَلَ الْعُمْرَةَ أَوْ أَكْثَرَ طَوَافِهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ عَنْ إحْرَامٍ بِهَا قَبْلَهَا أَوْ فِيهَا ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ بِوَصْفِ الصِّحَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلُمَّ بِأَهْلِهِ بَيْنَهُمَا إلْمَامًا صَحِيحًا .
وَالْحِيلَةُ لِمَنْ دَخَلَ مَكَّةَ مُحْرِمًا بِعُمْرَةٍ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ يُرِيدُ التَّمَتُّعَ أَنْ لَا يَطُوفَ بَلْ يَصْبِرُ إلَى أَنْ تَدْخُلَ أَشْهُرُ الْحَجِّ ثُمَّ يَطُوفُ ، فَإِنَّهُ مَتَى طَافَ طَوَافَا مَا وَقَعَ عَنْ الْعُمْرَةِ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ قَبْلُ .
وَلَوْ طَافَ ثُمَّ دَخَلَتْ أَشْهُرُ الْحَجِّ فَأَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ أُخْرَى ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا فِي قَوْلِ الْكُلِّ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ حُكْمُهُ حُكْمَ أَهْلِ مَكَّةَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ صَارَ مِيقَاتُهُ مِيقَاتَهُمْ .
وَقَوْلُنَا ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ : يَعْنِي مِنْ عَامِ الْفِعْلِ ، أَمَّا عَامُ الْإِحْرَامِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ بِدَلِيلِ مَا فِي نَوَادِرِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ فِي رَمَضَانَ وَأَقَامَ عَلَى إحْرَامِهِ إلَى شَوَّالٍ مَنْ قَابِلٍ ثُمَّ طَافَ لِعُمْرَتِهِ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ أَنَّهُ مُتَمَتِّعٌ ؛ لِأَنَّهُ بَاقٍ عَلَى إحْرَامِهِ ، وَقَدْ أَتَى بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، بِخِلَافِ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنْ الْحَجِّ بِعُمْرَةٍ كَفَائِتِ الْحَجِّ فَأَخَّرَ إلَى قَابِلٍ فَتَحَلَّلَ بِهَا فِي شَوَّالٍ ، وَحَجَّ مِنْ عَامه ذَلِكَ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا ؛ لِأَنَّهُ مَا أَتَى

بِأَفْعَالِهَا عَنْ إحْرَامِ عُمْرَةٍ بَلْ لِلتَّحَلُّلِ عَنْ إحْرَامِ الْحَجِّ فَلَمْ تَقَعْ هَذِهِ الْأَفْعَالُ مُعْتَدًّا بِهَا عَنْ الْعُمْرَةِ فَلَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا ، وَهَذَا فَائِدَةُ الْقَيْدِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آخِرًا .
أَعْنِي قَوْلَنَا عَنْ إحْرَامٍ بِهَا

( وَصِفَتُهُ أَنْ يَبْتَدِئَ مِنْ الْمِيقَاتِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَيُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ وَيَدْخُلَ مَكَّةَ فَيَطُوفَ لَهَا وَيَسْعَى وَيَحْلِقَ أَوْ يُقَصِّرَ وَقَدْ حَلَّ مِنْ عُمْرَتِهِ ) وَهَذَا هُوَ تَفْسِيرُ الْعُمْرَةِ ، وَكَذَلِكَ إذَا أَرَادَ أَنْ يُفْرِدَ بِالْعُمْرَةِ فَعَلَ مَا ذَكَرْنَا ، هَكَذَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : لَا حَلْقَ عَلَيْهِ ، إنَّمَا الْعُمْرَةُ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ ، وَحُجَّتُنَا عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَا .
وقَوْله تَعَالَى { مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ } الْآيَةَ .
نَزَلَتْ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ ؛ وَلِأَنَّهَا لَمَّا كَانَ لَهَا تَحَرُّمٌ بِالتَّلْبِيَةِ كَانَ لَهَا تَحَلُّلٌ بِالْحَلْقِ كَالْحَجِّ ( وَيَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ إذَا ابْتَدَأَ بِالطَّوَافِ ) وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : كُلَّمَا وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى الْبَيْتِ ؛ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ زِيَارَةُ الْبَيْتِ وَتَتِمُّ بِهِ .
وَلَنَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ قَطَعَ التَّلْبِيَةَ حِينَ اسْتَلَمَ الْحَجَرَ } وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الطَّوَافُ فَيَقْطَعُهَا عِنْدَ افْتِتَاحِهِ ، وَلِهَذَا يَقْطَعُهَا الْحَاجُّ عِنْدَ افْتِتَاحِ الرَّمْيِ .
قَالَ ( وَيُقِيمُ بِمَكَّةَ حَلَالًا ) ؛ لِأَنَّهُ حَلَّ مِنْ الْعُمْرَةِ ، قَالَ ( فَإِذَا كَانَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْ الْمَسْجِدِ ) وَالشَّرْطُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ الْحَرَمِ أَمَّا الْمَسْجِدُ فَلَيْسَ بِلَازِمٍ ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمَكِّيِّ ، وَمِيقَاتُ الْمَكِّيِّ فِي الْحَجِّ الْحَرَمُ عَلَى مَا بَيَّنَّا ( وَفَعَلَ مَا يَفْعَلُهُ الْحَاجُّ الْمُفْرِدُ ) ؛ لِأَنَّهُ مُؤَدٍّ لِلْحَجِّ إلَّا أَنَّهُ يَرْمُلُ فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ وَيَسْعَى بَعْدَهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا أَوَّلُ طَوَافٍ لَهُ فِي الْحَجِّ ، بِخِلَافِ الْمُفْرِدِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ سَعَى مَرَّةً ، وَلَوْ كَانَ هَذَا الْمُتَمَتِّعُ بَعْدَمَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ طَافَ وَسَعَى قَبْلَ أَنْ يَرُوحَ إلَى مِنًى لَمْ يَرْمُلْ فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ وَلَا يَسْعَى بَعْدَهُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِذَلِكَ مَرَّةً (

وَعَلَيْهِ دَمُ الْمُتَمَتِّعِ ) لِلنَّصِّ الَّذِي تَلَوْنَاهُ ( فَإِنْ لَمْ يَجِدْ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةً إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ ) عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فِي الْقِرَانِ ( فَإِنْ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ ثُمَّ اعْتَمَرَ لَمْ يُجْزِهِ عَنْ الثَّلَاثَةِ ) ؛ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ هَذَا الصَّوْمِ التَّمَتُّعُ ؛ لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَنْ الْهَدْيِ وَهُوَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ غَيْرُ مُتَمَتِّعٍ فَلَا يَجُوزُ أَدَاؤُهُ قَبْلَ وُجُودِ سَبَبِهِ ( وَإِنْ صَامَهَا ) بِمَكَّةَ ( بَعْدَمَا أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ جَازَ عِنْدَنَا ) خِلَافًا لَلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَهُ قَوْله تَعَالَى { فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ } وَلَنَا أَنَّهُ أَدَّاهُ بَعْدَ انْعِقَاد سَبَبِهِ ، وَالْمُرَادُ بِالْحَجِّ الْمَذْكُورِ فِي النَّصِّ وَقْتُهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا .
( وَالْأَفْضَلُ تَأْخِيرُهَا إلَى آخِرِ وَقْتِهَا وَهُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ ) لِمَا بَيَّنَّا فِي الْقِرَانِ .

( قَوْلُهُ : فَيَطُوفُ لَهَا وَيَسْعَى إلَخْ ) لَمْ يَذْكُرْ طَوَافَ الْقُدُومِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْعُمْرَةِ طَوَافُ قُدُومٍ وَلَا صَدْرٍ وَذَكَرَ مِنْ الصِّفَةِ الْحَلْقَ أَوْ التَّقْصِيرَ فَظَاهِرُهُ لُزُومُ ذَلِكَ فِي التَّمَتُّعِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، بَلْ لَوْ لَمْ يَحْلِقْ حَتَّى أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَحَلَقَ بِمِنًى كَانَ مُتَمَتِّعًا وَهُوَ أَوْلَى بِالتَّمَتُّعِ مِمَّنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ بَعْدَ طَوَافِ أَرْبَعَةِ أَشْوَاطٍ لِلْعُمْرَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا .
( قَوْله هَكَذَا فَعَلَ إلَخْ ) أَمَّا أَنَّ أَفْعَالَ الْعُمْرَةِ مَا ذَكَرَ غَيْرَ الْحَلْقِ أَوْ التَّقْصِيرِ فَضَرُورِيٌّ لَا يَحْتَاجُ إلَى بَيَانٍ .
وَأَمَّا أَنَّ مِنْهَا الْحَلْقَ أَوْ التَّقْصِيرَ خِلَافًا لِمَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي بَحْثِ الْقِرَانِ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ { قَصَّرْتُ عَنْ رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِشْقَصٍ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّقْصِيرَ عِنْدَ الْمَرْوَةِ لَا يَكُونُ إلَّا فِي عُمْرَةٍ غَيْرَ أَنَّ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ : { قَصَّرْتُ أَوْ رَأَيْتُهُ يُقَصِّرُ عَنْ رَأْسِهِ } فَإِنْ كَانَ الْوَاقِعُ الْأَوَّلَ تَعَيَّنَ كَوْنُهَا عُمْرَةَ الْجِعْرَانَةِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ لَمْ يَلْزَمْ وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ( قَوْلُهُ : وَقَالَ مَالِكٌ كَمَا وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى الْبَيْتِ ) وَعَنْهُ كَمَا رَأَى بُيُوتَ مَكَّةَ .
وَلَنَا مَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يُمْسِكُ عَنْ التَّلْبِيَةِ فِي الْعُمْرَةِ إذَا اسْتَلَمَ } وَقَالَ : حَدِيثٌ صَحِيحٌ .
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَلَفْظُهُ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { يُلَبِّي الْمُعْتَمِرُ حَتَّى يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ } ( قَوْلُهُ : وَلِهَذَا يَقْطَعُهَا الْحَاجُّ إلَخْ ) إنَّمَا تَتِمُّ هَذِهِ الْمُلَازَمَةُ لَوْ كَانَ الرَّمْيُ هُوَ الْمَقْصُودُ فِي الْحَجِّ وَهُوَ مُنْتَفٍ ، بَلْ الْمَقْصُودُ الْوُقُوفُ وَالطَّوَافُ .
فَالصَّوَابُ فِي التَّقْرِيرِ عَلَى رَأْيِنَا أَنْ يُقَالَ : كَمَا لَمْ تُقْطَعْ

التَّلْبِيَةُ فِي الْحَجِّ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْأَفْعَالِ ، كَذَا لَا تُقْطَعُ فِي الْعُمْرَةِ قَبْلَهُ فَبَطَل قَوْلُكُمْ بِقَطْعِهَا قَبْلَ الطَّوَافِ .
وَعَلَى رَأْيِهِ بِطَرِيقِ الْإِلْزَامِ أَنْ يُقَالَ : كَمَا أَنَّهَا لَمْ تُقْطَعْ فِي الْحَجِّ إلَّا عِنْدَ الشُّرُوعِ فِي الْمَقَاصِدِ ، وَهُوَ الْوُقُوفُ عِنْدَك يَجِبُ فِي الْعُمْرَةِ أَنْ لَا تُقْطَعَ إلَّا عِنْدَ الشُّرُوعِ فِي مَقَاصِدِهَا وَهُوَ الطَّوَافُ .
( قَوْلُهُ : وَالْمَسْجِدُ لَيْسَ بِلَازِمٍ ) بَلْ هُوَ أَفْضَلُ ، وَمَكَّةُ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهَا مِنْ الْحَرَمِ ، وَالشَّرْطُ الْحَرَمُ ( قَوْلُهُ : وَفَعَلَ مَا يَفْعَلُهُ الْحَاجُّ الْمُفْرِدُ ) إلَّا طَوَافَ التَّحِيَّةِ ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ أَهْلِ مَكَّةَ وَلَا طَوَافَ قُدُومٍ عَلَيْهِمْ ( قَوْلُهُ : وَلَوْ كَانَ هَذَا الْمُتَمَتِّعُ بَعْدَمَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ طَافَ ) أَيْ لِلتَّحِيَّةِ ( وَسَعَى قَبْلَ أَنْ يَرُوحَ إلَى مِنًى لَمْ يَرْمُلْ فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ ) سَوَاءٌ كَانَ رَمَلَ فِي طَوَافِ التَّحِيَّةِ أَوْ لَا ( وَلَا يَسْعَى بَعْدَهُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِالسَّعْيِ مَرَّةً ) قِيلَ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ طَوَافَ التَّحِيَّةِ مَشْرُوعٌ لِلتَّمَتُّعِ حَتَّى اعْتَبَرَ سَعْيَهُ عَقِيبَهُ .
ا هـ .
وَلَا يَخْلُو مِنْ شَيْءٍ ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ إذَا طَافَ ثُمَّ سَعَى أَجْزَأَهُ عَنْ السَّعْيِ لَا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِلْإِجْزَاءِ اعْتِبَارُهُ طَوَافُ تَحِيَّةٍ ، بَلْ الْمَقْصُودُ أَنَّ السَّعْيَ لَا بُدَّ أَنْ يَتَرَتَّبَ شَرْعًا عَلَى طَوَافٍ ، فَإِذَا فَرَضْنَا أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ بَعْدَ إحْرَامِ الْحَجِّ تَنَفَّلَ بِطَوَافٍ ثُمَّ سَعَى بَعْدَهُ سَقَطَ عَنْهُ سَعْيُ الْحَجِّ ، وَمَنْ قَيَّدَ إجْزَاءَهُ بِكَوْنِ الطَّوَافِ الْمُقَدَّمِ طَوَافَ تَحِيَّةٍ فَعَلَيْهِ الْبَيَانُ .
( قَوْلُهُ : فَلَا يَجُوزُ أَدَاؤُهُ قَبْلَ وُجُودِ سَبَبِهِ ) فَالشَّرْطُ فِيهَا أَنْ يَكُونَ مُحْرِمًا بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِثْلَ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْقِرَانِ وَإِلَى آخِرَ مَا ذَكَرْنَاهُ فِيهِ ( قَوْلُهُ : خِلَافًا لَلشَّافِعِيُّ ) فَإِنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ إلَّا بَعْدَ إحْرَامِ الْحَجِّ قَوْلُهُ :

لِأَنَّهُ أَدَّاهُ بَعْدَ انْعِقَادِ سَبَبِهِ ) لَا شَكَّ أَنَّ سَبَبَهُ التَّمَتُّعُ اللُّغَوِيُّ الَّذِي هُوَ التَّرَفُّقُ ؛ لِتَرْتِيبِهِ عَلَى التَّمَتُّعِ فِي النَّصِّ ، وَمَأْخَذُ الِاشْتِقَاقِ عِلَّةٌ لِلْمُرَتَّبِ ، وَالْعُمْرَةُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ هِيَ السَّبَبُ فِيهِ ؛ لِأَنَّهَا الَّتِي بِهَا يَتَحَقَّقُ التَّرَفُّقُ الَّذِي كَانَ مَمْنُوعًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَهُوَ مَعْنَى التَّمَتُّعِ لَا أَنَّ الْحَجَّ مُعْتَبَرُ جُزْءِ السَّبَبِ بِنَاءً عَلَى إرَادَةِ التَّمَتُّعِ فِي عُرْفِ الْفِقْهِ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا جَعْلُ الْحَجِّ غَايَةً لِهَذَا التَّمَتُّعِ حَيْثُ قَالَ { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ } فَكَانَ الْمُفَادُ تَرَفَّقْ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ تَرَفُّقًا غَايَتُهُ الْحَجُّ ، وَإِلَّا كَانَ ذِكْرُ التَّمَتُّعِ ذِكْرًا لِلْحَجِّ مِنْ عَامِهِ فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى ذِكْرِهِ .
وَالثَّانِي أَنَّهُ عَلَى ذَلِكَ التَّقْرِيرِ كَانَ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَجُوزَ صَوْمُ الثَّلَاثَةِ إلَّا بَعْدَ الْفَرَاغِ كَالسَّبْعَةِ لَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ فَصَلَ بَيْنَهُمَا فَجَعَلَ الثَّلَاثَةَ فِي الْحَجِّ : أَيْ وَقْتِهِ ، وَالسَّبْعَةَ بَعْدَ الْفَرَاغِ ، فَعُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَعْتَبِرْ فِي السَّبَبِ الْمُجَوِّزِ لِلصَّوْمِ تَحَقُّقَ حَقِيقَةِ التَّمَتُّعِ بِالْمَعْنَى الْفِقْهِيِّ بَلْ التَّرَفُّقُ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ لَكِنْ لَا مُطْلَقًا ، بَلْ الْمُقَيَّدُ بِكَوْنِ غَايَتِهِ الْحَجَّ مِنْ عَامِهِ لَا عَلَى اعْتِبَارِ الْقَيْدِ جُزْءًا مِنْ السَّبَبِ أَوْ شَرْطًا فِي ثُبُوتِ سَبَبِيَّتِهِ وَإِلَّا لَزِمَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ امْتِنَاعِ الصَّوْمِ قَبْلَ الْفَرَاغِ وَهُوَ مُنْتَفٍ ، فَكَانَ السَّبَبُ الْمُقَيَّدُ لَا يُشْتَرَطُ قَيْدُهُ فِي السَّبَبِيَّةِ فَإِذَا صَامَ بَعْدَ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ ظَهَرَ أَنَّهُ صَامَ بَعْدَ السَّبَبِ وَفِي وَقْتِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَحُجَّ مِنْ عَامِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ وُقُوعُهُ بَعْدَ الْمُقَيَّدِ ، وَمِثْلُ هَذَا جَائِزٌ إذَا أَمْكَنَ وَقَدْ أَمْكَنَ ، وَسَبَبُهُ تَرَاخِي الْقَيْدِ عَنْهُ فِي الْوُجُودِ ، أَمَّا

السَّبْعَةُ فَإِنَّ السَّبَبَ وَإِنْ تَحَقَّقَ بَعْدَ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ لَكِنْ لَمْ يَجِئْ وَقْتُهَا ؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَ مُعَلَّقٌ بِالرُّجُوعِ ، فَالصَّوْمُ قَبْلَهُ قَبْلَ وَقْتِهِ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ السَّبَبِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ مُقْتَضَى هَذَا عَدَمُ الْجَوَازِ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعُمْرَةِ ؛ لِأَنَّ التَّمَتُّعَ : أَعْنِي التَّرَفُّقَ بِالْعُمْرَةِ لَا يَتَحَقَّقُ بِمُجَرَّدِ الْإِحْرَامِ بِهَا ، لَكِنَّ الْحُكْمَ هُوَ الْجَوَازُ بِمُجَرَّدِ الْإِحْرَامِ كَأَنَّهُ لِثُبُوتِ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْخُرُوجِ عَنْ الْإِحْرَامِ بِلَا فِعْلٍ وَفِيهِ إقْنَاعٌ إلَّا أَنْ يَسْتَلْزِمَ خِلَافُهُ إحْدَاثَ قَوْلٍ ثَالِثِ فَيُتِمُّ الْمُرَادُ .

( وَإِنْ أَرَادَ الْمُتَمَتِّعُ أَنْ يَسُوقَ الْهَدْيَ أَحْرَمَ وَسَاقَ هَدْيَهُ ) وَهَذَا أَفْضَلُ { ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاقَ الْهَدَايَا مَعَ نَفْسِهِ } ؛ وَلِأَنَّ فِيهِ اسْتِعْدَادًا وَمُسَارَعَةً ( فَإِنْ كَانَتْ بَدَنَةً قَلَّدَهَا بِمَزَادَةٍ أَوْ نَعْلٍ ) لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَلَى مَا رَوَيْنَاهُ .
وَالتَّقْلِيدُ أَوْلَى مِنْ التَّجْلِيلِ ؛ لِأَنَّ لَهُ ذِكْرًا فِي الْكِتَابِ وَلِأَنَّهُ لِلْإِعْلَامِ وَالتَّجْلِيلِ لِلزِّينَةِ ، وَيُلَبِّي ثُمَّ يُقَلِّدُ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُحْرِمًا بِتَقْلِيدِ الْهَدْيِ وَالتَّوَجُّهِ مَعَهُ عَلَى مَا سَبَقَ .
وَالْأَوْلَى أَنْ يَعْقِدَ الْإِحْرَامَ بِالتَّلْبِيَةِ وَيَسُوقَ الْهَدْيَ .
وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ أَنْ يَقُودَهَا { ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْرَمَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ وَهَدَايَاهُ تُسَاقُ بَيْنَ يَدَيْهِ } ؛ وَلِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي التَّشْهِيرِ إلَّا إذَا كَانَتْ لَا تَنْقَادُ فَحِينَئِذٍ يَقُودُهَا .
قَالَ ( وَأَشْعَرَ الْبَدَنَةَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ ) رَحِمَهُمَا اللَّهُ ( وَلَا يُشْعِرُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَيُكْرَهُ ) وَالْإِشْعَارُ هُوَ الْإِدْمَاءُ بِالْجُرْحِ لُغَةً ( وَصِفَتُهُ أَنْ يَشُقَّ سَنَامَهَا ) بِأَنْ يَطْعَنَ فِي أَسْفَلِ السَّنَامِ ( مِنْ الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ أَوْ الْأَيْسَرِ ) قَالُوا : وَالْأَشْبَهُ هُوَ الْأَيْسَرُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَعَنَ فِي جَانِبِ الْيَسَارِ مَقْصُودًا وَفِي جَانِبِ الْأَيْمَنِ اتِّفَاقًا ، وَيُلَطِّخُ سَنَامَهَا بِالدَّمِ إعْلَامًا ، وَهَذَا الصُّنْعُ مَكْرُوهٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا حَسَنٌ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ سُنَّةٌ ؛ لِأَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
وَلَهُمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ التَّقْلِيدِ أَنْ لَا يُهَاجَ إذَا وَرَدَ مَاءً أَوْ كَلَأً أَوْ يُرَدُّ إذَا ضَلَّ وَإِنَّهُ فِي الْإِشْعَارِ أَتَمُّ ؛ لِأَنَّهُ أَلْزَمُ ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ

سُنَّةً ، إلَّا أَنَّهُ عَارَضَهُ جِهَةُ كَوْنِهِ مُثْلَةً فَقُلْنَا بِحُسْنِهِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مُثْلَةٌ وَأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ .
وَلَوْ وَقَعَ التَّعَارُضُ فَالتَّرْجِيحُ لِلْمُحْرِمِ وَإِشْعَارُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لِصِيَانَةِ الْهَدْيِ ؛ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يَمْتَنِعُونَ عَنْ تَعَرُّضِهِ إلَّا بِهِ .
وَقِيلَ : إنَّ أَبَا حَنِيفَةَ كَرِهَ إشْعَارَ أَهْلِ زَمَانِهِ لِمُبَالَغَتِهِمْ فِيهِ عَلَى وَجْهٍ يَخَافُ مِنْهُ السِّرَايَةَ ، وَقِيلَ : إنَّمَا كَرِهَ إيثَارَهُ عَلَى التَّقْلِيدِ .

( قَوْلُهُ : إلَّا إذَا كَانَتْ لَا تَنْقَادُ ) أَيْ لِلسَّوْقِ ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ لَا تَنْسَاقُ ( قَوْلُهُ : لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَعَنَ إلَخْ ) قَالُوا : لِأَنَّهَا كَانَتْ تُسَاقُ إلَيْهِ وَهُوَ يَسْتَقْبِلُهَا فَيَدْخُلُ مِنْ قِبَلِ رُءُوسِهَا ، وَالْحَرْبَةُ بِيَمِينِهِ لَا مَحَالَةَ ، وَالطَّعْنُ حِينَئِذٍ إلَى جِهَةِ الْيَسَارِ أَمْكَنَ وَهُوَ طَبْعُ هَذِهِ الْحَرَكَةِ فَيَقَعُ الطَّعْنُ كَذَلِكَ مَقْصُودًا ثُمَّ يَعْطِفُ طَاعِنًا إلَى جِهَةِ يَمِينِهِ بِيَمِينِهِ وَهُوَ مُتَكَلِّفٌ بِخِلَافِهِ إلَى الْجِهَةِ الْأُولَى ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَشْعَرَ مِنْ جِهَةِ الْيَمِينِ وَالْيَسَارِ ، وَعَلَى أَنَّ صِفَتَهُ حَالَةَ الْإِشْعَارِ كَانَ مَا ذُكِرَ .
فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَاَلَّذِي فِي مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي حَسَّانَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَلَّى الظُّهْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ ثُمَّ دَعَا بِبَدَنَةٍ فَأَشْعَرَهَا فِي صَفْحَةِ سَنَامِهَا الْأَيْمَنِ } وَرَوَى الْبُخَارِيُّ الْإِشْعَارَ ، فَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الْأَيْمَنَ وَلَا الْأَيْسَرَ إلَّا أَنَّ ابْنَ عَبْدِ الْبَرِّ ذَكَرَ أَنَّهُ رَأَى فِي كِتَابِ ابْنِ عُلَيَّةَ بِسَنَدِهِ إلَى أَبِي حَسَّانَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَشْعَرَ بُدْنَهُ مِنْ الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ ثُمَّ سَلَتَ الدَّمَ عَنْهَا وَقَلَّدَهَا نَعْلَيْنِ } قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : هَذَا مُنْكَرٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، بَلْ الْمَعْرُوفُ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْهُ فِي الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ ، وَصَحَّحَ ابْنُ الْقَطَّانِ كَلَامَهُ ، لَكِنْ قَدْ أَسْنَدَ أَبُو يَعْلَى إلَى أَبِي حَسَّانَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ بِطَرِيقٍ آخَرَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَشْعَرَ بُدْنَهُ فِي شِقِّهَا الْأَيْسَرِ ثُمَّ سَلَتَ الدَّمَ بِأُصْبُعِهِ } الْحَدِيثَ .
وَفِي مُوَطَّإِ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ " أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ إذَا أَهْدَى هَدْيًا مِنْ الْمَدِينَةِ يُقَلِّدُهُ بِنَعْلَيْنِ وَيُشْعِرُهُ فِي

الشِّقِّ الْأَيْسَرِ " فَهَذَا يُعَارِضُ مَا فِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ إذْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَشَدَّ اقْتِفَاءٍ لِظَوَاهِرِ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ابْنِ عُمَرَ ، فَلَوْلَا عِلْمُهُ وُقُوعَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْتَمِرَّ عَلَيْهِ .
فَوَجْهُ التَّوْفِيقِ حِينَئِذٍ هُوَ مَا صِرْنَا إلَيْهِ مِنْ الْإِشْعَارِ فِيهِمَا حَمْلًا لِلرِّوَايَتَيْنِ عَلَى رُؤْيَةِ كُلِّ رَاءٍ الْإِشْعَارَ مِنْ جَانِبٍ وَهُوَ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلَا نَعْلَمُ صَرِيحًا فِي وَصْفِهِ كَيْفَ كَانَ لَكِنَّهُ حُمِلَ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ ، إذْ الظَّاهِرُ مَنْ قَاصَدَهَا لِإِثْبَاتِ فِعْلٍ فِيهَا ، وَهِيَ تُسَاقُ إلَيْهِ ذَلِكَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِجَلِيَّةِ كُلِّ حَالٍ .
( قَوْلُهُ : لِأَنَّهُ أَلْزَمُ ) لِأَنَّ الْقِلَادَةَ قَدْ تَنْحَلُّ أَوْ تَنْقَطِعُ فَتَسْقُطُ ( قَوْلُهُ : وَلَوْ وَقَعَ التَّعَارُضُ فَالتَّرْجِيحُ لِلْمُحَرَّمِ ) قَدْ يُقَالُ : لَا تَعَارُضَ فَإِنَّ النُّهَى عَنْهُ كَانَ بِأَثَرِ قِصَّةِ الْعُرَنِيِّينَ عَقِيبَ غَزْوَةِ أُحُدٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِشْعَارَ كَانَ بَعْدَهُ ، فَعُلِمَ أَنَّهُ إمَّا مَخْصُوصٌ مِنْ نَصِّ نَسْخِ الْمُثْلَةِ مَا كَانَ هَدْيًا أَوْ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُثْلَةٍ أَصْلًا ، وَهُوَ الْحَقُّ ، إذْ لَيْسَ كُلُّ جُرْحٍ مُثْلَةً بَلْ هُوَ مَا يَكُونُ تَشْوِيهًا كَقَطْعِ الْأَنْفِ وَالْأُذُنَيْنِ وَسَمْلِ الْعُيُونِ ، فَلَا يُقَالُ لِكُلِّ مَنْ جُرِحَ مُثِّلَ بِهِ ، وَالْأَوْلَى مَا حَمَلَ عَلَيْهِ الطَّحَاوِيُّ مِنْ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ إنَّمَا كَرِهَ إشْعَارَ أَهْلِ زَمَانِهِ ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَهْتَدُونَ إلَى إحْسَانِهِ ، وَهُوَ شَقُّ مُجَرَّدِ الْجِلْدِ لِيُدْمِيَ ، بَلْ يُبَالِغُونَ فِي اللَّحْمِ حَتَّى يَكْثُرَ الْأَلَمُ وَيُخَافُ مِنْهُ السِّرَايَةُ .
( قَوْلُهُ : لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يَمْتَنِعُونَ إلَّا بِهِ ) قَدْ يُقَالُ : هَذَا يَتِمُّ فِي إشْعَارِ عَامِ الْحُدَيْبِيَةِ وَهُوَ مُفْرِدٌ بِالْعُمْرَةِ لَا فِي إشْعَارِهِ هَدَايَا حَجَّةِ الْوَدَاعِ { ؛ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا قَدْ أَجْلَوْا قَبْلَ ذَلِكَ فِي فَتْحِ

مَكَّةَ فِي الثَّامِنَةِ ، ثُمَّ بَعَثَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي التَّاسِعَةِ يَتْلُو عَلَيْهِمْ سُورَةَ بَرَاءَةٌ وَيُنَادِي : لَا يَطُوفُ بِهَذَا الْبَيْتِ مُشْرِكٌ وَلَا عُرْيَانُ } .
وَالْجَوَابُ أَنْ يُرَادَ تَعَرُّضِهِمْ لِلطَّرِيقِ حَالَ السَّفَرِ لِتَسَامُعِهِمْ بِمَالٍ لِسَيِّدِ الْمُسْلِمِينَ

قَالَ : ( فَإِذَا دَخَلَ مَكَّةَ طَافَ وَسَعَى ) وَهَذَا لِلْعُمْرَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي مُتَمَتِّعٍ لَا يَسُوقُ الْهَدْيَ ( إلَّا أَنَّهُ لَا يَتَحَلَّلُ حَتَّى يُحْرِمَ بِالْحَجِّ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً وَتَحَلَّلْتُ مِنْهَا } وَهَذَا يَنْفِي التَّحَلُّلَ عِنْدَ سَوْقِ الْهَدْيِ ( وَيُحْرِمُ بِالْحَجِّ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ ) كَمَا يُحْرِمُ أَهْلُ مَكَّةَ عَلَى مَا بَيَّنَّا .
( وَإِنْ قَدَّمَ الْإِحْرَامَ قَبْلَهُ جَازَ ، وَمَا عَجَّلَ الْمُتَمَتِّعُ مِنْ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ فَهُوَ أَفْضَلُ ) لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُسَارَعَةِ وَزِيَادَةِ الْمَشَقَّةِ ، وَهَذِهِ الْأَفْضَلِيَّةُ فِي حَقِّ مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ وَفِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَسُقْ ( وَعَلَيْهِ دَمٌ ) وَهُوَ دَمُ الْمُتَمَتِّعِ عَلَى مَا بَيَّنَّا .
( قَوْلُهُ : وَهَذَا يَنْفِي التَّحَلُّلَ عِنْدَ سَوْقِ الْهَدْيِ ) يَعْنِي لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ وَتَقَدَّمَ تَخْرِيجُهُ إظْهَارَ التَّأَسُّفِ عَلَى تَأَتِّي الْإِحْلَالَ ؛ لِيَشْرَحَ صَدْرَ أَصْحَابِهِ بِمُوَافَقَتِهِ لَهُمْ كَمَا كَانَ دَأْبُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ قَوْلُهُ : { لَوْ اسْتَدْرَكْتُ مَا فَاتَنِي لَمَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً } أَيْ مُفْرَدَةً لَمْ أَقْرِنْ مَعَهَا الْحَجَّ .
وَتَحَلَّلْتُ يُفِيدُ أَنَّ التَّحَلُّلَ لَا يَتَأَتَّى إلَّا بِمَا يَتَضَمَّنُهُ كَلَامُهُ مِنْ إفْرَادِ الْعُمْرَةِ وَعَدَمِ سَوْقِ الْهَدْيِ ، فَلَوْ كَانَ التَّحَلُّلُ يَجُوزُ مَعَ سَوْقِ الْهَدْيِ لَاكْتَفَى بِقَوْلِهِ لَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً وَتَحَلَّلْتُ .
وَإِنَّمَا احْتَاجَ إلَى هَذَا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اسْتَدَلَّ بِأَنَّهُ لَمَّا سَاقَ الْهَدْيَ امْتَنَعَ عَلَيْهِ التَّحَلُّلُ مِنْ الْعُمْرَةِ كَانَ مُعْتَرِفًا بِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَجَّ مُتَمَتِّعًا ، وَالثَّابِتُ عِنْدَنَا أَنَّهُ حَجَّ قَارِنًا عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ ( قَوْلُهُ : وَهَذِهِ الْأَفْضَلِيَّةُ ) أَيْ أَفْضَلِيَّةُ تَعْجِيلِ الْمُتَمَتِّعِ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ .

( وَإِذَا حَلَقَ يَوْمَ النَّحْرِ فَقَدْ حَلَّ مِنْ الْإِحْرَامَيْنِ ) ؛ لِأَنَّ الْحَلْقَ مُحَلِّلٌ فِي الْحَجِّ كَالسَّلَامِ فِي الصَّلَاةِ فَيَتَحَلَّلُ بِهِ عَنْهُمَا .

( قَوْلُهُ : فَقَدْ حَلَّ مِنْ الْإِحْرَامَيْنِ ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى بَقَاءِ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ إلَى الْحَلْقِ .
وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ فِي النِّهَايَةِ : لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَزِمَ الْقَارِنَ دَمَانِ إذَا جَنَى قَبْلَ الْحَلْقِ .
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : إذَا قَتَلَ الْقَارِنُ صَيْدًا بَعْدَ الْوُقُوفِ قَبْلَ الْحَلْقِ لَزِمَهُ قِيمَةٌ وَاحِدَةُ ، وَلَوْ بَقِيَ بَعْدَ الْوُقُوفِ لَزِمَهُ دَمَانِ .
وَأَجَابَ بِأَنَّ إحْرَامَ الْعُمْرَةِ انْتَهَى بِالْوُقُوفِ وَلَمْ يَبْقَ إلَّا فِي حَقِّ التَّحَلُّلِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْحَجَّ غَايَةَ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ ، وَلَا وُجُودَ لِلْمَضْرُوبِ لَهُ الْغَايَةُ بَعْدَهَا إلَّا ضَرُورَةً وَهِيَ مَا ذَكَرْنَا ، وَإِذَا لَمْ يَبْقَ فِي حَقِّ غَيْرِ ذَلِكَ لَمْ تَقَعْ الْجِنَايَةُ عَلَيْهِ .
ا هـ .
قَالَ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ .
وَهَذَا بَعِيدٌ ، فَإِنَّ الْقَارِنَ إذَا جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ يَجِبُ عَلَيْهِ بَدَنَةٌ لِلْحَجِّ وَشَاةٌ لِلْعُمْرَةِ وَبَعْدَ الْحَلْقِ قَبْلَ الطَّوَافِ شَاتَانِ ا هـ .
وَمَا نَقَلَهُ فِي النِّهَايَةِ إنَّمَا هُوَ قَوْلُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ وَمَنْ تَبِعَهُ ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ عَنْهُ بِخُصُوصِهِ فِي النِّهَايَةِ فِي آخِرِ فَصْلِ جَزَاءِ الصَّيْدِ ، وَأَكْثَرُ عِبَارَاتِ الْأَصْحَابِ مُطْلَقَةٌ وَهِيَ الظَّاهِرَةُ ، إذْ قَضَاءُ الْأَعْمَالِ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ الْإِحْرَامِ ، وَالْوُجُوبُ إنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارٍ أَنَّهُ جِنَايَةٌ عَلَى الْإِحْرَامِ لَا عَلَى الْأَعْمَالِ .
وَالْفَرْعُ الْمَنْقُولُ فِي الْجِمَاعِ يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا ، بَلْ سَنَذْكُرُ عَنْ الْكُتُبِ الْمُعْتَبَرَةِ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ فِيمَا بَعْدَ الْحَلْقِ الْبَدَنَةَ وَالشَّاةَ أَيْضًا بِالْجِمَاعِ ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ الْبَدَنَةُ فَقَطْ ، وَنُبَيِّنُ الْأَوْلَى مِنْهُمَا .
ثُمَّ إنَّ شَيْخَ الْإِسْلَامِ قَيَّدَ لُزُومَ الدَّمِ الْوَاحِدِ بِغَيْرِ الْجِمَاعِ وَقَالَ : إنَّ فِي الْجِمَاعِ بَعْدَ الْوُقُوفِ شَاتَيْنِ ، فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ إحْرَامُ الْعُمْرَةِ بَعْدَ الْوُقُوفِ تُوجِبُ الْجِنَايَةَ عَلَيْهِ شَيْئًا أَوْ لَا ، فَإِنْ أَوْجَبَتْ لَزِمَ شُمُولُ الْوُجُوبِ وَإِلَّا فَشُمُولُ الْعَدَمِ

.

قَالَ : ( وَلَيْسَ لِأَهْلِ مَكَّةَ تَمَتُّعٌ وَلَا قِرَانٌ ، وَإِنَّمَا لَهُمْ الْإِفْرَادُ خَاصَّةً ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى { ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } ؛ وَلِأَنَّ شَرْعَهُمَا لِلتَّرَفُّهِ بِإِسْقَاطِ إحْدَى السَّفْرَتَيْنِ وَهَذَا فِي حَقِّ الْآفَاقِيِّ ، وَمَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمِيقَاتِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَكِّيِّ حَتَّى لَا يَكُونَ لَهُ مُتْعَةٌ وَلَا قِرَانٌ ، بِخِلَافِ الْمَكِّيِّ إذَا خَرَجَ إلَى الْكُوفَةِ وَقَرَنَ حَيْثُ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّ عُمْرَتَهُ وَحَجَّتَهُ مِيقَاتِيَّتَانِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْآفَاقِيِّ .

( قَوْلُهُ : وَلَيْسَ لِأَهْلِ مَكَّةَ تَمَتُّعٌ وَلَا قِرَانٌ ) يَحْتَمِلُ نَفْيَ الْوُجُودِ : أَيْ لَيْسَ يُوجَدُ لَهُمْ ، حَتَّى لَوْ أَحْرَمَ مَكِّيٌّ بِعُمْرَةٍ أَوْ بِهِمَا وَطَافَ لِلْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا وَلَا قَارِنًا ، وَيُوَافِقُهُ مَا سَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ مِنْ قَوْلِهِ : وَإِذَا عَادَ الْمُتَمَتِّعُ إلَى بَلَدِهِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الْعُمْرَةِ وَلَمْ يَكُنْ سَاقَ الْهَدْيَ بَطَلَ تَمَتُّعُهُ ؛ لِأَنَّهُ أَلَمَّ بِأَهْلِهِ فِيمَا بَيْنَ النُّسُكَيْنِ إلْمَامًا صَحِيحًا وَذَلِكَ يُبْطِلُ التَّمَتُّعَ .
فَأَفَادَ أَنَّ عَدَمَ الْإِلْمَامِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ التَّمَتُّعِ فَيَنْتَفِي لِانْتِفَائِهِ .
وَعَنْ ذَلِكَ أَيْضًا خَصَّ الْقِرَانَ فِي قَوْلِهِ بِخِلَافِ الْمَكِّيِّ إذَا خَرَجَ إلَى الْكُوفَةِ وَقَرَنَ حَيْثُ يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ عُمْرَتَهُ وَحَجَّتَهُ مِيقَاتِيَّتَانِ .
قَالُوا : خَصَّ الْقِرَانَ ؛ لِأَنَّ التَّمَتُّعَ مِنْهُ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ مُلِمٌّ بِأَهْلِهِ بَعْدَ الْعُمْرَةِ .
وَيَحْتَمِلُ نَفْيَ الْحِلِّ كَمَا يُقَالُ : لَيْسَ لَك أَنْ تَصُومَ يَوْمَ النَّحْرِ ، وَلَا أَنْ تَتَنَفَّلَ بِالصَّلَاةِ عِنْدَ الطُّلُوعِ وَالْغُرُوبِ ، حَتَّى لَوْ أَنَّ مَكِّيًّا اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ أَوْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا كَانَ مُتَمَتِّعًا أَوْ قَارِنًا آثِمًا بِفِعْلِهِ إيَّاهُمَا عَلَى وَجْهٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ .
وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِحَمْلِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ اشْتِرَاطِ عَدَمِ الْإِلْمَامِ لِلصِّحَّةِ عَلَى اشْتِرَاطِهِ لِوُجُودِ التَّمَتُّعِ الَّذِي لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ نَهْيٌ شَرْعًا الْمُنْتَهِضِ سَبَبًا لِلشُّكْرِ .
وَيُوَافِقُهُ مَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ : لَيْسَ لِأَهْلِ مَكَّةَ تَمَتُّعٌ وَلَا قِرَانٌ ، وَمَنْ تَمَتَّعَ مِنْهُمْ أَوْ قَرَنَ كَانَ عَلَيْهِ دَمٌ وَهُوَ دَمُ جِنَايَةٍ لَا يَأْكُلُ مِنْهُ .
وَصَحَّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَيْسَ لِأَهْلِ مَكَّةَ تَمَتُّعٌ وَلَا قِرَانٌ .
وَقَالَ فِي التُّحْفَةِ : وَمَعَ هَذَا لَوْ تَمَتَّعُوا جَازَ وَأَسَاءُوا ، وَعَلَيْهِمْ دَمُ الْجَبْرِ وَسَنَذْكُرُ مِنْ كَلَامِ

الْحَاكِمِ صَرِيحًا ا هـ .
وَمِنْ حُكْمِ هَذَا الدَّمِ أَنْ لَا يَقُومُ الصَّوْمُ مَقَامَهُ حَالَةَ الْعُسْرَةِ ، فَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ فِي الْوَاقِعِ لُزُومَ دَمِ الْجَبْرِ لَزِمَ ثُبُوتُ الصِّحَّةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا جَبْرَ إلَّا لِمَا وُجِدَ بِوَصْفِ النُّقْصَانِ لَا لِمَا لَمْ يُوجَدْ شَرْعًا .
فَإِنْ قِيلَ : يُمْكِنُ كَوْنُ الدَّمِ لِلِاعْتِمَارِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ الْمَكِّيِّ لَا لِلتَّمَتُّعِ مِنْهُ ، وَهَذَا فَاشٍ بَيْنَ حَنَفِيَّةِ الْعَصْرِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ ، وَنَازَعَهُمْ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الْآفَاقِيِّينَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ قَرِيبٍ وَجَرَتْ بَيْنَهُمْ شُئُونٌ وَمُعْتَمَدُ أَهْلِ مَكَّةَ مَا وَقَعَ فِي الْبَدَائِعِ مِنْ قَوْلِهِ : وَلِأَنَّ دُخُولَ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَقَعَ رُخْصَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } قِيلَ فِي بَعْضِ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ : أَيْ لِلْحَجِّ أَشْهُرٍ مَعْلُومَاتٍ ، وَاللَّامُ لِلِاخْتِصَاصِ فَاخْتَصَّتْ هَذِهِ الْأَشْهُرُ بِالْحَجِّ ، وَذَلِكَ بِأَنْ لَا يَدْخُلَ فِيهَا غَيْرُهُ ، إلَّا أَنَّ الْعُمْرَةَ دَخَلَتْ فِيهَا رُخْصَةَ لِلْآفَاقِيِّ ضَرُورَةُ تَعَذُّرِ إنْشَاءِ سَفَرٍ لِلْعُمْرَةِ نَظَرًا لَهُ ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ أَهْلِ مَكَّةَ وَمَنْ بِمَعْنَاهُمْ ، فَلَمْ تَكُنْ الْعُمْرَةُ مَشْرُوعَةً فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فِي حَقِّهِمْ ، فَبَقِيَتْ الْعُمْرَةُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فِي حَقِّهِمْ مَعْصِيَةً ا هـ .
وَفِيهِ بَعْضُ اخْتِصَارٍ ، وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ خِلَافَهُ ، وَقَدْ صَرَّحُوا فِي جَوَابِ الشَّافِعِيِّ لَمَّا أَجَازَ التَّمَتُّعَ لِلْمَكِّيِّ .
وَقَالَ فِي بَعْضِ الْأَوْجُهِ نَسْخُ مَنْعِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ عَامٌّ فَيَتَنَاوَلُ الْمَكِّيَّ كَغَيْرِهِ ، فَقَالُوا : أَمَّا النَّسْخُ فَثَابِتٌ عِنْدَنَا فِي حَقِّ الْمَكِّيِّ أَيْضًا حَتَّى يَعْتَمِرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، وَلَا يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ وَلَكِنْ لَا يُدْرِكُ فَضِيلَةَ التَّمَتُّعِ إلَى آخِرِ مَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
فَإِنْكَارُ أَهْلِ مَكَّةَ عَلَى هَذَا اعْتِمَارَ الْمَكِّيِّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ إنْ كَانَ لِمُجَرَّدِ الْعُمْرَةِ

فَخَطَأٌ بِلَا شَكٍّ ، وَإِنْ كَانَ لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ هَذَا الَّذِي اعْتَمَرَ مِنْهُمْ لَيْسَ بِحَيْثُ يَتَخَلَّفُ عَنْ الْحَجِّ إذَا خَرَجَ النَّاسُ لِلْحَجِّ بَلْ يَحُجَّ مِنْ عَامِهِ فَصَحِيحٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ حِينَئِذٍ إنْكَارٌ لِمُتْعَةِ الْمَكِّيِّ لَا لِمُجَرَّدِ عُمْرَتِهِ .
فَإِذَا ظَهَرَ لَك صَرِيحُ هَذَا الْخِلَافِ مِنْهُ فِي إجَازَةِ الْعُمْرَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ مُجَرَّدُ عُمْرَةٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ .
وَمَنْعُهَا وَجَبَ أَنْ يَتَفَرَّعَ عَلَيْهِ مَا لَوْ كَرَّرَ الْمَكِّيُّ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ هَلْ يَتَكَرَّرُ الدَّمُ عَلَيْهِ ؟ .
فَعَلَى مَنْ صَرَّحَ بِحِلِّهَا لَهُ ، وَأَنَّ الْمَنْعَ لَيْسَ إلَّا لِتَمَتُّعِهِ لَا يَتَكَرَّرُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ تَكَرُّرَهُ لَا أَثَرَ لَهُ فِي ثُبُوتِ تَكَرُّرِهِ وَتَمَتُّعِهِ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ ؛ لِأَنَّهُ تَمَتَّعَ مَرَّةً وَاحِدَةً .
وَعَلَى مَنْ مَنَعَ نَفْسَ الْعُمْرَةِ مِنْهُ وَأَثْبَتَ أَنَّ نَسْخَ حُرْمَتِهَا إنَّمَا هُوَ لِلْآفَاقِيِّ فَقَطْ يَنْبَغِي أَنْ يَتَكَرَّرَ الدَّمُ بِتَكَرُّرِهَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَإِنَّمَا النَّظَرُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَوْلَى الْقَوْلَيْنِ ، وَنَظَرَ هَؤُلَاءِ إلَى الْعُمُومَاتِ ، مِثْلَ " دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ " .
وَصَرِيحُ مَنْعِ الْمَكِّيِّ شَرْعًا لَمْ يَثْبُتْ إلَّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } وَهُوَ خَاصٌّ بِالْجَمْعِ تَمَتُّعًا فَيَبْقَى فِيمَا وَرَاءَهُ عَلَى الْإِبَاحَةِ ، غَيْرَ أَنَّ لِلْآخَرِ أَنْ يَقُولَ : دَلِيلُ التَّخْصِيصِ مِمَّا يَصِحُّ تَعْلِيلُهُ وَيَخْرُجُ بِهِ مَعَهُ ، وَتَعْلِيلُ مَنْعِ الْجَمْعِ الْمُتَبَادَرِ مِنْهُ أَنْ يَحْصُلَ الرِّفْقُ وَدَفْعُ الْمَشَقَّةِ الْآتِيَةِ مِنْ قِبَلِ تَعَدُّدِ السَّفَرِ أَوْ إطَالَةِ الْإِقَامَةِ وَذَلِكَ خَاصٌّ ، فَيَبْقَى الْمَنْعُ السَّابِقُ عَلَى مَا كَانَ وَيَخْتَصُّ النَّسْخُ بِالْآفَاقِيِّ ، وَلِلنَّظَرِ بَعْدَ ذَلِكَ مَجَالٌ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُوَفِّقُ .
ثُمَّ ظَهَرَ لِي بَعْدَ نَحْوِ ثَلَاثِينَ عَامًا مِنْ كِتَابَةِ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ الْوَجْهَ مَنْعُ

الْعُمْرَةِ لِلْمَكِّيِّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ سَوَاءٌ حَجَّ مِنْ عَامِهِ أَوْ لَا ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ خَاصٌّ لَمْ يَثْبُتْ ، إذْ الْمَنْقُولُ مِنْ قَوْلِهِمْ الْعُمْرَةُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ لَا يُعْرَفُ إلَّا مِنْ كَلَامِ الْجَاهِلِيَّةِ دُونَ أَنَّهُ كَانَ فِي شَرِيعَةِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوْ غَيْرِهِ ، وَلَمْ يَبْقَ إلَّا النَّظَرُ فِي الْآيَةِ .
وَحَاصِلُهُ عَامٌّ مَخْصُوصٌ فَإِنَّ قَوْلَهُ ذَلِكَ إلَخْ تَخْصِيصُ مَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَقِلٌّ مُقَارِنٌ .
وَاتَّفَقُوا فِي تَعْلِيلِهِ بِأَنَّ تَجْوِيزَهُ لِلْآفَاقِيِّ لِدَفْعِ الْحَرَجِ كَمَا عُرِفَ وَمَنَعَهُ مِنْ الْمَكِّيِّ لِعَدَمِهِ .
وَلَا شَكَّ أَنَّ عَدَمَ الْحَرَجِ فِي عَدَمِ الْجَمْعِ لَا يَصْلُحُ عِلَّةً لِمَنْعِ الْجَمْعِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُحْرَجْ بِعَدَمِ الْجَمْعِ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ عَدَمُهُ ، بَلْ إنَّمَا يَصْلُحُ عَدَمُ الْحَرَجِ فِي عَدَمِ الْجَمْعِ أَنْ يَجُوزَ لَهُ كُلٌّ مِنْ عَدَمِ الْجَمْعِ وَالْجَمْعِ ؛ لِأَنَّهُ كَمَا لَمْ يُحْرَجْ فِي عَدَمِ الْجَمْعِ لَا يُحْرَجْ فِي الْجَمْعِ ، فَحِينَ وَجَبَ عَدَمُ الْجَمْعِ لَمْ يَكُنْ إلَّا لِأَمْرٍ زَائِدٍ ، وَلَيْسَ هُنَا سِوَى كَوْنِهِ فِي الْجَمْعِ مَوْقِعًا الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ .
ثُمَّ لَا شَكَّ أَنَّ مَنْعَ نَفْسِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ لِلْمَكِّيِّ مُتَعَيِّنٌ عَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ الَّذِي أَبْدَيْنَاهُ فِي قَوْلِهِ وَلَيْسَ لِأَهْلِ مَكَّةَ تَمَتُّعٌ وَلَا قِرَانٌ إلَخْ ، وَهُوَ أَنَّ الْعُمْرَةَ لَا تَتَحَقَّقُ مِنْهُ أَصْلًا ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ مِنْهُ حَقِيقَةُ التَّمَتُّعِ الشَّرْعِيَّةِ لَا يَكُونُ مَنْعُهُ مِنْ التَّمَتُّعِ إلَّا لِلْعُمْرَةِ ، فَكَانَ حَاصِلُ مَنْعِ صُورَةِ التَّمَتُّعِ إمَّا لِمَنْعِ الْعُمْرَةِ أَوْ الْحَجِّ ، وَالْحَجُّ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْهُ فَتَعَيَّنَتْ الْعُمْرَةُ غَيْرَ أَنِّي رَجَّحْتُ أَنَّهَا تَتَحَقَّقُ ، وَيَكُونُ مُسْتَأْنِسًا بِقَوْلِ صَاحِبِ التُّحْفَةِ لَكِنَّ الْأَوْجُهَ خِلَافُهُ لِتَصْرِيحِ أَهْلِ الْمَذْهَبِ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ

وَصَاحِبَيْهِ فِي الْآفَاقِيِّ الَّذِي يَعْتَمِرُ ثُمَّ يَعُودُ إلَى أَهْلِهِ ، وَلَمْ يَكُنْ سَاقَ الْهَدْيَ ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ بِقَوْلِهِمْ بَطَلَ تَمَتُّعُهُ وَتَصْرِيحُهُمْ بِأَنَّ مِنْ شَرْطِ التَّمَتُّعِ مُطْلَقًا أَنْ لَا يُلِمَّ بِأَهْلِهِ بَيْنَهُمَا إلْمَامًا صَحِيحًا ، وَلَا وُجُودَ لِلْمَشْرُوطِ قَبْلَ وُجُودِ شَرْطِهِ .
وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ قَالُوا بِوُجُودِ الْفَاسِدِ مَعَ الْإِثْمِ وَلَمْ يَقُولُوا بِوُجُودِ الْبَاطِلِ شَرْعًا مَعَ ارْتِكَابِ النَّهْي كَبَيْعِ الْحُرِّ لَيْسَ بِبَيْعٍ شَرْعِيٍّ .
وَمُقْتَضَى كَلَامِ أَئِمَّةِ الْمَذْهَبِ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ مِنْ كَلَامِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ ، وَإِنَّمَا لَمْ نَسْلُكُ فِي مَنْعِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مَسْلَكَ صَاحِبِ الْبَدَائِعِ ؛ لِأَنَّهُ بَنَاهُ عَلَى أَمْرٍ لَمْ يَلْزَمْ ثُبُوتُهُ عَلَى الْخَصْمِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَوْجُهِ أَنَّ الْمُرَادَ لِلْحَجِّ أَشْهُرٌ وَاللَّامُ لِلِاخْتِصَاصِ ، وَهَذَا مِمَّا لِلْخَصْمِ مَنْعُهُ ، وَيَقُولُ : بَلْ جَازَ كَوْنُ الْمُرَادِ أَنَّ الْحَجَّ فِي أَشْهُرٍ مَعْلُومَاتٍ فَيُفِيدُ أَنَّهُ يُفْعَلُ فِيهَا لَا فِي غَيْرِهَا وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ لَا يَفْعَلَ فِيهَا غَيْرَهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( قَوْلُهُ : وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ ) مَدَارُ احْتِجَاجِ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَنَّ نَسْخَ تَرْكِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ عَامٌّ فِي حَقِّ الْمَكِّيِّ وَغَيْرِهِ ، وَمَعْلُومٌ شَرْعِيَّةُ الْحَجِّ فِي حَقِّ الْكُلِّ فَجَازَ التَّمَتُّعُ لِلْكُلِّ وقَوْله تَعَالَى { ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } لَا يَنْفِيهِ ، إذْ مَرْجِعُ الْإِشَارَةِ إلَى الْهَدْيِ لَا التَّمَتُّعِ فَثَبَتَ بِذَلِكَ جَوَازُ الْمُتْعَةِ لَهُمْ وَسُقُوطُ الْهَدْيِ عَنْهُمْ .
قُلْنَا : بَلْ مَرْجِعُ الْإِشَارَةِ التَّمَتُّعُ لِوَصْلِهَا بِاللَّامِ ، وَهِيَ تُسْتَعْمَلُ فِيمَا لَنَا أَنْ نَفْعَلَهُ ، وَالتَّمَتُّعُ لَنَا أَنْ نَفْعَلَهُ ، بِخِلَافِ الْهَدْيِ فَإِنَّهُ عَلَيْنَا ، فَلَوْ كَانَ مُرَادًا لَجِيءَ مَكَانَ اللَّامِ بِعَلَى فَقِيلَ ذَلِكَ عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ

.
فَإِنْ قِيلَ : شَرْعُ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ عَامٌّ .
قُلْنَا مَمْنُوعٌ بَلْ ذَلِكَ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي رَدَدْنَاهُ .
وَعَلَى تَقْدِيرِهِ أَيْضًا لَا يُفِيدُ ؛ لِأَنَّا نُجِيزُ لِلْمَكِّيِّ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، فَإِنْ أُرِيدَ الْمَجْمُوعُ مِنْ الْعُمْرَةِ مَعَ الْحَجِّ مِنْ عَامِهِ ، وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالتَّمَتُّعِ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فِي النَّصِّ فَهُوَ أَوَّلُ الْمَسْأَلَةِ وَمَحَلُّ النِّزَاعِ .
ثُمَّ إنْ عَلَّلْنَا دَلِيلَ التَّخْصِيصِ أَعْنِي قَوْله تَعَالَى { ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } بِكَوْنِهِ مُلِمًّا بِأَهْلِهِ بَيْنَ أَدَائِهِمَا فَلَمْ يُكْمِلْ مَعْنَى الِارْتِفَاقِ فِي حَقِّ أَهْلِ مَكَّةَ بِشَرْعِهِمَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، بِخِلَافِ الْآفَاقِيِّ فَتَقَاصَرَ عَنْ إيجَابِ الشُّكْرِ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْآفَاقِيِّ فَعَدَّيْنَاهُ إلَى كُلِّ مَنْ أَلَمَّ بِأَهْلِهِ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ حَتَّى إذَا اعْتَمَرَ الْآفَاقِيُّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فَأَقَامَ ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا ، وَصَارَ شَرْطُ التَّمَتُّعِ الْمَأْذُونِ فِيهِ شَرْعًا أَنْ لَا يُلِمَّ بِأَهْلِهِ بِهَذَا الْمَأْخَذِ ، إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ فَرَّقَ بَيْنَ كَوْنِ الْعَوْدِ مُسْتَحَقًّا عَلَى الْآفَاقِيِّ بِأَنْ كَانَ سَاقَ الْهَدْيَ أَوْ لَا فَجَعَلَ الْإِلْمَامَ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْعَوْدِ شَرْعًا كَعَدَمِهِ وَسَيَأْتِي .
وَإِذَا عَلِمْت هَذَا فَمُقْتَضَاهُ مَعَ مَا قَدَّمْنَا مِنْ الْحَقِّ مِنْ أَنَّ التَّمَتُّعَ بِإِطْلَاقِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَأَلْفَاظِ الصَّحَابَةِ يَعُمُّ الْقِرَانَ ؛ لِأَنَّهُ تَمَتُّعٌ لِلِارْتِفَاقِ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ اشْتَرَطَ عَدَمَ الْإِلْمَامِ لِلْقِرَانِ الْمَأْذُونِ فِيهِ أَيْضًا ، فَيُقْتَضَى فِي الْمَكِّيِّ إذَا خَرَجَ إلَى الْكُوفَةِ ثُمَّ عَادَ فَأَحْرَمَ بِهِمَا مِنْ الْمِيقَاتِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ فَعَلَهُمَا أَنْ لَا يَكُونَ الْقِرَانُ الشَّرْعِيُّ الْمُسْتَعْقِبُ لِلْحُكْمِ الْمَعْلُومِ مِنْ إيجَابِ الدَّمِ شُكْرًا ، وَهُوَ خِلَافُ مَا ذَكَرُوهُ مِمَّا

نَصَّ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ : بِخِلَافِ الْمَكِّيِّ إذَا خَرَجَ إلَى الْكُوفَةِ إلَخْ .
قَالُوا : خُصَّ الْمَكِّيُّ بِالْقِرَانِ ؛ لِأَنَّهُ لَا تَمَتُّعَ لَهُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ ؛ لِأَنَّهُ مُلِمَّ بِأَهْلِهِ بَعْدَ الْعُمْرَةِ وَلَوْ سَاقَ الْهَدْيَ ؛ لِأَنَّ الْعَوْدَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ ، وَمُقْتَضَى الدَّلِيلِ مَا أَعْلَمْتُك ، بَلْ وَيَقْتَضِي أَيْضًا بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ وُجُوبَ الدَّمِ جَبْرًا عَلَى الْآفَاقِيِّ إذَا عَادَ وَأَلَمَّ ثُمَّ رَجَعَ وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ إذَا كَانُوا أَوْجَبُوهُ عَلَى الْمَكِّيِّ إذَا تَمَتَّعَ ؛ لِارْتِكَابِهِ النَّهْيَ ، وَأَنْتَ عَلِمْتَ أَنَّ مَنَاطَ نَهْيِهِ وُجُودُ الْإِلْمَامِ ، وَهُوَ ثَابِتٌ فِي الْآفَاقِيِّ الْمُلِمِّ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وَقَوْلُهُ : ( لِأَنَّ عُمْرَتَهُ وَحَجَّتَهُ مِيقَاتِيَّتَانِ فَكَانَ كَالْآفَاقِيِّ ) .
قَالُوا : يُشِيرُ إلَى أَنَّ عَدَمَ صِحَّةِ التَّمَتُّعِ مِنْهُ إذَا كَانَ بِمَكَّةَ لِإِخْلَالِهِ بِمِيقَاتِ أَحَدِ النُّسُكَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَحْرَمَ بِهِمَا مِنْ الْحَرَمِ أَخَلَّ بِمِيقَاتِ الْعُمْرَةِ ، أَوْ مِنْ الْحِلِّ فَبِمِيقَاتِ الْحَجِّ لِلْمَكِّيِّ فَيُكْرَهُ وَيَلْزَمُهُ الرَّفْضُ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ تَرْكَ الْإِحْرَامِ مِنْ الْمِيقَاتِ لَا يُوجِبُ عَدَمَ صِحَّةِ النُّسُكِ الْمُعَيَّنِ ، أَلَا تَرَى لَوْ أَنَّ آفَاقِيًّا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ ثُمَّ أَحْرَمَ بِهِمَا وَفَعَلَهُمَا أَنَّهُ يَكُونُ قَارِنًا ، وَيَلْزَمُهُ دَمُ الْقِرَانِ مَعَ دَمِ الْوَقْتِ كَمَا لَوْ جَنَى عَلَى إحْرَامِهِ بَلْ أَوْلَى إذَا تَأَمَّلْت .
عَلَى أَنَّ الْمَانِعَ لَوْ كَانَ هَذَا لَصَحَّ قِرَانُ كُلِّ مَكِّيِّ بِطَرِيقِ أَنْ يَخْرُجَ إلَى أَدْنَى الْحِلِّ كَالتَّنْعِيمِ فَيُحْرِمُ بِعُمْرَةٍ ثُمَّ يَخْطُو خُطْوَةً فَيَدْخُلُ أَرْضَ الْحَرَمِ فَيُحْرِمُ بِالْحَجِّ ، لَكِنَّ الْمَنْعَ عَامٌّ ، وَسَبَبُهُ لَيْسَ إلَّا الْآيَةَ ، وَالْقِرَانُ مِنْ التَّمَتُّعِ ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ فَقَالَ فِي آخِرِ الْبَابِ : وَالْقِرَانُ مِنْهُ : أَيْ مِنْ التَّمَتُّعِ .
هَذَا ثُمَّ قَيَّدَ الْمَحْبُوبِيُّ قِرَانَ الْمَكِّيِّ بِأَنْ يَخْرُجَ مِنْ

الْمِيقَاتِ إلَى الْكُوفَةِ مِثْلًا قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ .
أَمَّا إذَا خَرَجَ بَعْدَ دُخُولِهَا فَلَا قِرَانَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا دَخَلَتْ أَشْهُرُ الْحَجِّ وَهُوَ دَاخِلُ الْمَوَاقِيتِ فَقَدْ صَارَ مَمْنُوعًا مِنْ الْقِرَانِ شَرْعًا فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِخُرُوجِهِ مِنْ الْمِيقَاتِ ، هَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ .
وَقَدْ يُقَالُ : إنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ خِطَابُ الْمَنْعِ مُطْلَقًا ، بَلْ مَا دَامَ بِمَكَّةَ ، فَإِذَا خَرَجَ إلَى الْآفَاقِ الْتَحَقَ بِأَهْلِهِ لِمَا عُرِفَ أَنَّ كُلَّ مَنْ وَصَلَ إلَى مَكَان صَارَ مُلْحِقًا بِأَهْلِهِ ، كَالْآفَاقِيِّ إذَا قَصَدَ بُسْتَانَ بَنِي عَامِرٍ حَتَّى جَازَ لَهُ دُخُولُ مَكَّةَ بِلَا إحْرَامٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ .
وَأَصْلُ هَذِهِ الْكُلِّيَّةِ الْإِجْمَاعُ ، عَلَى أَنَّ الْآفَاقِيَّ إذَا قَدِمَ بِعُمْرَةٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ إلَى مَكَّةَ كَانَ إحْرَامُهُ بِالْحَجِّ مِنْ الْحَرَمِ وَإِنْ لَمْ يُقِمْ بِمَكَّةَ إلَّا يَوْمًا وَاحِدًا فَإِطْلَاقُ الْمُصَنِّفُ حِينَئِذٍ هُوَ الْوَجْهُ .
هَذَا وَأَمَّا عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْبَحْثِ فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ الْقِرَانُ الْجَائِزُ مَا لَمْ يَنْقَضِ وَطَنُهُ بِمَكَّةَ لِلُّزُومِ اشْتِرَاطِ عَدَمِ الْإِلْمَامِ فِيهِ كَالْمُتَمَتِّعِ ، فَإِنْ قَرَنَ لَزِمَهُ دَمٌ كَمَا لَوْ قَرَنَ وَهُوَ بِمَكَّةَ لِمَا عَلِمْت مِنْ أَنَّ الْقِرَانَ مِنْ مَاصَدَقَاتِ التَّمَتُّعِ بِالنَّظْمِ الْقُرْآنِيِّ وَيَلْزَمُ فِيهِ وُجُودُ أَكْثَرَ أَشْوَاطِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ؛ لِأَنَّهُ التَّمَتُّعُ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ .
وَوُجُوبُ الشُّكْرِ بِالدَّمِ مَا كَانَ إلَّا لِفِعْلِ الْعُمْرَةِ فِيهَا ثُمَّ الْحَجِّ فِيهَا ، وَهَذَا فِي الْقِرَانِ كَمَا هُوَ فِي التَّمَتُّعِ .
وَمَا عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ أَحْرَمَ بِهِمَا وَطَافَ لِعُمْرَتِهِ فِي رَمَضَانَ أَنَّهُ قَارِنٌ وَلَا دَمَ عَلَيْهِ مُرَادٌ بِهِ الْقَارِنُ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ ، إذْ لَا شَكَّ فِي أَنَّهُ قَرَنَ : أَيْ جَمَعَ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ نَفَى لَازِمَ الْقِرَانِ بِالْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ الْمَأْذُونِ فِيهِ وَهُوَ لُزُومُ الدَّمِ وَنَفْيُ اللَّازِمُ الشَّرْعِيِّ نَفْيُ

الْمَلْزُومِ الشَّرْعِيِّ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ النُّسُكَ الْمُسْتَعْقِبَ لِلدَّمِ شُكْرًا هُوَ مَا تَحَقَّقَ فِيهِ فِعْلُ الْمَشْرُوعِ الْمُرْتَفَقِ بِهِ النَّاسِخِ لِمَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، وَذَلِكَ بِفِعْلِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، فَإِنْ كَانَ مَعَ الْجَمْعِ فِي الْإِحْرَامِ قَبْلَ أَكْثَرِ طَوَافِ الْعُمْرَةِ فَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْقِرَانِ وَإِلَّا فَهُوَ التَّمَتُّعُ بِالْمَعْنَى الْعُرْفِيِّ وَكِلَاهُمَا التَّمَتُّعُ بِالْإِطْلَاقِ الْقُرْآنِيِّ وَعُرْفِ الصَّحَابَةِ ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ إطْلَاقُ اللُّغَةِ لِحُصُولِ الرِّفْقِ بِهَذَا النَّسْخِ .
هَذَا كُلُّهُ عَلَى أُصُولِ الْمَذْهَبِ ، وَأَمَّا مَا أَعْتَقِدُهُ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ فَسَأَذْكُرُهُ مِنْ قَرِيبٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

( وَإِذَا عَادَ الْمُتَمَتِّعُ إلَى بَلَدِهِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الْعُمْرَةِ وَلَمْ يَكُنْ سَاقَ الْهَدْيَ بَطَلَ تَمَتُّعُهُ ) ؛ لِأَنَّهُ أَلَمَّ بِأَهْلِهِ فِيمَا بَيْنَ النُّسُكَيْنِ إلْمَامًا صَحِيحًا وَبِذَلِكَ يَبْطُلُ التَّمَتُّعُ ، كَذَا رُوِيَ عَنْ عِدَّةٍ مِنْ التَّابِعِينَ ، وَإِذَا سَاقَ الْهَدْيَ فَإِلْمَامُهُ لَا يَكُونُ صَحِيحًا وَلَا يَبْطُلُ تَمَتُّعُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : رَحِمَهُ اللَّهُ يَبْطُلُ ؛ لِأَنَّهُ أَدَّاهُمَا بِسَفْرَتَيْنِ .
وَلَهُمَا أَنَّ الْعَوْدَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ مَا دَامَ عَلَى نِيَّةِ التَّمَتُّعِ ؛ لِأَنَّ السَّوْقَ يَمْنَعُهُ مِنْ التَّحَلُّلِ فَلَمْ يَصِحَّ إلْمَامُهُ ، بِخِلَافِ الْمَكِّيِّ إذَا خَرَجَ إلَى الْكُوفَةِ وَأَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَسَاقَ الْهَدْيَ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا ؛ لِأَنَّ الْعَوْدَ هُنَاكَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ فَصَحَّ إلْمَامُهُ بِأَهْلِهِ .

( قَوْلُهُ : وَإِذَا عَادَ ) الْحَاصِلُ أَنَّ عَوْدَ الْآفَاقِيِّ الْفَاعِلِ لِلْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ إلَى أَهْلِهِ ثُمَّ رُجُوعِهِ وَحَجِّهِ مِنْ عَامِهِ إنْ كَانَ لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ بَطَلَ تَمَتُّعُهُ بِاتِّفَاقِ عُلَمَائِنَا ، وَإِنْ كَانَ سَاقَ الْهَدْيَ فَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ : لَا يَبْطُلُ إلْحَاقًا لِعَوْدِهِ بِالْعَدَمِ بِسَبَبِ اسْتِحْقَاقِ الرُّجُوعِ شَرْعًا إذَا كَانَ عَلَى عَزْمِ الْمُتْعَةِ .
وَالتَّقْيِيدُ بِعَزْمِ الْمُتْعَةِ لِنَفْيِ اسْتِحْقَاقِ الْعَوْدِ شَرْعًا عِنْدَ عَدَمِهِ فَإِنَّهُ لَوْ بَدَا لَهُ بَعْدَ الْعُمْرَةِ أَنْ لَا يَحُجَّ مِنْ عَامِهِ لَا يُؤَاخَذُ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ لَمْ يُحْرِمْ بِالْحَجِّ بَعْدُ ، وَإِذَا ذَبَحَ الْهَدْيَ أَوْ أَمَرَ بِذَبْحِهِ يَقَعُ تَطَوُّعًا ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ عَلَيْهِ بِقَوْلِ التَّابِعِينَ ، وَقَوْلُ مَنْ نَعْلَمُهُ قَالَهُ مِنْهُمْ مُطْلَقٌ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ أَيْضًا أَخَذُوهُ مِنْ قَوْله تَعَالَى { ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } إذْ لَا سُنَّةَ ثَابِتَةَ فِي ذَلِكَ مِنْ رِوَايَتِهِمْ .
رَوَى الطَّحَاوِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالنَّخَعِيِّ أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ إذَا رَجَعَ بَعْدَ الْعُمْرَةِ بَطَل تَمَتُّعُهُ ، وَكَذَا ذَكَرَ الرَّازِيّ فِي كِتَابِ [ أَحْكَامُ الْقُرْآنِ ] .
وَاَلَّذِي يَظْهَرُ مِنْ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ أَنْ لَا تَمَتُّعَ لِأَهْلِ مَكَّةَ وَلَا قِرَانَ ، وَأَنَّ رُجُوعَ الْآفَاقِيِّ إلَى أَهْلِهِ ثُمَّ عَوْدَهُ وَحَجَّهُ مِنْ عَامِهِ لَا يُبْطِلَ تَمَتُّعَهُ مُطْلَقًا .
وَهَذَا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَيَّدَ جَوَازَ التَّمَتُّعِ بِعَدَمِ الْإِلْمَامِ بِالْأَهْلِ الْقَاطِنِينَ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ : أَيْ مَكَّةَ وَمَنْ أُلْحِقَ بِأَهْلِهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } فَأَفَادَ مَانِعِيَّةَ الْإِلْمَامِ عَنْ الْمُتَمَتِّعِ وَعَلِيَّتَهُ لِعَدَمِ الْجَوَازِ بِقَيْدِ كَوْنِهِ فِي مَكَّةَ ، فَتَعَدِّيَةُ الْمَنْعِ بِتَعَدِّيَةِ الْإِلْمَامِ إلَى مَا بِغَيْرِ

حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِنْ الْأَهْلِ تُبْتَنَى عَلَى إلْغَاءِ قَيْدِ الْكَوْنِ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاعْتِبَارِ الْمُؤَثِّرِ مُطْلَقُ الْإِلْمَامِ ، وَصِحَّتُهُ تَتَوَقَّفُ عَلَى عَقْلِيَّةِ عَدَمِ دُخُولِ الْقَيْدِ فِي التَّأْثِيرِ ، وَكَوْنِهِ طَرْدِيًّا ، وَالْوَاقِعُ خِلَافُهُ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ حُصُولَ الرِّفْقِ التَّامِّ بِشَرْعِيَّةِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ الْمُنْتَهِضِ مُؤَثِّرًا فِي إيجَابِ الشُّكْرِ إذَا حَجَّ فِي تِلْكَ الْأَشْهُرِ الَّتِي اعْتَمَرَ فِيهَا إنَّمَا هُوَ لِلْآفَاقِيِّ لَا لِحَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الْقَاطِنِينَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَلْحَقهُمْ مِنْ الْمَشَقَّةِ نَحْوُ مَا يَلْحَقُ الْآفَاقِيَّ بِمَنْعِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، بِخِلَافِ الْآفَاقِيِّ فَكَانَ فَائِدَةُ شَرْعِيَّةِ الْعُمْرَةِ فِيهَا فِي حَقِّ الْآفَاقِيِّ هُوَ الظَّاهِرَ فَنَاسَبَ أَنْ يُخَصَّ هُوَ بِشَرْعِيَّةِ الْمُتَمَتِّعِ فَكَانَ قَيْدُ حُضُورِ الْأَهْلِ فِي الْحَرَمِ ظَاهِرَ الِاعْتِبَارِ فِي الْمَنْعِ مِنْ التَّمَتُّعِ فَلَا يَجُوزُ إلْغَاؤُهُ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ

( وَمَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَطَافَ لَهَا أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْوَاطٍ ثُمَّ دَخَلَتْ أَشْهُرُ الْحَجِّ فَتَمَّمَهَا وَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ كَانَ مُتَمَتِّعًا ) ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ عِنْدَنَا شَرْطٌ فَيَصِحُّ تَقْدِيمُهُ عَلَى أَشْهُرِ الْحَجِّ .
وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ أَدَاءُ الْأَفْعَالِ فِيهَا ، وَقَدْ وُجِدَ الْأَكْثَرُ وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ

( وَإِنْ طَافَ لِعُمْرَتِهِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ فَصَاعِدًا ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا ) ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى الْأَكْثَرَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ صَارَ بِحَالٍ لَا يَفْسُدُ نُسُكُهُ بِالْجِمَاعِ فَصَارَ كَمَا إذَا تَحَلَّلَ مِنْهَا قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ .
وَمَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَعْتَبِرُ الْإِتْمَامَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَا ؛ وَلِأَنَّ التَّرَفُّقَ بِأَدَاءِ الْأَفْعَالِ ، وَالْمُتَمَتِّعُ مُتَرَفِّقٌ بِأَدَاءِ النُّسُكَيْنِ فِي سُفْرَةٍ وَاحِدَةٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ .
( قَوْلُهُ : وَمَالِكٌ يَعْتَبِرُ الْإِتْمَامَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ) أَيْ فِي كَوْنِهِ مُتَمَتِّعًا إذَا حَجَّ مِنْ عَامِهِ .
فَالْمَذَاهِبُ ثَلَاثَةٌ : مَذْهَبُنَا : يَصِيرُ مُتَمَتِّعًا إذَا أَدَّى أَكْثَرَ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَإِنْ أَحْرَمَ بِهَا قَبْلَهَا .
وَمَذْهَبُ مَالِكٍ : إذَا أَتَمَّهَا فِيهَا وَإِنْ فَعَلَ الْأَكْثَرَ خَارِجَهَا .
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ : لَا يَصِيرُ مُتَمَتِّعًا حَتَّى يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِحْرَامَ رُكْنٌ .
وَعِنْدَنَا هُوَ شَرْطٌ فَلَا يَكُونُ مِنْ مُسَمَّى الْعُمْرَةِ .
هَذَا وَهَلْ يُشْتَرَطُ فِي الْقِرَانِ أَيْضًا أَنْ يَفْعَلَ أَكْثَرَ أَشْوَاطِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ؟ ذَكَرَ فِي الْمُحِيطِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ ، وَكَأَنَّهُ مُسْتَنِدٌ فِي ذَلِكَ إلَى مَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَنْ أَحْرَمَ بِهِمَا ثُمَّ قَدِمَ مَكَّةَ وَطَافَ لِعُمْرَتِهِ فِي رَمَضَانَ أَنَّهُ قَارِنٌ وَلَا هَدْيَ عَلَيْهِ ، وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَلْزِمٌ لِذَلِكَ ، وَأَنَّ الْحَقَّ اشْتِرَاطُ فِعْلِ أَكْثَرِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ لَمَا قَدَّمْنَاهُ .

قَالَ ( : وَأَشْهُرُ الْحَجِّ شَوَّالُ وَذُو الْقَعْدَةِ وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ ) كَذَا رُوِيَ عَنْ الْعَبَادِلَةِ الثَّلَاثَةِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ وَلِأَنَّ الْحَجَّ يَفُوتُ بِمُضِيِّ عَشْرِ ذِي الْحَجَّةِ ، وَمَعَ بَقَاءِ الْوَقْتِ لَا يَتَحَقَّقُ الْفَوَاتُ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْله تَعَالَى { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } شَهْرَانِ وَبَعْضُ الثَّالِثِ لَا كُلُّهُ .

( قَوْلُهُ : كَذَا رُوِيَ عَنْ الْعَبَادِلَةِ الثَّلَاثَةِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ ) الْعَبَادِلَةُ فِي عُرْفِ أَصْحَابِنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَفِي عُرْفِ غَيْرِهِمْ أَرْبَعَةٌ أَخْرَجُوا ابْنَ مَسْعُودٍ وَأَدْخَلُوا ابْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَابْنِ الزُّبَيْرِ ، قَالَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ .
وَغَلَّطُوا صَاحِبَ الصِّحَاحِ إذْ أَدْخَلَ ابْنَ مَسْعُودِ وَأَخْرَجَ ابْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، قِيلَ ؛ لِأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ تَقَدَّمَتْ وَفَاتُهُ وَهَؤُلَاءِ عَاشُوا حَتَّى اُحْتِيجَ إلَى عِلْمِهِمْ .
وَلَا يُخْفَى أَنَّ سَبَبَ غَلَبَةِ لَفْظِ الْعَبَادِلَةِ فِي بَعْضِ مِنْ سُمِّيَ بِعَبْدِ اللَّهِ مِنْ الصَّحَابَةِ دُونَ غَيْرِهِمْ مَعَ أَنَّهُمْ نَحْوُ مِائَتَيْ رَجُلٍ لَيْسَ إلَّا لِمَا يُؤْثَرُ عَنْهُمْ مِنْ الْعِلْمِ وَابْنُ مَسْعُودٍ أَعْلَمَهُمْ ، وَلَفْظُ عَبْدِ اللَّهِ إذَا أُطْلِقَ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ انْصَرَفَ إلَيْهِ فَكَانَ اعْتِبَارُهُ مِنْ مُسَمَّى لَفْظِ الْعَبَادِلَةِ أَوْلَى مِنْ الْبَاقِينَ ، وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّهُ لَا غَلَبَةَ فِي اعْتِبَارِهِ جُزْءِ الْمُسَمَّى فَلَا مُشَاحَّةَ فِي وَضْعِ الْأَلْفَاظِ .
ثُمَّ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَعَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَيْضًا .
وَحَدِيثُ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْهُ قَالَ : أَشْهُرُ الْحَجِّ شَوَّالٌ ، وَذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ ، إنَّ هَذِهِ الْأَشْهُرَ لَيْسَتْ أَشْهُرُ الْعُمْرَةِ إنَّمَا هِيَ لِلْحَجِّ وَإِنْ كَانَ عَمَلُ الْحَجِّ قَدْ انْقَضَى بِانْقِضَاءِ أَيَّامِ مِنًى .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ أَخْرَجَ يَوْمَ النَّحْرِ عَنْهَا فَهِيَ شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَعَشْرُ لَيَالٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ ، وَاسْتَبْعَدَ بِاسْتِبْعَادٍ أَنْ يُوضَعَ لِأَدَاءِ رُكْنِ عِبَادَةٍ وَقْتٌ لَيْسَ وَقْتَهَا وَلَا هُوَ مِنْهُ .
وَفَائِدَةُ كَوْنِهِ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ تَظْهَرُ

فِيمَا لَوْ قَدِمَ الْمُحْرِمُ بِالْحَجِّ يَوْمَ النَّحْرِ فَطَافَ لِلْقُدُومِ وَسَعَى وَبَقِيَ عَلَى إحْرَامِهِ إلَى قَابِلٍ فَإِنَّهُ لَا سَعْيَ عَلَيْهِ عَقِيبَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ ؛ لِوُقُوعِ ذَلِكَ السَّعْيِ مُعْتَدًّا بِهِ ، وَأَيْضًا لَا يُكْرَهُ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ فِيهِ مَعَ أَنَّهُ يُكْرَهُ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ ؛ وَأَيْضًا لَوْ أَحْرَمَ بِعَمْرَةٍ يَوْمَ النَّحْرِ فَأَتَى بِأَفْعَالِهَا ثُمَّ أَحْرَمَ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ بِالْحَجِّ وَبَقِيَ مُحْرِمًا إلَى قَابِلٍ فَحَجَّ كَانَ مُتَمَتِّعًا ، وَهَذَا يُعَكِّرُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَيُوجِبُ أَنْ يُوضَعَ مَكَانَ قَوْلِهِمْ وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ فِي تَصْوِيرِ الْمُتَمَتِّعِ وَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ .

( فَإِنْ قَدَّمَ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ عَلَيْهَا جَازَ إحْرَامُهُ وَانْعَقَدَ حَجًّا ) خِلَافًا لَلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، فَإِنَّ عِنْدَهُ يَصِيرُ مُحْرِمًا بِالْعُمْرَةِ ؛ لِأَنَّهُ رُكْنٌ عِنْدَهُ وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَنَا فَأَشْبَهُ الطَّهَارَةَ فِي جَوَازِ التَّقْدِيمِ عَلَى الْوَقْتِ ؛ وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ تَحْرِيمُ أَشْيَاءَ وَإِيجَابُ أَشْيَاءَ ، وَذَلِكَ يَصِحُّ فِي كُلِّ زَمَانٍ فَصَارَ كَالتَّقْدِيمِ عَلَى الْمَكَانِ .
( قَوْلُهُ : فَإِنْ قَدَّمَ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ عَلَيْهَا جَازَ ) لَكِنَّهُ يُكْرَه ، فَقِيلَ ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الشَّرْطَ لِعَدَمِ اتِّصَالِ الْأَفْعَالِ وَالرُّكْنِ ، وَلِذَا إذَا أُعْتِقَ الْعَبْدُ بَعْدَمَا أَحْرَمَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَنْ يَخْرُجَ بِذَلِكَ الْإِحْرَامِ عَنْ الْفَرْضِ ، فَالْجَوَازُ لِلشَّبَهِ الْأَوَّلِ ، وَالْكَرَاهَةُ لِلثَّانِي .
وَقِيلَ هُوَ شَرْطٌ وَالْكَرَاهَةُ لِلطُّولِ الْمُفْضِي إلَى الْوُقُوعِ فِي مَحْظُورِهِ .

قَالَ : ( وَإِذَا قَدِمَ الْكُوفِيُّ بِعُمْرَةٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، وَفَرَغَ مِنْهَا وَحَلَقَ أَوْ قَصَّرَ ثُمَّ اتَّخَذَ مَكَّةَ أَوْ الْبَصْرَةَ دَارًا وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ ) أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ تَرَفَّقَ بِنُسُكَيْنِ فِي سَفَرٍ وَاحِدِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَقِيلَ هُوَ بِالِاتِّفَاقِ .
وَقِيلَ هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَعِنْدَهُمَا لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا ؛ لِأَنَّ الْمُتَمَتِّعَ مَنْ تَكُونُ عُمْرَتُهُ مِيقَاتِيَّةً وَحَجَّتُهُ مَكِّيَّةً وَنُسُكَاهُ هَذَانِ مِيقَاتِيَّانِ .
وَلَهُ أَنَّ السَّفْرَةَ الْأُولَى قَائِمَةٌ مَا لَمْ يَعُدْ إلَى وَطَنِهِ ، وَقَدْ اجْتَمَعَ لَهُ نُسُكَانِ فِيهَا فَوَجَبَ دَمُ التَّمَتُّعِ ( فَإِنْ قَدِمَ بِعُمْرَةٍ فَأَفْسَدَهَا وَفَرَغَ مِنْهَا وَقَصَّرَ ثُمَّ اتَّخَذَ الْبَصْرَةَ دَارًا ثُمَّ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَقَالَا : هُوَ مُتَمَتِّعٌ ) ؛ لِأَنَّهُ إنْشَاءُ سَفَرٍ وَقَدْ تَرَفَّقَ فِيهِ بِنُسُكَيْنِ .
وَلَهُ أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى سَفَرِهِ مَا لَمْ يَرْجِعْ إلَى وَطَنِهِ ( فَإِنْ كَانَ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ ثُمَّ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ) ؛ لِأَنَّ هَذَا إنْشَاءُ سَفَرٍ لِانْتِهَاءِ السَّفَرِ الْأَوَّلِ ، وَقَدْ اجْتَمَعَ لَهُ نُسُكَانِ صَحِيحَانِ فِيهِ ، وَلَوْ بَقِيَ بِمَكَّةَ وَلَمْ يَخْرُجْ إلَى الْبَصْرَةِ حَتَّى اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَحَجَّ مِنْ عَامِهٍ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّ عُمْرَتَهُ مَكِّيَّةٌ وَالسَّفَرُ الْأَوَّلُ انْتَهَى بِالْعُمْرَةِ الْفَاسِدَةِ وَلَا تَمَتُّعَ لِأَهْلِ مَكَّةَ .

( قَوْلُهُ : أَمَّا الْأَوَّلُ ) وَهُوَ مَا إذَا اتَّخَذَ مَكَّةَ دَارًا حَتَّى صَارَ مُتَمَتِّعًا بِالِاتِّفَاقِ ( وَأَمَّا الثَّانِي ) وَهُوَ مَا إذَا اتَّخَذَ الْبَصْرَةَ دَارًا ( فَقِيلَ هُوَ بِالِاتِّفَاقِ ) كَالْأَوَّلِ ، قَالَهُ الْجَصَّاصُ ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ ( وَقِيلَ هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ) وَفِي قَوْلِهِمَا لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا ، قَالَهُ الطَّحَاوِيُّ .
وَالْمَسْأَلَةُ الَّتِي تَأْتِي بَعْدَ هَذِهِ وَهِيَ مَا إذَا أَفْسَدَ الْعُمْرَةَ تَرَجَّحَ قَوْلُ الطَّحَاوِيِّ ، وَمَبْنَى الْخِلَافِ فِيهَا عَلَى أَنَّ سَفَرَهُ الْأَوَّلَ انْتَقَضَ بِقَصْدِ الْبَصْرَةِ وَالنُّزُولِ بِهَا وَنَحْوِهَا كَالطَّائِفِ وَغَيْرِهِ مِمَّا هُوَ خَارِجُ الْمَوَاقِيتِ أَوْ لَا ، فَعِنْدَهُمَا نَعَمْ ، فَلَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا فِي الْأُولَى ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَرَفَّقُ بِالنُّسُكَيْنِ فِي سَفْرَةٍ وَيَكُونُ مُتَمَتِّعًا فِي الثَّانِيَةِ ، وَهِيَ مَا إذَا أَفْسَدَ الْعُمْرَةَ ثُمَّ اتَّخَذَ الْبَصْرَةَ دَارًا ثُمَّ قَدِمَ بِعُمْرَةِ قَضَاءٍ وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ السَّفَرُ انْتَهَى بِالْفَاسِدَةِ ، وَهَذَا سَفَرٌ آخَرُ حَصَلَ فِيهِ نُسُكَيْنِ صَحِيحَيْنِ .
وَعِنْدَهُ لَا فَيَكُونُ مُتَمَتِّعًا فِي الْأُولَى لِحُصُولِهِمَا صَحِيحَيْنِ فِي سَفْرَةِ وَلَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا فِي الثَّانِيَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُحَصِّلْهُمَا صَحِيحَيْنِ فِي السَّفْرَةِ الْوَاحِدَةِ ، وَتَقْيِيدُهُمْ بِكَوْنِهِ اتَّخَذَ الْبَصْرَةَ وَنَحْوَهَا دَارًا اتِّفَاقِيٌّ ، بَلْ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَتَّخِذَهَا دَارًا أَوْ لَا ، صَرَّحَ بِهِ فِي الْبَدَائِعِ فَقَالَ : فَأَمَّا إذَا عَادَ إلَى غَيْرِ أَهْلِهِ بِأَنْ خَرَجَ مِنْ الْمِيقَاتِ وَلَحِقَ بِمَوْضِعٍ لِأَهْلِهِ الْقِرَانُ وَالتَّمَتُّعُ كَالْبَصْرَةِ مَثَلًا وَاِتَّخَذَ هُنَاكَ دَارًا أَوْ لَمْ يَتَّخِذْ تَوَطَّنَ بِهَا أَوْ لَمْ يَتَوَطَّنْ إلَخْ ، وَإِذَا رَجَعْت إلَى مَا سَمِعْت مِنْ قَرِيبٍ مِنْ أَنَّ مَنْ وَصَلَ إلَى مَكَان كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ أَهْلِهِ إذَا كَانَ قَصْدُهُ إلَيْهِ زَالَ الرَّيْبُ .
[ فُرُوعٌ ] لَوْ عَادَ إلَى أَهْلِهِ بَعْدَمَا طَافَ لِعُمْرَتِهِ قَبْلَ

أَنْ يَحْلِقَ ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ ؛ لِأَنَّ الْعَوْدَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ عِنْدَ مَنْ جَعَلَ الْحَرَمَ شَرْطَ جَوَازِ الْحَلْقِ وَهُوَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا فَهُوَ مُسْتَحَبٌّ كَذَا فِي الْبَدَائِعِ .
وَذَكَرَ بَعْدَهُ بِنَحْوِ وَرَقَتَيْنِ فِيمَنْ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَقَالَ : وَإِنْ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ بَعْدَمَا طَافَ أَكْثَرَ طَوَافِ الْعُمْرَةِ أَوْ كُلِّهِ وَلَمْ يَحِلَّ وَأَلَمَّ بِأَهْلِهِ مُحْرِمًا ثُمَّ عَادَ وَأَتَمَّ عُمْرَتَهُ وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ .
لَهُ أَنَّهُ أَدَّى الْعُمْرَةَ بِسَفْرَتَيْنِ وَأَكْثَرُهَا حَصَلَ فِي السَّفَر الْأَوَّلِ وَهَذَا يَمْنَعُ التَّمَتُّعَ .
وَلَهُمَا أَنَّ إلْمَامَهُ لَمْ يَصِحَّ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُبَاحُ لَهُ الْعَوْدُ بِذَلِكَ الْإِحْرَامِ لَا بِإِحْرَامٍ جَدِيدٍ فَصَارَ كَأَنَّهُ أَقَامَ بِمَكَّةَ .
وَلَوْ عَادَ بَعْدَمَا طَافَ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ ثُمَّ رَجَعَ فَأَتَمَّهَا وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ كَانَ مُتَمَتِّعًا .
وَلَوْ أَفْسَدَ الْعُمْرَةَ وَمَضَى فِيهَا حَتَّى أَتَمَّهَا ثُمَّ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ ثُمَّ عَادَ وَقَضَاهَا وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَحِقَ بِأَهْلِهِ صَارَ مِنْ أَهْلِ التَّمَتُّعِ ، وَقَدْ أَتَى بِهِ .
وَلَوْ أَنَّهُ لَمَّا فَرَغَ مِنْ الْفَاسِدَةِ لَمْ يَخْرُجْ أَوْ لَمْ يُجَاوِزْ الْمِيقَاتَ حَتَّى قَضَى عُمْرَتَهُ وَحَجَّ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ كَوَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ ، حَتَّى لَوْ حَجَّ مِنْ عَامِهِ كَانَ مُسِيئًا وَعَلَيْهِ لِإِسَاءَتِهِ دَمٌ .
وَلَوْ خَرَجَ بَعْدَ إتْمَامِ الْفَاسِدَةِ إلَى خَارِجِ الْمَوَاقِيتِ كَالطَّائِفِ وَنَحْوِهِ مِمَّا لِأَهْلِهِ الْمُتْعَةُ ثُمَّ رَجَعَ فَقَضَى عُمْرَتَهُ الْفَاسِدَةِ وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ .
عِنْدَهُ لَيْسَ بِمُتَمَتِّعٍ لِأَنَّهُ عَلَى سَفَرِهِ الْأَوَّلِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ مَكَّةَ فَحِينَ فَرَغَ مِنْ الْفَاسِدَةِ لَزِمَهُ أَنْ يَقْضِيَهَا

مِنْ مَكَّةَ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ .
فَلَمَّا خَرَجَ ثُمَّ أَحْرَمَ بِهَا فَقَضَاهَا صَارَ مُلِمًّا بِأَهْلِهِ كَمَا فَرَغَ فَيَبْطُلُ تَمَتُّعُهُ ، كَالْمَكِّيِّ إذَا خَرَجَ ثُمَّ عَادَ فَاعْتَمَرَ ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامٍ .
وَعِنْدَهُمَا مُتَمَتِّعٌ لِانْتِهَاءِ سَفَرِهِ الْأَوَّلِ .
فَهُوَ حِينَ عَادَ آفَاقِيٌّ فَعَلَهُمَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، هَذَا إذَا اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَأَفْسَدَهَا ، فَأَمَّا إذَا كَانَ اعْتَمَرَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَأَفْسَدَهَا وَأَتَمَّهَا عَلَى الْفَسَادِ ، فَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الْمِيقَاتِ حَتَّى دَخَلَ أَشْهُرُ الْحَجِّ فَقَضَى عُمْرَتَهُ فِيهَا ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ فَلَيْسَ بِمُتَمَتِّعٍ اتِّفَاقًا وَهُوَ كَمَكِّيِّ تَمَتَّعَ فَيَكُونُ مُسِيئًا وَعَلَيْهِ دَمٌ .
فَلَوْ عَادَ إلَى غَيْرِ أَهْلِهِ إلَى مَوْضِعٍ لِأَهْلِهِ الْمُتْعَةُ ثُمَّ عَادَ بِإِحْرَامِ الْعُمْرَةِ ثُمَّ عَادَ فَقَضَاهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ .
فَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ هَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ : فِي وَجْهٍ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا ، وَهُوَ مَا إذَا رَأَى هِلَالَ شَوَّالٍ خَارِجَ الْمَوَاقِيتِ .
وَفِي وَجْهٍ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا وَهُوَ مَا إذَا رَأَى هِلَالَ شَوَّالٍ دَاخِلَ الْمَوَاقِيتِ ؛ لِأَنَّ فِي الْوَجْهِ الْأَوْلِ أَدْرَكَهُ أَشْهُرُ الْحَجِّ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ التَّمَتُّعِ ، وَفِي الثَّانِي أَدْرَكَتْهُ وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَزُولُ الْمَنْعُ حَتَّى يَلْحَقَ بِأَهْلِهِ .
وَعِنْدَهُمَا هُوَ مُتَمَتِّعٌ فِي الْوَجْهَيْنِ بِنَاءً عَلَى انْقِضَاءِ السَّفْرَةِ الْأُولَى بِلُحُوقِهِ بِذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَهُوَ كَمَا لَوْ لَحِقَ بِأَهْلِهِ .
هَذَا وَكَلَامُ الْأَصْحَابِ كُلُّهُ عَلَى أَنَّ الْخُرُوجَ إلَى الْمِيقَاتِ مِنْ غَيْرِ مُجَاوَزَةٍ بِمَنْزِلَةِ عَدَمِ الْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْمَوَاقِيتِ فِي حُكْمِ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى إنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ تَمَتُّعٌ وَلَا قِرَانٌ ، وَيَحِلُّ لَهُمْ دُخُولُ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ إذَا لَمْ يُرِيدُوا النُّسُكَ إلَّا مَا ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَوْدِ إلَى الْأَهْلِ .
قَالَ : لَوْ

فَرَغَ مِنْ عُمْرَتِهِ وَحَلَّ ثُمَّ أَلَمَّ بِأَهْلِهِ أَوْ خَرَجَ إلَى مِيقَاتِ نَفْسِهِ ثُمَّ عَادَ وَأَحْرَمَ بِحَجَّةٍ مِنْ الْمِيقَاتِ وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّ الْعَوْدَ إلَى مِيقَاتِ نَفْسِهِ مُلْحَقٌ بِالْأَهْلِ مِنْ وَجْهٍ .
وَلَوْ خَرَجَ إلَى غَيْرِ مِيقَاتِ نَفْسِهِ وَلَحِقَ بِمَوْضِعٍ لِأَهْلِهِ الْمُتْعَةُ اتَّخَذَ دَارًا أَوْ لَا تَوَطَّنَ أَوْ لَا ، ثُمَّ أَحْرَمَ مِنْ هُنَاكَ وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِعَدَمِ الْإِلْحَاقِ بِالْأَهْلِ مِنْ كُلِّ وَجْهِ ، وَقَالَا : لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا ا هـ .
وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ مَا هُوَ الْمَشْهُورُ

( وَمَنْ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ فَأَيُّهُمَا أَفْسَدَ مَضَى فِيهِ ) ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجَ عَنْ عُهْدَةِ الْإِحْرَامِ إلَّا بِالْأَفْعَالِ ( وَسَقَطَ دَمُ الْمُتْعَةِ ) ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَرَفَّقْ بِأَدَاءِ نُسُكَيْنِ صَحِيحَيْنِ فِي سَفْرَةٍ وَاحِدَةٍ

( وَإِذَا تَمَتَّعَتْ الْمَرْأَةُ فَضَحَّتْ بِشَاةٍ لَمْ يُجِزْهَا عَنْ الْمُتْعَةِ ) ؛ لِأَنَّهَا أَتَتْ بِغَيْرِ الْوَاجِبِ ، وَكَذَا الْجَوَابُ فِي الرَّجُلِ .

( وَإِذَا حَاضَتْ الْمَرْأَةُ عِنْدَ الْإِحْرَامِ اغْتَسَلَتْ وَأَحْرَمَتْ وَصَنَعَتْ كَمَا يَصْنَعُهُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنَّهَا لَا تَطُوفُ بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرَ ) لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حِينَ حَاضَتْ بِسَرِفٍ وَلِأَنَّ الطَّوَافَ فِي الْمَسْجِدِ وَالْوُقُوفَ فِي الْمَفَازَةِ ، وَهَذَا الِاغْتِسَالُ لِلْإِحْرَامِ لَا لِلصَّلَاةِ فَيَكُونُ مُفِيدًا .

( قَوْلُهُ : لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ) فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهَا قَالَتْ : { خَرَجْنَا لَا نَرَى إلَّا الْحَجَّ ، فَلَمَّا كُنَّا بِسَرِفَ حِضْتُ فَدَخَلَ رَسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَبْكَى فَقَالَ : مَا لَكِ أَنُفِسْتِ ؟ قُلْتُ : نَعَمْ ، قَالَ : إنَّ هَذَا أَمْرٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ .
فَاقْضِي مَا يَقْضِي الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي } .
وَأَخْرَجَا عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { أَقْبَلْنَا مُهِلِّينَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَجٍّ مُفْرَدٍ ، وَأَقْبَلَتْ عَائِشَةُ بِعُمْرَةٍ حَتَّى إذَا كُنَّا بِسَرِفَ عَرَكَتْ عَائِشَةُ ، حَتَّى إذَا قَدِمْنَا طُفْنَا بِالْكَعْبَةِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَحِلَّ مِنَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ ، قَالَ : فَقُلْنَا حِلُّ مَاذَا ؟ قَالَ : الْحِلُّ كُلُّهُ ، فَوَاقَعْنَا النِّسَاءَ وَتَطَيَّبْنَا وَلَبِسْنَا ثِيَابَنَا وَلَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ عَرَفَةَ إلَّا أَرْبَعُ لَيَالٍ ، ثُمَّ أَهْلَلْنَا يَوْمَ التَّرْوِيَةِ ثُمَّ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَائِشَةَ وَهِيَ تَبْكِي فَقَالَ لَهَا مَا شَأْنُكِ ؟ قَالَتْ : شَأْنِي أَنِّي حِضْتُ وَقَدْ حَلَّ النَّاسُ وَلَمْ أَحْلِلْ وَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ وَالنَّاسُ يَذْهَبُونَ إلَى الْحَجِّ الْآنَ ، قَالَ : إنَّ هَذَا أَمْرٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ فَاغْتَسِلِي ثُمَّ أَهِلِّي بِالْحَجِّ ، فَفَعَلَتْ وَوَقَفَتْ الْمَوَاقِفَ ، حَتَّى إذَا طَهُرَتْ طَافَتْ بِالْكَعْبَةِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، ثُمَّ قَالَ : قَدْ حَلَلْتِ مِنْ حَجَّتِكِ وَعُمْرَتِكِ جَمِيعًا ، قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَجِدُ فِي نَفْسِي أَنِّي لَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ حَتَّى حَجَجْتُ ، قَالَ : فَاذْهَبْ بِهَا يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ فَأَعْمِرْهَا مِنْ التَّنْعِيمِ } ا هـ .
وَقَدْ يَتَمَسَّكُ بِهِ مَنْ يَكْتَفِي لَهُمَا بِطَوَافٍ وَاحِدٍ وَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ ، وَمَعْنَى حَلَلْتِ مِنْ حَجَّتِك وَعُمْرَتِك لَا يَسْتَلْزِمُ الْخُرُوجَ مِنْهُمَا

بَعْدَ قَضَاءِ فِعْلِ كُلٍّ مِنْهُمَا ، بَلْ يَجُوزُ ثُبُوتُ الْخُرُوجِ مِنْ الْعُمْرَةِ قَبْلَ إتْمَامِهَا ، وَيَكُونُ عَلَيْهَا قَضَاؤُهَا ؛ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فِي الصَّحِيحَيْنِ { يَنْطَلِقُونَ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ وَأَنْطَلِقُ بِحَجٍّ فَأَقَرَّهَا عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهَا ، وَأَمَرَ أَخَاهَا أَنْ يُعْمِرَهَا مِنْ التَّنْعِيمِ } وَهَذَا ؛ لِأَنَّهَا إذَا لَمْ تَطُفْ لِلْحَيْضِ حَتَّى وَقَفَتْ بِعَرَفَةَ صَارَتْ رَافِضَةً لِلْعُمْرَةِ ، وَسُكُوتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أَنْ سَأَلَتْهُ إنَّمَا يَقْتَضِي تَرَاخِيَ الْقَضَاءِ لَا عَدَمَ لُزُومِهِ أَصْلًا .
( قَوْلُهُ : وَلِأَنَّ الطَّوَافَ فِي الْمَسْجِدِ ) يَعْنِي وَلَا يَحِلُّ لِلْحَائِضِ دُخُولُهُ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ حُرْمَةَ الطَّوَافِ مِنْ وَجْهَيْنِ : دُخُولُهَا الْمَسْجِدَ وَتَرْكُ وَاجِبِ الطَّوَافِ ، فَإِنَّ الطَّهَارَةَ وَاجِبَةٌ فِي الطَّوَافِ فَلَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَطُوفَ حَتَّى تَطْهُرَ ، فَإِنْ طَافَتْ كَانَتْ عَاصِيَةً مُسْتَحِقَّةً لِعِقَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَزِمَهَا الْإِعَادَةُ ، فَإِنْ لَمْ تُعِدْهُ كَانَ عَلَيْهَا بَدَنَةٌ ، وَتَمَّ حَجُّهَا ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ

( فَإِنْ حَاضَتْ بَعْدَ الْوُقُوفِ وَطَوَافِ الزِّيَارَةِ انْصَرَفَتْ مِنْ مَكَّةَ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا لِطَوَافِ الصَّدْرِ ) { ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَخَّصَ لِلنِّسَاءِ الْحُيَّضِ فِي تَرْكِ طَوَافِ الصَّدْرِ } .

( وَمَنْ اتَّخَذَ مَكَّةَ دَارًا فَلَيْسَ عَلَيْهِ طَوَافُ الصَّدْرِ ) ؛ لِأَنَّهُ عَلَى مَنْ يُصْدَرُ إلَّا إذَا اتَّخَذَهَا دَارًا بَعْدَمَا حَلَّ النَّفَرُ الْأَوَّلُ فِيمَا يُرْوَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَيَرْوِيهِ الْبَعْضُ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ بِدُخُولِ وَقْتِهِ فَلَا يَسْقُطُ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

بَابُ الْجِنَايَاتِ ( وَإِذَا تَطَيَّبَ الْمُحْرِمُ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ فَإِنْ طَيَّبَ عُضْوًا كَامِلًا فَمَا زَادَ فَعَلَيْهِ دَمٌ ) وَذَلِكَ مِثْلُ الرَّأْسِ وَالسَّاقِ وَالْفَخِذِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ تَتَكَامَلُ بِتَكَامُلِ الِارْتِفَاقِ ، وَذَلِكَ فِي الْعُضْوِ الْكَامِلِ فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ كَمَالُ الْمُوجِبِ ( وَإِنْ طَيَّبَ أَقَلَّ مِنْ عُضْوٍ فَعَلَيْهِ الصَّدَقَةُ ) ؛ لِقُصُورِ الْجِنَايَةِ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَجِبُ بِقَدْرِهِ مِنْ الدَّمِ اعْتِبَارًا لِلْجُزْءِ بِالْكُلِّ .
وَفِي الْمُنْتَقَى أَنَّهُ إذَا طَيَّبَ رُبُعَ الْعُضْوِ فَعَلَيْهِ دَمٌ اعْتِبَارًا بِالْحَلْقِ ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
ثُمَّ وَاجِبُ الدَّمِ يَتَأَدَّى بِالشَّاةِ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ إلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ نَذْكُرُهُمَا فِي بَابِ الْهَدْيِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَكُلُّ صَدَقَةٍ فِي الْإِحْرَامِ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ فَهِيَ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ إلَّا مَا يَجِبُ بِقَتْلِ الْقَمْلَةِ وَالْجَرَادَةِ ، هَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى .

( بَابُ الْجِنَايَاتِ ) بَعْدَ ذِكْرِ أَقْسَامِ الْمُحْرِمِينَ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ عَوَارِضَ لَهُمْ وَلِلْحَرَمِ ، الْجِنَايَةُ فِعْلٌ مُحَرَّمٌ ، وَالْمُرَادُ هُنَا خَاصٌّ مِنْهُ وَهُوَ مَا تَكُونُ حُرْمَتُهُ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ أَوْ الْحَرَمِ ( قَوْلُهُ : وَإِذَا تَطَيَّبَ ) يُفِيدُ مَفْهُومُ شَرْطِهِ أَنَّهُ إذَا شَمَّ الطِّيبَ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ إذْ لَيْسَ تَطَيُّبًا ، بَلْ التَّطَيُّبُ تَكَلُّفُ جَعْلِ نَفْسِهِ طَيِّبًا ، وَهُوَ أَنْ يُلْصِقَ بِبَدَنِهِ أَوْ ثَوْبِهِ طِيبًا وَهُوَ جِسْمٌ لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ ، وَالزَّعْفَرَانُ وَالْبَنَفْسَجُ وَالْيَاسَمِينُ وَالْغَالِيَةُ وَالرَّيْحَانُ وَالْوَرْدُ وَالْوَرْسُ وَالْعُصْفُرُ طِيبٌ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : الْقُسْطُ طِيبٌ .
وَفِي الْخِطْمِيِّ اخْتِلَافُهُمْ ، وَلَا فَرْقَ فِي الْمَنْعِ بَيْنَ بَدَنِهِ وَإِزَارِهِ وَفِرَاشِهِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَتَوَسَّدَ ثَوْبًا مَصْبُوغًا بِالزَّعْفَرَانِ وَلَا يَنَامُ عَلَيْهِ .
ثُمَّ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمُحْرِمِ شَيْءٌ بِشَمِّ الطِّيبِ وَالرَّيَاحِينِ لَكِنْ يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ ، وَكَذَا شَمُّ الثِّمَارِ الطَّيِّبَةِ كَالتُّفَّاحِ وَهِيَ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ ، كَرِهَهُ عُمَرُ وَجَابِرٌ ، وَأَجَازَهُ عُثْمَانُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشُدَّ مِسْكًا فِي طَرَفِ إزَارِهِ ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَجْلِسَ فِي حَانُوتِ عَطَّارٍ .
وَلَوْ دَخَلَ بَيْتًا قَدْ أُجْمِرَ فِيهِ فَعَلِقَ بِثَوْبِهِ رَائِحَةٌ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَجْمَرَهُ هُوَ .
قَالُوا إنْ أَجْمَرَ ثَوْبُهُ : يَعْنِي بَعْدَ الْإِحْرَامِ فَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ كَثِيرٌ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَإِلَّا فَصَدَقَةٌ ، وَكَانَ الْمَرْجِعُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْكَثِيرِ وَالْقَلِيلِ الْعُرْفَ إنْ كَانَ ، وَإِلَّا فَمَا يَقَعُ عِنْدَ الْمُبْتَلَى .
وَمَا فِي الْمُجَرَّدِ : إنْ كَانَ فِي ثَوْبِهِ شِبْرٌ فِي شِبْرٍ فَمَكَثَ عَلَيْهِ يَوْمًا يُطْعِمُ نِصْفَ صَاعٍ ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ فَقَبْضَةٌ ، يُفِيدُ التَّنْصِيصَ عَلَى أَنَّ الشِّبْرَ فِي الشِّبْرِ دَاخِلٌ فِي الْقَلِيلِ ،

وَعَلَى تَقْدِيرِ الطِّيبِ فِي الثَّوْبِ بِالزَّمَانِ .
وَلَا بَأْسَ بِشَمِّ الطِّيبِ الَّذِي تَطَيَّبَ بِهِ قَبْلَ إحْرَامِهِ وَبَقَائِهِ عَلَيْهِ .
وَلَوْ انْتَقَلَ بَعْدَ الْإِحْرَامِ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان مِنْ بَدَنِهِ لَا جَزَاءَ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا ، إنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا تَطَيَّبَ بَعْدَ الْإِحْرَامِ وَكَفَّرَ ثُمَّ بَقِيَ عَلَيْهِ الطِّيبُ ، مِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَيْسَ عَلَيْهِ بِالْبَقَاءِ جَزَاءٌ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَهُ كَانَ مَحْظُورًا فَكَانَ كُلُّهُ مَحْظُورًا فَيَكُونُ لِبَقَائِهِ حُكْمُ ابْتِدَائِهِ ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ ، وَالرِّوَايَةُ تُوَافِقُهُ .
فِي الْمُنْتَقَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ إذَا مَسَّ طِيبًا كَثِيرًا فَأَرَاقَ لَهُ دَمًا ثُمَّ تَرَكَ الطِّيبَ عَلَى حَالِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ لِتَرْكِهِ دَمٌ آخَرُ ، وَلَا يُشْبِهُ هَذَا الَّذِي تَطَيَّبَ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ ثُمَّ أَحْرَمَ وَتَرَكَ الطِّيبَ .
( قَوْلُهُ : فَمَا زَادَ ) يُفِيدُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي وُجُوبِ الدَّمِ بَيْنَ أَنْ يُطَيِّبَ عُضْوًا .
قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ كَالْيَدِ وَالسَّاقِ وَنَحْوِهِمَا .
وَفِي الْفَتَاوَى : كَالرَّأْسِ وَالسَّاقِ وَالْفَخِذِ أَوْ أَزِيدَ إلَى أَنْ يَعُمَّ كُلَّ الْبَدَنِ ، وَيَجْمَعُ الْمُفَرَّقَ فَإِنْ بَلَغَ عُضْوًا فَدَمٌ ، وَإِلَّا فَصَدَقَةٌ .
فَإِنْ كَانَ قَارِنًا فَعَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ لِلْجِنَايَةِ عَلَى إحْرَامَيْنِ .
ثُمَّ إنَّمَا تَجِبُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ بِتَطَيُّبِ كُلِّ الْبَدَنِ إذَا كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ، فَإِنْ كَانَ فِي مَجَالِسَ فَلِكُلِّ طِيبٍ كَفَّارَةٌ كَفَّرَ لِلْأَوَّلِ أَوْ لَا عِنْدَهُمَا .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ مَا لَمْ يُكَفِّرْ لِلْأَوَّلِ .
وَإِنْ دَاوَى قُرْحَةً بِدَوَاءٍ فِيهِ طِيبٌ ثُمَّ خَرَجَتْ قُرْحَةٌ أُخْرَى فَدَاوَاهَا مَعَ الْأُولَى فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ مَا لَمْ تَبْرَأْ الْأُولَى ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَصْدِهِ وَعَدَمِهِ .
فِي الْمَبْسُوطِ : اسْتَلَمَ الرُّكْنَ فَأَصَابَ يَدَهُ أَوْ فَمَهُ خَلُوقٌ كَثِيرٌ فَعَلَيْهِ دَمٌ ، وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا فَصَدَقَةٌ .
وَهَلْ يُشْتَرَطُ بَقَاؤُهُ عَلَيْهِ زَمَانًا أَوْ

لَا ؟ فِي الْمُنْتَقَى : إبْرَاهِيمُ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا أَصَابَ الْمُحْرِمُ طِيبًا فَعَلَيْهِ دَمٌ ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ لُبْسِ الْقَمِيصِ لَا يَجِبُ الدَّمُ حَتَّى يَكُونَ أَكْثَرَ الْيَوْمِ قَالَ : لِأَنَّ الطِّيبَ يَعْلَقُ بِهِ ، فَقُلْت : وَإِنْ اغْتَسَلَ مِنْ سَاعَتِهِ ؟ قَالَ : وَإِنْ اغْتَسَلَ مِنْ سَاعَتِهِ .
وَفِيهِ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ : خَلُوقُ الْبَيْتِ وَالْقَبْرِ إذَا أَصَابَ ثَوْبَ الْمُحْرِمِ فَحَكَّهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا ، وَإِنْ أَصَابَ جَسَدَهُ مِنْهُ كَثِيرٌ فَعَلَيْهِ الدَّمُ .
ا هـ .
وَهَذَا يُوجِبُ التَّرَدُّدَ .
وَفِي الْكَافِي لِلْحَاكِمِ الَّذِي هُوَ جَمَعَ كَلَامَ مُحَمَّدٍ : إنْ مَسَّ طِيبًا فَإِنْ لَزِقَ بِهِ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ ، فَإِنْ لَمْ يَلْزَقْ بِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَا لَزِقَ بِهِ كَثِيرًا فَاحِشًا فَعَلَيْهِ دَمٌ .
وَفِي الْفَتَاوَى : لَا يَمَسُّ طِيبًا بِيَدِهِ وَإِنْ كَانَ لَا يَقْصِدُ بِهِ التَّطَيُّبَ .
وَاعْلَمْ أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ أَشَارَ إلَى اعْتِبَارِ الْكَثْرَةِ فِي الطِّيبِ وَالْقِلَّةِ فِي الدَّمِ وَالصَّدَقَةِ .
قَالَ فِي بَابٍ : إنْ كَانَ كَثِيرًا فَاحِشًا فَعَلَيْهِ دَمٌ ، وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا فَصَدَقَةٌ ، كَمَا صَرَّحَ بِاعْتِبَارِهِمَا فِي الْعُضْوِ وَبَعْضِهِ .
وَوَفَّقَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَغَيْرُهُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ إنْ كَانَ كَثِيرًا كَكَفَّيْنِ مِنْ مَاءِ الْوَرْدِ وَكَفٍّ مِنْ الْغَالِيَةِ وَفِي الْمِسْكِ مَا يَسْتَكْثِرُهُ النَّاسُ فَفِيهِ الدَّمُ ، وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ قَلِيلًا وَهُوَ مَا يَسْتَقِلُّهُ النَّاسُ فَالْعِبْرَةُ لِتَطْيِيبِ عُضْوَيْهِ وَعَدَمِهِ ، فَإِنْ طَيَّبَ بِهِ عُضْوًا كَامِلًا فَفِيهِ دَمٌ وَإِلَّا فَصَدَقَةٌ ، وَإِنَّمَا اعْتَبَرَ الْهِنْدُوَانِيُّ الْكَثْرَةَ وَالْقِلَّةَ فِي نَفْسِهِ ، وَالتَّوْفِيقُ هُوَ التَّوْفِيقُ .
( قَوْلُهُ : وَنَحْنُ نَذْكُرُ الْفَرْقَ ) أَيْ بَيْنَ حَلْقِ رُبُعِ الرَّأْسِ وَتَطْيِيبِ رُبُعِ الْعُضْوِ وَهُوَ مَا ذُكِرَ قَرِيبًا وَسَنُنَبِّهُ عَلَيْهِ عِنْدَ ذِكْرِهِ .
وَمَا فِي النَّوَادِرِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ : إنْ طَيَّبَ شَارِبَهُ كُلَّهُ أَوْ

بِقَدْرِهِ مِنْ لِحْيَتِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ تَفْرِيعٌ عَلَى مَا فِي الْمُنْتَقَى ( قَوْلُهُ : إلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ ) مَوَاضِعُ الْبَدَنَةِ أَرْبَعَةٌ : مَنْ طَافَ الطَّوَافَ الْمَفْرُوضِ جُنُبًا أَوْ حَائِضًا أَوْ نُفَسَاءَ ، أَوْ جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ .
لَكِنَّ الْقُدُورِيَّ اقْتَصَرَ عَلَى الْأَوَّلِ وَالْأَخِيرِ كَأَنَّهُ اعْتَمَدَ عَلَى اسْتِعْلَامِ لُزُومِ الْبَدَنَةِ فِي الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ بِالدَّلَالَةِ مِنْ الْجُنُبِ ؛ إمَّا لِأَنَّ الْأَحْدَاثَ مُتَسَاوِيَةٌ فِي الْغِلَظِ ، أَوْ ؛ لِأَنَّهُمَا أَغْلَظُ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا يَمْنَعَانِ قُرْبَانِ الزَّوْجِ بِخِلَافِ جَنَابَتِهَا ( قَوْلُهُ : إلَّا مَا يَجِبُ بِقَتْلِ الْقَمْلَةِ وَالْجَرَادَةِ ) فَإِنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِمَا شَاءَ .

قَالَ ( فَإِنْ خَضَبَ رَأْسَهُ بِحِنَّاءٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ ) ؛ لِأَنَّهُ طِيبٌ .
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْحِنَّاءُ طِيبٌ } وَإِنْ صَارَ مُلَبَّدًا فَعَلَيْهِ دَمَانِ دَمٌ لِلتَّطَيُّبِ وَدَمٌ لِلتَّغْطِيَةِ .
وَلَوْ خَضَّبَ رَأْسَهُ بِالْوَسْمَةِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِطِيبٍ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ إذَا خَضَّبَ رَأْسَهُ بِالْوَسْمَةِ ؛ لِأَجْلِ الْمُعَالَجَةِ مِنْ الصُّدَاعِ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يُغَلِّفُ رَأْسَهُ وَهَذَا صَحِيحٌ .
ثُمَّ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ ، وَاقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الرَّأْسِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ دَلَّ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَضْمُونٌ .

( قَوْلُهُ : فَإِنْ خَضَّبَ رَأْسَهُ بِحِنَّاءٍ ) مُنَوَّنًا ؛ لِأَنَّهُ فِعَالٍ لَا فَعْلَاءَ لِيَمْنَعَ صَرْفَهُ أَلْفُ التَّأْنِيثِ ( فَعَلَيْهِ دَمٌ ) وَكَذَا إذَا خَضَّبَتْ امْرَأَةٌ يَدَهَا ؛ لِأَنَّ لَهُ رَائِحَةً مُسْتَلَذَّةً وَإِنْ لَمْ تَكُنْ ذَكِيَّةً ( قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْحِنَّاءُ طِيبٌ } ) رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ ، وَفِي سَنَدِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ لَهِيعَةَ ، وَعَزَاهُ صَاحِبُ الْغَايَةِ إلَى النَّسَائِيّ وَلَفْظُهُ { نَهَى الْمُعْتَدَّةَ عَنْ التَّكَحُّلِ وَالدُّهْنِ وَالْخِضَابِ بِالْحِنَّاءِ ، وَقَالَ : الْحِنَّاءُ طِيبٌ } وَهَذَا إذَا كَانَ مَائِعًا ، فَإِنْ كَانَ ثَخِينًا فَلَبَّدَ الرَّأْسَ فَفِيهِ دَمَانِ لِلطِّيبِ وَالتَّغْطِيَةِ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ ذَلِكَ إذَا دَاوَمَ يَوْمًا أَوْ لَيْلَةً عَلَى جَمِيعِ رَأْسِهِ أَوْ رُبْعِهِ ، وَكَذَا إذَا غَلَّفَ الْوَسْمَةَ .
( قَوْلُهُ : وَهَذَا صَحِيحٌ ) أَيْ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ خِلَافٌ ؛ لِأَنَّ التَّغْطِيَةَ مُوجِبَةٌ بِالِاتِّفَاقِ غَيْرَ أَنَّهَا لِلْعِلَاجِ ، فَلِهَذَا ذَكَرَ الْجَزَاءَ وَلَمْ يَذْكُرْ الدَّمَ .
وَعَلَى هَذَا فَمَا فِي الْجَوَامِعِ : إنْ لَبَّدَ رَأْسَهُ فَعَلَيْهِ دَمٌ ، وَالتَّلْبِيدُ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ الْخِطْمِيِّ وَالْآسِ وَالصَّمْغِ فَيَجْعَلَهُ فِي أُصُولِ الشَّعْرِ لِيَتَلَبَّدَ .
وَمَا ذَكَرَ رَشِيدُ الدِّينِ الْبَصْرَوِيُّ فِي مَنَاسِكِهِ مِنْ قَوْلِهِ : وَحَسُنَ أَنْ يُلَبِّدَ رَأْسَهُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ لِلتَّغْطِيَةِ مُشْكِلٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِصْحَابُ التَّغْطِيَةِ الْكَائِنَةِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ بِخِلَافِ التَّطَيُّبِ .
وَفِي سِينِ الْوَسْمَةِ الْإِسْكَانُ وَالْكَسْرُ : وَهُوَ نَبْتٌ يُصْبَغُ بِوَرَقِهِ ، فَإِنْ لَمْ يُغَلَّفْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ كَالْغُسْلِ بِالْأُشْنَانِ وَالسِّدْرِ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ صَدَقَةٌ ؛ لِأَنَّهُ يُلَيِّنُ الشَّعْرَ وَيَقْتُلُ الْهَوَامَّ .

( فَإِنْ ادَّهَنَ بِزَيْتٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا : عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : إذَا اسْتَعْمَلَهُ فِي الشَّعْرِ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِإِزَالَةِ الشَّعَثِ ، وَإِنْ اسْتَعْمَلَهُ فِي غَيْرِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِانْعِدَامِهِ .
وَلَهُمَا أَنَّهُ مِنْ الْأَطْعِمَةِ إلَّا أَنَّ فِيهِ ارْتِفَاقًا بِمَعْنَى قَتْلِ الْهَوَامِّ وَإِزَالَةِ الشَّعَثِ فَكَانَتْ جِنَايَةً قَاصِرَةً .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ أَصْلُ الطِّيبِ ، وَلَا يَخْلُو عَنْ نَوْعِ طِيبٍ ، وَيَقْتُلُ الْهَوَامَّ وَيُلَيِّنُ الشَّعْرَ وَيُزِيلُ التَّفَثَ وَالشَّعَثَ فَتَتَكَامَلُ الْجِنَايَةُ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ فَتُوجِبُ الدَّمَ ، وَكَوْنُهُ مَطْعُومًا لَا يُنَافِيهِ كَالزَّعْفَرَانِ ، وَهَذَا الْخِلَافُ فِي الزَّيْتِ الْبَحْتِ وَالْخَلِّ الْبَحْتِ .
أَمَّا الْمُطَيِّبُ مِنْهُ كَالْبَنَفْسَجِ وَالزَّنْبَقِ وَمَا أَشْبَهَهُمَا يَجِبُ بِاسْتِعْمَالِهِ الدَّمُ بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّهُ طِيبٌ ، وَهَذَا إذَا اسْتَعْمَلَهُ عَلَى وَجْهِ التَّطَيُّبِ ، وَلَوْ دَاوَى بِهِ جُرْحَهُ أَوْ شُقُوقَ رِجْلَيْهِ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِطِيبٍ فِي نَفْسِهِ إنَّمَا هُوَ أَصْلُ الطِّيبِ أَوْ طِيبٌ مِنْ وَجْهِ فَيُشْتَرَطُ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى وَجْهِ التَّطَيُّبِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَدَاوَى بِالْمِسْكِ وَمَا أَشْبَهَهُ .

( قَوْلُهُ : فَإِنْ ادَّهَنَ بِزَيْتٍ ) خَصَّهُ مِنْ بَيْنَ الْأَدْهَانِ الَّتِي لَا رَائِحَةَ لَهَا لِيُفِيدَ بِمَفْهُومِ اللَّقَبِ نَفْيَ الْجَزَاءِ فِيمَا عَدَاهُ مِنْ الْأَدْهَانِ كَالشَّحْمِ وَالسَّمْنِ ، وَلَا بُدَّ عَلَى هَذَا مِنْ كَوْنِهِ عَمَّمَ الزَّيْتَ فِي الْخَلِّ فَإِنَّهُ ذَكَرَ الْخَلَّ كَالزَّيْتِ فِي الْمَبْسُوطِ .
( قَوْلُهُ : وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ أَصْلُ الطِّيبِ ، وَلَا يَخْلُو عَنْ نَوْعِ طِيبٍ وَيَقْتُلُ الْهَوَامَّ إلَخْ ) لَمَّا كَانَ الْوَاجِبُ الدَّمَ عَيْنًا بِاعْتِبَارِ أَنَّ وَضْعَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا دَهَنَ كُلَّهُ أَوْ عُضْوًا لَمْ يَكْتَفِ بِالتَّعْلِيلِ بِأَنَّهُ أَصْلُ الطِّيبِ إلْحَاقًا بِكَسْرِ بَيْضِ الصَّيْدِ فَإِنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ قِيمَتُهُ فَاحْتَاجَ إلَى جَعْلِهِ جُزْءَ عِلَّةٍ فِي لُزُومِ الدَّمِ ، وَمَنْ اكْتَفَى بِذَلِكَ كَصَاحِبِ الْمَبْسُوطِ فَقَصَدَ الْإِلْحَاقِ فِي لُزُومِ الدَّمِ فِي الْجَزَاءِ فِي الْجُمْلَةِ احْتِجَاجًا عَلَى الشَّافِعِيِّ فِيمَا إذَا اسْتَعْمَلَهُ فِي غَيْرِ الشَّعْرِ مِنْ بَدَنِهِ فَإِنَّهُ حَكَى خِلَافَهُ ثُمَّ أَعْقَبَهُ بِهَذَا الِاسْتِدْلَالِ وَفِيهِ نَظَرٌ ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ وَجْهَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بَعْدَ حِكَايَةِ قَوْلِ الصَّاحِبَيْنِ فِي لُزُومِ الصَّدَقَةِ وَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ فِيهِ : فَيَجِبُ بِاسْتِعْمَالِ أَصْلِ الطِّيبِ مَا يَجِبُ بِاسْتِعْمَالِ الطِّيبِ كَكَسْرِ بَيْضِ الصَّيْدِ ، وَمَعْنَى كَوْنِهِ أَصْلَ الطِّيبِ أَنَّهُ يُلْقَى فِيهِ الْأَنْوَارُ كَالْوَرْدِ وَالْبَنَفْسَجِ فَيَصِيرُ نَفْسُهُ طِيبًا .
( قَوْلُهُ : وَهَذَا الْخِلَافُ فِي الزَّيْتِ الْبَحْتِ ) أَيْ الْخَالِصِ ( وَالْخَلِّ الْبَحْتِ ) هُوَ بِالْمُهْمَلَةِ الشَّيْرَجُ ( أَمَّا الْمُطَيَّبُ مِنْهُ ) وَهُوَ مَا أُلْقِيَ فِيهِ الْأَنْوَارُ ( كَالزِّنْبَقِ ) بِالنُّونِ وَهُوَ الْيَاسَمِينُ وَدُهْنُ الْبَانِ وَالْوَرْدِ ( فَيَجِبُ بِاسْتِعْمَالِهِ بِالِاتِّفَاقِ الدَّمُ ) إذَا كَانَ كَثِيرًا ( قَوْلُهُ : وَهَذَا إذَا اسْتَعْمَلَهُ ) أَيْ الزَّيْتَ الْخَالِصَ أَوْ الْخَلَّ ، لَمَّا لَمْ يَكُنْ طِيبًا كَامِلًا اُشْتُرِطَ فِي لُزُومِ الدَّمِ بِهِمَا اسْتِعْمَالَهُمَا عَلَى وَجْهِ

التَّطَيُّبِ ، فَلَوْ أَكَلَهُمَا أَوْ دَاوَى بِهِمَا شُقُوقَ رِجْلَيْهِ أَوْ أَقْطَرَ فِي أُذُنَيْهِ لَا يَجِبُ شَيْءٌ ، وَلِذَا جَعَلَ الْمَنْفِيَّ الْكَفَّارَةَ لِيَنْتَفِيَ الدَّمُ وَالصَّدَقَةُ ، بِخِلَافِ الْمِسْكِ ، وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ الْعَنْبَرِ وَالْغَالِيَةِ وَالْكَافُورِ حَيْثُ يَلْزَمُ الْجَزَاءُ بِالِاسْتِعْمَالِ عَلَى وَجْهِ التَّدَاوِي ، لَكِنَّهُ يَتَخَيَّرُ إذَا كَانَ لِعُذْرٍ بَيْنَ الدَّمِ وَالصَّوْمِ وَالْإِطْعَامِ عَلَى مَا سَيَأْتِي .
وَكَذَا إذَا أَكَلَ الْكَثِيرَ مِنْ الطِّيبِ وَهُوَ مَا يَلْزَقُ بِأَكْثَرِ فَمِهِ فَعَلَيْهِ الدَّمُ ، وَهَذِهِ تَشْهَدُ بِعَدَمِ اعْتِبَارِ الْعُضْوِ مُطْلَقًا فِي لُزُومِ الدَّمِ ، بَلْ ذَاكَ إذَا لَمْ يَبْلُغْ مَبْلَغَ الْكَثْرَةِ فِي نَفْسِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا .
ثُمَّ الْأَكْلُ الْمُوجِبُ أَنْ يَأْكُلَهُ كَمَا هُوَ ، فَإِنْ جَعَلَهُ فِي طَعَامٍ قَدْ طُبِخَ كَالزَّعْفَرَانِ وَالْأَفَاوِيهِ مِنْ الزَّنْجَبِيلِ وَالدَّارَصِينِيِّ يُجْعَلُ فِي الطَّعَامِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، فَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ السِّكْبَاجَ الْأَصْفَرَ وَهُوَ مُحْرِمٌ ، وَإِنْ لَمْ يُطْبَخْ بَلْ خَلَطَهُ بِمَا يُؤْكَلُ بِلَا طَبْخٍ كَالْمِلْحِ وَغَيْرِهِ ، فَإِنْ كَانَتْ رَائِحَتُهُ مَوْجُودَةً كُرِهَ ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ مَغْلُوبًا فَإِنَّهُ كَالْمُسْتَهْلَكِ ، أَمَّا إذَا كَانَ غَالِبًا فَهُوَ كَالزَّعْفَرَانِ الْخَالِصِ ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْغَالِبِ عَدَمًا عَكْسُ الْأُصُولِ وَالْمَعْقُولِ فَيَجِبُ الْجَزَاءُ ، وَإِنْ لَمْ تَظْهَرْ رَائِحَتُهُ .
وَلَوْ خَلَطَهُ بِمَشْرُوبٍ وَهُوَ غَالِبٌ فَفِيهِ الدَّمُ ، وَإِنْ كَانَ مَغْلُوبًا فَصَدَقَةٌ إلَّا أَنْ يَشْرَبَ مِرَارًا فَدَمٌ .
فَإِنْ كَانَ الشُّرْبُ تَدَاوِيًا تَخَيَّرَ فِي خِصَالِ الْكَفَّارَةِ .
وَفِي الْمَبْسُوطِ : فِيمَا إذَا اكْتَحَلَ بِكُحْلٍ فِيهِ طِيبٌ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ كَثِيرًا فَعَلَيْهِ دَمٌ .
وَمَا فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ : إنْ اكْتَحَلَ بِكُحْلٍ فِيهِ طِيبٌ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ فَعَلَيْهِ الدَّمُ ، فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ يُفِيدُ تَفْسِيرَ الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ كَثِيرًا أَنَّهُ

الْكَثْرَةُ فِي الْفِعْلِ لَا فِي نَفْسِ الطِّيبِ الْمُخَالِطِ فَلَا يَلْزَمُ الدَّمُ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنْ كَانَ الطِّيبُ كَثِيرًا فِي الْكُحْلِ وَيُشْعِرُ بِالْخِلَافِ ، لَكِنْ مَا فِي كَافِي الْحَاكِمِ مِنْ قَوْلِهِ فَإِنْ كَانَ فِيهِ طِيبٌ : يَعْنِي الْكُحْلَ فَفِيهِ صَدَقَةٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِرَارًا كَثِيرَةً فَعَلَيْهِ دَمٌ ، لَمْ يَحْكِ فِيهِ خِلَافًا ، وَلَوْ كَانَ لَحَكَاهُ ظَاهِرًا كَمَا هُوَ عَادَةُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَجْعَلَ مَوْضِعَ الْخِلَافِ مَا دُونَ الثَّلَاثِ كَمَا يُفِيدُهُ تَنْصِيصُهُ عَلَى الْمَرَّةِ وَالْمَرَّتَيْنِ وَمَا فِي الْكَافِي الْمِرَارُ الْكَثِيرُ ، هَذَا فَإِنْ كَانَ الْكُحْلُ عَنْ ضَرُورَةٍ تَخَيَّرَ فِي الْكَفَّارَةِ ، وَكَذَا إذَا تَدَاوَى بِدَوَاءٍ فِيهِ طِيبٌ فَأَلْزَقَهُ بِجِرَاحَتِهِ أَوْ شَرِبَهُ شُرْبًا .
وَفِي الْفَتَاوَى : لَوْ غَسَلَ بِأُشْنَانٍ فِيهِ طِيبٌ فَإِنْ كَانَ مَنْ رَآهُ سَمَّاهُ أُشْنَانًا فَعَلَيْهِ الصَّدَقَةُ ، وَإِنْ سَمَّاهُ طِيبًا فَعَلَيْهِ الدَّمُ .
ا هـ .
وَلَوْ غَسَلَ رَأْسَهُ بِالْخِطْمِيِّ فَعَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ طِيبًا لَكِنَّهُ يَقْتُلُ الْهَوَامَّ .
وَلَهُ مَنْعُ نَفْيِ الطِّيبِ مُطْلَقًا بَلْ لَهُ رَائِحَةٌ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ ذَكِيَّةً فَكَانَ كَالْحِنَّاءِ مَعَ قَتْلِهِ الْهَوَامَّ فَتَتَكَامَلُ الْجِنَايَةُ فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ : لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ ، وَأُوِّلَ بِمَا إذَا غَسَلَ بِهِ بَعْدَ الرَّمْيِ يَوْمَ النَّحْرِ ؛ لِأَنَّهُ أُبِيحَ لَهُ حَلْقُ رَأْسِهِ .
وَعَنْهُ فِي أُخْرَى أَنَّ عَلَيْهِ دَمَيْنِ لِلتَّطَيُّبِ وَالتَّغْلِيفِ ، قِيلَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي خِطْمِيِّ الْعِرَاقِ وَلَهُ رَائِحَةٌ ، وَقَوْلُهُمَا فِي خِطْمِيِّ الشَّامِ وَلَا رَائِحَةَ لَهُ فَلَا خِلَافَ .
وَقِيلَ بَلْ الْخِلَافُ فِي الْعِرَاقِ .
وَلَوْ غَسَلَ بِالصَّابُونِ أَوْ الْحُرُضِ لَا رِوَايَةَ فِيهِ ، وَقَالُوا : لَا شَيْءَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِطِيبٍ وَلَا يَقْتُلُ .

( وَإِنْ لَبِسَ ثَوْبًا مَخِيطًا أَوْ غَطَّى رَأْسَهُ يَوْمًا كَامِلًا فَعَلَيْهِ دَمٌ ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ إذَا لَبِسَ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَوَّلًا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَجِبُ الدَّمُ بِنَفْسِ اللُّبْسِ ؛ لِأَنَّ الِارْتِفَاقَ يَتَكَامَلُ بِالِاشْتِمَالِ عَلَى بَدَنِهِ .
وَلَنَا أَنَّ مَعْنَى التَّرَفُّقِ مَقْصُودٌ مِنْ اللُّبْسِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الْمُدَّةِ ؛ لِيَحْصُلَ عَلَى الْكَمَالِ وَيَجِبُ الدَّمُ ، فَقُدِّرَ بِالْيَوْمِ ؛ لِأَنَّهُ يُلْبَسُ فِيهِ ثُمَّ يُنْزَعُ عَادَةً وَتَتَقَاصَرُ فِيمَا دُونَهُ الْجِنَايَةُ فَتَجِبُ الصَّدَقَةُ ، غَيْرَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَقَامَ الْأَكْثَرَ مَقَامَ الْكُلِّ .
وَلَوْ ارْتَدَى بِالْقَمِيصِ أَوْ اتَّشَحَ بِهِ أَوْ ائْتَزَرَ بِالسَّرَاوِيلِ فَلَا بَأْسَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْبَسْهُ لُبْسَ الْمَخِيطِ .
وَكَذَا لَوْ أَدْخَلَ مَنْكِبَيْهِ فِي الْقَبَاءِ وَلَمْ يُدْخِلْ يَدَيْهِ فِي الْكُمَّيْنِ خِلَافًا لِزَفَرٍ ؛ لِأَنَّهُ مَا لَبِسَهُ لُبْسَ الْقَبَاءِ وَلِهَذَا يَتَكَلَّفُ فِي حِفْظِهِ .
وَالتَّقْدِيرُ فِي تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ مِنْ حَيْثُ الْوَقْتُ مَا بَيَّنَّاهُ ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ إذَا غَطَّى جَمِيعَ رَأْسِهِ يَوْمًا كَامِلًا يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ عَنْهُ ، وَلَوْ غَطَّى بَعْضَ رَأْسِهِ فَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ اعْتَبَرَ الرُّبُعَ اعْتِبَارًا بِالْحَلْقِ وَالْعَوْرَةِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ سَتْرَ الْبَعْضِ اسْتِمْتَاعٌ مَقْصُودٌ يَعْتَادُهُ بَعْضُ النَّاسِ ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَعْتَبِرُ أَكْثَرَ الرَّأْسِ اعْتِبَارًا لِلْحَقِيقَةِ .

( قَوْلُهُ : وَإِنْ لَبِسَ ثَوْبًا مَخِيطًا إلَخْ ) لَا فَرْقَ فِي لُزُومِ الدَّمِ بَيْنَ مَا إذَا أَحْدَثَ اللُّبْسَ بَعْدَ الْإِحْرَامِ أَوْ أَحْرَمَ وَهُوَ لَابِسُهُ فَدَامَ يَوْمًا أَوْ لَيْلَةً عَلَيْهِ ، بِخِلَافِ انْتِفَاعِهِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِالطِّيبِ السَّابِقِ عَلَيْهِ قَبْلَهُ لِلنَّصِّ فِيهِ وَلَوْلَاهُ لَأَوْجَبْنَا فِيهِ أَيْضًا .
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِهِ مُخْتَارًا فِي اللُّبْسِ أَوْ مُكْرَهًا عَلَيْهِ أَوْ نَائِمًا فَغَطَّى إنْسَانٌ رَأْسَهُ لَيْلَةً أَوْ وَجْهَهُ حَتَّى يَجِبَ الْجَزَاءُ عَلَى النَّائِمِ ؛ لِأَنَّ الِارْتِفَاقَ حَصَلَ لَهُ ، وَعَدَمُ الِاخْتِيَارِ أَسْقَطَ الْإِثْمَ عَنْهُ لَا الْمُوجِبَ عَلَى مَا عُرِفَ تَحْقِيقُهُ فِي مَوَاضِعَ .
وَالتَّقْيِيدُ بِثَوْبٍ فِي قَوْلِهِ وَإِنْ لَبِسَ ثَوْبًا مَخِيطًا لَيْسَ بِمُعْتَبَرِ الْمَفْهُومِ ، بَلْ لَوْ جَمَعَ اللِّبَاسَ كُلَّهُ الْقَمِيصَ وَالْعِمَامَةَ وَالْخُفَّيْنِ يَوْمًا كَانَ عَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ كَالْإِيلَاجَاتِ فِي الْجِمَاعِ ؛ لِأَنَّهُ لُبْسٌ وَاحِدٌ وَقَعَ عَلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَعَلَى الْقَارِنِ دَمَانِ فِيمَا عَلَى الْمُفْرِدِ فِيهِ دَمٌ ، وَكَذَا لَوْ دَامَ عَلَى ذَلِكَ أَيَّامًا أَوْ كَانَ يَنْزِعُهَا لَيْلًا وَيُعَاوِدُ لُبْسَهَا نَهَارًا أَوْ يَلْبَسُهَا لَيْلًا لِلْبَرْدِ وَيَنْزِعُهَا نَهَارًا مَا لَمْ يَعْزِمْ عَلَى التَّرْكِ عِنْدَ الْخَلْعِ ، فَإِنْ عَزَمَ عَلَيْهِ ثُمَّ لَبِسَ تَعَدَّدَ الْجَزَاءُ ، وَإِنْ كَانَ كَفَّرَ لِلْأَوَّلِ بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَفَّرَ لِلْأَوَّلِ الْتَحَقَ بِالْعَدَمِ فَيُعْتَبَرُ اللُّبْسُ الثَّانِي لُبْسًا مُبْتَدَأً ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَفَّرَ لِلْأَوَّلِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ : كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مَا لَمْ يُكَفِّرْ فَاللُّبْسُ عَلَى حَالِهِ فَهُوَ وَاحِدٌ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَفَّرَ عَلَى مَا قَرَّرْنَا .
وَهُمَا يَقُولَانِ : لَمَّا نَزَعَ عَلَى عَزْمِ التَّرْكِ نَقْطَعُ حُكْمَ اللُّبْسِ الْأَوَّلِ فَتَعَيَّنَ الثَّانِي مُبْتَدَأً .
فَالْحَاصِلُ أَنَّ النَّزْعَ مَعَ عَزْمِ التَّرْكِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ اللُّبْسَيْنِ

عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُ التَّكْفِيرُ .
وَلَوْ لَبِسَ يَوْمًا فَأَرَاقَ دَمًا ثُمَّ دَامَ عَلَى لُبْسِهِ يَوْمًا آخَرَ كَانَ عَلَيْهِ دَمٌ آخَرُ بِلَا خِلَافٍ ؛ لِأَنَّ الدَّوَامَ عَلَى اللُّبْسِ كَابْتِدَائِهِ بِدَلِيلِ مَا لَوْ أَحْرَمَ وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْمَخِيطِ فَدَامَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ يَوْمًا إذْ عَلَيْهِ الدَّمُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ اتِّحَادِ الْجَزَاءِ إذَا لَبِسَ جَمِيعَ الْمَخِيطِ مَحَلَّهُ مَا إذَا لَمْ يَتَعَدَّدْ سَبَبُ اللُّبْسِ ، فَإِنْ تَعَدَّدَ كَمَا إذَا اُضْطُرَّ إلَى لُبْسِ ثَوْبٍ فَلَبِسَ ثَوْبَيْنِ ، فَإِنَّ لُبْسَهُمَا عَلَى مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ يَتَخَيَّرُ فِيهَا .
وَكَذَلِكَ نَحْوُ أَنْ يُضْطَرَّ إلَى لُبْسِ قَمِيصٍ فَلَبِسَ قَمِيصَيْنِ أَوْ قَمِيصًا وَجُبَّةً أَوْ اُضْطُرَّ إلَى لُبْسِ قَلَنْسُوَةٍ فَلَبِسَهَا مَعَ عِمَامَةٍ ، وَإِنْ لَبِسَهُمَا عَلَى مَوْضِعَيْنِ مَوْضِعَ الضَّرُورَةِ وَغَيْرَهَا كَالْقَلَنْسُوَةِ مَعَ الْقَمِيصِ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي كَانَ عَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ يَتَخَيَّرُ فِي إحْدَاهُمَا وَهِيَ مَا لِلضَّرُورَةِ ، وَالْأُخْرَى لَا يَتَخَيَّرُ فِيهَا وَهِيَ مَا لِغَيْرِهَا .
وَمِنْ صُوَرِ تَعَدُّدِ السَّبَبِ وَاتِّحَادِهِ مَا إذَا كَانَ بِهِ مَثَلًا حُمَّى يَحْتَاجُ إلَى اللُّبْسِ لَهَا وَيَسْتَغْنِي عَنْهُ فِي وَقْتِ زَوَالِهَا فَإِنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَةً وَاحِدَةً وَإِنْ تَعَدَّدَ اللُّبْسِ مَا لَمْ تَزُلْ عَنْهُ .
فَإِنْ زَالَتْ وَأَصَابَهُ مَرَضٌ آخَرُ أَوْ حُمَّى غَيْرُهَا وَعَرَفَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ سَوَاءٌ كَفَّرَ لِلْأُولَى أَوْ لَا عِنْدَهُمَا .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ مَا لَمْ يُكَفِّرْ لِلْأُولَى ، فَإِنْ كَفَّرَ فَعَلَيْهِ أُخْرَى ، وَكَذَا إذَا حَصَرَهُ عَدُوٌّ فَاحْتَاجَ إلَى اللُّبْسِ لِلْقِتَالِ أَيَّامًا يَلْبَسُهَا إذَا خَرَجَ إلَيْهِ وَيَنْزِعُهَا إذَا رَجَعَ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ مَا لَمْ يَذْهَبْ هَذَا الْعَدُوُّ ، فَإِنْ ذَهَبَ وَجَاءَ عَدُوٌّ غَيْرَهُ لَزِمَهُ كَفَّارَةٌ أُخْرَى .
وَالْأَصْلُ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّهُ يَنْظُرُ إلَى اتِّحَادِ الْجِهَةِ

وَاخْتِلَافِهَا لَا إلَى ضَرُورَةِ اللُّبْسِ كَيْفَ كَانَتْ .
وَلَوْ لَبِسَ لِلضَّرُورَةِ فَزَالَتْ فَدَامَ بَعْدَهَا يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ فَمَا دَامَ فِي شَكٍّ مِنْ زَوَالِ الضَّرُورَةِ لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَإِنْ تَيَقَّنَ زَوَالَهَا فَاسْتَمَرَّ كَانَ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى لَا يَتَخَيَّرُ فِيهَا .
( قَوْلُهُ : وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ ) فِي خِزَانَةِ الْأَكْمَلِ : فِي سَاعَةٍ نِصْفُ صَاعٍ .
وَفِي أَقَلَّ مِنْ سَاعَةٍ قَبْضَةٌ مِنْ بُرٍّ .
( قَوْلُهُ : فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الْمُدَّةِ ؛ لِيَحْصُلَ عَلَى الْكَمَالِ ) يَتَضَمَّنُ مَنْعَ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ : إنَّ الِارْتِفَاقَ يَتَكَامَلُ بِالِاشْتِمَالِ بَلْ مُجَرَّدُ الِاشْتِمَالِ ، ثُمَّ النَّزْعِ فِي الْحَالِ لَا يَجِدُ الْإِنْسَانُ بِهِ ارْتِفَاقًا فَضْلًا عَنْ كَمَالِهِ .
وَقَوْلُهُ فِي وَجْهِ التَّقْدِيرِ بِيَوْمٍ ( لِأَنَّهُ يَلْبَسُ فِيهِ ثُمَّ يَنْزِعُ عَادَةً ) يُفِيدُ أَنَّهُ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْيَوْمِ بَلْ لُبْسُ اللَّيْلَةِ الْكَامِلَةِ كَالْيَوْمِ ؛ لِجَرَيَانِ الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ فِيهِ وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأَسْرَارِ وَغَيْرِهِ .
( قَوْلُهُ : غَيْرَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ أَقَامَ الْأَكْثَرَ مَقَامَ الْكُلِّ ) كَمَا اعْتَبَرَهُ فِي كَشْفِ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ فِي لُبْسِ بَعْضِ الْيَوْمِ قِسْطُهُ مِنْ الدَّمِ كَثُلُثِ الْيَوْمِ فِيهِ ثُلُثُ الدَّمِ وَفِي نِصْفِهِ نِصْفُهُ ، وَعَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ يَجْرِي ( قَوْلُهُ : لِأَنَّهُ لَمْ يَلْبَسْهُ لُبْسَ الْمَخِيطِ ) لُبْسُ الْمِخْيَطِ أَنْ يَحْصُلَ بِوَاسِطَةِ الْخِيَاطَةِ اشْتِمَالٌ عَلَى الْبَدَنِ وَاسْتِمْسَاكٌ ، فَأَيُّهُمَا انْتَفَى انْتَفَى لُبْسُ الْمَخِيطِ ؛ وَلِذَا قُلْنَا فِيمَا لَوْ أَدْخَلَ مَنْكِبَيْهِ فِي الْقَبَاءِ دُونَ أَنْ يُدْخِلَ يَدَيْهِ فِي الْكُمَّيْنِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ .
وَكَذَا إذَا لَبِسَ الطَّيْلَسَانَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُزِرَّهُ عَلَيْهِ لِعَدَمِ الِاسْتِمْسَاكِ بِنَفْسِهِ فَإِنْ زَرَّ الْقَبَاءَ أَوْ الطَّيْلَسَانَ يَوْمًا لَزِمَهُ دَمٌ ؛ لِحُصُولِ الِاسْتِمْسَاكِ بِالزِّرِّ مَعَ الِاشْتِمَالِ بِالْخِيَاطَةِ ،

بِخِلَافِ مَا لَوْ عَقَدَ الرِّدَاءَ أَوْ شَدَّ الْإِزَارَ بِحَبْلٍ يَوْمًا كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ لِلشَّبَهِ بِالْمَخِيطِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِانْتِفَاءِ الِاشْتِمَالِ بِوَاسِطَةِ الْخِيَاطَةِ .
وَفِي إدْخَالِ الْمَنْكِبَيْنِ الْقَبَاءَ خِلَافُ زُفَرَ .
وَلَا بَأْسَ أَنْ يَفْتُقَ السَّرَاوِيلَ إلَى مَوْضِعِ التِّكَّةِ فَيَأْتَزِرَ بِهِ ، وَأَنْ يَلْبَسَ الْمُكَعَّبَ الَّذِي لَا يَبْلُغُ إذَا كَانَ فِي وَسَطِ الْقَدَمِ ؛ لِأَنَّ الْحَاصِلَ حِينَئِذٍ هُوَ الْحَاصِلُ مِنْ قَطْعِ الْخُفَّيْنِ أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ ، وَقَدْ وَرَدَ النَّصُّ بِإِطْلَاقِ ذَلِكَ ، بِخِلَافِ الْجَوْرَبِ فَإِنَّهُ كَالْخُفِّ فَلُبْسُهُ يَوْمًا مُوجِبٌ لِلدَّمِ .
( قَوْلُهُ : وَلَوْ غَطَّى بَعْضَ رَأْسِهِ فَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ اعْتِبَارُ الرُّبُعِ ) إنْ بَلَغَ قَدْرَ الرُّبُعِ فَدَامَ يَوْمًا لَزِمَهُ دَمٌ ( اعْتِبَارًا بِالْحَلْقِ وَالْعَوْرَةِ ) حَيْثُ يَلْزَمُ الدَّمُ بِحَلْقِ رُبُعِ الرَّأْسِ أَوْ اللِّحْيَةِ ، وَفَسَادُ الصَّلَاةِ بِكَشْفِ رُبُعِ الْعَوْرَةِ .
وَقَوْلُهُ : ( وَهَذَا ؛ لِأَنَّ سَتْرَ الْبَعْضِ اسْتِمْتَاعٌ مَقْصُودٌ يَعْتَادُهُ بَعْضُ النَّاسِ ) يَصْلُحُ إبْدَاءً لِلْجَامِعِ : أَيْ الْعِلَّةِ الَّتِي بِهَا وَجَبَ فِي حَلْقِ الرُّبُعِ الدَّمُ وَهِيَ الِارْتِفَاقُ بِهِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ أَكْمَلُ مِنْهُ ثَابِتَةٌ فِي تَغْطِيَةِ الْبَعْضِ ؛ وَلِذَا يَعْتَادُهُ بَعْضُ النَّاسِ ، وَإِنَّمَا يَعْتَادُهُ تَحْصِيلًا لِلِارْتِفَاقِ وَإِلَّا كَانَ عَبَثًا ، وَإِنْ كَانَ الْجَامِعُ هَذَا فَلَا يَصِحُّ اعْتِبَارُ الْعَوْرَةِ أَصْلًا لِانْتِفَاءِ هَذَا الْجَامِعِ ، إذْ لَيْسَ فَسَادُ الصَّلَاةِ بِانْكِشَافِ الرُّبُعِ لِذَلِكَ بَلْ لِعَدِّهِ كَثِيرًا عُرْفًا ، وَلَيْسَ الْمُوجِبُ هَذَا هُنَا ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَمْ يَقُلْ بِإِقَامَةِ الْأَكْثَرِ مَقَامَ الْكُلِّ فِي الْيَوْمِ أَوْ اللَّيْلِ الْوَاقِعِ فِيهِمَا التَّغْطِيَةُ وَاللُّبْسُ ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ هُنَا لَيْسَ إلَّا لِثُبُوتِ الِارْتِفَاقِ كَامِلًا وَعَدَمِهِ ، وَكَذَا إذَا غَطَّى رُبُعَ وَجْهِهِ أَوْ غَطَّتْ الْمَرْأَةُ رُبُعَ وَجْهِهَا .
( قَوْلُهُ : وَعَنْ

أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَعْتَبِر أَكْثَرَ الرَّأْسِ اعْتِبَارًا لِلْحَقِيقَةِ ) وَلَمْ يَذْكُرْ لِمُحَمَّدٍ قَوْلًا .
وَنَقَلَ فِي الْبَدَائِعِ عَنْ نَوَادِرِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ عَيْنَ هَذَا الْقَوْلِ ، وَلَمْ يَحْكِ خِلَافًا فِي الْأَصْلِ .
وَهَذَا الْقَوْلُ أَوْجَهُ فِي النَّظَرِ ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ الِارْتِفَاقُ الْكَامِلُ ، وَاعْتِيَادُ تَغْطِيَةِ الْبَعْضِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْصِيلِهِ بِهِ ، لَكِنَّ ذَلِكَ الْبَعْضَ الْمُعْتَادَ لَيْسَ هُوَ الرُّبُعُ ، فَإِنَّ مَا يَفْعَلُهُ مَنْ نَعْلَمُ مِنْ الْيَمَانِيِّينَ الَّذِينَ يَلْبَسُونَ السَّرْقُوجَ يَشُدُّونَهُ تَحْتَ الْحَنَكِ تَغْطِيَةُ الْبَعْضِ الَّذِي هُوَ الْأَكْثَرُ ، فَإِنَّ الْبَادِيَ مِنْهُمْ هُوَ النَّاصِيَةُ لَيْسَ غَيْرُ ، وَلَعَلَّ تَغْطِيَةَ مُجَرَّدِ الرُّبُعِ فَقَطْ عَلَى وَجْهٍ يَسْتَمْسِكُ مِمَّا لَمْ يَتَحَقَّقْ إلَّا أَنْ يَكُونَ نَحْوَ جَبِيرَةٍ تَشُدُّ .
وَحِينَئِذٍ ظَهَرَ أَنَّ مَا عَيَّنَهُ جَامِعًا فِي الْحَلْقِ غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْأَصْلِ حُصُولُ الِارْتِفَاقِ كَامِلًا بِحَلْقِ الرُّبُعِ بِدَلِيلِ الْقَصْدِ إلَيْهِ عَلَى وَجْهِ الْعَادَةِ ، وَالثَّابِتُ فِي الْفَرْعِ الِاعْتِيَادُ بِتَغْطِيَةِ الْبَعْضِ الَّذِي هُوَ الْأَكْثَرُ لَا الْأَقَلُّ ، وَهُوَ الدَّلِيلُ عَلَى الِارْتِفَاقِ بِهِ فَلَمْ يَتَّحِدْ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ ، وَلِذَا لَمْ يُعَيِّنْ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْفَرْعِ سِوَى مُطْلَقِ الْبَعْضِ ، فَإِنْ عَنَى بِهِ الرُّبُعَ مَنَعْنَا وُجُودَهُ فِي الْفَرْعِ .
وَمِنْ فُرُوعِ اعْتِبَارِ الرُّبُعِ مَا لَوْ عَصَبَ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ بِعِصَابَةٍ أَوْ وَجْهَهُ يَوْمًا أَوْ لَيْلَةً فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ ، إلَّا أَنْ يَأْخُذَ قَدْرَ الرُّبُعِ .
وَلَوْ عَصَبَ مَوْضِعًا آخَرَ مِنْ جَسَدِهِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَثُرَ ، لَكِنَّهُ يُكْرَهُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ كَعَقْدِ الْإِزَارِ وَتَخْلِيلِ الرِّدَاءِ لِشَبَهِ الْمَخِيطِ ، بِخِلَافِ لُبْسِ الْمَرْأَةِ الْقُفَّازَيْنِ ؛ لِأَنَّ لَهَا أَنْ تَسْتُرَ بَدَنَهَا بِمَخِيطٍ وَغَيْرِهِ فَلَمْ يُكْرَهْ لَهَا .
وَلَا بَأْسَ أَنْ يُغَطِّيَ أُذُنَيْهِ وَقَفَاهُ وَمِنْ لِحْيَتِهِ

مَا هُوَ أَسْفَلُ مِنْ الذَّقَنِ بِخِلَافِ فِيهِ وَعَارِضِهِ وَذَقَنِهِ .
وَلَا بَأْسَ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى أَنْفِهِ دُونَ ثَوْبٍ .
وَعَلَى الْقَارِنِ فِي جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ فِيهِ دَمًا أَوْ صَدَقَةَ دَمَانِ أَوْ صَدَقَتَانِ لِمَا سَنَذْكُرُ .

( وَإِذَا حَلَقَ رُبُعَ رَأْسِهِ أَوْ رُبُعَ لِحْيَتِهِ فَصَاعِدًا فَعَلَيْهِ دَمٌ ، فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ الرُّبُعِ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ ) وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَجِبُ إلَّا بِحَلْقِ الْكُلِّ : وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجِبُ بِحَلْقِ الْقَلِيلِ اعْتِبَارًا بِنَبَاتِ الْحَرَمِ .
وَلَنَا أَنَّ حَلْقَ بَعْضِ الرَّأْسِ ارْتِفَاقٌ كَامِلٌ ؛ لِأَنَّهُ مُعْتَادٌ فَتَتَكَامَلُ بِهِ الْجِنَايَةُ وَتَتَقَاصَرُ فِيمَا دُونَهُ بِخِلَافِ تَطَيُّبِ رُبُعِ الْعُضْوِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ ، وَكَذَا حَلْقُ بَعْضِ اللِّحْيَةِ مُعْتَادٌ بِالْعِرَاقِ وَأَرْضِ الْعَرَبِ ( وَإِنْ حَلَقَ الرَّقَبَةَ كُلَّهَا فَعَلَيْهِ دَمٌ ) ؛ لِأَنَّهُ عُضْوٌ مَقْصُودٌ بِالْحَلْقِ .
( وَإِنْ حَلَقَ الْإِبْطَيْنِ أَوْ أَحَدَهُمَا فَعَلَيْهِ دَمٌ ) ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْصُودٌ بِالْحَلْقِ لِدَفْعِ الْأَذَى وَنَيْلِ الرَّاحَةِ فَأَشْبَهَ الْعَانَةَ .
ذَكَرَ فِي الْإِبْطَيْنِ الْحَلْقَ هَاهُنَا وَفِي الْأَصْلِ النَّتْفُ وَهُوَ السُّنَّةُ ( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ ) رَحِمَهُمَا اللَّهُ : ( إذَا حَلَقَ عُضْوًا فَعَلَيْهِ دَمٌ ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ فَطَعَامٌ ) أَرَادَ بِهِ الصَّدْرَ وَالسَّاقَ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مَقْصُودٌ بِطَرِيقِ التَّنُّورِ فَتَتَكَامَلُ بِحَلْقِ كُلِّهِ وَتَتَقَاصَرُ عِنْدَ حَلْقِ بَعْضِهِ ( وَإِنْ أَخَذَ مِنْ شَارِبِهِ فَعَلَيْهِ ) طَعَامٌ ( حُكُومَةُ عَدْلٍ ) وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يُنْظَرُ أَنَّ هَذَا الْمَأْخُوذَ كَمْ يَكُونُ مِنْ رُبُعِ اللِّحْيَةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الطَّعَامُ بِحَسَبِ ذَلِكَ ، حَتَّى لَوْ كَانَ مَثَلًا مِثْلَ رُبُعِ الرُّبُعِ لَزِمَهُ قِيمَةُ رُبُعِ الشَّاةِ ، وَلَفْظَةُ الْأَخْذِ مِنْ الشَّارِبِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ السُّنَّةُ فِيهِ دُونَ الْحَلْقِ ، وَالسُّنَّةُ أَنْ يُقَصَّ حَتَّى يُوَازِيَ الْإِطَارَ .
قَالَ : ( وَإِنْ حَلَقَ مَوْضِعَ الْمَحَاجِمِ فَعَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَقَالَا : عَلَيْهِ صَدَقَةٌ ) ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَحْلِقُ الْحِجَامَةَ وَهِيَ لَيْسَتْ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ فَكَذَا مَا يَكُونُ وَسِيلَةً إلَيْهَا ، وَإِلَّا أَنَّ

فِيهِ إزَالَةَ شَيْءٍ مِنْ التَّفَثِ فَتَجِبُ الصَّدَقَةُ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ حَلْقَهُ مَقْصُودٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَسَّلُ إلَى الْمَقْصُودِ إلَّا بِهِ ، وَقَدْ وُجِدَ إزَالَةُ التَّفَثِ عَنْ عُضْوٍ كَامِلٍ فَيَجِبُ الدَّمُ .

( قَوْلُهُ : وَلَنَا أَنَّ حَلْقَ بَعْضِ الرَّأْسِ إلَخْ ) هَذَا هُوَ الْفَرْقُ الْمَوْعُودُ بَيْنَ حَلْقِ الرُّبُعِ وَتَطْيِيبِ الرُّبُعِ .
وَقَوْلُهُ : لِأَنَّهُ مُعْتَادٌ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْحُكْمَ بِحُصُولِ كَمَالِ الِارْتِفَاقِ بِذَلِكَ الْبَعْضِ مُسْتَدِلٌّ عَلَيْهِ بِالْقَصْدِ إلَيْهِ عَلَى وَجْهِ الِاعْتِيَادِ ، وَقَدَّمْنَا مَا يُغْنِي فِيهِ ، وَمِمَّنْ يَفْعَلهُ بَعْضُ الْأَتْرَاكِ وَالْعَلَوِيَّةُ فَإِنَّهُمْ يَحْلِقُونَ نَوَاصِيَهُمْ فَقَطْ ، وَكَذَا حَلْقُ بَعْضِ اللِّحْيَةِ مُعْتَادٌ بِأَرْضِ الْعِرَاقِ وَالْعَرَبِ وَبَعْضِ أَهْلِ الْمَغْرِبِ ، إلَّا أَنَّ فِي هَذَا احْتِمَالَ أَنَّ فِعْلَهُمْ لِلرَّاحَةِ أَوْ الزِّينَةِ فَتُعْتَبَرُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ احْتِيَاطًا ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْكَفَّارَةَ مِمَّا يُحْتَاطُ فِي إثْبَاتِهَا بِدَلِيلِ لُزُومِهَا مَعَ الْأَعْذَارِ .
وَقَوْلُهُ : لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ ، يَعْنِي الْعَادَةَ أَنَّ كُلَّ مِنْ مَسَّ طِيبًا لِقَصْدِ التَّطَيُّبِ كَمَاءِ وَرْدٍ أَوْ طِيبٍ عَمَّمَ بِهِ يَدَيْهِ مَسْحًا بَلْ وَيَمْسَحُ بِفَضْلِهِ وَجْهَهُ أَيْضًا ، بِخِلَافِ الِاقْتِصَارِ عَلَى بَعْضِهِ فَإِنَّمَا يَكُونُ غَالِبًا عِنْدَ قَصْدِ مُجَرَّدِ إمْسَاكِهِ لِلْحِفْظِ أَوْ لِلْمُلَاقَاةِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ أَوْ لِغَايَةِ الْقِلَّةِ فِي الطِّيبِ نَفْسِهِ ، فَتَتَقَاصَرُ الْجِنَايَةُ فِيمَا دُونَ الْعُضْوِ فَتَجِبُ الصَّدَقَةُ .
ثُمَّ مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ فِي حَلْقِ رُبُعِ الرَّأْسِ أَوْ اللِّحْيَةِ دَمًا مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ مُوَافِقٌ لِعَامَّةِ الْكُتُبِ وَهُوَ الْمُصَحَّحُ لَا مَا فِي جَامِعَيْ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَقَاضِي خَانْ أَنَّ عَلَى قَوْلِهِمَا فِي الْجَمِيعِ الدَّمَ وَفِي الْأَقَلِّ مِنْهُ الطَّعَامَ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ فِي حَلْقِ الْأَكْثَرِ الدَّمَ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجِبُ الدَّمُ بِحَلْقِ الْعُشْرِ ؛ لِأَنَّهُ يُقَدَّرُ بِهِ الْأَشْيَاءُ الشَّرْعِيَّةُ فَيُقَامُ مَقَامَ الْكُلِّ احْتِيَاطًا .
هَذَا فَلَوْ كَانَ أَصْلَعَ عَلَى نَاصِيَتِهِ أَقَلُّ مِنْ رُبُعِ شَعْرِهَا فَإِنَّمَا فِيهِ صَدَقَةٌ ، وَكَذَا لَوْ حَلَقَ كُلَّ رَأْسِهِ وَمَا عَلَيْهِ أَقَلُّ مِنْ رُبُعِ شَعْرِهِ ، وَإِنْ كَانَ

عَلَيْهِ قَدْرُ رُبُعِ شَعْرِهِ لَوْ كَانَ شَعْرُ رَأْسِهِ كَامِلًا فَفِيهِ دَمٌ ، وَعَلَى هَذَا يَجِيءُ مِثْلُهُ فِيمَنْ بَلَغَتْ لِحْيَتُهُ الْغَايَةَ فِي الْخِفَّةِ .
وَفِي الْمَرْغِينَانِيِّ : حَلَقَ رَأْسَهُ وَأَرَاقَ دَمًا ثُمَّ حَلَقَ لِحْيَتَهُ وَهُوَ فِي مَقَامٍ وَاحِدٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ آخَرُ ، وَلَوْ حَلَقَ رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ وَإِبْطَيْهِ وَكُلَّ بَدَنِهِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَدَمٌ وَاحِدٌ ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ الْمَجَالِسُ فَلِكُلِّ مَجْلِسٍ مُوجِبُ جِنَايَتِهِ فِيهِ عِنْدَهُمَا .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ دَمٌ وَاحِدٌ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ الْمَجَالِسُ مَا لَمْ يُكَفِّرْ لِلْأَوَّلِ ، وَتَقَدَّمَ فِي الطِّيبِ مِثْلُهُ .
اعْتَبَرَهُ بِمَا لَوْ حَلَقَ فِي مَجْلِسٍ رُبُعَ رَأْسِهِ ، وَفِي آخَرَ رُبْعًا آخَرَ حَتَّى أَتَمَّهَا فِي أَرْبَعَةِ مَجَالِسَ يَلْزَمُهُ دَمٌ وَاحِدٌ اتِّفَاقًا مَا لَمْ يُكَفِّرْ لِلْأَوَّلِ .
وَالْفَرْقُ لَهُمَا أَنَّ هَذِهِ جِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ وَإِنْ تَعَدَّدَتْ الْمَجَالِسُ ؛ لِاتِّحَادِ مَحِلِّهَا ، وَهُوَ الرَّأْسُ .
هَذَا فَأَمَّا مَا فِي مَنَاسِكِ الْفَارِسِيِّ مِنْ قَوْلِهِ : وَمَا سَقَطَ مِنْ شَعَرَاتِ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ عِنْدَ الْوُضُوءِ لَزِمَهُ كَفٌّ مِنْ طَعَامٍ إلَّا أَنْ تَزِيدَ عَلَى ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ ، فَإِنْ بَلَغَ عَشْرًا لَزِمَهُ دَمٌ .
وَكَذَا إذَا خُبِزَ فَاحْتَرَقَ ذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ لِمَا عَلِمْت مِنْ أَنَّ الْقَدْرَ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ الدَّمُ هُوَ الرُّبْعُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا .
نَعَمْ فِي الثَّلَاثِ كَفٌّ مِنْ طَعَامٍ عَنْ مُحَمَّدٍ ، وَهُوَ خِلَافُ مَا فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ قَالَ : وَإِنْ نَتَفَ مِنْ رَأْسِهِ أَوْ أَنْفِهِ أَوْ لِحْيَتِهِ شَعَرَاتٍ فَفِي كُلِّ شَعْرَةٍ كَفٌّ مِنْ طَعَامٍ ، وَفِي خِزَانَةِ الْأَكْمَلِ فِي خُصْلَةٍ نِصْفُ صَاعٍ ( قَوْلُهُ : لِأَنَّهَا عُضْوٌ مَقْصُودٌ بِالْحَلْقِ ) يَفْعَلُ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ لِلرَّاحَةِ وَالزِّينَةِ .
( قَوْلُهُ : وَإِنْ حَلَقَ الْإِبْطَيْنِ أَوْ أَحَدَهُمَا فَعَلَيْهِ دَمٌ ) الْمَعْرُوفُ هَذَا الْإِطْلَاقُ .
وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ فِي الْإِبْطِ إنْ كَانَ كَثِيرَ الشَّعْرِ يُعْتَبَرُ فِيهِ الرُّبُعُ ؛ لِوُجُوبِ الدَّمِ وَإِلَّا

فَالْأَكْثَرُ .
( قَوْلُهُ : وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ ) تَخْصِيصُ قَوْلِهِمَا لَيْسَ لِخِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ بَلْ ؛ لِأَنَّ الرِّوَايَةَ فِي ذَلِكَ مَحْفُوظَةٌ عَنْهَا .
وَقَوْلُهُ : أَرَادَ بِهِ السَّاقَ وَالصَّدْرَ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ تَفْسِيرَ الْمُرَادِ بِمَا هُوَ أَخَصُّ مِنْ مُؤَدَّى اللَّفْظِ لَيُخْرِجَ بِذَلِكَ الرَّأْسَ وَاللِّحْيَةَ فَإِنَّ فِي الرُّبُعِ مِنْ كُلِّ مِنْهُمَا الدَّمَ ، بِخِلَافِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ وَالْفَارِقُ الْعَادَةُ ، ثُمَّ جَعَلَهُ الصَّدْرَ وَالسَّاقَ مَقْصُودِينَ بِالْحَلْقِ مُوَافِقٌ لِجَامِعِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ مُخَالِفٌ ؛ لِمَا فِي الْمَبْسُوطِ فَفِيهِ مَتَى حَلَقَ عُضْوًا مَقْصُودًا بِالْحَلْقِ فَعَلَيْهِ دَمٌ ، وَإِنْ حَلَقَ مَا لَيْسَ بِمَقْصُودٍ فَصَدَقَةٌ ، ثُمَّ قَالَ : وَمِمَّا لَيْسَ بِمَقْصُودٍ حَلْقُ شَعْرِ الصَّدْرِ وَالسَّاقِ ، وَمِمَّا هُوَ مَقْصُودٌ حَلْقُ الرَّأْسِ وَالْإِبْطَيْنِ وَهَذَا أَوْجَهُ .
وَقَوْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ مَقْصُودٌ بِطَرِيقِ التَّنُّورِ مَدْفُوعٌ بِأَنَّ الْقَصْدَ إلَى حَلْقِهِمَا إنَّمَا هُوَ فِي ضِمْنِ غَيْرِهِمَا إذْ لَيْسَتْ الْعَادَةُ تَنْوِيرَ السَّاقِ وَحْدَهُ بَلْ تَنْوِيرُ الْمَجْمُوعِ مِنْ الصُّلْبِ إلَى الْقَدَمِ فَكَانَ بَعْضُ الْمَقْصُودِ بِالْحَلْقِ .
نَعَمْ كَثِيرًا مَا يُعْتَادُونَ تَنْوِيرَ الْفَخِذِ مَعَ مَا فَوْقُهُ دُونَ السَّاقِ وَقَدْ يَقْتَصِرُ عَلَى الْعَانَةِ أَوْ مَعَ الصُّلْبِ ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُ هَذَا لِلْحَاجَةِ ، أَمَّا السَّاقُ وَحْدُهُ فَلَا ؛ فَالْحَلْقُ أَنْ يَجِبَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا الصَّدَقَةُ .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُجْمَعُ الْمُتَفَرِّقُ فِي الْحَلْقِ كَمَا فِي الطِّيبِ ( قَوْلُهُ : فَإِنْ أَخَذَ مِنْ شَارِبِهِ ) أَوْ أَخَذَهُ كُلَّهُ أَوْ حَلَقَهُ ( فَعَلَيْهِ طَعَامٌ هُوَ حُكُومَةُ عَدْلٍ ) بِأَنْ يَنْظُرَ إلَى الْمَأْخُوذِ مَا نِسْبَتُهُ مِنْ رُبُعِ اللِّحْيَةِ فَيَجِبُ بِحِسَابِهِ ، فَإِنْ كَانَ مِثْلَ رُبُعِ رُبُعِهَا لَزِمَهُ قِيمَةُ رُبُعِ الشَّاةِ أَوْ ثُمُنِهَا فَثُمُنُهَا وَهَكَذَا ، وَفِي الْمَبْسُوطِ خِلَافُ هَذَا قَالَ : وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَا إذَا حَلَقَ شَارِبَهُ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ إذَا أَخَذَ مِنْ شَارِبِهِ

فَعَلَيْهِ الصَّدَقَةُ ، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ : إذَا حَلَقَ شَارِبَهُ يَلْزَمُهُ الدَّمُ ؛ لِأَنَّهُ مَقْصُودٌ بِالْحَلْقِ تَفْعَلُهُ الصُّوفِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الدَّمُ ؛ لِأَنَّهُ طَرَفٌ مِنْ اللِّحْيَةِ وَهُوَ مَعَ اللِّحْيَةِ كَعُضْوٍ وَاحِدٍ ، وَإِذَا كَانَ الْكُلُّ عُضْوًا وَاحِدًا لَا يَجِبُ بِمَا دُونَ الرُّبُعِ مِنْهُ الدَّمُ وَالشَّارِبُ دُونَ الرُّبُعِ مِنْ اللِّحْيَةِ فَتَكْفِيهِ الصَّدَقَةُ فِي حَلْقِهِ ا هـ .
وَمَا فِي الْهِدَايَةِ إنَّمَا يَظْهَرُ تَفْرِيعُهُ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ فِي تَطْيِيبِ بَعْضِ الْعُضْوِ حَيْثُ قَالَ : يَجِبُ بِقَدْرِهِ مِنْ الدَّمِ ، أَمَّا عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ جَادَّةِ ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ وَهُوَ أَنَّ مَا لَمْ يَجِبْ فِيهِ الدَّمُ تَجِبُ فِيهِ الصَّدَقَةُ مُقَدَّرَةٌ بِنِصْفِ صَاعٍ إلَّا فِيمَا يُسْتَثْنَى فَلَا .
ثُمَّ عَلَى تَقْدِيرِ التَّفْرِيعِ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ فَالْوَاجِبُ أَنْ يَنْظُرَ إلَى نِسْبَةِ الْمَأْخُوذِ مِنْ رُبُعِ اللِّحْيَةِ مُعْتَبِرًا مَعَهَا الشَّارِبَ كَمَا يُفِيدُهُ مَا فِي الْمَبْسُوطِ مِنْ كَوْنِ الشَّارِبِ طَرَفًا مِنْ اللِّحْيَةِ هُوَ مَعَهَا عُضْوٌ وَاحِدٌ لَا أَنَّهُ يُنْسَبُ إلَى رُبُعِ اللِّحْيَةِ غَيْرُ مُعْتَبِرِ الشَّارِبِ مَعَهَا ، فَعَلَى هَذَا إنَّمَا يَجِبُ رُبُعُ قِيمَةِ الشَّاةِ إذَا بَلَغَ الْمَأْخُوذُ مِنْ الشَّارِبِ رُبُعَ الْمَجْمُوعِ مِنْ اللِّحْيَةِ مَعَ الشَّارِبِ لَا دُونَهُ ، وَإِذَا أَخَذَ الْمُحْرِمُ مِنْ شَارِبِ حَالٍّ أَطْعَمَ مَا شَاءَ ( قَوْلُهُ : وَلَفْظَةُ الْأَخْذِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ السُّنَّةُ فِيهِ دُونَ الْحَلْقِ ) يُشِيرُ إلَى خِلَافِ مَا ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ الْآثَارِ حَيْثُ قَالَ : الْقَصُّ حَسَنٌ ، وَتَفْسِيرُهُ أَنْ يَقُصَّ حَتَّى يَنْتَقِصَ عَنْ الْإِطَارِ وَهُوَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ مُلْتَقَى الْجِلْدَةِ وَاللَّحْمِ مِنْ الشَّفَةِ ، وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ عَلَى أَنْ يُحَاذِيَهُ .
ثُمَّ قَالَ الطَّحَاوِيُّ : وَالْحَلْقُ أَحْسَنُ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ مَشَايِخِنَا أَنَّ السُّنَّةَ الْقَصُّ ا هـ .

فَالْمُصَنِّفُ إنْ حَكَمَ بِكَوْنِ الْمَذْهَبِ الْقَصَّ أَخْذًا مِنْ لَفْظِ الْأَخْذِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فَهُوَ أَعَمُّ مِنْ الْحَلْقِ ؛ لِأَنَّ الْحَلْقَ أَخْذٌ ، وَاَلَّذِي لَيْسَ أَخْذٌ هُوَ النَّتْفُ ، فَإِنْ ادَّعَى أَنَّهُ الْمُتَبَادَرُ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهِ فِيهِ مَنَعْنَاهُ ، وَإِنْ سَلِمَ فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ فِي الْجَمْعِ هُنَا بَيَانَ أَنَّ السُّنَّةَ هُوَ الْقَصُّ أَوْ لَا بَلْ بَيَانُ مَا فِي إزَالَةِ الشَّعْرِ عَلَى الْمُحْرِمِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْإِبْطِ الْحَلْقَ وَلَمْ يَذْكُرْ كَوْنَ الْمَذْهَبِ فِيهِ اسْتِنَانَ الْحَلْقِ ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ ذِكْرُ مَا يُفِيدُ الْإِزَالَةَ بِأَيِّ طَرِيقٍ حَصَلَتْ لَتَعْيِينِ حُكْمِهِ ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ وَهُوَ قَوْلُهُ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { خَمْسٌ مِنْ الْفِطْرَةِ : الْخِتَانُ ، وَالِاسْتِحْدَادُ وَقَصُّ الشَّارِبِ ، وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ ، وَنَتْفُ الْآبَاطِ } فَلَا يُنَافِي مَا يُرِيدُهُ بِلَفْظِ الْحَلْقِ ، فَإِنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْمُبَالَغَةُ فِي الِاسْتِئْصَالِ عَمَلًا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَحْفُوا الشَّوَارِبَ } وَهُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي الْقَطْعِ ، وَبِأَيِّ شَيْءٍ حَصَلَ حَصَلَ الْمَقْصُودُ غَيْرَ أَنَّهُ بِالْحَلْقِ بِالْمُوسَى أَيْسَرُ مِنْهُ بِالْمِقَصَّةِ ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْمِقَصَّةِ أَيْضًا مِثْلَهُ ، وَذَلِكَ بِخَاصٍّ مِنْهَا يَضَعُ لِلشَّارِبِ فَقَطْ .
فَقَوْلُ الطَّحَاوِيِّ : الْحَلْقُ أَحْسَنُ مِنْ الْقَصِّ يُرِيدُ الْقَصَّ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ الْمَبْلَغَ فِي الْمُبَالَغَةِ ، فَإِنَّ عِنْدَ أَهْلِ الصِّنَاعَةِ قَصًّا يُسَمُّونَهُ قَصَّ حِلَاقَةٍ .
( قَوْلُهُ : لِأَنَّهُ لَا يَتَوَسَّلُ إلَى الْمَقْصُودِ إلَّا بِهِ ) يُفِيد أَنَّهُ إذَا لَمْ تَتَرَتَّبْ الْحِجَامَةُ عَلَى حَلْقِ مَوْضِعِ الْمَحَاجِمِ لَا يَجِبُ الدَّمُ ؛ لِأَنَّهُ أَفَادَ أَنَّ كَوْنَهُ مَقْصُودًا إنَّمَا هُوَ لِلتَّوَسُّلِ بِهِ إلَى الْحِجَامَةِ ، فَإِذَا لَمْ تَعْقُبْهُ الْحِجَامَةُ لَمْ يَقَعْ وَسِيلَةً فَلَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا فَلَا يَجِبُ إلَّا الصَّدَقَةُ .
وَعِبَارَةُ شَرْحِ الْكَنْزِ وَاضِحَةٌ فِي ذَلِكَ

حَيْثُ قَالَ فِي دَلِيلِهَا : وَلِأَنَّهُ قَلِيلٌ فَلَا يُوجِبُ الدَّمَ ، كَمَا إذَا حَلَقَهُ لِغَيْرِ الْحِجَامَةِ ، وَفِي دَلِيلِهِ أَنَّ حَلْقَهُ لِمَنْ يَحْتَجِمُ مَقْصُودٌ وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ بِخِلَافِ الْحَلْقِ لِغَيْرِهَا ، فَظَهَرَ لَك أَنَّ التَّرْكِيبَ الصَّالِحَ فِي وَجْهِ قَوْلِهِمَا .
عِبَارَةُ شَرْحِ الْكَنْزِ ، بِخِلَافِ تَرْكِيبِ الْكِتَابِ حَيْثُ قَالَ : الْحِجَامَةُ لَيْسَتْ بِمَحْظُورَةٍ ، فَكَذَا مَا يَكُونُ وَسِيلَةً إلَيْهَا فَإِنَّهُ نَفْيُ حَظْرِ هَذَا الْحَلْقِ لِلْحِجَامَةِ إذْ لَا تُفْعَلُ الْحِجَامَةُ إلَّا لِلْحَاجَةِ إلَى تَنْقِيصِ الدَّمِ فَلَا يَكُونُ الْحَلْقُ مَحْظُورًا ، وَلَازِمُ هَذَا لَيْسَ إلَّا عَدَمُ وُجُوبِ الصَّدَقَةِ عَيْنًا بَلْ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ ذَلِكَ وَالصَّوْمِ ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ هَذَا بَلْ لُزُومُ الصَّدَقَةِ عَيْنًا بِمَعْنَى عَدَمِ دُخُولِ الدَّمِ فِي كَفَّارَةِ هَذَا الْحَلْقِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ ، وَعَدَمُ الْحَظْرِ لَا يَسْتَلْزِمُهُ .
وَقَوْلُهُ فِي وَجْهِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .

( وَإِنْ حَلَقَ رَأْسَ مُحْرِمٍ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَعَلَى الْحَالِقِ الصَّدَقَةُ ، وَعَلَى الْمَحْلُوقِ دَمٌ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجِبُ إنْ كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ بِأَنْ كَانَ نَائِمًا ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْإِكْرَاهَ يُخْرِجُ الْمُكْرَهَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُؤَاخَذًا بِحُكْمِ الْفِعْلِ وَالنَّوْمُ أَبْلَغُ مِنْهُ .
وَعِنْدَنَا بِسَبَبِ النَّوْمِ وَالْإِكْرَاهِ يَنْتَفِي الْمَأْثَمُ دُونَ الْحُكْمِ وَقَدْ تَقَرَّرَ سَبَبُهُ ، وَهُوَ مَا نَالَ مِنْ الرَّاحَةِ وَالزِّينَةِ فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ حَتْمًا ، بِخِلَافِ الْمُضْطَرِّ حَيْثُ يَتَخَيَّرُ ؛ لِأَنَّ الْآفَةَ هُنَاكَ سَمَاوِيَّةٌ وَهَاهُنَا مِنْ الْعِبَادِ ، ثُمَّ لَا يَرْجِعُ الْمَحْلُوقُ رَأْسَهُ عَلَى الْحَالِقِ ؛ لِأَنَّ الدَّمَ إنَّمَا لَزِمَهُ بِمَا نَالَ مِنْ الرَّاحَةِ فَصَارَ كَالْمَغْرُورِ فِي حَقِّ الْعُقْرِ ، وَكَذَا إذَا كَانَ الْحَالِقُ حَلَالًا لَا يَخْتَلِفُ الْجَوَابُ فِي حَقِّ الْمَحْلُوقِ رَأْسُهُ ، وَأَمَّا الْحَالِقُ تَلْزَمُهُ الصَّدَقَةُ فِي مَسْأَلَتِنَا فِي الْوَجْهَيْنِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إذَا حَلَقَ الْمُحْرِمُ رَأْسَ حَلَالٍ .
لَهُ أَنَّ مَعْنَى الِارْتِفَاقِ لَا يَتَحَقَّقُ بِحَلْقِ شَعْرِ غَيْرِهِ وَهُوَ الْمُوجِبُ .
وَلَنَا أَنَّ إزَالَةَ مَا يَنْمُو مِنْ بَدَنِ الْإِنْسَانِ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ ؛ لِاسْتِحْقَاقِهِ الْأَمَانَ بِمَنْزِلَةِ نَبَاتِ الْحَرَمِ فَلَا يَفْتَرِقُ الْحَالُ بَيْنَ شَعْرِهِ وَشَعْرِ غَيْرِهِ إلَّا أَنَّ كَمَالَ الْجِنَايَةِ فِي شَعْرِهِ ( فَإِنْ أَخَذَ مِنْ شَارِبِ حَالٍّ أَوْ قَلَّمَ أَظَافِيرَهُ أَطْعَمَ مَا شَاءَ ) وَالْوَجْهُ فِيهِ مَا بَيَّنَّا .
وَلَا يَعْرَى عَنْ نَوْعِ ارْتِفَاقٍ ؛ لَأَنْ يَتَأَذَّى بِتَفَثِ غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ التَّأَذِّي بِتَفَثِ نَفْسِهِ فَيَلْزَمُهُ الطَّعَامُ ( وَإِنْ قَصَّ أَظَافِيرَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ ) ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ لِمَا فِيهِ مِنْ قَضَاءِ التَّفَثِ وَإِزَالَةِ مَا يَنْمُو مِنْ الْبَدَنِ ، فَإِذَا قَلَّمَهَا كُلَّهَا فَهُوَ ارْتِفَاقٌ

كَامِلٌ فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ ، وَلَا يُزَادُ عَلَى دَمٍ إنْ حَصَلَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ ، فَإِنْ كَانَ فِي مَجَالِسَ فَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ مَبْنَاهَا عَلَى التَّدَاخُلِ فَأَشْبَهَ كَفَّارَةَ الْفِطْرِ إلَّا إذَا تَخَلَّلَتْ الْكَفَّارَةُ لِارْتِفَاعِ الْأُولَى بِالتَّكْفِيرِ .
وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَجِبُ أَرْبَعَةُ دِمَاءٍ إنْ قَلَّمَ فِي كُلِّ مَجْلِسٍ يَدًا أَوْ رِجْلًا ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيهِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فَيَتَقَيَّدُ التَّدَاخُلُ بِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ كَمَا فِي آيِ السَّجْدَةِ .

( وَقَدْ وَجَدَ إزَالَةَ التَّفَثِ عَنْ عُضْوٍ كَامِلٍ ) يُرِيدُ أَنَّ هَذَا الْمَوْضِعَ فِي حَقِّ الْحِجَامَةِ كَامِلٌ ( قَوْلُهُ : وَإِنْ حَلَقَ رَأْسَ مُحْرِمٍ ) الْفَاعِلُ ضَمِيرُ الْمُحْرِمِ ؛ لِأَنَّ الضَّمَائِرَ فِي الْأَفْعَالِ كُلِّهَا مِثْلَ فَإِنْ خَضَبَ رَأْسَهُ بِالْحِنَّاءِ ، فَإِنْ ادَّهَنَ بِزَيْتٍ وَإِنْ لَبِسَ ثَوْبًا مَخِيطًا أَوْ غَطَّى رَأْسَهُ لِلْمُحْرِمِ بَعْدَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي أَوَّلِ الْبَابِ إذْ قَالَ إذَا تَطَيَّبَ الْمُحْرِمُ وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ وَكَذَا إذَا كَانَ الْحَالِقُ حَالًّا لَا يَخْتَلِفُ الْجَوَابُ فِي الْمَحْلُوقِ رَأْسُهُ ، إلَّا أَنَّ تَعْيِينَ الْمَحْلُوقِ رَأْسُهُ بِنَفْيِ اخْتِلَافِ الْجَوَابِ غَيْرُ مُفِيدٍ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَا مُحْرِمَيْنِ أَوْ حَالَّيْنِ ، أَوْ الْحَالِقُ مُحْرِمًا وَالْمَحْلُوقُ رَأْسُهُ حَلَالًا أَوْ قَلْبُهُ ، وَفِي كُلِّ الصُّوَرِ عَلَى الْحَالِقِ صَدَقَةٌ إلَّا أَنْ يَكُونَا حَلَالَيْنِ وَعَلَى الْمَحْلُوقِ دَمٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ حَلَالًا وَلَا يَتَخَيَّرُ فِيهِ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إرَادَتِهِ بِأَنْ يَكُونَ مُكْرَهًا أَوْ نَائِمًا ؛ لِأَنَّهُ عُذْرٌ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ ، بِخِلَافِ الْمُضْطَرِّ فَإِذَا حَلَقَ الْحَلَالُ رَأْسَ مُحْرِمٍ فَقَدْ بَاشَرَ قَطْعَ مَا اسْتَحَقَّ الْأَمْنَ بِالْإِحْرَامِ ، إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ { لَا تَحْلِقُوا حَتَّى تَحِلُّوا } وَبَيْنَ { لَا تَعْضُدُوا شَجَرَ الْحَرَمِ } ، فَإِذَا اسْتَحَقَّ الشَّجَرُ نَفْسُهُ الْأَمْنَ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ اسْتَحَقَّ الشَّعْرُ أَيْضًا الْأَمْنَ فَيَجِبُ بِتَفْوِيتِهِ الْكَفَّارَةُ بِالصَّدَقَةِ .
وَإِذَا حَلَقَ الْمُحْرِمُ رَأْسَ حَلَالٍ فَالِارْتِفَاقُ الْحَاصِلُ لَهُ بِرَفْعِ تَفَثِ غَيْرِهِ ، إذْ لَا شَكَّ فِي تَأَذِّي الْإِنْسَانِ بِتَفَثِ غَيْرِهِ يَجِدُهُ مَنْ رَأَى ثَائِرَ الرَّأْسِ شَعِثَهَا وَسِخَ الثَّوْبِ تَفْلَ الرَّائِحَةِ ، وَمَا سُنَّ غُسْلُ الْجُمُعَةِ بَلْ مَا كَانَ وَاجِبًا إلَّا لِذَلِكَ التَّأَذِّي إلَّا أَنَّهُ دُونَ التَّأَذِّي بِتَفَثِ نَفْسِهِ فَقَصُرَتْ الْجِنَايَةُ فَوَجَبَتْ الصَّدَقَةُ .
وَالْمُصَنِّفُ أَجْرَى الْوَجْهَ الْأَوَّلَ فِي هَذَا ، وَقَدْ يُمْنَعُ بِأَنَّ

اسْتِحْقَاقَ الشَّعْرِ الْأَمْنَ إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ قَامَ بِهِ الْإِحْرَامُ حَالِقًا أَوْ مَحْلُوقًا ، فَإِنَّ خِطَابَ لَا تَحْلِقُوا لِلْمُحْرِمِينَ فَلِذَا خَصَّصْنَا بِهِ الْأَوَّلَ .
بَقِيَ أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا حَلَقَ رَأْسَ الْمُحْرِمِ اجْتَمَعَ فِيهِ تَفْوِيتُ الْأَمْنِ الْمُسْتَحَقِّ ، وَالِارْتِفَاقِ بِإِزَالَةِ تَفَثِ غَيْرِهِ ، وَقَدْ كَانَ كُلُّ مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ مُوجِبًا لِلصَّدَقَةِ ، فَرُبَّمَا يُقَالُ تَتَكَامَلُ الْجِنَايَةُ بِهَذَا الِاجْتِمَاعِ فَتَقْتَضِي وُجُوبَ الدَّمِ عَلَى الْحَالِقِ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الِادِّهَانِ بِالزَّيْتِ الْبَحْتِ حَيْثُ أَوْجَبَ الدَّمَ لِاجْتِمَاعِ أُمُورٍ لَوْ انْفَرَدَ كُلٌّ مِنْهَا لَمْ يُوجِبْهُ كَتَلْيِينِ الشَّعْرِ وَأَصَالَتِهِ لِلطِّيبِ وَقَتْلِ الْهَوَامِّ فَتَكَامَلَتْ الْجِنَايَةُ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ فَوَجَبَ الدَّمُ .
وَتَقْرِيرُ الْخِلَافِ مَعَ الشَّافِعِيِّ ظَاهِرٌ مِنْ الْكِتَابِ ، فَمَبْنَى عَدَمِ إلْزَامِ الْمُحْرِمِ شَيْئًا إذَا كَانَ غَيْرَ مُخْتَارٍ بِالتَّقَدُّمِ غَيْرَ مَرَّةٍ فِي الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ مِنْ أَنَّ عَدَمَهُ يَسْقُطُ الْحُكْمُ عِنْدَهُ وَعِنْدَنَا لَا .
وَمَبْنَى عَدَمِهِ عِنْدَهُ عَلَى الْحَالِقِ مُطْلَقًا عَدَمُ الْمُوجِبِ ، أَمَّا إنْ كَانَ حَلَالًا فَلِأَنَّ الْحَلْقَ غَيْرُ مُحَرَّمٍ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ مُحَرَّمًا فَكَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الِارْتِفَاقَ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ وَهُوَ الْمُوجَبُ عَلَيْهِ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ بَاشَرَ أَمْرًا مَحْظُورًا ، وَهُوَ إعَانَةُ الْمَحْلُوقِ الْمُحْرِمِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ إنْ كَانَ بِاخْتِيَارِهِ وَبِغَيْرِ اخْتِبَارِهِ أَوْلَى .
قُلْنَا : الْمَعَاصِي إنَّمَا هِيَ أَسْبَابٌ لِعُقُوبَةِ الْإِحْلَالِ ، وَلَيْسَ كُلُّ مَعْصِيَةٍ تُوجِبُ جَزَاءً فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا إلَّا بِالنَّصِّ وَهُوَ مُنْتَفٍ فِي الْحَالِقِ فَنَقُولُ : أَمَّا الْحَالُّ فَأَلْحَقْنَاهُ بِقَاطِعِ شَجَرِ الْحَرَمِ بِجَامِعِ تَفْوِيتِ أَمْنٍ مُسْتَحَقٍّ مُسْتَعْقِبٍ لِلْجَزَاءِ .
وَالْوَاجِبُ اتِّبَاعُ الدَّلِيلِ لَا بِقَيْدِ كَوْنِهِ نَصًّا .
وَأَمَّا الْمُحْرِمُ فَلِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ لِلْجَزَاءِ فِي حَقِّهِ هُوَ نَيْلُ

الِارْتِفَاقِ بِقَضَاءِ التَّفَثِ ، فَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ كَانَ الْجَزَاءُ دَمًا وَإِلَّا فَصَدَقَةً .
وَقَيْدُ الْإِضَافَةِ إلَى نَفْسِهِ مُلْغَى إذَا لَمْ يَثْبُتْ اعْتِبَارُهُ وَعَقْلِيَّةُ اسْتِقْلَالِ مَا سِوَاهُ ثَابِتَةٌ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ نَفْسَهُ مَحَلٌّ وَالْمَحَلُّ لَا يَدْخُلُ فِي التَّعْلِيلِ ، وَإِلَّا امْتَنَعَ الْقِيَاسُ ، فَالْأَصْلُ إلْغَاءُ الْمُحَالِ إلَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَى قَصْدِ تَخْصِيصِ الْحُكْمِ بِهِ دَلِيلٌ لَا مَرَدَّ لَهُ ، خُصُوصًا إذَا لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَيْهِ مُنَاسَبَةُ الْمُنَاسِبِ فَيَتَعَدَّى مِنْ نَفْسِهِ إلَى غَيْرِهِ إذَا وَجَدَ فِيهِ تَمَامَ الْمُؤَثِّرِ وَقُصُورَهَا رَدَّهَا إلَى الصَّدَقَةِ .
وَقَدْ يُقَالُ : مُبَاشَرَةُ الْفِعْلِ الَّذِي بِهِ قَضَاءُ التَّفَثِ إنْ كَانَ جُزْءُ الْعِلَّةِ وَلَوْ حُكْمًا بِأَنْ يَأْذَنَ الْمُحْرِمُ فِي حَلْقِ رَأْسِهِ لَزِمَ عَدَمُ الْجَزَاءِ عَلَى النَّائِمِ بِحَلْقِ رَأْسِهِ وَإِلَّا لَزِمَ الْجَزَاءُ إذَا نَظَرَ إلَى ذِي زِينَةٍ مَقْضِيِّ التَّفَثِ ، فَإِنْ اُخْتِيرَ الثَّانِي وَادَّعَى أَنَّ الِارْتِفَاقَ لَا يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ رُؤْيَةٍ كَمَا قُلْنَا بِنَفْيِ الْجَزَاءِ فِي مُجَرَّدِ اللُّبْسِ لِذَلِكَ عَكَرَهُ مَا لَوْ فَرَضَ طُولَهَا يَوْمًا مَعَ مُحَادِثَتِهِ وَصُحْبَتِهِ وَاسْتِنْشَاقِ طِيبِهِ ، وَلَوْ كَانَ إلَى شَيْءٍ لَقُلْت بِاخْتِيَارِ الْأَوَّلِ وَنَفْيِ الْجَزَاءِ عَنْ النَّائِمِ وَالْمُكْرَهِ ، وَلَا يَلْزَمُنِي هَذَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ كَالصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا ؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ فِيهَا مَثَلًا عُلِّقَ بِمُجَرَّدِ وُجُودِ الْكَلَامِ مَثَلًا ، وَهُنَا قَدْ فَرَضَ تَعْلِيقَ الْجَزَاءِ بِالِارْتِفَاقِ الْكَائِنِ عَنْ مُبَاشَرَةِ السَّبَبِ وَلَوْ حُكْمًا .
قَوْلُهُ : فَصَارَ كَالْمَغْرُورِ ) يَعْنِي كَمَا لَا يَرْجِعُ بِالْعُقْرِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ بِحُرِّيَّةِ مَنْ تَزَوَّجَ بِهَا إذَا ظَهَرَتْ أَمَةً بَعْدَ الدُّخُولِ ؛ لِأَنَّ بَدَلَهُ وَهُوَ مَا نَالَهُ مِنْ اللَّذَّةِ وَالرَّاحَةِ حَصَلَ لِلْمَغْرُورِ فَيَكُونُ الْبَدَلُ الْآخَرُ عَلَيْهِ دُونَ الْغَارِّ ، كَذَلِكَ لَا يَرْجِعُ الْمَحْلُوقُ رَأْسُهُ عَلَى الْحَالِقِ بِغَيْرِ إذْنٍ ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ

اخْتَصَّ بِهِ ( قَوْلُهُ : فَإِنْ أَخَذَ مِنْ شَارِبِ حَالٍّ أَوْ قَلَّمَ أَظَافِيرَهُ أَطْعَمَ مَا شَاءَ ) أَمَّا فِي الشَّارِبِ فَلَا شَكَّ ، وَأَمَّا فِي قَلْمِ الْأَظَافِيرِ فَمُخَالِفٌ لِمَا فِي الْمَبْسُوطِ ، فَأَصْلُ الْجَوَابِ فِي قَصِّ الْأَظْفَارِ هُنَا كَالْجَوَابِ فِي الْحَلْقِ ، وَفِي الْمُحِيطِ أَيْضًا قَالَ : عَلَيْهِ صَدَقَةٌ .
هَذَا وَعَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَةٌ لَا يَضْمَنُ فِي قَصِّ الْأَظْفَارِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ صَرِيحَ عِبَارَةِ الْأَصْلِ فِي الْمَبْسُوطِ .
وَفِي الْكَافِي لِلْحَاكِمِ فِي الْحَالِقِ هَكَذَا : وَإِنْ حَلَقَ الْمُحْرِمُ رَأْسَ حَالٍّ تَصَدَّقَ بِشَيْءٍ ، وَإِذَا حَلَقَ الْمُحْرِمُ رَأْسَ مُحْرِمٍ آخَرَ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَعَلَى الْمَحْلُوقِ دَمٌ وَعَلَى الْحَالِقِ صَدَقَةٌ ا هـ .
وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ إنَّمَا تَقْتَضِي لُزُومَ الصَّدَقَةِ الْمُقَدَّرَةِ بِنِصْفِ صَاعٍ فِيمَا إذَا حَلَقَ رَأْسَ مُحْرِمٍ ، وَأَمَّا فِي الْحَالِّ فَتَقْتَضِي أَنْ يُطْعِمَ أَيَّ شَيْءٍ شَاءَ كَقَوْلِهِمْ : مَنْ قَتَلَ قَمْلَةً أَوْ جَرَادَةً تَصَدَّقَ بِمَا شَاءَ ، وَإِرَادَةُ الْمُقَدَّرَةِ فِي عُرْفِ إطْلَاقِهِمْ أَنْ يَذْكُرَ لَفْظَ صَدَقَةٍ فَقَطْ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ .
ثُمَّ بَعْدَ التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ فِي الْحَالِقِ قَالَ : وَالْجَوَابُ فِي قَصِّ الْأَظْفَارِ كَالْجَوَابِ فِي الْحَلْقِ وَإِنْ كَانَ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّهُ مُقْتَضَى عُرْفِهِمْ فِي التَّعْبِيرِ وَاقِعًا فَيَكُونُ ذَلِكَ التَّفْصِيلُ أَيْضًا جَارِيًا فِي قَصِّ الْأَظْفَارِ فَيَصْدُقُ مَا فِي الْهِدَايَةِ ؛ لِأَنَّهُ فَرَضَ الصُّورَةَ فِي قَلْمِ أَظْفَارِ الْحَلَالِ ( قَوْلُهُ : فَإِنْ قَصَّ أَظَافِيرَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ ) ؛ لِأَنَّهُ أَكْمَلُ ارْتِفَاقٍ يَكُونُ بِالْقَصِّ ، وَقَصُّ يَدٍ وَاحِدَةٍ ارْتِفَاقٌ كَامِلٌ فَفِيهِ الدَّمُ أَيْضًا ، فَقَصُّ الْكُلِّ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ كَلُبْسِ كُلِّ الثِّيَابِ وَحَلْقِ شَعْرِ كُلِّ الْبَدَنِ فِي مَجْلِسٍ لَا يُوجِبُ غَيْرَ دَمٍ وَاحِدٍ .
( فَإِنْ كَانَ فِي مَجَالِسِ فَكَذَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ ) أَيْ دَمٌ وَاحِدٌ ؛ لِأَنَّ مَبْنَى هَذِهِ الْكَفَّارَةِ عَلَى التَّدَاخُلِ حَتَّى

لَزِمَ الْمُحْرِمَ بِقَتْلِ صَيْدِ الْحَرَمِ قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ مَعَ الْجِنَايَةِ عَلَى الْإِحْرَامِ وَالْحَرَمِ فَأَشْبَهَتْ كَفَّارَةَ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ فِي أَنَّهُ إذَا تَكَرَّرَتْ الْجِنَايَاتُ بِالْفِطْرِ وَلَمْ يُكَفِّرْ لِوَاحِدَةٍ مِنْهَا لَزِمَهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَإِنْ كَفَّرَ لِلسَّابِقَةِ كَفَّرَ لِلَّاحِقَةِ كَذَا هُنَا .
( قَوْلُهُ : وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ دِمَاءٍ إنْ قَصَّ فِي كُلِّ مَجْلِسِ طَرَفًا مِنْ أَرْبَعَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيهِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ ) خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ كَفَّارَةِ الْإِفْطَارِ فَيَتَقَيَّدُ التَّدَاخُلُ بِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِ هَذِهِ الْمُقَدَّمَةِ ، وَالْمُثْبِتُ لَهَا لُزُومُ الْكَفَّارَةِ شَرْعًا مَعَ الْأَعْذَارِ .
وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْأَعْذَارَ مُسْقِطَةٌ لِلْعُقُوبَاتِ ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَخْفَى أَنَّ لَازِمَ تَرَجُّحِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ عَدَمُ التَّدَاخُلِ ؛ لِأَنَّهُ اللَّائِقُ بِالْجُودِ ، إلَّا أَنْ يُوجِبَهُ مُوجِبٌ آخَرُ كَمَا أَوْجَبَهُ فِي آيِ السَّجْدَةِ لُزُومُ الْحَرَجِ لَوْ لَمْ يَعْتَبِرْ وَلَا مُوجِبُ هُنَا .
وَالْإِلْحَاقُ بِآيِ السَّجْدَةِ فِي الْكِتَابِ إنَّمَا هُوَ فِي تَقَيُّدِ التَّدَاخُلِ بِالْمَجْلِسِ لَا فِي إثْبَاتِ التَّدَاخُلِ نَفْسِهِ وَإِلَّا كَانَ بِلَا جَامِعٍ ؛ لِأَنَّ مُوجِبَهُ فِي الْأَصْلِ : أَعْنِي آيَ السَّجْدَةِ لُزُومُ الْحَرَجِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَادَةَ مُسْتَمِرَّةٌ بِتَكْرَارِ الْآيَاتِ لِلدِّرَايَةِ وَالدِّرَاسَةِ وَالتَّدْبِيرِ لِلِاتِّعَاظِ لِلْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ ، فَلَوْ لَمْ يَتَدَاخَلْ لَزِمَ الْحَرَجُ ، غَيْرَ أَنَّ مَا تَنْدَفِعُ هَذِهِ الْحَاجَاتُ بِهِ مِنْ التَّكْرَارِ يَكُونُ غَالِبًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَتَقَيَّدَ التَّدَاخُلُ بِهِ ، وَلَيْسَ سَبَبُ لُزُومِ الْحَرَجِ لَوْلَا التَّدَاخُلُ هُنَا قَائِمًا ، إذْ لَا دَاعِيَ لِمَنْ أَرَادَ قَصَّ أَظْفَارِ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ إلَى تَفْرِيقِ ذَلِكَ فِي مَجَالِسَ فَلَا عَادَةَ مُسْتَمِرَّةَ فِي ذَلِكَ فَلَا حَرَجَ يَلْزَمُ بِتَقْدِيرِ عَدَمِ التَّدَاخُلِ عَلَى تَقْدِيرِ قَصِّ كُلِّ طَرَفٍ فِي

مَجْلِسٍ فَلَا يَثْبُتُ هَذَا الْحُكْمُ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ إجْمَاعٌ .
وَفِي الْمَبْسُوطِ : لَوْ قَصَّ إحْدَى يَدَيْهِ ثُمَّ الْأُخْرَى فِي الْمَجْلِسِ أَوْ حَلَقَ رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ وَإِبْطَيْهِ أَوْ جَامَعَ مِرَارًا قَبْلَ الْوُقُوفِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ مَعَ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ نِسْوَةٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ ، وَإِنْ اخْتَلَفَ الْمَجَالِسُ يَلْزَمُهُ لِكُلِّ مَجْلِسٍ مُوجِبُ جِنَايَتِهِ فِيهِ عِنْدَهُمَا .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : عَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ فِي تَعَدُّدِ الْمَجَالِسِ أَيْضًا مَا لَمْ يُكَفِّرْ عَنْ الْأُولَى وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي الطِّيبِ اعْتَبَرَهُ بِمَا لَوْ حَلَقَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ رُبُعَ رَأْسِهِ ثُمَّ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ رُبُعَهُ ثُمَّ وَثُمَّ حَتَّى حَلَقَ كُلَّهُ فِي أَرْبَعَةِ مَجَالِسَ يَلْزَمُهُ دَمٌ وَاحِدٌ اتِّفَاقًا مَا لَمْ يُكَفِّرْ لِلْأَوَّلِ .
وَالْفَرْقُ لَهُمَا أَنَّ الْجِنَايَةَ فِي الْحَلْقِ وَاحِدَةٌ ؛ لِاتِّحَادِ مَحَلِّهَا وَهُوَ الرَّأْسُ .

( وَإِنْ قَصَّ يَدًا أَوْ رِجْلًا فَعَلَيْهِ دَمٌ ) إقَامَةٌ لِلرُّبُعِ مَقَامَ الْكُلِّ كَمَا فِي الْحَلْقِ ( وَإِنْ قَصَّ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةِ أَظَافِيرَ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ ) مَعْنَاهُ تَجِبُ بِكُلِّ ظُفُرٍ صَدَقَةٌ .
وَقَالَ زَفَرٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَجِبُ الدَّمُ بِقَصِّ ثَلَاثَةٍ مِنْهَا ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّ فِي أَظَافِيرِ الْيَدِ الْوَاحِدَةِ دَمًا ، وَالثَّلَاثُ أَكْثَرُهَا .
وَجْهُ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ أَنَّ أَظَافِيرَ كَفٍّ وَاحِدٍ أَقَلُّ مَا يَجِبُ الدَّمُ بِقَلْمِهِ وَقَدْ أَقَمْنَاهَا مَقَامَ الْكُلِّ ، فَلَا يُقَامُ أَكْثَرُهَا مَقَامَ كُلِّهَا ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى مَا لَا يَتَنَاهَى ( وَإِنْ قَصَّ خَمْسَةَ أَظَافِيرَ مُتَفَرِّقَةٍ مِنْ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ) رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى ( وَقَالَ مُحَمَّدٌ ) : رَحِمَهُ اللَّهُ ( عَلَيْهِ دَمٌ ) اعْتِبَارًا بِمَا لَوْ قَصَّهَا مِنْ كَفٍّ وَاحِدٍ ، وَبِمَا إذَا حَلَقَ رُبُعَ الرَّأْسِ مِنْ مَوَاضِعَ مُتَفَرِّقَةِ .
وَلَهُمَا أَنَّ كَمَالَ الْجِنَايَةِ بِنَيْلِ الرَّاحَةِ وَالزِّينَةِ وَبِالْقَلْمِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَتَأَذَّى وَيَشِينُهُ ذَلِكَ ، بِخِلَافِ الْحَلْقِ ؛ لِأَنَّهُ مُعْتَادٌ عَلَى مَا مَرَّ .
وَإِذَا تَقَاصَرَتْ الْجِنَايَةُ تَجِبُ فِيهَا الصَّدَقَةُ فَيَجِبُ بِقَلْمِ كُلِّ ظُفْرٍ طَعَامُ مِسْكِينٍ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَلَّمَ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسَةٍ مُتَفَرِّقًا لَأَنْ يَبْلُغَ ذَلِكَ دَمًا فَحِينَئِذٍ يَنْقُصُ عَنْهُ مَا شَاءَ .

( قَوْلُهُ : إقَامَةٌ لِلرُّبُعِ مَقَامَ الْكُلِّ كَمَا فِي الْحَلْقِ ) أَيْ حَلْقِ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ ؛ لِأَنَّ حَلْقَ رُبُعٍ غَيْرِهِمَا مِنْ الْأَعْضَاءِ إنَّمَا فِيهِ الصَّدَقَةُ .
فَإِنْ قِيلَ : إلْحَاقُ الرُّبُعِ مِنْ الرَّأْسِ بِكُلِّهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مُعْتَادٌ وَالْمُعْتَادُ فِي قَلْمِ الْأَظْفَارِ لَيْسَ الِاقْتِصَارُ عَلَى طَرَفٍ وَاحِدٍ فَكَيْفَ هَذَا الْإِلْحَاقُ مَعَ انْتِفَاءِ الْجَامِعِ ؟ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْجَامِعَ إنَّمَا هُوَ كَمَالُ الِارْتِفَاقِ لَا الِاعْتِيَادُ ، إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ قَدْ يَتَرَدَّدُ فِي حُصُولِهِ بِحَلْقِ رُبُعِ الرَّأْسِ أَثْبَتَهُ بِالْعَادَةِ إذْ الْقَصْدُ إلَيْهِ عَلَى وَجْهِ الْعَادَةِ لِمَنْ يَقْصِدُهُ لَيْسَ إلَّا لِنَيْلِ الِارْتِفَاقِ لَا أَنَّهَا هِيَ الْمَنَاطُ لِلُّزُومِ الدَّمِ .
وَلَا شَكَّ أَنَّ أَدْنَى كَمَالِ الِارْتِفَاقِ يَحْصُلُ بِقَلْمِ تَمَامِ يَدٍ ، وَإِنْ كَانَ فِي الْيَدَيْنِ أَكْمَلَ وَفِي الْكُلِّ أَكْمَلَ مِنْ هَذَا فَيَثْبُتُ بِهِ الدَّمُ ، وَلَا يُبَالِي بِكَوْنِهِ غَيْرَ مُعْتَادٍ .
( قَوْلُهُ : لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى مَا لَا يَتَنَاهَى ) كَلَامٌ خَطَابِيٌّ لَا تَحْقِيقِيٌّ : أَيْ كَانَ يَجِبُ أَنْ يُقَامَ أَكْثَرُ الثَّلَاثَةِ أَيْضًا كَالظُّفُرَيْنِ ثُمَّ يُقَامُ أَكْثَرُهُمَا وَهَكَذَا إلَى أَنْ يَجِبَ بِقَطْعِ جَوْهَرَيْنِ لَا يَتَجَزَّآنِ مِنْ قُلَامَةِ ظُفُرٍ وَاحِدٍ ( قَوْلُهُ : وَبِالْقَلْمِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَتَأَذَّى ) بِخِلَافِ مَا قِسْت عَلَيْهِ مِنْ الطِّيبِ وَالْحَلْقِ فِي مُوَاضِعَ مُتَفَرِّقَةٍ إذْ يَرْتَفِقُ بِهِمَا مُتَفَرِّقِينَ فَانْتَفَى الْجَامِعُ .
قَالُوا : لَوْ قَصَّ سِتَّةَ عَشَرَ ظُفُرًا مِنْ كُلِّ طَرَفٍ أَرْبَعَةٌ وَجَبَ عَلَيْهِ لِكُلِّ ظُفُرٍ صَدَقَةٌ إلَّا أَنْ يَبْلُغَ ذَلِكَ دَمًا فَيَنْقُصُ مَا شَاءَ هَذَا ، وَكُلُّ مَا يَفْعَلُهُ الْعَبْدُ الْمُحْرِمُ مِمَّا فِيهِ الدَّمُ عَيْنًا أَوْ الصَّدَقَةُ عَيْنًا فَعَلَيْهِ ذَلِكَ إذَا عَتَقَ لَا فِي الْحَالِ وَلَا يُبْدِلُ بِالصَّوْمِ

قَالَ : ( وَإِنْ انْكَسَرَ ظُفُرُ الْمُحْرِمِ وَتَعَلَّقَ فَأَخَذَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ) ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْمُو بَعْدَ الِانْكِسَارِ فَأَشْبَهَ الْيَابِسَ مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ

( وَإِنْ تَطَيَّبَ أَوْ لَبِسَ مَخِيطًا أَوْ حَلَقَ مِنْ عُذْرٍ فَهُوَ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ ذَبَحَ وَإِنْ شَاءَ تَصَدَّقَ عَلَى سِتَّةِ مَسَاكِينَ بِثَلَاثَةِ أَصْوُعٍ مِنْ الطَّعَامِ وَإِنْ شَاءَ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } وَكَلِمَةُ أَوْ لِلتَّخْيِيرِ وَقَدْ فَسَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِمَا ذَكَرْنَا ، وَالْآيَةُ نَزَلَتْ فِي الْمَعْذُورِ ثُمَّ الصَّوْمُ يُجْزِيهِ فِي أَيِّ مَوْضِعَ شَاءَ ؛ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ فِي كُلِّ مَكَان ، وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ عِنْدَنَا لِمَا بَيَّنَّا .
وَأَمَّا النُّسُكُ فَيَخْتَصُّ بِالْحَرَمِ بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّ الْإِرَاقَةَ لَمْ تُعْرَفْ قُرْبَةً إلَّا فِي زَمَانٍ أَوْ مَكَان ، وَهَذَا الدَّمُ لَا يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ فَتَعَيَّنَ اخْتِصَاصُهُ بِالْمَكَانِ ، وَلَوْ اخْتَارَ الطَّعَامَ أَجْزَأَهُ فِيهِ التَّغْذِيَةُ وَالتَّعْشِيَةُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ اعْتِبَارًا بِكَفَّارَةِ الْيَمِينِ .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُجْزِيهِ ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ تُنْبِئُ عَنْ التَّمْلِيكِ وَهُوَ الْمَذْكُورُ .

( قَوْلُهُ : أَوْ لَبِسَ مَخِيطًا أَوْ حَلَقَ مِنْ عُذْرٍ ) بِأَنْ اُضْطُرَّ إلَى تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ لِخَوْفِ الْهَلَاكِ مِنْ الْبَرْدِ أَوْ لِلْمَرَضِ أَوْ لَبِسَ السِّلَاحَ لِلْحَرْبِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ يَتَخَيَّرُ فِيهَا بَيْنَ أَنْ يَذْبَحُ شَاةً أَوْ يُطْعِمَ سِتَّةَ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ طَعَامٍ أَوْ بِصَوْمِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، وَإِنْ كَانَ يَنْزِعُهُ لَيْلًا وَيَلْبَسُهُ نَهَارًا مَا لَمْ يَذْهَبْ الْعَدُوُّ مَثَلًا وَيَأْتِي غَيْرُهُ ، وَتَقَدَّمَ لِهَذَا زِيَادَةُ تَفْصِيلٍ فَارْجِعْ إلَيْهِ ( قَوْلُهُ : وَقَدْ فَسَّرَهَا ) أَيْ فَسَّرَ الْكَفَّارَةَ الْمُخَيَّرَ فِيهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } بِمَا ذَكَرْنَا ، وَذَلِكَ فِي حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ قَالَ { حُمِلْتُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي فَقَالَ : مَا كُنْتُ أَرَى الْوَجَعَ بَلَغَ بِك مَا أَرَى ، أَوْ مَا كُنْتُ أَرَى الْجَهْدَ بَلَغَ بِك مَا أَرَى ، أَتَجِدُ شَاةً ؟ فَقُلْتُ لَا ، فَقَالَ : صُمْ .
ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ } وَفِي رِوَايَةٍ { فَأَمَرَهُ أَنْ يُطْعِمَ فَرْقًا بَيْنَ سِتَّةٍ أَوْ يُهْدِيَ شَاةً أَوْ يَصُومَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ } وَفَسَّرَ الْفَرَقَ بِثَلَاثَةِ أَصْوُعٍ ، وَقَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى " أَتَجِدُ شَاةً " فِي الِابْتِدَاءِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ سَأَلَهُ هَلْ تَجِدُ النُّسُكَ ، فَإِنْ وَجَدَهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخَصْلَتَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ خِلَافَ الْمُتَبَادَرِ كَيْ لَا تَقَعَ الْمُعَارَضَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكِتَابِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى .
( قَوْلُهُ : وَأَمَّا النُّسُكُ فَيَخْتَصُّ بِالْحَرَمِ ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ { هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ } وَهُوَ وَاجِبٌ بِطَرِيقِ الْكَفَّارَةِ فَكَانَ أَصْلًا فِي كُلِّ هَدْيٍ وَجَبَ كَفَّارَةً فِي اخْتِصَاصِهِ بِالْحَرَمِ ، وَقَوْلُهُ ؛ لِأَنَّ

الْإِرَاقَةَ لَمْ تُعْرَفْ قُرْبَةً إلَّا فِي زَمَانٍ أَوْ مَكَان يُعْطِي أَنَّ الْقُرْبَةَ هُنَا تَعَلَّقَتْ بِالْإِرَاقَةِ ، وَلَازِمُهُ جَوَازُ الْأَكْلِ مِنْهُ كَهَدْيِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ وَالْأُضْحِيَّةِ ، لَكِنَّ الْوَاقِعَ لُزُومُ التَّصَدُّقِ بِجَمِيعِ لَحْمِهِ ؛ لِأَنَّهُ كَفَّارَةٌ ، ثُمَّ لَازِمُ هَذَا بِحَسَبِ الْمُتَبَادَرِ أَنَّهُ لَوْ سُرِقَ بَعْدَمَا ذَبَحَ يَلْزَمُهُ إقَامَةُ غَيْرِهِ مَقَامَهُ ، لَكِنَّ الْوَاقِعَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ ذَلِكَ وَغَيْرُهُ فَكَانَتْ الْقُرْبَةُ فِيهِ لَهَا جِهَتَانِ : جِهَةُ الْإِرَاقَةِ .
وَجِهَةُ التَّصَدُّقِ .
فَلِلْأُولَى لَا يَجِبُ غَيْرُهُ إذَا سُرِقَ مَذْبُوحًا ، وَلِلثَّانِي يَتَصَدَّقُ بِلَحْمِهِ وَلَا يَأْكُلُ مِنْهُ .
( قَوْلُهُ : وَهُوَ ) أَيْ الصَّدَقَةُ عَلَى تَأْوِيلِ التَّصَدُّقِ ( الْمَذْكُورِ ) فِي الْآيَةِ ، قِيلَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ كَقَوْلِ مُحَمَّدٍ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : الْحَدِيثُ الَّذِي فَسَّرَ الْآيَةَ فِيهِ لَفْظُ الْإِطْعَامِ فَكَانَ كَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ ، فَإِنَّ الْحَدِيثَ لَيْسَ مُفَسِّرُ الْمُجْمَلِ بَلْ إنَّهُ مُبَيِّنٌ لِلرَّادِّ بِالْإِطْلَاقِ ، وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ عَمِلَتْ بِهِ الْأُمَّةُ فَجَازَتْ الزِّيَادَةُ بِهِ ، ثُمَّ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ الصَّدَقَةُ وَتَحَقَّقَ حَقِيقَتُهَا بِالتَّمْلِيكِ ، فَيَجِبُ أَنْ يُحْمَلُ فِي الْحَدِيثِ الْإِطْعَامُ عَلَى الْإِطْعَامِ الَّذِي هُوَ الصَّدَقَةُ وَإِلَّا كَانَ مُعَارِضًا ، وَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ بِالِاسْمِ الْأَعَمِّ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ ( فَإِنْ نَظَرَ إلَى فَرْجِ امْرَأَتِهِ بِشَهْوَةٍ فَأَمْنَى لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ) ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ هُوَ الْجِمَاعُ وَلَمْ يُوجَدْ فَصَارَ كَمَا لَوْ تَفَكَّرَ فَأَمْنَى ( وَإِنْ قَبَّلَ أَوْ لَمَسَ بِشَهْوَةٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ ) وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ يَقُولُ : إذَا مَسَّ بِشَهْوَةٍ فَأَمْنَى ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ ذَكَرَهُ فِي الْأَصْلِ .
وَكَذَا الْجَوَابُ فِي الْجِمَاعِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ .
وَعَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ إنَّمَا يُفْسِدُ إحْرَامَهُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ إذَا أَنْزَلَ وَاعْتَبَرَهُ بِالصَّوْمِ .
وَلَنَا أَنَّ فَسَادَ الْحَجِّ يَتَعَلَّقُ بِالْجِمَاعِ وَلِهَذَا لَا يَفْسُدُ بِسَائِرِ الْمَحْظُورَاتِ ، وَهَذَا لَيْسَ بِجِمَاعٍ مَقْصُودٍ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْجِمَاعِ إلَّا أَنَّ فِيهِ مَعْنَى الِاسْتِمْتَاعِ وَالِارْتِفَاقِ بِالْمَرْأَةِ وَذَلِكَ مَحْظُورُ الْإِحْرَامِ فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ بِخِلَافِ الصَّوْمِ ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ فِيهِ قَضَاءٌ بِالشَّهْوَةِ ، وَلَا يَحْصُلُ بِدُونِ الْإِنْزَالِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ .

( فَصْلٌ ) قَدَّمَ النَّوْعَ السَّابِقَ عَلَى هَذَا ؛ لِأَنَّهُ كَالْمُقَدَّمَةِ لَهُ ، إذْ الطِّيبُ وَإِزَالَةُ الشَّعْرِ وَالظُّفُرِ مُهَيِّجَاتٌ لِلشَّهْوَةِ لِمَا تُعْطِيهِ مِنْ الرَّاحَةِ وَالزِّينَةِ ( قَوْلُهُ : وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ ) مُخَالِفٌ لِمَا صُحِّحَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِقَاضِي خَانْ مِنْ اشْتِرَاطِ الْإِنْزَالِ .
قَالَ : لِيَكُونَ جِمَاعًا مِنْ وَجْهِ ، مُوَافِقٌ لِمَا فِي الْمَبْسُوطِ حَيْثُ قَالَ : وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يُنْزِلْ : يَعْنِي يَجِبُ الدَّمُ عِنْدَنَا خِلَافًا لَلشَّافِعِيِّ فِي قَوْلٍ قِيَاسًا عَلَى الصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ إذَا لَمْ يُنْزِلْ بِالتَّقْبِيلِ ، لَكِنَّا نَقُولُ : الْجِمَاعُ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ مِنْ جُمْلَةِ الرَّفَثِ فَكَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ .
وَبِالْإِقْدَامِ عَلَيْهِ يَصِيرُ مُرْتَكِبًا مَحْظُورَ إحْرَامِهِ .
ا هـ .
وَقَدْ يُقَالُ : إنْ كَانَ الْإِلْزَامُ لِلنَّهْيِ فَلَيْسَ كُلُّ نَهْيٍ يُوجِبُ كَالرَّفَثِ ، وَإِنْ كَانَ لِلرَّفَثِ فَكَذَلِكَ إذْ أَصْلُهُ الْكَلَامُ فِي الْجِمَاعِ بِحَضْرَتِهِنَّ وَلَيْسَ ذَلِكَ مُوجِبًا شَيْئًا .
( قَوْلُهُ : فِي جَمِيعِ ذَلِكَ ) ظَاهِرُهُ إرَادَةُ الْمَسِّ بِشَهْوَةٍ وَالْقُبْلَةِ بِشَهْوَةٍ وَالْجِمَاعِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ .
وَالْمُفَادُ حِينَئِذٍ بِالتَّرْكِيبِ الْمَذْكُورِ : أَعْنِي قَوْلَهُ إنَّمَا يَفْسُدُ إحْرَامُهُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ إذَا أَنْزَلَ أَنَّهُ إذَا أَنْزَلَ يَفْسُدُ إحْرَامُهُ ، وَإِذَا لَمْ يُنْزِل لَمْ يَلْزَمْهُ دَمٌ ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ مُجَرَّدُ مَعْنَى الْجُمْلَةِ الْأَوَّلِ وَهُوَ إذَا أَنْزَلَ يَفْسُدُ كَانَ لَفْظُ إنَّمَا لَغْوًا ، إذْ هَذَا الْمَعْنَى ثَابِتٌ مَعَ الِاقْتِصَارِ عَلَى قَوْلِهِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَفْسُدُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ إذَا أَنْزَلَ ، فَالْمَعْنَى مَا ذَكَرْنَا ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّهُ قَصَرَ الصُّوَرَ الْمَذْكُورَةَ عَلَى حُكْمٍ هُوَ الْفَسَادُ إذَا أَنْزَلَ ، وَفِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ ، وَالْأَصْلُ إنَّمَا فِي جَمِيعِ تِلْكَ الصُّوَرِ فَسَادُ الْإِحْرَامِ بِالْإِنْزَالِ ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِنَا : لَا حُكْمَ فِيهَا إلَّا

الْفَسَادُ بِالْإِنْزَالِ ، فَيُفِيدُ مَجْمُوعُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ الْفَسَادِ بِالْإِنْزَالِ ، وَعَدَمُ وُجُوبِ شَيْءٍ عِنْدَ عَدَمِ الْإِنْزَالِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ فِيهَا حُكْمًا سِوَى مَا ذَكَرَ ، ثُمَّ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ هُوَ مَجْمُوعُ الْأَمْرَيْنِ فِي قَوْلِهِ بِالصَّوْمِ صَالِحٌ لِإِثْبَاتِهِمَا مَعًا فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ ، وَعَادَتُهُمْ نَصْبُ الْخِلَافِ بِاعْتِبَارِ قَوْلٍ ثُمَّ قَصْدٍ الْمُصَنِّفُ اتِّبَاعَ مَا فِي الْمَبْسُوطِ ، وَاَلَّذِي فِيهِ مَا عَلِمْت مِنْ قَوْلِهِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِي قَوْلٍ قِيَاسًا عَلَى الصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ إذَا لَمْ يُنْزِلْ ، ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ الْفَرْقَ الَّذِي ذَكَرَهُ ، وَعَلَى الْمُصَنِّفِ عَلَى هَذَا أَنْ يَتَعَرَّضَ فِي تَقْرِيرِ الْمَذْهَبِ لِلطَّرَفَيْنِ وَيُمْكِنُ تَحْمِيلُهُ لِكَلَامِهِ ، فَالتَّعَرُّضُ لِلْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ : ( وَلَنَا أَنَّ فَسَادَ الْإِحْرَامِ يَتَعَلَّقُ بِالْجِمَاعِ ) يَعْنِي إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى هَذَا بِعَدَمِ فَسَادِ شَيْءٍ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ بِقَوْلِهِ : ( وَلِهَذَا لَا يَفْسُدُ بِسَائِرِ الْمَحْظُورَاتِ ) .
وَتَفْصِيلُهُ أَنَّ الْمَعْلُومَ أَنَّ سَائِرَهَا لَا يَفْسُدُ بِمُبَاشَرَتِهَا الْإِحْرَامُ ، وَالنَّصُّ وَرَدَ بِهِ فِي الْجِمَاعِ بِصُورَتِهِ ، فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا سُئِلَ عَنْ الْجِمَاعِ وَمُطْلَقُهُ يَنْصَرِفُ إلَى مَا هُوَ بِالصُّورَةِ الْخَاصَّةِ فَيَتَعَلَّقُ الْجَوَابُ بِالْفَسَادِ بِحَقِيقَتِهِ ، وَلَوْلَا ذَلِكَ النَّصُّ لَمْ نَقُلْ بِأَنَّ الْجِمَاعَ أَيْضًا مُفْسِدٌ ؛ وَلِأَنَّ أَقْصَى مَا يَجِبُ فِي الْحَجِّ الْقَضَاءُ وَفِي الصَّوْمِ الْكَفَّارَةُ فَكَانَا مُتَوَازِيَيْنِ ، وَالْكَفَّارَةُ فِي الصَّوْمِ لَا تَجِبُ بِالْإِنْزَالِ مَعَ الْمَسِّ ، فَكَذَا قَضَاءُ الْحَجِّ ، وَعَدَمُ وُجُوبِ الْقَضَاءِ حُكْمُ عَدَمِ الْفَسَادِ فَيَثْبُتُ عَدَمُهُ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ ، وَالتَّعَرُّضُ لِلثَّانِي بِقَوْلِهِ : ( إلَّا أَنَّ فِيهِ مَعْنَى الِاسْتِمْتَاعِ إلَخْ ) .
وَجْهُهُ أَنَّ مَرْجِعَ ضَمِيرِ فِيهِ لَفْظُ جَمِيعِ ذَلِكَ ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَا قُلْنَا مِنْ الْمَسِّ

بِشَهْوَةٍ وَالتَّقْبِيلِ وَالْجِمَاعِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ لَا بِقَيْدِ الْإِنْزَالِ كَمَا يُفِيدُ لَفْظُ النِّهَايَةِ .
وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ إذَا أَنْزَلَ مَعْنًى ، وَكَانَ يَنْحَلُّ إلَى قَوْلِنَا فِي الْمَسِّ بِشَهْوَةٍ مَعَ الْإِنْزَالِ إذَا أَنْزَلَ .
فَالْحَاصِلُ مِنْ الْعِبَارَةِ إلَى قَوْلِهِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ إلَّا أَنَّ فِي الْمَسِّ بِشَهْوَةٍ وَالتَّقْبِيلِ وَالْوَطْءِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ اسْتِمْتَاعًا بِالْمَرْأَةِ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ مَعَ إنْزَالٍ أَوْ لَا ، وَذَلِكَ مَحْظُورُ إحْرَامِهِ فَيَلْزَمُ الدَّمُ ، بِخِلَافِ الصَّوْمِ الَّذِي قِسْت عَلَيْهِ عَدَمَ لُزُومِ شَيْءٍ إذَا لَمْ يُنْزِلْ وَالْفَسَادُ إذَا أَنْزَلَ ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ فِيهِ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ فَلَا يَحْصُلُ الْمُحَرَّمُ فِيهِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ إلَّا بِالْإِنْزَالِ ، ثُمَّ إنَّمَا يَفْسُدُ عِنْدَهُ ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَهُ بِسَبَبِ كَوْنِهِ تَفْوِيتًا لِلرُّكْنِ الَّذِي هُوَ الْكَفُّ عَنْ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ مِنْ الْمَرْأَةِ وَقَبْلَهُ لَمْ يُوجَدْ مُحَرَّمٌ أَصْلًا ، بَلْ الثَّابِتُ فِعْلُ مَكْرُوهٍ فَلَا يُوجِبُ شَيْئًا بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّ بِالِاسْتِمْتَاعِ بِلَا إنْزَالٍ يَحْصُلُ مَحْظُورُ الْإِحْرَامِ فَيَسْتَعْقِبُ الْجَزَاءَ ، وَمَعَ الْإِنْزَالِ يَثْبُتُ الْفَسَادُ بِالنَّصِّ .

( وَإِنْ جَامَعَ فِي أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَسَدَ حَجُّهُ وَعَلَيْهِ شَاةٌ ، وَيَمْضِي فِي الْحَجِّ كَمَا يَمْضِي مَنْ لَمْ يُفْسِدْهُ ، وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ ) وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سُئِلَ عَمَّنْ وَاقَعَ امْرَأَتَهُ وَهُمَا مُحْرِمَانِ بِالْحَجِّ قَالَ : يُرِيقَانِ دَمًا وَيَمْضِيَانِ فِي حَجَّتِهِمَا وَعَلَيْهِمَا الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ } وَهَكَذَا نُقِلَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : تَجِبُ بَدَنَةٌ اعْتِبَارًا بِمَا لَوْ جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ إطْلَاقُ مَا رَوَيْنَا ، وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ لَمَّا وَجَبَ وَلَا يَجِبُ إلَّا لِاسْتِدْرَاكِ الْمَصْلَحَةِ خَفَّ مَعْنَى الْجِنَايَةِ فَيَكْتَفِي بِالشَّاةِ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْوُقُوفِ ؛ لِأَنَّهُ لَا قَضَاءَ .
ثُمَّ سَوَّى بَيْنَ السَّبِيلَيْنِ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ فِي غَيْرِ الْقُبُلِ مِنْهُمَا لَا يُفْسِدُ لِتَقَاصُرِ مَعْنَى الْوَطْءِ فَكَانَ عَنْهُ رِوَايَتَانِ ( وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُفَارِقَ امْرَأَتَهُ فِي قَضَاءِ مَا أَفْسَدَاهُ ) عِنْدَنَا خِلَافًا لِمَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا خَرَجَا مِنْ بَيْتِهِمَا .
وَلِزَفَرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا أَحْرَمَا .
وَلَلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا انْتَهَيَا إلَى الْمَكَانِ الَّذِي جَامَعَهَا فِيهِ .
لَهُمْ أَنَّهُمَا يَتَذَاكَرَانِ ذَلِكَ فَيَقَعَانِ فِي الْمُوَاقَعَةِ فَيَفْتَرِقَانِ .
وَلَنَا أَنَّ الْجَامِعَ بَيْنَهُمَا وَهُوَ النِّكَاحُ قَائِمٌ فَلَا مَعْنَى لِلِافْتِرَاقِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ لِإِبَاحَةِ الْوَقَاعِ وَلَا بَعْدَهُ ؛ لِأَنَّهُمَا يَتَذَاكَرَانِ مَا لَحِقَهُمَا مِنْ الْمَشَقَّةِ الشَّدِيدَةِ بِسَبَبِ لَذَّةِ يَسِيرَةِ فَيَزْدَادَانِ نَدَمًا وَتَحَرُّزًا فَلَا مَعْنَى لِلِافْتِرَاقِ .

( قَوْلُهُ : فَسَدَ حَجُّهُ وَعَلَيْهِ شَاةٌ ) وَكَذَا إذَا تَعَدَّدَ الْجِمَاعُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ لَا مَرْأَةَ أَوْ نِسْوَةَ ، وَالْوَطْءُ فِي الدُّبُرِ كَهُوَ فِي الْقُبُلِ عِنْدَهُمَا ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَفِي أُخْرَى عَنْهُ : لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فَسَادٌ وَالْأُولَى أَصَحُّ .
فَإِنْ جَامِعَ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ قَبْلَ الْوُقُوفِ ، وَلَمْ يَقْصِدْ بِهِ رَفْضَ الْحَجَّةِ الْفَاسِدَةِ لَزِمَهُ دَمٌ آخَرُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، وَلَوْ نَوَى بِالْجِمَاعِ الثَّانِي رَفْضَ الْفَاسِدَةِ لَا يَلْزَمُهُ بِالثَّانِي شَيْءٌ كَذَا فِي خِزَانَةِ الْأَكْمَلِ وَقَاضِي خَانْ .
وَقَدَّمْنَا مِنْ الْمَبْسُوطِ قَرِيبًا لُزُومَ تَعَدُّدِ الْمُوجِبِ ؛ لِتَعَدُّدِ الْمَجَالِسِ عِنْدَهُمَا مِنْ غَيْرِ هَذَا الْقَيْدِ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : يَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ كَفَّرَ عَنْ الْأُولَى فَيَلْزَمُهُ أُخْرَى ، وَالْحَقُّ اعْتِبَارُهُ عَلَى أَنْ تَصِيرَ الْجِنَايَاتُ الْمُتَعَدِّدَةُ بَعْدَهُ مُتَّحِدَةً ، فَإِنَّهُ نَصَّ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا جَامَعَ النِّسَاءَ وَرَفَضَ إحْرَامَهُ ، وَأَقَامَ يَصْنَعُ مَا يَصْنَعُهُ الْحَالُّ مِنْ الْجِمَاعِ وَقَتْلِ الصَّيْدِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ حَرَامًا كَمَا كَانَ .
قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ : لِأَنَّ بِإِفْسَادِ الْإِحْرَامِ لَمْ يَصِرْ خَارِجًا عَنْهُ قَبْلَ الْأَعْمَالِ ، وَكَذَا بِنِيَّةِ الرَّفْضِ وَارْتِكَابِ الْمَحْظُورَاتِ فَهُوَ مُحْرِمٌ عَلَى حَالِهِ إلَّا أَنَّ عَلَيْهِ بِجَمِيعِ مَا صَنَعَ دَمًا وَاحِدًا ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ ارْتِكَابَ الْمَحْظُورَاتِ اسْتَنَدَ إلَى قَصْدٍ وَاحِدٍ وَهُوَ تَعْجِيلُ الْإِحْلَالِ فَيَكْفِيهِ لِذَلِكَ دَمٌ وَاحِدٌ .
ا هـ .
فَكَذَا لَوْ تَعَدَّدَ جِمَاعٌ بَعْدَ الْأَوَّلِ لِقَصْدِ الرَّفْضِ فِيهِ دَمٌ وَاحِدٌ .
وَمَا يَلْزَمُ بِهِ الْفَسَادُ وَالدَّمُ عَلَى الرَّجُلِ يَلْزَمُ مِثْلُهُ عَلَى الْمَرْأَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ مُكْرَهَةً أَوْ نَاسِيَةً إنَّمَا يَنْتَفِي بِذَلِكَ الْإِثْمُ .
وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ صَبِيًّا يُجَامِعُ مِثْلُهُ فَسَدَ حَجُّهَا دُونَهُ ، وَلَوْ كَانَتْ هِيَ الصَّبِيَّةُ أَوْ

مَجْنُونَةٌ انْعَكَسَ الْحُكْمُ .
وَلَوْ جَامَعَ بَهِيمَةً وَأَنْزَلَ لَمْ يَفْسُدْ حَجُّهُ وَعَلَيْهِ دَمٌ ، وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَالِاسْتِمْنَاءُ بِالْكَفِّ عَلَى هَذَا .
ثُمَّ إذَا كَانَتْ مُكْرَهَةً حَتَّى فَسَدَ حَجُّهَا وَلَزِمَهَا دَمٌ هَلْ تَرْجِعُ عَلَى الزَّوْجِ ؟ عَنْ ابْنِ شُجَاعٍ لَا ، وَعَنْ الْقَاضِي أَبِي حَازِمِ نَعَمْ .
وَالْقَارِنُ إذَا جَامَعَ قَبْلَ الْوُقُوفِ وَقَبْلَ أَنْ يَطُوفَ لِعُمْرَتِهِ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ فَسَدَ حَجُّهُ وَعُمْرَتُهُ وَعَلَيْهِ أَنْ يَمْضِيَ فِيهِمَا وَيُتِمَّهُمَا عَلَى الْفَسَادِ وَشَاتَانِ وَقَضَاؤُهُمَا .
فَلَوْ جَامَعَ بَعْدَمَا طَافَ لِعُمْرَتِهِ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ فَسَدَ حَجُّهُ دُونَ عُمْرَتِهِ ، وَإِذَا فَسَدَ الْحَجُّ سَقَطَ دَمُ الْقِرَانِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْتَمِعْ لَهُ نُسُكَانِ صَحِيحَانِ ، وَعَلَيْهِ دَمَانِ ؛ لِفَسَادِ الْحَجِّ وَلِلْجِمَاعِ فِي إحْرَامِ الْعُمْرَةِ ؛ لِأَنَّهُ بَاقٍ فَيَقْضِي الْحَجَّ فَقَطْ ، وَلِذَا لَوْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ فَأَفْسَدَهَا ثُمَّ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ لَيْسَ بِقَارِنٍ لِهَذَا .
( قَوْلُهُ : وَالْأَصْلُ إلَخْ ) رِوَى أَبُو دَاوُد فِي الْمَرَاسِيلِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ : حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ نُعَيْمٍ أَوْ زَيْدُ بْنُ نُعَيْمٍ شَكَّ فِيهِ أَبُو تَوْبَةَ { أَنَّ رَجُلًا مِنْ جُذَامَ جَامَعَ امْرَأَتَهُ وَهُمَا مُحْرِمَانِ ، فَسَأَلَ الرَّجُلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : اقْضِيَا حَجَّكُمَا وَاهْدِيَا هَدْيًا } قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ : لَا يَصِحُّ فَإِنَّ زَيْدَ بْنَ نُعَيْمٍ مَجْهُولٌ ، وَيَزِيدُ بْنُ نُعَيْمِ بْنِ هَزَّالٍ ثِقَةٌ ، وَقَدْ شَكَّ أَبُو تَوْبَةَ فِي أَيِّهِمَا حَدَّثَهُ بِهِ ا هـ .
قُلْنَا : قَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَقَالَ : إنَّهُ مُنْقَطِعٌ ، وَهُوَ يَزِيدُ بْنُ نُعَيْمٍ بِلَا شَكٍّ .
وَقَوْلُهُ : مُنْقَطِعٌ بِنَاءً عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي سَمَاعِ يَزِيدَ هَذَا مِنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَفِي صُحْبَةِ أَبِيهِ فَإِنَّهُ سَمِعَ مِنْ أَبِيهِ .
وَاخْتُلِفَ فِي صُحْبَةِ أَبِيهِ ، فَمَنْ قَالَ إنَّهُ صَحَابِيٌّ ، وَإِنَّهُ سَمِعَ مِنْ جَابِرٍ جَعَلَهُ مُرْسَلًا وَعَلَيْهِ مَشَى أَبُو

دَاوُد ، فَإِنَّهُ أَوْرَدَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي الْمَرَاسِيلِ وَمَنْ قَالَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ جَابِرٍ وَلَيْسَ لِأَبِيهِ صُحْبَةٌ يَجْعَلُهُ مُنْقَطِعًا فَإِنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ سَمَاعَهُ مِنْ صَحَابِيٍّ آخَرَ .
وَلَيْسَ فِي سَنَدِ أَبِي دَاوُد انْقِطَاعٌ ، فَإِنَّهُ رَوَاهُ عَنْ أَبِي تَوْبَةَ الرَّبِيعُ بْنِ نَافِعٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سَلَّامٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ : أَخْبَرَنِي يَزِيدُ بْنُ نُعَيْمٍ أَوْ زَيْدُ بْنُ نُعَيْمٍ ، وَهَذَا سَنَدٌ مُتَّصِلٌ كُلُّهُ ثِقَاتٌ بِتَقْدِيرِ يَزِيدَ ، وَلَا شَكَّ فِيهِ فِي طَرِيقِ الْبَيْهَقِيّ فَيَحْصُلُ اتِّصَالُهُ وَإِرْسَالُهُ ، وَهُوَ حُجَّةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ بِسَنَدٍ فِيهِ ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ " أَنَّ رَجُلًا مِنْ جُذَامَ الْحَدِيثَ ، وَفِيهِ : حَتَّى إذَا كُنْتُمَا فِي الْمَكَانِ الَّذِي أَصَبْتُمَا فِيهِ مَا أَصَبْتُمَا فَأَحْرِمَا وَتَفَرَّقَا " الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ : وَأَهْدَيَا .
وَضُعِّفَ بِابْنِ لَهِيعَةَ ، وَيَشُدُّ الْمُرْسَلَ ، وَالْمَذْكُورُ مِنْهُ مَا سِوَى الزِّيَادَةِ .
وَرُوِيَ بِالزِّيَادَةِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي مُسْنَدِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ إلَى مَنْ سَأَلَ مُجَاهِدًا عَنْ الْمُحْرِمِ يُوَاقِعُ امْرَأَتَهُ فَقَالَ : كَانَ ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ : يَقْضِيَانِ حَجُّهُمَا ثُمَّ يَرْجِعَانِ حَالَّيْنِ ، فَإِذَا كَانَ مِنْ قَابِلٍ حَجَّا وَأَهْدَيَا وَتَفَرَّقَا مِنْ الْمَكَانِ الَّذِي أَصَابَهَا فِيهِ .
وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ فِيهِ : بَطَل حَجُّهُ ، قَالَ لَهُ السَّائِلُ فَيَقْعُدُ ؟ قَالَ لَا ، بَلْ يَخْرُجُ مَعَ النَّاسِ فَيَصْنَعُ مَا يَصْنَعُونَ ، فَإِذَا أَدْرَكَهُ مِنْ قَابِلٍ حَجَّ وَأَهْدَى .
وَوَافَقَهُ عَلَى هَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، وَصَحَّحَ الْبَيْهَقِيُّ إسْنَادَهُ عَنْهُمْ .
وَفِي مُوَطَّإِ مَالِكٍ مِنْ بَلَاغَاتِهِ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ نَحْوُهُ ، إلَّا أَنَّ عَلِيًّا قَالَ فِيهِ :

يَفْتَرِقَانِ حَتَّى يَقْضِيَا حَجَّهُمَا .
( قَوْلُهُ : اعْتِبَارًا بِمَا لَوْ جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ ) بَلْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْجِمَاعَ قَبْلَهُ فِي مُطْلَقِ الْإِحْرَامِ بِخِلَافِهِ بَعْدَهُ ( قَوْلُهُ : وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَاهُ ) يَعْنِي لَفْظَ الشَّاةِ ، وَعَلَى مَا خَرَّجْنَا إطْلَاقَ لَفْظِ الْهَدْيِ وَهُوَ يَصْدُقُ بِالتَّنَاوُلِ عَلَى الشَّاةِ كَانَ فِي الْبَدَنَةِ أَكْمَلَ ، وَالْوَاجِبُ انْصِرَافُ الْمُطْلَقِ إلَى الْكَامِلِ فِي الْمَاهِيَّةِ لَا إلَى الْأَكْمَلِ ، وَمَاهِيَّةُ الْهَدْيِ كَامِلَةٌ فِيهَا .
بِخِلَافِ السَّمَكِ بِالنِّسْبَةِ إلَى لَفْظِ اللَّحْمِ فَإِنَّ مَاهِيَّةَ اللَّحْمِ نَاقِصَةٌ فِيهِ عَلَى مَا سَتَعْرِفُ إنْ شَاءَ اللَّهِ تَعَالَى .
ثُمَّ بَيْنَ الْمَقَامَيْنِ فَرْقٌ ، وَهُوَ وُجُوبُ الْقَضَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ إلَّا لِيَقُومَ مَقَامَ الْأَوَّلِ ، وَهُوَ مَعْنَى اسْتِدْرَاكِ الْمَصْلَحَةِ ، فَبَعْدَ قِيَامِهِ مَقَامَهُ لَمْ يَبْقَ إلَّا جَزَاءُ تَعْجِيلِ الْإِحْلَالِ ، وَيَكْفِي فِيهِ الشَّاةُ كَالْمُحْصَرِ ، بَلْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْإِحْلَالَ لَمْ يَتِمَّ بِالْجِمَاعِ وَلِهَذَا يَمْضِي فِيهِ ، وَلَا يَحِلُّ إلَّا مَعَ النَّاسِ غَيْرَ أَنَّهُ أُخِّرَ الْمُعْتَدُّ بِهِ إلَى قَابِلٍ ثُمَّ لَا تَجِبُ عُمْرَةٌ ؛ لِعَدَمِ فَوَاتِ حَجِّهِ بِخِلَافِ الْمُحْصَرِ .
( قَوْلُهُ : فَلَا مَعْنَى لِلِافْتِرَاقِ ) وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الِافْتِرَاقَ لَيْسَ بِنُسُكٍ فِي الْأَدَاءِ فَكَذَا فِي الْقَضَاءِ ، فَلَمْ يَكُنْ أَمْرُ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ مِنْ الصَّحَابَةِ الْأَمْرُ بِالِافْتِرَاقِ أَمْرَ إيجَابٍ بَلْ أَمْرُ نَدْبٍ مَخَافَةَ الْوُقُوعِ ؛ لِظُهُورِ أَنَّهُ لَا يَصْبِرُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ لِمَا ظَهَرَ مِنْهُمَا فِي الْإِحْرَامِ الْأَوَّلِ فَكَانَ كَالشَّابِّ فِي حَقِّ الْقُبْلَةِ فِي الصَّوْمِ لَا ؛ لِأَنَّهُمَا يَتَذَاكَرَانِ فَيَقَعَانِ ؛ لِأَنَّهُ مُعَارَضٌ بِأَنَّهُمَا يَتَذَاكَرَانِ فَلَا يَقَعَانِ ؛ لِتَذَكُّرِهِمَا مَا حَصَلَ لَهُمَا مِنْ الْمَشَقَّةِ لِلَّذَّةٍ يَسِيرَةٍ ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِاسْتِحْبَابِ الِافْتِرَاقِ لِذَلِكَ .

( وَمَنْ جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ لَمْ يَفْسُدْ حَجُّهُ وَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ ) خِلَافًا لَلشَّافِعِيِّ فِيمَا إذَا جَامَعَ قَبْلَ الرَّمْيِ ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ } وَإِنَّمَا تَجِبُ الْبَدَنَةُ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَوْ ؛ لِأَنَّهُ أَعْلَى أَنْوَاعِ الِارْتِفَاقِ فَيَتَغَلَّظُ مُوجِبُهُ .

( قَوْلُهُ : وَمَنْ جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ ) يَعْنِي قَبْلَ الْحَلْقِ ؛ لِأَنَّهُ سَيَذْكُرُ أَنَّ الْجِمَاعَ بَعْدَ الْحَلْقِ فِيهِ شَاةٌ .
هَذَا وَالْعَبْدُ إذَا جَامَعَ مَضَى فِيهِ وَعَلَيْهِ هَدْيٌ وَحَجَّةٌ إذَا أَعْتَقَ سِوَى حَجَّةِ الْإِسْلَامِ ، وَكُلُّ مَا يَجِبُ فِيهِ الْمَالُ يُؤَاخَذُ بِهِ بَعْدَ عِتْقِهِ ، بِخِلَافِ مَا فِيهِ الصَّوْمُ فَإِنَّهُ يُؤَاخَذُ بِهِ لِلْحَالِّ ، وَلَا يَجُوزُ إطْعَامُ الْمَوْلَى عَنْهُ إلَّا فِي الْإِحْصَارِ ، فَإِنَّ الْمَوْلَى يَبْعَثُ عَنْهُ ؛ لِيَحِلَّ هُوَ فَإِذَا أَعْتَقَ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ .
( قَوْلُهُ : لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ } ) تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ .
وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَّقَ التَّمَامَ بِالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ عَلَى مَا أَسْلَفْنَاهُ ، ثُمَّ لَا شَكَّ أَنْ لَيْسَ التَّمَامُ بِاعْتِبَارِ عَدَمِ بَقَاءِ شَيْءٍ عَلَيْهِ فَهُوَ بِاعْتِبَارِ أَمْنِ الْفَسَادِ وَالْفَوَاتِ .
وَإِنَّمَا أَوْجَبْنَا الْبَدَنَةَ بِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا " أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ وَقَعَ بِأَهْلِهِ وَهُوَ بِمِنًى قَبْلَ أَنْ يُفِيضَ فَأَمَرَهُ أَنْ يَنْحَرَ بَدَنَةً " .
رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ الْمَكِّيِّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْهُ وَأَسْنَدَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَطَاءٍ أَيْضًا قَالَ : سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَجُلٍ قَضَى الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَزُرْ الْبَيْتَ حَتَّى وَقَعَ عَلَى امْرَأَتِهِ ، قَالَ : عَلَيْهِ بَدَنَةٌ .
وَلِأَنَّهُ لَا قَضَاءَ هُنَا ؛ لِيَخِفْ أَثَرُ الْجِنَايَةِ بِجَبْرِ الْقَضَاءِ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْوُقُوفِ ، وَهُوَ أَرْجَحُ مِمَّا عَنْ ابْنِ عُمَرَ مِمَّا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ : جَاءَ رَجُلٌ إلَيْهِ فَقَالَ : يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إنِّي رَجُلٌ جَاهِلٌ بِالسُّنَّةِ بَعِيدُ الشُّقَّةِ قَلِيلُ ذَاتِ الْيَدِ ، قَضَيْتُ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَزُرْ الْبَيْتَ حَتَّى وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي ،

فَقَالَ : عَلَيْك بَدَنَةٌ وَحَجٌّ مِنْ قَابِلٍ فَإِنَّهُ مَتْرُوكٌ بَعْضُهُ ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ } بِخِلَافِ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا .
وَلَوْ جَامَعَ مَرَّةً ثَانِيَةً فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ شَاةٌ مَعَ الْبَدَنَةِ ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي حُرْمَةٍ مَهْتُوكَةٍ فَصَادَفَ إحْرَامًا نَاقِصًا فَيَجِب الدَّمُ .
وَلَوْ جَامَعَ الْقَارِنُ بَعْدَ الْوُقُوفِ لَزِمَهُ بَدَنَةٌ لِحَجَّتِهِ وَشَاةٌ لِعُمْرَتِهِ .

( وَإِنْ جَامَعَ بَعْدَ الْحَلْقِ فَعَلَيْهِ شَاةٌ ) لِبَقَاءِ إحْرَامِهِ فِي حَقِّ النِّسَاءِ دُونَ لُبْسِ الْمَخِيطِ ، وَمَا أَشْبَهَهُ فَخَفَّتْ الْجِنَايَةُ فَاكْتَفَى بِالشَّاةِ .

( قَوْلُهُ : وَإِنْ جَامَعَ بَعْدَ الْحَلْقِ فَعَلَيْهِ شَاةٌ ) مَا لَمْ يَكُنْ جَامَعَ بَعْدَمَا طَافَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ مِنْ طَوَافِ الزِّيَارَةِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَلَوْ كَانَ لَمْ يَحْلِقْ حَتَّى طَافَ لِلزِّيَارَةِ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ ثُمَّ جَامَعَ كَانَ عَلَيْهِ الدَّمُ .
وَذَكَرَ فِي الْغَايَةِ مَعْزِيًّا إلَى الْمَبْسُوطِ وَالْبَدَائِعِ والإسبيجابي : لَوْ جَامَعَ الْقَارِنُ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَعْدَ الْحَلْقِ قَبْلَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ لِلْحَجِّ وَشَاةٌ لِلْعُمْرَةِ ؛ لِأَنَّ الْقَارِنَ يَتَحَلَّلُ مِنْ إحْرَامَيْنِ بِالْحَلْقِ إلَّا فِي حَقِّ النِّسَاءِ فَهُوَ مُحْرِمٌ بِهِمَا فِي حَقِّهِنَّ ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَشُرُوحِ الْقُدُورِيِّ ، فَإِنَّهُمْ يُوجِبُونَ عَلَى الْحَاجِّ شَاةً بَعْدَ الْحَلْقِ .
وَذَكَرَ فِيهَا أَيْضًا مَعْزِيًّا إلَى الْوَبَرِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا عَلَيْهِ بَدَنَةٌ لِلْحَجِّ وَلَا شَيْءَ لِلْعُمْرَةِ ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ إحْرَامِهَا بِالْحَلْقِ وَبَقِيَ فِي إحْرَامِ الْحَجِّ فِي حَقِّ النِّسَاءِ ، وَاسْتَشْكَلَهُ شَارِحُ الْكَنْزِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا بَقِيَ مُحْرِمًا بِالْحَجِّ فَكَذَا فِي الْعُمْرَةِ .
وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الصَّوَابَ مَا فِي الْوَبَرِيِّ ؛ لِأَنَّ إحْرَامَ الْعُمْرَةِ لَمْ يُعْهَدْ بِحَيْثُ يَتَحَلَّلُ مِنْهُ بِالْحَلْقِ فِي غَيْرِ النِّسَاءِ وَيَبْقَى فِي حَقِّهِنَّ ، بَلْ إذَا حَلَقَ بَعْدَ أَفْعَالِهَا حَلَّ بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ مَا حَرُمَ عَلَيْهِ .
وَإِنَّمَا عُهِدَ ذَلِكَ فِي إحْرَامِ الْحَجِّ ، فَإِذَا ضَمَّ إلَى إحْرَامِ الْحَجِّ إحْرَامَ الْعُمْرَةِ اسْتَمَرَّ كُلٌّ عَلَى مَا عُهِدَ لَهُ فِي الشَّرْعِ ، إذْ لَا يَزِيدُ الْقِرَانُ عَلَى ذَلِكَ الضَّمِّ فَيَنْطَوِي بِالْحَلْقِ إحْرَامُ الْعُمْرَةِ بِالْكُلِّيَّةِ فَلَا يَكُونُ لَهُ مُوجِبٌ بِسَبَبِ الْوَطْءِ بَلْ الْحَجُّ فَقَطْ .
ثُمَّ يَجِبُ النَّظَرُ فِي التَّرْجِيحِ بَيْنَ قَوْلِ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِ الشَّاةِ أَوْ الْبَدَنَةِ ، وَقَوْلُهُ مُوجِبُ الْبَدَنَةِ أَوْجَهُ ؛ لِأَنَّ إيجَابَهَا لَيْسَ إلَّا بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَالْمَرْوِيُّ عَنْهُ ظَاهِرٌ فِيمَا بَعْدَ

الْحَلْقِ فَارْجِعْ إلَيْهِ وَتَأَمَّلْهُ .
ثُمَّ الْمَعْنَى يُسَاعِدُهُ ، وَذَلِكَ أَنَّ وُجُوبَهَا قَبْلَ الْحَلْقِ لَيْسَ إلَّا لِلْجِنَايَةِ عَلَى الْإِحْرَامِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْوَطْءَ لَيْسَ جِنَايَةً عَلَيْهِ إلَّا بِاعْتِبَارِ تَحْرِيمِهِ لَهُ لَا لِاعْتِبَارِ تَحْرِيمِهِ لِغَيْرِهِ ، فَلَيْسَ الطِّيبُ جِنَايَةً عَلَى الْإِحْرَامِ بِاعْتِبَارِ تَحْرِيمِهِ الْجِمَاعَ أَوْ الْحَلْقَ بَلْ بِاعْتِبَارِ تَحْرِيمِهِ لِلطِّيبِ ، وَكَذَا كُلُّ جِنَايَةٍ عَلَى الْإِحْرَامِ لَيْسَتْ جِنَايَةً عَلَيْهِ إلَّا بِاعْتِبَارِ تَحْرِيمِهِ لَهَا لَا لِغَيْرِهَا ، فَيَجِبُ أَنْ يَسْتَوِيَ مَا قَبْلَ الْحَلْقِ ، وَمَا بَعْدَهُ فِي حَقِّ الْوَطْءِ ؛ لِأَنَّ الَّذِي بِهِ كَانَ جِنَايَةً قَبْلَهُ بِعَيْنِهِ ثَابِتٌ بَعْدَهُ ، وَالزَّائِلُ لَمْ يَكُنْ الْوَطْءُ جِنَايَةً بِاعْتِبَارِهِ ، لَا جَرَمَ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ إطْلَاقُ لُزُومِ الْبَدَنَةِ بَعْدَ الْوُقُوفِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ بَيْنَ كَوْنِهِ قَبْلَ الْحَلْقِ أَوْ بَعْدَهُ .
ثُمَّ ذَكَرَ فِيهَا أَيْضًا فَقَالَ : وَإِذَا طَافَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ مِنْ طَوَافِ الزِّيَارَةِ ، وَقَدْ قَصَّرَ ثُمَّ جَامَعَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَصَّرَ فَعَلَيْهِ دَمٌ .
فَمِنْ هُنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَخَذَ التَّفْصِيلَ مَنْ أَخَذَهُ إنْ كَانَ إذْ خَفَّ الْمُوجِبُ بَعْدَ وُجُودِ أَحَدِهِمَا بَعْدَ الْوُقُوفِ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَسْتَشْكِلَهُ بِأَنَّ الطَّوَافَ قَبْلَ الْحَلْقِ لَمْ يَحِلَّ بِهِ مِنْ شَيْءٍ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ الْجَزُورُ ، وَإِنْ كَانَ سُؤَالُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَفَتْوَاهُ بِهِ إنَّمَا كَانَ فِيمَنْ لَمْ يَطُفْ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ فَتْوَاهُ بِذَلِكَ ؛ لِوُقُوعِ الْجِنَايَةِ عَلَى إحْرَامٍ أُمِنَ فَسَادُهُ .
وَلَوْ كَانَ قَارِنًا : أَعْنِي الَّذِي طَافَ لِلزِّيَارَةِ قَبْلَ الْحَلْقِ ثُمَّ جَامَعَ قَالَ فِي الْبَدَائِعِ : عَلَيْهِ شَاتَانِ لِبَقَاءِ الْإِحْرَامِ لَهُمَا جَمِيعًا .
وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي الرُّقَيَّاتِ فِيمَنْ طَافَ لِلزِّيَارَةِ جُنُبًا ثُمَّ جَامَعَ قَبْلَ الْإِعَادَةِ .
قَالَ مُحَمَّدٌ : أَمَّا فِي الْقِيَاسِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ

شَيْءٌ ، وَلَكِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ اسْتَحْسَنَ فِيمَا إذَا طَافَ جُنُبًا ثُمَّ جَامَعَ ثُمَّ أَعَادَ طَاهِرًا أَنْ يُوجِبَ عَلَيْهِ دَمًا ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْجِمَاعَ وَقَعَ بَعْدَ التَّحَلُّلِ لِمَا عُرِفَ مِنْ أَنَّ الطَّهَارَةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الطَّوَافِ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ بِالْإِعَادَةِ طَاهِرًا يَنْفَسِخُ الطَّوَافُ الْأَوَّلُ عِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ ، وَيَصِيرُ طَوَافُهُ الْمُعْتَبَرُ هُوَ الثَّانِيَ ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ تُوجِبُ نُقْصَانًا فَاحِشًا فَيَتَبَيَّنُ أَنَّ الْجِمَاعَ كَانَ قَبْلَ الطَّوَافِ فَيُوجِبُ الْكَفَّارَةَ ، بِخِلَافِ مَا إذَا طَافَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ : يَعْنِي ثُمَّ جَامَعَ ثُمَّ أَعَادَهُ مُتَوَضِّئًا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ النُّقْصَانَ يَسِيرٌ فَلَمْ يَنْفَسِخُ الْأَوَّلُ فَيَقَعُ جِمَاعُهُ بَعْدَ التَّحَلُّلِ ، كَذَا فِي الْبَدَائِعِ وَفِيهِ تَأَمُّلٌ ، فَإِنَّ الِانْفِسَاخَ إنْ قَالَ بِهِ بَعْضُ الْمَشَايِخِ فَقَدْ قَالَ آخَرُونَ بِعَدَمِهِ وَصَحَّحَ فَلَمْ يَلْزَمْ ، وَعَلَى تَقْدِيرِهِ فَوُقُوعُهُ شَرْعًا قَبْلَ التَّحَلُّلِ إنَّمَا مُوجِبُهُ الْبَدَنَةُ لَا مُطْلَقُ الدَّمِ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ قَبْلَهُ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ ، وَسَنُوَجِّهُ عَدَمَ الِانْفِسَاخِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى

( وَمَنْ جَامَعَ فِي الْعُمْرَةِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ فَسَدَتْ عُمْرَتُهُ فَيَمْضِي فِيهَا وَيَقْضِيهَا وَعَلَيْهِ شَاةٌ .
وَإِذَا جَامَعَ بَعْدَمَا طَافَ .
أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ أَوْ أَكْثَرَ فَعَلَيْهِ شَاةٌ وَلَا تَفْسُدُ عُمْرَتُهُ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : تَفْسُدُ فِي الْوَجْهَيْنِ وَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ اعْتِبَارًا بِالْحَجِّ إذْ هِيَ فَرْضٌ عِنْدَهُ كَالْحَجِّ .
وَلَنَا أَنَّهَا سُنَّةٌ فَكَانَتْ أَحَطُّ رُتْبَةً مِنْهُ فَتَجِبُ الشَّاةُ فِيهَا وَالْبَدَنَةُ فِي الْحَجِّ إظْهَارًا لِلتَّفَاوُتِ .

( وَمَنْ جَامَعَ نَاسِيًا كَانَ كَمَنْ جَامَعَ مُتَعَمِّدًا ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ جِمَاعُ النَّاسِي غَيْرُ مُفْسِدٍ لِلْحَجِّ .
وَكَذَا الْخِلَافُ فِي جِمَاعِ النَّائِمَةِ وَالْمُكْرَهَةُ .
هُوَ يَقُولُ : الْحَظْرُ يَنْعَدِمُ بِهَذِهِ الْعَوَارِضِ فَلَمْ يَقَعْ الْفِعْلُ جِنَايَةً .
وَلَنَا أَنَّ الْفَسَادَ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الِارْتِفَاقِ فِي الْإِحْرَامِ ارْتِفَاقًا مَخْصُوصًا ، وَهَذَا لَا يَنْعَدِمُ بِهَذِهِ الْعَوَارِضِ ، وَالْحَجُّ لَيْسَ فِي مَعْنَى الصَّوْمِ ؛ لِأَنَّ حَالَاتِ الْإِحْرَامِ مُذَكِّرَةٌ بِمَنْزِلَةِ حَالَاتِ الصَّلَاةِ بِخِلَافِ الصَّوْمِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) ( وَمَنْ طَافَ طَوَافَ الْقُدُومِ مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يُعْتَدُّ بِهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ } إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ فِيهِ الْمَنْطِقَ فَتَكُونُ الطَّهَارَةُ مِنْ شَرْطِهِ .
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } مِنْ غَيْرِ قَيْدِ الطَّهَارَةِ فَلَمْ تَكُنْ فَرْضًا ، ثُمَّ قِيلَ : هِيَ سُنَّةٌ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ لِأَنَّهُ يَجِبُ بِتَرْكِهَا الْجَابِرُ ؛ وَلِأَنَّ الْخَبَرَ يُوجِبُ الْعَمَلَ فَيَثْبُتُ بِهِ الْوُجُوبُ ، فَإِذَا شُرِعَ فِي هَذَا الطَّوَافِ وَهُوَ سُنَّةٌ ، يَصِيرُ وَاجِبًا بِالشُّرُوعِ وَيَدْخُلُهُ نَقْصٌ بِتَرْكِ الطَّهَارَةِ فَيُجْبَرُ بِالصَّدَقَةِ إظْهَارًا لِدُنُوِّ رُتْبَتِهِ عَنْ الْوَاجِبِ بِإِيجَابِ اللَّهِ ، وَهُوَ طَوَافُ الزِّيَارَةِ ، وَكَذَا الْحُكْمُ فِي كُلِّ طَوَافٍ هُوَ تَطَوُّعٌ .

( فَصْلٌ ) ( قَوْلُهُ وَمَنْ طَافَ طَوَافَ الْقُدُومِ مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ ) مُوَافِقٌ لِمَا فِي عَامَّةِ النُّسَخِ وَصُرِّحَ بِهِ عَنْ مُحَمَّدٍ ، وَمُخَالِفٌ لِمَا فِي مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ قَالَ : لَيْسَ لِطَوَافِ التَّحِيَّةِ مُحْدِثًا وَلَا جُنُبًا شَيْءٌ ، لِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَكَذَا تَرْكُهُ مِنْ وَجْهٍ .
وَالْوَجْهَانِ اللَّذَانِ أَبْطَلَ بِهِمَا الْمُصَنِّفُ كَوْنَ الطَّهَارَةِ سُنَّةً : أَعْنِي قَوْلَهُ ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ بِتَرْكِهَا الْجَابِرُ ، وَلِأَنَّ الْخَبَرَ يُوجِبُ الْعَمَلَ كَافِلَانِ بِإِبْطَالِهِ ، وَلِمَا اسْتَشْعَرَ أَنْ يُقَالَ عَلَى الْأَوَّلِ لُزُومُ الْجَابِرِ مُطْلَقًا مَمْنُوعٌ ، وَهُوَ أَوَّلُ الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّا نَنْفِيهِ فِي غَيْرِ الطَّوَافِ الْوَاجِبِ ، دَفَعَهُ بِتَقْرِيرِ أَنَّ كُلَّ تَرْكٍ لَا يَخْلُو مِنْ كَوْنِهِ فِي وَاجِبٍ ، فَإِنَّ التَّطَوُّعَ إذَا شُرِعَ فِيهِ صَارَ وَاجِبًا بِالشُّرُوعِ ثُمَّ يَدْخُلُهُ النَّقْصُ بِتَرْكِ الطَّهَارَةِ فِيهِ .
غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ وُجُوبَهُ لَيْسَ بِإِيجَابِهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً فَأَظْهَرْنَا التَّفَاوُتَ فِي الْحَطِّ مِنْ الدَّمِ إلَى الصَّدَقَةِ فِيمَا إذَا طَافَ مُحْدِثًا ، وَمِنْ الْبَدَنَةِ إلَى الشَّاةِ إذَا طَافَ جُنُبًا .
( قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ } ) رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ إلَّا أَنَّكُمْ تَتَكَلَّمُونَ فِيهِ ، فَمَنْ تَكَلَّمَ لَا يَتَكَلَّمُ إلَّا بِخَيْرٍ } .
وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ تَشْبِيهٌ فِي الْحُكْمِ بِدَلِيلِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ الْحُكْمِ فِي قَوْلِهِ { إلَّا أَنَّكُمْ تَتَكَلَّمُونَ فِيهِ فَمَنْ تَكَلَّمَ } ، فَكَأَنَّهُ قَالَ هُوَ مِثْلُ الصَّلَاةِ فِي حُكْمِهَا إلَّا فِي جَوَازِ الْكَلَامِ فَيَصِيرُ مَا سِوَى الْكَلَامِ دَاخِلًا فِي الصَّدْرِ وَمِنْهُ اشْتِرَاطُ الطَّهَارَةِ .
وَاسْتَدَلَّ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا حَاضَتْ فَقَالَ لَهَا

عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : اقْضِي مَا يَقْضِي الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ } فَرَتَّبَ مَنْعَ الطَّوَافِ عَلَى انْتِفَاءِ الطَّهَارَةِ ، وَهَذَا حُكْمٌ وَسَبَبٌ ، وَظَاهِرٌ أَنَّ الْحُكْمَ يَتَعَلَّقُ بِالسَّبَبِ فَيَكُونُ الْمَنْعُ لِعَدَمِ الطَّهَارَةِ لَا لِعَدَمِ دُخُولِ الْمَسْجِدِ لِلْحَائِضِ .
وَلَنَا فِي الْجَوَابِ عَنْ الْأَوَّلِ طَرِيقَانِ : أَحَدُهُمَا يَنْتَظِمُ الْجَوَابَ عَنْ هَذَا ، وَهُوَ تَسْلِيمُ أَنَّهُ تَشْبِيهٌ فِي الْحُكْمِ لَكِنَّهُ خَبَرُ وَاحِدٍ لَوْ لَمْ يَلْزَمْ نَسْخُهُ لِإِطْلَاقِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى لَثَبَتَ بِهِ الْوُجُوبُ لَا الِافْتِرَاضُ لِاسْتِلْزَامِهِ الْإِكْفَارَ بِجَحْدِ مُقْتَضَاهُ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لَازِمُ مُقْتَضَاهُ بَلْ لَازِمُهُ التَّفْسِيقُ بِهِ ، فَكَيْفَ وَلَوْ ثَبَتَ بِهِ افْتِرَاضُ الطَّهَارَةِ كَانَ نَاسِخًا لَهُ ، إذْ قَوْله تَعَالَى { وَلْيَطَّوَّفُوا } يَقْتَضِي الْخُرُوجَ عَنْ عُهْدَتِهِ بِالدَّوَرَانِ حَوْلَ الْبَيْتِ مَعَ الطَّهَارَةِ وَعَدَمِهَا .
فَجَعْلُهُ لَا يَخْرُجُ مَعَ عَدَمِهَا نَسْخٌ لِإِطْلَاقِهِ ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ فَرَتَّبْنَا عَلَيْهِ مُوجِبَهُ مِنْ إثْبَاتِ وُجُوبِ الطَّهَارَةِ حَتَّى أَثَّمْنَا بِتَرْكِهَا وَأَلْزَمْنَا الْجَابِرَ ، وَلَيْسَ مُقْتَضَى خَبَرِ الْوَاحِدِ غَيْرَ هَذَا لَا الِاشْتِرَاطَ الْمُفْضِي إلَى نَسْخِ إطْلَاقِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى .
وَيُؤَيِّدُ انْتِفَاءَ الِاشْتِرَاطِ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي الْإِمَامِ .
رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ : حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ : حَاضَتْ امْرَأَةٌ وَهِيَ تَطُوفُ مَعَ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ فَأَتَمَّتْ بِهَا عَائِشَةُ سُنَّةَ طَوَافِهَا .
وَقَالَ رَوَى أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ شُعْبَةَ قَالَ : سَأَلْت حَمَّادًا وَمَنْصُورًا عَنْ الرَّجُلِ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ فَلَمْ يَرَوْا بِهِ بَأْسًا .
وَقَدْ انْتَظَمَ مَا ذَكَرْنَاهُ الْجَوَابَ عَمَّا أَوْرَدَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ .
ثَانِيهِمَا مَنْعُ ذَلِكَ التَّقْرِيرِ ، وَنَقُولُ : بَلْ التَّشْبِيهُ فِي الثَّوَابِ لَا فِي الْأَحْكَامِ .

وَقَوْلُهُ { إلَّا أَنَّكُمْ تَتَكَلَّمُونَ فِيهِ } كَلَامٌ مُنْقَطِعٌ مُسْتَأْنَفٌ بَيَانٌ لِإِبَاحَةِ الْكَلَامِ فِيهِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى هَذَا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَمَا قَالُوا لَكَانَ الْمَشْيُ مُمْتَنِعًا لِدُخُولِهِ فِي الصَّدْرِ ، وَكَأَنَّ الشَّيْخَ رَحِمَهُ اللَّهُ اسْتَشْعَرَ فِيهِ مَنْعًا وَهُوَ أَنْ يُقَالَ : الْمَشْيُ قَدْ عُلِمَ إخْرَاجُهُ قَبْلَ التَّشْبِيهِ فَإِنَّ الطَّوَافَ نَفْسُ الْمَشْيِ ، فَحَيْثُ قَالَ صَلَاةٌ فَقَدْ قَالَ الْمَشْيُ الْخَاصُّ كَالصَّلَاةِ فَيَكُونُ وَجْهُ التَّشْبِيهِ مَا سِوَى الْمَشْيِ فَلِذَا اقْتَصَرَ عَلَى الْأَوَّلِ لَكِنْ يَبْقَى الِانْحِرَافُ مُؤَيِّدًا لِلْوَجْهِ الثَّانِي .
فَإِنْ قِيلَ : الْأَصَحُّ هُوَ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ ثَابِتٌ عِنْدَنَا وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ ، وَحَمْلُهُ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي يَنْفِيهِ ، وَمَا أَوْرَدَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ ظَاهِرٌ فِيهِ ، وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ يَحْتَمِلُهُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ ، وَيُخَصُّ الِانْحِرَافُ أَيْضًا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَبِاتِّفَاقِ رُوَاةِ { مَنَاسِكِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ جَعَلَ الْبَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ حِينَ طَافَ } ، وَلِاعْتِبَارِهِ وَجَبَ سَتْرُ الْعَوْرَةِ فِي الطَّوَافِ ، فَلَوْ طَافَ مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ لَزِمَ الدَّمُ إنْ لَمْ يُعِدْهُ .
فَالْجَوَابُ لَوْ كَانَ الْأَوَّلُ هُوَ الْمُعْتَبَرَ لَكَانَ مُقْتَضَاهُ وُجُوبَ طَهَارَةِ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ فِيهِ لَكِنَّهُمْ صَرَّحُوا بِعَدَمِ وُجُوبِهَا .
وَفِي الْبَدَائِعِ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ بِالْإِجْمَاعِ ، فَلَا يُفْتَرَضُ تَحْصِيلُهَا وَلَا يَجِبُ لَكِنَّهُ سُنَّةٌ ، حَتَّى لَوْ طَافَ وَعَلَى ثَوْبِهِ نَجَاسَةٌ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لَكِنَّهُ يُكْرَهُ .
ا هـ .
فَيُحْمَلُ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ التَّشْبِيهَ فِي الثَّوَابِ ، وَيُضَافُ إيجَابُ الطَّهَارَةِ عَنْ الْحَدَثِ إلَى مَا أَوْرَدَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ ، وَإِيجَابُ سَتْرِ الْعَوْرَةِ إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَلَا لَا يَحُجَّنَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانُ }

قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَمَنْ طَافَ تَطَوُّعًا عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ فَأَحَبُّ إلَيْنَا إنْ كَانَ بِمَكَّةَ أَنْ يُعِيدَ الطَّوَافَ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ سِوَى الَّذِي طَافَ وَعَلَى ثَوْبِهِ نَجَاسَةٌ .
هَذَا وَمَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ أَنَّ فِي نَجَاسَةِ الْبَدَنِ كُلِّهِ الدَّمَ لَا أَصْلَ لَهُ فِي الرِّوَايَةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَدْ يُقَالُ : فَلِمَ لَمْ تُلْحَقْ الطَّهَارَةُ عَنْ النَّجَسِ بِالطَّهَارَةِ عَنْ الْحَدَثِ وَهُوَ الْأَصْلُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ قِيَاسًا أَوْ بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ ، وَلَيْسَ هَذَا قِيَاسًا فِي إثْبَاتِ شَرْطٍ بَلْ فِي إثْبَاتِ الْوُجُوبِ .
وَقَدْ يُجَابُ بِحَاصِلِ مَا فِي الْمَبْسُوطِ مِنْ أَنَّ حُكْمَ النَّجَاسَةِ فِي الثَّوْبِ أَخَفُّ حَتَّى جَازَتْ الصَّلَاةُ مَعَ قَلِيلِ النَّجَاسَةِ فِي الثَّوْبِ وَمَعَ كَثِيرِهَا حَالَةَ الضَّرُورَةِ فَلَا يَتَمَكَّنُ بِنَجَاسَةِ الثَّوْبِ نُقْصَانٌ فِي الطَّوَافِ وَهَذَا يَخُصُّ الْفَرْقَ بِطَهَارَةِ الْحَدَثِ دُونَ السَّتْرِ ، ثُمَّ أَفَادَ فَرْقًا بَيْنَ السَّتْرِ وَبَيْنَهُ بِأَنَّ وُجُوبَ السَّتْرِ لِأَجْلِ الطَّوَافِ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَلَا لَا يَحُجَّنَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانُ } فَبِسَبَبِ الْكَشْفِ يَتَمَكَّنُ نُقْصَانٌ فِي الطَّوَافِ وَاشْتِرَاطُ طَهَارَةِ الثَّوْبِ لَيْسَ لِلطَّوَافِ عَلَى الْخُصُوصِ فَلَا يَتَمَكَّنُ بِتَرْكِهِ نُقْصَانٌ فِيهِ ، وَلَمْ يُبَيِّنْ الْجِهَةَ الْمُشَارِكَةَ لِلطَّوَافِ فِي سَبَبِيَّةِ الْمَنْعِ .
وَأَفَادَهَا فِي الْبَدَائِعِ فَقَالَ : الْمَنْعُ مِنْ الطَّوَافِ مَعَ الثَّوْبِ النَّجِسِ لَيْسَ لِأَجْلِ الطَّوَافِ بَلْ لِصِيَانَةِ الْمَسْجِدِ عَنْ إدْخَالِهِ النَّجَاسَةَ وَصِيَانَتِهِ عَنْ التَّلْوِيثِ فَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ نَقْصًا فِي الطَّوَافِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْجَبْرِ إلَّا أَنَّهُ نَفَى سَبَبِيَّةَ الطَّوَافِ بِالْكُلِّيَّةِ .
وَقَوْلُهُ الْمَنْعُ مِنْ الطَّوَافِ مَعَ الثَّوْبِ النَّجِسِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَنَعَ لَكَانَ لِصِيَانَةِ الْمَسْجِدِ ، أَوْ أَنَّ

الْمَنْعَ ثَابِتٌ مَعَ النَّجَاسَةِ وَلِذَا تَثْبُتُ الْكَرَاهَةُ بِهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَبْلُغُ إلَى الْوُجُوبِ فَلَا يَنْتَهِضُ مُوجِبًا لِلْجَابِرِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
وَلَمْ يَكُنْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ تَنْصِيصٌ سِوَى عَلَى الثَّوْبِ ، وَالتَّعْلِيلُ يُفِيدُ تَعْمِيمَ الْبَدَنِ أَيْضًا .

( وَلَوْ طَافَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ شَاةٌ ) لِأَنَّهُ أَدْخَلَ النَّقْصَ فِي الرُّكْنِ فَكَانَ أَفْحَشَ مِنْ الْأَوَّلِ فَيُجْبَرُ بِالدَّمِ ( وَإِنْ كَانَ جُنُبًا فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ ) كَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا ؛ وَلِأَنَّ الْجَنَابَةَ أَغْلَظُ مِنْ الْحَدَثِ فَيَجِبُ جَبْرُ نُقْصَانِهَا بِالْبَدَنَةِ إظْهَارًا لِلتَّفَاوُتِ ، وَكَذَا إذَا طَافَ أَكْثَرَهُ جُنُبًا أَوْ مُحْدِثًا ، لِأَنَّ أَكْثَرَ الشَّيْءِ لَهُ حُكْمُ كُلِّهِ ( وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُعِيدَ الطَّوَافَ مَا دَامَ بِمَكَّةَ وَلَا ذَبْحَ عَلَيْهِ ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ : وَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ .
وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِالْإِعَادَةِ فِي الْحَدَثِ اسْتِحْبَابًا وَفِي الْجَنَابَةِ إيجَابًا لِفُحْشِ النُّقْصَانِ بِسَبَبِ الْجَنَابَةِ وَقُصُورِهِ بِسَبَبِ الْحَدَثِ .
ثُمَّ إذَا أَعَادَهُ وَقَدْ طَافَهُ مُحْدِثًا لَا ذَبْحَ عَلَيْهِ وَإِنْ أَعَادَهُ بَعْدَ أَيَّامِ النَّحْرِ ؛ لِأَنَّ بَعْدَ الْإِعَادَةِ لَا يَبْقَى إلَّا شُبْهَةُ النُّقْصَانِ ، وَإِنْ أَعَادَهُ وَقَدْ طَافَهُ جُنُبًا فِي أَيَّامِ النَّحْرِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَعَادَهُ فِي وَقْتِهِ ، وَإِنْ أَعَادَهُ بَعْدَ أَيَّامِ النَّحْرِ لَزِمَهُ الدَّمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِالتَّأْخِيرِ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ مَذْهَبِهِ .
وَلَوْ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ وَقَدْ طَافَهُ جُنُبًا عَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ ؛ لِأَنَّ النَّقْصَ كَثِيرٌ فَيُؤْمَرُ بِالْعَوْدِ اسْتِدْرَاكًا لَهُ وَيَعُودُ بِإِحْرَامٍ جَدِيدٍ .
وَإِنْ لَمْ يَعُدْ وَبَعَثَ بَدَنَةً أَجْزَأَهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ جَابِرٌ لَهُ ، إلَّا أَنَّ الْأَفْضَلَ هُوَ الْعَوْدُ .
وَلَوْ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ وَقَدْ طَافَهُ مُحْدِثًا إنْ عَادَ وَطَافَ جَازَ ، وَإِنْ بَعَثَ بِالشَّاةِ فَهُوَ أَفْضَلُ ؛ لِأَنَّهُ خَفَّ مَعْنَى النُّقْصَانِ وَفِيهِ نَفْعٌ لِلْفُقَرَاءِ ، وَلَوْ لَمْ يَطُفْ طَوَافَ الزِّيَارَةِ أَصْلًا حَتَّى رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ بِذَلِكَ الْإِحْرَامِ لِانْعِدَامِ التَّحَلُّلِ مِنْهُ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَنْ النِّسَاءِ أَبَدًا حَتَّى يَطُوفَ .

( قَوْلُهُ فَكَانَ أَفْحَشَ ) فَإِنْ قِيلَ : لِمَ اخْتَلَفَ الْجَابِرُ فِي الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ فِي الطَّوَافِ دُونَ الصَّلَاةِ ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَخْتَلِفَ الْجَابِرُ بِاخْتِلَافِ الْجِنَايَةِ اعْتِبَارًا لِلْمُسَبِّبِ عَلَى وِزَانِ سَبَبِهِ فَلَا يُتْرَكُ إلَّا لِلتَّعَذُّرِ الشَّرْعِيِّ ، وَقَدْ أَمْكَنَ فِي الْحَجِّ لِشَرْعِ الْجَابِرِ فِيهِ مُتَنَوِّعًا إلَى بَدَنَةٍ وَشَاةٍ وَصَدَقَةٍ فَاعْتُبِرَ تَفَاوُتُ الْجَابِرِ بِتَفَاوُتِ الْجِنَايَةِ وَتَعَذَّرَ فِي الصَّلَاةِ إذْ لَمْ يُشْرَعْ الْجَابِرُ لِلنَّقْصِ الْوَاقِعِ سَهْوًا إلَّا السُّجُودُ ( قَوْلُهُ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِالْإِعَادَةِ فِي الْحَدَثِ اسْتِحْبَابًا ) وَإِنَّمَا لَمْ يُؤْمَرْ مُطْلَقًا كَمَا هُوَ تِلْكَ الرِّوَايَةُ مَعَ أَنَّ الطَّهَارَةَ فِي الطَّوَافِ مُطْلَقًا وَاجِبَةٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ الطَّوَافُ جَابِرًا ، فَإِنَّ الدَّمَ وَالصَّدَقَةَ مِمَّا يُجْبَرُ بِهِمَا فَالْوَاجِبُ أَحَدُهُمَا غَيْرُ عَيْنٍ وَاسْتِحْبَابُ الْمُعَيَّنِ : أَعْنِي الطَّوَافَ لِيَكُونَ الْجَابِرُ مِنْ جِنْسِ الْمَجْبُورِ .
بِخِلَافِ مَا إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ وَلَمْ يَطُفْ فَإِنَّ الْبَعْثَ بِالشَّاةِ أَفْضَلُ ؛ لِأَنَّ النُّقْصَانَ كَانَ يَسِيرًا وَفِي الشَّاةِ تَقَعُ لِلْفُقَرَاءِ .
( قَوْلُهُ لَا ذَبْحَ عَلَيْهِ وَإِنْ أَعَادَهُ بَعْدَ أَيَّامِ النَّحْرِ ) إنْ هَذِهِ وَصْلِيَّةٌ ، وَعَدَمُ وُجُوبِ الشَّيْءِ إذَا أَعَادَهُ بَعْدَ أَيَّامِ النَّحْرِ دَلِيلُ أَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْأَوَّلِ فِي الْحَدَثِ وَإِلَّا لَوَجَبَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ دَمٌ لِلتَّأْخِيرِ عَنْ أَيَّامِ النَّحْرِ .
وَقَوْلُهُ فِي فَصْلِ الْجَنَابَةِ وَإِنْ أَعَادَهُ بَعْدَ أَيَّامِ النَّحْر لَزِمَهُ الدَّمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِالتَّأْخِيرِ أَخَذَ مِنْهُ الرَّازِيّ أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي فَصْلِ الْجَنَابَةِ لِلطَّوَافِ الثَّانِي وَيَنْفَسِخُ الْأَوَّلُ بِهِ وَذَهَبَ الْكَرْخِيُّ إلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ الْأَوَّلُ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا ، وَصَحَّحَهُ صَاحِبُ الْإِيضَاحِ إذْ لَا شَكَّ فِي وُقُوعِ الْأَوَّلِ مُعْتَدًّا بِهِ حَتَّى حَلَّ بِهِ النَّسَاءُ ، وَتَقْرِيرُ مَا عُلِمَ

شَرْعًا بِاعْتِدَادِهِ حَالَ وُجُودِهِ أَوْلَى .
وَاسْتَدَلَّ الْكَرْخِيُّ بِمَا فِي الْأَصْلِ : لَوْ طَافَ لِلْعُمْرَةِ جُنُبًا أَوْ مُحْدِثًا فِي رَمَضَانَ وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا إنْ أَعَادَهُ فِي شَوَّالٍ أَوْ لَمْ يُعِدْهُ ، وَاعْتَذَرَ عَنْهُ السَّرَخْسِيُّ فِي الْمَبْسُوطِ بِأَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا لِوُقُوعِ الْأَمْنِ لَهُ عَنْ فَسَادِ الْعُمْرَةِ ، فَإِذَا أَمِنَ فَسَادَهَا قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ الْحَجِّ لَا يَكُونُ بِهَا مُتَمَتِّعًا .
قَالَ : وَالطَّوَافُ الْأَوَّلُ كَانَ حُكْمُهُ مُرَاعًى لِتَفَاحُشِ النُّقْصَانِ ؛ فَإِنْ أَعَادَهُ انْفَسَخَ وَصَارَ الْمُعْتَدُّ بِهِ الثَّانِيَ ، وَإِنْ لَمْ يُعِدْ كَانَ مُعْتَدًّا بِهِ فِي التَّحَلُّلِ ، كَمَنْ قَامَ فِي صَلَاتِهِ ، وَلَمْ يَقْرَأْ حَتَّى رَكَعَ كَانَ قِيَامُهُ وَرُكُوعُهُ مُرَاعًى عَلَى سَبِيلِ التَّوَقُّفِ ، فَإِنْ عَادَ فَقَرَأَ ثُمَّ رَكَعَ انْفَسَخَ الْأَوَّلُ ، حَتَّى إنَّ مَنْ أَدْرَكَ مَعَهُ الرُّكُوعَ الثَّانِيَ مُدْرِكٌ لِلرَّكْعَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ فَقَرَأَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ كَانَ الْأَوَّلُ مُعْتَدًّا بِهِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُحْدِثِ ؛ لِأَنَّ النُّقْصَانَ يَسِيرٌ فَلَا يَتَوَقَّفُ بِهِ حُكْمُ الطَّوَافِ بَلْ بَقِيَ مُعْتَدًّا بِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ .
وَالثَّانِي جَابِرٌ لِلتَّمَكُّنِ فِيهِ مِنْ النُّقْصَانِ ، وَلَوْ طَافَتْ الْمَرْأَةُ لِلزِّيَارَةِ حَائِضًا فَهُوَ كَطَوَافِ الْجُنُبِ سَوَاءٌ .
ا هـ .
وَقَوْلُ الْكَرْخِيِّ أَوْلَى ، وَجَعْلُ عَدَمِ التَّمَتُّعِ فِي شَاهِدِهِ لِلْأَمْنِ عَنْ فَسَادِ الْعُمْرَةِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ لَيْسَ بِأَوْلَى مِنْ جَعْلِ الدَّمِ لِتَأْخِيرِ الْجَابِرِ لِجَعْلِهِ كَنَفْسِ الطَّوَافِ بِسَبَبِ أَنَّ النُّقْصَانَ لَمَّا كَانَ مُتَفَاحِشًا كَانَ كَتَرْكِهِ مِنْ وَجْهٍ فَيَكُونُ وُجُودُ جَابِرِهِ كَوُجُودِهِ .
أَوْ نَقُولُ : الْوَاجِبُ عَلَيْهِ فِعْلُ الطَّوَافِ فِي أَيَّامِهِ خَالِيًا عَنْ النَّقْصِ الْفَاحِشِ الَّذِي يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ التَّرْكِ لِبَعْضِهِ ، فَبِإِدْخَالِهِ يَكُونُ مُوجِدًا لِبَعْضِهِ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْبَعْضُ الْآخَرُ أَعْنِي صِفَةَ الْكَمَالِ ، وَهُوَ تَكَامُلُ

الصِّفَةِ وَهُوَ الطَّوَافُ الْجَابِرُ فَوَجَبَ فِي أَيَّامِ الطَّوَافِ ، فَإِذَا أَخَّرَهُ وَجَبَ دَمٌ كَمَا إذَا أَخَّرَ أَصْلَ الطَّوَافِ .
( قَوْلُهُ : وَيَرْجِعُ بِإِحْرَامٍ جَدِيدٍ ) بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ حَلَّ فِي حَقِّ النِّسَاءِ بِطَوَافِ الزِّيَارَةِ جُنُبًا وَهُوَ آفَاقِيٌّ يُرِيدُ مَكَّةَ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ إحْرَامٍ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ ، وَقِيلَ : يَعُودُ بِذَلِكَ الْإِحْرَامِ ، حَكَاهُ الْفَارِسِيُّ ، ثُمَّ إذَا عَادَ فَأَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ يَبْدَأُ بِهَا ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْهَا يَطُوفُ لِلزِّيَارَةِ وَيَلْزَمُهُ دَمٌ لِتَأْخِيرِ طَوَافِ الزِّيَارَةِ عَنْ وَقْتِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ .
وَلَوْ طَافَ الْقَارِنُ طَوَافَيْنِ وَسَعَى سَعْيَيْنِ مُحْدِثًا أَعَادَ طَوَافَ الْعُمْرَةِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِلْجَبْرِ بِجِنْسِهِ فِي وَقْتِهِ ، فَإِنْ لَمْ يُعِدْ حَتَّى طَلَعَ فَجْرُ يَوْمِ النَّحْرِ لَزِمَهُ دَمٌ لِطَوَافِ الْعُمْرَةِ مُحْدِثًا وَقَدْ فَاتَ وَقْتُ الْقَضَاءِ ، وَيَرْمُلُ فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ يَوْمَ النَّحْرِ وَيَسْعَى بَعْدَهُ اسْتِحْبَابًا ؛ لِيَحْصُلَ الرَّمَلُ وَالسَّعْيُ عَقِيبَ طَوَافٍ كَامِلٍ ، وَإِنْ لَمْ يُعِدْ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ سَعْيٌ عَقِيبَ طَوَافٍ مُعْتَدٍّ بِهِ ، إذْ الْحَدَثُ الْأَصْغَرُ لَا يَمْنَعُ الِاعْتِدَادَ ، وَفِي الْجَنَابَةِ إنْ لَمْ يُعِدْ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِلسَّعْيِ وَكَذَا الْحَائِضُ .
( قَوْلُهُ : وَلَوْ لَمْ يَطُفْ طَوَافَ الزِّيَارَةِ أَصْلًا إلَخْ ) وَكَذَا إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ وَقَدْ تَرَكَ مِنْهُ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ يَعُودُ بِذَلِكَ الْإِحْرَامِ ، وَهُوَ مُحْرِمٌ أَبَدًا فِي حَقِّ النِّسَاءِ ؛ وَكُلَّمَا جَامَعَ لَزِمَهُ دَمٌ إذَا تَعَدَّدَتْ الْمَجَالِسُ إلَّا أَنْ يَقْصِدَ رَفْضَ الْإِحْرَامِ بِالْجِمَاعِ الثَّانِي وَتَقَدَّمَ أَوَائِلَ الْفَصْلِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ .

( وَمَنْ طَافَ طَوَافَ الصَّدْرِ مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ ) لِأَنَّهُ دُونَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ ، وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا فَلَا بُدَّ مِنْ إظْهَارِ التَّفَاوُتِ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ تَجِبُ شَاةٌ ، إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ ( وَلَوْ طَافَ جُنُبًا فَعَلَيْهِ شَاةٌ ) لِأَنَّهُ نَقْصٌ كَثِيرٌ ، ثُمَّ هُوَ دُونَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ فَيُكْتَفَى بِالشَّاةِ .

( قَوْلُهُ وَمَنْ طَافَ طَوَافَ الصَّدْرِ إلَخْ ) ذَكَرَ فِي حُكْمِهِ رِوَايَتَيْنِ ، وَفِيهِ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ هِيَ رِوَايَةُ أَبِي حَفْصٍ أَنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ ؛ لِأَنَّ طَوَافَ الْجُنُبِ مُعْتَدٌّ بِهِ حَتَّى يَتَحَلَّلَ بِهِ إلَّا أَنَّهُ نَاقِصٌ ، وَالْوَاجِبُ بِتَرْكِ طَوَافِ الصَّدْرِ الدَّمُ فَلَا يَجِبُ بِالنُّقْصَانِ مَا يَجِبُ بِالتَّرْكِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ مَنَاطَ وُجُوبِ الدَّمِ كَمَالُ الْجِنَايَةِ وَهُوَ مُتَحَقِّقٌ فِي الطَّوَافِ مَعَ الْجِنَايَةِ فَيَجِبُ بِهِ كَمَا يَجِبُ بِتَرْكِهِ ، وَلِذَا حَقَّقْنَا وُجُوبَ الدَّمِ بِطَوَافِ الْقُدُومِ جُنُبًا ، وَلَا يَلْزَمُ بِتَرْكِهِ شَيْءٌ أَصْلًا ؛ لِثُبُوتِ الْجِنَايَةِ فِي فِعْلِهِ جُنُبًا وَعَدَمِهَا فِي تَرْكِهِ فَالْمَدَارُ الْجِنَايَةُ .
فَإِنْ قُلْت : ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ لُزُومِ الدَّمِ فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ مُحْدِثًا وَالصَّدَقَةِ فِي طَوَافِ الْقُدُومِ مُحْدِثًا ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ إدْخَالُ النَّقْصِ فِي الْوَاجِبِ بِالشُّرُوعِ أَنَّهُ إظْهَارُ التَّفَاوُتِ بَيْنَ مَا وَجَبَ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً وَبَيْنَ مَا يَتَعَلَّقُ وُجُوبُهُ بِإِيجَابِ الْعَبْدِ ، وَهَذَا الْفَرْقُ ثَابِتٌ بَيْنَ طَوَافِ الْقُدُومِ وَالصَّدْرِ فَلِمَ اتَّحَدَ حُكْمُهُمَا ؟ فَالْجَوَابُ مَنْعُ قِيَامِ الْفَرْقِ فَإِنَّ وُجُوبَهُ مُضَافٌ إلَى الصَّدْرِ الَّذِي هُوَ فِعْلُ الْعَبْدِ كَوُجُوبِ طَوَافِ الْقُدُومِ بِفِعْلِهِ وَهُوَ الشُّرُوعُ ، وَلِهَذَا لَوْ اتَّخَذَ مَكَّةَ دَارًا لَمْ يَجِبْ لِعَدَمِ فِعْلِ الصَّدْرِ .
وَفِي الْمُحِيطِ لَوْ طَافَ لِلْعُمْرَةِ جُنُبًا أَوْ مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ شَاةٌ ، وَلَوْ تَرَكَ مِنْ طَوَافِ الْعُمْرَةِ شَوْطًا فَعَلَيْهِ دَمٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلصَّدَقَةِ فِي الْعُمْرَةِ .

( وَمَنْ تَرَكَ مِنْ طَوَافِ الزِّيَارَةِ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ فَمَا دُونَهَا فَعَلَيْهِ شَاةٌ ) لِأَنَّ النُّقْصَانَ بِتَرْكِ الْأَقَلِّ يَسِيرٌ فَأَشْبَهَ النُّقْصَانَ بِسَبَبِ الْحَدَثِ فَتَلْزَمُهُ شَاةٌ .
فَلَوْ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ أَجْزَأَهُ أَنْ لَا يَعُودَ وَيَبْعَثُ بِشَاةٍ لِمَا بَيَّنَّا ( وَمَنْ تَرَكَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ بَقِيَ مُحْرِمًا أَبَدًا حَتَّى يَطُوفَهَا ) لِأَنَّ الْمَتْرُوكَ أَكْثَرُ فَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَطُفْ أَصْلًا .

( قَوْلُهُ : يَسِيرٌ ) لِرُجْحَانِ جَانِبِ الْوُجُودِ بِالْكَثْرَةِ .
وَعَنْ هَذَا مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ الرُّكْنَ عِنْدَنَا هُوَ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْوَاطُ ، وَالثَّلَاثَةُ الْبَاقِيَةُ وَاجِبَةٌ ؛ لِأَنَّ تَرْكَهَا يُجْبَرُ بِالدَّمِ ، وَإِنَّمَا يُجْبَرُ بِهِ الْوَاجِبُ .
وَهَذَا حُكْمٌ لَا يُعَلَّلُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَحَلُّ النِّزَاعِ إذْ جَبْرُهَا بِالدَّمِ مَمْنُوعٌ عِنْدَ مَنْ يُخَالِفُ فِيهِ وَهُمْ كَثِيرُونَ ، بَلْ جَبْرُهَا بِهِ لِإِقَامَةِ الْأَكْثَرِ مَقَامَ الْكُلِّ .
وَسَبَبُ اخْتِصَاصِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ بِهِ عَلَى خِلَافِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ إذْ لَا يُقَامُ الْأَكْثَرُ مِنْهُمَا مَقَامَ الْكُلِّ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْحَجُّ عَرَفَةَ } ، وَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَاتٍ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ مَعَ الْعِلْمِ بِبَقَاءِ رُكْنٍ آخَرَ عَلَيْهِ ، وَحَكَمْنَا لِهَذَا بِالْأَمْنِ مِنْ فَسَادِ الْحَجِّ إذَا تَحَقَّقَ بَعْدَ الْوُقُوفِ مَا يُفْسِدُهُ قَبْلَهُ .
فَعَلِمْنَا أَنَّ بَابَ الْحَجِّ اُعْتُبِرَ فِيهِ شَرْعًا هَذَا الِاعْتِبَارُ وَالطَّوَافُ مِنْهُ فَأَجْرَيْنَا فِيهِ ذَلِكَ ، وَهَذَا هُوَ الْأَوْجَهُ فِي إثْبَاتِ الْإِقَامَةِ الْمَذْكُورَةِ .
وَإِنَّمَا قُلْنَا : إنَّ هَذَا الْوَجْهَ أَوْجَهُ ؛ لِأَنَّ الْوَجْهَ الْآخَرَ غَيْرُ مُنْتَهِضٍ ، وَهُوَ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ الطَّوَافُ وَهُوَ يَحْصُلُ بِمَرَّةٍ ، فَلَمَّا فَعَلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سَبْعًا اُحْتُمِلَ كَوْنُهُ تَقْدِيرًا لِلْكَمَالِ وَلَمَّا لَا يُجْزِي أَقَلُّ مِنْهُ فَيَثْبُتُ الْمُتَيَقَّنُ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّهُ شَرْطٌ لِلْكَمَالِ أَوْ لِلِاعْتِدَادِ ، وَيُقَامُ الْأَكْثَرُ مُقَامَ الْكُلِّ كَإِدْرَاكِ الرُّكُوعِ يُجْعَلُ شَرْعًا إدْرَاكًا لِلرَّكْعَةِ ، وَكَالنِّيَّةِ فِي أَكْثَرِ النَّهَارِ لِلصَّوْمِ تُجْعَلُ شَرْعًا فِي كُلِّهِ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ التَّطَوُّفُ ، وَهُوَ أَخَصُّ يَقْتَضِي زِيَادَةَ تَكَلُّفٍ ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ كَوْنَهُ مِنْ حَيْثُ الْإِسْرَاعُ وَمِنْ حَيْثُ التَّكَثُّرُ ، فَلَمَّا فَعَلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُتَكَثِّرًا كَانَ تَنْصِيصًا عَلَى أَحَدِ الْمُحْتَمَلَيْنِ ، ثُمَّ وُقُوعُ

التَّرَدُّدِ بَيْنَ كَوْنِهِ لِلْكَمَالِ أَوْ لِلِاعْتِدَادِ عَلَى السَّوَاءِ لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ الْمُتَيَقَّنِ كَوْنَهُ لِلْكَمَالِ فَإِنَّهُ مَحْضُ تَحَكُّمٍ فِي أَحَدِ الْمُحْتَمَلَيْنِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ ، بَلْ فِي مِثْلِهِ يَجِبُ الِاحْتِيَاطُ فَيُعْتَبَرُ لِلِاعْتِدَادِ ؛ لِيَقَعَ الْيَقِينُ بِالْخُرُوجِ عَنْ الْعُهْدَةِ .
وَعَلَى اعْتِبَارِ كَوْنِهِ لِلِاعْتِدَادِ يَكُونُ إقَامَةُ أَكْثَرِهِ مَقَامَ كُلِّهِ مُنَافِيًا لَهُ فِي التَّحْقِيقِ ، إذْ كَوْنُ السَّبْعِ لِلِاعْتِدَادِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يُجْزِي أَقَلُّ مِنْهَا .
وَإِقَامَةُ الْأَكْثَرِ لَازِمُهُ حُصُولُ الْإِجْزَاءِ بِأَقَلَّ مِنْ السَّبْعِ فَكَيْفَ يُرَتَّبُ لَازِمًا عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ مُنَافٍ لِلْمَلْزُومِ ، ثُمَّ بِتَقْدِيرِهِ فَإِثْبَاتُهُ بِإِلْحَاقِ مُدْرِكِ الرُّكُوعِ وَالنِّيَّةِ بَاطِلٌ .
أَمَّا إدْرَاكُ الرَّكْعَةِ بِالرُّكُوعِ فَبِالشَّرْعِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ ، وَلِذَا لَمْ يَقُلْ بِإِجْزَاءِ ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ عَنْ الْأَرْبَعِ قِيَاسًا .
وَأَمَّا النِّيَّةُ فَبَعِيدٌ أَنَّهُ مِنْ رَدِّ الْمُخْتَلِفِ إلَى الْمُخْتَلِفِ فَإِنَّا نَعْتَبِرُ الْإِمْسَاكَاتِ السَّابِقَةَ عَلَى وُجُودِ النِّيَّةِ مُتَوَقِّفَةً عَلَى وُجُودِهَا ، فَإِذَا وُجِدْت بِأَنْ يَنْوِيَ أَنَّهُ صَائِمٌ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ تَحَقَّقَ صَرْفُ ذَلِكَ الْمَوْقُوفِ كُلِّهِ لِلَّهِ تَعَالَى ، فَإِنَّمَا تَعَلَّقَتْ النِّيَّةُ بِالْكُلِّ ؛ لِوُجُودِهَا فِي الْأَكْثَرِ لَا بِالْأَكْثَرِ ، وَكَانَ سَبَبُ تَصْحِيحِ تَعَلُّقِهَا بِالْكُلِّ مِنْ غَيْرِ قِرَانِ وُجُودِهَا بِالْكُلِّ الْحَرَجَ اللَّازِمَ مِنْ اشْتِرَاطِ قِرَانِ وُجُودِهَا لِلْكُلِّ بِسَبَبِ النَّوْمِ الْحَاكِمِ عَلَى مَا أَسْلَفْنَا إيضَاحَهُ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ ، وَلَيْسَ مَا نَحْنُ فِيهِ كَذَلِكَ .
هَذَا وَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فَهُوَ وَإِنْ كَانَ أَوْجَهَ لَكِنَّهُ غَيْرُ سَالِمٍ مِمَّا يُدْفَعُ بِهِ .
وَذَلِكَ أَنَّ إقَامَةَ الْأَكْثَرِ فِي تَمَامِ الْعِبَادَةِ إنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ حُكْمٍ خَاصٍّ وَهُوَ أَمْنُ الْفَسَادِ وَالْفَوَاتِ لَيْسَ غَيْرُ ، وَلِذَا لَمْ يُحْكَمْ بِأَنَّ تَرْكَ مَا بَقِيَ : أَعْنِي الطَّوَافَ يَتِمُّ مَعَهُ

الْحَجُّ وَهُوَ مَوْرِدُ ذَلِكَ النَّصِّ ، فَلَا يَلْزَمُ جَوَازُ إقَامَةِ أَكْثَرِ كُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ مَقَامَ تَمَامِ ذَلِكَ الْجُزْءِ وَتَرْكِ بَاقِيهِ ، كَمَا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فِي نَفْسِ مَوْرِدِ النَّصِّ : أَعْنِي الْحَجَّ ، فَلَا يَنْبَغِي التَّعْوِيلُ عَلَى هَذَا الْحُكْمِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَلْ الَّذِي نَدِينُ بِهِ أَنْ لَا يُجْزِيَ أَقَلُّ مِنْ السَّبْعِ ، وَلَا يُجْبَرُ بَعْضُهُ بِشَيْءٍ غَيْرَ أَنَّا نَسْتَمِرُّ مَعَهُمْ فِي التَّقْرِيرِ عَلَى أَصْلِهِمْ هَذَا .
( قَوْلُهُ وَيَبْعَثُ بِشَاةٍ ) يَعْنِي عَنْ الْبَاقِي مِنْ طَوَافِ الزِّيَارَةِ وَبِشَاةٍ أُخْرَى لِتَرْكِ طَوَافِ الصَّدْرِ ، وَهَذَا لِأَنَّ بَعْثَ الشَّاةِ لِتَرْكِ بَعْضِ طَوَافِ الزِّيَارَةِ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا إذَا لَمْ يَكُنْ طَافَ لِلصَّدْرِ ، فَإِنَّهُ لَوْ طَافَ لِلصَّدْرِ انْتَقَلَ مِنْهُ إلَى طَوَافِ الزِّيَارَةِ مَا يُكْمِلُهُ ثُمَّ يَنْظُرُ فِي الْبَاقِي مِنْ طَوَافِ الصَّدْرِ إنْ كَانَ أَقَلَّهُ لَزِمَهُ صَدَقَةٌ لَهُ وَإِلَّا فَدَمٌ ، وَلَوْ كَانَ طَافَ لِلصَّدْرِ فِي آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَقَدْ تَرَكَ مِنْ طَوَافِ الزِّيَارَةِ أَكْثَرَهُ كَمَّلَ مِنْ الصَّدْرِ وَلَزِمَهُ دَمَانِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ : دَمٌ لِتَأْخِيرِ ذَلِكَ ، وَدَمٌ آخَرُ لِتَرْكِهِ أَكْثَرَ الصَّدْرِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَرَكَ أَقَلَّهُ لَزِمَهُ لِلتَّأْخِيرِ دَمٌ وَصَدَقَةٌ لِلْمَتْرُوكِ مِنْ الصَّدْرِ مَعَ ذَلِكَ الدَّمِ .
وَجُمْلَتُهُ أَنَّ عَلَيْهِ فِي تَرْكِ الْأَقَلِّ مِنْ طَوَافِ الزِّيَارَةِ دَمًا ، وَفِي تَأْخِيرِ الْأَقَلِّ صَدَقَةً ، وَفِي تَرْكِ الْأَكْثَرِ مِنْ طَوَافِ الصَّدْرِ دَمًا ، وَفِي تَرْكِ أَقَلِّهِ صَدَقَةً .
وَمَبْنَى هَذَا النَّقْلِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ طَوَافَ الزِّيَارَةِ رُكْنُ عِبَادَةٍ ، وَالنِّيَّةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِكُلِّ رُكْنٍ إلَّا أَنَّهُ يَسْتَقِلُّ عِبَادَةً فِي نَفْسِهِ فَشُرِطَ لَهُ نِيَّةُ أَصْلِ الطَّوَافِ دُونَ التَّعْيِينِ .
فَلَوْ طَافَ فِي وَقْتِهِ يَنْوِي النَّذْرَ أَوْ النَّفَلَ وَقَعَ عَنْهُ ، كَمَا لَوْ نَوَى بِالسَّجْدَةِ مِنْ الظُّهْرِ النَّفَلَ لَغَتْ نِيَّتُهُ وَوَقَعَتْ عَنْ الرُّكْنِ وَإِنَّ تَوَالِيَ الْأَشْوَاطِ لَيْسَ

بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الطَّوَافِ ، كَمَنْ خَرَجَ مِنْ الطَّوَافِ لِتَجْدِيدِ وُضُوءٍ فَفَعَلَ ثُمَّ رَجَعَ بَنَى .

( وَمَنْ تَرَكَ طَوَافَ الصَّدْرِ أَوْ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ مِنْهُ فَعَلَيْهِ شَاةٌ ) لِأَنَّهُ تَرَكَ الْوَاجِبَ أَوْ الْأَكْثَرَ مِنْهُ ، وَمَا دَامَ بِمَكَّةَ يُؤْمَرُ بِالْإِعَادَةِ إقَامَةً لِلْوَاجِبِ فِي وَقْتِهِ ( وَمَنْ تَرَكَ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ مِنْ طَوَافِ الصَّدْرِ فَعَلَيْهِ الصَّدَقَةُ ، وَمَنْ طَافَ طَوَافَ الْوَاجِبِ فِي جَوْفِ الْحِجْرِ ، فَإِنْ كَانَ بِمَكَّةَ أَعَادَهُ ) لِأَنَّ الطَّوَافَ وَرَاءَ الْحَطِيمِ وَاجِبٌ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ .
وَالطَّوَافُ فِي جَوْفِ الْحِجْرِ أَنْ يَدُورَ حَوْلَ الْكَعْبَةِ وَيَدْخُلَ الْفُرْجَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْحَطِيمِ ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَدْخَلَ نَقْصًا فِي طَوَافِهِ فَمَا دَامَ بِمَكَّةَ أَعَادَهُ كُلَّهُ لِيَكُونَ مُؤَدِّيًا لِلطَّوَافِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ ( وَإِنْ أَعَادَ عَلَى الْحِجْرِ ) خَاصَّةً ( أَجْزَأَهُ ) لِأَنَّهُ تَلَافَى مَا هُوَ الْمَتْرُوكُ وَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ عَنْ يَمِينِهِ خَارِجَ الْحَجَرِ حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَى آخِرِهِ ثُمَّ يَدْخُلَ الْحِجْرَ مِنْ الْفُرْجَةِ وَيَخْرُجَ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ هَكَذَا يَفْعَلُهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ .
( فَإِنْ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ وَلَمْ يُعِدْهُ فَعَلَيْهِ دَمٌ ) لِأَنَّهُ تَمَكَّنَ نُقْصَانٌ فِي طَوَافِهِ بِتَرْكِ مَا هُوَ قَرِيبٌ مِنْ الرُّبُعِ وَلَا تَجْزِيهِ الصَّدَقَةُ .

( وَمَنْ طَافَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ وَطَوَافَ الصَّدْرِ فِي آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ طَاهِرًا فَعَلَيْهِ دَمٌ ) ، فَإِنْ كَانَ طَافَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ جُنُبًا فَعَلَيْهِ دَمَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَقَالَا عَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ ) لِأَنَّ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لَمْ يُنْقَلْ طَوَافُ الصَّدْرِ إلَى طَوَافِ الزِّيَارَةِ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ ، وَإِعَادَةُ طَوَافِ الزِّيَارَةِ بِسَبَبِ الْحَدَثِ غَيْرُ وَاجِبٍ وَإِنَّمَا هُوَ مُسْتَحَبٌّ فَلَا يُنْقَلُ إلَيْهِ .
وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي يُنْقَلُ طَوَافُ الصَّدْرِ إلَى طَوَافِ الزِّيَارَةِ لِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ الْإِعَادَةَ فَيَصِيرُ تَارِكًا لِطَوَافِ الصَّدْرِ مُؤَخِّرًا لِطَوَافِ الزِّيَارَةِ عَنْ أَيَّامِ النَّحْرِ فَيَجِبُ الدَّمُ بِتَرْكِ الصَّدْرِ بِالِاتِّفَاقِ وَبِتَأْخِيرِ الْآخَرِ عَلَى الْخِلَافِ ، إلَّا أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِإِعَادَةِ طَوَافِ الصَّدْرِ مَا دَامَ بِمَكَّةَ وَلَا يُؤْمَرُ بَعْدَ الرُّجُوعِ عَلَى مَا بَيَّنَّا .

( وَمَنْ طَافَ لِعُمْرَتِهِ وَسَعَى عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ وَحَلَّ فَمَا دَامَ بِمَكَّةَ يُعِيدُهُمَا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ) أَمَّا إعَادَةُ الطَّوَافِ فَلِتَمَكُّنِ النَّقْصِ فِيهِ بِسَبَبِ الْحَدَثِ .
وَأَمَّا السَّعْيُ فَلِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلطَّوَافِ ، وَإِذَا أَعَادَهُمَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِارْتِفَاعِ النُّقْصَانِ ( وَإِنْ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ قَبْلَ أَنْ يُعِيدَ فَعَلَيْهِ دَمٌ ) لِتَرْكِ الطَّهَارَةِ فِيهِ ، وَلَا يُؤْمَرُ بِالْعَوْدِ لِوُقُوعِ التَّحَلُّلِ بِأَدَاءِ الرُّكْنِ إذْ النُّقْصَانُ يَسِيرٌ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي السَّعْيِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِهِ عَلَى أَثَرِ طَوَافٍ مُعْتَدٍّ بِهِ ، وَكَذَا إذَا أَعَادَ الطَّوَافَ وَلَمْ يُعِدْ السَّعْيَ فِي الصَّحِيحِ .

( قَوْلُهُ : وَلَيْسَ عَلَيْهِ لِتَرْكِ السَّعْيِ شَيْءٌ ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ ، وَالْمُرَادُ لَيْسَ عَلَيْهِ لِتَرْكِ جَابِرِ السَّعْيِ شَيْءٌ : أَيْ لَا يَجِبُ بِاعْتِبَارِ مُجَرَّدِ السَّعْيِ مُحْدِثًا شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا تَجِبُ الطَّهَارَةُ فِيهِ ، بَلْ الْوَاجِبُ فِيهِ الطَّهَارَةُ فِي الطَّوَافِ الَّذِي هُوَ عَقِيبَهُ وَقَدْ جُبِرَ ذَلِكَ بِالدَّمِ إذْ فُوِّتَ ، وَقَدَّمْنَا أَنَّ شَرْطَ جَوَازِ السَّعْيِ كَوْنُهُ بَعْدَ أَكْثَرِ طَوَافٍ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَمَا فِي الْبَدَائِعِ مِنْ قَوْلِهِ لَا يُشْتَرَطُ لَهُ الطَّهَارَةُ ؛ لِأَنَّهُ نُسُكٌ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِالْبَيْتِ ، إلَّا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الطَّوَافُ عَلَى طَهَارَةٍ مِنْ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ ، إلَى أَنْ قَالَ : وَالْحَاصِلُ أَنَّ حُصُولَ الطَّوَافِ عَلَى الطَّهَارَةِ عَنْ الْحَيْضِ وَالْجَنَابَةِ مِنْ شَرَائِطِ جَوَازِ السَّعْيِ تَسَاهُلٌ وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَعَادَ الطَّوَافَ وَحْدَهُ ذُكِرَ فِيهِ الْخِلَافُ وَصُحِّحَ عَدَمُ الْوُجُوبِ وَهُوَ قَوْلُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَالْمَحْبُوبِيُّ .
وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ شَارِحِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إلَى وُجُوبِ الدَّمِ بِنَاءً عَلَى انْفِسَاخِ الْأَوَّلِ بِالثَّانِي وَإِلَّا كَانَا فَرْضَيْنِ أَوْ الْأَوَّلِ فَلَا يُعْتَدُّ بِالثَّانِي وَلَا قَائِلَ بِهِ فَيَلْزَمُ كَوْنُ الْمُعْتَبَرِ الثَّانِيَ فَحِينَئِذٍ وَقَعَ السَّعْيُ قَبْلَ الطَّوَافِ فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُعِدْ فَإِنَّهُ لَا يُوجِبُ انْفِسَاخَ الْأَوَّلِ .
وَالْجَوَابُ مَنْعُ الْحَصْرِ بَلْ الطَّوَافُ الثَّانِي مُعْتَدٌّ بِهِ جَابِرًا كَالدَّمِ ، وَالْأَوَّلُ مُعْتَدٌّ بِهِ فِي حَقِّ الْفَرْضِ ، وَهَذَا أَسْهَلُ مِنْ الْفَسْخِ خُصُوصًا وَهُوَ نُقْصَانٌ بِسَبَبِ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ .
وَمِنْ وَاجِبَاتِ الطَّوَافِ سَتْرُ الْعَوْرَةِ وَالْمَشْيُ ، وَأَنْ لَا يَكُونَ مَنْكُوسًا بِأَنْ يَجْعَلَ الْبَيْتَ عَنْ يَمِينِهِ لَا يَسَارِهِ .
وَكُلُّهَا وَإِنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا لَكِنْ لَا قَصْدًا بَلْ فِي ضِمْنِ التَّعَالِيلِ .
أَمَّا السَّتْرُ فَلِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {

أَلَا لَا يَطُوفَنَّ بِهَذَا الْبَيْتِ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا عُرْيَانُ } وَأَمَّا الْمَشْيُ فَلِأَنَّ الرَّاكِبَ لَيْسَ طَائِفًا حَقِيقَةً بَلْ الطَّائِفُ حَقِيقَةً مَرْكُوبُهُ وَهُوَ فِي حُكْمِهِ إذْ كَانَ حَرَكَتُهُ عَنْ حَرَكَةِ الْمَرْكُوبِ ، وَطَوَافُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَاكِبًا فِيمَا رَكِبَ فِيهِ قَدَّمْنَا مَا رُوِيَ فِيهِ مِنْ كَلَامِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ كَانَ لِيَظْهَرَ فَيُقْتَدَى بِفِعْلِهِ ، وَهَذَا عُذْرٌ أَيُّ عُذْرٍ ، فَإِنَّهُ كَانَ مَأْمُورًا بِتَعْلِيمِهِمْ ، وَهَذَا طَرِيقُ مَا أُمِرَ بِهِ فَيُبَاحُ لَهُ .
وَنَحْنُ نَقُولُ : إذَا رَكِبَ مِنْ عُذْرٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَإِلَّا أَعَادَهُ ، وَإِنْ لَمْ يُعِدْهُ لَزِمَهُ دَمٌ ، وَكَذَا إذَا طَافَ زَحْفًا .
وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَطُوفَ زَحْفًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْمَشْيِ لَزِمَهُ أَنْ يَطُوفَ مَاشِيًا ؛ لِأَنَّهُ نَذَرَ الْعِبَادَةَ بِوَجْهٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ فَلَغَتْ وَبَقِيَ النَّذْرُ بِأَصْلِ الْعِبَادَةِ كَمَا إذَا نَذَرَ أَنْ يَطُوفَ لِلْحَجِّ بِلَا طَهَارَةٍ ، ثُمَّ إنْ طَافَ زَحْفًا أَعَادَهُ ، فَإِنْ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ ، وَلَمْ يُعِدْهُ فَعَلَيْهِ دَمٌ ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ الْوَاجِبَ كَذَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ .
وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ إذَا طَافَ زَحْفًا أَجْزَأَهُ ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى مَا أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ كَمَنْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ أَوْ يَصُومَ يَوْمَ النَّحْرِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَيَصُومَ يَوْمًا آخَرَ ؛ وَلَوْ صَلَّى فِي الْمَغْصُوبَةِ أَوْ صَامَ يَوْمَ النَّحْرِ أَجْزَأَهُ وَخَرَجَ عَنْ عُهْدَةِ النَّذْرِ ، كَذَا هَذَا ، هَكَذَا حُكِيَ فِي الْبَدَائِعِ .
وَسَوْقُهُ يَقْتَضِي أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي شَرْحِ الْقَاضِي مُخَالِفٌ لِمَا فِي الْأَصْلِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إلَّا لَوْ صَرَّحَ بِنَفْيِ الدَّمِ ، وَهُوَ لَمْ يَذْكُرْ سِوَى الْإِجْزَاءِ ، وَمَا فِي الْأَصْلِ لَا يَنْفِيهِ ، وَلَوْ كَانَ خِلَافًا كَانَ مَا فِي الْأَصْلِ هُوَ الْحَقُّ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْعِبَادَةَ مَتَى شُرِعَ فِيهَا جَابِرٌ لِتَفْوِيتِ شَيْءٍ مِنْ وَاجِبَاتِهَا فَفُوِّتَ

وَجَبَ الْجَبْرُ ، وَإِنْ كَانَ لَوْ لَمْ يُجْبَرْ صَحَّتْ كَالصَّلَاةِ بِالسُّجُودِ فِي السَّهْوِ وَبِالْإِعَادَةِ فِي الْعَمْدِ ، فَقَدْ قُلْنَا : كُلُّ صَلَاةٍ أُدِّيَتْ مَعَ كَرَاهَةِ التَّحْرِيمِ يَجِبُ إعَادَتُهَا ، وَبَابُ الْحَجِّ مِمَّا تَحَقَّقَ فِيهِ ذَلِكَ فَيَجِبُ الْجَبْرُ أَوَّلًا بِجِنْسِهِ إذَا فَوَّتَ وَاجِبَهُ ، فَإِنْ لَمْ يُعِدْ وَجَبَ الْجَابِرُ الْآخَرُ وَهُوَ الدَّمُ ، بِخِلَافِ الصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ فِيهِ جَبْرٌ ، وَبِخِلَافِ الصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ فَإِنَّ عَدَمَ حِلِّ الصَّلَاةِ فِيهَا لَيْسَ مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ بَلْ الْوَاجِبُ عَدَمُ الْكَوْنِ فِيهَا مُطْلَقًا فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا .
وَأَمَّا جَعْلُ الْبَيْتِ عَنْ يَسَارِهِ فَاخْتُلِفَ فِيهِ ، وَالْأَصَحُّ الْوُجُوبُ بِفِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمُوَاظَبَةِ مِنْ غَيْرِ تَرْكٍ فِي الْحَجِّ وَجَمِيعِ عُمَرِهِ مَعَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَا فَعَلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي مَوْضِعِ التَّعْلِيمِ يُحْمَلُ عَلَى الْوُجُوبِ إلَى أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِهِ خُصُوصًا اقْتِرَانُ مَا فَعَلَهُ فِي الْحَجِّ بِقَوْلِهِ { خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ } فَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ ، فَإِنْ لَمْ يُعِدْ حَتَّى رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ لَزِمَهُ دَمٌ .
وَأَمَّا الِافْتِتَاحُ مِنْ الْحَجَرِ فَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ هُوَ سُنَّةٌ يُكْرَهُ تَرْكُهَا .
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الرُّقَيَّاتِ : لَا يَعْتَدُّ بِذَلِكَ الشَّوْطِ إلَى أَنْ يَصِلَ إلَى الْحَجَرِ فَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ الطَّوَافِ مِنْهُ ، وَقَدَّمْنَا فِيمَا سَلَفَ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جَعْلِ الْبَيْتِ عَنْ يَسَارِهِ فِي الدَّلِيلِ ، وَجَعْلُ الْبَيْتِ عَنْ يَسَارِ الطَّائِفِ وَاجِبٌ ، فَكَذَا ابْتِدَاءُ الطَّوَافِ مِنْ الْحَجَرِ وَاجِبٌ أَلْبَتَّةَ .

( وَمَنْ تَرَكَ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَحَجُّهُ تَامٌّ ) لِأَنَّ السَّعْيَ مِنْ الْوَاجِبَاتِ عِنْدَنَا فَيَلْزَمُ بِتَرْكِهِ الدَّمُ دُونَ الْفَسَادِ .
( قَوْلُهُ : وَمَنْ تَرَكَ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَحَجُّهُ تَامٌّ ) ؛ لِأَنَّ السَّعْيَ مِنْ الْوَاجِبَاتِ عِنْدَنَا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَصْبُ الْخِلَافِ فِيهِ مَعَ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ ، وَأَقَمْنَا دَلِيلَ الْوُجُوبِ وَأَبْطَلْنَا مَا جَعَلَهُ دَلِيلًا لِلرُّكْنِيَّةِ فَارْجِعْ إلَيْهِ فِي أَثْنَاءِ بَابِ الْإِحْرَامِ .
قَالَ فِي الْبَدَائِعِ : وَإِذَا كَانَ السَّعْيُ وَاجِبًا فَإِنْ تَرَكَهُ لِعُذْرٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ تَرَكَهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ لَزِمَ دَمٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا حُكْمُ تَرْكِ الْوَاجِبِ فِي هَذَا الْبَابِ .
أَصْلُهُ طَوَافُ الصَّدْرِ ، وَأَصْلُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلْيَكُنْ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ الطَّوَافَ } وَرَخَّصَ لِلْحَيْضِ فَأَسْقَطَهُ لِلْعُذْرِ ، وَعَلَى هَذَا فَإِلْزَامُ الدَّمِ فِي الْكِتَابِ بِتَرْكِ السَّعْيِ يُحْمَلُ عَلَى عَدَمِ الْعُذْرِ ، وَكَذَا يَلْزَمُ الدَّمُ بِتَرْكِ أَكْثَرِهِ ، فَإِنْ تَرَكَ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ مِنْهُ لَزِمَهُ صَدَقَةٌ : أَيْ يُطْعِمُ لِكُلِّ شَوْطٍ مِسْكِينًا نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ قِيمَتِهِ إلَّا أَنْ يَبْلُغَ ذَلِكَ دَمًا فَهُوَ بِالْخِيَارِ ، وَكَمَا يَلْزَمُهُ بِتَرْكِهِ الدَّمُ فَكَذَلِكَ يَلْزَمُ بِرُكُوبِهِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ إلَّا إنْ رَكِبَ لِعُذْرٍ ، وَتَقَدَّمَ فِي الْهِدَايَةِ أَنَّ فِي تَرْكِ الْوُقُوفِ بِمُزْدَلِفَةَ لِغَيْرِ عُذْرٍ دَمًا لَا لِعُذْرٍ .

( وَمَنْ أَفَاضَ قَبْلَ الْإِمَامِ مِنْ عَرَفَاتٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الرُّكْنَ أَصْلُ الْوُقُوفِ فَلَا يَلْزَمُهُ بِتَرْكِ الْإِطَالَةِ شَيْءٌ .
وَلَنَا أَنَّ الِاسْتِدَامَةَ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وَاجِبَةٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { فَادْفَعُوا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ } فَيَجِبُ بِتَرْكِهِ الدَّمُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا وَقَفَ لَيْلًا لِأَنَّ اسْتِدَامَةَ الْوُقُوفِ عَلَى مَنْ وَقَفَ نَهَارًا لَا لَيْلًا ، فَإِنْ عَادَ إلَى عَرَفَةَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، لِأَنَّ الْمَتْرُوكَ لَا يَصِيرُ مُسْتَدْرَكًا .
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا عَادَ قَبْلَ الْغُرُوبِ .

( قَوْلُهُ : وَمَنْ أَفَاضَ قَبْلَ الْإِمَامِ ) قَدْ تَرَكْنَا مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا الْفَصْلِ ؛ لِأَنَّهَا مُفَصَّلَةٌ وَاضِحَةٌ فِي الْكِتَابِ فَتُرَاجَعُ فِيهِ .
ثُمَّ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ ؛ لِأَنَّهُ الْمَدَارُ إلَّا أَنَّ الْإِفَاضَةَ مِنْ الْإِمَامِ لَمَّا لَمْ تَكُنْ قَطُّ إلَّا عَلَى الْوَجْهِ الْوَاجِبِ أَعْنِي بَعْدَ الْغُرُوبِ وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ بِاعْتِبَارِهَا ، وَأَشَارَ فِي الدَّلِيلِ إلَى خُصُوصِ الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ : وَلَنَا أَنَّ الِاسْتِدَامَةَ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وَاجِبَةٌ .
وَالْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { فَادْفَعُوا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ } غَرِيبٌ ، وَلَا شُبْهَةَ فِي أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دَفَعَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : كُلُّ مَا وَقَعَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْحَجِّ يُحْمَلُ عَلَى الْوُجُوبِ إلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ خِلَافَهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ } وَأَيْضًا مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ الْحَاكِمِ عَنْ الْمِسْوَرِ { خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَمَّا بَعْدُ ، فَإِنَّ أَهْلَ الشِّرْكِ كَانُوا يَدْفَعُونَ مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ إذَا كَانَتْ الشَّمْسُ عَلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ مِثْلَ عَمَائِمِ الرِّجَالِ فِي وُجُوهِهَا ، وَإِنَّا نَدْفَعُ بَعْدَ أَنْ تَغِيبَ } ، فَإِنَّ هَذَا السَّوْقَ يُفِيدُ الْوُجُوبَ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ فِيهِ .
وَمَسَائِلُ الْإِفَاضَةِ قَبْلَ الْغُرُوبِ ذَكَرْنَاهَا فِي بَحْثِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَارْجِعْ إلَيْهَا تَسْتَغْنِ عَنْ إعَادَتِهَا هُنَا .
وَقَوْلُهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يُحْتَرَزُ بِهِ عَمَّا قَدَّمْنَاهُ هُنَاكَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ شُجَاعٍ ( قَوْلُهُ : وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا عَادَ قَبْلَ الْغُرُوبِ ) ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ يَسْقُطُ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْإِفَاضَةُ بَعْدَ الْغُرُوبِ وَقَدْ وُجِدَ وَتَقَدَّمَ مَا عَلَيْهِ وَجَوَابُهُ ، وَأَنَّهُ الْحَقُّ فَارْجِعْ إلَيْهِ .

( وَمَنْ تَرَكَ الْوُقُوفَ بِالْمُزْدَلِفَةِ فَعَلَيْهِ دَمٌ ) لِأَنَّهُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ .

( وَمَنْ تَرَكَ رَمْيَ الْجِمَارِ فِي الْأَيَّامِ كُلِّهَا فَعَلَيْهِ دَمٌ ) لِتَحَقُّقِ تَرْكِ الْوَاجِبِ ، وَيَكْفِيهِ دَمٌ وَاحِدٌ ؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ مُتَّحِدٌ كَمَا فِي الْحَلْقِ ، وَالتَّرْكُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ الرَّمْيِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ قُرْبَةً إلَّا فِيهَا ، وَمَا دَامَتْ الْأَيَّامُ بَاقِيَةً فَالْإِعَادَةُ مُمْكِنَةٌ فَيَرْمِيهَا عَلَى التَّأْلِيفِ ثُمَّ بِتَأْخِيرِهَا يَجِبُ الدَّمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا .
( وَإِنْ تَرَكَ رَمْيَ يَوْمٍ وَاحِدٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ ) لِأَنَّهُ نُسُكٌ تَامٌّ ( وَمَنْ تَرَكَ رَمْيَ إحْدَى الْجِمَارِ الثَّلَاثِ فَعَلَيْهِ الصَّدَقَةُ ) لِأَنَّ الْكُلَّ فِي هَذَا الْيَوْمِ نُسُكٌ وَاحِدٌ فَكَانَ الْمَتْرُوكُ أَقَلَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَتْرُوكُ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُهُ الدَّمُ لِوُجُودِ تَرْكِ الْأَكْثَرِ ( وَإِنْ تَرَكَ رَمْيَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ فَعَلَيْهِ دَمٌ ) لِأَنَّهُ كُلُّ وَظِيفَةِ هَذَا الْيَوْمِ رَمْيًا وَكَذَا إذَا تَرَكَ الْأَكْثَرَ مِنْهَا ( وَإِنْ تَرَكَ مِنْهَا حَصَاةً أَوْ حَصَاتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا تَصَدَّقَ لِكُلِّ حَصَاةٍ نِصْفَ صَاعٍ إلَّا أَنْ يَبْلُغَ دَمًا فَيُنْقِصَ مَا شَاءَ ) لِأَنَّ الْمَتْرُوكَ هُوَ الْأَقَلُّ فَتَكْفِيهِ الصَّدَقَةُ .

( قَوْلُهُ كَمَا فِي الْحَلْقِ ) حَيْثُ يَجِبُ دَمٌ وَاحِدٌ بِحَلْقِ شَعْرِ كُلِّ الْبَدَنِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ لِاتِّحَادِ الْجِنَايَةِ بِاتِّحَادِ الْجِنْسِ ، فَكَذَا تَرْكُ رَمْيِ الْجِمَارِ فِي كُلِّ الْأَيَّامِ يَلْزَمُهُ بِهِ دَمٌ وَاحِدٌ ( قَوْلُهُ : وَالتَّرْكُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ الرَّمْيِ ) وَهُوَ آخِرُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَهُوَ الْيَوْمُ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَلَا يَبْقَى فِي لَيْلَةِ الرَّابِعَ عَشَرَ بِخِلَافِ اللَّيَالِيِ الَّتِي تَتْلُو الْأَيَّامَ الَّتِي قَبْلَهَا ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي بَحْثِ الرَّمْيِ .
وَقَوْلُهُ فَيَرْمِيهَا عَلَى التَّأْلِيفِ : يَعْنِي عَلَى التَّرْتِيبِ كَمَا كَانَ يُرَتِّبُ الْجِمَارَ فِي الْأَدَاءِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ إطْلَاقَ إلْزَامِ الدَّمِ وَالصَّدَقَةِ بِتَرْكِ الرَّمْيِ عَلَى الِاتِّفَاقِ فِيمَا إذَا لَمْ يَقْضِهِ ، أَمَّا إنْ قَضَى رَمْيَ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ فِي الثَّانِي أَوْ الثَّالِثِ أَوْ الثَّانِي فِي الثَّالِثِ ، فَالْإِيجَابُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا عَلَى قَوْلِهِمَا ؛ لِأَنَّ تَأْخِيرَ النُّسُكِ وَتَقْدِيمَهُ غَيْرُ مُوجِبٍ عِنْدَهُمَا شَيْئًا ( قَوْلُهُ : إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَتْرُوكُ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ ) بِأَنْ يَتْرُكَ إحْدَى عَشْرَةَ حَصَاةً فِي غَيْرِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَأَرْبَعَ حَصَيَاتٍ مِنْ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ .
وَتَفَاصِيلُ مَسَائِلِ الرَّمْيِ ظَاهِرَةٌ مِنْ الْكِتَابِ ، وَتَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْهَا فِي بَحْثِ الرَّمْيِ فَلَا نُعِيدُهُ وَارْجِعْ إلَيْهِ .

( وَمَنْ أَخَّرَ الْحَلْقَ حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ فَعَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَكَذَا إذَا أَخَّرَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ ) حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ ( فَعَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَهُ وَقَالَا : لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْوَجْهَيْنِ ) وَكَذَا الْخِلَافُ فِي تَأْخِيرِ الرَّمْيِ وَفِي تَقْدِيمِ نُسُكٍ عَلَى نُسُكٍ كَالْحَلْقِ قَبْلَ الرَّمْيِ وَنَحْرِ الْقَارِنِ قَبْلَ الرَّمْيِ وَالْحَلْقِ قَبْلَ الذَّبْحِ ، لَهُمَا أَنَّ مَا فَاتَ مُسْتَدْرَكٌ بِالْقَضَاءِ وَلَا يَجِبُ مَعَ الْقَضَاءِ شَيْءٌ آخَرُ .
وَلَهُ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : " مَنْ قَدَّمَ نُسُكًا عَلَى نُسُكٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ " وَلِأَنَّ التَّأْخِيرَ عَنْ الْمَكَانِ يُوجِبُ الدَّمَ فِيمَا هُوَ مُوَقَّتٌ بِالْمَكَانِ كَالْإِحْرَامِ فَكَذَا التَّأْخِيرُ عَنْ الزَّمَانِ فِيمَا هُوَ مُوَقَّتٌ بِالزَّمَانِ .

( قَوْلُهُ : وَكَذَا إذَا أَخَّرَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ ) يَعْنِي عَنْ أَيَّامِ النَّحْرِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَخَّرَ السَّعْيَ عَنْ طَوَافِ الزِّيَارَةِ حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِهِ بَعْدَهُ قَوْلُهُ كَالْحَلْقِ قَبْلَ الرَّمْيِ إلَخْ ) وَفِي مَوْضِعٍ إنْ رَمَى قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ وَرَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ بِالِاتِّفَاقِ .
وَلَيْسَ عَلَى الْحَائِضِ لِتَأْخِيرِ طَوَافِ الزِّيَارَةِ عَنْ أَيَّامِ النَّحْرِ شَيْءٌ بِالِاتِّفَاقِ لِلْعُذْرِ ، حَتَّى لَوْ طَهُرَتْ فِي آخِرِ أَيَّامِ النَّحْرِ وَيُمْكِنُهَا أَنْ تَطُوفَ قَبْلَ الْغُرُوبِ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ فَلَمْ تَفْعَلْ كَانَ عَلَيْهَا الدَّمُ لَا إنْ أَمْكَنَهَا أَقَلُّ مِنْهَا .
وَلَوْ طَافَ قَبْلَ الرَّمْيِ يَقَعُ مُعْتَدًّا بِهِ ، وَإِنْ كَانَ مَسْنُونًا بَعْدَ الرَّمْيِ ( قَوْلُهُ لَهُمَا أَنَّ مَا فَاتَ مُسْتَدْرَكٌ بِالْقَضَاءِ إلَخْ ) وَلَهُمَا أَيْضًا مِنْ الْمَنْقُولِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَفَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ أَشْعُرْ فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ ، قَالَ اذْبَحْ وَلَا حَرَجَ ، وَقَالَ آخَرُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ أَشْعُرْ فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ ، قَالَ : ارْمِ وَلَا حَرَجَ ، فَمَا سُئِلَ يَوْمَئِذٍ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلَا أُخِّرَ إلَّا قَالَ افْعَلْ وَلَا حَرَجَ } .
وَالْجَوَابُ أَنَّ نَفْيَ الْحَرَجِ يَتَحَقَّقُ بِنَفْيِ الْإِثْمِ وَالْفَسَادِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ دُونَ نَفْيِ الْجَزَاءِ ، فَإِنَّ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ لَمْ أَشْعُرْ فَفَعَلْت مَا يُفِيدُ أَنَّهُ ظَهَرَ لَهُ بَعْدَ فِعْلِهِ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ ذَلِكَ ، فَلِذَا قَدَّمَ اعْتِذَارَهُ عَلَى سُؤَالِهِ وَإِلَّا لَمْ يَسْأَلْ أَوْ لَمْ يَعْتَذِرْ .
لَكِنْ قَدْ يُقَالُ : يَحْتَمِلُ أَنَّ الَّذِي ظَهَرَ لَهُ مُخَالَفَةُ تَرْتِيبِهِ لِتَرْتِيبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ التَّرْتِيبَ مُتَعَيَّنٌ فَقَدَّمَ ذَلِكَ الِاعْتِذَارَ وَسَأَلَ عَمَّا يَلْزَمُهُ بِهِ ، فَبَيَّنَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْجَوَابِ عَدَمَ

تَعَيُّنِهِ عَلَيْهِ بِنَفْيِ الْحَرَجِ ، وَأَنَّ ذَلِكَ التَّرْتِيبَ مَسْنُونٌ لَا وَاجِبٌ .
وَالْحَقُّ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ ، وَأَنْ يَكُونَ الَّذِي ظَهَرَ لَهُ كَانَ هُوَ الْوَاقِعَ إلَّا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَذَرَهُمْ لِلْجَهْلِ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَتَعَلَّمُوا مَنَاسِكَهُمْ ، وَإِنَّمَا عَذَرَهُمْ بِالْجَهْلِ ؛ لِأَنَّ الْحَالَ كَانَ إذْ ذَاكَ فِي ابْتِدَائِهِ ، وَإِذَا اُحْتُمِلَ كُلًّا مِنْهُمَا فَالِاحْتِيَاطُ اعْتِبَارُ التَّعْيِينِ وَالْأَخْذُ بِهِ وَاجِبٌ فِي مَقَامِ الِاضْطِرَابِ فَيَتِمُّ الْوَجْهُ لِأَبِي حَنِيفَةَ ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " مَنْ قَدَّمَ نُسُكًا عَلَى نُسُكٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ " بَلْ هُوَ دَلِيلٌ مُسْتَقِلٌّ عِنْدَنَا .
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ : ابْنُ عَبَّاسٍ وَهُوَ الْأَعْرَفُ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ وَلَفْظُهُ " مَنْ قَدَّمَ شَيْئًا مِنْ حَجِّهِ أَوْ أَخَّرَهُ فَلْيُهْرِقْ دَمًا " وَفِي سَنَدِهِ إبْرَاهِيمُ بْنُ مُهَاجِرٍ مُضَعَّفٌ .
وَأَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ بِطَرِيقٍ آخَرَ لَيْسَ ذَلِكَ الْمُضَعَّفَ : حَدَّثَنَا ابْنُ مَرْزُوقٍ ، حَدَّثَنَا الْخَصِيبُ ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ .
قَالَ : فَهَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ أَحَدُ مَنْ رَوَى عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " افْعَلْ وَلَا حَرَجَ " لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عِنْدَهُ عَلَى الْإِبَاحَةِ ، بَلْ عَلَى أَنَّ الَّذِي فَعَلُوهُ كَانَ عَلَى الْجَهْلِ بِالْحُكْمِ فَعَذَرَهُمْ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَتَعَلَّمُوا مَنَاسِكَهُمْ .
وَمِمَّا اُسْتُدِلَّ بِهِ قِيَاسُ الْإِخْرَاجِ عَنْ الزَّمَانِ بِالْإِخْرَاجِ عَنْ الْمَكَانِ .
وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال بِدَلَالَةِ قَوْله تَعَالَى { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ } الْآيَةَ .
فَإِنَّ إيجَابَ الْفِدْيَةِ لِلْحَلْقِ قَبْلَ أَوَانِهِ حَالَةَ الْعُذْرِ يُوجِبُ الْجَزَاءَ مَعَ عَدَمِ الْعُذْرِ بِطَرِيقِ أَوْلَى فَمُتَوَقِّفٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ التَّأْقِيتَ الصَّادِرَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالْقَوْلِ كَانَ لِتَعَيُّنِهِ لَا لِاسْتِنَانِهِ

.
وَنَصُّ الْمُصَنِّفِ عَلَى صُوَرِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ يُغْنِي عَنْ ذِكْرِنَا لَهَا ، وَتَخْصِيصُ الْقَارِنِ فِي قَوْلِهِ وَنَحْرُ الْقَارِنِ قَبْلَ الرَّمْيِ لَيْسَ بِلَازِمٍ بَلْ الْمُتَمَتِّعُ مِثْلُهُ وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ ذَبْحَهُ وَاجِبٌ بِخِلَافِ الْمُفْرِدِ .

( وَإِنْ حَلَقَ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ فَعَلَيْهِ دَمٌ ، وَمَنْ اعْتَمَرَ فَخَرَجَ مِنْ الْحَرَمِ وَقَصَّرَ فَعَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ) رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى ( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : ( لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ فِي الْمُعْتَمِرِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْحَاجِّ .
قِيلَ هُوَ بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ جَرَتْ فِي الْحَجِّ بِالْحَلْقِ بِمِنًى وَهُوَ مِنْ الْحَرَمِ .
وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ عَلَى الْخِلَافِ ، هُوَ يَقُولُ : الْحَلْقُ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالْحَرَمِ لِأَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ أُحْصِرُوا بِالْحُدَيْبِيَةِ وَحَلَقُوا فِي غَيْرِ الْحَرَمِ } .
وَلَهُمَا أَنَّ الْحَلْقَ لَمَّا جُعِلَ مُحَلِّلًا صَارَ كَالسَّلَامِ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ مِنْ وَاجِبَاتِهَا ، وَإِنْ كَانَ مُحَلِّلًا ، فَإِذَا صَارَ نُسُكًا اخْتَصَّ بِالْحَرَمِ كَالذَّبْحِ وَبَعْضُ الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ الْحَرَمِ فَلَعَلَّهُمْ حَلَقُوا فِيهِ .
فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْحَلْقَ يَتَوَقَّتُ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَتَوَقَّتُ بِهِمَا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَتَوَقَّتُ بِالْمَكَانِ دُونَ الزَّمَانِ ، وَعِنْد زُفَرٍ يَتَوَقَّتُ بِالزَّمَانِ دُونَ الْمَكَانِ .
وَهَذَا الْخِلَافُ فِي التَّوْقِيتِ فِي حَقِّ التَّضْمِينِ بِالدَّمِ .
وَأَمَّا فِي حَقِّ التَّحَلُّلِ فَلَا يَتَوَقَّتُ بِالِاتِّفَاقِ .
وَالتَّقْصِيرُ وَالْحَلْقُ فِي الْعُمْرَةِ غَيْرُ مُوَقَّتٍ بِالزَّمَانِ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْعُمْرَةِ لَا يَتَوَقَّتُ بِهِ بِخِلَافِ الْمَكَانِ ؛ لِأَنَّهُ مُوَقَّتٌ بِهِ .
قَالَ ( فَإِنْ لَمْ يُقَصِّرْ حَتَّى رَجَعَ وَقَصَّرَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ) مَعْنَاهُ : إذَا خَرَجَ الْمُعْتَمِرُ ثُمَّ عَادَ ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِهِ فِي مَكَان فَلَا يَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ .

( قَوْلُهُ قِيلَ هُوَ بِالِاتِّفَاقِ ) أَيْ الِاتِّفَاقِ عَلَى لُزُومِ الدَّمِ لِلْحَاجِّ ؛ لِأَنَّ التَّوَارُثَ مِنْ لَدُنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَجَمِيعِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ جَرَى عَلَى الْحَلْقِ فِي الْحَجِّ فِي الْحَرَمِ مِنْ مِنًى وَهُوَ إحْدَى الْحُجَجِ ( قَوْلُهُ : فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْحَلْقَ يَتَوَقَّتُ بِالزَّمَانِ ) وَهُوَ أَيَّامُ النَّحْرِ ( وَالْمَكَانِ ) وَهُوَ الْحَرَمُ ( عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَتَوَقَّتُ بِهِمَا ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ بِالْمَكَانِ لَا بِالزَّمَانِ وَعِنْدَ زُفَرِ عَكْسُهُ وَهَذَا الْخِلَافُ فِي التَّضْمِينِ بِالدَّمِ لَا فِي التَّحَلُّلِ ) يَعْنِي أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ فِي أَيِّ مَكَان أَوْ زَمَانٍ أَتَى بِهِ يَحْصُلُ بِهِ التَّحَلُّلُ ، بَلْ الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ إذَا حَلَقَ فِي غَيْرِ مَا تُوُقِّتَ بِهِ يَلْزَمُ الدَّمُ عِنْدَ مَنْ وَقَّتَهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَ مَنْ لَمْ يُوَقِّتْهُ .
ثُمَّ هُوَ أَيْضًا فِي حَلْقِ الْحَاجِّ ، أَمَّا الْمُعْتَمِرُ فَلَا يَتَوَقَّتُ فِي حَقِّهِ بِالزَّمَانِ بِالِاتِّفَاقِ بَلْ بِالْمَكَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ .
لِأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِي نَفْيِ تَوَقُّتِهِ بِالزَّمَانِ مَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ " اذْبَحْ وَلَا حَرَجَ " لِمَنْ قَالَ حَلَقْت قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُوَقَّتٍ بِهِ ، وَتَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْ هَذَا .
وَلِأَبِي يُوسُفَ وَزُفَرٍ فِي نَفْيِ تَوَقُّتِهِ بِالْمَكَانِ حَلْقُهُ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ بِهَا وَهِيَ مِنْ الْحِلِّ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ فِي هَذَا الْحُكْمِ بِالِاتِّفَاقِ .
وَالْجَوَابُ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ مِنْ أَنَّ بَعْضَ الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ الْحَرَمِ فَيَجُوزُ كَوْنُ الْحَلْقِ كَانَ فِيهِ ، فَلَا حُجَّةَ إلَّا أَنْ يُنْقَلَ صَرِيحًا أَنَّ الْحَلْقَ كَانَ فِي الْبَعْضِ الَّذِي هُوَ حِلٌّ مَعَ مَا رُوِيَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَزَلَ بِالْحُدَيْبِيَةِ فِي الْحِلِّ وَكَانَ يُصَلِّي فِي الْحَرَمِ } .
فَالظَّاهِرُ

أَنَّهُ لَمْ يَحْلِقْ فِي الْحِلِّ وَهُوَ بِسَبِيلٍ مِنْ أَنْ يَحْلِقَ فِي الْحَرَمِ فَيَبْقَى التَّوَارُثُ الْكَائِنُ فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ خَالِيًا عَنْ الْمُعَارِضِ ، وَكَذَا مَا قَدَّمْنَاهُ آنِفًا مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الزَّمَانِ ثُمَّ يَلْحَقُ بِهِ الْمَكَانُ ( قَوْلُهُ : فَإِنْ لَمْ يُقَصِّرْ حَتَّى رَجَعَ ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ فَخَرَجَ مِنْ الْحَرَمِ وَقَصَّرَ غَيْرَ أَنَّهُ فَصَلَ بِالتَّقْرِيرِ وَنَقَلَ الْأَصْلَ الْخِلَافِيُّ .

( فَإِنْ حَلَقَ الْقَارِنُ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ فَعَلَيْهِ دَمَانِ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : دَمٌ بِالْحَلْقِ فِي غَيْرِ أَوَانِهِ ؛ لِأَنَّ أَوَانَهُ بَعْدَ الذَّبْحِ وَدَمٌ بِتَأْخِيرِ الذَّبْحِ عَنْ الْحَلْقِ .
وَعِنْدُهُمَا يَجِبُ عَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْأَوَّلُ ، وَلَا يَجِبُ بِسَبَبِ التَّأْخِيرِ شَيْءٌ عَلَى مَا قُلْنَا
( قَوْلُهُ وَإِنْ حَلَقَ الْقَارِنُ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ فَعَلَيْهِ دَمَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : دَمٌ بِالْحَلْقِ فِي غَيْرِ أَوَانِهِ لِأَنَّ أَوَانَهُ بَعْدَ الذَّبْحِ ، وَدَمٌ بِتَأْخِيرِ الذَّبْحِ عَنْ الْحَلْقِ ) هَذَا سَهْوٌ مِنْ الْقَلَمِ بَلْ أَحَدُ الدَّمَيْنِ لِمَجْمُوعِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ وَالْآخَرُ دَمُ الْقِرَانِ ، وَالدَّمُ الَّذِي يَجِبُ عِنْدَهُمَا دَمُ الْقِرَانِ لَيْسَ غَيْرُ لَا لِلْحَلْقِ قَبْلَ أَوَانِهِ ، وَلَوْ وَجَبَ ذَلِكَ لَزِمَ فِي كُلِّ تَقَدُّمِ نُسُكٍ عَلَى نُسُكٍ دَمَانِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْفَكُّ عَنْ الْأَمْرَيْنِ وَلَا قَائِلَ بِهِ ، وَلَوْ وَجَبَ فِي حَلْقِ الْقَارِنِ قَبْلَ الذَّبْحِ لَوَجَبَ ثَلَاثَةُ دِمَاءٍ فِي تَفْرِيعِ مَنْ يَقُولُ إنَّ إحْرَامَ عُمْرَتِهِ انْتَهَى بِالْوُقُوفِ ، وَفِي تَفْرِيعِ مَنْ لَا يَرَاهُ كَمَا قَدَّمْنَا خَمْسَةَ دِمَاءٍ ؛ لِأَنَّ جِنَايَتَهُ عَلَى إحْرَامَيْنِ وَالتَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ جِنَايَتَانِ فِيهِمَا أَرْبَعَةُ دِمَاءٍ وَدَمُ الْقِرَانِ .

( فَصْلٌ ) .
اعْلَمْ أَنَّ صَيْدَ الْبَرِّ مُحَرَّمٌ عَلَى الْمُحْرِمِ ، وَصَيْدَ الْبَحْرِ حَلَالٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ } إلَى آخِرِ الْآيَةِ .
وَصَيْدُ الْبَرِّ مَا يَكُونُ تَوَالُدُهُ وَمَثْوَاهُ فِي الْبَرِّ ، وَصَيْدُ الْبَحْرِ مَا يَكُونُ تَوَالُدُهُ وَمَثْوَاهُ فِي الْمَاءِ .
وَالصَّيْدُ هُوَ الْمُمْتَنِعُ الْمُتَوَحِّشُ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ ، وَاسْتَثْنَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَمْسَ الْفَوَاسِقَ وَهِيَ : الْكَلْبُ الْعَقُورُ ، وَالذِّئْبُ وَالْحِدَأَةُ ، وَالْغُرَابُ وَالْحَيَّةُ ، وَالْعَقْرَبُ ، فَإِنَّهَا مُبْتَدِئَاتٌ بِالْأَذَى .
وَالْمُرَادُ بِهِ الْغُرَابُ الَّذِي يَأْكُلُ الْجِيَفَ .
هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ .

( فَصْلٌ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ ) .
( قَوْلُهُ اعْلَمْ أَنَّ صَيْدَ الْبَرِّ مُحَرَّمٌ إلَخْ ) أَيْ قَتْلُهُ ، وَإِنْ لَمْ يَأْكُلْهُ وَأَكْلُهُ وَإِنْ ذَكَّاهُ الْمُحْرِمُ .
وَعَنْ هَذَا لَوْ اُضْطُرَّ مُحْرِمٌ إلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ أَوْ الصَّيْدِ يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ لَا الصَّيْدَ عَلَى قَوْلِ زُفَرٍ ؛ لِتَعَدُّدِ جِهَاتِ حُرْمَتِهِ عَلَيْهِ .
وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَتَنَاوَلُ الصَّيْدَ وَيُؤَدِّي الْجَزَاءَ ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْمَيْتَةِ أَغْلَظُ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ حُرْمَةَ الصَّيْدِ تَرْتَفِعُ بِالْخُرُوجِ مِنْ الْإِحْرَامِ فَهِيَ مُوَقَّتَةٌ ، بِخِلَافِ حُرْمَةِ الْمَيْتَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْصِدَ أَخَفَّ الْحُرْمَتَيْنِ دُونَ أَغْلَظِهِمَا .
وَالصَّيْدُ وَإِنْ كَانَ مَحْظُورَ الْإِحْرَامِ لَكِنْ عِنْدَ الضَّرُورَةِ يَرْتَفِعُ الْحَظْرُ فَيَقْتُلُهُ وَيَأْكُلُ مِنْهُ وَيُؤَدِّي الْجَزَاءَ ، هَكَذَا فِي الْمَبْسُوطِ .
وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا اُضْطُرَّ إلَى مَيْتَةٍ وَصَيْدٍ فَالْمَيْتَةُ أَوْلَى فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَالْحَسَنُ : يَذْبَحُ الصَّيْدَ .
وَلَوْ كَانَ الصَّيْدُ مَذْبُوحًا فَالصَّيْدُ أَوْلَى عِنْدَ الْكُلِّ .
وَلَوْ وَجَدَ صَيْدًا وَلَحْمَ آدَمِيٍّ كَانَ ذَبْحُ الصَّيْدِ أَوْلَى ، وَلَوْ وَجَدَ صَيْدًا وَكَلْبًا فَالْكَلْبُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ فِي الصَّيْدِ ارْتِكَابَ الْمَحْظُورَيْنِ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ : الصَّيْدُ أَوْلَى مِنْ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ ، فَفِي هَذَا خِلَافُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْمَبْسُوطِ ( قَوْلُهُ : وَصَيْدُ الْبَرِّ إلَخْ ) لَيْسَ مَا ذَكَرَهُ تَعْرِيفًا لِصَيْدِ الْبَرِّ بَلْ لِلْبَرِّيِّ مِنْ الْأَشْيَاءِ ، وَمُرَادُهُ تَعْرِيفُ الْبَرِّيِّ مُطْلَقًا ثُمَّ الصَّيْدُ مُطْلَقًا فَيُعْرَفُ مِنْهُمَا صَيْدُ الْبَرِّ وَلِذَا أَفْرَدَ بَعْدَهُ الصَّيْدَ فَقَالَ : وَالصَّيْدُ هُوَ الْمُمْتَنِعُ إلَخْ فَيَنْتَظِمُ مِنْهُمَا تَعْرِيفُ صَيْدِ الْبَرِّ ، هَكَذَا هُوَ مَا تَوَالُدُهُ وَمَثْوَاهُ فِي الْبَرِّ مِمَّا هُوَ مُمْتَنِعٌ ؛ لِتَوَحُّشِهِ الْكَائِنِ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ ، فَيَدْخُلُ الظَّبْيُ الْمُسْتَأْنَسُ

وَيَخْرُجُ الْبَعِيرُ وَالشَّاةُ الْمُتَوَحِّشَانِ لِعُرُوضِ الْوَصْفِ لَهُمَا ، وَكَوْنِ ذَكَاةِ الظَّبْيِ الْمُسْتَأْنَسِ بِالذَّبْحِ وَالْأَهْلِيِّ الْمُتَوَحِّشِ بِالْعَقْرِ لَا يُنَافِيهِ ؛ لِأَنَّ الذَّكَاةَ بِالذَّبْحِ وَالْعَقْرِ دَائِرَانِ مَعَ الْإِمْكَانِ وَعَدَمِهِ لَا مَعَ الصَّيْدِيَّةِ وَعَدَمِهَا ، وَيَخْرُجُ الْكَلْبُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِصَيْدٍ سَوَاءٌ كَانَ أَهْلِيًّا أَوْ وَحْشِيًّا ؛ لِأَنَّ الْكَلْبَ أَهْلِيٌّ فِي الْأَصْلِ ، لَكِنْ رُبَّمَا يَتَوَحَّشُ ، وَكَذَا السِّنَّوْرُ الْأَهْلِيُّ لَيْسَ بِصَيْدٍ ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَأْنَسٌ ، أَمَّا الْبَرِّيُّ مِنْهُ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ .
هَذَا وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي كَوْنِهِ بَرِّيًّا وَبَحْرِيًّا التَّوَالُدُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ لَا مَعَ كَوْنِ مَثْوَاهُ فِيهِ كَظَاهِرِ عِبَارَةِ الْكِتَابِ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ .
وَعَلَى اعْتِبَارِهِ لَا يَجِبُ الْجَزَاءُ بِقَتْلِ كَلْبِ الْمَاءِ وَالضُّفْدَعِ الْمَائِيِّ ؛ لِأَنَّهُ يَعِيشُ فِي الْبَرِّ وَهُوَ مَائِيُّ الْمَوْلِدِ .
وَاخْتُلِفَ فِي أَنَّهُ هَلْ يُبَاحُ كُلُّ مَا كَانَ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ أَوْ مَا يَحِلُّ أَكْلُهُ مِنْهُ فَقَطْ ؟ فَفِي الْمُحِيطِ : كُلُّ مَا يَعِيشُ فِي الْمَاءِ يَحِلُّ قَتْلُهُ وَصَيْدُهُ لِلْمُحْرِمِ .
ا هـ .
قَالَ بَعْضُهُمْ : كَالسَّمَكِ وَالضُّفْدَعِ وَالسَّرَطَانِ وَكَلْبِ الْمَاءِ .
وَفِي مَنَاسِكِ الْكَرْمَانِيِّ : الَّذِي يُرَخَّصُ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ لِلْمُحْرِمِ هُوَ السَّمَكُ خَاصَّةً ، وَالْأَصَحُّ هُوَ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ } يَتَنَاوَلُ بِحَقِيقَتِهِ عُمُومَ مَا فِي الْبَحْرِ .
وَفِي الْبَدَائِعِ : أَمَّا صَيْدُ الْبَحْرِ فَيَحِلُّ اصْطِيَادُهُ لِلْحَالِّ وَالْمُحْرِمِ جَمِيعًا مَأْكُولًا أَوْ غَيْرَ مَأْكُولٍ ، وَاسْتُدِلَّ بِالْآيَةِ .
وَأَمَّا مَا فِي الْأَصْلِ مِنْ قَوْلِهِ : وَاَلَّذِي رُخِّصَ لِلْمُحْرِمِ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ هُوَ السَّمَكُ خَاصَّةً ، فَأَمَّا طَيْرُ الْبَحْرِ فَلَا يُرَخَّصُ فِيهِ لِلْمُحْرِمِ ، فَقَدْ شَرَحَهُ فِي الْمَبْسُوطِ بِمَا يُفِيدُ تَعْمِيمَ الْإِبَاحَةِ ، وَأَنَّ الْمُرَادَ مَا

يُقَابِلُ الْمَائِيَّ بِالسَّمَكِ ، فَالضُّفْدَعُ جَعَلَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي الْمَبْسُوطِ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ مُطْلَقًا ، وَكَذَا قَاضِي خَانْ .
وَيَنْبَغِي قَبْلَ الْحُكْمِ بِالْحِلِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَوْلِدَهُ فِي الْبَحْرِ وَإِنْ كَانَ يَعِيشُ فِي الْبَرِّ تَحْقِيقُ ذَلِكَ ، وَمِثْلُهُ السَّرَطَانُ وَالتِّمْسَاحُ وَالسُّلَحْفَاةُ .
هَذَا وَيُسْتَثْنَى مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ بَعْضُهُ كَالذِّئْبِ وَالْغُرَابِ وَالْحِدَأَةِ ، وَأَمَّا بَاقِي الْفَوَاسِقِ فَلَيْسَتْ بِصُيُودٍ ، وَأَمَّا بَاقِي السِّبَاعِ فَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ يَجِبُ بِقَتْلِهَا الْجَزَاءُ لَا يُجَاوِزُ شَاةً إنْ ابْتَدَأَهَا الْمُحْرِمُ ، فَإِنْ ابْتَدَأَتْهُ بِالْأَذَى فَقَتَلَهَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ كَالْأَسَدِ وَالْفَهْدِ وَالنَّمِرِ وَالصَّقْرِ وَالْبَازِي .
وَأَمَّا صَاحِبُ الْبَدَائِعِ فَقَسَّمَ الْبَرِّيَّ إلَى مَأْكُولٍ وَغَيْرِهِ ، وَالثَّانِي إلَى مَا يَبْتَدِئُ بِالْأَذَى غَالِبًا كَالْأَسَدِ وَالذِّئْبِ وَالنَّمِرِ وَالْفَهْدِ ، وَإِلَى مَا لَيْسَ كَذَلِكَ كَالضَّبُعِ وَالثَّعْلَبِ ، فَلَا يَحِلُّ قَتْلُ الْأَوَّلِ وَالْأَخِيرِ إلَّا أَنْ يَصُولَ .
وَيَحِلُّ قَتْلُ الثَّانِي وَلَا شَيْءَ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَصُلْ .
وَجَعَلَ وُرُودَ النَّصِّ فِي الْفَوَاسِقِ وُرُودًا فِيهَا دَلَالَةٌ ، وَلَمْ يَحْكِ خِلَافًا بَلْ ذَكَرَهُ حُكْمًا مُبْتَدَأً مَسْكُوتًا فِيهِ ، ثُمَّ رَأَيْنَاهُ رِوَايَةً عَنْ أَبِي يُوسُفَ .
قَالَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ : وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ الْأَسَدُ بِمَنْزِلَةِ الذِّئْبِ ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ السِّبَاعُ كُلُّهَا صَيْدٌ إلَّا الْكَلْبَ وَالذِّئْبَ ا هـ .
وَسَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مَا هُوَ الْأَسْعَدُ بِالْوَجْهِ فِيمَا يَأْتِي هَذَا .
وَلَا فَرْقَ فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ بَيْنَ الْمُبَاشَرَةِ وَالتَّسْبِيبِ إذَا كَانَ مُتَعَدِّيًا فِيهِ ، فَلَوْ نَصَبَ شَبَكَةً لِلصَّيْدِ أَوْ حَفَرَ لِلصَّيْدِ حَفِيرَةً فَعَطِبَ صَيْدٌ ضَمِنَ ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ .
وَلَوْ نَصَبَ فُسْطَاطًا لِنَفْسِهِ فَتَعَقَّلَ بِهِ فَمَاتَ ، أَوْ حَفَرَ حَفِيرَةً لِلْمَاءِ أَوْ لِحَيَوَانٍ مُبَاحٍ قَتْلُهُ كَالذِّئْبِ

فَعَطِبَ فِيهَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَكَذَا لَوْ أَرْسَلَ كَلْبَهُ عَلَى حَيَوَانٍ مُبَاحٍ فَأَخَذَ مَا يَحْرُمُ أَوْ أَرْسَلَهُ إلَى صَيْدٍ فِي الْحِلِّ وَهُوَ حَالٌّ فَتَجَاوَزَ إلَى الْحَرَمِ فَقَتَلَ صَيْدًا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي التَّسْبِيبِ .
وَكَذَا لَوْ طَرَدَ الصَّيْدَ حَتَّى أَدْخَلَهُ فِي الْحَرَمِ فَقَتَلَهُ فِيهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَلَا يُشْبِهُ هَذَا الرَّمْيَ : يَعْنِي لَوْ رَمَى إلَى صَيْدٍ فِي الْحِلِّ فَأَصَابَهُ فِي الْحَرَمِ فَإِنَّ عَلَيْهِ الْجَزَاءَ ؛ لِأَنَّهُ تَمَّتْ جِنَايَتُهُ بِالْمُبَاشَرَةِ .
قَالَ الشَّهِيدُ : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا أَعْلَمُ ، وَفِيهِ كَلَامٌ نَذْكُرُهُ فِي صَيْدِ الْحَرَمِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَلَا مَا لَوْ انْقَلَبَ مُحْرِمٌ نَائِمٌ عَلَى صَيْدٍ فَقَتَلَهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ ، ذَكَرَهُ فِي الْمُحِيطِ لِأَنَّ الْمُبَاشَرَةَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا عَدَمُ التَّعَدِّي وَمِثْلُهُ الْكَلْبُ لَوْ زَجَرَهُ بَعْدَمَا دَخَلَ الْحَرَمَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ اسْتِحْسَانًا .
وَمِثْلُهُ لَوْ أَرْسَلَ مَجُوسِيٌّ كَلْبًا عَلَى صَيْدٍ فَزَجَرَهُ مُحْرِمٌ فَانْزَجَرَ فَقَتَلَ الصَّيْدَ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ وَلَا يُؤْكَلُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْجَزَاءَ يَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْمَقْتُولِ إلَّا إذَا قَصَدَ بِهِ التَّحَلُّلَ وَرَفْضَ إحْرَامِهِ فِي الْأَصْلِ .
وَلَوْ أَصَابَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا كَثِيرًا عَلَى قَصْدِ الْإِحْلَالِ وَالرَّفْضِ لِإِحْرَامِهِ فَعَلَيْهِ لِذَلِكَ كُلِّهِ دَمٌ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : عَلَيْهِ جَزَاءُ كُلِّ صَيْدٍ ؛ لِأَنَّهُ مُرْتَكِبٌ مَحْظُورَ إحْرَامِهِ بِقَتْلِ كُلِّ وَاحِدٍ فَيَلْزَمُهُ مُوجِبُ كُلِّ وَاحِدٍ كَمَا لَوْ لَمْ يَقْصِدْ رَفْضَ الْإِحْرَامِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ قَصْدَهُ هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُرْتَفَضُ بِهِ الْإِحْرَامُ فَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ .
وَقُلْنَا : إنَّ قَتْلَ الصَّيْدِ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ ، وَارْتِكَابُ مَحْظُورَاتِ الْعِبَادَةِ يُوجِبُ ارْتِفَاضَهَا كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ ، إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ الْإِحْرَامَ لَازِمًا لَا يَخْرُجُ عَنْهُ إلَّا بِأَدَاءِ الْأَعْمَالِ ، أَلَا

تَرَى أَنَّهُ حِينَ لَمْ يَكُنْ فِي الِابْتِدَاءِ لَازِمًا كَانَ يُرْتَفَضُ بِارْتِكَابِ الْمَحْظُورِ .
وَكَذَا الْأَمَةُ إذَا أَحْرَمَتْ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهَا ، وَالْمَرْأَةُ إذَا أَحْرَمَتْ بِغَيْرِ إذْنِ زَوْجِهَا بِحَجَّةِ التَّطَوُّعِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَازِمًا فِي حَقِّ الزَّوْجِ كَانَ لَهُ أَنْ يُحْلِلَهَا بِفِعْلِ شَيْءٍ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ فَكَانَ هُوَ فِي قَتْلِ الصُّيُودِ هُنَا قَاصِدًا إلَى تَعْجِيلِ الْإِحْلَالِ لَا إلَى الْجِنَايَةِ عَلَى الْإِحْرَامِ ، وَتَعْجِيلُ الْإِحْلَالِ يُوجِبُ دَمًا وَاحِدًا كَمَا فِي الْمُحْصِرِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى قَصْدِ الْإِحْلَالِ ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ الْجِنَايَةَ عَلَى الْإِحْرَامِ بِقَتْلِ كُلِّ صَيْدٍ فَيَلْزَمُهُ جَزَاءُ كُلِّ صَيْدٍ .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ جَزَاءَ الصَّيْدِ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ يَنْبَنِي عَلَى قَصْدِهِ ، حَتَّى إنَّ ضَارِبَ الْفُسْطَاطِ لَا يَكُونُ ضَامِنًا لِلْجَزَاءِ ، بِخِلَافِ نَاصِبِ الشَّبَكَةِ ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ .
وَلَوْ رَمَى إلَى صَيْدٍ فَتَعَدَّى إلَى آخَرَ فَقَتَلَهُمَا وَجَبَ عَلَيْهِ قِيمَتُهُمَا ، وَكَذَا لَوْ اضْطَرَبَ بِالسَّهْمِ فَوَقَعَ عَلَى بَيْضَةٍ أَوْ فَرْخٍ فَأَتْلَفَهَا لَزِمَاهُ جَمِيعًا .
وَرُوِيَ أَنَّ جَمَاعَةً نَزَلُوا بَيْتًا بِمَكَّةَ ثُمَّ خَرَجُوا إلَى مِنًى فَأَمَرُوا أَحَدَهُمْ أَنْ يُغْلِقَ الْبَابَ وَفِيهِ حَمَامٌ مِنْ الطُّيُورِ وَغَيْرِهَا ، فَلَمَّا رَجَعُوا وَجَدُوهَا مَاتَتْ عَطَشًا ، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَزَاؤُهَا ؛ لِأَنَّ الْآمِرِينَ تَسَبَّبُوا بِالْأَمْرِ وَالْمُغْلِقَ بِالْإِغْلَاقِ .
وَلَوْ نَفَّرَ صَيْدًا فَقَتَلَ صَيْدًا آخَرَ ضَمِنَهُمَا ، وَكَذَا لَوْ أَرْسَلَ مُحْرِمٌ كَلْبَهُ فَزَجَرَهُ آخَرُ ضَمِنَ .

قَالَ : ( وَإِذَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا أَوْ دَلَّ عَلَيْهِ مَنْ قَتَلَهُ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ ) أَمَّا الْقَتْلُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى { لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ } الْآيَةُ نَصٌّ عَلَى إيجَابِ الْجَزَاءِ .
وَأَمَّا الدَّلَالَةُ فَفِيهَا خِلَافُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ .
هُوَ يَقُولُ : الْجَزَاءُ تَعَلَّقَ بِالْقَتْلِ ، وَالدَّلَالَةُ لَيْسَتْ بِقَتْلٍ ، فَأَشْبَهَ دَلَالَةُ الْحَلَالِ حَلَالًا .
وَلَنَا مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَقَالَ عَطَاءٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ عَلَى الدَّالِ الْجَزَاءَ ؛ وَلِأَنَّ الدَّلَالَةَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ وَلِأَنَّهُ تَفْوِيتُ الْأَمْنِ عَلَى الصَّيْدِ إذْ هُوَ آمِنٌ بِتَوَحُّشِهِ وَتَوَارِيهِ فَصَارَ كَالْإِتْلَافِ ؛ وَلِأَنَّ الْمُحْرِمَ بِإِحْرَامِهِ الْتَزَمَ الِامْتِنَاعَ عَنْ التَّعَرُّضِ فَيَضْمَنُ بِتَرْكِ مَا الْتَزَمَهُ كَالْمُودَعِ بِخِلَافِ الْحَلَالِ لِأَنَّهُ لَا الْتِزَامَ مِنْ جِهَتِهِ ، عَلَى أَنَّ فِيهِ الْجَزَاءَ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَزُفَرٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَالدَّلَالَةُ الْمُوجِبَةُ لِلْجَزَاءِ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَدْلُولُ عَالِمًا بِمَكَانِ الصَّيْدِ وَأَنْ يُصَدِّقَهُ فِي الدَّلَالَةِ ، حَتَّى لَوْ كَذَّبَهُ وَصَدَّقَ غَيْرَهُ لَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكَذِّبِ ( وَلَوْ كَانَ الدَّالُّ حَلَالًا فِي الْحَرَمِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ ) لِمَا قُلْنَا ( وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْعَامِدُ وَالنَّاسِي ) لِأَنَّهُ ضَمَانٌ يَعْتَمِدُ وُجُوبَهُ الْإِتْلَافُ فَأَشْبَهَ غَرَامَاتِ الْأَمْوَالِ ( وَالْمُبْتَدِئُ وَالْعَائِدُ سَوَاءٌ ) لِأَنَّ الْمُوجِبَ لَا يَخْتَلِفُ .

( قَوْلُهُ : فَأَشْبَهَ دَلَالَةُ الْحَلَالِ حَلَالًا ) كَوْنُ الْمَدْلُولِ حَلَالًا اتِّفَاقِيٌّ ، وَالْمُرَادُ أَشْبَهَ دَلَالَةَ الْحَلَالِ عَلَى صَيْدِ الْحَرَمِ غَيْرُهُ حَلَالًا أَوْ مُحْرِمًا فَإِنَّهُ اسْتَحَقَّ الْأَمْنَ بِحُلُولِهِ فِي الْحَرَمِ كَمَا اسْتَحَقَّ الصَّيْدُ مُطْلَقًا الْأَمْنَ بِالْإِحْرَامِ ، فَكَمَا أَنَّ تَفْوِيتَ الْأَمْنِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْحَرَمِ لَا يُوجِبُ الْجَزَاءَ كَذَا تَفْوِيتُ الْمُسْتَحَقِّ بِالْإِحْرَامِ لَا يُوجِبُهُ .
( قَوْلُهُ : وَلَنَا مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ ) أَيْ فِي بَابِ الْإِحْرَامِ ، وَتَقَدَّمَ تَخْرِيجُهُ مِنْ الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا وَلَيْسَ فِيهِ هَلْ دَلَلْتُمْ بَلْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا أَوْ أَشَارَ إلَيْهَا ؟ قَالُوا لَا ، قَالَ : فَكُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا } وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى هَذَا أَنَّهُ عَلَّقَ الْحِلَّ عَلَى عَدَمِ الْإِشَارَةِ ، وَهِيَ تُحَصِّلُ الدَّلَالَةَ بِغَيْرِ اللِّسَانِ فَأَحْرَى أَنْ لَا يَحِلَّ إذَا دَلَّهُ بِاللَّفْظِ فَقَالَ هُنَاكَ صَيْدٌ وَنَحْوُهُ .
قَالُوا : الثَّابِتُ بِالْحَدِيثِ حُرْمَةُ اللَّحْمِ عَلَى الْمُحْرِمِ إذَا دَلَّ .
قُلْنَا : فَيَثْبُتُ أَنَّ الدَّلَالَةَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ بِطَرِيقِ الِالْتِزَامِ لِحُرْمَةِ اللَّحْمِ فَيَثْبُتُ أَنَّهُ مَحْظُورُ إحْرَامٍ هُوَ جِنَايَةٌ عَلَى الصَّيْدِ فَنَقُولُ حِينَئِذٍ : إنَّهُ جِنَايَةٌ عَلَى الصَّيْدِ بِتَفْوِيتِ الْأَمْنِ عَلَى وَجْهٍ اتَّصَلَ قَتْلُهُ عَنْهَا فَفِيهِ الْجَزَاءُ كَالْقَتْلِ ، وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا يَحْسُنُ عَطْفُهُ عَلَى الْحَدِيثِ ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ لَمْ يُثْبِتْ الْحُكْمَ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ وَهُوَ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ بَلْ مَحَلُّ الْحُكْمِ ، ثُمَّ ثُبُوتُ الْوُجُوبِ الْمَذْكُورِ فِي الْمَحَلِّ إنَّمَا هُوَ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْقَتْلِ .
وَعَنْ هَذَا الْوَجْهِ وَالْقِيَاسِ الْآخَرِ الَّذِي سَنَذْكُرُهُ وَهُوَ إلْحَاقُ الدَّالِّ بِالْمُودَعِ .
وَقَوْلُ عَطَاءٍ : أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ عَلَى الدَّالِّ الْجَزَاءَ

وَلَيْسَ النَّاسُ إذْ ذَاكَ إلَّا الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ مَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنْ لَا جَزَاءَ عَلَى الدَّالِّ عَلَى دَالٍّ لَمْ يَقَعْ عَنْ دَلَالَتِهِ قَتْلٌ دَفْعًا لِتَوَهُّمِ أَنَّ مُجَرَّدَ الدَّلَالَةِ مُوجِبَةٌ لِلْجَزَاءِ .
هَذَا وَحَدِيثُ عَطَاءٍ غَرِيبٌ ، وَذَكَرَهُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ ، عَلَى أَنَّ قَوْلَ الطَّحَاوِيِّ هُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عِدَّةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَلَمْ يُرْوَ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافُهُ فَكَانَ إجْمَاعًا يَتَضَمَّنُ رَدَّ الرِّوَايَةِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ .
( قَوْلُهُ : كَالْمُودَعِ ) هَذَا هُوَ الْقِيَاسُ الْآخَرُ .
وَتَقْرِيرُهُ اُلْتُزِمَ عَدَمِ التَّعَرُّضِ لِلصَّيْدِ بِعَقْدٍ خَاصٍّ فَيَضْمَنُ مَا تَلِفَ عَنْ تَرْكِ مَا الْتَزَمَهُ ، كَالْمُودَعِ فَإِنَّهُ الْتَزَمَ الْحِفْظَ كَذَلِكَ فَيَضْمَنُ لَوْ دَلَّ سَارِقًا عَلَى الْوَدِيعَةِ فَسَرَقَهَا ، بِخِلَافِ الْحَلَالِ الَّذِي قَاسَ هُوَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ عَدَمَ التَّعَرُّضِ لِصَيْدِ الْحَرَمِ وَلَا لِلْمُسْلِمِ بِعَقْدٍ خَاصٍّ بَلْ بِعُمُومِ حُكْمِ الْإِسْلَامِ ، وَتَرْكُ ذَلِكَ يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ عَذَابِ الْآخِرَةِ ، فَلِهَذَا لَوْ دَلَّ سَارِقًا عَلَى مَالِ مُسْلِمٍ أَوْ نَفْسِهِ فَقَتَلَهُ تَأَخَّرَ جَزَاؤُهُ الْأَعْظَمُ إلَى الْآخِرَةِ ، وَيُعَزَّرُ فِي الدُّنْيَا مِنْ غَيْرِ تَضْمِينٍ وَإِنْ كَانَتْ جِنَايَتُهُ أَعْظَمَ مِنْ دَلَالَةِ الْمُحْرِمِ عَلَى الصَّيْدِ .
( قَوْلُهُ : لَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكَذِّبِ ) يُفِيدُ لُزُومَ الضَّمَانِ عَلَى الْمُصَدِّقِ .
وَفِي الْكَافِي : لَوْ أَخْبَرَ مُحْرِمًا بِصَيْدٍ فَلَمْ يَرَهُ حَتَّى أَبْصَرَهُ مُحْرِمٌ آخَرُ فَلَمْ يُصَدِّقْ الْأَوَّلَ وَلَمْ يُكَذِّبْهُ ثُمَّ طَلَبَ الصَّيْدَ فَقَتَلَهُ كَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْجَزَاءُ ، وَلَوْ كَذَّبَ الْأَوَّلَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ جَزَاءٌ .
وَمِنْ شَرَائِطِهَا أَيْضًا أَنْ يَتَّصِلَ بِهَا الْقَتْلُ ، وَأَنْ يَبْقَى الدَّالُّ مُحْرِمًا إلَى أَنْ يَقْتُلَهُ الْآخِذُ ، وَأَنْ لَا يَنْفَلِتَ ، فَلَوْ انْفَلَتَ ثُمَّ أَخَذَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَى الدَّالِّ لِانْتِهَاءِ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78