كتاب : فتح القدير
المؤلف : كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي

وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ اعْتِبَارِهِ لِلْيَدِ ، وَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَقُولَ اعْتِبَارِهَا ؛ لِأَنَّ الْيَدَ مُؤَنَّثَةٌ وَقَدْ يُعَادُ عَلَى الظُّهُورِ أَيْ سُقُوطِ اعْتِبَارِ ظُهُورِهِ ( وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ لَهُمْ مِلْكٌ فِيهِ يَأْخُذُهُ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ بِغَيْرِ شَيْءٍ سَوَاءٌ كَانَ مَوْهُوبًا ) مِنْهُمْ لِلَّذِي أَخْرَجَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ( أَوْ مُشْتَرًى ) مِنْهُمْ ( أَوْ مَغْنُومًا قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَبَعْدَهَا ) إلَّا أَنَّهُ إذَا أَخَذَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ ( يُؤَدِّي ) الْإِمَامُ ( عِوَضَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ) لِلْمَأْخُوذِ مِنْهُ ( لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إعَادَةُ الْقِسْمَةِ ؛ لِتَفَرُّقِ الْغَانِمِينَ ، وَتَعَذُّرِ اجْتِمَاعِهِمْ ) وَتَفَرُّقِ الْمَالِ فِي أَيْدِيهِمْ ، وَأَيْدِي غَيْرِهِمْ بِتَصَرُّفِهِمْ وَفِيهِ مَا لَا يَخْفَى مِنْ الْحَرَجِ ، وَبَيْتُ الْمَالِ مُعَدٌّ لِنَوَائِبَ الْمُسْلِمِينَ ، وَهَذَا مِنْ نَوَائِبِهِمْ ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ فَضَلَ مِنْ الْغَنِيمَةِ شَيْءٌ يَتَعَذَّرُ قِسْمَتُهُ كَلُؤْلُؤَةٍ تُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ ، فَإِذَا لَحِقَ غَرَامَةٌ كَانَ فِيهِ ، وَلَا يُعْطَى الْمُشْتَرِي شَيْئًا إذَا كَانَ اشْتَرَاهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى .
فَإِنْ اشْتَرَاهُ بِإِذْنِهِ رَجَعَ عَلَيْهِ بِمَا اشْتَرَاهُ بِهِ .
وَعِنْدَهُمَا يَأْخُذُهُ بِالثَّمَنِ فِي الْمُشْتَرِي وَبِالْقِيمَةِ فِي الْمَوْهُوبِ كَمَا فِي الْمَأْسُورِ غَيْرِ الْآبِقِ .
وَإِنَّمَا قَيَّدْنَا أَوَّلَ الْمَسْأَلَةِ بِكَوْنِ الْعَبْدِ مُسْلِمًا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ارْتَدَّ فَأَبَقَ إلَيْهِمْ فَأَخَذُوهُ مَلَكُوهُ اتِّفَاقًا ، وَلَوْ كَانَ كَافِرًا مِنْ الْأَصْلِ فَهُوَ ذِمِّيٌّ تَبَعًا لِمَوْلَاهُ ، وَفِي الْعَبْدِ الذِّمِّيِّ إذَا أَبَقَ قَوْلَانِ ذَكَرَهُ فِي طَرِيقِهِ مَجْدُ الْأَئِمَّةِ ( قَوْلُهُ : وَلَيْسَ لَهُ ) أَيْ الْغَازِي أَوْ التَّاجِرِ ( جَعْلُ الْآبِقِ ) ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ إذَا أَخَذَهُ ؛ لِيَرُدَّهُ فَيَكُونُ عَامِلًا لَهُ وَهَاهُنَا إنَّمَا هُوَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ .

( وَإِنْ نَدَّ بَعِيرٌ إلَيْهِمْ فَأَخَذُوهُ مَلَكُوهُ ) لِتَحَقُّقِ الِاسْتِيلَاءِ إذْ لَا يَدَ لِلْعَجْمَاءِ لِتَظْهَرَ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْ دَارِنَا ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا .
( وَإِنْ اشْتَرَاهُ رَجُلٌ وَأَدْخَلَهُ دَارَ الْإِسْلَامِ فَصَاحِبُهُ أَخَذَهُ بِالثَّمَنِ إنْ شَاءَ ) لِمَا بَيَّنَّا
( قَوْلُهُ : وَإِنْ نَدَّ بَعِيرٌ إلَيْهِمْ فَأَخَذُوهُ مَلَكُوهُ ) وَجْهُهُ ظَاهِرٌ ؛ فَيَتَفَرَّعُ عَلَى مِلْكِهِمْ إيَّاهُ أَنَّهُ ( لَوْ اشْتَرَاهُ رَجُلٌ ، وَأَدْخَلَهُ دَارَ الْإِسْلَامِ فَإِنَّمَا يَأْخُذُهُ مَالِكًا مِنْهُ بِالثَّمَنِ إنْ شَاءَ ) .

( فَإِنْ أَبَقَ عَبْدٌ إلَيْهِمْ وَذَهَبَ مَعَهُ بِفَرَسٍ وَمَتَاعٍ فَأَخَذَ الْمُشْرِكُونَ ذَلِكَ كُلَّهُ وَاشْتَرَى رَجُلٌ ذَلِكَ كُلَّهُ ، وَأَخْرَجَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّ الْمَوْلَى يَأْخُذُ الْعَبْدَ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَالْفَرَسَ وَالْمَتَاعَ بِالثَّمَنِ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : يَأْخُذُ الْعَبْدَ وَمَا مَعَهُ بِالثَّمَنِ إنْ شَاءَ ) اعْتِبَارًا لِحَالَةِ الِاجْتِمَاعِ بِحَالَةِ الِانْفِرَادِ وَقَدْ بَيَّنَّا الْحُكْمَ فِي كُلِّ فَرْدٍ

( قَوْلُهُ : فَإِنْ أَبَقَ عَبْدٌ إلَيْهِمْ وَذَهَبَ مَعَهُ بِفَرَسٍ وَمَتَاعٍ فَأَخَذَ الْمُشْرِكُونَ ذَلِكَ كُلَّهُ فَاشْتَرَى رَجُلٌ مِنْهُمْ ذَلِكَ كُلَّهُ فَإِنَّ الْمَوْلَى يَأْخُذُ الْعَبْدَ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَالْمَتَاعَ وَالْفَرَسَ بِالثَّمَنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا يَأْخُذُ الْعَبْدَ أَيْضًا بِالثَّمَنِ إنْ شَاءَ ) وَهَذِهِ مُتَفَرِّعَةٌ عَلَى مِلْكِهِمْ الْعَبْدَ الْآبِقَ إلَيْهِمْ عِنْدَهُمَا دُونَهُ .
وَأُورِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَ الْكُلَّ بِلَا شَيْءٍ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَمَّا ظَهَرَتْ يَدُهُ عَلَى نَفْسِهِ ظَهَرَتْ عَلَى مَا فِي يَدِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ مُبَاحٌ فَتَمْنَعُ ظُهُورَ يَدِ الْكُفَّارِ عَلَيْهِ كَمَا مَنَعَتْ ظُهُورَ يَدِهِمْ عَلَيْهِ نَفْسِهِ لِسَبْقِهَا .
أُجِيبُ بِأَنَّ غَايَتَهُ أَنَّهُ صَارَ لَهُ يَدٌ بِلَا مِلْكٍ ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ يُنَافِيهِ فَيَبْقَى فِي يَدِهِ كَمَا لَوْ كَانَ مَمْلُوكًا لِلْغَائِبِ فَيَمْلِكُهُ الْكُفَّارُ بِالِاسْتِيلَاءِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّ سَبْقَ الْيَدِ يَمْنَعُ اسْتِيلَاءَهُمْ عِنْدَهُ ، فَإِنَّهَا يَمْلِكُونَ الْمَالَ بِإِبَاحَتِهِ ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ مُبَاحًا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ يَدٌ لِأَحَدٍ ، وَإِلَّا مَلَكُوا الْعَبْدَ ، وَالْفَرْضُ أَنَّ هَذَا الْمَالَ عَلَيْهِ يَدٌ فَتَدْفَعُ الِاسْتِيلَاءَ الْمُوجِبَ لِإِخْرَاجِهِ عَنْ مِلْكِ مَنْ لَهُ فِيهِ مِلْكٌ قَائِمٌ .
وَأُجِيبُ أَيْضًا بِأَنَّ يَدَهُ ظَهَرَتْ عَلَى نَفْسِهِ مَعَ الْمُنَافِي وَهُوَ الرِّقُّ فَكَانَتْ ظَاهِرَةً مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ ، فَاعْتَبَرْنَاهَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ دُونَ الْمَالِ .
وَدُفِعَ بِأَنَّ اسْتِيلَاءَ الْعَبْدِ عَلَى الْمَالِ حَقِيقَةٌ ، وَهُوَ مَالٌ مُبَاحٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يَمْنَعَ اسْتِيلَاءَ الْكُفَّارِ .

( وَإِذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَنَا بِأَمَانٍ وَاشْتَرَى عَبْدًا مُسْلِمًا وَأَدْخَلَهُ دَارَ الْحَرْبِ عَتَقَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : لَا يُعْتَقُ ) ؛ لِأَنَّ الْإِزَالَةَ كَانَتْ مُسْتَحَقَّةً بِطَرِيقٍ مُعَيَّنٍ وَهُوَ الْبَيْعُ وَقَدْ انْقَطَعَتْ وِلَايَةُ الْجَبْرِ عَلَيْهِ فَبَقِيَ فِي يَدِهِ عَبْدًا .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ تَخْلِيصَ الْمُسْلِمِ عَنْ ذُلِّ الْكَافِرِ وَاجِبٌ ، فَيُقَامُ الشَّرْطُ وَهُوَ تَبَايُنُ الدَّارَيْنِ مَقَامَ الْعِلَّةِ وَهُوَ الْإِعْتَاقُ تَخْلِيصًا لَهُ ، كَمَا يُقَامُ مُضِيُّ ثَلَاثِ حِيَضٍ مَقَامَ التَّفْرِيقِ فِيمَا إذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ .

( قَوْلُهُ : وَإِذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَنَا بِأَمَانٍ فَاشْتَرَى عَبْدًا مُسْلِمًا ، وَأَدْخَلَهُ دَارَ الْحَرْبِ عَتَقَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَالَا : لَا يُعْتَقُ ؛ لِأَنَّ الْإِزَالَةَ كَانَتْ مُتَعَيِّنَةً ) حَالَ كَوْنِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ( بِطَرِيقٍ مُعَيَّنٍ وَهُوَ الْبَيْعُ ) فَإِنَّهُ إذَا اشْتَرَى الْكَافِرُ عَبْدًا مُسْلِمًا يُجْبَرُ عَلَى إخْرَاجِهِ عَنْ مِلْكِهِ بِالْبَيْعِ ، فَإِنْ فَعَلَ ، وَإِلَّا بَاعَهُ الْقَاضِي عَلَيْهِ وَدَفَعَ ثَمَنَهُ إلَيْهِ ( وَقَدْ تَعَذَّرَ الْجَبْرُ عَلَيْهِ فَبَقِيَ عَبْدًا فِي يَدِهِ ) وَلِأَنَّ الْإِحْرَازَ بِدَارِ الْحَرْبِ سَبَبٌ ؛ لِثُبُوتِ مِلْكِهِمْ فِيمَا لَمْ يَكُنْ مِلْكًا لَهُمْ ، فَإِنَّهُمْ إذَا أَخَذُوا عَبْدًا مُسْلِمًا دَارَ الْإِسْلَامِ مَلَكُوهُ فَاسْتَحَالَ أَنْ يَزُولَ مِلْكُهُ الثَّابِتُ لَهُ قَبْلَ الْإِحْرَازِ حَالَةَ الْإِحْرَازِ ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْجَبْرَ عَلَى الْبَيْعِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مَا كَانَ إلَّا لِوُجُوبِ تَخْلِيصِ الْمُسْلِمِ عَنْ إذْلَالِ الْكَافِرِ ) فَهُوَ الْوَاجِبُ بِالذَّاتِ إجْمَاعًا ، وَوُجُوبُ الْجَبْرِ عَلَى الْبَيْعِ لِيُتَوَصَّلَ إلَيْهِ ، غَيْرَ أَنَّهُ تَعَيَّنَ إخْرَاجُهُ بِعِوَضٍ بَيْعًا طَرِيقًا حَالَ قِيَامِ أَمَانِهِ تَحَرُّزًا عَنْ الْغَدْرِ بِأَخْذِ مَالِهِ ، وَلَوْلَاهُ لَأَعْتَقْنَاهُ عَلَيْهِ ، فَإِذَا زَالَ أَمَانُهُ ، وَسَقَطَتْ عِصْمَةُ مَالِهِ بِوُجُودِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ يَجِبُ التَّخْلِيصُ بِالْإِعْتَاقِ عَلَيْهِ ، غَيْرَ أَنَّ إعْتَاقَ الْقَاضِي قَدْ تَعَذَّرَ بِحُلُولِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، إذْ لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ عَلَى مَنْ هُنَاكَ فَأُقِيمَ شَرْطُ زَوَالِ عِصْمَةِ مَالِهِ ، وَهُوَ دُخُولُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ مَقَامَ عِلَّةِ عِتْقِهِ وَهُوَ إعْتَاقُ الْقَاضِي ( كَمَا أُقِيمَ مُضِيُّ ثَلَاثِ حِيَضٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ مَقَامَ تَفْرِيقِ الْقَاضِي ) بَعْدَ عَرْضِ الْإِسْلَامِ عَلَى الْآخَرِ ، وَإِبَائِهِ فِيمَا إذَا أَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَمْلِكْهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّ لِلْمَوْلَى حَقَّ اسْتِرْدَادِهِ ، فَإِذَا أَعْتَقْنَاهُ عَلَى

الْحَرْبِيِّ حِينَ أَحْرَزَهُ أَبْطَلْنَا حَقَّ اسْتِرْدَادِ الْمُسْلِمِ إيَّاهُ إلَى رِقِّهِ جَبْرًا فَكَانَ ذَلِكَ مَانِعًا لِلْمُقْتَضِي عَنْ عَمَلِهِ .
وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ ( فِيمَا إذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ ) لَيْسَ بِجَيِّدٍ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَسْلَمَ الزَّوْجُ لَا يُفَرَّقُ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا أَسْلَمَ عَبْدُ الْحَرْبِيِّ وَلَمْ يَهْرُبْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ حَتَّى اشْتَرَاهُ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ أَوْ حَرْبِيٌّ فِي دَارِ الْحَرْبِ يُعْتَقُ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ فِي دَارِ الْحَرْبِ يَعْتَمِدُ زَوَالَ الْقَهْرِ الْخَاصِّ وَقَدْ عُدِمَ إذْ زَالَ قَهْرُهُ إلَى الْمُشْتَرِي فَصَارَ كَمَا لَوْ كَانَ فِي يَدِهِ .
وَلَهُ أَنَّ قَهْرَهُ زَالَ حَقِيقَةً بِالْبَيْعِ ، وَكَانَ إسْلَامُهُ يُوجِبُ إزَالَةَ قَهْرِهِ عَنْهُ إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ الْخِطَابُ بِالْإِزَالَةِ فَأُقِيمَ مَا لَهُ أَثَرٌ فِي زَوَالِ الْمِلْكِ مَقَامَ الْإِزَالَةِ وَهُوَ الْبَيْعُ

( وَإِذَا أَسْلَمَ عَبْدٌ لِحَرْبِيٍّ ثُمَّ خَرَجَ إلَيْنَا أَوْ ظُهِرَ عَلَى الدَّارِ فَهُوَ حُرٌّ ، وَكَذَلِكَ إذَا خَرَجَ عَبِيدُهُمْ إلَى عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ فَهُمْ أَحْرَارٌ ) لِمَا رُوِيَ { أَنَّ عَبِيدًا مِنْ عَبِيدِ الطَّائِفِ أَسْلَمُوا وَخَرَجُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَضَى بِعِتْقِهِمْ وَقَالَ : هُمْ عُتَقَاءُ اللَّهِ } وَلِأَنَّهُ أَحْرَزَ نَفْسَهُ بِالْخُرُوجِ إلَيْنَا مُرَاغِمًا لِمَوْلَاهُ أَوْ بِالِالْتِحَاقِ بِمَنَعَةِ الْمُسْلِمِينَ ، إذَا ظُهِرَ عَلَى الدَّارِ ، وَاعْتِبَارُ يَدِهِ أَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِ يَدِ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّهَا أَسْبَقُ ثُبُوتًا عَلَى نَفْسِهِ ، فَالْحَاجَةُ فِي حَقِّهِ إلَى زِيَادَةِ تَوْكِيدٍ وَفِي حَقِّهِمْ إلَى إثْبَاتِ الْيَدِ ابْتِدَاءً فَلِهَذَا كَانَ أَوْلَى ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( قَوْلُهُ : وَإِذَا أَسْلَمَ عَبْدٌ لِحَرْبِيٍّ ثُمَّ خَرَجَ إلَيْنَا أَوْ ) أَسْلَمَ وَلَمْ يَخْرُجْ حَتَّى ( ظُهِرَ عَلَى الدَّارِ فَهُوَ حُرٌّ ، وَكَذَا إذَا خَرَجَ عَبِيدٌ إلَى عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ ) مُسْلِمِينَ ، وَلَا يُعْلَمُ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ ( لِمَا رَوَى ) أَبُو دَاوُد مُسْنَدًا إلَى عَلِيٍّ قَالَ : { خَرَجَ عَبْدَانِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ قَبْلَ الصُّلْحِ فَكَتَبَ مَوَالِيهمْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا : يَا مُحَمَّدُ مَا خَرَجُوا رَغْبَةً فِي دِينِك ، وَإِنَّمَا خَرَجُوا هَرَبًا مِنْ الرِّقِّ ، فَقَالَ نَاسٌ : صَدَقُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ رُدَّهُمْ عَلَيْهِمْ .
فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَفِيهِ فَقَالَ : هُمْ عُتَقَاءُ اللَّهِ } وَفِيهِ أَحَادِيثُ قَدَّمْنَاهَا ، وَمِنْهَا إسْلَامُ عَبِيدِ الطَّائِفِ ، وَمِنْهُمْ أَبُو بَكْرَةَ وَالْمُنْبَعِثُ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْعِتْقِ فَلْيُرْجَعْ إلَيْهَا فَهَذَا دَلِيلُ عِتْقِهِمْ إذَا خَرَجُوا مُسْلِمِينَ .
وَأَمَّا عِتْقُهُمْ إذَا ظَهَرْنَا عَلَى الدَّارِ بَعْدَ إسْلَامِهِمْ فَلِأَنَّهُ لَمَّا الْتَحَقَ بِمَنَعَةِ الْمُسْلِمِينَ صَارَ كَأَنَّهُ خَرَجَ إلَيْهِمْ فِي أَنَّهُ امْتَنَعَ بِهِمْ .
وَقَوْلُهُ : ( وَاعْتِبَارُ يَدِهِ إلَخْ ) جَوَابٌ عَنْ مُقَدَّرٍ هُوَ أَنَّهُ لَمْ يُعْتَقْ بِمُجَرَّدِ إسْلَامِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ اتِّفَاقًا ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا عَرَضُهُ لِلْبَيْعِ فَبَاعَهُ ، فَقَدْ وَرَدَتْ يَدُ الْغَانِمِينَ عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يُنَافِي اسْتِرْقَاقَهُمْ .
أَجَابَ أَنَّ لِلْعَبْدِ يَدًا عَلَى نَفْسِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ، وَإِنَّمَا لَمْ تَظْهَرْ لِحَقِّ الْمَوْلَى لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الِانْتِفَاعِ .
ثُمَّ هِيَ أَسْبَقُ مِنْ يَدِ الْمُسْلِمِينَ ، أَمَّا فِي الْمَوْلَى الْكَافِرِ فَيَسْتَحِقُّ الْحُكْمَ بِعِتْقِهِ تَخْلِيصًا لِلْمُسْلِمِ مِنْ إذْلَالِ الْكَافِرِ ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ أَصْلِ الْيَدِ لَا يَكْفِي مَا لَمْ يَتَأَكَّدْ إذْ لَا قُدْرَةَ بِدُونِهِ فَكَانَتْ مَنَعَةُ الْغَانِمِينَ هِيَ

الْمُؤَكِّدَةُ لَهَا فَيُعْتَقُ .
هَذَا وَلَوْ أَسْلَمَ الْعَبْدُ وَلَمْ يَخْرُجْ إلَيْنَا وَلَمْ يُظْهَرْ عَلَى الدَّارِ فَهُوَ رَقِيقٌ إلَى أَنْ يَشْتَرِيَهُ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ فَيُعْتَقَ .
قَالَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ بَعْدَ قَوْلِهِ وَلَا يَثْبُتُ وَلَاءٌ : أَيْ لَا يَثْبُتُ وَلَاءُ الْعَبْدِ الْخَارِجِ إلَيْنَا مُسْلِمًا لِأَحَدٍ ؛ لِأَنَّ هَذَا عِتْقٌ حُكْمِيٌّ ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ إلَيْنَا وَلَمْ يُظْهَرْ عَلَى الدَّارِ لَمْ يُعْتَقْ إلَّا إذَا عَرَضَهُ الْمَوْلَى عَلَى الْبَيْعِ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ فَحِينَئِذٍ يُعْتَقُ الْعَبْدُ قَبِلَ الْمُشْتَرِي الْبَيْعَ أَوْ لَمْ يَقْبَلْ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ اسْتَحَقَّ حَقَّ الْإِعْتَاقِ بِالْإِسْلَامِ لَكِنَّا نَحْتَاجُ إلَى سَبَبٍ آخَرَ ؛ لِيَزُولَ بِهِ مِلْكُهُ عَنْهُ ، وَلَمَّا عَرَضَهُ فَقَدْ رَضِيَ بِزَوَالِ مِلْكِهِ ، وَقَيْدُ الْمُرَاغَمَةِ يُحْتَرَزُ بِهِ عَمَّا لَوْ خَرَجَ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ أَوْ بِأَمْرِهِ لِحَاجَتِهِ ، فَإِنَّهُ إذَا خَرَجَ كَذَلِكَ فَأَسْلَمَ فِي دَارِنَا حُكْمُهُ أَنْ يَبِيعَهُ الْإِمَامُ وَيَحْفَظَ ثَمَنَهُ لِمَوْلَاهُ الْحَرْبِيِّ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ بِأَمَانٍ صَارَتْ رَقَبَتُهُ دَاخِلَةً فِيهِ ، كَمَا لَوْ دَخَلَ سَيِّدُهُ بِهِ وَبِمَا مَعَهُ مِنْ الْمَالِ .
[ فُرُوعٌ ] .
وَلَوْ جَنَى عَبْدٌ جِنَايَةً خَطَأً أَوْ أَفْسَدَ مَتَاعًا فَلَزِمَهُ دَيْنُهُ ثُمَّ أَسَرَهُ الْعَدُوُّ ثُمَّ أَسْلَمُوا عَلَيْهِ فَهُوَ لَهُمْ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ أَسْلَمَ عَلَى مَالٍ فَهُوَ لَهُ } ثُمَّ تَبْطُلُ الْجِنَايَةُ دُونَ الدَّيْنِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ فِي الرَّقَبَةِ وَلَا تَبْقَى بَعْدَ زَوَالِ مِلْكِ الْمَوْلَى ، حَتَّى لَوْ زَالَ مِلْكُهُ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ لَا يَبْقَى فِيهِ حَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ ، وَأَمَّا الدَّيْنُ فَفِي ذِمَّتِهِ فَلَا يَبْطُلُ عَنْهُ بِزَوَالِ مِلْكِ الْمَوْلَى كَمَا لَا يَبْطُلُ بِبَيْعِهِ .
وَلَوْ اشْتَرَاهُ رَجُلٌ أَوْ أَصَابَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي الْغَنِيمَةِ فَأَخَذَهُ الْمَوْلَى فَكُلٌّ مَنْ الْجِنَايَةِ وَالدَّيْنِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ يُعِيدُهُ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ وَحَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ

كَانَ ثَابِتًا فِي قَدِيمِ مِلْكِهِ .
وَلَوْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ قَتْلَ عَمْدٍ لَمْ تَبْطُلْ عَنْهُ بِحَالٍ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ بِهِ نَفْسُهُ فَلَا تَبْطُلُ بِزَوَالِ مِلْكِ الْمَوْلَى ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُ أَوْ بَاعَهُ بَعْدَ لُزُومِ الْقِصَاصِ .
وَلَوْ وَقَعَ الْعَبْدُ الْمَأْسُورُ فِي سَهْمِ رَجُلٍ أَوْ اشْتَرَاهُ فَأَعْتَقَهُ قَبْلَ أَنْ يَحْضُرَ الْمَوْلَى نَفَذَ ، وَلَا سَبِيلَ عَلَيْهِ لِلْمَوْلَى الْقَدِيمِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ قَابِلًا لِلنَّقْلِ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ ؛ وَلِأَنَّ وَلَاءَهُ لَزِمَ لِلْمُعْتِقِ عَلَى وَجْهٍ لَا سَبِيلَ إلَى إبْطَالِهِ .
وَلَوْ كَانَتْ أَمَةٌ فَتَزَوَّجَهَا وَوَلَدَتْ مِنْ الزَّوْجِ بِلَا عِتْقٍ لِلْقَدِيمِ أَنْ يَأْخُذَهَا وَوَلَدَهَا ؛ لِأَنَّهَا بِالْوِلَادَةِ مِنْ الزَّوْجِ لَمْ تَخْرُجْ عَنْ كَوْنِهَا قَابِلَةً لِلنَّقْلِ وَالْوَلَدُ جُزْءٌ مِنْ عَيْنِهَا فَيَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الْأَخْذِ ، بِخِلَافِ حَقِّ الْوَاهِبِ فِي الرُّجُوعِ لَا يَثْبُتُ فِي الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ ضَعِيفٌ فِي الْعَيْنِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَبْقَى بَعْدَ تَصَرُّفِ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَالْحَقُّ الضَّعِيفُ لَا يَعْدُو مَحَلَّهُ ، وَالْوَلَدُ وَإِنْ كَانَ جُزْءًا فَفِي الْمَآلِ هُوَ مَحَلٌّ آخَرُ ، بِخِلَافِ حَقِّ الْمَوْلَى فَإِنَّهُ قَوِيٌّ لَا يَبْطُلُ بِبَيْعِهِ أَوْ هِبَتِهِ فَيَسْرِي إلَى الْوَلَدِ .
وَلَيْسَ لَهُ فَسْخُ النِّكَاحِ ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ الْأَخْذِ بِلَا فَسْخٍ ، وَالنِّكَاحُ أَلْزَمُ مِنْ سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ نَقْضِهِ ، وَلَا سَبِيلَ لِلْمَوْلَى عَلَى مَا أَخَذَ مِنْ عُقْرِهَا ، وَأَرْشِ جِنَايَةٍ عَلَيْهَا ، وَلَوْ لَمْ يُزَوِّجْهَا الْمُشْتَرِي فَلَهُ وَطْؤُهَا قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَهَا الْمَوْلَى وَثُبُوتُ حَقِّ أَخْذِهِ لَا يَمْنَعُ وَطْءَ الْمَالِكِ .
وَلَوْ أَسَرُوا جَارِيَةً مَرْهُونَةً بِأَلْفٍ وَهِيَ قِيمَتُهَا وَاشْتَرَاهَا رَجُلٌ أَخَذَهَا مَوْلَاهَا الرَّاهِنُ بِهَا وَلَمْ تَبْقَ رَهْنًا ؛ لِأَنَّهَا تَاوِيَةٌ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ فَهُوَ كَالْمُجَدِّدِ لِمِلْكِهَا فَلَا يَأْخُذُهَا الْمُرْتَهِنُ إلَّا أَنْ يَرُدَّ عَلَى الرَّاهِنِ الْأَلْفَ ، وَإِنْ كَانَ

الثَّمَنُ أَقَلَّ مِنْ الْأَلْفِ كَانَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يُؤَدِّيَ ذَلِكَ الثَّمَنَ فَتَكُونُ رَهْنًا عِنْدَهُ ؛ لِأَنَّهُ مُفِيدٌ .
وَلَوْ أَسْلَمَ عَلَى مَا أَخَذَهُ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ لَا سَبِيلَ عَلَيْهِ لِلْمَالِكِ الْقَدِيمِ ، وَكَذَا إذَا صَارَ ذِمِّيًّا ، وَكَذَا إذَا بَاعَهُ مِنْ حَرْبِيٍّ آخَرَ ؛ وَلَوْ خَرَجَ إلَيْنَا بِأَمَانٍ وَمَعَهُ ذَلِكَ الْمَالُ لَا سَبِيلَ عَلَيْهِ ، إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ عَبْدًا يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّهُ عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَلَا يُمَكَّنُ الْحَرْبِيُّ مِنْ إعَادَتِهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ ، وَإِذْلَالِهِ .
وَلَوْ أَسَرُوا جَارِيَةً وَدِيعَةً عِنْدَ رَجُلٍ أَوْ عَارِيَّةً أَوْ إجَارَةً فَحَقُّ الْأَخْذِ إذَا أُخْرِجَتْ بِشِرَاءٍ أَوْ غَنِيمَةٍ لِمَالِكِهَا ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ حَقِّ الِاسْتِرْدَادِ لِلْمَالِكِ لَا لِلْيَدِ ، بِخِلَافِ الْغَاصِبِ مِنْ الْمُودَعِ وَمَنْ ذَكَرْنَا لِكُلٍّ مِنْ هَؤُلَاءِ الِاسْتِرْدَادُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ قَائِمٌ مَقَامَ الْمَالِكِ فِي حِفْظِهِ وَلَمْ يَزُلْ مِلْكُ الْمَالِكِ بِالْغَصْبِ ، بِخِلَافِ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْحَرْبِ .
وَلَوْ كَانَتْ مُتَزَوِّجَةً لَا يَبْطُلُ النِّكَاحُ ؛ لِأَنَّ غَايَةَ إحْرَازِهَا تُوجِبُ أَنْ يَمْلِكُوهَا ، وَنَقْلُ الْمِلْكِ لَا يُبْطِلُ النِّكَاحَ كَالْبَيْعِ ، وَالتَّبَايُنُ الْقَاطِعُ لَهُ مَا هُوَ تَبَايُنٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا ، وَالْمُسْلِمَةُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ حُكْمًا ، وَإِنْ كَانَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ حَقِيقَةً .

( بَابُ الْمُسْتَأْمَنِ ) .
( وَإِذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ تَاجِرًا فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِشَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَلَا مِنْ دِمَائِهِمْ ) ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَ أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لَهُمْ بِالِاسْتِئْمَانِ ، فَالتَّعَرُّضُ بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ غَدْرًا وَالْغَدْرُ حَرَامٌ ، إلَّا إذَا غَدَرَ بِهِمْ مَلِكُهُمْ فَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ أَوْ حَبَسَهُمْ أَوْ فَعَلَ غَيْرُهُ بِعِلْمِ الْمَلِكِ وَلَمْ يَمْنَعْهُ ؛ لِأَنَّهُمْ هُمْ الَّذِينَ نَقَضُوا الْعَهْدَ بِخِلَافِ الْأَسِيرِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَأْمَنٍ فَيُبَاحُ لَهُ التَّعَوُّضُ ، وَإِنْ أَطْلَقُوهُ طَوْعًا ( فَإِنْ غَدَرَ بِهِمْ ) أَعْنِي التَّاجِرُ ( فَأَخَذَ شَيْئًا وَخَرَجَ بِهِ ) ( مَلَكَهُ مِلْكًا مَحْظُورًا ) لِوُرُودِ الِاسْتِيلَاءِ عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ ، إلَّا أَنَّهُ حَصَلَ بِسَبَبِ الْغَدْرِ فَأَوْجَبَ ذَلِكَ خُبْثًا فِيهِ ( فَيُؤْمَرُ بِالتَّصَدُّقِ بِهِ ) وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْحَظْرَ لِغَيْرِهِ لَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ السَّبَبِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ .

بَابُ الْمُسْتَأْمَنِ ) .
أَخَّرَهُ عَنْ الِاسْتِيلَاءِ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ بِالْقَهْرِ يَكُونُ وَالِاسْتِئْمَانُ بَعْدَ الْقَهْرِ فَأَوْرَدَهُ كَذَلِكَ ، وَتَقْدِيمُ اسْتِئْمَانِ الْمُسْلِمِ عَلَى الْكَافِرِ ظَاهِرٌ ( قَوْلُهُ : وَإِذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ تَاجِرًا فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِشَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَدِمَائِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ ) بِالِاسْتِئْمَانِ ( ضَمِنَ ) لَهُمْ ( أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لَهُمْ ) فَإِخْلَافُهُ غَدْرٌ ( وَالْغَدْرُ حَرَامٌ ) بِالْإِجْمَاعِ .
وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ الْغَادِرَ يُنْصَبُ لَهُ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانٍ } وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأُمَرَاءِ الْجُيُوشِ وَالسَّرَايَا { لَا تَغُلُّوا وَلَا تَغْدِرُوا } فِي وَصِيَّتِهِ لَهُمْ ؛ وَلِهَذَا قُلْنَا فِيمَا لَوْ اقْتَتَلَتْ طَائِفَتَانِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فِي دَارِنَا وَبَيْنَنَا وَبَيْنَ كُلٍّ مِنْهُمْ مُوَادَعَةٌ : لَيْسَ لَنَا أَنْ نَشْتَرِيَ مِنْ الطَّائِفَةِ الْغَالِبَةِ شَيْئًا مِنْ الْأَمْوَالِ الَّتِي غَنِمُوهَا ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَمْلِكُوهَا ؛ لِعَدَمِ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْحَرْبِ فَكَانَ شِرَاؤُنَا غَدْرًا ، بِخِلَافِ مَا لَوْ اقْتَتَلُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ فَإِنَّهُ يَحِلُّ لَنَا الشِّرَاءُ ، وَالشَّرْطُ الْإِحْرَازُ بِدَارِ الْحَرْبِ لَا بِدَارِهِمْ بِخُصُوصِهَا ، وَلَوْ كَانُوا اقْتَتَلُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ فَأَقُولُ : يُشْتَرَطُ أَنْ يُحْرِزَهَا الْغَالِبُونَ بِدَارِهِمْ إنْ كَانُوا لَا يَدِينُونَ أَنَّ مَنْ قَهَرَ آخَرَ فِي نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ مَلَكَهُ ، وَإِنْ كَانُوا يَدِينُونَ فَلَا ؛ فَإِنَّهُمْ قَالُوا : لَوْ دَخَلَ مُسْلِمٌ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَجَاءَ رَجُلٌ بِأُمِّهِ أَوْ ابْنِهِ أَوْ أُمِّ وَلَدِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ لِيَبِيعَهُ مِنْهُ فَأَكْثَرُ الْمَشَايِخِ عَلَى مَنْعِهِ .
وَقَالَ الْكَرْخِيُّ : إنْ كَانُوا يَدِينُونَ ذَلِكَ جَازَ شِرَاؤُهُ مِنْهُمْ ، وَالْعَامَّةُ يَقُولُونَ : إنْ كَانُوا يَدِينُونَ أَنَّ مَنْ قَهَرَ آخَرَ مَلَكَهُ فَهُوَ إذَا مَلَكَ هَؤُلَاءِ يُعْتَقُونَ عَلَيْهِ فَيَصِيرُونَ

أَحْرَارًا فَيَمْتَنِعُ بَيْعُهُمْ ، وَلَوْ جَاءَ بِبَعْضِ أَحْرَارِهِمْ قَالُوا : إنْ كَانُوا يَدِينُونَ أَنَّ مَنْ قَهَرَ شَخْصًا مَلَكَهُ جَازَ شِرَاؤُهُ مِنْهُ ، وَإِلَّا لَا ، مَعَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ فِيهِ إحْرَازٌ بِدَارٍ أُخْرَى غَيْرِ دَارِ الْمَقْهُورِ .
وَقَوْلُهُ : ( إلَّا إذَا غَدَرَ بِهِمْ مَلِكُهُمْ فَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ إلَخْ ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ لَا يَحِلُّ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِشَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَدِمَائِهِمْ ، وَكَذَا قَوْلُهُ : بِخِلَافِ الْأَسِيرِ الْمُسْلِمِ أَيْضًا ( لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَأْمَنٍ ) وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ حَيْثُ قَالَ ( فَيُبَاحُ لَهُ التَّعَرُّضُ ، وَإِنْ أَطْلَقُوهُ ) وَتَرَكُوهُ فِي دَارِهِ ( طَوْعًا ) أَوْ أَعْتَقُوهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُسْتَأْمَنْ ، وَعِتْقُهُمْ لَا عِبْرَةَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَمْلِكُوهُ فَلَهُ أَنْ يَقْتُلَ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ سَيِّدَهُ أَوْ غَيْرَهُ وَيَأْخُذَ مَالَهُ وَيَمْلِكَهُ مِلْكًا لَا خُبْثَ فِيهِ .
( فَإِنْ غَدَرَ بِهِمْ ) التَّاجِرُ ( فَأَخَذَ شَيْئًا ، وَأَخْرَجَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ مَلَكَهُ مِلْكًا مَحْظُورًا ؛ لِعَدَمِ وُرُودِ الِاسْتِيلَاءِ عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ ) عِنْدَ عَدَمِ الْإِحْرَازِ إلَّا أَنَّهُ بِسَبَبٍ مُحَرَّمٍ فَأَوْرَثَ خُبْثًا فِيهِ فَيَجِبُ التَّصَدُّقُ بِهِ كَمِلْكِ الْمَغْصُوبِ عِنْدَ الضَّمَانِ ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُهُ مَعَ حُرْمَةِ مُبَاشَرَتِهِ بِسَبَبِ الْمِلْكِ ( لِأَنَّ الْحَظْرَ لِغَيْرِهِ لَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ سَبَبِ الْمِلْكِ ) كَمَا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ .
وَقَوْلُهُ : ( عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ) يُرِيدُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ : الْمَحْظُورُ لِغَيْرِهِ إذَا صَلُحَ سَبَبًا لِكَرَامَةٍ تَفُوقُ الْمِلْكَ إلَخْ ، وَسَبِيلُ مَا يُمْلَكُ بِطَرِيقٍ مُحَرَّمٍ التَّصَدُّقُ بِهِ ، حَتَّى لَوْ كَانَ الْمَأْخُوذُ غَدْرًا جَارِيَةً لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا وَلَا لِلْمُشْتَرِي مِنْهُ ، بِخِلَافِ الْمُشْتَرَاةِ شِرَاءً فَاسِدًا فَإِنَّ حُرْمَةَ وَطْئِهَا عَلَى الْمُشْتَرِي خَاصَّةً ، وَتَحِلُّ لِلْمُشْتَرَى مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ فِيهِ ؛ لِثُبُوتِ حَقِّ الْبَائِعِ فِي الِاسْتِرْدَادِ ، وَبِبَيْعِ الْمُشْتَرِي انْقَطَعَ حَقُّهُ ذَلِكَ ؛

لِأَنَّهُ بَاعَ بَيْعًا صَحِيحًا فَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ ، وَهُنَا الْكَرَاهَةُ لِلْغَدْرِ وَالْمُشْتَرِي الثَّانِي كَالْأَوَّلِ فِيهِ .
أَمَّا لَوْ سَبَى قَوْمٌ أَهْلَ الدَّارِ الَّتِي هُوَ فِيهَا جَازَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُمْ مِنْ السَّابِي ؛ لِأَنَّهُمْ مَلَكُوهُمْ بِالْإِحْرَازِ وَهُمْ كَانُوا عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ فِي حَقِّهِ ، وَإِنَّمَا مَنَعَهُ الْغَدْرُ وَلَيْسَ ذَلِكَ غَدْرًا .
[ فَرْعٌ نَفِيسٌ مِنْ الْمَبْسُوطِ ] .
لَوْ أَغَارَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى أَهْلِ الدَّارِ الَّتِي فِيهِمْ الْمُسْلِمُ الْمُسْتَأْمَنُ ، لَا يَحِلُّ لَهُ قِتَالُ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ إلَّا إنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ الْقِتَالَ لَمَّا كَانَ تَعْرِيضًا لِنَفْسِهِ عَلَى الْهَلَاكِ لَا يَحِلُّ إلَّا لِذَلِكَ أَوْ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ ، وَهُوَ إذَا لَمْ يَخَفْ عَلَى نَفْسِهِ لَيْسَ قِتَالُهُ لِهَؤُلَاءِ إلَّا إعْلَاءً لِلْكُفْرِ .
وَلَوْ أَغَارَ أَهْلُ الْحَرْبِ الَّذِي فِيهِمْ مُسْلِمُونَ مُسْتَأْمَنُونَ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَأَسَرُوا ذَرَارِيَّهُمْ فَمَرُّوا بِهِمْ عَلَى أُولَئِكَ الْمُسْتَأْمَنِينَ وَجَبَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَنْقُضُوا عُهُودَهُمْ وَيُقَاتِلُوهُمْ إذَا كَانُوا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ رِقَابَهُمْ فَتَقْرِيرُهُمْ فِي أَيْدِيهِمْ تَقْرِيرٌ عَلَى الظُّلْمِ ، وَلَمْ يَضْمَنُوا ذَلِكَ لَهُمْ ، بِخِلَافِ الْأَمْوَالِ ؛ لِأَنَّهُمْ مَلَكُوهَا بِالْإِحْرَازِ ، وَقَدْ ضَمِنُوا لَهُمْ أَنْ لَا يَتَعَرَّضُوا لِأَمْوَالِهِمْ ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الْمَأْخُوذُونَ ذَرَارِيَّ الْخَوَارِجِ ؛ لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ .
وَمِنْ فُرُوعِهِ : لَوْ تَزَوَّجَ فِي دَارِ الْحَرْبِ مِنْهُمْ ثُمَّ أَخْرَجَهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ قَهْرًا مَلَكَهَا فَيَنْفَسِخُ النِّكَاحُ وَيَصِحُّ بَيْعُهُ فِيهَا ، وَإِنْ طَاوَعَتْهُ فَخَرَجَتْ طَوْعًا مَعَهُ لَا يَصِحُّ بَيْعُهَا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهَا .
وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ أَخَذُوا فِي تَصْوِيرِهَا مَا إذَا أَضْمَرَ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ يُخْرِجُهَا لِيَبِيعَهَا وَلَا بُدَّ مِنْهُ ، فَإِنَّهُ لَوْ أَخْرَجَهَا كَرْهًا لَا لِهَذَا الْغَرَضِ بَلْ لِاعْتِقَادِهِ

أَنَّ لَهُ أَنْ يَذْهَبَ بِزَوْجَتِهِ حَيْثُ شَاءَ إذَا أَوْفَاهَا مُعَجَّلَ مَهْرِهَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَمْلِكَهَا .

( وَإِذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَأَدَانَهُ حَرْبِيٌّ أَوْ أَدَانَ هُوَ حَرْبِيًّا أَوْ غَصَبَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ ثُمَّ خَرَجَ إلَيْنَا وَاسْتَأْمَنَ الْحَرْبِيُّ لَمْ يُقْضَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ ) أَمَّا الْإِدَانَةُ فَلِأَنَّ الْقَضَاءَ يَعْتَمِدُ الْوِلَايَةَ وَلَا وِلَايَةَ وَقْتَ الْإِدَانَةِ أَصْلًا وَلَا وَقْتَ الْقَضَاءِ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ ؛ لِأَنَّهُ مَا الْتَزَمَ حُكْمَ الْإِسْلَامِ فِيمَا مَضَى مِنْ أَفْعَالِهِ وَإِنَّمَا الْتَزَمَ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ .
وَأَمَّا الْغَصْبُ فَلِأَنَّهُ صَارَ مِلْكًا لِلَّذِي غَصَبَهُ وَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ لِمُصَادَفَتِهِ مَالًا غَيْرَ مَعْصُومٍ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَا حَرْبِيَّيْنِ فَعَلَا ذَلِكَ ثُمَّ خَرَجَا مُسْتَأْمَنَيْنِ لِمَا قُلْنَا ( وَلَوْ خَرَجَا مُسْلِمَيْنِ قُضِيَ بِالدَّيْنِ بَيْنَهُمَا وَلَمْ يُقْضَ بِالْغَصْبِ ) أَمَّا الْمُدَايَنَةُ فَلِأَنَّهَا وَقَعَتْ صَحِيحَةً لِوُقُوعِهَا بِالتَّرَاضِي ، وَالْوِلَايَةُ ثَابِتَةٌ حَالَةَ الْقَضَاءِ لِالْتِزَامِهِمَا الْأَحْكَامَ بِالْإِسْلَامِ .
وَأَمَّا الْغَصْبُ فَلِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ مِلْكُهُ وَلَا خُبْثَ فِي مِلْكِ الْحَرْبِيِّ حَتَّى يُؤْمَرَ بِالرَّدِّ .

( قَوْلُهُ : وَإِذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَأَدَانَهُ حَرْبِيٌّ أَوْ أَدَانَ هُوَ حَرْبِيًّا أَوْ غَصَبَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ ) مَالًا ( ثُمَّ خَرَجَ ) الْمُسْلِمُ ( إلَيْنَا وَاسْتَأْمَنَ الْحَرْبِيُّ ) فَخَرَجَ أَيْضًا مُسْتَأْمَنًا ( لَمْ يُقْضَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ .
أَمَّا الْإِدَانَةُ فَلِأَنَّ الْقَضَاءَ يَعْتَمِدُ الْوِلَايَةَ وَلَا وِلَايَةَ وَقْتَ الْإِدَانَةِ ) عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا ( وَلَا وَقْتَ الْقَضَاءِ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ ؛ لِأَنَّهُ مَا الْتَزَمَ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فِيمَا مَضَى مِنْ أَفْعَالِهِ ، وَإِنَّمَا الْتَزَمَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ) وَلَكِنْ يُفْتَى بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَهَذَا قَاصِرٌ كَمَا تَرَى لَا يَشْمَلُ وَجْهَ عَدَمِ الْقَضَاءِ عَلَى الْمُسْلِمِ ، وَلِذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ يُقْضَى عَلَى الْمُسْلِمِ ، وَعُمُومُ عَدَمِ الْقَضَاءِ كَمَا فِي الْهِدَايَةِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ .
وَاسْتَشْكَلَ قَوْلُهُمَا بِأَنَّ الْمُسْلِمَ مُلْتَزِمٌ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ مُطْلَقًا وَصَارَ كَمَا لَوْ خَرَجَا مُسْلِمَيْنِ .
وَكَوْنُ أَبِي حَنِيفَةَ اعْتَبَرَ دِيَانَةَ كُلٍّ مِنْهُمَا عِنْدَ الْقَضَاءِ هُوَ أَيْضًا مِمَّا يَحْتَاج إلَى مُوجِبٍ .
وَأَجَابَ فِي الْكَافِي بِأَنَّ ذَلِكَ لِلتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ ، وَلَا يَخْفَى ضَعْفُهُ ، فَإِنَّ وُجُوبَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا لَيْسَ فِي أَنْ يَبْطُلَ حَقُّ أَحَدِهِمَا بِلَا مُوجِبٍ لِوُجُوبِ إبْطَالِ حَقِّ الْآخَرِ بِمُوجِبٍ ، بَلْ إنَّمَا ذَلِكَ فِي الْإِقْبَالِ وَالْإِقَامَةِ وَالْإِجْلَاسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَالْإِدَانَةُ الْبَيْعُ بِالدَّيْنِ ، وَالِاسْتِدَانَةُ الِابْتِيَاعُ بِالدَّيْنِ .
( وَأَمَّا ) أَنَّهُ لَا يُقْضَى ( بِالْغَصْبِ ) لِكُلٍّ مِنْهُمَا ( فَلِأَنَّهُ صَارَ مِلْكًا لِلَّذِي غَصَبَهُ ) سَوَاءٌ كَانَ الْغَاصِبُ كَافِرًا فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ مُسْلِمًا مُسْتَأْمَنًا ( عَلَى مَا بَيَّنَّا ) أَيْ فِي بَابِ اسْتِيلَاءِ الْكُفَّارِ مِنْ أَنَّ الِاسْتِيلَاءَ وَرَدَ عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا خَرَجَ إلَى دَارِ

الْإِسْلَامِ ، وَفِي غَصْبِ الْمُسْلِمِ إذَا دَخَلَ وَاحِدٌ أَوْ اثْنَانِ مُغِيرَيْنِ دَارَ الْحَرْبِ إلَخْ ، إلَّا أَنَّ الْمُسْلِمَ الْمُسْتَأْمَنَ الْغَاصِبَ لِمَالِ الْحَرْبِيِّ يُؤْمَرُ بِالرَّدِّ إفْتَاءً لَا قَضَاءً ؛ لِتَرْتَفِعَ مَعْصِيَةُ الْغَدْرِ .
وَفِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ إشَارَةٌ إلَيْهِ كَمَا تَرَى ( وَكَذَا لَوْ كَانَا حَرْبِيَّيْنِ فَعَلَا ذَلِكَ ) أَيْ أَدَانَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ أَوْ غَصَبَهُ ( ثُمَّ خَرَجَا ) إلَيْنَا ( مُسْتَأْمَنَيْنِ لِمَا قُلْنَا ، فَإِنْ خَرَجَا مُسْلِمَيْنِ ) وَقَدْ أَدَانَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ أَوْ غَصَبَهُ ( يُقْضَى بِالدَّيْنِ بَيْنَهُمَا خَاصَّةً دُونَ الْغَصْبِ ) أَمَّا ( الْقَضَاءُ بِالْمُدَايَنَةِ ) أَيْ بِالدَّيْنِ ( فَلِأَنَّهَا ) حِينَ وَقَعَتْ ( وَقَعَتْ صَحِيحَةً ؛ لِوُقُوعِهَا بِالتَّرَاضِي ، وَالْوِلَايَةُ ثَابِتَةٌ حَالَةَ الْقَضَاءِ لِاعْتِرَافِهِمَا بِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ ) وَلَا تَرْجِيحَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ إذْ لَمْ يُقْضَ لِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ بَلْ سَوَّيْنَا بَيْنَهُمَا ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لَا يُحْتَاجُ إلَى هَذِهِ الْعِلَاوَةِ إذْ يُقْضَى لِلْحَرْبِيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ عَلَى قَوْلِهِ كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا .
( وَأَمَّا الْغَصْبُ ) فَإِنَّمَا لَا يُقْضَى بِهِ لِإِتْلَافِهِ فِيمَا مَلَكَهُ ( وَلَا خُبْثَ فِي مِلْكِ الْحَرْبِيِّ لِيُؤْمَرَ بِالرَّدِّ ) وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا .

( وَإِذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَغَصَبَ حَرْبِيًّا ثُمَّ خَرَجَا مُسْلِمَيْنِ أُمِرَ بِرَدِّ الْغَصْبِ وَلَمْ يُقْضَ عَلَيْهِ ) أَمَّا عَدَمُ الْقَضَاءِ فَلِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ مَلَكَهُ ، وَأَمَّا الْأَمْرُ بِالرَّدِّ وَمُرَادُهُ الْفَتْوَى بِهِ فَلِأَنَّهُ فَسَدَ الْمِلْكُ لِمَا يُقَارِنُهُ مِنْ الْمُحَرَّمِ وَهُوَ نَقْصُ الْعَهْدِ
( قَوْلُهُ : إذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ فَغَصَبَ حَرْبِيًّا ثُمَّ خَرَجَا مُسْلِمَيْنِ إلَخْ ) عُرِفَ أَحْكَامُهُمَا مِمَّا تَقَدَّمَ .

( وَإِذَا دَخَلَ مُسْلِمَانِ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً فَعَلَى الْقَاتِلِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ فِي الْخَطَإِ ) أَمَّا الْكَفَّارَةُ فَلِإِطْلَاقِ الْكِتَابِ ، وَأَمَّا الدِّيَةُ فَلِأَنَّ الْعِصْمَةَ الثَّابِتَةَ بِالْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ لَا تَبْطُلُ بِعَارِضِ الدُّخُولِ بِالْأَمَانِ ، وَإِنَّمَا لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ إلَّا بِمَنَعَةٍ ، وَلَا مَنَعَةَ دُونَ الْإِمَامِ وَجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، وَإِنَّمَا تَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ فِي الْعَمْدِ ؛ لِأَنَّ الْعَوَاقِلَ لَا تَعْقِلُ الْعَمْدَ ؛ وَفِي الْخَطَإِ لِأَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى الصِّيَانَةِ مَعَ تَبَايُنِ الدَّارَيْنِ وَالْوُجُوبُ عَلَيْهِمْ عَلَى اعْتِبَارِ تَرْكِهَا .

( قَوْلُهُ : وَإِذَا دَخَلَ مُسْلِمَانِ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَقُتِلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً فَعَلَى الْقَاتِلِ عَمْدًا الدِّيَةُ فِي مَالِهِ ) وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ( وَعَلَى الْقَاتِلِ خَطَأً الدِّيَةُ فِي مَالِهِ ) أَيْضًا ( وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ ) هَكَذَا فِي عَامَّةِ النُّسَخِ مِنْ شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَا ذِكْرِ خِلَافٍ .
وَذَكَرَ قَاضِي خَانْ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ شَخْصًا مَعْصُومًا بِالْإِسْلَامِ عُدْوَانًا وَظُلْمًا وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلْقِصَاصِ ، وَكَوْنُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا أَثَرَ لَهُ فِي سُقُوطِ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مُكَثِّرٌ سَوَادَهُمْ مِنْ وَجْهٍ ، وَلَوْ كَثَّرَهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بِأَنْ كَانَ مُتَوَطِّنًا هُنَاكَ لَا يَكُونُ مَعْصُومًا ، فَإِذَا كَانَ مُكَثِّرًا مِنْ وَجْهٍ تَمَكَّنَتْ الشُّبْهَةُ فِي قِيَامِ الْعِصْمَةِ فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ .
وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْقِصَاصَ فِي الْعَمْدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ مِنْ رِوَايَةِ الْإِمْلَاءِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ حَيْثُ كَانَ هُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يُنْتَقَضُ إحْرَازُهُ نَفْسَهُ بِذَلِكَ ، وَالْقِصَاصُ حَقٌّ لِلْوَلِيِّ يَنْفَرِدُ بِاسْتِيفَائِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى وِلَايَةِ الْإِمَامِ ، وَوَجْهُ الظَّاهِرِ يَنْدَرِجُ فِيمَا سَنَذْكُرُ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ : ( أَمَّا الْكَفَّارَةُ ) يَعْنِي فِي الْخَطَإِ ( فَلِإِطْلَاقِ الْكِتَابِ ) يَعْنِي قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } ( وَ ) وُجُوبُ الدِّيَةِ ( لِأَنَّ الْعِصْمَةَ الثَّابِتَةَ بِالْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ لَا تَبْطُلُ بِعَارِضِ الدُّخُولِ ) إلَى دَارِ الْحَرْبِ ( بِالْأَمَانِ ، وَإِنَّمَا لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ ) فِي الْعَمْدِ ( لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ إلَّا بِمَنَعَةٍ ، وَلَا مَنَعَةَ دُونَ الْإِمَامِ وَجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي دَارِ الْحَرْبِ ) فَلَا فَائِدَةَ فِي

الْوُجُوبِ .
وَإِذَا سَقَطَ الْقِصَاصُ وَجَبَتْ الدِّيَةُ ؛ لِأَنَّهُ بِسُقُوطِهِ بِعَارِضٍ مُقَارِنٍ لِلْقَتْلِ يَنْقَلِبُ كَقَتْلِ الرَّجُلِ ابْنَهُ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْإِمَامِ إقَامَتُهُ إذَا طَلَبَ الْوَلِيُّ تَمْكِينَهُ مِنْهُ ، وَلَا يَحِلُّ لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ قَتْلُ الْقَاتِلِ إذَا قَدَرَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ لَمْ يَنْعَقِدْ سَبَبًا مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ وَهُوَ مُشْكِلٌ ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْوِلَايَةِ قَاصِرَةً وَقْتَ السَّبَبِ لَا تَمْنَعُ مِنْ الْقَضَاءِ عِنْدَ الطَّلَبِ إذَا كَانَتْ ثَابِتَةً عِنْدَهُ ، كَمَا لَوْ رَفَعَ إلَى قَاضٍ مُطَالَبَةً بِثَمَنِ مَبِيعٍ صَدَرَ الْبَيْعُ فِيهِ قَبْلَ وِلَايَةِ الْقَاضِي فَإِنَّ وِلَايَتَهُ مُنْعَدِمَةٌ عِنْدَ السَّبَبِ ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ بِالثَّمَنِ عِنْدَ الْمُرَافَعَةِ ؛ لِأَنَّ الْعِصْمَةَ الْمُؤْثِمَةَ بِالْإِسْلَامِ قَائِمَةٌ ، وَالْقَتْلُ الْعَمْدُ الْعُدْوَانُ ثَابِتٌ وَهُوَ السَّبَبُ ، وَالْمَانِعُ وَهُوَ اسْتِيفَاءُ الْإِمَامِ مُنْتَفٍ لِمَا ذُكِرَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْإِقَامَةَ يَنْفَرِدُ بِهَا الْوَلِيُّ فَمَنْعُهُ مِنْهُ خِلَافُ الدَّلِيلِ .
فَالْأَقْرَبُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ثُبُوتِ الشُّبْهَةِ الْمُسْقِطَةِ لِلْقِصَاصِ بِتَكْثِيرِ سَوَادِهِمْ مِنْ وَجْهٍ عَلَى مَا فِيهِ ، إذْ نَمْنَعُ كَوْنَ ذَلِكَ شُبْهَةً تُوجِبُ السُّقُوطَ ، أَوْ أَنَّ دَارَ الْحَرْبِ دَارُ إبَاحَةٍ فَالْكَوْنُ فِيهَا شُبْهَةٌ دَارِئَةٌ .
وَقَدْ يُقَالُ : إنْ قُلْتُمْ إنَّهَا دَارُ إبَاحَةِ لِلْقَتْلِ مُطْلَقًا فَمَمْنُوعٌ أَوْ قَتْلُ الْكَافِرِ فِيهِ فَلَا يُفِيدُ .
وَيُجَابُ بِأَنَّ كَوْنَهَا دَارَ إبَاحَةٍ لَهُ فِي الْجُمْلَةِ كَافٍ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَتَلَ رَجُلًا قَالَ لَهُ اُقْتُلْنِي لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ ، مَعَ أَنَّ إبَاحَةَ الشَّرْعِ قَتْلَهُ لَمْ تَحْصُلْ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ بَلْ إبَاحَةٌ مِنْ جِهَتِهِ وَقَدْ جُعِلَ ذَلِكَ مَانِعًا إلَّا أَنْ نَمْنَعَ عَدَمَ الْقِصَاصِ فِي قَوْلِهِ اُقْتُلْنِي .
فَإِنْ قِيلَ : مَا ذَكَرْتُمْ مُخَالِفٌ لِإِطْلَاقِ قَوْله تَعَالَى { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ } وَ { النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } ، فَالْجَوَابُ أَنَّهُ عَامٌّ

مَخْصُوصٌ بِالْقَتْلِ خَطَأً ، فَإِنَّهُ قَتْلٌ وَلَيْسَ يَجِبُ فِيهِ قِصَاصٌ ، وَنَحْوُ ذَلِكَ فَجَازَ تَخْصِيصُهُ بِالْمَعْنَى أَيْضًا .
قَالَ : ( وَإِنَّمَا تَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ فِي الْعَمْدِ ؛ لِأَنَّ الْعَوَاقِلَ لَا تَعْقِلُ الْعَمْدَ ، وَفِي الْخَطَأِ ) إنَّمَا تَجِبُ أَيْضًا فِي مَالِهِ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ بِتَرْكِهِمْ وَتَقْصِيرِهِمْ فِي حِفْظِ الْقَاتِلِ وَمَنْعِهِ مِنْ ذَلِكَ ، وَلَا تَقْصِيرَ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ إذَا كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ .

( وَإِنْ كَانَا أَسِيرَيْنِ فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ أَوْ قَتَلَ مُسْلِمٌ تَاجِرٌ أَسِيرًا ) فَلَا شَيْءَ عَلَى الْقَاتِلِ إلَّا الْكَفَّارَةُ فِي الْخَطَإِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : ( فِي الْأَسِيرَيْنِ الدِّيَةُ فِي الْخَطَإِ وَالْعَمْدِ ) ؛ لِأَنَّ الْعِصْمَةَ لَا تَبْطُلُ بِعَارِضِ الْأَسْرِ كَمَا لَا تَبْطُلْ بِعَارِضِ الِاسْتِئْمَانِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ، وَامْتِنَاعُ الْقِصَاصِ ؛ لِعَدَمِ الْمَنَعَةِ وَيَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ لِمَا قُلْنَا .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ بِالْأَسْرِ صَارَ تَبَعًا لَهُمْ ؛ لِصَيْرُورَتِهِ مَقْهُورًا فِي أَيْدِيهِمْ ، وَلِهَذَا يَصِيرُ مُقِيمًا بِإِقَامَتِهِمْ وَمُسَافِرًا بِسَفَرِهِمْ فَيَبْطُلُ بِهِ الْإِحْرَازُ أَصْلًا وَصَارَ كَالْمُسْلِمِ الَّذِي لَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا ، وَخَصَّ الْخَطَأَ بِالْكَفَّارَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ فِي الْعَمْدِ عِنْدَنَا .

( قَوْلُهُ : وَإِنْ كَانَا ) أَيْ الْمُسْلِمَانِ ( أَسِيرَيْنِ فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ أَوْ قَتَلَ مُسْلِمٌ تَاجِرٌ أَسِيرًا فَلَا شَيْءَ عَلَى الْقَاتِلِ ) مِنْ أَحْكَامِ الدُّنْيَا ( إلَّا الْكَفَّارَةَ فِي الْخَطَإِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ عِقَابُ الْآخِرَةِ فِي الْعَمْدِ ( وَقَالَا : فِي الْأَسِيرَيْنِ الدِّيَةُ فِي الْخَطَإِ وَالْعَمْدِ ؛ لِأَنَّ الْعِصْمَةَ لَا تَبْطُلُ بِعَارِضِ الْأَسْرِ كَمَا لَا تَبْطُلُ بِالِاسْتِئْمَانِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ) يَعْنِي مِنْ قَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ الْعِصْمَةَ الثَّابِتَةَ بِالْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ لَا تَبْطُلُ بِعَارِضِ الدُّخُولِ بِالْأَمَانِ فَكَانَ الْأَسِيرَانِ كَالْمُسْتَأْمَنَيْنِ ( وَ ) أَمَّا ( امْتِنَاعُ الْقِصَاصِ فَلِعَدَمِ الْمَنَعَةِ ) كَمَا ذَكَرْنَا ( وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ ؛ لِمَا قُلْنَا ) أَنَّ الْعَوَاقِلَ لَا تَعْقِلُ الْعَمْدَ .
هَذَا وَقِيَاسُ مَا نَقَلَ قَاضِي خَانْ عَنْهُمَا فِي الْمُسْلِمَيْنِ الْمُسْتَأْمَنِينَ مِنْ وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْعَمْدِ أَنْ يَقُولَا بِهِ فِي الْأَسِيرَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْوَجْهَ يَعُمُّهُمَا ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ ) وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَسِيرَيْنِ وَالْمُسْتَأْمَنَيْنِ ( أَنَّ بِالْأَسْرِ صَارَ تَبَعًا لَهُمْ لِصَيْرُورَتِهِ مَقْصُورًا فِي أَيْدِيهِمْ حَتَّى يَصِيرَ مُقِيمًا بِإِقَامَتِهِمْ وَمُسَافِرًا بِسَفَرِهِمْ فَيَبْطُلُ بِهِ الْإِحْرَازُ أَصْلًا ) ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ غَيْرُ مَعْصُومٍ فَكَذَا تَبِعَهُ ( وَصَارَ كَالْمُسْلِمِ الَّذِي لَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا ) فِي سُقُوطِ عِصْمَتِهِ الدُّنْيَوِيَّةِ بِجَامِعِ كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا مَقْهُورًا فِي أَيْدِيهِمْ وَ ) إنَّمَا ( خَصَّ الْكَفَّارَةَ بِالْخَطَإِ ؛ لِأَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ فِي الْعَمْدِ عِنْدَنَا ) كَمَا يُعْرَفُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
هَذَا وَالْأَقْرَبُ أَنْ يَجْرِيَ فِيهِمَا حَدِيثُ الشُّبْهَةِ كَمَا تَقَدَّمَ عَلَى مَا فِيهِ .

فَصْلٌ قَالَ : ( وَإِذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ إلَيْنَا مُسْتَأْمَنًا لَمْ يُمَكَّنْ أَنْ يُقِيمَ فِي دَارِنَا سَنَةً وَيَقُولُ لَهُ الْإِمَامُ : إنْ أَقَمْتَ تَمَامَ السَّنَةِ وَضَعْتُ عَلَيْك الْجِزْيَةُ ) وَالْأَصْلُ أَنَّ الْحَرْبِيَّ لَا يُمَكَّنُ مِنْ إقَامَةٍ دَائِمَةٍ فِي دَارِنَا إلَّا بِالِاسْتِرْقَاقِ أَوْ الْجِزْيَةِ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ عَيْنًا لَهُمْ وَعَوْنًا عَلَيْنَا فَتَلْتَحِقُ الْمَضَرَّةُ بِالْمُسْلِمِينَ ، وَيُمَكَّنُ مِنْ الْإِقَامَةِ الْيَسِيرَةِ ؛ لِأَنَّ فِي مَنْعِهَا قَطْعَ الْمِيرَةِ وَالْجَلَبِ وَسَدَّ بَابِ التِّجَارَةِ ، فَفَصَلْنَا بَيْنَهُمَا بِسَنَةٍ ؛ لِأَنَّهَا مُدَّةٌ تَجِبُ فِيهَا الْجِزْيَةُ فَتَكُونُ الْإِقَامَةُ لِمَصْلَحَةِ الْجِزْيَةِ ، ثُمَّ إنْ رَجَعَ بَعْدَ مَقَالَةِ الْإِمَامِ قَبْلَ تَمَامِ السَّنَةِ إلَى وَطَنِهِ فَلَا سَبِيلَ عَلَيْهِ ، وَإِذَا مَكَثَ سَنَةً فَهُوَ ذِمِّيٌّ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَقَامَ سَنَةً بَعْدَ تَقَدُّمِ الْإِمَامِ إلَيْهِ صَارَ مُلْتَزِمًا الْجِزْيَةَ فَيَصِيرُ ذِمِّيًّا ، وَلِلْإِمَامِ أَنْ يُؤَقِّتَ فِي ذَلِكَ مَا دُونَ السَّنَةِ كَالشَّهْرِ وَالشَّهْرَيْنِ ( وَإِذَا أَقَامَهَا بَعْدَ مَقَالَةِ الْإِمَامِ يَصِيرُ ذِمِّيًّا ) لِمَا قُلْنَا ( ثُمَّ لَا يُتْرَكُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ ) ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ لَا يُنْقَضُ ، كَيْفَ وَأَنَّ فِيهِ قَطْعَ الْجِزْيَةِ وَجَعْلَ وَلَدِهِ حَرْبًا عَلَيْنَا وَفِيهِ مَضَرَّةٌ بِالْمُسْلِمِينَ .

( فَصْلٌ ) ( قَوْلُهُ : وَإِذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ إلَيْنَا مُسْتَأْمَنًا لَمْ يُمَكَّنْ أَنْ يُقِيمَ فِي دَارِنَا سَنَةً ) ثُمَّ يَرْجِعُ ( بَلْ يَقُولُ لَهُ الْإِمَامُ إنْ أَقَمْتَ تَمَامَ السَّنَةِ وَضَعْتُ عَلَيْك الْجِزْيَةَ .
وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ الْحَرْبِيَّ لَا يُمَكَّنُ مِنْ إقَامَةٍ دَائِمَةٍ فِي دَارِنَا إلَّا بِالِاسْتِرْقَاقِ أَوْ بِالْجِزْيَةِ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ عَيْنًا لَهُمْ ) أَيْ جَاسُوسًا ( وَعَوْنًا عَلَيْنَا فَتَلْتَحِقُ الْمَضَرَّةُ بِالْمُسْلِمِينَ وَيُمَكَّنُ مِنْ الْإِقَامَةِ الْيَسِيرَةِ ؛ لِأَنَّ فِي مَنْعِهَا قَطْعُ الْمِيرَةِ وَالْجَلَبِ ) وَهُوَ مَا يُجْلَبُ مِنْ حَيَوَانٍ وَغَيْرِهِ ( فَفَصَّلْنَا بَيْنَ الدَّائِمَةِ وَالْيَسِيرَةِ بِسَنَةٍ ؛ لِأَنَّهَا مُدَّةٌ تَجِبُ فِيهَا الْجِزْيَةُ ، فَإِنْ رَجَعَ قَبْلَهَا فَلَا سَبِيلَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ أَقَامَهَا بَعْدَ تَقَدُّمِ الْإِمَامِ إلَيْهِ ) أَيْ قَوْلُهُ : لَهُ مَا يَعْتَمِدُهُ فِي ضَرْبِ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِ صَارَ ذِمِّيًّا ( فَلَا يُمَكَّنُ بَعْدَهَا مِنْ الْعَوْدِ إلَى دَارِهِ ) ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ لَا يُنْقَضُ إذْ فِيهِ قَطْعُ الْجِزْيَةِ ( وَتَصْيِيرُهُ وَوَلَدَهُ حَرْبًا عَلَيْنَا وَفِيهِ مَضَرَّةٌ بِالْمُسْلِمِينَ ) وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ جِزْيَةٌ لِلسَّنَةِ الَّتِي أَقَامَهَا إلَّا إنْ قَالَ لَهُ : إنْ أَقَمْتهَا أَخَذْت مِنْك الْجِزْيَةَ .
وَقَوْلُهُ بَعْدَ تَقَدُّمِ الْإِمَامِ يُفِيدُ اشْتِرَاطَ تَقَدُّمِ الْإِمَامِ إلَيْهِ فِي مَنْعِهِ مِنْ الْعَوْدِ إذَا أَقَامَ سَنَةً ، وَبِهِ صَرَّحَ الْعَتَّابِيُّ فَقَالَ : ( لَوْ أَقَامَ سِنِينَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَقَدَّم إلَيْهِ الْإِمَامُ فَلَهُ الرُّجُوعُ ) .
قِيلَ : وَلَفْظُ الْمَبْسُوطِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَقَدُّمَ الْإِمَامِ لَيْسَ شَرْطًا لِصَيْرُورَتِهِ ذِمِّيًّا ، فَإِنَّهُ قَالَ : يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَقَدَّم إلَيْهِ فَيَأْمُرَهُ إلَى أَنْ قَالَ : وَإِنْ لَمْ يُقَدِّرْ لَهُ مُدَّةً فَالْمُعْتَبَرُ الْحَوْلُ وَلَيْسَ بِلَازِمٍ ؛ لِأَنَّهُ يُصَدَّقُ بِقَوْلِهِ إنْ أَقَمْت طَوِيلًا مَنَعْتُك مِنْ الْعَوْدِ ، فَإِنْ أَقَامَ سَنَةً مَنَعَهُ ، وَفِي هَذَا اشْتِرَاطُ التَّقَدُّمِ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يُوَقِّتْ

لَهُ مُدَّةً خَاصَّةً ، وَالْوَجْهُ أَنْ لَا يَمْنَعَهُ حَتَّى يَتَقَدَّمَ إلَيْهِ وَلَا أَنْ يُوَقِّتَ مُدَّةً قَلِيلَةً كَالشَّهْرِ وَالشَّهْرَيْنِ ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُلْحِقَهُ عُسْرًا بِتَقْصِيرِ الْمُدَّةِ جِدًّا خُصُوصًا إذَا كَانَ لَهُ مُعَامَلَاتٌ يَحْتَاجُ فِي اقْتِضَائِهَا إلَى مُدَّةٍ مَدِيدَةٍ .
[ فُرُوعٌ ] لَوْ مَاتَ الْمُسْتَأْمَنُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ عَنْ مَالٍ وَوَرَثَتُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وُقِفَ مَالُهُ لِوَرَثَتِهِ ، فَإِذَا قَدِمُوا فَلَا بُدَّ أَنْ يُقِيمُوا الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ فَيَأْخُذُوا ، فَإِنْ أَقَامُوا بَيِّنَةً مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ قُبِلَتْ اسْتِحْسَانًا ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُمْكِنُهُمْ إقَامَتَهَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّ أَنْسَابَهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يَعْرِفُهَا الْمُسْلِمُونَ فَصَارَ كَشَهَادَةِ النِّسَاءِ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ ، فَإِذَا قَالُوا : لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُمْ دَفَعَ إلَيْهِمْ الْمَالَ ، وَأَخَذَ مِنْهُمْ كَفِيلًا لِمَا يَظْهَرُ فِي الْمَآلِ مِنْ ذَلِكَ .
قِيلَ : هُوَ قَوْلُهُمَا لَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا فِي الْمُسْلِمِينَ .
وَقِيلَ بَلْ هُوَ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا ، وَلَا يُقْبَلُ كِتَابُ مَلِكِهِمْ وَلَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ كِتَابُهُ ، وَإِذَا رَجَعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ لَا يُمَكَّنُ أَنْ يَرْجِعَ مَعَهُ بِسِلَاحٍ اشْتَرَاهُ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ بَلْ بِاَلَّذِي دَخَلَ بِهِ ، فَإِنْ بَاعَ سَيْفَهُ وَاشْتَرَى بِهِ قَوْسًا أَوْ نُشَّابًا أَوْ رُمْحًا لَا يُمَكَّنُ مِنْهُ ، وَكَذَا لَوْ اشْتَرَى سَيْفًا أَحْسَنَ مِنْهُ ، فَإِنْ كَانَ مِثْلَ الْأَوَّلِ أَوْ دُونَهُ مُكِّنَ مِنْهُ ، وَمَنْ وُجِدَ فِي دَارِنَا بِلَا أَمَانٍ فَهُوَ وَمَا مَعَهُ فَيْءٌ ، فَإِنْ قَالَ : دَخَلْت بِأَمَانٍ لَمْ يُصَدَّقْ وَأُخِذَ ، وَلَوْ قَالَ : أَنَا رَسُولٌ ، فَإِنْ وُجِدَ مَعَهُ كِتَابٌ يُعْرَفُ أَنَّهُ كِتَابُ مَلِكِهِمْ بِعَلَامَةٍ تُعْرَفُ بِذَلِكَ كَانَ آمِنًا فَإِنَّ الرَّسُولَ لَا يَحْتَاجُ إلَى أَمَانٍ خَاصٍّ بَلْ بِكَوْنِهِ رَسُولًا يَأْمَنُ ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ فَهُوَ زُورٌ فَيَكُونُ هُوَ وَمَا مَعَهُ فَيْئًا ، وَإِذَا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ بِلَا أَمَانٍ فَأَخَذَهُ

وَاحِدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَا يَخْتَصُّ بِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بَلْ يَكُونُ فَيْئًا لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَهُوَ رِوَايَةُ بِشْرٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ، وَظَاهِرُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ يَخْتَصُّ بِهِ ، وَلَوْ دَخَلَ الْحَرَمَ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُؤْخَذُ وَيَكُون فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا لَا وَلَكِنْ لَا يُطْعَمُ وَلَا يُسْقَى وَلَا يُؤْذَى حَتَّى يَخْرُجَ .

( فَإِنْ دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَنَا بِأَمَانٍ وَاشْتَرَى أَرْضَ خَرَاجٍ فَإِذَا وُضِعَ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ فَهُوَ ذِمِّيٌّ ) ؛ لِأَنَّ خَرَاجَ الْأَرْضِ بِمَنْزِلَةِ خَرَاجِ الرَّأْسِ ، فَإِذَا الْتَزَمَهُ صَارَ مُلْتَزِمًا الْمَقَامَ فِي دَارِنَا ، أَمَّا بِمُجَرَّدِ الشِّرَاءِ لَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَشْتَرِيهَا لِلتِّجَارَةِ ، وَإِذَا لَزِمَهُ خَرَاجُ الْأَرْضِ فَبَعْدَ ذَلِكَ تَلْزَمُهُ الْجِزْيَةُ لِسَنَةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ ذِمِّيًّا بِلُزُومِ الْخَرَاجِ فَتُعْتَبَرُ الْمُدَّةُ مِنْ وَقْتِ وُجُوبِهِ .
وَقَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ فَإِذَا وُضِعَ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ فَهُوَ ذِمِّيٌّ تَصْرِيحٌ بِشَرْطِ الْوَضْعِ فَيَتَخَرَّجُ عَلَيْهِ أَحْكَامٌ جَمَّةٌ فَلَا تَغْفُلْ عَنْهُ .

( قَوْلُهُ : وَإِنْ دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَنَا بِأَمَانٍ وَاشْتَرَى أَرْضَ خَرَاجٍ فَإِذَا وُضِعَ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ صَارَ ذِمِّيًّا ) وَكَذَا لَوْ اشْتَرَى عُشْرِيَّةً فَإِنَّهَا تَسْتَمِرُّ عُشْرِيَّةً عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ ، فَإِنَّهَا وَظِيفَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ تَصِيرُ خَرَاجِيَّةً فَتُؤْخَذُ مِنْهُ جِزْيَةُ سَنَةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ مِنْ وَقْتِ وَضْعِ الْخَرَاجِ ، وَتَثْبُتُ أَحْكَامُ الذِّمِّيِّ فِي حَقِّهِ مِنْ مَنْعِ الْخُرُوجِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ ، وَجَرَيَانِ الْقِصَاصِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِ وَضَمَانِ الْمُسْلِمِ قِيمَةَ خَمْرِهِ وَخِنْزِيرِهِ إذَا أَتْلَفَهُ ، وَوُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَيْهِ إذَا قَتَلَهُ خَطَأً ، وَوُجُوبِ كَفِّ الْأَذَى عَنْهُ ، فَتَحْرُمُ غَيْبَتُهُ كَمَا تَحْرُمُ غَيْبَةُ الْمُسْلِمِ فَضْلًا عَمَّا يَفْعَلُهُ السُّفَهَاءُ مِنْ صَفْعِهِ وَشَتْمِهِ فِي الْأَسْوَاقِ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا .
وَهَذِهِ الْأَحْكَامُ الْجَمَّةُ الَّتِي نَبَّهَ عَلَيْهَا الْمُصَنِّفُ وَالْجَمُّ الْكَثِيرُ ، وَالْمُرَادُ بِوَضْعِ الْخَرَاجِ إلْزَامُهُ بِهِ ، وَأَخْذُهُ مِنْهُ عِنْدَ حُلُولِ وَقْتِهِ ، وَمُنْذُ بَاشَرَ السَّبَبَ وَهُوَ زِرَاعَتُهَا أَوْ تَعْطِيلُهَا مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْهَا إذَا كَانَتْ فِي مِلْكِهِ أَوْ زِرَاعَتُهَا بِالْإِجَارَةِ وَهِيَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ إذَا كَانَ خَرَاجَ مُقَاسَمَةٍ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ لَا مِنْ الْمَالِكِ فَيَصِيرُ بِهِ ذِمِّيًّا ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَتْ الْأَرْضُ الَّتِي اسْتَأْجَرَهَا خَرَاجُهَا عَلَى مَالِكِهَا فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا إذَا دَخَلَ وَقْتُ الْأَخْذِ ؛ لِعَدَمِ الْأَخْذِ مِنْهُ .
وَكَذَا إذَا أُخِذَ مِنْهُ الْعُشْرُ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ ، وَلَا يُظَنُّ بِوَضْعِ الْإِمَامِ وَتَوْظِيفِهِ أَنْ يَقُولَ وَظَّفْت عَلَى هَذِهِ الْأَرْضِ الْخَرَاجَ وَنَحْوَهُ ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ قَطُّ لَا يَقُولُ فِي كُلِّ قِطْعَةِ أَرْضٍ كَذَلِكَ ، بَلْ الْخَرَاجُ مِنْ حِينِ اسْتَقَرَّ وَظِيفَةً لِلْأَرَاضِيِ الْمَعْلُومَةِ اسْتَمَرَّ عَلَى كُلِّ مَنْ صَارَتْ إلَيْهِ .
نَعَمْ لَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا بِمُجَرَّدِ شِرَائِهَا كَمَا قِيلَ ؛ لِأَنَّهُ بِهِ الْتَزَمَهُ ؛ لِأَنَّهُ

غَيْرُ لَازِمٍ لِجَوَازِ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا لِلتِّجَارَةِ فَلَا يُحْكَمُ بِالذِّمَّةِ عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِهِ حَتَّى يَزُولَ هَذَا الِاحْتِمَالُ بِاسْتِمْرَارِهَا فِي يَدِهِ حَتَّى يُؤْخَذَ مِنْهُ الْخَرَاجُ بِتَعْطِيلِهَا أَوْ زِرَاعَتِهَا .

( وَإِذَا دَخَلَتْ حَرْبِيَّةٌ بِأَمَانٍ فَتَزَوَّجَتْ ذِمِّيًّا صَارَتْ ذِمِّيَّةً ) ؛ لِأَنَّهَا الْتَزَمَتْ الْمُقَامَ تَبَعًا لِلزَّوْجِ ( وَإِذَا دَخَلَ حَرْبِيٌّ بِأَمَانٍ فَتَزَوَّجَ ذِمِّيَّةً لَمْ يَصِرْ ذِمِّيًّا ) ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَيَرْجِعُ إلَى بَلَدِهِ فَلَمْ يَكُنْ مُلْتَزِمًا الْمُقَامَ .
( قَوْلُهُ : وَإِذَا دَخَلَتْ حَرْبِيَّةٌ دَارَنَا بِأَمَانٍ فَتَزَوَّجَتْ ذِمِّيًّا صَارَتْ ذِمِّيَّةً ) فَفِي تَزَوُّجِهَا مُسْلِمًا أَوْلَى ، وَعَكْسُهُ مَا لَوْ دَخَلَ حَرْبِيٌّ فَتَزَوَّجَ ذِمِّيَّةً لَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا كَمَا قَالَ بِهِ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ فِي الْحَرْبِيَّةِ أَيْضًا قِيَاسًا عَلَى الرَّجُلِ ، وَنَحْنُ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بِأَنَّ تَزَوُّجَهُ لَيْسَ دَلَالَةَ الْتِزَامِهِ الْمَقَامَ ، فَإِنَّ فِي يَدِهِ طَلَاقَهَا وَالْمُضِيَّ عَنْهَا بِخِلَافِهَا ، فَحِينَ أَقْدَمَتْ عَلَيْهِ كَانَتْ مُلْتَزِمَةً بِمَا يَأْتِي مِنْهُ ، وَمِنْهُ عَدَمُ الطَّلَاقِ وَمَنْعُهَا مِنْ الْخُرُوجِ إلَى دَارِهَا فَتَصِيرُ ذِمِّيَّةً فَيُوضَعُ الْخَرَاجُ عَلَى أَرْضِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ .

( وَلَوْ أَنَّ حَرْبِيًّا دَخَلَ دَارَنَا بِأَمَانٍ ثُمَّ عَادَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَتَرَكَ وَدِيعَةً عِنْدَ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ أَوْ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِمْ فَقَدْ صَارَ دَمُهُ مُبَاحًا بِالْعَوْدِ ) ؛ لِأَنَّهُ أَبْطَلَ أَمَانَهُ ( وَمَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مِنْ مَالِهِ عَلَى خَطَرٍ ، فَإِنْ أُسِرَ أَوْ ظُهِرَ عَلَى الدَّارِ فَقُتِلَ سَقَطَتْ دُيُونُهُ وَصَارَتْ الْوَدِيعَةُ فَيْئًا ) أَمَّا الْوَدِيعَةُ فَلِأَنَّهَا فِي يَدِهِ تَقْدِيرًا ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمُودَعِ كَيَدِهِ فَيَصِيرُ فَيْئًا تَبَعًا لِنَفْسِهِ ، وَأَمَّا الدَّيْنُ فَلِأَنَّ إثْبَاتَ الْيَدِ عَلَيْهِ بِوَاسِطَةِ الْمُطَالَبَةِ وَقَدْ سَقَطَتْ ، وَيَدُ مَنْ عَلَيْهِ أَسْبَقُ إلَيْهِ مِنْ يَدِ الْعَامَّةِ فَيَخْتَصُّ بِهِ فَيَسْقُطُ ( وَإِنْ قُتِلَ وَلَمْ يُظْهَرْ عَلَى الدَّارِ فَالْقَرْضُ الْوَدِيعَةُ لِوَرَثَتِهِ ) وَكَذَلِكَ إذَا مَاتَ ؛ لِأَنَّ نَفْسَهُ لَمْ تَصِرْ مَغْنُومَةً فَكَذَلِكَ مَالُهُ ، وَهَذَا لِأَنَّ حُكْمَ الْأَمَانِ بَاقٍ فِي مَالِهِ فَيُرَدُّ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى وَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ .

( قَوْلُهُ : وَلَوْ أَنَّ حَرْبِيًّا دَخَلَ دَارَنَا بِأَمَانٍ ثُمَّ عَادَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَتَرَكَ وَدِيعَةً عِنْدَ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ أَوْ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِمْ فَقَدْ صَارَ دَمُهُ مُبَاحًا بِالْعَوْدِ وَمَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مِنْ مَالِهِ ) لَهُ مَا دَامَ حَيًّا ، وَإِنْ مَاتَ فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ ، وَكَذَا إذَا قُتِلَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُظْهَرَ عَلَى دَارِهِمْ كَمَا إذَا مَاتَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّ مَالَهُ مَشْمُولٌ بِأَمَانِنَا مَا دَامَ فِي دَارِنَا ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَإِنْ قِيلَ : يَنْبَغِي أَنْ يَصِيرَ فَيْئًا كَمَا إذَا أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَهُ وَدِيعَةٌ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ ظُهِرَ عَلَى دَارِهِمْ تَكُونُ فَيْئًا وَلَا تَكُونُ يَدُ الْمُودِعِ كَيَدِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ .
أُجِيبَ بِالْفَرْقِ بِأَنَّ مَا فِي دَارِ الْحَرْبِ مَعْصُومٌ مِنْ وَجْهٍ لَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، فَإِنَّ دَارَ الْحَرْبِ دَارُ إبَاحَةٍ لَا عِصْمَةٍ فَلَا يَصِيرُ مَعْصُومًا بِالشَّكِّ بِخِلَافِ مَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ تَثْبُتُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَيَبْقَى إلَى أَنْ يَثْبُتَ الْمُزِيلُ وَهُوَ أَنْ يَصِيرَ نَفْسُهُ مَغْنُومًا وَذَلِكَ بِأَنْ يُؤْسَرَ أَوْ يُظْهَرَ عَلَى دَارِهِ فَيُقْتَلَ فَحِينَئِذٍ تَصِيرُ الْوَدِيعَةِ فَيْئًا لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ تُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهَا فِي يَدِهِ تَقْدِيرًا ، فَإِذَا غُنِمَ غُنِمَتْ ، بِخِلَافِ مَا لَهُ مِنْ الْوَدِيعَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ عِنْدَ الْمُسْلِمِ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي يَدِهِ كَذَلِكَ بَلْ مِنْ وَجْهٍ كَمَا ذَكَرْنَا ، ثُمَّ هَذَا ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا يَخْتَصُّ بِهَا الْمُودِعُ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الدَّيْنِ ، وَأَمَّا الدَّيْنُ فَيَسْقُطُ عَمَّنْ فِي ذِمَّتِهِ ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ يَدِهِ عَلَيْهِ مُنْتَفٍ إذْ قَدْ صَارَ مِلْكًا لِلْمَدْيُونِ ، وَإِنَّمَا هِيَ ثَابِتَةٌ بِاعْتِبَارِ ثُبُوتِ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ وَقَدْ سَقَطَتْ بِاسْتِغْنَامِهِ فَيَسْقُطُ الدَّيْنُ .
وَإِذَا حَقَّقْتَ هَذَا ظَهَرَ لَك أَنَّ اخْتِصَاصَ الْمَدْيُونِ بِهِ ضَرُورِيٌّ غَيْرُ

مُحْتَاجٍ إلَى تَعْلِيلِهِ بِأَنَّهُ سَبَقَتْ يَدُهُ إلَيْهِ .

قَالَ : ( وَمَا أَوْجَفَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ بِغَيْرِ قِتَالٍ يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا يُصْرَفُ الْخَرَاجُ ) قَالُوا : هُوَ مِثْلُ الْأَرَاضِي الَّتِي أَجْلَوْا أَهْلَهَا عَنْهَا وَالْجِزْيَةِ وَلَا خُمُسَ فِي ذَلِكَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : فِيهِمَا الْخُمُسُ اعْتِبَارًا بِالْغَنِيمَةِ .
وَلَنَا مَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَخَذَ الْجِزْيَةَ وَكَذَا عُمَرُ وَمُعَاذٌ ، وَوُضِعَ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَلَمْ يُخَمَّسْ وَلِأَنَّهُ مَالٌ مَأْخُوذٌ بِقُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ ، بِخِلَافِ الْغَنِيمَةِ ؛ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ بِمُبَاشَرَةِ الْغَانِمِينَ وَبِقُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَاسْتَحَقَّ الْخُمُسَ بِمَعْنًى وَاسْتَحَقَّهُ الْغَانِمُونَ بِمَعْنًى ، وَفِي هَذَا السَّبَبِ وَاحِدٌ ، وَهُوَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فَلَا مَعْنَى لِإِيجَابِ الْخُمُسِ .

( قَوْلُهُ : وَمَا أَوْجَفَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ بِغَيْرِ قِتَالٍ ) أَيْ مَا أَعْمَلُوا خَيْلَهُمْ وَرِكَابَهُمْ فِي تَحْصِيلِهِ بِلَا قِتَالٍ .
وَالْوَجْفُ وَالْوَجِيفُ ضَرْبٌ مِنْ سَيْرِ الْإِبِلِ وَالْخَيْلِ ، وَيُقَالُ وَجَفَ الْبَعِيرُ وَجْفًا وَوَجِيفًا ، وَأَوْجَفْتُهُ إذَا حَمَلْته عَلَى الْوَجِيفِ ( يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا يُصْرَفُ الْخَرَاجِ ) وَكَذَا الْجِزْيَةُ فِي عُمَارَةِ الْقَنَاطِرِ وَالْجُسُورِ وَسَدِّ الثُّغُورِ وَكَرْيِ الْأَنْهَارِ الْعِظَامِ الَّتِي لَا مِلْكَ لِأَحَدٍ فِيهَا كَجَيْحُونَ وَالْفُرَاتِ وَدِجْلَةَ ، وَإِلَى أَرْزَاقِ الْقُضَاةِ وَالْمُحْتَسَبِينَ وَالْمُعَلِّمِينَ وَالْمُقَاتِلَةِ وَحِفْظِ الطَّرِيقِ مِنْ اللُّصُوصِ فَلَا يَخْتَصُّ بِهِ وَلَا شَيْءَ مِنْهُ أَحَدٌ .
( قَالُوا : هُوَ مِثْلُ الْأَرَاضِي الَّتِي أَجْلَوْا أَهْلَهَا عَنْهَا وَالْجِزْيَةِ وَلَا خُمُسَ فِي ذَلِكَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : فِيهِمَا ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ : فِيهَا أَيْ الْأَرْضِ ، وَالْجِزْيَةُ وَالْخَرَاجُ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ كَمَا يُصْرَفُ الْخَرَاجُ ، وَيُقَالُ أَجْلَى السُّلْطَانُ الْقَوْمَ وَجَلَّاهُمْ يَتَعَدَّى بِلَا هَمْزَةٍ : أَيْ أَخْرَجَهُمْ فَجَلَوْا : أَيْ خَرَجُوا ، وَأَجْلَى الْقَوْمُ أَيْضًا خَرَجُوا ، فَكُلٌّ مِنْ ذِي الْهَمْزَةِ وَعَدَمِهَا يَتَعَدَّى وَلَا يَتَعَدَّى .
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ كُلَّ مَا أُخِذَ مِنْ الْكُفَّارِ بِلَا قِتَالٍ عَنْ خَوْفٍ أَوْ أُخِذَ مِنْهُمْ لِلْكَفِّ عَنْهُمْ يُخَمَّسُ ، وَمَا أُخِذَ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ كَالْجِزْيَةِ وَعُشْرِ التِّجَارَةِ وَمَالِ مَنْ مَاتَ وَلَا وَارِثَ لَهُ فَفِي الْقَدِيمِ لَا يُخَمَّسُ ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَفِي الْجَدِيدِ يُخَمَّسُ .
وَلِأَحْمَدَ فِي الْفَيْءِ رِوَايَتَانِ الظَّاهِرُ مِنْهُمَا لَا يُخَمَّسُ ، ثُمَّ هَذَا الْخُمُسُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُصْرَفُ إلَى مَنْ يُصْرَفُ إلَيْهِ خُمُسُ الْغَنِيمَةِ عِنْدَهُ عَلَى مَا مَرَّ ، وَذَكَرُوا أَنَّ قَوْلَهُ فِي الْجِزْيَةِ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ .
قَالَ الْكَرْخِيُّ : مَا قَالَ بِهِ أَحَدٌ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ وَلَا فِي عَصْرِهِ .
وَوَجْهُ

قَوْلِهِ الْقِيَاسُ عَلَى الْغَنِيمَةِ بِجَامِعِ أَنَّهُ مَالٌ مَأْخُوذٌ مِنْ الْكُفَّارِ عَنْ قُوَّةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ .
وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ بِفِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، فَإِنَّهُ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ وَنَصَارَى نَجْرَانَ ، وَفَرَضَ الْجِزْيَةَ عَلَى أَهْلِ الْيَمَنِ عَلَى كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا ، وَلَمْ يُنْقَلْ قَطُّ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ خَمَّسَهُ بَلْ كَانَ بَيْنَ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَوْ كَانَ لَنُقِلَ وَلَوْ بِطَرِيقٍ ضَعِيفٍ عَلَى مَا قَضَتْ بِهِ الْعَادَةُ ، وَمُخَالَفَةُ مَا قَضَتْ بِهِ الْعَادَةُ بَاطِلٌ فَوُقُوعُهُ بَاطِلٌ ، بَلْ قَدْ وَرَدَ فِيهِ خِلَافُهُ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ ضَعْفٌ ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد عَنْ ابْنٍ لِعَدِيِّ بْنِ عَدِيٍّ الْكِنْدِيِّ : أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ إلَى مَنْ سَأَلَهُ عَنْ مَوَاضِعِ الْفَيْءِ أَنَّهُ مَا حَكَمَ بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَرَآهُ الْمُؤْمِنِينَ عَدْلًا مُوَافِقًا لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { جَعَلَ اللَّهُ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ وَقَلْبِهِ } فَرَضَ الْأَعْطِيَةَ وَعَقَدَ لِأَهْلِ الْأَدْيَانِ ذِمَّةً بِمَا فَرَضَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْجِزْيَةِ لَمْ يَضْرِبْ فِيهَا بِخُمُسٍ وَلَا مَغْنَمٍ .
وَأَمَّا مَا فِي السُّنَنِ عَنْ عُمَرَ : كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِمَّا لَمْ يُوجِفْ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ كَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِصَةً يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ قُوتَ سَنَةٍ فَمَا بَقِيَ جَعَلَهُ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ عِدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ .
فَمَعْنَاهُ أَنَّ التَّصَرُّفَ فِيهَا كَانَ إلَيْهِ كَيْفَ شَاءَ ، بَلْ يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَصَارِفَ بَيْتِ الْمَالِ إذْ ذَاكَ لَمْ تَكُنْ أَكْثَرَ مِنْ نَفَقَةِ الْأَئِمَّةِ وَآلَاتِ الْجِهَادِ مِنْ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ وَنَفَقَتِهِ هُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إذْ لَمْ يَكُنْ إذْ ذَاكَ قُضَاةٌ وَلَا جُسُورٌ وَلَا قَنَاطِرُ ، وَأَمَّا نَفَقَةُ الْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ فَنَحْنُ نَقْطَعُ بِأَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ مَا

تَحَقَّقَتْ لَهُ أَدْنَى قُدْرَةٍ عَلَيْهِ ، وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَفِي تَقْرِيرِ الْمُصَنِّفِ دَفْعُهُ وَهُوَ قَوْلُهُ : ( وَلِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ بِقُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ ، بِخِلَافِ الْغَنِيمَةِ ؛ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ بِكُلٍّ مِنْ مُبَاشَرَةِ الْغَانِمِينَ وَقُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَاسْتُحِقَّ الْخُمُسُ بِمَعْنًى وَاسْتُحِقَّ الْبَاقِي لِلْغَانِمِينَ بِمَعْنًى ، وَفِي هَذَا السَّبَبِ وَاحِدٌ ، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا ) مِنْ الرُّعْبِ الْخَالِي عَنْ الْقِتَالِ فَلَمْ يَكُنْ لِأَبْعَاضِهِ مُسْتَحِقُّونَ بِجِهَتَيْنِ بَلْ اسْتِحْقَاقُهُ بِجِهَةٍ وَاحِدَةٍ .

( وَإِذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَنَا بِأَمَانٍ وَلَهُ امْرَأَةٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَأَوْلَادٌ صِغَارٌ وَكِبَارٌ وَمَالٌ أَوْدَعَ بَعْضَهُ ذِمِّيًّا وَبَعْضَهُ حَرْبِيًّا وَبَعْضَهُ مُسْلِمًا فَأَسْلَمَ هَاهُنَا ثُمَّ ظُهِرَ عَلَى الدَّارِ فَذَلِكَ كُلُّهُ فَيْءٌ ) أَمَّا الْمَرْأَةُ وَأَوْلَادُهُ الْكِبَارُ فَظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّهُمْ حَرْبِيُّونَ كِبَارٌ وَلَيْسُوا بِأَتْبَاعٍ ، وَكَذَلِكَ مَا فِي بَطْنِهَا لَوْ كَانَتْ حَامِلًا لِمَا قُلْنَا مِنْ قَبْلُ .
وَأَمَّا أَوْلَادُهُ الصِّغَارُ فَلِأَنَّ الصَّغِيرَ إنَّمَا يَصِيرُ مُسْلِمًا تَبَعًا لِإِسْلَامِ أَبِيهِ إذَا كَانَ فِي يَدِهِ وَتَحْتَ وِلَايَتِهِ ، وَمَعَ تَبَايُنِ الدَّارَيْنِ لَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ ، وَكَذَا أَمْوَالُهُ لَا تَصِيرُ مُحْرَزَةً بِإِحْرَازِهِ نَفْسَهُ لِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ فَبَقِيَ الْكُلُّ فَيْئًا وَغَنِيمَةً ( وَإِنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ جَاءَ فَظُهِرَ عَلَى الدَّارِ فَأَوْلَادُهُ الصِّغَارُ أَحْرَارٌ مُسْلِمُونَ ) تَبَعًا لِأَبِيهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا تَحْتَ وِلَايَتِهِ حِينَ أَسْلَمَ إذْ الدَّارُ وَاحِدَةٌ ( وَمَا كَانَ مِنْ مَالٍ أَوْدَعَهُ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا فَهُوَ لَهُ ) ؛ لِأَنَّهُ فِي يَدٍ مُحْتَرَمَةٍ وَيَدُهُ كَيَدِهِ ( وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَيْءٌ ) أَمَّا الْمَرْأَةُ وَأَوْلَادُهُ الْكِبَارُ فَلِمَا قُلْنَا .
وَأَمَّا الْمَالُ الَّذِي فِي يَدِ الْحَرْبَى ؛ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مَعْصُومًا ؛ لِأَنَّ يَدَ الْحَرْبِيِّ لَيْسَتْ يَدًا مُحْتَرَمَةً .

( قَوْلُهُ : وَإِذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَنَا بِأَمَانٍ وَلَهُ امْرَأَةٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، وَأَوْلَادٌ صِغَارٌ وَكِبَارٌ وَمَالٌ أَوْدَعَ بَعْضَهُ ذِمِّيًّا وَبَعْضَهُ حَرْبِيًّا وَبَعْضَهُ مُسْلِمًا فَأَسْلَمَ هُنَا ) أَيْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ( ثُمَّ ظُهِرَ ) عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ ( عَلَى دَارِهِمْ فَذَلِكَ كُلُّهُ فَيْءٌ .
أَمَّا الْمَرْأَةُ وَالْأَوْلَادُ الْكِبَارُ فَإِنَّهُمْ حَرْبِيُّونَ وَلَيْسُوا بِأَتْبَاعٍ ) لِلَّذِي خَرَجَ ؛ لِأَنَّهُمْ كِبَارٌ ( وَكَذَا مَا فِي بَطْنِهَا لَوْ كَانَتْ حَامِلًا ) يَكُونُ فَيْئًا مَرْقُوقًا ( لِمَا قُلْنَا ) فِي بَابِ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ مِنْ أَنَّهُ جُزْؤُهَا ( وَأَمَّا أَوْلَادُهُ الصِّغَارُ فَلِأَنَّ الصَّغِيرَ إنَّمَا يَصِيرُ مُسْلِمًا تَبَعًا لِإِسْلَامِ أَبِيهِ إذَا كَانَ فِي يَدِهِ وَتَحْتَ وِلَايَتِهِ ، وَمَعَ تَبَايُنِ الدَّارَيْنِ لَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ ، وَكَذَا أَمْوَالُهُ لَا تَصِيرُ مُحْرَزَةً بِإِحْرَازِهِ نَفْسَهُ ) بِالْإِسْلَامِ ( لِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ فَبَقِيَ الْكُلُّ فَيْئًا .
فَأَمَّا إذَا أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ جَاءَ ) .
إلَيْنَا ( فَظُهِرَ عَلَى الدَّارِ ) وَبَاقِي الصُّورَةِ بِحَالِهَا .
( فَأَوْلَادُهُ الصِّغَارُ أَحْرَارٌ مُسْلِمُونَ تَبَعًا لِأَبِيهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا تَحْتَ وِلَايَتِهِ حِينَ أَسْلَمَ ) وَلَوْ كَانَ فِي بَلْدَةٍ أُخْرَى غَيْرِ الْبَلْدَةِ الَّتِي هُمْ فِيهِمَا ( إذْ الدَّارُ وَاحِدَةٌ ، وَمَا كَانَ لَهُ مِنْ مَالٍ أَوْدَعَهُ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا فَهُوَ سَالِمٌ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ فِي يَدٍ مُحْتَرَمَةٍ وَيَدُهُ كَيَدِهِ ) ؛ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْهُ فِي الْحِفْظِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ فِي يَدِهِمَا غَصْبًا فَإِنَّهُ يَكُونُ فَيْئًا لِعَدَمِ النِّيَابَةِ .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ فَيْئًا إلَّا مَا كَانَ مِنْ غَصْبٍ عِنْدَ حَرْبِيٍّ وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ ، وَتَقَدَّمَتْ هَاتَانِ الْمَسْأَلَتَانِ مَعَ أُخْرَيَيْنِ فِي بَابِ الْغَنَائِمِ مُسْتَوْفًى .

( وَإِذَا أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَقَتَلَهُ مُسْلِمٌ عَمْدًا أَوْ خَطَأً وَلَهُ وَرَثَةٌ مُسْلِمُونَ هُنَاكَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إلَّا الْكَفَّارَةُ فِي الْخَطَأِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : تَجِبُ الدِّيَةُ فِي الْخَطَإِ وَالْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ ؛ لِأَنَّهُ أَرَاقَ دَمًا مَعْصُومًا ( لِوُجُودِ الْعَاصِمِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ ) لِكَوْنِهِ مُسْتَجْلِبًا لِلْكَرَامَةِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْعِصْمَةَ أَصْلُهَا الْمُؤْثِمَةُ ؛ لِحُصُولِ أَصْلِ الزَّجْرِ بِهَا وَهِيَ ثَابِتَةٌ إجْمَاعًا ، وَالْمُقَوَّمَةُ كَمَالٍ فِيهِ لِكَمَالِ الِامْتِنَاعِ بِهِ فَيَكُونُ وَصْفًا فِيهِ فَتَتَعَلَّقُ بِمَا عُلِّقَ بِهِ الْأَصْلُ .
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } الْآيَةَ .
جَعَلَ التَّحْرِيرَ كُلَّ الْمُوجِبِ رُجُوعًا إلَى حَرْفِ الْفَاءِ أَوْ إلَى كَوْنِهِ كُلَّ الْمَذْكُورِ فَيَنْتَفِي غَيْرُهُ ، وَلِأَنَّ الْعِصْمَةَ الْمُؤْثِمَةَ بِالْآدَمِيَّةِ لِأَنَّ الْآدَمِيَّ خُلِقَ مُتَحَمِّلًا أَعْبَاءَ التَّكْلِيفِ ، وَالْقِيَامَ بِهَا بِحُرْمَةِ التَّعَرُّضِ ، وَالْأَمْوَالُ تَابِعَةٌ لَهَا .
أَمَّا الْمُقَوَّمَةُ فَالْأَصْلُ فِيهَا الْأَمْوَالُ ؛ لِأَنَّ التَّقَوُّمَ يُؤْذِنُ بِجَبْرِ الْفَائِتِ وَذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ دُونَ النُّفُوسِ ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِهِ التَّمَاثُلَ ، وَهُوَ فِي الْمَالِ دُونَ النَّفْسِ فَكَانَتْ النُّفُوسُ تَابِعَةً ، ثُمَّ الْعِصْمَةُ الْمُقَوَّمَةُ فِي الْأَمْوَالِ بِالْإِحْرَازِ بِالدَّارِ ؛ لِأَنَّ الْعِزَّةَ بِالْمَنَعَةِ فَكَذَلِكَ فِي النُّفُوسِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَسْقَطَ اعْتِبَارَ مَنَعَةِ الْكَفَرَةِ ؛ لِمَا أَنَّهُ أَوْجَبَ إبْطَالَهَا .
وَالْمُرْتَدُّ وَالْمُسْتَأْمَنُ فِي دَارِنَا مِنْ أَهْلِ دَارِهِمْ حُكْمًا لِقَصْدِهِمَا الِانْتِقَالَ إلَيْهَا

( قَوْلُهُ : وَإِذَا أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَقَتَلَهُ مُسْلِمٌ عَمْدًا أَوْ خَطَأً وَلَهُ وَرَثَةٌ مُسْلِمُونَ ) صَالِحُونَ ؛ لِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ ( فَلَا شَيْءَ عَلَى الْقَاتِلِ إلَّا الْكَفَّارَةُ فِي الْخَطَأِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : تَجِبُ الدِّيَةُ فِي الْخَطَإِ وَالْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ ) وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ ( لِأَنَّهُ أَرَاقَ دَمًا مَعْصُومًا ) بِالْإِسْلَامِ ( لِكَوْنِ الْإِسْلَامِ مُسْتَحِقًّا لِلْكَرَامَةِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْعِصْمَةَ أَصْلُهَا ) الْعِصْمَةُ ( الْمُؤْثِمَةُ ؛ لِحُصُولِ أَصْلِ الزَّجْرِ بِهَا ) أَيْ بِالْعِصْمَةِ ، وَلَوْ قَالَ بِهِ ، أَيْ بِالْإِثْمِ لَكَانَ أَحْسَنَ ( وَ ) الْعِصْمَةُ ( الْمُقَوَّمَةُ كَمَالٍ فِيهِ ) أَيْ فِي أَصْلِ الْعِصْمَةِ ( لِكَمَالِ الِامْتِنَاعِ بِهِ ) أَيْ التَّقْوِيمِ عَلَى الْمُنْتَهِكِ لَهَا ( فَتُعَلَّقُ ) هَذِهِ الْعِصْمَةُ ( بِمَا عُلِّقَ بِهِ الْأَصْلُ ) أَعْنِي الْمُؤْثِمَةَ .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ " فَتَنْصَرِفُ الْعِصْمَةُ إلَى كَمَالِهَا وَذَلِكَ بِالْمُقَوَّمَةِ وَالْمُؤْثِمَةِ ، وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } فَإِنَّهُ فِي الْقَتْلِ الْخَطَإِ ، وَلَمْ يُسْتَدَلَّ عَلَى مَنْعِ الْقِصَاصِ فِي الْعَمْدِ اكْتِفَاءً بِمَا ذُكِرَ فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ دَلَالَةِ الْآيَةِ ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَفَاضَ فِي تَفَاصِيلِ مُوجِبَاتِ الْقَتْلِ الْخَطَإِ فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ إلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا } فَأَوْجَبَ الدِّيَةَ وَالْكَفَّارَةَ ثُمَّ قَالَ { فَإِنْ كَانَ } أَيْ الْمَقْتُولُ { مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ فَعُرِفَ أَنَّهُ تَمَامُ الْمُوجِبِ ؛ لِأَنَّهُ مُفِيضٌ فِي بَيَانِ حُكْمِ قَتْلِ الْمُسْلِمِ الْكَائِنِ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَنَا فَقَالَ مُوجِبُهُ كَذَا وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ فَكَانَ كُلَّ الْمُوجِبِ ،

وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ بَيَانًا لِمُوجِبِهِ بَلْ لِبَعْضِ مُوجِبِهِ ، وَزَادَ الْمُصَنِّفُ وَجْهًا آخَرَ قَدَّمَهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : رُجُوعًا إلَى حَرْفِ الْفَاءِ ، وَقَرَّرَ بِأَنَّ الْفَاءَ لِلْجَزَاءِ وَالْجَزَاءُ هُوَ الْكَافِي يُقَالُ جَزَى فُلَانٌ : أَيْ كَفَى وَهُوَ سَهْوٌ ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْجَزَاءِ الْمَجْعُولِ مَعْنَى الْفَاءِ لَفْظٌ اصْطِلَاحِيٌّ : أَيْ جَعْلِيٌّ لَا أَنَّ اللُّغَةَ وَضَعَتْ لَفْظَ الْفَاءِ لِمَعْنَى لَفْظِ الْجَزَاءِ حَتَّى يُقَالَ الْجَزَاءُ الَّذِي هُوَ مَعْنَى الْفَاءِ الْكَافِي .
بَلْ الْمُرَادُ بِقَوْلِ النُّحَاةِ الْفَاءُ لِلْجَزَاءِ : أَيْ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَهَا مُسَبَّبٌ عَمَّا قَبْلَهَا فَسُمِّيَ الْمُسَبَّبُ جَزَاءً اصْطِلَاحًا لَا لُغَةً فَلْيُتَأَمَّلْ .
( وَلِأَنَّ الْعِصْمَةَ الْمُؤْثِمَةَ ) فِي الْأَصْلِ ( بِالْآدَمِيَّةِ ) لَا بِوَصْفِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ خُلِقَ مُتَحَمِّلًا أَعْبَاءَ التَّكَالِيفِ وَالْقِيَامِ بِهَا ) لَا يُمْكِنُ إلَّا مَعَ ( حُرْمَةِ التَّعَرُّضِ لَهُ ) ، وَإِنَّمَا زَالَتْ بِعَارِضِ الْكُفْرِ فَإِذَا انْتَفَى عَادَتْ بِخِلَافِ الْأَمْوَالِ ؛ لِأَنَّهَا بِحَسَبِ الْأَصْلِ مُبَاحَةٌ ؛ لِأَنَّهَا خُلِقَتْ لِلِانْتِفَاعِ بِهَا وَالْعِصْمَةُ الْمُقَوَّمَةُ بِالْعَكْسِ فَالْأَمْوَالُ هِيَ الْأَصْلُ فِيهَا لَا النُّفُوسُ ( لِأَنَّ التَّقَوُّمَ يُؤْذِنُ بِجَبْرِ الْفَائِتِ ) وَمِنْ شَرْطِهِ التَّمَاثُلُ وَهُوَ فِي الْأَمْوَالِ لَا النُّفُوسِ ، فَكَانَتْ النُّفُوسُ تَابِعَةً فِي الْعِصْمَةِ الْمُقَوِّمَةِ لِلْأَمْوَالِ .
( ثُمَّ الْعِصْمَةُ الْمُقَوَّمَةُ فِي الْأَمْوَالِ بِالْإِحْرَازِ بِالدَّارِ ؛ لِأَنَّ الْعِزَّةَ بِالْمَنَعَةِ ، فَكَذَا فِي النُّفُوسِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَبْطَلَ اعْتِبَارَ مَنَعَةِ الْكُفْرِ ) فَأَوْجَبَ بُطْلَانَهَا .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ صَحَّ مَا ذَكَرْتُمْ لَزِمَ فِي الْمُرْتَدِّ وَالْمُسْتَأْمَنِ إذَا قُتِلَا فِي دَارِنَا الدِّيَةُ .
أَجَابَ بِأَنَّهُمَا ( مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ حُكْمًا لِقَصْدِ الِانْتِقَالِ إلَيْهَا ) فَلَمْ يَجِبْ شَيْءٌ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ } فَنَقُولُ :

لَا شَكَّ فِي ثُبُوتِ الْعِصْمَةِ شَرْعًا وَلَا يَسْتَلْزِمُ كَمَالُهَا إلَّا بِدَلِيلٍ ، وَلَوْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ فَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَّا بِحَقِّهِ وَمِنْ حَقِّهِ أَنْ يَكُونُوا فِي دَارِنَا لَا يُكَثِّرُونَ سَوَادَ الْعَدُوِّ إلَّا أَنَّ هَذَا لَا يَنْتَهِضُ فِي الْأَسِيرِ الْمُسْلِمِ .

( وَمَنْ قَتَلَ مُسْلِمًا خَطَأً لَا وَلِيَّ لَهُ أَوْ قَتَلَ حَرْبِيًّا دَخَلَ إلَيْنَا بِأَمَانٍ فَأَسْلَمَ فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ لِلْإِمَامِ وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ ) ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ نَفْسًا مَعْصُومَةً خَطَأً فَتُعْتَبَرُ بِسَائِرِ النُّفُوسِ الْمَعْصُومَةِ ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ لِلْإِمَامِ أَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا وَارِثَ لَهُ ( وَإِنْ كَانَ عَمْدًا فَإِنْ شَاءَ الْإِمَامُ قَتَلَهُ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الدِّيَةَ ) ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ مَعْصُومَةٌ ، وَالْقَتْلَ عَمْدٌ ، وَالْوَلِيَّ مَعْلُومٌ وَهُوَ الْعَامَّةُ أَوْ السُّلْطَانُ .
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { السُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ } وَقَوْلُهُ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الدِّيَةَ مَعْنَاهُ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الْعَمْدِ وَهُوَ الْقَوَدُ عَيْنًا ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ أَنْفَعُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ الْقَوَدِ فَلِهَذَا كَانَ لَهُ وِلَايَةُ الصُّلْحِ عَلَى الْمَالِ ( وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْفُوَ ) ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لِلْعَامَّةِ وَوِلَايَتُهُ نَظَرِيَّةٌ وَلَيْسَ مِنْ النَّظَرِ إسْقَاطُ حَقِّهِمْ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ .

( قَوْلُهُ : وَمَنْ قَتَلَ مُسْلِمًا خَطَأً لَا وَلِيَّ لَهُ أَوْ قَتَلَ حَرْبِيًّا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ فَأَسْلَمَ فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ لِلْإِمَامِ وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ نَفْسًا مَعْصُومَةً ) بِالْإِسْلَامِ وَدَارِهِ ( خَطَأً ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ : لِلْإِمَامِ أَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لَهُ لَا وَارِثَ لَهُ ) بِالْفَرْضِ لَا أَنَّ الْمَأْخُوذَ يَمْلِكُهُ هُوَ بَلْ يُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ ، ( وَإِنْ كَانَ ) قَتْلُ الْمُسْلِمِ الَّذِي لَا وَارِثَ لَهُ وَالْمُسْتَأْمَنِ الَّذِي أَسْلَمَ ، وَلَمْ يُسْلِمْ مَعَهُ وَارِثٌ قَصْدًا وَلَا تَبَعًا بِأَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ وَلَدٌ صَغِيرٌ دَخَلَ بِهِ إلَيْنَا ( عَمْدًا فَإِنْ شَاءَ الْإِمَامُ قَتَلَهُ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الدِّيَةَ ) مِنْهُ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ لَا الْجَبْرِ ( لِأَنَّ مُوجِبَ الْعَمْدِ عِنْدَنَا الْقِصَاصُ عَيْنًا ) إلَّا أَنْ يَتَصَالَحُوا عَلَى الدِّيَةِ ، وَإِنَّمَا كَانَ لِلسُّلْطَانِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ وَلِيُّ الْمَقْتُولِ .
( قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : السُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ } ) وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي بَابِ الْأَوْلِيَاءِ وَالْأَكْفَاءِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ فَارْجِعْ إلَيْهِ .
وَالدِّيَةُ ، وَإِنْ كَانَتْ أَنْفَعَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ قَتْلِهِ لَكِنْ قَدْ يَعُودُ إلَيْهِمْ مِنْ قَتْلِهِ مَنْفَعَةٌ أُخْرَى هِيَ أَنْ يَنْزَجِرَ أَمْثَالُهُ عَنْ قَتْلِ الْمُسْلِمِينَ فَيُرَى بِمَا هُوَ أَنْفَعُ فِي رَأْيِهِ ، وَبِمَا ذَكَرْنَا ظَهَرَ أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ : وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ قَدْ تَكُونُ أَنْفَعَ ، وَإِلَّا كَانَ يَتَعَيَّنُ الصُّلْحُ مِنْهُ عَلَيْهَا .
( وَأَمَّا أَنْ يَعْفُوَ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ عَلَى الْعَامَّةِ نَظَرِيَّةٌ وَلَيْسَ مِنْ النَّظَرِ إسْقَاطُ حَقِّهِمْ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ ) وَلَوْ كَانَ الْمَقْتُولُ لَقِيطًا فَقَتَلَهُ الْمُلْتَقِطُ أَوْ غَيْرُهُ خَطَأً فَلَا إشْكَالَ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ لِبَيْتِ الْمَالِ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ وَالْكَفَّارَةُ عَلَيْهِ ، وَلَوْ كَانَ الْقَتْلُ عَمْدًا فَإِنْ شَاءَ الْإِمَامُ قَتَلَهُ ،

وَإِنْ شَاءَ صَالَحَهُ عَلَى الدِّيَةِ كَاَلَّتِي قَبْلَهَا ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : عَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ وَلَا أَقْتُلُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ وَلِيٍّ كَالْأَبِ وَنَحْوِهِ إنْ كَانَ ابْنَ رَشْدَةٍ ، وَكَالْأُمِّ إنْ كَانَ ابْنَ زِنًا ، فَاشْتَبَهَ مَنْ لَهُ حَقُّ الْقِصَاصِ فَلَا يُسْتَوْفَى كَالْمُكَاتَبِ الَّذِي قُتِلَ قَبْلَ أَدَاءِ الْكِتَابَةِ ، وَتَرَكَ وَفَاءً .
وَلَهُمَا أَنَّهُ لَا يُعْلَمُ لَهُ وَلِيٌّ وَلَا هُوَ فِي مَظِنَّتِهِ ، وَاحْتِمَالُ كَوْنِهِ لَهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَا يُفِيدُ إذْ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ فَكَانَ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ سَوَاءً ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِانْتِفَاعِ فَيُسْتَوْفَى .

( بَابُ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ ) قَالَ : ( أَرْضُ الْعَرَبِ كُلُّهَا أَرْضُ عُشْرٍ ، وَهِيَ مَا بَيْنَ الْعُذَيْبِ إلَى أَقْصَى حَجَرٍ بِالْيُمْنِ بِمَهْرَةَ إلَى حَدِّ الشَّامِّ وَالسَّوَادُ أَرْضُ خَرَاجٍ ، وَهُوَ مَا بَيْنَ الْعُذَيْبِ إلَى عَقَبَةِ حُلْوَانَ ، وَمِنْ الثَّعْلَبِيَّةِ وَيُقَالُ مِنْ الْعَلْثِ إلَى عَبَّادَانَ ) ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ لَمْ يَأْخُذُوا الْخَرَاجَ مِنْ أَرَاضِي الْعَرَبِ ، وَلِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْفَيْءِ فَلَا يَثْبُتُ فِي أَرَاضِيِهِمْ كَمَا لَا يَثْبُتُ فِي رِقَابِهِمْ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ وَضْعَ الْخَرَاجِ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يُقَرَّ أَهْلُهَا عَلَى الْكُفْرِ كَمَا فِي سَوَادِ الْعِرَاقِ وَمُشْرِكُو الْعَرَبِ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إلَّا الْإِسْلَامُ أَوْ السَّيْفُ ، وَعُمَرُ حِينَ فَتَحَ السَّوَادَ وَضَعَ الْخَرَاجَ عَلَيْهَا بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ ، وَوَضَعَ عَلَى مِصْرَ حِينَ افْتَتَحَهَا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ ، وَكَذَا اجْتَمَعَتْ الصَّحَابَةُ عَلَى وَضْعِ الْخَرَاجِ عَلَى الشَّامِ .

بَابُ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ ) لَمَّا ذَكَرَ مَا يَصِيرُ بِهِ الْمُسْتَأْمَنُ ذِمِّيًّا ذَكَرَ مَا يَنُوبُهُ مِنْ الْوَظَائِفِ الْمَالِيَّةِ إذَا صَارَ ذِمِّيًّا وَذَلِكَ هُوَ الْخَرَاجُ فِي أَرْضِهِ وَرَأْسِهِ ، وَفِي تَفَارِيعِهِمَا كَثْرَةٌ فَأَوْرَدَهُمَا فِي بَابَيْنِ ، وَقَدَّمَ خَرَاجَ الْأَرْضِ ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيهِ كَانَ بِعَرْضٍ قَرِيبٍ ، ثُمَّ ذَكَرَ الْعُشْرَ فِيهِ أَيْضًا تَتْمِيمًا لِوَظِيفَةِ الْأَرْضِ ؛ لِأَنَّهَا السَّبَبُ فِي الْخَرَاجِ وَالْعُشْرِ جَمِيعًا ، وَقَدَّمَ ذِكْرَ الْعُشْرِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ .
وَالْعُشْرُ لُغَةً وَاحِدٌ مِنْ الْعَشَرَةِ ، وَالْخَرَاجُ مَا يَخْرُجُ مِنْ نَمَاءِ الْأَرْضِ أَوْ نَمَاءِ الْغُلَامِ ، وَسُمِّيَ بِهِ مَا يَأْخُذُهُ السُّلْطَانُ مِنْ وَظِيفَةِ الْأَرْضِ وَالرَّأْسِ ، وَحَدَّدَ الْأَرَاضِيَ الْعُشْرِيَّةَ وَالْخَرَاجِيَّةَ أَوَّلًا ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ أَضْبَطُ فَقَالَ ( أَرْضُ الْعَرَبِ كُلُّهَا عُشْرِيَّةٌ وَهُوَ مَا بَيْنَ الْعُذَيْبِ ) وَهُوَ مَاءٌ لِتَمِيمٍ وَذَكَرَ ضَمِيرَ الْأَرْضِ بِاعْتِبَارِ خَبَرِهِ وَهُوَ لَفْظُ " مَا " فِي قَوْلِهِ مَا بَيْنَ الْعُذَيْبِ ( إلَى أَقْصَى حَجَرٍ بِالْيَمَنِ ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ وَهِيَ عَلَى الظَّاهِرِ ، وَحَجَرٌ بِفَتْحِ الْجِيمِ ، وَإِسْكَانِهَا خَطَأٌ ؛ لِأَنَّ أَبَا يُوسُفَ قَالَ : حُدُودُ أَرْضِ الْعَرَبِ مَا وَرَاء حُدُودِ الْكُوفَةِ إلَى أَقْصَى صَخْرٍ بِالْيَمَنِ ، فَعُرِفَ أَنَّهُ حَجَرٌ بِالْفَتْحِ ، وَالْمُرَادُ إلَى آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْيَمَنِ وَهُوَ آخِرُ حَجَرٍ مِنْهَا ، وَمَهَرَةُ حِينَئِذٍ فِي آخِرِ مَوْضِعٍ مِنْ الْيَمَنِ ، وَقَوْلُهُمْ مِنْ أَوَّلِ عَذِيبِ الْقَادِسِيَّةِ إلَى آخِرِ حَجَرٍ يُوجِبُ أَنَّ ذَلِكَ أَوَّلُ مَا وَرَاءَ أَرْضِ الْكُوفَةِ ، هَذَا طُولُهَا ، وَعَرْضُهَا مِنْ رَمْلِ يَبْرِينَ وَالدَّهْنَاءِ وَيُعْرَفُ بِرَمْلِ عَالِجٍ إلَى مَشَارِفِ الشَّامِ : أَيْ قُرَاهَا ، وَقَدْ يُعَبَّرُ بِمُنْقَطِعِ السَّمَاوَةِ .
قَالَ الْكَرْخِيُّ : وَهِيَ أَرْضُ الْحِجَازِ وَتِهَامَةُ وَمَكَّةُ وَالْيَمَنُ وَالطَّائِفُ وَالْبَرِيَّةُ .
وَالْحِجَازُ هُوَ جَزِيرَةُ الْعَرَبِ سُمِّيَ جَزِيرَةً ؛ لِأَنَّ بَحْرَ

الْحَبَشِ وَبَحْرَ فَارِسٍ وَالْفُرَاتَ أَحَاطَتْ بِهَا ، وَسُمِّيَ حِجَازًا ؛ لِأَنَّهُ حُجِزَ بَيْن تِهَامَةَ وَنَجْدٍ ( وَالسَّوَادُ ) أَيْ سَوَادُ الْعِرَاقِ : أَيْ أَرْضُهُ سُمِّيَ بِهِ لِكَثْرَةِ اخْضِرَارِهِ .
وَحْدَهُ ( مِنْ الْعُذَيْبِ إلَى عَقَبَةِ حُلْوَانَ ) عَرْضًا ( وَمِنْ الْعَلْثِ إلَى عَبَّادَانَ ) طُولًا ( وَيُقَالُ مِنْ الثَّعْلَبِيَّةِ إلَى عَبَّادَانَ ) قِيلَ هُوَ غَلَطٌ ؛ لِأَنَّ الثَّعْلَبِيَّةَ بَعْدَ الْعُذَيْبِ بِكَثِيرٍ ، إذَا عُرِفَ هَذَا فَأَرْضُ الْعَرَبِ كُلُّهَا عُشْرِيَّةٌ ( لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ ) بَعْدَهُ ( لَمْ يَأْخُذُوا الْخَرَاجَ مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ ) وَلَوْ فَعَلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَقَضَتْ الْعَادَةُ بِنَقْلِهِ وَلَوْ بِطَرِيقٍ ضَعِيفٍ ، فَلَمَّا لَمْ يُنْقَلْ دَلَّ قَضَاءُ الْعَادَةِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ .
( وَلِأَنَّ شَرْطَ الْخَرَاجِ أَنْ يُقَرَّ أَهْلُهَا ) عَلَيْهَا ( عَلَى كُفْرِهِمْ كَمَا فِي سَوَادِ الْعِرَاقِ وَالْعَرَبِ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إلَّا الْإِسْلَامُ ) ، وَإِلَّا يَقْتُلُونَ ؛ وَلِأَنَّهُ كَمَا لَا رِقَّ عَلَى الْعَرَبِ فَكَذَا لَا خَرَاجَ عَلَى أَرْضِهِمْ ، وَسَوَادُ الْعِرَاقِ الْمُحَدَّدُ الْمَذْكُورُ خَرَاجِيٌّ ( لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَضَعَ عَلَيْهِ الْخَرَاجَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ ) وَهُوَ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ يُنْقَلَ فِيهِ أَثَرٌ مُعَيَّنٌ ، وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ فِي تَقْدِيرِ الْمَوْضُوعِ .
وَقَوْلُهُ : ( وَوُضِعَ عَلَى مِصْرَ إلَخْ ) أَسْنَدَ الْوَاقِدِيُّ إلَى مَشْيَخَةٍ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ افْتَتَحَ مِصْرَ عَنْوَةً وَاسْتَبَاحَ مَا فِيهَا وَعَزَلَ مِنْهُ مَغَانِمَ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ صَالَحَهُمْ بَعْدُ عَلَى وَضْعِ الْجِزْيَةِ عَلَى رُءُوسِهِمْ وَالْخَرَاجِ عَلَى أَرَاضِيهمْ ، ثُمَّ كَتَبَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِذَلِكَ ، ، وَأَسْنَدَ أَيْضًا إلَى عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ قَالَ : كَانَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ يَبْعَثُ بِجِزْيَةِ أَهْلِ مِصْرَ وَخَرَاجِهَا إلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كُلَّ سَنَةٍ بَعْدَ حَبْسِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ

، وَلَقَدْ اسْتَبْطَأَهُ عُمَرُ فِي الْخَرَاجِ سَنَةً فَكَتَبَ بِكِتَابٍ يَلُومُهُ وَيُشَدِّدُ عَلَيْهِ ، وَهَذَا يُخَالِفُ مَا ذَكَرَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ مِنْ أَنَّ مِصْرَ فُتِحَتْ صُلْحًا عَلَى يَدَيْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ .
، وَأَمَّا وَضْعُ الْخَرَاجِ عَلَى أَرْضِ الشَّامِّ فَمَعْرُوفٌ .
قِيلَ وَمُدُنُ الشَّامِّ فُتِحَتْ صُلْحًا ، وَأَرَاضِيهَا عَنْوَةً عَلَى يَدِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ وَشُرَحْبِيلِ بْنِ حَسَنَةَ وَأَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ ، وَفُتِحَتْ أَجْنَادِينَ صُلْحًا فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَفِي دَالِهَا الْفَتْحُ فِي الْمَشْهُورِ وَالْكَسْرُ .

قَالَ : ( وَأَرْضُ السَّوَادِ مَمْلُوكَةٌ لِأَهْلِهَا يَجُوزُ بَيْعُهُمْ لَهَا وَتَصَرُّفُهُمْ فِيهَا ) ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ إذَا فَتَحَ أَرْضًا عَنْوَةً وَقَهْرًا لَهُ أَنْ يُقِرَّ أَهْلَهَا عَلَيْهَا وَيَضَعَ عَلَيْهَا وَعَلَى رُءُوسِهِمْ الْخَرَاجَ فَتَبْقَى الْأَرَاضِي مَمْلُوكَةً لِأَهْلِهَا وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ مِنْ قَبْلُ .
( قَوْلُهُ : وَأَرْضُ السَّوَادِ مَمْلُوكَةٌ لِأَهْلِهَا يَجُوزُ بَيْعُهُمْ وَتَصَرُّفُهُمْ ) فِيهَا بِالرَّهْنِ وَالْهِبَةِ ( لِأَنَّ الْإِمَامَ إذَا فَتَحَ أَرْضًا عَنْوَةً لَهُ أَنْ يُقِرَّ أَهْلَهَا عَلَيْهَا وَيَضَعَ عَلَيْهَا الْخَرَاجَ ، وَعَلَى رُءُوسِهِمْ الْجِزْيَةَ فَتَبْقَى الْأَرْضُ مَمْلُوكَةً لِأَهْلِهَا وَقَدَّمْنَاهُ مِنْ قَبْلُ ) فِي بَابِ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ أَنَّهَا مَوْقُوفَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، فَلَا يَجُوزُ لِأَهْلِهَا هَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ .

قَالَ ( : وَكُلُّ أَرْضٍ أَسْلَمَ أَهْلُهَا أَوْ فُتِحَتْ عَنْوَةً وَقُسِّمَتْ بَيْنَ الْغَانِمِينَ فَهِيَ أَرْضُ عُشْرٍ ) ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى ابْتِدَاءِ التَّوْظِيفِ عَلَى الْمُسْلِمِ وَالْعُشْرُ أَلْيَقُ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْعِبَادَةِ ، وَكَذَا هُوَ أَخَفُّ حَيْثُ يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ الْخَارِجِ .
( قَوْلُهُ : وَكُلُّ أَرْضٍ أَسْلَمَ أَهْلُهَا ) عَلَيْهَا فَأَحْرَزُوا مِلْكَهُمْ فِيهَا ( أَوْ فُتِحَتْ عَنْوَةً وَقَسَّمَهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ فَهِيَ عُشْرِيَّةٌ ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى ابْتِدَاءِ التَّوْظِيفِ عَلَى الْمُسْلِمِ وَالْعُشْرُ أَلْيَقُ بِهِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ ؛ وَلِأَنَّهُ أَخَفُّ حَيْثُ يَتَعَلَّقُ ) الْوَاجِبُ ( بِنَفْسِ الْخَارِجِ ) فَلَا يُؤْخَذُ مَا لَمْ يَكُنْ خَارِجًا فَهُوَ أَلْيَقُ بِالْمُسْلِمِ .

( وَكُلُّ أَرْضٍ فُتِحَتْ عَنْوَةً فَأُقِرَّ أَهْلُهَا عَلَيْهَا فَهِيَ أَرْضُ خَرَاجٍ ) وَكَذَا إذَا صَالَحَهُمْ ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى ابْتِدَاءِ التَّوْظِيفِ عَلَى الْكَافِرِ وَالْخَرَاجُ أَلْيَقُ بِهِ ، وَمَكَّةُ مَخْصُوصَةٌ مِنْ هَذَا ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَحَهَا عَنْوَةً وَتَرَكَهَا لِأَهْلِهَا ، وَلَمْ يُوَظِّفْ الْخَرَاجَ ( وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ كُلُّ أَرْضٍ فُتِحَتْ عَنْوَةً فَوَصَلَ إلَيْهَا مَاءُ الْأَنْهَارِ فَهِيَ أَرْضُ خَرَاجٍ ، وَمَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهَا مَاءُ الْأَنْهَارِ وَاسْتُخْرِجَ مِنْهَا عَيْنٌ فَهِيَ أَرْضُ عُشْرٍ ) ؛ لِأَنَّ الْعُشْرَ يَتَعَلَّقُ بِالْأَرْضِ النَّامِيَةِ ، وَنَمَاؤُهَا بِمَائِهَا فَيُعْتَبَرُ السَّقْيُ بِمَاءِ الْعُشْرِ أَوْ بِمَاءِ الْخَرَاجِ .

( وَكُلُّ أَرْضٍ فُتِحَتْ عَنْوَةً ، وَأُقِرَّ أَهْلُهَا عَلَيْهَا فَهِيَ أَرْضُ خَرَاجٍ ، وَكَذَا إذَا صَالَحَهُمْ ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى ابْتِدَاءِ التَّوْظِيفِ عَلَى الْكَافِرِ وَالْخَرَاجُ أَلْيَقُ بِهِ ) ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ لِلتَّعَلُّقِ بِالتَّمَكُّنِ مِنْ الزِّرَاعَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَزْرَعْ ، وَفِيهِ نَظَرٌ نَذْكُرُهُ فِي آخِرِ الْفَصْلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
( وَمَكَّةُ مَخْصُوصَةٌ مِنْ هَذَا ) الْعُمُومِ ( فَإِنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً ) عَلَى مَا أَسْلَفْنَاهُ فِي بَابِ الْغَنَائِمِ وَقِسْمَتِهَا بِمَا لَا يُشَكُّ مَعَهُ أَنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً ( وَلَمْ يُوَظَّفْ عَلَيْهَا خَرَاجًا ) وَلِنَخُصَّ هَذَا الْمَكَانَ بِحَدِيثٍ زِيَادَةً عَلَى مَا فِي بَابِ الْغَنَائِمِ .
أَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ ذَكَرَ فَتْحَ مَكَّةَ فَقَالَ { أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى دَخَلَ مَكَّةَ ، فَبَعَثَ الزُّبَيْرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى إحْدَى الْمَجْبَنَتَيْنِ وَبَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ عَلَى الْمَجْبَنَةِ الْأُخْرَى وَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ عَلَى الْجِسْرِ ، وَأَخَذُوا مِنْ بَطْنِ الْوَادِي وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَتِيبَةٍ ، قَالَ : فَنَظَرَ إلَيَّ وَقَالَ : يَا أَبَا هُرَيْرَةَ قُلْت لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : اهْتِفْ لِي بِالْأَنْصَارِ فَلَا يَأْتِينِي إلَّا أَنْصَارِيٌّ ، فَهَتَفَ بِهِمْ فَجَاءُوا فَأَطَافُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَبَّشَتْ قُرَيْشٌ أَوْبَاشَهَا ، فَقَالَ لَهُمْ : أَلَا تَرَوْنَ إلَى أَوْبَاشِ قُرَيْشٍ ، وَأَتْبَاعِهِمْ ، ثُمَّ قَالَ بِيَدِهِ فَضَرَبَ بِإِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى وَقَالَ : اُحْصُدُوهُمْ حَصْدًا حَتَّى تُوَافُونِي عَلَى الصَّفَا ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : فَانْطَلَقْنَا فَمَا شَاءَ أَحَدٌ مِنَّا أَنْ يَقْتُلَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ إلَّا قَتَلَهُ } الْحَدِيثُ بِطُولِهِ ، فَاضْمُمْ هَذَا إلَى مَا هُنَاكَ .
وَقَدْ ذَكَرَ الْقُتَبِيُّ مَا فُتِحَ عَنْوَةً وَصُلْحًا مِنْ الْبِلَادِ فَذَكَرَ أَنَّ الْأَهْوَازَ وَفَارِسَ ، وَأَصْبَهَانَ فُتِحَتْ

عَنْوَةً لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى يَدَيْ أَبِي مُوسَى وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ وَعُتْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ ، وَكَانَتْ أَصْبَهَانُ عَلَى يَدَيْ أَبِي مُوسَى خَاصَّةً ، وَأَمَّا خُرَاسَانُ وَمَرْوُ الرُّوذِ فُتِحَتَا صُلْحًا فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ إلَى يَدَيْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ ، وَأَمَّا مَا وَرَاءَهُمَا فَافْتُتِحَ بَعْدَ عُثْمَانَ عَلَى يَدِ سَعِيدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ لِمُعَاوِيَةَ صُلْحًا وَسَمَرْقَنْدُ وكش وَنَسَفُ وَبُخَارَى بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى يَدَيْ الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ وَقُتَيْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ .
وَأَمَّا الرَّيُّ فَافْتَتَحَهَا أَبُو مُوسَى فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ صُلْحًا ، وَفِي وِلَايَتِهِ فُتِحَتْ طَبَرِسْتَانَ عَلَى يَدَيْ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ صُلْحًا ، ثُمَّ فَتَحَهَا عَمْرُو بْنُ الْعَلَاءِ وَالطَّالِقَانِ وَدُنْبَاوَنْدُ سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ .
وَأَمَّا جُرْجَان فَفِي خِلَافَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ ، وَكَرْمَانُ وَسِجِسْتَانُ فَتَحَهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ صُلْحًا .
وَافْتُتِحَ الْجَبَلُ كُلُّهُ عَنْوَةً فِي وَقْعَةِ جَلُولَاءَ ، وَنَهَاوَنْدُ عَلَى يَدَيْ سَعْدٍ وَالنُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ .
وَأَمَّا الْجَزِيرَةُ فَفُتِحَتْ صُلْحًا عَلَى يَدَيْ عِيَاضِ بْنِ غَنْمٍ وَالْجَزِيرَةُ مَا بَيْنَ الْفُرَاتِ وَدِجْلَةَ وَالْمُوصِلُ مِنْ الْجَزِيرَةِ ، وَأَمَّا هَجَرُ فَأَدَّوْا الْجِزْيَةَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَكَذَا دَوْمَةُ الْجَنْدَلِ ، وَأَمَّا الْيَمَامَةُ فَافْتَتَحَهَا أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَأَمَّا الْهِنْدُ فَافْتَتَحَهَا الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الثَّقَفِيُّ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ .
( قَوْلُهُ : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ كُلُّ أَرْضٍ فُتِحَتْ عَنْوَةً فَوَصَلَ إلَيْهَا مَاءُ الْأَنْهَارِ إلَخْ ) قَدْ عُلِمَ مِنْ عَادَةِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ إذَا وَقَعَتْ مُخَالَفَةٌ بَيْنَ مَا فِي الْقُدُورِيِّ وَالْجَامِعِ أَوْ زِيَادَةٌ فِي الْجَامِعِ يَقُولُ بَعْدَ لَفْظِ الْقُدُورِيِّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إلَى آخِرِهِ ، وَهُنَا الْمُخَالَفَةُ

ظَاهِرَةٌ ؛ فَإِنَّ قَوْلَ الْقُدُورِيِّ : كُلُّ أَرْضٍ فُتِحَتْ عَنْوَةً فَأُقِرَّ أَهْلُهَا عَلَيْهَا فَهِيَ أَرْضُ خَرَاجٍ مُطْلَقٍ ، فَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَصِلَ إلَيْهَا مَاءُ الْأَنْهَارِ أَوْ لَا يَصِلُ بِأَنْ اُسْتُنْبِطَ فِيهَا عَيْنٌ ، وَلَفْظُ الْجَامِعِ قَيَّدَ خَرَاجِيَّتَهَا بِأَنْ يَصِلَ إلَيْهَا مَاءُ الْأَنْهَارِ ، وَنَحْنُ نَقْطَعُ أَنَّ الْأَرْضَ الَّتِي أُقِرَّ أَهْلُهَا عَلَيْهَا لَوْ كَانَتْ تُسْقَى بِعَيْنٍ أَوْ بِمَاءِ السَّمَاءِ لَمْ تَكُنْ إلَّا خَرَاجِيَّةً ؛ لِأَنَّ أَهْلَهَا كُفَّارٌ .
وَالْكُفَّارُ لَوْ انْتَقَلَتْ إلَيْهِمْ أَرْضٌ عُشْرِيَّةٌ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعُشْرِيَّةَ قَدْ تُسْقَى بِعَيْنٍ أَوْ بِمَاءِ السَّمَاءِ لَا تَبْقَى عَلَى الْعُشْرِيَّةِ بَلْ تَصِيرُ خَرَاجِيَّةً فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ ، فَكَيْفَ يُبْتَدَأُ الْكَافِرُ بِتَوْظِيفِ الْعُشْرِ ، ثُمَّ كَوْنُهَا عُشْرِيَّةً عِنْدَ مُحَمَّدٍ إذَا انْتَقَلَتْ إلَيْهِ كَذَلِكَ ، أَمَّا فِي الِابْتِدَاءِ فَهُوَ أَيْضًا يَمْنَعُهُ ، وَالْعِبَارَةُ الَّتِي نَقَلَهَا عَنْ الْجَامِعِ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ لَيْسَتْ كَمَا فِي الْهِدَايَةِ .
فَإِنَّهُ قَالَ : وَلَفْظُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : مُحَمَّدٌ عَنْ يَعْقُوبَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ : كُلُّ أَرْضٍ فُتِحَتْ عَنْوَةً بِالْقِتَالِ فَصَارَتْ أَرْضَ خَرَاجٍ ، وَكُلُّ شَيْءٍ يَصِلُ إلَيْهَا مَاءُ الْأَنْهَارِ فَهِيَ أَرْضُ خَرَاجٍ ، وَكُلُّ شَيْءٍ لَمْ يَصِلْ إلَيْهَا مَاءُ الْأَنْهَارِ فَاسْتُخْرِجَ فِيهِ عَيْنٌ فَهِيَ أَرْضُ عُشْرٍ وَالْأَرَاضِي الَّتِي أَسْلَمَ أَهْلُهَا عَلَيْهَا فَهِيَ أَرْضُ عُشْرٍ .
فَقَوْلُهُ : وَكُلُّ شَيْءٍ يَصِلُ إلَيْهَا مَاءُ الْأَنْهَارِ فَهِيَ أَرْضُ خَرَاجٍ عَطْفٌ عَلَى كُلِّ أَرْضٍ فُتِحَتْ عَنْوَةً ، وَالْعَطْفُ يُوجِبُ الْمُغَايَرَةَ فَيَصِيرُ الْمَعْنَى : وَكُلُّ أَرْضٍ فُتِحَتْ عَنْوَةً صَارَتْ أَرْضَ خَرَاجٍ ، وَكُلُّ أَرْضٍ لَمْ تُفْتَحْ عَنْوَةً وَوَصَفَهَا أَنَّهَا يَصِلُ إلَيْهَا مَاءُ الْأَنْهَارِ فَهِيَ أَرْضُ خَرَاجٍ .
وَحَاصِلُهُ تَقْسِيمُ أَرْضِ الْخَرَاجِ إلَى مَا يُفْتَحُ عَنْوَةً ، وَإِلَى مَا لَمْ يُفْتَحْ عَنْوَةً لَكِنَّهَا تُسْقَى

بِمَاءِ الْأَنْهَارِ .
نَعَمْ يَجِبُ تَقْيِيدُ الْأَوَّلِ بِأَنْ يُقَرَّ أَهْلُهَا عَلَيْهَا بِالضَّرُورَةِ ، وَكَأَنَّ هَذَا مَعْلُومٌ ، إذْ لَا يَبْتَدِئُ الْمُسْلِمُ فِي أَوَّلِ الْفَتْحِ قَطُّ بِتَوْظِيفِ الْخَرَاجِ فِي الْأَرَاضِي الْمَقْسُومَةِ كَمَا يَجِبُ تَقْيِيدُ الْأَنْهَارِ فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ خَرَاجِيَّةً مَا لَمْ تَكُنْ حَوْلَهَا الْأَنْهَارُ الْعِظَامُ كَالنِّيلِ وَالْفُرَاتِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الَّتِي فُتِحَتْ عَنْوَةً إنْ أُقِرَّ الْكُفَّارُ عَلَيْهَا لَا يُوَظَّفُ عَلَيْهِمْ إلَّا الْخَرَاجُ ، وَلَوْ سُقِيَتْ بِمَاءِ الْمَطَرِ ، وَإِنْ قُسِّمَتْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لَا يُوَظَّفُ إلَى الْعُشْرِ ، وَإِنْ سُقِيَتْ بِمَاءِ الْأَنْهَارِ ، وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَبِالضَّرُورَةِ يُرَادُ الْأَرْضُ الَّتِي أَحْيَاهَا مُحْيٍ ، فَإِنَّ الَّتِي فُتِحَتْ عَنْوَةً مِمَّا يُبْتَدَأُ فِيهَا التَّوْظِيفُ غَيْرَ الْمَقْسُومَةِ ، وَالْمُقَرَّرِ أَهْلُهَا عَلَيْهَا لَيْسَ إلَّا الْمَوَاتَ الَّتِي أُحْيِيَتْ ، وَيَصِيرُ الْمَعْنَى كُلُّ أَرْضٍ فُتِحَتْ عَنْوَةً صَارَتْ أَرْضَ خَرَاجٍ إذَا أَقَامَ أَهْلُهَا عَلَيْهَا ، وَكُلُّ أَرْضٍ لَمْ تُفْتَحْ عَنْوَةً بَلْ أَحْيَاهَا مُسْلِمٌ إنْ كَانَ صِفَتُهَا أَنَّهَا يَصِلُ إلَيْهَا مَاءُ الْأَنْهَارِ فَهِيَ خَرَاجِيَّةٌ أَوْ مَاءُ عَيْنٍ وَنَحْوُهُ فَعُشْرِيَّةٌ ، وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَلَوْ شَرَحَهُ هَكَذَا اسْتَغْنَى بِهِ عَنْ ذِكْرِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي تَلِيهِ فَإِنَّهَا هِيَ .
وَحَاصِلُهَا أَنَّ مُحَمَّدًا قَالَ فِيمَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً بِبِئْرٍ حَفَرَهَا أَوْ عَيْنٍ اسْتَخْرَجَهَا أَوْ مَاءٍ دِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ أَوْ بَاقِي الْأَنْهَارِ الْعِظَامِ الَّتِي لَا يَمْلِكُهَا أَحَدٌ أَوْ بِالْمَطَرِ فَهِيَ عُشْرِيَّةٌ ، وَإِنْ أَحْيَاهَا بِمَاءِ الْأَنْهَارِ الَّتِي شَقَّتْهَا الْأَعَاجِمُ مِثْلَ نَهْرِ الْمَلِكِ وَنَهْرِ يَزْدَجْرِدْ وَهُوَ مِلْكٌ مِنْ الْعَجَمِ فَهِيَ خَرَاجِيَّةٌ ؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي مِثْلِهِ لِلْمَاءِ ؛ لِأَنَّهُ السَّبَبُ لِنَمَاءِ الْأَرْضِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَوْظِيفُ الْخَرَاجِ عَلَى الْمُسْلِمِ ابْتِدَاءً كَرْهًا فَيُعْتَبَرُ

السَّقْيُ ؛ لِأَنَّ السَّقْيَ بِمَاءِ الْخَرَاجِ دَلَالَةٌ عَلَى الْتِزَامِهِ فَتَصِيرُ خَرَاجِيَّةً عَلَيْهِ .

قَالَ : ( وَمَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا فَهِيَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ مُعْتَبَرَةٌ بِحَيِّزِهَا ، فَإِنْ كَانَتْ مِنْ حَيِّزِ أَرْضِ الْخَرَاجِ ) وَمَعْنَاهُ بِقُرْبِهِ ( فَهِيَ خَرَاجِيَّةٌ ) ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ حَيِّزِ أَرْضِ الْعُشْرِ فَهِيَ عُشْرِيَّةٌ ( وَالْبَصْرَةُ عِنْدَهُ عُشْرِيَّةٌ ) بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ ؛ لِأَنَّ حَيِّزَ الشَّيْءِ يُعْطَى لَهُ حُكْمُهُ ، كَفِنَاءِ الدَّارِ يُعْطَى لَهُ حُكْمُ الدَّارِ حَتَّى يَجُوزَ لِصَاحِبِهَا الِانْتِفَاعُ بِهِ .
وَكَذَا لَا يَجُوزُ أَخْذُ مَا قَرُبَ مِنْ الْعَامِرِ ، وَكَانَ الْقِيَاسُ فِي الْبَصْرَةِ أَنْ تَكُونَ خَرَاجِيَّةً ؛ لِأَنَّهَا مِنْ حَيِّزِ أَرْضِ الْخَرَاجِ ، إلَّا أَنَّ الصَّحَابَةَ وَظَّفُوا عَلَيْهَا الْعُشْرَ فَتُرِكَ الْقِيَاسُ لِإِجْمَاعِهِمْ ( وَقَالَ مُحَمَّدٌ : إنْ أَحْيَاهَا بِبِئْرٍ حَفَرَهَا أَوْ بِعَيْنٍ اسْتَخْرَجَهَا أَوْ مَاءِ دِجْلَةَ أَوْ الْفُرَاتِ أَوْ الْأَنْهَارِ الْعِظَامِ الَّتِي لَا يَمْلِكُهَا أَحَدٌ فَهِيَ عُشْرِيَّةٌ ) وَكَذَا إنْ أَحْيَاهَا بِمَاءِ السَّمَاءِ ( وَإِنْ أَحْيَاهَا بِمَاءِ الْأَنْهَارِ الَّتِي احْتَفَرَهَا الْأَعَاجِمُ ) مِثْلَ نَهْرِ الْمَلِكِ وَنَهْرِ يَزْدَجْرِدْ ( فَهِيَ خَرَاجِيَّةٌ ) لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ اعْتِبَارِ الْمَاءِ إذْ هُوَ السَّبَبُ لِلنَّمَاءِ وَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَوْظِيفُ الْخَرَاجِ ابْتِدَاءً عَلَى الْمُسْلِمِ كَرْهًا فَيُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ الْمَاءُ ؛ لِأَنَّ السَّقْيَ بِمَاءِ الْخَرَاجِ دَلَالَةُ الْتِزَامِهِ .

( وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تُعْتَبَرُ بِحَيِّزِهَا ) أَيْ بِمَا يَقْرَبُ مِنْهَا ( فَإِنْ كَانَتْ مِنْ حَيِّزِ أَرْضِ الْخَرَاجِ : أَيْ بِقُرْبِهِ فَخَرَاجِيَّةٌ أَوْ أَرْضِ الْعُشْرِ فَعُشْرِيَّةٌ ) ؛ لِأَنَّ الْقُرْبَ مِنْ أَسْبَابِ التَّرْجِيحِ فَتَرَجَّحَ كَوْنُهَا خَرَاجِيَّةً بِالْقُرْبِ مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ وَعُشْرِيَّةً كَذَلِكَ ، وَأَصْلُهُ أَفْنِيَةُ الدُّورِ أُعْطِيَ لَهُ فِي الشَّرْعِ حُكْمُهَا حَتَّى جَازَ لِصَاحِبِ الدَّارِ الِانْتِفَاعُ بِفِنَائِهَا وَهُوَ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لَهُ ، وَمِنْ أَجْلِ أَنَّ لَهُ حَقَّ الِانْتِفَاعِ لَوْ قَالَ الْمُسْتَأْجَرُ لِلْأُجَرَاءِ هَذَا فِنَائِي وَلَيْسَ لِي فِيهِ حَقُّ الْحَفْرِ وَلَكِنْ احْفِرُوا فَحَفَرُوا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ فِي الِاسْتِحْسَانِ ، بَلْ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ فِنَاءً بِمَنْزِلَةِ كَوْنِهِ مَمْلُوكًا فِي انْطِلَاقِ يَدِهِ فِي التَّصَرُّفِ مِنْ إلْقَاءِ الطِّينِ وَالْحَفْرِ وَرَبْطِ الدَّابَّةِ ، غَيْرَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ اسْتَثْنَى الْبَصْرَةَ مِنْ ضَابِطِهِ فَإِنَّهَا عُشْرِيَّةٌ عِنْدَهُ ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ حَيِّزِ أَرْضِ الْخَرَاجِ ؛ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى جَعْلِهَا عُشْرِيَّةً كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ فَتُرِكَ الْقِيَاسُ فِيهَا لِذَلِكَ .
هَذَا وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ قَوْلِهِ وَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَوْظِيفُ الْخَرَاجِ عَلَى الْمُسْلِمِ إلَى آخِرِهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَوْضُوعِ الْمَسْأَلَةِ : أَعْنِي قَوْلَهُ وَمَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا لِمُسْلِمٍ ، وَلَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَحْيَاهَا ذِمِّيٌّ كَانَتْ خَرَاجِيَّةً سَوَاءٌ سُقِيَتْ عِنْدَ مُحَمَّدٍ بِمَاءِ السَّمَاءِ أَوْ نَحْوِهِ أَوْ لَا ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ مِنْ حَيِّزِ أَرْضِ الْخَرَاجِ أَوْ الْعُشْرِ ، وَظَهَرَ مِنْهُ أَيْضًا أَنَّ كَوْنَ الْمُسْلِمِ لَا يُبْتَدَأُ بِتَوْظِيفِ الْخَرَاجِ كَمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ هُوَ فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُ صُنْعٌ يَسْتَدْعِي ذَلِكَ وَهُوَ السَّقْيُ بِمَاءِ الْخَرَاجِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ جَزَاءُ الْمُقَاتِلَةِ عَلَى حِمَايَتِهِمْ فَمَا سُقِيَ بِمَا حَمَوْهُ وَجَبَ

فِيهِ .

قَالَ : ( وَالْخَرَاجُ الَّذِي وَضَعَهُ عُمَرُ عَلَى أَهْلِ السَّوَادِ مِنْ كُلِّ جَرِيبٍ يَبْلُغُهُ الْمَاءُ قَفِيزٌ هَاشِمِيٌّ وَهُوَ الصَّاعُ وَدِرْهَمٌ ، وَمِنْ جَرِيبِ الرَّطْبَةِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَمِنْ جَرِيبِ الْكَرْمِ الْمُتَّصِلِ وَالنَّخِيلِ الْمُتَّصِلِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ ) وَهَذَا هُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ عُمَرَ ، فَإِنَّهُ بَعَثَ عُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ حَتَّى يَمْسَحَ سَوَادَ الْعِرَاقِ ، وَجَعَلَ حُذَيْفَةَ مُشْرِفًا عَلَيْهِ ، وَكَوَّنَهُ فَبَلَغَ سِتًّا وَثَلَاثِينَ أَلْفَ أَلْفِ جَرِيبٍ وَوَضَعَ عَلَى ذَلِكَ مَا قُلْنَا ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فَكَانَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ .
وَلِأَنَّ الْمُؤَنَ مُتَفَاوِتَةٌ فَالْكَرْمُ أَخَفُّهَا مُؤْنَةً وَالْمَزَارِعَ أَكْثَرُهَا مُؤْنَةً وَالرُّطَبُ بَيْنَهُمَا ، وَالْوَظِيفَةُ تَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِهَا فَجُعِلَ الْوَاجِبُ فِي الْكَرْمِ أَعْلَاهَا وَفِي الزَّرْعِ أَدْنَاهَا وَفِي الرُّطَبَةِ أَوْسَطَهَا .
قَالَ : ( وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْأَصْنَافِ كَالزَّعْفَرَانِ وَالْبُسْتَانِ وَغَيْرِهِ يُوضَعُ عَلَيْهَا بِحَسَبِ الطَّاقَةِ ) ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَوْظِيفُ عُمَرَ وَقَدْ اعْتَبَرَ الطَّاقَةَ فِي ذَلِكَ فَنَعْتَبِرُهَا فِيمَا لَا تَوْظِيفَ فِيهِ .
قَالُوا : وَنِهَايَةُ الطَّاقَةِ أَنْ يَبْلُغَ الْوَاجِبُ نِصْفَ الْخَارِجِ لَا يُزَادُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ التَّنْصِيفَ عَيْنُ الْإِنْصَافِ لِمَا كَانَ لَنَا أَنْ نُقَسِّمَ الْكُلَّ بَيْنَ الْغَانِمِينَ .
وَالْبُسْتَانُ كُلُّ أَرْضٍ يَحُوطُهَا حَائِطٌ وَفِيهَا نَخِيلٌ مُتَفَرِّقَةٌ وَأَشْجَارٌ أُخَرُ ، وَفِي دِيَارِنَا وَظَّفُوا مِنْ الدَّرَاهِمِ فِي الْأَرَاضِي كُلِّهَا وَتُرِكَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ .
قَالَ ( فَإِنْ لَمْ تُطِقْ مَا وُضِعَ عَلَيْهَا نَقَصَهُمْ الْإِمَامُ ) وَالنُّقْصَانُ عِنْدَ قِلَّةِ الرِّيعِ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ ؛ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ عُمَرَ : لَعَلَّكُمَا حَمَّلْتُمَا الْأَرْضَ مَا لَا تُطِيقُ ، فَقَالَا : لَا بَلْ حَمَّلْنَاهَا مَا تُطِيقُ ، وَلَوْ زِدْنَا لَأَطَاقَتْ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ النُّقْصَانِ

، وَأَمَّا الزِّيَادَةُ عِنْدَ زِيَادَةِ الرِّيعِ يَجُوزُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ اعْتِبَارًا بِالنُّقْصَانِ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ عُمَرَ لَمْ يَزِدْ حِينَ أُخْبِرَ بِزِيَادَةِ الطَّاقَةِ ، ( وَإِنْ غَلَبَ عَلَى أَرْضِ الْخَرَاجِ الْمَاءُ أَوْ انْقَطَعَ الْمَاءُ عَنْهَا أَوْ اصْطَلَمَ الزَّرْعَ آفَةٌ فَلَا خَرَاجَ عَلَيْهِ ) لِأَنَّهُ فَاتَ التَّمَكُّنُ مِنْ الزِّرَاعَةِ ، وَهُوَ النَّمَاءُ التَّقْدِيرِيُّ الْمُعْتَبَرُ فِي الْخَرَاجِ ، وَفِيمَا إذَا اصْطَلَمَ الزَّرْعَ آفَةٌ فَاتَ النَّمَاءُ التَّقْدِيرِيُّ فِي بَعْضِ الْحَوْلِ وَكَوْنُهُ نَامِيًا فِي جَمِيعِ الْحَوْلِ شَرْطٌ كَمَا فِي مَالِ الزَّكَاةِ أَوْ يُدَارُ الْحُكْمُ عَلَى الْحَقِيقَةِ عِنْدَ خُرُوجِ الْخَارِجِ .
قَالَ ( وَإِنْ عَطَّلَهَا صَاحِبُهَا فَعَلَيْهِ الْخَرَاجُ ) ؛ لِأَنَّ التَّمَكُّنَ كَانَ ثَابِتًا وَهُوَ الَّذِي فَوَّتَهُ .
قَالُوا : مَنْ انْتَقِلْ إلَى أَخَسِّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَعَلَيْهِ خَرَاجُ الْأَعْلَى ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي ضَيَّعَ الزِّيَادَةَ ، وَهَذَا يُعْرَفُ وَلَا يُفْتَى بِهِ كَيْ لَا يَتَجَرَّأَ الظَّلَمَةُ عَلَى أَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ .

( قَوْلُهُ : وَالْخَرَاجُ الَّذِي وَضَعَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى أَهْلِ السَّوَادِ مِنْ كُلِّ جَرِيبٍ يَبْلُغُهُ الْمَاءُ قَفِيزٌ هَاشِمِيٌّ وَهُوَ الصَّاعُ ) ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ .
نَصَّ عَلَى أَنَّهُ الصَّاعُ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : حَدَّثَنِي السَّرِيُّ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَرَضَ عَلَى الْكَرْمِ عَشَرَةً وَعَلَى الرَّطْبَةِ خَمْسَةً وَعَلَى كُلِّ أَرْضٍ يَبْلُغُهَا الْمَاءُ عَمِلَتْ أَوْ لَمْ تَعْمَلْ دِرْهَمًا وَمَخْتُومًا .
قَالَ عَامِرٌ : هُوَ الْحَجَّاجِيُّ وَهُوَ الصَّاعُ انْتَهَى .
وَعَامِرٌ هُوَ الشَّعْبِيُّ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ : فَمَا كَانَ مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ مِنْ عَامِرٍ أَوْ غَامِرٍ مِمَّا يَبْلُغُهُ الْمَاءُ مِمَّا يَصْلُحُ لِلزَّرْعِ فَفِي كُلِّ جَرِيبٍ قَفِيزٌ وَدِرْهَمٌ فِي كُلِّ سَنَةٍ زَرَعَ ذَلِكَ صَاحِبُهُ فِي السَّنَةِ مَرَّةً أَوْ مِرَارًا أَوْ لَمْ يَزْرَعْهُ كُلُّهُ سَوَاءٌ ، وَفِيهِ كُلَّ سَنَةٍ قَفِيزٌ وَدِرْهَمٌ فِي كُلِّ جَرِيبِ زَرْعٍ .
وَالْقَفِيزُ قَفِيزُ الْحَجَّاجِ وَهُوَ رُبُعُ الْهَاشِمِيِّ ، وَهُوَ مِثْلُ الصَّاعِ الَّذِي كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ ، وَالْمُرَادُ مِنْ الْقَفِيزِ الْمَأْخُوذِ قَفِيزٌ مِمَّا زَرَعَ حِنْطَةً أَوْ شَعِيرًا أَوْ عَدَسًا أَوْ ذُرَةً ، قَالَهُ الطَّحَاوِيُّ وَاسْتُحْسِنَ .
وَالدِّرْهَمُ مَا يُوزَنُ سَبْعَةٌ .
وَالْمُرَادُ مِنْ الْجَرِيبِ أَرْضٌ طُولُهَا سِتُّونَ ذِرَاعًا وَعَرْضُهَا كَذَلِكَ بِذِرَاعِ الْمَلِكِ كِسْرَى وَهُوَ يَزِيدُ عَلَى ذِرَاعِ الْعَامَّةِ بِقَبْضَةٍ فَهُوَ سَبْعُ قَبَضَاتٍ ؛ لِأَنَّ ذِرَاعَ الْعَامَّةِ سِتٌّ .
وَقَوْلُهُ : فِي الْكَافِي مَا قِيلَ الْجَرِيبُ سِتُّونَ فِي سِتِّينَ حِكَايَةٌ عَنْ جَرِيبِهِمْ فِي أَرَاضِيِهِمْ ، وَلَيْسَ بِتَقْدِيرٍ لَازِمٍ فِي الْأَرَاضِي كُلِّهَا ، بَلْ جَرِيبُ الْأَرْضِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ ، فَيُعْتَبَرُ فِي كُلِّ بَلَدٍ مُتَعَارَفٍ أَهْلُهُ يَقْتَضِي أَنَّ الْجَرِيبَ يَخْتَلِفُ قَدْرُهُ فِي الْبُلْدَانِ ، وَمُقْتَضَاهُ أَنْ يَتَّحِدَ

الْوَاجِبُ وَهُوَ قَفِيزٌ وَدِرْهَمٌ مَعَ اخْتِلَافِ الْمَقَادِيرِ ، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ عُرْفُ بَلَدٍ فِيهِ مِائَةُ ذِرَاعٍ وَعُرْفُ أُخْرَى فِيهِ خَمْسُونَ ذِرَاعًا ، وَكَذَا مَا قِيلَ الْجَرِيبُ مَا يُبْذَرُ فِيهِ مِائَةُ رِطْلٍ ، وَقِيلَ مَا يُبْذَرُ فِيهِ مِنْ الْحِنْطَةِ سِتُّونَ مَنًّا ، وَقِيلَ خَمْسُونَ فِي دِيَارِهِمْ .
وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ مَا فِي الْهِدَايَةِ وَغَيْرِهَا .
وَأَمَّا جَرِيبُ الرَّطْبَةِ فَفِيهِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَلَا شَيْءَ فِيهِ مِنْ الْخَارِجِ ( وَفِي جَرِيبِ الْكَرْمِ الْمُتَّصِلِ وَالنَّخِيلِ الْمُتَّصِلَةِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ هَذَا هُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ) فَقَيْدُ الِاتِّصَالِ يُفِيدُ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مُتَفَرِّقَةً فِي جَوَانِبِ الْأَرْضِ وَوَسَطِهَا مَزْرُوعَةً فَلَا شَيْءَ فِيهَا ، بَلْ الْمُعْتَبَرُ وَظِيفَةُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الزُّرُوعِ ، وَكَذَا لَوْ غَرَسَ أَشْجَارًا غَيْرَ مُثْمِرَةٍ ، وَلَوْ كَانَتْ الْأَشْجَارُ مُلْتَفَّةً لَا يُمْكِنُ زِرَاعَةُ أَرْضِهَا فَهِيَ كَرْمٌ ذَكَرَهُ فِي الظَّهِيرِيَّةِ .
وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ : لَوْ أَنْبَتَ أَرْضُهُ كَرْمًا فَعَلَيْهِ خَرَاجُهَا إلَى أَنْ يُطْعَمَ ، فَإِذَا أُطْعِمَ فَإِنْ كَانَ ضِعْفَ وَظِيفَةِ الْكَرْمِ فَفِيهِ وَظِيفَةُ الْكَرْمِ ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ فَنِصْفُهُ إلَى أَنْ يَنْقُصَ عَنْ قَفِيزٍ وَدِرْهَمٍ ، وَإِنْ نَقَصَ فَعَلَيْهِ قَفِيزٌ وَدِرْهَمٌ .
وَفِي رِوَايَةٍ عَلَيْهِ وَظِيفَةُ الْأَرْضِ إلَى أَنْ يُطْعَمَ الْكَرْمُ .
ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ الرِّوَايَةَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِذَلِكَ ( فَ ) قَالَ : ( إنَّهُ بَعَثَ عُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ حَتَّى يَمْسَحَ سَوَادَ الْعِرَاقِ ) وَهُوَ الَّذِي آخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حِينَ آخَى بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ( وَجَعَلَ حُذَيْفَةَ مُشْرِفًا عَلَيْهِ وَكَوَّنَهُ فَبَلَغَ سِتًّا وَثَلَاثِينَ أَلْفَ أَلْفِ جَرِيبٍ ، وَوَضَعَ عَلَى ذَلِكَ مَا قُلْنَا ، وَكَانَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فَكَانَ إجْمَاعًا

مِنْهُمْ ) قَالَ شَارِحٌ فِي قَوْلِهِ وَوَضَعَ عَلَى ذَلِكَ مَا قُلْنَا : إنَّهُ سَهْوٌ ، بَلْ يُقَالُ وَوَضَعَ ذَلِكَ عَلَى مَا قُلْنَا : أَيْ وَضَعَ الْخَرَاجَ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَرْجِعَ اسْمِ الْإِشَارَةِ السِّتُّ وَثَلَاثُونَ أَلْفَ أَلْفٍ : أَيْ وُضِعَ عَلَى الْجِرْبَانِ الْمَقَادِيرَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا ، وَلَا سَهْوَ يُنْسَبُ إلَى قَائِلِ هَذَا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ رِوَايَةُ أَبِي يُوسُفَ بِهِ ، وَهُوَ مُنْقَطِعٌ ؛ لِأَنَّ الشَّعْبِيَّ لَمْ يُدْرِكْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الرِّوَايَةَ عَنْ عُمَرَ اخْتَلَفَتْ كَثِيرًا فِي تَقْدِيرِ الْوَظِيفَةِ ، فَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ : حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ أَبِي عَوْنٍ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ قَالَ : وَضَعَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى أَهْلِ السَّوَادِ عَلَى كُلِّ جَرِيبِ أَرْضٍ يَبْلُغُهُ الْمَاءُ عَامِرٍ أَوْ غَامِرٍ دِرْهَمًا وَقَفِيزًا مِنْ طَعَامٍ ، وَعَلَى الْبَسَاتِينِ عَلَى كُلِّ جَرِيبٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَخَمْسَةَ أَقْفِزَةٍ مِنْ طَعَامٍ ، وَعَلَى الرِّطَابِ عَلَى كُلِّ جَرِيبِ أَرْضٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ وَخَمْسَةَ أَقْفِزَةٍ مِنْ طَعَامٍ ، وَعَلَى الْكُرُومِ عَلَى كُلِّ جَرِيبِ أَرْضٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَعَشَرَةَ أَقْفِزَةٍ ، وَلَمْ يَضَعْ عَلَى النَّخِيلِ شَيْئًا جَعَلَهُ تَبَعًا لِلْأَرْضِ .
ثُمَّ حَدَّثَ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ قَالَ : بَعَثَ عُمَرُ عُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ عَلَى مِسَاحَةِ الْأَرْضِ فَوَضَعَ عُثْمَانُ عَلَى الْجَرِيبِ مِنْ الْكَرْمِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ ، وَعَلَى جَرِيبِ النَّخْلِ ثَمَانِيَةَ دَرَاهِمَ ، وَعَلَى جَرِيبِ الْقَصَبِ سِتَّةَ دَرَاهِمَ : يَعْنِي الرَّطْبَةَ ، وَعَلَى جَرِيبِ الْبُرِّ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ ، وَعَلَى جَرِيبِ الشَّعِيرِ دِرْهَمَيْنِ .
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ : حَدَّثَنَا هُشَيْمُ بْنُ بَشِيرٍ : أَنْبَأْنَا الْعَوَّامُ بْنُ حَوْشَبٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ قَالَ : لَمَّا افْتَتَحَ الْمُسْلِمُونَ فَسَاقَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ إلَى أَنْ قَالَ : فَمَسَحَ عُثْمَانُ بْنُ حُنَيْفٍ سَوَادَ الْكُوفَةِ مِنْ أَرْضِ أَهْلِ

الذِّمَّةِ فَجَعَلَ عَلَى جَرِيبِ النَّخْلِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ ، وَعَلَى جَرِيبِ الْعِنَبِ ثَمَانِيَةَ دَرَاهِمَ ، وَعَلَى جَرِيبِ الْقَصَبِ سِتَّةَ دَرَاهِمَ ، وَعَلَى الْجَرِيبِ مِنْ الْبُرِّ أَرْبَعَةً ، وَعَلَى الْجَرِيبِ مِنْ الشَّعِيرِ دِرْهَمَيْنِ ، وَفِيهِ قَالَ : فَأَخَذَ مِنْ تُجَّارِهِمْ مِنْ كُلِّ عِشْرِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمًا ، فَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَرَضِيَ بِهِ ، فَقَدْ رَأَيْت مَا هُنَا مِنْ الِاخْتِلَافِ .
وَمَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَعْتَبِرُ إجَارَةَ الْإِمَامِ ؛ لِأَنَّهَا وَقْفٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عِنْدَهُ فَتُفَوَّضُ إلَى إجَارَتِهِ كَمَا هُوَ الرَّسْمُ الْآنَ فِي أَرَاضِي مِصْرَ ، فَإِنَّ الْمَأْخُوذَ الْآنَ بَدَلُ إجَارَةٍ لَا خَرَاجٍ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَرَاضِيَ لَيْسَتْ مَمْلُوكَةً لِلزُّرَّاعِ ، وَهَذَا بَعْدَمَا قُلْنَا إنَّ أَرْضَ مِصْرَ خَرَاجِيَّةٌ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ، كَأَنَّهُ لِمَوْتِ الْمَالِكِينَ شَيْئًا فَشَيْئًا مِنْ غَيْرِ إخْلَافِ وَرَثَةٍ فَصَارَتْ لِبَيْتِ الْمَالِ ، وَيَنْبَغِي عَلَى هَذَا أَنْ لَا يَصِحَّ بَيْعُ الْإِمَامِ وَلَا شِرَاؤُهُ مِنْ وَكِيلِ بَيْتِ الْمَالِ لِشَيْءٍ مِنْهَا ؛ لِأَنَّ نَظَرَهُ فِي مَالِ الْمُسْلِمِينَ كَنَظَرِ وَلِيِّ الْيَتِيمِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُ عَقَارِهِ إلَّا لِضَرُورَةِ عَدَمِ وُجُودِ مَا يُنْفِقُهُ سِوَاهُ ، فَلِذَا كَتَبْت فِي فَتْوَى رُفِعَتْ إلَيَّ فِي شِرَاءِ السُّلْطَانِ الْأَشْرَفِ بَرْسَبَاي رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَرْضٍ مِمَّنْ وَلَّاهُ نَظَرَ بَيْتِ الْمَالِ هَلْ يَجُوزُ شِرَاؤُهُ مِنْهُ وَهُوَ الَّذِي وَلَّاهُ ؟ فَكَتَبْت : إذَا كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةٌ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ جَازَ ذَلِكَ .
وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ كَمَالِكٍ ، وَفِي رِوَايَةٍ فِي جَرِيبِ حِنْطَةٍ أَوْ شَعِيرٍ دِرْهَمٌ ، وَالْبَاقِي كَقَوْلِنَا .
وَقِيلَ كُلُّ الرِّوَايَاتِ عَنْ عُمَرَ صَحِيحَةٌ ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ لِاخْتِلَافِ النَّوَاحِي فَوُضِعَ بَعْضُهَا أَقَلَّ وَبَعْضُهَا أَكْثَرَ ؛ لِتَفَاوُتِ الرِّيعِ فِي نَاحِيَةٍ مَعَ نَاحِيَةٍ ، وَمَا قُلْنَا أَشْهَرُ رِوَايَةً ، وَأَرْفَقُ بِالرَّعِيَّةِ .
ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ الْمَعْنَى فِي

اخْتِلَافِ الْوَظِيفَةِ فَقَالَ : ( وَلِأَنَّ الْمُؤَنَ مُتَفَاوِتَةٌ فَالْكَرْمُ أَخَفُّهَا مُؤْنَةً ) ؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى عَلَى الْأَبَدِ بِلَا مُؤْنَةٍ ، وَأَكْثَرُهَا رِيعًا ( وَالْمَزَارِعُ ) أَقَلُّهَا رِيعًا وَ ( أَكْثَرُهَا مُؤْنَةً ) لِاحْتِيَاجِهَا إلَى الْبَذْرِ وَمُؤَنِ الزِّرَاعَةِ مِنْ الْحِرَاثَةِ وَالْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ وَالتَّذْرِيَةِ فِي كُلِّ عَامٍ ( وَالرِّطَابُ بَيْنَهُمَا ) ؛ لِأَنَّهَا لَا تَدُومُ دَوَامَ الْكَرْمِ وَيَتَكَلَّفُ فِي عَمَلِهَا كُلَّ عَامٍ فَوَجَبَ تَفَاوُتُ الْوَاجِبِ بِتَفَاوُتِ الْمُؤْنَةِ ، أَصْلُهُ قَوْلُهُ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَا سَقَتْ السَّمَاءُ فَفِيهِ الْعُشْرُ ، وَمَا سُقِيَ بِغَرْبٍ أَوْ دَالِيَةٍ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ } ( قَوْلُهُ : وَمَا سِوَى ذَلِكَ ) أَيْ مِنْ الْأَرَاضِي الَّتِي فِيهَا أَصْنَافٌ غَيْرُ مَا وَصَفَ فِيهِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ( كَالزَّعْفَرَانِ ) وَالنَّخِيلِ الْمُلْتَفَّةِ ( وَالْبُسْتَانِ ) وَهُوَ أَرْضٌ يَحُوطُهَا حَوَائِطُ وَفِيهَا نَخِيلٌ مُتَفَرِّقَةٌ ، وَأَشْجَارٌ ، وَكَذَا غَيْرُ ذَلِكَ كَالنَّخِيلِ الْمُلْتَفَّةِ ( يُوضَعُ عَلَى ذَلِكَ بِحَسَبِ الطَّاقَةِ ) فَيُوضَعُ عَلَى النَّخِيلِ الْمُلْتَفَّةِ بِحَسَبِ مَا تُطِيقُ ، وَلَا يُزَادُ عَلَى الْكَرْمِ ، وَعَلَى جَرِيبِ الزَّعْفَرَانِ كَذَلِكَ يُنْظَرُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إلَى غَلَّتِهَا ، فَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ سِوَى غَلَّةِ الزَّرْعِ يُؤْخَذُ قَدْرُ خَرَاجِ الزَّرْعِ أَوْ الرَّطْبَةِ يُؤْخَذُ خَرَاجُ الرَّطْبَةِ أَوْ الْكَرْمِ فَالْكَرْمُ ، وَإِنَّمَا يُنْتَهَى إلَى نِصْفِ الْخَارِجِ ( لِأَنَّ التَّنْصِيفَ ) بَعْدَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَقْتُلَهُمْ وَنَتَمَلَّكَ رِقَابَ الْأَرَاضِي وَالْأَمْوَالِ ( عَيْنُ الْإِنْصَافِ .
قَوْلُهُ : فَإِنْ لَمْ تُطِقْ مَا وُضِعَ عَلَيْهَا ) بِأَنْ لَمْ يَبْلُغْ الْخَارِجُ مِنْهَا ضِعْفَهُ نَقَصَ إلَى نِصْفِ الْخَارِجِ ، كَذَا أَفَادَهُ فِي الْخُلَاصَةِ حَيْثُ قَالَ : فَإِنْ كَانَتْ الْأَرَاضِي لَا تُطِيقُ أَنْ يَكُونَ الْخَرَاجُ خَمْسَةً بِأَنْ كَانَ الْخَارِجُ لَا يَبْلُغُ عِشْرَةً يَجُوزُ أَنْ يَنْقُصَ حَتَّى يَصِيرَ مِثْلَ نِصْفِ الْخَارِجِ انْتَهَى .
وَفِي هَذَا لَا فَرْقَ

بَيْنَ الْأَرَضِينَ الَّتِي وَظَّفَ عَلَيْهَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثُمَّ نَقَصَ نُزُلُهَا وَضَعُفَتْ الْآنَ أَوْ غَيَّرَهَا ، وَأَجْمَعُوا أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى وَظِيفَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْأَرَاضِي الَّتِي وَظَّفَ فِيهَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَوْ إمَامٌ آخَرُ مِثْلَ وَظِيفَةِ عُمَرَ ذَكَرَهُ فِي الْكَافِي ، وَأَمَّا فِي بَلَدٍ لَوْ أَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يَبْتَدِئَ فِيهَا التَّوْظِيفَ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لَا يَزِيدُ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ : لَهُ ذَلِكَ ، وَمَعْنَى هَذَا إذَا كَانَتْ الْأَرْضُ الَّتِي فُتِحَتْ بَعْدَ الْإِمَامِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تُزْرَعُ الْحِنْطَةُ فَأَرَادَ أَنْ يَضَعَ عَلَيْهَا دِرْهَمَيْنِ وَقَفِيزًا وَهِيَ تُطِيقُهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَهُ ذَلِكَ اعْتِبَارًا بِالنُّقْصَانِ ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْته مِنْ حَمْلِ الْأَرْضِ فِي قَوْلِهِ فَإِنْ لَمْ تُطِقْ مَا وُضِعَ عَلَيْهَا عَلَى مَا يَشْمَلُ أَرْضَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَمَنَعَهُ أَبُو يُوسُفَ بِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يَزِدْ حِينَ أُخْبِرَ بِزِيَادَةِ طَاقَةِ الْأَرْضِ ، فَفِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ : أَخَافُ أَنْ تَكُونَا حَمَّلْتُمَا الْأَرْضَ مَا لَا تُطِيقُ ، قَالَا : حَمَّلْنَاهَا أَمْرًا هِيَ لَهُ مُطِيقَةٌ مَا فِيهَا كَبِيرُ فَضْلٍ .
وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ : أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ الْبُنَانِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ : أَرْضُ كَذَا وَكَذَا يُطِيقُونَ مِنْ الْخَرَاجِ أَكْثَرَ مِمَّا عَلَيْهِمْ ، فَقَالَ : لَيْسَ إلَيْهِمْ سَبِيلٌ ( قَوْلُهُ : وَإِنْ غَلَبَ عَلَى أَرْضِ الْخَرَاجِ الْمَاءُ أَوْ انْقَطَعَ الْمَاءُ عَنْهَا أَوْ اصْطَلَمَ الزَّرْعَ آفَةٌ لَا خَرَاجَ عَلَيْهِ ) أَمَّا فِي غَلَبَةِ الْمَاءِ أَوْ انْقِطَاعِهِ ( فَلِأَنَّهُ فَاتَ التَّمَكُّنُ مِنْ الزِّرَاعَةِ وَهُوَ النَّمَاءُ التَّقْدِيرِيُّ

الْمُعْتَبَرُ فِي الْخَرَاجِ ) ، وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ فَلِفَوْتِ ( النَّمَاءِ التَّقْدِيرِيِّ فِي بَعْضِ الْحَوْلِ ، وَكَوْنُهُ نَامِيًا فِي جَمِيعِ الْحَوْلِ شَرْطٌ كَمَا فِي مَالِ الزَّكَاةِ ، أَوْ يُدَارُ الْحُكْمُ عَلَى حَقِيقَةِ الْخَارِجِ عِنْدَ الْخُرُوجِ ) ؛ لِأَنَّ التَّمَكُّنَ مِنْ الزِّرَاعَةِ قَائِمٌ مَقَامَهُ ، فَإِذَا وُجِدَ الْأَصْلُ بَطَلَ اعْتِبَارُ الْخَلَفِ وَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِالْأَصْلِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ أَكْثَرَ الْمَشَايِخِ حَمَلُوا الْمَذْكُورَ فِي الْكِتَابِ مِنْ سُقُوطِ الْخَرَاجِ بِالِاصْطِلَامِ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَبْقَ مِنْ السَّنَةِ مِقْدَارُ مَا يُمْكِنُ الزِّرَاعَةُ ثَانِيًا ، فَإِنْ بَقِيَ لَا يَسْقُطُ الْخَرَاجُ ؛ لِأَنَّهُ عَطَّلَهَا .
وَفِي الْفَتَاوَى الْكُبْرَى : تَكَلَّمُوا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهِ زِرَاعَةُ الْحِنْطَةِ أَوْ الشَّعِيرِ أَمْ أَيِّ زَرْعٍ كَانَ ، وَأَنَّ الْمُعْتَبَرَ مُدَّةُ تَرْكِ الزَّرْعِ فِيهَا أَوْ مُدَّةٌ يَبْلُغُ الزَّرْعُ فِيهَا مَبْلَغًا يَكُونُ قِيمَتُهُ ضِعْفَ الْخَرَاجِ .
وَالْفَتْوَى عَلَى أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ وَهُوَ لَا يُنَافِي الْوَجْهَ الثَّانِيَ ؛ لِأَنَّ إدَارَةَ الْحُكْمِ عَلَى حَقِيقَةِ الْخَارِجِ إنْ أُسْقِطَ الْوَاجِبُ مِنْهُ لَا يَمْنَعُ الْإِيجَابَ بِالتَّعْطِيلِ فِيهَا بَعْدَهُ مِنْ الزَّمَانِ .
وَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فَصَرِيحٌ فِي نَفْيِ الْوُجُوبِ ، وَإِنْ بَقِيَ إمْكَانُ الزِّرَاعَةِ إلَى آخِرِ السَّنَةِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ كَثِيرٌ مِنْ الْمَشَايِخِ هَذَا ، وَإِعَادَةُ الزَّرْعِ تَسْتَدْعِي مُؤَنًا كَالْأَوَّلِ ، فَإِنْ أَخْرَجَ شَيْئًا فَقُصَارَاهُ أَنْ يَفِيَ بِالْخَرَاجَيْنِ فَأَخْذُ الْخَرَاجِ إذَا لَمْ يَزْرَعْ ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ تَخَيُّرُ أَصْلِ مَالِ الزَّارِعِ وَكَذَا إنْ زَرَعَ .
( قَوْلُهُ : وَإِنْ عَطَّلَهَا صَاحِبُهَا فَعَلَيْهِ الْخَرَاجُ ؛ لِأَنَّ التَّمَكُّنَ ) مِنْ الزِّرَاعَةِ ( كَانَ ثَابِتًا وَهُوَ الَّذِي فَوَّتَهُ ) أَيْ فَوَّتَ الزَّرْعَ وَهَذَا بِشَرْطِ التَّمَكُّنِ كَمَا يُفِيدُ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّ التَّمَكُّنَ كَانَ ثَابِتًا ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ لِعَدَمِ قُوَّتِهِ ، وَأَسْبَابِهِ فَلِلْإِمَامِ أَنْ يَدْفَعَهَا

لِغَيْرِهِ مُزَارَعَةً وَيَأْخُذَ الْخَرَاجَ مِنْ نَصِيبِ الْمَالِكِ وَيُعْطِيَهُ الْبَاقِيَ ، أَوْ يُؤَجِّرَهَا ، وَيَأْخُذَ الْخَرَاجَ مِنْ الْأُجْرَةِ ، أَوْ يَزْرَعَهَا بِنَفَقَةٍ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ، فَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يَقْبَلُ ذَلِكَ بَاعَهَا ، وَأَخَذَ مِنْ ثَمَنِهَا خَرَاجَ السَّنَةِ الْمُنْسَلِخَةِ وَدَفَعَ بَاقِيَ الثَّمَنِ لِصَاحِبِهَا ثُمَّ اسْتَمَرَّ يَأْخُذُ الْخَرَاجَ مِنْ الْمُشْتَرِي .
وَهَذَا وَإِنْ كَانَ نَوْعَ حَجْرٍ فَفِيهِ دَفْعُ ضَرَرِ الْعَامَّةِ بِإِثْبَاتِ ضَرَرٍ وَاحِدٍ وَهُوَ جَائِزٌ كَمَا قُلْنَا فِي الْحَجْرِ عَلَى الْمُكَارِي الْمُفْلِسِ وَالطَّبِيبِ الْجَاهِلِ .
وَلَوْ وَقَعَ الْبَيْعُ فِي أَثْنَاءِ السَّنَةِ فَإِنْ بَقِيَ مِنْهَا قَدْرُ مَا يَتَمَكَّنُ الْمُشْتَرِي مِنْ الزِّرَاعَةِ فَالْخَرَاجُ عَلَيْهِ ، وَإِلَّا عَلَى الْبَائِعِ ، وَمَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَدْفَعُ لِلْعَاجِزِ كِفَايَتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ قَرْضًا لِيَعْمَلَ فِيهَا صَحِيحٌ أَيْضًا .
وَمِنْ فُرُوعِ ذَلِكَ : ( مَا إذَا انْتَقَلَ إلَى أَخَسِّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ ) بِأَنْ كَانَتْ مَثَلًا تَزْرَعُ الْكَرْمَ فَزَرَعَهَا حُبُوبًا ( أُخِذَ مِنْهُ خَرَاجُ الْأَعْلَى ) وَهُوَ الْكَرْمُ ( لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي ضَيَّعَ الزِّيَادَةَ ) عَلَى الْمُسْلِمِينَ قَالُوا : لَا يُفْتَى بِهَذَا لِمَا فِيهِ مِنْ تَسَلُّطِ الظَّلَمَةِ عَلَى أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ إذْ يَدَّعِي كُلُّ ظَالِمٍ أَنَّ أَرْضَهُ تَصْلُحُ لِزِرَاعَةِ الزَّعْفَرَانِ وَنَحْوِهِ وَعِلَاجُهُ صَعْبٌ .

( وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْخَرَاجِ أُخِذَ مِنْهُ الْخَرَاجُ عَلَى حَالِهِ ) ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْمُؤْنَةِ فَيُعْتَبَرُ مُؤْنَةً فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ فَأَمْكَنَ إبْقَاؤُهُ عَلَى الْمُسْلِمِ ( وَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ الْمُسْلِمُ أَرْضَ الْخَرَاجِ مِنْ الذِّمِّيِّ وَيُؤْخَذَ مِنْهُ الْخَرَاجُ لِمَا قُلْنَا ) ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّ الصَّحَابَةَ اشْتَرَوْا أَرَاضِيَ الْخَرَاجِ وَكَانُوا يُؤَدُّونَ خَرَاجَهَا ، فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الشِّرَاءِ وَأَخْذِ الْخَرَاجِ وَأَدَائِهِ لِلْمُسْلِمِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ ( وَلَا عُشْرَ فِي الْخَارِجِ مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا حَقَّانِ مُخْتَلِفَانِ وَجَبَا فِي مَحِلَّيْنِ بِسَبَبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَلَا يَتَنَافَيَانِ .
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا يَجْتَمِعُ عُشْرٌ وَخَرَاجٌ فِي أَرْضِ مُسْلِمٍ } ، وَلِأَنَّ أَحَدًا مِنْ أَئِمَّةِ الْعَدْلِ وَالْجَوْرِ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَهُمَا ، وَكَفَى بِإِجْمَاعِهِمْ حُجَّةً ؛ وَلِأَنَّ الْخَرَاجَ يَجِبُ فِي أَرْضٍ فُتِحَتْ عَنْوَةً قَهْرًا ، وَالْعُشْرُ فِي أَرْضٍ أَسْلَمَ أَهْلُهَا طَوْعًا ، وَالْوَصْفَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي أَرْضٍ وَاحِدَةٍ ، وَسَبَبُ الْحَقَّيْنِ وَاحِدٌ وَهُوَ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ إلَّا أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي الْعُشْرِ تَحْقِيقًا وَفِي الْخَرَاجِ تَقْدِيرًا ، وَلِهَذَا يُضَافَانِ إلَى الْأَرْضِ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الزَّكَاةُ مَعَ أَحَدِهِمَا .

( قَوْلُهُ : وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْخَرَاجِ أُخِذَ مِنْهُ الْخَرَاجُ عَلَى حَالِهِ ) وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ يَسْقُطُ عَنْهُ الْخَرَاجُ ، وَكَذَا لَوْ بَاعَهَا مِنْ مُسْلِمٍ يَجُوزُ الْبَيْعُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِمَالِكٍ فِي رِوَايَةٍ ، وَعَلَى رِوَايَةِ الْجَوَازِ يَسْقُطُ الْخَرَاجُ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الذُّلِّ وَالصَّغَارِ وَهُوَ غَيْرُ لَائِقٍ بِالْمُسْلِمِ .
وَقَوْلُهُ : ( لِمَا قُلْنَا ) مِنْ أَنَّ فِيهِ الْمُؤْنَةَ ، وَالْمُسْلِمُ مِنْ أَهْلِ الْمُؤْنَةِ كَالْعُشْرِ ، وَالْأَرْضُ لَا تَخْلُو مِنْهَا ، فَإِبْقَاءُ مَا تَقَرَّرَ وَاجِبًا أَوْلَى ؛ وَلِأَنَّ وَضْعَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمُوَافَقَةِ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مَا كَانَ إلَّا لِيَجِدَ الَّذِينَ يَجِيئُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ أَهْلِ الْفَتْحِ مَا يَسُدُّ حَاجَتَهُمْ ، وَفَتْحُ هَذَا الْبَابِ يُؤَدِّي إلَى فَوَاتِ هَذَا الْمَقْصُودِ ، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ غَيْرُ بَعِيدٍ بَعْدَ مُخَالَطَةِ الْمُسْلِمِينَ وَمَعْرِفَةِ مَحَاسِنِهِ أَوْ تَقِيَّةٍ مِنْ الْكُلْفَةِ وَتَجَشُّمِ الْمَشَاقِّ فِي الزِّرَاعَةِ ثُمَّ دَفْعِ نَحْوِ النِّصْفِ لِلْغَيْرِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ : ( وَقَدْ صَحَّ أَنَّ الصَّحَابَةَ اشْتَرَوْا أَرَاضِيَ الْخَرَاجِ وَكَانُوا يُؤَدُّونَ خَرَاجَهَا ) قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : قَالَ أَبُو يُوسُفَ : الْقَوْلُ مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّهُ كَانَ لِابْنِ مَسْعُودٍ وَخَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ وَالْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ وَلِشُرَيْحٍ أَرْضُ الْخَرَاجِ فَدَلَّ عَلَى انْتِفَاءِ كَرَاهَةِ تَمَلُّكِهَا .
حَدَّثَنَا مُجَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عَامِرٍ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ فَرْقَدٍ السُّلَمِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إنِّي اشْتَرَيْت أَرْضًا مِنْ أَرْضِ السَّوَادِ ، فَقَالَ : عُمَرُ : أَنْتَ فِيهَا مِثْلُ صَاحِبِهَا .
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : وَأَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَفَّانَ ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ قَالَ : حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ : أَسْلَمَتْ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِ

نَهْرِ الْمَلِكِ ، فَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إنْ اخْتَارَتْ أَرْضَهَا ، وَأَدَّتْ مَا عَلَى أَرْضِهَا مِنْ الْخَرَاجِ فَخَلُّوا بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَرْضِهَا ، وَإِلَّا فَخَلُّوا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ أَرْضِهِمْ .
وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ : حَدَّثَنَا الثَّوْرِيُّ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ أَنَّ دِهْقَانَةً مِنْ أَرْضِ نَهْرِ الْمَلِكِ أَسْلَمَتْ ، فَقَالَ عُمَرُ : ادْفَعُوا إلَيْهَا أَرْضَهَا تُؤَدِّي عَنْهَا الْخَرَاجَ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفَيْهِمَا : حَدَّثَنَا هُشَيْمُ بْنُ بَشِيرٍ عَنْ شَيْبَانَ بْنِ الْحَكَمِ عَنْ زُبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ أَنَّ دِهْقَانًا أَسْلَمَ عَلَى عَهْدِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ عَلِيٌّ : إنْ أَقَمْت فِي أَرْضِك رَفَعْنَا عَنْك الْخَرَاجَ عَنْ رَأْسِك ، وَأَخَذْنَاهَا مِنْ أَرْضِك ، وَإِنْ تَحَوَّلْت عَنْهَا فَنَحْنُ أَحَقُّ بِهَا .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ : حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ أَبِي عَوْنٍ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ قَالَا : إذَا أَسْلَمَ وَلَهُ أَرْضٌ وَضَعْنَا عَنْهُ الْجِزْيَةَ ، وَأَخَذْنَا خَرَاجَهَا .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الشِّرَاءِ ، وَأَخْذِ الْخَرَاجِ ، وَأَدَائِهِ لِلْمُسْلِمِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ ) وَصَرَّحَ فِي كَافِي الْحَاكِمِ بِنَفْيِ الْكَرَاهَةِ .
قِيلَ : وَلَوْ قَالَ مِنْ الْمُسْلِمِ كَانَ أَوْلَى ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى تَعْلِيقِهِ بِلَفْظِ أَخَذَ وَهُوَ غَيْرُ مَقْصُودٍ ، فَإِنَّ الْأَخْذَ يَقُومُ بِالْإِمَامِ ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ إفَادَةَ أَنَّهُ هَلْ يُكْرَهُ لِلْإِمَامِ أَخْذُ الْخَرَاجِ مِنْ الْمُسْلِمِ ، بَلْ الْمَقْصُودُ إفَادَةُ حُكْمِ شِرَاءِ الْمُسْلِمِ الْأَرْضَ الْخَرَاجِيَّةَ وَتَعَرُّضَهُ بِذَلِكَ لِلْأَخْذِ مِنْهُ ، هَلْ يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ أَوْ لَا ؟ فَيَجِبُ لَفْظُ لِلْمُسْلِمِ لِيَتَعَلَّقَ بِالشِّرَاءِ فِي قَوْلِهِ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الشِّرَاءِ لِلْمُسْلِمِ وَعَدَمِ الْكَرَاهَةِ ، لَا كَمَا يَقُولُ بَعْضُ الْمُتَقَشِّفَةِ رَحِمَهُ اللَّهُ

عَلَيْهِمْ وَرَحِمَنَا بِهِمْ مِنْ كَرَاهَةِ ذَلِكَ ؛ لِمَا رُوِيَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَأَى شَيْئًا مِنْ آلَاتِ الْحِرَاثَةِ فَقَالَ : مَا دَخَلَ هَذَا بَيْتَ قَوْمٍ إلَّا ذَلُّوا } ظَنَّا مِنْهُمْ أَنَّ الذُّلَّ بِالْتِزَامِ الْخَرَاجِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، بَلْ الْمُرَادُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ إذَا اشْتَغَلُوا بِالزِّرَاعَةِ وَاتَّبَعُوا أَذْنَابَ الْبَقَرِ قَعَدُوا عَنْ الْغَزْوِ فَكَّرَ عَلَيْهِمْ عَدُوُّهُمْ فَجَعَلُوهُمْ أَذِلَّةً لَا مَا ذَكَرُوهُ ، إذْ لَا شَكَّ فِي أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ الْتِزَامُ مَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَكَفَّلَ بِجِزْيَةِ ذِمِّيٍّ جَازَ بِلَا كَرَاهَةٍ ( قَوْلُهُ : وَلَا عُشْرَ فِي الْخَارِجِ مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ) وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ ( يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا حَقَّانِ مُخْتَلِفَانِ ) ذَاتًا ، فَإِنَّ الْعُشْرَ مُؤْنَةٌ فِيهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَالْخَرَاجُ مُؤْنَةٌ فِيهَا مَعْنَى الْعُقُوبَةِ ، وَمَحِلًّا فَإِنَّ الْعُشْرَ فِي الْخَارِجِ ، وَالْخَرَاجُ فِي الذِّمَّةِ ، وَسَبَبًا ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْعُشْرِ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ بِالْخَارِجِ تَحْقِيقًا ، وَسَبَبُ الْخَرَاجِ الْأَرْضُ النَّامِيَةِ بِهِ تَقْدِيرًا وَمَصْرِفًا ، فَمَصْرِفُ الْعُشْرِ الْفُقَرَاءُ ، وَمَصْرِفُ الْخَرَاجِ الْمُقَاتِلَةُ وَقَدْ تَحَقَّقَ سَبَبُ كُلٍّ مِنْهُمَا ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْحَقَّيْنِ فَيَجِبَانِ كَوُجُوبِ الدَّيْنِ مَعَ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَلَنَا قَوْلُهُ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا يَجْتَمِعُ عُشْرٌ وَخَرَاجٌ فِي أَرْضِ مُسْلِمٍ } ) وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ ذَكَرَهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَنْبَسَةَ : حَدَّثَنَا أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَجْتَمِعُ عَلَى مُسْلِمٍ خَرَاجٌ وَعُشْرٌ } وَيَحْيَى بْنُ عَنْبَسَةَ مُضَعَّفٌ إلَى غَايَةٍ حَتَّى نُسِبَ إلَى الْوَضْعِ ، وَإِلَى الْكَذِبِ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ ، وَإِنَّمَا

رَوَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ فَجَاءَ يَحْيَى وَصَلَهُ .
نَعَمْ إنَّمَا رُوِيَ عَنْ التَّابِعِينَ مِثْلِ النَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَعِكْرِمَةَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ .
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ الشَّعْبِيِّ : حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُغِيرَةِ خَتَنٌ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ حَمْزَةَ السَّلُولِيِّ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ : " لَا يَجْتَمِعُ عُشْرٌ وَخَرَاجٌ فِي أَرْضٍ " .
وَقَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو نُمَيْلَةَ ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ عَنْ أَبِي الْمُنِيبِ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ : " لَا يَجْتَمِعُ عُشْرٌ وَخَرَاجٌ فِي مَالٍ " .
وَحَاصِلُ هَذَا كَمَا تَرَى لَيْسَ إلَّا نَقْلَ مَذْهَبِ بَعْضِ التَّابِعِينَ وَلَمْ يَرْفَعُوهُ فَيَكُونُ حَدِيثًا مُرْسَلًا .
وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ الْمُبَارَكِ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مَذْهَبًا لِجَمَاعَةٍ آخَرِينَ فَهَذَا نَقْلُ الْمَذَاهِبِ لَا اسْتِدْلَالٌ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : ( وَلِأَنَّ أَحَدًا مِنْ الْأَئِمَّةِ إلَى آخِرِهِ ) فَقَدْ مَنَعَ بِنَقْلِ ابْنِ الْمُنْذِرِ الْجَمْعَ فِي الْأَخْذِ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَلَمْ يَتِمَّ ، وَعَدَمُ الْأَخْذِ مِنْ غَيْرِهِ جَازَ كَوْنُهُ لِتَفْوِيضِ الدَّفْعِ إلَى الْمَالِكِ فَلَمْ يَتَعَيَّنْ قَوْلُ صَحَابِيٍّ بِعَدَمِ الْجَمْعِ لِيَحْتَجَّ بِهِ مَنْ يُحْتَجُّ بِقَوْلِهِمْ عَلَى أَنَّ فِعْلَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَقْتَضِي أَنْ لَيْسَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى مَنْعِ الْجَمْعِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُتَّبِعًا لَهُ مُقْتَفِيًا لِآثَارِهِ ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ عَنْهُ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ كُتُبِهِ فِي جَوَابِ السَّائِلِ فِي مَسْأَلَةِ خُمُسِ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ إذَا رَجَعْت إلَيْهِ يُفِيدُك ذَلِكَ ، ثُمَّ الْمُصَنِّفُ مَنَعَ تُعَدَّدَ السَّبَبِ وَجَعَلَ السَّبَبَ فِيهَا مَعًا الْأَرْضَ ، وَلَا مَانِعَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالسَّبَبِ الْوَاحِدِ ، وَهُوَ الْأَرْضُ هُنَا وَظِيفَتَانِ مَعَ أَنَّ الْعُمُومَاتِ تَقْتَضِيهِ مِثْلَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَا سَقَتْ السَّمَاءُ فَفِيهِ الْعُشْرُ } فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يُؤْخَذَ مَعَ الْخَرَاجِ إنْ كَانَ ؛ وَلِأَنَّ تَعَدُّدَ الْحُكْمِ وَاتِّحَادِهِ

بِتَعَدُّدِ السَّبَبِ وَاتِّحَادِهِ ، وَسَبَبُ كُلٍّ مِنْ الْخَرَاجِ وَالْعُشْرِ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ .
( إلَّا أَنَّهُ يُعْتَبَرُ النَّمَاءُ فِي الْعُشْرِ تَحْقِيقًا ) ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ إضَافِيٌّ فَمَا لَمْ يَتَحَقَّقْ خَارِجٌ لَا يَتَحَقَّقُ عُشْرُهُ ( وَفِي الْخَرَاجِ تَقْدِيرًا ، وَلِهَذَا يُضَافَانِ إلَيْهَا ) فَيُقَالُ خَرَاجُ الْأَرْضِ وَعُشْرُ الْأَرْضِ وَالْإِضَافَةُ دَلِيلُ السَّبَبِيَّةِ ، وَكَوْنُ الْأَرْضِ مَعَ النَّمَاءِ التَّقْدِيرِيِّ غَيْرَ الْأَرْضِ مَعَ التَّحْقِيقِيِّ مُخَالَفَةٌ اعْتِبَارِيَّةٌ لَا حَقِيقِيَّةٌ ، فَالْأَرْضُ النَّامِيَةُ هِيَ السَّبَبُ ، وَإِذَا اتَّحَدَ السَّبَبُ اتَّحَدَ الْحُكْمُ وَصَارَ كَزَكَاةِ التِّجَارَةِ وَالسَّائِمَةِ ، فَإِنَّ السَّبَبَ وَاحِدٌ بِالذَّاتِ وَهُوَ الْغُنْمُ مَثَلًا ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَا يُقَالُ : الْغُنْمُ مَعَ السَّوْمِ غَيْرُهَا مَعَ قَصْدِ التِّجَارَةِ فَيَجِبُ كُلٌّ مِنْهُمَا لِتَعَدُّدِ السَّبَبِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ ( وَلِأَنَّ الْخَرَاجَ يَجِبُ فِي الْأَرْضِ إذَا فُتِحَتْ عَنْوَةً وَقَهْرًا ، وَالْعُشْرُ فِي الْأَرْضِ إذَا أَسْلَمَ أَهْلُهَا ) عَلَيْهَا ، وَلَازِمُ الْأَوَّلِ الْكُرْهُ وَلَازِمُ الثَّانِي الطَّوْعُ وَهُمَا مُتَنَافِيَانِ فَلَا يَجْتَمِعَانِ ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ بَعْضَ صُوَرِ الْخَرَاجِ يَكُونُ مَعَ الْفَتْحِ عَنْوَةً ، وَهُوَ مَا إذَا أُقِرَّ أَهْلُهَا عَلَيْهَا ، وَكَذَا بَعْضُ صُوَرِ الْعُشْرِ وَهُوَ مَا إذَا فَتَحَهَا عَنْوَةً وَقَسَّمَهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ ، كَمَا أَنَّ بَعْضَ صُوَرِ الْخَرَاجِ لَا يَكُونُ مَعَ الْعَنْوَةِ وَالْقَهْرِ بَلْ لِلصُّلْحِ ، أَوْ بِأَنْ أَحْيَاهَا وَسَقَاهَا بِمَاءِ الْأَنْهَارِ الصِّغَارِ ، أَوْ كَانَتْ قَرِيبَةً مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ عَلَى الْخِلَافِ ، وَمَعَ ذَلِكَ فَاَلَّذِي يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ الرَّاشِدِينَ مِنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَمْ يَأْخُذُوا عُشْرًا مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ ، وَإِلَّا لَنُقِلَ كَمَا نُقِلَ تَفَاصِيلُ أَخْذِهِمْ الْخَرَاجَ بِهَذَا تَقْضِي الْعَادَةُ ، وَكَوْنُهُمْ فَوَّضُوا الدَّفْعَ إلَى الْمُلَّاكِ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ ، أَرَأَيْت إذَا كَانَ الْعُشْرُ وَظِيفَةً فِي

الْأَرْضِ الَّتِي وُظِّفَ فِيهَا الْخَرَاجُ عَلَى أَهْلِ الْكُفْرِ هَلْ يَقْرَبُ أَنْ يَتَوَلَّوْا أَخْذَ وَظِيفَةٍ وَيَكِلُوا الْأُخْرَى إلَيْهِمْ لَيْسَ لِهَذَا مَعْنًى ، وَكَيْفَ وَهُمْ كُفَّارٌ لَا يُؤْمَنُونَ عَلَى أَدَائِهِ مِنْ طِيبِ أَنْفُسِهِمْ ، وَإِذَا كَانَ الظَّنُّ عَدَمَ أَخْذِ الثَّلَاثَةِ صَحَّ دَلِيلًا بِفِعْلِ الصَّحَابَةِ خُصُوصًا الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ وَيَكُونُ إجْمَاعًا .
وَذَكَرَ الْإِسْبِيجَابِيُّ : لَا يَجْتَمِعُ الْأَجْرُ وَالضَّمَانُ عِنْدَنَا وَالْعُقْرُ وَالْحَدُّ وَالْجَلْدُ وَالنَّفْيُ ، وَكَذَا الرَّجْمُ مَعَ الْجَلْدِ ، وَزَكَاةُ التِّجَارَةِ مَعَ صَدَقَةِ الْفِطْرِ .
وَالشَّافِعِيُّ يُوَافِقُ فِي الْجَلْدِ مَعَ الرَّجْمِ وَمَا سِوَاهُ يَجْمَعُ .
( وَكَذَا الزَّكَاةُ مَعَ أَحَدِهِمَا ) أَيْ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجُ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ .
وَصُورَتُهُ إذَا اشْتَرَى أَرْضَ عُشْرٍ أَوْ خَرَاجٍ بِقَصْدِ التِّجَارَةِ عَلَيْهِ الْعُشْرُ أَوْ الْخَرَاجُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ زَكَاةُ التِّجَارَةِ عِنْدَنَا ، وَإِنَّمَا لَمْ يُعْكَسْ ؛ لِأَنَّ الْعُشْرَ وَالْخَرَاجَ أَلْزَمُ لِلْأَرْضِ ، بِخِلَافِ الزَّكَاةِ فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهَا مَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِمَا

( وَلَا يَتَكَرَّرُ الْخَرَاجُ بِتَكَرُّرِ الْخَارِجِ فِي سَنَةٍ ) ؛ لِأَنَّ عُمَرَ لَمْ يُوَظِّفْهُ مُكَرَّرًا ، بِخِلَافِ الْعُشْرِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ عُشْرًا إلَّا بِوُجُوبِهِ فِي كُلِّ خَارِجٍ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( قَوْلُهُ : وَلَا يَتَكَرَّرُ الْخَرَاجُ بِتَكَرُّرِ الْخَارِجِ فِي سَنَةٍ ؛ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يُوَظِّفْهُ مُكَرَّرًا ) فِي سَنَةٍ بِتَكَرُّرِ الْخَارِجِ عَلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا ، وَقَدْ يُوَازِي بِهَا تَعَلُّقَ الْخَرَاجِ بِالتَّمَكُّنِ فَيَسْتَوِيَانِ ، فَالْخَرَاجُ لَهُ شِدَّةٌ مِنْ حَيْثُ تَعَلُّقُهُ بِالتَّمَكُّنِ ، وَلَهُ خِفَّةٌ بِاعْتِبَارِ عَدَمِ تَكَرُّرِهِ فِي السَّنَةِ وَلَوْ زَرَعَ فِيهَا مِرَارًا ، وَالْعُشْرُ لَهُ شِدَّةٌ وَهُوَ تَكَرُّرُهُ بِتَكَرُّرِ خُرُوجِ الْخَارِجِ وَخِفَّةٌ بِتَعَلُّقِهِ بِعَيْنِ الْخَارِجِ ، فَإِذَا عَطَّلَهَا لَا يُؤْخَذُ بِشَيْءٍ ، فَإِنْ أَثْبَتَتْ الْخِفَّةُ لِلْعُشْرِ مُطْلَقًا بِاعْتِبَارِ الْأَغْلَبِ وَهُوَ عَدَمُ تَكَرُّرِ الزَّرْعِ فِي الْعَامِ .
قُلْنَا : وَكَذَلِكَ لَيْسَ فِي الْغَالِبِ أَنْ تُعَطَّلَ الْأَرْضُ مِنْ الزِّرَاعَةِ بِالْكُلِّيَّةِ ، وَيُؤْخَذُ الْخَرَاجُ مِنْ أَرْضِ الْمَرْأَةِ وَالصَّبِيِّ وَالْأَرَاضِيِ الْمَوْقُوفَةِ ؛ لِأَنَّ وَقْفَهَا إخْرَاجٌ مِنْ مُسْتَحِقٍّ إلَى مُسْتَحِقٍّ ، وَبِذَلِكَ لَا يَبْطُلُ الْخَرَاجُ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُطَالَبَ بِذَلِكَ النَّاظِرُ .

( بَابُ ) ( الْجِزْيَةِ ) ( وَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ ) ( : جِزْيَةٌ تُوضَعُ بِالتَّرَاضِي وَالصُّلْحِ فَتَتَقَدَّرُ بِحَسَبِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاتِّفَاقُ ) كَمَا { صَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ نَجْرَانَ عَلَى أَلْفٍ وَمِائَتَيْ حُلَّةٍ } ، وَلِأَنَّ الْمُوجِبَ هُوَ التَّرَاضِي فَلَا يَجُوزُ التَّعَدِّي إلَى غَيْرِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الِاتِّفَاقُ ( وَجِزْيَةٌ يَبْتَدِئُ الْإِمَامُ وَضْعَهَا إذَا غَلَبَ الْإِمَامُ عَلَى الْكُفَّارِ ، وَأَقَرَّهُمْ عَلَى أَمْلَاكِهِمْ ، فَيَضَعُ عَلَى الْغَنِيِّ الظَّاهِرِ الْغِنَى فِي كُلِّ سَنَةٍ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا يَأْخُذُ مِنْهُمْ فِي كُلِّ شَهْرٍ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ .
وَعَلَى وَسَطِ الْحَالِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا فِي كُلِّ شَهْرٍ دِرْهَمَيْنِ ، وَعَلَى الْفَقِيرِ الْمُعْتَمِلِ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا فِي كُلِّ شَهْرٍ دِرْهَمًا ) وَهَذَا عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَضَعُ عَلَى كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا أَوْ مَا يَعْدِلُ الدِّينَارَ ، وَالْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ { لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِمُعَاذٍ خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ وَحَالِمَةٍ دِينَارًا أَوْ عِدْلَهُ مَعَافِرَ } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ .
وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ إنَّمَا وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ الْقَتْلِ حَتَّى لَا تَجِبَ عَلَى مَنْ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُ بِسَبَبِ الْكُفْرِ كَالذَّرَارِيِّ وَالنِّسْوَانِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَنْتَظِمُ الْفَقِيرَ وَالْغَنِيَّ .
وَمَذْهَبُنَا مَنْقُولٌ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ؛ وَلِأَنَّهُ وَجَبَ نُصْرَةً لِلْمُقَاتِلَةِ فَتَجِبُ عَلَى التَّفَاوُتِ بِمَنْزِلَةِ خَرَاجِ الْأَرْضِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ وَجَبَ بَدَلًا عَنْ النُّصْرَةِ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ وَذَلِكَ يَتَفَاوَتُ بِكَثْرَةِ الْوَفْرِ وَقِلَّتِهِ ، فَكَذَا أُجْرَتُهُ هُوَ بَدَلُهُ ، وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ صُلْحًا ، وَلِهَذَا أَمَرَهُ بِالْأَخْذِ مِنْ الْحَالِمَةِ وَإِنْ كَانَتْ لَا يُؤْخَذُ مِنْهَا الْجِزْيَةُ .

( بَابُ الْجِزْيَةِ ) .
هَذَا هُوَ الضَّرْبُ الثَّانِي مِنْ الْخَرَاجِ ، وَقُدِّمَ الْأَوَّلُ لِقُوَّتِهِ ، إذْ يَجِبُ أَسْلَمُوا أَوْ لَمْ يُسْلِمُوا ، بِخِلَافِ الْجِزْيَةِ لَا يُلْزَمُونَ بِهَا إلَّا إذَا لَمْ يُسْلِمُوا ؛ وَلِأَنَّهُ حَقِيقَةُ الْخَرَاجِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا أُطْلِقَ الْخَرَاجُ فَإِنَّمَا يَتَبَادَرُ خَرَاجُ الْأَرْضِ ، وَلَا يُطْلَقُ عَلَى الْجِزْيَةِ إلَّا مُقَيَّدًا فَيُقَالُ خَرَاجُ الرَّأْسِ ، وَعَلَامَةُ الْمَجَازِ لُزُومُ التَّقْيِيدِ ، وَتُجْمَعُ الْجِزْيَةُ عَلَى جِزَى كَلِحْيَةٍ وَلِحَى وَهِيَ فِي اللُّغَةِ الْجَزَاءُ ، وَإِنَّمَا بُنِيَتْ عَلَى فِعْلَةٍ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْهَيْئَةِ وَهِيَ هَيْئَةُ الْإِذْلَالِ عِنْدَ الْإِعْطَاءِ عَلَى مَا سَيُعْرَفُ ( وَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : جِزْيَةٌ تُوضَعُ بِالتَّرَاضِي وَالصُّلْحِ ) عَلَيْهَا ( فَتَتَقَدَّرُ بِحَسَبِ مَا عَلَيْهِ الِاتِّفَاقُ ) فَلَا يُزَادُ عَلَيْهِ تَحَرُّزًا عَنْ الْغَدْرِ ، وَأَصْلُهُ { صُلْحُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ نَجْرَانَ وَهُمْ قَوْمٌ نَصَارَى بِقُرْبِ الْيَمَنِ عَلَى أَلْفَيْ حُلَّةٍ فِي الْعَامِ } عَلَى مَا فِي أَبِي دَاوُد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، قَالَ : { صَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ نَجْرَانَ عَلَى أَلْفَيْ حُلَّةٍ ، النِّصْفُ فِي صَفَرٍ ، وَالنِّصْفُ فِي رَجَبٍ } انْتَهَى .
وَصَالَحَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ عَلَى أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمْ ضِعْفُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ مِنْ الْمَالِ الْوَاجِبِ ، فَلَزِمَ ذَلِكَ وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ فِي الزَّكَاةِ .
هَذَا ، وَقَدْ قَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي كِتَابِ الْخَرَاجِ وَأَبُو عُبَيْدَةَ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ فِي كِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أَهْلِ نَجْرَانَ بَعْدَ أَنْ قَالَ عَلَى أَلْفَيْ حُلَّةٍ كُلُّ حُلَّةٍ أُوقِيَّةٌ : يَعْنِي قِيمَتَهَا أُوقِيَّةٌ ، وَقَوْلُ الْوَلْوَالِجِيِّ : كُلُّ حُلَّةٍ خَمْسُونَ دِرْهَمًا لَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ الْأُوقِيَّةَ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا ، وَالْحُلَّةُ ثَوْبَانِ إزَارٌ وَرِدَاءٌ ، وَتُعْتَبَرُ

هَذِهِ الْحُلَلُ فِي مُقَابَلَةِ مَا يُؤْخَذُ مِنْ رُءُوسِهِمْ وَأَرَاضِيِهِمْ .
قَالَ أَبُو يُوسُفَ : أَلْفَا حُلَّةٍ عَلَى أَرَاضِيِهِمْ وَعَلَى جِزْيَةِ رُءُوسِهِمْ تُقَسَّمُ عَلَى رُءُوسِ الرِّجَالِ الَّذِينَ لَمْ يُسْلِمُوا ، وَعَلَى كُلِّ أَرْضٍ مِنْ أَرَاضِي نَجْرَانَ ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ قَدْ بَاعَ أَرْضَهُ أَوْ بَعْضَهَا مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ أَوْ تَغْلِبِيٍّ ، وَالْمَرْأَةُ وَالصَّبِيُّ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ فِي أَرَاضِيِهِمْ ، وَأَمَّا جِزْيَةُ رُءُوسِهِمْ فَلَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ ا هـ .
يَعْنِي أَنَّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ يُؤْخَذُ سَوَاءٌ بَاعَ بَعْضُهُمْ أَرْضَهُ أَوْ لَمْ يَبِعْ ، ثُمَّ إذَا بَاعَ أَرْضَهُ يُؤْخَذُ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ عَلَى حَالِهِ ، وَيُؤْخَذُ الْخَرَاجُ مِنْ الْمُشْتَرِي الْمُسْلِمِ وَعُشْرَانِ مِنْ التَّغْلِبِيِّ الْمُشْتَرِي .
وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ عَلَى أَلْفٍ وَمِائَتَيْ حُلَّةٍ غَيْرُ صَحِيحٍ ، وَكَذَا قَوْلُهُ بَنِي نَجْرَانَ ، فَإِنَّ نَجْرَانَ اسْمُ أَرْضٍ مِنْ حَيِّزِ الْيَمَنِ لَا اسْمُ أَبِي قَبِيلَةٍ ، فَلِذَا كَانَ الثَّابِتُ فِي الْحَدِيثِ أَهْلُ نَجْرَانَ ( وَ ) الضَّرْبُ الثَّانِي ( جِزْيَةٌ يَبْتَدِئ الْإِمَامُ بِتَوْظِيفِهَا إذَا غَلَبَ عَلَى الْكُفَّارِ ) فَفَتَحَ بِلَادَهُمْ ( وَأَقَرَّهُمْ عَلَى أَمْلَاكِهِمْ ) فَهَذِهِ مُقَدَّرَةٌ بِقَدْرٍ مَعْلُومٍ شَاءُوا أَوْ أَبَوْا اسْتَرَقَّ أَوْ لَمْ يَرْضَوْا ( فَيَضَعُ عَلَى الْغَنِيِّ فِي كُلِّ سَنَةٍ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا ) بِوَزْنِ سَبْعَةٍ ( يَأْخُذُ مِنْ أَحَدِهِمْ فِي كُلِّ شَهْرٍ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ ، وَعَلَى أَوْسَطِ الْحَالِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا فِي كُلِّ شَهْرٍ دِرْهَمَيْنِ ، وَعَلَى الْفَقِيرِ الْمُعْتَمِلِ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا فِي كُلِّ شَهْرٍ دِرْهَمًا ) وَاحِدًا ( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَضَعُ عَلَى كُلِّ حَالِمٍ ) أَيْ بَالِغٍ ( دِينَارًا ) أَوْ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا .
وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِهِمْ : الْإِمَامُ مُخَيَّرٌ بَيْنَهُمَا .
وَالدِّينَارُ فِي الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ بِعَشَرَةٍ إلَّا فِي الْجِزْيَةِ فَإِنَّهُ يُقَابَلُ بِاثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا ؛ لِأَنَّ عُمَرَ

قَضَى بِذَلِكَ .
وَعِنْدَ عَامَّةِ أَصْحَابِهِمْ لَا يُعْتَبَرُ الدِّينَارُ إلَّا بِالسِّعْرِ وَالْقِيمَةِ .
وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُمَاكِسَهُمْ حَتَّى يَأْخُذَ مِنْ الْمُتَوَسِّطِ دِينَارَيْنِ وَمِنْ الْغَنِيِّ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ .
وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : يُؤْخَذُ مِنْ الْغَنِيِّ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا أَوْ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ ، وَمِنْ الْفَقِيرِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ أَوْ دِينَارٌ .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ : وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ : هِيَ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ ، بَلْ تُفَوَّضُ إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ { ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَرَ مُعَاذًا بِأَخْذِ الدِّينَارِ ، وَصَالَحَ هُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَصَارَى نَجْرَانَ عَلَى أَلْفَيْ حُلَّةٍ } وَعُمَرُ جَعَلَ الْجِزْيَةَ عَلَى ثَلَاثِ طَبَقَاتٍ كَمَا هُوَ قَوْلُنَا ، وَصَالَحَ بَنِي تَغْلِبَ عَلَى ضِعْفِ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ .
فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا تَقْدِيرَ فِيهَا بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ بَلْ مُفَوَّضٌ إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ حَتَّى لَوْ نَقَصَ عَنْ الدِّينَارِ جَازَ .
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ أُخْرَيَانِ : إحْدَاهُمَا كَقَوْلِنَا ، وَالْأُخْرَى كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ .
وَجْهُ قَوْلِهِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ مَسْرُوقٍ { عَنْ مُعَاذٍ قَالَ : بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيَّ الْيَمَنِ وَأَمَرَنِي أَنْ آخُذَ مِنْ الْبَقَرِ مِنْ كُلِّ ثَلَاثِينَ تَبِيعًا أَوْ تَبِيعَةً ، وَمِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةً ، وَمِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا أَوْ عِدْلَهُ مَعَافِرَ ، مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ غَنِيٍّ وَفَقِيرٍ } .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَذَكَرَ أَنَّ بَعْضَهُمْ رَوَاهُ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا قَالَ : وَهُوَ أَصَحُّ .
وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ فَهَذَا كَمَا تَرَى لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْحَالِمَةِ .
وَفِي مُسْنَدِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ : حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ

مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مُعَاذًا إلَى أَنْ قَالَ : وَمِنْ كُلِّ حَالِمٍ أَوْ حَالِمَةٍ دِينَارًا أَوْ عِدْلَهُ مَعَافِرَ } .
وَكَانَ مَعْمَرٌ يَقُولُ : هَذَا غَلَطٌ لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ شَيْءٌ وَفِيهِ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ فِيهَا ذِكْرُ الْحَالِمَةِ .
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : وَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ فِيمَا نَرَى مَنْسُوخٌ ، إذْ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَوِلْدَانُهُمْ يُقْتَلُونَ مَعَ رِجَالِهِمْ ، وَيُسْتَضَاءُ لِذَلِكَ بِمَا رَوَى الصَّعْبُ بْنُ جَثَّامَةَ { أَنَّ خَيْلًا أَصَابَتْ مِنْ أَبْنَاءِ الْمُشْرِكِينَ ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : هُمْ مِنْ آبَائِهِمْ } .
ثُمَّ أَسْنَدَ أَبُو عُبَيْدٍ { عَنْ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ قَالَ : سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ أَنَقْتُلُهُمْ مَعَهُمْ ؟ قَالَ : نَعَمْ فَإِنَّهُمْ مِنْهُمْ ، ثُمَّ نَهَى عَنْ قَتْلِهِمْ يَوْمَ خَيْبَرَ } .
وَالْعَدْلُ بِالْفَتْحِ الْمِثْلُ مِنْ خِلَافِ الْجِنْسِ وَبِالْكَسْرِ الْمِثْلُ مِنْ الْجِنْسِ .
وَالْمَعَافِرِيُّ ثَوْبٌ مَنْسُوبٌ إلَى مَعَافِرَ بَنِي مُرَّةً ثُمَّ صَارَ اسْمًا لِلثَّوْبِ بِلَا نِسْبَةٍ ذَكَرَهُ فِي الْمُغْرِبِ .
وَفِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ : مَعَافِرُ حَيٌّ مِنْ هَمْدَانَ تُنْسَبُ إلَيْهِ هَذِهِ الثِّيَابُ الْمَعَافِرِيَّةُ .
وَهَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ فَارِسٍ فِي الْمُجْمَلِ .
وَفِي الْجَمْهَرَةِ لِابْنِ دُرَيْدٍ : الْمَعَافِرُ بِفَتْحِ الْمِيمِ مَوْضِعٌ بِالْيَمَنِ تُنْسَبُ إلَيْهِ الثِّيَابُ الْمَعَافِرِيَّةُ .
وَفِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ لِلْقُتَبِيِّ : الْبُرْدُ الْمَعَافِرِيُّ مَنْسُوبٌ إلَى مَعَافِرَ مِنْ الْيَمَنِ .
وَفِي الْجَمْهَرَةِ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ : ثَوْبُ مَعَافِرَ غَيْرُ مَنْسُوبٍ ، فَمَنْ نَسَبَ فَهُوَ خَطَأٌ عِنْدَهُ ( وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ إنَّمَا وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ الْقَتْلِ وَلِهَذَا لَمْ تَجِبْ عَلَى مَنْ لَمْ يَجُزْ قَتْلُهُ بِسَبَبِ الْكُفْرِ كَالذَّرَارِيِّ وَالنِّسَاءِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَنْتَظِمُ ) فِيهِ ( الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ ) ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ يُقْتَلُ (

قَوْلُهُ : وَمَذْهَبُنَا مَنْقُولٌ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ ) ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ فِي كُتُبِهِمْ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ الْحَكَمِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَجَّهَ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ وَعُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ إلَى السَّوَادِ ، فَمَسَحَا أَرْضَهَا وَوَضَعَا عَلَيْهَا الْخَرَاجَ ، وَجَعَلَا النَّاسَ ثَلَاثَ طَبَقَاتٍ عَلَى مَا قُلْنَا ، فَلَمَّا رَجَعَا أَخْبَرَاهُ بِذَلِكَ ، ثُمَّ عَمِلَ عُثْمَانُ كَذَلِكَ ثُمَّ عَمِلَ عَلِيٌّ كَذَلِكَ .
وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ : حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ ، وَعَنْ الشَّيْبَانِيِّ ، عَنْ أَبِي عَوْنٍ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ قَالَ : وَضَعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي الْجِزْيَةِ عَلَى رُءُوسِ الرِّجَالِ عَلَى الْغَنِيِّ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا ، وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ وَعَلَى الْفَقِيرِ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا .
وَهُوَ مُرْسَلٌ .
وَرَوَاهُ ابْنُ زَنْجُوَيْهِ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ : حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ : حَدَّثَنَا مَنْدَلٌ عَنْ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ أَبِي عَوْنٍ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّ عُمَرَ وَضَعَ إلَى آخِرِهِ .
وَطَرِيقٌ آخَرُ رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ إلَى أَبِي نَضْرَةَ أَنَّ عُمَرَ وَضَعَ الْجِزْيَةَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ فِيمَا فَتَحَ مِنْ الْبِلَادِ ، فَوَضَعَ عَلَى الْغَنِيِّ إلَى آخِرِهِ .
وَمِنْ طَرِيقٍ آخَرَ أَسْنَدَهُ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ إلَى حَارِثَةَ بْنِ مُضَرِّبٍ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ بَعَثَ عُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ فَوَضَعَ عَلَيْهِمْ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ وَاثْنَيْ عَشَرَ وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ بِلَا نَكِيرٍ ، فَحَلَّ مَحِلَّ الْإِجْمَاعِ .
ثُمَّ عَارَضَ الْمُصَنِّفُ مَعْنَاهُ بِقَوْلِهِ ( وَلِأَنَّهُ ) أَيْ الْجِزْيَةَ ( وَجَبَ نُصْرَةً لِلْمُقَاتِلَةِ ) أَيْ خَلْفًا عَنْ نُصْرَةِ مُقَاتِلَةِ أَهْلِ الدَّارِ ، لِأَنَّ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ عَلَى نُصْرَتِهِمْ وَقَدْ فَاتَتْ بِمَيْلِهِمْ إلَى أَهْلِ الدَّارِ الْمُعَادِينَ لَنَا لِإِصْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ

، وَلِهَذَا صُرِفَتْ إلَى الْمُقَاتِلَةِ وَوُضِعَتْ عَلَى الصَّالِحِينَ لِلْقِتَالِ الَّذِينَ يَلْزَمُهُمْ الْقِتَالُ لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ، فَتَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِهِمْ لِأَنَّ نُصْرَةَ الْغَنِيِّ لَوْ كَانَ مُسْلِمًا فَوْقَ نُصْرَةِ الْمُتَوَسِّطِ وَالْفَقِيرِ فَإِنَّهُ كَانَ يَنْصُرُ رَاكِبًا وَيَرْكَبُ مَعَهُ غُلَامُهُ ، وَالْمُتَوَسِّطُ رَاكِبًا فَقَطْ ، وَالْفَقِيرُ رَاجِلًا ؛ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ ( وَذَلِكَ ) أَيْ النُّصْرَةُ ( يَتَفَاوَتُ بِكَثْرَةِ الْوَفْرِ وَقِلَّتِهِ فَكَذَا مَا هُوَ بَدَلُهُ ) يَعْنِي الْجِزْيَةَ ، وَإِلْحَاقًا بِخَرَاجِ الْأَرْضِ فَإِنَّهُ وَجَبَ عَلَى التَّفَاوُتِ .
فَأَوْرَدَ عَلَيْهِ لَوْ كَانَتْ خَلَفًا عَنْ النُّصْرَةِ لَزِمَ أَنْ لَا تُؤْخَذَ مِنْهُمْ لَوْ قَاتَلُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ سَنَةً مُتَبَرِّعِينَ أَوْ بِطَلَبِ الْإِمَامِ مِنْهُمْ ذَلِكَ ، وَالْحَالُ أَنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْهُمْ مَعَ ذَلِكَ .
أُجِيبُ بِأَنَّ الشَّارِعَ جَعَلَ نُصْرَتَهُمْ بِالْمَالِ وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ تَغْيِيرُ الْمَشْرُوعِ .
وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ النُّصْرَةَ الَّتِي فَاتَتْ نُصْرَةَ الْمُسْلِمِينَ ، فَنُصْرَةُ الْإِسْلَامِ فَاتَتْ بِالْكُفْرِ فَأُبْدِلَتْ بِالْمَالِ ، وَلَيْسَ نُصْرَتُهُمْ فِي حَالِ كُفْرِهِمْ تِلْكَ النُّصْرَةَ الْفَائِتَةَ فَلَا يَبْطُلُ خَلَفُهَا .
نَعَمْ سَيَجِيءُ مَا يُفِيدُ أَنَّ الْجِزْيَةَ خَلَفٌ عَنْ قَتْلِهِمْ ، وَالْوَجْهُ أَنَّهَا خَلَفٌ عَنْ قَتْلِهِمْ وَنُصْرَتِهِمْ جَمِيعًا .
قَالَ : ( وَمَا رَوَاهُ ) مِنْ وَضْعِ الدِّينَارِ عَلَى الْكُلِّ ( مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ صُلْحًا ) فَإِنَّ الْيَمَنَ لَمْ تُفْتَحْ عَنْوَةً بَلْ صُلْحًا فَوَقَعَ عَلَى ذَلِكَ ، وَقُلْنَا : وَلِأَنَّ أَهْلَ الْيَمَنِ كَانُوا أَهْلَ فَاقَةٍ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْلَمُ فَفَرَضَ عَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْفُقَرَاءِ ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ .
مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي نَجِيحٍ قُلْت لِمُجَاهِدٍ : مَا شَأْنُ أَهْلِ الشَّامِ عَلَيْهِمْ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ وَأَهْلُ الْيَمَنِ عَلَيْهِمْ دِينَارٌ ؟ قَالَ : جُعِلَ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ الْيَسَارِ .
هَذَا ، ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ مِنْ

الْغَنِيِّ وَالْمُتَوَسِّطِ وَالْفَقِيرِ ؛ فَقِيلَ إنْ كَانَ لَهُ عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ فَهُوَ مُوسِرٌ ، وَمَنْ كَانَ لَهُ مِائَتَانِ فَصَاعِدًا مَا لَمْ يَصِلْ إلَى الْعَشَرَةِ فَمُتَوَسِّطٌ ، وَمَنْ كَانَ مُعْتَمِلًا فَهُوَ مُكْتَسِبٌ .
وَعَنْ بِشْرِ بْنِ غِيَاثٍ : مَنْ كَانَ يَمْلِكُ قُوتَهُ وَقُوتَ عِيَالِهِ وَزِيَادَةً فَمُوسِرٌ ، وَإِنْ مَلَكَ بِلَا فَضْلٍ فَهُوَ الْوَسَطُ ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَدْرُ الْكِفَايَةِ فَهُوَ الْمُعْتَمِلُ : أَيْ الْمُكْتَسِبُ .
وَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ : يُنْظَرُ إلَى عَادَةِ كُلِّ بَلَدٍ فِي ذَلِكَ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ صَاحِبَ خَمْسِينَ أَلْفًا بِبَلْخٍ يُعَدُّ مِنْ الْمُكْثِرِينَ وَفِي الْبَصْرَةِ وَبَغْدَادَ لَا يُعَدُّ مُكْثِرًا .
وَذَكَرَهُ عَنْ أَبِي نَصْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَّامٍ ، وَيُعْتَبَرُ وُجُودُ هَذِهِ الصِّفَاتِ فِي آخِرِ السَّنَةِ وَالْمُعْتَمِلِ الْمُكْتَسِبُ ، وَالِاعْتِمَالُ الِاضْطِرَابُ فِي الْعَمَلِ وَهُوَ الِاكْتِسَابُ ؛ وَقُيِّدَ بِالِاعْتِمَالِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَرِيضًا فِي نِصْفِ السَّنَةِ فَصَاعِدًا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ ، أَمَّا لَوْ لَمْ يَعْمَلْ وَهُوَ قَادِرٌ فَعَلَيْهِ الْجِزْيَةُ كَمَنْ عَطَّلَ الْأَرْضَ .

قَالَ : ( وَتُوضَعُ الْجِزْيَةُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ } الْآيَةَ ، { وَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجِزْيَةَ عَلَى الْمَجُوسِ } .
قَالَ : ( وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَجَمِ ) وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ .
هُوَ يَقُولُ : إنَّ الْقِتَالَ وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَقَاتِلُوهُمْ } إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا جَوَازَ تَرْكِهِ فِي حَقِّ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ وَفِي حَقِّ الْمَجُوسِ بِالْخَبَرِ فَبَقِيَ مَنْ وَرَاءَهُمْ عَلَى الْأَصْلِ .
وَلَنَا أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُمْ فَيَجُوزُ ضَرْبُ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ إذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَشْتَمِلُ عَلَى سَلْبِ النَّفْسِ مِنْهُمْ فَإِنَّهُ يَكْتَسِبُ وَيُؤَدِّي إلَى الْمُسْلِمِينَ وَنَفَقَتُهُ فِي كَسْبِهِ ، ( وَإِنْ ظُهِرَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ فَهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ وَصِبْيَانُهُمْ فَيْءٌ ) ؛ لِجَوَازِ اسْتِرْقَاقِهِمْ ( وَلَا تُوضَعُ عَلَى عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ وَلَا الْمُرْتَدِّينَ ) لِأَنَّ كُفْرَهُمَا قَدْ تَغَلَّظَ ، أَمَّا مُشْرِكُو الْعَرَبِ فَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَشَأَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ وَالْقُرْآنُ نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ فَالْمُعْجِزَةُ فِي حَقِّهِمْ أَظْهَرُ .
وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ ؛ فَلِأَنَّهُ كَفَرَ بِرَبِّهِ بَعْدَمَا هُدِيَ لِلْإِسْلَامِ وَوَقَفَ عَلَى مَحَاسِنِهِ فَلَا يُقْبَلُ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ إلَّا الْإِسْلَامُ أَوْ السَّيْفُ زِيَادَةً فِي الْعُقُوبَةِ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُسْتَرَقُّ مُشْرِكُو الْعَرَبِ ، وَجَوَابُهُ مَا قُلْنَا ( وَإِذَا ظُهِرَ عَلَيْهِمْ فَنِسَاؤُهُمْ وَصِبْيَانُهُمْ فَيْءٌ ) لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْتَرَقَّ نِسْوَانَ بَنِي حَنِيفَةَ وَصِبْيَانِهِمْ لَمَّا ارْتَدُّوا وَقَسَّمَهُمْ بَيْنَ الْغَانِمِينَ ( وَمَنْ لَمْ يُسْلِمْ مِنْ رِجَالِهِمْ قُتِلَ ) لِمَا ذَكَرْنَا .

( قَوْلُهُ وَتُوضَعُ الْجِزْيَةُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ ) الْيَهُودِ .
وَيَدْخُلُ فِيهِمْ السَّامِرَةُ فَإِنَّهُمْ يَدِينُونَ بِشَرِيعَةِ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا أَنَّهُمْ يُخَالِفُونَهُمْ فِي فُرُوعٍ .
وَالنَّصَارَى وَيَدْخُلُ فِيهِمْ الْفِرِنْجُ وَالْأَرْمَنُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } وَأَمَّا الصَّابِئُونَ فَعَلَى الْخِلَافِ مَنْ قَالَ هُمْ مِنْ النَّصَارَى أَوْ قَالَ هُمْ مِنْ الْيَهُودِ فَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ، وَمَنْ قَالَ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ فَلَيْسُوا مِنْ الْكِتَابِيِّينَ بَلْ كَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ .
وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ : وَتُؤْخَذُ : أَيْ الْجِزْيَةُ مِنْ الصَّابِئَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا ، وَأُطْلِقَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ فَشَمَلَ أَهْلَ الْكِتَابِ مِنْ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ .
وَأَمَّا الْمَجُوسُ عَبَدَةُ النَّارِ فَفِي الْبُخَارِيِّ : { وَلَمْ يَكُنْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ الْمَجُوسِ حَتَّى شَهِدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ } وَهَذَا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ ( وَوَضَعَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْجِزْيَةَ عَلَى الْمَجُوسِ ) وَهَجَرُ بَلْدَةٌ فِي الْبَحْرَيْنِ ( قَوْلُهُ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ ) بِالْجَرِّ : أَيْ وَتُوضَعُ عَلَى عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَجَمِ ( وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ .
هُوَ يَقُولُ الْقِتَالُ وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَقَاتِلُوهُمْ } إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا جَوَازَ تَرْكِهِ ) إلَى الْجِزْيَةِ ( فِي حَقِّ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالْقُرْآنِ ) أَعْنِي مَا تَلَوْنَاهُ مِنْ قَوْله تَعَالَى { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ } ( وَفِي الْمَجُوسِ بِالْخَبَرِ ) الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ ( فَبَقِيَ مَنْ وَرَاءَهُمْ عَلَى الْأَصْلِ .
وَلَنَا أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُمْ فَيَجُوزُ ضَرْبُ

الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ ) بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا مِنْ الِاسْتِرْقَاقِ وَالْجِزْيَةِ ( يَشْتَمِلُ عَلَى سَلْبِ النَّفْسِ مِنْهُمْ ) أَمَّا الِاسْتِرْقَاقُ فَظَاهِرٌ أَنَّهُ تَصِيرُ مَنْفَعَةُ نَفْسِهِ لَنَا ، وَكَذَا الْجِزْيَةُ ( فَإِنَّهُ يَكْتَسِبُ وَيُؤَدِّي إلَى الْمُسْلِمِينَ ) وَالْحَالُ أَنَّ ( نَفَقَتَهُ فِي كَسْبِهِ ) فَقَدْ أَدَّى حَاجَةَ نَفْسِهِ إلَيْنَا أَوْ بَعْضَهَا ، فَهَذَا الْمَعْنَى يُوجِبُ تَخْصِيصَ عُمُومِ وُجُوبِ الْقِتَالِ الَّذِي اُسْتُدِلَّ بِهِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عَامٌّ مَخْصُوصٌ بِإِخْرَاجِ أَهْلِ الْكِتَابِ ، وَالْمَجُوس عِنْدَ قَبُولِهِمْ الْجِزْيَةَ كَمَا ذَكَرَ فَجَازَ تَخْصِيصُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْمَعْنَى .
وَإِنَّمَا لَمْ تُضْرَبْ الْجِزْيَةُ عَلَى النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ مَعَ جَوَازِ اسْتِرْقَاقِهِمْ لِأَنَّهُمْ صَارُوا أَتْبَاعًا لِأُصُولِهِمْ فِي الْكُفْرِ فَكَانُوا أَتْبَاعًا فِي حُكْمِهِمْ ، فَكَأَنَّ الْجِزْيَةَ عَلَى الرَّجُلِ وَأَتْبَاعِهِ فِي الْمَعْنَى إنْ كَانَ لَهُ أَتْبَاعٌ ، وَإِلَّا فَهِيَ عَنْهُ خَاصَّةً ( قَوْلُهُ : وَإِنْ ظُهِرَ عَلَيْهِمْ ) أَيْ عَلَى مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوس وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَجَمِ ( قَبْلَ ذَلِكَ ) أَيْ قَبْلَ وَضْعِ الْجِزْيَةِ ( فَهُمْ فَيْءٌ ) وَلِلْإِمَامِ الْخِيَارُ بَيْنَ الِاسْتِرْقَاقِ وَضَرْبِ الْجِزْيَةِ .
( قَوْلُهُ : وَلَا تُوضَعُ ) الْجِزْيَةُ ( عَلَى عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ وَلَا الْمُرْتَدِّينَ ؛ لِأَنَّ كُفْرَهُمَا ) يَعْنِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالْمُرْتَدِّينَ ( قَدْ تَغَلَّظَ ) فَلَمْ يَكُونُوا فِي مَعْنَى الْعَجَمِ ( أَمَّا الْعَرَبُ فَلِأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ فَالْمُعْجِزَةُ فِي حَقِّهِمْ أَظْهَرُ ) فَكَانَ كُفْرُهُمْ وَالْحَالَةُ هَذِهِ أَغْلَظَ مِنْ كُفْرِ الْعَجَمِ ( وَأَمَّا الْمُرْتَدُّونَ فَلِأَنَّ كُفْرَهُمْ بَعْدَمَا هُدُوا لِلْإِسْلَامِ وَوَقَفُوا عَلَى مَحَاسِنِهِ ) فَكَانَ كَذَلِكَ ( فَلَا يُقْبَلُ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ إلَّا الْإِسْلَامُ أَوْ السَّيْفُ زِيَادَةً فِي الْعُقُوبَةِ ) لِزِيَادَةِ الْكُفْرِ ( وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُسْتَرَقُّ مُشْرِكُو الْعَرَبِ ) وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ

وَأَحْمَدَ لِأَنَّ الِاسْتِرْقَاقَ إتْلَافٌ حُكْمًا فَيَجُوزُ كَمَا يَجُوزُ إتْلَافُ نَفْسِهِ بِالْقَتْلِ .
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ } أَيْ إلَى أَنْ يُسْلِمُوا .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ : { لَا يُقْبَلُ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ إلَّا الْإِسْلَامُ أَوْ السَّيْفُ } وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَنْ يَعْقُوبَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ مِقْسَمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَ " أَوْ الْقَتْلُ " مَكَانَ أَوْ السَّيْفُ .
وَعَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا رِقَّ عَلَى عَرَبِيٍّ } وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ مُعَاذٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَوْ كَانَ ثَابِتًا عَلَى أَحَدٍ مِنْ الْعَرَبِ رِقٌّ لَكَانَ الْيَوْمَ } قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَجَوَابُهُ مَا قُلْنَا ) يَعْنِي مِنْ أَنَّ كُفْرَهُ أَغْلَظُ فَلَا يَكُونُ لَهُ حُكْمُ الْأَخَفِّ مِنْهُ ( قَوْلُهُ : وَإِذَا ظُهِرَ عَلَيْهِمْ ) أَيْ عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالْمُرْتَدِّينَ ( فَنِسَاؤُهُمْ وَصِبْيَانُهُمْ فَيْءٌ ) يُسْتَرَقُّونَ { لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اسْتَرَقَ ذَرَارِيَّ أَوْطَاسٍ وَهَوَازِنَ } وَأَبُو بَكْرٍ اسْتَرَقَّ بَنِي حَنِيفَةَ .
أَسْنَدَ الْوَاقِدِيُّ فِي كِتَابِ الرِّدَّةِ لَهُ فِي قِتَالِ بَنِي حَنِيفَةَ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ قَالَ : ثُمَّ إنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ صَالَحَهُمْ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ الصَّفْرَاءَ وَالْبَيْضَاءَ وَالْكُرَاعَ وَالسِّلَاحَ وَنِصْفَ السَّبْيِ ، ثُمَّ دَخَلَ حُصُونَهُمْ صُلْحًا فَأَخْرَجَ السِّلَاحَ وَالْكُرَاعَ وَالْأَمْوَالَ وَالسَّبْيَ ، ثُمَّ قَسَّمَ السَّبْيَ قِسْمَيْنِ ، وَأَقْرَعَ عَلَى الْقِسْمَيْنِ فَخَرَجَ سَهْمُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا وَفِيهِ مَكْتُوبٌ لِلَّهِ .
قَالَ الْوَاقِدِيُّ : وَحَدَّثَنِي أَبُو الزِّنَادِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ : قَدْ رَأَيْت أُمَّ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَكَانَتْ مِنْ سَبْيِ بَنِي حَنِيفَةَ فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ الْحَنَفِيَّةَ وَيُسَمَّى

ابْنُهَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ .
قَالَ : وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : كَانَتْ أُمُّ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مِنْ ذَلِكَ السَّبْيِ ، وَحَنِيفَةُ أَبُو حَيٍّ مِنْ الْعَرَبِ سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّ جَذِيمَةَ ضَرَبَهُ حِينَ الْتَقَيَا فَحَنَفَ رِجْلَهُ وَضَرَبَ حَنِيفَةُ يَدَهُ فَجَذَمَهَا فَسُمِّيَ جَذِيمَةَ وَحَنِيفَةُ بْنُ نَجِيحَةَ بْنِ صَعْبِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ .
وَاعْلَمْ أَنَّ ذَرَارِيَّ الْمُرْتَدِّينَ وَنِسَاءَهُمْ يُجْبَرُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ بَعْدَ الِاسْتِرْقَاقِ بِخِلَافِ ذَرَارِيِّ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ لَا يُجْبَرُونَ .
وَأَمَّا الزَّنَادِقَةُ قَالُوا : لَوْ جَاءَ زِنْدِيقٌ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ زِنْدِيقٌ وَتَابَ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ ، فَإِنْ أُخِذَ ثُمَّ تَابَ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ وَيُقْتَلُ ؛ لِأَنَّهُمْ بَاطِنِيَّةٌ يَعْتَقِدُونَ فِي الْبَاطِنِ خِلَافَ ذَلِكَ فَيُقْتَلُ وَلَا تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ .

( وَلَا جِزْيَةَ عَلَى امْرَأَةٍ وَلَا صَبِيٍّ ) لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ الْقَتْلِ أَوْ عَنْ الْقِتَالِ وَهُمَا لَا يُقْتَلَانِ وَلَا يُقَاتِلَانِ لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ .
قَالَ ( وَلَا زَمِنٍ وَلَا أَعْمَى ) وَكَذَا الْمَفْلُوجُ وَالشَّيْخُ الْكَبِيرُ لِمَا بَيَّنَّا .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ تَجِبُ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ لِأَنَّهُ يُقْتَلُ فِي الْجُمْلَةِ إذَا كَانَ لَهُ رَأْيٌ ( وَلَا عَلَى فَقِيرٍ غَيْرِ مُعْتَمِلٍ ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ .
لَهُ إطْلَاقُ حَدِيثِ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَلَنَا أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يُوَظِّفْهَا عَلَى فَقِيرٍ غَيْرِ مُعْتَمِلٍ وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَلِأَنَّ خَرَاجَ الْأَرْضِ لَا يُوَظَّفُ عَلَى أَرْضٍ لَا طَاقَةَ لَهَا فَكَذَا هَذَا الْخَرْجُ ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُعْتَمِلِ ( وَلَا تُوضَعُ عَلَى الْمَمْلُوكِ وَالْمُكَاتَبِ وَالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ ) لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَنْ الْقَتْلِ فِي حَقِّهِمْ وَعَنْ النُّصْرَةِ فِي حَقِّنَا ، وَعَلَى اعْتِبَارِ الثَّانِي لَا تَجِبُ فَلَا تَجِبُ بِالشَّكِّ ( وَلَا يُؤَدِّي عَنْهُمْ مَوَالِيهِمْ ) لِأَنَّهُمْ تَحَمَّلُوا الزِّيَادَةَ بِسَبَبِهِمْ ( وَلَا تُوضَعُ عَلَى الرُّهْبَانِ الَّذِينَ لَا يُخَالِطُونَ النَّاسَ ) كَذَا ذَكَرَ هَاهُنَا .
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُوضَعُ عَلَيْهِمْ إنْ كَانُوا يَقْدِرُونَ عَلَى الْعَمَلِ ، وَهُوَ وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ .
وَجْهُ الْوَضْعِ عَلَيْهِمْ أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْعَمَلِ هُوَ الَّذِي ضَيَّعَهَا فَصَارَ كَتَعْطِيلِ الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ .
وَوَجْهُ الْوَضْعِ عَنْهُمْ أَنَّهُ لَا قَتْلَ عَلَيْهِمْ إذَا كَانُوا لَا يُخَالِطُونَ النَّاسَ ، وَالْجِزْيَةُ فِي حَقِّهِمْ لِإِسْقَاطِ الْقَتْلِ ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُعْتَمِلُ صَحِيحًا وَيَكْتَفِي بِصِحَّتِهِ فِي أَكْثَرِ السَّنَةِ .

( قَوْلُهُ وَلَا جِزْيَةَ عَلَى امْرَأَةٍ وَصَبِيٍّ ) وَكَذَا عَلَى مَجْنُونٍ بِلَا خِلَافٍ ؛ لِأَنَّ الْجِزْيَةَ بَدَلٌ عَنْ قَتْلِهِمْ عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ ، أَوْ عَنْ قِتَالِهِمْ نُصْرَةً لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى قَوْلِنَا ، وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا كَذَلِكَ ( وَلَا عَلَى أَعْمَى أَوْ زَمِنٍ وَلَا الْمَفْلُوجِ ) وَعَنْ الشَّافِعِيِّ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ لِاعْتِبَارِهَا أُجْرَةَ الدَّارِ ( وَلَا ) تُؤْخَذُ ( مِنْ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ ) الَّذِي لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى قِتَالٍ وَلَا كَسْبٍ ( وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ تُؤْخَذُ مِنْهُ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ ؛ لِأَنَّهُ يُقْتَلُ فِي الْجُمْلَةِ إذَا كَانَ لَهُ رَأْيٌ ) فِي الْحَرْبِ .
وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ وَلَا يُقَاتَلُ ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ ( لِمَا بَيَّنَّا ) وَالْجِزْيَةُ بَدَلٌ عَنْهُمَا وَيُقَالُ زَمِنَ الرَّجُلُ كَعَلِمَ يَزْمَنُ زَمَانَةً ( قَوْلُهُ : وَلَا عَلَى فَقِيرٍ غَيْرِ مُعْتَمِلٍ ) أَيْ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الْعَمَلِ وَإِنْ أَحْسَنَ حِرْفَةً ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ فِي ذِمَّتِهِ .
( لَهُ إطْلَاقُ حَدِيثِ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ) وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ } ( وَلَنَا أَنَّ عُثْمَانَ لَمْ يُوَظِّفْ الْجِزْيَةَ عَلَى فَقِيرٍ غَيْرِ مُعْتَمِلٍ ) أَرَادَ بِعُثْمَانَ هَذَا عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ حِينَ بَعَثَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَرَوَى ابْنُ زَنْجُوَيْهِ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ : حَدَّثَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ عَنْ عُمَرَ بْنِ نَافِعٍ قَالَ : حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ الْعَبْسِيُّ صِلَةُ بْنِ زُفَرَ قَالَ : أَبْصَرَ عُمَرُ شَيْخًا كَبِيرًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ يَسْأَلُ ، فَقَالَ لَهُ مَا لَك ؟ قَالَ : لَيْسَ لِي مَالٌ ، وَإِنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِنِّي ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : مَا أَنْصَفْنَاك ، أَكَلْنَا شَبِيبَتَك ثُمَّ نَأْخُذُ مِنْك الْجِزْيَةَ ثُمَّ كَتَبَ إلَى عُمَّالِهِ أَنْ لَا يَأْخُذُوا الْجِزْيَةَ مِنْ شَيْخٍ كَبِيرٍ ( وَلِأَنَّ خَرَاجَ الْأَرْضِ كَمَا لَا يُوَظَّفُ عَلَى أَرْضٍ لَا طَاقَةَ لَهَا فَكَذَا خَرَاجُ الرَّأْسِ ) بِجَامِعِ عَدَمِ الطَّاقَةِ ؛ لِحِكْمَةِ

دَفْعِ الضَّرَرِ الدُّنْيَوِيِّ ( وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُعْتَمِلِ ) بِالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا وَبِتَوْظِيفِ عُمَرَ الْمُقْتَرِنِ بِالْإِجْمَاعِ جَمْعًا بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ .
فَإِنْ قُلْت : مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَوْظِيفِ عُمَرَ لَيْسَ فِيهِ الْمُعْتَمِلُ .
قُلْنَا : قَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ وَعَلَى الْفَقِيرِ الْمُكْتَسِبِ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ .
لَا يُقَالُ : فَنَفْيُهُ عَنْ غَيْرِ الْمُكْتَسِبِ بِالْمَفْهُومِ الْمُخَالِفِ وَلَا يَقُولُونَ بِهِ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ لَيْسَ ذَلِكَ بِلَازِمٍ بَلْ جَازَ أَنْ يُضَافَ إلَى الْأَصْلِ وَهُوَ عَدَمُ التَّوْظِيفِ عَلَى مَنْ لَمْ يُذْكَرْ ، ثُمَّ إنَّمَا تَوَظَّفَ عَلَى الْمُعْتَمِلِ إذَا كَانَ صَحِيحًا فِي أَكْثَرِ السَّنَةِ ، وَإِلَّا فَلَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَخْلُو عَنْ قَلِيلِ مَرَضٍ فَلَا يُجْعَلُ الْقَلِيلُ مِنْهُ عُذْرًا وَهُوَ مَا نَقَصَ عَنْ نِصْفِ الْعَامِ .
( قَوْلُهُ : وَلَا تُوضَعُ عَلَى الْمَمْلُوكِ وَالْمُكَاتَبِ وَالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَنْ الْقَتْلِ فِي حَقِّهِمْ وَعَنْ النُّصْرَةِ فِي حَقِّنَا ) وَعَلَى الِاعْتِبَارِ الْأَوَّلِ تَجِبُ ؛ لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ الْحَرْبِيَّ يُقْتَلُ ( وَعَلَى الِاعْتِبَارِ الثَّانِي لَا تَجِبُ ) ؛ لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ عَاجِزٌ عَنْ النُّصْرَةِ فَامْتَنَعَ الْأَصْلُ فِي حَقِّهِ فَامْتَنَعَ الْخَلَفُ ؛ لِأَنَّ شَرْطَهُ انْتِفَاءُ الْأَصْلِ ، وَإِمْكَانُهُ فَدَارَ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَعَدَمِهِ ( فَلَا تَجِبُ بِالشَّكِّ ) وَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ : إنَّهَا بَدَلٌ عَنْ الْقَتْلِ فِي حَقِّهِمْ وَعَنْ الْقِتَالِ فِي حَقِّنَا جَمِيعًا فَلَا يَتَحَقَّقُ الثَّانِي لِمَا ذَكَرْنَا ، فَلَمْ يَتَحَقَّقْ الْمُوجِبُ لِانْتِفَاءِ الْكُلِّ بِنَفْيِ الْجُزْءِ ، وَهَذَا لِمَا نَذْكُرُهُ فِيمَا يَلِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ ، وَإِذَا كَانَ خَلَفًا عَنْ الْمَجْمُوعِ فَلَا يَحْسُنُ قَوْلُهُ : فَلَا تَجِبُ بِالشَّكِّ بَلْ لَا تَجِبُ بِلَا شَكٍّ ، ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّهُ ذَكَرَ أُمَّ الْوَلَدِ لَيْسَ عَلَى مَا يَنْبَغِي فَإِنَّ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنْ لَا جِزْيَةَ عَلَى النِّسَاءِ وَلَعَلَّهُ ابْنُ

أُمِّ الْوَلَدِ فَسَقَطَتْ لَفْظَةُ ابْنٍ .
( قَوْلُهُ : وَلَا يُؤَدِّي عَنْهُمْ مَوَالِيهِمْ ) يَعْنِي لَمَّا قُلْنَا لَا تُوضَعُ عَلَيْهِمْ جَازَ أَنْ يُقَالَ إنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْ مَوَالِيهِمْ فَيُؤَدُّونَ عَنْهُمْ ، فَأَزَالَ هَذَا الِاحْتِمَالَ بِقَوْلِهِ وَلَا يُؤَدِّي عَنْهُمْ مَوَالِيهِمْ ( لِأَنَّهُمْ تَحَمَّلُوا الزِّيَادَةَ ) فِي الْجِزْيَةِ حَتَّى لَزِمَهُمْ جِزْيَةُ الْأَغْنِيَاءِ ( بِسَبَبِهِمْ ) فَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ عَنْهُمْ شَيْءٌ آخَرُ وَإِلَّا كَانُوا مُلْزَمِينَ بِجِزْيَتَيْنِ ، وَيُقَرَّرُ بِوَجْهٍ آخَرَ وَهُمْ أَنَّهُمْ تَحَمَّلُوا الزِّيَادَةَ بِسَبَبِهِمْ فَكَانَتْ الْجِزْيَةُ عَنْهُ وَعَنْهُمْ مَعْنًى شَرْعًا فَلَا يَجِبُ شَيْءٌ آخَرُ ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ غِنَى الْمُلَّاكِ بِهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ مَالٌ وَيَجُرُّونَ الْمَالَ بِالْكَسْبِ .
( قَوْلُهُ : وَلَا تُوضَعُ عَلَى الرُّهْبَانِ ) جَمْعُ رَاهِبٍ ، وَقَدْ يُقَالُ لِلْوَاحِدِ رُهْبَانٌ أَيْضًا ، وَشُرِطَ أَنْ لَا يُخَالِطَ النَّاسَ ، وَمَنْ خَالَطَ مِنْهُمْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ .
( هَكَذَا ذَكَرَ ) الْقُدُورِيُّ ( وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ تُوضَعُ عَلَيْهِمْ إذَا كَانُوا يَقْدِرُونَ عَلَى الْعَمَلِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ .
وَوَجْهُ الْوَضْعِ أَنَّهُ الَّذِي ضَيَّعَ الْقُدْرَةَ عَلَى الْعَمَلِ فَصَارَ كَتَعْطِيلِ أَرْضِ الْخَرَاجِ ) مِنْ الزِّرَاعَةِ .
( وَوَجْهُ وَضْعِ الْجِزْيَةِ عَنْهُمْ أَنَّهُ لَا قَتْلَ عَلَيْهِمْ إذَا كَانُوا لَا يُخَالِطُونَ النَّاسَ وَالْجِزْيَةُ فِي حَقِّهِمْ لِإِسْقَاطِ الْقَتْلِ ) وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا أَصْلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَنَّهَا عِنْدَنَا بَدَلٌ عَنْ نُصْرَتِهِمْ الَّتِي فَاتَتْ بِالْكُفْرِ وَعِنْدَهُ بَدَلٌ عَنْ الْقَتْلِ ، فَأَفَادَ صِحَّةَ هَذَا الِاعْتِبَارِ عِنْدَنَا وَلَكِنَّهُ لَيْسَ هُوَ الْمُعْتَبَرَ فَقَطْ بَلْ الْمَجْمُوعُ مِنْهُ وَمِنْ كَوْنِهِ خَلَفًا عَنْ نُصْرَتِهِمْ إيَّانَا فَمَتَى تَخَلَّفَ أَحَدُهُمَا انْتَفَى وُجُوبُهَا .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ لَا جِزْيَةَ عَلَى السَّيَّاحِينَ .
قِيلَ يَجُوزُ أَنَّهُ أَرَادَ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْعَمَلِ مِنْهُمْ فَيَكُونُ اتِّفَاقًا ،

وَيَجُوزُ أَنْ يَقُولَ هُوَ مَنْ لَا يُخَالِطُ النَّاسَ وَمَنْ لَا يُخَالِطُ النَّاسَ لَا يُقْتَلُ .

( وَمَنْ أَسْلَمَ وَعَلَيْهِ جِزْيَةٌ سَقَطَتْ عَنْهُ ) وَكَذَلِكَ إذَا مَاتَ كَافِرًا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِيهِمَا .
لَهُ أَنَّهَا وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ الْعِصْمَةِ أَوْ عَنْ السُّكْنَى وَقَدْ وَصَلَ إلَيْهِ الْمُعَوَّضُ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْعِوَضُ بِهَذَا الْعَارِضِ كَمَا فِي الْأُجْرَةِ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ .
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَيْسَ عَلَى مُسْلِمٍ جِزْيَةٌ .
} وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ عُقُوبَةً عَلَى الْكُفْرِ وَلِهَذَا تُسَمَّى جِزْيَةً وَهِيَ وَالْجَزَاءُ وَاحِدٌ ، وَعُقُوبَةُ الْكُفْرِ تَسْقُطُ بِالْإِسْلَامِ وَلَا تُقَامُ بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَلِأَنَّ شَرْعَ الْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا لَا يَكُونُ إلَّا لِدَفْعِ الشَّرِّ وَقَدْ انْدَفَعَ بِالْمَوْتِ وَالْإِسْلَامِ ؛ وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ النُّصْرَةِ فِي حَقِّنَا وَقَدْ قَدَرَ عَلَيْهَا بِنَفْسِهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ .
وَالْعِصْمَةُ تَثْبُتُ بِكَوْنِهِ آدَمِيًّا وَالذِّمِّيُّ يَسْكُنُ مِلْكَ نَفْسِهِ فَلَا مَعْنَى لِإِيجَابِ بَدَلِ الْعِصْمَةِ وَالسُّكْنَى .

( قَوْلُهُ : وَمَنْ أَسْلَمَ وَعَلَيْهِ جِزْيَةٌ ) بِأَنْ أَسْلَمَ بَعْدَ كَمَالِ السَّنَةِ ( سَقَطَتْ عَنْهُ ، وَكَذَا إذَا مَاتَ كَافِرًا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِيهِمَا ) وَكَذَا لَوْ مَاتَ فِي أَثْنَاءِ السَّنَةِ أَوْ أَسْلَمَ .
وَفِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ لَا يَسْقُطُ فِيهِمَا أَيْضًا قِسْطُ مَا مَضَى ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ لَوْ عَمِيَ أَوْ زَمِنَ أَوْ أُقْعِدَ أَوْ صَارَ شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ الْعَمَلَ أَوْ افْتَقَرَ بِحَيْثُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ ( لَهُ أَنَّ الْجِزْيَةَ وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ الْعِصْمَةِ ) الَّتِي ثَبَتَتْ لِلذِّمِّيِّ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ كَمَا هُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ ( أَوْ ) بَدَلًا ( عَنْ السُّكْنَى ) فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَمَا هُوَ قَوْلٌ آخَرُ لَهُ .
( وَقَدْ وَصَلَ إلَيْهِ الْمُعَوَّضُ ) وَهُوَ حَقْنُ دَمِهِ وَسُكْنَاهُ إلَى الْمَوْتِ أَوْ الْإِسْلَامِ وَصَارَ بِذَلِكَ مُسْتَوْفِيًا الْمُبْدَلَ فَتَقَرَّرَ الْبَدَلُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ .
( فَلَا يَسْقُطُ بِهَذَا الْعَارِضِ ) الَّذِي هُوَ مَوْتُهُ أَوْ إسْلَامُهُ كَسَائِرِ الدُّيُونِ مِنْ الْأُجْرَةِ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ فِيمَا لَوْ قَتَلَ رَجُلًا عَمْدًا فَصَالَحَ عَلَى مَالٍ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَدَائِهِ .
( وَلَنَا مَا ) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ جَرِيرٍ عَنْ قَابُوسِ بْنِ أَبِي ظَبْيَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : ( قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيْسَ عَلَى مُسْلِمٍ جِزْيَةٌ } ) قَالَ أَبُو دَاوُد : وَسُئِلَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ هَذَا فَقَالَ : يَعْنِي إذَا أَسْلَمَ فَلَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ ، وَبِاللَّفْظِ الَّذِي فَسَّرَهُ بِهِ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الْأَوْسَطِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَنْ أَسْلَمَ فَلَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ } وَضَعَّفَ ابْنُ الْقَطَّانِ قَابُوسًا ، وَلَيْسَ قَابُوسٌ فِي مُسْنَدِ الطَّبَرَانِيِّ ، فَهَذَا بِعُمُومِهِ يُوجِبُ سُقُوطَ مَا كَانَ اُسْتُحِقَّ عَلَيْهِ قَبْلَ إسْلَامِهِ ، بَلْ هُوَ الْمُرَادُ بِخُصُوصِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ

الْفَائِدَةِ ، إذْ عَدَمُ الْجِزْيَةِ عَلَى الْمُسْلِمِ ابْتِدَاءً مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الدَّيْنِ ، فَالْإِخْبَارُ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْفَائِدَةِ لَيْسَ كَالْإِخْبَارِ بِسُقُوطِهَا فِي حَالِ الْبَقَاءِ .
وَهَذَا يَخُصُّ السُّقُوطَ بِالْإِسْلَامِ ، وَالْوَجْهُ يَعُمُّ مَوْتَهُ وَإِسْلَامَهُ ، وَبِهَذَا الْحَدِيثِ وَنَحْوِهِ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى سُقُوطِ الْجِزْيَةِ بِالْإِسْلَامِ فَلَا يَرِدُ طَلَبُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْجِزْيَةِ وَبَيْنَ الِاسْتِرْقَاقِ إذْ كُلٌّ مِنْهُمَا عُقُوبَةٌ عَلَى الْكُفْرِ ، ثُمَّ لَا يَرْتَفِعُ الِاسْتِرْقَاقُ بِالْإِسْلَامِ ، وَكَذَا خَرَاجُ الْأَرْضِ ، وَتَرْتَفِعُ الْجِزْيَةُ ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَحَلُّ الْإِجْمَاعِ ، فَإِنْ عُقِلَتْ حِكْمَةٌ فَذَاكَ وَإِلَّا وَجَبَ الِاتِّبَاعُ .
عَلَى أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ خَرَاجِ الْأَرْضِ وَالْجِزْيَةِ وَاضِحٌ إذْ لَا إذْلَالَ فِي خَرَاجِ الْأَرْضِ ؛ لِأَنَّهُ مُؤْنَةُ الْأَرْضِ كَيْ تَبْقَى فِي أَيْدِينَا ، وَالْمُسْلِمُ مِمَّنْ يَسْعَى فِي بَقَائِهَا لِلْمُسْلِمِينَ بِخِلَافِ الْجِزْيَةِ ؛ لِأَنَّهَا ذُلٌّ ظَاهِرٌ وَشَنَارٌ .
وَأَمَّا الِاسْتِرْقَاقُ ؛ فَلِأَنَّ إسْلَامَهُ بَعْدَ تَعَلُّقِ مِلْكِ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ بِرَقَبَتِهِ فَلَا يَبْطُلُ بِهِ حَقُّ الْمُسْتَحِقِّ الْمُعَيَّنِ .
بِخِلَافِ الْجِزْيَةِ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا مِلْكُ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ بَلْ اسْتِحْقَاقٌ لِلْعُمُومِ ، وَالْحَقُّ الْخَاصُّ فَضْلًا عَنْ الْعَامِّ لَيْسَ كَالْمِلْكِ الْخَاصِّ ( قَوْلُهُ : وَلِأَنَّهَا ) ، أَيْ الْجِزْيَةَ إنَّمَا ( وَجَبَتْ عُقُوبَةً عَلَى الْكُفْرِ وَلِهَذَا سُمِّيَتْ جِزْيَةً وَهِيَ وَالْجَزَاءُ وَاحِدٌ ) وَهُوَ يُقَالُ عَلَى الثَّوَابِ بِسَبَبِ الطَّاعَةِ وَالْعُقُوبَةِ بِسَبَبِ الْمَعْصِيَةِ ، وَلَا شَكَّ فِي انْتِفَاءِ الْأَوَّلِ ، وَلِذَا أُخِذَتْ بِطَرِيقِ الْإِذْلَالِ بَلْ هَذَا ضَرُورِيٌّ مِنْ الدِّينِ فَتَعَيَّنَ أَنَّهَا عُقُوبَةٌ عَلَى مَعْصِيَةِ الْكُفْرِ دُنْيَوِيَّةٌ لَا بَدَلُ مُعَاوَضَةٍ كَمَا ظَنَّهُ .
( فَتَسْقُطُ بِالْإِسْلَامِ وَلَا تُقَامُ بَعْدَ الْمَوْتِ ) وَلِهَذَا لَا يُضْرَبُ مَنْ سَبَقَ مَوْتُهُ إقَامَةَ حَدٍّ ثَبَتَ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّ الْعُقُوبَةَ

الدُّنْيَوِيَّةَ لَا تَكُونُ إلَّا لِدَفْعِ شَرِّهِ فِي الدُّنْيَا بِحَسَبِ مَا يَكُونُ ذَلِكَ الشَّرُّ ، وَالشَّرُّ الَّذِي يُتَوَقَّعُ بِسَبَبِ الْكُفْرِ الْحِرَابَةُ وَالْفِتْنَةُ عَنْ الدِّينِ الْحَقِّ ( وَقَدْ انْدَفَعَ بِالْمَوْتِ وَالْإِسْلَامِ ) وَهَذَا لَا يُنَافِي كَوْنَهَا بَدَلًا : أَيْ خَلَفًا عَنْ النُّصْرَةِ لَنَا فَكَانَتْ عُقُوبَةً دُنْيَوِيَّةً عَلَى كُفْرِهِ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ لِحِرَابَتِهِ دَفْعًا لَهَا بِإِضْعَافِهِ بِأَخْذِهَا مِنْهُ وَبَدَلًا عَنْ نُصْرَتِهِ الْفَائِتَةِ بِكُفْرِهِ ، وَإِذَا كَانَتْ خَلَفًا أَيْضًا عَنْ النُّصْرَةِ انْتَفَتْ بِالْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْخَلَفِ عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَصْلِ ، وَقَدْ قَدَرَ عَلَيْهَا بِالْإِسْلَامِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّهَا بَدَلٌ عَنْ الْعِصْمَةِ فَهِيَ ثَابِتَةٌ بِالْآدَمِيَّةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ ثُبُوتِهَا ضَرُورَةً تَمَكُّنِهِ مِنْ فِعْلِ مَا كُلِّفَ بِهِ أَوْ لِظُهُورِ خِلَافِهِ مِنْهُ فَلَا يَكُونُ ثُبُوتُهَا بِقَبُولِ الْجِزْيَةِ ، وَقَوْلُهُ بَدَلًا عَنْ السُّكْنَى .
قُلْنَا إنَّ الذِّمِّيَّ يَسْكُنُ مِلْكَ نَفْسِهِ فَلَا تَكُونُ أُجْرَةً ؛ وَلِأَنَّهُ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ صَارَ مِنْ أَهْلِ الدَّارِ فَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ بَدَلُ تَمَكُّنِهِ مِنْ الْإِقَامَةِ بِهَا ، وَالْأَحْسَنُ تَرْكُ الْكَلَامِ فِي إبْطَالِ الْأَمْرَيْنِ فَإِنَّ الْعِصْمَةَ الْأَصْلِيَّةَ زَالَتْ بِالْكُفْرِ ، وَهَذِهِ عِصْمَةٌ مُتَجَدِّدَةٌ بِالْجِزْيَةِ ، وَيَكْفِي مَا ذَكَرْنَا مِنْ دَلَالَةِ أَنَّهَا عُقُوبَةُ جَزَاءٍ ثُمَّ تَثْبُتُ الْعِصْمَةُ مَعَهَا لِتُمْكِنَ إقَامَتُهَا ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهَا عُقُوبَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ لِاسْتِمْرَارِ السَّبَبِ وَهُوَ كُفْرُهُ الدَّاعِي إلَى حِرَابَتِهِ ، وَلَا يُتَمَكَّنُ مِنْ إقَامَةِ هَذِهِ الْعُقُوبَةِ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ إلَّا بِعِصْمَتِهِ .

( وَإِنْ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْحَوْلَانِ تَدَاخَلَتْ .
وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : وَمَنْ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ خَرَاجُ رَأْسِهِ حَتَّى مَضَتْ السَّنَةُ وَجَاءَتْ سَنَةٌ أُخْرَى لَمْ يُؤْخَذْ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : يُؤْخَذُ مِنْهُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَإِنْ مَاتَ عِنْدَ تَمَامِ السَّنَةِ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ، وَكَذَلِكَ إنْ مَاتَ فِي بَعْضِ السَّنَةِ ) أَمَّا مَسْأَلَةُ الْمَوْتِ فَقَدْ ذَكَرْنَاهَا .
وَقِيلَ خَرَاجُ الْأَرْضِ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ .
وَقِيلَ لَا تَدَاخُلَ فِيهِ بِالِاتِّفَاقِ .
لَهُمَا فِي الْخِلَافِيَّةِ أَنَّ الْخَرَاجَ وَجَبَ عِوَضًا ، وَالْأَعْوَاضُ إذَا اجْتَمَعَتْ وَأَمْكَنَ اسْتِيفَاؤُهَا تُسْتَوْفَى ، وَقَدْ أَمْكَنَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ بَعْدَ تَوَالِي السِّنِينَ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَسْلَمَ ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا وَجَبَتْ عُقُوبَةً عَلَى الْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ، وَلِهَذَا لَا يُقْبَلُ مِنْهُ لَوْ بَعَثَ عَلَى يَدِ نَائِبِهِ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَاتِ ، بَلْ يُكَلَّفُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ بِنَفْسِهِ فَيُعْطِيَ قَائِمًا ، وَالْقَابِضُ مِنْهُ قَاعِدٌ .
وَفِي رِوَايَةٍ : يَأْخُذُ بِتَلْبِيبِهِ وَيَهُزُّهُ هَزًّا وَيَقُولُ : أَعْطِ الْجِزْيَةَ يَا ذِمِّيُّ فَثَبَتَ أَنَّهُ عُقُوبَةٌ ، وَالْعُقُوبَاتُ إذَا اجْتَمَعَتْ تَدَاخَلَتْ كَالْحُدُودِ ؛ وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ الْقَتْلِ فِي حَقِّهِمْ وَعَنْ النُّصْرَةِ فِي حَقِّنَا كَمَا ذَكَرْنَا ، لَكِنْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا فِي الْمَاضِي ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ إنَّمَا يُسْتَوْفَى لِحِرَابٍ قَائِمٍ فِي الْحَالِ لَا لِحِرَابٍ مَاضٍ ، وَكَذَا النُّصْرَةُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ؛ لِأَنَّ الْمَاضِيَ وَقَعَتْ الْغُنْيَةُ عَنْهُ .
ثُمَّ قَوْلُ مُحَمَّدٍ فِي الْجِزْيَةِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَجَاءَتْ سَنَةٌ أُخْرَى ، حَمَلَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ عَلَى الْمُضِيِّ مَجَازًا .
وَقَالَ : الْوُجُوبُ بِآخِرِ السَّنَةِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْمُضِيِّ لِيَتَحَقَّقَ الِاجْتِمَاعُ فَتَتَدَاخَلَ .
وَعِنْدَ

الْبَعْضِ هُوَ مُجْرًى عَلَى حَقِيقَتِهِ ، وَالْوُجُوبُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَوَّلِ الْحَوْلِ فَيَتَحَقَّقُ الِاجْتِمَاعُ بِمُجَرَّدِ الْمَجِيءِ .
وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْوُجُوبَ عِنْدَنَا فِي ابْتِدَاءِ الْحَوْلِ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي آخِرِهِ اعْتِبَارًا بِالزَّكَاةِ .
وَلَنَا أَنَّ مَا وَجَبَ بَدَلًا عَنْهُ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِي الْمُسْتَقْبَلِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فَتَعَذَّرَ إيجَابُهُ بَعْدَ مُضِيِّ الْحَوْلِ فَأَوْجَبْنَاهُ فِي أَوَّلِهِ .

( فَإِنْ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْحَوْلَانِ تَدَاخَلَتْ ) أَيْ الْجِزْيَةُ أَنَّثَ فِعْلَ الْحَوْلَيْنِ لِتَأْوِيلِهِ بِالسَّنَتَيْنِ ، وَلَا دَاعِيَ إلَى ذَلِكَ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ ، أَوْ بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ : أَيْ جِزْيَةُ حَوْلَيْنِ ، وَلَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِيمَا ذَكَرَهُ الْأَقْطَعُ : وَإِنْ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ حَوْلَانِ ( وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : وَمَنْ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ خَرَاجُ رَأْسِهِ حَتَّى مَضَتْ السَّنَةُ ، وَجَاءَتْ سَنَةٌ أُخْرَى ) لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : يُؤْخَذُ مِنْهُ ، فَإِنْ مَاتَ عِنْدَ تَمَامِ السَّنَةِ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ، وَكَذَا إنْ مَاتَ فِي بَعْضِ السَّنَةِ أَمَّا مَسْأَلَةُ الْمَوْتِ فَقَدْ ذَكَرْنَاهَا .
( وَقِيلَ خَرَاجُ الْأَرْضِ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ ) فَإِذَا مَضَتْ سُنُونَ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ خَرَاجٌ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَهُمَا يُؤْخَذُ مِنْهُ مَا مَضَى ( وَقِيلَ لَا تَدَاخُلَ ) فَيُؤْخَذُ مَا مَضَى ( بِالِاتِّفَاقِ لَهُمَا فِي الْخِلَافِيَّةِ ) وَهِيَ تَدَاخُلُ الْجِزْيَةِ ( أَنَّ الْخَرَاجَ ) أَيْ الْجِزْيَةَ ؛ لِأَنَّهَا خَرَاجُ الرَّأْسِ ( وَجَبَ عِوَضًا ، وَالْأَعْوَاضُ إذَا اجْتَمَعَتْ وَأَمْكَنَ اسْتِيفَاؤُهَا ) عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ ( تُسْتَوْفَى ، وَقَدْ أَمْكَنَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ بَعْدَ تَوَالِي السِّنِينَ ) ؛ لِأَنَّهُ مَا دَامَ كَافِرًا أَمْكَنَ اسْتِيفَاؤُهُ عَلَى وَجْهِ الصَّغَارِ وَالْإِذْلَالِ لَهُ بِخِلَافِ مَا إذَا أَسْلَمَ ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ ) ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَجِبُ إذْلَالُهُ بَلْ يَجِبُ تَوْقِيرُهُ ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ كَوْنَهَا وَجَبَتْ عِوَضًا ، وَكَوْنُ الْمُتَحَصِّلِ مِنْهَا أَعْوَاضًا خِلَافَ مَا تَقَدَّمَ وَأَنَّهُ بِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَلْيَقُ ، فَإِنْ أُرِيدَ بِالْأَعْوَاضِ الْأَجْزِيَةُ الْوَاقِعَةُ عُقُوبَةً تَمَّ عَلَيْهِمَا وَجْهُ أَبِي حَنِيفَةِ الْقَائِلِ : وَالْعُقُوبَاتُ تَتَدَاخَلُ حَتَّى قُلْنَا بِتَدَاخُلِ كَفَّارَاتِ الْإِفْطَارِ فِي رَمَضَانَ مَعَ أَنَّهَا عُقُوبَةٌ وَعِبَادَةٌ ، غَيْرَ أَنَّ الْمُرَجَّحَ فِيهَا جِهَةُ

الْعُقُوبَةِ فَكَيْفَ بِالْعُقُوبَةِ الْمَحْضَةِ وَالْجِزْيَةُ عُقُوبَةٌ مَحْضَةٌ .
وَقَوْلُهُ : ( وَلِهَذَا إلَخْ ) اسْتِيضَاحٌ عَلَى أَنَّهَا عُقُوبَةٌ ؛ يَعْنِي ( لَوْ بَعَثَ بِهَا عَلَى يَدِ نَائِبِهِ لَا تُقْبَلُ مِنْهُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَاتِ ، بَلْ يُكَلَّفُ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا بِنَفْسِهِ فَيُعْطِيَ قَائِمًا وَالْقَابِضُ جَالِسٌ .
وَفِي رِوَايَةٍ : يَأْخُذُ بِتَلْبِيبِهِ ) وَهُوَ مَا يَلِي صَدْرَهُ مِنْ ثِيَابِهِ ( وَيَقُولُ : أَعْطِ الْجِزْيَةَ يَا ذِمِّيُّ ) وَقَبُولُهَا مِنْ النَّائِبِ يُفَوِّتُ الْمَأْمُورَ بِهِ مِنْ إذْلَالِهِ عِنْدَ الْإِعْطَاءِ ، قَالَ تَعَالَى : { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } وَوَجْهٌ آخَرُ ( أَنَّهَا وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ الْقَتْلِ فِي حَقِّهِمْ وَعَنْ النُّصْرَةِ فِي حَقِّنَا كَمَا ذَكَرْنَا ، لَكِنْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ) يَعْنِي عَنْ الْقَتْلِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَالنُّصْرَةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ( لِأَنَّ الْقَتْلَ إنَّمَا يُسْتَوْفَى لِحِرَابٍ قَائِمٍ فِي الْحَالِ لَا لِحِرَابٍ مَاضٍ ، وَكَذَا النُّصْرَةُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ؛ لِأَنَّ الْمَاضِيَ وَقَعَتْ الْغُنْيَةُ عَنْهُ ) بِانْقِضَائِهِ فَانْقَطَعَتْ الْحَاجَةُ فِيهِ إلَى شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ .
وَفِي الْمَبْسُوطِ : وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَيْسَ هُوَ الْمَالُ بَلْ اسْتِذْلَالُ الْكَافِرِ وَاسْتِصْغَارُهُ ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ يَحْصُلُ بِاسْتِيفَاءِ جِزْيَةٍ وَاحِدَةٍ ( ثُمَّ قَوْلُ مُحَمَّدٍ فِي الْجَامِعِ ) : وَجَاءَتْ سَنَةٌ أُخْرَى ، حَمَلَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ عَلَى مُضِيِّ السَّنَةِ مَجَازًا فَقَالَ : الْوُجُوبُ بِآخِرِ السَّنَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْمُضِيِّ ؛ لِيَتَحَقَّقَ الِاجْتِمَاعُ فِي الْحَوْلَيْنِ أَوْ فِي الْجِزْيَتَيْنِ ( فَتَتَدَاخَلُ ، وَعِنْدَ الْبَعْضِ هُوَ مُجْرًى عَلَى حَقِيقَتِهِ ) وَهُوَ أَنْ يُرَادَ دُخُولُ أَوَّلِ السَّنَةِ ، فَإِنَّ مَجِيءَ الشَّهْرِ بِمَجِيءِ أَوَّلِهِ ، وَمَجِيءَ السَّنَةِ بِمَجِيءِ أَوَّلِهَا ، وَالْأَصَحُّ هُوَ هَذَا ( فَالْوُجُوبُ عِنْدَنَا بِأَوَّلِ السَّنَةِ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي آخِرِهِ اعْتِبَارًا بِالزَّكَاةِ .
وَلَنَا أَنَّ مَا وَجَبَتْ ) الْجِزْيَةُ (

بَدَلًا عَنْهُ ) وَهُوَ النُّصْرَةُ ( وَالْقَتْلُ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِي الْمُسْتَقْبَلِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ ) مِنْ أَنَّ الْقَتْلَ إنَّمَا يُسْتَوْفَى لِحِرَابٍ قَائِمٍ فِي الْحَالِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ وَبَدَلًا عَنْ نُصْرَتِهِمْ .
وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، بِخِلَافِ الزَّكَاةِ ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ فِي الْمَالِ النَّامِي فَلَا بُدَّ مِنْ الْحَوْلِ ؛ لِيَتَحَقَّقَ الِاسْتِنْمَاءُ فَلَمْ تَجِبْ قَبْلَهُ ؛ لِعَدَمِ اتِّصَافِهِ بِذَلِكَ قَبْلَهُ ثُمَّ أُقِيمَ الْحَوْلُ مَقَامَ النَّمَاءِ ؛ لِأَنَّهُ الْمُمْكِنُ مِنْهُ فَصَارَ الْمَالُ بِهِ نَامِيًا تَقْدِيرًا .

( فَصْلٌ ) ( وَلَا يَجُوزُ إحْدَاثُ بِيعَةٍ وَلَا كَنِيسَةٍ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ) ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا خِصَاءَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا كَنِيسَةَ } وَالْمُرَادُ إحْدَاثُهَا ( وَإِنْ انْهَدَمَتْ الْبِيَعُ وَالْكَنَائِسُ الْقَدِيمَةُ أَعَادُوهَا ) لِأَنَّ الْأَبْنِيَةَ لَا تَبْقَى دَائِمًا ، وَلَمَّا أَقَرَّهُمْ الْإِمَامُ فَقَدْ عَهِدَ إلَيْهِمْ الْإِعَادَةَ إلَّا أَنَّهُمْ لَا يُمَكَّنُونَ مِنْ نَقْلِهَا ؛ لِأَنَّهُ إحْدَاثٌ فِي الْحَقِيقَةِ ، وَالصَّوْمَعَةُ لِلتَّخَلِّي فِيهَا بِمَنْزِلَةِ الْبِيعَةِ ، بِخِلَافِ مَوْضِعِ الصَّلَاةِ فِي الْبَيْتِ ؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلسُّكْنَى ، وَهَذَا فِي الْأَمْصَارِ دُونَ الْقُرَى ؛ لِأَنَّ الْأَمْصَارَ هِيَ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا الشَّعَائِرُ فَلَا تُعَارَضُ بِإِظْهَارِ مَا يُخَالِفُهَا .
وَقِيلَ فِي دِيَارِنَا يُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ فِي الْقُرَى أَيْضًا ؛ لِأَنَّ فِيهَا بَعْضَ الشَّعَائِرِ ، وَالْمَرْوِيُّ عَنْ صَاحِبِ الْمَذْهَبِ فِي قُرَى الْكُوفَةِ لِأَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِهَا أَهْلُ الذِّمَّةِ .
وَفِي أَرْضِ الْعَرَبِ يُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ فِي أَمْصَارِهَا وَقُرَاهَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ } .

( فَصْلٌ ) لَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ تَتَعَلَّقُ بِالذِّمِّيِّ بِاعْتِبَارِ غَيْرِهِ وَمَا مَضَى بِاعْتِبَارِ نَفْسِهِ قَدَّمَ تِلْكَ .
( قَوْلُهُ وَلَا يَجُوزُ إحْدَاثُ بِيعَةٍ ) بِكَسْرِ الْبَاءِ ( وَلَا كَنِيسَةٍ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ) وَهُمَا مُتَعَبَّدَا الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ، ثُمَّ غَلَبَتْ الْكَنِيسَةُ لِمُتَعَبَّدِ الْيَهُودِ وَالْبِيعَةُ لِمُتَعَبَّدِ النَّصَارَى ، وَفِي دِيَارِ مِصْرَ لَا يُسْتَعْمَلُ لَفْظُ الْبِيعَةِ بَلْ الْكَنِيسَةِ لِمُتَعَبَّدِ الْفَرِيقَيْنِ ، وَلَفْظُ الدَّيْرِ لِلنَّصَارَى خَاصَّةً .
وَقَيَّدَ الْمُصَنِّفُ عُمُومَ دَارِ الْإِسْلَامِ بِالْأَمْصَارِ دُونَ الْقُرَى ؛ لِأَنَّ الْأَمْصَارَ هِيَ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا الشَّعَائِرُ ، فَإِحْدَاثُهَا فِيهَا مُعَارَضَةٌ بِإِظْهَارِ مَا يُخَالِفُهَا فَلَا يَجُوزُ ، بِخِلَافِ الْقُرَى .
ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ فِي قُرَى دِيَارِنَا أَيْضًا لَا تَحْدُثُ فِي هَذَا الزَّمَانِ .
ثُمَّ قَالَ الْقُدُورِيُّ : ( وَإِنْ انْهَدَمَتْ الْبِيَعُ وَالْكَنَائِسُ الْقَدِيمَةُ أَعَادُوهَا ) قَالَ الْمُصَنِّفُ : ( لِأَنَّ الْأَبْنِيَةَ لَا تَبْقَى دَائِمًا ، وَلَمَّا أَقَرَّهُمْ الْإِمَامُ فَقَدْ عَهِدَ إلَيْهِمْ الْإِعَادَةَ ضِمْنًا غَيْرَ أَنَّهُمْ لَا يُمَكَّنُونَ مِنْ نَقْلِهَا مِنْ مَكَان إلَى آخَرَ ؛ لِأَنَّهُ إحْدَاثٌ ) فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ الْمَنْقُولِ إلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ ، وَفِي هَذَا التَّعْلِيلِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ ذَلِكَ إذَا كَانَ بِإِقْرَارِ الْإِمَامِ إيَّاهُمْ عَلَى ذَلِكَ ، وَذَلِكَ إذَا صَالَحَهُمْ عَلَى إقْرَارِهِمْ عَلَى أَرَاضِيِهِمْ سَوَاءٌ كَانَ إمَامًا فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَوْ بَعْدَهُمْ .
قِيلَ أَمْصَارُ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةٌ : أَحَدُهَا مَا مَصَّرَهُ الْمُسْلِمُونَ كَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَبَغْدَادَ وَوَاسِطٍ ، فَلَا يَجُوزُ فِيهَا إحْدَاثُ بِيعَةٍ وَلَا كَنِيسَةٍ وَلَا مُجْتَمَعٍ لِصَلَاتِهِمْ وَلَا صَوْمَعَةٍ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَلَا يُمَكَّنُونَ فِيهِ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَاِتِّخَاذِ الْخَنَازِيرِ وَضَرْبِ النَّاقُوسِ .
وَثَانِيهَا مَا فَتَحَهُ الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً فَلَا يَجُوزُ فِيهَا إحْدَاثُ شَيْءٍ بِالْإِجْمَاعِ ، وَمَا

كَانَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ هَلْ يَجِبُ هَدْمُهُ ؟ فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ : يَجِبُ .
وَعِنْدَنَا جَعْلُهُمْ ذِمَّةً أَمْرُهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا كَنَائِسَهُمْ مَسَاكِنَ ، وَيُمْنَعُ مِنْ صَلَاتِهِمْ فِيهَا وَلَكِنْ لَا تُهْدَمُ ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ فَتَحُوا كَثِيرًا مِنْ الْبِلَادِ عَنْوَةً ، وَلَمْ يَهْدِمُوا كَنِيسَةً ، وَلَا دَيْرًا ، وَلَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ قَطُّ .
وَثَالِثُهَا مَا فُتِحَ صُلْحًا ، فَإِنْ صَالَحَهُمْ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ لَهُمْ وَالْخَرَاجَ لَنَا جَازَ إحْدَاثُهُمْ ، وَإِنْ صَالَحَهُمْ عَلَى أَنَّ الدَّارَ لَنَا وَيُؤَدُّونَ الْجِزْيَةَ فَالْحُكْمُ فِي الْكَنَائِسِ عَلَى مَا يُوَقَّعُ عَلَيْهِ الصُّلْحُ ، فَإِنْ صَالَحَهُمْ عَلَى شَرْطِ تَمْكِينِ الْإِحْدَاثِ لَا يَمْنَعُهُمْ ، إلَّا أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ لَا يُصَالِحَهُمْ إلَّا عَلَى مَا وَقَعَ عَلَيْهِ صُلْحُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ عَدَمِ إحْدَاثِ شَيْءٍ مِنْهَا ، وَإِنْ وَقَعَ الصُّلْحُ مُطْلَقًا لَا يَجُوزُ الْإِحْدَاثُ وَلَا يُتَعَرَّضُ لِلْقَدِيمَةِ وَيُمْنَعُونَ مِنْ ضَرْبِ النَّاقُوسِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَاِتِّخَاذِ الْخِنْزِيرِ بِالْإِجْمَاعِ انْتَهَى .
وَقَوْلُهُ : يُمْنَعُونَ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ : أَيْ التَّجَاهُرِ بِهِ وَإِظْهَارِهِ .
وَفِي الْمُحِيطِ : لَوْ ضَرَبُوا النَّاقُوسَ فِي جَوْفِ كَنَائِسِهِمْ لَا يُمْنَعُونَ انْتَهَى .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : كُلُّ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْ مِصْرٍ أَوْ حَدِيقَةٍ لَهُمْ أَظْهَرُوا فِيهَا شَيْئًا مِنْ الْفِسْقِ مِثْلَ الزِّنَا وَالْفَوَاحِشَ الَّتِي يُحَرِّمُونَهَا فِي دِينِهِمْ يُمْنَعُونَ مِنْهُ ، وَكَذَا عَنْ الْمَزَامِيرِ وَالطَّنَابِيرِ وَالْغِنَاءِ ، وَمِنْ كَسَرَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَضْمَنْ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْبِيَعَ وَالْكَنَائِسَ الْقَدِيمَةَ فِي السَّوَادِ لَا تُهْدَمُ عَلَى الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا ، وَأَمَّا فِي الْأَمْصَارِ فَاخْتَلَفَ كَلَامُ مُحَمَّدٍ ، فَذَكَرَ فِي الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ تُهْدَمُ الْقَدِيمَةُ ، وَذَكَرَ فِي الْإِجَارَةِ أَنَّهَا لَا تُهْدَمُ وَعَمَلُ النَّاسِ عَلَى هَذَا ،

فَإِنَّا رَأَيْنَا كَثِيرًا مِنْهَا تَوَالَتْ عَلَيْهَا أَئِمَّةٌ وَأَزْمَانٌ وَهِيَ بَاقِيَةٌ لَمْ يَأْمُرْ بِهَدْمِهَا إمَامٌ فَكَانَ مُتَوَارِثًا مِنْ عَهْدِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ مَصَّرْنَا بَرِيَّةً فِيهَا دَيْرٌ أَوْ كَنِيسَةٌ فَوَقَعَ فِي دَاخِلِ السُّوَرِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُهْدَمَ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلْأَمَانِ قَبْلَ وَضْعِ السُّوَرِ ، فَيُحْمَلُ مَا فِي جَوْفِ الْقَاهِرَةِ مِنْ الْكَنَائِسِ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ فَضَاءً فَأَدَارَ الْعُبَيْدِيُّونَ عَلَيْهَا السُّورَ ثُمَّ فِيهَا الْآنَ كَنَائِسُ ، وَيَبْعُدُ مِنْ إمَامٍ تَمْكِينُ الْكُفَّارِ مِنْ إحْدَاثِهَا جِهَارًا فِي جَوْفِ الْمُدُنِ الْإِسْلَامِيَّةِ ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا كَانَتْ فِي الضَّوَاحِي فَأُدِيرَ السُّوَرُ عَلَيْهَا فَأَحَاطَ بِهَا ، وَعَلَى هَذَا فَالْكَنَائِسُ الْمَوْجُودَةُ الْآنَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ غَيْرِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ كُلُّهَا يَنْبَغِي أَنْ لَا تُهْدَمَ ؛ لِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ فِي أَمْصَارٍ قَدِيمَةٍ فَلَا شَكَّ أَنَّ الصَّحَابَةَ أَوْ التَّابِعِينَ حِينَ فَتَحُوا الْمَدِينَةَ عَلِمُوا بِهَا وَبَقُوهَا ، وَبَعْدَ ذَلِكَ يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَتْ الْبَلْدَةُ فُتِحَتْ عَنْوَةً حَكَمْنَا بِأَنَّهُمْ بَقُوهَا مَسَاكِنَ لَا مَعَابِدَ فَلَا تُهْدَمُ وَلَكِنْ يُمْنَعُونَ مِنْ الِاجْتِمَاعِ فِيهَا لِلتَّقَرُّبِ ، وَإِنْ عُرِفَ أَنَّهَا فُتِحَتْ صُلْحًا حَكَمْنَا بِأَنَّهُمْ أَقَرُّوهَا مَعَابِدَ فَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ فِيهَا بَلْ مِنْ الْإِظْهَارِ .
وَانْظُرْ إلَى قَوْلِ الْكَرْخِيِّ : إنَّهُمْ إذَا حَضَرَ لَهُمْ عِيدٌ يُخْرِجُونَ فِيهِ صُلْبَانَهُمْ وَغَيْرَ ذَلِكَ فَلْيَصْنَعُوا فِي كَنَائِسِهِمْ الْقَدِيمَةِ مِنْ ذَلِكَ مَا أَحَبُّوا ، فَأَمَّا أَنْ يُخْرِجُوا ذَلِكَ مِنْ الْكَنَائِسِ حَتَّى يَظْهَرَ فِي الْمِصْرِ فَلَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ ، وَلَكِنْ لِيَخْرُجُوا خُفْيَةً مِنْ كَنَائِسِهِمْ ، وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ عَلَى عَدَمِ الْإِحْدَاثِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا خِصَاءَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا كَنِيسَةَ } .
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ : الْمُرَادُ إحْدَاثُهَا ، وَهَذَا ؛

لِأَنَّ الْبِيعَةَ قَدْ تَحَقَّقَتْ كَثِيرًا مِنْ الصَّحَابَةِ فِي الصُّلْحِ .
وَفِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيّ تَصْرِيحٌ بِذَلِكَ فِي سُنَنِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا خِصَاءَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا بُنْيَانَ كَنِيسَةٍ } وَضَعَّفَهُ .
وَرَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ : حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ ، حَدَّثَنِي تَوْبَةُ بْنُ النَّمِرِ الْحَضْرَمِيُّ قَاضِي مِصْرَ عَمَّنْ أَخْبَرَهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا خِصَاءَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا كَنِيسَةَ } قَالَ : وَرَوَى أَبُو الْأَسْوَدِ عَنْ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ قَالَ : قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَا كَنِيسَةَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا خِصَاءَ .
وَرَوَى ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ بِسَنَدِهِ إلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُبْنَى كَنِيسَةٌ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا يُبْنَى مَا خَرِبَ مِنْهَا } وَأُعِلَّ بِسَعِيدِ بْنِ سِنَانٍ ، وَإِذَا تَعَدَّدَتْ طُرُقُ الضَّعِيفِ يَصِيرُ حَسَنًا .
ثُمَّ قِيلَ : الْمُرَادُ بِالْخِصَاءِ نَزْعُ الْخُصْيَتَيْنِ ، وَقِيلَ كِنَايَةٌ عَنْ التَّخَلِّي عَنْ إتْيَانِ النِّسَاءِ ( وَالصَّوْمَعَةُ ) وَهُوَ مَا يُبْنَى ( لِلتَّخَلِّي ) عَنْ النَّاسِ وَالِانْقِطَاعِ ( فِيهَا ) لَهُمْ مِثْلُهَا فَيُمْنَعُ أَيْضًا وَكَذَا يُمْنَعُ بَيْتُ نَارٍ .
( وَالْمَرْوِيُّ عَنْ صَاحِبِ الْمَذْهَبِ ) يَعْنِي أَبَا حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ ( فِي قُرَى الْكُوفَةِ ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِهَا أَهْلُ ذِمَّةٍ ) بِخِلَافِ قُرَى الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ ، وَلِذَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي شَرْحِهِ فِي كِتَابِ الْإِجَارَاتِ : الْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُمْ يُمْنَعُونَ عَنْ ذَلِكَ فِي السَّوَادِ ، وَإِنْ كَانَ هُوَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ قَالَ : إنْ كَانَتْ قَرْيَةٌ غَالِبُ أَهْلِهَا أَهْلُ الذِّمَّةِ لَا يُمْنَعُونَ ، وَأَمَّا الْقَرْيَةُ الَّتِي سَكَنَهَا الْمُسْلِمُونَ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهَا عَلَى

مَا ذَكَرْنَا ، فَصَارَ إطْلَاقُ مَنْعِ الْإِحْدَاثِ هُوَ الْمُخْتَارُ فَصَدَقَ تَعْمِيمُ الْقُدُورِيِّ مَنْعَهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ .
( قَوْلُهُ : وَفِي أَرْضِ الْعَرَبِ يُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ فِي أَمْصَارِهَا وَقُرَاهَا ) فَلَا يُحْدَثُ فِيهَا كَنِيسَةٌ وَلَا تُقَرُّ ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُمَكَّنُونَ مِنْ السُّكْنَى بِهَا فَلَا فَائِدَةَ فِي إقْرَارِهَا ، إلَّا أَنْ تُتَّخَذَ دَارَ سُكْنَى وَلَا يُبَاعُ بِهَا خَمْرٌ وَلَا فِي قَرْيَةٍ مِنْهَا وَلَا فِي مَاءٍ مِنْ مِيَاه الْعَرَبِ وَيُمْنَعُونَ مِنْ أَنْ يَتَّخِذُوا أَرْضَ الْعَرَبِ مَسْكَنًا وَوَطَنًا ، بِخِلَافِ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي لَيْسَتْ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ يُمَكَّنُونَ مِنْ سُكْنَاهَا وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ .
وَذَلِكَ ( لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ } ) أَخْرَجَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ : أَخْبَرَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ ، حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ أَبِي الْأَحْوَصِ ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ { لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ } وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ : أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَجْتَمِعُ بِأَرْضِ الْعَرَبِ ، أَوْ قَالَ بِأَرْضِ الْحِجَازِ دِينَانِ } وَرَوَاهُ فِي الزَّكَاةِ وَزَادَ فِيهِ : " فَقَالَ عُمَرُ لِلْيَهُودِ : مَنْ كَانَ مِنْكُمْ عِنْدَهُ عَهْدٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلْيَأْتِ بِهِ ، وَإِلَّا فَإِنِّي مُجْلِيكُمْ ، قَالَ : فَأَجَلَاهُمْ عُمَرُ " .
وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَلِكَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ .
قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي عِلَلِهِ : هَذَا صَحِيحٌ ، وَرَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ .
قَالَ مَالِكٌ : قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : فَفَحَصَ عُمَرُ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى أَتَاهُ الْيَقِينُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

قَالَ { لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ } فَأَجْلَى يَهُودَ خَيْبَرَ وَأَجْلَى يَهُودَ نَجْرَانَ وَفَدَكَ .
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { لَمَّا اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعُهُ قَالَ : أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ } وَجَزِيرَةُ الْعَرَبِ مِنْ أَقْصَى عَدَنَ أَبْيَنَ إلَى رِيفِ الْعِرَاقِ فِي الطُّولِ ، وَأَمَّا الْعَرْضُ فَمِنْ جُدَّةَ وَمَا وَالَاهَا مِنْ سَاحِلِ الْبَحْرِ إلَى أَطْرَافِ الشَّامِ ، وَسُمِّيَتْ جَزِيرَةً لِانْجِزَارِ الْمِيَاهِ الَّتِي حَوَالَيْهَا عَنْهَا كَبَحْرِ الْبَصْرَةِ وَعُمَانَ وَعَدَنَ وَالْفُرَاتِ .
وَقِيلَ ؛ لِأَنَّ حَوَالَيْهَا بَحْرُ الْحَبَشِ وَبَحْرُ فَارِسٍ وَدِجْلَةُ وَالْفُرَاتُ .
وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ : سُمِّيَتْ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ بَحْرَ فَارِسٍ وَبَحْرَ السُّودَانِ أَحَاطَا بِجَانِبِهَا الْجَنُوبِيِّ ، وَأَحَاطَ بِالْجَانِبِ الشَّمَالِيِّ دِجْلَةُ وَالْفُرَاتُ .
وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ : قَالَ مَالِكٌ : جَزِيرَةُ الْعَرَبِ الْمَدِينَةُ نَفْسُهَا ، وَرُوِيَ أَنَّهَا الْحِجَازُ وَالْيَمَنُ وَالْيَمَامَةُ ، وَحَكَى الْبُخَارِيُّ عَنْ الْمُغِيرَةِ قَالَ : هِيَ أَرْضُ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ .

قَالَ ( وَيُؤْخَذُ أَهْلُ الذِّمَّةِ بِالتَّمَيُّزِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ فِي زِيِّهِمْ وَمَرَاكِبِهِمْ وَسُرُوجِهِمْ وَقَلَانِسِهِمْ فَلَا يَرْكَبُونَ الْخَيْلَ وَلَا يَعْمَلُونَ بِالسِّلَاحِ .
وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : وَيُؤْخَذُ أَهْلُ الذِّمَّةِ بِإِظْهَارِ الْكُسْتِيجَاتِ وَالرُّكُوبِ عَلَى السُّرُوجِ الَّتِي هِيَ كَهَيْئَةِ الْأَكُفِّ ) وَإِنَّمَا يُؤْخَذُونَ بِذَلِكَ إظْهَارًا لِلصَّغَارِ عَلَيْهِمْ وَصِيَانَةً لِضَعَفَةِ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَلِأَنَّ الْمُسْلِمَ يُكْرَمُ ، وَالذِّمِّيُّ يُهَانُ ، وَلَا يُبْتَدَأُ بِالسَّلَامِ وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ الطَّرِيقُ ، فَلَوْ لَمْ تَكُنْ عَلَامَةٌ مُمَيِّزَةٌ فَلَعَلَّهُ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الْمُسْلِمِينَ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ؛ وَالْعَلَامَةُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ خَيْطًا غَلِيظًا مِنْ الصُّوفِ يَشُدُّهُ عَلَى وَسَطِهِ دُونَ الزُّنَّارِ مِنْ الْإِبْرَيْسَمِ فَإِنَّهُ جَفَاءٌ فِي حَقِّ أَهْلِ الْإِسْلَامِ .
وَيَجِب أَنْ يَتَمَيَّزَ نِسَاؤُهُمْ عَنْ نِسَائِنَا فِي الطُّرُقَاتِ وَالْحَمَّامَاتِ ، وَيُجْعَلُ عَلَى دُورِهِمْ عَلَامَاتٌ كَيْ لَا يَقِفَ عَلَيْهَا سَائِلٌ يَدْعُوَ لَهُمْ بِالْمَغْفِرَةِ .
قَالُوا : الْأَحَقُّ أَنْ لَا يُتْرَكُوا أَنْ يَرْكَبُوا إلَّا لِلضَّرُورَةِ .
وَإِذَا رَكِبُوا لِلضَّرُورَةِ فَلِيَنْزِلُوا فِي مَجَامِعِ الْمُسْلِمِينَ ، فَإِنْ لَزِمَتْ الضَّرُورَةُ اتَّخَذُوا سُرُوجًا بِالصِّفَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ ، وَيُمْنَعُونَ مِنْ لِبَاسٍ يَخْتَصُّ بِهِ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالزُّهْدِ وَالشَّرَفِ .

( قَوْلُهُ : وَتُؤْخَذُ أَهْلُ الذِّمَّةِ بِالتَّمَيُّزِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ فِي زِيِّهِمْ ) نَفْسِهِمْ ( وَفِي مَرَاكِبِهِمْ وَسُرُوجِهِمْ وَقَلَانِسِهِمْ ) وَحَاصِلُ هَذَا أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ لَمَّا كَانُوا مُخَالِطِينَ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ فَلَا بُدَّ مِمَّا يَتَمَيَّزُ بِهِ الْمُسْلِمُ مِنْ الْكَافِرِ كَيْ لَا يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الْمُسْلِمِ فِي التَّوْقِيرِ وَالْإِجْلَالِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ، وَرُبَّمَا يَمُوتُ أَحَدُهُمْ فَجْأَةً فِي الطَّرِيقِ وَلَا يُعْرَفُ فَيُصَلَّى عَلَيْهِ بِخِلَافِ يَهُودِ الْمَدِينَةِ لَمْ يَأْمُرْهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَعْرُوفِينَ بِأَعْيَانِهِمْ لِجَمِيعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ زِيٌّ عَالٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، وَإِذَا وَجَبَ التَّمَيُّزُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ بِمَا فِيهِ صَغَارٌ لَا إعْزَازٌ ؛ لِأَنَّ إذْلَالَهُمْ لَازِمٌ بِغَيْرِ أَذًى مِنْ ضَرْبٍ أَوْ صَفْعٍ بِلَا سَبَبٍ يَكُونُ مِنْهُ ، بَلْ الْمُرَادُ اتِّصَافُهُ بِهَيْئَةٍ وَضِيعَةٍ وَلِذَا أُمِرُوا ( بِالْكَسْتِيجَاتِ ) وَهُوَ خَيْطٌ فِي غِلَظِ الْأُصْبُعِ مِنْ الصُّوفِ يَشُدُّهُ فَوْقَ ثِيَابِهِ دُونَ الزُّنَّارِ مِنْ الْإِبْرَيْسَمِ ( لِأَنَّ فِيهِ جَفَاءٌ بِالْمُسْلِمِينَ ) أَيْ إغْلَاظًا عَلَيْهِمْ فَهُوَ مِنْ حُسْنِ الْعِشْرَةِ مَعَهُمْ وَلِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ ضَعَفَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي الدِّينِ فَرُبَّمَا يَمْرُقُونَ بِجَهْلِهِمْ فَيَقُولُونَ الْكُفَّارُ أَحْسَنُ حَالًا مِنَّا فَإِنَّهُمْ فِي خَفْضِ عَيْشٍ وَنِعْمَةٍ وَنَحْنُ فِي كَدٍّ وَتَعَبٍ ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ } تَنْبِيهًا عَلَى خِسَّةِ الدُّنْيَا عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَإِذَا مُنِعَ مِنْ شَدِّ زُنَّارٍ وَهُوَ حَاشِيَةٌ رَقِيقَةٌ مِنْ الْإِبْرَيْسَمِ فَمَنْعُهُمْ مِنْ لِبَاسِ الثِّيَابِ الْفَاخِرَةِ الَّتِي تُعَدُّ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ فَاخِرَةً سَوَاءٌ كَانَتْ حَرِيرًا أَوْ غَيْرَهُ كَالصُّوفِ الْمُرَبَّعِ وَالْجُوخِ الرَّفِيعِ وَالْأَبْرَادِ

الرَّقِيقَةِ أَوْلَى .
وَلَا شَكَّ فِي وُقُوعِ خِلَافِ هَذَا فِي هَذِهِ الدِّيَارِ ، وَلَا شَكَّ فِي مَنْعِ اسْتِكْتَابِهِمْ وَإِدْخَالِهِمْ فِي الْمُبَاشَرَةِ الَّتِي يَكُونُ بِهَا مُعَظَّمًا عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ ، بَلْ رُبَّمَا يَقِفُ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ خِدْمَةً لَهُ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَتَغَيَّرَ خَاطِرُهُ مِنْهُ فَيَسْعَى بِهِ عِنْدَ مُسْتَكْتِبِهِ سِعَايَةً تُوجِبُ لَهُ مِنْهُ الضَّرَرَ ، وَكَذَا يُؤْخَذُونَ بِالرُّكُوبِ عَلَى سُرُوجٍ فَوْقَ الْحُمُرِ كَهَيْئَةِ الْأَكُفِّ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ ، وَلَا يَرْكَبُونَ الْخَيْلَ .
بَلْ اخْتَارَ الْمُتَأَخِّرُونَ أَنْ لَا يَرْكَبُوا أَصْلًا إلَّا إذَا خَرَجُوا إلَى أَرْضِ قَرْيَةٍ وَنَحْوِهِ أَوْ كَانَ مَرِيضًا : أَيْ إلَّا أَنْ تُلْزِمُ الضَّرُورَةُ فَيَرْكَبُ ثُمَّ يَنْزِلُ فِي مَجَامِعِ الْمُسْلِمِينَ إذَا مَرَّ بِهِمْ وَلَا يَحْمِلُونَ السِّلَاحَ وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِمْ الطَّرِيقُ وَلَا يُبْدَأُ بِالسَّلَامِ ، وَيُرَدُّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ وَعَلَيْكُمْ فَقَطْ .
وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْعَلَامَةُ فَلَا يَتَعَيَّنُ مَا ذُكِرَ ، بَلْ يُعْتَبَرُ فِي كُلِّ بَلَدٍ مَا يَتَعَارَفُهُ أَهْلُهُ ، وَفِي بِلَادِنَا جُعِلَتْ الْعَلَامَةُ فِي الْعِمَامَةِ فَأَلْزَمُوا النَّصَارَى الْعِمَامَةَ الزَّرْقَاءَ وَالْيَهُودَ الْعِمَامَةَ الصَّفْرَاءَ وَاخْتَصَّ الْمُسْلِمُونَ بِالْبَيْضَاءِ ، وَكَذَا تُؤْخَذُ نِسَاؤُهُمْ بِالزِّيِّ فِي الطُّرُقِ فَيُجْعَلُ عَلَى مُلَاءَةِ الْيَهُودِيَّةِ خِرْقَةً صَفْرَاءَ وَعَلَى النَّصْرَانِيَّةِ زَرْقَاءَ ، وَكَذَا فِي الْحَمَّامَاتِ ، وَكَذَا تُمَيَّزُ دُورُهُمْ عَنْ دُورِ الْمُسْلِمِينَ كَيْ لَا يَقِفَ سَائِلٌ فَيَدْعُوَ لَهُمْ بِالْمَغْفِرَةِ أَوْ يُعَامِلَهُمْ بِالتَّضَرُّعِ كَمَا يَتَضَرَّعُ لِلْمُسْلِمِينَ ( وَيُمْنَعُونَ مِنْ لِبَاسٍ يَخُصُّ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالزُّهْدِ وَالشَّرَفِ ) وَتُجْعَلُ مَكَاعِبُهُمْ خَشِنَةً فَاسِدَةَ اللَّوْنِ ، وَلَا يَلْبَسُوا طَيَالِسَةً كَطَيَالِسَةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا أَرِدْيَةً كَأَرْدِيَتِهِمْ ، هَكَذَا أُمِرُوا وَاتَّفَقَتْ الصَّحَابَةُ عَلَى ذَلِكَ .

( وَمَنْ امْتَنَعَ مِنْ الْجِزْيَةِ أَوْ قَتَلَ مُسْلِمًا أَوْ سَبَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوْ زَنَى بِمُسْلِمَةٍ لَمْ يُنْتَقَضْ عَهْدُهُ ) لِأَنَّ الْغَايَةَ الَّتِي يَنْتَهِي بِهَا الْقِتَالُ الْتِزَامُ الْجِزْيَةِ لَا أَدَاؤُهَا وَالِالْتِزَامُ بَاقٍ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : سَبُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكُونُ نَقْضًا ؛ لِأَنَّهُ يَنْقُضُ إيمَانَهُ فَكَذَا يَنْقُضُ أَمَانَهُ إذْ عَقْدُ الذِّمَّةِ خَلَفٌ عَنْهُ .
وَلَنَا أَنَّ سَبَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُفْرٌ مِنْهُ ، وَالْكُفْرُ الْمُقَارِنُ لَا يَمْنَعُهُ فَالطَّارِئُ لَا يَرْفَعُهُ .
قَالَ ( وَلَا يُنْقَضُ الْعَهْدُ إلَّا أَنْ يَلْحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ أَوْ يَغْلِبُوا عَلَى مَوْضِعٍ فَيُحَارِبُونَنَا ) ؛ لِأَنَّهُمْ صَارُوا حَرْبًا عَلَيْنَا فَيُعَرَّى عَقْدُ الذِّمَّةِ عَنْ الْفَائِدَةِ وَهُوَ دَفْعُ شَرِّ الْحِرَابِ .

( قَوْلُهُ : وَمَنْ امْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ أَوْ قَتَلَ مُسْلِمًا أَوْ زَنَى بِمُسْلِمَةٍ أَوْ سَبَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُنْتَقَضْ عَهْدُهُ ) فَيَصِيرُ مُبَاحَ الدَّمِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَا عَهْدَ لَهُ عِنْدَنَا ، وَقُيِّدَ بِأَدَائِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ امْتَنَعَ مِنْ قَبُولِهَا نُقِضَ عَهْدُهُ .
وَالشَّافِعِيُّ يَنْقُضُ عَهْدَهُ بِالِامْتِنَاعِ عَنْ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ وَقَبُولِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ ، وَلَا يَنْقُضُهُ بِزِنَاهُ بِمُسْلِمَةٍ أَوْ أَنْ يُصِيبَهَا بِنِكَاحٍ أَوْ أَنْ يَفْتِنَ مُسْلِمًا عَنْ دِينِهِ أَوْ يَقْطَعَ الطَّرِيقَ أَوْ يَدُلَّ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ يَقْتُلَ مُسْلِمًا ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ ، إلَّا أَنَّ مَالِكًا قَالَ : يُنْتَقَضُ بِإِكْرَاهِ الْمُسْلِمَةِ عَلَى الزِّنَا أَوْ سَبِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوْ ذِكْرِهِ تَعَالَى بِمَا لَا يَنْبَغِي فَإِنَّهُ يَقْتُلُهُ بِهِ إنْ لَمْ يُسْلِمْ ، وَوَافَقَهُ فِي هَذَا الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ ، وَلِلشَّافِعِيِّ أَيْضًا فِيمَا إذَا ذَكَرَهُ تَعَالَى بِمَا لَا يَنْبَغِي أَوْ سَبَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَوْلَانِ آخَرَانِ : أَحَدُهُمَا لَا يُنْتَقَضُ ، وَالْآخَرُ يُنْتَقَضُ .
وَجْهُ قَوْلِهِ هَذَا ( أَنَّهُ بِذَلِكَ يُنْتَقَضُ إيمَانُهُ ) لَوْ كَانَ مُسْلِمًا ( فَيُنْتَقَضُ بِهِ أَمَانُهُ إذْ عَقْدُ الذِّمَّةِ خَلَفٌ عَنْ الْإِيمَانِ ) فِي إفَادَةِ الْأَمَانِ فَمَا يَنْقُضُ الْأَصْلَ يَنْقُضُ الْخَلَفَ الْأَدْنَى بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى .
وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ : سَمِعْت رَاهِبًا سَبَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : لَوْ سَمِعْته لَقَتَلْته ، إنَّا لَمْ نُعْطِهِمْ الْعُهُودَ عَلَى هَذَا .
قَالَ الْمُصَنِّفُ : ( وَلَنَا أَنَّ سَبَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُفْرٌ مِنْ الذِّمِّيِّ ) كَمَا هُوَ رِدَّةٌ مِنْ الْمُسْلِمِ ( وَالْكُفْرُ الْمُقَارِنُ ) لِعَقْدِ الذِّمَّةِ ( لَا يَمْنَعُ عَقْدَ الذِّمَّةِ ) فِي الِابْتِدَاءِ ( فَالْكُفْرُ الطَّارِئُ لَا يَرْفَعُهُ )

فِي حَالِ الْبَقَاءِ بِطَرِيقٍ أَوْلَى ، يُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ { عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَهْطًا مِنْ الْيَهُودِ دَخَلُوا عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا : السَّامُ عَلَيْكَ ، فَقَالَ وَعَلَيْكُمْ ، قَالَتْ : فَفَهِمْتُهَا وَقُلْت : عَلَيْكُمْ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَهْلًا : يَا عَائِشَةُ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ ، قَالَتْ : فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا ؟ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَدْ قُلْت وَعَلَيْكُمْ } وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا سَبٌّ مِنْهُمْ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَوْ كَانَ نَقْضًا لِلْعَهْدِ لَقَتَلَهُمْ لِصَيْرُورَتِهِمْ حَرْبِيِّينَ .
قَالُوا : وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ إسْنَادُهُ ضَعِيفٌ ، وَجَازَ أَنْ يَكُونَ قَدْ شَرَطَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يُظْهِرُوا سَبَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّ سَبَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ نِسْبَةَ مَا لَا يَنْبَغِي إلَى اللَّهِ تَعَالَى إنْ كَانَ مِمَّا لَا يَعْتَقِدُونَهُ كَنِسْبَةِ الْوَلَدِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ عَنْ ذَلِكَ إذَا أَظْهَرَهُ يُقْتَلُ بِهِ وَيُنْتَقَضُ عَهْدُهُ ، وَإِنْ لَمْ يُظْهِرْ وَلَكِنْ عُثِرَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَكْتُمُهُ فَلَا .
وَهَذَا ؛ لِأَنَّ دَفْعَ الْقَتْلِ وَالْقِتَالِ عَنْهُمْ بِقَبُولِ الْجِزْيَةِ الَّذِي هُوَ الْمُرَادُ بِالْإِعْطَاءِ مُقَيَّدٌ بِكَوْنِهِمْ صَاغِرِينَ أَذِلَّاءَ بِالنَّصِّ ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْمُرَادَ اسْتِمْرَارُ ذَلِكَ لَا عِنْدَ مُجَرَّدِ الْقَبُولِ وَإِظْهَارُ ذَلِكَ مِنْهُ يُنَافِي قَيْدَ قَبُولِ الْجِزْيَةِ دَافِعًا لِقَتْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ الْغَايَةُ فِي التَّمَرُّدِ وَعَدَمِ الِالْتِفَاتِ وَالِاسْتِخْفَافِ بِالْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ فَلَا يَكُونُ جَارِيًا عَلَى الْعَقْدِ الَّذِي يَدْفَعُ عَنْهُ الْقَتْلَ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ صَاغِرًا ذَلِيلًا .
وَأَمَّا الْيَهُودُ الْمَذْكُورُونَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فَلَمْ يَكُونُوا أَهْلَ ذِمَّةٍ بِمَعْنَى إعْطَائِهِمْ الْجِزْيَةَ ، بَلْ كَانُوا أَصْحَابَ مُوَادَعَةٍ بِلَا مَالٍ يُؤْخَذُ

مِنْهُمْ دَفْعًا لِشَرِّهِمْ إلَى أَنْ أَمْكَنَ اللَّهُ مِنْهُمْ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تُوضَعْ جِزْيَةٌ قَطُّ عَلَى الْيَهُودِ الْمُجَاوِرِينَ مِنْ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ .
وَهَذَا الْبَحْثُ مِنَّا يُوجِبُ أَنَّهُ إذَا اسْتَعْلَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ عَلَى وَجْهٍ صَارَ مُتَمَرِّدًا عَلَيْهِمْ حَلَّ لِلْإِمَامِ قَتْلُهُ أَوْ يَرْجِعُ إلَى الذُّلِّ وَالصَّغَارِ ( قَوْلُهُ : وَلَا يُنْتَقَضُ عَهْدُهُ إلَّا أَنْ يَلْحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ أَوْ يَغْلِبُوا ) أَيْ أَهْلُ الذِّمَّةِ ( عَلَى مَوْضِعِ ) قَرْيَةٍ أَوْ حِصْنٍ ( فَيُحَارِبُونَنَا ؛ لِأَنَّهُمْ ) بِكُلٍّ مِنْ الْخُصْلَتَيْنِ ( صَارُوا حَرْبًا عَلَيْنَا ) وَعَقْدُ الذِّمَّةِ مَا كَانَ إلَّا لِدَفْعِ شَرِّ حِرَابَتِهِمْ ( فَيَعْرَى عَنْ الْفَائِدَةِ ) فَلَا يَبْقَى .

( وَإِذَا نَقَضَ الذِّمِّيُّ الْعَهْدَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَدِّ ) مَعْنَاهُ فِي الْحُكْمِ بِمَوْتِهِ بِاللَّحَاقِ ؛ لِأَنَّهُ الْتَحَقَ بِالْأَمْوَاتِ ، وَكَذَا فِي حُكْمِ مَا حَمَلَهُ مِنْ مَالِهِ ، إلَّا أَنَّهُ لَوْ أُسِرَ يُسْتَرَقُّ بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ .

( وَإِذَا اُنْتُقِضَ عَهْدُهُ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُرْتَدِّ ، مَعْنَاهُ فِي الْحُكْمِ بِمَوْتِهِ بِاللَّحَاقِ ؛ لِأَنَّهُ الْتَحَقَ بِالْأَمْوَاتِ ) وَإِذَا تَابَ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ وَتَعُودُ ذِمَّتُهُ ، وَلَا يَبْطُلُ أَمَانُ ذُرِّيَّتِهِ بِنَقْضِ عَهْدِهِ وَتَبِينُ مِنْهُ زَوْجَتُهُ الذِّمِّيَّةُ الَّتِي خَلَّفَهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إجْمَاعًا وَيُقَسَّمُ مَالُهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ .
( وَكَذَا فِي حُكْمِ مَا حَمَلَهُ مِنْ مَالِهِ ) إلَى دَارِ الْحَرْبِ بَعْدَ النَّقْضِ ، وَلَوْ ظُهِرَ عَلَى الدَّارِ يَكُونُ فَيْئًا لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُرْتَدِّ إذَا الْتَحَقَ بِمَالٍ ؛ وَلَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ عَادَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَأَخَذَ مِنْ مَالِهِ وَأَدْخَلَهُ دَارَ الْحَرْبِ ثُمَّ ظُهِرَ عَلَى الدَّارِ فَالْوَرَثَةُ أَحَقُّ بِهِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ مَجَّانًا وَبَعْدَ الْقِسْمَةِ بِالْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُمْ حِينَ أَخَذَهُ فَإِنْ عَادَ بَعْدَ الْحُكْمِ بِاللَّحَاقِ فَفِي رِوَايَةٍ يَكُونُ فَيْئًا وَفِي رِوَايَةٍ لَا .
وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ انْتِقَالُهُ إلَى الْمَكَانِ الَّذِي تَغْلِبُوا فِيهِ كَانْتِقَالِهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ إنْ لَمْ تَكُنْ مُتَاخِمَةً لِدَارِ الْإِسْلَامِ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ كَانَتْ عَلَى قَوْلِهِمَا .
وَقَوْلُهُ : ( إلَّا أَنَّهُ لَوْ أُسِرَ يُسْتَرَقُّ ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَدِّ ( بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ ) إذَا لَحِقَ ثُمَّ ظُهِرَ عَلَى الدَّارِ فَأُسِرَ لَا يُسْتَرَقُّ بَلْ يُقْتَلُ إذَا لَمْ يُسْلِمْ ، وَكَذَا يَجُوزُ وَضْعُ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِ إذَا عَادَ بَعْدَ نَقْضِهِ وَقَبْلَهَا ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ الْتَزَمَ بِالذِّمَّةِ الْإِسْلَامَ بَلْ أَحْكَامَهُ فَجَازَ أَنْ يَعُودَ إلَى الذِّمَّةِ ، بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ الْتَزَمَ الْإِسْلَامَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَعُودَ إلَيْهِ ، أَمَّا إذَا لَمْ يَعُدْ وَلَمْ يَقْبَلْهَا حَتَّى أُخِذَ بَعْدَ الظُّهُورِ فَقَدْ اُسْتُرِقَّ فَلَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ جِزْيَةٌ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
.

( فَصْلٌ ) .
( وَنَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ يُؤْخَذُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ضِعْفُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الزَّكَاةِ ) ؛ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَالَحَهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ ( وَيُؤْخَذُ مِنْ نِسَائِهِمْ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ صِبْيَانِهِمْ ) لِأَنَّ الصُّلْحَ وَقَعَ عَلَى الصَّدَقَةِ الْمُضَاعَفَةِ ، وَالصَّدَقَةُ تَجِبُ عَلَيْهِنَّ دُونَ الصِّبْيَانِ فَكَذَا الْمُضَاعَفُ .
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُؤْخَذُ مِنْ نِسَائِهِمْ أَيْضًا ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ جِزْيَةٌ فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى مَا قَالَ عُمَرُ : هَذِهِ جِزْيَةٌ فَسَمُّوهَا مَا شِئْتُمْ ، وَلِهَذَا تُصْرَفُ مَصَارِفَ الْجِزْيَةِ وَلَا جِزْيَةَ عَلَى النِّسْوَانِ .
وَلَنَا أَنَّهُ مَالٌ وَجَبَ بِهِ الصُّلْحُ ، وَالْمَرْأَةُ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ مِثْلِهِ عَلَيْهَا وَالْمَصْرِفُ مَصَالِحُ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّهُ مَالُ بَيْتِ الْمَالِ وَذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِالْجِزْيَةِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُرَاعَى فِيهِ شَرَائِطُهَا ( وَيُوضَعُ عَلَى مَوْلَى التَّغْلِبِيِّ الْخَرَاجُ ) أَيْ الْجِزْيَةُ ( وَخَرَاجُ الْأَرْضِ بِمَنْزِلَةِ مَوْلَى الْقُرَشِيِّ ) وَقَالَ زُفَرُ : يُضَاعَفُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ } ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مَوْلَى الْهَاشِمِيِّ يَلْحَقُ بِهِ فِي حَقِّ حُرْمَةِ الصَّدَقَةِ .
وَلَنَا أَنَّ هَذَا تَخْفِيفٌ وَالْمَوْلَى لَا يَلْحَقُ بِالْأَصْلِ فِيهِ ، وَلِهَذَا تُوضَعُ الْجِزْيَةُ عَلَى مَوْلَى الْمُسْلِمِ إذَا كَانَ نَصْرَانِيًّا ، بِخِلَافِ حُرْمَةِ الصَّدَقَةِ لِأَنَّ الْحُرُمَاتِ تَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ فَأُلْحِقَ الْمَوْلَى بِالْهَاشِمِيِّ فِي حَقِّهِ ، وَلَا يَلْزَمُ مَوْلَى الْغَنِيِّ حَيْثُ لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ ، لِأَنَّ الْغَنِيَّ مِنْ أَهْلِهَا ، وَإِنَّمَا الْغَنِيُّ مَانِعٌ وَلَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّ الْمَوْلَى ، أَمَّا الْهَاشِمِيُّ فَلَيْسَ بِأَهْلٍ لِهَذِهِ الصِّلَةِ أَصْلًا لِأَنَّهُ صِينَ لِشَرَفِهِ وَكَرَامَتِهِ عَنْ أَوْسَاخِ النَّاسِ فَأُلْحِقَ بِهِ مَوْلَاهُ .

( فَصْلٌ ) .
أَفْرَدَ أَحْكَامَ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ بِفَصْلٍ ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُمْ مُخَالِفٌ لِسَائِرِ النَّصَارَى ، وَتَغْلِبُ بْنُ وَائِلٍ مِنْ الْعَرَبِ مِنْ رَبِيعَةَ تَنَصَّرُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ ثُمَّ زَمَنُ عُمَرَ دَعَاهُمْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى الْجِزْيَةِ فَأَبَوْا وَأَنِفُوا وَقَالُوا : نَحْنُ عَرَبٌ خُذْ مِنَّا كَمَا يَأْخُذُ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ الصَّدَقَةَ فَقَالَ : لَا آخُذُ مِنْ مُشْرِكٍ صَدَقَةً فَلَحِقَ بَعْضُهُمْ بِالرُّومِ فَقَالَ النُّعْمَانُ بْنُ زُرْعَةَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّ الْقَوْمَ لَهُمْ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَهُمْ عَرَبٌ يَأْنَفُونَ مِنْ الْجِزْيَةِ فَلَا تُعِنْ عَلَيْك عَدُوُّك بِهِمْ وَخُذْ مِنْهُمْ الْجِزْيَةَ بِاسْمِ الصَّدَقَةِ ، فَبَعَثَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي طَلَبِهِمْ وَضَعَّفَ عَلَيْهِمْ ، فَأَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ الْفُقَهَاءُ .
وَفِي رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ بِسَنَدِهِ إلَى دَاوُد بْنِ كَرْدُوسَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ التَّغْلِبِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إنَّ بَنِي تَغْلِبَ الْحَدِيثَ ، إلَى أَنْ قَالَ : فَصَالَحَهُمْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى أَنْ لَا يَغْمِسُوا أَحَدًا مِنْ أَوْلَادِهِمْ فِي النَّصْرَانِيَّةِ ، وَيُضَاعَفُ عَلَيْهِمْ فِي الصَّدَقَةِ ، وَعَلَى أَنْ يُسْقِطَ الْجِزْيَةَ مِنْ رُءُوسِهِمْ .
فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاةً لَهُمْ شَاتَانِ ، وَلَا زِيَادَةَ حَتَّى تَبْلُغَ مِائَةً وَعِشْرِينَ فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ ، وَعَلَى هَذَا فِي الْبَقَرِ وَالْإِبِلِ .
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ هَلْ هِيَ جِزْيَةٌ عَلَى التَّحْقِيقِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَوْ لَا ؟ فَقِيلَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمَرْأَةِ وَالصَّبِيِّ ، فَلَوْ كَانَ لِلْمَرْأَةِ مَاشِيَةٌ وَنُقُودٌ لَا يُؤْخَذُ مِنْهَا شَيْءٌ ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ .
قَالَ الْكَرْخِيُّ : وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَقْيَسُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةُ ، فَإِذَا صَالَحُوهُمْ عَلَى مَالٍ جُعِلَ وَاقِعًا مَوْقِعَ الْمُسْتَحَقِّ ، يُؤَيِّدُهُ

قَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَذِهِ جِزْيَةٌ سَمُّوهَا مَا شِئْتُمْ .
وَقَالَ أَصْحَابُنَا : هُوَ وَإِنْ كَانَ جِزْيَةً فِي الْمَعْنَى فَهُوَ وَاجِبٌ بِشَرَائِط الزَّكَاةِ وَأَسْبَابِهَا إذْ الصُّلْحُ وَقَعَ عَلَى ذَلِكَ ، وَلِهَذَا لَا يُرَاعَى فِيهِ شَرَائِطُ الْجِزْيَةِ مِنْ وَصْفِ الصَّغَارِ فَيُقْبَلُ مِنْ النَّائِبِ وَيُعْطَى جَالِسًا إنْ شَاءَ وَلَا يُؤْخَذُ بِتَلْبِيبِهِ ( وَالْمَصْرِفُ مَصَالِحُ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّهُ مَالُ بَيْتِ الْمَالِ وَذَلِكَ لَا يَخُصُّ الْجِزْيَةَ ) وَالْمَرْأَةُ مِنْ أَهْلِهِ وَمِنْ أَهْلِ مَا يَجِبُ مِنْ الْمَالِ بِالصُّلْحِ فَيُؤْخَذُ مِنْهَا بِخِلَافِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لَا يُؤْخَذُ مِنْ مَوَاشِيهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ لِعَدَمِ وُجُودِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِمْ عِنْدَنَا ، بِخِلَافِ أَرْضِهِمْ فَيُؤْخَذُ خَرَاجُهَا ؛ لِأَنَّهُ وَظِيفَةُ الْأَرْضِ ، وَلَيْسَ عِبَادَةً لِتَخُصَّ الْبَالِغِينَ كَنَفَقَةِ عَبِيدِهِمْ .
وَحَاصِلُ مَا ذَكَرْنَا يُفِيدُ أَنَّهُ رُوعِيَ فِي هَذَا الْمَأْخُوذِ جِهَةُ الْجِزْيَةِ فِي الْمَصْرِفِ وَفِيمَا سِوَى ذَلِكَ رُوعِيَ جِهَةُ الزَّكَاةِ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ حَقِيقَةُ الْجِزْيَةِ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ لَا يُغَيَّرُ ، وَهَذِهِ الْجِزْيَةُ الَّتِي وَجَبَتْ بِالصُّلْحِ .
وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الْجِزْيَةَ قِسْمَانِ : قِسْمٌ يَجِبُ بِالصُّلْحِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ كَيْفَمَا وَقَعَ ، وَاَلَّذِي يُرَاعَى فِيهِ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ وَصْفُهُ وَكَمِّيَّتُهُ هُوَ الْجِزْيَةُ الَّتِي يَبْتَدِئُ الْإِمَامُ وَضْعَهَا شَاءُوا أَوْ أَبَوْا عَلَى مَا تَقَدَّمَ .
( قَوْلُهُ وَيُوضَعُ عَلَى الْمَوْلَى التَّغْلِبِيِّ ) أَيْ مُعْتِقِهِ ( الْخَرَاجُ : أَيْ الْجِزْيَةُ وَخَرَاجُ الْأَرْضِ ، وَقَالَ زُفَرُ : يُضَاعَفُ ) عَلَيْهِ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَالتَّغْلِبِيِّ نَفْسِهِ ( لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ } ) وَهَذَا الْحَدِيثُ اسْتَدْلَلْنَا بِهِ فِي الزَّكَاةِ عَلَى حِرْمَانِ مَوْلَى الْهَاشِمِيِّ الزَّكَاةَ ، فَكَذَا اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى التَّضْعِيفِ عَلَى

مَوْلَى التَّغْلِبِيِّ ، وَجَمِيعُ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْفَصْلِ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ .
( وَلَنَا أَنَّ هَذَا ) أَيْ وَضْعَ الصَّدَقَةِ الْمُضَاعَفَةِ ( تَخْفِيفٌ ) إذْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ وَصْفُ الصَّغَارِ وَالذِّلَّةِ بِرَغْبَتِهِمْ فِي ذَلِكَ وَاشْتِشْقَاقِهِمْ مَا سِوَاهُ ( وَالْمَوْلَى لَا يَلْحَقُ بِالْأَصْلِ فِيهِ ) أَيْ فِي التَّخْفِيفِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِسْلَامَ أَعْلَى أَسْبَابِ التَّخْفِيفِ ، وَلَوْ كَانَ لِمُسْلِمٍ مَوْلًى نَصْرَانِيٌّ وُضِعَتْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ ، وَلَمْ يَتَعَدَّ إلَيْهِ التَّخْفِيفُ الثَّابِتُ بِالْإِسْلَامِ فَلَأَنْ لَا يَتَعَدَّى التَّخْفِيفُ الثَّابِتُ بِوَصْفِ التَّغْلِبِيَّةِ أَوْلَى ( بِخِلَافِ حُرْمَةِ الصَّدَقَاتِ ) عَلَى الْهَاشِمِيِّ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ تَخْفِيفًا بَلْ تَحْرِيمٌ ( وَالْحُرُمَاتُ تَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ فَأُلْحِقَ مَوْلَى الْهَاشِمِيِّ بِهِ ) وَيُنْقَضُ بِمَوْلَى الْغَنِيِّ تَحْرُمُ الصَّدَقَةُ عَلَى مُعْتِقِهِ وَلَمْ تَتَعَدَّ إلَيْهِ فَقَالَ ( لَا يَلْزَمُ ؛ لِأَنَّ الْغَنِيَّ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ ) فِي الْجُمْلَةِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَامِلًا عَلَيْهَا أُعْطِيَ كِفَايَتَهُ مِنْهَا ( وَإِنَّمَا الْغِنَى مَانِعٌ ) مِنْ الْإِسْقَاطِ عَنْ الْمُعْطَى لَهُ شَرْعًا تَحَقَّقَ فِي حَقِّ سَيِّدِهِ وَلَمْ يَتَحَقَّقْ فِي الْمَوْلَى فَخُصَّ السَّيِّدُ ( أَمَّا الْهَاشِمِيُّ فَلَيْسَ بِأَهْلٍ لِهَذِهِ الصِّلَةِ أَصْلًا ؛ لِشَرَفِهِ وَكَرَامَتِهِ ) لِاتِّسَاخِهَا ، وَلِذَا لَا يُعْطَى مِنْهَا لَوْ كَانَ عَامِلًا ( فَأُلْحِقَ بِهِ مَوْلَاهُ ) ؛ لِأَنَّ التَّكْرِيمَ أَنْ لَا يُنْسَبَ إلَيْهِ تِلْكَ الْأَوْسَاخُ بِنِسْبَةٍ فَإِنْ قُلْت : هَذَا تَقْدِيمٌ لِلْمَعْنَى عَلَى النَّصِّ ، وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ } أُجِيبُ بِأَنَّ الْحَدِيثَ غَيْرُ مُجْرًى عَلَى عُمُومِهِ بِالْإِجْمَاعِ ، فَإِنَّ مَوْلَى الْهَاشِمِيِّ لَا يَنْزِلُ مَنْزِلَتَهُ فِي الْكَفَاءَةِ لِلْهَاشِمِيَّةِ وَالْإِمَامَةِ فَكَانَ عَامًّا مَخْصُوصًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْكَفَاءَةِ وَالْإِمَامَةِ فَيُخَصُّ

بِالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَيْضًا ، وَهُوَ أَنَّهُ تَخْفِيفٌ فَلَا يَتَعَدَّى بِالنِّسْبَةِ لِلتَّضْعِيفِ إلَى الْمَوْلَى الْأَسْفَلِ بِدَلِيلِ التَّخْفِيفِ بِالْإِسْلَامِ لَمْ يَتَعَدَّ إلَى الْمَوْلَى فَيَخْتَصُّ كَوْنُ الْمَوْلَى مِنْهُمْ بِمَا فِيهِ دَفْعُ نَقِيصَةٍ لِمَا أَنَّ نَقِيصَةَ الْمَوْلَى الْأَسْفَلِ تَنْتَسِبُ إلَى مَوْلَاهُ .
وَوَجْهٌ آخَرُ بِأَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَوْلَى مِنْهُمْ وَلَا مَلْزُومًا لِأَحْكَامِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُمْ حَقِيقَةً ، وَقَدْ وَرَدَ الْحَدِيثُ بِهِ فِي مَنْعِ الزَّكَاةِ وَهُوَ أُجْرَتُهُ رُوِيَ : { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَلَ أَرْقَمَ بْنَ أَرْقَمٍ عَلَى الصَّدَقَاتِ فَاسْتَتْبَعَ أَبَا رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ وَلَا لِآلِ مُحَمَّدٍ ، وَإِنَّ مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ } فَإِذَا عُلِمَ عَدَمُ عُمُومِهِ فَلْيُخَصَّ بِسَبَبِهِ ، وَهُوَ الزَّكَاةُ .
وَأَمَّا الْجَوَابُ بِأَنْ قِيلَ لَمْ يُوَافِقْ زُفَرَ أَحَدٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ فَقِيلَ بَلْ قَوْلُهُ مَرْوِيٌّ عَنْ الشَّعْبِيِّ .

قَالَ : ( وَمَا جَبَاهُ الْإِمَامُ مِنْ الْخَرَاجِ وَمِنْ أَمْوَالِ بَنِي تَغْلِبَ وَمَا أَهْدَاهُ أَهْلُ الْحَرْبِ إلَى الْإِمَامِ وَالْجِزْيَةُ يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ كَسَدِّ الثُّغُورِ وَبِنَاءِ الْقَنَاطِرِ وَالْجُسُورِ ، وَيُعْطَى قُضَاةُ الْمُسْلِمِينَ وَعُمَّالُهُمْ وَعُلَمَاؤُهُمْ مِنْهُ مَا يَكْفِيهِمْ ، وَيُدْفَعُ مِنْهُ أَرْزَاقُ الْمُقَاتِلَةِ وَذَرَارِيِّهِمْ ) ؛ لِأَنَّهُ مَالُ بَيْتِ الْمَالِ فَإِنَّهُ وَصَلَ إلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ وَهُوَ مُعَدٌّ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَهَؤُلَاءِ عَمَلَتُهُمْ وَنَفَقَةُ الذَّرَارِيِّ عَلَى الْآبَاءِ ، فَلَوْ لَمْ يُعْطَوْا كِفَايَتَهُمْ لَاحْتَاجُوا إلَى الِاكْتِسَابِ فَلَا يَتَفَرَّغُونَ لِلْقِتَالِ ( وَمَنْ مَاتَ فِي نِصْفِ السَّنَةِ فَلَا شَيْءَ لَهُ مِنْ الْعَطَاءِ ) لِأَنَّهُ نَوْعُ صِلَةٍ وَلَيْسَ بِدَيْنٍ ؛ وَلِهَذَا سُمِّيَ عَطَاءً فَلَا يُمْلَكُ قَبْلَ الْقَبْضِ وَيَسْقُطُ بِالْمَوْتِ ، وَأَهْلُ الْعَطَاءِ فِي زَمَانِنَا مِثْلُ الْقَاضِي وَالْمُدَرِّسِ وَالْمُفْتِي ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( قَوْلُهُ : وَمَا جَبَاهُ الْإِمَامُ ) مِنْ الْخَرَاجِ وَمِنْ أَمْوَالِ بَنِي تَغْلِبَ ، وَمَا أَهْدَاهُ أَهْلُ الْحَرْبِ إلَى الْإِمَامِ وَالْجِزْيَةُ تُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ كَسَدِّ الثُّغُورِ ، وَهِيَ مَوَاضِعُ يُخَافُ هُجُومُ الْعَدُوِّ فِيهَا مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ ( وَبِنَاءِ الْقَنَاطِرِ وَالْجُسُورِ ) وَهِيَ مَا تُوضَعُ وَتُرْفَعُ فَوْقَ الْمَاءِ لِيُمَرَّ عَلَيْهِ ، بِخِلَافِ الْقَنْطَرَةِ يُحْكَمُ بِنَاؤُهَا وَلَا تُرْفَعُ ( وَيُعْطَى قُضَاةُ الْمُسْلِمِينَ وَعُمَّالُهُمْ وَعُلَمَاؤُهُمْ مِنْهُ مَا يَكْفِيهِمْ ، وَتُدْفَعُ مِنْهُ أَرْزَاقُ الْمُقَاتِلَةِ وَذَرَارِيِّهِمْ ) فَإِنَّهُ تَجِبُ نَفَقَتُهُمْ عَلَيْهِمْ فَلَوْ لَمْ يَكْفُوهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ اشْتَغَلُوا بِالْكَسْبِ وَتَرَكُوا الِاسْتِعْدَادَ لِلدَّفْعِ وَهَذَا ( لِأَنَّهُ مَالُ بَيْتِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ ) وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مَالُ بَيْتِ الْمَالِ ، بِخِلَافِ الْحَاصِلِ بِسَبَبِ الْقِتَالِ فَإِنَّهُ يُقَسَّمُ بَيْنَ الْغَانِمِينَ وَلَا يُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ ، وَإِذَا كَانَ مَالُ بَيْتِ الْمَالِ يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَهَؤُلَاءِ عُمَّالُهُمْ ، وَزَادَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّجْنِيسِ فِي عَلَامَةِ السَّيِّدِ أَبِي شُجَاعٍ أَنَّهُ يُعْطَى أَيْضًا لِلْمُعَلِّمِينَ وَالْمُتَعَلِّمِينَ وَبِهَذَا تَدْخُلُ طَلَبَةُ الْعِلْمِ ، بِخِلَافِ الْمَذْكُورِ هُنَا ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ أَنْ يَتَأَهَّلَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ لَكِنْ لَيَعْمَلَ بَعْدَهُ لِلْمُسْلِمِينَ .
( قَوْلُهُ : وَمَنْ مَاتَ فِي نِصْفِ السَّنَةِ فَلَا شَيْءَ لَهُ مِنْ الْعَطَاءِ ؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ صِلَةٍ وَلَيْسَ بِدَيْنٍ ، وَلِكَوْنِهِ صِلَةً سُمِّيَ عَطَاءً فَلَا يُمْلَكُ قَبْلَ الْقَبْضِ ) فَلَا يُورَثُ ( وَيَسْقُطُ بِالْمَوْتِ ) وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ قَبْلَ تَأَكُّدِ حَقِّهِ بِمَجِيءِ وَقْتِ الْمُطَالَبَةِ ، وَالْحَقُّ الضَّعِيفُ لَا يُجْرَى فِيهِ الْإِرْثُ كَسَهْمِ الْغَازِي فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يُورَثُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَأَكَّدَ سَهْمُهُ بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَإِنَّهُ يُورَثُ عَلَى مَا

أَسْلَفْنَاهُ ، وَتَقْيِيدُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِنِصْفِ السَّنَةِ رُبَّمَا يُشْعِرُ بِأَنَّهُ إذَا مَاتَ آخِرَهَا يُعْطَى وَرَثَتُهُ ، وَقَالُوا : لَا يَجِبُ أَيْضًا وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ ؛ لِأَنَّهُ أَوْفَى عَنَاءَهُ : أَيْ تَعَبَهُ فِي عَمَلِهِ لِلْمُسْلِمِينَ فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُعْطَى .
وَعَلَّلَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ عَدَمَ وُجُوبِ إعْطَائِهِ بَعْدَمَا تَمَّتْ السَّنَةُ أَيْضًا بِمَا ذَكَرْنَا فِي نِصْفِهَا ، فَأَفَادَ أَنَّهُ لَمْ يَتَأَكَّدْ الْحَقُّ بَعْدَمَا تَمَّتْ السَّنَةُ أَيْضًا مُعَوِّلًا عَلَى أَنَّهُ صِلَةٌ فَلَا يُمْلَكُ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَهَذَا يَقْتَضِي قَصْرَ الْإِرْثِ عَلَى حَقِيقَةِ الْمِلْكِ وَالْوَجْهُ يَقْتَضِي وُجُوبَ دَفْعِهِ لِوَرَثَتِهِ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ تَأَكَّدَ بِإِتْمَامِ عَمَلِهِ فِي السَّنَةِ كَمَا قُلْنَا : إنَّهُ يُورَثُ سَهْمُ الْغَازِي بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ ؛ لِتَأَكُّدِ الْحَقِّ حِينَئِذٍ ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ مِلْكٌ : وَقَوْلُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : وَإِنَّمَا خَصَّ نِصْفَ السَّنَةِ ؛ لِأَنَّ عِنْدَ آخِرِهَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُصْرَفَ ذَلِكَ إلَى وَرَثَتِهِ ، فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَلَا إلَّا عَلَى قَدْرِ عَنَائِهِ يَقْتَضِي أَنْ يُعْطَى حِصَّتَهُ مِنْ الْعَامِ .
ثُمَّ قِيلَ : رِزْقُ الْقَاضِي وَمَنْ فِي مَعْنَاهُ يُعْطَى فِي آخِرِ السَّنَةِ ، وَلَوْ أُخِذَ فِي أَوَّلِهَا ثُمَّ مَاتَ أَوْ عُزِلَ قَبْلَ مُضِيِّهَا ، قِيلَ يَجِبُ رَدُّ مَا بَقِيَ ، وَقِيلَ عَلَى قِيَاسِ تَعْجِيلِ الْمَرْأَةِ النَّفَقَةَ لَا يَجِبُ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ : أَحَبُّ إلَيَّ رَدُّ الْبَاقِيَ كَمَا لَوْ عَجَّلَ لَهَا نَفَقَةً لِيَتَزَوَّجَهَا فَمَاتَ قَبْلَ التَّزَوُّجِ لِعَدَمِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ .
وَعِنْدَهُمَا هُوَ صِلَةٌ مِنْ وَجْهٍ فَيَنْقَطِعُ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ بِالْمَوْتِ كَالرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ ، ذَكَرَهُ فِي جَامِعَيْ قَاضِي خَانْ والتمرتاشي .
وَالْعَطَاءُ : هُوَ مَا يَثْبُتُ فِي الدِّيوَانِ بِاسْمِ كُلٍّ مِمَّنْ ذَكَرْنَا مِنْ الْمُقَاتِلَةِ وَغَيْرِهِمْ ، وَهُوَ كَالْجَامِكِيَّةِ فِي عُرْفِنَا إلَّا أَنَّهَا شَهْرِيَّةٌ ، وَالْعَطَاءُ

سَنَوِيٌّ .

بَابُ أَحْكَامِ الْمُرْتَدِّينَ .
قَالَ ( وَإِذَا ارْتَدَّ الْمُسْلِمُ عَنْ الْإِسْلَامِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ عُرِضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ شُبْهَةٌ كُشِفَتْ عَنْهُ ) لِأَنَّهُ عَسَاهُ اعْتَرَتْهُ شُبْهَةٌ فَتُزَاحُ ، وَفِيهِ دَفْعُ شَرِّهِ بِأَحْسَنِ الْأَمْرَيْنِ ، إلَّا أَنَّ الْعَرْضَ عَلَى مَا قَالُوا غَيْرُ وَاجِبٍ ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَةَ بَلَغَتْهُ .
قَالَ ( وَيُحْبَسُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، فَإِنْ أَسْلَمَ وَإِلَّا قُتِلَ .
وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : الْمُرْتَدُّ يُعْرَضُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ فَإِنْ أَبَى قُتِلَ ) وَتَأْوِيلُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ يَسْتَمْهِلُ فَيُمْهَلُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِأَنَّهَا مُدَّةٌ ضُرِبَتْ لِإِبْلَاءِ الْأَعْذَارِ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَجِّلَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ طَلَبَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَطْلُبْ .
وَعَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُؤَجِّلَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ قَبْلَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ ارْتِدَادَ الْمُسْلِمِ يَكُونُ عَنْ شُبْهَةٍ ظَاهِرًا فَلَا بُدَّ مِنْ مُدَّةٍ يُمْكِنُهُ التَّأَمُّلُ فَقَدَّرْنَاهَا بِالثَّلَاثَةِ .
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } مِنْ غَيْرِ قَيْدِ الْإِمْهَالِ ، وَكَذَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } وَلِأَنَّهُ كَافِرٌ حَرْبِيٌّ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ فَيُقْتَلُ لِلْحَالِ مِنْ غَيْرِ اسْتِمْهَالٍ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْوَاجِبِ لِأَمْرٍ مَوْهُومٍ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ لِإِطْلَاقِ الدَّلَائِلِ .
وَكَيْفِيَّةُ تَوْبَتِهِ أَنْ يَتَبَرَّأَ عَنْ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا سِوَى الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّهُ لَا دِينَ لَهُ ، وَلَوْ تَبَرَّأَ عَمَّا انْتَقَلَ إلَيْهِ كَفَاهُ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ .

( بَابُ أَحْكَامِ الْمُرْتَدِّينَ ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ الْكُفْرِ الطَّارِئِ .
وَالْمُرْتَدُّ : هُوَ الرَّاجِعُ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ .
( قَوْلُهُ : وَإِذَا ارْتَدَّ الْمُسْلِمُ عَنْ الْإِسْلَامِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ عُرِضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ شُبْهَةٌ ) أَبَدَاهَا ( كُشِفَتْ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ عَسَاهُ اعْتَرَتْهُ ) أَيْ عَرَضَتْ لَهُ ( شُبْهَةٌ فَتُزَاحُ عَنْهُ ، وَفِيهِ دَفْعُ شَرِّهِ بِأَحْسَنِ الْأَمْرَيْنِ ) وَهُمَا الْقَتْلُ وَالْإِسْلَامُ وَأَحْسَنُهُمَا الْإِسْلَامُ .
وَلَمَّا كَانَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْقُدُورِيِّ وُجُوبَ الْعَرْضِ قَالَ : ( إلَّا أَنَّ الْعَرْضَ عَلَى مَا قَالُوا ) أَيْ الْمَشَايِخُ ( غَيْرُ وَاجِبٍ ) بَلْ مُسْتَحَبٌّ ( لِأَنَّ الدَّعْوَةَ قَدْ بَلَغَتْهُ ) وَعَرْضُ الْإِسْلَامِ هُوَ الدَّعْوَةُ إلَيْهِ ، وَدَعْوَةُ مَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ بَلْ مُسْتَحَبَّةٌ ( قَوْلُهُ : وَيُحْبَسُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، فَإِنْ أَسْلَمَ ) فِيهَا ( وَإِلَّا قُتِلَ ) وَهَذَا اللَّفْظُ أَيْضًا مِنْ الْقُدُورِيِّ يُوجِبُ وُجُوبَ الْإِنْظَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ الْأَخْبَارِ فِي مِثْلِهِ ، فَذَكَرَ عِبَارَةَ الْجَامِعِ وَهُوَ قَوْلُهُ : ( وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : الْمُرْتَدُّ يُعْرَضُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ ، فَإِنْ أَبَى قُتِلَ ) أَيْ مَكَانَهُ فَإِنَّهُ يُفِيدُ أَنَّ إنْظَارَهُ الْأَيَّامَ الثَّلَاثَةَ لَيْسَ وَاجِبًا وَلَا مُسْتَحَبًّا .
وَإِنَّمَا تَعَيَّنَتْ الثَّلَاثَةُ ( لِأَنَّهَا مُدَّةٌ ضُرِبَتْ لِإِبْلَاءِ الْأَعْذَارِ ) بِدَلِيلِ حَدِيثِ حِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ { فِي الْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ } ضُرِبَتْ لِلتَّأَمُّلِ لِدَفْعِ الْغَبْنِ ، وَقِصَّةُ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الْعَبْدِ الصَّالِحِ { إنْ سَأَلْتُك عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي } وَهِيَ الثَّالِثَةُ إلَى قَوْلِهِ { قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا } وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا أَتَاهُ مِنْ قِبَلِ أَبِي مُوسَى فَقَالَ لَهُ : هَلْ مِنْ مُغَرِّبَةِ خَبَرٍ ؟ فَقَالَ نَعَمْ .
رَجُلٌ ارْتَدَّ عَنْ

الْإِسْلَامِ فَقَتَلْنَاهُ ، فَقَالَ لَهُ : هَلَّا حَبَسْتُمُوهُ فِي بَيْتٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَأَطْعَمْتُمُوهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ رَغِيفًا لَعَلَّهُ يَتُوبُ ، ثُمَّ قَالَ : اللَّهُمَّ إنِّي لَمْ أَحْضُرْ وَلَمْ آمُرْ وَلَمْ أَرْضَ .
أَخْرَجَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ ، لَكِنْ ظَاهِرُ تَبَرِّي عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ .
ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ : ( تَأْوِيلُ الْأَوَّلِ ) وَهُوَ قَوْلُ الْقُدُورِيِّ الدَّالُّ عَلَى وُجُوبِ إمْهَالِ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ ( أَنْ يَسْتَمْهِلَ فَيُمْهَلَ ) وَظَاهِرُ الْمَبْسُوطِ الْوُجُوبُ فَإِنَّهُ قَالَ إذَا طَلَبَ التَّأْجِيلَ أُجِّلَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ شُبْهَةٌ فَيَجِبُ عَلَيْنَا إزَالَةُ تِلْكَ الشُّبْهَةِ ، أَوْ أَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى التَّفَكُّرِ ؛ لِيَتَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ فَلَا بُدَّ مِنْ الْمُهْلَةِ ، وَإِذَا اسْتَمْهَلَ كَانَ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُمْهِلَهُ ، وَمُدَّةُ النَّظَرِ جُعِلَتْ فِي الشَّرْعِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ كَمَا فِي الْخِيَارِ ، ثُمَّ قَالَ فِي حَدِيثِ عُمَرَ الْمَذْكُورِ الدَّالِّ عَلَى الْوُجُوبِ : تَأْوِيلُهُ أَنَّهُ لَعَلَّهُ طَلَبَ التَّأْجِيلَ ( وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَجِّلَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ طَلَبَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَطْلُبْ .
وَعَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُؤَجِّلَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، وَلَا يَحِلُّ قَتْلُهُ قَبْلَهَا ؛ لِأَنَّ ارْتِدَادَ الْمُسْلِمِ يَكُونُ عَنْ شُبْهَةٍ ظَاهِرًا فَلَا بُدَّ مِنْ مُدَّةٍ يُمْكِنُهُ فِيهَا التَّأَمُّلُ فَقَدَّرْنَاهَا بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ) لِمَا ذَكَرْنَا .
وَالصَّحِيحُ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ إنْ تَابَ فِي الْحَالِ وَإِلَّا قُتِلَ ؛ لِحَدِيثِ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِإِنْظَارٍ وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ الْمُنْذِرِ ، وَهَذَا إنْ أُرِيدَ بِهِ عَدَمُ وُجُوبِ الْإِنْظَارِ فَكَمَذْهَبِنَا ، وَالِاسْتِدْلَالُ مُشْتَرَكٌ ، وَمِنْ الْأَدِلَّةِ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى { اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ

وَجَدْتُمُوهُمْ } وَهَذَا كَافِرٌ حَرْبِيٌّ ، وَإِنْ كَانَ أُرِيدَ بِهِ نَفْيُ اسْتِحْبَابِ الْإِمْهَالِ فَنَقُولُ هَذِهِ الْأَوَامِرُ مُطْلَقَةٌ وَهِيَ لَا تَقْتَضِي الْفَوْرَ فَيَجُوزُ التَّأْخِيرُ عَلَى مَا عُرِفَ ، ثُمَّ ثَبَتَ وُجُوبُهُ بِحَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ : ( وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْوَاجِبِ لِأَمْرٍ مَوْهُومٍ ) لَيْسَ بِجَيِّدٍ إذْ يَقْتَضِي كَرَاهَةَ الْإِمْهَالِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، وَهُوَ يُخَالِفُ الْمَذْهَبَ وَيُخَالِفُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ لَا يَقْتَضِي الْفَوْرَ إلَّا إذَا خِيفَ الْفَوَاتُ .
فَإِنْ قِيلَ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْأَوَامِرَ الْمَذْكُورَةَ مُطْلَقَةٌ بَلْ مُفِيدَةٌ لِلْعُمُومِ لِلْفَاءِ فِي قَوْلِهِ " فَاقْتُلُوهُ " ؛ لِأَنَّهَا تُفِيدُ الْوَصْلَ وَالتَّعْقِيبَ .
قُلْنَا : تِلْكَ الْفَاءُ الْعَاطِفَةُ وَهِيَ فَاءُ السَّبَبِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَتُفِيدُ الْوَصْلَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمَعْلُولَ لَا يَتَأَخَّرُ عَنْ الْعِلَّةِ .
قُلْنَا : الْمَعْلُولُ وَهُوَ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ وَهُوَ إيجَابُ قَتْلِهِ لَمْ يَتَأَخَّرْ عَنْ عِلَّتِهِ الْمُثِيرَةِ لَهُ وَهِيَ كُفْرُهُ ، وَأَمَّا إيجَابُ الِامْتِثَالِ عَلَى الْفَوْرِ فَشَيْءٌ آخَرُ .
( وَلَا فَرْقَ ) فِي وُجُوبِ قَتْلِ الْمُرْتَدِّ ( بَيْنَ كَوْنِ الْمُرْتَدِّ حُرًّا أَوْ عَبْدًا ) وَإِنْ كَانَ يَتَضَمَّنُ قَتْلُهُ إبْطَالَ حَقِّ الْمَوْلَى بِالْإِجْمَاعِ ( وَإِطْلَاقُ الدَّلَائِلِ ) الَّتِي ذَكَرْنَاهَا ( وَكَيْفِيَّةُ تَوْبَتِهِ أَنْ يَتَبَرَّأَ عَنْ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا سِوَى دِينِ الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّهُ لَا دِينَ لَهُ ) قِيلَ هُوَ أَنْ يَقُولَ تُبْتُ وَرَجَعْتُ إلَى دِينِ الْإِسْلَامِ وَأَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ دِينٍ غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ .
قِيلَ لَكِنْ هَذَا بَعْدَ أَنْ يَأْتِيَ بِالشَّهَادَتَيْنِ .
وَالْإِقْرَارُ بِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ مُسْتَحَبٌّ ، وَبِهِ قَالَتْ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ .
( وَلَوْ تَبَرَّأَ عَمَّا انْتَقَلَ إلَيْهِ كَفَاهُ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ ) وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ : سُئِلَ أَبُو يُوسُفَ عَنْ الرَّجُلِ كَيْفَ يُسْلِمُ ؟ فَقَالَ : يَقُولُ أَشْهَدُ أَنْ لَا

إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، وَيُقِرُّ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، وَيَتَبَرَّأُ مِنْ الدِّينِ الَّذِي انْتَحَلَهُ ، وَإِنْ شَهِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَقَالَ : وَلَمْ أَدْخُلْ فِي هَذَا الدِّينِ قَطُّ وَأَنَا بَرِيءٌ مِنْهُ : أَيْ مِنْ الدِّينِ الَّذِي ارْتَدَّ إلَيْهِ فَهِيَ تَوْبَةٌ انْتَهَى .
وَقَوْلُهُ : قَطُّ يُرِيدُ بِهِ مَعْنَى أَبَدًا ؛ لِأَنَّ قَطُّ ظَرْفٌ لِمَا مَضَى لَا لِمَا يُسْتَقْبَلُ .
وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ : إسْلَامُ النَّصْرَانِيِّ أَنْ يَقُولَ : أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، وَيَتَبَرَّأَ مِنْ النَّصْرَانِيَّةِ ، وَالْيَهُودِيُّ كَذَلِكَ يَتَبَرَّأُ مِنْ الْيَهُودِيَّةِ ، وَكَذَا فِي كُلِّ مِلَّةٍ .
وَأَمَّا مُجَرَّدُ الشَّهَادَتَيْنِ فَلَا يَكُونُ مُسْلِمًا ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِذَلِكَ غَيْرَ أَنَّهُمْ يَدَّعُونَ خُصُوصَ الرِّسَالَةِ إلَى الْعَرَبِ فَيُصَدِّقُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَلَا يَتِمُّ الْإِسْلَامُ بِهِ ، هَذَا فِيمَنْ بَيْنَ أَظْهُرِنَا مِنْهُمْ .
وَأَمَّا مَنْ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَوْ حَمَلَ عَلَيْهِ مُسْلِمٌ فَقَالَ مُحَمَّدُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ مُسْلِمٌ ، أَوْ قَالَ دَخَلْت فِي دِينِ الْإِسْلَامِ أَوْ فِي دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ دَلِيلُ إسْلَامِهِ ، فَكَيْفَ إذَا أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ضِيقًا .
وَقَوْلُهُ هَذَا إنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْإِسْلَامَ الَّذِي يَدْفَعُ عَنْهُ الْقَتْلَ الْحَاضِرَ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ وَيُحْكَمُ بِهِ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ فَلَوْ ارْتَدَّ بَعْدَ ذَلِكَ قَتَلْنَاهُ .
وَلَوْ ارْتَدَّ بَعْدَ إسْلَامِهِ ثَانِيًا قَبِلْنَا تَوْبَتَهُ أَيْضًا وَكَذَا ثَالِثًا وَرَابِعًا ، إلَّا أَنَّ الْكَرْخِيَّ قَالَ : فَإِنْ عَادَ بَعْدَ الثَّالِثَةِ يُقْتَلُ إنْ لَمْ يَتُبْ فِي الْحَالِ وَلَا يُؤَجَّلُ ، فَإِنْ تَابَ ضَرَبَهُ ضَرْبًا وَجِيعًا وَلَا يَبْلُغُ بِهِ الْحَدَّ ثُمَّ يَحْبِسُهُ وَلَا يُخْرِجُهُ حَتَّى يَرَى عَلَيْهِ خُشُوعَ التَّوْبَةِ وَحَالَ الْمُخْلِصِ فَحِينَئِذٍ

يُخَلِّي سَبِيلَهُ ، فَإِنْ عَادَ بَعْدَ ذَلِكَ فَعَلَ بِهِ كَذَلِكَ أَبَدًا مَا دَامَ يَرْجِعُ إلَى الْإِسْلَامِ قَالَ الْكَرْخِيُّ : هَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا جَمِيعًا أَنَّ الْمُرْتَدَّ يُسْتَتَابُ أَبَدًا ، وَمَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ مَرْوِيٌّ فِي النَّوَادِرِ قَالَ : إذَا تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ يُضْرَبُ ضَرْبًا مُبَرِّحًا ثُمَّ يُحْبَسُ إلَى أَنْ تَظْهَرَ تَوْبَتُهُ وَرُجُوعُهُ انْتَهَى .
وَذَلِكَ لِإِطْلَاقِ قَوْله تَعَالَى { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ : لَا تُقْبَلُ تَوْبَةُ مَنْ كَرَّرَ رِدَّتَهُ كَالزِّنْدِيقِ ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَاللَّيْثِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا } الْآيَةَ .
.
قُلْنَا : رَتَّبَ عَدَمَ الْمَغْفِرَةِ عَلَى شَرْطِ قَوْله تَعَالَى { ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا } وَفِي الدِّرَايَةِ قَالَ : فِي الزِّنْدِيقِ لَنَا رِوَايَتَانِ : فِي رِوَايَةٍ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ كَقَوْلِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ ، وَفِي رِوَايَةٍ تُقْبَلُ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ ، وَهَذَا فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا ، أَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ إذَا صَدَقَ قَبِلَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِلَا خِلَافٍ ، وَمَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ : لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ مِرَارًا يُقْتَلُ غِيلَةً ، فَسَّرَهُ بِأَنْ يُنْتَظَرَ فَإِذَا أَظْهَرَ كَلِمَةَ الْكُفْرِ قُتِلَ قَبْلَ أَنْ يُسْتَتَابَ ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ مِنْهُ الِاسْتِخْفَافُ ، وَقَتْلُ الْكَافِرِ الَّذِي بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ قَبْلَ الِاسْتِتَابَةِ جَائِزٌ .

قَالَ ( فَإِنْ قَتَلَهُ قَاتِلٌ قَبْلَ عَرْضِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ كُرِهَ ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْقَاتِلِ ) وَمَعْنَى الْكَرَاهِيَةِ هَاهُنَا تَرْكُ الْمُسْتَحَبِّ وَانْتِفَاءُ الضَّمَانِ ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ مُبِيحٌ لِلْقَتْلِ ، وَالْعَرْضُ بَعْدَ بُلُوغِ الدَّعْوَةِ غَيْرُ وَاجِبٍ .
( قَوْلُهُ : فَإِنْ قَتَلَهُ قَاتِلٌ قَبْلَ عَرْضِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ ) أَوْ قَطَعَ عُضْوًا مِنْهُ ( كُرِهَ ذَلِكَ ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْقَاتِلِ ) وَالْقَاطِعِ ( لِأَنَّ الْكُفْرَ مُبِيحٌ ) وَكُلُّ جِنَايَةٍ عَلَى الْمُرْتَدِّ هَدَرٌ ( وَمَعْنَى الْكَرَاهَةِ هُنَا تَرْكُ الْمُسْتَحَبِّ ) فَهِيَ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ ، وَعِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِوُجُوبِ الْعَرْضِ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ .
وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ : إذَا فَعَلَ ذَلِكَ : أَيْ الْقَتْلَ أَوْ الْقَطْعَ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ أُدِّبَ

( وَأَمَّا الْمُرْتَدَّةُ فَلَا تُقْتَلُ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ تُقْتَلُ لِمَا رَوَيْنَا ؛ وَلِأَنَّ رِدَّةَ الرَّجُلِ مُبِيحَةٌ لِلْقَتْلِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ جِنَايَةٌ مُتَغَلَّظَةٌ فَتُنَاطُ بِهَا عُقُوبَةٌ مُتَغَلَّظَةٌ وَرِدَّةُ الْمَرْأَةِ تُشَارِكُهَا فِيهَا فَتُشَارِكُهَا فِي مُوجِبِهَا .
وَلَنَا { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ } ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ تَأْخِيرُ الْأَجْزِيَةِ إلَى دَارِ الْآخِرَةِ إذْ تَعْجِيلُهَا يُخِلُّ بِمَعْنَى الِابْتِلَاءِ ، وَإِنَّمَا عُدِلَ عَنْهُ دَفْعًا لِشَرٍّ نَاجِزٍ وَهُوَ الْحِرَابُ ، وَلَا يَتَوَجَّهُ ذَلِكَ مِنْ النِّسَاءِ ؛ لِعَدَمِ صَلَاحِيَّةِ الْبِنْيَةِ ، بِخِلَافِ الرِّجَالِ فَصَارَتْ الْمُرْتَدَّةُ كَالْأَصْلِيَّةِ قَالَ ( وَلَكِنْ تُحْبَسُ حَتَّى تُسْلِمَ ) ؛ لِأَنَّهَا امْتَنَعَتْ عَنْ إيفَاءِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ الْإِقْرَارِ فَتُجْبَرُ عَلَى إيفَائِهِ بِالْحَبْسِ كَمَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ ( وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : وَتُجْبَرُ الْمَرْأَةُ عَلَى الْإِسْلَامِ حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً .
وَالْأَمَةُ يُجْبِرُهَا مَوْلَاهَا ) أَمَّا الْجَبْرُ فَلِمَا ذَكَرْنَا ، وَمِنْ الْمَوْلَى ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقَّيْنِ ، وَيُرْوَى تُضْرَبُ فِي كُلِّ أَيَّامٍ مُبَالَغَةً فِي الْحَمْلِ عَلَى الْإِسْلَامِ .

( قَوْلُهُ : وَأَمَّا الْمُرْتَدَّةُ فَلَا تُقْتَلُ وَلَكِنْ تُحْبَسُ أَبَدًا حَتَّى تُسْلِمَ أَوْ تَمُوتَ ) وَلَوْ قَتَلَهَا قَاتِلٌ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَحَدٍ ، حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ الضَّرْبَ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ وَلَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ( وَيُرْوَى ) عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا ( تُضْرَبُ فِي كُلِّ أَيَّامٍ ) وَقَدَّرَهَا بَعْضُهُمْ بِثَلَاثَةٍ ، وَعَنْ الْحَسَنِ تُضْرَبُ كُلَّ يَوْمٍ تِسْعَةً وَثَلَاثِينَ سَوْطًا إلَى أَنْ تَمُوتَ أَوْ تُسْلِمَ وَلَمْ يَخُصَّهُ بِحُرَّةٍ وَلَا أَمَةٍ ، وَهَذَا قَتْلٌ مَعْنًى ؛ لِأَنَّ مُوَالَاةَ الضَّرْبِ تُفْضِي إلَيْهِ .
وَلِذَا قُلْنَا فِيمَنْ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ حُدُودٌ : إنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ الثَّانِي مَا لَمْ يَبْرَأْ مِنْ الْحَدِّ السَّابِقِ كَيْ لَا يَصِيرَ قَتْلًا وَهُوَ غَيْرُ الْمُسْتَحَقِّ ، ثُمَّ الْأَمَةُ تُدْفَعُ إلَى مَوْلَاهَا فَيُجْعَلُ حَبْسُهَا بِبَيْتِ السَّيِّدِ سَوَاءٌ طَلَبَ هُوَ ذَلِكَ أَمْ لَا فِي الصَّحِيحِ ، وَيَتَوَلَّى هُوَ جَبْرَهَا ، قَالَ الْمُصَنِّفُ ( جَمْعًا بَيْنَ الْحَقَّيْنِ ) يَعْنِي حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقَّ السَّيِّدِ فِي الِاسْتِخْدَامِ فَإِنَّهُ لَا مُنَافَاةَ ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ الْمُرْتَدِّ لَا فَائِدَةَ فِي دَفْعِهِ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ يُقْتَلُ وَلَا يَبْقَى لِيُمْكِنَ اسْتِخْدَامُهُ ، وَلَا تُسْتَرَقُّ الْحُرَّةُ الْمُرْتَدَّةُ مَا دَامَتْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ .
فَإِنْ لَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ فَحِينَئِذٍ تُسْتَرَقُّ إذَا سُبِيَتْ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي النَّوَادِرِ : تُسْتَرَقُّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَيْضًا .
قِيلَ وَلَوْ أَفْتَى بِهَذِهِ لَا بَأْسَ بِهِ فِيمَنْ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ حَسْمًا لِقَصْدِهَا السَّيِّئِ بِالرِّدَّةِ مِنْ إثْبَاتِ الْفُرْقَةِ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَشْتَرِيَهَا الزَّوْجُ مِنْ الْإِمَامِ أَوْ يَهَبَهَا الْإِمَامُ لَهُ إذَا كَانَ مَصْرِفًا ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ بِالرِّدَّةِ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ لَا يَخْتَصُّ بِهَا الزَّوْجُ فَيَمْلِكُهَا وَيَنْفَسِخُ النِّكَاحُ بِالرِّدَّةِ ، وَحِينَئِذٍ يَتَوَلَّى هُوَ حَبْسَهَا وَضَرْبَهَا عَلَى الْإِسْلَامِ فَيَرْتَدُّ

ضَرَرُ قَصْدِهَا عَلَيْهَا .
قِيلَ : وَفِي الْبِلَادِ الَّتِي اسْتَوْلَى عَلَيْهَا التَّتَرُ وَأَجْرَوْا أَحْكَامَهُمْ فِيهَا وَأَبْقَوْا الْمُسْلِمِينَ كَمَا وَقَعَ فِي خُوَارِزْمَ وَغَيْرِهَا إذَا اسْتَوْلَى عَلَيْهَا الزَّوْجُ بَعْدَ الرِّدَّةِ مَلَكَهَا ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ دَارَ حَرْبٍ فِي الظَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى أَنْ يَشْتَرِيَهَا مِنْ الْإِمَامِ .
وَقَدْ أَفْتَى الدَّبُوسِيُّ وَالصَّفَّارُ وَبَعْضُ أَهْلِ سَمَرْقَنْدَ بِعَدَمِ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِالرِّدَّةِ رَدًّا عَلَيْهَا ، وَغَيْرُهُمْ مَشَوْا عَلَى الظَّاهِرِ وَلَكِنْ حَكَمُوا بِجَبْرِهَا عَلَى تَجْدِيدِ النِّكَاحِ مَعَ الزَّوْجِ ؛ وَتُضْرَبُ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ سَوْطًا ، وَاخْتَارَهُ قَاضِي خَانْ لِلْفَتْوَى ، وَعِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ تُقْتَلُ الْمُرْتَدَّةُ ، وَاقْتَصَرَ الْمُصَنِّفُ عَلَى خِلَافِ الشَّافِعِيِّ .
قَالَ ( لِمَا رَوَيْنَا ) مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } وَهُوَ حَدِيثٌ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ .
قَالَ ( وَلِأَنَّ رِدَّةَ الرَّجُلِ مُبِيحَةٌ لِلْقَتْلِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا جِنَايَةٌ مُتَغَلَّظَةٌ ) هِيَ جِنَايَةُ الْكُفْرِ ( وَجِنَايَةُ الْمَرْأَةِ تُشَارِكُهَا فِيهَا فَتُشَارِكُهَا فِي مُوجِبِهَا ) وَهُوَ الْقَتْلُ وَلَنَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ } كَمَا مَرَّ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ، وَهَذَا مُطْلَقٌ يَعُمُّ الْكَافِرَةَ أَصْلِيًّا وَعَارِضًا ، وَثَبَتَ تَعْلِيلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْحَدِيثِ مِنْ عَدَمِ حِرَابِهَا فَكَانَ مُخَصِّصًا لِعُمُومِ مَا رَوَاهُ بَعْدُ أَنَّ عُمُومَهُ مُخَصَّصٌ بِمَنْ بَدَّلَ دِينَهُ مِنْ الْكُفْرِ إلَى الْإِسْلَامِ ، وَمَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ مِنْ الْمَعْنَى بَعْدَ هَذَا زِيَادَةُ بَيَانٍ ، وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَجْزِيَةِ بِأَنْ تَتَأَخَّرَ إلَى دَارِ الْجَزَاءِ وَهِيَ الدَّارُ الْآخِرَةُ فَإِنَّهَا الْمَوْضُوعَةُ لِلْأَجْزِيَةِ عَلَى الْأَعْمَالِ الْمَوْضُوعَةِ هَذِهِ الدَّارُ لَهَا ، فَهَذِهِ دَارُ أَعْمَالٍ وَتِلْكَ دَارُ

جَزَائِهَا ، وَكُلُّ جَزَاءٍ شُرِعَ فِي هَذِهِ الدَّارِ مَا هُوَ إلَّا لِمَصَالِحَ تَعُودُ إلَيْنَا فِي هَذِهِ الدَّارِ كَالْقِصَاصِ وَحْدِ الْقَذْفِ وَالشُّرْبِ وَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ شُرِعَتْ لِحِفْظِ النُّفُوسِ وَالْأَعْرَاضِ وَالْعُقُولِ وَالْأَنْسَابِ وَالْأَمْوَالِ ، فَكَذَا يَجِبُ فِي الْقَتْلِ بِالرِّدَّةِ أَنْ يَكُونَ لِدَفْعِ شَرِّ حِرَابِهِ لَا جَزَاءٍ عَلَى فِعْلِ الْكُفْرِ ؛ لِأَنَّ جَزَاءَهُ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى ، فَيَخْتَصُّ بِمَنْ يَتَأَتَّى مِنْهُ الْحِرَابُ وَهُوَ الرَّجُلُ ، وَلِهَذَا { نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ } ، وَعَلَّلَهُ بِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ تُقَاتِلُ عَلَى مَا صَحَّ مِنْ الْحَدِيثِ فِيمَا تَقَدَّمَ ؛ وَلِهَذَا قُلْنَا : لَوْ كَانَتْ الْمُرْتَدَّةُ ذَاتَ رَأْيٍ وَتَبَعٍ تُقْتَلُ لَا لِرِدَّتِهَا بَلْ ؛ لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ تَسْعَى فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ ، وَإِنَّمَا حُبِسَتْ ( لِأَنَّهَا امْتَنَعَتْ عَنْ أَدَاءِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ أَقَرَّتْ بِهِ فَتُحْبَسُ كَمَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ ) .
وَقَدْ رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ عَنْ أَبِي رَزِينٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : لَا تُقْتَلْ النِّسَاءُ إذَا هُنَّ ارْتَدَدْنَ عَنْ الْإِسْلَامِ ، وَلَكِنْ يُحْبَسْنَ وَيُدْعَيْنَ إلَى الْإِسْلَامِ وَيُجْبَرْنَ عَلَيْهِ .
وَفِي بَلَاغَاتِ مُحَمَّدٍ قَالَ : بَلَغَنَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ : إذَا ارْتَدَّتْ الْمَرْأَةُ عَنْ الْإِسْلَامِ حُبِسَتْ .
وَأَمَّا مَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ جَابِرٍ { أَنَّ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا أُمُّ مَرْوَانَ ارْتَدَّتْ عَنْ الْإِسْلَامِ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهَا الْإِسْلَامُ فَإِنْ رَجَعَتْ وَإِلَّا قُتِلَتْ } فَمُضَعَّفٌ بِمَعْمَرِ بْنِ بَكَّارَ .
وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ عَنْ جَابِرٍ وَلَمْ يُسَمِّ الْمَرْأَةَ ، وَزَادَ : { فَعَرَضَ عَلَيْهَا الْإِسْلَامَ فَأَبَتْ أَنْ تُسْلِمَ فَقُتِلَتْ } وَهُوَ ضَعِيفٌ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُذَيْنَةَ .
قَالَ

ابْنُ حِبَّانَ : لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ بِحَالٍ .
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْمُؤْتَلِفِ وَالْمُخْتَلِفِ : إنَّهُ مَتْرُوكٌ ، وَرَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ وَقَالَ : عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُطَارِدٍ بْنِ أُذَيْنَةَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ .
وَرُوِيَ حَدِيثٌ آخَرُ عَنْ عَائِشَةَ { ارْتَدَّتْ امْرَأَةٌ يَوْمَ أُحُدٍ فَأَمَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ تُسْتَتَابَ فَإِنْ تَابَتْ وَإِلَّا قُتِلَتْ } وَفِي سَنَدِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ قَالُوا فِيهِ : إنَّهُ يَضَعُ الْحَدِيثَ مَعَ أَنَّهَا مُعَارَضَةٌ بِأَحَادِيثَ أُخَرَ مِثْلِهَا ، وَأَمْثَلُ مِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَبِي رَزِينٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُقْتَلْ الْمَرْأَةُ إذَا ارْتَدَّتْ } وَفِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْسٍ الْجَزَرِيُّ ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ : كَذَّابٌ يَضَعُ الْحَدِيثَ .
وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ امْرَأَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارْتَدَّتْ فَلَمْ يَقْتُلْهَا } وَضَعَّفَهُ بِحَفْصِ بْنِ سُلَيْمَانَ .
قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ : عَامَّةُ مَا يَرْوِيهِ غَيْرُ مَحْفُوظٍ .
وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ : حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ إِسْحَاقَ التُّسْتَرِيُّ ، حَدَّثَنَا هُرْمُزُ بْنُ مُعَلَّى ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ الْفَزَارِيِّ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ الْيَعْمُرِيِّ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ أَيُّمَا رَجُلٍ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ فَادْعُهُ ، فَإِنْ تَابَ فَاقْبَلْ مِنْهُ ، وَإِنْ لَمْ يَتُبْ فَاضْرِبْ عُنُقَهُ .
وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ ارْتَدَّتْ عَنْ الْإِسْلَامِ فَادْعُهَا ، فَإِنْ تَابَتْ فَاقْبَلْ مِنْهَا ، وَإِنْ أَبَتْ فَاسْتَتِبْهَا } وَتَقَدَّمَ رِوَايَةُ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي رَزِينٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، فَمَا أَسْنَدَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ ابْنِ مَعِينٍ

أَنَّهُ قَالَ : كَانَ الثَّوْرِيُّ يَعِيبُ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ حَدِيثًا كَانَ يَرْوِيهِ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي رَزِينٍ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ غَيْرَ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي رَزِينٍ مَدْفُوعٌ بِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ النَّخَعِيِّ عَنْ عَاصِمٍ بِهِ فَزَالَ انْفِرَادُ أَبِي حَنِيفَةَ الَّذِي ادَّعَاهُ الثَّوْرِيُّ .
وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عُمَرَ " أَنَّهُ أَمَرَ فِي أُمِّ وَلَدٍ تَنَصَّرَتْ أَنْ تُبَاعَ فِي أَرْضٍ ذَاتِ مُؤْنَةٍ عَلَيْهَا وَلَا تُبَاعُ فِي أَهْلِ دِينِهَا فَبِيعَتْ فِي دَوْمَةِ الْجَنْدَلِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ دِينِهَا " وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " الْمُرْتَدَّةُ تُسْتَتَابُ وَلَا تُقْتَلُ " وَضُعِّفَ بِخِلَاسٍ .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78