كتاب : فتح القدير
المؤلف : كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي

فِي ذَلِكَ كُلِّهِ .
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُحَدُّ فِي الْكُلِّ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : بِالدَّفْعِ يَثْبُتُ الْمِلْكُ مُسْتَنِدًا ، وَكَذَا إذَا مَلَكَهَا بِالشِّرَاءِ أَوْ النِّكَاحِ لِأَنَّ اعْتِرَاضَ سَبَبِ الْمِلْكِ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ يُسْقِطُ الْحَدَّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ زَنَى وَجَنَى فَيُؤَاخَذُ بِمُوجِبِ كُلٍّ مِنْ الْفِعْلَيْنِ ، وَلَا مُنَافَاةَ فَيُجْمَعُ بَيْنَ الْحَدِّ وَالضَّمَانِ ، وَكَوْنُ الضَّمَانِ يَمْنَعُ الْحَدَّ لِاسْتِلْزَامِهِ الْمِلْكَ مَمْنُوعٌ لِأَنَّ هَذَا ضَمَانُ دَمٍ حَتَّى وَجَبَ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَلَا تَجِبُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ ، وَهُوَ يُوجِبُ مِلْكًا لِأَنَّ مَحَلَّ الْمِلْكِ الْمَالُ ، وَالدَّمُ لَيْسَ بِمَالٍ ، ثُمَّ تَنْزِلُ فَقَالَ مَا حَاصِلُهُ : إنَّهُ لَوْ فُرِضَ أَنَّ الضَّمَانَ يُوجِبُ الْمِلْكَ لَكَانَ يُوجِبُهُ فِي الْعَيْنِ الْقَائِمَةِ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ ، وَالِاسْتِنَادُ إنَّمَا يَظْهَرُ فِي الْقَائِمِ دُونَ الْفَائِتِ ، وَمَنَافِعُ الْبُضْعِ الَّتِي اُسْتُوْفِيَتْ فَائِتَةٌ وَلَيْسَ مَحَلُّهَا وَهُوَ الْعَيْنُ قَائِمًا لِيُثْبِتَ شُبْهَةَ قِيَامِ الْمَنَافِعِ فَتَثْبُتُ شُبْهَةُ مِلْكِهَا فَلَمْ يَظْهَرْ الْمِلْكُ فِيهَا لَا شُبْهَتُهُ فَلَمْ يَكُنْ كَالْمَسْرُوقِ ، وَلَمْ يُفِدْ الْمِلْكُ الْمُسَبَّبُ عَنْ الضَّمَانِ مِلْكَ تِلْكَ الْمَنَافِعِ لِيَسْقُطَ الْحَدُّ ، بِخِلَافِ السَّرِقَةِ فَإِنَّ شَرْطَ إقَامَةِ حَدِّ السَّرِقَةِ الْخُصُومَةُ وَبِالْهِبَةِ انْقَطَعَتْ ، بِخِلَافِ حَدِّ الزِّنَا فَبَطَلَ الْقِيَاسُ ، وَمَآلُ هَذَا التَّقْرِيرِ إلَى أَنَّ الثَّابِتَ بِهَذَا الضَّمَانِ شُبْهَةُ شُبْهَةِ مِلْكِ تِلْكَ الْمَنَافِعِ ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ شُبْهَةُ مِلْكِ الْعَيْنِ لَا حَقِيقَتُهُ ، وَبِحَقِيقَتِهِ تَثْبُتُ شُبْهَةُ مِلْكِ الْمَنَافِعِ ، فَإِذَا كَانَ الثَّابِتُ شُبْهَةَ مِلْكِ الْعَيْنِ فَهُوَ شُبْهَةُ شُبْهَةِ مِلْكِ الْمَنَافِعِ وَشُبْهَةُ الشُّبْهَةِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ .
وَحَاصِلُ التَّقْرِيرِ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ أَثْبَتَ شُبْهَةَ مِلْكِ الْمَنَافِعِ الْمُسْتَوْفَاةِ وَنَحْنُ نَفَيْنَاهُ ، وَلَيْسَ أَحَدٌ يُثْبِتُ

بِالضَّمَانِ حَقِيقَةَ مِلْكِ الْمَنَافِعِ .
وَعَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ بِقَلِيلِ تَأَمُّلٍ يَظْهَرُ مَا فِي تَقْرِيرِ الْمُصَنِّفِ لِلتَّنَزُّلِ مِنْ التَّسَاهُلِ .
وَبِالْوَجْهِ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ يَتَّضِحُ حُسْنُ اتِّصَالِ قَوْلِهِ ( بِخِلَافِ مَا إذَا زَنَى بِهَا فَأَذْهَبَ عَيْنَهَا حَيْثُ يَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَتُهَا وَيَسْقُطُ بِهِ الْحَدُّ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ ثَمَّةَ يَثْبُتُ فِي الْجُثَّةِ الْعَمْيَاءِ وَهِيَ عَيْنٌ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً ) أَيْ فِي مِلْكِ الْمَنَافِعِ تَبَعًا فَيَنْدَرِئُ عَنْهَا الْحَدُّ ، أَمَّا هَاهُنَا فَالْعَيْنُ فَائِتَةٌ بِالْقَتْلِ فَلَا تُمْلَكُ بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَلَا يُقَالُ : هَذَا التَّمْلِيكُ بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ فَلَا يَضُرُّهُ انْتِفَاءُ الْمَمْلُوكِ .
لِأَنَّا نَقُولُ : الْمُسْتَنَدُ يُثْبَتُ أَوَّلًا ثُمَّ يُسْتَنَدُ ، فَاسْتَدْعَى ثُبُوتَ الْمَحَلِّ حَالَ الْأَوَّلِيَّةِ وَهُوَ مُنْتَفٍ .
وَثَمَرَتُهُ أَنَّ الثَّابِتَ فِي الْمَنَافِعِ شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا .
فَإِنْ قِيلَ : يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ الْحَدُّ وَلَوْ تَمَّ مِلْكُ الْمَقْتُولِ لِأَنَّ بَعْضَ الْقِيمَةِ لَا بُدَّ أَنْ يَصِيرَ بِإِزَاءِ مَنَافِعِ الْبُضْعِ الَّتِي يَجِبُ الْحَدُّ لِأَجْلِهَا فَيَجِبُ أَنْ لَا يُحَدَّ ، وَإِلَّا وَجَبَ ضَمَانَانِ بِإِزَاءِ مَضْمُونٍ وَاحِدٍ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُوضَعْ الْفِعْلُ لِلْقَتْلِ كَانَ أَوَّلُهُ كَجِرَاحَةٍ انْدَمَلَتْ ثُمَّ حَدَثَ الْقَتْلُ فَكَانَ الضَّمَانُ كُلُّهُ بِإِزَائِهِ .
وَفِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ : لَوْ غَصَبَهَا ثُمَّ زَنَى بِهَا ثُمَّ ضَمِنَ قِيمَتَهَا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ .
أَمَّا لَوْ زَنَى بِهَا ثُمَّ غَصَبَهَا وَضَمِنَ قِيمَتَهَا لَمْ يَسْقُطْ الْحَدُّ .
وَفِي جَامِعِ قَاضِي خَانَ : لَوْ زَنَى بِحُرَّةٍ ثُمَّ نَكَحَهَا لَا يَسْقُطُ الْحَدُّ بِالِاتِّفَاقِ

قَالَ ( وَكُلُّ شَيْءٍ صَنَعَهُ الْإِمَامُ الَّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ إمَامٌ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ إلَّا الْقِصَاصُ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ بِهِ وَبِالْأَمْوَالِ ) لِأَنَّ الْحُدُودَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَإِقَامَتُهَا إلَيْهِ لَا إلَى غَيْرِهِ وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُقِيمَ عَلَى نَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ ، بِخِلَافِ حُقُوقِ الْعِبَادِ لِأَنَّهُ يَسْتَوْفِيهِ وَلِيُّ الْحَقِّ إمَّا بِتَمْكِينِهِ أَوْ بِالِاسْتِعَانَةِ بِمَنَعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَالْقِصَاصُ وَالْأَمْوَالُ مِنْهَا .
وَأَمَّا حَدُّ الْقَذْفِ قَالُوا الْمُغَلَّبُ فِيهِ حَقُّ الشَّرْعِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ سَائِرِ الْحُدُودِ الَّتِي هِيَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

( قَوْلُهُ وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلَهُ الْإِمَامُ الَّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ إمَامٌ ) مِمَّا يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ كَالزِّنَا وَالشُّرْبِ وَالْقَذْفِ وَالسَّرِقَةِ ( لَا يُؤَاخَذُ بِهِ إلَّا الْقِصَاصُ وَالْمَالُ ) فَإِنَّهُ إذَا قَتَلَ إنْسَانًا أَوْ أَتْلَفَ مَالَ إنْسَانٍ يُؤَاخَذُ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الْمُكَلَّفُ بِإِقَامَتِهِ وَتَعَذَّرَ إقَامَتُهُ عَلَى نَفْسِهِ لِأَنَّ إقَامَتَهُ بِطَرِيقِ الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ ، وَلَا يَفْعَلُ أَحَدٌ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ وَلَا وِلَايَةَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ لِيَسْتَوْفِيَهُ .
وَفَائِدَةُ الْإِيجَابِ الِاسْتِيفَاءُ .
فَإِذَا تَعَذَّرَ لَمْ يَجِبْ ، بِخِلَافِ حُقُوقِ الْعِبَادِ كَالْقِصَاصِ وَضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ لِأَنَّ حَقَّ اسْتِيفَائِهَا لِمَنْ لَهُ الْحَقُّ فَيَكُونُ الْإِمَامُ فِيهِ كَغَيْرِهِ ، وَإِنْ احْتَاجَ إلَى الْمَنَعَةِ فَالْمُسْلِمُونَ مَنَعَتُهُ فَيُقَدَّرُ بِهِمْ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ فَكَانَ الْوُجُوبُ مُفِيدًا ، وَالْمُغَلَّبُ فِي حَدِّ الْقَذْفِ حَقُّ الشَّرْعِ فَكَانَ كَبَقِيَّةِ الْحُدُودِ ، وَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ بِدُونِ قَضَاءِ الْقَاضِي وَالْقَضَاءُ لِتَمْكِينِ الْوَلِيِّ مِنْ اسْتِيفَائِهِ لَا أَنَّهُ شَرْطٌ .
وَأُورِدَ عَلَيْهِ مَا الْمَانِعُ مِنْ أَنْ يُوَلِّيَ غَيْرَهُ الْحُكْمَ فِيهِ بِمَا يَثْبُتُ عِنْدَهُ كَمَا فِي الْأَمْوَالِ ، غَيْرَ أَنَّهُ إذَا صَحَّتْ هَذِهِ الِاسْتِنَابَةُ فَوَجَبَ عَلَيْهِ حَقٌّ لِلْعَبْدِ اسْتَوْفَاهُ الْعَبْدُ ، أَوْ حَقٌّ لِلَّهِ اسْتَوْفَاهُ ذَلِكَ النَّائِبُ .
وَقِيلَ لَا مُخَلِّصَ إلَّا إنْ ادَّعَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا } يُفْهِمُ أَنَّ الْمُخَاطَبَ فِيهِ بِالْجَلْدِ الْإِمَامُ أَنْ يَجْلِدَ غَيْرَهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَدْ يُقَالُ أَيْنَ دَلِيلُ إيجَابِ الِاسْتِنَابَةِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .

( بَابُ الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا وَالرُّجُوعِ عَنْهَا ) ( وَإِذَا شَهِدَ الشُّهُودُ بِحَدٍّ مُتَقَادِمٍ لَمْ يَمْنَعْهُمْ عَنْ إقَامَتِهِ بُعْدُهُمْ عَنْ الْإِمَامِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ إلَّا فِي حَدِّ الْقَذْفِ خَاصَّةً ) وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : ( وَإِذَا شَهِدَ عَلَيْهِ الشُّهُودُ بِسَرِقَةٍ أَوْ بِشُرْبِ خَمْرٍ أَوْ بِزِنًا بَعْدَ حِينٍ لَمْ يُؤْخَذْ بِهِ وَضَمِنَ السَّرِقَةَ ) وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْحُدُودَ الْخَالِصَةَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى تَبْطُلُ بِالتَّقَادُمِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، هُوَ يَعْتَبِرُهَا بِحُقُوقِ الْعِبَادِ وَبِالْإِقْرَارِ الَّذِي هُوَ إحْدَى الْحُجَّتَيْنِ .
وَلَنَا أَنَّ الشَّاهِدَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ حِسْبَتَيْنِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَالسَّتْرِ ، فَالتَّأْخِيرُ إنْ كَانَ لِاخْتِيَارِ السَّتْرِ فَالْإِقْدَامُ عَلَى الْأَدَاءِ بَعْدَ ذَلِكَ لِضَغِينَةٍ هَيَّجَتْهُ أَوْ لِعَدَاوَةٍ حَرَّكَتْهُ فَيُتَّهَمُ فِيهَا وَإِنْ كَانَ التَّأْخِيرُ لَا لِلسَّتْرِ يَصِيرُ فَاسِقًا آثِمًا فَتَيَقَّنَّا بِالْمَانِعِ ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُعَادِي نَفْسَهُ ، فَحَدُّ الزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالسَّرِقَةِ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يَصِحَّ الرُّجُوعُ عَنْهَا بَعْدَ الْإِقْرَارِ فَيَكُونَ التَّقَادُمُ فِيهِ مَانِعًا ، وَحَدُّ الْقَذْفِ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ لِمَا فِيهِ مِنْ دَفْعِ الْعَارِ عَنْهُ ، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ رُجُوعُهُ بَعْدَ الْإِقْرَارِ ، وَالتَّقَادُمُ غَيْرُ مَانِعٍ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ ، وَلِأَنَّ الدَّعْوَى فِيهِ شَرْطٌ فَيُحْمَلُ تَأْخِيرُهُمْ عَلَى انْعِدَامِ الدَّعْوَى فَلَا يُوجِبُ تَفْسِيقَهُمْ ، بِخِلَافِ حَدِّ السَّرِقَةِ لِأَنَّ الدَّعْوَى لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِلْحَدِّ لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا مَرَّ ، وَإِنَّمَا شُرِطَتْ لِلْمَالِ ، وَلِأَنَّ الْحُكْمَ يُدَارُ عَلَى كَوْنِ الْحَدِّ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يُعْتَبَرُ وُجُودُ التُّهْمَةِ فِي كُلِّ فَرْدٍ ، وَلِأَنَّ السَّرِقَةَ تُقَامُ عَلَى الِاسْتِسْرَارِ عَلَى غِرَّةٍ مِنْ الْمَالِكِ فَيَجِبُ عَلَى الشَّاهِدِ إعْلَامُهُ فَبِالْكِتْمَانِ يَصِيرُ فَاسِقًا آثِمًا ،

ثُمَّ التَّقَادُمُ كَمَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ فِي الِابْتِدَاءِ يَمْنَعُ الْإِقَامَةَ بَعْدَ الْقَضَاءِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ حَتَّى لَوْ هَرَبَ بَعْدَ مَا ضُرِبَ بَعْضَ الْحَدِّ ثُمَّ أُخِذَ بَعْدَ مَا تَقَادَمَ الزَّمَانُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِأَنَّ الْإِمْضَاءَ مِنْ الْقَضَاءِ فِي بَابِ الْحُدُودِ .

بَابُ الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا وَالرُّجُوعِ عَنْهَا ) قُدِّمَ أَنَّ الْحَدَّ يَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ ، وَقُدِّمَ كَيْفِيَّةُ الثُّبُوتِ بِالْإِقْرَارِ لِأَنَّ وُجُودَ مَا ثَبَتَ مِنْهُ بِالْبَيِّنَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ أَنْدَرُ نَادِرٍ لِضِيقِ شُرُوطِهِ الْمُقْتَضِي لِإِعْدَامِهِ ، وَهُوَ أَنْ يُرَى ذَكَرُ الرَّجُلِ فِي فَرْجِهَا كَالْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ .
وَأَيْضًا لَمْ يَثْبُتْ قَطُّ الزِّنَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ بِالْبَيِّنَةِ ، فَإِنَّهُمْ كُلَّهُمْ لَمْ يُحَدُّوا إلَّا بِالْإِقْرَارِ ، فَقُدِّمَ مَا يَكْثُرُ وُجُودُهُ ، وَمَا كَانَ الثُّبُوتُ بِهِ عِنْدَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَعِنْدَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ( قَوْلُهُ وَإِذَا شَهِدَ الشُّهُودُ بِحَدٍّ مُتَقَادِمٍ لَمْ يَمْنَعْهُمْ عَنْ إقَامَتِهِ بُعْدُهُمْ عَنْ الْإِمَامِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ إلَّا فِي حَدِّ الْقَذْفِ خَاصَّةً ) فَقَوْلُهُ مُتَقَادِمٌ إسْنَادُهُ فِي الْحَقِيقَةِ إلَى ضَمِيرِ السَّبَبِ : أَيْ مُتَقَادِمٌ سَبَبُهُ وَهُوَ الزِّنَا مَثَلًا وَهُوَ الْمَشْهُودُ بِهِ .
وَقَوْلُهُ شَهِدُوا بِحَدٍّ تَسَاهُلٌ فَإِنَّهُمْ إنَّمَا يَشْهَدُونَ بِسَبَبِ الْحَدِّ ، وَالتَّقَادُمُ صِفَةٌ لَهُ فِي الْحَقِيقَةِ .
وَقَوْلُهُ لَمْ يَمْنَعْهُمْ إلَخْ جُمْلَةٌ فِي مَحَلِّ جَرٍّ لِأَنَّهَا صِفَةٌ لِلنَّكِرَةِ وَهِيَ حَدٌّ ، وَالْفَاعِلُ بَعْدَهُمْ ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ الْبُعْدُ عُذْرًا بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْ نَحْوِ مَرَضٍ أَوْ خَوْفِ طَرِيقٍ وَلَوْ مِنْ بُعْدِ يَوْمَيْنِ وَنَحْوِهِ مِنْ الْأَعْذَارِ الَّتِي يَظْهَرُ أَنَّهَا مَانِعَةٌ مِنْ الْمُسَارَعَةِ .
ثُمَّ ذَكَرَ عِبَارَةَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى زِيَادَاتٍ مُفِيدَةٍ ، وَهِيَ قَوْلُهُ ( وَإِذَا شَهِدَ عَلَيْهِ الشُّهُودُ بِسَرِقَةٍ أَوْ بِشُرْبِ خَمْرٍ أَوْ بِزِنًا بَعْدَ حِينٍ لَمْ يُؤْخَذْ بِهِ وَضَمِنَ السَّرِقَةَ ) ثُمَّ قَالَ : فَإِنْ أَقَرَّ هُوَ بَعْدَ حِينٍ بِذَلِكَ أُخِذَ بِهِ إلَّا الشُّرْبَ فَإِنَّهُ لَا يُؤْخَذُ بِذَلِكَ فِي قَوْلِ

أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : يُؤْخَذُ بِهِ كَمَا يُؤْخَذُ بِالسَّرِقَةِ وَالزِّنَا ، وَلَا يَخْفَى مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ الزِّيَادَاتِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْحُدُودَ الْخَالِصَةَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى تَبْطُلُ بِالتَّقَادُمِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ .
وَفِي الْعِبَارَةِ تَسَاهُلٌ مَشْهُورٌ ، فَإِنَّ الَّذِي يَبْطُلُ بِالتَّقَادُمِ الشَّهَادَةُ بِأَسْبَابِهَا ثُمَّ لَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى الْإِمَامِ مِنْ الْأَصْلِ لِعَدَمِ الْمُوجِبِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ فِي الشَّهَادَةِ بِالْحُدُودِ الْقَدِيمَةِ وَالْإِقْرَارِ بِهَا أَرْبَعَةَ مَذَاهِبَ : الْأَوَّلُ رَدُّ الشَّهَادَةِ بِهَا وَقَبُولُ الْإِقْرَارِ بِمَا سِوَى الشُّرْبِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
الثَّانِي رَدُّهَا وَقَبُولُ الْإِقْرَارِ حَتَّى بِالشُّرْبِ الْقَدِيمِ كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ .
الثَّالِثُ قَبُولُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ .
الرَّابِعُ رَدُّهُمَا ، نُقِلَ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِقَلْبِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ ، وَاسْتُدِلَّ لِلشَّافِعِيِّ وَالْآخَرَيْنِ بِإِلْحَاقِهِ بِالْإِقْرَارِ لِأَنَّهُمَا حُجَّتَانِ شَرْعِيَّتَانِ يَثْبُتُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا الْحَدُّ ، فَكَمَا لَا يَبْطُلُ الْإِقْرَارُ بِالتَّقَادُمِ كَذَا الشَّهَادَةُ وَبِحُقُوقِ الْعِبَادِ .
وَلَنَا وَهُوَ الْفَرْقُ أَنَّ الشَّهَادَةَ بَعْدَ التَّقَادُمِ شَهَادَةُ مُتَّهَمٍ وَشَهَادَةُ الْمُتَّهَمِ مَرْدُودَةٌ .
أَمَّا الْكُبْرَى فَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ خَصْمٍ وَلَا ظَنِينٍ } أَيْ مُتَّهَمٍ .
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ قَالَ " أَيُّمَا شُهُودٍ شَهِدُوا عَلَى حَدٍّ لَمْ يَشْهَدُوا عِنْدَ حَضْرَتِهِ فَإِنَّمَا شَهِدُوا عَلَى ضَغَنٍ فَلَا شَهَادَةَ لَهُمْ " .
وَأَمَّا الصُّغْرَى فَلِأَنَّ الشَّاهِدَ بِسَبَبِ الْحَدِّ مَأْمُورٌ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ : السَّتْرُ احْتِسَابًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا

وَالْآخِرَةِ } مَعَ مَا قَدَّمْنَا مِنْ الْحَدِيثِ فِي ذَلِكَ ، أَوْ الشَّهَادَةُ بِهِ احْتِسَابًا لِمَقْصِدِ إخْلَاءِ الْعَالَمِ عَنْ الْفَسَادِ لِلِانْزِجَارِ بِالْحَدِّ ، فَأَحَدُ الْأَمْرَيْنِ وَاجِبٌ مُخَيَّرٌ عَلَى الْفَوْرِ كَخِصَالِ الْكَفَّارَةِ ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْ السَّتْرِ وَإِخْلَاءِ الْعَالَمِ عَنْ الْفَسَادِ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ طَلَبُهُ عَلَى التَّرَاخِي ، فَإِذَا شَهِدَ بَعْدَ التَّقَادُمِ لَزِمَهُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ : إمَّا الْفِسْقُ ، وَإِمَّا تُهْمَةُ الْعَدَاوَةِ لِأَنَّهُ إنْ حُمِلَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ الْأَصْلِ اخْتَارَ الْأَدَاءَ وَعَدَمَ السَّتْرِ ثُمَّ أَخَّرَهُ لَزِمَ الْأَوَّلُ ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ اخْتَارَ السَّتْرَ ثُمَّ شَهِدَ لَزِمَ الثَّانِي ، وَذَلِكَ أَنَّهُ سَقَطَ عَنْهُ الْوَاجِبُ بِاخْتِيَارِ أَحَدِهِمَا ، فَانْصِرَافُهُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى الشَّهَادَةِ مَوْضِعُ ظَنِّ أَنَّهُ حَرَّكَهُ حُدُوثُ عَدَاوَةٍ ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ لَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ الْفِسْقِ وَهُوَ ظَاهِرٌ وَلَا التُّهْمَةِ ، إذْ الْإِنْسَانُ لَا يُعَادِي نَفْسَهُ فَلَا يَبْطُلُ بِالتَّقَادُمِ إذْ لَمْ يُوجِبْ تَحَقُّقَ تُهْمَةٍ ، وَبِخِلَافِ حُقُوقِ الْعِبَادِ لِأَنَّ الدَّعْوَى شَرْطٌ فِيهَا فَتَأْخِيرُ الشَّاهِدِ لِتَأْخِيرِ الدَّعْوَى لَا يَلْزَمُ مِنْهُ فِسْقٌ وَلَا تُهْمَةٌ ، وَفِي الْقَذْفِ حَقُّ الْعَبْدِ فَتَوَقَّفَ عَلَى الدَّعْوَى كَغَيْرِهِ فَلَمْ يَبْطُلْ بِالتَّقَادُمِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ اشْتِرَاطُ الدَّعْوَى مَانِعًا مِنْ الرَّدِّ بِالتَّقَادُمِ لَزِمَ فِي السَّرِقَةِ أَنْ لَا تُرَدَّ الشَّهَادَةُ بِهَا عِنْدَ التَّقَادُمِ لِاشْتِرَاطِ الدَّعْوَى فِيهَا لَكِنَّهَا تُرَدُّ .
أَجَابَ أَوَّلًا بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ السَّرِقَةَ فِيهَا أَمْرَانِ الْحَدُّ وَالْمَالُ ، فَمَا يَرْجِعُ إلَى الْحَدِّ لَا تُشْتَرَطُ فِيهِ الدَّعْوَى لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَبِاعْتِبَارِ الْمَالِ تُشْتَرَطُ ، وَالشَّهَادَةُ بِالسَّرِقَةِ لَا تَخْلُصُ لِأَحَدِهِمَا بَلْ لَا تَنْفَكُّ عَنْ الْأَمْرَيْنِ ، فَاشْتُرِطَتْ الدَّعْوَى لِلُزُومِ الْمَالِ لَا لِلُزُومِ الْحَدِّ ،

وَلِذَا يَثْبُتُ الْمَالُ بِهَا بَعْدَ التَّقَادُمِ لِأَنَّهُ لَا يَبْطُلُ بِهِ وَلَا نَقْطَعُهُ لِأَنَّ الْحَدَّ يَبْطُلُ بِهِ ، وَيَدُلُّ عَلَى تَحَقُّقِ الْأَمْرَيْنِ فِيهَا أَنَّهُ إذَا شَهِدُوا بِهَا عَلَى إنْسَانٍ وَالْمُدَّعِي غَائِبٌ وَهُوَ صَاحِبُ الْمَالِ يُحْبَسُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ حَتَّى يَحْضُرَ الْمُدَّعِي لِمَا فِيهِ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ، وَفِي الْقَذْفِ لَا يُحْبَسُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِهِ حَتَّى يَحْضُرَ كَمَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ الْخَالِصَةِ ، وَإِنَّمَا لَا يُقْطَعُ قَبْلَ حُضُورِهِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ سَرَقَ مِلْكَهُ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ أَوْ مَلَّكَهُ إيَّاهُ ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَضَمُّنِ الشَّهَادَةِ بِالسَّرِقَةِ الشَّهَادَةَ بِمِلْكِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ وَالشَّهَادَةُ بِالْمِلْكِ لِإِنْسَانٍ يَتَوَقَّفُ قَبُولُهَا عَلَى حُضُورِ الْمَشْهُودِ لَهُ بِالْمِلْكِ وَدَعْوَاهُ ، فَإِذَا أُخِّرَ رَدَدْنَاهُ فِي حَقِّ الْحَدِّ لَا الْمَالِ بَلْ أَلْزَمْنَاهُ الْمَالَ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ : زَنَيْت بِفُلَانَةَ أَوْ قَلَبَهُ وَهِيَ غَائِبَةٌ لَا يَدْرِي جَوَابَهَا يُحَدُّ ، وَلَا يُسْتَأْنَى بِالْحَدِّ لِأَنَّ الثَّابِتَ هُنَاكَ شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ وَلَا تُعْتَبَرُ ، وَفِي السَّرِقَةِ لَا تَثْبُتُ أَصْلًا إلَّا بِثُبُوتِ الْمَالِ ، وَلَا يَثْبُتُ الْمَالُ بِالشَّهَادَةِ إلَّا بِالدَّعْوَى ، وَإِنَّمَا يُحْبَسُ لِلتُّهْمَةِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَلِأَنَّ الثَّابِتَ فِي غَيْبَةِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ الشُّبْهَةُ لِأَنَّ الثَّابِتَ احْتِمَالُ أَنْ يَقُولَ هُوَ مِلْكُهُ ، وَقَوْلُهُ هُوَ مِلْكُهُ لَيْسَ شُبْهَةً بَلْ حَقِيقَةُ الْمُبَرِّئِ ، بِخِلَافِ دَعْوَاهَا النِّكَاحَ مَثَلًا لَوْ حَضَرَتْ لِأَنَّهُ نَفْسُ الشُّبْهَةِ فَاحْتِمَالُهُ شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَأَجَابَ ثَانِيًا بِأَنَّ بُطْلَانَ الشَّهَادَةِ بِالتَّقَادُمِ لَمَّا كَانَ لِلتُّهْمَةِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ ، فَأُقِيمَ التَّقَادُمُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ مَقَامَهَا فَلَا يُنْظَرُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى وُجُودِ التُّهْمَةِ وَعَدَمِهَا ، كَالرُّخْصَةِ لَمَّا كَانَتْ لِلْمَشَقَّةِ وَهِيَ غَيْرُ مُنْضَبِطَةٍ أُدِيرَ عَلَى السَّفَرِ فَلَمْ يُلَاحَظْ

بَعْدَ ذَلِكَ وُجُودُهَا وَلَا عَدَمُهَا فَتُرَدُّ بِالتَّقَادُمِ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ رَدَّ الشَّهَادَةِ بِالتَّقَادُمِ لَيْسَ إلَّا لِلتُّهْمَةِ ، وَمَحَلُّ التُّهْمَةِ ظَاهِرٌ يُدْرِكُهُ كُلُّ أَحَدٍ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى إنَاطَتِهِ بِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى ، وَلَا يَصِحُّ تَشْبِيهُهُ بِالْمَشَقَّةِ مَعَ السَّفَرِ لِأَنَّ الْمَشَقَّةَ أَمْرٌ خَفِيٌّ غَيْرُ مُنْضَبِطٍ فَلَا تُمْكِنُ الْإِنَاطَةُ بِهِ فَنِيطَ بِمَا هُوَ مُنْضَبِطٌ ، فَالْعُدُولُ لِلْحَاجَةِ لِلِانْضِبَاطِ وَلَا حَاجَةَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ .
فَإِنْ قُلْت : فَظَاهِرُ انْتِفَاءِ التُّهْمَةِ مَعَ رَدِّ الشَّهَادَةِ فِي حَقِّ الْحَدِّ فِيمَا لَوْ عَلِمَ الْمُدَّعِي بِالسَّرِقَةِ فَلَمْ يَدَّعِ إلَّا بَعْدَ حِينٍ فَشَهِدُوا فَإِنَّهُ لَا تُهْمَةَ بِتَأْخِيرِهِمْ ، وَمَعَ هَذَا لَا يُقْطَعُ بَلْ يَضْمَنُ الْمَالَ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ مَا كَانَ فِيهِ تُهْمَةٌ فَالرَّدُّ يُضَافُ إلَيْهَا ، وَمَا لَمْ يَكُنْ فَإِلَى الْمُدَّعِي عَلَى مَا قَالَ قَاضِي خَانَ إنَّمَا لَا تُقْبَلُ فِي السَّرِقَةِ بَعْدَ التَّقَادُمِ لَا لِتُهْمَةٍ فِي الشُّهُودِ لِأَنَّ الدَّعْوَى شَرْطُ الْقَبُولِ بَلْ لِخَلَلٍ فِي الدَّعْوَى ، فَإِنَّ صَاحِبَ الْمَالِ كَانَ مُخْبِرًا فِي الِابْتِدَاءِ ، فَإِذَا أُخِّرَ فَقَدْ اخْتَارَ السَّتْرَ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ حَقُّ دَعْوَى السَّرِقَةِ وَالْحَدُّ بَلْ بَقِيَ لَهُ حَقُّ دَعْوَى الْمَالِ فَقَطْ فَيُقْضَى بِالْمَالِ دُونَ الْقَطْعِ ؛ كَمَا لَوْ شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ عَلَى السَّرِقَةِ يُقْضَى بِالْمَالِ دُونَ الْقَطْعِ ا هـ .
فَيُجْعَلُ هَذَا الِاعْتِبَارُ فِيمَا إذَا كَانَ تَأْخِيرُ الشُّهُودِ الشَّهَادَةَ لِتَأْخِيرِ الدَّعْوَى بَعْدَ عِلْمِ صَاحِبِ الْمَالِ بِالسَّرِقَةِ ، أَمَّا لَوْ أُخِّرُوا لَا لِتَأْخِيرِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ الدَّعْوَى بَعْدَ عِلْمِهِ وَعِلْمِهِمْ بِعِلْمِهِ بِإِعْلَامِهِمْ أَوْ بِغَيْرِهِ ثُمَّ شَهِدُوا فَالْوَجْهُ الْأَخِيرُ وَهُوَ قَوْلُهُ ( وَلِأَنَّ السَّرِقَةَ تُقَامُ عَلَى الِاسْتِسْرَارِ عَلَى غِرَّةٍ مِنْ الْمَالِكِ فَيَجِبُ عَلَى الشَّاهِدِ إعْلَامُهُ ، وَبِالْكِتْمَانِ يَصِيرُ فَاسِقًا آثِمًا ) يَقْتَضِي أَنْ تُرَدَّ فِي حَقِّ

الْمَالِ أَيْضًا لِلْفِسْقِ ، وَلَكِنْ مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّهُمْ إذَا شَهِدُوا بَعْدَ التَّقَادُمِ تَثْبُتُ التُّهْمَةُ الْمَانِعَةُ عَنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ فَلَا تُقْبَلُ فِي حَقِّ الْحَدِّ ، لَكِنَّ السَّارِقَ يَضْمَنُ السَّرِقَةَ لِأَنَّ وُجُوبَ الْمَالِ لَا يَبْطُلُ بِالتَّقَادُمِ بِإِطْلَاقِهِ يَقْتَضِي فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ التَّأْخِيرُ لِعَدَمِ تَأْخِيرِ الدَّعْوَى بَعْدَ عِلْمِهِ فَهُوَ مُشْكِلٌ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ ( قَوْلُهُ ثُمَّ التَّقَادُمُ كَمَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ فِي الِابْتِدَاءِ يَمْنَعُ الْإِقَامَةَ بَعْدَ الْقَضَاءِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ ، لَوْ هَرَبَ بَعْدَ مَا ضُرِبَ بَعْضَ الْحَدِّ ثُمَّ أُخِذَ بَعْدَ مَا تَقَادَمَ الزَّمَانُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ ) وَقَوْلُ زُفَرَ هُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ ؛ لِأَنَّ التَّأْخِيرَ بِعُذْرِ هَرَبِهِ وَقَدْ زَالَ الْعُذْرُ ( وَلَنَا أَنَّ الْإِمْضَاءَ ) أَيْ الِاسْتِيفَاءَ ( مِنْ الْقَضَاءِ ) بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى ، بِخِلَافِ حُقُوقِ غَيْرِهِ .
وَهَذَا لِأَنَّ الثَّابِتَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ اسْتِنَابَتُهُ تَعَالَى الْحَاكِمَ فِي اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ إذَا ثَبَتَ عِنْدَهُ بِلَا شُبْهَةٍ فَكَانَ الِاسْتِيفَاءُ مِنْ تَتِمَّةِ الْقَضَاءِ ، أَوْ هُوَ هُنَا إذْ لَمْ يَحْتَجْ إلَى التَّلَفُّظِ بِلَفْظِ الْقَضَاءِ حَتَّى جَازَ لَهُ الِاسْتِيفَاءُ مِنْ غَيْرِ تَلَفُّظٍ بِهِ ، بِخِلَافِهِ فِي حُقُوقِ غَيْرِهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ فِيهَا لِإِعْلَامِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ بِحَقِّيَّةِ حَقِّهِ وَتَمْكِينِهِ مِنْ اسْتِيفَائِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ مُسْتَغْنٍ عَنْهُمَا فَإِنَّمَا هُوَ فِي حُقُوقِهِ تَعَالَى اسْتِيفَاؤُهَا ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ قِيَامُ الشَّهَادَةِ شَرْطًا حَالَ الِاسْتِيفَاءِ ، كَمَا هُوَ شَرْطٌ حَالَ الْقَضَاءِ بِحَقِّ غَيْرِهِ إجْمَاعًا ، وَبِالتَّقَادُمِ لَمْ تَبْقَ الشَّهَادَةُ فَلَا يَصِحُّ هَذَا الْقَضَاءُ الَّذِي هُوَ الِاسْتِيفَاءُ فَانْتَفَى ، وَهَذَا رَدُّ الْمُخْتَلِفِ إلَى الْمُخْتَلِفِ ، فَإِنَّ كَوْنَ قِيَامِ الشَّهَادَةِ وَقْتَ الْقَضَاءِ شَرْطًا صَحِيحٌ لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي مَعْنَى قِيَامِهَا ، فَعِنْدَهُمْ مَا لَمْ يَطْرَأْ مَا يَنْقُضُهَا

مِنْ الرُّجُوعِ هِيَ قَائِمَةٌ حَتَّى لَوْ شَهِدُوا ثُمَّ غَابُوا أَوْ مَاتُوا جَازَ الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِمْ ، وَعِنْدَنَا قِيَامُهَا بِقِيَامِهِمْ عَلَى الْأَهْلِيَّةِ وَالْحُضُورِ .
ثُمَّ قَدْ يُقَالُ لَوْ سَلِمَ تَرَجَّحَ هَذَا لَكِنَّ التَّقَادُمَ إنَّمَا يَبْطُلُ فِي ابْتِدَاءِ الْأَدَاءِ لِلتُّهْمَةِ وَقَدْ وُجِدَتْ الشَّهَادَةُ بِلَا تَقَادُمٍ وَوَقَعَتْ صَحِيحَةً مُوجِبَةً فَاتِّفَاقِ تَقَادُمِ السَّبَبِ بِلَا تَوَانٍ مِنْهُمَا لَا يَبْطُلُ الْوَاقِعُ صَحِيحًا ، وَلَوْ قُلْنَا : إنَّ رَدَّهَا أُنِيطَ بِالتَّقَادُمِ فَلَمْ يُلْتَفَتْ إلَى التُّهْمَةِ بَعْدَ ذَلِكَ يَجِبُ كَوْنُهُ أُنِيطَ بِتَقَادُمٍ عَنْ تَوَانٍ مِنْ الشَّاهِدَيْنِ وَإِلَّا فَمَمْنُوعٌ ، وَنَذْكُرُ فِيمَا يَلِي هَذِهِ الْقَوْلَةَ مَا فِيهِ زِيَادَةٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى

وَاخْتَلَفُوا فِي حَدِّ التَّقَادُمِ ، وَأَشَارَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ ، فَإِنَّهُ قَالَ بَعْدَ حِينٍ ، وَهَكَذَا أَشَارَ الطَّحَاوِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ لَمْ يُقَدِّرْ فِي ذَلِكَ وَفَوَّضَهُ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي فِي كُلِّ عَصْرٍ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَدَّرَهُ بِشَهْرٍ ؛ لِأَنَّ مَا دُونَهُ عَاجِلٌ ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَهُوَ الْأَصَحُّ .
وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْقَاضِي وَبَيْنَهُمْ مَسِيرَةُ شَهْرٍ ، أَمَّا إذَا كَانَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ بُعْدُهُمْ عَنْ الْإِمَامِ فَلَا تَتَحَقَّقُ التُّهْمَةُ .
وَالتَّقَادُمُ فِي حَدِّ الشُّرْبِ كَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ ، وَعِنْدَهُمَا يُقَدَّرُ بِزَوَالِ الرَّائِحَةِ عَلَى مَا يَأْتِي فِي بَابِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى

.
( قَوْلُهُ وَاخْتَلَفُوا فِي حَدِّ التَّقَادُمِ ، وَأَشَارَ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إلَى أَنَّهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ حَيْثُ قَالَ شَهِدُوا بَعْدَ حِينٍ ) وَقَدْ جَعَلُوهُ عِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ عَلَى مَا تَقَدَّمْ فِي الْأَيْمَانِ إذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ حِينًا ، وَأَبُو حَنِيفَةَ لَمْ يُقَدِّرْهُ .
قَالَ أَبُو يُوسُفَ : جَهَدْنَا بِأَبِي حَنِيفَةَ أَنْ يُقَدِّرَهُ لَنَا فَلَمْ يَفْعَلْ وَفَوَّضَهُ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي فِي كُلِّ عَصْرٍ ، فَمَا يَرَاهُ بَعْدَ مُجَانَبَةِ الْهَوَى تَفْرِيطًا تَقَادُمٌ ، وَمَا لَا يُعَدُّ تَفْرِيطًا غَيْرُ تَقَادُمٍ ، وَأَحْوَالُ الشُّهُودِ وَالنَّاسِ وَالْعُرْفِ تَخْتَلِفُ فِي ذَلِكَ ، فَإِنَّمَا يُوقَفُ عَلَيْهِ بِنَظَرٍ نُظِرَ فِي كُلِّ وَاقِعَةٍ فِيهَا تَأْخِيرٌ فَنَصْبُ الْمَقَادِيرِ بِالرَّأْيِ مُتَعَذِّرٌ ( وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَدَّرَهُ بِشَهْرٍ لِأَنَّ مَا دُونَهُ عَاجِلٌ ) عَلَى مَا فِي مَسْأَلَةِ الْحَلِفِ لَيَقْضِيَنَّ دَيْنَهُ عَاجِلًا فَقَضَاهُ فِيمَا دُونَ الشَّهْرِ لَا يَحْنَثُ وَبَعْدَهُ يَحْنَثُ ( وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَهُوَ الْأَصَحُّ ) وَمَأْخَذُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ مِمَّا فِي الْمُجَرَّدِ .
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَوْ سَأَلَ الْقَاضِي الشُّهُودَ مَتَى زَنَى بِهَا فَقَالُوا مُنْذُ أَقَلَّ مِنْ شَهْرٍ أُقِيمَ الْحَدُّ ، وَإِنْ قَالُوا شَهْرٌ أَوْ أَكْثَرُ دُرِئَ عَنْهُ .
قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ النَّاطِفِيُّ : فَقَدَّرَهُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِشَهْرٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ ( وَهَذَا ) أَعْنِي كَوْنَ الشَّهْرِ فَصَاعِدًا يَمْنَعُ قَبُولَهَا ( إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقَاضِي مَسِيرَةُ شَهْرٍ ، أَمَّا إذَا كَانَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ ) بَعْدَ الشَّهْرِ ( لِأَنَّ الْمَانِعَ بُعْدُهُمْ عَنْ الْإِمَامِ فَلَا تَتَحَقَّقُ التُّهْمَةُ ) فَقَدْ نَظَرَ فِي هَذَا التَّقَادُمِ إلَى تَحَقُّقِ التُّهْمَةِ فِيهِ وَعَدَمِهِ ، وَهُوَ يُخَالِفُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ قَرِيبٍ أَنَّهُ بَعْدَ مَا أُنِيطَ بِالتَّقَادُمِ لَا يُرَاعَى وُجُودُ التُّهْمَةِ فِي كُلِّ فَرْدٍ ، إلَّا أَنْ يُقَالَ : إذَا كَانَ الْمَانِعُ الْبُعْدَ أَوْ

الْمَرَضَ وَنَحْوَهُ مِنْ الْمَوَانِعِ الْحِسِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ حَتَّى تَقَادَمَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ التَّقَادُمُ الْمُنَاطَ بِهِ بَلْ هُوَ مَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَذِهِ الْمَوَانِعُ مِنْ الشَّهَادَةِ .
وَيُجَابُ بِأَنَّ هَذَا رُجُوعٌ فِي الْمَعْنَى إلَى اعْتِبَارِ التَّقَادُمِ الْمُنَاطِ بِهِ مَا يَلْزَمُهُ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ الْفِسْقِ وَالتُّهْمَةِ ، ثُمَّ هَذَا التَّقَادُمُ الْمُقَدَّرُ بِشَهْرٍ بِالِاتِّفَاقِ فِي غَيْرِ شُرْبِ الْخَمْرِ ، أَمَّا فِيهِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ ( وَعِنْدَهُمَا يُقَدَّرُ بِزَوَالِ الرَّائِحَةِ ) فَلَوْ شَهِدُوا عَلَيْهِ بِالشُّرْبِ بَعْدَهَا لَمْ تُقْبَلْ عِنْدَهُمَا ، وَسَتَأْتِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى

( وَإِذَا شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ زَنَى بِفُلَانَةَ وَفُلَانَةُ غَائِبَةٌ فَإِنَّهُ يُحَدُّ ، وَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهُ سَرَقَ مِنْ فُلَانٍ وَهُوَ غَائِبٌ لَمْ يُقْطَعْ ) وَالْفَرْقُ أَنَّ بِالْغَيْبَةِ تَنْعَدِمُ الدَّعْوَى وَهِيَ شَرْطٌ فِي السَّرِقَةِ دُونَ الزِّنَا ، وَبِالْحُضُورِ يُتَوَهَّمُ دَعْوَى الشُّبْهَةِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْمَوْهُومِ

( قَوْلُهُ وَإِذَا شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ زَنَى بِفُلَانَةَ وَهِيَ غَائِبَةٌ فَإِنَّهُ يُحَدُّ ) أَجْمَعَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ عَلَيْهِ ، وَكَذَا لَوْ أَقَرَّ بِالزِّنَا بِغَائِبَةٍ يُحَدُّ الرَّجُلُ بِإِجْمَاعِهِمْ لِحَدِيثِ مَاعِزٍ فَإِنَّهُ أَقَرَّ بِغَائِبَةٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَرَحِمَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
وَنَقَلَ أَبُو اللَّيْثِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ أَوَّلًا : لَا يُحَدُّ حَتَّى تَحْضُرَ الْمَرْأَةُ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَحْضُرَ فَتَدَّعِيَ مَا يُسْقِطُ الْحَدَّ مِنْ نِكَاحٍ مَثَلًا وَنَحْوِهِ ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى قَوْلِ الْكُلِّ ، وَسَيَظْهَرُ وَجْهُ بُطْلَانِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ ( وَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهُ سَرَقَ مِنْ فُلَانٍ وَهُوَ غَائِبٌ لَمْ يُقْطَعْ .
وَالْفَرْقُ أَنَّ بِالْغَيْبَةِ تَنْعَدِمُ الدَّعْوَى وَالدَّعْوَى شَرْطٌ فِي السَّرِقَةِ ) لِلْعَمَلِ بِالْبَيِّنَةِ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ بِالسَّرِقَةِ تَتَضَمَّنُ الشَّهَادَةَ بِمِلْكِ الْمَسْرُوقِ لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ ، وَالشَّهَادَةُ لِلْمَرْءِ عَلَى الْمَرْءِ لَا تُقْبَلُ بِلَا دَعْوَى وَلَيْسَتْ شَرْطًا لِثُبُوتِ الزِّنَا عِنْدَ الْقَاضِي ، وَطُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْقِصَاصِ إذَا كَانَ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ وَأَحَدُهُمَا غَائِبٌ لَيْسَ لِلْحَاضِرِ اسْتِيفَاؤُهُ لِجَوَازِ أَنْ يَحْضُرَ فَيُقِرَّ بِالْعَفْوِ وَبَيْنَ الشَّهَادَةِ بِزِنَا الْغَائِبَةِ فَإِنَّ الثَّابِتَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ .
أُجِيبَ بِالْمَنْعِ بَلْ الثَّابِتُ فِي صُورَةِ الْقِصَاصِ نَفْسُ الشُّبْهَةِ وَهِيَ احْتِمَالُ الْعَفْوِ فَإِنَّ الْعَفْوَ لَيْسَ شُبْهَةً بَلْ حَقِيقَةُ الْمُسْقِطِ فَاحْتِمَالُهُ هُوَ الشُّبْهَةُ ، وَإِنَّمَا تَكُونُ شُبْهَةَ الشُّبْهَةِ لَوْ كَانَ الْعَفْوُ نَفْسُهُ شُبْهَةً فَيَكُونُ احْتِمَالُهُ شُبْهَةَ الشُّبْهَةِ ، بِخِلَافِ الْغَائِبَةِ فَإِنَّ نَفْسَ دَعْوَاهَا النِّكَاحَ مَثَلًا شُبْهَةٌ ، فَاحْتِمَالُ دَعْوَاهَا ذَلِكَ شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ ، وَاعْتِبَارُهَا بَاطِلٌ وَإِلَّا أَدَّى إلَى نَفْيِ كُلِّ حَدٍّ فَإِنَّ ثُبُوتَهُ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ الْإِقْرَارِ ، وَاَلَّذِي يَثْبُتُ بِهِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ ، وَكَذَا

الشُّهُودُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَرْجِعُوا ، فَلَوْ اُعْتُبِرَتْ شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ انْتَفَى كُلُّ حَدٍّ .
وَجْهُ أَنَّهُ شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ أَنَّ نَفْسَ رُجُوعِ الْمُقِرِّ وَالشَّاهِدِ شُبْهَةٌ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ كَذِبَهُ فِي الرُّجُوعِ فَاحْتِمَالُ الرُّجُوعِ شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ

( وَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ لَا يَعْرِفُونَهَا لَمْ يُحَدَّ ) لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ أَوْ أَمَتُهُ بَلْ هُوَ الظَّاهِرُ ( وَإِنْ أَقَرَّ بِذَلِكَ حُدَّ ) ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَمَتُهُ أَوْ امْرَأَتُهُ
( قَوْلُهُ : وَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ لَا يَعْرِفُونَهَا لَمْ يُحَدَّ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ أَوْ أَمَتُهُ ) فَلَوْ قَالَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ الْمَرْأَةُ الَّتِي رَأَيْتُمُوهَا مَعِي لَيْسَتْ زَوْجَتِي وَلَا أَمَتِي لَمْ يُحَدَّ أَيْضًا لِأَنَّ الشَّهَادَةَ وَقَعَتْ غَيْرَ مُوجِبَةٍ لِلْحَدِّ ، وَهَذَا اللَّفْظُ مِنْهُ لَيْسَ إقْرَارًا مُوجِبًا لِلْحَدِّ فَلَا يُحَدُّ ، وَأَمَّا مَا قِيلَ وَلَوْ كَانَ إقْرَارًا فَبِمَرَّةٍ لَا يُقَامُ الْحَدُّ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ قَالَ أَرْبَعًا حُدَّ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ( وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ لَا يَعْرِفُهَا حُدَّ ) لِأَنَّهُ لَا تَشْتَبِهُ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ تَشْتَبِهُ عَلَيْهِ بِأَنْ لَمْ تُزَفَّ إلَيْهِ .
قُلْنَا : الْإِنْسَانُ كَمَا لَا يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ كَاذِبًا لَا يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ حَالَ الِاشْتِبَاهِ ، فَلَمَّا أَقَرَّ بِالزِّنَا كَانَ فَرْعُ عِلْمِهِ أَنَّهَا لَا تَشْتَبِهُ عَلَيْهِ بِزَوْجَتِهِ الَّتِي لَمْ تُزَفَّ ، وَصَارَ مَعْنَى قَوْلِهِ لَمْ أَعْرِفْهَا : أَيْ بِاسْمِهَا وَنَسَبِهَا وَلَكِنْ عَلِمْتُ أَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ فَكَانَ هَذَا كَالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ ، بِخِلَافِ الشَّاهِدِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى مَنْ يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ فَكَانَ قَوْلُهُ لَا يَعْرِفُهَا لَيْسَ مُوجِبًا لِلْحَدِّ

( وَإِنْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِفُلَانَةَ فَاسْتَكْرَهَهَا وَآخَرَانِ أَنَّهَا طَاوَعَتْهُ دُرِئَ الْحَدُّ عَنْهُمَا جَمِيعًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ ( وَقَالَا : يُحَدُّ الرَّجُلُ خَاصَّةً ) لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى الْمُوجِبِ وَتَفَرَّدَ أَحَدُهُمَا بِزِيَادَةِ جِنَايَةٍ وَهُوَ الْإِكْرَاهُ ، بِخِلَافِ جَانِبِهَا ؛ لِأَنَّ طَوَاعِيَتَهَا شَرْطُ تَحَقُّقِ الْمُوجِبِ فِي حَقِّهَا وَلَمْ يَثْبُتْ لِاخْتِلَافِهِمَا .
وَلَهُ أَنَّهُ اخْتَلَفَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الزِّنَا فِعْلٌ وَاحِدٌ يَقُومُ بِهِمَا ، وَلِأَنَّ شَاهِدَيْ الطَّوَاعِيَةِ صَارَا قَاذِفَيْنِ لَهَا .
وَإِنَّمَا يَسْقُطُ الْحَدُّ عَنْهُمَا بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْ الْإِكْرَاهِ ؛ لِأَنَّ زِنَاهَا مُكْرَهَةً يُسْقِطُ إحْصَانَهَا فَصَارَا خَصْمَيْنِ فِي ذَلِكَ

( قَوْلُهُ : وَإِنْ شَهِدَ اثْنَانِ ) حَاصِلُهَا أَنَّهُ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ زَنَى بِفُلَانَةَ إلَّا أَنَّ رَجُلَيْنِ قَالَا اسْتَكْرَهَهَا وَآخَرَيْنِ قَالَا طَاوَعَتْهُ ؛ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَنْدَرِئُ الْحَدُّ عَنْهُمَا وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ ( وَقَالَا : يُحَدُّ الرَّجُلُ خَاصَّةً لِاتِّفَاقِهِمْ ) أَيْ الشُّهُودِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى الْمُوجِبِ لِلْحَدِّ عَلَيْهِ ، كَذَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَهُوَ الْأَحْسَنُ وَفِي غَالِبِهَا لِاتِّفَاقِهِمَا : أَيْ الْفَرِيقَيْنِ ، وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ ( وَتَفَرَّدَ أَحَدُهُمَا بِزِيَادَةِ جِنَايَةٍ ) أَيْ تَفَرَّدَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ بِزِيَادَةِ جِنَايَةٍ مِنْهُ ( هِيَ الْإِكْرَاهُ ) وَهُوَ لَا يُوجِبُ التَّخْفِيفَ عَنْهُ ( بِخِلَافِ جَانِبِهَا لِأَنَّ طَوَاعِيَتَهَا شَرْطُ وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهَا وَلَمْ يَثْبُتْ ) إذْ قَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَتَعَارَضُوا ، فَعَدَمُ الْوُجُوبِ عَلَيْهَا لِمَعْنًى غَيْرِ مُشْتَرِكٍ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ كَمَا لَوْ زَنَى بِصَغِيرَةٍ مُشْتَهَاةٍ أَوْ مَجْنُونَةٍ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَدْ اخْتَلَفَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ قَرَّرَهُ فِي النِّهَايَةِ عَلَى ظَاهِرِهِ ، فَقَالَ اخْتَلَفَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ ، فَإِنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ اثْنَانِ عَلَى تَقْدِيرٍ وَهُوَ مَا إذَا كَانَتْ طَائِعَةً ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ : أَيْ الزِّنَا يَكُونُ مُشْتَرِكًا بَيْنَهُمَا وَكُلٌّ مِنْهُمَا مُبَاشِرٌ لَهُ فَكَانَا مَشْهُودًا عَلَيْهِمَا فَيَجِبُ الْحَدَّانِ ، وَوَاحِدٌ عَلَى تَقْدِيرٍ وَهُوَ مَا إذَا كَانَتْ مُكْرَهَةً فَإِنَّ الرَّجُلَ هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالْفِعْلِ فَيَجِبُ حَدٌّ وَاحِدٌ فَكَانَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ وَاحِدًا ، لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ يُخْرِجُ الْمَرْأَةَ مِنْ أَنْ تَكُونَ فَاعِلَةً لِلزِّنَا حُكْمًا ، وَلِهَذَا لَا تَأْثَمُ بِالتَّمْكِينِ مُكْرَهَةً ، فَاخْتِلَافُ الْفِعْلِ الْمَشْهُودِ بِهِ أَوْرَثَ اخْتِلَافَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَاخْتِلَافُ الْفِعْلِ مِنْ أَقْوَى الشُّبْهَةِ ا هـ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي إسْقَاطِهِ عَنْ الرَّجُلِ لَيْسَ إلَّا اخْتِلَافُ الْفِعْلِ الْمَشْهُودِ بِهِ فَإِنَّهُ هُوَ

الْمُسْتَقِلُّ بِذَلِكَ فَكَوْنُهُ يَسْتَلْزِمُ الشَّهَادَةَ عَلَى اثْنَيْنِ أَوْ وَاحِدٍ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْحُكْمِ ؛ لِأَنَّ حَاصِلَ ذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ مَشْهُودٌ عَلَيْهِ بِنِصَابِ الشَّهَادَةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَهُوَ الْمُوجِبُ لِحَدِّهِ عِنْدَهُمَا ، وَلَا فَائِدَةَ لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي إيرَادِ هَذَا الْكَلَامِ ، بَلْ الَّذِي يُفِيدُهُ اخْتِلَافُ الْفِعْلِ الْمَشْهُودِ بِهِ ، فَاشْتِغَالُهُ بِزِيَادَةِ كَلَامٍ لَا أَثَرَ لَهُ ، وَلَا يُفِيدُ فِي الْمَقْصُودِ فَائِدَةَ بَعِيدٍ ، وَكَوْنُهُ عَلَى تَقْدِيرٍ آخَرَ مَشْهُودًا عَلَيْهَا مَعَهُ ، وَالْفَرْضُ أَنَّ ذَلِكَ التَّقْدِيرَ وَهُوَ طَوَاعِيَتُهَا غَيْرُ ثَابِتٍ ، فَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ مَفْرُوضٌ فَرْضًا لَا فَائِدَةَ فِيهِ أَصْلًا ، وَلِذَا حَمَلَ شَارِحُ لَفْظَةِ عَلَيْهِ عَلَى بِهِ ، وَعَلَيْهِ اقْتَصَرَ فِي الْكَافِي فَقَالَ : وَلَهُ أَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ اخْتَلَفَ وَلَيْسَ عَلَى أَحَدِهِمَا : أَيْ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ بِهِمَا الِاخْتِلَافُ نِصَابُ الشَّهَادَةِ فَلَا يَجِبُ شَيْءٌ ، وَهَذَا لِأَنَّ الزِّنَا فِعْلٌ وَاحِدٌ يَقُومُ بِهِمَا وَقَدْ اخْتَلَفَ فِي جَانِبِهَا فَيَكُونُ مُخْتَلِفًا فِي جَانِبِهِ ضَرُورَةً يَعْنِي أَنَّ الزِّنَا بِطَائِعَةٍ غَيْرُ الزِّنَا بِمُكْرَهَةٍ وَشَهَادَتُهُمْ بِزِنًا دَخَلَ فِي الْوُجُودِ وَالشَّاهِدَانِ بِزِنَاهُ بِطَائِعَةٍ يَنْفِيَانِ زِنَاهُ بِمُكْرَهَةٍ وَالْآخَرَانِ يَنْفِيَانِ زِنَاهُ بِطَائِعَةٍ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ عَلَى خُصُوصِ الزِّنَا الْمُتَحَقِّقِ فِي الْخَارِجِ شَهَادَةُ أَرْبَعَةٍ .
وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ يَقُومُ بِهِمَا لَا يُرِيدُ قِيَامَ الْعَرْضِ بَعْدَ فَرْضِ أَنَّهُ وَاحِدٌ بِالشَّخْصِ بَلْ إنَّهُ يَتَحَقَّقُ قِيَامُهُ ، أَيْ وُجُودُهُ بِهِمَا ( قَوْلُهُ وَلِأَنَّ شَاهِدَيْ الطَّوَاعِيَةِ ) لَمَّا انْدَرَأَ الْحَدُّ عَنْهَا ( صَارَا قَاذِفَيْنِ لَهَا ) بِالزِّنَا ( فَصَارَا خَصْمَيْنِ لَهَا ) وَلَا شَهَادَةَ لِلْخَصْمِ ، وَكَانَ مُقْتَضَاهُ أَنْ يُحَدَّا حَدَّ الْقَذْفِ ، لَكِنْ سَقَطَ بِشَهَادَةِ الْآخَرَيْنِ بِزِنَاهُ مُكْرَهَةً ، فَإِنَّ الزِّنَا مُكْرَهًا يُسْقِطُ الْإِحْصَانَ فِي حَدِّ الْقَذْفِ ، وَالْإِحْصَانُ يَثْبُتُ

بِشَهَادَةِ اثْنَيْنِ ، فَلَمَّا سَقَطَتْ شَهَادَتُهُمَا فِي حَقِّهَا سَقَطَتْ فِي حَقِّهِ بِنَاءً عَلَى اتِّحَادِ الْفِعْلِ فَصَارَ عَلَى زِنَاهُ شَاهِدَانِ فَلَا يُحَدُّ ، وَهَذَا الِاعْتِذَارُ فِي سُقُوطِ حَدِّ الْقَذْفِ يُحْتَاجُ إلَيْهِ عِنْدَهُمَا عَلَى مَا ذَكَرَ فِي جَامِعِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ حَيْثُ قَالَ : لَمْ يَجِبْ حَدُّ الْقَذْفِ عَلَى الشُّهُودِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى النِّسْبَةِ إلَى الزِّنَا بِلَفْظَةِ الشَّهَادَةِ ، وَذَلِكَ مُخْرِجٌ لِكَلَامِهِمْ عَنْ كَوْنِهِ قَذْفًا كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي تَلِي هَذِهِ ، وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ شَاهِدَيْ الطَّوَاعِيَةِ صَارَا قَاذِفَيْنِ لَهَا لَكِنْ شَاهِدَيْ الْإِكْرَاهِ أَسْقَطَاهُ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَا

( وَإِنْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ بِالْكُوفَةِ وَآخَرَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا بِالْبَصْرَةِ دُرِئَ الْحَدُّ عَنْهُمَا جَمِيعًا ) ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ فِعْلُ الزِّنَا وَقَدْ اخْتَلَفَ بِاخْتِلَافِ الْمَكَانِ وَلَمْ يَتِمَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصَابُ الشَّهَادَةِ وَلَا يُحَدُّ الشُّهُودُ خِلَافًا لِزُفَرَ لِشُبْهَةِ الِاتِّحَادِ نَظَرًا إلَى اتِّحَادِ الصُّورَةِ وَالْمَرْأَةِ
( قَوْلُهُ : وَإِنْ شَهِدَ اثْنَانِ إلَخْ ) أَيْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا اثْنَانِ مِنْهُمْ شَهِدَا أَنَّهُ زَنَى بِهَا بِالْكُوفَةِ وَالْآخَرَانِ يَشْهَدَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا بِالْبَصْرَةِ ( دُرِئَ الْحَدُّ عَنْهُمَا جَمِيعًا لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ فِعْلُ الزِّنَا وَقَدْ اخْتَلَفَ بِاخْتِلَافِ الْمَكَانِ ) لِأَنَّ الزِّنَا بِالْكُوفَةِ لَيْسَ هُوَ الزِّنَا بِالْبَصْرَةِ ( وَلَمْ يَتِمَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصَابُ الشَّهَادَةِ ) وَهُوَ شَهَادَةُ أَرْبَعَةٍ ( وَلَا يُحَدُّ الشُّهُودُ ) لِلْقَذْفِ ، وَفِيهِ خِلَافُ زُفَرَ ، فَعِنْدَهُ يُحَدُّونَ لِلْقَذْفِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ الْعَدَدَ لَمَّا لَمْ يَتَكَامَلْ بِكُلِّ زِنًا صَارُوا قَذَفَةً ، كَمَا لَوْ كَانُوا ثَلَاثَةً شَهِدُوا بِهِ فَإِنَّهُمْ يُحَدُّونَ .
قُلْنَا : كَلَامُهُمْ وَقَعَ شَهَادَةً لِوُجُودِ شَرَائِطِهَا مِنْ الْأَهْلِيَّةِ وَلَفْظَةِ الشَّهَادَةِ وَتَمَّ الْعَدَدُ فِي حَقِّ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فَإِنَّ شُبْهَةَ الِاتِّحَادِ فِي نِسْبَةِ الزِّنَا لِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ وَصِيغَةُ الشَّهَادَةِ ثَابِتَةٌ وَبِذَلِكَ حَصَلَ شُبْهَةُ اتِّحَادِ الزِّنَا الْمَشْهُودِ بِهِ فَيَنْدَرِئُ الْحَدُّ عَنْهُمْ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ فِي الزِّنَا شُبْهَةً أَوْجَبَتْ الدَّرْءَ عَنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَفِي الْقَذْفِ شُبْهَةٌ أَوْجَبَتْ الدَّرْءَ عَنْ الشُّهُودِ .
قَالَ قَاضِي خَانَ : وَكَلَامُنَا أَظْهَرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ } وَقَدْ وُجِدَ الْإِتْيَانُ بِأَرْبَعَةٍ

( وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ حُدَّ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ ) مَعْنَاهُ : أَنْ يَشْهَدَ كُلُّ اثْنَيْنِ عَلَى الزِّنَى فِي زَاوِيَةٍ ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ .
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجِبَ الْحَدُّ لِاخْتِلَافِ الْمَكَانِ حَقِيقَةً .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ التَّوْفِيقَ مُمْكِنٌ بِأَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ الْفِعْلِ فِي زَاوِيَةٍ وَالِانْتِهَاءُ فِي زَاوِيَةٍ أُخْرَى بِالِاضْطِرَابِ ، أَوْ لِأَنَّ الْوَاقِعَ فِي وَسَطِ الْبَيْتِ فَيَحْسِبُهُ مَنْ فِي الْمُقَدَّمِ فِي الْمُقَدَّمِ وَمَنْ فِي الْمُؤَخَّرِ فِي الْمُؤَخَّرِ فَيَشْهَدُ بِحَسَبِ مَا عِنْدَهُ

( قَوْلُهُ : وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي بَيْتِ وَاحِدٍ حُدَّ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ .
وَمَعْنَاهُ أَنْ يَشْهَدَ كُلُّ اثْنَيْنِ عَلَى الزِّنَا فِي زَاوِيَةٍ وَهَذَا ) أَعْنِي حَدَّ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ مَعَ هَذَا الِاخْتِلَافِ ( اسْتِحْسَانٌ .
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُحَدُّوا ) لِاخْتِلَافِ الْمَكَانِ حَقِيقَةً ، وَبِهِ يَخْتَلِفُ الْفِعْلُ الْمَشْهُودُ بِهِ فَتَصِيرُ كَاَلَّتِي قَبْلَهَا مِنْ الْبَلَدَيْنِ وَالدَّارَيْنِ ، وَالْقِيَاسُ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ حَيْثُ نَسَبُوهُ إلَى بَيْتِ وَاحِدٍ صَغِيرٍ إذْ الْكَلَامُ فِيهِ بِخِلَافِ الْكَبِيرِ ، وَبَعْدَ ذَلِكَ تَعْيِينُهُمْ زَوَايَاهُ وَاخْتِلَافُهُمْ فِيهَا لَا يُوجِبُ تُعَدَّدَ الْفِعْلِ لِأَنَّ الْبَيْتَ إذَا كَانَ صَغِيرًا وَالْفِعْلُ وَسَطَهُ فَكُلُّ مَنْ كَانَ فِي جِهَةٍ يَظُنُّ أَنَّهُ إلَيْهِ أَقْرَبُ فَيَقُولُ : إنَّهُ فِي الزَّاوِيَةِ الَّتِي تَلِيهِ ، بِخِلَافِ الْكَبِيرِ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ هَذَا فَكَانَ كَالدَّارَيْنِ ، فَكَانَ اخْتِلَافُهُمْ صُورَةً لَا حَقِيقَةً أَوْ حَقِيقَةً وَالْفِعْلُ وَاحِدٌ ، بِأَنْ كَانَ ابْتِدَاءُ الْفِعْلِ فِي زَاوِيَةٍ ثُمَّ صَارَ إلَى أُخْرَى بِتَحَرُّكِهِمَا عِنْدَ الْفِعْلِ .
وَأَمَّا مَا قِيلَ فَإِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِيمَا لَمْ يُكَلَّفُوا نَقْلَهُ فَلَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأَنَّ ذَلِكَ أَيْضًا قَائِمٌ فِي الْبَلْدَتَيْنِ .
نَعَمْ إنَّمَا هُمْ مُكَلَّفُونَ بِأَنْ يَقُولُوا مَثَلًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَالْوَجْهُ مَا اقْتَصَرْنَا عَلَيْهِ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا تَوْفِيقٌ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ وَهُوَ احْتِيَاطٌ فِي الْإِقَامَةِ وَالْوَاجِبُ دَرْؤُهُ .
أُجِيبَ بِأَنَّ التَّوْفِيقَ مَشْرُوعٌ صِيَانَةً لِلْقَضَاءِ عَنْ التَّعْطِيلِ ، فَإِنَّهُ لَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا بِفُلَانَةَ قُبِلُوا مَعَ احْتِمَالِ شَهَادَةِ كُلٍّ مِنْهُمْ عَلَى زِنَاهَا فِي غَيْرِ الْوَقْتِ ، وَقَبُولُهُ مَبْنِيٌّ عَلَى اعْتِبَارِ شَهَادَةِ كُلٍّ مِنْهُمْ عَلَى نَفْسِ الزِّنَا الَّذِي شَهِدَ بِهِ الْآخَرُ ، وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ فِي شَهَادَتِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : الِاخْتِلَافُ فِي

مَسْأَلَتِنَا مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ وَفِي هَذِهِ مَسْكُوتٌ عَنْهُ .
أُجِيبَ بِأَنَّ التَّوْفِيقَ مَشْرُوعٌ فِي كُلٍّ مِنْ الِاخْتِلَافِ الْمَنْصُوصِ وَالْمَسْكُوتِ .
وَمِنْ الْأَوَّلِ مَا إذَا اخْتَلَفُوا فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ أَوْ فِي السِّمَنِ وَالْهُزَالِ أَوْ فِي أَنَّهَا بَيْضَاءُ أَوْ سَمْرَاءُ أَوْ عَلَيْهَا ثَوْبٌ أَحْمَرُ أَوْ أَسْوَدُ تُقْبَلُ فِي كُلِّ ذَلِكَ .
وَقَدْ اسْتَشْكَلَ عَلَى هَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا إذَا شَهِدُوا ، فَاخْتَلَفُوا فِي الْإِكْرَاهِ وَالطَّوَاعِيَةِ ، فَإِنَّ هَذَا التَّوْفِيقَ مُمْكِنٌ بِأَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ الْفِعْلِ كُرْهًا وَانْتِهَاؤُهُ طَوَاعِيَةً .
قَالَ فِي الْكَافِي : يُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْفِعْلِ كُرْهًا إذَا كَانَ عَنْ إكْرَاهٍ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ ، فَبِالنَّظَرِ إلَى الِابْتِدَاءِ لَا يَجِبُ وَبِالنَّظَرِ إلَى الِانْتِهَاءِ يَجِبُ ، فَلَا يَجِبُ بِالشَّكِّ ، وَهُنَا بِالنَّظَرِ إلَى الزَّاوِيَتَيْنِ يَجِبُ فَافْتَرَقَا

( وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ بِالنُّخَيْلَةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ، وَأَرْبَعَةٌ أَنَّهُ زَنَى بِهَا عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ بِدَيْرِ هِنْدٍ دُرِئَ الْحَدُّ عَنْهُمْ جَمِيعًا ) أَمَّا عَنْهُمَا فَلِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِكَذِبِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ غَيْرِ عَيْنٍ ، وَأَمَّا عَنْ الشُّهُودِ فَلِاحْتِمَالِ صِدْقِ كُلِّ فَرِيقٍ

( قَوْلُهُ وَلَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ بِالنُّخَيْلَةِ ) بِالنُّونِ وَالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ تَصْغِيرُ نَخْلَةٍ مَكَانٌ بِظَاهِرِ الْكُوفَةِ ، وَقَدْ يُقَالُ بَجِيلَةٌ بِالْبَاءِ الْمَفْتُوحَةِ وَالْجِيمِ وَهُوَ تَصْحِيفٌ لِأَنَّهُ اسْمُ قَبِيلَةٍ بِالْيَمَنِ ( وَشَهِدَ أَرْبَعَةٌ أَنَّهُ زَنَى بِهَا عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ بِدَيْرِ هِنْدٍ فَلَا حَدَّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ ، أَمَّا عَنْهُمَا فَلِلتَّيَقُّنِ بِكَذِبِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ غَيْرِ عَيْنٍ ) إذْ الْإِنْسَانُ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الزِّنَا فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ فِي مَكَانَيْنِ مُتَبَاعِدَيْنِ فَلَا يَجِبُ حَدُّهُمَا بِالشَّكِّ ، وَأَمَّا فِي الشُّهُودِ فَلِلتَّيَقُّنِ بِصِدْقِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ فَلَا يُحَدُّونَ بِالشَّكِّ ، فَلَوْ كَانَ الْمَكَانَانِ مُتَقَارِبَيْنِ جَازَتْ شَهَادَتُهُمْ لِأَنَّهُ يَصِحُّ كَوْنُ الْأَمْرَيْنِ فِيهِمَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ، لِأَنَّ طُلُوعَ الشَّمْسِ يُقَالُ لِوَقْتٍ مُمْتَدٍّ امْتِدَادًا عُرْفِيًّا لَا أَنَّهُ يَخُصُّ أَنَّ ظُهُورَهَا مِنْ الْأُفُقِ ، وَيَحْتَمِلُ تَكْرَارَ الْفِعْلِ .
وَدَيْرُ هِنْدٍ : دَيْرٌ بِظَاهِرِ الْكُوفَةِ ، وَهِنْدٌ بِنْتُ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ مَاءِ السَّمَاءِ كَانَتْ تَرَهَّبَتْ وَبَنَتْ هَذَا الدَّيْرَ وَأَقَامَتْ بِهِ ، وَخَطَبَهَا الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ أَيَّامَ إمَارَتِهِ عَلَى الْكُوفَةِ فَقَالَتْ : وَالصَّلِيبُ مَا فِي رَغْبَةٍ لِجَمَالٍ وَلَا كَثْرَةِ مَالٍ إنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَفْتَخِرَ بِنِكَاحِي فَيَقُولَ : نَكَحْت بِنْتَ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ ، وَإِلَّا فَأَيُّ رَغْبَةٍ لِشَيْخٍ أَعْوَرَ فِي عَجُوزٍ عَمْيَاءَ ؟ فَصَدَّقَهَا الْمُغِيرَةُ وَقَالَ فِي ذَلِكَ : أَدْرَكْت مَا مَنَّيْت نَفْسِي خَالِيًا لِلَّهِ دَرُّك يَا ابْنَةَ النُّعْمَانِ فَلَقَدْ رَدَدْت عَلَى الْمُغِيرَةِ دَهْيَةً إنَّ الْمُلُوكَ ذَكِيَّةُ الْأَذْهَانِ إنِّي لِحَلِفِك بِالصَّلِيبِ مُصَدِّقٌ وَالصَّلْبُ أَصْدَقُ حَلْفَةِ الرُّهْبَانِ وَكَانَتْ بَعْدَ ذَلِكَ تَدْخُلُ عَلَيْهِ وَيَسْأَلُهَا فَسَأَلَهَا يَوْمًا عَنْ حَالِهَا فَقَالَتْ : فَبَيْنَا نَسُوسُ النَّاسَ وَالْأَمْرُ أَمْرُنَا إذَا

نَحْنُ فِيهِمْ سُوقَةٌ نَنْتَصِفُ فَأُفٍّ لِدُنْيَا لَا يَدُومُ نَعِيمُهَا تُقَلَّبُ تَارَاتٍ بِنَا وَتُصَرَّفُ ذَكَرَ هَذَا ابْنُ الشَّجَرِيِّ فِي أَمَالِيهِ عَلَى الْقَصِيدَةِ الْمَنَازِلِيَّةِ لِلشَّرِيفِ الرَّضِيِّ الَّتِي أَوَّلُهَا : مَا زِلْت أَطْرُقُ الْمَنَازِلَ بِاللَّوَى حَتَّى نَزَلْت مَنَازِلَ النُّعْمَانِ عِنْدَ قَوْلِهِ : وَلَقَدْ رَأَيْت بِدَيْرِ هِنْدٍ مَنْزِلًا أَلْمَى مِنْ الضَّرَّاءِ وَالْحِدْثَانِ أَغْضَى كَمُسْتَمِعِ الْهَوَانِ تَغَيَّبَتْ أَنْصَارُهُ وَخَلَا عَنْ الْأَعْوَانِ بَالِي الْمَعَالِمِ أَطْرَقْت شُرُفَاتُهُ إطْرَاقَ مُنْجَذِبِ الْقَرِينَةِ عَانِ وَذَكَرْت مَسْحَبَهَا الرِّيَاطَ بِجَوِّهِ مِنْ قَبْلِ بَيْعِ زَمَانِهَا بِزَمَانِ وَبِمَا تَرُدُّ عَلَى الْمُغِيرَةِ دَهْيَهُ نَزْعَ النَّوَارِ بَطِيئَةَ الْإِذْعَانِ وَالنَّوَارُ مِنْ النِّسَاءِ الَّتِي تَنْفِرُ مِنْ الرِّيبَةِ ، يُقَالُ نَارَتْ الْمَرْأَةُ تَنُورُ نُورًا إذَا نَفَرَتْ عَنْ الْقَبِيحِ

( وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى امْرَأَةٍ بِالزِّنَا وَهِيَ بِكْرٌ دُرِئَ الْحَدُّ عَنْهُمَا وَعَنْهُمْ ) ؛ لِأَنَّ الزِّنَا لَا يَتَحَقَّقُ مَعَ بَقَاءِ الْبَكَارَةِ ، وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ أَنَّ النِّسَاءَ نَظَرْنَ إلَيْهَا فَقُلْنَا إنَّهَا بِكْرٌ ، وَشَهَادَتُهُنَّ حُجَّةٌ فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ وَلَيْسَتْ بِحُجَّةٍ فِي إيجَابِهِ فَلِهَذَا سَقَطَ الْحَدُّ عَنْهُمَا وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ

( قَوْلُهُ : وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى امْرَأَةٍ بِالزِّنَا وَهِيَ بِكْرٌ ) بِأَنْ نَظَرَ النِّسَاءُ إلَيْهَا فَقُلْنَ هِيَ بِكْرٌ ( دُرِئَ الْحَدُّ عَنْهُمَا ) أَيْ عَنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِمَا بِالزِّنَا ( وَعَنْهُمْ ) أَيْ وَيُدْرَأُ حَدُّ الْقَذْفِ عَنْ الشُّهُودِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ ، وَعِنْدَ مَالِكٍ تُحَدُّ الْمَرْأَةُ وَالرَّجُلُ ، أَمَّا الدَّرْءُ عَنْهُمَا فَلِظُهُورِ كَذِبِ الشُّهُودِ إذْ لَا بَكَارَةَ مَعَ الزِّنَا ، وَقَوْلُ النِّسَاءِ حُجَّةٌ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ فَتَثْبُتُ بَكَارَتُهَا بِشَهَادَتِهِنَّ وَمِنْ ضَرُورَتِهِ سُقُوطُ الْحَدِّ .
وَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ : إنْ لَمْ تُعَارِضْ شَهَادَتُهُنَّ شَهَادَتَهُمْ تَثْبُتْ بِشَهَادَتِهِنَّ بَكَارَتُهَا ، وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الزِّنَا لِجَوَازِ أَنْ تَعُودَ الْعُذْرَةُ لِعَدَمِ الْمُبَالَغَةِ فِي إزَالَتِهَا فَلَا يُعَارِضُ شَهَادَةَ الزِّنَا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَسْقُطَ الْحَدُّ ، وَإِنْ عَارَضَتْ بِأَنْ لَا يَتَحَقَّقَ عَوْدُ الْعُذْرَةِ يَجِبُ أَنْ تَبْطُلَ شَهَادَتُهُنَّ لِأَنَّهَا لَا تَقْوَى قُوَّةَ شَهَادَتِهِمْ .
قُلْنَا : سَوَاءٌ انْتَهَضَتَ مُعَارَضَةٌ أَوْ لَا لَا بُدَّ أَنْ تُورَثَ شُبْهَةٌ بِهَا يَنْدَرِئُ ، وَلِذَا يَسْقُطُ بِقَوْلِهِنَّ هِيَ رَتْقَاءُ أَوْ قَرْنَاءُ وَيَقِلُّ فِي ذَلِكَ قَوْلُ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَأَمَّا عَنْ الشُّهُودِ فَلِتَكَامُلِ عَدَدِهِمْ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ الْحَدُّ بِشَهَادَتِهِمْ لِقَوْلِهِنَّ فَقَوْلُهُنَّ حُجَّةٌ فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ لَا فِي إيجَابِهِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَمْ يُقْطَعْ بِكَذِبِهِمْ لِجَوَازِ صِدْقِهِمْ وَتَكُونُ الْعُذْرَةُ قَدْ عَادَتْ لِعَدَمِ الْمُبَالَغَةِ فِي إزَالَتِهَا بِالزِّنَا أَوْ لِكَذِبِهِنَّ

( وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا وَهُمْ عُمْيَانٌ أَوْ مَحْدُودُونَ فِي قَذْفٍ أَوْ أَحَدُهُمْ عَبْدٌ أَوْ مَحْدُودٌ فِي قَذْفٍ فَإِنَّهُمْ يُحَدُّونَ ) وَلَا يُحَدُّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِمْ الْمَالُ فَكَيْفَ يَثْبُتُ الْحَدُّ وَهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ ، وَالْعَبْدُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلتَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ فَلَمْ تَثْبُتْ شُبْهَةُ الزِّنَا ؛ لِأَنَّ الزِّنَا يَثْبُتُ بِالْأَدَاءِ ( وَإِنْ شَهِدُوا بِذَلِكَ وَهُمْ فُسَّاقٌ أَوْ ظَهَرَ أَنَّهُمْ فُسَّاقٌ لَمْ يُحَدُّوا ) ؛ لِأَنَّ الْفَاسِقَ مِنْ أَهْلِ الْأَدَاءِ وَالتَّحَمُّلِ وَإِنْ كَانَ فِي أَدَائِهِ نَوْعُ قُصُورٍ لِتُهْمَةِ الْفِسْقِ .
وَلِهَذَا لَوْ قَضَى الْقَاضِي بِشَهَادَةِ فَاسِقٍ يَنْفُذُ عِنْدَنَا ، وَيَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِمْ شُبْهَةُ الزِّنَا ، وَبِاعْتِبَارِ قُصُورٍ فِي الْأَدَاءِ لِتُهْمَةِ الْفِسْقِ يَثْبُتُ شُبْهَةُ عَدَمِ الزِّنَا فَلِهَذَا امْتَنَعَ الْحَدَّانِ ، وَسَيَأْتِي فِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْفَاسِقَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ فَهُوَ كَالْعَبْدِ عِنْدَهُ

( قَوْلُهُ : وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا وَهُمْ عُمْيَانٌ أَوْ مَحْدُودُونَ فِي قَذْفٍ أَوْ أَحَدُهُمْ عَبْدٌ أَوْ مَحْدُودٌ فِي قَذْفٍ يُحَدُّ الشُّهُودُ وَلَا يُحَدُّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ ) الْأَصْلُ أَنَّ الشُّهُودَ بِاعْتِبَارِ التَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ أَنْوَاعٌ : أَهْلٌ لِلتَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ وَهُوَ الْحُرُّ الْبَالِغُ الْعَاقِلُ الْعَدْلُ .
وَأَهْلٌ لَهُمَا عَلَى وَجْهِ الْقُصُورِ كَالْفُسَّاقِ لِتُهْمَةِ الْكَذِبِ وَمُقَابِلُ الْقِسْمَيْنِ لَيْسَ أَهْلًا لِلتَّحَمُّلِ وَلَا لِلْأَدَاءِ وَهُمْ الْعَبِيدُ وَالصِّبْيَانُ وَالْمَجَانِينُ وَالْكُفَّارُ .
وَأَهْلٌ لِلتَّحَمُّلِ لَا الْأَدَاءِ كَالْمَحْدُودِينَ فِي قَذْفٍ وَالْعُمْيَانِ .
فَالْأَوَّلُ يُحْكَمُ بِشَهَادَتِهِ وَتَثْبُتُ الْحُقُوقُ بِهَا ، وَالثَّانِي يَجِبُ التَّوَقُّفُ فِيهَا لِيَظْهَرَ صِدْقُهُ أَوْ لَا فَلَا ، وَالثَّالِثُ لَا شَهَادَةَ لَهُ أَصْلًا حَتَّى لَمْ يُعْتَبَرْ فِيمَا لَمْ يُعْتَبَرْ لِلْأَدَاءِ فَلَا يَصِحُّ النِّكَاحُ بِحُضُورِهِمَا وَشَهَادَتِهِمَا ، وَالرَّابِعُ يُعْتَبَرُ فِي هَذَا فَصَحَّ النِّكَاحُ بِحُضُورِ الْعُمْيَانِ وَالْقَذَفَةِ وَلَوْ شَهِدُوا بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ تُقْبَلْ .
إذَا عُرِفَ هَذَا فَفِي الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ عَدَمُ الْحَدِّ لِلزِّنَا ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ هَؤُلَاءِ : أَيْ الْعُمْيَانِ وَالْمَحْدُودِينَ فِي الْقَذْفِ مَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ كَالْمَالِ فَكَيْفَ يَثْبُتُ بِهَا مَا لَا يَثْبُتُ مَعَهَا مِنْ الْحُدُودِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْعُمْيَانَ وَالْمَحْدُودِينَ لَيْسُوا أَهْلًا لِلْأَدَاءِ ، وَالْعَبْدَ لَيْسَ أَهْلًا لِلتَّحَمُّلِ أَيْضًا فَلَمْ يَثْبُتْ بِشَهَادَتِهِمْ شُبْهَةُ الزِّنَا لِأَنَّ الزِّنَا يَثْبُتُ بِالْأَدَاءِ فَصَارُوا قَذَفَةً فَيُحَدُّونَ ، بِخِلَافِ الْفُسَّاقِ إذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ مِنْهُمْ عَلَى الزِّنَا لَا يُحَدُّونَ ، وَإِنْ لَمْ يُقْبَلُوا لِأَنَّهُمْ أَهْلٌ لِلْأَدَاءِ مَعَ قُصُورٍ ، حَتَّى لَوْ حَكَمَ حَاكِمٌ بِشَهَادَةِ الْفُسَّاقِ نَفَذَ ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ فَاحْتَطْنَا فِي الْحَدِّ فَسَقَطَ عَنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ

لِعَدَمِ الثُّبُوتِ وَعَنْ الشُّهُودِ لِثُبُوتِ شُبْهَةِ الثُّبُوتِ ، وَيَأْتِي فِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْفَاسِقَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ ، وَكَذَا قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ

( وَإِنْ نَقَصَ عَدَدُ الشُّهُودِ عَنْ أَرْبَعَةٍ حُدُّوا ) ؛ لِأَنَّهُمْ قَذَفَةٌ إذْ لَا حِسْبَةَ عِنْدَ نُقْصَانِ الْعَدَدِ وَخُرُوجِ الشَّهَادَةِ عَنْ الْقَذْفِ بِاعْتِبَارِهَا
( قَوْلُهُ : وَإِنْ نَقَصَ عَدَدُ الشُّهُودِ عَنْ أَرْبَعَةٍ ) بِأَنْ كَانُوا ثَلَاثَةً فَأَقَلَّ ( حُدُّوا ) حَدَّ الْقَذْفِ : يَعْنِي إذَا طَلَبَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِالزِّنَا ذَلِكَ لِأَنَّهُ حَقُّهُ فَتَوَقَّفَ عَلَى طَلَبِهِ ، وَهَذِهِ إجْمَاعِيَّةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } وَحِينَ شَهِدَ عَلَى الْمُغِيرَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَبُو بَكْرَةَ وَنَافِعُ بْنُ عَلْقَمَةَ وَشِبْلُ بْنُ مَعْبَدٍ وَلَمْ تَكْمُلْ بِشَهَادَةِ زِيَادٍ حُدَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الثَّلَاثَةُ الشُّهُودِ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فَكَانَ إجْمَاعًا ، وَالْأَرْبَعَةُ إخْوَةٌ لِأُمٍّ وَاسْمُ أُمِّهِمْ سُمَيَّةُ .
وَأَمَّا وَجْهُهُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فَلِأَنَّ اللَّفْظَ لَا شَكَّ فِي أَنَّهُ قَذْفٌ ، وَإِنَّمَا يَخْرُجُ عَنْ حُكْمِ الْقَذْفِ إذَا اُعْتُبِرَ شَهَادَةً ، وَلَا يُعْتَبَرُ شَهَادَةً إلَّا إذَا كَانُوا نِصَابًا

( وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَضُرِبَ بِشَهَادَتِهِمْ ثُمَّ وُجِدَ أَحَدُهُمْ عَبْدًا أَوْ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ فَإِنَّهُمْ يُحَدُّونَ ) ؛ لِأَنَّهُمْ قَذَفَةٌ إذْ الشُّهُودُ ثَلَاثَةٌ ( وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ وَلَا عَلَى بَيْتِ الْمَالِ أَرْشُ الضَّرْبِ ، وَإِنْ رُجِمَ فَدِيَتُهُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : أَرْشُ الضَّرْبِ أَيْضًا عَلَى بَيْتِ الْمَالِ ) قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ عَصَمَهُ اللَّهُ : مَعْنَاهُ إذَا كَانَ جَرَحَهُ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا مَاتَ مِنْ الضَّرْبِ ، وَعَلَى هَذَا إذَا رَجَعَ الشُّهُودُ لَا يَضْمَنُونَ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُونَ .
لَهُمَا أَنَّ الْوَاجِبَ بِشَهَادَتِهِمْ مُطْلَقُ الضَّرْبِ ، إذْ الِاحْتِرَازُ عَنْ الْجَرْحِ خَارِجٌ عَنْ الْوُسْعِ فَيَنْتَظِمُ الْجَارِحُ وَغَيْرُهُ فَيُضَافُ إلَى شَهَادَتِهِمْ فَيَضْمَنُونَ بِالرُّجُوعِ ، وَعِنْدَ عَدَمِ الرُّجُوعِ تَجِبُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ يَنْتَقِلُ فِعْلُ الْجَلَّادِ إلَى الْقَاضِي وَهُوَ عَامِلٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَتَجِبُ الْغَرَامَةُ فِي مَالِهِمْ فَصَارَ كَالرَّجْمِ وَالْقِصَاصِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْجَلْدُ وَهُوَ ضَرْبٌ مُؤْلِمٌ غَيْرُ جَارِحٍ وَلَا مُهْلِكٍ ، فَلَا يَقَعُ جَارِحًا ظَاهِرًا إلَّا لِمَعْنًى فِي الضَّارِبِ وَهُوَ قِلَّةُ هِدَايَتِهِ فَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ فِي الصَّحِيحِ كَيْ لَا يَمْتَنِعَ النَّاسُ عَنْ الْإِقَامَةِ مَخَافَةَ الْغَرَامَةِ

( قَوْلُهُ : وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَضُرِبَ بِشَهَادَتِهِمْ إلَخْ ) حَاصِلُهَا أَنَّهُ إذَا حُدَّ بِشَهَادَةِ شُهُودٍ جَلْدًا فَجَرَحَهُ الْحَدُّ أَوْ مَاتَ مِنْهُ لِعَدَمِ احْتِمَالِهِ إيَّاهُ ثُمَّ ظَهَرَ بَعْضُ الشُّهُودِ عَبْدًا أَوْ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ أَوْ أَعْمَى أَوْ كَافِرًا فَإِنَّهُمْ يُحَدُّونَ بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّ الشُّهُودَ حِينَئِذٍ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعَةٍ ، وَمَتَى كَانُوا أَقَلَّ حُدُّوا حَدَّ الْقَذْفِ .
ثُمَّ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : أَرْشُ الْجِرَاحَةِ وَدِيَةُ النَّفْسِ فِيمَا إذَا مَاتَ فِي بَيْتِ الْمَالِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ وَلَا عَلَى بَيْتِ الْمَالِ ، وَلَوْ كَانَ الْحَدُّ الرَّجْمَ فَرُجِمَ ثُمَّ ظَهَرَ أَحَدُ الشُّهُودِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَدِيَتُهُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ اتِّفَاقًا .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَعَلَى هَذَا إذَا رَجَعَ الشُّهُودُ ) يَعْنِي بَعْدَ مَا ضُرِبَ فَجُرِحَ أَوْ مَاتَ ( لَا يَضْمَنُونَ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُونَ ) أَرْشَ الْجِرَاحَةِ إنْ لَمْ يَمُتْ وَالدِّيَةَ إنْ مَاتَ .
وَظَاهِرٌ أَنَّهُ لَا يَحْسُنُ كُلَّ الْحُسْنِ لَفْظ وَعَلَى هَذَا هُنَا لِأَنَّ مِثْلَهُ يُقَالُ إذَا كَانَ الْخِلَافُ فِي الْمُشَارِ إلَيْهَا كَالْخِلَافِ الْمُشَبَّهِ بِهِ ، وَلَيْسَ هُنَا كَذَلِكَ فَإِنَّ ذَلِكَ الْخِلَافَ هُوَ أَنَّ الْأَرْشَ وَالدِّيَةَ فِي بَيْتِ الْمَالِ عِنْدَهُمَا ، وَعِنْدَهُ لَيْسَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ شَيْءٌ وَهُنَا عِنْدَهُمَا عَلَى الشُّهُودِ ، وَعِنْدَهُ لَيْسَ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ : الْأَرْشُ وَالدِّيَةُ عَلَى الْحَاكِمِ ( قَوْلُهُ لَهُمَا أَنَّ الْوَاجِبَ مُطْلَقُ الضَّرْبِ ، إذْ الِاحْتِرَازُ عَنْ الْجَرْحِ خَارِجٌ عَنْ الْوُسْعِ فَيَنْتَظِمُ الْخَارِجُ وَغَيْرُهُ فَيُضَافُ ) الْجُرْحُ وَالْمَوْتُ ( إلَى شَهَادَتِهِمْ ) فَصَارُوا كَالْمُبَاشِرِينَ لِمَا أَوْجَبُوهُ بِشَهَادَتِهِمْ فَرُجُوعُهُمْ اعْتِرَافٌ بِأَنَّهُمْ جُنَاةٌ فِي شَهَادَتِهِمْ ، كَمَنْ ضَرَبَ شَخْصًا بِسَوْطٍ فَجَرَحَهُ أَوْ مَاتَ ، وَكَشُهُودِ الْقِصَاصِ وَالْقَطْعِ إذَا رَجَعُوا ، هَذَا إذَا رَجَعُوا .

وَأَمَّا إذَا لَمْ يَرْجِعُوا بَلْ ظَهَرَ بَعْضُهُمْ عَبْدًا أَوْ مَحْدُودًا إلَخْ وَهُوَ مَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ وَعِنْدَ عَدَمِ الرُّجُوعِ لَمْ يَكُونُوا مُعْتَرِفِينَ بِجِنَايَتِهِمْ فَيَجِبُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّهُ يَنْتَقِلُ فِعْلُ الْجَلَّادِ إلَى الْقَاضِي لِأَنَّهُ الْآمِرُ لَهُ ، وَفِعْلُ الْمَأْمُورِ يَنْتَقِلُ إلَى الْآمِرِ عِنْدَ صِحَّةِ الْأَمْرِ فَكَأَنَّهُ ضَرَبَ بِنَفْسِهِ ثُمَّ ظَهَرَ خَطَؤُهُ ، وَفِيهِ يَكُونُ الضَّمَانُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّهُ عَامِلٌ لِلْمُسْلِمِينَ لَا لِنَفْسِهِ فَتَجِبُ الْغَرَامَةُ الَّتِي لَحِقَتْهُ بِسَبَبِ عَمَلِهِ لَهُمْ فِي مَالِهِمْ ، وَصَارَ الْجُرْحُ وَالْمَوْتُ مِنْ الْجَلْدِ كَالرَّجْمِ وَالْقِصَاصِ إذَا قَضَى بِهِ ، فَإِنَّ الضَّمَانَ عِنْدَ ظُهُورِ الشُّهُودِ مَحْدُودِينَ أَوْ عَبِيدًا إلَخْ فِي بَيْتِ الْمَالِ اتِّفَاقًا ( قَوْلُهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْوَاجِبَ بِشَهَادَتِهِمْ هُوَ الْحَدُّ وَهُوَ ضَرْبٌ مُؤْلِمٌ غَيْرُ جَارِحٍ وَلَا مُهْلِكٍ ) فَتَضَمَّنَ هَذَا مَنْعَ قَوْلِهِمَا : الْوَاجِبُ مُطْلَقُ الضَّرْبِ ، وَقَوْلُهُمَا فِي إثْبَاتِهِ : إنَّ الِاحْتِزَازَ عَنْ الْجَارِحِ خَارِجٌ عَنْ الْوُسْعِ مَمْنُوعٌ بَلْ مُمْكِنٌ غَيْرُ عَسِرٍ أَيْضًا ( وَلَا يَقَعُ جَارِحًا إلَّا لِحَرْقِ الضَّارِبِ وَقِلَّةِ هِدَايَتِهِ وَتَرْكِ احْتِيَاطِهِ فَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ ) فَلَمْ يَتَعَدَّ إلَى الشُّهُودِ وَلَا الْقَاضِي ، بِخِلَافِ الرَّجْمِ فَإِنَّهُ مُضَافٌ إلَى قَضَاءِ الْقَاضِي لِأَنَّهُ قَضَى بِهِ ابْتِدَاءً ثُمَّ ظَهَرَ خَطَؤُهُ وَمَصْلَحَةُ عَمَلِهِ لِلْعَامَّةِ فَيَكُونُ مُوجِبُ ضَرَرِ خَطَئِهِ عَلَيْهِمْ فِي مَا لَهُمْ لِأَنَّ الْغُرْمَ بِالْغُنْمِ .
أَمَّا الْجَلْدُ الْجَارِحُ فَلَمْ يَقْضِ بِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ فَيَكُونُ فِي بَيْتِ الْمَالِ بَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى الْجَلَّادِ ( إلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ فِي الصَّحِيحِ ) لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَمَّدْهُ ، فَلَوْ ضَمَّنَّاهُ لَامْتَنَعَ النَّاسُ مِنْ الْإِقَامَةِ مَخَافَةَ الْغَرَامَةِ ، وَإِذَا لَمْ تَجِبْ الْغَرَامَةُ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى الشُّهُودِ وَلَا عَلَى الْقَاضِي لِتَثْبُتَ فِي بَيْتِ الْمَالِ لَمْ تَجِبْ أَصْلًا وَهُوَ

الْمَطْلُوبُ .
وَقَوْلُهُ فِي الصَّحِيحِ احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ فِي مَبْسُوطِهِ : لَوْ قَالَ قَائِلٌ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْجَلَّادِ فَلَهُ وَجْهٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَأْمُورًا بِهَذَا الْوَجْهِ بَلْ بِضَرْبٍ مُؤْلِمٍ لَا جَارِحٍ وَلَا كَاسِرٍ وَلَا قَاتِلٍ ، فَإِذَا وُجِدَ فِعْلُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ .
رَجَعَ مُتَعَدِّيًا فَيَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ ، وَهَذَا أَوْجَهُ مِنْ جَعْلِهِ احْتِرَازًا عَنْ جَوَابِ الْقِيَاسِ ، وَإِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ لِضَرُورَةِ عَدَمِ الْخِلَافِ فِي الْوَاقِعِ

( وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى شَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا لَمْ يُحَدَّ ) لِمَا فِيهَا مِنْ زِيَادَةِ الشُّبْهَةِ وَلَا ضَرُورَةَ إلَى تَحَمُّلِهَا ( فَإِنْ جَاءَ الْأَوَّلُونَ فَشَهِدُوا عَلَى الْمُعَايَنَةِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ لَمْ يُحَدَّ أَيْضًا ) مَعْنَاهُ شَهِدُوا عَلَى ذَلِكَ الزِّنَا بِعَيْنِهِ ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمْ قَدْ رُدَّتْ مِنْ وَجْهٍ بِرَدِّ شَهَادَةِ الْفُرُوعِ فِي عَيْنِ هَذِهِ الْحَادِثَةِ إذْ هُمْ قَائِمُونَ مَقَامَهُمْ بِالْأَمْرِ وَالتَّحْمِيلِ ، وَلَا يُحَدُّ الشُّهُودُ ؛ لِأَنَّ عَدَدَهُمْ مُتَكَامِلٌ وَامْتِنَاعُ الْحَدِّ عَلَى الشُّهُودِ عَلَيْهِ لِنَوْعِ شُبْهَةٍ .
وَهِيَ كَافِيَةٌ لِدَرْءِ الْحَدِّ لَا لِإِيجَابِهِ

( قَوْلُهُ : وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى شَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا لَمْ يُحَدَّ لِمَا فِيهَا ) أَيْ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ الَّتِي هِيَ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ ( مِنْ زِيَادَةِ شُبْهَةٍ ) لِتَحَقُّقِهَا فِي مَوْضِعَيْنِ : فِي تَحْمِيلِ الْأُصُولِ ، وَفِي نَقْلِ الْفُرُوعِ ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ .
وَالْأَصَحُّ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُحَدُّ بِهَا إذَا تَكَامَلَتْ شُرُوطُهَا ، وَنَحْنُ بَيَّنَّا زِيَادَةَ الشُّبْهَةِ وَهِيَ ، وَإِنْ لَمْ تُمْنَعْ فِي الشَّرْعِ لِأَنَّ الشَّرْعَ اعْتَبَرَ الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ وَأَلْزَمَ الْقَضَاءَ بِمُوجِبِهَا فِي الْمَالِ لَكِنَّهَا ضَعِيفَةٌ بِمَا ذَكَرْنَا ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ اعْتِبَارِهَا فِي الْجُمْلَةِ اعْتِبَارُهَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ كَشَهَادَةِ النِّسَاءِ فَإِنَّهَا مُعْتَبَرَةٌ صَحِيحَةٌ لِذَلِكَ وَلَيْسَتْ مُعْتَبَرَةً فِي الْحُدُودِ لِزِيَادَةِ شُبْهَةٍ فِيهَا فَعُلِمَ أَنَّ الشَّهَادَةَ مَعَ زِيَادَةِ مِثْلِ تِلْكَ الشُّبْهَةِ مُعْتَبَرَةٌ إلَّا فِي الْحُدُودِ ، وَسَبَبُهُ أَنَّهُ يُحْتَاطُ فِي دَرْئِهَا فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ رَدُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ مِنْ الشَّهَادَةِ كَمَا رُدَّتْ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِيهَا ، وَلِأَنَّهَا بَدَلٌ وَاعْتِبَارُ الْبَدَلِ فِي مَوْضِعٍ يُحْتَاطُ فِي إثْبَاتِهِ لَا فِيمَا يُحْتَاطُ فِي إبْطَالِهِ ( فَإِنْ جَاءَ الْأَوَّلُونَ ) يَعْنِي الْأُصُولَ ( فَشَهِدُوا بِالْمُعَايَنَةِ ) بِنَفْسِ مَا شَهِدَ بِهِ الْفُرُوعُ مِنْ الزِّنَا فَعِنْدَهُ لَا تُقْبَلُ أَيْضًا ( لِأَنَّ شَهَادَةَ هَؤُلَاءِ الْأُصُولِ قَدْ رَدَّهَا الشَّرْعُ مِنْ وَجْهٍ بِرَدِّهِ شَهَادَةَ الْفُرُوعِ فِي عَيْنِ الْحَادِثَةِ ) الَّتِي شَهِدَ بِهَا الْأُصُولُ ( إذْ هُمْ قَائِمُونَ مَقَامَهُمْ ) فَصَارَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ عَنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِالزِّنَا ( ثُمَّ لَا يُحَدُّ الشُّهُودُ ) الْأُصُولُ وَلَا الْفُرُوعُ ( لِأَنَّ عَدَدَهُمْ مُتَكَامِلٌ ) فَلَمْ تَكُنْ شَهَادَتُهُمْ قَذْفًا ، غَيْرَ أَنَّهُ امْتَنَعَ الْحَدُّ عَنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ لِنَوْعِ شُبْهَةٍ وَهِيَ كَافِيَةٌ لِدَرْءِ الْحَدِّ لَا لِإِيجَابِهِ فَلَا يُوجِبُ حَدَّ الْقَذْفِ عَلَى

الشُّهُودِ .

( وَإِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَرُجِمَ فَكُلَّمَا رَجَعَ وَاحِدٌ حُدَّ الرَّاجِعُ وَحْدَهُ وَغَرِمَ رُبْعَ الدِّيَةِ ) أَمَّا الْغَرَامَةُ فَلِأَنَّهُ بَقِيَ مَنْ يَبْقَى بِشَهَادَتِهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْحَقِّ فَيَكُونُ التَّالِفُ بِشَهَادَةِ الرَّاجِعِ رُبْعَ الْحَقِّ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَجِبُ الْقَتْلُ دُونَ الْمَالِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي شُهُودِ الْقِصَاصِ ، وَسَنُبَيِّنُهُ فِي الدِّيَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَأَمَّا الْحَدُّ فَمَذْهَبُ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ .
وَقَالَ زُفَرُ لَا يُحَدُّ ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الرَّاجِعُ قَاذِفَ حَيٍّ فَقَدْ بَطَلَ بِالْمَوْتِ ، وَإِنْ كَانَ قَاذِفَ مَيِّتٍ فَهُوَ مَرْجُومٌ بِحُكْمِ الْقَاضِي فَيُورِثُ ذَلِكَ شُبْهَةً .
وَلَنَا أَنَّ الشَّهَادَةَ إنَّمَا تَنْقَلِبُ قَذْفًا بِالرُّجُوعِ ؛ لِأَنَّ بِهِ تُفْسَخُ شَهَادَتُهُ فَجُعِلَ لِلْحَالِ قَذْفًا لِلْمَيِّتِ وَقَدْ انْفَسَخَتْ الْحُجَّةُ فَيَنْفَسِخُ مَا يَبْتَنِي عَلَيْهِ وَهُوَ الْقَضَاءُ فِي حَقِّهِ فَلَا يُورِثُ الشُّبْهَةَ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَذَفَهُ غَيْرُهُ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْصَنٍ فِي حَقِّ غَيْرِهِ لِقِيَامِ الْقَضَاءِ فِي حَقِّهِ ( فَإِنْ لَمْ يُحَدَّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ حَتَّى رَجَعَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ حُدُّوا جَمِيعًا وَسَقَطَ الْحَدُّ عَنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ) وَقَالَ مُحَمَّدٌ : حُدَّ الرَّاجِعُ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ تَأَكَّدَتْ بِالْقَضَاءِ فَلَا يَنْفَسِخُ إلَّا فِي حَقِّ الرَّاجِعِ ، كَمَا إذَا رَجَعَ بَعْدَ الْإِمْضَاءِ .
وَلَهُمَا أَنَّ الْإِمْضَاءَ مِنْ الْقَضَاءِ فَصَارَ كَمَا إذَا رَجَعَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ قَبْلَ الْقَضَاءِ وَلِهَذَا سَقَطَ الْحَدُّ عَنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ .
وَلَوْ رَجَعَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ قَبْلَ الْقَضَاءِ حُدُّوا جَمِيعًا .
وَقَالَ زُفَرُ : يُحَدُّ الرَّاجِعُ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ عَلَى غَيْرِهِ .
وَلَنَا أَنَّ كَلَامَهُمْ قَذْفٌ فِي الْأَصْلِ وَإِنَّمَا يَصِيرُ شَهَادَةً بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ ، فَإِذَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ بَقِيَ قَذْفًا فَيُحَدُّونَ ( فَإِنْ كَانُوا خَمْسَةً فَرَجَعَ أَحَدُهُمْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ) ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ مَنْ

يَبْقَى بِشَهَادَتِهِ كُلُّ الْحَقِّ وَهُوَ شَهَادَةُ الْأَرْبَعَةِ ( فَإِنْ رَجَعَ آخَرُ حُدَّا وَغَرِمَا رُبْعَ الدِّيَةِ ) أَمَّا الْحَدُّ فَلِمَا ذَكَرْنَا وَأَمَّا الْغَرَامَةُ فَلِأَنَّهُ بَقِيَ مَنْ يَبْقَى بِشَهَادَتِهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْحَقِّ ، وَالْمُعْتَبَرُ بَقَاءُ مَنْ بَقِيَ لَا رُجُوعُ مَنْ رَجَعَ عَلَى مَا عُرِفَ

( قَوْلُهُ : وَإِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَرُجِمَ ) حَاصِلُ وُجُوهِ رُجُوعِ وَاحِدٍ ثَلَاثَةٌ : إمَّا قَبْلَ الْقَضَاءِ ، أَوْ بَعْدَهُ قَبْلَ الْإِمْضَاءِ ، أَوْ بَعْدَهُ .
ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ كُلَّهَا ، فَذَكَرَ أَوَّلًا مَا إذَا رَجَعَ وَاحِدٌ مِنْ الْأَرْبَعَةِ بَعْدَ الْإِمْضَاءِ وَهُوَ الرَّجْمُ مَثَلًا ، وَأَنَّ حُكْمَهُ أَنَّهُ وَحْدَهُ يَغْرَمُ رُبْعَ الدِّيَةِ .
أَمَّا غَرَامَةُ رُبْعِ الدِّيَةِ فَلِأَنَّهُ بَقِيَ مَنْ يَبْقَى بِشَهَادَتِهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا فَيَكُونُ التَّالِفُ بِشَهَادَةِ الرَّاجِعِ رُبْعَهَا لِإِتْلَافِهِ بِهَا رُبْعَ النَّفْسِ حُكْمًا فَيَضْمَنُ بَدَلَ الرُّبْعِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَجِبُ الْقَتْلُ لَا الْمَالُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي شُهُودِ الْقِصَاصِ أَنَّهُمْ إذَا رَجَعُوا يُقْتَلُونَ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَسَنُبَيِّنُهُ فِي الدِّيَاتِ ) قِيلَ وَقَعَتْ الْحَوَالَةُ غَيْرَ رَائِجَةٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ فِيهِ وَأَمَّا حَدُّ الرَّاجِعِ وَحْدَهُ فَمَذْهَبُ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ أَنَّهُ يَحُدُّهُ وَقَالَ زُفَرُ : لَا يُحَدُّ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ قَاذِفَ حَيٍّ بِرُجُوعِهِ فَقَدْ بَطَلَ بِالْمَوْتِ لِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ لَا يُورَثُ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ فَيُورَثُ شُبْهَةً ، وَإِنْ كَانَ قَاذِفَ مَيِّتٍ فَهُوَ مَرْجُومٌ بِحُكْمِ الْقَاضِي وَحُكْمُهُ بِرَجْمِهِ يُوجِبُ شُبْهَةً فِي إحْصَانِهِ وَلِهَذَا لَا يُحَدُّ الْبَاقُونَ إجْمَاعًا ( قَوْلُهُ : وَلَنَا إلَخْ ) حَاصِلُهُ اخْتِيَارُ الشِّقِّ الثَّانِي وَهُوَ أَنَّهُ قَذْفُ مَيِّتٍ ثُمَّ نَفَى الشُّبْهَةَ الدَّارِئَةَ لِحَدِّ الْقَذْفِ عَنْهُ ، أَمَّا إنَّهُ قَذْفُ مَيِّتٍ فَلِأَنَّ بِالرُّجُوعِ تَنْفَسِخُ شَهَادَتُهُ فَتَصِيرُ قَذْفًا لِلْحَالِ لَا أَنَّهُ بِالرُّجُوعِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ تِلْكَ الشَّهَادَةَ كَانَتْ قَذْفًا مِنْ الْأَوَّلِ لِأَنَّهَا حِينَ وَقَعَتْ كَانَتْ مُعْتَبَرَةً شَهَادَةً غَيْرَ أَنَّ بِالرُّجُوعِ تَنْفَسِخُ فَتَصِيرُ قَذْفًا لِلْحَالِ ، كَمَنْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ ثُمَّ وَجَدَ الشَّرْطَ بَعْدَ سَنَةٍ فَوَقَعَ يَقَعُ الْآنَ لَا أَنَّهُ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ وَقَعَ حِينَ التَّكَلُّمِ بِهِ ، وَكَذَا

إذَا فَسَخَ وَارِثُ الْمُشْتَرِي الْبَيْعَ مَعَ الْبَائِعِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُشْتَرِي يَثْبُتُ بِهِ الْمِلْكُ فِي الْحَالِ لِلْبَائِعِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ ظَهَرَ أَحَدُهُمْ عَبْدًا بَعْدَ الْحَدِّ فَإِنَّهُمْ يُحَدُّونَ كُلُّهُمْ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّ الرَّاجِعَ وَغَيْرَهُ قَذَفَةٌ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا شَهَادَةَ لَهُ فَكَانَ عَدَدُ الشُّهُودِ نَاقِصًا فَيُحَدُّونَ ، وَإِنَّمَا لَا يُحَدُّونَ مِنْ بَعْدِ الرَّجْمِ عِنْدَ ظُهُورِ أَحَدِهِمْ عَبْدًا لِأَنَّهُ قَذَفَ حَيًّا فَمَاتَ ، وَأَمَّا إنَّ كَوْنَهُ مَرْجُومًا لَيْسَ شُبْهَةً فِي حَقِّهِ دَارِئَةً لِلْحَدِّ عَنْهُ ، فَلِأَنَّهُ لَمَّا انْفَسَخَتْ الْحُجَّةُ انْفَسَخَ مَا بُنِيَ عَلَيْهَا وَهُوَ الْقَضَاءُ بِرَجْمِهِ فِي حَقِّهِ بِزَعْمِهِ وَاعْتِرَافِهِ ، فَإِذَا انْفَسَخَ تَلَاشَى فَكَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَكِنَّ ذَلِكَ فِي حَقِّ الرَّاجِعِ خَاصَّةً فَلَمْ يَكُنْ بِحَيْثُ يُوجِبُ شُبْهَةً فِي حَقِّهِ لِأَنَّ زَعْمَهُ مُعْتَبَرٌ فِي حَقِّهِ ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْفَسِخْ فِي حَقِّ غَيْرِهِ فَلِذَا حُدَّ الرَّاجِعُ وَلَمْ يُحَدَّ غَيْرُهُ لَوْ قَذَفَهُ لِأَنَّ الْقَضَاءَ لَمَّا كَانَ قَائِمًا فِي حَقِّ الْغَيْرِ صَارَ الْمَرْجُومُ غَيْرَ مُحْصَنٍ فِي حَقِّهِ .
ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ رُجُوعَ الْوَاحِدِ قَبْلَ الْإِمْضَاءِ بَعْدَ الْقَضَاءِ فَقَالَ : ( فَإِنْ لَمْ يُحَدَّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِالزِّنَا حَتَّى رَجَعَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ ) أَيْ بَعْدَ الْقَضَاءِ قَبْلَ الْإِمْضَاءِ ( حُدُّوا جَمِيعًا .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ ) وَزُفَرُ : ( يُحَدُّ الرَّاجِعُ وَحْدَهُ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ تَأَكَّدَتْ بِالْقَضَاءِ ) فَلَمْ يَبْقَ طَرِيقٌ إلَى وُقُوعِهَا قَذْفًا .
فَالرُّجُوعُ بَعْدَ الْقَضَاءِ قَبْلَ الْإِمْضَاءِ إنَّمَا يُؤَثِّرُ فَفَسْخُ الْقَضَاءِ فِي حَقِّهِ خَاصَّةً كَالرُّجُوعِ بَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ ( وَلَهُمَا أَنَّ الْإِمْضَاءَ ) أَيْ اسْتِيفَاءَ الْحَدِّ ( مِنْ الْقَضَاءِ ) وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ كَوْنِ الْإِمْضَاءِ مِنْ الْقَضَاءِ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فِي مَسْأَلَةِ التَّقَادُمِ فَكَانَ رُجُوعُهُ قَبْلَ الْإِمْضَاءِ كَرُجُوعِهِ قَبْلَ الْقَضَاءِ ، وَتَظْهَرُ ثَمَرَةُ كَوْنِ

الْإِمْضَاءِ مِنْ الْقَضَاءِ فِيمَا إذَا اعْتَرَضَتْ أَسْبَابُ الْجَرْحِ فِي الشُّهُودِ أَوْ سُقُوطُ إحْصَانِ الْمَقْذُوفِ أَوْ عَزْلُ الْقَاضِي يَمْتَنِعُ اسْتِيفَاءُ حَدِّ الْقَذْفِ وَغَيْرِهِ ، ثُمَّ ذَكَرَ رُجُوعَهُ قَبْلَ الْقَضَاءِ فَقَالَ : ( وَلَوْ رَجَعَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ قَبْلَ الْقَضَاءِ حُدُّوا جَمِيعًا ) وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ ( وَقَالَ زُفَرُ : يُحَدُّ الرَّاجِعُ خَاصَّةً ) لِأَنَّ رُجُوعَهُ عَامِلٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ دُونَ غَيْرِهِ فَتَبْقَى شَهَادَتُهُمْ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ لَا تَنْقَلِبُ قَذْفًا ( وَلَنَا أَنَّ كَلَامَهُمْ قَذْفٌ فِي الْأَصْلِ ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ شَهَادَةً بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ ) وَلَمْ يَتَّصِلْ بِهِ ؛ لِأَنَّ رُجُوعَهُمْ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ فَبَقِيَ قَذْفًا فَيُحَدُّونَ .
وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ : كَلَامُهُمْ قَذْفٌ فِي الْأَصْلِ ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ شَهَادَةً مَا دَامَ بِصِفَةِ إيجَابِهِ الْقَضَاءَ عَلَى الْقَاضِي وَبِالرُّجُوعِ انْتَفَى فَكَانَ قَذْفًا ، وَهَذَا لِأَنَّ كَوْنَهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ الْقَذْفِ إلَى الشَّهَادَةِ إلَّا بِاتِّصَالِهِ بِحَقِيقَةِ الْقَضَاءِ مِمَّا يُمْنَعُ .
إذَا عُرِفَ هَذَا قُلْنَا : لَوْ امْتَنَعَ الرَّابِعُ عَنْ الْأَدَاءِ يُحَدُّ الثَّلَاثَةُ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ بِسُكُوتِ الرَّابِعِ بَلْ بِنِسْبَةِ الثَّلَاثَةِ إيَّاهُ إلَى الزِّنَا قَوْلًا ، فَكَذَا إذَا رَجَعَ أَحَدُهُمْ يُحَدُّ ثَلَاثَتُهُمْ بِقَوْلِهِمْ زَنَى ( قَوْلُهُ فَإِنْ كَانُوا خَمْسَةً ) عَطْفٌ عَلَى أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ وَلَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ ( فَرَجَعَ أَحَدُهُمْ ) أَيْ بَعْدَ الرَّجْمِ ( لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ) أَيْ لَا حَدَّ وَلَا غَرَامَةَ ( لِأَنَّهُ بَقِيَ ) بَعْدَ رُجُوعِهِ ( مَنْ يَبْقَى بِشَهَادَتِهِ كُلُّ الْحَقِّ وَهُوَ شَهَادَةُ الْأَرْبَعَةِ ) وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ سِوَى قَوْلٍ لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ غَيْرُ الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ ( وَإِنْ رَجَعَ آخَرُ ) مَعَ الْأَوَّلِ ( حُدَّ كُلٌّ مِنْهُمَا وَغَرِمَا رُبْعَ الدِّيَةِ ) وَلِلشَّافِعِيِّ تَفْصِيلٌ ، وَهُوَ أَنَّهُمَا إنْ قَالَا : أَخْطَأْنَا وَجَبَ عَلَيْهِمَا قِسْطُهُمَا مِنْ الدِّيَةِ .
وَفِيهِ وَجْهَانِ : فِي

وَجْهٍ خُمُسَاهَا ، وَفِي وَجْهٍ رُبْعُهَا كَقَوْلِنَا وَلَوْ قَالَا : تَعَمَّدْنَا الْكَذِبَ يُقْتَلَانِ ( أَمَّا الْحَدُّ فَلِمَا ذَكَرْنَا ) يَعْنِي مِنْ أَنَّ الشَّهَادَةَ تَنْقَلِبُ قَذْفًا لِلْحَالِ فَعَلَيْهِمَا الْحَدُّ يَعْنِي عِنْدَ رُجُوعِ الثَّانِي تَنْفَسِخُ شَهَادَتُهُمَا قَذْفًا لِعَدَمِ بَقَاءِ تَمَامِ الْحُجَّةِ بَعْدَ رُجُوعِ الثَّانِي ، لَا أَنَّ رُجُوعَ الثَّانِي هُوَ الْمُوجِبُ لِلْحَدِّ ، ( وَأَمَّا الْغَرَامَةُ فَلِأَنَّهُ بَقِيَ مَنْ يَبْقَى بِشَهَادَتِهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْحَقِّ وَالْمُعْتَبَرُ ) فِي قَدْرِ لُزُومِ الْغَرَامَةِ ( بَقَاءُ مَنْ بَقِيَ ) لَا رُجُوعُ مَنْ رَجَعَ عَلَى مَا عُرِفَ

( وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَزُكُّوا فَرُجِمَ فَإِذَا الشُّهُودُ مَجُوسٌ أَوْ عَبِيدٌ فَالدِّيَةُ عَلَى الْمُزَكِّينَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) مَعْنَاهُ إذَا رَجَعُوا عَنْ التَّزْكِيَةِ ( وَقَالَا هُوَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ ) وَقِيلَ هَذَا إذَا قَالُوا تَعَمَّدْنَا التَّزْكِيَةَ مَعَ عِلْمِنَا بِحَالِهِمْ ، لَهُمَا أَنَّهُمْ أَثْنَوْا عَلَى الشُّهُودِ خَيْرًا فَصَارَ كَمَا إذَا أَثْنَوْا عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ خَيْرًا بِأَنْ شَهِدُوا بِإِحْصَانِهِ .
وَلَهُ أَنَّ الشَّهَادَةَ إنَّمَا تَصِيرُ حُجَّةً عَامِلَةً بِالتَّزْكِيَةِ ، فَكَانَتْ التَّزْكِيَةُ فِي مَعْنَى عِلَّةِ الْعِلَّةِ فَيُضَافُ الْحُكْمُ إلَيْهَا بِخِلَافِ شُهُودِ الْإِحْصَانِ ؛ لِأَنَّهُ مَحْضُ الشَّرْطِ .
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا شَهِدُوا بِلَفْظَةِ الشَّهَادَةِ أَوْ أَخْبَرُوا ، وَهَذَا إذَا أَخْبَرُوا بِالْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ ، أَمَّا إذَا قَالُوا هُمْ عُدُولٌ وَظَهَرُوا عَبِيدًا لَا يَضْمَنُونَ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَكُونُ عَدْلًا ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الشُّهُودِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ كَلَامُهُمْ شَهَادَةً ، وَلَا يُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ ؛ لِأَنَّهُمْ قَذَفُوا حَيًّا وَقَدْ مَاتَ فَلَا يُورَثُ عَنْهُ

( قَوْلُهُ : وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا وَزُكُّوا ) أَيْ بِأَنْ قَالَ الْمُزَكُّونَ : هُمْ أَحْرَارٌ مُسْلِمُونَ عُدُولٌ ، أَمَّا لَوْ اقْتَصَرُوا عَلَى قَوْلِهِمْ عُدُولٌ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُزَكِّينَ بِالِاتِّفَاقِ إذَا ظَهَرُوا عَبِيدًا ، فَإِذَا زُكُّوا كَمَا قُلْنَا فَرُجِمَ ثُمَّ ظَهَرَ بَعْضُهُمْ كَافِرًا أَوْ عَبْدًا فَإِمَّا أَنْ يَسْتَمِرَّ الْمُزَكُّونَ عَلَى تَزْكِيَتِهِمْ قَائِلِينَ هُمْ أَحْرَارٌ مُسْلِمُونَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ اتِّفَاقًا ، وَمَعْنَاهُ بَعْدَ ظُهُورِ كُفْرِهِمْ حُكْمُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ، وَإِنَّمَا طَرَأَ كُفْرُهُمْ بَعْدُ ، وَإِنْ قَالُوا : أَخْطَأْنَا فِي ذَلِكَ فَكَذَلِكَ لَا يَضْمَنُونَ بِالِاتِّفَاقِ فَلَمْ يَبْقَ لِصُورَةِ الرُّجُوعِ الَّتِي فِيهَا الْخِلَافُ إلَّا أَنْ يَقُولُوا تَعَمَّدْنَا فَقُلْنَا هُمْ أَحْرَارٌ مُسْلِمُونَ مَعَ عِلْمِنَا بِخِلَافِ ذَلِكَ مِنْهُمْ ، فَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : الدِّيَةُ عَلَى الْمُزَكِّينَ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : عَلَى بَيْتِ الْمَالِ ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ .
إذَا عُرِفَ هَذَا فَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَقِيلَ هَذَا إذَا قَالُوا : تَعَمَّدْنَا التَّزْكِيَةَ مَعَ عِلْمِنَا بِحَالِهِمْ لَيْسَ عَلَى مَا يَنْبَغِي بَعْدَ قَوْلِهِ إذَا رَجَعُوا عَنْ التَّزْكِيَةِ لِأَنَّهُ يُوهِمُ أَنَّ فِي صُورَةِ الرُّجُوعِ الْخِلَافِيَّةِ قَوْلَيْنِ أَنْ يَرْجِعُوا بِهَذَا الْوَجْهِ أَوْ بِأَعَمَّ مِنْهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ( لَهُمَا أَنَّهُمْ ) لَوْ ضَمِنُوا لَكَانَ ضَمَانَ عُدْوَانٍ وَهُوَ بِالْمُبَاشَرَةِ أَوْ التَّسَبُّبِ وَعَدَمِ الْمُبَاشَرَةِ ظَاهِرٌ ، وَكَذَا التَّسَبُّبُ لِأَنَّ سَبَبَ الْإِتْلَافِ الزِّنَا وَهُمْ لَمْ يُثْبِتُوهُ وَإِنَّمَا ( أَثْنَوْا عَلَى الشُّهُودِ خَيْرًا فَصَارَ كَمَا لَوْ أَثْنَوْا عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِالْإِحْصَانِ ) فَكَمَا لَا يَضْمَنُ شُهُودُ الْإِحْصَانِ بَعْدَ رَجْمِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِهِ إذَا ظَهَرَ غَيْرَ مُحْصَنٍ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُثْبِتُوا السَّبَبَ كَذَلِكَ لَا يَضْمَنُ الْمُزَكُّونَ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الشَّهَادَةَ بِالزِّنَا (

إنَّمَا تَصِيرُ حُجَّةً ) مُوجِبَةً لِلْحُكْمِ بِالرَّجْمِ عَلَى الْحَاكِمِ ( بِالتَّزْكِيَةِ ، فَكَانَتْ التَّزْكِيَةُ فِي مَعْنَى عِلَّةِ الْعِلَّةِ ) لِلْإِتْلَافِ لِأَنَّهَا مُوجِبَةٌ مُوجِبِيَّةَ الشَّهَادَةِ لِلْحُكْمِ بِهِ ، وَعِلَّةُ الْعِلَّةِ كَالْعِلَّةِ فِي إضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا عَلَى مَا عُرِفَ ، بِخِلَافِ الْإِحْصَانِ فَإِنَّهُ لَيْسَ مُوجِبًا لِلْعُقُوبَةِ وَلَا لِتَغْلِيظِهَا بَلْ الزِّنَا هُوَ الْمُوجِبُ فَعِنْدَ الْإِحْصَانِ يُوجِبُهَا غَلِيظَةً لِأَنَّهُ كُفْرَانُ نِعْمَةِ اللَّهِ فَلَمْ تُضَفْ الْعُقُوبَةُ إلَى نَفْسِ الْإِحْصَانِ الَّذِي هُوَ النِّعْمَةُ بَلْ إلَى كُفْرَانِ النِّعْمَةِ فَكَانَتْ الشَّهَادَةُ بِهِ الشَّهَادَةَ بِثُبُوتِ عَلَامَةٍ عَلَى اسْتِحْقَاقِ تَغْلِيظِ الْعُقُوبَةِ ، وَالسَّبَبُ وَضْعُ الْكُفْرَانِ فِي مَوْضِعِ الشُّكْرِ ، ثُمَّ أَفَادَ الْمُصَنِّفُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي التَّزْكِيَةِ لَفْظُ الشَّهَادَةِ بِأَنْ قَالُوا : نَشْهَدُ أَنَّهُمْ أَحْرَارٌ إلَخْ بَلْ ذَلِكَ أَوْ الْإِخْبَارُ كَأَنْ يَقُولُوا : هُمْ أَحْرَارٌ ، وَكَذَا لَا يُشْتَرَطُ مَجْلِسُ الْقَضَاءِ اتِّفَاقًا ، ثُمَّ لَا يُشْتَرَطُ الْعَدَدُ فِي الْمُزَكَّى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ فَيَشْتَرِطُ الِاثْنَيْنِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ الْأَرْبَعَةِ فِي الزِّنَا ، وَيَجُوزُ شَهَادَةُ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ فِي الْإِحْصَانِ ثُمَّ لَا يُحَدُّ الشُّهُودُ حَدَّ الْقَذْفِ لِأَنَّهُمْ قَذَفُوا حَيًّا فَمَاتَ وَلَا يُورَثُ اسْتِحْقَاقُ حَدِّ الْقَذْفِ .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ وَقَعَ فِي الْمَنْظُومَةِ قَوْلُهُ : عَلَى الْمُزَكِّينَ ضَمَانُ مَنْ رُجِمَ إنْ ظَهَرَ الشَّاهِدُ عَبْدًا وَعُلِمَ وَأَوْجَبَا ضَمَانَ هَذَا الْمُتْلَفِ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ فَاعْرِفْ وَفِي الْمُزَكِّينَ إذَا هُمْ رَجَعُوا كَذَا وَقَالُوا عُزِّرُوا وَأُوجِعُوا وَفِي الْمُخْتَلَفِ مَا يُوَافِقُ مَا فِي الْمَنْظُومَةِ لِأَنَّهُ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ الْخِلَافِ مُطْلَقًا عَنْ قَيْدِ الرُّجُوعِ : وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إذَا رَجَعَ الْمُزَكُّونَ .
قَالَ فِي الْمُصَفَّى شَرْحِ الْمَنْظُومَةِ : وَهُنَا إشْكَالٌ هَائِلٌ ، فَإِنَّا إنْ أَوَّلْنَا

الْمَسْأَلَةَ بِالرُّجُوعِ يَلْزَمْ التَّكْرَارُ ، وَإِنْ لَمْ نُؤَوِّلْهَا بِالرُّجُوعِ يَلْزَمْ الْمُخَالَفَةُ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ ذَكَرَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مُطْلَقًا كَمَا ذَكَرَ هُنَا ، وَفِي الشَّرْحِ خِلَافُهُ ثُمَّ قَالَ : وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُؤَوَّلَ بِالرُّجُوعِ وَلَا يَلْزَمُ التَّكْرَارُ ؛ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ الْأُولَى فِيمَا إذَا ظَهَرَ الشُّهُودُ عَبِيدًا وَرَجَعَ الْمُزَكُّونَ أَيْضًا .
وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ يَعْنِي الَّتِي فِي الْبَيْتِ الثَّالِثِ فِيمَا إذَا رَجَعَ الْمُزَكُّونَ فَحَسْبُ وَالتَّفَاوُتُ ظَاهِرٌ ا هـ .
وَعَلَى هَذَا فَالْخِلَافُ فِي مَوْضِعَيْنِ : مَا إذَا ظَهَرُوا عَبِيدًا وَرَجَعُوا ، وَمَا إذَا رَجَعُوا فَقَطْ ؛ وَأَمَّا تَعْزِيرُهُمْ فَبِاتِّفَاقٍ .
وَقَوْلُ صَاحِبِ الْمُجْمَعِ : وَلَوْ شَهِدُوا فَزُكُّوا فَرُجِمَ ثُمَّ ظَهَرَ أَحَدُهُمْ عَبْدًا فَالضَّمَانُ عَلَى الْمُزَكِّينَ إنْ تَعَمَّدُوا .
وَقَالَا : فِي بَيْتِ الْمَالِ .
وَلَوْ رَجَعَ الْمُزَكُّونَ عُزِّرَ ، وَإِلَّا يُفِيدَ تَحَقُّقَ الْخِلَافِ فِي الضَّمَانِ فِي مُجَرَّدِ رُجُوعِهِمْ ، بَلْ أَفَادَ مُجَرَّدَ الِاتِّفَاقِ عَلَى التَّعْزِيرِ ، فَالْإِشْكَالُ قَائِمٌ عَلَى صَاحِبِ الْمَنْظُومَةِ عَلَى مَا مَشَى هُوَ عَلَيْهِ .
وَحَاصِلُ الْجَمْعِ اشْتِرَاطُ الرُّجُوعِ مَعَ الظُّهُورِ لِتَحَقُّقِ الْخِلَافِ فَلَا يَنْفَرِدُ الظُّهُورُ بِالتَّضْمِينِ الْخِلَافِيِّ بَلْ الِاتِّفَاقُ أَنَّهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ كَمَا سَيُذْكَرُ ، وَيَنْفَرِدُ رُجُوعُ الْمُزَكِّينَ بِالتَّضْمِينِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ أَهْوَ عَلَيْهِمْ أَوْ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ ، وَبِهِ يَزُولُ الْإِشْكَالُ عَنْهُ ، غَيْرَ أَنَّ مِنْ الْعَجَبِ كَوْنَ مُجَرَّدِ رُجُوعِ الْمُزَكِّينَ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَى الْخِلَافِ ، وَلَا يُذْكَرُ فِي الْأُصُولِ كَالْجَامِعِ وَالْأَصْلِ

( وَإِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَأَمَرَ الْقَاضِي بِرَجْمِهِ فَضَرَبَ رَجُلٌ عُنُقَهُ ثُمَّ وَجَدَ الشُّهُودَ عَبِيدًا فَعَلَى الْقَاتِلِ الدِّيَةُ ) وَفِي الْقِيَاسِ يَجِبُ الْقِصَاصُ ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ نَفْسًا مَعْصُومَةً بِغَيْرِ حَقٍّ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْقَضَاءَ صَحِيحٌ ظَاهِرًا وَقْتَ الْقَتْلِ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَتَلَهُ قَبْلَ الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَمْ تَصِرْ حُجَّةً بَعْدُ ، وَلِأَنَّهُ ظَنَّهُ مُبَاحَ الدَّمِ مُعْتَمِدًا عَلَى دَلِيلٍ مُبِيحٍ فَصَارَ كَمَا إذَا ظَنَّهُ حَرْبِيًّا وَعَلَيْهِ عَلَامَتُهُمْ ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ ؛ لِأَنَّهُ عَمْدٌ ، وَالْعَوَاقِلُ لَا تَعْقِلُ الْعَمْدَ ، وَيَجِبُ ذَلِكَ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ بِنَفْسِ الْقَتْلِ ( وَإِنْ رُجِمَ ثُمَّ وُجِدُوا عَبِيدًا فَالدِّيَةُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ ) ؛ لِأَنَّهُ امْتَثَلَ أَمْرَ الْإِمَامِ فَنَقَلَ فِعْلَهُ إلَيْهِ ، وَلَوْ بَاشَرَهُ بِنَفْسِهِ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِمَا ذَكَرْنَا كَذَا هَذَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا ضَرَبَ عُنُقَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتَمِرْ أَمْرَهُ

( قَوْلُهُ وَإِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَأَمَرَ الْقَاضِي بِرَجْمِهِ إلَخْ ) اسْتَوْفَى أَقْسَامَهَا فِي كَافِي حَافِظِ الدِّينِ فَقَالَ : إنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَأَمَرَ الْإِمَامُ بِرَجْمِهِ فَقَتَلَهُ رَجُلٌ عَمْدًا أَوْ خَطَأً بَعْدَ الشَّهَادَةِ قَبْلَ التَّعْدِيلِ يَجِبُ الْقَوَدُ فِي الْعَمْدِ وَالدِّيَةُ فِي الْخَطَإِ عَلَى عَاقِلَتِهِ ، وَكَذَا إذَا قَتَلَهُ بَعْدَ التَّزْكِيَةِ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِالرَّجْمِ ، وَإِنْ قَضَى بِرَجْمِهِ فَقَتَلَهُ رَجُلٌ عَمْدًا أَوْ خَطَأً لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ قَتَلَهُ عَمْدًا بَعْدَ الْقَضَاءِ ثُمَّ وَجَدَ الشُّهُودَ عَبِيدًا أَوْ كُفَّارًا أَوْ مَحْدُودِينَ فِي قَذْفٍ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ لِأَنَّهُ قَتَلَ نَفْسًا مَحْقُونَ الدَّمَ عَمْدًا ، لَكِنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ أَنَّ الشُّهُودَ عَبِيدٌ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقَضَاءَ لَمْ يَصِحَّ وَلَمْ يَصِرْ مُبَاحَ الدَّمِ وَقَدْ قَتَلَهُ بِفِعْلٍ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ ، إذْ الْمَأْمُورُ بِهِ الرَّجْمُ وَهُوَ قَدْ حَزَّ رَقَبَتَهُ فَلَمْ يُوَافِقْ أَمْرَ الْقَاضِي لِيَصِيرَ فِعْلُهُ مَنْقُولًا إلَيْهِ فَبَقِيَ مَقْصُورًا عَلَيْهِ .
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ : تَجِبُ الدِّيَةُ بِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي بِالرَّجْمِ نَفَذَ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ ، وَحِينَ قَتَلَهُ كَانَ الْقَضَاءُ صَحِيحًا فَأَوْرَثَ شُبْهَةَ الْإِبَاحَةِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَوْ نُفِّذَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا تَثْبُتُ حَقِيقَةُ الْإِبَاحَةِ ، فَإِذَا نُفِّذَ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ تَثْبُتُ شُبْهَةُ الْإِبَاحَةِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَتَلَهُ قَبْلَ الْقَضَاءِ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَمْ تَصِرْ حُجَّةً : يَعْنِي فَيُقْتَصُّ مِنْهُ فِي الْعَمْدِ فَصَارَ كَمَنْ قَتَلَ إنْسَانًا عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ حَرْبِيٌّ وَعَلَيْهِ عَلَامَتُهُمْ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ لِأَنَّهُ عَمْدٌ .
وَالْعَاقِلَةُ لَا تَعْقِلُ الْعَمْدَ وَتَجِبُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ بِنَفْسِ الْقَتْلِ ، وَمَا يَجِبُ بِنَفْسِ الْقَتْلِ يَجِبُ مُؤَجَّلًا كَالدِّيَةِ ، بِخِلَافِ مَا وَجَبَ بِالصُّلْحِ عَنْ الْقَوَدِ حَيْثُ يَجِبُ حَالًا ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ

وَجَبَ بِالْعَقْدِ لَا بِنَفْسِ الْقَتْلِ فَأَشْبَهَ الثَّمَنَ وَمَا فِي الْكِتَابِ لَا يَخْفَى بَعْدَ ذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ : ( وَإِنْ رَجَمَ ) ضَبَطَهُ الْأَسَاتِذَةُ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ لِيَرْجِعَ ضَمِيرُهُ إلَى الرَّجُلِ فِي قَوْلِهِ : فَضَرَبَ رَجُلٌ عُنُقَهُ ، وَيُطَابِقُ قَوْلُ السَّرَخْسِيِّ فِي الْمَبْسُوطِ مَا فِي مَبْسُوطِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ حَيْثُ قَالَ فِيهِ : وَإِنْ كَانَ هَذَا الرَّجُلُ قَتَلَهُ رَجْمًا ثُمَّ وُجِدُوا عَبِيدًا تَجِبُ الدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ ( لِمَا ذَكَرْنَا ) يَعْنِي فِي مَسْأَلَةِ الْجَلَّادِ إذَا جَرَحَ مِنْ قَوْلِهِ يَنْتَقِلُ فِعْلُ الْجَلَّادِ إلَى الْقَاضِي وَهُوَ عَامِلٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَتَجِبُ الْغَرَامَةُ فِي مَالِهِمْ ( كَذَا هَذَا ) أَيْ الرَّجُلُ الْقَاتِلُ بِالرَّجْمِ بَعْدَ أَمْرِ الْقَاضِي ( بِخِلَافِ مَا إذَا ضَرَبَ عُنُقَهُ ) ثُمَّ ظَهَرُوا عَبِيدًا تَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ كَمَا ذَكَرْنَا ( لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتَمِرْ أَمْرَهُ ) فَلَمْ يَنْتَقِلْ فِعْلُهُ إلَيْهِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا ، وَلِهَذَا يُؤَدِّبُهُ عَلَى الْقَتْلِ بِالسَّيْفِ وَلَا يُؤَدِّبُهُ هُنَا لِأَنَّهُ لَمْ يُخَالِفْ

( وَإِذَا شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا وَقَالُوا تَعَمَّدْنَا النَّظَرَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ ) ؛ لِأَنَّهُ يُبَاحُ النَّظَرُ لَهُمْ ضَرُورَةَ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ فَأَشْبَهَ الطَّبِيبَ وَالْقَابِلَةَ
( قَوْلُهُ وَإِذَا شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا وَقَالُوا تَعَمَّدْنَا النَّظَرَ ) أَيْ إلَى فَرْجَيْهِمَا ( قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ ) وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْمَنْصُوصِ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ لِأَنَّهُ لِضَرُورَةِ ثُبُوتِ الْقُدْرَةِ عَلَى إقَامَةِ الْحِسْبَةِ ، وَالنَّظَرُ إلَى الْعَوْرَةِ عِنْدَ الْحَاجَةِ لَا يُوجِبُ فِسْقًا كَنَظَرِ الْقَابِلَةِ وَالْخَافِضَةِ وَالْخَتَّانِ وَالطَّبِيبِ .
وَعَدَّ فِي الْخُلَاصَةِ مَوَاضِعَ حِلِّ النَّظَرِ إلَى الْعَوْرَةِ لِلضَّرُورَةِ فَزَادَ الِاحْتِقَانَ وَالْبَكَارَةَ فِي الْعُنَّةِ وَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ ، وَالْمَرْأَةُ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ أَوْلَى ، وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ سَتَرَ مَا وَرَاءَ مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالُوا : تَعَمَّدْنَا النَّظَرَ لِلتَّلَذُّذِ لَا تُقْبَلُ إجْمَاعًا .
وَنُسِبَ إلَى بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ إلَّا إذَا لَمْ يُبَيِّنُوا كَيْفِيَّةَ النَّظَرِ فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ وَقَعَ اتِّفَاقًا لَا قَصْدًا ، وَقُلْنَا : إنَّ النَّظَرَ يُبَاحُ لِلْحَاجَةِ عَلَى مَا قُلْنَا

( وَإِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَأَنْكَرَ الْإِحْصَانَ وَلَهُ امْرَأَةٌ قَدْ وَلَدَتْ مِنْهُ فَإِنَّهُ يُرْجَمُ ) مَعْنَاهُ أَنْ يُنْكِرَ الدُّخُولَ بَعْدَ وُجُودِ سَائِرِ الشَّرَائِطِ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِثَبَاتِ النَّسَبِ مِنْهُ حُكْمٌ بِالدُّخُولِ عَلَيْهِ ، وَلِهَذَا لَوْ طَلَّقَهَا يُعْقِبُ الرَّجْعَةَ وَالْإِحْصَانَ يَثْبُتُ بِمِثْلِهِ ( فَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَلَدَتْ مِنْهُ وَشَهِدَ عَلَيْهِ بِالْإِحْصَانِ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ رُجِمَ ) خِلَافًا لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ ؛ فَالشَّافِعِيُّ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ شَهَادَتَهُنَّ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ فِي غَيْرِ الْأَمْوَالِ ، وَزُفَرُ يَقُولُ إنَّهُ شَرْطٌ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ تَتَغَلَّظُ عِنْدَهُ فَيُضَافُ الْحُكْمُ إلَيْهِ فَأَشْبَهَ حَقِيقَةَ الْعِلَّةِ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِيهِ احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ ، فَصَارَ كَمَا إذَا شَهِدَ ذِمِّيَّانِ عَلَى ذِمِّيٍّ زَنَى عَبْدُهُ الْمُسْلِمُ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ قَبْلَ الزِّنَا لَا تُقْبَلُ لِمَا ذَكَرْنَا .
وَلَنَا أَنَّ الْإِحْصَانَ عِبَارَةٌ عَنْ الْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ ، وَأَنَّهَا مَانِعَةٌ مِنْ الزِّنَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَلَا يَكُونُ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ وَصَارَ كَمَا إذَا شَهِدُوا بِهِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ ، بِخِلَافِ مَا ذُكِرَ ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِمَا ، وَإِنَّمَا لَا يَثْبُتُ سَبْقُ التَّارِيخِ ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُهُ الْمُسْلِمُ أَوْ يَتَضَرَّرُ بِهِ الْمُسْلِمُ ( فَإِنْ رَجَعَ شُهُودُ الْإِحْصَانِ لَا يَضْمَنُونَ ) عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ وَهُوَ فَرْعُ مَا تَقَدَّمَ .

( قَوْلُهُ : وَإِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَأَنْكَرَ الْإِحْصَانَ وَلَهُ امْرَأَةٌ قَدْ وَلَدَتْ مِنْهُ فَإِنَّهُ يُرْجَمُ ) قَالَ الْمُصَنِّفُ : ( مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُنْكِرُ الدُّخُولَ بِهَا بَعْدَ وُجُودِ سَائِرِ الشَّرَائِطِ ) أَيْ شَرَائِطِ الْإِحْصَانِ ( لِأَنَّ الْحُكْمَ ) شَرْعًا ( بِثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْهُ حُكْمٌ بِالدُّخُولِ ) أَيْ يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ ( وَلِذَا لَوْ طَلَّقَهَا ) طَلْقَةً ( يُعْقِبُ الرَّجْعَةَ ) وَلَوْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا بَانَتْ بِالْوَاحِدَةِ الصَّرِيحَةِ ، وَالْفَرْضُ أَنَّهُمَا مُقِرَّانِ بِالْوَلَدِ ، وَلَوْ ثَبَتَ الدُّخُولُ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ ثَبَتَ الْإِحْصَانُ ، فَإِذَا ثَبَتَ بِشَهَادَةِ الشَّرْعِ وَبِإِقْرَارِهِمَا أَوْلَى ، وَعَلَى كَوْنِ الْمَعْنَى مَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ مِنْ أَنَّ الْفَرْضَ وُجُودُ سَائِرِ شَرَائِطِ الْإِحْصَانِ يَدْخُلُ فِيهِ أَنَّ بَيْنَهُمَا نِكَاحًا صَحِيحًا ، فَمَا عَنْ الْأَئِمَّةِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ مِنْ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِذَلِكَ لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ مِنْ دُخُولٍ لَا عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ لَيْسَ بِخِلَافٍ ؛ لِأَنَّ بِفَرْضِ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ لَا يَكُونُ مِنْ وَطْءِ شُبْهَةِ الْغَيْرِ الْمَنْكُوحَةِ وَلَا مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ لِأَنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ لَا يَسْتَمِرُّ ظَاهِرًا مُوَلَّدًا عَلَى وَجْهِ الدِّيمَةِ وَالِاسْتِقْرَارِ كَمَا يُفِيدُهُ قَوْلُهُ وَلَهُ امْرَأَةٌ .
( قَوْلُهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَلَدَتْ مِنْهُ وَشُهِدَ عَلَيْهِ إلَخْ ) الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ أَنَّ الْإِحْصَانَ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ خِلَافًا لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ ، إلَّا أَنَّ الْمَبْنِيَّ مُخْتَلِفٌ ، فَعِنْدَهُمْ شَهَادَتُهُنَّ فِي غَيْرِ الْأَمْوَالِ لَا تُقْبَلُ .
وَعِنْدَ زُفَرَ إنْ قُبِلَتْ إلَّا أَنَّهُ يَقُولُ : الْإِحْصَانُ شَرْطٌ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ ، وَالشَّأْنُ إثْبَاتُ أَنَّهُ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ وَنَفْيِهِ لِأَنَّهُ الْمَدَارُ فَقَالَ : لِأَنَّ تَغْلِيظَ الْعُقُوبَةِ يَثْبُتُ عِنْدَهُ ، بِخِلَافِ الشَّرْطِ الْمَحْضِ ( فَأَشْبَهَ حَقِيقَةَ الْعِلَّةِ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِيهِ

احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ وَصَارَ كَمَا إذَا شَهِدَ ذِمِّيَّانِ عَلَى ذِمِّيٍّ زَنَى عَبْدُهُ الْمُسْلِمُ ) وَهُوَ مُحْصَنٌ ( أَنَّهُ أَعْتَقَهُ قَبْلَ زِنَاهُ لَا تُقْبَلُ ) مَعَ أَنَّ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الذِّمِّيِّ بِالْعِتْقِ مَقْبُولَةٌ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ ( لِمَا ذَكَرْنَا ) مِنْ أَنَّهُ شَرْطٌ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ فَصَارَ كَشَهَادَتِهِمْ عَلَى زِنَاهُ إذْ كَانَ الْمَقْصُودُ تَكْمِيلُ الْعُقُوبَةِ ، وَلَزِمَ مِنْ أَصْلِهِ هَذَا وَهُوَ أَنَّهُ شَرْطٌ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ أَنَّهُ إذَا رَجَعَ شُهُودُ الْإِحْصَانِ يَضْمَنُونَ عِنْدَهُ وَعِنْدَنَا لَا يَضْمَنُونَ إذْ كَانَ عَلَامَةً مَحْضَةً ( وَلَنَا ) فِي نَفْيِ أَنَّهُ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ ( أَنَّ الْإِحْصَانَ ) لَيْسَ إلَّا ( عِبَارَةٌ عَنْ خِصَالٍ حَمِيدَةٍ ) بَعْضُهَا غَيْرُ دَاخِلٍ تَحْتَ قُدْرَتِهِ كَالْحُرِّيَّةِ وَالْعَقْلِ وَبَعْضُهَا فَرْضٌ عَلَيْهِ كَالْإِسْلَامِ وَبَعْضُهَا مَنْدُوبٌ إلَيْهِ كَالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ وَالدُّخُولِ فِيهِ ، فَلَا يُتَصَوَّرُ كَوْنُهَا سَبَبًا لِلْعُقُوبَةِ وَلَا سَبَبًا لِسَبَبِهِ فَإِنَّ سَبَبَهَا الْمَعْصِيَةُ .
وَالْإِحْصَانُ بِحَسَبِ الْوَضْعِ مَانِعٌ مِنْ سَبَبٍ لِلْعُقُوبَةِ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِضِدِّ سَبَبِهَا وَهُوَ الطَّاعَةُ وَالشُّكْرُ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ تَكُونَ فِي مَعْنَى عِلَّةِ الْحُكْمِ وَهُوَ مَانِعٌ لِسَبَبِهِ ، فَالسَّبَبُ لَيْسَ إلَّا الزِّنَا إلَّا أَنَّهُ مُخْتَلِفُ الْحُكْمِ فَفِي حَالِ الْإِحْصَانِ حُكْمُهُ الرَّجْمُ وَفِي غَيْرِهِ الْجَلْدُ ، فَكَانَ الْإِحْصَانُ السَّابِقُ عَلَى الزِّنَا مُعَرَّفًا لِخُصُوصِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالزِّنَا أَعْنِي خُصُوصَ الْعُقُوبَةِ ، وَالْعَلَامَةُ الْمَحْضَةُ قَطُّ لَا يَكُونُ لَهَا تَأْثِيرٌ فَلَا تَكُونُ عِلَّةً وَلَا فِي مَعْنَاهَا فَكَيْفَ يُضَافُ الْحُكْمُ إلَيْهَا وَظَهَرَ أَنَّ الْوَاقِعَ أَنَّ الْإِحْصَانَ يَثْبُتُ مَعَهُ بِالزِّنَا عُقُوبَةٌ غَلِيظَةٌ ، وَبِالشَّهَادَةِ يَظْهَرُ مَا ثَبَتَ بِالزِّنَا عِنْدَ الْحَاكِمِ ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ سَبَبًا لِلْعُقُوبَةِ وَلَا عِلَّةً جَازَ أَنْ يَدْخُلَ فِي إثْبَاتِهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ ، كَمَا لَوْ شَهِدَتَا مَعَ الرَّجُلِ

بِالنِّكَاحِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ وَالدُّخُولِ فِي غَرَضٍ آخَرَ كَتَكْمِيلِ الْمَهْرِ حَتَّى يَثْبُتَ إحْصَانُهُ ، ثُمَّ اُتُّفِقَ أَنَّهُ شُهِدَ عَلَيْهِ بِالزِّنَا أَلَيْسَ أَنَّهُ يُرْجَمُ كَذَا إذَا شَهِدَتَا بَعْدَ ظُهُورِ الزِّنَا بِهِ ، فَكَمَا يَثْبُتُ قَبْلَهُ لِعَدَمِ كَوْنِهِ سَبَبًا كَذَا بَعْدَهُ ، وَصَارَ كَمَا لَوْ عَلَّقَ عِتْقَ عَبْدِهِ بِظُهُورِ دَيْنٍ لِفُلَانٍ عَلَيْهِ فَشَهِدَ اثْنَانِ بِالدَّيْنِ عَتَقَ الْعَبْدُ ، وَلَا يُضَافُ الْعِتْقُ إلَى الشَّهَادَةِ بِالدَّيْنِ بَلْ إلَى الْمُعَلَّقِ ، كَذَا هُنَا لَا يُضَافُ الرَّجْمُ بَعْدَ الشَّهَادَةِ بِالْإِحْصَانِ إلَى هَذِهِ الشَّهَادَةِ بَلْ إلَى الزِّنَا ( بِخِلَافِ مَا ذُكِرَ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الذِّمِّيَّيْنِ ) عَلَى الذِّمِّيِّ بِشَهَادَتِهِمَا عَلَيْهِ بِالْإِعْتَاقِ ( وَإِنَّمَا لَا يُعْتَقُ بِسَبْقِ التَّارِيخِ لِأَنَّهُ يُنْكِرُهُ ) الْعَبْدُ ( الْمُسْلِمُ أَوْ يَتَضَرَّرُ بِهِ ) فَلَا تَنْفُذُ شَهَادَتُهُمَا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ تَتَغَلَّظُ الْعُقُوبَةُ عَلَيْهِ فَتَصِيرُ مِائَةً بَعْدَ أَنْ كَانَتْ خَمْسِينَ .
وَاسْتُشْكِلَ كَوْنُهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ لِلْحَدِّ بِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِالْإِحْصَانِ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ صَحَّ رُجُوعُهُ كَالزِّنَا وَلِذَا تُقْبَلُ بَيِّنَةُ الْإِحْصَانِ حِسْبَةً بِلَا دَعْوَى ، فَيَجِبُ أَنْ يُشْتَرَطَ فِي الشَّهَادَةِ بِهِ الذُّكُورَةُ كَالتَّزْكِيَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
أُجِيبَ بِأَنَّ صِحَّةَ الرُّجُوعِ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى كَوْنِ الْمُقَرِّ بِهِ عِلَّةً لِلْعُقُوبَةِ بَلْ عَلَى كَوْنِ الْمُقَرِّ بِهِ لَا مُكَذِّبَ لَهُ فِيهِ إذَا رَجَعَ عَنْهُ وَلَا مُكَذِّبَ لَهُ فِي سَبَبِ الْحَدِّ ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ فَإِنَّ الْمُقَرَّ لَهُ يُكَذِّبُهُ فِي رُجُوعِهِ ، وَإِنَّمَا صَحَّتْ الْحِسْبَةُ فِيهِ لِأَنَّهُ مِنْ إظْهَارِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ، وَالْمَانِعُ مِنْ شَهَادَةِ النِّسَاءِ لَيْسَ هَذَا الْقَدْرَ بَلْ كَوْنُهُ سَبَبًا لِأَصْلِ الْعُقُوبَةِ ، فَحِينَ ثَبَتَتْ الْعُقُوبَةُ بِشَهَادَةِ الرِّجَالِ بِسَبَبِهَا كَانَ كَالشَّهَادَةِ عَلَى عِتْقِ الْأَمَةِ تُسْمَعُ بِلَا دَعْوَى عِنْدَ أَبِي

حَنِيفَةَ لِتَضَمُّنِهِ تَحْرِيمَ الْفَرْجِ .

[ فُرُوعٌ مِنْ الْمَبْسُوطِ ] شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَأَنْكَرَ الْإِحْصَانَ ، فَشَهِدَ رَجُلَانِ أَنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً نِكَاحًا صَحِيحًا وَدَخَلَ بِهَا يَثْبُتُ الْإِحْصَانُ فَيُرْجَمُ .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَثْبُتُ فَلَا يُرْجَمُ ، كَمَا لَوْ شَهِدَ أَنَّهُ أَقَرَّ بِهَا أَوْ أَتَاهَا فَهَذَا لَيْسَ بِصَرِيحٍ ، وَهَذَا لِأَنَّ الدُّخُولَ يُرَادُ بِهِ الْجِمَاعُ وَيُرَادُ بِهِ الْخَلْوَةُ وَلَا يَثْبُتُ الْإِحْصَانُ بِالشَّكِّ .
وَلَهُمَا أَنَّ الدُّخُولَ يُرَادُ بِهِ الْجِمَاعُ عُرْفًا مُسْتَمِرًّا حَتَّى صَارَ يَتَبَادَرُ مَعَ النِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ وَالنِّسَاءِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { مِنْ نِسَائِكُمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } فَلَا إجْمَالَ فِيهِ عُرْفًا فَكَانَتْ كَشَهَادَتِهِمْ عَلَى الْجِمَاعِ .
وَلَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى الزِّنَا بِفُلَانَةَ وَأَرْبَعَةٌ غَيْرُهُمْ شَهِدُوا بِهِ بِامْرَأَةٍ أُخْرَى فَرُجِمَ فَرَجَعَ الْفَرِيقَانِ ضَمِنُوا دِيَتَهُ إجْمَاعًا ، وَحُدُّوا لِلْقَذْفِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يُحَدُّونَ لِأَنَّ رُجُوعَ كُلِّ فَرِيقٍ مُعْتَبَرٌ فِي حَقِّهِمْ لَا فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ فَصَارَ فِي حَقِّ كُلِّ فَرِيقٍ كَأَنَّ الْفَرِيقَ الْآخَرَ ثَابِتٌ عَلَى الشَّهَادَةِ ، وَلَهُمَا أَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالْتِزَامِ حَدِّ الْقَذْفِ لِأَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ يَقُولُ : إنَّهُ عَفِيفٌ قُتِلَ ظُلْمًا وَأَنَّهُمْ قَذَفَةٌ بِغَيْرِ حَقٍّ .
وَلَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَأَقَرَّ مَرَّةً بَعْدُ حُدَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ وَقَعَتْ مُعْتَبَرَةً فَلَا تَبْطُلُ إلَّا بِإِقْرَارٍ مُعْتَبَرٍ وَالْإِقْرَارُ مَرَّةً هُنَا كَالْعَدَمِ .
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لَا يُحَدُّ ، وَهُوَ الْأَصَحُّ لِأَنَّ شَرْطَ قَبُولِ الْبَيِّنَةِ إنْكَارُ الْخَصْمِ وَهُوَ مُقِرٌّ وَلَا حُكْمَ لِإِقْرَارِهِ فَبَطَلَ الْحَدُّ وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ ، وَإِنْ فَسَدَ حُكْمًا فَصُورَتُهُ قَائِمَةٌ فَيُورِثُ شُبْهَةً .

( بَابُ حَدِّ الشُّرْبِ ) ( وَمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَأُخِذَ وَرِيحُهَا مَوْجُودَةٌ أَوْ جَاءُوا بِهِ سَكْرَانَ فَشَهِدَ الشُّهُودُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ ، وَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ وَرِيحُهَا مَوْجُودَةٌ ) لِأَنَّ جِنَايَةَ الشُّرْبِ قَدْ ظَهَرَتْ وَلَمْ يَتَقَادَمْ الْعَهْدُ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ ، فَإِنْ عَادَ فَاجْلِدُوهُ } .
( وَإِنْ أَقَرَّ بَعْدَ ذَهَابِ رَائِحَتِهَا لَمْ يُحَدَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : يُحَدُّ ) وَكَذَلِكَ إذَا شَهِدُوا عَلَيْهِ بَعْدَ مَا ذَهَبَ رِيحُهَا وَالسُّكْرُ لَمْ يُحَدَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : يُحَدُّ ، فَالتَّقَادُمُ يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ بِالِاتِّفَاقِ ، غَيْرَ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِالزَّمَانِ عِنْدَهُ اعْتِبَارًا بِحَدِّ الزِّنَا ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّأْخِيرَ يَتَحَقَّقُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ وَالرَّائِحَةُ قَدْ تَكُونُ مِنْ غَيْرِهِ ، كَمَا قِيلَ : يَقُولُونَ لِي انْكَهْ شَرِبْت مُدَامَةً فَقُلْت لَهُمْ لَا بَلْ أَكَلْت السَّفَرْجَلَا وَعِنْدَهُمَا يُقَدَّرُ بِزَوَالِ الرَّائِحَةِ لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ : فَإِنْ وَجَدْتُمْ رَائِحَةَ الْخَمْرِ فَاجْلِدُوهُ .
وَلِأَنَّ قِيَامَ الْأَثَرِ مِنْ أَقْوَى دَلَالَةٍ عَلَى الْقُرْبِ ، وَإِنَّمَا يُصَارُ إلَى التَّقْدِيرِ بِالزَّمَانِ عِنْدَ تَعَذُّرِ اعْتِبَارِهِ ، وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ الرَّوَائِحِ مُمْكِنٌ لِلْمُسْتَدِلِّ ، وَإِنَّمَا تَشْتَبِهُ عَلَى الْجُهَّالِ .
وَأَمَّا الْإِقْرَارُ فَالتَّقَادُمُ لَا يُبْطِلُهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ كَمَا فِي حَدِّ الزِّنَا عَلَى مَا مَرَّ تَقْرِيرُهُ .
وَعِنْدَهُمَا لَا يُقَامُ الْحَدُّ إلَّا عِنْدَ قِيَامِ الرَّائِحَةِ ، لِأَنَّ حَدَّ الشُّرْبِ ثَبَتَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ ، وَلَا إجْمَاعَ إلَّا بِرَأْيِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَقَدْ شَرَطَ قِيَامَ الرَّائِحَةِ عَلَى مَا رَوَيْنَا .

( بَابُ حَدِّ الشُّرْبِ ) قَدَّمَ حَدَّ الزِّنَا عَلَيْهِ لِأَنَّ سَبَبَهُ أَعْظَمُ جُرْمًا وَلِذَا كَانَ حَدُّهُ أَشَدَّ ، وَأَخَّرَ عَنْهُ حَدَّ الشُّرْبِ لِتَيَقُّنِ سَبَبِهِ ، بِخِلَافِ حَدِّ الْقَذْفِ لِأَنَّ سَبَبَهُ هُوَ الْقَذْفُ قَدْ يَكُونُ صِدْقًا ، وَأَخَّرَ حَدَّ السَّرِقَةِ وَإِنْ كَانَ أَشَدَّ لِأَنَّ شَرْعِيَّتَهُ لِصِيَانَةِ أَمْوَالِ النَّاسِ ، وَصِيَانَةُ الْأَنْسَابِ وَالْعَقْلِ آكَدُ مِنْ صِيَانَةِ الْمَالِ .
بَقِيَ أَنَّهُ أَخَّرَهُ عَنْ حَدِّ الْقَذْفِ لِأَنَّ الْمَالَ دُونَ الْعِرْضِ فَإِنَّهُ جُعِلَ وِقَايَةً لِلنَّفْسِ عَنْ كُلِّ مَا تَكْرَهُ .
( قَوْلُهُ وَمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَأُخِذَ ) أَيْ إلَى الْحَاكِمِ ( وَرِيحُهَا مَوْجُودَةٌ ) وَهُوَ غَيْرُ سَكْرَانَ مِنْهَا وَيُعْرَفُ كَوْنُهُ يُحَدُّ إذَا كَانَ سَكْرَانَ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ ( أَوْ سَكْرَانَ ) أَيْ جَاءُوا بِهِ إلَيْهِ وَهُوَ سَكْرَانُ مِنْ غَيْرِ الْخَمْرِ مِنْ النَّبِيذِ ( فَشَهِدَ الشُّهُودُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ ) أَيْ بِالشُّرْبِ فِي الْأَوَّلِ وَهُوَ عَدَمُ السُّكْرِ مِنْهَا .
وَفِي الثَّانِي وَهُوَ السُّكْرُ مِنْ غَيْرِهَا ( فَإِنَّهُ يُحَدُّ ) وَالشَّهَادَةُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا مُقَيَّدَةٌ بِوُجُودِ الرَّائِحَةِ فَلَا بُدَّ مَعَ شَهَادَتِهِمَا بِالشُّرْبِ أَنْ يَثْبُتَ عِنْدَ الْحَاكِمِ أَنَّ الرِّيحَ قَائِمٌ حَالَ الشَّهَادَةِ وَهُوَ بِأَنْ يَشْهَدَا بِهِ وَبِالشُّرْبِ أَوْ يَشْهَدَا بِالشُّرْبِ فَقَطْ فَيَأْمُرَ الْقَاضِي بِاسْتِنْكَاهِهِ فَيُسْتَنْكَهُ وَيُخْبِرُهُ بِأَنَّ رِيحَهَا مَوْجُودٌ ، وَأَمَّا إذَا جَاءُوا بِهِ مِنْ بَعِيدٍ فَزَالَتْ الرَّائِحَةُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَشْهَدَا بِالشُّرْبِ وَيَقُولَا أَخَذْنَاهُ وَرِيحُهَا مَوْجُودٌ لِأَنَّ مَجِيئَهُمْ بِهِ مِنْ مَكَان بَعِيدٍ لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُمْ أَخَذُوهُ فِي حَالِ قِيَامِ الرَّائِحَةِ فَيَحْتَاجُونَ إلَى ذِكْرِ ذَلِكَ لِلْحَاكِمِ خُصُوصًا بَعْدَ مَا حَمَلْنَا كَوْنَهُ سَكْرَانَ مِنْ غَيْرِ الْخَمْرِ فَإِنَّ رِيحَ الْخَمْرِ لَا تُوجَدُ مِنْ السَّكْرَانِ مِنْ غَيْرِهَا ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ هَذَا لِأَنَّ الْحَدَّ لَا يَجِبُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ بِالشَّهَادَةِ مَعَ عَدَمِ الرَّائِحَةِ ،

فَالْمُرَادُ بِالثَّانِي أَنْ يَشْهَدُوا بِأَنَّهُ سَكِرَ مِنْ غَيْرِهَا مَعَ وُجُودِ رَائِحَةِ ذَلِكَ الْمُسْكِرِ الَّذِي هُوَ غَيْرُ الْخَمْرِ ( وَكَذَلِكَ ) عَلَيْهِ الْحَدُّ ( إذَا أَقَرَّ وَرِيحُهَا مَوْجُودٌ لِأَنَّ جِنَايَةَ الشُّرْبِ قَدْ ظَهَرَتْ ) بِالْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ ( وَلَمْ يَتَقَادَمْ الْعَهْدُ .
وَالْأَصْلُ فِي ثُبُوتِ حَدِّ الشُّرْبِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ ، ثُمَّ إنْ شَرِبَ فَاجْلِدُوهُ } ) إلَى أَنْ قَالَ { فَإِنْ عَادَ الرَّابِعَةَ فَاقْتُلُوهُ } أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ إلَّا النَّسَائِيّ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ .
وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ { فَإِذَا سَكِرَ فَاجْلِدُوهُ .
ثُمَّ إنْ سَكِرَ } إلَخْ .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : سَمِعْت مُحَمَّدَ بْنَ إسْمَاعِيلَ يَقُولُ : حَدِيثُ أَبِي صَالِحٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَصَحَّحَهُ الذَّهَبِيُّ .
وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالنَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ الْكُبْرَى ثُمَّ نُسِخَ الْقَتْلُ .
أَخْرَجَ النَّسَائِيّ فِي سُنَنِهِ الْكُبْرَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسْمَاعِيلَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا { مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ } إلَخْ ، قَالَ { ثُمَّ أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الرَّابِعَةِ فَجَلَدَهُ وَلَمْ يَقْتُلْهُ } وَزَادَ فِي لَفْظٍ { فَرَأَى الْمُسْلِمُونَ أَنَّ الْحَدَّ قَدْ وَقَعَ وَأَنَّ الْقَتْلَ قَدْ ارْتَفَعَ } وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ ابْنِ إِسْحَاقَ بِهِ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أُتِيَ بِالنُّعْمَانِ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ ثَلَاثًا فَأَمَرَ بِهِ فَضُرِبَ ، فَلَمَّا كَانَ فِي الرَّابِعَةِ أَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ الْحَدَّ } ، فَكَانَ نَسْخًا وَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ قَالَ : حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضَّبِّيُّ ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ .
قَالَ الزُّهْرِيُّ : أَنْبَأَنَا قَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ

شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ ، فَإِنْ عَادَ فَاجْلِدُوهُ ، فَإِنْ عَادَ فِي الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ فَاقْتُلُوهُ ، فَأُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ فَجَلَدَهُ ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ فَجَلَدَهُ ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ فَجَلَدَهُ ، وَرَفَعَ الْقَتْلَ وَكَانَتْ رُخْصَةً } وَقَالَ سُفْيَانُ : حَدَّثَ الزُّهْرِيُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَعِنْدَهُ مَنْصُورُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ وَمِخْوَلُ بْنُ رَاشِدٍ فَقَالَ لَهُمَا : كُونَا وَافِدَيْ أَهْلِ الْعِرَاقِ بِهَذَا الْحَدِيثِ ا هـ .
وَقَبِيصَةُ فِي صُحْبَتِهِ خِلَافٌ .
وَإِثْبَاتُ النَّسْخِ بِهَذَا أَحْسَنُ مِمَّا أَثْبَتَهُ بِهِ الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ } الْحَدِيثَ ، فَإِنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى ثُبُوتِ التَّارِيخِ .
نَعَمْ يُمْكِنُ أَنْ يُوَجَّهَ بِالنَّسْخِ الِاجْتِهَادِيِّ : أَيْ تَعَارَضَا فِي الْقَتْلِ فَرَجَحَ النَّافِي لَهُ فَيَلْزَمُ الْحُكْمُ بِنَسْخِهِ فَإِنَّ هَذَا لَازِمٌ فِي كُلِّ تَرْجِيحٍ عِنْدَ التَّعَارُضِ ( قَوْلُهُ وَإِنْ أَقَرَّ بَعْدَ ذَهَابِ رَائِحَتِهَا لَمْ يُحَدَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ : يُحَدُّ ، وَكَذَلِكَ إذَا شَهِدُوا عَلَيْهِ بَعْدَ مَا ذَهَبَ رِيحُهَا ) أَوْ ذَهَبَ السُّكْرُ مِنْ غَيْرِهَا ( لَمْ يُحَدَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةُ وَأَبِي يُوسُفَ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ يُحَدُّ ، فَالتَّقَادُمُ يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ بِالِاتِّفَاقِ غَيْرَ أَنَّهُ ) أَيْ هَذَا التَّقَادُمُ ( مُقَدَّرٌ بِالزَّمَانِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ اعْتِبَارًا بِحَدِّ الزِّنَا ) أَنَّهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ أَوْ مُفَوَّضٌ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي أَوْ بِشَهْرٍ وَهُوَ الْمُخْتَارُ ( وَهَذَا لِأَنَّ التَّأْخِيرَ يَتَحَقَّقُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ ) بِلَا شَكٍّ ( بِخِلَافِ الرَّائِحَةِ لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ مِنْ غَيْرِهِ كَمَا قِيلَ : يَقُولُونَ لِي انْكَهْ شَرِبْتَ مُدَامَةً فَقُلْت لَهُمْ لَا بَلْ أَكَلْت السَّفَرْجَلَا ) وَانْكِهِ بِوَزْنِ امْنَعْ ، وَنَكِهَ مِنْ بَابِهِ ؛ أَيْ أَظْهَرَ رَائِحَةَ فَمِهِ .
وَقَالَ الْآخَرُ : سَفَرْجَلَةٌ تَحْكِي ثَدْيَ النَّوَاهِدِ لَهَا عَرْفٌ ذِي فِسْقٍ

وَصُفْرَةِ زَاهِدِ فَظَهَرَ أَنَّ رَائِحَةَ الْخَمْرِ مِمَّا تَلْتَبِسُ بِغَيْرِهَا فَلَا يُنَاطُ شَيْءٌ مِنْ الْأَحْكَامِ بِوُجُودِهَا وَلَا بِذَهَابِهَا ، وَلَوْ سَلَّمْنَا أَنَّهَا لَا تَلْتَبِسُ عَلَى ذَوِي الْمَعْرِفَةِ فَلَا مُوجِبَ لِتَقْيِيدِ الْعَمَلِ بِالْبَيِّنَةِ بِوُجُودِهَا ، لِأَنَّ الْمَعْقُولَ تَقَيُّدُ قَبُولِهَا بِعَدَمِ التُّهْمَةِ وَالتُّهْمَةُ لَا تَتَحَقَّقُ فِي الشَّهَادَةِ بِسَبَبِ وُقُوعِهَا بَعْدَ ذَهَابِ الرَّائِحَةِ بَلْ بِسَبَبِ تَأْخِيرِ الْأَدَاءِ تَأْخِيرًا يُعَدُّ تَفْرِيطًا ، وَذَلِكَ مُنْتَفٍ فِي تَأْخِيرِ يَوْمٍ وَنَحْوِهِ وَبِهِ تَذْهَبُ الرَّائِحَةُ .
أَجَابَ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ اشْتِرَاطَ قِيَامِ الرَّائِحَةِ لِقَبُولِ الشَّهَادَةِ عُرِفَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَهُوَ مَا رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيُّ الْجَابِرُ عَنْ أَبِي مَاجِدٍ الْحَنَفِيِّ ، قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ بِابْنِ أَخٍ لَهُ سَكْرَانَ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ : تَرْتِرُوهُ وَمَزْمِزُوهُ وَاسْتَنْكِهُوهُ ، فَفَعَلُوا فَرَفَعَهُ إلَى السِّجْنِ ، ثُمَّ عَادَ بِهِ مِنْ الْغَدِ وَدَعَا بِسَوْطٍ ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَدُقَّتْ ثَمَرَتُهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ حَتَّى صَارَتْ دِرَّةً ، ثُمَّ قَالَ لِلْجَلَّادِ : اجْلِدْ وَأَرْجِعْ يَدَك وَأَعْطِ كُلَّ عُضْوٍ حَقَّهُ .
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَرَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ : أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْجَابِرِ بِهِ .
وَدُفِعَ بِأَنَّ مَحَلَّ النِّزَاعِ كَوْنُ الشَّهَادَةِ لَا يُعْمَلُ بِهَا إلَّا مَعَ قِيَامِ الرَّائِحَةِ .
وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ لَيْسَ فِيهِ شَهَادَةٌ مُنِعَ مِنْ الْعَمَلِ بِهَا لِعَدَمِ الرَّائِحَةِ وَقْتَ أَدَائِهَا بَلْ وَلَا إقْرَارٌ ، إنَّمَا فِيهِ أَنَّهُ حَدَّهُ بِظُهُورِ الرَّائِحَةِ بِالتَّرْتَرَةِ وَالْمَزْمَزَةِ .
وَالْمَزْمَزَةُ التَّحْرِيكُ بِعُنْفٍ وَالتَّرْتَرَةُ وَالتَّلْتَلَةُ التَّحْرِيكُ ، وَهُمَا بِتَاءَيْنِ مُثَنَّاتَيْنِ مِنْ فَوْقُ .

قَالَ ذُو الرُّمَّةِ يَصِفُ بَعِيرًا : بَعِيدُ مَسَافِ الْخَطْوِ غَوْجٌ شَمَرْدَلُ تُقَطِّعُ أَنْفَاسَ الْمَهَارَى تَلَاتِلُهُ أَيْ حَرَكَاتُهُ .
وَالْمَسَافُ جَمْعُ مَسَافَةٍ وَالْغَوْجُ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ الْوَاسِعُ الصَّدْرِ .
وَمَعْنَى تَقْطِيعِ تَلَاتِلِهِ أَنْفَاسَ الْمَهَارَى : أَنَّهُ إذَا بَارَاهَا فِي السَّيْرِ أَظْهَرَ فِي أَنْفَاسِهَا الضِّيقَ وَالتَّتَابُعَ لِمَا يُجْهِدُهَا ، وَإِنَّمَا فَعَلَهُ لِأَنَّ بِالتَّحْرِيكِ تَظْهَرُ الرَّائِحَةُ مِنْ الْمَعِدَةِ الَّتِي كَانَتْ خَفِيَتْ وَكَانَ ذَلِكَ مَذْهَبَهُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَرَأَ سُورَةَ يُوسُفَ فَقَالَ رَجُلٌ : مَا هَكَذَا أُنْزِلَتْ ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ : وَاَللَّهِ لَقَدْ قَرَأْتُهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَحْسَنْت ، فَبَيْنَا هُوَ يُكَلِّمُهُ إذْ وَجَدَ مِنْهُ رَائِحَةَ الْخَمْرِ ، فَقَالَ : أَتَشْرَبُ الْخَمْرَ وَتُكَذِّبُ بِالْكِتَابِ ، فَضَرَبَهُ الْحَدَّ } .
وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ ضَرَبَ رَجُلًا وَجَدَ مِنْهُ رِيحَ الْخَمْرِ ، وَفِي لَفْظٍ رِيحَ شَرَابٍ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ حَدَّهُ عِنْدَ وُجُودِ الرِّيحِ مَعَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ لَا يَسْتَلْزِمُ اشْتِرَاطَ الرَّائِحَةِ مَعَ أَحَدِهِمَا ، ثُمَّ هُوَ مَذْهَبٌ لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ مَالِكٌ وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ ، وَالْأَصَحُّ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ نَفْيُهُ .
وَمَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ عُمَرَ يُعَارِضُ مَا ذُكِرَ عَنْهُ أَنَّهُ عَزَّرَ مَنْ وَجَدَ مِنْهُ الرَّائِحَةَ ، وَيَتَرَجَّحُ لِأَنَّهُ أَصَحُّ ، وَإِنْ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ جَلَدَ مَنْ وَجَدَ مِنْهُ رِيحَ الْخَمْرِ حَدًّا تَامًّا ، وَقَدْ اسْتَبْعَدَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى ، وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْحُدُودِ إذَا جَاءَ صَاحِبُهَا مُقِرًّا أَنْ يُرَدَّ أَوْ يُدْرَأَ مَا اُسْتُطِيعَ فَكَيْفَ يَأْمُرُ ابْنُ مَسْعُودٍ بِالْمَزْمَزَةِ عِنْدَ

عَدَمِ الرَّائِحَةِ لِيَظْهَرَ الرِّيحُ فَيَحُدّهُ ، فَإِنْ صَحَّ فَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ كَانَ رَجُلًا مُولَعًا بِالشَّرَابِ مُدْمِنًا عَلَيْهِ فَاسْتَجَازَ ذَلِكَ فِيهِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ ( وَلِأَنَّ قِيَامَ الرَّائِحَةِ مِنْ أَقْوَى دَلَالَةٍ عَلَى الْقُرْبِ ، وَإِنَّمَا يُصَارُ إلَى التَّقْدِيرِ بِالزَّمَانِ عِنْدَ تَعَذُّرِ اعْتِبَارِ الْقُرْبِ ) ثُمَّ أَجَابَ عَمَّا يُتَوَهَّمُ مِنْ أَنَّ الرَّائِحَةَ مُشْتَبِهَةٌ بِقَوْلِهِ ( وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ الرَّوَائِحِ مُمْكِنٌ لِلْمُسْتَدِلِّ .
وَإِنَّمَا تُشْتَبَهُ عَلَى الْجُهَّالِ ) فَلَيْسَ بِمُفِيدٍ لِأَنَّ كَوْنَهَا دَلِيلًا عَلَى الْقُرْبِ لَا يَسْتَلْزِمُ انْحِصَارَ الْقُرْبِ فِيهَا لِيَلْزَمَ مِنْ انْتِفَائِهَا ثُبُوتُ الْبُعْدِ وَالتَّقَادُمِ ، لِأَنَّ الْقُرْبَ يَتَحَقَّقُ بِصُوَرٍ كَثِيرَةٍ لَا بِصُورَةٍ وَاحِدَةٍ هِيَ عِنْدَ قِيَامِ الرَّائِحَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ عَيْنُ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ وَهُوَ الْمَانِعُ ، فَقَوْلُهُ بَعْدَهُ وَإِنَّمَا يُصَارُ إلَى التَّقْدِيرِ بِالزَّمَانِ عِنْدَ تَعَذُّرِ اعْتِبَارِهِ إنْ أَرَادَ أَنَّ اعْتِبَارَ الْقُرْبِ بِالرَّائِحَةِ فَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ فَقَوْلُ مُحَمَّدٍ هُوَ الصَّحِيحُ .
( قَوْلُهُ وَأَمَّا الْإِقْرَارُ فَالتَّقَادُمُ لَا يُبْطِلُهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ كَمَا فِي حَدِّ الزِّنَا ) لَا يَبْطُلُ الْإِقْرَارُ بِالتَّقَادُمِ اتِّفَاقًا ( عَلَى مَا مَرَّ تَقْرِيرُهُ ) مِنْ أَنَّ الْبُطْلَانَ لِلتُّهْمَةِ ، وَالْإِنْسَانُ لَا يَتَّهِمُ عَلَى نَفْسِهِ ( وَعِنْدَهُمَا لَا يُقَامُ الْحَدُّ ) عَلَى الْمُقِرِّ بِالشُّرْبِ ( إلَّا ) إذَا أَقَرَّ ( عِنْدَ قِيَامِ الرَّائِحَةِ لِأَنَّ حَدَّ الشُّرْبِ ثَبَتَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ( وَلَا إجْمَاعَ إلَّا بِرَأْيِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَقَدْ شَرَطَ قِيَامَ الرَّائِحَةِ عَلَى مَا رَوَيْنَا ) بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِالْحَدِّ إلَّا إذَا كَانَ مَعَ الرَّائِحَةِ فَيَبْقَى انْتِفَاؤُهُ فِي غَيْرِهَا بِالْأَصْلِ لَا مُضَافًا إلَى لَفْظِ الشَّرْطِ ، وَأَمَّا إضَافَةُ ثُبُوتِهِ إلَى الْإِجْمَاعِ بَعْدَ قَوْلِهِ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَخْ فَقِيلَ لِأَنَّهُ مِنْ

الْآحَادِ ، وَبِمِثْلِهِ لَا يَثْبُتُ الْحَدُّ وَالْإِجْمَاعُ قَطْعِيٌّ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا مَذْهَبُ الْكَرْخِيِّ .
فَأَمَّا قَوْلُ الْجَصَّاصِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ فَيَثْبُتُ الْحَدُّ بِالْآحَادِ بَعْدَ الصِّحَّةِ وَقَطْعِيَّةِ الدَّلَالَةِ وَهُوَ الْمُرَجَّحُ .
فَإِنْ كَانَ الْمُصَنِّفُ يَرَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِهِ أَشْكَلَ عَلَيْهِ جَعْلُهُ إيَّاهُ أَوَّلًا الْأَصْلُ ، وَإِنْ لَمْ يَرَهُ أَشْكَلَ نِسْبَةُ الْإِثْبَاتِ إلَى الْإِجْمَاعِ ، وَأَنْتَ عَلِمْت أَنَّهُ إنَّمَا أَلْزَمَ قِيَامَهَا عِنْدَ الْحَدِّ بِلَا إقْرَارٍ وَلَا بَيِّنَةٍ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ مَا قَدَّمْنَاهُ .
فَإِنْ ادَّعَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مَعَ إقْرَارِهِ فَلْيُبَيِّنْ فِي الرِّوَايَةِ .
وَفِي نَوَادِرِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ : هَذَا أَعْظَمُ عِنْدِي مِنْ الْقَوْلِ أَنْ يَبْطُلَ الْحَدُّ بِالْإِقْرَارِ وَأَنَا أُقِيمُ عَلَيْهِ الْحَدَّ وَإِنْ جَاءَ بَعْدَ أَرْبَعِينَ عَامًا

( وَإِنْ أَخَذَهُ الشُّهُودُ وَرِيحُهَا تُوجَدُ مِنْهُ أَوْ سَكْرَانُ فَذَهَبُوا بِهِ مِنْ مِصْرٍ إلَى مِصْرٍ فِيهِ الْإِمَامُ فَانْقَطَعَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَنْتَهُوا بِهِ حُدَّ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ) لِأَنَّ هَذَا عُذْرٌ كَبُعْدِ الْمَسَافَةِ فِي حَدِّ الزِّنَا وَالشَّاهِدُ لَا يُتَّهَمُ فِي مِثْلِهِ .
( قَوْلُهُ فَإِنْ أَخَذَهُ الشُّهُودُ وَرِيحُهَا تُوجَدُ مِنْهُ أَوْ سَكْرَانُ ) مِنْ غَيْرِهَا وَرِيحُ ذَلِكَ الشَّرَابِ يُوجَدُ مِنْهُ ( وَذَهَبُوا بِهِ إلَى مِصْرٍ فِيهِ الْإِمَامُ ) أَوْ مَكَان بَعِيدٍ ( فَانْقَطَعَ ذَلِكَ ) : أَيْ الرِّيحُ ( قَبْلَ أَنْ يَنْتَهُوا بِهِ ) إلَيْهِ ( حُدَّ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ) لِأَنَّ التَّأْخِيرَ إلَى انْقِطَاعِهَا لِعُذْرِ بُعْدِ الْمَسَافَةِ فَلَا يُتَّهَمُ فِي هَذَا التَّأْخِيرِ ، وَالْأَصْلُ أَنَّ قَوْمًا شَهِدُوا عِنْدَ عُثْمَانَ عَلَى عُقْبَةَ بِشُرْبِ الْخَمْرِ وَكَانَ بِالْكُوفَةِ فَحَمَلَهُ إلَى الْمَدِينَةِ فَأَقَامَ عَلَيْهِ الْحَدَّ

( وَمَنْ سَكِرَ مِنْ النَّبِيذِ حُدَّ ) لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ أَقَامَ الْحَدَّ عَلَى أَعْرَابِيٍّ سَكِرَ مِنْ النَّبِيذِ .
وَسَنُبَيِّنُ الْكَلَامَ فِي حَدِّ السُّكْرِ وَمِقْدَارِ حَدِّهِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

.
( قَوْلُهُ وَمَنْ سَكِرَ مِنْ النَّبِيذِ حُدَّ ) فَالْحَدُّ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ فِي غَيْرِ الْخَمْرِ مِنْ الْأَنْبِذَةِ بِالسُّكْرِ .
وَفِي الْخَمْرِ بِشُرْبِ قَطْرَةٍ وَاحِدَةٍ .
وَعِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ كُلُّ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ حَرُمَ قَلِيلُهُ وَحُدَّ بِهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
فَهَذَانِ مَطْلُوبَانِ ، وَيَسْتَدِلُّونَ تَارَةً بِالْقِيَاسِ وَتَارَةً بِالسَّمَاعِ .
أَمَّا السَّمَاعُ فَتَارَةً بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّ اسْمَ الْخَمْرِ لُغَةٌ لِكُلِّ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ وَتَارَةً بِغَيْرِ ذَلِكَ .
فَمِنْ الْأَوَّلِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ : " نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالْعَسَلِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ " .
وَمَا فِي مُسْلِمٍ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ وَابْنِ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَعَبْدِ الرَّزَّاقِ { وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ } وَأَمَّا مَا يُقَالُ مِنْ أَنَّ ابْنَ مَعِينٍ طَعَنَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَلَمْ يُوجَدْ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ ، وَكَيْفَ لَهُ بِذَلِكَ وَقَدْ رَوَى الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ : النَّخْلَةِ وَالْعِنَبَةِ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ : كُنْت سَاقِيَ الْقَوْمِ يَوْمَ حُرِّمَتْ الْخَمْرُ وَمَا شَرَابُهُمْ إلَّا الْفَضِيخُ الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ .
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ قَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : الْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ .
وَإِذَا ثَبَتَ عُمُومُ الِاسْمِ ثَبَتَ تَحْرِيمُ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَوُجُوبُ الْحَدِّ بِالْحَدِيثِ الْمُوجِبِ ثُبُوتَهُ فِي الْخَمْرِ لِأَنَّهُ مُسَمَّى الْخَمْرِ ، لَكِنْ هَذِهِ كُلُّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى التَّشْبِيهِ بِحَذْفِ أَدَاتِهِ فَكُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ ، كَزَيْدٌ أَسَدٌ : أَيْ فِي حُكْمِهِ ، وَكَذَا الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ أَوْ مِنْ خَمْسَةٍ هُوَ عَلَى الِادِّعَاءِ

حِينَ اتَّحَدَ حُكْمُهَا بِهَا جَازَ تَنْزِيلُهَا مَنْزِلَتَهَا فِي الِاسْتِعْمَالِ وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ فِي الِاسْتِعْمَالَاتِ اللُّغَوِيَّةِ وَالْعُرْفِيَّةِ تَقُولُ السُّلْطَانُ هُوَ فُلَانٌ إذَا كَانَ فُلَانٌ نَافِذَ الْكَلِمَةِ عِنْدَ السُّلْطَانِ وَيُعْمَلُ بِكَلَامِهِ أَيْ الْمُحَرَّمُ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى مَاءِ الْعِنَبِ بَلْ كُلِّ مَا كَانَ مِثْلَهُ مِنْ كَذَا وَكَذَا فَهُوَ هُوَ لَا يُرَادُ إلَّا الْحُكْمُ ، ثُمَّ لَا يَلْزَمُ فِي التَّشْبِيهِ عُمُومُ وَجْهِهِ فِي كُلِّ صِفَةٍ ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ ثُبُوتُ الْحَدِّ بِالْأَشْرِبَةِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ الْخَمْرِ ، بَلْ يُصَحِّحُ الْحَمْلَ الْمَذْكُورَ فِيهَا ثُبُوتُ حُرْمَتِهَا فِي الْجُمْلَةِ إمَّا قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا أَوْ كَثِيرُهَا الْمُسْكِرُ مِنْهَا .
وَكَوْنُ التَّشْبِيهِ خِلَافَ الْأَصْلِ يَجِبُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ عِنْدَ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ ، وَهُوَ أَنَّ الثَّابِتَ فِي اللُّغَةِ مِنْ تَفْسِيرِ الْخَمْرِ بِالنِّيءِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ إذَا اشْتَدَّ .
وَهَذَا مَا لَا يَشُكُّ فِيهِ مَنْ تَتَبَّعَ مَوَاقِعَ اسْتِعْمَالَاتهمْ ، وَلَقَدْ يَطُولُ الْكَلَامُ بِإِيرَادِهِ ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَمْلَ الْمَذْكُورَ عَلَى الْخَمْرِ بِطَرِيقِ التَّشْبِيهِ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : حُرِّمَتْ الْخَمْرُ وَمَا بِالْمَدِينَةِ مِنْهَا شَيْءٌ .
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ مَاءَ الْعِنَبِ لِثُبُوتِ أَنَّهُ كَانَ بِالْمَدِينَةِ غَيْرُهَا لِمَا ثَبَتَ مِنْ قَوْلِ أَنَسٍ : وَمَا شَرَابُهُمْ يَوْمَئِذٍ : أَيْ يَوْمَ حُرِّمَتْ إلَّا الْفَضِيخُ الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ .
فَعُرِفَ أَنَّ مَا أَطْلَقَ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ الْحَمْلِ لِغَيْرِهَا عَلَيْهَا بِهُوَ هُوَ كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّشْبِيهِ .
وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال بِغَيْرِ عُمُومِ الِاسْمِ لُغَةً فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ ، وَمَا أَسْكَرَ الْفَرْقُ مِنْهُ فَمِلْءُ الْكَفِّ مِنْهُ حَرَامٌ } وَفِي لَفْظٍ لِلتِّرْمِذِيِّ { فَالْحُسْوَةُ مِنْهُ حَرَامٌ } قَالَ

التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ .
وَأَجْوَدُ حَدِيثٍ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ قَلِيلِ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ } أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ وَابْنُ حِبَّانَ .
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ : لِأَنَّهُ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمَّارِ الْمَوْصِلِيِّ وَهُوَ أَحَدُ الثِّقَاتِ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ ، وَقَدْ احْتَجَّ بِهِ الشَّيْخَانِ عَنْ الضَّحَّاكِ بْنِ عُثْمَانَ ، وَقَدْ احْتَجَّ بِهِ مُسْلِمٌ عَنْ بُكَيْر بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ ، وَقَدْ احْتَجَّ بِهِمَا الشَّيْخَانِ ، وَحِينَئِذٍ فَجَوَابُهُمْ بِعَدَمِ ثُبُوتِ هَذِهِ غَيْرُ صَحِيحٍ ، وَكَذَا حَمْلُهُ عَلَى مَا بِهِ حَصَلَ السُّكْرُ وَهُوَ الْقَدَحُ الْأَخِيرُ لِأَنَّ صَرِيحَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ الْقَلِيلُ .
وَمَا أُسْنِدَ إلَى ابْنِ مَسْعُودٍ " كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ " قَالَ : هِيَ الشَّرْبَةُ الَّتِي أَسْكَرَتْك .
أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ ، ضَعِيفٌ فِيهِ الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ وَعَمَّارُ بْنُ مَطَرٍ ، قَالَ : وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ قَوْلِ إبْرَاهِيمَ : يَعْنِي النَّخَعِيّ .
وَأَسْنَدَ إلَى ابْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّهُ ذَكَرَ لَهُ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ هَذَا فَقَالَ : حَدِيثٌ بَاطِلٌ عَلَى أَنَّهُ لَوْ حَسُنَ عَارَضَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْمَرْفُوعَاتِ الصَّرِيحَةِ الصَّحِيحَةِ فِي تَحْرِيمِ قَلِيلِ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ ، وَلَوْ عَارَضَهُ كَانَ الْمُحَرَّمُ مُقَدَّمًا .
وَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ قَوْلِهِ : حُرِّمَتْ الْخَمْرُ بِعَيْنِهَا قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا وَالْمُسْكِرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ فَإِنَّهُ لَمْ يَسْلَمْ .
نَعَمْ هُوَ مِنْ طَرِيقٍ جَيِّدَةٍ هِيَ عَنْ أَبِي عَوْنٍ عَنْ ابْنِ شَدَّادٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : حُرِّمَتْ الْخَمْرُ بِعَيْنِهَا وَالْمُسْكِرِ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ .
وَفِي لَفْظٍ : وَمَا أَسْكَرَ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ .
قَالَ : وَهَذَا أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ شُبْرُمَةَ فَهَذَا إنَّمَا فِيهِ تَحْرِيمُ الشَّرَابِ الْمُسْكِرِ ، وَإِذَا كَانَتْ طَرِيقُهُ أَقْوَى وَجَبَ أَنْ

يَكُونَ هُوَ الْمُعْتَبَرَ ، وَلَفْظُ السُّكْرِ تَصْحِيفٌ ، ثُمَّ لَوْ ثَبَتَ تَرَجَّحَ الْمَنْعُ السَّابِقُ عَلَيْهِ ، بَلْ هَذَا التَّرْجِيحُ فِي حَقِّ ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ وَلَا يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتُ الْحُرْمَةِ ثُبُوتَ الْحَدِّ بِالْقَلِيلِ إلَّا بِسَمَاعٍ أَوْ بِقِيَاسٍ فَهُمْ يَقِيسُونَهُ بِجَامِعِ كَوْنِهِ مُسْكِرًا ، وَلِأَصْحَابِنَا فِيهِ مَنْعٌ خُصُوصًا وَعُمُومًا .
أَمَّا خُصُوصًا فَمَنَعُوا أَنَّ حُرْمَةَ الْخَمْرِ مُعَلَّلَةٌ بِالْإِسْكَارِ وَذَكَرُوا عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { حُرِّمَتْ الْخَمْرُ بِعَيْنِهَا وَالسُّكْرُ } إلَخْ .
وَفِيهِ مَا عَلِمْت .
ثُمَّ قَوْلُهُ بِعَيْنِهَا لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ عِلَّةَ الْحُرْمَةِ عَيْنُهَا ، بَلْ إنَّ عَيْنَهَا حُرِّمَتْ ، وَلِذَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ { قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا } وَالرِّوَايَةُ الْمَعْرُوفَةُ فِيهِ بِالْبَاءِ لَا بِاللَّامِ ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مَا ذَكَرْنَا وَهَذَا هُوَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِمَا ذَكَرَ فِي الْأَشْرِبَةِ مِنْ نَفْيِ تَعْلِيلِهَا بِالْإِسْكَارِ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ إلَّا لِنَفْيِ أَنَّ حُرْمَتَهَا مُقَيَّدَةٌ بِإِسْكَارِهَا : أَيْ لَوْ كَانَتْ الْعِلَّةُ الْإِسْكَارَ لَمْ يَثْبُتْ تَحْرِيمٌ حَتَّى تَثْبُتَ الْعِلَّةُ وَهِيَ الْإِسْكَارُ أَوْ مَظِنَّتُهُ مِنْ الْكَثِيرِ ، لَا أَنَّ حُرْمَتَهَا لَيْسَتْ مُعَلَّلَةً أَصْلًا بَلْ هِيَ مُعَلَّلَةٌ بِأَنَّهُ رَقِيقٌ مُلِذٌّ مُطْرِبٌ يَدْعُو قَلِيلُهُ إلَى كَثِيرِهِ وَإِنْ كَانَ الْقُدُورِيُّ مُصِرًّا عَلَى مَنْعِ التَّعْلِيلِ أَصْلًا .
وَنَقَضَ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذِهِ الْعِلَّةَ بِأَنَّ الطَّعَامَ الَّذِي يَضُرُّ كَثِيرُهُ لَا يَحْرُمُ قَلِيلُهُ وَإِنْ كَانَ يَدْعُو إلَى كَثِيرِهِ ، لَكِنَّ الْمُصَنِّفَ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ مَا يُفِيدُ مَا ذَكَرْنَا ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي جَوَابِ إلْحَاقِ الشَّافِعِيِّ حُرْمَةَ الْمُثَلَّثِ الْعِنَبِيِّ بِالْخَمْرِ .
وَإِنَّمَا يَحْرُمُ قَلِيلُهُ لِأَنَّهُ يَدْعُو إلَى كَثِيرِهِ لِرِقَّتِهِ وَلَطَافَتِهِ ، وَالْمُثَلَّثُ لِغِلَظِهِ لَا يَدْعُو وَهُوَ فِي نَفْسِهِ غِذَاءٌ ، وَلَا يَخْفَى بَعْدَ هَذَا أَنَّ اعْتِبَارَ دِعَايَةِ الْقَلِيلِ إلَى الْكَثِيرِ فِي

الْحُرْمَةِ لَيْسَ إلَّا لِحُرْمَةِ السُّكْرِ .
فَفِي التَّحْقِيقِ الْإِسْكَارُ هُوَ الْمُحَرَّمُ بِأَبْلَغِ الْوُجُوهِ لِأَنَّهُ الْمَوْقِعُ لِلْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَالصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ وَإِتْيَانِ الْمَفَاسِدِ مِنْ الْقَتْلِ وَغَيْرِهِ .
كَمَا أَشَارَ النَّصُّ إلَى عِلِّيَّتِهَا ، وَلَكِنْ عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ بِالْقِيَاسِ لَا يَثْبُتُ الْحَدُّ لِأَنَّ الْحَدَّ لَا يَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ عِنْدَهُمْ ، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَنْعِ عَلَى الْعُمُومِ ، وَإِذَنْ فَلَمْ يَثْبُتْ الْحَدُّ بِمُجَرَّدِ الشُّرْبِ مِنْ غَيْرِ الْخَمْرِ ، وَلَكِنْ ثَبَتَ بِالسُّكْرِ مِنْهُ بِأَحَادِيثَ مِنْهَا مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ { فَإِذَا سَكِرَ فَاجْلِدُوهُ } الْحَدِيثَ .
فَلَوْ ثَبَتَ بِهِ حِلُّ مَا لَمْ يُسْكِرْ لَكَانَ بِمَفْهُومِ الشَّرْطِ وَهُوَ مُنْتَفٍ عِنْدَهُمْ فَمُوجِبُهُ لَيْسَ إلَّا ثُبُوتُ الْحَدِّ بِالسُّكْرِ ، ثُمَّ يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى السُّكْرِ مِنْ غَيْرِ الْخَمْرِ لِأَنَّ حَمْلَهُ عَلَى الْأَعَمِّ مِنْ الْخَمْرِ يَنْفِي فَائِدَةَ التَّقْيِيدِ بِالسُّكْرِ .
لِأَنَّ فِي الْخَمْرِ يُحَدُّ بِالْقَلِيلِ مِنْهَا بَلْ يُوهِمُ عَدَمَ التَّقْيِيدِ بِغَيْرِهَا لِأَنَّهُ لَا يُحَدُّ مِنْهَا حَتَّى يُسْكِرَ ، وَإِذَا وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى غَيْرِهَا صَارَ الْحَدُّ مُنْتَفِيًا عِنْدَ عَدَمِ السُّكْرِ بِهِ بِالْأَصْلِ حَتَّى يَثْبُتَ مَا يُخْرِجُهُ عَنْهُ .
وَمِنْهَا مَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ : أَنَّ أَعْرَابِيًّا شَرِبَ مِنْ إدَاوَةِ عُمَرَ نَبِيذًا فَسَكِرَ بِهِ فَضَرَبَهُ الْحَدَّ ، فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ : إنَّمَا شَرِبْته مِنْ إدَاوَتِك ، فَقَالَ عُمَرُ : إنَّمَا جَلَدْنَاك عَلَى السُّكْرِ .
وَهُوَ ضَعِيفٌ بِسَعِيدِ بْنِ ذِي لَعْوَةَ ضُعِّفَ وَفِيهِ جَهَالَةٌ .
وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ : حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ حَسَّانِ بْنِ مُخَارِقٍ قَالَ : بَلَغَنِي أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سَايَرَ رَجُلًا فِي سَفَرٍ وَكَانَ صَائِمًا ، فَلَمَّا أَفْطَرَ أَهْوَى إلَى قِرْبَةٍ لِعُمَرَ مُعَلَّقَةٍ فِيهَا نَبِيذٌ فَشَرِبَهُ فَسَكِرَ

فَضَرَبَهُ عُمَرُ الْحَدَّ ، فَقَالَ : إنَّمَا شَرِبْته مِنْ قِرْبَتِك ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : إنَّا جَلَدْنَا لِسُكْرِك .
وَفِيهِ بَلَاغٌ وَهُوَ عِنْدِي انْقِطَاعٌ .
وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ دَاوَرَ عَنْ خَالِدِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ سَكِرَ مِنْ نَبِيذِ تَمْرٍ فَجَلَدَهُ } وَعِمْرَانُ بْنُ دَاوَرَ بِفَتْحِ الْوَاوِ فِيهِ مَقَالٌ .
وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ وَكِيعٍ عَنْ شَرِيكٍ عَنْ فِرَاسٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّ رَجُلًا شَرِبَ مِنْ إدَاوَةِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِصِفِّينَ فَسَكِرَ فَضَرَبَهُ الْحَدَّ .
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ مُجَالِدٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَلِيٍّ بِنَحْوِهِ ، وَقَالَ : فَضَرَبَهُ ثَمَانِينَ .
وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ عَنْ حَجَّاجٍ عَنْ أَبِي عَوْنٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : فِي السُّكْرِ مِنْ النَّبِيذِ ثَمَانُونَ .
فَهَذِهِ وَإِنْ ضُعِّفَ بَعْضُهَا فَتَعَدُّدُ الطُّرُقِ تُرَقِّيه إلَى الْحَسَنِ ، مَعَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى الْحَدِّ بِالْكَثِيرِ فَإِنَّ الْخِلَافَ إنَّمَا هُوَ فِي الْحَدِّ بِالْقَلِيلِ ، غَيْرَ أَنَّ هَذِهِ الْأَدِلَّةَ كَمَا تَرَى لَا تَفْصِلُ بَيْنَ نَبِيذٍ وَنَبِيذٍ

( وَلَا حَدَّ عَلَى مَنْ وُجِدَ مِنْهُ رَائِحَةُ الْخَمْرِ أَوْ تَقَيَّأَهَا ) لِأَنَّ الرَّائِحَةَ مُحْتَمَلَةٌ ، وَكَذَا الشُّرْبُ قَدْ يَقَعُ عَنْ إكْرَاهٍ أَوْ اضْطِرَارٍ ( وَلَا يُحَدُّ السَّكْرَانُ حَتَّى يُعْلَمَ أَنَّهُ سَكِرَ مِنْ النَّبِيذِ وَشَرِبَهُ طَوْعًا ) لِأَنَّ السُّكْرَ مِنْ الْمُبَاحِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ كَالْبَنْجِ وَلَبَنِ الرِّمَاكِ ، وَكَذَا شُرْبُ الْمُكْرَهِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ ( وَلَا يُحَدُّ حَتَّى يَزُولَ عَنْهُ السُّكْرُ ) تَحْصِيلًا لِمَقْصُودِ الِانْزِجَارِ .

وَالْمُصَنِّفُ قَيَّدَ وُجُوبَ الْحَدِّ بِقَوْلِهِ ( وَلَا يُحَدُّ السَّكْرَانُ حَتَّى يُعْلَمَ أَنَّهُ سَكِرَ مِنْ النَّبِيذِ وَشَرِبَهُ طَوْعًا لِأَنَّ السُّكْرَ مِنْ الْمُبَاحِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ ) فَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ مَا يُتَّخَذُ مِنْ الْحُبُوبِ كُلِّهَا وَالْعَسَلِ يَحِلُّ شُرْبُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ : يَعْنِي إذَا شَرِبَ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ لَهْوٍ وَلَا طَرَبٍ فَلَا يُحَدُّ بِالسُّكْرِ مِنْهَا عِنْدَهُ .
وَلَا يَقَعُ طَلَاقُهُ إذَا طَلَّقَ وَهُوَ سَكْرَانُ مِنْهَا كَالنَّائِمِ ، إلَّا أَنَّ الْمُصَنِّفَ فِي كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ قَالَ : وَهَلْ يُحَدُّ فِي الْمُتَّخَذِ مِنْ الْحُبُوبِ إذَا سَكِرَ مِنْهُ ؟ قِيلَ لَا يُحَدُّ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا الْوَجْهَ مِنْ قَبْلُ ، قَالُوا : الْأَصَحُّ أَنَّهُ يُحَدُّ ، فَإِنَّهُ رَوَى عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ سَكِرَ مِنْ الْأَشْرِبَةِ أَنَّهُ يُحَدُّ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْفُسَّاقَ يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ اجْتِمَاعَهُمْ عَلَى سَائِرِ الْأَشْرِبَةِ بَلْ فَوْقَ ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ الْمُتَّخَذُ مِنْ الْأَلْبَانِ إذَا اشْتَدَّ فَهُوَ عَلَى هَذَا ا هـ .
وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ ، فَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ إطْلَاقَ قَوْلِهِ هُنَا لِأَنَّ السُّكْرَ مِنْ الْمُبَاحِ لَا يُوجِبُ حَدًّا غَيْرَ الْمُخْتَارِ ، وَرِوَايَةُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَسُفْيَانَ أَنَّهُمَا سُئِلَا فِيمَنْ شَرِبَ الْبَنْجَ فَارْتَفَعَ إلَى رَأْسِهِ وَطَلَّقَ امْرَأَتَهُ هَلْ يَقَعُ ؟ قَالَا : إنْ كَانَ يَعْلَمُهُ حِينَ شَرِبَهُ مَا هُوَ يَقَعُ ( قَوْلُهُ وَلَا حَدَّ عَلَى مَنْ وُجِدَ بِهِ رِيحُ الْخَمْرِ أَوْ تَقَيَّأَهَا لِأَنَّ الرَّائِحَةَ مُحْتَمَلَةٌ ) فَلَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ ( وَكَذَا الشُّرْبُ قَدْ يَكُونُ عَنْ إكْرَاهٍ ) فَوُجُودُ عَيْنِهَا فِي الْقَيْءِ لَا يَدُلُّ عَلَى الطَّوَاعِيَةِ ، فَلَوْ وَجَبَ الْحَدُّ وَجَبَ بِلَا مُوجِبٍ ، وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ مِنْ قَرِيبٍ ، وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ الرَّوَائِحِ مُمْكِنٌ لِلْمُسْتَدِلِّ فَقُطِعَ الِاحْتِمَالُ وَهُنَا عَكْسٌ .
قَالَ الْمُوَرِّدُ : وَتَكَلَّفَ بَعْضُهُمْ فِي تَوْجِيهِهِ ، يُرِيدُ بِهِ صَاحِبَ النِّهَايَةِ

بِأَنَّ الِاحْتِمَالَ فِي نَفْسِ الرَّوَائِحِ قَبْلَ الِاسْتِدْلَالِ وَالتَّمْيِيزِ بَعْدَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِقْصَاءِ .
قَالَ : وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إذَا كَانَ التَّمْيِيزُ يَحْصُلُ بِالِاسْتِدْلَالِ فَإِذَا اسْتَدَلَّ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ يَرْتَفِعُ الِاحْتِمَالُ فِي الرَّائِحَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُحَدَّ حِينَئِذٍ وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ ، وَنُقِلَ أَيْضًا عَنْهُ أَنَّ التَّمْيِيزَ لِمَنْ يُعَايِنُهُ ، وَنُظِرَ فِيهِ بِأَنَّ مَنْ عَايَنَ الشُّرْبَ يَبْنِي عَلَى يَقِينٍ لَا عَلَى اسْتِدْلَالٍ وَتَخْمِينٍ ، وَصَاحِبُ الْهِدَايَةِ أَثْبَتَ التَّمْيِيزَ فِي صُورَةِ الِاسْتِدْلَالِ لَا فِي صُورَةِ الْعِيَانِ ا هـ .
فَبَقِيَ الْإِشْكَالُ بِحَالِهِ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُرَادَ مُعَايَنَةُ الشُّرْبِ وَالِاسْتِدْلَالُ لَا يُنَافِيهِ لِأَنَّ الْمَشْرُوبَ جَازَ كَوْنُهُ غَيْرَ الْخَمْرِ فَيُسْتَدَلُّ عَلَى أَنَّهُ خَمْرٌ بِالرَّائِحَةِ فَكَوْنُ الْمُصَنِّفِ جَعَلَ التَّمْيِيزَ يُفِيدُهُ الِاسْتِدْلَال لَا يُنَافِي حَالَةَ الْعِيَانِ ، أَيْ عِيَانِ الشُّرْبِ ، ثُمَّ لَا شَكَّ أَنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ مُحْتَمَلًا لَا يُنَافِي أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِقَرَائِنَ بِحَيْثُ يُحْكَمُ بِهِ مَعَ شُبْهَةٍ مَا ، فَلَا مُلَازَمَةَ بَيْنَ الِاحْتِمَالِ وَعَدَمِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ ، بَلْ جَازَ أَنْ يَثْبُتَ الِاسْتِدْلَال مَعَ ثُبُوتِ ضَرْبٍ مِنْ الِاحْتِمَالِ فَلَا يَصِحُّ قَوْلُهُ أَنَّهُ قَطَعَ الِاحْتِمَالَ حَيْثُ ذَكَرَ أَنَّهُ يُمْكِنُ التَّمْيِيزُ بِالِاسْتِدْلَالِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَنْظُورَ إلَيْهِ وَالْمَقْصُودَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ ثُبُوتُ طَرِيقِ الدَّرْءِ ، أَمَّا الْمَوْضِعُ الثَّانِي وَهُوَ عَدَمُ الْحَدِّ بِوُجُودِ الرَّائِحَةِ وَالتَّقَيُّؤِ فَظَاهِرٌ ، وَطَرِيقُهُ أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ الْحَدُّ لَكَانَ مَعَ شُبْهَةِ عَدَمِهِ لِأَنَّ الرَّائِحَةَ مُحْتَمَلَةٌ وَإِنْ اسْتَدَلَّ عَلَيْهَا فَإِنَّ فِيهَا مَعَ الدَّلِيلِ شُبْهَةً قَوِيَّةً فَلَا يَثْبُتُ الْحَدُّ مَعَهَا ، وَأَمَّا فِي الْمَوْضِعِ الْأَوَّلِ فَلَا شَكَّ أَنَّ فِي إثْبَاتِ اشْتِرَاطِ عَدَمِ التَّقَادُمِ لِقَبُولِ الْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ

دَرْءًا كَثِيرًا وَاسِعًا ، وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ هَذَا الطَّرِيقِ الْكَائِنِ لِلدَّرْءِ إلَّا بِاعْتِبَارِ إمْكَانِ تَمْيِيزِ رَائِحَةِ الْخَمْرِ مِنْ غَيْرِهَا ، فَحَكَمَ بِاعْتِبَارِ التَّمْيِيزِ بِالِاجْتِهَادِ فِي الِاسْتِدْلَالِ وَإِنْ كَانَ مَلْزُومًا لِشُبْهَةِ النَّفْيِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ تَحْصِيلِ هَذَا الطَّرِيقِ الْوَاسِعِ لِلدَّرْءِ ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُعْتَبَرْ التَّمْيِيزُ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ شُبْهَةٍ لَكَانَ الشَّهَادَةُ وَالْإِقْرَارُ مَعْمُولًا بِهِمَا فِي أَزْمِنَةٍ كَثِيرَةٍ مُتَأَخِّرَةٍ بِلَا رَائِحَةٍ فَيُقَامُ بِذَلِكَ مَا لَا يُحْصَى مِنْ الْحُدُودِ .
وَحِينَ اشْتَرَطَ ذَلِكَ وَضَحَتْ طَرِيقُهُ مَعَ الشُّبْهَةِ وَالِاحْتِمَالِ ، فَظَهَرَ أَنَّ كُلًّا صَحِيحٌ فِي مَوْضِعِهِ فَدَرْءُ الْحَدِّ فِي مُجَرَّدِ الرَّائِحَةِ وَالْقَيْءِ لِلِاحْتِمَالِ وَرَدَتْ الشَّهَادَةُ بِلَا رَائِحَةٍ ، إذْ لَا يُمْكِنُ التَّمْيِيزُ إلَّا مَعَ الِاحْتِمَالِ ( قَوْلُهُ وَلَا يُحَدُّ ) السَّكْرَانُ ( حَتَّى يَزُولَ عَنْهُ السُّكْرُ تَحْصِيلًا لِمَقْصُودِ الِانْزِجَارِ ) وَهَذَا بِإِجْمَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ، لِأَنَّ غَيْبُوبَةَ الْعَقْلِ وَغَلَبَةَ الطَّرَبِ وَالشَّرْحِ يُخَفِّفُ الْأَلَمَ ، حَتَّى حُكِيَ لِي أَنَّ بَعْضَ الْمُتَصَابِينَ اسْتَدْعَوْا إنْسَانًا لِيَضْحَكُوا عَلَيْهِ بِهِ أَخْلَاطٌ ثَقِيلَةٌ لَزِجَةٌ بِرُكْبَتَيْهِ لَا يُقِلُّهُمَا إلَّا بِكُلْفَةٍ وَمَشَقَّةٍ ، فَلَمَّا غَلَبَ عَلَى عَقْلِهِ ادَّعَى الْقُوَّةَ وَالْإِقْدَامَ ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ مُمَازِحًا لَيْسَ بِصَحِيحٍ وَإِلَّا فَضَعْ هَذِهِ الْجَمْرَةَ عَلَى رُكْبَتِك ، فَأَقْدَمَ وَوَضَعَهَا حَتَّى أَكَلَتْ مَا هُنَاكَ مِنْ لَحْمِهِ وَهُوَ لَا يَلْتَفِتُ حَتَّى طَفِئَتْ أَوْ أَزَالَهَا بَعْضُ الْحَاضِرِينَ الشَّكُّ مِنِّي فَلَمَّا أَفَاقَ وَجَدَ مَا بِهِ مِنْ جِرَاحَةِ النَّارِ الْبَالِغَةِ وَوَرِمَتْ رُكْبَتُهُ وَمَكَثَ بِهَا مُدَّةً إلَى أَنْ بَرَأَتْ ، فَعَادَتْ بِذَلِكَ الْكَيِّ الْبَالِغِ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ وَالنَّظَافَةِ مِنْ الْأَخْلَاطِ وَصَارَ يَقُولُ : يَا لَيْتَهَا كَانَتْ فِي الرُّكْبَتَيْنِ ، ثُمَّ لَمْ يَسْتَطِعْ أَصْلًا فِي حَالِ صَحْوِهِ

أَنْ يَفْعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ بِالْأُخْرَى لِيَسْتَرِيحَ مِنْ أَلَمِهَا وَمَنْظَرِهَا .
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يُفِيدُ الْحَدُّ فَائِدَتَهُ إلَّا حَالَ الصَّحْوِ وَتَأْخِيرُ الْحَدِّ لِعُذْرٍ جَائِزٌ

( وَحَدُّ الْخَمْرِ وَالسُّكْرِ فِي الْحُرِّ ثَمَانُونَ سَوْطًا ) لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ( يُفَرَّقُ عَلَى بَدَنِهِ كَمَا فِي حَدِّ الزِّنَا عَلَى مَا مَرَّ ) ثُمَّ يُجَرَّدُ فِي الْمَشْهُودِ مِنْ الرِّوَايَةِ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يُجَرَّدُ إظْهَارًا لِلتَّخْفِيفِ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِهِ نَصٌّ .
وَوَجْهُ الْمَشْهُورِ أَنَّا أَظْهَرْنَا التَّخْفِيفَ مَرَّةً فَلَا يُعْتَبَرُ ثَانِيًا ( وَإِنْ كَانَ عَبْدًا فَحَدُّهُ أَرْبَعُونَ سَوْطًا ) لِأَنَّ الرِّقَّ مُتَّصِفٌ عَلَى مَا عُرِفَ .

( قَوْلُهُ وَحَدُّ الْخَمْرِ وَالسُّكْرِ ) أَيْ مِنْ غَيْرِهَا ( ثَمَانُونَ سَوْطًا ) وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ .
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ : أَرْبَعُونَ إلَّا أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ رَأَى أَنْ يَجْلِدَهُ ثَمَانِينَ جَازَ عَلَى الْأَصَحِّ .
وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ عَلَى تَعَيُّنِ الثَّمَانِينَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ .
رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ : { كُنَّا نُؤْتَى بِالشَّارِبِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِمْرَةِ أَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ فَنَقُومُ إلَيْهِ بِأَيْدِينَا وَنِعَالِنَا وَأَرْدِيَتِنَا حَتَّى كَانَ آخِرُ إمْرَةِ عُمَرَ ، فَجَلَدَ أَرْبَعِينَ ، حَتَّى إذَا عَتَوْا أَوْ فَسَقُوا جَلَدَ ثَمَانِينَ } .
وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَدَ فِي الْخَمْرِ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ ثُمَّ جَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ وَدَنَا النَّاسُ مِنْ الرِّيفِ وَالْقُرَى قَالَ : مَا تَرَوْنَ فِي جَلْدِ الْخَمْرِ ؟ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ : أَرَى أَنْ نَجْعَلَهُ ثَمَانِينَ كَأَخَفِّ الْحُدُودِ ، قَالَ : فَجَلَدَ عُمَرُ ثَمَانِينَ } .
وَفِي الْمُوَطَّأِ أَنَّ عُمَرَ اسْتَشَارَ فِي الْخَمْرِ يَشْرَبُهَا الرَّجُلُ .
فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : نَرَى أَنْ تَجْلِدَهُ ثَمَانِينَ ، فَإِنَّهُ إذَا شَرِبَ سَكِرَ وَإِذَا سَكِرَ هَذَى ، وَإِذَا هَذَى افْتَرَى ، وَعَلَى الْمُفْتَرِي ثَمَانُونَ .
وَعَنْ مَالِكٍ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَلَا مَانِعَ مِنْ كَوْنِ كُلٍّ مِنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَشَارَ بِذَلِكَ فَرَوَى الْحَدِيثَ مَرَّةً مُقْتَصِرًا عَلَى هَذَا وَمَرَّةً عَلَى هَذَا .
وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ الشَّرْبَ كَانُوا يُضْرَبُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَيْدِي وَالنِّعَالِ وَالْعِصِيِّ حَتَّى تُوُفِّيَ ، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَجْلِدُهُمْ أَرْبَعِينَ حَتَّى تُوُفِّيَ إلَى أَنْ قَالَ : فَقَالَ عُمَرُ

مَاذَا تَرَوْنَ ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إذَا شَرِبَ } إلَخْ .
وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ { أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَضَرَبَهُ بِجَرِيدَتَيْنِ نَحْوَ الْأَرْبَعِينَ ، وَفَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ اسْتَشَارَ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ : أَخَفُّ الْحُدُودِ ثَمَانُونَ فَأَمَرَ بِهِ عُمَرُ } فَيُمْكِنُ بِجَرِيدَتَيْنِ مُتَعَاقِبَتَيْنِ بِأَنْ انْكَسَرَتْ وَاحِدَةٌ فَأُخِذَتْ أُخْرَى وَإِلَّا فَهِيَ ثَمَانُونَ ، وَيَكُونُ مِمَّا رَأَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي ذَلِكَ الرَّجُلِ .
وَقَوْلُ الرَّاوِي بَعْدَ ذَلِكَ : فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ اسْتَشَارَ إلَخْ لَا يُنَافِي ذَلِكَ ، فَإِنَّ حَاصِلَهُ أَنَّهُ اسْتَشَارَهُمْ فَوَقَعَ اخْتِيَارُهُمْ عَلَى تَقْدِيرِ الثَّمَانِينَ الَّتِي انْتَهَى إلَيْهَا فِعْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ وَفَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ يُبْعِدُهُ ، وَإِلَّا لَزِمَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ جَلَدَ ثَمَانِينَ ، وَمَا تَقَدَّمَ مِمَّا يُفِيدُ أَنَّ عُمَرَ هُوَ الَّذِي جَلَدَ الثَّمَانِينَ ، بِخِلَافِ أَبِي بَكْرٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : مَا كُنْتُ أُقِيمُ عَلَى أَحَدٍ حَدًّا فَيَمُوتُ فِيهِ فَأَجِدُ مِنْهُ فِي نَفْسِي إلَّا صَاحِبَ الْخَمْرِ ، فَإِنَّهُ إنْ مَاتَ وَدْيَتُهُ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسُنَّهُ ، وَالْمُرَادُ لَمْ يَسُنَّ فِيهِ عَدَدًا مُعَيَّنًا ، وَإِلَّا فَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّهُ أَمَرَ بِضَرْبِهِ .
فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ تُفِيدُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُقَدَّرًا فِي زَمَنِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِعَدَدٍ مُعَيَّنٍ ، ثُمَّ قَدَّرَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ بِأَرْبَعِينَ ، ثُمَّ اتَّفَقُوا عَلَى ثَمَانِينَ ، وَإِنَّمَا جَازَ لَهُمْ أَنْ يَجْمَعُوا عَلَى تَعَيُّنِهِ ، وَالْحُكْمُ الْمَعْلُومُ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَدَمُ تَعَيُّنِهِ لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ انْتَهَى إلَى هَذِهِ الْغَايَةِ فِي ذَلِكَ

الرَّجُلِ لِزِيَادَةِ فَسَادٍ فِيهِ ، ثُمَّ رَأَوْا أَهْلَ الزَّمَانِ تَغَيَّرُوا إلَى نَحْوِهِ أَوْ أَكْثَرَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ السَّائِبِ : حَتَّى إذَا عَتَوْا وَفَسَقُوا وَعَلِمُوا أَنَّ الزَّمَانَ كُلَّمَا تَأَخَّرَ كَانَ فَسَادُ أَهْلِهِ أَكْثَرَ فَكَانَ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ هُوَ مَا كَانَ حُكْمُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي أَمْثَالِهِمْ .
وَأَمَّا مَا رُوِيَ مِنْ جَلْدِ عَلِيٍّ أَرْبَعِينَ بَعْدَ عُمَرَ فَلَمْ يَصِحَّ .
وَذَلِكَ مَا فِي السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ حُصَيْنِ بْنِ الْمُنْذِرِ الرَّقَاشِيِّ قَالَ : { شَهِدْت عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَدْ أُتِيَ بِالْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ فَشَهِدَ عَلَيْهِ حُمْرَانُ وَرَجُلٌ آخَرُ فَشَهِدَ أَنَّهُ رَآهُ يَشْرَبُهَا وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ رَآهُ يَتَقَيَّؤُهَا ، فَقَالَ عُثْمَانُ : إنَّهُ لَمْ يَتَقَيَّأْهَا حَتَّى شَرِبَهَا ، فَقَالَ لِعَلِيٍّ : أَقِمْ عَلَيْهِ الْحَدَّ ، فَقَالَ عَلِيٌّ لِلْحَسَنِ : أَقِمْ عَلَيْهِ الْحَدَّ ، فَقَالَ : وَلِّ حَارَّهَا مَنْ تَوَلَّى قَارَّهَا ، فَقَالَ : عَلِيٌّ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ : أَقِمْ عَلَيْهِ الْحَدَّ ، فَأَخَذَ السَّوْطَ وَجَلَدَهُ وَعَلِيٌّ يَعُدُّ إلَى أَنْ بَلَغَ أَرْبَعِينَ ، قَالَ : حَسْبُك ، جَلَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعِينَ وَجَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ وَجَلَدَ عُمَرُ ثَمَانِينَ ، وَكُلٌّ سُنَّةٌ ، وَهَذَا أَحَبُّ إلَيَّ } .
( قَوْلُهُ يُفَرِّقُ الضَّرْبَ عَلَى بَدَنِهِ كَمَا فِي حَدِّ الزِّنَا ) وَنَقَلَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلضَّارِبِ أَعْطِ كُلَّ ذِي عُضْوٍ حَقَّهُ : يَعْنِي مَا خَلَا الْوَجْهَ وَالرَّأْسَ وَالْفَرْجَ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَضْرِبُ الرَّأْسَ أَيْضًا وَتَقَدَّمَ ( قَوْلُهُ ثُمَّ يُجَرِّدُ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ الرِّوَايَةِ : وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يُجَرِّدُ إظْهَارًا لِلتَّخْفِيفِ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِهِ نَصٌّ .
وَجْهُ الْمَشْهُورِ أَنَّا أَظْهَرْنَا ) أَيْ الشَّرْعَ أَظْهَرَ ( التَّخْفِيفَ مَرَّةً ) بِنُقْصَانِ الْعَدَدِ ( فَلَا يُعْتَبَرُ ثَانِيًا ) بِعَدَمِ التَّجْرِيدِ وَإِلَّا قَارَبَ

الْمَقْصُودَ مِنْ الِانْزِجَارِ الْفَوَاتُ ، وَتَقَدَّمَ لَهُ مِثْلُهُ فِي الطَّهَارَةِ حَيْثُ قَالَ فِي جَوَابِ تَخْفِيفِهِمَا الرَّوْثُ وَالْخَثَى لِلضَّرُورَةِ .
قُلْنَا الضَّرُورَةُ قَدْ أَثَّرَتْ فِي النِّعَالِ مَرَّةً فَتَكْفِي مُؤْنَتُهَا : أَيْ فَلَا تُخَفَّفُ مَرَّةً أُخْرَى ، وَلَهُ ضِدُّهُ فِي الصَّلَاةِ حَيْثُ قَالَ فِي تَخْفِيفِ الْقِرَاءَةِ لِلْمُسَافِرِ ، وَلِأَنَّ السَّفَرَ قَدْ أَثَّرَ فِي إسْقَاطِ شَطْرِ الصَّلَاةِ فَلَأَنْ يُؤَثِّرَ فِي تَخْفِيفِ الْقِرَاءَةِ أَوْلَى .
وَتَقَدَّمَ هُنَاكَ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا فِي الطَّهَارَةِ أَنْ لَا مُلَازَمَةَ بَيْنَ نَفْيِ التَّخْفِيفِ ثَانِيًا وَوُجُودِهِ أَوَّلًا مِنْ حَيْثُ هُوَ وُجُودُهُ ، وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ الدَّلِيلُ وَعَدَمُهُ .
( قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا فَحَدُّهُ أَرْبَعُونَ عَلَى مَا عُرِفَ ) مِنْ أَنَّ الرِّقَّ مُؤَثِّرٌ فِي تَنْصِيفِ النِّعْمَةِ وَالْعُقُوبَةِ ، فَإِذَا قُلْنَا إنَّ حَدَّ الْحُرِّ ثَمَانُونَ قُلْنَا إنَّ حَدَّ الْعَبْدِ أَرْبَعُونَ ، وَمَنْ قَالَ حَدُّ الْحُرِّ أَرْبَعُونَ قَالَ حَدُّ الْعَبْدِ عِشْرُونَ

( وَمَنْ أَقَرَّ بِشُرْبِ الْخَمْرِ وَالسَّكَرِ ثُمَّ رَجَعَ لَمْ يُحَدَّ ) لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى .
( قَوْلُهُ وَمَنْ أَقَرَّ بِشُرْبِ الْخَمْرِ وَالسَّكَرِ ) بِفَتْحَتَيْنِ وَهُوَ عَصِيرُ الرُّطَبِ إذَا اشْتَدَّ ( ثُمَّ رَجَعَ لَمْ يُحَدَّ لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ) وَلَا مُكَذِّبَ لَهُ فِي الرُّجُوعِ عَنْهُ فَيُقْبَلُ ، وَلَا يَصِحُّ ضَمُّ سِينِهِ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالسُّكْرِ مِنْ غَيْرِ الْخَمْرِ إمَّا فِي حَالِ سُكْرِهِ فَلَا يُعْتَبَرُ إقْرَارُ السَّكْرَانِ كَمَا سَيَأْتِي أَوْ بَعْدَهُ وَلَا يُعْتَبَرُ لِلتَّقَادُمِ فَلَا يُوجَدُ مَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْهُ

( وَيَثْبُتُ الشُّرْبُ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ وَ ) يَثْبُتُ ( بِالْإِقْرَارِ مَرَّةً وَاحِدَةً ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَشْتَرِطُ الْإِقْرَارَ مَرَّتَيْنِ وَهُوَ نَظِيرُ الِاخْتِلَافِ فِي السَّرِقَةِ ، وَسَنُبَيِّنُهَا هُنَاكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ ( وَلَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ ) لِأَنَّ فِيهَا شُبْهَةَ الْبَدَلِيَّةِ وَتُهْمَةَ الضَّلَالِ وَالنِّسْيَانِ .
( قَوْلُهُ وَيَثْبُتُ الشُّرْبُ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ وَيَثْبُتُ بِالْإِقْرَارِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الْإِقْرَارُ مَرَّتَيْنِ ) وَقَوْلُهُ ( سَنُبَيِّنُهَا هُنَاكَ ) أَيْ سَنُبَيِّنُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي الشَّهَادَاتِ ( وَلَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ ) وَلَا نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا ( لِأَنَّ فِيهَا ) أَيْ فِي شَهَادَةِ النِّسَاءِ ( شُبْهَةَ الْبَدَلِيَّةِ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ } فَاعْتَبَرَهَا عِنْدَ عَدَمِ الرَّجُلَيْنِ وَلَمْ يُرِدْ بِهِ حَقِيقَتَهُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُمَا لَوْ شَهِدَتَا مَعَ رَجُلٍ مَعَ إمْكَانِ رَجُلَيْنِ صَحَّ إجْمَاعًا ( وَ ) فِيهِ ( تُهْمَةُ الضَّلَالِ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { أَنْ تَضِلَّ إحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى } فِي الْكَشَّافِ أَنْ تَضِلَّ : أَيْ لَا تَهْتَدِي لِلشَّهَادَةِ ، وَفِي التَّيْسِيرِ : الضَّلَالُ هُنَا النِّسْيَانُ .
وَقَوْلُهُ فَتُذَكِّرَ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى أَيْ تُزِيلَ نِسْيَانَهَا

( وَالسَّكْرَانُ الَّذِي يُحَدُّ هُوَ الَّذِي لَا يَعْقِلُ مَنْطِقًا لَا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا وَلَا يَعْقِلُ الرَّجُلَ مِنْ الْمَرْأَةِ ) قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ ( وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : هُوَ الَّذِي يَهْذِي وَيَخْتَلِطُ كَلَامُهُ ) لِأَنَّهُ هُوَ السَّكْرَانُ فِي الْعُرْفِ ، وَإِلَيْهِ مَالَ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ وَلَهُ أَنَّهُ يُؤْخَذُ فِي أَسْبَابِ الْحُدُودِ بِأَقْصَاهَا دَرْءًا لِلْحَدِّ .
وَنِهَايَةُ السَّكْرَانِ يَغْلِبُ السُّرُورُ عَلَى الْعَقْلِ فَيَسْلُبُهُ التَّمْيِيزَ بَيْنَ شَيْءٍ وَشَيْءٍ ، وَمَا دُونَ ذَلِكَ لَا يَعْرَى عَنْ شُبْهَةِ الصَّحْوِ ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْقَدَحِ الْمُسْكِرُ فِي حَقِّ الْحُرْمَةِ مَا قَالَاهُ بِالْإِجْمَاعِ أَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ وَالشَّافِعِيُّ يَعْتَبِرُ ظُهُورَ أَثَرِهِ فِي مِشْيَتِهِ وَحَرَكَاتِهِ وَأَطْرَافِهِ وَهَذَا مِمَّا يَتَفَاوَتُ فَلَا مَعْنَى لِاعْتِبَارِهِ .

( قَوْلُهُ وَالسَّكْرَانُ الَّذِي يُحَدُّ ) لِسُكْرِهِ مِنْ غَيْرِ الْخَمْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ( هُوَ الَّذِي لَا يَعْقِلُ مَنْطِقًا لَا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا .
وَلَا يَعْقِلُ الرَّجُلَ مِنْ الْمَرْأَةِ ) زَادَ فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ : وَلَا الْأَرْضَ مِنْ السَّمَاءِ ( وَقَالَا : هُوَ الَّذِي يَهْذِي وَيَخْلِطُ ) وَبِهِ قَالَ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ .
وَلَمَّا لَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ .
وَالْمُرَادُ أَنْ يَكُونَ غَالِبُ كَلَامِهِ هَذَيَانًا ، فَإِنْ كَانَ نِصْفُهُ مُسْتَقِيمًا فَلَيْسَ بِسَكْرَانَ فَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الصُّحَاةِ فِي إقْرَارِهِ بِالْحُدُودِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، لِأَنَّ السَّكْرَانَ فِي الْعُرْفِ مَنْ اخْتَلَطَ كَلَامُهُ جَدَّهُ بِهَزْلِهِ فَلَا يَسْتَقِرُّ عَلَى شَيْءٍ ( وَإِلَيْهِ مَالَ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ ) وَاخْتَارُوهُ لِلْفَتْوَى لِأَنَّ الْمُتَعَارَفَ إذَا كَانَ يَهْذِي يُسَمَّى سَكْرَانُ وَتَأَيَّدَ بِقَوْلِ عَلِيٍّ : إذَا سَكِرَ هَذَى ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُؤْخَذُ فِي أَسْبَابِ الْحُدُودِ بِأَقْصَاهَا دَرْءًا ) بِدَلِيلِ الْإِلْزَامِ فِي شَهَادَةِ الزِّنَا أَنْ يَقُولَ كَالْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ وَفِي السَّرِقَةِ بِالْأَخْذِ مِنْ الْحِرْزِ التَّامِّ لِأَنَّ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ شُبْهَةُ الصَّحْوِ فَيَنْدَرِئُ الْحَدُّ .
وَأَمَّا فِي ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ فَمَا قَالَا فَاحْتَاطَ فِي أَمْرِ الْحَدِّ وَفِي الْحُرْمَةِ ، وَإِنَّمَا اخْتَارُوا لِلْفَتْوَى قَوْلَهُمَا لِضَعْفِ وَجْهِ قَوْلِهِ وَذَلِكَ أَنَّهُ حَيْثُ قَالَ تُؤْخَذُ فِي أَسْبَابِ الْحُدُودِ بِأَقْصَاهَا فَقَدْ سَلَّمَ أَنَّ السُّكْرَ يَتَحَقَّقُ قَبْلَ الْحَالَةِ الَّتِي عَيَّنَهَا وَأَنَّهُ تَتَفَاوَتُ مَرَاتِبُهُ وَكُلُّ مَرْتَبَةٍ هِيَ سُكْرٌ ، وَالْحَدُّ إنَّمَا أُنِيطَ فِي الدَّلِيلِ الَّذِي أَثْبَتَ حَدَّ السُّكْرِ بِكُلِّ مَا يُسَمَّى سُكْرًا لَا بِالْمَرْتَبَةِ الْأَخِيرَةِ مِنْهُ ، عَلَى أَنَّ الْحَالَةَ الَّتِي ذَكَرَ قَلَّمَا يَصِلُ إلَيْهَا سَكْرَانُ فَيُؤَدِّي إلَى عَدَمِ الْحَدِّ بِالسُّكْرِ .
وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ اعْتِبَارَ السُّكْرِ بِقِرَاءَةِ سُورَةِ { قُلْ يَا أَيُّهَا

الْكَافِرُونَ } وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ مِمَّنْ يَحْفَظُ الْقُرْآنَ أَوْ كَانَ حَفِظَهَا فِيمَا حَفِظَ مِنْهُ لَا مَنْ لَمْ يَدْرِ شَيْئًا أَصْلًا .
قَالَ بِشْرٌ : فَقُلْت لِأَبِي يُوسُفَ : كَيْفَ أَمَرْت بِهَا مِنْ بَيْنِ السُّوَرِ فَرُبَّمَا يُخْطِئُ فِيهَا الْعَاقِلُ الصَّاحِي ؟ قَالَ : لِأَنَّ اللَّهَ بَيَّنَ أَنَّ الَّذِي عَجَزَ عَنْ قِرَاءَتِهَا سَكْرَانُ : يَعْنِي بِهِ مَا فِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : صَنَعَ لَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ طَعَامًا فَدَعَانَا فَأَكَلْنَا وَسَقَانَا مِنْ الْخَمْرِ فَأَخَذَتْ الْخَمْرُ مِنَّا ، وَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَقَدَّمُونِي فَقَرَأْت { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } وَنَحْنُ نَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ، قَالَ : فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ } وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَوَّلَ عَلَى هَذَا بَلْ وَلَا يُعْتَبَرُ بِهِ فَإِنَّهُ طَرِيقُ سَمَاعِ تَبْدِيلِ كَلَامِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّهُ لَيْسَ كُلُّ سَكْرَانَ إذَا قِيلَ لَهُ اقْرَأْ { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } يَقُولُ لَا أُحْسِنُهَا الْآنَ بَلْ يَنْدَفِعُ قَارِئًا فَيُبَدِّلُهَا إلَى الْكُفْرِ ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُلْزَمَ أَحَدٌ بِطَرِيقِ ذِكْرِ مَا هُوَ كُفْرٌ وَإِنْ لَمْ يُؤَاخَذْ بِهِ .
نَعَمْ لَوْ تَعَيَّنَ طَرِيقًا لِإِقَامَةِ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى ، لَكِنْ لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ مَعْرِفَةَ السَّكْرَانِ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ بَلْ لَهُ طَرِيقٌ مَعْلُومٌ هِيَ مَا ذَكَرْنَا .
وقَوْله تَعَالَى { لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } لِمَنْ لَمْ يُحْسِنْهَا لَا يُوجِبُ قَصْرَ الْمُعَرَّفِ عَلَيْهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَمَا دُونَ ذَلِكَ لَا يَعْرَى عَنْ شُبْهَةِ الصَّحْوِ ) مَمْنُوعٌ ، بَلْ إذَا حَكَمَ الْعُرْفُ وَاللُّغَةُ بِأَنَّهُ سَكْرَانُ بِمِقْدَارٍ مِنْ اخْتِلَافِ الْحَالِ حُكِمَ بِأَنَّهُ سَكْرَانُ بِلَا شُبْهَةِ صَحْوٍ ، وَمَا مَعَهُ مِنْ ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ التَّمْيِيزِ لَمْ يُجْعَلْ شُبْهَةً فِي أَنَّهُ سَكْرَانُ ، وَإِذَا كَانَ سَكْرَانَ بِلَا

شُبْهَةِ حَدٍّ فَالْمُعْتَبَرُ ثُبُوتُ الشُّبْهَةِ فِي سُكْرِهِ فِي نَفْيِ الْحَدِّ لَا ثُبُوتُ شُبْهَةِ صَحْوِهِ .
وَعُرِفَ مِمَّا ذُكِرَ أَنَّ مَنْ اسْتَدَلَّ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ السُّكْرَ هُوَ أَنْ لَا يَعْقِلَ مَنْطِقًا إلَخْ غَرِيقٌ فِي الْخَطَأِ لِأَنَّهَا فِي عَلِيٍّ وَأَصْحَابِهِ وَلَمْ يَصِلْ سُكْرُهُمْ إلَى ذَلِكَ الْحَدِّ كَمَا عَلِمْت مِنْ أَنَّهُمْ أَدْرَكُوا الْوُجُوبَ وَقَامُوا لِلْإِسْقَاطِ وَجَعَلَهُمْ سُكَارَى فَهِيَ تُفِيدُ ضِدَّ قَوْلِهِ .
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { حَتَّى تَعْلَمُوا } الْآيَةَ فَإِنَّمَا أَطْلَقَ لَهُمْ الصَّلَاةَ حَتَّى يَصْحُوا كُلَّ الصَّحْوِ بِأَنْ يَعْلَمُوا جَمِيعَ مَا يَقُولُونَ خَشْيَةَ أَنْ يُبَدِّلُوا بَعْضَ مَا يَقُولُونَ ، وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ مِنْ مَرَاتِبِ السُّكْرِ كَذَا وَكَذَا ، بَلْ أَنَّ مَنْ وَصَلَ إلَى ذَلِكَ الْحَدِّ الَّذِي كَانُوا فِيهِ سُمِّيَ سَكْرَانَ ، وَكَوْنُ الْمِقْدَارِ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ لِلْحَدِّ مَا هُوَ لَا تَعَرُّضَ لَهُ بِوَجْهٍ .
وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ ( وَالشَّافِعِيُّ يَعْتَبِرُ ظُهُورَ أَثَرِهِ فِي مِشْيَتِهِ وَحَرَكَاتِهِ وَأَطْرَافِهِ ) يُفِيدُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْإِجْمَاعِ فِي قَوْلِهِ وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْقَدْحِ الْمُسْكِرُ مَا قَالَاهُ بِالْإِجْمَاعِ الْإِجْمَاعُ الْمَذْهَبِيُّ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ آخَرُ يُخَالِفُ قَوْلَهُمَا .
وَاعْتَرَضَهُ شَارِحٌ بِأَنَّهُ قَلَّدَ فِيهِ فَخْرَ الْإِسْلَامِ وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ يُوجِبُ الْحَدَّ فِي شُرْبِ النَّبِيذِ الْمُسْكِرِ جِنْسُهُ وَإِنْ قَلَّ ، وَلَا يُعْتَبَرُ السُّكْرُ أَصْلًا .
وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ مِنْ نَقْلِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي تَحْدِيدِ السُّكْرِ مَا هُوَ اعْتِقَادُ النَّاقِلِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَحُدُّ بِالسُّكْرِ ، بَلْ الْحَاصِلُ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ يَحُدُّ بِالسُّكْرِ عِنْدَنَا حَدَّ السُّكْرِ مُطْلَقًا عَنْهُمَا وَعَنْ الشَّافِعِيِّ وَمُفَصَّلًا عَنْ الْإِمَامِ : أَيْ هُوَ بِاعْتِبَارِ اقْتِضَائِهِ الْحَدَّ هُوَ أَقْصَاهُ ، وَبِاعْتِبَارِ مُجَرَّدِ الْحُرْمَةِ هُوَ مَا ذَكَرْتُمْ .
وَجَازَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ

مَنْ فَسَّرَ السُّكْرَ يَحُدُّ بِلَا سُكْرٍ ، وَإِنَّمَا فَسَّرَهُ بِاعْتِبَارٍ آخَرَ كَأَنْ حَلَفَ بِطَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ لَيَشْرَبَنَّ حَتَّى يَسْكَرَ فَيَحُدُّهُ لِيَعْلَمَ مَتَى يَقَعُ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَغَيْرُ ذَلِكَ ، ثُمَّ أَبْطَلَهُ بِأَنَّ هَذَا يَتَفَاوَتُ : أَيْ لَا يَنْضَبِطُ فَكَمْ مِنْ صَاحٍ يَتَمَايَلُ وَيَزْلِقُ فِي مِشْيَتِهِ وَسَكْرَانُ ثَابِتٌ وَمَا لَا يَنْضَبِطُ لَا يُضْبَطُ بِهِ ، وَلِأَنَّ الَّذِي وَقَعَ فِي كَلَامِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ اعْتِبَارٌ بِالْأَقْوَالِ لَا بِالْمَشْيِ حَيْثُ قَالَ إذَا سَكِرَ هَذَى إلَخْ

( وَلَا يُحَدُّ السَّكْرَانُ بِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ ) لِزِيَادَةِ احْتِمَالِ الْكَذِبِ فِي إقْرَارِهِ فَيَحْتَالُ لِدَرْئِهِ لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى .
بِخِلَافِ حَدِّ الْقَذْفِ لِأَنَّ فِيهِ حَقَّ الْعَبْدِ وَالسَّكْرَانُ فِيهِ كَالصَّاحِي عُقُوبَةً عَلَيْهِ كَمَا فِي سَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِ ، وَلَوْ ارْتَدَّ السَّكْرَانُ لَا تَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ لِأَنَّ الْكُفْرَ مِنْ بَابِ الِاعْتِقَادِ فَلَا يَتَحَقَّقُ مَعَ السُّكْرِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( قَوْلُهُ وَلَا يُحَدُّ السَّكْرَانُ بِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ ) أَيْ بِالْحُدُودِ الْخَالِصَةِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى كَحَدِّ الزِّنَا وَالشُّرْبِ وَالسَّرِقَةِ ، إلَّا أَنَّهُ يَضْمَنُ الْمَسْرُوقَ ، وَقَيَّدَ بِالْإِقْرَارِ لِأَنَّهُ لَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ بِالزِّنَا فِي حَالِ سُكْرِهِ وَبِالسَّرِقَةِ يُحَدُّ بَعْدَ الصَّحْوِ وَيُقْطَعُ ، وَإِنَّمَا لَا يُعْتَبَرُ إقْرَارُهُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ يَصِحُّ رُجُوعُهُ عَنْهُ .
وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ السَّكْرَانَ لَا يَثْبُتُ عَلَى شَيْءٍ ، وَذَلِكَ الْإِقْرَارُ مِنْ الْأَشْيَاءِ وَالْأَقْوَالِ الَّتِي يَقُولُهَا .
فَهُوَ مَحْكُومٌ بِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ عَلَيْهِ وَيَلْزَمُهُ الْحُكْمُ بَعْدَ سَاعَةٍ بِأَنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ .
هَذَا مَعَ زِيَادَةِ شُبْهَةٍ أَنَّهُ يَكْذِبُ عَلَى نَفْسِهِ مُجُونًا وَتَهَتُّكًا كَمَا هُوَ مُقْتَضَى السُّكْرِ الْمُتَّصِفِ هُوَ بِهِ فَيَنْدَرِئُ عَنْهُ ، بِخِلَافِ مَا لَا يَقْبَلُ الرُّجُوعَ فَإِنَّهُ مُؤَاخَذٌ بِهِ لِأَنَّ غَايَةَ الْأَمْرِ أَنْ يُجْعَلَ رَاجِعًا عَنْهُ لَكِنَّ رُجُوعَهُ عَنْهُ لَا يُقْبَلُ .
هَذَا وَاَلَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَبَرَ فِي السُّكْرِ الَّذِي لَا يَصِحُّ مَعَهُ الْإِقْرَارُ بِالْحُدُودِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ قَوْلُهُمَا فَيَتَّفِقُونَ فِيهِ كَمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ فِي التَّحْرِيمِ لِأَنَّهُ أَدْرَأُ لِلْحُدُودِ مِنْهُ لَوْ اُعْتُبِرَ قَوْلُهُ فِيهِ فِي إيجَابِ الْحَدِّ ، وَهَذَا بِخِلَافِ حَدِّ الْقَذْفِ لِأَنَّ فِيهِ حَقَّ الْعَبْدِ ( وَالسَّكْرَانُ كَالصَّاحِي ) فِيمَا فِيهِ حُقُوقُ الْعِبَادِ ( عُقُوبَةً عَلَيْهِ ) لِأَنَّهُ أَدْخَلَ الْآفَةَ عَلَى نَفْسِهِ ، فَإِذَا أَقَرَّ بِالْقَذْفِ سَكْرَانُ حُبِسَ حَتَّى يَصْحُوَ فَيُحَدَّ لِلْقَذْفِ ثُمَّ يُحْبَسَ حَتَّى يَخِفَّ عَنْهُ الضَّرْبُ فَيُحَدَّ لِلسُّكْرِ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِالْقَذْفِ سَكْرَانُ وَشَهِدَ عَلَيْهِ بِالسُّكْرِ مِنْ الْأَنْبِذَةِ الْمُحَرَّمَةِ أَوْ مُطْلَقًا عَلَى الْخِلَافِ فِي الْحَدِّ بِالسُّكْرِ مِنْ الْأَشْرِبَةِ الْمُبَاحَةِ ، وَإِلَّا فَبِمُجَرَّدِ سُكْرِهِ لَا يُحَدُّ بِإِقْرَارِهِ : بِالسُّكْرِ ، وَكَذَا

يُؤَاخَذُ بِالْإِقْرَارِ بِسَبَبِ الْقِصَاصِ وَسَائِرِ الْحُقُوقِ مِنْ الْمَالِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَغَيْرِهَا لِأَنَّهَا لَا تَقْبَلُ الرُّجُوعَ .
( قَوْلُهُ وَلَوْ ارْتَدَّ السَّكْرَانُ لَا تَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ لِأَنَّ الْكُفْرَ مِنْ بَابِ الِاعْتِقَادِ ) أَوْ الِاسْتِخْفَافِ ، وَبِاعْتِبَارِ الِاسْتِخْفَافِ حُكِمَ بِكُفْرِ الْهَازِلِ مَعَ عَدَمِ اعْتِقَادِهِ لِمَا يَقُولُ ، وَلَا اعْتِقَادَ لِلسَّكْرَانِ وَلَا اسْتِخْفَافَ لِأَنَّهُمَا فَرْعُ قِيَامِ الْإِدْرَاكِ ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ السَّكْرَانَ الَّذِي لَا تَبِينُ امْرَأَتُهُ هُوَ الَّذِي لَا يَعْقِلُ مَنْطِقًا كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي حَدِّهِ .
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَقَوْلِهِمَا ، وَلِذَا لَمْ يُنْقَلْ خِلَافٌ فِي أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِكُفْرِ السَّكْرَانِ بِتَكَلُّمِهِ مَعَ أَنَّهُمَا لَمْ يُفَسِّرَا السَّكْرَانَ بِغَيْرِ مَا تَقَدَّمَ عَنْهُمَا ، فَوَجْهُهُ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ إنَّمَا اعْتَبَرَ عَدَمَ الْإِدْرَاكِ فِي السَّكْرَانِ احْتِيَاطًا لِدَرْءِ الْحَدِّ ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُحْتَاطَ فِي عَدَمِ تَكْفِيرِ الْمُسْلِمِ حَتَّى قَالُوا : إذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ وُجُوهٌ كَثِيرَةٌ تُوجِبُ التَّكْفِيرَ وَوَجْهٌ وَاحِدٌ يَمْنَعُهُ عَلَى الْمُفْتِي أَنْ يَمِيلَ إلَيْهِ وَيَبْنِي عَلَيْهِ ، فَلَوْ اعْتَبَرَ فِي اعْتِبَارِ عَدَمِ رِدَّتِهِ بِالتَّكَلُّمِ بِمَا هُوَ كُفْرٌ أَقْصَى السُّكْرِ كَانَ احْتِيَاطًا لِتَكْفِيرِهِ لِأَنَّهُ يَكْفُرُ فِي جَمِيعِ مَا قَبْلَ تِلْكَ الْحَالَةِ هَذَا فِي حَقِّ الْحُكْمِ .
أَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنْ كَانَ فِي الْوَاقِعِ قَصَدَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ ذَاكِرًا لِمَعْنَاهُ كَفَرَ وَإِلَّا فَلَا .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا الِاعْتِبَارُ مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ فَإِنَّ الشَّارِعَ اعْتَبَرَ دَرْكَهُ قَائِمًا حَتَّى خَاطَبَهُ فِي حَالِ سُكْرِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى { لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } يَتَضَمَّنُ خِطَابَ السُّكَارَى ، لِأَنَّهُ فِي حَالِ سُكْرِهِ مُخَاطَبٌ بِأَنْ لَا يَقْرَبَهَا كَذَلِكَ وَإِلَّا لَجَازَ لَهُ قُرْبَانُهَا ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ مَا يَقُولُ لِعَدَمِ الْخِطَابِ

عَلَيْهِ فَلَا يُفِيدُ هَذَا الْخِطَابُ فَائِدَةً أَصْلًا فَهُوَ خِطَابٌ لِلصَّاحِي أَنْ لَا يَقْرَبَهَا إذَا سَكِرَ .
فَالِامْتِثَالُ مَطْلُوبٌ مِنْهُ حَالَ السُّكْرِ سَوَاءٌ كَانَ يَعْقِلُ دَرْكَ شَيْءٍ مَا أَوْ لَا كَالنَّائِمِ وَهُوَ مَعْنَى كَوْنِهِ مُخَاطَبًا حَالَ السُّكْرِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تَحَقُّقَ الْخِطَابِ عَلَيْهِ وَلَا دَرْكَ لَيْسَ إلَّا عُقُوبَةٌ ، إذْ تَلْزَمُهُ الْأَحْكَامُ وَلَا عِلْمَ لَهُ بِمَا يَصْدُرُ مِنْهُ ، فَاعْتِبَارُ دَرْكِهِ زَائِلًا فِي حَقِّ الرِّدَّةِ حَتَّى لَا يَكْفُرَ حِينَئِذٍ لِعَدَمِ الِاعْتِقَادِ ، وَالِاسْتِخْفَافُ اعْتِبَارٌ مُخَالِفٌ لِاعْتِبَارِ الشَّرْعِ فِي حَقِّهِ .
قُلْنَا : ثَبَتَ مِنْ الشَّرْعِ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُ بَعْدَمَا عَاقَبَهُ بِلُزُومِ الْأَحْكَامِ مَعَ عَدَمِ فَهْمِ الْخِطَابِ خَفَّفَ عَنْهُ فِي أَصْلِ الدِّينِ رَحْمَةً عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ خَاصَّةً ، وَذَلِكَ حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ الْمُتَقَدِّمُ فَإِنَّهُ لَمْ يَحْكُمْ بِكُفْرِ الْقَارِئِ مَعَ إسْقَاطِ لَفْظَةِ " لَا " مِنْ { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ السُّكْرَ الَّذِي كَانَ بِهِمْ لَمْ يَكُنْ بِحَيْثُ لَا دَرْكَ أَصْلًا ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ أَدْرَكُوا وُجُوبَ الصَّلَاةِ وَقَامُوا إلَى الْأَدَاءِ ، فَعِلْمُنَا أَنَّ الشَّارِعَ رَحِمَهُ فِي أَصْلِ الدِّينِ وَعَاقَبَهُ فِي فُرُوعِهِ وَلِهَذَا صَحَّحْنَا إسْلَامَهُ ، وَلَوْلَا هَذَا الْحَدِيثُ لَقُلْنَا بِرِدَّتِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ دَرْكٌ وَلَمْ نُصَحِّحْ مِنْ الْكَافِرِ السَّكْرَانِ إسْلَامَهُ ، وَمِمَّا ذَكَرْنَا يُعْرَفُ صِحَّةُ التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَهُوَ أَنَّ هَذَا السَّكْرَانَ الَّذِي وَقَعَ مِنْهُ كَلِمَةُ رِدَّةٍ ، وَلَمْ يَصِلْ إلَى أَقْصَى السُّكْرِ إنْ كَانَ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ إلَيْهَا كَمَا قَرَأَ عَلِيٌّ { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } فَغَيَّرَ فَلَيْسَ بِكَافِرٍ عِنْدَ اللَّهِ وَلَا فِي الْحُكْمِ ، وَإِنْ كَانَ مُدْرِكًا لَهَا قَاصِدًا مُسْتَحْضِرًا مَعْنَاهَا فَإِنَّهُ كَافِرٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى بِطَرِيقِ تَكْفِيرِ الْهَازِلِ .
وَإِنْ لَمْ يُحْكَمْ بِكُفْرِهِ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَدْرِي

مِنْ حَالِهِ إلَّا أَنَّهُ سَكْرَانُ تَكَلَّمَ بِمَا هُوَ كُفْرٌ فَلَا يَحْكُمُ بِكُفْرِهِ .
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .

( بَابُ حَدِّ الْقَذْفِ ) .
( وَإِذَا قَذَفَ الرَّجُلُ رَجُلًا مُحْصَنًا أَوْ امْرَأَةً مُحْصَنَةً بِصَرِيحِ الزِّنَا وَطَالَبَ الْمَقْذُوفُ بِالْحَدِّ حَدَّهُ الْحَاكِمُ ثَمَانِينَ سَوْطًا إنْ كَانَ حُرًّا ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ } إلَى أَنْ قَالَ { فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } الْآيَةَ ، وَالْمُرَادُ ا لرَّمْيُ بِالزِّنَا بِالْإِجْمَاعِ ، وَفِي النَّصِّ إشَارَةٌ إلَيْهِ وَهُوَ اشْتِرَاطُ أَرْبَعَةٍ مِنْ الشُّهَدَاءِ إذْ هُوَ مُخْتَصٌّ بِالزِّنَا ، وَيُشْتَرَطُ مُطَالَبَةُ الْمَقْذُوفِ لِأَنَّ فِيهِ حَقَّهُ مِنْ حَيْثُ دَفْعُ الْعَارِ وَإِحْصَانُ الْمَقْذُوفِ لِمَا تَلَوْنَا قَالَ ( وَيُفَرَّقُ عَلَى أَعْضَائِهِ ) لِمَا مَرَّ فِي حَدِّ الزِّنَا ( وَلَا يُجَرَّدُ مِنْ ثِيَابِهِ ) لِأَنَّ سَبَبَهُ غَيْرُ مَقْطُوعٍ فَلَا يُقَامُ عَلَى الشِّدَّةِ ، بِخِلَافِ حَدِّ الزِّنَا ( غَيْرَ أَنَّهُ يُنْزَعُ عَنْهُ الْفَرْوُ وَالْحَشْوُ ) لِأَنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُ إيصَالَ الْأَلَمِ بِهِ ( وَإِنْ كَانَ الْقَاذِفُ عَبْدًا جُلِدَ أَرْبَعِينَ سَوْطًا لِمَكَانِ الرِّقِّ .
وَالْإِحْصَانُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْذُوفُ حُرًّا عَاقِلًا بَالِغًا مُسْلِمًا عَفِيفًا عَنْ فِعْلِ الزِّنَا ) أَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَلِأَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْإِحْصَانِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ } أَيْ الْحَرَائِرِ ، وَالْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ لِأَنَّ الْعَارَ لَا يَلْحَقُ بِالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ فِعْلِ الزِّنَا مِنْهُمَا ، وَالْإِسْلَامُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ } وَالْعِفَّةُ لِأَنَّ غَيْرَ الْعَفِيفِ لَا يَلْحَقُهُ الْعَارُ ، وَكَذَا الْقَاذِفُ صَادِقٌ فِيهِ .

( بَابُ حَدِّ الْقَذْفِ ) تَقَدَّمَ وَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ .
وَالْقَذْفُ لُغَةً الرَّمْيُ بِالشَّيْءِ .
وَفِي الشَّرْعِ : رَمْيٌ بِالزِّنَا ، وَهُوَ مِنْ الْكَبَائِرِ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ ، قِيلَ : وَمَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ الشِّرْكُ بِاَللَّهِ ، وَالسِّحْرُ .
وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ ، وَأَكْلُ الرِّبَا ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ .
وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ .
وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَعَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ أَقَامَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَاجْتَنَبَ السَّبْعَ الْكَبَائِرَ نُودِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِيَدْخُلَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شَاءَ } وَذَكَرَ مِنْهَا قَذْفَ الْمُحْصَنَاتِ .
وَتَعَلَّقَ الْحَدُّ بِهِ بِالْإِجْمَاعِ مُسْتَنِدِينَ إلَى قَوْله تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا } ( وَالْمُرَادُ الرَّمْيُ بِالزِّنَا ) حَتَّى لَوْ رَمَاهُ بِسَائِرِ الْمَعَاصِي غَيْرِهِ لَا يَجِبُ الْحَدُّ بَلْ التَّعْزِيرُ ( وَفِي النَّصِّ إشَارَةٌ إلَيْهِ ) أَيْ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ الرَّمْيُ بِالزِّنَا ( وَهُوَ اشْتِرَاطُ أَرْبَعَةٍ مِنْ الشُّهُودِ ) يَشْهَدُونَ عَلَيْهَا بِمَا رَمَاهَا بِهِ لِيَظْهَرَ بِهِ صِدْقُهُ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ ، وَلَا شَيْءَ يَتَوَقَّفُ ثُبُوتُهُ بِالشَّهَادَةِ عَلَى شَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ إلَّا الزِّنَا ، ثُمَّ ثَبَتَ وُجُوبُ جَلْدِ الْقَاذِفِ لِلْمُحْصَنِ بِدَلَالَةِ هَذَا النَّصِّ بِالْقَطْعِ بِإِلْغَاءِ الْفَارِقِ وَهُوَ صِفَةُ الْأُنُوثَةِ وَاسْتِقْلَالِ دَفْعِ عَارِ مَا نُسِبَ إلَيْهِ بِالتَّأْثِيرِ بِحَيْثُ لَا يَتَوَقَّفُ فَهْمُهُ عَلَى ثُبُوتِ أَهْلِيَّةِ الِاجْتِهَادِ .
( قَوْلُهُ وَإِذَا قَذَفَ الرَّجُلُ

رَجُلًا مُحْصَنًا أَوْ امْرَأَةً مُحْصَنَةً بِصَرِيحِ الزِّنَا ) بِأَنْ قَالَ زَنَيْت أَوْ يَا زَانِي وَطَالَبَ الْمَقْذُوفُ بِالْحَدِّ حَدَّهُ الْحَاكِمُ ثَمَانِينَ سَوْطًا إنْ كَانَ ) الْقَاذِفُ ( حُرًّا ) وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حُدَّ أَرْبَعِينَ سَوْطًا .
شَرْطُ الْإِحْصَانِ فِي الْمَقْذُوفِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ حُرًّا عَاقِلًا بَالِغًا مُسْلِمًا عَفِيفًا .
وَعَنْ دَاوُد عَدَمُ اشْتِرَاطِ الْحُرِّيَّةِ ، وَأَنَّهُ يُحَدُّ قَاذِفُ الْعَبْدِ .
وَعَنْ أَحْمَدَ لَا يُشْتَرَطُ الْبُلُوغُ بَلْ كَوْنُ الْمَقْذُوفِ بِحَيْثُ يُجَامِعُ وَإِنْ كَانَ صَبِيًّا وَهِيَ خِلَافُ الْمُصَحَّحِ عَنْهُ .
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى يُحَدُّ بِقَذْفِ الذِّمِّيَّةِ إذَا كَانَ لَهَا وَلَدٌ مُسْلِمٌ ، وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَسَيَأْتِي الْوَجْهُ عَلَيْهِ .
وَقَوْلُهُ ( بِصَرِيحِ الزِّنَا ) يَحْتَرِزُ عَنْ الْقَذْفِ بِالْكِنَايَةِ كَقَائِلِ صَدَقْت لِمَنْ قَالَ يَا زَانِي ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ هُوَ كَمَا قُلْت فَإِنَّهُ يُحَدُّ .
وَلَوْ قَالَ أَشْهَدُ أَنَّك زَانٍ فَقَالَ الْآخَرُ وَأَنَا أَشْهَدُ لَا حَدَّ عَلَى الثَّانِي لِأَنَّ كَلَامَهُ مُحْتَمَلٌ .
وَلَوْ قَالَ وَأَنَا أَشْهَدُ بِمِثْلِ مَا شَهِدْت بِهِ حُدَّ .
وَيُحَدُّ بِقَوْلِهِ زَنَى فَرْجُك وَبِقَوْلِهِ زَنَيْتِ ثُمَّ قَالَ بَعْدَمَا قَطَعَ كَلَامَهُ وَأَنْتِ مُكْرَهَةٌ بِخِلَافِهِ مَوْصُولًا .
وَكَذَا إذَا قَالَ لَيْسَتْ أُمِّي بِزَانِيَةٍ أَوْ أَبِي فَإِنَّهُ لَا يُحَدُّ .
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَسُفْيَانُ وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ .
وَقَالَ مَالِكٌ : وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ يُحَدُّ بِالتَّعْرِيضِ لِمَا رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ : كَانَ عُمَرُ يَضْرِبُ الْحَدَّ فِي التَّعْرِيضِ .
وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ جَلَدَ رَجُلًا بِالتَّعْرِيضِ ، وَلِأَنَّهُ إذَا عُرِفَ الْمُرَادُ بِدَلِيلِهِ مِنْ الْقَرِينَةِ صَارَ كَالصَّرِيحِ .
قُلْنَا لَمْ يَعْتَبِرْ الشَّارِعُ مِثْلَهُ ، فَإِنَّا رَأَيْنَاهُ حَرَّمَ صَرِيحَ خِطْبَةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا فِي الْعِدَّةِ وَأَبَاحَ التَّعْرِيضَ فَقَالَ { وَلَكِنْ لَا

تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا } وَقَالَ { وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ } فَإِذَا ثَبَتَ مِنْ الشَّرْعِ نَفْيُ اتِّحَادِ حُكْمِهِمَا فِي غَيْرِ الْحَدِّ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْتَبَرَ مِثْلُهُ عَلَى وَجْهٍ يُوجِبُ الْحَدَّ الْمُحْتَاطَ فِي دَرْئِهِ .
وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَلْزَمْ الْحَدُّ لِلَّذِي قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ يُعَرِّضُ بِنَفْيِهِ فَغَيْرُ لَازِمٍ ، لِأَنَّ إلْزَامَ حَدِّ الْقَذْفِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الدَّعْوَى وَالْمَرْأَةُ لَمْ تَدَّعِ .
وَقَدْ أَوْرَدَ أَنَّ الْحَدَّ يَثْبُتُ بِنَفْيِ النَّسَبِ وَلَيْسَ صَرِيحًا فِي الْقَذْفِ ، وَوُرُودُهُ بِاعْتِبَارِ الْمَفْهُومِ وَهُوَ حُجَّةٌ فِي الرِّوَايَاتِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الزِّنَا بِالِاقْتِضَاءِ وَالثَّابِتُ مُقْتَضِي كَالثَّابِتِ بِالْعِبَارَةِ .
وَالْحَقُّ أَنْ لَا دَلَالَةَ اقْتِضَاءٍ فِي ذَلِكَ لِمَا سَيُذْكَرُ بَلْ حَدُّهُ بِالْأَثَرِ وَالْإِجْمَاعِ فَهُوَ وَارِدٌ لَا يَنْدَفِعُ .
وَلَا فَرْقَ فِي ثُبُوتِ الْقَذْفِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ بِصَرِيحِ الزِّنَا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ بِالْعَرَبِيِّ أَوْ النَّبَطِيِّ أَوْ الْفَارِسِيِّ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ، فَلَا يُحَدُّ لَوْ قَالَ لَهَا زَنَيْت بِحِمَارٍ أَوْ بَعِيرٍ أَوْ ثَوْرٍ لِأَنَّ الزِّنَا إدْخَالُ رَجُلٍ ذَكَرَهُ إلَخْ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لَهَا زَنَيْت بِنَاقَةٍ أَوْ أَتَانٍ أَوْ ثَوْبٍ أَوْ دَرَاهِمَ حَيْثُ يُحَدُّ لِأَنَّ مَعْنَاهُ زَنَيْت وَأَخَذْت الْبَدَلَ إذْ لَا تَصْلُحُ الْمَذْكُورَاتُ لِلْإِدْخَالِ فِي فَرْجِهَا .
وَلَوْ قَالَ هَذَا لِرَجُلٍ لَا يُحَدُّ لِأَنَّهُ لَيْسَ الْعُرْفُ فِي جَانِبِهِ أَخْذُ الْمَالِ .
وَلَوْ قَالَ زَنَيْت وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ أَوْ جَامَعَك فُلَانٌ جِمَاعًا حَرَامًا لَا يُحَدُّ لِعَدَمِ الْإِثْمِ وَلِعَدَمِ الصَّرَاحَةِ ، إذْ الْجِمَاعُ الْحَرَامُ يَكُونُ بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ ، وَكَذَا لَا يُحَدُّ فِي قَوْلِهِ يَا حَرَامْ زَادَهْ لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ حَرَامٍ زِنًا ، وَلَا بِقَوْلِهِ أَشْهَدَنِي رَجُلٌ أَنَّك زَانٍ لِأَنَّهُ حَاكٍ لِقَذْفِ غَيْرِهِ ، وَلَا

بِقَوْلِهِ أَنْتَ أَزَنَى مِنْ فُلَانٍ أَوْ أَزَنَى النَّاسِ أَوْ أَزَنَى الزُّنَاةِ ، لِأَنَّ أَفْعَلَ فِي مِثْلِهِ يُسْتَعْمَلُ لِلتَّرْجِيحِ فِي الْعِلْمِ فَكَأَنَّهُ قَالَ أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ ، وَسَيَأْتِي خِلَافُهُ فِي فُرُوعٍ نَذْكُرُهَا .
وَأَمَّا اشْتِرَاطُ مُطَالَبَةِ الْمَقْذُوفِ فَإِجْمَاعٌ إذَا كَانَ حَيًّا ، فَإِنْ كَانَ مَيِّتًا فَمُطَالَبَةُ مَنْ يَقَعُ الْقَدْحُ فِي نَسَبِهِ ثُمَّ إنَّ نَفْيَهُ عَنْ غَيْرِ الْمَقْذُوفِ بِمَفْهُومِ الصِّفَةِ وَهُوَ مُعْتَبَرٌ ، وَأَوْرَدَ يَنْبَغِي أَنْ لَا تُشْتَرَطَ الْمُطَالَبَةُ لِأَنَّ الْمُغَلَّبَ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى .
فَالْجَوَابُ أَنَّ حَقَّ الْعَبْدِ مُطْلَقًا يَتَوَقَّفُ النَّظَرُ فِيهِ عَلَى الدَّعْوَى وَإِنْ كَانَ مَغْلُوبًا .
نَعَمْ يَرِدُ عَلَى ظَاهِرِ الْعِبَارَةِ قَذْفٌ نَحْوُ الرَّتْقَاءِ وَالْمَجْبُوبِ فَإِنَّهُ لَا يُحَدُّ فِيهِ مَعَ صِدْقِ الْقَذْفِ لِلْمُحْصَنَةِ بِصَرِيحِ الزِّنَا ، وَكَذَا الْأَخْرَسُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُصَدِّقَهُ لَوْ نَطَقَ .
وَفِي الْأَوَّلَيْنِ كَذِبُهُ ثَابِتٌ بِيَقِينٍ فَانْتَفَى إلْحَاقُ الشَّيْنِ إلَّا بِنَفْسِهِ .
وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ يَا زَانِيَةً لَا يُحَدُّ اسْتِحْسَانًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ يُحَدُّ لِأَنَّهُ قَذَفَهُ عَلَى الْمُبَالَغَةِ ، فَإِنَّ التَّاءَ تُزَادُ لَهُ كَمَا فِي عَلَّامَةٍ وَنَسَّابَةٍ .
وَلَهُمَا أَنَّهُ رَمَاهُ بِمَا يَسْتَحِيلُ مِنْهُ فَلَا يُحَدُّ كَمَا لَوْ قَذَفَ مَجْبُوبًا ، وَكَذَا لَوْ قَالَ أَنْتِ مَحَلٌّ لِلزِّنَا لَا يُحَدُّ ، وَكَوْنُ التَّاءِ لِلْمُبَالَغَةِ مَجَازٌ لِمَا عُهِدَ لَهَا مِنْ التَّأْنِيثِ ، وَلَوْ كَانَ حَقِيقَةً فَالْحَدُّ لَا يَجِبُ بِالشَّكِّ ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ يَا زَانٍ حُدَّ عِنْدَهُمْ لِأَنَّ التَّرْخِيمَ شَائِعٌ ( وَيُفَرَّقُ ) الضَّرْبُ ( عَلَى أَعْضَائِهِ لِمَا مَرَّ فِي حَدِّ الزِّنَا ) .
( قَوْلُهُ وَلَا يُجَرَّدُ مِنْ ثِيَابِهِ ) إلَّا فِي قَوْلِ مَالِكٍ ( لِأَنَّ سَبَبَهُ ) وَهُوَ النِّسْبَةُ إلَى الزِّنَا كَذِبًا ( غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهِ ) لِجَوَازِ كَوْنِهِ صَادِقًا غَيْرَ أَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الْبَيَانِ ، بِخِلَافِ حَدِّ الزِّنَا

لِأَنَّ سَبَبَهُ مُعَايِنٌ لِلشُّهُودِ أَوْ لِلْمُقِرِّ بِهِ ، وَالْمَعْلُومُ لَهُمَا هُنَا نَفْسُ الْقَذْفِ ، وَإِيجَابُهُ الْحَدَّ لَيْسَ بِذَاتِهِ بَلْ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ كَاذِبًا حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا بِعَدَمِ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ ، قَالَ تَعَالَى { فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ الْكَاذِبُونَ } فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ تَعَالَى مَنَعَ مِنْ النِّسْبَةِ إلَى الزِّنَا إلَّا عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْإِثْبَاتِ بِالشُّهَدَاءِ لِأَنَّ فَائِدَةَ النِّسْبَةِ هُنَاكَ تَحْصُلُ ، أَمَّا عِنْدَ الْعَجْزِ فَإِنَّمَا هُوَ تَشْنِيعٌ وَلَقْلَقَةٌ تُقَابَلُ بِمِثْلِهَا بِلَا فَائِدَةٍ ( بِخِلَافِ حَدِّ الزِّنَا غَيْرَ أَنَّهُ يَنْزِعُ عَنْهُ الْفَرْوَ وَالْحَشْوَ ) أَيْ الثَّوْبَ الْمَحْشُوَّ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ وُصُولِ الْأَلَمِ إلَيْهِ ، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ ثَوْبٌ ذُو بِطَانَةٍ غَيْرُ مَحْشُوٍّ لَا يُنْزَعُ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إنْ كَانَ فَوْقَ قَمِيصٍ يُنْزَعُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مَعَ الْقَمِيصِ كَالْمَحْشُوِّ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ وَيَمْنَعُ إيصَالَ الْأَلَمِ الَّذِي يَصْلُحُ زَاجِرًا .
( قَوْلُهُ وَالْإِحْصَانُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْذُوفُ حُرًّا إلَخْ ) قَدَّمْنَا ذَلِكَ ، وَالْكَلَامُ هُنَا فِي إثْبَاتِ ذَلِكَ ، وَيَثْبُتُ الْإِحْصَانُ بِإِقْرَارِ الْقَاذِفِ أَوْ شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ خِلَافًا لِزُفَرَ وَتَقَدَّمَتْ ، فَإِنْ أَنْكَرَ الْقَاذِفُ الْإِحْصَانَ وَعَجَزَ الْمَقْذُوفُ عَنْ الْبَيِّنَةِ لَا يَحْلِفُ مَا يَعْلَمُ أَنَّهَا مُحْصَنَةٌ ، وَكَذَا إذَا أَنْكَرَ الْحُرِّيَّةَ لِيُحَدَّ حَدَّ الْأَرِقَّاءِ الْقَوْلُ قَوْلُهُ ، وَلَا يُحَدُّ كَالْأَحْرَارِ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْمَقْذُوفُ بَيِّنَةً أَنَّهُ حُرٌّ ، وَلَوْ كَانَ الْقَاضِي يَعْلَمُ حُرِّيَّتَهُ حَدَّهُ ثَمَانِينَ ، وَهَذَا قَضَاءٌ يَعْلَمُهُ فِيمَا لَيْسَ سَبَبًا لِلْحَدِّ فَيَجُوزُ ( أَمَّا اشْتِرَاطُ الْحُرِّيَّةِ فَلِأَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْإِحْصَانِ ، قَالَ تَعَالَى { فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ } أَيْ الْحَرَائِرِ ) فَالرَّقِيقُ لَيْسَ مُحْصَنًا بِهَذَا الْمَعْنَى ،

وَكَوْنُهُ مُحْصَنًا بِمَعْنًى آخَرَ كَالْإِسْلَامِ وَغَيْرِهِ يُوجِبُ كَوْنُهُ مُحْصَنًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ ، وَذَلِكَ شُبْهَةٌ فِي إحْصَانِهِ تُوجِبُ دَرْءَ الْحَدِّ عَنْ قَاذِفِهِ فَلَا يُحَدُّ حَتَّى يَكُونَ مُحْصَنًا بِجَمِيعِ الْمَفْهُومَاتِ الَّتِي أُطْلِقَ عَلَيْهَا لَفْظُ الْإِحْصَانِ إلَّا مَا أَجْمَعَ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِهِ فِي تَحَقُّقِ الْإِحْصَانِ وَهُوَ كَوْنُهَا زَوْجَةً أَوْ كَوْنُ الْمَقْذُوفِ زَوْجًا ، فَإِنَّهُ جَاءَ بِمَعْنَاهُ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ } أَيْ الْمُتَزَوِّجَاتُ ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِي إحْصَانِ الْقَذْفِ بَلْ فِي إحْصَانِ الرَّجْمِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِحْصَانَ أُطْلِقَ بِمَعْنَى الْحُرِّيَّةِ كَمَا ذَكَرْنَا ، وَبِمَعْنَى الْإِسْلَامِ فِي قَوْله تَعَالَى { فَإِذَا أُحْصِنَّ } قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَسْلَمْنَ ، وَهَذَا يَكْفِي فِي إثْبَاتِ اعْتِبَارِ الْإِسْلَامِ فِي الْإِحْصَانِ ، وَالْمُصَنِّفُ ذَكَرَ فِيهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ } وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ وَبِمَعْنَى الْعِفَّةِ عَنْ فِعْلِ الزِّنَا ، قَالَ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ } وَالْمُرَادُ بِهِنَّ الْعَفَائِفُ ، وَأَمَّا الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ فَفِيهِ إجْمَاعٌ ، إلَّا مَا عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الصَّبِيَّ الَّذِي يُجَامِعُ مِثْلُهُ مُحْصَنٌ فَيُحَدُّ قَاذِفُهُ وَالْأَصَحُّ عَنْهُ كَقَوْلِ النَّاسِ وَقَوْلِ مَالِكٍ فِي الصَّبِيَّةِ الَّتِي يُجَامَعُ مِثْلُهَا يُحَدُّ قَاذِفُهَا خُصُوصًا إذَا كَانَتْ مُرَاهِقَةً ، فَإِنَّ الْحَدَّ بِعِلَّةِ إلْحَاقِ الْعَارِ وَمِثْلُهَا يَلْحَقُهُ .
وَالْعَامَّةُ يَمْنَعُونَ كَوْنَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ يَلْحَقُهُمَا عَارٌ بِنِسْبَتِهِمَا إلَى الزِّنَا بَلْ رُبَّمَا يُضْحَكُ مِنْ الْقَائِلِ لِصَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ يَا زَانِي ، إمَّا لِعَدَمِ صِحَّةِ قَصْدِهِ .
وَإِمَّا لِعَدَمِ خِطَابِهِمَا بِالْحُرُمَاتِ .
وَلَوْ فُرِضَ لُحُوقُ عَارٍ لِمُرَاهِقٍ فَلَيْسَ إلْحَاقًا عَلَى الْكَمَالِ فَيَنْدَرِئُ .
وَهَذَا أَوْلَى مِنْ تَعْلِيلِ الْمُصَنِّفِ بِعَدَمِ تَحَقُّقِ فِعْلِ الزِّنَا

مِنْهُمَا لِأَنَّهُ مُؤَوَّلٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالزِّنَا الْمُؤَثِّمُ ، وَإِلَّا فَهُوَ يَتَحَقَّقُ مِنْهُمَا إذْ يَتَحَقَّقُ مِنْهُمَا الْوَطْءُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ ، لَكِنَّ الْقَذْفَ إنَّمَا يُوجِبُ الْحَدَّ إذَا كَانَ بِزِنًا يُؤَثَّمُ صَاحِبُهُ ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ الْإِيرَادُ الْقَائِلُ إذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ الزِّنَا مِنْهُمَا فَيَنْبَغِي أَنْ يُحَدَّ قَاذِفُ مَجْنُونٍ زَنَى حَالَةَ جُنُونِهِ لَكِنْ لَا يُحَدُّ وَإِنْ كَانَ قَذَفَهُ حِينَ إفَاقَتِهِ .
وَأَمَّا اشْتِرَاطُ الْعِفَّةِ فَلِأَنَّ غَيْرَ الْعَفِيفِ لَا يَلْحَقُهُ الْعَارُ بِنِسْبَتِهِ إلَى الزِّنَا لِأَنَّ تَحْصِيلَ الْحَاصِلِ مُحَالٌ .
وَلَوْ لَحِقَهُ عَارٌ آخَرُ فَهُوَ صِدْقٌ .
وَحَدُّ الْقَذْفِ لِلْفِرْيَةِ لَا لِلصِّدْقِ .
وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ فِي الْعِفَّةِ قَالَ : لَمْ يَكُنْ وَطِئَ امْرَأَةً بِالزِّنَا وَلَا بِشُبْهَةٍ وَلَا بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ فِي عُمُرِهِ .
فَإِنْ كَانَ فَعَلَ ذَلِكَ مَرَّةً يُرِيدُ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ سَقَطَتْ عَدَالَتُهُ وَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ .
وَكَذَا لَوْ وَطِئَ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ أَوْ وَطِئَ جَارِيَةً مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ سَقَطَتْ عَدَالَتُهُ ، وَلَوْ وَطِئَهَا فِي الْمِلْكِ إلَّا أَنَّهُ مُحَرَّمٌ فَإِنَّهُ يُنْظَرُ إنْ كَانَتْ الْحُرْمَةُ مُؤَقَّتَةً لَا تَسْقُطُ عَدَالَتُهُ كَمَا إذَا وَطِئَ امْرَأَتَهُ فِي الْحَيْضِ أَوْ أَمَتَهُ الْمَجُوسِيَّةَ لَا يَسْقُطُ إحْصَانُهُ ، وَإِنْ كَانَتْ مُؤَبَّدَةً سَقَطَ إحْصَانُهُ كَمَا إذَا وَطِئَ أَمَتَهُ وَهِيَ أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ .
وَلَوْ مَسَّ امْرَأَةً بِشَهْوَةٍ أَوْ نَظَرَ إلَى فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَ بِنْتَهَا فَدَخَلَ بِهَا أَوْ أُمِّهَا لَا يَسْقُطُ إحْصَانُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا يَسْقُطُ .
وَلَوْ وَطِئَ امْرَأَةً بِالنِّكَاحِ ثُمَّ تَزَوَّجَ بِنْتَهَا وَدَخَلَ بِهَا سَقَطَ إحْصَانُهُ انْتَهَى لَفْظُهُ .
وَإِنَّمَا لَمْ يَسْقُطْ إحْصَانُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي بِنْتِ الْمَمْسُوسَةِ بِشَهْوَةٍ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْفُقَهَاءِ يُصَحِّحُونَ نِكَاحَهَا

( وَمَنْ نَفَى نَسَبَ غَيْرِهِ فَقَالَ لَسْت لِأَبِيك فَإِنَّهُ يُحَدُّ ) وَهَذَا إذَا كَانَتْ أُمُّهُ حُرَّةً مُسْلِمَةً ، لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ قَذْفٌ لِأُمِّهِ لِأَنَّ النَّسَبَ إنَّمَا يَنْفِي عَنْ الزَّانِي لَا عَنْ غَيْرِهِ .

( قَوْلُهُ وَمَنْ نَفَى نَسَبَ غَيْرِهِ فَقَالَ لَسْت لِأَبِيك فَإِنَّهُ يُحَدُّ وَهَذَا إذَا كَانَتْ أُمُّهُ حُرَّةً مُسْلِمَةً ) وَكَذَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ فِي الْكَافِي ، وَعَلَّلَهُ فِي الْهِدَايَةِ بِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ قَذْفٌ لِأُمِّهِ ، فَكَأَنَّهُ قَالَ أُمُّهُ زَانِيَةٌ ، لِأَنَّهُ إذَا كَانَ لِغَيْرِ أَبِيهِ وَلَا نِكَاحَ لِذَلِكَ الْغَيْرِ كَانَ عَنْ زِنَاهَا مَعَهُ .
قِيلَ فَعَلَى هَذَا كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ : إذَا كَانَتْ مُحْصَنَةً حَتَّى يَشْمَلَ جَمِيعَ شَرَائِطِ الْإِحْصَانِ .
وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ ثَابِتَ النَّسَبِ مِنْ أَبِيهِ وَلَا تَكُونَ أُمُّهُ زَانِيَةً بِأَنْ كَانَتْ مَوْطُوءَةٌ بِشُبْهَةٍ أَوْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ .
الْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّك لَسْت لِأَبِيك الَّذِي وُلِدْتَ مِنْ مَائِهِ بَلْ مَقْطُوعُ النَّسَبِ مِنْهُ ، وَهَذَا مَلْزُومٌ بِأَنَّ الْأُمَّ زَنَتْ مَعَ صَاحِبِ الْمَاءِ الَّذِي وُلِدَ مِنْهُ ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ لِأَنَّ النَّسَبَ إنَّمَا يُنْفَى عَنْ الزَّانِي لَا عَنْ غَيْرِهِ .
وَحَاصِلُهُ أَنَّ نَفْيَ نَسَبِهِ عَنْ أَبِيهِ يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ أَبِيهِ زَانِيًا لِأَنَّ النَّسَبَ إنَّمَا يُنْفَى عَنْ الزَّانِي فَيَلْزَمُ أَنَّ أُمَّهُ زَنَتْ مَعَ أَبِيهِ فَجَاءَتْ بِهِ مِنْ الزِّنَا .
وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ لِجَوَازِ كَوْنِ أَبِيهِ زَنَى بِأُمِّهِ مُكْرَهَةً أَوْ نَائِمَةً فَلَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ أَبِيهِ وَلَا يَكُونُ قَاذِفًا لِأُمِّهِ فَالْوَجْهُ إثْبَاتُهُ بِالْإِجْمَاعِ ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى الْحُكْمِ بِعَدَمِ إرَادَةِ الْأَبِ الَّذِي يُدْعَى إلَيْهِ وَيُنْسَبُ بِخُصُوصِهِ ، وَلَا شَكَّ فِي هَذَا وَإِلَّا كَانَتْ بِمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ الَّتِي تَلِيهَا وَهِيَ الَّتِي يَرِدُ عَلَيْهَا السُّؤَالُ الْمَذْكُورُ ، وَجَوَابُهُ مَا سَيَجِيءُ .
وَحَمَلَ بَعْضُهُمْ وُجُوبَ الْحَدِّ فِي هَذِهِ عَلَى مَا إذَا كَانَ قَوْلُهُ ذَلِكَ فِي حَالِ الْغَضَبِ وَالسِّبَابِ بِدَلِيلِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي تَلِيهَا ، فَإِذَنْ يَخْتَلِفُ الْمُرَادُ بِلَفْظِ الْأَبِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ فِي غَيْرِ حَالَةِ الْغَضَبِ

فَإِنَّمَا يُرَادُ بِالْأَبِ الْأَبُ الْمَشْهُورُ ، فَيَكُونُ النَّفْيُ مَجَازًا عَنْ نَفْيِ الْمُشَابَهَةِ فِي مَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ

( وَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ فِي غَضَبٍ لَسْت بِابْنِ فُلَانٍ لِأَبِيهِ الَّذِي يُدْعَى لَهُ يُحَدُّ ، وَلَوْ قَالَ فِي غَيْرِ غَضَبٍ لَا يُحَدُّ ) لِأَنَّ عِنْدَ الْغَضَبِ يُرَادُ بِهِ حَقِيقَتُهُ سَبًّا لَهُ ، وَفِي غَيْرِهِ يُرَادُ بِهِ الْمُعَاتَبَةُ بِنَفْيِ مُشَابَهَتِهِ أَبَاهُ فِي أَسْبَابِ الْمُرُوءَةِ ( وَلَوْ قَالَ لَسْت بِابْنِ فُلَانٍ يَعْنِي جَدَّهُ لَمْ يُحَدَّ ) لِأَنَّهُ صَادِقٌ فِي كَلَامِهِ ، وَلَوْ نَسَبَهُ إلَى جَدِّهِ لَا يُحَدُّ أَيْضًا لِأَنَّهُ قَدْ يُنْسَبُ إلَيْهِ مَجَازًا .

( قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ فِي غَضَبٍ لَسْت بِابْنِ فُلَانٍ لِأَبِيهِ الَّذِي يُدْعَى إلَيْهِ يُحَدُّ ، وَلَوْ قَالَ فِي غَيْرِ غَضَبٍ لَا يُحَدُّ لِأَنَّ عِنْدَ الْغَضَبِ يُرَادُ بِهِ حَقِيقَتُهُ ) أَيْ حَقِيقَةُ نَفْيِهِ عَنْ أَبِيهِ لِأَنَّهُ حَالَةُ سَبٍّ وَشَتْمٍ ، وَفِي غَيْرِهِ يُرَادُ بِهِ الْمُعَاتَبَةُ عَلَى عَدَمِ تَشَبُّهِهِ بِهِ فِي مَحَاسِنِ أَخْلَاقِهِ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ فِي حَالَةِ الْغَضَبِ لَيْسَ نِسْبَةُ أُمِّهِ إلَى الزِّنَا أَمْرًا لَازِمًا لِجَوَازِ نَفْيِهِ عَنْهُ .
وَالْقَصْدُ إلَى إثْبَاتِهِ مِنْ غَيْرِهِ لِشُبْهَةٍ أَوْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ كَاَلَّتِي قَبْلَهَا ، فَثُبُوتُ الْحَدِّ بِهِ بِمَعُونَةِ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ ، وَهَذَا لَا يُثْبِتُ الْقَذْفَ بِصَرِيحِ الزِّنَا .
وَكَذَا ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ فِي الْأَوَّلِ الْحَدَّ اسْتِحْسَانًا بِأَثَرِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ فِي الْكَافِي مِنْ قَوْلِ مُحَمَّدٍ : بَلَغَنَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ : لَا حَدَّ إلَّا فِي قَذْفِ مُحْصَنَةٍ أَوْ نَفْيِ رَجُلٍ عَنْ أَبِيهِ .
ثُمَّ حَمَلُوا الْأَثَرَ عَلَى النَّفْيِ حَالَةَ الْغَضَبِ ، وَحَكَمُوا بِأَنَّهُ حَالَةَ عَدَمِهِ لَمْ يَنْفِهِ عَنْ أَبِيهِ بِدَلَالَةِ الْحَالِ فَلَيْسَ هَذَا مِنْ التَّخْصِيصِ فِي شَيْءٍ إذْ لَيْسَ قَذْفًا ، وَإِنَّمَا يَكُونُ تَخْصِيصًا لَوْ كَانَ قَذْفًا أُخْرِجَ مِنْ حُكْمِ الْقَذْفِ .
وَلَوْ قَالَ لَسْت بِابْنِ فُلَانٍ وَلَا ابْنِ فُلَانَةَ لَا يُحَدُّ مُطْلَقًا لِأَنَّ حَدَّهُ فِي قَوْلِهِ لَسْت ابْنَ فُلَانٍ فِي حَالَةِ الْغَضَبِ مُقْتَصِرًا عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ قَذَفَ أُمَّهُ ، وَإِذَا نَفَى نَسَبَهُ عَنْ أُمِّهِ فَقَدْ نَفَى وِلَادَتَهَا إيَّاهُ فَقَدْ نَفَى زِنَاهَا بِهِ فَكَيْفَ يُحَدُّ .
هَذَا ، وَأَمَّا إذَا قَالَ يَا وَلَدَ الزِّنَا أَوْ يَا ابْنَ الزِّنَا فَلَا يَتَأَتَّى فِيهِ تَفْصِيلٌ بَلْ يُحَدُّ أَلْبَتَّةَ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ يَا ابْنَ الْقَحْبَةِ فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ يَا حَلِيلَةَ فُلَانٍ لَا يُحَدُّ وَلَا يُعَزَّرُ .
( قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ لَسْت بِابْنِ فُلَانٍ يُرِيدُ بِفُلَانٍ جَدَّهُ لَا

يُحَدُّ لِأَنَّهُ صَادِقٌ فِي كَلَامِهِ ) وَكَذَا لَوْ قَالَ أَنْتَ ابْنُ فُلَانٍ : يَعْنِي جَدَّهُ هُوَ صَادِقٌ لِأَنَّهُ قَدْ يُنْسَبُ إلَى الْجَدِّ مَجَازًا مُتَعَارَفًا وَفِي بَعْضِ أَصْحَابِنَا ابْنُ أَمِيرِ الْحَاجِّ وَأَمِيرُ الْحَاجِّ جَدُّهُ ، وَكَذَا لَوْ قَالَ أَنْتِ ابْنُ فُلَانٍ لِعَمِّهِ أَوْ خَالِهِ أَوْ زَوْجِ أُمِّهِ لَا يُحَدُّ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْأَبِ كَمَا سَيَأْتِي .
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ لَسْت ابْنَ فُلَانٍ لِأَبِيهِ الْمَعْرُوفِ لَهُ مَعْنًى مَجَازِيٌّ هُوَ نَفْيُ الْمُشَابَهَةِ وَمَعْنًى حَقِيقِيٌّ هُوَ نَفْيُ كَوْنِهِ مِنْ مَائِهِ مَعَ زِنَا الْأُمِّ بِهِ أَوْ عَدَمِ زِنَاهَا بَلْ بِشُبْهَةٍ ، فَهِيَ ثَلَاثَةُ مَعَانٍ : يُمْكِنُ إرَادَةُ كُلٍّ مِنْهَا عَلَى الْخُصُوصِ ، وَقَدْ حَكَمُوا بِتَحْكِيمِ الْغَضَبِ وَعَدَمِهِ ، فَمَعَهُ يُرَادُ نَفْيُ كَوْنِهِ مِنْ مَائِهِ مَعَ زِنَا الْأُمِّ بِهِ ، وَمَعَ عَدَمِهِ يُرَادُ الْمَجَازِيُّ .
وَقَوْلُهُ لَسْت ابْنَ فُلَانٍ لِجَدِّهِ لَهُ مَعْنًى مَجَازِيٌّ هُوَ نَفْيُ مُشَابَهَتِهِ لِجَدِّهِ ، وَمَعْنَيَانِ حَقِيقِيَّانِ أَحَدُهُمَا نَفْيُ كَوْنِهِ مَخْلُوقًا مِنْ مَائِهِ وَالْآخَرُ نَفْيُ كَوْنِهِ أَبًا أَعْلَى لَهُ ، وَهَذَا يَصْدُقُ بِصُورَتَيْنِ : نَفْيُ كَوْنِ أَبِيهِ خُلِقَ مِنْ مَائِهِ بَلْ زَنَتْ جَدَّتُهُ بِهِ ، أَوْ جَاءَتْ بِهِ بِشُبْهَةِ ، وَكُلُّ هَذِهِ الْمَعَانِي يَصِحُّ إرَادَةُ كُلٍّ مِنْهَا ، وَقَدْ حُكِمَ بِتَعْيِينِ الْغَضَبِ : أَحَدُهَا بِعَيْنِهِ فِي الْأَوَّلِ وَهُوَ كَوْنُهُ لَيْسَ مِنْ مَائِهِ مَعَ زِنَا الْأُمِّ بِهِ ، إذْ لَا مَعْنَى لَأَنْ يُخْبِرَهُ فِي السِّبَابِ بِأَنَّ أُمَّهُ جَاءَتْ بِهِ بِغَيْرِ زِنًا بَلْ بِشُبْهَةٍ ، فَيَجِبُ أَنْ يُحْكَمَ أَيْضًا بِتَعْيِينِ الْغَضَبِ فِي الْمَعْنَى الثَّانِي الَّذِي هُوَ نَفْيُ نَسَبِ أَبِيهِ عَنْهُ وَقَذْفِ جَدَّتِهِ بِهِ ، فَإِنَّهُ لَا مَعْنَى لِإِخْبَارِهِ فِي حَالَةِ الْغَضَبِ بِأَنْ لَمْ تُخْلَقْ مِنْ مَاءِ جَدِّك ، وَهُوَ مَعَ سَمَاجَتِهِ أَبْعَدُ فِي الْإِرَادَةِ مِنْ أَنْ يُرَادَ نَفْيُ أُبُوَّتِهِ لِأَبِيهِ ، لِأَنَّ هَذَا كَقَوْلِنَا السَّمَاءُ فَوْقَ الْأَرْضِ ، وَلَا مُخَلِّصَ إلَّا

أَنْ يَكُونَ فِيهَا إجْمَاعٌ عَلَى نَفْيِ الْحَدِّ بِلَا تَفْصِيلٍ ، كَمَا أَنَّ فِي تِلْكَ إجْمَاعًا عَلَى ثُبُوتِهِ بِالتَّفْصِيلِ .
وَلَوْ قَالَ لَهُ أَنْتَ ابْنُ فُلَانٍ لِغَيْرِ هَؤُلَاءِ حُدَّ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِقَذْفٍ صَرِيحٍ لِجَوَازِ كَوْنِهِ ابْنَهُ شَرْعًا بِلَا زِنًا عَلَى مَا قُلْنَا ، فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِحْسَانٌ بِمَعْنَى حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَهَذِهِ الصُّوَرُ سَتَأْتِي فِي الْكِتَابِ لَكِنَّهَا هُنَا أَنْسَبُ

( وَلَوْ قَالَ لَهُ يَا ابْنَ الزَّانِيَةِ وَأُمُّهُ مَيِّتَةٌ مُحْصَنَةٌ فَطَالَبَ الِابْنُ بِحَدِّهِ حُدَّ الْقَاذِفُ ) لِأَنَّهُ قَذَفَ مُحْصَنَةً بَعْدَ مَوْتِهَا ( وَلَا يُطَالِبُ بِحَدِّ الْقَذْفِ لِلْمَيِّتِ إلَّا مَنْ يَقَعُ الْقَدْحُ فِي نَسَبِهِ بِقَذْفِهِ وَهُوَ الْوَالِدُ وَالْوَلَدُ ) لِأَنَّ الْعَارَ يَلْتَحِقُ بِهِ لِمَكَانِ الْجُزْئِيَّةِ فَيَكُونُ الْقَذْفُ مُتَنَاوِلًا لَهُ مَعْنًى .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَثْبُتُ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ لِكُلِّ وَارِثٍ لِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ يُورَثُ عِنْدَهُ عَلَى مَا نُبَيِّنُ ، وَعِنْدَنَا وِلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ لَيْسَتْ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ بَلْ لِمَا ذَكَرْنَاهُ ، وَلِهَذَا يَثْبُتُ عِنْدَنَا لِلْمَحْرُومِ عَنْ الْمِيرَاثِ بِالْقَتْلِ ، وَيَثْبُتُ لِوَلَدِ الْبِنْتِ كَمَا يَثْبُتُ لِوَلَدِ الِابْنِ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ ، وَيَثْبُتُ لِوَلَدِ الْوَلَدِ حَالَ قِيَامِ الْوَلَدِ خِلَافًا لِزُفَرَ .

( قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ لَهُ يَا ابْنَ الزَّانِيَةِ وَأُمُّهُ مَيِّتَةٌ مُحْصَنَةٌ كَانَ لِلْوَلَدِ الْمُطَالَبَةُ بِحَدِّهِ ) فَإِذَا طَالَبَ بِهِ حُدَّ الْقَاذِفُ ( وَلَا يُطَالَبُ بِحَدِّ الْقَذْفِ لِلْمَيِّتِ إلَّا مَنْ يَقَعُ الْقَدْحُ فِي نَسَبِهِ بِقَذْفِهِ ) وَهُوَ الْوَالِدُ وَإِنْ عَلَا وَالْوَلَدُ وَإِنْ سَفَلَ ، لِأَنَّ الْعَارَ يَلْتَحِقُ بِهِمَا لِلْجُزْئِيَّةِ فَيَكُونُ الْقَذْفُ مُتَنَاوِلًا مَعْنًى لَهُمَا فَلِذَلِكَ يَثْبُتُ لَهُمَا حَقُّ الْمُطَالَبَةِ ، لَكِنَّ لُحُوقَهُ لَهُمَا بِوَاسِطَةِ لُحُوقِ الْمَقْذُوفِ بِالذَّاتِ فَهُوَ الْأَصْلُ فِي ذَلِكَ فَهُوَ الْأَصْلُ فِي الْخُصُومَةِ ، لِأَنَّ الْعَارَ يَلْحَقُهُ مَقْصُودًا فَلَا يُطَالَبُ غَيْرُهُ بِمُوجِبِهِ إلَّا عِنْدَ الْيَأْسِ عَنْ مُطَالَبَتِهِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ مَيِّتًا ، فَلِذَا لَوْ كَانَ الْمَقْذُوفُ غَائِبًا لَمْ يَكُنْ لِوَلَدِهِ وَلَا لِوَالِدِهِ الْمُطَالَبَةُ خِلَافًا لِابْنِ أَبِي لَيْلَى لِأَنَّهُ يُجَوِّزُ أَنْ يُصَدِّقَهُ الْغَائِبُ ، وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ حَقَّ الْمُطَالَبَةِ يَثْبُتُ لِلْأَبِ وَإِنْ عَلَا ذَكَرَهُ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ .
وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانَ : رَجُلٌ قَذَفَ مَيِّتًا فَلِوَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ أَنْ يَأْخُذَ الْقَاذِفَ وَيَحُدَّهُ ، وَوَلَدُ الِابْنِ وَوَلَدُ الْبِنْتِ سَوَاءٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَلَا يَأْخُذُهُ بِذَلِكَ أَخٌ وَلَا عَمٌّ وَلَا جَدٌّ أَبُو الْأَبِ وَلَا أُمُّ الْأُمِّ وَلَا عَمَّةٌ وَلَا مَوْلَاهُ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ أَيْضًا تَثْبُتُ الْمُطَالَبَةُ لِكُلِّ وَارِثٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يُورَثُ عِنْدَهُ ، فَفِي فَتَاوَى الْقَاضِي قَالَ مُحَمَّدٌ : لِكُلِّ مَنْ يَرِثُهُ وَيُورَثُ مِنْهُ أَنْ يَأْخُذَ الْقَاذِفَ وَيَحُدَّهُ ا هـ .
وَهَذِهِ رِوَايَةٌ غَرِيبَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ .
ثُمَّ لِلشَّافِعِيَّةِ فِيمَنْ يَرِثُهُ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا أَنْ يَرِثَهُ جَمِيعُ الْوَرَثَةِ .
وَالثَّانِي غَيْرُ الْوَارِثِ بِالزَّوْجِيَّةِ .
وَالثَّالِثُ يَرِثُهُ ذُكُورُ الْعَصَبَاتِ لَا غَيْرُهُمْ ( وَعِنْدَنَا لَيْسَ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ بَلْ لِمَا ذَكَرْنَا ) مِنْ لُحُوقِ الْعَارِ ،

وَلِذَا لَا يَثْبُتُ لِلْأَخِ عِنْدَنَا حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِهِ لِأَنَّ قَرَابَةَ الْوِلَادِ بِمَنْزِلَةِ نَفْسِ الْإِنْسَانِ .
فَاللَّاحِقُ مِنْ الْعَارِ لِلْإِنْسَانِ كَاللَّاحِقِ لِنَفْسِ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ ، بِخِلَافِ الْأَخِ لَا يَلْحَقُهُ ضَرَرُ عَارِ زِنَا أَخِيهِ كَمَا لَا يَلْحَقُهُ النَّفْعُ بِانْتِفَاعِ أَخِيهِ ، وَلِعِلْمِ الشَّرْعِ بِذَلِكَ أَجَازَ شَهَادَةَ الْأَخِ لِأَخِيهِ ، فَلَيْسَ لِأَخِي الْمَقْذُوفِ وَلَا لِعَمِّهِ وَخَالِهِ الْمُطَالَبَةُ بِحَدِّ الْقَذْفِ ، وَلَمْ تَجُزْ شَهَادَةُ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ لِأَنَّهُمَا فِي حُكْمِ نَفْسِ الْمَشْهُودِ لَهُ ( وَلِهَذَا ) أَعْنِي لِكَوْنِ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ لِلُحُوقِ الْعَارِ غَيْرَ دَائِرٍ مَعَ الْإِرْثِ ( يَثْبُتُ لِلْمَحْرُومِ عَنْ الْمِيرَاثِ بِالْقَتْلِ ) أَوْ الرِّقِّ أَوْ الْكُفْرِ فَلِقَاتِلِ أَبِيهِ أَنْ يُطَالِبَ قَاذِفَهُ بَعْدَ قَتْلِهِ بِحَدِّ الْقَذْفِ ، وَكَذَا إذَا كَانَ الْوَلَدُ عَبْدًا أَوْ كَافِرًا خِلَافًا لِزُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَيَثْبُتُ لِوَلَدِ بِنْتِ الْمَقْذُوفِ كَمَا يَثْبُتُ لِوَلَدِ الِابْنِ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ ) وَيَثْبُتُ لِلْأَبْعَدِ مَعَ وُجُودِ الْأَقْرَبِ ( وَكَذَا يَثْبُتُ لِوَلَدِ الْوَلَدِ ) حَقُّ الْمُطَالَبَةِ ( مَعَ وُجُودِ الْوَلَدِ خِلَافًا لِزُفَرَ ) وَلَوْ عَفَا بَعْضُهُمْ كَانَ لِغَيْرِهِ أَنْ يُطَالِبَ بِهِ لِأَنَّهُ لِلدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ .
وَقَوْلُهُ ( خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ ) يَعْنِي فِي رِوَايَةٍ لَيْسَتْ هِيَ ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ عَنْهُ ، وَوَجْهُهَا أَنَّ نَسَبَهُ إلَى أَبِيهِ وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ عَنْ جَدَّتِهِ لِأُمِّهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي لَفْظِ وَلَدِ الْوَلَدِ وَلِذَا لَوْ وَقَفَ عَلَى أَوْلَادِهِ وَأَوْلَادِ أَوْلَادِهِ لَا يَدْخُلُ ابْنُ الْبِنْتِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
وَجْهُ الظَّاهِرِ عَنْهُمْ أَوْ لَا يُمْنَعُ عَدَمُ الدُّخُولِ بَلْ يَدْخُلُ كَقَوْلِ الْخَصَّافِ وَقَدْ اخْتَارَهُ جَمَاعَةٌ فِي الْوَقْفِ ، وَثَانِيًا بِتَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ أَنَّ الْمَبْنَى مُخْتَلِفٌ لِأَنَّ مَبْنَى ثُبُوتِ الْخُصُومَةِ فِي حَقِّ الْقَذْفِ ثُبُوتُ الْجُزْئِيَّةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِرُجُوعِ عَارِ الْمَنْسُوبِ إلَى

الْإِنْسَانِ إلَى الْآخَرِ ، وَثُبُوتُ الْوَقْفِ عَلَيْهِ بِثُبُوتِ تَبَادُرِ وَلَدِ الْبِنْتِ مِنْ قَوْلِنَا أَوْلَادُ فُلَانٍ لِأَنَّهُ وَقْفٌ عَلَى مَنْ يُسَمَّى بِهِ .
فَإِذَا لَمْ يَتَبَادَرْ لَا يَشْمَلُهُ الْوَقْفُ وَصَارَ كَالْوَصِيَّةِ لِأَوْلَادِ أَوْلَادِ فُلَانٍ لَا يَدْخُلُ أَوْلَادُ بَنَاتِهِ لِهَذَا .
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ إنَّ مَا يَلْحَقُ الْوَلَدَ فَوْقَ مَا يَلْحَقُ وَلَدَ الْوَلَدِ فَصَارَ وَلَدُ الْوَلَدِ مَعَ الْوَلَدِ كَوَلَدِ الْمَقْذُوفِ مَعَهُ وَاعْتَبَرَهُ بِالْخُصُومَةِ فِي الْكَفَاءَةِ فَإِنَّهُ لَا خُصُومَةَ لِلْأَبْعَدِ مَعَ وُجُودِ الْأَقْرَبِ .
وَالْجَوَابُ مَنَعَ أَنَّ مَا يَلْحَقُ الْأَقْرَبَ فَوْقَ مَا يَلْحَقُ الْأَبْعَدَ بَلْ لِكُلِّ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْمَقْذُوفِ بِالْجُزْئِيَّةِ لَحِقَهُ مِنْ الْعَارِ مِثْلُ مَا لَحِقَ الْآخَرَ لِاتِّحَادِ الْجِهَةِ وَالتَّبَعِيَّةِ ، بِخِلَافِ الْمَقْذُوفِ مَعَ وَلَدِهِ لِأَنَّهُ لَحِقَهُ الْعَارُ مَقْصُودًا بِالْإِلْحَاقِ بِهِ دُونَ وَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ .
وَأَمَّا حَقُّ خُصُومَةِ الْكَفَاءَةِ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ لِلْأَقْرَبِ بِالْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْإِنْكَاحُ إلَى الْعَصَبَاتِ } فَعُلِمَ تَرَتُّبُهُمْ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ الِاسْمَ يُشْعِرُ بِهِ حَيْثُ عُلِمَ أَنَّ حُكْمَهُ ذَلِكَ .
فَإِنْ قُلْت : قَدْ ظَهَرَ الِاتِّفَاقُ عَلَى وِلَايَةِ مُطَالَبَةِ وَلَدِ الْوَلَدِ بِقَذْفِ جَدِّهِ وَجَدَّتِهِ إنَّمَا خَالَفَ زُفَرُ فِي ذَلِكَ عِنْدَ وُجُودِ الْأَقْرَبِ فَمَا وَجْهُ مَا فِي قَاضِي خَانَ فَإِذَا قَالَ جَدُّك زَانٍ لَا حَدَّ عَلَيْهِ .
قُلْنَا : ذَلِكَ لِلْإِيهَامِ لِأَنَّ فِي أَجْدَادِهِ مَنْ هُوَ كَافِرٌ فَلَا يَكُونُ قَاذِفًا مَا لَمْ يُعَيِّنْ مُسْلِمًا ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَنْتَ ابْنُ ابْنِ الزَّانِيَةِ لِأَنَّهُ قَاذِفٌ لِجَدِّهِ الْأَدْنَى ، فَإِنْ كَانَ أَوْ كَانَتْ مُحْصَنَةً حُدَّ

( وَإِذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ مُحْصَنًا جَازَ لِابْنِهِ الْكَافِرِ وَالْعَبْدِ أَنْ يُطَالِبَ بِالْحَدِّ ) خِلَافًا لِزُفَرَ .
هُوَ يَقُولُ : الْقَذْفُ يَتَنَاوَلُهُ مَعْنًى لِرُجُوعِ الْعَارِ إلَيْهِ ، وَلَيْسَ طَرِيقُهُ الْإِرْثَ عِنْدَنَا فَصَارَ كَمَا إذَا كَانَ مُتَنَاوِلًا لَهُ صُورَةً وَمَعْنًى .
وَلَنَا أَنَّهُ عَيَّرَهُ بِقَذْفِ مُحْصَنٍ فَيَأْخُذُهُ بِالْحَدِّ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِحْصَانَ فِي الَّذِي يُنْسَبُ إلَى الزِّنَا شَرْطٌ لِيَقَعَ تَعْيِيرًا عَلَى الْكَمَالِ ثُمَّ يَرْجِعُ هَذَا التَّعْيِيرُ الْكَامِلُ إلَى وَلَدِهِ ، وَالْكُفْرُ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ الِاسْتِحْقَاقِ ، بِخِلَافِ إذَا تَنَاوَلَ الْقَذْفُ نَفْسَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ التَّعْيِيرُ عَلَى الْكَمَالِ لِفَقْدِ الْإِحْصَانِ فِي الْمَنْسُوبِ إلَى الزِّنَا ( وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يُطَالِبَ مَوْلَاهُ بِقَذْفِ أُمِّهِ الْحُرَّةِ ، وَلَا لِلِابْنِ أَنْ يُطَالِبَ أَبَاهُ بِقَذْفِ أُمِّهِ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ ) لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يُعَاقَبُ بِسَبَبِ عَبْدِهِ ، وَكَذَا الْأَبُ بِسَبَبِ ابْنِهِ ، وَلِهَذَا لَا يُقَادُ الْوَالِدُ بِوَلَدِهِ وَلَا السَّيِّدُ بِعَبْدِهِ ، وَلَوْ كَانَ لَهَا ابْنٌ مِنْ غَيْرِهِ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ لِتَحَقُّقِ السَّبَبِ وَانْعِدَامِ الْمَانِعِ .

( قَوْلُهُ وَإِذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ مُحْصَنًا جَازَ لِابْنِهِ الْكَافِرِ وَلِابْنِهِ الْعَبْدِ أَنْ يُطَالِبَ بِالْحَدِّ خِلَافًا لِزُفَرَ ) وَلِكُلِّ مَنْ قَالَ طَرِيقُهُ لِلْإِرْثِ : يَعْنِي إذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ مَيِّتًا بِأَنْ وَقَعَ بَعْدَ مَوْتِ الْمَقْذُوفِ لِأَنَّهُ لَا يُوَرَّثُ وَلَا يُطَالَبُ بِهِ الِابْنُ فِي حَالِ حَيَاةِ الْمَقْذُوفِ ( هُوَ يَقُولُ الْقَذْفُ تَنَاوَلَ الِابْنَ مَعْنًى لَا صُورَةً لِرُجُوعِ الْعَارِ إلَيْهِ ) وَلَيْسَ الْحَدُّ الْآنَ وَالْمُطَالَبَةُ بِهِ لِأَجْلِ أُمِّهِ إذْ لَيْسَ طَرِيقُهُ الْإِرْثَ عِنْدَنَا .
وَإِذَا تَنَاوَلَهُ مَعْنًى فَغَايَةُ أَمْرِهِ أَنْ يُجْعَلَ كَأَنَّهُ تَنَاوَلَهُ صُورَةً وَمَعْنًى بِأَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَقْصُودَ بِالْقَذْفِ ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ لِعَدَمِ إحْصَانِهِ ، فَكَذَا إذَا كَانَ مَقْذُوفًا مَعْنًى فَقَطْ ( وَلَنَا أَنَّهُ ) أَيْ الْقَاذِفُ ( عَيَّرَهُ بِقَذْفِ مُحْصَنٍ ) هُوَ أُمُّهُ أَوْ أَبُوهُ ( فَيَأْخُذُهُ بِالْحَدِّ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِحْصَانَ فِي ) الْمَقْذُوفِ قَصْدًا وَهُوَ ( الَّذِي يُنْسَبُ إلَى الزِّنَا شَرْطٌ لِيَقَعَ تَعْيِيرًا عَلَى الْكَمَالِ ) لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ تَعْيِيرًا كَامِلًا إلَّا إذَا كَانَ مُحْصَنًا ( ثُمَّ يَرْجِعُ هَذَا التَّعْيِيرُ الْكَامِلُ إلَى وَلَدِهِ ) فَيَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ عَلَى طَرِيقِ الْأَصَالَةِ لِلشَّيْنِ الَّذِي لَحِقَهُ لَا لِلْخِلَافَةِ ، ثُمَّ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْمُطَالَبَةِ إقَامَةُ الْحَدِّ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى ( وَالْكُفْرُ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ اسْتِحْقَاقِ الْمُطَالَبَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا قَذَفَهُ نَفْسَهُ ) لِعَدَمِ إحْصَانِهِ فَلَمْ يَقَعْ التَّعْيِيرُ إذْ لَمْ يَكُنْ مُحْصَنًا عَلَى الْكَمَالِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ السَّبَبَ لِلتَّعْيِيرِ الْكَامِلِ وَهُوَ بِإِحْصَانِ الْمَقْذُوفِ فَإِنْ كَانَ حَيًّا كَانَتْ الْمُطَالَبَةُ لَهُ أَوْ مَيِّتًا طَالَبَ بِهِ أَصْلُهُ أَوْ فَرْعُهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْصَنًا لَمْ يَتَحَقَّقْ التَّعْيِيرُ الْكَامِلُ فِي حَقِّهِ .
( قَوْلُهُ وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يُطَالِبَ مَوْلَاهُ بِقَذْفِ أُمِّهِ الْحُرَّةِ ) أَيْ الَّتِي قَذَفَهَا فِي حَالِ

مَوْتِهَا ( وَلَا لِلِابْنِ أَنْ يُطَالِبَ أَبَاهُ ) وَإِنْ عَلَا ( بِقَذْفِ أُمِّهِ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ ) الَّتِي قَذَفَهَا فِي حَالِ مَوْتِهَا بِأَنْ قَالَ رَجُلٌ لِعَبْدِهِ يَا ابْنَ الزَّانِيَةِ وَأُمُّهُ مَيِّتَةٌ حُرَّةٌ ، أَوْ قَالَ لِابْنِهِ أَوْ لِابْنِ ابْنِهِ وَإِنْ سَفَلَ بَعْدَ وَفَاةِ أُمِّهِ يَا ابْنَ الزَّانِيَةِ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَرِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ ، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ أَنَّ لِلِابْنِ أَنْ يُطَالِبَ أَبَاهُ بِقَذْفِ أُمِّهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ لِإِطْلَاقِ آيَةِ { فَاجْلِدُوهُمْ } وَلِأَنَّهُ حَدٌّ هُوَ حَقُّ اللَّهِ فَلَا يَمْنَعُ مِنْ إقَامَتِهِ قَرَابَةُ الْوِلَادِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : إذَا حُدَّ الْأَبُ سَقَطَتْ عَدَالَةُ الِابْنِ لِمُبَاشَرَتِهِ سَبَبَ عُقُوبَةِ أَبِيهِ مَعَ قَوْله تَعَالَى { فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } وَالْجَوَابُ أَنَّ الْإِطْلَاقَ أَوْ الْعُمُومَ مُخْرَجٌ مِنْهُ الْوَلَدُ عَلَى سَبِيلِ الْمُعَارِضَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } وَالْمَانِعُ مُقَدَّمٌ ( وَلِهَذَا لَا يُقَادُ الْوَالِدُ بِوَلَدِهِ ) وَلَا يُقْطَعُ بِسَرِقَتِهِ فَانْتَقَضَتْ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى عَدَمِ الْقَطْعِ وَصَارَ الْأَصْلُ لَنَا عُمُومَ الْآيَةِ ، أَعْنِي قَوْله تَعَالَى { فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا يُقَادُ الْوَالِدُ بِوَلَدِهِ ، وَلَا السَّيِّدُ بِعَبْدِهِ } وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ الْقَطْعِ فَلِشُبْهَةِ الْمِلْكِ لِلْأَبِ فِي الْمَسْرُوقِ فَلَا يُرَدُّ عَلَى مَالِكٍ .
نَعَمْ دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ عَلَى كَوْنِهِ لَا يُقَادُ بِهِ لَازِمَةٌ ، فَإِنَّ إهْدَارَ جِنَايَتِهِ عَلَى نَفْسِ الْوَلَدِ تُوجِبُ إهْدَارَهَا فِي عِرْضِهِ بِطَرِيقٍ أَوْلَى مَعَ أَنَّ الْقِصَاصَ مُتَيَقَّنٌ بِسَبَبِهِ وَالْمُغَلَّبُ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ ، بِخِلَافِ حَدِّ الْقَذْفِ فِيهِمَا ، وَلِضَعْفِ الِاسْتِدْلَالِ بِعَدَمِ الْقَطْعِ بِسَبَبِ مَالِ الِابْنِ اقْتَصَرَ الْمُصَنِّفُ عَلَى قَوْلِهِ وَلِهَذَا لَا يُقَادُ الْوَالِدُ بِوَلَدِهِ .
وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ ( لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يُعَاقَبُ بِسَبَبِ عَبْدِهِ

) اسْتِدْلَالٌ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ مُطَالَبَةِ الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ بِقَذْفِ أُمِّهِ ، قِيلَ لِأَنَّ حَقَّ عَبْدِهِ حَقُّهُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعَاقَبَ بِسَبَبِ حَقِّ نَفْسِهِ ( قَوْلُهُ وَلَوْ كَانَ لَهَا ) أَيْ لِزَوْجَتِهِ الْمَيِّتَةِ الَّتِي قَالَ لِوَلَدِهَا بَعْدَ مَوْتِهَا يَا ابْنَ الزَّانِيَةِ ( وَلَدٌ آخَرُ مِنْ غَيْرِهِ كَانَ لَهُ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ ) بِإِجْمَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ لِأَنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا حَقُّ الْخُصُومَةِ وَظَهَرَ فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا مَانِعٌ دُونَ الْآخَرِ فَيَعْمَلُ الْمُقْتَضِي عَمَلَهُ فِي الْآخَرِ ، وَلِذَا لَوْ كَانَ جَمَاعَةٌ يَسْتَحِقُّونَ الْمُطَالَبَةَ فَعَفَا أَحَدُهُمْ كَانَ لِلْآخَرِ الْمُطَالَبَةُ بِهِ ، بِخِلَافِ عَفْوِ أَحَدِ مُسْتَحَقِّي الْقِصَاصَ بِمَنْعِ اسْتِيفَاءِ الْآخَرِ لِأَنَّ الْقِصَاصَ حَقٌّ وَاحِدٌ لِلْمَيِّتِ مَوْرُوثٌ لِلْوَارِثِينَ ، فَبِإِسْقَاطِ أَحَدِهِمَا بِالْعَفْوِ لَا يُتَصَوَّرُ بَقَاؤُهُ لِأَنَّ الْقَتْلَ الْوَاحِدَ لَا يُتَصَوَّرُ تُجْزِيهِ ، أَمَّا هُنَا فَالْحَقُّ فِي الْحَدُّ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِكُلِّ وِلَايَةٍ الْمُطَالَبَةُ بِهِ فَلَا يَبْطُلُ بِإِسْقَاطِ أَحَدِهِمَا .
[ فَرْعٌ ] يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِإِثْبَاتِ الْحُدُودِ مِنْ الْغَائِبِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ ، وَكَذَا فِي الْقِصَاصِ لِأَنَّ خُصُومَةَ الْوَكِيلِ تَقُومُ مَقَامَ خُصُومَةِ الْمُوَكِّلِ ، وَشَرْطُ الْحَدِّ لَا يَثْبُتُ بِمِثْلِهِ ، وَالْإِجْمَاعُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ بِاسْتِيفَاءِ الْحَدِّ وَالْقِصَاصِ لِأَنَّهَا عُقُوبَةٌ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ ، وَلَوْ اسْتَوْفَاهُ الْوَكِيلُ مَعَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ كَانَ مَعَ احْتِمَالِ أَنَّهُ عَفَا أَوْ أَنَّ الْمَقْذُوفَ قَدْ صَدَّقَ الْقَاذِفَ أَوْ أَكْذَبَ شُهُودَهُ ، وَلَا يَخْفَى قُصُورُ التَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْعَفْوِ بَعْدَ ثُبُوتِ السَّبَبِ لَا يُسْقِطُ الْحَدَّ فَمَعَ احْتِمَالِهِ أَوْلَى

( وَمَنْ قَذَفَ غَيْرَهُ فَمَاتَ الْمَقْذُوفُ بَطَلَ الْحَدُّ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَبْطُلُ ( وَلَوْ مَاتَ بَعْدَمَا أُقِيمَ بَعْضُ الْحَدِّ بَطَلَ الْبَاقِي ) عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يُورَثُ عِنْدَهُ وَعِنْدَنَا لَا يُورَثُ ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ فِيهِ حَقَّ الشَّرْعِ وَحَقَّ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ شُرِعَ لِدَفْعِ الْعَارِ عَنْ الْمَقْذُوفِ وَهُوَ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ عَلَى الْخُصُوصِ ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ حَقُّ الْعَبْدِ ، ثُمَّ إنَّهُ شُرِعَ زَاجِرًا وَمِنْهُ سُمِّيَ حَدًّا ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ شَرْعِ الزَّاجِرِ إخْلَاءُ الْعَالَمِ عَنْ الْفَسَادِ ، وَهَذَا آيَةُ حَقِّ الشَّرْعِ وَبِكُلِّ ذَلِكَ تَشْهَدُ الْأَحْكَامُ .
وَإِذَا تَعَارَضَتْ الْجِهَتَانِ فَالشَّافِعِيُّ مَالَ إلَى تَغْلِيبِ حَقِّ الْعَبْدِ تَقْدِيمًا لِحَقِّ الْعَبْدِ بِاعْتِبَارِ حَاجَتِهِ وَغِنَى الشَّرْعِ ، وَنَحْنُ صِرْنَا إلَى تَغْلِيبِ حَقِّ الشَّرْعِ لِأَنَّ مَا لِلْعَبْدِ مِنْ الْحَقِّ يَتَوَلَّاهُ مَوْلَاهُ فَيَصِيرُ حَقُّ الْعَبْدِ مَرْعِيًّا بِهِ ، وَلَا كَذَلِكَ عَكْسُهُ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلْعَبْدِ فِي اسْتِيفَاءِ حُقُوقِ الشَّرْعِ إلَّا نِيَابَةً عَنْهُ ، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ الْمَشْهُورُ الَّذِي يَتَخَرَّجُ عَلَيْهِ الْفُرُوعُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا مِنْهَا الْإِرْثُ ، إذْ الْإِرْثُ يَجْرِي فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ لَا فِي حُقُوقِ الشَّرْعِ .
وَمِنْهَا الْعَفْوُ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ عَفْوُ الْمَقْذُوفِ عِنْدَنَا وَيَصِحُّ عِنْدَهُ .
وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ وَيَجْرِي فِيهِ التَّدَاخُلُ وَعِنْدَهُ لَا يَجْرِي .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْعَفْوِ مِثْلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ ؛ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ : إنَّ الْغَالِبَ حَقُّ الْعَبْدِ وَخَرَّجَ الْأَحْكَامَ ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ .

( قَوْلُهُ وَمَنْ قَذَفَ غَيْرَهُ فَمَاتَ الْمَقْذُوفُ بَطَلَ الْحَدُّ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَبْطُلُ وَلَوْ مَاتَ بَعْدَ مَا أُقِيمَ بَعْضُ الْحَدِّ بَطَلَ الْبَاقِي عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يُورَثُ عِنْدَهُ ) فَيَرِثُ الْوَارِثُ الْبَاقِي فَيُقَامُ لَهُ ( وَعِنْدَنَا لَا يُورَثُ وَلَا خِلَافَ أَنَّ فِيهِ حَقَّ الشَّرْعِ وَحَقَّ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ شُرِعَ لِدَفْعِ الْعَارِ عَنْ الْمَقْذُوفِ وَهُوَ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ عَلَى الْخُصُوصِ ) كَالْقِصَاصِ ( فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ ) أَيْ مِنْ هَذَا الدَّلِيلِ ( هُوَ حَقُّ الْعَبْدِ ثُمَّ ) نَعْلَمُ ( أَنَّهُ شُرِعَ زَاجِرًا وَمِنْهُ سُمِّيَ حَدًّا .
وَالْمَقْصُودُ مِنْ شَرْعِ الزَّوَاجِرِ كُلِّهَا إخْلَاءُ الْعَالَمِ عَنْ الْفَسَادِ وَهَذَا آيَةُ حَقِّ الشَّرْعِ ) إذْ لَمْ يَخْتَصَّ بِهَذَا إنْسَانٌ دُونَ غَيْرِهِ ( وَبِكُلٍّ ) مِنْ حَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ الْعَبْدِ فِي حَدِّ الْقَذْفِ ( تَشْهَدُ الْأَحْكَامُ ) فَبِاعْتِبَارِهِ حَقًّا لِلْعَبْدِ شُرِطَتْ الدَّعْوَى فِي إقَامَتِهِ وَلَمْ تَبْطُلْ الشَّهَادَةُ بِالتَّقَادُمِ ، وَيَجِبُ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ وَيُقِيمُهُ الْقَاضِي بِعِلْمِهِ إذَا عَلِمَهُ فِي أَيَّامِ قَضَائِهِ ، وَكَذَا لَوْ قَذَفَهُ بِحَضْرَةِ الْقَاضِي حَدَّهُ ، وَإِنْ عَلِمَهُ الْقَاضِي قَبْلَ أَنْ يَسْتَقْضِيَ ثُمَّ وَلِيَ الْقَضَاءَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُقِيمَهُ حَتَّى يَشْهَدَ بِهِ عِنْدَهُ ، وَيُقَدَّمُ اسْتِيفَاؤُهُ عَلَى حَدِّ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ إذَا اجْتَمَعَا .
وَلَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْهُ بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِهِ ، وَبِاعْتِبَارِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى اسْتَوْفَاهُ الْإِمَامُ دُونَ الْمَقْذُوفِ ، بِخِلَافِ الْقِصَاصِ ، وَلَا يَنْقَلِبُ مَالًا عِنْدَ سُقُوطِهِ وَلَا يَسْتَحْلِفُ عَلَيْهِ الْقَاذِفُ وَيَتَنَصَّفُ بِالرِّقِّ كَالْعُقُوبَاتِ الْوَاجِبَةِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى وَحَقُّ الْعَبْدِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ التَّالِفِ ، وَلَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُتْلِفِ ، وَإِذَا تَعَارَضَتْ الْجِهَتَانِ وَلَمْ يُمْكِنْ إهْدَارُ مُقْتَضَى إحْدَاهُمَا لَزِمَ اعْتِبَارُهُمَا فِيهِ فَثَبَتَ أَنَّ فِيهِ الْحَقَّيْنِ ( إلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ مَالَ إلَى تَغْلِيبِ

حَقِّ الْعَبْدِ تَقْدِيمًا لِحَقِّ الْعَبْدِ بِاعْتِبَارِ حَاجَتِهِ وَغِنَى الشَّرْعِ ، وَنَحْنُ صِرْنَا إلَى تَغْلِيبِ حَقِّ الشَّرْعِ لِأَنَّ مَا لِلْعَبْدِ مِنْ الْحَقِّ يَتَوَلَّى اسْتِيفَاءَهُ مَوْلَاهُ فَيَصِيرُ حَقُّ الْعَبْدِ مَرْعِيًا ) بِتَغْلِيبِ حَقِّ الشَّرْعِ لَا مُهْدَرًا ( وَلَا كَذَلِكَ عَكْسُهُ ) أَيْ لَوْ غَلَبَ حَقُّ الْعَبْدِ لَزِمَ أَنْ لَا يُسْتَوْفَى حَقُّ الشَّرْعِ إلَّا بِالتَّحْكِيمِ بِجَعْلِ وِلَايَةِ اسْتِيفَائِهِ إلَيْهِ ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إلَّا بِدَلِيلٍ يَنْصِبُهُ الشَّرْعُ عَلَى إنَابَةِ الْعَبْدِ فِي الِاسْتِيفَاءِ وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ ، بَلْ الثَّانِي اسْتِنَابَةُ الْإِمَامِ حَتَّى كَانَ هُوَ الَّذِي يَسْتَوْفِيهِ كَسَائِرِ الْحُدُودِ الَّتِي هِيَ حَقُّهُ تَعَالَى عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْأَحْكَامِ ، فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الِاخْتِلَافِ فِي هَذَا الْأَصْلِ تَفَرَّعَتْ فُرُوعٌ أُخْرَى مُخْتَلَفٌ فِيهَا بَعْدَ الْفُرُوعِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا الشَّاهِدَةِ لِكُلٍّ مِنْ ثُبُوتِ الْجِهَتَيْنِ ، مِنْهَا الْإِرْثُ فَعِنْدَهُ يُورَثُ .
وَعِنْدَنَا لَا يُورَثُ إذْ الْإِرْثُ يَجْرِي فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ لَا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى : أَيْ إنَّمَا يَرِثُ الْعَبْدُ حَقَّ الْعَبْدِ بِشَرْطِ كَوْنِهِ مَالًا ، أَوْ مَا يَتَّصِلُ بِالْمَالِ كَالْكَفَالَةِ ، أَوْ فِيمَا يَنْقَلِبُ إلَى الْمَالِ كَالْقِصَاصِ ، وَالْحَدُّ لَيْسَ شَيْئًا مِنْهَا فَيَبْطُلُ بِالْمَوْتِ إذْ لَمْ يَثْبُتْ دَلِيلٌ سَمْعِيٌّ عَلَى اسْتِخْلَافِ الشَّرْعِ وَارِثَ مَنْ جُعِلَ لَهُ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ أَوْ وَصِيَّهُ فِي الْمُطَالَبَةِ الَّتِي جَعَلَهَا شَرْطًا لِظُهُورِ حَقِّهِ ، وَمِنْهَا الْعَفْوُ ، فَإِنَّهُ بَعْدَمَا ثَبَتَ عِنْدَ الْحَاكِمِ الْقَذْفُ وَالْإِحْصَانُ لَوْ عَفَا الْمَقْذُوفُ عَنْ الْقَاذِفِ لَا يَصِحُّ مِنْهُ وَيُحَدُّ عِنْدَنَا ، وَيَصِحُّ عِنْدَهُ ، وَلَا يَسْقُطُ عِنْدَنَا الْحَدُّ بَعْدَ ثُبُوتِهِ إلَّا أَنْ يَقُولَ الْمَقْذُوفُ لَمْ يَقْذِفْنِي أَوْ كَذَبَ شُهُودِي ، وَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ أَنَّ الْقَذْفَ لَمْ يَقَعْ مُوجِبًا لِلْحَدِّ لَا أَنَّهُ وَقَعَ ثُمَّ سَقَطَ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ ، وَهَذَا كَمَا إذَا صَدَّقَهُ

الْمَقْذُوفُ فَإِنَّهُ يَبْطُلُ بِمَعْنَى ظُهُورِ أَنَّ الْقَذْفَ لَمْ يَنْعَقِدْ مُوجِبًا لِلْحَدِّ ، بِخِلَافِ الْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ يَسْقُطُ بَعْدَ وُجُوبِهِ لِأَنَّ الْمُغَلَّبَ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ .
وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ عِنْدَنَا ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَعِنْدَهُ يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَيَجْرِي فِيهِ التَّدَاخُلُ عِنْدَنَا ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، حَتَّى لَوْ قَذَفَ شَخْصًا مَرَّاتٍ أَوْ قَذَفَ جَمَاعَةً كَانَ فِيهِ حَدٌّ وَاحِدٌ إذَا لَمْ يَتَخَلَّلْ حَدٌّ بَيْنَ الْقَذْفَيْنِ .
وَلَوْ ادَّعَى بَعْضُهُمْ فَحُدَّ فَفِي أَثْنَاءِ الْحَدِّ ادَّعَى آخَرُونَ كُمِّلَ ذَلِكَ الْحَدُّ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجْرِي فِيهِ التَّدَاخُلُ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْعَفْوِ مِثْلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ أَنَّهُ يَصِحُّ عَفْوُ الْمَقْذُوفِ .
( قَوْلُهُ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ : إنَّ الْغَالِبَ فِي حَدِّ الْقَذْفِ حَقُّ الْعَبْدِ إلَخْ ) وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ بَيَانِ الْأَصْلِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ وَتَفْرِيعِ الْأَحْكَامِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا عَلَى الْخِلَافِ فِيهِ هُوَ الْأَظْهَرُ مِنْ جِهَةِ الدَّلِيلِ وَالْأَشْهَرُ لِأَنَّهُ قَوْلُ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ ، وَذَهَبَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْيُسْرِ إلَى أَنَّ الْمُغَلَّبَ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ ( وَخَرَّجَ الْأَحْكَامَ ) الْمُخْتَلَفَ فِيهَا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، أَمَّا تَوْجِيهُ أَنَّ حَقَّ الْعَبْدِ غَالِبٌ فَلِأَنَّ أَكْثَرَ الْأَحْكَامِ تُبْنَى عَلَيْهِ وَالْمَعْقُولُ يَشْهَدُ لَهُ ، وَهُوَ أَنَّ الْعَبْدَ يَنْتَفِعُ بِهِ عَلَى الْخُصُوصِ .
وَقَدْ نَصَّ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ حَقُّ الْعَبْدِ كَالْقِصَاصِ .
وَأَمَّا تَخْرِيجُ الْأَحْكَامِ فَإِنَّمَا فُوِّضَ إلَى الْإِمَامِ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ لَا يَهْتَدِي إلَى الضَّرْبِ الْوَاجِبِ أَوْ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَزِيدُ الْمَقْذُوفَ فِي قُوَّتِهِ لِحَنَقِهِ فَيَقَعُ مُتْلِفًا ؛ وَإِنَّمَا لَا يُورَثُ لِأَنَّهُ مُجَرَّدُ حَقٍّ لَيْسَ مَالًا وَلَا بِمَنْزِلَتِهِ فَهُوَ كَخِيَارِ الشَّرْطِ ، وَحَقُّ الشُّفْعَةِ بِخِلَافِ الْقِصَاصِ عَلَى مَا قَدَّمْنَا .
وَإِنَّمَا

لَا يَصِحُّ عَفْوُهُ لِأَنَّهُ عَفْوٌ عَمَّا هُوَ مُوَلًّى عَلَيْهِ فِيهِ وَهُوَ الْإِقَامَةُ ، وَلِأَنَّهُ مُتَعَنِّتٌ فِي الْعَفْوِ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِالْعَارِ وَالرِّضَا بِالْعَارِ عَارٌ ، وَهَذَا كَمَا تَرَى تَخْرِيجٌ لِبَعْضِ الْفُرُوعِ الْمُخْتَلِفَةِ ، ثُمَّ لَا يَخْفَى مَا فِي تَخْرِيجِهِ عَدَمُ صِحَّةِ الْعَفْوِ ، إذْ لَا يَخْفَى أَنَّ كَوْنَ الْمَقْذُوفِ يَنْتَفِعُ بِهِ عَلَى الْخُصُوصِ مَمْنُوعٌ ، بَلْ فِيهِ صِيَانَةُ أَعْرَاضِ النَّاسِ عَنْ خُصُوصِ الْقَاذِفِ ، وَصِيَانَةُ أَعْرَاضِ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ عَلَى الْعُمُومِ .
وَأَنَّ الْعَفْوَ لَا يَسْتَلْزِمُ الرِّضَا بِالْعَارِ بَلْ قَدْ لَا يَرْضَى الْإِنْسَانُ بِمَا يَكْرَهُهُ وَلَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ فَاعِلُهُ ، وَكَوْنُهُ مُوَلًّى عَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ فِي نَفْسِ الْفِعْلِ لِلتُّهْمَةِ بِسَبَبِ حَنَقِهِ فَلَا يَنْفِي أَنْ يَعْفُوَ فَلَا يَعْقِلُ ذَلِكَ أَصْلًا ، وَمَا ذَكَرْنَا فِي تَرْجِيحِ تَغْلِيبِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى أَوْجَهُ مِمَّا فِي الْخَبَّازِيَّةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ إنْ وَقَعَ فِي مَوْضِعٍ أَنَّهُ حَقُّ النَّاسِ فَقَدْ وَقَعَ فِي آخَرَ أَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى

قَالَ ( وَمَنْ أَقَرَّ بِالْقَذْفِ ثُمَّ رَجَعَ لَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُ ) لِأَنَّ لِلْمَقْذُوفِ فِيهِ حَقًّا فَيُكَذِّبُهُ فِي الرُّجُوعِ ، بِخِلَافِ مَا هُوَ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ لِأَنَّهُ لَا مُكَذِّبَ لَهُ فِيهِ .
( قَوْلُهُ وَمَنْ أَقَرَّ بِالْقَذْفِ ثُمَّ رَجَعَ لَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُ لِأَنَّ لِلْمَقْذُوفِ فِيهِ حَقًّا فَيُكَذِّبُهُ فِي الرُّجُوعِ بِخِلَافِ مَا هُوَ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ لَا مُكَذِّبَ لَهُ فِيهِ ) فَيُقْبَلُ رُجُوعُهُ ، وَأَمَّا التَّعْلِيلُ بِأَنَّهُ بِالْإِقْرَارِ أَلْحَقَ الشَّيْنَ بِالْغَيْرِ وَبِالرُّجُوعِ يُرِيدُ أَنْ يُبْطِلَ حَقَّ الْغَيْرِ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَثْبَتَ حَقَّ الْغَيْرِ ثُمَّ يُرِيدُ أَنْ يُبْطِلَهُ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ فَيُشْكِلُ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ فِي الْإِقْرَارِ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ، وَكَوْنُهُ أَلْحَقَ الشَّيْنَ لَا أَثَرَ لَهُ ، بَلْ الْحَاصِلُ أَنَّهُ لَمَّا أَلْحَقَ الشَّيْنَ ثَبَتَ حَقُّ الْآدَمِيِّ فَلَا يُقْبَلُ إبْطَالُهُ ، فَإِلْحَاقُ الشَّيْنِ تَأْثِيرُهُ فِي إثْبَاتِ حَقِّ الْآدَمِيِّ لَيْسَ غَيْرُ ، ثُمَّ امْتِنَاعُ الرُّجُوعِ لَيْسَ إلَّا لِتَضَمُّنِهِ إبْطَالَ حَقِّ الْغَيْرِ

( وَمَنْ قَالَ لِعَرَبِيٍّ يَا نَبَطِيُّ لَمْ يُحَدَّ ) لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ التَّشْبِيهُ فِي الْأَخْلَاقِ أَوْ عَدَمِ الْفَصَاحَةِ ، وَكَذَا إذَا قَالَ لَسْت بِعَرَبِيٍّ لِمَا قُلْنَا .
( قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ لِعَرَبِيٍّ يَا نَبَطِيُّ ) أَوْ قَالَ لَسْت بِعَرَبِيٍّ ( لَا يُحَدُّ ) وَكَذَا إذَا قَالَ لَسْت مِنْ بَنِي فُلَانٍ وَقَالَ مَالِكٌ : يُحَدُّ إذَا نَوَى الشَّتْمَ ، وَعَنْهُ إذَا قَالَ يَا رُومِيُّ لِعَرَبِيٍّ أَوْ فَارِسِيٍّ أَوْ يَا فَارِسِيُّ لِرُومِيٍّ أَوْ عَرَبِيٍّ أَوْ يَا ابْنَ الْخَيَّاطِ وَلَيْسَ فِي آبَائِهِ خَيَّاطٌ يُحَدُّ .
قُلْنَا : الْعُرْفُ فِي مِثْلِهِ أَنْ يُرَادَ نَفْيُ الْمُشَابَهَةِ فِي الْأَخْلَاقِ أَوْ عَدَمِ الْفَصَاحَةِ ، وَأَمَّا قَذْفُ أُمِّهِ أَوْ جَدَّةٍ مِنْ جَدَّاتِهِ لِأَبِيهِ فَلَا يَخْطُرُ بِالْبَالِ فَلِذَا أَطْلَقُوا نَفْيَ الْحَدِّ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ بَيْنَ كَوْنِهِ حَالَةَ الْغَضَبِ أَوْ الرِّضَا ، وَهَذَا لِأَنَّ النِّسْبَةَ إلَى الْأَخْلَاقِ الدَّنِيَّةِ مِمَّا يُشْتَمُّ بِهِ ، فَإِذَا لَمْ يُتَعَارَفْ مِثْلُهُ فِي الْقَذْفِ أَصْلًا يُجْعَلُ فِي الْغَضَبِ شَتْمًا بِهَذَا الْقَدْرِ ، وَلِأَنَّ النَّبَطِيَّ قَدْ يُرَادُ بِهِ النِّسْبَةُ إلَى الْمَكَانِ عَلَى مَا قَالَ فِي دِيوَانِ الْأَدَبِ : النَّبَطُ قَوْمٌ يَنْزِلُونَ بِسَوَادِ الْعِرَاقِ ، فَهُوَ كَمَا قَالَ يَا رُسْتَاقِيُّ يَا رِيفِيُّ فِي عُرْفِنَا : أَيْ يَا قَرَوِيُّ لَا يُحَدُّ بِهِ .
وَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ النَّبَطِيُّ رَجُلٌ مِنْ غَيْرِ الْعَرَبِ

( وَمَنْ قَالَ لِرَجُلٍ يَا ابْنَ مَاءِ السَّمَاءِ فَلَيْسَ بِقَاذِفٍ ) لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ التَّشْبِيهُ فِي الْجُودِ وَالسَّمَاحَةِ وَالصَّفَاءِ ، لِأَنَّ مَاءَ السَّمَاءِ لُقِّبَ بِهِ لِصَفَائِهِ وَسَخَائِهِ ( وَإِنْ نَسَبَهُ إلَى عَمِّهِ أَوْ خَالِهِ أَوْ إلَى زَوْجِ أُمِّهِ فَلَيْسَ بِقَذْفٍ ) لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ يُسَمَّى أَبًا ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى { نَعْبُدُ إلَهَك وَإِلَهَ آبَائِك إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } وَإِسْمَاعِيلُ كَانَ عَمَّا لَهُ .
وَالثَّانِي لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْخَالُ أَبٌ } .
وَالثَّالِثُ لِلتَّرْبِيَةِ .

( قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ لِرَجُلٍ يَا ابْنَ مَاءِ السَّمَاءِ فَلَيْسَ بِقَاذِفٍ ) وَكَذَا إذَا قَالَ يَا ابْنَ مُزَيْقِيَاءَ وَيَا ابْنَ جَلَا لِأَنَّ النَّاسَ يَذْكُرُونَ هَذِهِ لِقَصْدِ الْمَدْحِ ، فَمَاءُ السَّمَاءِ لُقِّبَ بِهِ عَامِرُ بْنُ حَارِثَةَ الْغِطْرِيفُ الْأَزْدِيُّ لِأَنَّهُ وَقْتَ الْقَحْطِ كَانَ يُقِيمُ مَالَهُ مَقَامَ الْقَطْرِ فَهُوَ كَمَاءِ السَّمَاءِ عَطَاءً وُجُودًا .
وَمُزَيْقِيَاءُ لُقِّبَ بِهِ ابْنُهُ عَمْرُو لِأَنَّهُ كَانَ يُمَزِّقُ كُلَّ يَوْمٍ حُلَّتَيْنِ يَلْبَسُهُمَا فَيَكْرَهُ أَنْ يَعُودَ إلَى لُبْسِهِمَا وَيَكْرَهُ أَنْ يَلْبَسَهُمَا غَيْرُهُ وَهُوَ مِنْ مُلُوكِ غَسَّانَ ، وَعَلَى هَذَا فَالْأَنْسَبُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْقَائِلِ يَا ابْنَ مُزَيْقِيَاءَ لِلذَّمِّ بِالسَّرَفِ وَالْإِعْجَابِ ، لَكِنَّ عُرْفَ الْعَامَّةِ فِي مِثْلِهِ أَنَّهُ جُودُهُ ، وَقَدْ لُقِّبَ بِمَاءِ السَّمَاءِ أَيْضًا لِلْحُسْنِ وَالصَّفَاءِ وَبِهِ لُقِّبَتْ أُمُّ ابْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ امْرِئِ الْقِيسِ لِذَلِكَ ، وَقِيلَ لِوَلَدِهَا بَنُو مَاءِ السَّمَاءِ قَالَ زُهَيْرٌ : وَلَازَمَتْ الْمُلُوكَ مِنْ آلِ نَصْرٍ وَبَعْدَهُمْ بَنِي مَاءِ السَّمَاءِ وَجَمَعَ الْمُصَنِّفُ بَيْنَهُمَا حَيْثُ قَالَ : لِأَنَّ مَاءَ السَّمَاءِ لُقِّبَ بِهِ لِصَفَائِهِ وَسَخَائِهِ ، وَأَمَّا جَلَا فَقَدْ اُسْتُعْمِلَ مُرَادًا بِهِ إنْسَانٌ فِي قَوْلِ سُحَيْمٍ : أَنَا ابْنُ جَلَا وَطَلَّاعُ الثَّنَايَا مَتَى أَضَعُ الْعِمَامَةَ تَعْرِفُونِي وَكَلَامُ سِيبَوَيْهِ يُفِيدُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَمًا لَهُ بَلْ وَصْفٌ حَيْثُ قَالَ جَلَا هُنَا فِعْلُ مَاضٍ كَأَنَّهُ قَالَ أَنَا ابْنُ الَّذِي جَلَا : أَيْ أَوْضَحَ وَكَشَفَ .
وَأَمَّا قَوْلُ الْقَلَّاخِ : أَنَا الْقَلَّاخُ بْنُ جُنَابِ بْنِ جَلَا فَيُحْتَمَلُ كَوْنُهُ عَلَمًا لَقَبًا وَكَوْنُهُ وَصْفًا أَيْضًا ، ثُمَّ إنَّهُ إنَّمَا يُرَادُ بِهِ التَّشْبِيهُ فِي كَشْفِ الشَّدَائِدِ وَإِمَاطَةِ الْمَكَارِهِ فَلَا يَكُونُ قَذْفًا هَذَا وَقَدْ ذَكَرَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ هُنَاكَ رَجُلٌ اسْمُهُ مَاءُ السَّمَاءِ : يَعْنِي وَهُوَ مَعْرُوفٌ يُحَدُّ فِي حَالِ السِّبَابِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ .
فَإِنْ قِيلَ : إذَا كَانَ قَدْ سُمِّيَ بِهِ وَإِنْ

كَانَ لِلسَّخَاءِ وَالصَّفَاءِ فَيَنْبَغِي فِي حَالَةِ الْغَضَبِ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى النَّفْيِ ، لَكِنَّ جَوَابَ الْمَسْأَلَةِ مُطْلَقٌ ، فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لِمَا لَمْ يُعْهَدْ اسْتِعْمَالُهُ لِذَلِكَ الْقَصْدِ يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الْمُرَادُ بِهِ فِي حَالَةِ الْغَضَبِ التَّهَكُّمُ بِهِ عَلَيْهِ كَمَا قُلْنَا فِي قَوْلِهِ لَسْت بِعَرَبِيٍّ لَمَّا لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي النَّفْيِ يُحْمَلُ فِي حَالَةِ الْغَضَبِ عَلَى سَبِّهِ بِنَفْيِ الشَّجَاعَةِ وَالسَّخَاءِ عَنْهُ لَيْسَ غَيْرُ ( قَوْلُهُ وَإِنْ نَسَبَهُ لِعَمِّهِ أَوْ خَالِهِ أَوْ زَوْجِ أُمِّهِ فَلَيْسَ بِقَاذِفٍ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ يُسَمَّى أَبًا فَالْأَوَّلُ ) وَهُوَ تَسْمِيَةُ الْعَمِّ أَبًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَإِلَهَ آبَائِك إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } وَإِسْمَاعِيلُ كَانَ عَمًّا لَهُ ) أَيْ لِيَعْقُوبَ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ( وَالثَّانِي لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْخَالُ أَبٌ } ) قَالُوا هُوَ غَرِيبٌ ، غَيْرَ أَنَّ فِي كِتَابِ الْفِرْدَوْسِ لِأَبِي شُجَاعٍ الدَّيْلَمِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا { : الْخَالُ وَالِدُ مَنْ لَا وَالِدَ لَهُ } ( وَالثَّالِثُ لِلتَّرْبِيَةِ ) وَقِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى { إنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي } إنَّهُ كَانَ ابْنَ امْرَأَتِهِ

( وَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ زَنَأْتَ فِي الْجَبَلِ وَقَالَ عَنَيْتُ صُعُودَ الْجَبَلِ حُدَّ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا يُحَدُّ ) لِأَنَّ الْمَهْمُوزَ مِنْهُ لِلصُّعُودِ حَقِيقَةٌ قَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْعَرَبِ : وَارْقَ إلَى الْخَيْرَاتِ زَنَأَ فِي الْجَبَلِ وَذِكْرُ الْجَبَلِ يُقَرِّرُهُ مُرَادًا وَلَهُمَا أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْفَاحِشَةِ مَهْمُوزًا أَيْضًا لِأَنَّ مِنْ الْعَرَبِ مَنْ يَهْمِزُ الْمُلَيَّنَ كَمَا يُلَيِّنُ الْمَهْمُوزَ ، وَحَالَةُ الْغَضَبِ وَالسِّبَابِ تُعَيِّنُ الْفَاحِشَةَ مُرَادًا بِمَنْزِلَةِ مَا إذَا قَالَ يَا زَانِي أَوْ قَالَ زَنَأْت ، وَذِكْرُ الْجَبَلِ إنَّمَا يُعَيِّنُ الصُّعُودَ مُرَادًا إذَا كَانَ مَقْرُونًا بِكَلِمَةِ عَلَى إذْ هُوَ لِلْمُسْتَعْمَلِ فِيهِ ، وَلَوْ قَالَ زَنَأْت عَلَى الْجَبَلِ لَا يُحَدُّ لِمَا قُلْنَا ، وَقِيلَ يُحَدُّ لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ .

( وَمَنْ قَالَ بِغَيْرِهِ زَنَأْتِ فِي الْجَبَلِ وَقَالَ عَنَيْتُ صَعِدْتَ الْجَبَلَ ) وَالْحَالَةُ حَالَةُ الْغَضَبِ وَسَيَظْهَرُ أَنَّ هَذَا الْقَيْدَ مُرَادٌ لَا يُصَدَّقُ ( وَيُحَدُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا يُحَدُّ لِأَنَّ الْمَهْمُوزَ مِنْهُ لِلصُّعُودِ حَقِيقَةٌ ، قَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْعَرَبِ وَارْقَ إلَى الْخَيْرَاتِ زَنَأَ فِي الْجَبَلِ ) وَالزِّنَا وَإِنْ كَانَ يُهْمَزُ فَيُقَالُ زَنَأَ عَلَى مَا سَلَفَ لَكِنَّ ذِكْرَ الْجَبَلِ يُقَرِّرُ الصُّعُودَ مُرَادًا .
وَقَوْلُهُ قَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْعَرَبِ هُوَ عَلَى مَا قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ قَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْعَرَبِ تُرْقِصُ ابْنًا لَهَا أَشْبِهْ أَبَا أُمِّك أَوْ أَشْبِهْ عَمَلِ تُرِيدُ عَمَلِي وَلَا تَكُونَنَّ كَهِلَّوْفٍ وَكِلِ يُصْبِحُ فِي مَضْجَعِهِ قَدْ انْجَدِلْ وَارْقَ إلَى الْخَيْرَاتِ زَنَأَ فِي الْجَبَلِ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ شَارِحِ إصْلَاحِ الْمَنْطِقِ فَقَالَ إنَّمَا هِيَ لِرَجُلٍ رَأَى ابْنًا لَهُ تُرْقِصُهُ أُمُّهُ فَأَخَذَهُ مِنْ يَدِهَا وَقَالَ أَشْبِهْ أَبَا أُمِّك " الْأَبْيَاتَ " .
وَهَذَا الرَّجُلُ قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ الْمُنْقِرِيُّ : أَيْ كُنْ مِثْلَ أَبِي أُمِّك أَوْ مِثْلَ عَمَلِي فَحُذِفَ الْمُضَافُ إلَيْهِ ، وَالْمُرَادُ كُنْ مِثْلَ أَبِي أُمِّك أَوْ مِثْلِي ، وَكَانَ أَبُو أُمِّهِ شَرِيفًا سَيِّدًا وَهُوَ زَيْدُ الْفَوَارِسِ بْنُ ضِرَارٍ الضَّبِّيُّ ، وَأُمُّهُ مَنْفُوسَةُ بِنْتُ زَيْدِ الْفَوَارِسِ ، قَالَ : فَأَخَذَتْهُ أُمُّهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَجَعَلَتْ تُرْقِصُهُ وَتَقُولُ : أَشْبِهْ أَخِي أَوْ أَشْبِهَنَّ أَبَاكَا أَمَّا أَبِي فَلَنْ تَنَالَ ذَاكَا تَقْصُرُ عَنْ مِثْلِهِ يَدَاكَا وَاَللَّهُ بِالنِّعْمَةِ قَدْ وَالَاكَا وَالْهِلَّوْفُ بِكَسْرِ الْهَاءِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ مَفْتُوحَةً الثَّقِيلُ ، وَالْوَكِلُ الَّذِي يَتَّكِلُ عَلَى غَيْرِهِ فِيمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ ، وَذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ قَوْلَهُ أَوْ أَشْبِهْ جَمَلَ بِالْجِيمِ ، وَقَالَ : هُوَ اسْمُ رَجُلٍ هُوَ أَبُو حَيٍّ مِنْ الْعَرَبِ وَهُوَ جَمَلُ بْنُ سَعْدٍ ، وَالْوَكِلُ الْعِيَالُ عَلَى غَيْرِهِ ( وَلَهُمَا أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْفَاحِشَةِ مَهْمُوزًا

أَيْضًا ) عَلَى مَا أَسْلَفْنَا ( لِأَنَّ مِنْ الْعَرَبِ مَنْ يَهْمِزُ الْمُلَيَّنَ ) أَيْ اللَّيِّنَ فِي غَيْرِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ كَقَوْلِ الْعَجَّاجِ وَخِنْدَفٌ هَأْمَةُ هَذَا الْعَالِمِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَبْرًا فَقَدْ هَيَّجْت شَوْقَ الْمُشْتَئِقِ لِأَنَّهُ اسْمُ فَاعِلٍ وَزَالَ الْمَانِعُ مِنْ الْكَسْرِ بِالْهَمْزِ ، وَأَمَّا نَحْوُ قَطَعَ اللَّهُ أَدِّيهِ : أَيْ يَدَيْهِ ، فَالتَّمْثِيلُ بِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِحَرْفِ اللِّينِ أَوْ الْمُلَيَّنِ حَرْفُ الْعِلَّةِ ، لَكِنَّ الِاصْطِلَاحَ عَلَى أَنَّهُ حَرْفُ الْعِلَّةِ بِقَيْدِ السُّكُونِ وَقَدْ يَهْمِزُونَ فِي الِالْتِقَاءِ عَلَى حَدِّهِ وَإِنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ الْجَادَّةِ يُقَالُ دَأْبَةٌ وَشَأْبَةٌ ، وَقُرِئَ وَلَا الضَّأْلِينَ شَاذًّا وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يُقَالُ بِمَعْنَى الْفَاحِشَةِ وَبِمَعْنَى الصُّعُودِ ، فَحَالَةُ الْغَضَبِ وَالسِّبَابِ تُعَيِّنُ الْفَاحِشَةَ مُرَادًا ، وَهَذَا مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ سَيَظْهَرُ إرَادَةُ قَيْدٍ لِلْغَضَبِ فِي جَوَابِ الْمَسْأَلَةِ فَكَانَ كَمَا لَوْ قَالَ يَا زَانِي أَوْ زَنَأْت فَإِنَّهُ يُحَدُّ اتِّفَاقًا .
وَقَوْلُهُ ( وَذِكْرُ الْجَبَلِ بِعَيْنِ الصُّعُودِ مُرَادًا ) قُلْنَا إنَّمَا يُعَيَّنُ ذَلِكَ إذَا كَانَ مَقْرُونًا بِكَلِمَةِ عَلَى فَيُقَالُ زَنَأْت عَلَى الْجَبَلِ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ مِمَّا يُمْنَعُ بَلْ يُقَالُ زَنَأْت فِي الْجَبَلِ بِمَعْنَى صَعِدْت ذَكَرَهُ فِي الْجَمْهَرَةِ وَغَيْرِهَا ، وَالْبَيْتُ الْمَذْكُورُ مَعْلُومٌ أَنَّ الْمُرَادَ فِيهِ لَيْسَ إلَّا الصُّعُودُ وَهُوَ بِلَفْظَةِ فِي ، بَلْ الْجَوَابُ مَنَعَ أَنَّ ذِكْرَ الْجَبَلِ يُعَيِّنُ الصُّعُودَ فَإِنَّ الْفَاحِشَةَ قَدْ تَقَعُ فِي الْجَبَلِ : أَيْ فِي بَعْضِ بُطُونِهِ ، وَعَلَى الْجَبَلِ : أَيْ فَوْقَهُ ، كَمَا قَدْ تَقَعُ عَلَى سَطْحِ الدَّارِ وَنَحْوِهِ ، فَلَمْ يَكُنْ ذِكْرُهُ قَرِينَةً مَانِعَةً مِنْ إرَادَةِ الْفَاحِشَةِ فَبَقِيَ الِاحْتِمَالُ بِحَالِهِ وَتَرَجَّحَ إرَادَةُ الْفَاحِشَةِ بِقَرِينَةِ حَالِ السِّبَابِ وَالْمُخَاصَمَةِ ( وَلَوْ قَالَ زَنَأْت عَلَى الْجَبَلِ ) وَالْبَاقِي بِحَالِهِ : أَيْ فِي حَالِ الْغَضَبِ ( قِيلَ لَا يُحَدُّ لِمَا

قُلْنَا ) آنِفًا إنْ ذَكَرَ لَفْظَةَ " عَلَى " تَعَيَّنَ كَوْنُ الْمُرَادِ الصُّعُودَ .
( وَقِيلَ يُحَدُّ ) لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَهُوَ حَالَةُ الْغَضَبِ وَالسِّبَابِ وَهُوَ الْأَوْجُهُ ، وَقَدْ عُرِفَ مِنْ تَقْيِيدِ جَوَابِ الْمَسْأَلَةِ بِحَالَةِ الْغَضَبِ أَنَّ فِي حَالَةِ الرِّضَا لَا يَجِبُ الْحَدُّ إذْ لَا يَجِبُ بِالشَّكِّ بَلْ لَا دَاعِيَ ، فَالظَّاهِرُ عَدَمُ إرَادَةِ السَّبِّ

( وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ يَا زَانِي فَقَالَ لَا بَلْ أَنْتِ فَإِنَّهُمَا يُحَدَّانِ ) لِأَنَّ مَعْنَاهُ لَا بَلْ أَنْتَ زَانٍ إذْ هِيَ كَلِمَةُ عَطْفٍ يُسْتَدْرَكُ بِهَا الْغَلَطُ فَيَصِيرُ الْخَبَرُ الْمَذْكُورُ فِي الْأَوَّلِ مَذْكُورًا فِي الثَّانِي .
( قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ يَا زَانِي فَقَالَ لَهُ الْآخَرُ لَا بَلْ أَنْتَ فَإِنَّهُمَا يُحَدَّانِ ) إذَا طَالَبَ كُلٌّ مِنْهُمَا الْآخَرَ لِأَنَّهُمَا قَاذِفَانِ ، وَإِذَا طَالَبَ كُلٌّ الْآخَرَ وَأَثْبَتَ مَا طَلَبَ بِهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ لَزِمَهُ حِينَئِذٍ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الْحَدُّ فَلَا يَتَمَكَّنُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مِنْ إسْقَاطِهِ فَيُحَدُّ كُلٌّ مِنْهُمَا ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لَهُ مَثَلًا يَا خَبِيثُ فَقَالَ لَهُ بَلْ أَنْتَ تَكَافَآ وَلَا يُعَزَّرُ كُلٌّ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ لِأَنَّ التَّعْزِيرَ لِحَقِّ الْآدَمِيِّ وَقَدْ وَجَبَ لَهُ عَلَيْهِ مِثْلُ مَا وَجَبَ لِلْآخَرِ فَتَسَاقَطَا ، أَمَّا كَوْنُ الْأَوَّلِ قَاذِفًا فَظَاهِرٌ ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ مَعْنَاهُ لَا بَلْ أَنْتَ زَانٍ ، وَلِذَا لَوْ كَانَ الْمُجِيبُ عَبْدًا حُدَّ هُوَ خَاصَّةً لِأَنَّهُ قَاذِفٌ بِقَوْلِهِ بَلْ أَنْتَ وَالْحُرُّ وَإِنْ كَانَ قَاذِفًا أَيْضًا ، لَكِنْ لَا يُحَدُّ بِقَذْفِ الْعَبْدِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( إذْ هِيَ ) يَعْنِي بَلْ ( كَلِمَةُ عَطْفٍ يُسْتَدْرَكُ بِهَا الْغَلَطُ ) يَعْنِي فِي التَّرَاكِيبِ الِاسْتِعْمَالِيَّة ( فَيَصِيرُ الْخَبَرُ الْمَذْكُورُ فِي الْأَوَّلِ ) أَيْ فِي التَّرْكِيبِ الْأَوَّلِ إذَا كَانَ خَبَرِيًّا ( مَذْكُورًا فِي الثَّانِي ) فَإِذَا قَالَ زَيْدٌ قَامَ أَوْ قَامَ زَيْدٌ لَا بَلْ عَمْرٌو فَقَدْ وَضَعَ عَمْرًا فِي التَّرْكِيبِ الْأَوَّلِ مَوْضِعَ زَيْدٍ فَيَصِيرُ ذَلِكَ الْخَبَرُ وَهُوَ الْفِعْلُ الْمُتَأَخِّرُ أَوْ الْمُتَقَدِّمُ خَبَرًا عَنْهُ وَلَمْ يُرِدْ بِالْأَوَّلِ لَفْظَ يَا زَانِي بَلْ هُوَ إعْطَاءُ النَّظِيرِ مَعْنًى : أَيْ هِيَ كَمَا ذَكَرْنَا .
وَإِذَا كَانَتْ كَذَلِكَ فَيَصِيرُ وَاصِفًا لِلْمُتَكَلِّمِ الْأَوَّلِ بِمَا وَصَفَهُ بِهِ وَأَخْبَرَ عَنْهُ بِهِ مَعْنًى لِأَنَّ يَا زَانِي فِي مَعْنَى أَدْعُوك وَأَنْتَ زَانٍ

( وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ يَا زَانِيَةُ فَقَالَتْ لَا بَلْ أَنْتَ حُدَّتْ الْمَرْأَةُ وَلَا لِعَانَ ) لِأَنَّهُمَا قَاذِفَانِ وَقَذْفُهُ يُوجِبُ اللِّعَانَ وَقَذْفُهَا الْحَدَّ ، وَفِي الْبَدَاءَةِ بِالْحَدِّ إبْطَالُ اللِّعَانِ ؛ لِأَنَّ الْمَحْدُودَ فِي الْقَذْفِ لَيْسَ بِأَهْلٍ لَهُ وَلَا إبْطَالَ فِي عَكْسِهِ أَصْلًا فَيُحْتَالُ لِلدَّرْءِ ، إذْ اللِّعَانُ فِي مَعْنَى الْحَدِّ ( وَلَوْ قَالَتْ زَنَيْت بِكَ فَلَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ ) مَعْنَاهُ قَالَتْ بَعْدَمَا قَالَ لَهَا يَا زَانِيَةُ لِوُقُوعِ الشَّكِّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهَا أَرَادَتْ الزِّنَا قَبْلَ النِّكَاحِ فَيَجِبُ الْحَدُّ دُونَ اللِّعَانِ لِتَصْدِيقِهَا إيَّاهُ وَانْعِدَامِهِ مِنْهُ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا أَرَادَتْ زِنَايَ مَا كَانَ مَعَك بَعْدَ النِّكَاحِ لِأَنِّي مَا مَكَّنْت أَحَدًا غَيْرَك .
وَهُوَ الْمُرَادُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ ، وَعَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ يَجِبُ اللِّعَانُ دُونَ الْحَدِّ عَلَى الْمَرْأَةِ لِوُجُودِ الْقَذْفِ مِنْهُ وَعَدَمِهِ مِنْهَا فَجَاءَ مَا قُلْنَا .

( قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ يَا زَانِيَةُ فَقَالَتْ لَا بَلْ أَنْتَ ، حُدَّتْ الْمَرْأَةُ خَاصَّةً ) إذَا تَرَافَعَا ( وَلَا لِعَانَ لِأَنَّهُمَا قَاذِفَانِ وَقَذْفُ الرَّجُلِ زَوْجَتَهُ يُوجِبُ اللِّعَانَ وَقَذْفُهَا إيَّاهُ يُوجِبُ الْحَدَّ عَلَيْهَا ) وَالْأَصْلُ أَنَّ الْحَدَّيْنِ إذَا اجْتَمَعَا وَفِي تَقْدِيمِ أَحَدِهِمَا إسْقَاطُ الْآخَرِ وَجَبَ تَقْدِيمُهُ احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ ، وَاللِّعَانُ قَائِمٌ مَقَامَ الْحَدِّ فَهُوَ فِي مَعْنَاهُ ، وَبِتَقْدِيمِ حَدِّ الْمَرْأَةِ يَبْطُلُ اللِّعَانُ لِأَنَّهَا تَصِيرُ مَحْدُودَةً ، فِي قَذْفٍ ، وَاللِّعَانُ لَا يَجْرِي بَيْنَ الْمَحْدُودَةِ فِي الْقَذْفِ وَبَيْنَ زَوْجِهَا لِأَنَّهُ شَهَادَةٌ وَلَا شَهَادَةَ لِلْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ ، وَبِتَقْدِيمِ اللِّعَانِ لَا يَسْقُطُ حَدُّ الْقَذْفِ عَنْهَا لِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ يَجْرِي عَلَى الْمُلَاعَنَةِ ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ لَهَا يَا زَانِيَةُ بِنْتَ الزَّانِيَةِ فَخَاصَمَتْهُ الْأُمُّ فَحُدَّ سَقَطَ اللِّعَانُ لِأَنَّهُ شَهَادَةٌ ، فَلَوْ خَاصَمَتْ الْمَرْأَةُ أَوَّلًا لَاعَنَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا ، فَإِذَا خَاصَمَتْ الْأُمُّ بَعْدَهُ حُدَّ لِلْقَذْفِ فَقَدَّمْنَا الْحَدَّ دَرْءًا لِلِّعَانِ الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَاهُ ( وَلَوْ ) كَانَتْ ( قَالَتْ ) فِي جَوَابِ قَوْلِهِ يَا زَانِيَةً ( زَنَيْت بِكَ فَلَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ لِوُقُوعِ الشَّكِّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهَا أَرَادَتْ الزِّنَا قَبْلَ النِّكَاحِ ) فَتَكُونُ قَدْ صَدَقَتْ فِي نِسْبَتِهَا إلَى الزِّنَا فَيَسْقُطُ اللِّعَانُ وَقَذَفَتْهُ حَيْثُ نَسَبَتْهُ إلَى الزِّنَا وَلَمْ يُصَدِّقْهَا عَلَيْهِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ ( وَانْعِدَامُهُ مِنْهُ ) أَيْ انْعِدَامُ التَّصْدِيقِ مِنْهُ فَيَجِبُ الْحَدُّ دُونَ اللِّعَانِ ( وَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا أَرَادَتْ زِنَايَ مَا كَانَ مِنْ تَمْكِينِي إيَّاكَ بَعْدَ النِّكَاحِ ) وَهَذَا كَلَامٌ يَجْرِي بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي الْعَادَةِ مَجْرَى مَجَازِ الْمُشَاكَلَةِ مِثْلُ قَوْلِهِ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ، فَإِنَّ فِعْلَهَا مَعَهُ بَعْدَ الزَّوْجِيَّةِ لَيْسَ زِنًا ، كَمَا أَنَّ الْجَزَاءَ لَيْسَ سَيِّئَةً وَلَكِنْ

أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُهُ لِلْمُشَاكَلَةِ حِينَ ذُكِرَ مَعَهُ ، وَعَلَى تَقْدِيرِ هَذَا لَا حَدَّ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا لَمْ تَقْذِفْهُ ، وَيَجِبُ اللِّعَانُ لِأَنَّهُ قَذَفَ زَوْجَتَهُ ، فَعَلَى تَقْدِيرٍ يَجِبُ الْحَدُّ دُونَ اللِّعَانِ ، وَعَلَى تَقْدِيرٍ يَجِبُ اللِّعَانُ دُونَ الْحَدِّ ، وَالْحُكْمُ بِتَعَيُّنِ أَحَدِ التَّقْدِيرَيْنِ بِعَيْنِهِ مُتَعَذِّرٌ ، فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي كُلٍّ مِنْ وُجُوبِ اللِّعَانِ وَالْحَدِّ فَلَا يَجِبُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِالشَّكِّ ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ ( فَجَاءَ مَا قُلْنَا ) أَيْ مِنْ أَنَّهُ لَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ .
وَلَوْلَا أَنَّ مِثْلَ قَوْلِهَا مَعْلُومُ الْوُقُوعِ مِنْ الْمَرْأَةِ عَلَى كُلٍّ مِنْ الْقَصْدَيْنِ عِنْدَ ابْتِدَائِهِ إيَّاهَا بِالْإِغَاظَةِ لَوَجَبَ حَدُّهَا أَلْبَتَّةَ عَيْنًا بِقَذْفِهَا إيَّاهُ .
إذْ النِّسْبَةُ إلَى الزِّنَا تَنْصَرِفُ إلَى الْحَقِيقَةِ ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ أَنْ تَحْلِفَ الزَّوْجَةُ أَنَّهَا لَمْ تُرِدْ الْإِقْرَارَ بِالزِّنَا وَلَمْ تُرِدْ قَذْفَهُ وَيَكْتَفِي بِيَمِينٍ وَاحِدَةٍ فِي وَجْهٍ ، وَعَلَى الزَّوْجِ الْحَدُّ دُونَهَا لِأَنَّ هَذَا مِنْهَا لَيْسَ إقْرَارًا صَحِيحًا بِالزِّنَا .
وَبِقَوْلِنَا قَالَ أَحْمَدُ .
وَلَوْ ابْتَدَأَتْ الزَّوْجَةُ فَقَالَتْ لِزَوْجِهَا زَنَيْت بِكَ ثُمَّ قَذَفَهَا الزَّوْجُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ وَلَا لِعَانَ .
وَهَذَا ظَاهِرٌ

( وَمَنْ أَقَرَّ بِوَلَدٍ ثُمَّ نَفَاهُ فَإِنَّهُ يُلَاعَنُ ) لِأَنَّ النَّسَبَ لَزِمَهُ بِإِقْرَارِهِ وَبِالنَّفْيِ بَعْدَهُ صَارَ قَاذِفًا فَيُلَاعَنُ ( وَإِنْ نَفَاهُ ثُمَّ أَقَرَّ بِهِ حُدَّ ) لِأَنَّهُ لَمَّا أَكْذَبَ نَفْسَهُ بَطَلَ اللِّعَانُ لِأَنَّهُ حَدٌّ ضَرُورِيٌّ صُيِّرَ إلَيْهِ ضَرُورَةَ التَّكَاذُبِ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدُّ الْقَذْفِ .
فَإِذَا بَطَلَ التَّكَاذُبُ يُصَارُ إلَى الْأَصْلِ ، وَفِيهِ خِلَافٌ ذَكَرْنَاهُ فِي اللِّعَانِ ( وَالْوَلَدُ وَلَدُهُ ) فِي الْوَجْهَيْنِ لِإِقْرَارِهِ بِهِ سَابِقًا أَوْ لَاحِقًا ، وَاللِّعَانُ يَصِحُّ بِدُونِ قَطْعِ النَّسَبِ كَمَا يَصِحُّ بِدُونِ الْوَلَدِ ( وَإِنْ قَالَ لَيْسَ بِابْنِي وَلَا بِابْنِك فَلَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ ) لِأَنَّهُ أَنْكَرَ الْوِلَادَةَ وَبِهِ لَا يَصِيرُ قَاذِفًا .

( قَوْلُهُ وَمَنْ أَقَرَّ بِوَلَدٍ ثُمَّ نَفَاهُ فَإِنَّهُ يُلَاعَنُ فَإِنَّ النَّسَبَ لَزِمَهُ بِإِقْرَارِهِ ، وَبِالنَّفْيِ بَعْدَهُ صَارَ قَاذِفًا لِزَوْجَتِهِ فَيُلَاعَنُ ) وَإِنْ نَفَاهُ أَوَّلًا ثُمَّ أَقَرَّ بِهِ قَبْلَ اللِّعَانِ يُحَدُّ لِأَنَّهُ لَمَّا أَكْذَبَ نَفْسَهُ بَطَلَ اللِّعَانُ الَّذِي كَانَ وَجَبَ بِنَفْيِهِ لِلْوَلَدِ ( لِأَنَّ اللِّعَانَ حَدٌّ ضَرُورِيٌّ صُيِّرَ إلَيْهِ ضَرُورَةَ التَّكَاذُبِ ) بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي زِنَا الزَّوْجَةِ ( وَالْأَصْلُ فِيهِ ) أَيْ فِي اللِّعَانِ مَا هُوَ إلَّا ( حَدُّ الْقَذْفِ ) لِأَنَّهُ قَذَفَهَا ( فَإِذَا بَطَلَ ) الْحَلِفُ بِبُطْلَانِ ( التَّكَاذُبِ صُيِّرَ إلَى الْأَصْلِ ) فَيُحَدُّ الرَّجُلُ .
وَقَوْلُهُ ( وَفِيهِ خِلَافٌ ذَكَرْنَاهُ فِي اللِّعَانِ ) الَّذِي ذَكَرَهُ فِي اللِّعَانِ أَنَّهُ إذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ بَعْدَ اللِّعَانِ بِنَفْيِ الْوَلَدِ وَتَفْرِيقِ الْقَاضِي حَدَّهُ الْقَاضِي وَحَلَّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : هُوَ تَحْرِيمٌ مُؤَبَّدٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْوَلَدُ وَلَدُهُ فِي الْوَجْهَيْنِ ) أَيْ مَا إذَا أَقَرَّ بِالْوَلَدِ ثُمَّ نَفَاهُ وَمَا إذَا نَفَاهُ أَوَّلًا ثُمَّ أَقَرَّ بِهِ ( لِإِقْرَارِهِ بِهِ سَابِقًا ) فَيَثْبُتُ وَلَا يَنْتَفِي بِمَا بَعْدَهُ ( أَوْ لَاحِقًا ) فِي الثَّانِيَةِ فَيَثْبُتُ بِهِ بَعْدَ النَّفْيِ .
وَقَوْلُهُ ( وَاللِّعَانُ يَصِحُّ بِدُونِ قَطْعِ النَّسَبِ إلَخْ ) جَوَابُ سُؤَالٍ هُوَ أَنْ يُقَالَ إنَّ سَبَبَ اللِّعَانِ لَيْسَ إلَّا نَفْيَ الْوَلَدِ ، فَإِنْ لَمْ يُنْفَ كَيْفَ يَجِبُ اللِّعَانُ فَقَالَ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ اللِّعَانِ بِنَفْيِ الْوَلَدِ قَطْعُ النَّسَبِ ، أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَوْ نَفَاهُ بَعْدَ أَنْ تَطَاوَلَتْ الْمُدَّةُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ فَإِنَّهُ يُلَاعَنُ وَلَا يُقْطَعُ النَّسَبُ ( كَمَا يَصِحُّ بِلَا وَلَدٍ ) أَصْلًا بِأَنْ قَذَفَهَا بِالزِّنَا وَلَا وَلَدَ فَإِنَّهُ يُلَاعَنُ وَلَا وَلَدَ هُنَاكَ يُقْطَعُ نَسَبُهُ ، وَأَمَّا إنَّهُ لَوْ نَفَى نَسَبَ وَلَدِ امْرَأَتِهِ الْآيِسَةِ فَإِنَّهُ يَنْتَفِي النَّسَبُ فَيَثْبُتُ انْفِكَاكُ اللِّعَانِ عَنْ قَطْعِ النَّسَبِ مِنْ

الْجَانِبَيْنِ فَصَحِيحٌ لَكِنْ لَا دَخْلَ لَهُ فِي الْجَوَابِ .
( قَوْلُهُ وَإِنْ قَالَ ) أَيْ الزَّوْجُ الَّذِي جَاءَتْ زَوْجَتُهُ بِوَلَدٍ ( لَيْسَ بِابْنِي وَلَا بِابْنِك فَلَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ لِأَنَّهُ ) إذَا أَنْكَرَ أَنَّهُ ابْنُهَا ( أَنْكَرَ الْوِلَادَةَ ) فَكَانَ نَفْيُ كَوْنِهِ ابْنَهُ لِنَفْيِ وِلَادَتِهَا إيَّاهُ .
وَبِنَفْيِ وِلَادَتِهَا لَا يَصِيرُ قَاذِفًا لِأَنَّهُ إنْكَارٌ لِلزِّنَا مِنْهَا .

( وَمَنْ قَذَفَ امْرَأَةً وَمَعَهَا أَوْلَادٌ لَمْ يُعْرَفْ لَهُمْ أَبٌ أَوْ قَذَفَ الْمُلَاعَنَةَ بِوَلَدٍ وَالْوَلَدُ حَيٌّ أَوْ قَذَفَهَا بَعْدَ مَوْتِ الْوَلَدِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ) لِقِيَامِ أَمَارَةِ الزِّنَا مِنْهَا وَهِيَ وِلَادَةُ وَلَدٍ لَا أَبَ لَهُ فَفَاتَتْ الْعِفَّةُ نَظَرًا إلَيْهَا وَهِيَ شَرْطُ الْإِحْصَانِ ( وَلَوْ قَذَفَ امْرَأَةً لَاعَنَتْ بِغَيْرِ وَلَدٍ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ ) لِانْعِدَامِ أَمَارَةِ الزِّنَا .

( قَوْلُهُ وَمَنْ قَذَفَ امْرَأَةً وَمَعَهَا أَوْلَادٌ لَمْ يُعْرَفْ لَهُمْ أَبٌ أَوْ قَذَفَ الْمُلَاعَنَةَ بِوَلَدٍ وَالْوَلَدُ حَيٌّ ) وَقْتَ الْقَذْفِ أَوْ مَيِّتٌ ( فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ) .
أَمَّا لَوْ قَذَفَ وَلَدَ الْمُلَاعَنَةِ نَفْسَهُ أَوْ وَلَدَ الزِّنَا فَإِنَّهُ يُحَدُّ ، وَلَوْ أَنَّهُ بَعْدَ اللِّعَانِ ادَّعَى الْوَلَدَ فَحُدَّ أَوْ لَمْ يُحَدَّ حَتَّى مَاتَ فَثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ فَقَذَفَهَا بَعْدَ ذَلِكَ قَاذِفٌ غَيْرُهُ أَوْ هُوَ قَبْلَ مَوْتِهِ حُدَّ ، وَلَا يُحَدُّ الَّذِي قَذَفَهَا قَبْلَ تَكْذِيبِ نَفْسِهِ ، وَكَذَا لَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى الزَّوْجِ أَنَّهُ ادَّعَاهُ وَهُوَ يُنْكِرُ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ وَيُحَدُّ .
وَمَنْ قَذَفَهَا بَعْدَ ذَلِكَ يُحَدُّ ؛ لِأَنَّهَا خَرَجَتْ عَنْ صُورَةِ الزَّوَانِي ، وَلَوْ قَذَفَهَا الزَّوْجُ فَرَافَعَتْهُ وَأَقَامَتْ بَيِّنَةً أَنَّهُ أَكْذَبَ نَفْسَهُ حُدَّ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ أَوْ بِمُعَايَنَةِ وَجْهِ عَدَمِ الْحَدِّ فِي ذَاتِ الْأَوْلَادِ قِيَامُ أَمَارَةِ الزِّنَا مِنْهَا وَهِيَ وِلَادَةُ وَلَدٍ لَا أَبَ لَهُ فَفَاتَتْ الْعِفَّةُ نَظَرًا إلَيْهَا : أَيْ إلَى الْإِمَارَةِ ( وَهِيَ ) أَيْ الْعِفَّةُ ( شَرْطٌ ) وَاعْلَمْ أَنَّهُ إنْ صَحَّ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد فِي حَدِيثِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ مِنْ قَوْلِهِ { وَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يَدَّعِيَ وَلَدَهَا لِأَبٍ وَلَا يَرْمِيَ وَلَدَهَا ، وَمَنْ رَمَاهَا أَوْ رَمَى وَلَدَهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ } ، وَكَذَا مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ { قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَلَدِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ أَنَّهُ يَرِثُ أُمَّهُ وَتَرِثُهُ أُمُّهُ ، وَمَنْ رَمَاهَا بِهِ جُلِدَ ثَمَانِينَ } أَشْكَلَ عَلَى الْمَذْهَبِ ، وَالْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ جَعَلُوا قَذْفَ الْمُلَاعَنَةِ بِوَلَدٍ كَقَذْفِ الْمُلَاعَنَةِ بِلَا وَلَدٍ ( وَلَوْ قَذَفَ امْرَأَةً لَاعَنَتْ ) بِغَيْرِ وَلَدٍ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ لِعَدَمِ ثُبُوتِ الزِّنَا وَثُبُوتِ أَمَارَتِهِ .

فَإِنْ قِيلَ : اللِّعَانُ قَائِمٌ مَقَامَ حَدِّ الزِّنَا فِي حَقِّهَا فَكَانَتْ كَالْمَحْدُودَةِ بِالزِّنَا فَلَا يُحَدُّ قَاذِفُهَا .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ حَدِّ الزِّنَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الزَّوْجِ لَا بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِ فَهِيَ مُحْصَنَةٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ اللِّعَانَ فِي حَقِّهِ قَائِمٌ مَقَامَ حَدِّ الْقَذْفِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا لَا إلَى غَيْرِهَا حَتَّى قَبِلْنَا شَهَادَتَهُ وَلَا يُعْلَمُ خِلَافٌ فِي ذَلِكَ ، إلَّا أَنَّ لِلشَّافِعِيَّةِ فِي وَجْهٍ أَنَّهُ إذَا قَذَفَهَا أَجْنَبِيٌّ بِذَلِكَ الزِّنَا الَّذِي لَاعَنَتْ بِهِ لَا يُحَدُّ وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ مُقْتَضَاهُ أَنْ لَا يُحَدَّ الزَّوْجُ لَوْ قَذَفَهَا بَعْدَ اللِّعَانِ ، لَكِنَّ الْمَنْصُوصَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ يُحَدُّ بَلْ الْحَقُّ أَنَّهَا لَمْ يَسْقُطْ إحْصَانُهَا بِوَجْهٍ .
وَقَوْلُهُمْ اللِّعَانُ قَائِمٌ مَقَامَ حَدِّ الزِّنَا فِي حَقِّهَا إنَّمَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يُحَدَّ قَاذِفُهَا لَوْ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهَا الْحَدُّ وَجُعِلَ اللِّعَانُ بَدَلَهُ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ الْحَدُّ بِمُجَرَّدِ دَعْوَى الزِّنَا عَلَيْهَا مَعَ الْعَجْزِ عَنْ إثْبَاتِهِ لِيَسْقُطَ إحْصَانُهَا ، وَإِنَّمَا هُوَ لِيَشْتَفِيَ الصَّادِقُ مِنْهُمَا حَيْثُ يَتَضَاعَفُ بِهِ عَلَى الْكَاذِبِ عَذَابُهُ بِأَنْ يُضَافَ إلَى عَذَابِ الزِّنَا عَذَابُ الشَّهَادَاتِ الْمُؤَكَّدَةِ بِالْأَيْمَانِ الْغَمُوسَةِ ، أَوْ يُضَافَ ذَلِكَ إلَى عَذَابِ الِافْتِرَاءِ وَالْقَذْفِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ بِنَفْيِ الْوَلَدَ لِأَنَّ أَمَارَةَ الزِّنَا قَائِمَةٌ فَأَوْجَبَتْ ذَلِكَ ، وَقَدْ أُوِّلَ قَوْلُهُمْ بِمَا لَا يَشْرَحُ صَدْرًا وَلَا يَرْفَعُ إصْرًا ، فَالْحَقُّ أَنَّ كَوْنَهُ قَائِمًا مَقَامَ حَدِّ الْقَذْفِ فِي حَقِّهِ ظَاهِرٌ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَى تَأْوِيلٍ وَأَمَّا الْجَانِبُ الْآخَرُ فَفِيهِ تَسَاهُلٌ لَا يَرْتَفِعُ ، وَوُرُودُ السُّؤَالِ إنَّمَا هُوَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ كَلَامٌ حَقِيقِيٌّ عَلَى ظَاهِرِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَلَا وُرُودَ لَهُ

فَقَالَ ( وَمَنْ وَطِئَ وَطْئًا حَرَامًا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ لَمْ يُحَدَّ قَاذِفُهُ ) لِفَوَاتِ الْعِفَّةِ وَهِيَ شَرْطُ الْإِحْصَانِ ، وَلِأَنَّ الْقَاذِفَ صَادِقٌ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ مَنْ وَطِئَ وَطْئًا حَرَامًا لِعَيْنِهِ لَا يَجِبُ الْحَدُّ بِقَذْفِهِ ؛ لِأَنَّ الزِّنَا هُوَ الْوَطْءُ الْمُحَرَّمُ لِعَيْنِهِ ، وَإِنْ كَانَ مُحَرَّمًا لِغَيْرِهِ يُحَدُّ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِزِنًا فَالْوَطْءُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَوْ مِنْ وَجْهٍ حَرَامٌ لِعَيْنِهِ وَكَذَا الْوَطْءُ فِي الْمِلْكِ ، وَالْحُرْمَةُ مُؤَبَّدَةٌ ، فَإِنْ كَانَتْ الْحُرْمَةُ مُؤَقَّتَةً فَالْحُرْمَةُ لِغَيْرِهِ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَشْتَرِطُ أَنْ تَكُونَ الْحُرْمَةُ الْمُؤَبَّدَةُ ثَابِتَةً بِالْإِجْمَاعِ أَوْ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ لِتَكُونَ ثَابِتَةً مِنْ غَيْرِ تَرَدُّدٍ ( وَبَيَانُهُ أَنَّ مَنْ قَذَفَ رَجُلًا وَطِئَ جَارِيَةً مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ) لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ مِنْ وَجْهٍ ( وَكَذَا إذَا قَذَفَ امْرَأَةً زَنَتْ فِي نَصْرَانِيَّتِهَا ) لِتَحَقُّقِ الزِّنَا مِنْهَا شَرْعًا لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ وَلِهَذَا وَجَبَ عَلَيْهَا الْحَدُّ .

( قَوْلُهُ وَمَنْ وَطِئَ وَطْئًا حَرَامًا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ لَمْ يُحَدَّ قَاذِفُهُ لِفَوَاتِ الْعِفَّةِ وَهِيَ شَرْطُ الْإِحْصَانِ ) شَبَّهَهُ بِالشَّرْطِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ بِحَيْثُ يَحْصُلُ عِنْدَهُ الْإِحْصَانُ بَلْ هُوَ مَجْمُوعُ أُمُورٍ الْعِفَّةُ أَحَدُهَا فَهُوَ جُزْءُ مَفْهُومِ الْإِحْصَانِ بِالْحَقِيقَةِ ( وَلِأَنَّ الْقَاذِفَ صَادِقٌ ) لِأَنَّ الْوَطْءَ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ زِنًا كَذَا قِيلَ ، وَهُوَ قَاصِرٌ عَلَى مَا إذَا قَذَفَهُ بِذَلِكَ الزِّنَا بِعَيْنِهِ أَوْ أَبْهَمَ ، أَمَّا إذَا قَذَفَهُ بِغَيْرِهِ فَإِنَّهُ لَا يُعْلَمُ صِدْقُهُ فِيهِ فَيُحَدُّ ، وَالْحُكْمُ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْمَنْصُوصُ أَنَّ مَنْ قَذَفَ زَانِيًا لَا حَدَّ عَلَيْهِ سَوَاءٌ قَذَفَ بِذَلِكَ الزِّنَا بِعَيْنِهِ أَوْ بِزِنًا آخَرَ أَوْ أَبْهَمَ نَصَّ عَلَيْهِ فِي أَصْلِ الْمَبْسُوطِ خِلَافًا لِإِبْرَاهِيمَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى .
وَجْهُ قَوْلِنَا أَنَّ النَّصَّ إنَّمَا أَوْجَبَ الْحَدَّ عَلَى مَنْ رَمَى الْمُحْصَنَاتِ وَفِي مَعْنَاهُ الْمُحْصَنِينَ وَبِالزِّنَا لَا يَبْقَى الْإِحْصَانُ فَرَمْيُهُ رَمْيُ غَيْرِ الْمُحْصَنِ ، وَلَا دَلِيلَ يُوجِبُ الْحَدَّ فِيهِ ، نَعَمْ هُوَ مُحَرَّمٌ وَأَذًى بَعْدَ التَّوْبَةِ فَيُعَزَّرُ ( وَالْأَصْلُ ) فِيمَا يُعْرَفُ بِهِ الْوَطْءُ الْمُحَرَّمُ الَّذِي يُسْقِطُ الْإِحْصَانَ وَالْوَطْءُ الْمُحَرَّمُ الَّذِي لَا يُسْقِطُهُ ( أَنَّ مَنْ وَطِئَ وَطْئًا حَرَامًا لِعَيْنِهِ لَا يَجِبُ الْحَدُّ بِقَذْفِهِ ) عَلَى قَاذِفِهِ ( لِأَنَّ الزِّنَا هُوَ الْوَطْءُ الْمُحَرَّمُ لِعَيْنِهِ ) فَإِذَا وَقَعَ فِيهِ كَانَ زَانِيًا فَيُصَدَّقُ قَاذِفُهُ فَلَا يَكُونُ فِرْيَةً وَهُوَ الْمُوجِبُ لِلْحَدِّ ( وَإِنْ كَانَ ) وَطِئَ وَطْئًا ( مُحَرَّمًا لِغَيْرِهِ يُحَدُّ ) قَاذِفُهُ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُحَرَّمًا لَيْسَ بِزِنًا إذَا عُرِفَ هَذَا فَالْمُحَرَّمُ ( لِعَيْنِهِ ) هُوَ الْوَطْءُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَوَطْءِ الْحُرَّةِ الْأَجْنَبِيَّةِ وَالْمُكْرَهَةِ .
وَأَعْنِي أَنَّ الْمَوْطُوءَةَ إذَا كَانَتْ مُكْرَهَةً يَسْقُطُ إحْصَانُهَا فَلَا يُحَدُّ قَاذِفُهَا .
فَإِنَّ الْإِكْرَاهَ يُسْقِطُ الْإِثْمَ .
وَلَا يَخْرُجُ الْفِعْلُ بِهِ مِنْ

أَنْ يَكُونَ زِنًا فَلِذَا يَسْقُطُ إحْصَانُهَا كَمَا يَسْقُطُ إحْصَانُ الْمُكْرَهِ الْوَاطِئِ ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ وَأَمَةِ غَيْرِهِ ( أَوْ مِنْ وَجْهٍ ) كَالْأَمَةِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ الْوَاطِئِ وَغَيْرِهِ .
وَكَذَا الْوَطْءُ فِي الْمِلْكِ وَالْحُرْمَةُ مُؤَبَّدَةٌ كَوَطْءِ أَمَتِهِ الَّتِي هِيَ أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ ، وَلَوْ كَانَتْ الْحُرْمَةُ مُؤَقَّتَةً كَالْأَمَةِ الْمُزَوَّجَةِ وَالْأَمَةِ الْمَجُوسِيَّةِ وَوَطْءِ أَمَتَيْهِ الْأُخْتَيْنِ أَوْ الزَّوْجَةِ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ أَوْ النِّفَاسِ فَالْحُرْمَةُ لِغَيْرِهِ ( وَأَبُو حَنِيفَةَ يَشْتَرِطُ ) فِي ثُبُوتِ حَدِّ الْقَاذِفِ لِلْوَاطِئِ فِي الْحُرْمَةِ الْمُؤَبَّدَةِ ( كَوْنَ تِلْكَ الْحُرْمَةِ الْمُؤَبَّدَةِ ثَابِتَةً بِالْإِجْمَاعِ ) كَمَوْطُوءَةِ أَبِيهِ بِالنِّكَاحِ أَوْ بِمِلْكِ الْيَمِينِ ، فَلَوْ تَزَوَّجَهَا الِابْنُ أَوْ اشْتَرَاهَا فَوَطِئَهَا لَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ ، وَكَذَا إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَتَيْنِ لَا يَحِلُّ لَهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي عُقْدَةٍ أَوْ جَمَعَ بَيْنَ أُخْتَيْنِ وَطْئًا بِمِلْكِ يَمِينٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ بَيْنَ امْرَأَةٍ وَعَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا أَوْ تَزَوَّجَ أَمَةً عَلَى حُرَّةٍ أَوْ جَمَعَهُمَا فِي الْعَقْدِ فَوَطِئَ الْأَمَةَ فَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ نَظَرَ إلَى دَاخِلِ فَرْجِ امْرَأَةٍ أَوْ مَسَّهَا بِشَهْوَةٍ بِحَيْثُ انْتَشَرَ مَعَهُ ذَكَرُهُ ثُمَّ تَزَوَّجَ بِنْتَهَا أَوْ أُمَّهَا أَوْ اشْتَرَاهَا فَوَطِئَهَا حُدَّ قَاذِفُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ ، وَلَا يُحَدُّ عِنْدَهُمَا لِتَأْبِيدِ الْحُرْمَةِ وَلَا اعْتِبَارَ لِلِاخْتِلَافِ ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى مَزْنِيَّةَ أَبِيهِ فَوَطِئَهَا فَيَسْقُطُ إحْصَانُهُ ، وَحُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ بِالزِّنَا مُخْتَلَفٌ فِيهَا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ .
وَأَبُو حَنِيفَةَ إنَّمَا يَعْتَبِرُ الْخِلَافَ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ عَلَى الْحُرْمَةِ بِأَنْ ثَبَتَتْ بِقِيَاسٍ أَوْ احْتِيَاطٍ كَثُبُوتِهَا بِالنَّظَرِ إلَى الْفَرْجِ وَالْمَسِّ بِشَهْوَةٍ ، لِأَنَّ ثُبُوتَهَا لِإِقَامَةِ السَّبَبِ مُقَامَ الْمُسَبِّبِ احْتِيَاطًا فَهِيَ حُرْمَةٌ ضَعِيفَةٌ لَا يَنْتَفِي

بِهَا الْإِحْصَانُ الثَّابِتُ بِيَقِينٍ ، بِخِلَافِ الْحُرْمَةِ الثَّابِتَةِ بِزِنَا الْأَبِ فَإِنَّهَا ثَابِتَةٌ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ } فَلَا يُعْتَبَرُ الْخِلَافُ فِيهَا مَعَ وُجُودِ النَّصِّ ، وَكَذَا وَطِئَ الْأَبُ جَارِيَةَ ابْنِهِ مُسْقِطٌ لِلْإِحْصَانِ .
وَقَوْلُهُ ( أَوْ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ ) مِثَالُهُ حُرْمَةُ وَطْءِ الْمَنْكُوحَةِ لِلْأَبِ بِلَا شُهُودٍ عَلَى الِابْنِ بِنَاءً عَلَى ادِّعَاءِ شُهْرَةِ حَدِيثِ { لَا نِكَاحَ إلَّا بِشُهُودٍ } وَلِذَا لَمْ يُعْرَفْ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ .
وَحُرْمَةُ وَطْءِ أَمَتِهِ الَّتِي هِيَ خَالَتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ أَوْ عَمَّتُهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ } .
( قَوْلُهُ بَيَانُهُ ) شُرُوعٌ فِي تَفْرِيعِ فُرُوعٍ أُخْرَى عَلَى الْأَصْلِ ( إذَا قَذَفَ رَجُلًا وَطِئَ جَارِيَةً مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ لَا حَدَّ عَلَيْهِ لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ مِنْ وَجْهٍ ) فَالْقَاذِفُ صَادِقٌ مِنْ وَجْهٍ فَيَنْدَرِئُ الْحَدُّ لِلشُّبْهَةِ الْمُقَارِنَةِ لِثُبُوتِ الْمُوجِبِ .
بِخِلَافِ رُجُوعِهِ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ الرُّجُوعُ يُوجِبُ شُبْهَةً فِي الْإِقْرَارِ الْأَوَّلِ لَا يُعْمَلُ هَاهُنَا فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يُقَارِنْهُ بَلْ وَقَعَ مُتَأَخِّرًا .
وَالْفَرْضُ أَنَّ بِالْإِقْرَارِ تَقَرَّرَ حَقُّ آدَمِيٍّ لَمْ تَعْمَلُ الشُّبْهَةُ اللَّاحِقَةُ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ اللَّاحِقَةَ بَعْدَ تَقَرُّرِ حَقِّ الْآدَمِيِّ لَا تَرْفَعُهُ .
فَلِهَذَا لَمْ يُعْتَبَرْ الرُّجُوعُ عَامِلًا فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ .
( قَوْلُهُ وَكَذَا إذَا قَذَفَ امْرَأَةً زَنَتْ فِي نَصْرَانِيَّتِهَا ) أَوْ رَجُلًا زَنَا فِي نَصْرَانِيَّتِهِ فَإِنَّهُ لَا يُحَدُّ ، وَالْمُرَادُ قَذْفُهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ بِزِنًا كَانَ فِي نَصْرَانِيَّتِهَا بِأَنْ قَالَ زَنَيْتِ وَأَنْتِ كَافِرَةٌ ، وَكَذَا لَوْ قَالَ لِمُعْتَقٍ زَنَى وَهُوَ عَبْدٌ زَنَيْتَ وَأَنْتَ عَبْدٌ لَا يُحَدُّ ، كَمَا لَوْ قَالَ قَذَفْتُك بِالزِّنَا وَأَنْتِ كِتَابِيَّةٌ أَوْ أَمَةٌ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُ إنَّمَا أَقَرَّ أَنَّهُ

قَذَفَهَا فِي حَالٍ لَوْ عَلِمْنَا مِنْهُ صَرِيحَ الْقَذْفِ لَمْ يَلْزَمْ حَدُّهُ ، لِأَنَّ الزِّنَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الْكَافِرِ وَلِذَا يُقَامُ الْجَلْدُ عَلَيْهِ حَدًّا ، بِخِلَافِ الرَّجْمِ عَلَى مَا مَرَّ ، وَلَا يَسْقُطُ الْحَدُّ بِالْإِسْلَامِ ، وَكَذَا الْعَبْدُ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَنْ بِحَيْثُ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ أَوْ لَا ، حَتَّى إنَّ الْكَافِرَ الْحَرْبِيَّ إذَا زَنَى فِي دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ أَسْلَمَ فَقَذَفَهُ لَا يُحَدُّ لِأَنَّ الزِّنَا تَحَقَّقَ مِنْهُ ، وَإِنْ لَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ الْحَدُّ فَيَكُونُ قَاذِفُهُ صَادِقًا .
وَإِنَّمَا ارْتَفَعَ بِالْإِسْلَامِ الْإِثْمُ دُونَ حَقِيقَةِ الزِّنَا

( وَلَوْ قَذَفَ رَجُلًا أَتَى أَمَتَهُ وَهِيَ مَجُوسِيَّةٌ أَوْ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ أَوْ مُكَاتَبَةٌ لَهُ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ ) لِأَنَّ الْحُرْمَةَ مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ وَهِيَ مُؤَقَّتَةٌ فَكَانَتْ الْحُرْمَةُ لِغَيْرِهِ فَلَمْ يَكُنْ زِنًا .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ وَطْءَ الْمُكَاتَبَةِ يُسْقِطُ الْإِحْصَانَ ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ لِأَنَّ الْمِلْكَ زَائِلٌ فِي حَقِّ الْوَطْءِ وَلِهَذَا يَلْزَمُهُ الْعُقْرُ بِالْوَطْءِ ، وَنَحْنُ نَقُولُ مِلْكُ الذَّاتِ بَاقٍ وَالْحُرْمَةُ لِغَيْرِهِ إذْ هِيَ مُؤَقَّتَةٌ .

( وَلَوْ قَذَفَ رَجُلًا أَتَى أَمَتَهُ وَهِيَ مَجُوسِيَّةٌ ) أَوْ مُزَوَّجَةٌ أَوْ الْمُشْتَرَاةُ شِرَاءً فَاسِدًا ( أَوْ أَمَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ ) أَوْ مُظَاهِرٌ مِنْهَا أَوْ صَائِمَةٌ صَوْمَ فَرْضٍ وَهُوَ عَالِمٌ بِصَوْمِهَا ( أَوْ مُكَاتَبَتَهُ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ ) لِأَنَّ الشِّرَاءَ الْفَاسِدَ يُوجِبُ الْمِلْكَ ، بِخِلَافِ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ لَا يَثْبُتُ فِيهِ مِلْكٌ فَلِذَا يَسْقُطُ إحْصَانُهُ بِالْوَطْءِ فِيهِ فَلَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ ( لِأَنَّ الْحُرْمَةَ ) فِي كُلٍّ مِنْ هَذِهِ التَّقَادِيرِ ( مُؤَقَّتَةٌ ) مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ فَكَانَتْ فِيهَا لِغَيْرِهِ فَلَمْ يَكُنْ زِنًا ، لِأَنَّ الزِّنَا مَا كَانَ بِلَا مِلْكٍ قَالَ تَعَالَى { إلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } ( وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ وَطْءَ الْمُكَاتَبَةِ يُسْقِطُ الْإِحْصَانَ ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ ، لِأَنَّ الْمِلْكَ زَائِلٌ فِي حَقِّ الْوَطْءِ وَلِهَذَا يَلْزَمُ السَّيِّدَ الْعُقْرُ ) لَهَا ، وَلَوْ بَقِيَ الْمِلْكُ شَرْعًا مِنْ وَجْهٍ لِمَا لَزِمَهُ وَإِنْ حَرُمَ كَوَطْءِ أَمَتِهِ الْمَجُوسِيَّةِ وَالْحَائِضِ ، وَنَحْنُ نَقُولُ : إنْ قُلْتُمْ إنَّ مِلْكَ الذَّاتِ انْتَفَى مِنْ وَجْهٍ كَالْمُشْتَرَكَةِ فَمَمْنُوعٌ ، وَإِنْ عَنَيْتُمْ أَنَّ مِلْكَ الْوَطْءِ انْتَفَى سَلَّمْنَاهُ وَلَا يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ الْحَدِّ كَالْأَمَةِ الْمَجُوسِيَّةِ فَثَبَتَ أَنَّ الْحُرْمَةَ لِغَيْرِهِ إذْ هِيَ مُؤَقَّتَةٌ ، وَوُجُوبُ الْعُقْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى سُقُوطِ الْإِحْصَانِ كَالرَّاهِنِ إذَا وَطِئَ أَمَتَهُ الْمَرْهُونَةَ وَهِيَ بِكْرٌ يَلْزَمُهُ الْعُقْرُ وَلَا يَسْقُطُ الْإِحْصَانُ .
ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78