كتاب : فتح القدير
المؤلف : كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي

قَالَ ( وَيَزُولُ مِلْكُ الْمُرْتَدِّ عَنْ أَمْوَالِهِ بِرِدَّتِهِ زَوَالًا مُرَاعًى ، فَإِنْ أَسْلَمَ عَادَتْ عَلَى حَالِهَا ، قَالُوا : هَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَزُولُ مِلْكُهُ ) ؛ لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ مُحْتَاجٌ ، فَإِلَى أَنْ يُقْتَلَ يَبْقَى مِلْكُهُ كَالْمَحْكُومِ عَلَيْهِ بِالرَّجْمِ وَالْقِصَاصِ .
وَلَهُ أَنَّهُ حَرْبِيٌّ مَقْهُورٌ تَحْتَ أَيْدِينَا حَتَّى يُقْتَلَ ، وَلَا قَتْلَ إلَّا بِالْحِرَابِ ، وَهَذَا يُوجِبُ زَوَالَ مِلْكِهِ وَمَالِكِيَّتِهِ ، غَيْرَ أَنَّهُ مَدْعُوٌّ إلَى الْإِسْلَامِ بِالْإِجْبَارِ عَلَيْهِ وَيُرْجَى عَوْدُهُ إلَيْهِ فَتَوَقَّفْنَا فِي أَمْرِهِ ، فَإِنْ أَسْلَمَ جُعِلَ الْعَارِضُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ وَصَارَ كَأَنْ لَمْ يَزَلْ مُسْلِمًا وَلَمْ يَعْمَلْ السَّبَبُ ، وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَحُكِمَ بِلَحَاقِهِ اسْتَقَرَّ كُفْرُهُ فَيَعْمَلُ السَّبَبُ عَمَلَهُ وَزَالَ مِلْكُهُ .

( قَوْلُهُ : وَيَزُولُ مِلْكُ الْمُرْتَدِّ عَنْ أَمْلَاكِهِ زَوَالًا مُرَاعًى ) أَيْ مَوْقُوفًا غَيْرَ بَاتٍّ فِي الْحَالِ فَإِنْ أَسْلَمَ عَادَتْ أَمْوَالُهُ عَلَى حَالِهَا ) الْأَوَّلِ ( وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَحَكَمَ ) الْحَاكِمُ ( بِلَحَاقِهِ اسْتَقَرَّ أَمْرُهُ فَعَمِلَ السَّبَبُ ) وَهُوَ كَوْنُهُ كَافِرًا حَرْبِيًّا ( عَمَلَهُ ) مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ الرِّدَّةِ كَالْمُشْتَرِي بِشَرْطِ الْخِيَارِ يَثْبُتُ مِلْكُهُ عِنْدَ الْإِجَازَةِ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ الْبَيْعِ ، وَجَعْلُهُ كَخِيَارِ الْمَجْلِسِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَقْتَضِي أَنَّهُ مِلْكٌ بَاتٌّ ثُمَّ يَرْتَفِعُ بِالْخِيَارِ شَرْعًا كَالرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ ، وَبِهِ صَرَّحَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ حِينَ وَرَدَ عَلَيْهِ أَنْ لَا مَعْنَى لِلزَّوَالِ الْمُرَاعَى وَالْمَوْقُوفِ ؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَزُولَ أَوْ لَا فَأَجَابَ بِأَنَّهُ يَزُولُ ثُمَّ يَعُودُ بِالْإِسْلَامِ وَهَذَا لَيْسَ وَاقِعًا ، وَإِلَّا لَمْ يَسْتَنِدْ إلَى مَا قَبْلَهُ كَالْمِلْكِ الرَّاجِعِ بِالرُّجُوعِ ( قَالُوا ) أَيْ الْمَشَايِخُ ( هَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا لَا يَزُولُ مِلْكُهُ ) وَالْأَصَحُّ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ مِثْلُ قَوْلِهِ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ وَقَوْلُهُمَا قَوْلٌ آخَرُ لِلشَّافِعِيِّ .
وَجْهُهُ ( أَنَّهُ مُكَلَّفٌ مُحْتَاجٌ ) وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إقَامَةِ التَّكْلِيفِ إلَّا بِمَالِهِ ، وَأَثَرُ الرِّدَّةِ فِي إبَاحَةِ دَمِهِ لَا فِي زَوَالِ مِلْكِهِ ، فَإِنْ لَمْ يُقْتَلْ يَبْقَى مِلْكُهُ وَصَارَ ( كَالْمَحْكُومِ عَلَيْهِ بِالرَّجْمِ وَالْقِصَاصِ ) لَا يَزُولُ مِلْكُهُ مَا لَمْ يُقْتَلْ ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ كَافِرٌ حَرْبِيٌّ مَقْهُورٌ تَحْتَ أَيْدِينَا إلَى أَنْ يُقْتَلَ ) وَالْمِلْكُ عِبَارَةٌ عَنْ الْقُدْرَةِ وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِالْعِصْمَةِ ، وَكَوْنُهُ حَرْبِيًّا ( يُوجِبُ زَوَالَ مِلْكِهِ وَمَالِكِيَّتِهِ ) وَمُقْتَضَى هَذَا أَنْ يَزُولَ فِي الْحَالِ عَلَى الْبَتَاتِ ( إلَّا أَنَّهُ مَدْعُوٌّ إلَى الْإِسْلَامِ وَيُرْجَى عَوْدُهُ إلَيْهِ

) ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مِمَّنْ دَخَلَهُ وَعَرَفَ مَحَاسِنَهُ وَأَنِسَ بِهِ نَسْأَلُ اللَّهَ حِفْظَهُ عَلَيْنَا إلَى الْجَنَّةِ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ فَالْغَالِبُ عَلَى الظَّنِّ عَوْدُهُ إلَى الْإِسْلَامِ .
( فَتَوَقَّفْنَا فِي أَمْرِهِ ، فَإِنْ أَسْلَمَ جُعِلَ الْعَارِضُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ ) وَهُوَ زَوَالُ الْمِلْكِ ( وَصَارَ كَأَنْ لَمْ يَزَلْ مُسْلِمًا وَلَمْ يَعْمَلْ السَّبَبُ ) عَمَلَهُ ، وَإِنْ ثَبَتَ مِنْهُ أَحَدُ مَا قُلْنَا عَمِلَ عَمَلَهُ مِنْ وَقْتِ وُجُودِهِ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْحِرَابَةَ لَا تُوجِبُ انْتِفَاءَ الْمِلْكِ بَلْ زَوَالَ الْعِصْمَةِ ، فَإِنَّ الْحَرْبِيَّ يَمْلِكُ غَيْرَ أَنَّ مَمْلُوكَهُ لَا عِصْمَةَ لَهُ ، فَإِذَا اُسْتُوْلِيَ عَلَيْهِ زَالَ مِلْكُهُ ، فَكَوْنُ الْمُرْتَدِّ حَرْبِيًّا قُصَارَى مَا يَقْتَضِي زَوَالَ عِصْمَةِ مَالِهِ وَنَفْسِهِ تَبَعًا ، وَهُوَ لَا يَنْفِي قِيَامَ الْمِلْكِ فِي الْحَالِ فَلَا يُوجِبُ الْحُكْمَ بِالزَّوَالِ مُسْتَنِدًا ، وَلِهَذَا زَادَ قَوْلَهُ : مَقْهُورًا تَحْتَ أَيْدِينَا فَيَكُونُ مَالُهُ مُسْتَوْلًى عَلَيْهِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ حَقِيقَةَ الْمُرَادِ أَنَّ بِالرِّدَّةِ يَزُولُ مِلْكُهُ زَوَالًا بَاتًّا ، فَإِنْ اسْتَمَرَّ حَتَّى مَاتَ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا بِاللَّحَاقِ اسْتَمَرَّ بِالزَّوَالِ الثَّابِتِ مِنْ وَقْتِ الرِّدَّةِ ، وَإِنْ عَادَ عَادَ الْمِلْكُ وَهُمَا هَرَبًا مِنْ الْحُكْمِ بِالزَّوَالِ ؛ لِأَنَّ السَّاقِطَ لَا يَعُودُ ، فَيَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ : إنَّ الرِّدَّةَ لَمَّا اقْتَضَتْ الزَّوَالَ وَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ إنْ عَادَ وَمَالُهُ قَائِمٌ كَانَ أَحَقَّ بِهِ وَجَبَ أَنْ يُعْمَلَ بِهِمَا فَيَقُولُ بِالرِّدَّةِ يَزُولُ ، ثُمَّ بِالْعَوْدِ يَعُودُ شَرْعًا ، هَذَا بَعْدَ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى عَدَمِ زَوَالِ مِلْكِهِ .
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو نَصْرٍ الْبَغْدَادِيُّ : إنَّ أَبَا يُوسُفَ جَعَلَ تَصَرُّفَهُ بِمَنْزِلَةِ تَصَرُّفِ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فَتَصِيرُ تَبَرُّعَاتُهُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ ، وَجَعَلَهُ مُحَمَّدٌ بِمَنْزِلَةِ الْمَرِيضِ فَتُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ .
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ فِي مَعْرِضِ التَّلَفِ فَهُوَ أَسْوَأُ مِنْ الْمَرِيضِ

حَالًا ، وَأَبُو يُوسُفَ يَمْنَعُهُ وَيَقُولُ : الْمُرْتَدُّ مُتَمَكِّنٌ مِنْ دَفْعِ الْهَلَاكِ بِالْإِسْلَامِ وَالْمَرِيضُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَيْهِ .

قَالَ ( وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ انْتَقَلَ مَا اكْتَسَبَهُ فِي إسْلَامِهِ إلَى وَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ ، وَكَانَ مَا اكْتَسَبَهُ فِي حَالِ رِدَّتِهِ فَيْئًا ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : كِلَاهُمَا لِوَرَثَتِهِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : كِلَاهُمَا فَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ كَافِرًا وَالْمُسْلِمُ لَا يَرِثُ الْكَافِرَ ، ثُمَّ هُوَ مَالُ حَرْبِيٍّ لَا أَمَانَ لَهُ فَيَكُونُ فَيْئًا .
وَلَهُمَا أَنَّ مِلْكَهُ فِي الْكَسْبَيْنِ بَعْدَ الرِّدَّةِ بَاقٍ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فَيَنْتَقِلُ بِمَوْتِهِ إلَى وَرَثَتِهِ وَيَسْتَنِدُ إلَى مَا قُبَيْلَ رِدَّتِهِ إذْ الرِّدَّةُ سَبَبُ الْمَوْتِ فَيَكُونُ تَوْرِيثَ الْمُسْلِمِ مِنْ الْمُسْلِمِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُمْكِنُ الِاسْتِنَادُ فِي كَسْبِ الْإِسْلَامِ لِوُجُودِهِ قَبْلَ الرِّدَّةِ ، وَلَا يُمْكِنُ الِاسْتِنَادُ فِي كَسْبِ الرِّدَّةِ لِعَدَمِهِ قَبْلَهَا وَمِنْ شَرْطِهِ وُجُودُهُ ، ثُمَّ إنَّمَا يَرِثُهُ مَنْ كَانَ وَارِثًا لَهُ حَالَةَ الرِّدَّةِ وَبَقِيَ وَارِثًا إلَى وَقْتِ مَوْتِهِ فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ اعْتِبَارًا لِلِاسْتِنَادِ .
وَعَنْهُ أَنَّهُ يَرِثُهُ مَنْ كَانَ وَارِثًا لَهُ عِنْدَ الرِّدَّةِ ، وَلَا يَبْطُلُ اسْتِحْقَاقُهُ بِمَوْتِهِ بَلْ يَخْلُفُهُ وَارِثُهُ ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ .
وَعَنْهُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ وُجُودُ الْوَارِثِ عِنْدَ الْمَوْتِ لِأَنَّ الْحَادِثَ بَعْدَ انْعِقَادِ السَّبَبِ قَبْلَ تَمَامِهِ كَالْحَادِثِ قَبْلَ انْعِقَادِهِ بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدِ الْحَادِثِ مِنْ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ .

( قَوْلُهُ : وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ حُكِمَ بِلَحَاقِهِ انْتَقَلَ مَا اكْتَسَبَهُ فِي إسْلَامِهِ إلَى وَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ ، وَكَانَ مَا اكْتَسَبَهُ فِي حَالِ رِدَّتِهِ فَيْئًا ) لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ يُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ ( وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَالَا : كِلَا الْكَسْبَيْنِ لِوَرَثَتِهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ) وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ : ( كِلَاهُمَا فَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ كَافِرًا وَالْمُسْلِمُ لَا يَرِثُ الْكَافِرَ ) إجْمَاعًا ( فَبَقِيَ مَالَ حَرْبِيٍّ لَا أَمَانَ لَهُ ) لَمْ يُوجَفْ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ ( فَيَكُونُ فَيْئًا .
وَلَهُمَا أَنَّ مِلْكَهُ فِي الْكَسْبَيْنِ بَعْدَ الرِّدَّةِ بَاقٍ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ) مِنْ أَنَّهُ مُكَلَّفٌ مُحْتَاجٌ إلَى آخِرِهِ ( فَيَنْتَقِلُ بِمَوْتِهِ إلَى وَرَثَتِهِ وَيَسْتَنِدُ إلَى مَا قُبَيْلَ رِدَّتِهِ إذْ الرِّدَّةُ سَبَبُ الْمَوْتِ فَيَكُونُ تَوْرِيثَ الْمُسْلِمِ مِنْ الْمُسْلِمِ ) وَهَذَا لَا يَنْتَهِضُ عَلَى الشَّافِعِيِّ إلَّا إذَا بَيَّنَّا عِلِّيَّةَ الِاسْتِنَادِ ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ : إنَّ أَخْذَ الْمُسْلِمِينَ لَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ بِطَرِيقِ الْوِرَاثَةِ ، وَهُوَ يُوجِبُ الْحُكْمَ بِاسْتِنَادِهِ شَرْعًا إلَى مَا قُبَيْلَ رِدَّتِهِ وَإِلَّا كَانَ تَوْرِيثَ الْكَافِرِ مِنْ الْمُسْلِمِ ، وَمَحْمَلُ الْحَدِيثِ الْكَافِرُ الْأَصْلِيُّ الَّذِي لَمْ يَسْبِقْ لَهُ إسْلَامٌ .
أَوْ نَقُولُ : اسْتِحْقَاقُ الْمُسْلِمِينَ لَهُ بِسَبَبِ الْإِسْلَامِ وَالْوَرَثَةُ سَاوَوْا الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ وَتَرَجَّحُوا بِجِهَةِ الْقَرَابَةِ فَكَانُوا كَقَرَابَةٍ ذَاتِ جِهَتَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إلَى قَرَابَةٍ ذَاتِ جِهَةٍ كَالْأَخِ الشَّقِيقِ مَعَ الْأَخِ لِأَبٍ قَالَ تَعَالَى : { أَوَ مَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ } ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ ) مَا قَالَاهُ فِي وَجْهِ التَّوْرِيثِ إلَّا ( أَنَّهُ إنَّمَا يُمْكِنُ فِي كَسْبِ الْإِسْلَامِ لِوُجُودِهِ قَبْلَ الرِّدَّةِ ) وَهِيَ الْمَوْتُ فَيَسْتَنِدُ الْإِرْثُ إلَى مَا قَبْلَهُ .
وَقَدْ قُلْت إنَّ بِمُجَرَّدِ رِدَّتِهِ زَالَ مِلْكُهُ ، فَمَا اكْتَسَبَهُ بَعْدَ الرِّدَّةِ لَا يَقَعُ مَمْلُوكًا

لَهُ لِيُمْكِنَ اسْتِنَادُ التَّوْرِيثِ فِيهِ إلَى مَا قُبَيْلَ مَوْتِهِ الْحُكْمِيِّ : أَعْنِي الرِّدَّةَ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُورَثُ مَا هُوَ مَمْلُوكٌ لِلْمَيِّتِ عِنْدَ الْمَوْتِ فَيَظْهَرُ أَنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا فِي تَوْرِيثِ كَسْبِ الرِّدَّةِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْحُكْمِ الْخِلَافِيِّ الْمُتَقَدِّمِ ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرْتَدَّ تَزُولُ أَمْلَاكُهُ بِالرِّدَّةِ الْمُسْتَمِرَّةِ عَلَى مَا حَقَّقْنَاهُ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَزُولُ حَتَّى يَتَحَقَّقَ الْمَوْتُ الْحَقِيقِيُّ أَوْ الْحُكْمِيُّ بِاللَّحَاقِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَا اكْتَسَبَهُ فِي زَمَنِ الرِّدَّةِ يَكُونُ مَمْلُوكًا لَهُ ، ثُمَّ إذَا تَحَقَّقَ الْمَوْتُ وَقُلْنَا بِوُجُوبِ إرْثِهِمْ إيَّاهُ .
وَالْفَرْضُ أَنَّ لَهُ مَالًا مَمْلُوكًا فَلَا بُدَّ مِنْ إرْثِهِمْ لَهُ وَإِرْثُهُمْ يَسْتَدْعِي اسْتِنَادَهُ إلَى مَا قُبَيْلَ رِدَّتِهِ فَيَلْزَمُ بِالضَّرُورَةِ اعْتِبَارُ مَا اكْتَسَبَهُ فِي زَمَنِ الرِّدَّةِ مَوْجُودًا قَبْلَهَا حُكْمًا لِوُجُودِ سَبَبِهِ ، وَهُوَ نَفْسُ الْمُرْتَدِّ وَإِنْ كَانَ مَعْدُومًا حِسًّا وَقْتَئِذٍ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( قَوْلُهُ : ثُمَّ إنَّمَا يَرِثُهُ مَنْ كَانَ وَارِثًا لَهُ حَالَةَ الرِّدَّةِ ) بِأَنْ كَانَ حُرًّا مُسْلِمًا ( وَبَقِيَ كَذَلِكَ إلَى وَقْتِ مَوْتِهِ ) أَوْ لَحَاقِهِ ( فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ) رَوَاهَا عَنْهُ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ ، وَهَذَا لِاعْتِبَارِ الِاسْتِنَادِ فِي الْإِرْثِ ، فَإِنَّ الْمُسْتَنِدَ لَا بُدَّ أَنْ يَثْبُتَ أَوَّلًا ثُمَّ يَسْتَنِدُ فَيَجِبُ أَنْ يُصَادِفَ عِنْدَ ثُبُوتِهِ مَنْ هُوَ بِصِفَةِ اسْتِحْقَاقِ الْإِرْثِ وَهُوَ الْمُسْلِمُ الْحُرُّ وَكَذَا عِنْدَ اسْتِنَادِهِ ، حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ بَعْضُ قَرَابَتِهِ أَوْ وَلَدٌ مِنْ عُلُوقٍ حَادِثٍ بَعْدَ الرِّدَّةِ لَا يَرِثُهُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ .
( وَعَنْهُ أَنَّهُ يَرِثُهُ مَنْ كَانَ وَارِثًا عِنْدَ الرِّدَّةِ ) فَقَطْ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ بَقَائِهِ بِالصِّفَةِ إلَى الْمَوْتِ ، وَهَذِهِ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْهُ ( فَلَا يَبْطُلُ اسْتِحْقَاقُهُ ) أَيْ اسْتِحْقَاقُ مَنْ كَانَ وَارِثًا عِنْدَ الرِّدَّةِ بِعُرُوضِ مَوْتِ ذَلِكَ

الْوَارِثِ أَوْ رِدَّتِهِ بَعْدَ رِدَّةِ أَبِيهِ ( بَلْ ) إذَا مَاتَ أَوْ ارْتَدَّ ( يَخْلُفُهُ وَارِثُهُ ) وَهُوَ وَارِثُ الْوَارِثِ ، وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَوَّلَ الْكَرْخِيُّ ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ فَيُعْتَبَرُ وَقْتُهَا لِاسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ ( وَعَنْهُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ وُجُودُ الْوَارِثِ عِنْدَ الْمَوْتِ ) وَاللَّحَاقِ وَهِيَ رِوَايَةُ مُحَمَّدٍ عَنْهُ .
قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ : وَهَذَا أَصَحُّ لِأَنَّ الْحَادِثَ بَعْدَ انْعِقَادِ السَّبَبِ قَبْلَ تَمَامِهِ كَالْحَادِثِ قَبْلَ انْعِقَادِهِ ) أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَلَدَ الَّذِي يَحْدُثُ مِنْ الْمَبِيعِ بَعْدَ الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ يُجْعَلُ كَالْمَوْجُودِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ فِي أَنَّهُ يَصِيرُ مَعْقُودًا عَلَيْهِ وَيَكُونُ لَهُ حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ إلَّا أَنَّهَا غَيْرُ مَضْمُونَةٍ .
حَتَّى لَوْ هَلَكَ فِي يَدِ الْبَائِعِ قَبْلَ الْقَبْضِ بِغَيْرِ فِعْلِ أَحَدٍ هَلَكَ بِغَيْرِ شَيْءٍ ، وَبَقِيَ الثَّمَنُ كُلُّهُ عَلَى الْبَائِعِ ، فَلَوْ كَانَ مَنْ بِحَيْثُ يَرِثُهُ كَافِرًا أَوْ عَبْدًا يَوْمَ ارْتَدَّ فَعَتَقَ بَعْدَ الرِّدَّةِ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ أَوْ يَلْحَقَ أَوْ أَسْلَمَ وَرِثَهُ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ ، إلَّا أَنَّ الْكَرْخِيَّ حَكَى بَيْنَهُمَا خِلَافًا فِي اللَّحَاقِ ، فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُعْتَبَرُ حَالُ الْوَارِثِ يَوْمَ الْحُكْمِ بِاللَّحَاقِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَوْمِ اللَّحَاقِ لَا الْحُكْمِ .
وَجْهُ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْعَارِضَ يَعْنِي الرِّدَّةَ مُتَصَوَّرٌ زَوَالُهُ فَتَوَقَّفَ ثُبُوتُ حُكْمِهِ عَلَى الْقَضَاءِ .
وَوَجْهُ مُحَمَّدٍ أَنَّ اللَّحَاقَ تَزُولُ بِهِ الْعِصْمَةُ وَالْأَمَانُ وَالذِّمَّةُ فِي حَقِّ الْمُسْتَأْمَنِ وَالذِّمِّيِّ فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ يَمُوتُ وَيَتْرُكُ وَفَاءً فَتُؤَدَّى الْكِتَابَةُ فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ حَالُ وَارِثِهِ يَوْمَ مَاتَ لَا حَالُ أَدَاءِ الْكِتَابَةِ .
وَجَوَابُهُ مِنْ قِبَلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ اللَّحَاقَ لَيْسَ حَقِيقَةَ الْمَوْتِ الْمَأْيُوسِ عَنْ ارْتِفَاعِهِ لِيَثْبُتَ الْحُكْمُ بِهِ بِلَا قَضَاءٍ ، بَلْ فِي حُكْمِهِ لِانْقِطَاعِ وِلَايَتِنَا عَنْهُ

وَأَحْكَامِنَا ، فَلَا يَثْبُتُ بِهِ أَحْكَامُ الْمَوْتِ قَبْلَ أَنْ يَتَأَكَّدَ وَذَلِكَ بِالْحُكْمِ بِهِ .

وَتَرِثُهُ امْرَأَتُهُ الْمُسْلِمَةُ إذَا مَاتَ أَوْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ فَارًّا ، وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا وَقْتَ الرِّدَّةِ .

( قَوْلُهُ : وَتَرِثُهُ امْرَأَتُهُ ) أَيْ الْمَرْأَةُ الْمُسْلِمَةُ ( إذَا مَاتَ أَوْ قُتِلَ ) أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ( وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ فَارًّا وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا وَقْتَ الرِّدَّةِ ) وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ لَمَّا كَانَتْ سَبَبَ الْمَوْتِ ، وَهِيَ بِاخْتِيَارِهِ أَشْبَهَتْ الطَّلَاقَ الْبَائِنَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ وَهُوَ يُوجِبُ الْإِرْثَ إذَا مَاتَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ ؛ لِأَنَّهُ فَارٌّ ، وَلَوْ كَانَ وَقْتَ الرِّدَّةِ مَرِيضًا فَلَا إشْكَالَ فِي إرْثِهَا .
وَقَدْ يُقَالُ كَوْنُ الرِّدَّةِ تُشْبِهُ الطَّلَاقَ قُصَارَاهَا أَنْ يُجْعَلَ بِالرِّدَّةِ كَأَنَّهُ طَلَّقَهَا وَالْفَرْضُ أَنَّهُ صَحِيحٌ وَطَلَاقُ الصَّحِيحِ لَا يُوجِبُ حُكْمَ الْفِرَارِ ، فَالتَّحْقِيقُ أَنْ يُقَالَ بِالرِّدَّةِ كَأَنَّهُ مَرِضَ مَرَضَ الْمَوْتِ بِاخْتِيَارِهِ بِسَبَبِ الْمَرَضِ ثُمَّ هُوَ بِإِصْرَارِهِ عَلَى الْكُفْرِ مُخْتَارًا فِي الْإِصْرَارِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْقَتْلِ حَتَّى قُتِلَ بِمَنْزِلَةِ الْمُطَلِّقِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ ثُمَّ يَمُوتُ قَتْلًا أَوْ حَتْفَ أَنْفِهِ أَوْ بِلَحَاقِهِ فَيَثْبُتُ حُكْمُ الْفِرَارِ .
وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا تَرِثُهُ وَإِنْ كَانَتْ مُنْقَضِيَةَ الْعِدَّةِ ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ وَارِثَةً عِنْدَ رِدَّتِهِ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ ، وَهُوَ تَفْرِيعٌ عَلَى رِوَايَةِ الِاكْتِفَاءِ بِالتَّحَقُّقِ بِصِفَةِ الْوَارِثِ حَالَ الرِّدَّةِ فَقَطْ ، وَهِيَ رِوَايَةُ أَبِي يُوسُفَ ، وَمَا فِي الْكِتَابِ عَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ مِنْ اعْتِبَارِهِ وَبَقَائِهِ بِالصِّفَةِ إلَى الْمَوْتِ ، أَوْ عَلَى رِوَايَةِ اعْتِبَارِهِ وَقْتَ مَوْتِهِ فَقَطْ .
هَذَا وَاشْتِرَاطُ قِيَامِ الْعِدَّةِ يَقْتَضِي أَنَّهَا مَوْطُوءَةٌ فَلَا تَرِثُ غَيْرُ الْمَدْخُولَةِ وَهُوَ كَذَلِكَ ، وَذَلِكَ أَنَّ بِمُجَرَّدِ الرِّدَّةِ تَبِينُ غَيْرُ الْمَدْخُولَةِ لَا إلَى عِدَّةٍ فَتَصِيرُ أَجْنَبِيَّةً ، وَلَمَّا لَمْ تَكُنْ الرِّدَّةُ مَوْتًا حَقِيقِيًّا حَتَّى أَنَّ الْمَدْخُولَةَ إنَّمَا تَعْتَدُّ فِيهَا بِالْحَيْضِ لَا الْأَشْهُرِ لَمْ يَنْتَهِضْ سَبَبًا لِلْإِرْثِ إذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَ مَوْتِ الزَّوْجِ أَوْ

لَحَاقِهِ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ النِّكَاحِ ؛ لِأَنَّ الْإِرْثَ وَإِنْ اسْتَنَدَ إلَى الرِّدَّةِ لَكِنْ يَتَقَرَّرُ عِنْدَ الْمَوْتِ ، وَبِهَذَا أَيْضًا لَا تَرِثُ الْمُنْقَضِيَةُ عِدَّتُهَا .

وَالْمُرْتَدَّةُ كَسْبُهَا لِوَرَثَتِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا حِرَابَ مِنْهَا فَلَمْ يُوجَدْ سَبَبُ الْفَيْءِ ، بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَيَرِثُهَا زَوْجُهَا الْمُسْلِمُ إنْ ارْتَدَّتْ وَهِيَ مَرِيضَةٌ لِقَصْدِهَا إبْطَالَ حَقِّهِ ، وَإِنْ كَانَتْ صَحِيحَةً لَا يَرِثُهَا ؛ لِأَنَّهَا لَا تُقْتَلُ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ حَقُّهُ بِمَالِهَا بِالرِّدَّةِ ، بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ .

( قَوْلُهُ : وَالْمُرْتَدَّةُ كَسْبُهَا لِوَرَثَتِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا حِرَابَ مِنْهَا ) إذْ الْمَرْأَةُ لَا حِرَابَ مِنْهَا سَوَاءٌ كَانَتْ كَافِرَةً أَصْلِيَّةً أَوْ صَارَتْ كَافِرَةً ( فَلَمْ يُوجَدْ سَبَبُ الْفَيْءِ ) وَهُوَ سُقُوطُ عِصْمَةِ نَفْسِهَا الْمُسْتَتْبِعَةِ لِسُقُوطِ عِصْمَةِ مَالِهَا فَيَبْقَى كُلٌّ مِنْ كَسْبَيْ إسْلَامِهَا وَرِدَّتِهَا عَلَى مِلْكِهَا فَيَرِثُهُمَا وَرَثَتُهَا ( بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) فَإِنَّ كَسْبَهُ فِي الرِّدَّةِ فَيْءٌ لِكَوْنِهِ مُحَارِبًا فِي الْحَالِ أَوْ فِي الْمَآلِ بِاللَّحَاقِ فَلَا يَمْلِكُهُ لِكَوْنِهِ مَالَ حَرْبِيٍّ مَقْهُورٍ تَحْتَ أَيْدِينَا فَلَا يُورَثُ ( قَوْلُهُ : وَيَرِثُهَا زَوْجُهَا الْمُسْلِمُ إذَا كَانَتْ ارْتَدَّتْ ، وَهِيَ مَرِيضَةٌ ) فَمَاتَتْ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ أَوْ لَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ مَعَ ذَلِكَ الْمَرَضِ ؛ لِأَنَّهَا قَصَدَتْ الْفِرَارَ مِنْ مِيرَاثِ الزَّوْجِ بَعْدَمَا تَعَلَّقَ حَقُّهُ بِمَالِهَا بِسَبَبِ مَرَضِهَا ، بِخِلَافِ مَا لَوْ ارْتَدَّتْ ، وَهِيَ صَحِيحَةٌ فَإِنَّهَا بِرِدَّتِهَا هَذِهِ لَمْ تُبْطِلْ لَهُ حَقًّا مُتَعَلِّقًا بِمَالِهَا ، وَهَذَا التَّقْرِيرُ فِيهِ جَعْلُ رِدَّتِهَا كَطَلَاقِهِ فَرِدَّتُهَا فِي مَرِضَةِ كَطَلَاقِهِ فِي مَرَضِهِ ، وَرِدَّتُهَا فِي صِحَّتِهَا كَطَلَاقِهِ فِي صِحَّتِهِ ، وَبِهِ لَا يَكُونُ فَارًّا إذَا عَرَضَ لَهُ مَوْتٌ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ ، بِخِلَافِ مَا قَرَّرْنَاهُ فِي جَانِبِ الرَّجُلِ فَإِنَّ بِرِدَّتِهِ فِي صِحَّتِهِ تَرِثُ إذَا عَرَضَ لَهُ مَوْتٌ ، فَلَوْ جُعِلَتْ رِدَّتُهُ كَطَلَاقِهِ بَائِنًا كَانَ مُطَلِّقًا فِي صِحَّتِهِ ، وَعُرُوضُ الْمَوْتِ لِلْمُطَلِّقِ فِي صِحَّتِهِ لَا يُوجِبُ لَهُ حُكْمَ الْفِرَارِ ، فَلِذَا جَعَلْنَا رِدَّتَهُ كَمُبَاشَرَتِهِ لِسَبَبِ مَرَضِ مَوْتِهِ ثُمَّ بِإِصْرَارِهِ جُعِلَ مُطَلِّقًا فِي مَرَضِهِ فَإِذَا مَاتَ ثَبَتَ حُكْمُ الْفِرَارِ .

قَالَ : ( وَإِنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا وَحَكَمَ الْحَاكِمُ بِلَحَاقِهِ عَتَقَ مُدَبَّرُوهُ وَأُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ وَحَلَّتْ الدُّيُونُ الَّتِي عَلَيْهِ وَنُقِلَ مَا اكْتَسَبَهُ فِي حَالِ الْإِسْلَامِ إلَى وَرَثَتِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ) .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَبْقَى مَالُهُ مَوْقُوفًا كَمَا كَانَ ؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ غَيْبَةٍ فَأَشْبَهَ الْغَيْبَةَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ .
وَلَنَا أَنَّهُ بِاللَّحَاقِ صَارَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَهُمْ أَمْوَاتٌ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ لِانْقِطَاعِ وِلَايَةِ الْإِلْزَامِ كَمَا هِيَ مُنْقَطِعَةٌ عَنْ الْمَوْتَى فَصَارَ كَالْمَوْتِ ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَسْتَقِرُّ لَحَاقُهُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي لِاحْتِمَالِ الْعَوْدِ إلَيْنَا فَلَا بُدَّ مِنْ الْقَضَاءِ ، وَإِذَا تَقَرَّرَ مَوْتُهُ ثَبَتَتْ الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهِ وَهِيَ مَا ذَكَرْنَاهَا كَمَا فِي الْمَوْتِ الْحَقِيقِيِّ ، ثُمَّ يُعْتَبَرُ كَوْنُهُ وَارِثًا عِنْدَ لَحَاقِهِ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ ؛ لِأَنَّ اللَّحَاقَ هُوَ السَّبَبُ وَالْقَضَاءُ لِتَقَرُّرِهِ بِقَطْعِ الِاحْتِمَالِ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : وَقْتَ الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مَوْتًا بِالْقَضَاءِ ، وَالْمُرْتَدَّةُ إذَا لَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ فَهِيَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ .
.

( قَوْلُهُ : وَإِنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا ) وَحَكَمَ الْحَاكِمُ بِلَحَاقِهِ عَتَقَ مُدَبَّرُوهُ وَأُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ وَحَلَّتْ دُيُونُهُ الْمُؤَجَّلَةُ وَنُقِلَ مَا اكْتَسَبَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إلَى وَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ ) بِاتِّفَاقِ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ ، وَكَذَا مَا اكْتَسَبَهُ فِي أَيَّامِ رِدَّتِهِ عَلَى قَوْلِهِمَا كَمَا مَرَّ وَلَا يُفْعَلُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ مُقِيمًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَأَمَّا مَا أَوْصَى بِهِ فِي حَالِ إسْلَامِهِ فَالْمَذْكُورُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مِنْ الْمَبْسُوطِ وَغَيْرِهِ أَنَّهَا تَبْطُلُ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ مَا هُوَ قُرْبَةٌ وَغَيْرُ قُرْبَةٍ وَمِنْ غَيْرِ ذِكْرِ خِلَافٍ .
وَذَكَرَ الْوَلْوَالِجِيُّ أَنَّ الْإِطْلَاقَ قَوْلُهُ .
وَقَوْلُهُمَا : إنَّ الْوَصِيَّةَ بِغَيْرِ الْقُرْبَةِ لَا تَبْطُلُ ؛ لِأَنَّ لِبَقَاءِ الْوَصِيَّةِ حُكْمَ الِابْتِدَاءِ ، وَابْتِدَاءُ الْوَصِيَّةِ بِغَيْرِ الْقُرْبَةِ بَعْدَ الرِّدَّةِ عِنْدَهُمَا تَصِحُّ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَتَوَقَّفُ فَكَذَا هُنَا .
قِيلَ وَأَرَادَ بِالْوَصِيَّةِ بِغَيْرِ الْقُرْبَةِ الْوَصِيَّةَ لِلنَّائِحَةِ وَالْمُغَنِّيَةِ .
وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ : لَا تَبْطُلُ فِيمَا لَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْهُ ، وَحُمِلَ إطْلَاقُ مُحَمَّدٍ لِبُطْلَانِ الْوَصِيَّةِ عَلَى وَصِيَّةٍ يَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْهَا .
وَوَجْهُ الْبُطْلَانِ مُطْلَقًا أَنَّ تَنْفِيذَ الْوَصِيَّةِ لِحَقِّ الْمَيِّتِ ، وَلَا حَقَّ لَهُ بَعْدَمَا قُتِلَ عَلَى الرِّدَّةِ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَكَانَ رِدَّتُهُ كَرُجُوعِهِ عَنْ الْوَصِيَّةِ فَلَا يَبْطُلُ مَا لَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْهُ كَالتَّدْبِيرِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْعِتْقِ ثَبَتَ لِلْمُدَبَّرِ ، وَبِهَذَا عُرِفَ مَعْنَى تَقْيِيدِ الطَّحَاوِيِّ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا .
( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ) وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ : ( يَبْقَى مَالُهُ مَوْقُوفًا ) وَيَحْفَظُهُ الْحَاكِمُ إلَى أَنْ يَظْهَرَ مَوْتُهُ ثَمَّةَ أَوْ يَعُودُ مُسْلِمًا فَيَأْخُذَهُ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ اللَّحَاقَ نَوْعُ غَيْبَةٍ فَأَشْبَهَ الْغَيْبَةَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الدَّارَ عِنْدَهُمْ وَاحِدَةٌ (

وَلَنَا أَنَّهُ بِاللَّحَاقِ صَارَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَهُمْ أَمْوَاتٌ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ لِانْقِطَاعِ وِلَايَةِ إلْزَامِ أَحْكَامِهِ عَنْهُمْ كَمَا هِيَ مُنْقَطِعَةٌ عَنْ الْمَوْتَى ) بِخِلَافِ الْغَيْبَةِ فِي بَلْدَةٍ أُخْرَى مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ ، فَإِنَّ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ وَوِلَايَةَ إلْزَامِنَا ثَابِتَةٌ فِيهَا فَلَا يَلْحَقُ بِذَلِكَ ، وَإِذَا صَارَ اللَّحَاقُ كَالْمَوْتِ لَا أَنَّهُ حَقِيقَةُ الْمَوْتِ لَا يَسْتَقِرُّ حَتَّى يَقْضِيَ بِهِ سَابِقًا عَلَى الْقَضَاءِ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ فِي الصَّحِيحِ ، لَا أَنَّ الْقَضَاءَ بِشَيْءٍ مِنْهَا يَكْفِي بَلْ يَسْبِقُ الْقَضَاءُ بِاللَّحَاقِ ثُمَّ تَثْبُتُ الْأَحْكَامُ الْمَذْكُورَةُ ، وَلِكَوْنِهَا كَالْمَوْتِ قُلْنَا : إذَا لَحِقَتْ الْحَرْبِيَّةُ فَلِزَوْجِهَا أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأُخْتِهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا ؛ وَلِأَنَّهُ لَا عِدَّةَ عَلَى الْحَرْبِيَّةِ مِنْ الْمُسْلِمِ ؛ لِأَنَّ فِي الْعِدَّةِ حَقَّ الزَّوْجِ ، وَتَبَايُنُ الدَّارَيْنِ مُنَافٍ لَهُ ، وَلَوْ سُبِيَتْ أَوْ عَادَتْ مُسْلِمَةً لَمْ يَضُرَّ نِكَاحُ أُخْتِهَا ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ بَعْدَ أَنْ سَقَطَتْ لَا تَعُودُ ( ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ فِي كَوْنِ الْوَارِثِ وَارِثًا عِنْدَ اللَّحَاقِ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ ؛ لِأَنَّهُ السَّبَبُ ، وَالْقَضَاءُ إنَّمَا لَزِمَ لِتَقَرُّرِهِ بِقَطْعِ الِاحْتِمَالِ ) أَيْ احْتِمَالِ عَوْدِهِ : أَيْ اللَّحَاقُ لَا يُوجِبُ أَحْكَامَ الْمَوْتِ إلَّا إذَا كَانَ مُسْتَقِرًّا وَهُوَ أَمْرٌ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَبِالْقَضَاءِ بِهِ يَتَقَرَّرُ .
( وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ) يُعْتَبَرُ كَوْنُهُ وَارِثًا ( وَقْتَ الْقَضَاءِ ) حَتَّى لَوْ كَانَ مَنْ بِحَيْثُ يَرِثُ وَقْتَ الرِّدَّةِ كَافِرًا أَوْ عَبْدًا وَوَقْتَ الْقَضَاءِ مُسْلِمًا مُعْتَقًا وَرِثَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ ، وَهَذَا ( لِأَنَّهُ ) أَيْ اللَّحَاقَ إنَّمَا ( يَصِيرُ مَوْتًا بِالْقَضَاءِ ) ؛ لِأَنَّهُ بِمُجَرَّدِهِ غَيْبَةً فَتَقَرُّرُهَا بِالْقَضَاءِ بِهِ ، وَبِتَقَرُّرِهِ يَصِيرُ مَوْتًا وَالْإِرْثُ يُعْتَبَرُ عِنْدَ الْمَوْتِ .
وَقَدَّمْنَا تَمَامَ وَجْهَيْ الْقَوْلَيْنِ ( وَالْمُرْتَدَّةُ إذَا

لَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ فَهِيَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ ) فِي الْمُرْتَدِّ وَعَلَى الْأَحْكَامِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مِنْ عِتْقِ مُدَبَّرِيهَا وَحُلُولِ دُيُونِهَا .

( وَتُقْضَى الدُّيُونُ الَّتِي لَزِمَتْهُ فِي حَالِ الْإِسْلَامِ مِمَّا اكْتَسَبَهُ فِي حَالِ الْإِسْلَامِ ، وَمَا لَزِمَهُ فِي حَالِ رِدَّتِهِ مِنْ الدُّيُونِ يُقْضَى مِمَّا اكْتَسَبَهُ فِي حَالِ رِدَّتِهِ ) قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ عَصَمَهُ اللَّهُ : هَذِهِ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَعَنْهُ أَنَّهُ يُبْدَأُ بِكَسْبِ الْإِسْلَامِ ، وَإِنْ لَمْ يَفِ بِذَلِكَ يُقْضَى مِنْ كَسْبِ الرِّدَّةِ وَعَنْهُ عَلَى عَكْسِهِ .
وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِالسَّبَبَيْنِ مُخْتَلِفٌ .
وَحُصُولُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْكَسْبَيْنِ بِاعْتِبَارِ السَّبَبِ الَّذِي وَجَبَ بِهِ الدَّيْنُ فَيُقْضَى كُلُّ دَيْنٍ مِنْ الْكَسْبِ الْمُكْتَسَبِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لِيَكُونَ الْغُرْمُ بِالْغُنْمِ .
وَجْهُ الثَّانِي أَنَّ كَسْبَ الْإِسْلَامِ مِلْكُهُ حَتَّى يَخْلُفَهُ الْوَارِثُ فِيهِ ، وَمِنْ شَرْطِ هَذِهِ الْخِلَافَةِ الْفَرَاغُ عَنْ حَقِّ الْمُوَرِّثِ فَيُقَدَّمُ بِالدَّيْنِ عَلَيْهِ ، أَمَّا كَسْبُ الرِّدَّةِ فَلَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لَهُ ؛ لِبُطْلَانِ أَهْلِيَّةِ الْمِلْكِ بِالرِّدَّةِ عِنْدَهُ فَلَا يُقْضَى دَيْنُهُ مِنْهُ إلَّا إذَا تَعَذَّرَ قَضَاؤُهُ مِنْ مَحِلٍّ آخَرَ فَحِينَئِذٍ يُقْضَى مِنْهُ ، كَالذِّمِّيِّ إذَا مَاتَ وَلَا وَارِثَ لَهُ يَكُونُ مَالُهُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُقْضَى مِنْهُ كَذَلِكَ هَاهُنَا .
وَجْهُ الثَّالِثِ أَنَّ كَسْبَ الْإِسْلَامِ حَقُّ الْوَرَثَةِ وَكَسْبَ الرِّدَّةِ خَالِصُ حَقِّهِ ، فَكَانَ قَضَاءُ الدَّيْنِ مِنْهُ أَوْلَى إلَّا إذَا تَعَذَّرَ بِأَنْ لَمْ يَفِ بِهِ فَحِينَئِذٍ يُقْضَى مِنْ كَسْبِ الْإِسْلَامِ تَقْدِيمًا لِحَقِّهِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : تُقْضَى دُيُونُهُ مِنْ الْكَسْبَيْنِ ؛ لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا مِلْكُهُ حَتَّى يَجْرِيَ الْإِرْثُ فِيهِمَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( قَوْلُهُ : وَتُقْضَى دُيُونُهُ الَّتِي لَزِمَتْهُ فِي حَالِ الْإِسْلَامِ مِمَّا اكْتَسَبَهُ فِي حَالِ الْإِسْلَامِ ، وَدُيُونُهُ الَّتِي لَزِمَتْهُ فِي حَالِ رِدَّتِهِ مِمَّا اكْتَسَبَهُ فِي حَالِ رِدَّتِهِ ) وَعَلَى هَذَا فَإِنْ فَضَلَ مِنْ كَسْبِ الْإِسْلَامِ عَنْ دُيُونِ الْإِسْلَامِ شَيْءٌ وَرِثَتْهُ الْوَرَثَةُ وَإِلَّا لَا يَرِثُونَ شَيْئًا ، وَلَوْ فَضَلَ عَنْ دُيُونِ الرِّدَّةِ شَيْءٌ مِنْ كَسْبِ الرِّدَّةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يُورَثُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُورَثُ كَسْبُ الرِّدَّةِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَهَذَا التَّفْصِيلُ الْمَذْكُورُ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ) قِيلَ رَوَاهَا زُفَرُ عَنْهُ ، وَلَمْ يَنْسُبْ الْكَرْخِيُّ هَذَا إلَى أَبِي حَنِيفَةَ بَلْ قَالَ : وَقَالَ زُفَرُ وَالْحَسَنُ : مَا لَحِقَهُ فِي حَالِ الْإِسْلَامِ إلَى آخِرِهِ ( وَعَنْهُ أَنَّهُ يُبْدَأُ بِكَسْبِ الْإِسْلَامِ ) فَيُقْضَى مِنْهُ الدَّيْنَانِ جَمِيعًا ، فَإِنْ وَفَّى فَكَسْبُ الرِّدَّةِ فَيْءٌ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَرِثُ الْوَرَثَةُ شَيْئًا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ إلَّا أَنْ يَفْضُلَ عَنْ كَسْبِ الْإِسْلَامِ شَيْءٌ عَنْ الدَّيْنَيْنِ ( فَإِنْ لَمْ يَفِ كُمِّلَ مِنْ كَسْبِ الرِّدَّةِ ) وَهَذِهِ رِوَايَةُ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ عَنْهُ ( وَعَنْهُ عَلَى عَكْسِهِ ) وَهُوَ أَنْ يُقْضَى الدَّيْنَانِ جَمِيعًا مِنْ كَسْبِ الرِّدَّةِ ، فَإِنْ وَفَّى بِالدُّيُونِ وَرِثَتْ الْوَرَثَةُ كَسْبَ الْإِسْلَامِ كُلَّهُ ، وَإِنْ لَمْ يَفِ كُمِّلَ مِنْ كَسْبِ الْإِسْلَامِ وَوَرِثَتْ الْوَرَثَةُ مَا فَضَلَ إنْ فَضَلَ شَيْءٌ ، وَهَذِهِ رِوَايَةُ أَبِي يُوسُفَ عَنْهُ ( وَجْهُ الْأَوَّلِ ) وَهُوَ التَّفْصِيلُ ( أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِالسَّبَبَيْنِ ) وَهُوَ دَيْنُ الْإِسْلَامِ وَدَيْنُ الرِّدَّةِ ( مُخْتَلِفٌ ، وَحُصُولُ كُلٍّ مِنْ الْكَسْبَيْنِ بِاعْتِبَارِ السَّبَبِ الَّذِي وَجَبَ بِهِ الدَّيْنُ فَيُقْضَى كُلُّ دَيْنٍ مِنْ الْكَسْبِ الَّذِي حَصَلَ بِهِ ؛ لِيَكُونَ الْغُرْمُ بِالْغُنْمِ .
وَجْهُ الثَّانِي ) وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ ( أَنَّ كَسْبَ الْإِسْلَامِ مِلْكُهُ حَتَّى يَخْلُفَهُ الْوَارِثُ فِيهِ ، وَمِنْ شُرُوطِ هَذِهِ الْخِلَافَةِ الْفَرَاغُ عَنْ

حَقِّ الْمُوَرِّثِ ) وَهُوَ مِقْدَارُ مَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ ( فَيُقَدَّمُ الدَّيْنُ ) مُطْلَقًا ( عَلَيْهِ أَمَّا كَسْبُ الرِّدَّةِ فَلَيْسَ مَمْلُوكًا لَهُ لِبُطْلَانِ أَهْلِيَّةِ الْمِلْكِ بِالرِّدَّةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يُقْضَى دَيْنُهُ مِنْهُ ، إلَّا إذَا تَعَذَّرَ قَضَاؤُهُ مِنْ مَحِلٍّ آخَرَ فَحِينَئِذٍ يُقْضَى مِنْهُ ) فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ يُقْضَى مِنْهُ وَهُوَ فَيْءٌ عِنْدَهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لَهُ بَلْ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ ؟ أَجَابَ فَقَالَ : لَا بُعْدَ فِي هَذَا ( فَإِنَّ الذِّمِّيَّ إذَا مَاتَ وَلَا وَارِثَ لَهُ يَكُونُ مَالُهُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ ) وَمَعَ ذَلِكَ إنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُقْضَى مِنْهُ أَوَّلًا وَمَا فَضَلَ يَكُونُ لِلْمُسْلِمِينَ ( فَكَذَلِكَ هَاهُنَا ) قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ : وَعَلَى هَذَا لَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِي الرَّهْنِ وَقَضَاءِ الدِّينِ مِنْ كَسْبِ الْإِسْلَامِ .
( وَجْهُ الثَّالِثِ ) وَهُوَ رِوَايَةُ أَبِي يُوسُفَ ( أَنَّ كَسْبَ الْإِسْلَامِ حَقُّ الْوَرَثَةِ وَكَسْبَ الرِّدَّةِ خَالِصُ حَقِّهِ ) بِمَعْنَى أَنَّهُ مَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ كَمَا يَتَعَلَّقُ فِي مَالِ الْمَرِيضِ ، وَإِلَّا فَهُوَ قَدْ ذَكَرَ أَنَّ أَمْلَاكَهُ تَزُولُ ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ خَالِصَ حَقِّهِ كَوْنَهُ مِلْكًا لَهُ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ كَسْبَ الْمُكَاتَبِ خَالِصُ حَقَّهُ وَلَيْسَ مِلْكَهُ ، وَإِذَا كَانَ خَالِصَ حَقِّهِ ( كَانَ قَضَاءُ دَيْنِهِ مِنْهُ أَوْلَى ، إلَّا إذَا لَمْ يَفِ فَحِينَئِذٍ يُقْضَى مِنْ كَسْبِ الْإِسْلَامِ تَقْدِيمًا لِحَقِّهِ ) قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ : وَعَلَى هَذَا نَقُولُ عَقْدُ الرَّهْنِ كَقَضَاءِ الدَّيْنِ ، فَإِذَا قَضَى دَيْنَهُ مِنْ كَسْبِ الرِّدَّةِ أَوْ رَهْنَهُ بِالدَّيْنِ فَقَدْ فَعَلَ عَيْنَ مَا كَانَ يَحِقُّ فِعْلُهُ ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ رِوَايَاتٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ إلَّا مَا اكْتَسَبَهُ فِي حَالِ رِدَّتِهِ قُضِيَ مِنْهُ ( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : تُقْضَى دُيُونُهُ مِنْ الْكَسْبَيْنِ ؛ لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا مِلْكُهُ عِنْدَهُمَا ) حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِمَا الْإِرْثُ .

قَالَ : ( وَمَا بَاعَهُ أَوْ اشْتَرَاهُ أَوْ أَعْتَقَهُ أَوْ وَهَبَهُ أَوْ رَهَنَهُ أَوْ تَصَرَّفَ فِيهِ مِنْ أَمْوَالِهِ فِي حَالِ رِدَّتِهِ فَهُوَ مَوْقُوفٌ ، فَإِنْ أَسْلَمَ صَحَّتْ عُقُودُهُ ، وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بَطَلَتْ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : يَجُوزُ مَا صَنَعَ فِي الْوَجْهَيْنِ .
اعْلَمْ أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ عَلَى أَقْسَامٍ : نَافِذٌ بِالِاتِّفَاقِ كَالِاسْتِيلَادِ وَالطَّلَاقِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى حَقِيقَةِ الْمِلْكِ وَتَمَامِ الْوِلَايَةِ .
وَبَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ كَالنِّكَاحِ وَالذَّبِيحَةِ ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَمِدُ الْمِلَّةَ وَلَا مِلَّةَ لَهُ .
وَمَوْقُوفٌ بِالِاتِّفَاقِ كَالْمُفَاوَضَةِ ؛ لِأَنَّهَا تَعْتَمِدُ الْمُسَاوَاةَ وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْمُرْتَدِّ مَا لَمْ يُسْلِمْ .
وَمُخْتَلَفٌ فِي تَوَقُّفِهِ وَهُوَ مَا عَدَدْنَاهُ .
لَهُمَا أَنَّ الصِّحَّةَ تَعْتَمِدُ الْأَهْلِيَّةَ وَالنَّفَاذَ يَعْتَمِدُ الْمِلْكَ ، وَلَا خَفَاءَ فِي وُجُودِ الْأَهْلِيَّةِ لِكَوْنِهِ مُخَاطَبًا ، وَكَذَا الْمِلْكُ لِقِيَامِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ ، وَلِهَذَا لَوْ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ بَعْدَ الرِّدَّةِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ امْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ يَرِثُهُ وَلَوْ مَاتَ وَلَدُهُ بَعْدَ الرِّدَّةِ قَبْلَ الْمَوْتِ لَا يَرِثُهُ فَتَصِحُّ تَصَرُّفَاتُهُ .
إلَّا أَنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَصِحُّ كَمَا تَصِحُّ مِنْ الصَّحِيحِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ عَوْدُهُ إلَى الْإِسْلَامِ ، إذْ الشُّبْهَةُ تُزَاحُ فَلَا يُقْتَلُ وَصَارَ كَالْمُرْتَدَّةِ .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تَصِحُّ كَمَا تَصِحُّ مِنْ الْمَرِيضِ ؛ لِأَنَّ مَنْ انْتَحَلَ إلَى نِحْلَةٍ لَا سِيَّمَا مُعْرِضًا عَمَّا نَشَأَ عَلَيْهِ قَلَّمَا يَتْرُكُهُ فَيُفْضِي إلَى الْقَتْلِ ظَاهِرًا ، بِخِلَافِ الْمُرْتَدَّةِ ؛ لِأَنَّهَا لَا تُقْتَلُ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ حَرْبِيٌّ مَقْهُورٌ تَحْتَ أَيْدِينَا عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فِي تَوَقُّفِ الْمِلْكِ وَتَوَقُّفُ التَّصَرُّفَاتِ بِنَاءً عَلَيْهِ ، وَصَارَ كَالْحَرْبِيِّ يَدْخُلُ دَارَنَا بِغَيْرِ أَمَانٍ فَيُؤْخَذُ وَيُقْهَرُ

وَتَتَوَقَّفُ تَصَرُّفَاتُهُ ؛ لِتَوَقُّفِ حَالِهِ ، فَكَذَا الْمُرْتَدُّ ، وَاسْتِحْقَاقُهُ الْقَتْلَ لِبُطْلَانِ سَبَبِ الْعِصْمَةِ فِي الْفَصْلَيْنِ فَأَوْجَبَ خَلَلًا فِي الْأَهْلِيَّةِ ، بِخِلَافِ الزَّانِي وَقَاتِلِ الْعَمْدِ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ فِي ذَلِكَ جَزَاءٌ عَلَى الْجِنَايَةِ .
وَبِخِلَافِ الْمَرْأَةِ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ حَرْبِيَّةً ؛ وَلِهَذَا لَا تُقْتَلُ .

( قَوْلُهُ : وَمَا بَاعَهُ ) الْمُرْتَدُّ ( أَوْ اشْتَرَاهُ أَوْ أَعْتَقَهُ أَوْ رَهَنَهُ إلَى آخِرِهِ ) قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ ( اعْلَمْ أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ عَلَى أَقْسَامٍ : نَافِذَةٌ بِالِاتِّفَاقِ كَالِاسْتِيلَادِ وَالطَّلَاقِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى حَقِيقَةِ الْمِلْكِ فِي الِاسْتِيلَادِ ، وَلَا إلَى تَمَامِ الْوِلَايَةِ ) فِي الطَّلَاقِ ، فَإِنَّ الِاسْتِيلَادَ يَصِحُّ فِي جَارِيَةِ الِابْنِ وَحَقُّ الْمُرْتَدِّ فِي مَالِهِ أَقْوَى مِنْ الْأَبِ فِي جَارِيَةِ ابْنِهِ ، وَلِذَا تَصِحُّ دَعْوَى الْمَوْلَى وَلَدَ أَمَةِ مُكَاتَبِهِ وَحَقُّ الْمُرْتَدِّ فِي مَالِهِ أَقْوَى مِنْ حَقِّ الْمَوْلَى فِي كَسْبِ الْمُكَاتَبِ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ مَوْقُوفٌ عَلَى حُكْمِ مِلْكِهِ ، حَتَّى إذَا أَسْلَمَ كَانَ لَهُ بِلَا سَبَبٍ جَدِيدٍ وَلَا مِلْكَ لِلْأَبِ وَالْمَوْلَى فِيهِمَا ، وَالطَّلَاقُ يَقَعُ مِنْ الْعَبْدِ مَعَ قُصُورِ وِلَايَتِهِ فَإِنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ .
وَأُورِدَ عَلَيْهِ أَنَّ بِالرِّدَّةِ تَحَقَّقَتْ الْفُرْقَةُ فَكَيْفَ يَقَعُ الطَّلَاقُ .
أُجِيبُ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ وُقُوعِ الْبَيْنُونَةِ امْتِنَاعُ الطَّلَاقِ ، وَقَدْ سَلَفَ أَنَّ الْمُبَانَةَ يَلْحَقُهَا صَرِيحُ الطَّلَاقِ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ .
وَصَرَّحَ فِي الْمُحِيطِ بِأَنَّ الْفُرْقَةَ بِالرِّدَّةِ مِنْ قَبِيلِ الْفُرْقَةِ الَّتِي يَلْحَقُهَا الطَّلَاقُ مَعَ أَنَّ الرِّدَّةَ لَا تَلْزَمُهَا الْفُرْقَةُ كَمَا لَوْ ارْتَدَّا مَعًا ، وَمِنْ هَذَا الْقِسْمِ تَسْلِيمُ الشُّفْعَةِ وَقَبُولُ الْهِبَةِ وَالْحَجْرُ عَلَى عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ ؛ لِأَنَّهَا لَا تُبْنَى عَلَى حَقِيقَةِ الْمِلْكِ ( وَبَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ كَالنِّكَاحِ وَالذَّبِيحَةِ ؛ لِأَنَّهَا تَعْتَمِدُ الْمِلَّةَ وَلَا مِلَّةَ لَهُ ) ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُقِرٍّ عَلَى مَا انْتَقَلَ إلَيْهِ مِنْ دِينٍ سَمَاوِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ ، كَالشِّرْكِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا مِلَّةَ لَهُ ، وَهَذَا حَاصِلُ مَا فَسَّرَ بِهِ ظَهِيرُ الدِّينِ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمِلَّةِ الَّتِي يَدِينُونَ بِمِلْكِ النِّكَاحِ التَّوَارُثُ وَالتَّنَاسُلُ ، وَالْمُرْتَدُّ لَا يَتَحَقَّقُ فِي نِكَاحِهِ

شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَرُّ حَيًّا وَمِنْ هَذَا الْقِسْمِ إرْثُهُ ، وَأَمَّا الْإِرْثُ مِنْهُ فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ ثَابِتٌ لِوَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ ( وَمَوْقُوفٌ بِالِاتِّفَاقِ كَالْمُفَاوَضَةِ مَعَ الْمُسْلِمِ ؛ لِأَنَّهَا تَعْتَمِدُ الْمُسَاوَاةَ ) بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ .
( وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْمُرْتَدِّ ) فَيَتَوَقَّفُ عَقْدُ الْمُفَاوَضَةِ ، فَإِنْ أَسْلَمَ نَفَذَتْ ، وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ أَوْ قُضِيَ بِلَحَاقِهِ بَطَلَتْ بِالِاتِّفَاقِ لَكِنْ تَصِيرُ عِنَانًا عِنْدَهُمَا ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَبْطُلُ أَصْلًا ؛ لِأَنَّ فِي الْعِنَانِ وَكَالَةً ، وَهِيَ مَوْقُوفَةٌ عِنْدَهُ ( وَمُخْتَلَفٌ فِي تَوَقُّفِهِ وَهُوَ مَا عَدَدْنَاهُ ) مِنْ بَيْعِهِ وَشِرَائِهِ وَعِتْقِهِ وَرَهْنِهِ وَمِنْهُ الْكِتَابَةُ وَقَبْضُ الدُّيُونِ وَالْإِجَارَةُ ، وَالْوَصِيَّةُ عِنْدَهُ هِيَ مَوْقُوفَةٌ إنْ أَسْلَمَ نَفَذَتْ ، وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ أَوْ لَحِقَ بَطَلَتْ ( لَهُمَا أَنَّ الصِّحَّةَ ) لِلْمُعَامَلَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا ( تَعْتَمِدُ الْأَهْلِيَّةَ ) لَهَا ( وَالنَّفَاذُ يَعْتَمِدُ الْمِلْكَ وَلَا خَفَاءَ فِي وُجُودِ الْأَهْلِيَّةِ لِكَوْنِهِ مُخَاطَبًا ) بِالْإِيمَانِ ، وَكَذَا قَتْلُهُ فَرْعُ كَوْنِهِ مُكَلَّفًا ( وَكَذَا مِلْكُهُ لِقِيَامِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ ) يَعْنِي مِنْ قَوْلِهِ مُكَلَّفٌ مُحْتَاجٌ إلَى آخِرِهِ ، وَمِمَّا يُوَضِّحُ كَوْنَ مِلْكِ الْمُرْتَدِّ بَاقِيًا أَنَّهُ لَوْ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ مِنْ امْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ أَوْ أَمَةٍ مُسْلِمَةٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا وَرِثَهُ ، فَلَوْ كَانَ مِلْكُهُ زَائِلًا لَمْ يَرِثْهُ هَذَا الْوَلَدُ ، وَلَوْ أَنَّ وَلَدَهُ قَبْلَ الرِّدَّةِ مَاتَ بَعْدَهَا قَبْلَ مَوْتِهِ وَلَحَاقِهِ لَا يَرِثُهُ .
وَإِذَا كَانَ مِلْكُهُ قَائِمًا وَأَهْلِيَّتُهُ نَفَذَتْ تَصَرُّفَاتُهُ عِنْدَهُمَا ( إلَّا أَنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَصِحُّ كَمَا تَصِحُّ مِنْ الصَّحِيحِ ) مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ ( لِأَنَّ الظَّاهِرَ عَوْدُهُ إلَى الْإِسْلَامِ إذْ الشُّبْهَةُ تُزَاحُ فَلَا يُقْتَلُ ) فَلَا يَكُونُ كَالْمَرِيضِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تَصِحُّ مِنْ الثُّلُثِ كَمَا تَصِحُّ مِنْ

الْمَرِيضِ ؛ لِأَنَّ مَنْ انْتَحَلَ نِحْلَةً لَا سِيَّمَا ) إذَا كَانَ بِهَا ( مُعْرِضًا عَمَّا نَشَأَ عَلَيْهِ قَلَّمَا يَتْرُكُهُ ) فَكَانَ بِذَلِكَ عَلَى شَرَفِ الْهَلَاكِ كَالْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ ، إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ يَقُولُ بِيَدِهِ دَفْعُ الْقَتْلِ عَنْهُ وَالْمَوْتُ عَلَى ذَلِكَ بِتَجْدِيدِ الْإِسْلَامِ ، بِخِلَافِ الْمَرِيضِ ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ حَرْبِيٌّ مَقْهُورٌ تَحْتَ أَيْدِينَا عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فِي تَوَقُّفِ الْمِلْكِ ) أَيْ عَوْدِهِ لِمَا حَرَّرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ يَزُولُ مِلْكُهُ بِرِدَّتِهِ ثُمَّ يَعُودُ بِعَوْدِهِ إلَى الْإِسْلَامِ مِنْ أَنَّهُ حَرْبِيٌّ مَقْهُورٌ نَفْسُهُ وَمَالُهُ تَحْتَ أَيْدِينَا ( وَتُوقَفُ التَّصَرُّفَاتُ بِنَاءً عَلَيْهِ ) فَإِنَّ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةَ الْمَذْكُورَةَ تُوجِبُ أَمْلَاكًا لِمَنْ قَامَتْ بِهِ ، وَزَوَالُ أَمْلَاكٍ مِثْلُ الْبَيْعِ يُوجِبُ أَنْ يَمْلِكَ الْمَبِيعَ وَأَنْ يَخْرُجَ مِنْ مِلْكِهِ الثَّمَنُ وَالْإِجَارَةُ كَذَلِكَ ، وَالْفَرْضُ أَنْ لَيْسَ مَعَ الرِّدَّةِ مِلْكٌ فَامْتَنَعَ إفَادَةُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ أَحْكَامَهَا فِي الْحَالِ ، فَإِنْ أَسْلَمَ أَفَادَتْهُ حِينَ وَقَعَتْ وَهَذَا مَعْنَى التَّوَقُّفِ ( فَصَارَ ) الْمُرْتَدُّ ( كَالْحَرْبِيِّ يَدْخُلُ دَارَنَا بِلَا أَمَانٍ فَيُؤْخَذُ ) أَيْ يُؤْسَرُ ( فَتَتَوَقَّفُ تَصَرُّفَاتُهُ لِتَوَقُّفِ حَالِهِ ) حَيْثُ كَانَ لِلْإِمَامِ الْخِيَارُ بَيْنَ اسْتِرْقَاقِهِ وَقَتْلِهِ ، فَإِنْ قُتِلَ أَوْ أُسِرَ لَمْ تَنْفُذْ مِنْهُ هَذِهِ أَوْ أَسْلَمَ لَمْ يُؤْخَذْ لَهُ مَالٌ ( فَكَذَا الْمُرْتَدُّ ) وَقَوْلُهُ ( وَاسْتِحْقَاقُ إلَخْ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ الْمُرْتَدُّ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَالْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ بِالْقِصَاصِ وَالرَّجْمِ ؛ لِأَنَّهُ مَقْهُورٌ تَحْتَ أَيْدِينَا لِلْقَتْلِ عَيْنًا خُصُوصًا فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ لَهُ حَالَةٌ غَيْرُ الْقَتْلِ ، بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ فَإِنَّ غَيْرَهَا مُحْتَمَلٌ فِي حَقِّهِ لِاحْتِمَالِ إسْلَامِهِ ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَزُولُ مِلْكُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ مَالِهِ وَتَصَرُّفَاتُهُمَا نَافِذَةٌ .
فَأَجَابَ بِالْفَرْقِ ( بِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ

الْقَتْلِ فِي الْفَصْلَيْنِ ) أَيْ الْحَرْبِيِّ وَالْمُرْتَدِّ ( لِبُطْلَانِ الْعِصْمَةِ ) بِانْتِفَاءِ سَبَبِهَا وَهُوَ الْإِسْلَامُ ( فَأَوْجَبَ خَلَلًا فِي الْأَهْلِيَّةِ ، بِخِلَافِ الزَّانِي وَالْقَاتِلِ عَمْدًا ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْقَتْلِ بِذَلِكَ السَّبَبِ جَزَاءٌ عَلَى الْجِنَايَةِ ) مَعَ بَقَاءِ سَبَبِ الْعِصْمَةِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ فَيَبْقَى مَالِكًا حَقِيقَةً لِبَقَاءِ عِصْمَةِ مَالِهِ لِقِيَامِ سَبَبِهَا ، وَلِهَذَا لَوْ قَتَلَ الْقَاتِلَ غَيْرُ وَلِيِّ الْقِصَاصِ قُتِلَ بِهِ ، وَإِنَّمَا يُقْتَلُ كُلٌّ مِنْهُمَا بِمَا هُوَ مِنْ حُقُوقِ تِلْكَ الْعِصْمَةِ ( بِخِلَافِ الْمُرْتَدَّةِ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ حَرْبِيَّةً وَلِهَذَا لَا تُقْتَلُ ) قَالَ أَبُو الْيُسْرِ : مَا قَالَاهُ أَحْسَنُ ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يَقْبَلُ الرِّقَّ ، وَالْقَهْرُ يَكُونُ حَقِيقِيًّا لَا حُكْمِيًّا ، وَالْمِلْكُ يَبْطُلُ بِالْقَهْرِ الْحُكْمِيِّ لَا الْحَقِيقِيِّ ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى لَا يَبْطُلُ مِلْكُ الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ بِالرَّجْمِ .
وَحَاصِلُ مُرَادِهِ أَنَّ الْمُنَافِيَ لِلْمِلْكِ الِاسْتِرْقَاقُ لَيْسَ غَيْرُ لَكِنَّهُ مَمْنُوعٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، بَلْ نَقُولُ : إنَّمَا أَوْجَبَ الِاسْتِرْقَاقُ ذَلِكَ فِي الْأَصْلِ لِلْقَهْرِ الْكَائِنِ بِسَبَبِ حِرَابَتِهِ .
وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْمُرْتَدِّ فَيَثْبُتُ فِيهِ ذَلِكَ بِطَرِيقٍ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ يُتَصَوَّرُ مَعَهُ مِلْكُ النِّكَاحِ ، بِخِلَافِ قَهْرِ الْمُرْتَدِّ .

( فَإِنْ عَادَ الْمُرْتَدُّ بَعْدَ الْحُكْمِ بِلَحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ مُسْلِمًا فَمَا وَجَدَهُ فِي يَدِ وَرَثَتِهِ مِنْ مَالِهِ بِعَيْنِهِ أَخَذَهُ ) ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ إنَّمَا يَخْلُفُهُ فِيهِ لِاسْتِغْنَائِهِ ، وَإِذَا عَادَ مُسْلِمًا احْتَاجَ إلَيْهِ فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا أَزَالَهُ الْوَارِثُ عَنْ مِلْكِهِ ، وَبِخِلَافِ أُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ وَمُدَبَّرِيهِ ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ قَدْ صَحَّ بِدَلِيلٍ مُصَحَّحٍ فَلَا يُنْقَضُ ، وَلَوْ جَاءَ مُسْلِمًا قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي بِذَلِكَ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُسْلِمًا لِمَا ذَكَرْنَا .

( قَوْلُهُ : وَإِنْ عَادَ الْمُرْتَدُّ بَعْدَ الْحُكْمِ بِلَحَاقِهِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ مُسْلِمًا فَمَا وَجَدَهُ فِي يَدِ وَرَثَتِهِ مِنْ مَالِهِ بِعَيْنِهِ ) نَقْدًا أَوْ عَرَضًا ( أَخَذَهُ ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ إنَّمَا يَخْلُفُهُ فِيهِ لِاسْتِغْنَائِهِ ) عَنْهُ بِالْمَوْتِ الْمَحْكُومِ بِهِ ( وَإِذَا عَادَ مُسْلِمًا ) فَقَدْ أَحْيَاهُ اللَّهُ تَعَالَى حَيَاةً جَدِيدَةً .
وَلِذَا قُلْنَا فِي الْمُرْتَدَّةِ الْمُتَزَوِّجَةِ إذَا لَحِقَتْ وَعَادَتْ مُسْلِمَةً عَنْ قَرِيبٍ تَتَزَوَّجُ مِنْ سَاعَتِهَا ؛ لِأَنَّهَا فَارِغَةٌ مِنْ النِّكَاحِ وَالْعِدَّةِ كَأَنَّهَا حَيِيَتْ الْآنَ .
قَالَ تَعَالَى { أَوَ مَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ } فَإِذَا حَيِيَ ( احْتَاجَ إلَيْهِ فَيُقَدَّمُ عَلَى الْوَارِثِ ) وَعَلَى هَذَا لَوْ أَحْيَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَيِّتًا حَقِيقَةً وَأَعَادَهُ إلَى دَارِ الدُّنْيَا كَانَ لَهُ أَخْذُ مَا فِي يَدِ وَرَثَتِهِ ( بِخِلَافِ مَا أَزَالَهُ الْوَارِثُ عَنْ مِلْكِهِ ) سَوَاءٌ كَانَ بِسَبَبٍ يَقْبَلُ الْفَسْخَ كَبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ لَا يَقْبَلُهُ كَعِتْقٍ وَتَدْبِيرٍ وَاسْتِيلَادٍ فَإِنَّهُ يَمْضِي وَلَا عَوْدَ لَهُ فِيهِ وَلَا يَضْمَنُهُ .
( وَبِخِلَافِ أُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ وَمُدَبَّرِيهِ ) لَا يَعُودُونَ فِي الرِّقِّ ( لِأَنَّ الْقَضَاءَ ) بِعِتْقِهِمْ ( قَدْ صَحَّ بِدَلِيلٍ مُصَحَّحٍ ) لَهُ وَهُوَ اللَّحَاقُ مُرْتَدًّا ؛ لِأَنَّهُ كَالْمَوْتِ الْحَقِيقِيِّ فَنَفَذَ ، وَالْعِتْقُ بَعْدَ نَفَاذِهِ لَا يَقْبَلُ الْبُطْلَانَ وَوَلَاؤُهُمْ لِمَوْلَاهُمْ : أَعْنِي الْمُرْتَدَّ الَّذِي عَادَ مُسْلِمًا ، هَذَا إذَا جَاءَ مُسْلِمًا بَعْدَ الْحُكْمِ بِاللَّحَاقِ ، فَلَوْ جَاءَ مُسْلِمًا قَبْلَ الْحُكْمِ بِاللَّحَاقِ ( فَكَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُسْلِمًا ) كَأَنَّهُ لَمْ يَرْتَدَّ قَطُّ ( لِمَا ذَكَرْنَا ) مِنْ أَنَّهُ لَا يَسْتَقِرُّ لَحَاقُهُ إلَّا بِالْقَضَاءِ ، وَمَا لَمْ يَسْتَقِرَّ لَا يُورَثُ فَتَكُونُ أُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ وَمُدَبَّرُوهُ عَلَى حَالِهِمْ أَرِقَّاءَ ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الدُّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ لَا تَحِلُّ بَلْ تَكُونُ إلَى أَجَلِهَا ؛ لِعَدَمِ تَقَرُّرِ الْمَوْتِ .
وَصَارَ كَالْعَبْدِ إذَا أَبَقَ

بَعْدَ الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ ثُمَّ عَادَ ، إنْ كَانَ بَعْدَ الْقَضَاءِ بِالْفَسْخِ لَا يَبْطُلُ الْقَضَاءُ بِالْفَسْخِ ، وَإِنْ عَادَ قَبْلَهُ جُعِلَ الْإِبَاقُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ .

( وَإِذَا وَطِئَ الْمُرْتَدُّ جَارِيَةً نَصْرَانِيَّةً كَانَتْ لَهُ فِي حَالَةِ الْإِسْلَامِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ ارْتَدَّ فَادَّعَاهُ فَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ وَالْوَلَدُ حُرٌّ وَهُوَ ابْنُهُ وَلَا يَرِثُهُ ، وَإِنْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ مُسْلِمَةً وَرِثَهُ الِابْنُ إنْ مَاتَ عَلَى الرِّدَّةِ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ) أَمَّا صِحَّةُ الِاسْتِيلَادِ فَلِمَا قُلْنَا ، وَأَمَّا الْإِرْثُ فَلِأَنَّ الْأُمَّ إذَا كَانَتْ نَصْرَانِيَّةً وَالْوَلَدُ تَبَعٌ لَهُ لِقُرْبِهِ إلَى الْإِسْلَامِ لِلْجَبْرِ عَلَيْهِ فَصَارَ فِي حُكْمِ الْمُرْتَدِّ وَالْمُرْتَدُّ لَا يَرِثُ الْمُرْتَدَّ ، أَمَّا إذَا كَانَتْ مُسْلِمَةً فَالْوَلَدُ مُسْلِمٌ تَبَعًا لَهَا ؛ لِأَنَّهَا خَيْرُهُمَا دِينًا وَالْمُسْلِمُ يَرِثُ الْمُرْتَدَّ .

( قَوْلُهُ : وَإِذَا وَطِئَ الْمُرْتَدُّ جَارِيَةً نَصْرَانِيَّةً ) أَوْ يَهُودِيَّةً ( كَانَتْ لَهُ فِي حَالَةِ الْإِسْلَامِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ ) وَلَوْ إلَى عَشْرِ سِنِينَ ( مُنْذُ ارْتَدَّ فَادَّعَاهُ فَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ وَالْوَلَدُ حُرٌّ ، وَهُوَ ابْنُهُ ) وَثَبَتَ لِأُمِّهِ حَقُّ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ ( وَلَا يَرِثُهُ ، فَإِنْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ مُسْلِمَةً وَرِثَهُ الِابْنُ إنْ مَاتَ ) الْمُرْتَدُّ ( عَلَى رِدَّتِهِ ، أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ .
أَمَّا صِحَّةُ الِاسْتِيلَادِ مِنْ الْمُرْتَدِّ فَلِمَا قُلْنَا ) إنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى حَقِيقَةِ الْمِلْكِ حَتَّى صَحَّ اسْتِيلَادُ الْأَبِ جَارِيَةَ الِابْنِ وَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ جَارِيَةً مِنْ تِجَارَتِهِ ذَكَرَهُ أَبُو اللَّيْثِ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ .
( وَأَمَّا أَنَّهُ لَا يَرِثُهُ ؛ فَلِأَنَّ الْأُمَّ إذَا كَانَتْ ) يَهُودِيَّةً أَوْ ( نَصْرَانِيَّةً يُجْعَلُ الْوَلَدُ تَبَعًا لِلْمُرْتَدِّ لَا لِأُمِّهِ ) لِقُرْبِ الْمُرْتَدِّ إلَى الْإِسْلَامِ لِلْجَبْرِ عَلَيْهِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُؤْثِرُ الْقَتْلَ عَلَى الْعَوْدِ ( فَصَارَ الْوَلَدُ فِي حُكْمِ الْمُرْتَدِّ ، وَالْمُرْتَدُّ لَا يَرِثُ الْمُرْتَدَّ ) وَلَا غَيْرَهُ .
( وَأَمَّا إذَا كَانَتْ ) الْأَمَةُ ( مُسْلِمَةً فَالْوَلَدُ مُسْلِمٌ تَبَعًا لَهَا ؛ لِأَنَّهَا خَيْرُهُمَا دِينًا .
وَالْمُسْلِمُ يَرِثُ الْمُرْتَدَّ ) وَلَا يُقَالُ : لِمَ لَمْ يُجْعَلْ تَبَعًا لِلدَّارِ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْأُمُّ نَصْرَانِيَّةً ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُجْعَلُ تَبَعًا لِلدَّارِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَحَدُ أَبَوَيْهِ بِأَنْ يُسْبَى وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدُهُمَا أَوْ يُلْتَقَطُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَلَا يُظَنُّ أَنَّ هَذَا يُنْتَقَضُ بِمَا إذَا ارْتَدَّ الْأَبَوَانِ الْمُسْلِمَانِ وَلَهُمَا وَلَدٌ صَغِيرٌ وُلِدَ قَبْلَ رِدَّتِهِمَا ، فَإِنَّهُ يَبْقَى مُسْلِمًا مَعَ وُجُودِهِمَا ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِإِسْلَامِهِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَيْسَ لِتَبَعِيَّةِ الدَّارِ بَلْ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ حِينَ وُلِدَ مُسْلِمًا فَيَبْقَى عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ

لِلْوَلَدِ حُكْمُ الْإِسْلَامِ إذَا لَمْ يُوجَدْ فِي زَمَنِ إسْلَامِهِمَا ، وَتَقْيِيدُ الْمَسْأَلَةِ بِمَا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا احْتِرَازًا عَمَّا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ، فَإِنَّهُ يَرِثُهُ إذَا مَاتَ أَوْ لَحِقَ أَوْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ ؛ وَذَلِكَ لِلتَّيَقُّنِ بِحُصُولِ الْعُلُوقِ فِي حَالَةِ إسْلَامِ أَبِيهِ الْمُرْتَدِّ فَكَانَ الْوَلَدُ مُسْلِمًا ، وَالْمُسْلِمُ يَرِثُ الْمُرْتَدَّ .
وَفِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ أَنَّ الْإِرْثَ يَسْتَنِدُ إلَى حَالَةِ الْإِسْلَامِ فَيَكُونُ تَوْرِيثُ الْمُسْلِمِ مِنْ الْمُسْلِمِ فِيمَا اكْتَسَبَهُ فِي حَالَةِ الرِّدَّةِ يَضْعُفُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَعْنِي وَلَدَ الْأَمَةِ الْمُسْلِمَةِ هُنَاكَ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا حَالَ الْإِسْلَامِ ، وَمَعَ هَذَا يَرِثُ ، فَعُلِمَ أَنَّ الصَّحِيحَ مَا رَوَاهُ مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مَنْ كَانَ وَارِثًا عِنْدَ مَوْتِهِ سَوَاءٌ كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الرِّدَّةِ أَوْ حَدَثَ بَعْدَهَا .
انْتَهَى .
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ أَصَحُّ مِنْ قَوْلِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ تَخْصِيصًا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ } بِالْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ ، إلَّا أَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى دَلِيلِ التَّخْصِيصِ .
وَيُمْكِنُ كَوْنُهُ دَلَالَةَ الْإِجْمَاعِ عَلَى إرْثِ الْمُسْلِمِينَ مَالَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لِإِسْلَامِهِمْ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فَارْجِعْ إلَيْهِ ، وَهَذَا كُلُّهُ بِنَاءً عَلَى كَوْنِهِ إذَا جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ يُحْكَمُ بِأَنَّ الْعُلُوقَ بَعْدَ الرِّدَّةِ .
وَالْوَجْهُ أَنَّهُ مَتَى جَاءَتْ بِهِ أَمَتُهُ النَّصْرَانِيَّةُ لِمُدَّةٍ يُتَصَوَّرُ الْعُلُوقُ فِيهَا فِي حَالَةِ الْإِسْلَامِ يَجِبُ أَنْ يُعْتَبَرَ الْعُلُوقُ فِيهَا ، وَهَذَا يُمْكِنُ إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ بِلَحْظَةٍ ؛ لِأَنَّهُ أَحْوَطُ لِلْحُكْمِ بِالْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّهُ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ يَعْلَقُ مُسْلِمًا وَيَرِثُهُ ، وَإِنْ كَانَ خِلَافَ الْمَذْهَبِ

كَاَلَّذِي جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ، إلَّا أَنَّ عَلَى هَذَا لَوْ جَاءَتْ بِهِ ؛ لِتَمَامِ سَنَتَيْنِ فَصَاعِدًا لَا يَرِثُ .

( وَإِذَا لَحِقَ الْمُرْتَدُّ بِمَالِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ ظُهِرَ عَلَى ذَلِكَ الْمَالِ فَهُوَ فَيْءٌ ، فَإِنْ لَحِقَ ثُمَّ رَجَعَ وَأَخَذَ مَالًا وَأَلْحَقَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ فَظُهِرَ عَلَى ذَلِكَ الْمَالِ فَوَجَدَتْهُ الْوَرَثَةُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ رُدَّ عَلَيْهِمْ ) ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ مَالٌ لَمْ يَجْرِ فِيهِ الْإِرْثُ ، وَالثَّانِيَ انْتَقَلَ إلَى الْوَرَثَةِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ فَكَانَ الْوَارِثُ مَالِكًا قَدِيمًا .

( قَوْلُهُ : وَإِذَا لَحِقَ الْمُرْتَدُّ بِمَالِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ ظَهَرَ ) الْمُسْلِمُونَ ( عَلَى ذَلِكَ الْمَالِ فَهُوَ فَيْءٌ ) بِإِجْمَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ، وَإِنَّمَا يُخَالِفُ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ فِيمَا كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مِنْ الْبَاقِي مِنْ مَالِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ عِنْدَهُمْ مَحْفُوظٌ لَهُ إلَى أَنْ يَظْهَرَ مَوْتُهُ فَيَصِيرُ فَيْئًا .
وَلَا يُشْكِلُ كَوْنُ مَالِهِ فَيْئًا دُونَ نَفْسِهِ ، فَإِنَّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ كَذَلِكَ ( وَإِنْ لَحِقَ ثُمَّ رَجَعَ وَأَخَذَ مَالًا وَأَلْحَقَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ فَظُهِرَ عَلَى ذَلِكَ الْمَالِ ) فَحُكْمُ الْوَرَثَةِ فِيهِ حُكْمُ مَالِكِ مَالٍ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ الْكُفَّارُ ثُمَّ ظُهِرَ عَلَيْهِ فَوَجَدَهُ مَالِكُهُ وَهُوَ أَنَّهُمْ ( إنْ وَجَدُوهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ رُدَّ عَلَيْهِمْ ) وَإِنْ وَجَدُوهُ بَعْدَهَا أَخَذُوهُ بِقِيمَتِهِ إنْ شَاءُوا وَلَوْ كَانَ مِثْلِيًّا ، فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ .
ثُمَّ جَوَابُ هَذَا الْكِتَابِ أَعْنِي الْجَامِعَ الصَّغِيرَ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ لَا يَفْصِلُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَوْدُهُ وَأَخْذُهُ الْمَالَ بَعْدَ الْقَضَاءِ بِلَحَاقِهِ أَوْ قَبْلَهُ ، أَمَّا إذَا كَانَ بَعْدَ الْقَضَاءِ بِاللَّحَاقِ فَظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّهُ تَقَرَّرَ الْمِلْكُ لِلْوَرَثَةِ ثُمَّ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ الْكَافِرُ وَأَحْرَزَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ .
وَأَمَّا إذَا عَادَ قَبْلَهُ كَانَ عَوْدُهُ وَأَخْذُهُ وَلَحَاقُهُ ثَانِيًا يُرَجِّحُ جَانِبَ عَدَمِ الْعَوْدِ وَيُؤَكِّدُهُ فَيُقَرَّرُ مَوْتُهُ ، وَمَا اُحْتِيجَ إلَى الْقَضَاءِ بِاللَّحَاقِ لِصَيْرُورَتِهِ مِيرَاثًا إلَّا لِيَتَرَجَّحَ عَدَمُ عَوْدِهِ فَيَتَقَرَّرُ إقَامَتُهُ ثَمَّةَ فَيَتَقَرَّرُ مَوْتُهُ فَكَانَ رُجُوعُهُ وَأَخْذُهُ ثُمَّ عَوْدُهُ ثَانِيًا بِمَنْزِلَةِ الْقَضَاءِ .
وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ السِّيَرِ جَعَلَهُ فَيْئًا ؛ لِأَنَّ بِمُجَرَّدِ اللَّحَاقِ لَا يَصِيرُ الْمَالُ مِلْكًا لِلْوَرَثَةِ .
وَالْوَجْهُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ .

( وَإِذَا لَحِقَ الْمُرْتَدُّ بِدَارِ الْحَرْبِ وَلَهُ عَبْدٌ فَقُضِيَ بِهِ لِابْنِهِ وَكَاتَبَهُ الِابْنُ ثُمَّ جَاءَ الْمُرْتَدُّ مُسْلِمًا فَالْكِتَابَةُ جَائِزَةٌ ، وَالْمُكَاتَبَةُ وَالْوَلَاءُ لِلْمُرْتَدِّ الَّذِي أَسْلَمَ ) ؛ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ إلَى بُطْلَانِ الْكِتَابَةِ لِنُفُوذِهَا بِدَلِيلٍ مُنَفِّذٍ ، فَجَعَلْنَا الْوَارِثَ الَّذِي هُوَ خَلَفُهُ كَالْوَكِيلِ مِنْ جِهَتِهِ ، وَحُقُوقُ الْعَقْدِ فِيهِ تَرْجِعُ إلَى الْمُوَكِّلِ ، وَالْوَلَاءُ لِمَنْ يَقَعُ الْعِتْقُ عَنْهُ .
( قَوْلُهُ : وَإِذَا لَحِقَ الْمُرْتَدُّ بِدَارِ الْحَرْبِ وَلَهُ عَبْدٌ فَقُضِيَ بِهِ لِابْنِهِ فَكَاتَبَهُ الِابْنُ ثُمَّ جَاءَ الْمُرْتَدُّ مُسْلِمًا فَالْكِتَابَةُ جَائِزَةٌ ) خِلَافًا لِلْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ ( وَالْوَلَاءُ وَالْمُكَاتَبَةُ ) أَيْ بَدَلُ الْكِتَابَةِ ( لِلْمُرْتَدِّ الَّذِي أَسْلَمَ ؛ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ إلَى بُطْلَانِ الْكِتَابَةِ لِنُفُوذِهَا بِدَلِيلٍ مُنَفِّذٍ ) وَهُوَ الْقَضَاءُ بِالْعَبْدِ لَهُ ، وَإِلَى نَقْلِ الْمِلْكِ إلَى الْأَبِ ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ فَجُعِلَ كَأَنَّ الِابْنَ وَكِيلٌ عَنْهُ ، فَإِنَّهُ لَمَّا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ كَانَ كَأَنَّهُ سَلَّطَ ابْنَهُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ ( وَحُقُوقُ الْعَقْدِ تَرْجِعُ إلَى الْمُوَكِّلِ فِي الْوَكَالَةِ ) بِالْكِتَابَةِ ( وَالْوَلَاءُ لِمَنْ يَقَعُ الْعِتْقُ عَنْهُ ) فَلِذَا كَانَ الْوَلَاءُ لِلْمُرْتَدِّ الَّذِي عَادَ مُسْلِمًا ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ أَدَّى بَدَلَ الْكِتَابَةِ إلَى الِابْنِ فَإِنَّ الْوَلَاءَ حِينَئِذٍ يَكُونُ لِلِابْنِ .

( وَإِذَا قَتَلَ الْمُرْتَدُّ رَجُلًا خَطَأً ثُمَّ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ أَوْ قَتَلَ عَلَى رِدَّتِهِ فَالدِّيَةُ فِي مَالٍ اكْتَسَبَهُ فِي حَالِ الْإِسْلَامِ خَاصَّةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَا : الدِّيَةُ فِيمَا اكْتَسَبَهُ فِي حَالَةِ الْإِسْلَامِ وَالرِّدَّةِ جَمِيعًا ) ؛ لِأَنَّ الْعَوَاقِلَ لَا تَعْقِلُ الْمُرْتَدَّ ؛ لِانْعِدَامِ النُّصْرَةِ فَتَكُونُ فِي مَالِهِ .
وَعِنْدَهُمَا الْكَسْبَانِ جَمِيعًا مَالُهُ ؛ لِنُفُوذِ تَصَرُّفَاتِهِ فِي الْحَالَيْنِ ، وَلِهَذَا يَجْرِي الْإِرْثُ فِيهِمَا عِنْدَهُمَا .
وَعِنْدَهُ مَالُهُ الْمُكْتَسَبُ فِي الْإِسْلَامِ ؛ لِنَفَاذِ تَصَرُّفِهِ فِيهِ دُونَ الْمَكْسُوبِ فِي الرِّدَّةِ ؛ لِتَوَقُّفِ تَصَرُّفِهِ ، وَلِهَذَا كَانَ الْأَوَّلُ مِيرَاثًا عَنْهُ ، وَالثَّانِي فَيْئًا عِنْدَهُ .

( قَوْلُهُ : وَإِذَا قَتَلَ الْمُرْتَدُّ رَجُلًا خَطَأً ثُمَّ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ أَوْ قَتَلَ عَلَى رِدَّتِهِ فَالدِّيَةُ فِي مَالٍ اكْتَسَبَهُ فِي حَالِ إسْلَامِهِ خَاصَّةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : فِي مَالٍ اكْتَسَبَهُ فِي الرِّدَّةِ وَالْإِسْلَامِ ) أَمَّا أَنَّ الدِّيَةَ فِي مَالِهِ ؛ ( فَلِأَنَّ الْعَوَاقِلَ لَا تَعْقِلُ الْمُرْتَدَّ ) ؛ لِأَنَّ تَحَمُّلَهُمْ الْعَقْلَ بِاعْتِبَارِ نُصْرَتِهِمْ إيَّاهُ الَّتِي بِهَا يَقْوَى عَلَى الْجُرْأَةِ وَلَا نُصْرَةَ مِنْهُمْ لِلْمُرْتَدِّ ، وَأَمَّا أَنَّهَا عِنْدَهُ فِي كَسْبِ الْإِسْلَامِ فَقَطْ فَلِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ غَيْرَهُ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَهُمَا يَمْلِكُ الْكُلَّ فَيَكُونُ مَا لَزِمَهُ مِنْ الْكُلِّ ، وَعَلَى هَذَا إذَا غَصَبَ مَالًا فَأَفْسَدَهُ يَجِبُ ضَمَانُهُ فِي مَالِ الْإِسْلَامِ وَعِنْدَهُمَا فِي الْكُلِّ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ كَسْبُ الْإِسْلَامِ وَاكْتَسَبَ فِي الرِّدَّةِ تُهْدَرُ الْجِنَايَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا ( وَقَوْلُهُ : وَمَالُهُ الْمُكْتَسَبُ ) مَالُهُ مُبْتَدَأٌ ، وَالْمُكْتَسَبُ خَبَرُهُ ، وَالْأَوْلَى فِي مِثْلِهِ الْإِتْيَانُ بِضَمِيرِ الْفَصْلِ لِرَفْعِ تَوَهُّمِ الصِّفَةِ ، إلَّا أَنَّهُ تَرَكَهُ لِلِاهْتِدَاءِ إلَيْهِ لِفَسَادِ الْمَعْنَى عَلَى الصِّفَةِ ، وَجِنَايَةُ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ وَالْمُكَاتَبِ الْمُرْتَدِّينَ كَجِنَايَتِهِمْ فِي غَيْرِ الرِّدَّةِ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهِمَا قَائِمٌ بَعْدَ الرِّدَّةِ ، وَالْمُكَاتَبُ يَمْلِكُ أَكْسَابَهُ فِي الرِّدَّةِ فَيَكُونُ مُوجَبُ جِنَايَتِهِ فِي كَسْبِهِ ، وَالْجِنَايَةُ عَلَى الْمَمَالِيكِ الْمُرْتَدِّينَ هَدَرٌ .

( وَإِذَا قُطِعَتْ يَدُ الْمُسْلِمِ عَمْدًا فَارْتَدَّ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ ثُمَّ مَاتَ عَلَى رِدَّتِهِ مِنْ ذَلِكَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ جَاءَ مُسْلِمًا فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَى الْقَاطِعِ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ لِلْوَرَثَةِ ) أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ السِّرَايَةَ حَلَّتْ مَحَلًّا غَيْرَ مَعْصُومٍ فَأُهْدِرَتْ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قُطِعَتْ يَدُ الْمُرْتَدِّ ثُمَّ أَسْلَمَ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْإِهْدَارَ لَا يَلْحَقُهُ الِاعْتِبَارُ ، أَمَّا الْمُعْتَبَرُ قَدْ يُهْدَرُ بِالْإِبْرَاءِ فَكَذَا بِالرِّدَّةِ .
وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ مَا إذَا لَحِقَ وَمَعْنَاهُ إذَا قُضِيَ بِلَحَاقِهِ فَلِأَنَّهُ صَارَ مَيِّتًا تَقْدِيرًا ، وَالْمَوْتُ يَقْطَعُ السِّرَايَةَ ، وَإِسْلَامُهُ حَيَاةٌ حَادِثَةٌ فِي التَّقْدِيرِ فَلَا يَعُودُ حُكْمُ الْجِنَايَةِ الْأُولَى ، فَإِذَا لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
قَالَ ( فَإِنْ لَمْ يَلْحَقْ وَأَسْلَمَ ثُمَّ مَاتَ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ كَامِلَةً ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ : فِي جَمِيعِ ذَلِكَ نِصْفُ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّ اعْتِرَاضَ الرِّدَّةِ أَهْدَرَ السِّرَايَةَ فَلَا يَنْقَلِبُ بِالْإِسْلَامِ إلَى الضَّمَانِ ، كَمَا إذَا قَطَعَ يَدَ مُرْتَدٍّ فَأَسْلَمَ .
وَلَهُمَا أَنَّ الْجِنَايَةَ وَرَدَتْ عَلَى مَحَلٍّ مَعْصُومٍ وَتَمَّتْ فِيهِ فَيَجِبُ ضَمَانُ النَّفْسِ ، كَمَا إذَا لَمْ تَتَخَلَّلْ الرِّدَّةُ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِقِيَامِ الْعِصْمَةِ فِي حَالِ بَقَاءِ الْجِنَايَةِ ، وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ قِيَامُهَا فِي حَالِ انْعِقَادِ السَّبَبِ وَفِي حَالِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ ، وَحَالَةُ الْبَقَاءِ بِمَعْزِلٍ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَصَارَ كَقِيَامِ الْمِلْكِ فِي حَالِ بَقَاءِ الْيَمِينِ .

( قَوْلُهُ : وَإِذَا قُطِعَتْ يَدُ الْمُسْلِمِ عَمْدًا فَارْتَدَّ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ ثُمَّ مَاتَ عَلَى رِدَّتِهِ مِنْ ذَلِكَ الْقَطْعِ أَوْ لَحِقَ ثُمَّ جَاءَ مُسْلِمًا وَمَاتَ مِنْهُ فَعَلَى الْقَاطِعِ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ لِلْوَرَثَةِ ) فِيهِمَا ( أَمَّا الْأَوَّلُ ) وَهُوَ وُجُوبُ نِصْفِ الدِّيَةِ فِيمَا إذَا مَاتَ فَلِأَنَّ الْقَطْعَ وَإِنْ وَقَعَ عَلَى مَحَلٍّ مَعْصُومٍ لَكِنَّ السِّرَايَةَ الَّتِي بِهَا صَارَ الْقَطْعُ قَتْلًا حَلَّتْ الْمَحَلَّ بَعْدَ زَوَالِ عِصْمَتِهِ فَأُهْدِرَتْ إذْ لَوْ لَمْ تُهْدَرْ وَجَبَ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ لِلْعَمْدِ .
وَأَيْضًا صَارَ اعْتِرَاضُ زَوَالِ الْعِصْمَةِ شُبْهَةً فِي سُقُوطِ الْقِصَاصِ فِي الْيَدِ ، وَإِذَا أُهْدِرَتْ السِّرَايَةُ وَجَبَ دِيَةُ الْيَدِ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ وَقَعَ زَمَنَ الْعِصْمَةِ ، وَأَقَلُّ مَا فِيهِ دِيَةُ الْيَدِ ( بِخِلَافِ مَا لَوْ قُطِعَتْ يَدُ الْمُرْتَدِّ ثُمَّ أَسْلَمَ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ ) الْقَطْعِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ أَصْلًا ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ وَقَعَ فِي وَقْتٍ لَا قِيمَةَ لَهَا فِيهِ وَهُوَ وَقْتُ الرِّدَّةِ فَكَانَتْ هَدَرًا ( وَالْهَدَرُ لَا يَلْحَقُهُ الِاعْتِبَارُ ، أَمَّا الْمُعْتَبَرُ فَقَدْ يَلْحَقُهُ الْإِهْدَارُ بِالْإِبْرَاءِ فَكَذَا بِالرِّدَّةِ ) .
وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ وُجُوبُ نِصْفِ الدِّيَةِ إذَا لَحِقَ ثُمَّ عَادَ مُسْلِمًا فَمَاتَ مِنْ الْقَطْعِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ : ( وَمَعْنَاهُ إذَا قُضِيَ بِلَحَاقِهِ فَإِنَّهُ صَارَ مَيِّتًا تَقْدِيرًا ) بِالْقَضَاءِ بِاللَّحَاقِ ( وَالْمَوْتُ يَقْطَعُ السِّرَايَةَ ، وَإِسْلَامُهُ حَيَاةٌ حَادِثَةٌ فِي التَّقْدِيرِ فَلَا يَعُودُ حُكْمُ الْجِنَايَةِ الْأُولَى ) عَلَى أَنَّهَا قَتْلٌ ؛ لِأَنَّهُ مَا ثَبَتَ سِرَايَةً بَعْدَ انْقِطَاعِ حُكْمِ الْقَطْعِ فَوَجَبَ الِاقْتِصَارُ عَلَى مُوجِبِ الْقَطْعِ الْوَاقِعِ فِي حَالِ الْعِصْمَةِ مِنْ حَيْثُ هُوَ قَطْعٌ لَا قِصَاصَ فِيهِ ، وَفِي ذَلِكَ نِصْفُ دِيَةِ النَّفْسِ فَوَجَبَ لِلْوَرَثَةِ ( وَأَمَّا إذَا لَمْ يُقْضَ بِلَحَاقِهِ ) حَتَّى عَادَ مُسْلِمًا فَمَاتَ ( فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي نُبَيِّنُهُ ) قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ : الصَّحِيحُ أَنَّهُ

عَلَى الْخِلَافِ .
وَقَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ : لَا نَصَّ فِيهِ ، ثُمَّ قَالَ : وَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ ، وَيُرِيدُ بِقَوْلِهِ الَّذِي نُبَيِّنُهُ مَا يَذْكُرُ مِنْ أَنَّ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَجِبُ نِصْفُ الدِّيَةِ ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا دِيَةُ النَّفْسِ كَامِلَةً فِيمَا تَلِي هَذِهِ وَهِيَ قَوْلُهُ : وَإِنْ لَمْ يَلْحَقْ : أَيْ الْمَقْطُوعُ يَدُهُ مُسْلِمًا إذَا ارْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَ فَمَاتَ مِنْ الْقَطْعِ مِنْ غَيْرِ تَخَلُّلِ لَحَاقٍ ( فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ عَلَى الْقَاطِعِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ ) اسْتِحْسَانًا ( وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ ) يَعْنِي الصُّوَرَ الْأَرْبَعَةَ ، وَهِيَ مَا إذَا قُطِعَتْ يَدُهُ مُسْلِمًا فَارْتَدَّ وَمَاتَ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ ارْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَ بِلَا لِحَاقٍ أَوْ ارْتَدَّ وَلَحِقَ بَعْدَ الْقَضَاءِ أَوْ قَبْلَهُ ثُمَّ عَادَ فَأَسْلَمَ ( نِصْفُ الدِّيَةِ ) قِيَاسًا .
وَوَجْهُهُ ( أَنَّ اعْتِرَاضَ الرِّدَّةِ أَهْدَرَ السِّرَايَةَ ) حَتَّى لَوْ قَتَلَهُ قَاتِلٌ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، فَإِذَا أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ ( لَا يَنْقَلِبُ بِالْإِسْلَامِ إلَى الضَّمَانِ ) مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ جَدِيدٍ وَصَارَ كَمَا لَوْ قُطِعَتْ يَدُ مُرْتَدٍّ أَوْ حَرْبِيٍّ فَأَسْلَمَ لَا يَجِبُ عَلَى الْفَاعِلِ شَيْءٌ ( وَلَهُمَا أَنَّ الْجِنَايَةَ وَرَدَتْ عَلَى مَحَلٍّ مَعْصُومٍ ) ؛ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ ( وَتَمَّتْ فِيهِ ) ؛ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ فِي الْحَالَيْنِ ( فَيَجِبُ ضَمَانُ النَّفْسِ كَمَا إذَا لَمْ تَتَخَلَّلْ الرِّدَّةُ ) وَهَذَا ؛ لِأَنَّ تَخَلُّلَهَا كَائِنٌ فِي حَالِ الْبَقَاءِ فَقَطْ ، وَإِنَّمَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْعِصْمَةِ فِي حَالِ الْبَقَاءِ وَبِهِ تَثْبُتُ الشُّبْهَةُ الْمُسْقِطَةُ لِلْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ فَيَفِي ضَمَانُهَا بِالدِّيَةِ ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ الْعِصْمَةِ فِي حَالِ الْبَقَاءِ لَا يَمْنَعُ كَمَالَ مُوجِبِ هَذِهِ الْجِنَايَةِ إلَّا لَوْ كَانَتْ الْعِصْمَةُ مُعْتَبَرَةً حَالَةَ الْبَقَاءِ فِي إيجَابِهَا ، وَالْوَاقِعُ أَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِبَقَائِهَا فِي ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ قِيَامُهَا فِي حَالِ ابْتِدَاءِ الْجِنَايَةِ ؛ لِانْعِقَادِهِ سَبَبًا ، وَفِي حَالِ الْمَوْتِ

لِيَثْبُتَ الْحُكْمُ وَهُوَ الضَّمَانُ ( وَحَالَةُ الْبَقَاءِ بِمَعْزِلٍ ) إذْ لَيْسَتْ حَالَ انْعِقَادِ سَبَبِ الضَّمَانِ ، وَلَا حَالَ ثُبُوتِ حُكْمِهِ ( فَصَارَ كَقِيَامِ الْمِلْكِ فِي حَالِ بَقَاءِ الْيَمِينِ ) لَا عِبْرَةَ بِهِ بَلْ الْمُعْتَبَرُ قِيَامُهُ حَالَ التَّعْلِيقِ وَحَالَ ثُبُوتِ الْحُكْمِ وَهُوَ حَالُ وُجُودِ الشَّرْطِ ، حَتَّى إذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ إنْ دَخَلْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ أَبَانَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَدَخَلَتْ طَلُقَتْ ، وَكَذَا لِلْعَبْدِ إنْ فَعَلْتَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَبَاعَهُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ فَفَعَلَ عَتَقَ ، وَكَذَا وُجُودُ النِّصَابِ فِي إيجَابِ الزَّكَاةِ الْمُعْتَبَرِ وُجُودُهُ أَوَّلَ الْحَوْلِ ؛ لِيَنْعَقِدَ السَّبَبُ وَفِي آخِرِهِ ؛ لِيَثْبُتَ حُكْمُهُ ، هَذَا إذَا كَانَ الْمَقْطُوعُ يَدُهُ هُوَ الَّذِي ارْتَدَّ ، فَلَوْ كَانَ الْقَاطِعُ هُوَ الَّذِي ارْتَدَّ فَفِي الْمَبْسُوطِ .
فَإِنْ قُتِلَ وَمَاتَ الْمَقْطُوعُ يَدُهُ مِنْ الْقَطْعِ مُسْلِمًا ، فَإِنْ كَانَ عَمْدًا فَلَا شَيْءَ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْقِصَاصُ وَقَدْ فَاتَ مَحَلُّهُ حِينَ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ مَاتَ ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَعَلَى عَاقِلَةِ الْقَاطِعِ دِيَةُ النَّفْسِ ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ إيجَابِهِ كَانَ مُسْلِمًا وَجِنَايَةُ الْمُسْلِمِ خَطَأً عَلَى عَاقِلَتِهِ ، وَتَبَيَّنَ بِالسِّرَايَةِ أَنَّ جِنَايَتَهُ كَانَتْ قَتْلًا فَكَانَتْ عَلَى عَاقِلَتِهِ ، وَلَوْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ مِنْهُ حَالَ الرِّدَّةِ كَانَتْ الدِّيَةُ فِي الْخَطَإِ فِي مَالِهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يَعْقِلُ جِنَايَتَهُ أَحَدٌ .

( وَاذَا ارْتَدَّ الْمُكَاتَبُ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَاكْتَسَبَ مَالًا فَأُخِذَ بِمَالِهِ وَأَبَى أَنْ يُسْلِمَ فَقُتِلَ فَإِنَّهُ يُوَفِّي مَوْلَاهُ مُكَاتَبَتَهُ وَمَا بَقِيَ فَلِوَرَثَتِهِ ) وَهَذَا ظَاهِرٌ عَلَى أَصْلِهِمَا ؛ لِأَنَّ كَسْبَ الرِّدَّةِ مِلْكُهُ إذَا كَانَ حُرًّا ، فَكَذَا إذَا كَانَ مُكَاتَبًا .
وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلِأَنَّ الْمُكَاتَبَ إنَّمَا يَمْلِكُ أَكْسَابَهُ بِالْكِتَابَةِ ، وَالْكِتَابَةُ لَا تَتَوَقَّفُ بِالرِّدَّةِ فَكَذَا أَكْسَابُهُ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ تَصَرُّفُهُ بِالْأَقْوَى وَهُوَ الرِّقُّ ، فَكَذَا بِالْأَدْنَى بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى .

( قَوْلُهُ : وَإِذَا ارْتَدَّ الْمُكَاتَبُ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَاكْتَسَبَ مَالًا ) فِي أَيَّامِ رِدَّتِهِ يَفِي بِكِتَابَتِهِ ( فَأُخِذَ بِمَالِهِ أَيْ أُسِرَ ) وَأَبَى أَنْ يُسْلِمَ فَقُتِلَ فَإِنَّهُ يُوَفَّى مَوْلَاهُ مُكَاتَبَتَهُ ، وَمَا بَقِيَ فَلِوَرَثَتِهِ ، وَهَذَا ظَاهِرٌ عَلَى أَصْلِهِمَا ؛ لِأَنَّ كَسْبَ الرِّدَّةِ مِلْكُهُ إذَا كَانَ حُرًّا فَكَذَا إذَا كَانَ مُكَاتَبًا ( إذْ الْكِتَابَةُ لَا تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ فَبِالرِّدَّةِ أَوْلَى ) ، وَإِذَا كَانَ مِلْكُهُ قُضِيَتْ مِنْهُ مُكَاتَبَتُهُ .
( وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) فَيُشْكِلُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ كَسْبَ الرِّدَّةِ إذَا كَانَ حُرًّا وَمِلْكُهُ إيَّاهُ مُكَاتَبًا .
وَوَجْهُهُ ( أَنَّ الْمُكَاتَبَ إنَّمَا مَلَكَ أَكْسَابَهُ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ وَالْكِتَابَةُ لَا تَتَوَقَّفُ بِالرِّدَّةِ ) وَلَا تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ فَيَسْتَمِرُّ مُوجِبُهَا مَعَ الرِّدَّةِ فَيَتَحَقَّقُ مِلْكُهُ فِي أَكْسَابِهِ وَلَا يَتَوَقَّفُ فَيُقْضَى مِنْهَا وَيُورَثُ الْبَاقِي .
وَقَوْلُهُ : ( أَلَا تَرَى إلَى آخِرِهِ ) تَوْجِيهٌ لِعَدَمِ تَوَقُّفِ تَصَرُّفِ الْمُكَاتَبِ الْمُرْتَدِّ وَهُوَ يَرْجِعُ إلَى تَوْجِيهِ عَدَمِ بُطْلَانِ الْكِتَابَةِ بِالرِّدَّةِ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِبَقَاءِ الْعَقْدِ يُوجِبُ الْحُكْمَ بِثُبُوتِ أَحْكَامِهِ ، فَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى ثُبُوتِ حُكْمِهِ اسْتِدْلَالٌ عَلَى ثُبُوتِهِ ، وَكَانَ يَكْفِيهِ فِيهِ كَوْنُ الْكِتَابَةِ لَا تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ الْحَقِيقِيِّ فَأَوْلَى أَنْ لَا تَبْطُلَ بِالْمَوْتِ الْحُكْمِيِّ وَهُوَ الرِّدَّةُ ، فَإِنْ مَنَعَ عَدَمَ بُطْلَانِهَا بِالْمَوْتِ الْحَقِيقِيِّ اكْتَفَى بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَى مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ إذَا مَاتَ عَنْ وَفَاءٍ ، وَاسْتِدْلَالُ الْمُصَنِّفِ وَجْهٌ آخَرُ .
وَحَاصِلُهُ بِدَلَالَةِ حَالِ الرِّقِّ فَإِنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ تَصَرُّفُ الْمُكَاتَبِ بِسَبَبِ رِقِّهِ ، مَعَ أَنَّ الرِّقَّ أَقْوَى مِنْ الرِّدَّةِ فِي نَفْيِ صِحَّةِ التَّصَرُّفِ حَتَّى لَا يَصِحَّ اسْتِيلَادُهُ ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يَتَوَقَّفُ بِسَبَبِ رِدَّتِهِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ مَنَعَ مُقْتَضَى الرِّدَّةِ كَمَا مَنَعَ

مُقْتَضَى الرِّقِّ فَصَارَ الْمُكَاتَبُ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَكَوْنِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ .
وَأُورِدَ عَلَيْهِ بِأَنَّ كَوْنَ أَحَدِهِمَا لَا يُمْنَعُ مَعَ عَقْدِ الْكِتَابَةِ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ لَا يُمْنَعَ إذَا اجْتَمَعَا ، وَقَدْ اجْتَمَعَ فِي الْمُرْتَدِّ الْمُكَاتَبِ الرِّقُّ وَالرِّدَّةُ فَجَازَ أَنْ يَنْتَفِيَ التَّصَرُّفُ .
أُجِيبُ مَرَّةً بِأَنَّ جَوَازَ الْمَنْعِ لَا يَسْتَلْزِمُ وُقُوعَهُ فَيَبْقَى عَلَى الْعَدَمِ إلَّا بِدَلِيلٍ ، وَمَرَّةً بِأَنَّ الْكِتَابَةَ مُطْلِقٌ لِلتَّصَرُّفِ وَكُلٌّ مِنْ الرِّقِّ وَالرِّدَّةِ مَانِعٌ مِنْهُ بِانْفِرَادِهِ ، وَقَدْ ثَبَتَ شَرْعًا تَرْجِيحُ مُقْتَضَى الْكِتَابَةِ عَلَى مُقْتَضَى أَحَدِهِمَا ، وَانْضِمَامُ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ انْضِمَامُ عِلَّةٍ إلَى أُخْرَى فِيمَا يُعَلَّلُ بِعِلَّتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ ، وَلَا تَرْجِيحَ بِكَثْرَةِ الْعِلَلِ الْمُسْتَقِلَّةِ لِمَا عُرِفَ ، بَلْ التَّرْجِيحُ بِوَصْفٍ فِي الْعِلَّةِ .

( وَإِذَا ارْتَدَّ الرَّجُلُ وَامْرَأَتُهُ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ وَلَحِقَا بِدَارِ الْحَرْبِ فَحَبِلَتْ الْمَرْأَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَوَلَدَتْ وَلَدًا وَوُلِدَ لِوَلَدِهِمَا وَلَدٌ فَظُهِرَ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا فَالْوَلَدَانِ فَيْءٌ ) ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّةَ تُسْتَرَقُّ فَيَتْبَعُهَا وَلَدُهَا ، وَيُجْبَرُ الْوَلَدُ الْأَوَّلُ عَلَى الْإِسْلَامِ ، وَلَا يُجْبَرُ وَلَدُ الْوَلَدِ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُجْبَرُ تَبَعًا لِلْجَدِّ ، وَأَصْلُهُ التَّبَعِيَّةُ فِي الْإِسْلَام وَهِيَ رَابِعَةُ أَرْبَعِ مَسَائِلَ كُلُّهَا عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ .
وَالثَّانِيَةُ صَدَقَةُ الْفِطْرِ .
وَالثَّالِثَةُ جَرُّ الْوَلَاءِ .
وَالْأُخْرَى الْوَصِيَّةُ لِلْقَرَابَةِ .

( قَوْلُهُ : وَإِذَا ارْتَدَّ الرَّجُلُ وَامْرَأَتُهُ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ وَلَحِقَا بِدَارِ الْحَرْبِ فَحَبِلَتْ الْمَرْأَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَوَلَدَتْ وَلَدًا وَوُلِدَ لِوَلَدِهِمَا وَلَدٌ فَظُهِرَ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا فَالْوَلَدَانِ فَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّةَ تُسْتَرَقُّ فَيَتْبَعُهَا وَلَدُهَا ثُمَّ يُجْبَرُ الْوَلَدُ عَلَى الْإِسْلَامِ ) قَالَ الْوَلْوَالِجِيُّ : وَلَا يُقْتَلُ كَوَلَدِ الْمُسْلِمِ إذَا بَلَغَ وَلَمْ يَصِفْ الْإِسْلَامَ يُجْبَرُ عَلَيْهِ وَلَا يُقْتَلُ ( وَلَا يُجْبَرُ وَلَدُ الْوَلَدِ ) أَمَّا جَبْرُ الْوَلَدِ ؛ فَلِأَنَّهُ يَتْبَعُ أَبَوَيْهِ أَوْ أَحَدَهُمَا فِي الدِّينِ فَيَكُونُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِهِمَا وَمُرْتَدًّا بِرِدَّتِهِمَا ، فَلَمَّا كَانَ مُرْتَدًّا بِرِدَّتِهِمَا أُجْبِرَ كَمَا يُجْبَرَانِ ، وَإِنَّمَا لَمْ يُجْبَرْ وَلَدُ الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتْبَعُ جَدَّهُ بَلْ أَبَاهُ ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ حَتَّى يَكُونَ أَبَوَاهُ هُمَا اللَّذَانِ يُهَوِّدَانِهِ } الْحَدِيثَ : أَيْ يَسْتَتْبِعَانِهِ فِي ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا لَمْ يُجْعَلْ تَبَعًا لِأَبِيهِ فِي الرِّدَّةِ فَيُجْبَرُ مِثْلُهُ ؛ لِأَنَّ رِدَّةَ أَبِيهِ كَانَتْ تَبَعًا وَالتَّبَعُ لَا يُسْتَتْبَعُ ، خُصُوصًا وَأَصْلُ التَّبَعِيَّةِ ثَابِتَةٌ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْتَدَّ حَقِيقَةً وَلِهَذَا يُجْبَرُ بِالْحَبْسِ لَا بِالْقَتْلِ ، بِخِلَافِ أَبِيهِ وَإِذَا لَمْ يَتْبَعْ الْجَدَّ فَيُسْتَرَقُّ ، أَوْ تُوضَعُ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ أَوْ يُقْتَلُ ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ حِينَئِذٍ حُكْمُ سَائِرِ أَهْلِ الْحَرْبِ إذَا أُسِرُوا ، وَأَمَّا الْجَدُّ فَيُقْتَلُ لَا مَحَالَةَ ؛ لِأَنَّهُ الْمُرْتَدُّ بِالْأَصَالَةِ أَوْ يُسْلِمُ .
( وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ وَلَدَ الْوَلَدِ يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ تَبَعًا لِجَدِّهِ ) فَيُجْعَلُ مُرْتَدًّا تَبَعًا لَهُ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَأَصْلُهُ التَّبَعِيَّةُ فِي الْإِسْلَامِ ) يَعْنِي أَصْلَ الْجَبْرِ عَلَى الْإِسْلَامِ تَبَعًا لِلْجَدِّ هُوَ ثُبُوتُ الْإِسْلَامِ تَبَعًا لِلْجَدِّ ( وَهِيَ رَابِعَةُ أَرْبَعِ مَسَائِلَ

كُلُّهَا عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ ) رِوَايَةُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا يَكُونُ الْوَلَدُ تَبَعًا لِلْجَدِّ ، وَرِوَايَةُ الْحَسَنِ يَكُونُ تَبَعًا إحْدَاهَا هَذِهِ ( وَالثَّانِيَةُ صَدَقَةُ الْفِطْرِ ) لِلْوَلَدِ الصَّغِيرِ إذَا كَانَ جَدُّهُ مُوسِرًا وَلَا أَبَ لَهُ أَوْ لَهُ أَبٌ مُعْسِرٌ أَوْ عَبْدٌ لَا تَجِبُ عَلَى الْجَدِّ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ تَجِبُ عَلَيْهِ ( وَالثَّالِثَةُ جَرُّ الْوَلَاءِ ) صُورَتُهَا : مُعْتَقَةٌ تَزَوَّجَتْ بِعَبْدٍ وَلَهُ أَبٌ عَبْدٌ فَوَلَدَتْ مِنْهُ ، فَالْوَلَدُ حُرٌّ تَبَعًا لِأُمِّهِ وَوَلَاؤُهُ لِمَوْلَى أُمِّهِ ، فَإِذَا عَتَقَ جَدُّهُ لَا يَجُرُّ وَلَاءَ حَافِدِهِ إلَى مَوَالِيهِ عَنْ مَوَالِي أُمِّهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ يَجُرُّهُ كَمَا لَوْ أُعْتِقَ أَبُوهُ .
( وَالرَّابِعَةُ الْوَصِيَّةُ لِلْقَرَابَةِ ) لَا يَدْخُلُ الْوَالِدَانِ وَيَدْخُلُ الْجَدُّ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ لَا يَدْخُلُ كَالْأَبِ ، وَتَقْيِيدُ الْحَبَلِ بِدَارِ الْحَرْبِ لَيْسَ لِإِخْرَاجِ الْحَبَلِ فِي دَارِ الْإِسْلَام عَنْ حُكْمِ الْمَسْأَلَةِ : أَعْنِي جَبْرَ الْوَلَدِ بَلْ لِإِفَادَةِ حُكْمِ الْجَبْرِ فِيمَا إذَا حَبِلَتْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَوَلَدَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِطَرِيقٍ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ إذَا أُجْبِرَ مَعَ أَنَّهُ عَلِقَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلِلدَّارِ جِهَةُ اسْتِتْبَاعٍ تَقْتَضِي أَنَّهُ أَبْعَدُ عَنْ الْإِسْلَامِ ، فَلَأَنْ يُجْبَرَ إذَا عَلِقَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ عَلَى الْإِسْلَامِ أَوْلَى .
هَذَا إذْ وُلِدَ لَهُمَا وَلَدٌ بَعْدَ لُحُوقِهِمَا ، أَمَّا إذَا ارْتَدَّا وَلَحِقَا بِوَلَدٍ لَهُمَا صَغِيرٍ ثُمَّ ظُهِرَ عَلَيْهِمْ فَالْوَلَدُ فَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ الصَّغِيرَ صَارَ مُرْتَدًّا تَبَعًا لِلْأَبَوَيْنِ ، وَوَلَدُ الْمُرْتَدِّ يَصِيرُ فَيْئًا بِالسَّبْيِ كَذَا ذُكِرَ ، وَلَوْ صَحَّ لَزِمَ أَنَّهُمَا لَوْ لَمْ يَلْحَقَا بِهِ يَكُونُ مُرْتَدًّا ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ ثَبَتَ لَهُ حُكْمُ الْإِسْلَامِ فَيَبْقَى عَلَيْهِ إلَّا بِمُزِيلٍ .
وَالْأَحْسَنُ مَا فِي الْمَبْسُوطِ مِنْ أَنَّهُ خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ

مُسْلِمًا بِاللَّحَاقِ بِهِ ، فَإِنْ ثَبَتَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ لِلصَّغِيرِ بِاعْتِبَارِ تَبَعِيَّةِ الْأَبَوَيْنِ وَالدَّارِ وَقَدْ انْعَدَمَ كُلُّ ذَلِكَ حِينَ ارْتَدَّا وَلَحِقَا بِهِ فَكَانَ الْوَلَدُ فَيْئًا يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ إذَا بَلَغَ كَمَا تُجْبَرُ الْأُمُّ عَلَيْهِ ، فَإِنْ كَانَ الْأَبُ ذَهَبَ بِهِ وَحْدَهُ وَالْأُمُّ مُسْلِمَةٌ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَكُنْ الْوَلَدُ فَيْئًا ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ مُسْلِمًا تَبَعًا لِأُمِّهِ .
فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ يَتْبَعُهَا بَعْدَ تَبَايُنِ الدَّارَيْنِ قُلْنَا : تَبَايُنُ الدَّارَيْنِ يَمْنَعُ الِاتِّبَاعَ فِي الْإِسْلَامِ ابْتِدَاءً لَا فِي إبْقَاءِ مَا كَانَ ثَابِتًا ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَرْبِيَّ لَوْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَهُ وَلَدٌ صَغِيرٌ وَخَرَجَ إلَى دَارِنَا بَقِيَ الْوَلَدُ مُسْلِمًا حَتَّى لَوْ ظُهِرَ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ فَيْئًا ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَسْلَمَ فِي دَارِنَا وَلَهُ وَلَدٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ .
وَمَرَّتْ هَاتَانِ الْمَسْأَلَتَانِ .
وَكَذَا إنْ كَانَتْ الْأُمُّ مُسْلِمَةً وَالْوَلَدُ مَعَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِأَنَّ بِالْمَوْتِ يَتَأَكَّدُ الْإِسْلَامُ وَلَا يَنْقَطِعُ .

قَالَ ( وَارْتِدَادُ الصَّبِيِّ الَّذِي يَعْقِلُ ارْتِدَادٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَيُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَلَا يُقْتَلُ ، وَإِسْلَامُهُ إسْلَامٌ لَا يَرِثُ أَبَوَيْهِ إنْ كَانَا كَافِرَيْنِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : ارْتِدَادُهُ لَيْسَ بِارْتِدَادٍ وَإِسْلَامُهُ إسْلَامٌ ) وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ : إسْلَامُهُ لَيْسَ بِإِسْلَامٍ وَارْتِدَادُهُ لَيْسَ بِارْتِدَادٍ .
لَهُمَا فِي الْإِسْلَامِ أَنَّهُ تَبَعٌ لِأَبَوَيْهِ فِيهِ فَلَا يُجْعَلُ أَصْلًا .
وَلِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَحْكَامًا تَشُوبُهَا الْمَضَرَّةُ فَلَا يُؤَهَّلُ لَهُ .
وَلَنَا فِيهِ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَسْلَمَ فِي صِبَاهُ ، وَصَحَّحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إسْلَامَهُ ، وَافْتِخَارُهُ بِذَلِكَ مَشْهُورٌ وَلِأَنَّهُ أَتَى بِحَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ وَهِيَ التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ مَعَهُ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ عَنْ طَوْعٍ دَلِيلٌ عَلَى الِاعْتِقَادِ عَلَى مَا عُرِفَ وَالْحَقَائِقُ لَا تُرَدُّ ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ سَعَادَةٌ أَبَدِيَّةٌ وَنَجَاةٌ عَقْبَاوِيَّةٌ ، وَهِيَ مِنْ أَجَلِّ الْمَنَافِعِ وَهُوَ الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ ، ثُمَّ يُبْتَنَى عَلَيْهِ غَيْرُهَا فَلَا يُبَالِي بِشَوْبِهِ .
وَلَهُمْ فِي الرِّدَّةِ أَنَّهَا مَضَرَّةٌ مَحْضَةٌ ، بِخِلَافِ الْإِسْلَامِ عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ ؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ أَعْلَى الْمَنَافِعِ عَلَى مَا مَرَّ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ فِيهَا أَنَّهَا مَوْجُودَةٌ حَقِيقَةً ، وَلَا مَرَدَّ لِلْحَقِيقَةِ كَمَا قُلْنَا فِي الْإِسْلَامِ ، إلَّا أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ لِمَا فِيهِ مِنْ النَّفْعِ لَهُ ، وَلَا يُقْتَلُ ؛ لِأَنَّهُ عُقُوبَةٌ ، وَالْعُقُوبَاتُ مَوْضُوعَةٌ عَنْ الصِّبْيَانِ مَرْحَمَةً عَلَيْهِمْ .
وَهَذَا فِي الصَّبِيِّ الَّذِي يَعْقِلُ .

( قَوْلُهُ : وَارْتِدَادُ الصَّبِيِّ الَّذِي يَعْقِلُ ارْتِدَادٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ) أَيْ يَصِحُّ .
فَلَوْ مَاتَ لَهُ قَرِيبٌ مُسْلِمٌ بَعْدَ رِدَّتِهِ لَا يَرِثُ مِنْهُ ، وَبِهِ كَانَ يَقُولُ أَبُو يُوسُفَ ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ : لَيْسَ بِارْتِدَادٍ ( وَإِسْلَامُهُ إسْلَامٌ ) بِاتِّفَاقِ الثَّلَاثَةِ ( فَلَا يَرِثُ أَبَوَيْهِ الْكَافِرَيْنِ ) وَيَرِثُ أَقَارِبَهُ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَا يَصِحُّ نِكَاحُ الْمُشْرِكَةِ لَهُ ، وَتَحِلُّ لَهُ الْمُؤْمِنَةُ ، وَتَبْطُلُ مَالِيَّةُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ .
وَعَنْ ابْنِ أَبِي مَالِكٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَجَعَ إلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ( وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ : إسْلَامُهُ لَيْسَ بِإِسْلَامٍ وَرِدَّتُهُ لَيْسَتْ بِارْتِدَادٍ لَهُمَا ) أَيْ لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ فِي عَدَمِ صِحَّةِ إسْلَامِهِ ( أَنَّهُ تَبَعٌ لِأَبَوَيْهِ فِيهِ فَلَا يُجْعَلُ أَصْلًا ) لِتَنَافٍ بَيْنَ صِفَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَالتَّبَعِيَّةِ ؛ لِأَنَّ الْأُولَى سِمَةُ الْقُدْرَةِ وَالثَّانِيَةَ سِمَةُ الْعَجْزِ ، ثُمَّ إسْلَامُهُ يَصِحُّ تَبَعًا لِأَبَوَيْهِ فَلَا يُجْعَلُ أَصْلًا مُسْتَقِلًّا بِهِ ( وَلِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَحْكَامًا تَشُوبُهَا الْمَضَرَّةُ ) مِنْ حِرْمَانِ الْإِرْثِ وَالْفُرْقَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ الْمُشْرِكَةِ ( فَلَا يُؤَهَّلُ لَهُ ) كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ ( وَلَنَا فِيهِ ) أَيْ إسْلَامِهِ ( أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَسْلَمَ فِي صِبَاهُ ، وَصَحَّحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إسْلَامَهُ ، وَافْتِخَارُهُ بِذَلِكَ مَشْهُورٌ ) أَمَّا افْتِخَارُهُ فَمَا نُقِلَ مِنْ قَوْلِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : سَبَقْتُكُمُو إلَى الْإِسْلَامِ طُرًّا غُلَامًا مَا بَلَغْت أَوَانَ حُلْمِي .
وَأَمَّا مَا عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ أَسْلَمَ وَهُوَ ابْنُ خَمْسَةَ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَمْ يُوَافِقْهُ أَحَدٌ عَلَيْهِ سِوَى رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ لَمْ تَصِحَّ ، بَلْ الصَّحِيحُ عَنْهُ أَنَّهُ أَسْلَمَ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِ سِنِينَ .
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ : اسْتِقْرَاءُ الْحَالِ يُبْطِلُ رِوَايَةَ الْخَمْسَ عَشْرَةَ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ يَوْمَ الْبَعْثِ

ثَمَانِ سِنِينَ فَقَدْ عَاشَ مَعَهُ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَبَقِيَ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَ ثَلَاثِينَ سَنَةً ، فَهَذِهِ مُقَارَبَةُ السِّتِّينَ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي مِقْدَارِ عُمُرِهِ .
ثُمَّ أَسْنَدَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قُتِلَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً .
قَالَ : فَمَتَى قُلْنَا إنَّهُ كَانَ يَوْمَ إسْلَامِهِ ابْنَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً صَارَ عُمُرُهُ ثَمَانِيًا وَسِتِّينَ وَلَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ .
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ عَنْ عُرْوَةَ قَالَ : أَسْلَمَ عَلِيٌّ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِ سِنِينَ وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّهُ أَسْلَمَ وَهُوَ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ .
وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : { دَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّايَةَ إلَى عَلِيٍّ يَوْمَ بَدْرٍ وَهُوَ ابْنُ عِشْرِينَ سَنَةً } .
وَقَالَ : صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ .
قَالَ الذَّهَبِيُّ : هَذَا نَصٌّ عَلَى أَنَّهُ أَسْلَمَ وَلَهُ أَقَلُّ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ ، بَلْ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ أَسْلَمَ وَهُوَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ أَوْ ثَمَانِ سِنِينَ .
وَمَا ذَكَرَ الثَّعَالِبِيُّ وَغَيْرُهُ فِي اتِّفَاقِ الْأَعْمَارِ مِنْ أَنَّ كُلًّا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَاشَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ سَنَةً يَقْتَضِي أَنَّ عُمُرَهُ حِينَ أَسْلَمَ كَانَ عَشْرَ سِنِينَ وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ الْحَاكِمِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ .
قَالَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ : وَلِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { عَرَضَ الْإِسْلَامَ عَلَى ابْنِ صَيَّادٍ وَهُوَ غُلَامٌ لَمْ يَبْلُغْ } ، وَقَدْ يُقَالُ تَصْحِيحُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إسْلَامَهُ إنْ أُرِيدَ فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ فَمُسْلِمٌ ، وَكَلَامُنَا فِي تَصْحِيحِهِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ حَتَّى لَا يَرِثَ أَقَارِبَهُ الْكُفَّارَ وَنَحْوَ ذَلِكَ .
وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَحَّحَهُ

فِي حَقِّ هَذِهِ الْأَحْكَامِ بَلْ فِي الْعِبَادَاتِ ، فَإِنَّهُ كَانَ يُصَلِّي مَعَهُ عَلَى مَا هُوَ ثَابِتٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ .
نَعَمْ لَوْ نُقِلَ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَحَّحْت إسْلَامَهُ أَمْكَنَ أَنْ يُصْرَفَ إلَيْهِ بِاعْتِبَارِ الْجِهَتَيْنِ ، لَكِنْ لَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ ، وَقَدْ أَوْرَدَ هَذَا السُّؤَالَ عَلَى خِلَافِ هَذَا الْوَجْهِ وَعَلَى مَا ذَكَرْنَا هُوَ الْوَجْهُ .
قِيلَ : وَمِنْ أَقْبَحِ الْقَبَائِح أَنْ لَا يُسَمَّى مُسْلِمًا مَعَ اشْتِغَالِهِ بِتَعَلُّمِ الْقُرْآنِ وَتَعْلِيمِهِ وَالصَّلَاةِ .
قِيلَ : وَالْعَجَبُ مِنْ الشَّافِعِيِّ كَيْفَ يُصَحِّحُ اخْتِيَارَهُ لِأَحَدِ أَبَوَيْهِ عِنْدَ الْفُرْقَةِ مَعَ ظُهُورِ أَنَّهُ إنَّمَا يَخْتَارُ مَنْ يُطْلِقُ عَنَانَهُ إلَى أَهْوِيَتِهِ مِنْ اللَّعِبِ وَغَيْرِهِ وَلَا يُصَحِّحُ اخْتِيَارَهُ الْمَقْطُوعَ بِخِيرَتِهِ .
فَإِنْ قَالَ هُوَ غَيْرُ مُكَلَّفٍ ، قُلْنَا : إنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ إذَا قُلْنَا بِوُجُوبِهِ عَلَيْهِ قَبْلَ الْبُلُوغِ كَمَا عَنْ أَبِي مَنْصُورٍ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَأَنَّهُ يَقَعُ مُسْقِطًا لِلْوَاجِبِ ، لَكِنَّا إنَّمَا نَخْتَارُ أَنَّهُ يَصِحُّ لِتَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ الدُّنْيَوِيَّةُ وَالْأُخْرَوِيَّةُ ، ثُمَّ إذَا بَلَغَ لَزِمَهُ فَلَوْ ارْتَدَّ بَعْدَ الْبُلُوغِ أُجْبِرَ عَلَى الْإِسْلَامِ بِالْحَبْسِ لَا بِالْقَتْلِ بِخِلَافِ الْمُسْلِمِ بَالِغًا .
وَعِنْدَ أَحْمَدَ وَمَالِكٍ يُقْتَلُ إنْ لَمْ يَعُدْ إلَى الْإِسْلَامِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ : ( وَلِأَنَّهُ أَتَى بِحَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ مَعَهُ ) وَالتَّصْدِيقُ الْبَاطِنِيُّ يُحْكَمُ بِهِ لِلْإِقْرَارِ الدَّالِّ عَلَيْهِ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ تَعْلِيقِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْبَاطِنِ بِهِ ، وَإِذَا كَانَ قَدْ أَتَى بِهِ فَقَدْ دَخَلَتْ حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ قَائِمَةً بِهِ فِي الْوُجُودِ ، فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لَمْ تَدْخُلْ ، وَلَمْ يَتَّصِفْ مَعَ الدُّخُولِ وَالِاتِّصَافِ ، فَإِنْ قَالَ : الْإِيمَانُ الَّذِي أَنْفِيهِ مِنْهُ هُوَ الْمُعْتَبَرُ ، فَمَا دَخَلَ فِي الْوُجُودِ لَا أَنْفِيهِ وَلَكِنْ أَقُولُ لَا يُعْتَبَرُ شَرْعًا .
قُلْنَا :

دَعْوَى عَدَمِ الِاعْتِبَارِ بَعْدَ وُجُودِ الْحَقِيقَةِ ، إمَّا لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الصِّحَّةِ وَهُوَ مُنْتَفٍ ؛ لِأَنَّهُ جُعِلَ أَهْلًا لِلنُّبُوَّةِ كَمَا فِي يَحْيَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهِيَ فَرْعُ الْإِيمَانِ وَالِاتِّفَاقِ عَلَى أَهْلِيَّتِهِ لِلصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ حَتَّى يَصِحَّانِ مِنْهُ وَيُثَابُ عَلَيْهِمَا ، وَإِمَّا لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ فَنَلْتَزِمُهُ ، وَالْكَلَامُ لَيْسَ فِيهِ كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا ، وَإِمَّا لِحَاجِزٍ شَرْعِيٍّ وَهُوَ مُنْتَفٍ .
وَلَا يَلِيقُ أَنْ يَثْبُتَ شَرْعًا مَنْعٌ عَنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَعَ عَقْلِيَّتِهِ وَمَعْرِفَتِهِ ، نَعَمْ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَيَجِبُ الْقَصْدُ إلَى تَصْدِيقٍ وَإِقْرَارٍ يَسْقُطُ بِهِ ، وَلَا يَكْفِيهِ اسْتِصْحَابُ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ التَّصْدِيقِ وَالْإِقْرَارِ غَيْرِ الْمَنْوِيِّ بِهِ إسْقَاطَ الْفَرْضِ .
كَمَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ يُوَاظِبُ الصَّلَاةَ قَبْلَ بُلُوغِهِ لَا يَكُونُ كَمَا كَانَ يَفْعَلُ بَلْ لَا يَكْفِيهِ بَعْدَ بُلُوغِهِ مِنْهَا إلَّا مَا قَرَنَهُ بِنِيَّةِ أَدَاءِ الْوَاجِبِ امْتِثَالًا ، لَكِنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ بَلْ يَقَعُ فَرْضًا قَبْلَ الْبُلُوغِ ، أَمَّا عِنْدَ فَخْرِ الْإِسْلَامِ فَلِأَنَّهُ يَثْبُتُ أَصْلُ الْوُجُوبِ بِهِ عَلَى الصَّبِيِّ بِالسَّبَبِ ، وَهُوَ حُدُوثُ الْعَالَمِ وَعَقْلِيَّةُ دَلَالَتِهِ دُونَ وُجُوبِ الْأَدَاءِ ؛ لِأَنَّهُ بِالْخِطَابِ وَهُوَ غَيْرُ مُخَاطَبٍ ، فَإِذَا وُجِدَ بَعْدَ السَّبَبِ وَقَعَ الْفَرْضُ كَتَعْجِيلِ الزَّكَاةِ .
وَأَمَّا عِنْدَ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ فَلَا وُجُوبَ أَصْلًا ؛ لِعَدَمِ حُكْمِهِ وَهُوَ وُجُوبُ الْأَدَاءِ ، فَإِذَا وُجِدَ وُجِدَ وَصَارَ كَالْمُسَافِرِ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ يَسْقُطُ فَرْضُهُ وَلَيْسَتْ الْجُمُعَةُ فَرْضًا عَلَيْهِ .
لَكِنْ ذَلِكَ لِلتَّرْقِيَةِ عَلَيْهِ بَعْدَ سَبَبِهَا ، فَإِذَا فَعَلَ تَمَّ ، وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي عَدَمِ وُجُوبِ نِيَّةِ فَرْضِ الْإِيمَانِ بَعْدَ بُلُوغِ مَنْ حُكِمَ بِصِحَّةِ إسْلَامِهِ صَبِيًّا تَبَعًا لِأَبَوَيْهِ الْمُسْلِمَيْنِ أَوْ لِإِسْلَامِهِ

وَأَبَوَاهُ كَافِرَانِ ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فَرْضًا لَمْ يَفْعَلْهُ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ عَنْ آخِرِهِمْ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : يَشُوبُهَا ضَرَرٌ .
قُلْنَا مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ السَّعَادَةُ الْأَبَدِيَّةُ وَيَزُولُ بِهِ تَوَقُّعُ مَضَرَّةٍ أَبَدِيَّةٍ مِنْ رَدِّ إسْلَامِهِ ؛ لِيَسْتَمِرَّ عَلَى الْكُفْرِ كُلُّ عَاقِلٍ يَعْنِيهِ وَلَا يُبَالِي مَعَهُ بِذَلِكَ الضَّرَرِ ؛ لِأَنَّهُ لَا نِسْبَةَ لَهُ بِالضَّرَرِ الْآخَرِ .
وَأَمَّا التَّنَافِي الَّذِي ذُكِرَ فَإِنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ قُلْنَا بِاجْتِمَاعِ كَوْنِهِ تَبَعًا وَأَصْلًا مَعًا وَلَسْنَا نَقُولُ بِهِ بَلْ هُوَ تَبَعٌ مَا لَمْ يَعْقِلْ وَيُقِرَّ مُخْتَارًا ، فَإِذَا عَقَلَ وَأَقَرَّ مُخْتَارًا نَقُولُ انْقَطَعَتْ تَبَعِيَّتُهُ فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ وَبَقِيَ أَصْلًا .
وَفِي الْمَبْسُوطِ مَنَعَ الْمُضَادَّةَ وَأَجَازَ اجْتِمَاعَهُمَا كَالْمَرْأَةِ تُسَافِرُ مَعَ الزَّوْجِ تَكُونُ مُسَافِرَةً تَبَعًا لَهُ حَتَّى إذَا لَمْ تَنْوِ السَّفَرَ تَكُونُ مُسَافِرَةً ، وَلَوْ نَوَتْهُ كَانَتْ مُسَافِرَةً مَقْصُودًا وَتَبَعًا ، فَجَعَلَهُمَا أَمْرَيْنِ يَتَأَيَّدُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ : ( وَلَهُمْ فِي الرِّدَّةِ ) يَعْنِي الشَّافِعِيَّ وَزُفَرَ وَأَبَا يُوسُفَ ( إنَّهَا مَضَرَّةٌ مَحْضَةٌ ، بِخِلَافِ الْإِسْلَامِ عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ ؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ أَعْلَى الْمَنَافِعِ ) وَدَفَعَ أَعْظَمَ الْمَضَارِّ ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ) مَا قُلْنَا مِنْ ( أَنَّهَا مَوْجُودَةٌ حَقِيقَةً ) بِوُجُودِ حَقِيقَتِهَا مِنْ الْإِنْكَارِ وَالْإِقْرَارِ بِهِ ( وَلَا مَرَدَّ لِلْحَقِيقَةِ ) فَإِنْ قِيلَ : لَا يَلْزَمُ مِنْ اعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ وَعَدَمِ رَدِّهَا فِي الْإِسْلَامِ مِثْلُهُ فِي الرِّدَّةِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ النَّفْعِ وَفِي الرِّدَّةِ مِنْ الضَّرَرِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ مِنْهُ قَبُولُ الْهِبَةِ وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ الْهِبَةُ ؟ .
الْجَوَابُ أَنَّ الْحَقِيقَةَ الدَّاخِلَةَ مِنْهُ فِي الْوُجُودِ إذَا كَانَتْ مِمَّا يُقْطَعُ فِيهِ بِالْعِلْمِ أَوْ الْجَهْلِ فَهِيَ الَّتِي لَا يُمْكِنُ عَدَمُ اعْتِبَارِهَا كَالْإِيمَانِ وَالرِّدَّةِ ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ

عَارِفًا إذَا عُلِمَ جَهْلُهُ بِالْكُفْرِ وَلَا جَاهِلًا إذَا عُلِمَ عِلْمُهُ بِالْإِيمَانِ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِهَا بَعْدَ وُجُودِهَا ، وَصَارَ كَمَا إذَا صَامَ بِنِيَّةٍ يُجْعَلُ صَائِمًا شَرْعًا ، فَلَوْ أَكَلَ جُعِلَ مُفْطِرًا وَلَمْ يُجْعَلْ صَائِمًا ، وَكَذَا إذَا صَلَّى ثُمَّ أَفْسَدَهَا ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ مِمَّا لَا يُقْطَعُ فِيهَا بِذَلِكَ بَلْ هِيَ دَائِرَةٌ بَيْنَ عِلْمِهِ بِالْمَصْلَحَةِ وَجَهْلِهِ بِهَا فَلَا تَصِحُّ مِنْهُ ؛ لِأَنَّا لَمْ نَتَيَقَّنْ بِالْمَصْلَحَةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ، وَذَلِكَ كَالْهِبَةِ فَإِنَّهُ جَازَ فِيهِ كَوْنُهُ عَلِمَ الْمَصْلَحَةَ لِمَا عَلِمَهُ مِنْ حُسْنِ الْجَزَاءِ عَلَيْهَا بِالضَّعْفِ ، وَجَازَ كَوْنُهُ جَاهِلًا فِي ذَلِكَ بِأَنْ لَمْ تَكُنْ جَالِبَةً لِذَلِكَ فَمَنَعْنَاهَا ، بِخِلَافِ الْقَبُولِ فَإِنَّا عَلِمْنَا عِلْمَهُ بِالْمَصْلَحَةِ فَلَا نَجْعَلُهُ جَاهِلًا بِهَا .
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْحَقَائِقَ بَعْدَ الْعِلْمِ بِثُبُوتِهَا لَا تُرَدُّ لَزِمَ ضَرَرُهَا بِالضَّرُورَةِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّا اتَّفَقْنَا عَلَى جَعْلِهِ مُرْتَدًّا إذَا ارْتَدَّ أَبَوَاهُ وَلَحِقَا بِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ ( قَوْلُهُ : إلَّا أَنَّهُ ) أَيْ الصَّبِيَّ الْمُرْتَدَّ ( يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ لِمَا فِيهِ مِنْ النَّفْعِ ) الْمُتَيَقَّنِ وَدَفْعِ أَعْظَمِ الْمَضَارِّ ( وَلَا يُقْتَلُ ) وَهَذِهِ رَابِعَةُ أَرْبَعِ مَسَائِلَ لَا يُقْتَلُ فِيهَا الْمُرْتَدُّ : إحْدَاهَا الَّذِي كَانَ إسْلَامُهُ تَبَعًا لِأَبَوَيْهِ إذَا بَلَغَ مُرْتَدًّا ؛ فَفِي الْقِيَاسِ يُقْتَلُ كَقَوْلِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يُقْتَلُ ؛ لِأَنَّ إسْلَامَهُ لَمَّا ثَبَتَ تَبَعًا لِغَيْرِهِ صَارَ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْقَتْلِ عَنْهُ ، وَإِنْ بَلَغَ مُرْتَدًّا .
الثَّانِيَةُ إذَا أَسْلَمَ فِي صِغَرِهِ ثُمَّ بَلَغَ مُرْتَدًّا فَفِي الْقِيَاسِ يُقْتَلُ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يُقْتَلُ لِقِيَامِ الشُّبْهَةِ بِسَبَبِ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي صِحَّةِ إسْلَامِهِ فِي الصِّغَرِ .
وَالثَّالِثَةُ إذَا ارْتَدَّ فِي صِغَرِهِ .
وَالرَّابِعَةُ الْمُكْرَهُ عَلَى

الْإِسْلَامِ إذَا ارْتَدَّ لَا يُقْتَلُ اسْتِحْسَانًا ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِإِسْلَامِهِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ ؛ لِأَنَّ قِيَامَ السَّيْفِ عَلَى رَأْسِهِ ظَاهِرٌ فِي عَدَمِ الِاعْتِقَادِ فَيَصِيرُ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْقَتْلِ ، وَفِي كُلِّ ذَلِكَ يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ ، وَلَوْ قَتَلَهُ قَاتِلٌ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ ، ذَكَرَ الْكُلَّ فِي الْمَبْسُوطِ .
وَلَهَا خَامِسَةٌ وَهُوَ اللَّقِيطُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مَحْكُومٌ بِإِسْلَامِهِ ، وَلَوْ بَلَغَ كَافِرًا أُجْبِرَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَلَا يُقْتَلُ كَالْمَوْلُودِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إذَا بَلَغَ كَافِرًا .
وَقَالَ الْمُصَنِّفُ فِي وَجْهِ عَدَمِ قَتْلِهِ : ( لِأَنَّهُ ) أَيْ الْقَتْلَ ( عُقُوبَةٌ وَالْعُقُوبَاتُ مَوْضُوعَةٌ عَنْ الصِّبْيَانِ مَرْحَمَةٌ عَلَيْهِمْ ) وَبَيَّنَ أَنَّ الْكَلَامَ كُلَّهُ فِي الصَّبِيِّ الَّذِي يَعْقِلُ الْإِسْلَامَ .
وَفِي الْمَبْسُوطِ زَادَ كَوْنَهُ بِحَيْثُ يُنَاظِرُ وَيَفْهَمُ وَيُفْحَمُ .
وَاعْتَرَضَ جَمَاعَةٌ مِنْ الشَّارِحِينَ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ مَرْحَمَةٌ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ يُعَذَّبُ فِي الْآخِرَةِ مُخَلَّدًا فَلَيْسَ بِمَرْحُومٍ ، وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ الْأَسْرَارِ وَالْمَبْسُوطِ وَجَامِعِ التُّمُرْتَاشِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَأَحَالَ التُّمُرْتَاشِيُّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ إلَى التَّبْصِرَةِ ، فَالْأَوْلَى فِي التَّعْلِيلِ مَا فِي الْمَبْسُوطِ مِنْ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي صِحَّةِ إسْلَامِهِ .
وَلَفْظُهُ فِي الْمَبْسُوطِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : فَإِذَا حُكِمَ بِصِحَّةِ رِدَّتِهِ بَانَتْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ وَلَكِنَّهُ لَا يُقْتَلُ اسْتِحْسَانًا ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ عُقُوبَةٌ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَلْتَزِمَ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا بِمُبَاشَرَةِ سَبَبِهِ كَسَائِرِ الْعُقُوبَاتِ ، وَلَكِنْ لَوْ قَتَلَهُ إنْسَانٌ لَمْ يَغْرَمْ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ صِحَّةِ رِدَّتِهِ إهْدَارُ دَمِهِ دُونَ اسْتِحْقَاقِ قَتْلِهِ كَالْمَرْأَةِ إذَا ارْتَدَّتْ لَا تُقْتَلُ ، وَلَوْ قَتَلَهَا قَاتِلٌ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ .

وَمَنْ لَا يَعْقِلُ مِنْ الصِّبْيَانِ لَا يَصِحُّ ارْتِدَادُهُ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ لَا يَدُلُّ عَلَى تَغَيُّرِ الْعَقِيدَةِ ، وَكَذَا الْمَجْنُونُ وَالسَّكْرَانُ الَّذِي لَا يَعْقِلُ .
( وَمَنْ لَا يَعْقِلُ مِنْ الصِّبْيَانِ لَا يَصِحُّ ارْتِدَادُهُ ؛ لِأَنَّ ارْتِدَادَهُ لَا يَدُلُّ عَلَى تَغَيُّرِ الْعَقِيدَةِ ) وَكَذَا لَا يَصِحُّ إسْلَامُهُ .
( قَوْلُهُ : وَكَذَا الْمَجْنُونُ ) لَا يَصِحُّ ارْتِدَادُهُ بِالْإِجْمَاعِ وَلَا إسْلَامُهُ ( وَالسَّكْرَانُ الَّذِي لَا يَعْقِلُ ) كَالْمَجْنُونِ ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي قَوْلٍ .
وَقَالَ فِي قَوْلٍ آخَرَ : يَصِحُّ ارْتِدَادُهُ كَطَلَاقِهِ .
قُلْنَا : الرِّدَّةُ تُبْنَى عَلَى تَبَدُّلِ الِاعْتِقَادِ ، وَنَعْلَمُ أَنَّ السَّكْرَانَ غَيْرُ مُعْتَقِدٍ لِمَا قَالَ وَوُقُوعُ طَلَاقِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى الْقَصْدِ ، وَلِذَا لَزِمَ طَلَاقُ النَّاسِي .
وَتَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ فِيهِ زِيَادَةُ أَحْكَامٍ فَارْجِعْ إلَيْهِ فِي فَصْلِ : وَيَقَعُ طَلَاقُ كُلِّ زَوْجٍ إلَى آخِرِهِ .

[ فُرُوعٌ ] كُلُّ مَنْ أَبْغَضَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَلْبِهِ كَانَ مُرْتَدًّا ، فَالسِّبَابُ بِطَرِيقٍ أَوْلَى ، ثُمَّ يُقْتَلُ حَدًّا عِنْدَنَا فَلَا تَعْمَلُ تَوْبَتُهُ فِي إسْقَاطِ الْقَتْلِ .
قَالُوا : هَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَمَالِكٍ ، وَنُقِلَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَجِيءَ تَائِبًا مِنْ نَفْسِهِ أَوْ شُهِدَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ الْمُكَفِّرَاتِ فَإِنَّ الْإِنْكَارَ فِيهَا تَوْبَةٌ فَلَا تَعْمَلُ الشَّهَادَةُ مَعَهُ ، حَتَّى قَالُوا : يُقْتَلُ وَإِنْ سَبَّ سَكْرَانَ وَلَا يُعْفَى عَنْهُ ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِهِ بِمَا إذَا كَانَ سُكْرُهُ بِسَبَبٍ مَحْظُورٍ بَاشَرَهُ مُخْتَارًا بِلَا إكْرَاهٍ ، وَإِلَّا فَهُوَ كَالْمَجْنُونِ .
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ : وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَ فِي وُجُوبِ قَتْلِهِ .
وَأَمَّا مِثْلُهُ فِي حَقِّهِ تَعَالَى فَتَعْمَلُ تَوْبَتُهُ فِي إسْقَاطِ قَتْلِهِ .

وَمَنْ هَزَلَ بِلَفْظِ كُفْرٍ ارْتَدَّ وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدْهُ لِلِاسْتِخْفَافِ فَهُوَ كَكُفْرِ الْعِنَادِ ، وَالْأَلْفَاظُ الَّتِي يَكْفُرُ بِهَا تُعْرَفُ فِي الْفَتَاوَى ، وَإِذَا تَهَوَّدَ نَصْرَانِيٌّ أَوْ عَكْسُهُ لَا نَأْمُرُهُ بِالرَّجْعَةِ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَرُ بِالْكُفْرِ ، وَالرِّدَّةُ مُحْبِطَةٌ ثَوَابَ جَمِيعِ الْأَعْمَالِ .
وَإِذَا عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ إنْ عَادَ فِي وَقْتِ صَلَاةٍ صَلَّاهَا فَعَلَيْهِ أَدَاؤُهَا ثَانِيًا ، وَكَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ ثَانِيًا إنْ كَانَ حَجَّ .

وَإِذَا أَعْتَقَ الْمُرْتَدُّ عَبْدَهُ ثُمَّ أَعْتَقَهُ ابْنُهُ ثُمَّ مَاتَ الْمُرْتَدُّ أَوْ قُتِلَ لَا يَنْفُذُ ؛ لِأَنَّ عِتْقَ الْمُرْتَدِّ مَوْقُوفٌ فَبِمَوْتِهِ يَبْطُلُ ، وَإِعْتَاقُ ابْنِهِ قَبْلَ مِلْكِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ إلَّا بَعْدَ الْمَوْتِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا وَلَا يُتَوَقَّفُ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَعْتَقَ الْوَارِثُ عَبْدًا مِنْ التَّرِكَةِ الْمُسْتَغْرَقَةِ بِالدَّيْنِ ثُمَّ سَقَطَ الدَّيْنُ فَإِنَّهُ يَنْفُذُ ، وَالْفَرْقُ فِي الْمَبْسُوطِ وَعَنْ عَدَمِ مِلْكِ الْوَارِثِ وَسَبَبِهِ قُلْنَا : إذَا مَاتَ الِابْنُ وَلَهُ مُعْتَقٌ ثُمَّ مَاتَ الْأَبُ وَهُوَ مُرْتَدٌّ وَلَهُ مُعْتَقٌ فَمَالُهُ لِمُعْتَقِهِ لَا لِمُعْتَقِ الِابْنِ ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ قَبْلَ تَمَامِ سَبَبِ الْمِلْكِ .

وَتُقْبَلُ الشَّهَادَةُ بِالرِّدَّةِ مِنْ عَدْلَيْنِ ، وَلَا يُعْلَمُ مُخَالِفٌ إلَّا الْحَسَنَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ : لَا يُقْبَلُ فِي الْقَتْلِ إلَّا أَرْبَعَةٌ قِيَاسًا عَلَى الزِّنَا .
وَإِذَا شَهِدُوا عَلَى مُسْلِمٍ بِالرِّدَّةِ وَهُوَ مُنْكِرٌ لَا يُتَعَرَّضُ لَهُ لَا لِتَكْذِيبِ الشُّهُودِ الْعُدُولِ بَلْ ؛ لِأَنَّ إنْكَارَهُ تَوْبَةٌ وَرُجُوعٌ .

وَقَتْلُ الْمُرْتَدِّ مُطْلَقًا إلَى الْإِمَامِ عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ إلَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي وَجْهٍ فِي الْعَبْدِ إلَى سَيِّدِهِ .

وَمَنْ أَصَابَ حَدًّا ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَ إنْ لَمْ يَلْحَقْ بِدَارِ الْحَرْبِ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ ، وَإِنْ لَحِقَ ثُمَّ عَادَ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ يُقَامُ مُطْلَقًا وَالْمَبْنِيُّ ظَاهِرٌ .

وَقَدَّمْنَا أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ تَوْبَةُ السَّاحِرِ وَالزِّنْدِيقِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ وَهُوَ مَنْ لَا يَتَدَيَّنُ بِدِينٍ ، وَأَمَّا مَنْ يُبْطِنُ الْكُفْرَ وَيُظْهِرُ الْإِسْلَامَ فَهُوَ الْمُنَافِقُ ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ فِي عَدَمِ قَبُولِنَا تَوْبَتَهُ كَالزِّنْدِيقِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي الزِّنْدِيقِ لِعَدَمِ الِاطْمِئْنَانِ إلَى مَا يُظْهِرُ مِنْ التَّوْبَةِ إذَا كَانَ يُخْفِي كُفْرَهُ الَّذِي هُوَ عَدَمُ اعْتِقَادِهِ دِينًا ، وَالْمُنَافِقُ مِثْلُهُ فِي الْإِخْفَاءِ وَعَلَى هَذَا فَطَرِيقُ الْعِلْمِ بِحَالِهِ إمَّا بِأَنْ يَعْثُرَ بَعْضُ النَّاسِ عَلَيْهِ أَوْ يُسِرَّهُ إلَى مَنْ أَمِنَ إلَيْهِ .
وَالْحَقُّ أَنَّ الَّذِي يُقْتَلُ وَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ هُوَ الْمُنَافِقُ ، فَالزِّنْدِيقُ إنْ كَانَ حُكْمُهُ كَذَلِكَ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُبْطِنًا كُفْرَهُ الَّذِي هُوَ عَدَمُ التَّدَيُّنِ بِدِينٍ وَيُظْهِرُ تَدَيُّنَهُ بِالْإِسْلَامِ أَوْ غَيْرِهِ إلَى أَنْ ظَفِرْنَا بِهِ وَهُوَ عَرَبِيٌّ ، وَإِلَّا فَلَوْ فَرَضْنَاهُ مُظْهِرًا لِذَلِكَ حَتَّى تَابَ يَجِبُ أَنْ لَا يُقْتَلَ .
وَتُقْبَلُ تَوْبَتُهُ كَسَائِرِ الْكُفَّارِ الْمُظْهِرِينَ لِكُفْرِهِمْ إذَا أَظْهَرُوا التَّوْبَةَ ، وَكَذَا مَنْ عُلِمَ أَنَّهُ يُنْكِرُ فِي الْبَاطِنِ بَعْضَ الضَّرُورِيَّاتِ كَحُرْمَةِ الْخَمْرِ وَيُظْهِرُ اعْتِرَافَ حُرْمَتِهِ .
وَقَالَ أَصْحَابُنَا : لِلسِّحْرِ حَقِيقَةٌ وَتَأْثِيرٌ فِي إيلَامِ الْأَجْسَامِ خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَ ذَلِكَ وَقَالَ إنَّمَا هُوَ تَخْيِيلٌ .
وَتَعْلِيمُ السِّحْرِ حَرَامٌ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَاعْتِقَادُ إبَاحَتِهِ كُفْرٌ .
وَعَنْ أَصْحَابِنَا وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ يَكْفُرُ السَّاحِرُ بِتَعَلُّمِهِ وَفِعْلِهِ ، سَوَاءٌ اعْتَقَدَ تَحْرِيمَهُ أَوْ لَا وَيُقْتَلُ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَابْنِ عُمَرَ وَكَذَلِكَ عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَحَبِيبِ بْنِ كَعْبٍ وَقَيْسِ بْنِ سَعْدٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَإِنَّهُمْ قَتَلُوهُ بِدُونِ الِاسْتِتَابَةِ ، وَفِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ رَوَاهُ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ : حَدَّثَنَا ابْنُ قَانِعٍ : حَدَّثَنَا بِشْرُ

بْنُ مُوسَى : حَدَّثَنَا ابْنُ الْأَصْفَهَانِيِّ : حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ جُنْدُبٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبَهُ بِالسَّيْفِ } انْتَهَى ، يَعْنِي الْقَتْلَ .
قَالَ : وَقِصَّةُ جُنْدُبٍ فِي قَتْلِهِ السَّاحِرَ بِالْكُوفَةِ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ مَشْهُورَةٌ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُقْتَلُ وَلَا يُكَفَّرُ إلَّا إذَا اعْتَقَدَ إبَاحَتَهُ .
وَأَمَّا الْكَاهِنُ فَقِيلَ هُوَ السَّاحِرُ ، وَقِيلَ هُوَ الْعَرَّافُ وَهُوَ الَّذِي يُحَدِّثُ وَيَتَخَرَّصُ .
وَقِيلَ هُوَ الَّذِي لَهُ مِنْ الْجِنِّ مَنْ يَأْتِيهِ بِالْأَخْبَارِ .
قَالَ أَصْحَابُنَا : إنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الشَّيَاطِينَ يَفْعَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ كَفَرَ ، وَإِنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ تَخْيِيلٌ لَمْ يَكْفُرْ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ إنْ اعْتَقَدَ مَا يُوجِبُ الْكُفْرَ مِثْلَ التَّقَرُّبِ إلَى الْكَوَاكِبِ ، وَأَنَّهَا تَفْعَلُ مَا يَلْتَمِسُهُ كَفَرَ .
وَعِنْدَ أَحْمَدَ حُكْمُهُ حُكْمُ السَّاحِرِ .
فِي رِوَايَةٍ يُقْتَلُ لِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : اُقْتُلُوا كُلَّ سَاحِرٍ وَكَاهِنٍ .
وَفِي رِوَايَةٍ : إنْ تَابَ لَمْ يُقْتَلْ ، وَيَجِبُ أَنْ لَا يُعْدَلَ عَنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي كُفْرِ السَّاحِرِ وَالْعَرَّافِ وَعَدَمِهِ .
وَأَمَّا قَتْلُهُ فَيَجِبُ وَلَا يُسْتَتَابُ إذَا عُرِفَتْ مُزَاوَلَتُهُ لِعَمَلِ السِّحْرِ لِسَعْيِهِ بِالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ لَا بِمُجَرَّدِ عَمَلِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي اعْتِقَادِهِ مَا يُوجِبُ كُفْرَهُ ، وَإِذَا طَلَبَ الْمُرْتَدُّونَ الْمُوَادَعَةَ لَا يُجِيبُهُمْ إلَى ذَلِكَ .

بَابُ الْبُغَاةِ

( بَابُ الْبُغَاةِ ) قَدَّمَ أَحْكَامَ قِتَالِ الْكُفَّارِ ثُمَّ أَعْقَبَهُ بِقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ ، وَالْوَجْهُ ظَاهِرٌ .
وَالْبُغَاةُ جَمْعُ بَاغٍ ، وَهَذَا الْوَزْنُ مُطَّرِدٌ فِي كُلِّ اسْمِ فَاعِلٍ مُعْتَلِّ اللَّامِ كَغُزَاةٍ وَرُمَاةٍ وَقُضَاةٍ .
وَالْبَغْيُ فِي اللُّغَةِ : الطَّلَبُ ، بَغَيْتُ كَذَا : أَيْ طَلَبْتُهُ ، قَالَ تَعَالَى حِكَايَةَ ذَلِكَ { مَا كُنَّا نَبْغِ } ثُمَّ اُشْتُهِرَ فِي الْعُرْفِ فِي طَلَبِ مَا لَا يَحِلُّ مِنْ الْجَوْرِ وَالظُّلْمِ .
وَالْبَاغِي فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ : الْخَارِجُ عَنْ طَاعَةِ إمَامِ الْحَقِّ .
وَالْخَارِجُونَ عَنْ طَاعَتِهِ أَرْبَعَةُ أَصْنَافٍ : أَحَدُهَا الْخَارِجُونَ بِلَا تَأْوِيلٍ بِمَنَعَةٍ وَبِلَا مَنَعَةٍ يَأْخُذُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ وَيَقْتُلُونَهُمْ وَيُخِيفُونَ الطَّرِيقَ وَهُمْ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ .
وَالثَّانِي قَوْمٌ كَذَلِكَ إلَّا أَنَّهُمْ لَا مَنَعَةَ لَهُمْ لَكِنْ لَهُمْ تَأْوِيلٌ ، فَحُكْمُهُمْ حُكْمُ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ ، إنْ قَتَلُوا قُتِلُوا وَصُلِبُوا ، وَإِنْ أَخَذُوا مَالَ الْمُسْلِمِينَ قُطِعَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ عَلَى مَا عُرِفَ .
وَالثَّالِثُ قَوْمٌ لَهُمْ مَنَعَةٌ وَحَمِيَّةٌ خَرَجُوا عَلَيْهِ بِتَأْوِيلٍ يَرَوْنَ أَنَّهُ عَلَى بَاطِلِ كُفْرٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ يُوجِبُ قِتَالَهُ بِتَأْوِيلِهِمْ ، وَهَؤُلَاءِ يُسَمُّونَ بِالْخَوَارِجِ يَسْتَحِلُّونَ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالَهُمْ وَيَسْبُونِ نِسَاءَهُمْ وَيُكَفِّرُونَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَحُكْمُهُمْ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَجُمْهُورِ أَهْلِ الْحَدِيثِ حُكْمُ الْبُغَاةِ .
وَعِنْدَ مَالِكٍ يُسْتَتَابُونَ ، فَإِنْ تَابُوا وَإِلَّا قُتِلُوا دَفْعًا لِفَسَادِهِمْ لَا لِكُفْرِهِمْ .
وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ إلَى أَنَّهُمْ مُرْتَدُّونَ لَهُمْ حُكْمُ الْمُرْتَدِّينَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَخْرُجُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ أَحْدَاثُ الْأَسْنَانِ سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ ، فَأَيْنَمَا

لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ، فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَعَنْ { أَبِي أُمَامَةَ أَنَّهُ رَأَى رُءُوسًا مَنْصُوبَةً عَلَى دَرَجِ مَسْجِدِ دِمَشْقَ فَقَالَ : كِلَابُ أَهْلِ النَّارِ كِلَابُ أَهْلِ النَّارِ كِلَابُ أَهْلِ النَّارِ ، وَقَدْ كَانَ هَؤُلَاءِ مُسْلِمِينَ فَصَارُوا كُفَّارًا .
قِيلَ يَا أَبَا أُمَامَةَ هَذَا شَيْءٌ تَقُولُهُ ؟ قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا وَافَقَ أَهْلَ الْحَدِيثِ عَلَى تَكْفِيرِهِمْ ، وَهَذَا يَقْتَضِي نَقْلَ إجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ .
وَذَكَرَ فِي الْمُحِيطِ أَنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ لَا يُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ ، وَبَعْضُهُمْ يُكَفِّرُونَ بَعْضَ أَهْلِ الْبِدَعِ وَهُوَ مَنْ خَالَفَ بِبِدْعَتِهِ دَلِيلًا قَطْعِيًّا وَنَسَبَهُ إلَى أَكْثَرِ أَهْلِ السُّنَّةِ ، وَالنَّقْلُ الْأَوَّلُ أَثْبَتُ ، نَعَمْ يَقَعُ فِي كَلَامِ أَهْلِ الْمَذَاهِبِ تَكْفِيرٌ كَثِيرٌ وَلَكِنْ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ هُمْ الْمُجْتَهِدُونَ بَلْ مِنْ غَيْرِهِمْ ، وَلَا عِبْرَةَ بِغَيْرِ الْفُقَهَاءِ ، وَالْمَنْقُولُ عَنْ الْمُجْتَهِدِينَ مَا ذَكَرْنَا ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ أَعْرَفُ بِنَقْلِ مَذَاهِبِ الْمُجْتَهِدِينَ ، وَمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي أَوَّلِ الْبَابِ مِنْ حَدِيثِ كَثِيرٍ الْحَضْرَمِيِّ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ تَكْفِيرِ الْخَوَارِجِ .
وَهُوَ قَوْلُ الْحَضْرَمِيِّ : دَخَلْت مَسْجِدَ الْكُوفَةِ مِنْ قِبَلِ أَبْوَابِ كِنْدَةَ ، فَإِذَا نَفَرٌ خَمْسَةٌ يَشْتِمُونَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَفِيهِمْ رَجُلٌ عَلَيْهِ بُرْنُسٌ يَقُولُ : أُعَاهِدُ اللَّهَ لَأَقْتُلَنَّهُ ، فَتَعَلَّقْت بِهِ وَتَفَرَّقَتْ أَصْحَابُهُ عَنْهُ ، فَأَتَيْت بِهِ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقُلْت : إنِّي سَمِعْت هَذَا يُعَاهِدُ اللَّهَ لَيَقْتُلَنَّكَ ، فَقَالَ : اُدْنُ وَيْحَك مَنْ أَنْتَ ؟ فَقَالَ : أَنَا سَوَّارُ الْمُنْقِرِيُّ ، فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : خَلِّ عَنْهُ ، فَقُلْت أُخَلِّي عَنْهُ وَقَدْ عَاهَدَ اللَّهَ لَيَقْتُلَنَّكَ ؟ قَالَ : أَفَأَقْتُلُهُ وَلَمْ

يَقْتُلْنِي ؟ قُلْت : فَإِنَّهُ قَدْ شَتَمَك ، قَالَ : فَاشْتُمْهُ إنْ شِئْت أَوْ دَعْهُ .
فَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ لِلْخَارِجِينَ مَنَعَةٌ لَا نَقْتُلُهُمْ ، وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا كُفَّارًا لَا بِشَتْمِ عَلِيٍّ وَلَا بِقَتْلِهِ .
قِيلَ إلَّا إذَا اسْتَحَلَّهُ ، فَإِنَّ مَنْ اسْتَحَلَّ قَتْلَ مُسْلِمٍ فَهُوَ كَافِرٌ ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِهِ بِأَنْ لَا يَكُونَ الْقَتْلُ بِغَيْرِ حَقٍّ أَوْ عَنْ تَأْوِيلٍ وَاجْتِهَادٍ يُؤَدِّيهِ إلَى الْحُكْمِ بِحِلِّهِ ، بِخِلَافِ الْمُسْتَحِلِّ بِلَا تَأْوِيلٍ ، وَإِلَّا لَزِمَ تَكْفِيرُهُمْ ؛ لِأَنَّ الْخَوَارِجَ يَسْتَحِلُّونَ الْقَتْلَ بِتَأْوِيلِهِمْ الْبَاطِلِ ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ تَكْفِيرِهِمْ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ أَيْضًا حَيْثُ قَالَ : وَبَلَغَنَا عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ بَيْنَمَا هُوَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إذْ حَكَّمَتْ الْخَوَارِجُ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ ، فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ ، لَنْ نَمْنَعَكُمْ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ تَذْكُرُوا فِيهَا اسْمَ اللَّهِ ، وَلَنْ نَمْنَعَكُمْ الْفَيْءَ مَا دَامَتْ أَيْدِيكُمْ مَعَ أَيْدِينَا ، وَلَنْ نُقَاتِلَكُمْ حَتَّى تُقَاتِلُونَا ، ثُمَّ أَخَذَ فِي خُطْبَتِهِ .
وَمَعْنَى قَوْلِهِ حَكَّمَتْ الْخَوَارِجُ نِدَاؤُهُمْ بِقَوْلِهِمْ الْحُكْمُ لِلَّهِ ، وَكَانُوا يَتَكَلَّمُونَ بِذَلِكَ إذَا أَخَذَ عَلِيٌّ فِي الْخُطْبَةِ لِيُشَوِّشُوا خَاطِرَهُ ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقْصِدُونَ بِذَلِكَ نِسْبَتَهُ إلَى الْكُفْرِ لِرِضَاهُ بِالتَّحْكِيمِ فِي صِفِّينَ ، وَلِهَذَا قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ : يَعْنِي تَكْفِيرَهُ .
وَفِيهِ دَلِيلُ أَنَّ الْخَوَارِجَ إذَا قَاتَلُوا الْكُفَّارَ مَعَ أَهْلِ الْعَدْلِ يَسْتَحِقُّونَ مِنْ الْغَنِيمَةِ مِثْلَ مَا يَسْتَحِقُّهُ غَيْرُهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَأَنَّهُ لَا يُعَزَّرُ بِالتَّعْرِيضِ بِالشَّتْمِ ؛ لِأَنَّ نِسْبَتَهُ إلَى الْكُفْرِ شَتْمٌ عَرَّضُوا بِهِ وَلَمْ يُصَرِّحُوا .
وَالرَّابِعُ قَوْمٌ مُسْلِمُونَ خَرَجُوا عَلَى إمَامِ الْعَدْلِ وَلَمْ يَسْتَبِيحُوا مَا اسْتَبَاحَهُ الْخَوَارِجُ

مِنْ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَسَبْيِ ذَرَارِيِّهِمْ وَهُمْ الْبُغَاةُ .

( وَإِذَا تَغَلَّبَ قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى بَلَدٍ وَخَرَجُوا مِنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ دَعَاهُمْ إلَى الْعَوْدِ إلَى الْجَمَاعَةِ وَكَشَفَ عَنْ شُبْهَتِهِمْ ) ؛ لِأَنَّ عَلِيًّا فَعَلَ كَذَلِكَ بِأَهْلِ حَرُورَاءَ قَبْلَ قِتَالِهِمْ ، وَلِأَنَّهُ أَهْوَنُ الْأَمْرَيْنِ .
وَلَعَلَّ الشَّرَّ يَنْدَفِعُ بِهِ فَيُبْدَأُ بِهِ .

( قَوْلُهُ : وَإِذَا تَغَلَّبَ قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى بَلَدٍ وَخَرَجُوا عَنْ طَاعَةِ إمَامٍ ) النَّاسُ بِهِ فِي أَمَانٍ وَالطُّرُقَاتُ آمِنَةٌ ( دَعَاهُمْ إلَى الْعَوْدِ إلَى الْجَمَاعَةِ وَكَشَفَ عَنْ شُبْهَتِهِمْ ) الَّتِي أَوْجَبَتْ خُرُوجَهُمْ ( لِأَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَعَلَ ذَلِكَ بِأَهْلِ حَرُورَاءَ ) قَبْلَ قِتَالِهِمْ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ وَاجِبًا بَلْ مُسْتَحَبٌّ ؛ لِأَنَّهُمْ كَمَنْ بَلَغَتْهُمْ الدَّعْوَةُ لَا تَجِبُ دَعْوَتُهُمْ ثَانِيًا وَتُسْتَحَبُّ .
وَحَرُورَاءُ : اسْمُ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى الْكُوفَةِ ، وَفِيهِ الْمَدُّ وَالْقَصْرُ ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لِمُعَاذَةَ أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ ؟ .
أَسْنَدَ النَّسَائِيّ فِي سُنَنِهِ الْكُبْرَى فِي خَصَائِصِ عَلِيٍّ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ : لَمَّا خَرَجَتْ الْحَرُورِيَّةُ اعْتَزَلُوا فِي دَارٍ وَكَانُوا سِتَّةَ آلَافٍ .
فَقُلْت لِعَلِيٍّ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَبْرِدْ بِالصَّلَاةِ لَعَلِّي أُكَلِّمُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ ، قَالَ : إنِّي أَخَافُهُمْ عَلَيْك .
قُلْت كَلًّا .
فَلَبِسْت ثِيَابِي وَمَضَيْت إلَيْهِمْ حَتَّى دَخَلْت عَلَيْهِمْ فِي دَارٍ وَهُمْ مُجْتَمِعُونَ فِيهَا .
فَقَالُوا : مَرْحَبًا بِك يَا ابْنَ عَبَّاسٍ مَا جَاءَ بِك ؟ قُلْت : أَتَيْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ، مِنْ عِنْدِ ابْنِ عَمِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصِهْرِهِ ، وَعَلَيْهِمْ نَزَلَ الْقُرْآنُ وَهُمْ أَعْرَفُ بِتَأْوِيلِهِ مِنْكُمْ وَلَيْسَ فِيكُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ ، جِئْت لِأُبَلِّغَكُمْ مَا يَقُولُونَ وَأُبَلِّغَهُمْ مَا تَقُولُونَ .
فَانْتَحَى لِي نَفَرٌ مِنْهُمْ ، قُلْت : هَاتُوا مَا نَقَمْتُمْ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَابْنِ عَمِّهِ وَخَتَنِهِ وَأَوَّلِ مَنْ آمَنَ بِهِ ، قَالُوا : ثَلَاثٌ .
قُلْت : مَا هِيَ ؟ قَالُوا : إحْدَاهُنَّ أَنَّهُ حَكَّمَ الرِّجَالَ فِي دِينِ اللَّهِ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى { إنْ الْحُكْمُ إلَّا لِلَّهِ } قُلْت : هَذِهِ وَاحِدَةٌ .
قَالُوا : وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَإِنَّهُ قَاتَلَ

وَلَمْ يَسْبِ وَلَمْ يَغْنَمْ ، فَإِنْ كَانُوا كُفَّارًا فَقَدْ حَلَّتْ لَنَا نِسَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ ، وَإِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ ، قُلْت هَذِهِ أُخْرَى .
قَالُوا : وَأَمَّا الثَّالِثَةُ : فَإِنَّهُ مَحَا نَفْسَهُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُ يَكُونُ أَمِيرَ الْكَافِرِينَ ، قُلْت : هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ غَيْرُ هَذَا ؟ قَالُوا : حَسْبُنَا هَذَا ، قُلْت لَهُمْ : أَرَأَيْتُمْ إنْ قَرَأْت عَلَيْكُمْ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَحَدَّثْتُكُمْ مِنْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَرُدُّ قَوْلَكُمْ هَذَا تَرْجِعُونَ ؟ قَالُوا : اللَّهُمَّ نَعَمْ .
قُلْت أَمَّا قَوْلُكُمْ إنَّهُ حَكَّمَ الرِّجَالَ فِي دِينِ اللَّهِ فَأَنَا أَقْرَأُ عَلَيْكُمْ أَنْ قَدْ صَيَّرَ اللَّهُ حُكْمَهُ إلَى الرِّجَالِ فِي أَرْنَبٍ ثَمَنُهَا رُبُعُ دِرْهَمٍ ، قَالَ تَعَالَى { لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } إلَى قَوْلِهِ { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } .
وَقَالَ فِي الْمَرْأَةِ وَزَوْجِهَا { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنَهُمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا } أَنْشُدُكُمْ اللَّهَ أَحْكُمُ الرِّجَالِ فِي حَقْنِ دِمَائِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَإِصْلَاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ أَحَقُّ أَمْ فِي أَرْنَبٍ ثَمَنُهَا رُبُعُ دِرْهَمٍ ؟ قَالُوا اللَّهُمَّ بَلْ فِي حَقْنِ دِمَائِهِمْ وَإِصْلَاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ ، قُلْت : أَخْرَجْت مِنْ هَذِهِ ؟ قَالُوا : اللَّهُمَّ نَعَمْ .
قُلْت : وَأَمَّا قَوْلُكُمْ إنَّهُ قَاتَلَ وَلَمْ يَسْبِ وَلَمْ يَغْنَمْ أَتَسْبُونَ أُمَّكُمْ عَائِشَةَ فَتَسْتَحِلُّونَ مِنْهَا مَا تَسْتَحِلُّونَ مِنْ غَيْرِهَا وَهِيَ أُمُّكُمْ ؟ لَئِنْ فَعَلْتُمْ لَقَدْ كَفَرْتُمْ .
فَإِنْ قُلْتُمْ لَيْسَتْ أُمَّنَا فَقَدْ كَفَرْتُمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } فَأَنْتُمْ بَيْنَ ضَلَالَتَيْنِ ، فَأَتَوْا مِنْهَا بِمَخْرَجٍ ، أَخْرَجْت مِنْ هَذِهِ الْأُخْرَى ؟ قَالُوا : اللَّهُمَّ نَعَمْ .
قُلْت : وَأَمَّا قَوْلُكُمْ إنَّهُ مَحَا نَفْسَهُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ {

فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا قُرَيْشًا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى أَنْ يَكْتُبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ كِتَابًا فَقَالَ : اُكْتُبْ هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ، فَقَالُوا : وَاَللَّهِ لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّك رَسُولُ اللَّهِ مَا صَدَدْنَاك عَنْ الْبَيْتِ وَلَا قَاتَلْنَاك ، وَلَكِنْ اُكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، فَقَالَ : وَاَللَّهِ إنِّي لَرَسُولُ اللَّهِ وَإِنْ كَذَبْتُمُونِي ، يَا عَلِيُّ اُكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، } فَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرٌ مِنْ عَلِيٍّ وَقَدْ مَحَا نَفْسَهُ وَلَمْ يَكُنْ مَحْوُهُ ذَلِكَ مَحْوًا مِنْ النُّبُوَّةِ ، أَخْرَجْت مِنْ هَذِهِ الْأُخْرَى ؟ قَالُوا : اللَّهُمَّ نَعَمْ .
فَرَجَعَ مِنْهُمْ أَلْفَانِ وَبَقِيَ سَائِرُهُمْ فَقُتِلُوا عَلَى ضَلَالَتِهِمْ قَتَلَهُمْ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ .
وَرَوَى الْحَاكِمُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ شَدَّادٍ اسْتَحْكَتْهُ عَائِشَةُ عَنْ الَّذِينَ قَتَلَهُمْ عَلِيٌّ فَقَالَ : لَمَّا كَانَتْ حَرْبُ مُعَاوِيَةَ وَحَكَّمَ الْحَكَمَيْنِ خَرَجَ عَلَيْهِ ثَمَانِيَةُ آلَافٍ مِنْ قُرَّاءِ النَّاسِ فَنَزَلُوا بِأَرْضٍ يُقَالُ لَهَا حَرُورَاءَ مِنْ جَانِبِ الْكُوفَةِ ، إلَى أَنْ قَالَ : بَعَثَ عَلِيٌّ إلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ فَخَرَجْت مَعَهُ ، حَتَّى إذَا تَوَسَّطْنَا عَسْكَرَهُمْ قَامَ ابْنُ الْكَوَّاءِ خَطِيبًا فَقَالَ : يَا حَمَلَةَ الْقُرْآنِ هَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُهُ فَأَنَا أَعْرِفُهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَا يَعْرِفُهُ بِهِ ، هَذَا مِمَّنْ نَزَلَ فِيهِ وَفِي قَوْمِهِ { بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } فَرُدُّوهُ إلَى صَاحِبِهِ وَلَا تُوَاضِعُوهُ كِتَابَ اللَّهِ ، فَقَامَ خُطَبَاؤُهُمْ وَقَالُوا وَاَللَّهِ لَنُوَاضِعَنَّهُ ، فَوَاضَعَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ الْكِتَابَ وَوَاضَعُوهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، فَرَجَعَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةُ آلَافٍ فِيهِمْ ابْنُ الْكَوَّاءِ حَتَّى أَدْخَلَهُمْ الْكُوفَةَ عَلَى عَلِيٍّ إلَى آخِرِ الْحَدِيثِ .
وَقَالَ : عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ .

( وَلَا يَبْدَأُ بِقِتَالٍ حَتَّى يَبْدَءُوهُ ، فَإِنْ بَدَءُوهُ قَاتَلَهُمْ حَتَّى يُفَرِّقَ جَمْعَهُمْ ) قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ : هَكَذَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ .
وَذَكَرَ الْإِمَامُ الْمَعْرُوفُ بِخُوَاهَرْ زَادَهْ أَنَّ عِنْدَنَا يَجُوزُ أَنْ يَبْدَأَ بِقِتَالِهِمْ إذَا تَعَسْكَرُوا وَاجْتَمَعُوا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ حَتَّى يَبْدَءُوا بِالْقِتَالِ حَقِيقَةً ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَتْلُ الْمُسْلِمِ إلَّا دَفْعًا وَهُمْ مُسْلِمُونَ ، بِخِلَافِ الْكَافِرِ ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْكُفْرِ مُبِيحٌ عِنْدَهُ .
وَلَنَا أَنَّ الْحُكْمَ يُدَارُ عَلَى الدَّلِيلِ وَهُوَ الِاجْتِمَاعُ وَالِامْتِنَاعُ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ انْتَظَرَ الْإِمَامُ حَقِيقَةَ قِتَالِهِمْ رُبَّمَا لَا يُمْكِنُهُ الدَّفْعُ فَيُدَارُ عَلَى الدَّلِيلِ ضَرُورَةَ دَفْعِ شَرِّهِمْ ، وَإِذَا بَلَغَهُ أَنَّهُمْ يَشْتَرُونَ السِّلَاحَ وَيَتَأَهَّبُونَ لِلْقِتَالِ يَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَهُمْ وَيَحْبِسَهُمْ حَتَّى يُقْلِعُوا عَنْ ذَلِكَ وَيُحْدِثُوا تَوْبَةً دَفْعًا لِلشَّرِّ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ .
وَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ لُزُومِ الْبَيْتِ مَحْمُولٌ عَلَى حَالِ عَدَمِ الْإِمَامِ ، أَمَّا إعَانَةُ الْإِمَامِ الْحَقِّ فَمِنْ الْوَاجِبِ عِنْدَ الْغَنَاءِ وَالْقُدْرَةِ .

( قَوْلُهُ : وَلَا يَبْدَأُ بِقِتَالٍ حَتَّى يَبْدَءُوهُ هَكَذَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ ) وَهُوَ عَيْنُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ قَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَلَنْ نُقَاتِلَكُمْ حَتَّى تُقَاتِلُونَا ( وَذَكَرَ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الْمَعْرُوفُ بِخُوَاهَرْ زَادَهْ أَنَّ عِنْدَنَا يَجُوزُ أَنْ نَبْدَأَ بِقِتَالِهِمْ إذَا تَعَسْكَرُوا وَاجْتَمَعُوا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ حَتَّى يَبْدَءُوا حَقِيقَةً ) وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ( لِأَنَّ قَتْلَ الْمُسْلِمِ لَا يَجُوزُ إلَّا دَفْعًا وَهُمْ ) أَيْ الْبُغَاةُ ( مُسْلِمُونَ ) رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا } ثُمَّ قَالَ { فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ } ( وَنَحْنُ أَدَرْنَا الْحُكْمَ وَهُوَ حِلُّ الْقِتَالِ عَلَى دَلِيلِ قِتَالِهِمْ وَ ) ذَلِكَ ( هُوَ الِاجْتِمَاعُ ) عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ ( وَالِامْتِنَاعُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ انْتَظَرَ حَقِيقَةَ قِتَالِهِمْ رُبَّمَا لَا يُمْكِنُهُ الدَّفْعُ ) لِتَقْوَى شَوْكَتُهُمْ وَتَكْثُرَ جَمْعُهُمْ خُصُوصًا وَالْفِتْنَةُ يُسْرِعُ إلَيْهَا أَهْلُ الْفَسَادِ وَهُمْ الْأَكْثَرُ ، وَالْكُفْرُ مَا أَبَاحَ الْقِتَالَ إلَّا لِلْحِرَابَةِ وَالْبُغَاةُ كَذَلِكَ ، وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ أَطَاقَ الدَّفْعَ أَنْ يُقَاتِلَ مَعَ الْإِمَامِ إلَّا إنْ أَبْدَوْا مَا يَجُوزُ لَهُمْ الْقِتَالُ كَأَنْ ظَلَمَهُمْ أَوْ ظَلَمَ غَيْرَهُمْ ظُلْمًا لَا شُبْهَةَ فِيهِ ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يُعِينُوهُمْ حَتَّى يُنْصِفَهُمْ وَيَرْجِعَ عَنْ جَوْرِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْحَالُ مُشْتَبَهًا أَنَّهُ ظُلْمٌ مِثْلُ تَحْمِيلِ بَعْضِ الْجِبَايَاتِ الَّتِي لِلْإِمَامِ أَخْذُهَا وَإِلْحَاقُ الضَّرَرِ بِهَا لِدَفْعِ ضَرَرٍ أَعَمَّ مِنْهُ ، وَيَجُوزُ قِتَالُهُمْ بِكُلِّ مَا يُقَاتَلُ بِهِ أَهْلُ الْحَرْبِ مِنْ الْمَنْجَنِيقِ وَإِرْسَالِ الْمَاءِ وَالنَّارِ .
وَخُوَاهَرْ زَادَهْ مَعْنَاهُ ابْنُ الْأُخْتِ ، وَكَانَ ابْنَ أُخْتِ الْقَاضِي الْإِمَامِ أَبِي ثَابِتٍ قَاضِي سَمَرْقَنْدَ وَاسْمُ خُوَاهَرْ زَادَهْ

مُحَمَّدٌ ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو بَكْرٍ ، وَاسْمُ أَبِيهِ حُسَيْنٌ النَّجَّارِيُّ وَهُوَ مُعَاصِرٌ لِشَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ وَمُوَافِقٌ لَهُ فِي اسْمِهِ وَكُنْيَتِهِ ؛ لِأَنَّ شَمْسَ الْأَئِمَّةِ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ وَكُنْيَتُهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي سَهْلٍ ، وَتُوُفِّيَ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي الْعَامِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ الْآخَرُ وَهُوَ عَامُ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ .
وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَيْضًا مُعَاصِرٌ لَهُمَا وَتُوُفِّيَ فِي سَنَةِ إحْدَى وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ( فَإِذَا بَلَغَهُ أَنَّهُمْ يَشْتَرُونَ السِّلَاحَ وَيَتَأَهَّبُونَ لِلْقِتَالِ يَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَهُمْ وَيَحْبِسَهُمْ حَتَّى يُقْلِعُوا عَنْ ذَلِكَ وَيُحْدِثُوا تَوْبَةً دَفْعًا لِلشَّرِّ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ .
وَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) مِنْ قَوْلِهِ : الْفِتْنَةُ إذَا وَقَعَتْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَالْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَعْتَزِلَ الْفِتْنَةَ وَيَقْعُدَ فِي بَيْتِهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ فَرَّ مِنْ الْفِتْنَةِ أَعْتَقَ اللَّهُ رَقَبَتَهُ مِنْ النَّارِ } وَقَالَ لِوَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ : { كُنْ حِلْسًا مِنْ أَحْلَاسِ بَيْتِك } رَوَاهُ عَنْهُ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ ( فَمَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ إمَامٌ ) وَمَا رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ قَعَدُوا فِي الْفِتْنَةِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ قُدْرَةٌ وَلَا غَنَاءٌ ، وَرُبَّمَا كَانَ بَعْضُهُمْ فِي تَرَدُّدٍ مِنْ حِلِّ الْقِتَالِ .
كَمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ أَتَى عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَطْلُبُ عَطَاءَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَمَنَعَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ لَهُ : أَيْنَ كُنْت يَوْمَ صِفِّينَ ؟ فَقَالَ : ابْغِنِي سَيْفًا أَعْرِفُ بِهِ الْحَقَّ مِنْ الْبَاطِلِ ، فَقَالَ لَهُ : مَا قَالَ اللَّهُ هَذَا ، وَإِنَّمَا قَالَ { فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ } وَمَا رُوِيَ { إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ } فَمَحْمُولٌ عَلَى اقْتِتَالِهِمَا حَمِيَّةً وَعَصَبِيَّةً كَمَا

يُتَّفَقُ بَيْنَ أَهْلِ قَرْيَتَيْنِ وَمَحَلَّتَيْنِ أَوْ لِأَجْلِ الدُّنْيَا وَالْمَمْلَكَةِ .
قَالَ الذَّهَبِيُّ : صَحَّ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ قَالَ : رَأَيْت كَأَنَّ قِبَابًا فِي رِيَاضٍ ، فَقُلْت لِمَنْ هَذِهِ ؟ فَقَالُوا لِذِي الْكُلَاعِ وَأَصْحَابِهِ ، وَرَأَيْت قِبَابًا فِي رِيَاضٍ فَقُلْت لِمَنْ هَذِهِ ؟ فَقِيلَ : لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَأَصْحَابِهِ ، قُلْت : وَكَيْفَ وَقَدْ قَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، قَالَ : إنَّهُمْ وَجَدُوا اللَّهَ وَاسِعَ الْمَغْفِرَةِ انْتَهَى .
وَهَذَا ؛ لِأَنَّ قِتَالَهُمْ عَنْ اجْتِهَادٍ .

( فَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ فِئَةٌ أُجْهِزَ عَلَى جَرِيحِهِمْ وَأُتْبِعَ مُوَلِّيهِمْ ) دَفْعًا لِشَرِّهِمْ كَيْ لَا يَلْحَقُوا بِهِمْ ( وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ لَمْ يُجْهَزْ عَلَى جَرِيحِهِمْ وَلَمْ يُتْبَعْ مُوَلِّيهِمْ ) لِانْدِفَاعِ الشَّرِّ دُونَهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْحَالَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْقِتَالَ إذَا تَرَكُوهُ لَمْ يَبْقَ قَتْلُهُمْ دَفْعًا .
وَجَوَابُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ دَلِيلُهُ لَا حَقِيقَتُهُ .
( قَوْلُهُ : فَإِنْ كَانَ لَهُمْ فِئَةٌ أُجْهِزَ عَلَى جَرِيحِهِمْ ) أَيْ يُسْرَعُ فِي إمَاتَتِهِ ( وَأُتْبِعَ مُوَلِّيهِمْ ) عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ فِيهِمَا لِلْقَتْلِ وَالْأَسْرِ ( دَفْعًا لِشَرِّهِمْ كَيْ لَا يَلْتَحِقَا ) أَيْ الْجَرِيحُ وَالْمُوَلِّي ( بِهِمْ ) أَيْ بِالْفِئَةِ عَلَى مَعْنَى الْقَوْمِ ( وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ لَمْ يُجْهَزْ عَلَى جَرِيحِهِمْ وَلَمْ يُتْبَعْ مُوَلِّيهِمْ لِانْدِفَاعِ الشَّرِّ بِدُونِ ذَلِكَ ) وَهُوَ الْمَطْلُوبُ ( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ) وَأَحْمَدُ أَيْضًا : ( لَا يَجُوزُ ذَلِكَ ) أَيْ الْإِجْهَازُ وَالِاتِّبَاعُ ( فِي الْحَالَيْنِ ) حَالَتَيْ الْفِئَةِ وَعَدَمِهَا ( لِأَنَّ الْقِتَالَ إذَا تَرَكُوهُ ) بِالتَّوْلِيَةِ وَالْجِرَاحَةِ الْمُعْجِزَةِ عَنْهُ ( لَمْ يَبْقَ قَتْلُهُمْ دَفْعًا ) وَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُمْ إلَّا دَفْعًا لِشَرِّهِمْ ، وَلِمَا رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَبْدِ خَيْرٍ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ يَوْمَ الْجَمَلِ : لَا تَتَّبِعُوا مُدْبِرًا وَلَا تُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحٍ ، وَمَنْ أَلْقَى سِلَاحَهُ فَهُوَ آمِنٌ .
وَأَسْنَدَ أَيْضًا وَلَا يُقْتَلُ أَسِيرٌ .
( وَجَوَابُهُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ ) فِي جَوَازِ الْقَتْلِ ( دَلِيلُ قِتَالِهِمْ لَا حَقِيقَتُهُ ) وَلِأَنَّ قَتْلَ مَنْ ذَكَرْنَا إذَا كَانَ لَهُ فِئَةٌ لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ دَفْعًا ؛ لِأَنَّهُ يَتَحَيَّزُ إلَى الْفِئَةِ وَيَعُودُ شَرُّهُ كَمَا كَانَ ، وَأَصْحَابُ الْجَمَلِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ أُخْرَى سِوَاهُمْ .

( وَلَا يُسْبَى لَهُمْ ذُرِّيَّةٌ وَلَا يُقَسَّمُ لَهُمْ مَالٌ ) لِقَوْلِ عَلِيٍّ يَوْمَ الْجَمَلِ : وَلَا يُقْتَلُ أَسِيرٌ وَلَا يُكْشَفُ سِتْرٌ وَلَا يُؤْخَذُ مَالٌ ، وَهُوَ الْقُدْوَةُ فِي هَذَا الْبَابِ .
وَقَوْلُهُ فِي الْأَسِيرِ تَأْوِيلُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ ، فَإِنْ كَانَتْ يَقْتُلُ الْإِمَامُ الْأَسِيرَ ، وَإِنْ شَاءَ حَبَسَهُ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَلِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ وَالْإِسْلَامُ يَعْصِمُ النَّفْسَ وَالْمَالَ

( قَوْلُهُ : وَلَا تُسْبَى لَهُمْ ذُرِّيَّةٌ ) إذَا ظُهِرَ عَلَيْهِمْ ( وَلَا يُقَسَّمُ لَهُمْ مَالٌ ) بَيْنَ الْمُقَاتِلَةِ ( لِقَوْلِ عَلِيٍّ ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَا رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَنَّ عَلِيًّا لَمَّا هَزَمَ طَلْحَةَ وَأَصْحَابَهُ أَمَرَ مُنَادِيَهُ فَنَادَى أَنْ لَا يُقْتَلَ مُقْبِلٌ وَلَا مُدْبِرٌ : يَعْنِي بَعْدَ الْهَزِيمَةِ وَلَا يُفْتَحُ بَابٌ وَلَا يُسْتَحَلُّ فَرْجٌ وَلَا مَالٌ .
وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ نَحْوَهُ ، وَزَادَ : وَكَانَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَأْخُذُ مَالَ الْمَقْتُولِ وَيَقُولُ : مَنْ اعْتَرَفَ شَيْئًا فَلْيَأْخُذْهُ .
وَفِي تَارِيخِ وَاسِطَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ يَوْمَ الْجَمَلِ : لَا تَتْبَعُوا مُدْبِرًا وَلَا تُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحٍ وَلَا تَقْتُلُوا أَسِيرًا .
وَإِيَّاكُمْ وَالنِّسَاءَ وَإِنْ شَتَمْنَ أَعْرَاضَكُمْ وَسَبَبْنَ أُمَرَاءَكُمْ ، وَلَقَدْ رَأَيْتنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَنَاوَلُ الْمَرْأَةَ بِالْجَرِيدَةِ أَوْ بِالْهِرَاوَةِ فَيُعَيَّرُ بِهَا هُوَ وَعَقِبُهُ مِنْ بَعْدِهِ .
هَذَا وَفِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَالْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ كَوْثَرَ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ هَلْ تَدْرِي يَا ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ كَيْفَ حَكَمَ اللَّهُ فِيمَنْ بَغَى مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ ؟ قَالَ : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ : لَا يُجْهَزُ عَلَى جَرِيحِهَا وَلَا يُقْتَلُ أَسِيرُهَا وَلَا يُطْلَبُ هَارِبُهَا وَلَا يُقَسَّمُ فَيْؤُهَا } وَأَعَلَّهُ الْبَزَّارُ بِكَوْثَرَ بْنِ حَكِيمٍ وَبِهِ تَعَقَّبَ الذَّهَبِيُّ عَلَى الْحَاكِمِ قَالَ مُحَمَّدٌ : وَبَلَغَنَا أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَلْقَى مَا أَصَابَ مِنْ عَسْكَرِ أَهْلِ النَّهْرَوَانِ فِي الرَّحْبَةِ ، فَمَنْ عَرَفَ شَيْئًا أَخَذَهُ حَتَّى كَانَ آخِرَهُ قِدْرٌ حَدِيدٌ لِإِنْسَانٍ فَأَخَذَهُ ( وَقَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْأَسِيرِ تَأْوِيلُهُ إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ فَإِنْ كَانَتْ فَالْإِمَامُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَتَلَ الْأَسِيرَ ) وَإِنْ كَانَ

عَبْدًا يُقَاتِلُ .
( وَإِنْ شَاءَ حَبَسَهُ ) وَالْعَبْدُ الَّذِي لَا يُقَاتِلُ بَلْ يَخْدُمُ مَوْلَاهُ يُحْبَسُ ( لِمَا ذَكَرْنَا ) مِنْ دَفْعِهِ الشَّرَّ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ ، وَفِيهِ خِلَافُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ ، وَمَعْنَى هَذَا الْخِيَارِ أَنْ يُحَكِّمَ نَظَرَهُ فِيمَا هُوَ أَحْسَنُ الْأَمْرَيْنِ فِي كَسْرِ الشَّوْكَةِ مِنْ قَتْلِهِ وَحَبْسِهِ ، وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِحَسَبِ الْحَالِ لَا بِهَوَى النَّفْسِ وَالتَّشَفِّي ، وَإِذَا أُخِذَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ وَكَانَتْ تُقَاتِلُ حُبِسَتْ وَلَا تُقْتَلُ إلَّا فِي حَالِ مُقَاتَلَتِهَا دَفْعًا ، وَإِنَّمَا تُحْبَسُ لِلْمَعْصِيَةِ وَلِمَنْعِهَا مِنْ الشَّرِّ وَالْفِتْنَةِ .

( وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُقَاتِلُوا بِسِلَاحِهِمْ إنْ احْتَاجَ الْمُسْلِمُونَ إلَيْهِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ ، وَالْكُرَاعُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ .
لَهُ أَنَّهُ مَالُ مُسْلِمٍ فَلَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إلَّا بِرِضَاهُ .
وَلَنَا أَنَّ عَلِيًّا قَسَّمَ السِّلَاحَ فِيمَا بَيْنَ أَصْحَابِهِ بِالْبَصْرَةِ وَكَانَتْ قِسْمَتُهُ لِلْحَاجَةِ لَا لِلتَّمْلِيكِ ، وَلِأَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي مَالِ الْعَادِلِ عِنْدَ الْحَاجَةِ ، فَفِي مَالِ الْبَاغِي أَوْلَى وَالْمَعْنَى فِيهِ إلْحَاقُ الضَّرَرِ الْأَدْنَى لِدَفْعِ الْأَعْلَى .

( قَوْلُهُ : وَلَا بَأْسَ أَنْ يُقَاتِلُوا بِسِلَاحِهِمْ إنْ احْتَاجَ أَهْلُ الْعَدْلِ إلَيْهِ ) وَكَذَا الْكُرَاعُ يُقَاتِلُونَ عَلَيْهِ ( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ ) اسْتِعْمَالُهَا فِي الْقِتَالِ وَتُرَدُّ عَلَيْهِمْ عِنْدَ الْأَمْنِ مِنْهُمْ وَلَا تُرَدُّ قَبْلَهُ ( لِأَنَّهُ مَالُ مُسْلِمٍ فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ إلَّا بِرِضَاهُ .
وَلَنَا أَنَّ عَلِيًّا إلَخْ ) يُرِيدُ مَا رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي آخِرِ مُصَنَّفِهِ فِي بَابِ وَقْعَةِ الْجَمَلِ بِسَنَدِهِ إلَى ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَسَّمَ يَوْمَ الْجَمَلِ فِي الْعَسْكَرِ مَا أَجَافَوْا عَلَيْهِ مِنْ كُرَاعٍ وَسِلَاحٍ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَكَانَتْ قِسْمَتُهُ لِلْحَاجَةِ لَا لِلتَّمْلِيكِ ) وَلَوْلَا أَنَّ فِيهِ إجْمَاعًا لَأَمْكَنَ التَّمَسُّكُ بِبَعْضِ الظَّوَاهِرِ فِي تَمَلُّكِهِ ، فَإِنَّ ابْنَ أَبِي شَيْبَةَ أَسْنَدَ عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ : لَمَّا انْهَزَمَ أَهْلُ الْجَمَلِ قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَا تَطْلُبُوا مَنْ كَانَ خَارِجًا مِنْ الْعَسْكَرِ ، وَمَا كَانَ مِنْ دَابَّةٍ أَوْ سِلَاحٍ فَهُوَ لَكُمْ ، وَلَيْسَ لَكُمْ أُمُّ وَلَدٍ ، وَأَيُّ امْرَأَةٍ قُتِلَ زَوْجُهَا فَلْتَعْتَدَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ، فَقَالُوا : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ تَحِلُّ لَنَا دِمَاؤُهُمْ وَلَا تَحِلُّ لَنَا نِسَاؤُهُمْ ؟ فَخَاصَمُوهُ ، فَقَالَ : هَاتُوا نِسَاءَكُمْ وَأَقْرِعُوا عَلَى عَائِشَةَ فَهِيَ رَأْسُ الْأَمْرِ وَقَائِدُهُمْ ، قَالَ : فَخَصَمَهُمْ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَرَفُوا وَقَالُوا : نَسْتَغْفِرُ اللَّهَ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ : ( وَلِأَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي مَالِ الْعَادِلِ ) أَيْ يَسْتَعِينُ بِكُرَاعِهِ وَسِلَاحِهِ عِنْدَ حَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ إلَيْهِ ( فَفِي مَالِ الْبَاغِي أَوْلَى .
وَالْمَعْنَى ) الْمُجَوَّزُ ( فِيهِ أَنَّهُ دَفْعُ الضَّرَرِ الْأَعْلَى ) وَهُوَ الضَّرَرُ الْمُتَوَقَّعُ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ ( بِالضَّرَرِ الْأَدْنَى ) وَهُوَ إضْرَارُ بَعْضِهِمْ .

( وَيَحْبِسُ الْإِمَامُ أَمْوَالَهُمْ فَلَا يَرُدُّهَا عَلَيْهِمْ وَلَا يُقَسِّمُهَا حَتَّى يَتُوبُوا فَيَرُدَّهَا عَلَيْهِمْ ) أَمَّا عَدَمُ الْقِسْمَةِ فَلِمَا بَيَّنَّاهُ .
وَأَمَّا الْحَبْسُ فَلِدَفْعِ شَرِّهِمْ بِكَسْرِ شَوْكَتِهِمْ وَلِهَذَا يَحْبِسُهَا عَنْهُمْ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا ، إلَّا أَنَّهُ يَبِيعُ الْكُرَاعَ ؛ لِأَنَّ حَبْسَ الثَّمَنِ أَنْظَرُ وَأَيْسَرُ ، وَأَمَّا الرَّدُّ بَعْدَ التَّوْبَةِ فَلِانْدِفَاعِ الضَّرُورَةِ وَلَا اسْتِغْنَامَ فِيهَا .
.
( وَيَحْبِسُ الْإِمَامُ أَمْوَالَهُمْ ) لِدَفْعِ شَرِّهِمْ وَإِضْعَافِهِمْ بِذَلِكَ ( وَلَا يَرُدُّهَا إلَيْهِمْ وَلَا يُقَسِّمُهَا حَتَّى يَتُوبُوا فَيَرُدَّهَا عَلَيْهِمْ ) أَوْ عَلَى وَرَثَتِهِمْ إذَا ظَهَرَ ذَلِكَ ، وَإِذَا حَبَسَهَا كَانَ بَيْعُ الْكُرَاعِ أَوْلَى ( ؛ لِأَنَّ حَبْسَ الثَّمَنِ أَنْظَرُ ) وَلَا يُنْفَقُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِيَتَوَفَّرَ مُؤْنَتَهَا عَلَيْهِ ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْإِمَامِ بِهَا حَاجَةٌ .

قَالَ : ( وَمَا جَبَاهُ أَهْلُ الْبَغْيِ مِنْ الْبِلَادِ الَّتِي غَلَبُوا عَلَيْهَا مِنْ الْخَرَاجِ وَالْعُشْرِ لَمْ يَأْخُذْهُ الْإِمَامُ ثَانِيًا ) ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْأَخْذِ لَهُ بِاعْتِبَارِ الْحِمَايَةِ وَلَمْ يَحْمِهِمْ ( فَإِنْ كَانُوا صَرَفُوهُ فِي حَقِّهِ أَجْزَأَ مَنْ أُخِذَ مِنْهُ ) لِوُصُولِ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ ( وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا صَرَفُوهُ فِي حَقِّهِ فَعَلَى أَهْلِهِ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُعِيدُوا ذَلِكَ ) ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَى مُسْتَحِقِّهِ .
قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ : قَالُوا الْإِعَادَةُ عَلَيْهِمْ فِي الْخَرَاجِ ؛ لِأَنَّهُمْ مُقَاتِلَةٌ فَكَانُوا مَصَارِفَ ، وَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ ، وَفِي الْعُشْرِ إنْ كَانُوا فُقَرَاءَ ، فَكَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الْفُقَرَاءِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الزَّكَاةِ .
وَفِي الْمُسْتَقْبَلِ يَأْخُذُهُ الْإِمَامُ ؛ لِأَنَّهُ يَحْمِيهِمْ فِيهِ ؛ لِظُهُورِ وِلَايَتِهِ .

( قَوْلُهُ : وَمَا جَبَاهُ أَهْلُ الْبَغْيِ مِنْ الْبِلَادِ الَّتِي غَلَبُوا عَلَيْهَا مِنْ الْخَرَاجِ وَالْعُشْرِ لَا يَأْخُذُهُ الْإِمَامُ ثَانِيًا ) إذَا ظَهَرَ عَلَى الْبُغَاةِ ( لِأَنَّ وِلَايَةَ الْأَخْذِ ) إنَّمَا كَانَتْ ( لَهُ لِحِمَايَتِهِ إيَّاهُمْ وَلَمْ يَحْمِهِمْ ) وَمَا قِيلَ إنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا ظَهَرَ عَلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ لَمْ يُطَالِبْهُمْ بِشَيْءٍ مِمَّا جَبَوْهُ فِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ الْخَوَارِجَ لَا نَعْلَمُ أَنَّهُمْ غَلَبُوا عَلَى بَلْدَةٍ فَأَخَذُوا جِبَايَاتِهَا .
قَالُوا : وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا أَتَاهُ سَاعِي الْحَرُورَاء دَفَعَ إلَيْهِ زَكَاتَهُ ، وَكَذَا سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ ، ثُمَّ ( إنْ كَانُوا صَرَفُوهُ إلَى حَقِّهِ ) أَيْ إلَى مَصَارِفِهِ ( أَجْزَأَ مَنْ أُخِذَ مِنْهُ ) وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ ( لِوُصُولِ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا صَرَفُوهُ فِي حَقِّهِ فَعَلَى مَنْ أُخِذَ مِنْهُمْ أَنْ يُعِيدُوا الْأَدَاءَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ) قَالَ الْمُصَنِّفُ : رَحِمَهُ اللَّهُ ( قَالُوا ) أَيْ الْمَشَايِخُ ( لَا إعَادَةَ عَلَى الْأَرْبَابِ فِي الْخَرَاجِ ؛ لِأَنَّهُمْ ) أَيْ الْبُغَاةَ ( مُقَاتِلَةٌ ) وَهُمْ مَصْرِفُ الْخَرَاجِ ( وَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ .
وَفِي الْعُشْرِ إنْ كَانُوا فُقَرَاءَ فَكَذَلِكَ ) وَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ أُفْتُوا بِالْإِعَادَةِ ، وَكَذَا فِي زَكَاةِ الْأَمْوَالِ كُلِّهَا لَوْ أَخَذُوهَا وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ ، وَالْمَدْفُوعُ مُصَادَرَةً إذَا نَوَى الدَّافِعُ التَّصَدُّقَ عَلَيْهِمْ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ فَارْجِعْ إلَيْهِ .

( وَمَنْ قَتَلَ رَجُلًا وَهُمَا مِنْ عَسْكَرِ أَهْلِ الْبَغْيِ ثُمَّ ظُهِرَ عَلَيْهِمْ فَلَيْسَ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ ) ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِإِمَامِ الْعَدْلِ حِينَ الْقَتْلِ فَلَمْ يَنْعَقِدْ مُوجِبًا كَالْقَتْلِ فِي دَارِ الْحَرْبِ .
( قَوْلُهُ : وَمَنْ قَتَلَ رَجُلًا إلَى آخِرِهِ ) يَعْنِي إذَا كَانَ رَجُلَانِ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ قَتَلَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ لَا يَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ دِيَةٌ ، وَلَا قِصَاصٌ إذَا ظَهَرْنَا عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ نَفْسًا يُبَاحُ قَتْلُهَا ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَادِلَ إذَا قَتَلَهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَلَمَّا كَانَ مُبَاحَ الْقَتْلِ لَمْ يَجِبْ بِهِ شَيْءٌ ؛ وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ لَا يُسْتَوْفَى إلَّا بِالْوِلَايَةِ وَهِيَ بِالْمَنَعَةِ وَلَا وِلَايَةَ لِإِمَامِنَا عَلَيْهِمْ فَلَا يَجِبُ شَيْءٌ وَصَارَ ( كَالْقَتْلِ فِي دَارِ الْحَرْبِ ) وَعِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ يُقْتَلُ بِهِ ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمْ كُلُّ مَوْضِعٍ تَجِبُ فِيهِ الْعِبَادَاتُ فِي أَوْقَاتِهَا فَهُوَ كَدَارِ الْعَدْلِ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ .

( وَإِنْ غَلَبُوا عَلَى مِصْرٍ فَقَتَلَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْمِصْرِ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْمِصْرِ عَمْدًا ثُمَّ ظُهِرَ عَلَى الْمِصْرِ فَإِنَّهُ يُقْتَصُّ مِنْهُ ) وَتَأْوِيلُهُ إذَا لَمْ يَجْرِ عَلَى أَهْلِهِ أَحْكَامُهُمْ وَأُزْعِجُوا قَبْلَ ذَلِكَ ، وَفِي ذَلِكَ لَمْ تَنْقَطِعْ وِلَايَةُ الْإِمَامِ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ .
( قَوْلُهُ : وَإِنْ غَلَبُوا عَلَى مِصْرٍ ) مِنْ أَمْصَارِ أَهْلِ الْعَدْلِ ( فَقَتَلَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْمِصْرِ رَجُلًا مِنْهُمْ عَمْدًا ثُمَّ ظَهَرْنَا عَلَى ذَلِكَ الْمِصْرِ فَإِنَّهُ يُقْتَصُّ مِنْهُ ) وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ كَمَا قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ إنَّهُمْ غَلَبُوا وَلَمْ يَجْرِ فِيهَا حُكْمُهُمْ بَعْدُ حَتَّى أَزْعَجَهُمْ إمَامُ الْعَدْلِ عَنْ أَهْلِ الْمِصْرِ : أَيْ أَخْرَجَهُمْ قَبْلَ تَقَرُّرِ حُكْمِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَمْ تَنْقَطِعْ وِلَايَةُ الْإِمَامِ فَوَجَبَ الْقَوَدُ ، أَمَّا لَوْ جَرَتْ أَحْكَامُهُمْ حَتَّى صَارَتْ فِي حُكْمِ مَحَلِّ وِلَايَتِهِمْ فَلَا قَوَدَ وَلَا قِصَاصَ ، وَلَكِنْ يَسْتَحِقُّ عَذَابَ الْآخِرَةِ .

( وَإِذَا قَتَلَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ بَاغِيًا فَإِنَّهُ يَرِثُهُ ، فَإِنْ قَتَلَهُ الْبَاغِي وَقَالَ قَدْ كُنْت عَلَى حَقٍّ وَأَنَا الْآنَ عَلَى حَقٍّ وَرِثَهُ ، وَإِنْ قَالَ قَتَلْته وَأَنَا أَعْلَمُ أَنِّي عَلَى الْبَاطِلِ لَمْ يَرِثْهُ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا يَرِثُ الْبَاغِي فِي الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ .
وَأَصْلُهُ أَنَّ الْعَادِلَ إذَا أَتْلَفَ نَفْسَ الْبَاغِي أَوْ مَالَهُ لَا يَضْمَنُ وَلَا يَأْثَمُ ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِقِتَالِهِمْ دَفْعًا لِشَرِّهِمْ ، وَالْبَاغِي إذَا قَتَلَ الْعَادِلَ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ عِنْدَنَا وَيَأْثَمُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْقَدِيمِ : إنَّهُ يَجِبُ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إذَا تَابَ الْمُرْتَدُّ ، وَقَدْ أَتْلَفَ نَفْسًا أَوْ مَالًا .
لَهُ أَنَّهُ أَتْلَفَ مَالًا مَعْصُومًا أَوْ قَتَلَ نَفْسًا مَعْصُومَةً فَيَجِبُ الضَّمَانُ اعْتِبَارًا بِمَا قَبْلَ الْمَنَعَةِ .
وَلَنَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ ، رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ .
وَلِأَنَّهُ أَتْلَفَ عَنْ تَأْوِيلٍ فَاسِدٍ ، وَالْفَاسِدُ مِنْهُ مُلْحَقٌ بِالصَّحِيحِ إذَا ضُمَّتْ إلَيْهِ الْمَنَعَةُ فِي حَقِّ الدَّفْعِ كَمَا فِي مَنَعَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَتَأْوِيلِهِمْ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الْإِلْزَامِ أَوْ الِالْتِزَامِ ، وَلَا الْتِزَامَ لِاعْتِقَادِ الْإِبَاحَةِ عَنْ تَأْوِيلٍ ، وَلَا إلْزَامَ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ لِوُجُودِ الْمَنَعَةِ ، وَالْوِلَايَةُ بَاقِيَةٌ قَبْلَ الْمَنَعَةِ وَعِنْدَ عَدَمِ التَّأْوِيلِ ثَبَتَ الِالْتِزَامُ اعْتِقَادًا ، بِخِلَافِ الْإِثْمِ ؛ لِأَنَّهُ لَا مَنَعَةَ فِي حَقِّ الشَّارِعِ ، إذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ : قَتْلُ الْعَادِلِ الْبَاغِيَ قَتْلٌ بِحَقٍّ فَلَا يَمْنَعُ الْإِرْثَ .
وَلِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي قَتْلِ الْبَاغِي الْعَادِلَ أَنَّ التَّأْوِيلَ الْفَاسِدَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي حَقِّ الدَّفْعِ وَالْحَاجَةُ هَاهُنَا إلَى اسْتِحْقَاقِ الْإِرْثِ فَلَا يَكُونُ التَّأْوِيلُ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّ الْإِرْثِ .
وَلَهُمَا فِيهِ أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى دَفْعِ الْحِرْمَانِ أَيْضًا ، إذْ

الْقَرَابَةُ سَبَبُ الْإِرْثِ فَيُعْتَبَرُ الْفَاسِدُ فِيهِ ، إلَّا أَنَّ مِنْ شَرْطِهِ بَقَاءَهُ عَلَى دِيَانَتِهِ ، فَإِذَا قَالَ : كُنْت عَلَى الْبَاطِلِ لَمْ يُوجَدْ الدَّافِعُ فَوَجَبَ الضَّمَانُ .

( قَوْلُهُ : وَإِذَا قَتَلَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ بَاغِيًا فَإِنَّهُ يَرِثُهُ ) بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِقَتْلِهِ فَلَا يَحْرُمُ الْمِيرَاثُ بِهِ ( وَإِنْ قَتَلَ الْبَاغِي ) الْعَادِلَ ( وَقَالَ : كُنْت عَلَى الْحَقِّ وَأَنَا الْآنَ عَلَى الْحَقِّ وَرِثَهُ ) ، وَإِنْ قَالَ قَتَلْته وَأَنَا أَعْلَمُ أَنِّي عَلَى الْبَاطِلِ لَمْ يَرِثْهُ .
وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ .
( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا يَرِثُ الْبَاغِي ) الْعَادِلَ ( فِي الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ .
وَأَصْلُهُ ) أَيْ أَصْلُ هَذَا الْخِلَافِ الْخِلَافُ فِي ( أَنَّ الْعَادِلَ إذَا أَتْلَفَ نَفْسَ الْبَاغِي أَوْ مَالَهُ لَا يَضْمَنُ ) عِنْدَنَا ( وَلَا يَأْثَمُ ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِقِتَالِهِمْ ) دَفْعًا لِشَرِّهِمْ وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ ( وَالْبَاغِي إذَا قَتَلَ الْعَادِلَ ) بَعْدَ قِيَامِ مَنَعَتِهِمْ وَشَوْكَتِهِمْ ( لَا يَجِبُ الضَّمَانُ ) عَلَيْهِ ( عِنْدَنَا ) وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلِهِ الْجَدِيدِ ، وَلَوْ قَتَلَهُ قَبْلَ ذَلِكَ اُقْتُصَّ مِنْهُ اتِّفَاقًا وَكَذَا يَضْمَنُونَ الْمَالَ ( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ يَضْمَنُ ) وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ؛ لِأَنَّهَا نُفُوسٌ وَأَمْوَالٌ مَعْصُومَةٌ فَتُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا ( وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ لَوْ تَابَ الْمُرْتَدُّ وَقَدْ أَتْلَفَ نَفْسًا أَوْ مَالًا .
وَلَنَا أَنَّهُ ) إتْلَافٌ مِمَّنْ لَمْ يَعْتَقِدْ وُجُوبَ الضَّمَانِ فِي حَالِ عَدَمِ وِلَايَةِ الْإِلْزَامِ عَلَيْهِ فَلَا يُؤَاخَذُ بِهِ قِيَاسًا عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ نَفْيَ الضَّمَانِ مَنُوطٌ بِالْمَنَعَةِ مَعَ التَّأْوِيلِ ، فَلَوْ تَجَرَّدَتْ الْمَنَعَةُ عَنْ التَّأْوِيلِ كَقَوْمٍ غَلَبُوا عَلَى أَهْلِ بَلْدَةٍ فَقَتَلُوا وَاسْتَهْلَكُوا الْأَمْوَالَ بِلَا تَأْوِيلٍ ثُمَّ ظُهِرَ عَلَيْهِمْ أُخِذُوا بِجَمِيعِ ذَلِكَ ، وَلَوْ انْفَرَدَ التَّأْوِيلُ عَنْ الْمَنَعَةِ بِأَنْ انْفَرَدَ وَاحِدٌ أَوْ اثْنَانِ فَقَتَلُوا وَأَخَذُوا عَنْ تَأْوِيلٍ ضَمِنُوا إذَا تَابُوا أَوْ قُدِرَ عَلَيْهِمْ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ ( إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ )

قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ : أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ ، أَخْبَرَنِي الزُّهْرِيُّ ، أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ هِشَامٍ كَتَبَ إلَيْهِ يَسْأَلُهُ عَنْ امْرَأَةٍ خَرَجَتْ مِنْ عِنْدِ زَوْجِهَا وَشَهِدَتْ عَلَى قَوْمِهَا بِالشِّرْكِ وَلَحِقَتْ بِالْحَرُورِيَّةِ فَتَزَوَّجَتْ ثُمَّ إنَّهَا رَجَعَتْ إلَى أَهْلِهَا تَائِبَةً ، قَالَ : فَكَتَبَ إلَيْهِ : أَمَّا بَعْدُ ، فَإِنَّ الْفِتْنَةَ الْأُولَى ثَارَتْ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا كَثِيرٌ فَاجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَنْ لَا يُقِيمُوا عَلَى أَحَدٍ حَدًّا فِي فَرْجٍ اسْتَحَلُّوهُ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ وَلَا قِصَاصًا فِي دَمٍ اسْتَحَلُّوهُ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ وَلَا بِرَدِّ مَالٍ اسْتَحَلُّوهُ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ ، إلَّا أَنْ يُوجَدَ شَيْءٌ بِعَيْنِهِ فَيُرَدَّ عَلَى صَاحِبِهِ ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تُرَدَّ إلَى زَوْجِهَا وَأَنْ يُحَدَّ مَنْ افْتَرَى عَلَيْهَا .
قَالَ الْمُصَنِّفُ : ( وَلِأَنَّهُ أَتْلَفَ عَنْ تَأْوِيلٍ فَاسِدٍ وَالْفَاسِدُ مِنْ التَّأْوِيلِ مُلْحَقٌ بِالصَّحِيحِ إذَا ضُمَّتْ إلَيْهِ الْمَنَعَةُ فِي حَقِّ الدَّافِعِ ) أَيْ نَفْيُ الضَّمَانِ وَصَارَ ( كَمَا فِي مَنَعَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَتَأْوِيلِهِمْ ) وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الِاعْتِبَارَ وَهُوَ إلْحَاقُ الْفَاسِدِ مِنْ الِاجْتِهَادِ الَّذِي لَمْ يُسَوَّغْ حَتَّى ضُلِّلَ مُرْتَكِبُهُ بِالصَّحِيحِ بِشَرْطِ انْضِمَامِ الْمَنَعَةِ إلَيْهِ ، وَتَعْلِيلُهُ بِأَنَّهُ عِنْدَ انْضِمَامِ الْمَنَعَةِ تَنْقَطِعُ وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ فَيَلْزَمُ السُّقُوطُ كُلُّهُ مُسْتَنِدًا إلَى الْإِجْمَاعِ الْمَنْقُولِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَإِلَّا فَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْعَجْزِ عَنْ الْإِلْزَامِ سُقُوطُهُ شَرْعًا ، بَلْ إنَّمَا يَلْزَمُ سُقُوطُ الْخِطَابِ بِهِ مَا دَامَ الْعَجْزُ عَنْ إلْزَامِهِ ثَابِتًا ، فَإِذَا ثَبَتَتْ الْقُدْرَةُ تَعَلَّقَ خِطَابُ الْإِلْزَامِ كَمَا يَقُولُهُ الشَّافِعِيُّ ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْإِجْمَاعُ الْمَنْقُولُ فِي صُورَةٍ مُقَيَّدَةٍ بِمَا ذَكَرْنَا كَانَ ذَلِكَ أَصْلًا شَرْعِيًّا ضَرُورَةَ الْإِجْمَاعِ الْمَذْكُورِ .
إذَا عَرَفْت هَذَا فَيَقُولُ أَبُو يُوسُفَ : إلْحَاقُ

التَّأْوِيلِ الْفَاسِدِ بِالصَّحِيحِ بِقَوْلِ الصَّحَابَةِ كَانَ فِي دَفْعِ الضَّمَانِ ، وَالْحَاجَةُ هُنَا إلَى إثْبَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ فَإِلْحَاقُهُ بِهِ بِلَا دَلِيلٍ ، وَهُمَا يَقُولَانِ الْمُتَحَقِّقُ مِنْ الصَّحَابَةِ جَعَلَ تِلْكَ الْمَنَعَةَ وَالِاعْتِقَادَ دَافِعًا مَا لَوْلَاهُ لَثَبَتَ لِثُبُوتِ أَسْبَابِ الثُّبُوتِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْلَا تِلْكَ الْمَنَعَةُ وَالِاعْتِقَادُ لَثَبَتَ الضَّمَانُ لِثُبُوتِ سَبَبِهِ مِنْ الْقَتْلِ عَمْدًا ، وَإِتْلَافِ الْمَالِ الْمَعْصُومِ فَيَتَنَاوَلُ مَا نَحْنُ فِيهِ ، فَإِنَّ الْقَرَابَةَ الَّتِي هِيَ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ قَائِمَةٌ ، وَالْقَتْلُ بِغَيْرِ حَقٍّ مَانِعٍ وُجِدَ عَنْ اعْتِقَادِ الْحَقِّيَّةِ مَعَ الْمَنَعَةِ فَمُنِعَ مُقْتَضَاهُ مِنْ الْمَنْعِ فَعَمِلَ السَّبَبُ عَمَلَهُ مِنْ إثْبَاتِ الْمِيرَاثِ .

قَالَ ( وَيُكْرَهُ بَيْعُ السِّلَاحِ مِنْ أَهْلِ الْفِتْنَةِ وَفِي عَسَاكِرِهِمْ ) ؛ لِأَنَّهُ إعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ ( وَلَيْسَ بِبَيْعِهِ بِالْكُوفَةِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ مِنْ أَهْلِ الْفِتْنَةِ بَأْسٌ ) ؛ لِأَنَّ الْغَلَبَةَ فِي الْأَمْصَارِ لِأَهْلِ الصَّلَاحِ ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ بَيْعُ نَفْسِ السِّلَاحِ لَا بَيْعُ مَا لَا يُقَاتَلُ بِهِ إلَّا بِصَنْعَةٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُكْرَهُ بَيْعُ الْمَعَازِفِ وَلَا يُكْرَهُ بَيْعُ الْخَشَبِ ، وَعَلَى هَذَا الْخَمْرُ مَعَ الْعِنَبِ .
( قَوْلُهُ : وَيُكْرَهُ بَيْعُ السِّلَاحِ مِنْ أَهْلِ الْفِتْنَةِ وَفِي عَسْكَرِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ إعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ ، وَلَيْسَ بِبَيْعِهِ بِالْكُوفَةِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَمَنْ لَمْ يُعْرَفْ مِنْ أَهْلِ الْفِتْنَةِ بَأْسٌ ؛ لِأَنَّ الْغَلَبَةَ فِي الْأَمْصَارِ لِأَهْلِ الصَّلَاحِ ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ بَيْعُ نَفْسِ السِّلَاحِ ) ؛ لِأَنَّهُ يُقَاتَلُ بِعَيْنِهِ ( لَا مَا لَا يُقَاتَلُ بِهِ إلَّا بِصَنْعَةٍ ) تَحْدُثُ فِيهِ ، وَنَظِيرُهُ كَرَاهَةُ بَيْعِ الْمَعَازِفِ ؛ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ تُقَامُ بِهَا عَيْنِهَا ( وَلَا يُكْرَهُ بَيْعُ الْخَشَبِ ) الْمُتَّخَذَةِ هِيَ مِنْهُ ( وَعَلَى هَذَا بَيْعُ الْخَمْرِ ) لَا يَصِحُّ وَيَصِحُّ بَيْعُ الْعِنَبِ .
وَالْفَرْقُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مَا ذَكَرْنَا .
وَقِيلَ الْفَرْقُ الصَّحِيحُ أَنَّ الضَّرَرَ هُنَا يَرْجِعُ إلَى الْعَامَّةِ وَهُنَاكَ يَرْجِعُ إلَى الْخَاصَّةِ ، ذَكَرَهُ فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ .

[ فُرُوعٌ ] إذَا طَلَبَ أَهْلُ الْبَغْيِ الْمُوَادَعَةَ أُجِيبُوا إلَيْهَا إذَا كَانَ خَيْرًا لِلْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ يَحْتَاجُونَ إلَى الْمُوَادَعَةِ لِحِفْظِ قُوَّتِهِمْ وَالِاسْتِزَادَةِ مِنْ التَّقْوَى عَلَيْهِمْ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ عَلَيْهَا شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ ، وَمِثْلُهُ فِي الْمُرْتَدِّينَ إلَّا أَنَّهُمْ إذَا أَخَذُوا مَلَكُوا ثُمَّ يُجْبَرُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ ، وَإِذَا تَابَ أَهْلُ الْبَغْيِ تَقَدَّمَ أَنَّهُمْ لَا يَضْمَنُونَ مَا أَتْلَفُوا .
وَفِي الْمَبْسُوطِ : رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ : أُفْتِيهِمْ بِأَنْ يَضْمَنُوا مَا أَتْلَفُوا مِنْ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ وَلَا أُلْزِمُهُمْ بِذَلِكَ فِي الْحُكْمِ .
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ : وَهَذَا صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُعْتَقِدِينَ الْإِسْلَامَ وَقَدْ ظَهَرَ لَهُمْ خَطَؤُهُمْ ، إلَّا أَنَّ وِلَايَةَ الْإِلْزَامِ كَانَتْ مُنْقَطِعَةً لِلْمَنَعَةِ فَيُفْتَوْا بِهِ .
وَلَوْ اسْتَعَانَ أَهْلُ الْبَغْيِ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ فَقَاتَلُوا مَعَهُمْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْهُمْ نَقْضًا لِلْعَهْدِ ، كَمَا أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ لَيْسَ نَقْضًا لِلْإِيمَانِ ، فَاَلَّذِينَ انْضَمُّوا إلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَمْ يَخْرُجُوا مِنْ أَنْ يَكُونُوا مُلْتَزِمِينَ حُكْمَ الْإِسْلَامِ فِي الْمُعَامَلَاتِ ، وَأَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الدَّارِ فَحُكْمُهُمْ حُكْمُ الْبُغَاةِ .

وَإِذَا وَقَعَتْ الْمُوَادَعَةُ فَأَعْطَى كُلُّ فَرِيقٍ رَهْنًا عَلَى أَنَّ أَيَّهمَا غَدَرَ يَقْتُلُ الْآخَرُونَ الرَّهْنَ فَغَدَرَ أَهْلُ الْبَغْيِ وَقَتَلُوا الرَّهْنَ لَا يَحِلُّ لِأَهْلِ الْعَدْلِ قَتْلُ الرَّهْنِ ، بَلْ يَحْبِسُونَهُمْ حَتَّى يَهْلِكَ أَهْلُ الْبَغْيِ أَوْ يَتُوبُوا ؛ لِأَنَّهُمْ صَارُوا آمَنِينَ بِالْمُوَادَعَةِ أَوْ بِإِعْطَائِنَا الْأَمَانَ لَهُمْ حِينَ أَخَذْنَاهُمْ رَهْنًا ، وَالْغَدْرُ مِنْ غَيْرِهِمْ لَا يُؤَاخَذُونَ بِهِ لَكِنَّهُمْ يُحْبَسُونَ مَخَافَةَ أَنْ يَرْجِعُوا إلَى فِئَتِهِمْ ، وَكَذَا إذَا كَانَ هَذَا الصُّلْحُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ حُبِسَ رَهْنُهُمْ حَتَّى يُسْلِمُوا ، فَإِنْ أَبَوْا جُعِلُوا ذِمَّةً وَوُضِعَتْ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةُ ؛ لِأَنَّهُمْ حَصَلُوا فِي أَيْدِينَا آمَنِينَ .
وَحُكِيَ أَنَّ الْمَنْصُورَ كَانَ اُبْتُلِيَ بِهِ مَعَ أَهْلِ الْمُوصِلِ ، ثُمَّ إنَّهُمْ غَدَرُوا فَقَتَلُوا رَهْنَهُ ، فَجَمَعَ الْعُلَمَاءَ يَسْتَشِيرُهُمْ فَقَالُوا : يُقْتَلُونَ كَمَا شَرَطُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَفِيهِمْ أَبُو حَنِيفَةَ سَاكِتٌ ، فَقَالَ لَهُ : مَا تَقُولُ ؟ قَالَ لَيْسَ لَك ذَلِكَ ، فَإِنَّك شَرَطْتَ لَهُمْ مَا لَا يَحِلُّ وَشَرَطُوا لَك مَا لَا يَحِلُّ ، كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } فَأَغْلَظَ عَلَيْهِ الْقَوْلَ وَأَمَرَ بِإِخْرَاجِهِ مِنْ عِنْدِهِ وَقَالَ : مَا دَعَوْتُك لِشَيْءٍ إلَّا أَتَيْتنِي بِمَا أَكْرَهُ ، ثُمَّ جَمَعَهُمْ مِنْ الْغَدِ وَقَالَ : قَدْ تَبَيَّنَ لِي أَنَّ الصَّوَابَ مَا قُلْت فَمَاذَا نَصْنَعُ بِهِمْ .
قَالَ : سَلْ الْعُلَمَاءَ ، فَسَأَلَهُمْ فَقَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا .
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تُوضَعُ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةُ ، قَالَ : لِمَ وَهُمْ لَا يَرْضَوْنَ بِذَلِكَ .
قَالَ : لِأَنَّهُمْ رَضُوا بِالْمُقَامِ فِي دَارِنَا عَلَى التَّأْبِيدِ ، وَالْكَافِرُ إذَا رَضِيَ بِذَلِكَ تُوضَعُ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ ، فَاسْتَحْسَنَ قَوْلَهُ وَاعْتَذَرَ إلَيْهِ .

وَإِذَا أَمَّنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ جَازَ أَمَانُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَعْلَى شِقَاقًا مِنْ الْكَافِرِ ، وَهُنَاكَ يَجُوزُ فَكَذَا هُنَا ؛ وَلِأَنَّهُ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى مُنَاظَرَتِهِ لِيَتُوبَ ، وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ مَا لَمْ يَأْمَنْ كُلٌّ مِنْ الْآخَرِ ، وَمِنْهُ أَنْ يَقُولَ : لَا بَأْسَ عَلَيْك وَلَا يَجُوزُ أَمَانُ الذِّمِّيِّ إذَا كَانَ يُقَاتِلُ مَعَ أَهْلِ الْبَغْيِ .

وَلَوْ ظَهَرَ أَهْلُ الْبَغْيِ عَلَى بَلَدٍ فَوَلَّوْا فِيهِ قَاضِيًا مِنْ أَهْلِهِ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ صَحَّ ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُقِيمَ الْحُدُودَ وَالْحُكْمَ بَيْنَ النَّاسِ بِالْعَدْلِ ، فَإِنْ كَتَبَ هَذَا الْقَاضِي كِتَابًا إلَى قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ بِحَقٍّ لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ مِصْرِهِ بِشَهَادَةِ مَنْ شَهِدَ عِنْدَهُ ، إنْ كَانَ الْقَاضِي يَعْرِفُهُمْ وَلَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ أَجَازَهُ ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ أَوْ لَا يَعْرِفُهُمْ لَا يَعْمَلُ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيمَنْ يَسْكُنُ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ مِنْهُمْ ، وَلَا يَقْبَلُ قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ كِتَابَ قَاضِي أَهْلِ الْبَغْيِ ؛ لِأَنَّهُمْ فَسَقَةٌ ، وَيُكْرَهُ أَخْذُ رُءُوسِهِمْ فَيُطَافُ بِهَا فِي الْآفَاقِ ؛ لِأَنَّهُ مُثْلَةٌ .
وَجَوَّزَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ إذَا كَانَ فِيهِ طُمَأْنِينَةُ قُلُوبِ أَهْلِ الْعَدْلِ أَوْ كَسْرُ شَوْكَتِهِمْ .

وَيُكْرَهُ لِلْعَادِلِ قَتْلُ أَبِيهِ أَوْ أَخِيهِ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ .
بِخِلَافِ أَخِيهِ الْكَافِرِ فَإِنَّهُ لَا يُكْرَهُ ؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِي الْبَاغِي حُرْمَتَانِ : حُرْمَةُ الْإِسْلَامِ ، وَحُرْمَةُ الْقَرَابَةِ ، وَفِي الْكَافِرِ حُرْمَةُ الْقَرَابَةِ فَقَطْ .

وَإِذَا كَانَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ فِي صَفِّ أَهْلِ الْبَغْيِ فَقَتَلَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِيهِ دِيَةٌ كَمَا لَوْ كَانَ فِي صَفِّ أَهْلِ الْحَرْبِ ؛ لِأَنَّهُ أَهْدَرَ دَمَهُ حِينَ وَقَفَ فِي صَفِّهِمْ .
وَلَوْ دَخَلَ بَابًا بِأَمَانٍ فَقَتَلَهُ عَادِلٌ عَلَيْهِ الدِّيَةُ كَمَا لَوْ قَتَلَ الْمُسْلِمُ مُسْتَأْمَنًا فِي دَارِنَا ؛ وَهَذَا لِبَقَاءِ شُبْهَةِ الْإِبَاحَةِ فِي دَمِهِ .

وَإِذَا حَمَلَ الْعَادِلُ عَلَى الْبَاغِي فَقَالَ تُبْت وَأَلْقَى السِّلَاحَ كَفَّ عَنْهُ ، وَكَذَا لَوْ قَالَ كُفَّ عَنِّي حَتَّى أَنْظُرَ لَعَلِّي أَتُوبَ وَأَلْقَى السِّلَاحَ .
وَمَا لَمْ يُلْقِ السِّلَاحَ فِي صُورَةٍ مِنْ الصُّوَرِ كَانَ لَهُ قَتْلُهُ ، وَمَتَى أَلْقَاهُ كَفَّ عَنْهُ ، بِخِلَافِ الْحَرْبِيِّ لَا يَلْزَمُهُ الْكَفُّ عَنْهُ بِإِلْقَائِهِ السِّلَاحَ .

وَلَوْ غَلَبَ أَهْلُ الْبَغْي عَلَى بَلَدٍ فَقَاتَلَهُمْ آخَرُونَ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ فَأَرَادُوا أَنْ يَسْبُوا ذَرَارِيَّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَجَبَ عَلَى أَهْلِ الْبَلَدِ أَنْ يُقَاتِلُوا دُونَ ذَرَارِيِّهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُسْبَوْنَ فَوَجَبَ قِتَالُهُمْ .

وَإِذَا وَادَعَ أَهْلُ الْبَغْيِ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لَا يَحِلُّ لِأَهْلِ الْعَدْلِ غَزْوُهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ ، وَأَمَانُ الْمُسْلِمِ إذَا كَانَ فِي مَنَعَةٍ نَافِذٌ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ ، فَإِنْ غَدَرَ بِهِمْ الْبُغَاةُ فَسُبُوا لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُمْ .

وَلَوْ ظَهَرَ أَهْلُ الْبَغْيِ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ فَأَلْجَئُوهُمْ إلَى دَارِ الشِّرْكِ لَمْ يَحِلَّ لَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوا الْبُغَاةَ مَعَ أَهْلِ الشِّرْكِ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ أَهْلِ الشِّرْكِ ظَاهِرٌ عَلَيْهِمْ ، وَلَا يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يَسْتَعِينُوا بِأَهْلِ الشِّرْكِ عَلَى أَهْلِ الْبَغْيِ إذَا كَانَ حُكْمُ أَهْلِ الشِّرْكِ هُوَ الظَّاهِرُ ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَسْتَعِينَ أَهْلُ الْعَدْلِ بِالْبُغَاةِ وَالذِّمِّيِّينَ عَلَى الْخَوَارِجِ إذَا كَانَ حُكْمُ أَهْلِ الْعَدْلِ هُوَ الظَّاهِرُ ؛ لِأَنَّهُمْ يُقَاتِلُونَ لِإِعْزَازِ الدِّينِ ، وَالِاسْتِعَانَةُ عَلَيْهِمْ بِقَوْمٍ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ كَالِاسْتِعَانَةِ عَلَيْهِمْ بِالْكِلَابِ .

وَإِذَا وَلَّى الْبُغَاةُ قَاضِيًا فِي مَكَانٍ غَلَبُوا عَلَيْهِ فَقَضَى مَا شَاءَ ثُمَّ ظَهَرَ أَهْلُ الْعَدْلِ فَرُفِعَتْ أَقْضِيَتُهُ إلَى قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ نَفَّذَ مِنْهَا مَا هُوَ عَدْلٌ ، وَكَذَا مَا قَضَاهُ بِرَأْيِ بَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي فِي الْمُجْتَهَدَاتِ نَافِذٌ وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِرَأْيِ قَاضِي الْعَدْلِ .

وَلَوْ اسْتَعَانَ الْبُغَاةُ بِأَهْلِ الْحَرْبِ فَظُهِرَ عَلَيْهِمْ سَبْينَا أَهْلَ الْحَرْبِ وَلَا تَكُونُ اسْتِعَانَةُ الْبُغَاةِ بِهِمْ أَمَانًا مِنْهُمْ لَهُمْ حَتَّى يَلْزَمَنَا تَأْمِينُهُمْ عَلَى مَا قَدَّمْنَا ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ مَنْ يَدْخُلُ دَارَ الْإِسْلَامِ تَارِكًا لِلْحَرْبِ وَهَؤُلَاءِ مَا دَخَلُوا إلَّا لِيُقَاتِلُوا الْمُسْلِمِينَ .

كِتَابُ اللَّقِيطِ اللَّقِيطُ سُمِّيَ بِهِ بِاعْتِبَارِ مَآلِهِ لِمَا أَنَّهُ يُلْقَطُ .
وَالِالْتِقَاطُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ إحْيَائِهِ ، وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ ضَيَاعُهُ فَوَاجِبٌ .
قَالَ ( اللَّقِيطُ حُرٌّ ) ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي بَنِي آدَمَ إنَّمَا هُوَ الْحُرِّيَّةُ ، وَكَذَا الدَّارُ دَارُ الْأَحْرَارِ ؛ وَلِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْغَالِبِ

كِتَابُ اللَّقِيطِ أَعْقَبَ اللَّقِيطَ وَاللُّقَطَةَ الْجِهَادَ لِمَا فِيهِ مِنْ كَوْنِ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ تَصِيرُ عُرْضَةً لِلْفَوَاتِ وَقَدَّمَ اللَّقِيطَ عَلَى اللُّقَطَةِ لِتَعَلُّقِهِ بِالنَّفْسِ وَالْمُتَعَلِّقُ بِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمُتَعَلِّقِ بِالْمَالِ .
وَاللَّقِيطُ لُغَةً : مَا يُلْقَطُ : أَيْ يُرْفَعُ مِنْ الْأَرْضِ ، فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ ، سُمِّيَ بِهِ الْوَلَدُ الْمَطْرُوحُ خَوْفًا مِنْ الْعَيْلَةِ أَوْ مِنْ تُهْمَةِ الزِّنَا بِهِ بِاعْتِبَارِ مَآلِهِ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ آيِلٌ إلَى أَنْ يُلْتَقَطَ فِي الْعَادَةِ كَالْقَتِيلِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ } ( وَالِالْتِقَاطُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ إحْيَاءِ نَفْسٍ مُسْلِمَةٍ ) إذَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَى الظَّنِّ ضَيَاعُهُ ( فَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ ضَيَاعُهُ كَانَ وَاجِبًا ) وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَبَاقِي الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ ، إلَّا إذَا خَافَ هَلَاكَهُ فَفَرْضُ عَيْنٍ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلِ الْوُجُوبِ قَبْلَ الْخَوْفِ .
نَعَمْ إذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ ضَيَاعُهُ أَوْ هَلَاكُهُ فَكَمَا قَالُوا ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْوُجُوبِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ لَا الْوُجُوبُ بِاصْطِلَاحِنَا ؛ لِأَنَّ هَذَا الْحُكْمَ وَهُوَ إلْزَامُ الْتِقَاطِهِ إذَا خِيفَ هَلَاكُهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ ، وَالثَّابِتُ إلْزَامُهُ بِقَطْعِيِّ فَرْضٍ ( قَوْلُهُ : اللَّقِيطُ حُرٌّ وَلَوْ كَانَ الْمُلْتَقِطُ عَبْدًا ) أَيْ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِ حَتَّى يُحَدَّ قَاذِفُهُ ، وَالْجِنَايَةُ عَلَيْهِ كَالْجِنَايَةِ عَلَى الْأَحْرَارِ ، وَلَا يُحَدُّ قَاذِفُ أُمِّهِ ؛ لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ حُرِّيَّتَهَا ، وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ مَعَ احْتِمَالِ السُّقُوطِ ، وَإِنَّمَا حُكْمُ الشَّرْعِ فِيهِ بِالْحُرِّيَّةِ ( لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي بَنِي آدَمَ الْحُرِّيَّةُ ) ؛ لِأَنَّهُمْ أَوْلَادُ خِيَارِ الْمُسْلِمِينَ آدَمَ وَحَوَّاءَ ، وَإِنَّمَا عَرَضَ الرِّقُّ بِعُرُوضِ الْكُفْرِ لِبَعْضِهِمْ ، فَمَا لَمْ يَتَيَقَّنْ بِالْعَارِضِ لَا يُحْكَمُ بِهِ ( وَكَذَا الدَّارُ دَارُ الْأَحْرَارِ ، وَلِأَنَّ الْحُكْمَ الْغَالِبَ ) وَالْغَالِبَ فِي جَمِيعِ

أَقْطَارِ الدُّنْيَا الْأَحْرَارُ .

( وَنَفَقَتُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ ) هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَلِأَنَّهُ مُسْلِمٌ عَاجِزٌ عَنْ التَّكَسُّبِ ، وَلَا مَالَ لَهُ وَلَا قَرَابَةَ فَأَشْبَهَ الْمُقْعَدَ الَّذِي لَا مَالَ لَهُ وَلَا قَرَابَةَ ؛ وَلِأَنَّ مِيرَاثَهُ لِبَيْتِ الْمَالِ ، وَالْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ وَلِهَذَا كَانَتْ جِنَايَتُهُ فِيهِ .
وَالْمُلْتَقِطُ مُتَبَرِّعٌ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ ؛ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ إلَّا أَنْ يَأْمُرَهُ الْقَاضِي بِهِ لِيَكُونَ دَيْنًا عَلَيْهِ لِعُمُومِ الْوِلَايَةِ .

( قَوْلُهُ : وَنَفَقَتُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ ) أَيْ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ ، وَهَذَا بِلَا خِلَافٍ .
وَأَصْلُهُ مَا رَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ سُنَيْنٍ أَبِي جَمِيلَةَ رَجُلٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ أَنَّهُ وَجَدَ مَنْبُوذًا فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ : فَجِئْت بِهِ إلَى عُمَرَ فَقَالَ : مَا حَمَلَك عَلَى أَخْذِ هَذِهِ النَّسَمَةِ ؟ فَقَالَ : وَجَدْتهَا ضَائِعَةً فَأَخَذْتهَا ، فَقَالَ لَهُ عَرِيفُهُ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ إنَّهُ رَجُلٌ صَالِحٌ ، قَالَ كَذَلِكَ ؟ قَالَ نَعَمْ ، قَالَ اذْهَبْ بِهِ فَهُوَ حُرٌّ وَعَلَيْنَا نَفَقَتُهُ .
وَعَنْ مَالِكٍ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ .
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ : وَغَيْرُ الشَّافِعِيِّ يَرْوِيهِ عَنْ مَالِكٍ وَيَقُولُ فِيهِ : وَعَلَيْنَا نَفَقَتُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ انْتَهَى .
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ : أَنْبَأَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ : حَدَّثَنِي أَبُو جَمِيلَةَ أَنَّهُ وَجَدَ مَنْبُوذًا عَلَى عَهْدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَتَاهُ بِهِ فَاتَّهَمَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَأُثْنِيَ عَلَيْهِ خَيْرًا ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : هُوَ حُرٌّ وَوَلَاءُهُ لَك وَنَفَقَتُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ .
وَتُهْمَةُ عُمَرَ دَلَّ عَلَيْهَا مَا فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ عَنْهُ فِي حَدِيثِ أَبِي جَمِيلَةَ أَنَّهُ قَالَ لَهُ : عَسَى الْغُوَيْرُ أَبْؤُسًا ، وَهُوَ مَثَلٌ لِمَا يَكُونُ ظَاهِرُهُ خِلَافَ بَاطِنِهِ .
وَأَوَّلُ مَنْ قَالَتْهُ الزَّبَّاءُ .
وَمَا قِيلَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُلْتَقِطَ يَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ بِهِ إلَى الْإِمَامِ أَوَّلًا لَيْسَ بِلَازِمٍ .
نَعَمْ مَا لَمْ يَتَبَرَّعْ بِالْإِنْفَاقِ وَقَصَدَ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ كَمَا فَعَلَ أَبُو جَمِيلَةَ يَحْتَاجُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ إلَيْهِ ، وَإِذَا جَاءَ بِهِ إلَى الْإِمَامِ لَا يُصَدِّقُهُ فَيُخْرِجُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ نَفَقَتَهُ إلَّا أَنْ يُقِيمَ بَيِّنَةً عَلَى الِالْتِقَاطِ ؛ لِأَنَّهُ عَسَاهُ ابْنُهُ وَلِذَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : عَسَى الْغُوَيْرُ أَبْؤُسًا .
وَالْوَجْهُ أَنَّهُ لَا يُتَوَقَّفُ عَلَى الْبَيِّنَةِ

إلَى مَا يُرَجِّحُ صِدْقَهُ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ عُمَرَ لَمَّا قَالَ عَرِيفُهُ إنَّهُ رَجُلٌ صَالِحٌ أَنْفَقَ عَلَيْهِ ، فَإِنَّ هَذِهِ الْبَيِّنَةَ لَيْسَتْ عَلَى أَوْضَاعِ الْبَيِّنَاتِ فَإِنَّهَا لَمْ تَقُمْ عَلَى خَصْمٍ حَاضِرٍ ، وَإِنَّمَا كَانَتْ لِيَتَرَجَّحَ صِدْقُهُ فِي إخْبَارِهِ بِالِالْتِقَاطِ ، وَلِذَا قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ : هَذِهِ لِكَشْفِ الْحَالِ وَالْبَيِّنَةُ لِكَشْفِ الْحَالِ مَقْبُولَةٌ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَلَى خَصْمٍ .
قَالَ الْوَاقِدِيُّ : وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ : كَانَ عُمَرُ إذَا أُتِيَ بِلَقِيطٍ فَرَضَ لَهُ مَا يُصْلِحُهُ رِزْقًا يَأْخُذُهُ وَلِيُّهُ كُلَّ شَهْرٍ وَيُوصِي بِهِ خَيْرًا ، وَيَجْعَلُ رَضَاعَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَنَفَقَتَهُ .
وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي ثَابِتِ بْنِ ذُهْلِ بْنِ أَوْسٍ عَنْ تَمِيمٍ أَنَّهُ وَجَدَ لَقِيطًا فَأَتَى بِهِ إلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَلْحَقَهُ عَلِيٌّ عَلَى مَالِهِ ( وَلِأَنَّهُ مُسْلِمٌ عَاجِزٌ عَنْ الْكَسْبِ وَلَا مَالَ لَهُ وَلَا قَرَابَةَ ) أَغْنِيَاءَ لِتَجِبَ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِمْ فَكَانَتْ فِي بَيْتِ الْمَالِ كَالْمُقْعَدِ الَّذِي لَا مَالَ لَهُ ؛ وَلِأَنَّ مِيرَاثَهُ لِبَيْتِ الْمَالِ ( وَالْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ ) أَيْ لِبَيْتِ الْمَالِ غُنْمُهُ : أَيْ مِيرَاثُهُ وَدَيْنُهُ ، حَتَّى لَوْ وُجِدَ اللَّقِيطُ قَتِيلًا فِي مَحَلَّةٍ كَانَتْ عَلَى أَهْلِ تِلْكَ الْمَحَلَّةِ دِيَتُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ وَعَلَيْهِمْ الْقَسَامَةُ ، وَكَذَا إذَا قَتَلَهُ الْمُلْتَقِطُ أَوْ غَيْرُهُ خَطَأً فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ لِبَيْتِ الْمَالِ ، وَلَوْ قَتَلَهُ عَمْدًا فَالْخِيَارُ إلَى الْإِمَامِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي مِثْلِهِ فَعَلَيْهِ غُرْمُهُ ( وَلِهَذَا كَانَتْ جِنَايَتُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ ) وَبَدَأَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ بِحَدِيثِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ رَجُلًا الْتَقَطَ لَقِيطًا فَأَتَى بِهِ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ : هُوَ حُرٌّ ، وَلَأَنْ أَكُونَ وَلَّيْتُ مِنْ أَمْرِهِ مِثْلَ الَّذِي وَلَّيْتَ مِنْهُ

أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا .
فَحَرَّضَ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَأْخُذْهُ مِنْهُ بِالْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ ، وَهِيَ الْإِمَامَةُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ الْمُلْتَقِطِ إلَّا بِسَبَبٍ يُوجِبُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ يَدَهُ سَبَقَتْ إلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ .
( قَوْلُهُ : وَالْمُلْتَقِطُ مُتَبَرِّعٌ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ لِعَدَمِ وِلَايَتِهِ ) عَلَى أَنْ يَلْحَقَهُ الدَّيْنُ ؛ لِيَرْجِعَ عَلَيْهِ إذَا كَبُرَ وَاكْتَسَبَ ( إلَّا أَنْ يَأْمُرَهُ الْقَاضِي بِهِ لِيَكُونَ دَيْنًا عَلَيْهِ ) يَعْنِي بِهَذَا الْقَيْدِ بِأَنْ يَقُولَ : أَنْفِقْ عَلَيْهِ وَيَكُونُ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَيْهِ .
وَظَاهِرُ الْحَصْرِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ إلَّا أَنْ يَأْمُرَهُ إلَى آخِرِهِ يُفِيدُ أَنَّهُ لَوْ أَمَرَهُ وَلَمْ يَقُلْ لِيَكُونَ دَيْنًا عَلَيْهِ لَا يَرْجِعُ بِمَا أَنْفَقَ ، وَهُوَ كَذَلِكَ فِي الْأَصَحِّ ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ بِالْإِنْفَاقِ إنَّمَا يُوجِبُ ظَاهِرًا تَرْغِيبَهُ فِي إتْمَامِ الِاحْتِسَابِ وَتَحْصِيلِ الثَّوَابِ .
وَقِيلَ يُوجِبُ لَهُ الرُّجُوعَ ؛ لِأَنَّ أَمْرَ الْقَاضِي كَأَمْرِ اللَّقِيطِ بِنَفْسِهِ إذَا كَانَ كَبِيرًا ( لِعُمُومِ وِلَايَةِ الْقَاضِي ) فَإِذَا أَنْفَقَ بِالْأَمْرِ الَّذِي يُصَيِّرُهُ دَيْنًا عَلَيْهِ فَبَلَغَ فَادَّعَى أَنَّهُ أَنْفَقَ عَلَيْهِ كَذَا فَإِنْ صَدَّقَهُ اللَّقِيطُ رَجَعَ بِهِ ، وَإِنْ كَذَّبَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ اللَّقِيطِ وَعَلَى الْمُلْتَقِطِ الْبَيِّنَةُ .

قَالَ ( فَإِنْ الْتَقَطَهُ رَجُلٌ لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ ) ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ حَقُّ الْحِفْظِ لَهُ لِسَبْقِ يَدِهِ ( فَإِنْ ادَّعَى مُدَّعٍ أَنَّهُ ابْنُهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ) .
مَعْنَاهُ : إذَا لَمْ يَدَّعِ الْمُلْتَقِطُ نَسَبَهُ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ .
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُقْبَلَ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ حَقِّ الْمُلْتَقِطِ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ إقْرَارٌ لِلصَّبِيِّ بِمَا يَنْفَعُهُ ؛ لِأَنَّهُ يَتَشَرَّفُ بِالنَّسَبِ وَيُعَيَّرُ بِعَدَمِهِ .
ثُمَّ قِيلَ يَصِحُّ فِي حَقِّهِ دُونَ إبْطَالِ يَدِ الْمُلْتَقِطِ .
وَقِيلَ يُبْتَنَى عَلَيْهِ بُطْلَانُ يَدِهِ ، وَلَوْ ادَّعَاهُ الْمُلْتَقِطُ قِيلَ يَصِحُّ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ عَلَى الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ وَقَدْ عُرِفَ فِي الْأَصْلِ .

( قَوْله فَإِنْ ادَّعَى مُدَّعٍ أَنَّهُ ابْنُهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ : ) وَيَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ ، وَلَوْ كَانَ ذِمِّيًّا .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( مَعْنَاهُ إذَا لَمْ يَدَّعِ الْمُلْتَقِطُ نَسَبَهُ ) يَعْنِي سَابِقًا عَلَى دَعْوَى الْمُدَّعِي أَوْ مُقَارِنًا .
أَمَّا إذَا ادَّعَيَاهُ عَلَى التَّعَاقُبِ فَالسَّابِقُ مِنْ الْمُلْتَقِطِ وَالْخَارِجِ أَوْلَى ، وَإِنْ ادَّعَيَاهُ مَعًا فَالْمُلْتَقِطُ أَوْلَى وَلَوْ كَانَ ذِمِّيًّا وَالْخَارِجُ مُسْلِمًا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الدَّعْوَى وَلِأَحَدِهِمَا يَدٌ فَكَانَ صَاحِبُ الْيَدِ أَوْلَى وَهُوَ الذِّمِّيُّ .
وَيُحْكَمُ بِإِسْلَامِ الْوَلَدِ ، ثُمَّ ثُبُوتُ النَّسَبِ بِمُجَرَّدِ دَعْوَى الْخَارِجِ اسْتِحْسَانًا .
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَثْبُتَ إلَّا بِبَيِّنَةٍ ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ حَقٍّ ثَابِتٍ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ ، وَهُوَ حَقُّ الْحِفْظِ الثَّابِتِ لِلْمُلْتَقِطِ وَحَقُّ الْوَلَاءِ الثَّابِتِ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ ( وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ إقْرَارُ الصَّبِيِّ بِمَا يَنْفَعُهُ ؛ لِأَنَّهُ يَتَشَرَّفُ بِالنَّسَبِ ) وَيَتَأَذَّى بِانْقِطَاعِهِ ، إذْ يُعَيَّرُ بِهِ وَيَحْصُلُ لَهُ مَنْ يَقُومُ بِتَرْبِيَتِهِ وَمُؤْنَتِهِ رَاغِبًا فِي ذَلِكَ غَيْرَ مُمْتَنٍّ بِهِ .
وَيَدُ الْمُلْتَقِطِ مَا اُعْتُبِرَتْ إلَّا بِحُصُولِ مَصْلَحَتِهِ هَذِهِ لَا لِذَاتِهَا وَلَا لِاسْتِحْقَاقِ مِلْكٍ ، وَهَذَا مَعَ زِيَادَةِ مَا ذَكَرْنَا حَاصِلٌ بِهَذِهِ الدَّعْوَى فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ ، ثُمَّ يَثْبُتُ بُطْلَانُ يَدِ الْمُلْتَقِطِ ضِمْنًا مُتَرَتِّبًا عَلَى وُجُوبِ إيصَالِ هَذَا النَّفْعِ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْأَبَ أَحَقُّ بِكَوْنِهِ فِي يَدِهِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ ، وَصَارَ كَشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ عَلَى الْوِلَادَةِ تَصِحُّ ، ثُمَّ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا اسْتِحْقَاقُ الْمِيرَاثِ ، وَلَوْ شَهِدَتْ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً لَمْ يَصِحَّ .
وَكَثِيرٌ مِنْ الْمَشَايِخِ لَا يَذْكُرُونَ غَيْرَ هَذَا ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ عِنْدَ الْبَعْضِ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ الْمُدَّعِي وَيَكُونُ فِي يَدِ الْمُلْتَقِطِ لِلْجَمْعِ بَيْنَ مَنْفَعَتَيْ الْوَلَدِ وَالْمُلْتَقِطِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ .
وَأَمَّا ثُبُوتُ

النَّسَبِ فِي دَعْوَى ذِي الْيَدِ ( فَقِيلَ يَصِحُّ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا ) أَيْ لَيْسَ فِيهِ قِيَاسٌ مُخَالِفٌ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا أَيْضًا فِيهِ إلَّا أَنَّ وَجْهَ الْقِيَاسِ فِيهِ غَيْرُهُ فِي دَعْوَى الْخَارِجِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ اسْتِلْزَامُهُ إبْطَالَ حَقٍّ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ ، وَهُنَا هُوَ اسْتِلْزَامُهُ التَّنَاقُضَ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ادَّعَى أَنَّهُ لُقَطَةٌ كَانَ نَافِيًا نَسَبَهُ ، فَلَمَّا ادَّعَاهُ تَنَاقَضَ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ فِيهِ مَا قَدَّمْنَاهُ ، وَالتَّنَاقُضُ لَا يَضُرُّ فِي دَعْوَى النَّسَبِ ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَخْفَى ثُمَّ يَظْهَرُ ، وَهَذَا مَعْنَى مَا فِي الْأَصْلِ الَّذِي أَحَالَ الْمُصَنِّفُ عَلَيْهِ .

( وَإِنْ ادَّعَاهُ اثْنَانِ وَوَصَفَ أَحَدُهُمَا عَلَامَةً فِي جَسَدِهِ فَهُوَ أَوْلَى بِهِ ) ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ لِمُوَافَقَةِ الْعَلَامَةِ كَلَامَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَصِفْ أَحَدُهُمَا عَلَامَةً فَهُوَ ابْنُهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي السَّبَبِ .
وَلَوْ سَبَقَتْ دَعْوَةُ أَحَدِهِمَا فَهُوَ ابْنُهُ ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي زَمَانٍ لَا مُنَازِعَ لَهُ فِيهِ إلَّا إذَا أَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ أَقْوَى .

( وَلَوْ ادَّعَاهُ اثْنَانِ ) خَارِجَانِ مَعًا ( وَوَصَفَ أَحَدُهُمَا عَلَامَةً فِي جَسَدِهِ ) فَطَابَقَ ( فَهُوَ أَوْلَى بِهِ ) مِنْ الْآخَرِ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ فَيُقَدَّمَ عَلَى ذِي الْعَلَامَةِ أَوْ كَانَ مُسْلِمًا وَذُو الْعَلَامَةِ ذِمِّيٌّ فَيُقَدَّمُ الْمُسْلِمُ ؛ وَلَوْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ وَأَحَدُهُمَا ذِمِّيٌّ كَانَ ابْنًا لِلْمُسْلِمِ ( وَلَوْ لَمْ يَصِفْ أَحَدُهُمَا عَلَامَةً كَانَ ابْنَهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ ) وَهُوَ الدَّعْوَى ، وَكَذَا لَوْ أَقَامَا وَهُمَا مُسْلِمَانِ وَلَوْ كَانَتْ دَعْوَةُ أَحَدِهِمَا سَابِقَةً عَلَى الْأُخْرَى كَانَ ابْنَهُ ، وَلَوْ وَصَفَ الثَّانِي عَلَامَةً لِثُبُوتِهِ فِي وَقْتٍ لَا مُنَازِعَ لَهُ فِيهِ ، وَإِنَّمَا قُدِّمَ ذُو الْعَلَامَةِ لِلتَّرْجِيحِ بِهَا بَعْدَ ثُبُوتِ سَبَبَيْ الِاسْتِحْقَاقِ بَيْنَهُمَا وَهُوَ دَعْوَى كُلٍّ مِنْهُمَا ، بِخِلَافِ مَا لَوْ ادَّعَى اثْنَانِ عَيْنًا فِي يَدِ ثَالِثٍ وَذَكَرَ أَحَدُهُمَا عَلَامَةً لَا يُفِيدُ شَيْئًا ، وَكَذَا فِي دَعْوَى اللُّقَطَةِ لَا يَجِبُ الدَّفْعُ بِالْوَصْفِ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ هُنَاكَ لَيْسَ مُجَرَّدَ الدَّعْوَى بَلْ الْبَيِّنَةُ ، فَلَوْ قَضَى لَهُ لَكَانَ إثْبَاتُ الِاسْتِحْقَاقِ ابْتِدَاءً بِالْعَلَامَةِ ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ، إنَّمَا حَالُ الْعَلَامَةِ تَرْجِيحُ أَحَدِ السَّبَبَيْنِ عَلَى الْآخَرِ .
وَلَوْ ادَّعَاهُ اثْنَانِ خَارِجَانِ فَأَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِهِ قَبْلَ ذَلِكَ كَانَ أَحَقَّ بِهِ لِظُهُورِ تَقَدُّمِ الْيَدِ ، وَكُلَّمَا لَمْ يَتَرَجَّحْ دَعْوَى وَاحِدٍ مِنْ الْمُدَّعِيَيْنِ يَكُونُ ابْنًا لَهُمَا .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُرْجَعُ إلَى الْقَافَةِ عَلَى مَا قَدَّمْنَا فِي بَابِ الِاسْتِيلَادِ .
وَلَا يَلْحَقُ بِأَكْثَرَ مِنْ اثْنَيْنِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَلْحَقُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةٍ .
وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ : وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي أَكْثَرَ مِنْ اثْنَيْنِ ، فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ جَوَّزَ إلَى خَمْسَةٍ .
وَلَوْ ادَّعَتْهُ امْرَأَةٌ لَا يُقْبَلُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ ؛ لِأَنَّ

فِيهِ تَحْمِيلَ النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ وَهُوَ الزَّوْجُ .
وَإِنْ ادَّعَتْهُ امْرَأَتَانِ وَأَقَامَتَا الْبَيِّنَةَ فَهُوَ ابْنُهُمَا ، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَكُونُ ابْنَ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَهُوَ رِوَايَةُ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْهُ ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي حَالِ حَيَاةِ اللَّقِيطِ ، فَلَوْ مَاتَ عَنْ مَالٍ فَادَّعَى إنْسَانٌ نَسَبَهُ لَا يَثْبُتُ ؛ لِأَنَّ تَصْدِيقَهُ كَانَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ اللَّقِيطَ مُحْتَاجٌ إلَى ذَلِكَ وَبِالْمَوْتِ اسْتَغْنَى عَنْهُ فَبَقِيَ كَلَامُهُ مُجَرَّدَ دَعْوَى الْمِيرَاثِ ، وَلَا يُصَدَّقُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ عَلَى ذَلِكَ .

( وَإِذَا وُجِدَ فِي مِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَاهُمْ فَادَّعَى ذِمِّيٌّ أَنَّهُ ابْنُهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ وَكَانَ مُسْلِمًا ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ ؛ لِأَنَّ دَعْوَاهُ تَضْمَنُ النَّسَبَ وَهُوَ نَافِعٌ لِلصَّغِيرِ ، وَإِبْطَالُ الْإِسْلَامِ الثَّابِتِ بِالدَّارِ وَهُوَ يَضُرُّهُ فَصَحَّتْ دَعْوَتُهُ فِيمَا يَنْفَعُهُ دُونَ مَا يَضُرُّهُ .

( قَوْلُهُ : وَإِذَا وُجِدَ ) اللَّقِيطُ ( فِي مِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَاهُمْ ) فَهُوَ مُسْلِمٌ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ كَوْنِ ذَلِكَ الْمِصْرِ كَانَ مِصْرًا لِلْكُفَّارِ ثُمَّ أُزْعِجُوا وَظَهَرْنَا عَلَيْهِ أَوْ لَا ، وَلَا بَيْنَ كَوْنِهِ فِيهِ كُفَّارٌ كَثِيرُونَ أَوْ لَا ( فَإِنْ ادَّعَاهُ ذِمِّيٌّ أَنَّهُ ابْنُهُ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ وَكَانَ مُسْلِمًا ) اسْتِحْسَانًا .
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَثْبُتَ نَسَبُهُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ فِي ثُبُوتِ نَسَبِهِ عَنْهُ نَفْيَ إسْلَامِهِ الثَّابِتِ بِالدَّارِ وَهُوَ بَاطِلٌ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ ( أَنَّ دَعْوَاهُ تَضَمَّنَتْ ) شَيْئَيْنِ ( النَّسَبَ وَهُوَ نَفْعٌ لِلصَّغِيرِ وَنَفْيَ الْإِسْلَامِ الثَّابِتِ بِالدَّارِ وَهُوَ ضَرَرٌ بِهِ ) وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْ الْكَافِرِ الْكُفْرُ لِجَوَازِ مُسْلِمٍ هُوَ ابْنُ كَافِرٍ بِأَنْ أَسْلَمَتْ أُمُّهُ ( فَصَحَّحْنَا دَعْوَتَهُ فِيمَا يَنْفَعُهُ ) مِنْ ثُبُوتِ النَّسَبِ ( دُونَ مَا يَضُرُّهُ ) إلَّا إذَا أَقَامَ بَيِّنَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى نَسَبِهِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ كَافِرًا .
وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي الرَّجُلِ يَلْتَقِطُ اللَّقِيطَ فَيَدَّعِيهِ نَصْرَانِيٌّ وَعَلَيْهِ زِيُّ أَهْلِ الشِّرْكِ فَهُوَ ابْنُهُ وَهُوَ نَصْرَانِيٌّ ، وَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ فِي رَقَبَتِهِ صَلِيبٌ أَوْ عَلَيْهِ قَمِيصُ دِيبَاجٍ أَوْ وَسَطُ رَأْسِهِ مَجْزُوزٌ انْتَهَى .
وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ قَمِيصُ الدِّيبَاجِ عَلَامَةً فِي هَذِهِ الدِّيَارِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَثِيرًا مَا يَفْعَلُونَهُ وَإِذَا حَكَمْنَا بِأَنَّهُ ابْنُ ذِمِّيٍّ وَهُوَ مُسْلِمٌ فَيَجِبُ أَنْ يُنْزَعَ مِنْ يَدِهِ إذَا قَارَبَ أَنْ يَعْقِلَ الْأَدْيَانَ كَمَا قُلْنَا فِي الْحَضَانَةِ إذَا كَانَتْ أُمَّهُ الْمُطَلَّقَةُ كَافِرَةً .

( وَإِنْ وُجِدَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْ فِي بِيعَةٍ أَوْ كَنِيسَةٍ كَانَ ذِمِّيًّا ) وَهَذَا الْجَوَابُ فِيمَا إذَا كَانَ الْوَاجِدُ ذِمِّيًّا رِوَايَةً وَاحِدَةً ، وَإِنْ كَانَ الْوَاجِدُ مُسْلِمًا فِي هَذَا الْمَكَانِ أَوْ ذِمِّيًّا فِي مَكَانِ الْمُسْلِمِينَ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِيهِ ، فَفِي رِوَايَةِ كِتَابِ اللَّقِيطِ اُعْتُبِرَ الْمَكَانُ لِسَبْقِهِ ، وَفِي كِتَابِ الدَّعْوَى فِي بَعْضِ النُّسَخِ اُعْتُبِرَ الْوَاجِدُ وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ لِقُوَّةِ الْيَدِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ تَبَعِيَّةَ الْأَبَوَيْنِ فَوْقَ تَبَعِيَّةِ الدَّارِ حَتَّى إذَا سُبِيَ مَعَ الصَّغِيرِ أَحَدُهُمَا يُعْتَبَرُ كَافِرًا ، وَفِي بَعْضِ نُسَخِهِ اُعْتُبِرَ الْإِسْلَامُ نَظَرًا لِلصَّغِيرِ .

( قَوْلُهُ : وَإِنْ وُجِدَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْ فِي بِيعَةٍ أَوْ كَنِيسَةٍ ) فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ( كَانَ ذِمِّيًّا ) هَكَذَا قَالَ الْقُدُورِيُّ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ : ( هَذَا الْجَوَابُ فِيمَا إذَا كَانَ الْوَاجِدُ ذِمِّيًّا رِوَايَةً وَاحِدَةً ، فَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا فِي هَذَا الْمَكَانِ ) أَيْ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْ بِيعَةٍ أَوْ كَنِيسَةٍ ( أَوْ كَانَ ) الْوَاجِدُ ( ذِمِّيًّا ) لَكِنْ وَجَدَهُ ( فِي مَكَانِ الْمُسْلِمِينَ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِيهِ ، فَفِي كِتَابِ اللَّقِيطِ الْعِبْرَةُ بِالْمَكَانِ ) فِي الْفَصْلَيْنِ ، وَهُوَ مَا إذَا كَانَ الْوَاجِدُ مُسْلِمًا فِي نَحْوِ الْكَنِيسَةِ أَوْ ذِمِّيًّا فِي غَيْرِهَا مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَعَلَيْهِ مَشَى الْقُدُورِيُّ هُنَا ؛ لِأَنَّ الْمَكَانَ سَابِقٌ وَالسَّبْقُ مِنْ أَسْبَابِ التَّرْجِيحِ ( وَفِي كِتَابِ الدَّعْوَى ) اخْتَلَفَتْ النُّسَخُ ( فِي بَعْضِ النُّسَخِ اُعْتُبِرَ الْوَاجِدُ ) فِي الْفَصْلَيْنِ ( وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ سِمَاعَةَ ) فِي الْفَصْلَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْيَدَ أَقْوَى مِنْ الْمَكَانِ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الصَّبِيَّ الْمَسْبِيَّ مَعَ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ يَكُونُ كَافِرًا حَتَّى لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ إذَا مَاتَ ( وَفِي بَعْضِ نُسَخِهِ ) أَيْ نُسَخِ كِتَابِ الدَّعْوَى مِنْ الْمَبْسُوطِ ( اُعْتُبِرَ الْإِسْلَامُ ) أَيْ مَا يَصِيرُ الْوَلَدُ بِهِ مُسْلِمًا ( نَظَرًا لِلصَّغِيرِ ) وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْدَلَ عَنْ ذَلِكَ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ وَجَدَهُ كَافِرٌ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ مُسْلِمٌ فِي كَنِيسَةٍ كَانَ مُسْلِمًا فَصَارَتْ الصُّوَرُ أَرْبَعًا : اتِّفَاقِيَّتَانِ ، وَهُوَ مَا إذَا وَجَدَهُ مُسْلِمٌ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ مُسْلِمٌ أَوْ كَافِرٌ فِي نَحْوِ كَنِيسَةٍ فَهُوَ كَافِرٌ .
واختلافيتان وَهُمَا مُسْلِمٌ فِي نَحْوِ كَنِيسَةٍ أَوْ كَافِرٌ فِي نَحْوِ قَرْيَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ .
وَفِي كِفَايَةِ الْبَيْهَقِيّ قِيلَ : يُعْتَبَرُ بِالسِّيمَا وَالزِّيِّ ؛ لِأَنَّهُ حُجَّةٌ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ } { يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ } وَفِي

الْمَبْسُوطِ : كَمَا لَوْ اخْتَلَطَ الْكُفَّارُ : يَعْنِي مَوْتَانَا بِمَوْتَاهُمْ الْفَصْلُ بِالزِّيِّ وَالْعَلَامَةِ ، وَلَوْ فُتِحَتْ الْقُسْطَنْطِينِيَّة فَوُجِدَ فِيهَا شَيْخٌ يُعَلِّمُ صِبْيَانًا حَوْلَهُ الْقُرْآنَ يَزْعُمُ أَنَّهُ مُسْلِمٌ يَجِبُ الْأَخْذُ بِقَوْلِهِ .

( وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ اللَّقِيطَ عَبْدُهُ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ ) ؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ ظَاهِرًا إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ ( فَإِنْ ادَّعَى عَبْدٌ أَنَّهُ ابْنُهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ ) ؛ لِأَنَّهُ يَنْفَعُهُ ( وَكَانَ حُرًّا ) ؛ لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ قَدْ تَلِدُ لَهُ الْحُرَّةُ فَلَا تَبْطُلُ الْحُرِّيَّةُ الظَّاهِرَةُ بِالشَّكِّ ( وَالْحُرُّ فِي دَعْوَتِهِ اللَّقِيطَ أَوْلَى مِنْ الْعَبْدِ ، وَالْمُسْلِمُ أَوْلَى مِنْ الذِّمِّيِّ ) تَرْجِيحًا لِمَا هُوَ الْأَنْظَرُ فِي حَقِّهِ .

( قَوْلُهُ : وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ اللَّقِيطَ عَبْدُهُ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ ) ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْحُرِّيَّةُ لِمَا قَدَّمْنَا ( إلَّا أَنْ يُقِيمَ بَيِّنَةً ) لَا يُقَالُ : هَذِهِ الْبَيِّنَةُ لَيْسَتْ عَلَى خَصْمٍ فَلَا تُقْبَلُ ؛ لِأَنَّ الْمُلْتَقِطَ خَصْمٌ ؛ لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِثُبُوتِ يَدِهِ عَلَيْهِ فَلَا تَزُولُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ هُنَا ، وَإِنَّمَا قُلْنَا هُنَا كَيْ لَا يُنْقَضَ بِمَا إذَا ادَّعَى خَارِجٌ نَسَبَهُ فَإِنَّ يَدَهُ تَزُولُ بِلَا بَيِّنَةٍ عَلَى الْأَوْجَهِ .
وَالْفَرْقُ أَنَّ يَدَهُ اُعْتُبِرَتْ لِمَنْفَعَةِ الْوَلَدِ ، وَفِي دَعْوَى النَّسَبِ مَنْفَعَةٌ تَفُوقُ الْمَنْفَعَةَ الَّتِي أَوْجَبَتْ اعْتِبَارَ يَدِ الْمُلْتَقِطِ فَتُزَالُ لِحُصُولِ مَا يَفُوقُ الْمَقْصُودَ مِنْ اعْتِبَارِهَا ، وَهُنَا لَيْسَ دَعْوَى الْعَبْدِيَّةِ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ مِمَّا يَضُرُّهُ لِتَبْدِيلِ صِفَةِ الْمَالِكِيَّةِ بِالْمَمْلُوكِيَّةِ فَلَا تُزَالُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ ( قَوْلُهُ : فَإِنْ ادَّعَى عَبْدٌ أَنَّهُ ابْنُهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ يَنْفَعُهُ ، وَكَانَ حُرًّا ؛ لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ قَدْ تَلِدُ لَهُ الْحُرَّةُ ) فَيَكُونُ الْأَبُ عَبْدًا وَالْوَلَدُ حُرًّا ؛ لِأَنَّهُ يَتْبَعُ أُمَّهُ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ فَيُقْبَلُ فِيمَا يَنْفَعُهُ دُونَ مَا يَضُرُّهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي دَعْوَى الذِّمِّيِّ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ نَسَبِهِ مِنْهُ رِقُّهُ ( فَلَا تَبْطُلُ الْحُرِّيَّةُ الظَّاهِرَةُ بِالشَّكِّ ) إذَا لَمْ تُضَفْ وِلَادَتُهُ إلَى امْرَأَةٍ أَمَةٍ ، فَإِنْ أَضَافَ إلَى امْرَأَتِهِ الْأَمَةِ فَفِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ .
ذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ أَنَّ الْوَلَدَ حُرٌّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ عَبْدٌ ، فَمُحَمَّدٌ يَقُولُ : فِي دَعْوَى الْعَبْدِ نَفْعٌ هُوَ النَّسَبُ وَضَرَرٌ هُوَ الرِّقُّ ، وَأَحَدُهُمَا يَنْفَصِلُ عَنْ الْآخَرِ فَيُعْتَبَرُ فِيمَا يَنْفَعُهُ دُونَ مَا يَضُرُّهُ ، وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ لَمَّا صَدَّقَهُ الشَّرْعُ فِي ثُبُوتِ النَّسَبِ يُصَدِّقُهُ فِيمَا كَانَ مِنْ ضَرُورَاتِهِ تَبَعًا فَيُحْكَمُ بِرِقِّهِ تَبَعًا ، بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ

ضَرُورَتِهِ ثُبُوتُ كُفْرِهِ لِجَوَازِ إسْلَامِ زَوْجَتِهِ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ الذِّمِّيُّ إنَّهُ مِنْ زَوْجَتِي الذِّمِّيَّةِ لَا يُصَدَّقُ ( قَوْلُهُ : وَالْحُرُّ فِي دَعْوَتِهِ اللَّقِيطَ أَوْلَى مِنْ الْعَبْدِ ) يَعْنِي إذَا ادَّعَيَاهُ وَهُمَا خَارِجَانِ لِمَا قَدَّمْنَا أَنَّهُ إذَا كَانَ الْمُلْتَقِطُ ذِمِّيًّا ادَّعَاهُ مَعَ مُسْلِمٍ خَارِجٍ رُجِّحَ عَلَيْهِ ، وَكَذَا إذَا ادَّعَى الذِّمِّيُّ أَنَّهُ ابْنُهُ وَالْمُسْلِمُ أَنَّهُ عَبْدُهُ فَهُوَ ابْنُ الذِّمِّيِّ ؛ لِأَنَّهُ يَفُوزُ بِالنَّسَبِ وَالْحُرِّيَّةِ مَعَ الْحُكْمِ بِإِسْلَامِهِ ، وَلَا كَذَلِكَ فِي دَعْوَى رِقِّهِ إلَّا أَنْ يُقِيمَ بَيِّنَةَ رِقِّهِ فَيَكُونُ رَقِيقًا ، كَمَا أَنَّ الذِّمِّيَّ إذَا ادَّعَاهُ ابْنًا لَهُ وَأَقَامَ بَيِّنَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَكُونُ كَافِرًا .
وَلَوْ وُجِدَ طِفْلٌ فِي يَدِ عَبْدٍ مَحْجُورٍ ذَكَرَ أَنَّهُ الْتَقَطَهُ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ عَلَى الِالْتِقَاطِ وَكَذَّبَهُ مَوْلَاهُ .
وَقَالَ هُوَ عَبْدِي فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ الْمَحْجُورَ لَا يَدَ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَمَا فِي يَدِهِ كَمَا فِي يَدِ الْمَوْلَى ، وَكَذَا لَوْ أَقَرَّ بِعَيْنٍ فِي يَدِهِ لِآخَرَ وَكَذَّبَهُ الْمَوْلَى لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ كَمَا لَوْ كَانَ فِي يَدِ الْمَوْلَى ، وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ مَأْذُونًا فِي التِّجَارَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ لِلْمَأْذُونِ يَدًا عَلَى نَفْسِهِ حَتَّى صَحَّ إقْرَارُهُ بِمَا فِي يَدِهِ لِغَيْرِ السَّيِّدِ ، وَإِنْ كَذَّبَهُ السَّيِّدُ فَيَكُونُ الْوَلَدُ الَّذِي فِي يَدِهِ حُرًّا إلَّا أَنْ يُقِيمَ سَيِّدُهُ بَيِّنَةً أَنَّهُ عَبْدُهُ .

( وَإِنْ وُجِدَ مَعَ اللَّقِيطِ مَالٌ مَشْدُودٌ عَلَيْهِ فَهُوَ لَهُ ) اعْتِبَارًا لِلظَّاهِرِ .
وَكَذَا إذَا كَانَ مَشْدُودًا عَلَى دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَيْهَا لِمَا ذَكَرْنَا ثُمَّ يَصْرِفُهُ الْوَاجِدُ إلَيْهِ بِأَمْرِ الْقَاضِي ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ ضَائِعٌ وَلِلْقَاضِي وِلَايَةُ صَرْفِ مِثْلِهِ إلَيْهِ .
وَقِيلَ يَصْرِفُهُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي ؛ لِأَنَّهُ لِلَّقِيطِ ظَاهِرًا ( وَلَهُ وِلَايَةُ الْإِنْفَاقِ وَشِرَاءُ مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ ) كَالطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْإِنْفَاقِ .
( قَوْلُهُ : وَإِذَا وُجِدَ مَعَ اللَّقِيطِ مَالٌ مَشْدُودٌ عَلَيْهِ أَوْ دَابَّةٌ هُوَ مَشْدُودٌ عَلَيْهَا فَالْكُلُّ لَهُ ) بِلَا خِلَافٍ ( اعْتِبَارًا لِلظَّاهِرِ ) أَيْ فِي دَفْعِ مِلْكِ غَيْرِهِ عَنْهُ ثُمَّ يَثْبُتُ مِلْكُهُ فِي ذَلِكَ بِقِيَامِ يَدِهِ مَعَ حُرِّيَّتِهِ الْمَحْكُومِ بِهَا .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا ذَكَرْنَا ) يُرِيدُ قَوْلَهُ اعْتِبَارًا لِلظَّاهِرِ ( ثُمَّ يَصْرِفُهُ الْوَاجِدُ إلَيْهِ بِأَمْرِ الْقَاضِي ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ ضَائِعٌ ) أَيْ لَا حَافِظَ لَهُ ، وَمَالِكُهُ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ فَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الْحِفْظِ .
( وَلِلْقَاضِي وِلَايَةُ صَرْفِ مِثْلِهِ إلَيْهِ ) وَكَذَا لِغَيْرِ الْوَاجِدِ بِأَمْرِهِ وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ : فِي نَفَقَةِ مِثْلِهِ ( وَقِيلَ لَهُ صَرْفُهُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي ) أَيْضًا ( ؛ لِأَنَّهُ لِلَّقِيطِ ) كَمَا حَكَمَنَا بِهِ ( وَلِلْوَاجِدِ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ وَشِرَاءُ مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ مِنْ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْإِنْفَاقِ ) وَشِرَاءُ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ عَطْفٌ عَلَى وِلَايَةٍ مِنْ قَوْلِهِ وَلَهُ وِلَايَةُ الْإِنْفَاقِ : أَيْ لِلْوَاجِدِ وِلَايَةُ الْإِنْفَاقِ ، وَلَهُ شِرَاءُ مَا لَا بُدَّ لِلَّقِيطِ مِنْهُ ، وَبِهَذَا قَالَ أَحْمَدُ .

( وَلَا يَجُوزُ تَزْوِيجُ الْمُلْتَقِطِ ) لِانْعِدَامِ سَبَبِ الْوِلَايَةِ مِنْ الْقَرَابَةِ وَالْمِلْكِ وَالسَّلْطَنَةِ .
( وَلَا يَجُوزُ لِلْمُلْتَقِطِ تَزْوِيجُ اللَّقِيطِ ) وَاللَّقِيطَةِ ( لِانْعِدَامِ سَبَبِ وِلَايَةِ الْإِنْكَاحِ مِنْ الْقَرَابَةِ وَالْمِلْكِ وَالسَّلْطَنَةِ ) وَهَذَا بِلَا خِلَافٍ .

قَالَ ( وَلَا تَصَرُّفُهُ فِي مَالِ الْمُلْتَقِطِ ) اعْتِبَارًا بِالْأُمِّ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ التَّصَرُّفِ لِتَثْمِيرِ الْمَالِ وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِالرَّأْيِ الْكَامِلِ وَالشَّفَقَةِ الْوَافِرَةِ وَالْمَوْجُودُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَحَدُهُمَا .
( وَلَا ) تَصَرُّفُهُ فِي مَالِهِ ( بِبَيْعٍ ) وَلَا شِرَاءِ شَيْءٍ لِيَسْتَحِقَّ الثَّمَنَ دَيْنًا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الَّذِي إلَيْهِ لَيْسَ إلَّا الْحِفْظُ وَالصِّيَانَةُ ، وَمَا مِنْ ضَرُورِيَّاتِ ذَلِكَ ( اعْتِبَارًا بِالْأُمِّ ) فَإِنَّهَا لَا يَجُوزُ لَهَا ذَلِكَ مَعَ أَنَّهَا تَمْلِكُ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ مَا لَا يَمْلِكُهُ الْمُلْتَقِطُ كَالتَّزْوِيجِ عِنْدَ عَدَمِ الْعَصَبَةِ فَعَدَمُ مِلْكِهِ لِذَلِكَ أَوْلَى ( وَهَذَا ) أَيْ عَدَمُ تَصَرُّفِ كُلٍّ مِنْ الْأُمِّ وَالْمُلْتَقِطِ بِالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ ( لِأَنَّ وِلَايَةَ التَّصَرُّفِ إنَّمَا هُوَ لِتَثْمِيرِ الْمَالِ وَذَلِكَ ) إنَّمَا ( يَتَحَقَّقُ بِالرَّأْيِ الْكَامِلِ وَالشَّفَقَةِ الْوَافِرَةِ وَالْمَوْجُودُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا أَحَدُهُمَا ) ؛ لِأَنَّ فِي الْأُمِّ شَفَقَةً كَامِلَةً مَعَ قُصُورٍ فِي الرَّأْيِ ، وَفِي الْمُلْتَقِطِ رَأْيٌ كَامِلٌ مَعَ قُصُورِ شَفَقَةٍ لِعَدَمِ الْقَرَابَةِ ، وَنَظِيرُ مَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ هُنَا مَا قَدَّمَهُ فِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ لِلصَّغِيرَةِ إذَا بَلَغَتْ وَقَدْ زَوَّجَهَا غَيْرُ الْأَبِ وَالْجَدِّ مِنْ كِتَابِ النِّكَاحِ .

قَالَ : ( وَيَجُوزُ أَنْ يَقْبِضَ لَهُ الْهِبَةَ ) ؛ لِأَنَّهُ نَفْعٌ مَحْضٌ وَلِهَذَا يَمْلِكُهُ الصَّغِيرُ بِنَفْسِهِ إذَا كَانَ عَاقِلًا وَتَمْلِكُهُ الْأُمُّ وَوَصِيُّهَا .
( قَوْلُهُ : وَيَجُوزُ أَنْ يَقْبِضَ ) أَيْ الْمُلْتَقِطُ ( لِلَّقِيطِ الْهِبَةَ ) وَالصَّدَقَةَ عَلَيْهِ ( لِأَنَّهُ نَفْعٌ مُحَقَّقٌ وَلِذَا يَمْلِكُهُ الصَّغِيرُ بِنَفْسِهِ إذَا كَانَ عَاقِلًا وَتَمْلِكُهُ الْأُمُّ وَوَصِيُّهَا ) .

قَالَ ( وَيُسَلِّمُهُ فِي صِنَاعَةٍ ) ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ تَثْقِيفِهِ وَحِفْظِ حَالِهِ .
قَالَ ( وَيُؤَاجِرُهُ ) قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ : وَهَذَا رِوَايَةُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَاجِرَهُ ، ذَكَرَهُ فِي الْكَرَاهِيَةِ وَهُوَ الْأَصَحُّ .
وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى تَثْقِيفِهِ .
وَوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إتْلَافَ مَنَافِعِهِ فَأَشْبَهَ الْعَمَّ .
بِخِلَافِ الْأُمِّ ؛ لِأَنَّهَا تَمْلِكُهُ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي الْكَرَاهِيَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
قَالَ ( الْقُدُورِيُّ : وَيُسَلِّمُهُ فِي صِنَاعَةٍ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّثْقِيفِ وَحِفْظِ حَالِهِ ) عَنْ الشَّتَاتِ وَصِيَانَتِهِ عَنْ الْفَسَادِ .
ثُمَّ ( قَالَ ) الْقُدُورِيُّ ( وَيُؤَاجِرُهُ ) ؛ لِأَنَّهُ مِنْ التَّثْقِيفِ يَعْنِي التَّقْوِيمَ ( وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَاجِرَهُ ذَكَرَهُ فِي الْكَرَاهِيَةِ ) قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَهُوَ الْأَصَحُّ ) ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إتْلَافَ مَنَافِعِهِ فَلَا يَمْلِكُ تَمْلِيكَهَا ( فَأَشْبَهَ الْعَمَّ ، بِخِلَافِ الْأُمِّ ؛ لِأَنَّهَا تَمْلِكُ إتْلَافَ مَنَافِعِهِ ) بِالِاسْتِخْدَامِ وَالْإِعَارَةِ بِلَا عِوَضٍ ، فَبِالْعِوَضِ بِالْإِجَارَةِ أَوْلَى .

[ فُرُوعٌ ] ادَّعَاهُ الْمُلْتَقِطُ عَبْدًا لَهُ بَعْدَمَا عَرَفَ الِالْتِقَاطَ لَا يُصَدَّقُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ كَالْخَارِجِ ، وَلَوْ ادَّعَاهُ ذِمِّيٌّ ، وَأَقَامَ بَيِّنَةً مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَنَّهُ ابْنُهُ لَا عِبْرَةَ بِهَا ؛ لِأَنَّ نَسَبَهُ ثَبَتَ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ .
وَأَثَرُ هَذِهِ الْبَيِّنَةِ فِي كَوْنِهِ كَافِرًا وَلَا يَثْبُتُ بِذَلِكَ .

وَلَوْ وَجَدَهُ مُسْلِمٌ وَكَافِرٌ فَتَنَازَعَا فِي كَوْنِهِ عِنْدَ أَحَدِهِمَا قُضِيَ بِهِ لِلْمُسْلِمِ ؛ لِأَنَّهُ مَحْكُومٌ لَهُ بِالْإِسْلَامِ فَكَانَ الْمُسْلِمُ أَوْلَى بِحِفْظِهِ ؛ وَلِأَنَّهُ يُعَلِّمُهُ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ ، بِخِلَافِ الْكَافِرِ .

وَإِذَا بَلَغَ اللَّقِيطُ فَأَقَرَّ أَنَّهُ عَبْدُ فُلَانٍ وَفُلَانٌ يَدَّعِيهِ .
إنْ كَانَ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى عَلَيْهِ بِمَا لَا يُقْضَى بِهِ إلَّا عَلَى الْأَحْرَارِ كَالْحَدِّ الْكَامِلِ وَنَحْوِهِ صَحَّ إقْرَارُهُ ، وَصَارَ عَبْدًا ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقَضَاءِ بِنَحْوِ ذَلِكَ لَا يُقْبَلُ وَلَا يَصِيرُ بِهِ عَبْدًا ؛ لِأَنَّ فِيهِ إبْطَالَ حُكْمِ الْحَاكِمِ وَلِأَنَّهُ مُكَذَّبٌ شَرْعًا فِي ذَلِكَ ، فَهُوَ كَمَا لَوْ كَذَّبَهُ الَّذِي أَقَرَّ لَهُ بِالرِّقِّ ، وَلَوْ كَانَ اللَّقِيطَةُ امْرَأَةً فَأَقَرَّتْ بِالرِّقِّ بَعْدَمَا كَبُرَتْ إنْ كَانَ بَعْدَ التَّزْوِيجِ صَحَّ وَكَانَتْ أَمَةً لِلْمُقَرِّ لَهُ ، وَلَا تُصَدَّقُ فِي إبْطَالِ النِّكَاحِ ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ لَا يُنَافِي النِّكَاحَ ابْتِدَاءً وَلَا بَقَاءً فَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ الْحُكْمِ بِرِقِّهَا انْتِفَاءُ النِّكَاحِ .

وَلَوْ بَلَغَ فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّهُ عَبْدٌ لِفُلَانٍ وَلِامْرَأَتِهِ عَلَيْهِ صَدَاقٌ وَصَدَاقُهَا لَازِمٌ عَلَيْهِ لَا يُصَدَّقُ فِي إبْطَالِهِ ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ ظَهَرَ وُجُوبُهُ فَهُوَ مُتَّهَمٌ فِي إقْرَارِهِ هَذَا ، وَكَذَا إذَا اسْتَدَانَ دَيْنًا أَوْ بَايَعَ إنْسَانًا أَوْ كَفَلَ كَفَالَةً أَوْ وَهَبَ أَوْ تَصَدَّقَ وَسَلَّمَ أَوْ دَبَّرَ أَوْ كَاتَبَ أَوْ أَعْتَقَ ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّهُ عَبْدٌ لِفُلَانٍ لَا يُصَدَّقُ فِي إبْطَالِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ مِيرَاثَهُ لِبَيْتِ الْمَالِ ، فَلَوْ أَنَّهُ وَالَى رَجُلًا بَعْدَمَا أَدْرَكَ الْمُلْتَقِطَ أَوْ غَيْرَهُ ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَتَأَكَّدَ وَلَاؤُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ بِأَنْ جَنَى جِنَايَةً وَعَقَلَهُ بَيْتُ الْمَالِ فَلَا يَصِحُّ وَلَا يَنْتَقِلُ مِيرَاثُهُ عَنْ بَيْتِ الْمَالِ ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ جَازَ ؛ لِأَنَّ وَلَاءَهُ لَمْ يَتَأَكَّدْ لِبَيْتِ الْمَالِ فَلَهُ أَنْ يُوَالِيَ مَنْ شَاءَ وَصَارَ كَاَلَّذِي أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لَهُ أَنْ يُوَالِيَ مَنْ شَاءَ إلَّا أَنْ يَجْنِيَ فَيَعْقِلَهُ بَيْتُ الْمَالِ .

كِتَابُ اللُّقَطَةِ هِيَ فُعَّلَةٌ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَصْفُ مُبَالَغَةٍ لِلْفَاعِلِ كَهُمَزَةٍ وَلُمَزَةٍ وَلُعَنَةٍ وَضُحَكَةٍ لِكَثِيرِ الْهَمْزِ وَغَيْرِهِ ، وَبِسُكُونِهَا لِلْمَفْعُولِ كَضُحْكَةٍ وَهُزْأَةٍ لِلَّذِي يُضْحَكُ مِنْهُ وَيُهْزَأُ بِهِ .
وَإِنَّمَا قِيلَ لِلْمَالِ لُقَطَةٌ بِالْفَتْحِ لِأَنَّ طِبَاعَ النُّفُوسِ فِي الْغَالِبِ تُبَادِرُ إلَى الْتِقَاطِهِ لِأَنَّهُ مَالٌ ، فَصَارَ الْمَالُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ دَاعٍ إلَى أَخْذِهِ بِمَعْنَى فِيهِ نَفْسُهُ كَأَنَّهُ الْكَثِيرُ الِالْتِقَاطِ مَجَازًا ، وَإِلَّا فَحَقِيقَتُهُ الْمُلْتَقِطُ الْكَثِيرُ الِالْتِقَاطِ .
وَمَا عَنْ الْأَصْمَعِيِّ وَابْنِ الْأَعْرَابِيِّ أَنَّهُ بِفَتْحِ الْقَافِ اسْمٌ لِلْمَالِ أَيْضًا فَمَحْمُولٌ عَلَى هَذَا : يَعْنِي يُطْلَقُ عَلَى الْمَالِ أَيْضًا .
ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِي صِفَةِ رَفْعِهَا فَنُقِلَ عَنْ الْمُتَقَشِّفَةِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ لِأَنَّهُ مَالُ الْغَيْرِ فَلَا يَضَعُ يَدَهُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَبَعْضُ التَّابِعِينَ ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ يَحِلُّ ، وَالتَّرْكُ أَفْضَلُ ، أَمَّا الْحِلُّ فَلِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَنْهَ عَنْ ذَلِكَ وَلَا أَنْكَرَ عَلَى مَنْ فَعَلَهُ بَلْ أَمَرَهُ بِتَعْرِيفِهَا عَلَى مَا سَنَذْكُرُ .
وَأَسْنَدَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أَصَابَ لُقَطَةً فَلْيُشْهِدْ ذَا عَدْلٍ } وَأَمَّا أَفْضَلِيَّةُ التَّرْكِ فَلِأَنَّ صَاحِبَهَا يَطْلُبُهَا فِي الْمَكَانِ الَّذِي فَقَدَهَا فِيهِ وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ خُصُوصَ الْمَكَانِ ، فَإِذَا تَرَكَهَا كُلُّ أَحَدٍ فَالظَّاهِرُ أَنْ يَجِدَهَا صَاحِبُهَا لِأَنَّهُ لَا بُدَّ عَادَةً أَنْ يَمُرَّ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ مَرَّةً أُخْرَى فِي عُمُرِهِ ، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ سُقُوطَهَا فِي أَثْنَاءِ الطُّرُقَاتِ الَّتِي يَمُرُّ بِهَا أَوْ يَجْلِسُ فِي عَادَةِ أَمْرِهِ وَعَامَّةُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ إلَيْهِ ، وَقَيَّدَهُ الطَّحَاوِيُّ وَغَيْرُهُ بِمَا إذَا كَانَ يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ ، فَإِنْ كَانَ لَا يَأْمَنُ يَتْرُكُهَا ، وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَصِلَ يَدٌ خَائِنَةٌ إلَيْهَا ، فَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ ذَلِكَ

إنْ لَمْ يَأْخُذْهَا فَفِي الْخُلَاصَةِ يَفْتَرِضُ الرَّفْعَ ، وَلَوْ رَفَعَهَا ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَضَعَهَا مَكَانَهَا فَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَسَنَذْكُرُهُ

كِتَابُ اللُّقَطَةِ قَالَ ( اللُّقَطَةُ أَمَانَةٌ إذَا أَشْهَدَ الْمُلْتَقِطُ أَنَّهُ يَأْخُذُهَا لِيَحْفَظَهَا وَيَرُدَّهَا عَلَى صَاحِبِهَا ) لِأَنَّ الْأَخْذَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَأْذُونٌ فِيهِ شَرْعًا بَلْ هُوَ الْأَفْضَلُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ الْوَاجِبُ إذَا خَافَ الضَّيَاعَ عَلَى مَا قَالُوا ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا تَكُونُ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ إذَا تَصَادَقَا أَنَّهُ أَخَذَهَا لِلْمَالِكِ لِأَنَّ تَصَادُقَهُمَا حُجَّةٌ فِي حَقِّهِمَا فَصَارَ كَالْبَيِّنَةِ ، وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ أَخَذَهَا لِنَفْسِهِ يَضْمَنُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ أَخَذَ مَالَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَبِغَيْرِ إذْنِ الشَّرْعِ ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ الشُّهُودُ عَلَيْهِ وَقَالَ الْآخِذُ أَخَذْته لِلْمَالِكِ وَكَذَّبَهُ الْمَالِكُ يَضْمَنُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا يَضْمَنُ وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ لِاخْتِيَارِهِ الْحِسْبَةَ دُونَ الْمَعْصِيَةِ ، وَلَهُمَا أَنَّهُ أَقَرَّ بِسَبَبِ الضَّمَانِ وَهُوَ أَخْذُ مَالِ الْغَيْرِ وَادَّعَى مَا يُبَرِّئُهُ وَهُوَ الْأَخْذُ لِمَالِكِهِ وَفِيهِ وَقَعَ الشَّكُّ فَلَا يَبْرَأُ ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ الظَّاهِرِ يُعَارِضُهُ مِثْلُهُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنْ يَكُونَ الْمُتَصَرِّفُ عَامِلًا لِنَفْسِهِ وَيَكْفِيهِ فِي الْإِشْهَادِ أَنْ يَقُولَ مَنْ سَمِعْتُمُوهُ يَنْشُدُ لُقَطَةً فَدُلُّوهُ عَلَيَّ وَاحِدَةً كَانَتْ اللُّقَطَةُ أَوْ أَكْثَرَ لِأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ .

( قَوْلُهُ وَاللُّقَطَةُ أَمَانَةٌ إذَا أَشْهَدَ الْمُلْتَقِطُ أَنَّهُ يَأْخُذُهَا لِيَحْفَظَهَا وَيَرُدَّهَا عَلَى صَاحِبِهَا ، لِأَنَّ الْأَخْذَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَأْذُونٌ فِيهِ شَرْعًا بَلْ هُوَ أَفْضَلُ ) وَظَاهِرُ الْمَبْسُوطِ اشْتِرَاطُ عَدْلَيْنِ إلَى آخِرِهِ ( وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ) يَعْنِي إذَا كَانَ أَشْهَدَ أَوْ إذَا كَانَ أَمَانَةً بِأَنْ أَشْهَدَ ( لَا تَكُونُ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ ) فَلَوْ هَلَكَتْ بِغَيْرِ صُنْعٍ مِنْهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، وَكَذَا إذَا صَدَّقَهُ الْمَالِكُ فِي قَوْلِهِ أَنَّهُ أَخَذَهَا لِيَرُدَّهَا وَصَارَ تَصَادُقُهُمَا كَبَيِّنَتِهِ عَلَى أَنَّهُ أَخَذَهَا لِيَرُدَّهَا ( وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ أَخَذَهَا لِنَفْسِهِ ضَمِنَهَا بِالْإِجْمَاعِ ، وَإِنْ لَمْ يُشْهِدْ وَقَالَ أَخَذْتُهَا لِلرَّدِّ لِلْمَالِكِ وَكَذَّبَهُ الْمَالِكُ يَضْمَنُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا يَضْمَنُ ) وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ .
وَفِي شَرْحِ الْأَقْطَعِ ذَكَرَ مُحَمَّدًا مَعَ أَبِي يُوسُفَ ( وَالْقَوْلُ لَهُ ) مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ أَخَذَهَا لِيَرُدَّهَا ( لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ ) إذْ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْمُسْلِمِ ( اخْتِيَارُهُ الْحِسْبَةَ لَا الْمَعْصِيَةَ ) وَلِأَنَّ الْأَخْذَ مَأْذُونٌ فِيهِ شَرْعًا بِقَيْدِ كَوْنِهِ لِلْمَالِكِ فَإِذَا أَخَذَ إنْ لَمْ يَكُنْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ أَخَذَهُ لِلْمَالِكِ فَأَقَلُّ مَا فِي الْبَابِ أَنْ يَكُونَ مَشْكُوكًا فِي أَنَّهُ أَخَذَهُ لَهُ أَوْ لِنَفْسِهِ فَلَا يَضْمَنُ بِالشَّكِّ ( وَلَهُمَا أَنَّهُ أَقَرَّ بِسَبَبِ الضَّمَانِ وَهُوَ أَخْذُ مَالِ الْغَيْرِ وَادَّعَى مَا يُبَرِّئُهُ وَهُوَ الْأَخْذُ لِمَالِكِهِ ، وَفِيهِ وَقَعَ الشَّكُّ فَلَا يَبْرَأُ .
وَمَا ذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ مِنْ الظَّاهِرِ يُعَارِضُهُ مِثْلُهُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ كَوْنُ التَّصَرُّفِ عَامِلًا لِنَفْسِهِ ) فَإِنْ قَالَ كَوْنُ أَخْذِ الْمَالِ سَبَبًا لِلضَّمَانِ إذَا لَمْ يَكُنْ بِإِذْنِ الشَّرْعِ فَأَمَّا بِإِذْنِهِ فَمَمْنُوعٌ ، وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ هَذَا الْأَخْذَ سَبَبُ الضَّمَانِ لَمْ يَقَعْ الشَّكُّ فِي الْبَرَاءَةِ بَعْدَ ثُبُوتِ سَبَبِ الضَّمَانِ حَتَّى

يَنْفَعَ مَا ذَكَرْتُمْ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ إذْنَ الشَّرْعِ مُقَيَّدٌ بِالْإِشْهَادِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا آنِفًا مِنْ رِوَايَةِ إِسْحَاقَ { مَنْ أَصَابَ لُقَطَةً فَلْيُشْهِدْ ذَا عَدْلٍ } وَهَذَا الِاخْتِلَافُ فِيمَا إذَا أَمْكَنَهُ الْإِشْهَادُ ، وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ عِنْدَ الرَّفْعِ أَوْ خَافَ أَنَّهُ إنْ أَشْهَدَ أَخَذَهَا مِنْهُ ظَالِمٌ فَتَرَكَهُ لَا يَضْمَنُ بِالْإِجْمَاعِ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ كَوْنِي مَنَعَنِي مِنْ الْإِشْهَادِ كَذَا ( قَالَ : وَيَكْفِيهِ فِي الْإِشْهَادِ أَنْ يَقُولَ مَنْ سَمِعْتُمُوهُ يَنْشُدُ ضَالَّةً فَدِلُّوهُ عَلَيَّ ) أَوْ عِنْدِي ضَالَّةٌ أَوْ شَيْءٌ فَمَنْ سَمِعْتُمُوهُ إلَى آخِرِهِ ، فَإِذَا جَاءَ صَاحِبُهَا يَطْلُبُهَا فَقَالَ هَلَكَتْ لَا يَضْمَنُ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ اللُّقَطَةِ ( وَاحِدَةً أَوْ أَكْثَرَ لِأَنَّهُ ) أَيْ اللُّقَطَةَ بِتَأْوِيلِ الْمُلْتَقِطِ ( اسْمُ جِنْسٍ ) وَلَا يَجِبُ أَنْ يُعَيِّنَ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً خُصُوصًا فِي هَذَا الزَّمَانِ .
قَالَ الْحَلْوَانِيُّ : أَدْنَى مَا يَكُونُ مِنْ التَّعْرِيفِ أَنْ يُشْهِدَ عِنْدَ الْأَخْذِ وَيَقُولَ أَخَذْتهَا لِأَرُدَّهَا ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَلَمْ يُعَرِّفْهَا بَعْدَ ذَلِكَ كَفَى فَجَعَلَ التَّعْرِيفَ إشْهَادًا .
وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ يَكْفِيهِ مِنْ الْإِشْهَادِ أَنْ يَقُولَ إلَى آخِرِهِ يُفِيدُ مِثْلَهُ ، فَاقْتَضَى هَذَا الْكَلَامُ أَنْ يَكُونَ الْإِشْهَادُ الَّذِي أُمِرَ بِهِ فِي الْحَدِيثِ هُوَ التَّعْرِيفُ ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ أَصَابَ ضَالَّةً فَلْيُشْهِدْ } مَعْنَاهُ فَلْيُعَرِّفْهَا .
وَيَكُونُ قَوْلُهُ ذَا عَدْلٍ لِيُفِيدَ عِنْدَ جَحْدِ الْمَالِكِ التَّعْرِيفَ : أَيْ الْإِشْهَادَ .
فَإِنَّهُ إذَا اسْتَشْهَدَ ثُمَّ عَرَّفَ بِحَضْرَتِهِ لَا يُقْبَلُ مَا لَمْ يَكُنْ عَدْلًا ، وَإِلَّا فَالتَّعْرِيفُ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى مَا بِحَضْرَةِ الْعُدُولِ ، وَعَلَى هَذَا فَخِلَافِيَّةُ أَبِي يُوسُفَ فِيمَا إذَا لَمْ يُعَرِّفْهَا أَصْلًا حَتَّى ادَّعَى ضَيَاعَهَا وَادَّعَى أَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَهُ لِيَرُدَّهَا وَأَخَذَهَا كَذَلِكَ .
وَقَوْلُهُمَا إنَّ إذْنَ الشَّرْعِ مُقَيَّدٌ بِالْإِشْهَادِ

أَيْ بِالتَّعْرِيفِ ، فَإِذَا لَمْ يُعَرِّفْهَا فَقَدْ تَرَكَ مَا أُمِرَ بِهِ شَرْعًا فِي الْأَخْذِ وَهُوَ مَعْصِيَةٌ فَكَانَ الْغَالِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ أَخَذَهَا لِنَفْسِهِ ، وَعَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُ الْإِشْهَادُ : أَيْ التَّعْرِيفُ وَقْتَ الْأَخْذِ ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْهُ قَبْلَ هَلَاكِهَا لِيُعَرِّفَ بِهِ أَنَّهُ أَخَذَهَا لِيَرُدَّهَا لَا لِنَفْسِهِ ، وَحِينَئِذٍ فَمَا ذُكِرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مِنْ أَنَّهُ إذَا أَخَذَهَا ثُمَّ رَدَّهَا إلَى مَكَانِهَا لَا يَضْمَنُ مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ بِكَوْنِهِ رَدَّهَا فِي مَكَانِهَا أَوْ بَعْدَمَا ذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ ظَاهِرٌ ، لِأَنَّ بِالرَّدِّ ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْهَا لِنَفْسِهِ وَبِهِ يَنْتَفِي الضَّمَانُ عَنْهُ ، وَقَيَّدَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ بِمَا إذَا لَمْ يَذْهَبْ بِهَا ، فَإِنْ ذَهَبَ بِهَا ثُمَّ أَعَادَهَا ضَمِنَ ، وَبَعْضُهُمْ ضَمِنَهُ ذَهَبَ بِهَا أَوْ لَا ، وَالْوَجْهُ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ ، وَمَا ذَكَرْنَا لَا يَنْفِي وَجْهَ التَّضْمِينِ بِكَوْنِهِ مُضَيِّعًا مَالَ غَيْرِهِ بِطَرْحِهِ بَعْدَمَا لَزِمَهُ حِفْظُهُ بِالْأَخْذِ

قَالَ ( فَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ عَرَّفَهَا أَيَّامًا ، وَإِنْ كَانَتْ عَشْرَةً فَصَاعِدًا عَرَّفَهَا حَوْلًا ) قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ : وَهَذِهِ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَوْلُهُ أَيَّامًا مَعْنَاهُ عَلَى حَسَبِ مَا يَرَى .
وَقَدَّرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ بِالْحَوْلِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ الْتَقَطَ شَيْئًا فَلْيُعَرِّفْهُ سَنَةً مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ } .
وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ التَّقْدِيرَ بِالْحَوْلِ وَرَدَ فِي لُقَطَةٍ كَانَتْ مِائَةَ دِينَارٍ تُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمٍ ، وَالْعَشَرَةُ وَمَا فَوْقَهَا فِي مَعْنَى الْأَلْفِ فِي تَعَلُّقِ الْقَطْعِ بِهِ فِي السَّرِقَةِ وَتَعَلُّقِ اسْتِحْلَالِ الْفَرْجِ بِهِ وَلَيْسَتْ فِي مَعْنَاهَا فِي حَقِّ تَعَلُّقِ الزَّكَاةِ ، فَأَوْجَبْنَا التَّعْرِيفَ بِالْحَوْلِ احْتِيَاطًا ، وَمَا دُونَ الْعَشَرَةِ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْأَلْفِ بِوَجْهٍ مَا فَفَوَّضْنَا إلَى رَأْيِ الْمُبْتَلَى بِهِ وَقِيلَ الصَّحِيحُ أَنَّ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْمَقَادِيرِ لَيْسَ بِلَازِمٍ ، وَيُفَوَّضُ إلَى رَأْيِ الْمُلْتَقِطِ يُعَرِّفُهَا إلَى أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ صَاحِبَهَا لَا يَطْلُبُهَا بَعْدَ ذَلِكَ ثُمَّ يَتَصَدَّقُ بِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ اللُّقَطَةُ شَيْئًا لَا يَبْقَى عَرَّفَهُ حَتَّى إذَا خَافَ أَنْ يَفْسُدَ تَصَدَّقَ بِهِ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُعَرِّفَهَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَصَابَهَا .
وَفِي الْجَامِعِ : فَإِنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ إلَى الْوُصُولِ إلَى صَاحِبِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ اللُّقَطَةُ شَيْئًا يَعْلَمُ أَنَّ صَاحِبَهَا لَا يَطْلُبُهَا كَالنَّوَاةِ وَقُشُورِ الرُّمَّانِ يَكُونُ إلْقَاؤُهُ إبَاحَةً حَتَّى جَازَ الِانْتِفَاعُ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَعْرِيفٍ وَلَكِنَّهُ مُبْقًى عَلَى مِلْكِ مَالِكِهِ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ مِنْ الْمَجْهُولِ لَا يَصِحُّ .
قَالَ ( فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا تَصَدَّقَ بِهَا ) إيصَالًا لِلْحَقِّ إلَى الْمُسْتَحِقِّ وَهُوَ وَاجِبٌ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ ، وَذَلِكَ بِإِيصَالِ عَيْنِهَا عِنْدَ الظَّفَرِ بِصَاحِبِهَا وَإِيصَالِ الْعِوَضِ

وَهُوَ الثَّوَابُ عَلَى اعْتِبَارِ إجَازَةِ التَّصَدُّقِ بِهَا ، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا رَجَاءَ الظُّفْرِ بِصَاحِبِهَا قَالَ ( فَإِنْ ) ( جَاءَ صَاحِبُهَا ) يَعْنِي بَعْدَمَا تَصَدَّقَ بِهَا ( فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَمْضَى الصَّدَقَةَ ) وَلَهُ ثَوَابُهَا لِأَنَّ التَّصَدُّقَ وَإِنْ حَصَلَ بِإِذْنِ الشَّرْعِ لَمْ يَحْصُلْ بِإِذْنِهِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَتِهِ ، وَالْمِلْكُ يَثْبُتُ لِلْفَقِيرِ قَبْلَ الْإِجَازَةِ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قِيَامِ الْمَحِلِّ ، بِخِلَافِ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ لِثُبُوتِهِ بَعْدَ الْإِجَازَةِ فِيهِ ( وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْمُلْتَقِطُ لِأَنَّهُ سَلَّمَ مَالَهُ إلَى غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ) إلَّا أَنَّهُ بِإِبَاحَةٍ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ ، وَهَذَا لَا يُنَافِي الضَّمَانَ حَقًّا لِلْعَبْدِ كَمَا فِي تَنَاوُلِ مَالِ الْغَيْرِ حَالَةَ الْمَخْمَصَةِ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْمِسْكِينُ إذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ لِأَنَّهُ قَبَضَ مَالَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، وَإِنْ كَانَ قَائِمًا أَخَذَهُ لِأَنَّهُ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ .

قَوْلُهُ فَإِنْ كَانَتْ ) اللُّقَطَةُ ( أَقَلَّ مِنْ عَشْرَةٍ عَرَّفَهَا أَيَّامًا ) وَفَسَّرَهَا الْمُصَنِّفُ بِحَسَبِ مَا يَرَى مِنْ الْأَيَّامِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ : إنْ كَانَتْ مِائَتَيْنِ فَصَاعِدًا عَرَّفَهَا حَوْلًا ، وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْنِ إلَى عَشْرَةٍ عَرَّفَهَا شَهْرًا ، وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ عَشْرَةٍ يُعَرِّفُهَا عَلَى حَسَبِ مَا يَرَى .
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ : فِيمَا دُونَ الْعَشَرَةِ إنْ كَانَتْ ثَلَاثَةً فَصَاعِدًا : يَعْنِي إلَى الْعَشَرَةِ يُعَرِّفُهَا عَشَرَةَ أَيَّامٍ ، وَإِنْ كَانَتْ دِرْهَمًا فَصَاعِدًا : يَعْنِي إلَى ثَلَاثَةٍ يُعَرِّفُهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، وَإِنْ كَانَتْ دَانِقًا فَصَاعِدًا يُعَرِّفُهَا يَوْمًا ، وَإِنْ كَانَتْ دُونَ الدَّانِقِ يَنْظُرُ يَمْنَةً وَيَسْرَةً ثُمَّ يَضَعُهُ فِي كَفِّ فَقِيرٍ .
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ : شَيْءٌ مِنْ هَذَا لَيْسَ بِتَقْدِيرٍ لَازِمٍ ، بَلْ يُعَرِّفُ الْقَلِيلَ بِقَدْرِ مَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ صَاحِبَهَا لَا يَطْلُبُهَا بَعْدَ ذَلِكَ ، وَهَذَا أَخْذٌ بِالرِّوَايَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا قَبْلَ هَذَا وَهُوَ جَيِّدٌ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إنَّمَا قَدَّرَ بِذَلِكَ التَّقْدِيرَاتِ فِي الْقَلِيلِ لِغَلَبَةِ الظَّنِّ أَنَّ الْمَالِكَ فِي تِلْكَ التَّقَادِيرِ لَا يَطْلُبُهَا بَعْدَ تِلْكَ الْمُدَدِ فَكَانَ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ غَلَبَةَ ظَنِّ تَرْكِهَا ، وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ وَهُوَ مَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ تَقْدِيرُهُ بِالْحَوْلِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا سَيُذْكَرُ ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ .
وَجْهُهُ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ الْتَقَطَ شَيْئًا فَلْيُعَرِّفْهُ سَنَةً } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ .
وَفِيهِ أَلْفَاظٌ مِنْهَا مَا رَوَاهُ الْبَزَّارُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ اللُّقَطَةِ فَقَالَ : لَا تَحِلُّ اللُّقَطَةُ ، فَمَنْ

الْتَقَطَ شَيْئًا فَلْيُعَرِّفْهُ سَنَةً } وَمَعْنَى لَا تَحِلُّ اللُّقَطَةُ : أَيْ لَا يَحِلُّ لِلْمُلْتَقِطِ تَمَلُّكُهَا ، وَهَذَا لَا يَتَعَرَّضُ لِلِالْتِقَاطِ نَفْسِهِ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ { سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ اللُّقَطَةِ فَقَالَ : عَرِّفْهَا سَنَةً ، ثُمَّ اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا ثُمَّ اسْتَنْفِقْهَا فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَأَدِّهَا إلَيْهِ } ( وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ التَّقْدِيرَ بِالْحَوْلِ وَرَدَ فِي لُقَطَةٍ كَانَتْ مِائَةَ دِينَارٍ تُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمَ ، وَالْعَشَرَةُ فَمَا فَوْقَهَا فِي مَعْنَى الْأَلْفِ شَرْعًا فِي تَعَلُّقِ الْقَطْعِ بِسَرِقَتِهِ وَتَعَلُّقِ اسْتِحْلَالِ الْفَرْجِ بِهِ وَلَيْسَتْ فِي مَعْنَاهَا فِي حَقِّ تَعَلُّقِ الزَّكَاةِ فَأَوْجَبْنَا التَّعْرِيفَ بِالْحَوْلِ ) إلْحَاقًا لَهَا بِمَا فِيهِ الزَّكَاةُ مِنْ الْمِائَتَيْنِ فَمَا فَوْقَهَا احْتِيَاطًا ( وَمَا دُونَ الْعَشَرَةِ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْأَلْفِ شَرْعًا بِوَجْهٍ مَا فَفَوَّضْنَا ) التَّعْرِيفَ فِيهَا ( إلَى رَأْيِ الْمُبْتَلَى بِهِ ) وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ كَانَتْ مِائَةَ دِينَارٍ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ { عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ أَخَذْتُ صُرَّةً مِائَةَ دِينَارٍ فَأَتَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عَرِّفْهَا حَوْلًا ، فَعَرَّفْتهَا فَلَمْ أَجِدْ ، ثُمَّ أَتَيْت بِهَا فَقَالَ : عَرِّفْهَا حَوْلًا فَعَرَّفْتهَا فَلَمْ أَجِدْ ، ثُمَّ أَتَيْته ثَالِثًا فَقَالَ : احْفَظْ وِعَاءَهَا وَعَدَدَهَا وَوِكَاءَهَا فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَاسْتَمْتِعْ بِهَا } وَهَذَا يَقْتَضِي قَصْرَ حَدِيثِ الْعَامِ عَلَى حَدِيثِ الْمِائَةِ دِينَارٍ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ قَدْ وَرَدَ الْأَمْرُ بِالتَّعْرِيفِ سَنَةً فِي غَيْرِ حَدِيثٍ مُطْلَقًا عَنْ صُورَةِ الْمِائَةِ دِينَارٍ كَمَا قَدَّمْنَا وَغَيْرُهُ مِمَّا لَمْ نَذْكُرْهُ ( قَوْلُهُ وَقِيلَ الصَّحِيحُ أَنَّ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ التَّقَادِيرِ لَيْسَ بِلَازِمٍ ) وَلَا التَّقْدِيرُ بِالْعَامِ ( وَيُفَوَّضُ إلَى رَأْيِ الْمُبْتَلَى بِهِ يُعَرِّفُهُ إلَى أَنْ يَغْلِبَ عَلَى

ظَنِّهِ أَنَّ صَاحِبَهَا لَا يَطْلُبُهَا بَعْدَ ذَلِكَ ثُمَّ يَتَصَدَّقُ بِهَا ) وَهَذَا ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَاخْتَارَهُ .
وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ الثَّلَاثِ سِنِينَ فِي الْمِائَةِ دِينَارٍ ، فَإِنَّهُ يُعْرَفُ بِهِ أَنَّ لَيْسَ السَّنَةُ بِتَقْدِيرٍ لَازِمٍ بَلْ مَا يَقَعُ عِنْدَ الْمُلْتَقِطِ أَنَّ صَاحِبَهُ يَتْرُكُهُ أَوْ لَا ، وَهَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ خَطَرِ الْمَالِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَالَ لَمَّا كَانَ ذَا خَطَرٍ كَبِيرٍ أَمَرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعَرِّفَهُ ثَلَاثَ سِنِينَ ( قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَتْ اللُّقَطَةُ شَيْئًا لَا يَبْقَى عَرَّفَهُ حَتَّى يَخَافَ فَسَادَهُ فَيَتَصَدَّقُ بِهِ ) قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَيَنْبَغِي أَنْ يُعَرِّفَهَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَصَابَهَا فِيهِ وَفِي الْجَامِعِ ) يَعْنِي الْأَسْوَاقَ وَأَبْوَابَ الْمَسَاجِدِ فَيُنَادِي مَنْ ضَاعَ لَهُ شَيْءٌ فَلْيَطْلُبْهُ عِنْدِي .
وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ الْأَمْرِ بِتَعْرِيفِهَا سَنَةً يَقْتَضِي تَكْرَارَ التَّعْرِيفِ عُرْفًا وَعَادَةً وَإِنْ كَانَ ظَرْفِيَّةُ السَّنَةِ لِلتَّعْرِيفِ يَصْدُقُ بِوُقُوعِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً ، وَلَكِنْ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الْمُعْتَادِ مِنْ أَنَّهُ يَفْعَلُهُ وَقْتًا بَعْدَ وَقْتٍ ، وَيُكَرِّرُ ذَلِكَ كُلَّمَا وَجَدَ مَظِنَّةً ، وَمَا قَدَّمْنَا مِنْ قَوْلِ الْوَلْوَالِجِيِّ مِمَّا يُفِيدُ الِاكْتِفَاءَ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ هُوَ فِي دَفْعِ الضَّمَانِ عَنْهُ ، أَمَّا الْوَاجِبُ فَأَنْ يَذْكُرَهَا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى ( قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَتْ اللُّقَطَةُ شَيْئًا يُعْلَمُ أَنَّ صَاحِبَهَا لَا يَطْلُبُهُ كَالنَّوَاةِ وَقُشُورِ الرُّمَّانِ يَكُونُ إلْقَاؤُهُ إبَاحَةً فَيَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهَا ) لِلْوَاجِدِ ( بِلَا تَعْرِيفٍ ) .
وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ رَأَى تَمْرَةً فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ : لَوْلَا أَخْشَى أَنْ تَكُونَ مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ لَأَكَلْتهَا } وَلَا يُعْلَمُ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ، وَلَكِنْ تَبْقَى عَلَى مِلْكِ مَالِكِهَا ، حَتَّى إذَا وَجَدَهَا فِي يَدِهِ لَهُ أَخْذُهَا لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ لَا تُخْرِجُهُ عَنْ مِلْكِ مَالِكِهِ ، وَإِنَّمَا

إلْقَاؤُهَا إبَاحَةٌ لَا تَمْلِيكٌ ( لِأَنَّ التَّمْلِيكَ مِنْ الْمَجْهُولِ لَا يَصِحُّ ) وَذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مُتَفَرِّقَةً فَجَمَعَهَا لَيْسَ لِلْمَالِكِ أَخْذُهَا لِأَنَّهَا تَصِيرُ مِلْكًا لَهُ بِالْجَمْعِ ، وَعَلَى هَذَا الْتِقَاطُ السَّنَابِلِ ، وَبِهِ كَانَ يُفْتِي الصَّدْرُ الشَّهِيدُ ، وَفِي غَيْرِ مَوْضِعِ تَقْيِيدِ هَذَا الْجَوَابِ : أَعْنِي جَوَازَ الِانْتِفَاعِ بِهِمَا بِمَا إذَا كَانَتْ مُتَفَرِّقَةً ، فَإِنْ كَانَتْ مُجْتَمِعَةً فِي مَكَان فَلَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهَا لِأَنَّ صَاحِبَهَا لَمَّا جَمَعَهَا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَا أَلْقَاهَا وَأَعْرَضَ عَنْهَا بَلْ سَقَطَتْ مِنْهُ أَوْ وَضَعَهَا لِيَرْفَعَهَا .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ : لَوْ جَزَّ صُوفَ شَاةٍ مَيِّتَةٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ ، وَلَوْ وَجَدَهُ صَاحِبُ الشَّاةِ فِي يَدِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ ، وَلَوْ دَبَغَ جِلْدَهَا كَانَ لِصَاحِبِهَا أَنْ يَأْخُذَهُ بَعْدَ أَنْ يُعْطِيَهُ مَا زَادَ الدِّبَاغُ .
وَفِي الْخُلَاصَةِ : وَالتُّفَّاحُ وَالْكُمَّثْرَى وَالْحَطَبُ فِي الْمَاءِ لَا بَأْسَ بِأَخْذِهِ ( قَوْلُهُ فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا أَخَذَهَا وَإِلَّا تَصَدَّقَ بِهَا ) أَوْ أَكَلَهَا إنْ كَانَ فَقِيرًا ، أَوْ اسْتَقْرَضَهَا بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَيَتَمَلَّكُهَا إنْ شَاءَ وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا أَبَدًا حَتَّى يَجِيءَ صَاحِبُهَا ، وَإِذَا خَشِيَ الْمَوْتَ يُوصِي بِهَا كَيْ لَا تَدْخُلَ فِي الْمَوَارِيثِ ، ثُمَّ الْوَرَثَةُ أَيْضًا يُعَرِّفُونَهَا ، وَمُقْتَضَى النَّظَرِ أَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يُعَرِّفُوهَا حَتَّى هَلَكَتْ وَجَاءَ صَاحِبُهَا أَنْ يَضْمَنُوا لِأَنَّهُمْ وَضَعُوا أَيْدِيَهُمْ عَلَى لُقَطَةٍ وَلَمْ يُشْهِدُوا : أَيْ لَمْ يُعَرِّفُوا ، وَيَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ بِذَلِكَ أَنَّ قَصْدَهُمْ تَعْمِيَتُهَا عَنْ صَاحِبِهَا ، وَيَجْرِي فِيهِ خِلَافُ أَبِي يُوسُفَ وَسَيَأْتِي الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ فِي آخِرِ الْبَابِ ، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا ( بَعْدَ التَّصَدُّقِ فَهُوَ ) بِأَحَدِ خِيَارَاتٍ ثَلَاثٍ ( إنْ شَاءَ أَمْضَى الصَّدَقَةَ وَلَهُ ثَوَابُهَا لِأَنَّ التَّصَدُّقَ وَإِنْ حَصَلَ بِإِذْنِ الشَّرْعِ لَمْ يَحْصُلْ بِإِذْنِهِ ) أَيْ

بِإِذْنِ الْمَالِكِ وَحُصُولُ الثَّوَابِ لِلْإِنْسَانِ يَكُونُ بِفِعْلٍ مُخْتَارٍ لَهُ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ قَبْلَ لُحُوقِ الْإِذْنِ وَالرِّضَا فَبِالْإِجَازَةِ وَالرِّضَا يَصِيرُ كَأَنَّهُ فَعَلَ بِنَفْسِهِ لِرِضَاهُ بِذَلِكَ .
فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ تَلْحَقُهُ الْإِجَازَةُ وَهِيَ تَتَوَقَّفُ عَلَى قِيَامِ الْمَحِلِّ وَقَدْ يَكُونُ مَجِيءُ الْمَالِكِ بَعْدَ اسْتِهْلَاكِ الْفَقِيرِ لَهَا ؟ أَجَابَ بِأَنَّ ذَلِكَ فِيمَا يَتَوَقَّفُ فِيهِ الْمِلْكُ عَلَى الْإِجَازَةِ كَمَا فِي بَيْعِ الْفُضُولِيِّ ، أَمَّا هُنَا فَالْمِلْكُ يَثْبُتُ قَبْلَ ذَلِكَ شَرْعًا لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالتَّصَدُّقِ عِنْدَ عَدَمِ ظُهُورِ الْمَالِكِ بَعْدَ التَّعْرِيفِ لَا يُفِيدُ مَقْصُودَهُ دُونَ مِلْكِ الْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ ، وَإِذَا ثَبَتَ الْمِلْكُ قَبْلَهَا وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ مُطْلَقٌ لِلتَّصَرُّفِ وَحَالُ الْفَقِيرِ يَقْتَضِي سُرْعَةَ اسْتِهْلَاكِهَا ثَبَتَ عَدَمُ تَوَقُّفِ اعْتِبَارِهَا عَلَى قِيَامِ الْمَحِلِّ بَعْدَ ثُبُوتِ اعْتِبَارِهَا بَعْدَ الِاسْتِهْلَاكِ شَرْعًا إجْمَاعًا حَتَّى يَنْتَقِلَ إلَيْهِ الثَّوَابُ ( وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْمُلْتَقِطُ لِأَنَّهُ سَلَّمَ مَالَهُ إلَى غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ) فَإِنْ قُلْت : لَكِنَّهُ بِإِذْنِ الشَّرْعِ وَإِبَاحَةٌ مِنْهُ .
قُلْنَا : الثَّابِتُ مِنْ الشَّارِعِ إذْنُهُ فِي التَّصَدُّقِ لَا إيجَابُهُ ( هَذَا ) الْقَدْرُ ( لَا يُنَافِي ) وُجُوبَ الضَّمَانِ ( حَقًّا لِلْعَبْدِ كَمَا فِي ) إذْنِهِ ( فِي تَنَاوُلِ مَالِ الْغَيْرِ عِنْدَ الْمَخْمَصَةِ ) وَالْمُرُورِ فِي الطَّرِيقِ مَعَ ثُبُوتِ الضَّمَانِ ، فَإِذَا جَازَ أَنْ يُثْبِتَ إذْنَهُ مُقَيَّدًا بِهِ كَمَا ذَكَرْنَا وَجَبَ أَنْ يُثْبِتَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَصْلَ ثُبُوتُ ضَمَانِ مَالِ الْعَبْدِ عَلَى الْمُتَصَرِّفِ فِيهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ( وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمِسْكِينَ ) إذَا كَانَ الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ ( هَلَكَ فِي يَدِهِ لِأَنَّهُ قَبَضَ مَالَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ ) فَإِنْ قُلْت : إذَا قَبَضَهَا الْفَقِيرُ ثَبَتَ مِلْكُهُ فِيهَا بِإِذْنِ الشَّرْعِ فَكَيْفَ يَسْتَرْجِعُهَا .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ ثُبُوتِ الْمِلْكِ بِإِذْنِ الشَّرْعِ مَعَ ثُبُوتِ حَقِّ الِاسْتِرْدَادِ

كَمَا فِي الْهِبَةِ .
وَالْمُرْتَدُّ : الرَّاجِعُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ مُسْلِمًا بَعْدَ أَخْذِ الْوَرَثَةِ مَالَهُ بَعْدَ الْحُكْمِ بِاللِّحَاقِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ جُعِلَ كَذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ إذْنِهِ ( وَإِنْ كَانَ قَائِمًا أَخَذَهُ لِأَنَّهُ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ ) وَمَا نُقِلَ عَنْ الْقَاضِي أَبِي جَعْفَرٍ مِنْ أَنَّهُ إنَّمَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُلْتَقِطِ إذَا تَصَدَّقَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي ، أَمَّا إذَا كَانَ بِأَمْرِهِ فَلَا يَرْجِعُ رَدُّوهُ بِأَنَّهُ خِلَافُ الْمَذْهَبِ ، فَإِنَّهُ لَوْ تَصَدَّقَ الْقَاضِي بِنَفْسِهِ كَانَ لِلْمَالِكِ أَنْ يَضْمَنَهُ إذَا جَاءَ فَضْلًا عَنْ الْمُلْتَقِطِ الْمُتَصَدِّقِ بِأَمْرِهِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْقَاضِي نَاظِرٌ لِلْغَيْبِ فِي أَمْوَالِهِمْ حِفْظًا لَهَا لَا إتْلَافًا فَلَا يَنْفُذُ مِنْ إتْلَافِهِ إلَّا مَا لَزِمَهُ شَرْعًا الْقِيَامُ وَالتَّصَدُّقُ لَيْسَ كَذَلِكَ

قَالَ ( وَيَجُوزُ الِالْتِقَاطُ فِي الشَّاةِ وَالْبَقَرِ وَالْبَعِيرِ ) وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ : إذَا وُجِدَ الْبَعِيرُ وَالْبَقَرُ فِي الصَّحْرَاءِ فَالتَّرْكُ أَفْضَلُ .
وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْفَرَسُ .
لَهُمَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي أَخْذِ مَالِ الْغَيْرِ الْحُرْمَةُ وَالْإِبَاحَةُ مَخَافَةَ الضَّيَاعِ ، وَإِذَا كَانَ مَعَهَا مَا تَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهَا يَقِلُّ الضَّيَاعُ وَلَكِنَّهُ يُتَوَهَّمُ فَيَقْضِي بِالْكَرَاهَةِ وَالنَّدْبُ إلَى التَّرْكِ .
وَلَنَا أَنَّهَا لُقَطَةٌ يُتَوَهَّمُ ضَيَاعُهَا فَيُسْتَحَبُّ أَخْذُهَا وَتَعْرِيفُهَا صِيَانَةً لِأَمْوَالِ النَّاسِ كَمَا فِي الشَّاةِ ( فَإِنْ أَنْفَقَ الْمُلْتَقِطُ عَلَيْهَا بِغَيْرِ إذْنِ الْحَاكِمِ فَهُوَ مُتَبَرِّعٌ ) لِقُصُورِ وِلَايَتِهِ عَنْ ذِمَّةِ الْمَالِكِ ، وَإِنْ أَنْفَقَ بِأَمْرِهِ كَانَ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَى صَاحِبِهَا لِأَنَّ لِلْقَاضِي وِلَايَةً فِي مَالِ الْغَائِبِ نَظَرًا لَهُ وَقَدْ يَكُونُ النَّظَرُ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ ( وَإِذَا رُفِعَ ذَلِكَ إلَى الْحَاكِمِ نَظَرَ فِيهِ ، فَإِنْ كَانَ لِلْبَهِيمَةِ مَنْفَعَةٌ آجَرَهَا وَأَنْفَقَ عَلَيْهَا مِنْ أُجْرَتِهَا ) لِأَنَّ فِيهِ إبْقَاءَ الْعَيْنِ عَلَى مِلْكِهِ مِنْ غَيْرِ إلْزَامِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ يُفْعَلُ بِالْعَبْدِ الْآبِقِ ( وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهَا مَنْفَعَةٌ وَخَافَ أَنْ تَسْتَغْرِقَ النَّفَقَةُ قِيمَتَهَا بَاعَهَا وَأَمَرَ بِحِفْظِ ثَمَنِهَا ) إبْقَاءً لَهُ مَعْنًى عِنْدَ تَعَذُّرِ إبْقَائِهِ صُورَةً ( وَإِنْ كَانَ الْأَصْلَحُ الْإِنْفَاقَ عَلَيْهَا أَذِنَ فِي ذَلِكَ وَجَعَلَ النَّفَقَةَ دَيْنًا عَلَى مَالِكِهَا ) لِأَنَّهُ نَصَبَ نَاظِرًا وَفِي هَذَا نَظَرٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، قَالُوا : إنَّمَا يَأْمُرُ بِالْإِنْفَاقِ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى رَجَاءَ أَنْ يَظْهَرَ مَالِكُهَا ، فَإِذَا لَمْ يَظْهَرْ يَأْمُرُ بِبَيْعِهَا لِأَنَّ دَارَّةَ النَّفَقَةِ مُسْتَأْصَلَةٌ فَلَا نَظَرَ فِي الْإِنْفَاقِ مُدَّةً مَدِيدَةً .
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : وَفِي الْأَصْلِ شَرْطُ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ غَصْبًا فِي

يَدِهِ فَلَا يَأْمُرُ فِيهِ بِالْإِنْفَاقِ وَإِنَّمَا يَأْمُرُ بِهِ فِي الْوَدِيعَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْبَيِّنَةِ لِكَشْفِ الْحَالِ وَلَيْسَتْ الْبَيِّنَةُ تُقَامُ لِلْقَضَاءِ .
وَإِنْ قَالَ لَا بَيِّنَةَ لِي بِقَوْلِ الْقَاضِي لَهُ أَنْفِقْ عَلَيْهِ إنْ كُنْت صَادِقًا فِيمَا قُلْت حَتَّى تَرْجِعَ عَلَى الْمَالِكِ إنْ كَانَ صَادِقًا ، وَلَا يَرْجِعُ إنْ كَانَ غَاصِبًا .
وَقَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ وَجَعَلَ النَّفَقَةَ دَيْنًا عَلَى صَاحِبِهَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ إنَّمَا يَرْجِعُ عَلَى الْمَالِكِ بَعْدَ مَا حَضَرَ وَلَمْ تُبَعْ اللُّقَطَةُ إذَا شَرَطَ الْقَاضِي الرُّجُوعَ عَلَى الْمَالِكِ ، وَهَذِهِ رِوَايَةٌ وَهُوَ الْأَصَحُّ .
قَالَ ( وَإِذَا حَضَرَ ) يَعْنِي ( الْمَالِكُ فَلِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْهُ حَتَّى يُحْضِرَ النَّفَقَةَ ) لِأَنَّهُ حَيٌّ بِنَفَقَتِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ اسْتَفَادَ الْمِلْكَ مِنْ جِهَتِهِ فَأَشْبَهَ الْمَبِيعَ ؛ وَأَقْرَبُ مِنْ ذَلِكَ رَادُّ الْآبِقِ فَإِنَّ لَهُ الْحَبْسَ لِاسْتِيفَاءِ الْجُعَلِ لِمَا ذَكَرْنَا ، ثُمَّ لَا يَسْقُطُ دَيْنُ النَّفَقَةِ بِهَلَاكِهِ فِي يَدِ الْمُلْتَقِطِ قَبْلَ الْحَبْسِ ، وَيَسْقُطُ إذَا هَلَكَ بَعْدَ الْحَبْسِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِالْحَبْسِ شَبِيهَ الرَّهْنِ .

( قَوْلُهُ وَيَجُوزُ الِالْتِقَاطُ فِي الشَّاةِ وَالْبَقَرِ وَالْبَعِيرِ .
وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ ) وَأَحْمَدُ ( إذَا وُجِدَ الْبَقَرُ وَالْبَعِيرُ فِي الصَّحْرَاءِ فَالتَّرْكُ أَفْضَلُ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْفَرَسُ ) لَهُمَا ( أَنَّ الْأَصْلَ فِي أَخْذِ مَالِ الْغَيْرِ الْحُرْمَةُ وَإِبَاحَةُ الِالْتِقَاطِ مَخَافَةَ الضَّيَاعِ ، وَإِذَا كَانَ مَعَهَا مَا تَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهَا بِهِ ) كَالْقَرْنِ مَعَ الْقُوَّةِ فِي الْبَقَرِ وَالرَّفْسِ مَعَ الْكَدْمِ وَزِيَادَةِ الْقُوَّةِ فِي الْبَعِيرِ وَالْفَرَسِ ( يَقِلُّ ) ظَنُّ ( الضَّيَاعِ وَلَكِنَّهُ يُتَوَهَّمُ فَيَقْضِي بِالْكَرَاهَةِ فِي الْأَخْذِ وَالنَّدْبِ إلَى التَّرْكِ ) هَذَا ، وَلَكِنَّ كَلَامَهُمْ يَقْتَضِي أَنَّ الْخِلَافَ فِي جَوَازِ الْأَخْذِ وَحِلِّهِ وَهُوَ الظَّاهِرُ .
( وَلَنَا أَنَّهَا لُقَطَةٌ يُتَوَهَّمُ ضَيَاعُهَا فَيُسْتَحَبُّ أَخْذُهَا وَتَعْرِيفُهَا صِيَانَةً لِأَمْوَالِ النَّاسِ كَمَا فِي الشَّاةِ ) لَكِنَّ هَذَا قِيَاسٌ مُعَارَضٌ بِمَا رَوَى أَصْحَابُ الْكُتُبِ السِّتَّةِ كُلُّهُمْ عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ : { جَاءَ رَجُلٌ يَسْأَلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ اللُّقَطَةِ فَقَالَ : اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً ، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَشَأْنُك بِهَا ، قُلْت : فَضَالَّةُ الْغَنَمِ ؟ قَالَ : هِيَ لَك أَوْ لِأَخِيك أَوْ لِلذِّئْبِ ، وَفِي الصَّحِيحِ قَالَ خُذْهَا فَإِنَّمَا هِيَ لَك أَوْ لِأَخِيك أَوْ لِلذِّئْبِ ، قَالَ : فَضَالَّةُ الْإِبِلِ ؟ قَالَ : مَالَك وَلَهَا ؟ مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا ، تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ فَذَرْهَا حَتَّى يَجِدَهَا رَبُّهَا } وَرَوَى أَبُو دَاوُد { عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ أَمَرَ بِطَرْدِ بَقَرَةٍ لَحِقَتْ بِبَقَرَةٍ حَتَّى تَوَارَتْ فَقَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : لَا يَأْوِي الضَّالَّةَ إلَّا ضَالٌّ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ ضَالَّةَ الْمُسْلِمِ حَرْقُ النَّارِ } رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ .
أَجَابَ فِي الْمَبْسُوطِ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ

إذْ ذَاكَ لِغَلَبَةِ أَهْلِ الصَّلَاحِ وَالْأَمَانَةُ لَا تَصِلُ إلَيْهَا يَدٌ خَائِنَةٌ ، فَإِذَا تَرَكَهَا وَجَدَهَا ، وَأَمَّا فِي زَمَانِنَا فَلَا يَأْمَنُ وُصُولَ يَدٍ خَائِنَةٍ إلَيْهَا بَعْدَهُ ، فَفِي أَخْذِهَا إحْيَاؤُهَا وَحِفْظُهَا عَلَى صَاحِبِهَا فَهُوَ أَوْلَى .
وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ إنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ ذَلِكَ أَنْ يَجِبَ الِالْتِقَاطُ وَهَذَا أَحَقُّ ، فَإِنَّا نَقْطَعُ بِأَنَّ مَقْصُودَ الشَّارِعِ وُصُولُهَا إلَى رَبِّهَا وَأَنَّ ذَلِكَ طَرِيقُ الْوُصُولِ ، فَإِذَا تَغَيَّرَ الزَّمَانُ وَصَارَ طَرِيقُ التَّلَفِ فَحُكْمُهُ عِنْدَهُ بِلَا شَكٍّ خِلَافُهُ وَهُوَ الِالْتِقَاطُ لِلْحِفْظِ وَالرَّدِّ .
وَأَقْصَى مَا فِيهِ أَنْ يَكُونَ عَامًّا فِي الْأَوْقَاتِ خَصَّ مِنْهَا بَعْضَ الْأَوْقَاتِ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ مِنْ الدَّيْنِ لَوْ لَمْ يَتَأَيَّدْ بِحَدِيثٍ عَنْ عِيَاضِ بْنِ حَمَّادٍ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ الضَّالَّةِ فَقَالَ : عَرِّفْهَا فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا وَإِلَّا فَهِيَ مَالُ اللَّهِ يُؤْتِيه مَنْ يَشَاءُ } ، فَتَأَيَّدَ بِهِ زِيَادَةٌ بَعْدَ تَمَامِ الْوَجْهِ ( قَوْلُهُ فَإِنْ أَنْفَقَ الْمُلْتَقِطُ عَلَيْهَا بِغَيْرِ إذْنِ الْحَاكِمِ فَهُوَ مُتَبَرِّعٌ لِقُصُورِ وِلَايَتِهِ عَنْ ذِمَّةِ الْمَالِكِ ) أَيْ عَنْ أَنْ يَشْغَلَهَا بِالدَّيْنِ بِلَا أَمْرِهِ .
( وَإِنْ أَنْفَقَ بِأَمْرِهِ كَانَ دَيْنًا عَلَيْهِ لِأَنَّ لِلْقَاضِي وِلَايَةً فِي مَالِ الْغَائِبِ نَظَرًا لَهُ ، وَقَدْ يَكُونُ النَّظَرُ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ ) الْآنَ فَإِذَا رَفَعَ إلَى الْحَاكِمِ فَإِنْ كَانَ لِلْبَهِيمَةِ مَنْفَعَةٌ ) وَثَمَّ مَنْ يَسْتَأْجِرُهَا ( آجَرَهَا وَأَنْفَقَ عَلَيْهَا مِنْ أُجْرَتِهَا لِأَنَّ فِيهِ إبْقَاءَ الْعَيْنِ عَلَى مِلْكِ مَالِكِهَا بِلَا إلْزَامِ دَيْنٍ عَلَيْهِ ، وَكَذَا يُفْعَلُ بِالْعَبْدِ الْآبِقِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهَا مَنْفَعَةٌ ) أَوْ لَمْ يَجِدْ مِنْهُ مَنْ يَسْتَأْجِرُهَا ( وَخَافَ أَنْ تَسْتَغْرِقَ النَّفَقَةُ قِيمَتَهَا بَاعَهَا وَأَمَرَ بِحِفْظِ ثَمَنِهَا إبْقَاءً لَهُ مَعْنًى عِنْدَ تَعَذُّرِ إبْقَائِهِ صُورَةً ) فَإِنَّ الثَّمَنَ يَقُومُ مَقَامَ الْعَيْنِ إذْ يَصِلُ بِهِ إلَى

مِثْلِهِ فِي الْجُمْلَةِ ( وَإِنْ كَانَ الْأَصْلَحُ الْإِنْفَاقَ عَلَيْهَا أَذِنَ ) لَهُ ( فِي ذَلِكَ وَجَعَلَ النَّفَقَةَ دَيْنًا عَلَيْهِ ) إذْ ( فِيهِ نَظَرٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ) جَانِبِ الْمَالِكِ بِإِبْقَاءِ عَيْنِ مَالِهِ لَهُ وَجَانِبِ الْمُلْتَقِطِ بِالرُّجُوعِ ( قَالَ الْمَشَايِخُ : إنَّمَا يَأْمُرُ بِالْإِنْفَاقِ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً عَلَى قَدْرِ مَا يُرْجَى أَنْ يَظْهَرَ مَالِكُهَا ) ، فَإِذَا لَمْ يَظْهَرْ يَأْمُرُ بِبَيْعِهَا لِأَنَّ دَارَّةَ النَّفَقَةِ مُسْتَأْصَلَةٌ لِلْعَيْنِ مَعْنًى ، بَلْ رُبَّمَا تَذْهَبُ الْعَيْنُ وَيَفْضُلُ الدَّيْنُ عَلَى مَالِكِهَا ، وَلَا نَظَرَ فِي ذَلِكَ أَصْلًا بَلْ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَنْفُذَ مِنْ الْقَاضِي ذَلِكَ لَوْ أَمَرَ بِهِ لِلتَّيَقُّنِ بِعَدَمِ النَّظَرِ ، وَإِذَا بَاعَهَا أَعْطَى الْمُلْتَقِطَ مِنْ ثَمَنِهَا مَا أَنْفَقَ فِي الْيَوْمَيْنِ أَوْ الثَّلَاثَةِ ، لِأَنَّ الثَّمَنَ مَالُ صَاحِبِهَا وَالنَّفَقَةُ دَيْنٌ عَلَيْهِ بِعِلْمِ الْقَاضِي ، وَصَاحِبُ الدَّيْنِ إذَا ظَفَرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ ، وَلِلْقَاضِي أَنْ يُعِينَهُ عَلَيْهِ ، وَلَوْ بَاعَهَا بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي لَا يَنْفُذُ وَيَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْمَالِكِ ، فَإِنْ جَاءَ وَهِيَ قَائِمَةٌ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَإِنْ شَاءَ أَجَازَ الْبَيْعَ وَإِنْ شَاءَ أَبْطَلَهُ وَأَخَذَهَا مِنْ يَدِهِ .
وَإِنْ جَاءَ وَهِيَ هَالِكَةٌ فَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْمُشْتَرِي قِيمَتَهَا وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْبَائِعُ ، فَإِنْ ضَمِنَ الْبَائِعُ نَفَذَ الْبَيْعُ لِأَنَّهُ مَلَكَ اللُّقَطَةَ مِنْ حِينِ أَخَذَهَا وَكَانَ الثَّمَنُ لِلْبَائِعِ وَيَتَصَدَّقُ بِمَا زَادَ عَلَى الْقِيمَةِ ( وَفِي الْأَصْلِ ) يَعْنِي الْمَبْسُوطَ ( يَشْتَرِطُ الْبَيِّنَةَ ) فَإِنَّهُ قَالَ : فَإِنْ كَانَ رَفَعَهَا إلَى الْقَاضِي وَأَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهُ الْتَقَطَهَا أَمَرَهُ أَنْ يُنْفِقَ وَصَحَّحَهُ الْمُصَنِّفُ ( لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ غَصَبَهَا ، وَلَا يَأْمُرُ بِالنَّفَقَةِ إلَّا فِي الْوَدِيعَةِ ) وَهَذِهِ الْبَيِّنَةُ ( لِكَشْفِ الْحَالِ ) أَيْ لِيَنْكَشِفَ لِلْقَاضِي أَنَّهُ الْتَقَطَهَا لَا لِلْقَضَاءِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى خَصْمٍ لَهُ ،

ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ .
وَفِي الذَّخِيرَةِ : الْإِمَامُ خَصْمٌ فِيهَا عَنْ صَاحِبِهَا ( وَإِنْ قَالَ ) الْمُلْتَقِطُ ( لَا بَيِّنَةَ لِي يَقُولُ لَهُ أَنْفِقْ عَلَيْهَا إنْ كُنْت صَادِقًا ) وَفِي الذَّخِيرَةِ : يَقُولُ لَهُ ذَلِكَ بَيْنَ يَدِي الثِّقَاتِ بِأَنْ يَقُولَ أَمَرْته بِالْبَيْعِ أَوْ الْإِنْفَاقِ إنْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ ( وَقَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ وَجَعَلَ النَّفَقَةَ دَيْنًا عَلَى صَاحِبِهَا ) إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ إنَّمَا يَرْجِعُ ( إذَا شَرَطَ الْقَاضِي ) ذَلِكَ ( وَهَذَا رِوَايَةٌ وَهُوَ الْأَصَحُّ ) وَقِيلَ يَرْجِعُ بِمُجَرَّدِ أَمْرِهِ ، وَقَدْ مَرَّ فِي اللَّقِيطِ ( وَإِذْ حَضَرَ الْمَالِكُ فَلِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْهُ حَتَّى يُحْضِرَ النَّفَقَةَ لِأَنَّهُ حَيٌّ بِنَفَقَتِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ اسْتَفَادَ الْمِلْكَ مِنْهُ فَأَشْبَهَ الْمَبِيعَ .
وَأَقْرَبُ مِنْ ذَلِكَ رَادُّ الْآبِقِ فَإِنَّ لَهُ الْحَبْسَ لِاسْتِيفَاءِ الْجُعَلِ لِمَا ذَكَرْنَا ) مِنْ التَّشْبِيهِ بِالْمَبِيعِ ( وَلَا يَسْقُطُ دَيْنُ النَّفَقَةِ بِهَلَاكِهِ فِي يَدِ الْمُلْتَقِطِ قَبْلَ الْحَبْسِ ، وَيَسْقُطُ إذَا هَلَكَ بَعْدَ الْحَبْسِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِالْحَبْسِ كَالرَّهْنِ ) مِنْ حَيْثُ تَعَلُّقِ حَقِّهِ بِهِ كَالْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ إذَا نَقَدَ الثَّمَنَ مِنْ مَالِهِ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُوَكِّلِ ، وَلَوْ هَلَكَ قَبْلَ الْحَبْسِ لَا يَسْقُطُ عَنْ الْمُوَكِّلِ ، وَلَوْ هَلَكَ بَعْدَهُ سَقَطَ لِأَنَّهُ كَالرَّهْنِ بَعْدَ اخْتِيَارِ الْحَبْسِ ، هَكَذَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَلَمْ يَحْكِ خِلَافًا وَحَافِظُ الدِّينِ فِي الْكَافِي أَيْضًا ، فَيُفْهَمُ أَنَّهُ الْمَذْهَبُ .
وَجَعَلَ الْقُدُورِيُّ هَذَا قَوْلَ زُفَرَ .
قَالَ فِي التَّقْرِيبِ : قَالَ أَصْحَابُنَا : وَأَنْفَقَ عَلَى اللُّقَطَةِ بِأَمْرِ الْقَاضِي وَحَبَسَهَا بِالنَّفَقَةِ فَهَلَكَتْ لَمْ تَسْقُطْ النَّفَقَةُ خِلَافًا لِزُفَرَ لِأَنَّهَا دَيْنٌ غَيْرُ بَدَلٍ عَنْ عَيْنٍ وَلَا عَنْ عَمَلٍ مِنْهُ فِيهَا وَلَا يَتَنَاوَلُهَا : أَيْ الْعَيْنَ عَقْدٌ يُوجِبُ الضَّمَانَ .
وَصَرَّحَ فِي الْيَنَابِيعِ بِعَدَمِ السُّقُوطِ عَنْ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ فَقَالَ : لَوْ أَنْفَقَ الْمُلْتَقِطُ

عَلَى اللُّقَطَةِ بِأَمْرِ الْحَاكِمِ وَحَبَسَهَا لِيَأْخُذَ مَا أَنْفَقَ عَلَيْهَا فَهَلَكَتْ لَمْ تَسْقُطْ النَّفَقَةُ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ .
وَحَاصِلُ الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فِي التَّقْرِيبِ نَفْيُ الْحُكْمِ : أَعْنِي السُّقُوطَ لِعَدَمِ دَلِيلِ السُّقُوطِ ، فَإِنَّ الدَّيْنَ ثَابِتٌ وَلَيْسَتْ الْعَيْنُ الْمُلْتَقَطَةُ رَهْنًا لِيَسْقُطَ بِهَلَاكِهَا إذَا لَمْ يَتَنَاوَلْهَا عَقْدُ الرَّهْنِ .
وَالْمُصَنِّفُ أَوْجَدَ الدَّلِيلَ وَهُوَ الْإِلْحَاقُ بِالرَّهْنِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ حَقِيقَتِهِ لَكِنَّ النَّقْلَ كَمَا رَأَيْت .
وَأَمَّا مَا نُقِلَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَبْسُهَا أَصْلًا فَأَبْلَغُ

قَالَ ( وَلُقَطَةُ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ سَوَاءٌ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَجِبُ التَّعْرِيفُ فِي لُقَطَةِ الْحَرَمِ إلَى أَنْ يَجِيءَ صَاحِبُهَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْحَرَمِ { وَلَا يَحِلُّ لُقَطَتُهَا إلَّا لِمُنْشِدٍ } وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ وَلِأَنَّهَا لُقَطَةٌ ، وَفِي التَّصَدُّقِ بَعْدَ مُدَّةِ التَّعْرِيفِ إبْقَاءُ مِلْكِ الْمَالِكِ مِنْ وَجْهٍ فَيَمْلِكُهُ كَمَا فِي سَائِرِهَا ، وَتَأْوِيلُ مَا رُوِيَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ الِالْتِقَاطُ إلَّا لِلتَّعْرِيفِ ، وَالتَّخْصِيصُ بِالْحُرْمِ لِبَيَانِ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ التَّعْرِيفُ فِيهِ لِمَكَانِ أَنَّهُ لِلْغُرَبَاءِ ظَاهِرًا .

( قَوْلُهُ وَلُقَطَةُ الْحِلِّ وَالْحَرَامِ سَوَاءٌ ) وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ ، وَفِي قَوْلٍ يُعَرِّفُهَا أَبَدًا حَتَّى يَجِيءَ صَاحِبُهَا لَا حُكْمَ لَهَا سِوَى ذَلِكَ مَنْ تَصَدَّقَ وَلَا تُمْلَكُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ مَكَّةَ قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّاسِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ : إنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ ، وَإِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ، وَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي ، لَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا وَلَا يُخْتَلَى شَوْكُهَا وَلَا تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا إلَّا لِمُنْشِدٍ } الْحَدِيثَ .
الْمُنْشِدُ : الْمُعَرِّفُ ، وَالنَّاشِدُ : الطَّالِبُ .
قَالَ الْمُثَقَّبُ : يَسِيخُ لِلنَّبْأَةِ أَسْمَاعَهُ إسَاخَةَ الْمُنْشِدِ لِلنَّاشِدِ وَيُرْوَى يَصِيخُ وَهُوَ بِمَعْنَاهُ ، فَالْفِعْلُ مِنْ الْأَوَّلِ أَنْشَدَ الضَّالَّةَ يَنْشُدُهَا ، وَأَنْشَدَهَا إنْشَادًا : إذَا أَعْرَفْتَهَا ، وَمِنْ الثَّانِي نَشَدْتهَا أَنْشُدُهَا نَشْدًا وَنِشْدَانًا بِكَسْرِ النُّونِ : إذَا طَلَبْتهَا ( وَلَنَا إطْلَاقُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ وَغَيْرِهِ وَسُئِلَ عَنْ اللُّقَطَةِ فَقَالَ ( اعْرِفْ عِفَاصَهَا ) أَيْ وِعَاءَهَا مِنْ جِلْدٍ أَوْ خِرْقَةٍ وَنَحْوِهَا ( وَوِكَاءَهَا ) أَيْ رِبَاطَهَا الَّذِي شُدَّتْ بِهِ وَعَرِّفْهَا سَنَةً وَتَقَدَّمَ ، فَإِمَّا أَنْ يَقْضِيَ الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ وَإِمَّا أَنْ يَتَعَارَضَا فَيُحْمَلُ كُلٌّ عَلَى مَحْمَلٍ وَهُوَ أَوْلَى ، لَكِنْ لَا تَعَارُضَ لِأَنَّهُ مَعْنَاهُ : لَا يَحِلُّ الِالْتِقَاطُ إلَّا لِمَنْ يُعَرِّفُ وَلَا يَحِلُّ لِنَفْسِهِ .
وَتَخْصِيصُ مَكَّةَ حِينَئِذٍ لِدَفْعِ وَهْمِ سُقُوطِ التَّعْرِيفِ بِهَا بِسَبَبِ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مَا وُجِدَ بِهَا مِنْ لُقَطَةٍ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لِلْغُرَبَاءِ وَقَدْ تَفَرَّقُوا فَلَا يُفِيدُ

التَّعْرِيفُ فَيَسْقُطُ كَمَا يَسْقُطُ فِيمَا يَظْهَرُ إبَاحَتُهُ ، فَبَيَّنَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهَا كَغَيْرِهَا مِنْ الْبِلَادِ فِي وُجُوبِ التَّعْرِيفِ ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ لُقَطَةِ الْحَاجِّ } .
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : يَعْنِي يَتْرُكُهَا حَتَّى يَجِيءَ صَاحِبُهَا ، وَلَا عَمَلَ عَلَى هَذَا فِي هَذَا الزَّمَانِ لِفُشُوِّ السَّرِقَةِ بِمَكَّةَ مِنْ حَوَالِي الْكَعْبَةِ فَضْلًا عَنْ الْمَتْرُوكِ ، وَالْأَحْكَامُ إذَا عُلِمَ شَرْعِيَّتُهَا بِاعْتِبَارِ شَرْطٍ ثُمَّ عُلِمَ ثُبُوتُ ضِدِّهِ مُتَضَمِّنًا مَفْسَدَةً بِتَقْدِيرِ شَرْعِيَّتِهِ مَعَهُ عُلِمَ انْقِطَاعُهَا ، بِخِلَافِ الْعِلْمِ بِشَرْعِيَّتِهَا لِسَبَبٍ إذَا عُلِمَ انْتِفَاؤُهُ ، وَلَا مَفْسَدَةَ فِي الْبَقَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ ذَلِكَ كَالرَّمْلِ وَالِاضْطِبَاعِ فِي الطَّوَافِ لِإِظْهَارِ الْجَلَادَةِ

( وَإِذَا حَضَرَ رَجُلٌ فَادَّعَى اللُّقَطَةَ لَمْ تُدْفَعْ إلَيْهِ حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ .
فَإِنْ أَعْطَى عَلَامَتَهَا حَلَّ لِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يَدْفَعَهَا إلَيْهِ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْقَضَاءِ ) .
وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى : يُجْبَرُ ، وَالْعَلَامَةُ مِثْلُ أَنْ يُسَمِّيَ وَزْنَ الدَّرَاهِمِ وَعَدَدَهَا وَوِكَاءَهَا وَوِعَاءَهَا .
لَهُمَا أَنَّ صَاحِبَ الْيَدِ يُنَازِعُهُ فِي الْيَدِ وَلَا يُنَازِعُهُ فِي الْمِلْكِ ، فَيُشْتَرَطُ الْوَصْفُ لِوُجُودِ الْمُنَازَعَةِ مِنْ وَجْهٍ ، وَلَا تُشْتَرَطُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ لِعَدَمِ الْمُنَازَعَةِ مِنْ وَجْهٍ .
وَلَنَا أَنَّ الْيَدَ حَقٌّ مَقْصُودٌ كَالْمِلْكِ فَلَا يُسْتَحَقُّ إلَّا بِحُجَّةٍ وَهُوَ الْبَيِّنَةُ اعْتِبَارًا بِالْمِلْكِ إلَّا أَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ الدَّفْعُ عِنْدَ إصَابَةِ الْعَلَامَةِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَعَرَفَ عِفَاصَهَا وَعَدَدَهَا فَادْفَعْهَا إلَيْهِ } وَهَذَا لِلْإِبَاحَةِ عَمَلًا بِالْمَشْهُورِ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي } الْحَدِيثَ وَيَأْخُذُ مِنْهُ كَفِيلًا إذَا كَانَ يَدْفَعُهُ إلَيْهِ اسْتِيثَاقًا ، وَهَذَا بِلَا خِلَافٍ ، لِأَنَّهُ يَأْخُذُ الْكَفِيلَ لِنَفْسِهِ ، بِخِلَافِ التَّكْفِيلِ لِوَارِثٍ غَائِبٍ عِنْدَهُ .
وَإِذَا صُدِّقَ قِيلَ لَا يُجْبَرُ عَلَى الدَّفْعِ كَالْوَكِيلِ بِقَبْضِ الْوَدِيعَةِ إذَا صَدَّقَهُ .
وَقِيلَ يُجْبَرُ لِأَنَّ الْمَالِكَ هَاهُنَا غَيْرُ ظَاهِرٍ وَالْمُودِعُ مَالِكٌ ظَاهِرًا ، وَلَا يَتَصَدَّقُ بِاللُّقَطَةِ عَلَى غَنِيٍّ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هُوَ التَّصَدُّقُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { فَإِنْ لَمْ يَأْتِ } يَعْنِي صَاحِبَهَا ، { فَلْيَتَصَدَّقْ بِهِ } وَالصَّدَقَةُ لَا تَكُونُ عَلَى غَنِيٍّ فَأَشْبَهَ الصَّدَقَةَ الْمَفْرُوضَةَ ( وَإِنْ كَانَ الْمُلْتَقِطُ غَنِيًّا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَجُوزُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ أُبَيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَادْفَعْهَا إلَيْهِ

وَإِلَّا فَانْتَفِعْ بِهَا } وَكَانَ مِنْ الْمَيَاسِيرِ ، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يُبَاحُ لِلْفَقِيرِ حَمْلًا لَهُ عَلَى رَفْعِهَا صِيَانَةً لَهَا وَالْغَنِيُّ يُشَارِكُهُ فِيهِ .
وَلَنَا مَالُ الْغَيْرِ فَلَا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إلَّا بِرِضَاهُ لِإِطْلَاقِ النُّصُوصِ وَالْإِبَاحَةُ لِلْفَقِيرِ لِمَا رَوَيْنَاهُ ، أَوْ بِالْإِجْمَاعِ فَيَبْقَى مَا وَرَاءَهُ عَلَى الْأَصْلِ ، وَالْغَنِيُّ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَخْذِ لِاحْتِمَالِ افْتِقَارِهِ فِي مُدَّةِ التَّعْرِيفِ ، وَالْفَقِيرُ قَدْ يَتَوَانَى لِاحْتِمَالِ اسْتِغْنَائِهِ فِيهَا وَانْتِفَاعُ أُبَيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَهُوَ جَائِزٌ بِإِذْنِهِ ( وَإِنْ كَانَ الْمُلْتَقِطُ فَقِيرًا فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا ) لِمَا فِيهِ مِنْ تَحْقِيقِ النَّظَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَلِهَذَا جَازَ الدَّفْعُ إلَى فَقِيرٍ غَيْرِهِ ( وَكَذَا إذَا كَانَ الْفَقِيرُ أَبَاهُ أَوْ ابْنَهُ أَوْ زَوْجَتَهُ وَإِنْ كَانَ هُوَ غَنِيًّا ) لِمَا ذَكَرْنَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( قَوْلُهُ وَإِذَا حَضَرَ رَجُلٌ فَادَّعَى اللُّقَطَةَ لَمْ تُدْفَعْ إلَيْهِ حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ ، فَإِنْ أَعْطَى عَلَامَتَهَا حَلَّ لِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يَدْفَعَهَا إلَيْهِ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ بِالْقَضَاءِ .
وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ ) وَأَحْمَدَ ( يُجْبَرُ ) وَإِعْطَاءُ عَلَامَتِهَا أَنْ يُخْبِرَ عَنْ وَزْنِهَا وَعَدَدِهَا وَوِكَائِهَا وَيُصِيبُ فِي ذَلِكَ .
وَالْحَقُّ أَنَّ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ كَقَوْلِنَا ، وَالْمُوجِبُ لِلدَّفْعِ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ { عَرِّفْهَا ، فَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ يُخْبِرُك بِعَدَدِهَا وَوِكَائِهَا وَوِعَائِهَا فَأَعْطِهِ إيَّاهَا وَإِلَّا فَاسْتَمْتِعْ بِهَا } وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ وَفِيهِ { فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَعَرَّفَ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا وَعَدَدَهَا فَأَعْطِهَا إيَّاهُ وَإِلَّا فَهِيَ لَك } وَأَيْضًا ( فَإِنَّ صَاحِبَ الْيَدِ ) وَهُوَ الْمُلْتَقِطُ ( إنَّمَا يُنَازِعُهُ فِي الْيَدِ لَا فِي الْمِلْكِ ) لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِيهِ فَكَانَتْ مُنَازَعَتُهُ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ ، فَيُشْتَرَطُ مَا هُوَ حُجَّةٌ مِنْ وَجْهٍ لَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَفِي الْوَصْفِ الْمُطَابِقِ ذَلِكَ فَاكْتَفَى بِهِ ( وَلَا يُشْتَرَطُ الْبَيِّنَةُ لِعَدَمِ مُنَازَعَتِهِ ) مِنْ الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا ( وَلَنَا أَنَّ الْيَدَ حَقٌّ مَقْصُودٌ كَالْمِلْكِ ) حَتَّى أَنَّ غَاصِبَ الْمُدَبَّرِ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ وَلَمْ يُفَوِّتْ غَيْرَ الْيَدِ فَيَكُونُ مِثْلَهُ لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ غَيْرَ أَنَّا أَبَحْنَا لَهُ الدَّفْعَ عِنْدَ إصَابَةِ الْعَلَامَةِ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَوْهُ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ فِيهِ لِلْإِبَاحَةِ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ } وَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الدَّعْوَى ، وَالْمُدَّعِي هُنَا صَاحِبُ اللُّقَطَةِ فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ ، ثُمَّ إذَا دَفَعَهَا بِالْعَلَامَةِ فَقَطْ يَأْخُذُ مِنْهُ كَفِيلًا

اسْتِيثَاقًا .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَهَذَا بِلَا خِلَافٍ ، لِأَنَّهُ يَأْخُذُ الْكَفِيلَ لِنَفْسِهِ ، بِخِلَافِ التَّكْفِيلِ لِوَارِثٍ غَائِبٍ عِنْدَهُ ) أَيْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا إذَا قُسِمَتْ التَّرِكَةُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ أَوْ الْوَرَثَةِ لَا يُؤْخَذُ مِنْ الْغَرِيمِ وَلَا مِنْ الْوَارِثِ كَفِيلٌ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَهُمَا يُؤْخَذُ .
وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ حَقَّ الْحَاضِرِ هُنَا غَيْرُ ثَابِتٍ فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَالِكُ غَيْرَهُ فَيَجِيءُ وَيَتَوَارَى الْآخِذُ فَيُحْتَاطُ بِالْكَفِيلِ بِخِلَافِ الْمِيرَاثِ فَإِنَّ حَقَّ الْحَاضِرِ مَعْلُومٌ ثَابِتٌ ، وَكَوْنُ غَيْرِهِ أَيْضًا لَهُ حَقٌّ أَمْرٌ مَوْهُومٌ فَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْحَقِّ الثَّابِتِ إلَى زَمَانِ تَحْصِيلِ الْكَفِيلِ بِحَقٍّ مَوْهُومٍ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ دَفْعَ الْمُلْتَقِطِ لَوْ كَانَ بِالْبَيِّنَةِ لَا يَأْخُذُ كَفِيلًا وَهُوَ الصَّحِيحُ .
وَذُكِرَ فِي جَامِعِ قَاضِي خَان أَنَّ فِيهِ رِوَايَتَيْنِ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَأْخُذُ .
وَأُورِدَ عَلَى الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ نَفَى الْخِلَافَ فِي التَّكْفِيلِ فِي اللُّقَطَةِ .
وَقَالَ فِي فَصْلِ الْقَضَاءِ بِالْمَوَارِيثِ فِيهِ : أَيْ فِي أَخْذِ الْكَفِيلِ عِنْدَ رَفْعِ اللُّقَطَةِ رِوَايَتَانِ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ عَلَى الْخِلَافِ .
عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَأْخُذُ وَعَلَى قَوْلِهِمَا يَأْخُذُ ، هَذَا إذَا دَفَعَهُ بِمُجَرَّدِ الْعَلَامَةِ ، فَإِنْ صَدَّقَهُ مَعَ الْعَلَامَةِ أَوْ لَا مَعَهَا فَلَا شَكَّ فِي جَوَازِ دَفْعِهِ إلَيْهِ ، لَكِنْ هَلْ يُجْبَرُ ؟ قِيلَ يُجْبَرُ كَمَا لَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً ، وَقِيلَ لَا يُجْبَرُ كَالْوَكِيلِ يَقْبِضُ الْوَدِيعَةَ إذَا صَدَّقَهُ الْمُودِعُ لَا يُجْبِرُهُ الْقَاضِي عَلَى دَفْعِهَا إلَيْهِ ، وَدَفَعَ بِالْفَرْقِ ( بِأَنَّ الْمَالِكَ هُنَا غَيْرُ ظَاهِرٍ ) أَيْ الْمَالِكُ الْآخِذُ لِهَذِهِ اللُّقَطَةِ الَّتِي صَدَّقَ الْمُلْتَقِطُ مُدَّعِيهَا غَيْرُ ظَاهِرٍ ، وَالْمُودِعُ فِي مَسْأَلَةِ الْوَدِيعَةِ مَالِكٌ ظَاهِرٌ ، وَإِنَّمَا أَقَرَّ لِلْحَاضِرِ بِحَقِّ قَبْضِهَا وَإِقْرَارُهُ بِحَقِّ قَبْضِ مِلْكِ الْغَيْرِ لَا يَلْزَمُهُ

إقْبَاضُهُ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ عَلَى مِلْكِ غَيْرِهِ ، وَإِذَا دَفَعَ بِالتَّصْدِيقِ أَوْ بِالْعَلَامَةِ وَجَاءَ آخَرُ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ إنْ كَانَتْ قَائِمَةً فِي يَدِ الْمُدَّعِي قَضَى لَهُ بِهَا وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَإِنْ كَانَ هَالِكًا خُيِّرَ بَيْنَ أَنْ يَضْمَنَ الْقَابِضُ أَوْ الْمُلْتَقِطُ ، فَإِنْ ضَمِنَ الْقَابِضُ لَا يَرْجِعُ عَلَى أَحَدٍ ، وَإِنْ ضَمِنَ الْمُلْتَقِطُ فَفِي رِوَايَةٍ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْقَابِضِ وَهُوَ قَوْلُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِيمَا إذَا كَانَ الدَّفْعُ بِتَصْدِيقِهِ ، وَفِي رِوَايَةٍ يَرْجِعُ وَهُوَ الصَّحِيحُ .
وَجْهُ قَوْلِ أَحْمَدَ أَنَّ الْمُلْتَقِطَ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ مَالِكُهَا وَصَاحِبُ الْبَيِّنَةِ ظَلَمَهُ بِتَضْمِينِهِ فَلَا يَظْلِمُهُ هُوَ وَصَارَ كَالْمُودِعِ إذَا صَدَّقَ الْوَكِيلَ بِالْقَبْضِ وَدَفَعَ إلَيْهِ ثُمَّ حَضَرَ الْمُودِعُ وَأَنْكَرَ الْوَكَالَةَ وَضَمِنَهُ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْوَكِيلِ لِزَعْمِهِ أَنَّ الْوَكِيلَ قَبَضَهُ بِأَمْرِهِ وَالْمُودِعُ ظَالِمٌ فِي تَضْمِينِهِ .
وَلَنَا أَنَّهُ وَإِنْ صَدَّقَهُ فِي الْمِلْكِ لَكِنَّهُ لَمَّا قَضَى بِالْمِلْكِ لِلْمُدَّعِي بِالْبَيِّنَةِ فَقَدْ صَارَ مُكَذَّبًا شَرْعًا بِتَكْذِيبِ الْقَاضِي فَبَطَلَ إقْرَارُهُ وَصَارَ كَأَنَّهُ دَفَعَ بِلَا تَصْدِيقٍ ، ثُمَّ ظَهَرَ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ وَصَارَ كَإِقْرَارِ الْمُشْتَرِي بِالْمِلْكِ لِلْبَائِعِ إذَا اسْتَحَقَّهُ غَيْرُهُ بِبَيِّنَةٍ فَقَضَى لَهُ بِهِ يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ ، وَمِثْلُ هَذَا يَجْرِي فِي إقْرَارِهِ بِأَنَّهُ وَكِيلُ الْمُودِعِ .
وَاَلَّذِي فَرَّقَ بِهِ فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ فِي زَعْمِ الْمُودِعِ أَنَّ الْوَكِيلَ عَامِلٌ لِغَيْرِهِ وَهُوَ الْمُودِعُ فِي قَبْضِهِ لَهُ بِأَمْرِهِ وَلَيْسَ بِضَامِنٍ ، بَلْ الْمُودِعُ ظَلَمَهُ فِي تَضْمِينِهِ إيَّاهُ ، وَمَنْ ظُلِمَ لَا يَظْلِمُ غَيْرَهُ مُوهِنًا فِي زَعْمِهِ أَنَّ الْقَابِضَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ وَأَنَّهُ ضَامِنٌ إذَا ثَبَتَ الْمِلْكُ لِغَيْرِهِ بِالْبَيِّنَةِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمَا ضَمِنَ انْتَهَى ( قَوْلُهُ وَلَا يَتَصَدَّقُ بِاللُّقَطَةِ عَلَى غَنِيٍّ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هُوَ الصَّدَقَةُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَإِنْ لَمْ يَأْتِ : يَعْنِي صَاحِبَهَا ، فَلْيَتَصَدَّقْ بِهِ } وَالصَّدَقَةُ لَا تَكُونُ عَلَى غَنِيٍّ فَأَشْبَهَ الصَّدَقَةَ الْمَفْرُوضَةَ ) وَالْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ هُوَ مَا رَوَاهُ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ وَالدَّارَقُطْنِيّ عَنْ يُوسُفَ بْنِ خَالِدٍ السَّمْتِيِّ : حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ سُمَيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ اللُّقَطَةِ فَقَالَ : لَا تَحِلُّ اللُّقَطَةُ ، فَمَنْ الْتَقَطَ شَيْئًا فَلْيُعَرِّفْهُ سَنَةً ، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهُ فَلْيُؤَدِّهِ إلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِ فَلْيَتَصَدَّقْ بِهِ ، فَإِنْ جَاءَ فَلْيُخَيِّرْهُ بَيْنَ الْأَجْرِ وَبَيْنَ الَّذِي لَهُ } وَفِيهِ يُوسُفُ بْنُ خَالِدٍ السَّمْتِيُّ .
وَلَيْسَ لِلْمُلْتَقِطِ إذَا كَانَ غَنِيًّا أَنْ يَتَمَلَّكَهَا بِطَرِيقِ الْقَرْضِ إلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ ، وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا فَلَهُ أَنْ يَصْرِفَهَا إلَى نَفْسِهِ صَدَقَةً لَا فَرْضًا فَيَكُونُ فِيهِ لِلْمَالِكِ أَجْرُ الصَّدَقَةِ تَحْقِيقًا لِلنَّظَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ جَانِبِ الْمَالِكِ بِحُصُولِ الثَّوَابِ لَهُ وَجَانِبِ الْمُلْتَقِطِ كَمَا لَوْ كَانَ الْفَقِيرُ غَيْرَ الْمُلْتَقِطِ ، وَلِهَذَا جَازَ دَفْعُهَا إلَى فَقِيرٍ غَيْرِ الْمُلْتَقِطِ وَإِنْ كَانَ أَبَا الْمُلْتَقِطِ أَوْ ابْنَهُ أَوْ زَوْجَتَهُ ( وَإِنْ كَانَ الْمُلْتَقِطُ غَنِيًّا لِمَا ذَكَرْنَا ) مِنْ تَحْقِيقِ النَّظَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا بِطَرِيقِ الْقَرْضِ غَيْرَ مُفْتَقِرٍ إلَى إذْنِ الْإِمَامِ ( لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَادْفَعْهَا إلَيْهِ وَإِلَّا فَاسْتَمْتِعْ بِهَا } ) قَالُوا ( وَأُبَيُّ كَانَ مِنْ الْمَيَاسِيرِ ) بِدَلِيلِ مَا فِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { وَإِلَّا فَهِيَ كَسَبِيلِ مَالِك } .
فَقَدْ جَعَلَ لَهُ مَالًا ، قُلْنَا : هَذِهِ الرِّوَايَةُ لَيْسَ فِيهَا أَنَّ الْخِطَابَ لِأُبَيِّ ، فَإِنَّهَا كَمَا فِي مُسْلِمٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ

اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي اللُّقَطَةِ عَرِّفْهَا سَنَةً ، فَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ ، إلَى أَنْ قَالَ : فَهِيَ كَسَبِيلِ مَالِك } وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ يَحْكِي قَوْلَهُ لِسَائِلٍ يَسْأَلُهُ ، وَجَازَ كَوْنُ ذَلِكَ كَانَ فَقِيرًا .
ثُمَّ هُنَا مَا يَدُلُّ عَلَى فَقْرِ أُبَيٍّ فِي زَمَنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهُوَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ أَبِي طَلْحَةَ قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إلَيَّ بَيْرُحَاءَ ، فَمَا تَرَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَقَالَ : اجْعَلْهَا فِي فُقَرَاءِ قَرَابَتِك ، فَجَعَلَهَا } أَبُو طَلْحَةَ فِي أُبَيٍّ وَحَسَّانٍ وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ أُبَيًّا كَانَ فَقِيرًا ، لَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَيْسَرَ بَعْدَ ذَلِكَ ، إلَّا أَنَّ قَضَايَا الْأَحْوَالِ إذَا تَطَرَّقَ إلَيْهَا الِاحْتِمَالُ سَقَطَ بِهَا الِاسْتِدْلَال .
وَأَمَّا مَا فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ { جَاءَ رَجُلٌ يَسْأَلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ اللُّقَطَةِ فَقَالَ : اعْرِفْ ، إلَى أَنْ قَالَ وَإِلَّا فَشَأْنُك بِهَا } وَفِي رِوَايَةٍ " فَهِيَ لَك " فَهُوَ أَيْضًا مِنْ قَضَايَا الْأَحْوَالِ الْمُتَطَرِّقِ إلَيْهَا الِاحْتِمَالُ ، إذْ يَجُوزُ كَوْنُ السَّائِلِ فَقِيرًا ، لَوْ سُلِّمَ أَنَّ الْخِطَابَ لِأُبَيِّ لَا يَخْرُجُ عَنْ قَضَايَا الْأَحْوَالِ ذَاتِ الِاحْتِمَالِ ، إذْ الْمَالُ لَا يَلْزَمُ كَوْنُهُ نِصَابًا ، وَكَوْنُهُ خَالِيًا عَنْ الدَّيْنِ لَوْ كَانَ نِصَابًا فَجَازَ كَوْنُهُ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ ، وَكَوْنُهُ مَدْيُونًا .
قَالُوا : لَوْ كَانَتْ اللُّقَطَةُ لَا تَحِلُّ لِلْمُلْتَقِطِ إلَّا بِطَرِيقِ الصَّدَقَةِ فَيَمْتَنِعُ إذَا كَانَ غَنِيًّا لَمَّا أَكَلَهَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ لَا تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ .
وَقَدْ أَمَرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَكْلِهَا فِيمَا أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ { أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ دَخَلَ عَلَى فَاطِمَةَ وَحَسَنٌ وَحُسَيْنٌ يَبْكِيَانِ فَقَالَ : مَا يُبْكِيكُمَا ؟

قَالَتْ : الْجُوعُ ، فَخَرَجَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَوَجَدَ دِينَارًا بِالسُّوقِ ، فَجَاءَ فَاطِمَةَ فَأَخْبَرَهَا فَقَالَتْ : اذْهَبْ إلَى فُلَانٍ الْيَهُودِيِّ فَخُذْ لَنَا دَقِيقًا ، فَجَاءَ الْيَهُودِيَّ ، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ : أَنْتَ خَتَنُ هَذَا الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : فَخُذْ دِينَارَك وَالدَّقِيقُ لَك ، فَخَرَجَ عَلِيٌّ فَأَخْبَرَ فَاطِمَةَ فَقَالَتْ : اذْهَبْ إلَى فُلَانٍ الْجَزَّارِ وَخُذْ لَنَا بِدِرْهَمٍ لَحْمًا ، فَذَهَبَ فَرَهَنَ الدِّينَارَ بِدِرْهَمٍ بِلَحْمٍ ، فَعَجَنَتْ وَخَبَزَتْ وَأَرْسَلَتْ إلَى أَبِيهَا فَجَاءَ ، فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَذْكُرُ لَك فَإِنْ رَأَيْته حَلَالًا لَنَا أَكَلْنَاهُ ، مِنْ شَأْنِهِ كَذَا وَكَذَا ، فَقَالَ : كُلُوا بِاسْمِ اللَّهِ ، فَأَكَلُوا فَبَيْنَمَا هُمْ مَكَانَهُمْ إذَا غُلَامٌ يَنْشُدُ اللَّهَ وَالْإِسْلَامَ الدِّينَارَ ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ فَدُعِيَ فَسَأَلَهُ فَقَالَ : سَقَطَ مِنِّي فِي السُّوقِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا عَلِيُّ اذْهَبْ إلَى الْجَزَّارِ فَقُلْ لَهُ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَك : أَرْسِلْ إلَيَّ بِالدِّينَارِ وَدِرْهَمُك عَلَيَّ ، فَأَرْسَلَ بِهِ فَدَفَعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْغُلَامِ } .
قُلْنَا : هَذَا الْحَدِيثُ تُكُلِّمَ فِيهِ بِاعْتِبَارِ تَضَمُّنِهِ إنْفَاقَهُ قَبْلَ التَّعْرِيفِ فَدَلَّ عَلَى ضَعْفِهِ .
وَقَوْلُ الْمُنْذِرِيِّ : وَلَعَلَّ تَأْوِيلَهُ أَنَّ التَّعْرِيفَ لَيْسَ لَهُ صِيغَةٌ يُعْتَدُّ بِهَا فَمُرَاجَعَتُهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَلَإٍ مِنْ الْخَلْقِ إعْلَانٌ بِهِ ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ الِاكْتِفَاءَ فِي التَّعْرِيفِ بِمَرَّةٍ غَيْرُ ظَاهِرٍ فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ أَنْ اشْتَرَوْا وَخَبَزُوا وَأَحْضَرُوهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْأَكْلِ .
نَعَمْ يَجِبُ الْحُكْمُ بِأَنَّ عَلِيًّا عَرَّفَهُ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ فَاطِمَةَ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ .
وَقَدْ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَإِسْحَاقُ بْنُ

رَاهْوَيْهِ وَالْبَزَّارُ وَأَبُو يَعْلَى الْمُوصِلِيُّ ، وَفِيهِ { أَنَّهُ أَتَى بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : عَرِّفْهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، فَعَرَّفَهُ فَلَمْ يَجِدْ مَنْ يَعْرِفُهُ ، فَرَجَعَ فَأَخْبَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : شَأْنُك بِهِ } .
وَفِيهِ دَلِيلٌ لِمُخْتَارِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ مِنْ أَنَّ التَّقْدِيرَ بِحَوْلٍ وَغَيْرِهِ لَيْسَ بِلَازِمٍ ، بَلْ إلَى أَنْ تَسْكُنَ نَفْسُهُ إلَى أَنَّ طَالِبَهُ قَطَعَ نَظَرَهُ عَنْهُ .
وَفِي سَنَدِهِ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَ الْبَزَّارُ عَلَى الظَّنِّ : هُوَ عِنْدِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَبْرَةَ وَهُوَ لَيِّنُ الْحَدِيثِ ، وَقَالَ عَبْدُ الْحَقِّ : هُوَ مَتْرُوكٌ .
وَالْحَقُّ أَنَّ الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ مِنْ جِهَةِ الرِّوَايَةِ وَمِنْ جِهَةِ الِاضْطِرَابِ ، لِأَنَّ مَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى مِنْ أَنَّهُمْ إنَّمَا أَعْلَمُوهُ بَعْدَ أَنْ اشْتَرَوْا وَصَارَ مُهَيَّئًا لِلْأَكْلِ يُنَاقِضُ مَا فِي الثَّانِيَةِ مِنْ أَنَّهُ أَعْلَمَهُ فَأَمَرَهُ بِتَعْرِيفِهِ ثُمَّ أَمَرَهُ بِأَخْذِهِ .
وَفِي الْأُولَى أَنَّهُ دَفَعَ عَيْنَهُ لِلْمُنْشِدِ .
وَفِي الثَّانِيَةِ " أَنَّهُ جَعَلَهُ دَيْنًا عَلَيْهِ وَقَالَ : إذَا جَاءَنَا أَدَّيْنَاهُ إلَيْك " وَغَيْرُ ذَلِكَ ، وَالِاضْطِرَابُ مُوجِبٌ لِلضَّعْفِ .
ثُمَّ لَوْ سَلَّمْنَا حُجِّيَّتَهُ كَانَ الثَّابِتُ بِهِ أَنَّ اسْتِقْرَاضَهُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ جَائِزٌ ، وَلَيْسَ هَذَا مَحِلُّ النِّزَاعِ كَمَا تَقَدَّمَ ، فَلَمْ يَثْبُتْ بَعْدُ جَوَازُ افْتِرَاضِ الْمُلْتَقِطِ الْغَنِيِّ ، فَلَوْ سَلَّمْنَا ضَعْفَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّدَقَةِ بِنَاءً عَلَى تَضْعِيفِ السَّمْتِيِّ كَفَانَا جَوَازُ التَّصَدُّقِ بِالْإِجْمَاعِ ، ثُمَّ هُوَ يُثْبِتُ أَنَّ لِلْمُلْتَقِطِ الْغَنِيِّ فِيهَا حُكْمًا آخَرَ ، وَنَحْنُ نُطَالِبُهُ فِي إثْبَاتِهِ بِالدَّلِيلِ وَلَمْ يَتِمَّ لَهُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ فَيَبْقَى عَلَى الِانْتِفَاءِ .

كِتَابُ الْإِبَاقِ ( الْآبِقُ أَخْذُهُ أَفْضَلُ فِي حَقِّ مَنْ يَقْوَى عَلَيْهِ ) لِمَا فِيهِ مِنْ إحْيَائِهِ ، وَأَمَّا الضَّالُّ فَقَدْ قِيلَ كَذَلِكَ ، وَقَدْ قِيلَ تَرْكُهُ أَفْضَلُ لِأَنَّهُ لَا يَبْرَحُ مَكَانَهُ فَيَجِدُهُ الْمَالِكُ وَلَا كَذَلِكَ الْآبِقُ ثُمَّ آخِذُ الْآبِقِ يَأْتِي بِهِ إلَى السُّلْطَانِ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى حِفْظِهِ بِنَفْسِهِ ، بِخِلَافِ اللُّقَطَةِ ، ثُمَّ إذَا رُفِعَ الْآبِقُ إلَيْهِ يَحْبِسُهُ ، وَلَوْ رُفِعَ الضَّالُّ لَا يَحْبِسُهُ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ عَلَى الْآبِقِ الْإِبَاقُ ثَانِيًا ، بِخِلَافِ الضَّالِّ

كِتَابُ الْإِبَاقِ كُلٌّ مِنْ الْإِبَاقِ وَاللَّقِيطِ وَاللُّقَطَةِ تَحَقَّقَ فِيهِ عُرْضَةُ الزَّوَالِ وَالتَّلَفِ ، إلَّا أَنَّ التَّعَرُّفَ لَهُ بِفِعْلِ فَاعِلٍ مُخْتَارٌ فِي الْإِبَاقِ فَكَانَ الْأَنْسَبُ تَعْقِيبَ الْجِهَادِ بِهِ ، بِخِلَافِ اللُّقَطَةِ وَاللَّقِيطِ ، وَكَذَا الْأَوْلَى فِيهِ ، وَفِي اللُّقَطَةِ التَّرْجَمَةُ بِالْبَابِ لَا بِالْكِتَابِ .
وَالْإِبَاقُ فِي اللُّغَةِ : الْهَرَبُ ، أَبَقَ يَأْبِقُ كَضَرَبَ يَضْرِبُ ، وَالْهَرَبُ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالْقَصْدِ فَلَا حَاجَةَ إلَى مَا قِيلَ هُوَ الْهَرَبُ قَصْدًا .
نَعَمْ لَوْ قِيلَ الِانْصِرَافُ وَنَحْوُهُ عَنْ الْمَالِكِ كَانَ قَيْدُ الْقَصْدِ مُفِيدًا وَالضَّالُّ لَيْسَ فِيهِ قَصْدُ التَّغَيُّبِ بَلْ هُوَ الْمُنْقَطِعُ عَنْ مَوْلَاهُ لِجَهْلِهِ بِالطَّرِيقِ إلَيْهِ ( قَوْلُهُ الْآبِقُ أَخْذُهُ أَفْضَلُ ) مِنْ تَرْكِهِ ( فِي حَقِّ مَنْ يَقْوَى عَلَيْهِ ) أَيْ يَقْدِرُ عَلَى حِفْظِهِ حَتَّى يَصِلَ إلَى مَوْلَاهُ ، بِخِلَافِ مَنْ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ الْعَجْزَ عَنْ ذَلِكَ وَالضَّعْفَ وَلَا يُعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافٌ ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَجْرِيَ فِيهِ التَّفْصِيلُ فِي اللُّقَطَةِ بَيْنَ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ تَلَفُهُ عَلَى الْمَوْلَى إنْ لَمْ يَأْخُذْهُ مَعَ قُدْرَةٍ تَامَّةٍ عَلَيْهِ فَيَجِبُ أَخْذُهُ وَإِلَّا فَلَا .
وَاخْتُلِفَ فِي أَخْذِ الضَّالِّ ، قِيلَ أَخْذُهُ أَفْضَلُ لِمَا فِيهِ مِنْ إحْيَاءِ النُّفُوسِ وَالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ ( وَقِيلَ تَرْكُهُ أَفْضَلُ لِأَنَّهُ لَا يَبْرَحُ مَكَانَهُ ) مُنْتَظِرًا لِمَوْلَاهُ حَتَّى يَجِدَهُ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ انْتِظَارَهُ فِي مَكَان غَيْرِ مُتَزَحْزِحٍ عَنْهُ لَيْسَ بِوَاقِعٍ بَلْ نَجِدُ الضُّلَّالَ يَدُورُونَ مُتَحَيِّرِينَ ، لَا شَكَّ فِي أَنَّ مَحِلَّ هَذَا الْخِلَافِ إذَا لَمْ يَعْلَمْ وَاجِدُ الضَّالِّ مَوْلَاهُ وَلَا مَكَانَهُ ، أَمَّا إذَا عَلِمَهُ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَلِفَ فِي أَفْضَلِيَّةِ أَخْذِهِ وَرَدِّهِ ( قَوْلُهُ ثُمَّ آخِذُ الْآبِقِ يَأْتِي بِهِ إلَى السُّلْطَانِ ) أَوْ الْقَاضِي فَيَحْبِسُهُ مَنْعًا لَهُ عَنْ الْإِبَاقِ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ حِفْظَهُ عَنْ إبَاقِهِ مِنْ الْأَخْذِ إلَّا بِذَلِكَ عَادَةً ،

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78