كتاب : فتح القدير
المؤلف : كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي

أَصْلُنَا فِي عَمَلِ الرَّاوِي عَلَى خِلَافِ مَرْوِيِّهِ مَعَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ غَيْرِ الرَّاوِي .
وَعَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحْمَلُ الْإِعْفَاءُ عَلَى إعْفَائِهَا مِنْ أَنْ يَأْخُذَ غَالِبَهَا أَوْ كُلَّهَا ، كَمَا هُوَ فِعْلُ مَجُوسِ الْأَعَاجِمِ مِنْ حَلْقِ لِحَاهُمْ كَمَا يُشَاهَدُ فِي الْهُنُودِ وَبَعْضِ أَجْنَاسِ الْفِرِنْجِ ، فَيَقَعُ بِذَلِكَ الْجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ ، وَيُؤَيِّدُ إرَادَةَ هَذَا مَا فِي مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { جُزُّوا الشَّوَارِبَ وَأَعْفُوا اللِّحَى خَالِفُوا الْمَجُوسَ } فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ .
وَأَمَّا الْأَخْذُ مِنْهَا وَهِيَ دُونَ ذَلِكَ كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْمَغَارِبَةِ وَمُخَنَّثَةُ الرِّجَالِ فَلَمْ يُبِحْهُ أَحَدٌ

( وَلَا بَأْسَ بِالسِّوَاكِ الرَّطْبِ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ لِلصَّائِمِ ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خَيْرُ خِلَالِ الصَّائِمِ السِّوَاكُ } مِنْ خَيْرِ فَصْلٌ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُكْرَهُ بِالْعَشِيِّ لِمَا فِيهِ مِنْ إزَالَةِ الْأَثَرِ الْمَحْمُودِ ، وَهُوَ الْخُلُوفُ فَشَابَهُ دَمَ الشَّهِيدِ .
قُلْنَا : هُوَ أَثَرُ الْعِبَادَةِ اللَّائِقُ بِهِ الْإِخْفَاءُ .
بِخِلَافِ دَمِ الشَّهِيدِ لِأَنَّهُ أَثَرُ الظُّلْمِ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الرَّطْبِ الْأَخْضَرِ وَبَيْنَ الْمَبْلُولِ بِالْمَاءِ لِمَا رَوَيْنَا .

( قَوْلُهُ وَلَا بَأْسَ بِالسِّوَاكِ الرَّطْبِ ) يَعْنِي لِلصَّائِمِ سَوَاءً كَانَتْ رُطُوبَتُهُ بِالْمَاءِ أَوْ مِنْ نَفْسِهِ بِكَوْنِهِ أَخْضَرَ بَعْدُ .
( قَوْلُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يُكْرَهُ ) اسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ وَالْمَعْنَى ، فَالْحَدِيثُ مَا رَوَى الطَّبَرَانِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيّ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إذَا صُمْتُمْ فَاسْتَاكُوا بِالْغَدَاةِ وَلَا تَسْتَاكُوا بِالْعَشِيِّ ، فَإِنَّ الصَّائِمَ إذَا يَبِسَتْ شَفَتَاهُ كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيِّ مَوْقُوفًا عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَفِي الطَّرِيقَيْنِ كَيْسَانُ أَبُو عُمَرَ الْقَصَّابُ ضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ : سَأَلْتُ أَبِي عَنْ كَيْسَانَ أَبِي عُمَرَ فَقَالَ : ضَعِيف الْحَدِيثِ ، ذَكَرَهُ فِي الْمِيزَانِ وَذَكَرَ حَدِيثَهُ هَذَا فِيهِ .
وَالْمَعْنَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ مِنْ أَنَّهُ : إزَالَةُ الْخَلُوفِ الْمَحْمُودِ إلَخْ .
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مِنْ خَيْرِ خِلَالِ الصَّائِمِ السِّوَاكُ } أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَالدَّارَقُطْنِيّ ، وَفِيهِ مُجَالِدٌ ضَعَّفَهُ كَثِيرٌ وَلَيَّنَهُ بَعْضُهُمْ ، وَلَنَا أَيْضًا عُمُومُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عَنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ } إذْ يَدْخُلُ فِي عُمُومِ كُلِّ صَلَاةٍ : الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ وَالْمَغْرِبُ لِلصَّائِمِ وَالْمُفْطِرِ ، وَفِي رِوَايَةِ عِنْدَ النَّسَائِيّ وَصَحِيحِ ابْنِ خُزَيْمَةَ وَصَحَّحَهَا الْحَاكِمُ ، وَعَلَّقَهَا الْبُخَارِيُّ { عِنْدَ كُلِّ وُضُوءٍ } فَيَعُمُّ وُضُوءُ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ .
وَلَنَا أَيْضًا فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { صَلَاةٌ بِسِوَاكٍ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ سَبْعِينَ صَلَاةً بِغَيْرِ سِوَاكٍ } فَهَذِهِ النَّكِرَةُ وَإِنْ كَانَتْ فِي الْإِثْبَاتِ تَعُمُّ لِوَصْفِهَا بِصِفَةٍ عَامَّةٍ فَيَصْدُقُ عَلَى عَصْرِ الصَّائِمِ إذَا اسْتَاكَ فِيهِ أَنَّهَا صَلَاةٌ أَفْضَلُ مِنْ سَبْعِينَ ، كَمَا

يَصْدُقُ عَلَى عَصْرِ الْمُفْطِرِ ، فَهَذِهِ خَالِيَةٌ عَنْ الْمُعَارِضِ ، فَإِنَّ مَا ذَكَرَهُ لَا يَقُومُ حُجَّةً ، أَمَّا الْحَدِيثُ فَإِنَّهُ مَعَ شُذُوذِهِ ضَعِيفٌ ، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلَا يَسْتَلْزِمُ كَرَاهَةَ الِاسْتِيَاكِ لِأَنَّهُ بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ السِّوَاكَ يُزِيلُ الْخَلُوفَ ، وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ ، بَلْ إنَّمَا يُزِيلُ أَثَرُهُ الظَّاهِرُ عَلَى السِّنِّ مِنْ الِاصْفِرَار وَهَذَا لِأَنَّ سَبَبَهُ خُلُوُّ الْمَعِدَةِ مِنْ الطَّعَامِ وَالسِّوَاكِ لَا يُفِيدُ شَغْلُهَا بِطَعَامٍ لِيَرْتَفِعَ السَّبَبُ ، وَلِهَذَا رَوَى عَنْ مُعَاذٍ مِثْلَ مَا قُلْنَا .
رَوَى الطَّبَرَانِيُّ : حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ هَاشِمٍ الْبَغَوِيّ ، حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ .
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ الْحَرَّانِيُّ ، حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ خُنَيْسٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ قَالَ " سَأَلْت مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ : أَتَسَوَّكُ وَأَنَا صَائِمٌ ؟ قَالَ نَعَمْ ، قُلْت : أَيُّ النَّهَارِ أَتَسَوَّكُ ؟ قَالَ : أَيُّ النَّهَارِ شِئْت غَدْوَةً وَعَشِيَّةً ، قُلْت : إنَّ النَّاسَ يَكْرَهُونَهُ عَشِيَّةً ، وَيَقُولُونَ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ } ، فَقَالَ : سُبْحَانُ اللَّهِ لَقَدْ أَمَرَهُمْ بِالسِّوَاكِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا بُدَّ بِفِي الصَّائِمِ خُلُوفٌ وَإِنْ اسْتَاك ، وَمَا كَانَ بِاَلَّذِي يَأْمُرُهُمْ أَنْ يُنْتِنُوا أَفْوَاهَهُمْ عَمْدًا مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْخَيْرِ بَلْ فِيهِ شَيْءٌ ، لَا مَنْ ابْتَلَى بِبَلَاءٍ لَا يَجِدُ مِنْهُ بُدًّا " قَالَ : وَكَذَا الْغُبَارُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ } إنَّمَا يُؤْجَرُ عَلَيْهِ مَنْ اضْطَرَّهُ إلَيْهِ وَلَمْ يَجِدْ عَنْهُ مَحِيصًا .
فَأَمَّا مَنْ أَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْبَلَاءِ عَمْدًا فَمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَجْرِ شَيْءٌ قِيلَ : وَيَدْخُلُ فِي هَذَا أَيْضًا مَنْ تَكَلَّفَ الدَّوَرَانَ تَكْثِيرًا

لِلْمَشْيِ إلَى الْمَسَاجِدِ نَظَرًا إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَكَثْرَةُ الْخُطَا إلَى الْمَسَاجِدِ } وَمَنْ تَصَنَّعَ فِي طُلُوعِ الشَّيْبِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي الْإِسْلَامِ } إنَّمَا يُؤْجَرُ عَلَيْهِمَا مَنْ بُلِيَ بِهِمَا ، وَفِي الْمَطْلُوبِ أَيْضًا أَحَادِيثُ مُضَعَّفَةٌ نَذْكُرُ مِنْهَا شَيْئًا لِلِاسْتِشْهَادِ وَالتَّقْوِيَةِ وَإِنْ لَمْ يَحْتَجْ إلَيْهِ فِي الْإِثْبَاتِ : مِنْهَا مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ : حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الْخُوَارِزْمِيَّ قَالَ : سَأَلْت عَاصِمًا الْأَحْوَلَ أَيَسْتَاكُ الصَّائِمُ بِالسِّوَاكِ الرَّطْبِ ؟ قَالَ : نَعَمْ أَتَرَاهُ أَشَدَّ رُطُوبَةً مِنْ الْمَاءِ ؟ قُلْت : أَوَّلَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ ؟ قَالَ نَعَمْ ، قُلْت : عَمَّنْ رَحِمَك اللَّهُ ؟ قَالَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَالَ : تَفَرَّدَ بِهِ إبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْخُوَارِزْمِيَّ .
وَقَدْ حَدَّثَ عَنْ عَاصِمٍ بِالْمَنَاكِيرِ لَا يُحْتَجُّ بِهِ .
وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي كِتَابِ الضُّعَفَاءِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَاكُ آخِرَ النَّهَارِ وَهُوَ صَائِمٌ } وَأَعَلَّهُ بِأَبِي مَيْسَرَةَ قَالَ : لَا يُحْتَجُّ بِهِ وَرَفْعُهُ بَاطِلٌ .
وَالصَّحِيحُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ قُلْنَا كَفَى ثُبُوتُهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَعَ تَعَدُّدِ الضَّعِيفِ فِيهِ مَعَ تِلْكَ الْعُمُومَاتِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
[ فُرُوعٌ ] صَوْمُ سِتَّةٍ مِنْ شَوَّالٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ كَرَاهَتُهُ ، وَعَامَّةُ الْمَشَايِخِ لَمْ يَرَوْا بِهِ بَأْسًا ، وَاخْتَلَفُوا فَقِيلَ : الْأَفْضَلُ وَصْلُهَا بِيَوْمِ الْفِطْرِ ، وَقِيلَ : بَلْ تَفْرِيقُهَا فِي الشَّهْرِ .
وَجْهُ الْجَوَازِ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ الْفَصْلُ بِيَوْمِ الْفِطْرِ فَلَمْ يَلْزَمْ التَّشَبُّهُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ ، وَجْهُ الْكَرَاهَةِ أَنَّهُ قَدْ يُفْضِي إلَى اعْتِقَادِ لُزُومِهَا مِنْ الْعَوَامّ لِكَثْرَةِ

الْمُدَاوَمَةِ ، وَلِذَا سَمِعْنَا مَنْ يَقُولُ يَوْمَ الْفِطْرِ : نَحْنُ إلَى الْآنَ لَمْ يَأْتِ عِيدُنَا أَوْ نَحْوَهُ ، فَأَمَّا عِنْدَ الْأَمْنِ مِنْ ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ لِوُرُودِ الْحَدِيثِ بِهِ ، وَيُكْرَهُ صَوْمُ يَوْمِ النَّيْرُوزِ وَالْمِهْرَجَانِ لِأَنَّ فِيهِ تَعْظِيمَ أَيَّامٍ نُهِينَا عَنْ تَعْظِيمِهَا ، فَإِنْ وَافَقَ يَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَمَنْ صَامَ شَعْبَانَ وَوَصَلَهُ بِرَمَضَانَ فَحَسَنٌ .
وَيُسْتَحَبُّ صَوْمُ أَيَّامِ الْبِيضِ الثَّالِثَ عَشَرَ ، وَالرَّابِعَ عَشَرَ وَالْخَامِسَ عَشَرَ مَا لَمْ يُظَنَّ إلْحَاقُهُ بِالْوَاجِبِ ، وَكَذَا صَوْمُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَصُومَ قَبْلَهُ يَوْمًا وَبَعْدَهُ يَوْمًا .
فَإِنْ أَفْرَدَهُ فَهُوَ مَكْرُوهٌ لِلتَّشَبُّهِ بِالْيَهُودِ ، وَصَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ لِغَيْرِ الْحَاجِّ مُسْتَحَبٌّ .
وَالْحَاجُّ إنْ كَانَ يُضْعِفُهُ عَنْ الْوُقُوفِ وَالدَّعَوَاتِ فَالْمُسْتَحَبُّ تَرْكُهُ ، وَقِيلَ يُكْرَهُ ، وَهِيَ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ لِأَنَّهُ لِإِخْلَالِهِ بِالْأَهَمِّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ .
اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُسِيءَ خُلُقَهُ فَيُوقِعَهُ فِي مَحْظُورٍ ، وَكَذَا صَوْمُ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ ، لِأَنَّهُ يَعْجِزُ عَنْ أَدَاءِ أَفْعَالِ الْحَجِّ ، وَسَيَأْتِي صَوْمُ الْمُسَافِرِ .
وَيُكْرَهُ صَوْمُ الصَّمْتِ وَهُوَ أَنْ يَصُومَ وَلَا يَتَكَلَّمَ يَعْنِي يَلْتَزِمُ عَدَمَ الْكَلَامِ .
بَلْ يَتَكَلَّمُ بِخَيْرٍ وَلِحَاجَتِهِ إنْ عَنَّتْ ، وَيُكْرَهُ صَوْمُ الْوِصَالِ وَلَوْ يَوْمَيْنِ ، وَيُكْرَهُ صَوْمُ الدَّهْرِ لِأَنَّهُ يُضْعِفُهُ أَوْ يَصِيرُ طَبْعًا لَهُ .
وَمَبْنَى الْعِبَادَةِ عَلَى مُخَالَفَةِ الْعَادَةِ ، وَلَا يَحِلُّ صَوْمُ يَوْمِ الْعِيدِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ ، وَأَفْضَلُ الصِّيَامِ صِيَامُ دَاوُد { صُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا } وَلَا بَأْسَ بِصَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ مُنْفَرِدًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَلَا تَصُومُ الْمَرْأَةُ التَّطَوُّعَ إلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا ، وَلَهُ أَنْ يُفَطِّرَهَا ، وَكَذَا الْمَمْلُوكُ بِالنِّسْبَةِ إلَى السَّيِّدِ إلَّا إذَا كَانَ غَائِبًا ، وَلَا ضَرَرَ فِي ذَلِكَ عَلَيْهِ فَإِنَّ ضَرَرَهُ

ضَرَرٌ بِالسَّيِّدِ فِي مَالِهِ ، وَكُلُّ صَوْمٍ وَجَبَ عَلَى الْمَمْلُوكِ بِسَبَبٍ بَاشَرَهُ كَالْمَنْذُورِ وَصِيَامَاتِ الْكَفَّارَاتِ كَالنَّفْلِ إلَّا كَفَّارَةَ الظِّهَارِ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ حَقِّ الزَّوْجَةِ كَمَا سَتَعْلَمُ فِي الظِّهَارِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

فَصْلٌ ( وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا فِي رَمَضَانَ فَخَافَ إنْ صَامَ ازْدَادَ مَرَضُهُ أَفْطَرَ وَقَضَى ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يُفْطِرُ ، هُوَ يَعْتَبِرُ خَوْفَ الْهَلَاكِ أَوْ فَوَاتَ الْعُضْوِ كَمَا يَعْتَبِرُ فِي التَّيَمُّمِ ، وَنَحْنُ نَقُولُ : إنَّ زِيَادَةَ الْمَرَضِ وَامْتِدَادَهُ قَدْ يُفْضِي إلَى الْهَلَاكِ فَيَجِبُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ ( وَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا لَا يَسْتَضِرُّ بِالصَّوْمِ فَصَوْمُهُ أَفْضَلُ ، وَإِنْ أَفْطَرَ جَازَ ) لِأَنَّ السَّفَرَ لَا يَعْرَى عَنْ الْمَشَقَّةِ فَجُعِلَ نَفْسُهُ عُذْرًا ، بِخِلَافِ الْمَرَضِ فَإِنَّهُ قَدْ يُخَفَّفُ بِالصَّوْمِ فَشُرِطَ كَوْنُهُ مُفْضِيًا إلَى الْحَرَجِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : الْفِطْرُ أَفْضَلُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ } وَلَنَا أَنَّ رَمَضَانَ أَفْضَلُ الْوَقْتَيْنِ فَكَانَ الْأَدَاءُ فِيهِ أَوْلَى ، وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ الْجَهْدِ ( وَإِذَا مَاتَ الْمَرِيضُ أَوْ الْمُسَافِرُ وَهُمَا عَلَى حَالِهِمَا يَلْزَمُهُمَا الْقَضَاءُ ) لِأَنَّهُمَا لَمْ يُدْرِكَا عِدَّةً مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ( وَلَوْ صَحَّ الْمَرِيضُ وَأَقَامَ الْمُسَافِرُ ثُمَّ مَاتَا لَزِمَهُمَا الْقَضَاءُ بِقَدْرِ الصِّحَّةِ وَالْإِقَامَةِ ) لِوُجُودِ الْإِدْرَاكِ بِهَذَا الْمِقْدَارِ .
وَفَائِدَتُهُ وُجُوبُ الْوَصِيَّةِ بِالْإِطْعَامِ .
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ فِيهِ خِلَافًا بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي النَّذْرِ .
وَالْفَرْقُ لَهُمَا أَنَّ النَّذْرَ سَبَبٌ فَيَظْهَرُ الْوُجُوبُ فِي حَقِّ الْخُلْفِ ، وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ السَّبَبُ إدْرَاكُ الْعِدَّةِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ مَا أَدْرَكَ .

( فَصْلٌ ) هَذَا الْفَصْلُ فِي الْعَوَارِضِ وَهِيَ حَرِيَّةٌ بِالتَّأْخِيرِ .
الْأَعْذَارُ الْمُبِيحَةُ لِلْفِطْرِ : الْمَرَضُ .
وَالسَّفَرُ ، وَالْحَبَلُ ، وَالرَّضَاعُ إذَا أَضَرَّ بِهَا أَوْ بِوَلَدِهَا ، وَالْكِبَرُ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ .
وَالْعَطَشُ الشَّدِيدُ وَالْجُوعُ كَذَلِكَ إذَا خِيفَ مِنْهُمَا الْهَلَاكُ ، أَوْ نُقْصَانُ الْعَقْلِ ، كَالْأَمَةِ إذَا ضَعُفَتْ عَنْ الْعَمَلِ وَخَشِيَتْ الْهَلَاكَ بِالصَّوْمِ ، وَكَذَا الَّذِي ذَهَبَ بِهِ مُتَوَكِّلُ السُّلْطَانِ إلَى الْعِمَارَةِ فِي الْأَيَّامِ الْحَارَّةِ ، وَالْعَمَلُ الْحَثِيثُ إذَا خُشِيَ الْهَلَاكُ أَوْ نُقْصَانُ الْعَقْلِ .
وَقَالُوا : الْغَازِي إذَا كَانَ يَعْلَمُ يَقِينًا أَنَّهُ يُقَاتِلُ الْعَدُوَّ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَيَخَافُ الضَّعْفَ إنْ لَمْ يُفْطِرْ ، يُفْطِرُ قَبْلَ الْحَرْبِ مُسَافِرًا كَانَ أَوْ مُقِيمًا .
( قَوْلُهُ هُوَ يَعْتَبِرُ خَوْفَ الْهَلَاكِ ) الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ أَصْحَابِهِمْ أَنَّهُ كَقَوْلِنَا .
وَجْهُ قَوْلِنَا أَنَّ قَوْله تَعَالَى { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } يُبِيحُ الْفِطْرَ لِكُلِّ مَرِيضٍ ، لَكِنَّ الْقَطْعَ بِأَنَّ شَرْعِيَّةَ الْفِطْرِ لَهُ إنَّمَا هُوَ لِدَفْعِ الْحَرَجِ ، وَتَحَقُّقُ الْحَرَجِ مَنُوطٌ بِزِيَادَةِ الْمَرَضِ أَوْ إبْطَاءِ الْبُرْءِ أَوْ فَسَادِ عُضْوٍ ، ثُمَّ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ بِاجْتِهَادِ الْمَرِيضِ ، وَالِاجْتِهَادُ غَيْرُ مُجَرَّدِ الْوَهْمِ ، بَلْ هُوَ غَلَبَةُ الظَّنِّ عَنْ أَمَارَةٍ أَوْ تَجْرِبَةٍ أَوْ بِإِخْبَارِ طَبِيبٍ مُسْلِمٍ غَيْرِ ظَاهِرِ الْفِسْقِ ، وَقِيلَ عَدَالَتُهُ شَرْطٌ ، فَلَوْ بَرِئَ مِنْ الْمَرَضِ لَكِنَّ الضَّعْفَ بَاقٍ وَخَافَ أَنْ يَمْرَضَ سُئِلَ عَنْهُ الْقَاضِي الْإِمَامُ فَقَالَ : الْخَوْفُ لَيْسَ بِشَيْءٍ .
وَفِي الْخُلَاصَةِ : لَوْ كَانَ نَوْبَةُ حُمَّى فَأَكَلَ قَبْلَ أَنْ تَظْهَرَ يَعْنِي فِي يَوْمِ النَّوْبَةِ لَا بَأْسَ بِهِ .
( قَوْلُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : الْفِطْرُ أَفْضَلُ ) وَالْحَقُّ أَنَّ قَوْلَهُ كَقَوْلِنَا وَلَمْ يُحْكَ ذَلِكَ عَنْهُ إنَّمَا هُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَالْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ

وَسَنُورِدُهُ .
وَقَوْلُ الظَّاهِرِيَّةِ إنَّهُ لَا يَجُوزُ الصَّوْمُ لِهَذَا الْحَدِيثِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } فَجَعَلَ السَّبَبَ فِي حَقِّهِ إدْرَاكَ الْعِدَّةِ فَلَا يَجُوزُ قَبْلَ السَّبَبِ ( قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّ رَمَضَانَ أَفْضَلُ الْوَقْتَيْنِ ) وَالصَّوْمُ فِي أَفْضَلِ وَقْتَيْ الصَّوْمِ أَفْضَلُ مِنْهُ فِي غَيْرِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : إنْ أَرَدْتُمْ أَنَّهُ أَفْضَلُ فِي حَقِّ صَوْمِ الْمُقِيمِ فَلَا يُفِيدُ ، وَإِنْ مُطْلَقًا مَنَعْنَاهُ ، وَنُسْنِدُهُ بِمَا رَوَيْنَا وَتَلَوْنَا قُلْنَا : نَخْتَارُ الثَّانِيَ ، وَجْهُهُ عُمُومُ قَوْله تَعَالَى فِي رَمَضَانَ { وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ } وَمَا رَوَيْتُمْ مَخْصُوصٌ بِسَبَبِهِ ، وَهُوَ مَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ فِي سَفَرٍ ، فَرَأَى زِحَامًا وَرَجُلًا قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ قَالُوا صَائِمٌ ، فَقَالَ : لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ } وَكَذَا مَا رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَامَ الْفَتْحِ إلَى مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ فَصَامَ النَّاسُ ، ثُمَّ دَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ فَشَرِبَهُ ، فَقِيلَ لَهُ : إنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ صَامَ ، فَقَالَ : أُولَئِكَ الْعُصَاةُ } مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمْ اسْتَضَرَّوْا بِهِ بِدَلِيلِ مَا وَرَدَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ فِي لَفْظٍ فِيهِ { فَقِيلَ لَهُ إنَّ النَّاسَ قَدْ شَقَّ عَلَيْهِمْ الصَّوْمُ } .
وَرَوَاهُ الْوَاقِدِيُّ فِي الْمَغَازِي ، وَفِيهِ { وَكَانَ أَمَرَهُمْ بِالْفِطْرِ فَلَمْ يَقْبَلُوا } وَالْعِبْرَةُ وَإِنْ كَانَ لِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا لِخُصُوصِ السَّبَبِ ، لَكِنْ يُحْمَلُ عَلَيْهِ دَفْعًا لِلْمُعَارَضَةِ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ فَإِنَّهَا صَرِيحَةٌ فِي الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ ، فَفِي مُسْلِمٍ عَنْ { حَمْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ أَنَّهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجِدُ فِي قُوَّةً عَلَى الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ ؟ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : هِيَ رُخْصَةٌ مِنْ

اللَّهِ فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ أَنَسٍ كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمِنَّا الصَّائِمُ وَمِنَّا الْمُفْطِرُ ، فَلَمْ يَعِبْ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ .
وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ } وَفِيهِ مَا عَنْ { أَبِي الدَّرْدَاءِ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ .
حَتَّى إنَّ أَحَدَنَا لَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ .
وَمَا فِينَا صَائِمٌ إلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } فَهَذِهِ تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الصَّوْمِ .
وَثَمَّ مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ ، وَهُوَ مَا فِي مُسْنَدِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ الْجُمَحِيِّ عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ عَنْ كَعْبِ بْنِ عَاصِمٍ الْأَشْعَرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيْسَ مِنْ امْبِرِّ امْصِيَامٌ فِي امْسَفَرِ } وَهَذِهِ لُغَةُ بَعْضِ أَهْلِ الْيَمَنِ يَجْعَلُونَ مَكَانَ الْأَلِفِ وَاللَّامِ الْأَلِفَ وَالْمِيمَ .
وَعَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ ، وَمَا فِي ابْنِ مَاجَهْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى التَّمِيمِيِّ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صَائِمُ رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ كَالْمُفْطِرِ فِي الْحَضَرِ } وَأَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِيسَى الْمَدَنِيِّ : حَدَّثَنَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ بِهِ ثُمَّ قَالَ : هَذَا حَدِيثٌ أَسْنَدَهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَتَابَعَهُ يُونُسُ .
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ وَغَيْرُهُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ مَوْقُوفًا عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ .
وَلَوْ ثَبَتَ مَرْفُوعًا كَانَ خُرُوجُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حِينَ خَرَجَ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيدَ ثُمَّ أَفْطَرَ وَأَمَرَ

النَّاسَ بِالْفِطْرِ دَلِيلًا عَلَى نَسْخِهِ ا هـ .
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { خَرَجَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَامَ الْفَتْحِ فِي رَمَضَانَ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيدَ ثُمَّ أَفْطَرَ } قَالَ الزُّهْرِيُّ : وَكَانَ الْفِطْرُ آخِرَ الْأَمْرَيْنِ .
وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ : هَكَذَا قَالَ : يَعْنِي الْبَزَّارَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عِيسَى ، وَقَالَ غَيْرُهُ : أَيْ غَيْرُ الْبَزَّارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى وَهُوَ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ .
وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيِّ الْقُرَشِيِّ .
يَرْوِي عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ وَهُوَ لَا بَأْسَ بِهِ ا هـ .
وَهَذَا مِمَّا يَتَمَسَّكُ بِهِ الْقَائِلُونَ بِمَنْعِ الصَّوْمِ لَا غَيْرُهُمْ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ آخِرَ الْأَمْرِ .
فَالْحَاصِلُ التَّعَارُضُ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ ، وَالْجَمْعُ مَا أَمْكَنَ أَوْلَى مِنْ إهْمَالِ أَحَدِهِمَا وَاعْتِبَارِ نَسْخِهِ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ قَاطِعَةٍ فِيهِ .
وَالْجَمْعُ بِمَا قُلْنَا مِنْ حَمْلِ مَا وَرَدَ مِنْ نِسْبَةِ مَنْ لَمْ يُفْطِرْ إلَى الْعِصْيَانِ وَعَدَمِ الْبِرِّ وَفِطْرِهِ بِالْكَدِيدِ عَلَى عُرُوضِ الْمَشَقَّةِ خُصُوصًا .
وَقَدْ وَرَدَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ نَقْلِ وُقُوعِهَا فَيَجِبُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ خُصُوصًا وَأَحَادِيثُ الْجَوَازِ أَقْوَى ثُبُوتًا وَاسْتِقَامَةَ مَجِيءٍ وَأَوْفَقُ لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ } فَعَلَّلَ التَّأْخِيرَ إلَى إدْرَاكِ الْعِدَّةِ بِإِرَادَةِ الْيُسْرِ ، وَالْيُسْرُ أَيْضًا لَا يَتَعَيَّنُ فِي الْفِطْرِ ، بَلْ قَدْ يَكُونُ الْيُسْرُ فِي الصَّوْمِ إذَا كَانَ قَوِيًّا عَلَيْهِ غَيْرَ مُسْتَضِرٍّ بِهِ لِمُوَافَقَةِ النَّاسِ .
فَإِنَّ فِي الِائْتِسَاءِ تَخْفِيفًا ، وَلِأَنَّ النَّفْسَ تَوَطَّنَتْ عَلَى هَذَا الزَّمَانِ مَا لَمْ تَتَوَطَّنْ عَلَى غَيْرِهِ فَالصَّوْمُ فِيهِ أَيْسَرُ عَلَيْهَا .
وَبِهَذَا

التَّعْلِيلِ عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } لَيْسَ مَعْنَاهُ يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ بَلْ الْمَعْنَى فَأَفْطَرَ فَعَلَيْهِ عِدَّةٌ ، أَوْ الْمَعْنَى فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يَحِلُّ لَهُ التَّأْخِيرُ إلَيْهَا لَا كَمَا ظَنَّهُ أَهْلُ الظَّوَاهِرِ .
( قَوْلُهُ وَحَكَى الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيهِ خِلَافًا بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ ) وَهُوَ أَنَّ عِنْدَهُمَا يَلْزَمُهُ إذَا صَحَّ وَأَقَامَ يَوْمًا قَضَاءُ الْكُلِّ فَيَلْزَمُ الْإِيصَاءُ بِالْجَمِيعِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ إنَّمَا يَلْزَمُهُ قَدْرُ مَا صَحَّ وَأَقَامَ ، وَالصَّحِيحُ الِاتِّفَاقُ فِي الْقَضَاءِ وَهُوَ إنَّمَا يَلْزَمُهُ قَدْرُ الصِّحَّةِ وَالْإِقَامَةِ ، وَأَنَّ الْخِلَافَ إنَّمَا هُوَ فِي النَّذْرِ ، وَهُوَ مَا إذَا قَالَ الْمَرِيضُ : لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ شَهْرٍ مَثَلًا فَصَحَّ يَوْمًا ، فَعِنْدَهُمَا يَلْزَمُهُ الْكُلُّ وَالْإِيصَاءُ بِهِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَدْرُ مَا صَحَّ .
وَجْهُ الْفَرْقِ لَهُمَا أَنَّ النَّذْرَ هُوَ السَّبَبُ فِي وُجُوبِ الْكُلِّ فَإِذَا وُجِدَ مِنْهُ فِي الْمَرَضِ وَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، فَإِنْ صَحَّ صَارَ كَأَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ فِي الصِّحَّةِ ، وَالصَّحِيحُ لَوْ قَالَهُ وَمَاتَ قَبْلَ إدْرَاكِ عِدَّةِ الْمَنْذُورِ لَزِمَهُ الْكُلُّ فَكَذَلِكَ هَذَا بِخِلَافِ الْقَضَاءِ لِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ إدْرَاكُ الْعِدَّةِ وَحَقِيقَةُ هَذَا الْكَلَامِ الْمَذْكُورِ فِي النَّذْرِ إنَّمَا يَصِحُّ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ النَّذْرِ بِذَلِكَ غَيْرَ مُوجِبٍ شَيْئًا فِي حَالَةِ الْمَرَضِ وَإِلَّا لَزِمَ الْكُلُّ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ لِتَظْهَرَ فَائِدَتُهُ فِي الْإِيصَاءِ بَلْ هُوَ مُعَلَّقٌ بِالصِّحَّةِ ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ أَدَوَاتِ التَّعْلِيقِ تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِ الْمُكَلَّفِ مَا أَمْكَنَ وَالنَّذْرُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ كَقَوْلِهِ : إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَلِلَّهِ عَلَيَّ كَذَا ، فَيَنْزِلُ عِنْدَ الصِّحَّةِ فَيَجِبُ الْكُلُّ ، ثُمَّ يَعْجِزُ عَنْهُ لِعَدَمِ إدْرَاكِ الْعِدَّةِ فَيَجِبُ الْإِيصَاءُ كَمَا لَوْ لَمْ يُجْعَلْ مُعَلَّقًا فِي

الْمَعْنَى عَلَى مَا قُلْنَا ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : السَّبَبُ إدْرَاكُ الْعِدَّةِ ، فَهَلْ الْمُرَادُ أَنَّ إدْرَاكَ الْعِدَّةِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى الْمَرِيضِ أَوْ الْأَدَاءِ ، فَصَرَّحَ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ فَقَالَ فِي الْفَرْقِ الْمَذْكُورِ : وَسَبَبُ الْقَضَاءِ إدْرَاكُ الْعِدَّةِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ .
وَفِي الْمَبْسُوطِ جَعَلَهُ سَبَبَ وُجُوبِ الْأَدَاءِ .
وَعَلَى ظَاهِرِ الْأَوَّلِ أَنَّ سَبَبَ الْقَضَاءِ عَلَى مَا اعْتَرَفُوا بِصِحَّتِهِ هُوَ سَبَبُ وُجُوبِ الْأَدَاءِ ، فَيَكُونُ إدْرَاكُ الْعِدَّةِ سَبَبَ وُجُوبِ الْأَدَاءِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ ، وَيَلْزَمُ عَدَمُ حِلِّ التَّأْخِيرِ عَنْ أَوَّلِ عِدَّةٍ يُدْرِكُهَا ، فَإِنْ قَالَ : سَبَبُ وُجُوبِ الْأَدَاءِ لَا يَسْتَلْزِمُ حُرْمَةَ التَّأْخِيرِ عَنْهُ .
قُلْنَا : فَلْيَكُنْ نَفْسُ رَمَضَانَ سَبَبَ وُجُوبِ الْأَدَاءِ عَلَى الْمَرِيضِ ، إذْ لَا مَانِعَ مِنْ هَذَا الِاعْتِبَارِ سِوَى ذَلِكَ اللَّازِمِ ، فَإِذَا كَانَ مُنْتَفِيًا لَزِمَ إذْ هُوَ الْأَصْلُ ، وَيَلْزَمُهُ الْإِيصَاءُ بِالْكُلِّ إذَا لَمْ يُدْرِكْ الْعِدَّةَ كَمَا هُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ عَلَى رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ .

( وَقَضَاءُ رَمَضَانَ إنْ شَاءَ فَرَّقَهُ وَإِنْ شَاءَ تَابَعَهُ ) لِإِطْلَاقِ النَّصِّ ، لَكِنَّ الْمُسْتَحَبَّ الْمُتَابَعَةُ مُسَارَعَةً إلَى إسْقَاطِ الْوَاجِبِ ( وَإِنْ أَخَّرَهُ حَتَّى دَخَلَ رَمَضَانُ آخَرُ صَامَ الثَّانِيَ ) لِأَنَّهُ فِي وَقْتِهِ ( وَقَضَى الْأَوَّلَ بَعْدَهُ ) لِأَنَّهُ وَقْتُ الْقَضَاءِ ( وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ ) لِأَنَّ وُجُوبَ الْقَضَاءِ عَلَى التَّرَاخِي ، حَتَّى كَانَ لَهُ أَنْ يَتَطَوَّعَ .
( قَوْلُهُ وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ إنْ أَخَّرَهُ بِغَيْرِ عُذْرٍ ، لِمَا رُوِيَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ فِي رَجُلٍ مَرِضَ فِي رَمَضَانَ فَأَفْطَرَ ثُمَّ صَحَّ فَلَمْ يَصُمْ حَتَّى أَدْرَكَهُ رَمَضَانُ آخَرُ : يَصُومُ الَّذِي أَدْرَكَهُ ثُمَّ يَصُومُ الَّذِي أَفْطَرَ فِيهِ وَيُطْعِمُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا } وَلَنَا إطْلَاقُ قَوْله تَعَالَى { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ ، فَكَانَ وُجُوبُ الْقَضَاءِ عَلَى التَّرَاخِي فَلَا يَلْزَمُهُ بِالتَّأْخِيرِ شَيْءٌ ، غَيْرُ أَنَّهُ تَارِكٌ لِلْأَوْلَى مِنْ الْمُسَارَعَةِ ، وَمَا رَوَاهُ غَيْرُ ثَابِتٍ فَفِي سَنَدِهِ إبْرَاهِيمُ بْنُ نَافِعٍ .
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيّ : كَانَ يَكْذِبُ ، وَفِيهِ أَيْضًا مَنْ اُتُّهِمَ بِالْوَضْعِ .

( وَالْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ إذَا خَافَتَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا أَوْ وَلَدَيْهِمَا أَفْطَرَتَا وَقَضَتَا ) دَفْعًا لِلْحَرَجِ ( وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِمَا ) لِأَنَّهُ إفْطَارٌ بِعُذْرٍ ( وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِمَا ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَا إذَا خَافَتْ عَلَى الْوَلَدِ ، هُوَ يَعْتَبِرُهُ بِالشَّيْخِ الْفَانِي .
وَلَنَا أَنَّ الْفِدْيَةَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فِي الشَّيْخِ الْفَانِي ، وَالْفِطْرَ بِسَبَبِ الْوَلَدِ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ بَعْدَ الْوُجُوبِ ، وَالْوَلَدُ لَا وُجُوبَ عَلَيْهِ أَصْلًا .

( قَوْلُهُ إذَا خَافَتَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا أَوْ وَلَدَيْهِمَا ) يَرُدُّ مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ الْحَوَاشِي مَعْزِيًّا إلَى الذَّخِيرَةِ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُرْضِعِ الظِّئْرُ لِوُجُوبِ الْإِرْضَاعِ عَلَيْهَا بِالْعَقْدِ بِخِلَافِ الْأُمِّ فَإِنَّ الْأَبَ يَسْتَأْجِرُ غَيْرَهَا ، وَكَذَا عِبَارَةُ غَيْرِ الْقُدُورِيِّ أَيْضًا تُفِيدُ أَنَّ ذَلِكَ لِلْأُمِّ ، وَكَذَا إطْلَاقُ الْحَدِيثِ وَهُوَ مَا رَوَى أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ الْمُسَافِرِ الصَّوْمَ وَشَطْرَ الصَّلَاةِ ، وَعَنْ الْحُبْلَى وَالْمُرْضِعِ الصَّوْمَ } وَلِأَنَّ الْإِرْضَاعَ وَاجِبٌ عَلَى الْأُمِّ دِيَانَةً .
( قَوْلُهُ هُوَ يَعْتَبِرُهُ ) أَيْ كُلًّا مِنْ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ ( بِالشَّيْخِ الْفَانِي ) فِي حُكْمٍ هُوَ وُجُوبُ الْفِدْيَةِ بِإِفْطَارِهِ بِجَامِعِ أَنَّهُ انْتَفَعَ بِهِ مَنْ لَمْ يَلْزَمْهُ الصَّوْمُ غَيْرَ أَنَّهُ الْوَلَدُ فِي الْفَرْعِ .
قُلْنَا الْقِيَاسُ مُمْتَنِعٌ بِشَرْعِ الْفِدْيَةِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ ، إذْ لَا مُمَاثَلَةَ تُعْقَلُ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْإِطْعَامِ ، وَالْإِلْحَاقُ دَلَالَةً مُتَعَذِّرٌ ، لِأَنَّ الشَّيْخَ يَجِبُ عَلَيْهِ الصَّوْمُ بِالْعُمُومَاتِ ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى الْفِدْيَةِ لِعَجْزِهِ عَنْهُ ، وَالطِّفْلُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ بَلْ عَلَى أُمِّهِ ، وَلَمْ يَنْتَقِلْ عَنْهَا شَرْعًا إلَى خَلَفٍ غَيْرُ الصَّوْمِ ، بَلْ أُجِيزَ لَهَا التَّأْخِيرُ فَقَطْ رَحْمَةً عَلَى الْوَلَدِ إلَى خَلَفٍ هُوَ الصَّوْمُ ، بِخِلَافِ الشَّيْخِ فَإِنَّهُ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ بَلْ أُقِيمَتْ الْفِدْيَةُ مَقَامَ الصِّيَامِ فِي حَقِّهِ .
وَحَاصِلُ الدَّفْعِ فِيهِمَا أَنَّهُ اخْتَلَفَ الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فَإِنَّهُ فِي الْأَصْلِ وُجُوبُ الْفِدْيَةِ عِوَضًا عَنْ الصَّوْمِ لِسُقُوطِهِ بِهَا وَلَا سُقُوطَ فِي الْحَامِلِ .

( وَالشَّيْخُ الْفَانِي الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الصِّيَامِ يُفْطِرُ وَيُطْعِمُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا كَمَا يُطْعِمُ فِي الْكَفَّارَاتِ ) وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } قِيلَ مَعْنَاهُ : لَا يُطِيقُونَهُ ، وَلَوْ قَدَرَ عَلَى الصَّوْمِ يَبْطُلُ حُكْمُ الْفِدَاءِ لِأَنَّ شَرْطَ الْخَلْفِيَّةِ اسْتِمْرَارُ الْعَجْزِ .

( قَوْلُهُ وَيُطْعِمُ إلَخْ ) وَعَنْ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَجْزًا مُسْتَمِرًّا إلَى الْمَوْتِ ، فَكَانَ كَالْمَرِيضِ إذَا مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَصِحَّ ، وَالْمُسَافِرُ قَبْلَ أَنْ يُقِيمَ ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ .
وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ } الْآيَةَ .
كَانَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُفْطِرَ وَيَفْدِيَ فَعَلَ ، حَتَّى أُنْزِلَتْ الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا نَسَخَتْهَا .
وَلَنَا مَا رَوَى عَطَاءُ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقْرَأُ { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ ، وَهِيَ لِلشَّيْخِ الْكَبِيرِ ، وَالْمَرْأَةِ الْكَبِيرَةِ لَا يَسْتَطِيعَانِ أَنْ يَصُومَا فَيُطْعِمَانِ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ .
وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَلَمْ يُرْوَ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ خِلَافَ ذَلِكَ فَكَانَ إجْمَاعًا .
وَأَيْضًا لَوْ كَانَ لَكَانَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا " لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ " مُقَدَّمًا لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يُقَالُ بِالرَّأْيِ بَلْ عَنْ سَمَاعٍ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ مُثْبَتٌ فِي نَظْمِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَجَعْلُهُ مَنْفِيًّا بِتَقْدِيرِ حَرْفِ النَّفْيِ لَا يُقَدَّمُ عَلَيْهِ إلَّا بِسَمَاعٍ أَلْبَتَّةَ ، وَكَثِيرًا مَا يُضْمَرُ حَرْفُ لَا فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ .
فِي التَّنْزِيلِ الْكَرِيمِ { تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ } أَيْ لَا تَفْتَأُ وَفِيهِ { يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا } أَيْ أَنْ لَا تَضِلُّوا { رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ } وَقَالَ الشَّاعِرُ : فَقُلْت يَمِينَ اللَّهِ أَبْرَحُ قَاعِدًا وَلَوْ قَطَعُوا رَأْسِي لَدَيْك وَأَوْصَالِي أَيْ لَا أَبْرَحُ وَقَالَ : تَنْفَكُّ تَسْمَعُ مَا حَيِيت بِهَالِكٍ حَتَّى تَكُونَهُ أَيْ لَا تَنْفَكُّ ، وَرِوَايَةُ

الْأَفْقَهِ أَوْلَى ، وَلِأَنَّ قَوْله تَعَالَى { وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ } لَيْسَ نَصًّا فِي نَسْخِ إجَازَةِ الِافْتِدَاءِ الَّذِي هُوَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ ، وَهَذَا وَلَوْ كَانَ الشَّيْخُ الْفَانِي مُسَافِرًا فَمَاتَ قَبْلَ الْإِقَامَةِ قِيلَ : يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ عَلَيْهِ الْإِيصَاءُ بِالْفِدْيَةِ ، لِأَنَّهُ يُخَالِفُ غَيْرَهُ فِي التَّخْفِيفِ لَا فِي التَّغْلِيظِ ، فَإِنَّمَا يَنْتَقِلُ وُجُوبُ الصَّوْمِ عَلَيْهِ إلَى الْفِدْيَةِ عِنْدَ وُجُودِ سَبَبِ التَّعْيِينِ ، وَلَا تَعْيِينَ عَلَى الْمُسَافِرِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الِانْتِقَالِ ، وَلَا تَجُوزُ الْفِدْيَةُ إلَّا عَنْ صَوْمٍ هُوَ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ لَا بَدَلٌ عَنْ غَيْرِهِ ، فَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاءُ شَيْءٍ مِنْ رَمَضَانَ فَلَمْ يَقْضِهِ حَتَّى صَارَ شَيْخًا فَانِيًا لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ جَازَتْ لَهُ الْفِدْيَةُ ، وَكَذَا لَوْ نَذَرَ صَوْمَ الْأَبَدِ فَضَعُفَ عَنْ الصَّوْمِ لِاشْتِغَالِهِ بِالْمَعِيشَةِ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ وَيُطْعِمَ ، وَلِأَنَّهُ اسْتَيْقَنَ أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى قَضَائِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْإِطْعَامِ لِعُسْرَتِهِ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَيَسْتَقِيلُهُ ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ لِشِدَّةِ الْحَرِّ كَانَ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ وَيَقْضِيَهُ فِي الشِّتَاءِ إذَا لَمْ يَكُنْ نَذَرَ الْأَبَدَ ، وَلَوْ نَذَرَ يَوْمًا مُعَيَّنًا فَلَمْ يَصُمْ حَتَّى صَارَ فَانِيًا جَازَتْ الْفِدْيَةُ عَنْهُ .
وَلَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ أَوْ قَتْلٍ فَلَمْ يَجِدْ مَا يُكَفِّرُ بِهِ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ عَاجِزٌ عَنْ الصَّوْمِ أَوْ لَمْ يَصُمْ حَتَّى صَارَ شَيْخًا كَبِيرًا لَا تَجُوزُ لَهُ الْفِدْيَةُ لِأَنَّ الصَّوْمَ هُنَا بَدَلٌ عَنْ غَيْرِهِ ، وَلِذَا لَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إلَى الصَّوْمِ إلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ عَمَّا يُكَفِّرُ بِهِ مِنْ الْمَالِ ، فَإِنْ مَاتَ فَأَوْصَى بِالتَّكْفِيرِ جَازَ مِنْ ثُلُثِهِ ، وَهَذَا وَيَجُوزُ فِي الْفِدْيَةِ طَعَامُ الْإِبَاحَةِ أَكْلَتَانِ مُشْبِعَتَانِ بِخِلَافِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى الصَّدَقَةِ فِيهَا ، وَالْإِطْعَامِ فِي الْفِدْيَةِ .
( قَوْلُهُ لِأَنَّ شَرْطَ الْخَلْفِيَّةِ ) أَيْ شَرْطَ وُقُوعِ الْفِدْيَةِ خَلَفًا عَنْ

الصَّوْمِ دَوَامُ الْعَجْزِ عَنْ الصَّوْمِ ، فَخَرَجَ الْمُتَيَمِّمُ إذَا قَدَرَ عَلَى الْمَاءِ لَا تَبْطُلُ الصَّلَوَاتُ الْمُؤَدَّاةُ قَبْلُ بِالتَّيَمُّمِ ، لِأَنَّ خَلْفِيَّةَ التَّيَمُّمِ مَشْرُوطٌ بِمُجَرَّدِ الْعَجْزِ عَنْ الْمَاءِ لَا بِقَيْدِ دَوَامِهِ ، وَكَذَا خَلْفِيَّةُ الْأَشْهُرِ عَنْ الْأَقْرَاءِ فِي الِاعْتِدَادِ مَشْرُوطٌ بِانْقِطَاعِ الدَّمِ مَعَ سِنِّ الْإِيَاسِ لَا بِشَرْطِ دَوَامِهِ ، فَلِذَا يَجِبُ الِاعْتِدَادُ بِالدَّمِ إذَا عَادَ بَعْدَ الِانْقِطَاعِ فِي سِنِّ الْإِيَاسِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، أَوْ فِي الْعِدَّةِ الَّتِي فُرِضَ عَوْدُهُ فِيهَا ، حَتَّى تُسْتَأْنَفَ لِلْقُدْرَةِ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْخُلْفِ لَا فِي الْأَنْكِحَةِ الْمُبَاشَرَةِ حَالَ ذَلِكَ الِانْقِطَاعِ هَذَا هُوَ الْوَاقِعُ مِنْ الْحُكْمِ ، وَمُقْتَضَاهُ كَوْنُ الْخَلْفِيَّةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ لَا عَلَى مَا ذُكِرَ فِي النِّهَايَةِ

( وَمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ قَضَاءُ رَمَضَانَ فَأَوْصَى بِهِ أَطْعَمَ عَنْهُ وَلِيُّهُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ ) لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ الْأَدَاءِ فِي آخِرِ عُمْرِهِ فَصَارَ كَالشَّيْخِ الْفَانِي ، ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ الْإِيصَاءِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَعَلَى هَذَا الزَّكَاةُ .
هُوَ يَعْتَبِرُهُ بِدُيُونِ الْعِبَادِ إذْ كُلُّ ذَلِكَ حَقٌّ مَالِيٌّ تَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ .
وَلَنَا أَنَّهُ عِبَادَةٌ وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الِاخْتِيَارِ .
وَذَلِكَ فِي الْإِيصَاءِ دُونَ الْوِرَاثَةِ لِأَنَّهَا جَبْرِيَّةٌ ، ثُمَّ هُوَ تَبَرُّعٌ ابْتِدَاءً حَتَّى يُعْتَبَرَ مِنْ الثُّلُثِ ، وَالصَّلَاةُ كَالصَّوْمِ بِاسْتِحْسَانِ الْمَشَايِخِ ، وَكُلُّ صَلَاةٍ تُعْتَبَرُ بِصَوْمِ يَوْمٍ هُوَ الصَّحِيحُ ( وَلَا يَصُومُ عَنْهُ الْوَلِيُّ وَلَا يُصَلِّي ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ وَلَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ } .

( قَوْلُهُ وَصَارَ كَالشَّيْخِ الْفَانِي ) إلْحَاقًا بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ لَا بِالْقِيَاسِ .
وَجْهُهُ أَنَّ الْكَلَامَ فِي مَرِيضٍ عَجَزَ عَنْ الْأَدَاءِ وَعَلَيْهِ الصَّوْمُ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ مَنْ سَمِعَ أَنَّ الشَّيْخَ الْفَانِيَ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الصَّوْمِ يُجْزِي عَنْهُ الْإِطْعَامُ عَلِمَ أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ عَجْزُهُ عَجْزًا مُسْتَمِرًّا إلَى الْمَوْتِ ، فَإِنَّ الشَّيْخَ الْفَانِيَ الَّذِي عَلَّقَ عَلَيْهِ هَذَا الْحُكْمَ هُوَ الَّذِي كُلَّ يَوْمٍ فِي نَقْصٍ إلَى أَنْ يَمُوتَ فَيَكُونُ الْوَارِدُ فِي الشَّيْخِ الْفَانِي وَارِدًا فِي الْمَرِيضِ الَّذِي هُوَ بِتِلْكَ الصِّفَةِ ، لَا فَرْقَ إلَّا بِأَنَّ الْوُجُوبَ لَمْ يَسْبِقْ حَالَ جَوَازِ الْإِطْعَامِ فِي الشَّيْخِ الْفَانِي إلَّا بِقَدْرِ مَا يَثْبُتُ ثُمَّ يَنْتَقِلُ ، وَالْمَرِيضُ تَقَرَّرَ الْوُجُوبُ عَلَيْهِ قَبْلَهُ بِإِدْرَاكِ الْعِدَّةِ وَعَجْزُهُ الْآنَ بِسَبَبِ تَقْصِيرِهِ فِي الْمُسَارَعَةِ إلَى الْقَضَاءِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْوُجُوبُ عَلَى التَّرَاخِي لَا يَكُونُ بِذَلِكَ التَّأْخِيرِ جَانِيًا فَلَا أَثَرَ لِهَذَا الْفَرْقِ فِي إيجَابِ افْتِرَاقِ الْحُكْمِ .
وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ مَنَعُوا فِي الْأُصُولِ الْإِلْحَاقَ بِالشَّيْخِ الْفَانِي بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ كَمَا مَنَعُوهُ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ ، لِأَنَّ شَرْطَهُ ظُهُورُ الْمُؤَثِّرِ وَأَثَرِهِ غَيْرَ أَنَّهُ فِي الدَّلَالَةِ لَا يَفْتَقِرُ إلَى أَهْلِيَّةِ الِاجْتِهَادِ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ ، وَذَلِكَ مُنْتَفٍ فِي الشَّيْخِ الْفَانِي ، فَإِنَّ ظُهُورَ الْمُؤَثِّرِ فِيهِ وَهُوَ الْعَجْزُ إنَّمَا يَصْلُحُ لِإِسْقَاطِ الصَّوْمِ .
وَهُنَا مَقَامٌ آخَرُ وَهُوَ وُجُودُ الْفِدْيَةِ وَلَا يُعْقَلُ الْعَجْزُ مُؤَثِّرًا فِي إيجَابِهَا ، لَكِنَّا نَقُولُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْمَنْصُوصَةِ ، وَكَوْنُ الْعَجْزِ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْفِدْيَةِ عِلَّةٌ مَنْصُوصَةٌ ، لِأَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى الْمُشْتَقِّ نَصٌّ عَلَى عِلِّيَّةِ مَبْدَأِ الِاشْتِقَاقِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبِيلِ الصَّرِيحِ عِنْدَنَا بَلْ بِالْإِشَارَةِ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ } أَيْ لَا يُطِيقُونَهُ .
(

قَوْلُهُ ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ الْإِيصَاءِ عِنْدَنَا ) أَيْ فِي لُزُومِ الْإِطْعَامِ عَلَى الْوَارِثِ ( خِلَافًا لِلشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعَلَى هَذَا الزَّكَاةُ ) أَيْ إذَا مَاتَ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنُ الزَّكَاةِ بِأَنْ اسْتَهْلَكَ مَالَ الزَّكَاةِ بَعْدَ الْحَوْلِ وَالْعُشْرَ بَعْدَ وَقْتِ وُجُوبِهِ لَا يَجِبُ عَلَى وَارِثِهِ أَنْ يُخْرِجَ عَنْهُ الزَّكَاةَ وَالْعُشْرَ إلَّا أَنْ يُوصِيَ بِذَلِكَ ، ثُمَّ إذَا أَوْصَى فَإِنَّمَا يَلْزَمُ الْوَارِثَ إخْرَاجُهُمَا إذَا كَانَا يَخْرُجَانِ مِنْ الثُّلُثِ ، فَإِنْ زَادَ دَيْنُهُمَا عَلَى الثُّلُثِ لَا يَجِبُ عَلَى الْوَارِثِ ، فَإِنْ أَخْرَجَ كَانَ مُتَطَوِّعًا عَنْ الْمَيِّتِ وَيُحْكَمُ بِجَوَازِ إجْزَائِهِ .
وَلِذَا قَالَ مُحَمَّدٌ فِي تَبَرُّعِ الْوَارِثِ : يُجْزِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، كَمَا إذَا أَوْصَى بِالْإِطْعَامِ عَنْ الصَّلَوَاتِ عَلَى مَا يُذْكَرُ ، وَيَصِحُّ التَّبَرُّعُ فِي الْكِسْوَةِ وَالْإِطْعَامِ لَا الْإِعْتَاقِ لِأَنَّ فِي الْإِعْتَاقِ بِلَا إيصَاءٍ إلْزَامُ الْوَلَاءِ عَلَى الْمَيِّتِ ، وَلَا إلْزَامَ فِي الْكِسْوَةِ وَالْإِطْعَامِ .
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : { جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ أَفَأَقْضِيهِ عَنْهَا ؟ فَقَالَ : لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكَ دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ عَنْهَا ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ } وَفِي رِوَايَةٍ { جَاءَتْ امْرَأَةٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذْرٍ أَفَأَصُومُ عَنْهَا ؟ الْحَدِيثَ ، إلَى أَنْ قَالَ فَصُومِي عَنْ أُمِّكِ } .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ } قُلْنَا : الِاتِّفَاقُ عَلَى صَرْفِ الْأَوَّلِ عَنْ ظَاهِرِهِ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ فِي الصَّلَاةِ الدَّيْنُ ، وَقَدْ أَخْرَجَ النَّسَائِيّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَهُوَ

رَاوِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ فِي سُنَنِهِ الْكُبْرَى أَنَّهُ قَالَ " لَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ وَلَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ " وَفَتْوَى الرَّاوِي عَلَى خِلَافِ مَرْوِيِّهِ بِمَنْزِلَةِ رِوَايَتِهِ لِلنَّاسِخِ ، وَنَسْخُ الْحُكْمِ يَدُلُّ عَلَى إخْرَاجِ الْمَنَاطِ عَنْ الِاعْتِبَارِ ، وَلِذَا صَرَّحُوا بِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْقِيَاسِ أَنْ لَا يَكُونَ حُكْمُ الْأَصْلِ مَنْسُوخًا لِأَنَّ التَّعْدِيَةَ بِالْجَامِعِ ، وَنَسْخُ الْحُكْمِ يَسْتَلْزِمُ إبْطَالَ اعْتِبَارِهِ ، إذْ لَوْ كَانَ مُعْتَبَرًا لَاسْتَمَرَّ تَرْتِيبُ الْحُكْمِ عَلَى وَفْقِهِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَحْوُهُ ، أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَذَكَرَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ بَلَاغًا فَقَالَ مَالِكٌ : وَلَمْ أَسْمَعْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا مِنْ التَّابِعِينَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِالْمَدِينَةِ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ أَمَرَ أَحَدًا أَنْ يَصُومَ عَنْ أَحَدٍ وَلَا يُصَلِّيَ عَنْ أَحَدٍ ا هـ .
وَهَذَا مِمَّا يُؤَيِّدُ النَّسْخَ ، وَأَنَّهُ الْأَمْرُ الَّذِي اسْتَقَرَّ الشَّرْعُ عَلَيْهِ آخِرًا ، وَإِذَا أُهْدِرَ كَوْنُ الْمَنَاطِ الدَّيْنَ فَإِنَّمَا يُعَلَّلُ لِوُجُوبِ الْأَدَاءِ عَنْ الْمَيِّتِ عَلَى الْوَارِثِ بِدَيْنِ الْعِبَادِ فَإِنَّهُ مَحَلُّ الِاتِّفَاقِ ، وَلَيْسَ هُوَ الْكَائِنَ فِي صُورَةِ النِّزَاعِ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْوَارِثِ إلَّا بِالْإِيصَاءِ ، ثُمَّ إذَا أَوْصَى لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا بِقَدْرِ الثُّلُثِ إلَّا أَنْ يَتَطَوَّعَ ، وَعَلَى هَذَا دَيْنُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالنَّفَقَةُ الْوَاجِبَةِ وَالْكَفَّارَاتُ الْمَالِيَّةُ وَالْحَجُّ وَفِدْيَةُ الصِّيَامَاتِ الَّتِي عَلَيْهِ وَالصَّدَقَةُ الْمَنْذُورَةُ وَالْخَرَاجُ وَالْجِزْيَةُ ، وَهَذَا لِأَنَّ هَذِهِ بَيْنَ عُقُوبَةٍ وَعِبَادَةٍ ، فَمَا كَانَ عِبَادَةً فَشَرْطُ إجْزَائِهَا النِّيَّةُ لِيَتَحَقَّقَ أَدَاؤُهَا مُخْتَارًا فَيَظْهَرَ اخْتِيَارُهُ الطَّاعَةَ مِنْ اخْتِيَارِهِ الْمَعْصِيَةَ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ التَّكْلِيفِ ، وَفِعْلُ الْوَارِثِ مِنْ غَيْرِ أَمْرِ الْمُبْتَلَى بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَا يُحَقِّقُ اخْتِيَارَهُ ، بَلْ لَمَّا مَاتَ مِنْ غَيْرِ

فِعْلٍ وَلَا أَمْرٍ بِهِ فَقَدْ تَحَقَّقَ عِصْيَانُهُ بِخُرُوجِهِ مِنْ دَارِ التَّكْلِيفِ وَلَمْ يَمْتَثِلْ ، وَذَلِكَ يُقَرِّرُ عَلَيْهِ مُوجَبَ الْعِصْيَانِ ، إذْ لَيْسَ فِعْلُ الْوَارِثِ الْفِعْلَ الْمَأْمُورَ بِهِ فَلَا يَسْقُطُ بِهِ الْوَاجِبُ ، كَمَا لَوْ تَبَرَّعَ بِهِ حَالَ حَيَاتِهِ وَمَا كَانَ فِيهَا مَعَ ذَلِكَ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ ، فَلَا يَخْفَى أَنَّهُ فَاتَ فِيهِ الْأَمْرَانِ إذْ لَمْ يَتَحَقَّقْ إيقَاعُ مَا يَسْتَشِقُّهُ مِنْهُ لِيَكُونَ زَاجِرًا لَهُ ، بِخِلَافِ دُيُونِ الْعِبَادِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْأَمْرِ بِأَدَائِهَا وُصُولُ الْمَالِ إلَى مَنْ هُوَ لَهُ لِيَدْفَعَ بِهِ حَاجَتَهُ ، وَلِذَا إذَا ظَفِرَ مَنْ لَهُ بِجِنْسِهِ كَانَ لَهُ أَخْذُهُ وَيَسْقُطُ عَنْ ذِمَّةِ مَنْ عَلَيْهِ فَلَزِمَتْ مِنْ غَيْرِ إيصَاءٍ لِتَحَقُّقِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِفِعْلِ الْوَارِثِ هُنَا ، وَعَنْ هَذَا قُلْنَا : لَا يُورَثُ خِيَارُ الشَّرْطِ وَالرُّؤْيَةُ لِأَنَّهُ رَأْيٌ كَانَ لِلْمَيِّتِ ، بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْعَيْنِ فِي الْمَعْنَى اُحْتُبِسَ عِنْدَ الْبَائِعِ .
وَإِذَا عَلِمْت مَا ذَكَرْنَا عَلِمْت أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى إنَّمَا هِيَ الْأَفْعَالُ إذْ بِهَا تَظْهَرُ الطَّاعَةُ وَالِامْتِثَالُ ، وَمَا كَانَ مَالِيًّا مِنْهَا ، فَالْمَالُ مُتَعَلِّقُ الْمَقْصُودِ : أَعْنِي الْفِعْلَ ، وَقَدْ سَقَطَتْ الْأَفْعَالُ كُلُّهَا بِالْمَوْتِ لِتَعَذُّرِ ظُهُورِ طَاعَتِهِ بِهَا فِي دَارِ التَّكْلِيفِ ، فَكَانَ الْإِيصَاءُ بِالْمَالِ الَّذِي هُوَ مُتَعَلِّقُهَا تَبَرُّعًا مِنْ الْمَيِّتِ ابْتِدَاءً فَيُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ ، بِخِلَافِ دَيْنِ الْعِبَادِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِيهَا نَفْسُ الْمَالِ لَا الْفِعْلُ ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي التَّرِكَةِ فَيُؤْخَذُ مِنْهَا بِلَا إيصَاءٍ .
( قَوْلُهُ وَالصَّلَاةُ كَالصَّوْمِ بِاسْتِحْسَانِ الْمَشَايِخِ ) وَجْهُهُ : أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ قَدْ ثَبَتَتْ شَرْعًا بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْإِطْعَامِ وَالْمُمَاثَلَةُ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ ثَابِتَةٌ ، وَمِثْلُ مِثْلِ الشَّيْءِ جَازَ أَنْ يَكُونَ مِثْلًا لِذَلِكَ الشَّيْءِ وَعَلَى تَقْدِيرِ ذَلِكَ يَجِبُ الْإِطْعَامُ ،

وَعَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِهَا لَا يَجِبُ ، فَالِاحْتِيَاطُ فِي الْإِيجَابِ ، فَإِنْ كَانَ الْوَاقِعُ ثُبُوتَ الْمُمَاثَلَةِ حَصَلَ الْمَقْصُودُ الَّذِي هُوَ السُّقُوطُ وَإِلَّا كَانَ بِرًّا مُبْتَدَأً يَصْلُحُ مَاحِيًا لِلسَّيِّئَاتِ ، وَلِذَا قَالَ مُحَمَّدٌ فِيهِ يُجْزِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ جَزْمٍ كَمَا قَالَ فِي تَبَرُّعِ الْوَارِثِ بِالْإِطْعَامِ ، بِخِلَافِ إيصَائِهِ بِهِ عَنْ الصَّوْمِ فَإِنَّهُ جَزَمَ بِالْإِجْزَاءِ .
( قَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ ) احْتِرَازٌ مِنْ قَوْلِ ابْنِ مُقَاتِلٍ : إنَّهُ يُطْعِمُ لِكُلِّ صَلَاةِ يَوْمٍ مِسْكِينًا لِأَنَّهَا كَصِيَامِ يَوْمٍ ثُمَّ رَجَعَ إلَى مَا فِي الْكِتَابِ ، لِأَنَّ كُلَّ صَلَاةٍ فَرْضٌ عَلَى حِدَةٍ فَكَانَتْ كَصَوْمِ يَوْمٍ .

( وَمَنْ دَخَلَ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ أَوْ فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ ثُمَّ أَفْسَدَهُ قَضَاهُ ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ .
لَهُ أَنَّهُ تَبَرَّعَ بِالْمُؤَدَّى فَلَا يَلْزَمُهُ مَا لَمْ يَتَبَرَّعْ بِهِ .
وَلَنَا أَنَّ الْمُؤَدَّى قُرْبَةٌ وَعَمَلٌ فَتَجِبُ صِيَانَتُهُ بِالْمُضِيِّ عَنْ الْإِبْطَالِ ، وَإِذَا وَجَبَ الْمُضِيُّ وَجَبَ الْقَضَاءُ بِتَرْكِهِ .
ثُمَّ عِنْدَنَا لَا يُبَاحُ الْإِفْطَارُ فِيهِ بِغَيْرِ عُذْرٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ لِمَا بَيَّنَّا وَيُبَاحُ بِعُذْرٍ ، وَالضِّيَافَةُ عُذْرٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَفْطِرْ وَاقْضِ يَوْمًا مَكَانَهُ } .

( قَوْلُهُ وَمَنْ دَخَلَ فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ ثُمَّ أَفْسَدَهُ قَضَاهُ ) لَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ إذَا فَسَدَ عَنْ قَصْدٍ أَوْ غَيْرِ قَصْدٍ بِأَنْ عَرَضَ الْحَيْضُ لِلصَّائِمَةِ الْمُتَطَوِّعَةِ ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَإِنَّمَا اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ فِي نَفْسِ الْفَسَادِ هَلْ يُبَاحُ أَوَّلًا ؟ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ لَا إلَّا بِعُذْرٍ ، وَرِوَايَةُ الْمُنْتَقَى يُبَاحُ بِلَا عُذْرٍ .
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ رَحِمَهُمْ اللَّهُ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ هَلْ الضِّيَافَةُ عُذْرٌ أَوْ لَا ؟ قِيلَ نَعَمْ ، وَقِيلَ لَا ، وَقِيلَ عُذْرٌ قَبْلَ الزَّوَالِ لَا بَعْدَهُ ، إلَّا إذَا كَانَ فِي عَدَمِ الْفِطْرِ بَعْدَهُ عُقُوقٌ لِأَحَدِ الْوَالِدَيْنِ لَا غَيْرِهِمَا حَتَّى لَوْ حَلَفَ عَلَيْهِ رَجُلٌ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ لَيُفْطِرَنَّ لَا يُفْطِرُ .
وَقِيلَ : إنْ كَانَ صَاحِبُ الطَّعَامِ يَرْضَى بِمُجَرَّدِ حُضُورِهِ وَإِنْ لَمْ يَأْكُلْ لَا يُبَاحُ الْفِطْرُ ، وَإِنْ كَانَ يَتَأَذَّى بِذَلِكَ يُفْطِرُ ، وَاعْتِقَادِي أَنَّ رِوَايَةَ الْمُنْتَقَى أَوْجَهُ ، وَعَلَى اعْتِبَارِ ذَلِكَ يَنْصَبُّ الْكَلَامُ فِي خِلَافِيَّةِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ آخِرًا ، وَيَتَبَيَّنُ وَجْهُ اخْتِيَارِنَا لَهَا فِي ضِمْنِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَأَحْسَنُ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ مَا فِي مُسْلِمٍ عَنْ { عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقَالَ : هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ ؟ فَقُلْنَا لَا ، قَالَ : فَإِنِّي إذًا صَائِمٌ ثُمَّ أَتَانَا يَوْمًا آخَرَ فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ أُهْدِيَ لَنَا حَيْسٌ ، قَالَ : أَرِينِيهِ فَلَقَدْ أَصْبَحْتُ صَائِمًا ، فَأَكَلَ وَفِي لَفْظٍ فَأَكَلَ ، وَقَالَ : قَدْ كُنْتُ أَصْبَحْتُ صَائِمًا } فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْإِتْمَامِ ، وَلُزُومُ الْقَضَاءِ مُرَتَّبٌ عَلَى وُجُوبِهِ فَلَا يَجِبُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أُمِّ هَانِئٍ مَوْقُوفًا " الصَّائِمُ الْمُتَطَوِّعُ أَمِيرُ نَفْسِهِ إنْ شَاءَ

صَامَ وَإِنْ شَاءَ أَفْطَرَ " وَفِي كُلٍّ مِنْ سَنَدِهِ وَمَتْنِهِ اخْتِلَافٌ .
وَتَكَلَّمَ عَلَيْهِ الْبَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا : صَحَّ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَرَجَ مِنْ الْمَدِينَةِ حَتَّى إذَا كَانَ بِكُرَاعِ الْغَمِيمِ وَهُوَ صَائِمٌ رَفَعَ إنَاءً فَشَرِبَ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ وَفِي لَفْظٍ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الْعَصْرِ زَادَ مُسْلِمٌ عَامَ الْفَتْحِ } وَفِيهِ دَلَالَةٌ لِلتَّأْخِيرِ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَلَمَّا كَانَ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ فِي صَوْمِ الْفَرْضِ أَنْ لَا يَدْخُلَ فِيهِ لِلسَّفَرِ كَانَ لَهُ إذَا دَخَلَ فِيهِ أَنْ يُفْطِرَ كَمَا فَعَلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، فَالتَّطَوُّعُ أَوْلَى .
وَحَاصِلُهُ اسْتِدْلَالٌ بِفِطْرِهِ فِي الْفَرْضِ بَعْدَ الشُّرُوعِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِ عَلَى إبَاحَةِ فِطْرِهِ فِي النَّفْلِ بَعْدَ الشُّرُوعِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِ .
وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ حَسَنٌ جِدًّا .
وَلَنَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْقِيَاسُ ؛ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى { وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى { وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } الْآيَةُ سِيقَتْ فِي مَعْرِضِ ذَمِّهِمْ عَلَى عَدَمِ رِعَايَةِ مَا الْتَزَمُوهُ مِنْ الْقُرَبِ الَّتِي لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِمْ ، وَالْقَدْرُ الْمُؤَدِّي عَمَلٌ كَذَلِكَ فَوَجَبَ صِيَانَتُهُ عَنْ الْإِبْطَالِ بِهَذَيْنِ النَّصَّيْنِ ، فَإِذَا أَفْطَرَ وَجَبَ قَضَاؤُهُ تَفَادِيًا عَنْ الْإِبْطَالِ ، وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ { عَائِشَةَ قَالَتْ كُنْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ صَائِمَتَيْنِ فَعَرَضَ لَنَا طَعَامٌ اشْتَهَيْنَاهُ فَأَكَلْنَا مِنْهُ ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَدَرَتْنِي إلَيْهِ حَفْصَةُ وَكَانَتْ ابْنَةَ أَبِيهَا فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا كُنَّا صَائِمَتَيْنِ فَعَرَضَ عَلَيْنَا طَعَامٌ اشْتَهَيْنَاهُ فَأَكَلْنَا مِنْهُ قَالَ : اقْضِيَا يَوْمًا آخَرَ مَكَانَهُ }

وَأَعَلَّهُ الْبُخَارِيُّ بِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ لِزَمِيلٍ سَمَاعٌ مِنْ عُرْوَةَ ، وَلَا لِيَزِيدَ سَمَاعٌ مِنْ عُرْوَةَ ، وَأَعَلَّهُ التِّرْمِذِيُّ بِأَنَّ الزُّهْرِيَّ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عُرْوَةَ .
فَقَالَ : رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ صَالِحُ بْنُ أَبِي الْأَخْضَرِ وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا .
وَرَوَى مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَمَعْمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ زِيَادِ بْنِ سَعْدٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْحُفَّاظِ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا .
وَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ عُرْوَةَ ، وَهَذَا أَصَحُّ ، ثُمَّ أُسْنِدَ إلَى ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ : سَأَلْت الزُّهْرِيَّ أَحَدَّثَك عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ؟ قَالَ : لَمْ أَسْمَعْ مِنْ عُرْوَةَ فِي هَذَا شَيْئًا .
وَلَكِنْ سَمِعْنَا فِي خِلَافَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ مِنْ نَاسٍ عَنْ بَعْضِ مَنْ سَأَلَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ ا هـ .
قُلْنَا : قَوْلُ الْبُخَارِيِّ مَبْنِيٌّ عَلَى اشْتِرَاطِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ ، وَالْمُخْتَارُ الِاكْتِفَاءُ بِالْعِلْمِ بِالْمُعَاصَرَةِ عَلَى مَا مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ ، وَلَوْ سَلِمَ إعْلَالُهُ وَإِعْلَالُ التِّرْمِذِيِّ فَهُوَ قَاصِرٌ عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ فَإِنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ طَرِيقٌ آخَرُ ، لَكِنْ قَدْ رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ غَيْرِهَا عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ { عَائِشَةَ قَالَتْ أَصْبَحْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ صَائِمَتَيْنِ مُتَطَوِّعَتَيْنِ } الْحَدِيثَ ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ غَيْرَهُمَا عَنْ خُصَيْفٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ الْحَدِيثَ .
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ مِنْ حَدِيثِ خُصَيْفٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِ غَيْرِهَا عَنْ حَمَّادِ بْنِ الْوَلِيدِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ أَصْبَحَتْ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ رَضِيَ اللَّهُ

عَنْهُمَا وَحَمَّادُ بْنُ الْوَلِيدِ لَيِّنُ الْحَدِيثِ ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ غَيْرِ الْكُلِّ فِي الْوَسِيطِ .
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ هَارُونَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِهْرَانَ الْجَمَّالُ قَالَ : ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ الْمَكِّيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرَوَيْهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ { أُهْدِيَتْ لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا هَدِيَّةٌ وَهُمَا صَائِمَتَانِ فَأَكَلَتَا مِنْهَا فَذَكَرَتَا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : اقْضِيَا يَوْمًا مَكَانَهُ وَلَا تَعُودَا } فَقَدْ ثَبَتَ هَذَا الْحَدِيثُ ثُبُوتًا لَا مَرَدَّ لَهُ لَوْ كَانَ كُلُّ طَرِيقٍ مِنْ هَذِهِ ضَعِيفًا لِتَعَدُّدِهَا وَكَثْرَةِ مَجِيئِهَا ، وَثَبَتَ فِي ضِمْنِ ذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ الْمَجْهُولَ فِي قَوْلِ الزُّهْرِيِّ فِيمَا أَسْنَدَ التِّرْمِذِيُّ إلَيْهِ عَنْ بَعْضِ مَنْ سَأَلَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ ثِقَةٌ أَخْبَرَ بِالْوَاقِعِ ، فَكَيْفَ وَبَعْضُ طُرُقِهِ مِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ .
وَحَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُ أَمْرُ نَدْبٍ خُرُوجٌ عَنْ مُقْتَضَاهُ بِغَيْرِ مُوجِبٍ ، بَلْ هُوَ مَحْفُوفٌ بِمَا يُوجِبُ مُقْتَضَاهُ وَيُؤَكِّدُ ، وَهُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } كَلَامُ الْمُفَسِّرِينَ فِيهَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ لَا تُحْبِطُوا الطَّاعَاتِ بِالْكَبَائِرِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى { لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ } إلَى أَنْ قَالَ { أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ } وَكَلَامُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ هَذَا قَوْلُ الصَّحَابَةِ ، أَوْ لَا تُبْطِلُوهَا بِمَعْصِيَتِهِمَا : أَيْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، أَوْ الْإِبْطَالُ بِالرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَعَنْهُ بِالشَّكِّ وَالنِّفَاقِ أَوْ بِالْعُجْبِ ، وَالْكُلُّ يُفِيدُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِبْطَالِ إخْرَاجُهَا عَنْ أَنْ تَتَرَتَّب عَلَيْهَا فَائِدَةٌ أَصْلًا كَأَنَّهَا لَمْ تُوجَدْ .
وَهَذَا غَيْرُ الْإِبْطَالِ الْمُوجِبِ لِلْقَضَاءِ فَلَا تَكُونُ الْآيَةُ بِاعْتِبَارِ

الْمُرَادِ دَلِيلًا عَلَى مَنْعِ هَذَا الْإِبْطَالِ ، بَلْ دَلِيلًا عَلَى مَنْعِهِ بِدُونِ قَضَاءٍ ، فَيَكُونُ دَلِيلُ رِوَايَةِ الْمُنْتَقَى عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّهَا إبَاحَةُ الْفِطْرِ مَعَ إيجَابِ الْقَضَاءِ ، وَلِهَذَا اخْتَرْنَاهَا لِأَنَّ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ بِاعْتِبَارِ الْمُرَادِ مِنْهَا عَلَى سِوَى ذَلِكَ .
وَالْأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ لَا تُفِيدُ سِوَى إيجَابِ الْقَضَاءِ إلَّا مَا كَانَ مِنْ الزِّيَادَةِ الَّتِي فِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ وَهِيَ قَوْلُهُ " وَلَا تَعُودَا " وَهِيَ مَعَ كَوْنِهَا مُتَفَرَّدًا بِهَا لَا تَقْوَى قُوَّةَ حَدِيثِ مُسْلِمٍ الْمُتَقَدِّمِ الِاسْتِدْلَال بِهِ لِلشَّافِعِيِّ ، فَبَعْدَ تَسْلِيمِ ثُبُوتِ الْحُجِّيَّةِ يُحْمَلُ عَلَى النَّدْبِ ، وَكَذَا حَدِيثُ الْبُخَارِيِّ { آخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ ، فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً فَقَالَ لَهَا مَا شَأْنُكِ ؟ قَالَتْ : أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا ، فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا فَقَالَ كُلْ ، قَالَ : فَإِنِّي صَائِمٌ ، قَالَ : مَا آكُلُ حَتَّى تَأْكُلَ فَأَكَلَ ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ ، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ نَمْ فَنَامَ ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ فَقَالَ نَمْ ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ قَالَ سَلْمَانُ قُمْ الْآنَ ، قَالَ : فَصَلَّيَا فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ : إنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : صَدَقَ سَلْمَانُ } وَهَذَا مِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الضِّيَافَةَ عُذْرٌ ، وَكَذَا مَا أَسْنَدَ الدَّارَقُطْنِيُّ إلَى جَابِرٍ قَالَ { صَنَعَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَعَامًا فَدَعَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ ، فَلَمَّا أَتَى بِالطَّعَامِ تَنَحَّى رَجُلٌ مِنْهُمْ ،

فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : مَا لَكَ ؟ قَالَ : إنِّي صَائِمٌ ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : تَكَلَّفَ أَخُوكَ وَصَنَعَ طَعَامًا ثُمَّ تَقُولُ إنِّي صَائِمٌ ، كُلْ وَصُمْ يَوْمًا مَكَانَهُ } .
فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ كَوْنِ الْفِطْرِ مَمْنُوعًا إذْ لَا يُعْهَدُ لِلضِّيَافَةِ أَثَرٌ فِي إسْقَاطِ الْوَاجِبَاتِ ، وَلِذَا مَنَعَ الْمُحَقِّقُونَ كَوْنَهَا عُذْرًا كَالْكَرْخِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ الرَّازِيّ ، وَاسْتَدَلَّا بِمَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إلَى طَعَامٍ فَلْيُجِبْ ، فَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيَأْكُلْ ، وَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُصَلِّ : أَيْ فَلْيَدْعُ لَهُمْ } وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِحَالِ هَذَا الْحَدِيثِ .
وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ : ثَبَتَ مَوْقُوفٌ عَلَى إبْدَاءِ ثَبْتٍ ، ثُمَّ لَا يَقْوَى قُوَّةَ حَدِيثِ سَلْمَانَ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ عَلَى رِوَايَةِ الْمُنْتَقَى تَتَظَافَرُ الْأَدِلَّةُ وَلَا يُعَارِضُ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ مَا يُثْبِتُهَا عَلَى مَا لَا يَخْفَى ، وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَعَلَى الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ النَّفَلَيْنِ حَيْثُ يَجِبُ قَضَاؤُهُمَا إذَا أُفْسِدَا .

( وَإِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ أَوْ أَسْلَمَ الْكَافِرُ فِي رَمَضَانَ أَمْسَكَا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمَا ) قَضَاءً لِحَقِّ الْوَقْتِ بِالتَّشَبُّهِ ( وَلَوْ أَفْطَرَا فِيهِ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِمَا ) لِأَنَّ الصَّوْمَ غَيْرُ وَاجِبٍ فِيهِ ( وَصَامَا بَعْدَهُ ) لِتَحَقُّقِ السَّبَبِ وَالْأَهْلِيَّةِ ( وَلَمْ يَقْضِيَا يَوْمَهُمَا وَلَا مَا مَضَى ) لِعَدَمِ الْخِطَابِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الصَّلَاةِ لِأَنَّ السَّبَبَ فِيهَا الْجُزْءُ الْمُتَّصِلُ بِالْأَدَاءِ فَوُجِدَتْ الْأَهْلِيَّةُ عِنْدَهُ ، وَفِي الصَّوْمِ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ وَالْأَهْلِيَّةُ مُنْعَدِمَةٌ عِنْدَهُ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ إذَا زَالَ الْكُفْرُ أَوْ الصِّبَا قَبْلَ الزَّوَالِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ ، لِأَنَّهُ أَدْرَكَ وَقْتَ النِّيَّةِ .
وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ الصَّوْمَ لَا يَتَجَزَّأُ وُجُوبًا وَأَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ مُنْعَدِمَةٌ فِي أَوَّلِهِ إلَّا أَنَّ لِلصَّبِيِّ أَنْ يَنْوِيَ التَّطَوُّعَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ دُونَ الْكَافِرِ عَلَى مَا قَالُوا ، لِأَنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّطَوُّعِ أَيْضًا ، وَالصَّبِيُّ أَهْلٌ لَهُ .

( قَوْلُهُ وَإِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ إلَخْ ) كُلُّ مَنْ تَحَقَّقَ بِصِفَةٍ أَثْنَاءَ النَّهَارِ أَوْ قَارَنَ ابْتِدَاءُ وُجُودِهَا طُلُوعَ الْفَجْرِ وَتِلْكَ الصِّفَةُ بِحَيْثُ لَوْ كَانَتْ قَبْلَهُ وَاسْتَمَرَّتْ مَعَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ تَشَبُّهًا كَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ يَطْهُرَانِ بَعْدَ الْفَجْرِ أَوْ مَعَهُ ، وَالْمَجْنُونِ يُفِيقُ ، وَالْمَرِيضِ يَبْرَأُ ، وَالْمُسَافِرِ يَقْدَمُ بَعْدَ الزَّوَالِ أَوْ قَبْلَهُ بَعْدَ الْأَكْلِ ، أَمَّا إذَا قَدِمَ قَبْلَ الزَّوَالِ وَالْأَكْلِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الصَّوْمُ لِمَا فِي الْكِتَابِ ، وَكَذَا لَوْ كَانَ نَوَى الْفِطْرَ وَلَمْ يُفْطِرْ حَتَّى قَدِمَ فِي وَقْتِ النِّيَّةِ وَجَبَ عَلَيْهِ نِيَّةُ الصَّوْمِ ، وَاَلَّذِي أَفْطَرَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً أَوْ مُكْرَهًا أَوْ أَكَلَ يَوْمَ الشَّكِّ ثُمَّ اسْتَبَانَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ أَوْ أَفْطَرَ عَلَى ظَنِّ غُرُوبِ الشَّمْسِ ، أَوْ تَسَحَّرَ قَبْلَ الْفَجْرِ .
وَقِيلَ الْإِمْسَاكُ مُسْتَحَبٌّ لَا وَاجِبٌ ، لِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْحَائِضِ تَطْهُرُ نَهَارًا : لَا يَحْسُنُ أَنْ تَأْكُلَ وَتَشْرَبَ وَالنَّاسُ صِيَامٌ .
وَالصَّحِيحُ الْوُجُوبُ لِأَنَّ مُحَمَّدًا قَالَ فَلْيَصُمْ ، وَقَالَ فِي الْحَائِضِ فَلْتَدَعْ .
وَقَوْلُ الْإِمَامِ لَا يَحْسُنُ تَعْلِيلٌ لِلْوُجُوبِ : أَيْ لَا يَحْسُنُ بَلْ يَقْبُحُ ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ فِي بَعْضِهَا فَقَالَ فِي الْمُسَافِرِ : إذَا أَقَامَ بَعْدَ الزَّوَالِ إنِّي أَسْتَقْبِحُ أَنْ يَأْكُلَ وَيَشْرَبَ وَالنَّاسُ صِيَامٌ وَهُوَ مُقِيمٌ ، فَبَيَّنَ مُرَادَهُ بِعَدَمِ الِاسْتِحْسَانِ ، وَلِأَنَّهُ الْمُوَافِقُ لِلدَّلِيلِ ، وَهُوَ مَا ثَبَتَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالْإِمْسَاكِ لِمَنْ أَكَلَ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ حِينَ كَانَ وَاجِبًا ، وَلَا يَخْفَى عَلَى مُتَأَمِّلٍ فَوَائِدُ قُيُودِ الضَّابِطِ ، وَقُلْنَا : كُلُّ مَنْ تَحَقَّقَ أَوْ قَارَنَ وَلَمْ نَقُلْ مَنْ صَارَ بِصِفَةٍ إلَخْ لِيَشْمَلَ مَنْ أَكَلَ عَمْدًا فِي نَهَارِ رَمَضَانَ لِأَنَّ الصَّيْرُورَةَ لِلتَّحَوُّلِ ، وَلَوْ لِامْتِنَاعِ مَا يَلِيهِ وَلَا يَتَحَقَّقُ الْمُفَادُ بِهِمَا

فِيهِ .
( قَوْلُهُ لِأَنَّ الصَّوْمَ غَيْرُ وَاجِبٍ فِيهِ عَلَيْهِمَا ) وَقَالَ زُفَرُ فِي الْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ : يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ ذَلِكَ الْيَوْمِ لِأَنَّ إدْرَاكَ جُزْءٍ مِنْ الْوَقْتِ بَعْدَ الْأَهْلِيَّةِ مُوجِبٌ كَمَا فِي الصَّلَاةِ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ جَوَابُهُ فِي الصَّبِيِّ إذَا بَلَغَ كَذَلِكَ .
وَنَحْنُ نُفَرِّقُ بِأَنَّ السَّبَبَ فِي الصَّلَاةِ الْجُزْءُ الْقَائِمُ عِنْدَ الْأَهْلِيَّةِ أَيَّ جُزْءٍ كَانَ ، فَتَحَقَّقَ الْمُوجِبُ فِي حَقِّهِمَا ، وَفِي الصَّوْمِ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ وَلَمْ يُصَادِفْهُ أَهْلًا .
وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُمْ فِي الْأُصُولِ الْوَاجِبُ الْمُؤَقَّتُ قَدْ يَكُونُ الْوَقْتُ فِيهِ سَبَبًا لِلْمُؤَدَّيْ وَظَرْفًا لَهُ كَوَقْتِ الصَّلَاةِ أَوْ سَبَبًا وَمِعْيَارًا وَهُوَ مَا يَقَعُ فِيهِ مُقَدَّرًا بِهِ كَوَقْتِ الصَّوْمِ تَسَاهُلٌ إذْ يَقْتَضِي أَنَّ السَّبَبَ تَمَامُ الْوَقْتِ فِيهِمَا وَقَدْ بَانَ خِلَافُهُ ، ثُمَّ عَلَى مَا بَانَ مِنْ تَحْقِيقِ الْمُرَادِ قَدْ يُقَالُ : يَلْزَمُ أَنْ لَا يَجِبَ الْإِمْسَاكُ فِي نَفْسِ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنْ الْيَوْمِ لِأَنَّهُ هُوَ السَّبَبُ لِلْوُجُوبِ ، وَإِلَّا لَزِمَ سَبْقُ الْوُجُوبِ عَلَى السَّبَبِ لِلُزُومِ تَقَدُّمِ السَّبَبِ ، فَالْإِيجَابُ فِيهِ يَسْتَدْعِي سَبَبًا سَابِقًا ، وَالْفَرْضُ خِلَافُهُ ، وَلَوْ لَمْ يَسْتَلْزِمْ ذَلِكَ لَزِمَ كَوْنُ مَا ذَكَرُوهُ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ مِنْ أَنَّ السَّبَبِيَّةَ تُضَافُ إلَى الْجُزْءِ الْأَوَّلِ ، فَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ عَقِيبَهُ انْتَقَلَتْ إلَى مَا يَلِي ابْتِدَاءَ الشُّرُوعِ ، فَإِنْ لَمْ يَشْرَعْ إلَى الْجُزْءِ الْأَخِيرِ تَقَرَّرَتْ السَّبَبِيَّةُ فِيهِ ، وَاعْتُبِرَ حَالُ الْمُكَلَّفِ عِنْدَهُ تَكَلُّفًا مُسْتَغْنًى عَنْهُ إذْ لَا دَاعِيَ لِجَعْلِهِ مَا يَلِيهِ دُونَ مَا وَقَعَ فِيهِ .
( قَوْلُهُ عَلَى مَا قَالُوا ) إشَارَةٌ إلَى الْخِلَافِ ، وَأَكْثَرُ الْمَشَايِخِ عَلَى هَذَا الْفَرْقِ ، وَهُوَ أَنَّ الصَّبِيَّ كَانَ أَهْلًا فَتَتَوَقَّفُ إمْسَاكَاتُهُ فِي حَقِّ الصَّوْمِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ عَلَى وُجُودِ النِّيَّةِ فِي وَقْتِهَا ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ أَهْلًا أَصْلًا فَلَا تَتَوَقَّفُ فَيَقَعُ فِطْرًا فَلَا

يَعُودُ صَوْمًا ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَمَسَّكَ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا بِمَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي الصَّبِيِّ يَبْلُغُ وَالْكَافِرُ يُسْلِمُ ، قَالَ : هُمَا سَوَاءٌ ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ نِيَّةِ كُلٍّ مِنْهُمَا لِلتَّطَوُّعِ

( وَإِذَا نَوَى الْمُسَافِرُ الْإِفْطَارَ ثُمَّ قَدِمَ الْمِصْرَ قَبْلَ الزَّوَالِ فَنَوَى الصَّوْمَ أَجْزَأَهُ ) لِأَنَّ السَّفَرَ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ الْوُجُوبِ وَلَا صِحَّةَ الشُّرُوعِ ( وَإِنْ كَانَ فِي رَمَضَانَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ ) لِزَوَالِ الْمُرَخِّصِ فِي وَقْتِ النِّيَّةِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُقِيمًا فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ ثُمَّ سَافَرَ لَا يُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ تَرْجِيحًا لِجَانِبِ الْإِقَامَةِ فَهَذَا أَوْلَى ، إلَّا أَنَّهُ إذَا أَفْطَرَ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ لَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ لِقِيَامِ شُبْهَةِ الْمُبِيحِ .

( قَوْلُهُ وَإِذَا نَوَى الْمُسَافِرُ الْإِفْطَارَ ) أَيْ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ وَإِنْ كَانَ فِي رَمَضَانَ ، ثُمَّ نِيَّةُ الْإِفْطَارِ لَيْسَ بِشَرْطٍ ، بَلْ إذَا قَدِمَ قَبْلَ الزَّوَالِ وَالْأَكْلِ وَجَبَ عَلَيْهِ صَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ بِنِيَّةٍ يُنْشِئُهَا .
( قَوْلُهُ أَلَا تَرَى إلَخْ ) يَعْنِي أَنَّ الْمُرَخِّصَ السَّفَرُ ، فَلَمَّا لَمْ يَتَحَقَّقْ فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ كَانَ الْخِطَابُ مُتَوَجِّهًا عَلَيْهِ بِتَعَيُّنِ الصَّوْمِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ فِيهِ بِحُدُوثِ إنْشَائِهِ .
وَقَدْ يُشْكِلُ عَلَيْهِ مَا صَحَّ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِمَّا قَدَّمْنَاهُ { أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ الْمَدِينَةِ عَامَ الْفَتْحِ حَتَّى إذَا كَانَ بِكُرَاعِ الْغَمِيمِ وَهُوَ صَائِمٌ رَفَعَ إنَاءً فَشَرِبَ } اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُدْفَعَ بِتَجْوِيزِ كَوْنِ خُرُوجِهِ كَانَ قَبْلَ الْفَجْرِ وَفِيهِ بُعْدٌ ، وَأَيْضًا قَوْلُهُمْ : مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ الْمُرَخِّصُ ، فَالْخِطَابُ بِالصَّوْمِ عَيْنًا مَمْنُوعٌ ، لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ بِتَعَيُّنِهِ إنْ لَمْ يُحْدِثْ سَفَرًا فِي أَثْنَاءِ الْيَوْمِ فَيَجِبُ الشُّرُوعُ قَبْلَهُ ، فَإِذَا سَافَرَ فِي أَثْنَاءِ الْيَوْمِ زَالَ التَّعَيُّنُ لِأَنَّهُ كَانَ بِشَرْطِ عَدَمِهِ ، وَهَذَا الْبَحْثُ مَذْهَبُ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ حَكَاهُ بَعْضُ شَارِحِي كِتَابِ مُسْلِمٍ ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى تَعَيُّنِ صَوْمِهِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ إبَاحَةَ الْفِطْرِ لِلْمُسَافِرِ إذَا لَمْ يَنْوِ الصَّوْمَ ، فَإِذَا نَوَاهُ لَيْلًا وَأَصْبَحَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُضَ عَزِيمَتَهُ قَبْلَ الْفَجْرِ أَصْبَحَ صَائِمًا فَلَا يَحِلُّ فِطْرُهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ ، لَكِنْ لَوْ أَفْطَرَ فِيهِ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُبِيحَ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةِ وَهُوَ السَّفَرُ قَائِمٌ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً وَبِهَا تَنْدَفِعُ الْكَفَّارَةُ .
وَيُشْكِلُ عَلَيْهِ حَدِيثُ كُرَاعِ الْغَمِيمِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ فِطْرَهُ عِنْدَهُ لَيْسَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي خَرَجَ فِيهِ مِنْ الْمَدِينَةِ لِأَنَّهُ مَسَافَةٌ بَعِيدَةٌ لَا يَصِلُ إلَيْهَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ ، بَلْ مَعْنَى قَوْلِ الرَّاوِي حَتَّى

إذَا كَانَ بِكُرَاعِ الْغَمِيمِ وَهُوَ صَائِمٌ أَنَّهُ كَانَ صَائِمًا حِينَ وَصَلَ إلَيْهِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ صَوْمُ يَوْمٍ لَمْ يَكُنْ فِي أَوَّلِهِ مُقِيمًا غَيْرَ أَنَّهُ شَرَعَ فِي صَوْمِ الْفَرْضِ وَهُوَ مُسَافِرٌ ثُمَّ أَفْطَرَ .
وَتَبَيَّنَ بِهَذَا انْدِفَاعُ الْإِشْكَالِ عَنْ تَعَيُّنِ الصَّوْمِ فِي الْيَوْمِ الَّذِي أَنْشَأَ فِيهِ السَّفَرَ وَتَقْرِيرُهُ عَلَى تَعَيُّنِ صَوْمِ الْيَوْمِ الَّذِي شَرَعَ فِي صَوْمِهِ عَنْ الْفَرْضِ وَهُوَ مُسَافِرٌ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إنْ كَانَ بُلُوغُهُ كُرَاعَ الْغَمِيمِ فِي الْيَوْمِ الَّذِي خَرَجَ فِيهِ أَشْكَلَ عَلَى الْأَوَّلِ ، وَإِنْ كَانَ فِيمَا بَعْدُ أَشْكَلَ عَلَى مَا بَعْدَهُ وَلَا مُخَلِّصَ إلَّا بِتَجْوِيزِ كَوْنِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ بُلُوغَ الْجَهْدِ الْمُبِيحِ لِفِطْرِ الْمُقِيمِ وَنَحْوِهِ مِمَّنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ وَخَشِيَ الْهَلَاكَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( قَوْلُهُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ ) هُمَا إذَا أَنْشَأَ السَّفَرَ بَعْدَ الصَّوْمِ وَإِذَا صَامَ مُسَافِرًا ثُمَّ أَقَامَ

( وَمَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فِي رَمَضَانَ لَمْ يَقْضِ الْيَوْمَ الَّذِي حَدَثَ فِيهِ الْإِغْمَاءُ ) لِوُجُودِ الصَّوْمِ فِيهِ وَهُوَ الْإِمْسَاكُ الْمَقْرُونُ بِالنِّيَّةِ إذْ الظَّاهِرُ وُجُودُهَا مِنْهُ ( وَقَضَى مَا بَعْدَهُ ) لِانْعِدَامِ النِّيَّةِ ( وَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنْهُ قَضَاهُ كُلَّهُ غَيْرَ يَوْمِ تِلْكَ اللَّيْلَةِ ) لِمَا قُلْنَا .
وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَقْضِي مَا بَعْدَهُ لِأَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ عِنْدَهُ يَتَأَدَّى بِنِيَّةِ وَاحِدَةٍ بِمَنْزِلَةِ الِاعْتِكَافِ ، وَعِنْدَنَا لَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ لِكُلِّ يَوْمٍ لِأَنَّهَا عِبَادَاتٌ مُتَفَرِّقَةٌ ، لِأَنَّهُ يَتَخَلَّلُ بَيْنَ كُلِّ يَوْمَيْنِ مَا لَيْسَ بِزَمَانٍ لِهَذِهِ الْعِبَادَةِ .
بِخِلَافِ الِاعْتِكَافِ ( وَمَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فِي رَمَضَانَ كُلِّهِ قَضَاهُ ) لِأَنَّهُ نَوْعُ مَرَضٍ يُضْعِفُ الْقُوَى وَلَا يُزِيلُ الْحِجَا فَيَصِيرُ عُذْرًا فِي التَّأْخِيرِ لَا فِي الْإِسْقَاطِ .
( قَوْلُهُ لِأَنَّهُ نَوْعُ مَرَضٍ يُضْعِفُ الْقَوِيَّ وَلَا يُزِيلُ الْحِجَا ) أَيْ الْعَقْلَ وَلِهَذَا اُبْتُلِيَ بِهِ مَنْ هُوَ مَعْصُومٌ مِنْ زَوَالِ الْعَقْلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا قَدْ أَسْلَفْنَاهُ فِي بَابِ الْإِمَامَةِ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ

( وَمَنْ جُنَّ رَمَضَانَ كُلَّهُ لَمْ يَقْضِهِ ) خِلَافًا لِمَالِكٍ هُوَ يَعْتَبِرُهُ بِالْإِغْمَاءِ .
وَلَنَا أَنَّ الْمُسْقِطَ هُوَ الْحَرَجُ وَالْإِغْمَاءُ لَا يَسْتَوْعِبُ الشَّهْرَ عَادَةً فَلَا حَرَجَ ، وَالْجُنُونُ يَسْتَوْعِبُهُ فَيَتَحَقَّقُ الْحَرَجُ ( وَإِنْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ فِي بَعْضِهِ قَضَى مَا مَضَى ) خِلَافًا لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
هُمَا يَقُولَانِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ ، وَالْقَضَاءُ مُرَتَّبٌ عَلَيْهِ ، وَصَارَ كَالْمُسْتَوْعَبِ .
وَلَنَا أَنَّ السَّبَبَ قَدْ وُجِدَ وَهُوَ الشَّهْرُ وَالْأَهْلِيَّةُ بِالذِّمَّةِ ، وَفِي الْوُجُوبِ فَائِدَةٌ وَهُوَ صَيْرُورَتُهُ مَطْلُوبًا عَلَى وَجْهٍ لَا يَخْرُجُ فِي أَدَائِهِ ، بِخِلَافِ الْمُسْتَوْعَبِ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ فِي الْأَدَاءِ فَلَا فَائِدَةَ وَتَمَامُهُ فِي الْخِلَافِيَّاتِ ، ثُمَّ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَصْلِيِّ وَالْعَارِضِيِّ ، قِيلَ هَذَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ إذَا بَلَغَ مَجْنُونًا الْتَحَقَ بِالصَّبِيِّ فَانْعَدَمَ الْخِطَابُ بِخِلَافِ مَا إذَا بَلَغَ عَاقِلًا ثُمَّ جُنَّ ، وَهَذَا مُخْتَارُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ

( قَوْلُهُ وَمَنْ جُنَّ رَمَضَانَ كُلَّهُ ) قَالَ الْحَلْوَانِيُّ : الْمُرَادُ فِيمَا يُمْكِنُهُ إنْشَاءُ الصَّوْمِ فِيهِ ، حَتَّى لَوْ أَفَاقَ بَعْدَ الزَّوَالِ مِنْ الْيَوْمِ الْأَخِيرِ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ لِأَنَّ الصَّوْمَ لَا يَصِحُّ فِيهِ كَاللَّيْلِ ، وَاَلَّذِي يُعْطِيهِ الْوَجْهُ الْآتِي ذِكْرُهُ خِلَافُهُ .
( قَوْلُهُ فَيَكُونُ عُذْرًا فِي التَّأْخِيرِ لَا فِي الْإِسْقَاطِ ) رَتَّبَهُ بِالْفَاءِ عَلَى كَوْنِهِ لَا يُزِيلُ الْعَقْلَ بَلْ يُضْعِفُهُ نَتِيجَةً لَهُ .
فَحَاصِلُهُ لَمَّا كَانَ غَيْرَ مُزِيلٍ لَمْ يَسْقُطْ فَيَتَبَادَرُ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ أَزَالَهُ كَانَ مُسْقِطًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، فَإِنَّ الْجُنُونَ مُزِيلٌ لَهُ وَلَا يَسْقُطُ بِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُزِيلٌ لَهُ بَلْ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُلْزِمٌ لِلْحَرَجِ ، فَكَانَ الْأَوْلَى فِي التَّعْلِيلِ التَّعْلِيلُ بِعَدَمِ لُزُومِ الْحَرَجِ فِي إلْزَامِ قَضَاءِ الشَّهْرِ بِالْإِغْمَاءِ فِيهِ كُلِّهِ بِخِلَافِ جُنُونِ الشَّهْرِ كُلِّهِ ، فَإِنَّ تَرْتِيبَ قَضَاءِ الشَّهْرِ عَلَيْهِ مُوجِبٌ لِلْحَرَجِ ، وَهَذَا لِأَنَّ امْتِدَادَ الْإِغْمَاءِ شَهْرًا مِنْ النَّوَادِرِ لَا يَكَادُ يُوجَدُ وَإِلَّا كَانَ رُبَّمَا يَمُوتُ ، فَإِنَّهُ لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ وَلَا حَرَجَ فِي تَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَى مَا هُوَ مِنْ النَّوَادِرِ ، بِخِلَافِ الْجُنُونِ فَإِنَّ امْتِدَادَهُ شَهْرًا غَالِبٌ فَتَرْتِيبُ الْقَضَاءِ مَعَهُ مُوجِبٌ لِلْحَرَجِ .
وَقَدْ سَلَكَ الْمُصَنِّفُ مَسْلَكَ التَّحْقِيقِ فِي تَعْلِيلِ عَدَمِ إلْزَامِ الْقَضَاءِ بِجُنُونِ الشَّهْرِ ، حَيْثُ قَالَ : وَلَنَا أَنَّ الْمُسْقِطَ هُوَ الْحَرَجُ .
ثُمَّ قَالَ : وَالْإِغْمَاءُ لَا يَسْتَوْعِبُ الشَّهْرَ عَادَةً فَلَا حَرَجَ ، فَأَفَادَ تَعْلِيلَ وُجُوبِ قَضَاءِ الشَّهْرِ إذَا أُغْمِيَ عَلَيْهِ فِيهِ كُلِّهِ بِعَدَمِ الْحَرَجِ ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ تَعْلِيلٌ بِعَدَمِ الْمَانِعِ لِأَنَّ الْحَرَجَ مَانِعٌ ، لَكِنَّ الْمُرَادَ أَنَّ انْتِفَاءَ الْوُجُوبِ إنَّمَا يَكُونُ لِمَانِعِ الْحَرَجِ وَلَا حَرَجَ لِنُدْرَةِ امْتِدَادِ الْإِغْمَاءِ شَهْرًا .
وَبَسْطُ مَبْنَى هَذَا أَنَّ الْوُجُوبَ الَّذِي يَثْبُتُ جَبْرًا بِالسَّبَبِ أَعْنِي أَصْلَ

الْوُجُوبِ لَا يَسْقُطُ بِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْعَقْلِ لِعَدَمِهِ أَوْ ضَعْفِهِ ، بَلْ يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ مُتَعَلِّقِهِ مُجَرَّدَ إيصَالِ الْمَالِ لِجِهَةٍ كَالنَّفَقَةِ وَالدَّيْنِ ثَبَتَ الْوُجُوبُ مَعَ هَذَا الْعَجْزِ ، لِأَنَّ هَذَا الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِفِعْلِ النَّائِبِ فَيُطَالِبُ بِهِ وَلِيَّهُ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا نَفْسُ الْفِعْلِ لِيَظْهَرَ مَقْصُودُ الِابْتِلَاءِ مِنْ اخْتِيَارِ الطَّاعَةِ أَوْ الْمَعْصِيَةِ فَلَا يَخْلُو مِنْ كَوْنِ هَذَا الْعَجْزِ الْكَائِنِ بِسَبَبِ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْعَقْلِ مِمَّا يَلْزَمُهُ الِامْتِدَادُ أَوْ لَا يَمْتَدُّ عَادَةً أَوْ قَدْ وَقَدْ .
فَفِي الْأَوَّلِ لَا يَثْبُتُ الْوُجُوبُ كَالصِّبَا لِأَنَّهُ يَسْتَتْبِعُ فَائِدَتَهُ ، وَهِيَ إمَّا فِي الْأَدَاءِ وَهُوَ مُنْتَفٍ إذْ لَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْخِطَابُ بِالْأَدَاءِ فِي حَالَةِ الصِّبَا أَوْ فِي الْقَضَاءِ وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْحَرَجِ الْبَيِّنِ فَانْتَفَى ، وَفِي الثَّانِي لَا يَسْقُطُ الْوُجُوبُ مَعَهُ ، بَلْ يَثْبُتُ شَرْعًا لِيَظْهَرَ أَثَرُهُ فِي الْخُلْفِ وَهُوَ الْقَضَاءُ فَيَصِلَ بِذَلِكَ إلَى مَصْلَحَتِهِ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ رَحْمَةً عَلَيْهِ كَالنَّوْمِ ، فَلَوْ نَامَ تَمَامَ وَقْتِ الصَّلَاةِ وَجَبَ قَضَاؤُهَا شَرْعًا ، فَعِلْمنَا أَنَّ الشَّرْعَ اعْتَبَرَ هَذَا الْعَارِضَ بِسَبَبِ أَنَّهُ لَا يَمْتَدُّ غَالِبًا عَدَمًا إذْ لَا حَرَجَ فِي ثُبُوتِ الْوُجُوبِ مَعَهُ لِيَظْهَرَ حُكْمُهُ فِي الْخُلْفِ ، ثُمَّ لَوْ نَامَ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَجَبَ الْقَضَاءُ أَيْضًا لِأَنَّهُ نَادِرٌ لَا يَكَادُ يَتَحَقَّقُ فَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ تَغَيُّرَ الِاعْتِبَارِ الَّذِي ثَبَتَ فِيهِ شَرْعًا ، أَعْنِي اعْتِبَارَهُ عَدَمًا إذْ لَا حَرَجَ فِي النَّوَادِرِ ، وَفِي الثَّالِثِ أَدَرْنَا ثُبُوتَ الْوُجُوبِ وَعَدَمَهُ عَلَى ثُبُوتِ الْحَرَجِ إلْحَاقًا لَهُ إذَا ثَبَتَ بِمَا يَلْزَمُهُ الِامْتِدَادُ ، وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ بِمَا لَمْ يَمْتَدَّ عَادَةً فَقُلْنَا فِي الْإِغْمَاءِ يَلْحَقُ فِي حَقِّ الصَّوْمِ بِمَا لَا يَمْتَدُّ وَهُوَ النَّوْمُ ، فَلَا يَسْقُطُ مَعَهُ

الْوُجُوبُ ، إذَا امْتَدَّ تَمَامَ الشَّهْرِ بَلْ يَثْبُتُ لِيَظْهَرَ حُكْمُهُ فِي الْقَضَاءِ لِعَدَمِ الْحَرَجِ إذْ لَا حَرَجَ فِي النَّادِرِ لِأَنَّ النَّادِرَ إنَّمَا يُفْرَضُ فَرْضًا ، وَرُبَّمَا لَمْ يَتَحَقَّقْ قَطُّ وَامْتِدَادُ الْإِغْمَاءِ شَهْرًا كَذَاكَ .
وَفِي حَقِّ الصَّلَاةِ بِمَا يَمْتَدُّ إذَا زَادَ عَلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِثُبُوتِ الْحَرَجِ بِثُبُوتِ الْكَثْرَةِ بِالدُّخُولِ فِي حَدِّ التَّكْرَارِ فَلَا يَقْضِي شَيْئًا وَبِمَا لَا يَمْتَدُّ وَهُوَ النَّوْمُ إذَا لَمْ يَزِدْ عَلَيْهَا لِعَدَمِ الْحَرَجِ ، وَقُلْنَا فِي الْجُنُونِ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ كَذَلِكَ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فِي بَابِ صَلَاةِ الْمَرِيضِ لِاتِّحَادِ اللَّازِمِ فِيهِمَا ، وَفِي حَقِّ الصَّوْمِ إنْ اسْتَوْعَبَ الشَّهْرَ أُلْحِقَ بِمَا يَلْزَمُهُ الِامْتِدَادُ لِأَنَّ امْتِدَادَ الْجُنُونِ شَهْرًا كَثِيرٌ غَيْرُ نَادِرٍ .
فَلَوْ ثَبَتَ الْوُجُوبُ مَعَ اسْتِيعَابِهِ لَزِمَ الْحَرَجُ ، وَإِذَا لَمْ يَسْتَوْعِبْهُ بِمَا لَا يَمْتَدُّ لِأَنَّ صَوْمَ مَا دُونَ الشَّهْرِ فِي سَنَةٍ لَا يُوقِعُ فِي الْحَرَجِ .
وَأَيْضًا أَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْقَضَاءِ إذَا كَانَ الْجُنُونُ فِي الْغَالِبِ يَسْتَمِرُّ شَهْرًا وَأَكْثَرَ .
وَهَذَا التَّقْرِيرُ يُوجِبُ أَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَصْلِيِّ وَالْعَارِضِيِّ وَبَيْنَ أَنْ يُفِيقَ الْمَجْنُونُ فِي وَقْتِ النِّيَّةِ مِنْ آخِرِ يَوْمٍ أَوْ بَعْدَهُ خِلَافًا لِمَا قَالَهُ الْحَلْوَانِيُّ وَإِنْ اخْتَارَهُ بَعْضُهُمْ ، ثُمَّ نَقَلَ الْمُصَنِّفُ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا هُوَ فِي الْكِتَابِ ، وَقَدَّمْنَا فِي الزَّكَاةِ الْخِلَافَ فِي نَقْلِ هَذَا الْخِلَافِ فَجُعِلَ هَذَا التَّفْصِيلُ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ ، وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ عَدَمَ التَّفْصِيلِ .
وَقِيلَ الْخِلَافُ عَلَى عَكْسِهِ وَهُوَ مَا نَقَلَهُ الْمُصَنِّفُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَيَّدَ التَّفْصِيلَ بِثُبُوتِ التَّفْصِيلِ شَرْعًا فِي الْعِدَّةِ بِالْأَشْهُرِ وَالْحَيْضِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِيَّةِ امْتِدَادِ الطُّهْرِ وَعَارِضِيَّتِهِ ، فَإِنَّ الطُّهْرَ إذَا امْتَدَّ امْتِدَادًا أَصْلِيًّا بِأَنْ بَلَغَتْ الصَّغِيرَةُ بِالسِّنِّ وَلَمْ تَرَ دَمًا

فَإِنَّهَا تَعْتَدُّ بِالْأَشْهُرِ بَعْدَ الْبُلُوغِ ، وَلَوْ بَلَغَتْ بِالْحَيْضِ ثُمَّ امْتَدَّ طُهْرُهَا اعْتَدَّتْ بِالْحَيْضِ فَلَا تَخْرُجُ مِنْ الْعِدَّةِ إلَى أَنْ تَدْخُلَ سِنَّ الْإِيَاسِ ، فَتَعْتَدُّ بِالْأَشْهُرِ ، وَلَا يَخْفَى عَلَى مُتَأَمِّلٍ عَدَمَ لُزُومِهِ فَإِنَّ الْمَدَارَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لُزُومُ الْحَرَجِ وَعَدَمُهُ وَفِي الْعِدَّةِ الْمُتَّبَعُ النَّصُّ وَهُوَ يُوجِبُ ذَلِكَ التَّفْصِيلَ .
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( قَوْلُهُ وَفِي الْوُجُوبِ فَائِدَةٌ ) جَوَابٌ عَمَّا قَدْ يُقَالُ قَوْلُك الْأَهْلِيَّةُ بِالذِّمَّةِ وَمَرْجِعُ الذِّمَّةِ إلَى الْآدَمِيَّةِ يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ أَصْلِ الْوُجُوبِ عَلَى الصَّبِيِّ فَقَالَ : هُوَ دَائِرٌ مَعَ الذِّمَّةِ لَكِنْ بِشَرْطِ الْفَائِدَةِ لِأَنَّهُ يَتْلُو الْفَائِدَةَ ، وَلَا فَائِدَةَ فِي تَحَقُّقِهِ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْأَدَاءِ إنَّمَا يَثْبُتُ لِيَظْهَرَ أَثَرُهُ فِي الْقَضَاءِ لِتَحْصُلَ مَصْلَحَةُ الْفَرْضِ رَحْمَةً وَمِنَّةً ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فَائِدَةً إذَا لَمْ يَسْتَلْزِمْ إيجَابَ الْقَضَاءِ حَرَجًا لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ فَتَحَ بَابَ تَحْصِيلِ الْمَصْلَحَةِ ، أَمَّا إذَا اسْتَلْزَمَهُ فَهُوَ مَعْدُومُ الْفَائِدَةِ ظَاهِرًا لِأَنَّهُ مُقْتَرِنٌ بِطَرِيقِ التَّفْوِيتِ وَهُوَ الْحَرَجُ .
وَذَلِكَ بَابُ الْعَذَابِ لَا الْفَائِدَةِ وَإِنْ كَانَ قَدْ ثَبَتَ لَهُ الْأَفْرَادُ مِنْ الْعِبَادِ فَإِنَّ الْفَوَائِدَ الشَّرْعِيَّةَ الَّتِي تَسْتَتْبِعُهَا التَّكَالِيفُ إنَّمَا تُرَاعَى فِي حَقِّ الْعُمُومِ رَحْمَةً وَفَضْلًا لَا بِالنِّسْبَةِ إلَى آحَادٍ مِنْ النَّاسِ ، بِخِلَافِ ثُبُوتِهِ مَعَ الْجُنُونِ لِأَنَّهُ يَسْتَتْبِعُ الْفَائِدَةَ أَوْ نَقُولُ : لَا فَائِدَةَ لِأَنَّهَا فِي الْقَضَاءِ وَلَا يَجِبُ الْقَضَاءُ لِلْحَرَجِ ، فَلَوْ ثَبَتَ الْوُجُوبُ لَمْ يَكُنْ لِفَائِدَةٍ ( قَوْلُهُ وَتَمَامُهُ فِي الْخِلَافِيَّاتِ ) إذَا حَقَّقْت مَا قَدَّمْنَاهُ آنِفًا تَحَقَّقْت تَمَامَهُ .

( وَمَنْ لَمْ يَنْوِ فِي رَمَضَانَ كُلِّهِ لَا صَوْمًا وَلَا فِطْرًا فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ ) وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَتَأَدَّى صَوْمُ رَمَضَانَ بِدُونِ النِّيَّةِ فِي حَقِّ الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ ، فَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ يُؤَدِّيهِ يَقَعُ عَنْهُ ، كَمَا إذَا وَهَبَ كُلَّ النِّصَابَ مِنْ الْفَقِيرِ .
وَلَنَا أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ الْإِمْسَاكُ بِجِهَةِ الْعِبَادَةِ وَلَا عِبَادَةَ إلَّا بِالنِّيَّةِ ، وَفِي هِبَةِ النِّصَابِ وُجِدَ نِيَّةُ الْقُرْبَةِ عَلَى مَا مَرَّ فِي الزَّكَاةِ ( وَمَنْ أَصْبَحَ غَيْرَ نَاوٍ لِلصَّوْمِ فَأَكَلَ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَالَ زُفَرُ : عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّهُ يَتَأَدَّى بِغَيْرِ النِّيَّةِ عِنْدَهُ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : إذَا أَكَلَ قَبْلَ الزَّوَالِ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّهُ فَوَّتَ إمْكَانَ التَّحْصِيلِ فَصَارَ كَغَاصِبِ الْغَاصِبِ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَعَلَّقَتْ بِالْإِفْسَادِ وَهَذَا امْتِنَاعٌ إذْ لَا صَوْمَ إلَّا بِالنِّيَّةِ

( قَوْلُهُ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ ) قِيلَ : لَا بُدَّ مِنْ التَّأْوِيلِ ، لِأَنَّ دَلَالَةَ حَالِ الْمُسْلِمِ كَافِيَةٌ فِي وُجُودِ النِّيَّةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فِي لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ يَكُونُ صَائِمًا يَوْمَهَا ، وَإِنَّمَا يَقْضِي مَا بَعْدَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الظَّاهِرَ وُجُودُ النِّيَّةِ مِنْهُ فِيهَا ، فَلِذَا أُوِّلَ بِأَنْ يَكُونَ مَرِيضًا أَوْ مُسَافِرًا أَوْ مُتَهَتِّكًا اعْتَادَ الْأَكْلَ فِي رَمَضَانَ ، وَمَنْ حَقَّقَ تَرْكِيبَ الْكِتَابِ وَهُوَ قَوْلُهُ : وَمَنْ لَمْ يَنْوِ فِي رَمَضَانَ كُلِّهِ لَا صَوْمًا وَلَا فِطْرًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ ، جُزِمَ بِأَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ تَكَلُّفٌ مُسْتَغْنًى عَنْهُ ، بِخِلَافِ مَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْإِغْمَاءَ قَدْ يُوجِبُ نِسْيَانَهُ حَالَ نَفْسِهِ بَعْدَ الْإِفَاقَةِ فَيُبْنَى الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى الظَّاهِرِ مِنْ حَالِهِ وَهُوَ وُجُودُ النِّيَّةِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مُتَهَتِّكًا يَعْتَادُ الْأَكْلَ فَيُفْتَى بِلُزُومِ صَوْمِهِ ذَلِكَ الْيَوْمِ أَيْضًا لِأَنَّ لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى قِيَامِ النِّيَّةِ ، أَمَّا هَاهُنَا فَإِنَّمَا عَلَّقَ وُجُوبَ الْقَضَاءِ بِنَفْسِ عَدَمِ النِّيَّةِ ابْتِدَاءً لَا بِأَمْرٍ يُوجِبُ النِّسْيَانَ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ أَدْرَى بِحَالَتِهِ .
نَعَمْ لَوْ قَالَ : وَمَنْ شَكَّ أَنَّهُ كَانَ نَوَى أَوْ لَا أَمْكَنَ أَنْ يُجَابَ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِالْبِنَاءِ عَلَى ظَاهِرِ حَالِهِ كَمَا ذَكَرْنَا ( قَوْلُهُ فِي حَقِّ الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ ) قَيَّدَ بِهِمَا لِأَنَّ الْمُسَافِرَ وَالْمَرِيضَ لَا بُدَّ لَهُمَا مِنْ النِّيَّةِ اتِّفَاقًا لِعَدَمِ التَّعَيُّنِ فِي حَقِّهِمَا .
( قَوْلُهُ كَمَا إذَا وَهَبَ النِّصَابَ مِنْ الْفَقِيرِ ) أَيْ عَلَى مَذْهَبِكُمْ فَهُوَ إلْزَامِيٌّ مِنْ زُفَرَ ، فَإِنَّ إعْطَاءَ النِّصَابِ فَقِيرًا وَاحِدًا عِنْدَهُ لَا يَقَعُ بِهِ عَنْ الزَّكَاةِ .
وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ أَيْضًا فِي لُزُومِ الْكَفَّارَةِ بِالْأَكْلِ فِيهِ عِنْدَ زُفَرَ تَجِبُ مُطْلَقًا ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تَجِبُ مُطْلَقًا ، وَعِنْدَهُمَا التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَأْكُلَ قَبْلَ الزَّوَالِ فَتَجِبَ أَوْ بَعْدَهُ فَلَا ، وَهِيَ

الْمَسْأَلَةُ الَّتِي تَلِي هَذِهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ مُحَمَّدًا مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ .
( قَوْلُهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَعَلَّقَتْ بِالْإِفْسَادِ وَهَذَا امْتِنَاعٌ ) عَنْهُ لَا إفْسَادَ لِأَنَّهُ يَسْتَدْعِي سَابِقَةَ الشُّرُوعِ إلَّا أَنَّ لِأَبِي يُوسُفَ أَنْ يَقُولَ : الثَّابِتُ فِي الشَّرْعِ تَرْتِيبُهَا عَلَى الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ إذْ اسْمُ الْفِطْرِ لَا يَسْتَدْعِي سَابِقَةَ الصَّوْمِ ، يُقَالُ : أَفْطَرْت الْيَوْمَ وَكَانَ مِنْ عَادَتِي صَوْمُهُ .
إذَا أَصْبَحَ غَيْرَ نَاوٍ ثُمَّ أَكَلَ سَلَّمْنَاهُ لَكِنَّ الْإِمْسَاكَاتِ الْكَائِنَةَ فِي وَقْتِ النِّيَّةِ مِنْ النَّهَارِ لَيْسَ لَهَا حُكْمُ الْفِطْرِ ، كَمَا أَنَّ لَيْسَ لَهَا حُكْمُ الصَّوْمِ فَيَتَحَقَّقَ الْفِطْرُ بِالْأَكْلِ إذَا وَرَدَ عَلَيْهَا ، إلَّا أَنَّ هَذَا يَقْتَصِرُ عَلَى مَا إذَا أَكَلَ قَبْلَ نِصْفِ النَّهَارِ .
وَاَلَّذِي أَظُنُّهُ أَنَّ الْمَلْحُوظَ لِكُلٍّ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَاقِعَةُ الْأَعْرَابِيِّ الْمَرْوِيَّةُ فِي الْكَفَّارَةِ لَمَّا كَانَتْ فِي فِطْرٍ بِمَا هِيَ مُشْتَهًى حَالَ قِيَامِ الصَّوْمِ هَلْ يُفْهَمُ ثُبُوتُهَا فِي فِطْرٍ كَذَلِكَ قَبْلَ الشُّرُوعِ ، فَفَهِمَهُ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَفَهِمَ أَبُو حَنِيفَةَ عَدَمَهُ إذْ لَا شَكَّ فِي أَنَّ جِنَايَةَ الْإِفْطَارِ حَالَ قِيَامِ الصَّوْمِ أَقْبَحُ مِنْهَا حَالَ عَدَمِهِ ، فَإِلْزَامُ الْكَفَّارَةِ فِي صُورَةِ الْجِنَايَةِ الَّتِي هِيَ أَغْلَظُ لَا يُوجِبُ فَهْمَ ثُبُوتِهَا فِيمَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ خُصُوصًا مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى عَدَمِ إلْغَاءِ كُلِّ مَا زَادَ عَلَى كَوْنِهِ فِطْرًا جِنَايَةً فِي صُورَةِ الْوَاقِعَةِ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى عَدَمِ الْكَفَّارَةِ مَعَ قِيَامِ الْفِطْرِ لِعَدَمِ الْجِنَايَةِ فِي ابْتِلَاعِ الْحَصَى وَنَحْوِهِ .
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَنْ أَصْبَحَ لَا يَنْوِي الصَّوْمَ ثُمَّ نَوَاهُ قَبْلَ الزَّوَالِ ثُمَّ جَامَعَ فِي بَقِيَّةِ يَوْمِهِ لَا كَفَّارَةَ فِيهِ ، وَرَوَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ .
وَجْهُ النَّفْيِ شُبْهَةُ الْخِلَافِ فِي صِحَّةِ الصَّوْمِ بِنِيَّةٍ

مِنْ النَّهَارِ ، وَفِي الْمُنْتَقَى فِيمَنْ أَصْبَحَ يَنْوِي الْفِطْرَ ثُمَّ عَزَمَ عَلَى الصَّوْمِ ثُمَّ أَكَلَ عَمْدًا لَا كَفَّارَةَ فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ ، وَالْكَلَامُ فِيهِمَا وَاحِدٌ

( وَإِذَا حَاضَتْ الْمَرْأَةُ أَوْ نَفِسَتْ أَفْطَرَتْ وَقَضَتْ ) بِخِلَافِ الصَّلَاةِ لِأَنَّهَا تُحْرَجُ فِي قَضَائِهَا وَقَدْ مَرَّ فِي الصَّلَاةِ ( وَإِذَا قَدِمَ الْمُسَافِرُ أَوْ طَهُرَتْ الْحَائِضُ فِي بَعْضِ النَّهَارِ أَمْسَكَا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمَا ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَجِبُ الْإِمْسَاكُ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ كُلُّ مَنْ صَارَ أَهْلًا لِلُّزُومِ وَلَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ .
هُوَ يَقُولُ : التَّشْبِيهُ خَلَفٌ فَلَا يَجِبُ إلَّا عَلَى مَنْ يَتَحَقَّقُ الْأَصْلُ فِي حَقِّهِ كَالْمُفْطِرِ مُتَعَمِّدًا أَوْ مُخْطِئًا .
وَلَنَا أَنَّهُ وَجَبَ قَضَاءً لِحَقِّ الْوَقْتِ لَا خَلَفًا لِأَنَّهُ وَقْتٌ مُعَظَّمٌ ، بِخِلَافِ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَالْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ حَيْثُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ حَالَ قِيَامِ هَذِهِ الْأَعْذَارِ لِتَحَقُّقِ الْمَانِعِ عَنْ التَّشْبِيهِ حَسَبَ تَحَقُّقِهِ عَنْ الصَّوْمِ .
( قَوْلُهُ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ كُلُّ مَنْ صَارَ أَهْلًا ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي هَذَا وَالْمَقْصُودُ هُنَا ذِكْرٌ الْخِلَافِ ، وَالْمُرَادُ بِالْمُخْطِئِ مَنْ فَسَدَ صَوْمُهُ بِفِعْلِهِ الْمَقْصُودِ دُونَ قَصْدِ الْإِفْسَادِ كَمَنْ تَسَحَّرَ عَلَى ظَنِّ عَدَمِ الْفَجْرِ أَوْ أَكَلَ يَوْمَ الشَّكِّ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ الْفَجْرُ وَرَمَضَانُ .
( قَوْلُهُ لِأَنَّهُ وَقْتٌ مُعَظَّمٌ ) وَتَعْظِيمُهُ بِعَدَمِ الْأَكْلِ فِيهِ إذَا لَمْ يَكُنْ الْمُرَخِّصُ قَائِمًا وَأَصْلُ ذَلِكَ حَدِيثُ عَاشُورَاءَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ قَرِيبًا فَثَبَتَ بِهِ وُجُوبُ التَّشَبُّهِ أَصْلًا ابْتِدَاءً لَا خَلَفًا عَنْ الصَّوْمِ

قَالَ ( وَإِذَا تَسَحَّرَ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ فَإِذَا هُوَ قَدْ طَلَعَ ، أَوْ أَفْطَرَ وَهُوَ يَرَى أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَرَبَتْ فَإِذَا هِيَ لَمْ تَغْرُبْ أَمْسَكَ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ ) قَضَاءً لِحَقِّ الْوَقْتِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ أَوْ نَفْيًا لِلتُّهْمَةِ ( وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ ) لِأَنَّهُ حَقٌّ مَضْمُونٌ بِالْمِثْلِ ، كَمَا فِي الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ ( وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ) لِأَنَّ الْجِنَايَةَ قَاصِرَةٌ لِعَدَمِ الْقَصْدِ ، وَفِيهِ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : مَا تَجَانَفْنَا لِإِثْمٍ ، قَضَاءُ يَوْمٍ عَلَيْنَا يَسِيرٌ ، وَالْمُرَادُ بِالْفَجْرِ الْفَجْرُ الثَّانِي ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الصَّلَاةِ

( قَوْلُهُ وَهُوَ يُرَى ) عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ مِنْ الرَّأْيِ بِمَعْنَى الظَّنِّ لَا الرُّؤْيَةِ بِمَعْنَى الْيَقِينِ كَقَوْلِهِ رَأَيْت اللَّهَ أَكْبَرَ كُلَّ شَيْءٍ أَيْ عَلِمْته ، وَلَوْ صِيغَ مِنْهُ لِلْفَاعِلِ مُرَادًا بِهِ الظَّنَّ لَمْ يَمْتَنِعْ فِي الْقِيَاسِ لَكِنَّهُ لَمْ يُسْمَعْ بِمَعْنَاهُ إلَّا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ .
قَالَ : وَكُنْت أَرَى زَيْدًا كَمَا قِيلَ سَيِّدًا إذَا أَنَّهُ عَبْدُ الْقَفَا وَاللَّهَازِمِ فَأُرِيتُ بِمَعْنَى أُظْنِنْت : أَيْ دُفِعَ إلَيَّ الظَّنُّ .
( قَوْلُهُ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ قَاصِرَةٌ ) لَيْسَ هُنَا جِنَايَةٌ أَصْلًا لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ وَقَدْ صَرَّحُوا بِعَدَمِ الْإِثْمِ عَلَيْهِ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُرَادَ أَنَّ عَدَمَ تَثَبُّتِهِ إلَى أَنْ يَسْتَيْقِنَ جِنَايَةٌ فَيَكُونُ الْمُرَادُ جِنَايَةُ عَدَمِ التَّثَبُّتِ لَا جِنَايَةُ الْإِفْطَارِ كَمَا قَالُوا فِي الْقَتْلِ الْخَطَأِ لَا إثْمَ عَلَيْهِ فِيهِ ، وَالْمُرَادُ إثْمُ الْقَتْلِ ، وَصَرَّحَ بِأَنَّ فِيهِ إثْمَ تَرْكِ الْعَزِيمَةِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي التَّثَبُّتِ حَالَ الرَّمْيِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي الْجِنَايَاتِ : شَرْعُ الْكَفَّارَةِ يُؤْذِنُ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُدْفَعَ بِأَنْ تَرَكَ التَّثَبُّتَ إلَى الِاسْتِيقَانِ فِي الْقَتْلِ لَيْسَ كَتَرْكِهِ إلَى الِاسْتِيقَانِ فِي الْفِطْرِ ، وَأَيْضًا : الْمَعْنَى الْمُوجِبُ لِلْقَوْلِ بِثُبُوتِهِ فِي الْقَتْلِ بِتَرْكِ التَّثَبُّتِ إلَى تِلْكَ الْغَايَةِ شَرْعُ الْكَفَّارَةِ ، وَهَذَا الدَّلِيلُ مَفْقُودٌ هُنَا إذْ لَا كَفَّارَةَ ، وَلَوْلَا هُوَ لَمْ نَجْسُرْ عَلَى الْقَوْلِ بِذَلِكَ هُنَاكَ .
وَحَدِيثُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَوَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ : أَفْطَرَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَصْحَابُهُ فِي يَوْمِ غَيْمٍ ظَنُّوا أَنَّ الشَّمْسَ غَابَتْ ، قَالَ : فَطَلَعَتْ فَقَالَ عُمَرُ : مَا تَعَرَّضْنَا لِجَنَفٍ نُتِمُّ هَذَا الْيَوْمَ ثُمَّ نَقْضِي يَوْمًا مَكَانَهُ .
وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طُرُقٍ أَقْرَبُهَا إلَى لَفْظِ الْكِتَابِ مَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ حَنْظَلَةَ

عَنْ أَبِيهِ قَالَ : شَهِدْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي رَمَضَانَ وَقُرِّبَ إلَيْهِ شَرَابٌ فَشَرِبَ بَعْضُ الْقَوْمِ وَهُمْ يَرَوْنَ الشَّمْسَ قَدْ غَرَبَتْ ، ثُمَّ ارْتَقَى الْمُؤَذِّنُ فَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَاَللَّهِ إنَّ الشَّمْسَ طَالِعَةٌ لَمْ تَغْرُبْ ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَنْ كَانَ أَفْطَرَ فَلْيَصُمْ يَوْمًا مَكَانَهُ ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَفْطَرَ فَلْيُتِمَّ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ .
وَأَعَادَهُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ ، وَزَادَ فَقَالَ لَهُ : بَعَثْنَاك دَاعِيًا وَلَمْ نَبْعَثْك رَاعِيًا ، وَقَدْ اجْتَهَدْنَا ، وَقَضَاءُ يَوْمٍ يَسِيرٌ .
وَإِنَّمَا قَالَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ خِطَابَهُ لَهُ مِنْ أَعْلَى الْمِئْذَنَةِ رَافِعًا صَوْتَهُ لَيْسَ مِنْ الْأَدَبِ ، بَلْ كَانَ حَقُّهُ أَنْ يَنْزِلَ فَيُخْبِرَهُ مُتَأَدِّبًا .

( ثُمَّ التَّسَحُّرُ مُسْتَحَبٌّ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً } ( وَالْمُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهُ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { ثَلَاثٌ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُرْسَلِينَ : تَعْجِيلُ الْإِفْطَارِ ، وَتَأْخِيرُ السَّحُورِ ، وَالسِّوَاكُ } ( إلَّا أَنَّهُ إذَا شَكَّ فِي الْفَجْرِ ) وَمَعْنَاهُ تَسَاوِي الظَّنَّيْنِ ( الْأَفْضَلُ أَنْ يَدَعَ الْأَكْلَ ) تَحَرُّزًا عَنْ الْمُحَرَّمِ ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ ، وَلَوْ أَكَلَ فَصَوْمُهُ تَامٌّ لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ اللَّيْلُ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : إذَا كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَسْتَبِينُ الْفَجْرَ ، أَوْ كَانَتْ اللَّيْلَةُ مُقْمِرَةً أَوْ مُتَغَيِّمَةً .
أَوْ كَانَ بِبَصَرِهِ عِلَّةٌ وَهُوَ يَشُكُّ لَا يَأْكُلُ ، وَلَوْ أَكَلَ فَقَدْ أَسَاءَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { دَعْ مَا يَرِيبُكَ إلَى مَا لَا يَرِيبُكَ } وَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ أَكَلَ وَالْفَجْرُ طَالِعٌ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ عَمَلًا بِغَالِبِ الرَّأْيِ ، وَفِيهِ الِاحْتِيَاطُ .
وَعَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْيَقِينَ لَا يُزَالُ إلَّا بِمِثْلِهِ ، وَلَوْ ظَهَرَ أَنَّ الْفَجْرَ طَالِعٌ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ بَنَى الْأَمْرَ عَلَى الْأَصْلِ فَلَا تَتَحَقَّقُ الْعَمْدِيَّةُ ( وَلَوْ شَكَّ فِي غُرُوبِ الشَّمْسِ لَا يَحِلُّ لَهُ الْفِطْرُ ) لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ النَّهَارُ ( وَلَوْ أَكَلَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ ) عَمَلًا بِالْأَصْلِ ، وَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ أَكَلَ قَبْلَ الْغُرُوبِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ رِوَايَةً وَاحِدَةً لِأَنَّ النَّهَارَ هُوَ الْأَصْلُ ، وَلَوْ كَانَ شَاكًّا فِيهِ وَتَبَيَّنَ أَنَّهَا لَمْ تَغْرُبْ يَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ الْكَفَّارَةُ نَظَرًا إلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ وَهُوَ النَّهَارُ .

وَحَدِيثُ { تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً } رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا أَبَا دَاوُد عَنْ أَنَسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً } قِيلَ : الْمُرَادُ بِالْبَرَكَةِ حُصُولُ التَّقَوِّي بِهِ عَلَى صَوْمِ الْغَدِ ، بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { اسْتَعِينُوا بِقَائِلَةِ النَّهَارِ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ ، وَبِأَكْلِ السَّحَرِ عَلَى صِيَامِ النَّهَارِ } .
أَوْ الْمُرَادُ زِيَادَةُ الثَّوَابِ لِاسْتِنَانِهِ بِسُنَنِ الْمُرْسَلِينَ .
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { فَرْقُ مَا بَيْنَ صَوْمِنَا وَصَوْمِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْلَةُ السَّحَرِ } وَلَا مُنَافَاةَ فَلْيَكُنْ الْمُرَادُ بِالْبَرَكَةِ كُلًّا مِنْ الْأَمْرَيْنِ ، وَالسَّحُورُ مَا يُؤْكَلُ فِي السَّحَرِ وَهُوَ السُّدُسُ الْأَخِيرُ مِنْ اللَّيْلِ ، وَقَوْلُهُ فِي النِّهَايَةِ : هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ فِي أَكْلِ السُّحُورِ بَرَكَةٌ بِنَاءٌ عَلَى ضَبْطِهِ بِضَمِّ السِّينِ جَمْعُ سَحَرٍ فَأَمَّا عَلَى فَتْحِهَا وَهُوَ الْأَعْرَفُ فِي الرِّوَايَةِ فَهُوَ اسْمٌ لِلْمَأْكُولِ فِي السَّحَرِ ، كَالْوَضُوءِ بِالْفَتْحِ مَا يُتَوَضَّأُ بِهِ .
وَقِيلَ : يَتَعَيَّنُ الضَّمُّ لِأَنَّ الْبَرَكَةَ وَنَيْلَ الثَّوَابِ إنَّمَا يَحْصُلُ بِالْفِعْلِ لَا بِنَفْسِ الْمَأْكُولِ .
وَحَدِيثُ { ثَلَاثٌ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُرْسَلِينَ } عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ .
وَاَلَّذِي فِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَرْبٍ الْعَبَّادَانِيِّ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْ مُورِقٍ الْعِجْلِيّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { ثَلَاثٌ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُرْسَلِينَ : تَعْجِيلُ الْإِفْطَارِ ، وَتَأْخِيرُ السَّحُورِ ، وَوَضْعُ الْيَمِينِ عَلَى الشِّمَالِ فِي الصَّلَاةِ } .
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ مَوْقُوفًا ، وَذَكَرَ أَنَّ الدَّارَقُطْنِيّ فِي الْأَفْرَادِ رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ

حُذَيْفَةَ مَرْفُوعًا بِنَحْوِ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْمَطْلُوبِ مِمَّا فِي الصَّحِيحِ حَدِيثُ الْبُخَارِيِّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ كُنْت أَتَسَحَّرُ ثُمَّ يَكُونُ لِي سُرْعَةٌ أَنْ أُدْرِكَ صَلَاةَ الْفَجْرِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ { زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ تَسَحَّرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قُمْنَا إلَى الصَّلَاةِ ، قُلْتُ : كَمْ كَانَ قَدْرُ مَا بَيْنَهُمَا ؟ قَالَ : قَدْرَ خَمْسِينَ آيَةً } .
( قَوْلُهُ إلَّا أَنَّهُ إذَا شَكَّ ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ ثُمَّ التَّسَحُّرُ مُسْتَحَبٌّ ، وَأَخْذُ الظَّنِّ فِي تَفْسِيرِ الشَّكِّ بِنَاءٌ عَلَى اسْتِعْمَالِ لَفْظِ الظَّنِّ فِي الْإِدْرَاكِ مُطْلَقًا .
( قَوْلُهُ فَصَوْمُهُ تَامٌّ ) أَيْ مَا لَمْ يَتَيَقَّنْ أَنَّهُ أَكَلَ بَعْدَ الْفَجْرِ فَيَقْضِي حِينَئِذٍ .
( قَوْلُهُ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إلَخْ ) يُفِيدُ الْمُغَايَرَةَ بَيْنَ هَذِهِ وَبَيْنَ تِلْكَ الرِّوَايَةِ ، فَإِنَّ اسْتِحْبَابَ التَّرْكِ لَا يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ الْإِسَاءَةِ إنْ لَمْ يُتْرَكْ يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ ذَلِكَ مَفْضُولًا ، وَفِعْلُ الْمَفْضُولِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْإِسَاءَةَ ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { دَعْ مَا يَرِيبُكَ إلَى مَا لَا يَرِيبُكَ } رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَزَادَ { فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ وَالْكَذِبَ رِيبَةٌ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
فَتَقُولُ : الْمَرْوِيُّ لَفْظُ الْأَمْرِ ، فَإِنْ كَانَ عَلَى ظَاهِرِهِ كَانَ مُقْتَضَاهُ الْوُجُوبُ فَيَلْزَمُ بِتَرْكِهِ الْإِثْمُ لَا الْإِسَاءَةُ ، وَإِنْ صُرِفَ عَنْهُ بِصَارِفٍ كَانَ نَدْبًا وَلَا إسَاءَةَ بِتَرْكِ الْمَنْدُوبِ ، بَلْ إنَّ فَعَلَهُ نَالَ ثَوَابَهُ وَإِلَّا لَمْ يَنَلْ شَيْئًا فَهُوَ دَائِرٌ بَيْنَ كَوْنِهِ دَلِيلَ الْوُجُوبِ أَوْ النَّدْبِ فَلَا يَصْلُحُ جَعْلُهُ دَلِيلًا عَلَى هَذِهِ إلَّا أَنْ يُرَادَ إسَاءَةً مَعَهَا إثْمٌ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( قَوْلُهُ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ ) وَلَا كَفَّارَةَ .
( قَوْلُهُ وَعَلَى ظَاهِرِ

الرِّوَايَةِ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْيَقِينَ لَا يُزَالُ بِالشَّكِّ ) وَاللَّيْلُ أَصْلٌ ثَابِتٌ بِيَقِينٍ فَلَا يَنْتَقِلُ عَنْهُ إلَّا بِيَقِينٍ ، وَصَحَّحَهُ فِي الْإِيضَاحِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ التَّحْقِيقَ هُوَ أَنَّ الْمُتَيَقَّنَ إنَّمَا هُوَ دُخُولُ اللَّيْلِ فِي الْوُجُودِ لَا امْتِدَادُهُ إلَى وَقْتِ تَحَقُّقِ ظَنِّ طُلُوعِ الْفَجْرِ لِاسْتِحَالَةِ تَعَارُضِ الْيَقِينِ مَعَ الظَّنِّ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِمَعْنَى الْيَقِينِ لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ ، فَضْلًا أَنْ يَثْبُتَ ظَنُّ النَّقِيضِ ، فَإِذَا فُرِضَ تَحَقُّقُ ظَنِّ طُلُوعِ الْفَجْرِ فِي وَقْتٍ فَلَيْسَ ذَلِكَ الْوَقْتُ مَحَلَّ تَعَارُضِ الظَّنِّ بِهِ ، وَالْيَقِينِ بِبَقَاءِ اللَّيْلِ ، بَلْ التَّحْقِيقُ أَنَّهُ مَحَلُّ تَعَارُضِ دَلِيلَيْنِ ظَنِّيَّيْنِ فِي بَقَاءِ اللَّيْلِ وَعَدَمِهِ ، وَهُمَا الِاسْتِصْحَابُ وَالْأَمَارَةُ الَّتِي بِحَيْثُ تُوجِبُ ظَنَّ عَدَمِهِ لَا تُعَارِضُ ظَنَّيْنِ فِي ذَلِكَ أَصْلًا إذْ ذَاكَ لَا يُمْكِنُ ، لِأَنَّ الظَّنَّ هُوَ الطَّرَفُ الرَّاجِحُ مِنْ الِاعْتِقَادِ فَإِذَا فُرِضَ تَعَلُّقُهُ بِأَنَّ الشَّيْءَ كَذَا اسْتَحَالَ تَعَلُّقُ آخَرَ بِأَنَّهُ لَا كَذَا مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ ، إذْ لَيْسَ لَهُ إلَّا طَرَفٌ وَاحِدٌ رَاجِحٌ ، فَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَالثَّابِتُ تَعَارُضُ ظَنَّيْنِ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ وَعَدَمِهِ فَيَتَهَاتَرَانِ ، لِأَنَّ مُوجِبَ تَعَارُضِهِمَا الشَّكُّ لَا ظَنٌّ وَاحِدٌ فَضْلًا عَنْ ظَنَّيْنِ ، وَإِذَا تَهَاتَرَا عُمِلَ بِالْأَصْلِ وَهُوَ اللَّيْلُ فَحَقِّقْ هَذَا وَأَجْرِهِ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِمْ : فِي شَكِّ الْحَدَثِ بَعْدَ يَقِينِ الطَّهَارَةِ الْيَقِينُ لَا يُزَالُ بِالشَّكِّ وَنَحْوِهِ .
( قَوْلُهُ وَلَوْ أَكَلَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ ) وَفِي الْكَفَّارَةِ رِوَايَتَانِ ، وَمُخْتَارُ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ لُزُومُهَا لِأَنَّ الثَّابِتَ حَالَ غَلَبَةِ ظَنِّ الْغُرُوبِ شُبْهَةُ الْإِبَاحَةِ لَا حَقِيقَتُهَا ، فَفِي حَالِ الشَّكِّ دُونَ ذَلِكَ وَهُوَ شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ وَهِيَ لَا تُسْقِطُ الْعُقُوبَاتِ ، هَذَا إذَا لَمْ يَتَبَيَّنْ الْحَالُ ، فَإِنْ ظَهَرَ أَكْلٌ قَبْلَ الْغُرُوبِ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ لَا

أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ وَلَوْ كَانَ شَاكًّا إلَى قَوْلِهِ يَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ الْكَفَّارَةُ .
( قَوْلُهُ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ رِوَايَةً وَاحِدَةً ) أَيْ إذَا لَمْ يَسْتَبِنْ شَيْءٌ أَوْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَكَلَ قَبْلَ الْغُرُوبِ لِأَنَّ النَّهَارَ كَانَ ثَابِتًا بِيَقِينٍ وَقَدْ انْضَمَّ إلَيْهِ أَكْبَرُ رَأْيِهِ .
وَأَوْرَدَ لَوْ شَهِدَ اثْنَانِ بِأَنَّهَا غَرَبَتْ وَاثْنَانِ بِأَنْ لَا فَأَفْطَرَ ثُمَّ تَبَيَّنَ عَدَمَ الْغُرُوبِ لَا كَفَّارَةَ مَعَ أَنَّ تَعَارُضَهُمَا يُوجِبُ الشَّكَّ .
أُجِيبُ بِمَنْعِ الشَّكِّ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ بِعَدَمِهِ عَلَى النَّفْيِ فَبَقِيَتْ الشَّهَادَةُ بِالْغُرُوبِ بِلَا مُعَارِضٍ فَتُوجِبُ ظَنَّهُ ، وَفِي النَّفْسِ مِنْهُ شَيْءٌ يَظْهَرُ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ .

( وَمَنْ أَكَلَ فِي رَمَضَانَ نَاسِيًا وَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ يُفْطِرُهُ فَأَكَلَ بَعْدَ ذَلِكَ مُتَعَمِّدًا عَلَيْهِ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ ) لِأَنَّ الِاشْتِبَاهَ اسْتَنَدَ إلَى الْقِيَاسِ فَتَتَحَقَّقُ الشُّبْهَةُ ، وَإِنْ بَلَغَهُ الْحَدِيثُ وَعَلِمَهُ فَكَذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهَا تَجِبُ ، وَكَذَا عَنْهُمَا لِأَنَّهُ لَا اشْتِبَاهَ فَلَا شُبْهَةَ .
وَجْهُ الْأَوَّلِ قِيَامُ الشُّبْهَةِ الْحُكْمِيَّةِ بِالنَّظَرِ إلَى الْقِيَاسِ فَلَا يَنْتَفِي بِالْعِلْمِ كَوَطْءِ الْأَبِ جَارِيَةَ ابْنِهِ .

( قَوْلُهُ وَمَنْ أَكَلَ فِي رَمَضَانَ نَاسِيًا ) أَوْ جَامَعَ نَاسِيًا فَظَنَّ أَنَّهُ أَفْطَرَ فَأَكَلَ أَوْ جَامَعَ عَامِدًا لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ أَصْبَحَ مُسَافِرًا فَنَوَى الْإِقَامَةَ فَأَكَلَ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ .
( قَوْلُهُ وَإِنْ بَلَغَهُ الْحَدِيثُ ) يَعْنِي قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ } وَتَقَدَّمَ تَخْرِيجُهُ ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ لَا تَجِبُ وَصَحَّحَهُ قَاضِي خَانَ ، وَفِي رِوَايَةٍ تَجِبُ وَكَذَا عَنْهُمَا ، وَمَرْجِعُ وَجْهَيْهِمَا إلَى أَنَّ انْتِفَاءَ الشُّبْهَةِ لَازِمُ انْتِفَاءَ الِاشْتِبَاهِ أَوْ لَا ، فَقَوْلُهُمَا بِنَاءٌ عَلَى ثُبُوتِ اللُّزُومِ وَالْمُخْتَارُ بِنَاءٌ عَلَى ثُبُوتِ الِانْفِكَاكِ ، لِأَنَّ ثُبُوتَ الشُّبْهَةِ الْحُكْمِيَّةِ بِثُبُوتِ دَلِيلِ الْفِطْرِ وَهُوَ الْقِيَاسُ الْقَوِيُّ وَهُوَ ثَابِتٌ لَمْ يَنْتَفِ ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ بِالْفِطْرِ ، وَصُرِفَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ } إلَى الصَّوْمِ اللُّغَوِيِّ وَهُوَ الْإِمْسَاكُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَوْلَا النَّصُّ لَقُلْت يُفْطِرُ .
وَصَارَ كَوَطْءِ الْأَبِ جَارِيَةَ ابْنِهِ لَا يُحَدُّ وَإِنْ عَلِمَ بِحُرْمَتِهَا عَلَيْهِ نَظَرًا إلَى قِيَامِ شُبْهَةِ الْمِلْكِ الثَّابِتَةِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ } فَإِنَّهَا ثَابِتَةٌ بِثُبُوتِ هَذَا الدَّلِيلِ ، وَإِنْ قَامَ الدَّلِيلُ الرَّاجِحُ عَلَى تَبَايُنِ الْمِلْكَيْنِ

( وَلَوْ احْتَجَمَ وَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ يُفْطِرُهُ ثُمَّ أَكَلَ مُتَعَمِّدًا عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ ) لِأَنَّ الظَّنَّ مَا اسْتَنَدَ إلَى دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ إلَّا إذَا أَفْتَاهُ فَقِيهٌ بِالْفَسَادِ لِأَنَّ الْفَتْوَى دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ فِي حَقِّهِ ، وَلَوْ بَلَغَهُ الْحَدِيثُ وَاعْتَمَدَهُ فَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، لِأَنَّ قَوْلَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يَنْزِلُ عَنْ قَوْلِ الْمُفْتِي ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى خِلَافُ ذَلِكَ ، لِأَنَّ عَلَى الْعَامِّيِّ الِاقْتِدَاءَ بِالْفُقَهَاءِ لِعَدَمِ الِاهْتِدَاءِ فِي حَقِّهِ إلَى مَعْرِفَةِ الْأَحَادِيثِ ، وَإِنْ عَرَفَ تَأْوِيلَهُ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ لِانْتِفَاءِ الشُّبْهَةِ ، وَقَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُورِثُ الشُّبْهَةَ لِمُخَالَفَتِهِ الْقِيَاسَ .
( وَلَوْ أَكَلَ بَعْدَمَا اغْتَابَ مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ كَيْفَمَا كَانَ ) لِأَنَّ الْفِطْرَ يُخَالِفُ الْقِيَاسَ ، وَالْحَدِيثُ مُؤَوَّلٌ بِالْإِجْمَاعِ .

( قَوْلُهُ لِأَنَّ الظَّنَّ مَا اسْتَنَدَ إلَى دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ ) يَعْنِي : فِيمَا إذَا لَمْ يَبْلُغْهُ الْحَدِيثُ لِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْفِطْرِ مِمَّا خَرَجَ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ فَظَنَّ أَنَّهُ أَفْطَرَ فَأَكَلَ عَمْدًا فَإِنَّهُ كَالْأَوَّلِ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ .
فَإِنَّ الْقَيْءَ يُوجِبُ غَالِبًا عَوْدَ شَيْءٍ إلَى الْحَلْقِ لِتَرَدُّدِهِ فِيهِ فَيَسْتَنِدُ ظَنُّ الْفِطْرِ إلَى دَلِيلٍ ، أَمَّا الْحِجَامَةُ فَلَا تَطَرُّقَ فِيهَا إلَى الدُّخُولِ بَعْدَ الْخُرُوجِ فَيَكُونُ تَعَمُّدُ أَكْلِهِ بَعْدَهُ مُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ إلَّا إذَا أَفْتَاهُ مُفْتٍ بِالْفَسَادِ ، كَمَا هُوَ قَوْلُ الْحَنَابِلَةِ ، وَبَعْضِ أَهْلِ الْحَدِيثِ فَأَكَلَ بَعْدَهُ لَا كَفَّارَةَ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي حَقِّ الْعَامِّيِّ فَتْوَى مُفْتِيهِ .
( وَإِنْ بَلَغَهُ الْحَدِيثُ وَاعْتَمَدَهُ ) عَلَى ظَاهِرِهِ غَيْرَ عَالِمٍ بِتَأْوِيلِهِ وَهُوَ عَامِّيٌّ ( فَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ ) أَيْ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ قَوْلَ الْمُفْتِي يُورِثُ الشُّبْهَةَ الْمُسْقِطَةَ ، فَقَوْلُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوْلَى ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا يُسْقِطُهَا ( لِأَنَّ عَلَى الْعَامِّيِّ الِاقْتِدَاءَ بِالْفُقَهَاءِ لِعَدَمِ الِاهْتِدَاءِ فِي حَقِّهِ إلَى مَعْرِفَةِ الْأَحَادِيثِ ) فَإِذَا اعْتَمَدَهُ كَانَ تَارِكًا لِلْوَاجِبِ عَلَيْهِ ، وَتَرْكُ الْوَاجِبِ لَا يَقُومُ شُبْهَةً مُسْقِطَةً لَهَا ( وَإِنْ عَرَفَ تَأْوِيلَهُ ) ثُمَّ أَكَلَ ( تَجِبُ الْكَفَّارَةُ لِانْتِفَاءِ الشُّبْهَةِ ، وَقَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ ) إنَّهُ يُفْطِرُ ( لَا يُورِثُ شُبْهَةً لِمُخَالَفَتِهِ الْقِيَاسَ ) مَعَ فَرْضِ عِلْمِ الْآكِلِ كَوْنَ الْحَدِيثِ عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِهِ ، ثُمَّ تَأْوِيلَهُ أَنَّهُمَا كَانَا يَغْتَابَانِ ، أَوْ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ .
وَلَا بَأْسَ بِسَوْقِ نُبْذَةٍ تَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ .
رَوَى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى عَلَى رَجُلٍ يَحْتَجِمُ فِي رَمَضَانَ فَقَالَ : أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ } وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَابْنُ

حِبَّانَ وَصَحَّحَاهُ ، وَنُقِلَ فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ : هُوَ أَصَحُّ مَا رُوِيَ فِي الْبَابِ .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ { شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ أَنَّهُ مَرَّ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَمَنَ الْفَتْحِ عَلَى رَجُلٍ يَحْتَجِمُ بِالْبَقِيعِ لِثَمَانِ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ فَقَالَ أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ } وَصَحَّحُوهُ .
وَنَقَلَ التِّرْمِذِيُّ فِي عِلَلِهِ الْكُبْرَى عَنْ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ : كِلَاهُمَا عِنْدِي صَحِيحٌ ، حَدِيثَيْ ثَوْبَانَ وَشَدَّادٍ ، وَعَنْ ابْنِ الْمَدِينِيِّ أَنَّهُ قَالَ : حَدِيثُ ثَوْبَانَ وَحَدِيثُ شَدَّادَ صَحِيحَانِ ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ } وَصَحَّحَهُ .
قَالَ : وَذُكِرَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ : إنَّهُ أَصَحُّ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ ، وَلَهُ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ غَيْرُ هَذَا .
وَبَلَغَ أَحْمَدَ أَنَّ ابْنَ مَعِينٍ ضَعَّفَهُ ، وَقَالَ : إنَّهُ حَدِيثٌ مُضْطَرِبٌ وَلَيْسَ فِيهِ حَدِيثٌ يَثْبُتُ ، فَقَالَ : إنَّ هَذَا مُجَازَفَةٌ .
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ : ثَابِتٌ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ : مُتَوَاتِرٌ ، قَالَ بَعْضُهُمْ : لَيْسَ مَا قَالَهُ بِبَعِيدٍ ، وَمَنْ أَرَادَ ذَلِكَ فَلْيَنْظُرْ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ ، وَمُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ وَالسُّنَنِ الْكُبْرَى لِلنَّسَائِيِّ وَأَجَابَ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْحِجَامَةَ لَا تُفْطِرُ بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : ادِّعَاءُ النَّسْخِ ، وَذَكَرُوا فِيهِ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَاحْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ } .
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ { أَوَّلُ مَا كَرِهْتُ الْحِجَامَةَ لِلصَّائِمِ أَنَّ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ فَمَرَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَفْطَرَ هَذَانِ ثُمَّ رَخَّصَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدُ فِي الْحِجَامَةِ لِلصَّائِمِ } ، وَكَانَ أَنَسٌ يَحْتَجِمُ وَهُوَ صَائِمٌ ، ثُمَّ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ : كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ ، وَلَا أَعْلَمُ لَهُ عِلَّةً ، وَمَا رَوَى النَّسَائِيّ فِي سُنَنِهِ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ سَمِعْت حُمَيْدًا الطَّوِيلَ يُحَدِّثُهُ عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ فِي الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ وَرَخَّصَ فِي الْحِجَامَةِ لِلصَّائِمِ } ثُمَّ أَخْرَجَهُ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ يُوسُفَ الْأَزْرَقَ عَنْ سُفْيَانَ بِسَنَدِ الطَّبَرَانِيِّ .
وَسَنَدُ الطَّبَرَانِيِّ : حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ دَاوُد الْوَاسِطِيُّ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ الْأَزْرَقُ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مِنْ قَوْلِهِ وَلَمْ يَرْفَعْهُ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ كَوْنَهُ رُوِيَ مَوْقُوفًا لَا يَقْدَحُ فِي الرَّفْعِ بَعْدَ ثِقَةِ رِجَالِهِ .
وَالْحَقُّ فِي تَعَارُضِ الْوَقْفِ وَالرَّفْعِ تَقَدُّمُ الرَّفْعُ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ وَهِيَ مِنْ الثِّقَةِ الْعَدْلِ مَقْبُولَةٌ ، ثُمَّ دَلَّ حَدِيثُ الدَّارَقُطْنِيِّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِعْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْمَرْوِيَّ بَعْدَ النَّهْيِ ، وَإِلَّا لَزِمَ تَكْرِيرُ النَّسْخِ إذْ كَانَ الْحَاصِلُ الْآنَ بِحَدِيثِ الدَّارَقُطْنِيِّ الْإِطْلَاقَ ، وَعَدَمُهُ أَوْلَى فَيَجِبُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ ، وَلَفْظُ رَخَّصَ أَيْضًا ظَاهِرٌ فِي تَقَدُّمِ الْمَنْعِ .
بَقِيَ أَنْ يُقَالَ : النَّاسِخُ أَدْنَى حَالِهِ أَنْ يَكُونَ فِي قُوَّةِ الْمَنْسُوخِ وَلَيْسَ هُنَا هَذَا ، أَمَّا حَدِيثُ الدَّارَقُطْنِيِّ فَهُوَ وَإِنْ كَانَ سَنَدُهُ يُحْتَجُّ بِهِ ، لَكِنْ أَعَلَّهُ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ بِأَنَّهُ لَمْ يُورِدْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ السُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ وَالصَّحِيحِ ، وَلَمْ يُوجَدْ لَهُ أَثَرٌ فِي كِتَابٍ مِنْ الْكُتُبِ الْأُمَّهَاتِ كَمُسْنَدِ

أَحْمَدَ ، وَمُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ ، وَمُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرِهَا مَعَ شِدَّةِ حَاجَتِهِمْ إلَيْهِ ، فَلَوْ كَانَ لِأَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ بِهِ رِوَايَةٌ لَذَكَرَهَا فِي مُصَنَّفِهِ ، فَكَانَ حَدِيثًا مُنْكَرًا ، لَكِنْ مَا رَوَى الطَّبَرَانِيُّ : حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ الْمَرْوَزِيِّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا أَبُو حَمْزَةَ السُّكَّرِيُّ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ بَعْدَمَا قَالَ : أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ } وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ بَعْدَمَا قَالَ إلَخْ إلَّا إذَا كَانَ الْمُرَادُ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ .
وَكَذَا فِي مُسْنَدِ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ طَلْحَةَ بْنِ نَافِعٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ { احْتَجَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَمَا قَالَ } الْحَدِيثَ وَهُوَ صَحِيحٌ ، وَطَلْحَةُ هَذَا احْتَجَّ بِهِ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ ، وَكَذَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ ظَاهِرِ حَدِيثِ النَّسَائِيّ يَدْفَعُ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ ، وَلَا نُسَلِّمُ تَوَاتُرَ الْمَنْسُوخِ وَكَذَا حَدِيثُ الْبُخَارِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَاحْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ } وَحَدِيثُ التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ الْحَكَمِ عَنْ مِقْسَمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا " أَنَّهُ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ " وَهُوَ صَحِيحٌ ، فَإِنْ أُعِلَّا بِإِنْكَارِ أَحْمَدَ أَنْ يَكُونَ سِوَى احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ ، وَقَالَ : لَيْسَ فِيهِ صَائِمٌ .
قَالَ مُهَنَّأٌ : قُلْت لَهُ مَنْ ذَكَرَهُ ؟ قَالَ : سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَطَاءٍ وَطَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : { احْتَجَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهُوَ مُحْرِمٌ } وَكَذَلِكَ رَوَاهُ رَوْحٌ عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرٍو عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِثْلَهُ ، وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ

مُعْتَمِرٍ عَنْ ابْنِ خُثَيْمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِثْلَهُ .
قَالَ أَحْمَدُ : فَهَؤُلَاءِ أَصْحَابُ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا يَذْكُرُونَ صَائِمًا فَلَيْسَ بِلَازِمٍ إذْ قَدْ رَوَاهُ عَنْ غَيْرِ هَؤُلَاءِ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِكْرِمَةُ وَمِقْسَمٌ ، وَيَجُوزُ كَوْنُ مَا وَقَعَ فِي تِلْكَ الطُّرُقِ عَنْ أُولَئِكَ اقْتِصَارًا مِنْهُمْ عَلَى بَعْضِ الْحَدِيثِ يَجِبُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ لِصِحَّةِ ذِكْرِ صَائِمٍ ، أَوْ مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حِينَ حَدَّثَ بِهِ لِكَوْنِ غَرَضِهِ إذْ ذَاكَ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِذَلِكَ فَقَطْ نَفْيًا لِتَوَهُّمِ كَوْنِ الْحِجَامَةِ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ ، وَلِذَا لَمْ يَكُنْ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَرَى بِالْحِجَامَةِ بَأْسًا عَلَى مَا سَنَذْكُرُ .
وَقَوْلُ شُعْبَةَ : لَمْ يَسْمَعْ الْحَكَمُ مِنْ مِقْسَمٍ حَدِيثَ الْحِجَامَةِ لِلصَّائِمِ يَمْنَعُهُ الْمُثْبِتُ .
وَأَمَّا رِوَايَةُ احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ صَائِمٌ وَهِيَ الَّتِي أَخْرَجَهَا ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فَأَضْعَفُ سَنَدًا وَأَظْهَرُ تَأْوِيلًا ، إمَّا بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَطُّ مُحْرِمًا إلَّا وَهُوَ مُسَافِرٌ ، وَالْمُسَافِرُ يُبَاحُ لَهُ الْإِفْطَارُ بَعْدَ الشُّرُوعِ كَمَا اعْتَرَفَ بِهِ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَا قَدَّمْنَاهُ ، وَهُوَ جَوَابُ ابْنِ خُزَيْمَةَ ، أَوْ أَنَّ الْحِجَامَةَ كَانَتْ مَعَ الْغُرُوبِ كَمَا قَالَ ابْنُ حِبَّانَ : إنَّهُ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَرَ أَبَا طِيبَةَ أَنْ يَأْتِيَهُ مَعَ غَيْبُوبَةِ الشَّمْسِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَضَعَ الْمَحَاجِمَ مَعَ إفْطَارِ الصَّائِمِ فَحَجَمَهُ ثُمَّ سَأَلَهُ : كَمْ خَرَاجُكَ ؟ قَالَ : صَاعَانِ فَوَضَعَ عَنْهُ صَاعًا } ا هـ .
فَلَمْ يَنْهَضْ شَيْءٌ مِمَّا ذُكِرَ نَاسِخًا لِقُوَّةِ ذَلِكَ .
الثَّانِي : التَّأْوِيلُ بِأَنَّ الْمُرَادَ ذَهَابُ ثَوَابِ الصَّوْمِ بِسَبَبِ أَنَّهُمَا كَانَا يَغْتَابَانِ ذَكَرَهُ الْبَزَّارُ ، فَإِنَّهُ بَعْدَمَا رَوَى حَدِيثَ ثَوْبَانَ { أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ } أَسْنَدَ إلَى

ثَوْبَانَ أَنَّهُ قَالَ : إنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ } لِأَنَّهُمَا كَانَا اغْتَابَا وَرَوَى الْعُقَيْلِيُّ فِي ضُعَفَائِهِ : حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ دَاوُد بْنُ مُوسَى بَصْرِيٌّ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَطَاءٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ الْأَسْوَدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَجُلَيْنِ يَحْجُمُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فَاغْتَابَ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ الْآخَرُ فَقَالَ : أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ } قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : لَا لِلْحِجَامَةِ وَلَكِنْ لِلْغِيبَةِ لَكِنْ أُعِلَّ بِالِاضْطِرَابِ ، فَإِنَّ فِي بَعْضِهَا إنَّمَا مَنَعَ إبْقَاءً عَلَى أَصْحَابِهِ خَشْيَةَ الضَّعْفِ فَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ الْأَوَّلُ ، فَبِهَذَا يَحْصُلُ الْجَمْعُ وَإِعْمَالُ كُلٍّ مِنْ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مِنْ احْتِجَامِهِ وَتَرْخِيصِهِ وَمَنْعِهِ .
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْمَرْوِيَّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ يَبْعُدُ عَدَمُ اطِّلَاعِهِمْ عَلَى حَقِيقَةِ الْحَالِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُلَازَمَتِهِمْ إيَّاهُ ، وَحِفْظِ مَا يَصْدُرُ عَنْهُ مِنْهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْمُبَارَكِ : أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ خَلَّادٍ عَنْ شَقِيقِ بْنِ ثَوْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ " أَنَّهُ قَالَ : يُقَالُ : أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ وَأَمَّا أَنَا فَلَوْ احْتَجَمْت مَا بَالَيْت " .
وَمَا أُخْرِجَ أَيْضًا عَنْ الضَّحَّاكِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا " أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَرَى بِالْحِجَامَةِ بَأْسًا " وَمَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَيْضًا " أَنَّهُ كَانَ يَحْتَجِمُ وَهُوَ صَائِمٌ " وَالْحَقُّ أَنَّهُ يَجِبُ أَحَدُ الِاعْتِبَارَيْنِ لَا بِعَيْنِهِ مِنْ النَّسْخِ فِي الْوَاقِعِ أَوْ التَّأْوِيلِ .
( قَوْلُهُ وَالْحَدِيثُ مُؤَوَّلٌ بِالْإِجْمَاعِ ) بِذَهَابِ الثَّوَابِ

فَيَصِيرُ كَمَنْ لَمْ يَصُمْ ، وَحِكَايَةُ الْإِجْمَاعِ بِنَاءٌ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ خِلَافِ الظَّاهِرِيَّةِ فِي هَذَا فَإِنَّهُ حَادِثٌ بَعْدَمَا مَضَى السَّلَفُ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ مَا قُلْنَا ، وَيُرِيدُ بِالْحَدِيثِ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَا صَامَ مَنْ ظَلَّ يَأْكُلُ لُحُومَ النَّاسِ } رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَإِسْحَاقُ فِي مُسْنَدِهِ وَزَادَ { إذَا اغْتَابَ الرَّجُلُ فَقَدْ أَفْطَرَ } وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ رَجُلَيْنِ صَلَّيَا صَلَاةَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَكَانَا صَائِمَيْنِ فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ قَالَ : أَعِيدَا وُضُوءَكُمَا وَصَلَاتَكُمَا وَامْضِيَا فِي صَوْمِكُمَا وَاقْضِيَا يَوْمًا آخَرَ .
قَالَا : لِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : اغْتَبْتُمَا فُلَانًا } وَفِيهِ أَحَادِيثُ أُخَرُ ، وَالْكُلُّ مَدْخُولٌ .
وَلَوْ لَمَسَ أَوْ قَبَّلَ امْرَأَةً بِشَهْوَةٍ أَوْ ضَاجَعَهَا وَلَمْ يُنْزِلْ فَظَنَّ أَنَّهُ أَفْطَرَ فَأَكَلَ عَمْدًا كَانَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ إلَّا إذَا تَأَوَّلَ حَدِيثًا أَوْ اسْتَفْتَى فَقِيهًا ، فَأَفْطَرَ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَإِنْ أَخْطَأَ الْفَقِيهُ ، وَلَمْ يَثْبُتْ الْحَدِيثُ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْفَتْوَى وَالْحَدِيثِ يَصِيرُ شُبْهَةً ، كَذَا فِي الْبَدَائِعِ .
وَفِيهِ : لَوْ دَهَنَ شَارِبَهُ فَظَنَّ أَنَّهُ أَفْطَرَ فَأَكَلَ عَمْدًا فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ ، وَإِنْ اسْتَفْتَى فَقِيهًا أَوْ تَأَوَّلَ حَدِيثًا لِمَا قُلْنَا ، يَعْنِي : مَا ذَكَرَهُ فِيمَنْ اغْتَابَ فَظَنَّ أَنَّهُ أَفْطَرَ فَأَكَلَ عَمْدًا مِنْ قَوْلِهِ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ ، وَإِنْ اسْتَفْتَى فَقِيهًا أَوْ تَأَوَّلَ حَدِيثًا لِأَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِفَتْوَى الْفَقِيهِ وَلَا بِتَأْوِيلِهِ الْحَدِيثَ هُنَا لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَشْتَبِهُ عَلَى مَنْ لَهُ سِمَةٌ مِنْ الْفِقْهِ ، وَلَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ أَنَّ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ الْمَرْوِيِّ { الْغَيْبَةَ تُفْطِرُ الصَّائِمَ } حَقِيقَةَ الْإِفْطَارِ ، فَلَمْ يَصِرْ ذَلِكَ شُبْهَةً

( وَإِذَا جُومِعَتْ النَّائِمَةُ أَوْ الْمَجْنُونَةُ وَهِيَ صَائِمَةٌ عَلَيْهَا الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ ) وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى : لَا قَضَاءَ عَلَيْهِمَا اعْتِبَارًا بِالنَّاسِي ، وَالْعُذْرُ هُنَا أَبْلَغُ لِعَدَمِ الْقَصْدِ .
وَلَنَا أَنَّ النِّسْيَانَ يَغْلِبُ وُجُودُهُ وَهَذَا نَادِرٌ ، وَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ لِانْعِدَامِ الْجِنَايَةِ .
( قَوْلُهُ أَوْ الْمَجْنُونَةُ ) قِيلَ : كَانَتْ فِي الْأَصْلِ الْمَجْبُورَةُ فَصَحَّفَهَا الْكُتَّابُ إلَى الْمَجْنُونَةِ ، وَعَنْ الْجُوزَجَانِيِّ قُلْت لِمُحَمَّدٍ : كَيْفَ تَكُونُ صَائِمَةً وَهِيَ مَجْنُونَةٌ ؟ فَقَالَ لِي : دَعْ هَذَا فَإِنَّهُ انْتَشَرَ فِي الْأُفُقِ .
وَعَنْ عِيسَى بْنِ أَبَانَ قُلْت لِمُحَمَّدٍ : هَذِهِ الْمَجْنُونَةُ فَقَالَ : لَا بَلْ الْمَجْبُورَةُ أَيْ الْمُكْرَهَةُ ، قُلْت : أَلَا نَجْعَلُهَا مَجْبُورَةً ؟ فَقَالَ بَلَى ، ثُمَّ قَالَ : كَيْفَ وَقَدْ سَارَتْ بِهَا الرِّكَابُ ؟ دَعُوهَا ، فَهَذَانِ يُؤَيِّدَانِ كَوْنَهُ كَانَ فِي الْأَصْلِ الْمَجْبُورَةِ فَصُحِّفَ ، ثُمَّ لَمَّا انْتَشَرَ فِي الْبِلَادِ لَمْ يُفِدْ التَّغْيِيرُ وَالْإِصْلَاحُ فِي نُسْخَةٍ وَاحِدَةٍ فَتَرَكَهَا لِإِمْكَانِ تَوْجِيهِهَا أَيْضًا ، وَهُوَ بِأَنْ تَكُونَ عَاقِلَةٌ نَوَتْ الصَّوْمَ فَشَرَعَتْ ثُمَّ جُنَّتْ فِي بَاقِي النَّهَارِ ، فَإِنَّ الْجُنُونَ لَا يُنَافِي الصَّوْمَ إنَّمَا يُنَافِي شَرْطَهُ ؛ أَعْنِي النِّيَّةَ ، وَقَدْ وُجِدَ فِي حَالِ الْإِفَاقَةِ ، فَلَا يَجِبُ قَضَاءُ ذَلِكَ الْيَوْمِ إذَا أَفَاقَتْ كَمَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فِي رَمَضَانَ لَا يَقْضِي الْيَوْمَ الَّذِي حَدَثَ فِيهِ الْإِغْمَاءُ وَقَضَى مَا بَعْدَهُ لِعَدَمِ النِّيَّةِ فِيمَا بَعْدَهُ ، بِخِلَافِ الْيَوْمِ الَّذِي حَدَثَ فِيهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ، فَإِذَا جُومِعَتْ هَذِهِ الَّتِي جُنَّتْ صَائِمَةً تَقْضِي ذَلِكَ الْيَوْمَ لِطُرُوِّ الْمُفْسِدِ عَلَى صَوْمٍ صَحِيحٍ ، وَالْوَجْهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ظَاهِرٌ مِنْ الْكِتَابِ ، وَقَدَّمْنَا أَوَّلَ بَابِ مَا يُوجِبُ الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُكْرَهِ وَالنَّاسِي مَا يُغْنِي عَنْ الْإِعَادَةِ هُنَا .

فَصْلٌ فِيمَا يُوجِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ ( وَإِذَا قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ يَوْمِ النَّحْرِ أَفْطَرَ وَقَضَى ) فَهَذَا النَّذْرُ صَحِيحٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيَّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
هُمَا يَقُولَانِ : إنَّهُ نَذْرٌ بِمَا هُوَ مَعْصِيَةٌ لِوُرُودِ النَّهْيِ عَنْ صَوْمِ هَذِهِ الْأَيَّامِ .
وَلَنَا أَنَّهُ نَذَرَ بِصَوْمٍ مَشْرُوعٍ وَالنَّهْيُ لِغَيْرِهِ ، وَهُوَ تَرْكُ إجَابَةِ دَعْوَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَيَصِحُّ نَذْرُهُ لَكِنَّهُ يُفْطِرُ احْتِرَازًا عَنْ الْمَعْصِيَةِ الْمُجَاوِرَةِ ثُمَّ يَقْضِي إسْقَاطًا لِلْوَاجِبِ ، وَإِنْ صَامَ فِيهِ يَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ لِأَنَّهُ أَدَّاهُ كَمَا الْتَزَمَهُ .
( وَإِنْ نَوَى يَمِينًا فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ) يَعْنِي .
إذَا أَفْطَرَ ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى وُجُوهٍ سِتَّةٍ : إنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا أَوْ نَوَى النَّذْرَ لَا غَيْرَ ، أَوْ نَوَى النَّذْرَ وَنَوَى أَنْ لَا يَكُونَ يَمِينًا يَكُونُ نَذْرًا لِأَنَّهُ نَذَرَ بِصِيغَتِهِ .
كَيْفَ وَقَدْ قَرَّرَهُ بِعَزِيمَتِهِ ؟ وَإِنْ نَوَى الْيَمِينَ وَنَوَى أَنْ لَا يَكُونَ نَذْرًا يَكُونُ يَمِينًا ، لِأَنَّ الْيَمِينَ مُحْتَمِلٌ كَلَامَهُ وَقَدْ عَيَّنَهُ وَنَفَى غَيْرَهُ ، وَإِنْ نَوَاهُمَا يَكُونُ نَذْرًا وَيَمِينًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَكُونُ نَذْرًا ، وَلَوْ نَوَى الْيَمِينَ فَكَذَلِكَ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُ يَكُونُ يَمِينًا .
لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ النَّذْرَ فِيهِ حَقِيقَةٌ وَالْيَمِينَ مَجَازٌ حَتَّى لَا يَتَوَقَّفَ الْأَوَّلُ عَلَى النِّيَّةِ ، وَيَتَوَقَّفَ الثَّانِي فَلَا يَنْتَظِمُهُمَا ، ثُمَّ الْمَجَازُ يَتَعَيَّنُ بِنِيَّتِهِ ، وَعِنْدَ نِيَّتِهِمَا تَتَرَجَّحُ الْحَقِيقَةُ .
وَلَهُمَا أَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْن الْجِهَتَيْنِ لِأَنَّهُمَا يَقْتَضِيَانِ الْوُجُوبَ إلَّا أَنَّ النَّذْرَ يَقْتَضِيهِ لِعَيْنِهِ وَالْيَمِينَ لِغَيْرِهِ ، فَجَمَعْنَا بَيْنَهُمَا عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ ، كَمَا جَمَعْنَا بَيْنَ جِهَتَيْ التَّبَرُّعِ وَالْمُعَاوَضَةِ فِي الْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ .

فَصْلٌ فِيمَا يُوجِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ ) وَجْهُ تَقْدِيمِ بَيَانِ أَحْكَامِ الْوَاجِبِ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً عَلَى الْوَاجِبِ عِنْدَ إيجَابِ الْعَبْدِ ظَاهِرٌ .
( قَوْلُهُ فَهَذَا النَّذْرُ صَحِيحٌ ) رَتَّبَهُ بِالْفَاءِ لِأَنَّهُ نَتِيجَةُ قَوْلِهِ : قَضَى : أَيْ لَمَّا لَزِمَ الْقَضَاءُ كَانَ النَّذْرُ صَحِيحًا ( قَوْلُهُ لِوُرُودِ النَّهْيِ عَنْ صَوْمِ هَذِهِ الْأَيَّامِ ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ : عَنْ صَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ وَهُوَ الْأَنْسَبُ بِوَضْعِ الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّهُ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ يَوْمِ النَّحْرِ ، وَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي النُّسْخَةِ الْأُخْرَى مُشَارٌ بِهِ إلَى مَعْهُودٍ فِي الذِّهْنِ بِنَاءً عَلَى شُهْرَةِ الْأَيَّامِ الْمَنْهِيِّ عَنْ صِيَامِهَا ، وَهِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ وَالْعِيدَيْنِ ، وَيُنَاسِبُ النُّسْخَةَ الْأُولَى الِاسْتِدْلَال بِمَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ الْخُدْرِيِّ { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صِيَامِ يَوْمِ الْأَضْحَى وَصِيَامِ يَوْمِ الْفِطْرِ } .
وَفِي لَفْظٍ لَهُمَا سَمِعْتُهُ يَقُولُ { لَا يَصِحُّ الصِّيَامُ فِي يَوْمَيْنِ يَوْمُ الْأَضْحَى وَيَوْمُ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ } وَيُنَاسِبُ النُّسْخَةَ الْأُخْرَى الِاسْتِدْلَال بِمَا سَيَأْتِي مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَلَا لَا تَصُومُوا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ } إلَخْ .
وَالْجَوَابُ : أَنَّ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ الْمُجَرَّدَ عَنْ الصَّوَارِفِ لَيْسَ مُوجِبُهُ بَعْدَ طَلَبِ التَّرْكِ سِوَى كَوْنِ مُبَاشَرَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مَعْصِيَةً سَبَبًا لِلْعِقَابِ لَا الْفَسَادِ ، أَمَّا لُغَةً فَظَاهِرٌ لِظُهُورِ حُدُوثِ مَعْنَى الْفَسَادِ ، وَأَمَّا شَرْعًا : فَكَذَلِكَ بَلْ لَا يَسْتَلْزِمُهُ فِي الْعِبَادَاتِ وَلَا الْمُعَامَلَاتِ لِتَحَقُّقِ مُوجِبِهِ فِي كَثِيرٍ مِنْهَا : أَعْنِي الْمَنْعَ الْمُنْتَهِضَ سَبَبًا لِلْعِقَابِ مَعَ الصِّحَّةِ ، كَمَا فِي الْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ ، وَالصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ ، وَمَعَ الْعَبَثِ الَّذِي لَا يَصِلُ إلَى إفْسَادِ الصَّلَاةِ ، وَكَثِيرٍ .
فَعُلِمَ أَنَّ ثُبُوتَ الْفَسَادِ لَيْسَ مِنْ مُقْتَضَاهُ بَلْ إنَّمَا

يَثْبُتُ لِأَمْرٍ آخَرَ هُوَ كَوْنُهُ لِأَمْرٍ فِي ذَاتِهِ ، فَمَا لَمْ يُعْقَلْ فِيهِ ذَلِكَ بَلْ كَانَ لِأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ نَفْسِ الْفِعْلِ مُتَّصِلٍ بِهِ لَا يُوجِبُ فِيهِ الْفَسَادَ ، وَإِلَّا لَكَانَ إيجَابًا بِغَيْرِ مُوجِبٍ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ حِينَئِذٍ مُجَرَّدُ مُوجِبِهِ وَهُوَ التَّحْرِيمُ أَوْ كَرَاهَةُ التَّحْرِيمِ بِحَسَبِ حَالِهِ مِنْ الظَّنِّيَّةِ وَالْقَطْعِيَّةِ .
إذَا عُرِفَ هَذَا فَقَدْ أَثْبَتْنَا فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ تَمَامَ مُوجِبِ النَّهْيِ حَتَّى قُلْنَا إنَّهُ يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْعِقَابِ ، وَلَمْ يَثْبُتْ الْفَسَادُ لَوْ فَعَلَ لِعَدَمِ مُوجِبِهِ لِعَقْلِيَّةِ أَنَّهُ لِأَمْرٍ خَارِجٍ فَتَكُونُ الْمَعْصِيَةُ لِاعْتِبَارِهِ لَا لِنَفْسِ الْفِعْلِ أَوْ لِمَا فِي نَفْسِهِ فَيَصِحُّ النَّذْرُ أَثَرًا لِتَصَوُّرِ الصِّحَّةِ ، وَيَجِبُ أَنْ لَا يَفْعَلَ لِلْمَعْصِيَةِ فَيَظْهَرَ أَثَرُهُ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّ الصِّحَّةَ بِالِانْتِهَاضِ سَبَبًا لِلْآثَارِ الشَّرْعِيَّةِ وَمِنْهَا هَذَا ، وَكَمْ مَوْضِعٍ يَثْبُتُ فِيهِ الْوُجُوبُ لِيَظْهَرَ أَثَرُهُ فِي الْقَضَاءِ لَا الْأَدَاءِ لِحُرْمَتِهِ كَصَوْمِ رَمَضَانَ فِي حَقِّ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ ، وَالِاسْتِقْرَاءُ يُوجِدُكَ كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ .
فَلَمْ يَخْرُجْ بِذَلِكَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ الْقَوَاعِدِ التَّحْقِيقِيَّةِ ، وَغَايَةُ مَا بَقِيَ بَيَانُ أَنَّ النَّهْيَ فِيهِ لِأَمْرٍ خَارِجٍ ، وَلَا يَكَادُ يَخْفَى عَلَى ذِي لُبٍّ أَنَّ الصَّوْمَ الَّذِي هُوَ مَنْعُ النَّفْسِ مُشْتَهَاهَا لَا يُعْقَلُ فِي نَفْسِهِ سَبَبًا لِلْمَنْعِ ، بَلْ كَوْنُهُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ يَسْتَلْزِمُ الْإِعْرَاضَ عَنْ ضِيَافَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا وَرَدَ فِي الْآثَارِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ أَضْيَافُ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ .
بَقِيَ أَنْ يُقَالَ : نَذَرَ بِمَا هُوَ مَعْصِيَةٌ وَهُوَ مَنْفِيٌّ شَرْعًا فَلَا وُجُودَ لَهُ فَلَا يَنْعَقِدُ ، أَمَّا الْأُولَى : فَظَاهِرَةٌ .
وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَلِمَا فِي سُنَنِ الثَّلَاثَةِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ } قُلْنَا : الْمُرَادُ نَفْيُ

جَوَازِ الْإِيفَاءِ بِهِ نَفْسِهِ لَا نَفْيُ انْعِقَادِهِ ، لِمَا صَرَّحَ بِهِ فِي حَدِيثِ النَّسَائِيّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { النَّذْرُ نَذْرَانِ ، فَمَنْ كَانَ نَذَرَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ فَذَلِكَ لِلَّهِ فِيهِ الْوَفَاءُ ، وَمَنْ كَانَ نَذَرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَذَلِكَ لِلشَّيْطَانِ فَلَا وَفَاءَ وَيُكَفِّرُهُ مَا يُكَفِّرُ الْيَمِينَ } فَإِيجَابُ الْكَفَّارَةِ فِي النَّصِّ يُفِيدُ أَنَّهُ انْعَقَدَ وَلَمْ يُلْغَ ، وَأَنَّ الْمَنْفِيَّ الْوَفَاءُ بِهِ بِعَيْنِهِ ، فَكَذَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَكَانَ وِزَانَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا يَمِينَ فِي قَطِيعَةِ رَحِمٍ } مَعَ أَنَّهَا تَنْعَقِدُ لِلْكَفَّارَةِ .
غَيْرَ أَنَّ الِانْعِقَادَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ يَكُونُ لِأَمْرَيْنِ : لِلْقَضَاءِ فِيمَا إذَا كَانَ جِنْسُ الْمَنْذُورِ مِمَّا يَخْلُو بَعْضُ أَفْرَادِهِ عَنْ الْمَعْصِيَةِ كَمَا نَحْنُ فِيهِ ، فَإِنَّ الصَّوْمَ وَهُوَ الْجِنْسُ كَذَلِكَ فَيَجِبُ الْفِطْرُ وَالْقَضَاءُ فِي يَوْمٍ لَا كَرَاهَةَ فِيهِ ، وَلِلْكَفَّارَةِ إنْ كَانَ لَا يَخْلُو شَيْءٌ مِنْ أَفْرَادِهِ عَنْهَا كَالنَّذْرِ بِالزِّنَا وَبِالسُّكْرِ إذَا قَصَدَ الْيَمِينَ فَيَنْعَقِدُ لِلْكَفَّارَةِ ، وَهُوَ مَحْمَلُ الْحَدِيثِ وَإِلَّا فَيَلْغُو ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي انْعِقَادِهِ ، وَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَنْعَقِدَ مُطْلَقًا لِلْكَفَّارَةِ إذَا تَعَذَّرَ الْفِعْلُ ، وَعَلَيْهِ مَشَى الْمَشَايِخُ .
قَالَ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَوْ أَضَافَ النَّذْرَ إلَى سَائِرِ الْمَعَاصِي كَقَوْلِهِ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَقْتُلَ فُلَانًا كَانَ يَمِينًا وَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ بِالْحِنْثِ ا هـ .
وَإِنَّمَا لَا يَلْزَمُ الْيَمِينُ بِلَفْظِ النَّذْرِ إلَّا بِالنِّيَّةِ فِي نَذْرِ الطَّاعَةِ كَالْحَجِّ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ عَلَى مَا هُوَ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ ، فَلَا تُجْزِئُ الْكَفَّارَةُ عَنْ الْفِعْلِ .
وَبِهِ أَفْتَى السُّغْدِيُّ ، وَهُوَ الظَّاهِرُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ قَبْلَ

مَوْتِهِ بِسَبْعَةِ أَيَّامٍ ، وَقَالَ : تَجِبُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ ، قَالَ السَّرَخْسِيُّ : وَهَذَا اخْتِيَارِي لِكَثْرَةِ الْبَلْوَى بِهِ فِي هَذَا الزَّمَانِ .
قَالَ : وَهُوَ اخْتِيَارُ الصَّدْرِ الشَّهِيدِ فِي فَتَاوَاهُ الصُّغْرَى ، وَبِهِ يُفْتَى .
وَعَلَى صِحَّةِ النَّذْرِ يَصُومُ يَوْمَ النَّحْرِ لَكِنَّهُ مَخْصُوصٌ بِمَا ذُكِرَ لِدَلِيلٍ عِنْدَهُمْ يُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَعَلَى هَذَا فَمَا ذَكَرُوا مِنْ أَنَّ شَرْطَ النَّذْرِ كَوْنُهُ بِمَا لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ كَوْنُ الْمَعْصِيَةِ بِاعْتِبَارِ نَفْسِهِ حَتَّى لَا يَنْفَكَّ شَيْءٌ مِنْ أَفْرَادِ الْجِنْسِ عَنْهَا ، وَإِذَا صَحَّ النَّذْرُ فَلَوْ فَعَلَ نَفْسَ الْمَنْذُورِ عَصَى وَانْحَلَّ النَّذْرُ كَالْحَلِفِ بِالْمَعْصِيَةِ يَنْعَقِدُ لِلْكَفَّارَةِ ، فَلَوْ فَعَلَ الْمَعْصِيَةَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهَا سَقَطَتْ وَأَثِمَ .
( قَوْلُهُ وَلَهُمَا أَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْجِهَتَيْنِ ) الْكَائِنَتَيْنِ لِهَذَا اللَّفْظِ ، وَهُوَ لِلَّهِ عَلَيَّ كَذَا جِهَةُ الْيَمِينِ وَجِهَةُ النَّذْرِ ( لِأَنَّهُمَا ) أَيْ الْيَمِينَ وَالنَّذْرَ ( يَقْتَضِيَانِ الْوُجُوبَ ) أَيْ وُجُوبَ مَا تَعَلَّقَا بِهِ ، لَا فَرْقَ سِوَى .
( أَنَّ النَّذْرَ يَقْتَضِيهِ لِعَيْنِهِ ) وَهُوَ وَفَاءُ الْمَنْذُورِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ } ( وَالْيَمِينَ لِغَيْرِهِ ) وَهُوَ صِيَانَةُ اسْمِهِ تَعَالَى ، وَلَا تَنَافِيَ لِجَوَازِ كَوْنِ الشَّيْءِ وَاجِبًا لِعَيْنِهِ وَلِغَيْرِهِ ، كَمَا إذَا حَلَفَ لَيُصَلِّيَنَّ ظُهْرَ هَذَا الْيَوْمِ .
( فَجَمَعْنَا بَيْنَهُمَا كَمَا جَمَعْنَا بَيْنَ جِهَتَيْ التَّبَرُّعِ وَالْمُعَاوَضَةِ فِي الْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ ) حَيْثُ اُعْتُبِرَتْ الْأَحْكَامُ الثَّلَاثَةُ لِجِهَةِ التَّبَرُّعِ ، الْبُطْلَانُ بِالشُّيُوعِ وَعَدَمُ جَوَازِ تَصَرُّفِ الْمَأْذُونِ فِيهَا .
وَاشْتِرَاطُ التَّقَابُضِ ، وَالثَّلَاثَةُ لِجِهَةِ الْمُعَاوَضَةِ الرَّدُّ بِخِيَارِ الْعَيْبِ ، وَالرُّؤْيَةُ ، وَاسْتِحْقَاقُ الشُّفْعَةِ عَلَى مَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
بَقِيَ أَنْ يُقَالَ : يَلْزَمُ التَّنَافِي مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى ، وَهُوَ أَنَّ الْوُجُوبَ الَّذِي

يَقْتَضِيهِ الْيَمِينُ وُجُوبٌ يَلْزَمُ بِتَرْكِ مُتَعَلِّقِهِ الْكَفَّارَةُ ، وَالْوُجُوبُ الَّذِي هُوَ مُوجِبٌ النَّذْرَ لَيْسَ يَلْزَمُ بِتَرْكِ مُتَعَلِّقِهِ ذَلِكَ ، وَتَنَافِي اللَّوَازِمِ أَقَلُّ مَا يَقْتَضِي التَّغَايُرَ فَلَا بُدَّ أَنْ لَا يُرَادَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ ، وَنُخْبَةُ مَا قَرَّرَ بِهِ كَلَامَ فَخْرِ الْإِسْلَامِ هُنَا أَنَّ تَحْرِيمَ الْمُبَاحِ وَهُوَ مَعْنَى الْيَمِينِ لَازِمٌ لِمُوجَبِ صِيغَةِ النَّذْرِ ، وَهُوَ إيجَابُ الْمُبَاحِ فَيَثْبُتُ مَدْلُولًا الْتِزَامِيًّا لِلصِّيغَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُرَادَ هُوَ بِهَا وَيُسْتَعْمَلَ فِيهِ ، وَلُزُومُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ بِاللَّفْظِ الْوَاحِدِ إنَّمَا هُوَ بِاسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِيهِمَا ، وَالِاسْتِعْمَالُ لَيْسَ بِلَازِمٍ فِي ثُبُوتِ الْمَدْلُولِ الِالْتِزَامِيِّ ، وَحِينَئِذٍ فَقَدْ أُرِيدَ بِاللَّفْظِ الْمُوجَبُ فَقَطْ ، وَيُلَازِمُ الْمُوجَبَ الثَّابِتَ دُونَ اسْتِعْمَالٍ فِيهِ الْيَمِينُ ، فَلَا جَمْعَ فِي الْإِرَادَةِ بِاللَّفْظِ إلَّا أَنَّ هَذَا يَتَرَاءَى مَغْلَطَةً ، إذْ مَعْنَى ثُبُوتُ الِالْتِزَامِيِّ غَيْرُ مُرَادٍ لَيْسَ إلَّا خُطُورَةً عِنْدَ فَهْمِ مَلْزُومِهِ الَّذِي هُوَ مَدْلُولُ اللَّفْظِ مَحْكُومًا بِنَفْيِ إرَادَتِهِ لِلْمُتَكَلِّمِ ، وَالْحُكْمُ بِذَلِكَ يُنَافِيهِ إرَادَةُ الْيَمِينِ بِهِ ، لِأَنَّ إرَادَةَ الْيَمِينِ الَّتِي هِيَ إرَادَةُ تَحْرِيمِ الْمُبَاحِ هِيَ إرَادَةُ الْمَدْلُولِ الِالْتِزَامِيِّ عَلَى وَجْهٍ أَخَصَّ مِنْهُ حَالَ كَوْنِهِ مَدْلُولًا الْتِزَامِيًّا ، فَإِنَّهُ أُرِيدَ عَلَى وَجْهٍ تَلْزَمُ الْكَفَّارَةُ بِخُلْفِهِ ، وَعَدَمُ إرَادَةِ الْأَعَمِّ تُنَافِيهِ إرَادَةُ الْأَخَصِّ ، أَعْنِيَ تَحْرِيمَهُ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ ، فَلَمْ يَخْرُجْ عَنْ كَوْنِهِ أُرِيدَ بِاللَّفْظِ مَعْنًى .
نَعَمْ إنَّمَا يَصِحُّ إذَا فُرِضَ عَدَمُ قَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ عِنْدَ التَّلَفُّظِ سِوَى النَّذْرِ ، ثُمَّ بَعْدَ التَّلَفُّظِ عَرَضَ لَهُ إرَادَةُ ضَمِّ الْآخَرِ عَلَى فَوْرِهِ ، لَكِنَّ الْحُكْمَ وَهُوَ لُزُومُهُمَا لَا يَخُصُّ هَذِهِ الصُّورَةَ ، فَلِذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ عَدَلَ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ عَنْ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ فَقَالَ :

النَّذْرُ مُسْتَفَادٌ مِنْ الصِّيغَةِ وَالْيَمِينُ مِنْ الْمُوجَبِ ، قَالَ : فَإِنَّ إيجَابَ الْمُبَاحِ يَمِينٌ كَتَحْرِيمِهِ الثَّابِتَ بِالنَّصِّ يَعْنِي قَوْله تَعَالَى { لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } إلَى أَنْ قَالَ { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } لَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَفْسِهِ مَارِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَوْ الْعَسَلَ ، فَأَفَادَ أَنَّهُ إنَّمَا أُرِيدَ بِاللَّفْظِ مُوجَبُهُ وَهُوَ إيجَابُ الْمُبَاحِ ، وَأُرِيدَ بِنَفْسِ إيجَابِ الْمُبَاحِ الَّذِي هُوَ نَفْسُ الْمُوجَبِ كَوْنُهُ يَمِينًا قَالَ : وَمَعَ الِاخْتِلَافِ فِيمَا أُرِيدَ بِهِ لَا جَمْعَ ، يَعْنِي حَيْثُ أُرِيدَ بِاللَّفْظِ إيجَابُ الْمُبَاحِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ ، وَبِالْإِيجَابِ نَفْسِهِ كَوْنُهُ يَمِينًا لَا جَمْعَ فِي الْإِرَادَةِ بِاللَّفْظِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ ، فَإِنَّهُ مَتَى أُرِيدَ الِالْتِزَامِيُّ لِيُرَادَ بِهِ الْيَمِينُ لَزِمَ الْجَمْعُ فِي الْإِرَادَةِ بِاللَّفْظِ ، إذْ لَيْسَ مَعْنَى الْجَمْعِ إلَّا أَنَّهُ أُرِيدَ عِنْدَ إطْلَاقِ اللَّفْظِ ، ثُمَّ لَا يُخَالُ أَنَّهُ قِيَاسٌ لِتَعْدِيَةِ الِاسْمِ لِلْمُتَأَمِّلِ .
وَفِيهِ أَيْضًا نَظَرٌ لِأَنَّ إرَادَةَ الْإِيجَابِ عَلَى أَنَّهُ يَمِينُ إرَادَتِهِ عَلَى وَجْهٍ هُوَ أَنْ يَسْتَعْقِبَ الْكَفَّارَةَ بِالْخُلْفِ وَإِرَادَتُهُ مِنْ اللَّفْظِ نَذْرًا إرَادَتُهُ بِعَيْنِهِ عَلَى أَنْ لَا يَسْتَعْقِبَهَا بَلْ الْقَضَاءُ وَذَلِكَ تَنَافٍ ، فَيَلْزَمُ إذَا أُرِيدَ يَمِينًا وَثَبَتَ حُكْمُهَا شَرْعًا وَهُوَ لُزُومُ الْكَفَّارَةِ بِالْخُلْفِ أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ نَذْرًا إذْ لَا أَثَرَ لِذَلِكَ فِيهِ .

( وَلَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ هَذِهِ السَّنَةِ أَفْطَرَ يَوْمَ الْفِطْرِ وَيَوْمَ النَّحْرِ وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ وَقَضَاهَا ) لِأَنَّ النَّذْرَ بِالسَّنَةِ الْمُعَيَّنَةِ نَذْرٌ بِهَذِهِ الْأَيَّامِ ، وَكَذَا إذَا لَمْ يُعَيِّنْ لَكِنَّهُ شَرَطَ التَّتَابُعَ ، لِأَنَّ الْمُتَابَعَةَ لَا تَعْرَى عَنْهَا لَكِنْ يَقْضِيهَا فِي هَذَا الْفَصْلِ مَوْصُولَةً تَحْقِيقًا لِلتَّتَابُعِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ ، وَيَتَأَتَّى فِي هَذَا خِلَافُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيَّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِلنَّهْيِ عَنْ الصَّوْمِ فِيهَا ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَلَا لَا تَصُومُوا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فَإِنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَبِعَالٍ } وَقَدْ بَيَّنَّا الْوَجْهَ فِيهِ وَالْعُذْرَ عَنْهُ ، وَلَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ التَّتَابُعَ لَمْ يُجْزِهِ صَوْمُ هَذِهِ الْأَيَّامِ ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيمَا يَلْتَزِمُهُ الْكَمَالُ ، وَالْمُؤَدَّى نَاقِصٌ لِمَكَانٍ النَّهْيِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا عَيَّنَهَا لِأَنَّهُ الْتَزَمَ بِوَصْفِ النُّقْصَانِ فَيَكُونُ الْأَدَاءُ بِالْوَصْفِ الْمُلْتَزَمِ .
قَالَ ( وَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ إنْ أَرَادَ بِهِ يَمِينًا ) وَقَدْ سَبَقَتْ وُجُوهُهُ .

( قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ هَذِهِ السَّنَةِ ) سَوَاءٌ أَرَادَهُ أَوْ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ صَوْمُ يَوْمٍ فَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ سَنَةً ، وَكَذَلِكَ إذْ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ كَلَامًا فَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ النَّذْرُ لَزِمَهُ لِأَنَّ هَذِهِ النَّذْرِ جِدٌّ كَالطَّلَاقِ ( أَفْطَرَ يَوْمَ الْفِطْرِ وَيَوْمَ النَّحْرِ وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ وَقَضَاهَا ) وَلَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ قَالَتْهُ قَضَتْ مَعَ هَذِهِ الْأَيَّامِ أَيَّامَ حَيْضِهَا ، لِأَنَّ تِلْكَ السَّنَةَ قَدْ تَخْلُو عَنْ الْحَيْضِ فَصَحَّ الْإِيجَابُ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يَجْرِيَ فِيهِ خِلَافُ زُفَرَ فَإِنَّهُ مَنْصُوصٌ عَنْهُ فِي قَوْلِهَا أَنْ أَصُومَ غَدًا فَوَافَقَ حَيْضَهَا لَا تَقْضِي .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَقْضِيهِ لِأَنَّهَا لَمْ تُضِفْهُ نَذْرًا إلَى يَوْمِ حَيْضِهَا ، بَلْ إلَى الْمَحَلِّ غَيْرَ أَنَّهُ اتَّفَقَ عُرُوضُ الْمَانِعِ ، فَلَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ الْإِيجَابِ حَالَ صُدُورِهِ فَتَقْضِي ، وَكَذَا إذَا نَذَرَتْ صَوْمَ الْغَدِ وَهِيَ حَائِضٌ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَتْ : يَوْمَ حَيْضِي لَا قَضَاءَ لِعَدَمِ صِحَّتِهِ لِإِضَافَتِهِ إلَى غَيْرِ مَحَلِّهِ ، فَصَارَ كَالْإِضَافَةِ إلَى اللَّيْلِ ، ثُمَّ عِبَارَةُ الْكِتَابِ تُفِيدُ الْوُجُوبَ لِمَا عُرِفَ .
وَقَوْلُهُ فِي النِّهَايَةِ الْأَفْضَلُ فِطْرُهَا ، حَتَّى لَوْ صَامَهَا خَرَجَ عَنْ الْعُهْدَةِ تَسَاهُلٌ ، بَلْ الْفِطْرُ وَاجِبٌ لِاسْتِلْزَامِ صَوْمِهَا الْمَعْصِيَةَ ، وَلِتَعْلِيلِ الْمُصَنِّفِ فِيمَا تَقَدَّمَ الْفِطْرَ بِهَا ، فَإِنْ صَامَهَا أَثِمَ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَدَّاهَا كَمَا الْتَزَمَهَا نَاقِصَةً ، لَكِنْ قَارَنَ هَذَا الِالْتِزَامُ وَاجِبًا آخَرُ وَهُوَ لُزُومُ الْفِطْرِ تَرَكَهُ فَتَحَمَّلَ إثْمَهُ ثُمَّ .
هَذَا إذَا قَالَ ذَلِكَ قَبْلَ يَوْمِ الْفِطْرِ فَإِنْ قَالَهُ فِي شَوَّالٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ يَوْمِ الْفِطْرِ ، وَكَذَا لَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ صِيَامُ هَذِهِ السَّنَةِ بَعْدَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ يَوْمَيْ الْعِيدَيْنِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ بَلْ صِيَامُ مَا بَقِيَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ ذَكَرَهُ فِي الْغَايَةِ .
وَقَالَ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ :

هَذَا سَهْوٌ ، لِأَنَّ قَوْلَهُ هَذِهِ السَّنَةِ عِبَارَةٌ عَنْ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا مِنْ وَقْتِ النَّذْرِ إلَى وَقْتِ النَّذْرِ ، وَهَذِهِ الْمُدَّةُ لَا تَخْلُو عَنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ فَيَكُونُ نَذْرًا بِهَا ا هـ وَهَذَا سَهْوٌ ، بَلْ الْمَسْأَلَةُ كَمَا هِيَ فِي الْغَايَةِ مَنْقُولَةٌ فِي الْخُلَاصَةِ ، وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَهَذَا الشَّهْرِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ سَنَةٍ عَرَبِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ عِبَارَةٌ عَنْ مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ لَهَا مَبْدَأٌ وَمَخْتَمٌ خَاصَّانِ عِنْدَ الْعَرَبِ ، مَبْدَؤُهَا الْمُحَرَّمُ وَآخِرُهَا ذُو الْحِجَّةِ ، فَإِذَا قَالَ : هَذِهِ فَإِنَّمَا يُفِيدُ الْإِشَارَةَ إلَى الَّتِي هُوَ فِيهَا ، فَحَقِيقَةُ كَلَامِهِ أَنَّهُ نَذْرٌ بِالْمُدَّةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ إلَى آخِرِ ذِي الْحِجَّةِ ، وَالْمُدَّةُ الْمَاضِيَةُ الَّتِي مَبْدَؤُهَا الْمُحَرَّمُ إلَى وَقْتِ التَّكَلُّمِ فَيَلْغُو فِي حَقِّ الْمَاضِي كَمَا يَلْغُو فِي قَوْلِهِ لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ أَمْسِ ، وَهَذَا فَرْعٌ يُنَاسِبُ هَذَا ، لَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ أَمْسِ الْيَوْمَ أَوْ الْيَوْمَ أَمْسِ لَزِمَ صَوْمُ الْيَوْمِ ، وَلَوْ قَالَ : غَدًا هَذَا الْيَوْمَ أَوْ هَذَا الْيَوْمَ غَدًا لَزِمَهُ صَوْمُ أَوَّلِ الْوَقْتَيْنِ تَفَوَّهَ بِهِ .
وَلَوْ قَالَ : شَهْرًا لَزِمَهُ شَهْرٌ كَامِلٌ ، وَلَوْ قَالَ : الشَّهْرَ وَجَبَتْ بَقِيَّةُ الشَّهْرِ الَّذِي هُوَ فِيهِ ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ الشَّهْرَ مُعَيَّنًا فَيَنْصَرِفُ إلَى الْمَعْهُودِ بِالْحُضُورِ ، فَإِنْ نَوَى شَهْرًا فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى لِأَنَّهُ مُحْتَمِلٌ كَلَامَهُ ذَكَرَهُ فِي التَّجْنِيسِ ، وَفِيهِ تَأْيِيدٌ لِمَا فِي الْغَايَةِ أَيْضًا ، وَلَوْ قَالَ : صَوْمُ يَوْمَيْنِ فِي هَذَا الْيَوْمِ لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا صَوْمُ يَوْمِهِ ، بِخِلَافِ عَشْرِ حَجَّاتٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى مَا سَنُبَيِّنُهُ فِي الْحَجِّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
( قَوْلُهُ : فِي هَذَا الْفَصْلِ ) احْتِرَازٌ مِنْ الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَهُ ، وَهُوَ مَا إذَا عَيَّنَ السَّنَةَ فَإِنَّهُ لَا تَجِبُ مَوْصُولَةً لِأَنَّ التَّتَابُعَ هُنَاكَ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ وَلَا مُلْتَزَمٌ قَصْدًا ، بَلْ إنَّمَا يَلْزَمُ

ضَرُورَةَ فِعْلِ صَوْمِهَا ، فَإِذَا قَطَعَهَا بِإِذْنِ الشَّرْعِ انْتَفَى التَّتَابُعُ الضَّرُورِيُّ بِخِلَافِ التَّتَابُعِ هُنَا ، فَإِنَّهُ الْتَزَمَهُ قَصْدًا ، فَإِذَا وَجَبَ الْقَطْعُ شَرْعًا وَجَبَ تَوْفِيرُهُ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ وَلِهَذَا إذَا أَفْسَدَ يَوْمًا مِنْ الْوَاجِبِ الْمُتَتَابِعِ قَصْدًا كَصَوْمِ الْكَفَّارَاتِ وَالْمَنْذُورِ مُتَتَابِعًا لَزِمَهُ الِاسْتِقْبَالُ ، وَفِي الْمُتَتَابِعِ ضَرُورَةً كَمَا إذَا نَذَرَ صَوْمَ هَذِهِ السَّنَةِ أَوْ رَجَبَ لَا يَلْزَمُهُ سِوَى مَا أَفْسَدَهُ ، غَيْرَ أَنَّهُ يَأْثَمُ بِذَلِكَ الْإِفْسَادِ ، كَمَا إذَا أَفْسَدَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ وَهُوَ وَاجِبُ التَّتَابُعِ ضَرُورَةً لَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ غَيْرِهِ مَعَ الْمَأْثَمِ ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ شَهْرٍ رَمَضَانَ فِي الْفَصْلَيْنِ ، أَيْ هَذِهِ السَّنَةِ أَوْ سَنَةٍ مُتَتَابِعَةٍ ، لِأَنَّ هَذِهِ السَّنَةَ وَالسَّنَةَ الْمُتَتَابِعَةَ لَا تَخْلُو عَنْهُ ، فَإِيجَابُهَا إيجَابُهُ وَغَيْرُهُ ، فَيَصِحُّ فِي غَيْرِهِ وَيَبْطُلُ فِيهِ لِوُجُوبِهِ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً .
( قَوْلُهُ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) رَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَ أَيَّامَ مِنًى صَائِحًا يَصِيحُ : أَنْ لَا تَصُومُوا هَذِهِ الْأَيَّامَ فَإِنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَبِعَالٍ } أَيْ وِقَاعٍ .
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ هُذَيْلَ بْنَ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيَّ عَلَى جَمَلٍ أَوْرَقَ يَصِيحُ فِي فِجَاجِ مِنًى .
أَلَا إنَّ الذَّكَاةَ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ ، وَلَا تُعَجِّلُوا الْأَنْفُسَ أَنْ تَزْهَقَ ، وَأَيَّامُ مِنًى أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَبِعَالٍ } وَفِي مُسْنَدِهِ سَعِيدُ بْنُ سَلَّامٍ كَذَّبَهُ أَحْمَدُ .
وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ { عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَذَاقَةَ السَّهْمِيِّ قَالَ بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَاحِلَةٍ أَيَّامَ مِنًى أُنَادِي : أَيُّهَا النَّاسُ

إنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَبِعَالٍ } وَضَعَّفَهُ بِالْوَاقِدِيِّ ، وَفِي الْوَاقِدِيِّ مَا قَدَّمْنَاهُ أَوَّلَ الْكِتَابِ فِي مَبَاحِثِ الْمِيَاهِ .
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْحَجِّ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ قَالَا : حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ مُنْذِرِ بْنِ جَهْمٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ خَلَدَةَ عَنْ أُمِّهِ قَالَتْ { بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا يُنَادِي : أَيَّامُ مِنًى أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَبِعَالٍ } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَبِعَالٍ } زَادَ فِي طَرِيقٍ آخَرَ { وَذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى } .
( قَوْلُهُ وَلَوْ لَمْ يُشْتَرَطْ التَّتَابُعُ ) أَيْ فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنَةِ بِأَنْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ سَنَةٍ فَعَلَيْهِ صَوْمُ سَنَةٍ بِالْأَهِلَّةِ وَلَمْ يُجْزِهِ صَوْمُ هَذِهِ الْأَيَّامِ ، لِأَنَّ الْمُنَكَّرَةَ اسْمٌ لِاثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا لَا بِقَيْدِ كَوْنِ رَمَضَانَ وَشَوَّالٍ وَذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا ، فَلَمْ يَكُنْ النَّذْرُ بِهَا نَذْرًا بِهَا فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ يَوْمًا ، ثَلَاثِينَ لِرَمَضَانَ ، وَيَوْمَيْ الْعِيدِ وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ ، وَهَلْ يَجِبُ وَصْلُهَا بِمَا مَضَى ؟ قِيلَ نَعَمْ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي التَّجْنِيسِ : هَذَا غَلَطٌ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُجْزِيَهُ ، وَلَوْ قَالَ : شَهْرًا لَزِمَهُ كَامِلًا أَوْ رَجَبَ لَزِمَهُ هُوَ بِهِلَالِهِ ، وَلَوْ قَالَ : جُمُعَةً إنْ أَرَادَ أَيَّامَهَا لَزِمَهُ سَبْعَةُ أَيَّامٍ أَوْ يَوْمَهَا لَزِمَهُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ فَقَطْ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ تَلْزَمُهُ سَبْعَةُ أَيَّامٍ لِأَنَّهَا تُذْكَرُ لِكُلٍّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ ، وَفِي الْأَيَّامِ السَّبْعَةِ أَغْلَبُ فِي الِاسْتِعْمَالِ فَيَنْصَرِفُ الْمُطْلَقُ إلَيْهِ .
وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ عَيَّنَ كَمَا قَدَّمْنَا ، وَلَوْ قَالَ : كُلَّ يَوْمِ خَمِيسٍ أَوْ اثْنَيْنِ فَلَمْ يَصُمْهُ وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ ، فَإِنْ نَوَى الْيَمِينَ فَقَطْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ أَوْ الْيَمِينَ

وَالنَّذْرَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ فِي إفْطَارِ الْخَمِيسِ الْأَوَّلِ أَوْ الِاثْنَيْنِ ، وَمَا أَفْطَرَ مِنْهُمَا بَعْدُ فَفِيهِ الْقَضَاءُ لَيْسَ غَيْرُ لِانْحِلَالِ الْيَمِينِ بِالْحِنْثِ الْأَوَّلِ ، وَبَقَاءِ النَّذْرِ عَلَى الْخِلَافِ ، وَلَوْ أَخَّرَ الْقَضَاءَ حَتَّى صَارَ شَيْخًا فَانِيًا أَوْ كَانَ نَذَرَ بِصِيَامِ الْأَبَدِ فَعَجَزَ لِذَلِكَ أَوْ بِاشْتِغَالِهِ بِالْمَعِيشَةِ لِكَوْنِ صِنَاعَتِهِ شَاقَّةً لَهُ أَنْ يُفْطِرَ وَيُطْعِمَ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ ، وَإِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ لِعُسْرَتِهِ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ إنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ الْغَنِيُّ الْكَرِيمُ ، وَلَوْ لَمْ يَقْدِرْ لِشِدَّةِ الزَّمَانِ كَالْحَرِّ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ وَيَنْتَظِرَ الشِّتَاءَ فَيَقْضِيَ ، هَذَا .
وَيَصِحُّ تَعْلِيقُ النَّذْرِ كَأَنْ يَقُولَ : إذَا جَاءَ زَيْدٌ أَوْ شُفِيَ فَعَلَيَّ صَوْمُ شَهْرٍ ، فَلَوْ صَامَ شَهْرًا عَنْ ذَلِكَ قَبْلَ الشَّرْطِ لَا يَجُوزُ عَنْهُ ، وَلَوْ أَضَافَهُ إلَى وَقْتٍ جَازَ تَقْدِيمُهُ عَلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ ، لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ لَا يَنْعَقِدُ سَبَبًا فِي الْحَالِ بَلْ عِنْدَ الشَّرْطِ فَالصَّوْمُ قَبْلَهُ صَوْمٌ قَبْلَ السَّبَبِ فَلَا يَجُوزُ ، وَالْمُضَافُ يَنْعَقِدُ فِي الْحَالِ ، فَالصَّوْمُ قَبْلَ الْوَقْتِ صَوْمٌ بَعْدَ السَّبَبِ فَيَجُوزُ ، وَمِنْهُ : أَنْ يَقُولَ : لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ رَجَبٍ فَصَامَ قَبْلَهُ عَنْهُ خَرَجَ عَنْ عُهْدَةِ نَذْرِهِ ، وَأَصْلُ هَذَا مَا قَدَّمْنَا فِي أَوَّلِ الصَّوْمِ أَنَّ التَّعْجِيلَ بَعْدَ السَّبَبِ جَائِزٌ أَصْلُهُ الزَّكَاةُ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، غَيْرَ أَنَّ زُفَرَ لَمْ يُجِزْهُ فِيمَا إذَا كَانَ الزَّمَانُ الْمُعَجَّلُ فِيهِ أَقَلَّ فَضِيلَةً مِنْ الْمَنْذُورِ ، وَمُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ لِلتَّعْجِيلِ .
وَعِنْدَنَا يَجُوزُ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ لُزُومَ الْمَنْذُورِ بِمَا هُوَ قُرْبَةٌ فَقَطْ ، وَجَوَازُ التَّعْجِيلِ بَعْدَ السَّبَبِ بِدَلِيلِ الزَّكَاةِ فَابْتَنَى عَلَى هَذَا إلْغَاءُ تَعْيِينِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالْمُتَصَدِّقِ وَالْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ ، فَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ

رَجَبًا فَصَامَ عَنْهُ قَبْلَهُ شَهْرًا أَحَطَّ فَضِيلَةً مِنْهُ جَازَ خِلَافًا لَهُمَا ، وَكَذَا إذَا نَذَرَ صَلَاةً فِي زَمَانٍ فَضِيلٍ فَصَلَّاهَا قَبْلَهُ فِي أَحَطَّ مِنْهُ جَازَ ، أَوْ نَذَرَ رَكْعَتَيْنِ بِمَكَّةَ فَصَلَّاهُمَا فِي غَيْرِهَا جَازَ ، أَوْ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَذَا الدِّرْهَمِ غَدًا عَلَى فُلَانٍ الْفَقِيرِ فَتَصَدَّقَ بِغَيْرِهِ فِي الْيَوْمِ عَلَى غَيْرِهِ أَجْزَأَهُ ، خِلَافًا لِزُفَرَ فِي الْكُلِّ ، وَلَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ الْيَوْمِ الَّذِي يَقْدَمُ فِيهِ فُلَانٌ فَقَدِمَ فُلَانٌ بَعْدَمَا أَكَلَ أَوْ بَعْدَمَا حَاضَتْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ ، وَلَوْ قَدِمَ بَعْدَ الزَّوَالِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَلَا رِوَايَةَ فِيهِ عَنْ غَيْرِهِ .
وَلَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ الْيَوْمَ الَّذِي يَقْدَمُ فِيهِ فُلَانٌ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى ، وَأَرَادَ بِهِ الْيَمِينَ فَقَدِمَ فُلَانٌ فِي يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ كَانَ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ شَرْطُ الْبِرِّ وَهُوَ الصَّوْمُ بِنِيَّةِ الشُّكْرِ ، وَلَوْ قَدِمَ قَبْلَ أَنْ يَنْوِيَ فَنَوَى بِهِ الشُّكْرَ لَا عَنْ رَمَضَانَ بَرَّ بِالنِّيَّةِ وَأَجْزَأَهُ عَنْ رَمَضَانَ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ ، وَإِذَا نَذَرَ الْمَرِيضُ صَوْمَ شَهْرٍ فَمَاتَ قَبْلَ الصِّحَّةِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ صَحَّ يَوْمًا ، تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَتَحْقِيقُهَا وَمَنْ نَذَرَ صَوْمَ هَذَا الْيَوْمِ أَوْ يَوْمَ كَذَا شَهْرًا أَوْ سَنَةً لَزِمَهُ مَا تَكَرَّرَ مِنْهُ فِي الشَّهْرِ وَالسَّنَةِ .
وَلَوْ نَذَرَ صَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ فَصَامَ ذَلِكَ مَرَّةً كَفَاهُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الْأَبَدَ ، وَلَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ يَوْمَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ وَآخِرِهِ لَزِمَهُ صِيَامُ الْخَامِسَ عَشَرَ وَالسَّادِسَ عَشَرَ ، وَكُلُّ صَوْمٍ أَوْجَبَهُ وَنَصَّ عَلَى تَفْرِيقِهِ فَصَامَهُ مُتَتَابِعًا خَرَجَ عَنْ عُهْدَتِهِ وَعَلَى الْقَلْبِ لَا يُجْزِيهِ ، وَلَوْ قَالَ : بِضْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ ، أَوْ

دَهْرًا فَعَلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ ، أَوْ الدَّهْرَ فَعَلَى الْعُمْرِ .
وَلَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ مِثْلِ شَهْرِ رَمَضَانَ إنْ أَرَادَ مِثْلَهُ فِي الْوُجُوبِ لَهُ أَنْ يُفَرِّقَ أَوْ فِي التَّتَابُعِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُتَابِعَ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَلَهُ أَنْ يُفَرِّقَ .
رَجُلٌ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ فَصَامَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَقَدْ أَفْطَرَ يَوْمًا وَلَا يَدْرِي أَيَّ يَوْمٍ هُوَ قَضَى خَمْسَةَ أَيَّامٍ ، وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ بِتَأَمُّلٍ يَسِيرٍ .

( وَمَنْ أَصْبَحَ يَوْمَ النَّحْرِ صَائِمًا ثُمَّ أَفْطَرَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي النَّوَادِرِ أَنَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ ) لِأَنَّ الشُّرُوعَ مُلْزِمٌ كَالنَّذْرِ ، وَصَارَ كَالشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ .
وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ أَنَّ بِنَفْسِ الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ يُسَمَّى صَائِمًا حَتَّى يَحْنَثَ بِهِ الْحَالِفُ عَلَى الصَّوْمِ فَيَصِيرُ مُرْتَكِبًا لِلنَّهْيِ ، فَيَجِبُ إبْطَالُهُ فَلَا تَجِبُ صِيَانَتُهُ وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ يُبْتَنَى عَلَيْهِ ، وَلَا يَصِيرُ مُرْتَكِبًا لِلنَّهْيِ بِنَفْسِ النَّذْرِ وَهُوَ الْمُوجِبُ ، وَلَا بِنَفْسِ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى يُتِمَّ رَكْعَةً ، وَلِهَذَا لَا يَحْنَثُ بِهِ الْحَالِفُ عَلَى الصَّلَاةِ فَتَجِبُ صِيَانَةُ الْمُؤَدَّى وَيَكُونُ مَضْمُونًا بِالْقَضَاءِ ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ فِي فَصْلِ الصَّلَاةِ أَيْضًا ، وَالْأَظْهَرُ هُوَ الْأَوَّلُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

( قَوْلُهُ مَنْ أَصْبَحَ يَوْمَ النَّحْرِ إلَخْ ) الْمَقْصُودُ أَنَّ الشُّرُوعَ فِي صَوْمِ يَوْمٍ مِنْ الْأَيَّامِ الْمَنْهِيَّةِ كَيَوْمَيْ الْعِيدَيْنِ وَالتَّشْرِيقِ لَيْسَ مُوجِبًا لِلْقَضَاءِ بِالْإِفْسَادِ ، بِخِلَافِ نَذْرِهَا فَإِنَّهُ يُوجِبُهُ فِي غَيْرِهَا ، وَبِخِلَافِ الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ فَإِنَّ إفْسَادَهَا مُوجِبٌ لِلْقَضَاءِ فِي وَقْتٍ غَيْرِ مَكْرُوهٍ هَذَا ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ الشُّرُوعَ فِي صَوْمِ هَذِهِ الْأَيَّامِ كَالشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الشُّرُوعَ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ لَيْسَ مُوجِبًا لِلْقَضَاءِ كَالشُّرُوعِ فِي صَوْمِ هَذِهِ الْأَيَّامِ .
وَجْهُ الظَّاهِرِ وَهُوَ التَّفْصِيلُ أَنَّ وُجُوبَ الْقَضَاءِ يَنْبَنِي عَلَى وُجُوبِ الْإِتْمَامِ فَإِذَا فَوَّتَهُ وَجَبَ جَبْرُهُ بِالْقَضَاءِ ، وَوُجُوبُ الْإِتْمَامِ بِالشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ مُنْتَفٍ ، بَلْ الْمَطْلُوبُ بِمُجَرَّدِ الشُّرُوعِ قَطْعُهُ لِأَنَّهُ بِمُجَرَّدِهِ مُرْتَكِبٌ لِلنَّهْيِ لِصِدْقِ اسْمِ الصَّوْمِ الشَّرْعِيِّ وَالصِّيَامِ عَلَى مُجَرَّدِ الْإِمْسَاكِ بِنِيَّةٍ .
وَلِذَا حَنِثَ بِهِ فِي يَمِينِهِ لَا يَصُومُ ، وَإِنْ لَمْ يَحْنَثْ بِهِ فِي يَمِينِهِ لَا يَصُومُ صَوْمًا ، وَلَا يَصِيرُ بِمُجَرَّدِ التَّلَفُّظِ بِلَفْظِ النَّذْرِ وَلَا بِمُجَرَّدِ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ مُرْتَكِبًا لِلنَّهْيِ حَتَّى يَتَوَجَّهَ عَلَيْهِ طَلَبُ الْقَطْعِ ، لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ الصَّلَاةُ ، وَالصَّلَاةُ عِبَارَةٌ عَنْ مَجْمُوعِ أَرْكَانٍ مَعْلُومَةٍ فَمَا لَمْ يَفْعَلْهَا لَا تَتَحَقَّقُ ، لِأَنَّ وُجُودَ الشَّيْءِ بِوُجُودِ جَمِيعِ حَقِيقَتِهِ ، فَإِذَا قَطَعَهَا فَقَدْ قَطَعَ مَا لَمْ يُطْلَبْ مِنْهُ بَعْدَ قَطْعِهِ فَيَكُونُ مُبْطِلًا لِلْعَمَلِ قَبْلَ الْأَمْرِ بِالْإِبْطَالِ فَيَلْزَمُ بِهِ الْقَضَاءُ إلَّا أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ بَعْدَ السَّجْدَةِ لَا يَجِبُ قَضَاؤُهَا ، وَالْجَوَابُ مُطْلَقٌ فِي الْوُجُوبِ .

بَابُ الِاعْتِكَافِ قَالَ ( الِاعْتِكَافُ مُسْتَحَبٌّ ) وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَاظَبَ عَلَيْهِ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ وَالْمُوَاظَبَةُ دَلِيلُ السُّنَّةِ ( وَهُوَ اللَّبْثُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ الصَّوْمِ وَنِيَّةِ الِاعْتِكَافِ ) أَمَّا اللَّبْثُ فَرُكْنُهُ لِأَنَّهُ يُنْبِئُ عَنْهُ فَكَانَ وُجُودُهُ بِهِ ، وَالصَّوْمُ مِنْ شَرْطِهِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَالنِّيَّةُ شَرْطٌ فِي سَائِرِ الْعِبَادَاتِ ، هُوَ يَقُولُ : إنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ وَهُوَ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ شَرْطًا لِغَيْرِهِ .
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا اعْتِكَافَ إلَّا بِالصَّوْمِ } وَالْقِيَاسُ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ الْمَنْقُولِ غَيْرُ مَقْبُولٍ ، ثُمَّ الصَّوْمُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْوَاجِبِ مِنْهُ رِوَايَةً وَاحِدَةً ، وَلِصِحَّةِ التَّطَوُّعِ فِيمَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِظَاهِرِ مَا رَوَيْنَا وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ .
وَفِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ .
وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَقَلُّهُ سَاعَةٌ فَيَكُونُ مِنْ غَيْرِ صَوْمٍ .
لِأَنَّ مَبْنَى النَّفْلِ عَلَى الْمُسَاهَلَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَقْعُدُ فِي صَلَاةِ النَّفْلِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ .
وَلَوْ شَرَعَ فِيهِ ثُمَّ قَطَعَهُ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ فِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ فَلَمْ يَكُنْ الْقَطْعُ إبْطَالًا .
وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ : يَلْزَمُهُ لِأَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِالْيَوْمِ كَالصَّوْمِ .

بَابُ الِاعْتِكَافِ ) قَالَ الْقُدُورِيُّ ( الِاعْتِكَافُ مُسْتَحَبٌّ ) قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ ) وَالْحَقُّ خِلَافُ كُلٍّ مِنْ الطَّرِيقَيْنِ ، بَلْ الْحَقُّ أَنْ يُقَالَ : الِاعْتِكَافُ يَنْقَسِمُ إلَى وَاجِبٍ وَهُوَ الْمَنْذُورُ تَنْجِيزًا أَوْ تَعْلِيقًا ، وَإِلَى سُنَّةٍ مُؤَكَّدَةٍ وَهُوَ اعْتِكَافُ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ ، وَإِلَى مُسْتَحَبٍّ وَهُوَ مَا سِوَاهُمَا .
وَدَلِيلُ السُّنَّةِ حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ بَعْدَهُ } فَهَذِهِ الْمُوَاظَبَةُ الْمَقْرُونَةُ بِعَدَمِ التَّرْكِ مَرَّةً لَمَّا اقْتَرَنَتْ بِعَدَمِ الْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ لَمْ يَفْعَلْهُ مِنْ الصَّحَابَةِ كَانَتْ دَلِيلَ السُّنِّيَّةِ ، وَإِلَّا كَانَتْ تَكُونُ دَلِيلَ الْوُجُوبِ .
أَوْ نَقُولُ : اللَّفْظُ وَإِنْ دَلَّ عَلَى عَدَمِ التَّرْكِ ظَاهِرًا لَكِنْ وَجَدْنَا صَرِيحًا مَا يَدُلُّ عَلَى التَّرْكِ وَهُوَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا { كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَعْتَكِفُ فِي كُلِّ رَمَضَانَ ، فَإِذَا صَلَّى الْغَدَاةَ جَاءَ إلَى مَكَانِهِ الَّذِي اعْتَكَفَ فِيهِ ، فَاسْتَأْذَنَتْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنْ تَعْتَكِفَ فَأَذِنَ لَهَا فَضَرَبَتْ فِيهِ قُبَّةً ، فَسَمِعَتْ بِهَا حَفْصَةُ فَضَرَبَتْ فِيهِ قُبَّةً أُخْرَى ، فَسَمِعَتْ زَيْنَبُ فَضَرَبَتْ فِيهِ قُبَّةً أُخْرَى ، فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْغَدَاةِ أَبْصَرَ أَرْبَعَ قِبَابٍ فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ فَأُخْبِرَ خَبَرَهُنَّ ، فَقَالَ : مَا حَمَلَهُنَّ عَلَى هَذَا ؟ آلْبِرُّ ؟ انْزِعُوهَا فَلَا أَرَاهَا فَنُزِعَتْ ، فَلَمْ يَعْتَكِفْ فِي رَمَضَانَ حَتَّى اعْتَكَفَ فِي آخِرِ الْعَشْرِ مِنْ شَوَّالٍ وَفِي رِوَايَةٍ فَأَمَرَ بِخِبَائِهِ فَقُوِّضَ وَتَرَكَ الِاعْتِكَافَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأُوَلَ مِنْ شَوَّالٍ } هَذَا .
وَأَمَّا اعْتِكَافُ الْعَشْرِ

الْأَوْسَطِ فَقَدْ وَرَدَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اعْتَكَفَهُ ، فَلَمَّا فَرَغَ أَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ : إنَّ الَّذِي تَطْلُبُ أَمَامَكَ يَعْنِي لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَاعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْآخِرَ } وَعَنْ هَذَا ذَهَبَ الْأَكْثَرُ إلَى أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْآخِرِ مِنْ رَمَضَانَ ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : فِي لَيْلَةِ إحْدَى وَعِشْرِينَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : فِي لَيْلَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَقِيلَ : غَيْرُ ذَلِكَ .
وَوَرَدَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ ، وَالْتَمِسُوهَا فِي كُلِّ وِتْرٍ } وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّهَا فِي رَمَضَانَ فَلَا يُدْرَى أَيَّةُ لَيْلَةٍ هِيَ ، وَقَدْ تَتَقَدَّمُ وَقَدْ تَتَأَخَّرُ ، وَعِنْدَهُمَا كَذَلِكَ إلَّا أَنَّهَا مُعَيَّنَةٌ لَا تَتَقَدَّمُ وَلَا تَتَأَخَّرُ ، هَكَذَا النَّقْلُ عَنْهُمْ فِي الْمَنْظُومَةِ وَالشُّرُوحِ .
وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ قَالَ : وَفِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ أَنَّهَا تَدُورُ فِي السَّنَةِ تَكُونُ فِي رَمَضَانَ وَتَكُونُ فِي غَيْرِهِ فَجُعِلَ ذَلِكَ رِوَايَةً ، وَثَمَرَةُ الِاخْتِلَافِ تَظْهَرُ فِيمَنْ قَالَ : أَنْتَ حُرٌّ أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ لَيْلَةَ الْقَدْرِ ، فَإِنْ قَالَ : قَبْلَ دُخُولِ رَمَضَانَ عَتَقَ وَطَلُقَتْ إذَا انْسَلَخَ ، وَإِنْ قَالَ بَعْدَ لَيْلَةٍ مِنْهُ فَصَاعِدًا لَمْ يَعْتِقْ حَتَّى يَنْسَلِخَ رَمَضَانُ الْعَامَ الْقَابِلَ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَهُمَا إذَا جَاءَ مِثْلُ تِلْكَ اللَّيْلَةِ مِنْ رَمَضَانَ الْآتِيَ وَلَيْسَ ذِكْرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَازِمًا مِنْ التَّقْرِيرِ ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهَا لِأَنَّهَا مِمَّا أَغْفَلَهَا الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَلَا يَنْبَغِي إغْفَالُهَا مِنْ مِثْلِ هَذَا الْكِتَابِ لِشُهْرَتِهَا فَأَوْرَدْنَاهَا عَلَى وَجْهِ الِاخْتِصَارِ تَتْمِيمًا لِأَمْرِ الْكِتَابِ .
وَفِيهَا أَقْوَالٌ أُخَرُ : قِيلَ هِيَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ .
وَقَالَ الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَيْلَةَ سَبْعَةَ عَشَرَ ، وَقِيلَ تِسْعَةَ عَشَرَ ، وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ لَيْلَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ .
وَقَالَ عِكْرِمَةُ : لَيْلَةَ خَمْسٍ

وَعِشْرِينَ .
وَأَجَابَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ الْأَدِلَّةِ الْمُفِيدَةِ لِكَوْنِهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ : بِأَنَّ الْمُرَادَ فِي ذَلِكَ الرَّمَضَانُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْتَمَسَهَا فِيهِ ، وَالسِّيَاقَاتُ تَدُلُّ عَلَيْهِ لِمَنْ تَأَمَّلَ طُرُقَ الْأَحَادِيثِ وَأَلْفَاظَهَا كَقَوْلِهِ { إنَّ الَّذِي تَطْلُبُ أَمَامَكَ } وَإِنَّمَا كَانَ يَطْلُبُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ مِنْ تِلْكَ السَّنَةِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الِاسْتِقْرَاءُ .
وَمِنْ عَلَامَاتِهَا أَنَّهَا بَلْجَةٌ سَاكِنَةٌ ، لَا حَارَّةٌ وَلَا قَارَّةٌ ، تَطْلُعُ الشَّمْسُ صَبِيحَتَهَا بِلَا شُعَاعٍ كَأَنَّهَا طَسْتٌ ، كَذَا قَالُوا ، وَإِنَّمَا أُخْفِيَتْ لِيَجْتَهِدَ فِي طَلَبِهَا فَيَنَالَ بِذَلِكَ أَجْرَ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْعِبَادَةِ ، كَمَا أَخْفَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ السَّاعَةَ لِيَكُونُوا عَلَى وَجَلٍ مِنْ قِيَامِهَا بَغْتَةً ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( قَوْلُهُ وَهُوَ اللَّبْثُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ الصَّوْمِ وَنِيَّةِ الِاعْتِكَافِ ) هَذَا مَفْهُومُهُ عِنْدَنَا ، وَفِيهِ مَعْنَى اللُّغَةِ إذْ هُوَ لُغَةً مُطْلَقُ الْإِقَامَةِ فِي أَيِّ مَكَان عَلَى أَيِّ غَرَضٍ كَانَ ، قَالَ تَعَالَى { مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ } .
ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ رُكْنَهُ اللَّبْثُ بِشَرْطِ الصَّوْمِ وَالنِّيَّةِ ، وَكَذَا الْمَسْجِدُ مِنْ الشُّرُوطِ أَيْ كَوْنُهُ فِيهِ ، وَهَذَا التَّعْرِيفُ عَلَى رِوَايَةِ اشْتِرَاطِ الصَّوْمِ لَهُ مُطْلَقًا لَا عَلَى اشْتِرَاطِهِ لِلْوَاجِبِ مِنْهُ فَقَطْ ، مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَيْسَ شَرْطًا لِلنَّفْلِ مِنْهُ ، وَعَلَى هَذَا أَيْضًا إطْلَاقُ قَوْلِهِ : وَالصَّوْمُ مِنْ شَرْطِهِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ، إنَّمَا هُوَ عَلَى تِلْكَ الرِّوَايَةِ وَهِيَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ ، وَلَيْسَ هُوَ عَلَى مَا يَنْبَغِي لِأَنَّهُ إنْ ادَّعَى انْتِهَاضَ دَلِيلِهِ عَلَى الشَّافِعِيِّ لَزِمَهُ تَرْجِيحُ هَذِهِ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ .
( قَوْلُهُ : وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَخْ ) رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ

وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ سُوَيْد بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا اعْتِكَافَ إلَّا بِصَوْمٍ } قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : هَذَا وَهْمٌ مِنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ ، أَوْ مِنْ سُوَيْد ، وَضَعَّفَ سُوَيْدًا ، لَكِنْ قَالَ فِي الْإِكْمَالِ : قَالَ عَلِيُّ بْنُ حَجَرٍ : سَأَلْت هُشَيْمًا عَنْهُ فَأَثْنَى عَلَيْهِ خَيْرًا ، فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ .
وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ { السُّنَّةُ عَلَى الْمُعْتَكِفِ أَنْ لَا يَعُودَ مَرِيضًا ، وَلَا يَشْهَدَ جِنَازَةً ، وَلَا يَمَسَّ امْرَأَةً وَلَا يُبَاشِرَهَا ، وَلَا يَخْرُجَ لِحَاجَةٍ إلَّا لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ ، وَلَا اعْتِكَافَ إلَّا بِصَوْمٍ ، وَلَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي مَسْجِدٍ جَامِعٍ } قَالَ أَبُو دَاوُد : غَيْرُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ لَا يَقُولُ فِيهِ قَالَتْ : السُّنَّةُ .
وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ وَإِنْ تَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُهُمْ فَقَدْ أَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ ، وَوَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَأَثْنَى عَلَيْهِ غَيْرُهُ .
وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَدِيلٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَعَلَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَيْلَةً أَوْ يَوْمًا عِنْدَ الْكَعْبَةِ فَسَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : اعْتَكِفْ وَصُمْ وَفِي لَفْظٍ لِلنَّسَائِيِّ فَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ وَيَصُومَ } قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ : تَفَرَّدَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيُّ عَنْ عَمْرٍو ، وَهُوَ ضَعِيفُ الْحَدِيثِ ، وَالثِّقَاتُ مِنْ أَصْحَابِ عَمْرٍو لَمْ يَذْكُرُوا الصَّوْمَ مِنْهُمْ ابْنُ جُرَيْجٍ ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ ، وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ ، وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُمْ ، وَالْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الصَّوْمِ ، بَلْ { إنِّي نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ

فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَيْلَةً فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : أَوْفِ بِنَذْرِكَ } وَفِيهِمَا أَيْضًا { عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَعْتَكِفَ يَوْمًا فَقَالَ : أَوْفِ بِنَذْرِكَ } وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُرَادَ اللَّيْلَةُ مَعَ يَوْمِهَا أَوْ الْيَوْمُ مَعَ لَيْلَتِهِ ، وَغَايَةُ مَا فِيهِ أَنَّهُ سَكَتَ عَنْ ذِكْرِ الصَّوْمِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ ، وَقَدْ رُوِيَتْ بِرِوَايَةِ الثِّقَةِ وَتَأَيَّدَتْ بِمُؤَيِّدٍ فَيَجِبُ قَبُولُهَا فَالثِّقَةُ ابْنُ بَدِيلٍ قَالَ فِيهِ ابْنُ مَعِينٍ : صَالِحٌ .
وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ ، وَالْمُؤَيِّدُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا الصَّحِيحِ السَّنَدِ ، فَإِنَّ رَفْعَهُ زِيَادَةُ ثِقَةٍ .
وَمَا أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أُسَيْدَ عَنْ عَاصِمٍ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ حَفْصٍ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ " ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمَا قَالَا : الْمُعْتَكِفُ يَصُومُ " فَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِلُزُومِهِ مَعَ أَنَّهُ رَاوِي وَاقِعَةَ أَبِيهِ يُقَوِّي ظَنَّ صِحَّةِ تِلْكَ الزِّيَادَةِ فِي حَدِيثِ أَبِيهِ ، وَمَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَيْسَ عَلَى الْمُعْتَكِفِ صِيَامٌ إلَّا أَنْ يَجْعَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ } وَصَحَّحَهُ لَمْ يَتِمَّ لَهُ ذَلِكَ .
فَفِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّمْلِيُّ وَهُوَ مَجْهُولٌ ، وَمَعَ جَهَالَتِهِ لَمْ يَرْفَعْهُ غَيْرُهُ ، بَلْ يَقِفُونَهُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَيُؤَيِّدُ الْوَقْفَ مَا ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ بَعْدَ ذِكْرِهِ تَفَرُّدَ الرَّمْلِيِّ حَيْثُ قَالَ : وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الْحُمَيْدِيِّ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : اجْتَمَعْت أَنَا وَابْنُ شِهَابٍ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَكَانَ عَلَى امْرَأَتِهِ اعْتِكَافٌ نُذِرَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ : لَا يَكُونُ اعْتِكَافٌ إلَّا

بِصَوْمٍ ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ : أَمِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا ، قَالَ : فَمِنْ أَبِي بَكْرٍ ؟ قَالَ لَا .
قَالَ : فَمِنْ عُمَرَ ؟ قَالَ لَا ، قَالَ أَبُو سُهَيْلٍ : فَانْصَرَفْت فَوَجَدْت طَاوُسًا وَعَطَاءً ، فَسَأَلْتُهُمَا عَنْ ذَلِكَ ، فَقَالَ طَاوُسٌ : كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَا يَرَى عَلَى الْمُعْتَكِفِ صِيَامًا إلَّا أَنْ يَجْعَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ ، وَقَالَ عَطَاءٌ : ذَلِكَ رَأْيٌ صَحِيحٌ ا هـ .
فَلَوْ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَرْفَعُهُ لَمْ يَقْصُرْهُ طَاوُسٌ عَلَيْهِ إذْ لَمْ يَكُنْ يَخَفْ عَلَيْهِ خُصُوصًا فِي مِثْلِ هَذِهِ الْقِصَّةِ ، وَقَوْلُ عَطَاءٍ بِحُضُورِهِ ذَلِكَ رَأْيٌ صَحِيحٌ فَعَنْ ذَلِكَ اعْتَرَفَ الْبَيْهَقِيُّ بِأَنَّ رَفْعَهُ وَهْمٌ ثُمَّ لَمْ يَسْلَمْ الْمَوْقُوفُ عَنْ الْمُعَارِضِ ، إذْ قَدْ ذَكَرْنَا رِوَايَةَ الْبَيْهَقِيّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا : الْمُعْتَكِفُ يَصُومُ ، فَتَعَارَضَ عَنْ عَبَّاسٍ .
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ : أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ الْحَكَمِ عَنْ مِقْسَمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : مَنْ اعْتَكَفَ فَعَلَيْهِ الصَّوْمُ .
وَدَفْعُ الْمُعَارَضَةِ عَنْهُ بِأَنْ يُجْعَلَ مَرْجِعُ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ " إلَّا أَنْ يَجْعَلَهُ " الِاعْتِكَافَ فَيَكُونَ دَلِيلَ اشْتِرَاطِ الصَّوْمِ فِي الِاعْتِكَافِ الْمَنْذُورِ دُونَ النَّفْلِ ، وَيُخَصُّ حَدِيثُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْهُ بِهِ .
وَكَذَا حَدِيثُ عُمَرَ إنَّمَا هُوَ دَلِيلٌ عَلَى اشْتِرَاطِهِ فِي الْمَنْذُورِ ، وَالْمُعَمِّمُ لِاشْتِرَاطِهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ الْمُتَقَدِّمُ الْمَرْفُوعُ ، وَمَا أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْهَا مَوْقُوفًا قَالَتْ : مَنْ اعْتَكَفَ فَعَلَيْهِ الصَّوْمُ .
وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ الزُّهْرِيِّ وَعُرْوَةَ قَالَا : لَا اعْتِكَافَ إلَّا بِالصَّوْمِ ، وَفِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَنَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَا : لَا اعْتِكَافَ إلَّا بِالصَّوْمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {

ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } فَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الِاعْتِكَافَ مَعَ الصِّيَامِ .
قَالَ يَحْيَى : قَالَ مَالِكٌ : وَالْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا اعْتِكَافَ إلَّا بِصِيَامٍ ، وَكَذَا حَدِيثُ عَائِشَةَ الْمُتَقَدِّمِ أَوَّلًا مِنْ رِوَايَةِ سُوَيْد ، فَهَذِهِ كُلُّهَا تُؤَيِّدُ إطْلَاقَ الِاشْتِرَاطِ ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ ، وَفِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ أَقَلُّ الِاعْتِكَافِ النَّفْلِ سَاعَةٌ فَيَكُونُ مِنْ غَيْرِ صَوْمٍ ، وَجَعَلَ رِوَايَةَ عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ فِي النَّفْلِ ظَاهِرً الرِّوَايَةِ جَمَاعَةٍ ، وَلَا يَحْضُرُنِي مُتَمَسَّكٌ لِذَلِكَ فِي السُّنَّةِ سِوَى حَدِيثِ الْقِبَابِ الْمُتَقَدِّمِ أَوَّلَ الْبَابِ فِي الرِّوَايَةِ الْقَائِلَةِ { حَتَّى اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأُوَلَ مِنْ شَوَّالٍ } فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي اعْتِكَافِ يَوْمِ الْفِطْرِ وَلَا صَوْمَ فِيهِ .
وَفَرَّعُوا عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ إذَا شَرَعَ سَاعَةً ثُمَّ تَرَكَهُ لَا يَكُونُ إبْطَالًا لِلِاعْتِكَافِ بَلْ إنْهَاءً لَهُ فَلَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ .
وَعَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ يَلْزَمُهُ ، وَحَقَّقَ بَعْضُهُمْ أَنَّ لُزُومَ الْقَضَاءِ عَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ إنَّمَا هُوَ لِلُزُومِ الْقَضَاءِ فِي شَرْطِهِ الصَّوْمَ لَا أَنْ يَكُونَ الِاعْتِكَافُ التَّطَوُّعُ لَازِمًا فِي نَفْسِهِ ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ لَيْلًا فَقَطْ ، وَعَلَى تِلْكَ الرِّوَايَةِ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَكُونَ اللَّيْلُ تَبَعًا لِلنَّهَارِ فَيَجُوزُ حِينَئِذٍ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَنْقُولَ مِنْ مُسْتَنَدِ إثْبَاتِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ الظَّاهِرَةِ هُوَ قَوْلُهُ فِي الْأَصْلِ : إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ بِنِيَّةِ الِاعْتِكَافِ فَهُوَ مُعْتَكِفٌ مَا أَقَامَ تَارِكٌ لَهُ إذَا خَرَجَ وَفِيهِ نَظَرٌ ، إذْ لَا يَمْتَنِعُ عِنْدَ الْعَقْلِ الْقَوْلُ بِصِحَّتِهِ سَاعَةً مَعَ اشْتِرَاطِ الصَّوْمِ لَهُ وَإِنْ كَانَ الصَّوْمُ لَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ .
وَحَاصِلُهُ أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ فَلْيَصُمْ سَوَاءٌ كَانَ يُرِيدُ اعْتِكَافَ يَوْمٍ أَوْ دُونَهُ ، وَلَا مَانِعَ مِنْ اعْتِبَارِ شَرْطٍ

يَكُونُ أَطْوَلَ مِنْ مَشْرُوطِهِ ، وَمَنْ ادَّعَاهُ فَهُوَ بِلَا دَلِيلٍ ، فَهَذَا الِاسْتِنْبَاطُ غَيْرُ صَحِيحٍ بِلَا مُوجِبٍ ، إذْ الِاعْتِكَافُ لَمْ يُقَدَّرْ شَرْعًا بِكَمِّيَّةٍ لَا يَصِحُّ دُونَهَا كَالصَّوْمِ ، بَلْ كُلُّ جُزْءٍ مِنْهُ لَا يَفْتَقِرُ فِي كَوْنِهِ عِبَادَةً إلَى الْجُزْءِ الْآخَرِ وَلَمْ يَسْتَلْزِمْ تَقْدِيرُ شَرْطِهِ تَقْدِيرَهُ لِمَا قُلْنَا .
وَقَوْلُ مَنْ حَقَّقَ الْوَجْهَ إنَّمَا ذَلِكَ لِلُزُومِ الْقَضَاءِ فِي شَرْطِهِ بَعِيدٌ عَنْ التَّحْقِيقِ بِحَسَبِ ظَاهِرِهِ .
فَإِنَّ إفْسَادَ الِاعْتِكَافِ لَا يَسْتَلْزِمُ إفْسَادَ الصَّوْمِ لِيَلْزَمَ قَضَاؤُهُ لِجَوَازِ كَوْنِهِ بِمَا لَا يُفْسِدُ الصَّوْمَ كَالْخُرُوجِ مِنْ الْمَسْجِدِ .
وَغَايَةُ مَا يُصَحَّحُ بِأَنْ يُرَادَ أَنَّهُ لَمَّا فَسَدَ وَجَبَ قَضَاؤُهُ فَيَجِبُ لِذَلِكَ اسْتِئْنَافُ صَوْمٍ آخَرَ ضَرُورَةَ اشْتِرَاطِ الصَّوْمِ لَهُ .
وَهَذَا لَا يَقْتَضِي أَنَّ لُزُومَ الْقَضَاءِ لِلُزُومِهِ فِي الصَّوْمِ بَلْ بِالْعَكْسِ ، فَلَا يَلْزَمُ الْقَضَاءُ إلَّا فِي مَنْذُورٍ أَفْسَدَهُ قَبْلَ إتْمَامِهِ ، وَمُقْتَضَى النَّظَرِ أَنَّهُ لَوْ شَرَعَ فِي الْمَسْنُونِ أَعْنِي الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ بِنِيَّتِهِ ثُمَّ أَفْسَدَهُ أَنْ يَجِبَ قَضَاؤُهُ تَخْرِيجًا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فِي الشُّرُوعِ فِي نَفْلِ الصَّلَاةِ نَاوِيًا أَرْبَعًا لَا عَلَى قَوْلِهِمَا .
وَمِنْ التَّفْرِيعَاتِ أَنَّهُ لَوْ أَصْبَحَ صَائِمًا مُتَطَوِّعًا أَوْ غَيْرَ نَاوٍ لِلصَّوْمِ ثُمَّ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ هَذَا الْيَوْمَ لَا يَصِحُّ .
وَإِنْ كَانَ فِي وَقْتٍ يَصِحُّ مِنْهُ نِيَّةُ الصَّوْمِ لِعَدَمِ اسْتِيعَابِ النَّهَارِ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَقَلُّهُ أَكْثَرُ النَّهَارِ فَإِنْ كَانَ قَالَهُ قَبْلَ نِصْفِ النَّهَارِ لَزِمَهُ فَإِنْ لَمْ يَعْتَكِفْهُ قَضَاهُ .
وَهَذَا أَوْجَهُ فَيَجِبُ التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ وَالْمَصِيرُ إلَيْهِ لِمَا ذَكَرْنَا بِقَلِيلِ تَأَمُّلٍ .
( قَوْلُهُ وَفِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ إلَخْ ) ذَكَرَ وَجْهَهُ مِنْ الْمَعْنَى وَذَكَرْنَا آنِفًا وَجْهَهُ مِنْ السُّنَّةِ ، وَحَمْلُ صَاحِبِ التَّنْقِيحِ إيَّاهُ عَلَى أَنَّهُ اعْتَكَفَ مِنْ ثَانِي الْفِطْرِ

دَعْوَى بِلَا دَلِيلٍ .
وَمَا تَمَسَّكَ بِهِ مِنْ أَنَّهُ جَاءَ مُصَرَّحًا فِي حَدِيثٍ { فَلَمَّا أَفْطَرَ اعْتَكَفَ } عَلَيْهِ لَا لَهُ ، لِأَنَّ مَدْخُولَ لَمَّا مَلْزُومٌ لِمَا بَعْدَهُ فَاقْتَضَى أَنَّهُ حِينَ أَفْطَرَ اعْتَكَفَ بِلَا تَرَاخٍ .

، ثُمَّ الِاعْتِكَافُ لَا يَصِحُّ إلَّا فِي مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ لِقَوْلِ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " لَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ " وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إلَّا فِي مَسْجِدٍ يُصَلَّى فِيهِ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ ، لِأَنَّهُ عِبَادَةُ انْتِظَارِ الصَّلَاةِ فَيَخْتَصُّ بِمَكَانٍ تُؤَدَّى فِيهِ ، أَمَّا الْمَرْأَةُ فَتَعْتَكِفُ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا لِأَنَّهُ هُوَ الْمَوْضِعُ لِصَلَاتِهَا فَيَتَحَقَّقُ انْتِظَارُهَا فِيهِ .

( قَوْلُهُ لِقَوْلِ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَخْ ) أَسْنَدَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّ حُذَيْفَةَ قَالَ لِابْنِ مَسْعُودٍ : أَلَا تَعْجَبُ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَ دَارِك وَدَارِ أَبِي مُوسَى يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ عُكُوفٌ ؟ قَالَ : فَلَعَلَّهُمْ أَصَابُوا وَأَخْطَأْت ، أَوْ حَفِظُوا وَأُنْسِيت ، قَالَ : أَمَّا أَنَا فَقَدْ عَلِمْت أَنَّهُ لَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي مَسْجِدٍ جَمَاعَةً .
وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : إنَّ أَبْغَضَ الْأَمْرِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى الْبِدَعُ ، وَإِنَّ مِنْ الْبِدَعِ الِاعْتِكَافُ فِي الْمَسَاجِدِ الَّتِي فِي الدُّورِ .
وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفَيْهِمَا : أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ أَخْبَرَنِي جَابِرٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَّمِيِّ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ : " لَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ " .
وَتَقَدَّمَ مَرْفُوعًا فِي رِوَايَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا .
( قَوْلُهُ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا فِي مَسْجِدٍ يُصَلَّى فِيهِ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ ) قِيلَ : أَرَادَ بِهِ غَيْرَ الْجَامِعِ ، أَمَّا الْجَامِعُ فَيَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يُصَلَّ فِيهِ الْخَمْسُ ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ : أَنَّ الِاعْتِكَافَ الْوَاجِبَ لَا يَجُوزُ فِي غَيْرِ مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ وَالنَّفَلُ يَجُوزُ .
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّ كُلَّ مَسْجِدٍ لَهُ إمَامٌ وَمُؤَذِّنٌ مَعْلُومٌ وَتُصَلَّى فِيهِ الْخَمْسُ بِالْجَمَاعَةِ ، وَصَحَّحَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ قَالَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي مَسْجِدٍ لَهُ أَذَانٌ وَإِقَامَةٌ } وَمَعْنَى هَذَا مَا رَوَاهُ فِي الْمُعَارَضَةِ لِابْنِ الْجَوْزِيِّ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { كُلُّ مَسْجِدٍ لَهُ إمَامٌ وَمُؤَذِّنٌ فَالِاعْتِكَافُ فِيهِ يَصِحُّ } ثُمَّ أَفْضَلُ الِاعْتِكَافِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، ثُمَّ مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ مَسْجِدِ

الْأَقْصَى ، ثُمَّ الْجَامِعُ .
قِيلَ : إذَا كَانَ يُصَلَّى فِيهِ الْخَمْسُ بِجَمَاعَةٍ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَفِي مَسْجِدِهِ أَفْضَلُ لِئَلَّا يَحْتَاجَ إلَى الْخُرُوجِ ، ثُمَّ كُلُّ مَا كَانَ أَهْلُهُ أَكْثَرَ .
( قَوْلُهُ أَمَّا الْمَرْأَةُ فَتَعْتَكِفُ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا ) أَيْ الْأَفْضَلُ ذَلِكَ ، وَلَوْ اعْتَكَفَتْ فِي الْجَامِعِ أَوْ فِي مَسْجِدِ حَيِّهَا وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ الْجَامِعِ فِي حَقِّهَا جَازَ ، وَهُوَ مَكْرُوهٌ ذَكَرَ الْكَرَاهَةَ قَاضِي خَانْ .
وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ بَيْتِهَا وَلَا إلَى نَفْسِ الْبَيْتِ مِنْ مَسْجِدِ بَيْتِهَا إذَا اعْتَكَفَتْ وَاجِبًا أَوْ نَفْلًا عَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ ، وَلَا تَعْتَكِفُ إلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا ، فَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْتِيَهَا ، وَإِذَا أَذِنَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْتِيَهَا وَلَا يَمْنَعَهَا ، وَفِي الْأَمَةِ يَمْلِكُ ذَلِكَ الْإِذْنَ مَعَ الْكَرَاهَةِ الْمُؤَثِّمَةِ .
قَالَ مُحَمَّدٌ : أَسَاءَ وَأَثِمَ

( وَلَا يَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ أَوْ الْجُمُعَةِ ) أَمَّا الْحَاجَةُ فَلِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { كَانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يَخْرُجُ مِنْ مُعْتَكَفِهِ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ } وَلِأَنَّهُ مَعْلُومٌ وُقُوعُهَا ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْخُرُوجِ فِي تَقْضِيَتِهَا فَيَصِيرُ الْخُرُوجُ لَهَا مُسْتَثْنًى ، وَلَا يَمْكُثُ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الطُّهُورِ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ بِالضَّرُورَةِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا ، وَأَمَّا الْجُمُعَةُ فَلِأَنَّهَا مِنْ أَهَمِّ حَوَائِجِهِ وَهِيَ مَعْلُومٌ وُقُوعُهَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : الْخُرُوجُ إلَيْهَا مُفْسِدٌ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الِاعْتِكَافُ فِي الْجَامِعِ ، وَنَحْنُ نَقُولُ : الِاعْتِكَافُ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ مَشْرُوعٌ ، وَإِذَا صَحَّ الشُّرُوعُ فَالضَّرُورَةُ مُطْلَقَةٌ فِي الْخُرُوجِ ، وَيَخْرُجُ حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ لِأَنَّ الْخِطَابَ يَتَوَجَّهُ بَعْدَهُ ، وَإِنْ كَانَ مَنْزِلُهُ بَعِيدًا عَنْهُ يَخْرُجُ فِي وَقْتٍ يُمْكِنُهُ إدْرَاكُهَا وَيُصَلِّي قَبْلَهَا أَرْبَعًا ، وَفِي رِوَايَةٍ سِتًّا ، الْأَرْبَعُ سُنَّةٌ ، وَالرَّكْعَتَانِ تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ ، وَبَعْدَهَا أَرْبَعًا أَوْ سِتًّا عَلَى حَسَبِ الِاخْتِلَافِ فِي سُنَّةِ الْجُمُعَةِ ، وَسُنَنُهَا تَوَابِعُ لَهَا فَأُلْحِقَتْ بِهَا ، وَلَوْ أَقَامَ فِي مَسْجِدِ الْجَامِعِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لَا يَفْسُدُ اعْتِكَافَهُ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ اعْتِكَافٍ إلَّا أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ أَدَاءَهُ فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ فَلَا يُتِمَّهُ فِي مَسْجِدَيْنِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ ( وَلَوْ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ سَاعَةً بِغَيْرِ عُذْرٍ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِوُجُودِ الْمُنَافِي وَهُوَ الْقِيَاسُ ، وَقَالَا : لَا يُفْسِدُ حَتَّى يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ وَهُوَ الِاسْتِحْسَانُ لِأَنَّ فِي الْقَلِيلِ ضَرُورَةً .

( قَوْلُهُ فَلِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ) رَوَى السِّتَّةُ فِي كُتُبِهِمْ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ { كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا اعْتَكَفَ يُدْنِي إلَيَّ رَأْسَهُ فَأُرَجِّلُهُ ، وَكَانَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ } وَتَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَيْضًا .
( قَوْلُهُ الِاعْتِكَافُ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ مَشْرُوعٌ ) هَذَا عَلَى وَجْهِ الْإِلْزَامِ عَلَى عُمُومِهِ ، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ يُجِيزُهُ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ .
وَأَمَّا عَلَى رَأْيِنَا فَلَا إذْ لَا يَجُوزُ إلَّا فِي مَسْجِدٍ يُصَلَّى فِيهِ الْخَمْسُ بِجَمَاعَةٍ أَوْ دُونَهَا إذَا كَانَ جَامِعًا فَلَا يَكُونُ التَّمَسُّكُ عَلَى الْعُمُومِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } كَمَا فَعَلَهُ الشَّارِحُونَ صَحِيحًا عَلَى الْمَذْهَبِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الِاعْتِكَافَ فِي غَيْرِ الْجَامِعِ جَائِزٌ فِي الْجُمْلَةِ بِالِاتِّفَاقِ أَوْ إلْزَامًا بِالدَّلِيلِ ، فَإِذَا صَحَّ فَبَعْدَ ذَلِكَ الضَّرُورَةُ مُطْلَقَةٌ لِلْخُرُوجِ مَعَ بَقَاءِ الِاعْتِكَافِ وَهِيَ هُنَا مُتَحَقِّقَةٌ نَظَرًا إلَى الْأَمْرِ بِالْجُمُعَةِ .
( قَوْلُهُ وَيُصَلِّي قَبْلَهَا أَرْبَعًا ) يَنْبَغِي جَعْلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَطْفًا عَلَى إدْرَاكِهَا مِنْ بَابِ { صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ } وَ { فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا } بِمَعْنَى قَابِضَاتٍ وَجَاعِلُ ، فَيَنْحَلُّ إلَى أَنْ يَخْرُجَ فِي وَقْتٍ بِحَيْثُ يُمْكِنُهُ إدْرَاكُهَا وَصَلَاةِ أَرْبَعٍ أَوْ سِتٍّ قَبْلَهَا يُحَكِّمُ فِي ذَلِكَ رَأْيَهُ ، وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي خُرُوجِهِ عَلَى إدْرَاكِ السَّمَاعِ لِلْخُطْبَةِ لِأَنَّ السُّنَّةَ إنَّمَا تُصَلَّى قَبْلَ خُرُوجِ الْخَطِيبِ .
( قَوْلُهُ وَالرَّكْعَتَانِ تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ ) صَرَّحُوا بِأَنَّهُ إذَا شَرَعَ فِي الْفَرِيضَةِ حِينَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ أَجْزَأَهُ عَنْ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ ، لِأَنَّ التَّحِيَّةَ تَحْصُلُ بِذَلِكَ فَلَا حَاجَةَ إلَى غَيْرِهَا فِي تَحَقُّقِهَا وَكَذَا السُّنَّةُ ، فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ وَهِيَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ إمَّا ضَعِيفَةٌ

أَوْ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ كَوْنَ الْوَقْتِ مِمَّا يَسَعُ فِيهِ السُّنَّةَ وَأَدَاءُ الْفَرْضِ بَعْدَ قَطْعِ الْمَسَافَةِ مِمَّا يُعْرَفُ تَخْمِينًا لَا قَطْعًا ، فَقَدْ يَدْخُلُ قَبْلَ الزَّوَالِ لِعَدَمِ مُطَابَقَةِ ظَنِّهِ وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَبْدَأَ بِالسُّنَّةِ فَيَبْدَأَ بِالتَّحِيَّةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَحَرَّى عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ ، لِأَنَّهُ قَلَّمَا يَصْدُقُ الْحَزْرُ .
( قَوْلُهُ وَبَعْدَهَا أَرْبَعًا أَوْ سِتًّا عَلَى حَسَبِ الِاخْتِلَافِ ) مِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ السُّنَّةَ بَعْدَهَا أَرْبَعٌ ، وَقَوْلَهُمَا سِتٌّ ، وَمِنْهُمْ مَنْ اقْتَصَرَ فِي السِّتِّ عَلَى أَنَّهُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَدَّمْنَا الْوَجْهَ فِي بَابِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ لِلْفَرِيقَيْنِ .
( قَوْلُهُ وَسُنَنُهَا تَوَابِعُ لَهَا ) يَعْنِي فَتَتَحَقَّقُ الْحَاجَةُ لَهَا كَمَا تَحَقَّقَتْ لِنَفْسِ الْجُمُعَةِ فَلَا يَكُونُ بِصَلَاتِهَا فِي الْجَامِعِ مُخَالِفًا لِمَا هُوَ الْأَوْلَى ، وَهُوَ أَنْ لَا يَقْعُدَ فِي الْجَامِعِ إلَّا قَدْرَ الْحَاجَةِ الَّتِي جَوَّزَتْ خُرُوجَهُ ، وَإِلَّا فَلَوْ اسْتَمَرَّ هُوَ فِيهِ بِغَيْرِ حَاجَةٍ لَمْ يَبْطُلْ اعْتِكَافُهُ لِأَنَّ خُرُوجَهُ كَانَ لِمُجَوِّزٍ فَلَمْ يُبْطِلْهُ ، وَمُقَامُهُ بَعْدَ الْحَاجَةِ فِي مَحَلِّ الِاعْتِكَافِ فَلَا يَبْطُلُ إلَّا أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يُتِمَّ فِي مَكَانِ الشُّرُوعِ لِأَنَّ إتْمَامَ هَذِهِ الْعِبَادَةِ فِي مَحَلِّ الشُّرُوعِ وَهِيَ عِبَادَةٌ تَطُولُ أَحَزُّ عَلَى النَّفْسِ مِنْهُ فِي مَحَالَّ مُخْتَلِفَةٍ ، فَإِنَّ فِي هَذَا تَرْوِيحًا لَهَا مِنْ كَدِّ التَّقَيُّدِ بِالْعِبَادَةِ فِي مَكَان وَاحِدٍ ، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ إذَا شَرَعَ فِي عِبَادَةٍ فِي مَكَان تَقَيَّدَ بِهِ حَتَّى يُتِمَّهَا فَيَكُونُ كَالْإِخْلَافِ بَعْدَ الِالْتِزَامِ .
( قَوْلُهُ وَلَوْ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ سَاعَةً مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ ) وَتَقْيِيدُهُ فِي الْكِتَابِ الْفَسَادُ بِمَا إذَا كَانَ الْخُرُوجُ بِغَيْرِ عُذْرٍ يُفِيدُ أَنَّهُ إذَا كَانَ لِعُذْرٍ لَا يَفْسُدُ .
وَعَلَيْهِ مَشَى بَعْضُهُمْ فِيمَا إذَا خَرَجَ لِانْهِدَامِ الْمَسْجِدِ إلَى مَسْجِدٍ

آخَرَ .
أَوْ أَخْرَجَهُ سُلْطَانٌ .
أَوْ خَافَ عَلَى مَتَاعِهِ فَخَرَجَ ، وَحُكِمَ بِالْفَسَادِ إذَا خَرَجَ لِجِنَازَةٍ وَإِنْ تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ ، أَوْ لِنَفِيرٍ عَامٍّ أَوْ لِأَدَاءِ شَهَادَةٍ .
وَاَلَّذِي فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ وَالْخُلَاصَةُ : أَنَّ الْخُرُوجَ عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا أَوْ مُكْرَهًا بِأَنْ أَخْرَجَهُ السُّلْطَانُ أَوْ الْغَرِيمُ .
أَوْ خَرَجَ لِبَوْلٍ فَحَبَسَهُ الْغَرِيمُ سَاعَةً .
أَوْ خَرَجَ لِعُذْرِ الْمَرَضِ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَعَلَّلَ قَاضِي خَانْ فِي الْخُرُوجِ لِلْمَرَضِ بِأَنَّهُ لَا يَغْلِبُ وُقُوعُهُ فَلَمْ يَصِرْ مُسْتَثْنًى عَنْ الْإِيجَابِ ، فَأَفَادَ هَذَا التَّعْلِيلُ الْفَسَادَ فِي الْكُلِّ ، وَعَنْ هَذَا فَسَدَ إذَا عَادَ مَرِيضًا أَوْ شَهِدَ جِنَازَةً .
وَتَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ النَّهْيُ عَنْهُ مُطْلَقًا ، فَأَفَادَ أَنَّهُ لَوْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ أَيْضًا يَفْسُدُ إلَّا أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ بِهِ كَالْخُرُوجِ لِلْمَرَضِ ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ كَمَا فِي الْجُمُعَةِ إلَّا أَنَّهُ يَفْسُدُ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مُسْتَثْنًى حَيْثُ لَمْ يَغْلِبْ وُقُوعُ تَعَيُّنِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ عَلَى وَاحِدٍ مُعْتَكِفٍ بِخِلَافِ الْجُمُعَةِ .
فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ وُقُوعُهَا فَكَانَتْ مُسْتَثْنَاةً .
وَعَلَى هَذَا إذَا خَرَجَ لِإِنْقَاذِ غَرِيقٍ أَوْ حَرِيقٍ أَوْ جِهَادٍ عَمَّ نَفِيرُهُ يَفْسُدُ وَلَا يَأْثَمُ .
وَهَذَا الْمَعْنَى يُفِيدُ أَيْضًا أَنَّهُ إذَا انْهَدَمَ الْمَسْجِدُ فَخَرَجَ إلَى آخَرَ يَفْسُدُ لِأَنَّهُ لَيْسَ غَالِبَ الْوُقُوعِ ، وَنَصَّ عَلَى فَسَادِهِ بِذَلِكَ قَاضِي خَانْ وَغَيْرُهُ .
وَتَفَرُّقُ أَهْلِهِ وَانْقِطَاعُ الْجَمَاعَةِ مِنْهُ مِثْلُ ذَلِكَ .
وَنَصَّ الْحَاكِمُ أَبُو الْفَضْلِ فَقَالَ فِي الْكَافِي : وَأَمَّا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَاعْتِكَافُهُ فَاسِدٌ إذَا خَرَجَ سَاعَةً لِغَيْرِ غَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ أَوْ جُمُعَةٍ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْعُذْرَ الَّذِي لَا يَغْلِبُ مُسْقِطٌ لِلْإِثْمِ لَا لِلْبُطْلَانِ وَإِلَّا لَكَانَ النِّسْيَانُ أَوْلَى بِعَدَمِ الْإِفْسَادِ لِأَنَّهُ عُذْرٌ ثَبَتَ شَرْعًا اعْتِبَارُ الصِّحَّةِ مَعَهُ

فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يُخْرِجَ رَأْسَهُ مِنْ الْمَسْجِدِ إلَى بَعْضِ أَهْلِهِ لِيَغْسِلَهُ أَوْ يُرَجِّلَهُ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ فِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَإِنْ غَسَلَهُ فِي الْمَسْجِدِ فِي إنَاءٍ بِحَيْثُ لَا يُلَوِّثُ الْمَسْجِدَ لَا بَأْسَ بِهِ .
وَصُعُودُ الْمِئْذَنَةِ إنْ كَانَ بَابُهَا مِنْ خَارِجِ الْمَسْجِدِ لَا يُفْسِدُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هَذَا فِي حَقِّ الْمُؤَذِّنِ لِأَنَّ خُرُوجَهُ لِلْأَذَانِ مَعْلُومٌ فَيَكُونُ مُسْتَثْنًى .
أَمَّا غَيْرُهُ فَيُفْسِدُ اعْتِكَافَهُ ، وَصَحَّحَ قَاضِي خَانْ أَنَّهُ قَوْلُ الْكُلِّ فِي حَقِّ الْكُلِّ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ أَقْيَسُ بِمَذْهَبِ الْإِمَامِ .
وَفِي شَرْحِ الصَّوْمِ لِلْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ : الْمُعْتَكِفُ يَخْرُجُ لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ ، وَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ شَاهِدٌ آخَرَ فَيَتْوَى حَقُّهُ .
وَلَوْ أَحْرَمَ الْمُعْتَكِفُ بِحَجٍّ لَزِمَهُ إذْ لَا يُنَافِيهِ .
وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْخُرُوجُ إلَّا إذَا خَافَ فَوْتَ الْحَجِّ فَيَخْرُجُ حِينَئِذٍ وَيَسْتَقْبِلُ الِاعْتِكَافَ .
وَلَوْ احْتَلَمَ لَا يَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ غَيْرِ تَلْوِيثٍ فَعَلَ ، وَإِلَّا خَرَجَ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ يَعُودُ .
( قَوْلُهُ وَهُوَ الِاسْتِحْسَانُ ) يَقْتَضِي تَرْجِيحَهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْمَوَاضِعِ الْمَعْدُودَةِ الَّتِي رَجَحَ فِيهَا الْقِيَاسُ عَلَى الِاسْتِحْسَانِ .
ثُمَّ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الِاسْتِحْسَانِ بِالضَّرُورَةِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ ، وَاسْتِنْبَاطٌ مِنْ عَدَمِ أَمْرِهِ إذَا خَرَجَ إلَى الْغَائِطِ أَنْ يُسْرِعَ الْمَشْيَ ، بَلْ يَمْشِي عَلَى التُّؤَدَةِ وَبِقَدْرِ الْبُطْءِ تَتَخَلَّلُ السَّكَنَاتُ بَيْنَ الْحَرَكَاتِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي فَنِّ الطَّبِيعَةِ ، وَبِذَلِكَ يَثْبُتُ قَدْرٌ مِنْ الْخُرُوجِ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْحَاجَةِ ، فَعُلِمَ أَنَّ الْقَلِيلَ عَفْوٌ فَجَعَلْنَا الْفَاصِلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَثِيرِ أَقَلَّ مِنْ أَكْثَرِ الْيَوْمِ أَوْ اللَّيْلَةِ لِأَنَّ مُقَابِلَ الْأَكْثَرِ يَكُونُ قَلِيلًا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ ، وَأَنَا لَا أَشُكُّ

أَنَّ مَنْ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ إلَى السُّوقِ لِلَّعِبِ وَاللَّهْوِ أَوْ الْقِمَارِ مِنْ بَعْدِ الْفَجْرِ إلَى مَا قَبْلَ نِصْفِ النَّهَارِ كَمَا هُوَ قَوْلُهُمَا ، ثُمَّ قَالَ " يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا مُعْتَكِفٌ .
قَالَ : مَا أَبْعَدَك عَنْ الْعَاكِفِينَ " وَلَا يُتِمُّ مَبْنَى هَذَا الِاسْتِحْسَانُ فَإِنَّ الضَّرُورَةَ الَّتِي يُنَاطُ بِهَا التَّخْفِيفُ هِيَ الضَّرُورَةُ اللَّازِمَةُ أَوْ الْغَالِبَةُ الْوُقُوعِ ، وَمُجَرَّدُ عُرُوضِ مَا هُوَ مُلْجِئٌ لَيْسَ بِذَلِكَ .
أَلَا يُرَى أَنَّ مَنْ عَرَضَ لَهُ فِي الصَّلَاةِ مُدَافَعَةُ الْأَخْبَثَيْنِ عَلَى وَجْهٍ عَجَزَ عَنْ دَفْعِهِ حَتَّى خَرَجَ مِنْهُ لَا يُقَالُ بِبَقَاءِ صَلَاتِهِ كَمَا يُحْكَمُ بِهِ مَعَ السَّلَسِ مَعَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ وَالْإِلْجَاءِ وَسُمِّيَ ذَلِكَ مَعْذُورًا دُونَ هَذَا مَعَ أَنَّهُمَا يُجِيزَانِهِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ أَصْلًا .
إذْ الْمَسْأَلَةُ هِيَ أَنَّ خُرُوجَهُ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ لَا يُفْسِدُ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ لِحَاجَةٍ أَوْ لَا بَلْ لِلَّعِبِ .
وَأَمَّا عَدَمُ الْمُطَالَبَةِ بِالْإِسْرَاعِ فَلَيْسَ لِإِطْلَاقِ الْخُرُوجِ الْيَسِيرِ بَلْ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ الْأَنَاةَ وَالرِّفْقَ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى طَلَبَهُ فِي الْمَشْيِ إلَى الصَّلَاةِ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يُفَوِّتُ بَعْضَهَا مَعَهُ بِالْجَمَاعَةِ .
وَكُرِهَ الْإِسْرَاعُ وَنُهِيَ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ مُحَصِّلًا لَهَا كُلَّهَا فِي الْجَمَاعَةِ تَحْصِيلًا لِفَضِيلَةِ الْخُشُوعِ إذْ هُوَ يَذْهَبُ بِالسُّرْعَةِ وَالْعَاكِفُ أَحْوَجُ إلَيْهَا فِي عُمُومِ أَحْوَالِهِ لِأَنَّهُ سَلَّمَ نَفْسَهُ لِلَّهِ تَعَالَى مُتَقَيِّدًا بِمَقَامِ الْعُبُودِيَّةِ مِنْ الذِّكْرِ وَالصَّلَاةِ وَالِانْتِظَارِ لِلصَّلَاةِ ، فَهُوَ فِي حَالِ الْمَشْيِ الْمُطْلَقِ لَهُ دَاخِلٌ فِي الْعِبَادَةِ الَّتِي هِيَ الِانْتِظَارُ ، وَالْمُنْتَظِرُ لِلصَّلَاةِ فِي الصَّلَاةِ حُكْمًا فَكَانَ مُحْتَاجًا إلَى تَحْصِيلِ الْخُشُوعِ فِي حَالِ الْخُرُوجِ ، فَكَانَتْ تِلْكَ السَّكَنَاتُ كَذَلِكَ ، وَهِيَ مَعْدُودَةٌ مِنْ نَفْسِ الِاعْتِكَافِ لَا مِنْ الْخُرُوجِ ، وَلَوْ سَلَّمَ أَنَّ الْقَلِيلَ غَيْرُ مُفْسِدٍ لَمْ يَلْزَمْ تَقْدِيرُهُ

بِمَا هُوَ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مُقَابِلِهِ مِنْ بَقِيَّةِ تَمَامِ يَوْمٍ أَوْ لَيْلَةٍ ، بَلْ بِمَا يُعَدُّ كَثِيرًا فِي نَظَرِ الْعُقَلَاءِ الَّذِينَ فَهِمُوا مَعْنَى الْعُكُوفِ ، وَأَنَّ الْخُرُوجَ يُنَافِيهِ .

قَالَ ( وَأَمَّا الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالنَّوْمُ يَكُونُ فِي مُعْتَكَفِهِ ) لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَأْوًى إلَّا الْمَسْجِدَ ، وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ قَضَاءُ هَذِهِ الْحَاجَةِ فِي الْمَسْجِدِ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى الْخُرُوجِ .
( قَوْلُهُ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَأْوًى إلَّا الْمَسْجِدَ ) أَيْ لِحَاجَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ مِنْ الْأَكْلِ وَنَحْوِهِ ، أَمَّا إذَا بَاعَ أَوْ اشْتَرَى لِغَيْرِ ذَلِكَ كَالتِّجَارَةِ أَوْ اسْتِكْثَارِ الْأَمْتِعَةِ فَلَا يَجُوزُ لِأَنَّ إبَاحَتَهُ فِي الْمَسْجِدِ لِلضَّرُورَةِ فَلَا يُجَاوِزُ مَوَاضِعَهَا

( وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَبِيعَ وَيَبْتَاعَ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحْضِرَ السِّلْعَةَ ) لِأَنَّهُ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ بِأَنْ لَا يَجِدَ مَنْ يَقُومُ بِحَاجَتِهِ إلَّا أَنَّهُمْ قَالُوا : يُكْرَهُ إحْضَارُ السِّلْعَةِ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ .
لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مُحَرَّرٌ عَنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ ، وَفِيهِ شَغْلُهُ بِهَا ، وَيُكْرَهُ لِغَيْرِ الْمُعْتَكِفِ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ فِيهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ إلَى أَنْ قَالَ وَبَيْعَكُمْ وَشِرَاءَكُمْ } .

( قَوْلُهُ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مُحَرَّرٌ عَنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ ) فَإِنَّهُ أَخْلَصَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ ، وَفِي إحْضَارِ السِّلْعَةِ شَغْلُهُ بِهَا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ .
( قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ } ) رَوَى ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ ، وَشِرَاءَكُمْ وَبَيْعَكُمْ وَخُصُومَاتِكُمْ ، وَرَفْعَ أَصْوَاتِكُمْ ، وَإِقَامَةَ حُدُودِكُمْ ، وَسَلَّ سُيُوفِكُمْ ، وَاِتَّخِذُوا عَلَى أَبْوَابِهَا الْمَطَاهِرَ .
وَجَمِّرُوهَا فِي الْجُمَعِ } ا هـ .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابِهِ بَعْدَ رِوَايَتِهِ : حَدِيثَ { لَا تُظْهِرْ الشَّمَاتَةَ بِأَخِيكَ فَيُعَافِيَهُ اللَّهُ وَيَبْتَلِيَكَ } عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ وَاثِلَةَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ ، وَقَدْ سَمِعَ مَكْحُولٌ مِنْ وَاثِلَةَ وَأَنَسَ .
وَأَبِي هِنْدٍ الدَّارِيِّ ذَكَرَهُ فِي الزُّهْدِ وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَهُ .
وَرَوَى أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ فِي الْمَسْجِدِ .
وَأَنْ يُنْشَدَ فِيهِ ضَالَّةٌ ، أَوْ يُنْشَدَ فِيهِ شِعْرٌ ، وَنَهَى عَنْ التَّحَلُّقِ قَبْلَ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ حَسَنٌ ، وَالنَّسَائِيُّ رَوَاهُ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ بِتَمَامِهِ ، وَفِي السُّنَنِ اخْتَصَرَهُ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ .
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابِهِ وَالنَّسَائِيُّ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { مَنْ رَأَيْتُمُوهُ يَبِيعُ أَوْ يَبْتَاعُ فِي الْمَسْجِدِ فَقُولُوا : لَا رَبَّحَ اللَّهُ تِجَارَتَكَ

، وَمَنْ رَأَيْتُمُوهُ يَنْشُدُ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ فَقُولُوا لَا رَدَّ اللَّهُ عَلَيْكَ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ ، وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ .
وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { خِصَالٌ لَا تَنْبَغِي فِي الْمَسْجِدِ : لَا يُتَّخَذُ طَرِيقًا ، وَلَا يُشْهَرُ فِيهِ سِلَاحٌ ، وَلَا يُنْبَضُ فِيهِ بِقَوْسٍ ، وَلَا يُنْثَرُ فِيهِ نَبْلٌ ، وَلَا يُمَرُّ فِيهِ بِلَحْمٍ نِيءٍ ، وَلَا يُضْرَبُ فِيهِ حَدٌّ ، وَلَا يُتَّخَذُ سُوقًا } وَأُعِلَّ بِزَيْدِ بْنِ جَبِيرَةَ .
وَقَدْ قَدَّمْنَا لِلْمَسْجِدِ أَحْكَامًا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ تُنْظَرُ هُنَاكَ .

قَالَ ( وَلَا يَتَكَلَّمُ إلَّا بِخَيْرٍ وَيُكْرَهُ لَهُ الصَّمْتُ ) لِأَنَّ صَوْمُ الصَّمْتِ لَيْسَ بِقُرْبَةِ شَرِيعَتِنَا لَكِنَّهُ يَتَجَانَبُ مَا يَكُونُ مَأْثَمًا .
( قَوْلُهُ وَيُكْرَهُ لَهُ الصَّمْتُ ) أَيْ الصَّمْتُ بِالْكُلِّيَّةِ تَعَبُّدًا بِهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي شَرِيعَتِنَا ، وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { لَا يُتْمَ بَعْدَ احْتِلَامٍ وَلَا صُمَاتَ يَوْمٍ إلَى اللَّيْلِ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَأَسْنَدَ أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ صَوْمِ الْوِصَالِ وَعَنْ صَوْمِ الصَّمْتِ } وَيُلَازِمُ التِّلَاوَةَ وَالْحَدِيثَ وَالْعِلْمَ وَتَدْرِيسَهُ ، وَسِيَرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأَخْبَارَ الصَّالِحِينَ ، وَكِتَابَةَ أُمُورِ الدِّينِ

( وَيَحْرُمُ عَلَى الْمُعْتَكِفِ الْوَطْءُ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } ( وَ ) كَذَا ( اللَّمْسُ وَالْقُبْلَةُ ) لِأَنَّهُ مِنْ دَوَاعِيهِ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ إذْ هُوَ مَحْظُورُهُ كَمَا فِي الْإِحْرَامِ بِخِلَافِ الصَّوْمِ ، لِأَنَّ الْكَفَّ رُكْنُهُ لَا مَحْظُورُهُ فَلَمْ يَتَعَدَّ إلَى دَوَاعِيهِ ( فَإِنْ جَامَعَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا بَطَلَ اعْتِكَافُهُ ) لِأَنَّ اللَّيْلَ مَحَلُّ الِاعْتِكَافِ بِخِلَافِ الصَّوْمِ وَحَالَةُ الْعَاكِفِينَ مُذَكِّرَةٌ فَلَا يُعْذَرُ بِالنِّسْيَانِ ( وَلَوْ جَامَعَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ فَأَنْزَلَ أَوْ قَبَّلَ أَوْ لَمَسَ فَأَنْزَلَ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ ) لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْجِمَاعِ حَتَّى يَفْسُدَ بِهِ الصَّوْمُ ، وَلَوْ لَمْ يُنْزِلْ لَا يَفْسُدُ وَإِنْ كَانَ مُحْرِمًا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْجِمَاعِ وَهُوَ الْمُفْسِدُ وَلِهَذَا لَا يَفْسُدُ بِهِ الصَّوْمُ .

( قَوْلُهُ لِأَنَّهُ ) أَيْ كُلًّا مِنْهُمَا ( مِنْ دَوَاعِيهِ ) فَمَرْجِعُ ضَمِيرِ دَوَاعِيهِ الْوَطْءُ وَضَمِيرُ مَحْظُورِهِ الِاعْتِكَافُ .
وَحَاصِلُ الْوَجْهِ الْحُكْمُ بِاسْتِلْزَامِ حُرْمَةِ الشَّيْءِ ابْتِدَاءً فِي الْعِبَادَةِ حُرْمَةَ دَوَاعِيهِ وَبِعَدَمِ اسْتِلْزَامِهَا حُرْمَةَ الدَّوَاعِي إذَا كَانَتْ حُرْمَتُهُ ثَابِتَةً ضِمْنَ ثُبُوتِ الْأَمْرِ لِلتَّفَاوُتِ بَيْنَ التَّحْرِيمِ الضِّمْنِيِّ لِضِدِّ مَأْمُورٍ بِهِ وَالْقَصْدِيِّ .
وَلَا شَكَّ أَنَّ ثُبُوتَ مَا لَهُ الدَّوَاعِي عِنْدَ ثُبُوتِهَا مَعَ قِيَامِ الْحَاجِزِ الشَّرْعِيِّ عَنْهُ لَيْسَ قَطْعِيًّا وَلَا غَالِبًا غَيْرَ أَنَّهَا طَرِيقٌ فِي الْجُمْلَةِ فَحُرِّمَتْ لِلتَّحْرِيمِ الْقَصْدِيِّ لِمَا هِيَ دَوَاعِيهِ لَا الضِّمْنِيِّ ، إذْ هُوَ غَيْرُ مَقْصُودٍ ، بَلْ الْمَقْصُودُ لَيْسَ إلَّا تَحْصِيلَ الْمَأْمُورِ بِهِ ، فَكَانَ ذَلِكَ غَيْرَ مَلْحُوظٍ فِي الطَّلَبِ إلَّا لِغَيْرِهِ فَلَا تَتَعَدَّى الْحُرْمَةُ إلَى دَوَاعِيهِ ، إذَا عُرِفَ هَذَا فَحُرْمَةُ الْوَطْءِ فِي الِاعْتِكَافِ قَصْدِيٌّ إذْ هُوَ ثَابِتٌ بِالنَّهْيِ الْمُفِيدِ لِلْحُرْمَةِ ابْتِدَاءً لِنَفْسِهِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } وَمِثْلُهُ فِي الْإِحْرَامِ وَالِاسْتِبْرَاءِ قَالَ تَعَالَى { فَلَا رَفَثَ } الْآيَةَ .
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تُنْكَحُ الْحَبَالَى حَتَّى يَضَعْنَ ، وَلَا الْحَيَالَى حَتَّى يُسْتَبْرَأْنَ بِحَيْضَةٍ } فَتَتَعَدَّى إلَى الدَّوَاعِي فِيهَا ، وَحُرْمَةُ الْوَطْءِ فِي الصَّوْمِ وَالْحَيْضِ ضِمْنِيٌّ لِلْأَمْرِ الطَّالِبِ لِلصَّوْمِ ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ } { وَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ } فَإِنَّ مُقْتَضَاهُ وُجُوبُ الْكَفِّ ، فَحُرْمَةُ الْوَطْءِ تَثْبُتُ ضِمْنًا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ ، فَإِنَّ حُرْمَةَ الْفِعْلِ وَهُوَ الْوَطْءُ هِيَ الثَّابِتَةُ أَوَّلًا بِالصِّيغَةِ .
ثُمَّ يَثْبُتُ وُجُوبُ الْكَفِّ عَنْهُ ضِمْنًا فَلِذَا يَثْبُتُ سَمْعًا حِلُّ الدَّوَاعِي فِي الصَّوْمِ وَالْحَيْضِ عَلَى مَا مَرَّ فِي بَابَيْهِمَا .
( قَوْلُهُ وَلَوْ لَمْ يُنْزِلْ لَا يَفْسُدُ

وَإِنْ كَانَ مُحَرَّمًا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْجِمَاعِ وَهُوَ الْمُفْسِدُ ) أَوْ رَدَّ لِمَ لَمْ يَفْسُدْ وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ } ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ مَجَازَهَا وَهُوَ الْجِمَاعُ مُرَادٌ فَتَبْطُلُ إرَادَةُ الْحَقِيقَةِ لِامْتِنَاعِ الْجَمْعِ .
وَهُوَ مُشْكِلٌ لِانْكِشَافِ أَنَّ الْجِمَاعَ مِنْ مَاصَدَقَاتِ الْمُبَاشَرَةِ ، لِأَنَّهُ مُبَاشَرَةٌ خَاصَّةٌ فَيَكُونُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْقُبْلَةِ وَالْجِمَاعِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ وَالْمَسِّ بِالْيَدِ وَالْجِمَاعِ مُتَوَاطِئًا أَوْ مُشَكِّكًا ، فَأَيُّهَا أُرِيدَ بِهِ كَانَ حَقِيقَةً كَمَا هُوَ كُلُّ اسْمٍ لِمَعْنًى كُلِّيٍّ ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُرَادُ بِهِ فَرْدَانِ مِنْ مَفْهُومِهِ فِي إطْلَاقٍ وَاحِدٍ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ سِيَاقُ النَّهْيِ وَهُوَ يُفِيدُ الْعُمُومَ .
فَيُفِيدُ تَحْرِيمَ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمُبَاشَرَةِ جِمَاعٍ أَوْ غَيْرِهِ .
هَذَا وَإِذَا فَسَدَ الِاعْتِكَافُ الْوَاجِبُ وَجَبَ قَضَاؤُهُ إلَّا إذَا فَسَدَ بِالرِّدَّةِ خَاصَّةً ، فَإِنْ كَانَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ يَقْضِي قَدْرَ مَا فَسَدَ لَيْسَ غَيْرُ ، وَلَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ كَالصَّوْمِ الْمَنْذُورِ بِهِ فِي شَهْرٍ بِعَيْنِهِ إذَا أَفْطَرَ يَوْمًا يَقْضِي ذَلِكَ الْيَوْمَ ، وَلَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِئْنَافُ أَصْلُهُ صَوْمُ رَمَضَانَ وَإِنْ كَانَ اعْتِكَافُ شَهْرٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ لِأَنَّهُ لَزِمَهُ مُتَتَابِعًا فَيُرَاعَى فِيهِ صِفَةُ التَّتَابُعِ ، وَسَوَاءٌ أَفْسَدَهُ بِصُنْعِهِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ كَالْخُرُوجِ وَالْجِمَاعِ وَالْأَكْلِ إلَّا الرِّدَّةَ ، أَوْ لِعُذْرٍ كَمَا إذَا مَرِضَ فَاحْتَاجَ إلَى الْخُرُوجِ أَوْ بِغَيْرِ صُنْعِهِ كَالْحَيْضِ وَالْجُنُونِ وَالْإِغْمَاءِ الطَّوِيلِ ، وَأَمَّا الرِّدَّةُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى { إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ } كَذَا فِي الْبَدَائِعِ .

قَالَ ( وَمَنْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ اعْتِكَافَ أَيَّامٍ لَزِمَهُ اعْتِكَافُهَا بِلَيَالِيِهَا ) لِأَنَّ ذِكْرَ الْأَيَّامِ عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ يَتَنَاوَلُ مَا بِإِزَائِهَا مِنْ اللَّيَالِي ، يُقَالُ : مَا رَأَيْتُك مُنْذُ أَيَّامٍ وَالْمُرَادُ بِلَيَالِيِهَا وَكَانَتْ ( مُتَتَابِعَةً وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ التَّتَابُعَ ) لِأَنَّ مَبْنَى الِاعْتِكَافِ عَلَى التَّتَابُعِ ، لِأَنَّ الْأَوْقَاتَ كُلَّهَا قَابِلَةٌ بِخِلَافِ الصَّوْمِ ، لِأَنَّ مَبْنَاهُ عَلَى التَّفَرُّقِ لِأَنَّ اللَّيَالِيَ غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلصَّوْمِ فَيَجِبُ عَلَى التَّفَرُّقِ حَتَّى يَنُصَّ عَلَى التَّتَابُعِ ( وَإِنْ نَوَى الْأَيَّامَ خَاصَّةً صَحَّتْ نِيَّتُهُ ) لِأَنَّهُ نَوَى الْحَقِيقَةَ .

( قَوْلُهُ وَمَنْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ اعْتِكَافَ أَيَّامٍ ) بِأَنْ قَالَ بِلِسَانِهِ : عَشَرَةَ أَيَّامٍ مَثَلًا ( لَزِمَهُ اعْتِكَافُهَا بِلَيَالِيِهَا وَكَانَتْ مُتَتَابِعَةً ) وَلَا يَكْفِي مُجَرَّدُ نِيَّةِ الْقَلْبِ ، وَكَذَا لَوْ قَالَ : شَهْرًا وَلَمْ يَنْوِهِ بِعَيْنِهِ لَزِمَهُ مُتَتَابِعًا لَيْلُهُ وَنَهَارُهُ يَفْتَتِحُهُ مَتَى شَاءَ بِالْعَدَدِ لَا هِلَالِيًّا ، وَالشَّهْرُ الْمُعَيَّنُ هِلَالِيٌّ ، وَإِنْ فَرَّقَ اسْتَقْبَلَ .
وَقَالَ زُفَرُ : إنْ شَاءَ فَرَّقَهُ وَإِنْ شَاءَ تَابَعَهُ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ عَشَرَةَ أَيَّامٍ وَشَهْرًا يُلْحَقُ بِالْإِجَارَاتِ وَالْأَيْمَانِ فِي لُزُومِ التَّتَابُعِ وَدُخُولِ اللَّيَالِي فِيمَا إذَا اسْتَأْجَرَهُ أَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ ، وَبِالصَّوْمِ فِي عَدَمِ لُزُومِ الِاتِّصَالِ بِالْوَقْتِ الَّذِي نَذَرَ فِيهِ ، وَالْمُعَيِّنُ لِذَلِكَ عُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ ، يُقَالُ : مَا رَأَيْتُك مُنْذُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ ، وَفِي التَّارِيخِ كُتِبَ لِثَلَاثٍ بَقِينَ ، وَالْمُرَادُ بِلَيَالِيِهَا فِيهِمَا وَقَالَ تَعَالَى { آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ } وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ { ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ } وَالْقِصَّةُ وَاحِدَةٌ ، وَتَدْخُلُ اللَّيْلَةُ الْأُولَى فَيَدْخُلُ قَبْلَ الْغُرُوبِ وَيَخْرُجُ بَعْدَ الْغُرُوبِ مِنْ آخِرِ الْأَيَّامِ الَّتِي عَدَّهَا ، وَإِنَّمَا يُرَادُ بَيَاضُ النَّهَارِ بِالْيَوْمِ إذَا قُرِنَ بِفِعْلٍ يَمْتَدُّ ، وَذُكِرَ الْيَوْمُ بِلَفْظِ الْفَرْدِ فَلِهَذَا إذَا نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمٍ لَمْ يَدْخُلْ اللَّيْلُ بِخِلَافِ الْأَيَّامِ ، وَلَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ لَيْلَةٍ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لِعَدَمِ الصَّوْمِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ تَلْزَمُهَا بِيَوْمِهَا ، وَلَوْ نَوَى بِاللَّيْلَةِ الْيَوْمَ لَزِمَهُ وَعَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَصِلَ قَضَاءَ أَيَّامِ حَيْضِهَا بِالشَّهْرِ فِيمَا إذَا نَذَرَتْ اعْتِكَافَ شَهْرٍ فَحَاضَتْ فِيهِ ، وَلَا يَنْقَطِعُ التَّتَابُعُ بِهِ ، وَعَنْ لُزُومِ التَّتَابُعِ قَالُوا : لَوْ أُغْمِيَ عَلَى الْمُعْتَكِفِ أَوْ أَصَابَهُ عَتَهٌ أَوْ لَمَمٌ اسْتَقْبَلَ إذَا بَرْءًا لِانْقِطَاعِ التَّتَابُعِ ، حَتَّى لَوْ كَانَ فِي آخِرِ يَوْمٍ

وَفِي الصَّوْمِ لَا يَقْضِي الْيَوْمَ الَّذِي حَدَثَ فِيهِ الْإِغْمَاءُ وَيَقْضِي مَا بَعْدَهُ ، فَأَفَادُوا أَنَّ الْإِغْمَاءَ إنَّمَا يُنَافِي شَرْطَ الصَّوْمِ وَهُوَ النِّيَّةُ .
وَالظَّاهِرُ وُجُودُهَا فِي الْيَوْمِ الَّذِي حَدَثَ فِيهِ الْإِغْمَاءُ فَلَا يَقْضِيهِ ، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ مِنْ الْفَرْقِ أَنْ يُقَالَ : هُوَ عِبَادَةُ انْتِظَارِ الصَّلَاةِ ، وَالِانْتِظَارُ يَنْقَطِعُ بِالْإِغْمَاءِ فِي الصَّلَوَاتِ الَّتِي تَجِبُ بَعْدَ الْإِغْمَاءِ بِخِلَافِ الْإِمْسَاكِ الْمَسْبُوقِ بِالنِّيَّةِ الَّذِي هُوَ مَعْنَى الصَّوْمِ .
( قَوْلُهُ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ ) لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْيَوْمِ بَيَاضُ النَّهَارِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَنَوَى الْأَيَّامَ دُونَ اللَّيَالِيَ أَوْ قَلَبَهُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الشَّهْرَ اسْمٌ لِعَدَدِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَلَيْلَةً ، لَيْسَ بِاسْمٍ عَامٍّ كَالْعَشَرَةِ عَلَى مَجْمُوعِ الْآحَادِ فَلَا يَنْطَلِقُ عَلَى مَا دُونَ ذَلِكَ الْعَدَدِ أَصْلًا ، كَمَا لَا تَنْطَلِقُ الْعَشَرَةُ عَلَى خَمْسَةٍ مَثَلًا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا ، أَمَّا لَوْ قَالَ : شَهْرًا بِالنَّهْرِ دُونَ اللَّيَالِي لَزِمَهُ كَمَا قَالَ وَهُوَ ظَاهِرٌ ، أَوْ اسْتَثْنَى فَقَالَ : شَهْرًا إلَّا اللَّيَالِيَ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا فَكَأَنَّهُ قَالَ : ثَلَاثِينَ نَهَارًا ، وَلَوْ اسْتَثْنَى لِأَيَّامٍ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ لِأَنَّ الْبَاقِيَ اللَّيَالِي الْمُجَرَّدَةَ ، وَلَا يَصِحُّ فِيهَا لِمُنَافَاتِهَا شَرْطَهُ ، وَهُوَ الصَّوْمُ

( وَمَنْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ اعْتِكَافَ يَوْمَيْنِ يَلْزَمُهُ بِلَيْلَتَيْهِمَا ) .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا تَدْخُلُ اللَّيْلَةُ الْأُولَى لِأَنَّ الْمُثَنَّى غَيْرُ الْجَمْعِ ، وَفِي الْمُتَوَسِّطَةِ ضَرُورَةُ الِاتِّصَالِ .
وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ فِي الْمُثَنَّى مَعْنَى الْجَمْعِ فَيَلْحَقُ بِهِ احْتِيَاطًا لِأَمْرِ الْعِبَادَةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( قَوْلُهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ ) فِي النِّهَايَةِ : كَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَقُولَ : وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا تَدْخُلُ اللَّيْلَةُ الْأُولَى ، كَمَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي نُسَخِ شُرُوحِ الْمَبْسُوطِ وَالْجَامِعِ الْكَبِيرِ لِمَا أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ غَيْرُ ظَاهِرَةٍ عَنْهُ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ فِي حُجَّتِهِمَا بِقَوْلِهِ : وَجْهُ الظَّاهِرِ ( قَوْلُهُ لِأَنَّ الْمُثَنَّى غَيْرُ الْجَمْعِ ) فَكَانَ لَفْظُهُ وَلَفْظُ الْمُفْرَدِ سَوَاءً ، ثُمَّ فِي لَفْظِ الْمُفْرَدِ بِأَنْ قَالَ يَوْمًا لَا تَدْخُلُ اللَّيْلَةُ الْأُولَى بِالِاتِّفَاقِ فَكَذَا التَّثْنِيَةُ ، إلَّا أَنَّ الْمُتَوَسِّطَةَ تَدْخُلُ لِضَرُورَةِ الِاتِّصَالِ ، وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ مُنْتَفِيَةٌ فِي اللَّيْلَةِ الْأُولَى .
( قَوْلُهُ أَنَّ فِي الْمُثَنَّى مَعْنَى الْجَمْعِ ) وَلِذَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ } وَلَوْ قَالَ : لَيْلَتَيْنِ صَحَّ نَذْرُهُ إذَا لَمْ يَنْوِ اللَّيْلَتَيْنِ خَاصَّةً ، بَلْ نَوَى الْيَوْمَيْنِ مَعَهُمَا ، ثُمَّ خَصَّ الْمُصَنِّفُ الرِّوَايَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْمُثَنَّى ، وَعَنْهُ فِي الْجَمْعِ مِثْلُ الْمُثَنَّى ، وَالْوَجْهُ الَّذِي ذَكَرَهُ لَا يَنْتَهِضُ عَلَى رِوَايَةِ عَدَمِ إدْخَالِ اللَّيْلَةِ الْأُولَى فِي الْجَمْعِ أَيْضًا .
[ فَرْعٌ ] لَوْ ارْتَدَّ عَقِيبَ نَذَرَ الِاعْتِكَافِ ثُمَّ أَسْلَمَ لَمْ يَلْزَمْهُ مُوجَبُ النَّذْرِ ، لِأَنَّ نَفْسَ النَّذْرِ بِالْقُرْبَةِ قُرْبَةٌ فَيَبْطُلُ بِالرِّدَّةِ كَسَائِرِ الْقُرَبِ .
وَنَذْرُ اعْتِكَافِ رَمَضَانَ لَازِمٌ ، فَإِنْ أَطْلَقَهُ فَعَلَيْهِ فِي أَيِّ رَمَضَانَ شَاءَ ، وَإِنْ عَيَّنَهُ لَزِمَهُ فِيهِ بِعَيْنِهِ فَلَوْ صَامَهُ وَلَمْ يَعْتَكِفْ لَزِمَهُ قَضَاؤُهُ مُتَتَابِعًا بِصَوْمٍ مَقْصُودٍ لِلنَّذْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ تَعَذَّرَ قَضَاؤُهُ فَلَا يُقْضَى وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْتَكِفَ عَنْهُ فِي رَمَضَانَ آخَرَ بِاتِّفَاقِ الثَّلَاثَةِ ، وَلَوْ لَمْ يَصُمْ وَلَمْ يَعْتَكِفْ جَازَ

أَنْ يَقْضِيَ الِاعْتِكَافَ فِي صَوْمِ الْقَضَاءِ وَالْمَسْأَلَةُ مَعْرُوفَةٌ فِي الْأُصُولِ ، وَكُلُّ مُعَيَّنٍ نُذِرَ اعْتِكَافُهُ كَرَجَبٍ وَيَوْمِ الِاثْنَيْنِ مَثَلًا فَمَضَى وَلَمْ يَعْتَكِفْ فِيهِ لَزِمَهُ قَضَاؤُهُ ، فَلَوْ أَخَّرَ يَوْمًا حَتَّى مَرِضَ وَجَبَ الْإِيصَاءُ بِإِطْعَامِ مِسْكِينٍ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ لِلصَّوْمِ لَا لِلَّبْثِ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعٍ مِنْ غَيْرِهِ ، وَلَوْ كَانَ مَرِيضًا وَقْتَ الْإِيجَابِ وَلَمْ يَبْرَأْ حَتَّى مَاتَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَلَوْ صَحَّ يَوْمًا يَنْبَغِي أَنْ يَجْرِيَ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي الصَّوْمِ ، وَالنَّذْرُ بِاعْتِكَافِ أَيَّامِ الْعِيدَيْنِ وَالتَّشْرِيقِ يَنْعَقِدُ ، وَيَجِبُ فِي بَدَلِهَا لِأَنَّ شَرْطَهُ الصَّوْمُ وَهُوَ فِيهَا مُمْتَنِعٌ ، فَلَوْ اعْتَكَفَهَا صَائِمًا أَثِمَ وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ آخَرُ .
وَمَنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ كَرَجَبٍ تَعَجَّلَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ قَبْلَهُ عَنْهُ يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ خِلَافٍ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ .
وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ قَالَ : يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إذَا نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ سَنَةَ كَذَا فَحَجَّ سَنَةً قَبْلَهَا ، وَكَذَا النَّذْرُ بِالصَّلَاةِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ إذَا صَلَّاهَا قَبْلَهَا .
وَفِي الْخُلَاصَةِ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ غَدًا أَوْ أُصَلِّيَ غَدًا فَصَامَ الْيَوْمَ أَوْ صَلَّى جَازَ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ، فَجَعَلَ أَبَا حَنِيفَةَ مَعَ أَبِي يُوسُفَ .
وَأَجْمَعُوا أَنَّهُ إذَا نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَتَصَدَّقَ يَوْمَ الْخَمِيسِ عَنْهُ أَجْزَأَهُ ، وَكَذَا لَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ فَصَلَّاهُمَا فِي مَسْجِدٍ آخَرَ جَازَ بِلَا فَرْقٍ بَيْنَ الْمُضَافِ إلَى الزَّمَانِ وَالْمُضَافِ إلَى الْمَكَانِ .
وَقَالَ زُفَرُ : إنْ كَانَ هَذَا الْمَكَانُ دُونَ ذَلِكَ الْمَكَانِ لَمْ يَجُزْ ا هـ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ مِثْلُ مَا عَنْ زُفَرَ ، وَالْخِلَافُ فِي التَّعْجِيلِ

مُشْكِلٌ ، وَلَعَلَّ تَرْكَ الْخِلَافِ أَنْسَبُ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى جَوَازِ التَّعْجِيلِ بَعْدَ السَّبَبِ ، وَكُلٌّ مَنْذُورٌ فَإِنَّمَا سَبَبُ وُجُوبِهِ النَّذْرُ ، وَلَا تَعْتَكِفُ الْمَرْأَةُ وَالْعَبْدُ إلَّا بِإِذْنِ السَّيِّدِ وَالزَّوْجِ ، فَإِنْ مَنَعَهُمَا بَعْدَ الْإِذْنِ صَحَّ مَنْعُهُ فِي حَقِّ الْعَبْدِ ، وَيَكُونُ مُسِيئًا فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ .
وَفِي الْخُلَاصَةِ : يَكُونُ آثِمًا ، وَلَا يَصِحُّ فِي حَقِّ الزَّوْجَةِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا ، وَلَوْ نَذَرَ الْمَمْلُوكُ اعْتِكَافًا لَزِمَهُ وَلِلْمَوْلَى مَنْعُهُ مِنْهُ فَإِذَا عَتَقَ يَقْضِيهِ ، وَكَذَا إذَا نَذَرَتْ الزَّوْجَةُ صَحَّ ، وَلِلزَّوْجِ مَنْعُهَا ، فَإِنْ بَانَتْ قَضَتْ وَلَيْسَ لِلْمَوْلَى مَنْعُ الْمُكَاتَبِ ، وَيَصِحُّ الِاعْتِكَافُ مِنْ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ كَغَيْرِهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ ، وَلَا يُبْطِلُ الِاعْتِكَافَ سِبَابٌ وَلَا جِدَالٌ وَلَا سُكْرٌ فِي اللَّيْلِ ، وَيُفْسِدُ الِاعْتِكَافَ الرِّدَّةُ وَالْإِغْمَاءُ إذَا دَامَ أَيَّامًا ، وَكَذَا الْجُنُونُ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ قَرِيبًا ، فَإِنْ تَطَاوَلَ الْجُنُونُ سِنِينَ ثُمَّ أَفَاقَ هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ ؟ فِي الْقِيَاسِ لَا كَمَا فِي صَوْمِ رَمَضَانَ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَقْضِي لِأَنَّ سُقُوطَ الْقَضَاءِ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ إنَّمَا كَانَ لِدَفْعِ الْحَرَجِ ، لِأَنَّ الْجُنُونَ إذَا طَالَ قَلَّمَا يَزُولُ فَيَتَكَرَّرُ عَلَيْهِ صَوْمُ رَمَضَانَ فَيُحْرَجُ فِي قَضَائِهِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَحَقَّقُ فِي الِاعْتِكَافِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصِحَابِهِ وَسَلَّمَ .

كِتَابُ الْحَجِّ

كِتَابُ الْحَجِّ أَخَّرَهُ عَنْ الصَّوْمِ لِأَنَّهُ عِبَادَةُ قَهْرِ النَّفْسِ ، إذْ لَيْسَ حَقِيقَتُهُ سِوَى مَنْعِ شَهَوَاتِهَا وَمَحْبُوبَاتِهَا الَّتِي هِيَ أَعْظَمُهَا عِنْدَهَا ، كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِهِمَا فَإِنَّ حَقِيقَتَهَا أَفْعَالٌ هِيَ غَيْرُ ذَلِكَ ، ثُمَّ قَدْ تَحْرُمُ تِلْكَ الشَّهَوَاتِ فِيهَا كَالصَّلَاةِ وَقَدْ لَا إلَّا فِي الْبَعْضِ كَالْحَجِّ ، وَشَتَّانَ مَا بَيْنَ الْمَقَامَيْنِ .
وَأَيْضًا فَالْحَجُّ يَشْتَمِلُ عَلَى السَّفَرِ .
وَقَدْ يَكُونُ السَّفَرُ مُشْتَهَاهَا لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْوِيحِهَا وَتَفْرِيجِ الْهُمُومِ اللَّازِمَةِ فِي الْمَقَامِ ، وَأَيْضًا فَالْحَجُّ وُجُوبُهُ مَرَّةً فِي الْعُمْرِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَرْكَانِ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ فَكَانَتْ الْحَاجَةُ إلَيْهَا أَمَسَّ ، وَوَجْهٌ آخَرُ لِلْأَمْسِيَةِ وَهُوَ أَنَّ شُرُوطَ لُزُومِ الْحَجِّ أَكْثَرُ مِنْ غَيْرِهِ ، وَبِكَثْرَةِ شُرُوطِ الشَّيْءِ تَكْثُرُ مُعَانَدَاتُهُ ، وَعَلَى قَدْرِ مُعَانَدَاتِ الشَّيْءِ يَقِلُّ وُجُودُهُ وَتَقْدِيمُ الْأَظْهَرِ وُجُوبًا أَظْهَرُ .
وَقَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَتَبَرَّكَ فِي افْتِتَاحِ هَذَا الرُّكْنِ بِحَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ .
فَإِنَّهُ أَصْلٌ كَبِيرٌ أَجْمَعُ حَدِيثٍ فِي الْبَابِ ، ثُمَّ نَذْكُرُ مُقَدِّمَةً فِي آدَابِ السَّفَرِ ، وَالْمَقْصُودُ إعَانَةُ الْإِخْوَانِ عَلَى تَحْصِيلِ الْمَقَاصِدِ تَامَّةً فَنَقُولُ ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَغَيْرُهُ كَابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالْبَزَّارُ وَالدَّارِمِيُّ فِي مَسَانِيدِهِمْ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ دَخَلْنَا عَلَى جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَسَأَلَ عَنْ الْقَوْمِ حَتَّى انْتَهَى إلَيَّ فَقُلْتُ : أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ .
فَأَهْوَى بِيَدِهِ إلَى رَأْسِي فَنَزَعَ زِرِّي الْأَعْلَى ، ثُمَّ نَزَعَ زِرِّي الْأَسْفَلَ ، ثُمَّ وَضَعَ كَفَّهُ بَيْنَ ثَدْيِي وَأَنَا يَوْمئِذٍ غُلَامٌ شَابٌّ فَقَالَ : مَرْحَبًا

بِك يَا ابْنَ أَخِي .
سَلْ عَمَّا شِئْت فَسَأَلْته وَهُوَ أَعْمَى ، وَحَضَرَ وَقْتُ الصَّلَاةِ فَقَامَ فِي نِسَاجَةٍ مُلْتَحِفًا بِهَا ، كُلَّمَا وَضَعَهَا عَلَى مَنْكِبَيْهِ رَجَعَ طَرَفَاهَا إلَيْهِ مِنْ صِغَرِهَا ، وَرِدَاؤُهُ إلَى جَنْبِهِ عَلَى الْمِشْجَبِ فَصَلَّى بِنَا فَقُلْتُ : أَخْبِرْنِي عَنْ حَجَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ بِيَدِهِ فَعَقَدَ تِسْعًا ، فَقَالَ : { إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَثَ تِسْعَ سِنِينَ لَمْ يَحُجَّ ، ثُمَّ أَذَّنَ فِي النَّاسِ فِي الْعَاشِرَةِ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاجٌّ ، فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ بَشَرٌ كَثِيرٌ كُلُّهُمْ يَلْتَمِسُ أَنْ يَأْتَمَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَعْمَلَ مِثْلَ عَمَلِهِ ، فَخَرَجْنَا مَعَهُ حَتَّى أَتَيْنَا ذَا الْحُلَيْفَةِ ، فَوَلَدَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَأَرْسَلَتْ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ أَصْنَعُ ؟ فَقَالَ : اغْتَسِلِي وَاسْتَثْفِرِي بِثَوْبٍ وَأَحْرِمِي ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ فِي الْمَسْجِدِ ، ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ حَتَّى إذَا اسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ عَلَى الْبَيْدَاءِ نَظَرْتُ إلَى مَدِّ بَصَرِي بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ رَاكِبٍ وَمَاشٍ ، وَعَنْ يَمِينِهِ مِثْلُ ذَلِكَ ، وَعَنْ يَسَارِهِ مِثْلُ ذَلِكَ ، وَمِنْ خَلْفِهِ مِثْلُ ذَلِكَ .
وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا وَعَلَيْهِ يَنْزِلُ الْقُرْآنُ وَهُوَ يَعْرِفُ تَأْوِيلَهُ وَمَا عَمِلَ بِهِ مِنْ شَيْءٍ عَمِلْنَا بِهِ فَأَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ : لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ ، إنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ ، لَا شَرِيكَ لَكَ ، وَأَهَلَّ النَّاسُ بِهَذَا الَّذِي يُهِلُّونَ بِهِ ، فَلَمْ يَرُدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَلَزِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلْبِيَتَهُ .
قَالَ جَابِرٌ لَسْنَا نَنْوِي إلَّا الْحَجَّ لَسْنَا

نَعْرِفُ الْعُمْرَةَ ، حَتَّى إذَا أَتَيْنَا الْبَيْتَ مَعَهُ اسْتَلَمَ الرُّكْنَ فَرَمَلَ ثَلَاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا ، ثُمَّ تَقَدَّمَ إلَى مَقَامِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَرَأَ { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } فَجَعَلَ الْمَقَامَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَكَانَ أَبِي يَقُولُ : وَلَا أَعْلَمُهُ ذَكَرَهُ إلَّا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وَ { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } ثُمَّ رَجَعَ إلَى الرُّكْنِ فَاسْتَلَمَهُ ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ الْبَابِ إلَى الصَّفَا ، فَلَمَّا دَنَا مِنْ الصَّفَا قَرَأَ { إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ ، فَبَدَأَ بِالصَّفَا فَرَقَى عَلَيْهِ ، حَتَّى رَأَى الْبَيْتَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَوَحَّدَ اللَّهَ وَكَبَّرَهُ وَقَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ .
ثُمَّ دَعَا بَيْنَ ذَلِكَ قَالَ مِثْلَ هَذَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، ثُمَّ نَزَلَ إلَى الْمَرْوَةِ ، حَتَّى إذَا انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ فِي بَطْنِ الْوَادِي رَمَلَ حَتَّى إذَا صَعِدَهَا مَشَى حَتَّى أَتَى الْمَرْوَةَ ، فَفَعَلَ عَلَى الْمَرْوَةِ كَمَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا ، حَتَّى إذَا كَانَ آخِرُ طَوَافٍ عَلَى الْمَرْوَةِ قَالَ : لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمْ أَسُقْ الْهَدْيَ وَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً ، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ لَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَحِلَّ وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً ، فَقَامَ سُرَاقَةُ بْنُ جُعْشُمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِأَبَدٍ ؟ فَشَبَّكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَابِعَهُ وَاحِدَةً فِي الْأُخْرَى فَقَالَ : دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ مَرَّتَيْنِ ، لَا بَلْ لِأَبَدِ أَبَدٍ .
وَقَدِمَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ الْيَمَنِ بِبُدْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ،

فَوَجَدَ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مِمَّنْ حَلَّ وَلَبِسَتْ ثِيَابًا صَبِيغًا وَاكْتَحَلَتْ ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهَا فَقَالَتْ : إنَّ أَبِي أَمَرَنِي بِهَذَا قَالَ : فَكَانَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْعِرَاقِ يَقُولُ : فَذَهَبْتُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَرِّشًا عَلَى فَاطِمَةَ لِلَّذِي صَنَعَتْ مُسْتَفْتِيًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا ذَكَرَتْ عَنْهُ ، فَأَخْبَرْتُهُ أَنِّي أَنْكَرْتُ ذَلِكَ عَلَيْهَا فَقَالَ : صَدَقَتْ صَدَقَتْ مَاذَا قُلْتَ حِينَ فَرَضْتَ الْحَجَّ ؟ قَالَ : قُلْتُ : اللَّهُمَّ إنِّي أُهِلُّ بِمَا أَهَلَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : فَإِنَّ مَعِي الْهَدْيَ فَلَا تَحِلُّ ، قَالَ : فَكَانَ جَمَاعَةُ الْهَدْيِ الَّذِي قَدِمَ بِهِ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ الْيَمَنِ ، وَاَلَّذِي أَتَى بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِائَةً قَالَ : فَحَلَّ النَّاسُ كُلُّهُمْ وَقَصَّرُوا إلَّا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ تَوَجَّهُوا إلَى مِنًى فَأَهَلُّوا بِالْحَجِّ ، وَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ ، ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلًا حَتَّى طَلَعَتْ الشَّمْسُ فَأَمَرَ بِقُبَّةٍ مِنْ شَعَرٍ تُضْرَبُ لَهُ بِنَمِرَةٍ ، فَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا تَشُكُّ قُرَيْشٌ إلَّا أَنَّهُ وَاقِفٌ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ كَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تَصْنَعُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، فَأَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةٍ فَنَزَلَ بِهَا حَتَّى إذَا زَاغَتْ الشَّمْسُ أَمَرَ بِالْقَصْوَاءِ فَرُحِلَتْ لَهُ ، فَأَتَى بَطْنَ الْوَادِي فَخَطَبَ النَّاسَ وَقَالَ : إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا ، أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمِي

مَوْضُوعٌ ، وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ ، وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دَمَ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ ، كَانَ مُسْتَرْضَعًا فِي بَنِي سَعْدٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ ، وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُهُ رِبَانَا رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ ، فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي النَّسَاءِ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ ، وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ ، فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ، وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إنْ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ كِتَابَ اللَّهِ ، وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ ؟ قَالُوا : نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ فَقَالَ : بِأُصْبُعِهِ السَّبَّابَةِ يَرْفَعُهَا إلَى السَّمَاءِ وَيُنَكِّثُهَا إلَى النَّاسِ : اللَّهُمَّ اشْهَدْ اللَّهُمَّ اشْهَدْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ أَذَّنَ ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ .
ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ ، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَتَى الْمَوْقِفَ ، فَجَعَلَ بَطْنَ نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ إلَى الصَّخَرَاتِ ، وَجَعَلَ حَبْلَ الْمُشَاةِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ وَذَهَبَتْ الصُّفْرَةُ قَلِيلًا حَتَّى غَابَ الْقُرْصُ وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ خَلْفَهُ ، وَدَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ شَنَقَ لِلْقَصْوَاءِ الزِّمَامَ حَتَّى إنَّ رَأْسَهَا لَيُصِيبُ مَوْرِكَ رَحْلِهِ ، وَيَقُولُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى : أَيُّهَا النَّاسُ السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ ، كُلَّمَا أَتَى جَبَلًا مِنْ الْجِبَالِ أَرْخَى لَهَا قَلِيلًا حَتَّى تَصْعَدَ حَتَّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ فَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ ، وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا شَيْئًا ثُمَّ اضْطَجَعَ رَسُولُ

اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ فَصَلَّى الْفَجْرَ حِينَ تَبَيَّنَ لَهُ الصُّبْحُ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ حَتَّى أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَدَعَاهُ وَكَبَّرَهُ وَهَلَّلَهُ وَوَحَّدَهُ ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا ، فَدَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ ، وَأَرْدَفَ الْفَضْلَ بْنَ الْعَبَّاسِ وَكَانَ رَجُلًا حَسَنَ الشَّعْرِ أَبْيَضَ وَسِيمًا ، فَلَمَّا دَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّتْ بِهِ ظُعُنٌ يَجْرِينَ فَطَفِقَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إلَيْهِنَّ ، فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ عَلَى وَجْهِ الْفَضْلِ فَحَوَّلَ الْفَضْلُ وَجْهَهُ إلَى الشِّقِّ الْآخَرِ يَنْظُرُ ، فَحَوَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ مِنْ الشِّقِّ الْآخَرِ عَلَى وَجْهِ الْفَضْلِ وَصَرَفَ وَجْهَهُ مِنْ الشِّقِّ الْآخَرِ يَنْظُرُ ، حَتَّى أَتَى بَطْنَ مُحَسِّرٍ فَحَرَّكَ قَلِيلًا ثُمَّ سَلَكَ الطَّرِيقَ الْوُسْطَى الَّتِي تَخْرُجُ عَلَى الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى ، حَتَّى أَتَى الْجَمْرَةَ الَّتِي عِنْدَ الشَّجَرَةِ فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا مِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ رَمَى مِنْ بَطْنِ الْوَادِي ثُمَّ انْصَرَفَ إلَى الْمَنْحَرِ فَنَحَرَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بَدَنَةً بِيَدِهِ ثُمَّ أَعْطَى عَلِيًّا فَنَحَرَ مَا غَبَرَ وَأَشْرَكَهُ فِي هَدْيِهِ ، ثُمَّ أَمَرَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِبَضْعَةٍ فَجُعِلَتْ فِي قِدْرٍ فَطُبِخَتْ فَأَكَلَا مِنْ لَحْمِهَا وَشَرِبَا مِنْ مَرَقِهَا ، ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَفَاضَ إلَى الْبَيْتِ فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ ، فَأَتَى بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَهُمْ يَسْقُونَ عَلَى زَمْزَمَ فَقَالَ : انْزِعُوا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، فَلَوْلَا أَنْ يَغْلِبَكُمْ النَّاسُ عَلَى سِقَايَتِكُمْ لَنَزَعْتُ مَعَكُمْ ، فَنَاوَلُوهُ دَلْوًا فَشَرِبَ مِنْهُ } .
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ : { نَحَرْتُ هَاهُنَا وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ ، فَانْحَرُوا فِي رِحَالِكُمْ ، وَوَقَفْتُ هَاهُنَا وَعَرَفَةُ كُلُّهَا

مَوْقِفٌ ، وَوَقَفْتُ هَاهُنَا وَجَمْعٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ } قَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ حِينَ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ : وَالْحِكْمَةُ فِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحَرَ بِيَدِهِ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بَدَنَةً أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ يَوْمئِذٍ ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ سَنَةً فَنَحَرَ لِكُلِّ سَنَةٍ بَدَنَةً ثُمَّ أَمَرَ عَلِيًّا بِالْبَاقِي فَنَحَرَهَا ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ الْمَوْعُودَةُ ] يُكْرَهُ الْخُرُوجُ إلَى الْحَجِّ إذَا كَرِهَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى خِدْمَتِهِ ، لَا إنْ كَانَ مُسْتَغْنِيًا وَالْأَجْدَادُ وَالْجَدَّاتُ كَالْأَبَوَيْنِ عِنْدَ فَقْدِهِمَا

وَيُكْرَهُ الْخُرُوجُ لِلْحَجِّ وَالْغَزْوِ لِمَدْيُونٍ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ يَقْضِي بِهِ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ الْغَرِيمُ ، فَإِنْ كَانَ بِالدَّيْنِ كَفِيلٌ بِإِذْنِهِ لَا يَخْرُجُ إلَّا بِإِذْنِهِمَا ، وَإِنْ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَبِإِذْنِ الطَّالِبِ وَحْدَهُ ، وَيُشَاوِرُ ذَا رَأْيٍ فِي سَفَرِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَا فِي نَفْسِ الْحَجِّ فَإِنَّهُ خَيْرٌ ، وَكَذَا يَسْتَخِيرُ اللَّهَ تَعَالَى فِي ذَلِكَ .
وَسُنَنُهَا أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ بِسُورَتَيْ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ وَالْإِخْلَاصِ ، وَيَدْعُو بِالدُّعَاءِ الْمَعْرُوفِ لِلِاسْتِخَارَةِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { اللَّهُمَّ إنِّي أَسْتَخِيرُك بِعِلْمِكَ } إلَخْ .
أَخْرَجَ الْحَاكِمُ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ اسْتِخَارَةُ اللَّهِ تَعَالَى ، وَمِنْ شِقْوَةِ ابْنِ آدَمَ تَرْكُهُ اسْتِخَارَةَ اللَّهِ تَعَالَى } ثُمَّ يَبْدَأُ بِالتَّوْبَةِ وَإِخْلَاصِ النِّيَّةِ وَرَدِّ الْمَظَالِمِ وَالِاسْتِحْلَالِ مِنْ خُصُومِهِ ، وَمِنْ كُلِّ مَنْ عَامَلَهُ ، وَيَجْتَهِدُ فِي تَحْصِيلِ نَفَقَةٍ حَلَالٍ ، فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ الْحَجُّ بِالنَّفَقَةِ الْحَرَامِ مَعَ أَنَّهُ يَسْقُطُ الْفَرْضُ مَعَهَا وَإِنْ كَانَتْ مَغْصُوبَةً .
وَلَا تَنَافِي بَيْنَ سُقُوطِهِ وَعَدَمِ قَبُولِهِ فَلَا يُثَابُ لِعَدَمِ الْقَبُولِ وَلَا يُعَاقَبُ فِي الْآخِرَةِ عِقَابَ تَارِكِ الْحَجِّ ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ رَفِيقٍ صَالِحٍ يُذَكِّرُهُ إذَا نَسِيَ ، وَيُصَبِّرُهُ إذَا جَزِعَ ، وَيُعِينُهُ إذَا عَجَزَ ، وَكَوْنُهُ مِنْ الْأَجَانِبِ أَوْلَى مِنْ الْأَقَارِبِ عِنْدَ بَعْضِ الصَّالِحِينَ تَبَعُّدًا مِنْ سَاحَةِ الْقَطِيعَةِ ، وَيُرِي الْمُكَارِيَ مَا يَحْمِلُهُ وَلَا يَحْمِلُ أَكْثَرَ مِنْهُ إلَّا بِإِذْنِهِ ، وَيُجَرِّدُ سَفَرَهُ عَنْ التِّجَارَةِ وَالرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ وَالْفَخْرِ ، وَلِذَا كَرِهَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الرُّكُوبَ فِي الْمَحْمَلِ .
وَقِيلَ لَا يُكْرَهُ إذَا تَجَرَّدَ عَنْ قَصْدِ ذَلِكَ ، وَرُكُوبُ الْجَمَلِ أَفْضَلُ ،

وَيُكْرَهُ الْحَجُّ عَلَى الْحِمَارِ ، وَالْمَشْيُ أَفْضَلُ مِنْ الرُّكُوبِ لِمَنْ يُطِيقُهُ ، وَلَا يُسِيءُ خُلُقُهُ ، وَلَا يُمَاكِسُ فِي شِرَاءِ الْأَدَوَاتِ ، وَلَا يُشَارِكُ فِي الزَّادِ ، وَاجْتِمَاعُ الرُّفْقَةِ كُلَّ يَوْمٍ عَلَى طَعَامِ أَحَدِهِمْ أَفْضَلُ .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْعَلَ خُرُوجَهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ اقْتِدَاءً بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَإِلَّا فَيَوْمُ الِاثْنَيْنِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ ، وَالشَّهْرِ ، وَيُوَدِّعُ أَهْلَهُ وَإِخْوَانَهُ وَيَسْتَحِلُّهُمْ وَيَطْلُبُ دُعَاءَهُمْ ، وَيَأْتِيهِمْ لِذَلِكَ وَهُمْ يَأْتُونَهُ إذَا قَدِمَ .
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ { أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ لِقَزَعَةَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ .
قَالَ لُقْمَانُ الْحَكِيمُ : إنَّ اللَّهَ إذَا اُسْتُوْدِعَ شَيْئًا حَفِظَهُ ، وَإِنِّي أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكَ وَأَمَانَتَكَ وَخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ ، وَأَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ وَيَقُولُ لَهُ : مَنْ يُوَدِّعُهُ عِنْدَ ذَلِكَ : فِي حِفْظِ اللَّهِ وَكَنَفِهِ زَوَّدَكَ اللَّهُ التَّقْوَى ، وَجَنَّبَكَ الرَّدَى ، وَغَفَرَ ذَنْبَكَ ، وَوَجَّهَكَ الْخَيْرَ أَيْنَمَا تَوَجَّهْتَ } وَرَوَى ابْنُ السُّنِّيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { مَنْ أَرَادَ أَنْ يُسَافِرَ فَلْيَقُلْ لِمَنْ يَخْلُفُهُ أَسْتَوْدِعُكَ اللَّهَ الَّذِي لَا يُضِيعُ وَدَائِعَهُ } وَاسْتَحَبَّ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنْ يُشَيَّعَ الْمُسَافِرُ بِالْمَشْيِ مَعَهُ وَالدُّعَاءِ لَهُ .
{ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَشَى مَعَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى بَقِيعِ الْغَرْقَدِ حِينَ وَجَّهَهُمْ ثُمَّ قَالَ : انْطَلِقُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ أَعِنْهُمْ } وَلْيَتَصَدَّقْ بِشَيْءٍ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ مَنْزِلِهِ وَبَعْدَهُ فِي ابْتِدَاءِ السَّفَرِ ، وَأَقَلُّهُ شُبْعَةٌ فَإِنَّهُ سَبَبُ السَّلَامَةِ .
وَإِذَا خَرَجَ مِنْ مَنْزِلِهِ فَلْيَقُلْ " اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ ، أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ ، أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ ، أَوْ أَجْهَلَ أَوْ

يُجْهَلَ عَلَيَّ " وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا أَرَادَ الْخُرُوجَ إلَى السَّفَرِ قَالَ : اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ ، وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ ، اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الضَّيْعَةِ فِي السَّفَرِ ، وَالْكَآبَةِ فِي الْمُنْقَلَبِ ، اللَّهُمَّ اقْبِضْ لَنَا الْأَرْضَ ، وَهَوِّنْ عَلَيْنَا السَّفَرَ } وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إذَا خَرَجَ الرَّجُلُ مِنْ بَيْتِهِ فَقَالَ : بِاسْمِ اللَّهِ تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ ، وَيُقَالُ لَهُ : هُدِيتَ وَكُفِيتَ وَوُقِيتَ فَيَتَنَحَّى عَنْهُ الشَّيْطَانُ } الْحَدِيثَ .
وَمِنْ الْآثَارِ { مَنْ قَرَأَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ قَبْلَ خُرُوجِهِ مِنْ مَنْزِلِهِ لَمْ يُصِبْهُ شَيْءٌ يَكْرَهُهُ حَتَّى يَرْجِعَ } قِيلَ وَلِإِيلَافِ قُرَيْشٍ وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { مَا خَلَّفَ أَحَدٌ عِنْدَ أَهْلِهِ أَفْضَلَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ يَرْكَعُهُمَا عِنْدَهُمْ حِينَ يُرِيدُ سَفَرًا ، } فَإِذَا بَلَغَ بَابَ دَارِهِ قَرَأَ { إنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } ، فَإِذَا أَرَادَ الرُّكُوبَ سَمَّى اللَّهَ ، فَإِذَا اسْتَوَى عَلَى دَابَّتِهِ قَالَ : مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ إذَا اسْتَوَى عَلَى بَعِيرِهِ خَارِجًا إلَى سَفَرٍ كَبَّرَ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ اللَّهُمَّ إنَّا نَسْأَلُكَ فِي سَفَرِنَا هَذَا الْبِرَّ وَالتَّقْوَى ، وَمِنْ الْعَمَلِ مَا تَرْضَى ، اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هَذَا ، وَاطْوِ عَنَّا بُعْدَهُ ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ ، وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ ، اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ ، وَكَآبَةِ الْمَنْظَرِ ، وَسُوءِ الْمُنْقَلَبِ فِي الْمَالِ وَالْأَهْلِ ، وَإِذَا رَجَعَ قَالَهُنَّ وَزَادَ فِيهِنَّ : آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ } وَإِذَا أَتَى بَلْدَةً فَلْيَقُلْ :

اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك مِنْ خَيْرِهَا وَخَيْرِ مَا فِيهَا ، وَأَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ أَهْلِهَا وَشَرِّ مَا فِيهَا ، وَإِذَا نَزَلَ مَنْزِلًا فَلْيَقُلْ { رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ } وَاذَا حَطَّ رَحْلَهُ فَلْيَقُلْ بِسْمِ اللَّهِ تَوَكَّلْت عَلَى اللَّهِ ، أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ كُلِّهَا مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَذَرَأَ وَبَرَأَ سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ اللَّهُمَّ أَعْطِنَا خَيْرَ هَذَا الْمُنْزَلِ وَخَيْرَ مَا فِيهِ ، وَاكْفِنَا شَرَّهُ وَشَرَّ مَا فِيهِ ، وَيَقُولُ فِي رَحِيلِهِ عَنْهُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانَا فِي مُنْقَلَبِنَا وَمَثْوَانَا ، اللَّهُمَّ كَمَا أَخْرَجْتنَا مِنْ مَنْزِلِنَا هَذَا سَالِمِينَ بَلِّغْنَا غَيْرَهُ آمِنِينَ ، وَإِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ فَلْيَقُلْ مَا فِي أَبِي دَاوُد { كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إذَا سَافَرَ فَأَقْبَلَ اللَّيْلُ قَالَ : يَا أَرْضُ رَبِّي وَرَبُّكِ اللَّهُ ، أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّكِ وَشَرِّ مَا فِيكِ ، وَشَرِّ مَا يَدِبُّ عَلَيْكِ ، وَأَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّ أَسَدٍ وَأَسْوَدَ وَمِنْ الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ وَمِنْ سَاكِنِ الْبَلَدِ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ } .
وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إذَا كَانَ فِي سَفَرٍ وَأَسْحَرَ يَقُولُ سَمِعَ سَامِعٌ بِحَمْدِ اللَّهِ ، وَحُسْنِ بَلَائِهِ عَلَيْنَا ، رَبَّنَا صَاحِبْنَا ، وَأَفْضِلْ عَلَيْنَا عَائِذًا بِاَللَّهِ مِنْ النَّارِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَزَادَ فِيهِ أَبُو دَاوُد { بِحَمْدِ اللَّهِ وَنِعْمَتِهِ } وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَزَادَ فِيهِ : { يَقُولُ ذَلِكَ ثَلَاثًا يَرْفَعُ بِهَا صَوْتَهُ } وَسَمِعَ بِكَسْرِ الْمِيمِ خَفِيفَةٌ أَيْ شَهِدَ شَاهِدٌ ، وَقِيلَ : بِفَتْحِهَا مُشَدَّدَةً : أَيْ بَلَّغَ سَامِعٌ قَوْلِي هَذَا لِغَيْرِهِ تَنْبِيهًا عَلَى طَلَبِ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ

، هَذَا وَلِلْحَجِّ مَفْهُومٌ لُغَوِيٌّ وَفِقْهِيٌّ ، وَسَبَبٌ وَشُرُوطٌ وَأَرْكَانٌ وَوَاجِبَاتٌ وَسُنَنٌ وَمُسْتَحَبَّاتٌ .
[ فَمَفْهُومُهُ ] لُغَةً : الْقَصْدُ إلَى مُعَظَّمٍ لَا الْقَصْدُ الْمُطْلَقُ .
قَالَ : أَلَمْ تَعْلَمِي يَا أُمَّ أَسْعَدَ أَنَّمَا تَخَاطَأَنِي رَيْبُ الزَّمَانِ لَأَكْبَرَا وَأَشْهَدُ مِنْ عَوْفٍ حُلُولًا كَثِيرَةً يَحُجُّونَ سِبَّ الزِّبْرِقَانِ الْمُزَعْفَرَا أَيْ يَقْصِدُونَهُ مُعَظِّمِينَ إيَّاهُ .
وَفِي الْفِقْهِ : قَصْدُ الْبَيْتِ لِأَدَاءِ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ ، أَوْ قَصْدُ زِيَارَتِهِ لِذَلِكَ .
فَفِيهِ مَعْنَى اللُّغَةِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ الْأَفْعَالِ الْمَخْصُوصَةِ مِنْ الطَّوَافِ الْفَرْضِ ، وَالْوُقُوفِ فِي وَقْتِهِ مُحْرِمًا بِنِيَّةِ الْحَجِّ ، سَابِقًا .
لِأَنَّا نَقُولُ : أَرْكَانُهُ اثْنَانِ : الطَّوَافُ وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ ، وَلَا وُجُودَ لِلشَّخْصِ إلَّا بِأَجْزَائِهِ الشَّخْصِيَّةِ وَمَاهِيَّتِهِ الْكُلِّيَّةِ إنَّمَا هِيَ مُنْتَزِعَةٌ مِنْهَا ؛ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَا ذَكَرُوا مَفْهُومَ الِاسْمِ فِي الْعُرْفِ ، وَقَدْ وُضِعَ لِغَيْرِ نَفْسِ الْمَاهِيَّةِ فَيَكُونُ تَعْرِيفًا اسْمِيًّا غَيْرَ حَقِيقِيٍّ ، لَكِنَّ الشَّأْنَ فِي أَنَّ أَهْلَ الْعُرْفِ الْفِقْهِيِّ وَضَعُوا لَهُ الِاسْمَ لِغَيْرِ الْمَاهِيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ ، فَإِنَّ مُعَرَّفَ ذَلِكَ حَيْثُ لَا نَقْلَ عَنْ خُصُوصٍ نَاقِلٍ لِلِاسْمِ إلَى ذَلِكَ هُوَ مَا يَتَبَادَرُ مِنْهُ عِنْدَ إطْلَاقِهِ ، وَالْمُتَبَادَرُ مِنْهُ الْأَعْمَالُ الْمَخْصُوصَةُ لَا نَفْسَ الْقَصْدِ لِأَجْلِ الْأَعْمَالِ الْمُخْرَجِ لَهَا عَنْ الْمَفْهُومِ مَعَ أَنَّهُ فَاسِدٌ فِي نَفْسِهِ ، فَإِنَّهُ لَا يَشْمَلُ الْحَجَّ النَّفَلَ لِتَقْيِيدِهِ بِأَدَاءِ رُكْنِ الدِّينِ فَهُوَ غَيْرُ جَامِعٍ ، وَالتَّعْرِيفُ لِلْحَجِّ مُطْلَقًا لِيَنْطَبِقَ عَلَى فَرْضِهِ وَنَفْلِهِ كَمَا هُوَ تَعْرِيفُ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَغَيْرِهِمَا ، وَلِأَنَّهُ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ يُخَالِفُ سَائِرَ أَسْمَاءِ الْعِبَادَاتِ السَّابِقَةِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالزَّكَاةِ فَإِنَّهَا أَسْمَاءٌ لِلْأَفْعَالِ كَمَا يُقَالُ : الصَّلَاةُ عِبَارَةٌ عَنْ الْقِيَامِ

وَالْقِرَاءَةِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ إلَخْ ، وَالصَّوْمُ هُوَ الْإِمْسَاكُ إلَخْ ، وَهُوَ فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِ النَّفْسِ .
وَالزَّكَاةُ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ عِبَارَةٌ عَنْ نَفْسِ أَدَاءِ الْمَالِ الَّذِي هُوَ فِعْلُ الْمُكَلَّفِ .
فَلْيَكُنْ الْحَجُّ أَيْضًا عِبَارَةً عَنْ الْأَفْعَالِ الْكَائِنَةِ عِنْدَ الْبَيْتِ وَغَيْرِهِ كَعَرَفَةَ ، وَقَدْ انْدَرَجَ فِيمَا ذَكَرْنَا بَيَانُ أَرْكَانِهِ .
.

[ وَسَبَبُهُ ] الْبَيْتُ ، لِأَنَّهُ يُضَافُ إلَيْهِ .

[ وَشَرَائِطُهُ نَوْعَانِ ] شَرْطُ الْوُجُوبِ وَالْأَدَاءِ .
وَالثَّانِي الْإِحْرَامُ وَالْمَكَانُ وَالزَّمَانُ الْمَخْصُوصُ حَتَّى لَا يَجُوزَ شَيْءٌ مِنْ أَفْعَالِهِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ .
وَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ بَدَلَ الْإِحْرَامِ النِّيَّةَ ، وَهَذَا أَوْلَى لِاسْتِلْزَامِهِ النِّيَّةَ وَغَيْرَهَا عَلَى مَا سَيَظْهَرُ لَك إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

وَشَرْطُ وُجُوبِهِ : الْإِسْلَامُ ، حَتَّى لَوْ مَلَكَ مَا بِهِ الِاسْتِطَاعَةُ حَالَ كُفْرِهِ ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدَمَا افْتَقَرَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ بِتِلْكَ الِاسْتِطَاعَةِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ مَلَكَهُ مُسْلِمًا فَلَمْ يَحُجَّ حَتَّى افْتَقَرَ حَيْثُ يَتَقَرَّرُ الْحَجُّ فِي ذِمَّتِهِ دَيْنًا عَلَيْهِ ، وَالْحُرِّيَّةُ وَالْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ وَالْوَقْتُ أَيْضًا ، فَلَا يَجِبُ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ ، حَتَّى لَوْ مَلَكَ مَا بِهِ الِاسْتِطَاعَةُ قَبْلَهَا كَانَ فِي سَعَةٍ مِنْ صَرْفِهَا إلَى غَيْرِهِ ، وَأَفَادَ هَذَا قَيْدًا فِي صَيْرُورَتِهِ دَيْنًا إذَا افْتَقَرَ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَالِكًا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَلَمْ يَحُجَّ .
وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ : إذَا كَانَ قَادِرًا وَقْتَ خُرُوجِ أَهْلِ بَلَدِهِ إنْ كَانُوا يَخْرُجُونَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ لِبُعْدِ الْمَسَافَةِ ، أَوْ قَادِرًا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ إنْ كَانُوا يَخْرُجُونَ فِيهَا وَلَمْ يَحُجَّ حَتَّى افْتَقَرَ تَقَرَّرَ دَيْنًا ، وَإِنْ مَلَكَ فِي غَيْرِهَا وَصَرَفَهَا إلَى غَيْرِهِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَاقْتَصَرَ فِي الْيَنَابِيعِ عَلَى الْأَوَّلِ فَقَالَ : وَلَا يَجِبُ إلَّا عَلَى الْقَادِرِ وَقْتَ خُرُوجِ أَهْلِ بَلَدِهِ ، فَإِنْ مَلَكَهَا قَبْلَ أَنْ يَتَأَهَّبَ أَهْلُ بَلَدِهِ لِلْخُرُوجِ فَهُوَ فِي سَعَةٍ مِنْ صَرْفِهَا حَيْثُ شَاءَ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ التَّأَهُّبُ فِي الْحَالِ ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى لِأَنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ مَلَكَ فِي أَوَائِلِ الْأَشْهُرِ وَهُمْ يَخْرُجُونَ فِي أَوَاخِرِهَا جَازَ لَهُ إخْرَاجُهَا ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ .
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْمَبْسُوطِ مَا يُفِيدُ أَنَّ الْوَقْتَ شَرْطُ الْأَدَاءِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، فَإِنَّهُ نَقَلَ مِنْ اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ : أَنَّ نَصْرَانِيًّا لَوْ أَسْلَمَ وَصَبِيًّا لَوْ بَلَغَ فَمَاتَا قَبْلَ إدْرَاكِ الْوَقْتِ ، وَأَوْصَى كُلٌّ مِنْهُمَا أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ فَوَصِيَّتُهُمَا بَاطِلَةٌ عِنْدَ زُفَرَ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَلْزَمْهُمَا بِأَنْ يُحَجَّ عَنْهُمَا قَبْلَ إدْرَاكِ الْوَقْتِ ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ : تَصِحُّ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ قَدْ

تَقَرَّرَ فِي حَقِّهِمَا ، وَالْوَقْتُ شَرْطُ الْأَدَاءِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ نَذْكُرُهُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

[ وَوَاجِبَاتُهُ ] إنْشَاءُ الْإِحْرَامِ مِنْ الْمِيقَاتِ أَوْ مَا فَوْقَهُ مَا لَمْ يَخْشَ الْوُقُوعَ فِي مَحْظُورِهِ لِكَثْرَةِ الْبُعْدِ ، وَمَدُّ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ إلَى الْغُرُوبِ ، وَالْوُقُوفُ بِمُزْدَلِفَةَ ، وَالسَّعْيُ ، وَرَمْيُ الْجِمَارِ ، وَالْحَلْقُ أَوْ التَّقْصِيرُ ، وَطَوَافُ الصَّدْرِ لِلْآفَاقِيِّ .

وَأَمَّا سُنَنُهُ ] فَطَوَافُ الْقُدُومِ ، وَالرَّمَلُ فِيهِ ، أَوْ فِي الطَّوَافِ الْفَرْضِ ، وَالسَّعْيُ بَيْنَ الْمِيلَيْنِ الْأَخْضَرَيْنِ جَرْيًا ، وَالْبَيْتُوتَةُ بِمِنًى لَيَالِي أَيَّامِ مِنًى ، وَالدَّفْعُ مِنْ مِنًى إلَى عَرَفَةَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ، وَمِنْ مُزْدَلِفَةَ إلَى مِنًى قَبْلَهَا ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا سَتَقِفُ عَلَيْهِ فِي أَثْنَاءِ الْبَابِ .

[ وَأَمَّا مَحْظُورَاتُهُ فَنَوْعَانِ ] مَا يَفْعَلُهُ فِي نَفْسِهِ وَهُوَ الْجِمَاعُ ، وَإِزَالَةُ الشَّعْرِ ، وَقَلْمُ الْأَظْفَارِ ، وَالتَّطَيُّبُ ، وَتَغْطِيَةُ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ ، وَلُبْسُ الْمَخِيطِ .
وَمَا يَفْعَلُهُ فِي غَيْرِهِ وَهُوَ حَلْقُ رَأْسِ الْغَيْرِ ، وَالتَّعَرُّضُ لِلصَّيْدِ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ .
وَأَمَّا قَطْعُ شَجَرِ الْحَرَمِ كَمَا فِي النِّهَايَةِ مَنْقُولًا فَلَا يَنْبَغِي عَدُّهُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ، فَإِنَّ حُرْمَتَهُ لَا تُعَلَّقُ بِالْحَجِّ وَلَا الْإِحْرَامِ

( الْحَجُّ وَاجِبٌ عَلَى الْأَحْرَارِ الْبَالِغِينَ الْعُقَلَاءِ الْأَصِحَّاءِ إذَا قَدَرُوا عَلَى الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ فَاضِلًا عَنْ الْمَسْكَنِ وَمَا لَا بُدَّ مِنْهُ ، وَعَنْ نَفَقَةِ عِيَالِهِ إلَى حِينِ عَوْدِهِ وَكَانَ الطَّرِيقُ آمِنًا )

( قَوْلُهُ عَلَى الْأَحْرَارِ إلَخْ ) وَفِي النِّهَايَةِ : إنَّمَا ذَكَرَ الْأَحْرَارَ وَمَا بَعْدَهُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ مَعَ أَنَّهُ مُحَلًّى بِاللَّامِ وَالْمُحَلَّى يَبْطُلُ فِيهِ مَعْنَى الْجَمْعِيَّةِ ، وَلَمْ يُفْرِدْ كَمَا أَفْرَدَ فِي قَوْلِهِ الزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ عَلَى الْحُرِّ ، إخْرَاجًا لِلْكَلَامِ مَخْرَجَ الْعَادَةِ فِي إرَادَةِ الْجَمْعِيَّةِ ، إذْ الْعَادَةُ جَرَتْ وَقْتَ خُرُوجِهِمْ بِالْجَمَاعَةِ الْكَثِيرَةِ مِنْ الرُّفَقَاءِ ، بِخِلَافِ الزَّكَاةِ فَإِنَّ الْإِخْفَاءَ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْإِبْدَاءِ .
قَالَ تَعَالَى { وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } أَوْ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُنَا أَعَمُّ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ نَظَرًا إلَى السَّبَبِ ، فَإِنَّ سَبَبَهُ الْبَيْتُ وَهُوَ ثَابِتٌ فِي حَقِّ الْكُلِّ ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِالْوُجُوبِ عَلَى كُلِّ صَحِيحٍ مُكْتَسِبٍ ، بِخِلَافِ الزَّكَاةِ فَإِنَّ سَبَبَهَا النِّصَابُ النَّامِي ، وَهُوَ يَتَحَقَّقُ فِي حَقِّ شَخْصٍ دُونَ شَخْصٍ ، فَكَانَتْ إرَادَةُ زِيَادَةِ التَّعْمِيمِ هُنَا أَوْفَقَ ، فَلِذَا أَتَى بِصِيغَةِ الْجَمْعِ مَعَ حَرْفِ الِاسْتِغْرَاقِ ا هـ .
وَحَاصِلُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ أَرَادَ مَعْنَى الْجَمْعِ وَإِنْ كَانَ مَعَ اللَّامِ ، وَالدَّاعِي إلَى ذَلِكَ اجْتِمَاعُ الْمُكَلَّفِينَ فِي الْخُرُوجِ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ لَا يُفَادُ مَعْنَى الِاجْتِمَاعِ إذْ لَيْسَ الِاجْتِمَاعُ مِنْ أَجْزَاءِ مَفْهُومِ لَفْظِ الْجَمْعِ وَلَا لَوَازِمِهِ ، بَلْ مُجَرَّدُ الْمُتَعَدِّدِ مِنْ الثَّلَاثَةِ فَصَاعِدًا ، وَلِذَا لَا يَلْزَمُ فِي قَوْلِك جَاءَنِي الرِّجَالُ اجْتِمَاعُهُمْ فِي الْمَجِيءِ فَانْتَفَى هَذَا الدَّاعِي ، ثُمَّ قَوْلُهُ : إنَّ الْإِخْفَاءَ فِي الزَّكَاةِ أَفْضَلُ يُخَالِفُ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّ الْأَفْضَلَ فِي الصَّدَقَةِ النَّافِلَةِ الْإِخْفَاءُ ، وَالْمَفْرُوضَةِ كَالزَّكَاةِ الْإِظْهَارُ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَثُبُوتُ السَّبَبِ فِي حَقِّ الْكُلِّ إنْ كَانَ بِاعْتِبَارِ وُجُودِهِ فِي الْخَارِجِ فَالنِّصَابُ أَيْضًا ثَابِتٌ لِذَلِكَ لِتَحَقُّقِ وُجُودِهِ فِي الْخَارِجِ ، وَإِنْ كَانَ بِاعْتِبَارِ سَبَبِيَّتِهِ فَلَنَا أَنْ

نَمْنَعَ ، فَإِنَّ سَبَبِيَّتَهُ بِمُوجِبِيَّتِهِ الْحُكْمَ وَهُوَ لَا يُوجِبُ الْحُكْمَ فِي حَقِّ الْكُلِّ بَلْ فِي حَقِّ مَنْ اتَّصَفَ بِالشُّرُوطِ مَعَ تَحَقُّقِ بَاقِي الشُّرُوطِ الَّتِي يُشْتَرَطُ وُجُودُهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَأَمْنِ الطَّرِيقِ ، فَحَقِيقَةُ الْوُجُوبِ شَرْطُ سَبَبِيَّةِ السَّبَبِ لِلْمُتَأَمِّلِ ، فَكَانَ كَالنِّصَابِ بَلْ مَحَلُّ الْوُجُوبِ فِي الزَّكَاةِ أَوْسَعُ ، لِأَنَّ الشُّرُوطَ فِي الْحَجِّ أَكْثَرُ مِنْهَا فِي الزَّكَاةِ ، وَتَوْسِعَةُ التَّفْصِيلِ مِمَّا يُوجِبُ التَّطْوِيلَ ، وَبِالْمُتَأَمِّلِ غِنًى عَنْهُ بَعْدَ فَتْحِ بَابِ التَّأَمُّلِ لَهُ ، فَكَانَ عَلَى هَذَا إرَادَةُ زِيَادَةِ التَّعْمِيمِ فِي الزَّكَاةِ أَوْلَى .
ثُمَّ بَعْدَ التَّسْلِيمِ كُلُّ ذَلِكَ فَزِيَادَةُ التَّعْمِيمِ بِالْجَمْعِ الْمُحَلَّى بِاللَّامِ عَلَى الْمُفْرَدِ الْمُحَلَّى بِاللَّامِ مَمْنُوعٌ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ كَلَامِ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَنَّ اسْتِغْرَاقَ الْمُفْرَدِ أَشْمَلُ ، وَإِنْ أَرَادَ بِالِاسْتِغْرَاقِ الِاجْتِمَاعَ فَفِيهِ مَا عَلِمْت مَعَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إرَادَتُهُ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ .
( قَوْلُهُ إذَا قَدَرُوا عَلَى الزَّادِ ) بِنَفَقَةِ وَسَطٍ لَا إسْرَافَ فِيهَا وَلَا تَقْتِيرَ ( وَالرَّاحِلَةِ ) أَيْ بِطَرِيقِ الْمِلْكِ أَوْ الْإِجَارَةِ دُونَ الْإِعَارَةِ ، وَالْإِبَاحَةُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ .
وَلَوْ وُهِبَ لَهُ مَالٌ لِيَحُجَّ بِهِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَبُولُهُ سَوَاءٌ كَانَ الْوَاهِبُ مِمَّنْ تُعْتَبَرُ مِنَّتُهُ كَالْأَجَانِبِ ، أَوْ لَا تُعْتَبَرُ كَالْأَبَوَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ ، وَأَصْلُهُ أَنَّ الْقُدْرَةَ بِالْمِلْكِ هِيَ الْأَصْلُ فِي تَوْجِيهِ الْخِطَابِ فَقَبْلَ الْمِلْكِ لِمَا بِهِ الِاسْتِطَاعَةُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ( قَوْلُهُ فَاضِلًا ) حَالٌ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ ( عَنْ الْمَسْكَنِ وَمَا لَا بُدَّ مِنْهُ ) يَعْنِي مِنْ غَيْرِهِ كَفَرَسِهِ وَسِلَاحِهِ وَثِيَابِهِ مَرَّتَيْنِ خُصُوصًا ، وَفِي ضِمْنِ الْعُمُومِ ، وَعَلَى الْإِيضَاحِ بَعْدَ الْإِبْهَامِ الْمُفِيدِ لِلتَّفْخِيمِ ، وَكَذَا وَضْعُ مَنْ كَفَرَ مَكَانَ مَنْ لَمْ يَحُجَّ إلَى

آخِرِ مَا عُرِفَ فِي الْكَشَّافِ

( وَلَا يَجِبُ فِي الْعُمْرِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً ) لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قِيلَ لَهُ { الْحَجُّ فِي كُلِّ عَامٍ أَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً ؟ فَقَالَ لَا بَلْ مَرَّةً وَاحِدَةً فَمَا زَادَ فَهُوَ تَطَوُّعٌ } وَلِأَنَّ سَبَبَهُ الْبَيْتُ وَأَنَّهُ لَا يَتَعَدَّدُ فَلَا يَتَكَرَّرُ الْوُجُوبُ .

( قَوْلُهُ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَخْ ) كَانَ يَكْفِي لِنَفْيِ التَّكَرُّرِ كَوْنُ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ لَا يُفِيدُهُ فَلَا مُوجِبَ لِلتَّكَرُّرِ ، لَكِنَّ حَاصِلَهُ نَفْيُ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ وُجُوبُ التَّكَرُّرِ لِنَفْيِ الدَّلِيلِ ، وَهُوَ وَإِنْ كَفَى فِي نَفْيِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ لَكِنْ إثْبَاتُ النَّفْيِ مُقْتَضَى النَّفْيِ أَقْوَى فَلِذَا أَثْبَتَهُ بِالدَّلِيلِ الْمُقْتَضِي لَهُ ، وَهُوَ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قِيلَ لَهُ { الْحَجُّ فِي كُلِّ عَامٍ } إلَخْ .
رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فُرِضَ عَلَيْكُمْ الْحَجُّ فَحُجُّوا ، فَقَالَ رَجُلٌ : أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ ، ثُمَّ قَالَ : ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ } فَقَوْلُهُ { لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ } يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ وُجُوبِ التَّكَرُّرِ مِنْ وَجْهَيْنِ لِإِفَادَةِ لَوْ هُنَا امْتِنَاعَ نَعَمْ ، فَيَلْزَمُهُ ثُبُوتُ نَقِيضِهِ وَهُوَ لَا ، وَالتَّصْرِيحُ بِنَفْيِ الِاسْتِطَاعَةِ أَيْضًا .
وَقَدْ رُوِيَ مُفَسَّرًا وَمُبَيَّنًا فِيهِ الرَّجُلَ الْمُبْهَمَ .
أَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي سُنَنِهِ وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَقَالَ : حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سِنَانٍ يَزِيدَ بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَفْظُهُ قَالَ { خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ اللَّهَ قَدْ كَتَبَ عَلَيْكُمْ الْحَجَّ ،

فَقَامَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ فَقَالَ : أَفِي كُلِّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : لَوْ قُلْتُهَا لَوَجَبَتْ وَلَمْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْمَلُوا بِهَا ، الْحَجُّ مَرَّةٌ فَمَنْ زَادَ فَتَطَوُّعٌ } وَرَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ بِهِ وَصَحَّحَهُ ( قَوْلُهُ وَأَنَّهُ لَا يَتَعَدَّدُ فَلَا يَتَكَرَّرُ الْوُجُوبُ ) وَأَمَّا تَكَرُّرُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ مَعَ اتِّحَادِ الْمَالِ فَلِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ النَّامِي تَقْدِيرًا وَتَقْدِيرُ النَّمَاءِ دَائِرٌ مَعَ حَوَلَانِ الْحَوْلِ إذَا كَانَ الْمَالُ مُعَدًّا لِلِاسْتِنْمَاءِ فِي الزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ ، وَتَقْدِيرُ النَّمَاءِ الثَّابِتِ فِي هَذَا الْحَوْلِ غَيْرُ تَقْدِيرِ نَمَاءٍ فِي حَوْلٍ آخَرَ ، فَالْمَالُ مَعَ هَذَا النَّمَاءِ غَيْرُ الْمَجْمُوعِ مِنْهُ وَمِنْ النَّمَاءِ الْآخَرِ فَيَتَعَدَّدُ حُكْمًا فَيَتَعَدَّدُ الْوُجُوبُ لِتَعَدُّدِ النِّصَابِ .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78