كتاب : فتح القدير
المؤلف : كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي

يَوْمَ الْغَصْبِ لَا يَتَمَشَّى فِي صُورَةِ الْمِثْلِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي هَاتِيك الصُّورَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْخُصُومَةِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ قِيمَتُهُ يَوْمَ الِانْقِطَاعِ فَلَمْ يَتِمَّ التَّقْرِيبُ لِكَوْنِ الْمَسْأَلَةِ اتِّفَاقِيَّةً

( وَإِنْ نَقَصَ فِي يَدِهِ ضَمِنَ النُّقْصَانَ ) ؛ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ جَمِيعُ أَجْزَائِهِ فِي ضَمَانِهِ بِالْغَصْبِ ، فَمَا تَعَذَّرَ رَدُّ عَيْنِهِ يَجِبُ رَدُّ قِيمَتِهِ ، بِخِلَافِ تَرَاجُعِ السِّعْرِ إذَا رَدَّ فِي مَكَان الْغَصْبِ ؛ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ فُتُورِ الرَّغَبَاتِ دُونَ فَوْتِ الْجُزْءِ ، وَبِخِلَافِ الْمَبِيعِ ؛ لِأَنَّهُ ضَمَانُ عَقْدٍ .
أَمَّا الْغَصْبُ فَقَبْضٌ وَالْأَوْصَافُ تُضْمَنُ بِالْفِعْلِ لَا بِالْعَقْدِ عَلَى مَا عُرِفَ .
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَمُرَادُهُ غَيْرُ الرِّبَوِيِّ ، أَمَّا فِي الرِّبَوِيَّات لَا يُمْكِنُهُ تَضْمِينُ النُّقْصَانِ مَعَ اسْتِرْدَادِ الْأَصْلِ ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا .
.

( قَوْلُهُ وَإِنْ نَقَصَ فِي يَدِهِ ضَمِنَ النُّقْصَانَ ؛ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ جَمِيعُ أَجْزَائِهِ فِي ضَمَانِهِ بِالْغَصْبِ ، فَمَا تَعَذَّرَ رَدُّ عَيْنِهِ يَجِبُ رَدُّ قِيمَتِهِ ) أَقُولُ : فِي هَذَا التَّعْلِيلِ قُصُورٌ ، إذْ قَدْ صَرَّحَ فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ بِأَنَّ مَسْأَلَتَنَا هَذِهِ تَعُمُّ مَا كَانَ النُّقْصَانُ فِي بَدَنِ الْمَغْصُوبِ مِثْلَ أَنْ كَانَ جَارِيَةً فَاعْوَرَّتْ أَوْ نَاهِدَةَ الثَّدْيَيْنِ فَانْكَسَرَ ثَدْيُهَا ، وَمَا كَانَ فِي غَيْرِ بَدَنِهِ مِثْلَ أَنْ كَانَ عَبْدًا مُحْتَرِفًا فَنَسِيَ الْحِرْفَةَ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ التَّعْلِيلَ الْمَذْكُورَ لَا يَتَمَشَّى فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ ؛ لِأَنَّ النُّقْصَانَ فِيهَا مِنْ حَيْثُ الْأَوْصَافُ دُونَ الْأَجْزَاءِ .
فَالْأَوْلَى فِي التَّعْلِيلِ أَنْ يُقَالَ : لِأَنَّهُ يَدْخُلُ جَمِيعُ أَجْزَائِهِ وَأَوْصَافِهِ فِي ضَمَانه بِالْغَصْبِ فَإِنَّهُ أَوْفَى بِالصُّورَتَيْنِ مَعًا وَأَوْفَقُ لِقَوْلِهِ الْآتِي : وَبِخِلَافِ الْمَبِيعِ ؛ لِأَنَّهُ ضَمَانُ عَقْدٍ ، أَمَّا الْغَصْبُ فَقَبْضٌ ، وَالْأَوْصَافُ تُضْمَنُ بِالْفِعْلِ لَا بِالْعَقْدِ عَلَى مَا عُرِفَ تَأَمَّلْ تَقِفْ ( قَوْلَهُ وَمُرَادُهُ غَيْرُ الرِّبَوِيِّ ، أَمَّا فِي الرِّبَوِيَّاتِ لَا يُمْكِنُهُ تَضْمِينُ النُّقْصَانِ مَعَ اسْتِرْدَادِ الْأَصْلِ ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا ) يَعْنِي أَنَّ مُرَادَ الْقُدُورِيِّ بِقَوْلِهِ وَإِنْ نَقَصَ فِي يَدِهِ ضَمِنَ النُّقْصَانَ غَيْرَ الرِّبَوِيِّ ، وَأَمَّا فِي الرِّبَوِيَّاتِ : أَيْ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ الَّتِي لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا بِجِنْسِهَا مُتَفَاضِلًا فَلَا يُمْكِنُ لِلْمَالِكِ تَضْمِينُ النُّقْصَانِ فِي الْوَصْفِ مَعَ اسْتِرْدَادِ الْأَصْلِ ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا ، هَذَا فَحْوَى كَلَامِهِ .
أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : عَدَمُ إمْكَانِ ذَلِكَ مُسَلَّمٌ فِيمَا إذَا كَانَ نُقْصَانُ الرِّبَوِيَّاتِ فِي الْأَوْصَافِ كَمَا إذَا غَصَبَ حِنْطَةً تَعَفَّنَتْ فِي يَدِهِ ، إذْ لَا اعْتِبَارَ لِلتَّفَاوُتِ فِي الْوَصْفِ عِنْدَنَا فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ فَيُؤَدِّي تَضْمِينُ النُّقْصَانِ فِي الْوَصْفِ مَعَ اسْتِرْدَادِ الْأَصْلِ إلَى الرِّبَا لَا

مَحَالَةَ ، وَأَمَّا فِيمَا إذَا كَانَ نُقْصَانُهَا فِي الْأَجْزَاءِ كَمَا إذَا غَصَبَ كَيْلِيًّا أَوْ وَزْنِيًّا فَتَلِفَ بَعْضُ أَجْزَائِهِ فَنَقَصَ قَدْرُهُ كَيْلًا أَوْ وَزْنًا فَيُمْكِنُ لِصَاحِبِ الْمَالِ تَضْمِينَ النُّقْصَانِ مَعَ اسْتِرْدَادِ الْبَاقِي مِنْ الْأَصْلِ بِلَا تَأَدٍّ إلَى الرِّبَا أَصْلًا كَمَا لَا يَخْفَى ، فَمَا مَعْنَى تَخْصِيصِ مُرَادِ الْقُدُورِيِّ بِغَيْرِ الرِّبَوِيِّ ، وَالْقَوْلُ بِعَدَمِ إمْكَانِ تَضْمِينِ النُّقْصَانِ مَعَ اسْتِرْدَادِ الْأَصْلِ فِي الرِّبَوِيَّاتِ مُطْلَقًا فَتَأَمَّلْ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ : قَالَ الْمُصَنِّفُ : وَمُرَادُهُ أَيْ مُرَادُ الْقُدُورِيِّ بِقَوْلِهِ وَإِنْ نَقَصَ فِي يَدِهِ ضَمِنَ النُّقْصَانَ غَيْرَ الرِّبَوِيِّ ، أَمَّا فِي الرِّبَوِيَّاتِ كَمَا إذَا غَصَبَ حِنْطَةً فَعَفِنَتْ عِنْدَهُ أَوْ إنَاءَ فِضَّةٍ فَانْهَشَمَ فِي يَدِهِ فَلَا يُمْكِنُهُ تَضْمِينَ النُّقْصَانِ مَعَ اسْتِرْدَادِ الْأَصْلِ ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا ، لَكِنَّ صَاحِبَهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ ذَلِكَ بِعَيْنِهِ وَلَا شَيْءَ لَهُ غَيْرَهُ ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ وَضَمَّنَهُ مِثْلَهُ ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
أَقُولُ : تَقْرِيرُ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ هَاهُنَا وَإِنْ كَانَ مُطَابِقًا لِمَا ذُكِرَ فِي الْكَافِي وَمَا ذُكِرَ فِي النِّهَايَةِ نَقْلًا عَنْ الْإِيضَاحِ إلَّا أَنَّهُ مَنْظُورٌ فِيهِ عِنْدِي .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ قَدْ صَرَّحَ فِي شُرُوحِ الْهِدَايَةِ فِيمَا مَرَّ حَتَّى الْعِنَايَةِ نَفْسِهَا وَفِي سَائِرِ الْمُعْتَبَرَاتِ أَيْضًا بِأَنَّ الْوَزْنِيَّ الَّذِي فِي تَبْعِيضِهِ مَضَرَّةٌ كَالْمَصُوغِ مِنْ الْقُمْقُمِ وَالطَّسْتِ لَيْسَ بِمِثْلِيٍّ بَلْ هُوَ مِنْ ذَوَاتِ الْقِيَمِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ إنَاءَ فِضَّةٍ مِنْ ذَلِكَ الْقَبِيلِ فَكَيْفَ يَتِمُّ تَمْثِيلُ الرِّبَوِيَّاتِ هَاهُنَا بِإِنَاءِ فِضَّةٍ انْهَشَمَ فِي يَدِهِ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ كَيْفَ يَصِحُّ قَوْلُهُ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ وَضَمَّنَهُ مِثْلَهُ ، وَتَضْمِينُ الْمِثْلِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي الْمِثْلِيَّاتِ دُونَ ذَوَاتِ الْقِيَمِ الَّتِي مِنْهَا إنَاءُ فِضَّةٍ عَلَى مُقْتَضَى مَا

صَرَّحُوا بِهِ كَمَا مَرَّ آنِفًا ، فَلَعَلَّ الْحَقَّ فِي حُكْمِ غَصْبِ إنَاءِ فِضَّةٍ إذَا نَقَصَ فِي يَدِهِ مَا نَقَلَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ عَنْ مُخْتَصَرِ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ مِنْ أَنَّ صَاحِبَهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِعَيْنِهِ وَلَا شَيْءَ لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ مِنْ الذَّهَبِ ، وَعِبَارَةُ الْكَرْخِيِّ هَكَذَا : وَإِنْ كَانَ الْإِنَاءُ فِضَّةً فَهُوَ بِالْخِيَارِ ، إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِعَيْنِهِ وَلَا شَيْءَ لَهُ غَيْرَ ذَلِكَ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ مِنْ الذَّهَبِ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْإِنَاءُ مِنْ ذَهَبٍ فَهُوَ بِالْخِيَارِ ، إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِعَيْنِهِ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ قِيمَتَهُ مِنْ الْفِضَّةِ انْتَهَتْ .
وَنَقَلَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ مِثْلَ ذَلِكَ عَنْ الْمَبْسُوطِ بِطَرِيقِ التَّفْصِيلِ ، غَيْرَ أَنَّ الْوَاقِعَ فِيهِ قَلْبُ فِضَّةٍ بَدَلَ إنَاءِ فِضَّةٍ حَيْثُ قَالَ .
وَفِي الْمَبْسُوطِ : وَإِنْ اسْتَهْلَكَ قَلْبَ فِضَّةٍ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ مِنْ الذَّهَبِ مَصُوغًا عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ مِنْ جِنْسِهِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ لِلْجُودَةِ وَالرَّدَاءَةِ وَالصَّنْعَةِ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ قِيمَةٌ ، وَعِنْدَنَا لَا قِيمَةَ لَهَا عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِجِنْسِهَا ، فَلَوْ أَوْجَبْنَا مِثْلَ قِيمَتِهَا مِنْ جِنْسِهَا أَدَّى إلَى الرِّبَا ، أَوْ لَوْ أَوْجَبْنَا مِثْلَ وَزْنِهَا كَانَ فِيهِ إبْطَالُ حَقِّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ عَنْ الْجُودَةِ وَالصَّنْعَةِ ، فَلِمُرَاعَاةِ حَقِّهِ وَالتَّحَرُّزِ عَنْ الرِّبَا قُلْنَا يَضْمَنُ الْقِيمَةَ مِنْ الذَّهَبِ مَصُوغًا ا هـ

قَالَ ( وَمَنْ غَصَبَ عَبْدًا فَاسْتَغَلَّهُ فَنَقَصَتْهُ الْغَلَّةُ فَعَلَيْهِ النُّقْصَانُ ) ؛ لِمَا بَيَّنَّا ( وَيَتَصَدَّقُ بِالْغَلَّةِ ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهَذَا عِنْدَهُمَا أَيْضًا .
وَعِنْدَهُ لَا يَتَصَدَّقُ بِالْغَلَّةِ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا أَجَّرَ الْمُسْتَعِيرُ الْمُسْتَعَارَ .
لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ حَصَلَ فِي ضَمَانِهِ وَمِلْكِهِ .
أَمَّا الضَّمَانُ فَظَاهِرٌ ، وَكَذَا الْمِلْكُ ؛ لِأَنَّ الْمَضْمُونَاتِ تُمْلَكُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ مُسْتَنِدًا عِنْدَنَا .
وَلَهُمَا أَنَّهُ حَصَلَ بِسَبَبٍ خَبِيثٍ وَهُوَ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ ، وَمَا هَذَا حَالُهُ فَسَبِيلُهُ التَّصَدُّقُ ، إذْ الْفَرْعُ يَحْصُلُ عَلَى وَصْفِ الْأَصْلِ وَالْمِلْكُ الْمُسْتَنِدُ نَاقِصٌ فَلَا يَنْعَدِمُ بِهِ الْخَبَثُ .
( قَوْلُهُ لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ حَصَلَ فِي ضَمَانِهِ وَمِلْكِهِ .
أَمَّا الضَّمَانُ فَظَاهِرٌ ، وَكَذَا الْمِلْكُ ؛ لِأَنَّ الْمَضْمُونَاتِ تُمْلَكُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ مُسْتَنِدًا عِنْدَنَا ) أَقُولُ : فِيهِ نَوْعُ تَأَمُّلٍ ؛ لِأَنَّ الَّذِي حَصَلَ فِي ضَمَانِهِ وَمِلْكِهِ إنَّمَا هُوَ الْبَعْضُ الْفَائِتُ مِنْ الْمَغْصُوبِ دُونَ مَجْمُوعِ الْمَغْصُوبِ ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا إذَا نَقَصَتْهُ الْقِلَّةُ فَوَجَبَ عَلَيْهِ ضَمَانُ النُّقْصَانِ مَعَ اسْتِرْدَادِ الْأَصْلِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْغَلَّةَ : أَيْ الْأُجْرَةَ بِمُقَابَلَةِ مَنَافِعِ مَجْمُوعِ الْعَبْدِ الْمَغْصُوبِ الْمُسْتَغَلِّ لَا بِمُقَابِلَةِ مَنْفَعَةِ وَصْفِهِ الْفَائِتِ فَقَطْ ، فَمَا وَجْهُ الْقَوْلِ بِأَنْ لَا يَتَصَدَّقُ بِشَيْءٍ مِنْ الْغَلَّةِ أَصْلًا فَتَفَكَّرْ

( فَلَوْ هَلَكَ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ حَتَّى ضَمِنَهُ لَهُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِالْغَلَّةِ فِي أَدَاءِ الضَّمَانِ ) ؛ لِأَنَّ الْخَبَثَ لِأَجَلِ الْمَالِكِ ، وَلِهَذَا لَوْ أَدَّى إلَيْهِ يُبَاحُ لَهُ التَّنَاوُلُ فَيَزُولُ الْخَبَثُ بِالْأَدَاءِ إلَيْهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَهُ فَهَلَكَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي ثُمَّ اُسْتُحِقَّ وَغَرِمَهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِالْغَلَّةِ فِي أَدَاءِ الثَّمَنِ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْخَبَثَ مَا كَانَ لِحَقِّ الْمُشْتَرِي إلَّا إذَا كَانَ لَا يَجِدُ غَيْرَهُ ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ ، وَلَهُ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى حَاجَةِ نَفْسِهِ ، فَلَوْ أَصَابَ مَالًا تَصَدَّقَ بِمِثْلِهِ إنْ كَانَ غَنِيًّا وَقْتَ الِاسْتِعْمَالِ ، وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِمَا ذَكَرْنَا .
.

( قَوْلَهُ فَلَوْ أَصَابَ مَالًا تَصَدَّقَ بِمِثْلِهِ إنْ كَانَ غَنِيًّا وَقْتَ الِاسْتِعْمَالِ ، وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِمَا ذَكَرْنَا ) فَسَّرَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ وَقْتَ الِاسْتِعْمَالِ بِوَقْتِ اسْتِهْلَاكِ الثَّمَنِ ، وَنَقَلَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَنْ الْمَبْسُوطِ بِعِبَارَةٍ صَرِيحَةٍ فِيهَا فَسَّرُوا بِهِ وَقْتَ الِاسْتِعْمَالِ حَيْثُ قَالَ : وَفِي الْمَبْسُوطِ : فَإِذَا أَصَابَ بَعْدَ ذَلِكَ مَالًا تَصَدَّقَ بِمِثْلِهِ إنْ كَانَ اسْتَهْلَكَ الثَّمَنَ يَوْمَ اسْتَهْلَكَهُ وَهُوَ غَنِيٌّ ، وَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا يَوْمَ اسْتَهْلَكَ الثَّمَنَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ا هـ .
أَقُولُ : فِيهِ إشْكَالٌ ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَنِيًّا وَقْتَ اسْتِهْلَاكِ الثَّمَنِ وَيَصِيرُ فَقِيرًا وَقْتَ الِاسْتِعَانَةِ بِالْغَلَّةِ فِي أَدَاءِ الثَّمَنِ إلَى الْمُشْتَرِي ، فَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ كَيْفَ يُؤَثِّرُ الْغِنَى السَّابِقُ الثَّابِتُ وَقْتَ اسْتِهْلَاكِ الثَّمَنِ فِي حَقِّ الْغَلَّةِ الْمَصْرُوفَةِ إلَى حَاجَتِهِ فِي حَالِ فَقْرِهِ اللَّاحِقِ حَتَّى يَلْزَمَهُ التَّصَدُّقُ بِمِثْلِهَا عِنْدَ إصَابَتِهِ مَالًا ، أَوَ لَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ صَرَفَهَا إلَى حَاجَةِ غَيْرِهِ مِنْ سَائِرِ الْفُقَرَاءِ لَمْ يَلْزَمْهُ التَّصَدُّقُ بِمِثْلِهَا مِنْ بَعْدُ أَصْلًا ؛ فَفِيمَا إذَا صَرَفَهَا إلَى حَاجَةِ نَفْسِهِ حَالَ فَقْرِهِ كَانَ أَوْلَى بِذَلِكَ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِيمَا قَبْلُ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ : وَجْهُ تَأْثِيرِ الْغِنَى السَّابِقِ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ هُوَ أَنَّهُ إنْ لَمْ يَسْتَهْلِكْ الثَّمَنَ حَالَ غِنَاهُ بِلَا ضَرُورَةٍ لَاحْتَمَلَ أَنْ يَبْقَى ذَلِكَ الثَّمَنُ إلَى وَقْتِ لُزُومِ أَدَاءِ الثَّمَنِ إلَى الْمُشْتَرِي فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الِاسْتِعَانَةِ بِالْغَلَّةِ ، لَكِنَّ ذَلِكَ الِاحْتِمَالَ أَمْرٌ مَوْهُومٌ يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مَدَارًا لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ فَتَدَبَّرْ .
وَفَسَّرَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ وَقْتَ الِاسْتِعْمَالِ الْمَذْكُورِ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ بِوَقْتِ الصَّرْفِ إلَى حَاجَةِ نَفْسِهِ .
أَقُولُ : هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ ، وَلَكِنْ فِيهِ

أَيْضًا شَيْءٌ ، وَهُوَ أَنَّ الصَّرْفَ إلَى حَاجَةِ نَفْسِهِ إنَّمَا يَجُوزُ رَأْسًا إذَا كَانَ لَا يَجِدُ غَيْرَ تِلْكَ الْغَلَّةِ كَمَا أَفْصَحَ عَنْهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِالْغَلَّةِ فِي أَدَاءِ الثَّمَنِ إلَيْهِ إلَّا إذَا كَانَ لَا يَجِدُ غَيْرَهُ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ إذَا كَانَ لَا يَجِدُ غَيْرَ ذَلِكَ كَانَ فَقِيرًا أَلْبَتَّةَ فَلَمْ يَكُنْ وَجْهٌ لِتَرْدِيدِ الْمُصَنِّفِ حِينَئِذٍ بِقَوْلِهِ فَلَوْ أَصَابَ مَالًا تَصَدَّقَ بِمِثْلِهِ إنْ كَانَ غَنِيًّا وَقْتَ الِاسْتِعْمَالِ وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، إذْ مَعْنَاهُ فَبَعْدَ أَنْ صَرَفَهَا إلَى حَاجَةِ نَفْسِهِ لَوْ أَصَابَ مَالًا إلَخْ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَنِيًّا وَلَا يَجِدُ غَيْرَ ذَلِكَ بِأَنْ كَانَ ابْنَ السَّبِيلِ فَتَأَمَّلْ

قَالَ ( وَمَنْ غَصَبَ أَلْفًا فَاشْتَرَى بِهَا جَارِيَةً فَبَاعَهَا بِأَلْفَيْنِ ثُمَّ اشْتَرَى بِالْأَلْفَيْنِ جَارِيَةً فَبَاعَهَا بِثَلَاثَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ فَإِنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِجَمِيعِ الرِّبْحِ ، وَهَذَا عِنْدَهُمَا ) وَأَصْلُهُ أَنَّ الْغَاصِبَ أَوْ الْمُودَعَ إذَا تَصَرَّفَ فِي الْمَغْصُوبِ أَوْ الْوَدِيعَةِ وَرَبِحَ لَا يَطِيبُ لَهُ الرِّبْحُ عِنْدَهُمَا ، خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ ، وَقَدْ مَرَّتْ الدَّلَائِلُ وَجَوَابُهُمَا فِي الْوَدِيعَةِ أَظْهَرُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَنِدُ الْمِلْكُ إلَى مَا قَبْلَ التَّصَرُّفِ لِانْعِدَامِ سَبَبِ الضَّمَانِ فَلَمْ يَكُنْ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِهِ ثُمَّ هَذَا ظَاهِرٌ فِيمَا يَتَعَيَّنُ بِالْإِشَارَةِ ، أَمَّا فِيمَا لَا يَتَعَيَّنُ كَالثَّمَنَيْنِ فَقَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ اشْتَرَى بِهَا إشَارَةً إلَى أَنَّ التَّصَدُّقَ إنَّمَا يَجِبُ إذَا اشْتَرَى بِهَا وَنَقَدَ مِنْهَا الثَّمَنَ .
أَمَّا إذَا أَشَارَ إلَيْهَا وَنَقَدَ مِنْ غَيْرِهَا أَوْ نَقَدَ مِنْهَا وَأَشَارَ إلَى غَيْرِهَا أَوْ أَطْلَقَ إطْلَاقًا وَنَقَدَ مِنْهَا بِطِيبٍ لَهُ ، وَهَكَذَا قَالَ الْكَرْخِيُّ ؛ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ إذَا كَانَتْ لَا تُفِيدُ التَّعْيِينَ لَا بُدَّ أَنْ يَتَأَكَّدَ بِالنَّقْدِ لِيَتَحَقَّقَ الْخَبَثُ .
وَقَالَ مَشَايِخُنَا : لَا يَطِيبُ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَضْمَنَ ، وَكَذَا بَعْدَ الضَّمَانِ بِكُلِّ حَالٍ ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ لِإِطْلَاقِ الْجَوَابِ فِي الْجَامِعَيْنِ وَالْمُضَارَبَةِ .
.

( قَوْلَهُ فَقَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ اشْتَرَى بِهَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ التَّصَدُّقَ إنَّمَا يَجِبُ إذَا اشْتَرَى بِهَا وَنَقَدَ مِنْهَا ) أَقُولُ : فِي عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا تَسَامُحٌ ؛ لِأَنَّ حَاصِلَهَا يَئُولُ إلَى أَنْ يُقَالَ فَقَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ اشْتَرَى بِهَا إشَارَةً إلَى نَفْسِهِ وَإِلَى غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ اشْتَرَى بِهَا فِي قَوْلِهِ إنَّمَا يَجِبُ إذَا اشْتَرَى بِهَا وَنَقَدَ مِنْهَا نَفْسَ مَا فِي الْكِتَابِ ، وَقَوْلُهُ وَنَقَدَ مِنْهَا أَمْرٌ مُغَايِرٌ لَهُ ، وَلَا مَعْنَى لِلْقَوْلِ بِأَنَّ فِي الشَّيْءِ إشَارَةً إلَى نَفْسِهِ وَإِلَى غَيْرِهِ كَمَا لَا يَخْفَى ، فَالظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ : فَقَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ اشْتَرَى بِهَا إشَارَةً إلَى أَنَّ التَّصَدُّقَ إنَّمَا يَجِبُ إذَا أَشَارَ إلَيْهَا وَنَقَدَ مِنْهَا إذْ حِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُ الْمَحْذُورُ الْمَذْكُورُ ، وَتَظْهَرُ الْمُقَابَلَةُ بِقَوْلِهِ بَعْدَهُ : وَأَمَّا إذَا أَشَارَ إلَيْهَا وَنَقَدَ مِنْ غَيْرِهَا أَوْ نَقَدَ مِنْهَا وَأَشَارَ إلَى غَيْرِهَا كَمَا لَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي مُسْكَةٍ .
ثُمَّ إنَّ مَأْخَذَ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ ثُمَّ هَذَا ظَاهِرٌ فِيمَا يَتَعَيَّنُ بِالْإِشَارَةِ إلَى قَوْلِهِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ لِإِطْلَاقِ الْجَوَابِ فِي الْجَامِعَيْنِ وَالْمُضَارَبَةُ مَا ذَكَرَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، وَلَفْظُهُ : إذَا أَشَارَ إلَيْهَا وَنَقَدَ مِنْهَا بَدَلَ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ إذَا اشْتَرَى بِهَا وَنَقَدَ مِنْهَا ، فَإِنَّهُ قَالَ هُنَاكَ : وَهَذَا وَاضِحٌ فِيمَا يَتَعَيَّنُ بِالْإِشَارَةِ إلَيْهِ .
فَأَمَّا فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَقَدْ ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ إذَا اشْتَرَى بِهَا يَتَصَدَّقُ بِالرِّبْحِ وَظَاهِرُ هَذِهِ الْعِبَارَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِهَا إذَا أَشَارَ إلَيْهَا وَنَقَدَ مِنْهَا .
وَكَانَ الْكَرْخِيُّ يَقُولُ فِي الْمَسْأَلَةِ إنَّ ذَلِكَ عَلَى أَوْجُهٍ : إمَّا أَنْ يُشِيرَ إلَيْهَا وَيَنْقُدَ مِنْهَا ، وَإِمَّا أَنْ يُشِيرَ إلَيْهَا وَيَنْقُدَ مِنْ غَيْرِهَا ، وَإِمَّا أَنْ يُطْلِقَ إطْلَاقًا وَيَنْقُدَ مِنْهَا أَوْ يُشِيرَ إلَى غَيْرِهَا وَيَنْقُدَ مِنْهَا .
وَفِي كُلِّ ذَلِكَ

يَطِيبُ إلَّا أَنْ يُشِيرَ إلَيْهَا وَيَنْقُدَ مِنْهَا فَإِنَّ الْإِشَارَةَ إلَيْهَا لَا تُفِيدُ التَّعْيِينَ فَيَسْتَوِي وُجُودُهَا وَعَدَمُهَا إلَّا أَنْ يَتَأَكَّدَ بِالنَّقْدِ مِنْهَا .
قَالَ مَشَايِخُنَا : بَلْ لَا يَطِيبُ بِكُلِّ حَالٍ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنْ الْمُشْتَرِي قَبْلَ أَنْ يَضْمَنَ ، وَبَعْدَ الضَّمَانِ لَا يَطِيبُ الرِّبْحُ بِكُلِّ حَالٍ ، وَإِطْلَاقُ الْجَوَابِ هَاهُنَا وَالْمُضَارَبَةُ وَالْجَامِعُ الْكَبِيرُ دَلِيلٌ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ ، إلَى هُنَا لَفْظُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ .
وَقَالَ فِي الذَّخِيرَةِ : قَالَ مَشَايِخُنَا : الْفَتْوَى الْيَوْمَ عَلَى قَوْلِ الْكَرْخِيِّ لِكَثْرَةِ الْحَرَامِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ عَنْ النَّاسِ ، وَعَلَى هَذَا تَقَرَّرَ : أَيْ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ .

قَالَ ( وَإِنْ اشْتَرَى بِالْأَلْفِ جَارِيَةً تُسَاوِي أَلْفَيْنِ فَوَهَبَهَا أَوْ طَعَامًا فَأَكَلَهُ لَمْ يَتَصَدَّقْ بِشَيْءٍ ) ، وَهَذَا قَوْلُهُمْ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ إنَّمَا يَتَبَيَّنُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ .

فَصْلٌ فِيمَا يَتَغَيَّرُ بِعَمَلِ الْغَاصِبِ قَالَ ( وَإِذَا تَغَيَّرَتْ الْعَيْنُ الْمَغْصُوبَةُ بِفِعْلِ الْغَاصِبِ حَتَّى زَالَ اسْمُهَا وَعِظَمُ مَنَافِعُهَا زَالَ مِلْكُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ عَنْهَا وَمَلَكَهَا الْغَاصِبُ وَضَمِنَهَا ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهَا حَتَّى يُؤَدِّيَ بَدَلَهَا ، كَمَنْ غَصَبَ شَاةً وَذَبَحَهَا وَشَوَاهَا أَوْ طَبَخَهَا أَوْ حِنْطَةً فَطَحَنَهَا أَوْ حَدِيدًا فَاِتَّخَذَهُ سَيْفًا أَوْ صُفْرًا فَعَمِلَهُ آنِيَةٌ ) وَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَنْقَطِعَ حَقُّ الْمَالِكِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، غَيْرَ أَنَّهُ إذَا اخْتَارَ أَخْذَ الدَّقِيقِ لَا يُضَمِّنُهُ النُّقْصَانَ عِنْدَهُ ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُضَمِّنُهُ ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَزُولُ مِلْكُهُ عَنْهُ لَكِنَّهُ يُبَاعُ فِي دَيْنِهِ وَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ الْغُرَمَاءِ بَعْدَ مَوْتِهِ .
لِلشَّافِعِيِّ أَنَّ الْعَيْنَ بَاقٍ فَيَبْقَى عَلَى مِلْكِهِ وَتَتْبَعُهُ الصَّنْعَةُ كَمَا إذَا هَبَّتْ الرِّيحُ فِي الْحِنْطَةِ وَأَلْقَتْهَا فِي طَاحُونَةٍ فَطُحِنَتْ .
وَلَا مُعْتَبَرَ بِفِعْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَحْظُورٌ فَلَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ عَلَى مَا عُرِفَ ، فَصَارَ كَمَا إذَا انْعَدَمَ الْفِعْلُ أَصْلًا وَصَارَ كَمَا إذَا ذَبَحَ الشَّاةَ الْمَغْصُوبَةَ وَسَلَخَهَا وَأَرَّبَهَا .
وَلَنَا أَنَّهُ أَحْدَثَ صَنْعَةً مُتَقَوِّمَةً صَيَّرَ حَقَّ الْمَالِكِ هَالِكًا مِنْ وَجْهٍ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَبَدَّلَ الِاسْمُ وَفَاتَ مُعْظَمُ الْمَقَاصِدِ وَحَقُّهُ فِي الصَّنْعَةِ قَائِمٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَيَتَرَجَّحُ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ فَائِتٌ مِنْ وَجْهٍ ، وَلَا نَجْعَلُهُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَحْظُورٌ ، بَلْ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إحْدَاثُ الصَّنْعَةِ ، بِخِلَافِ الشَّاةِ ؛ لِأَنَّ اسْمَهَا بَاقٍ بَعْدَ الذَّبْحِ وَالسَّلْخِ ، وَهَذَا الْوَجْهُ يَشْمَلُ الْفُصُولَ الْمَذْكُورَةَ وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ غَيْرُهَا فَاحْفَظْهُ .
وَقَوْلُهُ وَلَا يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهَا حَتَّى يُؤَدِّيَ بَدَلَهَا اسْتِحْسَانٌ ، وَالْقِيَاسُ

أَنْ يَكُونَ لَهُ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَزُفَرَ ، وَهَكَذَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، رَوَاهُ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ .
وَوَجْهُهُ ثُبُوتُ الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ لِلتَّصَرُّفِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَهَبَهُ أَوْ بَاعَهُ جَازَ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { فِي الشَّاةِ الْمَذْبُوحَةِ الْمَصْلِيَّةِ بِغَيْرِ رِضَا صَاحِبِهَا أَطْعِمُوهَا الْأَسَارَى } أَفَادَ الْأَمْرُ بِالتَّصَدُّقِ زَوَالَ مِلْكِ الْمَالِكِ وَحُرْمَةَ الِانْتِفَاعِ لِلْغَاصِبِ قَبْلَ الْإِرْضَاءِ ، وَلِأَنَّ فِي إبَاحَةِ الِانْتِفَاعِ فَتْحُ بَابِ الْغَصْبِ فَيَحْرُمُ قَبْلَ الْإِرْضَاءِ حَسْمًا لِمَادَّةِ الْفَسَادِ وَنَفَاذِ بَيْعِهِ وَهِبَتِهِ مَعَ الْحُرْمَةِ لِقِيَامِ الْمِلْكِ كَمَا فِي الْمِلْكِ الْفَاسِدِ .
وَإِذَا أَدَّى الْبَدَلَ يُبَاحُ لَهُ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمَالِكِ صَارَ مُوَفًّى بِالْبَدَلِ فَحَصَلَتْ مُبَادَلَةٌ بِالتَّرَاضِي ، وَكَذَلِكَ إذَا أَبْرَأَهُ لِسُقُوطِ حَقِّهِ بِهِ ، وَكَذَا إذَا أَدَّى بِالْقَضَاءِ أَوْ ضَمِنَهُ الْحَاكِمُ أَوْ ضَمِنَهُ الْمَالِكُ لِوُجُودِ الرِّضَا مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْضِي إلَّا بِطَلَبِهِ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا غَصَبَ حِنْطَةً فَزَرَعَهَا أَوْ نَوَاةً فَغَرَسَهَا غَيْرَ أَنَّهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ فِيهِمَا قَبْلَ أَدَاءِ الضَّمَانِ لِوُجُودِ الِاسْتِهْلَاكِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ لِقِيَامِ الْعَيْنِ فِيهِ مِنْ وَجْهٍ .
وَفِي الْحِنْطَةِ يَزْرَعُهَا لَا يَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا ، وَأَصْلُهُ مَا تَقَدَّمَ .
.

( فَصْلٌ فِيمَا يَتَغَيَّرُ بِعَمَلِ الْغَاصِبِ ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ : لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ حَقِيقَةِ الْغَصْبِ وَحُكْمِهِ مِنْ وُجُوبِ رَدِّ الْعَيْنِ أَوْ الْمِثْلِ أَوْ الْقِيمَةِ أَعْقَبَهُ بِذِكْرِ مَا يَزُولُ بِهِ مِلْكُ الْمَالِكِ ؛ لِأَنَّهُ عَارِضٌ وَحَقُّهُ الْفَصْلُ عَمَّا قَبْلَهُ ا هـ .
أَقُولُ : فِيهِ كَلَامٌ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ مَا يَزُولُ بِهِ مِلْكُ الْمَالِكِ وَإِنْ كَانَ عَارِضًا لِأَصِلْ الْغَصْبِ إلَّا أَنَّ رَدَّ الْمِثْلِ أَوْ الْقِيمَةِ مُتَفَرِّعٌ عَلَى تَحَقُّقِ هَذَا الْعَارِضِ ، فَإِنَّ مُوجِبَ أَصْلِ الْغَصْبِ إنَّمَا هُوَ رَدُّ الْعَيْنِ ، وَلَا يُصَارُ إلَى رَدِّ الْمِثْلِ أَوْ الْقِيمَةِ إلَّا بَعْدَ هَلَاكِ الْعَيْنِ كَمَا تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ ، فَلَمْ يَكُنْ رَدُّ الْمِثْلِ أَوْ الْقِيمَةِ إلَّا بَعْدَ هَلَاكِ الْعَيْنِ حُكْمُ الْغَصْبِ إلَّا بَعْدَ حُدُوثِ ذَلِكَ الْعَارِضِ ، فَكَانَ بِالتَّأْخِيرِ أَحْرَى مِنْهُ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ كَوْنَ مَا يَزُولُ بِهِ مِلْكُ الْمَالِكِ عَارِضًا إنَّمَا يَقْتَضِي اسْتِحْقَاقَهُ لِلتَّأْخِيرِ لَا لِفَصْلِهِ عَمَّا قَبْلَهُ بِأَنْ يُورِدَ فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ فَلَمْ يَتَّمَ قَوْلُهُ وَحَقُّهُ الْفَصْلُ عَمَّا قَبْلَهُ ، وَكَأَنَّ صَاحِبَ الْغَايَةِ تَدَارَكَهُ حَيْثُ قَالَ : لِأَنَّهُ عَارِضٌ فَنَاسَبَ أَنْ يُذْكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ ، لَكِنْ لَا يَتِمُّ بِهِ تَمَامَ التَّقْرِيبِ إذْ الْمَقْصُودُ بَيَانُ وَجْهِ ذِكْرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ الْعَارِضِ مِنْ الْمَسَائِلِ فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ لَا بَيَانُ وَجْهِ مُجَرَّدِ ذِكْرِهِ مُتَأَخِّرًا عَمَّا قَبْلَهُ ( قَوْلُهُ وَإِذَا تَغَيَّرَتْ الْعَيْنُ الْمَغْصُوبَةُ بِفِعْلِ الْغَاصِبِ حَتَّى زَالَ اسْمُهَا وَعِظَمُ مَنَافِعِهَا زَالَ مِلْكُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ عَنْهَا وَمَلَكَهَا الْغَاصِبُ وَضَمِنَهَا ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهَا حَتَّى يُؤَدِّيَ بَدَلَهَا ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ : قَوْلُهُ بِفِعْلِ الْغَاصِبِ احْتِرَازٌ عَمَّا إذَا تَغَيَّرَ بِغَيْرِ فِعْلِهِ ، مِثْلَ أَنْ صَارَ الْعِنَبُ زَبِيبًا بِنَفْسِهِ أَوْ خَلًّا أَوْ الرُّطَبُ تَمْرًا ، فَإِنَّ الْمَالِكَ فِيهِ بِالْخِيَارِ ، إنْ شَاءَ

أَخَذَهُ ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ وَضَمَّنَهُ .
وَقَوْلُهُ حَتَّى زَالَ اسْمُهَا احْتِرَازٌ عَمَّا إذَا غَصَبَ شَاةً فَذَبَحَهَا فَإِنَّهُ لَمْ يَزُلْ بِالذَّبْحِ مِلْكُ مَالِكِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَزُلْ اسْمُهَا .
يُقَالُ شَاةٌ مَذْبُوحَةٌ وَشَاةٌ حَيَّةٌ .
وَقَوْلُهُ وَعِظَمُ مَنَافِعِهَا يَتَنَاوَلُ الْحِنْطَةَ إذَا غَصَبَهَا وَطَحَنَهَا ، فَإِنَّ الْمَقَاصِدَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِعَيْنِ الْحِنْطَةِ كَجَعْلِهَا هَرِيسَةً وَكِشْكًا وَنَشَاءً وَبَدْرًا وَغَيْرَهَا تَزُولُ بِالطَّحْنِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَأْكِيدٌ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ زَالَ اسْمُهَا يَتَنَاوَلُهُ ، فَإِنَّهَا إذَا طُحِنَتْ صَارَتْ تُسَمَّى دَقِيقًا لَا حِنْطَةً .
إلَى هُنَا لَفْظُ الْعِنَايَةِ .
أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ ، فَإِنَّ كَوْنَ قَيْدِ وَعِظَمِ مَنَافِعِهَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَذْكُورٌ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ مَعَ وُقُوعِهِ فِي عِبَارَاتٍ عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ مِنْ الْمُطَوَّلَاتِ وَالْمُخْتَصَرَاتِ عَلَى الِاطِّرَادِ بَعِيدٌ جِدًّا لَا تَقْبَلُهُ الطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ ، فَالْحَمْلُ عَلَيْهِ مِنْ ضِيقِ الْعَطَنِ .
وَالصَّوَابُ أَنَّهُ احْتِرَازٌ عَمَّا إذَا غَصَبَ شَاةً فَذَبَحَهَا وَأَرَّبَهَا ، فَإِنَّهُ لَا يَزُولُ بِالذَّبْحِ وَالتَّأْرِيبِ مِلْكُ مَالِكِهَا كَمَا سَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ ، مَعَ أَنَّهُ زَالَ اسْمُهَا بَعْدَ التَّأْرِيبِ وَلَكِنْ لَمْ يَزُلْ عِظَمُ مَنَافِعِهَا وَهُوَ اللَّحْمِيَّةُ كَمَا سَيَأْتِي التَّصْرِيحُ بِهِ فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ حَتَّى الْعِنَايَةِ نَفْسِهَا وَلِهَذَا لَمْ يَزُلْ مِلْكُ مَالِكِهَا عَنْهَا تَدَبَّرْ ( قَوْلَهُ غَيْرَ أَنَّهُ إذَا اخْتَارَ أَخْذَ الدَّقِيقِ لَا يُضَمِّنُهُ النُّقْصَانَ عِنْدَهُ ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ نُقْصَانُ الْقِيمَةِ .
أَقُولُ : ظُهُورُهُ مَمْنُوعٌ ، كَيْفَ وَقَدْ قَالَ عَامَّةُ الشُّرَّاحِ فِي بَيَانِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فِيمَا سَيَأْتِي : وَلَنَا أَنَّهُ أَحْدَثَ صَنْعَةً مُتَقَوِّمَةً ؛ لِأَنَّ قِيمَةَ الْحِنْطَةِ تَزْدَادُ بِجَعْلِهَا دَقِيقًا ، وَكَذَا قِيمَةُ الشَّاةِ تَزْدَادُ بِطَبْخِهَا ، فَإِذَا ازْدَادَ قِيمَةُ الْحِنْطَةِ بِجَعْلِهَا دَقِيقًا فَأَنَّى يُتَصَوَّرُ

هُنَاكَ نُقْصَانُ الْقِيمَةِ ، بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ نُقْصَانُ الْوَصْفِ كَمَا إذَا عَفِنَتْ ، وَقَدْ أَفْصَحَ عَنْهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ حَيْثُ قَالَ : لِأَنَّ الدَّقِيقَ عَيْنُ الْحِنْطَةِ مِنْ وَجْهٍ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ كَمَا قَبْلَ الطَّحْنِ .
ثُمَّ قَالَ : وَالدَّلِيلُ عَلَى بَقَاءِ جِنْسِ الْحِنْطَةِ فِيهِ جَرَيَانُ الرِّبَا بَيْنَهُمَا ، وَلَا يَجْرِي الرِّبَا إلَّا بِاعْتِبَارِ الْمُجَانَسَةِ .
وَقَالَ : فَلَمَّا ثَبَتَتْ الْمُجَانَسَةِ بَيْنَ الْحِنْطَةِ وَدَقِيقِهَا كَانَ أَخْذُ الدَّقِيقِ بِمَنْزِلَةِ أَخْذِ عَيْنِ الْحِنْطَةِ ، وَلَوْ أَخَذَ عَيْنَ الْحِنْطَةِ كَانَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ مَعَهَا شَيْئًا آخَرَ لِنُقْصَانِ صِفَتِهَا بِسَبَبِ الْعُفُونَةِ لِأَدَائِهِ إلَى الرِّبَا عَلَى مَا مَرَّ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا ا هـ .
اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُرَادُ ذَلِكَ الْقَائِلِ أَيْضًا بِنُقْصَانِ الْقِيمَةِ نُقْصَانُهَا بِسَبَبِ فَوَاتِ الْوَصْفِ لَا نُقْصَانَهَا بِمُجَرَّدِ الطَّحْنِ مِنْ غَيْرِ نُقْصَانِ الْوَصْفِ ، لَكِنَّ الظَّاهِرَ فِي مِثْلِهِ إضَافَةُ النُّقْصَانِ إلَى الْوَصْفِ لَا إلَى الْقِيمَةِ كَمَا لَا يَخْفَى .
( قَوْلُهُ لِلشَّافِعِيِّ أَنَّ الْعَيْنَ بَاقٍ إلَخْ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : قَوْلُهُ وَلِلشَّافِعِيِّ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِسَدِيدٍ ، فَإِنَّ الْوَاوَ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ هَاهُنَا فِي نُسَخِ الْهِدَايَةِ الصَّحِيحَةِ أَصْلًا ، وَلَوْ سُلِّمَ وُجُودُهَا فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا لِلِابْتِدَاءِ ، إذْ لَوْ كَانَتْ لِلْعَطْفِ عَلَى قَوْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا لَزِمَ الْفَصْلُ بَيْنَ الْمَعْطُوفَيْنِ بِكَلَامٍ أَجْنَبِيٍّ وَهُوَ قَوْلُهُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَضْمَنُهُ ، وَقَوْلُهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَزُولُ مِلْكُهُ عَنْهُ إلَخْ .
وَلَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ دُرْبَةٌ بِأَسَالِيبِ الْكَلَامِ رَكَاكَةُ ذَلِكَ جِدًّا وَكَوْنُهُ بِمَعْزِلٍ عَنْ شَأْنِ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ .
وَرَدَّ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ : فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيلًا لِعَدَمِ جَوَازِ ضَمَانِهِ النُّقْصَانَ عِنْدَ

أَبِي يُوسُفَ هَذَا خَلَفٌ ا هـ .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ لِلشَّافِعِيِّ أَنَّ الْعَيْنَ بَاقٍ أَنَّ لَهُ فِي إثْبَاتِ مَذْهَبِهِ كَذَا ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى أَيْضًا عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ وَلِلشَّافِعِيِّ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا ، إلَّا أَنَّ لَهُ فِي إثْبَاتِ مَذْهَبِ أَبِي يُوسُفَ كَذَا حَتَّى يَلْزَمَ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيلًا لِعَدَمِ جَوَازِ ضَمَانِ النُّقْصَانِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، كَيْفَ وَلَوْ لَزِمَ مَا تَوَهَّمَهُ مِنْ الْمَحْذُورِ هَاهُنَا لَلَزِمَ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَوْضِعِ الْخِلَافِ يُقَالُ فِيهِ عِنْدَ إقَامَةِ أَدِلَّةِ الْمَذَاهِبِ لَهُ كَذَا وَلَهُ كَذَا وَلَنَا كَذَا ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الْمَذْكُورَ ثَانِيًا أَوْ ثَالِثًا مِنْ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ بِالْوَاوِ مَعْطُوفٌ عَلَى الْأَوَّلِ ، مَعَ أَنَّ مُدَّعَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا يُخَالِفُ الْآخَرَ ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ قَوْلِهِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ .
وَلَنَا أَنَّهُ أَحْدَثَ صَنْعَةً مُتَقَوِّمَةً فَإِنَّهُ مَعْطُوفٌ قَطْعًا عَلَى قَوْلِهِ لِلشَّافِعِيِّ أَنَّ الْعَيْنَ بَاقٍ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِتَعْلِيلٍ لِمَا عَلَّلَهُ الشَّافِعِيُّ بِلَا رَيْبٍ .
فَالْوَجْهُ فِي صِحَّةِ الْعَطْفِ فِي أَمْثَالِ ذَلِكَ كُلِّهَا أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ لَهُ فِي إثْبَاتِ مَذْهَبِهِ كَذَا وَلَنَا فِي إثْبَاتِ مَذْهَبِنَا كَذَا ، وَلَا مَحْذُورَ فِيهِ أَصْلًا فَاحْفَظْ هَذَا فَإِنَّهُ يَنْفَعُكَ فِي مَوَاضِعَ شَتَّى ( قَوْلُهُ بِخِلَافِ الشَّاةِ ؛ لِأَنَّ اسْمَهَا بَاقٍ بَعْدَ الذَّبْحِ وَالسَّلْخِ ) هَذَا جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَصَارَ كَمَا إذَا ذَبَحَ الشَّاةَ الْمَغْصُوبَةَ وَسَلَخَهَا وَأَرَّبَهَا ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْعِلَّةَ حُدُوثُ الْفِعْلِ مِنْ الْغَاصِبِ وَعَلَى وَجْهٍ يَتَبَدَّلُ الِاسْمُ ، وَاسْمُ الشَّاةِ بَعْدَ الذَّبْحِ بَاقٍ ؛ لِأَنَّهُ يُقَال شَاةٌ مَذْبُوحَةٌ مَسْلُوخَةٌ كَمَا يُقَالُ شَاةٌ حَيَّةٌ .
فَإِنْ قِيلَ : الْكَلَامُ فِيهَا بَعْدَ التَّأْرِيبِ ، وَلَا يُقَالُ شَاةٌ مَأْرُوبَةٌ بَلْ يُقَالُ لَحْمٌ مَأْرُوبٌ فَقَدْ حَصَلَ الْفِعْلُ وَتَبَدَّلَ الِاسْمُ وَلَمْ يَنْقَطِعْ حَقُّ الْمَالِكِ .

أُجِيبُ بِأَنَّهُ كَذَلِكَ ، إلَّا أَنَّهُ لَمَّا ذَبَحَهَا فَقَدْ أَبْقَى اسْمَ الشَّاةِ فِيهَا مَعَ تَرْجِيحِ جَانِبِ اللَّحْمِيَّةِ فِيهَا إذْ مُعْظَمُ الْمَقْصُودِ مِنْهَا اللَّحْمُ ثُمَّ السَّلْخُ وَالتَّأْرِيبُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُفَوِّتُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالذَّبْحِ بَلْ يُحَقِّقُهُ فَلَا يَكُونُ دَلِيلُ تَبَدُّلِ الْعَيْنِ ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا .
أَقُولُ : الْجَوَابُ الْمَذْكُورُ لَا يَدْفَعُ السُّؤَالَ الْوَارِدَ عَلَى الْمُصَنِّفِ فِيمَا ذَكَرَهُ جَوَابًا عَمَّا اسْتَشْهَدَ بِهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ مَسْأَلَةِ ذَبْحِ الشَّاةِ الْمَغْصُوبَةِ وَسَلْخِهَا وَتَأْرِيبِهَا ، فَإِنَّهُ عَلَّلَ الْمُخَالَفَةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ بِبَقَاءِ اسْمِ الشَّاةِ فِيهَا بَعْدَ الذَّبْحِ وَالسَّلْخِ فَوَرَدَ عَلَيْهِ قَطْعًا أَنْ يُقَالَ : الْكَلَامُ فِي الشَّاةِ الَّتِي ذُبِحَتْ ثُمَّ أُرِّبَتْ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ اسْمَ الشَّاةِ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ التَّأْرِيبِ فَلَمْ تَتَحَقَّقُ الْمُخَالَفَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ حَيْثُ تَبَدُّلُ الِاسْمِ وَعَدَمِ تَبَدُّلِهِ ، فَلَمْ يَصْلُحُ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ جَوَابًا عَمَّا اسْتَشْهَدَ بِهِ الشَّافِعِيُّ .
نَعَمْ يُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَمَّا اسْتَشْهَدَ بِهِ الشَّافِعِيُّ بِمَا قُرِّرَ فِي الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ ، لَكِنَّهُ لَا يَدْفَعُ قُصُورَ مَا أَجَابَ بِهِ الْمُصَنِّفُ عَنْهُ ، وَمَدَارُ السُّؤَالِ الْمَزْبُورِ عَلَى ذَلِكَ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ ( قَوْلُهُ وَكَذَا إذَا أَدَّى بِالْقَضَاءِ أَوْ ضَمِنَهُ الْحَاكِمُ أَوْ ضَمِنَهُ الْمَالِكُ لِوُجُودِ الرِّضَا مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْضِي إلَّا بِطَلَبِهِ ) فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ أَوْ ضَمِنَهُ الْحَاكِمُ وَمِنْ قَوْلِهِ أَوْ ضَمِنَهُ الْمَالِكُ نَوْعُ اشْتِبَاهٍ ، وَعَنْ هَذَا اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الشُّرَّاحِ فِي تَفْسِيرِهِمَا ، فَقَالَ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ أَوْ ضَمِنَهُ الْحَاكِمُ : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ مَنْ كَانَ الْقَاضِي وَلِيًّا لَهُ ، أَوْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ قَضَى بِالضَّمَانِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْضِي إلَّا بِطَلَبِهِ

ا هـ .
وَاخْتَارَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ الِاحْتِمَالَ الْأَوَّلَ حَيْثُ قَالَ فِي بَيَانِ قَوْلِهِ أَوْ ضَمِنَهُ الْحَاكِمُ بِأَنْ كَانَ الْمَغْصُوبُ مَالَ الْيَتِيمِ أَوْ الْغَائِبِ ، وَكَذَا اخْتَارَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ حَيْثُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ : يَعْنِي إذَا كَانَ مَالَ الْيَتِيمِ .
أَقُولُ : يَرُدُّ عَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ فِي التَّعْلِيلِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْضِي إلَّا بِطَلَبِهِ غَيْرُ مُسَاعِدٍ لِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ الْقَاضِي وَلِيًّا لَهُ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ الطَّلَبُ فِي قَضَاءِ الْقَاضِي لَهُ بِحَقِّهِ ، بَلْ قَدْ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الطَّلَبُ كَمَا إذَا كَانَ الْيَتِيمُ صَغِيرًا جِدًّا وَكَمَا إذَا كَانَ الْغَائِبُ بَعِيدًا غَيْرَ عَالِمٍ بِالْقَضِيَّةِ أَصْلًا .
وَيَرُدُّ عَلَى الِاحْتِمَالِ الثَّانِي أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ قَبْلَ هَذَا وَكَذَا إذَا أَدَّى بِالْقَضَاءِ يَأْبَى ذَلِكَ ، إذْ حِينَئِذٍ يَلْزَمُ التَّكْرَارُ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنْ طَلَبَ الْقَاضِي فِي حُكْمِ طَلَبِ مَنْ كَانَ الْقَاضِي وَلِيًّا لَهُ لِكَوْنِهِ نَائِبًا مَنَابَهُ ، فَكَانَ الْقَضَاءُ هُنَاكَ أَيْضًا بِطَلَبِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ حُكْمًا .
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْقَضَاءِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ ضَمِنَهُ الْحَاكِمُ قَضَى بِالضَّمَانِ مُجَرَّدُ الْقَضَاءِ بِالضَّمَانِ بِدُونِ وُقُوعِ أَدَاءِ الْبَدَلِ مِنْ الْغَاصِبِ ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ قُبَيْلَ ذَلِكَ ، وَكَذَا إذَا أَدَّى بِالْقَضَاءِ أَدَاءَ الْبَدَلِ بِالْقَضَاءِ فَافْتَرَقَا وَلَا تَكْرَارَ .
ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ : وَمَعْنَى قَوْلِهِ أَوْ ضَمِنَهُ الْمَالِكُ أَخَذَ الضَّمَانَ أَوْ تَرَاضَيَا عَلَى مِقْدَارٍ مِنْ الضَّمَانِ ا هـ .
أَقُولُ : يَرُدُّ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ فِيمَا قَبْلُ وَإِذَا أَدَّى الْبَدَلَ يُبَاحُ : يَعْنِي عَنْ هَذَا الْمَعْنَى ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ الْغَاصِبِ الْبَدَلَ يَسْتَلْزِمُ أَخْذَ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ الضَّمَانَ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ أَوْ ضَمِنَهُ الْمَالِكُ مُسْتَدْرِكًا .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ

بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِتَضْمِينِ الْمَالِكِ أَخْذُهُ الضَّمَانَ بِغَيْرِ رِضَا الْغَاصِبِ وَبِغَيْرِ الْقَضَاءِ دُونَ مُطْلَقِ أَخْذِ الضَّمَانِ ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِيمَا قَبْلُ وَإِذَا أَدَّى الْبَدَلَ أَدَاؤُهُ بِرِضَاهُ دُونَ مُطْلَقِ الْأَدَاءِ وَإِلَّا يَلْزَمُ اسْتِدْرَاكُ قَوْلِهِ وَكَذَا إذَا أَدَّى بِالْقَضَاءِ ، وَأَدَاؤُهُ بِرِضَاهُ إنَّمَا يَسْتَلْزِمُ أَخْذَ الضَّمَانِ بِرِضَاهُ دُونَ أَخْذِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ فَلَا اسْتِدْرَاكَ .
بَقِيَ الْكَلَامُ فِي قَوْلِ صَاحِبِ الْكِفَايَةِ أَوْ تَرَاضَيَا عَلَى مِقْدَارٍ مِنْ الضَّمَانِ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي الِاسْتِدْرَاكَ ، إذْ التَّرَاضِي قَدْ كَانَ مُعْتَبَرًا فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَإِذَا أَدَّى الْبَدَلَ يُبَاحُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَعْلِيلُهُ هُنَاكَ بِقَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمَالِكِ صَارَ مُوَفًّى بِالْبَدَلِ فَحَصَلَتْ مُبَادَلَةٌ بِالتَّرَاضِي .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ أَيْضًا بِأَنَّ الْمُرَادَ هَاهُنَا التَّرَاضِي عَلَى مِقْدَارٍ مِنْ الضَّمَانِ : أَيْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُ ، وَالْمُرَادُ فِيمَا تَقَدَّمَ التَّرَاضِي عَلَى أَدَاءِ كُلِّ الضَّمَانِ فَحَصَلَ التَّغَايُرُ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ وَانْدَفَعَ الِاسْتِدْرَاكُ ، لَكِنْ لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ حَمْلَ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ أَوْ ضَمِنَهُ الْمَالِكُ عَلَى التَّرَاضِي عَلَى مِقْدَارٍ مِنْ الضَّمَانِ مِمَّا لَا يُسَاعِدُهُ اللَّفْظُ جِدًّا ، وَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ ذَلِكَ الْمَعْنَى مِنْ حَيْثُ الْعَرَبِيَّةُ أَصْلًا .
وَقَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ أَوْ ضَمِنَهُ الْمَالِكُ : أَيْ طَلَبَ الْمَالِكُ مِنْ الْغَاصِبِ الضَّمَانَ بِحِلِّ الِانْتِفَاعِ قَبْلَ أَدَاءِ الضَّمَانِ ا هـ ، وَاقْتَفَى أَثَرَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ .
أَقُولُ : فِيهِ أَيْضًا بُعْدٌ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى كَمَا لَا يَخْفَى فَتَأَمَّلْ

قَالَ ( وَإِنْ غَصَبَ فِضَّةً أَوْ ذَهَبًا فَضَرَبَهَا دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ آنِيَةً لَمْ يَزُلْ مِلْكُ مَالِكِهَا عَنْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَيَأْخُذُهَا وَلَا شَيْءَ لِلْغَاصِبِ ، وَقَالَا : يَمْلِكُهَا الْغَاصِبُ وَعَلَيْهِ مِثْلُهَا ) ؛ لِأَنَّهُ أَحْدَثَ صَنْعَةً مُعْتَبَرَةً صَيَّرَ حَقَّ الْمَالِكِ هَالِكًا مِنْ وَجْهٍ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ كَسَرَهُ وَفَاتَ بَعْضُ الْمَقَاصِدِ وَالتِّبْرُ لَا يَصْلُحُ رَأْسَ الْمَالِ فِي الْمُضَارَبَاتِ وَالشَّرِكَاتِ وَالْمَضْرُوبُ يَصْلُحُ لِذَلِكَ .
وَلَهُ أَنَّ الْعَيْنَ بَاقٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الِاسْمَ بَاقٍ وَمَعْنَاهُ الْأَصْلِيُّ الثَّمَنِيَّةُ وَكَوْنُهُ مَوْزُونًا وَأَنَّهُ بَاقٍ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ الرِّبَا بِاعْتِبَارِهِ وَصَلَاحِيَّتِهِ لِرَأْسِ الْمَالِ مِنْ أَحْكَامِ الصَّنْعَةِ دُونَ الْعَيْنِ ، وَكَذَا الصَّنْعَةُ فِيهَا غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهَا عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِجِنْسِهَا .
.

قَالَ ( وَمِنْ غَصَبَ سَاجَةً فَبَنَى عَلَيْهَا زَالَ مِلْكُ مَالِكِهَا عَنْهَا وَلَزِمَ الْغَاصِبَ قِيمَتُهَا ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لِلْمَالِكِ أَخْذُهَا ، وَالْوَجْهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ قَدَّمْنَاهُ .
وَوَجْهٌ آخَرُ لَنَا فِيهِ أَنَّ فِيمَا ذَهَبَ إلَيْهِ إضْرَارًا بِالْغَاصِبِ بِنَقْضِ بِنَائِهِ الْحَاصِلِ مِنْ غَيْرِ خَلَفٍ ، وَضَرَرُ الْمَالِكِ فِيمَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ مَجْبُورٌ بِالْقِيمَةِ ، فَصَارَ كَمَا إذَا خَاطَ بِالْخَيْطِ الْمَغْصُوبِ بَطْنَ جَارِيَتِهِ أَوْ عَبْدَهُ أَوْ أَدْخَلَ اللَّوْحَ الْمَغْصُوبَ فِي سَفِينَتِهِ .
ثُمَّ قَالَ الْكَرْخِيُّ وَالْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرَ : إنَّمَا لَا يُنْقَضُ إذَا بَنَى فِي حَوَالِي السَّاجَةِ ، مَا إذَا بَنَى عَلَى نَفْسِ السَّاجَةِ يُنْقَضُ ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِيهِ .
وَجَوَابُ الْكِتَابِ يَرُدُّ ذَلِكَ وَهُوَ الْأَصَحُّ .
.

( قَوْلُهُ وَمَنْ غَصَبَ سَاجَةً فَبَنَى عَلَيْهَا زَالَ مِلْكُ مَالِكِهَا عَنْهَا وَلَزِمَ الْغَاصِبَ قِيمَتُهَا ) ذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ أَنَّ ذَلِكَ فِيمَا إذَا كَانَتْ قِيمَةُ الْبِنَاءِ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ السَّاجَةِ .
وَأَمَّا إذَا كَانَتْ قِيمَةُ السَّاجَةِ أَكْثَرَ مِنْ الْبِنَاءِ فَلَمْ يَزُلْ مِلْكُ مَالِكِهَا ا هـ .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ مَا فِي الذَّخِيرَةِ : وَسَيَظْهَرُ لَك وَجْهُ ذَلِكَ إنْ تَأَمَّلْت فِي قَوْلِهِ وَجْهٌ آخَرُ لَنَا فِيهِ ا هـ .
أَقُولُ : لَا يَذْهَبُ عَلَى مَنْ لَهُ ذَوْقٌ صَحِيحٌ أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ وَجْهُ ذَلِكَ بِالتَّأَمُّلِ فِي قَوْلِهِ وَجْهٌ آخَرُ لَنَا فِيهِ ؛ لِأَنَّ حَاصِلَهُ أَنَّ ضَرَرَ الْغَاصِبِ فِيمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ ضَرَرٌ مِنْ غَيْرِ خَلَفٍ ، وَضَرَرُ الْمَالِكِ فِيمَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ ضَرَرٌ مَجْبُورٌ بِالْقِيمَةِ ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الضَّرَرَ الْمَجْبُورَ دُونَ الضَّرَرِ الْمَحْضِ فَلَا يَرْتَكِبُ الضَّرَرَ الْأَعْلَى عِنْدَ إمْكَانِ الْعَمَلِ بِالضَّرَرِ الْأَدْنَى .
وَلَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي هَذَا الْمَعْنَى بَيْنَ أَنْ يَكُونَ قِيمَةُ الْبِنَاءِ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ السَّاجَةِ وَبَيْنَ الْعَكْسِ ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الضَّرَرَ الْمَحْضَ أَشَدُّ وَأَثْقَلُ مِنْ الضَّرَرِ الْمَجْبُورِ عَلَى كُلِّ حَالٍ ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُتَحَمَّلَ الثَّانِي لِدَفْعِ الْأَوَّلِ عَلَى كُلِّ حَالٍ عَمَلًا بِاخْتِيَارِ أَهْوَنِ الشَّرَّيْنِ كَمَا هُوَ الْقَاعِدَةُ الْمُقَرَّرَةُ ، وَإِنَّمَا كَانَ يَظْهَرُ وَجْهُ ذَلِكَ لَوْ كَانَ كِلَا الضَّرَرَيْنِ مَجْبُورَيْنِ بِالْقِيمَةِ ، فَإِنَّمَا هُوَ أَقَلُّ قِيمَةً حِينَئِذٍ يَكُونُ أَخَفَّ وَأَيْسَرَ تَحَمُّلًا وَلَيْسَ فَلَيْسَ .
ثُمَّ أَقُولُ : لَعَلَّ وَجْهَ ذَلِكَ يَظْهَرُ بِالتَّأَمُّلِ فِي قَوْلِهِ وَالْوَجْهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ قَدَّمْنَاهُ ، فَإِنَّ مَا قَدَّمَهُ مِنْ جَانِبِنَا هُوَ قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّهُ أَحْدَثَ صَنْعَةً مُتَقَوِّمَةً صَيَّرَ حَقَّ الْمَالِكِ هَالِكًا ، وَلَا شَكَّ أَنَّ قِيمَةَ الْبِنَاءِ إذَا كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ السَّاجَةِ كَانَ الْبِنَاءُ غَالِبًا عَلَى

السَّاجَةِ فَيَصِحُّ إذْ ذَاكَ أَنْ يُقَالَ : إنَّ الْغَاصِبَ أَحْدَثَ صَنْعَةً مُتَقَوِّمَةً صَيَّرَ إحْدَاثُهَا حَقَّ الْمَالِكِ هَالِكًا مِنْ وَجْهٍ لِظُهُورِ صِحَّةِ تَصْيِيرِ الْغَالِبِ الْمَغْلُوبِ هَالِكًا مِنْ وَجْهٍ ، وَأَمَّا إذَا كَانَتْ قِيمَةُ السَّاجَةِ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الْبِنَاءِ فَإِنَّمَا تَكُونُ السَّاجَةُ غَالِبَةً عَلَى الْبِنَاءِ فَيَشْكُلُ هُنَاكَ أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ أَحْدَثَ صَنْعَةً مُتَقَوِّمَةً صَيَّرَ حَقَّ الْمَالِكِ هَالِكًا مِنْ وَجْهٍ ، إذْ تَصْيِيرُ الْمَغْلُوبِ الْغَالِبَ هَالِكًا غَيْرُ ظَاهِرٍ تَأَمَّلْ تَفْهَمْ ( قَوْلَهُ وَوَجْهٌ آخَرُ لَنَا فِيهِ أَنَّ فِيمَا ذَهَبَ إلَيْهِ إضْرَارًا بِالْغَاصِبِ بِنَقْضِ بِنَائِهِ الْحَاصِلِ مِنْ غَيْرِ خَلَفٍ وَضَرَرُ الْمَالِكِ فِيمَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ مَجْبُورٌ بِالْقِيمَةِ ) بَيَانُهُ أَنَّ فِيمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إضْرَارًا بِالْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ إبْطَالُ حَقِّهِ ، وَفِيمَا قُلْنَا إضْرَارٌ بِالْمَالِكِ ، وَلَكِنَّ ضَرَرَ الْمَالِكِ مَجْبُورٌ بِالْعِوَضِ وَهُوَ الْقِيمَةُ ، فَكَانَ فَوَاتُ حَقِّهِ كَلَا فَوَاتٍ ، وَضَرَرُ الْغَاصِبِ لَيْسَ بِمَجْبُورٍ بِشَيْءٍ فَيَفُوتُ حَقُّهُ لَا إلَى خَلَفٍ ، فَكَانَ قَطْعُ حَقِّ الْمَالِكِ أَوْلَى مِنْ قَطْعِ حَقِّ الْغَاصِبِ ، كَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ .
أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : يُشْكِلُ هَذَا الْوَجْهُ مِنْ التَّعْلِيلِ بِمَا إذَا غَصَبَ سَاحَةً بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ فَبَنَى عَلَيْهَا ، فَإِنَّهُ لَا يَزُولُ مِلْكُ الْمَالِكِ عَنْهَا كَمَا سَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ مَعَ جَرَيَانِ الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ بِعَيْنِهِ هُنَاكَ أَيْضًا كَمَا لَا يَخْفَى .
نَعَمْ يُوجَدُ هُنَاكَ وَجْهٌ آخَرُ فَارَقَ بَيْنَهُمَا ، لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي انْتِقَاضِ هَذَا الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ بِتِلْكَ الْمَسْأَلَةِ الْآتِيَةِ فَتَأَمَّلْ ( قَوْلَهُ كَمَا إذَا خَاطَ بِالْخَيْطِ الْمَغْصُوبِ بَطْنَ جَارِيَتِهِ أَوْ عَبْدِهِ أَوْ أَدْخَلَ اللَّوْحَ الْمَغْصُوبَ فِي سَفِينَتِهِ ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ : فَإِنْ قِيلَ : عَدَمُ جَوَازِ نَزْعِ الْخَيْطِ وَاللَّوْحِ عِنْدَهُ مِنْ حَيْثُ إنَّ فِيهِ

تَلَفُ النَّاسِ لَا ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ مَلَكَ ذَلِكَ بِمَا صَنَعَ فَلَا يَصْلُحُ لِلِاسْتِشْهَادِ لِاخْتِلَافِ الْمُنَاطِ .
قُلْنَا : ثَبَتَ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حَقُّ الْمَالِكِ وَغَيْرِهِ ، وَجَعَلَ حَقَّ غَيْرِهِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ بِإِبْطَالِهِ زِيَادَةُ ضَرَرٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى ضَرَرِ الْمَالِكِ فَكَانَتَا مُتَسَاوِيَتَيْنِ ا هـ .
وَرَدَّ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ بِأَنْ قَالَ : كَيْفَ يُقَاسُ ذَلِكَ ، وَلَوْ كَانَ الْبِنَاءُ وَالسَّاجَةُ كِلَاهُمَا لِشَخْصٍ وَاحِدٍ يُبَاحُ لَهُ نَقْضُ بِنَائِهِ وَإِخْرَاجُ السَّاجَةِ مِنْ تَحْتِهِ ، بِخِلَافِ اللَّوْحِ وَالسَّفِينَةِ وَالْخَيْطِ وَالْجَارِيَةِ فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ لِمَالِكٍ وَاحِدٍ لَا يُبَاحُ لَهُ نَزْعُ الْخَيْطِ وَاللَّوْحِ فَلْيُتَأَمَّلْ ا هـ .
أَقُولُ : لَيْسَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ إذْ لَا يَجِبُ فِي صِحَّةِ الْقِيَاسِ اشْتَرَاك الْمَقِيسِ وَالْمَقِيسِ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ ، بَلْ يَكْفِي اشْتِرَاكُهُمَا فِي الْعِلَّةِ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ الْحُكْمِ وَهَاهُنَا كَذَلِكَ فَإِنَّ الْعِلَّةَ فِي الْمَقِيسِ عَلَيْهِ لُحُوقُ زِيَادَةِ ضَرَرٍ بِغَيْرِ الْمَالِكِ عَلَى تَقْدِيرِ إبْطَالِ حَقِّهِ وَهُوَ مُتَحَقِّقٌ فِي الْمَقِيسِ أَيْضًا بِلَا رَيْبٍ ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْبِنَاءُ وَالسَّاجَةُ كِلَاهُمَا لِشَخْصٍ وَاحِدٍ صَارَ بِمَعْزِلٍ عَمَّا نَحْنُ فِيهِ ، إذْ لَا يَتَحَقَّقُ الْغَصْبُ هُنَاكَ ، وَلَا يَكُونُ صَاحِبُ الْبِنَاءِ مُتَصَرِّفًا فِي مِلْكِ الْغَيْرِ حِينَئِذٍ فَلَا يَكُونُ دَاخِلًا فِيمَا وَقَعَ مَقِيسًا هَاهُنَا ، وَلَا تَتَحَقَّقُ فِيهِ الْعِلَّةُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْمَقِيسِ عَلَيْهِ وَهِيَ لُحُوقُ زِيَادَةِ ضَرَرٍ بِغَيْرِ الْمَالِكِ عَلَى تَقْدِيرِ إبْطَالِ حَقِّهِ ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ تَعَلُّقٌ بِمَا نَحْنُ فِيهِ وَلَا بِالْقِيَاسِ الْمَذْكُورِ فِيهِ أَصْلًا .
( قَوْلُهُ وَجَوَابُ الْكِتَابِ يَرُدُّ ذَلِكَ ) قَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ : وَلَنَا فِي قَوْلِهِ وَجَوَابُ الْكِتَابِ يَرُدُّ ذَلِكَ : أَيْ جَوَابُ مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ يَرُدُّ مَا قَالَهُ الْكَرْخِيُّ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ الْقُدُورِيَّ يَرْوِي عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْجُرْجَانِيِّ عَنْ

أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيّ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ ، فَكَيْفَ يَرُدُّ مُجَرَّدُ جَوَابِ الْقُدُورِيِّ قَوْلَ الْكَرْخِيِّ وَسَنَدُ رِوَايَتِهِ إلَيْهِ .
نَعَمْ يَجُوزُ رُجْحَانِ قَوْلِ الْمُتَأَخِّرِ عَلَى الْمُتَقَدِّمِ بِإِقَامَةِ الدَّلِيلِ ، أَمَّا بِمُجَرَّدِ الرِّوَايَةِ فَلَا ا هـ كَلَامَهُ .
أَقُولُ : نَظَرُهُ سَاقِطٌ ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ أَنَّ اسْتِنَادَ رِوَايَةِ الْقُدُورِيِّ فِي جَمِيعِ مَسَائِلِ مُخْتَصَرِهِ أَوْ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا إلَى الْكَرْخِيِّ فَهُوَ مَمْنُوع ، كَيْف وَقَدْ صَرَّحَ هَذَا الشَّارِحُ نَفْسُهُ بِأَنَّ الْقُدُورِيَّ قَالَ فِي شَرْحِهِ لِمُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ : وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ يَقُولُ : الْمَسْأَلَةُ مَوْضُوعَةٌ عَلَى أَنَّهُ بَنَى عَلَى حَوَالَيْ السَّاجَةِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي الْبِنَاءِ عَلَى مِلْكِهِ فَلَا يُنْقَضُ .
وَأَمَّا إذَا بَنَى عَلَى نَفْسِ السَّاجَةِ يُنْقَضُ بِنَاؤُهُ ؛ لِأَنَّهُ تَعَدَّى فِيهِ .
وَكَانَ الْهِنْدُوَانِيُّ يَخْتَارُ هَذَا الْقَوْلَ .
وَقَدْ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الصَّرْفِ فِيمَنْ غَصَبَ دِرْهَمًا فَجَعَلَهُ عُرْوَةَ مُزَادَةً سَقَطَ حَقُّ مَالِكِهِ ، وَالْفِضَّةُ لَا يَسْقُطُ حَقُّ مَالِكِهَا فِيهَا بِالصِّيَاغَةِ ، وَإِنَّمَا أَسْقَطَهُ بِكَوْنِهَا تَابِعَةً لِلْمَزَادَةِ ، وَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا بِعَمَلٍ يُوقِعُهُ فِيهَا عَلَى وَجْهِ التَّعَدِّي فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى إطْلَاقِهَا وَأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْمَالِكِ فِي السَّاجَةِ فِي الْوَجْهَيْنِ .
وَقَالَ : إلَى هُنَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ .
وَلَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّ مَا نَقَلَهُ عَنْ الْقُدُورِيِّ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْقُدُورِيَّ لَا يَقْبَلُ رِوَايَةَ الْكَرْخِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى التَّقْيِيدِ بِأَنْ بَنَى عَلَى حَوَالَيْ السَّاجَةِ ، وَيُسْتَدَلُّ عَلَى إطْلَاقِهَا بِمَسْأَلَةِ كِتَابِ الصَّرْفِ كَمَا تَرَى ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ رِوَايَةَ الْقُدُورِيِّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِأَنْ قَالَ فَبَنَى عَلَيْهَا لَا يَسْتَنِدُ إلَى الْكَرْخِيِّ ، بَلْ هُوَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَهُ وَمُتَمَسِّكٌ بِمَسْأَلَةِ كِتَابِ الصَّرْفِ ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ

اسْتِنَادَ رِوَايَةِ الْقُدُورِيِّ فِي أَكْثَرِ الْمَسَائِلِ إلَى الْكَرْخِيِّ بِالطَّرِيقِ الْمَزْبُورِ فَهُوَ مُسَلَّمٌ ، لَكِنْ لَا يُجْدِي ذَلِكَ هَاهُنَا شَيْئًا فَإِنَّ الْكَلَامَ فِي مَسْأَلَةِ السَّاجَةِ وَهُوَ فِي رِوَايَتِهَا يُخَالِفُ الْكَرْخِيَّ كَمَا عَرَفَتْ .

قَالَ ( وَمِنْ ذَبَحَ شَاةَ غَيْرِهِ فَمَالِكُهَا بِالْخِيَارِ ، إنْ شَاءَ ضَمَّنَّهُ قِيمَتَهَا وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ نُقْصَانَهَا ، وَكَذَا الْجَزُورُ ، وَكَذَا إذَا قَطَعَ يَدَهُمَا ) هَذَا هُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ .
وَجْهُهُ أَنَّهُ إتْلَافٌ مِنْ وَجْهٍ بِاعْتِبَارِ فَوْتِ بَعْضِ الْأَغْرَاضِ مِنْ الْحَمْلِ وَالدَّرِّ وَالنَّسْلِ وَبَقَاءِ بَعْضِهَا وَهُوَ اللَّحْمُ فَصَارَ كَالْخَرْقِ الْفَاحِشِ فِي الثَّوْبِ ، وَلَوْ كَانَتْ الدَّابَّةُ غَيْرَ مَأْكُولِ اللَّحْمِ فَقَطَعَ الْغَاصِبُ طَرَفَهَا لِلْمَالِكِ أَنْ يُضَمِّنَهُ جَمِيعَ قِيمَتِهَا لِوُجُودِ الِاسْتِهْلَاكِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، بِخِلَافِ قَطْعِ طَرَفِ الْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ حَيْثُ يَأْخُذُهُ مَعَ أَرْشِ الْمَقْطُوعِ ؛ لِأَنَّ الْآدَمِيَّ يَبْقَى مُنْتَفَعًا بِهِ بَعْدَ قَطْعِ الطَّرَفِ .
.

( قَوْلُهُ وَمَنْ ذَبَحَ شَاةَ غَيْرَهُ فَمَالِكُهَا بِالْخِيَارِ ، إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهَا وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ نُقْصَانَهَا ، وَكَذَا الْجَزُورُ ) وَهُوَ مَا أُعِدَّ لِلذَّبْحِ مِنْ الْإِبِلِ ، مِنْ الْجَزْرِ وَهُوَ الْقَطْعُ يَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَهِيَ تُؤَنَّثُ ، كَذَا قَالُوا : وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْجَزُورَ بَعْدَمَا ذَكَرَ الْحُكْمَ فِي الشَّاةِ مِنْ الْخِيَارِ بَيْنَ تَضْمِينِ الْقِيمَةِ وَتَضْمِينِ النُّقْصَانِ لِدَفْعِ شُبْهَةٍ تَرِدُ عَلَى اخْتِيَارِ تَضْمِينِ النُّقْصَانِ بِأَنْ يُقَالَ : النُّقْصَانُ بِالذَّبْحِ فِي الشَّاةِ إنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ تَفْوِيتِ صَلَاحِيَّتِهَا لِلدَّرِّ وَالنَّسْلِ وَالْجَزُورُ هِيَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلذَّبْحِ فَلَمْ يَكُنْ الدَّرُّ وَالنَّسْلُ مَطْلُوبَيْنِ هَاهُنَا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَضْمَنَ الْغَاصِبُ النُّقْصَانَ بَلْ اسْتَحَقَّ أَجْرَ الْمِثْلِ مِنْ جِزَارَتِهِ عَلَى الْمَالِكِ ؛ لِأَنَّهُ حَقَّقَ مَقْصُودَهُ فِيهَا فَكَانَ زِيَادَةً لَا نُقْصَانًا ، كَمَا إذَا غَصَبَ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ أَحْمَرَ حَيْثُ يَضْمَنُ الْمَالِكُ لِلْغَاصِبِ مَا زَادَ الصِّبْغُ إذَا اخْتَارَ أَخْذَ الثَّوْبِ لِكَوْنِ صَبْغِ الْحُمْرَةِ زِيَادَةٌ فَدَفَعَ تِلْكَ الشُّبْهَةِ بِقَوْلِهِ وَكَذَا الْجَزُورُ وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ نَفْسَ إزَالَةِ الْحَيَاةِ عَنْ الْحَيَوَانِ نُقْصَانٌ فَكَانَ لِلْمَالِكِ الْخِيَارُ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِلْمَالِكِ مَقْصُودٌ فِيهَا سِوَى الدَّرِّ وَالنَّسْلِ مِنْ الِاسْمَانِ وَتَبْقِيَتِهَا إلَى زَمَانٍ لِيُحَصِّلَ مَقَاصِدَهُ مِنْهَا ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ .
وَأَفَادَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ خُلَاصَةَ هَذَا الْمَعْنَى بِعِبَارَةٍ أُخْرَى حَيْثُ قَالَ : وَإِنَّمَا خَصَّهُ لِدَفْعِ مَا عَسَى أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّ غَاصِبَهُ يَجِبُ أَنْ يَسْتَحِقَّ أَجْرَ الْمِثْلِ لِجِزَارَتِهِ عَلَى الْمَالِكِ ؛ لِأَنَّهُ حَقَّقَ مَقْصُودَهُ فِيهِ فَكَانَ ذَلِكَ زِيَادَةٌ فِيهِ لَا نُقْصَانًا حَيْثُ أُعِدَّ لِلْجَزْرِ غَيْرُ مَطْلُوبٍ مِنْهُ الدَّرُّ وَالنَّسْلُ ، وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ نَفْسَ إزَالَةِ الْحَيَاةِ عَنْ الْحَيَوَانِ نُقْصَانٌ فَكَانَ

لِلْمَالِكِ الْخِيَارُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهِ مَقْصُودٌ سِوَاهُمَا مِنْ زِيَادَةِ الِاسْمَانِ وَالتَّأْخِيرِ إلَى وَقْتٍ آخَرَ لِمَصْلَحَةٍ لَهُ فِي ذَلِكَ ا هـ كَلَامَهُ .
.
وَرَدَّ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ قَوْلَهُ وَإِنَّمَا خَصَّهُ لِدَفْعِ مَا عَسَى أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّ غَاصِبَهُ يَجِبُ أَنْ يَسْتَحِقَّ أَجْرَ الْمِثْلِ حَيْثُ قَالَ : لَا مَجَالَ لِهَذَا التَّوَهُّمِ أَصْلًا ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ غَصْبًا فَهُوَ تَبَرُّعٌ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْأَجْرَ .
وَقَالَ : فَالْأَوْلَى طَيُّ قَضِيَّةِ اسْتِحْقَاقِ أَجْرِ الْمِثْلِ مِنْ الْبَيْنِ وَيَقُولُ بَدَلَهُ إنَّ ذَابِحَهُ يَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ غَاصِبًا ا هـ .
أَقُولُ : إنَّ قَوْلَهُ لَا مَجَالَ لِهَذَا التَّوَهُّمِ أَصْلًا تَحَكُّمٌ .
وَقَوْلُهُ ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ غَصْبًا فَهُوَ تَبَرُّعٌ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْأَجْرَ غَيْرَ مُسَلَّمٍ ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَبَرِّعًا لِمَا زَادَهُ الصَّبْغُ فِيمَا إذَا أَخَذَ ثَوْبَ غَيْرِهِ فَصَبَغَهُ أَحْمَرَ ، بَلْ ضَمِنَهُ لِلْمَالِكِ إذَا اخْتَارَ أَخْذَ الثَّوْبِ كَمَا سَيَأْتِي ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ مُتَبَرِّعًا لِمَا زَادَهُ الذَّبْحُ فِيمَا إذَا ذَبَحَ جَزُورَ غَيْرِهِ ، بَلْ اسْتَحَقَّ أَجْرَ الْمِثْلِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ حَقَّقَ مَقْصُودَ الْمَالِكِ ، وَهَذَا الْقَدْرُ مِنْ الْقِيَاسِ إنْ لَمْ يَكُنْ مَنَاطًا لِلِاجْتِهَادِ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَنْشَأً لِلتَّوَهُّمِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ دَفْعِ ذَلِكَ التَّوَهُّمِ ؟ فَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَى دَفْعِهِ بِقَوْلِهِ وَكَذَا الْجَزُورُ وَهَذَا هُوَ مُرَادُ الشُّرَّاحِ هَاهُنَا وَلَا غُبَارَ عَلَيْهِ .
( قَوْلُهُ وَلَوْ كَانَتْ الدَّابَّةُ غَيْرَ مَأْكُولِ اللَّحْمِ فَقَطَعَ الْغَاصِبُ طَرَفهَا لِلْمَالِكِ أَنْ يُضَمِّنَهُ جَمِيعَ قِيمَتِهَا لِوُجُودِ الِاسْتِهْلَاكِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : قِيلَ لَيْسَ لِتَقْيِيدِهِ بِغَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ فَائِدَةٌ ، فَإِنَّ حُكْمَ مَأْكُولِهِ أَيْضًا كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ عَطَفَ قَوْلَهُ وَكَذَا إذَا قَطَعَ يَدَهُمَا عَلَى قَوْلِهِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهَا

وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ نُقْصَانَهَا ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ .
وَمِنْ الشَّارِحِينَ مَنْ قَالَ : هَذَا إنَّمَا هُوَ عَلَى اخْتِيَارِ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ ، وَالظَّاهِرُ وُجُوبُ تَضْمِينِ الْقِيمَةِ بِلَا خِيَارٍ فِيهِمَا : يَعْنِي فِي مَأْكُولِ اللَّحْمِ وَغَيْرِ مَأْكُولِهِ إذَا قَطَعَ طَرَفَهُ فَكَانَ فَائِدَةُ ذِكْرِهِ رَدُّ ذَلِكَ الظَّاهِرِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَفَى أَنْ يَقُولَ : وَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ غَيْرَ مَأْكُولِ اللَّحْمِ .
وَالثَّانِي أَنَّ التَّعْلِيلَ يَدُلُّ عَلَى مُغَايَرَةِ الْحُكْمِ بَيْنَ قَطْعِ طَرَفِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ وَغَيْرِ مَأْكُولِهِ حَيْثُ قَالَ فِي الْأَوَّلِ : إنَّهُ إتْلَافٌ مِنْ وَجْهٍ ، وَفِي الثَّانِي : لِوُجُودِ الِاسْتِهْلَاكِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، إلَى هُنَا لَفْظُ الْعِنَايَةِ ا هـ .
أَقُولُ : الْقَائِلُ بِعَدَمِ فَائِدَةِ التَّقْيِيدِ بِغَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ إنَّمَا هُوَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَصَاحِبُ مِعْرَاجِ الدَّارِيَّةِ ، وَأَمَّا الْمُرَادُ بِمَنْ قَالَ فِي قَوْلِهِ وَمِنْ الشَّارِحِينَ مَنْ قَالَ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ هُوَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ إذْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الشَّارِحِينَ بِمَا يُشْبِهُ الْقَوْلَ الْمَذْكُورَ سِوَى صَاحِبِ الْغَايَةِ ، إلَّا أَنَّ مَا نَقَلَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ لَيْسَ عَيْنَ عِبَارَةِ صَاحِبِ الْغَايَةِ أَيْضًا ، فَإِنَّ عَيْنَ عِبَارَتِهِ هَكَذَا : هَذَا الْفَرْقُ بَيْنَ مَأْكُولِ اللَّحْمِ وَغَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ فِي قَطْعِ الطَّرَفِ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ ، وَالظَّاهِرُ وُجُوبُ تَضْمِينِ جَمِيعِ الْقِيمَةِ فِيهَا بِلَا خِيَارٍ ، وَقَدْ مَرَّ مِنْ قَبْلُ هَذَا ا هـ .
وَلَا يَخْفَى عَلَى ذِي مُسْكَةٍ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ عَلَى هَاتِيك الْعِبَارَةِ شَيْءٌ مِنْ وَجْهَيْ نَظَرِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ ؛ لِأَنَّ مَدَارَ وُرُودِهِمَا عَلَى حَمْلِ مُرَادِ الْمُصَنِّفِ عَلَى تَسْوِيَةِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ وَغَيْرِ مَأْكُولِهِ فِي الْحُكْمِ ، وَعِبَارَةُ صَاحِبِ الْغَايَةِ تُنَادِي عَلَى حَمْلِ مُرَادِهِ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا حَيْثُ قَالَ : هَذَا

الْفَرْقُ بَيْنَ مَأْكُولِ اللَّحْمِ وَغَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ فِي قَطْعِ الطَّرَفِ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ تَبَصَّرْ .
ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ نَفْيَ خِيَارِ الْمَالِكِ بَيْنَ تَضْمِينِ قِيمَتِهَا وَبَيْنَ إمْسَاكِ الْجُثَّةِ وَتَضْمِينِ نُقْصَانِهَا وَيَكُونُ ذَلِكَ اخْتِيَارًا مِنْهُ وَإِنْ كَانَ نَقْلُ الْكُتُبِ عَلَى خِلَافِهِ ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ وَالْمُغْنِي فَقَالَ : وَفِي الْمُنْتَقَى : هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ : رَجُلٌ قَطَعَ يَدَ حِمَارٍ أَوْ رِجْلَهُ وَكَانَ لِمَا بَقِيَ قِيمَةٌ فَلَهُ أَنْ يُمْسِكَ وَيَأْخُذَ النُّقْصَانَ ا هـ كَلَامَهُ .
أَقُولُ : لِمَانِعٍ أَنْ يَمْنَعَ مُخَالَفَةَ مَا اخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ لِنَقْلِ الْكُتُبِ الْمَذْكُورَةِ ؛ لِأَنَّ مَا رَوَاهُ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ جَوَازِ اخْتِيَارِ الْإِمْسَاكِ وَأَخْذِ النُّقْصَانِ فِيمَا إذَا قَطَعَ طَرَفًا مِنْ غَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ مُقَيَّدٌ بِأَنْ كَانَ لِمَا بَقِيَ قِيمَةٌ كَمَا تَرَى ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا اخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ وُجُوبَ تَضْمِينِ جَمِيعِ الْقِيمَةِ فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ لِمَا بَعْدَ قَطْعِ الطَّرَفِ قِيمَةٌ ، بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ لِوُجُودِ الِاسْتِهْلَاكِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ الِاسْتِهْلَاكُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فِيمَا إذَا كَانَ لِمَا بَقِيَ بَعْدَ قَطْعِ الطَّرَفِ قِيمَةٌ ، بَلْ يَبْقَى فِيهِ مَنْفَعَةُ الْقِيمَةِ فَيَصِيرُ هَالِكًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ ، وَكَأَنَّ صَاحِبَ الْكِفَايَةِ تَنَبَّهَ لِذَلِكَ حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ : وَلَوْ كَانَتْ الدَّابَّةُ غَيْرَ مَأْكُولِ اللَّحْمِ فَقَطَعَ الْغَاصِبُ طَرَفَهَا لِلْمَالِكِ أَنْ يُضَمِّنَهُ جَمِيعَ قِيمَتِهَا : أَيْ الْوَاجِبُ هُنَا جَمِيعُ الْقِيمَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلدَّابَّةِ مَنْفَعَةٌ بَعْدَ قَطْعِ طَرَفِهَا لِوُجُودِ الِاسْتِهْلَاكِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، أَمَّا إذَا كَانَ لِمَا بَقِيَ قِيمَةٌ فَلَهُ أَنْ يُمْسِكَ وَيَأْخُذَ النُّقْصَانَ ، وَنَقَلَ مَا فِي الْمُنْتَقَى مِنْ رِوَايَةِ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ

قَالَ ( وَمَنْ خَرَقَ ثَوْبَ غَيْرِهِ خَرْقًا يَسِيرًا ضَمِنَ نُقْصَانَهُ وَالثَّوْبُ لِمَالِكِهِ ) ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ قَائِمٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَإِنَّمَا دَخَلَهُ عَيْبٌ فَيَضْمَنُهُ ( وَإِنْ خَرَقَ خَرْقًا كَبِيرًا يُبْطِلَ عَامَّةَ مَنَافِعِهِ فَلِمَالِكِهِ أَنْ يُضَمِّنَهُ جَمِيعَ قِيمَتِهِ ) ؛ لِأَنَّهُ اسْتِهْلَاكٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَكَأَنَّهُ أَحْرَقَهُ .
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَعْنَاهُ يَتْرُكُ الثَّوْبَ عَلَيْهِ : وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ وَضَمَّنَهُ النُّقْصَانَ ؛ لِأَنَّهُ تَعْيِيبٌ مِنْ وَجْهٍ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْعَيْنَ بَاقٍ ، وَكَذَا بَعْضُ الْمَنَافِعِ قَائِمٌ ، ثُمَّ إشَارَةُ الْكِتَابِ إلَى أَنَّ الْفَاحِشَ مَا يَبْطُلُ بِهِ عَامَّةُ الْمَنَافِعِ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْفَاحِشَ مَا يَفُوتُ بِهِ بَعْضُ الْعَيْنِ وَجِنْسُ الْمَنْفَعَةِ وَيَبْقَى بَعْضُ الْعَيْنِ وَبَعْضُ الْمَنْفَعَةِ ، وَالْيَسِيرُ مَا لَا يَفُوتُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الْمَنْفَعَةِ ، وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِيهِ النُّقْصَانُ ؛ لِأَنَّ مُحَمَّدًا جَعَلَ فِي الْأَصْلِ قَطْعَ الثَّوْبِ نُقْصَانًا فَاحِشًا وَالْفَائِتُ بِهِ بَعْضُ الْمَنَافِعِ .
.

قَالَ ( وَمَنْ غَصَبَ أَرْضًا فَغَرَسَ فِيهَا أَوْ بَنَى قِيلَ لَهُ اقْلَعْ الْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ وَرُدَّهَا ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ } وَلِأَنَّ مِلْكَ صَاحِبِ الْأَرْضِ بَاقٍ ، فَإِنَّ الْأَرْضَ لَمْ تَصِرْ مُسْتَهْلَكَةً وَالْغَصْبُ لَا يَتَحَقَّقُ فِيهَا ، وَلَا بُدَّ لِلْمِلْكِ مِنْ سَبَبٍ فَيُؤْمَرُ الشَّاغِلُ بِتَفْرِيغِهَا ، كَمَا إذَا شَغَلَ ظَرْفَ غَيْرِهِ بِطَعَامِهِ ( فَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ تَنْقُصُ بِقَلْعِ ذَلِكَ فَلِلْمَالِكِ أَنْ يُضَمِّنَ لَهُ قِيمَةَ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ مَقْلُوعًا وَيَكُونَانِ لَهُ ) ؛ لِأَنَّ فِيهِ نَظَرًا لَهُمَا وَدُفِعَ الضَّرَرُ عَنْهُمَا .
وَقَوْلُهُ قِيمَتُهُ مَقْلُوعًا مَعْنَاهُ قِيمَةُ بِنَاءٍ أَوْ شَجَرٍ يُؤْمَرُ بِقَلْعِهِ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِيهِ ، إذْ لَا قَرَارَ لَهُ فِيهِ فَتَقُومُ الْأَرْضُ بِدُونِ الشَّجَرِ وَالْبِنَاءِ وَتَقُومُ وَبِهَا شَجَرٌ أَوْ بِنَاءٌ ، لِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَنْ يَأْمُرَهُ بِقَلْعِهِ فَيَضْمَنُ فَضْلَ مَا بَيْنَهُمَا .
.

( قَوْلُهُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ } ) صَحَّحَهُ فِي الْمُغْرِبِ بِتَنْوِينِ عَرَقٍ حَيْثُ قَالَ : أَيْ لِذِي عَرَقٍ ظَالِمٍ ، وَهُوَ الَّذِي يَغْرِسُ فِي الْأَرْضِ غَرْسًا عَلَى وَجْهِ الِاغْتِصَابِ لِيَسْتَوْجِبَهَا وُصِفَ الْعَرَقُ بِالظُّلْمِ الَّذِي هُوَ صِفَةُ صَاحِبِهِ مَجَازًا ، وَقَدْ رُوِيَ بِالْإِضَافَةِ لَيْسَ لِعِرْقِ غَاصِبٍ ثُبُوتٌ بَلْ يُؤْمَرُ بِقَلْعِهِ ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا .
أَقُولُ : فِيمَا ذَكَرَ فِي الْمُغْرِبِ شَيْءٌ ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدَّرَ الْمُضَافَ أَوَّلًا حَيْثُ قَالَ : أَيْ لِذِي عَرَقٍ ظَالِمٍ ، وَجَعَلَ وَصْفَ الْعَرَقِ بِالظُّلْمِ تَجَوُّزًا ثَانِيًا ، وَبَيْنَهُمَا تَنَافُرٌ ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَدَّرَ الْمُضَافَ يَصِيرُ ظَالِمُ صِفَةً لَهُ لَا لِعَرَقٍ كَمَا قَالُوا فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ عَتَقَ عَلَيْهِ } أَنَّ قَوْلَهُ مَحْرَمٌ صِفَةُ ذَا وَجَرَّهُ لِلْجِوَارِ فَيَتِمُّ مَعْنَى الْكَلَامِ عَلَى حَقِيقَتِهِ فَلَا يَكُونُ لِلْمَصِيرِ إلَى التَّجَوُّزِ وَجْهٌ ، وَعَنْ هَذَا ذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْفَائِقِ مَا ذَكَرَهُ الْمُطَرِّزِيُّ فِي الْمُغْرِبِ خَلَا الْقَوْلِ بِوَصْفِ الْعَرَقِ بِالظُّلْمِ عَلَى سَبِيلِ التَّجَوُّزِ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُرَادُ صَاحِبِ الْمُغْرِبِ بِقَوْلِهِ أَيْ لِذِي عَرَقٍ ظَالِمٍ مُجَرَّدُ تَصْوِيرِ الْمَعْنَى ، لَا أَنَّ هُنَاكَ مُضَافًا مَحْذُوفًا مُقَدَّرًا .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : وَلَا مَجَالَ لِكَوْنِ ظَالِمٍ نَعْتًا لِذِي ؛ لِأَنَّهُ مَعْرِفَةٌ ا هـ .
أَقُولُ : هَذَا الْكَلَامُ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ أَمْرٌ عَجِيبٌ ، فَإِنَّ ذَا الَّذِي بِمَعْنَى صَاحِبِ لَا يَكُونُ إلَّا مُضَافًا ، وَيَكُونُ نَكِرَةً إنْ أُضِيفَ إلَى نَكِرَةٍ ، وَمَعْرِفَةً إنْ أُضِيفَ إلَى مَعْرِفَةٍ .
وَعَنْ هَذَا قَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي صِحَاحِهِ : وَأَمَّا ذُو الَّذِي بِمَعْنَى صَاحِبِ فَلَا يَكُونُ إلَّا مُضَافًا ، فَإِنْ وَصَفْت بِهِ نَكِرَةً أَضَفْتَهُ إلَى نَكِرَةٍ ، وَإِنْ وَصَفْت بِهِ مَعْرِفَةً أَضَفْتَهُ إلَى الْأَلِفِ وَاللَّامِ ، وَلَا يَجُوزُ

أَنْ تُضِيفَهُ إلَى مُضْمَرٍ وَلَا إلَى زَيْدٍ وَمَا أَشْبَهَهُ ا هـ .
وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمُضَافَ إلَيْهِ الَّذِي فِيمَا نَحْنُ فِيهِ هُوَ عَرَقٌ نَكِرَةٌ فَيَكُونُ الْمُضَافُ أَيْضًا نَكِرَةً ، فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ وَلَا مَجَالَ لِكَوْنِ ظَالِمٍ نَعْتًا لِذِي ؛ لِأَنَّهُ مَعْرِفَةٌ ، وَكَأَنَّ وَهْمَهُ ذَهَبَ إلَى ذِي الَّتِي هِيَ مُؤَنَّثُ ذَا مِنْ أَسْمَاءِ الْإِشَارَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَعَارِفِ .
وَنِعْمَ مَا قَالُوا : لِكُلِّ جَوَادٍ كَبْوَةٌ ، وَلِكُلِّ صَارِمٍ نَبْوَةٌ .
( قَوْلُهُ وَلِأَنَّ مِلْكَ صَاحِبِ الْأَرْضِ بَاقٍ فَإِنَّ الْأَرْضَ لَمْ تَصِرْ مُسْتَهْلَكَةً وَالْغَصْبُ لَا يَتَحَقَّقُ فِيهَا إلَخْ ) أَقُولُ : لِمُتَوَهِّمٍ أَنْ يَتَوَهَّمَ أَنَّ قَوْلَهُ فِي التَّعْلِيلِ وَالْغَصْبِ لَا يَتَحَقَّقُ فِيهَا يُنَافِي وَضْعَ الْمَسْأَلَةِ فِي الْغَصْبِ بِأَنْ قَالَ : وَمَنْ غَصَبَ أَرْضًا فَغَرَسَ فِيهَا أَوْ بَنَى .
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْغَصْبِ الْمَذْكُورِ فِي وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيُّ ، وَبِالْغَصْبِ الْمَنْفِيِّ تَحَقُّقُهُ فِي الْأَرْضِ فِي أَثْنَاءِ التَّعْلِيلِ هُوَ مَعْنَاهُ الشَّرْعِيُّ عَلَى أَصْلِ أَئِمَّتِنَا فَلَا مُنَافَاةَ .
وَقَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ : قَدْ مَرَّ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْغَصْبِ عِنْدَ قَوْلِهِ وَالْغَصْبُ فِيمَا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ أَنَّ عِبَارَاتِ مَشَايِخِنَا اخْتَلَفَتْ فِي غَصْبِ الدُّورِ وَالْعَقَارِ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَتَحَقَّقُ فِيهَا الْغَصْبُ ، وَلَكِنْ لَا عَلَى وَجْهٍ يُوجِبُ الضَّمَانَ ، وَإِلَيْهِ مَالَ الْقُدُورِيُّ فِي قَوْلِهِ وَإِذَا غَصَبَ عَقَارًا فَهَلَكَ لَمْ يَضْمَنْهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَرِدُ السُّؤَالُ عَلَى قَوْلِهِ وَمَنْ غَصَبَ أَرْضًا .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يَتَحَقَّقُ فَيُجَابُ عَنْهُ أَنْ يُقَالَ : لَمَّا تَصَوَّرَ بِصُورَةِ الْغَصْبِ سَمَّاهُ غَصْبًا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { إلَّا إبْلِيسَ } ؛ لِأَنَّهُ تَصَوَّرَ بِصُورَةِ الْمَلَائِكَةِ ا هـ كَلَامَهُ .
أَقُولُ : قَدْ مَرَّ مِنَّا أَيْضًا هُنَاكَ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ

مِنْ مَشَايِخِنَا : إنَّ الْغَصْبَ الشَّرْعِيَّ يَتَحَقَّقُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فِي الْعَقَارِ ، وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لَمَا صَحَّ مِنْهُ أَنْ يَقُولَ لَا عَلَى وَجْهٍ يُوجِبُ الضَّمَانَ ، فَإِنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ عِنْدَ هَلَاكِ الْمَغْصُوبِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ حُكْمٌ مُقَرَّرٌ لِمُطْلَقِ الْغَصْبِ الشَّرْعِيِّ لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهُ عِنْدَ أَحَدٍ ، وَإِنَّمَا اغْتَرَّ صَاحِبُ الْغَايَةِ بِاسْتِعْمَالِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ لَفْظَ الْغَصْبِ فِي الْعَقَارِ .
وَتَوْجِيهُ ذَلِكَ عَلَى طَرَفِ التَّمَامِ بِحَمْلِهِ عَلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ كَمَا قَرَّرْنَاهُ آنِفًا ، فَلَا وَجْهَ لِبِنَاءِ عَدَمِ وُرُودِ السُّؤَالِ عَلَى قَوْلِهِ وَمَنْ غَصَبَ أَرْضًا عَلَى الْقَوْلِ بِتَحَقُّقِ الْغَصْبِ الشَّرْعِيِّ فِي الْعَقَارِ ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ بَنَى عَلَيْهِ لَوَرَدَ السُّؤَالُ عَلَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ ، وَالْغَصْبُ لَا يَتَحَقَّقُ فِيهَا إذْ يَلْزَمُ حِينَئِذٍ أَنْ لَا يُطَابِقَ التَّعْلِيلُ الْمُعَلِّلَ .
وَأَمَّا الْجَوَابُ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْغَايَةِ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ الْقَوْلِ بِتَحَقُّقِ الْغَصْبِ فِي الْعَقَارِ بِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي صُورَةِ الْغَصْبِ سَمَّاهُ غَصْبًا فَلَهُ وَجْهٌ ؛ وَلَكِنْ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْحَمْلِ عَلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ مَنْدُوحَةٌ عَنْهُ كَمَا لَا يَخْفَى .

قَالَ ( وَمَنْ غَصَبَ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ أَحْمَرَ أَوْ سَوِيقًا فَلَتَّهُ بِسَمْنٍ فَصَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ ، إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ ثَوْبٍ أَبْيَضَ وَمِثْلَ السَّوِيقِ وَسَلَّمَهُ لِلْغَاصِبِ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُمَا وَغَرِمَ مَا زَادَ الصَّبْغُ وَالسَّمْنُ فِيهِمَا ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الثَّوْبِ : لِصَاحِبِهِ أَنْ يَمْسِكَهُ وَيَأْمُرَ الْغَاصِبَ بِقَلْعِ الصَّبْغِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ اعْتِبَارًا بِفَصْلِ السَّاحَةِ بَنَى فِيهَا ؛ لِأَنَّ التَّمْيِيزَ مُمْكِنٌ ، بِخِلَافِ السَّمْنِ فِي السَّوِيقِ ؛ لِأَنَّ التَّمْيِيزَ مُتَعَذِّرٌ .
وَلَنَا مَا بَيَّنَّا أَنَّ فِيهِ رِعَايَةَ الْجَانِبَيْنِ وَالْخِيَرَةُ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ لِكَوْنِهِ صَاحِبَ الْأَصْلِ ، بِخِلَافِ السَّاحَةِ بَنَى فِيهَا ؛ لِأَنَّ النَّقْضَ لَهُ بَعْدَ النَّقْضِ ؛ أَمَّا الصِّبْغُ فَيَتَلَاشَى ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا انْصَبَغَ بِهُبُوبِ الرِّيحِ ؛ لِأَنَّهُ لَا جِنَايَةَ مِنْ صَاحِبِ الصَّبْغِ لِيَضْمَنَ الثَّوْبَ فَيَتَمَلَّكُ صَاحِبُ الْأَصْلِ الصِّبْغَ .
قَالَ أَبُو عِصْمَةَ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ : وَإِنْ شَاءَ رَبُّ الثَّوْبِ بَاعَهُ وَيَضْرِبُ بِقِيمَتِهِ أَبْيَضَ وَصَاحِبُ الصَّبْغِ بِمَا زَادَ الصِّبْغُ فِيهِ ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ لَا يَتَمَلَّكَ الصَّبْغَ بِالْقِيمَةِ ، وَعِنْدَ امْتِنَاعِهِ تَعَيَّنَ رِعَايَةُ الْجَانِبَيْنِ فِي الْبَيْعِ وَيَتَأَتَّى ، هَذَا فِيمَا إذَا انْصَبَغَ الثَّوْبُ بِنَفْسِهِ ، وَقَدْ ظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَا لِوَجْهٍ فِي السَّوِيقِ ، غَيْرَ أَنَّ السَّوِيقَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَيَضْمَنُ مِثْلَهُ وَالثَّوْبُ مِنْ ذَوَاتِ الْقِيَمِ فَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ .
وَقَالَ فِي الْأَصْلِ : يَضْمَنُ قِيمَةَ السَّوِيقِ ؛ لِأَنَّ السَّوِيقَ يَتَفَاوَتُ بِالْقَلْيِ فَلَمْ يَبْقَ مِثْلِيًّا .
وَقِيلَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْمِثْلُ سَمَّاهُ بِهِ لِقِيَامِهِ مَقَامَهُ ، وَالصُّفْرَةُ كَالْحُمْرَةِ .
وَلَوْ صَبَغَهُ أَسْوَدَ فَهُوَ نُقْصَانٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا زِيَادَةٌ .
وَقِيلَ هَذَا اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ .
وَقِيلَ إنْ كَانَ ثَوْبًا يُنْقِصُهُ السَّوَادُ فَهُوَ نُقْصَانٌ ، وَإِنْ كَانَ ثَوْبًا يُزِيدُ فِيهِ السَّوَادُ فَهُوَ

كَالْحُمْرَةِ وَقَدْ عُرِفَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
وَلَوْ كَانَ ثَوْبًا تُنْقِصُهُ الْحُمْرَةُ بِأَنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا فَتَرَاجَعَتْ بِالصَّبْغِ إلَى عِشْرِينَ ، فَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُنْظَرُ إلَى ثَوْبٍ تُزِيدُ فِيهِ الْحُمْرَةُ ، فَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ خَمْسَةً يَأْخُذُ ثَوْبَهُ وَخَمْسَةَ دَرَاهِمَ ؛ لِأَنَّ إحْدَى الْخَمْسَتَيْنِ جُبِرَتْ بِالصَّبْغِ .

( فَصْلٌ ) وَمَنْ غَصَبَ عَيْنًا فَغَيَّبَهَا فَضَمَّنَهُ الْمَالِكُ قِيمَتَهَا مَلَكَهَا وَهَذَا عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَمْلِكُهَا لِأَنَّ الْغَصْبَ عُدْوَانٌ مَحْضٌ فَلَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ كَمَا فِي الْمُدَبَّرِ .
وَلَنَا أَنَّهُ مَلَكَ الْبَدَلَ بِكَمَالِهِ ، وَالْمُبَدَّلُ قَابِلٌ لِلنَّقْلِ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ فَيَمْلِكُهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ ، بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ لِأَنَّهُ غَيْرُ قَابِلٍ لِلنَّقْلِ لِحَقِّ الْمُدَبَّرِ ، نَعَمْ قَدْ يُفْسَخُ التَّدْبِيرُ بِالْقَضَاءِ لَكِنَّ الْبَيْعَ بَعْدَهُ يُصَادِفُ الْقِنَّ .
قَالَ ( وَالْقَوْلُ فِي الْقِيمَةِ قَوْلُ الْغَاصِبِ مَعَ يَمِينِهِ ) لِأَنَّ الْمَالِكَ يَدَّعِي الزِّيَادَةَ وَهُوَ يُنْكِرُ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ ( إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْمَالِكُ الْبَيِّنَةَ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ) ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَهُ بِالْحُجَّةِ الْمُلْزِمَةِ .
قَالَ ( فَإِنْ ظَهَرَتْ الْعَيْنُ وَقِيمَتُهَا أَكْثَرُ مِمَّا ضَمِنَ وَقَدْ ضَمِنَهَا بِقَوْلِ الْمَالِكِ أَوْ بِبَيِّنَةٍ أَقَامَهَا أَوْ بِنُكُولِ الْغَاصِبِ عَنْ الْيَمِينِ فَلَا خِيَارَ لِلْمَالِكِ وَهُوَ الْغَاصِبُ ) ؛ لِأَنَّهُ تَمَّ لَهُ الْمِلْكُ بِسَبَبٍ اتَّصَلَ بِهِ رِضَا الْمَالِكِ حَيْثُ ادَّعَى هَذَا الْمِقْدَارَ .
قَالَ ( فَإِنْ كَانَ ضَمِنَهُ بِقَوْلِ الْغَاصِبِ مَعَ يَمِينِهِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ ، إنْ شَاءَ أَمْضَى الضَّمَانَ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْعَيْنَ وَرَدَّ الْعِوَضَ ) ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ رِضَاهُ بِهَذَا الْمِقْدَارِ حَيْثُ يَدَّعِي الزِّيَادَةَ وَأَخَذَهُ دُونَهَا لِعَدَمِ الْحُجَّةِ .
وَلَوْ ظَهَرَتْ الْعَيْنُ وَقِيمَتُهَا مِثْلَ مَا ضَمَّنَهُ أَوْ دُونَهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ الْأَخِيرِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَهُوَ الْأَصَحُّ خِلَافًا لِمَا قَالَهُ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا خِيَارَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ رِضَاهُ حَيْثُ لَمْ يُعْطِ لَهُ مَا يَدَّعِيهِ وَالْخِيَارُ لِفَوَاتِ الرِّضَا .

( فَصْلٌ ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ كَيْفِيَّةِ مَا يُوجِبُ الْمِلْكَ لِلْغَاصِبِ بِالضَّمَانِ ذَكَرَ فِي هَذَا الْفَصْلِ مَسَائِلَ مُتَفَرِّقَةً تَتَّصِلُ بِمَسَائِلِ الْغَصْبِ كَمَا هُوَ دَأْبُ الْمُصَنِّفِينَ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ ، وَذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَيْضًا بِعِبَارَةٍ أَقْصَرَ .
أَقُولُ : فِيهِ كَلَامٌ وَهُوَ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْفَصْلِ السَّابِقِ مَا يُوجِبُ الْمِلْكَ لِلْغَاصِبِ بِفِعْلِهِ وَعَمَلِهِ لَا بِالضَّمَانِ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ هُنَاكَ عِنْوَانُ الْفَصْلِ حَيْثُ قَالَ : فَصْلٌ فِيمَا يَتَغَيَّرُ بِعَمَلِ الْغَاصِبِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَطْعًا قَوْلُهُ : وَإِذَا تَغَيَّرَتْ الْعَيْنُ الْمَغْصُوبَةُ بِفِعْلِ الْغَاصِبِ حَتَّى زَالَ اسْمُهَا وَعَظُمَ مَنَافِعُهَا زَالَ مِلْكُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ عَنْهَا وَمَلَكَهَا الْغَاصِبُ ، وَلَوْ سَلَّمَ ذَلِكَ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ فِي الْفَصْلِ السَّابِقِ مَا ذَكَرَ فِي صَدْرِ هَذَا الْفَصْلِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَمَنْ غَصَبَ عَيْنًا فَغَيَّبَهَا فَضَمَّنَهُ الْمَالِكُ قِيمَتَهَا مَلَكَهَا فَإِنَّهُ مِنْ قَبِيلِ مَا يُوجِبُ الْمِلْكَ لِلْغَاصِبِ بِالضَّمَانِ صَرِيحًا ( قَوْلُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَمْلِكُهَا ؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ عُدْوَانٌ مَحْضٌ فَلَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ كَمَا فِي الْمُدَبَّرِ .
وَلَنَا أَنَّهُ مَلَكَ الْبَدَلَ بِكَمَالِهِ ، وَالْمُبْدَلُ قَابِلٌ لِلنَّقْلِ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ فَيَمْلِكُهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ شَرْحِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ : وَكَلَامُهُ يُشِيرُ إلَى أَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ هُوَ الْغَصْبُ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ تَعْلِيلُ الشَّافِعِيِّ بِذَلِكَ مُنَاسِبًا ا هـ .
وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ حَيْثُ قَالَ : فِيهِ بَحْثٌ ، فَإِنَّ عَدَمَ مُنَاسَبَتِهِ لَا يُهِمُّنَا ، غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ وَجْهًا آخَرَ لَنَا فِي الْجَوَابِ ا هـ .
أَقُولُ : كَيْفَ لَا يُهِمُّنَا عَدَمُ مُنَاسَبَةِ تَعْلِيلِهِ وَهُوَ خَصْمُنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، وَتَزْيِيفُ دَلِيلِ خَصْمِنَا مِمَّا يُهِمُّنَا لَا مَحَالَةَ ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ سَبَبُ الْمِلْكِ هُوَ الْغَصْبُ عِنْدَنَا لَكَانَ يَنْبَغِي عَلَى

الْمُصَنِّفِ بَيَانُ عَدَمِ مُنَاسَبَةِ تَعْلِيلِهِ لِمَا قُلْنَا لِيَتَزَيَّفَ بِهِ دَلِيلُهُ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ اسْتَغْنَى الْمُصَنِّفُ عَنْ تَزْيِيفِ دَلِيلِهِ بِهَذَا الْوَجْهِ بِمَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ وَلَنَا أَنَّهُ مَلَكَ الْبَدَلَ بِكَمَالِهِ إلَخْ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ ذَلِكَ الْبَعْضُ بِقَوْلِهِ غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ وَجْهًا آخَرَ لَنَا فِي الْجَوَابِ .
قُلْنَا : مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ وَلَنَا أَنَّهُ مَلَكَ الْبَدَلَ إلَخْ لَا يَصْلُحُ جَوَابًا آخَرَ عَمَّا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ ، وَلَا يَنْدَفِعُ بِهِ إشْكَالُ أَنْ يَكُونَ مَا هُوَ عُدْوَانٌ مَحْضٌ سَبَبًا لِلْمِلْكِ كَمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي تَعْلِيلِهِ ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ سَبَبُ الْمِلْكِ عِنْدَنَا هُوَ الْغَصْبُ لَمَا تَرَكَ مَنْعَ كَوْنِ الْغَصْبِ سَبَبًا لِلْمِلْكِ عِنْدَنَا فِي الْجَوَابِ عَمَّا قَالَهُ الْخَصْمُ ، فَهَلْ يَسْتَغْنِي الْعَاقِلُ عَنْ مِثْلِ هَذَا الْأَمْرِ الْجَلِيِّ الْقَاطِعِ عِنْدَ إمْكَانِ التَّشَبُّثِ بِهِ بِمِثْلِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِمَّا هُوَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ خَفِيُّ الدَّلَالَةَ عَلَى دَفْعِ مَا قَالَهُ الْخَصْمُ كَمَا تَرَى ، فَصَحَّ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ مِنْ أَنَّ سَوْقَ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ عِنْدَنَا هُوَ الْغَصْبُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ فِي الْأَسْرَارِ حَيْثُ قَالَ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : الْغَصْبُ يُفِيدُ الْمِلْكَ فِي الْمَغْصُوبِ عِنْدَ الْقَضَاءِ بِالضَّمَانِ أَوْ التَّرَاضِي عَلَيْهِ ( قَوْلُهُ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْمَالِكُ الْبَيِّنَةَ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ) فَإِنْ عَجَزَ الْمَالِكُ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَطَلَبَ يَمِينَ الْغَاصِبِ وَلِلْغَاصِبِ بَيِّنَةٌ تَشْهَدُ بِقِيمَةِ الْمَغْصُوبِ لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ ، بَلْ يَحْلِفُ عَلَى دَعْوَاهُ ؛ لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ تَنْفِي الزِّيَادَةَ ، وَالْبَيِّنَةُ عَلَى النَّفْيِ لَا تُقْبَلُ .
وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا : يَنْبَغِي أَنْ تُقْبَلَ لِإِسْقَاطِ الْيَمِينِ كَالْمُودِعِ إذَا ادَّعَى رَدَّ الْوَدِيعَةَ فَإِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ ، وَلَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ قُبِلَتْ ، وَكَانَ

الْقَاضِي أَبُو عَلِيٍّ النَّسَفِيُّ يَقُولُ : هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عُدَّتْ مُشْكِلَةً .
وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ هَذِهِ وَمَسْأَلَةِ الْوَدِيعَةِ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّ الْمُودِعَ لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا الْيَمِينُ ، وَبِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ أَسْقَطْتَهَا وَارْتَفَعْتَ الْخُصُومَةُ .
وَأَمَّا الْغَاصِبُ فَعَلَيْهِ هَاهُنَا الْيَمِينُ وَالْقِيمَةُ ، وَبِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ لَمْ يَسْقُطْ إلَّا الْيَمِينُ فَلَا يَكُونُ فِي مَعْنَى الْمُودِعِ ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا .
أَقُولُ : فِيمَا ذَكَرُوا مِنْ وَجْهِ الْفَرْقِ نَظَرٌ ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يُفِيدُ أَنْ لَا يَكُونَ الْغَاصِبُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَالْمُودِعِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ حَيْثُ وَجَبَ عَلَى الْغَاصِبِ الْيَمِينُ وَالْقِيمَةُ وَلَمْ يَجِبْ عَلَى الْمُودَعِ إلَّا الْيَمِينُ وَهَذَا لَا يُنَافِي صِحَّةَ قِيَاسِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَسْأَلَةِ الْوَدِيعَةِ فِي قَبُولِ الْبَيِّنَةِ لِإِسْقَاطِ الْيَمِينِ ؛ لِأَنَّ الِاتِّحَادَ بَيْنَهُمَا فِي هَذِهِ الْجِهَةِ كَافٍ فِي صِحَّةِ الْقِيَاسِ ، وَلَا يَضُرُّهَا وُجُوبُ الْقِيمَةِ عَلَى الْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ فِيمَا إذَا عَجَزَ الْمَالِكُ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْأَكْثَرِ إنَّمَا هُوَ عَلَى الْأَقَلِّ الَّذِي كَانَ مُعْتَرِفًا بِهِ ، وَلَيْسَ مَقْصُودُهُ مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ إلَّا مُجَرَّدُ إسْقَاطِ الْيَمِينِ عَلَى الزِّيَادَةِ عَنْ نَفْسِهِ ، وَإِذَا حَصَلَ لَهُ هَذِهِ الْفَائِدَةُ صَارَ فِي مَعْنَى الْمُودِعِ مِنْ جِهَةِ اتِّحَادِ فَائِدَةِ قَبُولِ الْبَيِّنَةِ فَتَدَبَّرْ

قَالَ ( وَمَنْ غَصَبَ عَبْدًا فَبَاعَهُ فَضَمَّنَهُ الْمَالِكُ قِيمَتَهُ فَقَدْ جَازَ بَيْعُهُ ، وَإِنْ أَعْتَقَهُ ثُمَّ ضَمِنَ الْقِيمَةَ لَمْ يَجُزْ عِتْقُهُ ) ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ الثَّابِتَ فِيهِ نَاقِصٌ لِثُبُوتِهِ مُسْتَنِدًا أَوْ ضَرُورَةً ، وَلِهَذَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْأَكْسَابِ دُونَ الْأَوْلَادِ ، وَالنَّاقِصُ يَكْفِي لِنُقُودِ الْبَيْعِ دُونَ الْعِتْقِ كَمِلْكِ الْمُكَاتَبِ .

قَالَ ( وَوَلَدُ الْمَغْصُوبَةِ وَنَمَاؤُهَا ، وَثَمَرَةُ الْبُسْتَانِ الْمَغْصُوبِ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْغَاصِبِ إنْ هَلَكَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، إلَّا أَنْ يُتَعَدَّى فِيهَا أَوْ يَطْلُبَهَا مَالِكُهَا فَيَمْنَعُهَا إيَّاهُ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : زَوَائِدُ الْمَغْصُوبِ مَضْمُونَةٌ مُتَّصِلَةً كَانَتْ أَوْ مُنْفَصِلَةً لِوُجُودِ الْغَصْبِ ، وَهُوَ إثْبَاتُ الْيَدِ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ رِضَاهُ ، كَمَا فِي الظَّبْيَةِ الْمُخْرَجَةِ مِنْ الْحَرَمِ إذَا وَلَدَتْ فِي يَدِهِ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ .
وَلَنَا أَنَّ الْغَصْبَ إثْبَاتُ الْيَدِ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ عَلَى وَجْهٍ يُزِيلُ يَدَ الْمَالِكِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَيَدُ الْمَالِكِ مَا كَانَتْ ثَابِتَةً عَلَى هَذِهِ الزِّيَادَةِ حَتَّى يُزِيلَهَا الْغَاصِبُ ، وَلَوْ اُعْتُبِرَتْ ثَابِتَةً عَلَى الْوَلَدِ لَا يُزِيلُهَا ، إذْ الظَّاهِرُ عَدَمُ الْمَنْعِ ، حَتَّى لَوْ مَنَعَ الْوَلَدَ بَعْدَ طَلَبِهِ يَضْمَنُهُ ، وَكَذَا إذَا تَعَدَّى فِيهِ كَمَا قَالَ فِي الْكِتَابِ : وَذَلِكَ بِأَنْ أَتْلَفَهُ أَوْ ذَبَحَهُ وَأَكَلَهُ أَوْ بَاعَهُ وَسَلَّمَهُ ، وَفِي الظَّبْيَةِ الْمُخْرَجَةِ لَا يَضْمَنُ وَلَدَهَا إذَا هَلَكَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْإِرْسَالِ لِعَدَمِ الْمَنْعِ ، وَإِنَّمَا يَضْمَنُهُ إذَا هَلَكَ بَعْدَهُ لِوُجُودِ الْمَنْعِ بَعْدَ طَلَبِ صَاحِبِ الْحَقِّ وَهُوَ الشَّرْعُ ، عَلَى هَذَا أَكْثَرُ مَشَايِخِنَا .
وَلَوْ أَطْلَقَ الْجَوَابَ فَهُوَ ضَمَانُ جِنَايَةٍ ، وَلِهَذَا يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهَا ، وَيَجِبُ بِالْإِعَانَةِ وَالْإِشَارَةِ ، فَلَأَنْ يَجِبَ بِمَا هُوَ فَوْقَهَا وَهُوَ إثْبَاتُ الْيَدِ عَلَى مُسْتَحِقِّ الْأَمْنِ أَوْلَى وَأَحْرَى .

( قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّ الْغَصْبَ إثْبَاتُ الْيَدِ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ عَلَى وَجْهٍ يُزِيلُ يَدَ الْمَالِكِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَيَدُ الْمَالِكِ مَا كَانَتْ ثَابِتَةً عَلَى هَذِهِ الزِّيَادَةِ حَتَّى يُزِيلَهَا الْغَاصِبُ ) وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَضْمَنَ الْوَلَدَ إذَا غَصَبَ الْجَارِيَةَ حَامِلًا ؛ لِأَنَّ الْيَدَ كَانَتْ ثَابِتَةً عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا غَصَبَهَا غَيْرَ حَامِلٍ فَحَبِلَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ وَوَلَدَتْ ، وَالرِّوَايَةُ فِي الْأَسْرَارِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْحَمْلَ قَبْلَ الِانْفِصَالِ لَيْسَ بِمَالٍ ، بَلْ يُعَدُّ عَيْبًا فِي الْأَمَةِ فَلَمْ يُصَدَّقُ عَلَيْهِ إثْبَاتُ الْيَدِ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَكَثِيرٍ مِنْ الشُّرُوحِ .
أَقُولُ : فِي الْجَوَابِ بَحْثٌ ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ قَبْلَ الِانْفِصَالِ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَالًا لَمَا صَحَّ إعْتَاقُهُ وَتَدْبِيرُهُ ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ مَحَلَّ الْإِعْتَاقِ وَالتَّدْبِيرِ لَا يَكُونُ إلَّا مَالًا مَمْلُوكًا ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي مَحَلِّهِ أَنَّهُ يَصِحُّ إعْتَاقُهُ وَتَدْبِيرُهُ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَالًا .
وَلَئِنْ سُلِّمَ أَنَّ مَحَلَّ الْإِعْتَاقِ وَالتَّدْبِيرِ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَالًا بَلْ يَكْفِي أَنْ يَكُونَ مِلْكًا ، وَأَنَّ الْمِلْكَ يَجُوزُ أَنْ يَتَحَقَّقَ فِي غَيْرِ الْمَالِ أَيْضًا .
فَالْجَوَابُ الْمَذْكُورُ لَا يُصْلِحُ عِبَارَةَ الْكِتَابِ ؛ لِأَنَّ الْحَاصِلَ مِنْهُ أَنَّ وَجْهَ عَدَمِ ضَمَانِ الْوَلَدِ فِيمَا إذَا غَصَبَ الْجَارِيَةَ حَامِلًا هُوَ عَدَمُ كَوْنِ الْحَمْلِ قَبْلَ الِانْفِصَالِ مَالًا ، لَا أَنَّ يَدَ الْمَالِكِ مَا كَانَتْ ثَابِتَةً عَلَيْهِ ، وَقَدْ قَالَ فِي الْكِتَابِ : وَيَدُ الْمَالِكِ مَا كَانَتْ ثَابِتَةً عَلَى هَذِهِ الزِّيَادَةِ حَتَّى يُزِيلَهَا الْغَاصِبُ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْعِبَارَةَ لَا تَتَنَاوَلُ مَا إذَا غَصَبَ الْجَارِيَةَ حَامِلًا مَعَ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ الزِّيَادَةَ فِي هَاتِيكَ الصُّورَةِ أَيْضًا كَمَا ذَكَرَ فِي الْأَسْرَارِ ، فَلَمْ يَنْدَفِعْ وُرُودُ الِاعْتِرَاضِ الْمَذْكُورِ عَلَى عِبَارَةِ الْكِتَابِ كَمَا لَا

يَخْفَى ( قَوْلُهُ وَلَوْ اُعْتُبِرَتْ ثَابِتَةً عَلَى الْوَلَدِ لَا يُزِيلُهَا إذْ الظَّاهِرُ عَدَمُ الْمَنْعِ ) أَقُولُ : هَذَا إنَّمَا يَتِمُّ فِيمَا إذَا غَصَبَ الْجَارِيَةَ غَيْرَ حَامِلٍ فَحَبِلَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ .
وَأَمَّا فِيمَا إذَا غَصَبَهَا حَامِلًا فَلَا ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ كَانَ جُزْءًا مِنْ أُمِّهِ حِينَ الْغَصْبِ فَكَانَ إزَالَةُ يَدِ الْمَالِكِ عَنْ أُمِّهِ مُسْتَلْزِمًا لِإِزَالَتِهَا عَنْهُ أَيْضًا ضَرُورَةَ اسْتِلْزَامِ إزَالَةِ الْيَدِ عَنْ الْكُلِّ إزَالَتَهَا عَنْ أَجْزَائِهِ ، فَلَا يُتَصَوَّرُ إذْ ذَاكَ أَنْ يُقَالَ : وَلَوْ اُعْتُبِرَتْ ثَابِتَةً عَلَى الْوَلَدِ لَا يُزِيلُهَا ، وَلَا يَصِحُّ التَّعْلِيلُ بِأَنْ يُقَالَ : إذْ الظَّاهِرُ عَدَمُ الْمَنْعِ ؛ لِأَنَّ مَنْعَ الْكُلِّ بِإِزَالَةِ يَدِ الْمَالِكِ عَنْهُ مَنْعٌ لِجُزْئِهِ أَيْضًا ، وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا غَصَبَهَا حَامِلًا وَبَيْنَ مَا إذَا غَصَبَهَا غَيْرَ حَامِلٍ فَحَبِلَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ فِي كَوْنِ الْوَلَدِ غَيْرَ مَضْمُونٍ عِنْدَنَا ، فَكَانَ التَّعْلِيلُ الْمَذْكُورُ قَاصِرًا عَنْ إفَادَةِ تَمَامِ الْمَسْأَلَةِ .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَعُورِضَ بِأَنَّ الْأُمَّ مَضْمُونَةٌ أَلْبَتَّةَ ، وَالْأَوْصَافُ الْقَارَّةُ فِي الْأُمَّهَاتِ تَسْرِي إلَى الْأَوْلَادِ كَالْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ وَالْمِلْكِ فِي الشِّرَاءِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الضَّمَانَ لَيْسَ بِصِفَةٍ قَارَّةٍ فِي الْأُمِّ بَلْ هُوَ لُزُومُ حَقٍّ فِي ذِمَّةِ الْغَاصِبِ فَإِنْ وَصَفَ بِهِ الْمَالَ كَانَ مَجَازًا ا هـ كَلَامُهُ .
وَقَدْ سَبَقَهُ إلَى ذِكْرِ مَضْمُونِ هَذَا السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ صَاحِبَا النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ .
أَقُولُ : فِي الْجَوَابِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ مَصْدَرٌ لِلْفِعْلِ الْمُتَعَدِّي ، يُقَالُ : ضَمِنَهُ ضَمَانًا ، وَلِمِثْلِ هَذَا الْمَصْدَرِ تَعَلُّقٌ بِالْفَاعِلِ ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَصِيرُ وَصْفًا لَهُ وَتَعَلُّقٌ بِالْمَفْعُولِ بِهِ ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَصِيرُ وَصْفًا لَهُ أَيْضًا ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ الْمُحَقِّقُ التَّفْتَازَانِيُّ فِي التَّلْوِيحِ فِي فَصْلِ أَلْفَاظِ الْعَامِّ

وَحَقَّقَهُ حَيْثُ قَالَ : إنَّ الْفِعْلَ الْمُتَعَدِّيَ مُحْتَاجٌ إلَى الْمَفْعُولِ بِهِ فِي التَّعَقُّلِ وَالْوُجُودِ جَمِيعًا ، وَإِلَى الْمَفْعُولِ فِيهِ فِي الْوُجُودِ فَقَطْ .
وَقَالَ : وَلَهُ تَعَلُّقٌ بِالْفَاعِلِ ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ هُوَ وَصْفٌ لَهُ ، وَتَعَلُّقٌ بِالْمَفْعُولِ بِهِ ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ هُوَ وَصْفٌ لَهُ .
وَقَالَ : وَلَا امْتِنَاعَ فِي قِيَامِ الْإِضَافِيَّاتِ بِالْمُضَافِينَ ، وَرَدَّ بِهِ قَوْلَ صَاحِبِ الْكَشْفِ إنَّ الضَّرْبَ قَائِمٌ بِالضَّارِبِ فَلَا يَقُومُ بِالْمَضْرُوبِ لِامْتِنَاعِ قِيَامِ الْوَصْفِ الْوَاحِدِ بِشَخْصَيْنِ ، فَقَدْ ظَهَرَ مِنْهُ أَنَّ الضَّمَانَ كَمَا يُوصَفُ بِهِ الْغَاصِبُ حَقِيقَةً فَيُقَالُ هُوَ ضَامِنٌ يُوصَفُ بِهِ الْمَالُ أَيْضًا حَقِيقَةً فَيُقَالُ هُوَ مَضْمُونٌ ، فَقَوْلُ هَؤُلَاءِ الشُّرَّاحِ فَإِنْ وُصِفَ بِهِ الْمَالُ كَانَ مَجَازًا مَمْنُوعٌ جِدًّا .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : فَإِنْ قِيلَ : قَدْ وُجِدَ الضَّمَانُ فِي مَوَاضِعَ وَلَمْ تَتَحَقَّقْ الْعِلَّةُ الْمَذْكُورَةُ فِيهَا فَكَانَ أَمَارَةَ زَيْفِهَا ، وَذَلِكَ كَغَاصِبِ الْغَاصِبِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ وَإِنْ لَمْ يُزِلْ يَدَ الْمَالِكِ بَلْ أَزَالَ يَدَ الْغَاصِبِ ، وَكَالْمُلْتَقِطِ إذَا لَمْ يَشْهَدْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْإِشْهَادِ وَلَمْ يُزِلْ يَدًا ، وَالْمَغْرُورُ إذَا مَنَعَ الْوَلَدَ يَضْمَنُ بِهِ الْوَلَدَ وَلَمْ يُزِلْ يَدًا فِي حَقِّ الْوَلَدِ ، وَيَضْمَنُ الْأَمْوَالَ بِالْإِتْلَافِ تَسَبُّبًا كَحَفْرِ الْبِئْرِ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ وَلَيْسَ ثَمَّةَ إزَالَةُ يَدِ أَحَدٍ وَلَا إثْبَاتُهَا .
فَالْجَوَابُ أَنَّ مَا قُلْنَا إنَّ الْغَصْبَ عَلَى التَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ يُوجِبُ الضَّمَانَ مُطَّرِدٌ لَا مَحَالَةَ .
وَأَمَّا أَنَّ كُلَّ مَا يُوجِبُ الضَّمَانَ كَانَ غَصْبًا فَلَمْ يُلْتَزَمْ ذَلِكَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الضَّمَانُ حُكْمًا نَوْعِيًّا يَثْبُتُ كُلُّ شَخْصٍ مِنْهُ بِشَخْصٍ مِنْ الْعِلَّةِ مِمَّا يَكُونُ تَعَدِّيًا ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
أَقُولُ : هَذَا الْجَوَابُ لَيْسَ بِتَامٍّ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُفِيدُ أَنْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالسُّؤَالِ الْمَذْكُورِ أَنَّ قَوْلَك الْغَصْبُ عَلَى التَّفْسِيرِ

الْمَذْكُورِ يُوجِبُ الضَّمَانَ غَيْرَ مُنْعَكِسٍ لَتَحَقَّقَ وُجُوبُ الضَّمَانِ فِي الصُّورَةِ الْمَزْبُورَةِ بِدُونِ تَحَقُّقِ الْغَصْبِ عَلَى التَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ فِيهَا .
وَأَمَّا إذَا كَانَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّ تَعْلِيلَ مَسْأَلَتِنَا بِالْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكِتَابِ مُنْتَقَضٌ بِالصُّورَةِ الْمَزْبُورَةِ ؛ لِأَنَّ حَاصِلَ هَذِهِ الْعِلَّةِ أَنَّ تَفْسِيرَ الْغَصْبِ بِمَا ذَكَرْنَا لَمْ يَتَحَقَّقْ فِي زَوَائِدِ الْمَغْصُوبِ فَلَمْ يَجِبْ الضَّمَانُ فِيهَا ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ التَّفْسِيرَ غَيْرُ مُتَحَقَّقٍ فِي الصُّورَةِ الْمَزْبُورَةِ أَيْضًا مَعَ وُجُوبِ الضَّمَانِ فِيهَا فَلَا يَدْفَعُ ذَلِكَ الْجَوَابُ الْمَذْكُورُ ذَلِكَ السُّؤَالَ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ .
فَالْأَوْلَى فِي السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ مَا فُصِّلَ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ ، فَإِنْ شِئْت فَرَاجِعْهُمَا .
( قَوْلُهُ وَلِهَذَا يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهَا ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَحَلِّ : أَيْ يَتَكَرَّرُ الْجَزَاءُ بِتَكَرُّرِ هَذِهِ الْجِنَايَةِ ، فَإِنَّهُ لَوْ أَدَّى الضَّمَانَ بِسَبَبِ إخْرَاجِ الصَّيْدِ عَنْ الْحَرَمِ ثُمَّ أَرْسَلَهُ فِي الْحَرَمِ ثُمَّ أَخْرَجَ ذَلِكَ الصَّيْدَ مِنْ الْحَرَمِ يَجِبُ ضَمَانٌ آخَرُ ، كَذَا وَجَدْتُ بِخَطِّ شَيْخِي ، وَلَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ يَتَكَرَّرُ وُجُوبُ الْإِرْسَالِ بِتَكَرُّرِ هَذِهِ الْجِنَايَةِ الَّتِي هِيَ الْإِخْرَاجُ مِنْ الْحَرَمِ ، وَهَذَا أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ أَوْفَقُ لِرِوَايَةِ الْمَبْسُوطِ فِي الْمَنَاسِكِ حَيْثُ جَعَلَ هُنَاكَ إيصَالَ صَيْدِ الْحَرَمِ إلَى الْحَرَمِ بِمَنْزِلَةِ إيصَالُ الْمَغْصُوبِ إلَى يَدِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ .
وَفِي الْغَصْبِ إذَا وَصَلَ الْمَغْصُوبُ إلَى الْمَالِكِ كَمَا غُصِبَ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْغَاصِبِ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ يَتَكَرَّرُ وُجُوبُ الرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ بِتَكَرُّرِ الْغَصْبِ فَكَذَا هُنَا ، إلَى هُنَا لَفْظُ النِّهَايَةِ .
وَاقْتَفَى أَثَرَهُ أَكْثَرُ الشُّرَّاحِ فِي تَجْوِيزِ الْمَعْنَيَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ هَاهُنَا ، وَلَكِنْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ سِوَاهُ بِتَرْجِيحِ الْمَعْنَى الثَّانِي عَلَى

الْأَوَّلِ ، وَمِنْهُمْ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَحَلِّ : وَلِهَذَا يَتَكَرَّرُ الْجَزَاءُ بِتَكَرُّرِ هَذِهِ الْجِنَايَةِ فَإِنَّهُ لَوْ أَدَّى الضَّمَانَ بِسَبَبِ إخْرَاجِ الصَّيْدِ عَنْ الْحَرَمِ ثُمَّ أَرْسَلَهُ فِيهِ ثُمَّ أَخْرَجَ ذَلِكَ الصَّيْدَ مِنْ الْحَرَمِ وَجَبَ جَزَاءٌ آخَرُ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ يَتَكَرَّرُ وُجُوبُ الْإِرْسَالِ بِتَكَرُّرِ هَذِهِ الْجِنَايَةِ الَّتِي هِيَ الْإِخْرَاجُ مِنْ الْحَرَمِ ا هـ كَلَامُهُ .
أَقُولُ : لَا جَوَازَ عِنْدِي لِلْمَعْنَى الثَّانِي هَاهُنَا أَصْلًا فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْأَوْلَى كَمَا زَعَمَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : فَإِنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهَا مُتَفَرِّعٌ عَلَى قَوْلِهِ فَهُوَ ضَمَانُ جِنَايَةٍ كَمَا تَرَى ، وَلَا يَصِحُّ هَذَا التَّفَرُّعُ عَلَى تَقْدِيرِ حَمْلِ قَوْلِهِ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهَا عَلَى الْمَعْنَى الثَّانِي ؛ لِأَنَّ تَكَرُّرَ وُجُوبِ الْإِرْسَالِ بِتَكَرُّرِ الْإِخْرَاجِ مِنْ الْحَرَمِ لَا يَكُونُ أَمَارَةً عَلَى كَوْنِ ضَمَانِ وَلَدِ الظَّبْيَةِ ضَمَانَ جِنَايَتِهِ لَا ضَمَانَ غَصْبٍ فَإِنَّ تَكَرُّرَ وُجُوبِ الْإِرْسَالِ بِتَكَرُّرِ الْإِخْرَاجِ مِنْ الْحَرَمِ يَنْتَظِمُ كَوْنَ ضَمَانِ وَلَدِ الظَّبْيَةِ ضَمَانَ جِنَايَةٍ وَكَوْنَهُ ضَمَانَ غَصْبٍ عَلَى السَّوَاءِ كَمَا لَا يَخْفَى ، بَلْ رِوَايَةُ الْمَبْسُوطِ فِي الْمَنَاسِكِ أَوْفَقُ لِكَوْنِهِ ضَمَانَ غَصْبٍ عَلَى مَا قَرَّرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ حَيْثُ قَالَ : جَعَلَ هُنَاكَ إيصَالَ صَيْدِ الْحَرَمِ إلَى الْحَرَمِ بِمَنْزِلَةِ إيصَالِ الْمَغْصُوبِ إلَى يَدِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ وَفِي الْغَصْبِ إذَا وَصَلَ الْمَغْصُوبُ إلَى الْمَالِكِ كَمَا غُصِبَ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْغَاصِبِ مِنْ شَيْءٍ .
وَلَكِنْ يَتَكَرَّرُ وُجُوبُ الرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ بِتَكَرُّرِ الْغَصْبِ فَكَذَا هُنَا ا هـ تَدَبَّرْ تَقِفُ

قَالَ ( وَمَا نَقَصَتْ الْجَارِيَةُ بِالْوِلَادَةِ فِي ضَمَانِ الْغَاصِبِ ، فَإِنْ كَانَ فِي قِيمَةِ الْوَلَدِ وَفَاءً بِهِ انْجَبَرَ النُّقْصَانُ بِالْوَلَدِ وَسَقَطَ ضَمَانُهُ عَنْ الْغَاصِبِ ) وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ : لَا يَنْجَبِرُ النُّقْصَانُ بِالْوَلَدِ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ مِلْكُهُ فَلَا يَصْلُحُ جَابِرًا لِمِلْكِهِ كَمَا فِي وَلَدِ الظَّبْيَةِ ، وَكَمَا إذَا هَلَكَ الْوَلَدُ قَبْلَ الرَّدِّ أَوْ مَاتَتْ الْأُمُّ وَبِالْوَلَدِ وَفَاءٌ ، وَصَارَ كَمَا إذَا جَزَّ صُوفَ شَاةِ غَيْرِهِ أَوْ قَطَعَ قَوَائِمَ شَجَرِ غَيْرِهِ أَوْ خَصَى عَبْدَ غَيْرِهِ أَوْ عَلَّمَهُ الْحِرْفَةَ فَأَضْنَاهُ التَّعْلِيمُ .
وَلَنَا أَنَّ سَبَبَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَاحِدٌ ، وَهُوَ الْوِلَادَةُ أَوْ الْعُلُوقُ عَلَى مَا عُرِفَ ، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يُعَدُّ نُقْصَانًا فَلَا يُوجِبُ ضَمَانًا ، وَصَارَ كَمَا إذَا غَصَبَ جَارِيَةً سَمِينَةً فَهَزَلَتْ ثُمَّ سَمِنَتْ أَوْ سَقَطَتْ ثَنِيَّتُهَا ثُمَّ نَبَتَتْ أَوْ قُطِعَتْ يَدُ الْمَغْصُوبِ فِي يَدِهِ وَأَخَذَ أَرْشَهَا وَأَدَّاهُ مَعَ الْعَبْدِ يُحْتَسَبُ عَنْ نُقْصَانِ الْقَطْعِ ، وَوَلَدُ الظَّبْيَةِ مَمْنُوعٌ ، وَكَذَا إذَا مَاتَتْ الْأُمُّ .
وَتَخْرِيجُ الثَّانِيَةِ أَنَّ الْوِلَادَةَ لَيْسَتْ بِسَبَبٍ لِمَوْتِ الْأُمِّ ، إذْ الْوِلَادَةُ لَا تُفْضِي إلَيْهِ غَالِبًا ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ الْوَلَدُ قَبْلَ الرَّدِّ ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ رَدِّ أَصْلِهِ لِلْبَرَاءَةِ ، فَكَذَا لَا بُدَّ مِنْ رَدِّ خَلَفِهِ ، وَالْخِصَاءُ لَا يُعَدُّ زِيَادَةً ؛ لِأَنَّهُ غَرَضُ بَعْضِ الْفَسَقَةِ ، وَلَا اتِّحَادَ فِي السَّبَبِ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ النُّقْصَانِ الْقَطْعُ وَالْجَزُّ ، وَسَبَبَ الزِّيَادَةِ النُّمُوُّ ، وَسَبَبَ النُّقْصَانِ التَّعْلِيمُ ، وَالزِّيَادَةُ سَبَبَهَا الْفَهْمُ .
.

( قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّ سَبَبَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَاحِدٌ وَهُوَ الْوِلَادَةُ أَوْ الْعُلُوقُ عَلَى مَا عُرِفَ ) ذَهَبَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ وَهُمْ أَصْحَابُ الْكِفَايَةِ وَالنِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ إلَى أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ عَلَى مَا عُرِفَ إشَارَةٌ إلَى مَا يَجِيءُ فِي مَسْأَلَةِ مَنْ غَصَبَ جَارِيَةً فَزَنَى بِهَا ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ وَهُوَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ إلَى أَنَّهُ إشَارَةٌ إلَى مَا ذُكِرَ فِي طَرِيقَةِ الْخِلَافِ .
وَاخْتَارَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ الثَّانِي ، وَذَكَرَ الْأَوَّلَ أَيْضًا بِطَرِيقِ النَّقْلِ حَيْثُ قَالَ : يَعْنِي فِي طَرِيقَةِ الْخِلَافِ ، وَقِيلَ فِي مَسْأَلَةِ مَنْ غَصَبَ جَارِيَةً فَزَنَى بِهَا عَلَى مَا يَجِيءُ ا هـ .
أَقُولُ : لَا مَجَالَ عِنْدِي لِلْحَمْلِ عَلَى الْأَوَّلِ أَصْلًا ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّبَبِ هَاهُنَا سَبَبُ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ ، وَبِمَا يَجِيءُ فِي مَسْأَلَةِ مَنْ غَصَبَ جَارِيَةً فَزَنَى بِهَا سَبَبُ الْمَوْتِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا هُوَ سَبَبٌ لِأَحَدِهِمَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِلْآخَرِ أَيْضًا أَلْبَتَّةَ ، حَتَّى يَصِحَّ حَوَالَةُ مَعْرِفَةِ أَحَدِهِمَا عَلَى مَعْرِفَةِ الْآخَرِ ، أَلَا يَرَى إلَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فِيمَا سَيَأْتِي وَتَخْرِيجُ الثَّانِيَةِ أَنَّ الْوِلَادَةَ لَيْسَتْ بِسَبَبٍ لِمَوْتِ الْأُمِّ إذْ لَا تُفْضِي إلَيْهِ غَالِبًا ا هـ .
فَإِنَّ ذَاكَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْوِلَادَةَ لَا تَكُون سَبَبًا لِمَوْتِ الْأُمِّ ، وَيُعْلَمُ مِنْهُ دَلَالَةً أَنَّ الْعُلُوقَ أَيْضًا لَا يَكُونُ سَبَبًا لَهُ ؛ لِأَنَّ إفْضَاءَهُ إلَى الْمَوْتِ أَبْعَدُ مِنْ إفْضَاءِ الْوِلَادَةِ إلَيْهِ كَمَا لَا يَخْفَى ، مَعَ أَنَّهُ حَكَمَ هَاهُنَا بِأَنَّ سَبَبَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ هُوَ الْوِلَادَةُ وَالْعُلُوقُ .
ثُمَّ إنَّ الْمَعْرُوفَ فِي الْحَوَالَةِ عَلَى مَا يَجِيءُ أَنْ يُقَالَ عَلَى مَا يَجِيءُ أَوْ عَلَى مَا سَيُعْرَفُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ ، وَأَمَّا أَنْ يُقَالَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ عَلَى مَا عُرِفَ فَلَمْ يُعْرَفْ قَطُّ ، فَالْوَجْهُ هُوَ الْحَمْلُ عَلَى مَا عُرِفَ فِي طَرِيقَةِ الْخِلَافِ لَا غَيْرَ ( قَوْلُهُ وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا

يُعَدُّ نُقْصَانًا فَلَا يُوجِبُ ضَمَانًا ) ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْوَاحِدَ لَمَّا أَثَّرَ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ كَانَتْ الزِّيَادَةُ خَلَفًا عَنْ النُّقْصَانِ ، كَالْبَيْعِ لَمَّا أَزَالَ الْمَبِيعَ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ دَخَلَ الثَّمَنُ فِي مِلْكِهِ فَكَانَ الثَّمَنُ خَلَفًا عَنْ مَالِيَّةِ الْمَبِيعِ لِاتِّحَادِ السَّبَبِ ، حَتَّى إنَّ الشَّاهِدَيْنِ إذَا شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ بِبَيْعِ شَيْءٍ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ فَقَضَى الْقَاضِي بِهِ ثُمَّ رَجَعَا لَمْ يَضْمَنَا شَيْئًا ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْفَوَاتَ إلَى خَلَفٍ كَلَا فَوَاتٍ ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ جَوَابٌ لِلْخَصْمِ عَنْ أَصْلِ دَلِيلِهِ ، وَهُوَ أَنَّ الْوَلَدَ مِلْكُ الْمَوْلَى فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ جَابِرًا لِنُقْصَانٍ وَقَعَ فِي مِلْكِهِ بَلْ هُوَ عَلَى حَالِهِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُصَنِّفَ أَشَارَ إلَى جَوَابِهِ بِقَوْلِهِ لَا يُعَدُّ نُقْصَانًا ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يُعَدَّ نُقْصَانًا لَمْ يَحْتَجْ إلَى جَابِرٍ ، فَإِطْلَاقُ الْجَابِرِ عَلَيْهِ تَوَسُّعٌ ، هَذَا زُبْدَةُ مَا فِي النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ .
أَقُولُ : الْجَوَابُ مَنْظُورٌ فِيهِ ، فَإِنَّ النُّقْصَانَ أَمْرٌ مُحَقَّقٌ لَا مَجَالَ لِإِنْكَارِ وُقُوعِهِ ، إذْ وَضْعُ مَسْأَلَتِنَا فِيمَا إذَا نَقَصَتْ الْجَارِيَةُ بِالْوِلَادَةِ ، وَلَا يُرَى وَجْهٌ لَأَنْ لَا يُعَدُّ ذَلِكَ النُّقْصَانُ الْمُحَقَّقُ نُقْصَانًا سِوَى انْجِبَارِ ذَلِكَ النُّقْصَانِ بِالزِّيَادَةِ الَّتِي هِيَ الْوَلَدُ ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ الشُّرَّاحِ قَاطِبَةً فِي شَرْحِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يُعَدُّ نُقْصَانًا كَمَا مَرَّ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ ( فَإِنْ كَانَ فِي قِيمَةِ الْوَلَدِ وَفَاءً بِهِ جُبِرَ النُّقْصَانِ بِالْوَلَدِ وَسَقَطَ ضَمَانُهُ عَنْ الْغَاصِبِ ) ، وَلَوْ كَانَ إطْلَاقُ الْجَابِرِ عَلَيْهِ تَوَسُّعًا وَلَمْ يُوجَدْ الْجَبْرُ حَقِيقَةً لَمْ يَظْهَرْ وَجْهٌ لَأَنْ يُعَدَّ نُقْصَانُ الْمَغْصُوبِ الْوَاقِعِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ نُقْصَانًا مُوجِبًا لِلضَّمَانِ فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ ، وَأَنْ لَا يُعَدَّ نُقْصَانُهُ الْوَاقِعُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ

فِيمَا نَحْنُ فِيهِ نُقْصَانًا مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عِنْدَنَا بَلْ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَحَكُّمًا بَحْتًا ، وَحَاشَا لِأَئِمَّتِنَا مِنْ ذَلِكَ فَلْيُتَأَمَّلْ .
( قَوْلُهُ وَصَارَ كَمَا إذَا غَصَبَ جَارِيَةً سَمِينَةً فَهَزَلَتْ ثُمَّ سَمِنَتْ أَوْ سَقَطَتْ ثَنِيَّتُهَا ثُمَّ نَبَتَتْ ) أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : لَا اتِّحَادَ فِي السَّبَبِ فِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ سَبَبَ النُّقْصَانِ وَهُوَ الْهُزَالُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى وَسُقُوطُ الثَّنِيَّةِ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ يُغَايِرُ سَبَبَ الزِّيَادَةِ وَهِيَ السِّمَنُ فِي الْأُولَى وَنَبْتُ الثَّنِيَّةِ فِي الثَّانِيَةِ .
وَقَدْ رَدَّ الْمُصَنِّفُ فِيمَا بَعْدُ قِيَاسَ الْخَصْمِ عَلَى نَحْوِ جَزِّ صُوفِ شَاةٍ وَقَطْعِ قَوَائِمِ الشَّجَرِ بِعَدَمِ الِاتِّحَادِ فِي السَّبَبِ فِي الْمَقِيسِ عَلَيْهِ فَكَيْفَ تَشَبَّثَ هَاهُنَا بِالْقِيَاسِ عَلَى تَيْنِكَ الصُّورَتَيْنِ مَعَ عَدَمِ الِاتِّحَادِ فِي السَّبَبِ فِيهَا أَيْضًا .
ثُمَّ أَقُولُ فِي الْجَوَابِ : إنَّ الْفَرْقَ بِاتِّحَادِ السَّبَبِ وَعَدَمِ اتِّحَادِهِ إنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي قَدْحِ الْقِيَاسِ فِي عَدَمِ سُقُوطِ الضَّمَانِ كَمَا هُوَ مُدَّعَى الْخَصْمِ ، إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ سُقُوطِهِ عِنْدَ عَدَمِ اتِّحَادِ السَّبَبِ عَدَمُ سُقُوطِهِ عِنْدَ اتِّحَادِهِ ، إذْ يُمْكِنُ عِنْدَ اتِّحَادِهِ أَنْ لَا يُعَدَّ النُّقْصَانُ نُقْصَانًا كَمَا ذَكَرُوهُ ، بِخِلَافِ عَدَمِ اتِّحَادِهِ ، إذْ لَا وَجْهَ عِنْدَهُ أَصْلًا لِئَلَّا يُعَدَّ النُّقْصَانُ نُقْصَانًا ، وَلَا يَقْدَحُ ذَلِكَ الْفَرْقُ فِي الْقِيَاسِ فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ كَمَا هُوَ مُدَّعَانَا ؛ لِأَنَّهُ إذَا سَقَطَ الضَّمَانُ عِنْدَ عَدَمِ اتِّحَادِ السَّبَبِ مَعَ عَدَمِ جَوَازِ أَنْ لَا يُعَدُّ النُّقْصَانُ هُنَاكَ نُقْصَانًا فَلَأَنْ يَسْقُطُ الضَّمَانُ عِنْدَ اتِّحَادِ السَّبَبِ مَعَ جَوَازِ أَنْ لَا يُعَدَّ النُّقْصَانُ هُنَا نُقْصَانًا أَوْلَى كَمَا لَا يَخْفَى فَتَدَبَّرْ ، فَإِنَّهُ وَجْهٌ لَطِيفٌ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْقِيَاسَيْنِ وَلَمْ أُسْبَقْ إلَى كَشْفِهِ وَبَيَانِهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : وَالْفَرْقُ أَنَّ الثَّنِيَّةَ لَا قِيمَةَ

لَهَا بِخِلَافِ الْقَوَائِمِ وَالصُّوفِ ا هـ .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ الثَّنِيَّةَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا قِيمَةٌ إلَّا أَنَّ سُقُوطَهَا يُورِثُ نُقْصَانًا لِلْجَارِيَةِ بِلَا رَيْبٍ ، وَالْكَلَامُ فِي نُقْصَانِ الْجَارِيَةِ الْمَغْصُوبَةِ فَلَا يُفِيدُ ذَلِكَ الْفَرْقُ شَيْئًا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ

قَالَ ( وَمَنْ غَصَبَ جَارِيَةً فَزَنَى بِهَا فَحَبِلَتْ ثُمَّ رَدَّهَا وَمَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا يَضْمَنُ قِيمَتَهَا يَوْمَ عَلِقَتْ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الْحُرَّةِ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : لَا يَضْمَنُ فِي الْأَمَةِ أَيْضًا ) لَهُمَا أَنَّ الرَّدَّ قَدْ صَحَّ ، وَالْهَلَاكُ بَعْدَهُ بِسَبَبٍ حَدَثَ فِي يَدِ الْمَالِكِ وَهُوَ الْوِلَادَةُ فَلَا يَضْمَنُ الْغَاصِبُ .
كَمَا إذَا حُمَّتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ ثُمَّ رَدَّهَا فَهَلَكَتْ .
أَوْ زَنَتْ فِي يَدِهِ ثُمَّ رَدَّهَا فَجُلِدَتْ فَهَلَكَتْ مِنْهُ ، وَكَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً قَدْ حَبِلَتْ عِنْدَ الْبَائِعِ فَوَلَدَتْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي وَمَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا لَا يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ .
وَلَهُ أَنَّهُ غَصَبَهَا وَمَا انْعَقَدَ فِيهَا سَبَبُ التَّلَفِ وَرُدَّتْ وَفِيهَا ذَلِكَ فَلَمْ يُوجَدْ الرَّدُّ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَخَذَ فَلَمْ يَصِحَّ الرَّدُّ ، وَصَارَ كَمَا إذَا جَنَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ جِنَايَةً فَقُتِلَتْ بِهَا فِي يَدِ الْمَالِكِ ، أَوْ دُفِعَتْ بِهَا بِأَنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ خَطَأً يُرْجَعُ عَلَى الْغَاصِبِ بِكُلِّ الْقِيمَةِ .
كَذَا هَذَا .
بِخِلَافِ الْحُرَّةِ ؛ لِأَنَّهَا لَا تُضْمَنُ بِالْغَصْبِ لِيَبْقَى ضَمَانُ الْغَصْبِ بَعْدَ فَسَادِ الرَّدِّ .
وَفِي فَصْلِ الشِّرَاءِ الْوَاجِبِ ابْتِدَاءِ التَّسْلِيمِ .
مَا ذَكَرْنَا شَرْطُ صِحَّةِ الرَّدِّ وَالزِّنَا سَبَبٌ لِجَلْدٍ مُؤْلِمٍ لَا جَارِحٍ وَلَا مُتْلِفٍ فَلَمْ يُوجَدْ السَّبَبُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ .
.
( قَوْلُهُ وَالْهَلَاكُ بَعْدَهُ بِسَبَبٍ حَدَثَ فِي يَدِ الْمَالِكِ وَهُوَ الْوِلَادَةُ ) أَقُولُ : يُرَدُّ عَلَيْهِ فِي الظَّاهِرِ أَنَّهُ جَعَلَ الْوِلَادَةَ هَاهُنَا سَبَبًا لِلْهَلَاكِ ، وَقَدْ صَرَّحَ فِيمَا مَرَّ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِسَبَبٍ لِلْمَوْتِ حَيْثُ قَالَ : وَتَخْرِيجُ الثَّانِيَةِ أَنَّ الْوِلَادَةَ لَيْسَتْ بِسَبَبٍ لِمَوْتِ الْأُمِّ ، إذَا لَا تُفْضِي إلَيْهِ غَالِبًا فَكَانَ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ تَدَافُعٌ فَلْيُتَأَمَّلْ فِي التَّوْجِيهِ

قَالَ ( وَلَا يَضْمَنُ الْغَاصِبُ مَنَافِعَ مَا غَصَبَهُ إلَّا أَنْ يَنْقُصَ بِاسْتِعْمَالِهِ فَيَغْرَمُ النُّقْصَانَ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَضْمَنُهَا ، فَيَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ ، وَلَا فَرْقَ فِي الْمَذْهَبَيْنِ بَيْنَ مَا إذَا عَطَّلَهَا أَوْ سَكَنَهَا .
وَقَالَ مَالِكٌ : إنْ سَكَنَهَا يَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ ، وَإِنْ عَطَّلَهَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ .
لَهُ أَنَّ الْمَنَافِعَ أَمْوَالٌ مُتَقَوِّمَةٌ حَتَّى تُضْمَنَ بِالْعُقُودِ فَكَذَا بِالْغُصُوبِ .
وَلَنَا أَنَّهَا حَصَلَتْ عَلَى مِلْكِ الْغَاصِبِ لِحُدُوثِهَا فِي إمْكَانِهِ إذْ هِيَ لَمْ تَكُنْ حَادِثَةً فِي يَدِ الْمَالِكِ ؛ لِأَنَّهَا أَعْرَاضٌ لَا تَبْقَى فَيَمْلِكُهَا دَفْعًا لِحَاجَتِهِ ، وَالْإِنْسَانُ لَا يَضْمَنُ مِلْكَهُ ، كَيْفَ وَأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ غَصْبُهَا وَإِتْلَافُهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا بَقَاءَ لَهَا ، وَلِأَنَّهَا لَا تُمَاثِلُ الْأَعْيَانَ لِسُرْعَةِ فَنَائِهَا وَبَقَاءِ الْأَعْيَانِ ، وَقَدْ عَرَفْت هَذِهِ الْمَآخِذَ فِي الْمُخْتَلِفِ ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا مُتَقَوِّمَةٌ فِي ذَاتِهَا ، بَلْ تُقَوَّمُ ضَرُورَةً عِنْدَ وُرُودِ الْعَقْدِ وَلَمْ يُوجَدْ الْعَقْدُ ، إلَّا أَنَّ مَا اُنْتُقِصَ بِاسْتِعْمَالِهِ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ لِاسْتِهْلَاكِهِ بَعْضَ أَجْزَاءِ الْعَيْنِ .

( قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّهَا حَصَلَتْ عَلَى مِلْكِ الْغَاصِبِ لِحُدُوثِهَا فِي إمْكَانِهِ ، إذْ هِيَ لَمْ تَكُنْ حَادِثَةً فِي يَدِ الْمَالِكِ ؛ لِأَنَّهَا أَعْرَاضٌ لَا تَبْقَى فَيَمْلِكُهَا دَفْعًا لِحَاجَتِهِ وَالْإِنْسَانُ لَا يَضْمَنُ مِلْكَهُ ) لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : مُقْتَضَى هَذَا الدَّلِيلِ أَنْ لَا تَجِبَ الْأُجْرَةُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ فِيمَا إذَا حَدَثَتْ الْمَنَافِعُ فِي يَدِهِ كَمَا فِي اسْتِئْجَارِ الدُّورِ وَالْأَرَاضِيِ وَالدَّوَابِّ وَنَحْوِهَا ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ كَمَا لَا يَضْمَنُ مِلْكَهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْأُجْرَةُ بِمُقَابَلَةِ مِلْكِهِ مَعَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْأُجْرَةُ فِي ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ ، وَلَمْ أَرَ أَحَدًا حَامَ حَوْلَ جَوَابِ هَذَا الْإِشْكَالِ مَعَ ظُهُورِ وُرُودِهِ إلَّا صَاحِبَ غَايَةِ الْبَيَانِ فَإِنَّهُ قَالَ : وَالْجَوَابُ عَنْ مَسْأَلَةِ الْإِيجَابِ .
قُلْنَا : لَا تَجِبُ الْأُجْرَةُ عِنْدَنَا بِمُقَابَلَةِ الْمَنَافِعِ بَلْ بِمُقَابَلَةِ التَّمْكِينِ مِنْ جِهَةِ الْمَالِكِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَنَافِعِ إلَّا بِتَمَكُّنِهِ كَانَ ذَلِكَ طَرِيقًا لِلْوُصُولِ إلَى اسْتِيفَاءِ الْمَنَافِعِ فَأَعْطَى لِمَا هُوَ وَسِيلَةٌ إلَى الْمَنْفَعَةِ حُكْمَ الْمَنْفَعَةِ فِي حَقِّ وُجُوبِ الْأُجْرَةِ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ ا هـ .
أَقُولُ : هَذَا الْجَوَابُ وَإِنْ كَانَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُخَلِّصًا هَاهُنَا إلَّا أَنَّهُ يَسْتَدْعِي تَرْكَ ظَاهِرِ كَثِيرٍ مِمَّا ذَكَرُوا فِي كِتَابِ الْإِجَارَاتِ ، كَقَوْلِهِمْ الْإِجَارَةُ تَمْلِيكُ النَّافِعِ بِعِوَضٍ ، وَقَوْلِهِمْ وَالْقِيَاسُ يَأْبَى جَوَازَهَا ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْمَنْفَعَةُ وَهِيَ مَعْدُومَةٌ ، وَقَوْلُهُمْ وَتَنْعَقِدُ الْإِجَارَةُ سَاعَةً فَسَاعَةً عَلَى حَسْبِ حُدُوثِ الْمَنَافِعِ ؛ لِأَنَّ الْمُعَاوَضَةَ تَقْتَضِي التَّسَاوِي ، وَالْمِلْكَ فِي الْمَنْفَعَةِ الَّتِي هِيَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ يَقَعُ سَاعَةً فَسَاعَةً عَلَى حَسْبِ حُدُوثِهَا فَكَذَا فِي بَدَلِهَا وَهُوَ الْأُجْرَةُ ، وَقَوْلُهُمْ وَالدَّارُ أُقِيمَتْ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ فِي حَقِّ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَيْهَا لِيَرْتَبِطَ الْإِيجَابُ

بِالْقَبُولِ ثُمَّ عَمَلُهُ يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْمَنْفَعَةِ مِلْكًا وَاسْتِحْقَاقًا حَالَ وُجُوبِ الْمَنْفَعَةِ ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ الدَّالَّةِ عَلَى كَوْنِ الْأُجْرَةِ بِمُقَابَلَةِ الْمَنَافِعِ ، وَلَعَلَّ تَأْوِيلَ كُلِّهَا مُتَعَسِّرٌ بَلْ مُتَعَذِّرٌ تَأَمَّلَ تَقِفُ .
ثُمَّ أَقُولُ : الْأَوْلَى فِي الْجَوَابِ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ : اقْتِضَاءُ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ عَدَمَ وُجُوبِ الْأُجْرَةِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ فِيمَا إذَا حَدَثَتْ الْمَنَافِعُ فِي يَدِهِ إنَّمَا هُوَ عَلَى مُوجِبِ الْقِيَاسِ ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْإِجَارَاتِ أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى جَوَازَهَا ، إلَّا أَنَّهَا جُوِّزَتْ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ اسْتِحْسَانًا لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهَا ، وَأَنَّ جَوَازَهَا عِنْدَنَا بِاعْتِبَارِ إقَامَةِ الْعَيْنِ الَّتِي هِيَ لِوُجُودِ الْمَنْفَعَةِ كَالدَّارِ مَثَلًا مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ فِي حَقِّ صِحَّةِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ ، فَيَجُوزُ فِي الْإِجَارَةِ أَنْ تَجِبَ الْأُجْرَةُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ بِمُقَابَلَةِ الْمَنَافِعِ الَّتِي حَصَلَتْ عَلَى مِلْكِهِ بِحُدُوثِهَا فِي يَدِهِ إذَا وَقَعَ التَّرَاضِي عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ إقَامَةِ الْعَيْنِ الَّتِي هِيَ مِلْكُ الْمُؤَجِّرِ وَسَبَبٌ لِوُجُودِ الْمَنْفَعَةِ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ عَلَى مُوجِبِ الِاسْتِحْسَانِ بِالنَّصِّ ، بِخِلَافِ الْغَصْبِ فَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا فَلَا يُرْتَكَبُ فِيهِ مَا يُخَالِفُ الْقِيَاسَ فَتَدَبَّرْ ( قَوْلُهُ : وَلِأَنَّهَا لَا تُمَاثِلُ الْأَعْيَانَ لِسُرْعَةِ فَنَائِهَا وَبَقَاءِ الْأَعْيَانِ ) أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : هَذَا الدَّلِيلُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنَافِعَ الْمَغْصُوبِ لَا تُضْمَنُ بِالْأَعْيَانِ لِعَدَمِ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَهُمَا ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا لَا تُضْمَنُ بِالْمَنَافِعِ الْمُمَاثِلَةِ لَهَا وَالْمُدَّعَى عَدَمُ مَضْمُونِيَّتِهَا أَصْلًا فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ .
وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْهُ بِأَنَّ مَبْنَى تَقْرِيرِ الْمُصَنِّفِ هَذَا الدَّلِيلَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَزْبُورِ تَقَرُّرُ عَدَمِ مَضْمُونِيَّتِهَا بِالْمَنَافِعِ بِالْإِجْمَاعِ ،

فَكَأَنَّهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِنَفْيِ هَذَا الِاحْتِمَالِ لِظُهُورِهِ ، يُرْشِدُ إلَى ذَلِكَ تَقْرِيرُ صَاحِبِ الْكَافِي هَذَا الدَّلِيلَ حَيْثُ قَالَ : وَلَئِنْ سَلَّمْنَا تَصَوُّرَ غَصْبِهَا فَلَا يُمْكِنُ تَضَمُّنُهَا ؛ لِأَنَّهَا لَوْ صَارَتْ مَضْمُونَةً عَلَى الْغَاصِبِ فَإِمَّا أَنْ تُضْمَنَ بِالْمَنَافِعِ وَهُوَ بَاطِلٌ وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ ، أَوْ بِالْأَعْيَانِ وَهُوَ بَاطِلٌ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهَا لَا تُمَاثِلُ الْأَعْيَانَ ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ أَعْرَاضٌ لَا تَبْقَى وَقْتَيْنِ وَالْعَيْنُ تَبْقَى أَوْقَاتًا .
وَبَيْنَ مَا يَبْقَى وَمَا لَا يَبْقَى تَفَاوُتٌ عَظِيمٌ ، وَضَمَانُ الْعُدْوَانِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُمَاثَلَةِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ ، وَيُرْشِدُ إلَيْهِ أَيْضًا تَقْرِيرُ صَاحِبِ غَايَةِ الْبَيَانِ ذَلِكَ الدَّلِيلَ حَيْثُ قَالَ : وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ لَوْ كَانَتْ مَضْمُونَةً عَلَى الْغَاصِبِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ مَضْمُونَةً بِأَمْثَالِهَا مِنْ الْمَنَافِعِ ، أَوْ بِغَيْرِهَا مِنْ الْأَعْيَانِ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَضْمُونَةً بِالْأَمْثَالِ وَهِيَ الْمَنَافِعُ ؛ لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِذَلِكَ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَضْمُونَةً بِالْأَعْيَانِ لِعَدَمِ الْمُمَاثَلَةِ ، وَالْمُمَاثَلَةُ شَرْطٌ فِي ضَمَانِ الْعُدْوَانِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } ا هـ .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَاعْتُرِضَ بِمَا إذَا أَتْلَفَ مَا يُسْرِعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ بِالدَّرَاهِمِ الَّتِي تَبْقَى ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ مِنْ حَيْثُ الْفَنَاءُ وَالْبَقَاءُ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ ، وَبِمَا إذَا اسْتَأْجَرَ الْوَصِيُّ لِلْيَتِيمِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ بِدَرَاهِمِ الْيَتِيمِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ لَا مَحَالَةَ ، وَلَوْ كَانَ مَا ذَكَرْتُمْ صَحِيحًا لَمَا جَازَ ؛ لِأَنَّ الْقُرْبَانَ إلَى مَالِ الْيَتِيمِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِالْوَجْهِ الْأَحْسَنِ .
وَأُجِيبَ عَنْ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ الْمُعْتَبَرَةَ هِيَ مَا تَكُونُ بَيْنَ بَاقٍ وَبَاقٍ لَا بَيْنَ بَاقٍ وَأَبْقَى فَكَانَ السُّؤَالُ غَيْرَ وَارِدٍ ، وَهَذَا رَاجِعٌ

إلَى أَنَّهَا تُعْتَبَرُ بَيْنَ جَوْهَرَيْنِ لَا بَيْنَ جَوْهَرٍ وَعَرَضٍ ، أَلَا يَرَى أَنَّ بَيْعَ الثِّيَابِ بِالدَّرَاهِمِ جَائِزٌ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَبْلَى دُونَ الْآخَرِ ، وَعَنْ الثَّانِي بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ شِرَاءَ الثِّيَابِ بِدَرَاهِمِ الْيَتِيمِ جَائِزٌ لِلْوَصِيِّ مَعَ وُجُودِ التَّفَاوُتِ كَمَا ذَكَرْنَا ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْقُرْبَانَ بِالْأَحْسَنِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ هُوَ مَا لَا يُعَدُّ عَيْبًا فِي التَّصَرُّفَاتِ ا هـ كَلَامُهُ .
أَقُولُ : فِيمَا ذَكَرَهُ فِي كُلٍّ مِنْ الْجَوَابَيْنِ شَيْءٌ .
أَمَّا فِي الْأَوَّلِ ؛ فَلِأَنَّ تَنْوِيرَهُ بِقَوْلِهِ أَلَا يَرَى أَنَّ بَيْعَ الثِّيَابِ بِالدَّرَاهِمِ جَائِزٌ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَبْلَى دُونَ الْآخَرِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ جَوَازَ نَوْعٍ مِنْ التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْبَدَلَيْنِ فِي الْبَيْعِ لَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ فِي ضَمَانِ الْعُدْوَانِ ؛ لِأَنَّ لِلْعَقْدِ وَالرِّضَا تَأْثِيرًا فِي تَجْوِيزِ كَثِيرٍ مِنْ التَّفَاوُتِ ، وَعَنْ هَذَا قَالُوا : يَجُوزُ بَيْعُ عَبْدٍ قِيمَتُهُ أَلْفٌ بِأُلُوفٍ وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ التَّفَاوُتُ فِي ضَمَانِ الْعُدْوَانِ قَطْعًا ، أَلَا يَرَى أَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ جَوْهَرٍ وَعَرَضٍ يَجُوزُ أَيْضًا بِالْعَقْدِ كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَ مَنْفَعَةَ دَارٍ مَثَلًا بِدَرَاهِمَ مُعَيَّنَةٍ مَعَ أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ الْمُعْتَبَرَةَ فِي ضَمَانِ الْعُدْوَانِ لَا تُتَصَوَّرُ بَيْنَ جَوْهَرٍ وَعَرَضٍ كَمَا صَرَّحَا بِهِ .
وَأَمَّا فِي الثَّانِي ؛ فَلِأَنَّ جَوَازَ شِرَاءِ الثِّيَابِ بِدَرَاهِمِ الْيَتِيمِ لِلْوَصِيِّ لَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ اسْتِئْجَارِ الْوَصِيِّ لِلْيَتِيمِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ بِدَرَاهِمِهِ ؛ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ فِي الْأَوَّلِ بَيْنَ جَوْهَرٍ وَجَوْهَرٍ وَهُوَ تَفَاوُتٌ غَيْرُ فَاحِشٍ ، وَالتَّفَاوُتُ فِي الثَّانِي بَيْنَ جَوْهَرٍ وَعَرَضٍ وَهُوَ تَفَاوُتٌ فَاحِشٌ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ جَوَازَ تَصَرُّفِ الْوَصِيِّ فِي مَالِ الْيَتِيمِ بِالتَّفَاوُتِ الْغَيْرِ الْفَاحِشِ لَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَصَرُّفِهِ بِالتَّفَاوُتِ الْفَاحِشِ ، أَلَا يَرَى أَنَّ التَّفَاوُتَ الْفَاحِشَ الَّذِي بَيْنَ جَوْهَرٍ وَعَرَضٍ يَمْنَعُ

الْمُمَاثَلَةَ الْمُعْتَبَرَةَ فِي ضَمَانِ الْعُدْوَانِ دُونَ التَّفَاوُتِ الْغَيْرِ الْفَاحِشِ الَّذِي بَيْنَ جَوْهَرٍ وَجَوْهَرٍ ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ فِي تَصَرُّفِ الْوَصِيِّ فِي مَالِ الْيَتِيمِ أَيْضًا كَذَلِكَ ؟ فَمِنْ أَيْنَ ثَبَتَتْ دَلَالَةُ جَوَازِ شِرَاءِ الثِّيَابِ بِدَرَاهِمِ الْيَتِيمِ لِلْوَصِيِّ عَلَى أَنَّ الْقُرْبَانَ بِالْأَحْسَنِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ هُوَ مُجَرَّدُ مَا لَا يُعَدُّ عَيْبًا فِي التَّصَرُّفَاتِ .
نَعَمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْقُرْبَانِ الْأَحْسَنِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلَّا بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } ذَلِكَ الْمَعْنَى لَكِنَّهُ إنَّمَا يُعْرَفُ بِدَلِيلٍ آخَرَ لَا بِمَا ذَكَرَ مِنْ جَوَازِ شِرَاءِ الثِّيَابِ بِدَرَاهِمِ الْيَتِيمِ لِلْوَصِيِّ .
( قَوْلُهُ وَقَدْ عَرَفْت هَذِهِ الْمَآخِذَ فِي الْمُخْتَلِفِ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْمَآخِذِ : أَيْ الْعِلَلِ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ الْحُكْمِ ، مَا ذَكَرَهُ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ ؛ لِأَنَّهَا حَصَلَتْ فِي مِلْكِ الْغَاصِبِ ، وَثَانِيًا بِقَوْلِهِ إنَّهَا لَا يَتَحَقَّقُ غَصْبُهَا وَإِتْلَافُهَا ، وَثَالِثًا بِقَوْلِهِ : لِأَنَّهَا لَا تُمَاثِلُ الْأَعْيَانَ إلَخْ ا هـ .
أَقُولُ : فِيهِ نَوْعُ خَلَلٍ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ : أَوْ مَا ذَكَرَهُ ، بِكَلِمَةِ أَوْ وَهِيَ لِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعِلَلَ الَّتِي كَانَتْ مَنَاطَ الْحُكْمِ هَاهُنَا وَأَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِهَذِهِ الْمَآخِذِ هِيَ مَا ذَكَرَهُ أَوَّلًا وَثَانِيًا وَثَالِثًا بِأَقْوَالِهِ الْمَزْبُورَةِ لَا أَمْرٌ آخَرُ ، فَكَيْفَ يَصِحُّ الْعَطْفُ بِكَلِمَةِ أَوْ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ هَاهُنَا : أَرَادَ بِالْمَآخِذِ الْعِلَلَ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ الْحُكْمِ ، وَأَرَادَ بِالْمَآخِذِ مَا ذَكَرَهُ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ إنَّهَا حَصَلَتْ فِي مِلْكِ الْغَاصِبِ وَثَانِيًا إنَّهَا لَا يَتَحَقَّقُ غَصْبُهَا وَإِتْلَافُهَا وَثَالِثًا إنَّهَا لَا تُمَاثِلُ الْأَعْيَانَ ، وَالشَّرْطُ فِي ضَمَانِ الْعُدْوَانِ الْمُمَاثَلَةُ بِالنَّصِّ ا هـ .
أَقُولُ : يُرَدُّ عَلَى ظَاهِرِهِ أَنَّ الْعِلَلَ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ الْحُكْمِ

هَاهُنَا هِيَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ أَوَّلًا وَثَانِيًا وَثَالِثًا بِعَيْنِهِ كَمَا عَرَفْتَهُ آنِفًا ، فَمَا مَعْنَى قَوْلِ هَذَا الشَّارِحِ أَرَادَ بِالْمَآخِذِ هَذَا وَأَرَادَ بِهَا ذَاكَ ، وَالْعَطْفُ يَقْتَضِي التَّغَايُرَ بَيْنَ الْمَعْطُوفَيْنِ ، لَكِنْ يُمْكِنُ تَوْجِيهُهُ بِأَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ بِقَوْلِهِ أَرَادَ بِالْمَآخِذِ الْعِلَلَ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ الْحُكْمِ تَفْسِيرَ مَعْنَى الْمَآخِذِ هَاهُنَا ، وَبِقَوْلِهِ وَأَرَادَ بِالْمَآخِذِ مَا ذَكَرَهُ إلَخْ تَفْسِيرَ مَا صَدَقَ عَلَيْهِ الْمَآخِذُ هَاهُنَا وَتَعَيُّنَهُ ، فَكَأَنَّهُ قَالَ : أَرَادَ بِمَعْنَى الْمَآخِذِ هَاهُنَا هَذَا وَأَرَادَ بِمَا صَدَقَ عَلَيْهِ الْمَآخِذُ هَاهُنَا ذَاكَ ، وَالْمُغَايَرَةُ بَيْنَ الْمَفْهُومِ وَمَا صَدَقَ عَلَيْهِ ظَاهِرُهُ فَيَصِحُّ الْعَطْفُ ، إلَّا أَنَّهُ لَوْ قَالَ فِي الثَّانِي وَأَرَادَ بِهَذِهِ الْمَآخِذِ مَا ذَكَرَهُ إلَخْ لَكَانَ أَحْسَنَ لِكَوْنِهِ أَدَلَّ عَلَى إرَادَةِ مَا صَدَقَ عَلَيْهِ الْمَآخِذُ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ .
ثُمَّ أَقُولُ : بَقِيَ فِي هَذَا الْمَقَامِ بَحْثٌ قَوِيٌّ ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ صَرَّحَ فِي مُعْتَبَرَاتِ الْفَتَاوَى بِأَنَّ مَنَافِعَ الْغَصْبِ مَضْمُونَةٌ عِنْدَنَا أَيْضًا فِي الْوَقْفِ وَمَالِ الْيَتِيمِ وَمَا كَانَ مُعَدًّا لِلْإِجَارَةِ مَعَ أَنَّ الْعِلَلَ الْمَذْكُورَةَ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ الْحُكْمِ بِعَدَمِ ضَمَانِ مَنَافِعِ الْغَصْبِ جَارِيَةٌ بِعَيْنِهَا فِي تِلْكَ الصُّوَرِ أَيْضًا .
فَإِنْ قُلْت : الْعِلَلُ الْمَذْكُورَةُ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ وَالْقَوْلُ بِضَمَانِ الْمَنَافِعِ فِي تِلْكَ الصُّوَرِ مُوجِبُ الِاسْتِحْسَانِ نَظَرًا لِلْوَقْفِ وَمَالِ الْيَتِيمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَيَجُوزُ تَرْكُ الْقِيَاسِ بِالِاسْتِحْسَانِ .
قُلْت : ذَلِكَ فِيمَا يُتَصَوَّرُ وَيُمْكِنُ ، وَتِلْكَ الْعِلَلُ بَعْضُهَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ تَصَوُّرِ الْغَصْبِ وَالْعُدْوَانِ فِي الْمَنَافِعِ ، وَبَعْضُهَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ إمْكَانِ تَضْمِينِ الْمَنَافِعِ بِالْأَعْيَانِ لِعَدَمِ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَهُمَا ، وَبِنَاءُ ضَمَانِ الْعُدْوَانِ عَلَى الْمُمَاثَلَةِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ ، فَإِجْرَاءُ الِاسْتِحْسَانِ فِي

خِلَافِ ذَلِكَ مُشْكِلٌ جِدًّا .

( فَصْلٌ فِي غَصْبِ مَا لَا يُتَقَوَّمُ ) قَالَ ( وَإِذَا أَتْلَفَ الْمُسْلِمُ خَمْرَ الذِّمِّيِّ أَوْ خِنْزِيرَهُ ضَمِنَ قِيمَتَهُمَا ، فَإِنْ أَتْلَفَهُمَا لِمُسْلِمٍ لَمْ يَضْمَنْ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَضْمَنُهَا لِلذِّمِّيِّ أَيْضًا وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا أَتْلَفَهُمَا ذِمِّيٌّ عَلَى ذِمِّيٍّ أَوْ بَاعَهُمَا الذِّمِّيُّ مِنْ الذِّمِّيِّ .
لَهُ أَنَّهُ سَقَطَ تَقَوُّمُهُمَا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ فَكَذَا فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ ؛ لِأَنَّهُمْ أَتْبَاعٌ لَنَا فِي الْأَحْكَامِ فَلَا يَجِبُ بِإِتْلَافِهِمَا مَالٌ مُتَقَوِّمٌ وَهُوَ الضَّمَانُ .
وَلَنَا أَنَّ التَّقْوِيمَ بَاقٍ فِي حَقِّهِمْ ، إذْ الْخَمْرُ لَهُمْ كَالْخَلِّ لَنَا وَالْخِنْزِيرُ لَهُمْ كَالشَّاةِ لَنَا .
وَنَحْنُ أُمِرْنَا بِأَنْ نَتْرُكَهُمْ وَمَا يَدِينُونَ وَالسَّيْفُ مَوْضُوعٌ فَيَتَعَذَّرُ الْإِلْزَامُ ، وَإِذَا بَقِيَ التَّقَوُّمُ فَقَدْ وُجِدَ إتْلَافُ مَالٍ مَمْلُوكٍ مُتَقَوِّمٍ فَيَضْمَنُهُ .
بِخِلَافِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ ؛ لِأَنَّ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ لَا يَدِينُ تَمَوُّلَهُمَا ، إلَّا أَنَّهُ تَجِبُ قِيمَةُ الْخَمْرِ وَإِنْ كَانَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مَمْنُوعٌ عَنْ تَمْلِيكِهِ لِكَوْنِهِ إعْزَازًا لَهُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا جَرَتْ الْمُبَايَعَةُ بَيْنَ الذِّمِّيِّينَ ؛ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ غَيْرُ مَمْنُوعٍ عَنْ تَمْلِيكِ الْخَمْرِ وَتَمَلُّكِهَا .
وَهَذَا بِخِلَافِ الرِّبَا ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَثْنًى عَنْ عُقُودِهِمْ ، وَبِخِلَافِ الْعَبْدِ الْمُرْتَدِّ يَكُونُ لِلذِّمِّيِّ ؛ لِأَنَّا مَا ضَمِنَّا لَهُمْ تَرْكَ التَّعَرُّضِ لَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاسْتِخْفَافِ بِالدِّينِ ، وَبِخِلَافِ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا إذَا كَانَ لِمَنْ يُبِيحُهُ ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْمُحَاجَّةِ ثَابِتَةٌ .
.

فَصْلٌ فِي غَصْبِ مَا لَا يُتَقَوَّمُ ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ غَصْبِ مَا يُتَقَوَّمُ وَهُوَ الْأَصْلُ ؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ بِحَدِّهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ شَرْعًا فِي بَيَانِ أَحْكَامِ غَصْبِ مَا لَا يُتَقَوَّمُ بِاعْتِبَارِ عَرَضِيَّةٍ أَنْ يَصِيرَ مُتَقَوِّمًا ، إمَّا بِاعْتِبَارِ دِيَانَةِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ بِأَنَّهُ مُتَقَوِّمٌ أَوْ بِتَغَيُّرِهِ فِي نَفْسِهِ إلَى التَّقْوِيمِ ا هـ كَلَامُهُ .
وَقَدْ اقْتَفِي أَثَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ .
أَقُولُ : لَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّهُ لَا حَاجَةَ هُنَا إلَى الْمَصِيرِ إلَى اعْتِبَارِ عَرَضِيَّةٍ أَنْ يَصِيرَ مَا لَا يُتَقَوَّمُ مُتَقَوِّمًا بِأَحَدِ الِاعْتِبَارَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ ، بَلْ لَا وَجْهَ لَهُ عِنْدَ النَّظَرِ الدَّقِيقِ ؛ لِأَنَّ الْمُبَيَّنَ فِي هَذَا الْفَصْلِ ضَمَانُ مَا لَا يُتَقَوَّمُ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ وَعَدَمُ ضَمَانِهِ فِي بَعْضِهَا ، فَفِي مَا لَا ضَمَانَ فِيهِ كَإِتْلَافِ خَمْرِ الْمُسْلِمِ وَخِنْزِيرِهِ لَا وَجْهَ لِاعْتِبَارِ عَرَضِيَّةٍ أَنْ يَصِيرَ مُتَقَوِّمًا بِاعْتِبَارٍ مَا أَصْلًا .
فَإِنَّ اعْتِبَارَ عَرَضِيَّةِ أَنْ يَصِيرَ مُتَقَوِّمًا مِمَّا لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي حُكْمِ عَدَمِ الضَّمَانِ قَطْعًا بَلْ لَهُ نَوْعُ إبَاءٍ عَنْهُ ، وَلَعَلَّ بَعْضَ الشُّرَّاحِ تَنَبَّهَ لِهَذَا فَتَرَكَ حَدِيثَ اعْتِبَارِ عَرَضِيَّةِ أَنْ يَصِيرَ مُتَقَوِّمًا مِنْهُمْ الشَّارِحُ الْكَاكِيُّ حَيْثُ قَالَ : لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ غَصْبِ مَا يُتَقَوَّمُ إذْ هُوَ الْأَصْلُ شَرَعَ فِي بَيَانِ غَصْبِ مَا لَا يُتَقَوَّمُ ا هـ .
وَمِنْهُمْ الشَّارِحُ الْأَتْقَانِيُّ حَيْثُ قَالَ : لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ غَصْبِ مَا يُتَقَوَّمُ وَهُوَ الْأَصْلُ شَرَعَ فِي بَيَانِ غَصْبِ مَا لَا يُتَقَوَّمُ كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ هَلْ يَجِبُ بِهِ الضَّمَانُ أَمْ لَا ا هـ ( قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّ التَّقَوُّمَ بَاقٍ فِي حَقِّهِمْ ، إذَا الْخَمْرُ لَهُمْ كَالْخَلِّ لَنَا وَالْخِنْزِيرُ لَهُمْ كَالشَّاةِ لَنَا ) أَقُولُ : فِيهِ إشْكَالٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الْخَصْمَ قَالَ : إنَّهُمْ أَتْبَاعٌ لَنَا فِي

الْأَحْكَامِ ، وَتَمَسَّكَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إذَا قَبِلُوا عَقْدَ الذِّمَّةِ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ } كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْكَافِي وَعَامَّةِ الشُّرُوحِ .
فَكَيْفَ يَتِمُّ التَّعْلِيلُ بِأَنَّ التَّقَوُّمَ بَاقٍ فِي حَقِّهِمْ فِي مُقَابَلَةِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ الدَّالِ عَلَى كَوْنِهِمْ أَتْبَاعًا لَنَا فِي الْأَحْكَامِ ، وَالتَّعْلِيلُ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ غَيْرُ صَحِيحٍ عَلَى مَا عُرِفَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ .
فَإِنْ قُلْت : نَحْنُ أُمِرْنَا أَنْ نَتْرُكَهُمْ وَمَا يَدِينُونَ كَمَا ذَكَرَ فِي أَثْنَاءِ التَّعْلِيلِ مَنْ قَبْلَنَا ، فَيَدُلُّ النَّصُّ الْمُتَضَمِّنُ لِهَذَا الْأَمْرِ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { اُتْرُكْهُمْ وَمَا يَدِينُونَ } عَلَى مُدَّعَانَا هَاهُنَا .
قُلْت : لِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ : الْمُرَادُ بِمَا يَدِينُونَ : الدِّيَانَاتُ دُونَ الْمُعَامَلَاتِ ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ ؛ وَلَئِنْ سُلِّمَ الْعُمُومَ لِلْمُعَامَلَاتِ أَيْضًا فَيَتَحَقَّقُ التَّعَارُضُ بَيْنَ النَّصَّيْنِ فَمِنْ أَيْنَ يَثْبُتُ الرُّجْحَانُ ؟ .
وَالثَّانِي أَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِالْإِيمَانِ وَالْعُقُوبَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَبِالْعِبَادَاتِ أَيْضًا فِي حَقِّ الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْآخِرَةِ .
وَأَمَّا فِي حَقِّ وُجُوبِ الْأَدَاءِ فِي الدُّنْيَا فَمُخْتَلَفٌ فِيهِ ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونُوا مُخَاطَبِينَ بِالْخِطَابِ الدَّالِّ عَلَى عَدَمِ تَقَوُّمِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ أَيْضًا .
ثُمَّ أَقُولُ يُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا : أَمَّا عَنْ الْأَوَّلِ فَبِأَنْ يُقَالَ : مَا نَحْنُ فِيهِ مُخَصَّصٌ بِالْإِجْمَاعِ مِنْ عُمُومِ النَّصِّ الدَّالِّ عَلَى كَوْنِهِمْ أَتْبَاعًا لَنَا فِي الْأَحْكَامِ ، فَإِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ سَأَلَ عُمَّالَهُ مَاذَا تَصْنَعُونَ بِمَا يَمُرُّ بِهِ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ الْخُمُورِ ؟ فَقَالُوا نُعَشِّرُهَا قَالَ لَا تَفْعَلُوا .
وَلَوْ هُمْ بَاعُوهَا وَخُذُوا الْعُشْرَ

مِنْ أَثْمَانِهَا ، فَقَدْ جَعَلَهَا مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي حَقِّهِمْ حَيْثُ جَوَّزَ بَيْعَهَا وَأَمَرَ بِأَخْذِ الْعُشْرِ مِنْ ثَمَنِهَا وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ فَحَلَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ بَعْضُ الشُّرَّاحِ .
وَأَمَّا عَنْ الثَّانِي فَبِأَنْ يُقَالَ : كَوْنُ الْكُفَّارِ مُخَاطَبِينَ بِالْمُعَامَلَاتِ وَنَحْوِهَا فِيمَا يَتَحَمَّلُ الْخِطَابُ التَّعْمِيمَ لَهُمْ أَيْضًا ، وَأَمَّا فِيمَا لَا يَتَحَمَّلُهُ فَلَا يَكُونُونَ مُخَاطَبِينَ بِذَلِكَ قَطْعًا ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ قَبِيلِ الثَّانِي ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ كَانَتْ مُتَقَوِّمَةً فِي شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَنَا وَفِي صَدْرِ شَرِيعَتِنَا ، وَالْأَصْلُ أَنَّ مَا ثَبَتَ يَبْقَى إلَى أَنْ يُوجَدَ الْمُزِيلُ ، وَالْمُزِيلُ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ } وُجِدَ فِي حَقِّنَا بِدَلِيلِ السِّبَاقِ وَالسِّيَاقِ ، فَبَقِيَ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ هَذَا الْخِطَابِ عَلَى مَا كَانَ مِنْ قَبْلُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْكَافِي وَالْكِفَايَةِ ، فَلَمْ يَبْقَ مَجَالٌ لِلتَّعْمِيمِ لِلْكُفَّارِ أَيْضًا .
وَكَذَا الْحَالُ فِي الْخِنْزِيرِ عَلَى مَا حَقَّقَهُ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ حَيْثُ قَالَ : تَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ كَانَا حَلَالَيْنِ فِي الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ ، وَكَذَا فِي حَقِّ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ ، ثُمَّ وَرَدَ الْخِطَابُ بِالْحُرْمَةِ خَاصًّا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَا حَرَامًا عَلَيْهِمْ وَبَقِيَا حَلَالًا عَلَى الْكُفَّارِ كَنِكَاحِ الْمُشْرِكَاتِ كَانَ حَلَالًا فِي حَقِّ النَّاسِ كَافَّةً ثُمَّ وَرَدَ التَّحْرِيمُ خَاصًّا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ فَبَقِيَ حَلَالًا فِي حَقِّ الْكُفَّارِ فَكَذَا هَاهُنَا أَلَا يَرَى إلَى خِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } وَالْمُؤْمِنُ هُوَ الَّذِي يُفْلِحُ إذَا اجْتَنَبَ الْخَمْرَ ، وَقَالَ تَعَالَى { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ

وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ } إلَى هُنَا لَفْظُ غَايَةِ الْبَيَانِ .
ثُمَّ إنَّ التَّحْقِيقَ الَّذِي لَا مَحِيدَ عَنْهُ هَاهُنَا مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ حَيْثُ قَالَ : وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَبَعْضُ مَشَايِخِنَا قَالُوا : الْخَمْرُ مُبَاحٌ فِي حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَكَذَا الْخِنْزِيرُ ، فَالْخَمْرُ فِي حَقِّهِمْ كَالْخَلِّ فِي حَقِّنَا وَالْخِنْزِيرُ فِي حَقِّهِمْ كَالشَّاةِ فِي حَقِّنَا فِي حَقِّ الْإِبَاحَةِ شَرْعًا ، فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي حَقِّهِمْ .
وَدَلِيلُ الْإِبَاحَةِ فِي حَقِّهِمْ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْتَفِعٌ بِهِ حَقِيقَةً صَالِحٌ لِإِقَامَةِ مَصْلَحَةِ الْبَقَاءِ ، وَالْأَصْلُ فِي أَسْبَابِ الْبَقَاءِ هُوَ الْإِطْلَاقُ ، إلَّا أَنَّ الْحُرْمَةَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ ثَبَتَتْ نَصًّا غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى ، أَوْ مَعْقُولَ الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ هَاهُنَا أَوْ يُوجَدُ لَكِنَّهُ يَقْتَضِي الْحِلَّ لَا الْحُرْمَةَ ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ } ؛ لِأَنَّ الصَّدَّ لَا يُوجَدُ فِي الْكَفَرَةِ ، وَالْعَدَاوَةُ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَاجِبُ الْوُقُوعِ ؛ لِأَنَّهَا سَبَبُ الْمُنَازَعَةِ ، وَالْمُنَازَعَةُ سَبَبُ الْهَلَاكِ ، وَهَذَا يُوجِبُ الْحِلَّ لَا الْحُرْمَةَ فَلَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ فِي حَقِّهِمْ .
وَبَعْضُهُمْ قَالُوا : إنَّ الْحُرْمَةَ ثَابِتَةٌ فِي حَقِّهِمْ كَمَا هِيَ ثَابِتَةٌ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِشَرَائِعَ هِيَ حُرُمَاتٌ عِنْدَنَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ الْأَقْوَالِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ .
وَعَلَى هَذَا طَرِيقُ الضَّمَانِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الْخَمْرَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي الْحَالِ فَهِيَ بِعَرَضٍ أَنْ تَصِيرَ مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي الثَّانِي بِالتَّخَلُّلِ وَالتَّخْلِيلِ ، وَوُجُوبُ ضَمَانِ الْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ يَعْتَمِدُ كَوْنَ الْمَحَلِّ الْمَغْصُوبِ وَالْمُتْلَفِ مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي

الْجُمْلَةِ وَلَا يَقِفُ عَلَى ذَلِكَ الْحَالِ ، أَلَا يَرَى أَنَّ الْمُهْرَ وَالْجَحْشَ وَمَا لَا مَنْفَعَةَ لَهُ فِي الْحَالِ مَضْمُونٌ بِالْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ .
وَالثَّانِي أَنَّ الشَّرْعَ مَنَعَنَا عَنْ التَّعَرُّضِ لَهُمْ بِالْمَنْعِ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَأَكْلِ الْخِنْزِيرِ حِسًّا لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : أُمِرْنَا أَنْ نَتْرُكَهُمْ وَمَا يَدِينُونَ ، وَمِثْلُهُ لَا يَكْذِبُ وَقَدْ دَانُوا شُرْبَ الْخَمْرِ وَأَكْلَ الْخِنْزِيرِ فَلَزِمَنَا تَرْكُ التَّعَرُّضِ لَهُمْ فِي ذَلِكَ ، وَنَفْيُ الضَّمَانِ بِالْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ يُفْضِي إلَى التَّعَرُّضِ ؛ لِأَنَّ السَّفِيهَ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ إذَا غَصَبَ أَوْ أَتْلَفَ لَا يُؤَاخَذُ بِالضَّمَانِ يَقْدُمُ عَلَى ذَلِكَ ، وَفِي ذَلِكَ مَنْعُهُمْ وَالتَّعَرُّضُ لَهُمْ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ إلَى هُنَا لَفْظُ الْبَدَائِعِ .
( قَوْلُهُ وَنَحْنُ أُمِرْنَا بِأَنْ نَتْرُكَهُمْ وَمَا يَدِينُونَ ) أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : فَلِمَ لَا نَتْرُكُهُمْ وَمَا يَدِينُونَ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ كَإِحْدَاثِ الْبَيْعَةِ وَالْكَنِيسَةِ وَكَرُكُوبِ الْخَيْلِ وَحَمْلِ السِّلَاحِ فَإِنَّهُمْ يُمْنَعُونَ مِنْهَا عَلَى مَا مَرَّ فِي كِتَابِ السَّيْرِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ أَمْثَالَهَا مُسْتَثْنًى مِمَّا يَدِينُونَ بِدَلَائِلَ ذُكِرَتْ فِي مَوْضِعِهَا ، كَمَا أَنَّ الرِّبَا مُسْتَثْنًى مِنْ عُقُودِهِمْ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَلَا مَنْ أَرْبَى فَلَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ عَهْدٌ } عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ عَنْ قَرِيبٍ .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَخْذًا مِنْ النِّهَايَةِ ، وَنُوقِضَ بِمَا إذَا مَاتَ الْمَجُوسِيُّ عَنْ ابْنَتَيْنِ إحْدَاهُمَا امْرَأَتُهُ فَإِنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ بِالزَّوْجِيَّةِ شَيْئًا مِنْ الْمِيرَاثِ مَعَ اعْتِقَادِهِمْ صِحَّةَ ذَلِكَ النِّكَاحِ ، وَصِحَّةُ النِّكَاحِ تُوجِبُ تَوْرِيثَ الْمَرْأَةِ مِنْ زَوْجِهَا فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ إذَا لَمْ يُوجَدْ الْمَانِعُ وَلَمْ يُوجَدْ فِي دِيَانَتِهِمْ ثُمَّ لَمْ نَتْرُكْهُمْ وَمَا يَدِينُونَ .
وَأُجِيبُ بِأَنْ لَا نُسَلِّمَ أَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ التَّوْرِيثَ بِأَنْكِحَةِ

الْمَحَارِمِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ بَيَانٍ ا هـ .
وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى الْجَوَابِ حَيْثُ قَالَ فِيهِ : إنَّ مُرَادَ النَّاقِضِ أَنَّا إذَا حَكَمْنَا بَيْنَهُمْ عَلَى شَرْعِ الْإِسْلَامِ بِطَلَبِهِمْ ذَلِكَ لَا نُوَرِّثُهَا ا هـ .
أَقُولُ : لَيْسَ فِيمَا ذَكَرَهُ كَبِيرُ حَاصِلٍ ، إذْ مُرَادُ الْمُجِيبِ أَيْضًا أَنَّ عَدَمَ تَوْرِيثِنَا إيَّاهَا إذَا حَكَمْنَا بَيْنَهُمْ عَلَى شَرْعِ الْإِسْلَامِ بِطَلَبِهِمْ ذَلِكَ لِعَدَمِ ثُبُوتِ اعْتِقَادِهِمْ التَّوْرِيثَ بِأَنْكِحَةِ الْمَحَارِمِ .
نَعَمْ يَعْتَقِدُ الْمَجُوسِيُّ صِحَّةَ نِكَاحِ الْمَحَارِمِ ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ اعْتِقَادِ صِحَّةِ النِّكَاحِ اعْتِقَادُ اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ الْمِيرَاثَ يَمْتَنِعُ بِالرِّقِّ وَاخْتِلَافِ الدِّينِ مَعَ صِحَّةِ النِّكَاحِ ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا التَّفْصِيلِ فِي النِّهَايَةِ ، وَإِنْ أَرَادَ ذَلِكَ الْقَائِلُ أَنَّهُمْ لَوْ اعْتَقَدُوا التَّوْرِيثَ بِأَنْكِحَةِ الْمَحَارِمِ وَطَلَبُوا ذَلِكَ لَمْ نَحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِذَلِكَ أَيْضًا عَلَى شَرْعِ الْإِسْلَامِ ، فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ مَا يَضُرُّنَا إنَّمَا هُوَ النَّقْضُ بِمَا هُوَ أَمْرٌ وَاقِعٌ لَا بِمَا هُوَ فَرْضٌ مَحْضٌ .
ثُمَّ أَقُولُ : بَقِيَ هَاهُنَا كَلَامٌ آخَرُ ، وَهُوَ أَنَّ لِلسَّائِلِ أَنْ يُورِدَ النَّقْضَ حِينَئِذٍ بِمُسْلِمٍ مَاتَ عَنْ زَوْجَةٍ كَافِرَةٍ فَإِنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنْ الْمِيرَاثِ عِنْدَنَا لِاخْتِلَافِ الدِّينَيْنِ ، مَعَ أَنَّ وُجُوبَ تَوْرِيثِ الزَّوْجَةِ مِنْ زَوْجِهَا مُقَرَّرٌ فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ إذَا لَمْ يُوجَدْ مَانِعٌ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْكُفْرَ لَيْسَ بِمَانِعٍ عَنْ الْإِرْثِ فِي اعْتِقَادِ الْكُفْرِ وَلَمْ نَتْرُكْهُمْ وَمَا يَدِينُونَ هُنَاكَ ، فَتَأَمَّلْ فِي الْجَوَابِ .
( قَوْلُهُ وَهَذَا بِخِلَافِ الرِّبَا ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ غَيْرُ مَمْنُوعٍ عَنْ تَمْلِيكِ الْخَمْرِ وَتَمَلُّكِهَا ، كَذَا قَالَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ : وَالْأَوْلَى أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ نَحْنُ أُمِرْنَا أَنْ نَتْرُكَهُمْ ، وَمَا يَدِينُونَ إلَخْ

لِاتِّسَاقِ مَا بَعْدَهُ مِنْ الْعَطْفِ حِينَئِذٍ ا هـ أَقُولُ : تَعَلُّقُهُ بِمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ غَيْرُ ظَاهِرِ السَّدَادِ ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ هَذَا مَعَ كَوْنِهَا مِمَّا يَأْبَى ذَلِكَ جِدًّا لَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ الرِّبَا مِنْ خِلَافِ قَوْلِهِ نَحْنُ أُمِرْنَا أَنْ نَتْرُكَهُمْ وَمَا يَدِينُونَ ؛ لِأَنَّ الرِّبَا لَمَّا كَانَ مُسْتَثْنًى مِنْ عُقُودِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ فِسْقًا مِنْهُمْ لَا تَدَيُّنًا لِثُبُوتِ حُرْمَةِ الرِّبَا فِي دِينِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ } كَمَا صَرَّحُوا بِهِ قَاطِبَةً ، حَتَّى صَاحِبُ الْعِنَايَةِ نَفْسُهُ لَمْ يَكُنْ مَنْعُنَا إيَّاهُمْ عَنْ الرِّبَا مُخَالِفًا لِقَوْلِهِ نَحْنُ أُمِرْنَا أَنْ نَتْرُكَهُمْ وَمَا يَدِينُونَ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذِي مُسْكَةٍ .
وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ ( وَهَذَا بِخِلَافِ الرِّبَا ) مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ ( نَحْنُ أُمِرْنَا أَنْ نَتْرُكَهُمْ وَمَا يَدِينُونَ ) يَصِيرُ الْمَعْنَى : وَهَذَا أَيْ قَوْلُهُ ، وَنَحْنُ أُمِرْنَا أَنْ نَتْرُكَهُمْ وَمَا يَدِينُونَ مُلْتَبِسٌ بِخِلَافِ الرِّبَا ، وَلَيْسَ هَذَا الْمَعْنَى بِسَدِيدٍ لِعَدَمِ مُلَابَسَةِ الْخِلَافِ بَيْنَهُمَا كَمَا بَيَّنَّا آنِفًا .
وَأَمَّا عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ ( وَهَذَا بِخِلَافِ الرِّبَا ) مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ ؛ ( لِأَنَّ الذِّمِّيَّ غَيْرُ مَمْنُوعٍ عَنْ تَمْلِيكِ الْخَمْرِ وَتَمَلُّكِهَا كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ ) فَيَصِيرُ الْمَعْنَى وَهَذَا أَيْ عَدَمُ كَوْنِ الذِّمِّيِّ مَمْنُوعًا عَنْ تَمْلِيكِ الْخَمْرِ وَتَمَلُّكِهَا مُلْتَبِسٌ بِخِلَافِ الرِّبَا لِكَوْنِهِمْ مَمْنُوعِينَ عَنْ الرِّبَا .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى سَدِيدٌ وَأَنَّ كَلِمَةَ هَذَا الَّتِي يُشَارُ بِهَا إلَى الْقَرِيبِ فِي مَحَلِّهَا حِينَئِذٍ .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : بَلْ الْأَوْلَى أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ : فَيَضْمَنُهُ ، وَالْإِشَارَةُ إلَى مَا ذَكَرَ مِنْ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ ا هـ أَقُولُ هَذَا أَقْبَحُ مِمَّا قَالَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَتْ الْإِشَارَةُ بِهَذَا إلَى الْخَمْرِ

وَالْخِنْزِيرِ بِتَأْوِيلِ مَا ذَكَرَ كَمَا زَعَمَهُ يَصِيرُ الْمَعْنَى : وَهَذَا أَيْ مَا ذَكَرَ مِنْ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ مُلْتَبِسٌ بِخِلَافِ الرِّبَا فَلَا يَبْقَى لِتَعَلُّقِ قَوْلِهِ ( وَهَذَا بِخِلَافِ الرِّبَا ) بِقَوْلِهِ ( فَيَضْمَنُهُ ) مَعْنًى وَإِنْ صِيرَ إلَى التَّقْدِيرِ بِأَنْ يُقَالَ : الْمُرَادُ : وَهَذَا بِخِلَافِ الرِّبَا فِي الضَّمَانِ فَيَحْصُلُ نَوْعُ تَعَلُّقٍ بِقَوْلِهِ فَيَضْمَنُهُ فَلَا يَكُونُ سَدِيدًا أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي الْإِتْلَافِ ، وَمَسْأَلَةُ الرِّبَا مِمَّا لَا مِسَاسَ لَهُ بِذَلِكَ تَدَبَّرْ تَفْهَمْ .
( قَوْلُهُ وَبِخِلَافِ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ لِمَنْ يُبِيحُهُ ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْمُحَاجَّةِ ثَابِتَةٌ ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ : يَعْنِي لَمَّا أُمِرْنَا أَنْ نَتْرُكَ أَهْلَ الذِّمَّةِ عَلَى مَا اعْتَقَدُوهُ مِنْ الْبَاطِلِ وَجَبَ عَلَيْنَا أَنْ نَتْرُكَ أَهْلَ الِاجْتِهَادِ عَلَى مَا اعْتَقَدُوهُ مَعَ احْتِمَالِ الصِّحَّةِ فِيهِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى .
وَحِينَئِذٍ يَجِبُ أَنْ نَقُولَ بِمُوجِبِ الضَّمَانِ عَلَى مَنْ أَتْلَفَ مَتْرُوكَ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي اعْتِقَادِ الشَّافِعِيِّ .
وَوَجْهُ الْجَوَابِ مَا قَالَهُ أَنَّ وِلَايَةَ الْمُحَاجَّةِ ثَابِتَةٌ ، وَالدَّلِيلُ الدَّالُّ عَلَى حُرْمَتِهِ قَائِمٌ فَلَمْ يُعْتَبَرْ اعْتِقَادُهُمْ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ هَذَا مَا قَالُوهُ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّ وِلَايَةَ الْمُحَاجَّةِ ثَابِتَةٌ ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ الدَّالَّ عَلَى تَرْكِ الْمُحَاجَّةِ مَعَ أَهْلِ الذِّمَّةِ دَالٌّ عَلَى تَرْكِهَا مَعَ الْمُجْتَهِدِينَ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى عَلَى مَا قَرَّرْتُمْ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الدَّلِيلَ هُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { اُتْرُكُوهُمْ وَمَا يَدِينُونَ } وَكَانَ ذَلِكَ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ وَهُوَ مُنْتَفٍ فِي حَقِّ الْمُجْتَهِدِينَ ، إلَى هُنَا لَفْظُ الْعِنَايَةِ .
وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ فِي الْآخَرِ حَيْثُ قَالَ : فِيهِ بَحْثٌ ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُنَفِّذُ مَا حَكَمَ بِهِ قَاضٍ آخَرُ عَلَى خِلَافِ مَذْهَبِهِ ا هـ أَقُولُ :

هَذَا سَاقِطٌ جِدًّا .
أَمَّا أَوَّلًا ؛ فَلِأَنَّ الْقَاضِيَ إنَّمَا يُنَفِّذُ مَا حَكَمَ بِهِ قَاضٍ آخَرُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَا حَكَمَ بِهِ مِمَّا يُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ الْمَشْهُورَةَ وَالْإِجْمَاعَ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ مَا حَكَمَ بِهِ مِمَّا يُخَالِفُ شَيْئًا مِنْ هَاتِيك الثَّلَاثَةِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُنَفِّذَهُ الْقَاضِي أَصْلًا كَمَا صَرَّحُوا بِذَلِكَ كُلِّهِ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ ، وَمَثَّلُوا مَا يُخَالِفُ الْكِتَابَ بِالْحُكْمِ بِحِلِّ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا فَإِنَّهُ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } وَالْكَلَامُ هَاهُنَا فِي مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ فِيهِ التَّنْفِيذُ .
وَأَمَّا ثَانِيًا ؛ فَلِأَنَّ حَاصِلَ الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ أَنَّ عِلَّةَ الْأَمْرِ بِالتَّرْكِ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { اُتْرُكُوهُمْ وَمَا يَدِينُونَ } هِيَ عَقْدُ الذِّمَّةِ ، وَهُوَ مُنْتَفٍ فِي حَقِّ الْمُجْتَهِدِينَ فَلَا يُتَصَوَّرُ إلْحَاقُ الْمُجْتَهِدِينَ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ فِي تَرْكِ الْمُحَاجَّةِ لَا دَلَالَةً وَلَا قِيَاسًا .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا يَدْفَعُ السُّؤَالُ بِأَنَّ الدَّلِيلَ الدَّالَّ عَلَى تَرْكِ الْمُحَاجَّةِ مَعَ أَهْلِ الذِّمَّةِ دَالٌّ عَلَى تَرْكِهَا مَعَ الْمُجْتَهِدِينَ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى ، وَأَنَّ حَدِيثَ تَنْفِيذِ الْقَاضِي مَا حَكَمَ بِهِ قَاضٍ آخَرُ عَلَى خِلَافِ مَذْهَبِهِ لَا يَقْدَحُ فِي دَفْعِ الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ وَالسُّؤَالِ الْمَزْبُورِ ، بَلْ هُوَ كَلَامٌ مَعْلُومٌ وَجْهُهُ فِي مَحِلِّهِ

قَالَ ( فَإِنْ غَصَبَ مِنْ مُسْلِمٍ خَمْرًا فَخَلَّلَهَا أَوْ جِلْدَ مَيْتَةٍ فَدَبَغَهُ فَلِصَاحِبِ الْخَمْرِ أَنْ يَأْخُذَ الْخَلَّ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَيَأْخُذَ جِلْدَ الْمَيْتَةِ وَيَرُدَّ عَلَيْهِ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ ) ، وَالْمُرَادُ بِالْفَصْلِ الْأَوَّلِ إذَا خَلَّلَهَا بِالنَّقْلِ مِنْ الشَّمْسِ إلَى الظِّلِّ وَمِنْهُ إلَى الشَّمْسِ ، وَبِالْفَصْلِ الثَّانِي إذَا دَبَغَهُ بِمَا لَهُ قِيمَةٌ كَالْقَرَظِ وَالْعَفْصِ وَنَحْوِ ذَلِكَ .
وَالْفَرْقُ أَنَّ هَذَا التَّخْلِيلَ تَطْهِيرٌ لَهُ بِمَنْزِلَةِ غَسْلِ الثَّوْبِ النَّجِسِ فَيَبْقَى عَلَى مِلْكِهِ إذْ لَا تَثْبُتُ الْمَالِيَّةُ بِهِ وَبِهَذَا الدِّبَاغِ اتَّصَلَ بِالْجِلْدِ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ لِلْغَاصِبِ كَالصَّبْغِ فِي الثَّوْبِ فَكَانَ بِمَنْزِلَتِهِ فَلِهَذَا يَأْخُذُ الْخَلَّ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَيَأْخُذُ الْجِلْدَ وَيُعْطِي مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ .
وَبَيَانُهُ أَنَّهُ يَنْظُرُ إلَى قِيمَتِهِ ذَكِيًّا غَيْرَ مَدْبُوغٍ ، وَإِلَى قِيمَتِهِ مَدْبُوغًا فَيَضْمَنُ فَضْلَ مَا بَيْنَهُمَا ، وَلِلْغَاصِبِ أَنْ يَحْبِسَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ كَحَقِّ الْحَبْسِ فِي الْبَيْعِ .
قَالَ ( وَإِنْ اسْتَهْلَكَهُمَا ضَمِنَ الْخَلَّ وَلَمْ يَضْمَنْ الْجِلْدَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : يَضْمَنُ الْجِلْدَ مَدْبُوغًا وَيُعْطِي مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ ) وَلَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ لَا يَضْمَنُهُ بِالْإِجْمَاعِ .
أَمَّا الْخَلُّ ؛ فَلِأَنَّهُ لَمَّا بَقِيَ عَلَى مِلْكِ مَالِكِهِ وَهُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ ضَمِنَهُ بِالْإِتْلَافِ ، يَجِبُ مِثْلُهُ ؛ لِأَنَّ الْخَلَّ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ .
وَأَمَّا الْجِلْدُ فَلَهُمَا أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْمَالِكِ حَتَّى كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ وَهُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فَيَضْمَنُهُ مَدْبُوغًا بِالِاسْتِهْلَاكِ وَيُعْطِيهِ الْمَالِكُ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ كَمَا إذَا غَصَبَ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ ثُمَّ اسْتَهْلَكَهُ وَيَضْمَنُهُ وَيُعْطِيه الْمَالِكُ مَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ ، وَلِأَنَّهُ وَاجِبُ الرَّدِّ ، فَإِذَا فَوَّتَهُ عَلَيْهِ خَلَّفَهُ قِيمَتَهُ كَمَا فِي الْمُسْتَعَارِ .
وَبِهَذَا فَارَقَ الْهَلَاكُ بِنَفْسِهِ .
وَقَوْلُهُمَا يُعْطِي مَا زَادَ

الدِّبَاغُ فِيهِ مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِلَافِ الْجِنْسِ .
أَمَّا عِنْدَ اتِّحَادِهِ فَيَطْرَحُ عَنْهُ ذَلِكَ الْقَدْرَ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ الْبَاقِي لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي الْأَخْذِ مِنْهُ ثُمَّ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ .
وَلَهُ أَنَّ التَّقَوُّمَ حَصَلَ بِصُنْعِ الْغَاصِبِ وَصَنْعَتُهُ مُتَقَوِّمَةٌ لِاسْتِعْمَالِهِ مَالًا مُتَقَوِّمًا فِيهِ ، وَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ فَكَانَ حَقًّا لَهُ وَالْجِلْدُ تَبَعٌ لَهُ فِي حَقِّ التَّقَوُّمِ ، ثُمَّ الْأَصْلُ وَهُوَ الصَّنْعَةُ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَيْهِ فَكَذَا التَّابِعُ ، كَمَا إذَا هَلَكَ مِنْ غَيْرِ صَنْعَةٍ ، بِخِلَافِ وُجُوبِ الرَّدِّ حَالَ قِيَامِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَتْبَعُ الْمِلْكَ ، وَالْجِلْدُ غَيْرُ تَابِعٍ لِلصَّنْعَةِ فِي حَقِّ الْمِلْكِ لِثُبُوتِهِ قَبْلَهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَقَوِّمًا ، بِخِلَافِ الذَّكِيِّ وَالثَّوْبِ ؛ لِأَنَّ التَّقَوُّمَ فِيهِمَا كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ الدَّبْغِ وَالصَّبْغِ فَلَمْ يَكُنْ تَابِعًا لِلصَّنْعَةِ ، وَلَوْ كَانَ قَائِمًا فَأَرَادَ الْمَالِكُ أَنْ يَتْرُكَهُ عَلَى الْغَاصِبِ فِي هَذَا الْوَجْهِ وَيُضَمِّنَهُ قِيمَتَهُ قِيلَ : لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْجِلْدَ لَا قِيمَةَ لَهُ ، بِخِلَافِ صَبْغِ الثَّوْبِ ؛ لِأَنَّ لَهُ قِيمَةً .
وَقِيلَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَرَكَهُ عَلَيْهِ وَضَمَّنَهُ عَجَزَ الْغَاصِبُ عَنْ رَدِّهِ فَصَارَ كَالِاسْتِهْلَاكِ ، وَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ .
ثُمَّ قِيلَ : يُضَمِّنُهُ قِيمَةَ جِلْدٍ مَدْبُوغٍ وَيُعْطِيهِ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ كَمَا فِي الِاسْتِهْلَاكِ .
وَقِيلَ يُضَمِّنُهُ قِيمَةَ جِلْدِ ذَكِيٍّ غَيْرِ مَدْبُوغٍ ، وَلَوْ دَبَغَهُ بِمَا لَا قِيمَةَ لَهُ كَالتُّرَابِ وَالشَّمْسِ فَهُوَ لِمَالِكِهِ بِلَا شَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ غَسْلِ الثَّوْبِ .
وَلَوْ اسْتَهْلَكَهُ الْغَاصِبُ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ مَدْبُوغًا .
وَقِيلَ طَاهِرًا غَيْرَ مَدْبُوغٍ ؛ لِأَنَّ وَصْفَ الدِّبَاغَةِ هُوَ الَّذِي حَصَّلَهُ فَلَا يَضْمَنُهُ .
وَجْهُ الْأَوَّلِ وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ أَنَّ صِفَةَ الدِّبَاغَةِ

تَابِعَةٌ لِلْجِلْدِ فَلَا تُفْرَدُ عَنْهُ ، وَإِذَا صَارَ الْأَصْلُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ فَكَذَا صِفَتُهُ ، وَلَوْ خَلَّلَ الْخَمْرَ بِإِلْقَاءِ الْمِلْحِ فِيهِ قَالُوا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ : صَارَ مِلْكًا لِلْغَاصِبِ وَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَيْهِ .
وَعِنْدَهُمَا أَخَذَهُ الْمَالِكُ وَأَعْطَى مَا زَادَ الْمِلْحُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ دَبْغِ الْجِلْدِ ، وَمَعْنَاهُ هَاهُنَا أَنْ يُعْطِيَ مِثْلَ وَزْنِ الْمِلْحِ مِنْ الْخَلِّ ، وَإِنْ أَرَادَ الْمَالِكُ تَرْكَهُ عَلَيْهِ وَتَضْمِينَهُ فَهُوَ عَلَى مَا قِيلَ .
وَقِيلَ فِي دَبْغِ الْجِلْدِ وَلَوْ اسْتَهْلَكَهَا لَا يَضْمَنُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا كَمَا فِي دَبْغِ الْجِلْدِ ، وَلَوْ خَلَّلَهَا بِإِلْقَاءِ الْخَلِّ فِيهَا ، فَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إنْ صَارَ خَلًّا مِنْ سَاعَتِهِ يَصِيرُ مِلْكًا لِلْغَاصِبِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ اسْتِهْلَاكٌ لَهُ وَهُوَ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ ، وَإِنْ لَمْ تَصِرْ خَلًّا إلَّا بَعْدَ زَمَانٍ بِأَنْ كَانَ الْمُلْقَى فِيهِ خَلًّا قَلِيلًا فَهُوَ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ كِلَيْهِمَا ؛ لِأَنَّ خَلْطَ الْخَلِّ بِالْخَلِّ فِي التَّقْدِيرِ وَهُوَ عَلَى أَصْلِهِ لَيْسَ بِاسْتِهْلَاكٍ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هُوَ لِلْغَاصِبِ فِي الْوَجْهَيْنِ ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْخَلْطِ اسْتِهْلَاكٌ عِنْدَهُ ، وَلَا ضَمَانَ فِي الِاسْتِهْلَاكِ ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مِلْكَ نَفْسِهِ .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَضْمَنُ بِالِاسْتِهْلَاكِ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لِمَا بَيَّنَّا .
وَيَضْمَنُ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مِلْكَ غَيْرِهِ .
وَبَعْضُ الْمَشَايِخِ أَجْرَوْا جَوَابَ الْكِتَابِ عَلَى إطْلَاقِهِ لِلْمَالِكِ أَنْ يَأْخُذَ الْخَلَّ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ ؛ لِأَنَّ الْمُلْقَى فِيهِ يَصِيرُ مُسْتَهْلَكًا فِي الْخَمْرِ فَلَمْ يَبْقَ مُتَقَوِّمًا .
وَقَدْ كَثُرَتْ فِيهِ أَقْوَالُ الْمَشَايِخِ وَقَدْ أَثْبَتْنَاهَا فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى .
.

( قَوْلُهُ وَلَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ لَا يَضْمَنُ بِالْإِجْمَاعِ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَالْمُجْمَعُ عَلَيْهِ لَا يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ ؛ لِأَنَّ دَلِيلَهُ الْإِجْمَاعُ فَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُصَنِّفُ ا هـ أَقُولُ : هَذَا لَيْسَ بِسَدِيدٍ ؛ لِأَنَّ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ بِالْإِجْمَاعِ الَّذِي هُوَ أَحَدُ الْأَدِلَّةِ الْأَرْبَعَةِ الشَّرْعِيَّةِ فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ يَكْفِي دَلِيلًا عَلَيْهِ .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِالْإِجْمَاعِ هَاهُنَا هُوَ إجْمَاعُ أَئِمَّتِنَا الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ وَقَعَ الْخِلَافُ بَيْنَ أَعْظَمِهِمْ وَبَيْنَ صَاحِبَيْهِ فِيمَا ذُكِرَ آنِفًا مِنْ مَسْأَلَةِ الِاسْتِهْلَاكِ ، لَا إجْمَاعَ الْأُمَّةِ الَّذِي هُوَ مِنْ الْأَدِلَّةِ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْإِجْمَاعَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِاتِّفَاقِ جَمِيعِ الْمُجْتَهِدِينَ الْمَوْجُودِينَ فِي عَصْرٍ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حُكْمٍ شَرْعِيٍّ وَهُوَ غَيْرُ ثَابِتٍ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ، كَيْفَ وَقَدْ قَالَ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ هَاهُنَا : وَعِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ : يَعْنِي مَالِكًا وَالشَّافِعِيَّ وَأَحْمَدَ لَوْ تَخَلَّلَتْ الْخَمْرَةُ بِنَفْسِهَا وَهَلَكَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ يَضْمَنُ ، وَأَمَّا إذَا تَخَلَّلَتْ بِفِعْلِ الْغَاصِبِ لَا يَضْمَنُ .
وَفِي الْجِلْدِ الْمَدْبُوغِ عَلَى قَوْلٍ لَا يَلْزَمُهُ رَدُّهُ وَلَا يَضْمَنُ ، وَفِي قَوْلٍ وَجَبَ رَدُّهُ وَيَضْمَنُ ا هـ .
فَظَهَرَ مِنْهُ مُخَالَفَةُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ لِأَئِمَّتِنَا فِي بَعْضِ صُوَرِ الْهَلَاكِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ أَنَّ مَالِكًا مِنْ مُعَاصِرِي أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيَّ مِنْ مُعَاصِرِي مُحَمَّدٍ ، فَلَمْ يَتَحَقَّقْ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ فِي زَمَنِهِمْ عَلَى عَدَمِ الضَّمَانِ فِي بَعْضِ صُوَرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَطْعًا ، وَلَمْ يُنْقَلْ إجْمَاعُ أُمَّةٍ أُخْرَى مِنْ قَبْلُ ، فَلَمْ يُمْكِنُ حَمْلُ الْإِجْمَاعِ الْمَذْكُورِ عَلَى إجْمَاعِ الْأُمَّةِ كَمَا لَا يَخْفَى وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ هَاهُنَا وَلَمْ يَذْكُرْ الدَّلِيلَ لِقَوْلِهِ

وَلَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ لَا يَضْمَنُ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّ دَلِيلَهُ ظَاهِرٌ ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ ضَمِنَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَضْمَنَ قِيمَتَهُ يَوْمَ الْغَصْبِ أَوْ يَوْمَ الْهَلَاكِ ، وَلَا وَجْهَ لِضَمَانِ قِيمَتِهِ يَوْمَ الْغَصْبِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَمْرِ وَجِلْدِ الْمَيْتَةِ قِيمَةٌ يَوْمَ الْغَصْبِ ، وَلَا وَجْهَ لِضَمَانِ قِيمَتِهِ يَوْمَ الْهَلَاكِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِعْلٌ فِي هَلَاكِهِ ، وَالضَّمَانُ لَا يَجِبُ إلَّا بِفِعْلٍ مَوْصُوفٍ بِالتَّعَدِّي ا هـ كَلَامُهُ .
أَقُولُ : ظُهُورُ هَذَا الدَّلِيلِ الْمُفَصَّلِ الدَّائِرِ عَلَى التَّرْدِيدِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ ، وَلَوْ سُلِّمَ فَكَوْنُهُ أَظْهَرَ مِنْ سَائِرِ الْأَدِلَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا لِسَائِرِ الْمَسَائِلِ سِيَّمَا دَلِيلُ وُجُوبِ الضَّمَانِ فِي اسْتِهْلَاكِ الْخَلِّ مَمْنُوعٌ ، وَلَوْ سُلِّمَ فَلَيْسَ مِنْ دَأْبِ الْمُصَنِّفِ تَرْكُ ذِكْرِ الدَّلِيلِ بِالْكُلِّيَّةِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَسَائِلِ .
ثُمَّ أَقُولُ : لَعَلَّ وَجْهَ عَدَمِ ذِكْرِ الْمُصَنِّفِ دَلِيلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هَاهُنَا انْفِهَامُهُ مِمَّا ذَكَرَهُ فِي دَلِيلِ مَسْأَلَةِ الِاسْتِهْلَاكِ يُرْشِدُك إلَيْهِ قَطْعًا قَوْلُهُ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ وَبِهَذَا فَارَقَ الْهَلَاكُ بِنَفْسِهِ ، تَبَصَّرْ تُرْشَدْ .
( قَوْلُهُ كَمَا إذَا غَصَبَ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ ثُمَّ اسْتَهْلَكَهُ وَيَضْمَنُهُ وَيُعْطِيهِ الْمَالِكُ مَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْغَصْبِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ يُوجِبُ الضَّمَانَ بِخِلَافِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ ا هـ .
أَقُولُ : هَذَا النَّظَرُ سَاقِطٌ جِدًّا ، إذَا لَا نُسَلِّمُ أَوَّلًا أَنَّ نَفْسَ الْغَصْبِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ يُوجِبُ الضَّمَانَ فَإِنَّ نَفْسَ الْغَصْبِ إنَّمَا يُوجِبُ رَدَّ الْعَيْنِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي صَدْرِ كِتَابِ الْغَصْبِ ، وَإِنَّمَا يَجِبُ ضَمَانُ الْمِثْلِ أَوْ الْقِيمَةِ بِالْهَلَاكِ أَوْ الِاسْتِهْلَاكِ ، وَلَئِنْ سُلِّمَ ذَلِكَ فَكَوْنُ نَفْسِ الْغَصْبِ سَبَبًا لِلضَّمَانِ لَا يُنَافِي كَوْنَ الِاسْتِهْلَاكِ أَيْضًا سَبَبًا لَهُ ، وَمَقْصُودُ الْمُصَنِّفِ قِيَاسُ الْمُتَنَازَعِ

فِيهِ عَلَى تِلْكَ الصُّورَةِ فِي كَوْنِ التَّعَدِّي بِالِاسْتِهْلَاكِ سَبَبًا لِضَمَانِ الْمُتَعَدِّي مَا اسْتَهْلَكَهُ وَإِعْطَاءِ الْمَالِكِ مَا زَادَهُ الصَّنْعَةُ ، وَهَذَا الْمَعْنَى مُتَّحِدٌ بَيْنَ الْمَقِيسِ وَالْمَقِيسِ عَلَيْهِ ، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ فِي جَانِبِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ سَبَبًا آخَرَ لِلضَّمَانِ ، وَهَذَا لَا يُنَافِي صِحَّةَ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ فِي السَّبَبِ الْمُشْتَرَكِ ، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ صَاحِبُ النِّهَايَةِ حَيْثُ قَالَ فِي حِلِّ هَذَا الْمَحَلِّ : إنَّ الِاسْتِهْلَاكَ جِنَايَةٌ مُوجِبَةٌ لِلضَّمَانِ فِي مَحَلٍّ هُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ لَمَّا بَقِيَ الْجِلْدُ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ بَعْدَمَا صَارَ مَالًا مُتَقَوِّمًا كَمَا فِي الثَّوْبِ ، إلَّا أَنَّ هُنَاكَ السَّبَبُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الْغَصْبُ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ أَيْضًا ، فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ بِأَيِّ السَّبَبَيْنِ شَاءَ ، هَاهُنَا السَّبَبُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الْغَصْبُ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلضَّمَانِ فَتَعَيَّنَ التَّضْمِينُ بِالسَّبَبِ الثَّانِي فَكَانَ هُوَ فِي السَّبَبِ كَغَيْرِهِ وَلَوْ اسْتَهْلَكَهُ غَيْرُهُ كَانَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُسْتَهْلِكَ وَيُعْطِي الْغَاصِبَ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
( قَوْلُهُ ثُمَّ الْأَصْلُ وَهُوَ الصَّنْعَةُ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَيْهِ فَكَذَا التَّابِعُ كَمَا إذَا هَلَكَ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ كَمَا إذَا هَلَكَ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ : فَإِنَّ عَدَمَ الضَّمَانِ هُنَاكَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْأَصْلَ وَهُوَ الصَّنْعَةُ غَيْرُ مَضْمُونٍ فَكَذَلِكَ الْجِلْدُ ، وَإِلَّا فَالْغَصْبُ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ فِي الْهَلَاكِ وَالِاسْتِهْلَاكِ ا هـ كَلَامُهُ ، وَاقْتَفَى أَثَرَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ .
فِيهِ نَظَرٌ ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ عَدَمَ الضَّمَانِ فِي صُورَةِ الْهَلَاكِ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْأَصْلَ وَهُوَ الصَّنْعَةَ غَيْرُ مَضْمُونٍ ، فَكَذَلِكَ الْجِلْدُ كَمَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُ الشَّارِحِينَ الْمَزْبُورِينَ ، وَإِلَّا فَالْغَصْبُ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ فِي الْهَلَاكِ وَالِاسْتِهْلَاكِ ، بَلْ

الظَّاهِرُ أَنَّ عَدَمَ الضَّمَانِ هُنَاكَ بِاعْتِبَارِ عَدَمِ تَحَقُّقِ فِعْلٍ مَوْصُوفٍ بِالتَّعَدِّي هُنَاكَ كَتَحَقُّقِهِ فِي صُورَةِ الِاسْتِهْلَاكِ عَلَى مَا أَشَارَ إلَيْهِ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَصَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَيْضًا فِي تَعْلِيلِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا مَرَّ وَكَوْنُ الْغَصْبِ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ فِي كُلٍّ مِنْ صُورَتَيْ الْهَلَاكِ وَالِاسْتِهْلَاكِ إنَّمَا هُوَ عِنْدَ تَحْقِيقِ الْغَصْبِ الشَّرْعِيِّ وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَمْ يَتَحَقَّقْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْمَأْخُوذِ مَالًا مُتَقَوِّمًا مُعْتَبَرٌ فِي حَقِيقَةِ الْغَصْبِ الشَّرْعِيِّ كَمَا تَقَرَّرَ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ ، وَجِلْدُ الْمَيْتَةِ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ قَبْلَ الدِّبَاغِ قَطْعًا ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ مُتَقَوِّمًا بِالدِّبَاغِ ، وَكَلَامُنَا فِيمَا إذَا غَصَبَ جِلْدَ الْمَيْتَةِ فَدَبَغَهُ فَحِينَ الْأَخْذِ لَمْ يَتَحَقَّقْ الْغَصْبُ الشَّرْعِيُّ الْمُوجِبُ لِلضَّمَانِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ بِلَا رَيْبٍ ، وَيُؤَيِّدُ مَا قُلْنَا إنَّ الْخَمْرَ الْمُتَخَلِّلَةَ بِنَفْسِهَا أَيْضًا غَيْرُ مَضْمُونَةٍ فِي صُورَةِ الْهَلَاكِ بِالْإِجْمَاعِ كَمَا مَرَّ ، وَلَيْسَ فِيهَا صَنْعَةٌ مُتَقَوِّمَةٌ يَتْبَعُهَا تَقَوُّمُهَا ، فَلَوْ كَانَ مُجَرَّدُ الْغَصْبِ وَهُوَ الْأَخْذُ جَبْرًا بِدُونِ تَحَقُّقِ الْغَصْبِ الشَّرْعِيِّ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ فِي الْهَلَاكِ وَالِاسْتِهْلَاكِ ، أَوْ كَانَ مُجَرَّدُ حُصُولِ التَّقَوُّمِ لِلْمَأْخُوذِ بَعْدَ الْأَخْذِ كَافِيًا فِي تَحَقُّقِ الْغَصْبِ الشَّرْعِيِّ لَوَجَبَ الضَّمَانُ فِي صُورَةِ هَلَاكِ الْخَمْرِ الْمُتَخَلَّلَةِ بِنَفْسِهَا فِي يَدِ الْآخِذِ جَبْرًا مَعَ أَنَّهُ خِلَافُ مَا عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ .
ثُمَّ أَقُولُ : لَمَّا ظَهَرَ بِمَا بَيَّنَّاهُ أَنَّ كَوْنَ مُرَادِ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ كَمَا إذَا هَلَكَ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ مَا ذَكَرَهُ الشَّارِحَانِ الْمَزْبُورَانِ مِمَّا يَلِيق بِقَدْرِهِ الْجَلِيلِ وَإِنْ كَانَ فِي ظَاهِرِ لَفْظِهِ مُسَاعِدَةٌ لِذَلِكَ كَانَ حَقًّا عَلَيْنَا أَنْ نَحْمِلَ كَلَامَهُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ فَنَقُولُ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِقَوْلِهِ كَمَا إذَا هَلَكَ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ هُوَ التَّشْبِيهُ

وَالتَّنْظِيرُ فِي مُجَرَّدِ عَدَمِ وُجُوبِ الضَّمَانِ وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ مُخْتَلِفًا فِي الصُّورَتَيْنِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِقَوْلِهِ الْمَذْكُورِ هُوَ الْقِيَاسُ عَلَى تِلْكَ الصُّورَةِ فِي خُصُوصِ السَّبَبِ ، وَهُوَ كَوْنُ الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ الصَّنْعَةُ غَيْرَ مَضْمُونٍ فَكَذَا التَّابِعُ ، لَكِنْ مِنْ حَيْثُ جَوَازُ أَنْ يَكُونَ هَذَا السَّبَبُ سَبَبًا أَيْضًا فِي صُورَةِ هَلَاكِ الْمَدْبُوغِ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ لَا مِنْ حَيْثُ وُجُوبِ أَنْ يَكُونَ هَذَا السَّبَبُ هُوَ السَّبَبُ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ كَمَا يَقْتَضِيه قَوْلُهُمَا ، وَإِلَّا فَالْغَصْبُ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ فِي الْهَلَاكِ وَالِاسْتِهْلَاكِ ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَجِبْ أَنْ يَكُونَ هَذَا السَّبَبُ هُوَ السَّبَبُ لِعَدَمِ الضَّمَانِ فِي صُورَةِ الْهَلَاكِ بَلْ جَازَ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهَا سَبَبٌ آخَرُ وَهُوَ عَدَمُ تَحَقُّقِ فِعْلٍ مَوْصُوفٍ بِالتَّعَدِّي كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ لَمْ يَجِبْ الضَّمَانُ هُنَاكَ بِانْتِفَاءِ هَذَا السَّبَبِ ؛ لِأَنَّ انْتِفَاءَ أَحَدِ السَّبَبَيْنِ الْمُسْتَقِلَّيْنِ لَا يُوجِبُ انْتِفَاءَ الْمُسَبِّبِ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَصِحَّ قَوْلُهُمَا ، وَإِلَّا فَالْغَصْبُ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ فِي الْهَلَاكِ وَالِاسْتِهْلَاكِ تَأَمَّلْ تَقِفْ ( قَوْلُهُ وَلَوْ كَانَ قَائِمًا فَأَرَادَ الْمَالِكُ أَنْ يَتْرُكَهُ عَلَى الْغَاصِبِ فِي هَذَا الْوَجْهِ وَيُضَمِّنَهُ قِيمَتَهُ .
قِيلَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْجِلْدَ لَا قِيمَةَ لَهُ ، بِخِلَافِ صَبْغِ الثَّوْبِ ؛ لِأَنَّ لَهُ قِيمَةً ) قَالَ الشُّرَّاحُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ قِيلَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ : أَيْ مُطْلَقًا بِلَا خِلَافٍ ، وَيَقْتَضِي هَذَا التَّفْسِيرُ مُقَابَلَةَ قَوْلِهِ : وَقِيلَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَهُ ذَلِكَ كَمَا لَا يَخْفَى أَقُولُ : تَعْلِيلُ هَذَا الْقَوْلِ الِاتِّفَاقِيِّ بِقَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ الْجِلْدَ لَا قِيمَةَ لَهُ ، بِخِلَافِ صَبْغِ الثَّوْبِ ؛ لِأَنَّ لَهُ قِيمَةً مُشْكِلٌ عِنْدِي ، فَإِنَّهُ لَا يَتَمَشَّى عَلَى أَصْلِ الْإِمَامَيْنِ ، إذْ قَدْ مَرَّ أَنَّ أَصْلَهُمَا أَنَّ الْجِلْدَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْمَالِكِ وَهُوَ مَالٌ

مُتَقَوِّمٌ فَيَضْمَنُهُ مَدْبُوغًا بِالِاسْتِهْلَاكِ وَيُعْطِيهِ الْمَالِكُ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ ، كَمَا إذَا غَصَبَ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ ثُمَّ اسْتَهْلَكَهُ يَضْمَنُهُ وَيُعْطِيهِ الْمَالِكُ مَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ ، وَالتَّعْلِيلُ الْمَذْكُورُ هَاهُنَا صَرِيحٌ فِي خِلَافِ ذَلِكَ كَمَا تَرَى .
لَا يُقَالُ : الْمُرَادُ هَاهُنَا أَنَّ الْجِلْدَ لَا قِيمَةَ لَهُ وَقْتَ الْغَصْبِ ، بِخِلَافِ الثَّوْبِ فَإِنَّ لَهُ قِيمَةً وَقْتَئِذٍ ، وَالْمُرَادُ بِمَا مَرَّ أَنَّ الْجِلْدَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ بَعْدَ الدِّبَاغِ فَصَارَ كَالثَّوْبِ بَعْدَهُ فَلَا مُنَافَاةَ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ الْكَلَامُ فِيمَا إذَا أَرَادَ الْمَالِكُ أَنْ يَتْرُكَهُ عَلَى الْغَاصِبِ وَيُضَمِّنَهُ قِيمَتَهُ بَعْدَ أَنْ صَارَ مَالًا مُتَقَوِّمًا بِالدِّبَاغِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ فِي هَذَا الْوَجْهِ فَلَا وَجْهَ لِتَعْلِيلِ مَا قِيلَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ بِلَا خِلَافٍ بِأَنَّ الْجِلْدَ لَا قِيمَةَ لَهُ وَقْتَ الْغَصْبِ ، بِخِلَافِ الثَّوْبِ فَإِنَّ عَدَمَ تَقَوُّمِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ وَقْتَ الْغَصْبِ لَا يُنَافِي عِنْدَهُمَا كَوْنَهُ مَضْمُونًا عَلَى الْغَاصِبِ بَعْدَ أَنْ صَارَ مَالًا مُتَقَوِّمًا بِالدِّبَاغِ ، وَهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ عِنْدَهُمَا بِالِاسْتِهْلَاكِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِنَاءً عَلَى كَوْنِهِ مَالًا مُتَقَوِّمًا بِالدِّبَاغِ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِ الْمَالِكِ كَمَا مَرَّ .
عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ هَاهُنَا أَنَّ الْجِلْدَ لَا قِيمَةَ لَهُ وَقْتَ الْغَصْبِ لَقَالَ الْمُصَنِّفُ بِخِلَافِ الثَّوْبِ دُونَ أَنْ يَقُولَ بِخِلَافِ صَبْغِ الثَّوْبِ ؛ لِأَنَّ الصَّبْغَ فِي الثَّوْبِ بِإِزَاءِ الدِّبَاغِ فِي الْجِلْدِ تَأَمَّلْ ( قَوْلُهُ لِأَنَّهُ إذَا تَرَكَهُ عَلَيْهِ وَضَمَّنَهُ عَجَزَ الْغَاصِبُ عَنْ رَدِّهِ فَصَارَ كَالِاسْتِهْلَاكِ وَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ الْعَجْزَ فِي الِاسْتِهْلَاكِ لِأَمْرٍ مِنْ جِهَةِ الْغَاصِبِ وَفِيمَا تَرَكَهُ وَضَمَّنَهُ الْقِيمَةَ مِنْ جِهَةِ الْمَالِكِ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ التَّضْمِينِ فِي صُورَةٍ تَعَدَّى فِيهَا الْغَاصِبُ

جَوَازَهُ فِيمَا لَيْسَ كَذَلِكَ ا هـ .
أَقُولُ : يُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْ هَذَا النَّظَرِ بِأَنَّ الْعَجْزَ فِي الِاسْتِهْلَاكِ لَمَّا كَانَ لِأَمْرٍ مِنْ جِهَةِ الْغَاصِبِ لِذَلِكَ الْعَجْزِ فِيمَا تَرَكَهُ الْمَالِكُ عَلَى الْغَاصِبِ وَضَمَّنَهُ الْقِيمَةَ كَانَ الْأَمْرُ مِنْ جِهَةِ الْغَاصِبِ فَإِنَّ الْمَالِكَ إنَّمَا تَرَكَهُ عَامَّةً وَضَمَّنَهُ الْقِيمَةَ بِسَبَبِ أَنَّ الْغَاصِبَ زَادَ عَلَيْهِ مَا لَهُ قِيمَةٌ فَوَجَبَ عَلَى الْمَالِكِ عَلَى تَقْدِيرِ أَخْذِهِ إعْطَاءُ مَا يُقَابِلُ ذَلِكَ الزَّائِدَ وَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَى إعْطَائِهِ وَلَا يُهِمُّهُ ذَلِكَ فَكَانَ السَّبَبُ الْأَصْلِيُّ لِعَجْزِ الْغَاصِبِ عَنْ رَدِّهِ فِعْلَ نَفْسِهِ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ دَبَغَهُ بِمَا لَا قِيمَةَ لَهُ وَكَانَ هُوَ لِمَالِكِهِ بِلَا شَيْءٍ كَمَا سَيَجِيءُ لَمْ يَكُنْ لِلْمَالِكِ تَرْكُهُ عَلَيْهِ وَتَضَمُّنُهُ الْقِيمَةَ عِنْدَ أَحَدٍ أَصْلًا .
( قَوْلُهُ ثُمَّ قِيلَ يُضَمِّنُهُ قِيمَةَ جِلْدٍ مَدْبُوغٍ وَيُعْطِيهِ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ كَمَا فِي الِاسْتِهْلَاكِ .
وَقِيلَ يُضَمِّنُهُ قِيمَةَ جِلْدٍ ذَكِيٍّ غَيْرِ مَدْبُوغٍ ) يَعْنِي اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي كَيْفِيَّةِ التَّضْمِينِ عَلَى قَوْلِهِمَا ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ يُضَمِّنُهُ قِيمَةَ جِلْدٍ ذَكِيٍّ مَدْبُوغٍ وَيُعْطِيهِ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ كَمَا فِي صُوَرِ الِاسْتِهْلَاكِ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يُضَمِّنُهُ قِيمَةَ جِلْدٍ ذَكِيٍّ غَيْرِ مَدْبُوغٍ ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ .
أَقُولُ : ثَمَرَةُ هَذَا الِاخْتِلَافِ غَيْرُ ظَاهِرَةٍ عِنْدِي فَإِنَّ قِيمَةَ جِلْدٍ مَدْبُوغٍ بَعْدَ أَنْ يُطْرَحَ عَنْهَا قَدْرُ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ هِيَ قِيمَةُ جِلْدٍ ذَكِيٍّ غَيْرِ مَدْبُوغٍ بِعَيْنِهَا ، إذَا قَدْ قَالَ الْمُصَنِّفُ فِيمَا مَرَّ فِي بَيَانِ أَخْذِ الْجِلْدِ وَإِعْطَاءِ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ أَنَّهُ يَنْظُرُ إلَى قِيمَتِهِ ذَكِيًّا غَيْرَ مَدْبُوغٍ وَإِلَى قِيمَتِهِ مَدْبُوغًا فَيَضْمَنُ مَا بَيْنَهُمَا ، وَذَاكَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ مَا بَقِيَ مِنْ قِيمَةِ جِلْدٍ مَدْبُوغٍ بَعْدَ إعْطَاءِ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ هُوَ قِيمَةُ جِلْدٍ ذَكِيٍّ بِعَيْنِهَا ، فَمَا فَائِدَةُ الِاخْتِلَافُ

الْمَذْكُورُ وَالْمَآلُ وَاحِدٌ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ .

قَالَ ( وَمَنْ كَسَرَ لِمُسْلِمٍ بَرْبَطًا أَوْ طَبْلًا أَوْ مِزْمَارًا أَوْ دُفًّا أَوْ أَرَاقَ لَهُ سَكَرًا أَوْ مُنَصَّفًا فَهُوَ ضَامِنٌ ، وَبَيْعُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ جَائِزٌ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : لَا يَضْمَنُ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا .
وَقِيلَ الِاخْتِلَافُ فِي الدُّفِّ وَالطَّبْلِ الَّذِي يُضْرَبُ لِلَّهْوِ .
فَأَمَّا طَبْلُ الْغُزَاةِ وَالدُّفُّ الَّذِي يُبَاحُ ضَرْبُهُ فِي الْعُرْسِ يُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ .
وَقِيلَ الْفَتْوَى فِي الضَّمَانِ عَلَى قَوْلِهِمَا .
وَالسَّكَرُ اسْمٌ لِلنِّيءِ مِنْ مَاءِ الرُّطَبِ إذَا اشْتَدَّ .
وَالْمُنَصَّفُ مَا ذَهَبَ نِصْفُهُ بِالطَّبْخِ .
وَفِي الْمَطْبُوخِ أَدْنَى طَبْخَةٍ وَهُوَ الْبَاذَقُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ فِي التَّضْمِينِ وَالْبَيْعِ .
لَهُمَا أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ أُعِدَّتْ لِلْمَعْصِيَةِ فَبَطَلَ تَقَوُّمُهَا كَالْخَمْرِ ، وَلِأَنَّهُ فَعَلَ مَا فَعَلَ آمِرًا بِالْمَعْرُوفِ وَهُوَ بِأَمْرِ الشَّرْعِ فَلَا يَضْمَنُهُ كَمَا إذَا فَعَلَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا أَمْوَالٌ لِصَلَاحِيَّتِهَا لِمَا يَحِلُّ مِنْ وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ وَإِنْ صَلُحَتْ لِمَا لَا يَحِلُّ فَصَارَ كَالْأَمَةِ الْمُغَنِّيَةِ .
وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ بِفِعْلِ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ فَلَا يُوجِبُ سُقُوطَ التَّقَوُّمِ ، وَجَوَازُ الْبَيْعِ وَالتَّضْمِينِ مُرَتَّبَانِ عَلَى الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ بِالْيَدِ إلَى الْأُمَرَاءِ لِقُدْرَتِهِمْ وَبِاللِّسَانِ إلَى غَيْرِهِمْ ، وَتَجِبُ قِيمَتُهَا غَيْرُ صَالِحَةٍ لِلَّهْوِ كَمَا فِي الْجَارِيَةِ الْمُغَنِّيَةِ وَالْكَبْشِ النَّطُوحِ وَالْحَمَامَةِ الطَّيَّارَةِ وَالدِّيكِ الْمُقَاتِلِ وَالْعَبْدِ الْخَصِيِّ تَجِبْ الْقِيمَةُ غَيْرُ صَالِحَةٍ لِهَذِهِ الْأُمُورِ ، كَذَا هَذَا ، وَفِي السَّكَرِ وَالْمُنَصَّفِ تَجِبُ قِيمَتُهُمَا ، وَلَا يَجِبُ الْمِثْلُ ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مَمْنُوعٌ عَنْ تَمَلُّكِ عَيْنِهِ وَإِنْ كَانَ لَوْ فَعَلَ جَازَ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَتْلَفَ عَلَى نَصْرَانِيٍّ صَلِيبًا حَيْثُ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ صَلِيبًا ؛ لِأَنَّهُ مُقَرٌّ عَلَى

ذَلِكَ .
.

قَالَ ( وَمَنْ غَصَبَ أُمَّ وَلَدٍ أَوْ مُدَبَّرَةً فَمَاتَتْ فِي يَدِهِ ضَمِنَ قِيمَةَ الْمُدَبَّرَةِ وَلَا يَضْمَنُ قِيمَةَ أُمِّ الْوَلَدِ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : يَضْمَنُ قِيمَتَهُمَا ؛ لِأَنَّ مَالِيَّةَ الْمُدَبَّرَةِ مُتَقَوِّمَةٌ بِالِاتِّفَاقِ ، وَمَالِيَّةَ أُمِّ الْوَلَدِ غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَهُمَا مُتَقَوِّمَةٌ ، وَالدَّلَائِلُ ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ .

كِتَابُ الشُّفْعَةِ الشُّفْعَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الشَّفْعِ وَهُوَ الضَّمُّ ، سُمِّيَتْ بِهَا لِمَا فِيهَا مِنْ ضَمِّ الْمُشْتَرَاةِ إلَى عَقَارِ الشَّفِيعِ .
.

( كِتَابُ الشُّفْعَةِ ) وَجْهُ مُنَاسَبَةِ الشُّفْعَةِ بِالْغَصْبِ تَمَلُّكُ إنْسَانٍ مَالَ غَيْرِهِ بِلَا رِضَاهُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا .
وَالْحَقُّ تَقْدِيمُهَا عَلَيْهِ لِكَوْنِهَا مَشْرُوعَةً دُونَهُ ، لَكِنَّ تَوَافُرَ الْحَاجَةِ إلَى مَعْرِفَتِهِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْهُ مَعَ كَثْرَتِهِ بِكَثْرَةِ أَسْبَابِهِ مِنْ الِاسْتِحْقَاقِ فِي الْبِيَاعَاتِ وَالْأَشْرِبَةِ وَالْإِجَارَاتِ وَالشَّرِكَاتِ وَالْمُزَارَعَاتِ أَوْجَبَ تَقْدِيمَهَا ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَكَثِيرٍ مِنْ الشُّرُوحِ .
أَقُولُ : لَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّ الْوُجُوهَ الْمُوجِبَةَ لِتَرْتِيبِ الْكُتُبِ السَّالِفَةِ عَلَى النَّمَطِ الْمُتَقَدِّمِ كَمَا مَرَّ بَيَانُهَا قَدْ سَاقَتْ ذِكْرَ كِتَابِ الشُّفْعَةِ إلَى هُنَا ، فَلَا حَاجَةَ إلَى الِاعْتِذَارِ عَنْ تَقْدِيمِ الْغَصْبِ عَلَى الشُّفْعَةِ بِقَوْلِهِ لَكِنَّ تَوَفُّرَ الْحَاجَةِ إلَى مَعْرِفَتِهِ إلَخْ ، فَلَا وَجْهَ لِقَوْلِهِ وَالْحَقُّ تَقْدِيمُهَا عَلَيْهِ إلَخْ عِنْدَ مُلَاحَظَةِ تِلْكَ الْوُجُوهِ الْمُوجِبَةِ لِتَرْتِيبِ الْكُتُبِ السَّالِفَةِ عَلَى النَّمَطِ الْمُتَقَدِّمِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ .
قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ بَعْدَ أَنْ تَنَبَّهَ لِبَعْضِ مَا قُلْنَاهُ : ثُمَّ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي وَجْهِ التَّقْدِيمِ إنَّ الْغَصْبَ يَعُمُّ الْعَقَارَ وَالْمَنْقُولَ بِخِلَافِ الشُّفْعَةِ ، وَالْأَعَمُّ يَسْتَحِقُّ التَّقْدِيمَ ا هـ .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِسَدِيدٍ ، إذْ الْغَصْبُ لَا يَعُمُّ الْعَقَارَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ حِينَئِذٍ ، بَلْ الْغَصْبُ عِنْدَهُمَا إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي الْمَنْقُولِ دُونَ الْعَقَارِ كَمَا مَرَّ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْغَصْبِ مُفَصَّلًا وَمَشْرُوحًا ، وَإِنَّمَا يَتَأَتَّى عُمُومُ الْغَصْبِ لِلْعَقَارِ وَالْمَنْقُولِ عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ كَمَا مَرَّ أَيْضًا ثَمَّةَ ، وَلَا وَجْهَ لِبِنَاءِ وَجْهِ التَّقْدِيمِ عَلَى خِلَافِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ إمَامُنَا الْأَعْظَمُ وَإِمَامُنَا الثَّانِي ، إذْ لَوْ كَفَى مُجَرَّدُ كَوْنِ الْعُمُومِ مَحَلَّ اجْتِهَادِ مُجْتَهِدٍ لَمْ يَتِمَّ قَوْلُهُ بِخِلَافِ الشُّفْعَةِ ، فَإِنَّ الشُّفْعَةَ أَيْضًا تَعُمُّ

الْعَقَارَ وَالْمَنْقُولَ عِنْدَ مَالِكٍ فَإِنَّهَا وَاجِبَةٌ فِي السُّفُنِ أَيْضًا عِنْدَهُ عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ وَسَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ .
ثُمَّ إنَّ مِنْ مَحَاسِنِ الشُّفْعَةِ دَفْعَ ضَرَرِ الْجِوَارِ وَهُوَ مَادَّةُ الْمَضَارِّ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا ضَرَرَ وَلَا إضْرَارَ فِي الْإِسْلَامِ } وَلَا شَكَّ لِأَحَدٍ فِي حُسْنِ دَفْعِ ضَرَرِ التَّأَذِّي بِسَبَبِ سُوءِ الْمُجَاوَرَةِ عَلَى الدَّوَامِ ، وَقَدْ جَاءَ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى { لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا } أَيْ لَأُلْزِمَنَّهُ صُحْبَةَ الْأَضْدَادِ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ .
ثُمَّ إنَّ الشُّفْعَةَ فِي اللُّغَةِ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الشَّفْعِ وَهُوَ الضَّمُّ ، سُمِّيَتْ بِهَا لِمَا فِيهَا مِنْ ضَمِّ الْمُشْتَرَاةِ إلَى مِلْكِ الشَّفِيعِ ، وَمِنْهُ شَفَاعَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُذْنِبِينَ ؛ لِأَنَّهُ يَضُمُّهُمْ بِهَا إلَى الطَّاهِرِينَ .
وَفِي الشَّرِيعَةِ : هِيَ تَمَلُّكُ الْبُقْعَةِ جَبْرًا عَلَى الْمُشْتَرِي بِمَا قَامَ عَلَيْهِ ، كَذَا فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ وَالْمُتُونِ ، إلَّا أَنَّهُ وَقَعَ فِي بَعْضِهَا تَمَلُّكُ الْعَقَارِ بَدَلَ تَمَلُّكِ الْبُقْعَةِ ، وَصَرَّحَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ بِزِيَادَةِ قَيْدٍ فِي آخِرِ التَّعْرِيفِ وَهُوَ قَوْلُهُ بِشَرِكَةٍ أَوْ جِوَارٍ وَتُرِكَ ذِكْرُهُ فِي الْأَكْثَرِ بِنَاءً عَلَى ظُهُورِهِ .
أَقُولُ : فِي الْكُلِّ إشْكَالٌ ، وَهُوَ أَنَّهُ إنْ كَانَتْ حَقِيقَةُ الشُّفْعَةِ فِي الشَّرِيعَةِ هِيَ التَّمَلُّكُ الْمَذْكُورُ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَصِحَّ مَا تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ ، وَسَيَجِيءُ فِي الْكِتَابِ مِنْ أَنَّ الشُّفْعَةَ تَجِبُ : أَيْ تَثْبُتُ بِعَقْدِ الْبَيْعِ وَتَسْتَقِرُّ بِالْإِشْهَادِ وَتُمَلَّكُ بِالْأَخْذِ إذَا سَلَّمَهَا الْمُشْتَرِي أَوْ حَكَمَ بِهَا حَاكِمٌ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ تَحْقِيقَ التَّمَلُّكِ فِي الشُّفْعَةِ عِنْدَ أَخْذِ الْبُقْعَةِ الْمَشْفُوعَةِ بِالتَّرَاضِي أَوْ قَضَاءِ الْقَاضِي ، فَإِنْ كَانَتْ حَقِيقَةُ الشُّفْعَةِ

فِي الشَّرِيعَةِ نَفْسَ ذَلِكَ التَّمَلُّكِ لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ لِقَوْلِهِمْ الشُّفْعَةَ تَثْبُتُ بِعَقْدِ الْبَيْعِ وَتَسْتَقِرُّ بِالْإِشْهَادِ صِحَّةً ، إذَا الثُّبُوتُ وَالِاسْتِقْرَارُ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ التَّحَقُّقِ وَحِينَ عَقْدِ الْبَيْعِ وَالْإِشْهَادِ لَمْ يُوجَدْ الْأَخْذُ بِالتَّرَاضِي وَلَا قَضَاءِ الْقَاضِي لَا مَحَالَةَ فَلَمْ يُوجَدْ التَّمَلُّكُ أَيْضًا ، فَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ الشُّفْعَةُ نَفْسَ ذَلِكَ التَّمَلُّكِ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُهَا بِعَقْدِ الْبَيْعِ وَاسْتِقْرَارُهَا بِالْإِشْهَادِ .
وَأَيْضًا قَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ حُكْمَ الشُّفْعَةِ جَوَازُ طَلَبِ الشُّفْعَةِ وَثُبُوتُ الْمِلْكِ بِالْقَضَاءِ أَوْ الرِّضَا ، فَلَوْ كَانَتْ الشُّفْعَةُ نَفْسَ التَّمَلُّكِ لَمَا صَلُحَ شَيْءٌ مِنْ جَوَازِ طَلَبِ الشُّفْعَةِ وَثُبُوتِ الْمِلْكِ لَأَنْ يَكُونَ حُكْمًا لِلشُّفْعَةِ .
أَمَّا الْأَوَّلُ ؛ فَلِأَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ طَلَبِ الشُّفْعَةِ إنَّمَا هُوَ الْوُصُولُ إلَى تَمَلُّكِ الْبُقْعَةِ الْمَشْفُوعَةِ ، وَعِنْدَ حُصُولِ تَمَلُّكِهَا الَّذِي هُوَ الشُّفْعَةُ عَلَى الْفَرْضِ الْمَذْكُورِ لَا يَبْقَى مُحَالُ جَوَازِ طَلَبِ الشُّفْعَةِ ضَرُورَةَ بُطْلَانِ طَلَبِ الْحَاصِلِ ، وَحُكْمُ الشَّيْءِ يُقَارِنُ ذَلِكَ الشَّيْءَ أَوْ يُعْقِبُهُ وَلَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَصْلُحْ جَوَازُ طَلَبِ الشُّفْعَةِ لَأَنْ يَكُونَ حُكْمًا لِلشُّفْعَةِ عَلَى التَّقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ الشُّفْعَةُ نَفْسَ التَّمَلُّكِ .
وَأَمَّا الثَّانِي ؛ فَلِأَنَّ ثُبُوتَ الْمِلْكِ هُوَ عَيْنُ التَّمَلُّكِ فِي الْمَعْنَى ، وَحُكْمُ الشَّيْءِ مَا يُغَايِرُهُ وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَصْلُحْ ثُبُوتُ الْمِلْكِ أَيْضًا لَأَنْ يَكُونَ حُكْمًا لِلشُّفْعَةِ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ الشُّفْعَةِ نَفْسَ التَّمَلُّكِ .
فَالْأَظْهَرُ عِنْدِي فِي تَعْرِيفِ الشُّفْعَةِ فِي الشَّرِيعَةِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ حَيْثُ قَالَ : ثُمَّ الشُّفْعَةُ عِبَارَةٌ عَنْ حَقِّ التَّمَلُّكِ فِي الْعَقَارِ لِدَفْعِ ضَرَرِ الْجِوَارِ ا هـ .
فَإِنَّهُ إذَا كَانَتْ حَقِيقَةُ الشُّفْعَةِ فِي الشَّرِيعَةِ مُجَرَّدُ حَقِّ التَّمَلُّكِ دُونَ حَقِيقَةِ

التَّمَلُّكِ يَنْدَفِعُ الْإِشْكَالُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ بِحَذَافِيرِهِ ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ بِالتَّأَمُّلِ الصَّادِقِ ، وَلَعَلَّ مُرَادَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ أَيْضًا ذَلِكَ وَلَكِنَّهُمْ تَسَامَحُوا فِي الْعِبَارَةِ .
ثُمَّ إنَّ سَبَبَ الشُّفْعَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ اتِّصَالُ مِلْكِ الشَّفِيعِ بِمِلْكِ الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ إنَّمَا تَجِبُ لِدَفْعِ ضَرَرِ الدَّخِيلِ عَنْ الْأَصِيلِ وَهُوَ ضَرَرُ سُوءِ الْمُعَامَلَةِ وَالْمُعَاشَرَةِ ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ هَذَا الضَّرَرُ عِنْدَ اتِّصَالِ مِلْكِ الشَّفِيعِ بِالْمَبِيعِ .
وَكَانَ الْخَصَّافُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ الشُّفْعَةُ تَجِبُ بِالْبَيْعِ ثُمَّ تَجِبُ بِالطَّلَبِ ، فَهُوَ إشَارَةٌ مِنْهُ إلَى أَنَّ كِلَيْهِمَا سَبَبٌ عَلَى التَّعَاقُبِ وَأَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ إذَا وَجَبَبْت بِالْبَيْعِ لَا يُتَصَوَّرُ وُجُوبُهَا ثَانِيًا بِالطَّلَبِ .
وَذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الشَّرِكَةَ مَعَ الْبَيْعِ عِلَّةٌ لِوُجُوبِ الشُّفْعَةِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِهِمَا .
قَالَ : وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ الشِّرَاءَ شَرْطٌ وَالشَّرِكَةَ عِلَّةٌ وَسَبَبٌ ، فَإِنَّ الشَّفِيعَ لَوْ سَلَّمَ الشُّفْعَةَ قَبْلَ الْبَيْعِ لَا يَصِحُّ ، وَلَوْ سَلَّمَ بَعْدَ الْبَيْعِ يَصِحُّ ، وَلَوْ كَانَ سَبَبُ وُجُوبِ الشُّفْعَةِ الشَّرِكَةَ وَحْدَهَا لَصَحَّ التَّسْلِيمُ قَبْلَ الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ الْإِبْرَاءَ عَنْ سَائِرِ الْحُقُوقِ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ جَائِزٌ ، وَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ تَسْلِيمُ الشُّفْعَةِ قَبْلَ الْبَيْعِ عَرَفْنَا أَنَّ الشَّرِكَةَ وَحْدَهَا لَيْسَتْ بِعِلَّةٍ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الشُّفْعَةِ بِالشَّرِكَةِ عِنْدَ الْبَيْعِ أَوْ بِالشَّرِكَةِ وَالْبَيْعِ وَتَأَكُّدَهَا بِالطَّلَبِ وَثُبُوتِ الْمِلْكِ فِي الْبُقْعَةِ الْمَشْفُوعَةِ بِالْقَضَاءِ أَوْ بِالرِّضَا ، كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ ، وَذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ مَعْزِيًّا إلَى الْمَبْسُوطِ وَالذَّخِيرَةِ وَالتُّحْفَةِ وَغَيْرِهَا .
أَقُولُ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ

الْخَصَّافِ بِقَوْلِهِ الشُّفْعَةَ تَجِبُ بِالْبَيْعِ ثُمَّ تَجِبُ بِالطَّلَبِ أَنَّهَا تَجِبُ بِالْبَيْعِ ثُمَّ يَتَأَكَّدُ وُجُوبُهَا وَيَسْتَقِرُّ بِالطَّلَبِ فَيَئُولُ إلَى مَا ذَكَرَهُ غَيْرُهُ مِنْ الْقَوْلِ الصَّحِيحِ الْمُخْتَارِ .
وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ ثُمَّ تَجِبُ بِالطَّلَبِ نَظِيرُ مَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْله تَعَالَى { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } مِنْ أَنَّ مَعْنَاهُ ثَبِّتْنَا عَلَى هَدْيِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ بِكَوْنِ نَفْسِ الْهَدْيِ مُتَحَقِّقَةً قَبْلَ الطَّلَبِ ، وَلَعَلَّ نَظَائِرَ هَذَا فِي كَلَامِ الْبُلَغَاءِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى .
وَالْعَجَبُ أَنَّ عَامَّةَ ثِقَاتِ الْمَشَايِخِ حَمَلُوا كَلَامَ ذَلِكَ الْهُمَامِ الَّذِي لَهُ يَدٌ طُولَى فِي الْفِقْهِ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ بَيِّنُ الْبُطْلَانِ وَلَمْ يَحْمِلْهُ أَحَدٌ عَلَى الْمَعْنَى الصَّحِيحِ مَعَ كَوْنِهِ عَلَى طَرَفِ الثُّمَامِ

قَالَ ( الشُّفْعَةُ وَاجِبَةٌ لِلْخَلِيطِ فِي نَفْسِ الْمَبِيعِ ثُمَّ لِلْخَلِيطِ فِي حَقِّ الْمَبِيعِ كَالشُّرْبِ وَالطَّرِيقِ ثُمَّ لِلْجَارِ ) أَفَادَ هَذَا اللَّفْظُ ثُبُوتَ حَقِّ الشُّفْعَةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ وَأَفَادَ التَّرْتِيبَ ، أَمَّا الثُّبُوتُ فَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الشُّفْعَةُ لِشَرِيكٍ لَمْ يُقَاسِمْ } وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { جَارُ الدَّارِ أَحَقُّ بِالدَّارِ وَالْأَرْضِ ، يَنْتَظِرُ لَهُ وَإِنْ كَانَ غَائِبًا إذَا كَانَ طَرِيقُهُمَا وَاحِدًا } وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ ، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا سَقَبُهُ ؟ قَالَ شُفْعَتُهُ } وَيُرْوَى { الْجَارُ أَحَقُّ بِشُفْعَتِهِ } وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا شُفْعَةَ بِالْجِوَارِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمُ ، فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِفَتْ الطَّرِيقُ فَلَا شُفْعَةَ } وَلِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ مَعْدُولٌ بِهِ عَنْ سُنَنِ الْقِيَاسِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَمَلُّكِ الْمَالِ عَلَى الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ ، وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ ، وَهَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ ؛ لِأَنَّ مُؤْنَةَ الْقِسْمَةِ تَلْزَمُهُ فِي الْأَصْلِ دُونَ الْفَرْعِ ، وَلَنَا مَا رَوَيْنَا ، وَلِأَنَّ مِلْكَهُ مُتَّصِلٌ بِمِلْكِ الدَّخِيلِ اتِّصَالَ تَأْبِيدٍ وَقَرَارٍ فَيَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الشُّفْعَةِ عِنْدَ وُجُودِ الْمُعَاوَضَةِ بِالْمَالِ اعْتِبَارًا بِمَوْرِدِ الشَّرْعِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الِاتِّصَالَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ إنَّمَا انْتَصَبَ سَبَبًا فِيهِ لِدَفْعِ ضَرَرِ الْجِوَارِ ، إذْ هُوَ مَادَّةُ الْمَضَارِّ عَلَى مَا عُرِفَ ، وَقَطْعُ هَذِهِ الْمَادَّةِ بِتَمَلُّكِ الْأَصْلِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ فِي حَقِّهِ بِإِزْعَاجِهِ عَنْ خُطَّةِ آبَائِهِ أَقْوَى ، وَضَرَرُ الْقِسْمَةِ مَشْرُوعٌ لَا يَصْلُحُ عِلَّةً لِتَحْقِيقِ ضَرَرِ غَيْرِهِ .
وَأَمَّا التَّرْتِيبُ فَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الشَّرِيكُ أَحَقُّ مِنْ الْخَلِيطِ ، وَالْخَلِيطُ أَحَقُّ مِنْ الشَّفِيعِ } فَالشَّرِيكُ فِي نَفْسِ الْمَبِيعِ وَالْخَلِيطُ فِي

حُقُوقِ الْمَبِيعِ وَالشَّفِيعُ هُوَ الْجَارُ .
وَلِأَنَّ الِاتِّصَالَ بِالشَّرِكَةِ فِي الْمَبِيعِ أَقْوَى ؛ لِأَنَّهُ فِي كُلِّ جُزْءٍ ، وَبَعْدَهُ الِاتِّصَالُ فِي الْحُقُوقِ ؛ لِأَنَّهُ شَرِكَةٌ فِي مَرَافِقِ الْمِلْكِ ، وَالتَّرْجِيحُ يَتَحَقَّقُ بِقُوَّةِ السَّبَبِ ، وَلِأَنَّ ضَرَرَ الْقِسْمَةِ إنْ لَمْ يَصْلُحْ عِلَّةً صَلَحَ مُرَجِّحًا .
.

( قَوْلُهُ أَمَّا الثُّبُوتُ فَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الشُّفْعَةُ لِشَرِيكٍ لَمْ يُقَاسِمْ } ) أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : هَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ دَلَّ عَلَى بَعْضِ الْمُدَّعَى وَهُوَ ثُبُوتُ حَقِّ الشُّفْعَةِ لِلشَّرِيكِ إلَّا أَنَّهُ يَنْفِي بَعْضَهُ الْآخَرَ وَهُوَ ثُبُوتُهُ لِغَيْرِ الشَّرِيكِ أَيْضًا كَالْجَارِ الْمُلَاصِقِ ؛ لِأَنَّ اللَّامَ فِي الشُّفْعَةِ الْمَذْكُورَةِ لِلْجِنْسِ لِعَدَمِ الْعَهْدِ ، وَتَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ إلَيْهِ فَاللَّامُ الْجِنْسِ يُفِيدُ قَصْرَ الْمُسْنَدِ إلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأَدَبِ ، وَمَثَّلَ بِنَحْوِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ } سِيَّمَا وَقَدْ أَدْخَلَ عَلَى الْمُسْنَدِ هَاهُنَا لَامَ الِاخْتِصَاصِ كَمَا تَرَى فَكَانَ عَرِيقًا فِي إفَادَة الْقَصْرِ كَمَا فِي { الْحَمْدُ لِلَّهِ } عَلَى مَا قَالُوا ، فَانْتَفَى اقْتِضَاءُ حَقِّ الشُّفْعَةِ عَنْ غَيْرِ الشَّرِيكِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فَلْيُتَأَمَّلْ فِي الْجَوَابِ .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ ذِكْرِ الْحَدِيثِ الْمَزْبُورِ : أَيْ تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ لِلشَّرِيكِ إذَا كَانَتْ الدَّارُ مُشْتَرَكَةً فَبَاعَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ ، أَمَّا إذَا بَاعَ بَعْدَهَا فَلَمْ يَبْقَ لِلشَّرِيكِ الْآخَرِ حَقٌّ لَا فِي الدَّاخِلِ وَلَا فِي نَفْسِ الدَّارِ فَحِينَئِذٍ لَا شُفْعَةَ ا هـ .
وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى قَوْلِهِ أَمَّا إذَا بَاعَ بَعْدَهَا إلَخْ ثُمَّ وَجَّهَهُ حَيْثُ قَالَ : هَذَا قَوْلٌ بِمَفْهُومِ الصِّفَةِ ، وَنَحْنُ لَا نَقُولُ بِهِ إلَّا أَنْ يُقَالَ التَّخْصِيصُ بِدَلَالَةِ اللَّامِ الِاخْتِصَاصِيَّةِ ا هـ .
أَقُولُ : كُلٌّ مِنْ اعْتِرَاضِهِ وَتَوْجِيهِهِ سَاقِطٌ .
أَمَّا الْأَوَّلُ ؛ فَلِأَنَّ قَوْلَ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ : وَأَمَّا إذَا بَاعَ إلَخْ لَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي تَفْسِيرِ مَعْنَى الْحَدِيثِ الْمَزْبُورِ حَتَّى يَتَّجِهَ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ هَذَا قَوْلٌ بِمَفْهُومِ الصِّفَةِ ، وَنَحْنُ لَا نَقُولُ بِهِ ، بَلْ هُوَ كَلَامُ نَفْسِهِ ذَكَرَهُ بِطَرِيقِ الِاسْتِطْرَادِ بَيَانًا لِلْوَاقِعِ ، وَأَمَّا

الثَّانِي ؛ فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ اللَّامُ الِاخْتِصَاصِيَّةُ مَدَارًا لِلتَّخْصِيصِ بِمَعْنَى الْقَصْرِ لَزِمَ أَنْ يَدُلَّ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ عَلَى عَدَمِ ثُبُوتِ حَقِّ الشُّفْعَةِ لِلْجَارِ الْمُلَاصِقِ أَيْضًا لِكَوْنِهِ غَيْرَ شَرِيكٍ لَمْ يُقَاسِمْ ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً عَلَيْنَا لَا لَنَا ( قَوْلُهُ وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { جَارُ الدَّارِ أَحَقُّ بِالدَّارِ وَالْأَرْضِ يَنْتَظِرُ لَهُ وَإِنْ كَانَ غَائِبًا إذَا كَانَ طَرِيقُهُمَا وَاحِدًا } ) أَيْ جَارُ الدَّارِ أَحَقُّ بِالدَّارِ وَجَارُ الْأَرْضِ أَحَقُّ بِالْأَرْضِ .
وَقَوْلُهُ " يَنْتَظِرُ لَهُ وَإِنْ كَانَ غَائِبًا " : أَيْ الشَّفِيعُ يَكُونُ عَلَى شُفْعَتِهِ إنْ غَابَ ، إذَا لَا تَأْثِيرَ لِلْغَيْبَةِ فِي إبْطَالِ حَقٍّ تَقَرَّرَ سَبَبُهُ ، كَذَا قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ .
وَيَقْرُبُ مِنْهُ قَوْلُ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ : يَعْنِي يَكُونُ عَلَى شُفْعَتِهِ مُدَّةَ غَيْبَتِهِ ، إذْ لَا تَأْثِيرَ لِلْغَيْبَةِ فِي إبْطَالِ حَقٍّ تَقَرَّرَ سَبَبُهُ ا هـ .
قَالَ فِي النِّهَايَةِ : وَفِي رِوَايَةِ الْأَسْرَارِ يَنْتَظِرُ بِهَا إذَا كَانَ غَائِبًا ، ثُمَّ قَالَ فِي الْأَسْرَارِ : فَإِنْ قِيلَ : الْمُرَادُ بِهِ أَحَقُّ بِهَا عَرْضًا عَلَيْهِ لِلْبَيْعِ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ فَسَّرَ الْحَقَّ بِالِانْتِظَارِ إذَا كَانَ غَائِبًا .
قُلْنَا : إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَهُ أَحَقَّ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَيَكُونُ أَحَقَّ بِهَا قَبْلَ الْبَيْعِ وَبَعْدَهُ .
وَقَوْلُهُ ( يَنْتَظِرُ ) تَفْسِيرٌ لِبَعْضِ مَا شَمَلَهُ كَلِمَةُ أَحَقَّ ؛ وَلِأَنَّ مَا رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ أَرْضٍ بِيعَتْ لَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهَا شِرْكٌ وَلَا نَصِيبٌ فَقَالَ : الْجَارُ أَحَقُّ بِشُفْعَتِهِ } فَهَذَا يُبْطِلُ ذَلِكَ التَّأْوِيلَ ا هـ وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى قَوْلِهِ وَإِنْ كَانَ غَائِبًا مُقْتَضَى كَلِمَةِ إنْ الْوَصْلِيَّةِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ غَائِبًا يَنْتَظِرُ لَهُ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى ، فَفِي كَلَامِهِ بَحْثٌ تَأَمَّلْهُ ا هـ .
أَقُولُ : الْمَذْكُورُ فِي

كَثِيرٍ مِنْ نُسَخِ الْهِدَايَةِ إنْ كَانَ غَائِبًا بِدُونِ الْوَاوِ ، وَاَلَّذِي ذَكَرَ فِي حَاشِيَةِ ذَلِكَ الْقَائِلِ أَيْضًا تِلْكَ النُّسْخَةِ فَحِينَئِذٍ لَا يَظْهَرُ كَوْنُ كَلِمَةِ إنْ وَصْلِيَّةً ، بَلْ الْمُتَبَادَرُ أَنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً .
وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ الْأَسْرَارِ حَيْثُ وَقَعَ فِيهَا إذَا كَانَ غَائِبًا ، فَعَلَى ذَلِكَ لَا يُتَوَهَّمُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى إذَا لَمْ يَكُنْ غَائِبًا يَنْتَظِرُ لَهُ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى .
وَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ بِالْوَاوِ وَهِيَ الْأَكْثَرُ وُقُوعًا فِي الشُّرُوحِ فَلَا مَحْذُورَ فِيهَا أَيْضًا ؛ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ يَنْتَظِرُ لَهُ وَإِنْ كَانَ غَائِبًا عَلَى مَا بَيَّنُوا أَنَّهُ يَكُونُ عَلَى شُفْعَتِهِ وَإِنْ غَابَ ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ إذَا كَانَ عَلَى شُفْعَتِهِ حَالَ غَيْبَتِهِ فَلَأَنْ يَكُونَ عَلَى شُفْعَتِهِ حَالَ حُضُورِهِ أَوْلَى بِالطَّرِيقِ ، وَإِنْ تَرَكَ الِانْتِظَارَ عَلَى مَعْنَاهُ الْأَصْلِيِّ وَهُوَ التَّوَقُّفُ فِي مُهْلَةٍ وَكَانَ الْمَعْنَى يَنْتَظِرُ لَهُ إلَى أَنْ يَجِيءَ وَيَفْرُغَ مِنْ شُفْعَتِهِ تَحَقَّقَتْ الْأَوْلَوِيَّةُ أَيْضًا فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ غَائِبًا ؛ لِأَنَّهُ إذَا وَجَبَ الِانْتِظَارُ لَهُ إلَى أَنْ يَجِيءَ وَيَفْرُغَ مِنْ شُفْعَتِهِ مَعَ بُعْدِ زَمَانِ الِانْتِظَارِ فَلَأَنْ يَجِبَ الِانْتِظَارُ لَهُ إلَى فَرَاغِهِ مِنْ شُفْعَتِهِ عِنْدَ حُضُورِهِ أَوْلَى لِحُصُولِ الِانْفِصَالِ بَيْنَهُمَا فِي زَمَانٍ قَلِيلٍ تَأَمَّلْ تَفْهَمْ .
( قَوْلُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا شُفْعَةَ بِالْجِوَارِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ ، فَإِنْ وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِفَتْ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ } ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ اللَّامَ لِلْجِنْسِ كَقَوْلِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ' { الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ } فَتَنْحَصِرُ الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ : يَعْنِي إذَا كَانَ قَابِلًا لِلْقِسْمَةِ ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فَلَا شُفْعَةَ فِيهِ عِنْدَهُ ، وَأَنَّهُ قَالَ { فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِفَتْ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ } وَفِيهِ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ

عَلَى عَدَمِ الشُّفْعَةِ فِي الْمَقْسُومِ وَالشَّرِيكُ فِي حَقِّ الْمَبِيعِ وَالْجَارُ حَقُّ كُلٍّ مِنْهُمَا مَقْسُومٌ فَلَا شُفْعَةَ فِيهِ ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ ا هـ .
أَقُولُ : فِي تَقْرِيرِهِ نَوْعُ خَلَلٍ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَالشَّرِيكُ فِي الْحَقِّ الْمَبِيعِ وَالْجَارُ حَقُّ كُلٍّ مِنْهُمَا مَقْسُومٌ يُنَاقِضُ أَوَّلُهُ آخِرَهُ ، فَإِنَّ مَعْنَى الشَّرِيكِ فِي حَقِّ الْمَبِيعِ مَنْ لَمْ يَكُنْ حَقُّهُ مَقْسُومًا بَلْ كَانَ حَقُّ الْمَبِيعِ مُشَاعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآخَرِ ، وَقَدْ حُكِمَ عَلَيْهِ بِكَوْنِ حَقِّهِ مَقْسُومًا وَذَلِكَ تَنَاقُضٌ لَا يَخْفَى ، وَقَصَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ دَفْعَ ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ : فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَكُونُ حَقِّ الشَّرِيكِ فِي حَقِّ الْمَبِيعِ مَقْسُومًا ؟ .
قُلْنَا : مُرَادُهُ حَقُّ كُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ الْمِلْكِ ا هـ .
أَقُولُ فَحِينَئِذٍ يَخْتَلُّ تَفْرِيغُ قَوْلِهِ فَلَا شُفْعَةَ فِيهِ عَلَى قَوْلِهِ وَالشَّرِيكُ فِي حَقِّ الْمَبِيعِ وَالْجَارُ حَقُّ كُلٍّ مِنْهُمَا مَقْسُومٌ ، إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ حَقِّ كُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ الْمِلْكِ فَقَطْ مَقْسُومًا أَنْ لَا يَثْبُتَ فِيهِ شُفْعَةٌ عَلَى مُقْتَضَى دَلَالَةِ قَوْلِهِ { فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِفَتْ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ } فَإِنَّ دَلَالَتَهُ عَلَى عَدَمِ الشُّفْعَةِ فِي الْمَقْسُومِ مِنْ جِهَتَيْنِ مَعًا : أَيْ مِنْ جِهَةِ نَفْسِ الْمِلْكِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ " فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ " وَمِنْ جِهَةِ حَقِّ الْمَبِيعِ وَهُوَ الطَّرِيقُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ " وَصُرِفَتْ الطُّرُقُ " .
وَالْأَوْلَى فِي تَقْرِيرِ الْمَقَامِ أَنْ يُقَالَ : وَأَنَّهُ قَالَ { فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِفَتْ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ } وَفِيهِ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى عَدَمِ الشُّفْعَةِ فِي الْمَقْسُومِ مِنْ جِهَةِ وُقُوعِ الْحُدُودِ وَمِنْ جِهَةِ صَرْفِ الطُّرُقِ ، وَالْجَارُ الْمُلَاصِقُ حَقُّهُ مَقْسُومٌ مِنْ تِينِك الْجِهَتَيْنِ مَعًا فَلَا شُفْعَةَ فِيهِ ، إذْ عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ يَقَعُ الِاخْتِلَالُ بِالْكُلِّيَّةِ وَيُطَابِقُ الشَّرْحُ الْمَشْرُوحَ ، فَإِنَّ الْمُصَنِّفَ قَالَ : وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا شُفْعَةَ بِالْجِوَارِ ،

وَذَكَرَ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ دَلِيلًا عَلَيْهِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِغَيْرِ الْجِوَارِ .
نَعَمْ طَعَنَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ فِي تَخْصِيصِهِ بِالْجِوَارِ بِالذِّكْرِ حَيْثُ قَالَ : لَيْسَ لِتَخْصِيصِ هَذَا زِيَادَةُ فَائِدَةٍ ؛ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ كَمَا لَا يَقُولُ بِالشُّفْعَةِ بِالْجِوَارِ فَكَذَلِكَ لَا يَقُولُ بِالشُّفْعَةِ بِالشَّرِكَةِ فِي الْحُقُوقِ أَيْضًا ، وَكَذَلِكَ لَا يَقُولُ بِالشُّفْعَةِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ كَالْبِئْرِ وَالنَّهْرِ ا هـ .
وَلَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : وَجْهُ تَخْصِيصِهِ ذَلِكَ بِالذِّكْرِ عَدَمُ مُسَاعَدَةِ دَلِيلِ الشَّافِعِيِّ لِعَدَمِ ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ إلَّا فِي حَقِّ الْجَارِ تَدَبَّرْ ( قَوْلُهُ : وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ وَهَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ ؛ لِأَنَّ مُؤْنَةَ الْقِسْمَةِ تَلْزَمُهُ فِي الْأَصْلِ دُونَ الْفَرْعِ ) فَسَّرَ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ وَصَاحِبُ الْعِنَايَةِ وَالشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ الْمُشَارَ إلَيْهِ بِهَذَا فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَهَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ بِالْجَارِ حَيْثُ قَالُوا وَهَذَا : أَيْ الْجَارُ ، وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ وَحْدَهُ بَعْدَ أَنْ قَالَ : أَيْ الْجَارِ : يَعْنِي شُفْعَةَ الْجَارِ ، وَسَكَتَ غَيْرُ هَؤُلَاءِ الشُّرَّاحِ عَنْ تَفْسِيرِ هَذَا هُنَا ، وَفَسَّرَ عَامَّتُهُمْ الْفَرْعَ فِي قَوْلِهِ دُونَ الْفَرْعِ بِالْجَارِ أَيْضًا ، وَفَسَّرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بِالْمَقْسُومِ وَتَبِعَهُ الْعَيْنِيُّ وَأَجْمَعُوا عَلَى تَفْسِيرِ الْأَصْلِ بِمَا لَمْ يُقْسَمْ .
أَقُولُ : الْحَقُّ الْوَاضِحُ عِنْدِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا وَالْفَرْعِ كِلَيْهِمَا هُوَ الْمَقْسُومُ لَا غَيْرَ ؛ لِأَنَّهُ لَا حَاصِلَ لَأَنْ يُقَالَ : الْجَارُ لَيْسَ فِي مَعْنَى مَا لَمْ يُقْسَمْ إذَا لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِأَنَّ الْجَارَ فِي حُكْمِ مَا لَمْ يُقْسَمْ ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ الْمَقْسُومَ فِي حُكْمِ مَا لَمْ يُقْسَمْ إذَا وُجِدَ الِاتِّصَالُ بِمِلْكِ الْبَائِعِ ، وَلَا صِحَّةَ لَأَنْ يُقَالَ الْجَارُ فَرْعٌ لِمَا لَمْ يُقْسَمْ ؛ لِأَنَّ الَّذِي فِي حُكْمِ مَا لَمْ يُقْسَمْ إنَّمَا هُوَ الْمَقْسُومُ لَا الْجَارُ نَفْسُهُ ، وَهَذَا مِمَّا لَا

سُتْرَةَ بِهِ .
فَعَامَّةُ الشُّرَّاحِ خَرَجُوا فِي تَفْسِيرِ كُلٍّ مِنْ الْمَوْضِعَيْنِ عَنْ سُنَنِ الصَّوَابِ .
وَأَمَّا صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فَقَدْ أَصَابَ فِي تَفْسِيرِ الْفَرْعِ حَيْثُ قَالَ فِيهِ : وَهُوَ الْمَقْسُومُ ، وَلَمْ يُصِبْ فِي تَفْسِيرِ هَذَا حَيْثُ قَالَ فِيهِ : أَيْ الْجَارُ ، إلَّا أَنَّهُ لَمَّا ذَاقَ بَشَاعَةَ هَذَا التَّفْسِيرِ قَالَ بَعْدَهُ : يَعْنِي شُفْعَةَ الْجَارِ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِتَامٍّ أَيْضًا ، إذْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ أَيْضًا بِأَنَّ شُفْعَةَ الْجَارِ فِي مَعْنَى نَفْسِ مَا لَمْ يُقْسَمْ إلَّا أَنْ يُقَدَّرَ مُضَافٌ آخَرُ فِي قَوْلِهِ مَعْنَاهُ أَيْضًا فَيَصِيرُ الْمَعْنَى لَيْسَ فِي مَعْنَى شُفْعَتِهِ : أَيْ شُفْعَةِ مَا لَمْ يُقْسَمْ ، لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّهُ تَمَحُّلٌ بَعْدَ تَمَحُّلٍ بِلَا ضَرُورَةٍ دَاعِيَةٍ إلَى شَيْءٍ مِنْهُمَا فَالْحَقُّ مَا قُلْته لِقَوْلِهِ ( وَلِأَنَّ مِلْكَهُ مُتَّصِلٌ بِمِلْكِ الدَّخِيلِ اتِّصَالَ تَأْبِيدٍ وَقَرَارٍ ) قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ : ذِكْرُ التَّأْبِيدِ احْتِرَازٌ عَنْ الْمَنْقُولِ وَالسُّكْنَى بِالْعَارِيَّةِ ، وَذِكْرُ الْقَرَارِ احْتِرَازٌ عَنْ الْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا ، فَإِنَّهُ لَا قَرَارَ لَهُ إذْ النَّقْضُ وَاجِبٌ دَفْعًا لِلْفَسَادِ ا هـ .
وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ .
وَرَدَّ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ قَوْلَهُ وَالسُّكْنَى بِالْعَارِيَّةِ حَيْثُ قَالَ : لَيْسَ لِلْمُسْتَعِيرِ مِلْكٌ حَتَّى يُحْتَرَزَ عَنْهُ ا هـ .
أَقُولُ : إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِلْكٌ مِنْ حَيْثُ الرُّقْبَةُ فَلَهُ مِلْكٌ مِنْ حَيْثُ الْمَنْفَعَةُ ؛ لِأَنَّ الْإِعَارَةَ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ بِلَا عِوَضٍ عَلَى مَا عُرِفَ فِي كِتَابِ الْعَارِيَّةِ ، فَكَانَ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ مُتَّصِلٌ بِمِلْكِ الدَّخِيلِ مُتَنَاوِلًا الدَّارَ الْمَسْكُونَةَ بِالْعَارِيَّةِ أَيْضًا فَحَصَلَ بِقَوْلِهِ اتِّصَالُ تَأْبِيدٍ الِاحْتِرَازُ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ .
( قَوْلُهُ فَيَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الشُّفْعَةِ عِنْدَ وُجُودِ الْمُعَارَضَةِ بِالْمَالِ اعْتِبَارًا بِمَوْرِدِ الشَّرْعِ ) قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ : قَوْلُهُ عِنْدَ وُجُودِ الْمُعَارَضَةِ بِالْمَالِ احْتِرَازٌ عَنْ الْإِجَارَةِ وَالدَّارِ الْمَوْهُوبَةِ

وَالْمَجْعُولَةِ رَهْنًا ا هـ وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَهُوَ احْتِرَازٌ عَنْ الْإِجَارَةِ وَالْمَرْهُونَةِ وَالْمَجْعُولَةِ مَهْرًا ا هـ .
وَتَبِعَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ .
أَقُولُ : فِيهِ بَحْثٌ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ وَإِنْ كَانَ لَهُ مِلْكٌ فِي الدَّارِ الْمُسْتَأْجَرَةِ مِنْ حَيْثُ الْمَنْفَعَةُ ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ بِعِوَضٍ فَتَحَقَّقَ لَهُ فِيهَا نَوْعُ مِلْكٍ كَمَا فِي الْمُسْتَعِيرِ عَلَى مَا مَرَّ آنِفًا ، إلَّا أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا قَدْ خَرَجَا بِقَوْلِهِ اتِّصَالَ تَأْبِيدٍ فِيمَا قَبْلُ فَمَا مَعْنَى الِاحْتِرَازِ عَنْ الْإِجَارَةِ مَرَّةً أُخْرَى بِقَوْلِهِ هَاهُنَا عِنْدَ وُجُودِ الْمُعَارَضَةِ بِالْمَالِ : وَأَمَّا الْمُرْتَهِنُ فَلَا مِلْكَ لَهُ فِي الدَّارِ الْمَرْهُونَةِ لَا مِنْ حَيْثُ الرَّقَبَةُ وَلَا مِنْ حَيْثُ الْمَنْفَعَةُ ، فَقَدْ خَرَجَ بِالْمِلْكِ الْمَذْكُورِ مِنْ قَبْلُ قَطْعًا مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ قَيْدِ التَّأْبِيدِ فَلَا مَعْنَى لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الدَّارِ الْمَرْهُونَةِ بِالْقَيْدِ الْمَذْكُورِ هَاهُنَا أَصْلًا .
وَالْحَقُّ أَنَّ هَذَا الْقَيْدَ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ مِثْلِ الدَّارِ الْمَوْرُوثَةِ وَالْمَوْهُوبَةِ وَالْمُوصَى بِهَا وَالْمَجْعُولَةِ مَهْرًا ، فَإِنَّ فِي كُلٍّ مِنْهَا يَتَحَقَّقُ الْمِلْكُ وَالتَّأْبِيدُ وَالْقَرَارُ ، لَكِنْ لَا شُفْعَةَ فِيهَا لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الْمُعَارَضَةِ الْمَالِيَّةِ فِي شَيْءٍ مِنْهَا ( قَوْلُهُ لِأَنَّ الضَّرَرَ فِي حَقِّهِ بِإِزْعَاجِهِ عَنْ خُطَّةِ آبَائِهِ أَقْوَى ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : الدَّلِيلُ أَخَصُّ مِنْ الْمُدَّعَى ، فَإِنَّ الشَّفِيعَ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ فِي خُطَّةِ آبَائِهِ ، بَلْ قَدْ يَكُونُ مَالِكًا بِالشِّرَاءِ أَوْ الْهِبَةِ ا هـ .
أَقُولُ : الْمَعْنَى الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الدَّلِيلِ أَنَّ الضَّرَرَ فِي حَقِّهِ بِإِزْعَاجِهِ عَنْ خُطَّتِهِ الْأَصْلِيَّةِ الْمُتَقَرِّرَةِ أَقْوَى فَيَعُمُّ مَا كَانَ مِلْكًا لَهُ بِالشِّرَاءِ أَوْ الْهِبَةِ إلَّا أَنَّهُ عَبَّرَ عَنْ أَصَالَةِ خُطَّتِهِ وَتَقَرُّرِهَا بِإِضَافَتِهَا إلَى آبَائِهِ مُبَالَغَةً فِي بَيَانِ أَصَالَتِهَا وَتَقَرُّرِهَا ، وَبِنَاءً عَلَى مَا هُوَ

الْأَكْثَرُ وُقُوعًا فِي الْعَادَةِ ، فَأَخَصِّيَّةُ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ بِالنَّظَرِ إلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ مِنْهُ فَلَا مَحْذُورَ فِيهِ ( قَوْلُهُ وَضَرَرُ الْقِسْمَةِ مَشْرُوعٌ لَا يَصْلُحُ عِلَّةً لِتَحْقِيقِ ضَرَرِ غَيْرِهِ ) هَذَا جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ مُؤْنَةَ الضَّرَرِ تَلْزَمُهُ فِي الْأَصْلِ دُونَ الْفَرْعِ : يَعْنِي أَنَّ التَّعْلِيلَ بِذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ مُؤْنَةَ الْقِسْمَةِ أَمْرٌ مَشْرُوعٌ لَا يَصْلُحُ عِلَّةً لِتَحْقِيقِ ضَرَرٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ وَهُوَ تَمَلُّكُ مَالِ الْغَيْرِ بِدُونِ رِضَاهُ ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ بَيَانِ ذَلِكَ : وَلَمْ يَذْكُرْ الْجَوَابَ عَنْ اسْتِدْلَالِهِ بِالْحَدِيثِ ؛ لِأَنَّهُ فِي حَيِّزِ التَّعَارُضِ ا هـ .
أَقُولُ : هَذَا عُذْرٌ بَارِدٌ بَلْ كَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْحَدِيثِ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ الْخَصْمُ فِي حَيِّزِ التَّعَارُضِ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ لَا يُسَوِّغُ الِاسْتِغْنَاءَ عَنْ ذِكْرِ الْجَوَابِ ، فَإِنَّ حُكْمَ التَّعَارُضِ هُوَ التَّسَاقُطُ إنْ لَمْ يَظْهَرْ الرُّجْحَانُ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ ، وَلَمْ يَتَيَسَّرْ الْمُخَلِّصُ الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا عِنْدَ الطَّلَبِ كَمَا عُرِفَ فِي عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَعَلَى تَقْدِيرِ التَّسَاقُطِ هَاهُنَا يَلْزَمُ أَنْ لَا يَثْبُتَ مُدَّعَانَا كَمَا لَا يَثْبُتُ مُدَّعَاهُ ، وَذَلِكَ يُخِلُّ بِمَطْلُوبِنَا هَاهُنَا لَا مَحَالَةَ فَلَا بُدَّ مِنْ الْجَوَابِ .
إمَّا بِبَيَانِ الرُّجْحَانِ فِيمَا رَوَيْنَاهُ أَوْ بِبَيَانِ الْمُخَلِّصِ عَلَى وَفْقِ قَاعِدَةِ الْأُصُولِ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ : يَكْفِينَا دَلِيلُنَا الْعَقْلِيُّ عِنْدَ تَحَقُّقِ حُكْمِ التَّعَارُضِ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ لَكِنْ فِيهِ مَا فِيهِ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَقَدْ أَجَابَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ } مِنْ بَابِ تَخْصِيصِ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ وَهُوَ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ مَا عَدَاهُ ، وَبِأَنَّ قَوْلَهُ { فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِفَتْ الطُّرُقُ } مُشْتَرَكُ الْإِلْزَامِ ؛

لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَّقَ عَدَمَ الشُّفْعَةِ بِالْأَمْرَيْنِ ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ إذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَلَمْ تُصْرَفْ الطُّرُقُ بِأَنْ كَانَ الطَّرِيقُ وَاحِدًا تَجِبُ الشُّفْعَةُ ا هـ .
أَقُولُ : فِي كُلٍّ مِنْ هَذَيْنِ الْجَوَابَيْنِ نَظَرٌ .
أَمَّا فِي الْأَوَّلِ وَهُوَ الَّذِي فِي الْكَافِي وَعَامَّةِ الشُّرُوحِ ؛ فَلِأَنَّ مَدَارَ اسْتِدْلَالِ الشَّافِعِيِّ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ } لَيْسَ عَلَى مُجَرَّدِ تَخْصِيصِ كَوْنِ الشُّفْعَةِ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ بِالذِّكْرِ حَتَّى يَتِمَّ الْجَوَابُ عَنْهُ بِأَنَّ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ مَا عَدَاهُ ، بَلْ مَدَارُ اسْتِدْلَالِهِ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ اللَّامَ فِي الشُّفْعَةِ لِلْجِنْسِ لِعَدَمِ الْمَعْهُودِ فَيَقْتَضِي قَصْرَ الشُّفْعَةِ عَلَى مَا لَمْ يُقْسَمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ } وَقَدْ صَرَّحُوا بِهِ فِي أَثْنَاءِ تَقْرِيرِ وَجْهِ اسْتِدْلَالِهِ بِذَلِكَ ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ أَدَاةَ الْقَصْرِ تَدُلُّ عَلَى نَفْيِ مَا عَدَا الْمَذْكُورِ ، فَالْأَوْلَى فِي الْجَوَابِ عَنْهُ مَا ذَكَرَهُ تَاجُ الشَّرِيعَةِ ، وَهُوَ أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ كَمَا تَدْخُلَانِ فِي الِاسْمِ لِلِاسْتِغْرَاقِ تَدْخُلَانِ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ ، كَمَا يُقَالُ الْعَالِمُ فِي الْبَلَدِ فُلَانٌ وَإِنْ كَانَ فِيهِ عُلَمَاءٌ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَكُونُ الْمُرَادُ بِمَا فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ أَقْوَى الْأَسْبَابِ ، وَنَحْنُ نَقُولُ : إنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ أَقْوَى وَلِهَذَا قَدَّمْنَاهُ عَلَى غَيْرِهِ ا هـ .
وَأَمَّا فِي الثَّانِي ؛ فَلِأَنَّ حُصُولَ الْإِلْزَامِ لِلشَّافِعِيِّ بِقَوْلِهِ " فَإِنْ وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِفَتْ الطَّرِيقُ " عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فِي الْجَوَابِ الْمَزْبُورِ مَمْنُوعٌ ، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ وَإِنْ قَالَ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ إلَّا أَنَّ لَهُ شَرَائِطَ عِنْدَهُ : مِنْهَا أَنْ لَا يَخْرُجَ الْكَلَامُ مَخْرَجَ الْعَادَةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَرَبَائِبُكُمْ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ }

عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ ، فَلَهُ أَنْ يَقُولَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ إنَّ قَوْلَهُ وَصُرِفَتْ الطُّرُقُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْعَادَةِ بِكَوْنِ صَرْفِ الطُّرُقِ عِنْدَ الْقِسْمَةِ غَالِبُ الْوُقُوعِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ الطَّرِيقُ وَاحِدًا تَجِبُ الشُّفْعَةُ ، وَلَئِنْ سُلِّمَ حُصُولُ الْإِلْزَامِ لَهُ بِذَلِكَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ إنَّهُ مُشْتَرَكُ الْإِلْزَامِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ اعْتِرَافًا بِكَوْنِهِ مُلْزِمًا إيَّانَا أَيْضًا ، وَلَوْ كُنَّا مُلْزَمِينَ بِذَلِكَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَمَا الْفَائِدَةُ لَنَا فِي كَوْنِ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا مُلْزَمًا بِهِ ، وَتِلْكَ الْمُقَدِّمَةُ إنَّمَا يُصَارُ إلَيْهَا فِي الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ ، وَعَلَى هَذَا لَمْ يَقَعْ التَّعْبِيرُ بِأَنَّهُ مُشْتَرَكُ الْإِلْزَامِ فِي غَيْرِ كَلَامِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ .
فَالْأَوْلَى فِي الْجَوَابِ عَنْ آخِرِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ .
وَهُوَ قَوْلُهُ { فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِفَتْ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ } مَا أُشِيرَ إلَيْهِ فِي الْكَافِي ، وَذُكِرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الشُّرُوحِ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهُ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِ الْحَدِيثِ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي فَلَا يَكُونُ حُجَّةً لِلْخَصْمِ فِي عَدَمِ اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ لِلْجَارِ مَعَ مَا صَحَّ مِنْ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ لِلْجَارِ .
وَلَئِنْ ثَبَتَ كَوْنُهُ مِنْ نَفْسِ الْحَدِيثِ فَالْمُرَادُ نَفْيُ الشُّفْعَةِ الثَّابِتَةِ بِسَبَبِ الشَّرِكَةِ عَمَلًا بِمَا رَوَيْنَاهُ : أَيْ جَمْعًا بَيْنَ ذَلِكَ الْحَدِيثِ وَبَيْنَ مَا رَوَيْنَاهُ أَوْ مَعْنَاهُ فَلَا شُفْعَةَ بِسَبَبِ الْقِسْمَةِ الْحَاصِلَةِ بِوُقُوعِ الْحُدُودِ وَصَرْفِ الطَّرِيقِ ، وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ لَمَّا كَانَ فِيهَا مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ كَانَتْ مَوْضِعَ أَنْ يُتَوَهَّمَ اسْتِحْقَاقُ الشُّفْعَةِ بِهَا كَالْبَيْعِ ، فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَدَمَ ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ بِهَا إزَالَةً لِذَلِكَ الْوَهْمِ .
وَأَوْرَدَ عَلَيْنَا مِنْ قِبَلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ

فِي رِوَايَةٍ { إنَّمَا الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ } وَإِنَّمَا لِإِثْبَاتِ الْمَذْكُورِ وَنَفْيِ مَا عَدَاهُ .
وَأُجِيبُ عَنْهُ بِعِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ .
قَالَ فِي الْكَافِي وَالْكَافِيَةِ : وَإِنَّمَا قَدْ تَقْتَضِي تَأْكِيدَ الْمَذْكُورِ لَا نَفْيَ غَيْرِ الْمَذْكُورِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ } ا هـ .
وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ : وَكَلِمَةُ إنَّمَا قَدْ تَجِيءُ لِلْإِثْبَاتِ بِطَرِيقِ الْكَمَالِ ، كَمَا يُقَالُ إنَّمَا الْعَالِمُ فِي الْبَلَدِ زَيْدٌ : أَيْ الْكَامِلُ فِيهِ ، وَالْمَشْهُورُ بِهِ زَيْدٌ وَلَمْ يَرِدْ بِهِ نَفْيَ الْعِلْمِ عَنْ غَيْرِهِ ، وَهَاهُنَا كَذَلِكَ فَإِنَّ الشَّرِيكَ الَّذِي لَمْ يُقَاسِمْ هُوَ الشَّرِيكُ فِي الْبُقْعَةِ وَهُوَ كَامِلٌ فِي سَبَبِ اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ حَتَّى لَا يُزَاحِمَهُ غَيْرُهُ فَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى إثْبَاتِ الْمَذْكُورِ بِطَرِيقِ الْكَمَالِ دُونَ نَفْيِ غَيْرِهِ ا هـ .
وَقَالَ فِي الْبَدَائِعِ : أَمَّا الْحَدِيثُ فَلَيْسَ فِي صَدْرِهِ نَفْيُ الشُّفْعَةِ عَنْ الْمَقْسُومِ ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ إنَّمَا لَا تَقْتَضِي نَفْيَ غَيْرِ الْمَذْكُورِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ } وَهَذَا لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشَرًا مِثْلَهُمْ ا هـ .
أَقُولُ : فِيمَا ذَكَرَ فِي الْبَدَائِعِ خَلَلٌ بَيِّنٌ ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأَدَبِ أَنَّهُ يُؤَخَّرُ الْمَقْصُورُ عَلَيْهِ فِي " إنَّمَا " وَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ عَلَى غَيْرِهِ فَالْمَقْصُورُ فِي قَوْله تَعَالَى { إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ } مَدْلُولٌ أَنَا وَالْمَقْصُورُ عَلَيْهِ هُوَ الْبَشَرِيَّةُ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِمْ إنَّمَا لِإِثْبَاتِ الْمَذْكُورِ وَنَفْيِ غَيْرِ الْمَذْكُورِ هُوَ الْمَقْصُورُ عَلَيْهِ إذْ بِإِثْبَاتِ ذَلِكَ وَنَفْيِ غَيْرِهِ يَحْصُلُ مَعْنَى الْقَصْرِ عَلَيْهِ كَمَا لَا يَخْفَى ، فَقَوْلُهُ وَهَذَا لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَشَرًا مِثْلَهُمْ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنْ لَا تَقْتَضِيَ كَلِمَةُ إنَّمَا نَفْيَ غَيْرِ الْمَذْكُورِ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُورُ عَلَيْهِ

؛ لِأَنَّ الْمَقْصُورَ عَلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى { إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ } إنَّمَا هُوَ الْبَشَرِيَّةُ لَا غَيْرُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالْحَاصِلُ أَنَّ كَلِمَةَ إنَّمَا فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ لِقَصْرِ الْمُسْنَدِ إلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ دُونَ الْعَكْسِ لَا مَحَالَةَ .
وَقَوْلُهُ وَهَذَا لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَشَرًا مِثْلَهُمْ يَبْتَنِي عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ الْعَكْسُ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ قَطْعًا ( قَوْلُهُ وَأَمَّا التَّرْتِيبُ فَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الشَّرِيكُ أَحَقُّ مِنْ الْخَلِيطِ ، وَالْخَلِيطُ أَحَقُّ مِنْ الشَّفِيعِ } ، فَالشَّرِيكُ فِي نَفْسِ الْمَبِيعِ وَالْخَلِيطُ فِي حُقُوقِ الْمَبِيعِ وَالشَّفِيعُ هُوَ الْجَارُ ) قَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ : فَسَّرَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ الشَّرِيكَ بِمَنْ كَانَ شَرِيكًا فِي نَفْسِ الْمَبِيعِ ، وَالْخَلِيطَ بِمَنْ كَانَ شَرِيكًا فِي حُقُوقِ الْمَبِيعِ وَهُمَا فِي اللُّغَةِ سَوَاءٌ ا هـ .
وَاقْتَفَى أَثَرَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ .
أَقُولُ : إنْ كَانَ مُرَادُهُمَا مُؤَاخَذَةَ الْمُصَنِّفِ بِتَفْسِيرِهِ الْمَزْبُورِ كَمَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ ظَاهِرِ لَفْظِهِمَا فَالْجَوَابُ هَيِّنٌ ، فَإِنَّهُ لَمَّا وَقَعَ فِي الْحَدِيثِ { الشَّرِيكُ أَحَقُّ مِنْ الْخَلِيطِ } عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّرِيكِ هُنَاكَ غَيْرُ الْخَلِيطِ ، إذْ لَا مَعْنَى لِكَوْنِ الشَّيْءِ أَحَقَّ مِنْ نَفْسِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُحْمَلَ أَحَدُهُمَا عَلَى نَوْعٍ مِمَّا أُطْلِقَ عَلَيْهِ فِي اللُّغَةِ وَالْآخَرُ عَلَى نَوْعٍ آخَرَ مِنْهُ .
ثُمَّ لَمَّا كَانَتْ مَزِيَّةُ الشَّرِكَةِ فِي نَفْسِ الْمَبِيعِ عَلَى الشَّرِيكِ فِي حُقُوقِ الْمَبِيعِ أَظْهَرَ وَأَجْلَى فَسَّرَ الْمُفَضَّلَ بِالْأَوَّلِ وَالْمُفَضَّلَ عَلَيْهِ بِالثَّانِي وَلَمْ يَعْكِسْ فَلَا غُبَارَ عَلَيْهِ

قَالَ ( وَلَيْسَ لِلشَّرِيكِ فِي الطَّرِيقِ وَالشِّرْبِ وَالْجَارِ شُفْعَةٌ مَعَ الْخَلِيطِ فِي الرَّقَبَةِ ) لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ مُقَدَّمٌ .
قَالَ ( فَإِنْ سُلِّمَ فَالشُّفْعَةُ لِلشَّرِيكِ فِي الطَّرِيقِ ، فَإِنْ سُلِّمَ أَخَذَهَا الْجَارُ ) لِمَا بَيَّنَّا مِنْ التَّرْتِيبِ ، وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْجَارُ الْمُلَاصِقُ ، وَهُوَ الَّذِي عَلَى ظَهْرِ الدَّارِ الْمَشْفُوعَةِ وَبَابُهُ فِي سِكَّةٍ أُخْرَى .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ مَعَ وُجُودِ الشَّرِيكِ فِي الرَّقَبَةِ لَا شُفْعَةَ لِغَيْرِهِ سَلَّمَ أَوْ اسْتَوْفَى ؛ لِأَنَّهُمْ مَحْجُوبُونَ بِهِ .
وَوَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ السَّبَبَ تَقَرَّرَ فِي حَقِّ الْكُلِّ ، إلَّا أَنَّ لِلشَّرِيكِ حَقُّ التَّقَدُّمِ ، فَإِذَا سَلَّمَ كَانَ لِمَنْ يَلِيهِ بِمَنْزِلَةِ دَيْنِ الصِّحَّةِ مَعَ دَيْنِ الْمَرَضِ ، وَالشَّرِيكُ فِي الْمَبِيعِ قَدْ يَكُونُ فِي بَعْضٍ مِنْهَا كَمَا فِي مَنْزِلٍ مُعَيَّنٍ مِنْ الدَّارِ أَوْ جِدَارٍ مُعَيَّنٍ مِنْهَا وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْجَارِ فِي مَنْزِلٍ ، وَكَذَا عَلَى الْجَارِ فِي بَقِيَّةِ الدَّارِ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ؛ لِأَنَّ اتِّصَالَهُ أَقْوَى وَالْبُقْعَةَ وَاحِدَةٌ .
ثُمَّ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الطَّرِيقُ أَوْ الشِّرْبُ خَاصًّا حَتَّى تَسْتَحِقَّ الشُّفْعَةُ بِالشَّرِكَةِ فِيهِ فَالطَّرِيقُ الْخَاصُّ أَنْ لَا يَكُونَ نَافِذًا ، وَالشِّرْبُ الْخَاصُّ أَنْ يَكُونَ نَهْرًا لَا تَجْرِي فِيهِ السُّفُنُ وَمَا تَجْرِي فِيهِ فَهُوَ عَامٌّ .
وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْخَاصَّ أَنْ يَكُونَ نَهْرًا يُسْقَى مِنْهُ قَرَاحَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ عَامٌّ ، وَإِنْ كَانَتْ سِكَّةٌ غَيْرَ نَافِذَةٍ يَتَشَعَّبُ مِنْهَا سِكَّةٌ غَيْرُ نَافِذَةٍ وَهِيَ مُسْتَطِيلَةٌ فَبِيعَتْ دَارٌ فِي السُّفْلَى فَلِأَهْلِهَا الشُّفْعَةُ خَاصَّةً دُونَ أَهْلِ الْعُلْيَا ، وَإِنْ بِيعَتْ لِلْعُلْيَا فَلِأَهْلِ السِّكَّتَيْنِ ، وَالْمَعْنَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ أَدَبِ الْقَاضِي .
وَلَوْ كَانَ نَهْرٌ صَغِيرٌ يَأْخُذُ مِنْهُ نَهْرٌ أَصْغَرُ مِنْهُ فَهُوَ عَلَى قِيَاسِ الطَّرِيقِ فِيمَا بَيَّنَّاهُ .
.

( قَوْلُهُ قَالَ وَلَيْسَ لِلشَّرِيكِ فِي الطَّرِيقِ وَالشُّرْبِ وَالْجَارِ شُفْعَةٌ مَعَ الْخَلِيطِ فِي الرَّقَبَةِ ) أَقُولُ : لَا يُرَى لِقَوْلِهِ هَذَا فَائِدَةٌ سِوَى الْإِيضَاحِ وَالتَّأْكِيدِ بَعْدَ أَنْ قَالَ قُبَيْلَهُ الشُّفْعَةُ وَاجِبَةٌ لِلْخَلِيطِ فِي نَفْسِ الْمَبِيعِ ، ثُمَّ لِلْخَلِيطِ فِي حَقِّ الْمَبِيعِ كَالشُّرْبِ وَالطَّرِيقِ ثُمَّ لِلْجَارِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ كَمَا أَفَادَ ثُبُوتَ حَقِّ الشُّفْعَةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ أَفَادَ التَّرْتِيبَ أَيْضًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ .
كَيْفَ لَا وَكَلِمَةُ ثُمَّ صَرِيحَةٌ فِي إفَادَةِ التَّأْخِيرِ ، وَلَيْسَ لِلْمُتَأَخِّرِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ حَقٌّ عِنْدَ وُجُودِ الْمُتَقَدِّمِ فِيهِ بِلَا رَيْبٍ ( قَوْلُهُ فَإِنْ سُلِّمَ فَالشُّفْعَةُ لِلشَّرِيكِ فِي الطَّرِيقِ ، فَإِنْ سُلِّمَ أَخَذَهَا الْجَارُ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ التَّرْتِيبِ ) أَقُولُ : تَعْلِيلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِهِ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ التَّرْتِيبِ غَيْرُ تَامٍّ ، ؛ لِأَنَّ مَا بَيَّنَّهُ مِنْ التَّرْتِيبِ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَسْتَحِقَّ الْمُتَأَخِّرُ عِنْدَ وُجُوبِ الْمُتَقَدِّمِ وَتَسْلِيمِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُتَأَخِّرُ مَحْجُوبًا بِالتَّقَدُّمِ كَمَا فِي الْمِيرَاثِ عَلَى مَا قَالَ بِهِ أَبُو يُوسُفَ فِي غَيْرِ ظَاهِرَةِ الرِّوَايَةِ ، إذْ حِينَئِذٍ لَا يَسْتَحِقُّ الْمُتَأَخِّرُ شَيْئًا عِنْدَ وُجُودِ الْمُتَقَدِّمِ سَلَّمَ أَوْ اسْتَوْفَى مَعَ بَقَاءِ التَّرْتِيبِ عَلَى حَالِهِ بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ التَّعْلِيلُ الْمَذْكُورُ تَامًّا لَوْ كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ هَكَذَا ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ الْخَلِيطُ فِي الرَّقَبَةِ فَالشُّفْعَةُ لِلشَّرِيكِ فِي الطَّرِيقِ أَوْ الشُّرْبِ ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ هَذَا أَيْضًا أَخَذَهَا الْجَارُ ؛ لِأَنَّ التَّرْتِيبَ يَقْتَضِي هَذَا الْمَعْنَى لَا مَحَالَةَ ، فَالْمُنَاسِبُ أَنْ يَتْرُكَ التَّعْلِيلَ الْمَذْكُورَ هَاهُنَا أَوْ يَكْتَفِي بِمَا سَيَأْتِي مِنْ قَوْلِهِ وَوَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ السَّبَبَ تَقَرَّرَ فِي حَقِّ الْكُلِّ إلَخْ قَوْلُهُ وَالشَّرِيكُ فِي الْمَبِيعِ قَدْ يَكُونُ فِي بَعْضٍ مِنْهَا كَمَا فِي مَنْزِلٍ مُعَيَّنٍ مِنْ

الدَّارِ ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ أَخْذًا مِنْ النِّهَايَةِ : مِثْلُ أَنْ يَكُونَ فِي دَارٍ كَبِيرَةٍ بُيُوتٌ وَفِي بَيْتٍ مِنْهَا شَرِكَةٌ فَالشُّفْعَةُ لِلشَّرِيكِ دُونَ الْجَارِ ا هـ .
أَقُولُ : فِي هَذَا التَّمْثِيلِ قُصُورٌ لِأَنَّ الْمَنْزِلَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ دُونَ الدَّارِ وَفَوْقَ الْبَيْتِ ، وَأَقَلُّهُ بَيْتَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمُغْرِبِ ، وَعُلِمَ ذَلِكَ فِيمَا مَرَّ فِي بَابِ الْحُقُوقِ مِنْ كِتَابِ الْبُيُوعِ فَتَمْثِيلُ الشَّرِكَةِ فِي الْمَنْزِلِ بِشَرِكَةٍ فِي بَيْتٍ يُخَالِفُ اصْطِلَاحَ هَذَا الْفَنِّ ، وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَيْهِ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ فَلَا وَجْهَ لِارْتِكَابِهِ ( قَوْلُهُ وَالْبُقْعَةُ وَاحِدَةٌ ) يَعْنِي بُقْعَةَ الدَّارِ الْمَبِيعَةِ وَاحِدَةٌ ، فَإِذَا صَارَ الشَّفِيعُ أَحَقُّ بِبَعْضِهَا كَمَنْزِلٍ مُعَيَّنٍ مِنْهَا أَوْ جِدَارٍ مُعَيَّنٍ مِنْهَا صَارَ أَحَقَّ بِجَمِيعِهَا .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : فِي شَرْحِ قَوْلِهِ وَالْبُقْعَةُ وَاحِدَةٌ : أَرَادَ الْمَوْضِعُ الَّذِي هُوَ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالشَّفِيعِ وَذَلِكَ فِي حُكْمِ شَيْءٍ وَاحِدٍ ، فَإِذَا صَارَ أَحَقَّ بِالْبَعْضِ كَانَ أَحَقَّ بِالْجَمِيعِ ا هـ .
أَقُولُ : فِيهِ خَلَلٌ ؛ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي هُوَ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالشَّفِيعِ فِي مَسْأَلَتِنَا هُوَ مَنْزِلٌ مُعَيَّنٌ مِنْ الدَّارِ أَوْ جِدَارٌ مُعَيَّنٌ مِنْهَا ، وَوَحْدَةُ ذَلِكَ لَا تُؤَثِّرُ فِي اسْتِحْقَاقِ الشَّفِيعِ جَمِيعَ الدَّارِ .
وَإِنَّمَا الْمُؤَثِّرُ فِيهِ وَحْدَةُ مَجْمُوعِ الدَّارِ وَهِيَ لَا تَلْزَمُ مِنْ تَفْسِيرِ الشَّارِحِ الْمَزْبُورِ .
وَأَيْضًا قَوْلُهُ فَإِذَا صَارَ أَحَقَّ بِالْبَعْضِ كَانَ أَحَقَّ بِالْجَمِيعِ إنَّمَا يُطَابِقُ وَحْدَةَ مَجْمُوعِ الدَّارِ الْمَبِيعَةِ لَا وَحْدَةَ الْمَوْضِعِ الَّذِي هُوَ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالشَّفِيعِ ، فَكَانَ بَيْنَ أَوَّلِ كَلَامِهِ وَآخِرَهُ تَنَافُرٌ لَا يَخْفَى

قَالَ ( وَلَا يَكُونُ الرَّجُلُ بِالْجُذُوعِ عَلَى الْحَائِطِ شَفِيعَ شَرِكَةٍ وَلَكِنَّهُ شَفِيعُ جِوَارٍ ) ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ الشَّرِكَةُ فِي الْعَقَارِ وَبِوَضْعِ الْجُذُوعِ لَا يَصِيرُ شَرِيكًا فِي الدَّارِ إلَّا أَنَّهُ جَارٌ مُلَازِقٌ .
قَالَ ( وَالشَّرِيكُ فِي الْخَشَبَةِ تَكُونُ عَلَى حَائِطِ الدَّارِ جَارٌ ) لِمَا بَيَّنَّا .
.

قَالَ ( وَإِذَا اجْتَمَعَ الشُّفَعَاءُ فَالشُّفْعَةُ بَيْنَهُمْ عَلَى عَدَدِ رُءُوسِهِمْ وَلَا يُعْتَبَرُ اخْتِلَافُ الْأَمْلَاكِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : هِيَ عَلَى مَقَادِيرِ الْأَنْصِبَاءِ ؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ مِنْ مَرَافِقِ الْمِلْكِ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهَا لِتَكْمِيلِ مَنْفَعَتِهِ فَأَشْبَهَ الرِّبْحَ وَالْغَلَّةَ وَالْوَلَدَ وَالثَّمَرَةَ .
وَلَنَا أَنَّهُمْ اسْتَوَوْا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وَهُوَ الِاتِّصَال فَيَسْتَوُونَ فِي الِاسْتِحْقَاقِ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ انْفَرَدَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ اسْتَحَقَّ كُلَّ الشُّفْعَةِ .
وَهَذَا آيَةُ كَمَالِ السَّبَبِ وَكَثْرَةُ الِاتِّصَالِ تُؤْذِنُ بِكَثْرَةِ الْعِلَّةِ ، وَالتَّرْجِيحُ بِقُوَّةِ الدَّلِيلِ لَا بِكَثْرَتِهِ ، وَلَا قُوَّةَ هَاهُنَا لِظُهُورِ الْأُخْرَى بِمُقَابِلَتِهِ وَتَمَلُّكُ مِلْكِ غَيْرِهِ لَا يُجْعَلُ ثَمَرَةً مِنْ ثَمَرَاتِ مِلْكِهِ ، بِخِلَافِ الثَّمَرَةِ وَأَشْبَاهِهَا ، وَلَوْ أَسْقَطَ بَعْضُهُمْ حَقَّهُ فَهِيَ لِلْبَاقِينَ فِي الْكُلِّ عَلَى عَدَدِهِمْ ؛ لِأَنَّ الِانْتِقَاصَ لِلْمُزَاحَمَةِ مَعَ كَمَالِ السَّبَبِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَقَدْ انْقَطَعَتْ .
وَلَوْ كَانَ الْبَعْضُ غُيَّبًا يَقْضِي بِهَا بَيْنَ الْحُضُورِ عَلَى عَدَدِهِمْ ؛ لِأَنَّ الْغَائِبَ لَعَلَّهُ لَا يَطْلُبُ ، وَإِنْ قَضَى لِحَاضِرٍ بِالْجَمِيعِ ثُمَّ حَضَرَ آخَرُ يَقْضِي لَهُ بِالنِّصْفِ ، وَلَوْ حَضَرَ ثَالِثٌ فَبِثُلُثِ مَا فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ تَحْقِيقًا لِلتَّسْوِيَةِ ، فَلَوْ سَلَّمَ الْحَاضِرَ بَعْدَمَا قَضَى لَهُ بِالْجَمِيعِ لَا يَأْخُذُ الْقَادِمُ إلَّا النِّصْفَ ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي بِالْكُلِّ لِلْحَاضِرِ يَقْطَعُ حَقَّ الْغَائِبِ عَنْ النِّصْفِ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْقَضَاءِ .
.

قَالَ ( وَالشُّفْعَةُ تَجِبُ بِعَقْدِ الْبَيْعِ ) وَمَعْنَاهُ بَعْدَهُ لَا أَنَّهُ هُوَ السَّبَبُ ؛ لِأَنَّ سَبَبَهَا الِاتِّصَالُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ، وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّ الشُّفْعَةَ إنَّمَا تَجِبُ إذَا رَغِبَ الْبَائِعُ عَنْ مِلْكِ الدَّارِ ، وَالْبَيْعُ يُعَرِّفُهَا وَلِهَذَا يُكْتَفَى بِثُبُوتِ الْبَيْعِ فِي حَقِّهِ حَتَّى يَأْخُذَهَا الشَّفِيعُ إذَا أَقَرَّ الْبَائِعُ بِالْبَيْعِ وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي يُكَذِّبُهُ .
.

( قَوْلُهُ وَالشُّفْعَةُ تَجِبُ بِعَقْدِ الْبَيْعِ وَمَعْنَاهُ بَعْدَهُ ) أَقُولُ كَوْنُ مَعْنَاهُ بَعْدَهُ مَحَلَّ كَلَامٍ مِنْ حَيْثُ الْعَرَبِيَّةُ ، فَإِنَّ مَجِيءَ الْبَاءِ بِمَعْنَى بَعْدُ لَمْ يُذْكَرْ فِي مَشَاهِيرِ كُتُبِ الْعَرَبِيَّةِ ، فَالْأَظْهَرُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ تَجِبُ بِعَقْدِ الْبَيْعِ بِمَعْنَى مَعَ لِلْمُصَاحَبَةِ وَالْمُقَارَنَةِ ، فَإِنَّهُ كَثِيرٌ شَائِعٌ مَذْكُورٌ فِي عَامَّةِ مُعْتَبَرَاتِ كُتُبِ الْأَدَبِ ، وَالْمَعْنَى الْمَقْصُودُ هَاهُنَا يَحْصُلُ بِهِ أَيْضًا بِلَا كُلْفَةٍ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ الْمُتَأَمِّلِ ، فَلَا مُقْتَضَى لِلْعُدُولِ عَنْهُ ( قَوْلُهُ لَا أَنَّهُ هُوَ السَّبَبُ ؛ لِأَنَّ سَبَبَهَا الِاتِّصَالُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ) يَعْنِي فِي قَوْلِهِ وَلَنَا أَنَّهُمْ اسْتَوَوْا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وَهُوَ الِاتِّصَالُ كَمَا ذُكِرَ فِي الْعِنَايَةِ وَكَثِيرٍ مِنْ الشُّرُوحِ ، أَوْ فِي قَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ الِاتِّصَالَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ إنَّمَا انْتَصَبَ سَبَبًا فِيهِ لِدَفْعِ ضَرَرِ الْجِوَارِ كَمَا ذُكِرَ فِي الْكِفَايَةِ ، قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَجِبُ لِدَفْعِ ضَرَرِ الدَّخِيلِ عَنْ الْأَصِيلِ بِسُوءِ الْمُعَامَلَةِ وَالْمُعَاشَرَةِ .
وَالضَّرَرُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِاتِّصَالِ مِلْكِ الْبَائِعِ بِمِلْكِ الشَّفِيعِ .
وَلِهَذَا قُلْنَا بِثُبُوتِهَا لِلشَّرِيكِ فِي حُقُوقِ الْمَبِيعِ وَلِلْجَارِ لِتَحَقُّقِ ذَلِكَ ا هـ .
أَقُولُ : فِي قَوْلِهِمْ وَالضَّرَرُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِاتِّصَالِ مِلْكِ الْبَائِعِ بِمِلْكِ الشَّفِيعِ مُنَاقَشَةٌ ؛ لِأَنَّهُمْ إنْ أَرَادُوا بِذَلِكَ أَنَّ الضَّرَرَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِمُجَرَّدِ اتِّصَالِ مِلْكِ الْبَائِعِ بِمِلْكِ الشَّفِيعِ يَلْزَمُهُمْ أَنْ يَتَحَقَّقَ الضَّرَرُ لِلشَّفِيعِ قَبْلَ أَنْ يَبِيعَ الْبَائِعُ مِلْكَهُ لِتَحْقِيقِ اتِّصَالِ مِلْكِهِ بِمِلْكِ الشَّفِيعِ قَبْلَ الْبَيْعِ فَيَلْزَمُهُمْ أَنْ تَجِبَ الشُّفْعَةُ قَبْلَهُ أَيْضًا لِدَفْعِ ذَلِكَ الضَّرَرِ .
وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَطْعًا .
وَإِنْ أَرَادُوا بِهِ أَنَّ الضَّرَرَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِمَدْخَلِيَّةِ اتِّصَالِ

مِلْكِ الْبَائِعِ بِمِلْكِ الشَّفِيعِ فَهَذَا لَا يُنَافِي مَدْخَلِيَّةَ الْبَيْعِ أَيْضًا فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُهَا هُوَ الِاتِّصَالَ كَمَا ادَّعَوْا فَلْيُتَأَمَّلْ .
ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الِاتِّصَالُ هُوَ السَّبَبُ لَجَازَ تَسْلِيمُهَا قَبْلَ الْبَيْعِ لِوُجُودِهِ بَعْدَ السَّبَبِ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ الْإِبْرَاءَ عَنْ سَائِرِ الْحُقُوقِ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ صَحِيحٌ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْبَيْعَ شَرْطٌ وَلَا وُجُودَ لِلْمُشْتَرَطِ قَبْلَهُ .
وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ لِوُجُودِ الشَّرْطِ بَعْدَ تَحَقُّقِ السَّبَبِ فِي حَقِّ صِحَّةِ التَّسْلِيمِ كَأَدَاءِ الزَّكَاةِ قَبْلَ الْحَوْلِ وَإِسْقَاطِ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ شَرْطُ الْوُجُوبِ وَلَا كَلَامَ فِيهِ ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي شَرْطِ الْجَوَازِ وَامْتِنَاعِ الْمَشْرُوطِ قَبْلَ تَحَقُّقِ الشَّرْطِ غَيْرُ خَافٍ عَلَى أَحَدٍ ا هـ كَلَامُهُ .
أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : امْتِنَاعُ تَحَقُّقِ الْمَشْرُوطِ قَبْلَ تَحَقُّقِ الشَّرْطِ ضَرُورِيٌّ ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَشْرُوطُ هُوَ الْجَوَازُ أَوْ الْوُجُوبُ ، فَإِذَا كَانَ عَدَمُ تَحَقُّقِ شَرْطِ الْجَوَازِ مَانِعًا عَنْ اتِّصَالِ السَّبَبِ بِالْمَحَلِّ كَمَا قَالُوا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ عَدَمُ تَحَقُّقِ شَرْطِ الْوُجُوبِ أَيْضًا مَانِعًا عَنْ ذَلِكَ فَلَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ الْوَاجِبُ مُتَأَدِّيًا بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ قَبْلَ الْحَوْلِ لِعَدَمِ تَحْقِيقِ شَرْطِ الْوُجُوبِ قَبْلَهُ ، وَكَذَا الْحَالُ فِي إسْقَاطِ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ مَعَ أَنَّ الْمُصَرَّحَ بِهِ فِي مَوْضِعِهِ خِلَافُ ذَلِكَ .
ثُمَّ أَقُولُ : يُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْوُجُوبِ فِي قَوْلِهِ إنَّ ذَلِكَ شَرْطُ الْوُجُوبِ هُوَ وُجُوبُ الْأَدَاءِ دُونَ نَفْسِ الْوُجُوبِ ، فَإِنَّ نَفْسَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ يَتَحَقَّقُ بِمِلْكِ النِّصَابِ النَّامِي ، وَحَوَلَانُ الْحَوْلِ إنَّمَا هُوَ شَرْطُ وُجُوبِ أَدَائِهَا كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ ، وَكَذَا حُلُولُ الْأَجَلِ فِي الدُّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ إنَّمَا هُوَ شَرْطُ وُجُوبِ

أَدَائِهَا لَا شَرْطُ نَفْسِ وُجُوبِهَا ، وَاللَّازِمُ أَنْ لَا يَتَحَقَّقَ وُجُوبُ الْأَدَاءِ قَبْلَ الْحَوْلِ وَقَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ لَا يَكُونَ الْوَاجِبُ بِنَفْسِ الْوُجُوبِ مُتَأَدِّيًا بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ قَبْلَ حُلُولِ الْحَوْلِ وَبِأَدَاءِ الدَّيْنِ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ ، وَالْمُصَرَّحُ بِهِ فِي مَوْضِعِهِ إنَّمَا هُوَ تَأَدِّي الْوَاجِبِ بِنَفْسِ الْوُجُوبِ لَا غَيْرَ .
( قَوْلُهُ وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّ الشُّفْعَةَ إنَّمَا تَجِبُ إذَا رَغِبَ الْبَائِعُ مِنْ مِلْكِ الدَّارِ وَالْبَيْعِ يُعَرِّفُهَا ) أَيْ يُعَرِّفُ رَغْبَةَ الْبَائِعِ عَنْ مِلْكِ الدَّارِ ، وَفَسَّرَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ ضَمِيرَ فِيهِ فِي قَوْلِهِ وَالْوَجْهُ فِيهِ بِهَذَا التَّأْوِيلِ حَيْثُ قَالَ : وَالْوَجْهُ فِيهِ : أَيْ هَذَا التَّأْوِيلِ ، وَتَبِعَهُ الْعَيْنِيُّ .
أَقُولُ : لَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلتَّأْوِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ وَمَعْنَاهُ بَعْدَهُ لَا أَنَّهُ هُوَ السَّبَبُ فِي جَرَيَانِ هَذَا الْوَجْهِ ، إذْ هُوَ جَارٍ بِعَيْنِهِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى كَلَامِ الْقُدُورِيِّ أَنَّ الْبَيْعَ هُوَ السَّبَبُ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ ، فَلَا حَاجَةَ إلَى بِنَاءِ هَذَا الْوَجْهِ عَلَى ذَلِكَ التَّأْوِيلِ بِإِرْجَاعِ ضَمِيرِ فِيهِ إلَيْهِ ، بَلْ لَا وَجْهَ لَهُ عِنْدَ التَّحْقِيقِ ؛ لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ عَلَّلَ تَأْوِيلَهُ الْمَذْكُورَ بِقَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ سَبَبَهَا الِاتِّصَالُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ، فَمَا مَعْنَى أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ وَالْوَجْهُ فِيهِ تَعْلِيلًا لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ ؟ فَالْحَقُّ أَنَّ قَوْلَهُ وَالْوَجْهُ فِيهِ إلَخْ مُتَّصِلٌ بِأَوَّلِ الْكَلَامِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَالشُّفْعَةُ تَجِبُ بِعَقْدِ الْبَيْعِ ، وَمِنْ عَادَةِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي عِبَارَةِ الْمَسْأَلَةِ عُقْدَةٌ يَحِلُّهَا ثُمَّ يَذْكُرُ دَلِيلَ الْمَسْأَلَةِ وَهَاهُنَا أَيْضًا فَعَلَ ذَلِكَ .
( قَوْلُهُ وَلِهَذَا يَكْفِي بِثُبُوتِ الْبَيْعِ فِي حَقِّهِ حَتَّى يَأْخُذَهَا الشَّفِيعُ إذَا أَقَرَّ الْبَائِعُ بِالْبَيْعِ وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي يُكَذِّبُهُ ) أَقُولُ :

فِيهِ تَأَمُّلٌ ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ أَنَّ عِلَّةَ ثُبُوتِ حَقِّ الشُّفْعَةِ عِنْدَنَا ، إنَّمَا هِيَ دَفْعُ ضَرَرِ الدَّخِيلِ عَنْ الْأَصِيلِ بِسُوءِ الْمُعَامَلَةِ وَالْمُعَاشَرَةِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ الضَّرَرَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ ثُبُوتِ الْبَيْعِ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الدَّخِيلُ لَا عِنْدَ ثُبُوتِهِ فِي حَقِّ الْبَائِعِ مَعَ تَكْذِيبِهِ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ أَصِيلٌ كَالشَّفِيعِ ، فَمِنْ أَيْنَ يَتَحَقَّقُ ضَرَرُ الدَّخِيلِ عِنْدَ عَدَمِ ثُبُوتِ الْبَيْعِ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي حَتَّى يَثْبُتَ حَقُّ الشُّفْعَةِ لِدَفْعِ ذَلِكَ الضَّرَرِ تَفَكَّرْ .
قَالَ فِي الْعِنَايَةِ : وَنُوقِضَ بِمَا إذَا بَاعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لَهُ أَوْ وَهَبَ وَسَلَّمَ فَإِنَّ الرَّغْبَةَ عَنْهُ قَدْ عُرِفَتْ وَلَيْسَ لِلشَّفِيعِ الشُّفْعَةُ .
وَأُجِيبُ بِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَرَدُّدًا لِبَقَاءِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ فَإِنَّهُ يُخْبِرُ بِهِ عَنْ انْقِطَاعِ مِلْكِهِ عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ فَعُومِلَ بِهِ كَمَا زَعَمَهُ ، وَالْهِبَةُ لَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ غَرَضَ الْوَاهِبِ الْمُكَافَأَةُ وَلِهَذَا كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ فَلَا يَنْقَطِعُ عَنْهُ حَقُّهُ بِالْكُلِّيَّةِ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِي الْجَوَابِ عَنْ النَّقْضِ بِصُورَةِ الْهِبَةِ بَحْثٌ ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ مَدَارُ ذَلِكَ عَلَى مُجَرَّدِ كَوْنِ غَرَضِ الْوَاهِبِ الْمُكَافَأَةُ لَا يَسْتَقِيمُ أَصْلًا ، فَإِنَّ كَوْنَ غَرَضِهِ الْمُكَافَأَةُ لَا يُنَافِي رَغْبَتَهُ عَنْ مِلْكِهِ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ غَرَضَ الْبَائِعِ أَيْضًا الْمُكَافَأَةُ بِالثَّمَنِ مَعَ أَنَّهُ لَا يُنَافِي رَغْبَتَهُ عَنْ الْمَبِيعِ بَلْ يَدُلُّ عَلَيْهَا كَمَا ذَكَرُوا وَإِنْ كَانَ مَدَارُهُ عَلَى صِحَّةِ الرُّجُوعِ لِلْوَاهِبِ وَعَدَمِ انْقِطَاعِ حَقِّهِ عَنْ الْمَوْهُوبِ بِالْكُلِّيَّةِ لَا يَدْفَعُ النَّقْضَ بِالْهِبَةِ الَّتِي لَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ فِيهَا .
كَمَا إذَا وَهَبَ لِقَرِيبِهِ الْمَحْرَمِ أَوْ لِزَوْجَتِهِ وَأَخَذَ الْعِوَضَ عَنْهَا بِغَيْرِ شَرْطٍ فِي الْعَقْدِ ، إذْ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَتَحَقَّقُ فِيهِ الْمَانِعُ عَنْ الرُّجُوعِ ، فَإِنَّ فِي هَذِهِ

الصُّوَرِ لَا يَصِحُّ رُجُوعُ الْوَاهِبِ وَيَنْقَطِعُ حَقُّهُ عَنْ الْمَوْهُوبِ بِالْكُلِّيَّةِ كَانْقِطَاعِ حَقِّ الْبَائِعِ عَنْ الْمَبِيعِ مَعَ أَنَّهُ لَا شُفْعَةَ فِيهَا فَبَقِيَ النَّقْضُ بِهَا

قَالَ ( وَتَسْتَقِرُّ بِالْإِشْهَادِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ ) ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ ضَعِيفٌ يَبْطُلُ بِالْإِعْرَاضِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِشْهَادِ وَالطَّلَبِ لِيُعْلَمَ بِذَلِكَ رَغْبَتُهُ فِيهِ دُونَ إعْرَاضِهِ عَنْهُ ، وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ طَلَبِهِ عِنْدَ الْقَاضِي وَلَا يُمْكِنُهُ إلَّا بِالْإِشْهَادِ .
.
( قَوْلُهُ : وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ طَلَبِهِ عِنْدَ الْقَاضِي وَلَا يُمْكِنُهُ إلَّا بِالْإِشْهَادِ ) أَقُولُ : فِيهِ شَيْءٌ وَهُوَ أَنَّ احْتِيَاجَهُ إلَى إثْبَاتِ طَلَبِهِ عِنْدَ الْقَاضِي إنَّمَا هُوَ إذَا أَنْكَرَ الْمُشْتَرِي طَلَبَهُ ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يُنْكِرْهُ فَلَا احْتِيَاجَ إلَى ذَلِكَ ، فَعَلَى مُقْتَضَى هَذَا التَّعْلِيلِ يَنْبَغِي أَنْ لَا تَبْطُلَ الشُّفْعَةُ بِتَرْكِ الْإِشْهَادِ فِيمَا إذَا لَمْ يُنْكِرْ الْخَصْمُ طَلَبَهُ ، مَعَ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ كَلِمَاتِهِمْ بُطْلَانُهَا بِتَرْكِ ذَلِكَ مُطْلَقًا .
فَإِنْ قُلْتَ : وَقْتُ الْإِشْهَادِ مُقَدَّمٌ عَلَى وَقْتِ الْخُصُومَةِ ، فَفِي وَقْتِ الْإِشْهَادِ إنْكَارُ الْخَصْمِ طَلَبَهُ وَعَدَمُ إنْكَارِهِ إيَّاهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ ، فَإِنَّ تَرْكَ الْإِشْهَادِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَمْ يُعْلِمْ رَغْبَتَهُ فِيهِ ، بَلْ يُحْتَمَلُ إعْرَاضُهُ عَنْهُ فَلِهَذَا تَبْطُلُ الشُّفْعَةُ بِتَرْكِ الْإِشْهَادِ مُطْلَقًا .
قُلْتُ : هَذَا مُشِيرٌ إلَى التَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ وَلَا كَلَامَ فِيهِ ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي أَنَّ التَّعْلِيلَ الثَّانِيَ هَلْ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا هَاهُنَا كَمَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ ؛ وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَيْهِ إلَى آخِرِهِ

قَالَ ( وَتُمْلَكُ بِالْأَخْذِ إذَا سَلَّمَهَا الْمُشْتَرِي أَوْ حَكَمَ بِهَا الْحَاكِمُ ) ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي قَدْ تَمَّ فَلَا يَنْتَقِلُ إلَى الشَّفِيعِ إلَّا بِالتَّرَاضِي أَوْ قَضَاءِ الْقَاضِي كَمَا فِي الرُّجُوعِ وَالْهِبَةِ .
وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ هَذَا فِيمَا إذَا مَاتَ الشَّفِيعُ بَعْدَ الطَّلَبَيْنِ وَبَاعَ دَارِهِ الْمُسْتَحَقَّ بِهَا الشُّفْعَةُ أَوْ بِيعَتْ دَارٌ بِجَنْبِ الدَّارِ الْمَشْفُوعَةِ قَبْلَ حُكْمِ الْحَاكِمِ أَوْ تَسْلِيمِ الْمُخَاصِمِ لَا تُوَرَّثُ عَنْهُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى وَتَبْطُلُ شُفْعَتُهُ فِي الثَّانِيَةِ وَلَا يَسْتَحِقُّهَا فِي الثَّالِثَةِ لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ لَهُ .
ثُمَّ قَوْلُهُ تَجِبُ بِعَقْدِ الْبَيْعِ بَيَانٌ أَنَّهُ لَا يَجِبُ إلَّا عِنْدَ مُعَارَضَةِ الْمَالِ بِالْمَالِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

( قَوْلُهُ وَتُمْلَكُ بِالْأَخْذِ إذَا سَلَّمَهَا الْمُشْتَرِي أَوْ حَكَمَ بِهَا حَاكِمٌ ) أَقُولُ : فِي عِبَارَةِ الْكِتَابِ هَاهُنَا قُصُورٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ قَوْلَهُ أَوْ حَكَمَ بِهَا حَاكِمٌ عَطْفٌ عَلَى ( سَلَّمَهَا الْمُشْتَرِي ) وَقَدْ وَقَعَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ فِي حَيِّزِ الْأَخْذِ فَكَانَ الْأَخْذُ مُعْتَبَرًا فِي التَّسْلِيمِ فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا فِي حُكْمِ الْحَاكِمِ أَيْضًا عَلَى مُقْتَضَى الْعَطْفِ ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأَدَبِ أَنَّ الْمَعْطُوفَ فِي حُكْمِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي كُلِّ أَمْرٍ يَجِبُ لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِالنَّظَرِ إلَى مَا قَبْلَهُ ، مَعَ أَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ لِلشَّفِيعِ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ قَبْلَ أَخْذِهِ الدَّارَ عَلَى مَا نَصُّوا عَلَيْهِ حَيْثُ قَالَ فِي الْكَافِي بَعْدَ قَوْلِهِ أَوْ حَكَمَ بِهَا حَاكِمٌ : فَإِنَّهُ يَثْبُتَ الْمِلْكُ بِحُكْمِهِ وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْ الدَّارَ .
وَقَالَ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ لِلزَّيْلَعِيِّ : أَيْ تُمْلَكُ الدَّارُ الْمَشْفُوعَةُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ : إمَّا بِالْأَخْذِ إذَا سَلَّمَهَا الْمُشْتَرِي بِرِضَاهُ .
أَوْ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ مِنْ غَيْرِ أَخْذٍ .
وَقَالَ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ فِي شَرْحِ قَوْلِ صَاحِبِ الْوِقَايَةِ وَتُمْلَكُ بِالْأَخْذِ بِالتَّرَاضِي أَوْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي قَوْلُهُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي عَطْفٌ عَلَى الْأَخْذِ لَا عَلَى التَّرَاضِي ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ إذَا حَكَمَ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلشَّفِيعِ قَبْلَ أَخْذِهِ انْتَهَى .
وَكَانَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ غَافِلٌ عَنْ ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ : وَهُوَ أَيْ التَّمَلُّكُ إنَّمَا يَكُونُ بِالْأَخْذِ ، إمَّا بِتَسْلِيمِ الْمُشْتَرِي أَوْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي ، فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي اعْتِبَارِ الْأَخْذِ فِي قَضَاءِ الْقَاضِي أَيْضًا .
وَثَانِيهمَا أَنَّ تَسْلِيمَ الدَّارِ الْمَشْفُوعَةِ لَيْسَ بِوَظِيفَةِ الْمُشْتَرِي دَائِمًا ، فَإِنَّ الْمُصَنِّفَ صَرَّحَ فِيمَا مَرَّ آنِفًا بِأَنَّهُ يَكْتَفِي بِثُبُوتِ الْبَيْعِ فِي حَقِّ الْبَائِعِ حَتَّى يَأْخُذَهَا الشَّفِيعُ إذَا أَقَرَّ الْبَائِعُ بِالْبَيْعِ وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي يُكَذِّبُهُ فَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ إنَّمَا يُسَلِّمُهَا

الْبَائِعُ دُونَ الْمُشْتَرِي فَكَانَ الْأَحَقُّ بِالْمَقَامِ أَنْ يُقَالَ إذَا سَلَّمَهَا الْخَصْمُ بَدَلَ قَوْلِهِ إذَا سَلَّمَهَا الْمُشْتَرِي لِيَشْمَلَ تَسْلِيمَ الْمُشْتَرِي وَتَسْلِيمَ الْبَائِعِ كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ فِيمَا بَعْدُ قَبْلَ حُكْمِ الْحَاكِمِ أَوْ تَسْلِيمِ الْمُخَاصِمِ تَبَصَّرْ .

بَابُ طَلَبِ الشُّفْعَةِ وَالْخُصُومَةِ فِيهَا قَالَ ( وَإِذَا عَلِمَ الشَّفِيعُ بِالْبَيْعِ أَشْهَدَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ عَلَى الْمُطَالَبَةِ ) اعْلَمْ أَنَّ الطَّلَبَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : طَلَبُ الْمُوَاثَبَةِ وَهُوَ أَنْ يَطْلُبَهَا كَمَا عَلِمَ ، حَتَّى لَوْ بَلَغَ الشَّفِيعُ الْبَيْعَ وَلَمْ يَطْلُبْ شُفْعَةً بَطَلَتْ الشُّفْعَةُ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الشُّفْعَةُ لِمَنْ وَاثَبَهَا } وَلَوْ أُخْبِرَ بِكِتَابٍ وَالشُّفْعَةُ فِي أَوَّلِهِ أَوْ فِي وَسَطِهِ فَقَرَأَ الْكِتَابَ إلَى آخِرِهِ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ وَعَلَى هَذَا عَامَّةُ الْمَشَايِخِ ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ .
وَعَنْهُ أَنَّ لَهُ مَجْلِسَ الْعِلْمِ ، وَالرِّوَايَتَانِ فِي النَّوَادِرِ .
وَبِالثَّانِيَةِ أَخَذَ الْكَرْخِيُّ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ لَهُ خِيَارُ التَّمَلُّكِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ زَمَانِ التَّأَمُّلِ كَمَا فِي الْمُخَيَّرَةِ ، وَلَوْ قَالَ بَعْدَمَا بَلَغَهُ الْبَيْعُ الْحَمْدُ لِلَّهِ أَوْ " لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ " أَوْ قَالَ " سُبْحَانَ اللَّهِ " لَا تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ حَمْدٌ عَلَى الْخَلَاصِ مِنْ جِوَارِهِ وَالثَّانِيَ تَعَجُّبٌ مِنْهُ لِقَصْدِ إضْرَارِهِ ، وَالثَّالِثَ لِافْتِتَاحِ كَلَامِهِ فَلَا يَدُلُّ شَيْءٌ مِنْهُ عَلَى الْإِعْرَاضِ ، وَكَذَا إذَا قَالَ مَنْ ابْتَاعَهَا وَبِكَمْ بِيعَتْ ؛ لِأَنَّهُ يَرْغَبُ فِيهَا بِثَمَنٍ دُونَ ثَمَنٍ وَيَرْغَبُ عَنْ مُجَاوَرَةِ بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي الْكِتَابِ أَشْهَدُ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ عَلَى الْمُطَالَبَةِ طَلَبَ الْمُوَاثَبَةِ ، وَالْإِشْهَادُ فِيهِ لَيْسَ بِلَازِمٍ ، إنَّمَا هُوَ لِنَفْيِ التَّجَاحُدِ وَالتَّقْيِيدُ بِالْمَجْلِسِ إشَارَةً إلَى مَا اخْتَارَهُ الْكَرْخِيُّ .
وَيَصِحُّ الطَّلَبُ بِكُلِّ لَفْظٍ يُفْهَمُ مِنْهُ طَلَبُ الشُّفْعَةِ كَمَا لَوْ قَالَ : طَلَبْت الشُّفْعَةَ أَوْ أَطْلُبُهَا أَوْ أَنَا طَالِبُهَا ؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ لِلْمَعْنَى ، وَإِذَا بَلَغَ الشَّفِيعُ بَيْعَ الدَّارِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْإِشْهَادُ حَتَّى يُخْبِرَهُ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ أَوْ وَاحِدٌ عَدْلٌ

عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُشْهِدَ إذَا أَخْبَرَهُ وَاحِدٌ حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا صَبِيًّا كَانَ أَوْ امْرَأَةً إذَا كَانَ الْخَبَرُ حَقًّا .
وَأَصْلُ الِاخْتِلَافِ فِي عَزْلِ الْوَكِيلِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ بِدَلَائِلِهِ وَأَخَوَاتِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُخَيَّرَةِ إذَا أَخْبَرَتْ عِنْدَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إلْزَامُ حُكْمٍ ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا أَخْبَرَهُ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُ خَصْمٌ فِيهِ وَالْعَدَالَةُ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي الْخُصُومِ .
وَالثَّانِي طَلَبُ التَّقْرِيرِ وَالْإِشْهَادِ ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ لِإِثْبَاتِهِ عِنْدَ الْقَاضِي عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَلَا يُمْكِنُهُ الْإِشْهَادُ ظَاهِرًا عَلَى طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ ؛ لِأَنَّهُ عَلَى فَوْرِ الْعِلْمِ بِالشِّرَاءِ فَيَحْتَاجُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى طَلَبِ الْإِشْهَادِ وَالتَّقْرِيرِ وَبَيَانُهُ مَا قَالَ فِي الْكِتَابِ ( ثُمَّ يَنْهَضُ مِنْهُ ) يَعْنِي مِنْ الْمَجْلِسِ ( وَيَشْهَدُ عَلَى الْبَائِعِ إنْ كَانَ الْمَبِيعُ فِي يَدِهِ ) مَعْنَاهُ لَمْ يُسَلَّمْ إلَى الْمُشْتَرِي ( أَوْ عَلَى الْمُبْتَاعِ أَوْ عِنْدَ الْعَقَارِ ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ اسْتَقَرَّتْ شُفْعَتُهُ ) وَهَذَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَصْمٌ فِيهِ ؛ لِأَنَّ لِلْأَوَّلِ الْيَدَ وَلِلثَّانِي الْمِلْكَ ، وَكَذَا يَصِحُّ الْإِشْهَادُ عِنْدَ الْمَبِيعِ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ مُتَعَلِّقٌ بِهِ ، فَإِنْ سَلَّمَ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ لَمْ يَصِحَّ الْإِشْهَادُ عَلَيْهِ لِخُرُوجِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ خَصْمًا ، إذْ لَا يَدَ لَهُ وَلَا مِلْكَ فَصَارَ كَالْأَجْنَبِيِّ .
وَصُورَةُ هَذَا الطَّلَبِ أَنْ يَقُولَ : إنَّ فُلَانًا اشْتَرَى هَذِهِ الدَّارَ وَأَنَا شَفِيعُهَا وَقَدْ كُنْت طَلَبْت الشُّفْعَةَ وَأَطْلُبُهَا الْآنَ فَاشْهَدُوا عَلَى ذَلِكَ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ تَسْمِيَةُ الْمَبِيعِ وَتَحْدِيدُهُ ؛ لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ لَا تَصِحُّ إلَّا فِي مَعْلُومٍ .
وَالثَّالِثُ طَلَبُ الْخُصُومَةِ وَالتَّمَلُّكِ ، وَسَنَذْكُرُ كَيْفِيَّتَهُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
.

( بَابُ طَلَبِ الشُّفْعَةِ وَالْخُصُومَةِ فِيهَا ) لَمَّا لَمْ تَثْبُتْ الشُّفْعَةُ بِدُونِ الطَّلَبِ شَرَعَ فِي بَيَانِهِ وَكَيْفِيَّتِهِ وَتَقْسِيمِهِ ، كَذَا فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ .
أَقُولُ : هَذَا بَيَانٌ مِنْ الشُّرَّاحِ لِوَجْهِ ذِكْرِ الشَّطْرِ الْأَوَّلِ مِنْ شَطْرَيْ عِنْوَانِ الْبَابِ وَهُوَ طَلَبُ الشُّفْعَةِ ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ أَحَدٌ مِنْهُمْ لِوَجْهِ ذِكْرِ الشَّطْرِ الثَّانِي مِنْهُمَا وَهُوَ قَوْلُهُ وَالْخُصُومَةُ فِيهَا ، وَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ لِلْخُصُومَةِ فِي الشُّفْعَةِ شَأْنٌ مَخْصُوصٌ وَتَفَاصِيلٌ زَائِدَةٌ عَلَى سَائِرِ الْخُصُومَاتِ كَمَا سَتَظْهَرُ شَرَعَ فِي بَيَانِهَا أَيْضًا أَصَالَةً ( قَوْلُهُ اعْلَمْ أَنَّ الطَّلَبَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : طَلَبُ الْمُوَاثَبَةِ وَهُوَ أَنْ يَطْلُبَهَا كَمَا عَلِمَ ، حَتَّى لَوْ بَلَغَهُ الْبَيْعُ وَلَمْ يَطْلُبْ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ لِمَا ذَكَرْنَا ) قَالَ الشُّرَّاحُ : قَوْلُهُ لِمَا ذَكَرْنَا إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ قَبْلَ الْبَابِ ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ ضَعِيفٌ يَبْطُلُ بِالْإِعْرَاضِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِشْهَادِ وَالطَّلَبِ لِيُعْلَمَ بِذَلِكَ رَغْبَتُهُ فِيهِ دُونَ إعْرَاضٍ عَنْهُ .
أَقُولُ : فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : مَا ذَكَرَهُ هُنَاكَ كَمَا يَدُلُّ عَلَى لُزُومِ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى لُزُومِ الْإِشْهَادِ فِيهِ حَيْثُ قَالَ : فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِشْهَادِ وَالطَّلَبِ ، وَسَيَأْتِي التَّصْرِيحُ مِنْهُ بِأَنَّ الْإِشْهَادَ فِيهِ لَيْسَ بِلَازِمٍ إنَّمَا هُوَ لِنَفْيِ التَّجَاحُدِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِشْهَادِ الْمَذْكُورِ هُنَاكَ هُوَ الَّذِي فِي طَلَبِ التَّقْرِيرِ دُونَ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ يُرْشِدُ إلَيْهِ تَقْدِيمُ الْإِشْهَادِ عَلَى الطَّلَبِ فِي قَوْلِهِ فَلَا بُدَّ الْإِشْهَادُ وَالطَّلَبُ ، إذْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْإِشْهَادِ هُنَاكَ هُوَ الْإِشْهَادَ عَلَى طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ لَكَانَ ذِكْرُ الطَّلَبِ بَعْدَهُ لَغْوًا ، إذْ لَا يُتَصَوَّرُ الْإِشْهَادُ عَلَى طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ بِدُونِ تَحَقُّقِ نَفْسِ ذَلِكَ الطَّلَبِ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ قُبَيْلَ ذَلِكَ وَتَسْتَقِرُّ بِالْإِشْهَادِ إذْ الشُّفْعَةُ لَا

تَسْتَقِرُّ إلَّا بَعْدَ طَلَبِ التَّقْرِيرِ وَالْإِشْهَادِ عَلَى مُقْتَضَى مَا سَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ فَلَا تَنَافِي بَيْنَ كَلَامَيْ الْمُصَنِّفِ ( قَوْلُهُ وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الشُّفْعَةُ لِمَنْ وَاثَبَهَا } ) أَقُولُ : فِي وَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا الْحَدِيثِ نَوْعُ إشْكَالٍ ، لِأَنَّهُ إنْ كَانَ مَدَارُهُ عَلَى نَفْيِ الشُّفْعَةِ عَمَّنْ لَمْ يُوَاثِبْهَا بِطَرِيقِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ فَنَحْنُ لَا نَقُولُ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ فَكَيْفَ يَكُونُ حُجَّةً لَنَا ؟ وَإِنْ كَانَ مَدَارُهُ عَلَى أَنَّ لَامَ الْجِنْسِ فِي الشُّفْعَةِ وَلَامَ الِاخْتِصَاصِ فِي { لِمَنْ وَاثَبَهَا } تَدُلَّانِ عَلَى اخْتِصَاصِ الشُّفْعَةِ بِمَنْ وَاثَبَهَا ، كَمَا قَالُوا فِي { الْحَمْدُ لِلَّهِ } أَنَّ لَامَيْ الْجِنْسِ وَالِاخْتِصَاصِ دَلَّتَا عَلَى الْحَمْدِ بِاَللَّهِ تَعَالَى ، فَيَرُدُّ عَلَيْنَا النَّقْضَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الشُّفْعَةُ لِشَرِيكٍ لَمْ يُقَاسِمْ } كَمَا ذَكَرَ فِي صَدْرِ هَذَا الْكِتَابِ ، إذْ يَلْزَمُ حِينَئِذٍ أَنْ يَدُلَّ ذَلِكَ أَيْضًا عَلَى نَفْيِ الشُّفْعَةِ عَمَّنْ لَيْسَ بِشَرِيكٍ لَمْ يُقَاسِمْ مَعَ أَنَّ الشُّفْعَةَ ثَابِتَةٌ عِنْدَنَا لِغَيْرِ الشَّرِيكِ أَيْضًا كَالْجَارِ الْمُلَاصِقِ فَتَأَمَّلْ ( قَوْلُهُ وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي الْكِتَابِ أَشْهَدَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ عَلَى الْمُطَالَبَةِ ، طَلَبُ الْمُوَاثَبَةِ وَالْإِشْهَادُ فِيهِ لَيْسَ بِلَازِمٍ إنَّمَا هُوَ لِنَفْيِ التَّجَاحُدِ ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ طَلَبَ الْمُوَاثَبَةِ لَيْسَ لِإِثْبَاتِ الْحَقِّ ، وَإِنَّمَا شَرْطُ هَذَا الطَّلَبِ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ غَيْرُ مُعْرِضٍ عَنْ الشُّفْعَةِ وَغَيْرُ رَاضٍ بِجِوَارِ هَذَا الدَّخِيلِ وَالْإِشْهَادُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِيهِ ا هـ .
وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ وَعَدَّهُ تَحْقِيقًا حَيْثُ قَالَ : وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ طَلَبَ الْمُوَاثَبَةِ لَيْسَ لِإِثْبَاتِ الْحَقِّ ، وَإِنَّمَا شَرْطٌ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ غَيْرُ مُعْرِضٍ عَنْ الشُّفْعَةِ وَالْإِشْهَادُ فِي ذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ ا هـ .
أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : طَلَبُ التَّقْرِيرِ

وَالْإِشْهَادِ أَيْضًا لَيْسَ لِإِثْبَاتِ الْحَقِّ بَلْ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ غَيْرُ مُعْرِضٍ عَنْ الشُّفْعَةِ ، وَإِنَّمَا الَّذِي لِإِثْبَاتِ الْحَقِّ طَلَبُ الْخُصُومَةِ مَعَ أَنَّ الْإِشْهَادَ فِي طَلَبِ التَّقْرِيرِ لَازِمٌ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ فِي بَيَانِ طَلَبِ التَّقْرِيرِ وَالْإِشْهَادِ فِيمَا بَعْدُ ، فَكَانَ ذَلِكَ الْوَجْهُ الَّذِي عَدَّهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ تَحْقِيقًا مَنْقُوضًا بِلُزُومِ الْإِشْهَادِ فِي طَلَبِ التَّقْرِيرِ كَمَا تَرَى .
فَإِنْ قُلْتَ لُزُومُ الْإِشْهَادِ فِي طَلَبِ التَّقْرِيرِ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ طَلَبِهِ عِنْدَ الْقَاضِي وَلَا يُمْكِنُهُ إلَّا بِالْإِشْهَادِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِيمَا قَبْلَ الْبَابِ ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُ مَرَّةً أُخْرَى فِي بَيَانِ طَلَبِ التَّقْرِيرِ وَالْإِشْهَادِ فِي هَذَا الْبَابِ .
قُلْتُ : ذَاكَ إنَّمَا يَكُونُ وَجْهًا لِلُزُومِ الْإِشْهَادِ فِي طَلَبِ التَّقْرِيرِ ، وَهُوَ لَا يَدْفَعُ انْتِقَاضَ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّارِحَانِ الْمَزْبُورَانِ لِعَدَمِ لُزُومِ الْإِشْهَادِ فِي طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ بِلُزُومِهِ فِي طَلَبِ التَّقْرِيرِ كَمَا بَيَّنَّاهُ ، وَكَلَامُنَا فِي هَذَا الْوَجْهِ عَلَى أَنَّ فِي ذَلِكَ الْوَجْهِ أَيْضًا كَلَامًا ؛ لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ أَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ طَلَبِهِ عِنْدَ الْقَاضِي كَأَنْ اعْتَرَفَ بِهِ الْخَصْمُ فَهُوَ مَمْنُوعٌ ، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِهِ عِنْدَ التَّجَاحُدِ فَكَذَا الْحَالُ فِي طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ أَيْضًا ، ثُمَّ أَقُولُ : يُمْكِنُ أَنْ يَمْنَعَ لُزُومَ الْإِشْهَادِ فِي طَلَبِ التَّقْرِيرِ أَيْضًا بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ قَاضِي خَانَ فِي فَتَاوَاهُ حَيْثُ قَالَ : وَإِنَّمَا سُمِّيَ الثَّانِي طَلَبَ الْإِشْهَادِ لَا لِأَنَّ الْإِشْهَادَ شَرْطٌ بَلْ لِيُمْكِنَهُ إثْبَاتُ الطَّلَبِ عِنْدَ جُحُودِ الْخَصْمِ ا هـ .
فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِشْهَادَ فِي طَلَبِ التَّقْرِيرِ أَيْضًا لَيْسَ بِلَازِمٍ ، بَلْ إنَّمَا هُوَ لِنَفْيِ التَّجَاحُدِ كَمَا فِي طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ ، وَبِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ حَيْثُ قَالَ : وَأَمَّا الْإِشْهَادُ

عَلَى ظَاهِرِ الطَّلَبِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ لِتَوَثُّقِهِ عَلَى تَقْدِيرِ الْإِنْكَارِ كَمَا فِي الطَّلَبِ الْأَوَّلِ ا هـ .
فَحِينَئِذٍ كَانَ الْوَجْهُ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّارِحَانِ الْمَزْبُورَانِ سَالِمًا مِنْ الِانْتِقَاضِ كَمَا لَا يَخْفَى .
( قَوْلُهُ وَقَالَا : يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَ إذَا أَخْبَرَهُ وَاحِدٌ حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا صَبِيًّا أَوْ امْرَأَةً إذَا كَانَ الْخَبَرُ حَقًّا ) أَقُولُ : فِي التَّقْيِيدِ بِقَوْلِهِ إذَا كَانَ الْخَبَرُ حَقًّا ضَرْبُ إشْكَالٍ ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا إذَا بَلَغَ الشَّفِيعَ بَيْعُ الدَّارِ بِالْإِخْبَارِ ، وَفِي ذَلِكَ إنَّمَا يَحْصُلُ لَهُ الْعِلْمُ بِكَوْنِ الْخَبَرِ حَقًّا لِسَبَبِ الْوُثُوقِ بِإِخْبَارِ مُخْبِرِهِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَدَارَ الْوُثُوقِ بِإِخْبَارِ مُخْبِرِهِ فِيمَا إذَا كَانَ طَرِيقُ الْعِلْمِ مُنْحَصِرًا فِي الْإِخْبَارِ هُوَ حَالُ الْمُخْبِرِ كَعَدَالَتِهِ وَتَعَدُّدِهِ مِمَّا يُورِثُ الْوُثُوقَ بِإِخْبَارِهِ ، وَلِهَذَا اعْتَبَرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ الْعَدَدِ وَالْعَدَالَةِ شَرْطًا عِنْدَهُمَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ وَفِي نَظَائِرِهِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ بَلْ كَانَ خَبَرُ الْوَاحِدِ مُطْلَقًا كَافِيًا فَمَا مَعْنَى تَعْلِيقِ وُجُوبِ الْإِشْهَادِ عَلَى الشَّفِيعِ إذَا أَخْبَرَهُ وَاحِدٌ مُطْلَقًا بِكَوْنِ الْخَبَرِ حَقًّا وَلَا طَرِيقَ لِلْعِلْمِ بِكَوْنِهِ حَقًّا فِي صُورَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ سِوَى إخْبَارِ الْوَاحِدِ .
فَإِنْ أَفَادَ مِثْلُ ذَلِكَ الْإِخْبَارِ الْعِلْمَ تَعَيَّنَ كَوْنُهُ حَقًّا ، وَإِنْ لَمْ يُفِدْهُ فَلَا مَجَالَ لِلْعِلْمِ بِكَوْنِهِ حَقًّا ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ لَا يُرَى لِلتَّعْلِيقِ بِكَوْنِهِ حَقًّا وَجْهٌ ظَاهِرٌ فَتَفَكَّرْ ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ مِمَّا يَجِبُ التَّنَبُّهُ لَهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِشْهَادِ هَاهُنَا نَفْسُ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ لَا الْإِشْهَادُ عَلَى ذَلِكَ الطَّلَبِ ، وَإِلَّا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ هَاهُنَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَ مُنَاقِضًا لِقَوْلِهِ فِيمَا مَرَّ وَالْإِشْهَادُ فِيهِ لَيْسَ بِلَازِمٍ ، وَقَدْ نَبَّهَ عَلَيْهِ تَاجُ الشَّرِيعَةِ عِنْدَ

قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَالْإِشْهَادُ فِيهِ لَيْسَ بِلَازِمٍ حَيْثُ قَالَ : هَذَا لَا يُنَاقِضُ قَوْلَهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَ ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْأَوَّلِ الْإِشْهَادُ عَلَى الطَّلَبِ ، وَمِنْ الثَّانِي طَلَبُ الْمُوَاثَبَةِ وَأَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَطْلُبَ الشُّفْعَةَ ا هـ .
وَسَيَأْتِي نَظِيرُ هَذَا فِي الْكِتَابِ فِي أَوَّلِ بَابِ مَا يَبْطُلُ بِهِ الشُّفْعَةُ ، فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ هُنَاكَ وَإِذَا تَرَكَ الشَّفِيعُ الْإِشْهَادَ حِينَ عَلِمَ بِالْبَيْعِ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ حَمَلَ عَامَّةُ الشُّرَّاحِ الْإِشْهَادَ الْمَذْكُورَ هُنَاكَ عَلَى نَفْسِ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ لِئَلَّا يُخَالِفَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ قَبْلُ وَذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ وَغَيْرِهَا أَيْضًا مِنْ أَنَّ الْإِشْهَادَ فِي طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ لَيْسَ بِلَازِمٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ لِنَفْيِ التَّجَاحُدِ ( قَوْلُهُ وَصُورَةُ هَذَا الطَّلَبِ أَنْ يَقُولَ : إنَّ فُلَانًا اشْتَرَى هَذِهِ الدَّارَ أَنَا شَفِيعُهَا وَقَدْ كُنْت طَلَبْتُ الشُّفْعَةَ وَأَطْلُبُهَا الْآنَ فَاشْهَدُوا عَلَى ذَلِكَ ) أَقُولُ : فِي هَذَا التَّصْوِيرِ نَوْعُ تَقْصِيرٍ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَمَشَّى فِيمَا إذَا كَانَ الْإِشْهَادُ عِنْدَ الدَّارِ ، فَإِنَّ الْإِشَارَةَ بِهَذِهِ الدَّارِ إنَّمَا تُتَصَوَّرُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ ، وَالْمَذْكُورُ فِيمَا قَبْلُ مَجْمُوعُ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ لِلْإِشْهَادِ : أَعْنِي الْإِشْهَادَ عَلَى الْبَائِعِ أَوْ عَلَى الْمُشْتَرِي أَوْ عِنْدَ الْعَقَارِ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مُجَرَّدَ التَّمْثِيلِ دُونَ إحَاطَةِ الْأَقْسَامِ ، لَكِنَّهُ لَا يَدْفَعُ التَّقْصِيرَ حَقِيقَةً ، فَالْأَوْلَى الْجَامِعُ لِلْأَقْسَامِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الذَّخِيرَةِ حَيْثُ قَالَ : وَصُورَةُ هَذَا الطَّلَبِ أَنْ يَحْضُرَ الشَّفِيعُ عِنْدَ الدَّارِ وَيَقُولُ : إنَّ فُلَانًا اشْتَرَى هَذِهِ الدَّارَ وَأَنَا شَفِيعُهَا بِالْجِوَارِ بِدَارٍ حُدُودُهَا كَذَا ، وَقَدْ كُنْت طَلَبْت الشُّفْعَةَ وَأَنَا أَطْلُبُهَا الْآنَ أَيْضًا فَاشْهَدُوا بِذَلِكَ ، أَوْ يَحْضُرَ الْمُشْتَرِي وَيَقُولُ : هَذَا مُشْتَرٍ مِنْ فُلَانٍ دَارًا الَّتِي

حُدُودُهَا كَذَا وَأَنَا شَفِيعُهَا بِالْجِوَارِ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَا .
أَوْ يَحْضُرَ الْبَائِعُ وَيَقُولُ : هَذَا بَاعَ مِنْ فُلَانٍ دَارًا الَّتِي حُدُودُهَا كَذَا إلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَا ا هـ .

قَالَ ( وَلَا تَسْقُطُ الشُّفْعَةُ بِتَأْخِيرِ هَذَا الطَّلَبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : إنْ تَرَكَهَا شَهْرًا بَعْدَ الْإِشْهَادِ بَطَلَتْ ) وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ ، مَعْنَاهُ : إذَا تَرَكَهَا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا تَرَكَ الْمُخَاصَمَةَ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الْقَاضِي تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا مَضَى مَجْلِسٌ مِنْ مَجَالِسِهِ وَلَمْ يُخَاصِمْ فِيهِ اخْتِيَارًا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى إعْرَاضِهِ وَتَسْلِيمِهِ .
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَسْقُطْ بِتَأْخِيرِ الْخُصُومَةِ مِنْهُ أَبَدًا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ التَّصَرُّفُ حَذَارِ نَقْضِهِ مِنْ جِهَةِ الشَّفِيعِ فَقَدَّرْنَاهُ بِشَهْرٍ ؛ لِأَنَّهُ آجِلٌ وَمَا دُونَهُ عَاجِلٌ عَلَى مَا مَرَّ فِي الْأَيْمَانِ .
وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى أَنَّ الْحَقَّ مَتَى ثَبَتَ وَاسْتَقَرَّ لَا يَسْقُطُ إلَّا بِإِسْقَاطِهِ وَهُوَ التَّصْرِيحُ بِلِسَانِهِ كَمَا فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ ، وَمَا ذَكَرَ مِنْ الضَّرَرِ يَشْكُلُ بِمَا إذَا كَانَ غَائِبًا ، وَلَا فَرْقَ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي بَيْنَ الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ ، وَلَوْ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ قَاضٍ لَا تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ بِالتَّأْخِيرِ بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْخُصُومَةِ إلَّا عِنْدَ الْقَاضِي فَكَانَ عُذْرًا .

.
قَالَ ( وَإِذَا تَقَدَّمَ الشَّفِيعُ إلَى الْقَاضِي فَادَّعَى الشِّرَاءَ وَطَلَبَ الشُّفْعَةَ سَأَلَ الْقَاضِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، فَإِنْ اعْتَرَفَ بِمِلْكِهِ الَّذِي يُشْفَعُ بِهِ وَإِلَّا كَلَّفَهُ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ ) ؛ لِأَنَّ الْيَدَ ظَاهِرٌ مُحْتَمِلٌ فَلَا تَكْفِي لِإِثْبَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ .
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَسْأَلُ الْقَاضِي الْمُدَّعِيَ قَبْلَ أَنْ يُقْبِلَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ مَوْضِعِ الدَّارِ وَحُدُودِهَا ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى حَقًّا فِيهَا فَصَارَ كَمَا إذَا ادَّعَى رَقَبَتَهَا ، وَإِذَا بَيَّنَ ذَلِكَ يَسْأَلُهُ عَنْ سَبَبِ شُفْعَتِهِ لِاخْتِلَافِ أَسْبَابِهَا ، فَإِنْ قَالَ : أَنَا شَفِيعُهَا بِدَارٍ لِي تُلَاصِقُهَا الْآنَ تَمَّ دَعْوَاهُ عَلَى مَا قَالَهُ الْخَصَّافُ .
وَذَكَرَ فِي الْفَتَاوَى تَحْدِيدَ هَذِهِ الدَّارِ الَّتِي يُشْفَعُ بِهَا أَيْضًا ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْكِتَابِ الْمَوْسُومِ بِالتَّجْنِيسِ وَالْمَزِيدِ .
قَالَ ( فَإِنْ عَجَزَ عَنْ الْبَيِّنَةِ اسْتَحْلَفَ الْمُشْتَرِيَ بِاَللَّهِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مَالِكٌ لِلَّذِي ذَكَرَهُ مِمَّا يُشْفَعُ بِهِ ) مَعْنَاهُ بِطَلَبِ الشَّفِيعِ ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى عَلَيْهِ مَعْنًى لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَزِمَهُ ، ثُمَّ هُوَ اسْتِحْلَافٌ عَلَى مَا فِي يَدِهِ فَيَحْلِفُ عَلَى الْعِلْمِ ( فَإِنْ نَكَلَ أَوْ قَامَتْ لِلشَّفِيعِ بَيِّنَةٌ ثَبَتَ مِلْكُهُ فِي الدَّارِ الَّتِي يُشْفَعُ بِهَا وَثَبَتَ الْجِوَارُ فَبَعْدَ ذَلِكَ سَأَلَهُ الْقَاضِي ) يَعْنِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ( هَلْ ابْتَاعَ أَمْ لَا ، فَإِنْ أَنْكَرَ الِابْتِيَاعَ قِيلَ لِلشَّفِيعِ أَقِمْ الْبَيِّنَةَ ) ؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ لَا تَجِبُ إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ الْبَيْعِ وَثُبُوتُهُ بِالْحُجَّةِ .
قَالَ ( فَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا اسْتَحْلَفَ الْمُشْتَرِيَ بِاَللَّهِ مَا ابْتَاعَ أَوْ بِاَللَّهِ مَا اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الدَّارِ شُفْعَةً مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ ) فَهَذَا عَلَى الْحَاصِلِ ، وَالْأَوَّلُ عَلَى السَّبَبِ وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَامَ فِيهِ فِي الدَّعْوَى ، وَذَكَرْنَا الِاخْتِلَافَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ ، وَإِنَّمَا يُحَلِّفُهُ عَلَى الْبَتَاتِ ؛ لِأَنَّهُ اسْتِحْلَافُ فِعْلِ

نَفْسِهِ وَعَلَى مَا فِي يَدِهِ أَصَالَةً ، وَفِي مِثْلِهِ يَحْلِفُ عَلَى الْبَتَاتِ .
.

( قَوْلُهُ وَإِذَا بَيَّنَ ذَلِكَ يَسْأَلُهُ عَنْ سَبَبِ شُفْعَتِهِ لِاخْتِلَافِ أَسْبَابِهَا ، فَإِنْ قَالَ أَنَا شَفِيعُهَا بِدَارٍ لِي تُلَاصِقُهَا تَمَّ دَعْوَاهُ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : قِيلَ لَمْ يَتِمَّ بَعْدُ ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَسْأَلَهُ وَيَقُولُ هَلْ قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ أَوْ لَا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقْبِضْ لَمْ تَصِحَّ الدَّعْوَى عَلَى الْمُشْتَرِي مَا لَمْ يَحْضُرْ الْبَائِعُ ، ثُمَّ يَسْأَلُهُ عَنْ السَّبَبِ ثُمَّ يَقُولُ لَهُ مَتَى أُخْبِرْت بِالشِّرَاءِ لِيَعْلَمَ أَنَّ الْمُدَّةَ طَالَتْ أَوْ لَا ، فَإِنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إذَا تَطَاوَلَتْ ، فَالْقَاضِي لَا يَلْتَفِتُ إلَى دَعْوَاهُ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى .
وَقَالَ : وَهَذَا لَا يَلْزَمُ الْمُصَنِّفَ ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي عَدَمِ الْبُطْلَانِ بِالتَّأْخِيرِ .
ثُمَّ قَالَ : وَقِيلَ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ سَأَلَهُ عَنْ طَلَبِ الْإِشْهَادِ ، فَإِذَا قَالَ طَلَبْتُ حِينَ عَلِمْتُ إذْ أُخْبِرْتُ عَنْ غَيْرِ لُبْثٍ سَأَلَهُ عَنْ طَلَبِ الِاسْتِقْرَارِ فَإِنْ قَالَ طَلَبْته مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ سَأَلَهُ عَنْ الْمَطْلُوبِ بِحَضْرَتِهِ هَلْ كَانَ أَقْرَبَ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِ .
فَإِنْ قَالَ نَعَمْ فَقَدْ صَحَّحَ دَعْوَاهُ ا هـ .
أَقُولُ : الْقَائِلُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ أَخْذًا مِنْ الذَّخِيرَةِ ، وَتَبِعَهُ بَعْضٌ آخَرُ مِنْ الشُّرَّاحِ ، وَقَدْ غَيَّرَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ عِبَارَتَهُمْ فِي النَّقْلِ وَأَفْسَدَ .
فَإِنَّ عِبَارَتَهُمْ كَانَتْ هَكَذَا : ثُمَّ إذَا سَأَلَهُ عَنْ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ فَقَالَ طَلَبْتُ حِينَ عَلِمْتُ أَوْ قَالَ حِينَ أُخْبِرْتُ مِنْ غَيْرِ لُبْثٍ سَأَلَهُ عَنْ طَلَبِ الْإِشْهَادِ هَلْ طَلَبَ الْإِشْهَادَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ وَتَقْصِيرٍ ، فَإِنْ قَالَ نَعَمْ سَأَلَهُ إنَّ الَّذِي طَلَبْت بِحَضْرَتِهِ هَلْ كَانَ أَقْرَبَ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِ ، فَإِنْ قَالَ نَعَمْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْإِشْهَادَ قَدْ صَحَّ ، ثُمَّ إذَا تَبَيَّنَ مَا يَصِحُّ عِنْدَهُ الطَّلَبُ فَقَدْ صَحَّحَ دَعْوَاهُ ، إلَى هُنَا عِبَارَتُهُمْ .
وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ هِيَ الْمُطَابِقَةُ لِمَا

فِي الذَّخِيرَةِ ، وَهِيَ الصَّحِيحَةُ دُونَ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي نَقْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ عَبَّرَ عَنْ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ بِطَلَبِ الْإِشْهَادِ حَيْثُ قَالَ : وَقِيلَ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ سَأَلَهُ عَنْ طَلَبِ الِاسْتِقْرَارِ ، وَلَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّ إطْلَاقَ طَلَبِ الْإِشْهَادِ عَلَى طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ يُخَالِفُ اصْطِلَاحَ الْفُقَهَاءِ جِدًّا ، يَظْهَرُ ذَلِكَ مِمَّا أَحَطْت بِهِ خَيْرًا فِي أَقْسَامِ الطَّلَبِ .
وَأَيْضًا قَدْ قِيلَ فِيمَا قَبْلُ سَأَلَهُ مَتَى أُخْبِرْتَ بِالشِّرَاءِ وَكَيْفَ صَنَعْتَ حِينَ أُخْبِرْتَ بِالشِّرَاءِ ، وَقَدْ نَقَلَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَيْضًا فِيمَا قَبْلُ ، فَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يُقَالَ هَاهُنَا ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ سَأَلَهُ عَنْ طَلَبِ الْإِشْهَادِ وَمُرَادُهُ طَلَبُ الْمُوَاثَبَةِ يَصِيرُ الْمَعْنَى : ثُمَّ بَعْدَ السُّؤَالِ عَنْ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ سَأَلَهُ عَنْ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ ؛ لِأَنَّ سُؤَالَهُ قَبْلَهُ بِكَيْفَ صَنَعْتَ حِينَ أُخْبِرْتَ سُؤَالٌ عَنْ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ لَا مَحَالَةَ فَيَلْزَمُ تَكْرَارُ السُّؤَالِ عَنْ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ .
بِخِلَافِ مَا إذَا قِيلَ ثُمَّ إذَا سَأَلَهُ عَنْ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ سَأَلَهُ عَنْ طَلَبِ الْإِشْهَادِ كَمَا وَقَعَ فِي عِبَارَتِهِمْ ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ حِينَئِذٍ شَيْءٌ مِنْ الْمَحْذُورَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ ، أَمَّا عَدَمُ الْمُخَالَفَةِ لِاصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ فَظَاهِرٌ ، وَأَمَّا عَدَمُ لُزُومِ تَكْرَارِ السُّؤَالِ عَنْ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ فَإِنَّ الْكَلَامَ إذْ ذَاكَ مُلْقًى فِي صُورَةِ الشَّرْطِيَّةِ فَقَدَّمَهَا ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ إذَا سَأَلَهُ عَنْ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ إشَارَةٌ إلَى مَا ذَكَرُوا فِيمَا قَبْلَ السُّؤَالِ بِكَيْفَ صَنَعْتَ حِينَ أُخْبِرْتَ وَلَيْسَ فِيهِ حُكْمٌ جَدِيدٌ حَتَّى يَلْزَمَ التَّكْرَارُ تَأَمَّلْ تَفْهَمْ

قَالَ ( وَتَجُوزُ الْمُنَازَعَةُ فِي الشُّفْعَةِ وَإِنْ لَمْ يُحْضِرْ الشَّفِيعُ الثَّمَنَ إلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي ، فَإِذَا قَضَى الْقَاضِي بِالشُّفْعَةِ لَزِمَهُ إحْضَارُ الثَّمَنِ ) وَهَذَا ظَاهِرُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يَقْضِي حَتَّى يُحْضِرَ الشَّفِيعُ الثَّمَنَ ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ عَسَاهُ يَكُونُ مُفْلِسًا فَيَتَوَقَّفُ الْقَضَاءُ عَلَى إحْضَارِهِ حَتَّى لَا يَتْوِيَ مَالُ الْمُشْتَرِي .
وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّهُ لَا ثَمَنَ لَهُ عَلَيْهِ قَبْلَ الْقَضَاءِ وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ تَسْلِيمُهُ ، فَكَذَا لَا يُشْتَرَطُ إحْضَارُهُ ( وَإِذَا قَضَى لَهُ بِالدَّارِ فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَحْبِسَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ ) وَيَنْفُذُ الْقَضَاءُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ فَصْلٌ مُجْتَهَدٌ فِيهِ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الثَّمَنُ فَيُحْبَسُ فِيهِ ، فَلَوْ أَخَّرَ أَدَاءَ الثَّمَنِ بَعْدَ مَا قَالَ لَهُ ادْفَعْ الثَّمَنَ إلَيْهِ لَا تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ ؛ لِأَنَّهَا تَأَكَّدَتْ بِالْخُصُومَةِ عِنْدَ الْقَاضِي .
قَالَ ( وَإِنْ أَحْضَرَ الشَّفِيعُ الْبَائِعَ ، وَالْمَبِيعُ فِي يَدِهِ فَلَهُ أَنْ يُخَاصِمَهُ فِي الشُّفْعَةِ ؛ لِأَنَّ الْيَدَ لَهُ وَهِيَ يَدٌ مُسْتَحَقَّةٌ ) وَلَا يَسْمَعُ الْقَاضِي الْبَيِّنَةَ حَتَّى يَحْضُرَ الْمُشْتَرِي فَيَفْسَخَ الْبَيْعَ بِمَشْهَدٍ مِنْهُ وَيَقْضِيَ بِالشُّفْعَةِ عَلَى الْبَائِعِ وَيَجْعَلَ الْعُهْدَةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي وَالْيَدَ لِلْبَائِعِ ، وَالْقَاضِي يَقْضِي بِهِمَا لِلشَّفِيعِ فَلَا بُدَّ مِنْ حُضُورِهِمَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الدَّارُ قَدْ قُبِضَتْ حَيْثُ لَا يُعْتَبَرُ حُضُورُ الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ أَجْنَبِيًّا إذْ لَا يَبْقَى لَهُ يَدٌ وَلَا مِلْكٌ .
وَقَوْلُهُ فَيَفْسَخُ الْبَيْعَ بِمَشْهَدٍ مِنْهُ إشَارَةٌ إلَى عِلَّةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ الْبَيْعَ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي إذَا كَانَ يَنْفَسِخُ لَا بُدَّ مِنْ حُضُورِهِ لِيَقْضِيَ بِالْفَسْخِ عَلَيْهِ ، ثُمَّ وَجْهُ هَذَا الْفَسْخِ الْمَذْكُورِ أَنْ يَنْفَسِخَ فِي حَقِّ الْإِضَافَةِ لِامْتِنَاعِ قَبْضِ الْمُشْتَرِي بِالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ وَهُوَ

يُوجِبُ الْفَسْخَ ، إلَّا أَنَّهُ يَبْقَى أَصْلُ الْبَيْعِ لِتَعَذُّرِ انْفِسَاخِهِ ؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ بِنَاءٌ عَلَيْهِ ، وَلَكِنَّهُ تَتَحَوَّلُ الصَّفْقَةُ إلَيْهِ وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ هُوَ الْمُشْتَرِي مِنْهُ فَلِهَذَا يَرْجِعُ بِالْعُهْدَةِ عَلَى الْبَائِعِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي فَأَخَذَهُ مِنْ يَدِهِ حَيْثُ تَكُونُ الْعُهْدَةُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالْقَبْضِ .
وَفِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ امْتَنَعَ قَبْضُ الْمُشْتَرِي وَأَنَّهُ يُوجِبُ الْفَسْخَ ، وَقَدْ طَوَّلْنَا الْكَلَامَ فِيهِ فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى .
.

قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى دَارًا لِغَيْرِهِ فَهُوَ الْخَصْمُ لِلشَّفِيعِ ) ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْعَاقِدُ ، وَالْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ فَيَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ .
قَالَ ( إلَّا أَنْ يُسَلِّمَهَا إلَى الْمُوَكِّلِ ) ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ يَدٌ وَلَا مِلْكٌ فَيَكُونُ الْخَصْمُ هُوَ الْمُوَكِّلُ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ كَالْبَائِعِ مِنْ الْمُوَكِّلِ عَلَى مَا عُرِفَ فَتَسْلِيمُهُ إلَيْهِ كَتَسْلِيمِ الْبَائِعِ إلَى الْمُشْتَرِي فَتَصِيرُ الْخُصُومَةُ مَعَهُ ، إلَّا أَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ فَيَكْتَفِي بِحُضُورِهِ فِي الْخُصُومَةِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ ، وَكَذَا إذَا كَانَ الْبَائِعُ وَكِيلَ الْغَائِبِ فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا مِنْهُ إذَا كَانَتْ فِي يَدِهِ ؛ لِأَنَّهُ عَاقِدٌ وَكَذَا إذَا كَانَ الْبَائِعُ وَصِيًّا لِمَيِّتٍ فِيمَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لِمَا ذَكَرْنَا .
.
( قَوْلُهُ وَمَنْ اشْتَرَى دَارًا لِغَيْرِهِ فَهُوَ الْخَصْمُ لِلشَّفِيعِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْعَاقِدُ ، وَالْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ ) أَقُولُ : هَذَا التَّعْلِيلُ يَجْرِي بِعَيْنِهِ فِيمَا إذَا سَلَّمَهَا الْمُوَكِّلُ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِخَصْمٍ هُنَاكَ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُزَادَ عَلَيْهِ قَيْدٌ فَارِقٌ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ بِأَنْ يُقَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ وَالْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ ، وَلَهُ يَدٌ فِي الدَّارِ ، وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ إنَّمَا تَرَكَ ذِكْرَ ذَلِكَ الْقَيْدِ اعْتِمَادًا عَلَى انْفِهَامِهِ مِنْ تَعْلِيلِ صُورَةِ التَّسْلِيمِ .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78