كتاب : فتح القدير
المؤلف : كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي

مِنْ قَبِيلِ الْعَامِّ الَّذِي خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ فَصَارَ ظَنِّيًّا لِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ كَمَا عُرِفَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ .
فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يُعَارِضَ مَا هُوَ لَيْسَ بِمَخْصُوصٍ وَهُوَ الْمُحَرِّمُ لِلْجَمْعِ لِكَوْنِهِ قَطْعِيًّا لَكِنَّهُ لَيْسَ بِتَامٍّ أَيْضًا ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْعَامَّ الَّذِي خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ إنَّمَا يَكُونُ ظَنِّيًّا إذَا كَانَ الْمُخَصَّصُ مَوْصُولًا ، وَأَمَّا إذَا كَانَ مَفْصُولًا مُتَأَخِّرًا فَالْخَاصُّ إذْ ذَاكَ يَكُونُ نَاسِخًا لِلْعَامِّ فِي الْقَدْرِ الَّذِي تَنَاوَلَهُ الْخَاصُّ ، وَيَكُونُ الْعَامُّ فِي الْبَاقِي قَطْعِيًّا بِلَا شُبْهَةٍ .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُخَصِّصَ الْأُمِّ وَالْأُخْتِ مِنْ الرَّضَاعِ وَالْأَمَةِ الْمَجُوسِيَّةِ مِنْ قَوْله تَعَالَى { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } لَيْسَ بِمَوْصُولٍ بِهِ ، فَلَمْ يَكُنْ ظَنِّيًّا فِي الْبَاقِي بَلْ كَانَ قَطْعِيًّا كَالْمُحَرِّمِ لِلْجَمْعِ فَلَمْ يَظْهَرْ الرُّجْحَانُ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ حَتَّى لَا يَصْلُحَ لِلْمُعَارَضَةِ فَتَأَمَّلْ .
( قَوْلُهُ وَقَوْلُهُ بِمِلْكٍ أَرَادَ بِهِ مِلْكَ يَمِينٍ فَيَنْتَظِمُ التَّمْلِيكُ بِسَائِرِ أَسْبَابِهِ بَيْعًا أَوْ غَيْرَهُ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : قَوْلُهُ فَيَنْتَظِمُ التَّمْلِيكُ بِسَائِرِ أَسْبَابِهِ : أَيْ أَسْبَابِ التَّمْلِيكِ كَالشِّرَاءِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ وَالْخُلْعِ وَالْكِتَابَةِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِي بَعْضِ تَمْثِيلَاتِهِ خَطَأٌ ، وَهُوَ الْوَصِيَّةُ وَالْمِيرَاثُ وَالْكِتَابَةُ .
أَمَّا فِي الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ فَلِأَنَّ تَمْلِيكَ الْغَيْرِ فِي الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ إنَّمَا يَثْبُتُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي وَالْمُورِثِ فَكَيْفَ يَدْخُلُ ذَلِكَ تَحْتَ قَوْلِهِ بِمِلْكٍ فِي قَوْلِهِ : فَإِنَّهُ لَا يُجَامِعُ وَاحِدَةً مِنْهُمَا وَلَا يُقَبِّلُهَا وَلَا يَمَسُّهَا بِشَهْوَةٍ وَلَا يَنْظُرُ إلَى فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ حَتَّى يَمْلِكَ فَرْجَ الْأُخْرَى غَيْرُهُ بِمِلْكٍ أَوْ نِكَاحٍ ، فَإِنَّ شَيْئًا مِنْ الْمُجَامَعَةِ وَالْمَسِّ وَالنَّظَرِ لَا يُتَصَوَّرُ بَعْدَ الْمَمَاتِ ، عَلَى أَنَّ نَفْسَ التَّمْلِيكِ أَيْضًا

عَلَى حَقِيقَتِهِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ فِي الْإِرْثِ .
وَأَمَّا فِي الْكِتَابَةِ فَلِأَنَّهَا مُلْحَقَةٌ بِالْإِعْتَاقِ كَمَا سَيُصَرِّحُ بِهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ وَكَذَا الْكِتَابَةُ كَالْإِعْتَاقِ فِي هَذَا فَكَانَتْ مِنْ فُرُوعِ قَوْلِهِ أَوْ يُعْتِقُهَا غَيْرَ دَاخِلَةٍ فِي قَوْلِهِ حَتَّى يَمْلِكَ فَرْجَ الْأُخْرَى غَيْرُهُ بِمِلْكٍ ، إذَا الْمُرَادُ بِالْمِلْكِ هُنَا مِلْكُ الْيَمِينِ بِدَلَالَةِ عَطْفِ قَوْلِهِ أَوْ نِكَاحٍ عَلَيْهِ .
وَلَا يُتَصَوَّرُ تَمْلِيكُ الْفَرْجِ غَيْرَهُ مِلْكَ يَمِينٍ بِالْكِتَابَةِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ عَرَفَ مَعْنَى الْكِتَابَةِ شَرْعًا ( قَوْلُهُ وَكَذَا الْكِتَابَةُ كَالْإِعْتَاقِ فِي هَذَا لِثُبُوتِ حُرْمَةِ الْوَطْءِ بِذَلِكَ كُلِّهِ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : كَلِمَةُ كَذَا فِي قَوْلِهِ وَكَذَا الْكِتَابَةُ كَالْإِعْتَاقِ زَائِدَةٌ .
وَقَالَ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ : قُلْت زِيَادَةُ كَذَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ غَيْرُ مَشْهُورَةٍ انْتَهَى .
أَقُولُ : هَذَا كَلَامٌ عَجِيبٌ .
إذْ لَا شَكَّ أَنَّ مُرَادَ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ أَنَّ كَلِمَةَ كَذَا هَاهُنَا زَائِدَةٌ : أَيْ مُسْتَدْرَكَةٌ لَا أَنَّهَا زَائِدَةٌ كَزِيَادَةِ بَعْضِ الْحُرُوفِ لِتَحْسِينِ اللَّفْظِ كَمَا تَوَهَّمَهُ الْعَيْنِيُّ حَتَّى يَتَوَجَّهَ إلَيْهِ قَوْلُهُ زِيَادَةٌ كَذَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ غَيْرَ مَشْهُورَةٍ .
وَبِالْجُمْلَةِ مُرَادُ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ الدَّخْلُ لَا التَّوْجِيهُ .
فَمَا ذَكَرَهُ الْعَيْنِيُّ لَغْوٌ مَحْضٌ .
ثُمَّ أَقُولُ : يُمْكِنُ تَوْجِيهُ عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ بِمَا يَنْدَفِعُ بِهِ الِاسْتِدْرَاكُ فِي كَلِمَةِ كَذَا ، وَهُوَ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ وَكَذَا : أَيْ وَكَكَوْنِ إعْتَاقِ الْبَعْضِ مِنْ إحْدَاهُمَا كَإِعْتَاقِ الْكُلِّ الْكِتَابَةُ كَالْإِعْتَاقِ : أَيْ كَإِعْتَاقِ الْكُلِّ .
فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ الْمَقْصُودُ مِنْ كَلِمَةِ كَذَا هَاهُنَا هُوَ التَّشْبِيهُ بِمَا قَبْلَهُ كَمَا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ كَلِمَةِ كَذَا فِي قَوْلِهِ وَكَذَا إعْتَاقُ الْبَعْضِ مِنْ إحْدَاهُمَا كَإِعْتَاقِ كُلِّهَا هُوَ التَّشْبِيهُ أَيْضًا بِمَا قَبْلَهُ ، فَكَأَنَّهُ قَالَ : وَأَيْضًا الْكِتَابَةُ

كَالْإِعْتَاقِ فِي هَذَا ، وَالْغَرَضُ مِنْ التَّشْبِيهِ التَّشْرِيكُ فِي تَعْلِيلِ وَاحِدٍ كَمَا يُرْشِدُ إلَيْهِ قَوْلُهُ لِثُبُوتِ حُرْمَةِ الْوَطْءِ بِذَلِكَ كُلِّهِ فَتَدَبَّرْ .
( قَوْلُهُ وَبِرَهْنِ إحْدَاهُمَا وَإِجَارَتِهَا وَتَدْبِيرِهَا لَا تَحِلُّ الْأُخْرَى ؛ أَلَا يُرَى أَنَّهَا لَا تَخْرُجُ بِهَا عَنْ مِلْكِهِ ) أَقُولُ : كَانَ الظَّاهِرُ فِي التَّعْلِيلِ هُنَا أَنْ يَقُولَ : لِأَنَّهُ لَا تَثْبُتُ بِهَا حُرْمَةُ الْوَطْءِ .
فَإِنَّ مُجَرَّدَ عَدَمِ خُرُوجِهَا عَنْ مِلْكِهِ لَا يَقْتَضِي أَنْ لَا تَحِلَّ لَهُ الْأُخْرَى ؛ أَلَا يُرَى أَنَّهَا لَا تَخْرُجُ عَنْ مِلْكِهِ بِالْكِتَابَةِ أَيْضًا كَمَا تَقَرَّرَ فِي كِتَابِ الْمُكَاتَبِ ، وَصَرَّحَ بِهِ الشُّرَّاحُ أَيْضًا هُنَا فِيمَا قَبْلُ ، مَعَ أَنَّهُ إذَا كَاتَبَ إحْدَاهُمَا تَحِلُّ لَهُ الْأُخْرَى كَمَا مَرَّ آنِفًا ، وَحَمْلُ الْمِلْكِ فِي قَوْلِهِ لَا تَخْرُجُ بِهَا عَنْ مِلْكِهِ عَنْ مِلْكِ الْوَطْءِ كَمَا فَعَلَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ تَعَسُّفٌ لَا يَخْفَى .
إذْ الْمُسْتَعْمَلُ فِي اللُّغَةِ وَالْعُرْفِ حِلُّ الْوَطْءِ لَا مِلْكُ الْوَطْءِ ، وَإِنَّمَا يُقَالُ مِلْكُ الْيَمِينِ أَوْ مِلْكُ النِّكَاحِ .

قَالَ ( وَيُكْرَهُ أَنْ يُقَبِّلَ الرَّجُلُ فَمَ الرَّجُلِ أَوْ يَدَهُ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ أَوْ يُعَانِقَهُ ) وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا بَأْسَ بِالتَّقْبِيلِ وَالْمُعَانَقَةِ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَانَقَ جَعْفَرًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ قَدِمَ مِنْ الْحَبَشَةِ وَقَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ } وَلَهُمَا مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ الْمُكَامَعَةِ وَهِيَ الْمُعَانَقَةُ ، وَعَنْ الْمُكَاعَمَةِ وَهِيَ التَّقْبِيلُ } .
وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا قَبْلَ التَّحْرِيمِ .
قَالُوا : الْخِلَافُ فِي الْمُعَانَقَةِ فِي إزَارٍ وَاحِدٍ ، أَمَّا إذَا كَانَ عَلَيْهِ قَمِيصٌ أَوْ جُبَّةٌ فَلَا بَأْسَ بِهَا بِالْإِجْمَاعِ وَهُوَ الصَّحِيحُ .
قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِالْمُصَافَحَةِ ) ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَوَارَثُ .
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ صَافَحَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ وَحَرَّكَ يَدَهُ تَنَاثَرَتْ ذُنُوبُهُ } .

( قَوْلُهُ وَلَهُمَا مَا رُوِيَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ الْمُكَامَعَةِ وَهِيَ الْمُعَانَقَةُ ، وَعَنْ الْمُكَاعَمَةِ وَهِيَ التَّقْبِيلُ } ) قَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ : وَتَفْسِيرُ الْمُكَامَعَةِ بِالْمُعَانَقَةِ فِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِي دِيوَانِ الْأَدَبِ وَغَيْرِهِ : كَامَعَ امْرَأَتَهُ : ضَاجَعَهَا ، وَكَاعَمَ الْمَرْأَةَ : قَبَّلَهَا .
وَقَالَ فِي الْفَائِقِ : { نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمُكَامَعَةِ وَالْمُكَاعَمَةِ } : أَيْ عَنْ مُلَاثَمَةِ الرَّجُلِ الرَّجُلِ وَمُضَاجَعَتِهِ إيَّاهُ لَا سَتْرَ بَيْنَهُمَا إلَى هُنَا لَفْظُ غَايَةِ الْبَيَانِ .
وَقَالَ الْعَيْنِيُّ بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ : قُلْت فِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ الْمُضَاجِعَ هُوَ الْمُعَانِقُ غَالِبًا ، وَلَا يُضَاجِعُ أَحَدٌ غَيْرَهُ إلَّا وَالْغَالِبُ أَنَّهُ يُعَانِقُهُ ا هـ .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ ، لِأَنَّ كَوْنَ الْمُضَاجِعِ هُوَ الْمُعَانِقُ غَالِبًا مَمْنُوعٌ ، وَلَوْ سَلِمَ ذَلِكَ فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ تَكُونَ الْمُكَامَعَةُ هِيَ الْمُعَانَقَةُ فِي الْغَالِبِ .
وَإِنَّمَا الَّذِي يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يُلَازِمَ الْمُكَامَعَةَ وَالْمُعَانَقَةَ فِي الْغَالِب .
وَلَا شَكَّ أَنَّ أَحَدَ الْمُتَلَازِمَيْنِ لَا يَكُونُ عَيْنَ الْآخَرِ كَالْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ فَكَيْفَ يَصِحُّ تَفْسِيرُ إحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى .
وَلَوْ سَلِمَ صِحَّةُ التَّفْسِيرِ بِاللَّازِمِ بِنَاءً عَلَى الْمُسَامَحَةِ لَمْ يُفِدْ هَاهُنَا ؛ لِأَنَّ الْمُضَاجَعَةَ لَمَّا وُجِدَتْ بِدُونِ الْمُعَانَقَةِ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ الْغَالِبِ كَانَتْ الْمُعَانَقَةُ أَخَصَّ مِنْ الْمُضَاجَعَةِ .
فَلَمْ يَصِحَّ تَفْسِيرُ الْمُكَامَعَةِ الَّتِي هِيَ الْمُضَاجَعَةُ بِالْمُعَانَقَةِ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ التَّفْسِيرِ بِالْأَخَصِّ ، وَنَظَرُ صَاحِبِ الْغَايَةِ إنَّمَا هُوَ فِي تَفْسِيرِ الْمُكَامَعَةِ بِالْمُعَانَقَةِ لَا غَيْرُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ : وَفَسَّرَهَا الْمُصَنِّفُ بِالْمُعَانَقَةِ مَعَ أَنَّ الْمُكَامَعَةَ هِيَ الْمُضَاجَعَةُ .
فِي دِيوَانِ الْأَدَبِ وَغَيْرِهِ : كَامَعَ امْرَأَتَهُ ضَاجَعَهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ

الْكَلَامَ فِي الْمُعَانَقَةِ .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا نُهِيَ مِنْ الْمُضَاجَعَةِ هُوَ مَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْمُعَانَقَةِ لِعَدَمِ الْخِلَافِ فِي إبَاحَةِ الْمُضَاجَعَةِ لَا عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ ، عَلَى أَنَّ الْمُكَامَعَةَ بِحَسَبِ اللُّغَةِ هِيَ الْمُضَاجَعَةُ الْمَخْصُوصَةُ لَا مُطْلَقُ الْمُضَاجَعَةِ .
فِي الْقَامُوسِ : كَامَعَهُ : ضَاجَعَهُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ، إلَى هُنَا كَلَامُ ذَلِكَ الْبَعْضِ فِي شَرْحِهِ .
وَقَالَ فِي الْحَاشِيَةِ : فِيهِ رَدٌّ عَلَى صَاحِبِ الْغَايَةِ .
أَقُولُ : كُلٌّ مِنْ مُقَدِّمَاتِ كَلَامِهِ مَجْرُوحٌ .
أَمَّا قَوْلُهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْمُعَانَقَةِ تَعْلِيلًا لِتَفْسِيرِ الْمُصَنِّفِ الْمُكَامَعَةَ بِالْمُعَانَقَةِ فَظَاهِرُ الْبُطْلَانِ ، لِأَنَّ كَوْنَ الْكَلَامِ فِي الْمُعَانَقَةِ كَيْفَ يُسَوِّغُ تَفْسِيرَ الْمُكَامَعَةِ بِغَيْرِ مَعْنَاهَا ، وَهَلْ يَقُولُ الْعَاقِلُ بِتَغْيِيرِ مَعْنَى لَفْظِ الْحَدِيثِ لِيَكُونَ مُطَابِقًا لِمُدَّعَاهُ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا نُهِيَ مِنْ الْمُضَاجَعَةِ هُوَ مَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْمُعَانَقَةِ فَمَمْنُوعٌ ، إذْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الثِّقَاتِ بِهَذَا التَّخْصِيصِ عِنْدَ بَيَانِ الْمُرَادِ بِالْمُكَامَعَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ .
بَلْ أَطْلَقُوهَا .
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُ فِي الْفَائِقِ : { نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمُكَاعَمَةِ وَالْمُكَامَعَةِ } : أَيْ عَنْ مُلَاثَمَةِ الرَّجُلِ الرَّجُلَ وَمُضَاجَعَتِهِ إيَّاهُ لَا سُتْرَةَ بَيْنَهُمَا انْتَهَى .
وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي الصِّحَاحِ : وَكَامَعَهُ مِثْلَ ضَاجَعَهُ ، وَالْمُكَامَعَةُ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا فِي الْحَدِيثِ أَنْ يُضَاجِعَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ لَا سُتْرَةَ بَيْنَهُمَا انْتَهَى .
وَقَالَ الْمُطَرِّزِيُّ فِي الْمُغْرِبِ : نَهَى عَنْ الْمُكَاعَمَةِ وَالْمُكَامَعَةِ : أَيْ عَنْ مُلَاثَمَةِ الرَّجُلِ الرَّجُلَ لَا سُتْرَةَ بَيْنَهُمَا وَمُضَاجَعَتِهِ إيَّاهُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَا سُتْرَةَ بَيْنَهُمَا .
هَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِهِمَا فِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَامٍ وَابْنِ دُرَيْدٍ وَغَيْرِهِمَا .
وَهَكَذَا حَكَاهُ

الْأَزْهَرِيُّ وَالْجَوْهَرِيُّ انْتَهَى .
وَأَمَّا قَوْلُهُ لِعَدَمِ الْخِلَافِ فِي إبَاحَةِ الْمُضَاجَعَةِ لَا عَلَى ذَاكَ الْوَجْهِ فَمَمْنُوعٌ أَيْضًا ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ شَنَاعَةَ مُضَاجَعَةِ الرَّجُلِ الرَّجُلَ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَا سُتْرَةَ بَيْنَهُمَا لَيْسَتْ بِأَقَلِّ مِنْ شَنَاعَةِ مُجَرَّدِ الْمُعَانَقَةِ وَلَوْ فِي غَيْرِ دَاخِلِ الثَّوْبِ ، فَكَيْفَ يَقُولُ بِإِبَاحَةِ الْأُولَى مَنْ لَا يَقُولُ بِإِبَاحَةِ الثَّانِيَةِ سِيَّمَا عِنْدَ إطْلَاقِ لَفْظِ الْحَدِيثِ بَلْ كَوْنُهُ حَقِيقَةً فِي نَفْسِ الْمُضَاجَعَةِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَى أَنَّ الْمُكَامَعَةَ بِحَسَبِ اللُّغَةِ هِيَ الْمُضَاجَعَةُ الْمَخْصُوصَةُ لَا مُطْلَقُ الْمُضَاجَعَةِ ، وَاسْتِشْهَادُهُ عَلَيْهِ بِمَا فِي الْقَامُوسِ فَلَيْسَ بِمُقَيَّدٍ أَصْلًا ؛ لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْمُضَاجَعَةُ الْمَخْصُوصَةُ إلَّا أَنَّ مَعْنَاهَا لَيْسَ عَيْنَ مَعْنَى الْمُعَانَقَةِ وَلَا مُسَاوِيًا لَهُ فِي التَّحَقُّقِ لِانْفِكَاكِ تَحَقُّقِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَنْ الْآخَرِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ كَمَا عَرَفْته مِنْ قَبْلُ فَكَيْفَ يَصِحُّ تَفْسِيرُ الْمُكَامَعَةِ بِالْمُعَانَقَةِ كَمَا هُوَ حَاصِلُ نَظَرِ صَاحِبِ الْغَايَةِ ، فَمِنْ أَيْنَ يَحْصُلُ الرَّدُّ عَلَيْهِ بِمَا ذَكَرَهُ ذَلِكَ الْقَائِلُ ، وَلَعَمْرِي إنَّ مَفَاسِدَ قِلَّةِ التَّأَمُّلِ مِمَّا يَضِيقُ عَنْ الْإِحَاطَةِ بِهِ نِطَاقُ الْبَيَانِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُسْتَعَانُ .

فَصْلٌ فِي الْبَيْعِ قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ السِّرْقِينِ ، وَيُكْرَهُ بَيْعُ الْعَذِرَةِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ بَيْعُ السِّرْقِينِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ فَشَابَهُ الْعَذِرَةَ وَجِلْدَ الْمَيْتَةِ قَبْلَ الدِّبَاغِ .
وَلَنَا أَنَّهُ مُنْتَفَعٌ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ يُلْقَى فِي الْأَرَاضِيِ لِاسْتِكْثَارِ الرِّيعِ فَكَانَ مَالًا ، وَالْمَالُ مَحَلٌّ لِلْبَيْعِ .
بِخِلَافِ الْعَذِرَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا إلَّا مَخْلُوطًا .
وَيَجُوزُ بَيْعُ الْمَخْلُوطِ هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ مُحَمَّدٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ .
وَكَذَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِالْمَخْلُوطِ لَا بِغَيْرِ الْمَخْلُوطِ فِي الصَّحِيحِ ، وَالْمَخْلُوطُ بِمَنْزِلَةِ زَيْتٍ خَالَطَتْهُ النَّجَاسَةُ .
( فَصْلٌ فِي الْبَيْعِ ) قَالَ الشُّرَّاحُ : أَخَّرَ فَصْلَ الْبَيْعِ عَنْ فَصْلِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللَّمْسِ وَالْوَطْءِ ؛ لِأَنَّ أَثَرَ تِلْكَ الْأَفْعَالِ مُتَّصِلٌ بِبَدَنِ الْإِنْسَانِ ، وَهَذَا لَا ، وَمَا كَانَ أَكْثَرَ اتِّصَالًا كَانَ أَحَقَّ بِالتَّقْدِيمِ انْتَهَى .
أَقُولُ : كَانَ الْمُنَاسِبُ بِسِيَاقِ كَلَامِهِمْ أَنْ يَقُولُوا : وَمَا كَانَ مُتَّصِلًا كَانَ أَحَقَّ بِالتَّقْدِيمِ .
إلَّا أَنَّهُمْ قَالُوا : وَمَا كَانَ أَكْثَرَ اتِّصَالًا كَانَ أَحَقَّ بِالتَّقْدِيمِ إفَادَةٌ فِي ضِمْنِ بَيَانِ وَجْهِ تَأْخِيرِ هَذَا الْفَصْلِ وَجْهُ تَأْخِيرِ الْفُصُولِ السَّابِقَةِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمُتَقَدِّمُ مِنْهَا أَكْثَرُ اتِّصَالًا بِبَدَنِ الْإِنْسَانِ مِمَّا هُوَ الْمُتَأَخِّرُ كَمَا يَظْهَرُ بِالتَّأَمُّلِ الصَّادِقِ

قَالَ ( وَمَنْ عَلِمَ بِجَارِيَةٍ أَنَّهَا لِرَجُلٍ فَرَأَى آخَرَ يَبِيعُهَا وَقَالَ وَكَّلَنِي صَاحِبُهَا بِبَيْعِهَا فَإِنَّهُ يَسَعُهُ أَنَّهُ يَبْتَاعُهَا وَيَطَؤُهَا ) ؛ لِأَنَّهُ أُخْبِرَ بِخَبَرٍ صَحِيحٍ لَا مُنَازِعَ لَهُ ، وَقَوْلُ الْوَاحِدِ فِي الْمُعَامَلَاتِ مَقْبُولٌ عَلَى أَيِّ وَصْفٍ كَانَ لِمَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ .
وَكَذَا إذَا قَالَ اشْتَرَيْتهَا مِنْهُ أَوْ وَهَبَهَا لِي أَوْ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيَّ لِمَا قُلْنَا .
وَهَذَا إذَا كَانَ ثِقَةً .
وَكَذَا إذَا كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ ، وَأَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ ؛ لِأَنَّ عَدَالَةَ الْمُخْبِرِ فِي الْمُعَامَلَاتِ غَيْرُ لَازِمَةٍ لِلْحَاجَةِ عَلَى مَا مَرَّ ، وَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ كَاذِبٌ لَمْ يَسَعْ لَهُ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ أَكْبَرَ الرَّأْيِ يُقَامُ مَقَامَ الْيَقِينِ ، وَكَذَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا لِفُلَانٍ ، وَلَكِنْ أَخْبَرَهُ صَاحِبُ الْيَدِ أَنَّهَا لِفُلَانٍ ، وَأَنَّهُ وَكَّلَهُ بِبَيْعِهَا أَوْ اشْتَرَاهَا مِنْهُ ، وَالْمُخْبِرُ ثِقَةٌ قُبِلَ قَوْلُهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثِقَةً يُعْتَبَرُ أَكْبَرُ رَأْيِهِ ؛ لِأَنَّ إخْبَارَهُ حُجَّةٌ فِي حَقِّهِ ، وَإِنْ لَمْ يُخْبِرْهُ صَاحِبُ الْيَدِ بِشَيْءٍ .
فَإِنْ كَانَ عَرَّفَهَا لِلْأَوَّلِ لَمْ يَشْتَرِهَا حَتَّى يَعْلَمَ انْتِقَالَهَا إلَى مِلْكِ الثَّانِي ؛ لِأَنَّ يَدَ الْأَوَّلِ دَلِيلُ مِلْكِهِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا وَإِنْ كَانَ ذُو الْيَدِ فَاسِقًا ؛ لِأَنَّ يَدَ الْفَاسِقِ دَلِيلُ الْمِلْكِ فِي حَقِّ الْفَاسِقِ وَالْعَدْلِ وَلَمْ يُعَارِضْهُ مُعَارِضٌ ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِأَكْبَرِ الرَّأْيِ عِنْدَ وُجُودِ الدَّلِيلِ الظَّاهِرِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِثْلُهُ لَا يَمْلِكُ مِثْلَ ذَلِكَ ، فَحِينَئِذٍ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَتَنَزَّهَ ، وَمَعَ ذَلِكَ لَوْ اشْتَرَاهَا يُرْجَى أَنْ يَكُونَ فِي سَعَةٍ مِنْ ذَلِكَ لِاعْتِمَادِهِ الدَّلِيلَ الشَّرْعِيَّ .
وَإِنْ كَانَ الَّذِي أَتَاهُ بِهَا عَبْدًا أَوْ أَمَةً لَمْ يَقْبَلْهَا وَلَمْ يَشْتَرِهَا حَتَّى يَسْأَلَ ؛ لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ لَا مِلْكَ لَهُ فَيَعْلَمُ أَنَّ الْمِلْكَ فِيهَا لِغَيْرِهِ ، فَإِنْ

أَخْبَرَهُ أَنَّ مَوْلَاهُ أَذِنَ لَهُ وَهُوَ ثِقَةٌ قُبِلَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثِقَةً يُعْتَبَرُ أَكْبَرُ الرَّأْيِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَأْيٌ لَمْ يَشْتَرِهَا لِقِيَامِ الْحَاجِرِ فَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ .

( قَوْلُهُ وَهَذَا إذَا كَانَ ثِقَةً ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : فَإِنْ قِيلَ : قَوْلُهُ وَهَذَا إذَا كَانَ ثِقَةً يُنَاقِضُ قَوْلَهُ عَلَى أَيِّ وَصْفٍ كَانَ .
أُجِيبَ بِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ ثِقَةٌ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يُعْتَمَدُ عَلَى كَلَامِهِ ، وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا لِجَوَازِ أَنْ لَا يَكْذِبَ الْفَاسِقُ لِمُرُوءَتِهِ وَلِوَجَاهَتِهِ انْتَهَى .
وَاقْتَفَى أَثَرَهُ الْعَيْنِيُّ .
وَقَدْ سَبَقَهُمَا إلَى مَأْخَذِ هَذَا السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ تَاجُ الشَّرِيعَةِ وَصَاحِبُ الْكِفَايَةِ حَيْثُ قَالَا : وَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ وَهَذَا إذَا كَانَ ثِقَةً بَعْدَ قَوْلِهِ عَلَى أَيِّ وَصْفٍ كَانَ : يَعْنِي أَنَّهُ مِمَّنْ يُعْتَمَدُ عَلَى كَلَامِهِ وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُون فَاسِقٌ صَادِقَ الْقَوْلِ لَا يَكْذِبُ لِمُرُوءَتِهِ انْتَهَى .
أَقُولُ : لَا السُّؤَالُ شَيْءٌ وَلَا الْجَوَابُ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْمُصَنِّفَ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى قَوْلِهِ وَهَذَا إذَا كَانَ ثِقَةً ، بَلْ قَالَ بَعْدَهُ وَكَذَا إذَا كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ .
وَأَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ فَلَا يُنَاقِضُ مَا ذَكَرَهُ هَاهُنَا قَوْلَهُ فِيمَا قَبْلُ عَلَى أَيِّ وَصْفٍ كَانَ .
نَعَمْ قَدْ نَبَّهَ بِقَوْلِهِ وَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ كَاذِبٌ لَمْ يَسَعْهُ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَلَى عَدَمِ دُخُولِ بَعْضِ جُزْئِيَّاتِ غَيْرِ الثِّقَةِ فِي الْحُكْمِ السَّابِقِ ، وَلَا ضَيْرَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَفَادَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَى أَيِّ وَصْفٍ كَانَ عُمُومُ الْأَوْصَافِ لَا عُمُومُ الْجُزْئِيَّاتِ ، وَكَلَامُهُ هَاهُنَا تَفْصِيلٌ لِمَا أَجْمَلَهُ فِيمَا قَبْلُ .
وَلَا بُعْدَ فِي أَنْ يُفِيدَ التَّفْصِيلُ مَا لَا يُفِيدُهُ الْإِجْمَالُ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعْنَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ ثِقَةً فِي قَوْلِهِ وَهَذَا إذَا كَانَ ثِقَةً أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يُعْتَمَدُ عَلَى كَلَامِهِ كَمَا تَوَهَّمَهُ هَؤُلَاءِ الشُّرَّاحُ دُونَ مَعْنَى الْعَدَالَةِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ لَمَا تَمَّ مَعْنَى قَوْلِهِ وَكَذَا إذَا كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ وَأَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ ، إذْ يَصِيرُ حِينَئِذٍ مَعْنَى قَوْلِهِ غَيْرَ ثِقَةٍ

مَنْ لَا يُعْتَمَدُ عَلَى كَلَامِهِ ، وَفِي شَأْنِ مَنْ لَا يُعْتَمَدُ عَلَى كَلَامِهِ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ أَكْبَرُ رَأْيِ السَّامِعِ أَنَّهُ صَادِقٌ ، وَلَمَا تَمَّ تَعْلِيلُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ عَدَالَةَ الْمُخْبِرِ غَيْرُ لَازِمَةٍ ؛ لِأَنَّ عَدَمَ لُزُومِ عَدَالَةِ الْمُخْبِرِ لَا يَدُلُّ عَلَى لُزُومِ الِاعْتِمَادِ عَلَى كَلَامِهِ ، إذَا الْمَفْرُوضُ مِنْ الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ جَوَازُ كَوْنِ الْفَاسِقِ أَيْضًا مِمَّنْ يُعْتَمَدُ عَلَى كَلَامِهِ فَكَانَ مَنْ يُعْتَمَدُ عَلَى كَلَامِهِ أَعَمَّ مِنْ الْعَدْلِ وَلَا شَكَّ أَنَّ عَدَمَ لُزُومِ الْأَخَصِّ لِشَيْءٍ لَا يَقْتَضِي عَدَمَ لُزُومِ الْأَعَمِّ لَهُ .
فَالصَّوَابُ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ إذَا كَانَ ثِقَةً إذَا كَانَ عَدْلًا ، وَبِقَوْلِهِ وَكَذَا إذَا كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ .
وَكَذَا إذَا كَانَ غَيْرَ عَدْلٍ .
وَلَا تَنَاقُضَ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ قَوْلِهِ عَلَى أَيِّ وَصْفٍ كَانَ أَصْلًا كَمَا تَحَقَّقْته آنِفًا ، وَمِمَّا يُفْصِحُ عَنْ كَوْنِ الْمُرَادِ بِالثِّقَةِ وَبِغَيْرِ الثِّقَةِ هَاهُنَا مَا ذَكَرْنَاهُ كَلَامُ صَاحِبِ الْمُحِيطِ حَيْثُ قَالَ : هَذَا إذَا كَانَ الْمُخْبِرُ عَدْلًا ، وَإِنْ كَانَ الْمُخْبِرُ غَيْرَ ثِقَةٍ أَوْ كَانَ لَا يُدْرَى أَنَّهُ ثِقَةٌ أَوْ غَيْرُ ثِقَةٍ يُرِيدُ بِهِ أَنَّ الْمُخْبِرَ إذَا كَانَ فَاسِقًا أَوْ مَسْتُورًا نُظِرَ فِيهِ ، فَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ إلَى آخِرِ كَلَامِهِ ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ عَدْلًا مَوْضِعَ ثِقَةٍ وَفَسَّرَ غَيْرَ ثِقَةٍ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَإِنْ كَانَ الْمُخْبِرُ غَيْرَ ثِقَةٍ بِالْفَاسِقِ ، وَمَنْ لَا يُدْرَى أَنَّهُ ثِقَةٌ أَوْ غَيْرُ ثِقَةٍ بِالْمَسْتُورِ حَيْثُ قَالَ : يُرِيدُ بِهِ أَنَّ الْمُخْبِرَ إذَا كَانَ فَاسِقًا أَوْ مَسْتُورًا .
وَمَنْ تَتَبَّعَ كَلِمَاتِ ثِقَاتِ الْمَشَايِخِ فِي بَابِ مَسَائِلِ قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي كُتُبِهِمْ الْمُعْتَبَرَةِ لَا يُشْتَبَهُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالثِّقَةِ هُوَ الْعَدْلُ ، وَبِغَيْرِ الثِّقَةِ غَيْرُ الْعَدْلِ ، فَإِنَّهُمْ كَثِيرًا مَا يَذْكُرُونَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ لَفْظَيْ الْعَدْلِ وَالثِّقَةِ مَوْضِعَ الْآخَرِ ، وَكَذَا الْحَالُ

فِي غَيْرِ الثِّقَةِ وَغَيْرِ الْعَدْلِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي حَلِّ هَذَا الْمَقَامِ : قَوْلُهُ وَقَوْلُ الْوَاحِدِ فِي الْمُعَامَلَاتِ مَقْبُولٌ عَلَى أَيِّ وَصْفٍ كَانَ : يَعْنِي عَدْلًا كَانَ أَوْ غَيْرَ عَدْلٍ ، صَبِيًّا كَانَ أَوْ بَالِغًا ، حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا ، مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا ، رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً ، لَكِنْ بِشَرْطِ كَوْنِهِ ثِقَةً يُعْتَمَدُ عَلَى كَلَامِهِ ، وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا لِجَوَازِ أَنْ يُعْتَمَدَ عَلَى قَوْلِهِ إذَا كَانَ وَجِيهًا فِي النَّاسِ ذَا مُرُوءَةٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمِيلُ إلَى حُطَامِ الدُّنْيَا لِوَجَاهَتِهِ وَلَا يَكْذِبُ لِمُرُوءَتِهِ ، فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَلَى أَيِّ وَصْفٍ كَانَ وَبَيْنَ اشْتِرَاطِ كَوْنِهِ ثِقَةً كَمَا صَرَّحَ بِهِ بِقَوْلِهِ وَهَذَا إذَا كَانَ ثِقَةً ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ أَعَمُّ مِنْ الْأَوَّلِ .
وَلَوْ سَلِمَ فَلَا مُنَافَاةَ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ بِلَفْظِ هَذَا إلَى كَوْنِهِ فِي سِعَةٍ مِنْ ابْتِيَاعِهَا بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ وَكَّلَنِي صَاحِبُهَا بِبَيْعِهَا ، لَا إلَى قَبُولِ قَوْلِ الْوَاحِدِ فِي الْمُعَامَلَاتِ .
فَإِنَّ قَوْلَهُ يُقْبَلُ أَيْضًا إذَا لَمْ يَكُنْ ثِقَةً كَمَا صَرَّحَ بِهِ بِقَوْلِهِ ، وَكَذَا إذَا كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ ، إلَّا أَنَّ قَبُولَهُ يَكُونُ مَعَ ضَمِيمَةِ التَّحَرِّي الْمُوَافِقِ ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ ، أَقُولُ : فِيهِ فَسَادٌ مِنْ وُجُوهٍ : الْأَوَّلُ أَنَّ قَوْلَهُ لَكِنْ بِشَرْطِ كَوْنِهِ ثِقَةً يُعْتَمَدُ عَلَى كَلَامِهِ يُنَافِي قَوْلَ الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَكَذَا إذَا كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ وَأَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ فَكَيْفَ يَصِحُّ شَرْحُ كَلَامِهِ بِمَا يُنَافِيهِ صَرِيحُ عِبَارَتِهِ .
وَالثَّانِي أَنَّ قَوْلَهُ وَبَيْنَ اشْتِرَاطِ كَوْنِهِ ثِقَةً كَمَا صَرَّحَ بِهِ بِقَوْلِهِ وَهَذَا إذَا كَانَ ثِقَةً لَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ وَهَذَا إذَا كَانَ ثِقَةً إنَّمَا يَكُونُ تَصْرِيحًا بِاشْتِرَاطِ كَوْنِهِ ثِقَةً : أَنْ لَوْ اقْتَصَرَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَقُلْ وَكَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ غَيْرَ ثِقَةٍ ، وَلَمَّا قَالَ

وَكَذَا إذَا كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ كَانَ كَلَامُهُ صَرِيحًا فِي عَدَمِ اشْتِرَاطِ كَوْنِهِ ثِقَةً كَمَا لَا يَخْفَى .
وَالثَّالِثُ أَنَّ قَوْلَهُ وَلَوْ سَلِمَ فَلَا مُنَافَاةَ أَيْضًا كَلَامٌ فَاسِدُ الْمَعْنَى ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ لَوْ سَلِمَ الْمُنَافَاةُ بَيْنَ عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ وَبَيْنَ اشْتِرَاطِ كَوْنِهِ ثِقَةً فَلَا مُنَافَاةَ أَيْضًا ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تَسْلِيمَ الْمُنَافَاةِ يُنَاقِضُ الْقَوْلَ بِعَدَمِ الْمُنَافَاةِ .
فَكَانَ مَضْمُونُ كَلَامِهِ الْمَزْبُورِ جَمْعًا بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ وَلَوْ سَلِمَ نَاظِرًا إلَى قَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ أَعَمُّ مِنْ الْأَوَّلِ لَا إلَى قَوْلِهِ فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ إلَخْ ؛ فَالْمَعْنَى وَلَوْ سَلِمَ عَدَمُ عُمُومِ الثَّانِي مِنْ الْأَوَّلِ فَلَا مُنَافَاةَ أَيْضًا .
وَالرَّابِعُ أَنَّ قَوْلَهُ ؛ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ بِلَفْظِ هَذَا إلَى كَوْنِهِ فِي سَعَةٍ مِنْ ابْتِيَاعِهَا بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ وَكَّلَنِي صَاحِبُهَا لَا إلَى قَبُولِ قَوْلِ الْوَاحِدِ فِي الْمُعَامَلَاتِ ظَاهِرَ الْبُطْلَانِ ؛ لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ وَغَيْرَهُ عَلَّلُوا كَوْنَهُ فِي سَعَةٍ مِنْ أَنْ يَبْتَاعَهَا وَيَطَأَهَا بِكَوْنِ قَوْلِ الْوَاحِدِ فِي الْمُعَامَلَاتِ مَقْبُولًا عَلَى أَيِّ وَصْفٍ كَانَ ، فَلَوْ كَانَ الْأَوَّلُ مَشْرُوطًا بِكَوْنِهِ ثِقَةً دُونَ الثَّانِي لَمَا صَحَّ تَعْلِيلُ الْأَوَّلِ بِالثَّانِي ضَرُورَةَ عَدَمِ اسْتِلْزَامِ تَحَقُّقِ الْعَامِّ تَحَقُّقَ الْخَاصِّ .
وَالْخَامِسُ أَنَّ قَوْلَهُ : فَإِنَّ قَوْلَهُ يُقْبَلُ أَيْضًا إذَا لَمْ يَكُنْ ثِقَةً كَمَا صَرَّحَ بِهِ بِقَوْلِهِ وَكَذَا إذَا كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ مُدَّعَاهُ مِنْ كَوْنِ الْإِشَارَةِ بِلَفْظِ هَذَا إلَى كَوْنِهِ فِي سَعَةٍ مِنْ ابْتِيَاعِهَا بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ وَكَّلَنِي صَاحِبُهَا لَا إلَى قَبُولِ قَوْلِ الْوَاحِدِ فِي الْمُعَامَلَاتِ ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ وَكَذَا إذَا كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَهَذَا إذَا كَانَ ثِقَةً ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَحَلَّ الْحُكْمِ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَاحِدٌ وَهُوَ مَا أُشِيرَ

إلَيْهِ بِلَفْظِ هَذَا فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ ، فَإِذَا كَانَ صَرِيحُ مَعْنَى قَوْلِهِ ، وَكَذَا إذَا كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ ، وَكَذَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْوَاحِدِ إذَا كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ كَمَا اعْتَرَفَ بِهِ فَلَا جَرَمَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ وَهَذَا إذَا كَانَ ثِقَةً ، وَقَبُولُ قَوْلِ الْوَاحِدِ إذَا كَانَ ثِقَةً عَلَى أَنْ يَكُونَ لَفْظُ هَذَا إشَارَةً إلَى قَبُولِ قَوْلِ الْوَاحِدِ وَهُوَ خِلَافُ مَا ادَّعَاهُ .
وَالسَّادِسُ أَنَّ اعْتِرَافَهُ هُنَا بِكَوْنِ قَوْلِ الْوَاحِدِ مَقْبُولًا فِيمَا إذَا كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ أَيْضًا ، وَيَكُونُ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَكَذَا إذَا كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ صَرِيحًا فِي ذَلِكَ يُنَاقِضُ قَوْلَهُ فِي صَدْرِ كَلَامِهِ ، وَقَوْلُ الْوَاحِدِ مَقْبُولٌ عَلَى أَيِّ وَصْفٍ كَانَ ، وَلَكِنْ بِشَرْطِ كَوْنِهِ ثِقَةً يُعْتَمَدُ عَلَى كَلَامِهِ .
وَبِالْجُمْلَةِ مَا ذَكَرَهُ ذَلِكَ الْبَعْضُ فِي هَذَا الْمَقَامِ بِرُمَّتِهِ خَارِجٌ عَنْ نَهْجِ الصَّوَابِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذَوِي الْأَلْبَابِ ( قَوْلُهُ وَكَذَا إذَا كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ وَأَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ ؛ لِأَنَّ عَدَالَةَ الْمُخْبِرِ فِي الْمُعَامَلَاتِ غَيْرُ لَازِمَةٍ لِلْحَاجَةِ عَلَى مَا مَرَّ ) قُلْت : تَعْلِيلُهُ بِقَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ عَدَالَةَ الْمُخْبِرِ فِي الْمُعَامَلَاتِ غَيْرُ لَازِمَةٍ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى كَوْنِ مُرَادِهِ بِغَيْرِ الثِّقَةِ غَيْرَ الْعَدْلِ وَبِالثِّقَةِ الْعَدْلَ كَمَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ ، إذْ لَوْ كَانَ مُرَادُهُ بِالثِّقَةِ مَنْ يُعْتَمَدُ عَلَى كَلَامِهِ وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا ، وَبِغَيْرِ الثِّقَةِ مَنْ لَا يُعْتَمَدُ عَلَى كَلَامِهِ كَمَا تَوَهَّمَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ عَلَى مَا مَرَّ لَمَا صَحَّ تَعْلِيلُ قَبُولِ قَوْلِ غَيْرِ الثِّقَةِ إذَا كَانَ أَكْبَرُ الرَّأْيِ أَنَّهُ صَادِقٌ بِقَوْلِهِ : لِأَنَّ عَدَالَةَ الْمُخْبِرِ فِي الْمُعَامَلَاتِ غَيْرُ لَازِمَةٍ ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ لُزُومِ عَدَالَتِهِ عَدَمُ لُزُومِ كَوْنِهِ مِمَّنْ يُعْتَمَدُ عَلَى كَلَامِهِ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ كَمَا لَا يَخْفَى .
بَقِيَ فِي هَذَا الْمَقَامِ كَلَامٌ ، وَهُوَ أَنَّ الَّذِي ظَهَرَ مِمَّا ذَكَرَهُ

هَاهُنَا هُوَ أَنَّ عَدَالَةَ الْمُخْبِرِ فِي الْمُعَامَلَاتِ غَيْرُ لَازِمَةٍ ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ فِي قَبُولِ قَوْلِهِ إذَا كَانَ غَيْرَ عَدْلٍ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَكْبَرُ رَأْيِ السَّامِعِ أَنَّهُ صَادِقٌ ، وَقَدْ مَرَّ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْكَرَاهِيَةِ أَنَّهُمْ فَرَّقُوا بَيْنَ الْمُعَامَلَاتِ وَالدِّيَانَاتِ بِأَنَّهُ يُقْبَلُ فِي الْمُعَامَلَاتِ قَوْلُ الْفَاسِقِ مُطْلَقًا وَلَا يُقْبَلُ فِي الدِّيَانَاتِ قَوْلُ الْفَاسِقِ وَلَا الْمَسْتُورِ إلَّا إذَا كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِ السَّامِعِ أَنَّهُ صَادِقٌ ، فَكَانَ مَا ذَكَرَهُ هَاهُنَا مُخَالِفًا لِمَا مَرَّ هُنَاكَ ؛ لِأَنَّ مَا اُعْتُبِرَ هُنَاكَ فِي الدِّيَانَاتِ دُونَ الْمُعَامَلَاتِ قَدْ اُعْتُبِرَ هَاهُنَا فِي الْمُعَامَلَاتِ أَيْضًا ، وَقَدْ تَنَبَّهْ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ لِوُرُودِ هَذَا الْإِشْكَالِ فَذَكَرَ إجْمَالَ مَا ذَكَرْنَاهُ .
وَأَجَابَ عَنْهُ حَيْثُ قَالَ : يَرُدُّ عَلَى الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ إذَا كَانَ قَبُولُ خَبَرِهِ مُتَوَقِّفًا عَلَى حُصُولِ أَكْبَرِ الرَّأْيِ لَا يَبْقَى فَرْقٌ بَيْنَ الْمُعَامَلَاتِ وَالدِّيَانَاتِ ، فَإِنَّ خَبَرَ الْفَاسِقِ يُقْبَلُ فِي الدِّيَانَاتِ أَيْضًا بِأَكْبَرِ الرَّأْيِ عَلَى مَا مَرَّ .
وَجَوَابُهُ أَنَّ خَبَرَ الْفَاسِقِ إنَّمَا يُقْبَلُ فِي الدِّيَانَاتِ بِأَكْبَرِ الرَّأْيِ إذَا حَصَلَ بَعْدَ التَّحَرِّي ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ حَيْثُ لَا يُشْتَرَطُ التَّحَرِّي فَتَأَمَّلْ انْتَهَى .
أَقُولُ : جَوَابُهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ فَإِنَّ أَكْبَرَ الرَّأْيِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَحَقَّقَ بِدُونِ التَّحَرِّي ، إذْ التَّحَرِّي طَلَبُ مَا هُوَ أَحْرَى الْأَمْرَيْنِ فِي غَالِبِ الظَّنِّ كَمَا صُرِّحَ بِهِ فِي عَامَّةِ كُتُبِ اللُّغَةِ ، فَمَا لَمْ يُطْلَبْ ذَلِكَ ، وَلَمْ يُتَوَجَّهْ إلَيْهِ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ حُصُولُ أَكْبَرِ الرَّأْيِ فَلَا مَعْنًى لِعَدَمِ اشْتِرَاطِ التَّحَرِّي فِيمَا نَحْنُ فِيهِ عِنْدَ اشْتِرَاطِ أَكْبَرِ الرَّأْيِ فِيهِ ، وَإِنَّمَا اعْتِبَارُ أَكْبَرِ الرَّأْيِ فِيهِ اعْتِبَارُ التَّحَرِّي بِعَيْنِهِ ، وَعَنْ هَذَا وَقَعَ التَّعْبِيرُ فِي بَيَانِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِعَيْنِهَا فِي الْمُحِيطِ الْبُرْهَانِيِّ بِلَفْظِ التَّحَرِّي بَدَلَ

أَكْبَرِ الرَّأْيِ حَيْثُ قَالَ فِيهِ : وَإِنْ كَانَ الَّذِي فِي يَدَيْهِ الْجَارِيَةُ فَاسِقًا لَا تَثْبُتُ إبَاحَةُ الْمُعَامَلَةِ مَعَهُ بِنَفْسِ الْخَبَرِ بَلْ يُتَحَرَّى فِي ذَلِكَ ، فَإِنْ وَقَعَ تَحَرِّيهِ عَلَى أَنَّهُ صَادِقٌ حَلَّ لَهُ الشِّرَاءُ مِنْهُ ، وَإِنْ وَقَعَ تَحَرِّيهِ عَلَى أَنَّهُ كَاذِبٌ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا مِنْهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَأْيٌ يَبْقَى مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ كَمَا فِي الدِّيَانَاتِ انْتَهَى .
ثُمَّ أَقُولُ : الْإِشْكَالُ الْمَذْكُورُ لَا يَخْتَصُّ بِهَذَا الْكِتَابِ بَلْ يَتَّجِهُ إلَى غَيْرِهِ أَيْضًا .
وَعَنْ هَذَا قَالَ الْمُحَقِّقُ التَّفْتَازَانِيُّ فِي التَّلْوِيحِ : ذَكَرَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ فِي مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ أَنَّ إخْبَارَ غَيْرِ الْعَدْلِ يُقْبَلُ فِي الْمُعَامَلَاتِ مِنْ غَيْرِ انْضِمَامِ التَّحَرِّي وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ التَّحَرِّي وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ ذَكَرَ الْقَيْدَ فِي كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ .
وَقَالَ فِي التَّوْجِيهِ : فَقِيلَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ فِي كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ تَفْسِيرًا لِمَا ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فَيُشْتَرَطُ التَّحَرِّي ، وَيَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَطَ اسْتِحْسَانًا وَلَا يُشْتَرَطُ رُخْصَةً ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ انْتَهَى .
وَقَدْ ذَكَرْت فِيمَا مَرَّ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْكَرَاهِيَةِ بَعْدَ نَقْلِ هَذِهِ التَّوْجِيهَاتِ عَنْ التَّلْوِيحِ أَنَّ الْمُخْتَارَ عِنْدِي مِنْ بَيْنِهَا هُوَ التَّوْجِيهُ الثَّانِي ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْحَاسِمُ لِمَادَّةِ الْإِشْكَالِ الْفَارِقِ بَيْنَ الْمُعَامَلَاتِ وَالدِّيَانَاتِ ، إذًا لَا رُخْصَةَ فِي الدِّيَانَاتِ بِدُونِ التَّحَرِّي ، وَالْآنَ أَيْضًا أَقُولُ كَذَلِكَ ، فَيَحْصُلُ بِهِ التَّوْفِيقُ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ فِي الْمَقَامَيْنِ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَغَيْرِهِ .
( قَوْلُهُ لِأَنَّ أَكْبَرَ الرَّأْيِ يُقَامُ مَقَامَ الْيَقِينِ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : يَعْنِي فِيمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا كَالْفُرُوجِ وَالدِّمَاءِ ؛ أَلَا يُرَى أَنَّ مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَأَدْخَلَهَا عَلَيْهِ

إنْسَانٌ وَأَخْبَرَهُ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ وَسِعَهُ أَنْ يَطَأَهَا إذَا كَانَ ثِقَةً عِنْدَهُ أَوْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ ، وَكَذَا إذَا دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى غَيْرِهِ لَيْلًا شَاهِرًا سَيْفَهُ فَلِصَاحِبِ الْمَنْزِلِ أَنْ يَقْتُلَهُ إذَا كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ لِصٌّ قَصَدَ قَتْلَهُ وَأَخْذَ مَالِهِ ، وَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ هَارِبٌ مِنْ لِصٍّ لَمْ يُعَجِّلْ بِقَتْلِهِ انْتَهَى .
وَرَدَّ عَلَيْهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ حَيْثُ قَالَ : قَوْلُهُ : لِأَنَّ أَكْبَرَ الرَّأْيِ يُقَامُ مَقَامَ الْيَقِينِ : أَيْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ حَتَّى يَجِبَ بِهِ شَيْءٌ كَالتَّوَجُّهِ إلَى جِهَةِ التَّحَرِّي ، وَيَحْرُمَ بِهِ شَيْءٌ كَالصَّلَاةِ إذَا تَوَضَّأَ بِمَاءٍ أَخْبَرَ بِنَجَاسَتِهِ غَيْرُ ثِقَةٍ ، وَأَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ فَيُجْعَلُ أَكْبَرُ الرَّأْيِ دَلِيلًا شَرْعِيًّا أَيْضًا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ بَلْ فِيمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ كَالْفُرُوجِ وَالدِّمَاءِ .
وَقَالَ فِي الْحَاشِيَةِ : مَنْ قَالَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ يُقَامُ مَقَامَ الْيَقِينِ : يَعْنِي فِيمَا هُوَ أَعْظَمُ كَالْفُرُوجِ وَالدِّمَاءِ فَقَدْ سَهَا انْتَهَى .
أَقُولُ : نِسْبَةُ السَّهْوِ إلَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ الْمَذْكُورِ سَهْوٌ عَظِيمٌ ، فَإِنَّهُ سَلَكَ فِي تَفْسِيرِهِ الْمَذْكُورِ مَسْلَكَ الدَّلَالَةِ وَإِثْبَاتِ الْحُكْمِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ بِالْأَوْلَوِيَّةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } فَإِنَّ فِيهِ النَّهْيَ عَنْ الضَّرْبِ بِالْأَوْلَوِيَّةِ ، وَلَيْتَ شِعْرِي مَاذَا يَقُولُ ذَلِكَ الْقَائِلُ فِي شَأْنِ الْإِمَامِ الرَّبَّانِيِّ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، فَإِنَّهُ أَيْضًا قَالَ فِي الْأَصْلِ فِي هَذَا الْمَقَامِ : وَأَكْبَرُ الرَّأْيِ مُجَوِّزٌ لِلْعَمَلِ فِيمَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْ هَذَا كَالْفُرُوجِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ ، فَإِنَّ مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَأَدْخَلَهَا عَلَيْهِ إنْسَانٌ وَأَخْبَرَهُ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ إلَخْ كَمَا نُقِلَ عَنْهُ فِي النِّهَايَةِ وَالْكِفَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ أَيْضًا مِثْلُ مَا قَالَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي كَوْنِهِ مِنْ تِلْكَ

الدَّلَالَةِ بِالْأَوْلَوِيَّةِ ، بَلْ ذَلِكَ مَأْخَذُ مَا قَالَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَعَنْ هَذَا قَالَ فِي النِّهَايَةِ وَالْكِفَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ عَنْ مُحَمَّدٍ : فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّ فِيمَا هُوَ أَهَمُّ الْأُمُورِ وَهُوَ الدِّمَاءُ وَالْفُرُوجُ جَازَ الْعَمَلُ بِأَكْبَرِ الرَّأْيِ عِنْدَ الْحَاجَةِ .
مَعَ أَنَّ الْغَلَطَ إذَا وَقَعَ لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ أَوْلَى انْتَهَى .

قَالَ ( وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً أَخْبَرَهَا ثِقَةٌ أَنَّ زَوْجَهَا الْغَائِبَ مَاتَ عَنْهَا ، أَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا أَوْ كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ وَأَتَاهَا بِكِتَابٍ مِنْ زَوْجِهَا بِالطَّلَاقِ ، وَلَا تَدْرِي أَنَّهُ كِتَابُهُ أَمْ لَا .
إلَّا أَنَّ أَكْبَرَ رَأْيِهَا أَنَّهُ حَقٌّ ) يَعْنِي بَعْدَ التَّحَرِّي ( فَلَا بَأْسَ بِأَنْ تَعْتَدَّ ثُمَّ تَتَزَوَّجَ ) ؛ لِأَنَّ الْقَاطِعَ طَارِئٌ وَلَا مُنَازِعَ ، وَكَذَا لَوْ قَالَتْ لِرَجُلٍ طَلَّقَنِي زَوْجِي وَانْقَضَتْ عِدَّتِي فَلَا بَأْسَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا .
وَكَذَا إذَا قَالَتْ الْمُطَلَّقَةُ الثَّلَاثَ انْقَضَتْ عِدَّتِي وَتَزَوَّجْت بِزَوْجٍ آخَرَ ، وَدَخَلَ بِي ثُمَّ طَلَّقَنِي وَانْقَضَتْ عِدَّتِي فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَزَوَّجَهَا الزَّوْجُ الْأَوَّلُ ، وَكَذَا لَوْ قَالَتْ جَارِيَةٌ كُنْت أَمَةَ فُلَانٍ فَأَعْتَقَنِي ؛ لِأَنَّ الْقَاطِعَ طَارِئٌ .
وَلَوْ أَخْبَرَهَا مُخْبِرٌ أَنَّ أَصْلَ النِّكَاحِ كَانَ فَاسِدًا أَوْ كَانَ الزَّوْجُ حِينَ تَزَوَّجَهَا مُرْتَدًّا أَوْ أَخَاهَا مِنْ الرَّضَاعَةِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ حَتَّى يَشْهَدَ بِذَلِكَ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ .
وَكَذَا إذَا أَخْبَرَهُ مُخْبِرٌ أَنَّك تَزَوَّجْتهَا وَهِيَ مُرْتَدَّةٌ أَوْ أُخْتُك مِنْ الرَّضَاعَةِ لَمْ يَتَزَوَّجْ بِأُخْتِهَا أَوْ أَرْبَعٍ سِوَاهَا حَتَّى يَشْهَدَ بِذَلِكَ عَدْلَانِ ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِفَسَادٍ مُقَارَنٍ ، وَالْإِقْدَامُ عَلَى الْعَقْدِ يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ وَإِنْكَارِ فَسَادِهِ فَثَبَتَ الْمُنَازَعُ بِالظَّاهِرِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْمَنْكُوحَةُ صَغِيرَةً فَأَخْبَرَ الزَّوْجُ أَنَّهَا ارْتَضَعَتْ مِنْ أُمِّهِ أَوْ أُخْتِهِ حَيْثُ يُقْبَلُ قَوْلُ الْوَاحِدِ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْقَاطِعَ طَارِئٌ ، وَالْإِقْدَامُ الْأَوَّلُ لَا يَدُلُّ عَلَى انْعِدَامِهِ فَلَمْ يَثْبُتْ الْمُنَازِعُ فَافْتَرَقَا ، وَعَلَى هَذَا الْحَرْفِ يَدُورُ الْفَرْقُ .
وَلَوْ كَانَتْ جَارِيَةً صَغِيرَةً لَا تُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهَا فِي يَدِ رَجُلٍ يَدَّعِي أَنَّهَا لَهُ فَلَمَّا كَبُرَتْ لَقِيَهَا رَجُلٌ فِي بَلَدٍ آخَرَ فَقَالَتْ أَنَا حُرَّةُ الْأَصْلِ لَمْ يَسَعْهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لِتَحَقُّقِ الْمُنَازِعِ وَهُوَ

ذُو الْيَدِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ .

( قَوْلُهُ لِأَنَّ الْقَاطِعَ طَارِئٌ وَالْإِقْدَامُ الْأَوَّلُ لَا يَدُلُّ عَلَى انْعِدَامِهِ فَلَمْ يَثْبُتْ الْمُنَازِعُ ) اعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ إنْ قَبِلَ خَبَرَ الْوَاحِدِ فِي إفْسَادِ النِّكَاحِ بَعْدَ الصِّحَّةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَوَجْهٌ آخَرُ فِيهِ يُوجِبُ عَدَمَ الْقَبُولِ ، وَهُوَ أَنَّ الْمِلْكَ لِلزَّوْجِ فِيهَا ثَابِتٌ وَالْمِلْكُ الثَّابِتُ لِلْغَيْرِ لَا يَبْطُلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ إذَا كَانَ ثَابِتًا بِدَلِيلٍ مُوجِبٍ وَمِلْكُ الزَّوْجِ فِيهَا فِي الْحَالِ لَيْسَ بِدَلِيلٍ مُوجِبٍ بَلْ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ أَقْوَى مِنْ اسْتِصْحَابِ الْحَالِ ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَكَثِيرٍ مِنْ الشُّرُوحِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا الِاعْتِرَاضِ : وَالْجَوَابُ فِيهِ بَحْثٌ ؛ لِأَنَّهُ سَبَقَ فِي فَصْلِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ أَنَّ الْحِلَّ وَالْحُرْمَةَ مِنْ بَابِ الدِّيَانَاتِ ، فَيُقْبَلُ قَوْلُ الْوَاحِدِ فِيهِمَا إذَا لَمْ تَتَضَمَّنْ الْحُرْمَةُ زَوَالَ الْمِلْكِ ، كَمَا إذَا أَخْبَرَ وَاحِدٌ عَدْلٌ بِحِلِّ طَعَامٍ فَيُؤْكَلُ أَوْ حُرْمَتِهِ فَلَا يُؤْكَلُ ، لِأَنَّ الْحُرْمَةَ لَا تُنَافِي الْمِلْكَ .
وَأَمَّا إذَا تَضَمَّنَتْ زَوَالَ الْمِلْكِ فَلَا يُقْبَلُ وَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ ، كَمَا إذَا أَخْبَرَ عَدْلٌ لِلزَّوْجَيْنِ أَنَّهُمَا ارْتَضَعَا مِنْ فُلَانَةَ ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ الْمُؤَبَّدَةَ لَا تُتَصَوَّرُ مَعَ بَقَاءِ مِلْكِ النِّكَاحِ فَاضْمَحَلَّ الْجَوَابُ وَبَقِيَ الْإِشْكَالُ انْتَهَى كَلَامُهُ .
أَقُولُ : بَحْثُهُ سَاقِطٌ جِدًّا ؛ لِأَنَّ الَّذِي تَقَرَّرَ فِي فَصْلِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ هُوَ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ يُقْبَلُ فِي بَابِ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ إذَا لَمْ يَتَضَمَّنْ زَوَالَ الْمِلْكِ .
وَأَمَّا إذَا تَضَمَّنَ زَوَالَهُ فَلَا يُقْبَلُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ بُطْلَانَ الْمِلْكِ لَا يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ، وَذَلِكَ كَلَامٌ مُجْمَلٌ لَمْ يُفَصِّلْ فِيهِ أَنَّهُ إذَا تَضَمَّنَ زَوَالَ الْمِلْكِ الثَّابِتِ بِدَلِيلٍ مُوجِبٍ لَمْ يُقْبَلْ ، وَأَمَّا إذَا تَضَمَّنَ زَوَالَ الْمِلْكِ الثَّابِتِ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ

فَيُقْبَلُ .
فَنَشَأَ الِاعْتِرَاضُ هَاهُنَا نَظَرًا إلَى ظَاهِرِ إجْمَالِ مَا ذُكِرَ هُنَاكَ فَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ زَوَالِ الْمِلْكِ هُنَاكَ زَوَالُ الْمِلْكِ الثَّابِتِ بِدَلِيلٍ مُوجِبٍ لَا زَوَالُهُ وَلَوْ كَانَ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ ؛ لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ أَقْوَى مِنْ اسْتِصْحَابِ الْحَالِ لِكَوْنِ الِاسْتِصْحَابِ حُجَّةً دَافِعَةً لَا مُثَبِّتَةً أَصْلًا ، بِخِلَافِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فَكَانَ الْجَوَابُ الْمَذْكُورُ هَاهُنَا تَفْصِيلًا لِلْإِجْمَاعِ الْوَاقِعِ هُنَاكَ فِي الظَّاهِرِ فَكَانَ جَوَابًا شَافِيًا قَدْ اضْمَحَلَّ بِهِ الْإِشْكَالُ كَمَا لَا يَخْفَى .

قَالَ ( وَإِذَا بَاعَ الْمُسْلِمُ خَمْرًا وَأَخَذَ ثَمَنَهَا وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ نَصْرَانِيًّا فَلَا بَأْسَ بِهِ ) وَالْفَرْقُ أَنَّ الْبَيْعَ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ قَدْ بَطَلَ ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ فَبَقِيَ الثَّمَنُ عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَلَا يَحِلُّ أَخْذُهُ مِنْ الْبَائِعِ .
وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي صَحَّ الْبَيْعُ ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ فَمَلَكَهُ الْبَائِعُ فَيَحِلُّ الْأَخْذُ مِنْهُ .

قَالَ ( وَيُكْرَهُ الِاحْتِكَارُ فِي أَقْوَاتِ الْآدَمِيِّينَ وَالْبَهَائِمِ إذَا كَانَ ذَلِكَ فِي بَلَدٍ يَضُرُّ الِاحْتِكَارُ بِأَهْلِهِ وَكَذَلِكَ التَّلَقِّي .
فَأَمَّا إذَا كَانَ لَا يَضُرُّ فَلَا بَأْسَ بِهِ ) وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْجَالِبُ مَرْزُوقٌ وَالْمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ } وَلِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْعَامَّةِ ، وَفِي الِامْتِنَاعِ عَنْ الْبَيْعِ إبْطَالُ حَقِّهِمْ وَتَضْيِيقُ الْأَمْرِ عَلَيْهِمْ فَيُكْرَهُ إذَا كَانَ يَضُرُّ بِهِمْ ذَلِكَ بِأَنْ كَانَتْ الْبَلْدَةُ صَغِيرَةً ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَضُرَّ بِأَنْ كَانَ الْمِصْرُ كَبِيرًا ؛ لِأَنَّهُ حَابِسٌ مِلْكَهُ مِنْ غَيْرِ إضْرَارٍ بِغَيْرِهِ ، وَكَذَلِكَ التَّلَقِّي عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ ؛ لِأَنَّ { النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ تَلَقِّي الْجَلَبِ وَعَنْ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ } .
قَالُوا هَذَا إذَا لَمْ يُلَبِّسْ الْمُتَلَقِّي عَلَى التُّجَّارِ سِعْرَ الْبَلْدَةِ .
فَإِنْ لَبَّسَ فَهُوَ مَكْرُوهٌ فِي الْوَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ غَادِرٌ بِهِمْ .
وَتَخْصِيصُ الِاحْتِكَارِ بِالْأَقْوَاتِ كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالتِّبْنِ وَالْقَتِّ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ كُلُّ مَا أَضَرَّ بِالْعَامَّةِ حَبْسُهُ فَهُوَ احْتِكَارٌ وَإِنْ كَانَ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً أَوْ ثَوْبًا .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ : لَا احْتِكَارَ فِي الثِّيَابِ ؛ فَأَبُو يُوسُفَ اعْتَبَرَ حَقِيقَةَ الضَّرَرِ إذْ هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي الْكَرَاهَةِ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ اعْتَبَرَ الضَّرَرَ الْمَعْهُودَ الْمُتَعَارَفَ .
ثُمَّ الْمُدَّةُ إذَا قَصُرَتْ لَا يَكُونُ احْتِكَارًا لِعَدَمِ الضَّرَرِ ، وَإِذَا طَالَتْ يَكُونُ احْتِكَارًا مَكْرُوهًا لِتَحَقُّقِ الضَّرَرِ .
ثُمَّ قِيلَ : هِيَ مُقَدَّرَةٌ بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ احْتَكَرَ طَعَامًا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَقَدْ بَرِئَ مِنْ اللَّهِ وَبَرِئَ اللَّهُ مِنْهُ } وَقِيلَ بِالشَّهْرِ ؛ لِأَنَّ مَا دُونَهُ قَلِيلٌ عَاجِلٌ ، وَالشَّهْرُ وَمَا فَوْقَهُ كَثِيرٌ آجِلٌ ، وَقَدْ مَرَّ فِي غَيْرِ

مَوْضِعٍ ، وَيَقَعُ التَّفَاوُتُ فِي الْمَأْثَمِ بَيْنَ أَنْ يَتَرَبَّصَ الْعِزَّةَ وَبَيْنَ أَنْ يَتَرَبَّصَ الْقَحْطَ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ ، وَقِيلَ الْمُدَّةُ لِلْمُعَاقَبَةِ فِي الدُّنْيَا إمَّا يَأْثَمُ وَإِنْ قَلَّتْ الْمُدَّةُ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ التِّجَارَةَ فِي الطَّعَامِ غَيْرُ مَحْمُودَةٍ .

قَالَ ( وَمَنْ احْتَكَرَ غَلَّةَ ضَيْعَتِهِ أَوْ مَا جَلَبَهُ مِنْ بَلَدٍ آخَرَ فَلَيْسَ بِمُحْتَكَرٍ ) أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّهِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ الْعَامَّةِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ لَا يَزْرَعَ فَكَذَلِكَ لَهُ أَنْ لَا يَبِيعَ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَالْمَذْكُورُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْعَامَّةِ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِمَا جُمِعَ فِي الْمِصْرِ وَجُلِبَ إلَى فِنَائِهَا .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يُكْرَهُ لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : كُلُّ مَا يُجْلَبُ مِنْهُ إلَى الْمِصْرِ فِي الْغَالِبِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ فِنَاءِ الْمِصْرِ يَحْرُمُ الِاحْتِكَارُ فِيهِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْعَامَّةِ بِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْبَلَدُ بَعِيدًا لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِالْحَمْلِ مِنْهُ إلَى الْمِصْرِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ الْعَامَّةِ .

قَالَ ( وَلَا يَنْبَغِي لِلسُّلْطَانِ أَنْ يُسَعِّرَ عَلَى النَّاسِ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تُسَعِّرُوا فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ } وَلِأَنَّ الثَّمَنَ حَقُّ الْعَاقِدِ فَإِلَيْهِ تَقْدِيرُهُ ، فَلَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِحَقِّهِ إلَّا إذَا تَعَلَّقَ بِهِ دَفْعُ ضَرَرِ الْعَامَّةِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ .
وَإِذَا رُفِعَ إلَى الْقَاضِي هَذَا الْأَمْرُ يَأْمُرُ الْمُحْتَكِرَ بِبَيْعِ مَا فَضَلَ عَنْ قُوتِهِ وَقُوتِ أَهْلِهِ عَلَى اعْتِبَارِ السَّعَةِ فِي ذَلِكَ وَيَنْهَاهُ عَنْ الِاحْتِكَارِ ، فَإِنْ رُفِعَ إلَيْهِ مَرَّةً أُخْرَى حَبَسَهُ وَعَزَّرَهُ عَلَى مَا يَرَى زَجْرًا لَهُ وَدَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ النَّاسِ ، فَإِنْ كَانَ أَرْبَابُ الطَّعَامِ يَتَحَكَّمُونَ وَيَتَعَدَّوْنَ عَنْ الْقِيمَةِ تَعَدِّيًا فَاحِشًا ، وَعَجَزَ الْقَاضِي عَنْ صِيَانَةِ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا بِالتَّسْعِيرِ فَحِينَئِذٍ لَا بَأْسَ بِهِ بِمَشُورَةٍ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالْبَصِيرَةِ ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ وَتَعَدَّى رَجُلٌ عَنْ ذَلِكَ وَبَاعَ بِأَكْثَرَ مِنْهُ أَجَازَهُ الْقَاضِي ، وَهَذَا ظَاهِرٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرَى الْحَجْرَ عَلَى الْحُرِّ وَكَذَا عِنْدَهُمَا ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْحَجْرُ عَلَى قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ .
وَمَنْ بَاعَ مِنْهُمْ بِمَا قَدَّرَهُ الْإِمَامُ صَحَّ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكْرَهٍ عَلَى الْبَيْعِ ، هَلْ يَبِيعُ الْقَاضِي عَلَى الْمُحْتَكِرِ طَعَامَهُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ .
قِيلَ هُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي عُرِفَ فِي بَيْعِ مَالِ الْمَدْيُونِ ، وَقِيلَ يَبِيعُ بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَرَى الْحَجْرَ لِدَفْعِ ضَرَرٍ عَامٍّ ، وَهَذَا كَذَلِكَ .

قَالَ ( وَيُكْرَهُ بَيْعُ السِّلَاحِ فِي أَيَّامِ الْفِتْنَةِ ) مَعْنَاهُ مِمَّنْ يُعْرَفُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْفِتْنَةِ ؛ لِأَنَّهُ تَسْبِيبٌ إلَى الْمَعْصِيَةِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي السِّيَرِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يُعْرَفُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْفِتْنَةِ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَسْتَعْمِلَهُ فِي الْفِتْنَةِ فَلَا يُكْرَهُ بِالشَّكِّ .
( قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ لَا يُعْرَفُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْفِتْنَةِ لَا بَأْسَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَسْتَعْمِلَهُ فِي الْفِتْنَةِ فَلَا يُكْرَهُ بِالشَّكِّ ) قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ : قَوْلُهُ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَسْتَعْمِلَهُ فِي الْفِتْنَةِ وَلَوْ احْتِمَالًا ضَعِيفًا فَلَا يُكْرَهُ بِالشَّكِّ لِوُجُودِ هَذَا الِاحْتِمَالِ فَلَيْسَ الشَّكُّ عَلَى مَعْنَاهُ الْمُصْطَلَحِ انْتَهَى .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِشَرْحٍ صَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ كَوْنَ احْتِمَالِ أَنْ لَا يَسْتَعْمِلَهُ فِي الْفِتْنَةِ ضَعِيفًا فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا بِكَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ الْفِتْنَةِ مَمْنُوعٌ ، كَيْفَ وَأُمُورُ الْمُسْلِمِينَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الصَّلَاحِ وَالِاسْتِقَامَةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الْغَايَةِ وَغَيْرُهُ فِي تَعْلِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ .
فَفِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا بِكَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ الْفِتْنَةِ إنْ لَمْ يَكُنْ احْتِمَالُ أَنْ لَا يَسْتَعْمِلَهُ فِي الْفِتْنَةِ أَقْوَى وَأَرْجَحَ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لِاحْتِمَالِ خِلَافِهِ ، فَالشَّكُّ عَلَى مَعْنَاهُ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ قَطْعًا ، وَلَوْ كَانَ احْتِمَالُ أَنْ لَا يَسْتَعْمِلَهُ فِي الْفِتْنَةِ ضَعِيفًا مَرْجُوحًا كَانَ احْتِمَالُ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ فِي الْفِتْنَةِ قَوِيًّا رَاجِحًا ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ السِّلَاحُ مِنْ مِثْلِهِ فِي أَيَّامِ الْفِتْنَةِ مَكْرُوهًا .
وَجَوَابُ الْمَسْأَلَةِ عَلَى خِلَافِهِ .
وَبِالْجُمْلَةِ لَا وَجْهَ لِلشَّرْحِ الْمَذْكُورِ أَصْلًا

قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ الْعَصِيرِ مِمَّنْ يُعْلَمُ أَنَّهُ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا ) ؛ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ لَا تُقَامُ بِعَيْنِهِ بَلْ بَعْدَ تَغْيِيرِهِ ، بِخِلَافِ بَيْعِ السِّلَاحِ فِي أَيَّامِ الْفِتْنَةِ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ تَقُومُ بِعَيْنِهِ .

قَالَ ( وَمَنْ أَجَّرَ بَيْتًا لِيُتَّخَذَ فِيهِ بَيْتُ نَارٍ أَوْ كَنِيسَةٌ أَوْ بِيعَةٌ أَوْ يُبَاعُ فِيهِ الْخَمْرُ بِالسَّوَادِ فَلَا بَأْسَ بِهِ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : لَا يَنْبَغِي أَنْ يُكْرِيَهُ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ إعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ .
وَلَهُ أَنَّ الْإِجَارَةَ تَرِدُ عَلَى مَنْفَعَةِ الْبَيْتِ ، وَلِهَذَا تَجِبُ الْأُجْرَةُ بِمُجَرَّدِ التَّسْلِيمِ ، وَلَا مَعْصِيَةَ فِيهِ ، وَإِنَّمَا الْمَعْصِيَةُ بِفِعْلِ الْمُسْتَأْجِرِ ، وَهُوَ مُخْتَارٌ فِيهِ فَقَطَعَ نِسْبَتَهُ عَنْهُ ، وَإِنَّمَا قَيَّدَهُ بِالسَّوَادِ لِأَنَّهُمْ لَا يُمَكَّنُونَ مِنْ اتِّخَاذِ الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ وَإِظْهَارِ بَيْعِ الْخُمُورِ وَالْخَنَازِيرِ فِي الْأَمْصَارِ لِظُهُورِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ فِيهَا .
بِخِلَافِ السَّوَادِ .
قَالُوا : هَذَا كَانَ فِي سَوَادِ الْكُوفَةِ ، لِأَنَّ غَالِبَ أَهْلِهَا أَهْلُ الذِّمَّةِ .
فَأَمَّا فِي سَوَادِنَا فَأَعْلَامُ الْإِسْلَامِ فِيهَا ظَاهِرَةٌ فَلَا يُمَكَّنُونَ فِيهَا أَيْضًا ، وَهُوَ الْأَصَحُّ .

( قَوْلُهُ وَلَهُ أَنَّ الْإِجَارَةَ تَرِدُ عَلَى مَنْفَعَةِ الْبَيْتِ ، وَلِهَذَا يَجِبُ الْأَجْرُ بِمُجَرَّدِ التَّسْلِيمِ ، وَلَا مَعْصِيَةَ فِيهِ وَإِنَّمَا الْمَعْصِيَةُ بِفِعْلِ الْمُسْتَأْجِرِ وَهُوَ مُخْتَارٌ فِيهِ فَقَطَعَ نِسْبَتَهُ عَنْهُ ) أَقُولُ : يُنْتَقَضُ هَذَا التَّعْلِيلُ الْمَذْكُورُ مِنْ قِبَلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِمَسَائِلَ مُتَعَدِّدَةٍ مَذْكُورَةٍ فِي الذَّخِيرَةِ وَالْمُحِيطِ وَفَتَاوَى قَاضِي خَانَ وَسَائِرِ الْمُعْتَبَرَاتِ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ خِلَافٍ فِي شَيْءٍ مِنْهَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّتِنَا .
مِنْهَا أَنَّهُ إذَا اسْتَأْجَرَ الذِّمِّيُّ مِنْ الْمُسْلِمِ بِيعَةً لِيُصَلِّيَ فِيهَا فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ .
قَالَ فِي الْمُحِيطِ وَالذَّخِيرَةِ .
لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهَا لِيُصَلِّيَ فِيهَا ، وَصَلَاةُ الذِّمِّيِّ مَعْصِيَةٌ عِنْدَنَا وَطَاعَةٌ فِي زَعْمِهِ ، وَأَيُّ ذَلِكَ اعْتَبَرْنَا كَانَتْ الْإِجَارَةُ بَاطِلَةً ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ عَلَى مَا هُوَ طَاعَةٌ أَوْ مَعْصِيَةٌ لَا تَجُوزُ انْتَهَى .
وَمِنْهَا أَنَّهُ إذَا اسْتَأْجَرَ الْمُسْلِمُ مِنْ الْمُسْلِمِ بَيْتًا لِيَجْعَلَهُ مَسْجِدًا يُصَلِّي فِيهِ الْمَكْتُوبَةَ أَوْ النَّافِلَةَ .
فَإِنَّ هَذِهِ الْإِجَارَةَ لَا تَجُوزُ فِي قَوْلِ عُلَمَائِنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَجُوزُ .
قَالَ فِي الْمُحِيطِ : وَهَذَا لِأَنَّهَا وَقَعَتْ عَلَى مَا هُوَ طَاعَةٌ ، فَإِنَّ تَسْلِيمَ الدَّارِ لِيُصَلِّيَ فِيهَا طَاعَةٌ ، وَمِنْ مَذْهَبِنَا أَنَّ الْإِجَارَةَ عَلَى مَا هُوَ طَاعَةٌ لَا تَجُوزُ وَعِنْدَهُ تَجُوزُ ، وَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِلْأَذَانِ أَوْ الْإِمَامَةِ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا ؛ لِأَنَّهُ طَاعَةٌ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَجُوزُ فَكَذَلِكَ هَذَا انْتَهَى .
وَمِنْهَا أَنَّهُ إذَا اسْتَأْجَرَ ذِمِّيٌّ مِنْ ذِمِّيٍّ بَيْتًا يُصَلِّي فِيهِ لَا يَجُوزُ .
قَالَ فِي الْمُحِيطِ وَالذَّخِيرَةِ : لِأَنَّ صَلَاتَهُمْ طَاعَةٌ عِنْدَهُمْ مَعْصِيَةٌ عِنْدَنَا ، وَأَيُّ ذَلِكَ كَانَ لَمْ تَجُزْ الْإِجَارَةُ انْتَهَى .
إذْ لَا يَخْفَى أَنَّ التَّعْلِيلَ الْمَذْكُورَ فِي الْكِتَابِ مِنْ قِبَلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي

مَسْأَلَتِنَا يَقْتَضِي أَنْ لَا تَبْطُلَ الْإِجَارَةُ فِي تِلْكَ الْمَسَائِلِ أَيْضًا ، فَإِنَّ الْإِجَارَةَ إنَّمَا تَرِدُ عَلَى مَنْفَعَةِ الْبَيْتِ وَلِهَذَا يَجِبُ الْأَجْرُ بِمُجَرَّدِ التَّسْلِيمِ ، وَمَنْفَعَةُ الْبَيْتِ لَيْسَ بِطَاعَةٍ وَلَا مَعْصِيَةٍ ، وَإِنَّمَا الطَّاعَةُ وَالْمَعْصِيَةُ بِفِعْلِ الْمُسْتَأْجِرِ وَهُوَ مُخْتَارٌ فِيهِ .
فَقَطَعَ نِسْبَةَ ذَلِكَ الْفِعْلِ عَنْ الْمُؤَجِّرِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَصِحَّ الْإِجَارَةُ فِيهَا أَيْضًا عِنْدَهُ مَعَ أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ كَمَا عَرَفْت .
فَإِنْ قُلْت : إنَّ الْإِجَارَةَ وَإِنْ وَرَدَتْ عَلَى مَنْفَعَةِ الْبَيْتِ إلَّا أَنَّ لِجَعْلِ مَنْفَعَتِهِ حِينَ الْعَقْدِ لِأَجْلِ الطَّاعَةِ أَوْ الْمَعْصِيَةِ تَأْثِيرًا فِي بُطْلَانِ الْإِجَارَةِ .
قُلْت : فَلْيَكُنْ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ أَيْضًا .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ تِلْكَ الْمَسَائِلِ وَمَسْأَلَتِنَا هَذِهِ فِي الْحُكْمِ وَالدَّلِيلِ مُشْكِلٌ جِدًّا فَلْيُتَأَمَّلْ .
ثُمَّ إنَّهُ ذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ وَالْمُحِيطِ : إذَا اسْتَأْجَرَ الذِّمِّيُّ مِنْ الْمُسْلِمِ دَارًا لِيَسْكُنَهَا فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ وَقَعَتْ عَلَى أَمْرٍ مُبَاحٍ فَجَازَتْ .
وَإِنْ شَرِبَ فِيهَا الْخَمْرَ أَوْ عَبَدَ فِيهَا الصَّلِيبَ أَوْ أَدْخَلَ فِيهَا الْخَنَازِيرَ لَمْ يَلْحَقْ الْمُسْلِمَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَمْ يُؤَاجِرْهَا لَهَا إنَّمَا أَجَّرَ لِلسُّكْنَى فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَجَّرَ دَارًا مِنْ فَاسِقٍ كَانَ مُبَاحًا وَإِنْ كَانَ قَدْ يَعْصِي فِيهَا ، وَلَوْ اتَّخَذَ فِيهَا بِيعَةً أَوْ كَنِيسَةً أَوْ بَيْتَ نَارٍ يُمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ إنْ كَانَ فِي السَّوَادِ .
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ : وَأَرَادَ بِهَذَا إذَا اسْتَأْجَرَهَا الذِّمِّيُّ لِيَسْكُنَهَا ، ثُمَّ أَرَادَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَتَّخِذَ كَنِيسَةً أَوْ بِيعَةً فِيهَا ، فَأَمَّا إذَا اسْتَأْجَرَهَا فِي الِابْتِدَاءِ لِيَتَّخِذَهَا بِيعَةً أَوْ كَنِيسَةً لَا يَجُوزُ إلَى هُنَا لَفْظُ الذَّخِيرَةِ وَالْمُحِيطِ .
قَالَ : بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ عَنْ صَاحِبِ الْمُحِيطِ : وَلَا خَفَاءَ فِيمَا بَيْنَهُ

وَبَيْنَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ التَّنَافِي .
أَقُولُ : إنَّ التَّنَافِيَ بَيْنَهُمَا مَمْنُوعٌ .
إذْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِنَاءُ قَوْلِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ فَأَمَّا إذَا اسْتَأْجَرَهَا فِي الِابْتِدَاءِ لِيَتَّخِذَهَا بِيعَةً أَوْ كَنِيسَةً لَا يَجُوزُ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، لِكَوْنِ مُخْتَارِ نَفْسِهِ قَوْلَهُمَا ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ التَّنَافِي بَيْنَهُمَا .
أَنْ لَوْ قَالَ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَوْ قَالَ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا وَلَيْسَ فَلَيْسَ .
وَذِكْرُ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْخِلَافِيَّةِ بِدُونِ بَيَانِ الْخِلَافِ لَيْسَ بِعَزِيزٍ فِي كَلَامِ الثِّقَاتِ .
وَعَنْ هَذَا نَرَى كَثِيرًا مِنْ أَصْحَابِ الْمُتُونِ يَذْكُرُونَ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَسَائِلِ الْخِلَافِيَّةِ بِدُونِ بَيَانِ الْخِلَافِ .
ثُمَّ الشُّرَّاحُ يُبَيِّنُونَ الْخِلَافَ الْوَاقِعَ فِي ذَلِكَ ، وَكَيْفَ لَا يَكُونُ مُرَادُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ بِقَوْلِهِ الْمَزْبُورَ مَا ذَكَرْنَاهُ .
وَقَدْ صَرَّحَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِأَنَّهُ لَا بَأْسَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ تُؤَاجِرَ بَيْتَك لِيُتَّخَذَ فِيهِ بَيْتُ نَارٍ أَوْ كَنِيسَةٌ أَوْ بِيعَةٌ أَوْ يُبَاعُ الْخَمْرُ فِيهِ بِالسَّوَادِ .
وَهَلْ يَلِيقُ بِمِثْلِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ أَنْ يَغْفُلَ عَنْ مَسْأَلَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ .
ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ الْبَعْضُ : ثُمَّ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ صَرِيحٌ فِي أَنَّ إجَارَةَ الْبَيْتِ لِيُبَاعَ فِيهِ الْخَمْرُ مَعَ كَوْنِهِ مَعْصِيَةً إنَّمَا صَحَّتْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِتَخَلُّلِ فِعْلِ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ .
وَقَدْ صَرَّحَ صَاحِبُ الْمُحِيطِ بِأَنَّ صِحَّتَهَا لِعَدَمِ كَوْنِ بَيْعِ الْخَمْرِ مَعْصِيَةً لِلذِّمِّيِّ كَشُرْبِهِ ، لِأَنَّ خِطَابَ التَّحْرِيمِ غَيْرُ نَازِلٍ فِي حَقِّهِ ، وَلَا خَفَاءَ فِيمَا بَيْنَهُمَا أَيْضًا مِنْ التَّنَافِي انْتَهَى .
أَقُولُ : كَوْنُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ صَرِيحًا فِيمَا ذَكَرَهُ مَمْنُوعٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَإِنَّمَا الْمَعْصِيَةُ بِفِعْلِ الْمُسْتَأْجِرِ وَهُوَ مُخْتَارٌ فِيهِ خَارِجًا

مَخْرَجَ التَّغْلِيبِ .
فَإِنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ صُوَرًا : إيجَارُ الْبَيْتِ لَأَنْ يُتَّخَذَ فِيهِ بَيْتُ نَارٍ وَإِيجَارُهُ لَأَنْ يُتَّخَذَ فِيهِ كَنِيسَةٌ ، وَإِيجَارُهُ لَأَنْ يُتَّخَذَ فِيهِ بِيعَةٌ .
وَإِيجَارُهُ لَأَنْ يُبَاعَ فِيهِ الْخَمْرُ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ اتِّخَاذَ بَيْتِ النَّارِ وَاِتِّخَاذَ الْكَنِيسَةِ وَاِتِّخَاذَ الْبِيعَةِ مَعْصِيَةٌ لِلذِّمِّيِّ أَيْضًا لِكَوْنِ الْكُفَّارِ مُخَاطَبِينَ بِالْإِيمَانِ بِلَا خِلَافٍ .
وَاِتِّخَاذُ تِلْكَ الْأُمُورِ يُنَافِي الْإِيمَانَ فَكَانَتْ مَعْصِيَةً قَطْعًا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْعُ الْخَمْرِ مَعْصِيَةً لِلْكَافِرِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ خِطَابَ التَّحْرِيمِ غَيْرُ نَازِلٍ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الصُّوَرُ الثَّلَاثُ الْأُولَى مُغَلَّبَةً عَلَى صُورَةِ بَيْعِ الْخَمْرِ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ ، وَإِنَّمَا الْمَعْصِيَةُ بِفِعْلِ الْمُسْتَأْجِرِ وَهُوَ مُخْتَارٌ فِيهِ قَطْعًا فَقَطَعَ نِسْبَتَهُ عَنْهُ ، فَكَأَنَّهُ قَالَ : وَإِنَّمَا الْمَعْصِيَةُ فِي صُورَةِ اتِّخَاذِ الْمَعْصِيَةِ بِفِعْلِ الْمُسْتَأْجِرِ وَهُوَ مُخْتَارٌ فِيهِ فَقَطَعَ نِسْبَةَ ذَلِكَ الْفِعْلِ عَنْ الْمُؤَجِّرِ .
وَأَمَّا فِي غَيْرِ صُورَةِ اتِّخَاذِ الْمَعْصِيَةِ وَهِيَ صُورَةُ بَيْعِ الذِّمِّيِّ الْخَمْرَ فَالْأَمْرُ بَيِّنٌ ، فَحِينَئِذٍ لَا يَتَحَقَّقُ التَّنَافِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الْمُحِيطِ كَمَا لَا يَخْفَى ، ثُمَّ إنَّهُ لَوْ سَلِمَ دَلَالَةُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ عَلَى كَوْنِ بَيْعِ الْخَمْرِ أَيْضًا مَعْصِيَةً لِلذِّمِّيِّ فَلَا ضَيْرَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ فِي نُزُولِ خِطَابِ التَّحْرِيمِ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ قَوْلَيْنِ مِنْ مَشَايِخِنَا ، فَعِنْدَ بَعْضِهِمْ غَيْرُ نَازِلٍ وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ نَازِلٌ كَمَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ فِي فَصْلِ أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِالشَّرَائِعِ أَمْ لَا ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَبْنَى كَلَامِ صَاحِبِ الْمُحِيطِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَمَبْنَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي ، وَلِكُلٍّ وَجِهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا

قَالَ ( وَمَنْ حَمَلَ لِذِمِّيٍّ خَمْرًا فَإِنَّهُ يَطِيبُ لَهُ الْأَجْرُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ ) ؛ لِأَنَّهُ إعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ ، وَقَدْ صَحَّ " أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَعَنَ فِي الْخَمْرِ عَشْرًا حَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَ إلَيْهِ " لَهُ أَنَّ الْمَعْصِيَةَ فِي شُرْبِهَا وَهُوَ فِعْلُ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ ، وَلَيْسَ الشِّرْبُ مِنْ ضَرُورَاتِ الْحَمْلِ وَلَا يُقْصَدُ بِهِ ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الْحَمْلِ الْمَقْرُونِ بِقَصْدِ الْمَعْصِيَةِ .

قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ بِنَاءِ بُيُوتِ مَكَّةَ ، وَيُكْرَهُ بَيْعُ أَرْضِهَا ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَا : لَا بَأْسَ بِبَيْعِ أَرْضِهَا أَيْضًا .
وَهَذَا رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لَهُمْ لِظُهُورِ الِاخْتِصَاصِ الشَّرْعِيِّ بِهَا فَصَارَ كَالْبِنَاءِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَلَا إنَّ مَكَّةَ حَرَامٌ لَا تُبَاعُ رِبَاعُهَا وَلَا تُورَثُ } وَلِأَنَّهَا حُرَّةٌ مُحْتَرَمَةٌ لِأَنَّهَا فِنَاءُ الْكَعْبَةِ .
وَقَدْ ظَهَرَ آيَةُ أَثَرِ التَّعْظِيمِ فِيهَا حَتَّى لَا يُنَفَّرَ صَيْدُهَا وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا وَلَا يُعْضَدُ شَوْكُهَا ، فَكَذَا فِي حَقِّ الْبَيْعِ ، بِخِلَافِ الْبِنَاءِ ؛ لِأَنَّهُ خَالِصُ مِلْكِ الْبَانِي .
وَيُكْرَهُ إجَارَتُهَا أَيْضًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ آجَرَ أَرْضَ مَكَّةَ فَكَأَنَّمَا أَكَلَ الرِّبَا } وَلِأَنَّ أَرَاضِيَ مَكَّةَ تُسَمَّى السَّوَائِبَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَنْ احْتَاجَ إلَيْهَا سَكَنَهَا وَمَنْ اسْتَغْنَى عَنْهَا أُسْكِنَ غَيْرَهُ

( قَوْلُهُ وَقَالَا : لَا بَأْسَ بِبَيْعِ أَرْضِهَا وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لَهُمْ لِظُهُورِ الِاخْتِصَاصِ الشَّرْعِيِّ بِهَا فَصَارَ كَالْبِنَاءِ ) قَالَ فِي الْكَافِي بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا التَّعْلِيلِ : وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رَبْعٍ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ عَقَارَ مَكَّةَ عُرْضَةٌ لِلتَّمْلِيكِ انْتَهَى .
وَأَصْلُ هَذَا عَلَى مَا ذُكِرَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ وَغَيْرِهَا مَا رَوَى الطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ الْآثَارِ بِإِسْنَادِهِ إلَى { أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ انْزِلْ فِي دَارِك بِمَكَّةَ ؟ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ أَوْ دُورٍ } وَكَانَ عَقِيلٌ وَرِثَ أَبَا طَالِبٍ وَطَالِبٌ ، وَلَمْ يَرِثْهُ جَعْفَرٌ وَلَا عَلِيٌّ لِأَنَّهُمَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ ، وَكَانَ عَقِيلٌ وَطَالِبٌ كَافِرَيْنِ ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ يَقُولُ : لَا يَرِثُ الْمُؤْمِنَ الْكَافِرُ .
فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَرْضَ مَكَّةَ تُمْلَكُ وَتُورَثُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ فِيهَا مِيرَاثَ عَقِيلٍ وَطَالِبٍ مِمَّا تَرَكَ أَبُو طَالِبٍ فِيهَا مِنْ رِبَاعٍ وَدُورٍ انْتَهَى .
ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ مَا فِي الْكَافِي وَأَصْلِهِ الْمَزْبُورِ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ قَالَ : وَلَا يَخْفَى عَلَيْك أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَا يَدُلُّ عَلَى مِيرَاثِ الْأَرْضِ قَطْعًا لِاحْتِمَالِ جَرَيَانِ الْإِرْثِ عَلَى الْأَبْنِيَةِ دُونَ الْأَرَاضِيِ ؛ أَلَّا يَرَى إلَى صِحَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ أَيْضًا لَوْ كَانَتْ الْأَرَاضِي مَوْقُوفَةً وَالْأَبْنِيَةُ عَلَيْهَا مَمْلُوكَةً ا هـ .
أَقُولُ : بَلْ لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى تَمْيِيزٍ أَنَّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ يَدُلُّ عَلَى مِيرَاثِ الْأَرْضِ أَيْضًا قَطْعًا .
إذْ قَدْ ذَكَرَ فِيهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ أَوْ دُورٍ } وَالرِّبَاعُ جَمْعُ رَبْعٍ وَهُوَ الدَّارُ بِعَيْنِهَا حَيْثُ كَانَتْ وَالْمَحَلَّةُ وَالْمَنْزِلُ ، كَذَا فِي

الْقَامُوسِ وَغَيْرِهِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلًّا مِنْ الدَّارِ وَالْمَحَلَّةِ وَالْمَنْزِلِ اسْمٌ لِمَا يَشْمَلُ الْبِنَاءَ وَالْعَرْصَةَ الَّتِي هِيَ الْأَرْضُ ، فَكَانَ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ أَوْ دُورٍ مَا تَرَكَ لَنَا شَيْئًا مِنْ الْبِنَاءِ وَالْأَرْضِ } وَإِذَا كَانَ وَجْهُ عَدَمِ تَرْكِهِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ اسْتِيلَاءٌ عَلَى كُلٍّ مِنْ ذَلِكَ بِالْإِرْثِ مِنْ أَبِي طَالِبٍ كَمَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ الْآثَارِ دَلَّ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ قَطْعًا عَلَى مِيرَاثِ الْأَرْضِ أَيْضًا ، إنَّمَا لَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ لَوْ كَانَ لَفْظُ الْحَدِيثِ : وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ بُيُوتٍ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ كَمَا تَرَى ، بَلْ لَا مَجَالَ أَصْلًا لَأَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ ، إذَا لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا تَمَّ جَوَابًا عَنْ { قَوْلِ أُسَامَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ انْزِلْ فِي دَارِك بِمَكَّةَ } ، فَإِنَّ عَدَمَ تَرْكِ عَقِيلٍ بَيْتًا بِاسْتِيلَائِهِ عَلَى الْأَبْنِيَةِ وَحْدَهَا لَا يَقْتَضِي عَدَمَ تَرْكِهِ أَرْضًا أَيْضًا حَتَّى لَا يُمْكِنَ النُّزُولُ فِي عَرْصَةِ دَارِهِ أَيْضًا ، وَهَذَا مَعَ وُضُوحِهِ كَيْفَ خَفِيَ عَلَى ذَلِكَ الْبَعْضُ .
وَالْعَجَبُ أَنَّهُ قَالَ فِي حَاشِيَةِ كِتَابِهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ : الرِّبَاعُ جَمْعُ رَبْعٍ وَهُوَ الدَّارُ بِعَيْنِهَا وَالْمَحَلَّةُ وَالْمَنْزِلُ ، كَذَا فِي الْقَامُوسِ انْتَهَى .
وَقَالَ فِي أَصْلِ كِتَابِهِ : وَلَا يَخْفَى عَلَيْك أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَا يَدُلُّ عَلَى مِيرَاثِ الْأَرْضِ قَطْعًا لِاحْتِمَالِ جَرَيَانِ الْإِرْثِ عَلَى الْأَبْنِيَةِ دُونَ الْأَرَاضِيِ ، وَلَمْ يُلَاحِظْ أَنَّهُ عَلَى ذَلِكَ كَيْفَ يَتِمُّ جَوَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ { وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ أَوْ دُورٍ } وَاَللَّهُ الْهَادِي إلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ ، وَهُوَ حَسْبِي وَنِعْمَ الْوَكِيلُ .

( وَمَنْ وَضَعَ دِرْهَمًا عِنْدَ بَقَّالٍ يَأْخُذُ مِنْهُ مَا شَاءَ يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ ) ؛ لِأَنَّهُ مَلَّكَهُ قَرْضًا جَرَّ بِهِ نَفْعًا ، وَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ مَا شَاءَ حَالًّا فَحَالًّا .
{ وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ قَرْضٍ جَرَّ نَفْعًا } ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَوْدِعَهُ ثُمَّ يَأْخُذَ مِنْهُ مَا شَاءَ جُزْءًا فَجُزْءًا ؛ لِأَنَّهُ وَدِيعَةٌ وَلَيْسَ بِقَرْضٍ ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ لَا شَيْءَ عَلَى الْآخِذِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( مَسَائِلُ مُتَفَرِّقَةٌ ) قَالَ ( وَيُكْرَهُ التَّعْشِيرُ وَالنَّقْطُ فِي الْمُصْحَفِ ) لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : جَرِّدُوا الْقُرْآنَ .
وَيُرْوَى : جَرِّدُوا الْمَصَاحِفَ .
وَفِي التَّعْشِيرِ وَالنَّقْطِ تَرْكُ التَّجْرِيدِ .
وَلِأَنَّ التَّعْشِيرَ يُخِلُّ بِحِفْظِ الْآيِ وَالنَّقْطُ بِحِفْظِ الْإِعْرَابِ اتِّكَالًا عَلَيْهِ فَيُكْرَهُ .
قَالُوا : فِي زَمَانِنَا لَا بُدَّ لِلْعَجَمِ مِنْ دَلَالَةٍ .
فَتَرْكُ ذَلِكَ إخْلَالٌ بِالْحِفْظِ وَهِجْرَانٌ لِلْقُرْآنِ فَيَكُونُ حَسَنًا قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِتَحْلِيَةِ الْمُصْحَفَ ) لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْظِيمِهِ .
وَصَارَ كَنَقْشِ الْمَسْجِدِ وَتَزْيِينِهِ بِمَاءِ الذَّهَبِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ .
( مَسَائِلُ مُتَفَرِّقَةٌ ) ( قَوْلُهُ وَلَا بَأْسَ بِتَحْلِيَةٍ الْمُصْحَفِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْظِيمِهِ ، وَصَارَ كَنَقْشِ الْمَسْجِدِ وَتَزْيِينِهِ بِمَاءِ الذَّهَبِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ ) قَالَ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : يَعْنِي فِي فَصْلِ الْقِرَاءَةِ مِنْ الصَّلَاةِ ، وَقَدْ سَبَقَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ فِي التَّفْسِيرِ بِهَذَا الْوَجْهِ .
أَقُولُ : هَذَا سَهْوٌ مِنْ الشَّارِحَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ مَا ذَكَرَهُ فِي فَصْلِ الْقِرَاءَةِ مِنْ الصَّلَاةِ لَا صَرِيحًا وَلَا الْتِزَامًا ، بَلْ إنَّمَا ذَكَرَهُ فِي آخِرِ بَابِ مَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ وَمَا يُكْرَهُ فِيهَا مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ فِي فَصْلٍ أَوَّلُهُ : وَيُكْرَهُ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ بِالْفَرْجِ فِي الْخَلَاءِ يَظْهَرُ ذَلِكَ بِالنَّظَرِ إلَى مَحَلِّهِ

قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَدْخُلَ أَهْلُ الذِّمَّةِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُكْرَهُ ذَلِكَ : وَقَالَ مَالِكٌ : يُكْرَهُ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ .
لِلشَّافِعِيِّ قَوْله تَعَالَى { إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } وَلِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يَخْلُو عَنْ جَنَابَةٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَغْتَسِلُ اغْتِسَالًا يُخْرِجُهُ عَنْهَا ، وَالْجُنُبُ يَجْنَبُ الْمَسْجِدَ ، وَبِهَذَا يَحْتَجُّ مَالِكٌ ، وَالتَّعْلِيلُ بِالنَّجَاسَةِ عَامٌّ فَيَنْتَظِمُ الْمَسَاجِدَ كُلَّهَا .
وَلَنَا مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْزَلَ وَفْدَ ثَقِيفٍ فِي مَسْجِدِهِ وَهُمْ كُفَّارٌ } وَلِأَنَّ الْخُبْثَ فِي اعْتِقَادِهِمْ فَلَا يُؤَدِّي إلَى تَلْوِيثِ الْمَسْجِدِ .
وَالْآيَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْحُضُورِ اسْتِيلَاءً وَاسْتِعْلَاءً أَوْ طَائِفِينَ عُرَاةً كَمَا كَانَتْ عَادَتُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ .

قَوْلُهُ لِلشَّافِعِيِّ قَوْله تَعَالَى { إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } ) قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ فِي حِلِّ دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى مُدَّعَى الشَّافِعِيِّ : خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بِالذِّكْرِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الدُّخُولِ خَاصٌّ فِي حَقِّهِ ؛ لِأَنَّ " إنَّمَا " لِحَصْرِ الْحُكْمِ فِي الشَّيْءِ أَوْ لِحَصْرِ الشَّيْءِ فِي الْحُكْمِ كَقَوْلِنَا إنَّمَا الطَّبِيبُ زَيْدٌ ، وَإِنَّمَا زَيْدٌ طَبِيبٌ ا هـ .
أَقُولُ : إنَّ قَوْلَهُ : لِأَنَّ إنَّمَا لِحَصْرِ الْحُكْمِ فِي الشَّيْءِ أَوْ لِحَصْرِ الشَّيْءِ فِي الْحُكْمِ لَيْسَ بِكَلَامٍ مُفِيدٍ هَاهُنَا ؛ لِأَنَّ الْخِلَافَ فِي أَنَّ الْكُفَّارَ هَلْ يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ أَمْ لَا ، لَا فِي أَنَّهُمْ نَجَسٌ أَمْ لَا ، وَكَلِمَةُ إنَّمَا فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ إنَّمَا هِيَ فِي قَوْله تَعَالَى { إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } ، لَا فِي قَوْله تَعَالَى { فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } ، فَتَأْثِيرُ الْحَصْرِ الَّذِي تُفِيدُهُ كَلِمَةُ إنَّمَا هُوَ فِي الْجُمْلَةِ الَّتِي دَخَلَتْ عَلَيْهَا كَلِمَةُ إنَّمَا لَا فِي الْجُمْلَةِ الْأُخْرَى فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ ، ( قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يَخْلُو عَنْ جَنَابَةٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَغْتَسِلُ اغْتِسَالًا يُخْرِجُهُ عَنْهَا ، وَالْجُنُبُ يَجْنَبُ الْمَسْجِدَ ) أَقُولُ : لَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّ هَذَا الدَّلِيلَ لَوْ تَمَّ لَدَلَّ عَلَى أَنْ لَا يَدْخُلَ الْكَافِرُ شَيْئًا مِنْ الْمَسَاجِدِ ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ دُخُولُ الْكَافِرِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ دُونَ سَائِرِ الْمَسَاجِدِ ، فَلَمْ يَكُنْ هَذَا الدَّلِيلُ مُلَائِمًا لِمَذْهَبِهِ ، وَإِنَّمَا كَانَ مُنَاسِبًا لِمَذْهَبِ مَالِكٍ كَمَا لَا يَخْفَى ( قَوْلُهُ : وَلِأَنَّ الْخُبْثَ فِي اعْتِقَادِهِمْ فَلَا يُؤَدِّي إلَى تَلْوِيثِ الْمَسْجِدِ ) قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ : ظَاهِرُهُ أَنَّ هَذَا دَلِيلٌ آخَرُ وَلَا وَجْهَ لَهُ ، فَحَقُّ التَّعْبِيرِ حَذْفُ حَرْفِ التَّعْلِيلِ لِيَكُونَ إشَارَةً إلَى دَفْعِ أَنْ

يُقَالَ كَيْفَ أَنْزَلَهُمْ فِي مَسْجِدِهِ ، وَقَدْ وَصَفَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِكَوْنِهِمْ أَنْجَاسًا انْتَهَى .
أَقُولُ : لَيْسَ ذَاكَ بِشَيْءٍ ، إذْ لَا شَكَّ فِي صِحَّةِ أَنْ يَكُونَ هَذَا دَلِيلًا آخَرَ عَقْلِيًّا لَنَا .
فَإِنَّ الْخُبْثَ إذَا كَانَ فِي اعْتِقَادِهِمْ لَا يُؤَدِّي إلَى تَلْوِيثِ الْمَسْجِدِ فَلَا يَكُونُ فِي دُخُولِهِمْ الْمَسْجِدَ بَأْسٌ لَا مَحَالَةَ ، فَقَوْلُ ذَلِكَ الْبَعْضِ وَلَا وَجْهَ لَهُ تَحَكُّمٌ بَحْتٌ كَمَا لَا يَخْفَى ، وَكَوْنُهُ دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا عَلَى أُصُولِ الْمُدَّعَى لَا يُنَافِي أَنْ يَتَضَمَّنَ الْجَوَابَ عَنْ أَنْ يُقَالَ : كَيْفَ أَنْزَلَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَفْدَ ثَقِيفٍ فِي مَسْجِدِهِ ، وَهُمْ كُفَّارٌ وَقَدْ وَصَفَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِكَوْنِهِمْ نَجَسًا .
كَمَا حَكَى { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا أَنْزَلَهُمْ فِي مَسْجِدِهِ وَضَرَبَ لَهُمْ خَيْمَةً ، قَالَتْ الصَّحَابَةُ : قَوْمٌ أَنْجَاسٌ ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَيْسَ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ أَنْجَاسِهِمْ شَيْءٌ ، وَإِنَّمَا أَنْجَاسُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ } وَمِنْ عَادَةِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ يَجْعَلُ كَثِيرًا مَا عِلَّةَ النَّصِّ دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا عَقْلِيًّا عَلَى أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ إفَادَةً لِلْفَائِدَتَيْنِ مَعًا ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ أَيْضًا مِنْ ذَلِكَ الْقَبِيلِ .
نَعَمْ يَرِدُ عَلَى ظَاهِرِ هَذَا الدَّلِيلِ أَنَّهُ تَعْلِيلٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } وَالتَّعْلِيلُ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ غَيْرُ صَحِيحٍ عَلَى مَا عُرِفَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ ، فَأَجَابَ الْمُصَنِّفُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ وَالْآيَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْحُضُورِ اسْتِيلَاءً إلَى آخِرِهِ

قَالَ ( وَيُكْرَهُ اسْتِخْدَامُ الْخُصْيَانِ ) ؛ لِأَنَّ الرَّغْبَةَ فِي اسْتِخْدَامِهِمْ حَثُّ النَّاسِ عَلَى هَذَا الصَّنِيعِ وَهُوَ مُثْلَةٌ مُحَرَّمَةٌ
( قَوْلُهُ وَيُكْرَهُ اسْتِخْدَامُ الْخُصْيَانِ ) قَالَ الْعَيْنِيُّ : وَالْخُصْيَانُ بِضَمِّ الْخَاءِ جَمْعُ خَصِيٍّ كَالثُّنْيَانِ جَمْعُ ثَنِيٍّ ، وَتَبِعَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ ، أَقُولُ : مَا ذَكَرَاهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّ الْمَضْبُوطَ فِي عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ مِنْ كُتُبِ اللُّغَةِ أَنَّ جَمْعَ خَصِيٍّ هُوَ خُصْيَانٌ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَخُصْيَةٌ .
قَالَ فِي مُخْتَارِ الصِّحَاحِ : وَالرَّجُلُ خَصِيٌّ وَالْجَمْعُ خُصْيَانٌ بِالْكَسْرِ وَخُصْيَةٌ انْتَهَى .
وَأَمَّا كَوْنُ الْخُصْيَانِ بِالضَّمِّ جَمْعُ خَصِيٍّ فَلَمْ يُسْمَعْ مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ قَطُّ

قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِخِصَاءِ الْبَهَائِمِ وَإِنْزَاءِ الْحَمِيرِ عَلَى الْخَيْلِ ) ؛ لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ مَنْفَعَةٌ لِلْبَهِيمَةِ وَالنَّاسِ .
وَقَدْ صَحَّ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَكِبَ الْبَغْلَةَ } فَلَوْ كَانَ هَذَا الْفِعْلُ حَرَامًا لَمَا رَكِبَهَا لِمَا فِيهِ مِنْ فَتْحِ بَابِهِ .

قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِعِيَادَةِ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ ) ؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ بِرٍّ فِي حَقِّهِمْ ، وَمَا نُهِينَا عَنْ ذَلِكَ ، وَقَدْ صَحَّ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَادَ يَهُودِيًّا مَرِضَ بِجِوَارِهِ } .

قَالَ ( وَيُكْرَهُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ فِي دُعَائِهِ : أَسْأَلُك بِمَعْقِدِ الْعِزِّ مِنْ عَرْشِك ) وَلِلْمَسْأَلَةِ عِبَارَتَانِ : هَذِهِ ، وَمَقْعَدُ الْعِزِّ ، وَلَا رَيْبَ فِي كَرَاهَةِ الثَّانِيَةِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْقُعُودِ ، وَكَذَا الْأَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ يُوهِمُ تَعَلُّقَ عِزِّهِ بِالْعَرْشِ وَهُوَ مُحْدَثٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ قَدِيمٌ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ .
وَبِهِ أَخَذَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ مَأْثُورٌ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ دُعَائِهِ { اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِمَعْقِدِ الْعِزِّ مِنْ عَرْشِك ؛ وَمُنْتَهَى الرَّحْمَةِ مِنْ كِتَابِك ، وَبِاسْمِك الْأَعْظَمِ وَجَدِّك الْأَعْلَى وَكَلِمَاتِك التَّامَّةِ } وَلَكِنَّا نَقُولُ : هَذَا خَبَرُ وَاحِدٍ فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ فِي الِامْتِنَاعِ ( وَيُكْرَهُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ فِي دُعَائِهِ بِحَقِّ فُلَانٍ أَوْ بِحَقِّ أَنْبِيَائِك وَرُسُلِك ) ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْمَخْلُوقِ عَلَى الْخَالِقِ .

( قَوْلُهُ وَكَذَا الْأَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ يُوهِمُ تَعَلُّقَ عِزِّهِ بِالْعَرْشِ وَهُوَ مُحْدَثٌ .
وَاَللَّهُ تَعَالَى بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ قَدِيمٌ ) قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ : يَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّ حُدُوثَ تَعَلُّقِ صِفَتِهِ تَعَالَى بِشَيْءٍ حَادِثٍ لَا يُوجِبُ حُدُوثَ تِلْكَ الصِّفَةِ لِعَدَمِ تَوَقُّفِهَا عَلَى ذَلِكَ التَّعَلُّقِ ، فَإِنَّ صِفَةَ الْعِزِّ الثَّابِتَةِ لَهُ تَعَالَى أَزَلًا وَأَبَدًا ، وَعَدَمُ تَعَلُّقِهِ بِالْعَرْشِ الْحَادِثِ مَثَلًا قَبْلَ خَلْقِهِ لَا يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءَ عِزِّهِ وَلَا نُقْصَانًا فِيهِ ، كَمَا أَنَّ عَدَمَ تَعَلُّقِ كَمَالِ قُدْرَتِهِ بِهَذَا الْعَالَمِ الْعَجِيبِ الصُّنْعِ قَبْلَ خَلْقِهِ لَا يُوجِبُ عَدَمَ قُدْرَتِهِ أَوْ نَقْصًا فِيهِ .
وَبِالْجُمْلَةِ التَّعَلُّقَاتُ الْحَادِثَةُ مَظَاهِرُ لِلصِّفَاتِ لَا مُبَادَ لَهَا ، فَالْأَوْلَى فِي تَقْرِيرِ الدَّلِيلِ أَنْ يُقَالَ كَمَا قَالَ صَاحِبُ الْكَافِي ؛ لِأَنَّهُ يُوهِمُ تَعَلُّقَ عِزِّهِ بِالْعَرْشِ وَأَنَّ عِزَّهُ حَادِثٌ ، وَالْعِزُّ صِفَتُهُ الْقَدِيمَةُ حَيْثُ جَعَلَ لُزُومَ كَوْنِ عِزِّهِ حَادِثًا دَاخِلًا فِي حَيِّزِ الْإِيهَامِ فَتَأَمَّلْ ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
أَقُولُ : إنَّ صَاحِبَ الْكَافِي وَإِنْ جَعَلَ لُزُومَ كَوْنِ عِزِّهِ حَادِثًا دَاخِلًا فِي حَيِّزِ الْإِيهَامِ إلَّا أَنَّهُ عَلَّلَ إيهَامَ أَنَّ عِزَّهُ حَادِثٌ بِتَعَلُّقِهِ بِالْمُحْدَثِ حَيْثُ قَالَ : لِأَنَّهُ يُوهِمُ تَعَلُّقَ عِزِّهِ بِالْعَرْشِ ، وَأَنَّ عِزَّهُ حَادِثٌ لِتَعَلُّقِهِ بِالْمُحْدَثِ ، وَالْعِزُّ صِفَتُهُ الْقَدِيمَةُ لَمْ يَزَلْ مَوْصُوفًا بِهِ وَلَا يَزَالُ مَوْصُوفًا بِهِ انْتَهَى .
فَكَانَ مَدَارُ مَا قَالَهُ صَاحِبُ الْكَافِي أَيْضًا لُزُومُ تَعَلُّقِ عِزِّهِ بِالْمُحْدَثِ فَلَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ فِي وُرُودِ مَا ذَكَرَهُ ذَلِكَ الْقَائِلُ ، فَلَا مَعْنًى لِقَوْلِهِ فَالْأَوْلَى فِي تَقْرِيرِ الدَّلِيلِ أَنْ يُقَالَ كَمَا قَالَهُ صَاحِبُ الْكَافِي وَإِنْ لَمْ يَرَ ذَلِكَ الْقَائِلُ قَوْلَ صَاحِبِ الْكَافِي لِتَعَلُّقِهِ بِالْمُحْدَثِ فَكَوْنُ عِلَّةِ قَوْلِهِ : وَإِنَّ عِزَّهُ حَادِثٌ تَعَلُّقَهُ بِالْمُحْدَثِ ظَاهِرٌ وَإِنْ

لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ ، إذْ لَا شَيْءَ يَصْلُحُ لَأَنْ يَكُونَ عِلَّةً لَهُ سِوَاهُ ، وَعَنْ هَذَا تَرَى كُلَّ مَنْ بَيَّنَ وَجْهَ الْكَرَاهَةِ فِي الدُّعَاءِ الْمَذْكُورِ مِنْ مَشَايِخِنَا جَعَلَ الْمَدَارَ لُزُومَ تَعَلُّقِ عِزِّهِ بِالْحَادِثِ .
قَالَ فِي الْمُحِيطِ : وَأَمَّا بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ فَلِأَنَّهُ يُوهِمُ تَعَلُّقَ عِزِّهِ بِالْعَرْشِ ، وَأَنَّ عِزَّهُ حَادِثٌ إذْ تَعَلَّقَ بِالْمُحْدَثِ وَاَللَّهُ تَعَالَى مُتَعَالٍ عَنْ صِفَةِ الْحُدُوثِ انْتَهَى .
وَقَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : وَإِنْ كَانَ مِنْ الْعَقْدِ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ فِي هَذَا الدُّعَاءِ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ يُوهِمُ تَعَلُّقَ عِزِّهِ بِالْعَرْشِ ، وَأَنَّ عِزَّهُ حَادِثٌ إذْ تَعَلَّقَ بِالْمُحْدَثِ وَاَللَّهُ تَعَالَى عَزِيزٌ لَمْ يَزَلْ مَوْصُوفًا بِهِ وَلَا يُزَالُ مَوْصُوفًا بِهِ انْتَهَى .
إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ عِبَارَاتِ الْمَشَايِخِ الْعِظَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ .
ثُمَّ أَقُولُ فِي الْجَوَابِ عَمَّا أَوْرَدَهُ ذَلِكَ الْبَعْضُ : الظَّاهِرُ أَنَّ مَا هَرَبُوا عَنْهُ هَاهُنَا لَيْسَ إيهَامُ مُطْلَقِ تَعَلُّقِ عِزِّهِ تَعَالَى بِالْمُحْدَثِ ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ أُصُولِ الدِّينِ أَنَّ ظُهُورَ الْمُحْدَثَاتِ كُلِّهَا وَبُرُوزِهَا مِنْ كَتْمِ الْعَدَمِ إلَى دَائِرَةِ الْوُجُودِ بِحَسَبِ تَعَلُّقِ إرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ بِذَلِكَ .
وَالْحُدُوثُ إنَّمَا هُوَ فِي التَّعَلُّقَاتِ دُونَ أَصْلِ الصِّفَاتِ ، وَلَا نُقْصَانَ فِي ذَلِكَ أَصْلًا بَلْ هُوَ كَمَالٌ مَحْضٌ لَا يَخْفَى ، فَكَذَا الْحَالُ فِي صِفَةِ عِزِّهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا مُرَادُهُمْ بِمَا هَرَبُوا عَنْهُ إيهَامُ تَعَلُّقِ عِزِّهِ تَعَالَى بِالْمُحْدَثِ تَعَلُّقًا خَاصًّا ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمُحْدَثُ مَبْدَأً وَمَنْشَأً لِعِزِّهِ تَعَالَى كَمَا يُوهِمُهُ كَلِمَةُ " مِنْ " فِي قَوْلِهِ " بِمَعْقِدِ الْعِزِّ مِنْ عَرْشِكَ " إذْ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ مِنْهَا فِي بَادِئِ الرَّأْيِ أَنْ تَكُونَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّ جَمِيعَ مَعَانِي مِنْ رَاجِعَةٌ إلَى مَعْنَى ابْتِدَاءِ الْغَايَةِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ

التَّعَلُّقَ بِالْمُحْدَثِ عَلَى الْوَجْهِ الْخَاصِّ الْمَذْكُورِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ فِي عِزِّهِ تَعَالَى وَلَا فِي صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى أَصْلًا ، وَكَيْفَ لَا يَكُونُ مُرَادُهُمْ هَذَا وَلَا مَحَالَةَ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْفَى عَلَى أَسَاطِينِ الْفُقَهَاءِ مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ أُصُولِ الدِّينِ مِنْ جَوَازِ تَعَلُّقِ صِفَاتِ اللَّهِ بِالْمُحْدَثَاتِ تَعَلُّقَ إفَاضَةٍ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُحْدَثَاتِ كُلَّهَا مَظَاهِرُ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا الْمُحَالُ تَعَلُّقُ صِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْمُحْدَثِ تَعَلُّقَ اسْتِفَاضَةٍ مِنْهُ فَهُوَ الْمَهْرُوبُ عَنْ إيهَامِهِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ بِلَا رَيْبٍ

قَالَ ( وَيُكْرَهُ اللَّعِبُ بِالشِّطْرَنْجِ وَالنَّرْدِ وَالْأَرْبَعَةَ عَشَرَ وَكُلِّ لَهْوٍ ) ؛ لِأَنَّهُ إنْ قَامَرَ بِهَا فَالْمَيْسِرُ حَرَامٌ بِالنَّصِّ وَهُوَ اسْمٌ لِكُلِّ قِمَارٍ ، وَإِنْ لَمْ يُقَامِرْ فَهُوَ عَبَثٌ وَلَهْوٌ .
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَهْوُ الْمُؤْمِنِ بَاطِلٌ إلَّا الثَّلَاثَ : تَأْدِيبُهُ لِفَرَسِهِ ، وَمُنَاضَلَتُهُ عَنْ قَوْسِهِ ، وَمُلَاعَبَتُهُ مَعَ أَهْلِهِ } وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ : يُبَاحُ اللَّعِبُ بِالشِّطْرَنْجِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَشْحِيذِ الْخَوَاطِرِ وَتَذْكِيَةِ الْأَفْهَامِ ، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ .
لَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ لَعِبَ بِالشِّطْرَنْجِ وَالنَّرْدَشِيرِ فَكَأَنَّمَا غَمَسَ يَدَهُ فِي دَمِ الْخِنْزِيرِ } وَلِأَنَّهُ نَوْعُ لَعِبٍ يَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الْجُمَعِ وَالْجَمَاعَاتِ فَيَكُونُ حَرَامًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَا أَلْهَاك عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ فَهُوَ مَيْسِرٌ } ثُمَّ إنْ قَامَرَ بِهِ تَسْقُطُ عَدَالَتُهُ ، وَإِنْ لَمْ يُقَامِرْ لَا تَسْقُطُ ؛ لِأَنَّهُ مُتَأَوِّلٌ فِيهِ .
وَكَرِهَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ التَّسْلِيمَ عَلَيْهِمْ تَحْذِيرًا لَهُمْ ، وَلَمْ يَرَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِهِ بَأْسًا لِيَشْغَلَهُمْ عَمَّا هُمْ فِيهِ .

قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِقَبُولِ هَدِيَّةِ الْعَبْدِ التَّاجِرِ وَإِجَابَةِ دَعْوَتِهِ وَاسْتِعَارَةُ دَابَّتِهِ .
وَتُكْرَهُ كِسْوَتُهُ الثَّوْبَ وَهَدِيَّتُهُ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ .
وَفِي الْقِيَاسِ : كُلُّ ذَلِكَ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ وَالْعَبْدُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَبِلَ هَدِيَّةَ سَلْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ كَانَ عَبْدًا ، وَقَبِلَ هَدِيَّةَ بَرِيرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَكَانَتْ مُكَاتَبَةً } وَأَجَابَ رَهْطٌ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ دَعْوَةَ مَوْلَى أَبِي أُسَيْدَ وَكَانَ عَبْدًا ، وَلِأَنَّ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ضَرُورَةً لَا يَجِدُ التَّاجِرُ بُدًّا مِنْهَا ، وَمَنْ مَلَكَ شَيْئًا يَمْلِكُ مَا هُوَ مِنْ ضَرُورَاتِهِ ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْكِسْوَةِ وَإِهْدَاءِ الدَّرَاهِمِ فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ .

قَالَ ( وَمَنْ كَانَ فِي يَدِهِ لَقِيطٌ لَا أَبَ لَهُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ قَبْضُهُ الْهِبَةَ وَالصَّدَقَةَ لَهُ ) وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ التَّصَرُّفَ عَلَى الصِّغَارِ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ : نَوْعٌ هُوَ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ لَا يَمْلِكُهُ إلَّا مَنْ هُوَ وَلِيٌّ كَالْإِنْكَاحِ وَالشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ لِأَمْوَالِ الْقُنْيَةِ ؛ لِأَنَّ الْوَلِيَّ هُوَ الَّذِي قَامَ مَقَامَهُ بِإِنَابَةِ الشَّرْعِ ، وَنَوْعٌ آخَرُ مَا كَانَ مِنْ ضَرُورَةِ حَالِ الصِّغَارِ وَهُوَ شِرَاءُ مَا لَا بُدَّ لِلصَّغِيرِ مِنْهُ وَبَيْعُهُ وَإِجَارَةُ الْأَظْآرِ .
وَذَلِكَ جَائِزٌ مِمَّنْ يَعُولُهُ وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ كَالْأَخِ وَالْعَمِّ وَالْأُمِّ وَالْمُلْتَقِطُ إذَا كَانَ فِي حِجْرِهِمْ .
وَإِذَا مَلَكَ هَؤُلَاءِ هَذَا النَّوْعَ فَالْوَلِيُّ أَوْلَى بِهِ ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي حَقِّ الْوَلِيِّ أَنْ يَكُونَ الصَّبِيُّ فِي حِجْرِهِ ، وَنَوْعٌ ثَالِثٌ مَا هُوَ نَفْعٌ مَحْضٌ كَقَبُولِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْقَبْضِ ، فَهَذَا يَمْلِكُهُ الْمُلْتَقِطُ وَالْأَخُ وَالْعَمُّ وَالصَّبِيُّ بِنَفْسِهِ إذَا كَانَ يَعْقِلُ ، لِأَنَّ اللَّائِقَ بِالْحِكْمَةِ فَتْحُ بَابِ مِثْلِهِ نَظَرًا لِلصَّبِيِّ فَيَمْلِكُ بِالْعَقْلِ وَالْوِلَايَةِ وَالْحِجْرِ وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْإِنْفَاقِ .
قَالَ ( وَلَا يَجُوزُ لِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يُؤَاجِرَهُ ، وَيَجُوزُ لِلْأُمِّ أَنْ تُؤَاجِرَ ابْنَهَا إذَا كَانَ فِي حِجْرِهَا وَلَا يَجُوزُ لِلْعَمِّ ) ؛ لِأَنَّ الْأُمَّ تَمْلِكُ إتْلَافَ مَنَافِعِهِ بِاسْتِخْدَامٍ ، وَلَا كَذَلِكَ الْمُلْتَقِطُ وَالْعَمُّ ( وَلَوْ أَجَّرَ الصَّبِيُّ نَفْسَهُ لَا يَجُوزُ ) ؛ لِأَنَّهُ مَشُوبٌ بِالضَّرَرِ ( إلَّا إذَا فَرَغَ مِنْ الْعَمَلِ ) ؛ لِأَنَّ عِنْدَ ذَلِكَ تَمَحَّضَ نَفْعًا فَيَجِبُ الْمُسَمَّى وَهُوَ نَظِيرُ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ يُؤَاجِرُ نَفْسَهُ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ .

( قَوْلُهُ قَالَ وَمَنْ كَانَ فِي يَدِهِ لَقِيطٌ لَا أَبَ لَهُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ قَبْضُهُ الْهِبَةَ وَالصَّدَقَةَ لَهُ ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ : اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ لَا أَبَ لَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لَازِمٍ فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ فِي صَغِيرَةٍ لَهَا زَوْجٌ هِيَ عِنْدَهُ يَعُولُهَا وَلَهَا أَبٌ فَوَهَبَ لَهَا أَنَّهَا لَوْ قَبَضَتْ أَوْ قَبَضَ لَهَا أَبُوهَا أَوْ زَوْجُهَا أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فَلَمْ يَمْتَنِعْ صِحَّةُ قَبْضِ الزَّوْجِ لَهَا بِقِيَامِ الْأَبِ ، فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ نَفْعًا مَحْضًا كَانَ تَحْقِيقُ مَعْنَاهُ فِي فَتْحِ بَابِ الْإِصَابَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ : مِنْ وَجْهِ الْوِلَايَةِ وَمِنْ وَجْهِ الْعَوْلِ وَالنَّفَقَةِ وَمِنْ وَجْهِ الْعَقْلِ وَالتَّمْيِيزِ ، فَثَبَتَ أَنَّ عَدَمَ الْأَبِ لَيْسَ بِلَازِمٍ ، كَذَا ذَكَرَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ انْتَهَى .
وَقَدْ أُطْبِقَتْ كَلِمَةُ سَائِرِ الشُّرَّاحِ أَيْضًا عَلَى أَنَّ عَدَمَ الْأَبِ لَيْسَ بِلَازِمٍ فِي حُكْمِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، وَإِنَّمَا هُوَ قَيْدٌ اتِّفَاقِيٌّ ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ كُلُّهُمْ بِمَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ مِنْ أَنَّ الصَّغِيرَةَ لَوْ كَانَتْ عِنْدَ زَوْجِهَا يَعُولُهَا وَلَهَا أَبٌ فَقَبَضَ زَوْجُهَا الْهِبَةَ لَهَا فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِكَوْنِهِ نَفْعًا مَحْضًا فَجَازَ قَبْضُ الْهِبَةِ لَهَا مَعَ قِيَامِ الْأَبِ ، غَيْرَ أَنَّ صَاحِبَيْ الْكِفَايَةِ وَالْعِنَايَةِ ذَكَرَاهُ بِطَرِيقِ النَّقْلِ عَنْ النِّهَايَةِ وَمَنْ عَدَاهُمَا ذَكَرُوهُ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ .
أَقُولُ : قَوْلُ الْكُلِّ لَيْسَ بِصَحِيحٍ عِنْدِي ، إذْ الثَّابِتُ مِمَّا ذَكَرُوهُ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ إنَّمَا هُوَ أَنَّ عَدَمَ الْأَبِ لَيْسَ بِلَازِمٍ فِي جَوَازِ قَبْضِ زَوْجِ الصَّغِيرَةِ الْهِبَةَ لَهَا إذَا كَانَتْ عِنْدَهُ يَعُولُهَا ، لَا أَنَّ عَدَمَ الْأَبِ لَيْسَ بِلَازِمٍ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ، وَهُوَ جَوَازُ قَبْضِ الْمُلْتَقِطِ الْهِبَةَ أَوْ الصَّدَقَةَ لِلَّقِيطِ الَّذِي فِي يَدِهِ لِتَحَقُّقِ الْفَرْقِ بَيْنَ زَوْجِ الصَّغِيرَةِ وَسَائِرِ مَنْ يَعُولُهَا فِي جَوَازِ قَبْضِ الْهِبَةِ لَهَا عِنْدَ وُجُودِ الْأَبِ كَمَا مَرَّ فِي نَفْسِ الْكِتَابِ فِي

كِتَابِ الْهِبَةِ مُتَّصِلًا بِالْمَسْأَلَةِ الَّتِي اسْتَشْهَدُوا بِهَا حَيْثُ قَالَ : وَفِيمَا وُهِبَ لِلصَّغِيرَةِ يَجُوزُ قَبْضُ زَوْجِهَا لَهَا بَعْدَ الزِّفَافِ لِتَفْوِيضِ الْأَبِ أُمُورَهَا إلَيْهِ دَلَالَةً .
بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الزِّفَافِ وَيَمْلِكُ مَعَ حَضْرَةِ الْأَبِ ، بِخِلَافِ الْأُمِّ وَكُلِّ مَنْ يَعُولُهَا غَيْرُهَا حَيْثُ لَا يَمْلِكُونَهُ إلَّا بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ أَوْ غَيْبَتِهِ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً فِي الصَّحِيحِ ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ هَؤُلَاءِ لِلضَّرُورَةِ لَا بِتَفْوِيضِ الْأَبِ وَمَعَ حَضْرَةِ الْأَبِ لَا ضَرُورَةَ انْتَهَى تَأَمَّلْ تُرْشَدْ .
وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ : وَقَوْلُهُ لَا أَبَ لَهُ : أَيْ لَا أَبَ لَهُ مَعْرُوفٌ لَا أَنْ لَا يَكُونَ أَبُوهُ حَيًّا ، وَهُوَ بَيَانٌ لِلْوَاقِعِ فَإِنَّ اللَّقِيطَ لَا يَكُونُ إلَّا كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ فِي الشَّرْعِ مَوْلُودٌ طَرَحَهُ أَهْلُهُ فِي الطَّرِيقِ خَوْفًا مِنْ الْعَيْلَةِ أَوْ فِرَارًا مِنْ التُّهْمَةِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَبٌ مَعْرُوفٌ ، فَلَا وَجْهَ لِمَا قَالَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ لَا أَبَ لَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لَازِمٍ فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ فِي صَغِيرَةٍ لَهَا زَوْجٌ هِيَ عِنْدَهُ يَعُولُهَا ، وَلَهَا أَبٌ فَوَهَبَ لَهَا أَنَّهَا لَوْ قَبَضَتْ أَوْ قَبَضَ لَهَا أَبُوهَا أَوْ زَوْجُهَا أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ ، فَلَمْ يَمْتَنِعْ صِحَّةُ قَبْضِ الزَّوْجِ لَهَا بِقِيَامِ الْأَبِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ وَضْعَ الْمَسْأَلَةِ فِي اللَّقِيطِ لَا فِي الصِّغَارِ مُطْلَقًا ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا أَيْضًا بِصَحِيحٍ ، فَإِنَّ مَدَارَهُ الْغُفُولُ عَمَّا تَقَرَّرَ فِي كِتَابِ اللَّقِيطِ مِنْ أَنَّهُ إذَا ادَّعَاهُ مُدَّعٍ أَنَّهُ ابْنُهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ وَيَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ فَجَازَ أَنْ يَظْهَرَ لَهُ أَبٌ بَعْدَ الِالْتِقَاطِ فَيَصِيرُ كَسَائِرِ الصِّغَارِ الَّذِينَ لَهُمْ أَبٌ فَيَتَمَشَّى مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ وَغَيْرُهُ مِنْ جَوَازِ قَبْضِ الزَّوْجِ لَهُ بِقِيَامِ الْأَبِ فِيمَا إذَا كَانَتْ صَغِيرَةً مُزَوَّجَةً ، وَكَانَتْ عِنْدَ زَوْجِهَا يَعُولُهَا ، فَلَا وَجْهَ لِنَفْيِ

وَجْهِ مَا قَالَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ وَضْعَ الْمَسْأَلَةِ فِي اللَّقِيطِ لَا فِي الصِّغَارِ مُطْلَقًا .
وَلَا مَعْنًى لِحَمْلِ قَوْلِهِ لَا أَبَ لَهُ فِي مَسْأَلَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَلَى بَيَانِ الْوَاقِعِ بِأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لَا أَبَ لَهُ مَعْرُوفٌ لَا أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ أَبٌ فِي الْحَيَاةِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْمُرَادُ لَا أَبَ لَهُ مَعْرُوفٌ حِينَ الِالْتِقَاطِ فَهَذَا مَعَ كَوْنِهِ بَعِيدًا مِنْ اللَّفْظِ جِدًّا لِاحْتِيَاجِهِ إلَى التَّقْيِيدِ مَرَّتَيْنِ يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ اللَّغْوِ مِنْ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ لَا يَلِيقُ بِشَأْنِ الْإِمَامِ الرَّبَّانِيِّ مُحَمَّدٍ ذَلِكَ الْهُمَامُ ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ لَا مَعْرُوفٌ أَصْلًا : أَيْ لَا حِينَ الِالْتِقَاطِ وَلَا بَعْدَهُ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِلْوَاقِعِ ، إذْ لَا يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ اللَّقِيطُ إلَّا كَذَلِكَ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ لَهُ أَبٌ مَعْرُوفٌ بَعْدَ الِالْتِقَاطِ بِأَنْ ادَّعَى أَحَدٌ أَنَّهُ ابْنُهُ ، وَشَاعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ مَقْبُولٌ فِي الشَّرْعِ كَمَا مَرَّ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ الْأَوْلَادِ الَّذِينَ يَحْتَاجُ ثُبُوتُ نَسَبِهِمْ إلَى دَعْوَةِ الْأَبِ كَمَا فِي الْمَوْلُودِ مِنْ أَمَتِهِ .
فَالْحَقُّ عِنْدِي أَنَّ قَوْلَهُ لَا أَبَ لَهُ قَيْدٌ احْتِرَازِيٌّ مِنْ اللَّقِيطِ الَّذِي كَانَ لَهُ أَبٌ حَاضِرٌ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ مِمَّنْ كَانَ فِي يَدِهِ مِثْلُ ذَلِكَ اللَّقِيطِ أَنْ يَقْبِضَ الْهِبَةَ أَوْ الصَّدَقَةَ لَهُ عَلَى مُوجِبِ مَا مَرَّ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ مِنْ أَنَّ زَوْجَ الصَّغِيرَةِ يَمْلِكُ قَبْضَ الْهِبَةِ لَهَا بَعْدَ الزِّفَافِ مَعَ حَضْرَةِ الْأَبِ لِتَفْوِيضِ الْأَبِ أُمُورَهَا إلَيْهِ دَلَالَةً .
بِخِلَافِ الْأُمِّ وَكُلِّ مَنْ يَعُولُهَا غَيْرُهَا حَيْثُ لَا يَمْلِكُونَهُ إلَّا بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ أَوْ غَيْبَتِهِ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً فِي الصَّحِيحِ ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ هَؤُلَاءِ لِلضَّرُورَةِ لَا بِتَفْوِيضِ الْأَبِ .
وَمَعَ حَضْرَةِ الْأَبِ لَا ضَرُورَةَ انْتَهَى .
إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الْمُلْتَقِطَ دَاخِلٌ فِي كُلِّيَّةِ قَوْلِهِ وَكُلُّ مَنْ يَعُولُهَا غَيْرُهَا ، فَيَلْزَمُ

أَنْ لَا يَمْلِكَ قَبْضَ الْهِبَةِ لِلصَّغِيرَةِ الَّتِي كَانَتْ فِي يَدِهِ وَعَوْلُهُ كَمَا لَا يَخْفَى فَتَبَصَّرْ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ .

قَالَ ( وَيُكْرَهُ أَنْ يَجْعَلَ الرَّجُلُ فِي عُنُقِ عَبْدِهِ الرَّايَةَ ) وَيَرْوُونَ الدَّايَةَ ، وَهُوَ طَوْقُ الْحَدِيدِ الَّذِي يَمْنَعُهُ مِنْ أَنْ يُحَرِّكَ رَأْسَهُ ، وَهُوَ مُعْتَادٌ بَيْنَ الظَّلَمَةِ ؛ لِأَنَّهُ عُقُوبَةُ أَهْلِ النَّارِ فَيُكْرَهُ كَالْإِحْرَاقِ بِالنَّارِ ( وَلَا يُكْرَهُ أَنْ يُقَيِّدَهُ ) لِأَنَّهُ سُنَّةُ الْمُسْلِمِينَ فِي السُّفَهَاءِ وَأَهْلِ الدَّعَارَةِ فَلَا يُكْرَهُ فِي الْعَبْدِ تَحَرُّزًا عَنْ إبَاقِهِ وَصِيَانَةً لِمَالِهِ .

قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِالْحُقْنَةِ يُرِيدُ بِهِ التَّدَاوِيَ ) لِأَنَّ التَّدَاوِيَ مُبَاحٌ بِالْإِجْمَاعِ ، وَقَدْ وَرَدَ بِإِبَاحَتِهِ الْحَدِيثَ .
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَعْمَلَ الْمُحَرَّمُ كَالْخَمْرِ وَنَحْوِهَا ؛ لِأَنَّ الِاسْتِشْفَاءَ بِالْمُحَرَّمِ حَرَامٌ .

قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِرِزْقِ الْقَاضِي ) { ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَعَثَ عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ إلَى مَكَّةَ وَفَرَضَ لَهُ ، وَبَعَثَ عَلِيًّا إلَى الْيَمَنِ وَفَرَضَ لَهُ } وَلِأَنَّهُ مَحْبُوسٌ لِحَقِّ الْمُسْلِمِينَ فَتَكُونُ نَفَقَتُهُ فِي مَالِهِمْ وَهُوَ مَالُ بَيْتِ الْمَالِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحَبْسَ مِنْ أَسْبَابِ النَّفَقَةِ كَمَا فِي الْوَصِيِّ وَالْمُضَارِبِ إذَا سَافَرَ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ ، وَهَذَا فِيمَا يَكُونُ كِفَايَةً ، فَإِنْ كَانَ شَرْطًا فَهُوَ حَرَامٌ ؛ لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ عَلَى الطَّاعَةِ ، إذْ الْقَضَاءُ طَاعَةٌ بَلْ هُوَ أَفْضَلُهَا ، ثُمَّ الْقَاضِي إذَا كَانَ فَقِيرًا : فَالْأَفْضَلُ بَلْ الْوَاجِبُ الْأَخْذُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ إقَامَةُ فَرْضِ الْقَضَاءِ إلَّا بِهِ ، إذْ الِاشْتِغَالُ بِالْكَسْبِ يُقْعِدُهُ عَنْ إقَامَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا فَالْأَفْضَلُ الِامْتِنَاعُ عَلَى مَا قِيلَ رِفْقًا بِبَيْتِ الْمَالِ .
وَقِيلَ الْأَخْذُ وَهُوَ الْأَصَحُّ صِيَانَةً لِلْقَضَاءِ عَنْ الْهَوَانِ وَنَظَرًا لِمَنْ يُوَلَّى بَعْدَهُ مِنْ الْمُحْتَاجِينَ ؛ لِأَنَّهُ إذَا انْقَطَعَ زَمَانًا يَتَعَذَّرُ إعَادَتُهُ ثُمَّ تَسْمِيَتُهُ رِزْقًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بِقَدْرِ الْكِفَايَةِ ، وَقَدْ جَرَى الرَّسْمُ بِإِعْطَائِهِ فِي أَوَّلِ السَّنَةِ ؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ يُؤْخَذُ فِي أَوَّلِ السَّنَةِ وَهُوَ يُعْطَى مِنْهُ ، وَفِي زَمَانِنَا الْخَرَاجُ يُؤْخَذُ فِي آخَرِ السَّنَةِ وَالْمَأْخُوذُ مِنْ الْخَرَاجِ خَرَاجُ السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ هُوَ الصَّحِيحُ ، وَلَوْ اسْتَوْفَى رِزْقَ سَنَةٍ وَعُزِلَ قَبْلَ اسْتِكْمَالِهَا ، قِيلَ هُوَ عَلَى اخْتِلَافٍ مَعْرُوفٍ فِي نَفَقَةِ الْمَرْأَةِ إذَا مَاتَتْ فِي السَّنَةِ بَعْدَ اسْتِعْجَالِ نَفَقَةِ السَّنَةِ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَجِبُ الرَّدُّ .

قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِأَنْ تُسَافِرَ الْأَمَةُ وَأُمُّ الْوَلَدِ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ ) ؛ لِأَنَّ الْأَجَانِبَ فِي حَقِّ الْإِمَاءِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى النَّظَرِ وَالْمَسِّ بِمَنْزِلَةِ الْمَحَارِمِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ ، وَأُمُّ الْوَلَدِ أَمَةٌ لِقِيَامِ الْمِلْكِ فِيهَا وَإِنْ امْتَنَعَ بَيْعُهَا .

( كِتَابُ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ ) قَالَ ( الْمَوَاتُ مَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْ الْأَرَاضِيِ لِانْقِطَاعِ الْمَاءِ عَنْهُ أَوْ لِغَلَبَةِ الْمَاءِ عَلَيْهِ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا يَمْنَعُ الزِّرَاعَةَ ) سُمِّيَ بِذَلِكَ لِبُطْلَانِ الِانْتِفَاعِ بِهِ .
قَالَ ( فَمَا كَانَ مِنْهَا عَادِيًّا لَا مَالِكَ لَهُ أَوْ كَانَ مَمْلُوكًا فِي الْإِسْلَامِ لَا يُعْرَفُ لَهُ مَالِكٌ بِعَيْنِهِ وَهُوَ بَعِيدٌ مِنْ الْقَرْيَةِ بِحَيْثُ إذَا وَقَفَ إنْسَانٌ مِنْ أَقْصَى الْعَامِرِ فَصَاحَ لَا يُسْمَعُ الصَّوْتُ فِيهِ فَهُوَ مَوَاتٌ ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : هَكَذَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ ، وَمَعْنَى الْعَادِيِّ مَا قَدُمَ خَرَابُهُ .
وَالْمَرْوِيُّ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَشْتَرِطُ أَنْ لَا يَكُونَ مَمْلُوكًا لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ مَعَ انْقِطَاعِ الِارْتِفَاقِ بِهَا لِيَكُونَ مَيْتَةً مُطْلَقًا ، فَأَمَّا الَّتِي هِيَ مَمْلُوكَةٌ لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ لَا تَكُونُ مَوَاتًا ، وَإِذَا لَمْ يُعْرَفْ مَالِكُهُ تَكُونُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَوْ ظَهَرَ لَهُ مَالِكٌ يُرَدُّ عَلَيْهِ ، وَيَضْمَنُ الزَّارِعُ نُقْصَانَهَا ، وَالْبُعْدُ عَنْ الْقَرْيَةِ عَلَى مَا قَالَ شَرَطَهُ أَبُو يُوسُفَ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مَا يَكُونُ قَرِيبًا مِنْ الْقَرْيَةِ لَا يَنْقَطِعُ ارْتِفَاقُ أَهْلِهَا عَنْهُ فَيُدَارِ الْحُكْمُ عَلَيْهِ .
وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ اعْتَبَرَ انْقِطَاعَ ارْتِفَاقِ أَهْلِ الْقَرْيَةِ عَنْهَا حَقِيقَةً ، وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْ الْقَرْيَةِ كَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْمَعْرُوفُ بِخُوَاهَرْ زَادَهْ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ اعْتَمَدَ عَلَى مَا اخْتَارَهُ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( ثُمَّ مَنْ أَحْيَاهُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ مَلَكَهُ ، وَإِنْ أَحْيَاهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَمْ يَمْلِكْهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَالَا : يَمْلِكُهُ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ } وَلِأَنَّهُ مَالٌ مُبَاحٌ سَبَقَتْ يَدُهُ إلَيْهِ فَيَمْلِكُهُ كَمَا فِي الْحَطَبِ وَالصَّيْدِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ

قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَيْسَ لِلْمَرْءِ إلَّا مَا طَابَتْ نَفْسُ إمَامِهِ بِهِ } وَمَا رَوَيَاهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ إذْنٌ لِقَوْمٍ لَا نَصْبٌ لِشَرْعٍ ، وَلِأَنَّهُ مَغْنُومٌ لِوُصُولِهِ إلَى يَدِ الْمُسْلِمِينَ بِإِيجَافِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْتَصَّ بِهِ بِدُونِ إذْنِ الْإِمَامِ كَمَا فِي سَائِرِ الْغَنَائِمِ .
وَيَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ تَوْظِيفِ الْخَرَاجِ عَلَى الْمُسْلِمِ لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا سَقَاهُ بِمَاءِ الْخَرَاجِ ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ إبْقَاءُ الْخَرَاجِ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَاءِ .
فَلَوْ أَحْيَاهَا ، ثُمَّ تَرَكَهَا فَزَرَعَهَا غَيْرُهُ فَقَدْ قِيلَ الثَّانِي أَحَقُّ بِهَا ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ مَلَكَ اسْتِغْلَالَهَا لَا رَقَبَتَهَا ، فَإِذَا تَرَكَهَا كَانَ الثَّانِي أَحَقَّ بِهَا .
وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْأَوَّلَ يَنْزِعُهَا مِنْ الثَّانِي ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا بِالْإِحْيَاءِ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ ، إذْ الْإِضَافَةُ فِيهِ فَاللَّامُ التَّمْلِيكِ وَمِلْكُهُ لَا يَزُولُ بِالتَّرْكِ .
وَمَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً ثُمَّ أَحَاطَ الْإِحْيَاءُ بِجَوَانِبِهَا الْأَرْبَعَةِ مِنْ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ عَلَى التَّعَاقُبِ ؛ فَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ طَرِيقَ الْأَوَّلِ فِي الْأَرْضِ الرَّابِعَةِ لِتَعَيُّنِهَا لِتَطَرُّقِهِ وَقَصَدَ الرَّابِعُ إبْطَالَ حَقِّهِ .

( كِتَابُ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ ) قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ : مُنَاسَبَةُ هَذَا الْكِتَابِ بِكِتَابِ الْكَرَاهِيَةِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ حَيْثُ إنَّ فِي مَسَائِلِ هَذَا الْكِتَابِ مَا يُكْرَهُ وَمَا لَا يُكْرَهُ انْتَهَى .
وَقَالَ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ بَعْدَ نَقْلِ قَوْلِهِمْ الْمَذْكُورِ : وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُ قَلَّ كِتَابٌ مِنْ الْكُتُبِ يَخْلُو عَمَّا يُكْرَهُ وَمَا لَا يُكْرَهُ انْتَهَى .
أَقُولُ : بَلْ مَا ذَكَرَهُ نَفْسَهُ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ لَيْسَ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرُوا فِي تَرْتِيبِ الْكُتُبِ السَّابِقَةِ وَاللَّاحِقَةِ مِنْ الْمُنَاسَبَاتِ مَلْحُوظَةٌ فِيمَا ذَكَرُوا هَاهُنَا مِنْ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ هَذَا الْكِتَابِ وَكِتَابِ الْكَرَاهِيَةِ ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْحَيْثِيَّةَ الْمَذْكُورَةَ هَاهُنَا مَعَ مُلَاحَظَةِ تِلْكَ الْمُنَاسَبَاتِ تَقْتَضِي ذِكْرَ هَذَا الْكِتَابِ عَقِيبَ كِتَابِ الْكَرَاهِيَةِ دُونَ غَيْرِهِ ، إذْ لَوْ غُيِّرَ ذَلِكَ لَفَاتَ بَعْضٌ مِنْ الْمُنَاسَبَاتِ السَّابِقَةِ أَوْ اللَّاحِقَةِ ، وَلْيَكُنْ هَذَا الْمَعْنَى عَلَى ذِكْرٍ مِنْك فَإِنَّهُ يَنْفَعُك فِي مَوَاضِعَ شَتَّى ( قَوْلُهُ الْمَوَاتُ مَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْ الْأَرَاضِيِ لِانْقِطَاعِ الْمَاءِ عَنْهُ ، أَوْ لِغَلَبَةِ الْمَاءِ عَلَيْهِ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا يَمْنَعُ الزِّرَاعَةَ ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : هَذَا تَعْرِيفٌ بِالْأَعَمِّ لِصِدْقِهِ عَلَى مَا لَهُ مَالِكٌ مَعْرُوفٌ ، لَكِنْ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ لِأَحَدِ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ ، وَلَك أَنْ تَقُولَ : هَذَا تَفْسِيرُ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ انْتَهَى .
أَقُولُ : تَوْجِيهُهُ الَّذِي ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ وَلَك أَنْ تَقُولَ إلَى آخِرِهِ لَيْسَ بِتَامٍّ .
فَإِنَّ قَيْدَ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ مَالِكٌ مُعْتَبَرٌ فِي مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ أَيْضًا .
قَالَ فِي الصِّحَاحِ : وَالْمَوَاتُ بِالْفَتْحِ مَا لَا رُوحَ فِيهِ ، وَالْمَوَاتُ أَيْضًا الْأَرْضُ الَّتِي لَا مَالِكَ لَهَا مِنْ الْآدَمِيِّينَ وَلَا يَنْتَفِعُ بِهَا أَحَدٌ انْتَهَى .
وَقَالَ فِي الْقَامُوسِ : وَالْمُوَاتُ كَغُرَابٍ الْمَوْتُ وَكَسَحَابٍ مَا لَا رُوحَ فِيهِ ، وَأَرْضٌ لَا مَالِكَ لَهَا انْتَهَى .

فَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يُحْمَلَ مَا فِي الْكِتَابِ عَلَى تَفْسِيرِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ يَكُونُ تَفْسِيرًا بِالْأَعَمِّ أَيْضًا .
لَا يُقَالُ : أَصْلُ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ لِلْمَوَاتِ مَا لَا رَوْحَ فِيهِ .
وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ فِي الصِّحَاحِ وَالْقَامُوسِ ثَانِيًا هُوَ مَعْنَاهُ الْعُرْفِيُّ أَوْ الشَّرْعِيُّ فَلَمْ يَكُنْ قَيْدُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ مَالِكٌ مُعْتَبَرًا فِي مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ .
لِأَنَّا نَقُولُ : الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ مَعْنَى اللَّفْظِ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ بِلَا إضَافَةٍ إلَى الْعُرْفِ أَوْ الشَّرْعِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَعْنَى مَعْنَاهُ اللُّغَوِيُّ ، سِيَّمَا مِنْ قَيْدٍ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ فِي الصِّحَاحِ : وَالْمَوَاتُ أَيْضًا الْأَرْضُ الَّتِي لَا مَالِكَ لَهَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ بَلْ كَانَ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيُّ هُوَ الَّذِي ذُكِرَ أَوَّلًا .
فَلَا شَكَّ أَنَّ مَا لَا رَوْحَ فِيهِ أَعَمُّ مِنْ الْأَرْضِ الَّتِي لَا يُنْتَفَعُ بِهَا بَلْ مِنْ مُطْلَقِ الْأَرْضِ ، فَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يُحْمَلَ مَا فِي الْكِتَابِ عَلَى تَعْرِيفِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ يَكُونُ تَعْرِيفًا بِالْأَخَصِّ ، وَهُوَ لَيْسَ بِأَقَلَّ قُبْحًا مِنْ التَّعْرِيفِ بِالْأَعَمِّ ، وَبِهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا يَظْهَرُ أَنَّهُ يُشْكِلُ أَيْضًا مَا ذَكَرَهُ تَاجُ الشَّرِيعَةِ وَصَاحِبُ الْكِفَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ حَيْثُ قَالَا : قَوْلُهُ الْمَوَاتُ مَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْ الْأَرْضِ تَحْدِيدٌ لُغَوِيٌّ ، وَزِيدَ عَلَيْهِ فِي الشَّرْعِ أَشْيَاءُ أُخَرُ بَيَانُهَا فِي قَوْلِهِ فَمَا كَانَ عَادِيًا لَا مَالِكَ لَهُ أَوْ كَانَ مَمْلُوكًا فِي الْإِسْلَامِ لَا يُعْرَفُ لَهُ مَالِكٌ بِعَيْنِهِ وَهُوَ بَعِيدٌ مِنْ الْقَرْيَةِ ، بِحَيْثُ إذَا وَقَفَ إنْسَانٌ فِي أَقْصَى الْعَامِرِ فَصَاحَ لَا يُسْمَعُ صَوْتُهُ فَهُوَ مَوَاتٌ انْتَهَى .
تَأَمَّلْ تَقِفْ ( قَوْلُهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَيْسَ لِلْمَرْءِ إلَّا مَا طَابَتْ نَفْسُ إمَامِهِ بِهِ } ) أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إنْ اُعْتُبِرَ عُمُومُ هَذَا الْحَدِيثِ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَمْلِكَ أَحَدٌ

شَيْئًا مِنْ الْأَمْلَاكِ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ مَعَ ظُهُورِ خِلَافِهِ ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَسْتَبِدُّ فِي التَّمْلِيكِ بِالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْهِبَةِ وَالْإِرْثِ وَالْوَصِيَّةِ وَنَحْوِهَا مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى إذْنِ الْإِمَامِ ، وَإِنْ لَمْ يُعْتَبَرْ عُمُومُهُ لَا يَتِمُّ الْمَطْلُوبُ هَاهُنَا .
فَإِنْ قُلْت : عُمُومُهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بَلْ هُوَ مُخْتَصٌّ بِمَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ .
وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ .
بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ .
قُلْت : كَوْنُ التَّمْلِيكِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مِمَّا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ أَوَّلَ الْمَسْأَلَةِ فَيَلْزَمُ الْمُصَادَرَةُ عَلَى الْمَطْلُوبِ .
( قَوْلُهُ وَمَا رَوَيَاهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ إذْنٌ لِقَوْمٍ لَا نَصْبٌ لِشَرْعٍ ) تَقْرِيرُهُ : أَنَّ الْمَشْرُوعَاتِ عَلَى نَوْعَيْنِ : أَحَدُهُمَا نَصْبُ الشَّرْعِ ، وَالْآخَرُ إذْنٌ بِالشَّرْعِ .
فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ قَاءَ أَوْ رَعَفَ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَنْصَرِفْ } وَالْآخَرُ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلْبُهُ } أَيْ لِلْإِمَامِ وِلَايَةٌ أَنْ يَأْذَنَ لِلْغَازِي بِهَذَا الْقَوْلِ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْنًا لِقَوْمٍ مُعَيَّنِينَ وَتَحْرِيضًا عَلَى الْقِتَالِ لَا نَصْبَ شَرْعٍ ، فَكَذَلِكَ فِي يَوْمِنَا هَذَا مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَا يَكُونُ سَلْبُهُ لَهُ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ الْإِمَامُ بِهِ .
فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ } مِنْ ذَلِكَ الْقَبِيلِ ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ ذَلِكَ الْحَدِيثَ يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ .
وَمَا ذَكَرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ مُفَسَّرٌ لَا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ فَكَانَ رَاجِحًا ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ : فَإِنْ قُلْت : مَا رَوَاهُ عَامٌّ خَصَّ مِنْهُ الْحَطَبَ وَالْحَشِيشَ .
وَمَا رَوَيَاهُ لَمْ يُخَصَّ فَيَكُونُ الْعَمَلُ بِهِ أَوْلَى .
قُلْت : مَا

ذُكِرَ لِبَيَانِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا الِافْتِيَاتُ عَلَى رَأْيِ الْإِمَامِ وَالْحَطَبُ وَالْحَشِيشُ لَا يُحْتَاجُ فِيهِمَا إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ فَلَمْ يَتَنَاوَلْهُمَا عُمُومُ الْحَدِيثِ فَلَمْ يَصِرْ مَخْصُوصًا ، وَالْأَرْضُ مِمَّا يُحْتَاجُ فِيهَا إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مِنْ الْغَنَائِمِ بِإِيجَافِ الْخَيْلِ وَإِيضَاعِ الرِّكَابِ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ فَكَانَ مَا قُلْنَا أَوْلَى انْتَهَى .
وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ وَالْعَيْنِيُّ .
أَقُولُ : كُلٌّ مِنْ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ لَيْسَ بِسَدِيدٍ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ كَوْنَ مَا رَوَاهُ عَامًّا خَصَّ مِنْهُ الْحَطَبَ وَالْحَشِيشَ إنَّمَا يَقْتَضِي كَوْنَ الْعَمَلِ بِمَا رَوَيَاهُ أَوْلَى لِكَوْنِهِ مِمَّا لَمْ يَخُصَّ أَنْ لَوْ خَصَّ الْحَطَبَ وَالْحَشِيشَ مِمَّا رَوَاهُ بِكَلَامٍ مَوْصُولٍ بِهِ ، إذْ يَصِيرُ الْعَامُّ الَّذِي خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ حِينَئِذٍ ظَنِّيًّا كَمَا عُرِفَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ ، وَأَمَّا إذَا خُصَّ الْحَطَبُ وَالْحَشِيشُ مِنْ ذَلِكَ بِمَا هُوَ مَفْصُولٌ عَنْهُ فَلَا يَلْزَمُ أَوْلَوِيَّةُ الْعَمَلِ بِمَا رَوَيَاهُ ، إذْ يَصِيرُ الْعَامُّ حِينَئِذٍ مَنْسُوخًا فِي الْقَدْرِ الَّذِي تَنَاوَلَهُ الْخَاصُّ وَيَصِيرُ قَطْعِيًّا فِي الْبَاقِي كَسَائِرِ الْقَطْعِيَّاتِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ أَيْضًا ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تَخْصِيصَ الْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ مِمَّا رَوَاهُ لَيْسَ بِكَلَامٍ مَوْصُولٍ بِهِ ، بَلْ إنَّمَا هُوَ دَلِيلٌ آخَرُ مَفْصُولٌ عَنْهُ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ كَوْنَ الْأَرْضِ مُطْلَقًا مِمَّا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ أَوَّلَ الْمَسْأَلَةِ لَمْ يَقُلْ بِهِ الْإِمَامَانِ فِي الْأَرْضِ الْمَوَاتِ ، فَبِنَاءُ الْجَوَابِ عَلَيْهِ يُؤَدِّي إلَى الْمُصَادَرَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا يُؤَدِّي إلَى الْمُصَادَرَةِ لَوْ لَمْ يُسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهَا صَارَتْ مِنْ الْغَنَائِمِ إلَخْ .
قُلْنَا : كَوْنُهَا مِنْ الْغَنَائِمِ دَلِيلٌ آخَرُ عَقْلِيٌّ لِأَبِي حَنِيفَةَ مَذْكُورٌ فِي الْكِتَابِ بَعْدَهُ ، وَالْكَلَامُ الْآنَ فِي تَمْشِيَةِ الدَّلِيلِ النَّقْلِيِّ ، فَبِالْمَصِيرِ إلَى ذَلِكَ

الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ هُنَا يَلْزَمُ خَلْطُ الدَّلِيلَيْنِ وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ ( قَوْلُهُ يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ تَوْظِيفِ الْخَرَاجِ عَلَى الْمُسْلِمِ لَا يَجُوزُ ) أَقُولُ : فِي هَذَا التَّعْلِيلِ شَيْءٌ ، وَهُوَ أَنَّهُ سَيَجِيءُ فِي الْكِتَابِ أَنَّ الْمُسْلِمَ وَالذِّمِّيَّ مُسْتَوِيَانِ فِي حُكْمِ إحْيَاءِ الْأَرْضِ الْمَوَاتِ ، وَالتَّعْلِيلُ الْمَذْكُورُ إنَّمَا يَتَمَشَّى فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ دُونَ الذِّمِّيِّ فَتَأَمَّلْ ( قَوْلُهُ وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْأَوَّلَ يَنْزِعُهَا مِنْ الثَّانِي ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا بِالْإِحْيَاءِ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ ، إذْ الْإِضَافَةُ فِيهِ فَاللَّامُ التَّمْلِيكِ وَمِلْكُهُ لَا يَزُولُ بِالتَّرْكِ ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ : وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : الِاسْتِدْلَال بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى مَذْهَبِهِمَا صَحِيحٌ .
وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّهُ حَمَلَهُ عَلَى كَوْنِهِ إذْنًا لَا شَرْعًا فَكَيْفَ يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال بِهِ ، وَالْجَوَابُ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ إذْنًا لَكِنَّهُ إذَا أَذِنَ لَهُ الْإِمَامُ كَانَ شَرْعًا ؛ أَلَا يُرَى أَنَّ مَنْ قَالَ لَهُ الْإِمَامُ مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلْبُهُ مَلَكَ سَلْبَ مَنْ قَتَلَهُ انْتَهَى .
وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى الْجَوَابِ حَيْثُ قَالَ : فِيهِ بَحْثٌ ، فَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ لِوُجُودِ دَلَالَةِ التَّمْلِيكِ فِي لَفْظِ الْإِمَامِ هُنَا ، بِخِلَافِ الْإِذْنِ فِي الْإِحْيَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ انْتَهَى .
أَقُولُ : الْفَرْقُ الَّذِي ذَكَرَهُ لَيْسَ بِتَامٍّ ؛ لِأَنَّ لَامَ التَّمْلِيكِ مَذْكُورَةٌ فِي كُلٍّ مِنْ الْحَدِيثَيْنِ الْوَارِدَيْنِ فِي الْمَقَامَيْنِ ، فَإِذَا كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مَحْمُولًا عَلَى الْإِذْنِ فَجَعْلُ وُجُودِ لَفْظِ التَّمْلِيكِ شَرْطًا فِي إذْنِ الْإِمَامِ فِي أَحَدِ الْمَقَامَيْنِ دُونَ الْآخَرِ تَحَكُّمٌ بَحْتٌ لَمْ يُسْمَعْ ذَلِكَ مِنْ أَئِمَّةِ الشَّرْعِ

قَالَ ( وَيَمْلِكُ الذِّمِّيُّ بِالْإِحْيَاءِ كَمَا يَمْلِكُهُ الْمُسْلِمُ ) ؛ لِأَنَّ الْإِحْيَاءَ سَبَبُ الْمِلْكِ ، إلَّا أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إذْنُ الْإِمَامِ مِنْ شَرْطِهِ فَيَسْتَوِيَانِ فِيهِ كَمَا فِي سَائِرِ أَسْبَابِ الْمِلْكِ حَتَّى الِاسْتِيلَاءِ عَلَى أَصْلِنَا

قَالَ ( وَمَنْ حَجَرَ أَرْضًا وَلَمْ يَعْمُرْهَا ثَلَاثَ سِنِينَ أَخَذَهَا الْإِمَامُ وَدَفَعَهَا إلَى غَيْرِهِ ) لِأَنَّ الدَّفْعَ إلَى الْأَوَّلِ كَانَ لِيَعْمُرَهَا فَتَحْصُلُ الْمَنْفَعَةُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ حَيْثُ الْعُشْرُ أَوْ الْخَرَاجُ .
فَإِذَا لَمْ تَحْصُلْ يَدْفَعُ إلَى غَيْرِهِ تَحْصِيلًا لِلْمَقْصُودِ ، وَلِأَنَّ التَّحْجِيرَ لَيْسَ بِإِحْيَاءٍ لِيَمْلِكَهُ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِحْيَاءَ إنَّمَا هُوَ الْعِمَارَةُ وَالتَّحْجِيرُ الْإِعْلَامُ ، سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُعَلِّمُونَهُ بِوَضْعِ الْأَحْجَارِ حَوْلَهُ أَوْ يُعَلِّمُونَهُ لِحَجْرِ غَيْرِهِمْ عَنْ إحْيَائِهِ فَبَقِيَ غَيْرَ مَمْلُوكٍ كَمَا كَانَ هُوَ الصَّحِيحُ .
وَإِنَّمَا شَرَطَ تَرْكَ ثَلَاثِ سِنِينَ لِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَيْسَ لِمُتَحَجِّرٍ بَعْدَ ثَلَاثِ سِنِينَ حَقٌّ .
وَلِأَنَّهُ إذَا أَعْلَمَهُ لَا بُدَّ مِنْ زَمَانٍ يَرْجِعُ فِيهِ إلَى وَطَنِهِ وَزَمَانٍ يُهَيِّئُ أُمُورَهُ فِيهِ ، ثُمَّ زَمَانٍ يَرْجِعُ فِيهِ إلَى مَا يَحْجُرُهُ فَقَدَّرْنَاهُ بِثَلَاثِ سِنِينَ ؛ لِأَنَّ مَا دُونَهَا مِنْ السَّاعَاتِ وَالْأَيَّامِ وَالشُّهُورِ لَا يَفِي بِذَلِكَ ، وَإِذَا لَمْ يَحْضُرْ بَعْدَ انْقِضَائِهَا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَرَكَهَا .
قَالُوا : هَذَا كُلُّهُ دِيَانَةً ، فَأَمَّا إذَا أَحْيَاهَا غَيْرُهُ قَبْلَ مُضِيِّ هَذِهِ الْمُدَّةِ مَلَكَهَا لِتَحَقُّقِ الْإِحْيَاءِ مِنْهُ دُونَ الْأَوَّلِ وَصَارَ كَالِاسْتِيَامِ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ ، وَلَوْ فُعِلَ يَجُوزُ الْعَقْدُ .
ثُمَّ التَّحْجِيرُ قَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ الْحَجَرِ بِأَنْ غَرَزَ حَوْلَهَا أَغْصَانًا يَابِسَةً أَوْ نَقَّى الْأَرْضَ وَأَحْرَقَ مَا فِيهَا مِنْ الشَّوْكِ أَوْ خَضَدَ مَا فِيهَا مِنْ الْحَشِيشِ أَوْ الشَّوْكِ ، وَجَعَلَهَا حَوْلَهَا وَجَعَلَ التُّرَابَ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُتِمَّ الْمُسَنَّاةَ لِيَمْنَعَ النَّاسَ مِنْ الدُّخُولِ ، أَوْ حَفَرَ مِنْ بِئْرٍ ذِرَاعًا أَوْ ذِرَاعَيْنِ ، وَفِي الْأَخِيرِ وَرَدَ الْخَبَرُ .
وَلَوْ كَرَبَهَا وَسَقَاهَا فَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إحْيَاءٌ ، وَلَوْ فَعَلَ أَحَدَهُمَا يَكُونُ تَحْجِيرًا ، وَلَوْ حَفَرَ أَنْهَارَهَا وَلَمْ يَسْقِهَا يَكُونُ تَحْجِيرًا ،

وَإِنْ سَقَاهَا مَعَ حَفْرِ الْأَنْهَارِ كَانَ إحْيَاءً لِوُجُودِ الْفِعْلَيْنِ ، وَلَوْ حَوَّطَهَا أَوْ سَنَّمَهَا بِحَيْثُ يَعْصِمُ الْمَاءَ يَكُونُ إحْيَاءً ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْبِنَاءِ ، وَكَذَا إذَا بَذَرَهَا .

( قَوْلُهُ وَمَنْ حَجَرَ أَرْضًا وَلَمْ يَعْمُرْهَا ثَلَاثَ سِنِينَ أَخَذَهَا الْإِمَامُ وَدَفَعَهَا إلَى غَيْرِهِ ) وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمَشَايِخَ اخْتَلَفُوا فِي كَوْنِ التَّحْجِيرِ مُفِيدًا لِلْمِلْكِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يُفِيدُ مِلْكًا مُؤَقَّتًا إلَى ثَلَاثِ سِنِينَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَا يُفِيدُ .
وَهُوَ مُخْتَارُ الْمُصَنِّفِ أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ هُوَ الصَّحِيحُ .
قِيلَ وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِيمَا إذَا جَاءَ إنْسَانٌ آخَرُ قَبْلَ مُضِيِّ ثَلَاثِ سِنِينَ وَأَحْيَاهُ ، فَإِنَّهُ مَلَكَهُ عَلَى الثَّانِي وَلَمْ يَمْلِكْهُ عَلَى الْأَوَّلِ .
وَجْهُ الْأَوَّلِ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَيْسَ لِمُتَحَجِّرٍ حَقٌّ بَعْدَ ثَلَاثِ سِنِينَ .
نَفْيُ الْحَقِّ بَعْدَ ثَلَاثِ سِنِينَ فَيَكُونُ لَهُ الْحَقُّ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ، وَالْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ ، وَالْحَقُّ الْكَامِلُ هُوَ الْمِلْكُ ، وَوَجْهُ الصَّحِيحِ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ .
وَالْجَوَابُ عَنْ اسْتِدْلَالِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ مَفْهُومٌ وَهُوَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ .
وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ وَأَجَابَ حَيْثُ قَالَ : وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ الْمُصَنِّفَ اسْتَدَلَّ عَلَى التَّرْكِ سِنِينَ بِهَذَا الطَّرِيقِ .
وَجَوَابُهُ أَنَّ ثُبُوتَ الْحَقِّ لَيْسَ بِالْحَدِيثِ بَلْ بِالْإِجْمَاعِ انْتَهَى .
أَقُولُ : جَوَابُهُ لَيْسَ بِسَدِيدٍ ، إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ ثُبُوتُ الْحَقِّ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ بِالْحَدِيثِ بَلْ بِالْإِجْمَاعِ لَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ وَإِنَّمَا شَرَطَ تَرْكَ ثَلَاثِ سِنِينَ لِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَيْسَ لِمُتَحَجِّرٍ بَعْدَ ثَلَاثِ سِنِينَ حَقٌّ ، فَإِنَّ حَاصِلَهُ الِاسْتِدْلَال بِمَفْهُومِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ عَلَى ثُبُوتِ حَقِّ الْمُتَحَجِّرِ قَبْلَ ثَلَاثِ سِنِينَ ، إذْ هُوَ الْمُقْتَضِي اشْتِرَاطَ تَرْكِ ثَلَاثِ سِنِينَ ، وَمَدَارُ مَا أَوْرَدَهُ عَلَى أَنَّ اسْتِدْلَالَ الْمُصَنِّفِ بِمَفْهُومِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ لَيْسَ بِتَامٍّ لِعَدَمِ كَوْنِ الْمَفْهُومِ حُجَّةً عِنْدَنَا فَلَا يَدْفَعُهُ الْجَوَابُ الْمَزْبُورُ ( قَوْلُهُ لِأَنَّ الدَّفْعَ إلَى الْأَوَّلِ كَانَ

لِيَعْمُرَهَا فَتَحْصُلُ الْمَنْفَعَةُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ حَدِيثِ الْعُشْرِ أَوْ الْخَرَاجِ ، فَإِذَا لَمْ تَحْصُلْ يَدْفَعُهُ إلَى غَيْرِهِ تَحْصِيلًا لِلْمَقْصُودِ ) أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : لَوْ تَمَّ هَذَا التَّعْلِيلُ لَاقْتَضَى أَنْ يَأْخُذَهَا الْإِمَامُ وَيَدْفَعَهَا إلَى الْغَيْرِ بَعْدَ الْإِحْيَاءِ أَيْضًا إذَا لَمْ يَزْرَعْهَا ثَلَاثَ سِنِينَ تَحْصِيلًا لِمَنْفَعَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ حَيْثُ الْعُشْرُ أَوْ الْخَرَاجُ وَتَخْلِيصًا لَهَا عَنْ التَّعْطِيلِ .
فَإِنْ قُلْت : يَمْلِكُهَا الْإِنْسَانُ بِالْإِحْيَاءِ وَلَا يَمْلِكُهَا بِمُجَرَّدِ التَّحْجِيرِ بَلْ يَصِيرُ أَحَقَّ بِالتَّصَرُّفِ فِيهَا مِنْ الْغَيْرِ ، وَالْإِمَامُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَدْفَعَ مَمْلُوكَ أَحَدٍ إلَى غَيْرِهِ لِانْتِفَاعِ الْمُسْلِمِينَ ، وَيَقْدِرُ أَنْ يَدْفَعَ غَيْرَ مَمْلُوكِ الْيَدِ لِذَلِكَ .
قُلْت : فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ الْمَصِيرُ إلَى التَّعْلِيلِ الثَّانِي الَّذِي ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ وَلِأَنَّ التَّحْجِيرَ لَيْسَ بِإِحْيَاءٍ لِيَمْلِكَهُ بِهِ فَلَا يَكُونُ التَّعْلِيلُ الْأَوَّلُ مُفِيدًا لِلْمُدَّعِي بِدُونِ الثَّانِي مَعَ أَنَّ أُسْلُوبَ تَحْرِيرِهِ يَأْبَى ذَلِكَ كَمَا تَرَى

قَالَ ( وَلَا يَجُوزُ إحْيَاءُ مَا قَرُبَ مِنْ الْعَامِرِ وَيُتْرَكُ مَرْعًى لِأَهْلِ الْقَرْيَةِ وَمَطْرَحًا لِحَصَائِدِهِمْ ) لِتَحَقُّقِ حَاجَتِهِمْ إلَيْهَا حَقِيقَةً أَوْ دَلَالَةً عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ، فَلَا يَكُونُ مَوَاتًا لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِهَا بِمَنْزِلَةِ الطَّرِيقِ وَالنَّهْرِ .
عَلَى هَذَا قَالُوا : لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْطَعَ مَا لَا غِنًى بِالْمُسْلِمِينَ عَنْهُ كَالْمِلْحِ وَالْآبَارِ الَّتِي يَسْتَقِي النَّاسُ مِنْهَا لِمَا ذَكَرْنَا .

( قَوْلُهُ لِتَحَقُّقِ حَاجَتِهِمْ إلَيْهَا حَقِيقَةً أَوْ دَلَالَةً عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ) قَالَ عَامَّةُ الشُّرَّاحِ فِي حَلِّ هَذَا التَّعْلِيلِ : لِتَحَقُّقِ حَاجَتِهِمْ إلَيْهَا حَقِيقَةً : أَيْ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ، أَوْ دَلَالَةً : أَيْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَالَ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ : أَرَادَ بِقَوْلِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ قَوْلَهُ وَمُحَمَّدٌ اعْتَبَرَ انْقِطَاعَ ارْتِفَاقِ أَهْلِ الْقَرْيَةِ عَنْهَا حَقِيقَةً إلَخْ .
وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ وَالشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ ، أَقُولُ : لَمْ يُصِبْ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ مِنْ الشُّرَّاحِ فِي حَمْلِهِمْ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ عَلَى مَا ذَكَرُوا ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ الْمَزْبُورِ مَجْمُوعُ مَا ذَكَرَهُ فِيمَا مَرَّ بِقَوْلِهِ : وَالْبُعْدُ عَنْ الْقَرْيَةِ عَلَى مَا قَالَ شَرَطَهُ أَبُو يُوسُفَ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مَا يَكُونُ قَرِيبًا مِنْ الْقَرْيَةِ لَا يَنْقَطِعُ ارْتِفَاقُ أَهْلِهَا عَنْهُ فَيُدَارُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ وَمُحَمَّدٌ اعْتَبَرَ انْقِطَاعَ ارْتِفَاقِ أَهْلِ الْقَرْيَةِ عَنْهَا حَقِيقَةً وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْ الْقَرْيَةِ انْتَهَى .
إذْ يَصِيرُ قَوْلُهُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ حِينَئِذٍ نَاظِرًا إلَى مَجْمُوعِ قَوْلِهِ لِتَحَقُّقِ حَاجَتِهِمْ إلَيْهَا حَقِيقَةً أَوْ دَلَالَةً فَيَحْسُنُ ، وَأَمَّا عَلَى مَا ذَكَرَهُ هَؤُلَاءِ الشُّرَّاحُ فَيَصِيرُ قَوْلُهُ الْمَزْبُورُ نَاظِرًا إلَى قَوْلِهِ لِتَحَقُّقِ حَاجَتِهِمْ إلَيْهَا حَقِيقَةً فَقَطْ ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ الرَّكَاكَةِ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي إذْ ذَاكَ أَنْ يُقَدِّمَ قَوْلَهُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ عَلَى قَوْلِهِ أَوْ دَلَالَةً كَمَا لَا يُشْتَبَهُ عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ حِينَئِذٍ أَنْ يُقْصِرَ حَوَالَةَ الْبَيَانِ عَلَى صُورَةِ حَقِيقَةِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا مَعَ مُرُورِ بَيَانِ صُورَةِ دَلَالَةِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا أَيْضًا ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا ضَرُورَةَ فِيهِ بَلْ لَا وَجْهَ لَهُ

قَالَ ( وَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي بَرِّيَّةٍ فَلَهُ حَرِيمُهَا ) وَمَعْنَاهُ إذَا حَفَرَ فِي أَرْضٍ مَوَاتٍ بِإِذْنِ الْإِمَامِ عِنْدَهُ أَوْ بِإِذْنِهِ وَبِغَيْرِ إذْنِهِ عِنْدَهُمَا ؛ لِأَنَّ حَفْرَ الْبِئْرِ إحْيَاءٌ .
قَالَ ( فَإِنْ كَانَتْ لِلْعَطَنِ فَحَرِيمُهَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فَلَهُ مِمَّا حَوْلَهَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا عَطَنًا لِمَاشِيَتِهِ } ثُمَّ قِيلَ : الْأَرْبَعُونَ مِنْ كُلِّ الْجَوَانِبِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ؛ لِأَنَّ فِي الْأَرَاضِيِ رَخْوَةً وَيَتَحَوَّلُ الْمَاءُ إلَى مَا حُفِرَ دُونَهَا ( وَإِنْ كَانَتْ لِلنَّاضِحِ فَحَرِيمُهَا سِتُّونَ ذِرَاعًا ، وَهَذَا عِنْدَهُمَا .
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا ) لَهُمَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { حَرِيمُ الْعَيْنِ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ .
وَحَرِيمُ بِئْرِ الْعَطَنِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا ، وَحَرِيمُ بِئْرِ النَّاضِحِ سِتُّونَ ذِرَاعًا } وَلِأَنَّهُ قَدْ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى أَنْ يُسَيِّرَ دَابَّتَهُ لِلِاسْتِقَاءِ ، وَقَدْ يَطُولُ الرِّشَاءُ وَبِئْرُ الْعَطَنِ لِلِاسْتِقَاءِ مِنْهُ بِيَدِهِ فَقَلَّتْ الْحَاجَةُ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّفَاوُتِ .
وَلَهُ مَا رَوَيْنَا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ ، وَالْعَامُّ الْمُتَّفَقُ عَلَى قَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ أَوْلَى عِنْدَهُ مِنْ الْخَاصِّ الْمُخْتَلَفِ فِي قَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ ، وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى اسْتِحْقَاقَ الْحَرِيمِ ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ فِي مَوْضِعِ الْحَفْرِ ، وَالِاسْتِحْقَاقُ بِهِ ، فَفِيمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْحَدِيثَانِ تَرَكْنَاهُ وَفِيمَا تَعَارَضَا فِيهِ حَفِظْنَاهُ ؛ وَلِأَنَّهُ قَدْ يُسْتَقَى مِنْ الْعَطَنِ بِالنَّاضِحِ وَمِنْ بِئْرِ النَّاضِحِ بِالْيَدِ فَاسْتَوَتْ الْحَاجَةُ فِيهِمَا ، وَيُمْكِنُهُ أَنْ يُدْبِرَ الْبَعِيرَ حَوْلَ الْبِئْرِ فَلَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى زِيَادَةِ مَسَافَةٍ : قَالَ ( وَإِنْ كَانَتْ عَيْنًا فَحَرِيمُهَا خَمْسمِائَةِ ذِرَاعٍ ) لِمَا رَوَيْنَا ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ فِيهِ إلَى زِيَادَةِ مَسَافَةٍ ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ تُسْتَخْرَجُ لِلزِّرَاعَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ مَوْضِعٍ يَجْرِي فِيهِ الْمَاءُ

وَمِنْ حَوْضٍ يَجْتَمِعُ فِيهِ الْمَاءُ .
وَمِنْ مَوْضِعٍ يُجْرَى فِيهِ إلَى الْمَزْرَعَةِ فَلِهَذَا يُقَدَّرُ بِالزِّيَادَةِ ، وَالتَّقْدِيرُ بِخَمْسِمِائَةٍ بِالتَّوْقِيفِ .
وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْعَطَنِ ، وَالذِّرَاعُ هِيَ الْمُكَسَّرَةُ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ .
وَقِيلَ إنَّ التَّقْدِيرَ فِي الْعَيْنِ وَالْبِئْرِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي أَرَاضِيهِمْ لِصَلَابَةٍ بِهَا وَفِي أَرَاضِيِنَا رَخَاوَةٌ فَيُزَادُ كَيْ لَا يَتَحَوَّلَ الْمَاءُ إلَى الثَّانِي فَيَتَعَطَّلَ الْأَوَّلُ .
قَالَ ( فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَحْفِرَ فِي حَرِيمِهَا مُنِعَ مِنْهُ ) كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى تَفْوِيتِ حَقِّهِ وَالْإِخْلَالِ بِهِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ بِالْحَفْرِ مَلَكَ الْحَرِيمَ ضَرُورَةً تُمَكِّنُهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مِلْكِهِ ؛ فَإِنْ احْتَفَرَ آخَرُ بِئْرًا فِي حَرِيمِ الْأَوَّلِ لِلْأَوَّلِ أَنْ يُصْلِحَهُ وَيَكْبِسَهُ تَبَرُّعًا ، وَلَوْ أَرَادَ أَخْذَ الثَّانِي فِيهِ قِيلَ : لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ وَيَكْبِسَهُ ؛ لِأَنَّ إزَالَةَ جِنَايَةِ حَفْرِهِ بِهِ كَمَا فِي الْكُنَاسَةِ يُلْقِيهَا فِي دَارِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ بِرَفْعِهَا ، وَقِيلَ يُضَمِّنُهُ النُّقْصَانَ ثُمَّ يَكْبِسُهُ بِنَفْسِهِ كَمَا إذَا هَدَمَ جِدَارَ غَيْرِهِ ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ ذَكَرَهُ فِي أَدَبِ الْقَاضِي لِلْخَصَّافِ .
وَذَكَرَ طَرِيقَ مَعْرِفَةِ النُّقْصَانِ ، وَمَا عَطِبَ فِي الْأَوَّلِ فَلَا ضَمَانَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ ، إنْ كَانَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ فَظَاهِرٌ ، وَكَذَا إنْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهِ عِنْدَهُمَا .
وَالْعُذْرُ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ جَعَلَ فِي الْحَفْرِ تَحْجِيرًا وَهُوَ بِسَبِيلٍ مِنْهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَمْلِكُهُ بِدُونِهِ ، وَمَا عَطِبَ فِي الثَّانِيَةِ فَفِيهِ الضَّمَانُ ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِيهِ حَيْثُ حَفَرَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ ، وَإِنْ حَفَرَ الثَّانِي بِئْرًا وَرَاءِ حَرِيمِ الْأَوَّلِ فَذَهَبَ مَاءُ الْبِئْرِ الْأَوَّلِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي حَفْرِهَا ، وَلِلثَّانِي الْحَرِيمُ مِنْ

الْجَوَانِبِ الثَّلَاثَةِ دُونَ الْجَانِبِ الْأَوَّلِ لِسَبْقِ مِلْكِ الْحَافِرِ الْأَوَّلِ فِيهِ

( قَوْلُهُ : لِأَنَّ فِي الْأَرَاضِيِ رَخْوَةً وَيَتَحَوَّلُ الْمَاءُ إلَى مَا حُفِرَ دُونَهَا ) أَقُولُ : كَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ : فَيَتَحَوَّلُ الْمَاءُ بِالْفَاءِ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ تَحَوُّلِ الْمَاءِ إلَى مَا حُفِرَ دُونَهَا إنَّمَا هُوَ رَخْوَةُ الْأَرَاضِيِ لَا غَيْرُ ، إذْ لَوْ كَانَتْ فِيهَا صَلَابَةٌ لَمْ يَتَحَوَّلْ الْمَاءُ إلَى مَا حُفِرَ دُونَهَا قَطْعًا فَلَا بُدَّ مِنْ أَدَاةِ التَّفْرِيعِ .
ثُمَّ أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ تَعْلِيلٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فَلَهُ مِمَّا حَوْلَهَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا } ظَاهِرٌ فِي كَوْنِ الْأَرْبَعِينَ مِنْ كُلِّ الْجَوَانِبِ الْأَرْبَعَةِ ، عَلَى أَنْ يَكُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ عَشْرَةُ أَذْرُعٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْكَافِي وَعَامَّةِ الشُّرُوحِ ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ أَنَّ التَّعْلِيلَ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ غَيْرُ صَحِيحٍ ، فَكَيْفَ يَتِمُّ الِاسْتِدْلَال بِمَا ذَكَرَهُ عَلَى كَوْنِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ .
وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْحَرِيمِ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ صَاحِبِ الْبِئْرِ ، وَالضَّرَرُ لَا يَنْدَفِعُ عَنْهُ بِعَشْرَةِ أَذْرُعٍ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ .
فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْأَرْبَعُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ لَزِمَهُ الْحَرَجُ وَهُوَ مَدْفُوعٌ بِالنَّصِّ ، فَكَانَ مَآلُ هَذَا التَّعْلِيلِ هُوَ الِاسْتِدْلَال بِالنَّصِّ الدَّالِّ عَلَى دَفْعِ الْحَرَجِ ، وَقَدْ اكْتَفَى فِيهِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى لُزُومِ الضَّرَرِ الْمُؤَدِّي إلَى الْحَرَجِ ، وَيُرْشِدُك إلَيْهِ تَقْرِيرُ صَاحِبِ الْكَافِي هَاهُنَا حَيْثُ قَالَ : وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا مِنْ كُلِّ الْجَوَانِبِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ صَاحِبِ الْبِئْرِ الْأَوَّلِ لِكَيْ لَا يَحْفِرَ أَحَدٌ فِي حَرِيمِهِ بِئْرًا أُخْرَى فَيَتَحَوَّلَ إلَيْهَا مَاءُ بِئْرِهِ ، وَهَذَا الضَّرَرُ لَا يَنْدَفِعُ بِعَشَرَةِ أَذْرُعٍ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ، فَإِنَّ الْأَرَاضِيَ تَخْتَلِفُ صَلَابَةً وَرَخَاوَةً ، فَرُبَّمَا يَحْفِرُ بِحَرِيمِهِ أَحَدٌ بِئْرًا أُخْرَى

فَيَتَحَوَّلُ مَاءُ الْبِئْرِ الْأُولَى إلَيْهِ فَيَتَعَطَّلُ عَلَيْهِ مَنْفَعَةُ بِئْرِهِ ، وَفِي مِقْدَارِ أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ يَنْدَفِعُ هَذَا الضَّرَرُ بِيَقِينٍ انْتَهَى فَتَدَبَّرْ ( قَوْلُهُ وَلَهُ مَا رَوَيْنَا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ ، وَالْعَامُّ الْمُتَّفَقُ عَلَى قَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ أَوْلَى عِنْدَهُ مِنْ الْخَاصِّ الْمُخْتَلَفِ فِي قَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ ) يُرِيدُ بِقَوْلِهِ مَا رَوَيْنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فَلَهُ مِمَّا حَوْلَهَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا } وَبِقَوْلِهِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ : أَيْ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْعَطَنِ وَالنَّاضِحِ ، وَيُرِيدُ بِالْعَامِّ الْمُتَّفَقَ عَلَى قَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فَلَهُ مِمَّا حَوْلَهَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا } وَبِقَوْلِهِ أَوْلَى عِنْدَهُ ، أَيْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَيُرِيدُ بِالْخَاصِّ الْمُخْتَلَفَ فِي قَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ حَدِيثَ الزُّهْرِيِّ وَهُوَ قَوْلُهُ { حَرِيمُ الْعَيْنِ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ ، وَحَرِيمُ بِئْرِ الْعَطَنِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا ، وَحَرِيمُ بِئْرِ النَّاضِحِ سِتُّونَ ذِرَاعًا } كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا .
أَقُولُ : هَذَا الدَّلِيلُ الْمَذْكُورُ مِنْ قِبَلِ أَبِي حَنِيفَةَ مَنْقُوضٌ بِمَا إذَا كَانَتْ الْبِئْرُ عَيْنًا ، فَإِنَّ حَرِيمَهَا خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ بِالْإِجْمَاعِ كَمَا سَيَأْتِي مَعَ أَنَّ مَا رَوَاهُ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فَلَهُ مِمَّا حَوْلَهَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا } لَا يُفَصِّلُ ذَلِكَ أَيْضًا ، وَإِنَّ كَوْنَ الْعَامِّ الْمُتَّفَقِ عَلَى قَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ أَوْلَى عِنْدَهُ مِنْ الْخَاصِّ الْمُخْتَلَفِ فِي قَبُولِهِ ، وَالْعَمَلُ بِهِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ حَرِيمُهَا أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا عِنْدَهُ فَلْيُتَأَمَّلْ فِي الْفَرْقِ ، قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى اسْتِحْقَاقَ الْحَرِيمِ ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ فِي مَوْضِعِ الْحَفْرِ وَالِاسْتِحْقَاقُ بِهِ فَفِيمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْحَدِيثَانِ تَرَكْنَاهُ ، وَفِيمَا تَعَارَضَا فِيهِ حَفِظْنَاهُ )

يَعْنِي أَنَّ الْحَدِيثَيْنِ اتَّفَقَا فِي الْأَرْبَعِينَ فَتَرَكْنَا الْقِيَاسَ فِي هَذَا الْقَدْرِ ، وَفِيمَا وَرَاءَ الْأَرْبَعِينَ تَعَارَضَا ، لِأَنَّ الْعَامَّ يَنْفِيهِ ، وَالْخَاصَّ يُثْبِتُهُ فَتَسَاقَطَا فَعَمِلْنَا بِالْقِيَاسِ ، كَذَا فِي شَرْحِ تَاجِ الشَّرِيعَةِ وَغَيْرِهِ .
أَقُولُ : فِيهِ بَحْثٌ لِأَنَّ الْمُتَعَارِضَيْنِ مِنْ الدَّلِيلَيْنِ إنَّمَا يَتَسَاقَطَانِ إذَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا رُجْحَانٌ عَلَى الْآخَرِ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ لِأَحَدِهِمَا رُجْحَانٌ عَلَى الْآخَرِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِالرَّاجِحِ وَتَرْكُ الْآخَرِ ، وَالْأَمْرُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْعَامَّ إنَّمَا يَنْفِي مَا وَرَاءَ الْأَرْبَعِينَ بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ وَهُوَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ عِنْدَنَا ، وَإِنْ سُلِّمَ أَنَّهُ يَنْفِي ذَلِكَ بِمَنْطُوقِهِ فَإِنَّمَا يَنْفِيهِ بِطَرِيقِ الْإِشَارَةِ ، وَالْخَاصُّ يُثْبِتُهُ بِطَرِيقِ الْعِبَارَةِ .
وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ أَنَّ عِبَارَةَ النَّصِّ تُرَجَّحُ عَلَى إشَارَتِهِ عِنْدَ التَّعَارُضِ فَلَزِمَ أَنْ لَا يَسْقُطَ الْخَاصُّ بَلْ وَجَبَ أَنْ يُعْمَلَ بِهِ ، وَيُتْرَكَ الْقِيَاسُ لِظُهُورِ أَنْ يُتْرَكَ الْقِيَاسُ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ .
قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ : فَإِنْ قُلْت : كَيْفَ يَتَعَارَضَانِ ، وَقَدْ ذَكَرَ الْقَبُولَ فِي أَحَدِهِمَا وَالِاخْتِلَافَ فِي الْآخَرِ ؟ قُلْت : يَعْنِي بِهِ صُورَةَ الْمُعَارَضَةِ ، كَمَا يُقَالُ إذَا تَعَارَضَ الْمَشْهُورُ مَعَ خَبَرِ الْوَاحِدِ تَرَجَّحَ الْمَشْهُورُ وَعَدَمُ التَّعَارُضِ مَعْلُومٌ انْتَهَى .
وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ وَالشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ .
أَقُولُ : الْجَوَابُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ ، إذْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِتَعَارُضِهِمَا هَاهُنَا صُورَةَ التَّعَارُضِ الَّتِي لَا تُنَافِي رُجْحَانَ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ لَمَا تَمَّ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَفِيمَا تَعَارَضَا فِيهِ حَفِظْنَاهُ .
وَلَمَّا صَحَّ قَوْلُهُمْ فِي شَرْحِ ذَلِكَ وَفِيمَا وَرَاءَ الْأَرْبَعِينَ تَعَارَضَا فَتَسَاقَطَا فَعَمِلْنَا بِالْقِيَاسِ ، إذْ التَّسَاقُطُ وَالْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي حَقِيقَةِ التَّعَارُضِ بِأَنْ يَتَسَاوَيَا فِي

الْقُوَّةِ وَلَمْ يُوجَدْ الْمُخَلِّصُ .
وَأَمَّا فِي صُورَةِ التَّعَارُضِ مَعَ رُجْحَانِ أَحَدِهَا عَلَى الْآخَرِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِالرَّاجِحِ وَتَرْكُ الْآخَرِ وَالْقِيَاسِ ، وَقَدْ عُرِفَ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ .
ثُمَّ أَقُولُ : الظَّاهِرُ فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ : مَدَارُ هَذَا الدَّلِيلِ عَلَى التَّنْزِيلِ عَمَّا ذُكِرَ فِي الدَّلِيلِ السَّابِقِ مِنْ كَوْنِ الْعَامِّ الْمُتَّفَقِ عَلَى قَبُولِهِ أَوْلَى مِنْ الْخَاصِّ الْمُخْتَلَفِ فِي قَبُولِهِ : يَعْنِي لَوْ سُلِّمَ عَدَمُ رُجْحَانِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ وَتَسَاقُطُهُمَا فِيمَا تَعَارَضَا فِيهِ ، وَهُوَ مَا وَرَاءَ الْأَرْبَعِينَ حَفِظْنَا الْقِيَاسَ فِيهِ وَهُوَ يَكْفِينَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ تَأَمَّلْ تُرْشَدْ .
( قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ قَدْ يَسْتَقِي مِنْ بِئْرِ الْعَطَنِ بِالنَّاضِحِ وَمِنْ بِئْرِ النَّاضِحِ بِالْيَدِ فَاسْتَوَتْ الْحَاجَةُ فِيهِمَا ) أَقُولُ : هَذَا التَّعْلِيلُ ضَعِيفٌ جِدًّا ؛ لِأَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ بِئْرِ الْعَطَنِ مَا يُسْتَقَى مِنْهُ بِالْيَدِ ، وَمِنْ بِئْرِ النَّاضِحِ مَا يُسْتَقَى مِنْهُ بِالْبَعِيرِ فَكَيْفَ يَتِمُّ أَنْ يُقَالَ : قَدْ يُسْتَقَى مِنْ بِئْرِ الْعَطَنِ بِالنَّاضِحِ وَمِنْ بِئْرِ النَّاضِحِ بِالْيَدِ ، وَلَئِنْ سَلِمَ ذَلِكَ فَهُوَ عَلَى النُّدْرَةِ فَكَيْفَ يَتِمُّ أَنْ يُقَالَ : فَاسْتَوَتْ الْحَاجَةُ فِيهِمَا ( قَوْلُهُ وَقِيلَ إنَّ التَّقْدِيرَ فِي الْبِئْرِ وَالْعَيْنِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي أَرَاضِيهِمْ لِصَلَابَةٍ بِهَا وَفِي أَرَاضِيِنَا رَخَاوَةٌ فَيُزَادُ كَيْ لَا يَتَحَوَّلَ الْمَاءُ إلَى الثَّانِي فَيَتَعَطَّلَ الْأَوَّلُ ) أَقُولُ : فِيهِ إشْكَالٌ ، إذْ الْمَقَادِيرُ مِمَّا لَا مَدْخَلَ فِيهِ لِلرَّأْيِ أَصْلًا ، وَإِنَّمَا مَدَارُهَا النَّصُّ مِنْ الشَّارِعِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ وَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ .
وَاَلَّذِي ثَبَتَ بِالنَّصِّ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مَا ذُكِرَ فِيمَا قَبْلُ لَا غَيْرُ ، فَتَصِيرُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ عَمَلًا بِالرَّأْيِ فِيمَا هُوَ مِنْ الْمَقَادِيرِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ فَلْيُتَأَمَّلْ فِي الدَّفْعِ ( قَوْلُهُ وَمَا عَطِبَ فِي الثَّانِيَةِ فَفِيهِ الضَّمَانُ ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِيهِ

حَيْثُ حَفَرَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ ) أَقُولُ : فِي التَّعْلِيلِ قُصُورٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَشَّى فِيمَا إذَا حَفَرَ الْأَوَّلُ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، فَإِنَّهُ يَجْعَلُ الْحَفْرَ هُنَاكَ تَحْجِيرًا كَمَا مَرَّ آنِفًا ، وَبِمُجَرَّدِ التَّحْجِيرِ لَا تَصِيرُ الْبِئْرُ الْأُولَى وَلَا حَرِيمُهَا مِلْكًا لِلْمُحَجِّرِ فَلَا يَصْدُقُ هُنَاكَ عَلَى أَصْلِهِ أَنْ يُقَالَ إنَّ الثَّانِيَ حَفَرَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ ، فَالْأَوْلَى فِي التَّعْلِيلِ أَنْ يُقَالَ : لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِيهِ حَيْثُ حَفَرَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الْحَقَّ يَثْبُتُ بِالتَّحْجِيرِ كَمَا يَثْبُتُ بِالْإِحْيَاءِ ، وَلِهَذَا لَا يَقْدِرُ الْإِمَامُ أَنْ يَأْخُذَهَا مِنْ يَدِ الْمُحَجِّرِ وَيَدْفَعَهَا إلَى غَيْرِهِ إلَّا إذَا حَجَرَ أَرْضًا وَلَمْ يَعْمُرْهَا ثَلَاثَ سِنِينَ كَمَا مَرَّ فَيَتَمَشَّى التَّعْلِيلُ بِهَذَا الْوَجْهِ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ أَيْضًا عَلَى أَصْلِ أَئِمَّتِنَا الثَّلَاثَةِ جَمِيعًا

( وَالْقَنَاةُ لَهَا حَرِيمٌ بِقَدْرِ مَا يُصْلِحُهَا ) وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْبِئْرِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْحَرِيمِ .
وَقِيلَ هُوَ عِنْدَهُمَا .
وَعِنْدَهُ لَا حَرِيمَ لَهَا مَا لَمْ يَظْهَرْ الْمَاءُ عَلَى الْأَرْضِ ؛ لِأَنَّهُ نَهْرٌ فِي التَّحْقِيقِ فَيُعْتَبَرُ بِالنَّهْرِ الظَّاهِرِ .
قَالُوا : وَعِنْدَ ظُهُورِ الْمَاءِ عَلَى الْأَرْضِ هُوَ بِمَنْزِلَةِ عَيْنٍ فَوَّارَةٍ فَيُقَدَّرُ حَرِيمُهُ بِخَمْسِمِائَةِ ذِرَاعٍ ( وَالشَّجَرَةُ تُغْرَسُ فِي أَرْضٍ مَوَاتٍ لَهَا حَرِيمٌ أَيْضًا حَتَّى لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ أَنْ يَغْرِسَ شَجَرًا فِي حَرِيمِهَا ) ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى حَرِيمٍ لَهُ يَجِدُ فِيهِ ثَمَرَهُ وَيَضَعُهُ فِيهِ وَهُوَ مُقَدَّرٌ بِخَمْسَةِ أَذْرُعٍ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ، بِهِ وَرَدَ الْحَدِيثُ .

قَالَ ( وَمَا تَرَكَ الْفُرَاتُ أَوْ الدِّجْلَةُ وَعَدَلَ عَنْهُ الْمَاءُ وَيَجُوزُ عَوْدُهُ إلَيْهِ لَمْ يَجُزْ إحْيَاؤُهُ ) لِحَاجَةِ الْعَامَّةِ إلَى كَوْنِهِ نَهْرًا ( وَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إلَيْهِ فَهُوَ كَالْمَوَاتِ إذَا لَمْ يَكُنْ حَرِيمًا لِعَامِرٍ ) ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مِلْكِ أَحَدٍ ، لِأَنَّ قَهْرَ الْمَاءِ يَدْفَعُ قَهْرَ غَيْرِهِ وَهُوَ الْيَوْمَ فِي يَدِ الْإِمَامِ .

قَالَ ( وَمَنْ كَانَ لَهُ نَهْرٌ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ فَلَيْسَ لَهُ حَرِيمٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنْ يُقِيمَ بَيِّنَةً عَلَى ذَلِكَ ، وَقَالَا : لَهُ مُسْنَاةُ النَّهْرِ يَمْشِي عَلَيْهَا وَيُلْقِي عَلَيْهَا طِينَهُ ) قِيلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَنْ حَفَرَ نَهْرًا فِي أَرْضٍ مَوَاتٍ بِإِذْنِ الْإِمَامِ لَا يَسْتَحِقُّ الْحَرِيمَ عِنْدَهُ .
وَعِنْدَهُمَا يَسْتَحِقُّهُ ؛ لِأَنَّ النَّهْرَ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ إلَّا بِالْحَرِيمِ لِحَاجَتِهِ إلَى الْمَشْيِ لِتَسْيِيلِ الْمَاءِ ، وَلَا يُمْكِنُهُ الْمَشْيُ عَادَةً فِي بَطْنِ النَّهْرِ وَإِلَى إلْقَاءِ الطِّينِ ، وَلَا يُمْكِنُهُ النَّقْلُ إلَى مَكَان بَعِيدٍ إلَّا بِحَرَجٍ فَيَكُونُ لَهُ الْحَرِيمُ اعْتِبَارًا بِالْبِئْرِ .
وَلَهُ أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَاهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَفِي الْبِئْرِ عَرَفْنَاهُ بِالْأَثَرِ ، وَالْحَاجَةُ إلَى الْحَرِيمِ فِيهِ فَوْقَهَا إلَيْهِ فِي النَّهْرِ ؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالْمَاءِ فِي النَّهْرِ مُمْكِنٌ بِدُونِ الْحَرِيمِ ، وَلَا يُمْكِنُ فِي الْبِئْرِ إلَّا بِالِاسْتِقَاءِ وَلَا اسْتِقَاءَ إلَّا بِالْحَرِيمِ فَتَعَذَّرَ الْإِلْحَاقُ .
وَوَجْهُ الْبِنَاءِ أَنَّ بِاسْتِحْقَاقِ الْحَرِيمِ تَثْبُتُ الْيَدُ عَلَيْهِ اعْتِبَارًا تَبَعًا لِلنَّهْرِ ، وَالْقَوْلُ لِصَاحِبِ الْيَدِ ، وَبِعَدَمِ اسْتِحْقَاقِهِ تَنْعَدِمُ الْيَدُ ، وَالظَّاهِرُ يَشْهَدُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَإِنْ كَانَتْ مَسْأَلَةً مُبْتَدَأَةً فَلَهُمَا أَنَّ الْحَرِيمَ فِي يَدِ صَاحِبِ النَّهْرِ بِاسْتِمْسَاكِهِ الْمَاءَ بِهِ ، وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ صَاحِبُ الْأَرْضِ نَقْضَهُ .
وَلَهُ أَنَّهُ أَشْبَهُ بِالْأَرْضِ صُورَةً وَمَعْنًى ، أَمَّا صُورَةً فَلِاسْتِوَائِهِمَا ، وَمَعْنًى مِنْ حَيْثُ صَلَاحِيَّتُهُ لِلْغَرْسِ وَالزِّرَاعَةِ ، وَالظَّاهِرُ شَاهِدٌ لِمَنْ فِي يَدِهِ مَا هُوَ أَشْبَهُ بِهِ .
كَاثْنَيْنِ تَنَازَعَا فِي مِصْرَاعِ بَابٍ لَيْسَ فِي يَدِهِمَا ، وَالْمِصْرَاعُ الْآخَرُ مُعَلَّقٌ عَلَى بَابِ أَحَدِهِمَا يُقْضَى لِلَّذِي فِي يَدِهِ مَا هُوَ أَشْبَهُ بِالْمُتَنَازَعِ فِيهِ ، وَالْقَضَاءُ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ قَضَاءُ تَرْكٍ

، وَلَا نِزَاعَ فِيمَا بِهِ اسْتِمْسَاكُ الْمَاءِ إنَّمَا النِّزَاعُ فِيمَا وَرَاءَهُ مِمَّا يَصْلُحُ لِلْغَرْسِ ، عَلَى أَنَّهُ إنْ كَانَ مُسْتَمْسِكًا بِهِ مَاءُ نَهْرِهِ فَالْآخَرُ دَافِعٌ بِهِ الْمَاءَ عَنْ أَرْضِهِ ، وَالْمَانِعُ مِنْ نَقْضِهِ تَعَلُّقُ حَقِّ صَاحِبِ النَّهْرِ لَا مِلْكُهُ .
كَالْحَائِطِ لِرَجُلٍ وَلِآخَرَ عَلَيْهِ جُذُوعٌ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ نَقْضِهِ وَإِنْ كَانَ مَلَكَهُ ( وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ نَهْرٌ لِرَجُلٍ إلَى جَنْبِهِ مُسَنَّاةٌ وَلِآخَرَ خَلْفَ الْمُسَنَّاةِ أَرْضٌ تَلْزَقُهَا ، وَلَيْسَتْ الْمُسَنَّاةُ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا فَهِيَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) .
وَقَالَا : هِيَ لِصَاحِبِ النَّهْرِ حَرِيمًا لِمُلْقَى طِينِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ وَلَيْسَتْ الْمُسَنَّاةُ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا مَعْنَاهُ : لَيْسَ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ غَرْسٌ وَلَا طِينٌ مُلْقًى فَيَنْكَشِفُ بِهَذَا اللَّفْظِ مَوْضِعُ الْخِلَافِ ، أَمَّا إذَا كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ ذَلِكَ فَصَاحِبُ الشُّغْلِ أَوْلَى ، لِأَنَّهُ صَاحِبُ يَدٍ .
وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ غَرْسٌ لَا يُدْرَى مَنْ غَرَسَهُ فَهُوَ مِنْ مَوَاضِعِ الْخِلَافِ أَيْضًا .
وَثَمَرَةُ الِاخْتِلَافِ أَنَّ وِلَايَةَ الْغَرْسِ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لِصَاحِبِ النَّهْرِ .
وَأَمَّا إلْقَاءُ الطِّينِ فَقَدْ قِيلَ إنَّهُ عَلَى الْخِلَافِ ، وَقِيلَ إنَّ لِصَاحِبِ النَّهْرِ ذَلِكَ مَا لَمْ يُفْحِشْ .
وَأَمَّا الْمُرُورُ فَقَدْ قِيلَ يُمْنَعُ صَاحِبُ النَّهْرِ عِنْدَهُ ، وَقِيلَ لَا يُمْنَعُ لِلضَّرُورَةِ .
قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ : آخُذُ بِقَوْلِهِ فِي الْغَرْسِ وَبِقَوْلِهِمَا فِي إلْقَاءِ الطِّينِ .
ثُمَّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ حَرِيمَهُ مِقْدَارُ نِصْفِ النَّهْرِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ مِقْدَارُ بَطْنِ النَّهْرِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ .
وَهَذَا أَرْفَقُ بِالنَّاسِ .

( قَوْلُهُ وَلَهُ أَنَّهُ أَشْبَهُ بِالْأَرْضِ صُورَةً وَمَعْنًى ، أَمَّا صُورَةً فَلِاسْتِوَائِهِمَا ، وَمَعْنًى مِنْ حَيْثُ صَلَاحِيَّتُهُ لِلْغَرْسِ وَالزِّرَاعَةِ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَقَوْلُهُ لِاسْتِوَائِهِمَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْخِلَافَ فِيمَا إذَا لَمْ تَكُنْ الْمُسَنَّاةُ مُرْتَفِعَةً عَنْ الْأَرْضِ ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ الْمُسَنَّاةُ أَرْفَعَ مِنْ الْأَرْضِ فَهِيَ لِصَاحِبِ النَّهْرِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ ارْتِفَاعَهُ لِإِلْقَاءِ طِينِهِ انْتَهَى .
وَتَبِعَهُ الْعَيْنِيُّ .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِشَرْحٍ سَدِيدٍ ، لِأَنَّ الْإِشَارَةَ إلَى مَا ذَكَرَهُ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ أَنْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِاسْتِوَائِهِمَا فِي قَوْلِهِ صُورَةً لِاسْتِوَائِهِمَا اسْتِوَاءَهُمَا فِي الِارْتِفَاعِ وَالِانْخِفَاضِ : أَيْ الِاسْتِوَاءَ الْمَكَانِيَّ .
وَلَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي مُسْكَةٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ إنَّمَا هُوَ الِاسْتِوَاءُ فِي الْحَقِيقَةِ الْأَرْضِيَّةِ .
كَيْفَ لَا وَالِاسْتِوَاءُ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ قَدْ يَتَحَقَّقُ بَيْنَ النَّهْرِ وَالْحَرِيمِ أَيْضًا كَمَا لَا يَخْفَى عَلَيْك ، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ ذَلِكَ لَاخْتَلَّ التَّعْلِيلُ الْمَذْكُورُ تَبَصَّرْ .
( قَوْلُهُ وَثَمَرَةُ الِاخْتِلَافِ أَنَّ وِلَايَةَ الْغَرْسِ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لِصَاحِبِ النَّهْرِ ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : فِيهِ بَحْثٌ .
إذْ لَا يَظْهَرُ كَوْنُ مَا ذَكَرَهُ ثَمَرَةً لِمَا تَقَدَّمَهُ ، بَلْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَدَّعِيَ الْعَكْسَ انْتَهَى .
أَقُولُ : لَا وَجْهَ لِكَلَامِهِ هَذَا أَصْلًا فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِ النَّهْرِ حَرِيمٌ عِنْدَهُ بَلْ كَانَ طَرَفَا النَّهْرِ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ ، وَكَانَ لِصَاحِبِ النَّهْرِ حَرِيمٌ عِنْدَهُمَا ظَهَرَ مِنْهُ أَنَّ وِلَايَةَ الْغَرْسِ فِي مِقْدَارِ ذَلِكَ الْحَرِيمِ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ عِنْدَهُ وَلِصَاحِبِ النَّهْرِ عِنْدَهُمَا ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ وِلَايَةَ الْغَرْسِ فِي مَوْضِعٍ لِمَنْ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ ، وَهَذَا مِمَّا لَا سُتْرَةَ بِهِ ، فَكَيْفَ خَفِيَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ الْقَائِلِ .

فُصُولٌ فِي مَسَائِلِ الشِّرْبِ فَصْلٌ فِي الْمِيَاهِ ( وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ نَهْرٌ أَوْ بِئْرٌ أَوْ قَنَاةٌ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ شَيْئًا مِنْ الشَّفَةِ ، وَالشَّفَةُ الشِّرْبُ لِبَنِي آدَمَ وَالْبَهَائِمِ ) اعْلَمْ أَنَّ الْمِيَاهَ أَنْوَاعٌ : مِنْهَا مَاءُ الْبِحَارِ ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ فِيهَا حَقُّ الشَّفَةِ وَسَقْيِ الْأَرَاضِيِ ، حَتَّى إنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكْرِيَ نَهْرًا مِنْهَا إلَى أَرْضِهِ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ ، وَالِانْتِفَاعُ بِمَاءِ الْبَحْرِ كَالِانْتِفَاعِ بِالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْهَوَاءِ فَلَا يُمْنَعُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ شَاءَ ، وَالثَّانِي مَاءُ الْأَوْدِيَةِ الْعِظَامِ كَجَيْحُونَ وَسَيْحُونَ وَدِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ لِلنَّاسِ فِيهِ حَقُّ الشَّفَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَحَقُّ سَقْيِ الْأَرَاضِيِ ، فَإِنْ أَحْيَا وَاحِدٌ أَرْضًا مَيْتَةً وَكَرَى مِنْهُ نَهْرًا لِيَسْقِيَهَا .
إنْ كَانَ لَا يَضُرُّ بِالْعَامَّةِ وَلَا يَكُونُ النَّهْرُ فِي مِلْكِ أَحَدٍ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا مُبَاحَةٌ فِي الْأَصْلِ إذْ قَهْرُ الْمَاءِ يَدْفَعُ قَهْرَ غَيْرِهِ ، وَإِنْ كَانَ يَضُرُّ بِالْعَامَّةِ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ دَفْعَ الضَّرَرِ عَنْهُمْ وَاجِبٌ ، وَذَلِكَ فِي أَنْ يَمِيلَ الْمَاءُ إلَى هَذَا الْجَانِبِ إذَا انْكَسَرَتْ ضِفَّتُهُ فَيُغْرِقَ الْقُرَى وَالْأَرَاضِي ، وَعَلَى هَذَا نَصْبُ الرَّحَى عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ شَقَّ النَّهْرِ لِلرَّحَى كَشَقِّهِ لِلسَّقْيِ بِهِ .
وَالثَّالِثُ إذَا دَخَلَ الْمَاءُ فِي الْمَقَاسِمِ فَحَقُّ الشَّفَةِ ثَابِتٌ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ : الْمَاءِ ، وَالْكَلَإِ ، وَالنَّارِ } وَأَنَّهُ يَنْتَظِمُ الشِّرْبَ ، وَالشِّرْبُ خُصَّ مِنْهُ الْأَوَّلُ وَبَقِيَ الثَّانِي وَهُوَ الشَّفَةُ ، وَلِأَنَّ الْبِئْرَ وَنَحْوَهَا مَا وُضِعَ لِلْإِحْرَازِ .
وَلَا يُمْلَكُ الْمُبَاحُ بِدُونِهِ كَالظَّبْيِ إذَا تَكَنَّسَ فِي أَرْضِهِ ، وَلِأَنَّ فِي إبْقَاءِ الشَّفَةِ ضَرُورَةً ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُمْكِنُهُ اسْتِصْحَابُ الْمَاءِ إلَى كُلِّ مَكَان وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ لِنَفْسِهِ وَظَهْرِهِ ؛ فَلَوْ

مُنِعَ عَنْهُ أَفْضَى إلَى حَرَجٍ عَظِيمٍ ، وَإِنْ أَرَادَ رَجُلٌ أَنْ يَسْقِيَ بِذَلِكَ أَرْضًا أَحْيَاهَا كَانَ لِأَهْلِ النَّهْرِ أَنْ يَمْنَعُوهُ عَنْهُ أَضَرَّ بِهِمْ أَوْ لَمْ يَضُرَّ ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ خَاصٌّ لَهُمْ وَلَا ضَرُورَةَ .
وَلِأَنَّا لَوْ أَبَحْنَا ذَلِكَ لَانْقَطَعَتْ مَنْفَعَةُ الشِّرْبِ .
وَالرَّابِعُ : الْمَاءُ الْمُحَرَّزُ فِي الْأَوَانِي وَأَنَّهُ صَارَ مَمْلُوكًا لَهُ بِالْإِحْرَازِ ، وَانْقَطَعَ حَقُّ غَيْرِهِ عَنْهُ كَمَا فِي الصَّيْدِ الْمَأْخُوذِ ، إلَّا أَنَّهُ بَقِيَتْ فِيهِ شُبْهَةُ الشَّرِكَةِ نَظَرًا إلَى الدَّلِيلِ وَهُوَ مَا رَوَيْنَا ، حَتَّى لَوْ سَرَقَهُ إنْسَانٌ فِي مَوْضِعٍ يَعِزُّ وُجُودُهُ وَهُوَ يُسَاوِي نِصَابًا لَمْ تُقْطَعْ يَدُهُ .
وَلَوْ كَانَ الْبِئْرُ أَوْ الْعَيْنُ أَوْ الْحَوْضُ أَوْ النَّهْرُ فِي مِلْكِ رَجُلٍ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ مَنْ يُرِيدُ الشَّفَةَ مِنْ الدُّخُولِ فِي مِلْكِهِ إذَا كَانَ يَجِدُ مَاءً آخَرَ يَقْرُبُ مِنْ هَذَا الْمَاءِ فِي غَيْرِ مِلْكِ أَحَدٍ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَجِدُ يُقَالُ لِصَاحِبِ النَّهْرِ : إمَّا أَنْ تُعْطِيَهُ الشَّفَةَ أَوْ تَتْرُكَهُ يَأْخُذُ بِنَفْسِهِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكْسِرَ ضِفَّتَهُ ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ الطَّحَاوِيِّ ، وَقِيلَ مَا قَالَهُ صَحِيحٌ فِيمَا إذَا احْتَفَرَ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ لَهُ .
أَمَّا إذَا احْتَفَرَهَا فِي أَرْضٍ مَوَاتٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ ؛ لِأَنَّ الْمَوَاتَ كَانَ مُشْتَرَكًا وَالْحَفْرُ لِإِحْيَاءِ حَقٍّ مُشْتَرَكٍ فَلَا يَقْطَعُ الشِّرْكَةَ فِي الشَّفَةِ ، وَلَوْ مَنَعَهُ عَنْ ذَلِكَ ، وَهُوَ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ ظَهْرِهِ الْعَطَشَ لَهُ أَنْ يُقَاتِلَهُ بِالسِّلَاحِ لِأَنَّهُ قَصَدَ إتْلَافَهُ بِمَنْعِ حَقِّهِ وَهُوَ الشَّفَةُ ، وَالْمَاءُ فِي الْبِئْرِ مُبَاحٌ غَيْرُ مَمْلُوكٍ ، بِخِلَافِ الْمَاءِ الْمُحَرَّزِ فِي الْإِنَاءِ حَيْثُ يُقَاتِلُهُ بِغَيْرِ السِّلَاحِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَهُ ، وَكَذَا الطَّعَامُ عِنْدَ إصَابَةِ الْمَخْمَصَةِ ، وَقِيلَ فِي الْبِئْرِ وَنَحْوِهَا الْأَوْلَى أَنْ يُقَاتِلَهُ بِغَيْرِ السِّلَاحِ بِعَصًا ؛ لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً فَقَامَ ذَلِكَ مَقَامَ التَّعْزِيرِ لَهُ ؛ وَالشَّفَةُ إذَا كَانَ

يَأْتِي عَلَى الْمَاءِ كُلِّهِ بِأَنْ كَانَ جَدْوَلًا صَغِيرًا .
وَفِيمَا يَرِدُ مِنْ الْإِبِلِ وَالْمَوَاشِي كَثْرَةٌ يَنْقَطِعُ الْمَاءُ بِشُرْبِهَا قِيلَ لَا يُمْنَعُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الْإِبِلَ لَا تَرِدُهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَصَارَ كَالْمُيَاوَمَةِ وَهُوَ سَبِيلٌ فِي قِسْمَةِ الشِّرْبِ .
وَقِيلَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ اعْتِبَارًا : بِسَقْيِ الْمَزَارِعِ وَالْمَشَاجِرِ وَالْجَامِعُ تَفْوِيتُ حَقِّهِ ، وَلَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا الْمَاءَ مِنْهُ لِلْوُضُوءِ وَغَسْلِ الثِّيَابِ فِي الصَّحِيحِ ، ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ فِيهِ كَمَا قِيلَ يُؤَدِّي إلَى الْحَرَجِ وَهُوَ مَدْفُوعٌ ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَسْقِيَ شَجَرًا أَوْ خَضِرًا فِي دَارِهِ حَمْلًا بِجِرَارِهِ لَهُ ذَلِكَ فِي الْأَصَحِّ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَتَوَسَّعُونَ فِيهِ وَيَعُدُّونَ الْمَنْعَ مِنْ الدَّنَاءَةِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْقِيَ أَرْضَهُ وَنَخْلَهُ وَشَجَرَهُ مِنْ نَهْرِ هَذَا الرَّجُلِ وَبِئْرِهِ وَقَنَاتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ نَصًّا ، وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ مَتَى دَخَلَ فِي الْمَقَاسِمِ انْقَطَعَتْ شِرْكَةُ الشِّرْبِ بِوَاحِدَةٍ ؛ لِأَنَّ فِي إبْقَائِهِ قَطْعَ شِرْبَ صَاحِبِهِ ، وَلِأَنَّ الْمَسِيلَ حَقُّ صَاحِبِ النَّهْرِ ، وَالضِّفَّةِ تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّهُ فَلَا يُمْكِنُهُ التَّسْيِيلُ فِيهِ وَلَا شَقُّ الضِّفَّةِ ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ صَاحِبُهُ فِي ذَلِكَ أَوْ أَعَارَهُ فَلَا بَأْسَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ حَقُّهُ فَتُجْرَى فِيهِ الْإِبَاحَةُ كَالْمَاءِ الْمُحَرَّزِ فِي إنَائِهِ .

( فُصُولٌ فِي مَسَائِلِ الشُّرْبِ ) ( فَصْلٌ فِي الْمِيَاهِ ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ ذَكَرَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ مَسَائِلِ الشُّرْبِ ؛ لِأَنَّ إحْيَاءَ الْمَوَاتِ يَحْتَاجُ إلَيْهِ ، وَقَدَّمَ فَصْلَ الْمِيَاهِ عَلَى فَصْلِ الْكَرْيِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْمَاءُ ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ أَقُولُ : يَرِدُ عَلَى ظَاهِرِهِ أَنْ يُقَالَ : إذَا كَانَ الشُّرْبُ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ إحْيَاءُ الْمَوَاتِ كَانَ اللَّائِقُ تَقْدِيمَ مَسَائِلِ الشُّرْبِ عَلَى مَسَائِلِ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ عَلَى عَكْسِ مَا فِي الْكِتَابِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ إحْيَاءَ الْمَوَاتِ لِأَصَالَتِهِ وَكَثْرَةِ فُرُوعِهِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَرْجَمَةُ الْكِتَابِ بِهِ فِي الْعِنْوَانِ يَسْتَحِقُّ التَّقْدِيمَ لَا مَحَالَةَ ، وَإِنَّمَا مَقْصُودُ الشُّرَّاحِ هَاهُنَا بَيَانُ مُجَرَّدِ وَجْهِ تَذْيِيلِهِ بِمَسَائِلِ الشُّرْبِ لِتَحَقُّقِ الْمُنَاسَبَةِ وَالتَّعَلُّقِ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ احْتِيَاجِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ دُونَ بَيَانِ التَّرْتِيبِ بَيْنَهُمَا ، فَيَتِمُّ الْمَطْلُوبُ بِمَا ذَكَرُوهُ قَوْلُهُ إلَّا أَنَّهُ بَقِيَتْ فِيهِ شُبْهَةُ الشِّرْكَةِ نَظَرًا إلَى الدَّلِيلِ ، وَهُوَ مَا رَوَيْنَا ، حَتَّى لَوْ سَرَقَهُ إنْسَانٌ فِي مَوْضِعٍ يَعِزُّ وُجُودُهُ وَهُوَ يُسَاوِي نِصَابًا لَمْ تُقْطَعْ يَدُهُ ) وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ عَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْطَعَ فِي الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا } يُورِثُ الشُّبْهَةَ بِهَذَا الطَّرِيقِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْعَمَلَ بِالْحَدِيثِ يُوَافِقُ الْعَمَلَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا } وَلَا يَلْزَمُ بِالْعَمَلِ بِهِ إبْطَالُ الْكِتَابِ ، بِخِلَافِ قَوْله تَعَالَى { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا } فَإِنَّ الْعَمَلَ بِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ يُبْطِلُ قَوْله تَعَالَى { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي } ، { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ } وَغَيْرَ ذَلِكَ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ غَيْرُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْخُصُوصَاتُ ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ أَقُولُ : فِي

هَذَا الْجَوَابِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْ بِالْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ عَلَى الْإِطْلَاقِ إبْطَالُ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ آخَرَ ، فَإِنَّهُمْ حَكَمُوا بِأَنَّ الْمَاءَ الْمُحْرَزَ فِي الْأَوَانِي يَصِيرُ مَمْلُوكًا بِالْإِحْرَازِ ، وَيَنْقَطِعُ حَقُّ الْغَيْرِ عَنْهُ ، هَذَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ لَا مَحَالَةَ ، فَلَوْ عَمِلْنَا بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ عَلَى الْإِطْلَاقِ لَزِمَ إبْطَالُ ذَلِكَ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ الدَّالِّ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُحْرَزَ فِي الْأَوَانِي مِلْكٌ خَاصٌّ لِمَنْ أَحْرَزَهُ لَا شِرْكَةَ فِيهِ لِغَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ غَيْرُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ خُصُوصُ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ الدَّالِّ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُحْرَزَ فِي الْأَوَانِي مِلْكٌ مَخْصُوصٌ لِمُحْرِزِهِ كَمَا قِيلَ فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُورِثَ شُبْهَةً فِيمَا لَوْ سَرَقَ إنْسَانٌ مَاءً مُحْرَزًا فِي الْأَوَّلِ كَمَا لَا تُورِثُهَا الْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ .
فَالْحَقُّ فِي الْجَوَابِ عَنْ ذَلِكَ الِاعْتِرَاضِ مَا ذَكَرَهُ تَاجُ الشَّرِيعَةِ حَيْثُ قَالَ : فَإِنْ قُلْت : فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْطَعَ السَّارِقُ نَظَرًا إلَى قَوْله تَعَالَى { خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا } قُلْت : مُقَابَلَةُ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ تَقْتَضِي انْقِسَامَ الْآحَادِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } وقَوْله تَعَالَى { أُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } وَلَا يَجُوزُ الزَّائِدُ عَلَى الْأَرْبَعِ ، فَكَذَا مَعْنَى الْآيَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ خَلَقَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا وَقَعَ فِي يَدِهِ لَا كُلَّ الْأَشْيَاءِ ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ أَثْبَتَ الْحَدِيثُ الشِّرْكَةَ لِلنَّاسِ عَامًّا ا هـ .

فَصْلٌ فِي كَرْيِ الْأَنْهَارِ قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : الْأَنْهَارُ ثَلَاثَةٌ : نَهْرٌ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِأَحَدٍ وَلَمْ يَدْخُلْ مَاؤُهُ فِي الْمَقَاسِمِ بَعْدُ كَالْفُرَاتِ وَنَحْوِهِ ، وَنَهْرٌ مَمْلُوكٌ دَخَلَ مَاؤُهُ فِي الْقِسْمَةِ إلَّا أَنَّهُ عَامٌّ .
وَنَهْرٌ مَمْلُوكٌ دَخَلَ مَاؤُهُ فِي الْقِسْمَةِ وَهُوَ خَاصٌّ .
وَالْفَاصِلُ بَيْنَهُمَا اسْتِحْقَاقُ الشَّفَةِ بِهِ وَعَدَمُهُ .
فَالْأَوَّلُ كَرْيُهُ عَلَى السُّلْطَانِ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْكَرْيِ لَهُمْ فَتَكُونُ مُؤْنَتُهُ عَلَيْهِمْ ، وَيُصْرَفُ إلَيْهِ مِنْ مُؤْنَةِ الْخَرَاجِ وَالْجِزْيَةِ دُونَ الْعُشُورِ وَالصَّدَقَاتِ ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ لِلْفُقَرَاءِ وَالْأَوَّلَ لِلنَّوَائِبِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ شَيْءٌ فَالْإِمَامُ يُجْبِرُ النَّاسَ عَلَى كَرْيِهِ إحْيَاءً لِمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ إذْ هُمْ لَا يُقِيمُونَهَا بِأَنْفُسِهِمْ ، وَفِي مِثْلِهِ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : : لَوْ تُرِكْتُمْ لَبِعْتُمْ أَوْلَادَكُمْ ، إلَّا أَنَّهُ يُخْرِجُ لَهُ مَنْ كَانَ يُطِيقُهُ وَيُجْعَلُ مُؤْنَتُهُ عَلَى الْمَيَاسِيرِ الَّذِينَ لَا يُطِيقُونَهُ بِأَنْفُسِهِمْ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَكَرْيُهُ عَلَى أَهْلِهِ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ وَالْمَنْفَعَةَ تَعُودُ إلَيْهِمْ عَلَى الْخُصُوصِ وَالْخُلُوصِ ، وَمَنْ أَبَى مِنْهُمْ يُجْبَرُ عَلَى كَرْيِهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ الْعَامِّ وَهُوَ ضَرَرُ بَقِيَّةِ الشُّرَكَاءِ وَضَرَرُ الْآبِي خَاصٌّ وَيُقَابِلُهُ عِوَضٌ فَلَا يُعَارَضُ بِهِ ؛ وَلَوْ أَرَادُوا أَنْ يُحَصِّنُوهُ خِيفَةَ الِانْبِثَاقِ وَفِيهِ ضَرَرٌ عَامٌّ كَغَرَقِ الْأَرَاضِيِ وَفَسَادِ الطُّرُقِ يُجْبَرُ الْآبِي ، وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّهُ مَوْهُومٌ بِخِلَافِ الْكَرْيِ ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ .
وَأَمَّا الثَّالِثُ وَهُوَ الْخَاصُّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَكَرْيُهُ عَلَى أَهْلِهِ لِمَا بَيَّنَّا ثُمَّ قِيلَ يُجْبَرُ الْآبِي كَمَا فِي الثَّانِي .
وَقِيلَ لَا يُجْبَرُ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الضَّرَرَيْنِ خَاصٌّ .
وَيُمْكِنُ دَفْعُهُ عَنْهُمْ بِالرُّجُوعِ عَلَى الْآبِي بِمَا أَنْفَقُوا فِيهِ إذَا كَانَ بِأَمْرِ الْقَاضِي

فَاسْتَوَتْ الْجِهَتَانِ ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ ، وَلَا يُجْبَرُ لِحَقِّ الشَّفَةِ كَمَا إذَا امْتَنَعُوا جَمِيعًا وَمُؤْنَةُ كَرْيِ النَّهْرِ الْمُشْتَرَكِ عَلَيْهِمْ مِنْ أَعْلَاهُ ، فَإِذَا جَاوَزَ أَرْضَ رَجُلٍ رُفِعَ عَنْهُ وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَالَا : هِيَ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ بِحِصَصِ الشِّرْبِ وَالْأَرْضِينَ ؛ لِأَنَّ لِصَاحِبِ الْأَعْلَى حَقًّا فِي الْأَسْفَلِ لِاحْتِيَاجِهِ إلَى تَسْيِيلِ مَا فَضَلَ مِنْ الْمَاءِ فِيهِ .
وَلَهُ أَنَّ الْمَقْصِدَ مِنْ الْكَرْيِ الِانْتِفَاعُ بِالسَّقْيِ ، وَقَدْ حَصَلَ لِصَاحِبِ الْأَعْلَى فَلَا يَلْزَمُهُ إنْفَاعُ غَيْرِهِ ، وَلَيْسَ عَلَى صَاحِبِ السَّيْلِ عِمَارَتُهُ كَمَا إذَا كَانَ لَهُ مَسِيلٌ عَلَى سَطْحِ غَيْرِهِ ، كَيْفَ وَأَنَّهُ يُمْكِنُهُ دَفْعَ الْمَاءِ عَنْ أَرْضِهِ بِسَدِّهِ مِنْ أَعْلَاهُ ، ثُمَّ إنَّمَا يُرْفَعُ عَنْهُ إذَا جَاوَزَ أَرْضَهُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ ، وَقِيلَ إذَا جَاوَزَ فُوَّهَةَ نَهْرِهِ ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ لَهُ رَأْيًا فِي اتِّخَاذِ الْفُوَّهَةِ مِنْ أَعْلَاهُ وَأَسْفَلِهِ ، فَإِذَا جَاوَزَ الْكَرْيُ أَرْضَهُ حَتَّى سَقَطَتْ عَنْهُ مُؤْنَتُهُ قِيلَ لَهُ أَنْ يَفْتَحَ الْمَاءُ لِيَسْقِيَ أَرْضَهُ لِانْتِهَاءِ الْكَرْيِ فِي حَقِّهِ ، وَقِيلَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ مَا لَمْ يَفْرُغْ شُرَكَاؤُهُ نَفْيًا لِاخْتِصَاصِهِ ، وَلَيْسَ عَلَى أَهْلِ الشَّفَةِ مِنْ الْكَرْيِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُحْصَوْنَ وَلِأَنَّهُمْ أَتْبَاعٌ .

( فَصْلٌ فِي كَرْيِ الْأَنْهَارِ ) قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ : لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ مَسَائِلِ الشُّرْبِ احْتَاجَ إلَى ذِكْرِ مُؤْنَةِ كَرْيِ الْأَنْهَارِ الَّتِي كَانَ الشُّرْبُ مِنْهَا ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتْ مُؤْنَةُ الْكَرْيِ أَمْرًا زَائِدًا عَلَى النَّهْرِ إذْ النَّهْرُ يُوجَدُ بِدُونِ مُؤْنَةِ الْكَرْيِ كَالنَّهْرِ الْعَامِّ أَخَّرَ ذِكْرَهُ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ كَلَامٌ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الْمُصَنِّفَ لَمْ يَفْرُغْ مِنْ ذِكْرِ مَسَائِلِ الشُّرْبِ ، بَلْ هُوَ فِي أَثْنَاءِ ذِكْرِ مَسَائِلِهَا بَعْدُ ، كَيْفَ وَقَدْ قَالَ فِيمَا قَبْلُ فُصُولٌ فِي مَسَائِلِ الشُّرْبِ ، وَهُوَ الْآنَ شَرَعَ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي مِنْ تِلْكَ الْفُصُولِ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ النَّهْرَ الْعَامَّ أَيْضًا لَا يُوجَدُ بِدُونِ مُؤْنَةِ الْكَرْيِ ، بَلْ لَهُ مُؤْنَةٌ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ فِيمَا بَعْدُ حَيْثُ قَالَ : فَالْأَوَّلُ كَرْيُهُ عَلَى السُّلْطَانِ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْكَرْيِ لَهُمْ فَيَكُونُ مُؤْنَتُهُ عَلَيْهِمْ .
لَا يُقَالُ : مُرَادُهُمْ أَنَّ النَّهْرَ الْعَامَّ يُوجَدُ بِدُونِ مُؤْنَةِ الْكَرْيِ عَلَى أَهْلِهِ لَا أَنَّهُ يُوجَدُ بِدُونِهَا مُطْلَقًا يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِيمَا بَعْدُ : وَأَمَّا الثَّانِي فَكَرْيُهُ عَلَى أَهْلِهِ لَا عَلَى بَيْتِ الْمَالِ فَلَا يَضُرُّهُمْ وُجُوبُ مُؤْنَةِ النَّهْرِ الْعَامِّ عَلَى السُّلْطَانِ لِأَنَّا نَقُولُ : مُؤْنَةُ النَّهْرِ الْعَامِّ وَإِنْ كَانَتْ عَلَى السُّلْطَانِ فِي الظَّاهِرِ حَيْثُ كَانَ صَرْفُهَا مِنْ يَدِهِ إلَّا أَنَّهَا فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى أَهْلِهَا أَيْضًا ، وَهُمْ عَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ ، يُرْشِدُ إلَيْهِ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ : لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْكَرْيِ لَهُمْ فَتَكُونُ مُؤْنَتُهُ عَلَيْهِمْ فِي تَعْلِيلِ قَوْلِهِ فَالْأَوَّلُ كَرْيُهُ عَلَى السُّلْطَانِ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ : وَلَئِنْ سُلِّمَ أَنَّ مُؤْنَةَ النَّهْرِ الْعَامِّ عَلَى السُّلْطَانِ نَفْسِهِ فَلَا يُجْدِي نَفْعًا أَيْضًا ، إذْ لَا يَلْزَمُ حِينَئِذٍ أَنْ يُوجَدَ النَّهْرُ بِدُونِ مُؤْنَةِ الْكَرْيِ

مُطْلَقًا فَلَا يَثْبُتُ كَوْنُ مُؤْنَةِ الْكَرْيِ أَمْرًا زَائِدًا عَلَى النَّهْرِ ، فَلَا يَتِمُّ وَجْهُ التَّأْخِيرِ الَّذِي ذَكَرُوهُ هَاهُنَا .
ثُمَّ أَقُولُ : مَا ذَكَرُوهُ هَاهُنَا مَعَ كَوْنِهِ غَيْرَ تَامٍّ فِي نَفْسِهِ مُسْتَغْنًى عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ بِمَا ذَكَرُوهُ مِنْ قَبْلُ عِنْدَ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فُصُولٌ فِي مَسَائِلِ الشُّرْبِ : فَصْلٌ فِي الْمِيَاهِ ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا هُنَاكَ : لَمَّا فَرَغَ مِنْ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ ذَكَرَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ مَسَائِلِ الشُّرْبِ ؛ لِأَنَّ إحْيَاءَ الْمَوَاتِ يَحْتَاجُ إلَيْهِ ، وَقَدَّمَ فَصْلَ الْمِيَاهِ عَلَى فَصْلِ الْكَرْيِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْمَاءُ انْتَهَى فَتَأَمَّلْ ( قَوْلُهُ وَلَهُ أَنَّ الْمَقْصِدَ مِنْ الْكَرْيِ الِانْتِفَاعُ بِالسَّقْيِ ، وَقَدْ حَصَلَ لِصَاحِبِ الْأَعْلَى فَلَا يَلْزَمُهُ إنْفَاعُ غَيْرِهِ ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : وَالصَّوَابُ نَفْعُ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِنْفَاعَ فِي مَعْنَى النَّفْعِ غَيْرُ مَسْمُوعٍ ، كَذَا وُجِدَتْ بِخَطِّ الْإِمَامِ تَاجِ الدِّينِ الزَّرْنُوجِيِّ ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ وَاقْتَفَى أَثَرَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ وَلَمْ يَزِيدُوا عَنْ ذَلِكَ شَيْئًا .
وَقَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ : اُسْتُعْمِلَ الْإِنْفَاعُ فِي مَعْنَى النَّفْعِ وَهُوَ ضِدُّ الضَّرَرِ ، وَلَمْ يُسْمَعْ ذَلِكَ فِي قَوَانِينِ اللُّغَةِ وَجَاءَ أَرْجَعْته فِي لُغَةِ هُذَيْلٍ بِمَعْنَى رَجَعْته ، وَيَجُوزُ عَلَى قِيَاسِهِ أَنَفَعْته بِمَعْنَى نَفَعْته .
وَلَكِنَّ اللُّغَةَ لَا تَصِحُّ بِالْقِيَاسِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ سَهْوًا مِنْ الْكِتَابِ بِأَنْ يَكُونَ فِي الْأَصْلِ انْتِفَاعُ غَيْرِهِ مِنْ بَابِ الِافْتِعَالِ ا هـ كَلَامُهُ .
وَقَالَ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ بَعْدَ نَقْلِ كَلَامِ هَؤُلَاءِ الشُّرَّاحِ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ : قُلْت : لَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ الْهَمْزَةُ هُنَا لِلتَّعْدِيَةِ لِكَوْنِ النَّفْعِ مُتَعَدِّيًا بِدُونِ الْهَمْزَةِ ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّعْرِيضِ مِنْ بَابِ أَبِعْته فَإِنَّ بَاعَ مُتَعَدٍّ ، وَلَمَّا قَصَدُوا مِنْهُ التَّعْرِيضَ أَدْخَلُوا الْهَمْزَةَ عَلَيْهِ عَلَى قَصْدِ أَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ

مُعَرِّضًا لِأَصْلِ الْفِعْلِ ، فَإِنَّ مَعْنَى أَبِعْته عَرَضْته لِلْبَيْعِ وَجَعَلْته مُنْتَسِبًا إلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ هَاهُنَا يَكُونُ الْمَعْنَى فَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَجْعَلَ غَيْرَهُ مُعَرِّضًا لِلنَّفْعِ وَلَا مُنْتَسِبًا إلَيْهِ انْتَهَى .
أَقُولُ .
لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ ، إذْ مَآلُهُ أَيْضًا إثْبَاتُ اللُّغَةِ بِالْقِيَاسِ ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ ، وَلَوْ صَحَّ ذَلِكَ لَكَانَ قِيَاسُ مَا فِي الْكِتَابِ عَلَى أَرْجَعَهُ بِمَعْنَى رَجَعَهُ أَوْلَى وَأَحْسَنُ مِنْ قِيَاسِهِ عَلَى أَبَاعَهُ بِمَعْنَى عَرَضَهُ لِلْبَيْعِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ .

فَصْلٌ فِي الدَّعْوَى وَالِاخْتِلَافِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ قَالَ ( وَتَصِحُّ دَعْوَى الشِّرْبِ بِغَيْرِ أَرْضٍ اسْتِحْسَانًا ) ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُمْلَكُ بِدُونِ الْأَرْضِ إرْثًا ، وَقَدْ يَبِيعُ الْأَرْضَ وَيَبْقَى الشِّرْبُ لَهُ وَهُوَ مَرْغُوبٌ فِيهِ فَيَصِحُّ فِيهِ الدَّعْوَى ( وَإِذَا كَانَ نَهْرٌ لِرَجُلٍ يَجْرِي فِي أَرْضِ غَيْرِهِ فَأَرَادَ صَاحِبُ الْأَرْضِ أَنْ لَا يُجْرَى النَّهْرُ فِي أَرْضِهِ تُرِكَ عَلَى حَالِهِ ) ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ لَهُ بِإِجْرَاءِ مَائِهِ .
فَعِنْدَ الِاخْتِلَافِ يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ ، وَلَمْ يَكُنْ جَارِيًا فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ أَنَّ هَذَا النَّهْرَ لَهُ ، أَوْ أَنَّهُ قَدْ كَانَ مَجْرَاهُ لَهُ فِي هَذَا النَّهْرِ يَسُوقُهُ إلَى أَرْضِهِ لِيَسْقِيَهَا فَيَقْضِي لَهُ لِإِثْبَاتِهِ بِالْحُجَّةِ مِلْكًا لَهُ أَوْ حَقًّا مُسْتَحَقًّا فِيهِ ، وَعَلَى هَذَا الْمَصَبُّ فِي نَهْرٍ أَوْ عَلَى سَطْحٍ أَوْ الْمِيزَابُ أَوْ الْمَمْشَى فِي دَارِ غَيْرِهِ ، فَحُكْمُ الِاخْتِلَافِ فِيهَا نَظِيرُهُ فِي الشِّرْبِ

( فَصْلٌ فِي الدَّعْوَى وَالِاخْتِلَافِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ ) لَمَّا قَرُبَ الْفَرَاغُ مِنْ بَيَانِ مَسَائِلِ الشُّرْبِ خَتَمَهُ بِفَصْلٍ يَشْتَمِلُ عَلَى مَسَائِلَ شَتَّى مِنْ مَسَائِلِ الشُّرْبِ ( وَقَوْلُهُ وَتَصِحُّ دَعْوَى الشُّرْبِ بِغَيْرِ الْأَرْضِ اسْتِحْسَانًا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُمْلَكُ بِدُونِ الْأَرْضِ إرْثًا وَقَدْ تُبَاعُ الْأَرْضُ وَيَبْقَى الشُّرْبُ لَهُ ، وَهُوَ مَرْغُوبٌ فِيهِ فَيَصِحُّ فِيهِ دَعْوَى الْبَيْعِ ) قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ : يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الدَّعْوَى إعْلَامُ الْمُدَّعِي فِي الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةُ وَالشُّرْبُ مَجْهُولٌ جَهَالَةً لَا تَقْبَلُ الْإِعْلَامَ ، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا ، أَقُولُ : فِيهِ إشْكَالٌ ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ لَا يَدْفَعُ ذَلِكَ الْوَجْهَ الْمَذْكُورَ لِلْقِيَاسِ فِي الْمَبْسُوطِ ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الْمَشْرُوطَ يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ الشَّرْطِ ، فَإِذَا انْتَفَى الْإِعْلَامُ الَّذِي هُوَ شَرْطُ صِحَّةِ الدَّعْوَى فِي دَعْوَى الشُّرْبِ لِجَهَالَتِهِ جَهَالَةً لَا تَقْبَلُ الْإِعْلَامَ انْتَفَى صِحَّةُ دَعْوَى الشُّرْبِ قَطْعًا فَلَا يُتَصَوَّرُ صِحَّةُ دَعْوَاهُ بِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ مِنْ كَوْنِهِ مَمْلُوكًا بِدُونِ الْأَرْضِ إرْثًا وَبَاقِيًا بَعْدَ بَيْعِ الْأَرْضِ وَمَرْغُوبًا فِيهِ وَإِلَّا يَلْزَمُ أَنْ يَتَحَقَّقَ الْمَشْرُوطُ بِدُونِ أَنْ يَتَحَقَّقَ الشَّرْطُ ، فَكَيْفَ يَصْلُحُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ فِي مُقَابَلَةِ ذَلِكَ الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ لِلْقِيَاسِ فِي الْمَبْسُوطِ ، عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ لَوْ كَانَ مُصَحِّحًا لِدَعْوَى الشُّرْبِ مَعَ جَهَالَتِهِ لَكَانَ مُصَحِّحًا لِدَعْوَى غَيْرِهِ أَيْضًا مِنْ الْأَعْيَانِ الْمَجْهُولَةِ مَعَ كَوْنِهَا بَاطِلَةً قَطْعًا .
نَعَمْ يَصْلُحُ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ أَنْ يَكُونَ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ فِي مُقَابَلَةِ وَجْهٍ آخَرَ لِلْقِيَاسِ مَذْكُورٌ أَيْضًا فِي الْمَبْسُوطِ وَمَنْقُولٌ عَنْهُ أَيْضًا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ ، وَهُوَ أَنَّ

الْمُدَّعِيَ يَطْلُبُ مِنْ الْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ لَهُ بِالْمِلْكِ فِيمَا يَدَّعِيهِ إذَا ثَبَتَ دَعْوَاهُ بِالْبَيِّنَةِ ، وَالشُّرْبُ لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ بِغَيْرِ أَرْضٍ فَلَا يَسْمَعُ الْقَاضِي فِيهِ الدَّعْوَى كَالْخَمْرِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ ، فَإِنَّ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ يَدْفَعُ هَذَا الْوَجْهَ ، وَيَصِيرُ جَوَابًا عَنْهُ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ تَأَمَّلْ تَفْهَمْ .
ثُمَّ أَقُولُ : الْوَجْهُ الْأَوَّلُ مِنْ ذَيْنِكَ الْوَجْهَيْنِ لِلْقِيَاسِ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ وَإِنْ كَانَ مَذْكُورًا فِي الْمَبْسُوطِ وَالْكَافِي وَكَثِيرٍ مِنْ شُرُوحِ هَذَا الْكِتَابِ بِطَرِيقِ النَّقْلِ عَنْ الْمَبْسُوطِ فِي بَعْضِهَا ، وَبِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ فِي الْبَعْضِ إلَّا أَنَّهُ مَنْظُورٌ فِيهِ عِنْدِي ؛ لِأَنَّهُمْ إنْ أَرَادُوا بِقَوْلِهِمْ فِي ذَلِكَ الْوَجْهِ وَالشُّرْبُ مَجْهُولٌ جَهَالَةً لَا تَقْبَلُ الْإِعْلَامَ أَنَّ الشُّرْبَ مُطْلَقًا مَجْهُولٌ جَهَالَةً لَا تَقْبَلُ الْإِعْلَامَ فَهُوَ مَمْنُوعٌ ، فَإِنَّهُ إذَا ادَّعَى شُرْبَ يَوْمٍ فِي الشَّهْرِ مَثَلًا يَصِيرُ الشُّرْبُ هُنَاكَ مَعْلُومًا ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأَصْلِ ؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي بَابِ الشَّهَادَاتِ فِي الشُّرْبِ مِنْ الْأَصْلِ : وَإِذَا كَانَ نَهْرٌ لِرَجُلٍ فِي أَرْضِهِ فَادَّعَى رَجُلٌ فِيهِ شُرْبَ يَوْمٍ فِي الشَّهْرِ ، وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ شَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ تُقْبَلُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ وَيُقْضَى لَهُ بِذَلِكَ اسْتِحْسَانًا ، لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ قَامَتْ عَلَى شُرْبٍ مَعْلُومٍ مِنْ غَيْرِ أَرْضٍ .
وَالشَّهَادَةُ عَلَى الشُّرْبِ مِنْ غَيْرِ أَرْضٍ مَقْبُولَةٌ إذَا كَانَ الشُّرْبُ مَعْلُومًا ، وَالشُّرْبُ مَعْلُومٌ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا لَهُ بِشُرْبِ يَوْمٍ مِنْ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَهُوَ مَعْلُومٌ ، إلَى هُنَا لَفْظُ الْأَصْلِ وَإِنْ أَرَادُوا بِذَلِكَ أَنَّ الشُّرْبَ قَدْ يَكُونُ مَجْهُولًا فَهُوَ مُسَلَّمٌ ، وَلَكِنْ لَا يُجْدَى شَيْئًا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ .
إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ بِصِحَّةِ دَعْوَى الشُّرْبِ بِغَيْرِ أَرْضٍ اسْتِحْسَانًا فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ صِحَّةُ دَعْوَى الشُّرْبِ الْمَعْلُومِ ، فَإِنَّ دَعْوَى الشُّرْبِ الْمَجْهُولِ وَالشَّهَادَةَ

عَلَيْهِ لَا تَصِحُّ أَصْلًا ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأَصْلِ أَيْضًا ، فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ : وَإِنْ شَهِدُوا أَنَّ لَهُ شُرْبَ يَوْمٍ ، وَلَمْ يُسَمُّوا عَدَدَ الْأَيَّامِ لَا تُقْبَلُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ ؛ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِشُرْبٍ مَجْهُولٍ لَا يُمْكِنُ الْقَضَاءُ بِهِ لِأَنَّهُ لَا يُدْرَى أَنَّ لَهُ شُرْبَ يَوْمٍ مِنْ الشَّهْرِ أَوْ مِنْ السَّنَةِ أَوْ مِنْ الْأُسْبُوعِ ، وَجَهَالَةُ الْمَشْهُودِ بِهِ تَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْقَضَاءُ بِهَا انْتَهَى .
( قَوْلُهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ وَالنِّهَايَةِ : يَعْنِي بِأَنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَعْمَلًا بِإِجْرَاءِ مَائِهِ فِيهِ أَوْ لَمْ تَكُنْ أَشْجَارُهُ فِي طَرَفَيْ النَّهْرِ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِي الْمَعْنَى الْأَوَّلِ خَلَلٌ ، إذْ لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ أَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ هُوَ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ : أَيْ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَعْمَلًا بِإِجْرَاءِ مَائِهِ فِيهِ يَلْزَمُ أَنْ يَلْغُوا قَوْلَهُ وَلَمْ يَكُنْ جَارِيًا ، إذْ يَكُونُ عَدَمُ الْجَرَيَانِ حِينَئِذٍ مُنْدَرِجًا فِي مَضْمُونِ قَوْلِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ ، وَلَمْ يَكُنْ جَارِيًا مُسْتَدْرَكًا مَحْضًا ، فَالْوَجْهُ هُوَ الْمَعْنَى الثَّانِي وَهُوَ إنْ لَمْ تَكُنْ أَشْجَارُهُ فِي طَرَفَيْ النَّهْرِ ، فَإِنَّ كَوْنَ أَشْجَارِهِ فِي طَرَفَيْ النَّهْرِ عَلَامَةَ أَنْ يَكُونَ هَذَا النَّهْرُ لَهُ ، وَجَرَيَانُ مَائِهِ فِيهِ عَلَامَةُ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَجْرَاهُ فِي هَذَا النَّهْرِ ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ إشَارَةٌ إلَى انْتِفَاءِ الْعَلَامَةِ الْأُولَى .
وَقَوْلُهُ وَلَمْ يَكُنْ جَارِيًا إشَارَةٌ إلَى انْتِفَاءِ الْعَلَامَةِ الثَّانِيَةِ ، وَيَصِيرُ مَعْنَى مَجْمُوعِ كَلَامِهِ فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ الْعَلَامَتَيْنِ فَعَلَى الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةُ أَنَّ هَذَا النَّهْرَ لَهُ ، أَوْ أَنَّهُ كَانَ لَهُ مَجْرَاهُ فِي هَذَا النَّهْرِ فَيَنْتَظِمُ السِّيَاقُ وَاللِّحَاقُ كَمَا تَرَى .
لَا يُقَالُ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ صَاحِبَيْ

الْعِنَايَةِ وَالنِّهَايَةِ تَفْسِيرَ مَجْمُوعِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ وَلَمْ يَكُنْ جَارِيًا عَلَى أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمَا بِأَنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَعْمَلًا بِإِجْرَاءِ مَائِهِ فِيهِ نَاظِرًا إلَى قَوْلِهِ وَلَمْ يَكُنْ جَارِيًا ، وَأَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمَا أَوْ لَمْ تَكُنْ أَشْجَارُهُ فِي طَرَفَيْ النَّهْرِ نَاظِرًا إلَى قَوْلِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ عَلَى طَرِيقَةِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْغَيْرِ مُرَتَّبٍ .
لِأَنَّا نَقُولُ : مَعَ كَوْنِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْغَيْرِ مُرَتَّبِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ مِنْ قَبِيلِ الْأَلْغَازِ فِي الْكَلَامِ لَا يَسْتَقِيمُ حِينَئِذٍ كَلِمَةُ أَوْ فِي قَوْلِهِمَا أَوْ لَمْ تَكُنْ أَشْجَارُهُ فِي طَرَفَيْ النَّهْرِ فَإِنَّهَا لِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ : فَإِنْ انْتَفَتْ إحْدَى الْعَلَامَتَيْنِ فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ، فَإِنَّهُ إذَا انْتَفَتْ إحْدَاهُمَا وَوُجِدَتْ أُخْرَاهُمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ ، وَلِهَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ : وَلَمْ يَكُنْ جَارِيًا بِكَلِمَةِ الْوَاوِ إشَارَةً إلَى انْتِفَائِهِمَا مَعًا

( وَإِذَا كَانَ نَهْرٌ بَيْنَ قَوْمٍ وَاخْتَصَمُوا فِي الشِّرْبِ كَانَ الشِّرْبُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ أَرَاضِيهِمْ ) ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الِانْتِفَاعُ بِسَقْيِهَا فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ ، بِخِلَافِ الطَّرِيقِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّطَرُّقُ وَهُوَ فِي الدَّارِ الْوَاسِعَةِ وَالضَّيِّقَةِ عَلَى نَمَطٍ وَاحِدٍ ، فَإِنْ كَانَ الْأَعْلَى مِنْهُمْ لَا يَشْرَبُ حَتَّى يَسْكُرَ النَّهْرَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّ الْبَاقِينَ ، وَلَكِنَّهُ يَشْرَبُ بِحِصَّتِهِ ، فَإِنْ تَرَاضَوْا عَلَى أَنْ يَسْكُرَ الْأَعْلَى النَّهْرَ حَتَّى يَشْرَبَ بِحِصَّتِهِ أَوْ اصْطَلَحُوا عَلَى أَنْ يَسْكُرَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فِي نَوْبَتِهِ جَازَ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ ، إلَّا أَنَّهُ إذَا تَمَكَّنَ مِنْ ذَلِكَ بِلَوْحٍ لَا يَسْكُرُ بِمَا يَنْكَبِسُ بِهِ النَّهْرُ مِنْ غَيْرِ تَرَاضٍ لِكَوْنِهِ إضْرَارًا بِهِمْ ، وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمْ أَنْ يَكْرِيَ مِنْهُ نَهْرًا أَوْ يَنْصُبَ عَلَيْهِ رَحَى مَاءٍ إلَّا بِرِضَا أَصْحَابِهِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ كَسْرَ ضِفَّةِ النَّهْرِ وَشَغْلَ مَوْضِعٍ مُشْتَرَكٍ بِالْبِنَاءِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ رَحًى لَا يَضُرُّ بِالنَّهْرِ وَلَا بِالْمَاءِ ، وَيَكُونُ مَوْضِعُهَا فِي أَرْضِ صَاحِبِهَا ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ وَلَا ضَرَرَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ .
وَمَعْنَى الضَّرَرِ بِالنَّهْرِ مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ كَسْرِ ضِفَّتِهِ ، وَبِالْمَاءِ أَنْ يَتَغَيَّرَ عَنْ سُنَنِهِ الَّذِي كَانَ يَجْرِي عَلَيْهِ ، وَالدَّالِيَةُ وَالسَّانِيَةُ نَظِيرُ الرَّحَى ، وَلَا يَتَّخِذَ عَلَيْهِ جِسْرًا وَلَا قَنْطَرَةً بِمَنْزِلَةِ طَرِيقٍ خَاصٍّ بَيْنَ قَوْمٍ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ لِوَاحِدٍ نَهْرٌ خَاصٌّ يَأْخُذُ مِنْ نَهْرٍ خَاصٍّ بَيْنَ قَوْمٍ فَأَرَادَ أَنْ يُقَنْطِرَ عَلَيْهِ وَيَسْتَوْثِقَ مِنْهُ لَهُ ذَلِكَ ، أَوْ كَانَ مُقَنْطِرًا مُسْتَوْثِقًا فَأَرَادَ أَنْ يَنْقُضَ ذَلِكَ وَلَا يَزِيدَ ذَلِكَ فِي أَخْذِ الْمَاءِ حَيْثُ يَكُونُ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ وَضْعًا وَرَفْعًا .
وَلَا ضَرَرَ بِالشُّرَكَاءِ بِأَخْذِ زِيَادَةِ الْمَاءِ ، وَيُمْنَعُ مِنْ أَنْ يُوَسِّعَ فَمَ النَّهْرِ ؛ لِأَنَّهُ

يَكْسِرُ ضِفَّةَ النَّهْرِ ، وَيَزِيدُ عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِ فِي أَخْذِ الْمَاءِ ، وَكَذَا إذَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ بِالْكُوَى ، وَكَذَا إذَا أَرَادَ أَنْ يُؤَخِّرَهَا عَنْ فَمِ النَّهْرِ فَيَجْعَلَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَذْرُعٍ مِنْهُ لِاحْتِبَاسِ الْمَاءِ فِيهِ فَيَزْدَادُ دُخُولُ الْمَاءِ فِيهِ .
بِخِلَافِ مَا إذَا أَرَادَ أَنْ يُسْفِلَ كُوَاهُ أَوْ يَرْفَعَهَا حَيْثُ يَكُونُ لَهُ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ ؛ لِأَنَّ قِسْمَةَ الْمَاءِ فِي الْأَصْلِ بِاعْتِبَارِ سَعَةِ الْكُوَّةِ وَضِيقِهَا مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ التَّسَفُّلِ وَالتَّرَفُّعِ وَهُوَ الْعَادَةُ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ تَغْيِيرُ مَوْضِعِ الْقِسْمَةِ ، وَلَوْ كَانَتْ الْقِسْمَةُ وَقَعَتْ بِالْكُوَى فَأَرَادَ أَحَدُهُمْ أَنْ يُقَسِّمَ بِالْأَيَّامِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْقَدِيمَ يَتْرُكُ عَلَى قَدَمِهِ لِظُهُورِ الْحَقِّ فِيهِ .
وَلَوْ كَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمْ كُوًى مُسَمَّاةٌ فِي نَهْرٍ خَاصٍّ لَيْسَ لِوَاحِدٍ أَنْ يَزِيدَ كُوَّةً وَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّ بِأَهْلِهِ ؛ لِأَنَّ الشِّرْكَةَ خَاصَّةٌ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْكُوَى فِي النَّهْرِ الْأَعْظَمِ ؛ لِأَنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمْ أَنْ يَشُقَّ نَهْرًا مِنْهُ ابْتِدَاءً فَكَانَ لَهُ أَنْ يَزِيدَ فِي الْكُوَى بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى

( وَلَيْسَ لِأَحَدِ الشُّرَكَاءِ فِي النَّهْرِ أَنْ يَسُوقَ شِرْبَهُ إلَى أَرْضٍ لَهُ أُخْرَى لَيْسَ لَهَا فِي ذَلِكَ شِرْبٌ ) ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَقَادَمَ الْعَهْدُ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ حَقُّهُ ( وَكَذَا إذَا أَرَادَ أَنْ يَسُوقَ شِرْبَهُ فِي أَرْضِهِ الْأُولَى حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَى هَذِهِ الْأَرْضِ الْأُخْرَى ) ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَوْفِي زِيَادَةً عَلَى حَقِّهِ ، إذْ الْأَرْضُ الْأُولَى تُنَشِّفُ بَعْضَ الْمَاءِ قَبْلَ أَنْ تُسْقَى الْأَرْضُ الْأُخْرَى ، وَهُوَ نَظِيرُ طَرِيقٍ مُشْتَرَكٍ أَرَادَ أَحَدُهُمْ أَنْ يَفْتَحَ فِيهِ بَابًا إلَى دَارٍ أُخْرَى سَاكِنُهَا غَيْرُ سَاكِنِ هَذِهِ الدَّارِ الَّتِي يَفْتَحُهَا فِي هَذَا الطَّرِيقِ ، وَلَوْ أَرَادَ الْأَعْلَى مِنْ الشَّرِيكَيْنِ فِي النَّهْرِ الْخَاصِّ وَفِيهِ كُوًى بَيْنَهُمَا أَنْ يَسُدَّ بَعْضَهَا دَفْعًا لِفَيْضِ الْمَاءِ عَنْ أَرْضِهِ كَيْ لَا تَنِزَّ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ بِالْآخَرِ ، وَكَذَا إذَا أَرَادَ أَنْ يُقَسِّمَ الشِّرْبَ مُنَاصَفَةً بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ بِالْكُوَى تَقَدَّمَتْ إلَّا أَنْ يَتَرَاضَيَا ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا ، وَبَعْضُ التَّرَاضِي لِصَاحِبِ الْأَسْفَلِ أَنْ يَنْقُضَ ذَلِكَ .
وَكَذَا لِوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ ؛ لِأَنَّهُ إعَارَةُ الشِّرْبِ ، فَإِنَّ مُبَادَلَةَ الشِّرْبِ بِالشِّرْبِ بَاطِلَةٌ ، وَالشِّرْبُ مِمَّا يُورَثُ وَيُوصَى بِالِانْتِفَاعِ بِعَيْنِهِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ بِذَلِكَ حَيْثُ لَا تَجُوزُ الْعُقُودُ إمَّا لِلْجَهَالَةِ أَوْ لِلْغَرَرِ ، أَوْ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٌ حَتَّى لَا يَضْمَنَ إذَا سَقَى مِنْ شِرْبِ غَيْرِهِ ، وَإِذَا بَطَلَتْ الْعُقُودُ فَالْوَصِيَّةُ بِالْبَاطِلِ بَاطِلَةٌ ، وَكَذَا لَا يَصْلُحُ مُسَمًّى فِي النِّكَاحِ حَتَّى يَجِبَ مَهْرُ الْمِثْلِ ، وَلَا فِي الْخُلْعِ حَتَّى يَجِبَ رَدُّ مَا قَبَضَتْ مِنْ الصَّدَاقِ لِتَفَاحُشِ الْجَهَالَةِ .
وَلَا يَصْلُحُ بَدَلُ الصُّلْحِ عَنْ الدَّعْوَى ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْلَكُ بِشَيْءٍ مِنْ الْعُقُودِ .
وَلَا يُبَاعُ الشِّرْبُ فِي دَيْنِ صَاحِبِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ بِدُونِ أَرْضٍ كَمَا فِي حَالِ حَيَاتِهِ ،

وَكَيْفَ يَصْنَعُ الْإِمَامُ ؟ الْأَصَحُّ أَنْ يَضُمَّهُ إلَى أَرْضٍ لَا شِرْبَ لَهَا فَيَبِيعَهَا بِإِذْنِ صَاحِبِهَا ، ثُمَّ يَنْظُرُ إلَى قِيمَةِ الْأَرْضِ مَعَ الشِّرْبِ وَبِدُونِهِ فَيَصْرِفُ التَّفَاوُتَ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ ذَلِكَ اشْتَرَى عَلَى تَرِكَةِ الْمَيِّتِ أَرْضًا بِغَيْرِ شِرْبٍ ، ثُمَّ ضَمَّ الشِّرْبَ إلَيْهَا وَبَاعَهُمَا فَيَصْرِفُ مِنْ الثَّمَنِ إلَى ثَمَنِ الْأَرْضِ وَيَصْرِفُ الْفَاضِلَ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ

( قَوْلُهُ وَالشِّرْبُ مِمَّا يُورَثُ وَيُوصَى بِالِانْتِفَاعِ بِعَيْنِهِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَالصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ بِذَلِكَ حَيْثُ لَا تَجُوزُ الْعُقُودُ إمَّا لِلْجَهَالَةِ أَوْ لِلْغَرَرِ ، أَوْ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ حَتَّى لَا يَضْمَنَ إذَا سَقَى مِنْ شِرْبِ غَيْرِهِ ) ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي بَابِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ مِنْ كِتَابِ الْبُيُوعِ أَنَّ الشِّرْبَ يَجُوزُ بَيْعُهُ تَبَعًا لِلْأَرْضِ بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ ، وَمُفْرَدًا فِي رِوَايَةٍ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ مَشَايِخِ بَلْخٍ ؛ لِأَنَّهُ حَظٌّ مِنْ الْمَاءِ وَلِهَذَا يُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ وَلَهُ قِسْطٌ مِنْ الثَّمَنِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ الشِّرْبِ انْتَهَى .
فَتَوَهَّمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ قَوْلَهُ هَاهُنَا حَتَّى لَا يَضْمَنَ إذَا سَقَى مِنْ شِرْبِ غَيْرِهِ يُنَاقِضُ قَوْلَهُ هُنَاكَ ، وَلِهَذَا يُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ مُنَاقَضَةً ظَاهِرَةً .
أَقُولُ : لَيْسَ ذَاكَ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ بِنَاءَ كَلَامِهِ فِي الْمَقَامَيْنِ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ ، فَمَا ذَكَرَهُ هَاهُنَا عَلَى رِوَايَةِ الْأَصْلِ وَهُوَ مُخْتَارُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ ، وَمَا ذَكَرَهُ هُنَاكَ عَلَى مَا قَالَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ الْبَزْدَوِيُّ .
وَقَدْ أَفْصَحَ عَنْهُ صَاحِبُ الْخُلَاصَةِ حَيْثُ قَالَ : رَجُلٌ لَهُ نَوْبَةُ مَاءٍ فِي يَوْمٍ مُعَيَّنٍ مِنْ الْأُسْبُوعِ فَجَاءَ رَجُلٌ فَسَقَى أَرْضَهُ فِي نَوْبَتِهِ ، ذَكَرَ الْإِمَامُ عَلِيٌّ الْبَزْدَوِيُّ أَنَّ غَاصِبَ الْمَاءِ يَكُونُ ضَامِنًا ، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ ضَامِنًا .
ثُمَّ قَالَ : وَفِي فَتَاوَى الصُّغْرَى : رَجُلٌ أَتْلَفَ شِرْبَ رَجُلٍ بِأَنْ يَسْقِيَ أَرْضَهُ بِشِرْبِ غَيْرِهِ ، قَالَ الْإِمَامُ الْبَزْدَوِيُّ : ضَمِنَ ، وَقَالَ الْإِمَامُ خُوَاهَرْ زَادَهْ : لَا يَضْمَنُ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى انْتَهَى .
وَأَفْصَحَ عَنْهُ صَاحِبُ الْكَافِي أَيْضًا هَاهُنَا حَيْثُ قَالَ : حَتَّى لَوْ أَتْلَفَ شِرْبَ إنْسَانٍ بِأَنْ يَسْقِيَ أَرْضَهُ مِنْ شِرْبِ غَيْرِهِ لَا يَضْمَنُ عَلَى رِوَايَةِ الْأَصْلِ وَإِنْ اخْتَارَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ يَضْمَنُ انْتَهَى .

( وَإِذَا ) ( سَقَى الرَّجُلُ أَرْضَهُ أَوْ مَخَرَهَا مَاءً ) أَيْ مَلَأَهَا ( فَسَالَ مِنْ مَائِهَا فِي أَرْضِ رَجُلٍ فَغَرَّقَهَا أَوْ نَزَّتْ أَرْضُ جَارِهِ مِنْ هَذَا الْمَاءِ ) ( لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ضَمَانُهَا ) ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِيهِ

كِتَابُ الْأَشْرِبَةِ

سُمِّيَ بِهَا وَهِيَ جَمْعُ شَرَابٍ لِمَا فِيهِ مِنْ بَيَانِ حُكْمِهَا قَالَ ( الْأَشْرِبَةُ الْمُحَرَّمَةُ أَرْبَعَةٌ : الْخَمْرُ وَهِيَ عَصِيرُ الْعِنَبِ إذَا غَلَى وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ ، وَالْعَصِيرُ إذَا طُبِخَ حَتَّى يَذْهَبَ أَقَلُّ مِنْ ثُلُثَيْهِ ) وَهُوَ الطِّلَاءُ الْمَذْكُورُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ( وَنَقِيعُ التَّمْرِ وَهُوَ السَّكَرُ ، وَنَقِيعُ الزَّبِيبِ إذَا اشْتَدَّ وَغَلَى )

قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ : ذَكَرَ الْأَشْرِبَةَ بَعْدَ الشُّرْبِ لِأَنَّهُمَا شُعْبَتَا عِرْقٍ وَاحِد لَفْظًا وَمَعْنَى ، وَقَصَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ حَلَّ مُرَادِهِمْ بِعِرْقٍ وَاحِدٍ لَفْظًا وَمَعْنًى فَقَالَ : الْعِرْقُ اللَّفْظِيُّ ظَاهِرٌ وَهُوَ الشُّرْبُ مَصْدَرُ شَرِبَ ، وَالْعِرْقُ الْمَعْنَوِيُّ لَعَلَّهُ الْأَرْضُ ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَخْرُجُ مِنْهُ إمَّا بِالْوَاسِطَةِ أَوْ بِدُونِهَا انْتَهَى .
أَقُولُ : حُمِلَ مُرَادُهُمْ بِالْعِرْقِ الْمَعْنَوِيِّ هَاهُنَا عَلَى الْأَرْضِ بِنَاءً عَلَى خُرُوجِ الشُّرْبِ مِنْهَا بِالذَّاتِ ، وَخُرُوجُ الْأَشْرِبَةِ مِنْهَا بِالْوَاسِطَةِ تَعَسُّفٌ جِدًّا لَا تَقْبَلُهُ الْفِطْرَةُ السَّلِيمَةُ .
وَالصَّوَابُ أَنَّ مُرَادَهُمْ بِالْعِرْقِ الْمَعْنَوِيِّ هَاهُنَا هُوَ مَعْنَى لَفْظِ الشُّرْبِ الَّذِي هُوَ مَصْدَرُ شَرِبَ ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُشْتَقٌّ مِنْ ذَلِكَ الْمَصْدَرِ ، وَلَا بُدَّ فِي الِاشْتِقَاقِ مِنْ التَّنَاسُبِ بَيْنَ الْمُشْتَقِّ وَالْمُشْتَقِّ مِنْهُ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى ؛ وَهَاهُنَا أَيْضًا كَذَلِكَ ، وَهَذَا مَعْنَى كَوْنِهِمَا شُعْبَتَيْ عِرْقٍ وَاحِدٍ لَفْظًا وَمَعْنًى ، وَيُرْشِدُ إلَيْهِ مَا ذُكِرَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ حَيْثُ قَالَ : ذَكَرَ كِتَابَ الْأَشْرِبَةِ بَعْدَ الشُّرْبِ لِمُنَاسِبَةٍ بَيْنَهُمَا فِي الِاشْتِقَاقِ وَهُوَ اشْتِرَاكُ اللَّفْظَيْنِ فِي الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ وَالْحُرُوفِ وَالْأُصُولِ ا هـ .
ثُمَّ إنَّ مِنْ مَحَاسِنِ ذِكْرِ الْأَشْرِبَةِ بَيَانَ حُرْمَتِهَا ؛ إذْ لَا شُبْهَةَ فِي حُسْنِ تَحْرِيمِ مَا يُزِيلُ الْعَقْلَ الَّذِي هُوَ مَلَاكُ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَشُكْرِ إنْعَامِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : مَا بَالُهُ حَلَّ لِلْأُمَمِ السَّابِقَةِ مَعَ احْتِيَاجِهِمْ أَيْضًا إلَى الْعَقْلِ ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ السُّكْرَ حَرَامٌ فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ ، وَحُرِّمَ شُرْبُ الْقَلِيلِ مِنْ الْخَمْرِ عَلَيْنَا كَرَامَةً لَنَا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لِئَلَّا نَقَعَ فِي الْمَحْظُورِ بِأَنْ يَدْعُوَ شُرْبُ الْقَلِيلِ مِنْهَا إلَى شُرْبِ الْكَثِيرِ وَنَحْنُ مَشْهُودٌ لَنَا بِالْخَيْرِيَّةِ .
فَإِنْ قِيلَ : هَلَّا حُرِّمَتْ عَلَيْنَا ابْتِدَاءً ، وَالدَّاعِي

الْمَذْكُورُ مَوْجُودٌ ؟ أُجِيبَ إمَّا بِأَنَّ الشَّهَادَةَ بِالْخَيْرِيَّةِ لَمْ تَكُنْ إذْ ذَاكَ ، وَإِمَّا لِتَدْرِيجِ الضَّارِي لِئَلَّا يَنْفِرَ مِنْ الْإِسْلَامِ ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ .
أَقُولُ : فِي كُلٍّ مِنْ وَجْهَيْ الْجَوَابِ الثَّانِي نَظَرٌ .
أَمَّا فِي وَجْهِهِ الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ بِالْخَيْرِيَّةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ ، إلَّا أَنَّ نَفْسَ خَيْرِيَّةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ كَانَتْ فِي الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ ، وَهِيَ كَافِيَةٌ فِي الْكَرَامَةِ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ .
وَأَمَّا فِي وَجْهِهِ الثَّانِي فَلِأَنَّ نُفْرَةَ الضَّارِي بِالْخَمْرِ : أَيْ الْمُعْتَادِ بِهَا مِنْ الْإِسْلَامِ بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ يُوجَدُ بِتَحْرِيمِهَا فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ ، فَإِنَّهَا إذَا لَمْ تُحَرَّمْ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ كَانَ الضَّارِي بِهَا عَلَى حَالِهِ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ أَيْضًا ، فَإِذَا حَرَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ لَزِمَ أَنْ يَنْفِرَ عَنْهُ عَلَى مُقْتَضَى صُعُوبَةِ تَرْكِ الْمُعْتَادِ ، وَأَيْضًا احْتِمَالُ كَوْنِ الِاعْتِيَادِ بِخَبِيثٍ بَاعِثًا عَلَى التَّنْفِيرِ عَنْ الْإِسْلَامِ عِنْدَ النَّهْيِ عَنْ تَعَاطِي ذَلِكَ الْخَبِيثِ مُتَحَقِّقٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمُنْكَرَاتِ الَّتِي نَهَى عَنْهَا فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَعْتَبِرْ ذَلِكَ فِي مُقَابَلَةِ ظُهُورِ شَرَفِ الْإِسْلَامِ فَهَاهُنَا أَيْضًا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ ، فَالْوَجْهُ الْوَجِيهُ فِي الْجَوَابِ عَنْ السُّؤَالِ الثَّانِي مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ حَيْثُ قَالَ : فَإِنْ قِيلَ : هَلَّا حُرِّمَتْ الْخَمْرُ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ مَعَ وُجُودِ هَذِهِ الْحِكْمَةِ ؟ قُلْنَا : أَبَاحَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ لِيُعَايَنَ الْفَسَادُ فِي الْخَمْرِ ، حَتَّى إذَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ عَرَفُوا مِنَّة الْحَقَّ لَدَيْهِمْ ، وَلَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ انْتَهَى ( قَوْلُهُ سُمِّيَ بِهَا وَهِيَ جَمْعُ شَرَابٍ لِمَا فِيهِ مِنْ بَيَانِ حُكْمِهَا ) يَعْنِي سُمِّيَ هَذَا الْكِتَابُ بِالْأَشْرِبَةِ : أَيْ أُضِيفَ إلَيْهَا ، وَالْحَالُ أَنَّ الْأَشْرِبَةَ

جَمْعُ شَرَابٍ ، وَهُوَ اسْمٌ فِي اللُّغَةِ لِكُلِّ مَا يُشْرَبُ مِنْ الْمَائِعَاتِ سَوَاءٌ كَانَ حَرَامًا أَوْ حَلَالًا ، وَفِي اسْتِعْمَالِ أَهْلِ الشَّرْعِ اسْمٌ لِمَا هُوَ حَرَامٌ مِنْهُ وَكَانَ مُسْكِرًا لِمَا فِيهِ : أَيْ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِنْ بَيَانِ حُكْمِهَا : أَيْ حُكْمِ الْأَشْرِبَةِ كَمَا سُمِّيَ كِتَابَ الْحُدُودِ لِمَا فِيهِ مِنْ بَيَانِ حُكْمِ الْحُدُودِ ، وَكَمَا سُمِّيَ كِتَابُ الْبُيُوعِ لِمَا فِيهِ مِنْ بَيَانِ حُكْمِ الْبُيُوعِ ، هَذَا زُبْدَةُ مَا ذُكِرَ هَا هُنَا فِي جُمْلَةِ الشُّرُوحِ وَالْكَافِي مَعَ نَوْعِ زِيَادَةٍ فِي حَلِّ الْأَلْفَاظِ .
قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ مِنْ بَيَانِ حُكْمِهَا : أَيْ بَيَانِ حُكْمِ أَنْوَاعِهَا ، وَقَالَ : وَلَعَلَّ ذَلِكَ تَمْهِيدُ الْعُذْرِ لِعِنْوَانِهِ الْكِتَابَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ : يَعْنِي إنَّمَا عَنْوَنَ بِهَا ؛ لِأَنَّ فِيهِ بَيَانَ أَحْكَامِ أَنْوَاعِهَا كَمَا فِي الْبُيُوعِ ، أَوْ لِإِضَافَةِ الْكِتَابِ إلَى الْأَعْيَانِ ، وَالْفِقْهُ يَبْحَثُ عَنْ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ ، فَوَجْهُهُ حِينَئِذٍ أَنَّ الْحُكْمَ وَهُوَ الْحُرْمَةُ هَا هُنَا وَصْفٌ لِلْأَعْيَانِ لَا لِلْأَفْعَالِ فَلِذَلِكَ عَنْوَنَ بِالْأَعْيَانِ وَيُعْلَمُ مِنْهُ حَالُ الْأَفْعَالِ ، وَالتَّفْصِيلُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ خُصُوصًا التَّلْوِيحَ فِي أَوَائِلِ الْقِسْمِ الثَّانِي ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
أَقُولُ : لَيْسَ لِتَوْجِيهِهِ الَّذِي ذَكَرَهُ لِإِضَافَةِ الْكِتَابِ إلَى الْأَعْيَانِ مَعْنًى مُحَصَّلٌ ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ أَنَّ الْحُكْمَ وَهُوَ الْحُرْمَةُ هَا هُنَا وَصْفٌ لِلْأَعْيَانِ حَقِيقَةً لَا لِلْأَفْعَالِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ سِيَّمَا فِي التَّلْوِيحِ فِي أَوَائِلِ الْقِسْمِ الثَّانِي أَنَّ إضَافَةَ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ إلَى الْأَعْيَانِ كَحُرْمَةِ الْمَيْتَةِ وَالْخَمْرِ وَالْأُمَّهَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مَجَازٌ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ بَابِ إطْلَاقِ اسْمِ الْمَحَلِّ عَلَى الْحَالِّ ، أَوْ هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ : أَيْ حَرُمَ أَكْلُ الْمَيْتَةِ وَشُرْبُ الْخَمْرِ وَنِكَاحُ الْأُمَّهَاتِ لِدَلَالَةِ الْعَقْلِ عَلَى

الْحَذْفِ ، وَالْمَقْصُودُ الْأَظْهَرُ عَلَى تَعْيِينِ الْمَحْذُوفِ ، وَأَمَّا عِنْدَ بَعْضِهِمْ وَإِنْ كَانَتْ إضَافَةُ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ إلَى الْأَعْيَانِ حَقِيقَةً لِوَجْهَيْنِ مُفَصَّلَيْنِ فِي مَحَلِّهِ ، إلَّا أَنَّ كَوْنَ إضَافَتِهِمَا إلَى الْأَفْعَالِ حَقِيقَةً مِمَّا لَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ قَطُّ ، بَلْ مَنْ يَقُولُ بِكَوْنِ إضَافَتِهِمَا إلَى الْأَعْيَانِ حَقِيقَةً إنَّمَا يَقِيسُ إضَافَتَهُمَا إلَى الْأَعْيَانِ عَلَى إضَافَتِهِمَا إلَى الْأَفْعَالِ فِي كَوْنِهَا حَقِيقَةً ، وَيَسْتَمِدُّ بِذَلِكَ فِي تَوْجِيهِ مَذْهَبِهِ ، فَلَا مَجَالَ لِلْقَوْلِ بِأَنَّ الْحُرْمَةَ وَصْفٌ لِلْأَعْيَانِ حَقِيقَةً لَا لِلْأَفْعَالِ عَلَى كِلَا الْمَذْهَبَيْنِ .
وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الْحُرْمَةَ هَا هُنَا وَصْفٌ لِلْأَعْيَانِ مَجَازًا لَا لِلْأَفْعَالِ لَا يَتِمُّ قَوْلُهُ فَلِذَلِكَ عَنْوَنَ بِالْأَعْيَانِ ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْحُرْمَةِ وَصْفًا لِلْأَعْيَانِ مَجَازًا لَا يَقْتَضِي أَنْ يُعَنْوِنَ الْكِتَابَ بِالْأَعْيَانِ ، بَلْ رِعَايَةُ جَانِبِ الْحَقِيقَةِ فِي الْعِنْوَانِ أَوْلَى وَأَحْسَنُ بِلَا رَيْبٍ ، فَكَانَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُعَنْوَنَ بِالْفِعْلِ بِأَنْ يُقَالَ كِتَابُ شُرْبِ الْأَشْرِبَةِ حَتَّى يُرَاعَى كَوْنُ الْفِقْهِ بَاحِثًا عَنْ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ بِلَا كُلْفَةٍ أَنْ يُقَالَ وَيُعْلَمَ مِنْهُ حَالُ الْأَفْعَالِ .
وَبِالْجُمْلَةِ تَوْجِيهُهُ الْمَذْكُورُ لَيْسَ بِتَامٍّ عَلَى كُلِّ حَالٍ

أَمَّا الْخَمْرُ فَالْكَلَامُ فِيهَا فِي عَشَرَةِ مَوَاضِعَ : أَحَدُهَا فِي بَيَانِ مَائِيَّتِهَا وَهِيَ النِّيءُ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ إذَا صَارَ مُسْكِرًا وَهَذَا عِنْدَنَا وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ : هُوَ اسْمٌ لِكُلِّ مُسْكِرٍ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ } : وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ } وَأَشَارَ إلَى الْكَرْمَةِ وَالنَّخْلَةِ ، وَلِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ مُخَامَرَةِ الْعَقْلِ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي كُلِّ مُسْكِرٍ وَلَنَا أَنَّهُ اسْمٌ خَاصٌّ بِإِطْبَاقِ أَهْلِ اللُّغَةِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ وَلِهَذَا اُشْتُهِرَ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ غَيْرُهُ ، وَلِأَنَّ حُرْمَةَ الْخَمْرِ قَطْعِيَّةٌ وَهِيَ فِي غَيْرِهَا ظَنِّيَّةٌ ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ خَمْرًا لِتَخَمُّرِهِ لَا لِمُخَامَرَتِهِ الْعَقْلَ ، عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرْتُمْ لَا يُنَافِي كَوْنَ الِاسْمِ خَاصًّا فِيهِ فَإِنَّ النَّجْمَ مُشْتَقٌّ مِنْ النُّجُومِ وَهُوَ الظُّهُورُ ، ثُمَّ هُوَ اسْمٌ خَاصٌّ لِلنَّجْمِ الْمَعْرُوفِ لَا لِكُلِّ مَا ظَهَرَ وَهَذَا كَثِيرُ النَّظِيرِ وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ طَعَنَ فِيهِ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَالثَّانِي أُرِيدَ بِهِ بَيَانُ الْحُكْمِ ؛ إذْ هُوَ اللَّائِقُ بِمَنْصِبِ الرِّسَالَةِ وَالثَّانِي فِي حَقِّ ثُبُوتِ هَذَا الِاسْمِ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا إذَا اشْتَدَّ صَارَ خَمْرًا ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْقَذْفُ بِالزَّبَدِ ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ يَثْبُتُ بِهِ ، وَكَذَا الْمَعْنَى الْمُحَرَّمُ وَهُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي الْفَسَادِ بِالِاشْتِدَادِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْغَلَيَانَ بِدَايَةُ الشِّدَّةِ ، وَكَمَالُهَا بِقَذْفٍ بِالزَّبَدِ وَسُكُونِهِ ؛ إذْ بِهِ يَتَمَيَّزُ الصَّافِي مِنْ الْكَدِرِ ، وَأَحْكَامُ الشَّرْعِ قَطْعِيَّةٌ فَتُنَاطُ بِالنِّهَايَةِ كَالْحَدِّ وَإِكْفَارِ الْمُسْتَحِلِّ وَحُرْمَةِ الْبَيْعِ وَقِيلَ يُؤْخَذُ فِي حُرْمَةِ الشُّرْبِ بِمُجَرَّدِ الِاشْتِدَادِ احْتِيَاطًا

( قَوْلُهُ أَحَدُهَا فِي بَيَانِ مَاهِيَّتِهَا ) وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ مَائِيَّتِهَا بَدَلَ مَاهِيَّتِهَا .
قَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ : الْمَائِيَّةُ بِمَعْنَى الْمَاهِيَّةِ ، وَهِيَ مَا بِهِ الشَّيْءُ هُوَ كَمَاهِيَّةِ الْإِنْسَانِ وَهِيَ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ انْتَهَى .
قُلْت : وَفِي نُسْخَةٍ مَائِيَّتِهَا هَا هُنَا إيهَامٌ لَطِيفٌ لِمَا فِي قَوْلِهِ وَهِيَ النِّيءُ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ تَبَصَّرْ تَقِفْ ( قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّهُ اسْمٌ خَاصٌّ بِإِطْبَاقِ أَهْلِ اللُّغَةِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ ) أَقُولُ لِمَانِعٍ أَنْ يَمْنَعَ إطْبَاقَ أَهْلِ اللُّغَةِ عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ خَاصٌّ لِلنِّيءِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ إذَا صَارَ مُسْكِرًا ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ قَالَ فِي قَامُوسِ اللُّغَةِ : الْخَمْرُ مَا أَسْكَرَ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ أَوْ عَامٍّ .
وَقَالَ : وَالْعُمُومُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّهَا حُرِّمَتْ وَمَا بِالْمَدِينَةِ خَمْرُ عِنَبٍ .
وَمَا كَانَ شَرَابُهُمْ إلَّا الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ انْتَهَى وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْخَمْرَ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ اللُّغَةِ يَعُمُّ مَاءَ الْعِنَبِ وَغَيْرَهُ ، وَأَنَّ الْعُمُومَ أَصَحُّ عِنْدَ صَاحِبِ الْقَامُوسِ ( قَوْلُهُ وَلِأَنَّ حُرْمَةَ الْخَمْرِ قَطْعِيَّةٌ وَهِيَ فِي غَيْرِهَا ظَنِّيَّةٌ ) قَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ : بَيَانُهُ أَنَّ النِّيءَ الْمُسْكِرَ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ خَمْرٌ قَطْعًا وَيَقِينًا لِثُبُوتِ ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْحُرْمَةُ الْقَطْعِيَّةُ ، فَأَمَّا سَائِرُ الْأَشْرِبَةِ فَفِي تَسْمِيَتِهَا خَمْرًا شُبْهَةٌ ؛ لِأَنَّ فِيهَا خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَأَدْنَى دَرَجَاتِ الِاخْتِلَافِ إيرَاثُ الشُّبْهَةِ فَكَيْفَ تَتَرَتَّبُ الْحُرْمَةُ الثَّابِتَةُ قَطْعًا عَلَى مَا فِيهِ شُبْهَةٌ ؛ لِأَنَّ بِالشُّبْهَةِ لَا يَثْبُتُ الْقَطْعُ وَالْيَقِينُ انْتَهَى أَقُولُ : فِي هَذَا الْبَيَانِ خَلَلٌ ، فَإِنَّهُ جَعَلَ فِيهِ مَدَارَ كَوْنِ الْحُرْمَةِ فِي غَيْرِ النِّيءِ الْمُسْكِرِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ ظَنِّيَّةً اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِي تَسْمِيَةِ ذَلِكَ خَمْرًا وَلَيْسَ بِسَدِيدٍ ؛ إذْ الْمُصَنِّفُ بِصَدَدِ بَيَانِ بُطْلَانِ ذَلِكَ الِاخْتِلَافِ وَإِثْبَاتِ أَنَّ غَيْرَ

النِّيءِ الْمُسْكِرِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ لَا يُسَمَّى خَمْرًا فَلَوْ كَانَ مَدَارُ ظَنِّيَّةِ حُرْمَةِ غَيْرِ ذَلِكَ اخْتِلَافَهُمْ فِي تَسْمِيَتِهِ خَمْرًا لَزِمَ الْمُصَادَرَةُ عَلَى الْمَطْلُوبِ ، فَكَأَنَّهُ قَالَ : الْخَمْرُ هِيَ النِّيءُ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ إذَا صَارَ مُسْكِرًا ، وَغَيْرُهُ لَيْسَ بِخَمْرٍ كَمَا زَعَمَهُ بَعْضُ النَّاسِ ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْخَمْرِ قَطْعِيَّةٌ وَحُرْمَةَ غَيْرِ النِّيءِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ ظَنِّيَّةٌ ؛ لِأَنَّا خَالَفْنَا فِي كَوْنِ غَيْرِ ذَلِكَ خَمْرًا وَقُلْنَا : إنَّ اسْمَ الْخَمْرِ مَخْصُوصٌ بِالنِّيءِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ لَا يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، فَأَوْرَثَ خِلَافُنَا فِي ذَلِكَ شُبْهَةً فِي كَوْنِهِ خَمْرًا فَلَمْ تَكُنْ حُرْمَتُهُ قَطْعِيَّةً وَفِي هَذَا مُصَادَرَةٌ كَمَا تَرَى وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي بَيَانِ هَذَا الْمَقَامِ : يَعْنِي أَنَّ حُرْمَةَ الْخَمْرِ ثَابِتَةٌ بِالْإِجْمَاعِ فَتَكُونُ قَطْعِيَّةً ، وَمَا هُوَ قَطْعِيٌّ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِقَطْعِيٍّ ، وَكَوْنُ النِّيءِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ خَمْرًا قَطْعِيٌّ بِلَا خِلَافٍ فَيَثْبُتُ بِهِ ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ فَإِنَّ فِيهِ اخْتِلَافًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ، وَأَدْنَى دَرَجَاتِ الِاخْتِلَافِ إيرَاثُ الشُّبْهَةِ فَتَكُونُ الْحُرْمَةُ قَطْعِيَّةً وَمَا يَدُلُّ عَلَيْهَا ظَنِّيٌّ انْتَهَى أَقُولُ : وَفِيهِ أَيْضًا خَلَلٌ أَمَّا أَوَّلًا فَلِمَا مَرَّ آنِفًا مِنْ اسْتِلْزَامِهِ الْمُصَادَرَةَ عَلَى الْمَطْلُوبِ ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ مِنْ قَوْلِهِ فَإِنَّ فِيهِ اخْتِلَافًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ : وَكَوْنُ النِّيءِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ خَمْرًا قَطْعِيٌّ بِلَا خِلَافٍ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي غَيْرِ النِّيءِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ اخْتِلَافَهُمْ فِي كَوْنِهِ خَمْرًا فَيَئُولُ إلَى مَا ذُكِرَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ فَتَكُونُ الْحُرْمَةُ قَطْعِيَّةً وَمَا يَدُلُّ عَلَيْهَا ظَنِّيٌّ كَلَامٌ غَيْرُ صَحِيحٍ لَا ارْتِبَاطَ بِمَا قَبْلَهُ ؛ لِأَنَّ مَدْلُولَ مَا قَبْلَهُ أَنَّ غَيْرَ النِّيءِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ مِمَّا وَقَعَتْ فِيهِ شُبْهَةٌ بِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ

فِي حَقِّهِ ، فَاللَّازِم مِنْهُ أَنْ تَكُونَ حُرْمَتُهُ ظَنِّيَّةً ، فَإِنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ : فَتَكُونُ الْحُرْمَةُ قَطْعِيَّةً فَتَكُونُ حُرْمَةُ غَيْرِ النِّيءِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ قَطْعِيَّةً لَمْ يَكُنْ التَّفْرِيعُ صَحِيحًا قَطْعًا ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ فَتَكُونُ حُرْمَةُ الْخَمْرِ قَطْعِيَّةً لَمْ يَصِحَّ قَوْلُهُ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهَا ظَنِّيٌّ ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ دَلِيلَ حُرْمَةِ الْخَمْرِ قَطْعِيٌّ كَمَا أَفْصَحَ عَنْهُ فِي صَدْرِ بَيَانِهِ حَيْثُ قَالَ : يَعْنِي أَنَّ حُرْمَةَ الْخَمْرِ ثَابِتَةٌ بِالْإِجْمَاعِ فَتَكُونُ قَطْعِيَّةً ، وَمَا هُوَ قَطْعِيٌّ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِقَطْعِيٍّ فَالْحَقُّ فِي شَرْحِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَا هُنَا مَا ذَكَرَهُ تَاجُ الشَّرِيعَةِ وَصَاحِبُ الْكِفَايَةِ حَيْثُ قَالَا : يَعْنِي فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُصْرَفَ تَحْرِيمُهَا إلَّا إلَى عَيْنٍ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ فِي تِلْكَ الْعَيْنِ قَطْعًا ، وَغَيْرُ النِّيءِ لَيْسَ بِتِلْكَ الْمَثَابَةِ لِمَكَانِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ انْتَهَى فَإِنَّهُمَا لَمْ يُرِيدَا بِالِاجْتِهَادِ فِيهِ الِاجْتِهَادَ فِي تَسْمِيَتِهِ خَمْرًا حَتَّى يَلْزَمَ الْمُصَادَرَةُ عَلَى الْمَطْلُوبِ ، بَلْ أَرَادَا بِهِ الِاجْتِهَادَ فِي عَدَمِ حُرْمَتِهِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِيمَا بَعْدُ حَيْثُ قَالَ فِي الْعَصِيرِ إذَا طُبِخَ حَتَّى يَذْهَبَ أَقَلُّ مِنْ ثُلُثَيْهِ بَعْدَ بَيَانِ أَنَّهُ حَرَامٌ عِنْدَنَا وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : إنَّهُ مُبَاحٌ ، وَقَالَ فِي نَقِيعِ التَّمْرِ بَعْدَ بَيَانٍ : إنَّهُ حَرَامٌ وَقَالَ شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ : إنَّهُ مُبَاحٌ ، وَقَالَ فِي نَقِيعِ الزَّبِيبِ بَعْدَ بَيَانٍ : إنَّهُ حَرَامٌ إذَا اشْتَدَّ وَغَلَى ، وَيَتَأَتَّى فِيهِ خِلَافُ الْأَوْزَاعِيِّ ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ طَعَنَ فِي هَذَا التَّعْلِيلِ الْمَذْكُورِ مِنْ قَبْلِنَا حَيْثُ قَالَ : لَا يَقُولُ الْخَصْمُ بِقَطْعِيَّةِ حُرْمَةِ غَيْرِ النِّيءِ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُمْ لَا يُكَفِّرُونَ مُسْتَحِلَّهُ فَلَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِمْ الْإِلْزَامُ ، هَذَا كَالرِّبَا فَإِنَّ حُرْمَتَهُ قَطْعِيَّةٌ ، وَحُرْمَةُ بَيْعِ الْحَفْنِ بِالْحَفْنِ مُتَفَاضِلًا مَثَلًا لَيْسَتْ بِقَطْعِيَّةٍ

انْتَهَى ، أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ عَدَمَ قَوْلِ الْخَصْمِ بِقَطْعِيَّةِ حُرْمَةِ غَيْرِ النِّيءِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ لَا يُنَافِي تَوَجُّهَ الْإِلْزَامِ عَلَيْهِمْ ، بَلْ بِذَلِكَ يَتَوَجَّهُ الْإِلْزَامُ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْخَمْرِ قَطْعِيَّةٌ بِلَا رَيْبٍ لِمَا سَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سَمَّى الْخَمْرَ فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ رِجْسًا وَالرِّجْسُ مَا هُوَ مُحَرَّمُ الْعَيْنِ ، وَقَدْ جَاءَتْ السُّنَّةُ مُتَوَاتِرَةً أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَ الْخَمْرَ وَعَلَيْهِ انْعَقَدَ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ ، وَمَا ثَبَتَ بِهَذِهِ الْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ قَطْعِيٌّ جَزْمًا ، فَإِذَا لَمْ يَقُلْ الْخَصْمُ بِقَطْعِيَّةِ حُرْمَةِ غَيْرِ النِّيءِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ تَعَيَّنَ أَنْ لَا يَكُونَ غَيْرُ النِّيءِ خَمْرًا ؛ إذْ لَا شَكَّ أَنَّ قَطْعِيَّةَ الْحُرْمَةِ وَعَدَمَ قَطْعِيَّتِهَا لَا يَجْتَمِعَانِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ فَقَدْ تَوَجَّهَ عَلَيْهِمْ الْإِلْزَامُ فِي قَوْلِهِمْ : إنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ ، وَتَنْظِيرُهُ الَّذِي ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ ، وَهَذَا كَالرِّبَا إلَى آخِرِهِ لَا يُجْدِي شَيْئًا ؛ لِأَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا عِنْدَنَا الْكَيْلُ مَعَ الْجِنْسِ ، أَوْ الْوَزْنُ مَعَ الْجِنْسِ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الطَّعْمُ فِي الْمَطْعُومَاتِ وَالثَّمَنِيَّةُ فِي الْأَثْمَانِ ، فَفِي بَيْعِ الْحَفْنَةِ بِالْحَفْنَةِ مُتَفَاضِلًا لَا يُوجَدُ الرِّبَا عِنْدَنَا لِعَدَمِ وُجُودِ عِلَّتِهِ فَلَا يَحْرُمُ ذَلِكَ الْبَيْعُ وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَيُوجَدُ فِيهِ الرِّبَا لِوُجُودِ عِلَّتِهِ فَيَحْرُمُ فَكَوْنُ حُرْمَةِ الرِّبَا قَطْعِيَّةً يَصِيرُ حُجَّةً عَلَى الشَّافِعِيِّ هُنَاكَ أَيْضًا لِمِثْلِ مَا قُلْنَا هَا هُنَا فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّنْظِيرِ أَصْلًا ( قَوْلُهُ : وَإِنَّمَا سُمِّيَ خَمْرًا لِتَخَمُّرِهِ لَا لِمُخَامَرَتِهِ الْعَقْلَ ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : وَلَك أَنْ تَقُولَ هَذَا مَنْعٌ لَا يَضُرُّ انْتَهَى أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِسَدِيدٍ ، إذْ لَا نُسَلِّمُ أَوَّلًا أَنَّ هَذَا مَنْعٌ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُعَارَضَةً : يَعْنِي إنَّمَا سُمِّيَ

خَمْرًا لِتَخَمُّرِهِ : أَيْ لِتَشَدُّدِهِ وَقُوَّتِهِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يُوجَدْ فِي غَيْرِ النِّيءِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ فَلَمْ يَكُنْ غَيْرُهُ خَمْرًا ، وَيُشِيرُ إلَيْهِ تَفْسِيرُ تَاجِ الشَّرِيعَةِ وَصَاحِبِ الْكِفَايَةِ هَا هُنَا حَيْثُ قَالَا : أَيْ لِتَشَدُّدِهِ وَقُوَّتِهِ فَإِنَّ لَهَا شِدَّةً وَقُوَّةً لَيْسَتْ لِغَيْرِهَا حَتَّى سُمِّيَتْ أُمَّ الْخَبَائِثِ انْتَهَى وَلَئِنْ سُلِّمَ أَنَّ ذَاكَ مَنْعٌ لَا مُعَارِضَةً فَلَا وَجْهَ لِقَوْلِهِ لَا يَضُرُّ ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذَا الْكَلَامِ إنَّمَا هُوَ الْجَوَابُ عَنْ اسْتِدْلَالِ الْخَصْمِ عَلَى كَوْنِ الْخَمْرِ اسْمًا لِكُلِّ مُسْكِرٍ بِقَوْلِهِ : وَلِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ مُخَامَرَةِ الْعَقْلِ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي كُلِّ مُسْكِرٍ ، فَإِنَّهُ إذَا مُنِعَ قَوْلُهُ : لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ مُخَامَرَةِ الْعَقْلِ تَسْقُطُ هَذِهِ الْمُقَدَّمَةُ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ الْمَذْكُورِ فَلَا يَتِمُّ دَلِيلُ الْخَصْمِ عَلَيْنَا وَهُوَ عَيْنُ الضَّرَرِ لَهُ ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ قَالَ فِي شَرْحِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ : هَذَا وَقَوْلُهُ : وَإِنَّمَا سُمِّيَ يَعْنِي غَيْرَ النِّيءِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ خَمْرًا لِتَخَمُّرِهِ : أَيْ لِصَيْرُورَتِهِ مُرًّا كَالْخَمْرِ لَا لِمُخَامَرَتِهِ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمْ سُمِّيَ خَمْرًا لِمُخَامَرَتِهِ الْعَقْلَ انْتَهَى أَقُولُ : هَذَا شَرْحٌ فَاسِدٌ لَا يُطَابِقُ الْمَشْرُوحَ أَصْلًا ؛ إذْ حِينَئِذٍ لَا يَظْهَرُ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ الْمَذْكُورِ وَلَا يَرْتَبِطُ بِهِ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِيمَا بَعْدُ ، عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرْتُمْ لَا يُنَافِي كَوْنَ الِاسْمِ خَاصًّا فِيهِ ، وَلَعَمْرِي إنَّ هَذَا الشَّرْحَ عَجِيبٌ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ الشَّارِحِ ، وَكَانَ لَنَا أَنْ نَحْمِلَ كَلِمَةَ : غَيْرَ فِي قَوْلِهِ : يَعْنِي غَيْرَ النِّيءِ عَلَى السَّهْوِ مِنْ قَلَمِ النَّاسِخِ الْأَوَّلِ لَوْلَا قَوْلُهُ كَالْخَمْرِ فِي قَوْلِهِ أَيْ لِصَيْرُورَتِهِ مُرًّا كَالْخَمْرِ ، فَإِنَّ التَّشْبِيهَ بِالْخَمْرِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُشَبَّهُ غَيْرَ الْخَمْرِ وَهُوَ غَيْرُ النِّيءِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ وَالصَّوَابُ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ أَنْ يُقَالَ : يَعْنِي

إنَّمَا سَمَّى النِّيءَ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ خَمْرًا لِتَخَمُّرِهِ : أَيْ لِتَغَيُّرِهِ وَاشْتِدَادِهِ وَهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي غَيْرِهِ فَلَمْ يَكُنْ خَمْرًا لَا لِمُخَامَرَتِهِ الْعَقْلَ : أَيْ لَيْسَتْ التَّسْمِيَةُ لِمُخَامَرَتِهِ الْعَقْلَ : أَيْ سِتْرِهِ الْعَقْلَ حَتَّى يُوجَدَ وَجْهُ التَّسْمِيَةِ فِي غَيْرِ النِّيءِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ أَيْضًا فَيَكُونُ خَمْرًا فَحِينَئِذٍ يَنْتَظِمُ الِارْتِبَاطُ بِالسَّبَّاقِ وَاللَّحَاقِ كَمَا لَا يَخْفَى وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ فِي تَفْسِيرِهِ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ لِتَخَمُّرِهِ : أَيْ لِصَيْرُورَتِهِ خَمْرًا أَقُولُ : هَذَا تَفْسِيرٌ خَالٍ عَنْ التَّحْصِيلِ مُؤَدٍّ إلَى إلَى تَعْلِيلِ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ كَمَا يَشْهَدُ بِهِ التَّأَمُّلُ الصَّادِقُ ( قَوْلُهُ فَإِنَّ النَّجْمَ مُشْتَقٌّ مِنْ النُّجُومِ وَهُوَ الظُّهُورُ ، ثُمَّ هُوَ اسْمٌ خَاصٌّ لِلنَّجْمِ الْمَعْرُوفِ لَا لِكُلِّ مَا ظَهَرَ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَحَلِّ : فَإِنَّ النَّجْمَ مُشْتَقٌّ مِنْ نَجَمَ إذَا ظَهَرَ ثُمَّ هُوَ خَاصٌّ بِالثُّرَيَّا انْتَهَى ، وَتَبِعَهُ الْعَيْنِيُّ أَقُولُ : هَذَا شَرْحٌ غَيْرُ صَحِيحٍ لَا يُطَابِقُ الْمَشْرُوحَ ؛ لِأَنَّ النَّجْمَ إنَّمَا كَانَ اسْمًا خَاصًّا لِجِنْسِ الْكَوْكَبِ مَوْضُوعًا لَهُ لِظُهُورِهِ ، ثُمَّ صَارَ عَلَمًا لِلثُّرَيَّا بِلَا وَضْعِ وَاضِعٍ مُعَيَّنٍ ، بَلْ لِأَجْلِ الْغَلَبَةِ وَكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهِ فِي فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ جِنْسِهِ كَمَا هُوَ حَالُ سَائِرِ الْأَعْلَامِ الْغَالِبَةِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي مَوْضِعِهِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ ثُمَّ هُوَ اسْمٌ خَاصٌّ لِلنَّجْمِ الْمَعْرُوفِ أَنَّهُ اسْمٌ خَاصٌّ لِلظَّاهِرِ الْمَخْصُوصِ وَهُوَ جِنْسُ الْكَوْكَبِ لَا أَنَّهُ عَلَمٌ خَاصٌّ لِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ مِنْ أَفْرَادِ جِنْسِ الْكَوْكَبِ وَهُوَ الثُّرَيَّا ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الظُّهُورِ إنَّمَا لُوحِظَ فِي مَرْتَبَةِ كَوْنِ النَّجْمِ اسْمًا مَوْضُوعًا لِجِنْسِ الْكَوْكَبِ لَا فِي مَرْتَبَةِ كَوْنِهِ عَلَمًا لِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ وَهُوَ الثُّرَيَّا ، فَإِنَّ كَوْنَهُ عَلَمًا لَهُ إنَّمَا كَانَ بِمُجَرَّدِ

الْغَلَبَةِ وَكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ فِيهِ لَا لِمُلَاحَظَةِ مَعْنًى فِيهِ ، وَلِهَذَا يُقَالُ لِلْأَعْلَامِ الْغَالِبَةِ أَعْلَامٌ اتِّفَاقِيَّةٌ ، وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا لَا سُتْرَةَ بِهِ عِنْدَ مَنْ لَهُ دُرْبَةٌ بِالْعُلُومِ الْأَدَبِيَّةِ ، وَكَأَنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ إنَّمَا اغْتَرَّ بِلَفْظِ الْمَعْرُوفِ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ اسْمٌ خَاصٌّ لِلنَّجْمِ الْمَعْرُوفِ ، إلَّا أَنَّ مُرَادَهُ بِالنَّجْمِ الْمَعْرُوفِ الْجِنْسُ الْمَخْصُوصُ الْمَعْرُوفُ بِإِطْلَاقِ لَفْظِ النَّجْمِ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِ مَا يُوجَدُ فِيهِ مَعْنَى الظُّهُورِ مُطْلَقًا وَهُوَ جِنْسُ الْكَوْكَبِ تَأَمَّلْ تَرْشُدْ ( قَوْلُهُ وَالثَّانِي أُرِيدَ بِهِ بَيَانُ الْحُكْمِ ) قَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ وَالْعِنَايَةِ : يَعْنِي إذَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ كَانَ حُكْمُهُ فِي الْإِسْكَارِ حُكْمَ الْخَمْرِ فِي الْحُرْمَةِ وَثُبُوتِ الْحَدِّ انْتَهَى أَقُولُ : فِيهِ بَحْثٌ ؛ لِأَنَّ حَاصِلَهُ تَفْسِيرُ الْحُكْمِ فِي قَوْلِهِ وَالثَّانِي أُرِيدَ بِهِ بَيَانُ الْحُكْمِ بِالْحُرْمَةِ وَثُبُوتِ الْحَدِّ عِنْدَ إسْكَارِ كَثِيرِهِ وَلَيْسَ بِتَامٍّ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ } يُفِيدُ الْحَصْرَ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ } عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي مَوْضِعِهِ فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ بَيَانَ الْحُكْمِ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ فِي ذَيْنِك الشَّرْحَيْنِ لَزِمَ أَنْ لَا يَصِحَّ الْحَصْرُ وَالتَّخْصِيصُ بِهَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ مُشِيرًا بِهِمَا إلَى الْكَرْمَةِ وَالنَّخْلَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمَذْكُورَ فِيهِمَا وَهُوَ الْحُرْمَةُ وَثُبُوتُ الْحَدِّ عِنْدَ إسْكَارِ الْكَثِيرِ يَتَحَقَّقُ فِي غَيْرِ تَيْنِكِ الشَّجَرَتَيْنِ أَيْضًا ، فَإِنَّ نَبِيذَ الْعَسَلِ وَالتِّينِ وَنَبِيذَ الْحِنْطَةِ وَالذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ وَإِنْ كَانَ حَلَالًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ إذَا لَمْ يَصِلْ مَرْتَبَةَ الْإِسْكَارِ وَكَانَ مِنْ غَيْرِ لَهْوٍ وَطَرَبٍ ، إلَّا أَنَّهُ إذَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ صَارَ حَرَامًا بِالْإِجْمَاعِ ، وَيَثْبُتُ بِهِ الْحَدُّ عَلَى الْقَوْلِ الْأَصَحِّ كَمَا

سَيَجِيءُ فِي الْكِتَابِ وَالْحَقُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحُكْمِ الَّذِي أُرِيدَ بَيَانُهُ بِالْحَدِيثِ الثَّانِي هُوَ حُرْمَةُ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمُتَّخَذِ مِنْ غَيْرِ تَيْنِكِ الشَّجَرَتَيْنِ فَيَصِحُّ الْحَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ ذَلِكَ الْحَدِيثِ بِلَا غُبَارٍ ، وَعِبَارَةُ صَاحِبِ الْكَافِي فِي تَفْسِيرِ الْمُرَادِ بِالْحُكْمِ هَا هُنَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ صَرِيحَةً فِي حُرْمَةِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ مَعًا ، إلَّا أَنَّهَا بِإِجْمَالِهَا لَا تُنَافِيهَا بَلْ تُسَاعِدُهَا حَيْثُ قَالَ : وَالْمُرَادُ بِالثَّانِي بَيَانُ الْحُكْمِ وَهُوَ الْحُرْمَةُ لَا بَيَانَ الْحَقِيقَةِ ، وَاقْتَفَى أَثَرَهُ تَاجُ الشَّرِيعَةِ وَصَاحِبُ الْكِفَايَةِ ( قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ يَثْبُتُ بِهِ ، وَكَذَا الْمَعْنَى الْمُحَرَّمُ وَهُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي الْفَسَادِ بِالِاشْتِدَادِ ) أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : لِأَنَّ الِاسْمَ يَثْبُتُ بِهِ مُصَادَرَةٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ ؛ لِأَنَّ مُدَّعَاهُمَا ثُبُوتُ هَذَا الِاسْمِ بِمُجَرَّدِ الِاشْتِدَادِ بِدُونِ اشْتِرَاطِ الْقَذْفِ بِالزَّبَدِ وَلَا يُسَلِّمُهُ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بَلْ يَقُولُ بِاشْتِرَاطِ الْقَذْفِ بِالزَّبَدِ فَتَعْلِيلُ مُدَّعَاهُمَا بِثُبُوتِ هَذَا الِاسْمِ بِالِاشْتِدَادِ تَعْلِيلُ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ وَقَوْلُهُ وَكَذَا الْمَعْنَى الْمُحَرَّمُ وَهُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي الْفَسَادِ بِالِاشْتِدَادِ يُشْعِرُ بِكَوْنِ حُرْمَةِ الْخَمْرِ مَعْلُولَةً ، وَهَذَا يُنَافِي مَا صَرَّحَ بِهِ فِيمَا بَعْدُ مِنْ أَنَّ عَيْنَهَا حَرَامٌ غَيْرُ مَعْلُولٍ بِالسُّكْرِ وَلَا مَوْقُوفٍ عَلَيْهِ وَقَدْ شَرَحَ الشَّارِحُ الْكَاكِيُّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ هَذَا بِمَا هُوَ أَظْهَرُ فِي الْمُنَافَاةِ حَيْثُ قَالَ : وَكَذَا الْمَعْنَى الْمُحَرَّمُ وَهُوَ الْإِسْكَارُ يَحْصُلُ بِالِاشْتِدَادِ وَهُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي الْفَسَادِ : أَيْ الْإِسْكَارُ مُؤَثِّرٌ فِي إيقَاعِ الْعَدَاوَةِ وَالصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى ا هـ إذْ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا إنَّمَا يُلَائِمُ قَوْلَ مَنْ قَالَ إنَّهَا مَعْلُولَةٌ بِالسُّكْرِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِيمَا بَعْدُ بِقَوْلِهِ :

وَمِنْ النَّاسِ مَنْ أَنْكَرَ حُرْمَةَ عَيْنِهَا ، وَقَالَ : السُّكْرُ مِنْهُ حَرَامٌ ؛ لِأَنَّ بِهِ يَحْصُلُ الْفَسَادُ وَهُوَ الصَّدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَتَأَمَّلْ ( قَوْلُهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْغَلَيَانَ بِدَايَةُ الشِّدَّةِ وَكَمَالُهَا بِقَذْفِ الزَّبَدِ وَسُكُونِهِ ؛ إذْ بِهِ يَتَمَيَّزُ الصَّافِي مِنْ الْكَدِرِ وَأَحْكَامُ الشَّرْعِ قَطْعِيَّةٌ فَتُنَاطُ بِالنِّهَايَةِ كَالْحَدِّ وَإِكْفَارِ الْمُسْتَحِلِّ وَحُرْمَةِ الْبَيْعِ ) أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : الْكَلَامُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فِي حَدِّ ثُبُوتِ اسْمِ الْخَمْرِ لَا فِي حَدِّ تَرَتُّبِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَيْهِ فَيَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ اسْمُ الْخَمْرِ فِي بِدَايَةِ الشِّدَّةِ وَيُشْتَرَطُ تَرَتُّبُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَيْهِ بِكَمَالِهَا فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : الْكَلَامُ هَا هُنَا فِي حَدِّ ثُبُوتِ اسْمِ الْخَمْرِ فِي الشَّرْعِ لَا فِي حَدِّ ثُبُوتِهِ فِي اللُّغَةِ فَقَطْ ، فَإِذَا ثَبَتَ اسْمُهَا الشَّرْعِيُّ يَلْزَمُ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهَا الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ بِلَا تَرَاخٍ فِيهِ فَيَتِمُّ التَّقْرِيبُ تَدَبَّرْ

وَالثَّالِثُ أَنَّ عَيْنَهَا حَرَامٌ غَيْرُ مَعْلُولٍ بِالسُّكْرِ وَلَا مَوْقُوفٍ عَلَيْهِ : وَمِنْ النَّاسِ مَنْ أَنْكَرَ حُرْمَةَ عَيْنِهَا ، وَقَالَ : إنَّ السُّكْرَ مِنْهَا حَرَامٌ ؛ لِأَنَّ بِهِ يَحْصُلُ الْفَسَادُ وَهُوَ الصَّدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ، وَهَذَا كُفْرٌ ؛ لِأَنَّهُ جُحُودُ الْكِتَابِ فَإِنَّهُ تَعَالَى سَمَّاهُ رِجْسًا وَالرِّجْسُ مَا هُوَ مُحَرَّمُ الْعَيْنِ ، وَقَدْ جَاءَتْ السُّنَّةُ مُتَوَاتِرَةً أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَرَّمَ الْخَمْرَ ؛ وَعَلَيْهِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ ، وَلِأَنَّ قَلِيلَهُ يَدْعُو إلَى كَثِيرِهِ وَهَذَا مِنْ خَوَاصِّ الْخَمْرِ ، وَلِهَذَا تَزْدَادُ لِشَارِبِهِ اللَّذَّةُ بِالِاسْتِكْثَارِ مِنْهُ ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَطْعُومَاتِ ثُمَّ هُوَ غَيْرُ مَعْلُولٍ عِنْدَنَا حَتَّى لَا يَتَعَدَّى حُكْمُهُ إلَى سَائِرِ الْمُسْكِرَاتِ ، وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُعَدِّيهِ إلَيْهَا ، وَهَذَا بَعِيدٌ ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ وَتَعْلِيلُهُ لِتَعَدِّيهِ الِاسْمَ ، وَالتَّعْلِيلُ فِي الْأَحْكَامِ لَا فِي الْأَسْمَاءِ

( قَوْلُهُ : وَالثَّالِثُ أَنَّ عَيْنَهَا حَرَامٌ غَيْرُ مَعْلُولٍ بِالسُّكْرِ ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : فَرْقٌ مَا بَيْنَ السُّكْرِ وَالْإِسْكَارِ فَلَا يُخَالَفُ هَذَا الْقَوْلُ لِمَا مَرَّ مِنْ قَوْلِهِ وَكَذَا الْمَعْنَى الْمُحَرَّمُ انْتَهَى أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ السُّكْرَ لَازِمُ الْإِسْكَارِ وَمُطَاوِعُهُ فَلَا يَفْتَرِقَانِ فِي التَّحْقِيقِ ، فَالتَّعْلِيلُ بِأَحَدِهِمَا يُؤَدِّي إلَى التَّعْلِيلِ بِالْآخَرِ ، وَمُجَرَّدُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِي الْمَفْهُومِ لَا يُجْدِي شَيْئًا فِقْهِيًّا هَا هُنَا كَمَا لَا يَخْفَى ، كَيْفَ وَلَا شَكَّ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بَيَانُ كَوْنِ حُرْمَتِهَا لِعَيْنِهَا غَيْرَ مَعْلُولَةٍ بِشَيْءٍ مَا أَصْلًا لَا أَنَّهَا غَيْرُ مَعْلُولَةٍ بِالسُّكْرِ وَلَكِنَّهَا مَعْلُولَةٌ بِشَيْءٍ آخَرَ كَالْإِسْكَارِ لِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ فِيمَا بَعْدُ مِنْ لُزُومِ الْكُفْرِ وَجُحُودِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى إنَّمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ادِّعَاءِ كَوْنِهَا مَعْلُولَةً بِمَا يُنَافِي كَوْنَهَا مُحَرَّمَةَ الْعَيْنِ مُطْلَقًا لَا عَلَى ادِّعَاءِ كَوْنِهَا مَعْلُولَةً بِالسُّكْرِ فَقَطْ وَإِنَّمَا قَالَ غَيْرُ مَعْلُولٍ بِالسُّكْرِ لِكَوْنِ الْوَاقِعِ فِي كَلَامِ الْمُنْكِرِ هَذِهِ الْعِبَارَةَ تَبَصَّرْ تَفْهَمْ ( قَوْلُهُ وَالشَّافِعِيُّ يُعَدِّيهِ إلَيْهَا ، وَهَذَا بَعِيدٌ ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ ) قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ : وَهِيَ مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { حُرِّمَتْ الْخَمْرُ لِعَيْنِهَا وَالسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ } وَقَالُوا : وَلَمَّا كَانَتْ حُرْمَتُهَا لِعَيْنِهَا لَا يَصِحُّ التَّعْلِيلُ ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ حِينَئِذٍ يَكُونُ مُخَالِفًا لِلنَّصِّ انْتَهَى أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إنْ كَانَ تَعْلِيلُهَا وَتَعْدِيَتُهَا إلَى غَيْرِهَا مُنَافِيًا لِحُرْمَةِ عَيْنِهَا يَلْزَمُ مِنْ تَعْلِيلِهَا وَتَعْدِيَتِهَا إلَى سَائِرِ الْمُسْكِرَاتِ الْمُخَالَفَةُ لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى أَيْضًا فَإِنَّهُ سَمَّاهُ رِجْسًا ، وَالرِّجْسُ مَا هُوَ مُحَرَّمُ الْعَيْنِ كَمَا مَرَّ ، وَالسُّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ

أَيْضًا عَلَى مَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ ، وَذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى جُحُودِ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ ، وَحَاشَى لِلشَّافِعِيِّ مِنْ ذَلِكَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَعْلِيلُهَا وَتَعْدِيَتُهَا إلَى غَيْرِهَا مُنَافِيًا لِحُرْمَةِ عَيْنِهَا بَلْ كَانَتْ حُرْمَةُ عَيْنِهَا ثَابِتَةً بِتِلْكَ الْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ ، وَحُرْمَةُ عَيْنِ غَيْرِهَا ثَابِتَةً بِتَعَدِّيهِ حُرْمَةَ عَيْنِهَا إلَى حُرْمَةِ عَيْنِ غَيْرِهَا بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ لَمْ يَتِمَّ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ خِلَافُ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ ؛ لِأَنَّ مَدْلُولَ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ إنَّمَا هُوَ حُرْمَةُ عَيْنِ الْخَمْرِ ، وَالْفَرْضُ أَنَّ تَعْدِيَتَهَا إلَى غَيْرِهَا لَا يُنَافِي حُرْمَةَ عَيْنِهَا ثُمَّ أَقُولُ : الْحَقُّ عِنْدِي هَا هُنَا تَعْلِيلُهَا بِالْإِسْكَارِ يُنَافِي حُرْمَةَ عَيْنِهَا ؛ لِأَنَّ قَلِيلَهَا لَيْسَ بِمُسْكِرٍ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ قَلِيلُهَا حَرَامًا عَلَى مُقْتَضَى التَّعْلِيلِ بِالْإِسْكَارِ ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ لَا يَكُونَ عَيْنُهَا حَرَامًا ، لَكِنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يَقُلْ بِتَعْلِيلِهَا بِالْإِسْكَارِ ، وَأَمَّا تَعْلِيلُهَا بِمَا هُوَ غَيْرُ مُنْفَكٍّ عَنْ عَيْنِهَا بَلْ هُوَ لَازِمٌ لَهَا كَالْمُخَامَرَةِ وَنَحْوِهَا ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُنَافِي حُرْمَةَ عَيْنِهَا ، وَالشَّافِعِيُّ إنَّمَا قَالَ بِتَعْلِيلِهَا بِالْمُخَامَرَةِ فَعَدَّى حُكْمَهَا إلَى غَيْرِهَا مِنْ الْمُسْكِرَاتِ حَتَّى أَوْجَبَ الْحَدَّ بِشُرْبِ قَطْرَةٍ مِنْ الْبَاذَقِ قِيَاسًا عَلَى الْخَمْرِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْكَافِي وَالشُّرُوحِ فَمِنْ أَيْنَ يَلْزَمُهُ الْمُخَالِفَةُ لِلسُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ

وَالرَّابِعُ أَنَّهَا نَجِسَةٌ نَجَاسَةً غَلِيظَةً كَالْبَوْلِ لِثُبُوتِهَا بِالدَّلَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَالْخَامِسُ أَنَّهُ يَكْفُرُ مُسْتَحِلُّهَا لِإِنْكَارِهِ الدَّلِيلَ الْقَطْعِيَّ .
( قَوْلُهُ : وَالرَّابِعُ أَنَّهَا نَجِسَةٌ نَجَاسَةً غَلِيظَةً كَالْبَوْلِ لِثُبُوتِهَا بِالدَّلَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ) أَقُولُ : فِيهِ شَيْءٌ وَهُوَ أَنَّ الثَّابِتَ بِالدَّلَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا مَرَّ آنِفًا إنَّمَا هُوَ حُرْمَتُهَا ، فَإِنْ اسْتَلْزَمَتْ حُرْمَتُهَا الْقَطْعِيَّةُ كَوْنُهَا نَجِسَةً نَجَاسَةً غَلِيظَةً فَمَا مَعْنَى جَعْلِ كَوْنِهَا نَجِسَةً نَجَاسَةً غَلِيظَةً مَوْضِعًا رَابِعًا مَبْحُوثًا عَنْهُ بِالْأَصَالَةِ وَإِنْ لَمْ تَسْتَلْزِمْهُ فَمَا مَعْنَى الْحَوَالَةِ عَلَى تِلْكَ الدَّلَائِلِ الْمَارَّةِ نَعَمْ وَاحِدٌ مِنْ تِلْكَ الدَّلَائِلِ وَهُوَ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى يَدُلُّ صَرَاحَةً عَلَى كَوْنِهَا نَجِسَةً ، فَإِنَّهُ سَمَّاهَا رِجْسًا ، وَالرِّجْسُ هُوَ الْقَذَرُ عَلَى مَا نُصَّ عَلَيْهِ فِي عَامَّةِ كُتُبِ اللُّغَةِ ، إلَّا أَنَّهُ يَبْقَى الْكَلَامُ فِي صِيغَةِ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ لِثُبُوتِهَا بِالدَّلَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ، فَالْأَوْلَى هَا هُنَا تَحْرِيرُ صَاحِبِ الْكَافِي حَيْثُ قَالَ : وَهِيَ نَجِسَةٌ نَجَاسَةً غَلِيظَةً كَالْبَوْلِ وَالدَّمِ ؛ لِأَنَّهَا سُمِّيَتْ رِجْسًا بِالنَّصِّ الْقَطْعِيِّ انْتَهَى

وَالسَّادِسُ سُقُوطُ تَقَوُّمِهَا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ حَتَّى لَا يَضْمَنَ مُتْلِفُهَا وَغَاصِبُهَا وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا نَجَّسَهَا فَقَدْ أَهَانَهَا وَالتَّقَوُّمُ يُشْعِرُ بِعِزَّتِهَا وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا وَأَكْلَ ثَمَنِهَا } وَاخْتَلَفُوا فِي سُقُوطِ مَالِيَّتِهَا وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ مَالٌ ؛ لِأَنَّ الطِّبَاعَ تَمِيلُ إلَيْهَا وَتَضِنُّ بِهَا وَمَنْ كَانَ لَهُ عَلَى مُسْلِمٍ دَيْنٌ فَأَوْفَاهُ ثَمَنَ خَمْرٍ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا ، وَلَا لِلْمَدْيُونِ أَنْ يُؤَدِّيَهُ ؛ لِأَنَّهُ ثَمَنُ بَيْعٍ بَاطِلٍ وَهُوَ غَصْبٌ فِي يَدِهِ أَوْ أَمَانَةٌ عَلَى حَسَبِ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ كَمَا فِي بَيْعِ الْمَيْتَةِ وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَى ذِمِّيٍّ فَإِنَّهُ يُؤَدِّيهِ مِنْ ثَمَنِ الْخَمْرِ ، وَالْمُسْلِمُ الطَّالِبُ يَسْتَوْفِيهِ ؛ لِأَنَّ بَيْعَهَا فِيمَا بَيْنَهُمْ جَائِزٌ .
( قَوْلُهُ : وَالسَّادِسُ سُقُوطُ تَقَوُّمِهَا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ حَتَّى لَا يَضْمَنَ مُتْلِفُهَا وَغَاصِبُهَا ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا نَجَّسَهَا فَقَدْ أَهَانَهَا وَالتَّقَوُّمُ يُشْعِرُ بِعِزَّتِهَا ) أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : هَذَا التَّعْلِيلُ يَنْتَقِضُ بِالسِّرْقِينِ فَإِنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ مَعَ أَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ يَجُوزُ بَيْعُهُ عِنْدَنَا كَمَا مَرَّ فِي فَصْلِ الْبَيْعِ مِنْ كِتَابِ الْكَرَاهِيَةِ حَيْثُ قَالَ : وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ السِّرْقِينِ وَيُكْرَهُ بَيْعُ الْعَذِرَةِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ بَيْعُ السِّرْقِينِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ فَشَابَهَ الْعَذِرَةَ ، وَجِلْدَ الْمَيْتَةِ قَبْلَ الدِّبَاغِ وَلَنَا أَنَّهُ مُنْتَفَعٌ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُلْقَى فِي الْأَرَاضِيِ لِاسْتِكْثَارِ الرِّيعِ فَكَانَ مَالًا وَالْمَالُ مَحَلٌّ لِلْبَيْعِ بِخِلَافِ الْعَذِرَةِ انْتَهَى فَتَأَمَّلْ

وَالسَّابِعُ حُرْمَةُ الِانْتِفَاعِ بِهَا ؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالنَّجَسِ حَرَامٌ ، وَلِأَنَّهُ وَاجِبُ الِاجْتِنَابِ وَفِي الِانْتِفَاعِ بِهِ اقْتِرَابٌ .
( قَوْلُهُ وَالسَّابِعُ حُرْمَةُ الِانْتِفَاعِ بِهَا ؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالنَّجَسِ حَرَامٌ ) أَقُولُ : انْتِقَاضُ هَذَا التَّعْلِيلِ بِالسِّرْقِينِ أَظْهَرُ مِمَّا مَرَّ آنِفًا فَتَدَبَّرْ

وَالثَّامِنُ أَنْ يُحَدَّ شَارِبُهَا وَإِنْ لَمْ يَسْكَرْ مِنْهَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ ، فَإِنْ عَادَ فَاجْلِدُوهُ ، فَإِنْ عَادَ فَاجْلِدُوهُ ، فَإِنْ عَادَ فَاقْتُلُوهُ } إلَّا أَنَّ حُكْمَ الْقَتْلِ قَدْ انْتَسَخَ فَبَقِيَ الْجَلْدُ مَشْرُوعًا ، وَعَلَيْهِ انْعَقَدَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَتَقْدِيرُهُ ذَكَرْنَاهُ فِي الْحُدُودِ .

وَالتَّاسِعُ أَنَّ الطَّبْخَ لَا يُؤَثِّرُ فِيهَا ؛ لِأَنَّهُ لِلْمَنْعِ مِنْ ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ لَا لِرَفْعِهَا بَعْدَ ثُبُوتِهَا ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُحَدُّ فِيهِ مَا لَمْ يَسْكَرْ مِنْهُ عَلَى مَا قَالُوا ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ بِالْقَلِيلِ فِي النِّيءِ خَاصَّةً ، لِمَا ذَكَرْنَا وَهَذَا قَدْ طُبِخَ .

وَالْعَاشِرُ جَوَازُ تَخْلِيلِهَا وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ وَسَنَذْكُرُهُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، هَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي الْخَمْرِ .

وَأَمَّا الْعَصِيرُ إذَا طُبِخَ حَتَّى يَذْهَبَ أَقَلُّ مِنْ ثُلُثَيْهِ وَهُوَ الْمَطْبُوخُ أَدْنَى طَبْخَةٍ وَيُسَمَّى الْبَاذَقَ وَالْمُنَصَّفَ وَهُوَ مَا ذَهَبَ نِصْفُهُ بِالطَّبْخِ فَكُلُّ ذَلِكَ حَرَامٌ عِنْدَنَا إذَا غَلَى وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ أَوْ إذَا اشْتَدَّ عَلَى الِاخْتِلَافِ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : إنَّهُ مُبَاحٌ ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ ؛ لِأَنَّهُ مَشْرُوبٌ طَيِّبٌ وَلَيْسَ بِخَمْرٍ وَلَنَا أَنَّهُ رَقِيقٌ مُلِذٌّ مُطْرِبٌ وَلِهَذَا يَجْتَمِعُ عَلَيْهِ الْفُسَّاقُ فَيَحْرُمُ شُرْبُهُ دَفْعًا لِلْفَسَادِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ ، وَأَمَّا نَقِيعُ التَّمْرِ وَهُوَ السُّكْرُ وَهُوَ النِّيءُ مِنْ مَاءِ التَّمْرِ : أَيْ الرَّطْبِ فَهُوَ حَرَامٌ مَكْرُوهٌ وَقَالَ شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ : إنَّهُ مُبَاحٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا } اُمْتُنَّ عَلَيْنَا بِهِ ، وَهُوَ بِالْمُحَرَّمِ لَا يَتَحَقَّقُ وَلَنَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَا مِنْ قَبْلُ ، وَالْآيَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ إذْ كَانَتْ الْأَشْرِبَةُ مُبَاحَةً كُلُّهَا ، وَقِيلَ أَرَادَ بِهِ التَّوْبِيخَ ، مَعْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ : تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَتَدَّعُونَ رِزْقًا حَسَنًا وَأَمَّا نَقِيعُ الزَّبِيبِ وَهُوَ النِّيءُ مِنْ مَاءِ الزَّبِيبِ فَهُوَ حَرَامٌ إذَا اشْتَدَّ وَغَلَى وَيَتَأَتَّى فِيهِ خِلَافُ الْأَوْزَاعِيِّ ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَعْنَى مِنْ قَبْلُ ، إلَى أَنَّ حُرْمَةَ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ دُونَ حُرْمَةِ الْخَمْرِ حَتَّى لَا يَكْفُرَ مُسْتَحِلُّهَا ، وَيَكْفُرُ مُسْتَحِلُّ الْخَمْرِ ؛ لِأَنَّ حُرْمَتَهَا اجْتِهَادِيَّةٌ ، وَحُرْمَةُ الْخَمْرِ قَطْعِيَّةٌ ، وَلَا يَجِبُ الْحَدُّ بِشُرْبِهَا حَتَّى يَسْكَرَ ، وَيَجِبُ بِشُرْبِ قَطْرَةٍ مِنْ الْخَمْرِ ، وَنَجَاسَتُهَا خَفِيفَةٌ فِي رِوَايَةٍ وَغَلِيظَةٌ فِي أُخْرَى ، وَنَجَاسَةُ الْخَمْرِ غَلِيظَةٌ رِوَايَةً وَاحِدَةً ، وَيَجُوزُ بَيْعُهَا ، وَيَضْمَنُ مُتْلِفُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا فِيهِمَا ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ ، وَمَا شَهِدْت دَلَالَةٌ قَطْعِيَّةٌ بِسُقُوطِ

تَقَوُّمِهَا ، بِخِلَافِ الْخَمْرِ ، غَيْرَ أَنَّ عِنْدَهُ يَجِبُ قِيمَتُهَا لَا مِثْلُهَا عَلَى مَا عُرِفَ ، وَلَا يُنْتَفَعُ بِهَا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ ؛ لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهَا إذَا كَانَ الذَّاهِبُ بِالطَّبْخِ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ دُونَ الثُّلُثَيْنِ ( وَقَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْأَشْرِبَةِ فَلَا بَأْسَ بِهِ ) قَالُوا : هَذَا الْجَوَابُ عَلَى هَذَا الْعُمُومِ وَالْبَيَانِ لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِ ، وَهُوَ نَصٌّ عَلَى أَنَّ مَا يُتَّخَذُ مِنْ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْعَسَلِ وَالذُّرَةِ حَلَالٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَلَا يُحَدُّ شَارِبُهُ عِنْدَهُ وَإِنْ سَكِرَ مِنْهُ ، وَلَا يَقَعُ طَلَاقُ السَّكْرَانِ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ النَّائِمِ وَمَنْ ذَهَبَ عَقْلُهُ بِالْبَنْجِ وَلَبَنِ الرِّمَاكِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ حَرَامٌ وَيُحَدُّ شَارِبُهُ وَيَقَعُ طَلَاقُهُ إذَا سَكِرَ مِنْهُ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ ( وَقَالَ فِيهِ أَيْضًا : وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ يَقُولُ : مَا كَانَ مِنْ الْأَشْرِبَةِ يَبْقَى بَعْدَ مَا يَبْلُغُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ وَلَا يَفْسُدُ فَإِنِّي أَكْرَهُهُ ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ) وَقَوْلُهُ الْأَوَّلُ مِثْلُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ ، إلَّا أَنَّهُ مُنْفَرِدٌ بِهَذَا الشَّرْطِ ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ : يَبْلُغُ : يَغْلِي وَيَشْتَدُّ ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ وَلَا يَفْسُدُ : لَا يُحَمَّضُ وَوَجْهُهُ أَنَّ بَقَاءَهُ هَذِهِ الْمُدَّةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحَمَّضَ دَلَالَةُ قُوَّتِهِ وَشِدَّتِهِ فَكَانَ آيَةَ حُرْمَتِهِ ، وَمِثْلُ ذَلِكَ يُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَعْتَبِرُ حَقِيقَةَ الشِّدَّةِ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِيمَا يَحْرُمُ أَصْلُ شُرْبِهِ وَفِيمَا يَحْرُمُ السُّكْرُ مِنْهُ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَبُو يُوسُفَ رَجَعَ إلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَمْ يُحَرِّمْ كُلَّ مُسْكِرٍ ، وَرَجَعَ عَنْ هَذَا الشَّرْطِ أَيْضًا ( وَقَالَ فِي الْمُخْتَصَرِ : وَنَبِيذُ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ إذَا طُبِخَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا

أَدْنَى طَبْخَةٍ حَلَالٌ وَإِنْ اشْتَدَّ إذَا شُرِبَ مِنْهُ مَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَا يُسْكِرُهُ مِنْ غَيْرِ لَهْوٍ وَلَا طَرِبٍ ) ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ حَرَامٌ ، وَالْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي الْمُثَلَّثِ الْعِنَبِيِّ وَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى

( قَوْلُهُ وَأَمَّا الْعَصِيرُ إذَا طُبِخَ حَتَّى يَذْهَبَ أَقَلُّ مِنْ ثُلُثَيْهِ وَهُوَ الْمَطْبُوخُ أَدْنَى طَبْخَةٍ وَيُسَمَّى الْبَاذَقَ ) قَالَ فِي الْقَامُوسِ : الْبَاذَقُ بِكَسْرِ الذَّالِ وَفَتْحِهَا : مَا طُبِخَ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ أَدْنَى طَبْخَةٍ فَصَارَ شَدِيدًا وَقَالَ فِي الْمُغْرِبِ : الْبَاذَقُ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ : مَا طُبِخَ أَدْنَى طَبْخَةٍ فَصَارَ شَدِيدًا ، وَقَالَ فِي الْفَائِقِ : هُوَ تَعْرِيبٌ بَاذَّهُ وَهُوَ الْخَمْرُ وَنَقَلَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ مَا فِي الْمُغْرِبِ وَمَا فِي الْفَائِقِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُمَا بِشَيْءٍ أَقُولُ : فِيمَا ذَكَرَ فِي الْفَائِقِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ عَلَى مَا مَرَّ هِيَ النِّيءُ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ إذَا صَارَ مُسْكِرًا ، وَالْمَطْبُوخُ لَيْسَ بِنِيءٍ قَطْعًا ، وَالْبَاذِقُ اسْمٌ لِمَا طُبِخَ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ أَدْنَى طَبْخَةٍ فَلَيْسَ بِخَمْرٍ لَا مَحَالَةَ ، وَلِهَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ : وَأَمَّا الْعَصِيرُ إذَا طُبِخَ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ وَأَمَّا الْخَمْرُ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ الْبَاذَقُ تَعْرِيبَ بَاذَّهُ بِمَعْنَى الْخَمْرِ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَا ذُكِرَ فِي الْفَائِقِ مَبْنِيًّا عَلَى مَا قَالَهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ أَنَّ الْخَمْرَ اسْمٌ لِكُلِّ مُسْكِرٍ لَا عَلَى مَا هُوَ الْمُحَقَّقُ عِنْدَنَا مِنْ كَوْنِهَا اسْمًا خَاصًّا لِلنِّيءِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ إذَا أَسْكَرَ ( قَوْلُهُ وَالْمُصَنِّفَ وَهُوَ مَا ذَهَبَ نِصْفُهُ بِالطَّبْخِ ) قَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ : قَوْلُهُ : وَالْمُنَصَّفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِالنَّصْبِ وَهُوَ الْأَوْجَهُ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ : الْبَاذَقَ : أَيْ يُسَمَّى الْعَصِيرُ الذَّاهِبُ أَقَلُّ مِنْ ثُلُثَيْهِ الْبَاذَقَ وَيُسَمَّى الْمُنَصَّفَ أَيْضًا وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا أَنَّ أَبَا اللَّيْثِ فَسَّرَ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ الذَّاهِبَ أَقَلُّ مِنْ ثُلُثَيْهِ بِالْمُنَصَّفِ وَأَيْضًا أَنَّهُ قَدْ حَصَرَ الْأَشْرِبَةَ الْمُحَرَّمَةَ عَلَى أَرْبَعَةٍ وَهِيَ الْخَمْرُ وَالْعَصِيرُ الذَّاهِبُ أَقَلُّ مِنْ ثُلُثَيْهِ وَنَقِيعُ التَّمْرِ وَنَقِيعُ الزَّبِيبِ فَلَوْ كَانَ الْمُنَصَّفُ غَيْرَ الْبَاذَقِ

الَّذِي هُوَ الْمَطْبُوخُ الذَّاهِبُ أَقَلُّ مِنْ ثُلُثَيْهِ لَكَانَتْ الْأَشْرِبَةُ الْمُحَرَّمَةُ خَمْسَةً ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُنَصَّفُ بِالرَّفْعِ ؛ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ الذَّاهِبِ أَقَلُّ مِنْ الثُّلُثَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُنَصَّفًا أَوْ غَيْرَهُ ، وَلِهَذَا جَعَلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ الْبَاذَقَ قِسْمًا وَالْمُنَصَّفَ قِسْمًا انْتَهَى وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ مَضْمُونِ مَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ : وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ مَعْنًى وَهَذَا أَوْجَهُ لَفْظًا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَنْصُوبًا لَقَالَ أَيْضًا انْتَهَى أَقُولُ : لَعَلَّ الْأَوَّلَ لَا وَجْهَ لَهُ أَصْلًا فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ أَوْجَهَ فَإِنَّهُ يَصِيرُ مَعْنَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ عَلَى ذَلِكَ تَقْدِيرَ الْعَصِيرِ الَّذِي طُبِخَ أَدْنَى طَبْخَةٍ يُسَمَّى بِاسْمَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا الْبَاذَقُ وَالْآخَرُ الْمُنَصَّفُ ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْبَاذَقُ وَالْمُنَصَّفُ مُتَّحِدِينَ فِي الْمَعْنَى وَهُوَ الْعَصِيرُ الْمَطْبُوخُ أَدْنَى طَبْخَةٍ ، مَعَ أَنَّ تَحْرِيرَ الْمُنَصَّفِ يُنَافِي ذَلِكَ أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ فَسَّرَ الْمُنَصَّفَ بِقَوْلِهِ وَهُوَ مَا ذَهَبَ نِصْفُهُ بِالطَّبْخِ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا أَخَصُّ مِنْ الْعَصِيرِ الْمَطْبُوخِ أَدْنَى طَبْخَةٍ لِتَنَاوُلِ ذَلِكَ مَا ذَهَبَ أَقَلُّ مِنْ نِصْفِهِ بِالطَّبْخِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ الِاتِّحَادُ فِي الْمَعْنَى وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ قَالَ : فَكُلُّ ذَلِكَ حَرَامٌ عِنْدَنَا إذَا غَلَى وَاشْتَدَّ إلَخْ وَلَا يَخْفَى أَنَّ لَفْظَ كُلٍّ يَقْتَضِي التَّعَدُّدَ بِحَسَبِ الْمَعْنَى لَا بِحَسَبِ الِاسْمِ فَقَطْ ، فَالْحَقُّ أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ مَرْفُوعٌ لَا غَيْرُ فَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمَطْبُوخِ فِي قَوْلِهِ وَهُوَ الْمَطْبُوخُ أَدْنَى طَبْخَةٍ وَالْمَعْنَى : أَنَّ الْعَصِيرَ الْمَطْبُوخَ الذَّاهِبَ أَقَلُّ مِنْ ثُلُثَيْهِ عَلَى قِسْمَيْنِ : أَحَدُهُمَا الْمَطْبُوخُ أَدْنَى طَبْخَةٍ الْمُسَمَّى الْبَاذَقُ ، وَالْآخَرُ الْمُنَصَّفُ وَهُوَ مَا ذَهَبَ نِصْفُهُ بِالطَّبْخِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَرَامٌ عِنْدَنَا إذَا غَلَى وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ

بِالزَّبَدِ أَوْ إذَا اشْتَدَّ عَلَى الِاخْتِلَافِ ، وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَّ الْمُنَصَّفَ لَوْ كَانَ غَيْرَ الْبَاذَقِ لَكَانَتْ الْأَشْرِبَةُ الْمُحَرَّمَةُ خَمْسَةً وَقَدْ حَصَرُوهَا فِي الْأَرْبَعَةِ فَعَلَى طَرَفِ الثُّمَامِ ؛ لِأَنَّ الْأَرْبَعَةَ الَّتِي حَصَرُوا الْأَشْرِبَةَ الْمُحَرَّمَةَ فِيهَا إنَّمَا هِيَ أُصُولُ الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ وَأَقْسَامُهَا الْأَوَّلِيَّةُ ، وَالْبَاذِقُ وَالْمُنَصَّفُ لَيْسَا كَذَلِكَ ، بَلْ إنَّمَا هُمَا قِسْمَانِ مِنْ أَحَدِ تِلْكَ الْأُصُولِ وَالْأَقْسَامُ الْأَوَّلِيَّةُ وَهُوَ الطِّلَاءُ الْعَامُّ لِلْبَاذِقِ وَالْمُنَصَّفِ ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ أَوْرَدَ عَلَى قَوْلِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ وَهَذَا أَوْجَهُ لَفْظًا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَنْصُوبًا لَقَالَ أَيْضًا حَيْثُ قَالَ فِيهِ بَحْثٌ ، فَإِنَّ الْمُسَمَّى بِالْبَاذِقِ غَيْرُ الْمُسَمَّى بِالْمُنَصَّفِ فَكَيْفَ يَكُونُ الْمَقَامُ مَقَامَ قَوْلِهِ وَأَيْضًا انْتَهَى أَقُولُ : هَذَا سَاقِطٌ جِدًّا ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْمُسَمَّى بِالْبَاذِقِ غَيْرُ الْمُسَمَّى بِالْمُنَصَّفِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ وَالْمُنَصَّفُ مَرْفُوعًا ، وَأَمَّا عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا كَمَا هُوَ مَحَلُّ كَلَامِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ فَلَا مَجَالَ لَأَنْ يَكُونَ الْمُسَمَّى بِأَحَدِهِمَا غَيْرُ الْمُسَمَّى بِالْآخَرِ ، بَلْ مُقْتَضَى مَعْنَى التَّرْكِيبِ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ إنَّمَا هُوَ تَعَدُّدُ الِاسْمِ دُونَ الْمُسَمَّى كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ دِرَايَةٌ بِقَوَاعِدِ الْعَرَبِيَّةِ ثُمَّ أَقُولُ : يُمْكِنُ أَنْ يُنَاقَشَ فِي قَوْلِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَنْصُوبًا لَقَالَ أَيْضًا بِوَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الْوَاوَ الْعَاطِفَةَ فِي قَوْلِهِ : وَالْمُنَصَّفَ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا مَعْطُوفًا عَلَى : " الْبَاذَقَ " تُغْنِي غِنَاءَ كَلِمَةٍ أَيْضًا فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَنْصُوبًا لَقَالَ أَيْضًا ( قَوْلُهُ وَأَمَّا نَقِيعُ التَّمْرِ وَهُوَ السُّكْرُ وَهُوَ النِّيءُ مِنْ مَاءِ التَّمْرِ : أَيْ الرُّطَبُ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَتَفْسِيرُهُ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ

التَّمْرَ بِالرُّطَبِ فِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ التَّمْرَ إذَا نُقِعَ فِي الْمَاءِ يُسَمَّى نَقِيعًا فَلَا حَاجَةَ إلَى أَنْ يُنْقَعَ الرُّطَبُ لَا مَحَالَةَ حَتَّى يُسَمَّى نَقِيعًا ، وَقِيَاسُ كَلَامِهِ هُنَا أَنْ يَقُولَ فِي نَقِيعِ الزَّبِيبِ : أَيْ نَقِيعِ الْعِنَبِ وَلَيْسَ بِقَوِيٍّ انْتَهَى وَقَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ دَفْعًا لِذَلِكَ النَّظَرِ : وَإِنَّمَا فَسَّرَ التَّمْرَ بِالرُّطَبِ ؛ لِأَنَّ الْمُتَّخَذَ مِنْ التَّمْرِ اسْمُهُ نَبِيذُ التَّمْرِ لَا السَّكَرُ ، وَهُوَ حَلَالٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ عَلَى مَا سَيَجِيءُ انْتَهَى أَقُولُ : فِيمَا قَالَهُ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ أَيْضًا نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ الَّذِي كَانَ اسْمُهُ نَبِيذَ التَّمْرِ وَكَانَ حَلَالًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إنَّمَا هُوَ مَا اُتُّخِذَ مِنْ التَّمْرِ وَطُبِخَ أَدْنَى طَبْخَةٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ ، وَسَيَجِيءُ فِي الْكِتَابِ فِي قَوْلِهِ وَقَالَ فِي الْمُخْتَصَرِ وَنَبِيذُ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ إذَا طُبِخَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَدْنَى طَبْخَةٍ حَلَالٌ وَإِنْ اشْتَدَّ إذَا شُرِبَ مِنْهُ مَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَا يُسْكِرُهُ مِنْ غَيْرِ لَهْوٍ وَطَرَبٍ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ حَرَامٌ انْتَهَى وَاَلَّذِي ذَكَرَ هَا هُنَا إنَّمَا هُوَ نَقِيعُ التَّمْرِ إذَا لَمْ يُطْبَخْ كَمَا أَفْصَحَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ وَهُوَ النِّيءُ مِنْ مَاءِ التَّمْرِ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالسَّكَرِ لَا غَيْرُ ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَلَالٍ عِنْدَ أَئِمَّتِنَا أَصْلًا ، فَلَا حَاجَةَ إلَى تَفْسِيرِ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ ( قَوْلُهُ فَهُوَ حَرَامٌ مَكْرُوهٌ ) قَالَ عَامَّةُ الشُّرَّاحِ : أَرْدَفَ الْحَرَامَ بِالْكَرَاهَةِ إشَارَةً إلَى أَنَّ حُرْمَتَهُ لَيْسَتْ كَحُرْمَةِ الْخَمْرِ ؛ لِأَنَّ مُسْتَحِلَّ الْخَمْرِ يَكْفُرُ وَمُسْتَحِلَّ غَيْرِهَا لَا يَكْفُرُ ا هـ أَقُولُ : فِيهِ بَحْثٌ ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَقْصُودُ الْمُصَنِّفِ بِإِرْدَافِ الْحَرَامِ بِالْمَكْرُوهِ الْإِشَارَةَ إلَى مَا ذَكَرُوهُ لَأَرْدَفَهُ

بِذَلِكَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ بَعْدَ الْخَمْرِ ؛ إذْ لَيْسَتْ حُرْمَةُ شَيْءٍ مِنْهَا كَحُرْمَةِ الْخَمْرِ ، وَلَوْ اكْتَفَى بِإِرْدَافِهِ بِذَلِكَ فِي وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَقْسَامِ لَكَانَ الْقِسْمُ الْمَذْكُورُ عَقِيبَ الْخَمْرِ أَحَقَّ بِذَلِكَ كَمَا لَا يَخْفَى وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ الْمُصَنِّفَ سَيُصَرِّحُ بِأَنَّ حُرْمَةَ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ دُونَ حُرْمَةِ الْخَمْرِ حَتَّى لَا يَكْفُرَ مُسْتَحِلُّهَا وَيَكْفُرَ مُسْتَحِلُّ الْخَمْرِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْإِشَارَةِ إلَى ذَلِكَ هَا هُنَا ( قَوْلُهُ وَقِيلَ : أَرَادَ بِهِ التَّوْبِيخَ مَعْنَاهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ : تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَتَدَّعُونَ رِزْقًا حَسَنًا ) قَالَ الشُّرَّاحُ : أَيْ أَنْتُمْ لِسَفَاهَتِكُمْ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا حَرَامًا وَتَتْرُكُونَ رِزْقًا حَسَنًا أَقُولُ : فِيهِ إشْكَالٌ ؛ لِأَنَّهُمْ صَرَّحُوا عِنْدَ شَرْحِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَالْآيَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ بِأَنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ وَتَحْرِيمَ الْخَمْرِ وَقَعَ بِالْمَدِينَةِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْآيَةِ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا حَرَامًا ، وَالْخَمْرُ وَقْتَئِذٍ مِمَّا لَمْ يُوصَفْ بِالْحُرْمَةِ فَأَيْنَ السَّكَرُ الْحَرَامُ فَلْيُتَأَمَّلْ ( قَوْلُهُ إلَّا أَنَّ حُرْمَةَ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ دُونَ حُرْمَةِ الْخَمْرِ حَتَّى لَا يَكْفُرَ مُسْتَحِلُّهَا وَيَكْفُرَ مُسْتَحِلُّ الْخَمْرِ ؛ لِأَنَّ حُرْمَتَهَا اجْتِهَادِيَّةٌ ، وَحُرْمَةُ الْخَمْرِ قَطْعِيَّةٌ ) أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : مِنْ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ نَقِيعُ التَّمْرِ وَهُوَ السَّكَرُ ، وَقَدْ قَالَ فِي إثْبَاتِ حُرْمَتِهِ : وَلَنَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ أَنَّ إجْمَاعَ الْأُمَّةِ سِيَّمَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ يَكْفُرُ جَاحِدُهُ ، فَكَيْفَ يَتِمُّ الْقَوْلُ هَا هُنَا بِأَنَّ حُرْمَةَ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ لَا يَكْفُرُ مُسْتَحِلُّهَا لِكَوْنِ حُرْمَتِهَا اجْتِهَادِيَّةً لَا قَطْعِيَّةً ؟ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ نَقْلَ

الْإِجْمَاعِ قَدْ لَا يَكُونُ بِالتَّوَاتُرِ ، فَلَا يُفِيدُ مِثْلُ ذَلِكَ الْإِجْمَاعِ الْقَطْعَ لِعَدَمِ الْقَطْعِ فِي طَرِيقِ نَقْلِهِ إلَيْنَا كَمَا تَقَرَّرَ هَذَا أَيْضًا فِي عِلْمِ الْأُصُولِ ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْإِجْمَاعُ الْمَنْقُولُ فِي حَقِّ حُرْمَةِ السَّكَرِ مِنْ ذَلِكَ الْقَبِيلِ وَيَكُونَ هَذَا بَاعِثًا عَلَى وُقُوعِ الِاجْتِهَادِ فِي خِلَافِهِ ( قَوْلُهُ : لِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ وَمَا شَهِدَتْ دَلَالَةٌ قَطْعِيَّةٌ بِسُقُوطِ تَقَوُّمِهَا بِخِلَافِ الْخَمْرِ ) أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّ مَعْنَى تَقَوُّمِ الْمَالِ إبَاحَةُ الِانْتِفَاعِ بِهِ شَرْعًا وَسَيَجِيءُ التَّصْرِيحُ عَنْ قَرِيبٍ بِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْرِبَةَ مِمَّا لَا يُنْتَفَعُ بِهَا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ التَّقَوُّمُ فِيهَا وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ الدَّلَالَةَ الْقَطْعِيَّةَ إنَّمَا تُعْتَبَرُ فِي حَقِّ وُجُوبِ الِاعْتِقَادِ دُونَ وُجُوبِ الْعَمَلِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ مِنْ السُّنَّةِ يُوجِبُ الْعَمَلَ ، وَلَا يُوجِبُ عِلْمَ الْيَقِينِ بَلْ يُوجِبُ غَلَبَةَ الظَّنِّ عَلَى الْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ الْمُخْتَارِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الْعَمَلِيَّاتِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُكْتَفَى فِيهِ بِمُجَرَّدِ غَلَبَةِ الظَّنِّ ، كَيْفَ لَا ، وَقَدْ اكْتَفَى بِهِ فِي الْحُكْمِ بِحُرْمَةِ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ إذْ هِيَ أَيْضًا اجْتِهَادِيَّةٌ لَا قَطْعِيَّةٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ آنِفًا ( قَوْلُهُ وَلَا يُنْتَفَعُ بِهَا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ ؛ لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ ) أَقُولُ : فِي التَّعْلِيلِ بَحْثٌ ؛ إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ حُرْمَةِ تَنَاوُلِ الشَّيْءِ عَدَمُ الِانْتِفَاعِ بِهِ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ السِّرْقِينَ نَجَسُ الْعَيْنِ مُحَرَّمُ التَّنَاوُلِ قَطْعًا مَعَ أَنَّهُ مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ حَيْثُ يُلْقَى فِي الْأَرَاضِيِ لِاسْتِكْثَارِ الرِّيعِ وَلِهَذَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَمَا مَرَّ فِي فَصْلِ الْبَيْعِ مِنْ كِتَابِ الْكَرَاهِيَةِ ، وَكَذَا الدُّهْنُ النَّجَسُ عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ ، وَقَدْ مَرَّ هُنَا غَيْرَ مَرَّةٍ نَظِيرُ هَذَا الْكَلَامِ فِي

هَذَا الْكِتَابِ فَتَدَبَّرْ ( قَوْلُهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهَا إذَا كَانَ الذَّاهِبُ بِالطَّبْخِ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ دُونَ الثُّلُثَيْنِ ) أَقُولُ : لَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّ حَقَّ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنْ تُذْكَرَ قَبْلَ قَوْلِهِ وَلَا يُنْتَفَعُ بِهَا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ شُعَبِ جَوَازِ بَيْعِ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ وَقَوْلُهُ وَلَا يُنْتَفَعُ بِهَا إلَى آخِرِهِ مَسْأَلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ دَخَلَتْ فِي الْبَيْنِ كَمَا تَرَى

قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِالْخَلِيطَيْنِ ) لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ زِيَادٍ أَنَّهُ قَالَ : سَقَانِي ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شَرْبَةً مَا كِدْت أَهْتَدِي إلَى مَنْزِلِي فَغَدَوْت إلَيْهِ مِنْ الْغَدِ فَأَخْبَرْته بِذَلِكَ فَقَالَ : مَا زِدْنَاك عَلَى عَجْوَةٍ وَزَبِيبٍ وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ الْخَلِيطَيْنِ وَكَانَ مَطْبُوخًا ؛ لِأَنَّ الْمَرْوِيَّ عَنْهُ حُرْمَةُ نَقِيعِ الزَّبِيبِ وَهُوَ النِّيءُ مِنْهُ ، وَمَا رُوِيَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ الْجَمْعِ بَيْنَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ ، وَالزَّبِيبِ وَالرُّطَبِ ، وَالرُّطَبِ وَالْبُسْرِ } مَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ الشِّدَّةِ ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي الِابْتِدَاءِ .

( قَوْلُهُ : وَلَا بَأْسَ بِالْخَلِيطَيْنِ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ زِيَادٍ أَنَّهُ قَالَ : سَقَانِي ابْنُ عُمَرَ شَرْبَةً مَا كِدْت أَهْتَدِي إلَى أَهْلِي ، فَغَدَوْت إلَيْهِ مِنْ الْغَدِ وَأَخْبَرْته بِذَلِكَ فَقَالَ : مَا زِدْنَاك عَلَى عَجْوَةٍ وَزَبِيبٍ ) وَابْنُ عُمَرَ كَانَ مَعْرُوفًا بِالزُّهْدِ وَالْفِقْهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فَلَا يُظَنُّ بِهِ أَنَّهُ كَانَ يَسْقِي غَيْرَهُ مَا لَا يَشْرَبُهُ أَوْ يَشْرَبُ مَا كَانَ حَرَامًا ، كَذَا فِي الْكَافِي وَالشُّرُوحِ أَقُولُ : هَا هُنَا كَلَامٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ تَقْلِيدَ الصَّحَابِيِّ فِيمَا لَمْ يُعْلَمْ اتِّفَاقُ سَائِرِ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ وَلَا خِلَافُهُمْ فِيهِ ، وَلَمْ تَكُنْ الْحَادِثَةُ مِمَّا لَا يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ لَا يَجِبُ عَلَى الْقَوْلِ الْمُخْتَارِ كَمَا عُرِفَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ الْقَبِيلِ فَكَيْفَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ ابْنِ عُمَرَ أَوْ قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْمَزْبُورَةِ دَلِيلًا عَلَى حِلِّ الْخَلِيطَيْنِ وَثَانِيهِمَا أَنَّ قَوْلَ ابْنِ زِيَادٍ مَا كِدْت أَهْتَدِي إلَى أَهْلِي يُشْعِرُ بِإِسْكَارِ الشَّرْبَةِ الَّتِي سَقَاهُ ابْنُ عُمَرَ إيَّاهَا ، وَالسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ حَرَامٌ بِالِاتِّفَاقِ فَكَيْفَ يُسْتَدَلُّ بِذَلِكَ عَلَى الْحِلِّ ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْ الثَّانِي بِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا أَشَارَ إلَيْهِ تَاجُ الشَّرِيعَةِ بِقَوْلِهِ : وَإِنَّمَا قَالَ : مَا كِدْت أَهْتَدِي إلَى أَهْلِي عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ فِي بَيَانِ التَّأْثِيرِ فِيهِ لَا حَقِيقَةِ السُّكْرِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ انْتَهَى وَثَانِيهِمَا : أَنَّ وَجْهَ الِاسْتِدْلَالِ مُجَرَّدُ أَنْ يَسْقِيَ ابْنُ عُمَرَ ابْنَ زِيَادٍ تِلْكَ الشَّرْبَةَ فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ حَرَامًا لَمَا أَقْدَمَ ابْنُ عُمَرَ مَعَ كَمَالِ زُهْدِهِ وَفِقْهِهِ عَلَى أَنْ يَسْقِيَهُ إيَّاهَا ، وَأَمَّا تَأْثِيرُهَا فِي الشَّارِبِ بَعْدَ أَنْ شَرِبَهَا بِحَيْثُ يَصِلُ إلَى مَرْتَبَةِ الْإِسْكَارِ فَلَيْسَ لَهُ حَدٌّ مُقَدَّرٌ ؛ إذْ هُوَ مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الطِّبَاعِ وَالْأَوْقَاتِ ، وَلِلشَّارِبِ أَنْ يَحْتَرِزَ عَنْهُ

مَهْمَا أَمْكَنَ ، فَإِنْ وَصَلَ إلَى تِلْكَ الْمَرْتَبَةِ فِي الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ فَإِنَّمَا هُوَ فِي الْغَفْلَةِ ، وَالْعُهْدَةُ فِي ذَلِكَ عَلَى الشَّارِبِ لَا السَّاقِي تَأَمَّلْ تَفْهَمْ

قَالَ ( وَنَبِيذُ الْعَسَلِ وَالتِّينِ وَنَبِيذُ الْحِنْطَةِ وَالذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ حَلَالٌ وَإِنْ لَمْ يُطْبَخْ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إذَا كَانَ مِنْ غَيْرِ لَهْوٍ وَطَرَبٍ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ ، وَأَشَارَ إلَى الْكَرْمَةِ وَالنَّخْلَةِ } خَصَّ التَّحْرِيمَ بِهِمَا وَالْمُرَادُ بَيَانُ الْحُكْمِ ، ثُمَّ قِيلَ يُشْتَرَطُ الطَّبْخُ فِيهِ لِإِبَاحَتِهِ ، وَقِيلَ لَا يُشْتَرَطُ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ ؛ لِأَنَّ قَلِيلَهُ لَا يَدْعُو إلَى كَثِيرِهِ كَيْفَمَا كَانَ
( قَوْلُهُ وَقِيلَ لَا يُشْتَرَطُ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ ؛ لِأَنَّ قَلِيلَهُ لَا يَدْعُو إلَى كَثِيرِهِ كَيْفَمَا كَانَ ) أَقُولُ : هَذَا التَّعْلِيلُ مَنْظُورٌ فِيهِ ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ أَنْ لَا يَدْعُوَ قَلِيلُهُ إلَى كَثِيرِهِ لَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يُشْتَرَطَ الطَّبْخُ فِيهِ لِإِبَاحَتِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ نَبِيذَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ مِمَّا يُشْتَرَطُ الطَّبْخُ فِيهِ لِإِبَاحَتِهِ بِلَا اخْتِلَافٍ ، مَعَ أَنَّ قَلِيلَ ذَلِكَ أَيْضًا لَا يَدْعُو إلَى كَثِيرِهِ كَيْفَمَا كَانَ ، فَإِنَّ دُعَاءَ الْقَلِيلِ إلَى الْكَثِيرِ مِنْ خَوَاصِّ الْخَمْرِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِيمَا مَرَّ وَالْأَظْهَرُ فِي التَّعْلِيلِ هَا هُنَا مَا ذُكِرَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ حَيْثُ قَالَ فِيهَا : وَفِي رِوَايَةٍ لَا يُشْتَرَطُ ؛ لِأَنَّ حَالَ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ دُونَ نَقِيعِ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ فَإِنَّ نَقِيعَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ اُتُّخِذَ مِمَّا هُوَ أَصْلٌ لِلْخَمْرِ شَرْعًا ، فَإِنَّ أَصْلَ الْخَمْرِ شَرْعًا التَّمْرُ وَالْعِنَبُ عَلَى مَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ } وَقَدْ شَرَطَ أَدْنَى طَبْخَةٍ فِي نَقِيعِ الزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ فَيَجِبُ أَنْ لَا يَشْتَرِطَ أَدْنَى طَبْخَةٍ فِي هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ لِيَظْهَرَ نُقْصَانُ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ عَنْ نَقِيعِ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ انْتَهَى

وَهَلْ يُحَدُّ فِي الْمُتَّخَذِ مِنْ الْحُبُوبِ إذَا سَكِرَ مِنْهُ ؟ قِيلَ لَا يُحَدُّ وَقَدْ ذَكَرْنَا الْوَجْهَ مِنْ قَبْلُ قَالُوا : وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُحَدُّ ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ سَكِرَ مِنْ الْأَشْرِبَةِ أَنَّهُ يُحَدُّ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْفُسَّاقَ يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ فِي زَمَانِنَا اجْتِمَاعَهُمْ عَلَى سَائِرِ الْأَشْرِبَةِ ، بَلْ فَوْقَ ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ الْمُتَّخَذُ مِنْ الْأَلْبَانِ إذَا اشْتَدَّ فَهُوَ عَلَى هَذَا وَقِيلَ : إنَّ الْمُتَّخَذَ مِنْ لَبَنِ الرِّمَاكِ لَا يَحِلُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ اعْتِبَارًا بِلَحْمِهِ ؛ إذْ هُوَ مُتَوَلِّدٌ مِنْهُ قَالُوا : وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَحِلُّ ؛ لِأَنَّ كَرَاهَةَ لَحْمِهِ لِمَا فِي إبَاحَتِهِ مِنْ قَطْعِ مَادَّةِ الْجِهَادِ أَوْ لِاحْتِرَامِهِ فَلَا يُتَعَدَّى إلَى لَبَنِهِ

( قَوْلُهُ وَهَلْ يُحَدُّ فِي الْمُتَّخَذِ مِنْ الْحُبُوبِ إذَا سَكِرَ مِنْهُ ؟ قِيلَ : لَا يُحَدُّ ) أَقُولُ : قَدْ مَرَّتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَرَّةً أَثْنَاءَ بَيَانِ مَسْأَلَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِيمَا قَبْلُ حَيْثُ قَالَ : وَهُوَ نَصٌّ عَلَى أَنَّ مَا يُتَّخَذُ مِنْ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْعَسَلِ وَالذُّرَةِ حَلَالٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَلَا يُحَدُّ شَارِبُهُ عِنْدَهُ ، وَإِنْ سَكِرَ فَالتَّعَرُّضُ لَهَا مَرَّةً أُخْرَى يُشْبِهُ التَّكْرَارَ فَلَعَلَّ الْمَقْصُودَ بِالذَّاتِ هَا هُنَا ذِكْرُ قَوْلِهِ قَالُوا وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُحَدُّ ، وَمَا قَبْلَهُ تَوْطِئَةً لَهُ نَعَمْ يُتَّجَهُ أَنْ يُقَالَ : لَوْ ذَكَرَ أَيْضًا هُنَاكَ قَوْلَهُ قَالُوا وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُحَدُّ لَاسْتَغْنَى عَنْ الْإِعَادَةِ هَا هُنَا بِالْكُلِّيَّةِ ( قَوْلُهُ وَقَدْ ذَكَرْنَا الْوَجْهَ مِنْ قَبْلُ ) قَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ : هُوَ إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ قَلِيلَهُ لَا يَدْعُو إلَى كَثِيرِهِ وَقَالَ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إشَارَةً إلَى الْمَعْنَى الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ } يَعْنِي أَنَّ هَذِهِ الْأَشْرِبَةَ لَيْسَتْ بِمُتَّخَذَةٍ مِمَّا هُوَ أَصْلُ الْخَمْرِ فَلَا جَرَمَ لَا يُحَدُّ السَّكْرَانُ مِنْهَا انْتَهَى ، وَقَالَ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ : قَوْلُهُ وَقَدْ ذَكَرْنَا الْوَجْهَ مِنْ قَبْلُ الْإِشَارَةُ إلَى مَا ذَكَرَ أَنَّ السَّكْرَانَ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ النَّائِمِ ، وَمَنْ ذَهَبَ عَقْلُهُ بِالْبَنْجِ وَلَبَنِ الرِّمَاكِ ا هـ وَاخْتَارَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْغَايَةِ أَوَّلًا وَنَقَلَ مَا ذَكَرَهُ ثَانِيًا بِقِيلَ ، ثُمَّ نَقَلَ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ بِقَوْلِهِ : وَقِيلَ أَقُولُ يُرَدُّ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنَّ عَدَمَ دُعَاءِ الْقَلِيلِ إلَى الْكَثِيرِ جَازَ فِيمَا سِوَى الْخَمْرِ مِنْ الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ ، فَإِنَّ دُعَاءَ الْقَلِيلِ إلَى الْكَثِيرِ مِنْ خَوَاصِّ الْخَمْرِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ فِيمَا مَرَّ حَيْثُ قَالَ : وَلِأَنَّ قَلِيلَهُ يَدْعُو إلَى كَثِيرِهِ وَهَذَا مِنْ خَوَاصِّ الْخَمْرِ انْتَهَى مَعَ

أَنَّهُ إذَا سَكِرَ مِمَّا سِوَى الْخَمْرِ مِنْ الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ يُحَدُّ بِلَا خِلَافٍ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِعَدَمِ دُعَاءِ الْقَلِيلِ إلَى الْكَثِيرِ فِي سُقُوطِ الْحَدِّ عَنْ السَّكْرَانِ ، وَيُرَدُّ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ مَا يُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ } لَقَالَ لِمَا رَوَيْنَا كَمَا هُوَ عَادَتُهُ الْمُسْتَمِرَّةُ فِي الْحَوَالَةِ عَلَى مَا مَرَّ مِنْ السُّنَّةِ ثُمَّ إنَّ فِي كَوْنِ ذَلِكَ الْمَعْنَى مُسْتَفَادًا مِنْ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ خَفَاءً جِدًّا فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مَذْكُورًا هُنَاكَ ، فَأَنَّى يَتَيَسَّرُ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ هَا هُنَا بِقَوْلِهِ وَقَدْ ذَكَرْنَا الْوَجْهَ مِنْ قَبْلُ ، فَالْأَوْجَهُ هُوَ الْوَجْهُ الثَّالِثُ ، وَإِنْ أَخَّرَهُ صَاحِبُ الْغَايَةِ فِي الذِّكْرِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ تَأَمَّلَ فِي سِيَاقِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ ، وَرَاجَعَ كَلِمَاتِ السَّلَفِ كَشَيْخِ الْإِسْلَامِ وَغَيْرِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ( قَوْلُهُ قَالُوا : وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُحَدُّ ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ سَكِرَ مِنْ الْأَشْرِبَةِ أَنَّهُ يُحَدُّ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ ) أَقُولُ : تَحْرِيرُ الْمُصَنِّفِ هَا هُنَا لَا يَخْلُو عَنْ رَكَاكَةٍ ؛ إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُ بِقَوْلِهِ وَهَلْ يُحَدُّ فِي الْمُتَّخَذِ مِنْ الْحُبُوبِ إذَا سَكِرَ أَنَّهُ هَلْ يُحَدُّ فِي ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ؛ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِيمَا قَبْلُ إنَّمَا هُوَ قَوْلُهُمَا ، وَالْمُصَنِّفُ الْآنَ بِصَدَدِ التَّفْرِيعِ عَلَى ذَلِكَ وَتَكْمِيلِهِ فَيَسْتَدْعِي هَذَا أَنْ يَكُونَ مَدَارُ قَوْلِهِ قِيلَ لَا يُحَدُّ وَقَوْلُهُ قَالُوا وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُحَدُّ عَلَى قَوْلِهِمَا ، فَلَا يُنَاسَبُ فِي تَعْلِيلِ قَوْلِهِ : وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُحَدُّ أَنْ يُقَالَ : فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ سَكِرَ مِنْ الْأَشْرِبَةِ أَنَّهُ يُحَدُّ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ ، فَإِنَّ مُحَمَّدًا يُخَالِفُهُمَا فِي أَصْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ حَيْثُ لَا يَقُولُ بِحِلِّ الْمُتَّخَذِ مِنْ

الْحُبُوبِ إذَا اشْتَدَّ وَغَلَى ، فَيَجُوزُ أَنْ يَقُولَ بِوُجُوبِ الْحَدِّ إذَا سَكِرَ مِنْهُ ، وَأَمَّا هُمَا فَيَقُولَانِ بِحِلِّ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فَلَا يَكُونُ الْمَرْوِيُّ عَنْ مُحَمَّدٍ حُجَّةً فِي حَقِّهِمَا وَعَنْ هَذَا تَرَكَ صَاحِبُ الْكَافِيَةِ هَذَا التَّعْلِيلَ ، وَاكْتَفَى بِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بَعْدَهُ بِقَوْلِهِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْفُسَّاقَ يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ إلَخْ حَيْثُ قَالَ : وَذَكَرَ فِي الْهِدَايَةِ وَالْمَبْسُوطِ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الْإِسْبِيجَابِيُّ الْأَصَحُّ أَنَّهُ يُحَدُّ ؛ لِأَنَّ الْفُسَّاقَ يَجْتَمِعُونَ فِي زَمَانِنَا عَلَى شُرْبِهِ كَمَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى سَائِرِ الْأَشْرِبَةِ انْتَهَى

قَالَ ( وَعَصِيرُ الْعِنَبِ إذَا طُبِخَ حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَبَقِيَ ثُلُثُهُ حَلَالٌ وَإِنْ اشْتَدَّ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ : حَرَامٌ ، وَهَذَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا قَصَدَ بِهِ التَّقَوِّي ، أَمَّا إذَا قَصَدَ بِهِ التَّلَهِّيَ لَا يَحِلُّ بِالِاتِّفَاقِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ مِثْلُ قَوْلِهِمَا ، وَعَنْهُ أَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ ، وَعَنْهُ أَنَّهُ تَوَقَّفَ فِيهِ لَهُمْ فِي إثْبَاتِ الْحُرْمَةِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ } وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ } وَيُرْوَى عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَا أَسْكَرَ الْجَرَّةُ مِنْهُ فَالْجَرْعَةُ مِنْهُ حَرَامٌ } وَلِأَنَّ الْمُسْكِرَ يُفْسِدُ الْعَقْلَ فَيَكُونُ حَرَامًا قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ كَالْخَمْرِ وَلَهُمَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { حُرِّمَتْ الْخَمْرُ لِعَيْنِهَا } وَيُرْوَى { بِعَيْنِهَا قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا ، وَالسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ } خَصَّ السُّكْرَ بِالتَّحْرِيمِ فِي غَيْرِ الْخَمْرِ ؛ إذْ الْعَطْفُ لِلْمُغَايَرَةِ ، وَلِأَنَّ الْمُفْسِدَ هُوَ الْقَدَحُ الْمُسْكِرُ وَهُوَ حَرَامٌ عِنْدَنَا وَإِنَّمَا يَحْرُمُ الْقَلِيلُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ يَدْعُو لِرِقَّتِهِ وَلَطَافَتِهِ إلَى الْكَثِيرِ فَأُعْطِيَ حُكْمَهُ ، وَالْمُثَلَّثُ لِغِلَظِهِ لَا يَدْعُو وَهُوَ فِي نَفْسِهِ غِذَاءٌ فَبَقِيَ عَلَى الْإِبَاحَةِ : وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ غَيْرُ ثَابِتٍ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ، ثُمَّ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْقَدَحِ الْأَخِيرِ إذْ هُوَ الْمُسْكِرُ حَقِيقَةً وَاَلَّذِي يُصَبُّ عَلَيْهِ الْمَاءُ بَعْدَ مَا ذَهَبَ ثُلُثَاهُ بِالطَّبْخِ حَتَّى يَرِقَّ ثُمَّ يُطْبَخُ طَبْخَةً حُكْمُهُ حُكْمُ الْمُثَلَّثِ ؛ لِأَنَّ صَبَّ الْمَاءِ لَا يَزِيدُهُ إلَّا ضَعْفًا ، بِخِلَافِ مَا إذَا صُبَّ الْمَاءُ عَلَى الْعَصِيرِ ثُمَّ يُطْبَخُ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَا الْكُلِّ ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ يَذْهَبُ أَوَّلًا لِلَطَافَتِهِ ، أَوْ يَذْهَبُ مِنْهُمَا فَلَا يَكُونُ الذَّاهِبُ ثُلُثَيْ مَاءِ الْعِنَبِ وَلَوْ طُبِخَ الْعِنَبُ كَمَا هُوَ ثُمَّ

يُعْصَرُ يُكْتَفَى بِأَدْنَى طَبْخَةٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ لَا يَحِلُّ مَا لَمْ يَذْهَبْ ثُلُثَاهُ بِالطَّبْخِ ، وَهُوَ الْأَصَحُّ ؛ لِأَنَّ الْعَصِيرَ قَائِمٌ فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَغَيُّرٍ فَصَارَ كَمَا بَعْدَ الْعَصْرِ .

( قَوْلُهُ وَعَنْهُ أَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ ) أَقُولُ : فِيهِ ضَرْبُ إشْكَالٍ ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ مَرَّ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْكَرَاهِيَةِ أَنَّ كُلَّ مَكْرُوهٍ حَرَامٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَوْلُهُ هُنَا وَعَنْهُ أَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ صَرَّحَ فِيمَا قَبْلُ بِأَنَّهُ حَرَامٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ يَقْتَضِي الْمُغَايِرَةَ بَيْنَ قَوْلِ مُحَمَّدٍ بِحُرْمَتِهِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ بِكَرَاهَتِهِ ، فَيُنَافِي مَا تَقَرَّرَ فِي أَوَائِلِ الْكَرَاهِيَةِ فَإِنْ قُلْت : نَعَمْ إنَّ كُلَّ مَكْرُوهٍ حَرَامٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَلَكِنْ بِحُرْمَةٍ ظَنِّيَّةٍ لَا بِحُرْمَةٍ قَطْعِيَّةٍ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَجِدْ نَصًّا قَاطِعًا فِي حُرْمَةِ شَيْءٍ لَمْ يُطْلِقْ عَلَيْهِ لَفْظَ الْحَرَامِ بَلْ يُطْلِقُ عَلَيْهِ لَفْظَ الْمَكْرُوهِ كَمَا تَقَرَّرَ أَيْضًا هُنَاكَ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَدَارُ رِوَايَةِ الْحُرْمَةِ وَرِوَايَةِ الْكَرَاهَةِ عَنْهُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ عَلَى قَطْعِيَّةِ الْحُرْمَةِ فِي إحْدَاهُمَا وَظَنِّيَّتِهَا فِي الْأُخْرَى فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْمَقَامَيْنِ قُلْت : لَا مَجَالَ لِلْقَوْلِ بِقَطْعِيَّةِ حُرْمَةِ الْمُثَلَّثِ الْعِنَبِيِّ عِنْدَ كَوْنِ اجْتِهَادِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فِي حِلِّهِ ؛ لِأَنَّ قَطْعِيَّةَ حُرْمَةِ الشَّيْءِ تَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكْفُرَ مُسْتَحِلُّهَا ، وَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ فِيمَا وَقَعَ فِيهِ اجْتِهَادٌ مَا فَضْلًا عَمَّا وَقَعَ فِيهِ اجْتِهَادٌ مِثْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَعَنْ هَذَا قَالُوا فِيمَا سِوَى الْخَمْرِ مِنْ الْأَشْرِبَةِ الثَّلَاثَةِ الْمُحَرَّمَةِ عِنْدَ أَئِمَّتِنَا أَجْمَعَ وَعِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ حُرْمَةَ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ دُونَ حُرْمَةِ الْخَمْرِ حَتَّى لَا يَكْفُرَ مُسْتَحِلُّهَا ، وَيَكْفُرُ مُسْتَحِلُّ الْخَمْرِ ؛ لِأَنَّ حُرْمَتَهَا اجْتِهَادِيَّةٌ وَحُرْمَةَ الْخَمْرِ قَطْعِيَّةٌ كَمَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ فِي الْكِتَابِ ، مَعَ أَنَّ اجْتِهَادَ الْإِبَاحَةِ فِيهَا إنَّمَا وَقَعَ مِنْ نَحْوِ الْأَوْزَاعِيِّ وَشَرِيكٍ وَسَائِرِ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ ، فَتَحَقَّقَ أَنَّ الْحُرْمَةَ الْمَرْوِيَّةَ عَنْ

مُحَمَّدٍ فِي حَقِّ الْمُثَلَّثِ الْعِنَبِيِّ إنَّمَا هِيَ الْحُرْمَةُ الِاجْتِهَادِيَّةُ الَّتِي مَدَارُهَا الظَّنُّ لَا الْحُرْمَةُ الْقَطْعِيَّةُ ، فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ الْمُغَايَرَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْكَرَاهَةِ عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : مَعْنَى قَوْلِهِ : إنَّ كُلَّ مَكْرُوهٍ حَرَامٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ : إنَّ كُلَّ مَكْرُوهٍ كَرَاهَةَ التَّحْرِيمِ حَرَامٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ ، لَكِنْ لَا بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ بَلْ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فَإِنَّ الْمَكْرُوهَ كَرَاهَةَ التَّحْرِيمِ لَيْسَ بِحَرَامٍ أَصْلًا عِنْدَهُمَا بَلْ إلَى الْحَرَامِ أَقْرَبُ وَأَمَّا الْمَكْرُوهُ كَرَاهَةَ التَّنْزِيهِ فَلَيْسَ بِحَرَامٍ وَلَا إلَى الْحَرَامِ أَقْرَبُ عِنْدَ أَحَدٍ ، وَهَذَا كُلُّهُ يَظْهَرُ بِمُرَاجَعَةِ كُتُبِ الْأُصُولِ ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْكَرَاهَةِ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ هَا هُنَا وَعَنْهُ أَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ هُوَ الْكَرَاهَةُ التَّنْزِيهِيَّةُ وَهِيَ مُغَايِرَةٌ لِلْحُرْمَةِ عَلَى قَوْلِ الْكُلِّ فَيَنْدَفِعُ التَّنَافِي بَيْنَ الْمَقَامَيْنِ تَأَمَّلْ قَوْلُهُ وَلَهُمَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { حُرِّمَتْ الْخَمْرُ لِعَيْنِهَا } وَيُرْوَى { بِعَيْنِهَا قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا ، وَالسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ } قَالَ فِي النِّهَايَةِ : وَلَهُمَا أَيْضًا قَوْله تَعَالَى { إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ } الْآيَةَ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى الْحِكْمَةَ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَهِيَ الصَّدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِيرَاثُ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ ، وَهَذِهِ الْمَعَانِي لَا تَحْصُلُ بِشُرْبِ الْقَلِيلِ ، وَلَوْ خُلِّينَا وَظَاهِرَ الْآيَةِ لَقُلْنَا لَا يَحْرُمُ الْقَلِيلُ مِنْ الْخَمْرِ أَيْضًا ، وَلَكِنْ تَرَكْنَا قَضِيَّةَ ظَاهِرِ الْآيَةِ فِي قَلِيلِ الْخَمْرِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَلَا إجْمَاعَ فِيمَا عَدَاهُ فَبَقِيَ عَلَى ظَاهِرِ الْآيَةِ انْتَهَى أَقُولُ : يَنْتَقِضُ هَذَا الِاسْتِدْلَال بِمَا عَدَا الْخَمْرَ مِنْ الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ الثَّلَاثَةِ ، فَإِنَّ قَلِيلَهَا أَيْضًا حَرَامٌ عِنْدَ أَئِمَّتِنَا قَاطِبَةً وَعِنْدَ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78