كتاب : فتح القدير
المؤلف : كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي

نَقَلَهُ مِنْ الْعَجَائِبِ ؛ لِأَنَّ مَا اسْتَقْبَحَهُ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ إنَّمَا هُوَ الْفَصْلُ بِالْبَابِ لَا ذِكْرُ الْيَمِينِ بَعْدَ الْبَيِّنَةِ ، كَيْفَ وَقَدْ قَالَ : بَلْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَسُوقَ الْكَلَامَ مُتَوَالِيًا ، فَمَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ مِمَّا لَا مِسَاسَ لَهُ بِدَفْعِ مَا اسْتَقْبَحَهُ صَاحِبُ الْغَايَةِ فَكَأَنَّهُ مَا فَهِمَ مَعْنَى صَرِيحِ كَلَامِهِ .
ثُمَّ أَقُولُ فِي دَفْعِ ذَلِكَ : إنَّ إفْرَادَ بَعْضِ الْمَسَائِلِ مِنْ بَيْنِ أَخَوَاتِهَا بِوَضْعِ بَابٍ مُسْتَقِلٍّ لَهَا أَوْ كِتَابٍ أَوْ فَصْلٍ لِكَثْرَةِ مَبَاحِثِهَا وَأَحْكَامِهَا ، أَوْ لِتَعَلُّقِ غَرَضٍ آخَرَ بِاسْتِقْلَالِهَا كَإِفْرَادِ الطَّهَارَةِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ شُرُوطِ الصَّلَاةِ بِوَضْعِ كِتَابٍ مُسْتَقِلٍّ لَهَا وَغَيْرِهَا مِمَّا لَهُ بَابٌ مُسْتَقِلٌّ أَوْ فَصْلٌ مُسْتَقِلٌّ شَائِعٌ ذَائِعٌ فِيمَا بَيْنَهُمْ ، وَهَذَا الْبَابُ أَيْضًا مِنْ ذَلِكَ الْقَبِيلِ ، وَلِهَذَا تَرَى الثِّقَاتِ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ الْمُعْتَبَرَةِ مِنْ الْفَتَاوَى وَغَيْرِهَا جَرَوْا عَلَى إفْرَادِ مَسَائِلِ الْيَمِينِ بِبَابٍ أَوْ فَصْلٍ مُسْتَقِلٍّ فَلَيْسَ مَا صَنَعَهُ الْمُصَنِّفُ هَاهُنَا بِمَحَلِّ اسْتِقْبَاحٍ وَلَا اسْتِبْعَادٍ كَمَا لَا يَخْفَى ( وَإِذَا قَالَ الْمُدَّعِي لِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ وَطَلَبَ الْيَمِينَ لَمْ يُسْتَحْلَفْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( مَعْنَاهُ حَاضِرَةً فِي الْمِصْرِ ) أَيْ مَعْنَى قَوْلِ الْقُدُورِيِّ : إذَا قَالَ الْمُدَّعِي لِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ فِي الْمِصْرِ .
وَاحْتُرِزَ بِهَذَا الْقَيْدِ عَنْ الْبَيِّنَةِ الْحَاضِرَةِ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ ، فَإِنَّ الْبَيِّنَةَ إذَا حَضَرَتْ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ لَمْ يُسْتَحْلَفْ بِالِاتِّفَاقِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ ( فِيمَا سَيَأْتِي ) كَمَا إذَا كَانَتْ الْبَيِّنَةُ حَاضِرَةً فِي الْمَجْلِسِ ، وَاحْتُرِزَ بِقَوْلِهِ ( حَاضِرَةً ) عَنْ الْبَيِّنَةِ الْغَائِبَةِ عَنْ الْغَائِبَةِ عَنْ الْمِصْرِ ، فَإِنَّهَا إذَا غَابَتْ عَنْ الْمِصْرِ يُسْتَحْلَفُ بِالِاتِّفَاقِ ، ثُمَّ إنَّ الظَّاهِرَ كَانَ أَنْ يَقْرِنَ

الْمُصَنِّفُ قَوْلَهُ ( مَعْنَاهُ حَاضِرَةً فِي الْمِصْرِ ) بِذِكْرِ قَوْلِ الْقُدُورِيِّ ( إذَا قَالَ الْمُدَّعِي لِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ ) ( وَقَدْ أَخَّرَهُ عَنْ ذِكْرِ قَوْلِهِ ) وَطَلَبَ الْيَمِينَ لَمْ يُسْتَحْلَفْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَمْرَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُصَنِّفَ اسْتَقْبَحَ قَطْعَ كَلَامِ الْقُدُورِيِّ بِكَلَامِ نَفْسِهِ فَانْتَظَرَ أَنْ يَتِمَّ جَوَابُ مَسْأَلَةِ الْقُدُورِيِّ ثُمَّ فَسَّرَ مُرَادَهُ بِالْحُضُورِ فِي الْمِصْرِ .
وَثَانِيهمَا أَنَّ فَائِدَةَ هَذَا التَّفْسِيرِ الِاحْتِرَازُ عَنْ صُورَةِ الْحُضُورِ فِي الْمَجْلِسِ حَيْثُ كَانَ عَدَمُ الِاسْتِحْلَافِ هُنَاكَ بِالِاتِّفَاقِ وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ بِالِاخْتِلَافِ ، فَمَا لَمْ يُذْكَرْ الْقَوْلُ الْمُشْعِرُ بِالْخِلَافِ فِي مَسْأَلَتِنَا وَهُوَ قَوْلُ الْقُدُورِيِّ : لَمْ يُسْتَحْلَفْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، لَمْ تَظْهَرْ فَائِدَةُ هَذَا التَّفْسِيرِ ، فَاقْتَضَى هَذَا السِّرُّ تَأْخِيرَ الْمُصَنِّفِ قَوْلَهُ الْمَزْبُورَ عَنْ ذِكْرِ قَوْلِ الْقُدُورِيِّ لَمْ يُسْتَحْلَفْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يُسْتَحْلَفُ لِأَنَّ الْيَمِينَ حَقُّهُ ) أَيْ حَقُّ الْمُدَّعِي ( بِالْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ ) فَسَّرَ عَامَّةُ الشُّرَّاحِ الْحَدِيثَ الْمَعْرُوفَ بِمَا مَرَّ قُبَيْلَ هَذَا الْبَابِ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَك يَمِينُهُ } وَلَكِنْ قَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ بَعْدَمَا فَسَّرَ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِالْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ بِمَا فَسَّرَ بِهِ سَائِرُ الشُّرَّاحِ : وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ } أَقُولُ : لَا يَذْهَبُ عَلَى مَنْ تَتَبَّعَ أَسَالِيبَ تَحْرِيرِ الْمُصَنِّفِ فِي كِتَابِهِ هَذَا أَنَّهُ يُعَبِّرُ عَنْ الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ فِيمَا قَبْلُ بِمَا رَوَيْنَا كَمَا يُعَبِّرُ عَنْ الْآيَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا فِيمَا قَبْلُ بِمَا تَلَوْنَا ، وَعَنْ الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ الَّذِي ذَكَرَهُ فِيمَا قَبْلُ بِمَا ذَكَرْنَا ، فَلَوْ كَانَ مُرَادُهُ بِالْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ مَا

ذَكَرَهُ فِيمَا قَبْلُ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَك يَمِينُهُ لَمَا عَدَلَ عَنْ أُسْلُوبِهِ الْمُقَرَّرِ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ كَيْفَ جَرَى عَلَى ذَلِكَ الْأُسْلُوبِ فِي ذِكْرِ دَلِيلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ حَيْثُ قَالَ : إنَّ ثُبُوتَ الْحَقِّ فِي الْيَمِينِ مُرَتَّبٌ عَلَى الْعَجْزِ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ بِمَا رَوَيْنَا مُرِيدًا بِهِ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ فِيمَا قَبْلُ .
فَالْحَقُّ أَنَّ مُرَادَهُ بِالْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ إنَّمَا هُوَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ } أَيْ مَا جَوَّزَهُ صَاحِبُ الْغَايَةِ لَا غَيْرُ .
وَيُؤَيِّدُهُ تَحْرِيرُ صَاحِبِ الْكَافِي هَاهُنَا حَيْثُ قَالَ : وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : يُسْتَحْلَفُ لِعُمُومِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ } انْتَهَى .
فَإِنْ قُلْت : الَّذِي حَمَلَ الشُّرَّاحَ عَلَى تَفْسِيرِهِمْ الْحَدِيثَ الْمَعْرُوفَ بِمَا ذُكِرَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ لِأَنَّ الْيَمِينَ حَقُّهُ ، فَإِنَّ كَوْنَ الْيَمِينِ حَقَّ الْمُدَّعِي يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَك يَمِينُهُ } حَيْثُ أَضَافَ إلَيْهِ الْيَمِينَ فَاللَّامُ الْمِلْكِ وَالِاخْتِصَاصِ .
قُلْت : نَعَمْ وَلَكِنْ يُفْهَمُ ذَلِكَ أَيْضًا مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ } فَإِنَّ كَلِمَةَ عَلَى فِي قَوْلِهِ { عَلَى مَنْ أَنْكَرَ } تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُنْكِرَ هُوَ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ بِالْيَمِينِ فَالْمُسْتَحِقُّ لَهُ هُوَ الْمُدَّعِي .
نَعَمْ انْفِهَامُهُ مِنْ الْأَوَّلِ أَظْهَرُ ، لَكِنْ هَذَا لَا يُوجِبُ حَمْلَ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى خِلَافِ مَا جَرَتْ عَلَيْهِ عَادَتُهُ الْمُطَّرِدَةُ ( فَإِذَا طَالَبَهُ بِهِ يُجِيبُهُ ) أَيْ إذَا طَالَبَ الْمُدَّعِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْيَمِينِ يُجِيبُ الْقَاضِي الْمُدَّعِيَ : أَيْ يَحْكُمُ لَهُ بِيَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوْ يُجِيبُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْمُدَّعِيَ : أَيْ

يَحْلِفُ ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ ثُبُوتَ الْحَقِّ فِي الْيَمِينِ مُرَتَّبٌ عَلَى الْعَجْزِ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ لِمَا رَوَيْنَا ) مِنْ { قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلْمُدَّعِي أَلَك بَيِّنَةٌ ؟ فَقَالَ لَا ، فَقَالَ : لَك يَمِينُهُ } فَإِنَّهُ ذَكَرَ الْيَمِينَ بَعْدَمَا عَجَزَ الْمُدَّعِي عَنْ الْبَيِّنَةِ ( فَلَا يَكُونُ حَقُّهُ دُونَهُ ) أَيْ لَا يَكُونُ الْيَمِينُ حَقَّ الْمُدَّعِي دُونَ الْعَجْزِ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ : أَيْ بِغَيْرِ الْعَجْزِ عَنْهَا .
أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إنَّ كَوْنَ ثُبُوتِ الْحَقِّ فِي الْيَمِينِ مُرَتَّبًا عَلَى الْعَجْزِ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ فِيمَا رَوَاهُ مِنْ الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنْ لَا يَكُونَ الْيَمِينُ حَقَّ الْمُدَّعِي دُونَ الْعَجْزِ عَنْهَا إلَّا بِطَرِيقِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ وَهُوَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَنَا ، فَكَيْفَ يَتِمُّ الِاسْتِدْلَال بِهِ فِي مُقَابَلَةِ عُمُومِ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ } ( كَمَا إذَا كَانَتْ الْبَيِّنَةُ حَاضِرَةً فِي الْمَجْلِسِ ) أَيْ مَجْلِسِ الْحُكْمِ حَيْثُ لَا يَثْبُتُ حَقُّ الْيَمِينِ هُنَاكَ فَكَذَا هَاهُنَا وَالْجَامِعُ الْقُدْرَةُ عَلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ .
أَقُولُ : لِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ بِأَنْ يَقُولَ : إذَا لَمْ تَكُنْ الْبَيِّنَةُ حَاضِرَةً فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ فَلِلْمُدَّعِي غَرَضٌ صَحِيحٌ فِي الِاسْتِحْلَافِ ، وَهُوَ أَنْ يَقْصُرَ الْمَسَافَةَ وَالْمُؤْنَةَ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوْ بِنُكُولِهِ عَنْ الْيَمِينِ فَيَتَوَصَّلَ إلَى حَقِّهِ فِي الْحَالِ فَكَانَ لَهُ حَقُّ الْيَمِينِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْبَيِّنَةُ حَاضِرَةً فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ ، فَإِنَّ هَذَا الْغَرَضَ : أَعْنِي قَصْرَ الْمَسَافَةِ وَالْمُؤْنَةِ عَلَيْهِ وَالتَّوَصُّلُ إلَى حَقِّهِ فِي الْحَالِ يَحْصُلُ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ ، فَلَمْ يَبْقَ لَهُ غَرَضٌ صَحِيحٌ فِي الِاسْتِحْلَافِ قَبْلَ إقَامَتِهَا فَلَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ الْيَمِينِ قَبْلَهَا

فَلَمْ يَتِمَّ الِاسْتِدْلَال عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ هَاهُنَا بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ أَيْضًا كَمَا يُشْعِرُ بِهِ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ ( وَمُحَمَّدٌ مَعَ أَبِي يُوسُفَ فِيمَا ذَكَرَهُ الْخَصَّافُ وَمَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ ) قَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ : وَهَذِهِ رِوَايَةٌ عَجِيبَةٌ ؛ لِأَنَّ الشَّيْخَ أَبَا جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيَّ قَالَ فِي مُخْتَصَرِهِ : وَمَنْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ مَالًا ذَكَرَهُ وَطَلَبَ مِنْ الْقَاضِي اسْتِحْلَافَهُ لَهُ عَلَى ذَلِكَ بَعْدَ إنْكَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عِنْدَ الْقَاضِي مَا ادَّعَاهُ الْمُدَّعِي ، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَدْ رَوَى عَنْهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَسْتَحْلِفُ لَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إنْ ذَكَرَ الْمُدَّعِي أَنَّ لَهُ عَلَى دَعْوَاهُ بَيِّنَةً حَاضِرَةً ، وَلَمْ نَجِدْ هَذِهِ الرِّوَايَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : يُسْتَحْلَفُ لَهُ عَلَى ذَلِكَ ، وَلَا يَمْنَعُهُ مِنْ اسْتِحْلَافِهِ لَهُ ذِكْرُهُ أَنَّ لَهُ بَيِّنَةً حَاضِرَةً تَشْهَدُ لَهُ عَلَى دَعْوَاهُ ، إلَى هُنَا لَفْظُ الطَّحَاوِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ ، وَقَدْ أَنْكَرَ الرِّوَايَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَصْلًا كَمَا تَرَى ، وَمَعَ هَذَا كَيْفَ يَدَّعِي صَاحِبُ الْهِدَايَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِيمَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْقُدُورِيَّ قَالَ فِي كِتَابِ التَّقْرِيبِ : قَالَ الطَّحَاوِيُّ لَمْ تُوجَدْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ عَنْ مُحَمَّدٍ انْتَهَى كَلَامُ صَاحِبِ الْغَايَةِ .
وَقَالَ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ إنْكَارَ صَاحِبِ الْغَايَةِ عَلَى الْمُصَنِّفِ فِي جَعْلِهِ مُحَمَّدًا مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ وَبَعْدَ أَنْ نَقَلَ مَا قَالَهُ صَاحِبُ الْغَايَةِ إجْمَالًا .
قُلْت : لَا وَجْهَ لِهَذَا الْإِنْكَارِ لِأَنَّ عَدَمَ وُقُوفِ الطَّحَاوِيِّ عَلَى أَنَّ مُحَمَّدًا مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ وُقُوفِ غَيْرِهِ مِنْ الْمُصَنِّفِ وَغَيْرِهِ انْتَهَ ى .
أَقُولُ : هَذَا الْكَلَامُ مِنْهُ عَجِيبٌ ، لِأَنَّ الَّذِي أَنْكَرَ فِيهِ صَاحِبُ

الْغَايَةِ عَلَى الْمُصَنِّفِ إنَّمَا هُوَ إسْنَادُ الْمُصَنِّفِ رِوَايَةَ كَوْنِ مُحَمَّدٍ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَى الطَّحَاوِيِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الطَّحَاوِيَّ قَدْ أَنْكَرَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ بِالْكُلِّيَّةِ فِي مُخْتَصَرِهِ ، فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُسْنِدَهَا الْمُصَنِّفُ إلَيْهِ ، وَلَيْسَ الَّذِي أَنْكَرَ فِيهِ صَاحِبُ الْغَايَةِ عَلَى الْمُصَنِّفِ صِحَّةُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي أَصْلِهَا ، حَتَّى يَتَمَشَّى مَا قَالَهُ الْعَيْنِيُّ مِنْ أَنَّ عَدَمَ وُقُوفِ الطَّحَاوِيِّ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ وُقُوفِ غَيْرِهِ عَلَيْهَا ، وَكَوْنُ مَحِلِّ إنْكَارِ صَاحِبِ الْغَايَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِمَّا يَتَأَدَّى عَلَيْهِ أَلْفَاظُ تَحْرِيرِهِ فَكَيْفَ خَفِيَ عَلَى الشَّارِحِ الْعَيْنِيِّ ( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( وَلَا تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ } ) وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ مَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ ( قَسَمَ ) أَيْ قَسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ حَيْثُ جَعَلَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ ( وَالْقِسْمَةُ تُنَافِي الشَّرِكَةَ ) لِأَنَّ الشَّرِكَةَ تَقْتَضِي عَدَمَ التَّمْيِيزِ وَالْقِسْمَةُ تَقْتَضِي التَّمْيِيزَ وَهُمَا مُتَنَافِيَانِ .
وَبِقَوْلِهِ ( وَجَعَلَ جِنْسَ الْأَيْمَانِ عَلَى الْمُنْكِرِينَ ) إذْ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ بِنَاءً عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ أَنَّ لَامَ التَّعْرِيفِ تُحْمَلُ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ ، وَيُقَدَّمُ عَلَى تَعْرِيفِ الْحَقِيقَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَعْهُودٌ ، وَهَاهُنَا كَذَلِكَ ( وَلَيْسَ وَرَاءَ الْجِنْسِ شَيْءٌ ) أَيْ شَيْءٌ مِنْ أَفْرَادِ ذَلِكَ الْجِنْسِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ جَمِيعَ الْأَيْمَانِ عَلَى الْمُنْكِرِينَ ، فَلَوْ رُدَّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي لَزِمَ الْمُخَالَفَةُ لِهَذَا النَّصِّ فَقَدْ حَصَلَ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ الِاسْتِدْلَال بِالْحَدِيثِ

الْمَزْبُورِ عَلَى الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ كَمَا تَرَى ( وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ ) أَيْ فِي عَدَمِ رَدِّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي خِلَافُ الشَّافِعِيِّ .
قَالَ صَاحِبُ الْكَافِي : وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ أَصْلًا وَحَلَّفَ الْقَاضِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَنَكَلَ يُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي ، فَإِنْ حَلَفَ قُضِيَ بِهِ وَإِلَّا لَا ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ صَارَ شَاهِدًا لِلْمُدَّعِي بِنُكُولِهِ فَيُعْتَبَرُ يَمِينُهُ كَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَكَذَا إذَا أَقَامَ الْمُدَّعِي شَاهِدًا وَاحِدًا وَعَجَزَ عَنْ إقَامَةِ شَاهِدٍ آخَرَ فَإِنَّهُ يُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَيْهِ ، فَإِنْ حَلَفَ قُضِيَ لَهُ بِمَا ادَّعَى ، وَإِنْ نَكَلَ لَا يُقْضَى لَهُ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَضَى بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ ، ثُمَّ قَالَ : وَحَدِيثُ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ غَرِيبٌ ، وَمَا رَوَيْنَاهُ مَشْهُورٌ تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ حَتَّى صَارَ فِي حَيِّزِ التَّوَاتُرِ فَلَا يُعَارِضُهُ ، عَلَى أَنَّ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ قَدْ رَدَّهُ انْتَهَى .
وَقَالَ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ فِي التَّبْيِينِ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ يَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، فَإِذَا نَكَلَ تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي ، فَإِنْ حَلَفَ قُضِيَ لَهُ ، وَإِنْ نَكَلَ لَا يُقْضَى لَهُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ صَارَ شَاهِدًا لِلْمُدَّعِي بِنُكُولِهِ فَيُعْتَبَرُ يَمِينُهُ كَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهُ اُعْتُبِرَ يَمِينُهُ .
وَقَالَ أَيْضًا : إذَا أَقَامَ الْمُدَّعِي شَاهِدًا وَاحِدًا وَعَجَزَ عَنْ الْآخَرِ يَحْلِفُ الْمُدَّعِي وَيُقْضَى لَهُ ، لِمَا رُوِيَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَضَى بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ } وَيُرْوَى { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ } .
وَلَنَا مَا رَوَيْنَا وَمَا رَوَاهُ ضَعِيفٌ رَدَّهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ فَلَا يُعَارِضُ مَا رَوَيْنَاهُ ، وَلِأَنَّهُ يَرْوِيهِ رَبِيعَةُ عَنْ سَهْلِ بْن أَبِي صَالِحٍ وَأَنْكَرَهُ سَهْلٌ فَلَا يَبْقَى حُجَّةً بَعْدَمَا

أَنْكَرَهُ الرَّاوِي فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مُعَارِضًا لِلْمَشَاهِيرِ ، وَلِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ قَضَى تَارَةً بِشَاهِدٍ : يَعْنِي بِجِنْسِهِ وَتَارَةً بِيَمِينٍ ، فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا ، وَهَذَا كَمَا يُقَالُ رَكِبَ زَيْدٌ الْفَرَسَ وَالْبَغْلَةَ ، وَالْمُرَادُ عَلَى التَّعَاقُبِ ، وَلَئِنْ سَلَّمَ أَنْ يَقْتَضِيَ الْجَمْعَ فَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ يَمِينُ الْمُدَّعِي ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ يَمِينَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ لِأَنَّ الشَّاهِدَ الْوَاحِدَ لَا يُعْتَبَرُ ، فَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ فَيَرْجِعُ إلَى يَمِينِ الْمُنْكِرِ عَمَلًا بِالْمَشَاهِيرِ ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ

قَالَ ( وَلَا تُقْبَلُ بَيِّنَةُ صَاحِبِ الْيَدِ فِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ وَبَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُقْضَى بِبَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ لِاعْتِضَادِهَا بِالْيَدِ فَيَتَقَوَّى الظُّهُورُ وَصَارَ كَالنِّتَاجِ وَالنِّكَاحِ وَدَعْوَى الْمِلْكِ مَعَ الْإِعْتَاقِ وَالِاسْتِيلَادِ وَالتَّدْبِيرِ .
وَلَنَا أَنَّ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ أَكْثَرُ إثْبَاتًا أَوْ إظْهَارًا لِأَنَّ قَدْرَ مَا أَثْبَتَتْهُ الْيَدُ لَا يُثْبِتُهُ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ ، إذْ الْيَدُ دَلِيلُ مُطْلَقِ الْمِلْكِ بِخِلَافِ النِّتَاجِ لِأَنَّ الْيَدَ لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ ، وَكَذَا عَلَى الْإِعْتَاقِ وَأُخْتَيْهِ وَعَلَى الْوَلَاءِ الثَّابِتِ بِهَا

( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( وَلَا تُقْبَلُ بَيِّنَةُ صَاحِبِ الْيَدِ فِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ ) أَرَادَ بِالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ أَنْ يَدَّعِيَ الْمِلْكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِلسَّبَبِ بِأَنْ يَقُولَ هَذَا مِلْكِي وَلَا يَقُولُ هَذَا مِلْكِي بِسَبَبِ الشِّرَاءِ أَوْ الْإِرْثِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُطْلَقَ مَا يَتَعَرَّضُ لِلذَّاتِ دُونَ الصِّفَاتِ لَا بِالنَّفْيِ وَلَا بِالْإِثْبَاتِ ، وَقَيَّدَ الْمِلْكَ بِالْمُطْلَقِ احْتِرَازٌ عَنْ الْمُقَيَّدِ بِدَعْوَى النِّتَاجِ ، وَعَنْ الْمُقَيَّدِ بِمَا إذَا ادَّعَيَا تَلَقِّي الْمِلْكِ مِنْ وَاحِدٍ وَأَحَدُهُمَا قَابِضٌ ، وَبِمَا إذَا ادَّعَيَا الشِّرَاءَ مِنْ اثْنَيْنِ وَأَرَّخَا وَتَارِيخُ ذِي الْيَدِ أَسْبَقُ ، فَإِنَّ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ تُقْبَلُ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ بِالْإِجْمَاعِ ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ هَذَا ، فَإِنْ قِيلَ : أَمَا انْتَقَضَ مُقْتَضَى الْقِسْمَةِ حَيْثُ قُبِلَتْ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ وَهُوَ مُدَّعًى عَلَيْهِ ؟ قُلْت نَعَمْ ؛ لِأَنَّ قَبُولَهَا مِنْ حَيْثُ مَا ادَّعَى مِنْ زِيَادَةِ النِّتَاجِ وَالْقَبْضِ وَسَبْقِ التَّارِيخِ فَهُوَ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ مُدَّعٍ وَالْبَيِّنَةُ لِلْمُدَّعِي .
فَإِنْ قُلْت : فَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْخَارِجِ الْيَمِينُ لِكَوْنِهِ إذْ ذَاكَ مُدَّعًى عَلَيْهِ ؟ قُلْت : لَا ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ إنَّمَا تَجِبُ عِنْدَ عَجْزِ الْمُدَّعِي عَنْ الْبَيِّنَةِ ، وَهَاهُنَا لَمْ يَعْجِزْ ، إلَى هَاهُنَا كَلَامُهُ .
وَقَدْ أَوْرَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى جَوَابِهِ عَنْ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُدَّعِيًا لَصَدَقَ تَعْرِيفُهُ عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يُجْبَرُ الْخَارِجُ عَلَى الْخُصُومَةِ وَيُجْبَرُ هُوَ عَلَيْهِ .
وَعَلَى جَوَابِهِ عَنْ السُّؤَالِ الثَّانِي بِأَنَّ مُرَادَ السَّائِلِ فَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْخَارِجِ الْيَمِينُ عِنْدَ عَجْزِ ذِي الْيَدِ عَنْ الْبَيِّنَةِ وَإِلَّا فَلَا تَمْشِيَةَ لِسُؤَالِهِ أَصْلًا ؟ أَقُولُ : إيرَادُهُ الثَّانِي مُتَوَجِّهٌ ظَاهِرٌ ، وَقَدْ كُنْت كَتَبْته فِي مُسَوَّدَاتِي قَبْلَ أَنْ أَرَى مَا كَتَبَهُ ، وَأَمَّا إيرَادُهُ

الْأَوَّلُ فَمُنْدَفِعٌ لِأَنَّ ذَا الْيَدِ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْخُصُومَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُدَّعٍ الزِّيَادَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الصُّوَرِ الْمَزْبُورَةِ ، وَإِنَّمَا يُجْبَرُ عَلَيْهَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُدَّعًى عَلَيْهِ بِاسْتِحْقَاقِ الْخَارِجِ لِمَا فِي يَدِهِ .
وَهَذَا ظَاهِرٌ وَكَذَا الْخَارِجُ إنَّمَا لَا يُجْبَرُ عَلَى الْخُصُومَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُدَّعٍ عَلَى ذِي الْيَدِ اسْتِحْقَاقَهُ لِمَا فِي يَدِهِ .
وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُدَّعًى عَلَيْهِ بِالزِّيَادَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الصُّورَةِ الْمَزْبُورَةِ فَيُجْبَرُ عَلَيْهَا .
وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ دَعْوَى ذِي الْيَدِ فِي الصُّورَةِ الْمَزْبُورَةِ دَعْوَى تَابِعَةٌ لِدَعْوَى الْخَارِجِ حَيْثُ يَقْصِدُ بِهَا ذُو الْيَدِ دَفْعَ دَعْوَى الْخَارِجِ لَا دَعْوَى مُبْتَدَأَةٍ مَقْصُودَةٍ بِالْأَصَالَةِ ، فَمَتَى جَرَى الْخَارِجُ عَلَى دَعْوَاهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ ذُو الْيَدِ الزِّيَادَةَ الْمَذْكُورَةَ ، وَيُجْبَرُ الْخَارِجُ عَلَى الْجَوَابِ عَنْ دَعْوَى ذِي الْيَدِ وَالْخُصُومَةُ مَعَهُ مِنْ حَيْثِيَّةِ كَوْنِهِ مُدَّعًى عَلَيْهِ ، وَإِنْ تَرَكَ الْخَارِجُ دَعْوَاهُ لَا يَدَّعِي عَلَيْهِ ذُو الْيَدِ شَيْئًا لِكَوْنِ دَعْوَاهُ تَابِعَةً لِدَعْوَى الْخَارِجِ ، وَتَرْكُ الْمَتْبُوعِ يَسْتَلْزِمُ تَرْكَ التَّابِعِ فَلَا يُجْبَرُ الْخَارِجُ عَلَى الْخُصُومَةِ مَعَهُ أَصْلًا ، وَلَوْلَا هَذَا التَّحْقِيقُ لَانْتَقَضَ تَعْرِيفُ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ حَدٌّ عَامٌّ صَحِيحٌ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِيمَا قَبْلَ وَتَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ ، وَهُوَ أَنَّ الْمُدَّعِيَ مَنْ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْخُصُومَةِ إذَا تَرَكَهَا ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ يُجْبَرُ عَلَى الْخُصُومَةِ بِصُوَرٍ كَثِيرَةٍ غَيْرِ الصُّورَةِ الْمَزْبُورَةِ ، كَمَا إذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى آخَرَ دَيْنًا مُعَيَّنًا فَادَّعَى الْآخَرُ عَلَيْهِ إيفَاءَ ذَلِكَ الدَّيْنِ إيَّاهُ أَوْ إبْرَاءَهُ عَنْ ذَلِكَ الدَّيْنِ فَإِنَّ الْأَوَّلَ لَوْ تَرَكَ الْخُصُومَةَ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهَا مَعَ كَوْنِهِ مُدَّعًى عَلَيْهِ بِالْإِيفَاءِ أَوْ الْإِبْرَاءِ ، وَكَذَا الْحَالُ فِي جَمِيعِ صُوَرِ دَعَاوَى الدَّفْعِ

فَالْمُخَلِّصُ فِي الْكُلِّ مَا بَيَّنَّاهُ وَحَقَّقْنَاهُ .
ثُمَّ أَقُولُ : بَقِيَ لَنَا كَلَامٌ فِي أَثْنَاءِ جَوَابِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ عَنْ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ ، وَهُوَ أَنَّهُ بَيَّنَ الزِّيَادَةَ الَّتِي يَدَّعِيهَا ذُو الْيَدِ فِي الصُّوَرِ الْمَزْبُورَةِ بِالنِّتَاجِ وَالْقَبْضِ وَسَبْقِ التَّارِيخِ ، فَالْأَوَّلُ وَالثَّالِثُ صَحِيحَانِ ، وَالثَّانِي لَيْسَ بِظَاهِرِ الصِّحَّةِ لِأَنَّ مَعْنَى كَوْنِ أَحَدِهِمَا قَابِضًا فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعِي فِي يَدِهِ بِالْفِعْلِ لَا أَنْ يَثْبُتَ قَبْضُهُ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ تَفْسِيرُهُ وَبَيَانُهُ فِي الْكِتَابِ ، وَشُرُوحِهِ فِي بَابِ مَا يَدَّعِيهِ الرَّجُلَانِ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ كَوْنَ الْمُدَّعَى فِي يَدِ الْقَابِضِ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ أَمْرٌ مُعَايَنٌ لَا يَدَّعِيهِ ذُو الْيَدِ أَصْلًا فَضْلًا عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ وَقَبُولِ بَيِّنَتِهِ بِالْإِجْمَاعِ فَظَهَرَ أَنَّ بَيَانَ مَا ادَّعَاهُ ذُو الْيَدِ مِنْ الزِّيَادَةِ فِي الصُّورَةِ الْمَزْبُورَةِ بِالْقَبْضِ لَيْسَ بِتَامٍّ .
فَالْحَقُّ أَنْ يَقُولَ بَدَلَ قَوْلِهِ وَالْقَبْضُ : وَتَلَقِّي الْمِلْكِ مِنْ شَخْصٍ مَخْصُوصٍ فَتَدَبَّرْ ( وَبَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى ) يَعْنِي أَنَّ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ وَبَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ إذَا تَعَارَضَتَا عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ فَبَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى بِالْقَبُولِ عِنْدَنَا ، وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ تَهَاتَرَتْ الْبَيِّنَتَانِ وَيَكُونُ الْمُدَّعِي لِذِي الْيَدِ تَارِكًا فِي يَدِهِ وَهَذَا قَضَاءُ تَرْكٍ .
لَا قَضَاءُ مِلْكٍ ، وَفِي الْقَوْلِ الْآخَرِ تُرَجَّحُ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ فَيُقْضَى بِهَا لِذِي الْيَدِ قَضَاءَ مِلْكٍ بِالْبَيِّنَةِ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ ( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُقْضَى بِبَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ لِاعْتِضَادِهَا بِالْيَدِ ) أَيْ لِتَأَكُّدِ الْبَيِّنَةِ بِالْيَدِ لِأَنَّ الْيَدَ دَلِيلُ الْمِلْكِ ( فَيَتَقَوَّى الظُّهُورُ ) أَيْ فَيَتَقَوَّى ظُهُورُ الْمُدَّعِي ( وَصَارَ ) أَيْ صَارَ حُكْمُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ( كَالنِّتَاجِ ) أَيْ كَحُكْمِ مَسْأَلَةِ النِّتَاجِ بِأَنْ ادَّعَى كُلُّ

وَاحِدٍ مِنْ الْخَارِجِ وَذِي الْيَدِ أَنَّ هَذِهِ الدَّابَّةَ نَتَجَتْ عِنْدَهُ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ وَلِأَحَدِهِمَا يَدٌ فَإِنَّهُ يُقْضَى لِذِي الْيَدِ ( وَالنِّكَاحُ ) أَيْ وَكَحُكْمِ مَسْأَلَةِ النِّكَاحِ بِأَنْ تَنَازَعَا فِي نِكَاحِ امْرَأَةٍ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ وَلِأَحَدِهِمَا يَدٌ فَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ أَوْلَى ( وَدَعْوَى الْمِلْكِ مَعَ الْإِعْتَاقِ ) أَيْ وَكَحُكْمِ مَسْأَلَةِ دَعْوَى الْمِلْكِ مَعَ الْإِعْتَاقِ بِأَنْ يَكُونَ عَبْدٌ فِي يَدِ رَجُلٍ أَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ عَبْدَهُ أَعْتَقَهُ وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ وَهُوَ يَمْلِكُهُ فَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ أَوْلَى ( أَوْ الِاسْتِيلَادِ ) عَطْفٌ عَلَى الْإِعْتَاقِ ، فَالْمَعْنَى : أَوْ دَعْوَى الْمِلْكِ مَعَ الِاسْتِيلَادِ بِأَنْ تَكُونَ أَمَةٌ فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَارِجِ وَذِي الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا أَمَتُهُ اسْتَوْلَدَهَا فَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ أَوْلَى ( أَوْ التَّدْبِيرِ ) أَيْ أَوْ دَعْوَى الْمِلْكِ مَعَ التَّدْبِيرِ بِأَنْ يَكُونَ عَبْدٌ فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَارِجِ وَذِي الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ دَبَّرَهُ فَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ أَوْلَى ( وَلَنَا أَنَّ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ أَكْثَرُ إثْبَاتًا ) أَيْ فِي عِلْمِ الْقَاضِي ( أَوْ إظْهَارًا ) أَيْ فِي الْوَاقِعِ فَإِنَّ بَيِّنَتَهُ تُظْهِرُ مَا كَانَ ثَابِتًا فِي الْوَاقِعِ ( لِأَنَّ قَدْرَ مَا أَثْبَتَتْهُ الْيَدُ لَا تُثْبِتُهُ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ ، إذْ الْيَدُ دَلِيلُ مُطْلَقِ الْمِلْكِ ) أَلَا يَرَى أَنَّ مَنْ رَأَى شَيْئًا فِي يَدِ إنْسَانٍ جَازَ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِأَنَّهُ مِلْكٌ لَهُ ، فَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ غَيْرُ مُثْبِتَةٍ لِلْمِلْكِ لِئَلَّا يَلْزَمَ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ ، وَإِنَّمَا هِيَ مُؤَكِّدَةٌ لِلْمِلْكِ الثَّابِتِ بِالْيَدِ ، وَالتَّأْكِيدُ إثْبَاتُ وَصْفٍ لِلْمَوْجُودِ لَا إثْبَاتُ أَصْلِ الْمِلْكِ .
وَأَمَّا بَيِّنَةُ الْخَارِجِ فَمُثْبِتَةٌ لِأَصْلِ الْمِلْكِ ، فَصَحَّ قَوْلُنَا إنَّهَا أَكْثَرُ إثْبَاتًا ، وَمَا هُوَ أَكْثَرُ إثْبَاتًا فِي الْبَيِّنَةِ فَهُوَ أَوْلَى

بِالْقَبُولِ لِتَوَفُّرِ مَا شُرِعَتْ الْبَيِّنَاتُ لِأَجْلِهِ فِيهِ .
هَذَا زُبْدَةُ مَا فِي الشُّرُوحِ فِي حَلِّ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا .
فَإِنْ قِيلَ : بَيِّنَةُ الْخَارِجِ تُزِيلُ مَا أَثْبَتَهُ الْيَدُ مِنْ الْمِلْكِ فَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ تُفِيدُ الْمِلْكَ وَلَا يَلْزَمُ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْبَيِّنَةَ لَيْسَتْ مُوجِبَةً بِنَفْسِهَا حَتَّى تَزِيدَ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ مَا ثَبَتَ بِالْيَدِ ، وَإِنَّمَا تَصِيرُ مُوجِبَةً عِنْدَ اتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهَا كَمَا تَقَدَّمَ ، فَقَبْلَهُ يَكُونُ الْمِلْكُ ثَابِتًا لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَإِثْبَاتُ الثَّابِتِ لَا يُتَصَوَّرُ فَلَا تَكُونُ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ مُثْبِتَةً بَلْ مُؤَكِّدَةً لِمِلْكٍ ثَابِتٍ ، وَالتَّأْسِيسُ أَوْلَى مِنْ التَّأْكِيدِ ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ .
أَقُولُ : بَقِيَ هَاهُنَا شَيْءٌ ، وَهُوَ أَنَّ الْمُتَبَادَرَ مِنْ قَوْلِهِمْ إنَّ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ أَكْثَرُ إثْبَاتًا وَمِنْ قَوْلِهِمْ إنَّ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ أَوْلَى بِالْقَبُولِ مِنْ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ فِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ أَنَّ لِذِي الْيَدِ أَيْضًا بَيِّنَةً وَأَنَّ مِنْ حَقِّهِ إقَامَتَهَا عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ أَيْضًا ، إلَّا أَنَّ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ أَوْلَى بِالْقَبُولِ مِنْ بَيِّنَتِهِ لِكَوْنِهَا أَكْثَرَ إثْبَاتًا ، لَكِنَّ التَّحْقِيقَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ لِذِي الْيَدِ بَيِّنَةٌ شَرْعِيَّةٌ فِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ ، وَأَنْ لَا يَكُونَ مِنْ حَقِّهِ إقَامَتُهَا عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ أَصْلًا لِأَنَّهُ مُدَّعًى عَلَيْهِ مَحْضٌ ، وَلَيْسَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ غَيْرُ الْيَمِينِ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ } كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ .
فَالْأَظْهَرُ فِي الِاسْتِدْلَالِ مِنْ قَبْلِنَا عَلَى مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ مَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ مِنْ أَنَّ لَنَا قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ } فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَعَلَ جَمِيعَ الْبَيِّنَةِ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي ،

لِأَنَّ اللَّامَ فِي الْبَيِّنَةِ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ لِعَدَمِ الْعَهْدِ فَلَمْ يَبْقَ فِي جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إلَّا الْيَمِينُ ، وَالْمُدَّعِي اسْمٌ لِمَنْ يَدَّعِي الشَّيْءَ وَلَا دَلَالَةَ مَعَهُ ، وَلِهَذَا يُقَالُ لِمُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ مُدَّعِي النُّبُوَّةِ وَالْخَارِجُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ لِأَنَّهُ لَا دَلَالَةَ مَعَهُ عَلَى الْمِلْكِ ، بِخِلَافِ ذِي الْيَدِ فَإِنَّ الْيَدَ دَلِيلُ الْمِلْكِ انْتَهَى ( بِخِلَافِ النِّتَاجِ لِأَنَّ الْيَدَ لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ ) فَكَانَتْ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ كَبَيِّنَةِ الْخَارِجِ مُثْبِتَةً لَهُ لَا مُؤَكِّدَةً فَكَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْبَيِّنَتَيْنِ لِلْإِثْبَاتِ فَتَرَجَّحَتْ إحْدَاهُمَا بِالْيَدِ ، وَكَذَا الْحَالُ فِي النِّكَاحِ ، إلَّا أَنَّ الْمُصَنِّفَ لَمْ يَذْكُرْهُ مِنْ بَيْنِ أَخَوَاتِهِ إمَّا نِسْيَانًا وَإِمَّا اعْتِمَادًا عَلَى مَعْرِفَةِ حَالِهِ مِمَّا ذَكَرَهُ فِي النِّتَاجِ ( وَكَذَا عَلَى الْإِعْتَاقِ وَأُخْتَيْهِ ) أَيْ وَكَذَا الْيَدُ لَا تَدُلُّ عَلَى الْإِعْتَاقِ وَأُخْتَيْهِ وَهُمَا الِاسْتِيلَادُ وَالتَّدْبِيرُ ، فَاسْتَوَتْ الْبَيِّنَتَانِ فِي الْإِثْبَاتِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ أَيْضًا فَتَرَجَّحَتْ إحْدَاهُمَا بِالْيَدِ ( وَعَلَى الْوَلَاءِ الثَّابِتِ بِهَا ) أَيْ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ وَهِيَ : الْإِعْتَاقُ ، وَالِاسْتِيلَادُ ، وَالتَّدْبِيرُ : يَعْنِي أَنَّ الْيَدَ لَا تَدُلُّ عَلَى الْوَلَاءِ الثَّابِتِ بِهَا أَيْضًا فَاسْتَوَتْ الْبَيِّنَتَانِ فِي ذَلِكَ أَيْضًا فَتَرَجَّحَتْ إحْدَاهُمَا بِالْيَدِ

.
قَالَ ( وَإِذَا نَكَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ الْيَمِينِ قُضِيَ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ وَأَلْزَمَهُ مَا ادَّعَى عَلَيْهِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يُقْضَى بِهِ بَلْ يَرُدُّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعِي ، فَإِذَا حَلَفَ يَقْضِي بِهِ لِأَنَّ النُّكُولَ يَحْتَمِلُ التَّوَرُّعَ عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ وَالتَّرَفُّعَ عَنْ الصَّادِقَةِ وَاشْتِبَاهَ الْحَالِ فَلَا يَنْتَصِبُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ ، وَيَمِينُ الْمُدَّعِي دَلِيلُ الظُّهُورِ فَيُصَارُ إلَيْهِ .
وَلَنَا أَنَّ النُّكُولَ دَلَّ عَلَى كَوْنِهِ بَاذِلًا أَوْ مُقِرًّا ، إذْ لَوْلَا ذَلِكَ لَأَقْدَمَ عَلَى الْيَمِينِ إقَامَةً لِلْوَاجِبِ وَدَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ فَتَرَجَّحَ هَذَا الْجَانِبُ وَلَا وَجْهَ لِرَدِّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي لِمَا قَدَّمْنَاهُ .

( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( وَإِذَا نَكَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ الْيَمِينِ قُضِيَ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ ) أَيْ قَضَى الْقَاضِي عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ ( وَأَلْزَمَهُ مَا ادَّعَى عَلَيْهِ ) أَيْ وَأَلْزَمَ الْقَاضِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَا ادَّعَى عَلَيْهِ الْمُدَّعِي .
وَفِي بَعْضِ نُسَخِ مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ : وَلَزِمَهُ بَدَلٌ وَأَلْزَمَهُ : أَيْ وَلَزِمَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَا ادَّعَى عَلَيْهِ الْمُدَّعِي ( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَقْضِي بِهِ ) أَيْ بِالنُّكُولِ ( بَلْ يَرُدُّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعِي ، فَإِذَا حَلَفَ ) الْمُدَّعِي ( يَقْضِي بِهِ ) أَيْ يَقْضِي لَهُ بِمَا ادَّعَاهُ ، وَإِنْ نَكَلَ الْمُدَّعِي أَيْضًا انْقَطَعَتْ الْمُنَازَعَةُ ( لِأَنَّ النُّكُولَ ) تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ لَا يُقْضَى بِهِ ( يَحْتَمِلُ التَّوَرُّعَ عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ وَالتَّرَفُّعَ عَنْ الصَّادِقَةِ ) أَيْ عَنْ الْيَمِينِ الصَّادِقَةِ ، كَمَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ وَقَالَ : أَخَافُ أَنْ يُوَافِقَهَا قَضَاءٌ فَيُقَالُ إنَّ عُثْمَانَ حَلَفَ كَاذِبًا ، كَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ خُوَاهَرْ زَادَهْ فِي مَبْسُوطِهِ ( وَاشْتِبَاهَ الْحَالِ ) أَيْ وَيَحْتَمِلُ اشْتِبَاهُ الْحَالِ عَلَيْهِ بِأَنْ لَا يَدْرِيَ أَنَّهُ صَادِقٌ فِي إنْكَارِهِ فَيَحْلِفَ أَوْ كَاذِبٌ فِيهِ فَيَمْتَنِعَ ( فَلَا يَنْتَصِبُ ) أَيْ لَا يَنْتَصِبُ نُكُولُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ( حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ ) الْمَذْكُورِ ( وَيَمِينُ الْمُدَّعِي دَلِيلُ الظُّهُورِ ) أَيْ دَلِيلُ ظُهُورِ كَوْنِ الْمُدَّعِي مُحِقًّا ( فَيُصَارُ إلَيْهِ ) أَيْ فَيَرْجِعُ إلَى يَمِينِ الْمُدَّعِي ( وَلَنَا أَنَّ النُّكُولَ ) أَيْ نُكُولَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ( دَلَّ عَلَى كَوْنِهِ بَاذِلًا ) أَيْ دَلَّ عَلَى كَوْنِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَاذِلًا إنْ كَانَ النُّكُولُ بَذْلًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ( أَوْ مُقِرًّا ) أَيْ عَلَى كَوْنِهِ مُقِرًّا إنْ كَانَ النُّكُولُ إقْرَارًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُمَا ( وَلَوْلَا ذَلِكَ ) أَيْ وَلَوْلَا كَوْنُهُ بَاذِلًا أَوْ مُقِرًّا ( لَأَقْدَمَ عَلَى الْيَمِينِ إقَامَةً

لِلْوَاجِبِ ) وَهُوَ الْيَمِينُ لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ } وَكَلِمَةُ عَلَى لِلْوُجُوبِ ( وَدَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ ) أَيْ دَفْعًا لِضَرَرِ الدَّعْوَى عَنْ نَفْسِهِ ( فَتَرَجَّحَ هَذَا الْجَانِبُ ) وَاعْلَمْ أَنَّ حَلَّ الْمُرَادِ بِهَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ مِنْ دَلِيلِنَا وَرَبْطَهُ بِمَا قَبْلَهَا مِنْ مَدَاحِضِ هَذَا الْكِتَابِ ، وَلِهَذَا لَمْ يَخْلُ كَلَامُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشُّرَّاحِ هَاهُنَا عَنْ اخْتِلَالٍ وَاضْطِرَابٍ ، فَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : فَتَرَجَّحَ هَذَا الْجَانِبُ : أَيْ جَانِبُ كَوْنِهِ بَاذِلًا إنْ تَرَفَّعَ أَوْ مُقِرًّا إنْ تَوَرَّعَ ؛ لِأَنَّ التَّرَفُّعَ وَالتَّوَرُّعَ إنَّمَا يَحِلُّ إذَا لَمْ يُفْضِ إلَى الضَّرَرِ بِالْغَيْرِ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ بَحْثٌ ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ تَوْزِيعَ كَوْنِهِ بَاذِلًا أَوْ مُقِرًّا إلَى التَّوَرُّعِ وَالتَّرَفُّعِ مِمَّا لَا يَكَادُ يَصِحُّ هَاهُنَا ؛ لِأَنَّ النُّكُولَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بَذْلٌ لَا غَيْرُ ، وَعِنْدَهُمَا إقْرَارٌ لَا غَيْرُ ، فَعَلَى التَّوْزِيعِ الْمَزْبُورِ لَا يَثْبُتُ الرُّجْحَانُ فِي هَذَا الْجَانِبِ عَلَى التَّرَفُّعِ وَالتَّوَرُّعِ مَعًا فِي وَاحِدٍ مِنْ الْمَذْهَبَيْنِ ، بَلْ إنَّمَا يَثْبُتُ رُجْحَانُ كَوْنِهِ بَاذِلًا فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى التَّرَفُّعِ فَقَطْ ، وَرُجْحَانُ كَوْنِهِ مُقِرًّا فِي مَذْهَبِهِمَا عَلَى التَّوَرُّعِ فَقَطْ ، وَبِهِ لَا يَتِمُّ الْمَطْلُوبُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْمَذْهَبَيْنِ ؛ لِأَنَّ التَّرَفُّعَ وَحْدَهُ أَوْ التَّوَرُّعَ وَحْدَهُ يَحْتَمِلُ وَاحِدًا مِنْ الْمُحْتَمَلَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي دَلِيلِ الشَّافِعِيِّ ، وَبِمُجَرَّدِ رُجْحَانِ هَذَا الْجَانِبِ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْمُحْتَمَلَاتِ لَا يَتَعَيَّنُ كَوْنُهُ مُرَادًا لِلنَّاكِلِ حَتَّى يَتِمَّ الْمَطْلُوبُ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ فِي تَقْرِيرِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ خَلْطَ الْمَذْهَبَيْنِ كَمَا تَرَى .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ التَّوَرُّعَ عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ سِيَّمَا عَنْ الْيَمِينِ الْغَمُوسِ كَمَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ، إنَّمَا

يَحِلُّ إذَا لَمْ يُفْضِ إلَى الضَّرَرِ بِالْغَيْرِ بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّ التَّوَرُّعَ عَنْهَا وَاجِبٌ فِي كُلِّ حَالٍ .
وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ : فِيهِ بَحْثٌ ، فَإِنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْإِفْضَاءِ إلَى الضَّرَرِ بِالْغَيْرِ غَيْرُ ظَاهِرٍ انْتَهَى .
أَقُولُ : هَذَا غَيْرُ وَارِدٍ ، فَإِنَّ الْإِفْضَاءَ إلَيْهِ فِي صُورَةِ التَّوَرُّعِ عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ ظَاهِرٌ جِدًّا ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْمُنْكِرِ كَاذِبًا فِي يَمِينِهِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِيمَا إذَا كَانَ لِلْمُدَّعِي حَقٌّ عَلَيْهِ فِي الْوَاقِعِ ، فَحِينَئِذٍ لَوْ تَوَرَّعَ عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ بِدُونِ الْبَذْلِ أَوْ الْإِقْرَارِ أَفْضَى إلَى الضَّرَرِ بِالْمُدَّعِي قَطْعًا لِتَضْيِيعِ حَقِّهِ وَهُوَ مَا ادَّعَاهُ ، وَكَذَا الْإِفْضَاءُ إلَيْهِ فِي صُورَةِ التَّرَفُّعِ عَنْ الْيَمِينِ الصَّادِقَةِ يَظْهَرُ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ ؛ لِأَنَّ يَمِينَ الْمُنْكِرِ حَقُّ الْمُدَّعِي لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَك يَمِينُهُ } كَمَا مَرَّ ، فَلَوْ تَرَفَّعَ عَنْ الْيَمِينِ وَلَوْ عَنْ الصَّادِقَةِ بِدُونِ رِضَا الْمُدَّعِي بِالْبَذْلِ وَنَحْوِهِ أَفْضَى إلَى الضَّرَرِ بِالْمُدَّعِي بِمَنْعِ حَقِّهِ وَهُوَ يَمِينُ خَصْمِهِ .
وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَصَاحِبُ الْكِفَايَةِ : فَتَرَجَّحَ هَذَا الْجَانِبُ : أَيْ جَانِبُ كَوْنِهِ بَاذِلًا أَوْ مُقِرًّا عَلَى جَانِبِ التَّوَرُّعِ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَلْزَمَهُ التَّوَرُّعَ عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ دُونَ التَّرَفُّعِ عَنْ الْيَمِينِ الصَّادِقَةِ فَلِذَلِكَ تَرَجَّحَ هَذَا الْجَانِبُ فِي نُكُولِهِ انْتَهَى .
أَقُولُ : وَفِيهِ أَيْضًا بَحْثٌ ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ مَا ذَكَرَاهُ مِنْ الدَّلِيلِ إنَّمَا أَفَادَ رُجْحَانَ هَذَا الْجَانِبِ : أَيْ جَانِبِ كَوْنِهِ بَاذِلًا أَوْ مُقِرًّا عَلَى التَّرَفُّعِ عَنْ الْيَمِينِ الصَّادِقَةِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ التَّرَفُّعُ عَنْهَا مِمَّا أَلْزَمَهُ الشَّرْعُ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَلْتَزِمَهُ النَّاكِلُ ، وَلَمْ يُفِدْ رُجْحَانُهُ عَلَى التَّوَرُّعِ عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِمَا عَلَى جَانِبِ التَّوَرُّعِ ، وَإِنْ أُرِيدَ

بِجَانِبِ التَّوَرُّعِ الْجَانِبُ الْمُقَابِلُ لِجَانِبِ الْبَذْلِ وَالْإِقْرَارِ لَا التَّوَرُّعُ نَفْسُهُ فَيَكُونُ التَّرَفُّعُ أَيْضًا دَاخِلًا فِي ذَلِكَ الْجَانِبِ ، يَبْقَى أَنْ يُقَالَ : مَا ذَكَرَاهُ مِنْ الدَّلِيلِ إنَّمَا أَفَادَ رُجْحَانَ جَانِبِ كَوْنِهِ بَاذِلًا أَوْ مُقِرًّا عَلَى التَّرَفُّعِ عَنْ الْيَمِينِ الصَّادِقَةِ فَقَطْ ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ وَاحِدًا مِنْ الْمُحْتَمَلَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي دَلِيلِ الْخَصْمِ ، وَبِمُجَرَّدِ الرُّجْحَانِ عَلَيْهِ لَا يَتِمُّ مَطْلُوبُنَا كَمَا مَرَّ آنِفًا .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ مَا ذَكَرَاهُ مِنْ الدَّلِيلِ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَغَيْرُ مُنْفَهِمٍ مِنْهُ ، فَكَيْفَ يَتِمُّ بِنَاءُ شَرْحِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ ، فَتَرَجَّحَ هَذَا الْجَانِبُ عَلَيْهِ ، وَالْفَاءُ فِي فَتَرَجَّحَ تَقْتَضِي التَّفْرِيعَ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ كَلَامِهِ كَمَا لَا يَخْفَى .
وَقَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ : فَتَرَجَّحَ هَذَا الْجَانِبُ : أَيْ تَرَجَّحَ جَانِبُ كَوْنِ النَّاكِلِ بَاذِلًا أَوْ مُقِرًّا عَلَى الْوَجْهِ الْمُحْتَمَلِ ، وَهُوَ كَوْنُهُ مُتَوَرِّعًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ لِأَنَّ النُّكُولَ امْتِنَاعٌ عَنْ الْيَمِينِ الَّتِي وَجَبَتْ عَلَيْهِ ، فَلَوْلَا أَنَّ النُّكُولَ بَذْلٌ أَوْ إقْرَارٌ لَكَانَ النُّكُولُ امْتِنَاعًا عَنْ الْوَاجِبِ وَظُلْمًا عَلَى الْمُدَّعِي ، وَالْعَاقِلُ الدَّيِّنُ لَا يَتْرُكُ الْوَاجِبَ وَلَا يُقْدِمُ عَلَى الظُّلْمِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ النُّكُولَ إنْ كَانَ امْتِنَاعًا عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ يَكُونُ إقْرَارًا ، وَإِنْ كَانَ امْتِنَاعًا عَنْ الْيَمِينِ الصَّادِقَةِ يَكُونُ بَذْلًا انْتَهَى .
أَقُولُ : وَفِيهِ أَيْضًا بَحْثٌ ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ وَظُلْمًا عَلَى الْمُدَّعِي لَيْسَ بِتَامٍّ ، إذْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ النُّكُولَ لَوْ لَمْ يَكُنْ بَذْلًا أَوْ إقْرَارًا لَكَانَ ظُلْمًا عَلَى الْمُدَّعِي لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لِلتَّرَفُّعِ عَنْ الْيَمِينِ الصَّادِقَةِ ، فَحِينَئِذٍ لَا يَتَحَقَّقُ الظُّلْمُ عَلَى الْمُدَّعِي لِأَنَّ صِدْقَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي إنْكَارِهِ يَسْتَلْزِمُ كَذِبَ الْمُدَّعِي فِي دَعْوَاهُ وَالْكَاذِبُ لَيْسَ بِمَظْلُومٍ

بَلْ هُوَ ظَالِمٌ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ : يَجُوزُ أَنْ يُعَدَّ النُّكُولُ ظُلْمًا عَلَى الْمُدَّعِي فِي صُورَةِ صِدْقِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَيْضًا مِنْ جِهَةِ أَنَّ يَمِينَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَقُّ الْمُدَّعِي بِمُوجِبِ الْحَدِيثِ عَلَى مَا مَرَّ ، وَأَنَّ فِي النُّكُولِ عَنْهَا مَنْعَ هَذَا الْحَقِّ فَصَارَ النَّاكِلُ ظَالِمًا عَلَى الْمُدَّعِي فِي الْجُمْلَةِ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ فِي التَّوْزِيعِ الْحَاصِلِ مِنْ قَوْلِهِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ النُّكُولَ إنْ كَانَ امْتِنَاعًا عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ يَكُونُ إقْرَارًا ، وَإِنْ كَانَ امْتِنَاعًا عَنْ الْيَمِينِ الصَّادِقَةِ يَكُونُ بَذْلًا خَلَلًا حَيْثُ لَا يَكُونُ الْمَطْلُوبُ حِينَئِذٍ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ الْمَذْهَبَيْنِ ، بَلْ يَحْتَاجُ إلَى خَلْطِهِمَا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي بَحْثِنَا الْأَوَّلِ فِي كَلَامِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ ، فَالصَّوَابُ عِنْدِي فِي حَلِّ مُرَادِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا أَنْ يُقَالَ : فَتَرَجَّحَ هَذَا الْجَانِبُ : أَيْ جَانِبُ كَوْنِ النَّاكِلِ بَاذِلًا أَوْ مُقِرًّا عَلَى جَمِيعِ الْوُجُوهِ الْمُحْتَمَلَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي دَلِيلِ الشَّافِعِيِّ بِنَاءً عَلَى مُقْتَضَى مَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ إذْ لَوْلَا ذَلِكَ لَأَقْدَمَ عَلَى الْيَمِينِ إقَامَةً لِلْوَاجِبِ وَدَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ .
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْعَاقِلَ الدَّيِّنَ لَا يَتْرُكُ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ وَلَا يَتْرُكُ دَفْعَ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ بِشَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْوُجُوهِ الْمُحْتَمَلَةِ .
أَمَّا بِالتَّرَفُّعِ عَنْ الْيَمِينِ الصَّادِقَةِ فَظَاهِرٌ ، إذْ هُوَ لَيْسَ بِأَمْرٍ ضَرُورِيٍّ أَصْلًا حَتَّى يَتْرُكَ بِهِ الْوَاجِبَ وَدَفْعَ الضَّرَرِ عَنْ النَّفْسِ ، وَأَمَّا بِالتَّوَرُّعِ عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ فَلِأَنَّ الْمُتَوَرِّعَ لَا يَتْرُكُ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ بَلْ يُعْطِي حَقَّ خَصْمِهِ فَيَسْقُطُ الْوَاجِبُ عَنْ عُهْدَتِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ النَّاكِلُ بَاذِلًا أَوْ مُقِرًّا وَلَمْ يُقْدِمْ عَلَى الْيَمِينِ انْتَفَى احْتِمَالُ كَوْنِهِ مُتَوَرِّعًا .
وَأَمَّا بِاشْتِبَاهِ الْحَالِ فَلِأَنَّ مَنْ يُشْتَبَهُ عَلَيْهِ الْحَالُ لَا يَتْرُكُ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ أَيْضًا بَلْ

يَتَحَرَّى فَيُقْدِمُ عَلَى إقَامَةِ الْوَاجِبِ أَوْ يُعْطِي حَقَّ خَصْمِهِ فَيَسْقُطُ عَنْ عُهْدَتِهِ الْوَاجِبُ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ النَّاكِلُ بَاذِلًا أَوْ مُقِرًّا وَلَمْ يُقْدِمْ عَلَى الْيَمِينِ انْتَفَى هَذَا الِاحْتِمَالُ أَيْضًا .
وَبِالْجُمْلَةِ إنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ إذْ لَوْلَا ذَلِكَ لَأَقْدَمَ عَلَى الْيَمِينِ إقَامَةً لِلْوَاجِبِ وَدَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ يَنْدَفِعُ بِهَا الْوُجُوهُ الْمُحْتَمَلَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي دَلِيلِ الشَّافِعِيِّ بِأَسْرِهَا فَيَتَرَجَّحُ كَوْنُ النَّاكِلِ بَاذِلًا أَوْ مُقِرًّا بِالضَّرَرِ ( وَلَا وَجْهَ لِرَدِّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي لِمَا قَدَّمْنَاهُ ) أَشَارَ بِهِ إلَى قَوْلِهِ وَلَا تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ } إلَخْ ، وَنَحْنُ أَيْضًا قَدَّمْنَا وَاسْتَوْفَيْنَا هُنَاكَ دَلِيلَ الشَّافِعِيِّ فِي رَدِّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي وَأَجْوِبَتَنَا عَنْهُ نَقْلًا عَنْ الْكَافِي وَالتَّبْيِينِ بِمَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ فَتَذَكَّرْ

قَالَ ( وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَقُولَ لَهُ إنِّي أَعْرِضُ عَلَيْك الْيَمِينَ ثَلَاثًا ، فَإِنْ حَلَفْت وَإِلَّا قَضَيْت عَلَيْك بِمَا ادَّعَاهُ ) وَهَذَا الْإِنْذَارُ لِإِعْلَامِهِ بِالْحُكْمِ إذْ هُوَ مَوْضِعُ الْخَفَاءِ
( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَقُولَ لَهُ ) أَيْ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ ( إنِّي أَعْرِضُ عَلَيْك الْيَمِينَ ثَلَاثًا ) أَيْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ( فَإِنْ حَلَفْت ) أَيْ إنْ حَلَفْت خَلَصْتَ أَوْ تَرَكْتُك ( وَإِلَّا قَضَيْت عَلَيْك بِمَا ادَّعَاهُ ) أَيْ بِمَا ادَّعَاهُ الْمُدَّعِي .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَهَذَا الْإِنْذَارُ ) أَيْ قَوْلُ الْقَاضِي وَإِلَّا قَضَيْت عَلَيْك بِمَا ادَّعَاهُ ( لِإِعْلَامِهِ بِالْحُكْمِ ) أَيْ الْحُكْمِ بِالنُّكُولِ ( إذْ هُوَ مَوْضِعُ الْخَفَاءِ ) لِكَوْنِهِ مُجْتَهِدًا فِيهِ ، فَإِنَّ لِلشَّافِعِيِّ خِلَافًا فِيهِ ، فَيَجُوزُ أَنْ يَلْتَبِسَ عَلَيْهِ مَا يَلْزَمُهُ بِالنُّكُولِ فَوَجَبَ أَنْ يُعَرِّفَهُ حَتَّى يَحْلِفَ أَوْ يَنْكُلَ ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ

.
قَالَ ( فَإِذَا كَرَّرَ الْعَرْضَ عَلَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ قُضِيَ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ ) وَهَذَا التَّكْرَارُ ذَكَرَهُ الْخَصَّافُ رَحِمَهُ اللَّهُ لِزِيَادَةِ الِاحْتِيَاطِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي إبْلَاءِ الْعُذْرِ ، فَأَمَّا الْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَوْ قُضِيَ بِالنُّكُولِ بَعْدَ الْعَرْضِ مَرَّةً جَازَ لِمَا قَدَّمْنَاهُ هُوَ الصَّحِيحُ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ثُمَّ النُّكُولُ قَدْ يَكُونُ حَقِيقِيًّا كَقَوْلِهِ لَا أَحْلِفُ ، وَقَدْ يَكُونُ حُكْمِيًّا بِأَنْ يَسْكُتَ ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْأَوَّلِ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا آفَةَ بِهِ مِنْ طَرَشٍ أَوْ خَرَسٍ هُوَ الصَّحِيحُ

( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( فَإِذَا كَرَّرَ الْعَرْضَ عَلَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ قُضِيَ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ ) قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَهَذَا التَّكْرَارُ ذَكَرَهُ الْخَصَّافُ لِزِيَادَةِ الِاحْتِيَاطِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي إبْلَاءِ الْأَعْذَارِ ) أَيْ فِي إظْهَارِهَا : يَعْنِي أَنَّ هَذَا التَّكْرَارَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْخَصَّافُ لِلِاسْتِحْبَابِ لَا لِأَنَّهُ شَرْطٌ لِجَوَازِ الْقَضَاءِ بِالنُّكُولِ ، وَنَظِيرُهُ إمْهَالُ الْمُرْتَدِّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، فَإِنَّهُ مُسْتَحَبٌّ لَا وَاجِبٌ ؛ وَأَوْضَحَ هَذَا بِقَوْلِهِ ( فَأَمَّا الْمَذْهَبُ فَإِنَّهُ لَوْ قُضِيَ بِالنُّكُولِ بَعْدَ الْعَرْضِ مَرَّةً جَازَ لِمَا قَدَّمْنَاهُ ) مِنْ أَنَّ النُّكُولَ بَذْلٌ أَوْ إقْرَارٌ وَلَيْسَ التَّكْرَارُ بِشَرْطٍ فِي شَيْءٍ مِنْهُمَا ( هُوَ الصَّحِيحُ ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ إنَّهُ لَوْ قَضَى بِالنُّكُولِ مَرَّةً وَاحِدَةً لَا يَنْفُذُ ، كَذَا فِي أَكْثَرِ الشُّرُوحِ ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ صَاحِبِ الْكَافِي وَالتَّقْدِيرُ بِالثَّلَاثِ فِي عَرْضِ الْيَمِينِ لَازِمٌ فِي الْمَرْوِيِّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لِلِاحْتِيَاطِ ، حَتَّى لَوْ قَضَى بِالنُّكُولِ مَرَّةً نَفَذَ قَضَاؤُهُ فِي الصَّحِيحِ انْتَهَى .
وَقَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ : احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ الْخَصَّافِ فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ التَّكْرَارُ انْتَهَى .
أَقُولُ : هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ صَحِيحٍ ، فَإِنَّ الْمُصَنِّفَ بَعْدَمَا صَرَّحَ بِأَنَّ الْخَصَّافَ ذَكَرَ التَّكْرَارَ لِزِيَادَةِ الِاحْتِيَاطِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي إبْلَاءِ الْأَعْذَارِ كَيْفَ يَزْعُمُ أَنَّهُ اشْتَرَطَ التَّكْرَارَ فَيُحْتَرَزُ عَنْ قَوْلِهِ ( وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ) أَيْ الْعَرْضُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ أَوْلَى : يَعْنِي أَنَّ الْقَضَاءَ بِالنُّكُولِ بَعْدَ الْعَرْضِ مَرَّةً جَائِزٌ وَلَكِنَّ الْأَوْلَى هُوَ الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ بَعْدَ الْعَرْضِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ .
وَفِي النِّهَايَةِ : وَذَكَرَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ صُورَةَ الْمَسْأَلَةِ قَالَ : رَجُلٌ قَدَّمَ رَجُلًا إلَى الْقَاضِي فَادَّعَى عَلَيْهِ مَالًا أَوْ ضَيْعَةً فِي يَدِهِ أَوْ حَقًّا مِنْ

الْحُقُوقِ فَأَنْكَرَ فَاسْتَحْلَفَهُ الْقَاضِي فَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ ، فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَقُولَ لَهُ إنِّي أَعْرِضُ عَلَيْك الْيَمِينَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، فَإِنْ حَلَفْت وَإِلَّا أَلْزَمْتُك الْمُدَّعَى ، ثُمَّ يَقُولُ لَهُ الْقَاضِي : احْلِفْ بِاَللَّهِ مَا لِهَذَا عَلَيْك هَذَا الْمَالُ الَّذِي يَدَّعِي وَهُوَ كَذَا وَكَذَا وَلَا شَيْءَ مِنْهُ ، فَإِنْ أَبَى أَنْ يَحْلِفَ بِاَللَّهِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى يَقُولُ لَهُ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ كَذَلِكَ ، فَإِنْ أَبَى أَنْ يَحْلِفَ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ يَقُولُ لَهُ بَقِيَتْ الثَّالِثَةُ ثُمَّ أَقْضِي عَلَيْك إنْ لَمْ تَحْلِفْ ، ثُمَّ يَقُولُ لَهُ ثَالِثًا احْلِفْ بِاَللَّهِ مَا لِهَذَا عَلَيْك هَذَا الْمَالُ وَلَا شَيْءَ مِنْهُ ، فَإِنْ أَبَى أَنْ يَحْلِفَ يَقْضِي عَلَيْهِ بِدَعْوَى الْمُدَّعِي ، وَإِنْ قَضَى الْقَاضِي بِالنُّكُولِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى نَفَذَ قَضَاؤُهُ انْتَهَى .
قَالَ صَاحِبُ الْكَافِي : وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ النُّكُولُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ الْقَضَاءُ عَلَى فَوْرِ النُّكُولِ ؟ فِيهِ اخْتِلَافٌ انْتَهَى .
وَقَالَ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ : وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ النُّكُولُ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ يَمِينٌ قَاطِعٌ لِلْخُصُومَةِ ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْيَمِينِ عِنْدَ غَيْرِهِ فِي حَقِّ الْخُصُومَةِ فَلَا يُعْتَبَرُ ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ الْقَضَاءُ عَلَى فَوْرِ النُّكُولِ ؟ فِيهِ اخْتِلَافٌ .
ثُمَّ إذَا حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَالْمُدَّعِي عَلَى دَعْوَاهُ وَلَا يَبْطُلُ حَقُّهُ بِيَمِينِهِ ، إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَهُ مَا لَمْ يُقِمْ الْبَيِّنَةَ عَلَى وَفْقِ دَعْوَاهُ ، فَإِنْ وَجَدَ بَيِّنَةً أَقَامَهَا عَلَيْهِ وَقَضَى لَهُ بِهَا ، وَبَعْضُ الْقُضَاةِ مِنْ السَّلَفِ كَانُوا لَا يَسْمَعُونَ الْبَيِّنَةَ بَعْدَ الْحَلِفِ وَيَقُولُونَ تَرَجَّحَ جَانِبُ صِدْقِهِ بِالْيَمِينِ فَلَا تُقْبَلُ بَيِّنَةُ الْمُدَّعِي بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا تَرَجَّحَ جَانِبُ صِدْقِ الْمُدَّعِي بِالْبَيِّنَةِ حَتَّى لَا يُعْتَبَرَ يَمِينُ الْمُنْكِرِ مَعَهَا ، وَهَذَا الْقَوْلُ مَهْجُورٌ غَيْرُ

مَأْخُوذٍ بِهِ ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ أَصْلًا لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَبِلَ الْبَيِّنَةَ مِنْ الْمُدَّعِي بَعْدَ يَمِينِ الْمُنْكِرِ .
وَكَانَ شُرَيْحٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : الْيَمِينُ الْفَاجِرَةُ أَحَقُّ أَنْ تُرَدَّ مِنْ الْبَيِّنَةِ الْعَادِلَةِ ، وَهَلْ يَظْهَرُ كَذِبُ الْمُنْكِرِ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ ؟ وَالصَّوَابُ أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ كَذِبُهُ حَتَّى لَا يُعَاقَبَ عُقُوبَةَ شَاهِدِ الزُّورِ وَلَا يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ : إنْ كَانَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَادَّعَى عَلَيْهِ فَأَنْكَرَ فَحَلَفَ ثُمَّ أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ أَلْفًا ، وَقِيلَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَظْهَرُ كَذِبُهُ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَظْهَرُ ، إلَى هَاهُنَا كَلَامُهُ ( ثُمَّ النُّكُولُ قَدْ يَكُونُ حَقِيقِيًّا كَقَوْلِهِ لَا أَحْلِفُ وَقَدْ يَكُونُ حُكْمِيًّا بِأَنْ يَسْكُتَ ، وَحُكْمُهُ ) أَيْ حُكْمُ الثَّانِي وَهُوَ الْحُكْمِيُّ ( حُكْمُ الْأَوَّلِ ) وَهُوَ الْحَقِيقِيُّ ( إذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا آفَةَ بِهِ ) أَيْ بِالْمُدَّعَى عَلَيْهِ ( مِنْ طَرَشٍ ) الطَّرَشُ بِفَتْحَتَيْنِ أَهْوَنُ الصَّمَمِ يُقَالُ هُوَ مُوَلَّدٌ ( أَوْ خَرَسٍ ) بِفَتْحَتَيْنِ أَيْضًا : آفَةٌ بِاللِّسَانِ تَمْنَعُ الْكَلَامَ أَصْلًا ( هُوَ الصَّحِيحُ ) اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِيمَا إذَا سَكَتَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَعْدَ عَرْضِ الْيَمِينِ عَلَيْهِ وَلَمْ يَقُلْ لَا أَحْلِفُ .
فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : إذَا سَكَتَ سَأَلَ الْقَاضِي عَنْهُ هَلْ بِهِ خَرَسٌ أَوْ طَرَشٌ ، فَإِنْ قَالُوا لَا جَعَلَهُ نَاكِلًا وَقَضَى عَلَيْهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يَجْلِسُ حَتَّى يُجِيبَ ، وَالْأَوَّلُ صَحِيحٌ كَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ نَقْلًا عَنْ شَرْحِ الْأَقْطَعِ

قَالَ ( وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى نِكَاحًا لَمْ يُسْتَحْلَفْ الْمُنْكِرُ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَلَا يُسْتَحْلَفُ عِنْدَهُ فِي النِّكَاحِ وَالرَّجْعَةِ وَالْفَيْءِ فِي الْإِيلَاءِ وَالرِّقِّ وَالِاسْتِيلَادِ وَالنَّسَبِ وَالْوَلَاءِ وَالْحُدُودِ وَاللِّعَانِ .
وَقَالَا : يُسْتَحْلَفُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إلَّا فِي الْحُدُودِ وَاللِّعَانِ وَصُورَةُ الِاسْتِيلَادِ أَنْ تَقُولَ الْجَارِيَةُ أَنَا أُمُّ وَلَدٍ لِمَوْلَايَ وَهَذَا ابْنِي مِنْهُ وَأَنْكَرَ الْمَوْلَى ، لِأَنَّهُ لَوْ ادَّعَى الْمَوْلَى ثَبَتَ الِاسْتِيلَادُ بِإِقْرَارِهِ وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى إنْكَارِهَا .
لَهُمَا أَنَّ النُّكُولَ إقْرَارٌ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ كَاذِبًا فِي الْإِنْكَارِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ ، إذْ لَوْلَا ذَلِكَ لَأَقْدَمَ عَلَى الْيَمِينِ الصَّادِقَةِ إقَامَةً لِلْوَاجِبِ فَكَانَ إقْرَارًا أَوْ بَدَلًا عَنْهُ ، وَالْإِقْرَارُ يَجْرِي فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَكِنَّهُ إقْرَارٌ فِيهِ شُبْهَةٌ ، وَالْحُدُودُ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ ، وَاللِّعَانُ فِي مَعْنَى الْحَدِّ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ بَذْلٌ لِأَنَّ مَعَهُ لَا تَبْقَى الْيَمِينُ وَاجِبَةً لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَإِنْزَالُهُ بَاذِلًا أَوْلَى كَيْ لَا يَصِيرَ كَاذِبًا فِي الْإِنْكَارِ وَالْبَذْلُ لَا يَجْرِي فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ .
وَفَائِدَةُ الِاسْتِحْلَافِ الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ فَلَا يُسْتَحْلَفُ ، إلَّا أَنَّ هَذَا بَذْلٌ لِدَفْعِ الْخُصُومَةِ فَيَمْلِكُهُ الْمُكَاتَبُ وَالْعَبْدُ الْمَأْذُونُ بِمَنْزِلَةِ الضِّيَافَةِ الْيَسِيرَةِ ، وَصِحَّتُهُ فِي الدَّيْنِ بِنَاءً عَلَى زَعْمِ الْمُدَّعِي وَهُوَ مَا يَقْبِضُهُ حَقًّا لِنَفْسِهِ ، وَالْبَذْلُ مَعْنَاهُ هَاهُنَا تَرْكُ الْمَنْعِ وَأَمْرُ الْمَالِ هَيِّنٌ

( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى نِكَاحًا لَمْ يُسْتَحْلَفْ الْمُنْكِرُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا يُسْتَحْلَفُ عِنْدَهُ ) يُرِيدُ بِهِ التَّعْمِيمَ بَعْدَ تَخْصِيصِ النِّكَاحِ بِالذِّكْرِ ( فِي النِّكَاحِ ) أَيْ لَا يُسْتَحْلَفُ عِنْدَهُ فِي دَعْوَى النِّكَاحِ بِأَنْ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى امْرَأَةٍ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا أَوْ بِالْعَكْسِ ( وَالرَّجْعَةِ ) أَيْ لَا يُسْتَحْلَفُ عِنْدَهُ فِي دَعْوَى الرَّجْعَةِ أَيْضًا بِأَنْ ادَّعَى بَعْدَ الطَّلَاقِ وَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَنَّهُ كَانَ رَاجَعَهَا فِي الْعِدَّةِ وَأَنْكَرَتْ أَوْ بِالْعَكْسِ ( وَالْفَيْءِ فِي الْإِيلَاءِ ) أَيْ فِي دَعْوَى الْفَيْءِ بِالْإِيلَاءِ أَيْضًا بِأَنْ ادَّعَى بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ أَنَّهُ كَانَ فَاءَ إلَيْهَا فِي الْمُدَّةِ وَأَنْكَرَتْ أَوْ بِالْعَكْسِ ( وَالرِّقِّ ) أَيْ وَفِي دَعْوَى الرِّقِّ أَيْضًا بِأَنْ ادَّعَى عَلَى مَجْهُولِ النَّسَبِ أَنَّهُ عَبْدُهُ وَأَنْكَرَ الْمَجْهُولُ أَوْ بِالْعَكْسِ ( وَالِاسْتِيلَادِ ) أَيْ وَفِي دَعْوَى الِاسْتِيلَادِ أَيْضًا بِأَنْ ادَّعَتْ أَمَةٌ عَلَى مَوْلَاهَا أَنَّهَا وَلَدَتْ مِنْهُ وَلَدًا وَأَنْكَرَ الْمَوْلَى وَلَا يَجْرِي فِيهِ الْعَكْسُ كَمَا سَيَذْكُرُهُ الْمُصَنِّفُ ( وَالنَّسَبِ ) أَيْ وَفِي دَعْوَى النَّسَبِ أَيْضًا بِأَنْ ادَّعَى عَلَى مَجْهُولٍ أَنَّهُ وَلَدُهُ أَوْ وَالِدُهُ وَأَنْكَرَ الْمَجْهُولُ أَوْ بِالْعَكْسِ .
( وَالْوَلَاءِ ) أَيْ وَفِي دَعْوَى الْوَلَاءِ أَيْضًا بِأَنْ ادَّعَى عَلَى مَجْهُولِ النَّسَبِ أَنَّهُ مُعْتِقُهُ وَمَوْلَاهُ وَأَنْكَرَ الْمَجْهُولُ أَوْ بِالْعَكْسِ أَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي وَلَاءِ الْمُوَالَاةِ ، إذْ الْوَلَاءُ يَشْمَلُ وَلَاءَ الْعَتَاقَةِ وَوَلَاءَ الْمُوَالَاةِ ( وَالْحُدُودِ ) أَيْ وَفِي دَعْوَى الْحُدُودِ أَيْضًا بِأَنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ مَا يُوجِبُ حَدًّا مِنْ الْحُدُودِ وَأَنْكَرَهُ الْآخَرُ ( وَاللِّعَانِ ) أَيْ وَفِي دَعْوَى اللِّعَانِ أَيْضًا بِأَنْ ادَّعَتْ عَلَى زَوْجِهَا أَنَّهُ قَذَفَهَا بِمَا يُوجِبُ اللِّعَانَ وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا مَذْكُورَةٌ فِي مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ هَاهُنَا ،

إلَّا اللِّعَانَ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِيهِ وَلَكِنَّهُ مَذْكُورٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ ( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : يُسْتَحْلَفُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إلَّا فِي الْحُدُودِ وَاللِّعَانِ ) فَتَقَرَّرَ أَنَّهُ لَا يُسْتَحْلَفُ فِي الْحُدُودِ وَاللِّعَانِ عَلَى قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ، وَإِنَّمَا اخْتِلَافُهُمْ فِي الْأَشْيَاءِ السَّبْعَةِ الْبَاقِيَةِ .
وَفِي الْكَافِي قَالَ الْقَاضِي فَخْرُ الدِّينِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا ، وَقِيلَ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَنْظُرَ فِي حَالِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، فَإِنْ رَآهُ مُتَعَنِّتًا يُحَلِّفُهُ وَيَأْخُذُهُ بِقَوْلِهِمَا ، وَإِنْ كَانَ مَظْلُومًا لَا يُحَلِّفُهُ أَخْذًا بِقَوْلِهِ انْتَهَى .
وَفِي النِّهَايَةِ : هَذَا كُلُّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ الْمَقْصُودُ مَالًا ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ دَعْوَى مَالٍ بِأَنْ ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا وَطَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَلَهَا عَلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ وَأَنْكَرَ يُسْتَحْلَفُ فِي قَوْلِهِمْ ، فَإِنْ نَكَلَ يُقْضَى عَلَيْهِ بِبَيِّنَةٍ بِنِصْفِ الْمَهْرِ عَلَى مَا يَجِيءُ بَعْدَ هَذَا فِي الْكِتَابِ .
وَسُئِلَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ عَبْدُ الْوَاحِدِ الشَّيْبَانِيُّ عَنْ الْمَرْأَةِ إذَا كَانَتْ تَعْلَمُ بِالنِّكَاحِ وَلَا تَجِدُ بَيِّنَةً تُقِيمُهَا لِإِثْبَاتِ النِّكَاحِ وَالزَّوْجُ يُنْكِرُ مَاذَا يَصْنَعُ الْقَاضِي حَتَّى لَا تَبْقَى هَذِهِ الْمَرْأَةُ مُعَلَّقَةً أَبَدَ الدَّهْرِ ؟ قَالَ يَسْتَحْلِفُهُ الْقَاضِي إنْ كَانَتْ هَذِهِ امْرَأَةً لَك فَهِيَ طَالِقٌ حَتَّى يَقَعَ الطَّلَاقُ إنْ كَانَتْ امْرَأَتَهُ فَتَتَخَلَّصُ مِنْهُ وَتَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ .
وَذَكَرَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ فِي أَدَبِ الْقَاضِي فِي بَابِ الْيَمِينِ أَنَّ الْفَقِيهَ أَبَا اللَّيْثِ أَخَذَ بِقَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، وَهَكَذَا فِي الْوَاقِعَاتِ أَيْضًا .
وَكَيْفِيَّةُ الِاسْتِحْلَافِ عِنْدَهُمَا أَنْ يَحْلِفَ عَلَى الْحَاصِلِ إنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الْمُدَّعِيَةُ بِاَللَّهِ مَا هَذِهِ امْرَأَتُك بِهَذَا النِّكَاحِ الَّذِي ادَّعَتْهُ ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الْمُدَّعِي تَحْلِفُ

بِاَللَّهِ مَا هَذَا زَوْجُك عَلَى مَا ادَّعَى .
وَالْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ مَشَايِخِنَا عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَنْظُرَ فِي حَالِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، فَإِنْ رَآهُ مُتَعَنِّتًا يُحَلِّفُهُ وَيَأْخُذُ بِقَوْلِهِمَا ، وَإِنْ رَآهُ مَظْلُومًا لَا يُحَلِّفُهُ أَخْذًا بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ كَمَا اخْتَارَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي التَّوْكِيلِ بِالْخُصُومَةِ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ الْخَصْمِ وَبِغَيْرِ رِضَاهُ أَنَّ الْقَاضِيَ إنْ عَلِمَ بِالْمُدَّعِي التَّعَنُّتَ فِي إبَاءِ التَّوْكِيلِ لَا يُمَكِّنُهُ مِنْ ذَلِكَ وَيَقْبَلُ التَّوْكِيلَ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ الْخَصْمِ ، وَإِنْ عَلِمَ بِالْمُوَكِّلِ الْقَصْدَ إلَى الْإِضْرَارِ بِالْمُدَّعِي فِي التَّوْكِيلِ لَا يَقْبَلُ ذَلِكَ إلَّا بِرِضَا الْخَصْمِ حَتَّى يَكُونَ دَافِعًا لِلضَّرَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، كَذَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِقَاضِي خَانْ وَالْمَحْبُوبِيِّ .
وَفِي الْحُدُودِ : لَا يُسْتَحْلَفُ بِالْإِجْمَاعِ إلَّا إذَا تَضَمَّنَ حَقًّا بِأَنْ عَلَّقَ عِتْقَ عَبْدِهِ بِالزِّنَا وَقَالَ إنْ زَنَيْت فَأَنْتَ حُرٌّ فَادَّعَى الْعَبْدُ أَنَّهُ قَدْ زَنَى وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ عَلَيْهِ يُسْتَحْلَفُ الْمَوْلَى ، حَتَّى إذَا نَكَلَ ثَبَتَ الْعِتْقُ دُونَ الزِّنَا ، كَذَا ذَكَرَهُ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ فِي أَدَبِ الْقَاضِي ، إلَى هُنَا لَفْظُ النِّهَايَةِ ( وَصُورَةُ الِاسْتِيلَادِ أَنْ تَقُولَ الْجَارِيَةُ أَنَا أُمُّ وَلَدٍ لِمَوْلَايَ وَهَذَا ابْنِي مِنْهُ وَأَنْكَرَ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ادَّعَى الْمَوْلَى يَثْبُتُ الِاسْتِيلَادُ بِإِقْرَارِهِ وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى إنْكَارِهَا ) وَإِنَّمَا خَصَّ صُورَةَ الِاسْتِيلَادِ بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ أَخَوَاتِهِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لَا مَسَاغَ لِلدَّعْوَى فِي هَذِهِ الصُّورَةِ إلَّا مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ ، بِخِلَافِ أَخَوَاتِهِ الْخِلَافِيَّةِ فَإِنَّ لِلدَّعْوَى فِيهَا مَسَاغًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ كَمَا صَوَّرْنَاهُ فِيمَا مَرَّ ( لَهُمَا ) أَيْ لِأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ( أَنَّ النُّكُولَ إقْرَارٌ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ كَاذِبًا فِي الْإِنْكَارِ ) أَيْ فِي إنْكَارِهِ السَّابِقِ ( عَلَى مَا

قَدَّمْنَاهُ ) يَعْنِي قَوْلَهُ إذْ لَوْلَا ذَلِكَ لَأَقْدَمَ عَلَى الْيَمِينِ إقَامَةً لِلْوَاجِبِ وَدَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ ، وَفِيهَا تَحْصِيلُ الثَّوَابِ بِإِجْرَاءِ ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى لِسَانِهِ تَعْظِيمًا لَهُ وَدَفْعُ تُهْمَةِ الْكَذِبِ عَنْ نَفْسِهِ وَإِبْقَاءُ مَالِهِ عَلَى مِلْكِهِ ، فَلَوْلَا هُوَ كَاذِبٌ فِي يَمِينِهِ لَمَا تَرَكَ هَذِهِ الْفَوَائِدَ الثَّلَاثَ ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا ( فَكَانَ ) أَيْ النُّكُولُ ( إقْرَارًا أَوْ بَدَلًا عَنْهُ ) بِفَتْحِ الدَّالِ : أَيْ خَلَفًا عَنْ الْإِقْرَارِ : يَعْنِي أَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْإِقْرَارِ .
أَقُولُ : لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ رَكَاكَةُ تَحْرِيرِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا ، عَيَّنَ أَوَّلًا كَوْنَ النُّكُولِ إقْرَارًا ، ثُمَّ فَرَّعَ عَلَى دَلِيلِهِ كَوْنَهُ إقْرَارًا أَوْ بَدَلًا عَنْهُ بِالتَّرْدِيدِ ، وَلَا يَدْفَعُهَا مَا ذُكِرَ فِي النِّهَايَةِ وَالْكِفَايَةِ مِنْ أَنَّهُ جَازَ أَنْ يَكُونَ هَذَا التَّرْدِيدُ لِدَفْعِ بَعْضِ الشُّبُهَاتِ الَّتِي تَرِدُ عَلَيْهِمَا فِي الْقَوْلِ بِالْإِقْرَارِ انْتَهَى .
إذْ كَانَ يُمْكِنُ دَفْعُ ذَلِكَ بِذِكْرِ التَّرْدِيدِ أَوَّلًا أَيْضًا أَوْ بِالِاكْتِفَاءِ بِذِكْرِ كَوْنِهِ بَدَلًا عَنْهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مَعًا ، بَلْ كَانَ هَذَا : أَيْ الِاكْتِفَاءُ بِهِ هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي كَمَا سَتَقِفُ عَلَيْهِ ( وَالْإِقْرَارُ يَجْرِي فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ) هَذَا كُبْرَى دَلِيلِهِمَا عَلَى جَوَازِ الِاسْتِحْلَافِ فِي الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ ، تَقْرِيرُهُ أَنَّ النُّكُولَ إقْرَارٌ وَالْإِقْرَارُ يَجْرِي فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ يَنْتُجُ أَنَّ النُّكُولَ يَجْرِي فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ، فَإِذَا جَرَى النُّكُولُ فِيهَا جَرَى الِاسْتِحْلَافُ فِيهَا أَيْضًا لِحُصُولِ فَائِدَةِ الِاسْتِحْلَافِ وَهِيَ الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ كَمَا فِي سَائِرِ مَوَاضِعِ الِاسْتِحْلَافِ ( لَكِنَّهُ ) أَيْ لَكِنَّ النُّكُولَ ( إقْرَارٌ فِيهِ شُبْهَةٌ ) لِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ سُكُوتٌ ( وَالْحُدُودُ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ ) فَلَا يَجْرِي النُّكُولُ فِيهَا ( وَاللِّعَانُ فِي مَعْنَى الْحَدِّ ) لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ حَدِّ الْقَذْفِ

فِي حَقِّ الزَّوْجِ ، حَتَّى أَنَّ كُلَّ قَذْفٍ يُوجِبُ حَدَّ الْقَذْفِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ إذَا قَذَفَ الْأَجْنَبِيَّاتِ فَكَذَلِكَ يُوجِبُ اللِّعَانَ عَلَى الزَّوْجِ ، وَقَائِمٌ مَقَامَ حَدِّ الزِّنَا فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي بَابِ اللِّعَانِ فَلَا يَجْرِي النُّكُولُ فِيهِ أَيْضًا .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَعَلَيْهِ نُقَوِّضُ إجْمَالِيَّةً : الْأَوَّلُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ : رَجُلٌ اشْتَرَى نِصْفَ عَبْدٍ ثُمَّ اشْتَرَى النِّصْفَ الْبَاقِيَ ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَخَاصَمَهُ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ فَأَنْكَرَ الْبَائِعُ وَنَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ فَرُدَّ عَلَيْهِ ثُمَّ خَاصَمَهُ فِي النِّصْفِ الثَّانِي فَأَنْكَرَ لَمْ يَلْزَمْهُ وَيُسْتَحْلَفُ ، وَلَوْ كَانَ النُّكُولُ إقْرَارًا لَزِمَهُ النِّصْفُ الْآخَرُ بِنُكُولِهِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى كَمَا لَوْ أَقَرَّ فِي تِلْكَ الْمَرَّةِ .
وَالثَّانِي الْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ إذَا ادَّعَى عَلَيْهِ عَيْبًا فِي الْمَبِيعِ وَاسْتُحْلِفَ فَنَكَلَ لَزِمَ الْمُوَكِّلَ ، وَلَوْ كَانَ إقْرَارًا لَزِمَ الْوَكِيلَ .
الثَّالِثُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا قَالَ تَكَفَّلْت لَك بِمَا يُقِرُّ لَك بِهِ فُلَانٌ فَادَّعَى الْمَكْفُولُ لَهُ عَلَى فُلَانٍ مَالًا فَأَنْكَرَ وَنَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ فَقَضَى عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ لَا يُقْضَى بِهِ عَلَى الْكَفِيلِ ، وَلَوْ كَانَ النُّكُولُ إقْرَارًا لَقَضَى بِهِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ النُّكُولَ إمَّا إقْرَارٌ أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ .
فَوَجْهُ الْإِقْرَارِ مَا تَقَدَّمَ ، وَوَجْهُ كَوْنِهِ بَدَلًا أَنَّ الْمُدَّعِيَ يَسْتَحِقُّ بِدَعْوَاهُ جَوَابًا يَفْصِلُ الْخُصُومَةَ وَذَكَرَ بِالْإِقْرَارِ وَالْإِنْكَارِ ، فَإِنْ أَقَرَّ فَقَدْ انْقَطَعَتْ ، وَإِنْ أَنْكَرَ لَمْ تَنْقَطِعْ إلَّا بِيَمِينٍ ، فَإِذَا نَكَلَ كَانَ بَدَلًا عَنْ الْإِقْرَارِ بِقَطْعِ الْخُصُومَةِ .
فَالنُّقُوضُ الْمَذْكُورَةُ إنْ وَرَدَتْ عَلَى اعْتِبَارِ كَوْنِهِ إقْرَارًا لَا تُرَدُّ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ بَدَلًا مِنْهُ ، وَمِثْلُ هَذَا يُسَمَّى فِي عِلْمِ النَّظَرِ تَغْيِيرَ الْمُدَّعِي ، إلَى هَاهُنَا كَلَامُهُ .
أَقُولُ : مَا ذَكَرَهُ فِي الْجَوَابِ مَنْظُورٌ فِيهِ مِنْ

وُجُوهٍ : الْأَوَّلُ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ قَوْلِهِ فَوَجْهُ الْإِقْرَارِ مَا تَقَدَّمَ ، وَوَجْهُ كَوْنِهِ بَدَلًا كَيْتَ وَكَيْتَ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ إنَّمَا يَصْلُحُ لَأَنْ يَكُونَ وَجْهَ الْإِقْرَارِ لَا لَأَنْ يَكُونَ وَجْهَ كَوْنِهِ بَدَلًا مِنْهُ مَعَ أَنَّهُ صَالِحٌ لَهُمَا ، وَلِهَذَا فَرَّعَهُمَا الْمُصَنِّفُ عَلَيْهِ حَيْثُ قَالَ : فَكَانَ إقْرَارًا أَوْ بَدَلًا عَنْهُ .
الثَّانِي أَنَّ الْوَجْهَ الَّذِي ذَكَرَهُ لِكَوْنِهِ بَدَلًا مِنْهُ غَيْرُ تَامٍّ ، إذْ يَرِدُ عَلَيْهِ مَنْعُ قَوْلِهِ فَإِذَا نَكَلَ كَانَ بَدَلًا عَنْ الْإِقْرَارِ بِقَطْعِ الْخُصُومَةِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ بَذْلًا كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا بَدَلًا عَنْ الْإِقْرَارِ ، وَقَطْعُهُ الْخُصُومَةَ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ بَدَلًا عَنْهُ لِتَحَقُّقِ الْقَطْعِ الْمَزْبُورِ بِكَوْنِهِ بَذْلًا أَيْضًا ، وَلِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ نَفْسُ الْإِقْرَارِ بَدَلًا عَنْهُ ، فَحِينَئِذٍ أَيْضًا لَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ .
الثَّالِثُ أَنَّ الْإِقْرَارَ إذَا كَانَ مُخَالِفًا فِي الْأَحْكَامِ لِمَا هُوَ بَدَلٌ عَنْهُ كَمَا هُوَ فِي صُورَةِ النُّقُوضِ الْمَذْكُورَةِ فَمِنْ أَيْنَ يُعْرَفُ جَرَيَانُ بَدَلِ الْإِقْرَارِ أَيْضًا فِي الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ حَتَّى يَتِمَّ دَلِيلُهُمَا الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ .
الرَّابِعُ أَنَّ قَوْلَهُ وَمِثْلُ هَذَا يُسَمَّى فِي عِلْمِ النَّظَرِ تَغْيِيرَ الْمُدَّعِي إنَّمَا يَتِمُّ لَوْ كَانَ الْمَذْكُورُ فِي دَلِيلِهِمَا الْمَسْفُورِ كَوْنَ النُّكُولِ إقْرَارًا فَقَطْ .
وَلَمَّا كَانَ الْمَذْكُورُ فِيهِ كَوْنُهُ إقْرَارًا أَوْ بَدَلًا عَنْهُ بِالتَّرْدِيدِ كَمَا تَرَى لَمْ يَحْتَجَّ فِي دَفْعِ النُّقُوضِ الْمَزْبُورَةِ بِمَا ذُكِرَ إلَى تَغْيِيرِ شَيْءٍ أَصْلًا فَلَمْ يَتِمَّ قَوْلُهُ الْمَذْكُورُ .
ثُمَّ إنَّ لِبَعْضِ الْفُضَلَاءِ كَلَامَيْنِ فِي تَحْرِيرِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ هَاهُنَا : أَحَدُهُمَا فِي جَانِبِ السُّؤَالِ وَالْآخَرُ فِي جَانِبِ الْجَوَابِ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَفِي قَوْلِهِ وَعَلَيْهِ نُقُوضٌ إجْمَالِيَّةٌ حَيْثُ قَالَ : بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّ تِلْكَ الْأَسْئِلَةَ الثَّلَاثَةَ مُعَارَضَاتٌ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى

مَنْ لَهُ أَدْنَى تَأَمُّلٍ وَدِرَايَةٍ انْتَهَى .
وَأَمَّا الثَّانِي فَفِي قَوْلِهِ وَمِثْلُ هَذَا يُسَمَّى فِي عِلْمِ النَّظَرِ تَغْيِيرَ الْمُدَّعِي حَيْثُ قَالَ : بَلْ هُوَ تَغْيِيرُ الدَّلِيلِ وَالْمُدَّعِي جَوَازَ الِاسْتِحْلَافِ انْتَهَى .
أَقُولُ : كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَاقِطٌ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ كَوْنَ تِلْكَ الْأَسْئِلَةِ مُعَارَضَاتٌ مِمَّا لَا يَكَادُ يَحْسُنُ لِأَنَّ حَاصِلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بَيَانُ تَخَلُّفِ الْحُكْمِ وَهُوَ كَوْنُ النُّكُولِ إقْرَارًا فِي صُورَةٍ جُزْئِيَّةٍ عَنْ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ مِنْ قِبَلِ الْإِمَامَيْنِ ، وَهُوَ صَرِيحُ نَقْضٍ إجْمَالِيٍّ ، وَلَا لُطْفَ لِلْحَمْلِ عَلَى الْمُعَارَضَةِ فِي شَيْءٍ مِنْهَا لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ هَاهُنَا وَهُوَ كَوْنُ النُّكُولِ إقْرَارًا كُلِّيًّا ، وَمَا ذُكِرَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا صُورَةٌ جُزْئِيَّةٌ لَا تَدُلُّ عَلَى خِلَافِ الْمُدَّعِي بِالْكُلِّيَّةِ ، وَإِنَّمَا غَرَّ ذَلِكَ الْبَعْضَ قَوْلُ السَّائِلِ فِي ذَيْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَسْئِلَةِ ، وَلَوْ كَانَ النُّكُولُ إقْرَارًا لَكَانَ جَوَابُ الْمَسْأَلَةِ خِلَافَ مَا ذُكِرَ ، وَالْحَالُ أَنَّ الْمُرَادَ مُجَرَّدُ بَيَانِ تَخَلُّفِ الْحُكْمِ عَنْ الدَّلِيلِ لَا إقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَى خِلَافِ الْمُدَّعِي كَمَا لَا يَخْفَى .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ مُرَادَ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ بِالْمُدَّعِي هَاهُنَا قَوْلُهُمَا إنَّ النُّكُولَ إقْرَارُ الْمُسْتَدِلِّ عَلَيْهِ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ كَاذِبًا فِي الْإِنْكَارِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ ، فَإِذَا صَيَّرَ فِي الْجَوَابِ عَنْ النُّقُوضِ الْمَذْكُورَةِ إلَى كَوْنِ النُّكُولِ بَدَلًا عَنْ الْإِقْرَارِ لَا نَفْسَ الْإِقْرَارِ فَقَدْ غَيَّرَ ذَلِكَ الْمُدَّعِي قَطْعًا ، وَكَوْنُ قَوْلِهِمَا إنَّ النُّكُولَ إقْرَارٌ مُقَدِّمَةَ الدَّلِيلِ بِالنَّظَرِ إلَى أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ جَوَازُ الِاسْتِحْلَافِ عِنْدَهُمَا لَا يُنَافِي كَوْنَهُ مُدَّعِي بِالنَّظَرِ إلَى كَوْنِهِ مُسْتَدِلًّا عَلَيْهِ بِالدَّلِيلِ الْمُسْتَقِلِّ .
وَالْعَجَبُ مِنْ ذَلِكَ الْقَائِلِ أَنَّهُ جَعَلَ الْأَسْئِلَةَ الْمَذْكُورَةَ مُعَارَضَاتٍ

وَالْمُعَارَضَةُ إقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَى خِلَافِ مُدَّعِي الْخَصْمِ ، وَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا بِأَنْ يَكُونَ الْمُدَّعِي هَاهُنَا قَوْلُهُمَا إنَّ النُّكُولَ إقْرَارٌ ، إذَا لَا مِسَاسَ لِتِلْكَ الْأَسْئِلَةِ بِأَصْلِ الْمَسْأَلَةِ كَمَا لَا يَخْفَى ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ ) أَيْ النُّكُولَ ( بَذْلٌ ) وَتَفْسِيرُ الْبَذْلِ عِنْدَهُ تَرْكُ الْمُنَازَعَةِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْهَا لَا الْهِبَةُ وَالتَّمْلِيكُ ، وَلِهَذَا قُلْنَا : إنَّ الرَّجُلَ إذَا ادَّعَى نِصْفَ الدَّارِ شَائِعًا فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَقْضِي فِيهِ بِالنُّكُولِ ، وَهِبَةُ نِصْفِ الدَّارِ شَائِعًا لَا تَصِحُّ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ نَقْلًا عَنْ الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ ( لِأَنَّ مَعَهُ ) أَيْ مَعَ الْبَذْلِ ( لَا تَبْقَى الْيَمِينُ وَاجِبَةً لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهِ ) أَيْ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنْ الْيَمِينِ وَهُوَ قَطْعُ الْخُصُومَةِ بِالْبَذْلِ فَيَكُونُ ذَلِكَ بَاعِثًا عَلَى تَرْكِ الْإِقْدَامِ عَلَى الْيَمِينِ ، هَذَا هُوَ الْعِلَّةُ الْمُجَوِّزَةُ لِكَوْنِ النُّكُولِ بَذْلًا ، وَأَمَّا الْعِلَّةُ الْمُرَجِّحَةُ لِكَوْنِهِ بَذْلًا عَلَى كَوْنِهِ إقْرَارًا فَهِيَ مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( وَإِنْزَالُهُ بَاذِلًا أَوْلَى ) أَيْ مِنْ إنْزَالِهِ مُقِرًّا ( كَيْ لَا يَصِيرُ كَاذِبًا فِي الْإِنْكَارِ ) أَيْ فِي إنْكَارِهِ السَّابِقِ : يَعْنِي لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْإِقْرَارِ لَكَذَّبْنَاهُ فِي إنْكَارِهِ السَّابِقِ ، وَلَوْ جَعَلْنَاهُ بَذْلًا لَقَطَعْنَا الْخُصُومَةَ بِلَا تَكْذِيبٍ ، فَكَانَ هَذَا أَوْلَى صِيَانَةً لِلْمُسْلِمِ عَنْ أَنْ يُظَنَّ بِهِ الْكَذِبُ .
قِيلَ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ النُّكُولُ بَذْلًا لَمَا ضَمِنَ شَيْئًا آخَرَ إذَا اسْتَحَقَّ مَا أَدَّى بِقَضَاءٍ ، كَمَا لَوْ صَالَحَ عَنْ إنْكَارٍ وَاسْتَحَقَّ بَدَلَ الصُّلْحِ فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ شَيْئًا وَلَكِنَّ الْمُدَّعِيَ يَرْجِعُ إلَى الدَّعْوَى .
وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ بَذْلَ الصُّلْحِ وَجَبَ بِالْعَقْدِ ، فَإِذَا اُسْتُحِقَّ بَطَلَ الْعَقْدُ فَعَادَ الْحُكْمُ إلَى الْأَصْلِ وَهُوَ الدَّعْوَى ، وَأَمَّا هَاهُنَا فَالْمُدَّعِي يَقُولُ أَنَا آخُذُ هَذَا بِإِزَاءِ

مَا وَجَبَ لِي فِي ذِمَّتِهِ بِالْقَضَاءِ ، فَإِذَا اُسْتُحِقَّ رَجَعْت بِمَا فِي الذِّمَّةِ .
وَقِيلَ عَلَيْهِ إنَّ الْحُكْمَ وَاجِبٌ عَلَى الْحَاكِمِ بِالنُّكُولِ ، وَالْبَذْلُ لَا يَجِبُ بِهِ الْحُكْمُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَكُنْ النُّكُولُ بَذْلًا .
وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَجِبُ بِالْبَذْلِ الصَّرِيحِ .
وَأَمَّا مَا كَانَ بَذْلًا بِحُكْمِ الشَّرْعِ كَالنُّكُولِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ بِهِ بَلْ هُوَ مُوجِبٌ لَهُ قَطْعًا لِلْمُنَازَعَةِ .
وَقِيلَ عَلَيْهِ يَقْضِي بِالْقِصَاصِ فِي الْأَطْرَافِ بِالنُّكُولِ ، وَلَوْ كَانَ بَذْلًا لَمَا قَضَى بِهِ لِأَنَّ الْبَذْلَ لَا يَعْمَلُ فِيهَا .
وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْبَذْلَ فِيهَا غَيْرُ عَامِلٍ بَلْ هُوَ عَامِلٌ إذَا كَانَ مُفِيدًا نَحْوُ أَنْ يَقُولَ اقْطَعْ يَدَيَّ وَبِهَا أَكَلَةٌ حَيْثُ لَمْ يَأْثَمْ بِقَطْعِهَا ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ النُّكُولُ مُفِيدٌ لِأَنَّهُ يُحْتَرَزُ بِهِ عَنْ الْيَمِينِ وَلَهُ وِلَايَةُ الِاحْتِرَازِ عَنْ الْيَمِينِ هَذِهِ خُلَاصَةُ مَا فِي الشُّرُوحِ هَاهُنَا مِنْ الْأَسْئِلَةِ وَالْأَجْوِبَةِ ( وَالْبَذْلُ لَا يَجْرِي فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ) فَإِنَّهُ لَوْ قَالَتْ مَثَلًا لَا نِكَاحَ بَيْنِي وَبَيْنَك وَلَكِنِّي بَذَلْت لَك نَفْسِي لَمْ يَصِحَّ بَذْلُهَا ؛ وَكَذَا لَوْ قَالَ أَنَا حُرُّ الْأَصْلِ وَلَكِنْ هَذَا يُؤْذِينِي بِالدَّعْوَى فَبَذَلْت لَهُ نَفْسِي لِيَسْتَرِقَّنِي ، أَوْ قَالَ أَنَا ابْنُ فُلَانٍ وَلَكِنَّ هَذَا يُؤْذِينِي بِالدَّعْوَى فَأَبَحْت لَهُ أَنْ يَدَّعِيَ نَسَبِي لَمْ يَصِحَّ بَذْلُهُ ، بِخِلَافِ الْأَمْوَالِ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ هَذَا الْمَالُ لَيْسَ لَهُ وَلَكِنِّي أَبَحْته وَبَذَلْته لَهُ لِأَتَخَلَّصَ مِنْ خُصُومَتِهِ صَحَّ بَذْلُهُ ( وَفَائِدَةُ الِاسْتِحْلَافِ الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ ) وَلَمَّا لَمْ يَجُزْ الْبَذْلُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَمْ يُتَصَوَّرْ فِيهَا الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ الَّذِي هُوَ الْبَذْلُ ( فَلَا يُسْتَحْلَفُ ) فِيهَا لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ .
قَالَ صَاحِبُ الْكَافِي : فَإِنْ قِيلَ : هَذَا التَّعْلِيلُ مُخَالِفٌ لِلْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {

وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ } قُلْنَا : خَصَّ مِنْهُ الْحُدُودَ وَاللِّعَانَ ، فَجَازَ تَخْصِيصُ هَذِهِ الصُّوَرِ بِالْقِيَاسِ انْتَهَى .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : لَا يُقَالُ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَرَكَ الْحَدِيثَ الْمَشْهُورَ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ } بِالرَّأْيِ ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمْ يَنْفِ وُجُوبَ الْيَمِينِ فِيهَا ، لَكِنَّهُ يَقُولُ : لَمَّا لَمْ تُفِدْ الْيَمِينُ فَائِدَتَهَا وَهُوَ الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ لِكَوْنِهِ بَذْلًا لَا يَجْرِي فِيهَا سَقَطَتْ كَسُقُوطِ الْوُجُوبِ عَنْ مَعْذُورٍ لَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ أَدَاءُ الصَّلَاةِ لِفَوَاتِ الْمَقْصُودِ انْتَهَى .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : وَأَجَابَ الْعَلَّامَةُ الْكَاكِيُّ بِأَنَّهُ خَصَّ مِنْ الْحَدِيثِ الْحُدُودَ بِالْإِجْمَاعِ ، فَجَازَ تَخْصِيصُ هَذِهِ الصُّوَرِ بِالْقِيَاسِ ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ الشَّارِحُ : يَعْنِي الْعِنَايَةَ لِأَنَّ الْمُخَصِّصَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُقَارِنًا وَالْإِجْمَاعُ لَيْسَ كَذَلِكَ انْتَهَى .
أَقُولُ : مَدَارُ كَلَامِهِ عَلَى مَا فَهِمَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْعَلَّامَةِ الْكَاكِيِّ أَنَّ تَخْصِيصَ الْحُدُودِ مِنْ الْحَدِيثِ هُوَ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُ بِالْإِجْمَاعِ اتِّفَاقُ الْأَئِمَّةِ ، فَالْمَعْنَى كَوْنُ الْحَدِيثِ مِمَّا خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ وَهُوَ الْحُدُودُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَلَا يُنَافِي هَذَا كَوْنَ الْمُخَصِّصِ نَصًّا وَمُقَارِنًا ، عَلَى أَنَّ قَاعِدَةَ الْأُصُولِ هِيَ أَنَّهُ إذَا لَمْ يُعْلَمْ الْمُقَارَنَةُ وَعَدَمُهَا يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَارَنَةِ فَيَتِمُّ الْمَطْلُوبُ ، وَيُؤَيِّدُ كَوْنَ مُرَادِهِ بِالْإِجْمَاعِ اتِّفَاقَ الْأَئِمَّةِ فِي كَوْنِ الْحَدِيثِ مَخْصُوصًا أَنَّ الْجَوَابَ الَّذِي ذَكَرَهُ وَقَعَ فِي الْكَافِي وَالْكِفَايَةِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ قَيْدِ الْإِجْمَاعِ فَتَأَمَّلْ ( إلَّا أَنَّ هَذَا بَذْلٌ لِدَفْعِ الْخُصُومَةِ فَيَمْلِكُهُ الْمُكَاتَبُ وَالْعَبْدُ الْمَأْذُونُ بِمَنْزِلَةِ الضِّيَافَةِ الْيَسِيرَةِ ) هَذَا جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ ، وَهُوَ أَنَّ النُّكُولَ لَوْ

كَانَ بَذْلًا لَمَا مَلَكَهُ الْمُكَاتَبُ وَالْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لِمَا أَنَّ فِي الْبَذْلِ مَعْنَى التَّبَرُّعِ وَهُمَا لَا يَمْلِكَانِهِ .
فَأَجَابَ بِأَنَّهُمَا يَمْلِكَانِ مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْ التِّجَارَةِ كَمَا فِي الضِّيَافَةِ الْيَسِيرَةِ ، وَبَذْلُهُمَا بِالنُّكُولِ مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ ، كَذَا فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ .
أَقُولُ : لِمَانِعٍ أَنْ يَمْنَعَ كَوْنَ بَذْلِهِمَا مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ إذْ الْخُصُومَةُ تَنْدَفِعُ بِدُونِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ بِأَنْ أَقْدَمَا عَلَى الْيَمِينِ إنْ كَانَا صَادِقَيْنِ فِي إنْكَارِهِمَا ، وَبِأَنْ أَقَرَّا إنْ كَانَ الْمُدَّعِي هُوَ الصَّادِقُ فَلْيُتَأَمَّلْ ( وَصِحَّتُهُ ) أَيْ حِصَّةِ الْبَذْلِ ( فِي الدَّيْنِ بِنَاءً عَلَى زَعْمِ الْمُدَّعِي وَهُوَ مَا يَقْبِضُهُ حَقًّا لِنَفْسِهِ ، وَالْبَذْلُ مَعْنَاهُ هَاهُنَا تَرْكُ الْمَنْعِ وَأَمْرُ الْمَالِ هَيِّنٌ ) هَذَا أَيْضًا جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ وَهُوَ أَنَّ النُّكُولَ لَوْ كَانَ بَذْلًا لَمَا جَرَى فِي الدَّيْنِ لِأَنَّ مَحَلَّهُ الْأَعْيَانُ لَا الدُّيُونُ ، إذْ الدَّيْنُ وَصْفٌ فِي الذِّمَّةِ وَالْبَذْلُ وَالْإِعْطَاءُ لَا يَجْرِيَانِ فِي الْأَوْصَافِ .
فَأَجَابَ بِأَنَّ مَعْنَى الْبَذْلِ هَاهُنَا تَرْكُ الْمَنْعِ ، فَكَانَ الْمُدَّعِي يَأْخُذُهُ مِنْهُ بِنَاءً عَلَى زَعْمِهِ أَنَّهُ يَأْخُذُ حَقَّ نَفْسِهِ وَلَا مَانِعَ لَهُ ، وَتَرْكُ الْمَنْعِ جَائِزٌ فِي الْأَمْوَالِ لِأَنَّ أَمْرَ الْمَالِ هَيِّنٌ حَيْثُ تَجْرِي فِيهِ الْإِبَاحَةُ ، بِخِلَافِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ فَإِنَّهُ لَا تَجْرِي فِيهَا الْإِبَاحَةُ ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ وَسَائِرِ الْمُعْتَبَرَاتِ ، حَتَّى أَنَّ صَاحِبَ الْكَافِي أَتَى بِصَرِيحِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ حَيْثُ قَالَ : فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ بَذْلًا لَمَا جَرَى فِي الدَّيْنِ ؛ لِأَنَّ مَحَلَّهُ الْأَعْيَانُ لَا الدُّيُونُ ، إذْ الْبَذْلُ وَالْإِعْطَاءُ لَا يَجْرِيَانِ فِي الْأَوْصَافِ وَالدَّيْنُ وَصْفٌ فِي الذِّمَّةِ .
قُلْنَا : الْبَذْلُ هَاهُنَا تَرْكُ الْمَنْعِ كَأَنَّ الْمُدَّعِيَ يَأْخُذُهُ مِنْهُ بِنَاءً عَلَى زَعْمِهِ أَنَّهُ يَأْخُذُ حَقَّ نَفْسِهِ وَلَا مَانِعَ لَهُ ، وَأَمْرُ الْمَالِ هَيِّنٌ ، بِخِلَافِ

النِّكَاحِ وَنَحْوِهِ انْتَهَى .
وَأَقُولُ : لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ بَعْدَ التَّأَمُّلِ الصَّادِقِ أَنَّ الْجَوَابَ الْمَذْكُورَ لَا يَدْفَعُ السُّؤَالَ الْمَزْبُورَ وَإِنْ تَلَقَّتْهُ الثِّقَاتُ بِالْقَبُولِ ، لِأَنَّ الدَّيْنَ لَمَّا كَانَ وَصْفًا ثَابِتًا فِي الذِّمَّةِ غَيْرَ مُنْتَقِلٍ عَنْهَا لَمْ يَكُنْ قَابِلًا لِلْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ ، وَأَنَّ تَرْكَ الْمَنْعِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي الْأَمْوَالِ الْمُتَحَقِّقَةِ فِي الْأَعْيَانِ لَا فِي الْأَوْصَافِ الثَّابِتَةِ فِي الذِّمَمِ ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْمَنْعِ فَرْعُ جَوَازِ الْأَخْذِ ، فَمَا لَمْ يَكُنْ قَابِلًا لِلْأَخْذِ لَمْ يُتَصَوَّرْ فِيهِ تَرْكُ الْمَنْعِ ، فَلَمْ يَكُنْ الَّذِي يَأْخُذُهُ الْمُدَّعِي مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِنَاءً عَلَى زَعْمِهِ أَنَّهُ حَقُّ نَفْسِهِ الدَّيْنَ بَلْ كَانَ الْعَيْنَ ، وَكَذَا لَمْ يَكُنْ الَّذِي تَرَكَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْعَهُ أَخْذَ الدَّيْنِ بَلْ كَانَ أَخْذَ الْعَيْنِ وَالسُّؤَالُ بِالدَّيْنِ لَا بِالْعَيْنِ ، فَالْجَوَابُ الْمَذْكُورُ لَا يَدْفَعُهُ .
وَالْحَقُّ عِنْدِي فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ : مَعْنَى الْبَذْلِ فِي الدَّيْنِ إحْدَاثُ مِثْلِهِ فِي ذِمَّةِ الْمُدَّعِي بِإِعْطَاءِ عَيْنٍ يُمَاثِلُ مِعْيَارُهُ مِعْيَارَ الدَّيْنِ الْمُدَّعَى وَحُصُولُ الْمُقَاصَّةِ بِهِ مِنْ الطَّرَفَيْنِ ، كَمَا أَنَّ مَعْنَى قَضَاءِ الدَّيْنِ هَذَا وَلِهَذَا قَالُوا : الدُّيُونُ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا عَلَى مَا حُقِّقَ فِي مَوْضِعِهِ ، فَإِذَا قَالَ الْمُدَّعِي مَثَلًا لِي عَلَيْهِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ كَانَ مَعْنَاهُ حَصَلَ لِي فِي ذِمَّتِهِ وَصْفٌ مِعْيَارُهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ ، فَاَلَّذِي يَلْزَمُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عِنْدَ نُكُولِهِ عَنْ الْيَمِينِ إعْطَاءُ عَيْنٍ يُمَاثِلُ مِعْيَارُهُ مِعْيَارَ مَا ادَّعَاهُ الْمُدَّعِي مِنْ الدَّيْنِ وَهُوَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ ، فَالْمَبْذُولُ حَقِيقَةً هُوَ الْعَيْنُ الَّذِي يُعْطَى لَا الدَّيْنُ نَفْسُهُ وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى دَيْنًا

قَالَ ( وَيُسْتَحْلَفُ السَّارِقُ فَإِنْ نَكَلَ ضَمِنَ وَلَمْ يُقْطَعْ ) لِأَنَّ الْمَنُوطَ بِفِعْلِهِ شَيْئَانِ : الضَّمَانُ وَيَعْمَلُ فِيهِ النُّكُولُ .
وَالْقَطْعُ وَلَا يَثْبُتُ بِهِ فَصَارَ كَمَا إذَا شَهِدَ عَلَيْهَا رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ

( قَالَ ) أَيْ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ( وَيُسْتَحْلَفُ السَّارِقُ ) يُرِيدُ بِهِ أَنَّهُ إذَا أَرَادَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ أَخْذَ الْمَالِ دُونَ الْقَطْعِ يُسْتَحْلَفُ السَّارِقُ بِاَللَّهِ مَا لَهُ عَلَيْك هَذَا الْمَالُ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ يَثْبُتُ بِكِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي وَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ ، فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ بِالنُّكُولِ الَّذِي هُوَ بَذْلٌ أَوْ إقْرَارٌ فِيهِ شُبْهَةٌ ، وَالْحُدُودُ لَا تُقَامُ بِحُجَّةٍ فِيهَا شُبْهَةٌ فَكَذَلِكَ لَا تُقَامُ بِالنُّكُولِ ، فَلِهَذَا لَا يَجْرِي الْيَمِينُ فِي الْحُدُودِ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ : الْقَاضِي يَقُولُ لِلْمُدَّعِي مَاذَا تُرِيدُ ؟ فَإِنْ قَالَ أُرِيدُ الْقَطْعَ ، فَالْقَاضِي يَقُولُ لَهُ : إنَّ الْحُدُودَ لَا يُسْتَحْلَفُ فِيهَا فَلَيْسَتْ لَك يَمِينٌ ، وَإِنْ قَالَ أُرِيدُ الْمَالَ ، فَالْقَاضِي يَقُولُ لَهُ : دَعْ دَعْوَى السَّرِقَةِ وَانْبَعِثْ عَلَى دَعْوَى الْمَالِ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ نَقْلًا عَنْ الْإِمَامِ الْمَرْغِينَانِيِّ وَالْمَحْبُوبِيِّ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( فَإِنْ نَكَلَ ضَمِنَ وَلَمْ يُقْطَعْ لِأَنَّ الْمَنُوطَ بِفِعْلِهِ ) أَيْ بِفِعْلِ السَّارِقِ وَهُوَ السَّرِقَةُ ( شَيْئَانِ : الضَّمَانُ ) أَيْ أَحَدُهُمَا ضَمَانُ الْمَالِ ( وَيَعْمَلُ فِيهِ النُّكُولُ .
وَالْقَطْعُ ) أَيْ وَثَانِيهمَا قَطْعُ الْيَدِ ( وَلَا يَثْبُتُ بِهِ ) أَيْ لَا يَثْبُتُ الْقَطْعُ بِالنُّكُولِ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : يُرِيدُ الْمُصَنِّفُ بِفِعْلِهِ فِي قَوْلِهِ لِأَنَّ الْمَنُوطَ بِفِعْلِهِ شَيْئَانِ : النُّكُولُ ، ثُمَّ قَالَ : وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ فِعْلُ السَّرِقَةِ .
أَقُولُ : الثَّانِي هُوَ الصَّحِيحُ ، وَالْأَوَّلُ فَاسِدٌ لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ صَرَّحَ بِأَنَّ الْقَطْعَ لَا يَثْبُتُ بِالنُّكُولِ فَحِينَئِذٍ لَا يُنَاطُ الْقَطْعُ بِالنُّكُولِ قَطْعًا فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُحْمَلَ الْفِعْلُ فِي قَوْلِهِ لِأَنَّ الْمَنُوطَ بِفِعْلِهِ شَيْئَانِ عَلَى النُّكُولِ وَأَحَدُ الشَّيْئَيْنِ هُوَ الْقَطْعُ .
ثُمَّ أَقُولُ : بَقِيَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ شَيْءٌ ، وَهُوَ أَنَّ التَّعْلِيلَ الَّذِي ذَكَرَهُ

بِقَوْلِهِ لِأَنَّ الْمَنُوطَ بِفِعْلِهِ شَيْئَانِ إلَى آخِرِهِ لَا يُفِيدُ شَيْئًا يُعْتَدُّ بِهِ ، إذْ لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ لَمِّيَّةِ الْمُدَّعِي هَاهُنَا ، بَلْ هُوَ مُجَرَّدُ تَفْصِيلٍ لِمَا قَبْلَهُ ، فَإِنَّ قَوْلَهُ الضَّمَانُ وَيَعْمَلُ فِيهِ النُّكُولُ تَفْصِيلٌ لِقَوْلِهِ فَإِنْ نَكَلَ ضَمِنَ مِنْ غَيْرِ إشَارَةٍ إلَى عِلَّةِ كَوْنِ النُّكُولِ عَامِلًا فِيهِ ، وَقَوْلُهُ وَالْقَطْعُ وَلَا يَثْبُتُ بِهِ تَفْصِيلٌ لِقَوْلِهِ وَلَمْ يُقْطَعْ مِنْ غَيْرِ إشَارَةٍ إلَى عِلَّةِ عَدَمِ ثُبُوتِ الْقَطْعِ بِهِ فَبَقِيَ الْمُدَّعَى غَيْرَ مَعْلُومِ اللِّمِّيَّةِ .
وَالْأَوْجَهُ فِي التَّعْلِيلِ مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ حَيْثُ قَالَ : لِأَنَّ مُوجِبَ فِعْلِهِ شَيْئَانِ الضَّمَانُ ، وَهُوَ يَجِبُ مَعَ الشُّبْهَةِ فَيَجِبُ بِالنُّكُولِ ، وَالْقَطْعُ وَهُوَ لَا يَجِبُ مَعَ الشُّبْهَةِ فَلَا يَجِبُ بِالنُّكُولِ انْتَهَى .
وَكَذَا مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكَافِي حَيْثُ قَالَ : لِأَنَّهُ فِي السَّرِقَةِ يَدَّعِي الْمَالَ وَالْحَدُّ وَإِيجَابُ الْحَدِّ لَا تُجَامِعُهُ الشُّبْهَةُ ، وَإِيجَابُ الْمَالِ يُجَامِعُهُ الشُّبْهَةُ فَيَثْبُتُ بِهِ انْتَهَى ، تُبْصِرُ تَقِفُ ( فَصَارَ ) أَيْ صَارَ حُكْمُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ( كَمَا إذَا شَهِدَ عَلَيْهَا ) أَيْ عَلَى السَّرِقَةِ ( رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ ) فَإِنَّهُ يَثْبُتُ هُنَاكَ الْمَالُ دُونَ الْقَطْعِ ، فَكَذَا هَاهُنَا وَصَارَ كَمَا إذَا أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ ثُمَّ رَجَعَ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ بِالرُّجُوعِ الْحَدُّ وَهُوَ الْقَطْعُ ، وَيَثْبُتُ الْمَالُ بِالْإِقْرَارِ وَلَا يَسْقُطُ بِالرُّجُوعِ

.
قَالَ ( وَإِذَا ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ طَلَاقًا قَبْلَ الدُّخُولِ اُسْتُحْلِفَ الزَّوْجُ ، فَإِنْ نَكَلَ ضَمِنَ نِصْفَ الْمَهْرِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ) لِأَنَّ الِاسْتِحْلَافَ يَجْرِي فِي الطَّلَاقِ عِنْدَهُمْ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ الْمَالُ ، وَكَذَا فِي النِّكَاحِ إذَا ادَّعَتْ هِيَ الصَّدَاقَ لِأَنَّ ذَلِكَ دَعْوَى الْمَالِ ، ثُمَّ يَثْبُتُ الْمَالُ بِنُكُولِهِ وَلَا يَثْبُتُ النِّكَاحُ ، وَكَذَا فِي النَّسَبِ إذَا ادَّعَى حَقًّا كَالْإِرْثِ وَالْحِجْرِ فِي اللَّقِيطِ وَالنَّفَقَةِ وَامْتِنَاعِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هَذِهِ الْحُقُوقُ وَإِنَّمَا يُسْتَحْلَفُ فِي النَّسَبِ الْمُجَرَّدِ عِنْدَهُمَا إذَا كَانَ يَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِ كَالْأَبِ وَالِابْنِ فِي حَقِّ الرَّجُلِ وَالْأَبِ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ ، لِأَنَّ فِي دَعْوَاهَا الِابْنَ تَحْمِيلَ النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ وَالْمَوْلَى وَالزَّوْجِ فِي حَقِّهِمَا .

( قَالَ ) أَيْ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ( وَإِذَا ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ طَلَاقًا قَبْلَ الدُّخُولِ اُسْتُحْلِفَ الزَّوْجُ ، فَإِنْ نَكَلَ ضَمِنَ نِصْفَ الْمَهْرِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا لِأَنَّ الِاسْتِحْلَافَ يَجْرِي فِي دَعْوَى الطَّلَاقِ عِنْدَهُمْ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ الْمَالُ ) وَفَائِدَةُ تَعْيِينِ صُورَةِ الْمَسْأَلَةِ فِي الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ هِيَ تَعْلِيمُ أَنَّ دَعْوَى الْمَهْرِ لَا تَتَفَاوَتُ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى فِي كُلِّ الْمَهْرِ أَوْ نِصْفِهِ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ يُغْنِي عَنْ ذَلِكَ ، وَلَيْسَ فِيهِ تَوَهُّمُ التَّقْيِيدِ بِذَلِكَ انْتَهَى .
وَأَجَابَ عَنْهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ لَوْ أَطْلَقَ لِرُبَّمَا ذَهَبَ الْوَهْمُ إلَى الطَّلَاقِ بَعْدَ الدُّخُولِ لِغَلَبَتِهِ فَقُيِّدَ بِهِ لِيُعْلَمَ حُكْمُهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَوِيَّةِ ، فَإِنَّهُ إذَا اُسْتُحْلِفَ قَبْلَ تَأَكُّدِ الْمَهْرِ فَبَعْدَهُ أَوْلَى كَمَا لَا يَخْفَى قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَكَذَا فِي النِّكَاحِ إذَا ادَّعَتْ هِيَ الصَّدَاقَ ) أَيْ وَكَذَا يُسْتَحْلَفُ الزَّوْجُ بِالْإِجْمَاعِ فِيمَا إذَا ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ مَعَ النِّكَاحِ الصَّدَاقَ ( لِأَنَّ ذَلِكَ دَعْوَى الْمَالِ ) أَيْ الْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ دَعْوَى الْمَالِ ( ثُمَّ يَثْبُتُ الْمَالُ بِنُكُولِهِ وَلَا يَثْبُتُ النِّكَاحُ ) يَعْنِي يَثْبُتُ الْمَالُ بِنُكُولِهِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا لِأَنَّ الْمَالَ يَجْرِي فِيهِ الْإِقْرَارُ وَالْبَذْلُ ، وَلَا يَثْبُتُ النِّكَاحُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَجْرِي فِيهِ الْبَذْلُ .
قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : فَإِنْ قِيلَ : يَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنْ يَتَحَقَّقَ الْمَلْزُومُ بِدُونِ اللَّازِمِ .
قُلْنَا : يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بِثُبُوتِ النِّكَاحِ فِي حَقِّ الْمَهْرِ بِالنُّكُولِ لَا مُطْلَقًا ، عَلَى أَنَّ الْمَهْرَ لَيْسَ يَسْتَلْزِمُ النِّكَاحَ الْقَائِمَ لِبَقَائِهِ حَالَ الْفُرْقَةِ وَالطَّلَاقِ انْتَهَى .
أَقُولُ : كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَصْلِ جَوَابِهِ وَعِلَاوَتِهِ مُخْتَلٌّ .
أَمَّا

الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يَحْكُمَ بِثُبُوتِ النِّكَاحِ فِي حَقِّ الْمَهْرِ بِالنُّكُولِ لَجَازَ الْبَذْلُ فِي النِّكَاحِ فِي الْجُمْلَةِ : أَيْ فِي بَعْضِ الْحَالَاتِ وَلَمْ يَقُلْ بِهِ صَاحِبُ مَذْهَبٍ قَطُّ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْمَهْرَ وَإِنْ لَمْ يَسْتَلْزِمْ قِيَامَ النِّكَاحِ فِي الْبَقَاءِ وَلَكِنْ يَسْتَلْزِمُ تَحَقُّقَ النِّكَاحِ فِي الِابْتِدَاءِ كَمَا لَا يَخْفَى .
وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَثْبُتُ بِالنُّكُولِ لَا فِي الِابْتِدَاءِ وَلَا فِي الْبَقَاءِ لِعَدَمِ جَرَيَانِ الْبَذْلِ فِيهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَلَمْ يَنْدَفِعْ السُّؤَالُ .
ثُمَّ أَقُولُ فِي الْجَوَابِ عَنْ سُؤَالِهِ : إنَّ ثُبُوتَ الْمَهْرِ فِي الْوَاقِعِ يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ النِّكَاحِ فِيهِ ، وَأَمَّا ثُبُوتُهُ عِنْدَ الْقَاضِي فَلَا يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ النِّكَاحِ عِنْدَهُ لِأَنَّ مَعْنَى ثُبُوتِهِ عِنْدَهُ ظُهُورُهُ لَهُ ، إذْ قَدْ مَرَّ أَنَّ الْحُجَجَ الشَّرْعِيَّةَ مُثْبَتَةٌ فِي عِلْمِ الْقَاضِي مُظْهَرَةٌ فِي الْوَاقِعِ ، وَلَا يَسْتَلْزِمُ ظُهُورُ الْمَلْزُومِ ظُهُورَ اللَّازِمِ لِجَوَازِ أَنْ تَقُومَ الْحُجَّةُ عَلَى الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي كَمَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ .
فَاَلَّذِي يَلْزَمُ مِنْ الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ ثُبُوتُ الْمَهْرِ عِنْدَ الْقَاضِي بِدُونِ ثُبُوتِ النِّكَاحِ عِنْدَهُ ، وَلَا مَحْذُورَ فِيهِ لِعَدَمِ الِاسْتِلْزَامِ كَمَا عَرَفْت ، وَقِسْ عَلَى هَذَا أَحْوَالَ نَظَائِرِهِ مِنْ الْمَسَائِلِ الْآتِيَةِ الْمُتَّصِلَةِ بِهِ فِي الْكِتَابِ ، فَإِنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مُخَلِّصٌ فِي الْجَمِيعِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَكَذَا فِي النَّسَبِ ) أَيْ وَكَذَا يُسْتَحْلَفُ فِي النَّسَبِ بِالْإِجْمَاعِ ( إذَا ادَّعَى حَقًّا ) أَيْ إذَا ادَّعَى مَعَ النَّسَبِ حَقًّا آخَرَ ( كَالْإِرْثِ ) بِأَنْ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ أَخٌ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَاتَ أَبُوهُمَا وَتَرَكَ مَالًا فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُسْتَحْلَفُ بِالْإِجْمَاعِ ، فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ ، وَإِنْ نَكَلَ يُقْضَى بِالْمَالِ دُونَ النَّسَبِ ( وَالْحِجْرِ فِي اللَّقِيطِ ) بِأَنْ ادَّعَتْ امْرَأَةٌ حُرَّةُ الْأَصْلِ

صَبِيًّا لَا يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ كَانَ فِي يَدِ رَجُلٍ الْتَقَطَهُ أَنَّهُ أَخُوهَا وَأَنَّهَا أَوْلَى بِحَضَانَتِهِ فَإِنَّهُ يُسْتَحْلَفُ بِالْإِجْمَاعِ ، فَإِنْ نَكَلَ ثَبَتَ لَهَا حَقُّ نَقْلِ الصَّبِيِّ إلَى حِجْرِهَا دُونَ النَّسَبِ ( وَالنَّفَقَةِ ) بِأَنْ ادَّعَى زَمِنٌ عَلَى مُوسِرٍ أَنَّهُ أَخُوهُ وَأَنَّ نَفَقَتَهُ عَلَيْهِ فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْأُخُوَّةَ يُسْتَحْلَفُ بِالْإِجْمَاعِ ، فَإِنْ نَكَلَ يُقْضَى بِالنَّفَقَةِ دُونَ النَّسَبِ ( وَامْتِنَاعِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ ) بِأَنْ أَرَادَ الْوَاهِبُ الرُّجُوعَ فِي الْهِبَةِ فَقَالَ الْمَوْهُوبُ لَهُ أَنْتَ أَخِي يُرِيدُ بِذَلِكَ إبْطَالَ حَقِّ الرُّجُوعِ فَإِنَّهُ يُسْتَحْلَفُ بِالْإِجْمَاعِ ، فَإِنْ نَكَلَ ثَبَتَ امْتِنَاعُ الرُّجُوعِ دُونَ النَّسَبِ ( لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هَذِهِ الْحُقُوقُ ) دَلِيلٌ لِلْمَجْمُوعِ : يَعْنِي أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالدَّعْوَى فِي الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ هَذِهِ الْحُقُوقُ : أَيْ دُونَ النَّسَبِ الْمُجَرَّدِ ، ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ بَعْدَمَا فَسَّرَ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هَذِهِ الْحُقُوقُ بِقَوْلِهِ : أَيْ دُونَ النَّسَبِ الْمُجَرَّدِ قَالَ فِي تَعْلِيلِهِ فَإِنَّ فِيهِ تَحْمِيلَهُ عَلَى الْغَيْرِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ تَحْمِيلَ النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ لَا يَلْزَمُ فِي الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ مُطْلَقًا بَلْ إنَّمَا يَلْزَمُ فِيمَا إذَا كَانَ النَّسَبُ مِمَّا لَا يَثْبُتُ بِالْإِقْرَارِ كَالْأُخُوَّةِ وَنَحْوِهَا ، وَأَمَّا فِيمَا إذَا كَانَ مِمَّا يَثْبُتُ بِالْإِقْرَارِ كَالْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ فَلَا ، وَالْمَسَائِلُ الْمَذْكُورَةُ تَعُمُّ الصُّورَتَيْنِ مَعًا ، أَلَا يَرَى أَنَّ الْمُدَّعِيَ فِي صُورَةِ النَّفَقَةِ إذَا قَالَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنْتَ أَبِي فَإِنَّ الْمَسْأَلَةَ بِحَالِهَا وَكَذَا الْحَالُ فِي صُورَةِ امْتِنَاعِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ ، وَكَذَا الْمُدَّعِيَةُ فِي صُورَةِ الْحِجْرِ فِي اللَّقِيطِ إذَا قَالَتْ إنَّ الصَّبِيَّ ابْنُهَا فَإِنَّ الْمَسْأَلَةَ بِحَالِهَا أَيْضًا وَكَانَ التَّعْلِيلُ الْمَذْكُورُ قَاصِرًا عَنْ إفَادَةِ كُلِّيَّةِ

الْمُدَّعِي .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : الْأَظْهَرُ أَنْ يَقُولَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَدَلَ التَّعْلِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ : فَإِنَّ الْبَذْلَ لَا يَجْرِي فِيهِ كَمَا قَالَ آنِفًا فِي صُورَةِ دَعْوَى النِّكَاحِ انْتَهَى .
أَقُولُ : وَفِيهِ أَيْضًا نَظَرٌ ، فَإِنَّ الْمُعَلَّلَ هَاهُنَا أَنْ لَا يَكُونَ الْمَقْصُودُ بِالدَّعْوَى فِي الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ النَّسَبَ الْمُجَرَّدَ ، وَعَدَمُ جَرَيَانِ الْبَذْلِ فِي النَّسَبِ الْمُجَرَّدِ لَا يُفِيدُهُ لِأَنَّ الْحُجَجَ عَلَى الدَّعْوَى غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ فِي النُّكُولِ ، بَلْ مِنْهَا أَيْضًا إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ وَإِقْرَارُ الْخَصْمِ ، وَالْبَذْلُ إنَّمَا هُوَ لِلنُّكُولِ مِنْ بَيْنِهَا فَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ جَرَيَانِهِ فِي النَّسَبِ الْمُجَرَّدِ عَدَمُ جَرَيَانِ سَائِرِ الْحُجَجِ فِيهِ حَتَّى لَا يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا بِالدَّعْوَى فِي الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ ، بِخِلَافِ مَا قَالَهُ فِي صُورَةِ دَعْوَى النِّكَاحِ فَإِنَّ الْمُعَلَّلَ هُنَاكَ عَدَمُ ثُبُوتِ النِّكَاحِ بِالنُّكُولِ ، وَعَدَمُ جَرَيَانِ الْبَذْلِ فِي النِّكَاحِ يُفِيدُهُ قَطْعًا .
لَا يُقَالُ : التَّعْلِيلُ الصَّحِيحُ هُنَا أَنْ يُقَالَ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ بِالدَّعْوَى فِي الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ هُوَ النَّسَبُ الْمُجَرَّدُ لَمَّا ادَّعَى الْمُدَّعِي فِيهَا مَعَ النَّسَبِ حَقًّا آخَرَ وَالْمَفْرُوضُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ تِلْكَ الْمَسَائِلِ ادِّعَاءُ الْمُدَّعِي مَعَهُ حَقًّا آخَرَ كَمَا يُنَادِي عَلَيْهِ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَكَذَا فِي النَّسَبِ إذَا ادَّعَى حَقًّا كَالْإِرْثِ إلَخْ .
لِأَنَّا نَقُولُ : هَذَا إنَّمَا يَتِمُّ فِيمَا إذَا كَانَ النَّسَبُ مِمَّا يَثْبُتُ بِالْإِقْرَارِ كَالْبُنُوَّةِ وَنَحْوِهَا ، فَإِنَّ دَعْوَى النَّسَبِ الْمُجَرَّدِ تُسْمَعُ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ ، فَلَوْ كَانَ مَقْصُودُ الْمُدَّعِي فِيهَا دَعْوَى النَّسَبِ الْمُجَرَّدِ لَمَّا ادَّعَى مَعَهُ حَقًّا آخَرَ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ النَّسَبُ مِمَّا لَا يَثْبُتُ بِالْإِقْرَارِ كَالْأُخُوَّةِ وَنَحْوِهَا فَلَا ؛ لِأَنَّ دَعْوَى النَّسَبِ الْمُجَرَّدِ لَا تُسْمَعُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ ، بَلْ يَتَوَقَّفُ فِيهَا اسْتِمَاعُ

الدَّعْوَى وَقَبُولُ الْبَيِّنَةِ عَلَى أَنْ يَدَّعِيَ الْمُدَّعِي مَعَ النَّسَبِ حَقًّا آخَرَ لِنَفْسِهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي عَامَّةِ مُعْتَبَرَاتِ الْفَتَاوَى فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُ الْمُدَّعِي فِي هَذِهِ الصُّورَةِ النَّسَبَ الْمُجَرَّدَ وَيَدَّعِيَ مَعَ النَّسَبِ حَقًّا آخَرَ لِمُجَرَّدِ التَّوَسُّلِ بِهِ إلَى مَقْصُودِهِ وَهُوَ النَّسَبُ الْمُجَرَّدُ ، وَالْمَسَائِلُ الْمَذْكُورَةُ تَعُمُّ الصُّورَتَيْنِ مَعًا كَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ ، فَكَانَ هَذَا التَّعْلِيلُ أَيْضًا قَاصِرًا عَلَى إفَادَةِ كُلِّيَّةِ الْمُدَّعِي .
وَبِالْجُمْلَةِ لَمْ يَظْهَرْ لِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ ( لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هَذِهِ الْحُقُوقُ ) عِلَّةٌ وَاضِحَةٌ شَامِلَةٌ لِجَمِيعِ صُوَرِ تِلْكَ الْمَسَائِلِ الْعَامَّةِ فَكَانَ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي أَنَّ صَاحِبَ الْكَافِي لَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ هَذَا أَصْلًا مَعَ أَنَّ عَادَتَهُ اقْتِفَاءُ أَثَرِ الْمُصَنِّفِ فِي أَمْثَالِهِ ، وَأَنَّ أَكْثَرَ الشُّرَّاحِ لَمْ يَتَعَرَّضُوا لِشَرْحِهِ وَبَيَانِهِ بِالْكُلِّيَّةِ ( وَإِنَّمَا يُسْتَحْلَفُ فِي الْمُجَرَّدِ ) قَيَّدَ بِهِ احْتِرَازًا عَمَّا هُوَ مَقْرُونٌ بِدَعْوَى حَقٍّ آخَرَ كَمَا مَرَّ آنِفًا ( عِنْدَهُمَا ) أَيْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ( إذَا كَانَ يَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِ ) أَيْ إذَا كَانَ يَثْبُتُ النَّسَبُ بِمُجَرَّدِ إقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَإِنَّ النُّكُولَ عِنْدَهُمَا إقْرَارٌ فَكُلُّ نَسُبَّ لَوْ أَقَرَّ بِهِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ثَبَتَ يَثْبُتُ بِالنُّكُولِ أَيْضًا ( كَالْأَبِ وَالِابْنِ فِي حَقِّ الرَّجُلِ ) فَإِنَّهُ إذَا أَقَرَّ بِالْأَبِ وَالِابْنِ يَصِحُّ إقْرَارُهُ وَيَثْبُتُ نَسَبُ الْمُقَرِّ لَهُ مِنْهُ بِمُجَرَّدِ إقْرَارِهِ ( وَالْأَبِ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ ) فَإِنَّهَا إذَا أَقَرَّتْ بِالْأَبِ يَصِحُّ إقْرَارُهَا وَيَثْبُتُ نَسَبُ الْمُقَرِّ لَهُ مِنْهَا بِمُجَرَّدِ إقْرَارِهَا ، وَأَمَّا لَوْ أَقَرَّتْ بِالِابْنِ فَلَا يَصِحُّ إقْرَارُهَا وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهَا ( لِأَنَّ فِي دَعْوَاهَا الِابْنَ ) أَيْ فِي ادِّعَائِهَا الِابْنَ : أَيْ فِي إقْرَارِهَا بِهِ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَغَايَةِ

الْبَيَانِ تَأَمَّلْ ( تَحْمِيلَ النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ ) وَهُوَ لَا يَجُوزُ ( وَالْمَوْلَى ) أَيْ وَكَالْوَلِيِّ : يَعْنِي السَّيِّدَ ( وَالزَّوْجِ فِي حَقِّهِمَا ) أَيْ فِي حَقِّ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ ، وَهَذَا الْقَيْدُ : أَعْنِي قَوْلَهُ فِي حَقِّهِمَا مُتَعَلِّقٌ بِالْمَوْلَى وَالزَّوْجِ جَمِيعًا ، فَإِنَّ إقْرَارَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ بِالْمَوْلَى وَالزَّوْجِ يَصِحُّ .
وَحَاصِلُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا أَنَّ إقْرَارَ الرَّجُلِ يَصِحُّ بِأَرْبَعَةٍ : بِالْأَبِ وَالِابْنِ وَالْمَوْلَى وَالزَّوْجَةِ ، وَإِقْرَارُ الْمَرْأَةِ يَصِحُّ بِثَلَاثَةٍ : بِالْأَبِ وَالْمَوْلَى وَالزَّوْجِ ، وَلَا يَصِحُّ بِالْوَلَدِ لِأَنَّ فِيهِ تَحْمِيلَ النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ .
وَكَانَ أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي مَحَلِّهَا أَنَّ إقْرَارَ الرَّجُلِ يَصِحُّ بِخَمْسَةٍ : بِالْوَالِدَيْنِ وَالْوَلَدِ وَالزَّوْجَةِ وَالْمَوْلَى .
وَإِقْرَارُ الْمَرْأَةِ يَصِحُّ بِأَرْبَعَةٍ : بِالْوَالِدَيْنِ وَالزَّوْجِ وَالْمَوْلَى ، وَلَا يَصِحُّ بِالْوَلَدِ لِمَا مَرَّ ، فَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ اكْتَفَى بِذِكْرِ الْأَبِ عَنْ ذِكْرِ الْأُمِّ لِظُهُورِ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ .
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ فِي مَبْسُوطِهِ : الْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ الْمُدَّعَى قِبَلَهُ النَّسَبُ إذَا أَنْكَرَ هَلْ يُسْتَحْلَفُ إنْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ عَلَيْهِ ، فَإِنَّهُ لَا يُسْتَحْلَفُ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا لِأَنَّ الْيَمِينَ لَا تُفِيدُ ، فَإِنَّ فَائِدَةَ الْيَمِينِ النُّكُولُ حَتَّى يُجْعَلَ النُّكُولُ بَذْلًا أَوْ إقْرَارًا فَيُقْضَى عَلَيْهِ ، فَإِذَا كَانَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِ لَوْ أَقَرَّ فَإِنَّهُ لَا يُسْتَحْلَفُ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا ، وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى قِبَلَهُ بِحَيْثُ لَوْ أَقَرَّ لَزِمَهُ مَا أَقَرَّ بِهِ ، فَإِذَا أَنْكَرَ هَلْ يُسْتَحْلَفُ عَلَى ذَلِكَ ؟ فَالْمَسْأَلَةُ عَلَى الِاخْتِلَافِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُسْتَحْلَفُ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يُسْتَحْلَفُ ، فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ ، وَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ لَزِمَهُ الدَّعْوَى ، فَعَلَى هَذَا

الْأَصْلِ تُخَرَّجُ مَسَائِلُ الْبَابِ انْتَهَى .

قَالَ ( وَمَنْ ادَّعَى قِصَاصًا عَلَى غَيْرِهِ فَجَحَدَهُ اُسْتُحْلِفَ ) بِالْإِجْمَاعِ ( ثُمَّ إنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ ، وَإِنْ نَكَلَ فِي النَّفْسِ حُبِسَ حَتَّى يَحْلِفَ أَوْ يُقِرَّ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَالَا : لَزِمَهُ الْأَرْشُ فِيهِمَا لِأَنَّ النُّكُولَ إقْرَارٌ فِيهِ شُبْهَةٌ عِنْدَهُمَا فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْقِصَاصُ وَيَجِبُ بِهِ الْمَالُ ، خُصُوصًا إذَا كَانَ امْتِنَاعُ الْقِصَاصِ لِمَعْنًى مِنْ جِهَةِ مَنْ عَلَيْهِ كَمَا إذَا أَقَرَّ بِالْخَطَأِ وَالْوَلِيُّ يَدَّعِي الْعَمْدَ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْأَطْرَافَ يُسْلَكُ بِهَا مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ فَيَجْرِي فِيهَا الْبَذْلُ ، بِخِلَافِ الْأَنْفُسِ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ اقْطَعْ يَدِي فَقَطَعَهَا لَا يَجِبُ الضَّمَانُ ، وَهَذَا إعْمَالٌ لِلْبَذْلِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُبَاحُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ ، وَهَذَا الْبَذْلُ مُفِيدٌ لِانْدِفَاعِ الْخُصُومَةِ بِهِ فَصَارَ كَقَطْعِ الْيَدِ لِلْآكِلَةِ وَقَلْعِ السِّنِّ لِلْوَجَعِ وَإِذَا امْتَنَعَ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ وَالْيَمِينُ حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ يُحْبَسُ بِهِ كَمَا فِي الْقَسَامَةِ

( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( وَمَنْ ادَّعَى قِصَاصًا عَلَى غَيْرِهِ فَجَحَدَهُ ) وَلَيْسَ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ ( اُسْتُحْلِفَ ) الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ( بِالْإِجْمَاعِ ) سَوَاءٌ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي النَّفْسِ بِهَا أَوْ فِيمَا دُونَهَا ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَذْكُورَةٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَيْضًا فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ ( ثُمَّ إنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ لَزِمَهُ الْقِصَاصُ ، وَإِنْ نَكَلَ فِي النَّفْسِ حُبِسَ حَتَّى يَحْلِفَ أَوْ يُقِرَّ ، وَهَذَا ) أَيْ الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ ( عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : لَزِمَهُ الْأَرْشُ فِيهِمَا ) أَيْ فِي النَّفْسِ وَفِيمَا دُونَهَا ( لِأَنَّ النُّكُولَ إقْرَارٌ فِيهِ شُبْهَةٌ عِنْدَهُمَا ) لِأَنَّهُ إنْ امْتَنَعَ عَنْ الْيَمِينِ تَوَرُّعًا عَنْ الْيَمِينِ الصَّادِقَةِ لَا يَكُونُ إقْرَارًا بَلْ يَكُونُ بَذْلًا ، كَذَا فِي الْكَافِي ( فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْقِصَاصُ وَيَجِبُ بِهِ الْمَالُ خُصُوصًا ) أَيْ خَاصَّةً ( إذَا كَانَ امْتِنَاعُ الْقِصَاصِ لِمَعْنًى مِنْ جِهَةِ مَنْ عَلَيْهِ ) أَيْ مِنْ جِهَةِ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ ، وَقَيَّدَ امْتِنَاعَ الْقِصَاصِ لِمَعْنًى مِنْ جِهَةِ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ امْتِنَاعُهُ مِنْ جِهَةِ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ وَلَا الْمَالُ أَيْضًا ، كَمَا إذَا أَقَامَ مُدَّعِي الْقِصَاصِ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ أَوْ الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ حَيْثُ لَا يُقْضَى بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ قَامَتْ بِالْقِصَاصِ وَلَكِنْ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ فَلَا يَجِبُ شَيْءٌ كَذَا فِي الشُّرُوحِ ، وَنَظِيرُ هَذَا مَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ ( كَمَا إذَا أَقَرَّ بِالْخَطَإِ وَالْوَلِيُّ يَدَّعِي الْعَمْدَ ) فَإِنَّهُ يَجِبُ فِيهِ الْمَالُ وَبِالْعَكْسِ لَا يَجِبُ فِيهِ شَيْءٌ ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَطْرَافَ يُسْلَكُ بِهَا مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ ) لِأَنَّهَا خُلِقَتْ وِقَايَةً لِلنَّفْسِ كَالْأَمْوَالِ ( فَيَجْرِي فِيهَا الْبَذْلُ ) كَمَا يَجْرِي فِي الْأَمْوَالِ ( بِخِلَافِ الْأَنْفُسِ ) حَيْثُ لَا يَجْرِي فِيهَا الْبَذْلُ ( فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ : اقْطَعْ يَدِي ) أَيْ لَوْ قَالَ

الْآخَرُ اقْطَعْ يَدَيَّ ( فَقَطَعَهَا لَا يَجِبُ الضَّمَانُ ) أَيْ عَلَى الْقَاطِعِ ( وَهَذَا ) أَيْ عَدَمُ وُجُودِ الضَّمَانِ ( إعْمَالٌ لِلْبَذْلِ ) فِي الْأَطْرَافِ ، وَأَمَّا لَوْ قَالَ اُقْتُلْنِي فَقَتَلَهُ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي رِوَايَةٍ وَالدِّيَةُ فِي أُخْرَى ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ جَرَيَانِ الْبَذْلِ فِي الْأَنْفُسِ .
وَلَمَّا اسْتَشْعَرَ أَنْ يُقَالَ لَوْ كَانَتْ الْأَطْرَافُ يُسْلَكُ بِهَا مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ لَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُبَاحَ قَطْعُ يَدِهِ إذَا قَالَ اقْطَعْ يَدِي كَمَا يُبَاحُ أَخْذُ مَالِهِ إذَا قَالَ خُذْ مَالِي ، أَجَابَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ ( إلَّا أَنَّهُ لَا يُبَاحُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ ) أَيْ لَا يُبَاحُ الْقَطْعُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِيهِ كَمَا أَنَّ إتْلَافَ الْمَالِ لَا يُبَاحُ عِنْدَ عَدَمِ الْفَائِدَةِ بِأَنْ قَالَ أَلْقِ مَالِي فِي الْبَحْرِ أَوْ أَحْرِقْهُ بِالنَّارِ ( وَهَذَا الْبَذْلُ ) أَيْ الَّذِي بِالنُّكُولِ ( مُفِيدٌ لِانْدِفَاعِ الْخُصُومَةِ بِهِ فَصَارَ كَقَطْعِ الْيَدِ لِلْآكِلَةِ وَقَطْعِ السِّنِّ لِلْوَجَعِ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مُنَاقِضٌ لِمَا قَالَ فِي السَّرِقَةِ إنَّ الْقَطْعَ لَا يَثْبُتُ بِالنُّكُولِ .
وَالثَّانِي أَنَّ الْخُصُومَةَ تَنْدَفِعُ بِالْأَرْشِ وَهُوَ أَهْوَنُ ، فَالْمَصِيرُ إلَيْهِ أَوْلَى .
وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْأَطْرَافَ يُسْلَكُ بِهَا مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ لِأَنَّهُمْ الْمُحْتَاجُونَ إلَيْهَا فَتَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ كَالْأَمْوَالِ ، وَالْقَطْعُ فِي السَّرِقَةِ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ لَا يَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ .
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ دَفْعَ الْخُصُومَةِ بِالْأَرْشِ إنَّمَا يُصَارُ إلَيْهِ بَعْدَ تَعَذُّرِ مَا هُوَ الْأَصْلُ وَهُوَ الْقِصَاصُ وَلَمْ يَتَعَذَّرْ فَلَا يُعْدَلُ عَنْهُ انْتَهَى .
وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى قَوْلِهِ فِي جَوَابِ الْبَحْثِ الْأَوَّلِ وَالْقَطْعُ فِي السَّرِقَةِ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ، وَهُوَ لَا يَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ الْمُرَادَ حَيْثُ قَالَ : يَعْنِي أَنَّ فِي كَوْنِ

النُّكُولِ بَذْلًا شُبْهَةً لَكِنْ فِيهِ بَحْثٌ ، فَإِنَّهُ لَوْ صَرَّحَ بِالْبَذْلِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَثْبُتُ الْقَطْعُ أَيْضًا ، فَالْأَوْلَى طَرْحُ الشُّبْهَةِ مِنْ الْبَيِّنِ وَالِاكْتِفَاءُ بِعَدَمِ تَأَتِّي الْبَذْلِ فِيهِ انْتَهَى .
أَقُولُ : مَدَارُ بَحْثِهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا بَيَّنَهُ ، وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ إذْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ فِي كَوْنِ الْأَطْرَافِ مِمَّا يُسْلَكُ بِهِ مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ شُبْهَةً لِاحْتِمَالِ كَوْنِهَا فِي حُكْمِ الْأَنْفُسِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَبَنَى عَلَيْهِ تَجْوِيزَهُ الْقِصَاصَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَبَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ وَبَيْنَ الْعَبْدَيْنِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ عَلَى مَا يَأْتِي فِي كِتَابِ الْجِنَايَاتِ ، فَمَعَ هَذِهِ الشُّبْهَةِ لَا يَتَأَتَّى الْبَذْلُ فِي قَطْعِ الْأَطْرَافِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى ، بِخِلَافِ حُقُوقِ الْعَبْدِ فَيَتِمُّ الْجَوَابُ .
ثُمَّ إنَّ فِي ذِكْرِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ إيمَاءً إلَى سَبَبِ عَدَمِ تَأَتِّي الْبَذْلِ فِيهِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ ذِكْرُهَا أَوْلَى مِنْ طَرْحِهَا وَالِاكْتِفَاءُ بِعَدَمِ تَأَتِّي الْبَذْلِ فِيهِ كَمَا لَا يَخْفَى ( وَإِذَا امْتَنَعَ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ ) أَيْ بِالنُّكُولِ لِعَدَمِ جَرَيَانِ الْبَذْلِ فِيهَا كَمَا مَرَّ ( وَالْيَمِينُ حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ الْيَمِينَ حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ ( يُحْبَسُ بِهِ ) أَيْ يُحْبَسُ النَّاكِلُ بِذَلِكَ الْحَقِّ ( كَمَا فِي الْقَسَامَةِ ) فَإِنَّهُمْ إذَا نَكَلُوا عَنْ الْيَمِينِ يُحْبَسُونَ حَتَّى يُقِرُّوا أَوْ يَحْلِفُوا

.
قَالَ ( وَإِذَا قَالَ الْمُدَّعِي لِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ قِيلَ لِخَصْمِهِ أَعْطِهِ كَفِيلًا بِنَفْسِك ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ) كَيْ لَا يَغِيبَ نَفْسُهُ فَيَضِيعَ حَقُّهُ وَالْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ جَائِزَةٌ عِنْدَنَا وَقَدْ مَرَّ مِنْ قَبْلُ ، وَأَخْذُ الْكَفِيلِ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى اسْتِحْسَانٌ عِنْدَنَا لِأَنَّ فِيهِ نَظَرًا لِلْمُدَّعِي وَلَيْسَ فِيهِ كَثِيرُ ضَرَرٍ بِالْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَهَذَا لِأَنَّ الْحُضُورَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى حَتَّى يُعَدَّى عَلَيْهِ وَيُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَشْغَالِهِ فَصَحَّ التَّكْفِيلُ بِإِحْضَارِهِ وَالتَّقْدِيرُ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ ، وَلَا فَرْقَ فِي الظَّاهِرِ بَيْنَ الْخَامِلِ وَالْوَجِيهِ وَالْحَقِيرِ مِنْ الْمَالِ وَالْخَطِيرِ ، ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ قَوْلِهِ لِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ لِلتَّكْفِيلِ وَمَعْنَاهُ فِي الْمِصْرِ ، حَتَّى لَوْ قَالَ الْمُدَّعِي لَا بَيِّنَةَ لِي أَوْ شُهُودِي غُيَّبٌ لَا يُكْفَلُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ .
قَالَ ( فَإِنْ فَعَلَ وَإِلَّا أُمِرَ بِمُلَازَمَتِهِ ) كَيْ لَا يَذْهَبَ حَقُّهُ ( إلَّا أَنْ يَكُونَ غَرِيبًا فَيُلَازِمَ مِقْدَارَ مَجْلِسِ الْقَاضِي ) وَكَذَا لَا يُكْفَلُ إلَّا إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ ، فَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْصَرِفٌ إلَيْهِمَا لِأَنَّ فِي أَخْذِ الْكَفِيلِ وَالْمُلَازَمَةِ زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ إضْرَارًا بِهِ بِمَنْعِهِ عَنْ السَّفَرِ وَلَا ضَرَرَ فِي هَذَا الْمِقْدَارِ ظَاهِرًا ، وَكَيْفِيَّةُ الْمُلَازَمَةِ نَذْكُرُهَا فِي كِتَابِ الْحَجْرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( وَإِذَا قَالَ الْمُدَّعِي لِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ قِيلَ لِخَصْمِهِ أَعْطِهِ كَفِيلًا بِنَفْسِك ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ كَيْ لَا يَغِيبَ نَفْسُهُ ) أَيْ كَيْ لَا يَغِيبَ خَصْمُهُ نَفْسُهُ ( فَيَضِيعَ حَقُّهُ ) أَيْ حَقُّ الْمُدَّعِي ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْكَفِيلُ ثِقَةً مَعْرُوفَ الدَّارِ حَتَّى تَحْصُلَ فَائِدَةُ التَّكْفِيلِ وَهِيَ الِاسْتِيثَاقُ ، كَذَا فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ ( وَالْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ جَائِزَةٌ عِنْدَنَا ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ( وَقَدْ مَرَّ مِنْ قَبْلُ ) أَيْ وَقَدْ مَرَّ جَوَازُ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ مِنْ قَبْلُ : أَيْ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْكَفَالَةِ ( وَأَخْذُ الْكَفِيلِ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى اسْتِحْسَانٌ عِنْدَنَا .
) اعْلَمْ أَنَّ أَخْذَ الْكَفِيلِ مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ السَّلَفُ .
رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ وَالشَّعْبِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ .
وَرُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ يَجُوزُ ، وَهَذَا هُوَ الِاسْتِحْسَانُ أَخَذَ بِهِ عُلَمَاؤُنَا ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ .
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ مُجَرَّدَ الدَّعْوَى لَيْسَ بِسَبَبٍ لِلِاسْتِحْقَاقِ كَيْفَ وَقَدْ عَارَضَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْإِنْكَارِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ إعْطَاءُ الْكَفِيلِ .
وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ ( لِأَنَّ فِيهِ ) أَيْ فِي أَخْذِ الْكَفِيلِ ( نَظَرًا لِلْمُدَّعِي ) إذْ لَا يَغِيبُ حِينَئِذٍ خَصْمُهُ فَيَتَمَكَّنُ مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ ( وَلَيْسَ فِيهِ كَثِيرُ ضَرَرٍ بِالْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحُضُورَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ ) أَيْ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ( بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى حَتَّى يُعَدَّى عَلَيْهِ ) مِنْ الْإِعْدَاءِ عَلَى لَفْظِ الْمَجْهُولِ .
يُقَالُ اسْتَعْدَى فُلَانٌ الْأَمِيرَ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ : أَيْ اسْتَعَانَ بِهِ فَأَعْدَاهُ الْأَمِيرُ عَلَيْهِ : أَيْ أَعَانَهُ الْأَمِيرُ عَلَيْهِ وَنَصَرَهُ ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ : وَنَسْتَعْدِي الْأَمِيرَ إذَا ظُلِمْنَا وَمَنْ يُعْدِي إذَا ظَلَمَ الْأَمِيرُ كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا ( وَيُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَشْغَالِهِ ) مِنْ الْحَيْلُولَةِ عَلَى لَفْظِ الْمَجْهُولِ

أَيْضًا ( فَيَصِحُّ التَّكْفِيلُ بِإِحْضَارِهِ ) بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى ( وَالتَّقْدِيرُ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الصَّحِيحُ ) احْتِرَازًا عَمَّا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُؤْخَذُ الْكَفِيلُ إلَى الْمَجْلِسِ الثَّانِي ( وَلَا فَرْقَ فِي الظَّاهِرِ ) أَيْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ( بَيْنَ الْخَامِلِ وَالْوَجِيهِ ) يُقَالُ خَمَلَ الرَّجُلُ خُمُولًا : إذَا كَانَ سَاقِطَ الْقَدْرِ ( وَالْحَقِيرِ مِنْ الْمَالِ وَالْخَطِيرِ ) أَيْ وَبَيْنَ الْحَقِيرِ مِنْ الْمَالِ وَالْخَطِيرِ : أَيْ الشَّرِيفِ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا كَانَ مَعْرُوفًا أَوْ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ لَا يَخْفَى نَفْسُهُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ لَا يُجْبَرُ عَلَى إعْطَاءِ الْكَفِيلِ ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الْمُدَّعِي حَقِيرًا لَا يَخْفَى الْمَرْءُ نَفْسُهُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ لَا يُجْبَرُ عَلَى إعْطَاءِ الْكَفِيلِ ( ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ قَوْلِهِ لِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ لِلتَّكْفِيلِ وَمَعْنَاهُ فِي الْمِصْرِ ) أَيْ مَعْنَى قَوْلِهِ حَاضِرَةٌ : حَاضِرَةٌ فِي الْمِصْرِ ( حَتَّى لَوْ قَالَ الْمُدَّعِي لَا بَيِّنَةَ لِي أَوْ شُهُودِي غُيَّبٌ ) بِفَتْحَتَيْنِ مُخَفَّفَةِ الْيَاءِ أَوْ بِضَمِّ الْغَيْنِ مُشَدَّدَةِ الْيَاءِ ( لَا يُكْفَلُ ) أَيْ لَا يُكْفَلُ خَصْمُهُ ( لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ ) لِأَنَّ الْفَائِدَةَ هِيَ الْحُضُورُ عِنْدَ حُضُورِ الشُّهُودِ وَذَلِكَ فِي الْهَالِكِ مُحَالٌ ، وَالْغَائِبُ كَالْهَالِكِ مِنْ وَجْهٍ ، إذْ لَيْسَ كُلُّ غَائِبٍ يَئُوبُ ( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( فَإِنْ فَعَلَ ) أَيْ فَإِنْ أَعْطَى خَصْمُهُ الْكَفِيلَ فِيهَا ( وَإِلَّا ) أَيْ وَإِنْ لَمْ يُعْطِ ( أُمِرَ بِمُلَازَمَتِهِ ) أَيْ أُمِرَ الْمُدَّعِي بِمُلَازَمَةِ خَصْمِهِ ( كَيْ لَا يَذْهَبَ حَقُّهُ ) أَيْ حَقُّ الْمُدَّعِي ( إلَّا أَنْ يَكُونَ غَرِيبًا ) أَيْ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ غَرِيبًا ( عَلَى الطَّرِيقِ ) أَيْ مُسَافِرًا ( فَيُلَازَمُ ) أَيْ فَيُلَازِمُ الْمُدَّعِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ( مِقْدَارَ مَجْلِسِ الْقَاضِي ، وَكَذَا لَا يُكْفَلُ إلَّا إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ ) أَيْ وَكَذَا لَا يُكْفَلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إذَا كَانَ

مُسَافِرًا إلَّا إلَى آخِرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي ( فَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْصَرِفٌ إلَيْهِمَا ) أَيْ الِاسْتِثْنَاءُ الْمَذْكُورُ فِي مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ بِقَوْلِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ غَرِيبًا مُنْصَرِفٌ إلَى التَّكْفِيلِ وَالْمُلَازَمَةِ جَمِيعًا ( لِأَنَّ فِي أَخْذِ الْكَفِيلِ وَالْمُلَازَمَةِ زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ ) أَيْ عَلَى مِقْدَارِ مَجْلِسِ الْقَاضِي ( إضْرَارًا بِهِ ) أَيْ بِالْمُدَّعَى عَلَيْهِ ( بِمَنْعِهِ عَنْ السَّفَرِ ، وَلَا ضَرَرَ فِي هَذَا الْمِقْدَارِ ) أَيْ فِي مِقْدَارِ مَجْلِسِ الْقَاضِي ( ظَاهِرًا ) أَيْ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ لِأَنَّ بِهَذَا الْقَدْرِ لَا يَنْقَطِعُ عَنْ الرُّفْقَةِ .
فَإِذَا جَاءَ أَوَانُ قِيَامِ الْقَاضِي عَنْ مَجْلِسِهِ وَلَمْ يُحْضِرْ الْمُدَّعِي بَيِّنَتَهُ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُحَلِّفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَيُخَلِّي سَبِيلَهُ لِيَذْهَبَ حَيْثُ شَاءَ ، فَإِنْ اخْتَلَفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ فَقَالَ الْمَطْلُوبُ أَنَا مُسَافِرٌ وَقَالَ الطَّالِبُ إنَّهُ لَا يُرِيدُ السَّفَرَ تَكَلَّمُوا فِيهِ بِأَقْوَالٍ .
قَالَ بَعْضُهُمْ : الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُدَّعِي لِأَنَّهُ مُتَمَسِّكٌ بِالْأَصْلِ فَإِنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْإِقَامَةُ وَالسَّفَرُ عَارِضٌ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ تَمَسَّكَ بِالْأَصْلِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : الْقَاضِي يَسْأَلُهُ مَعَ مَنْ يُرِيدُ السَّفَرَ ؟ فَإِنْ أَخْبَرَهُ مَعَ فُلَانٍ وَالْقَاضِي يَبْعَثُ إلَى الرُّفْقَةِ أَمِينًا مِنْ أُمَنَائِهِ يَسْأَلُ إنَّ فُلَانًا هَلْ اسْتَعَدَّ لِلْخُرُوجِ مَعَكُمْ ، فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ السَّفَرَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعِدًّا لِذَلِكَ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً } فَإِنْ قَالُوا نَعَمْ قَدْ اسْتَعَدَّ لِذَلِكَ انْضَمَّ قَوْلُهُمْ إلَى قَوْلِهِ فَيُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ فَيُمْهِلُهُ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ ، فَإِنْ أَحْضَرَ الْمُدَّعِي بَيِّنَتَهُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ وَإِلَّا خُلِّيَ سَبِيلُ الْمَطْلُوبِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا مِنْ حَالِهِ فَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ يَبْقَى ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِأَجْلِ الِاسْتِعْدَادِ فَقُلْنَا بِأَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى إعْطَاءِ الْكَفِيلِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، كَذَا فِي

غَايَةِ الْبَيَانِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَكَيْفِيَّةُ الْمُلَازَمَةِ نَذْكُرُهَا فِي كِتَابِ الْحَجْرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ) وَاَلَّذِي يَذْكُرُهُ الْمُصَنِّفُ هُنَاكَ هُوَ أَنَّهُ يَدُورُ مَعَهُ أَيْنَمَا دَارَ وَلَا يُجْلِسُهُ فِي مَوْضِعٍ لِأَنَّهُ حَبْسَ ، وَلَوْ دَخَلَ دَارِهِ لَا يَتْبَعُهُ بَلْ يَجْلِسُ عَلَى بَابِ دَارِهِ إلَى أَنْ يَخْرُجَ ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَوْضِعُ خَلْوَةٍ انْتَهَى .
وَقَالَ فِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى : وَتَفْسِيرُ الْمُلَازَمَةِ أَنْ يَدُورَ مَعَهُ حَيْثُ دَارَ وَيَبْعَثَ أَمِينًا حَتَّى يَدُورَ مَعَهُ أَيْنَمَا دَارَ ، لَكِنْ لَا يُجْلِسُهُ فِي مَوْضِعٍ لِأَنَّ ذَلِكَ حَبْسٌ وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ بِنَفْسِ الدَّعْوَى وَلَا يَشْغَلُهُ عَنْ التَّصَرُّفِ بَلْ هُوَ يَتَصَرَّفُ وَالْمُدَّعِي يَدُورُ مَعَهُ ، وَإِذَا انْتَهَى الْمَطْلُوبُ إلَى دَارِهِ فَإِنَّ الطَّالِبَ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ الدُّخُولِ عَلَى أَهْلِهِ ، بَلْ يَدْخُلُ الْمَطْلُوبُ عَلَى أَهْلِهِ وَالطَّالِبُ الْمُلَازِمُ يَجْلِسُ عَلَى بَابِ دَارِهِ .
ثُمَّ قَالَ : رَأَيْت فِي الزِّيَادَاتِ فِي الْبَابِ الْخَامِسِ وَالْأَرْبَعِينَ أَنَّ الْمَطْلُوبَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَهُ فَإِمَّا أَنْ يَأْذَنَ الْمُدَّعِيَ بِالدُّخُولِ مَعَهُ أَوْ يَجْلِسَ مَعَهُ عَلَى بَابِ الدَّارِ لِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَهُ حَتَّى دَخَلَ الدَّارَ وَحْدَهُ فَرُبَّمَا يَهْرُبُ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ فَيَفُوتُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْمُلَازَمَةِ انْتَهَى .

( فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ الْيَمِينِ وَالِاسْتِحْلَافِ ) قَالَ ( وَالْيَمِينُ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ دُونَ غَيْرِهِ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ كَانَ مِنْكُمْ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَذَرْ } وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ } ( وَقَدْ تُؤَكَّدُ بِذِكْرِ أَوْصَافِهِ ) وَهُوَ التَّغْلِيظُ ، وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ : قُلْ وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ عَالَمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، الَّذِي يَعْلَمُ مِنْ السِّرِّ مَا يَعْلَمُ مِنْ الْعَلَانِيَةِ ، مَا لِفُلَانٍ هَذَا عَلَيْك وَلَا قِبَلَك هَذَا الْمَالُ الَّذِي ادَّعَاهُ وَهُوَ كَذَا وَكَذَا وَلَا شَيْءَ مِنْهُ .
وَلَهُ أَنْ يَزِيدَ فِي التَّغْلِيظِ عَلَى هَذَا وَلَهُ أَنْ يَنْقُصَ مِنْهُ ، إلَّا أَنَّهُ يَحْتَاطُ فِيهِ كَيْ لَا يَتَكَرَّرَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ ، وَالْقَاضِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ غَلَّظَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يُغَلِّظْ فَيَقُولُ : قُلْ بِاَللَّهِ أَوْ وَاَللَّهِ ، وَقِيلَ : لَا يُغَلِّظُ عَلَى الْمَعْرُوفِ بِالصَّلَاحِ وَيُغَلِّظُ عَلَى غَيْرِهِ ، وَقِيلَ : يُغَلِّظُ فِي الْخَطِيرِ مِنْ الْمَالِ دُونَ الْحَقِيرِ .

فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ الْيَمِينِ وَالِاسْتِحْلَافِ ) .
لَمَّا ذَكَرَ نَفْسَ الْيَمِينِ أَيْ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ يَحْلِفُ ذَكَرَ فِي هَذَا الْفَصْلِ صِفَتَهَا لِأَنَّ كَيْفِيَّةَ الشَّيْءِ وَهِيَ مَا يَقَعُ بِهِ الْمُشَابَهَةُ واللَّامُشَابَهَةُ صِفَتُهُ وَالصِّفَةُ تَقْتَضِي سَبْقَ الْمَوْصُوفِ ( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ : ( وَالْيَمِينُ بِاَللَّهِ دُونَ غَيْرِهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ كَانَ مِنْكُمْ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَذَرْ } ) أَقُولُ : هَاهُنَا كَلَامٌ وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ : الْيَمِينُ بِاَللَّهِ أَوْ بِاسْمٍ آخَرَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ كَالرَّحْمَنِ وَالرَّحِيمِ أَوْ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ الَّتِي يَحْلِفُ بِهَا عُرْفًا كَعِزَّةِ اللَّهِ وَجَلَالِهِ وَكِبْرِيَائِهِ ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْيَمِينَ كَمَا تَكُونُ بِاَللَّهِ تَعَالَى تَكُونُ أَيْضًا بِصِفَاتِهِ الَّتِي يُحْلَفُ بِهَا فِي الْمُتَعَارَفِ ، وَالْحَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ هَاهُنَا وَالْيَمِينُ بِاَللَّهِ تَعَالَى دُونَ غَيْرِهِ يَقْتَضِي اخْتِصَاصَ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى .
وَأَيْضًا قَالَ هُنَاكَ : وَإِنْ قَالَ : إنْ فَعَلْت هَذَا فَهُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ أَوْ كَافِرٌ يَكُونُ يَمِينًا ، وَالْحَصْرُ الْمُسْتَفَادُ هَاهُنَا يُنَافِيهِ أَيْضًا .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ قَدْ اُشْتُهِرَ مِنْ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَتْ عَيْنَ الذَّاتِ وَلَا غَيْرَهَا ، فَعَلَى هَذَا لَا يُنَافِي قَوْلُهُ دُونَ غَيْرِهِ صِحَّةَ الْيَمِينِ بِصِفَاتِهِ الْمَذْكُورَةِ وَلَا يُنَافِيهَا أَيْضًا اخْتِصَاصُ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى بِمَعْنًى لَا بِغَيْرِهِ كَمَا يُفِيدُهُ قَوْلُهُ دُونَ غَيْرِهِ .
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الْيَمِينَ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ بِاَللَّهِ تَعَالَى فِي ظَاهِرِ الْحَالِ إلَّا أَنَّهَا كَانَتْ بِهِ فِي الْمَآلِ فَتَأَمَّلْ .
وَفِي الْمَبْسُوطِ : إنَّ الْحُرَّ وَالْمَمْلُوكَ وَالرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ وَالْفَاسِقَ وَالصَّالِحَ وَالْكَافِرَ وَالْمُسْلِمَ فِي الْيَمِينِ سَوَاءٌ ،

لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ ، وَهَؤُلَاءِ فِي اعْتِقَادِ الْحُرْمَةِ فِي الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ سَوَاءٌ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ ( وَقَدْ تُؤَكَّدُ ) أَيْ الْيَمِينُ ( بِذِكْرِ أَوْصَافِهِ ) أَيْ بِذِكْرِ أَوْصَافِ اللَّهِ تَعَالَى ، هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ ، قَالَ الْمُصَنِّفُ : ( وَهُوَ التَّغْلِيظُ ، وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ قُلْ : وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَعْلَمُ مِنْ السِّرِّ ) وَالْخَفَاءِ ( مَا يَعْلَمُ مِنْ الْعَلَانِيَةِ مَا لِفُلَانٍ هَذَا عَلَيْك وَلَا قِبَلَك هَذَا الْمَالُ الَّذِي ادَّعَاهُ ، وَهُوَ كَذَا وَكَذَا وَلَا شَيْءَ مِنْهُ وَلَهُ ) أَيْ وَلِلْقَاضِي ( أَنْ يَزِيدَ فِي التَّغْلِيظِ عَلَى هَذَا ) أَيْ عَلَى الْمَذْكُورِ ( وَلَهُ أَنْ يَنْقُصَ مِنْهُ ) أَيْ مِنْ الْمَذْكُورِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الِاسْتِحْلَافِ النُّكُولُ ، وَأَحْوَالُ النَّاسِ فِيهِ مُخْتَلِفَةٌ ؛ مِنْهُمْ مَنْ يَمْتَنِعُ إذَا غُلِّظَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ وَيَتَجَاسَرُ إذَا حَلَفَ بِاَللَّهِ فَقَطْ ، ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَمْتَنِعُ بِأَدْنَى تَغْلِيظٍ ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَمْتَنِعُ إلَّا بِزِيَادَةِ تَغْلِيظٍ ، فَلِلْقَاضِي أَنْ يُرَاعِيَ أَحْوَالَ النَّاسِ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي { الَّذِي حَلَفَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْك الْكِتَابَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } ( إلَّا أَنَّهُ يَحْتَاطُ كَيْ لَا يَتَكَرَّرَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ ) وَالْمُرَادُ بِالِاحْتِيَاطِ أَنْ يَذْكُرَ بِغَيْرِ وَاوٍ ، إذْ لَوْ ذَكَرَ : وَاَللَّهِ وَالرَّحْمَنِ وَالرَّحِيمِ بِالْوَاوَاتِ صَارَتْ ثَلَاثَةَ أَيْمَانٍ ، وَتَكْرَارُ الْيَمِينِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ نَقْلًا عَنْ الْمَبْسُوطِ ( لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ وَالْقَاضِي بِالْخِيَارِ ، إنْ شَاءَ غَلَّظَ ) فَلَا يُزَادُ عَلَيْهَا (

وَإِنْ شَاءَ ) الْقَاضِي ( لَمْ يُغَلِّظْ فَيَقُولُ : قُلْ بِاَللَّهِ أَوْ وَاَللَّهِ ) لِمَا مَرَّ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْيَمِينِ النُّكُولُ وَأَحْوَالُ النَّاسِ فِيهِ شَتَّى : فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْتَنِعُ بِدُونِ التَّغْلِيظِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فَالرَّأْيُ فِيهِ إلَى الْقَاضِي ( وَقِيلَ : لَا يُغَلَّظُ عَلَى الْمَعْرُوفِ بِالصَّلَاحِ ) إذْ الظَّاهِرُ مِنْهُ أَنْ يَمْتَنِعَ بِدُونِ التَّغْلِيظِ ( وَيُغَلِّظُ عَلَى غَيْرِهِ ) لِكَوْنِ أَمْرِهِ عَلَى خِلَافِ الْأَوَّلِ ( وَقِيلَ يُغَلِّظُ فِي الْخَطِيرِ مِنْ الْمَالِ دُونَ الْحَقِيرِ ) لِمِثْلِ مَا قُلْنَا فِي الْقِيلِ الْأَوَّلِ

قَالَ ( وَلَا يَسْتَحْلِفُ بِالطَّلَاقِ وَلَا بِالْعَتَاقِ ) لِمَا رَوَيْنَا ، وَقِيلَ فِي زَمَانِنَا إذَا أَلَحَّ الْخَصْمُ سَاغَ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْلِفَ بِذَلِكَ لِقِلَّةِ الْمُبَالَاةِ بِالْيَمِينِ بِاَللَّهِ وَكَثْرَةِ الِامْتِنَاعِ بِسَبَبِ الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ .

.
( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( وَلَا يَسْتَحْلِفُ بِالطَّلَاقِ وَلَا بِالْعَتَاقِ لِمَا رَوَيْنَا ) وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَذَرْ } ( وَقِيلَ فِي زَمَانِنَا إذَا أَلَحَّ الْخَصْمُ سَاغَ لِلْقَاضِي أَنْ يُحَلِّفَ بِذَلِكَ ) أَيْ بِالطَّلَاقِ أَوْ بِالْعَتَاقِ ( لِقِلَّةِ الْمُبَالَاةِ بِالْيَمِينِ بِاَللَّهِ وَكَثْرَةِ الِامْتِنَاعِ بِسَبَبِ الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ ) أَقُولُ : يَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّ هَذَا تَعْلِيلٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَذَرْ } فَلَا يَصِحُّ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ .
وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ : وَإِنْ أَرَادَ الْمُدَّعِي تَحْلِيفَهُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا يُجِيبُهُ الْقَاضِي إلَى ذَلِكَ لِأَنَّ التَّحْلِيفَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ حَرَامٌ .
وَبَعْضُهُمْ جَوَّزُوا ذَلِكَ فِي زَمَانِنَا ، وَالصَّحِيحُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ انْتَهَى .
وَفِي الذَّخِيرَةِ : التَّحْلِيفُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْأَيْمَانِ الْمُغَلَّظَةِ لَمْ يُجَوِّزْهُ أَكْثَرُ مَشَايِخِنَا وَأَجَازَهُ الْبَعْضُ ، فَيُفْتَى بِأَنَّهُ يَجُوزُ إنْ مَسَّتْهُ الضَّرُورَةُ ، وَإِذَا بَالَغَ الْمُسْتَفْتِي فِي الْفَتْوَى يُفْتِي بِأَنَّ الرَّأْيَ إلَى الْقَاضِي انْتَهَى .
وَفِي فُصُولِ الْأُسْرُوشَنِيِّ : وَلَوْ حَلَّفَ الْقَاضِي بِالطَّلَاقِ فَنَكَلَ لَا يَقْضِي عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ لِأَنَّهُ نَكَلَ عَمَّا هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ شَرْعًا انْتَهَى .
وَفِي الْخُلَاصَةِ : التَّحْلِيفُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْأَيْمَانِ الْمُغَلَّظَةِ لَا يُجَوِّزُهُ أَكْثَرُ مَشَايِخِنَا فَإِنْ مَسَّتْ الضَّرُورَةُ يُفْتَى بِأَنَّ الرَّأْيَ إلَى الْقَاضِي ، فَلَوْ حَلَّفَ الْقَاضِي بِالطَّلَاقِ فَنَكَلَ وَقَضَى بِالْمَالِ لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ انْتَهَى .
أَقُولُ : قَدْ تَلَخَّصَ مِنْ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ كُلِّهَا أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يُحَلِّفَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ عِنْدَ إلْحَاحِ الْخَصْمِ ، وَأَنْ يُفْتِيَ بِجَوَازِ ذَلِكَ إنْ

مَسَّتْهُ الضَّرُورَةُ ، وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِالنُّكُولِ عَنْهُ ، وَإِنْ قَضَى بِهِ لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ وَعَنْ هَذَا قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَلَكِنَّهُمْ قَالُوا : إنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ بِهِ لَا يَقْضِي عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ لِأَنَّهُ نَكَلَ عَمَّا هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ شَرْعًا ، وَلَوْ قَضَى بِهِ لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ انْتَهَى .
لَكِنْ فِيهِ إشْكَالٌ لِأَنَّ فَائِدَةَ التَّحْلِيفِ الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ ، فَإِذَا لَمْ يَجُزْ الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ عَمَّا ذُكِرَ فَكَيْفَ يَجُوزُ التَّحْلِيفُ بِهِ ، أَلَّا يَرَى إلَى مَا مَرَّ فِي بَيَانِ دَلِيلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الِاسْتِحْلَافِ فِي الْأَشْيَاءِ الْعَدِيدَةِ عِنْدَهُ مِنْ أَنَّ النُّكُولَ بَذْلٌ وَالْبَذْلُ لَا يَجْرِي فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ، وَفَائِدَةُ الِاسْتِحْلَافِ الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ فَلَا يَسْتَحْلِفُ فِيهَا حَيْثُ جَعَلُوا عَدَمَ تَرَتُّبِ فَائِدَةِ الِاسْتِحْلَافِ وَهُوَ الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ عِلَّةً لِعَدَمِ جَوَازِ الِاسْتِحْلَافِ فِي الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ عِنْدَهُ فَتَأَمَّلْ .

قَالَ ( وَيَسْتَحْلِفُ الْيَهُودِيَّ بِاَللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَالنَّصْرَانِيَّ بِاَللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ الْإِنْجِيلَ عَلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ) { لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِابْنِ صُورِيَّا الْأَعْوَرِ أَنْشُدُك بِاَللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى أَنَّ حُكْمَ الزِّنَا فِي كِتَابِكُمْ هَذَا } وَلِأَنَّ الْيَهُودِيَّ يَعْتَقِدُ نُبُوَّةَ مُوسَى وَالنَّصْرَانِيَّ نُبُوَّةَ عِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فَيُغَلِّظُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِذِكْرِ الْمُنَزَّلِ عَلَى نَبِيِّهِ ( وَ ) يَسْتَحْلِفُ ( الْمَجُوسِيُّ بِاَللَّهِ الَّذِي خَلَقَ النَّارَ ) وَهَكَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْأَصْلِ .
يُرْوَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ لَا يَسْتَحْلِفُ أَحَدًا إلَّا بِاَللَّهِ خَالِصًا .
وَذَكَرَ الْخَصَّافُ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَسْتَحْلِفُ غَيْرَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ إلَّا بِاَللَّهِ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ بَعْضِ مَشَايِخِنَا لِأَنَّ فِي ذِكْرِ النَّارِ مَعَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى تَعْظِيمًا وَمَا يَنْبَغِي أَنْ تُعَظَّمَ ، بِخِلَافِ الْكِتَابَيْنِ لِأَنَّ كُتُبَ اللَّهِ مُعَظَّمَةٌ ( وَالْوَثَنِيُّ لَا يَحْلِفُ إلَّا بِاَللَّهِ ) لِأَنَّ الْكَفَرَةَ بِأَسْرِهِمْ يَعْتَقِدُونَ اللَّهَ تَعَالَى ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } قَالَ ( وَلَا يَحْلِفُونَ فِي بُيُوتِ عِبَادَتِهِمْ ) لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَحْضُرُهَا بَلْ هُوَ مَمْنُوعٌ عَنْ ذَلِكَ .
.

( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( وَيَسْتَحْلِفُ الْيَهُودِيَّ بِاَللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى ، وَالنَّصْرَانِيَّ بِاَللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ الْإِنْجِيلَ عَلَى عِيسَى لِقَوْلِهِ ) أَيْ لِقَوْلِ نَبِيِّنَا ( صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ صُورِيَّا الْأَعْوَرِ ) وَفِي الْمُغْرِبِ : ابْنُ صُورِيَّا بِالْقَصْرِ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ { أَنْشُدُك بِاَللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى أَنَّ حُكْمَ الزِّنَا فِي كِتَابِكُمْ هَذَا } أَيْ التَّحْمِيمُ ، هَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي الْحُدُودِ مُسْنَدًا إلَى الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { مَرَّ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِيَهُودِيٍّ مُحَمَّمٍ ، فَدَعَاهُمْ فَقَالَ : هَكَذَا تَجِدُونَ حَدَّ الزِّنَا فِي كِتَابِكُمْ ؟ قَالُوا : نَعَمْ ، فَدَعَا رَجُلًا فَقَالَ : نَشَدْتُك اللَّهَ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هَكَذَا تَجِدُونَ حَدَّ الزِّنَا فِي كِتَابِكُمْ ؟ فَقَالَ : اللَّهُمَّ لَا ، فَلَوْلَا أَنَّك نَشَدْتَنِي بِهَذَا لَمْ أُخْبِرْك ، حَدُّ الزِّنَا فِي كِتَابِنَا الرَّجْمُ ، وَلَكِنَّهُ كَثُرَ فِي أَشْرَافِنَا فَكُنَّا إذَا أَخَذْنَا الرَّجُلَ الشَّرِيفَ تَرَكْنَاهُ وَإِذَا أَخَذْنَا الضَّعِيفَ أَقَمْنَا عَلَيْهِ الْحَدَّ فَقُلْنَا : تَعَالَوْا فَنَجْتَمِعَ عَلَى شَيْءٍ نُقِيمُهُ عَلَى الشَّرِيفِ وَالْوَضِيعِ ، فَاجْتَمَعْنَا عَلَى التَّحْمِيمِ وَالْجَلْدِ وَتَرَكْنَا الرَّجْمَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اللَّهُمَّ إنِّي أَوَّلُ مَنْ أَحْيَا أَمْرَك إذْ أَمَاتُوهُ ، فَأُمِرَ بِهِ فَرُجِمَ } وَقَالَ شُرَّاحُهُ : وَهَذَا الرَّجُلُ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صُورِيَّا ، وَقَدْ صَرَّحَ بِاسْمِهِ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ : يَعْنِي لِابْنِ صُورِيَّا ، الْحَدِيثُ .
وَهَذَا مُرْسَلٌ ( وَلِأَنَّ الْيَهُودِيَّ يَعْتَقِدُ نُبُوَّةَ مُوسَى وَالنَّصْرَانِيَّ نُبُوَّةَ عِيسَى ) أَيْ يَعْتَقِدُ نُبُوَّةَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ( فَيُغَلِّظُ عَلَى كُلِّ

وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِذِكْرِ الْمُنَزَّلِ عَلَى نَبِيِّهِ ) لِيَكُونَ رَادِعًا لَهُ عَنْ الْإِقْدَامِ عَلَى الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ ( وَيَحْلِفُ الْمَجُوسِيُّ بِاَللَّهِ الَّذِي خَلَقَ النَّارَ ، هَكَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ ) وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَجُوسِيَّ يَعْتَقِدُ الْحُرْمَةَ فِي النَّارِ فَيَمْتَنِعُ عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ فَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ ( وَيُرْوَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَسْتَحْلِفُ أَحَدًا إلَّا بِاَللَّهِ خَالِصًا ) تَفَادِيًا عَنْ تَشْرِيكِ الْغَيْرِ مَعَهُ فِي التَّعْظِيمِ ( وَذَكَرَ الْخَصَّافُ أَنَّهُ لَا يَسْتَحْلِفُ غَيْرَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ إلَّا بِاَللَّهِ وَهُوَ اخْتِيَارُ بَعْضِ مَشَايِخِنَا ، لِأَنَّ فِي ذِكْرِ النَّارِ مَعَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى تَعْظِيمَهَا وَمَا يَنْبَغِي أَنْ تُعَظَّمَ ) لِأَنَّ النَّارَ كَغَيْرِهَا مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ ، فَكَمَا لَا يَسْتَحْلِفُ الْمُسْلِمَ بِاَللَّهِ الَّذِي خَلَقَ الشَّمْسَ ، فَكَذَلِكَ لَا يَسْتَحْلِفُ الْمَجُوسِيَّ بِاَللَّهِ الَّذِي خَلَقَ النَّارَ .
وَفِي الْمَبْسُوطِ : وَكَأَنَّهُ وَقَعَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ أَنَّهُمْ يُعَظِّمُونَ النَّارَ تَعْظِيمَ الْعِبَادَةِ ، فَلِمَقْصُودِ النُّكُولِ قَالَ : تُذْكَرُ النَّارُ فِي الْيَمِينِ انْتَهَى ( بِخِلَافِ الْكِتَابَيْنِ ) أَيْ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ( لِأَنَّ كُتُبَ اللَّهِ مُعَظَّمَةٌ ) فَجَازَ أَنْ تُذْكَرَ مَعَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى ( وَالْوَثَنِيُّ لَا يَحْلِفُ إلَّا بِاَللَّهِ ، لِأَنَّ الْكَفَرَةَ بِأَسْرِهِمْ يَعْتَقِدُونَ اللَّهَ تَعَالَى ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَئِنْ سَأَلْتهمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ) لَا يُقَالُ : لَوْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَعْبُدُوا الْأَوْثَانَ .
لِأَنَّا نَقُولُ : إنَّمَا يَعْبُدُونَهَا تَقَرُّبًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى زَعْمِهِمْ ؛ أَلَا يَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمْ { مَا نَعْبُدُهُمْ إلَّا لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى } وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ اللَّهَ تَعَالَى يَمْتَنِعُونَ عَلَى الْإِقْدَامِ عَلَى الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَتَحْصُلُ الْفَائِدَةُ

الْمَطْلُوبَةُ مِنْ الْيَمِينِ وَهِيَ النُّكُولُ ( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ : ( وَلَا يَحْلِفُونَ فِي بُيُوتِ عِبَادَتِهِمْ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَحْضُرُهَا ) أَيْ لَا يَحْضُرُ بُيُوتَ عِبَادَتِهِمْ لِلْحَرَجِ بَلْ هُوَ مَمْنُوعٌ عَنْ ذَلِكَ ) لِأَنَّ فِيهِ تَعْظِيمَ ذَلِكَ الْمَكَانِ ، وَالْحَلِفُ يَقَعُ بِاَللَّهِ تَعَالَى لَا بِالْمَكَانِ ، فَفِي أَيِّ مَكَان حَلَّفَهُ جَازَ .
وَفِي الْأَجْنَاسِ قَالَ فِي الْمَأْخُوذِ لِلْحَسَنِ : وَإِنْ سَأَلَ الْمُدَّعِي الْقَاضِيَ أَنْ يَبْعَثَ بِهِ إلَى بَيْعَةٍ أَوْ كَنِيسَةٍ فَيُحَلِّفُهُ هُنَاكَ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَفْعَلَهُ إذَا اتَّهَمَهُ ، كَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ .

قَالَ ( وَلَا يَجِبُ تَغْلِيظُ الْيَمِينِ عَلَى الْمُسْلِمِ بِزَمَانٍ وَلَا مَكَانٍ ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَعْظِيمُ الْمُقْسَمِ بِهِ وَهُوَ حَاصِلٌ بِدُونِ ذَلِكَ ، وَفِي إيجَابِ ذَلِكَ حَرَجٌ عَلَى الْقَاضِي حَيْثُ يُكَلَّفُ حُضُورَهَا وَهُوَ مَدْفُوعٌ .
( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( وَلَا يَجِبُ تَغْلِيظُ الْيَمِينِ عَلَى الْمُسْلِمِ بِزَمَانٍ وَلَا مَكَانٍ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَعْظِيمُ الْمُقْسَمِ بِهِ وَهُوَ حَاصِلٌ بِدُونِ ذَلِكَ ) أَيْ بِدُونِ تَعْيِينِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ ( وَفِي إيجَابِ ذَلِكَ حَرَجٌ عَلَى الْقَاضِي حَيْثُ يُكَلِّفُ حُضُورَهَا ) أَيْ حُضُورُ الْأَزْمَانِ الْمُعَيَّنَةِ وَالْأَمَاكِنِ الْمَخْصُوصَةِ ( وَهُوَ مَدْفُوعٌ ) أَيْ الْحَرَجُ مَدْفُوعٌ بِالنَّصِّ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إذَا كَانَتْ الْيَمِينُ فِي قَسَامَةٍ أَوْ فِي لِعَانٍ أَوْ فِي مَالٍ عَظِيمٍ فَإِنَّهَا تَخْتَصُّ بِمَكَانٍ ؛ إنْ كَانَ بِمَكَّةَ فَبَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ ، وَإِنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ فَعِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَفِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ عِنْدَ الصَّخْرَةِ ، وَفِي سَائِرِ الْبِلَادِ فِي الْجَوَامِعِ ، وَكَذَلِكَ يُشْتَرَطُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَبَعْدَ الْعَصْرِ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ نَقْلًا عَنْ الْمَبْسُوطِ وَشَرْحِ الْأَقْطَعِ

قَالَ ( وَمَنْ ادَّعَى أَنَّهُ ابْتَاعَ مِنْ هَذَا عَبْدَهُ بِأَلْفٍ فَجَحَدَ اسْتَحْلَفَ بِاَللَّهِ مَا بَيْنَكُمَا بَيْعٌ قَائِمٌ فِيهِ وَلَا يَسْتَحْلِفُ بِاَللَّهِ مَا بِعْت ) لِأَنَّهُ قَدْ يُبَاعُ الْعَيْنُ ثُمَّ يُقَالُ فِيهِ
( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( وَمَنْ ادَّعَى أَنَّهُ ابْتَاعَ مِنْ هَذَا عَبْدَهُ بِأَلْفٍ فَجَحَدَ اسْتَحْلَفَ بِاَللَّهِ مَا بَيْنَكُمَا بَيْعٌ قَائِمٌ فِيهِ وَلَا يَسْتَحْلِفُ بِاَللَّهِ مَا بِعْت ) يَعْنِي يَسْتَحْلِفُ عَلَى الْحَاصِلِ دُونَ السَّبَبِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنْ كَيْفِيَّةِ الْيَمِينِ وَهُوَ الْيَمِينُ عَلَى الْحَاصِلِ أَوْ السَّبَبِ ، وَالضَّابِطُ فِي ذَلِكَ أَنَّ السَّبَبَ ، إمَّا إنْ كَانَ مِمَّا يَرْتَفِعُ بِرَافِعٍ أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَالتَّحْلِيفُ عَلَى السَّبَبِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَإِنْ تَضَرَّرَ الْمُدَّعِي بِالتَّحْلِيفِ عَلَى الْحَاصِلِ فَكَذَلِكَ ، وَإِنْ لَمْ يَتَضَرَّرْ يَحْلِفُ عَلَى الْحَاصِلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَعَلَى السَّبَبِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَّا إذَا عَرَضَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِرَفْعِ السَّبَبِ وَسَيَظْهَرُ الْكُلُّ مِنْ الْكِتَابِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ ( لِأَنَّهُ قَدْ يُبَاعُ الْعَيْنُ ثُمَّ يُقَالُ فِيهِ ) مِنْ الْإِقَالَةِ : أَيْ ثُمَّ تَطْرَأُ عَلَيْهِ الْإِقَالَةُ فَلَا يَبْقَى الْبَيْعُ عَلَى حَالِهِ ، فَلَوْ اسْتَحْلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى السَّبَبِ الَّذِي هُوَ الْبَيْعُ هَاهُنَا لَتَضَرَّرَ بِهِ فَاسْتَحْلَفَ عَلَى الْحَاصِلِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ .

( وَيَسْتَحْلِفُ فِي الْغَصْبِ بِاَللَّهِ مَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْك رَدَّهُ وَلَا يَحْلِفُ بِاَللَّهِ مَا غَصَبْت ) لِأَنَّهُ قَدْ يَغْصِبُ ثُمَّ يَفْسَخُ بِالْهِبَةِ وَالْبَيْعِ ( وَفِي النِّكَاحِ بِاَللَّهِ مَا بَيْنَكُمَا نِكَاحٌ قَائِمٌ فِي الْحَالِ ) لِأَنَّهُ قَدْ يَطْرَأُ عَلَيْهِ الْخُلْعُ ( وَفِي دَعْوَى الطَّلَاقِ بِاَللَّهِ مَا هِيَ بَائِنٌ مِنْك السَّاعَةَ بِمَا ذَكَرْت وَلَا يَسْتَحْلِفُ بِاَللَّهِ مَا طَلَّقَهَا ) لِأَنَّ النِّكَاحَ قَدْ يُجَدَّدُ بَعْدَ الْإِبَانَةِ فَيَحْلِفُ عَلَى الْحَاصِلِ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ ، لِأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ عَلَى السَّبَبِ يَتَضَرَّرُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَحْلِفُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ عَلَى السَّبَبِ إلَّا إذَا عَرَّضَ بِمَا ذَكَرْنَا فَحِينَئِذٍ يَحْلِفُ عَلَى الْحَاصِلِ .
وَقِيلَ : يَنْظُرُ إلَى إنْكَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إنْ أَنْكَرَ السَّبَبَ يَحْلِفُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ أَنْكَرَ الْحُكْمَ يَحْلِفُ عَلَى الْحَاصِلِ .
فَالْحَاصِلُ هُوَ الْأَصْلُ عِنْدَهُمَا إذَا كَانَ سَبَبًا يَرْتَفِعُ إلَّا إذَا كَانَ فِيهِ تَرْكُ النَّظَرِ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي فَحِينَئِذٍ يَحْلِفُ عَلَى السَّبَبِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَذَلِكَ أَنْ تَدَّعِيَ مَبْتُوتَةٌ نَفَقَةَ الْعِدَّةِ وَالزَّوْجُ مِمَّنْ لَا يَرَاهَا ، أَوْ ادَّعَى شُفْعَةً بِالْجِوَارِ وَالْمُشْتَرِي لَا يَرَاهَا ، لِأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ عَلَى الْحَاصِلِ يَصْدُقُ فِي يَمِينِهِ فِي مُعْتَقَدِهِ فَيَفُوتُ النَّظَرُ فِي حَقِّ الْمُدَّعِي ، وَإِنْ كَانَ سَبَبًا لَا يَرْتَفِعُ بِرَافِعٍ فَالتَّحْلِيفُ عَلَى السَّبَبِ بِالْإِجْمَاعِ ( كَالْعَبْدِ الْمُسْلِمِ إذَا ادَّعَى الْعِتْقَ عَلَى مَوْلَاهُ ، بِخِلَافِ الْأَمَةِ وَالْعَبْدِ الْكَافِرِ ) لِأَنَّهُ يُكَرِّرُ الرِّقَّ عَلَيْهَا بِالرِّدَّةِ وَاللِّحَاقِ وَعَلَيْهِ بِنَقْضِ الْعَهْدِ وَاللِّحَاقِ ، وَلَا يُكَرِّرُ عَلَى الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ .
.

( وَيَسْتَحْلِفُ فِي الْغَصْبِ بِاَللَّهِ مَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ رَدَّهُ ) أَيْ رَدُّ الْمُدَّعِي ( وَلَا يَحْلِفُ بِاَللَّهِ مَا غَصَبْت ) هَذَا أَيْضًا مِنْ قَوْلِ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِهِ ( لِأَنَّهُ قَدْ يُغْصَبُ ) أَيْ قَدْ يُغْصَبُ الشَّيْءُ ( ثُمَّ يُفْسَخُ ) أَيْ يُفْسَخُ الْغَصْبُ ( بِالْهِبَةِ وَالْبَيْعِ ) فَلَوْ حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى السَّبَبِ الَّذِي هُوَ الْغَصْبُ هَاهُنَا لَتَضَرَّرَ بِهِ فَيَحْلِفُ عَلَى الْحَاصِلِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ ( وَفِي النِّكَاحِ بِاَللَّهِ مَا بَيْنَكُمَا نِكَاحٌ قَائِمٌ فِي الْحَالِ ) وَهَذَا أَيْضًا مِنْ قَوْلِ الْقُدُورِيِّ .
وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَأَكْثَرُ الشُّرَّاحِ : هَذَا عَلَى قَوْلِهِمَا لِمَا أَنَّ الِاسْتِحْلَافَ فِي النِّكَاحِ قَوْلُهُمَا .
أَقُولُ : الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ هَذَا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ ، لِأَنَّ الِاسْتِحْلَافَ فِي النِّكَاحِ مُطْلَقًا ، وَإِنْ كَانَ يَجْرِي عَلَى قَوْلِهِمَا مَعًا إلَّا أَنَّ الِاسْتِحْلَافَ فِيهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ الِاسْتِحْلَافُ عَلَى الْحَاصِلِ إنَّمَا يَجْرِي عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ فَقَطْ ، إذْ الِاسْتِحْلَافُ فِيهِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ إنَّمَا هُوَ عَلَى السَّبَبِ كَمَا يُنَادِي عَلَيْهِ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِيمَا سَيَأْتِي ، أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يَحْلِفُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ عَلَى السَّبَبِ .
نَعَمْ سَيَقُولُ الْمُصَنِّفُ هُنَاكَ أَيْضًا إلَّا إذَا عَرَضَ بِمَا ذَكَرْنَا فَحِينَئِذٍ يَحْلِفُ عَلَى الْحَاصِلِ ، لَكِنَّ الْكَلَامَ هُنَا فِي الِاسْتِحْلَافِ عَلَى الْحَاصِلِ مُطْلَقًا أَيْ سَوَاءٌ عَرَضَ أَوْ لَمْ يَعْرِضْ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَطْعًا بَيَانُ الْخِلَافِ فِيهِ بِقَوْلِهِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ إلَخْ إذْ لَا خِلَافَ فِي صُورَةِ التَّعْرِيضِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّعْلِيلِ ( لِأَنَّهُ قَدْ يَطْرَأُ عَلَيْهِ الْخُلْعُ ) أَيْ يَطْرَأُ عَلَى النِّكَاحِ الْخُلْعُ ، فَلَوْ حَلَفَ عَلَى السَّبَبِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ النِّكَاحِ هَاهُنَا لَتَضَرَّرَ بِهِ فَحَلَفَ عَلَى الْحَاصِلِ

لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ ( وَفِي دَعْوَى الطَّلَاقِ بِاَللَّهِ مَا هِيَ بَائِنٌ مِنْك السَّاعَةَ بِمَا ذَكَرْت وَلَا يَسْتَحْلِفُ بِاَللَّهِ مَا طَلَّقَهَا ) وَهَذَا أَيْضًا مِنْ قَوْلِ الْقُدُورِيِّ ، فَكَأَنَّهُ زَادَ ذِكْرَ دَعْوَى فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي هِيَ أُخْرَى الْمَسَائِلِ الْمُتَنَاسِبَةِ الْمَذْكُورَةِ هَاهُنَا إيمَاءً إلَى أَنَّهَا مُعْتَبَرَةٌ فِي الْمَسَائِلِ السَّابِقَةِ أَيْضًا ، إلَّا أَنَّهَا تَرَكَتْ فِيهَا اعْتِمَادًا عَلَى انْفِهَامِهَا بِمَعُونَةِ الْمَقَامِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ( لِأَنَّ النِّكَاحَ قَدْ يُجَدَّدُ بَعْدَ الْإِبَانَةِ ) وَفَرَّعَ عَلَى جُمْلَةِ مَا ذَكَرَهُ فِي تِلْكَ الْمَسَائِلِ قَوْلَهُ ( فَيَحْلِفُ عَلَى الْحَاصِلِ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ لِأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ عَلَى السَّبَبِ لَتَضَرَّرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ) عَلَى مَا مَرَّ تَقْرِيرُهُ ( وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ) أَيْ التَّحْلِيفُ عَلَى الْحَاصِلِ فِي الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ قَوْلُهُمَا .
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : هَاهُنَا كَلَامٌ وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَحْلِفُ فِي النِّكَاحِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يَكُونُ التَّحْلِيفُ فِيهِ عَلَى الْحَاصِلِ عِنْدَهُ كَمَا لَا يُخْفَى انْتَهَى .
أَقُولُ : هَذَا ظَاهِرٌ ، وَلَكِنَّ الظَّاهِرَ أَيْضًا أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ هَذَا عَلَى التَّغْلِيبِ : أَيْ تَغْلِيبُ حُكْمِ سَائِرِ الْوُجُوهِ عَلَى حُكْمِ وَجْهِ النِّكَاحِ اعْتِمَادًا عَلَى ظُهُورِ عَدَمِ جَرَيَانِ الِاسْتِحْلَافِ فِي النِّكَاحِ مِمَّا مَرَّ .
ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ قَصَدَ تَوْجِيهَ الْكَلَامِ وَدَفْعَ الِاعْتِرَاضِ عَنْ الْمَقَامِ حَيْثُ قَالَ : أَيْ التَّحْلِيفُ عَلَى الْحَاصِلِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ التَّحْلِيفَ عَلَى الْحَاصِلِ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى يَعْتَرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا سَبَقَ مِنْ أَنَّهُ لَا يَحْلِفُ عِنْدَهُ فِي النِّكَاحِ انْتَهَى .
أَقُولُ : لَا يُخْفَى عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يَحْلِفُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ

عَلَى السَّبَبِ يَأْبَى مَا قَالَهُ هَذَا الْقَائِلُ ، إذْ قَدْ صَرَّحَ الْمُصَنِّفُ هَاهُنَا بِلَفْظِ الْجَمْعِ تَعْيِينًا لِكَوْنِ الْخِلَافِ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَصَاحِبَيْهِ فِي جَمِيعِ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ لَا فِي كَيْفِيَّةِ التَّحْلِيفِ فِي الْجُمْلَةِ فَتَدَبَّرْ ( أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يَحْلِفُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ ) أَيْ فِي جَمِيعِ مَا ذُكِرَ مِنْ الْوُجُوهِ ( عَلَى السَّبَبِ إلَّا إذَا عَرَّضَ بِمَا ذَكَرْنَا ) أَيْ إلَّا إذَا عَرَّضَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ ارْتِفَاعِ السَّبَبِ .
وَصِفَةُ التَّعْرِيضِ أَنْ يَقُولَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِلْقَاضِي إذَا عَرَضَ الْقَاضِي الْيَمِينَ عَلَيْهِ بِاَللَّهِ مَا بِعْت أَيَّهَا الْقَاضِي أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَبِيعُ شَيْئًا ثُمَّ يُقِيلُ فِيهِ ، وَعَلَى هَذَا بَاقِي أَخَوَاتِ الْبَيْعِ فَتَدَبَّرْ ( فَحِينَئِذٍ يَحْلِفُ عَلَى الْحَاصِلِ ) أَيْ فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ الْقَاضِيَ الِاسْتِحْلَافُ عَلَى حُكْمِ الشَّيْءِ فِي الْحَالِ ، وَصَارَ الْعُدُولُ عَنْ الْيَمِينِ عَلَى مُقْتَضَى الدَّعْوَى حَقًّا لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ حِينَ طَالَبَ بِهِ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ نَقْلًا عَنْ شَرْحِ الْأَقْطَعِ ( وَقِيلَ يَنْظُرُ إلَى إنْكَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ) أَيْ رُوِيَ عَنْهُ إنَّهُ يَنْظُرُ إلَى إنْكَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ( إنْ أَنْكَرَ السَّبَبَ يَحْلِفُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ أَنْكَرَ الْحُكْمَ يَحْلِفُ عَلَى الْحَاصِلِ ) وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ : قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ : هَذَا أَحْسَنُ الْأَقَاوِيلِ عِنْدِي وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْقُضَاةِ .
وَفِي الْكَافِي : قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ : يُفَوَّضُ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي ( فَالْحَاصِلُ هُوَ الْأَصْلُ عِنْدَهُمَا ) أَيْ التَّحْلِيفُ عَلَى الْحَاصِلِ هُوَ الْأَصْلُ عِنْدَهُمَا ( إذَا كَانَ سَبَبًا ) أَيْ إذَا كَانَ سَبَبُ ذَلِكَ سَبَبًا ( يَرْتَفِعُ بِرَافِعٍ إلَّا إذَا كَانَ فِيهِ ) أَيْ فِي التَّحْلِيفِ عَلَى الْحَاصِلِ ( تَرْكُ النَّظَرِ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي فَحِينَئِذٍ يَحْلِفُ عَلَى السَّبَبِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَذَلِكَ ) أَيْ مَا كَانَ فِي التَّحْلِيفِ عَلَى السَّبَبِ فِيهِ تَرْكُ النَّظَرِ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي ( مِثْلُ

أَنْ تَدَّعِيَ مَبْتُوتَةٌ نَفَقَةَ الْعِدَّةِ وَالزَّوْجُ مِمَّنْ لَا يَرَاهَا ) أَيْ لَا يَرَى نَفَقَةَ الْعِدَّةِ لِلْمَبْتُوتَةِ ( أَوْ ادَّعَى شُفْعَةً بِالْجِوَارِ وَالْمُشْتَرِي لَا يَرَاهَا ) بِأَنْ كَانَ شَافِعِيًّا ( لِأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ عَلَى الْحَاصِلِ يَصْدُقُ فِي يَمِينِهِ فِي مُعْتَقِدِهِ فَيَفُوتُ النَّظَرُ فِي حَقِّ الْمُدَّعِي ) فَإِنْ قِيلَ : فِي التَّحْلِيفِ عَلَى السَّبَبِ ضَرَرٌ بِالْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَيْضًا لِجَوَازِ أَنَّهُ اشْتَرَى وَلَا شُفْعَةَ لَهُ بِأَنْ سَلَّمَ أَوْ سَكَتَ عَنْ الطَّلَبِ .
قُلْنَا : الْقَاضِي لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ إلْحَاقِ الضَّرَرِ بِأَحَدِهِمَا ، فَكَانَ مُرَاعَاةُ جَانِبِ الْمُدَّعِي أَوْلَى لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْحَقِّ وَهُوَ الشِّرَاءُ إذَا ثَبَتَ يَثْبُتُ الْحَقُّ لَهُ ، وَسُقُوطُهُ إنَّمَا يَكُونُ بِأَسْبَابٍ عَارِضَةٍ فَيَجِبُ التَّمَسُّكُ بِالْأَصْلِ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى الْعَارِضِ ، كَذَا ذَكَرَهُ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ فِي أَدَبِ الْقَاضِي ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ ( وَإِنْ كَانَ سَبَبًا ) أَيْ إنْ كَانَ سَبَبُ ذَلِكَ سَبَبًا ( لَا يَرْتَفِعُ بِرَافِعٍ فَالتَّحْلِيفُ عَلَى السَّبَبِ بِالْإِجْمَاعِ كَالْعَبْدِ الْمُسْلِمِ إذَا ادَّعَى الْعِتْقَ عَلَى مَوْلَاهُ ) وَجَحَدَ الْمَوْلَى فَإِنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى السَّبَبِ بِاَللَّهِ مَا أَعْتَقَهُ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ إلَى التَّحْلِيفِ عَلَى الْحَاصِلِ ، إذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ رَقِيقًا بَعْدَ الْإِعْتَاقِ ، كَيْفَ وَلَوْ تَصَوَّرَ عَوْدَ الرِّقِّ فَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ عَلَى تَقْدِيرِ وُقُوعِ الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ بَعْدَ الِارْتِدَادِ .
وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ لِأَنَّهُ يُقْتَلُ بِالِارْتِدَادِ ( بِخِلَافِ الْأَمَةِ وَالْعَبْدِ الْكَافِرِ ) حَيْثُ يَحْلِفُ فِيهِمَا عَلَى الْحَاصِلِ : أَيْ مَا هِيَ حُرَّةٌ أَوْ مَا هُوَ حُرٌّ فِي الْحَالِ كَذَا فِي الْكَافِي ( لِأَنَّهُ يُكَرِّرُ الرِّقَّ عَلَيْهَا ) أَيْ عَلَى الْأَمَةِ ( بِالرِّدَّةِ وَاللِّحَاقِ ) بِدَارِ الْحَرْبِ وَالسَّبْيِ ( وَعَلَيْهِ ) أَيْ وَيُكَرِّرُ الرِّقَّ عَلَى الْعَبْدِ الْكَافِرِ ( بِنَقْضِ الْعَهْدِ

وَاللِّحَاقِ ) بِدَارِ الْحَرْبِ وَالسَّبْيِ أَيْضًا ( وَلَا يُكَرِّرُ عَلَى الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ ) لِمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا .

قَالَ : ( وَمَنْ وَرِثَ عَبْدًا وَادَّعَاهُ آخَرُ يَسْتَحْلِفُ عَلَى عِلْمِهِ ) لِأَنَّهُ لَا عِلْمَ لَهُ بِمَا صَنَعَ الْمُوَرِّثُ فَلَا يَحْلِفُ عَلَى الْبَتَاتِ ( وَإِنْ وَهَبَ لَهُ أَوْ اشْتَرَاهُ يَحْلِفُ عَلَى الْبَتَاتِ ) لِوُجُودِ الْمُطْلَقِ لِلْيَمِينِ إذْ الشِّرَاءُ سَبَبٌ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ وَضْعًا وَكَذَا الْهِبَةُ .

( قَالَ ) أَيْ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ : ( وَمَنْ وَرِثَ عَبْدًا وَادَّعَاهُ آخَرُ ) وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ ( اُسْتُحْلِفَ ) أَيْ الْوَارِثُ ( عَلَى عِلْمِهِ ) أَيْ بِاَللَّهِ مَا يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا عَبْدُ الْمُدَّعِي ( لِأَنَّهُ لَا عِلْمَ لَهُ ) أَيْ لِلْوَارِثِ ( بِمَا صَنَعَ الْمُوَرِّثُ فَلَا يَحْلِفُ عَلَى الْبَتَاتِ ) إذْ لَوْ حَلَّفْنَا عَلَيْهِ لَامْتَنَعَ عَنْ الْيَمِينِ مَعَ كَوْنِهِ صَادِقًا فِيهَا فَيَتَضَرَّرُ بِهِ ، كَذَا فِي الْكَافِي ( وَإِنْ وُهِبَ لَهُ أَوْ اشْتَرَاهُ يَحْلِفُ عَلَى الْبَتَاتِ ) يَعْنِي إنْ وَهَبَ لَهُ عَبْدًا أَوْ اشْتَرَاهُ وَادَّعَاهُ آخَرُ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ يَحْلِفُ عَلَى الْبَتَاتِ ( لِوُجُودِ الْمُطْلَقِ ) أَيْ الْمُجَوِّزِ ( لِلْيَمِينِ ) أَيْ لِلْيَمِينِ عَلَى الْبَتَاتِ ( إذْ الشِّرَاءُ سَبَبٌ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ وَضْعًا وَكَذَا الْهِبَةُ ) فَإِنْ قِيلَ : بِهَذَا التَّعْلِيلِ لَا يَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْإِرْثِ وَغَيْرِهِ فَإِنَّ الْإِرْثَ أَيْضًا سَبَبٌ مَوْضُوعٌ لِلْمِلْكِ شَرْعًا كَالْهِبَةِ فَكَيْفَ يُسْتَحْلَفُ فِيهِ عَلَى الْعِلْمِ ؟ قُلْنَا : إنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ الشِّرَاءُ سَبَبٌ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ وَضْعًا أَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ يُثْبِتُ الْمِلْكَ بِاخْتِيَارِهِ الْمُشْتَرِيَ وَمُبَاشَرَتِهِ ، وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ الْمُشْتَرِي أَنَّ الْعَيْنَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِلْكُ الْبَائِعِ لَمَا بَاشَرَ الشِّرَاءَ اخْتِيَارًا وَكَذَا الْمَوْهُوبُ لَهُ فِي قَبُولِ الْهِبَةِ ، بِخِلَافِ الْإِرْثِ فَإِنَّهُ يُثْبِتُ الْمِلْكَ لِلْوَارِثِ جَبْرًا مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَلَا عِلْمَ لَهُ بِحَالِ مِلْكِ الْمُوَرِّثِ فَلِذَلِكَ يَحْلِفُ الْوَارِثُ بِالْعِلْمِ وَالْمُشْتَرِي وَالْمَوْهُوبُ لَهُ بِالْبَتَاتِ ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ .
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ هَذَا نَوْعٌ آخَرُ أَيْضًا مِنْ كَيْفِيَّةِ الْيَمِينِ ، وَهُوَ الْيَمِينُ عَلَى الْعِلْمِ أَوْ الْبَتَاتِ ، وَالضَّابِطُ فِي ذَلِكَ أَنَّ التَّحْلِيفَ إنْ كَانَ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ يَكُونُ عَلَى الْبَتَاتِ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى فِعْلِ غَيْرِهِ يَكُونُ عَلَى الْعِلْمِ .
فَإِنْ قِيلَ : أَنَّى يَسْتَقِيمُ هَذَا .
لَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ رَجُلٌ

إبَاقَ عَبْدٍ قَدْ بَاعَهُ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ يُنْكِرُ الْإِبَاقَ فَإِنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى الْبَتَاتِ مَعَ أَنَّ الْإِبَاقَ فِعْلُ غَيْرِهِ ؟ قُلْنَا : لِلْمُدَّعِي يَدَّعِي عَلَيْهِ تَسْلِيمَ غَيْرِ السَّلِيمِ عَنْ الْعَيْبِ وَهُوَ يُنْكِرُهُ ، وَأَنَّهُ فِعْلُ نَفْسِهِ ، كَذَا فِي الْكَافِي .
قَالَ الْإِمَامُ الْأُسْرُوشَنِيُّ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ مِنْ فُصُولِهِ : وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ التَّحْلِيفِ فَنَقُولُ : إنْ وَقَعَتْ الدَّعْوَى عَلَى فِعْلِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بِأَنْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّك سَرَقْت هَذَا الْعَيْنَ مِنِّي أَوْ غَصَبْت هَذَا الْعَيْنَ مِنِّي يُسْتَحْلَفُ عَلَى الْبَتَاتِ ، وَإِنْ وَقَعَتْ الدَّعْوَى عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ يَحْلِفُ عَلَى الْعِلْمِ ، حَتَّى لَوْ ادَّعَى دَيْنًا عَلَى مَيِّتٍ بِحَضْرَةِ وَارِثِهِ بِسَبَبِ الِاسْتِهْلَاكِ أَوْ ادَّعَى أَنَّ أَبَاك سَرَقَ هَذَا الْعَيْنَ مِنِّي أَوْ غَصَبَ هَذَا الْعَيْنَ مِنِّي يَحْلِفُ عَلَى الْعِلْمِ ، وَهَذَا مَذْهَبُنَا .
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ : هَذَا الْأَصْلُ مُسْتَقِيمٌ فِي الْمَسَائِلِ كُلِّهَا أَنَّ التَّحْلِيفَ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ يَكُونُ عَلَى الْعِلْمِ إلَّا فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ يُرِيدُ بِهِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا ادَّعَى أَنَّ الْعَبْدَ سَارِقٌ أَوْ آبِقٌ وَأَثْبَتَ إبَاقَهُ أَوْ سَرِقَتَهُ فِي يَدِ نَفْسِهِ وَادَّعَى أَنَّهُ أَبَقَ أَوْ سَرَقَ فِي يَدِ الْبَائِعِ وَأَرَادَ تَحْلِيفَ الْبَائِعِ يَحْلِفُ عَلَى الْبَتَاتِ بِاَللَّهِ مَا أَبَقَ بِاَللَّهِ مَا سَرَقَ فِي يَدِك ، وَهَذَا تَحْلِيفٌ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْبَائِعَ ضَمِنَ تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ سَلِيمًا عَنْ الْعُيُوبِ وَالتَّحْلِيفُ يَرْجِعُ إلَى مَا ضَمِنَ بِنَفْسِهِ فَيَكُونُ عَلَى الْبَتَاتِ .
وَكَانَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ الْبَزْدَوِيُّ يَزِيدُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ حَرْفًا ، وَهُوَ أَنَّ التَّحْلِيفَ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ عَلَى الْبَتَاتِ وَعَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ عَلَى الْعِلْمِ ، إلَّا إذَا كَانَ شَيْئًا يَتَّصِلُ بِهِ فَحِينَئِذٍ يَحْلِفُ عَلَى الْبَتَاتِ ، خَرَجَ عَلَى هَذَا فَصْلُ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا

يَتَّصِلُ بِهِ ، لِأَنَّ تَسْلِيمَ الْعَبْدِ سَلِيمًا وَاجِبٌ عَلَى الْبَائِعِ ، فَإِنْ وَقَعَتْ الدَّعْوَى عَلَى فِعْلِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ وَجْهٍ وَعَلَى فِعْلِ غَيْرِهِ مِنْ وَجْهٍ بِأَنْ قَالَ : اشْتَرَيْت مِنِّي اسْتَأْجَرْت مِنِّي اسْتَقْرَضْت مِنِّي ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ فِعْلُهُ وَفِعْلُ غَيْرِهِ فَإِنَّهَا تَقُومُ بِاثْنَيْنِ ، فَفِي هَذِهِ الصُّوَرِ يَحْلِفُ عَلَى الْبَتَاتِ .
وَقَدْ قِيلَ : إنَّ التَّحْلِيفَ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى الْعِلْمِ إذَا قَالَ الَّذِي اُسْتُحْلِفَ : لَا عِلْمَ لِي بِذَلِكَ ، فَأَمَّا إذَا قَالَ : لِي عِلْمٌ بِذَلِكَ يَحْلِفُ عَلَى الْبَتَاتِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُودَعَ إذَا قَالَ : قَبَضَ صَاحِبُ الْوَدِيعَةِ الْوَدِيعَةَ مِنِّي فَإِنَّهُ يُحَلِّفُ الْمُودِعَ عَلَى الْبَتَاتِ ، وَكَذَا الْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ إذَا بَاعَ وَسَلَّمَ إلَى الْمُشْتَرِي ثُمَّ أَقَرَّ الْبَائِعُ أَنَّ الْمُوَكِّلَ قَبَضَ الثَّمَنَ وَجَحَدَ الْمُوَكِّلُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ مَعَ يَمِينِهِ ، فَإِذَا حَلَفَ بَرِئَ الْمُشْتَرِي وَيَحْلِفُ الْوَكِيلُ عَلَى الْبَتَاتِ بِاَللَّهِ لَقَدْ قَبَضَ الْمُوَكِّلُ ، وَهَذَا تَحْلِيفٌ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ ، وَلَكِنَّ الْوَكِيلَ يَدَّعِي أَنَّهُ لَهُ عِلْمًا بِذَلِكَ فَإِنَّهُ قَالَ : قَبَضَ الْمُوَكِّلُ فَكَانَ لَهُ عِلْمٌ بِذَلِكَ فَيَحْلِفُ عَلَى الْبَتَاتِ ، إلَى هُنَا لَفْظُ الْفُصُولِ .
كَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ ، ذَكَرَ الْإِمَامُ اللَّامِشْتِيُّ أَنَّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ وَجَبَتْ الْيَمِينُ عَلَى الْبَتَاتِ فَحَلَفَ عَلَى الْعِلْمِ لَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا ، وَإِذَا نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ عَلَى الْعِلْمِ لَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ النُّكُولُ ، وَلَوْ وَجَبَتْ عَلَى الْعِلْمِ وَحَلَفَ عَلَى الْبَتَاتِ سَقَطَ عَنْهُ الْحَلِفُ عَلَى الْعِلْمِ ، وَلَوْ نَكَلَ يَقْضِي عَلَيْهِ لِأَنَّ الْحَلِفَ عَلَى الْبَتَاتِ أَقْوَى ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ نَقْلًا عَنْ الْفُصُولِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : قَالَ الزَّيْلَعِيُّ أَخْذًا مِنْ النِّهَايَةِ : ثُمَّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ وَجَبَ الْيَمِينُ فِيهِ عَلَى الْبَتَاتِ فَحَلَفَ عَلَى الْعِلْمِ لَا يَكُونُ

مُعْتَبَرًا حَتَّى لَا يَقْضِيَ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ وَلَا يَسْقُطُ الْيَمِينُ عَنْهُ ، وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ وَجَبَ فِيهِ الْيَمِينُ عَلَى الْعِلْمِ فَحَلَفَ عَلَى الْبَتَاتِ يُعْتَبَرُ الْيَمِينُ حَتَّى يَسْقُطَ عَنْهُ الْيَمِينُ عَلَى الْعِلْمِ ، وَيَقْضِيَ عَلَيْهِ إذَا نَكَلَ لِأَنَّ الْحَلِفَ عَلَى الْبَتَاتِ آكَدُ فَيُعْتَبَرُ مُطْلَقًا ، بِخِلَافِ الْعَكْسِ انْتَهَى .
وَفِيهِ بَحْثٌ ؛ أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ لَا يَقْضِي عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ وَلَا يَسْقُطُ الْيَمِينُ عَنْهُ لَيْسَ كَمَا يَنْبَغِي ، بَلْ اللَّائِقُ أَنْ يَقْضِيَ بِالنُّكُولِ ، فَإِنَّهُ إذَا نَكَلَ عَنْ الْحَلِفِ عَلَى الْعِلْمِ فَفِي الْحَلِفِ عَلَى الْبَتَاتِ أَوْلَى .
وَالْجَوَابُ الْمَنْعُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ نُكُولُهُ لِعِلْمِهِ بِعَدَمِ فَائِدَةِ الْيَمِينِ عَلَى الْعِلْمِ فَلَا يَحْلِفُ حَذَرًا عَنْ التَّكْرَارِ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ وَيَقْضِي عَلَيْهِ إذَا نَكَلَ مَحَلُّ تَأَمُّلٍ ، فَإِنَّهَا إذْ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ كَيْفَ يَقْضِي عَلَيْهِ إذَا نَكَلَ ، إلَى هُنَا كَلَامُ ذَلِكَ الْقَائِلِ .
وَأَقُولُ : بَحْثُهُ الثَّانِي مُتَوَجِّهٌ فِي الظَّاهِرِ ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِمُسْتَقِلٍّ بِإِيرَادِهِ ، بَلْ قَدْ سَبَقَهُ إلَيْهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ حَيْثُ ذَكَرَ مَا فِي النِّهَايَةِ وَقَالَ : وَفِيهِ كَلَامٌ ، وَهُوَ أَنَّ الظَّاهِرَ عَدَمُ الْحُكْمِ بِالنُّكُولِ لِعَدَمِ وُجُوبِ الْيَمِينِ عَلَى الْبَتَاتِ كَمَا لَا يَخْفَى انْتَهَى .
وَقَدْ سَبَقَهُمَا إلَيْهِ الْإِمَامُ عِمَادُ الدِّينِ حَيْثُ قَالَ فِي فُصُولِهِ : وَرَأَيْت فِيمَا كَتَبْتُهُ مِنْ نُسْخَةِ الْمُحِيطِ فِي فَصْلِ الْمُتَفَرِّقَاتِ مِنْ أَدَبِ الْقَاضِي مِنْهُ : فِي كُلِّ مَوْضِعٍ وَجَبَ الْيَمِينُ عَلَى الْبَتَاتِ فَحَلَّفَهُ الْقَاضِي عَلَى الْعِلْمِ لَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا ، وَإِذَا نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ عَلَى الْعِلْمِ لَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ النُّكُولُ ، وَلَوْ وَجَبَ عَلَى الْعِلْمِ فَحَلَّفَهُ عَلَى الْبَتَاتِ سَقَطَ عَنْهُ الْحَلِفُ لِأَنَّ الْبَتَاتَ أَقْوَى ، وَلَوْ نَكَلَ عَنْهُ يَقْضِي عَلَيْهِ .
قُلْت : وَهَذَا الْفَرْعُ مُشْكِلٌ انْتَهَى .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ مُرَادَهُ

بِهَذَا الْفَرْعِ هُوَ قَوْلُهُ وَلَوْ نَكَلَ عَنْهُ يَقْضِي عَلَيْهِ وَإِنَّ وَجْهَ إشْكَالِهِ تَوَجُّهُ مَا ذَكَرَاهُ .
وَأَمَّا بَحْثُهُ الْأَوَّلُ وَجَوَابُهُ فَمَنْظُورٌ فِيهِمَا : أَمَّا الْبَحْثُ فَلِأَنَّ اللَّازِمَ مِنْ النُّكُولِ عَنْ الْحَلِفِ عَنْ الْعِلْمِ أَنْ يَفْهَمَ نُكُولَهُ عَنْ الْحَلِفِ عَلَى الْبَتَاتِ لَوْ حَلَفَ عَلَيْهِ لَا أَنْ يَتَحَقَّقَ النُّكُولُ عَنْ الْحَلِفِ عَلَى الْبَتَاتِ بِالْفِعْلِ ، وَاَلَّذِي مِنْ أَسْبَابِ الْقَضَاءِ هُوَ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ كَمَا لَا يَخْفَى .
وَأَمَّا الْجَوَابُ فَلِأَنَّهُ لَوْ عَلِمَ بِيَقِينٍ كَوْنَ نُكُولِهِ لِعِلْمِهِ بِعَدَمِ فَائِدَةِ الْيَمِينِ عَلَى الْعِلْمِ فَالْحُكْمُ أَيْضًا مَا ذُكِرَ ، وَلَا يَجْرِي الْجَوَازُ الْمَذْكُورُ هُنَاكَ ، عَلَى أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِقَوْلِهِ فَلَا يَحْلِفُ حَذَرًا عَنْ التَّكْرَارِ ، إذْ الْمَحْذُورُ تَكْرَارُ التَّحْلِيفِ لَا تَكْرَارُ الْحَلِفِ كَمَا لَا يَخْفَى .

قَالَ ( وَمَنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ مَالًا فَافْتَدَى يَمِينَهُ أَوْ صَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى عَشْرَةٍ فَهُوَ جَائِزٌ ) وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
( وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَحْلِفَهُ عَلَى تِلْكَ الْيَمِينِ أَبَدًا ) لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
.

( قَالَ ) أَيْ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ ( وَمَنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ مَالًا فَافْتَدَى يَمِينَهُ ) أَيْ افْتَدَى الْآخَرُ عَنْ يَمِينِهِ ( أَوْ صَالَحَهُ مِنْهَا ) أَيْ صَالَحَ الْآخَرُ الْمُدَّعِيَ مِنْ الْيَمِينِ ( عَلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ مَثَلًا فَهُوَ ) أَيْ الِافْتِدَاءُ أَوْ الصُّلْحُ ( جَائِزٌ ) فَالِافْتِدَاءُ قَدْ يَكُونُ بِمَالٍ هُوَ مِثْلُ الْمُدَّعِي ، وَقَدْ يَكُونُ بِمَالٍ هُوَ أَقَلُّ مِنْ الْمُدَّعِي .
وَأَمَّا الصُّلْحُ مِنْ الْيَمِينِ فَإِنَّمَا يَكُونُ عَلَى مَالٍ أَقَلَّ مِنْ الْمُدَّعِي فِي الْغَالِبِ لِأَنَّ الصُّلْحَ يُنْبِئُ عَنْ الْحَطِيطَةِ ، وَكِلَاهُمَا مَشْرُوعٌ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ ( وَهُوَ ) أَيْ الِافْتِدَاءُ عَنْ الْيَمِينِ ( مَأْثُورٌ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَلَفْظُ الْكِتَابِ يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ كَانَ مُدَّعًى عَلَيْهِ .
ذَكَرَ فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ أَنَّهُ ادَّعَى عَلَيْهِ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا فَأَعْطَى شَيْئًا وَافْتَدَى يَمِينَهُ وَلَمْ يَحْلِفْ ، فَقِيلَ أَلَا تَحْلِفُ وَأَنْتَ صَادِقٌ ؟ فَقَالَ : أَخَافُ أَنْ يُوَافِقَ قَدْرَ يَمِينِي فَيُقَالُ هَذَا بِسَبَبِ يَمِينِهِ الْكَاذِبَةِ ، وَذَكَرَ أَنَّ الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ اسْتَقْرَضَ مِنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَبْعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ ثُمَّ قَضَاهُ أَرْبَعَةَ آلَافٍ ، فَتَرَافَعَا إلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي خِلَافَتِهِ ، فَقَالَ الْمِقْدَادُ : لِيَحْلِفْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا يَقُولُ وَلْيَأْخُذْ سَبْعَةَ آلَافٍ ، فَقَالَ عُمَرُ لِعُثْمَانَ : أَنْصَفَك الْمِقْدَادُ احْلِفْ إنَّهَا كَمَا تَقُولُ وَخُذْهَا ، فَلَمْ يَحْلِفْ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَلَمَّا خَرَجَ الْمِقْدَادُ قَالَ عُثْمَانُ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : إنَّهَا كَانَتْ سَبْعَةَ آلَافٍ ، قَالَ : فَمَا مَنَعَك أَنْ تَحْلِفَ وَقَدْ جَعَلَ ذَلِكَ إلَيْك ؟ فَقَالَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عِنْدَ ذَلِكَ مَا قَالَهُ .
فَيَكُونُ دَلِيلًا لِلشَّافِعِيِّ عَلَى جَوَازِ رَدِّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي .

وَالْجَوَابُ أَنَّهُ كَانَ يَدَّعِي الْإِيفَاءَ عَلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَبِهِ نَقُولُ انْتَهَى .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : فِيهِ نَظَرٌ ، فَإِنَّ الْمِقْدَادَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا قَضَاهُ أَرْبَعَةَ آلَافٍ كَيْفَ قَالَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّهَا كَانَتْ سَبْعَةَ آلَافٍ ، ثُمَّ إنَّ قِصَّةَ الْمِقْدَادِ لَيْسَتْ مِمَّا نَحْنُ بِصَدَدِهِ ، إذْ لَيْسَ فِيهَا إلَّا النُّكُولُ لَا الِافْتِدَاءُ وَالصُّلْحُ انْتَهَى .
وَأَقُولُ : نَظَرُهُ سَاقِطٌ بِشِقَّيْهِ ، أَمَّا شِقُّهُ الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّهَا كَانَتْ سَبْعَةَ آلَافٍ ، أَنَّهَا كَانَتْ فِي الْأَصْلِ سَبْعَةَ آلَافٍ كَمَا يُرْشِدُ إلَيْهِ لَفْظُ كَانَتْ ، لَا أَنَّ الْبَاقِيَ فِي ذِمَّتِهِ الْآنَ سَبْعَةُ آلَافٍ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ قَضَاءَ أَرْبَعَةِ آلَافٍ إنَّمَا يُنَافِي الْأَوَّلَ دُونَ الثَّانِي .
فَإِنْ قُلْت : يُشْكِلُ حِينَئِذٍ قَوْلُهُ .
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ كَانَ يَدَّعِي الْإِيفَاءَ عَلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذْ النِّزَاعُ حِينَئِذٍ يَكُونُ فِي الْإِيفَاءِ وَالْقَبْضِ دُونَ مِقْدَارِ أَصْلِ الْقَرْضِ كَمَا ذَكَرْتُهُ .
قُلْت : الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ كَانَ يَدَّعِي إيفَاءَ تَمَامِ الدَّيْنِ وَهُوَ أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ عَلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ يُنْكِرُ ذَلِكَ وَيَقُولُ : بَلْ أَوْفَيْت الْبَعْضَ مِنْهُ وَهُوَ أَرْبَعَةُ آلَافٍ وَبَقِيَ الْبَعْضُ مِنْهُ فِي ذِمَّتِك وَهُوَ ثَلَاثَةُ آلَافٍ ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ النِّزَاعُ فِي الْإِيفَاءِ فَرْعَ النِّزَاعِ فِي أَصْلِ مِقْدَارِ الْقَرْضِ ، فَتَسْلَمُ الْقِصَّةُ عَنْ تَعَارُضِ طَرَفَيْهَا كَمَا تَوَهَّمَهُ النَّاظِرُ ، وَيَخْرُجُ الْجَوَابُ عَمَّا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ .
وَأَمَّا شِقُّهُ الثَّانِي فَلِأَنَّهُ لَمْ يَدَّعِ أَحَدٌ أَنَّ الْقِصَّةَ مِمَّا نَحْنُ بِصَدَدِهِ ، بَلْ صَرَّحُوا بِأَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ مُدَّعِيًا فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ فَصَلَحَ أَنْ يَتَّخِذَهُ الشَّافِعِيُّ دَلِيلًا عَلَى مَذْهَبِهِ وَهُوَ جَوَازُ رَدِّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي ، وَإِنْ أَمْكَنَ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ قِبَلِنَا ،

وَإِنَّمَا كَانَ مُدَّعًى عَلَيْهِ وَمُفْتَدِيًا عَنْ يَمِينِهِ بِمَالٍ فِي رِوَايَةٍ مَذْكُورَةٍ فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ ، وَالْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّمَا يَتِمُّ عَلَى رِوَايَةِ بَعْضِ الْكُتُبِ دُونَ رِوَايَةِ بَعْضِهَا ، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ حَيْثُ قَالَ أَوَّلًا : وَلَفْظُ الْكِتَابِ يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ كَانَ مُدَّعًى عَلَيْهِ فَذَكَرَ مَا ذَكَرَ فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ ، ثُمَّ نَقَلَ هَذِهِ الْقِصَّةَ فَقَالَ : فَيَكُونُ دَلِيلًا لِلشَّافِعِيِّ عَلَى جَوَازِ رَدِّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي .
وَاعْلَمْ أَنَّ صَاحِبَ النِّهَايَةِ : قَدْ أَوْضَحَ الْمَرَامَ بِتَفْصِيلِ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ فَقَالَ : قَدْ اخْتَلَفَتْ رِوَايَاتُ الْكِتَابِ فِي أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ مُدَّعًى عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ أَوْ مُدَّعِيًا ، فَفِي الْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّةِ أَنَّهُ ادَّعَى عَلَيْهِ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا فَأَعْطَى شَيْئًا وَافْتَدَى يَمِينَهُ وَلَمْ يَحْلِفْ ، فَقِيلَ : أَلَا تَحْلِفُ وَأَنْتَ صَادِقٌ ؟ فَقَالَ : أَخَافُ أَنْ يُوَافِقَ قَدْرَ يَمِينِي فَيُقَالُ هَذَا بِسَبَبِ يَمِينِهِ الْكَاذِبَةِ .
وَذَكَرَ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْ دَعْوَى الْمَبْسُوطِ فِي احْتِجَاجِ الشَّافِعِيِّ فِي مَسْأَلَةِ رَدِّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ مُدَّعِيًا فَقَالَ : وَحُجَّتُهُ فِي رَدِّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي مَا رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ ادَّعَى مَالًا عَلَى الْمِقْدَادِ بَيْنَ يَدَيْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، إلَى أَنْ قَالَ : لِيَحْلِفْ لِي عُثْمَانُ .
وَذَكَرَ الْإِمَامُ الْمَحْبُوبِيُّ تَمَامَ الْقِصَّةِ فَقَالَ : رُوِيَ أَنَّ الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ اسْتَقْرَضَ مِنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا سَبْعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ ثُمَّ قَضَاهُ أَرْبَعَةَ آلَافٍ .
فَتَرَافَعَا إلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي خِلَافَتِهِ ، فَقَالَ الْمِقْدَادُ : لِيَحْلِفْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا يَقُولُ وَلْيَأْخُذْ سَبْعَةَ آلَافٍ ، فَقَالَ عُمَرُ

لِعُثْمَانَ : أَنْصَفَك الْمِقْدَادُ لِتَحْلِفْ أَنَّهَا كَمَا تَقُولُ وَخُذْهَا ، فَلَمْ يَحْلِفْ عُثْمَانُ ، فَلَمَّا خَرَجَ الْمِقْدَادُ قَالَ عُثْمَانُ لِعُمَرَ : إنَّهَا كَانَتْ سَبْعَةَ آلَافٍ ، قَالَ : فَمَا مَنَعَك أَنْ تَحْلِفَ وَقَدْ جَعَلَ ذَلِكَ إلَيْك ؟ فَقَالَ عُثْمَانُ عِنْدَ ذَلِكَ مَا قَالَهُ .
ثُمَّ قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ : وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ الْمِقْدَادِ أَنَّهُ ادَّعَى الْإِيفَاءَ عَلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَبِهِ نَقُولُ ، إلَى هُنَا كَلَامُ صَاحِبِ النِّهَايَةِ ( وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَحْلِفَهُ عَلَى تِلْكَ الْيَمِينِ ) أَيْ لَيْسَ لِلْمُدَّعِي أَنْ يَسْتَحْلِفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى تِلْكَ الْيَمِينِ الَّتِي افْتَدَى عَنْهَا أَوْ صَالَحَ عَنْهَا عَلَى مَالٍ ( أَبَدًا ) أَيْ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ ( لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ ) أَيْ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ أَسْقَطَ حَقَّهُ فِي يَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الِافْتِدَاءِ أَوْ الصُّلْحِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ اشْتَرَى يَمِينَهُ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ لَمْ يُجْبَرْ ، وَكَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَحْلِفَهُ لِأَنَّ الشِّرَاءَ عَقْدُ تَمْلِيكِ الْمَالِ بِالْمَالِ وَالْيَمِينُ لَيْسَتْ بِمَالٍ كَذَا فِي الشُّرُوحِ وَسَائِرِ الْمُعْتَبَرَاتِ .
.

( بَابُ التَّحَالُفِ ) قَالَ : ( وَإِذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ فِي الْبَيْعِ فَادَّعَى أَحَدُهُمَا ثَمَنًا وَادَّعَى الْبَائِعُ أَكْثَرَ مِنْهُ أَوْ اعْتَرَفَ الْبَائِعُ بِقَدْرٍ مِنْ الْمَبِيعِ وَادَّعَى الْمُشْتَرِي أَكْثَرَ مِنْهُ فَأَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ قَضَى لَهُ بِهَا ) لِأَنَّ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ مُجَرَّدَ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَةُ أَقْوَى مِنْهَا ( وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً كَانَتْ الْبَيِّنَةُ الْمُثْبِتَةُ لِلزِّيَادَةِ أَوْلَى ) لِأَنَّ الْبَيِّنَاتِ لِلْإِثْبَاتِ وَلَا تَعَارُضَ فِي الزِّيَادَةِ ( وَلَوْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي الثَّمَنِ وَالْمَبِيعِ جَمِيعًا فَبَيِّنَةُ الْبَائِعِ أَوْلَى فِي الثَّمَنِ وَبَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي أَوْلَى فِي الْمَبِيعِ ) نَظَرًا إلَى زِيَادَةِ الْإِثْبَاتِ .
( وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ قِيلَ لِلْمُشْتَرِي إمَّا أَنْ تَرْضَى بِالثَّمَنِ الَّذِي ادَّعَاهُ الْبَائِعُ وَإِلَّا فَسَخْنَا الْبَيْعَ ، وَقِيلَ لِلْبَائِعِ إمَّا أَنْ تُسَلِّمَ مَا ادَّعَاهُ الْمُشْتَرِي مِنْ الْمَبِيعِ وَإِلَّا فَسَخْنَا الْبَيْعَ ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ قَطْعُ الْمُنَازَعَةِ ، وَهَذِهِ جِهَةٌ فِيهِ لِأَنَّهُ رُبَّمَا لَا يَرْضَيَانِ بِالْفَسْخِ فَإِذَا عَلِمَا بِهِ يَتَرَاضَيَانِ بِهِ ( فَإِنْ لَمْ يَتَرَاضَيَا اسْتَحْلَفَ الْحَاكِمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى دَعْوَى الْآخَرِ ) وَهَذَا التَّحَالُفُ قَبْلَ الْقَبْضِ عَلَى وِفَاقِ الْقِيَاسِ ، لِأَنَّ الْبَائِعَ يَدَّعِي زِيَادَةَ الثَّمَنِ وَالْمُشْتَرِيَ يُنْكِرُهُ ، وَالْمُشْتَرِيَ يَدَّعِي وُجُوبَ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ بِمَا نَقَدَ وَالْبَائِعَ يُنْكِرُهُ ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْكِرٌ فَيَحْلِفُ ؛ فَأَمَّا بَعْدَ الْقَبْضِ فَمُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَدَّعِي شَيْئًا لِأَنَّ الْمَبِيعَ سَالِمٌ لَهُ فَبَقِيَ دَعْوَى الْبَائِعِ فِي زِيَادَةِ الثَّمَنِ وَالْمُشْتَرِي يُنْكِرُهَا فَيُكْتَفَى بِحَلِفِهِ ، لَكِنَّا عَرَفْنَاهُ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ بِعَيْنِهَا تَحَالَفَا وَتَرَادَّا } .

بَابُ التَّحَالُفِ ) لَمَّا ذَكَرَ حُكْمَ يَمِينِ الْوَاحِدِ شَرَعَ فِي بَيَانِ حُكْمِ يَمِينِ الِاثْنَيْنِ لِأَنَّ الِاثْنَيْنِ بَعْدَ الْوَاحِدِ طَبْعًا فَرَاعَاهُ فِي الْوَضْعِ لِيُنَاسِبَ الْوَضْعُ الطَّبْعَ ( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( وَإِذْ اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ فِي الْبَيْعِ فَادَّعَى أَحَدُهُمَا ) أَيْ الْمُشْتَرِي ( ثَمَنًا ) بِأَنْ قَالَ مَثَلًا : اشْتَرَيْتُهُ بِمِائَةٍ ( وَادَّعَى الْبَائِعُ أَكْثَرَ مِنْهُ ) بِأَنْ قَالَ : بِعْتُهُ بِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ ( أَوْ اعْتَرَفَ الْبَائِعُ بِقَدْرٍ مِنْ الْمَبِيعِ ) بِأَنْ قَالَ مَثَلًا : الْمَبِيعُ كُرٌّ مِنْ الْحِنْطَةِ ( وَادَّعَى الْمُشْتَرِي أَكْثَرَ مِنْهُ ) بِأَنْ قَالَ : هُوَ كُرَّانِ مِنْ الْحِنْطَةِ .
وَالْحَاصِلُ إذَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمَا فِي قَدْرِ الثَّمَنِ كَمَا فِي الصُّورَةِ الْأُولَى أَوْ فِي قَدْرِ الْمَبِيعِ كَمَا فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ ( فَأَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ قُضِيَ لَهُ بِهَا ) أَيْ بِالْبَيِّنَةِ ( لِأَنَّ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ مُجَرَّدَ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَةُ أَقْوَى مِنْهَا ) لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ تُوجِبُ مِنْهُ الْحُكْمَ عَلَى الْقَاضِي وَمُجَرَّدُ الدَّعْوَى لَا يُوجِبُهُ عَلَيْهِ ( وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً كَانَتْ الْبَيِّنَةُ الْمُثْبِتَةُ لِلزِّيَادَةِ أَوْلَى لِأَنَّ الْبَيِّنَاتِ لِلْإِثْبَاتِ ) أَيْ وُضِعَتْ فِي الشَّرْعِ لِلْإِثْبَاتِ فَكُلُّ مَا كَانَ أَكْثَرَ إثْبَاتًا كَانَ أَوْلَى ( وَلَا تَعَارُضَ فِي الزِّيَادَةِ ) لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ الْمُثْبِتَةَ لِلْأَقَلِّ لَا تَتَعَرَّضُ لِلزِّيَادَةِ ، فَكَانَتْ الْبَيِّنَةُ الْمُثْبِتَةُ لِلزِّيَادَةِ سَالِمَةً عَنْ الْمُعَارِضِ ، كَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ .
قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ : فَإِنْ قُلْت : الْبَيِّنَةُ الَّتِي تُثْبِتُ الْأَقَلَّ تَنْفِي الزِّيَادَةَ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ أَنَّ كُلَّ الثَّمَنِ هَذَا الْقَدْرُ .
قُلْت : الْمُثْبِتَةُ لِلزِّيَادَةِ تُثْبِتُهَا قَصْدًا وَتِلْكَ لَا تَنْفِيهَا قَصْدًا فَكَانَتْ الْأُولَى أَوْلَى لِمَا قَامَتْ بَيْنَهَا مُعَارَضَةٌ انْتَهَى .
أَقُولُ : جَوَابُهُ هَذَا وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فِي نَفْسِهِ إلَّا

أَنَّهُ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِظَاهِرِ تَقْرِيرِ الْمُصَنِّفِ ، فَإِنَّ الْمَفْهُومَ مِنْهُ انْتِفَاءُ التَّعَارُضِ بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ فِي الزِّيَادَةِ ، وَالْمَفْهُومُ مِنْ هَذَا الْجَوَابِ تَحَقُّقُ التَّعَارُضِ بَيْنَهُمَا فِي الزِّيَادَةِ مَعَ رُجْحَانِ الْبَيِّنَةِ الْمُثْبِتَةِ لِلزِّيَادَةِ عَلَى الْبَيِّنَةِ النَّافِيَةِ لَهَا فَتَأَمَّلْ ( وَلَوْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي الثَّمَنِ وَالْمَبِيعِ جَمِيعًا ) بِأَنْ قَالَ الْبَائِعُ مَثَلًا : بِعْتُك هَذِهِ الْجَارِيَةَ بِمِائَةِ دِينَارٍ وَقَالَ الْمُشْتَرِي : بِعْتَنِيهَا وَهَذَا الْعَبْدُ مَعَهَا بِخَمْسِينَ دِينَارًا وَأَقَامَا بَيِّنَةً ( فَبَيِّنَةُ الْبَائِعِ أَوْلَى فِي الثَّمَنِ وَبَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي أَوْلَى فِي الْمَبِيعِ نَظَرًا إلَى زِيَادَةِ الْإِثْبَاتِ ) فَالْجَارِيَةُ وَالْعَبْدُ جَمِيعًا لِلْمُشْتَرِي بِمِائَةِ دِينَارٍ فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ .
وَقِيلَ : هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ آخِرًا ، وَكَانَ يَقُولُ أَوَّلًا وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ : يَقْضِي لِلْمُشْتَرِي بِمِائَةِ وَخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ دِينَارًا ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْإِجَارَاتِ ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ .
ثُمَّ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَلَوْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي الثَّمَنِ وَالْمَبِيعِ جَمِيعًا : أَيْ فِي قَدْرِهِمَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي صُورَةِ الْمَسْأَلَةِ .
وَأَمَّا إذَا اخْتَلَفَا فِي جِنْسِ الثَّمَنِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةٌ مِنْ الِاتِّفَاقِ عَلَى قَوْلِهِ ؛ كَمَا لَوْ قَالَ الْبَائِعُ : بِعْتُك هَذِهِ الْجَارِيَةَ بِعَبْدِك هَذَا وَقَالَ الْمُشْتَرِي : اشْتَرَيْتُهَا مِنْك بِمِائَةِ دِينَارٍ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ يَلْزَمُ الْبَيْعُ بِالْعَبْدِ وَتُقْبَلُ بَيِّنَةُ الْبَائِعِ دُونَ حَقِّ الْمُشْتَرِي ، لِأَنَّ حَقَّ الْمُشْتَرِي فِي الْجَارِيَةِ ثَابِتٌ بِاتِّفَاقِهِمَا ، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ فِي حَقِّ الْبَائِعِ فَبَيِّنَتُهُ عَلَى حَقِّهِ أَوْلَى بِالْقَبُولِ ، وَلِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِبَيِّنَتِهِ الْحَقُّ لِنَفْسِهِ فِي الْعَبْدِ وَالْمُشْتَرِي يَنْفِي ذَلِكَ وَالْبَيِّنَاتُ لِلْإِثْبَاتِ لَا لِلنَّفْيِ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ نَقْلًا عَنْ الْمَبْسُوطِ .
أَقُولُ : فِي

التَّعْلِيلِ الثَّانِي بَحْثٌ ، أَمَّا أَوَّلًا فَبِالْمُعَارَضَةِ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يُثْبِتُ بِبَيِّنَتِهِ الْحَقَّ لِلْبَائِعِ فِي مِائَةِ دِينَارٍ وَالْبَائِعُ يَنْفِي ذَلِكَ ، وَالْبَيِّنَاتُ لِلْإِثْبَاتِ لَا لِلنَّفْيِ فَيَنْبَغِي أَنْ تُقْبَلَ بَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَبِالنَّقْضِ ، فَإِنَّهُ لَوْ سَلِمَ هَذَا التَّعْلِيلُ لَأَفَادَ عَدَمَ قَبُولِ بَيِّنَةِ الْمُشْتَرِي عِنْدَ انْفِرَادِهِ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ أَيْضًا ، إذْ حِينَئِذٍ يَنْفِي الْمُشْتَرِي أَيْضًا بِبَيِّنَتِهِ حَقَّ الْبَائِعِ فِيمَا ادَّعَاهُ ، وَالْبَيِّنَاتُ لِلْإِثْبَاتِ لَا لِلنَّفْيِ مَعَ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى أَنَّهُ إذَا أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ قُضِيَ لَهُ بِهَا قَطْعًا .
وَأَمَّا ثَالِثًا فَبِالْمَنْعِ ، فَإِنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَنْفِي بِبَيِّنَتِهِ مَا يُثْبِتُهُ الْبَائِعُ بَلْ هُوَ يُثْبِتُ بِهَا مَا يَدَّعِيهِ لِنَفْسِهِ وَهُوَ كَوْنُ حَقِّ الْبَائِعِ فِي مِائَةِ دِينَارٍ وَيَسْكُتُ عَمَّا يُثْبِتُهُ الْبَائِعُ وَهُوَ كَوْنُ حَقِّهِ فِي الْعَبْدِ ، فَإِنْ حَصَلَ مِمَّا يُثْبِتُهُ الْمُشْتَرِي نَفْيَ مَا يُثْبِتُهُ الْبَائِعُ فَإِنَّمَا هُوَ بِالتَّبَعِ وَالتَّضَمُّنِ لَا بِالْأَصَالَةِ وَالْقَصْدِ ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي كَوْنَ وَضْعِ الْبَيِّنَاتِ لِلْإِثْبَاتِ دُونَ النَّفْيِ ( وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ قِيلَ لِلْمُشْتَرِي ) أَيْ يَقُولُ الْحَاكِمُ لِلْمُشْتَرِي : ( إمَّا أَنْ تَرْضَى بِالثَّمَنِ الَّذِي ادَّعَاهُ الْبَائِعُ وَإِلَّا فَسَخْنَا الْبَيْعَ ، وَقِيلَ لِلْبَائِعِ ) أَيْ وَيَقُولُ لِلْبَائِعِ : ( إمَّا أَنْ تُسَلِّمَ مَا ادَّعَاهُ الْمُشْتَرِي مِنْ الْمَبِيعِ وَإِلَّا فَسَخْنَا الْبَيْعَ ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ ) أَيْ الْمَقْصُودَ مِنْ شَرْعِ الْأَسْبَابِ ( قَطْعُ الْمُنَازَعَةِ ) وَدَفْعُ الْخُصُومَةِ ( وَهَذَا جِهَةٌ فِيهِ ) أَيْ الْقَوْلُ الْمَذْكُورُ لِلْبَائِعِ وَلِلْمُشْتَرِي جِهَةٌ فِي قَطْعِ الْمُنَازَعَةِ ( لِأَنَّهُ رُبَّمَا لَا يَرْضَيَانِ ) أَيْ الْمُتَبَايِعَانِ ( بِالْفَسْخِ فَإِذَا عَلِمَا بِهِ ) أَيْ بِالْفَسْخِ ( يَتَرَاضَيَانِ بِهِ ) أَيْ

بِمُدَّعِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا .
أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : كَمَا أَنَّ مَا ذُكِرَ جِهَةٌ فِي قَطْعِ الْمُنَازَعَةِ كَذَلِكَ عَكْسُ ذَلِكَ جِهَةٌ فِيهِ بِأَنْ يُقَالَ لِلْبَائِعِ : إمَّا أَنْ تَرْضَى بِالثَّمَنِ الَّذِي ادَّعَاهُ الْمُشْتَرِي وَإِلَّا فَسَخْنَا الْبَيْعَ ، وَأَنْ يُقَالَ لِلْمُشْتَرِي إمَّا أَنْ تَقْبَلَ مَا اعْتَرَفَ بِهِ الْبَائِعُ مِنْ الْمَبِيعِ وَإِلَّا فَسَخْنَا الْبَيْعَ .
وَبِالْجُمْلَةِ أَنَّ قَطْعَ الْمُنَازَعَةِ كَمَا يُمْكِنُ بِأَنْ يُكَلِّفَ مُدَّعِي الْأَقَلِّ بِالرِّضَا بِالْأَكْثَرِ يُمْكِنُ أَيْضًا بِعَكْسِهِ ، وَهُوَ أَنْ يُكَلِّفَ مُدَّعِيَ الْأَكْثَرِ بِالرِّضَا بِالْأَقَلِّ ، فَمَا الرُّجْحَانُ فِي اخْتِيَارِهِمْ الْجِهَةَ الْمَذْكُورَةَ دُونَ عَكْسِهَا فَتَأَمَّلْ ( فَإِنْ لَمْ يَتَرَاضَيَا اسْتَحْلَفَ الْحَاكِمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى دَعْوَى الْآخَرِ ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ فِي شَرْحِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فَإِنْ لَمْ يَتَرَاضَيَا : أَيْ بِأَنْ يُعْطِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مَا يَدَّعِي صَاحِبُهُ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ قُصُورٌ ، لِأَنَّ هَذَا لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا فِي الصُّورَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ الصُّوَرِ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ ، وَهِيَ مَا إذَا اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ وَالْمَبِيعِ جَمِيعًا دُونَ الصُّورَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ ، إذْ قَدْ مَرَّ فِي الْكِتَابِ أَنَّ صُورَةَ الِاخْتِلَافِ فِي الثَّمَنِ أَنْ يَدَّعِيَ أَحَدُهُمَا ثَمَنًا وَيَدَّعِيَ الْآخَرُ أَكْثَرَ مِنْهُ ، وَأَنَّ صُورَةَ الِاخْتِلَافِ فِي الْمَبِيعِ أَنْ يَدَّعِيَ أَحَدُهُمَا قَدْرًا مِنْ الْمَبِيعِ وَيَدَّعِيَ الْآخَرُ أَكْثَرَ مِنْهُ ، فَلَوْ أَعْطَى كُلَّ وَاحِدٍ مَا يَدَّعِي صَاحِبُهُ فِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ لَزِمَ إعْطَاءُ الثَّمَنَيْنِ مَعًا أَوْ إعْطَاءُ الْمَبِيعَيْنِ مَعًا وَهَذَا خَلَفٌ .
وَلَا يُخْفَى أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هَاهُنَا حُكْمٌ عَامٌّ لِلصُّوَرِ الثَّلَاثَةِ جَمِيعًا فَلَا يُنَاسِبُهُ التَّفْسِيرُ الْمَذْكُورُ ، وَقَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ : أَيْ إنْ لَمْ يَتَرَاضَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي : يَعْنِي لَمْ يَرْضَ الْبَائِعُ بِمَا ادَّعَاهُ الْمُشْتَرِي مِنْ

الْمَبِيعِ وَلَمْ يَرْضَ الْمُشْتَرِي بِمَا ادَّعَاهُ الْبَائِعُ مِنْ الثَّمَنِ يَسْتَحْلِفُ الْقَاضِي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي عَلَى دَعْوَى صَاحِبِهِ انْتَهَى .
أَقُولُ : وَفِيهِ أَيْضًا قُصُورٌ ، لِأَنَّ هَذَا أَيْضًا لَا يَجْرِي إلَّا فِي الصُّورَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ تِلْكَ الصُّوَرِ الثَّلَاثِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذِي مُسْكَةٍ ، فَلَا يُنَاسِبُ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هَاهُنَا فِي الْحُكْمِ الْعَامِّ لِلصُّوَرِ الثَّلَاثِ كُلِّهَا .
وَأَمَّا سَائِرُ الشُّرَّاحِ فَلَمْ يَتَعَرَّضُوا هَاهُنَا لِلشَّرْحِ وَالْبَيَانِ .
فَالْحَقُّ عِنْدِي فِي شَرْحِ الْمَقَامِ أَنْ يُقَالَ : أَيْ إنْ لَمْ يَتَرَاضَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي عَلَى الزِّيَادَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ مِمَّا يَدَّعِيهِ أَحَدُهُمَا كَمَا فِي الصُّورَةِ الْأُولَى وَالصُّورَةِ الثَّانِيَةِ ، أَوْ مِمَّا يَدَّعِيهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَا فِي الصُّورَةِ الثَّالِثَةِ اسْتَحْلَفَ الْحَاكِمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى دَعْوَى الْآخَرِ ، فَحِينَئِذٍ يَجْرِي مَعْنَى الْكَلَامِ وَفَحْوَى الْمَقَامِ فِي كُلِّ صُورَةٍ كَمَا تَرَى ( وَهَذَا التَّحَالُفُ قَبْلَ الْقَبْضِ ) أَيْ قَبْلَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي السِّلْعَةَ ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ ( عَلَى وِفَاقِ الْقِيَاسِ لِأَنَّ الْبَائِعَ يَدَّعِي زِيَادَةَ الثَّمَنِ وَالْمُشْتَرِيَ يُنْكِرُهُ ) أَيْ يُنْكِرُ مَا ادَّعَاهُ الْبَائِعُ ( وَالْمُشْتَرِي يَدَّعِي وُجُوبَ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ بِمَا نَقَدَ وَالْبَائِعُ يُنْكِرُهُ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْكِرٌ فَيَحْلِفُ ) لِأَنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُنْكِرِ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ ( فَأَمَّا بَعْدَ الْقَبْضِ فَمُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ ، لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَدَّعِي شَيْئًا لِأَنَّ الْمَبِيعَ سَالِمٌ لَهُ فَبَقِيَ دَعْوَى الْبَائِعِ فِي زِيَادَةِ الثَّمَنِ وَالْمُشْتَرِي يُنْكِرُهَا فَيُكْتَفَى بِحَلِفِهِ ) أَيْ كَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يُكْتَفَى بِحَلِفِهِ .
فَإِنْ قُلْت : إذَا لَمْ يَدَّعِ الْمُشْتَرِي شَيْئًا فِيمَا بَعْدَ الْقَبْضِ يَنْبَغِي أَنْ لَا تُقْبَلَ بَيِّنَتُهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ إذَا أَقَامَهَا ، لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ لِلْمُدَّعِي مَعَ أَنَّهُ

قَالَ فِيمَا قَبْلُ : فَأَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ فَقَضَى لَهُ بِهَا .
قُلْت : الْمُرَادُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَدَّعِي شَيْئًا ادِّعَاءً مَعْنَوِيًّا فِيمَا بَعْدَ الْقَبْضِ ، وَهَذَا لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي مُدَّعِيًا ادِّعَاءً صُورِيًّا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ ، وَبَيِّنَةُ الْمُدَّعِي صُورَةٌ تُسْمَعُ عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ كَمَا إذَا ادَّعَى الْمُودِعُ رَدَّ الْوَدِيعَةِ عَلَى مَا مَرَّ .
لَا يُقَالُ : إنْ كَانَ الْمُشْتَرِي مُدَّعِيًا صُورَةً فِيمَا بَعْدَ الْقَبْضِ يَكُونُ الْبَائِعُ مُنْكِرًا لِمَا ادَّعَاهُ صُورَةً فَيَصِيرُ التَّحَالُفُ هَاهُنَا أَيْضًا مُوَافِقًا لِلْقِيَاسِ .
لِأَنَّا نَقُولُ : لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِتَحْلِيفِ الْمُنْكِرِ الصُّورِيِّ ، بَلْ إنَّمَا الْيَمِينُ إيذَاءٌ عَلَى الْمُنْكِرِ الْحَقِيقِيِّ ، بِخِلَافِ الْمُدَّعِي الصُّورِيِّ فَإِنَّ الْبَيِّنَةَ تُسْمَعُ مِنْهُ عَلَى مَا ذَكَرُوا .
وَلَك أَنْ تَقُولَ فِي الْجَوَابِ عَنْ أَصْلِ السُّؤَالِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَدَّعِي شَيْئًا فِيمَا بَعْدَ الْقَبْضِ وَقَبُولُ بَيِّنَتِهِ فِيهِ لِدَفْعِ الْيَمِينِ عَنْهُ لَا لِكَوْنِهِ مُدَّعِيًا ، وَهَذَا أَيْ قَبُولُ الْبَيِّنَةِ مِنْ غَيْرِ الْمُدَّعِي لِدَفْعِ الْيَمِينِ كَثِيرٌ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ يَعْرِفُهُ مَنْ يَتَتَبَّعُ الْكُتُبَ ، وَهَذَا الْوَجْهُ مِنْ الْجَوَابِ هُوَ الْأَوْفَقُ لِمَا رَأَيْنَاهُ حَقًّا فِي شَرْحِ مُرَادِ الْمُصَنِّفِ مِنْ كَلَامِهِ الْمَذْكُورِ فِي صَدْرِ كِتَابِ الدَّعْوَى فَتَذَكَّرْ .
أَقُولُ : بَقِيَ هَاهُنَا شَيْءٌ ، وَهُوَ أَنَّهُ إنْ أَرَادَ الْمُصَنِّفُ بِكَلِمَةِ هَذَا فِي قَوْلِهِ وَهَذَا التَّحَالُفُ قَبْلَ الْقَبْضِ عَلَى وِفَاقِ الْقِيَاسِ الْإِشَارَةَ إلَى مَا فِي صُورَةِ الِاخْتِلَافِ فِي الثَّمَنِ فَقَطْ مِنْ الصُّوَرِ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَاتِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ اخْتِصَاصِ الدَّلِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ الْبَائِعَ يَدَّعِي زِيَادَةَ الثَّمَنِ إلَخْ بِتِلْكَ الصُّورَةِ فَلَا يَخْلُو الْكَلَامُ عَنْ الرَّكَاكَةِ لَفْظًا وَمَعْنًى .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ تِلْكَ الصُّورَةَ أَبْعَدُ الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ ، فَالْإِشَارَةُ إلَى مَا فِيهَا

بِلَفْظِ الْقَرِيبِ بَعِيدٌ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْأَصْلَ الْمَذْكُورَ : أَعْنِي كَوْنَ التَّحَالُفِ قَبْلَ الْقَبْضِ عَلَى وِفَاقِ الْقِيَاسِ وَبَعْدَهُ عَلَى خِلَافِهِ غَيْرُ مَخْصُوصٍ بِتِلْكَ الصُّورَةِ ، بَلْ هُوَ جَارٍ أَيْضًا فِي صُورَةِ الِاخْتِلَافِ فِي الْمَبِيعِ ، فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَدَّعِي فِيهَا قَبْلَ قَبْضِ الْبَائِعِ الثَّمَنَ زِيَادَةَ الْمَبِيعِ وَالْبَائِعُ يُنْكِرُهُ ، وَالْبَائِعُ يَدَّعِي وُجُوبَ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ بِمَا اعْتَرَفَ مِنْ الْمَبِيعِ وَالْمُشْتَرِي يُنْكِرُهُ فَكُلٌّ مِنْهُمَا مُنْكِرٌ فَيَحْلِفُ .
وَأَمَّا بَعْدَ قَبْضِ الْبَائِعِ الثَّمَنَ فَلَا يَدَّعِي عَلَى الْبَائِعِ شَيْئًا لِأَنَّ الثَّمَنَ سَالِمٌ لَهُ .
بَقِيَ دَعْوَى الْمُشْتَرِي فِي زِيَادَةِ الْمَبِيعِ وَالْبَائِعُ يُنْكِرُهُ فَيَكْتَفِي بِحَلِفِهِ ، وَلَقَدْ أَفْصَحَ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ عَنْ عَدَمِ اخْتِصَاصِهِ بِتِلْكَ الصُّورَةِ حَيْثُ قَالَ فِي التَّبْيِينِ : وَهَذَا إذَا كَانَ قَبْلَ قَبْضِ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ فَظَاهِرٌ وَهُوَ قِيَاسٌ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ فَمُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ لِأَنَّ الْقَابِضَ مِنْهُمَا لَا يَدَّعِي شَيْئًا عَلَى صَاحِبِهِ ، وَإِنَّمَا يُنْكِرُ مَا ادَّعَاهُ الْآخَرُ انْتَهَى .
فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْأَصْلُ الْمَذْكُورُ مَخْصُوصًا بِتِلْكَ الصُّورَةِ لَمْ يَظْهَرْ لِتَخْصِيصِ الْإِشَارَةِ إلَى مَا فِيهَا وَجْهٌ ، وَإِنْ أَرَادَ بِهَا الْإِشَارَةَ إلَى جِنْسِ التَّحَالُفِ فَلَا يَخْلُو الْمَقَامُ عَنْ الرَّكَاكَةِ لَفْظًا وَمَعْنًى أَيْضًا .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ لَفْظَ هَذَا يَصِيرُ حِينَئِذٍ زَائِدًا ، لَا مَوْقِعَ لَهُ فِي الظَّاهِرِ ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الدَّلِيلَ الَّذِي ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ الْبَائِعَ يَدَّعِي زِيَادَةَ الثَّمَنِ إلَخْ يَصِيرُ حِينَئِذٍ أَخَصَّ مِنْ الْمُدَّعِي .
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ صَاحِبَ الْكَافِي وَكَثِيرًا مِنْ الثِّقَاتِ تَرَكُوا كَلِمَةَ هَذَا فِي بَيَانِ الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ ، وَلَكِنَّهُمْ ذَكَرُوا أَيْضًا فِي دَلِيلِ مُخَالَفَةِ الْقِيَاسِ بَعْضَ الْقَبْضِ مَا يَخْتَصُّ بِصُورَةِ الِاخْتِلَافِ فِي الثَّمَنِ فَقَطْ ، وَيُمْكِنُ تَوْجِيهُ الْكُلِّ بِعِنَايَةٍ

فَتَأَمَّلْ ( وَلَكِنَّا عَرَفْنَاهُ بِالنَّصِّ ) اسْتِدْرَاكٌ مِنْ قَوْلِهِ فَيُكْتَفَى بِحَلِفِهِ .
يَعْنِي كَانَ الْقِيَاسُ فِي صُورَةِ الِاخْتِلَافِ بَعْدَ الْقَبْضِ أَنْ يُكْتَفَى بِحَلِفِ الْمُشْتَرِي لَكِنَّا عَرَفْنَا التَّحَالُفَ بِالنَّصِّ ( وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ بِعَيْنِهَا تَحَالَفَا وَتَرَادَّا } ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : هَذَا الْحَدِيثُ مُخَالِفٌ لِلْمَشْهُورِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَشْهُورًا فَهُوَ مَرْجُوحٌ ، وَإِنْ كَانَ فَكَذَلِكَ لِعُمُومِ الْمَشْهُورِ أَوْ يَتَعَارَضَانِ وَلَا تَرْجِيحَ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِي الْجَوَابِ عَنْهُ قَدْ تَقَرَّرَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ أَنَّ عِبَارَةَ النَّصِّ تُرَجَّحُ عَلَى إشَارَةِ النَّصِّ ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ هَذَا الْحَدِيثُ رَاجِحًا عَلَى الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ ، لِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَدُلُّ بِعِبَارَتِهِ عَلَى اسْتِحْلَافِ الْمُدَّعِي أَيْضًا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ .
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ فَلَا يَدُلُّ بِعِبَارَتِهِ عَلَى عَدَمِ اسْتِحْلَافِ الْمُدَّعِي مُطْلَقًا ، بَلْ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِإِشَارَتِهِ حَيْثُ يُفْهَمُ مِنْ تَقْسِيمِ الْحُجَّتَيْنِ لِلْخَصْمَيْنِ أَوْ مِنْ جَعْلِ جِنْسِ الْأَيْمَانِ عَلَى الْمُنْكَرَيْنِ كَمَا بَيَّنَ فِيمَا مَرَّ فَهُوَ إذَنْ مَرْجُوعٌ

( وَيَبْتَدِئُ بِيَمِينِ الْمُشْتَرِي ) وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَأَبِي يُوسُفَ آخِرًا ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ أَشَدُّهُمَا إنْكَارًا لِأَنَّهُ يُطَالِبُ أَوَّلًا بِالثَّمَنِ وَلِأَنَّهُ يَتَعَجَّلُ فَائِدَةَ النُّكُولِ وَهُوَ إلْزَامُ الثَّمَنِ ، وَلَوْ بُدِئَ بِيَمِينِ الْبَائِعِ تَتَأَخَّرُ الْمُطَالَبَةُ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ إلَى زَمَانِ اسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ .
وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ أَوَّلًا : يَبْدَأُ بِيَمِينِ الْبَائِعِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ فَالْقَوْلُ مَا قَالَهُ الْبَائِعُ } خَصَّهُ بِالذِّكْرِ ، وَأَقَلُّ فَائِدَتِهِ التَّقْدِيمُ .
( وَإِنْ كَانَ بَيْعُ عَيْنٍ بِعَيْنٍ أَوْ ثَمَنٍ بِثَمَنٍ بَدَأَ الْقَاضِي بِيَمِينِ أَيِّهِمَا شَاءَ ) لِاسْتِوَائِهِمَا

( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( وَيَبْتَدِئُ ) أَيْ الْقَاضِي ( بِيَمِينِ الْمُشْتَرِي ) قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَأَبِي يُوسُفَ آخِرًا وَرِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الصَّحِيحُ ) احْتِرَازًا عَنْ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لِأَبِي يُوسُفَ كَمَا سَيَجِيءُ ( لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ أَشَدُّهُمَا إنْكَارًا لِأَنَّهُ يُطَالِبُ أَوَّلًا بِالثَّمَنِ ) فَهُوَ الْبَادِئُ بِالْإِنْكَارِ .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ الْإِنْكَارِ دُونَ شِدَّتِهِ ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِالشِّدَّةِ التَّقَدُّمَ وَهُوَ أَنْسَبُ بِالْمَقَامِ ، لِأَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ فِي الْإِنْكَارِ تَقَدَّمَ فِي الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مَدَارَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ عَلَى كَوْنِ الْبَادِي أَظْلَمُ لِكَوْنِهِ مُنْشَأً لِلثَّانِي أَيْضًا فَيَكُونُ أَشَدَّ كَمَا يَكُونُ أَقْدَمَ ، وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ مَدَارُهُ عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمَّا كَانَ مُطَالَبًا أَوَّلًا بِالثَّمَنِ كَانَ مُنْكِرًا لِلشَّيْئَيْنِ أَصْلُ الْوُجُوبِ وَوُجُوبُ الْأَدَاءِ فِي الْحَالِ فَكَانَ أَشَدَّ إنْكَارًا ، وَعِنْدَ هَذَيْنِ الْمَحْمَلَيْنِ الصَّحِيحَيْنِ لِإِجْرَاءِ الْكَلَامِ عَلَى الْحَقِيقَةِ كَيْفَ يَجُوزُ حَمْلُ الْأَشَدِّ عَلَى الْأَقْدَمِ تَجَوُّزًا مَعَ عَدَمِ ظُهُورِ الْعَلَاقَةِ بَيْنَهُمَا ( وَلِأَنَّهُ يَتَعَجَّلُ فَائِدَةَ النُّكُولِ ) أَيْ بِالِابْتِدَاءِ بِيَمِينِ الْمُشْتَرِي ( وَهُوَ ) أَيْ فَائِدَةُ النُّكُولِ إلْزَامُ الثَّمَنِ ذَكَرَ الضَّمِيرَ الرَّاجِعَ إلَى الْفَائِدَةِ ، وَإِمَّا بِاعْتِبَارِ الْخَبَرِ وَهُوَ ( إلْزَامُ الثَّمَنِ ) أَوْ بِتَأْوِيلِ الْفَائِدَةِ بِالنَّفْعِ ( وَلَوْ بُدِئَ بِيَمِينِ الْبَائِعِ تَتَأَخَّرُ الْمُطَالَبَةُ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ إلَى زَمَانِ اسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ ) لِأَنَّ تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ يُؤَخَّرُ إلَى زَمَانِ اسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ لِأَنَّهُ يُقَالُ لَهُ : امْسِكْ الْمَبِيعَ إلَى أَنْ تَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ فَكَانَ تَقْدِيمُ مَا تَتَعَجَّلُ فَائِدَتُهُ أَوْلَى ، كَذَا فِي الْكَافِي ( وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ يَقُولُ

أَوَّلًا : يَبْدَأُ بِيَمِينِ الْبَائِعِ ) وَذَكَرَ فِي الْمُنْتَقَى وَفِي جَامِعِ أَبِي الْحَسَنِ أَنَّهُ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا ( لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ فَالْقَوْلُ مَا قَالَهُ الْبَائِعُ } ) وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ( خَصَّهُ بِالذِّكْرِ ) أَيْ خَصَّ الْبَائِعَ بِالذِّكْرِ حَيْثُ قَالَ : فَالْقَوْلُ مَا قَالَهُ الْبَائِعُ ( وَأَقَلُّ فَائِدَتِهِ ) أَيْ فَائِدَةُ التَّخْصِيصِ ( التَّقْدِيمُ ) يَعْنِي أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَ الْبَائِعِ ، وَهَذَا بِظَاهِرِهِ يَقْتَضِي الِاكْتِفَاءَ بِيَمِينِهِ ، فَإِذَا كَانَ لَا يُكْتَفَى بِيَمِينِهِ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَبْدَأَ بِيَمِينِهِ .
وَفِي غَايَةِ الْبَيَانِ قَالَ فِي شَرْحِ الْأَقْطَعِ جَوَابًا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ : إنَّمَا خَصَّ الْبَائِعَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ يَمِينَ الْمُشْتَرِي مَعْلُومَةٌ لَا تُشْكِلُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ } فَسَكَتَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَبَيْنَ مَا يُشْكِلُ وَلَمْ يَتَقَدَّمْ بَيَانُهُ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ } كَمَا أَنَّهُ دَلِيلٌ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي دَلِيلٌ أَيْضًا فِي حَقِّ الْبَائِعِ ، فَإِنَّهُ قَدْ مَرَّ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُنْكِرُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الصُّوَرِ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ فِيمَا إذَا اخْتَلَفَا قَبْلَ الْقَبْضِ وَفِيمَا إذَا اخْتَلَفَا بَعْدَ الْقَبْضِ .
فَفِي صُورَةِ الِاخْتِلَافِ فِي الثَّمَنِ بَعْدَ قَبْضِ الْمَبِيعِ الْمُنْكِرُ هُوَ الْمُشْتَرِي ، وَفِي صُورَةِ الِاخْتِلَافِ فِي الْمَبِيعِ بَعْدَ قَبْضِ الثَّمَنِ الْمُنْكِرُ هُوَ الْبَائِعُ ، فَاسْتَوَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فِي الِانْدِرَاجِ تَحْتَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ } فِي أَكْثَرِ الصُّوَرِ وَعَدَمِ الِانْدِرَاجِ تَحْتَهُ فِي

بَعْضِ الصُّوَرِ ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي إشْكَالِ الْيَمِينِ وَعَدَمِ إشْكَالِهَا ، وَتَقَدُّمُ الْبَيَانِ وَعَدَمُ تَقَدُّمِهِ فَلَمْ يَتِمَّ الْجَوَابُ الْمَذْكُورُ .
ثُمَّ إنَّ هَذَا الَّذِي ذُكِرَ مِنْ لُزُومِ الِابْتِدَاءِ بِيَمِينِ الْمُشْتَرِي عَلَى الْقَوْلِ الصَّحِيحِ ، أَوْ بِيَمِينِ الْبَائِعِ عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ إذَا كَانَ الْبَيْعُ بَيْعَ عَيْنٍ بِثَمَنٍ ( وَإِنْ كَانَ بَيْعَ عَيْنٍ بِعَيْنٍ ) وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْمُقَايَضَةِ ( أَوْ ثَمَنٍ بِثَمَنٍ ) أَيْ بَيْعَ ثَمَنٍ بِثَمَنٍ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالصَّرْفِ ( بَدَأَ الْقَاضِي بِيَمِينِ أَيِّهِمَا شَاءَ ) مِنْ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي ( لِاسْتِوَائِهِمَا ) أَيْ فِي الْإِنْكَارِ وَفِي فَائِدَةِ النُّكُولِ .

( وَصِفَةُ الْيَمِينِ أَنْ يَحْلِفَ الْبَائِعُ بِاَللَّهِ مَا بَاعَهُ بِأَلْفٍ وَيَحْلِفَ الْمُشْتَرِي بِاَللَّهِ مَا اشْتَرَاهُ بِأَلْفَيْنِ ) وَقَالَ فِي الزِّيَادَاتِ : يَحْلِفُ بِاَللَّهِ مَا بَاعَهُ بِأَلْفٍ وَلَقَدْ بَاعَهُ بِأَلْفَيْنِ ، يَحْلِفُ الْمُشْتَرِي بِاَللَّهِ مَا اشْتَرَاهُ بِأَلْفَيْنِ وَلَقَدْ اشْتَرَاهُ بِأَلْفٍ يَضْمَنُ الْإِثْبَاتُ إلَى النَّفْيِ تَأْكِيدًا ، وَالْأَصَحُّ الِاقْتِصَارُ عَلَى النَّفْيِ لِأَنَّ الْأَيْمَانَ عَلَى ذَلِكَ وُضِعَتْ ، دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْقَسَامَةِ { بِاَللَّهِ مَا قَتَلْتُمْ وَلَا عَلِمْتُمْ لَهُ قَاتِلًا } .
قَالَ ( فَإِنْ حَلَفَا فَسَخَ الْقَاضِي الْبَيْعَ بَيْنَهُمَا ) وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْفَسِخُ بِنَفْسِ التَّحَالُفِ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ مَا ادَّعَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَبْقَى بَيْعُ مَجْهُولٍ فَيَفْسَخُهُ الْقَاضِي قَطْعًا لِلْمُنَازَعَةِ .
أَوْ يُقَالُ إذَا لَمْ يَثْبُتْ الْبَدَلُ يَبْقَى بَيْعًا بِلَا بَدَلٍ وَهُوَ فَاسِدٌ وَلَا بُدَّ مِنْ الْفَسْخِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ .
قَالَ : ( وَإِنْ نَكَلَ أَحَدُهُمَا عَنْ الْيَمِينِ لَزِمَهُ دَعْوَى الْآخَرِ ) لِأَنَّهُ جُعِلَ بَاذِلًا فَلَمْ يَبْقَ دَعْوَاهُ مُعَارِضًا لِدَعْوَى الْآخَرِ فَلَزِمَ الْقَوْلُ بِثُبُوتِهِ .
.

( وَصِفَةُ الْيَمِينِ أَنْ يَحْلِفَ الْبَائِعُ بِاَللَّهِ مَا بَاعَهُ بِأَلْفٍ وَيَحْلِفَ الْمُشْتَرِي بِاَللَّهِ مَا اشْتَرَاهُ بِأَلْفَيْنِ ) كَذَا ذَكَرَهُ فِي الْأَصْلِ ( وَقَالَ فِي الزِّيَادَاتِ : يَحْلِفُ ) أَيْ الْبَائِعُ ( بِاَللَّهِ مَا بَاعَهُ بِأَلْفٍ وَلَقَدْ بَاعَهُ بِأَلْفَيْنِ وَيَحْلِفُ الْمُشْتَرِي بِاَللَّهِ مَا اشْتَرَاهُ بِأَلْفَيْنِ وَلَقَدْ اشْتَرَاهُ بِأَلْفٍ يَضُمُّ الْإِثْبَاتَ إلَى النَّفْيِ تَأْكِيدًا ) قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَالْأَصَحُّ الِاقْتِصَارُ عَلَى النَّفْيِ لِأَنَّ الْأَيْمَانَ عَلَى ذَلِكَ وُضِعَتْ ) أَيْ عَلَى النَّفْيِ وُضِعَتْ لَا عَلَى الْإِثْبَاتِ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ ( دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْقَسَامَةِ { بِاَللَّهِ مَا قَتَلْتُمْ وَلَا عَلِمْتُمْ لَهُ قَاتِلًا } ) وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَفِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُنَافِي التَّأْكِيدَ انْتَهَى .
أَقُولُ : بَلْ يُنَافِيهِ ، لِأَنَّ وَضْعَ الْأَيْمَانِ لَمَّا كَانَ مَقْصُورًا عَلَى النَّفْيِ كَمَا يُرْشِدُ إلَيْهِ تَفْسِيرُنَا الْمَنْقُولُ عَنْ النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ وَدَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ حَيْثُ قَالَ : عَلَى ذَلِكَ وُضِعَتْ ، بِتَقْدِيمِ عَلَى ذَلِكَ عَلَى وُضِعَتْ دُونَ تَأْخِيرِهِ عَنْهُ عَلَى مَا هُوَ حَقُّهُ إفَادَةً لِقَصْرِ وَضْعِهَا عَلَى النَّفْيِ الْمُشَارِ إلَيْهِ بِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ إدْرَاجُ الْيَمِينِ وَلَوْ بِطَرِيقِ التَّأْكِيدِ ، وَإِلَّا يَلْزَمُ الظُّلْمُ لِلْمُنْكِرِ بِإِلْزَامِ الزَّائِدِ عَلَى مَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَرْعًا ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ شَرْعًا وَيَكُونُ حَقًّا لِلْمُدَّعِي إنَّمَا هُوَ الْإِتْيَانُ بِمَا وُضِعَتْ لَهُ الْيَمِينُ دُونَ مَا هُوَ خَارِجٌ عَنْهُ زَائِدٌ عَلَيْهِ وَهُوَ الْإِثْبَاتُ ، فَلَا بُدَّ مِنْ الِاقْتِصَارِ عَلَى النَّفْيِ كَمَا ذُكِرَ .
وَلِبَعْضِ الْفُضَلَاءِ بِصَدَدِ الْجَوَابِ عَنْ النَّظَرِ الْمَزْبُورِ كَلِمَاتٌ طَوِيلَةُ الذَّيْلِ ، جُلُّهَا بَلْ كُلُّهَا مَدْخُولٌ وَمَجْرُوحٌ ، تَرَكْنَا ذِكْرَهَا وَرَدَّهَا مَخَافَةَ التَّطْوِيلِ بِلَا طَائِلٍ ( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( فَإِنْ حَلَفَا فَسَخَ

الْقَاضِي الْبَيْعَ بَيْنَهُمَا ) أَيْ إنْ طَلَبَا أَوْ طَلَبَ أَحَدُهُمَا ، كَذَا فِي الْكَافِي وَالشُّرُوحِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَهَذَا ) أَيْ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ ( يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ ) أَيْ الْبَيْعُ ( لَا يَنْفَسِخُ بِنَفْسِ التَّحَالُفِ ) وَقَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ : وَبِهِ صَرَّحَ فِي كِتَابِ الِاسْتِحْلَافِ لِأَبِي حَازِمٍ الْقَاضِي حَيْثُ قَالَ : إذَا تَحَالَفَا فَسَخَ الْحَاكِمُ الْبَيْعَ بَيْنَهُمَا وَلَمْ يَنْفَسِخْ بِالتَّحَالُفِ انْتَهَى .
وَقَالَ فِي الْكَافِي : وَقِيلَ يَنْفَسِخُ بِنَفْسِ التَّحَالُفِ ، وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ انْتَهَى ( لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ مَا ادَّعَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَبَقِيَ بَيْعٌ مَجْهُولٌ ) أَيْ بَقِيَ بَيْعًا بِثَمَنٍ مَجْهُولٍ ، كَذَا فِي الْكَافِي وَالْكِفَايَةِ .
أَقُولُ : هَذَا لَا يَتِمُّ فِي صُورَةِ كَوْنِ الِاخْتِلَافِ فِي الْمَبِيعِ دُونَ الثَّمَنِ ، فَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ : أَيْ بَقِيَ بَيْعُ الْمَجْهُولِ إمَّا بِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ فِيمَا إذَا اخْتَلَفَا فِي الْمَبِيعِ ، وَإِمَّا بِجَهَالَةِ الثَّمَنِ فِيمَا إذَا اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ ، وَإِمَّا بِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ مَعًا فِيمَا إذَا اخْتَلَفَا فِيهِمَا ( فَيَفْسَخُهُ الْقَاضِي قَطْعًا لِلْمُنَازَعَةِ ) بَيْنَهُمَا ( أَوْ يُقَالُ إذَا لَمْ يَثْبُتْ الْبَدَلُ ) لِلتَّعَارُضِ بَيْنَ قَوْلَيْهِمَا ( يَبْقَى بَيْعًا بِلَا بَدَلٍ وَهُوَ فَاسِدٌ ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْفَسْخِ فِي فَاسِدِ الْبَيْعِ ) أَيْ الْبَيْعُ الْفَاسِدُ وَهُمَا لَمْ يَفْسَخَاهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَقُومَ الْقَاضِي مَقَامَهُمَا .
وَفِي الْمَبْسُوطِ : حَلَّ لِلْمُشْتَرِي وَطْءُ الْجَارِيَةِ إذَا كَانَتْ الْمَبِيعَةَ ، فَلَوْ فُسِخَ الْبَيْعُ بِالتَّحَالُفِ لَمَا حَلَّ لِلْمُشْتَرِي وَطْؤُهَا ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ ( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( وَإِنْ نَكَلَ أَحَدُهُمَا عَنْ الْيَمِينِ لَزِمَهُ دَعْوَى الْآخَرِ لِأَنَّهُ ) أَيْ النَّاكِلُ ( جُعِلَ بَاذِلًا ) لِصِحَّةِ الْبَذْلِ فِي الْأَعْوَاضِ ( فَلَمْ يَبْقَ دَعْوَاهُ مُعَارِضًا لِدَعْوَى الْآخَرِ فَلَزِمَ الْقَوْلُ بِثُبُوتِهِ ) أَيْ

بِثُبُوتِ مَا ادَّعَاهُ الْآخَرُ لِعَدَمِ الْمُعَارَضَةِ .
أَقُولُ : فِي تَقْرِيرِ الْمُصَنِّفِ شَيْءٌ ، وَهُوَ أَنَّهُ سَاقَ الدَّلِيلَ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَقَطْ حَيْثُ قَالَ : وَجُعِلَ بَاذِلًا ، وَالنُّكُولُ عِنْدَهُمَا إقْرَارٌ لَا بَذْلٌ كَمَا مَرَّ ، فَلَا يَتَمَشَّى مَا ذَكَرَهُ عَلَى أَصْلِهِمَا مَعَ أَنَّ مَسْأَلَتَنَا هَذِهِ اتِّفَاقِيَّةٌ بَيْنَ أَئِمَّتِنَا ، فَكَانَ الْأَحْسَنُ أَنْ يَقُولَ : لِأَنَّهُ صَارَ مُقِرًّا بِمَا يَدَّعِيهِ الْآخَرُ أَوْ بَاذِلًا كَمَا قَالَ صَاحِبُ الْكَافِي وَالْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ .
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْإِمَامَ الزَّيْلَعِيَّ زَادَ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ مِنْ الْكَنْزِ قَيْدًا آخَرَ حَيْثُ قَالَ فَلَزِمَهُ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْقَضَاءُ .
وَقَالَ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ لَزِمَهُ دَعْوَى الْآخَرِ ، لِأَنَّهُ بِدُونِ اتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ لَا يُوجِبُ شَيْئًا ، أَمَّا عَلَى اعْتِبَارِ الْبَذْلِ فَظَاهِرٌ ، وَأَمَّا عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّهُ إقْرَارٌ فَلِأَنَّهُ إقْرَارٌ فِيهِ شُبْهَةُ الْبَذْلِ فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا بِانْفِرَادِهِ انْتَهَى .

قَالَ ( وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْأَجَلِ أَوْ فِي شَرْطِ الْخِيَارِ أَوْ فِي اسْتِيفَاءِ بَعْضِ الثَّمَنِ فَلَا تَحَالُفَ بَيْنَهُمَا ) لِأَنَّ هَذَا اخْتِلَافٌ فِي غَيْرِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَالْمَعْقُودِ بِهِ ، فَأَشْبَهَ الِاخْتِلَافَ فِي الْحَطِّ وَالْإِبْرَاءِ ، وَهَذَا لِأَنَّ بِانْعِدَامِهِ لَا يَخْتَلُّ مَا بِهِ قِوَامُ الْعَقْدِ ، بِخِلَافِ الِاخْتِلَافِ فِي وَصْفِ الثَّمَنِ وَجِنْسِهِ حَيْثُ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الِاخْتِلَافِ فِي الْقَدْرِ فِي جَرَيَانِ التَّحَالُفِ لِأَنَّ ذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الثَّمَنِ فَإِنَّ الثَّمَنَ دَيْنٌ وَهُوَ يُعْرَفُ بِالْوَصْفِ ، وَلَا كَذَلِكَ الْأَجَلُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَصْفٍ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الثَّمَنَ مَوْجُودٌ بَعْدَ مُضِيِّهِ ( وَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يُنْكِرُ الْخِيَارَ وَالْأَجَلَ مَعَ يَمِينِهِ ) لِأَنَّهُمَا يَثْبُتَانِ بِعَارِضِ الشَّرْطِ وَالْقَوْلُ لِمُنْكِرِ الْعَوَارِضِ .

( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْأَجَلِ ) أَيْ فِي أَصْلِهِ أَوْ قَدْرِهِ ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ ( أَوْ فِي شَرْطِ الْخِيَارِ ) أَيْ فِي أَصْلِهِ أَوْ قَدْرِهِ أَيْضًا .
كَذَا فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ وَغَايَةِ الْبَيَانِ ( أَوْ فِي اسْتِيفَاءِ بَعْضِ الثَّمَنِ ) وَكَذَا الْحُكْمُ فِيمَا إذَا اخْتَلَفَا فِي اسْتِيفَاءِ كُلِّ الثَّمَنِ ، لَكِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُصَنِّفُ لِأَنَّ ذَلِكَ مَفْرُوغٌ عَنْهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ صَارَ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الدَّعَاوَى ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ ( فَلَا تَحَالُفَ بَيْنَهُمَا ) عِنْدَنَا ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ ، وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ : يَتَحَالَفَانِ .
وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي أَصْلِ الْبَيْعِ لَمْ يَتَحَالَفَا بِالْإِجْمَاعِ ، كَذَا فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ .
ثُمَّ إنَّ الْقَوْلَ فِي مَسَائِلِ الْكِتَابِ لِمُنْكِرِ الْأَجَلِ وَلِمُنْكِرِ شَرْطِ الْخِيَارِ وَلِمُنْكِرِ الِاسْتِيفَاءِ ، وَفِي مَسْأَلَةِ الِاخْتِلَافِ فِي أَصْلِ الْمَبِيعِ لِمُنْكِرِ الْعَقْدِ ذَكَرَ كُلَّهَا هَاهُنَا فِي الْكَافِي وَسَيَجِيءُ بَعْضُهَا فِي الْكِتَابِ .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَإِذَا اخْتَلَفَا فِي الْأَجَلِ فِي أَصْلِهِ أَوْ فِي قَدْرِهِ أَوْ فِي شَرْطِ الْخِيَارِ أَوْ فِي اسْتِيفَاءِ بَعْضِ الثَّمَنِ فَلَا تَحَالُفَ بَيْنَهُمَا وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ انْتَهَى .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : هَذَا لَيْسَ بِسَدِيدٍ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُشْتَرِي إذَا كَانَ مُنْكِرًا كَمَا إذَا كَانَ مُدَّعِي الْخِيَارِ هُوَ الْبَائِعُ انْتَهَى .
أَقُولُ : هَذَا ظَاهِرٌ ، وَلَكِنَّ الْغَالِبَ أَنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ سَلَكَ هَاهُنَا مَسْلَكَ التَّغْلِيبِ اعْتِمَادًا عَلَى ظُهُورِ هَذِهِ الصُّورَةِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ ( لِأَنَّ هَذَا ) أَيْ الِاخْتِلَافُ فِي الْأَجَلِ أَوْ شَرْطِ الْخِيَارِ أَوْ اسْتِيفَاءِ بَعْضِ الثَّمَنِ ( اخْتِلَافٌ فِي غَيْرِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ) وَهُوَ الْمَبِيعُ ( وَالْمَعْقُودُ بِهِ ) وَهُوَ الثَّمَنُ وَالِاخْتِلَافُ فِي غَيْرِهِمَا لَا يُوجِبُ التَّحَالُفَ لِأَنَّ

التَّحَالُفَ عُرِفَ بِالنَّصِّ ، وَالنَّصُّ إنَّمَا وَرَدَ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ فِيمَا يَتِمُّ بِهِ الْعَقْدُ ، إذْ قَدْ عَلَّقَ فِيهِ وُجُوبَ التَّحَالُفِ بِاخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعِينَ ، وَهُوَ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنْ الْبَيْعِ فَيَتَعَلَّقُ وُجُوبُ التَّحَالُفِ بِاخْتِلَافِهِمَا فِيمَا يَثْبُتُ بِهِ الْبَيْعُ ، وَالْبَيْعُ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ لَا بِالْأَجَلِ وَشَرَطَ الْخِيَارَ وَاسْتِيفَاءَ الثَّمَنِ ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ : إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ فِي الْمَبِيعِ أَوْ فِي الثَّمَنِ تَحَالَفَا ، فَالِاخْتِلَافُ فِيمَا ذُكِرَ مِنْ الْأَجَلِ وَشَرْطُ الْخِيَارِ وَاسْتِيفَاءِ بَعْضِ الثَّمَنِ لَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فَلَمْ يَلْحَقْ بِهِ ، هَذَا زُبْدَةُ مَا فِي الشُّرُوحِ وَالْكَافِي هَاهُنَا ( فَأَشْبَهَ الِاخْتِلَافَ فِي الْحَطِّ ) أَيْ فِي الْحَطِّ مِنْ الثَّمَنِ ( وَالْإِبْرَاءِ ) أَيْ الْإِبْرَاءُ عَنْ الثَّمَنِ ، وَلَا تَحَالُفَ فِي الِاخْتِلَافِ فِيهِمَا ، بَلْ الْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ أَنْكَرَ مَعَ يَمِينِهِ فَكَذَا فِي الِاخْتِلَافِ فِي الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ ( وَهَذَا ) أَيْ كَوْنُ الِاخْتِلَافِ فِي الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ اخْتِلَافًا فِي غَيْرِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَالْمَعْقُودِ بِهِ .
وَيَجُوزُ أَنْ يُشَارَ بِهِ إلَى الْأَقْرَبِ : أَيْ شِبْهُ الِاخْتِلَافِ فِي الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ لِلِاخْتِلَافِ فِي الْحَطِّ وَالْإِبْرَاءِ ( لِأَنَّ بِانْعِدَامِهِ ) أَيْ بِانْعِدَامِ مَا ذُكِرَ مِنْ الْأَجَلِ وَشَرْطِ الْخِيَارِ وَاسْتِيفَاءِ بَعْضِ الثَّمَنِ ( لَا يَخْتَلُّ مَا بِهِ قِوَامُ الْعَقْدِ ) لِأَنَّ الْعَقْدَ بِلَا شَرْطٍ وَأَجَلٍ جَائِزٌ ، فَإِذَا اخْتَلَفَا فِي الشَّرْطِ أَوْ فِي الْأَجَلِ وَحَالَفَا بَقِيَ الْعَقْدُ بِلَا شَرْطٍ وَأَجَلٍ ، وَأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْفَسَادَ .
وَأَمَّا إذَا اخْتَلَفَ فِي الْمُثَمَّنِ أَوْ الثَّمَنِ وَحَالَفَا لَمْ يَثْبُتْ مَا ادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا فَيَبْقَى الثَّمَنُ أَوْ الْمُثَمَّنُ مَجْهُولًا ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْفَسَادَ .
وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الثَّمَنِ أَوْ الْمُثَمَّنِ يُوجِبُ الِاخْتِلَافَ فِي الْعَقْدِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ

اخْتَلَفَ الشَّاهِدَانِ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالْبَيْعِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَالْأَخِيرُ بِالدَّنَانِيرِ لَا يُقْبَلُ ، وَإِذَا اخْتَلَفَا فِي الْعَقْدِ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُدَّعِيًا وَمُنْكِرًا .
أَمَّا الِاخْتِلَافُ فِي الشَّرْطِ وَالْأَجَلِ فَلَا يُوجِبُ الِاخْتِلَافَ فِي الْعَقْدِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ بَاعَهُ بِأَلْفٍ إلَى شَهْرٍ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ بَاعَهُ بِأَلْفٍ يَقْضِي بِالْعَقْدِ بِأَلْفٍ حَالَّةٍ ، وَكَذَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ بَاعَهُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ بَاعَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِيَارَ جَازَتْ الشَّهَادَةُ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ نَقْلًا عَنْ جَامِعِ الْإِمَامِ قَاضِي خَانْ ( بِخِلَافِ الِاخْتِلَافِ فِي وَصْفِ الثَّمَنِ ) كَالْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ ( أَوْ جِنْسِهِ ) كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ ( حَيْثُ يَكُونُ ) الِاخْتِلَافُ فِيهِمَا ( بِمَنْزِلَةِ الْخِلَافِ فِي الْقَدْرِ ) أَيْ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ ( فِي جَرَيَانِ التَّحَالُفِ لِأَنَّ ذَلِكَ ) أَيْ الِاخْتِلَافَ فِي وَصْفِ الثَّمَنِ ( يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الثَّمَنِ ) أَيْ الِاخْتِلَافِ فِي نَفْسِ الثَّمَنِ ( فَإِنَّ الثَّمَنَ دَيْنٌ وَهُوَ ) أَيْ الدَّيْنُ ( يُعْرَفُ بِالْوَصْفِ ) فَلَمَّا اخْتَلَفَا فِي الْوَصْفِ وَهُوَ مُعَرَّفٌ صَارَ اخْتِلَافُهُمَا فِي الْمُعَرَّفِ وَهُوَ الثَّمَنُ ( وَلَا كَذَلِكَ الْأَجَلُ ) أَيْ لَيْسَ الِاخْتِلَافُ فِيهِ مَنْزِلَةَ الِاخْتِلَافِ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ الْأَجَلَ ( لَيْسَ بِوَصْفٍ ) بَلْ هُوَ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ لَكِنَّهُ يَثْبُتُ بِوَاسِطَةِ الشَّرْطِ ، وَنَوَّرَ هَذَا بِقَوْلِهِ ( أَلَا تَرَى أَنَّ الثَّمَنَ مَوْجُودٌ بَعْدَ مُضِيِّهِ ) أَيْ بَعْدَ مُضِيِّ الْأَجَلِ وَلَوْ كَانَ وَصْفًا لِتَبَعِهِ كَذَا فِي الْكَافِي .
قَالَ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ : كَذَا قِيلَ وَفِيهِ نَوْعُ تَأَمُّلٍ انْتَهَى ( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( وَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يُنْكِرُ الْخِيَارَ وَالْأَجَلَ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّهُمَا ) أَيْ الْخِيَارُ وَالْأَجَلُ ( يَثْبُتَانِ بِعَارِضِ الشَّرْطِ ) أَيْ بِشَرْطٍ عَارِضٍ عَلَى أَصْلِ الْعَقْدِ (

وَالْقَوْلُ لِمُنْكِرِ الْعَوَارِضِ ) وَالْحُكْمُ فِي اسْتِيفَاءِ بَعْضِ الثَّمَنِ كَذَلِكَ ، لِأَنَّ بِانْعِدَامِهِ لَا يَخْتَلُّ مَا بِهِ قِوَامُ الْعَقْدِ لِبَقَاءِ مَا يَحْصُلُ ثَمَنًا ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ

قَالَ : ( فَإِنْ هَلَكَ الْمَبِيعُ ثُمَّ اخْتَلَفَا لَمْ يَتَحَالَفَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَتَحَالَفَانِ وَيُفْسَخُ الْبَيْعُ عَلَى قِيمَةِ الْهَالِكِ ) وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَعَلَى هَذَا إذَا خَرَجَ الْمَبِيعُ عَنْ مِلْكِهِ أَوْ صَارَ بِحَالٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى رَدِّهِ بِالْعَيْبِ .
لَهُمَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي غَيْرَ الْعَقْدِ الَّذِي يَدَّعِيهِ صَاحِبُهُ وَالْآخَرُ يُنْكِرُهُ وَأَنَّهُ يُفِيدُ دَفْعَ زِيَادَةِ الثَّمَنِ فَيَتَحَالَفَانِ ؛ كَمَا إذَا اخْتَلَفَا فِي جِنْسِ الثَّمَنِ بَعْدَ هَلَاكِ السِّلْعَةِ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ التَّحَالُفَ بَعْدَ الْقَبْضِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لِأَنَّهُ سَلَّمَ لِلْمُشْتَرِي مَا يَدَّعِيهِ وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ فِي حَالِ قِيَامِ السِّلْعَةِ ، وَالتَّحَالُفُ فِيهِ يُفْضِي إلَى الْفَسْخِ ، وَلَا كَذَلِكَ بَعْدَ هَلَاكِهَا لِارْتِفَاعِ الْعَقْدِ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَاهُ وَلِأَنَّهُ لَا يُبَالِي بِالِاخْتِلَافِ فِي السَّبَبِ بَعْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ ، وَإِنَّمَا يُرَاعَى مِنْ الْفَائِدَةِ مَا يُوجِبُهُ الْعَقْدُ ، وَفَائِدَةُ دَفْعِ زِيَادَةِ الثَّمَنِ لَيْسَتْ مِنْ مُوجِبَاتِهِ وَهَذَا إذَا كَانَ الثَّمَنُ دَيْنًا ، فَإِنْ كَانَ عَيْنًا يَتَحَالَفَانِ لِأَنَّ الْمَبِيعَ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ قَائِمٌ فَتُوَفَّرُ فَائِدَةُ الْفَسْخِ ثُمَّ يَرُدُّ مِثْلَ الْهَالِكِ إنْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ أَوْ قِيمَتَهُ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ .
.

( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( فَإِنْ هَلَكَ الْمَبِيعُ ثُمَّ اخْتَلَفَا ) أَيْ فَإِنْ هَلَكَ الْمَبِيعُ بَعْدَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ ، وَعَزَاهُ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ إلَى الْمَبْسُوطِ ( لَمْ يَتَحَالَفَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي ) أَيْ مَعَ يَمِينِهِ ( وَقَالَ مُحَمَّدٌ : يَتَحَالَفَانِ وَيُفْسَخُ الْبَيْعُ عَلَى قِيمَةِ الْهَالِكِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، وَعَلَى هَذَا ) أَيْ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ ( إذَا خَرَجَ الْمَبِيعُ عَنْ مِلْكِهِ ) أَيْ مِلْكُ الْمُشْتَرِي ( أَوْ صَارَ ) أَيْ الْمَبِيعُ ( بِحَالٍ لَا يَقْدِرُ ) أَيْ الْمُشْتَرِي ( عَلَى رَدِّهِ بِالْعَيْبِ ) بِحُدُوثِ عَيْبٍ فِي يَدِهِ ( لَهُمَا ) أَيْ لِمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ( أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ) أَيْ مِنْ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي ( يَدَّعِي غَيْرَ الْعَقْدِ الَّذِي يَدَّعِيهِ صَاحِبُهُ وَالْآخَرُ يُنْكِرُهُ ) فَإِنَّ الْبَيْعَ بِأَلْفٍ غَيْرُ الْبَيْعِ بِأَلْفَيْنِ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ شَاهِدَيْ الْبَيْعِ إذَا اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ ( وَأَنَّهُ يُفِيدُ دَفْعَ زِيَادَةِ الثَّمَنِ ) اعْلَمْ أَنَّ حَلَّ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ وَرَبْطَهَا بِالْمَقَامِ مِنْ مُشْكِلَاتِ هَذَا الْكِتَابِ ، وَلِهَذَا كَانَ لِلشُّرَّاحِ هَاهُنَا طَرَائِقُ قِدَدٌ وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِمَا يَشْفِي الْغَلِيلَ .
فَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : أَيْ وَأَنَّ التَّحَالُفَ يُفِيدُ إعْطَاءَ الْمُشْتَرِي زِيَادَةَ الثَّمَنِ الَّتِي يَدَّعِيهَا الْبَائِعُ عَلَى تَقْدِيرِ نُكُولِ الْمُشْتَرِي عَنْ الْحَلِفِ ، فَإِنَّ فَائِدَةَ الْيَمِينِ النُّكُولُ ، وَهَذَا جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ : مَا فَائِدَةُ التَّحْلِيفِ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ بَعْدَ الْهَلَاكِ مَعَ عَدَمِ حُكْمِهِ فَإِنَّ حُكْمَ التَّحَالُفِ التَّرَادُّ وَامْتَنَعَ التَّرَادُّ بِالْهَلَاكِ فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّحَالُفِ .
فَأَجَابَ عَنْهُ وَقَالَ : بَلْ فِيهِ فَائِدَةٌ وَهِيَ دَفْعُ الْمُشْتَرِي الزِّيَادَةَ الَّتِي يَدَّعِيهَا

الْبَائِعُ عَلَى تَقْدِيرِ نُكُولِ الْمُشْتَرِي فَلِذَلِكَ يَتَحَالَفَانِ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا يَحْصُلُ بِتَحْلِيفِ الْمُشْتَرِي حِينَئِذٍ فَمَا فَائِدَةُ تَحْلِيفِ الْبَائِعِ ؟ قُلْنَا : لَمْ يَحْصُلْ تَمَامُ الْفَائِدَةِ بِتَحْلِيفِ الْمُشْتَرِي ، فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا نَكَلَ يَجِبُ الثَّمَنُ الَّذِي ادَّعَاهُ الْبَائِعُ ، وَالْبَائِعُ إذَا نَكَلَ يَنْدَفِعُ عَنْ الْمُشْتَرِي مَا ادَّعَاهُ الْبَائِعُ عَلَيْهِ مِنْ الزِّيَادَةِ فَيَتَحَالَفَانِ ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
وَقَدْ اقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ كَمَا هُوَ دَأْبُهُ فِي أَكْثَرِ الْمَحَالِّ .
أَقُولُ : فِيهِ بَحْثٌ ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ لَمَّا فَسَّرَ الدَّفْعَ الْوَاقِعَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ بِالْإِعْطَاءِ عَلَى الْبَائِعِ أَنْ يَكُونَ مَنْ دَفَعَ إلَيْهِ لَا مَنْ دَفَعَ عَنْهُ حَيْثُ قَالَ : أَيْ وَإِنَّ التَّحَالُفَ يُفِيدُ إعْطَاءَ الْمُشْتَرِي زِيَادَةَ الثَّمَنِ الَّتِي يَدَّعِيهَا الْبَائِعُ عَلَى تَقْدِيرِ نُكُولِ الْمُشْتَرِي عَنْ الْحَلِفِ وَجُعِلَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ أَنَّ فَائِدَةَ التَّحَالُفِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ هِيَ إعْطَاءُ الْمُشْتَرِي الزِّيَادَةَ الَّتِي يَدَّعِيهَا الْبَائِعُ عَلَى تَقْدِيرِ نُكُولِ الْمُشْتَرِي اتَّجَهَ عَلَيْهِ السُّؤَالُ الَّذِي ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ : فَإِنْ قِيلَ بِالضَّرُورَةِ ، وَلَمْ يَدْفَعْهُ مَا ذَكَرَهُ جَوَابًا عَنْهُ أَصْلًا ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ أَنْ لَا تَحْصُلَ تَمَامُ الْفَائِدَةِ الَّتِي حُمِلَ عَلَيْهِ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا بِتَحْلِيفِ الْمُشْتَرِي فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّهُ إذَا حَلَفَ الْمُشْتَرِي وَحْدَهُ وَنَكَلَ عَنْ الْحَلِفِ يَجِبُ عَلَيْهِ إعْطَاؤُهُ زِيَادَةَ الثَّمَنِ الَّتِي يَدَّعِيهَا الْبَائِعُ ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ تَمَامُ الْفَائِدَةِ الْحَقِيقِيَّةِ بِتَحْلِيفِ الْمُشْتَرِي فَلَا يُفِيدُ شَيْئًا فِي دَفْعِ السُّؤَالِ لِأَنَّ مَوْرِدَهُ مَا حُمِلَ عَلَيْهِ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا ، وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ فِي الْجَوَابِ وَالْبَائِعُ إذَا نَكَلَ إلَخْ أَنَّهُ إذَا نَكَلَ بَعْدَ نُكُولِ الْمُشْتَرِي يَنْدَفِعُ عَنْ

الْمُشْتَرِي مَا ادَّعَى عَلَيْهِ الْبَائِعُ مِنْ الزِّيَادَةِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ أَنَّهُ إذَا نَكَلَ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ عَنْ الْيَمِينِ لَزِمَهُ دَعْوَى الْآخَرِ ، فَبَعْدَ نُكُولِ الْمُشْتَرِي يَلْزَمُهُ دَعْوَى الْبَائِعِ فَلَا يَجُوزُ تَحْلِيفُهُ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ نُكُولُهُ ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ إذَا نَكَلَ بَعْدَ حَلِفِ الْمُشْتَرِي يَنْدَفِعُ عَنْ الْمُشْتَرِي مَا ادَّعَى عَلَيْهِ الْبَائِعُ مِنْ الزِّيَادَةِ يَتَّجِهُ عَلَيْهِ أَنَّ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ يَنْدَفِعُ عَنْ الْمُشْتَرِي ذَلِكَ بِحَلِفِهِ السَّابِقِ فَلَا تَأْثِيرَ فِيهِ لِنُكُولِ الْبَائِعِ .
وَأَيْضًا يَتَّجِهُ عَلَى مَجْمُوعِ الْجَوَابِ أَنَّ الْأَمْرَ الثَّانِيَ وَهُوَ انْدِفَاعُ الزِّيَادَةِ عَنْ الْمُشْتَرِي يَحْصُلُ بِتَحْلِيفِ الْمُشْتَرِي إنْ حَلَفَ ، كَمَا أَنَّ الْأَمْرَ الْأَوَّلَ هُوَ وُجُوبُ إعْطَاءِ الزِّيَادَةِ عَلَى الْمُشْتَرِي يَحْلِفُ بِتَحْلِيفِهِ إنْ نَكَلَ ، فَتَمَامُ الْفَائِدَةِ الَّذِي ذَكَرَهُ وَهُوَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ لَا بِعَيْنِهِ يَحْصُلُ بِتَحْلِيفِ الْمُشْتَرِي وَحْدَهُ فَلَمْ تَظْهَرْ فَائِدَةُ تَحْلِيفِ الْبَائِعِ قَطُّ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ وَتَاجِ الشَّرِيعَةِ : يَعْنِي أَنَّ التَّحَالُفَ يُفِيدُ دَفْعَ زِيَادَةِ الثَّمَنِ عَنْ الْمُشْتَرِي عِنْدَ نُكُولِ الْبَائِعِ فَكَانَ التَّحَالُفُ مُفِيدًا انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ أَيْضًا بَحْثٌ ، لِأَنَّهُمَا حَمَلَا الدَّفْعَ الْوَاقِعَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ عَلَى مَعْنَى الْمَنْعِ حَيْثُ جَعَلَاهُ مَنْ دَفَعَ عَنْهُ كَمَا تَرَى ، وَاعْتَبَرَا ظُهُورَ الْفَائِدَةِ عِنْدَ نُكُولِ الْبَائِعِ ، فَيَتَّجِهُ عَلَى مَا ذَهَبَا إلَيْهِ أَنَّ نُكُولَ الْبَائِعِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ بَعْدَ حَلِفِ الْمُشْتَرِي لَا بَعْدَ نُكُولِهِ لِمَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا ، وَعِنْدَ حَلِفِ الْمُشْتَرِي قَدْ حَصَلَتْ هَذِهِ الْفَائِدَةُ : أَعْنِي دَفْعَ زِيَادَةِ الثَّمَنِ عَنْ الْمُشْتَرِي فَمَا الْفَائِدَةُ فِي تَحْلِيفِ الْبَائِعِ وَنُكُولِهِ بَعْدَ ذَلِكَ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَإِنَّهُ يَعْنِي التَّحَالُفَ يُفِيدُ دَفْعَ زِيَادَةِ الثَّمَنِ : يَعْنِي أَنَّ

التَّحَالُفَ يَدْفَعُ عَنْ الْمُشْتَرِي زِيَادَةَ الثَّمَنِ الَّتِي يَدَّعِيهَا الْبَائِعُ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ ، وَإِذَا حَلَفَ الْبَائِعُ انْدَفَعَتْ الزِّيَادَةُ الْمُدَّعَاةُ فَكَانَ مُفِيدًا انْتَهَى .
أَقُولُ : وَفِيهِ أَيْضًا بَحْثٌ لِأَنَّهُ جَعَلَ الدَّفْعَ الْوَاقِعَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ مَنْ دَفَعَ عَنْهُ كَمَا تَرَى ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ بِالنُّكُولِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ يَدْفَعُ عَنْ الْمُشْتَرِي ، وَأَنَّ مُرَادَهُ بِالنُّكُولِ نُكُولُ الْبَائِعِ دُونَ نُكُولِ الْمُشْتَرِي ، لِأَنَّ الَّذِي يَقْتَضِي دَفْعَ زِيَادَةِ الثَّمَنِ عَنْ الْمُشْتَرِي إنَّمَا هُوَ نُكُولُ الْبَائِعِ ، وَأَمَّا نُكُولُ الْمُشْتَرِي فَيَقْتَضِي دَفْعُهُ زِيَادَةَ الثَّمَنِ بِمَعْنَى إعْطَائِهِ إيَّاهَا فَإِذًا يَئُولُ قَوْلُهُ : يَعْنِي أَنَّ التَّحَالُفَ يَدْفَعُ عَنْ الْمُشْتَرِي زِيَادَةَ الثَّمَنِ الَّتِي يَدَّعِيهَا الْبَائِعُ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ إلَى مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ وَتَاجُ الشَّرِيعَةِ كَمَا مَرَّ فَيَرُدُّ عَلَيْهِ مَا يَرُدُّ عَلَى ذَلِكَ وَيَزْدَادُ إشْكَالُ قَوْلِهِ وَإِذَا حَلَفَ الْبَائِعُ انْدَفَعَتْ الزِّيَادَةُ الْمُدَّعَاةُ ، لِأَنَّ مَدْلُولَهُ أَنْ يَكُونَ انْدِفَاعُ الزِّيَادَةِ الْمُدَّعَاةِ بِحَلِفِ الْبَائِعِ ، وَمَدْلُولُهُ قَوْلُهُ السَّابِقُ أَنْ يَكُونَ انْدِفَاعُهَا بِنُكُولِ الْبَائِعِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَتَّحِدَ حَلِفُ الْبَائِعِ وَنُكُولُهُ حُكْمًا وَهَذَا ظَاهِرُ الْفَسَادِ .
فَإِنْ قُلْت : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ اللَّاحِقِ وَإِذَا حَلَفَ الْبَائِعُ بَعْدَ حَلِفِ الْمُشْتَرِي انْدَفَعَتْ الزِّيَادَةُ الْمُدَّعَاةُ بِأَنْ يُفْسَخَ الْبَيْعُ عَلَى قِيمَةِ الْهَالِكِ ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ السَّابِقِ إذَا نَكَلَ الْبَائِعُ تَنْدَفِعُ الزِّيَادَةُ الْمُدَّعَاةُ عَنْ الْمُشْتَرِي بِأَنْ يَقْضِيَ بِمَا ادَّعَاهُ الْمُشْتَرِي وَهُوَ أَقَلُّ الثَّمَنَيْنِ لَا بِأَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ عَلَى قِيمَةِ الْهَالِكِ ، فَاخْتَلَفَ حُكْمُ حَلِفِ الْبَائِعِ وَحُكْمُ نُكُولِهِ بِهَاتَيْنِ الْجِهَتَيْنِ وَهُوَ كَافٍ .
قُلْت : لَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ قِيمَةُ الْهَالِكِ أَنْقَصَ مِمَّا ادَّعَاهُ الْبَائِعُ ، بَلْ

يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسَاوِيَةً لَهُ بَلْ أَزِيدَ مِنْهُ ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ فَسْخِ الْبَيْعِ عَلَى قِيمَةِ الْهَالِكِ انْدِفَاعُ الزِّيَادَةِ الْمُدَّعَاةِ ، فَلَا يَتِمُّ حَمْلُ مَعْنَى قَوْلِهِ اللَّاحِقِ عَلَى مَا ذُكِرَ .
فَإِنْ قِيلَ : يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ حَلَفَ فِي قَوْلِهِ وَإِذَا حَلَفَ الْبَائِعُ إلَخْ عَلَى صِيغَةِ الْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ مِنْ التَّفْصِيلِ ، وَأَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى إذَا حَلَفَ الْبَائِعُ انْدَفَعَتْ الزِّيَادَةُ الْمُدَّعَاةُ : أَيْ بِنُكُولِ الْبَائِعِ لَا بِحَلِفِهِ فَلَا يَلْزَمُ الْمَذْكُورُ وَهُوَ اتِّحَادُ حُكْمِ حَلِفِ الْبَائِعِ وَنُكُولِهِ .
قُلْنَا : فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ اسْتِدْرَاكُ قَوْلِهِ اللَّاحِقِ لِحُصُولِ هَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ مِنْ قَوْلِهِ السَّابِقِ كَمَا لَا يَخْفَى .
ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ قَصَدَ حَلَّ كَلَامِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ هَاهُنَا فَقَالَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ بِالنُّكُولِ : أَيْ بِنُكُولِ الْمُشْتَرِي ، وَقَالَ : وَقَوْلُهُ بِالنُّكُولِ مُتَعَلِّقٌ بِزِيَادَةٍ فِي قَوْلِهِ يَدْفَعُ عَنْ الْمُشْتَرِي زِيَادَةَ الثَّمَنِ ، وَقَالَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ وَإِذَا حَلَفَ الْبَائِعُ : يَعْنِي بَعْدَ حَلِفِ الْمُشْتَرِي ، وَقَالَ : فَإِنْ قِيلَ : دَافِعُ زِيَادَةِ الثَّمَنِ الْمُدَّعَاةِ حَلِفُ الْمُشْتَرِي لَيْسَ إلَّا .
قُلْنَا : إذَا حَلَفَ الْبَائِعُ بَعْدَ حَلِفِ الْمُشْتَرِي يُفْسَخُ عَلَى الْقِيمَةِ وَتَنْدَفِعُ الزِّيَادَةُ الْمُدَّعَاةُ انْتَهَى .
أَقُولُ : جُمْلَةُ مَا ذَكَرَهُ لَيْسَتْ بِشَيْءٍ ، أَمَّا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ بِالنُّكُولِ بِنُكُولِ الْمُشْتَرِي وَجُعِلَ قَوْلُهُ بِالنُّكُولِ مُتَعَلِّقًا بِزِيَادَةٍ فِي قَوْلِهِ يَدْفَعُ عَنْ الْمُشْتَرِي زِيَادَةَ الثَّمَنِ فَلِأَنَّهُ لَا يَكُونُ لِلْكَلَامِ حِينَئِذٍ مَعْنًى مَعْقُولٍ أَصْلًا ، لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْمَعْنَى يَدْفَعُ عَنْ الْمُشْتَرِي زِيَادَةَ الثَّمَنِ الْكَائِنَةِ : أَيْ الثَّابِتَةُ فِي الْوَاقِعِ بِنُكُولِ الْمُشْتَرِي فَلَا وَجْهَ لَهُ لِأَنَّ زِيَادَةَ الثَّمَنِ إنْ ثَبَتَتْ فِي الْوَاقِعِ ثَبَتَتْ بِالْعَقْدِ لَا غَيْرُ ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى يَدْفَعُ عَنْ الْمُشْتَرِي زِيَادَةَ الثَّمَنِ

الثَّابِتِ فِي عِلْمِ الْقَاضِي بِنُكُولِ الْمُشْتَرِي فَلَا صِحَّةَ لَهُ ، لِأَنَّ زِيَادَةَ الثَّمَنِ إذًا ثَبَتَتْ فِي عِلْمِ الْقَاضِي بِنُكُولِ الْمُشْتَرِي يَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي فَكَيْفَ يَدْفَعُهَا التَّحَالُفُ عَنْهُ ، بَلْ لَا يُتَصَوَّرُ التَّحَالُفُ عِنْدَ نُكُولِ الْمُشْتَرِي أَصْلًا عَلَى مَا مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ يَعْنِي بَعْدَ حَلِفِ الْمُشْتَرِي فَلِوُرُودِ السُّؤَالِ الَّذِي ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ فَإِنْ قِيلَ إلَخْ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا جَوَابُهُ عَنْ السُّؤَالِ فَلِسُقُوطِهِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا مِنْ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ فَسْخِ الْبَيْعِ عَلَى الْقِيمَةِ انْدِفَاعُ الزِّيَادَةِ الْمُدَّعَاةِ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ الْقِيمَةُ الْمُسَاوِيَةُ لِلزِّيَادَةِ الْمُدَّعَاةِ بَلْ أَزْيَدَ مِنْهَا .
وَقَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ : قَوْلُهُ وَإِنَّهُ يُفِيدُ دَفْعَ زِيَادَةِ الثَّمَنِ : أَيْ إنَّ دَعْوَى الْمُشْتَرِي يُفِيدُ ذَلِكَ وَتَذْكِيرُ الضَّمِيرِ بِتَأْوِيلِ الِادِّعَاءِ انْتَهَى .
أَقُولُ : وَفِيهِ أَيْضًا بَحْثٌ ، لِأَنَّ دَعْوَى الْمُشْتَرِي لَا تُفِيدُ دَفْعَ زِيَادَةِ الثَّمَنِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُرَادُ بِالدَّفْعِ مَعْنَى الْإِعْطَاءِ أَوْ مَعْنَى الْمَنْعِ ، وَإِنَّمَا الَّذِي يُفِيدُ دَفْعَهَا بِنِيَّةِ الْمُشْتَرِي أَوْ حَلِفِهِ إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالدَّفْعِ مَعْنَى الْمَنْعِ ، وَنُكُولُهُ إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ مَعْنَى الْإِعْطَاءِ ، عَلَى أَنَّ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ بَيَانُ فَائِدَةِ التَّحَالُفِ لَا بَيَانُ فَائِدَةِ دَعْوَى الْمُشْتَرِي وَلَا بَيَانُ فَائِدَةِ تَحْلِيفِهِ فَقَطْ ، فَلَوْ كَانَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ مَا ذَكَرَهُ فَاتَ مُقْتَضَى الْمَقَامِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذَوِي الْأَفْهَامِ ( فَيَتَحَالَفَانِ ) هَذَا نَتِيجَةُ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ ( كَمَا إذَا اخْتَلَفَا فِي جِنْسِ الثَّمَنِ بَعْدَ هَلَاكِ السِّلْعَةِ ) بِأَنْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا الْعَقْدَ بِالدَّرَاهِمِ وَالْآخَرُ بِالدَّنَانِيرِ فَإِنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ وَيَلْزَمُ الْمُشْتَرِي رَدَّ الْقِيمَةِ ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ التَّحَالُفَ بَعْدَ الْقَبْضِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لِمَا أَنَّهُ

سَلَّمَ لِلْمُشْتَرِي مَا يَدَّعِيهِ وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ ) أَيْ التَّحَالُفُ ( فِي حَالِ قِيَامِ السِّلْعَةِ ) وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ بِعَيْنِهَا تَحَالَفَا وَتَرَادَّا } فَلَا يَتَعَدَّى إلَى حَالِ هَلَاكِ السِّلْعَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَلْيَكُنْ حَالُ هَلَاكِ السِّلْعَةِ مُلْحَقًا بِحَالِ قِيَامِ السِّلْعَةِ بِالدَّلَالَةِ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَالتَّحَالُفُ فِيهِ ) أَيْ فِي حَالِ قِيَامِ السِّلْعَةِ ( يُفْضِي إلَى الْفَسْخِ ) فَيَنْدَفِعُ بِهِ الضَّرَرُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِرَدِّ رَأْسِ مَالِهِ بِعَيْنِهِ إلَيْهِ ( وَلَا كَذَلِكَ بَعْدَ هَلَاكِهَا ) أَيْ بَعْدَ هَلَاكِ السِّلْعَةِ ( لِارْتِفَاعِ الْعَقْدِ ) أَيْ بِالْهَلَاكِ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَا يُفْسَخُ بِالْإِقَالَةِ وَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ هَلَاكِ السِّلْعَةِ فَكَذَا بِالتَّحَالُفِ إذْ الْفَسْخُ لَا يَرِدُ إلَّا عَلَى مَا وَرَدَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ ( فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَاهُ ) أَيْ فَلَمْ يَكُنْ وَقْتَ هَلَاكِ السِّلْعَةِ فِي مَعْنَى وَقْتِ قِيَامِ السِّلْعَةِ فَبَطَلَ الْإِلْحَاقُ أَيْضًا ( وَلِأَنَّهُ لَا يُبَالِي بِالِاخْتِلَافِ فِي السَّبَبِ بَعْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ ) هَذَا جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي غَيْرَ الْعَقْدِ الَّذِي يَدَّعِيهِ صَاحِبُهُ وَالْآخَرُ يُنْكِرُهُ : أَيْ لَا يُبَالِي بِاخْتِلَافِ السَّبَبِ بَعْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ سَلَامَةُ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي حَيْثُ سَلِمَ لَهُ وَهَلَكَ عَلَى مِلْكِهِ ، سَوَاءٌ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا زَعَمَ هُوَ أَوْ الْبَائِعُ ، فَلَغَا ذِكْرُ السَّبَبِ وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ اخْتِلَافِهِمَا فِي أَلْفٍ وَأَلْفَيْنِ بِلَا سَبَبٍ فَيَكُونُ الْيَمِينُ عَلَى مُنْكِرِ الْأَلْفِ الزَّائِدِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي جِنْسِ الثَّمَنِ لِأَنَّ الْبَائِعَ يَدَّعِي الدَّنَانِيرَ وَالْمُشْتَرِيَ يُنْكِرُ ، وَالْمُشْتَرِي يَدَّعِي الشِّرَاءَ بِالدَّرَاهِمِ وَالْبَائِعُ يُنْكِرُ ، وَإِنْكَارُهُ صَحِيحٌ لِأَنَّ الْمَبِيعَ لَا يُسَلَّمُ لِلْمُشْتَرِي إلَّا بِثَمَنٍ وَلَمْ

يَتَّفِقَا عَلَى ثَمَنٍ وَهُنَا اتَّفَقَا عَلَى الْأَلْفِ وَهُوَ يَكْفِي لِلصِّحَّةِ ، كَذَا قَرَّرَ الْمَقَامُ فِي الْكِفَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ أَخْذًا مِنْ الْكَافِي .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي تَقْرِيرِهِ : قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ لَا يُبَالِي إلَخْ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي غَيْرَ الْعَقْدِ الَّذِي يَدَّعِيهِ صَاحِبُهُ وَهُوَ قَوْلٌ بِمُوجَبِ الْعِلْمِ : أَيْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ لَكِنْ لَا يَضُرُّنَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ، لِأَنَّ اخْتِلَافَ السَّبَبِ إنَّمَا يُعْتَبَرُ إذَا أَفْضَى إلَى التَّنَاكُرِ وَهَاهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ ، لِأَنَّ مَقْصُودَ الْمُشْتَرِي وَهُوَ تَمَلُّكُ الْمَبِيعِ قَدْ حَصَلَ بِقَبْضِهِ وَتَمَّ بِهَلَاكِهِ وَلَيْسَ يَدَّعِي عَلَى الْبَائِعِ شَيْئًا يُنْكِرُهُ لِيَجِبَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ .
ثُمَّ قَالَ : وَنُوقِضَ بِحَالِ قِيَامِ السِّلْعَةِ وَبِمَا إذَا اخْتَلَفَا بَيْعًا وَهِبَةً ، فَإِنَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْمَقْصُودَ حَاصِلٌ وَالتَّحَالُفَ مَوْجُودٌ لِاخْتِلَافِ السَّبَبِ .
وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِثُبُوتِهِ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ ، وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّهُ عَلَى الِاخْتِلَافِ ، وَالْمَذْكُورُ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ قَوْلُ مُحَمَّدٍ انْتَهَى ( وَإِنَّمَا يُرَاعَى مِنْ الْفَائِدَةِ مَا يُوجِبُهُ الْعَقْدُ ، وَفَائِدَةُ دَفْعِ زِيَادَةِ الثَّمَنِ لَيْسَتْ مِنْ مُوجِبَاتِهِ ) هَذَا أَيْضًا جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا وَأَنَّهُ يُفِيدُ دَفْعَ زِيَادَةِ الثَّمَنِ : يَعْنِي أَنَّ الْمُرَاعَى مِنْ الْفَائِدَةِ مَا يَكُونُ مِنْ مُوجِبَاتِ الْعَقْدِ ، وَفَائِدَةُ دَفْعِ زِيَادَةِ الثَّمَنِ لَيْسَتْ مِنْهَا بَلْ مِنْ مُوجِبَاتِ النُّكُولِ ، وَلَيْسَتْ الْيَمِينُ مِنْ مُوجِبَاتِ الْعَقْدِ حَتَّى يَكُونَ النُّكُولُ مِنْ مُوجِبَاتِهِ فَلَا يَتْرُكُ بِهَا مَا هُوَ مِنْ مُوجِبَاتِهِ وَهُوَ مِلْكُ الْمَبِيعِ وَقَبْضُهُ .
هَذَا زُبْدَةُ مَا فِي الشُّرُوحِ .
وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ بِأَنَّ مِلْكَ الْمَبِيعِ وَقَبْضَهُ بَاقٍ عَلَى حَالِهِ عَلَى تَقْدِيرِ التَّحَالُفِ ، غَايَتُهُ أَنَّهُ يَمْلِكُهُ بِالْقِيمَةِ فَلَا يَلْزَمُ تَرْكُ مُوجِبِ الْعَقْدِ بِهِ انْتَهَى .

أَقُولُ : مَدَارُ هَذَا الِاعْتِرَاضِ عَلَى عَدَمِ فَهْمِ مَعْنَى الْمَقَامِ وَزَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِمِلْكِ الْمَبِيعِ وَقَبْضِهِ مِلْكُ الْبَائِعِ الْمَبِيعَ وَقَبْضُهُ إيَّاهُ ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ ذَلِكَ قَطْعًا ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الَّذِي مِنْ مُوجِبَاتِ الْعَقْدِ هُوَ مِلْكُ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ وَقَبْضُهُ إيَّاهُ .
وَأَمَّا مِلْكُ الْبَائِعِ الْمَبِيعَ وَقَبْضُهُ إيَّاهُ فَمِنْ مُوجِبَاتِ الْفَسْخِ دُونَ الْعَقْدِ ، وَهَذَا مِمَّا لَا سُتْرَةَ بِهِ .
ثُمَّ أَنَّ قَوْلَهُ غَايَتُهُ أَنْ يَمْلِكَهُ بِالْقِيمَةِ إلَخْ كَلَامٌ سَاقِطٌ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ ذَلِكَ تَأَمَّلْ تَقِفْ .
ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ بَعْدَ شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ قَالَ : وَفِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّا قَدْ اعْتَبَرْنَا حَالَ قِيَامِ السِّلْعَةِ التَّرَادَّ فَائِدَةُ التَّحَالُفِ وَلَيْسَ مِنْ مُوجِبَاتِ الْعَقْدِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ ثَبَتَ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ انْتَهَى .
وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى الْجَوَابِ بِأَنْ قَالَ فِيهِ تَأَمُّلٌ فَإِنَّهُ قَبْلَ الْقَبْضِ عَلَى وِفَاقِ الْقِيَاسِ انْتَهَى .
أَقُولُ : لَمْ يُعْتَبَرْ التَّرَادُّ فَائِدَةً لِلتَّحَالُفِ إلَّا بَعْدَ الْقَبْضِ ، إذْ الرَّدُّ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ بَعْدَ الْقَبْضِ فَكَانَ الْجَوَابُ الْمَزْبُورُ دَافِعًا لِلنَّظَرِ الْمَذْكُورِ .
نَعَمْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : الظَّاهِرُ أَنَّ لِلتَّحَالُفِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَائِدَةً مَا ، فَأَيُّ شَيْءٍ اُعْتُبِرَ فَائِدَةً لِلتَّحَالُفِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَمْ يَكُنْ مِنْ مُوجِبَاتِ الْعَقْدِ أَلْبَتَّةَ ، لِأَنَّ مُوجِبَ التَّحَالُفِ فَسْخُ الْعَقْدِ وَحُكْمُ الْفَسْخِ يُخَالِفُ حُكْمَ الْعَقْدِ قَطْعًا فَيُنْتَقَضُ بِهِ قَوْلُهُمْ وَإِنَّمَا يُرَاعَى مِنْ الْفَائِدَةِ مَا يُوجِبُهُ الْعَقْدُ ( وَهَذَا ) أَيْ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ الِاخْتِلَافِ فِي التَّحَالُفِ عِنْدَ صُورَةِ هَلَاكِ الْمَبِيعِ ( إذَا كَانَ الثَّمَنُ دَيْنًا ) أَيْ ثَابِتًا فِي الذِّمَّةِ بِأَنْ كَانَ مِنْ الدَّرَاهِمِ أَوْ الدَّنَانِيرِ أَوْ الْمَكِيلَاتِ أَوْ الْمَوْزُونَاتِ الْمَوْصُوفَةِ الثَّابِتَةِ فِي الذِّمَّةِ ( فَإِنْ كَانَ عَيْنًا ) أَيْ فَإِنْ

كَانَ الثَّمَنُ عَيْنًا كَالثَّوْبِ وَالْفَرَسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ بِأَنْ كَانَ الْعَقْدُ مُقَايَضَةً وَهَلَكَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ ( يَتَحَالَفَانِ ) أَيْ بِالِاتِّفَاقِ ( لِأَنَّ الْمَبِيعَ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ قَائِمٌ ) فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْعِوَضَيْنِ فِي بَيْعِ الْمُقَايَضَةِ مَبِيعٌ وَثَمَنٌ ، وَلَا يَتَعَيَّنُ أَحَدُهُمَا لِلثَّمَنِيَّةِ بِدُخُولِ الْبَاءِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ ( فَتُوَفَّرُ فَائِدَةُ الْفَسْخِ ) وَهُوَ التَّرَادُّ فَيَرُدُّ الْقَائِمُ ( ثُمَّ يَرُدُّ مِثْلَ الْهَالِكِ إنْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ أَوْ قِيمَتَهُ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ ) هَذَا إذَا اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الْبَدَلِ ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي كَوْنِ الْبَدَلِ دَيْنًا أَوْ عَيْنًا إنْ ادَّعَى الْمُشْتَرِي أَنَّهُ كَانَ عَيْنًا يَتَحَالَفَانِ عِنْدَهُمَا ، وَإِنْ ادَّعَى الْبَائِعُ أَنَّهُ كَانَ عَيْنًا وَادَّعَى الْمُشْتَرِي أَنَّهُ كَانَ دَيْنًا لَا يَتَحَالَفَانِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي ، كَذَا فِي الْكِفَايَةِ .

قَالَ ( وَإِنْ هَلَكَ أَحَدُ الْعَبْدَيْنِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ لَمْ يَتَحَالَفَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنْ يَرْضَى الْبَائِعُ أَنْ يَتْرُكَ حِصَّةَ الْهَالِكِ مِنْ الثَّمَنِ .
وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْبَائِعُ أَنْ يَأْخُذَ الْعَبْدَ الْحَيَّ وَلَا شَيْءَ لَهُ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَتَحَالَفَانِ فِي الْحَيِّ وَيُفْسَخُ الْعَقْدُ فِي الْحَيِّ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي فِي قِيمَةِ الْهَالِكِ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : يَتَحَالَفَانِ عَلَيْهِمَا وَيَرُدُّ الْحَيَّ وَقِيمَةَ الْهَالِكِ ) لِأَنَّ هَلَاكَ كُلِّ السِّلْعَةِ لَا يَمْنَعُ التَّحَالُفَ عِنْدَهُ فَهَلَاكُ الْبَعْضِ أَوْلَى .
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ امْتِنَاعَ التَّحَالُفِ لِلْهَلَاكِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ التَّحَالُفَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فِي حَالِ قِيَامِ السِّلْعَةِ وَهِيَ اسْمٌ لِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا فَلَا تَبْقَى السِّلْعَةُ بِفَوَاتِ بَعْضِهَا ، وَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّحَالُفُ فِي الْقَائِمِ إلَّا عَلَى اعْتِبَارِ حِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْقِسْمَةِ وَهِيَ تُعْرَفُ بِالْحَذَرِ وَالظَّنِّ فَيُؤَدِّي إلَى التَّحَالُفِ مَعَ الْجَهْلِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَرْضَى الْبَائِعُ أَنْ يَتْرُكَ حِصَّةَ الْهَالِكِ أَصْلًا لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ الثَّمَنُ كُلُّهُ بِمُقَابِلِ الْقَائِمِ وَيَخْرُجُ الْهَالِكُ عَنْ الْعَقْدِ فَيَتَحَالَفَانِ .
هَذَا تَخْرِيجُ بَعْضِ الْمَشَايِخِ وَيُصْرَفُ الِاسْتِثْنَاءُ عِنْدَهُمْ إلَى التَّحَالُفِ كَمَا ذَكَرْنَا وَقَالُوا : إنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ يَأْخُذُ الْحَيَّ وَلَا شَيْءَ لَهُ ، مَعْنَاهُ : لَا يَأْخُذُ مِنْ ثَمَنِ الْهَالِكِ شَيْئًا أَصْلًا .
وَقَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ : يَأْخُذُ مِنْ ثَمَنِ الْهَالِكِ بِقَدْرِ مَا أَقَرَّ بِهِ الْمُشْتَرِي ، وَإِنَّمَا لَا يَأْخُذُ الزِّيَادَةَ .
وَعَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ يَنْصَرِفُ الِاسْتِثْنَاءُ إلَى يَمِينِ الْمُشْتَرِي لَا إلَى التَّحَالُفِ ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَخَذَ الْبَائِعُ بِقَوْلِ الْمُشْتَرِي فَقَدْ

صَدَّقَهُ فَلَا يَحْلِفُ الْمُشْتَرِي ، ثُمَّ تَفْسِيرُ التَّحَالُفِ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ مَا بَيَّنَّاهُ فِي الْقَائِمِ .
وَإِذَا حَلَفَا وَلَمْ يَتَّفِقَا عَلَى شَيْءٍ فَادَّعَى أَحَدُهُمَا الْفَسْخَ أَوْ كِلَاهُمَا يُفْسَخُ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا وَيَأْمُرُ الْقَاضِي الْمُشْتَرِيَ بِرَدِّ الْبَاقِي وَقِيمَةِ الْهَالِكِ .
وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِهِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَحْلِفُ الْمُشْتَرِي بِاَللَّهِ مَا اشْتَرَيْتُهُمَا بِمَا يَدَّعِيهِ الْبَائِعُ ، فَإِنْ نَكَلَ لَزِمَهُ دَعْوَى الْبَائِعِ ، وَإِنْ حَلَفَ يَحْلِفُ الْبَائِعُ بِاَللَّهِ مَا بِعْتُهُمَا بِالثَّمَنِ الَّذِي يَدَّعِيهِ الْمُشْتَرِي ، فَإِنْ نَكَلَ لَزِمَهُ دَعْوَى الْمُشْتَرِي ، وَإِنْ حَلَفَ يَفْسَخَانِ الْعَقْدَ فِي الْقَائِمِ وَتَسْقُطُ حِصَّتُهُ مِنْ الثَّمَنِ وَيَلْزَمُ الْمُشْتَرِي حِصَّةَ الْهَالِكِ وَيُعْتَبَرُ قِيمَتُهُمَا فِي الِانْقِسَامِ يَوْمَ الْقَبْضِ ( وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي قِيمَةِ الْهَالِكِ يَوْمَ الْقَبْضِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ ، وَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ .
وَإِنْ أَقَامَاهَا فَبَيِّنَةُ الْبَائِعِ أَوْلَى ) وَهُوَ قِيَاسُ مَا ذُكِرَ فِي بُيُوعِ الْأَصْلِ ( اشْتَرَى عَبْدَيْنِ وَقَبَضَهُمَا ثُمَّ رَدَّ أَحَدَهُمَا بِالْعَيْبِ وَهَلَكَ الْآخَرُ عِنْدَهُ يَجِبُ عَلَيْهِ ثَمَنُ مَا هَلَكَ عِنْدَهُ وَيَسْقُطُ عَنْهُ ثَمَنُ مَا رَدَّهُ وَيَنْقَسِمُ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَتِهِمَا .
فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي قِيمَةِ الْهَالِكِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ ) لِأَنَّ الثَّمَنَ قَدْ وَجَبَ بِاتِّفَاقِهِمَا ثُمَّ الْمُشْتَرِي يَدَّعِي زِيَادَةَ السُّقُوطِ بِنُقْصَانِ قِيمَةِ الْهَالِكِ وَالْبَائِعُ يُنْكِرُهُ وَالْقَوْلُ لِلْمُنْكِرِ ( وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَبَيِّنَةُ الْبَائِعِ أَوْلَى ) لِأَنَّهَا أَكْثَرُ إثْبَاتًا ظَاهِرًا لِإِثْبَاتِهَا الزِّيَادَةَ فِي قِيمَةِ الْهَالِكِ وَهَذَا لِفِقْهٍ .
وَهُوَ أَنَّ فِي الْأَيْمَانِ تُعْتَبَرُ الْحَقِيقَةُ لِأَنَّهَا تَتَوَجَّهُ عَلَى أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ وَهُمَا يَعْرِفَانِ حَقِيقَةَ الْحَالِ فَبُنِيَ الْأَمْرُ عَلَيْهَا وَالْبَائِعُ مُنْكِرٌ

حَقِيقَةً فَلِذَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ ، وَفِي الْبَيِّنَاتِ يُعْتَبَرُ الظَّاهِرُ لِأَنَّ الشَّاهِدَيْنِ لَا يَعْلَمَانِ حَقِيقَةَ الْحَالِ فَاعْتُبِرَ الظَّاهِرُ فِي حَقِّهِمَا وَالْبَائِعُ مُدَّعٍ ظَاهِرًا فَلِهَذَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ أَيْضًا وَتَتَرَجَّحُ بِالزِّيَادَةِ الظَّاهِرَةِ عَلَى مَا مَرَّ ، وَهَذَا يُبَيِّنُ لَك مَعْنَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ .
.

( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( وَإِنْ هَلَكَ أَحَدُ الْعَبْدَيْنِ ) أَيْ بَعْدَ قَبْضِهِمَا : كَذَا فِي الشُّرُوحِ ( ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ لَمْ يَتَحَالَفَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنْ يَرْضَى الْبَائِعُ أَنْ يَتْرُكَ حِصَّةَ الْهَالِكِ ) يَعْنِي إذَا بَاعَ الرَّجُلُ عَبْدَيْنِ صَفْقَةً وَاحِدَةً وَقَبَضَهُمَا الْمُشْتَرِي فَهَلَكَ أَحَدُهُمَا ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ فَقَالَ الْبَائِعُ : بِعْتُهُمَا مِنْك بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَقَالَ الْمُشْتَرِي : اشْتَرَيْتُهُمَا مِنْك بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لَمْ يَتَحَالَفَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنْ يَرْضَى الْبَائِعُ أَنْ يَتْرُكَ حِصَّةَ الْهَالِكِ ( وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي ) أَيْ فِيهِمَا ، كَذَا فِي كَثِيرٍ مِنْ الشُّرُوحِ ( مَعَ يَمِينِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْبَائِعُ أَنْ يَأْخُذَ الْعَبْدَ الْحَيَّ وَلَا شَيْءَ لَهُ مِنْ قِيمَةِ الْهَالِكِ ) وَإِنَّمَا أَعَادَ ذِكْرَ لَفْظِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، لِأَنَّ لَفْظَهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ يَمِينَ الْمُشْتَرِي وَلَفْظُ الْقُدُورِيِّ الَّذِي هُوَ لَفْظُ الْمَبْسُوطِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ عَدَمَ التَّحَالُفِ ، لِأَنَّ الْمَذْكُورَ قَبْلَ الِاسْتِثْنَاءِ هُنَاكَ قَوْلُهُ لَمْ يَتَحَالَفَا ( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَتَحَالَفَانِ فِي الْحَيِّ وَيُفْسَخُ الْعَقْدُ فِي الْحَيِّ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَقَوْلُهُ فِي تَحْرِيرِ الْمَذَاهِبِ يَتَحَالَفَانِ فِي الْحَيِّ لَيْسَ بِالصَّحِيحِ عَلَى مَا سَيَأْتِي انْتَهَى .
أَقُولُ : يَعْنِي أَنَّ قَوْلَهُ هَاهُنَا يَتَحَالَفَانِ فِي الْحَيِّ لَيْسَ بِمُلَابِسٍ بِالتَّفْسِيرِ الصَّحِيحِ لِلتَّحَالُفِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ عَلَى مَا سَيَأْتِي ، وَهُوَ أَنْ يَتَحَالَفَا عَلَى الْقَائِمِ وَالْهَالِكِ مَعًا لَا أَنْ يَتَحَالَفَا عَلَى الْقَائِمِ فَقَطْ كَمَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ ، وَلَكِنْ فِيهِ نَظَرٌ ، إذْ يُمْكِنُ تَطْبِيقُ قَوْلِهِ هَذَا عَلَى مَا سَيَأْتِي مِنْ التَّفْسِيرِ الصَّحِيحِ ، فَإِنْ لَمْ يَقُلْ هَاهُنَا يَتَحَالَفَانِ عَلَى الْحَيِّ حَتَّى تَكُونَ كَلِمَةُ عَلَى صِلَةَ

التَّحَالُفِ فَيَئُولُ الْمَعْنَى إلَى التَّفْسِيرِ الْغَيْرِ صَحِيحٍ ، بَلْ قَالَ : يَتَحَالَفَانِ فِي الْحَيِّ فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ فِي بِمَعْنَى اللَّامِ وَيَصِيرَ الْمَعْنَى يَتَحَالَفَانِ لِأَجْلِ الْحَيِّ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ } وَكَمَا فِي الْحَدِيثِ { إنَّ امْرَأَةً دَخَلَتْ النَّارَ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا } عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي مُغْنِي اللَّبِيبِ .
وَلَا يَخْفَى أَنْ يَكُونَ تَحَالُفُهُمَا لِأَجْلِ الْحَيِّ : أَيْ كَوْنُ الْمَقْصُودِ مِنْ تَحَالُفِهِمَا فَسْخَ الْعَقْدِ فِي الْحَيِّ لَا يُنَافِي أَنْ يَتَحَالَفَا عَلَى الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ مَعًا كَمَا هُوَ الصَّحِيحُ لِيُفِيدَ التَّحَالُفَ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ ( وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي فِي قِيمَةِ الْهَالِكِ ) هَذَا مِنْ تَتِمَّةِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ .
أَقُولُ : فِي عِبَارَةِ الْكِتَابِ هَاهُنَا قُصُورٌ ، لِأَنَّ قَوْلَ الْمُشْتَرِي إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي حِصَّةِ الْهَالِكِ مِنْ الثَّمَنِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ الْمُشْتَرِي كَمَا سَيَجِيءُ تَفْصِيلُهُ ، لَا فِي قِيمَةِ الْهَالِكِ فَإِنَّ الْقَوْلَ فِيهَا لِلْبَائِعِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ فِيمَا سَيَأْتِي حَيْثُ قَالَ : فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي قِيمَةِ الْهَالِكِ يَوْمَ الْقَبْضِ فَالْقَوْلُ لِلْبَائِعِ انْتَهَى .
وَعَنْ هَذَا قَالَ صَاحِبُ الْكَافِي : وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يَتَحَالَفَانِ فِي الْحَيِّ وَيَفْسُدُ الْعَقْدُ فِي الْحَيِّ وَالْقَوْلُ لِلْمُشْتَرِي فِي حِصَّةِ الْهَالِكِ مِنْ الثَّمَنِ مَعَ يَمِينِهِ انْتَهَى ( وَقَالَ مُحَمَّدٌ : يَتَحَالَفَانِ عَلَيْهِمَا ) أَيْ عَلَى الْحَيِّ وَالْهَالِكِ ( وَيَرُدُّ لُحَيُّ وَقِيمَةُ الْهَالِكِ ، لِأَنَّ هَلَاكَ كُلِّ السِّلْعَةِ لَا يَمْنَعُ التَّحَالُفَ عِنْدَهُ فَهَلَاكُ الْبَعْضِ أَوْلَى ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَالْجَوَابُ أَنَّ هَلَاكَ الْبَعْضِ مُحْوِجٌ إلَى مَعْرِفَةِ الْقِيمَةِ بِالْحَزْرِ وَذَلِكَ مُجْهَلٌ فِي الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ انْتَهَى .
وَرَدَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لَيْسَ الْقِيمَةَ حَتَّى يَلْزَمَ ذَلِكَ عَلَيْهِ ( وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ امْتِنَاعَ

التَّحَالُفِ لِلْهَلَاكِ ) أَيْ لِأَجْلِ الْهَالِكِ ( فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ ) أَيْ يَتَقَدَّرُ امْتِنَاعُ التَّحَالُفِ بِقَدْرِ الْهَالِكِ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَزِيدُ عَلَى الْعِلَّةِ ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ التَّحَالُفَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فِي حَالِ قِيَامِ السِّلْعَةِ ) يَعْنِي أَنَّ التَّحَالُفَ بَعْدَ الْقَبْضِ ثَبَتَ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فِي حَالِ قِيَامِ السِّلْعَةِ ( وَهِيَ ) أَيْ السِّلْعَةُ ( اسْمٌ لِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا فَلَا تَبْقَى السِّلْعَةُ بِفَوَاتِ بَعْضِهَا ) لِانْعِدَامِ الْكُلِّ بِانْعِدَامِ جُزْئِهِ ، وَمَا يَثْبُتُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لَا يَتَعَدَّى إلَى الْغَيْرِ ، فَحَصَلَ مِنْ هَذَا الدَّلِيلِ نَفْيُ الْقِيَاسِ .
وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ كَمَا لَا يَخْفَى ( وَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّحَالُفُ فِي الْقَائِمِ إلَّا عَلَى اعْتِبَارِ حِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْقِسْمَةِ ) أَيْ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ كَمَا سَيَأْتِي ( وَهِيَ ) أَيْ الْقِسْمَةُ ( تُعْرَفُ بِالْحِرْزِ وَالظَّنِّ فَيُؤَدِّي إلَى التَّحَالُفِ مَعَ الْجَهْلِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ) فَلَا يُلْحَقُ بِالتَّحَالُفِ حَالَ قِيَامِ السِّلْعَةِ بِتَمَامِهَا ، فَحَصَلَ مِنْ هَذَا الدَّلِيلِ نَفْيُ الدَّلَالَةِ .
وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ كَمَا تَرَى .
فَإِنْ قُلْت : مَا الْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ مَسْأَلَةِ الْإِجَارَةِ فِيمَا إذَا أَقَامَ الْقَصَّارُ بَعْضَ الْعَمَلِ فِي الثَّوْبِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ الْأُجْرَةِ ، فَفِي حِصَّةِ مَا أَقَامَ الْعَمَلَ الْقَوْلُ لِرَبِّ الثَّوْبِ مَعَ يَمِينِهِ ، وَفِي حِصَّةِ مَا بَقِيَ يَتَحَالَفَانِ بِالْإِجْمَاعِ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ وَاسْتِيفَاءُ بَعْضِ الْمَنْفَعَةِ بِمَنْزِلَةِ هَلَاكِ بَعْضِ الْمَبِيعِ ، وَفِيهِ التَّحَالُفُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا دُونَ هَلَاكِ بَعْضِ الْمَبِيعِ .
قُلْت : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ إنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ فِي الْعَبْدَيْنِ عَقْدٌ وَاحِدٌ ، فَإِذَا تَعَذَّرَ فَسْخُهُ فِي الْبَعْضِ فِي الْهَلَاكِ تَعَذَّرَ فِي الْبَاقِي .
وَأَمَّا عَقْدُ الْإِجَارَةِ فَفِي

حُكْمِ عُقُودٍ مُتَفَرِّقَةٍ تَتَجَدَّدُ بِحَسَبِ مَا يُقِيمُ مِنْ الْعَمَلِ فَبِتَعَذُّرِ فَسْخِهِ فِي الْبَعْضِ لَا يَتَعَذَّرُ فَسْخُهُ فِي الْبَاقِي ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ وَنَقَلَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ عَنْ إجَارَاتِ الْمَبْسُوطِ .
أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : هَذَا الْفَرْقُ إنَّمَا يَتَمَشَّى بِالنَّظَرِ إلَى الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ وَأَمَّا بِالنَّظَرِ إلَى الدَّلِيلِ الثَّانِي فَلَا ، لِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ وَإِنْ كَانَ فِي حُكْمِ عُقُودٍ مُتَفَرِّقَةٍ إلَّا أَنَّهُ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ كَانَ بِصَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يُعَيَّنْ فِيهَا لِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أُجْرَةٌ مَعْلُومَةٌ فَلَا بُدَّ مِنْ الْقِسْمَةِ وَهِيَ بِالْحِرْزِ وَالظَّنِّ فَيُؤَدِّي إلَى التَّحَالُفِ مَعَ الْجَهْلِ بِعَيْنِ مَا قِيلَ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ أَيْضًا ( إلَّا أَنْ يَرْضَى الْبَائِعُ أَنْ يَتْرُكَ حِصَّةَ الْهَالِكِ أَصْلًا ) أَيْ بِالْكُلِّيَّةِ ( لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ ) أَيْ حِينَ أَنْ يَرْضَى الْبَائِعُ بِتَرْكِ حِصَّةِ الْهَالِكِ بِالْكُلِّيَّةِ ( وَيَكُونُ الثَّمَنُ كُلُّهُ بِمُقَابَلَةِ الْقَائِمِ وَيَخْرُجُ الْهَالِكُ عَنْ الْعَقْدِ فَيَتَحَالَفَانِ ) أَيْ إذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَيَتَحَالَفَانِ ( وَهَذَا ) أَيْ تَوْجِيهُ قَوْلِهِ إلَّا أَنْ يَرْضَى الْبَائِعُ أَنْ يَتْرُكَ حِصَّةَ الْهَالِكِ بِمَا ذُكِرَ ( تَخْرِيجُ بَعْضِ الْمَشَايِخِ ) أَيْ عَامَّتُهُمْ ( وَيُصْرَفُ الِاسْتِثْنَاءُ عِنْدَهُمْ إلَى التَّحَالُفِ ) لِأَنَّهُ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكَلَامِ ، فَكَانَ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ : لَمْ يَتَحَالَفَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا إذَا تَرَكَ الْبَائِعُ حِصَّةَ الْهَالِكِ فَيَتَحَالَفَانِ ( كَمَا ذَكَرْنَاهُ ) أَرَادَ بِهِ قَوْلَهُ فَيَتَحَالَفَانِ ( وَقَالُوا ) أَيْ قَالَ هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخُ : ( إنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ يَأْخُذُ الْحَيَّ وَلَا شَيْءَ لَهُ مَعْنَاهُ : لَا يَأْخُذُ مِنْ ثَمَنِ الْهَالِكِ شَيْئًا أَصْلًا ) أَقُولُ : كَانَ الظَّاهِرُ فِي التَّحْرِيرِ مِنْ حَيْثُ الْعَرَبِيَّةُ ، وَالْمَعْنَى أَنْ يَتْرُكَ اللَّفْظُ مَعْنَاهُ مِنْ الْبَيِّنِ .
أَوْ أَنْ

يُقَالَ : إنَّ قَوْلَهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ يَأْخُذُ الْحَيَّ وَلَا شَيْءَ لَهُ ، مَعْنَاهُ : لَا يَأْخُذُ مِنْ ثَمَنِ الْهَالِكِ شَيْئًا أَصْلًا ، وَوَجْهُ الظُّهُورِ ظَاهِرٌ ( وَقَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ : يَأْخُذُ مِنْ ثَمَنِ الْهَالِكِ بِقَدْرِ مَا أَقَرَّ بِهِ الْمُشْتَرِي ، وَإِنَّمَا لَا يَأْخُذُ الزِّيَادَةَ ، وَعَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ يَنْصَرِفُ الِاسْتِثْنَاءُ إلَى يَمِينِ الْمُشْتَرِي لَا إلَى التَّحَالُفِ ) فَيَصِيرُ مَعْنَى الْكَلَامِ لَمْ يَتَحَالَفَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ ، إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْبَائِعُ أَنْ يَأْخُذَ الْحَيَّ وَلَا يَأْخُذَ مِنْ ثَمَنِ الْهَالِكِ شَيْئًا زَائِدًا عَلَى مَا أَقَرَّ بِهِ الْمُشْتَرِي فَحِينَئِذٍ لَا يَمِينَ عَلَى الْمُشْتَرِي ( لِأَنَّهُ لَمَّا أَخَذَ الْبَائِعُ بِقَوْلِ الْمُشْتَرِي فَقَدْ صَدَّقَهُ فَلَا يَحْلِفُ الْمُشْتَرِي ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ يُشِيرُ إلَى أَنَّ أَخْذَ الْحَيِّ لَمْ يَكُنْ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ كَمَا نَقَلَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ عَنْ الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ بَلْ بِطَرِيقِ تَصْدِيقِ الْمُشْتَرِي فِي قَوْلِهِ وَتَرْكِ مَا يَدَّعِيهِ عَلَيْهِ ، وَهُوَ أَوْلَى لِمَا قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ : إنَّهُ لَوْ كَانَ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ لَكَانَ مُعَلَّقًا بِمَشِيئَتِهِمَا انْتَهَى .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ فِيهِ : إنَّ أَخْذَ الْحَيِّ يَكُونُ مُعَلَّقًا بِمَشِيئَتِهِمَا أَلْبَتَّةَ ، وَإِنَّمَا الَّذِي لَا يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَةِ الْمُشْتَرِي أَخْذُ مَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ ثَمَنِ الْهَالِكِ انْتَهَى .
أَقُولُ : هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ إنَّ أَخْذَ الْحَيِّ يَكُونُ مُعَلَّقًا بِمَشِيئَتِهِمَا أَلْبَتَّةَ أَنَّهُ كَانَ فِي الْكِتَابِ مُعَلَّقًا بِمَشِيئَتِهِمَا أَلْبَتَّةَ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ، لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْكِتَابِ إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْبَائِعُ أَنْ يَأْخُذَ الْحَيَّ وَلَا شَيْءَ لَهُ ، وَلَمْ يُعَلِّقْ فِيهِ أَخْذَ الْحَيِّ إلَّا بِمَشِيئَةِ الْبَائِعِ ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنْ يَكُونَ فِي الصُّلْحِ مُعَلَّقًا بِمَشِيئَتِهِمَا أَلْبَتَّةَ فَلَيْسَ بِمُفِيدٍ لَهُ أَصْلًا

بَلْ هُوَ مُؤَيِّدٌ لِمَا قَالَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ، فَإِنَّ مُرَادَهُ أَنَّ أَخْذَ الْحَيِّ لَوْ كَانَ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ لَكَانَ مُعَلَّقًا فِي الْكِتَابِ بِمَشِيئَتِهِمَا كَمَا يَكُونُ فِي الصُّلْحِ مُتَعَلِّقًا بِمَشِيئَتِهِمَا أَلْبَتَّةَ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ فِيهِ إلَّا بِمَشِيئَةِ الْبَائِعِ ( ثُمَّ تَفْسِيرُ التَّحَالُفِ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ مَا بَيَّنَّاهُ فِي الْقَائِمِ ) أَيْ فِي الْبَيْعِ الْقَائِمِ عَلَى حَالِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَصِفَةُ الْيَمِينِ أَنْ يَحْلِفَ الْبَائِعُ بِاَللَّهِ مَا بَاعَهُ بِأَلْفٍ إلَخْ ، وَإِنَّمَا لَمْ تَخْتَلِفْ صِفَةُ التَّحَالُفِ عِنْدَهُ فِي الصُّورَتَيْنِ لِأَنَّ قِيَامَ السِّلْعَةِ عِنْدَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِلتَّحَالُفِ ( وَإِذَا حَلَفَا وَلَمْ يَتَّفِقَا عَلَى شَيْءٍ ) كَانَ الْأَحْسَنُ فِي التَّحْرِيرِ أَنْ يَقُولَ : وَإِذَا لَمْ يَتَّفِقَا عَلَى شَيْءٍ وَحَلَفَا بِتَقْدِيمٍ لَمْ يَتَّفِقَا عَلَى شَيْءٍ عَلَى حَلَفَا فِي الْوَضْعِ لِتَقَدُّمِهِ عَلَيْهِ فِي الطَّبْعِ ( فَادَّعَى أَحَدُهُمَا الْفَسْخَ أَوْ كِلَاهُمَا ) أَيْ أَوْ ادَّعَى كِلَاهُمَا ( يُفْسَخُ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا وَيَأْمُرُ الْقَاضِي الْمُشْتَرِي بِرَدِّ الْبَاقِي وَقِيمَةِ الْهَالِكِ ) وَالْقَوْلُ فِي الْقِيمَةِ قَوْلُ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ الْبَائِعَ يَدَّعِي عَلَيْهِ زِيَادَةَ قِيمَةٍ وَهُوَ يُنْكِرُهُ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ ، كَمَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي قِيمَةِ الْمَغْصُوبِ أَوْ الْمَقْبُوضِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ ( وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِهِ ) أَيْ فِي تَفْسِيرِ التَّحَالُفِ ( عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ : لَمْ يَذْكُرْ تَفْسِيرَ التَّحَالُفِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ عِنْدَهُ هَلَاكُ الْبَعْضِ يَمْنَعُ التَّحَالُفَ كَهَلَاكِ الْكُلِّ .
أَقُولُ : فِيهِ شَيْءٌ ، وَهُوَ أَنَّ هَلَاكَ الْبَعْضِ لَا يَمْنَعُ التَّحَالُفَ عِنْدَهُ مُطْلَقًا بَلْ إنْ رَضِيَ الْبَائِعُ أَنْ يَتْرُكَ حِصَّةَ الْهَالِكِ أَصْلًا يَتَحَالَفَانِ عِنْدَهُ أَيْضًا عَلَى تَخْرِيجِ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ ، وَقَدْ ارْتَضَى الْمُصَنِّفُ هَذَا التَّخْرِيجَ حَيْثُ بَنَى عَلَيْهِ شَرْحَ مَعْنَى

الْكِتَابِ أَوَّلًا كَمَا مَرَّ آنِفًا ، فَكَانَ لِذِكْرِ تَفْسِيرِ التَّحَالُفِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا مَسَاغٌ .
وَعَنْ هَذَا أَنَّ الْإِمَامَ الزَّيْلَعِيَّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ فِي التَّبْيِينِ تَفْسِيرَ التَّحَالُفِ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ قَالَ : وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْبَائِعَ إذَا رَضِيَ أَنْ يَتْرُكَ حِصَّةَ الْهَالِكِ مِنْ الثَّمَنِ يَتَحَالَفَانِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ لِأَبِي يُوسُفَ انْتَهَى .
وَقَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ : لَمَّا كَانَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ عَدَمَ وُجُوبِ التَّحَالُفِ اسْتَغْنَى عَنْ التَّفْسِيرِ فَفَسَّرَهُ عَلَى قَوْلِهِمَا انْتَهَى .
أَقُولُ : هَذَا أَقْرَبُ إلَى الْحَقِّ مِمَّا سَبَقَ ، وَلَكِنْ فِيهِ أَيْضًا شَيْءٌ لَا يَخْفَى .
فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ : لَمَّا كَانَ جَرَيَانُ التَّحَالُفِ عِنْدَ هَلَاكِ بَعْضِ الْمَبِيعِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ مَخْصُوصًا بِتَخْرِيبِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ وَبِصُورَةٍ نَادِرَةٍ هِيَ صُورَةُ الِاسْتِثْنَاءِ لَمْ يَذْكُرْ تَفْسِيرَ التَّحَالُفِ عِنْدَهُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْلَالِ ، بَلْ اكْتَفَى بِمَا يُفْهَمُ مِنْ بَيَانِ تَفْسِيرِهِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ( وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَحْلِفُ الْمُشْتَرِي بِاَللَّهِ مَا اشْتَرَيْتُهُمَا بِمَا يَدَّعِيهِ الْبَائِعُ ) وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يَتَحَالَفَانِ عَلَى الْقَائِمِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ دُونَ الْهَالِكِ لِأَنَّ التَّحَالُفَ لِلْفَسْخِ وَالْعَقْدُ يَنْفَسِخُ فِي الْقَائِمِ لَا فِي الْهَالِكِ ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ حَلَفَ بِاَللَّهِ مَا اشْتَرَيْت الْقَائِمَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ الَّذِي يَدَّعِيهِ الْبَائِعُ كَانَ صَادِقًا ، وَكَذَا لَوْ حَلَفَ الْبَائِعُ بِاَللَّهِ مَا بِعْت الْقَائِمَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ الَّذِي يَدَّعِيهِ الْمُشْتَرِي صُدِّقَ فَلَا يُفِيدُ التَّحَالُفَ ، فَالصَّحِيحُ أَنْ يَحْلِفَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ ( فَإِنْ نَكَلَ لَزِمَهُ دَعْوَى الْبَائِعِ ، وَإِنْ حَلَفَ يَحْلِفُ الْبَائِعُ بِاَللَّهِ مَا بِعْتُهُمَا بِالثَّمَنِ الَّذِي يَدَّعِيهِ الْمُشْتَرِي ، فَإِنْ

نَكَلَ لَزِمَهُ دَعْوَى الْمُشْتَرِي ، وَإِنْ حَلَفَ يَفْسَخَانِ الْعَقْدَ فِي الْقَائِمِ ) فَإِنْ قُلْت : أَسْنَدَ فَسْخَ الْعَقْدِ هَاهُنَا إلَيْهِمَا كَمَا تَرَى وَفِيمَا سَبَقَ إلَى الْقَاضِي حَيْثُ قَالَ : وَإِنْ حَلَفَا فَسَخَ الْقَاضِي الْبَيْعَ بَيْنَهُمَا فَمَا التَّوْفِيقُ ؟ قُلْت : مَعْنَى مَا سَبَقَ فَسَخَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا إنْ لَمْ يَفْسَخَا بِأَنْفُسِهِمَا ، يُرْشِدُ إلَيْهِ أَنَّ الشُّرَّاحَ قَالُوا فِي شَرْحِ ذَلِكَ الْمَقَامِ فَسَخَ الْقَاضِي الْعَقْدَ بَيْنَهُمَا إنْ طَلَبَا أَوْ طَلَبَ أَحَدُهُمَا ، لِأَنَّ الْفَسْخَ حَقُّهُمَا فَلَا بُدَّ مِنْ الطَّلَبِ انْتَهَى .
إذْ لَا يَخْفَى أَنَّ الْفَسْخَ إذَا كَانَ حَقَّهُمَا فَهُمَا يَقْدِرَانِ عَلَى إحْدَاثِهِ بِأَنْفُسِهِمَا .
وَمَعْنَى مَا ذُكِرَ هَاهُنَا يَفْسَخَانِ الْعَقْدَ إنْ أَرَادَا الْفَسْخَ بِأَنْفُسِهِمَا عَلَى نَهْجِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { تَحَالَفَا وَتَرَادَّا } وَهَذَا لَا يُنَافِي أَنْ يَفْسَخَهُ الْقَاضِي أَيْضًا فِيمَا إذَا لَمْ يَفْسَخَاهُ بِأَنْفُسِهِمَا بَلْ طَلَبَاهُ أَوْ طَلَبَهُ أَحَدُهُمَا مِنْ الْقَاضِي ، وَسَيَأْتِي التَّصْرِيحُ مِنْ الشُّرَّاحِ فِي مَسْأَلَةِ التَّحَالُفِ بِالْإِقَالَةِ بِتَسَاوِي فَسْخِ الْقَاضِي وَفَسْخِهِمَا بِأَنْفُسِهِمَا ( وَتَسْقُطُ حِصَّتُهُ ) أَيْ حِصَّةُ الْقَائِمِ ( مِنْ الثَّمَنِ وَيَلْزَمُ الْمُشْتَرِيَ حِصَّةُ الْهَالِكِ ) مِنْ الثَّمَنِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ الْمُشْتَرِي ، وَلَا يَلْزَمُهُ قِيمَةُ الْهَالِكِ لِأَنَّ الْقِيمَةَ تَجِبُ إذَا انْفَسَخَ الْعَقْدُ وَالْعَقْدُ فِي الْهَالِكِ لَمْ يَنْفَسِخْ عِنْدَهُ ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ ( وَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُمَا فِي الِانْقِسَامِ يَوْمَ الْقَبْضِ ) يَعْنِي يُقْسَمُ الثَّمَنُ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ الْمُشْتَرِي عَلَى الْعَبْدِ الْقَائِمِ وَالْهَالِكِ عَلَى قَدْرِ قِيَمِهِمَا يَوْمَ الْقَبْضِ ، فَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ قِيمَتَهُمَا يَوْمَ الْقَبْضِ كَانَتْ عَلَى السَّوَاءِ يَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي نِصْفُ الثَّمَنِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ الْمُشْتَرِي وَيَسْقُطُ عَنْهُ نِصْفُ ذَلِكَ الثَّمَنِ ، وَإِنْ تَصَادَقَا أَنَّ قِيمَتَهُمَا يَوْمَ الْقَبْضِ كَانَتْ عَلَى

التَّفَاوُتِ ، فَإِنْ تَصَادَقَا عَلَى أَنَّ قِيمَةَ الْهَالِكِ يَوْمَ الْقَبْضِ كَانَتْ كَذَا يَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِقَدْرِهَا حِصَّةً مِنْ الثَّمَنِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ وَيَسْقُطُ عَنْهُ الْبَاقِي مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ ( وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي قِيمَةِ الْهَالِكِ يَوْمَ الْقَبْضِ ) فَقَالَ الْمُشْتَرِي كَانَتْ قِيمَةُ الْقَائِمِ يَوْمَ الْقَبْضِ أَلْفًا وَقِيمَةُ الْهَالِكِ خَمْسَمِائَةٍ وَقَالَ الْبَائِعُ عَلَى الْعَكْسِ ( فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ ) مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى وُجُوبِ الثَّمَنِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ الْمُشْتَرِي ثُمَّ الْمُشْتَرِي يَدَّعِي سُقُوطَ زِيَادَةٍ مِنْ الثَّمَنِ بِنُقْصَانِ قِيمَةِ الْهَالِكِ وَالْبَائِعُ يُنْكِرُهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : لِمَاذَا تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُمَا يَوْمَ الْقَبْضِ دُونَ الْعَقْدِ فِي حَقِّ انْقِسَامِ الْقِيمَةِ وَمَسَائِلُ الزِّيَادَاتِ تَدُلُّ عَلَى هَذَا ؛ حَتَّى قَالَ مُحَمَّدٌ : قِيمَةُ الْأُمِّ تُعْتَبَرُ يَوْمَ الْعَقْدِ وَقِيمَةُ الزِّيَادَةِ يَوْمَ الزِّيَادَةِ وَقِيمَةُ الْوَلَدِ يَوْمَ الْقَبْضِ ، لِأَنَّ الْأُمَّ صَارَتْ مَقْصُودَةً بِالْعَقْدِ وَالزِّيَادَةُ بِالزِّيَادَةِ وَالْوَلَدُ بِالْقَبْضِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَبْدَيْنِ هَاهُنَا صَارَ مَقْصُودًا بِالْعَقْدِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُ قِيمَتِهِمَا يَوْمَ الْعَقْدِ لَا يَوْمَ الْقَبْضِ .
قَالَ الْإِمَامُ ظَهِيرُ الدِّينِ صَاحِبُ الْفَوَائِدِ : هَذَا إشْكَالٌ هَائِلٌ أَوْرَدْتُهُ عَلَى كُلِّ قَرْمٍ نِحْرِيرٍ فَلَمْ يَهْتَدِ أَحَدٌ إلَى جَوَابِهِ ، ثُمَّ قَالَ : وَاَلَّذِي يُخَايِلُ لِي بَعْدَ طُولِ التَّجَشُّمِ أَنَّ فِيمَا ذُكِرَ عَنْ الْمَسَائِلِ لَمْ يَتَحَقَّقْ مَا يُوجِبُ الْفَسْخَ فِيمَا صَارَ مَقْصُودًا بِالْعَقْدِ ، وَفِيمَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ تَحَقُّقُ مَا يُوجِبُ الْفَسْخَ فِيمَا صَارَ مَقْصُودًا بِالْعَقْدِ وَهُوَ التَّحَالُفُ ، أَمَّا فِي الْحَيِّ مِنْهُمَا فَظَاهِرٌ وَكَذَلِكَ فِي الْمَيِّتِ مِنْهُمَا ، لِأَنَّهُ إنْ تَعَذَّرَ الْفَسْخُ فِي الْهَالِكِ لِمَكَانِ الْهَلَاكِ لَمْ يَتَعَذَّرْ اعْتِبَارُ مَا هُوَ مِنْ لَوَازِمِ الْفَسْخِ فِي الْهَالِكِ وَهُوَ اعْتِبَارُ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78