كتاب : فتح القدير
المؤلف : كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي

أَصْلَهُمَا يَنْتَقِضُ بِحَقِّ الْغُرَمَاءِ فِي التَّرِكَةِ ، فَإِنَّ قِسْمَةَ الْعَيْنِ بَيْنَهُمْ بِسَبَبِ حَقٍّ كَانَ فِي الذِّمَّةِ لَا فِي الْعَيْنِ ، وَمَعَ ذَلِكَ كَانَتْ الْقِسْمَةُ عَوْلِيَّةً كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَلِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَظَائِرُ وَأَضْدَادٌ ) أَيْ لِلْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ أَشْبَاهٌ حَكَمَ فِيهَا أَبُو حَنِيفَةَ بِالْمُنَازَعَةِ وَصَاحِبَاهُ بِالْعَوْلِ كَمَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، وَأَضْدَادٌ حَكَمَ فِيهَا أَبُو حَنِيفَةَ بِالْعَوْلِ وَصَاحِبَاهُ بِالْمُنَازَعَةِ عَلَى عَكْسِ مَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ( لَا يَحْتَمِلُهَا ) أَيْ النَّظَائِرَ وَالْأَضْدَادَ ( هَذَا الْمُخْتَصَرُ ) يَعْنِي الْهِدَايَةَ ( وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي الزِّيَادَاتِ ) فَمِنْ نَظَائِرِهَا : الْمُوصَى لَهُ بِجَمِيعِ الْمَالِ وَبِنِصْفِهِ عِنْدَ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ ، وَالْمُوصَى لَهُ بِعَيْنٍ مَعَ الْمُوصَى لَهُ بِنِصْفِ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ مَالٌ سِوَاهُ .
وَمِنْ أَضْدَادِهَا الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَهُ الْمُشْتَرَكُ إذَا ادَّانَهُ أَحَدُ الْمَوْلَيَيْنِ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَأَجْنَبِيٌّ مِائَةَ دِرْهَمٍ ثُمَّ بِيعَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ ، فَالْقِسْمَةُ بَيْنَ الْمَوْلَى الْمَدِينِ وَالْأَجْنَبِيِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِطَرِيقِ الْعَوْلِ أَثْلَاثًا ، وَعِنْدَهُمَا بِطَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ أَرْبَاعًا ، وَكَذَا الْمُدَبَّرُ إذَا قَتَلَ رَجُلًا خَطَأً وَفَقَأَ عَيْنَ آخَرَ وَغَرِمَ الْمَوْلَى قِيمَتَهُ لَهُمَا ، كَذَا فِي الْكَافِي وَالشُّرُوحِ ، فَتَذَكَّرْ الْأَصْلَيْنِ الْمَذْكُورِينَ يَسْهُلْ عَلَيْك اسْتِخْرَاجُ هَذِهِ الصُّوَرِ ( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( وَلَوْ كَانَتْ فِي أَيْدِيهِمَا ) أَيْ وَلَوْ كَانَتْ الدَّارُ فِي أَيْدِي الْمُدَّعِيَيْنِ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا .
( سَلِمَ لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ ) أَيْ لِمُدَّعِي الْجَمِيعِ ( نِصْفُهَا عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ ) وَهُوَ الَّذِي كَانَ بِيَدِ الْآخَرِ ( وَنِصْفُهَا لَا عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ ) وَهُوَ الَّذِي كَانَ بِيَدِ نَفْسِهِ ( لِأَنَّهُ خَارِجٌ فِي النِّصْفِ ) أَيْ لِأَنَّ صَاحِبَ الْجَمِيعِ وَهُوَ مُدَّعِي الْجَمِيعِ خَارِجٌ فِي

النِّصْفِ الَّذِي كَانَ فِي يَدِ مُدَّعِي النِّصْفِ ( فَيَقْضِي بِبَيِّنَتِهِ ) أَيْ فَيَقْضِي بِبَيِّنَةِ صَاحِبِ الْجَمِيعِ فِي حَقِّ ذَلِكَ النِّصْفِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ أَوْلَى مِنْ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ فَتَمَّ دَلِيلُ قَوْلِهِ : نِصْفُهُمَا عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ وَبَقِيَ دَلِيلُ قَوْلِهِ : وَنِصْفُهَا لَا عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ وَهُوَ قَوْلُهُ ( فَالنِّصْفُ الَّذِي فِي يَدَيْهِ ) أَيْ فِي يَدَيْ صَاحِبِ الْجَمِيعِ ( صَاحِبُهُ لَا يَدَّعِيهِ ) أَيْ صَاحِبُ الْجَمِيعِ : أَيْ خَصْمُهُ وَهُوَ مُدَّعِي النِّصْفِ لَا يَدَّعِي ذَلِكَ النِّصْفَ ( لِأَنَّهُ مُدَّعَاهُ ) أَيْ مُدَّعَى صَاحِبِهِ وَهُوَ مُدَّعِي النِّصْفِ ( النِّصْفُ وَهُوَ فِي يَدِهِ سَالِمٌ لَهُ ) تَوْضِيحُهُ أَنَّ دَعْوَى مُدَّعِي النِّصْفِ مُنْصَرِفَةٌ إلَى مَا فِي يَدِهِ لِتَكُونَ يَدُهُ يَدًا مُحِقَّةً فِي حَقِّهِ ؛ لِأَنَّ حَمْلَ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الصِّحَّةِ وَاجِبٌ ، فَمُدَّعِي النِّصْفِ لَا يَدَّعِي شَيْئًا مِمَّا فِي يَدِ صَاحِبِ الْجَمِيعِ لِأَنَّ مُدَّعَاهُ النِّصْفُ وَهُوَ فِي يَدِهِ فَسَلِمَ النِّصْفَ لِمُدَّعِي الْجَمِيعِ بِلَا مُنَازَعَةٍ ، وَكَذَا فِي الْكَافِي ( وَلَوْ لَمْ يَنْصَرِفْ إلَيْهِ دَعْوَاهُ ) أَيْ وَلَوْ لَمْ يَنْصَرِفْ دَعْوَى مُدَّعِي النِّصْفِ إلَى النِّصْفِ الَّذِي فِي يَدِهِ ( كَانَ ظَالِمًا بِإِمْسَاكِهِ ) أَيْ كَانَ مُدَّعِي النِّصْفِ ظَالِمًا بِإِمْسَاكِ مَا فِي يَدِهِ ، وَقَضِيَّةُ وُجُوبِ حَمْلِ أَمْرِ الْمُسْلِمِ عَلَى الصِّحَّةِ قَاضِيَةٌ بِخِلَافِهِ ( وَلَا قَضَاءَ بِدُونِ الدَّعْوَى فَيُتْرَكُ فِي يَدِهِ ) أَيْ وَإِذَا لَمْ يَدَّعِ مُدَّعِي النِّصْفِ النِّصْفَ الَّذِي فِي يَدَيْ مُدَّعِي الْجَمِيعِ ، وَلَا قَضَاءَ بِدُونِ الدَّعْوَى فَيُتْرَكُ ذَلِكَ النِّصْفُ فِي يَدَيْ مُدَّعِي الْجَمِيعِ بِلَا قَضَاءٍ فَتَمَّ دَلِيلُ قَوْلِهِ : وَنِصْفُهَا لَا عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ أَيْضًا فَيَثْبُتُ الْمُدَّعِي بِشِقَّيْهِ .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : الْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ دَعْوَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُدَّعِيَيْنِ تَنْصَرِفُ إلَى مَا فِي يَدِهِ كَيْ لَا يَكُونَ فِي إمْسَاكِهِ ظَالِمًا حَمْلًا لِأُمُورِ

الْمُسْلِمِينَ عَلَى الصِّحَّةِ ، وَأَنَّ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ أَوْلَى مِنْ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ ، وَهُوَ أَنَّ انْصِرَافَ دَعْوَى مُدَّعِي الْجَمِيعِ مِنْ الْمُدَّعِيَيْنِ إلَى مَا فِي يَدِهِ غَيْرُ مَعْقُولٍ لِأَنَّهُ إنْ جَعَلَ الَّذِي فِي يَدِهِ الْكُلَّ لَا يَبْقَى لِلْمُقَدِّمَةِ الْقَائِلَةِ : وَأَنَّ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ أَوْلَى مِنْ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ مَحِلٌّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ .
وَلَا يَصِحُّ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ لِأَنَّهُ خَارِجٌ فِي النِّصْفِ وَلَا قَوْلُ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ فِي أَثْنَاءِ الشَّرْحِ وَمُدَّعِي الْكُلِّ مُدَّعًى عَلَيْهِ النِّصْفُ وَهُوَ خَارِجٌ عَنْ النِّصْفِ ، وَإِنْ جَعَلَ الَّذِي فِي يَدِهِ النِّصْفُ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ الْحَقَّ فَلَا مَعْنَى لِانْصِرَافِ دَعْوَاهُ إلَى مَا فِي يَدِهِ لِأَنَّهُ يَدَّعِي الْكُلَّ وَهُوَ لَيْسَ فِي يَدِهِ .
وَأَيْضًا لَا يَتِمُّ قَوْلُهُ كَيْ لَا يَكُونَ فِي إمْسَاكِهِ ظَالِمًا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَكُونُ ظَالِمًا بِإِمْسَاكِ حَقِّهِ وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ غَيْرِهِ ، وَمُدَّعِي الْكُلِّ يَدَّعِي أَنَّ جَمِيعَ مَا فِي أَيْدِيهِمَا حَقُّهُ ، فَالْحَقُّ أَنَّ الَّذِي يَنْصَرِفُ دَعْوَاهُ إلَى مَا فِي يَدِهِ إنَّمَا هُوَ مُدَّعِي النِّصْفِ مِنْهُمَا كَمَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ ، وَقَدْ مَرَّ بِنَا فِي أَثْنَاءِ شَرْحِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ

قَالَ ( وَإِذَا تَنَازَعَا فِي دَابَّةٍ وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً أَنَّهَا نَتَجَتْ عِنْدَهُ ، وَذَكَرَا تَارِيخًا وَسِنُّ الدَّابَّةِ يُوَافِقُ أَحَدَ التَّارِيخَيْنِ فَهُوَ أَوْلَى ) لِأَنَّ الْحَالَ يَشْهَدُ لَهُ فَيَتَرَجَّحُ ( وَإِنْ أَشْكَلَ ذَلِكَ كَانَتْ بَيْنَهُمَا ) لِأَنَّهُ سَقَطَ التَّوْقِيتُ فَصَارَ كَأَنَّهُمَا لَمْ يَذْكُرَا تَارِيخًا .
وَإِنْ خَالَفَ سِنُّ الدَّابَّةِ الْوَقْتَيْنِ بَطَلَتْ الْبَيِّنَتَانِ ، كَذَا ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ ظَهَرَ كَذِبُ الْفَرِيقَيْنِ فَيُتْرَكُ فِي يَدِ مَنْ كَانَتْ فِي يَدِهِ .

( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ : ( وَإِذَا تَنَازَعَا ) أَيْ تَنَازَعَ اثْنَانِ ( فِي دَابَّةٍ وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً أَنَّهَا نَتَجَتْ وَذَكَرَا تَارِيخًا وَسِنُّ الدَّابَّةِ يُوَافِقُ أَحَدَ التَّارِيخَيْنِ فَهُوَ أَوْلَى ) أَيْ الَّذِي يُوَافِقُ سِنُّ الدَّابَّةِ تَارِيخَهُ أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ ( لِأَنَّ الْحَالَ يَشْهَدُ لَهُ ) يَعْنِي أَنَّ عَلَامَةَ صِدْقِ شُهُودِهِ قَدْ ظَهَرَتْ بِشَهَادَةِ الْحَالِ لَهُ ( فَيَتَرَجَّحُ ) أَيْ فَيَتَرَجَّحُ مَنْ يُوَافِقُ سِنُّ الدَّابَّةِ تَارِيخَهُ .
وَاعْلَمْ أَنْ لَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الدَّابَّةُ فِي أَيْدِيهِمَا أَوْ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا أَوْ فِي يَدِ ثَالِثٍ ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى لَا يَخْتَلِفُ ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى فِي النِّتَاجِ مِنْ غَيْرِ تَارِيخٍ حَيْثُ يَحْكُمُ بِهَا لِذِي الْيَدِ إنْ كَانَتْ فِي يَدِ إحْدَاهُمَا أَوْ لَهُمَا إنْ كَانَتْ فِي أَيْدِيهِمَا أَوْ يَدِ ثَالِثٍ ، كَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ ( وَإِنْ أَشْكَلَ ذَلِكَ ) أَيْ سِنُّ الدَّابَّةِ ( كَانَتْ بَيْنَهُمَا ) أَيْ كَانَتْ الدَّابَّةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ( لِأَنَّهُ سَقَطَ التَّوْقِيتُ فَصَارَ كَأَنَّهُمَا لَمْ يَذْكُرَا تَارِيخًا ) هَذَا الْجَوَابُ فِي الْخَارِجَيْنِ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَ الْيَدِ وَدَعْوَاهُمَا فِي النِّتَاجِ وَوَقَّتَتْ الْبَيِّنَتَانِ وَقْتَيْنِ ، فَإِنْ كَانَتْ الدَّابَّةُ عَلَى وَقْتِ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ قَضَيْت بِهَا لَهُ لِظُهُورِ عَلَامَةِ الصِّدْقِ فِي بَيِّنَتِهِ وَعَلَامَةِ الْكَذِبِ فِي بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ ، وَإِنْ كَانَتْ الدَّابَّةُ عَلَى وَقْتِ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ أَوْ كَانَتْ مُشْكِلَةً قَضَيْت بِهَا لِذِي الْيَدِ إمَّا لِظُهُورِ عَلَامَةِ الصِّدْقِ فِي بَيِّنَتِهِ أَوْ سُقُوطِ اعْتِبَارِ التَّوْقِيتِ إذَا كَانَتْ مُشْكِلَةً ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ مَا إذَا كَانَ سِنُّ الدَّابَّةِ بَيْنَ الْوَقْتَيْنِ .
وَذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ .
فِي ذَلِكَ تَتَهَاتَرُ الْبَيِّنَتَانِ عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ وَتُتْرَكُ الدَّابَّةُ فِي يَدِ صَاحِبِ الْيَدِ ، كَذَا فِي

النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدَّارِيَةِ ( وَإِنْ خَالَفَ سِنُّ الدَّابَّةِ الْوَقْتَيْنِ ) قَالَ الشُّرَّاحُ : أَيْ فِي دَعْوَى الْخَارِجَيْنِ .
أَقُولُ : لَمْ يَظْهَرْ لِي فَائِدَةُ هَذَا التَّقْيِيدِ كَمَا سَأُبَيِّنُ ( بَطَلَتْ الْبَيِّنَتَانِ ، كَذَا ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ لِأَنَّهُ ظَهَرَ كَذِبُ الْفَرِيقَيْنِ ) وَذَلِكَ مَانِعٌ عَنْ قَوْلِ الشَّهَادَةِ حَالَةَ الِانْفِرَادِ فَيَمْنَعُ حَالَةَ الِاجْتِمَاعِ أَيْضًا ( فَتُتْرَكُ ) أَيْ الدَّابَّةُ ( فِي يَدِ مَنْ كَانَتْ فِي يَدِهِ ) وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا يَعُمُّ الصُّوَرَ الثَّلَاثَ : أَعْنِي مَا إذَا كَانَتْ الدَّابَّةُ فِي يَدِ ثَالِثٍ ، وَمَا إذَا كَانَتْ فِي أَيْدِيهِمَا ، وَمَا إذَا كَانَتْ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا ، إذْ لَا فَارَقَ بَيْنَهُنَّ فِي الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَ مِنْ قَبْلُ الْحَاكِمُ فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّقْيِيدِ الْمَارِّ .
وَفِي الْمَبْسُوطِ : مِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ : تَبْطُلُ الْبَيِّنَتَانِ ، وَالْأَصَحُّ مَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ مِنْ الْجَوَابِ ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الدَّابَّةُ بَيْنَهُمَا فِي الْفَصْلَيْنِ : يَعْنِي فِيمَا إذَا كَانَ سِنُّ الدَّابَّةِ مُشْكِلًا ، وَفِيمَا إذَا كَانَ عَلَى غَيْرِ الْوَقْتَيْنِ فِي دَعْوَى الْخَارِجَيْنِ .
أَمَّا إذَا كَانَ مُشْكِلًا فَلَا شَكَّ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ عَلَى غَيْرِ الْوَقْتَيْنِ ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ ذِكْرِ الْوَقْتِ لَحِقَهُمَا ، وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ فِي اعْتِبَارِهِ إبْطَالَ حَقِّهِمَا فَسَقَطَ اعْتِبَارُ ذِكْرِ الْوَقْتِ أَصْلًا وَيَنْظُرُ إلَى مَقْصُودِهِمَا وَهُوَ إثْبَاتُ الْمِلْكِ فِي الدَّابَّةِ وَقَدْ اسْتَوَيَا فِي ذَلِكَ فَوَجَبَ الْقَضَاءُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، وَهَذَا لِأَنَّا لَوْ اعْتَبَرَنَا التَّوْقِيتَ بَطَلَتْ الْبَيِّنَتَانِ وَتُتْرَكُ هِيَ فِي يَدِ ذِي الْيَدِ ، وَقَدْ اتَّفَقَ الْفَرِيقَانِ عَلَى اسْتِحْقَاقِهَا عَلَى ذِي الْيَدِ فَكَيْفَ تُتْرَكُ فِي يَدِهِ مَعَ قِيَامِ حُجَّةِ الِاسْتِحْقَاقِ ، كَذَا ذُكِرَ فِي أَكْثَرِ الشُّرُوحِ .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ : وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مُخَالِفَةٌ لِمَا رَوَى أَبُو اللَّيْثِ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ : إذَا كَانَ سِنُّ الدَّابَّةِ

مُشْكِلًا يَقْضِي بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِلْوَقْتَيْنِ لَا يَقْضِي لَهُمَا بِشَيْءٍ وَتُتْرَكُ فِي يَدِ ذِي الْيَدِ قَضَاءَ تَرْكٍ فَكَأَنَّهُمَا لَمْ يُقِيمَا الْبَيِّنَةَ ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الْأَصَحُّ .
قَوْلُهُ يَنْظُرُ إلَى مَقْصُودِهِمَا لَيْسَ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْمُدَّعِي لَيْسَ بِمُعْتَبَرِ الدَّعَاوَى بِلَا حُجَّةٍ ، وَاتِّفَاقُ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى اسْتِحْقَاقِهِمَا عَلَى ذِي الْيَدِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ مَعَ وُجُودِ الْمُكَذِّبِ انْتَهَى .
أَقُولُ : يُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْ قَوْلِهِ : وَقَوْلُهُ يَنْظُرُ إلَى مَقْصُودِهِمَا لَيْسَ بِشَيْءٍ إلَى قَوْلِهِ : لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ مَعَ وُجُودِ الْمُكَذِّبِ بِأَنَّ الْمَوْجُودَ مُكَذِّبُ الْوَقْتَيْنِ لَا مُكَذِّبُ أَصْلِ الْبَيِّنَتَيْنِ ، فَاللَّازِمُ مِنْهُ سُقُوطُ اعْتِبَارِ ذِكْرِ الْوَقْتِ لَا سُقُوطُ اعْتِبَارِ أَصْلِ الْبَيِّنَتَيْنِ وَهُوَ إثْبَاتُ الِاسْتِحْقَاقِ لِلْمُدَّعِيَيْنِ عَلَى ذِي الْيَدِ فَلَا قَادِحَ لِمَا فِي الْمَبْسُوطِ ، وَيُرْشِدُ إلَى هَذَا مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ حَيْثُ قَالَ : وَإِنْ خَالَفَ سِنُّهَا الْوَقْتَيْنِ جَمِيعًا سَقَطَ الْوَقْتُ ، كَذَا ذَكَرَهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّهُ ظَهَرَ بُطْلَانَ التَّوْقِيتِ فَكَأَنَّهُمَا لَمْ يُوَقِّتَا فَبَقِيَتْ الْبَيِّنَتَانِ قَائِمَتَيْنِ عَلَى مُطْلَقِ الْمِلْكِ مِنْ غَيْرِ تَوْقِيتٍ .
وَذَكَرَ الْحَاكِمُ فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّ فِي رِوَايَةِ أَبِي اللَّيْثِ تَهَاتَرَتْ الْبَيِّنَتَانِ .
قَالَ : وَهُوَ الصَّحِيحُ وَوَجْهُهُ أَنَّ سِنَّ الدَّابَّةِ إذَا خَالَفَ الْوَقْتَيْنِ فَقَدْ تَيَقَّنَّا بِكَذِبِ الْبَيِّنَتَيْنِ فَالْتَحَقَتَا بِالْعَدَمِ فَيُتْرَكُ الْمُدَّعَى فِي يَدِ صَاحِبِ الْيَدِ كَمَا كَانَ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ مُخَالَفَةَ السِّنِّ فِي الْوَقْتَيْنِ تُوجِبُ كَذِبَ الْوَقْتَيْنِ لَا كَذِبَ الْبَيِّنَتَيْنِ أَصْلًا وَرَأْسًا انْتَهَى كَلَامُهُ ، فَتَأَمَّلْ تَرْشُدْ

قَالَ ( وَإِذَا كَانَ عَبْدٌ فِي يَدِ رَجُلٍ أَقَامَ رَجُلَانِ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ أَحَدُهُمَا بِغَصْبٍ وَالْآخَرُ بِوَدِيعَةٍ فَهُوَ بَيْنَهُمَا ) لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ .
( قَالَ ) أَيْ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ ( وَإِذَا كَانَ عَبْدٌ فِي يَدِ رَجُلٍ أَقَامَ رَجُلَانِ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ أَحَدُهُمَا بِغَصْبٍ وَالْآخَرُ بِوَدِيعَةٍ فَهُوَ بَيْنَهُمَا ) أَيْ الْعَبْدُ بَيْنَ الْمُدَّعِيَيْنِ ( لِاسْتِوَائِهِمَا ) لِأَنَّ الْمُوَدَّعَ لَمَّا جَحَدَ الْوَدِيعَةَ صَارَ غَاصِبًا فَصَارَ دَعْوَى الْوَدِيعَةِ وَالْغَصْبِ سَوَاءً ، وَالتَّسَاوِي فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ لَا يُوجِبُ التَّسَاوِي فِي نَفْسِ الِاسْتِحْقَاقِ فَيَكُونُ الْعَبْدُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ .

( فَصْلٌ فِي التَّنَازُعِ بِالْأَيْدِي ) قَالَ ( وَإِذَا تَنَازَعَا فِي دَابَّةٍ أَحَدُهُمَا رَاكِبُهَا وَالْآخَرُ مُتَعَلِّقٌ بِلِجَامِهَا فَالرَّاكِبُ أَوْلَى ) لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ أَظْهَرُ فَإِنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْمِلْكِ ( وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا رَاكِبًا فِي السَّرْجِ وَالْآخَرُ رَدِيفُهُ فَالرَّاكِبُ أَوْلَى ) بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَا رَاكِبَيْنِ حَيْثُ تَكُونُ بَيْنَهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي التَّصَرُّفِ ( وَكَذَا إذَا تَنَازَعَا فِي بَعِيرٍ وَعَلَيْهِ حِمْلٌ لِأَحَدِهِمَا فَصَاحِبُ الْحِمْلِ أَوْلَى ) لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ ( وَكَذَا إذَا تَنَازَعَا فِي قَمِيصٍ أَحَدُهُمَا لَابِسُهُ وَالْآخَرُ مُتَعَلِّقٌ بِكُمِّهِ فَاللَّابِسُ أَوْلَى ) لِأَنَّهُ أَظْهَرُهُمَا تَصَرُّفًا ( وَلَوْ تَنَازَعَا فِي بِسَاطٍ أَحَدُهُمَا جَالِسٌ عَلَيْهِ وَالْآخَرُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ فَهُوَ بَيْنَهُمَا ) مَعْنَاهُ لَا عَلَى طَرِيقِ الْقَضَاءِ لِأَنَّ الْقُعُودَ لَيْسَ بِيَدٍ عَلَيْهِ فَاسْتَوَيَا .

( فَصْلٌ فِي التَّنَازُعِ بِالْأَيْدِي ) لَمَّا فَرَغَ عَنْ بَيَانِ وُقُوعِ الْمِلْكِ بِالْبَيِّنَةِ شَرَعَ فِي بَيَانِ وُقُوعِهِ بِظَاهِرِ الْيَدِ فِي هَذَا الْفَصْلِ لِمَا أَنَّ الْأَوَّلَ أَقْوَى ، وَلِهَذَا إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ لَا يَلْتَفِتُ إلَى الْيَدِ ( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( وَإِذَا تَنَازَعَا ) أَيْ تَنَازَعَ اثْنَانِ ( فِي دَابَّةٍ أَحَدُهُمَا رَاكِبُهَا وَالْآخَرُ مُتَعَلِّقٌ بِلِجَامِهَا فَالرَّاكِبُ أَوْلَى لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ ) أَيْ تَصَرُّفَ الرَّاكِبِ ( أَظْهَرُ ، فَإِنَّهُ ) أَيْ الرُّكُوبَ ( يَخْتَصُّ بِالْمِلْكِ ) يَعْنِي غَالِبًا .
قَالَ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ : بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَامَا الْبَيِّنَةَ حَيْثُ تَكُونُ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى لِأَنَّهَا حُجَّةٌ مُطْلَقَةٌ ، وَبَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَكْثَرُ إثْبَاتًا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ .
وَأَمَّا التَّعَلُّقُ فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ ، وَكَذَا التَّصَرُّفُ ، لَكِنَّهُ يُسْتَدَلُّ التَّمَكُّنُ مِنْ التَّصَرُّفِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِهِ وَالْيَدُ دَلِيلُ الْمِلْكِ حَتَّى جَازَتْ الشَّهَادَةُ لَهُ بِالْمِلْكِ فَيُتْرَكُ فِي يَدِهِ حَتَّى تَقُومَ الْحُجَجُ وَالتَّرَاجِيحُ انْتَهَى ( وَكَذَا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا رَاكِبًا فِي السَّرْجِ وَالْآخَرُ رَدِيفَهُ فَالرَّاكِبُ ) أَيْ فِي السَّرْجِ ( أَوْلَى ) لِأَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بِأَنَّ الْمُلَّاكَ يَرْكَبُونَ فِي السَّرْجِ وَغَيْرُهُمْ يَكُونُ رَدِيفًا ، كَذَا فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ مِنْ أَنَّ كَوْنَ الرَّاكِبِ فِي السَّرْجِ أَوْلَى مِنْ رَدِيفِهِ عَلَى رِوَايَةٍ نَقَلَهَا النَّاطِفِيُّ فِي الْأَجْنَاسِ عَنْ نَوَادِرِ الْمُعَلَّى .
وَأَمَّا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَالدَّابَّةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ، كَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ وَالْعِنَايَةِ ( بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَا رَاكِبَيْنِ ) يَعْنِي فِي السَّرْجِ ( حَيْثُ تَكُونُ ) أَيْ الدَّابَّةُ ( بَيْنَهُمَا ) قَوْلًا وَاحِدًا ( لِاسْتِوَائِهِمَا فِي التَّصَرُّفِ ) أَمَّا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مُمْسِكًا بِلِجَامِ الدَّابَّةِ وَالْآخَرُ مُتَعَلِّقَا بِذَنَبِهَا .
قَالَ مَشَايِخُنَا : يَنْبَغِي أَنْ

يَقْضِيَ لِلَّذِي هُوَ مُمْسِكٌ بِلِجَامِهَا لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِاللِّجَامِ غَالِبًا إلَّا الْمَالِكُ ، أَمَّا الذَّنَبُ فَإِنَّهُ كَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْمَالِكُ يَتَعَلَّقُ بِهِ غَيْرُهُ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا نَقْلًا عَنْ الذَّخِيرَةِ ( وَكَذَا إذَا تَنَازَعَا فِي بَعِيرٍ وَعَلَيْهِ حِمْلٌ لِأَحَدِهِمَا وَلِآخَرَ كُوزٌ مُتَعَلِّقٌ فَصَاحِبُ الْحِمْلِ أَوْلَى لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ ) فَهُوَ ذُو الْيَدِ ( وَكَذَا إذَا تَنَازَعَا فِي قَمِيصٍ أَحَدُهُمَا لَابِسُهُ وَالْآخَرُ مُتَعَلِّقٌ بِكُمِّهِ فَاللَّابِسُ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَظْهَرُهُمَا تَصَرُّفًا ) وَلِهَذَا يَصِيرُ بِهِ غَاصِبًا ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ ( وَلَوْ تَنَازَعَا فِي بِسَاطٍ أَحَدُهُمَا جَالِسٌ عَلَيْهِ وَالْآخَرُ مُتَعَلِّق بِهِ فَهُوَ بَيْنَهُمَا ) كَذَا لَوْ كَانَا جَالِسَيْنِ عَلَيْهِ وَادَّعَيَاهُ فَهُوَ بَيْنَهُمَا ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( مَعْنَاهُ لَا عَلَى طَرِيقِ الْقَضَاءِ ) أَيْ مَعْنَى قَوْلِهِ فَهُوَ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ بَيْنَهُمَا لَا عَلَى طَرِيقِ الْقَضَاءِ ، وَعَلَّلَ الْمَسْأَلَةَ بِقَوْلِهِ : ( لِأَنَّ الْقُعُودَ لَيْسَ بِيَدٍ عَلَيْهِ ) أَيْ عَلَى الْبِسَاطِ حَتَّى لَا يَصِيرَ غَاصِبًا بِهِ ( فَاسْتَوَيَا ) أَيْ فَاسْتَوَيَا الْمُتَنَازِعَانِ فِيهِ فَيُجْعَلُ فِي أَيْدِيهِمَا لِعَدَمِ الْمُنَازِعِ لَهُمَا .
هَذَا وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ فِي حَلِّ هَذَا الْمَقَامِ : لِأَنَّ الْيَدَ عَلَى الْبِسَاطِ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِإِحْدَى الطَّرِيقَتَيْنِ ؛ إمَّا بِإِثْبَاتِ الْيَدِ عَلَيْهِ حَسًّا بِالنَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ ، وَإِمَّا بِكَوْنِهِ فِي يَدِهِ حُكْمًا بِأَنْ كَانَ فِي بَيْتِهِ وَلَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي الْبِسَاطِ فَإِنَّا نَرَاهُ مَوْضُوعًا عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ لَمَّا عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي يَدِ غَيْرِهِمَا وَلَا فِي يَدِهِمَا وَهُمَا مُدَّعِيَانِ يَقْضِي بَيْنَهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الدَّعْوَى انْتَهَى .
أَقُولُ : يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ هَذَا الشَّرْحَ لَا يُطَابِقُ الْمَشْرُوحَ ؛ لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ قَالَ : مَعْنَاهُ لَا عَلَى طَرِيقِ قَضَاءٍ وَهُوَ يَقُولُ يَقْضِي بَيْنَهُمَا فَبَيْنَهُمَا

تَدَافُعٌ ظَاهِرٌ .
فَإِنْ قُلْت : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ لَا عَلَى طَرِيقِ الْقَضَاءِ وَالِاسْتِحْقَاقِ ، وَمُرَادُ الشَّارِحِ يَقْضِي بَيْنَهُمَا قَضَاءَ التَّرْكِ فَلَا تَدَافُعَ بَيْنَهُمَا .
قُلْت : لَا مَجَالَ لَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْقَضَاءِ بَيْنَهُمَا هَاهُنَا قَضَاءَ التَّرْكِ أَيْضًا ، إذَا لَا بُدَّ فِي قَضَاءِ التَّرْكِ مِنْ أَنْ يَعْرِفَ كَوْنَ الْمُدَّعِي فِي يَدِ الْمُدَّعِي كَمَا يُفْصِحُ عَنْهُ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَيْضًا هُنَاكَ وَصَاحِبُ النِّهَايَةِ نَقْلًا عَنْ الذَّخِيرَةِ فِيمَا سَيَجِيءُ فِي مَسْأَلَةِ التَّنَازُعِ فِي الْحَائِطِ حَيْثُ قَالَ : وَمَعْنَى الْقَضَاءِ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ إذَا عَرَفَ كَوْنَهُ فِي أَيْدِيهِمَا قُضِيَ بَيْنَهُمَا قَضَاءَ تَرْكٍ ، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ كَوْنَهُ فِي أَيْدِيهِمَا وَقَدْ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ مِلْكُهُ وَفِي يَدَيْهِ يَجْعَلُ فِي أَيْدِيهِمَا مَعًا لِأَنَّهُ لَا مُنَازِعَ لَهُمَا لَا أَنَّهُ يَقْضِي بَيْنَهُمَا انْتَهَى .
فَإِنَّهُ يَظْهَرُ مِنْهُ الْفَرْقُ بَيْنَ قَضَاءِ التَّرْكِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْجَعْلِ فِي أَيْدِيهِمَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْأَوَّلَ فِيمَا عَرَفَ كَوْنَ الْمُدَّعِي فِي أَيْدِيهِمَا وَالثَّانِي فِيمَا لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَمْ تَتَحَقَّقْ يَدٌ لِوَاحِدٍ مِنْ الْمُدَّعِيَيْنِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ آنِفًا فَلَمْ يُعْرَفْ كَوْنُ الْمُدَّعِي فِي أَيْدِيهِمَا فَلَمْ يُتَصَوَّرْ الْقَضَاءُ بَيْنَهُمَا قَضَاءَ التَّرْكِ أَيْضًا فَلَمْ يَتَيَسَّرْ التَّوْفِيقُ الْمَذْكُورُ ، فَكَأَنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ تَنَبَّهَ لِهَذَا فَقَالَ : لِأَنَّ الْيَدَ عَلَى الْبِسَاطِ إمَّا بِالنَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ أَوْ بِكَوْنِهِ فِي بَيْتِهِ ، وَالْجُلُوسُ عَلَيْهِ لَيْسَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ يَدًا عَلَيْهِ فَلَيْسَ بِأَيْدِيهِمَا وَلَا فِي يَدِ غَيْرِهِمَا وَهُمَا يَدَّعِيَانِهِ عَلَى السَّوَاءِ فَيُتْرَكُ فِي أَيْدِيهِمَا انْتَهَى .
حَيْثُ تَرَكَ ذِكْرَ الْقَضَاءِ بَيْنَهُمَا وَذَكَرَ التَّرْكَ فِي أَيْدِيهِمَا ، لَكِنَّ هَذَا أَيْضًا لَا يَخْلُو عَنْ قُصُورٍ ، لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ التَّرْكِ فِي الْيَدِ

يَقْتَضِي سَبْقَ تَحَقُّقِ الْيَدِ ، وَهَاهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ كَمَا تَبَيَّنَ ، فَحَقُّ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنْ يُقَالَ فَيُجْعَلُ فِي أَيْدِيهِمَا : أَيْ يُوضَعُ فِيهَا لِعَدَمِ الْمُنَازِعِ لَهُمَا كَمَا ذَكَرْته فِيمَا قَبْلُ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يُطَابِقُ الشَّرْحُ الْمَشْرُوحَ ، وَيُطَابِقُ الْمَقَامُ مَا يَظْهَرُ مِمَّا سَيَجِيءُ فِي مَسْأَلَةِ التَّنَازُعِ عَنْ الْحَائِطِ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ مَحِلِّ الْقَضَاءِ بَيْنَهُمَا قَضَاءَ تَرْكٍ وَبَيْنَ مَحِلِّ الْجَعْلِ فِي أَيْدِيهِمَا بِلَا قَضَاءٍ .
وَأَيْضًا لَا تَبْقَى الْحَاجَةُ حِينَئِذٍ إلَى مَا ذَكَرَهُ صَاحِبَا النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ وَبَيْنَ مَسْأَلَةِ الدَّارِ إذَا تَنَازَعَا فِيهَا وَكَانَا قَاعِدَيْنِ فِيهَا حَيْثُ لَا يَقْضِي بِهَا بَيْنَهُمَا وَلَا إلَى مَا ارْتَكَبُوا فِي وَجْهِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مِنْ التَّكْلِيفِ عَلَى مَا لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ النَّاظِرِ فِي كَلَامِهِمْ إذْ يَظْهَرُ حِينَئِذٍ أَنَّ حُكْمَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ أَنْ لَا يَقْضِيَ بَيْنَ الْمُدَّعِيَيْنِ بِالْمُدَّعِي بِنَاءً عَلَى أَنْ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْهُمَا يَدٌ عَلَيْهِ حَتَّى تَصِيرَ دَلِيلَ الْمِلْكِ وَسَبَبَ الْقَضَاءِ ، بَلْ أَنْ يَجْعَلَ الْمُدَّعَى فِي أَيْدِيهِمَا بِلَا قَضَاءٍ لِعَدَمِ الْمُنَازِعِ لَهُمَا وَاسْتِوَائِهِمَا فِي الدَّعْوَى فَتَدَبَّرْ

قَالَ : ( وَإِذَا كَانَ ثَوْبٌ فِي يَدِ رَجُلٍ وَطَرَفٌ مِنْهُ فِي يَدِ آخَرَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ) لِأَنَّ الزِّيَادَةَ مِنْ جِنْسِ الْحُجَّةِ فَلَا تُوجِبُ زِيَادَةً فِي الِاسْتِحْقَاقِ .

( قَالَ ) أَيْ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ مِنْ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ( وَإِذَا كَانَ ثَوْبٌ فِي يَدِ رَجُلٍ وَطَرْفٌ مِنْهُ فِي يَدِ آخَرَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ مِنْ جِنْسِ الْحُجَّةِ ) فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَمَسِّكٌ بِالْيَدِ ، إلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا أَكْثَرُ اسْتِمْسَاكًا ( فَلَا تُوجِبُ زِيَادَةً فِي الِاسْتِحْقَاقِ ) يَعْنِي أَنَّ مِثْلَ تِلْكَ الزِّيَادَةِ لَا تُوجِبُ الرُّجْحَانَ ، إذْ لَا تَرْجِيحَ بِكَثْرَةِ الْعِلَلِ كَمَا مَرَّ ، فَصَارَ كَمَا لَوْ تَنَازَعَا فِي بَعِيرٍ وَلِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ خَمْسُونَ مَنًّا وَلِلْآخَرِ مِائَةُ مَنٍّ كَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَلَا يُعْتَبَرُ التَّفَاوُتُ بِالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ ، وَكَمَا لَوْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الِاثْنَيْنِ مِنْ الشُّهُودِ وَالْآخَرُ الْأَرْبَعَةَ ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَسْأَلَةِ الْقَمِيصِ الَّتِي ذُكِرَتْ مِنْ قَبْلُ ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ هُنَاكَ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْحُجَّةِ ؛ فَإِنَّ الْحُجَّةَ هِيَ الْيَدُ وَالزِّيَادَةُ هِيَ الِاسْتِعْمَالُ ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ .
ثُمَّ إنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الثَّوْبِ لَوْ كَانَ فِي يَدِ رَجُلٍ وَادَّعَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ لَكِنَّ هَذَا إذَا عَرَفَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الثَّوْبِ كَانَ لَهُ فِي الْعَادَةِ وَإِلَّا فَلَا ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْمُحِيطِ وَالذَّخِيرَةِ : لَوْ خَرَجَ مِنْ دَارِ رَجُلٍ وَعَلَى عَاتِقِهِ مَتَاعٌ فَإِنْ كَانَ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي عَلَى عَاتِقِهِ هَذَا الْمَتَاعُ يُعْرَفُ بِبَيْعِهِ وَحَمْلِهِ فَهُوَ لَهُ ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ بِذَلِكَ فَهُوَ لِرَبِّ الدَّارِ .
وَفِي الْقُدُورِيِّ : لَوْ أَنَّ خَيَّاطًا يَخِيطُ ثَوْبًا فِي دَارِ رَجُلٍ وَتَنَازَعَا فِي الثَّوْبِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الدَّارِ .
وَفِي نَوَادِرِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ : رَجُلٌ دَخَلَ دَارَ رَجُلٍ فَوُجِدَ مَعَهُ مَالٌ فَقَالَ رَبُّ الدَّارِ هَذَا مَالِي أَخَذْته مِنْ مَنْزِلِي ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الدَّارِ ، وَلَا يُصَدَّقُ الدَّاخِلُ فِي شَيْءٍ مَا خَلَا ثِيَابَهُ الَّتِي عَلَيْهِ إنْ كَانَتْ

الثِّيَابُ مِمَّا يَلْبَسُهُ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : إنْ كَانَ الدَّاخِلُ رَجُلًا يُعْرَفُ بِصِنَاعَةِ شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ بِأَنْ كَانَ مَثَلًا حَمَّالًا يَحْمِلُ الزَّيْتَ فَدَخَلَ وَعَلَى رَقَبَتِهِ زِقُّ زَيْتٍ أَوْ كَانَ مِمَّنْ يَبِيعُ وَيَطُوفُ بِالْمَتَاعِ فِي الْأَسْوَاقِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ، وَلَا أُصَدِّقُ قَوْلَ رَبِّ الدَّارِ عَلَيْهِ وَإِلَّا فَلَا .
فَأَثْبَتَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّ صَاحِبَ الْيَدِ إنَّمَا تُعْتَبَرُ يَدُهُ وَإِنْ كَانَتْ فِي الْمَنْقُولَاتِ عِنْدَ دَلَالَةِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَهُ عَادَةٌ وَإِلَّا فَلَا ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدَّارِيَةِ

قَالَ : ( وَإِذَا كَانَ صَبِيٌّ فِي يَدِ رَجُلٍ وَهُوَ يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ فَقَالَ : أَنَا حُرٌّ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ) لِأَنَّهُ فِي يَدِ نَفْسِهِ ( وَلَوْ قَالَ أَنَا عَبْدٌ لِفُلَانٍ فَهُوَ عَبْدٌ لِلَّذِي هُوَ فِي يَدِهِ ) لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِأَنَّهُ لَا يَدَ لَهُ حَيْثُ أَقَرَّ بِالرِّقِّ ( وَإِنْ كَانَ لَا يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ فَهُوَ عَبْدٌ لِلَّذِي هُوَ فِي يَدِهِ ) لِأَنَّهُ لَا يَدَ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ لَمَّا كَانَ لَا يُعَبِّرُ عَنْهَا وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَتَاعِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ يُعَبِّرُ ، فَلَوْ كَبِرَ وَادَّعَى الْحُرِّيَّةَ لَا يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ لِأَنَّهُ ظَهَرَ الرِّقُّ عَلَيْهِ فِي حَالِ صِغَرِهِ .

قَالَ ) أَيْ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ : ( وَإِذَا كَانَ صَبِيٌّ فِي يَدِ رَجُلٍ وَهُوَ يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ ) أَيْ يَعْقِلُ فَحَوَى مَا يَجْرِي عَلَى لِسَانِهِ ، كَذَا فِي الْكَافِي .
وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُ الشُّرَّاحِ : أَيْ يَتَكَلَّمُ وَيَعْقِلُ مَا يَقُولُ ( فَقَالَ ) أَيْ الصَّبِيُّ ( أَنَا حُرٌّ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ فِي يَدِ نَفْسِهِ ) فَكَانَ هُوَ صَاحِبَ الْيَدِ وَكَانَ الْمُدَّعِي خَارِجًا وَالْقَوْلُ قَوْلَ صَاحِبِ الْيَدِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ إنْسَانٍ يَدٌ عَلَى نَفْسِهِ إبَانَةً لِمَعْنَى الْكَرَامَةِ ، إذْ كَوْنُهُ فِي يَدِ غَيْرِهِ دَلِيلُ الْإِهَابَةِ ، وَمَعَ قِيَامِ يَدِهِ عَلَى نَفْسِهِ لَا تَثْبُتُ يَدُ الْغَيْرِ عَلَيْهِ لِلتَّنَافِي بَيْنَ الْيَدَيْنِ إلَّا إذَا سَقَطَ اعْتِبَارُ يَدِهِ شَرْعًا فَحِينَئِذٍ تُعْتَبَرُ يَدُ الْغَيْرِ عَلَيْهِ ، وَسُقُوطُ اعْتِبَارِ يَدِهِ قَدْ يَكُونُ لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ بِأَنْ كَانَ صَغِيرًا لَا يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ : أَيْ لَا يَعْقِلُ مَا يَكُونُ ، وَقَدْ يَكُونُ لِثُبُوتِ الرِّقِّ عَلَيْهِ لِأَنَّ الرِّقَّ عِبَارَةٌ عَنْ عَجْزٍ حُكْمِيٍّ ، وَالْيَدُ عِبَارَةٌ عَنْ الْقُدْرَةِ وَبَيْنَهُمَا تَنَافٍ ، فَإِذَا ثَبَتَ الضَّعْفُ انْتَفَتْ الْقُدْرَةُ ، كَذَا فِي الْكَافِي ( وَلَوْ قَالَ أَنَا عَبْدٌ لِفُلَانٍ ) أَيْ لَوْ قَالَ الصَّبِيُّ الَّذِي يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ أَنَا عَبْدٌ لِفُلَانٍ غَيْرِ ذِي الْيَدِ وَقَالَ الَّذِي فِي يَدِهِ : إنَّهُ عَبْدِي ( فَهُوَ عَبْدٌ لِلَّذِي هُوَ فِي يَدِهِ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِأَنَّهُ لَا يَدَ لَهُ حَيْثُ أَقَرَّ بِالرِّقِّ ) فَكَانَ يَدُ صَاحِبِ الْيَدِ عَلَيْهِ مُعْتَبَرَةً شَرْعًا فَكَانَ الْقَوْلُ لِذِي الْيَدِ أَنَّهُ لَهُ ، وَلَا تُقْطَعُ يَدُهُ إلَّا بِحُجَّةٍ وَشَهَادَةُ الْعَبْدِ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ ، كَذَا فِي الْكَافِي .
فَإِنْ قِيلَ : الْإِقْرَارُ بِالرِّقِّ مِنْ الْمَضَارِّ لَا مَحَالَةَ وَأَقْوَالُ الصَّبِيِّ فِيهَا غَيْرُ مُوجِبَةٍ وَإِنْ كَانَ عَاقِلًا كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْهِبَةِ وَالْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ فَإِنَّ الصَّبِيَّ أَبَدًا يَبْعُدُ مِنْ الْمَضَارِّ وَيُقَرَّبُ

مِنْ الْمَبَارِّ .
قُلْنَا : الرِّقُّ هَاهُنَا لَا يَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِ بَلْ بِدَعْوَى ذِي الْيَدِ ، إلَّا أَنَّ عِنْدَ مُعَارَضَتِهِ إيَّاهُ بِدَعْوَى الْحُرِّيَّةِ لَا تَتَقَرَّرُ يَدُهُ عَلَيْهِ .
وَعِنْدَ عَدَمِهَا تَتَقَرَّرُ كَمَا فِي الصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي رِقِّهِ ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ ( وَإِنْ كَانَ ) أَيْ الصَّبِيُّ ( لَا يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ فَهُوَ عَبْدٌ لِلَّذِي هُوَ فِي يَدِهِ لِأَنَّهُ لَا يَدَ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ لَمَّا كَانَ لَا يُعَبِّرُ عَنْهَا ) أَيْ عَنْ نَفْسِهِ ( وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَتَاعٍ ) فِي أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ يَدٌ عَلَى نَفْسِهِ فَكَانَتْ يَدُ صَاحِبِ الْيَدِ ثَابِتَةً عَلَيْهِ شَرْعًا فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ أَنَّهُ مِلْكُهُ ( بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ يُعَبِّرُ ) أَيْ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الصَّبِيُّ يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ وَلَمْ يُقِرَّ بِالرِّقِّ لِمَا مَرَّ .
فَإِنْ قِيلَ : مَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ اللَّقِيطِ الَّذِي لَا يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ فَإِنَّ الْمُلْتَقِطَ هُنَاكَ وَهُوَ صَاحِبُ الْيَدِ لَوْ ادَّعَى أَنَّهُ عَبْدُهُ لَا يُصَدَّقُ وَهُنَا قِيلَ .
قُلْنَا : الْفَرْقُ هُوَ أَنَّ صَاحِبَ الْيَدِ إنَّمَا يُصَدَّقُ فِي دَعْوَى الرِّقِّ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ ، وَيَدُ الْمُلْتَقِطِ عَلَى اللَّقِيطِ ثَابِتَةٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ لِأَنَّهَا ثَابِتَةٌ حَقِيقَةً وَلَيْسَتْ بِثَابِتَةٍ حُكْمًا لِأَنَّ الْمُلْتَقِطَ أَمِينٌ فِي اللَّقِيطِ وَيَدُ الْأَمِينِ فِي الْحُكْمِ يَدُ غَيْرِهِ فَإِذَا كَانَتْ ثَابِتَةً مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ لَمْ تَصِحَّ دَعْوَاهُ مَعَ الشَّكِّ .
فَإِنْ قِيلَ : وَجَبَ أَنْ لَا يُصَدَّقَ فِي دَعْوَى الرِّقِّ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ ثَابِتَةٌ بِالْأَصْلِ فِي بَنِي آدَمَ إذْ الْأَصْلُ فِي بَنِي آدَمَ الْحُرِّيَّةُ لِأَنَّهُمْ أَوْلَادُ آدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَهُمَا كَانَا حُرَّيْنِ فَكَانَ مَا يَدَّعِيهِ مِنْ الرِّقِّ أَمْرًا عَارِضًا فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إلَّا بِحُجَّةٍ ، قُلْنَا : مَا هُوَ الْأَصْلُ إذَا اعْتَرَضَ عَلَيْهِ مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ يَبْطُلُ ، وَالْيَدُ عَلَى مَنْ هَذَا شَأْنُهُ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِ

ذَلِكَ الْأَصْلِ لِأَنَّهَا دَلِيلُ الْمِلْكِ فَيَبْطُلُ بِهِ ذَلِكَ الْأَصْلُ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا نَقْلًا عَنْ الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ ( فَلَوْ كَبِرَ وَادَّعَى الْحُرِّيَّةَ لَا يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ لِأَنَّهُ ظَهَرَ الرِّقُّ عَلَيْهِ فِي حَالِ صِغَرِهِ ) فَلَا يُنْقَضُ الْأَمْرُ الثَّابِتُ ظَاهِرًا بِلَا حُجَّةٍ

قَالَ : ( وَإِذَا كَانَ الْحَائِطُ لِرَجُلٍ عَلَيْهِ جُذُوعٌ أَوْ مُتَّصِلٌ بِبِنَائِهِ وَلِآخَرَ عَلَيْهِ هَرَادِيٌّ فَهُوَ لِصَاحِبِ الْجُذُوعِ وَالِاتِّصَالِ ، وَالْهَرَادِيُّ لَيْسَتْ بِشَيْءٍ ) لِأَنَّ صَاحِبَ الْجُذُوعِ صَاحِبُ اسْتِعْمَالٍ وَالْآخَرُ صَاحِبُ تَعَلُّقٍ فَصَارَ كَدَابَّةٍ تَنَازَعَا فِيهَا وَلِأَحَدِهِمَا حِمْلٌ عَلَيْهَا وَلِلْآخَرِ كُوزٌ مُعَلَّقٌ بِهَا ، وَالْمُرَادُ بِالِاتِّصَالِ مُدَاخَلَةُ لَبِنِ جِدَارِهِ فِيهِ وَلَبِنِ هَذَا فِي جِدَارِهِ وَقَدْ يُسَمَّى اتِّصَالُ تَرْبِيعٍ ، وَهَذَا شَاهِدٌ ظَاهِرٌ لِصَاحِبِهِ لِأَنَّ بَعْضَ بِنَائِهِ عَلَى بَعْضِ بِنَاءِ هَذَا الْحَائِطِ .
وَقَوْلُهُ الْهَرَادِيُّ لَيْسَتْ بِشَيْءٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ لِلْهَرَادِيِّ أَصْلًا ، وَكَذَا الْبَوَارِي لِأَنَّ الْحَائِطَ لَا تُبْنَى لَهَا أَصْلًا حَتَّى لَوْ تَنَازَعَا فِي حَائِطٍ وَلِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ هَرَادِيٌّ وَلَيْسَ لِلْآخَرِ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَهُوَ بَيْنَهُمَا

( قَالَ ) أَيْ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ : ( وَإِذَا كَانَ الْحَائِطُ لِرَجُلٍ عَلَيْهِ جُذُوعٌ أَوْ مُتَّصِلٌ بِبِنَائِهِ ) أَيْ أَوْ هُوَ مُتَّصِلٌ بِبِنَائِهِ ( وَلِآخَرَ عَلَيْهِ ) أَيْ عَلَى الْحَائِطِ ( هَرَادِيٌّ ) بِفَتْحِ الْهَاءِ جَمْعُ هَرْدِيَّةٍ بِضَمِّهَا .
وَفِي الْمُغْرِبِ : الْهُرْدِيَّةُ عَنْ اللَّيْثِ : قَصَبَاتٌ تُضَمُّ مَلْوِيَّةً بِطَاقَاتٍ مِنْ الْكَرْمِ يُرْسَلُ عَلَيْهَا قُضْبَانُ الْكَرْمِ .
وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ : هُوَ الْحَرْدِيُّ وَلَا تَقُلْ هَرْدَى انْتَهَى .
وَفِي الصَّحَّاحِ : الْحَرْدِيُّ مِنْ الْقَصَبِ نَبَطِيٌّ مُعَرَّبٌ وَلَا تَقُلْ هَرْدَى انْتَهَى .
وَصَحَّحَ فِي الدِّيوَانِ الْهَاءَ وَالْحَاءَ جَمِيعًا ، وَكَذَا الْقَامُوسُ .
قَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ : الرِّوَايَةُ فِي الْأَصْلِ وَالْكَافِي لِلْحَاكِمِ الشَّهِيدِ بِالْحَاءِ وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَشَرْحِ الْكَافِي وَقَعَتْ بِالْهَاءِ لَا غَيْرُ انْتَهَى ( فَهُوَ ) أَيْ الْحَائِطُ ( لِصَاحِبِ الْجُذُوعِ وَالِاتِّصَالِ ، وَالْهَرَادِيُّ لَيْسَتْ بِشَيْءٍ لِأَنَّ صَاحِبَ الْجُذُوعِ صَاحِبُ اسْتِعْمَالٍ ) أَيْ هُوَ صَاحِبُ اسْتِعْمَالٍ لِلْحَائِطِ بِوَضْعِ الْجُذُوعِ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْحَائِطَ إنَّمَا يُبْنَى لِلتَّسْقِيفِ وَذَا بِوَضْعِ الْجُذُوعِ عَلَيْهِ ( وَالْآخَرُ ) يَعْنِي صَاحِبَ الْهَرَادِيِّ ( صَاحِبُ تَعَلُّقٍ ) لَا صَاحِبُ اسْتِعْمَالٍ لِأَنَّ الْحَائِطَ لَا يُبْنَى لِوَضْعِ الْهَرَادِيِّ عَلَيْهِ وَالِاسْتِعْمَالُ يَدٌ ، وَعِنْدَ تَعَارُضِ الدَّعْوَيَيْنِ الْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الْيَدِ ( فَصَارَ ) أَيْ فَصَارَ الْحَائِطُ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ ( كَدَابَّةٍ تَنَازَعَا فِيهَا وَلِأَحَدِهِمَا عَلَيْهَا حِمْلٌ وَلِلْآخَرِ كُوزٌ مُعَلَّقٌ ) فَإِنَّهَا تَكُونُ لِصَاحِبِ الْحَمْلِ دُونَ صَاحِبِ الْكُوزِ كَذَا هَاهُنَا ( وَالْمُرَادُ بِالِاتِّصَالِ ) أَيْ الْمُرَادُ بِالِاتِّصَالِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ أَوْ مُتَّصِلٌ بِبِنَائِهِ ( مُدَاخَلَةُ لَبِنِ جِدَارِهِ ) أَيْ جِدَارِ صَاحِبِ الْبِنَاءِ ( فِيهِ ) أَيْ فِي الْحَائِطِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ ( وَلَبِنِ هَذَا ) أَيْ وَمُدَاخَلَةُ لَبِنِ هَذَا : أَيْ الْحَائِطِ

الْمُتَنَازَعِ فِيهِ ( فِي جِدَارِهِ ) أَيْ فِي جِدَارِ صَاحِبِ الْبِنَاءِ ( وَقَدْ يُسَمَّى اتِّصَالَ تَرْبِيعٍ ) أَيْ وَيُسَمَّى اتِّصَالُ مُدَاخَلَةِ لَبِنٍ اتِّصَالَ تَرْبِيعٍ ، وَتَفْسِيرُ التَّرْبِيعِ إذَا كَانَ الْحَائِطُ مِنْ مَدَرٍ أَوْ آجُرٍّ أَنْ تَكُونَ أَنْصَافُ لَبِنِ الْحَائِطِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ دَاخِلَةً فِي أَنْصَافِ لَبِنِ غَيْرِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ وَأَنْصَافُ لَبِنِ غَيْرِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ دَاخِلَةً فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ خَشَبٍ فَالتَّرْبِيعُ أَنْ تَكُونَ سَاحَةُ أَحَدِهِمَا مُرَكَّبَةً فِي الْأُخْرَى ، وَأَمَّا إذَا ثَقَبَ فَأَدْخَلَ لَا يَكُونُ تَرْبِيعًا ، كَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ نَقْلًا عَنْ مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ .
وَفِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا نَقْلًا عَنْ الذَّخِيرَةِ قَالَ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ : وَإِنَّمَا سُمِّيَ هَذَا اتِّصَالَ التَّرْبِيعِ لِأَنَّهُمَا إنَّمَا يُبْنَيَانِ لِيُحِيطَا مَعَ جِدَارَيْنِ آخَرَيْنِ بِمَكَانٍ مُرَبَّعٍ انْتَهَى .
وَكَانَ الْكَرْخِيُّ يَقُولُ : صِفَةُ هَذَا الِاتِّصَالِ أَنْ يَكُونَ الْحَائِطُ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ مُتَّصِلًا بِحَائِطَيْنِ لِأَحَدِهِمَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا وَالْحَائِطَانِ مُتَّصِلَانِ بِحَائِطٍ لَهُ بِمُقَابَلَةِ الْحَائِطِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ حَتَّى يَصِيرَ مُرَبَّعًا شِبْهَ الْقُبَّةُ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْكُلُّ فِي حُكْمِ شَيْءٍ وَاحِدٍ .
وَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ اتِّصَالَ جَانِبَيْ الْحَائِطِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ بِحَائِطَيْنِ لِأَحَدِهِمَا يَكْفِي ، وَلَا يُشْتَرَطُ اتِّصَالُ الْحَائِطَيْنِ بِحَائِطٍ لَهُ بِمُقَابَلَةٍ الْحَائِطِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ مَشَايِخِنَا لِأَنَّ الرُّجْحَانَ يَقَعُ بِكَوْنِهِ مِلْكًا مُحِيطًا بِالْحَائِطِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَذَلِكَ يَتِمُّ بِالِاتِّصَالِ بِجَانِبَيْ الْحَائِطِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ ، كَذَا فِي شَرْحِ الْكَنْزِ لِلْإِمَامِ الزَّيْلَعِيِّ .
وَفِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ لِتَاجِ الشَّرِيعَةِ ( وَهَذَا ) أَيْ اتِّصَالُ التَّرْبِيعِ ( شَاهِدٌ ظَاهِرٌ لِصَاحِبِهِ لِأَنَّ بَعْضَ بِنَائِهِ ) أَيْ بَعْضَ بِنَاءِ صَاحِبِهِ ( وَعَلَى بَعْضِ هَذَا

الْحَائِطِ ) أَيْ عَلَى بَعْضِ هَذَا الْحَائِطِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ بِالِاتِّصَالِ فَصَارَ الْكُلُّ فِي حُكْمِ حَائِطٍ وَاحِدٍ بِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الِاتِّصَالِ ، وَبَعْضُهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ لِأَحَدِهِمَا فَيُرَدُّ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ إلَى الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي بَنَاهُ مَعَ حَائِطِهِ فَمُدَاخَلَةُ أَنْصَافِ اللَّبِنِ لَا تُتَصَوَّرُ إلَّا عِنْدَ بِنَاءِ الْحَائِطَيْنِ مَعًا فَكَانَ هُوَ أَوْلَى ، كَذَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَعَزَاهُ إلَى الْمَبْسُوطِ .
أَقُولُ : بَقِيَ لِي هَاهُنَا كَلَامٌ ، وَهُوَ أَنَّ الْمُصَنِّفَ حَمَلَ الْمُرَادَ بِالِاتِّصَالِ الْمَذْكُورِ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ عَلَى اتِّصَالِ التَّرْبِيعِ ، وَتَبِعَهُ فِي هَذَا عَامَّةُ ثِقَاتِ الْمُتَأَخِّرِينَ كَصَاحِبِ الْكَافِي وَالْإِمَامِ الزَّيْلَعِيِّ وَشُرَّاحِ الْهِدَايَةِ قَاطِبَةً وَغَيْرِهِمْ ، حَتَّى أَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَصْحَابِ الْمُتُونِ صَرَّحُوا بِتَقْيِيدِ الِاتِّصَالِ هَاهُنَا بِالتَّرْبِيعِ مِنْهُمْ صَاحِبُ الْوِقَايَةِ حَيْثُ قَالَ : وَالْحَائِطُ لِمَنْ جُذُوعُهُ عَلَيْهِ أَوْ مُتَّصِلٌ بِبِنَائِهِ اتِّصَالَ تَرْبِيعٍ لَا لِمَنْ لَهُ عَلَيْهِ هَرَادِيٌّ انْتَهَى .
وَلَكِنْ لَمْ يَظْهَرْ لِي وَجْهُ هَذَا التَّقْيِيدِ هَاهُنَا لِأَنَّ مَعْنَى مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ أَنَّ صَاحِبَ الْجُذُوعِ أَوْلَى مِنْ صَاحِبِ الْهَرَادِيِّ ، وَكَذَا صَاحِبُ الِاتِّصَالِ أَوْلَى مِنْ صَاحِبِ الْهَرَادِيِّ .
وَفِي الْحُكْمِ يَكُونُ صَاحِبُ الِاتِّصَالِ أَوْلَى مِنْ صَاحِبِ الْهَرَادِيِّ لَا احْتِيَاجَ إلَى تَقْيِيدِ الِاتِّصَالِ بِالتَّرْبِيعِ ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ ضَرْبَيْ الِاتِّصَالِ : أَعْنِي اتِّصَالَ التَّرْبِيعِ وَاتِّصَالَ الْمُلَازَقَةِ مُشْتَرِكَانِ فِي هَذَا الْحُكْمِ فَإِنَّ الْهَرَادِيَّ مِمَّا لَا اعْتِبَارَ لَهُ أَصْلًا بَلْ هِيَ فِي حُكْمِ الْمَعْدُومِ ، حَتَّى لَوْ تَنَازَعَا فِي حَائِطٍ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ هَرَادِيٌّ وَلَيْسَ لِلْآخِرِ شَيْءٌ فَهُوَ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ .
وَقَدْ ذَكَرَ فِي مُعْتَبَرَاتِ الْفَتَاوَى أَنَّهُ إذَا كَانَ لِأَحَدِهِمَا اتِّصَالُ مُلَازَقَةٍ وَلَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ

اتِّصَالٌ وَلَا جُذُوعٌ فَهُوَ لِصَاحِبِ الِاتِّصَالِ ، فَقَالَ فِي الذَّخِيرَةِ : وَذَكَرَ هَذَا أَيْضًا فِي النِّهَايَةِ نَقْلًا عَنْ الذَّخِيرَةِ .
أَمَّا إذَا كَانَ الْحَائِطُ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ مُتَّصِلًا بِبِنَائِهِمَا إنْ كَانَ اتِّصَالُهُمَا اتِّصَالَ تَرْبِيعٍ أَوْ اتِّصَالَ مُلَازَقَةٍ فَإِنَّهُ يَقْضِي بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي الدَّعْوَى وَالِاتِّصَالِ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ اتِّصَالُ أَحَدِهِمَا اتِّصَالَ تَرْبِيعٍ وَاتِّصَالُ الْآخَرِ اتِّصَالَ مُلَازَقَةٍ فَصَاحِبُ التَّرْبِيعِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ التَّرْبِيعِ مُسْتَعْمِلٌ لِلْحَائِطِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ ؛ لِأَنَّ قِوَامَ حَائِطِهِ بِقَدْرِ التَّرْبِيعِ بِالْحَائِطِ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ تَفْسِيرِ التَّرْبِيعِ ، فَكَانَ لِصَاحِبِ التَّرْبِيعِ عَلَى ذَلِكَ التَّفْسِيرِ مَعَ الِاتِّصَالِ نَوْعُ الِاسْتِعْمَالِ ، وَلِلْآخَرِ مُجَرَّدُ اتِّصَالٍ مِنْ غَيْرِ اسْتِعْمَالٍ فَيَكُونُ الِاتِّصَالُ مَعَ الِاسْتِعْمَالِ أَوْلَى فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الرَّاكِبِ عَلَى الدَّابَّةِ وَالْمُتَعَلِّقِ بِاللِّجَامِ ، وَلَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا اتِّصَالٌ بِبِنَاءٍ اتِّصَالَ مُلَازَقَةٍ أَوْ اتِّصَالَ تَرْبِيعٍ وَلَيْسَ لِلْآخَرِ اتِّصَالٌ وَلَا لَهُ عَلَيْهِ جُذُوعٌ فَإِنَّهُ يَقْضِي لِصَاحِبِ الِاتِّصَالِ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي حَقِّ الِاتِّصَالِ بِالْأَرْضِ الْمَمْلُوكَةِ وَلِأَحَدِهِمَا زِيَادَةُ الِاتِّصَالِ مِنْ خِلَافِ الْجِنْسِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الِاتِّصَالُ بِالْبِنَاءِ فَيَتَرَجَّحُ عَلَى الْآخَرِ انْتَهَى .
وَقَالَ فِي الْبَدَائِعِ : وَلَوْ كَانَ الْحَائِطُ مُتَّصِلًا بِبِنَاءِ إحْدَى الدَّارَيْنِ اتِّصَالَ الْتِزَاقٍ وَارْتِبَاطٍ فَهُوَ لِصَاحِبِ الِاتِّصَالِ لِأَنَّهُ كَالْمُتَعَلِّقِ بِهِ ، وَلَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا اتِّصَالُ الْتِزَاقٍ وَلِلْآخَرِ جُذُوعٌ فَصَاحِبُ الْجُذُوعُ أَوْلَى لِأَنَّهُ مُسْتَعْمِلٌ لِلْحَائِطِ وَلَا اسْتِعْمَالَ مِنْ صَاحِبِ الِاتِّصَالِ ، وَلَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا اتِّصَالُ الْتِزَاقٍ وَارْتِبَاطٍ وَلِلْآخَرِ اتِّصَالُ تَرْبِيعٍ فَصَاحِبُ التَّرْبِيعِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ اتِّصَالَ التَّرْبِيعِ أَقْوَى مِنْ اتِّصَالِ

الِالْتِزَاقِ ، وَلَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا اتِّصَالُ تَرْبِيعٍ وَلِلْآخَرِ الْجُذُوعُ فَالْحَائِطُ لِصَاحِبِ التَّرْبِيعِ وَلِصَاحِبِ الْجُذُوعِ حَقُّ وَضْعِ الْجُذُوعِ انْتَهَى .
فَتَلَخَّصَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ فَائِدَةَ تَقْيِيدِ الِاتِّصَالِ بِالتَّرْبِيعِ إنَّمَا تَظْهَرُ لَوْ كَانَ لِلْآخَرِ اتِّصَالُ مُلَازَقَةٍ كَمَا ذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ ، أَوْ كَانَ لِلْآخَرِ جُذُوعٌ كَمَا ذَكَرَ فِي الْبَدَائِعِ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ لِلْآخَرِ هَرَادِيٌّ كَمَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَلَا فَائِدَةَ فِي ذَلِكَ التَّقْيِيدِ بَلْ فِيهِ إخْلَالٌ بِعُمُومِ جَوَابِ الْمَسْأَلَةِ كَمَا تَبَيَّنَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ فَتَنَبَّهْ ، فَإِنَّ كَشْفَ الْقِنَاعِ عَنْ وَجْهِ هَذَا الْمَقَامِ مِمَّا تَفَرَّدْت بِهِ بِعَوْنِ الْمَلِكِ الْعَلَّامِ ( وَقَوْلُهُ الْهَرَادِيُّ لَيْسَتْ بِشَيْءٍ ) أَيْ قَوْلُ مُحَمَّدٍ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ الْهَرَادِيُّ لَيْسَتْ بِشَيْءٍ ( يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ لِلْهَرَادِيِّ أَصْلًا ) بَلْ هِيَ فِي الْحُكْمِ الْمَعْدُومِ ( وَكَذَا الْبَوَارِي لِأَنَّ الْحَائِطَ لَا يُبْنَى لَهَا أَصْلًا ) أَيْ لِأَنَّ الْحَائِطَ لَا يُبْنَى لِأَجْلِ الْهَرَادِيِّ وَالْبَوَارِي ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُبْنَى لِلتَّسْقِيفِ وَذَلِكَ بِوَضْعِ الْجُذُوعِ عَلَيْهِ لَا بِوَضْعِ الْهَرَادِيِّ وَالْبَوَارِي ، وَإِنَّمَا تُوضَعُ الْهَرَادِيُّ وَالْبَوَارِي لِلِاسْتِظْلَالِ وَالْحَائِطُ لَا يُبْنَى لَهُ ( حَتَّى لَوْ تَنَازَعَا فِي حَائِطٍ وَلِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ الْهَرَادِيُّ وَلَيْسَ لِلْآخَرِ شَيْءٌ فَهُوَ بَيْنَهُمَا ) مَعْنَاهُ : إذَا عُرِفَ كَوْنُهُ فِي أَيْدِيهِمَا قُضِيَ بَيْنَهُمَا قَضَاءَ تَرْكٍ ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ كَوْنُهُ فِي أَيْدِيهِمَا وَقَدْ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا أَنَّهُ مِلْكُهُ وَفِي يَدَيْهِ يُجْعَلُ فِي أَيْدِيهِمَا لِأَنَّهُ لَا مُنَازِعَ لَهُمَا لَا أَنَّهُ يَقْضِي بَيْنَهُمَا كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَكَذَا فِي النِّهَايَةِ نَقْلًا عَنْ الذَّخِيرَةِ .
وَيُعْرَفُ الْفَرْقُ بَيْنَ قَضَاءِ التَّرْكِ وَالْجَعْلِ فِي الْيَدِ بِلَا قَضَاءٍ كَمَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ فِيمَا مَرَّ فَلَا تَغْفُلْ عَنْهُ

( وَلَوْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَيْهِ جُذُوعٌ ثَلَاثَةٌ فَهُوَ بَيْنَهُمَا ) لِاسْتِوَائِهِمَا وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْأَكْثَرِ مِنْهَا بَعْدَ الثَّلَاثَةِ وَإِنْ كَانَ جُذُوعُ أَحَدِهِمَا أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ فَهُوَ لِصَاحِبِ الثَّلَاثَةِ وَلِلْآخَرِ مَوْضِعُ جِذْعِهِ ) فِي رِوَايَةٍ ، وَفِي رِوَايَةٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا تَحْتَ خَشَبَتِهِ ، ثُمَّ قِيلَ مَا بَيْنَ الْخَشَبِ بَيْنَهُمَا ، وَقِيلَ عَلَى قَدْرِ خَشَبِهِمَا ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِأَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِالْكَثْرَةِ فِي نَفْسِ الْحُجَّةِ .
وَجْهُ الثَّانِي أَنَّ الِاسْتِعْمَالَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ بِقَدْرِ خَشَبَتِهِ .
وَوَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ الْحَائِطَ يُبْنَى لِوَضْعِ كَثِيرِ الْجُذُوعِ دُونَ الْوَاحِدِ وَالْمُثَنَّى فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِصَاحِبِ الْكَثِيرِ ، إلَّا أَنَّهُ يَبْقَى لَهُ حَقُّ الْوَضْعِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي اسْتِحْقَاقِ يَدِهِ

( وَلَوْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جُذُوعٌ ثَلَاثَةٌ ) أَيْ وَلَوْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُدَّعِيَيْنِ عَلَى الْحَائِطِ جُذُوعٌ ثَلَاثَةٌ ( فَهُوَ بَيْنَهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا ) أَيْ فِي أَصْلِ الْعِلَّةِ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَمَلٌ مَقْصُودٌ يُبْنَى الْحَائِطُ لِأَجْلِهِ وَفِي نِصَابِ الْحُجَّةِ وَهُوَ الثَّلَاثَةُ لِأَنَّهَا أَقَلُّ الْجَمْعِ ( وَلَا مُعْتَبَرَ ) أَيْ وَلَا اعْتِبَارَ ( بِالْأَكْثَرِ مِنْهَا ) أَيْ مِنْ الْجُذُوعِ ( بَعْدَ الثَّلَاثَةِ ) لِأَنَّ الزِّيَادَةَ مِنْ جِنْسِ الْحُجَّةِ فَإِنَّ الْحَائِطَ يُبْنَى لِلْجُذُوعِ الثَّلَاثَةِ كَمَا يُبْنَى لِأَكْثَرَ مِنْهَا .
قَالَ فِي مِعْرَاجِ الدَّارِيَةِ : وَقَوْلُهُ : وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْأَكْثَرِ مِنْهَا : أَيْ مِنْ الثَّلَاثَةِ .
أَقُولُ : تَفْسِيرُهُ لَيْسَ بِسَدِيدٍ ؛ أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كَلِمَةُ ( مِنْ ) فِي قَوْلِهِ مِنْهَا تَفْصِيلِيَّةً فَيَلْزَمُ اجْتِمَاعُ لَامِ التَّعْرِيفِ وَمِنْ التَّفْضِيلِيَّةِ فِي اسْمِ التَّفْصِيلِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ بَعْدَ الثَّلَاثَةِ لَغْوًا ، لِأَنَّ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ الثَّلَاثَةِ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الثَّلَاثَةِ ، فَالصَّوَابُ أَنَّ كَلِمَةَ مِنْ هَاهُنَا تَبْيِنِيَّةٌ لَا تَفْصِيلِيَّةٌ ، وَأَنَّ ضَمِيرَ مِنْهَا رَاجِعٌ إلَى الْجُذُوعِ كَمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ فِيمَا مَرَّ آنِفًا إلَى الثَّلَاثَةِ ، فَيَصِيرُ الْمَعْنَى وَلَا اعْتِبَارَ بِالْأَكْثَرِ الْكَائِنِ مِنْ جِنْسِ الْجُذُوعِ بَعْدَ الثَّلَاثَةِ فَلَا يَلْزَمُ شَيْءٌ مِنْ الْمَحْذُورَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ ( وَإِنْ كَانَ جُذُوعُ أَحَدِهِمَا أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ فَهُوَ ) أَيْ الْحَائِطُ كُلُّهُ ( لِصَاحِبِ الثَّلَاثَةِ وَلِلْآخَرِ ) أَيْ وَلِصَاحِبِ الْجِذْعِ الْوَاحِدِ أَوْ الِاثْنَيْنِ ( مَوْضِعُ جِذْعِهِ فِي رِوَايَةٍ ) وَهِيَ رِوَايَةُ كِتَابِ الْإِقْرَارِ مِنْ الْأَصْلِ حَيْثُ قَالَ فِيهِ : الْحَائِطُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الْأَجْذَاعِ وَلِصَاحِبِ الْقَلِيلِ مَا تَحْتَ جِذْعِهِ .
قَالُوا : يُرِيدُ بِهِ حَقَّ الْوَضْعِ .

وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ : ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ هَذَا فِيمَا إذَا ثَبَتَ مِلْكُهُ بِسَبَبِ الْعَلَامَةِ وَهِيَ الْجُذُوعُ الثَّلَاثَةُ لَا بِالْبَيِّنَةِ ، أَمَّا إذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ كَانَ لِصَاحِبِ الْمِلْكِ أَنْ يَمْنَعَ صَاحِبَ الْجِذْعِ الْوَاحِدِ مِنْ وَضْعِ جِذْعِهِ عَلَى جِدَارِهِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَغَيْرِهِ انْتَهَى ( وَفِي رِوَايَةٍ ) وَهِيَ رِوَايَةُ كِتَابِ الدَّعْوَى مِنْ الْأَصْلِ ( لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا تَحْتَ خَشَبَتِهِ ) حَيْثُ قَالَ فِيهِ : إنَّ الْحَائِطَ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ الْأَجْذَاعِ ، وَجَعَلَ فِي الْمُحِيطِ مَا ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ أَصَحَّ .
وَقَالَ قَاضِي خَانْ : وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ يَكُونُ مِلْكًا لِصَاحِبِ الْخَشَبَةِ كَمَا ذَكَرَ فِي الدَّعْوَى ، كَذَا فِي التَّبْيِينِ لِلْإِمَامِ الزَّيْلَعِيِّ ( ثُمَّ قِيلَ ) أَيْ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ : يَعْنَى اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ عَلَى رِوَايَةِ كِتَابِ الدَّعْوَى فِي حُكْمِ مَا بَيْنَ الْخَشَبِ فَقِيلَ ( مَا بَيْنَ الْخَشَبِ بَيْنَهُمَا ) أَيْ يَكُونُ بَيْنَ الْمُدَّعِيَيْنِ نِصْفَيْنِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي ذَلِكَ كَمَا فِي السَّاحَةِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ صَاحِبِ بَيْتٍ وَصَاحِبِ أَبْيَاتٍ عَلَى مَا سَيَذْكُرُ ( وَقِيلَ عَلَى قَدْرِ خَشَبِهِمَا ) أَيْ وَقِيلَ مَا بَيْنَ الْخَشَبِ يَكُونُ عَلَى قَدْرِ خَشَبِهِمَا اعْتِبَارًا لِمَا بَيْنَ الْخَشَبَاتِ بِمَا هُوَ تَحْتَ كُلِّ خَشَبَةٍ ، ثُمَّ إنَّ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ مُوَافِقَانِ لِمَا ذَكَرَهُ فِي الذَّخِيرَةِ .
وَقَالَ فِي الْمَبْسُوطِ فِي مَوْضِعِ الْقِيلِ الْأَوَّلِ : وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّهُ يَقْضِي بِهِ لِصَاحِبِ الْكَثِيرِ ؛ لِأَنَّ الْحَائِطَ يُبْنَى لِلْخَشَبَاتِ لَا لِخَشَبَةٍ وَاحِدَةٍ ( وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ) هَذَا نَاظِرٌ إلَى قَوْلِهِ فَهُوَ لِصَاحِبِ الثَّلَاثَةِ إلَى آخِرِهِ : يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ اسْتِحْسَانًا .
وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ الْحَائِطُ بَيْنَ صَاحِبِ الْجِذْعِ وَالْجِذْعَيْنِ وَبَيْنَ صَاحِبِ الثَّلَاثَةِ نِصْفَيْنِ ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ كَمَا ذَكَرَ فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ ( لِأَنَّهُ

لَا مُعْتَبَرَ ) أَيْ لَا اعْتِبَارَ ( بِالْكَثْرَةِ فِي نَفْسِ الْحُجَّةِ ) يَعْنِي أَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي أَصْلِ الِاسْتِعْمَالِ وَالزِّيَادَةُ مِنْ جِنْسِ الْحُجَّةِ وَالتَّرْجِيحُ لَا يَقَعُ بِهَا كَمَا تَقَدَّمَ ، وَلَكِنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ وَلَمْ يَجْعَلُوا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا ( وَوَجْهُ الثَّانِي ) يَعْنِي وَجْهَ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا تَحْتَ خَشَبَتِهِ ، وَلَكِنَّ ذِكْرَ الثَّانِي إمَّا بِتَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ الرِّوَايَةُ بِالْفِعْلِ وَأَنَّ كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي نَظَائِرِهَا ، وَإِمَّا بِتَأْوِيلِ الرِّوَايَةِ بِالنَّقْلِ أَوْ الْقَوْلِ ( أَنَّ الِاسْتِعْمَالَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ بِقَدْرِ خَشَبَتِهِ ) وَالِاسْتِحْقَاقُ بِحَسْبِ الِاسْتِعْمَالِ .
قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ جَوَابُ وَجْهِ الْقِيَاسِ .
أَقُولُ : يَظْهَرُ ذَلِكَ بِالتَّأَمُّلِ فِيهِ فَإِنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الِاسْتِعْمَالَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مُخْتَصٌّ بِقَدْرِ خَشَبَتِهِ ، وَمَا تَحْتَ خَشَبَتِهِ لَا يَعْدُو الْغَيْرَ فَلَمْ يَكُونَا مُسْتَعْمَلَيْنِ بِشَيْءٍ وَاحِدٍ مَعَ زِيَادَةِ اسْتِعْمَالِ أَحَدِهِمَا بَلْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مُسْتَعْمِلًا لِمَا كَانَ تَحْتَ خَشَبَتِهِ فَقَطْ فَكَانَتْ حُجَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ قَائِمَةً عَلَى غَيْرِ مَا قَامَتْ عَلَيْهِ حُجَّةُ الْآخَرِ فَلَمْ يَكُنْ الْأَمْرُ مِنْ قَبِيلِ التَّرْجِيحِ بِالْكَثْرَةِ فِي نَفْسِ الْحُجَّةِ ؛ لِأَنَّ هَذَا فِيمَا إذَا اتَّحَدَ مَحِلُّ الْحُجَّتَيْنِ ، وَيُرْشِدُ إلَيْهِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ حَيْثُ قَالَ : وَأَمَّا وَجْهُ رِوَايَةِ كِتَابِ الدَّعْوَى أَنَّ الْحَائِطَ إذَا كَانَ يُسْتَحَقُّ بِوَضْعِ الْجِذْعِ فَذَلِكَ الْمَوْضِعُ الَّذِي هُوَ مُسْتَحَقٌّ مَشْغُولٌ بِجِذْعِهِ فِي يَدِهِ حَقِيقَةً بِاعْتِبَارِ الِاسْتِعْمَالِ وَقَدْ انْعَدَمَ دَلِيلُ الِاسْتِعْمَالِ فِي الْبَاقِي فَيَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْمِلْكُ فِيمَا تَحْتَ خَشَبَتِهِ لِوُجُودِ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ لَهُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَصَارَ هَذَا كَالدَّارِ

الْوَاحِدَةِ إذَا كَانَ فِيهَا أَحَدَ عَشَرَ مَنْزِلًا : عَشَرَةُ مِنْهَا فِي يَدِ رَجُلٍ ، وَوَاحِدٌ فِي يَدِ رَجُلٍ ، وَتَنَازَعَا فِي الدَّارِ ، فَإِنَّهُ يَقْضِي لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا فِي يَدِهِ كَذَا هَاهُنَا ا هـ ( وَوَجْهُ الْأَوَّلِ ) أَيْ وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى وَهِيَ قَوْلُهُ فَهُوَ لِصَاحِبِ الثَّلَاثَةِ وَتَذْكِيرُ الْأَوَّلِ لِمِثْلِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الثَّانِي ( أَنَّ الْحَائِطَ يُبْنَى لِوَضْعِ كَثِيرِ الْجُذُوعِ دُونَ الْوَاحِدِ وَالْمُثَنَّى ) بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحَائِطَ يُبْنَى لِلتَّسْقِيفِ ، وَالتَّسْقِيفُ لَا يَحْصُلُ بِخَشَبَةٍ وَلَا بِخَشَبَتَيْنِ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ بِالْخَشَبَةِ وَالْخَشَبَتَيْنِ أُسْطُوَانَةٌ وَأُسْطُوَانَتَانِ ( فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِصَاحِبِ الْكَثِيرِ ، إلَّا أَنَّهُ يَبْقَى لَهُ حَقُّ الْوَضْعِ ) أَيْ يَبْقَى لِصَاحِبِ الْأَقَلِّ حَقُّ وَضْعِ جِذْعِهِ ( لِأَنَّ الظَّاهِرَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي اسْتِحْقَاقِ يَدِهِ ) يَعْنِي أَنَّ حُكْمَنَا بِالْحَائِطِ لِصَاحِبِ الْأَكْثَرِ بِالظَّاهِرِ ، وَهُوَ يَصْلُحُ حَجَّةً لِلدَّفْعِ دُونَ الِاسْتِحْقَاقِ فَلَا يَسْتَحِقُّ بِهِ صَاحِبُ الْأَكْثَرِ يَدَ صَاحِبِ الْأَقَلِّ حَتَّى يَرْفَعَ خَشَبَتَهُ الْمَوْضُوعَةَ ، وَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ الْحَائِطِ لِرَجُلٍ وَيَثْبُتُ لِلْآخَرِ حَقُّ الْوَضْعِ ، فَإِنَّ الْقِسْمَةَ لَوْ وَقَعَتْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَكَانَ جَائِزًا .
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ مَا اخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ جَعْلِ الْجِذْعَيْنِ كَجِذْعٍ وَاحِدٍ وَهُوَ قَوْلٌ لِبَعْضِ الْمَشَايِخِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ التَّسْقِيفَ بِهِمَا نَادِرٌ كَجِذْعٍ وَاحِدٍ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : الْخَشَبَتَانِ بِمَنْزِلَةِ الثَّلَاثِ لِإِمْكَانِ التَّسْقِيفِ بِهَا ، وَكَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا

( وَلَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا جُذُوعٌ وَالْآخَرُ اتِّصَالٌ فَالْأَوَّلُ أَوْلَى ) وَيُرْوَى الثَّانِي أَوْلَى .
وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ لِصَاحِبِ الْجُذُوعِ التَّصَرُّفَ وَلِصَاحِبِ الِاتِّصَالِ الْيَدُ وَالتَّصَرُّفُ أَقْوَى .
وَجْهُ الثَّانِي أَنَّ الْحَائِطَيْنِ بِالِاتِّصَالِ يَصِيرَانِ كَبِنَاءٍ وَاحِدٍ مِنْ ضَرُورَةِ الْقَضَاءِ لَهُ بِبَعْضِهِ الْقَضَاءُ بِكُلِّهِ ثُمَّ يَبْقَى لِلْآخَرِ حَقُّ وَضْعِ جُذُوعِهِ لِمَا قُلْنَا ، وَهَذِهِ رِوَايَةُ الطَّحَاوِيِّ وَصَحَّحَهَا الْجُرْجَانِيُّ .

( وَلَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا اتِّصَالٌ وَلِلْآخَرِ جُذُوعٌ ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ لِأَحَدِهِمَا جُذُوعٌ وَلِلْآخَرِ اتِّصَالٌ فَعَلَى الْأُولَى وَقَعَ فِي الدَّلِيلِ بِوَجْهِ الْأَوَّلِ ، وَعَلَى الثَّانِيَةِ وَقَعَ فِيهِ وَجْهُ الثَّانِي ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ .
وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : وَمَنْ يَحْذُو حَذْوَهُ مِنْ الشُّرَّاحِ مَا فِي النُّسْخَةِ الْأُولَى هُوَ الصَّحِيحُ لِيَكُونَ الدَّلِيلُ مُوَافِقًا لِلْمُدَّعِي ، وَمَا فِي الثَّانِيَةِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ الدَّلِيلَ لَا يُوَافِقُ ذَلِكَ التَّرْتِيبَ فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَصِلُوا إلَى نُسْخَةٍ وَقَعَ ذِكْرُ الدَّلِيلِ فِيهَا وَجْهُ الثَّانِي فَتَتَبَّعْ ( فَالْأَوَّلُ أَوْلَى ، وَيُرْوَى أَنَّ الثَّانِيَ أَوْلَى ، وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ لِصَاحِبِ الْجُذُوعِ التَّصَرُّفَ وَلِصَاحِبِ الِاتِّصَالِ الْيَدَ ، وَالتَّصَرُّفُ أَقْوَى ) لِأَنَّهُ مَقْصُودٌ بِالْيَدِ ، كَذَا فِي الْكَافِي ، وَلِأَنَّ التَّصَرُّفَ لَا يَكُونُ بِدُونِ الْيَدِ ، وَالْيَدَانِ إذَا تَعَارَضَا سَلِمَ التَّصَرُّفُ عَنْ الْمُعَارِضِ فَصَلُحَ مُرَجِّحًا ، كَذَا فِي شَرْحِ تَاجِ الشَّرِيعَةِ ، وَيُرَجِّحُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ ( وَجْهُ الْأَوَّلِ ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ : وَجْهُ الثَّانِي ( أَنَّ الْحَائِطَيْنِ بِالِاتِّصَالِ يَصِيرَانِ كَبِنَاءٍ وَاحِدٍ ، وَمِنْ ضَرُورَةِ الْقَضَاءِ لَهُ بِبَيْعِهِ الْقَضَاءُ بِكُلِّهِ ) أَقُولُ : يُرَدُّ عَلَيْهِ مَنْعُ قَوْلِهِ وَمِنْ ضَرُورَةِ الْقَضَاءِ لَهُ بِبَعْضِهِ الْقَضَاءُ لَهُ بِكُلِّهِ لِجَوَازِ أَنْ يَقْضِيَ بِبَعْضِ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ لِرَجُلٍ وَبِبَعْضِهِ الْآخَرِ لِرَجُلٍ آخَرَ ، وَإِمَّا بِالتَّجْزِئَةِ إنْ قِبَلَ الْقِسْمَةَ أَوْ بِالشُّيُوعِ إنْ لَمْ يَقْبَلْهَا ، كَيْفَ وَلَوْ أَثْبَتَ صَاحِبُ الْجُذُوعِ بِالْبَيِّنَةِ كَوْنَ الْحَائِطِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ مِلْكَهُ قُضِيَ لَهُ بِلَا شُبْهَةٍ مَعَ بَقَاءِ الْحَائِطِ الْآخَرِ فِي مِلْكِ صَاحِبِ الِاتِّصَالِ ، فَلَوْ تَمَّتْ تِلْكَ الضَّرُورَةُ لَمَا جَازَ هَذَا الْقَضَاءُ وَكَانَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ تَنَبَّهَ لِهَذَا وَقَصَدَ دَفْعَهُ فَعَلَّلَ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ وَمِنْ ضَرُورَةِ

الْقَضَاءِ لَهُ بِبَعْضِهِ الْقَضَاءُ بِكُلِّهِ بِقَوْلِهِ لِعَدَمِ الْقَائِلِ بِالِاشْتِرَاكِ .
وَلَكِنْ يُرَدُّ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِعَدَمِ الْقَائِلِ بِالِاشْتِرَاكِ وَعَدَمِ الْقَائِلِ بِهِ مِنْ الْمُتَنَازِعَيْنِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْجُذُوعِ قَائِلٌ بِهِ ، فَإِنَّهُ يَدَّعِي أَنَّ الْحَائِطَ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ لَهُ ، وَيَعْتَرِفُ بِأَنَّ الْحَائِطَ الْآخَرَ الْمُتَّصِلَ بِهِ لِصَاحِبِ الِاتِّصَالِ ، فَيَصِيرُ الْبِنَاءُ الْمُرَكَّبُ مِنْ هَذَيْنِ الْحَائِطَيْنِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا عِنْدَهُ ، وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ عَدَمَ الْقَائِلِ بِهِ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ فَهُوَ أَيْضًا مَمْنُوعٌ ، فَإِنَّ مَنْ يَقُولُ بِكَوْنِ الْحَائِطِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ لِصَاحِبِ الْجُذُوعِ عَلَى مَا هُوَ مُوجِبُ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ يَقُولُ بِكَوْنِ الْبِنَاءِ الْمُرَكَّبِ مِنْ هَذَا الْحَائِطِ الْمُتَّصِلِ بِهِ مُشْتَرَكًا بَيْنَ صَاحِبِ الْجُذُوعِ وَصَاحِبِ الِاتِّصَالِ قَطْعًا ( ثُمَّ يَبْقَى لِلْآخَرِ حَقُّ وَضْعِ جُذُوعِهِ ) أَيْ عَلَى رِوَايَةِ أَنَّ الْحَائِطَ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ لِصَاحِبِ الِاتِّصَالِ ( لِمَا قُلْنَا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ : لِأَنَّ الظَّاهِرَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي اسْتِحْقَاقِ يَدِهِ ، حَتَّى قَالُوا : لَوْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ أُمِرَ بِرَفْعِ الْجُذُوعِ لِكَوْنِ الْبَيِّنَةِ حُجَّةً مُطْلَقَةً صَالِحَةً لِلدَّفْعِ وَالِاسْتِحْقَاقِ ( وَهَذِهِ ) أَيْ رِوَايَةُ أَنَّ صَاحِبَ الِاتِّصَالِ أَوْلَى ( رِوَايَةُ الطَّحَاوِيِّ ) وَصَحَّحَهَا الْجُرْجَانِيُّ وَهُوَ الْفَقِيهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمُرْشِدُ ، وَرَجَّحَهَا بِالسَّبْقِ لِأَنَّ التَّرْبِيعَ يَكُونُ حَالَةَ الْبِنَاءِ وَهُوَ سَابِقٌ عَلَى وَضْعِ الْجُذُوعِ فَكَانَ يَدُهُ ثَابِتًا قَبْلَ وَضْعِ الْآخَرِ الْجُذُوعَ فَصَارَ نَظِيرَ سَبْقِ التَّارِيخِ ، كَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ فِي التَّبْيِينِ .
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الِاتِّصَالَ الَّذِي وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي تَرْجِيحِ صَاحِبِهِ عَلَى صَاحِبِ الْجُذُوعِ أَوْ عَلَى الْعَكْسِ هُوَ الِاتِّصَالُ الَّذِي وَقَعَ فِي أَحَدِ طَرَفَيْ الْحَائِطِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ ، وَأَمَّا إذَا وَقَعَ

اتِّصَالُ التَّرْبِيعِ فِي طَرَفَيْهِ فَصَاحِبُ الِاتِّصَالِ أَوْلَى ، وَعَلَى هَذَا عَامَّةُ الْمَشَايِخِ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ نَقْلًا عَنْ الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ .
وَقَالَ فِي الذَّخِيرَةِ : وَإِنْ كَانَ الِاتِّصَالُ فِي طَرْفٍ وَاحِدٍ ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَنَّ صَاحِبَ الِاتِّصَالِ أَوْلَى ، وَبِهِ أَخَذَ الطَّحَاوِيُّ وَالشَّيْخُ الْفَقِيهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمُرْشِدُ .
وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ أَنَّ صَاحِبَ الْجُذُوعِ أَوْلَى وَقَالَ فِيهَا قَبْلَ هَذَا : فَإِنْ كَانَ الِاتِّصَالُ فِي طَرَفَيْ الْحَائِطِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ فَصَاحِبُ الِاتِّصَالِ أَوْلَى بِهِ ، وَعَلَيْهِ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْأَمَالِي ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا

قَالَ : ( وَإِذَا كَانَتْ دَارٌ مِنْهَا فِي يَدِ رَجُلٍ عَشْرَةُ أَبْيَاتٍ وَفِي يَدِ آخَرَ بَيْتٌ فَالسَّاحَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ) لِاسْتِوَائِهِمَا فِي اسْتِعْمَالِهَا وَهُوَ الْمُرُورُ فِيهَا .

( قَالَ ) أَيْ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : ( وَإِذَا كَانَتْ دَارٌ مِنْهَا فِي يَدِ رَجُلٍ عَشْرَةُ أَبْيَاتٍ وَفِي يَدِ آخَرَ بَيْتٌ فَالسَّاحَةُ ) بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ ، وَهِيَ عَرْصَةٌ فِي الدَّارِ وَبَيْنَ يَدَيْهَا ، كَذَا فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ ( بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي اسْتِعْمَالِهِمَا ) أَيْ اسْتِعْمَالِ السَّاحَةِ ( وَهُوَ الْمُرُورُ فِيهَا ) وَوَضْعُ الْأَمْتِعَةِ وَصَبُّ الْوُضُوءِ وَكَسْرُ الْحَطَبِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ، فَلَمَّا كَانَا فِي ذَلِكَ سَوَاءً كَانَا فِي اسْتِحْقَاقِ السَّاحَةِ أَيْضًا سَوَاءً ، وَلَعَلَّ مُرُورَ صَاحِبِ الْقَلِيلِ أَكْثَرُ مِنْ مُرُورِ صَاحِبِ الْكَثِيرِ لِزَمَانَةِ صَاحِبِ الْكَثِيرِ وَكَوْنِ صَاحِبِ الْقَلِيلِ وَلَّاجًا خَرَّاجًا .
عَلَى أَنَّا نَقُولُ : التَّرْجِيحُ لَا يَقَعُ بِكَثْرَةِ مَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الْعِلَّةِ وَصَارَ هَذَا كَالطَّرِيقِ يَسْتَوِي فِيهِ صَاحِبُ الدَّارِ وَالْمَنْزِلِ وَالْبَيْتِ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمَا أَكْثَرَ مِنْ بَعْضٍ ، وَهَذَا لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ الْيَدِ كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ أَخْذًا مِنْ الْكَافِي ، وَطُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ مَا إذَا تَنَازَعَا فِي ثَوْبٍ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا جَمِيعُ الثَّوْبِ وَفِي يَدِ الْآخَرِ هُدْبُهُ حَيْثُ يُلْغَى صَاحِبُ الْهُدْبِ ، وَمَا إذَا تَنَازَعَا فِي مِقْدَارِ الشُّرْبِ حَيْثُ يُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ الْأَرَاضِيِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ حَيْثُ جُعِلَتْ السَّاحَةُ بَيْنَهُمَا مُشْتَرَكَةً .
أُجِيبُ بِأَنَّ الْهُدْبَ لَيْسَ بِثَوْبٍ لِكَوْنِ الثَّوْبِ اسْمًا لِلْمَنْسُوجِ فَكَانَ جَمِيعُ الْمُدَّعِي فِي يَدِ أَحَدِهِمَا وَالْآخَرُ كَالْأَجْنَبِيِّ عَنْهُ فَأُلْغِيَ وَالشُّرْبُ تَحْتَاجُ إلَيْهِ الْأَرَاضِي دُونَ الْأَرْبَابِ ، فَبِكَثْرَةِ الْأَرَاضِيِ كَثُرَ الِاحْتِيَاجُ إلَى الشُّرْبِ فَيُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى كَثْرَةِ حَقٍّ لَهُ فِيهِ ، وَأَمَّا فِي السَّاحَةِ فَالِاحْتِيَاجُ لِلْأَرْبَابِ وَهُمَا فِيهِ سَوَاءٌ ، فَاسْتَوَيَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ ، فَصَارَ هَذَا نَظِيرَ تَنَازُعِهِمَا فِي سَعَةِ الطَّرِيقِ وَضِيقِهِ حَيْثُ يُجْعَلُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ

عَرْضِ بَابِ الدَّارِ ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الْإِمَامُ الْمَحْبُوبِيُّ وَالْإِمَامُ التُّمُرْتَاشِيُّ ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ

قَالَ : ( وَإِذَا ادَّعَى رَجُلَانِ أَرْضًا ) يَعْنِي يَدَّعِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ( أَنَّهَا فِي يَدِهِ لَمْ يَقْضِ أَنَّهَا فِي يَدِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَتَّى يُقِيمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا فِي أَيْدِيهِمَا ) لِأَنَّ الْيَدَ فِيهَا غَيْرُ مُشَاهَدَةٍ لِتَعَذُّرِ إحْضَارِهَا وَمَا غَابَ عَنْ عِلْمِ الْقَاضِي فَالْبَيِّنَةُ تُثْبِتُهُ وَإِنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ جُعِلَتْ فِي يَدِهِ ) لِقِيَامِ الْحُجَّةِ لِأَنَّ الْيَدَ حَقٌّ مَقْصُودٌ ( وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ جُعِلَتْ فِي أَيْدِيهِمَا ) لِمَا بَيَّنَّا فَلَا يَسْتَحِقُّ لِأَحَدِهِمَا مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ ( وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا قَدْ لَبِنَ فِي الْأَرْضِ أَوْ بَنِي أَوْ حَفَرَ فَهِيَ فِي يَدِهِ ) لِوُجُودِ التَّصَرُّفِ وَالِاسْتِعْمَالِ فِيهَا .

( قَالَ ) أَيْ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ مِنْ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ( وَإِذَا ادَّعَى رَجُلَانِ أَرْضًا ، يَعْنِي يَدَّعِي كُلُّ وَاحِدِ مِنْهُمَا أَنَّهَا فِي يَدِهِ لَمْ يَقْضِ أَنَّهَا فِي يَدِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَتَّى يُقِيمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا فِي أَيْدِيهِمَا ) أَقُولُ : فِي عِبَارَةِ الْكِتَابِ هَاهُنَا مُسَامَحَةٌ ، وَكَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ : حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا فِي يَدِهِ ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِأَنَّهَا فِي يَدِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنَّمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إقَامَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا فِي يَدِهِ لَا عَلَى إقَامَتِهَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا فِي أَيْدِيهِمَا ، وَإِنَّمَا الْمُتَوَقِّفُ عَلَيْهَا الْقَضَاءُ بِأَنَّهَا فِي أَيْدِيهِمَا مَعًا كَمَا لَا يَخْفَى ، وَسَيَتَجَلَّى مِنْ التَّفْصِيلِ الْآتِي فِي الْكِتَابِ ، وَلَقَدْ أَحْسَنَ صَاحِبُ الْكَافِي هَاهُنَا حَيْثُ قَالَ : لَمْ يَقْضِ بِأَنَّهَا فِي يَدِ أَحَدِهِمَا إلَّا بِالْبَيِّنَةِ انْتَهَى .
فَإِنَّ هَذِهِ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ هَاهُنَا ( لِأَنَّ الْيَدَ فِيهَا ) أَيْ فِي الْأَرْضِ ( غَيْرُ مُشَاهَدَةٍ لِتَعَذُّرِ إحْضَارِهَا ) فَقَدْ غَابَ مِنْ عِلْمِ الْقَاضِي ( وَمَا غَابَ عَنْ عِلْمِ الْقَاضِي ) أَيْ وَاَلَّذِي غَابَ عَنْ عِلْمِهِ ( فَالْبَيِّنَةُ تُثْبِتُهُ ) فَلَا بُدَّ مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ حَتَّى يُمْكِنَ الْقَضَاءُ بِهِ ، وَلِأَنَّهُ جَازَ أَنْ تَكُونَ فِي يَدِ غَيْرِهِمَا ؛ وَلَوْ قَضَى لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا بِالْيَدِ لَأَبْطَلَ حَقَّ صَاحِبِ الْيَدِ بِلَا حُجَّةٍ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ ، كَذَا فِي الْكَافِي .
قَالَ فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ هَاهُنَا مَسْأَلَةٌ غَفَلَ عَنْهَا الْقُضَاةُ ، وَهِيَ أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى أَرْضًا وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَزْعُم أَنَّهَا فِي يَدِهِ وَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ فَالْقَاضِي لَا يَقْضِي بِبَيِّنَتِهِ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ فِي يَدِ ثَالِثٍ وَالْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ تَوَاضَعَا عَلَى ذَلِكَ ، وَهَذِهِ حِيلَةٌ لِيَجْعَلَهَا الْقَاضِي فِي يَدِ أَحَدِهِمَا ، فَمَا لَمْ يَثْبُتُ كَوْنُ الْأَرْضِ فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ

بِالْبَيِّنَةِ لَا يَقْضِي ، إلَّا أَنَّهُ يَمْنَعُ الْمُقِرَّ مِنْ أَنْ يُزَاحِمَ الْمُقِرَّ لَهُ فِيهَا لِأَنَّ إقْرَارَهُ حُجَّةٌ فِي حَقِّهِ كَذَا فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ ( وَإِنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ ) أَيْ عَلَى أَنَّهَا فِي يَدِهِ ( جُعِلَتْ فِي يَدِهِ لِقِيَامِ الْحُجَّةِ ) وَيُجْعَلُ الْآخَرُ خَارِجًا ، كَذَا فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : الْبَيِّنَةُ تُقَامُ عَلَى الْخَصْمِ ، وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهَا فِي يَدِ الْآخَرِ لَا يَكُونُ خَصْمًا فَكَيْفَ يَقْضِي لِلَّذِي أَقَامَ الْبَيِّنَةَ ؟ قُلْنَا : هُوَ خَصْمٌ بِاعْتِبَارِ مُنَازَعَتِهِ فِي الْيَدِ ، وَمَنْ كَانَ خَصْمًا لِغَيْرِهِ بِاعْتِبَارِ مُنَازَعَتِهِ فِي شَيْءٍ شَرْعًا كَانَتْ بَيِّنَتُهُ مَقْبُولَةً ، كَذَا فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَقَدْ أَشَارَ إلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : ( لِأَنَّ الْيَدَ حَقٌّ مَقْصُودٌ ) يَعْنِي فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُدَّعِيهِ خَصْمًا انْتَهَى ( وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ ) أَيْ عَلَى أَنَّهَا فِي أَيْدِيهِمَا ( جُعِلَتْ فِي أَيْدِيهِمَا لِمَا بَيَّنَّا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِقِيَامِ الْحُجَّةِ .
وَذَكَرَ الْإِمَامُ التُّمُرْتَاشِيُّ : فَإِنْ طَلَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمِينَ صَاحِبِهِ مَا هِيَ فِي يَدِهِ حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا هِيَ فِي يَدِ صَاحِبِهِ عَلَى الْبَتَاتِ ، فَإِنْ حَلَفَا لَمْ يَقْضِ لَهُمَا بِالْيَدِ وَبَرِئَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ دَعْوَى صَاحِبِهِ وَتُوقَفُ الدَّارُ إلَى أَنْ تَظْهَرَ حَقِيقَةُ الْحَالِ ، وَإِنْ نَكَلَا قُضِيَ لِكُلِّ وَاحِدٍ بِالنِّصْفِ الَّذِي فِي يَدِ صَاحِبِهِ ، وَإِنْ نَكَلَ أَحَدُهُمَا قُضِيَ عَلَيْهِ بِكُلِّهَا ، لِلْحَالِفِ نِصْفُهَا الَّذِي كَانَ فِي يَدِهِ وَنِصْفُهَا الَّذِي كَانَ بِيَدِ صَاحِبِهِ لِنُكُولِهِ ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ ( فَلَا تُسْتَحَقُّ ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ : أَيْ فَلَا تُسْتَحَقُّ الْيَدُ ( لِأَحَدِهِمَا مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : لَا يَخْفَى عَلَيْك هَذَا الْكَلَامُ فِي غَيْرِ مَحِلِّهِ ا هـ .
أَقُولُ : إنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ لَوْ كَانَ مُتَفَرِّعًا عَلَى قَوْلِهِ وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ

إلَخْ ، إذْ لَا ارْتِبَاطَ بَيْنَهُمَا ، أَوْ عَلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ الْيَدَ حَقٌّ مَقْصُودٌ إذْ يَلْزَمُ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا بِأَجْنَبِيٍّ .
وَأَمَّا إذَا كَانَ مُتَفَرِّعًا عَلَى مَجْمُوعِ مَا ذَكَرَ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ مِنْ قَوْلِهِ : وَإِذَا ادَّعَى الرَّجُلَانِ أَرْضًا إلَى هُنَا بِأَنْ كَانَ فَذْلَكَةَ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ فَقَدْ كَانَ فِي مَحِلِّهِ كَمَا لَا يَخْفَى ( فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا قَدْ لَبِنَ فِي الْأَرْضِ أَوْ بَنَى أَوْ حَفَرَ ) يَعْنِي إذَا ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَرْضًا صَحْرَاءَ أَنَّهَا فِي يَدِهِ وَأَحَدُهُمَا لَبِنَ فِيهَا أَوْ بَنَى أَوْ حَفَرَ ( فَهِيَ فِي يَدِهِ لِوُجُودِ التَّصَرُّفِ وَالِاسْتِعْمَالِ ) وَمِنْ ضَرُورَةِ ذَلِكَ إثْبَاتُ الْيَدِ كَالرُّكُوبِ عَلَى الدَّوَابِّ وَاللُّبْسِ فِي الثِّيَابِ ، كَذَا ذَكَرَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ .

( بَابُ دَعْوَى النَّسَبِ ) ( وَإِذَا بَاعَ جَارِيَةً فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ ) فَادَّعَاهُ الْبَائِعُ فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ بَاعَ فَهُوَ ابْنٌ لِلْبَائِعِ وَأُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ ( وَفِي الْقِيَاسِ هُوَ قَوْلُ زُفَرٍ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ دَعْوَتُهُ بَاطِلَةٌ ) لِأَنَّ الْبَيْعَ اعْتِرَافٌ مِنْهُ بِأَنَّهُ عَبْدٌ فَكَانَ فِي دَعْوَاهُ مُنَاقِضًا وَلَا نَسَبَ بِدُونِ الدَّعْوَى .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ اتِّصَالَ الْعُلُوقِ بِمِلْكِهِ شَهَادَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى كَوْنِهِ مِنْهُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ عَدَمُ الزِّنَا .
وَمَبْنَى النَّسَبِ عَلَى الْخَفَاءِ فَيُعْفَى فِيهِ التَّنَاقُضُ ، وَإِذَا صَحَّتْ الدَّعْوَى اسْتَنَدَتْ إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ بَاعَ أُمَّ وَلَدِهِ فَيُفْسَخُ الْبَيْعُ لِأَنَّ بَيْعَ أُمِّ الْوَلَدِ لَا يَجُوزُ ( وَيُرَدُّ الثَّمَنُ ) لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ ( وَإِنْ ادَّعَاهُ الْمُشْتَرِي مَعَ دَعْوَةِ الْبَائِعِ أَوْ بَعْدَهُ فَدَعْوَةُ الْبَائِعِ أَوْلَى ) لِأَنَّهَا أَسْبَقُ لِاسْتِنَادِهَا إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ وَهَذِهِ دَعْوَةُ اسْتِيلَادٍ ( وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الْبَيْعِ لَمْ تَصِحَّ دَعْوَةُ الْبَائِعِ ) لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ اتِّصَالُ الْعُلُوقِ بِمِلْكِهِ تَيَقُّنًا وَهُوَ الشَّاهِدُ وَالْحُجَّةُ ( إلَّا إذَا صَدَّقَهُ الْمُشْتَرِي ) فَيَثْبُتُ النَّسَبُ وَيُحْمَلُ عَلَى الِاسْتِيلَادِ بِالنِّكَاحِ ، وَلَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا أَنَّ الْعُلُوقَ لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ فَلَا يُثْبِتُ حَقِيقَةَ الْعِتْقِ وَلَا حَقَّهُ ، وَهَذِهِ دَعْوَةُ تَحْرِيرٍ وَغَيْرُ الْمَالِكِ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ .
( وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْبَيْعِ وَلِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ لَمْ تُقْبَلْ دَعْوَةُ الْبَائِعِ فِيهِ إلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ الْمُشْتَرِي ) لِأَنَّهُ احْتَمَلَ أَنْ لَا يَكُونَ الْعُلُوقُ فِي مِلْكِهِ فَلَمْ تُوجَدْ الْحُجَّةُ فَلَا بُدَّ مِنْ تَصْدِيقِهِ ، وَإِذَا صَدَّقَهُ يَثْبُتُ النَّسَبُ وَيَبْطُلُ الْبَيْعُ وَالْوَلَدُ حُرٌّ وَالْأُمُّ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ كَمَا

فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لِتَصَادُقِهِمَا وَاحْتِمَالِ الْعُلُوقِ فِي الْمِلْكِ

بَابُ دَعْوَى النَّسَبِ ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ دَعْوَى الْأَمْوَالِ شَرَعَ فِي بَيَانِ دَعْوَى النَّسَبِ ، وَقَدَّمَ الْأَوَّلَ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ وُقُوعًا فَكَانَ أَهَمَّ ذِكْرًا ( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( وَإِذَا بَاعَ جَارِيَةً بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ الْبَائِعُ ) اعْلَمْ أَنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ قَصَدَ بَيَانَ ضَابِطَةِ جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي ابْتِدَاءِ الْكَلَامِ فَقَالَ أَخْذًا مِنْ غَايَةِ الْبَيَانِ : اعْلَمْ أَنَّ الْبَائِعَ إذَا ادَّعَى وَلَدَ الْجَارِيَةِ الْمَبِيعَةِ أَوْ الْمُشْتَرِي ، فَإِمَّا إنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْبَيْعِ أَوْ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ أَوْ لِمَا بَيْنَ الْمُدَّتَيْنِ .
وَكُلُّ وَجْهٍ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : إمَّا إنْ ادَّعَى الْبَائِعُ وَحْدَهُ أَوْ الْمُشْتَرِي وَحْدَهُ أَوْ ادَّعَيَاهُ مَعًا أَوْ عَلَى التَّعَاقُبِ انْتَهَى .
أَقُولُ : يُرَى فِيهِ اخْتِلَالٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : الْأَوَّلُ أَنَّهُ قَسَّمَ ادِّعَاءَ الْبَائِعِ أَوْ الْمُشْتَرِي وَلَدَ الْجَارِيَةِ الْمَبِيعَةِ إلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ ، وَهِيَ : إنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْبَيْعِ ، أَوْ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ ، أَوْ لِمَا بَيْنَ الْمُدَّتَيْنِ .
وَقَسَّمَ كُلُّ وَجْهٍ مِنْهَا إلَى أَرْبَعَةِ وُجُوهٍ وَهِيَ : إذَا ادَّعَى الْبَائِعُ وَحْدَهُ أَوْ الْمُشْتَرِي وَحْدَهُ أَوْ ادَّعَيَا مَعًا ، أَوْ عَلَى التَّعَاقُبِ ، فَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ قُسِّمَ قَسِيمَةً حَيْثُ جُعِلَ ادِّعَاءُ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي مُقَسَّمًا ثُمَّ جَعَلَهُ قِسْمًا وَاحِدًا مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَقْسَامِهِ الْأَرْبَعَةِ .
وَالثَّانِي أَنَّ كَلِمَةَ أَوْ الدَّاخِلَةِ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي قَوْلِهِ إنَّ الْبَائِعَ إذَا ادَّعَى وَلَدَ الْجَارِيَةِ الْمَبِيعَةِ أَوْ الْمُشْتَرِي تَأَبَّى دُخُولَ ادِّعَائِهِمَا مَعًا أَوْ عَلَى التَّعَاقُبِ فِي الْمُقَسَّمِ فَكَيْفَ يُجْعَلُ هَذَانِ الْوَجْهَانِ دَاخِلَيْنِ فِي أَقْسَامِ أَقْسَامِهِ ؟ وَيُمْكِنُ أَنْ يَتَحَمَّلَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْمُقَسَّمَ ادِّعَاءُ الْبَائِعِ أَوْ الْمُشْتَرِي مُطْلَقًا : أَيْ

أَعَمُّ مِنْ ادِّعَاءِ أَحَدِهِمَا مُنْفَرِدًا وَمِنْ ادِّعَائِهِ مُنْضَمًّا إلَى الْآخَرِ بِالْمَعِيَّةِ أَوْ التَّعَاقُبِ ، وَقَسْمُ الْقِسْمِ هُوَ ادِّعَاءُ أَحَدِهِمَا وَحْدَهُ أَوْ ادِّعَاؤُهُمَا مَعًا أَوْ عَلَى التَّعَاقُبِ ، فَيَكُونُ قَسْمُ الْقِسْمِ أَخَصَّ مِنْ الْمُقَسَّمِ لَا عَيْنَهُ .
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنْ تُحْمَلَ كَلِمَةُ أَوْ الْمَذْكُورَةِ عَلَى مَنْعِ الْخُلُوِّ دُونَ مَنْعِ الْجَمْعِ .
وَالْأَوْلَى عِنْدِي فِي بَيَانِ الضَّابِطَةِ هَاهُنَا أَنْ يُقَالَ : اعْلَمْ أَنَّ الْجَارِيَةَ إذَا بِيعَتْ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ ، فَأَمَّا إنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْبَيْعِ أَوْ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ أَوْ لِمَا بَيْنَ الْمُدَّتَيْنِ ، وَكُلُّ وَجْهٍ مِنْ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ ، أَمَّا إنْ ادَّعَى ذَلِكَ الْوَلَدَ الْبَائِعُ وَحْدَهُ أَوْ الْمُشْتَرِي وَحْدَهُ أَوْ ادَّعَيَاهُ مَعًا أَوْ عَلَى التَّعَاقُبِ ( فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ بَاعَ ) وَقَدْ ادَّعَاهُ الْبَائِعُ وَحْدَهُ كَمَا مَرَّ فِي الْكِتَابِ ( فَهُوَ ) أَيْ الْوَلَدُ ( ابْنُ الْبَائِعِ وَأُمُّهُ ) أَيْ أُمُّ الْوَلَدِ ( أُمُّ وَلَدٍ لَهُ ) أَيْ الْبَائِعِ ( وَفِي الْقِيَاسِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ دَعْوَتُهُ ) أَيْ دَعْوَةُ الْبَائِعِ ( بَاطِلَةٌ لِأَنَّ الْبَيْعَ اعْتِرَافٌ مِنْهُ ) أَيْ مِنْ الْبَائِعِ ( بِأَنَّهُ ) أَيْ الْوَلَدَ ( عَبْدٌ وَكَانَ ) أَيْ الْبَائِعُ ( فِي دَعْوَاهُ مُنَاقِضًا ) وَالتَّنَاقُضُ يُبْطِلُ الدَّعْوَى فَلَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ ، كَمَا لَوْ قَالَ كُنْت : أَعْتَقْتُهَا أَوْ أَدْبَرْتُهَا قَبْلَ أَنْ أَبِيعَهَا ( وَلَا نَسَبَ بِدُونِ الدَّعْوَى ) أَيْ وَلَا ثُبُوتَ لِلنَّسَبِ بِدُونِ الدَّعْوَى الصَّحِيحَةِ ( وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ ) أَيْ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ الَّذِي نَعْمَلُ بِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ( أَنَّ اتِّصَالَ الْعُلُوقِ بِمِلْكِهِ شَهَادَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى كَوْنِهِ مِنْهُ ) يَعْنِي أَنَّا تَيَقَّنَّا بِاتِّصَالِ الْعُلُوقِ بِمِلْكِ الْبَائِعِ ، وَهَذَا شَهَادَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى كَوْنِ الْوَلَدِ مِنْ الْبَائِعِ ( لِأَنَّ الظَّاهِرَ عَدَمُ

الزِّنَا ) فَنَزَلَ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ الْبَيِّنَةِ فِي إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ عَنْهَا وَعَنْ وَلَدِهَا ( وَمَبْنَى النَّسَبِ عَلَى الْخَفَاءِ ) هَذَا جَوَابٌ عَنْ التَّنَاقُضِ .
وَبَيَانُهُ أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ لَا يَعْلَمُ ابْتِدَاءً بِكَوْنِ الْعُلُوقِ مِنْهُ ثُمَّ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ مِنْهُ ( فَيُعْفَى فِيهِ التَّنَاقُضُ ) أَيْ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الدَّعْوَى ؛ كَمَا أَنَّ الزَّوْجَ إذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِنَفْيِ النَّسَبِ بِاللِّعَانِ يَثْبُتُ مِنْهُ النَّسَبُ وَيَبْطُلُ حُكْمُ الْحَاكِمِ وَلَا يُنْظَرُ إلَى التَّنَاقُضِ لِمَكَانِ الْخَفَاءِ فِي أَمْرِ الْعُلُوقِ ، وَصَارَ كَالْمُكَاتَبِ إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ مَوْلَاهُ كَانَ أَعْتَقَهُ قَبْلَ الْكِتَابَةِ فَإِنَّهُ تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ وَتَبْطُلُ الْكِتَابَةُ ، وَلَا يُعْتَبَرُ التَّنَاقُضُ لِخَفَاءِ الْإِعْتَاقِ حَيْثُ يَنْفَرِدُ الْمَوْلَى بِهِ ، وَكَالْمُخْتَلِعَةِ إذَا أَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الزَّوْجَ كَانَ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ الْخُلْعِ فَإِنَّ بَيِّنَتَهَا تُقْبَلُ مَعَ التَّنَاقُضِ لِخَفَاءِ الطَّلَاقِ حَيْثُ يَنْفَرِدُ الزَّوْجُ بِهِ ، بِخِلَافِ دَعْوَى الْبَائِعِ الْإِعْتَاقَ أَوْ التَّدْبِيرَ بَعْدَ الْبَيْعِ ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْإِعْتَاقِ وَالتَّدْبِيرِ فِعْلُ نَفْسِهِ وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ ، كَذَا حَقَّقُوا ( وَإِذَا صَحَّتْ الدَّعْوَى اسْتَنَدَتْ إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ بَاعَ أُمَّ وَلَدِهِ فَفُسِخَ الْبَيْعُ لِأَنَّ بَيْعَ أُمِّ الْوَلَدِ لَا يَجُوزُ ، وَيَرُدُّ الثَّمَنَ ) أَيْ إنْ كَانَ مُنْفَرِدًا ( لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ ) فَإِنَّ سَلَامَةَ الثَّمَنِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى سَلَامَةِ الْمَبِيعِ ، كَذَا فِي الْكَافِي ، وَإِنْ ادَّعَاهُ الْمُشْتَرِي وَحْدَهُ صَحَّتْ دَعْوَتُهُ وَثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ لِأَنَّ دَعْوَتَهُ دَعْوَةُ تَحْرِيرٍ وَالْمُشْتَرِي يَصِحُّ مِنْهُ التَّحْرِيرُ ، فَكَذَا دَعْوَتُهُ لِحَاجَةِ الْوَلَدِ إلَى النَّسَبِ وَإِلَى الْحُرِّيَّةِ ، وَتَثْبُتُ لَهَا أُمِّيَّةُ الْوَلَدِ بِإِقْرَارِهِ ، ثُمَّ لَا يَصِحُّ مِنْ الْبَائِعِ دَعْوَتُهُ لِأَنَّ الْوَلَدَ قَدْ اسْتَغْنَى عَنْ النَّسَبِ

لَمَّا ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْ الْمُشْتَرِي ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا .
أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : صِحَّةُ التَّحْرِيرِ مِنْ الْمُشْتَرِي ظَاهِرَةٌ ؛ لِأَنَّ الْجَارِيَةَ مَمْلُوكَتُهُ فِي الْحَالِ فَيَمْلِكُ إعْتَاقَهَا وَإِعْتَاقَ وَلَدِهَا كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا .
وَأَمَّا صِحَّةُ دَعْوَتِهِ لِحَاجَةِ الْوَلَدِ إلَى النَّسَبِ فَمُشْكِلَةٌ بِمَا مَرَّ فِي وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ مِنْ أَنَّا تَيَقَّنَّا بِاتِّصَالِ الْعُلُوقِ بِمِلْكِ الْبَائِعِ ، وَهَذَا شَهَادَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى كَوْنِ الْوَلَدِ مِنْ الْبَائِعِ ، فَإِنَّ مُجَرَّدَ حَاجَةِ الْوَلَدِ إلَى النَّسَبِ كَيْفَ يُفِيدُ ثُبُوتَ النَّسَبِ مِنْ الْمُشْتَرِي عِنْدَ تَحَقُّقِ الشَّهَادَةِ الظَّاهِرَةِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ بِأَنَّ تَيَقَّنَّا بِاتِّصَالِ الْعُلُوقِ بِمِلْكِ الْبَائِعِ إنَّمَا يَكُونُ شَهَادَةً ظَاهِرَةً عَلَى كَوْنِ الْوَلَدِ مِنْ الْبَائِعِ إذَا ادَّعَاهُ الْبَائِعُ .
وَأَمَّا إذَا لَمْ يَدَّعِيهِ الْبَائِعُ فَلَا يَجُوزُ الْوَلَدُ مِنْ غَيْرِهِ بِالنِّكَاحِ ، فَإِذَا ادَّعَاهُ الْمُشْتَرِي وَحْدَهُ يُحْمَلْ عَلَى كَوْنِهِ مِنْهُ بِالنِّكَاحِ قَبْلَ الِاشْتِرَاءِ لِحَاجَةِ الْوَلَدِ إلَى النَّسَبِ فَصَارَتْ عِلَّةُ صِحَّةِ دَعْوَةِ الْمُشْتَرِي وَثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ حَاجَةَ الْوَلَدِ إلَى النَّسَبِ مَعَ إمْكَانِ كَوْنِهِ مِنْهُ بِالنِّكَاحِ قَبْلَ الِاشْتِرَاءِ ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا ذَكَرَهُ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ فِي شَرْحِ الْوِقَايَةِ حَيْثُ قَالَ : لَوْ ادَّعَى الْمُشْتَرِي قَبْلَ دَعْوَةِ الْبَائِعِ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْ الْمُشْتَرِي وَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ نَكَحَهَا وَاسْتَوْلَدَهَا ثُمَّ اشْتَرَاهَا انْتَهَى .
( وَإِنْ ادَّعَاهُ الْمُشْتَرِي مَعَ دَعْوَةِ الْبَائِعِ أَوْ بَعْدَهُ ) أَيْ بَعْدَ دَعْوَةِ الْبَائِعِ ذَكَرَ الضَّمِيرَ بِتَأْوِيلِ الِادِّعَاءِ ( فَدَعْوَةُ الْبَائِعِ أَوْلَى لِأَنَّهَا أَسْبَقُ ) أَمَّا إذَا كَانَتْ قَبْلَ دَعْوَةِ الْمُشْتَرِي فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ ، وَأَمَّا إذَا كَانَتْ بَعْدَ دَعْوَةِ الْمُشْتَرِي فَلِمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ : (

لِاسْتِنَادِهَا إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ وَهَذِهِ دَعْوَةُ اسْتِيلَادٍ ) يَعْنِي أَنَّ دَعْوَةَ الْبَائِعِ مُسْتَنِدَةٌ إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ لِأَنَّهَا دَعْوَةُ اسْتِيلَادٍ ، وَدَعْوَةُ الْمُشْتَرِي مُقْتَصِرَةٌ عَلَى الْحَالِ لِأَنَّهَا دَعْوَةُ تَحْرِيرٍ فَكَانَتْ دَعْوَةُ الْبَائِعِ سَابِقَةً مَعْنًى فَكَانَتْ أَوْلَى ، ثُمَّ إنَّهُ ضَمَّنَ قَوْلَهُ : وَهَذِهِ دَعْوَةُ اسْتِيلَادِ الْجَوَابِ عَنْ دَخْلٍ مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ كَيْفَ تَصِحُّ دَعْوَةُ الْبَائِعِ وَهُوَ غَيْرُ مَالِكٍ فِي الْحَالِ .
وَجْهُ الْجَوَابِ أَنَّ دَعْوَتَهُ دَعْوَةُ اسْتِيلَادٍ وَهِيَ لَا تَفْتَقِرُ إلَى قِيَامِ الْمِلْكِ فِي الْحَالِ لِأَنَّهَا تَسْتَنِدُ إلَى زَمَانِ الْمِلْكِ ، بِخِلَافِ دَعْوَةِ التَّحْرِيرِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ ( وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الْبَيْعِ لَمْ تَصِحَّ دَعْوَةُ الْبَائِعِ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ اتِّصَالُ الْعُلُوقِ بِمِلْكِهِ تَيَقُّنًا وَهُوَ الشَّاهِدُ وَالْحُجَّةُ ) يَعْنِي أَنَّ الشَّاهِدَ عَلَى كَوْنِ الْوَلَدِ مِنْهُ إنَّمَا هُوَ اتِّصَالُ الْعُلُوقِ بِمِلْكِهِ تَيَقُّنًا وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ هَاهُنَا فَلَمْ تَصِحَّ دَعْوَتُهُ ( إلَّا إذَا صَدَّقَهُ الْمُشْتَرِي فَيَثْبُتُ النَّسَبُ وَيُحْمَلُ عَلَى الِاسْتِيلَادِ بِالنِّكَاحِ ) حَمْلًا لِأَمْرِهِ عَلَى الصَّلَاحِ ، وَقَوْلُ الْمُشْتَرِي عَلَى الصِّدْقِ ( وَلَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا أَنَّ الْعُلُوقَ لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ فَلَا يُثْبِتُ حَقِيقَةَ الْعِتْقِ ) أَيْ لِلْوَلَدِ ( وَلَا حَقَّهُ ) أَيْ وَلَا يُثْبِتُ حَقَّ الْعِتْقِ وَهُوَ أُمُومِيَّةُ الْوَلَدِ لِلْأُمِّ فَيَبْقَى الْوَلَدُ عَبْدًا لِلْمُشْتَرِي وَلَا تَصِيرُ الْأُمُّ أُمَّ وَلَدِ الْبَائِعِ كَمَا إذَا ادَّعَاهُ أَجْنَبِيٌّ آخَرُ ، كَذَا فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ ( وَهَذِهِ ) أَيْ دَعْوَةُ الْبَائِعِ هَاهُنَا ( دَعْوَةُ تَحْرِيرٍ وَغَيْرُ الْمَالِكِ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ ) أَيْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّحْرِيرِ وَالْبَائِعُ لَيْسَ بِمَالِكٍ فَلَا تَصِحُّ دَعْوَةُ التَّحْرِيرِ مِنْهُ .
اعْلَمْ أَنَّ الدَّعْوَةَ نَوْعَانِ : دَعْوَةُ اسْتِيلَادٍ وَدَعْوَةُ تَحْرِيرٍ ؛ فَدَعْوَةُ الِاسْتِيلَادِ

هِيَ أَنْ يَكُونَ عُلُوقُ الْمُدَّعَى فِي مِلْكِ الْمُدَّعِي وَهَذِهِ الدَّعْوَةُ تَسْتَنِدُ إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ وَتَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارَ بِالْوَطْءِ فَيَتَبَيَّنُ أَنَّهُ عَلِقَ حُرًّا ، وَدَعْوَةُ التَّحْرِيرِ أَنْ يَكُونَ عُلُوقُ الْمُدَّعَى فِي غَيْرِ مِلْكِ الْمُدَّعِي وَهَذِهِ الدَّعْوَةُ تَقْتَصِرُ عَلَى الْحَالِ وَلَا تَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارَ بِالْوَطْءِ لِعَدَمِ تَصَوُّرِ الِاسْتِيلَادِ لِعَدَمِ الْمِلْكِ وَقْتَ الْعُلُوقِ ، كَذَا فِي الْبَدَائِعِ .
وَإِنْ ادَّعَاهُ الْمُشْتَرِي وَحْدَهُ فِي هَذَا الْوَجْهِ صَحَّتْ دَعْوَتُهُ ، وَإِنْ ادَّعَيَاهُ مَعًا أَوْ مُتَعَاقِبًا صَحَّ دَعْوَةُ الْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ لِأَنَّهُ كَالْأَجْنَبِيِّ ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا ( وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْبَيْعِ وَلِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ لَمْ تُقْبَلْ دَعْوَةُ الْبَائِعِ فِيهِ ) أَيْ فِي هَذَا الْوَجْهِ ( إلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ احْتَمَلَ أَنْ لَا يَكُونَ الْعُلُوقُ فِي مِلْكِهِ ) أَيْ فِي مِلْكِ الْبَائِعِ ( فَلَمْ تُوجَدْ الْحُجَّةُ ) وَهِيَ اتِّصَالُ الْعُلُوقِ بِمِلْكِهِ تَيَقُّنًا ( فَلَا بُدَّ مِنْ تَصْدِيقِهِ ) أَيْ مِنْ تَصْدِيقِ الْمُشْتَرِي إيَّاهُ ( وَإِذَا صَدَّقَهُ يَثْبُتُ النَّسَبُ وَيَبْطُلُ الْبَيْعُ وَالْوَلَدُ حُرٌّ .
وَالْأُمُّ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى ) وَهِيَ إنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ بَاعَ ( لِتَصَادُقِهِمَا وَاحْتِمَالِ الْعُلُوقِ فِي الْمِلْكِ ) وَإِنْ ادَّعَاهُ الْمُشْتَرِي وَحْدَهُ فِي هَذَا الْوَجْهِ صَحَّتْ دَعْوَتُهُ لِأَنَّ دَعْوَتَهُ صَحِيحَةٌ حَالَةَ الِانْفِرَادِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْعُلُوقَ فِي مِلْكِهِ فَفِيمَا يَحْتَمِلُهُ أَوْلَى ، وَتَكُونُ دَعْوَتُهُ دَعْوَةَ اسْتِيلَاءٍ حَتَّى يَكُونَ الْوَلَدُ حُرَّ الْأَصْلِ وَلَا يَكُونُ لَهُ وَلَاءٌ عَلَى الْوَلَدِ لِأَنَّ الْعُلُوقَ فِي مِلْكِهِ مُمْكِنٌ ، وَإِنْ ادَّعَيَاهُ مَعًا أَوْ مُتَعَاقِبًا فَالْمُشْتَرِي أَوْلَى لِأَنَّ الْبَائِعَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَالْأَجْنَبِيِّ ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَ لَهُ إذَا كَانَتْ مُدَّةُ الْوِلَادَةِ

بَعْدَ الْبَيْعِ مَعْلُومَةً .
أَمَّا إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا جَاءَتْ بِالْوَلَدِ لِأَقَلَّ مِنْ أَقَلِّ مُدَّةٍ الْحَمْلِ أَوْ لِأَكْثَرَ مِنْ أَكْثَرِهَا أَوْ لِمَا بَيْنَهُمَا فَالْمَسْأَلَةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ أَيْضًا : فَإِنْ ادَّعَاهُ الْبَائِعُ وَحْدَهُ لَا تَصِحُّ دَعْوَتُهُ إلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ الْمُشْتَرِي لِعَدَمِ تَيَقُّنِ الْعُلُوقِ فِي مِلْكِهِ ، وَإِنْ ادَّعَاهُ الْمُشْتَرِي وَحْدَهُ صَحَّتْ دَعْوَتُهُ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِي الْبَابِ كَوْنُ الْعُلُوقِ فِي مِلْكِ الْبَائِعِ بِأَنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ، وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَمْنَعُ دَعْوَةَ الْمُشْتَرِي .
وَإِنْ ادَّعَيَاهُ مَعًا لَمْ تَصِحَّ دَعْوَةُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَيَكُونُ الْوَلَدُ عَبْدًا لِلْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهَا إنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلِّ الْمُدَّةِ كَانَ النَّسَبُ لِلْبَائِعِ ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ أَقَلِّ الْمُدَّةِ كَانَ النَّسَبُ لِلْمُشْتَرِي فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي ثُبُوتِهِ فَلَا يَثْبُتُ .
وَإِنْ ادَّعَيَاهُ مُتَعَاقِبًا ، فَإِنْ سَبَقَ الْمُشْتَرِي صَحَّتْ دَعْوَتُهُ ، وَإِنْ سَبَقَ الْبَائِعُ لَمْ تَصِحَّ دَعْوَةُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِوُقُوعِ الشَّكِّ فِي ثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، كَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ نَقْلًا عَنْ مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ .
قَالَ فِي الْكَافِي : وَلَوْ تَنَازَعَا فَالْبَيِّنَةُ لِلْمُشْتَرِي ، أَيْ إذَا بَاعَ أُمَّهُ فَوَلَدَتْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَقَالَ الْبَائِعُ : بِعْتُهَا مِنْك مُنْذُ شَهْرٍ وَالْوَلَدُ مِنِّي وَقَالَ الْمُشْتَرِي : بِعْتُهَا مِنِّي لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَالْوَلَدُ لَيْسَ مِنْك فَالْقَوْلُ لِلْمُشْتَرِي بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ يَدَّعِي انْتِقَاضَ الْبَيْعِ وَالْمُشْتَرِي يُنْكِرُ ، فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ لِلْمُشْتَرِي أَيْضًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ زِيَادَةَ مُدَّةٍ فِي الشِّرَاءِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْبَيِّنَةُ لِلْبَائِعِ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ نَسَبَ الْوَلَدِ وَاسْتِيلَادَ الْأَمَةِ وَانْتِقَاضَ الْبَيْعِ فَكَانَ أَكْثَرَ إثْبَاتًا انْتَهَى .

( فَإِنْ مَاتَ الْوَلَدُ فَادَّعَاهُ الْبَائِعُ وَقَدْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَثْبُتْ الِاسْتِيلَادُ فِي الْأُمِّ ) لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِلْوَلَدِ وَلَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ لِعَدَمِ حَاجَتِهِ إلَى ذَلِكَ فَلَا يَتْبَعُهُ اسْتِيلَادُ الْأُمِّ ( وَإِنْ مَاتَتْ الْأُمُّ فَادَّعَاهُ الْبَائِعُ وَقَدْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ يَثْبُتُ النَّسَبُ فِي الْوَلَدِ وَأَخَذَهُ الْبَائِعُ ) ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ هُوَ الْأَصْلُ فِي النَّسَبِ فَلَا يَضُرُّهُ فَوَاتُ التَّبَعِ ، وَإِنَّمَا كَانَ الْوَلَدُ أَصْلًا لِأَنَّهَا تُضَافُ إلَيْهِ يُقَالُ أُمُّ الْوَلَدِ ، وَتَسْتَفِيدُ الْحُرِّيَّةَ مِنْ جِهَتِهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا } وَالثَّابِتُ لَهَا حَقُّ الْحُرِّيَّةِ وَلَهُ حَقِيقَتُهَا ، وَالْأَدْنَى يَتْبَعُ الْأَعْلَى ( وَيَرُدُّ الثَّمَنَ كُلَّهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَا : يَرُدُّ حِصَّةَ الْوَلَدِ وَلَا يَرُدُّ حِصَّةَ الْأُمِّ ) لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ بَاعَ أُمَّ وَلَدِهِ ، وَمَالِيَّتُهَا غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ عِنْدَهُ فِي الْعَقْدِ وَالْغَصْبِ فَلَا يَضْمَنُهَا الْمُشْتَرِي ، وَعِنْدَهُمَا مُتَقَوِّمَةٌ فَيَضْمَنُهَا .

( فَإِنْ مَاتَ الْوَلَدُ فَادَّعَاهُ الْبَائِعُ وَقَدْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّهَا جَاءَتْ بِالْوَلَدِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ( لَمْ يَثْبُتْ الِاسْتِيلَادُ فِي الْأُمِّ ) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِهِ : ( لِأَنَّهَا ) أَيْ لِأَنَّ الْأُمَّ ( تَابِعَةٌ لِلْوَلَدِ ) أَيْ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ بَيَانُهُ ( وَلَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ ) أَيْ نَسَبُ الْوَلَدِ ( بَعْدَ الْمَوْتِ لِعَدَمِ حَاجَتِهِ إلَى ذَلِكَ ) أَيْ لِعَدَمِ حَاجَةِ الْوَلَدِ إلَى النَّسَبِ بَعْدَ الْمَوْتِ ( فَلَا يَتْبَعُهُ اسْتِيلَادُ الْأُمِّ ) لِعَدَمِ تَصَوُّرِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي التَّبَعِ بِدُونِ ثُبُوتِهِ فِي الْمَتْبُوعِ ( وَإِنْ مَاتَتْ الْأُمُّ فَادَّعَاهُ الْبَائِعُ وَقَدْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ يَثْبُتُ النَّسَبُ فِي الْوَلَدِ وَأَخَذَهُ الْبَائِعُ ) هَذَا أَيْضًا الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِهِ : ( لِأَنَّ الْوَلَدَ هُوَ الْأَصْلُ فِي النَّسَبِ فَلَا يَضُرُّهُ فَوَاتُ التَّبَعِ ) يَعْنِي أَنَّ الْوَلَدَ لَمَّا كَانَ هُوَ الْأَصْلَ كَانَ الْمُعْتَبَرُ بَقَاءَهُ لِحَاجَتِهِ إلَى ثُبُوتِ النَّسَبِ ، وَلَا يَضُرُّهُ فَوَاتُ التَّبَعِ لِأَنَّ تَعَذُّرَ الْفَرْعِ لَا يُبْطِلُ الْأَصْلَ ، بِخِلَافِ الْعَكْسِ ( وَإِنَّمَا كَانَ الْوَلَدُ أَصْلًا لِأَنَّهَا ) أَيْ لِأَنَّ الْأُمَّ ( تُضَافُ إلَيْهِ ) أَيْ إلَى الْوَلَدِ حَيْثُ ( يُقَالُ أُمُّ الْوَلَدِ ) وَالْإِضَافَةُ إلَى الشَّيْءِ أَمَارَةُ أَصَالَةِ الْمُضَافِ إلَيْهِ ( وَتَسْتَفِيدُ الْحُرِّيَّةَ مِنْ جِهَتِهِ ) عَطْفٌ عَلَى تُضَافُ إلَيْهِ : أَيْ وَتَسْتَفِيدُ الْأُمُّ الْحُرِّيَّةَ مِنْ جِهَةِ الْوَلَدِ { لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا قَالَهُ حِينَ قِيلَ لَهُ وَقَدْ وَلَدَتْ مَارِيَةُ الْقِبْطِيَّةُ إبْرَاهِيمَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا تَعْتِقُهَا ؟ } ( وَالثَّابِتُ لَهَا ) أَيْ وَلِأَنَّ الثَّابِتَ لِلْأُمِّ ( حَقُّ الْحُرِّيَّةِ ) وَهُوَ أُمُومِيَّةُ الْوَلَدِ ( وَلَهُ ) أَيْ وَالثَّابِتُ

لِلْوَلَدِ ( حَقِيقَتُهَا ) أَيْ حَقِيقَةُ الْحُرِّيَّةِ ( وَالْأَدْنَى يَتْبَعُ الْأَعْلَى ) دَائِمًا دُونَ الْعَكْسِ ، فَحَقُّ الْحُرِّيَّةِ الَّذِي هُوَ الْأَدْنَى يَتْبَعُ الْحُرِّيَّةَ الَّتِي هِيَ الْأَعْلَى دُونَ الْعَكْسِ ( وَيَرُدُّ الثَّمَنَ كُلَّهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : يَرُدُّ حِصَّةَ الْوَلَدِ وَلَا يَرُدُّ حِصَّةَ الْأُمِّ ) وَهَذَا مِنْ تَمَامِ لَفْظِ الْقُدُورِيِّ الَّذِي ذُكِرَ فِيمَا مَرَّ آنِفًا .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ بَاعَ أُمَّ وَلَدِهِ ) أَيْ تَبَيَّنَ بِثُبُوتِ نَسَبِ الْوَلَدِ مِنْ الْبَائِعِ أَنَّهُ بَاعَ أُمَّ وَلَدِهِ وَبَيْعُهَا بَاطِلٌ وَمَالِيَّتُهَا ) أَيْ وَلَكِنَّ مَالِيَّةَ أُمِّ الْوَلَدِ ( غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ عِنْدَهُ ) أَيْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ( فِي الْعَقْدِ وَالْغَصْبِ فَلَا يَضْمَنُهَا الْمُشْتَرِي وَعِنْدَهُمَا ) أَيْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ( مُتَقَوِّمَةٌ فَيَضْمَنُهَا ) أَيْ فَيَضْمَنُهَا الْمُشْتَرِي ، فَإِذَا رَدَّ الْوَلَدَ دُونَهَا يَجِبُ عَلَى الْبَائِعِ رَدُّ حِصَّةِ مَا سُلِّمَ لَهُ وَهُوَ الْوَلَدُ كَيْ لَا يَجْتَمِعَ الْبَدَلُ وَالْمُبْدَلُ ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ حِصَّةٍ مَا لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ وَهِيَ الْأُمُّ .
قَالَ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ فِي التَّبْيِينِ بَعْدَمَا بَيَّنَ الْمَقَامَ بِهَذَا الْمِنْوَالِ : هَكَذَا ذَكَرُوا الْحُكْمَ فِي قَوْلِهِمَا ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَرُدَّ الْبَائِعُ جَمِيعَ الثَّمَنِ عِنْدَهُمَا أَيْضًا ثُمَّ يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْأُمِّ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ بَاعَ أُمَّ وَلَدِهِ وَبَيْعُ أُمِّ الْوَلَدِ غَيْرُ صَحِيحٍ بِالْإِجْمَاعِ فَلَا يَجِبُ فِيهِ الثَّمَنُ وَلَا يَكُونُ لِأَجْزَاءِ الْمَبِيعِ مِنْهُ حِصَّةٌ ، بَلْ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ رَدُّ مَا قَبَضَهُ إنْ كَانَ بَاقِيًا وَإِلَّا فَبَدَلَهُ انْتَهَى فَتَأَمَّلْ

وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : وَإِذَا حَبِلَتْ الْجَارِيَةُ فِي مِلْكِ رَجُلٍ فَبَاعَهَا فَوَلَدَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَادَّعَى الْبَائِعُ الْوَلَدَ وَقَدْ أَعْتَقَ الْمُشْتَرِي الْأُمَّ فَهُوَ ابْنُهُ يُرَدُّ عَلَيْهِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ .
وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي إنَّمَا أَعْتَقَ الْوَلَدَ فَدَعْوَاهُ بَاطِلَةٌ .
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي هَذَا الْبَابِ الْوَلَدُ ، وَالْأُمُّ تَابِعَةٌ لَهُ عَلَى مَا مَرَّ .
وَفِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ قَامَ الْمَانِعُ مِنْ الدَّعْوَةِ وَالِاسْتِيلَادِ وَهُوَ الْعِتْقُ فِي التَّبَعِ وَهُوَ الْأُمُّ فَلَا يَمْتَنِعُ ثُبُوتُهُ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ الْوَلَدُ ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَاتِهِ .
كَمَا فِي وَلَدِ الْمَغْرُورِ فَإِنَّهُ حُرٌّ وَأُمُّهُ أَمَةٌ لِمَوْلَاهَا ، وَكَمَا فِي الْمُسْتَوْلَدَةِ بِالنِّكَاحِ .
وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي قَامَ الْمَانِعُ بِالْأَصْلِ وَهُوَ الْوَلَدُ فَيَمْتَنِعُ ثُبُوتُهُ فِيهِ وَفِي التَّبَعِ ، وَإِنَّمَا كَانَ الْإِعْتَاقُ مَانِعًا لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ كَحَقِّ اسْتِلْحَاقِ النَّسَبِ وَحَقِّ الِاسْتِيلَادِ فَاسْتَوَيَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ، ثُمَّ الثَّابِتُ مِنْ الْمُشْتَرِي حَقِيقَةُ الْإِعْتَاقِ وَالثَّابِتُ فِي الْأُمِّ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ ، وَفِي الْوَلَدِ لِلْبَائِعِ حَقُّ الدَّعْوَةِ وَالْحَقُّ لَا يُعَارِضُ الْحَقِيقَةَ ، وَالتَّدْبِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْإِعْتَاقِ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ وَقَدْ ثَبَتَ بِهِ بَعْضُ آثَارِ الْحُرِّيَّةِ .
وَقَوْلُهُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ يُرَدُّ عَلَيْهِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ قَوْلُهُمَا وَعِنْدَهُ يُرَدُّ بِكُلِّ الثَّمَنِ هُوَ الصَّحِيحُ كَمَا ذَكَرْنَا فِي فَصْلِ الْمَوْتِ .

( وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ) ذَكَرَ رِوَايَةَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إعْلَامًا بِأَنَّ حُكْمَ الْإِعْتَاقِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ حُكْمُ الْمَوْتِ .
( وَإِذَا حَبِلَتْ الْجَارِيَةُ فِي مِلْكِ رَجُلٍ فَبَاعَهَا فَوَلَدَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَادَّعَى الْبَائِعُ الْوَلَدَ وَقَدْ أَعْتَقَ الْمُشْتَرِي الْأُمَّ فَهُوَ ابْنُهُ ) أَيْ فَالْوَلَدُ ابْنُ الْبَائِعِ ( يُرَدُّ عَلَيْهِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ ) أَيْ يُرَدُّ عَلَى الْبَائِعِ بِحِصَّةِ الْوَلَدِ مِنْ الثَّمَنِ الَّذِي كَانَ نَقَدَهُ الْبَائِعُ فَيُقَسَّمُ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَةِ الْأُمِّ يَوْمَ الْعَقْدِ وَعَلَى قِيمَةِ الْوَلَدِ يَوْمَ الْوِلَادَةِ ، فَمَا أَصَابَ الْأُمَّ يَلْزَمُ الْمُشْتَرِي ، وَمَا أَصَابَ الْوَلَدَ سَقَطَ عَنْهُ ، وَلَا تَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لِلْبَائِعِ لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِيهَا لِلْمُشْتَرِي مَا لَا يَحْتَمِلُ الْإِبْطَالَ وَهُوَ الْوَلَاءُ ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ وَسَائِرِ الْمُعْتَبَرَاتِ ( وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي إنَّمَا أَعْتَقَ الْوَلَدَ فَدَعْوَتُهُ ) أَيْ دَعْوَةُ الْبَائِعِ ( بَاطِلَةٌ ) أَيْ إذَا لَمْ يُصَدِّقْهُ الْمُشْتَرِي فِي دَعْوَاهُ ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ ( وَوَجْهُ الْفَرْقِ ) إنَّمَا ذَكَرَهُ اسْتِظْهَارًا ، إذْ قَدْ كَانَ مَعْلُومًا مِنْ مَسْأَلَةِ الْمَوْتِ ( أَنَّ الْأَصْلَ فِي هَذَا الْبَابِ الْوَلَدُ ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : أَيْ الْأَصْلَ فِي بَابِ ثُبُوتِ حَقِّ الْعِتْقِ لِلْأُمِّ بِطَرِيقِ الِاسْتِيلَادِ وَهُوَ ثُبُوتُ حَقِيقَةِ الْعِتْقِ لِلْوَلَدِ بِالنَّسَبِ ، وَقَدْ اقْتَفَى أَثَرَهُ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ وَصَاحِبُ الْعِنَايَةِ .
أَقُولُ : لَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ الرَّكَاكَةِ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى ، فَالْأَوْجَهُ فِي التَّفْسِيرِ أَنْ يُقَالَ : أَيْ الْأَصْلُ فِي بَابِ الدَّعْوَةِ وَالِاسْتِيلَادِ هُوَ الْوَلَدُ ( وَالْأُمُّ تَابِعَةٌ لَهُ عَلَى مَا مَرَّ ) فِي مَسْأَلَةِ الْمَوْتِ آنِفًا ( وَفِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ ) وَهُوَ مَا إذَا ادَّعَى الْبَائِعُ الْوَلَدَ وَقَدْ أَعْتَقَ الْمُشْتَرِي الْأُمَّ ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ : وَفِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ( قَامَ الْمَانِعُ مِنْ

الدَّعْوَةِ وَالِاسْتِيلَادِ وَهُوَ ) أَيْ الْمَانِعُ مِنْهُمَا ( الْعِتْقُ فِي التَّبَعِ وَهُوَ الْأُمُّ فَلَا يَمْتَنِعُ ثُبُوتُهُ ) أَيْ ثُبُوتُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الدَّعْوَةِ وَالِاسْتِيلَادِ ( فِي الْأَصْلِ وَهُوَ الْوَلَدُ ) لِأَنَّ امْتِنَاعَ الْحُكْمِ فِي التَّبَعِ لَا يُوجِبُ امْتِنَاعَهُ فِي الْأَصْلِ فَإِنْ قِيلَ : إذَا لَمْ يَمْنَعْ ثُبُوتَ الدَّعْوَةِ وَالِاسْتِيلَادِ لِلْبَائِعِ فِي الْوَلَدِ ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْ الْبَائِعِ لِكَوْنِ الْعُلُوقِ فِي مِلْكِهِ بِيَقِينٍ ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا إذَا حَبِلَتْ الْجَارِيَةُ فِي مِلْكِ الْبَائِعِ ، وَمِنْ حُكْمِ ثُبُوتِ نَسَبِ الْوَلَدِ صَيْرُورَةُ أُمِّهِ أُمَّ وَلَدٍ لِلْبَائِعِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَبْطُلَ الْبَيْعُ وَإِعْتَاقُ الْمُشْتَرِي .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ : ( وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَاتِهِ ) أَيْ وَلَيْسَ ثُبُوتُ الِاسْتِيلَادِ فِي حَقِّ الْأُمِّ مِنْ ضَرُورَاتِ ثُبُوتِ نَسَبِ الْوَلَدِ وَحُرِّيَّتِهِ : يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَحْكَامِهِ إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَاتِهِ بِحَيْثُ لَا يَنْفَصِلُ عَنْهُ لِجَوَازِ انْفِكَاكِهِ عَنْهُ ( كَمَا فِي وَلَدِ الْمَغْرُورِ ) وَهُوَ وَلَدُ مَنْ يَطَأُ امْرَأَةً مُعْتَمِدًا عَلَى مِلْكِ يَمِينٍ أَوْ نِكَاحٍ فَتَلِدُ مِنْهُ ثُمَّ تُسْتَحَقُّ ، كَذَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِيمَا سَيَجِيءُ فِي آخِرِ هَذَا الْبَابِ ( فَإِنَّهُ ) أَيْ وَلَدَ الْمَغْرُورِ ( حُرٌّ ) أَيْ حُرُّ الْأَصْلِ ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْ الْمُسْتَوْلِدِ ( وَأُمَّهُ أَمَةٌ لِمَوْلَاهَا ) فَلَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لِلْمُسْتَوْلِدِ بَلْ تَكُونُ رَقِيقَةً حَتَّى تُبَاعَ فِي السُّوقِ ( وَكَمَا فِي الْمُسْتَوْلَدَةِ بِالنِّكَاحِ ) يَعْنِي إذَا تَزَوَّجَ جَارِيَةَ الْغَيْرِ فَوَلَدَتْ لَهُ يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ وَلَا تَثْبُتُ أُمِّيَّةُ الْوَلَدِ ، كَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ ، وَيُطَابِقُهُ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكَافِي حَيْثُ قَالَ : وَكَمَا فِي الْمُسْتَوْلَدَةِ بِالنِّكَاحِ فَإِنَّهُ إذَا اسْتَوْلَدَ أَمَةَ الْغَيْرِ بِنِكَاحٍ يَثْبُتُ نَسَبُهُ وَلَا تَصِيرُ الْأَمَةُ أُمَّ وَلَدِهِ انْتَهَى .
وَكَذَا مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ حَيْثُ قَالَ : كَمَنْ اسْتَوْلَدَ

جَارِيَةَ الْغَيْرِ بِالنِّكَاحِ يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ ، وَلَا تَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ لِلْحَالِ إلَّا أَنْ يَمْلِكَهَا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ ا هـ .
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ : وَكَمَا فِي الْمُسْتَوْلَدَةِ بِالنِّكَاحِ بِأَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ فَوَلَدَتْ فَإِذَا هِيَ أَمَةٌ انْتَهَى .
أَقُولُ : هَذَا الْمَعْنَى هَاهُنَا غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ الصُّورَةَ الَّتِي ذَكَرَاهَا قِسْمٌ مِنْ قِسْمَيْ وَلَدِ الْمَغْرُورِ كَمَا سَيَظْهَرُ مِمَّا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي آخِرِ هَذَا الْبَابِ وَنَبَّهْت عَلَيْهِ فِيمَا مَرَّ آنِفًا ، فَلَا وَجْهَ لَأَنْ يَذْكُرَهَا الْمُصَنِّفُ فِي مُقَابَلَةِ وَلَدِ الْمَغْرُورِ كَمَا لَا يَخْفَى .
فَإِنْ قُلْت : إنَّ صَاحِبَيْ النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ فَسَّرَا وَلَدَ الْمَغْرُورِ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ كَمَا فِي وَلَدِ الْمَغْرُورِ بِقَوْلِهِمَا : وَهُوَ مَا إذَا اشْتَرَى رَجُلٌ أَمَةً مِنْ رَجُلٍ يَزْعُمُ أَنَّهَا مِلْكُهُ فَاسْتَوْلَدَهَا ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ انْتَهَى .
فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْمُرَادُ بِوَلَدِ الْمَغْرُورِ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَحَدَ قِسْمَيْهِ ، وَهُوَ مَا حَصَلَ بِالِاعْتِمَادِ عَلَى مِلْكِ الْيَمِينِ ، وَبِالْمَذْكُورِ فِي مُقَابَلَتِهِ قِسْمَةَ الْآخَرِ وَهُوَ مَا حَصَلَ بِالِاعْتِمَادِ عَلَى مِلْكِ النِّكَاحِ فَلَا مَحْذُورَ .
قُلْت : ذَلِكَ التَّفْسِيرُ مِنْهُمَا تَقْصِيرٌ آخَرُ ، فَإِنَّهُ مَعَ كَوْنِهِ تَقْيِيدًا لِلْكَلَامِ الْمُطْلَقِ بِلَا مُقْتَضٍ لَهُ مُؤَدٍّ إلَى تَقْلِيلِ الْأَمْثِلَةِ فِي مَقَامٍ يُطْلَبُ فِيهِ التَّكْثِيرُ فَلَا يَنْدَفِعُ بِهِ الْمَحْذُورُ بَلْ يَتَأَكَّدُ ( وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي ) وَهُوَ مَا إذَا أَعْتَقَ الْمُشْتَرِي الْوَلَدَ ثُمَّ ادَّعَاهُ الْبَائِعُ ( قَامَ الْمَانِعُ بِالْأَصْلِ وَهُوَ الْوَلَدُ فَيَمْتَنِعُ ثُبُوتُهُ ) أَيْ ثُبُوتُ مَا ذَكَرَ مِنْ الدَّعْوَةِ وَالِاسْتِيلَادِ ( فِيهِ ) أَيْ فِي الْأَصْلِ ( وَفِي التَّبَعِ ) لِأَنَّ امْتِنَاعَ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ يُوجِبُ امْتِنَاعَهُ فِي التَّبَعِ أَيْضًا ( وَإِنَّمَا كَانَ الْإِعْتَاقُ مَانِعًا ) .
قَالَ

مُتَقَدِّمُو الشُّرَّاحِ : أَيْ وَإِنَّمَا كَانَ إعْتَاقُ الْمُشْتَرِي الْوَلَدَ مَانِعًا لِدَعْوَةِ الْبَائِعِ إيَّاهُ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَخْذًا مِنْهُمْ : قَوْلُهُ : وَإِنَّمَا كَانَ الْإِعْتَاقُ مَانِعًا بَيَانًا لِمَانِعِيَّةِ عِتْقِ الْوَلَدِ عَنْ ثُبُوتِ النَّسَبِ بِدَعْوَةِ الْبَائِعِ انْتَهَى .
أَقُولُ : بَلْ هَذَا بَيَانٌ لِمَانِعِيَّةِ عِتْقِ الْأُمِّ عَنْ ثُبُوتِ الِاسْتِيلَادِ فِي حَقِّهَا بِدَعْوَةِ الْبَائِعِ ، وَلِمَانِعِيَّةِ عِتْقِ الْوَلَدِ عَنْ ثُبُوتِ النَّسَبِ فِي حَقِّهِ بِدَعْوَةِ الْبَائِعِ أَيْضًا .
وَالْمَعْنَى : إنَّمَا كَانَ إعْتَاقُ الْمُشْتَرِي الْأُمَّ وَالْوَلَدَ مَانِعًا مِنْ دَعْوَةِ الِاسْتِيلَادِ ، وَأَمَّا دَعْوَةُ النَّسَبِ فَيَشْمَلُ الْفَصْلَيْنِ مَعَهُ ، كَمَا يُنَادِي عَلَيْهِ عِبَارَاتُ الْمُصَنِّفِ فِي أَثْنَاءِ الْبَيَانِ عَلَى مَا تَرَى ، وَفِيمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشُّرَّاحُ تَخْصِيصُ الْبَيَانِ بِالْفَصْلِ الثَّانِي وَهُوَ تَقْصِيرٌ فِي حَقِّ الْمَقَامِ وَشَرْحِ الْكَلَامِ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ ( لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ كَحَقِّ اسْتِلْحَاقِ الْوَلَدِ وَحَقِّ الِاسْتِيلَادِ ) يَعْنِي أَنَّ الْإِعْتَاقَ مِنْ الْمُشْتَرِي كَحَقِّ اسْتِلْحَاقِ النَّسَبِ مِنْ الْبَائِعِ فِي الْوَلَدِ وَحَقِّ الِاسْتِيلَادِ مِنْ الْبَائِعِ فِي الْأُمِّ فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ ( فَاسْتَوَيَا ) أَيْ اسْتَوَى إعْتَاقُ الْمُشْتَرِي وَحَقُّ الْبَائِعِ اسْتِلْحَاقًا وَاسْتِيلَادًا ( مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ) أَيْ مِنْ حَيْثُ إنَّهُمَا لَا يَحْتَمِلَانِ النَّقْضَ فَلَيْسَ لِفِعْلِ أَحَدِهِمَا تَرْجِيحٌ عَلَى فِعْلِ الْآخَرِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَرُدَّ بِمَا إذَا بَاعَ جَارِيَةً حُبْلَى فَوَلَدَتْ وَلَدَيْنِ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَأَعْتَقَ الْمُشْتَرِي أَحَدَهُمَا ثُمَّ ادَّعَى الْبَائِعُ الْوَلَدَ الْآخَرَ صَحَّتْ دَعْوَتُهُ فِيهِمَا جَمِيعًا حَتَّى يَبْطُلَ عِتْقُ الْمُشْتَرِي وَذَلِكَ نَقْضٌ لِلْعِتْقِ كَمَا تَرَى .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ التَّوْأَمَيْنِ فِي حُكْمِ وَلَدٍ وَاحِدٍ ، فَمِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ نَسَبِ وَاحِدٍ

مِنْهُمَا وَالْحُكْمِ بِصَيْرُورَتِهِ حُرَّ الْأَصْلِ ثُبُوتُ النَّسَبِ لِلْآخَرِ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إذَا كَانَ كَذَلِكَ وَقَدْ ثَبَتَ الْعِتْقُ فِي أَحَدِهِمَا فَمِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ الْعِتْقِ فِي أَحَدِهِمَا ثُبُوتُهُ فِي الْآخَرِ وَإِلَّا لَزِمَ تَرْجِيحُ الدَّعْوَةِ عَلَى الْعِتْقِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ وَالْفَرْضُ خِلَافُهُ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ إنْ ثَبَتَ الْعِتْقُ فِي الْآخَرِ لَزِمَهُ ضَمَانُ قِيمَتِهِ وَفِي ذَلِكَ ضَرَرٌ زَائِدٌ انْتَهَى .
أَقُولُ : السُّؤَالُ الْأَوَّلُ وَجَوَابُهُ مِمَّا ذَكَرَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ أَيْضًا وَلَهُمَا وَجْهٌ وَجِيهٌ .
وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّانِي وَجَوَابُهُ فَمِنْ مُخْتَرَعَاتِهِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ .
أَمَّا السُّؤَالُ فَلِأَنَّ مُرَادَ الْمُجِيبِ عَنْ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ أَنَّ التَّوْأَمَيْنِ فِي حُكْمِ وَلَدٍ وَاحِدٍ فِي بَابِ النَّسَبِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَدَارَ النَّسَبِ عَلَى الْعُلُوقِ وَعُلُوقُهُمَا وَاحِدٌ لِكَوْنِهِمَا مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ ، فَمِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ نَسَبِ أَحَدِهِمَا ثُبُوتُ نَسَبِ الْآخَرِ ، وَلَيْسَ مُرَادُهُ أَنَّهُمَا فِي حُكْمِ وَلَدٍ وَاحِدٍ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ حَتَّى يُتَوَجَّهُ السُّؤَالُ ، كَيْفَ وَمَدَارُ الْعِتْقِ عَلَى الرَّقَبَةِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ رَقَبَتَيْهِمَا مُتَغَايِرَتَانِ فَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى إحْدَاهُمَا لَا يَلْزَمُ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى الْأُخْرَى كَمَا لَا يَخْفَى .
وَأَمَّا الْجَوَابُ فَلِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ أَنَّهُ إنْ ثَبَتَ الْعِتْقُ فِي الْآخَرِ لَزِمَ الْآخَرَ ضَمَانُ قِيمَتِهِ ، كَمَا إذَا أَعْتَقَ الْمَوْلَى بَعْضَ عَبْدِهِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ يَلْزَمُ الْعَبْدَ عِنْدَهُ ضَمَانُ قِيمَةِ بَعْضِهِ الْآخَرِ : أَيْ السِّعَايَةِ فِي بَقِيَّةِ قِيمَتِهِ لِمَوْلَاهُ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ فِي ذَلِكَ ضَرَرًا زَائِدًا ، إذْ الضَّمَانُ فِي مُقَابَلَةِ الْعِتْقِ لَا يُعَدُّ ضَرَرًا أَصْلًا ، وَلَوْ سَلِمَ ذَلِكَ فَيُعَارَضُ بِالنَّسَبِ أَيْضًا قَطْعًا ، فَإِنَّهُ إذَا ثَبَتَ النَّسَبُ فِي الْآخَرِ لَزِمَ الْبَائِعَ ضَمَانُ قِيمَتِهِ : أَيْ رَدُّ حِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي فَيَلْزَمُ أَنْ يَتَحَقَّقَ

هُنَاكَ أَيْضًا ضَرَرٌ زَائِدٌ .
وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ يَثْبُتُ الْعِتْقُ فِي الْآخَرِ لَزِمَ الْمُشْتَرِي ضَمَانُ قِيمَتِهِ : أَيْ إتْلَافُ قِيمَتِهِ فَيُعَارَضُ بِالنَّسَبِ أَيْضًا قَطْعًا ، فَإِنَّهُ إذَا ثَبَتَ النَّسَبُ فِي الْآخَرِ لَزِمَ الْبَائِعَ ضَمَانُ حِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ كَمَا يَلْزَمُ الْمُشْتَرِي عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِ الْعِتْقِ فِي الْآخَرِ ضَمَانُ قِيمَتِهِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَتَحَقَّقَ هُنَاكَ أَيْضًا ضَرَرٌ زَائِدٌ فَلَا يُتَصَوَّرُ التَّرْجِيحُ فِي صُورَةِ التَّوْأَمَيْنِ أَيْضًا وَالْفَرْضُ خِلَافُهُ .
ثُمَّ أَقُولُ : بُدِّلَ السُّؤَالُ الثَّانِي وَجَوَابُهُ : وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إذَا كَانَ الْحُكْمُ فِي التَّوْأَمَيْنِ كَذَا كَانَ عِتْقُ الْمُشْتَرِي مِمَّا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ وَالْفَرْضُ خِلَافُهُ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ مُرَادَنَا مِنْ قَوْلِنَا : الْعِتْقُ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُهُ قَصْدًا وَاللَّازِمُ فِي مَسْأَلَةِ التَّوْأَمَيْنِ احْتِمَالُهُ النَّقْضَ ضِمْنًا ، وَكَمْ مِنْ شَيْءٍ لَا يَثْبُتُ قَصْدًا وَيَثْبُتُ ضِمْنًا ، وَسَيَجِيءُ فِي الْكِتَابِ هَذَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ .
ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ قَالَ بَعْدَمَا سَبَقَ مِنْ سُؤَالِهِ الثَّانِي وَجَوَابِهِ : فَإِنْ عُورِضَ بِأَنَّ الْبَائِعَ إذَا ادَّعَى النَّسَبَ فِي الَّذِي عِنْدَهُ كَانَ ذَلِكَ سَعْيًا فِي نَقْضِ مَا تَمَّ مِنْ جِهَتِهِ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ فَلَا مُعْتَبَرَ بِهِ انْتَهَى .
أَقُولُ : فَيُعَارَضُ بِأَنَّ الضَّرَرَ الزَّائِدَ الَّذِي يَلْزَمُ عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِ الْعِتْقِ فِي الْآخَرِ غَيْرُ مَقْصُودٍ أَيْضًا فَلَا مُعْتَبَرَ بِهِ أَيْضًا فَلَا يَخْلُو الْجَوَابُ عَنْ مُعَارَضَةٍ مَا ( ثُمَّ الثَّابِتُ مِنْ الْمُشْتَرِي حَقِيقَةً الْإِعْتَاقُ ) يُرِيدُ بَيَانَ رُجْحَانِ مَا فِي جَانِبِ الْمُشْتَرِي بِأَنَّ الثَّابِتَ مِنْ الْمُشْتَرِي حَقِيقَةً الْإِعْتَاقُ ( وَالثَّابِتُ فِي الْأُمِّ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ ، وَفِي الْوَلَدِ لِلْبَائِعِ حَقُّ الدَّعْوَةِ وَالْحَقُّ لَا يُعَارِضُ الْحَقِيقَةَ ) لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ أَقْوَى مِنْ الْحَقِّ .
قَالَ صَاحِبُ

الْعِنَايَةِ : وَنُوقِضَ بِالْمَالِكِ الْقَدِيمِ مَعَ الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ ، فَإِنَّ الْمَالِكَ الْقَدِيمَ يَأْخُذُهُ بِالْقِيمَةِ وَإِنْ كَانَ لَهُ حَقُّ الْمِلْكِ وَلِلْمُشْتَرِي حَقِيقَتُهُ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَرْجِيحٍ بَلْ هُوَ جَمْعٌ بَيْنَهُمَا ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّ الْحَقِيقَةَ أَوْلَى فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا تَسْوِيَةٌ بَيْنَ الرَّاجِحِ وَالْمَرْجُوحِ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ فِيهَا شُبْهَةٌ لِأَنَّ مَبْنَاهَا عَلَى تَمَلُّكِ أَهْلِ الْحَرْبِ مَا اسْتَوْلَوْا عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِنَا بِدَرَاهِمَ وَهُوَ مُجْتَهِدٌ فِيهِ فَانْحَطَّتْ عَنْ دَرَجَةِ الْحَقَائِقِ ، فَقُلْنَا : يَأْخُذُهُ بِالْقِيمَةِ جَمْعًا بَيْنَهُمَا انْتَهَى .
أَقُولُ : النَّقْضُ مَعَ جَوَابِهِ مَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ وَتَاجُ الشَّرِيعَةِ وَلَهُمَا وَجْهٌ صَحِيحٌ .
وَأَمَّا النَّظَرُ مَعَ جَوَابِهِ فَمِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ وَلَيْسَا بِصَحِيحَيْنِ ، أَمَّا النَّظَرُ فَلِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مُجَرَّدَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا تَسْوِيَةٌ بَيْنَ الرَّاجِحِ وَالْمَرْجُوحِ ، أَلَا يَرَى أَنَّا نَجْمَعُ بَيْنَ الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ وَالْمُسْتَحَبَّاتِ فِي الْعَمَلِ مَعَ تَقَرُّرِ بَقَاءِ رُجْحَانِ الْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ بِحَالِهِ .
وَإِنَّمَا يَظْهَرُ أَثَرُ الرُّجْحَانِ عِنْدَ تَعَارُضِ الرَّاجِحِ وَالْمَرْجُوحِ بِأَنْ لَا يُمْكِنَ الْعَمَلُ بِهِمَا وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا كَمَا لَا يَخْفَى .
وَأَمَّا الْجَوَابُ فَلِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ بِخِلَافِنَا فِي مَسْأَلَةِ تَمَلُّكِ أَهْلِ الْحَرْبِ مَا اسْتَوْلَوْا عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِنَا بِدَرَاهِمَ هُوَ الشَّافِعِيُّ وَهُوَ مُتَأَخِّرُ الزَّمَانِ عَنْ اجْتِهَادِ أَئِمَّتِنَا فَكَيْفَ يُوقِعُ اجْتِهَادُهُ شُبْهَةً فِيمَا اجْتَهَدُوا فِيهِ حَتَّى تَنْحَطَّ بِهَا هَذِهِ الْحَقِيقَةُ مِنْ دَرَجَةِ الْحَقَائِقِ عِنْدَ أَئِمَّتِنَا فَيَصِحُّ بِنَاءُ الْجَوَابِ عَلَيْهِ ( وَالتَّدْبِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْإِعْتَاقِ ) أَيْ فِي الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ ، وَكَذَا الِاسْتِيلَادُ بِمَنْزِلَتِهِ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ صَاحِبَا النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجُ

الدِّرَايَةِ فِي صَدْرِ مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ نَقْلًا عَنْ الْإِمَامِ التُّمُرْتَاشِيِّ ( لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ وَقَدْ ثَبَتَ بِهِ بَعْضُ آثَارِ الْحُرِّيَّةِ ) وَهُوَ عَدَمُ جَوَازِ النَّقْلِ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ ( وَقَوْلُهُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ يُرَدُّ عَلَيْهِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ قَوْلُهُمَا ) يَعْنِي أَنَّ مَا ذُكِرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مِنْ قَوْلِهِ : وَقَدْ أَعْتَقَ الْمُشْتَرِي الْأُمَّ فَهُوَ ابْنُهُ يُرَدُّ عَلَيْهِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ( وَعِنْدَهُ ) أَيْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ( يُرَدُّ بِكُلِّ الثَّمَنِ هُوَ الصَّحِيحُ كَمَا ذَكَرْنَا فِي فَصْلِ الْمَوْتِ ) قَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ احْتِرَازٌ عَمَّا ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي الْمَبْسُوطِ وَالْإِمَامُ قَاضِي خَانْ وَالْإِمَامُ الْمَحْبُوبِيُّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ يُرَدُّ بِمَا يَخُصُّ الْوَلَدَ مِنْ الثَّمَنِ لَا بِكُلِّ الثَّمَنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا .
بِخِلَافِ فَصْلِ الْمَوْتِ .
وَذَكَرْنَا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ فِي الْإِعْتَاقِ كَذَّبَ الْقَاضِي الْبَائِعَ فِيمَا زَعَمَ أَنَّهَا أُمُّ وَلَدِهِ حِينَ جَعَلَهَا مُعْتَقَةَ الْمُشْتَرِي أَوْ مُدَبَّرَتَهُ فَلَمْ يَبْقَ لِزَعْمِهِ عِبْرَةٌ .
وَأَمَّا فِي فَصْلِ الْمَوْتِ فَبِمَوْتِهَا لَمْ يَجِدْ الْحُكْمَ بِخِلَافِ مَا زَعَمَ الْبَائِعُ فَبَقِيَ زَعْمُهُ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّهِ فَرَدَّ جَمِيعَ الثَّمَنِ .
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الَّذِي اخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ وَصَحَّحَهُ هُوَ مَا ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ لَا قِيمَةَ لَهَا ، وَلَكِنْ قَالُوا : إنَّهُ مُخَالِفٌ لِرِوَايَةِ الْأُصُولِ ، وَكَيْفَ يَسْتَرِدُّ كُلَّ الثَّمَنِ وَالْبَيْعُ لَمْ يَبْطُلْ فِي الْجَارِيَةِ وَلِهَذَا لَمْ يَبْطُلْ إعْتَاقُ الْمُشْتَرِي .
فَإِنْ قِيلَ : يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ لِلْوَلَدِ حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ لِحُدُوثِهِ بَعْدَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي وَلَا حِصَّةَ لِلْوَلَدِ الْحَادِثِ بَعْدَ الْقَبْضِ .
قُلْنَا : الْوَلَدُ إنَّمَا حَدَثَ بَعْدَ الْقَبْضِ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ ،

وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَهُوَ حَادِثٌ قَبْلَ الْقَبْضِ لِثُبُوتِ عُلُوقِهِ فِي مِلْكِ الْبَائِعِ وَلِهَذَا كَانَ لِلْبَائِعِ سَبِيلٌ مِنْ فَسْخِ هَذَا الْبَيْعِ بِالدَّعْوَةِ وَإِنْ قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي ، وَمَا هُوَ كَذَلِكَ فَلَهُ حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ إذَا اسْتَهْلَكَهُ الْبَائِعُ وَقَدْ اسْتَهْلَكَهُ هَاهُنَا بِالدَّعْوَةِ ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ .

قَالَ : ( وَمَنْ بَاعَ عَبْدًا وُلِدَ عِنْدَهُ وَبَاعَهُ الْمُشْتَرِي مِنْ آخَرَ ثُمَّ ادَّعَاهُ الْبَائِعُ الْأَوَّلُ فَهُوَ ابْنُهُ وَيَبْطُلُ الْبَيْعُ ) لِأَنَّ الْبَيْعَ يَحْتَمِلُ النَّقْضَ ، وَمَا لَهُ مِنْ حَقِّ الدَّعْوَةِ لَا يَحْتَمِلُهُ فَيُنْقَضُ الْبَيْعُ لِأَجْلِهِ ، وَكَذَا إذَا كَاتَبَ الْوَلَدَ أَوْ رَهَنَهُ أَوْ أَجَّرَهُ أَوْ كَاتَبَ الْأُمَّ أَوْ رَهَنَهَا أَوْ زَوَّجَهَا ثُمَّ كَانَتْ الدَّعْوَةُ لِأَنَّ هَذِهِ الْعَوَارِضَ تَحْتَمِلُ النَّقْضَ فَيُنْقَضُ ذَلِكَ كُلُّهُ وَتَصِحُّ الدَّعْوَةُ ، بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ وَالتَّدْبِيرِ عَلَى مَا مَرَّ ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا ادَّعَاهُ الْمُشْتَرِي أَوَّلًا ثُمَّ ادَّعَاهُ الْبَائِعُ حَيْثُ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْ الْبَائِعِ لِأَنَّ النَّسَبَ الثَّابِتَ مِنْ الْمُشْتَرِي لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ فَصَارَ كَإِعْتَاقِهِ .

( قَالَ ) أَيْ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : ( وَمَنْ بَاعَ عَبْدًا وُلِدَ عِنْدَهُ ) أَيْ كَانَ أَصْلُ الْعُلُوقِ فِي مِلْكِهِ ( وَبَاعَهُ الْمُشْتَرِي ) أَيْ ثُمَّ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي ( مِنْ آخَرَ ثُمَّ ادَّعَاهُ الْبَائِعُ الْأَوَّلُ فَهُوَ ابْنُهُ ) أَيْ الْوَلَدُ ابْنُ الْبَائِعِ الْأَوَّلِ ( وَيَبْطُلُ الْبَيْعُ ) أَيْ يَبْطُلُ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي ( لِأَنَّ الْبَيْعَ يَحْتَمِلُ النَّقْضَ وَمَالَهُ ) أَيْ وَمَا لِلْبَائِعِ ( مِنْ حَقِّ الدَّعْوَةِ لَا يَحْتَمِلُهُ ) أَيْ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ ( فَيَنْتَقِضُ الْبَيْعُ لِأَجْلِهِ ) أَيْ لِأَجْلِ مَا لِلْبَائِعِ مِنْ حَقِّ الدَّعْوَةِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَكَذَا ) أَيْ وَكَحُكْمِ الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ الْحُكْمُ ( إذَا كَاتَبَ الْوَلَدَ ) أَيْ إذَا كَاتَبَ الْمُشْتَرِي الْوَلَدَ ( أَوْ رَهَنَهُ أَوْ أَجَّرَهُ أَوْ كَاتَبَ الْأُمَّ ) أَيْ كَاتَبَ الْمُشْتَرِي الْأُمَّ فِيمَا إذَا اشْتَرَاهَا مَعَ وَلَدِهَا ( أَوْ رَهَنَهَا أَوْ زَوَّجَهَا ثُمَّ كَانَتْ الدَّعْوَةُ ) أَيْ ثُمَّ وُجِدَتْ دَعْوَةُ الْبَائِعِ ( لِأَنَّ هَذِهِ الْعَوَارِضَ تَحْتَمِلُ النَّقْضَ ) كَالْبَيْعِ ( فَيَنْتَقِضُ ذَلِكَ كُلُّهُ ) أَيْ فَتَنْتَقِضُ تِلْكَ الْعَوَارِضُ كُلُّهَا ذَكَرَ اسْمَ الْإِشَارَةِ وَالضَّمِيرَ بِتَأْوِيلِ مَا ذَكَرَ ( وَتَصِحُّ الدَّعْوَةُ ) لِكَوْنِهَا مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ .
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَسَائِلَ مِنْ مَسَائِلِ الْمَبْسُوطِ ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ تَفْرِيعًا عَلَى مَسْأَلَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ( بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ وَالتَّدْبِيرِ ) فَإِنَّهُمَا لَا يَحْتَمِلَانِ النَّقْضَ ( عَلَى مَا مَرَّ ) آنِفًا ( بِخِلَافِ مَا إذَا ادَّعَاهُ ) أَيْ الْوَلَدَ ( الْمُشْتَرِي أَوْ لَا ثُمَّ ادَّعَاهُ الْبَائِعُ حَيْثُ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْ الْبَائِعِ لِأَنَّ النَّسَبَ الثَّابِتَ مِنْ الْمُشْتَرِي لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ فَصَارَ كَإِعْتَاقِهِ ) أَيْ كَإِعْتَاقِ الْمُشْتَرِي .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : الثَّابِتُ بِالْإِعْتَاقِ حَقِيقَةُ الْحُرِّيَّةِ وَبِالدَّعْوَةِ حَقُّهَا فَأَنَّى يَتَسَاوَيَانِ .
وَأَمَّا الدَّعْوَةُ مِنْ الْمُشْتَرِي

وَمِنْ الْبَائِعِ فَيَتَسَاوَيَانِ فِي أَنَّ الثَّابِتَ بِهِمَا حَقُّ الْحُرِّيَّةِ فَأَيْنَ الْمُرَجِّحُ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ التَّسَاوِيَ بَيْنَ الْعِتْقِ وَالدَّعْوَةِ فِي عَدَمِ احْتِمَالِ النَّقْضِ وَذَلِكَ ثَابِتٌ أَلْبَتَّةَ ، وَتَرْجِيحُ دَعْوَةِ الْمُشْتَرِي عَلَى دَعْوَةِ الْبَائِعِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْوَلَدَ قَدْ اسْتَغْنَى بِالْأُولَى عَنْ ثُبُوتِ النَّسَبِ فِي وَقْتٍ لَا مُزَاحِمَ لَهُ فَلَا حَاجَةَ إلَى الثَّانِيَةِ انْتَهَى .
وَأَوْرَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى قَوْلِهِ فِي السُّؤَالِ الثَّابِتِ بِالْإِعْتَاقِ حَقِيقَةَ الْحُرِّيَّةِ وَبِالدَّعْوَةِ حَقَّهَا بِأَنْ قَالَ : فِيهِ بَحْثٌ ، فَإِنَّ الثَّابِتَ بِهَا فِي حَقِّ الْوَلَدِ حَقِيقَةُ الْحُرِّيَّةِ أَيْضًا بَلْ حُرِّيَّةُ الْأَصْلِ كَمَا سَيَجِيءُ انْتَهَى .
أَقُولُ : هَذَا مُنْدَفِعٌ لِأَنَّ حَقِيقَةَ حُرِّيَّةِ الْأَصْلِ إنَّمَا تَثْبُتُ بِالدَّعْوَةِ لِلْوَلَدِ ، وَمُرَادُ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ أَنَّ الثَّابِتَ بِالدَّعْوَةِ لِلْبَائِعِ حَقُّهَا ؛ لِأَنَّ مَدَارَ الْكَلَامِ فِي جِنْسِ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الْمَسَائِلِ ، عَلَى أَنَّ التَّرْجِيحَ هَلْ هُوَ فِي جَانِبِ الْبَائِعِ أَوْ فِي جَانِبِ الْمُشْتَرِي ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الثَّابِتَ بِالدَّعْوَةِ لِلْبَائِعِ عَلَى كُلِّ حَالٍ إنَّمَا هُوَ الْحَقُّ وَهُوَ حَقُّ اسْتِلْحَاقِ النَّسَبِ فِي الْوَلَدِ وَحَقُّ الِاسْتِيلَادِ فِي الْأُمِّ عَلَى مَا مَرَّ فِي الْكِتَابِ وَتَقَرَّرَ ، وَقَدْ عَبَّرَ عَنْهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ هَاهُنَا بِحَقِّ الْحُرِّيَّةِ لِتَأَدِّيهِ إلَى الْحُرِّيَّةِ ، وَكَذَا الْحَالُ بِالنَّظَرِ إلَى دَعْوَةِ الْمُشْتَرِي فَانْتَظَمَ السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ وَإِنْ كَانَ فِي تَقْرِيرِهِ نَوْعُ ضِيقٍ وَاضْطِرَابٍ .

قَالَ ( وَمَنْ ادَّعَى نَسَبَ أَحَدِ التَّوْأَمَيْنِ ثَبَتَ نَسَبُهُمَا مِنْهُ ) لِأَنَّهُمَا مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ ، فَمِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ نَسَبِ أَحَدِهِمَا ثُبُوتُ نَسَبِ الْآخَرِ ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّوْأَمَيْنِ وَلَدَانِ بَيْنَ وِلَادَتِهِمَا أَقَلُّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَلَا يُتَصَوَّرُ عُلُوقُ الثَّانِي حَادِثًا لِأَنَّهُ لَا حَبَلَ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ .
وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : إذَا كَانَ فِي يَدِهِ غُلَامَانِ تَوْأَمَانِ وُلِدَا عِنْدَهُ فَبَاعَ أَحَدَهُمَا وَأَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي ثُمَّ ادَّعَى الْبَائِعُ الَّذِي فِي يَدِهِ فَهُمَا ابْنَاهُ وَبَطَلَ عِتْقُ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ الَّذِي عِنْدَهُ لِمُصَادَفَةِ الْعُلُوقِ وَالدَّعْوَةِ مِلْكَهُ إذْ الْمَسْأَلَةُ مَفْرُوضَةٌ فِيهِ ثَبَتَ بِهِ حُرِّيَّةُ الْأَصْلِ فِيهِ فَيَثْبُتُ نَسَبُ الْآخَرِ ، وَحُرِّيَّةُ الْأَصْلِ فِيهِ ضَرُورَةٌ لِأَنَّهُمَا تَوْأَمَانِ ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ عِتْقَ الْمُشْتَرِي وَشِرَاءَهُ لَاقَى حُرِّيَّةَ الْأَصْلِ فَبَطَلَ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْوَلَدُ وَاحِدًا لِأَنَّ هُنَاكَ يَبْطُلُ الْعِتْقُ فِيهِ مَقْصُودًا لِحَقِّ دَعْوَةِ الْبَائِعِ وَهُنَا ثَبَتَ تَبَعًا لِحُرِّيَّتِهِ فِيهِ حُرِّيَّةُ الْأَصْلِ فَافْتَرَقَا ( وَلَوْ لَمْ يَكُنْ أَصْلُ الْعُلُوقِ فِي مِلْكِهِ ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ الَّذِي عِنْدَهُ ، وَلَا يُنْقَضُ الْبَيْعُ فِيمَا بَاعَ ) لِأَنَّ هَذِهِ دَعْوَةُ تَحْرِيرٍ لِانْعِدَامِ شَاهِدِ الِاتِّصَالِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَحَلِّ وِلَايَتِهِ .

( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ : ( وَمَنْ ادَّعَى نَسَبَ أَحَدِ التَّوْأَمَيْنِ ) التَّوْأَمُ اسْمٌ لِلْوَلَدِ إذَا كَانَ مَعَهُ آخَرُ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ ، يُقَالُ هُمَا تَوْأَمَانِ كَمَا يُقَالُ هُمَا زَوْجَانِ ، وَقَوْلُهُمْ هُمَا تَوْأَمٌ وَهُمَا زَوْجٌ خَطَأٌ ، وَيُقَالُ لِلْأُنْثَى تَوْأَمَةٌ ، وَكَذَا فِي الْمُغْرِبِ .
وَلَكِنَّ الْإِمَامَ شَمْسَ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيَّ ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ ذِكْرَ التَّوْأَمِ مَكَانَ التَّوْأَمَيْنِ صَحِيحٌ فِي اللُّغَةِ ، حَتَّى لَوْ قَالَ : غُلَامَانِ تَوْأَمٌ ، وَغُلَامَانِ تَوْأَمَانِ كِلَاهُمَا صَحِيحٌ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا ( ثَبَتَ نَسَبُهُمَا مِنْهُ ) أَيْ ثَبَتَ نَسَبُ التَّوْأَمَيْنِ مَعًا مِمَّنْ ادَّعَى نَسَبَ أَحَدِهِمَا ( لِأَنَّهُمَا مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ ، فَمِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ نَسَبِ أَحَدِهِمَا ثُبُوتُ نَسَبِ الْآخَرِ ) ، وَهَذَا أَيْ كَوْنُهُمَا مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ ( لِأَنَّ التَّوْأَمَيْنِ وَلَدَانِ بَيْنَ وِلَادَتِهِمَا أَقَلُّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَلَا يُتَصَوَّرُ عُلُوقُ الثَّانِي حَادِثًا ) أَيْ بَعْدَ وِلَادَةِ الْأَوَّلِ ( لِأَنَّهُ لَا حَبَلَ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ) لِأَنَّ أَقَلَّ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ ، وَلَا يُتَصَوَّرُ عُلُوقُ الثَّانِي عَلَى عُلُوقِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهَا إذَا حَبِلَتْ يَنْسَدُّ فَمُ الرَّحِمِ ، كَذَا فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ ، وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِدَفْعِ هَذَا الِاحْتِمَالِ لِكَوْنِهِ أَمْرًا مَعْلُومًا فِي غَيْرِ هَذَا الْفَنِّ ( وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ : ذَكَرَ رِوَايَةَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى صُورَةِ بَيْعِ أَحَدِهِمَا وَدَعْوَى النَّسَبِ فِي الْآخَرِ بَعْدَ إعْتَاقِ الْمُشْتَرِي انْتَهَى .
وَقَالَ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ : إنَّمَا أَعَادَ لَفْظَ الْجَامِعِ لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةٍ وَهِيَ قَوْلُهُ وُلِدَا عِنْدَهُ ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى كَوْنِ الْعُلُوقِ فِي مِلْكِ الْمُدَّعِي انْتَهَى ( إذَا كَانَ فِي يَدِهِ غُلَامَانِ تَوْأَمَانِ وُلِدَا عِنْدَهُ فَبَاعَ أَحَدَهُمَا وَأَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي ثُمَّ ادَّعَى

الْبَائِعُ الَّذِي فِي يَدِهِ فَهُمَا ابْنَاهُ وَبَطَلَ عِتْقُ الْمُشْتَرِي ) وَإِنْ كَانَتْ الرِّوَايَةُ بِكَسْرِ الرَّاءِ فَالْعِتْقُ بِمَعْنَى الْإِعْتَاقِ وَإِنْ كَانَتْ بِالْفَتْحِ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّأْوِيلِ ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّعْلِيلِ ( لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ الَّذِي عِنْدَهُ لِمُصَادَفَةِ الْعُلُوقِ وَالدَّعْوَةِ مِلْكَهُ إذْ الْمَسْأَلَةُ مَفْرُوضَةٌ فِيهِ ) أَيْ فِي أَنْ يُصَادِفَ الْعُلُوقُ وَالدَّعْوَةُ مِلْكَهُ ، فَإِنَّ فِي قَوْلِهِ : وُلِدَا عِنْدَهُ إشَارَةٌ إلَى مُصَادَفَةِ الْعُلُوقِ مِلْكَهُ ، وَفِي قَوْلِهِ : ثُمَّ ادَّعَى الْبَائِعُ الَّذِي فِي يَدِهِ تَصْرِيحٌ بِمُصَادَفَةِ الدَّعْوَى مِلْكَهُ ( ثَبَتَ بِهِ حُرِّيَّةُ الْأَصْلِ ) جَوَابٌ لَمَّا ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ الَّذِي عِنْدَهُ : أَيْ ثَبَتَ حُرِّيَّةُ الْأَصْلِ فِي هَذَا الْوَلَدِ ( فَيَثْبُتُ نَسَبُ الْآخَرِ ) أَيْ فَيَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ الْآخَرِ الَّذِي كَانَ بَاعَهُ وَأَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي ( وَحُرِّيَّةُ الْأَصْلِ فِيهِ ) أَيْ وَيَثْبُتُ حُرِّيَّةُ الْأَصْلِ فِي ذَلِكَ الْوَلَدِ أَيْضًا ( ضَرُورَةً لِأَنَّهُمَا تَوْأَمَانِ ) وَهُمَا مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ ( فَتَبَيَّنَ أَنَّ عِتْقَ الْمُشْتَرِي وَشِرَاءَهُ لَاقَى حُرَّ الْأَصْلِ فَبَطَلَ ) أَيْ فَبَطَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ عِتْقِهِ وَشِرَائِهِ .
قَالَ فِي الْكَافِي : وَكَانَ هَذَا نَقْضَ الْإِعْتَاقِ بِأَمْرٍ فَوْقَهُ وَهِيَ الْحُرِّيَّةُ الثَّابِتَةُ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ انْتَهَى ( بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْوَلَدُ الْوَاحِدُ ) حَيْثُ لَا يَبْطُلُ فِيهِ إعْتَاقُ الْمُشْتَرِي بِدَعْوَى الْبَائِعِ نِسْبَةً كَمَا مَرَّ ( لِأَنَّ هُنَاكَ ) أَيْ فِي مَسْأَلَةِ الْوَلَدِ الْوَاحِدِ ( يَبْطُلُ الْعِتْقُ فِيهِ ) أَيْ فِي الْوَلَدِ ( مَقْصُودًا ) يَعْنِي لَوْ صَحَّتْ الدَّعْوَةُ مِنْ الْبَائِعِ هُنَاكَ لَبَطَلَ الْعِتْقُ فِي الْوَلَدِ مَقْصُودًا ( لِحَقِّ دَعْوَةِ الْبَائِعِ ) وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ حَقَّ الدَّعْوَةِ لَا يُعَارِضُ حَقِيقَةَ الْإِعْتَاقِ ( وَهَاهُنَا ) أَيْ فِي مَسْأَلَةِ التَّوْأَمَيْنِ ( يَثْبُتُ تَبَعًا لِحُرِّيَّتِهِ فِيهِ حُرِّيَّةِ

الْأَصْلِ ) أَيْ يَثْبُتُ بُطْلَانُ إعْتَاقِ الْمُشْتَرِي فِيمَا اشْتَرَاهُ تَبَعًا لِحُرِّيَّتِهِ حُرِّيَّةِ الْأَصْلِ لَا حُرِّيَّةِ التَّحْرِيرِ ، فَالضَّمِيرُ فِي حُرِّيَّتِهِ رَاجِعٌ إلَى الْمُشْتَرَى بِالْفَتْحِ .
وَقَوْلُهُ فِيهِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ : يَثْبُتُ ، وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إلَى الْمُشْتَرَى كَذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ حُرِّيَّةُ الْأَصْلِ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ لِحُرِّيَّتِهِ ، وَإِنَّمَا أَبْدَلَ بِهِ إشَارَةً إلَى سَبْقِهَا لِيَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ الْبَيْعَ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا فَالْإِعْتَاقُ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ فَكَانَ خَلِيقًا بِالرَّدِّ وَالْإِبْطَالِ ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ .
أَقُولُ : هَذَا شَرْحٌ صَحِيحٌ ، إلَّا أَنَّهُ يَكُونُ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ حِينَئِذٍ تَعْقِيدٌ لَفْظِيٌّ بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ حَيْثُ كَانَ حَقُّ الْأَدَاءِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى أَنْ يُقَالَ : وَهَاهُنَا يَثْبُتُ فِيهِ تَبَعًا لِحُرِّيَّتِهِ حُرِّيَّةِ الْأَصْلِ كَمَا لَا يَخْفَى ، وَكَأَنَّ مُتَقَدِّمِي الشُّرَّاحِ هَرَبُوا عَنْهُ حَيْثُ قَالَ صَاحِبَا النِّهَايَةِ وَالْكِفَايَةِ فِي بَيَانِ مَعْنَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا : أَيْ يَثْبُتُ بُطْلَانُ إعْتَاقِ الْمُشْتَرِي بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ لِحُرِّيَّةِ الْمُشْتَرَى الَّذِي كَانَتْ الْحُرِّيَّةُ فِيهِ حُرِّيَّةَ الْأَصْلِ انْتَهَى .
وَقَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ : يَعْنِي فِيمَا نَحْنُ فِيهِ يَثْبُتُ بُطْلَانُ إعْتَاقِ الْمُشْتَرِي لَا مَقْصُودًا بَلْ لِثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ الْأَصْلِيَّةِ الثَّابِتَةِ فِي الَّذِي بَاعَهُ ا هـ .
فَإِنَّ الظَّاهِرَ مِمَّا بَيَّنُوا مِنْ الْمَعْنَى أَنْ لَا يَكُونَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِيهِ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ يَثْبُتُ بَلْ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِمُقَدَّرٍ وَهُوَ الْكَائِنَةُ أَوْ الثَّابِتَةُ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِحُرِّيَّتِهِ فَلَا يَلْزَمُ التَّعْقِيدُ أَقُولُ : لَعَلَّ الْمَحْذُورَ فِيهِ أَشَدُّ مِنْ الْأَوَّلِ ، فَإِنَّ الْحُرِّيَّةَ بَعْدَ أَنْ تُضَافُ إلَى الضَّمِيرِ الرَّاجِعِ إلَى الْمُشْتَرَى لَا يَبْقَى احْتِمَالُ أَنْ لَا يَكُونَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِيهِ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ : تَثْبُتُ ، وَإِلَّا فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ

الْمُصَنِّفِ فِيهِ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرُوهُ لَغْوًا مِنْ الْكَلَامِ وَإِنَّمَا يَتِمُّ ذَلِكَ الْمَعْنَى أَنْ لَوْ كَانَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ وَهَاهُنَا يَثْبُتُ تَبَعًا لِلْحُرِّيَّةِ فِيهِ بِدُونِ الْإِضَافَةِ كَمَا لَا يَخْفَى ( فَافْتَرَقَا ) أَيْ فَافْتَرَقَ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ مَسْأَلَةِ التَّوْأَمَيْنِ ، وَمَا إذَا كَانَ الْوَلَدُ وَاحِدًا حَيْثُ لَزِمَ بُطْلَانُ الْعِتْقِ هُنَاكَ أَصَالَةً وَقَصْدًا ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ ضِمْنًا وَتَبَعًا ، وَكَمْ مِنْ شَيْءٍ يَثْبُتُ ضِمْنًا وَتَبَعًا وَلَا يَثْبُتُ أَصَالَةً وَقَصْدًا .
قَالَ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ : إلَى هَذَا أَشَارَ قَاضِي خَانْ والمرغيناني فِي فَوَائِدِهِ وَالسَّرَخْسِيُّ فِي جَامِعِهِ .
وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ بَعْدَ شَرْحِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ : أَوْ نَقُولُ فِي مَسْأَلَتِنَا لَا يَبْطُلُ عِتْقُ الْمُشْتَرِي الَّذِي يَثْبُتُ مِنْهُ بَلْ يَظْهَرُ بِدَعْوَةِ الْبَائِعِ لِمَا فِي يَدِهِ مِنْ أَحَدِ التَّوْأَمَيْنِ أَنَّ إعْتَاقَ الْمُشْتَرِي لَمْ يُلَاقِ مَحَلَّهُ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ حُرَّ الْأَصْلِ ، وَتَحْرِيرُ الْحُرِّ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ فِيهِ إثْبَاتَ الثَّابِتِ ، وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ كَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ ( فَلَوْ لَمْ يَكُنْ أَصْلُ الْعُلُوقِ فِي مِلْكِهِ ) يَعْنِي أَنَّ الَّذِي ذُكِرَ مِنْ قَبْلُ إذَا كَانَ أَصْلُ الْعُلُوقِ فِي مِلْكِ الْمُدَّعِي وَلَوْ لَمْ يَكُنْ أَصْلُ الْعُلُوقِ فِي مِلْكِهِ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا ( ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ الَّذِي عِنْدَهُ ) أَيْ ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ الَّذِي عِنْدَ الْبَائِعِ بِمُصَادَفَةِ الدَّعْوَةِ مِلْكَهُ فَيَثْبُتُ النَّسَبُ لِلْوَلَدِ الْآخَرِ أَيْضًا ضَرُورَةً لِأَنَّ التَّوْأَمَيْنِ لَا يَنْفَكَّانِ نَسَبًا ( وَلَا يُنْقَضُ الْبَيْعُ فِيمَا بَاعَ ) وَلَا يَبْطُلُ عِتْقُ الْمُشْتَرِي فِيهِ ( لِأَنَّ هَذِهِ ) أَيْ لِأَنَّ دَعْوَةَ الْبَائِعِ هَاهُنَا ( دَعْوَةُ تَحْرِيرٍ ) لَا دَعْوَةُ اسْتِيلَادٍ ( لِانْعِدَامِ شَاهِدِ الِاتِّصَالِ ) أَيْ لِانْعِدَامِ شَاهِدِ اتِّصَالِ الْعُلُوقِ بِمِلْكِ الْمُدَّعِي حَيْثُ لَمْ يَكُنْ أَصْلُ الْعُلُوقِ فِي مِلْكِهِ ، وَمِنْ

شَرْطِ دَعْوَةِ الِاسْتِيلَادِ اتِّصَالُ الْعُلُوقِ بِمِلْكِ الْمُدَّعِي ( فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَحَلِّ وِلَايَتِهِ ) أَيْ إذَا كَانَتْ هَذِهِ دَعْوَةَ تَحْرِيرٍ فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَحَلِّ وِلَايَةِ الْمُدَّعِي وَصَارَ كَأَنَّ الْبَائِعَ أَعْتَقَهُمَا فَيُعْتَقُ مَنْ فِي مِلْكِهِ عَلَيْهِ فَحَسْبُ ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ حُرِّيَّةِ أَحَدِ التَّوْأَمَيْنِ بِعِتْقٍ عَارِضٍ حُرِّيَّةُ الْآخَرِ فَلِهَذَا لَا يُعْتِقُ الَّذِي عِنْدَهُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ ، وَكَذَا فِي الْكَافِي .
وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ الشُّرَّاحِ فِي شَرْحِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ لِأَنَّ هَذِهِ دَعْوَةُ تَحْرِيرٍ إلَخْ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ أَصْلُ عُلُوقِهِمَا فِي مِلْكِ الْبَائِعِ كَانَتْ دَعْوَتُهُ دَعْوَةَ تَحْرِيرٍ فَكَانَ قَوْلُهُ : هَذَا ابْنِي مَجَازًا عَنْ قَوْلِهِ : هَذَا حُرٌّ ، وَلَوْ قَالَ لِأَحَدِ التَّوْأَمَيْنِ : هَذَا حُرٌّ كَانَ تَحْرِيرًا مُقْتَصِرًا عَلَى مَحَلِّ وِلَايَتِهِ ، فَكَذَا دَعْوَةُ التَّحْرِيرِ ، أَقُولُ : يَرُدُّ عَلَى قَوْلِهِمْ فَكَانَ قَوْلُهُ : هَذَا ابْنِي مَجَازًا عَنْ قَوْلِهِ : هَذَا حُرٌّ أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا ثَبَتَ نَسَبُ أَحَدٍ مِنْ الْوَالِدَيْنِ مِنْهُ لِأَنَّ الْمَصِيرَ إلَى الْمَجَازِ عِنْدَ تَعَذُّرِ إعْمَالِ الْحَقِيقَةِ ، وَقَدْ صَرَّحُوا بِثُبُوتِ نَسَبِهِمَا مِنْهُ .
وَتَفْصِيلُ الْمَقَامِ أَنَّهُ قَدْ مَرَّ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ أَنَّهُ إذَا قَالَ لِعَبْدٍ يُولَدُ مِثْلُهُ لِمِثْلِهِ : هَذَا ابْنِي ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْعَبْدِ نَسَبٌ مَعْرُوفٌ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ لِأَنَّ وِلَايَةَ الدَّعْوَةِ بِالْمِلْكِ ثَابِتَةٌ وَالْعَبْدُ مُحْتَاجٌ إلَى النَّسَبِ فَيَثْبُتُ مِنْهُ .
وَإِذَا ثَبَتَ عَتَقَ لِأَنَّهُ يَسْتَنِدُ النَّسَبُ إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ ، فَإِنْ كَانَ لَهُ نَسَبٌ مَعْرُوفٌ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ لِلتَّعَذُّرِ وَيَعْتِقُ إعْمَالًا لِلَّفْظِ فِي مَجَازِهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ إعْمَالِهِ فِي حَقِيقَتِهِ ، وَإِنْ قَالَ لِغُلَامٍ لَا يُولَدُ مِثْلُهُ لِمِثْلِهِ : هَذَا ابْنِي عَتَقَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : لَا يُعْتَقُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ .
لَهُمْ أَنَّهُ كَلَامٌ مُحَالٌ فَيُرَدُّ

وَيَلْغُو .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مُحَالٌ بِحَقِيقَتِهِ لَكِنَّهُ صَحِيحٌ بِمَجَازِهِ لِأَنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ حُرِّيَّتِهِ مِنْ حِينِ مَلَكَهُ وَهَذَا لِأَنَّ الْبُنُوَّةَ فِي الْمَمْلُوكِ سَبَبٌ لِحُرِّيَّتِهِ وَإِطْلَاقُ السَّبَبِ وَإِرَادَةُ الْمُسَبَّبِ مُسْتَجَازٌ فِي اللُّغَةِ تَجَوُّزًا ، وَلِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ مُلَازِمَةٌ لِلْبُنُوَّةِ فِي الْمَمْلُوكِ وَالْمُشَابَهَةِ فِي وَصْفٍ مُلَازِمٍ مِنْ طُرُقِ الْمَجَازِ عَلَى مَا عُرِفَ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ تَحَرُّزًا عَنْ الْإِلْغَاءِ انْتَهَى .
فَقَدْ تَلَخَّصَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ فِيمَا إذَا قَالَ لِغُلَامٍ : هَذَا ابْنِي إنَّمَا يَكُونُ فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ الصُّوَرِ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ وَهِيَ : أَنْ يَكُونَ الْغُلَامُ مِمَّنْ وُلِدَ مِثْلُهُ لِمِثْلِهِ وَلَا يَكُونُ مَعْرُوفَ النَّسَبِ وَلَكِنْ يَجْرِي اللَّفْظُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ عَلَى حَقِيقَتِهِ .
وَأَمَّا فِي الصُّورَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ فَيَصِيرُ اللَّفْظُ مَحْمُولًا عَلَى مَجَازِهِ لَكِنْ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ فِيهِمَا فَلَمْ تُوجَدْ صُورَةٌ فِيهَا النَّسَبُ وَيَكُونُ اللَّفْظُ مَجَازًا فَلَمْ يَصِحَّ مَا قَالَهُ هَؤُلَاءِ الشُّرَّاحُ .

قَالَ ( وَإِذَا كَانَ الصَّبِيُّ فِي يَدِ رَجُلٍ فَقَالَ : هُوَ ابْنُ عَبْدِي فُلَانٍ الْغَائِبِ ثُمَّ قَالَ : هُوَ ابْنِي لَمْ يَكُنْ ابْنَهُ أَبَدًا وَإِنْ جَحَدَ الْعَبْدُ أَنْ يَكُونَ ابْنَهُ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ( وَقَالَا : إذَا جَحَدَ الْعَبْدُ فَهُوَ ابْنُ الْمَوْلَى ) وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا قَالَ : هُوَ ابْنُ فُلَانٍ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ ثُمَّ ادَّعَاهُ لِنَفْسِهِ .
لَهُمَا أَنَّ الْإِقْرَارَ ارْتَدَّ بِرَدِّ الْعَبْدِ فَصَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ الْإِقْرَارُ ، وَالْإِقْرَارُ بِالنَّسَبِ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ وَإِنْ كَانَ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ يَعْمَلُ فِيهِ الْإِكْرَاهُ وَالْهَزْلُ فَصَارَ كَمَا إذَا أَقَرَّ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِإِعْتَاقِ الْمُشْتَرَى فَكَذَّبَهُ الْبَائِعُ ثُمَّ قَالَ أَنَا أَعْتَقْتُهُ يَتَحَوَّلُ الْوَلَاءُ إلَيْهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا صَدَّقَهُ لِأَنَّهُ يَدَّعِي بَعْدَ ذَلِكَ نَسَبًا ثَابِتًا مِنْ الْغَيْرِ ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُصَدِّقْهُ وَلَمْ يُكَذِّبْهُ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْمُقَرِّ لَهُ عَلَى اعْتِبَارِ تَصْدِيقِهِ فَيَصِيرُ كَوَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ غَيْرِ الْمُلَاعِنِ ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يُكَذِّبَ نَفْسَهُ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ النَّسَبَ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ بَعْدَ ثُبُوتِهِ وَالْإِقْرَارُ بِمِثْلِهِ لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ فَبَقِيَ فَتَمْتَنِعُ دَعْوَتُهُ ، كَمَنْ شَهِدَ عَلَى رَجُلٍ بِنَسَبِ صَغِيرٍ فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ لِتُهْمَةٍ ثُمَّ ادَّعَاهُ لِنَفْسِهِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْمُقَرِّ لَهُ عَلَى اعْتِبَارِ تَصْدِيقِهِ ، حَتَّى لَوْ صَدَّقَهُ بَعْدَ التَّكْذِيبِ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ ، وَكَذَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْوَلَدِ فَلَا يَرْتَدُّ بِرَدِّ الْمُقَرِّ لَهُ .
وَمَسْأَلَةُ الْوَلَاءِ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ ، وَلَوْ سَلِمَ فَالْوَلَاءُ قَدْ يَبْطُلُ بِاعْتِرَاضِ الْأَقْوَى كَجَرِّ الْوَلَاءِ مِنْ جَانِبِ الْأُمِّ إلَى قَوْمِ الْأَبِ .
وَقَدْ اعْتَرَضَ عَلَى الْوَلَاءِ الْمَوْقُوفِ مَا هُوَ أَقْوَى وَهُوَ دَعْوَى الْمُشْتَرِي فَيَبْطُلُ بِهِ ، بِخِلَافِ النَّسَبِ

عَلَى مَا مَرَّ .
وَهَذَا يَصْلُحُ مَخْرَجًا عَلَى أَصْلِهِ فِيمَنْ يَبِيعُ الْوَلَدَ وَيَخَافُ عَلَيْهِ الدَّعْوَةَ بَعْدَ ذَلِكَ فَيَقْطَعُ دَعْوَاهُ إقْرَارُهُ بِالنَّسَبِ لِغَيْرِهِ .

( قَالَ ) أَيْ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : ( وَإِذَا كَانَ الصَّبِيُّ فِي يَدِ رَجُلٍ قَالَ ) أَيْ ذَلِكَ الرَّجُلُ ( هُوَ ) أَيْ الصَّبِيُّ ( ابْنُ عَبْدِي فُلَانٍ الْغَائِبِ ثُمَّ قَالَ : هُوَ ابْنِي لَمْ يَكُنْ ابْنَهُ ) أَيْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الصَّبِيُّ ابْنَ ذَلِكَ الرَّجُلِ ( أَبَدًا ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ : يَعْنِي سَوَاءٌ صَدَّقَهُ الْعَبْدُ الْغَائِبُ أَوْ كَذَّبَهُ أَوْ لَمْ يُعْرَفْ مِنْهُ تَصْدِيقٌ وَلَا تَكْذِيبٌ .
وَقَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ : يَعْنِي وَإِنْ جَحَدَ الْعَبْدُ أَنْ يَكُونَ هُوَ ابْنَهُ .
أَقُولُ : لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ أَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى اسْتِدْرَاكُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ ( وَإِنْ جَحَدَ الْعَبْدُ أَنْ يَكُونَ ابْنَهُ ) سِيَّمَا عَلَى مَا قَالَهُ تَاجُ الشَّرِيعَةِ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى التَّأْكِيدِ تَقْرِيرًا لِكَوْنِ الْمَعْنَى هَذَا لَكِنَّ فِيهِ مَا فِيهِ ، وَقَدْ أَشَارَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ إلَى كَوْنِ الْمَعْنَى لَمْ يَكُنْ ابْنَهُ أَبَدًا : أَيْ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ لَا حَالًا وَلَا مُسْتَقْبَلًا حَيْثُ قَالَ فِي تَقْرِيرِ الْمَسْأَلَتَيْنِ : وَإِذَا كَانَ الصَّبِيُّ فِي يَدِ رَجُلٍ أَقَرَّ أَنَّهُ ابْنُ عَبْدِهِ فُلَانٍ أَوْ ابْنُ فُلَانٍ الْغَائِبِ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ ثُمَّ ادَّعَاهُ لِنَفْسِهِ لَمْ تَصِحَّ دَعْوَتُهُ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ لَا حَالًا وَلَا مُسْتَقْبَلًا انْتَهَى .
أَقُولُ : الْحَقُّ أَنَّ الْمُرَادَ هَاهُنَا هَذَا الْمَعْنَى لِوُجُوهٍ : أَحَدُهَا انْدِفَاعُ الِاسْتِدْرَاكِ الْمَذْكُورِ بِهِ وَهُوَ ظَاهِرٌ .
وَثَانِيهَا أَنَّ الْأَبَدَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى يَكُونُ عَلَى أَصْلِ مَعْنَاهُ وَهُوَ عُمُومُ الْأَوْقَاتِ وَعَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ يَصِيرُ مَصْرُوفًا عَنْهُ إلَى عُمُومِ الْأَحْوَالِ كَمَا تَرَى .
وَثَالِثُهَا أَنَّهُ يَظْهَرُ حِينَئِذٍ فَائِدَةُ تَقْيِيدِ فُلَانٍ بِالْغَائِبِ فِي وَضْعِ مَسْأَلَتِنَا دُونَ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ فَإِنَّ الْمُقَرَّ لَهُ الْحَاضِرَ وَالْغَائِبَ سِيَّانِ بِالنَّظَرِ إلَى الْأَحْوَالِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْمَعْنَى الْأَوَّلِ : أَعْنِي التَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ

وَالسُّكُوتَ عَنْهُمَا ، إذْ يُتَصَوَّرُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَحْوَالِ فِي وَقْتٍ مَا فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّقْيِيدِ بِالْغَائِبِ عَلَى إرَادَةِ عُمُومِ الْأَحْوَالِ .
وَأَمَّا بِالنَّظَرِ إلَى الْأَوْقَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْمَعْنَى : أَعْنِي الْحَالَ وَالْأَوْقَاتَ الْمُسْتَقْبَلَةَ فَهُمَا : أَيْ الْمُقَرُّ لَهُ الْحَاضِرُ وَالْغَائِبُ مُتَفَاوِتَانِ حَيْثُ لَا يُتَصَوَّرُ الْجُحُودُ مِنْ الْغَائِبِ فِي حَالٍ لِعَدَمِ عِلْمِهِ فِيهَا مَا أَقَرَّ بِهِ الْمُقِرُّ ، وَيُتَصَوَّرُ ذَلِكَ مِنْهُ فِي الِاسْتِقْبَالِ بِأَنْ يَعْلَمَهُ بَعْدَ أَنْ يَحْضُرَ ، بِخِلَافِ الْحَاضِرِ فَإِنَّهُ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْجُحُودُ فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ بِلَا فَرْقٍ بَيْنَهُمَا ، فَاحْتَمَلَ فِي حَقِّ الْغَائِبِ اخْتِصَاصُ الْحُكْمِ بِعَدَمِ كَوْنِ الصَّبِيِّ ابْنَ الْمُقِرِّ بِوَقْتٍ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْجُحُودُ مِنْ الْمُقَرِّ لَهُ وَهُوَ الْحَالُ وَلَمْ يَحْتَمِلْ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْحَاضِرِ ، فَلَوْ أَطْلَقَ فُلَانًا وَلَمْ يُقَيِّدْ بِالْغَائِبِ عَلَى إرَادَةِ عُمُومِ الْأَوْقَاتِ لَتَبَادَرَ إلَى الْفَهْمِ كَوْنُ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ عِنْدَ كَوْنِ الْمُقَرِّ لَهُ حَاضِرًا فَقَطْ ، وَلَمَّا قَيَّدْنَا بِالْغَائِبِ عُلِمَ ثُبُوتُ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ عِنْدَ كَوْنِ الْمُقَرِّ لَهُ غَائِبًا عِبَارَةً ، وَثُبُوتُهُ عِنْدَ كَوْنِهِ حَاضِرًا أَيْضًا دَلَالَةً ؛ فَظَهَرَ فَائِدَةُ التَّقْيِيدِ بِالْغَائِبِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى .
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لِهَذَا الْحُكْمِ أَنْ يَكُونَ الصَّبِيُّ فِي يَدِهِ ، وَذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَقَعَ اتِّفَاقًا نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ فِي التَّبْيِينِ ( وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) أَيْ حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى إطْلَاقِهِ إنَّمَا هُوَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَفِي الْمَبْسُوطِ لَكِنْ يُعْتَقُ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ مِنْ الْمَوْلَى ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ ( وَقَالَا : إذَا جَحَدَ الْعَبْدُ فَهُوَ ) أَيْ الصَّبِيُّ ( ابْنُ الْمَوْلَى ) يَعْنِي ادَّعَى الْمَوْلَى لِنَفْسِهِ

بَعْدَ جُحُودِ الْعَبْدِ نِسْبَةً كَذَا فِي النِّهَايَةِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ : ( وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا قَالَ ) أَيْ إذَا قَالَ الَّذِي فِي يَدِهِ الصَّبِيُّ : ( هُوَ ابْنُ فُلَانٍ وُلِدَ عَلَى فَرَاشِهِ ثُمَّ ادَّعَاهُ لِنَفْسِهِ ) هَذِهِ مِنْ مَسَائِلِ الْمَبْسُوطِ ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ تَفْرِيعًا ، كَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ ( لَهُمَا أَنَّ الْإِقْرَارَ ) أَيْ الْإِقْرَارَ بِالنَّسَبِ وَهُوَ قَوْلُهُ هُوَ ابْنُ عَبْدِي فُلَانٍ الْغَائِبِ ( ارْتَدَّ بِرَدِّ الْعَبْدِ فَصَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ الْإِقْرَارُ ) أَيْ فَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يُقِرَّ لِأَحَدٍ وَادَّعَاهُ لِنَفْسِهِ ( وَالْإِقْرَارُ بِالنَّسَبِ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ وَإِنْ كَانَ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ ) أَيْ وَإِنْ كَانَ النَّسَبُ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ ( أَلَا يُرَى أَنَّهُ ) أَيْ الْإِقْرَارَ بِالنَّسَبِ ( يَعْمَلُ فِيهِ الْإِكْرَاهُ وَالْهَزْلُ ) حَتَّى لَوْ أُكْرِهَ بِبُنُوَّةِ عَبْدٍ فَأَقَرَّ بِهَا لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ ، وَكَذَا لَوْ أَقَرَّ بِهَا هَازِلًا ( فَصَارَ ) أَيْ فَصَارَ حُكْمُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ( كَمَا إذَا أَقَرَّ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِإِعْتَاقِ الْمُشْتَرَى ) بِفَتْحِ الرَّاءِ ( فَكَذَّبَهُ الْبَائِعُ ثُمَّ قَالَ ) أَيْ الْمُشْتَرِي : ( أَنَا أَعْتَقْتُهُ يَتَحَوَّلُ الْوَلَاءُ إلَيْهِ ) أَيْ فَإِنَّهُ يَتَحَوَّلُ الْوَلَاءُ إلَى الْمُشْتَرِي وَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يُقِرَّ أَصْلًا ( بِخِلَافِ مَا إذَا صَدَّقَهُ ) أَيْ بِخِلَافِ مَا إذَا صَدَّقَ الْمُقَرُّ لَهُ الْمُقِرَّ فِي مَسْأَلَتِنَا حَيْثُ لَا يَصِحُّ فِيهِ دَعْوَةُ الْمَوْلَى بِالِاتِّفَاقِ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ الْمُقِرَّ ( يَدَّعِي بَعْدَ ذَلِكَ ) أَيْ بَعْدَ تَصْدِيقِ الْمُقَرِّ لَهُ إيَّاهُ ( نَسَبًا ثَابِتًا مِنْ الْغَيْرِ ) وَهُوَ لَا يَصِحُّ ( وَبِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُصَدِّقْهُ وَلَمْ يُكَذِّبْهُ ) بَلْ سَكَتَ عَنْ التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ حَيْثُ لَا يَصِحُّ فِيهِ أَيْضًا دَعْوَةُ الْمَوْلَى بِالِاتِّفَاقِ ( لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ ) أَيْ بِالصَّبِيِّ ( حَقُّ الْمُقَرِّ لَهُ عَلَى اعْتِبَارِ تَصْدِيقِهِ ) أَيْ عَلَى اعْتِبَارِ احْتِمَالِ تَصْدِيقِهِ ( فَيَصِيرُ كَوَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ ،

فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ غَيْرِ الْمُلَاعِنِ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يُكَذِّبَ نَفْسَهُ ) يَعْنِي أَنَّ الِاحْتِمَالَ جَانَبَ التَّصْدِيقَ تَأْثِيرًا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ .
كَمَا أَنَّ الِاحْتِمَالَ جَانَبَ التَّكْذِيبَ تَأْثِيرًا فِي وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ النَّسَبَ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ بَعْدَ ثُبُوتِهِ ) وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ ( وَالْإِقْرَارُ بِمِثْلِهِ ) أَيْ بِمِثْلِ مَا لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ بَعْدَ ثُبُوتِهِ ( لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ ) يَعْنِي وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْإِقْرَارُ بِهِ لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ : أَيْ لَا يَبْطُلُ بِالتَّكْذِيبِ ، كَمَنْ أَقَرَّ بِهِ بِحُرِّيَّةِ عَبْدِ إنْسَانٍ وَكَذَّبَهُ الْمَوْلَى لَا يَبْطُلُ إقْرَارُهُ ، حَتَّى لَوْ اشْتَرَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ يُعْتَقُ عَلَيْهِ كَمَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ وَذَكَرَ فِي الشُّرُوحِ ( فَبَقِيَ ) أَيْ فَبَقِيَ الْإِقْرَارُ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ فِي حَقِّ الْمُقَرِّ لَهُ ، كَذَا فِي الْكِفَايَةِ وَشَرْحِ تَاجِ الشَّرِيعَةِ ( فَتَمْتَنِعُ دَعْوَتُهُ ) أَيْ فَتَمْتَنِعُ دَعْوَةُ الْمُقِرِّ بَعْدَ الرَّدِّ أَيْضًا ( كَمَنْ شَهِدَ عَلَى رَجُلٍ بِنَسَبِ صَغِيرٍ فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ لِتُهْمَةٍ ) كَالْعِتْقِ وَالْقَرَابَةِ ( ثُمَّ ادَّعَاهُ ) أَيْ ثُمَّ ادَّعَاهُ الشَّاهِدُ ( لِنَفْسِهِ ) حَيْثُ لَا تَصِحُّ دَعْوَتُهُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِمَامَ فَخْرَ الْإِسْلَامِ ذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ حَيْثُ قَالَ : وَكَذَلِكَ مَنْ شَهِدَ عَلَى رَجُلٍ بِنَسَبِ صَغِيرٍ فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ بِعُذْرٍ ثُمَّ ادَّعَاهُ الشَّاهِدُ لَمْ تَصِحَّ انْتَهَى .
فَاقْتَفَى الْمُصَنِّفُ أَثَرَهُ فَأَوْرَدَهَا هَاهُنَا كَذَلِكَ .
وَأَمَّا شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَلَاءُ الدِّينِ الْإِسْبِيجَابِيُّ فَقَدْ ذَكَرَ أَنَّهَا أَيْضًا عَلَى هَذَا الْخِلَافِ حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِ الْكَافِي لِلْحَاكِمِ الشَّهِيدِ : وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا شَهِدَ أَنَّهُ ابْنُ فُلَانٍ فَلَمْ تُقْبَلْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ ثُمَّ ادَّعَاهُ لِنَفْسِهِ لَا تُقْبَلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا انْتَهَى (

وَهَذَا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ وَالْإِقْرَارُ بِمِثْلِهِ لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ ( لِأَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ ) أَيْ بِالنَّسَبِ ( حَقُّ الْمُقَرِّ لَهُ عَلَى اعْتِبَارِ تَصْدِيقِهِ ، حَتَّى لَوْ صَدَّقَهُ بَعْدَ التَّكْذِيبِ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ ) أَيْ مِنْ الْمُقَرِّ لَهُ ، وَلَمَّا جَازَ أَنْ يَثْبُتَ النَّسَبُ مِنْهُ بَعْدَ التَّكْذِيبِ بَقِيَ لَهُ حَقُّ الدَّعْوَةِ وَمَعَ بَقَاءِ حَقِّهِ لَا تَصِحُّ دَعْوَةُ الْمُقِرِّ كَمَا إذَا لَمْ يُصَدِّقْهُ وَلَمْ يُكَذِّبْهُ ، ( وَكَذَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْوَلَدِ ) مِنْ جِهَةِ احْتِيَاجِهِ إلَى النَّسَبِ ( فَلَا يَرْتَدُّ بِرَدِّ الْمُقَرِّ لَهُ ) لِتَعَلُّقِ حَقِّهِ وَحَقِّ الْوَلَدِ .
هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُشْرَحَ هَذَا الْمَقَامُ ، وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى مَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا مَا لَا يُسَاعِدُهُ تَقْرِيرُ الْمُصَنِّفِ وَلَا يُطَابِقُهُ تَحْرِيرُهُ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ ( وَمَسْأَلَةُ الْوَلَاءِ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ ) إشَارَةٌ إلَى الْجَوَابِ عَنْ اسْتِشْهَادِهِمَا بِمَسْأَلَةِ الْوَلَاءِ بِأَنَّهَا أَيْضًا عَلَى هَذَا الْخِلَافِ فَلَا تَنْتَهِضُ شَاهِدَةً لِمَا قَالَاهُ وَحُجَّةً عَلَى مَا قَالَهُ ( وَلَوْ سَلِمَ ) أَيْ وَلَوْ سَلِمَ كَوْنُ مَسْأَلَةِ الْوَلَاءِ عَلَى الِاتِّفَاقِ ( فَالْوَلَاءُ قَدْ يَبْطُلُ بِاعْتِرَاضِ الْأَقْوَى كَجَرِّ الْوَلَاءِ مِنْ جَانِبِ الْأُمِّ إلَى قَوْمِ الْأَبِ ) .
صُورَتُهُ : مُعْتَقَةٌ تَزَوَّجَتْ بِعَبْدٍ وَوَلَدَتْ مِنْهُ أَوْلَادًا فَجَنَى الْأَوْلَادُ كَانَ عَقْلُ جِنَايَتِهِمْ عَلَى مَوَالِي الْأُمِّ لِأَنَّ الْأَبَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْوَلَاءِ فَكَانَ الْوَلَدُ مُلْحَقًا بِقَوْمِ الْأُمِّ ، فَإِنْ أُعْتِقَ الْعَبْدُ جَرَّ وَلَاءَ الْأَوْلَادِ إلَى نَفْسِهِ ، كَذَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، ذَكَرَهُ قَاضِي خَانْ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ ( وَقَدْ اعْتَرَضَ عَلَى الْوَلَاءِ الْمَوْقُوفِ ) وَهُوَ الْوَلَاءُ مِنْ جَانِبِ الْبَائِعِ ، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ مَوْقُوفًا لِأَنَّهُ عَلَى عَرْضِيَّةِ التَّصْدِيقِ بَعْدَ التَّكْذِيبِ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا ( مَا هُوَ أَقْوَى وَهُوَ

دَعْوَى الْمُشْتَرِي ) لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُ قَائِمٌ فِي الْحَالِ فَكَانَ دَعْوَى الْوَلَاءِ مُصَادِفًا لِمَحَلِّهِ لِوُجُودِ شَرْطِهِ وَهُوَ قِيَامُ الْمِلْكِ ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَأَكْثَرِ الشُّرَّاحِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : فِيهِ بَحْثٌ ؛ لِأَنَّهُ كَيْفَ يَقُومُ الْمِلْكُ وَهُوَ مُقِرٌّ بِأَنَّهُ مُعْتِقٌ .
قَالَ فِي الْكَافِي : إنَّ الْمُشْتَرَى إذَا أَقَرَّ أَنَّ الْبَائِعَ كَانَ أَعْتَقَ مَا بَاعَهُ وَكَذَّبَهُ الْبَائِعُ فَإِنَّهُ لَا يَبْطُلُ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ يُعْتَقُ عَنْ الْمُقِرِّ انْتَهَى .
وَلَا يَخْفَى دَلَالَتُهُ عَلَى مَا قُلْنَاهُ إلَى هُنَا كَلَامُ ذَلِكَ الْبَعْضِ .
أَقُولُ : بَحْثُهُ ظَاهِرُ السُّقُوطِ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ إنَّمَا أَقَرَّ أَوَّلًا بِأَنَّ مَا اشْتَرَاهُ مُعْتَقُ الْبَائِعِ لَا بِأَنَّهُ مُعْتَقُ نَفْسِهِ وَقَدْ كَذَّبَهُ الْبَائِعُ ، وَهَذَا لَا يُنَافِي قِيَامَ الْمِلْكِ لَهُ فِي الْحَالِ : أَيْ فِي حَالِ الْإِعْتَاقِ لِنَفْسِهِ ثَانِيًا ، وَإِنَّمَا لَا يَقُومُ الْمِلْكُ لَهُ فِي الْحَالِ لَوْ كَانَ أَقَرَّ ابْتِدَاءً بِأَنَّهُ مُعْتَقُ نَفْسِهِ ، أَوْ كَانَ أَقَرَّ بِأَنَّهُ مُعْتَقُ الْبَائِعِ وَصَدَّقَهُ الْبَائِعُ وَلَيْسَ فَلَيْسَ .
وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ فِي الْكَافِي فَعَلَى تَقْدِيرِ تَمَامِهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا عَلَى كَوْنِ مَسْأَلَةِ الْوَلَاءِ أَيْضًا عَلَى هَذَا الْخِلَافِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ أَوَّلًا حَيْثُ قَالَ : وَمَسْأَلَةُ الْوَلَاءِ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَبْنِيَّ الْكَلَامِ هَاهُنَا عَلَى تَسْلِيمِ كَوْنِ بُطْلَانِ الْإِقْرَارِ وَتَحَوُّلِ الْوَلَاءِ فِي مَسْأَلَةِ الْوَلَاءِ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ كَمَا يُفْصِحُ عَنْهُ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَلَوْ سَلِمَ إلَخْ ، وَحِينَئِذٍ لَا شَكَّ فِي قِيَامِ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي إلَى حَالِ دَعْوَى الْإِعْتَاقِ لِنَفْسِهِ فَلَا وَجْهَ لِاشْتِبَاهِ الْمَقَامِ وَخَلْطِ الْكَلَامِ ( فَبَطَلَ بِهِ ) أَيْ بَطَلَ الْوَلَاءُ الْمَوْقُوفُ بِاعْتِرَاضِ مَا هُوَ الْأَقْوَى الَّذِي هُوَ دَعْوَى الْمُشْتَرِي ( بِخِلَافِ النَّسَبِ ) يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ بِاعْتِرَاضِ شَيْءٍ أَصْلًا ( عَلَى مَا مَرَّ ) وَهَذَا

إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ : إنَّ النَّسَبَ بِمَا لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ بَعْدَ ثُبُوتِهِ ، وَعَلَيْهِ أَخَذَ أَكْثَرُ الشُّرَّاحِ .
قَالَ فِي الْكَافِي : بِخِلَافِ النَّسَبِ كَمَا مَرَّ فِي وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ غَيْرِ الْمُلَاعِنِ لِاحْتِمَالِ ثُبُوتِهِ مِنْ الْمُلَاعِنِ انْتَهَى .
وَحَمَلَ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ أَيْضًا .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ النَّسَبَ أَلْزَمُ مِنْ الْوَلَاءِ ، فَإِنَّ الْوَلَاءَ يَقْبَلُ الْبُطْلَانَ فِي الْجُمْلَةِ وَالنَّسَبَ لَا يَقْبَلُهُ أَصْلًا فَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ النَّسَبِ عَلَى الْوَلَاءِ ( وَهَذَا ) أَيْ إقْرَارُ الْبَائِعِ بِنَسَبِ مَا بَاعَهُ لِغَيْرِهِ ( يَصْلُحُ مَخْرَجًا ) أَيْ حِيلَةً ( عَلَى أَصْلِهِ ) أَيْ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ( فِيمَنْ يَبِيعُ الْوَلَدَ وَيَخَافُ عَلَيْهِ ) أَيْ يَخَافُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْوَلَدِ ( الدَّعْوَةَ بَعْدَ ذَلِكَ ) مِنْ الْبَائِعِ ( فَيَقْطَعُ دَعْوَاهُ ) أَيْ فَإِنَّهُ يَقْطَعُ دَعْوَى الْبَائِعِ ( بِإِقْرَارِهِ بِالنَّسَبِ لِغَيْرِهِ ) قَالَ الْإِمَامُ الْمَحْبُوبِيُّ : صُورَتُهُ رَجُلٌ فِي يَدِهِ صَبِيٌّ وُلِدَ فِي مِلْكِهِ وَهُوَ يَبِيعُهُ وَلَا يَأْمَنُ الْمُشْتَرِي أَنْ يَدَّعِيَهُ الْبَائِعُ يَوْمًا فَيَنْتَقِضُ الْبَيْعُ فَيُقِرُّ الْبَائِعُ بِكَوْنِ الصَّبِيِّ ابْنَ عَبْدِهِ الْغَائِبِ حَتَّى يَأْمَنَ الْمُشْتَرِي مِنْ انْتِقَاضِ الْبَيْعِ بِالدَّعْوَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّ هَذَا يَكُونُ حِيلَةً عِنْدَهُ .
وَفِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ : الْحِيلَةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى قَوْلِ الْكُلِّ أَنْ يُقِرَّ الْبَائِعُ أَنَّ هَذَا ابْنُ عَبْدِهِ الْمَيِّتِ حَتَّى لَا يَتَأَتَّى فِيهِ تَكْذِيبٌ فَيَكُونُ مُخْرَجًا عَنْ قَوْلِ الْكُلِّ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ .

قَالَ : ( وَإِذَا كَانَ الصَّبِيُّ فِي يَدِ مُسْلِمٍ وَنَصْرَانِيٍّ فَقَالَ النَّصْرَانِيُّ : هُوَ ابْنِي وَقَالَ الْمُسْلِمُ هُوَ عَبْدِي فَهُوَ ابْنُ النَّصْرَانِيِّ وَهُوَ حُرٌّ ) لِأَنَّ الْإِسْلَامَ مُرَجِّحٌ فَيَسْتَدْعِي تَعَارُضًا ، وَلَا تَعَارُضَ لِأَنَّ نَظَرَ الصَّبِيِّ فِي هَذَا أَوْفَرُ لِأَنَّهُ يَنَالُ شَرَفَ الْحُرِّيَّةِ حَالًا وَشَرَفَ الْإِسْلَامِ مَآلًا ، إذْ دَلَائِلُ الْوَحْدَانِيَّةِ ظَاهِرَةٌ ، وَفِي عَكْسِهِ الْحُكْمُ بِالْإِسْلَامِ تَبَعًا وَحِرْمَانُهُ عَنْ الْحُرِّيَّةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ اكْتِسَابُهَا ( وَلَوْ كَانَتْ دَعْوَتُهُمَا دَعْوَةَ الْبُنُوَّةِ فَالْمُسْلِمُ أَوْلَى ) تَرْجِيحًا لِلْإِسْلَامِ وَهُوَ أَوْفَرُ النَّظَرَيْنِ .

( قَالَ ) أَيْ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : ( وَإِذَا كَانَ الصَّبِيُّ فِي يَدِ مُسْلِمٍ وَنَصْرَانِيٍّ فَقَالَ النَّصْرَانِيُّ : هُوَ ابْنِي وَقَالَ الْمُسْلِمُ : هُوَ عَبْدِي فَهُوَ ابْنُ النَّصْرَانِيِّ وَهُوَ حُرٌّ ) وَفِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ وَغَيْرِهَا : هُوَ ابْنُ النَّصْرَانِيِّ إذَا كَانَتْ الدَّعْوَتَانِ مَعًا ، فَكَانَ قَوْلُهُ مَعًا إشَارَةً إلَى أَنَّ دَعْوَى الْمُسْلِمِ لَوْ سَبَقَتْ عَلَى دَعْوَى النَّصْرَانِيِّ يَكُونُ عَبْدًا لِلْمُسْلِمِ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ : قَالَ الْمُصَنِّفُ : ( لِأَنَّ الْإِسْلَامَ مُرَجِّحٌ ) بِكَسْرِ الْجِيمِ ( فَيَسْتَدْعِي تَعَارُضًا ) يَعْنِي أَنَّ الْإِسْلَامَ مُرَجِّحٌ أَيْنَمَا كَانَ وَالتَّرْجِيحُ يَسْتَدْعِي تَعَارُضًا ( وَلَا تَعَارُضَ ) أَيْ لَا تَعَارُضَ هَاهُنَا لِأَنَّ التَّعَارُضَ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ وُجُودِ الْمُسَاوَاةِ وَلَا مُسَاوَاةَ هَاهُنَا ( لِأَنَّ نَظَرَ الصَّبِيِّ فِي هَذَا أَوْفَرُ ) يَعْنِي أَنَّ النَّظَرَ لِلصَّبِيِّ وَاجِبٌ وَنَظَرَهُ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ أَوْفَرُ ( لِأَنَّهُ يَنَالُ شَرَفَ الْحُرِّيَّةِ حَالًا وَشَرَفَ الْإِسْلَامِ مَآلًا إذْ دَلَائِلُ الْوَحْدَانِيَّةِ ظَاهِرَةٌ ، وَفِي عَكْسِهِ ) أَيْ وَفِي عَكْسِ مَا ذَكَرْنَاهُ ( الْحُكْمُ بِالْإِسْلَامِ تَبَعًا ) أَيْ يَنَالُ الْحُكْمَ بِالْإِسْلَامِ تَبَعًا ( وَحِرْمَانُهُ عَنْ الْحُرِّيَّةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ اكْتِسَابُهَا ) أَيْ لَيْسَ فِي وُسْعِ الصَّبِيِّ اكْتِسَابُ الْحُرِّيَّةِ فَانْتَفَى الْمُسَاوَاةُ ، كَذَا رَأَى أَكْثَرُ الشُّرَّاحِ فِي حَلِّ هَذَا الْمَقَامِ ، وَهُوَ الْحَقِيقُ عِنْدِي أَيْضًا بِأَنَّ يُرَادُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ شَرْحِ الْمَقَامِ بِهَذَا الْمِنْوَالِ : وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : هَذَا مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ } وَدَلَائِلُ التَّوْحِيدِ وَإِنْ كَانَتْ ظَاهِرَةً لَكِنَّ الْإِلْفَ بِالدِّينِ مَانِعٌ قَوِيٌّ ؛ أَلَا يَرَى إلَى كُفْرِ آبَائِهِ مَعَ ظُهُورِ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَضَانَةِ أَنَّ الذِّمِّيَّةَ أَحَقُّ بِوَلَدِهَا الْمُسْلِمِ مَا لَمْ

يَعْقِلْ الْأَدْيَانَ أَوْ يُخَافُ أَنْ يَأْلَفَ الْكُفْرَ لِلنَّظَرِ قَبْلَ ذَلِكَ وَاحْتِمَالُ الضَّرَرِ بَعْدَهُ انْتَهَى .
وَأَوْرَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى قَوْلِهِ : وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : هَذَا مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ } بِأَنْ قَالَ فِيهِ بَحْثٌ .
لِأَنَّا نَقُولُ : إنَّ الْإِيمَانَ لَيْسَ خَيْرًا مِنْ الْإِشْرَاكِ حَتَّى يُخَالَفَ ، بَلْ نَقُولُ : كَمَا أَنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ كَذَلِكَ شَرَفُ الْحُرِّيَّةِ خَيْرٌ مِنْ ذُلِّ الرِّقِّيَّةِ ، وَكَسْبُ الْإِسْلَامِ فِي وُسْعِهِ دُونَ كَسْبِ الْحُرِّيَّةِ ، فَالنَّظَرُ لِلصَّبِيِّ يَقْتَضِي الْحُكْمَ بِحُرِّيَّتِهِ انْتَهَى .
أَقُولُ : لَيْسَ مُرَادُ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ أَنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ بِمُجَرَّدِ دَلَالَةِ الْكِتَابِ عَلَى أَنَّ صِفَةَ الْإِيمَانِ خَيْرٌ مِنْ صِفَةِ الْإِشْرَاكِ حَتَّى يُفِيدَ مَا ذَكَرَهُ ذَلِكَ الْبَعْضُ ، بَلْ مُرَادُهُ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ وَإِنْ كَانَ رَقِيقًا خَيْرٌ مِنْ الْمُشْرِكِ وَإِنْ كَانَ حُرًّا .
أَمَّا عَلَى كَوْنِ الْأَمَةِ وَالْعَبْدِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ } وقَوْله تَعَالَى { وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ } مَحْمُولَيْنِ عَلَى ظَاهِرِهِمَا : أَعْنِي الرَّقِيقَ وَالرَّقِيقَةَ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ قَوْلُ بَعْضِ كِبَارِ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ الْمَقَامِ مِنْ النَّظْمِ الشَّرِيفِ : يَعْنِي أَنَّ الْمُؤْمِنَ وَلَوْ كَانَ مَعَهُ خَسَاسَةُ الرِّقِّ خَيْرٌ مِنْ الْكَافِرِ وَلَوْ كَانَ مَعَهُ شَرَفُ الْحُرِّيَّةِ ، فَإِنَّ شَرَفَهَا لَا يُجْدِي نَفْعًا مَعَ الْكُفْرِ ، وَدَنَاءَةُ الرِّقِّ لَا تَضُرُّ مَعَ شَرَفِ الْإِيمَانِ انْتَهَى ، فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ .
وَأَمَّا عَلَى كَوْنِ الْأَمَةِ وَالْعَبْدِ فِيهِمَا بِمَعْنَى عَبْدِ اللَّهِ وَأَمَتِهِ عَامَّيْنِ لِلْحُرِّ وَالْحُرَّةِ أَيْضًا كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ صَاحِبُ الْكَشَّافِ وَأَضْرَا بِهِ حَيْثُ قَالُوا فِي تَفْسِيرِ الْآيَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ : أَيْ وَلَا امْرَأَةٌ مُؤْمِنَةٌ حُرَّةً كَانَتْ أَوْ مَمْلُوكَةً ،

وَكَذَلِكَ وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ لِأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ عَبِيدُ اللَّهِ وَإِمَاؤُهُ انْتَهَى ، فَلِأَنَّ الرَّقِيقَ الْمُؤْمِنَ يَنْدَرِجُ حِينَئِذٍ فِي عَبْدٍ مُؤْمِنٍ قَطْعًا فَيَكُونُ خَيْرًا مِنْ مُشْرِكٍ وَإِنْ كَانَ حُرًّا ، وَدَلَالَةُ ظَاهِرِ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ فِي مَسْأَلَتِنَا عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ النَّائِلَ شَرَفَ الْحُرِّيَّةِ مَعَ كَوْنِ كَسْبِ الْإِيمَانِ فِي وُسْعِهِ خَيْرٌ مِنْ الرَّقِيقِ الْمَحْكُومِ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا مَعَ حِرْمَانِهِ عَنْ الْحُرِّيَّةِ فَتُفْهَمُ الْمُخَالَفَةُ لِلْكِتَابِ ، وَهَذَا تَوْجِيهُ كَلَامِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ عَلَى وَفْقِ مَرَامِهِ فَلَا يُتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْبَحْثُ الْمَذْكُورُ .
ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ قَوْله تَعَالَى { اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ } يُوجِبُ دَعْوَةَ الْأَوْلَادِ لِآبَائِهِمْ ، وَمُدَّعِي النَّسَبِ أَبٌ لِأَنَّ دَعْوَتَهُ لَا تَحْتَمِلُ النَّقْضَ فَتَعَارَضَتْ الْآيَتَانِ .
وَفِي الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمَرْحَمَةِ بِالصِّبْيَانِ نَظَرًا لَهَا كَثْرَةٌ فَكَانَتْ أَقْوَى مِنْ الْمَانِعِ ، وَكُفْرُ الْآبَاءِ جُحُودٌ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ ؛ أَلَا يَرَى إلَى انْتِشَارِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْكُفْرِ فِي الْآفَاقِ ، وَبِتَرْكِ الْحَضَانَةِ لَا يَلْزَمُ رِقٌّ فَيُقْلَعُ مِنْهَا ، بِخِلَافِ تَرْكِ النَّسَبِ هَاهُنَا فَإِنَّ الْمَصِيرَ بَعْدَهُ إلَى الرِّقِّ وَهُوَ ضَرَرٌ عَظِيمٌ لَا مَحَالَةَ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ بَحْثٌ لِأَنَّ كَوْنَ مُدَّعِي النَّسَبِ أَبًا أَوَّلُ الْمَسْأَلَةِ فَذِكْرُهُ هَاهُنَا مُؤَدٍّ إلَى الْمُصَادَرَةِ ، وَقَوْلُهُ : لِأَنَّ دَعْوَتَهُ لَا تَحْتَمِلُ النَّقْضَ لَيْسَ بِشَيْءٍ ، لِأَنَّ دَعْوَتَهُ إنَّمَا لَا تَحْتَمِلُ النَّقْضَ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَقْبُولَةً بِحَسَبِ الشَّرْعِ رَاجِحَةً عَلَى دَعْوَى الْمُسْلِمِ وَهُوَ أَوَّلُ الْمَسْأَلَةِ أَيْضًا .
وَقَوْلُهُ : وَفِي الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمَرْحَمَةِ بِالصِّبْيَانِ نَظَرٌ لَهَا كَثْرَةٌ فَكَانَتْ أَقْوَى مِنْ الْمَانِعِ كَلَامٌ خَالٍ عَنْ التَّحْصِيلِ هَاهُنَا ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْمَرْحَمَةِ بِالصِّبْيَانِ وَالنَّظَرِ لَهُمْ مِمَّا لَا

شُبْهَةَ فِيهِ لِأَحَدٍ ، لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي أَنَّ مَا يُؤَدِّي إلَى الْإِلْفِ بِالْكُفْرِ الْمَانِعِ عَنْ الْإِسْلَامِ مُنَافٍ لِلْمَرْحَمَةِ بِهِمْ وَلِلنَّظَرِ لَهُمْ فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ فَكَانَتْ أَقْوَى مِنْ الْمَانِعِ كَمَا لَا يَخْفَى .
ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْكِفَايَةِ وَتَاجَ الشَّرِيعَةِ قَالَا فِي شَرْحِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَلَا تَعَارُضَ : أَيْ بَيْنَ دَعْوَى الرِّقِّ وَدَعْوَى النَّسَبِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِوَاحِدٍ وَابْنًا لِآخَرَ انْتَهَى .
فَكَأَنَّهُمَا أَخَذَا هَذَا الْمَعْنَى مِمَّا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكَافِي حَيْثُ قَالَ : وَلَوْ كَانَ صَبِيٌّ فِي يَدِ مُسْلِمٍ وَنَصْرَانِيٍّ فَقَالَ النَّصْرَانِيُّ : هُوَ ابْنِي وَقَالَ الْمُسْلِمُ هُوَ عَبْدِي فَهُوَ حُرٌّ ابْنُ النَّصْرَانِيِّ إذَا ادَّعَيَا مَعًا ، وَلَوْ كَانَتْ دَعْوَتُهُمَا الْبُنُوَّةَ فَالْمُسْلِمُ أَوْلَى .
وَالْفَرْقُ أَنَّهُمَا فِي دَعْوَى النَّسَبِ اسْتَوَيَا فَتَرَجَّحَ الْمُسْلِمُ بِالْإِسْلَامِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالنَّسَبِ مِنْ الْمُسْلِمِ قَضَاءٌ بِإِسْلَامِهِ ، وَفِيمَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ الدَّعْوَتَيْنِ : أَيْ دَعْوَى الرِّقِّ وَدَعْوَى النَّسَبِ ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِوَاحِدٍ وَابْنًا لِآخَرَ حَتَّى يَثْبُتَ التَّرْجِيحُ بِالْإِسْلَامِ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الَّذِي يَدَّعِيهِ النَّصْرَانِيُّ فِي مَسْأَلَتِنَا هُوَ بُنُوَّةُ الصَّبِيِّ لَهُ حُرًّا لَا مُطْلَقَ بُنُوَّتِهِ لَهُ ، وَأَنَّ الَّذِي يُحْكَمُ بِهِ لَهُ هُوَ ثُبُوتُ نَسَبِ الصَّبِيِّ مِنْهُ حُرًّا كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ لَا ثُبُوتُ نَسَبِهِ مِنْهُ عَبْدًا لِلْآخَرِ وَإِلَّا لَلَزِمَ الْجَمْعُ بَيْنَ قَوْلَيْهِمَا وَالْحُكْمُ لَهُمَا مَعًا ، بَلْ لَا يُتَصَوَّرُ النِّزَاعُ بَيْنَهُمَا رَأْسًا ، وَلَا شَكَّ أَنَّ بَيْنَ دَعْوَى الرِّقِّ وَبَيْنَ دَعْوَى النَّسَبِ عَلَى الْحُرِّيَّةِ تَعَارُضًا بَيِّنًا فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ .
ثُمَّ إنَّ فِي تَحْرِيرِ الْمُصَنِّفِ مَانِعًا آخَرَ عَنْ الْحَمْلِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ : لِأَنَّ نَظَرَ الصَّبِيِّ فِي هَذَا أَوْفَرُ إلَخْ لَا يَصْلُحُ أَنْ

يَكُونَ دَلِيلًا عَلَى قَوْلِهِ وَلَا تَعَارَضَ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ مُرَادِهِ بِوَجْهِ عَدَمِ التَّعَارُضِ هَذَا الْمَعْنَى ، فَكَأَنَّ صَاحِبَ الْكَافِي تَنَبَّهَ لِهَذَا حَيْثُ غَيَّرَ تَحْرِيرَ الْمُصَنِّفِ فَقَالَ بَعْدَ كَلَامِهِ الْمَذْكُورِ عَلَى وَجْهِ التَّنْوِيرِ ، أَلَا يَرَى أَنَّ التَّرْجِيحَ بِالْإِسْلَامِ وَاجِبٌ فِي النَّسَبِ نَظَرًا لِلصَّغِيرِ وَنَظَرُ الصَّبِيِّ فِي هَذَا أَوْفَرُ إلَخْ .
أَمَّا صَاحِبُ الْكِفَايَةِ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى شَرْحِهِ الْمَذْكُورِ شَيْئًا آخَرَ فَكَأَنَّهُ غَافِلٌ بِالْكُلِّيَّةِ .
وَأَمَّا تَاجُ الشَّرِيعَةِ فَقَدْ تَنَبَّهَ لِهَذَا وَتَدَارَكَهُ حَيْثُ قَالَ : فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ : لِأَنَّ نَظَرَ الصَّبِيِّ فِي هَذَا أَوْفَرُ دَلِيلًا عَلَى قَوْلِهِ فَهُوَ ابْنُ النَّصْرَانِيِّ لَا دَلِيلًا عَلَى نَفْيِ الْمُعَارَضَةِ ، وَقَالَ : كَذَا سَمِعْته مِنْ الْإِمَامِ الْأُسْتَاذِ انْتَهَى .
لَكِنْ يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُصَنِّفَ قَدْ ذَكَرَ الدَّلِيلَ عَلَى قَوْلِهِ فَهُوَ ابْنُ النَّصْرَانِيِّ وَهُوَ حُرٌّ بِقَوْلِهِ : لِأَنَّ الْإِسْلَامَ مُرَجِّحٌ فَيَسْتَدْعِي تَعَارُضًا وَلَا تَعَارُضَ ، فَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ لِأَنَّ نَظَرَ الصَّبِيِّ إلَخْ دَلِيلًا عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا لَكَانَ دَلِيلًا ثَانِيًا فَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يُذْكَرَ بِالْوَاوِ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ الثَّانِي عَلَى تَعْلِيلِ الْمُعَلَّلِ فَتَأَمَّلْ ( وَلَوْ كَانَتْ دَعْوَتُهُمَا ) أَيْ دَعْوَةُ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ ( دَعْوَةَ الْبُنُوَّةِ فَالْمُسْلِمُ أَوْلَى تَرْجِيحًا لِلْإِسْلَامِ وَهُوَ أَوْفَرُ النَّظَرَيْنِ ) أَيْ لِلصَّبِيِّ .
وَنُوقِضَ هَذَا بِغُلَامٍ نَصْرَانِيٍّ بَالِغٍ ادَّعَى عَلَى نَصْرَانِيٍّ وَنَصْرَانِيَّةٍ أَنَّهُ ابْنُهُمَا وَادَّعَاهُ مُسْلِمٌ وَمُسْلِمَةٌ أَنَّهُ ابْنُهُمَا وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الطَّرَفَيْنِ بَيِّنَةً فَقَدْ تَسَاوَتْ الدَّعْوَتَانِ مَعَ أَنَّ بَيِّنَةَ الْغُلَامِ أَوْلَى وَلَمْ يَتَرَجَّحْ جَانِبُ الْإِسْلَامِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ وَإِنْ اسْتَوَيَا فِي إثْبَاتِ النَّسَبِ بِفِرَاشِ النِّكَاحِ لَكِنْ تَرَجَّحَتْ بَيِّنَةُ الْغُلَامِ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ يُثْبِتُ حَقًّا

لِنَفْسِهِ لِأَنَّ مُعْظَمَ الْمَنْفَعَةِ فِي النَّسَبِ لِلْوَلَدِ دُونَ الْوَالِدَيْنِ لِأَنَّ الْوَلَدَ يُعَيَّرُ بِعَدَمِ الْأَبِ الْمَعْرُوفِ وَالْوَالِدَانِ لَا يُعَيَّرَانِ بِعَدَمِ الْوَلَدِ ، وَبَيِّنَةُ مَنْ يُثْبِتُ حَقًّا لِنَفْسِهِ أَوْلَى ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ أَضْعَفُ مِنْ الْإِسْلَامِ فِي التَّرْجِيحِ لَا مَحَالَةَ .
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ تَقَوَّى بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي } لِأَنَّهُ أَشْبَهُ الْمُدَّعِيَيْنِ لِكَوْنِهِ يَدَّعِي حَقًّا لِنَفْسِهِ ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ .
أَقُولُ : وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إنْ تَقَوَّى هَذَا بِذَلِكَ النَّصِّ فَقَدْ تَقَوَّى رُجْحَانُ الْإِسْلَامِ بِأَلْفِ نَصٍّ ، مِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى } .

قَالَ ( وَإِذَا ادَّعَتْ امْرَأَةٌ صَبِيًّا أَنَّهُ ابْنُهَا لَمْ تَجُزْ دَعْوَاهَا حَتَّى تَشْهَدَ امْرَأَةٌ عَلَى الْوِلَادَةِ ) وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ ذَاتَ زَوْجٍ لِأَنَّهَا تَدَّعِي تَحْمِيلَ النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ فَلَا تُصَدَّقُ إلَّا بِحُجَّةٍ ، بِخِلَافِ الرَّجُلِ لِأَنَّهُ يُحَمِّلُ نَفْسَهُ النَّسَبَ ، ثُمَّ شَهَادَةُ الْقَابِلَةِ كَافِيَةٌ فِيهَا لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى تَعْيِينِ الْوَلَدِ .
أَمَّا النَّسَبُ فَيَثْبُتُ بِالْفِرَاشِ الْقَائِمِ ، وَقَدْ صَحَّ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَبِلَ شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ عَلَى الْوِلَادَةِ } ( وَلَوْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً فَلَا بُدَّ مِنْ حُجَّةٍ تَامَّةٍ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَدْ مَرَّ فِي الطَّلَاقِ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَنْكُوحَةً وَلَا مُعْتَدَّةً قَالُوا : يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهَا بِقَوْلِهَا لِأَنَّ فِيهِ إلْزَامًا عَلَى نَفْسِهَا دُونَ غَيْرِهَا .
( وَإِنْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ وَزَعَمَتْ أَنَّهُ ابْنُهُمَا مِنْهُ وَصَدَّقَهَا فَهُوَ ابْنُهُمَا وَإِنْ لَمْ تَشْهَدْ امْرَأَةٌ ) لِأَنَّهُ الْتَزَمَ نَسَبَهُ فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ الْحُجَّةِ .

( قَالَ ) أَيْ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ( وَإِذَا ادَّعَتْ امْرَأَةٌ صَبِيًّا أَنَّهُ ابْنُهَا لَمْ تَجُزْ دَعْوَتُهَا حَتَّى تَشْهَدَ امْرَأَةٌ عَلَى الْوِلَادَةِ ) قَالَ الْمُصَنِّفُ : اقْتِفَاءُ أَثَرِ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ فِي تَقْيِيدِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ( وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ ذَاتَ زَوْجٍ ) وَادَّعَتْ أَنَّهُ ابْنُهَا مِنْ هَذَا الزَّوْجِ وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ ذَلِكَ ( لِأَنَّهَا تَدَّعِي تَحْمِيلَ النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ ) وَهُوَ الزَّوْجُ ( فَلَا تُصَدَّقُ إلَّا بِحُجَّةٍ ) يَعْنِي أَنَّ الْمَرْأَةَ تَقْصِدُ إلْزَامَ النَّسَبِ عَلَى الزَّوْجِ وَالْإِلْزَامُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْحُجَّةِ ، وَسَبَبُ لُزُومِ النَّسَبِ وَإِنْ كَانَ قَائِمًا وَهُوَ النِّكَاحُ لَكِنَّ الْحَاجَةَ إلَى إثْبَاتِ الْوِلَادَةِ وَالنِّكَاحِ لَا تُوجِبُ الْوِلَادَةَ لَا مَحَالَةَ ، وَلَا تَثْبُتُ الْوِلَادَةُ وَتَعْيِينُ الْوَلَدِ إلَّا بِحُجَّةٍ فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ حُجَّةٍ .
كَذَا فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ ( بِخِلَافِ الرَّجُلِ ) أَيْ الزَّوْجِ حَيْثُ يُصَدَّقُ فِي دَعْوَةِ الْوَلَدِ مِنْ غَيْرِ شَهَادَةِ أَحَدٍ وَإِنْ أَنْكَرَتْ الْمَرْأَةُ ( لِأَنَّهُ يُحَمِّلُ نَفْسَهُ النَّسَبَ ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ : تَحَمَّلَ عَلَى نَفْسِهِ النَّسَبَ ( ثُمَّ شَهَادَةُ الْقَابِلَةِ كَافِيَةٌ فِيهَا ) أَيْ فِي دَعْوَى الْمَرْأَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَارَّةِ ( لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى تَعْيِينِ الْوَلَدِ ) بِأَنَّهُ الَّذِي وَلَدَتْهُ تِلْكَ الْمَرْأَةُ وَشَهَادَةُ الْقَابِلَةِ حُجَّةٌ فِيهِ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ فَيُقْبَلُ فِيهِ قَوْلُ النِّسَاءِ ( أَمَّا النَّسَبُ فَيَثْبُتُ بِالْفِرَاشِ الْقَائِمِ ) يَعْنِي أَمَّا النَّسَبُ فَيَثْبُتُ بِالْفِرَاشِ الْقَائِمِ فِي الْحَالِ ، فَلَا حَاجَةَ إلَى إثْبَاتِهِ حَتَّى تَلْزَمَ الْحُجَّةُ التَّامَّةُ ( وَقَدْ صَحَّ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبِلَ شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ عَلَى الْوِلَادَةِ } ) فَكَانَتْ حُجَّةً فِيهَا ( وَلَوْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً فَلَا بُدَّ مِنْ حُجَّةٍ تَامَّةٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) يَعْنِي هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِيمَا إذَا

كَانَتْ مَنْكُوحَةً ، أَمَّا إذَا لَمْ تَكُنْ مَنْكُوحَةً وَلَكِنْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً وَادَّعَتْ النَّسَبَ عَلَى الزَّوْجِ احْتَاجَتْ إلَى حُجَّةٍ تَامَّةٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَهِيَ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ إلَّا إذَا كَانَ هُنَاكَ حَبَلٌ ظَاهِرٌ أَوْ اعْتِرَافٌ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ ، وَقَالَا : يَكْفِي فِي الْجَمِيعِ شَهَادَةُ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ ( وَقَدْ مَرَّ فِي الطَّلَاقِ ) أَيْ فِي بَابِ ثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْ كِتَابِ الطَّلَاقِ ( وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَنْكُوحَةً وَلَا مُعْتَدَّةً قَالُوا : يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهَا بِقَوْلِهَا ) أَيْ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ أَصْلًا ( لِأَنَّ فِيهِ إلْزَامًا عَلَى نَفْسِهَا دُونَ غَيْرِهَا ) وَفِي هَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ ، هَذَا مَا ذَهَبَ إلَيْهِ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ وَاخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ .
وَمِنْهُمْ مَنْ أَجْرَى الْمَسْأَلَةَ عَلَى إطْلَاقِهَا وَقَالَ : لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا سَوَاءٌ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ أَوْ لَمْ تَكُنْ عَمَلًا بِإِطْلَاقِ مَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ ، وَفَرَّقَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ حَيْثُ جَازَتْ دَعْوَةُ الْوَلَدِ مِنْهُ بِلَا بَيِّنَةٍ وَلَمْ تَجُزْ مِنْهَا بِدُونِ الْبَيِّنَةِ .
وَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ كُلَّ مَنْ ادَّعَى مَعْنًى لَا يُمْكِنُهُ إثْبَاتُهُ بِالْبَيِّنَةِ كَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَهُ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَكُلَّ مَنْ يَدَّعِي مَعْنًى يُمْكِنُهُ إثْبَاتُهُ بِالْبَيِّنَةِ لَا يُقْبَلُ فِيهِ قَوْلُهُ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ .
وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَادَّعَتْ الْمَرْأَةُ الدُّخُولَ وَكَذَّبَهَا لَا تُصَدَّقُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ لِإِمْكَانِ إثْبَاتِهِ بِالْبَيِّنَةِ ، وَلَوْ عَلَّقَ طَلَاقَهَا بِحَيْضِهَا وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ لِمَكَانِ الْعَجْزِ عَنْ الْإِثْبَاتِ بِالْبَيِّنَةِ فَفِي مَا نَحْنُ فِيهِ يُمْكِنُ لِلْمَرْأَةِ إثْبَاتُ النَّسَبِ بِالْبَيِّنَةِ لِأَنَّ انْفِصَالَ الْوَلَدِ مِنْهَا مِمَّا يُشَاهَدُ وَيُعَايَنُ فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ بَيِّنَةٍ ، وَلَا كَذَلِكَ الرَّجُلُ لِأَنَّهُ

لَا يُمْكِنُهُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْإِعْلَاقِ وَالْإِحْبَالِ لِمَكَانِ الْخَفَاءِ وَالتَّغَيُّبِ عَنْ عُيُونِ النَّاظِرِينَ فَلَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا كَذَا فِي الشُّرُوحِ .
أَقُولُ : فِيهِ بَحْثٌ ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الرَّجُلَ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ إثْبَاتُ الْإِعْلَاقِ وَالْإِحْبَالِ إلَّا أَنَّهُ يُمْكِنُهُ إثْبَاتُ النَّسَبِ ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي كِتَابِ الشَّهَادَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ بِشَيْءٍ لَمْ يُعَايِنْهُ بِالسَّمَاعِ مِمَّنْ يَثِقُ بِهِ فِي مَوَاضِعَ عَدِيدَةٍ : مِنْهَا النَّسَبُ ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ ادِّعَاءِ الرَّجُلِ وَلَدًا أَنَّهُ ابْنُهُ وَثُبُوتِ نَسَبِهِ مِنْهُ ثُبُوتُ وُقُوعِ الْإِعْلَاقِ وَالْإِحْبَالِ مِنْهُ أَلْبَتَّةَ ، وَإِلَّا لَمَا تَيَسَّرَ إثْبَاتُ دَعْوَةِ الْبُنُوَّةِ مِنْ الرَّجُلِ أَصْلًا : أَيْ وَلَوْ كَانَ هُنَاكَ مُنَازِعٌ شَرْعِيٌّ ، إذْ لَا يُمْكِنُهُ إثْبَاتُ الْإِعْلَاقِ وَالْإِحْبَالِ قَطْعًا ، مَعَ أَنَّ مَسَائِلَ التَّنَازُعِ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ فِي بُنُوَّةِ وَلَدٍ وَإِثْبَاتِهَا شَرْعًا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى ، فَظَهَرَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ادِّعَاءِ الرَّجُلِ بُنُوَّةَ وَلَدٍ ثُبُوتُ نَسَبِهِ مِنْهُ دُونَ ثُبُوتِ وُقُوعِ الْإِعْلَاقِ وَالْإِحْبَالِ مِنْهُ ، فَلَمَّا أَمْكَنَهُ إثْبَاتُ نَسَبِهِ مِنْهُ لَزِمَهُ أَيْضًا إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ فِي وَجْهِ الْفَرْقِ فَلَا يَتِمُّ الْمَطْلُوبُ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ الْوَجْهَ الْمَذْكُورَ لِلْفَرْقِ الْمَزْبُورِ مِمَّا لَا يُجْدِي فِي مَسْأَلَتِنَا ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْمُدَّعِي مِمَّا يُمْكِنُ لِلْمُدَّعِي إثْبَاتُهُ بِالْبَيِّنَةِ إنَّمَا يَقْتَضِي احْتِيَاجَ الْمُدَّعِي إلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ إذَا وُجِدَ هُنَاكَ مَنْ يُكَذِّبُهُ وَيُنْكِرُ مَا ادَّعَاهُ كَمَا فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ لِلْبَيَانِ وَمَا ادَّعَتْهُ الْمَرْأَةُ فِي مَسْأَلَتِنَا وَإِنْ كَانَ مَا يُمْكِنُهَا إثْبَاتُهُ بِالْبَيِّنَةِ كَمَا بَيَّنَ إلَّا أَنَّهُ مِمَّا لَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ ؛ لِأَنَّ كَلَامَنَا فِيمَا إذَا لَمْ يُوجَدْ مَنْ يُكَذِّبُهَا بِأَنْ لَمْ تَكُنْ مَنْكُوحَةً وَلَا مُعْتَدَّةً ، وَلِهَذَا

قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ الْمَسْأَلَةِ : لِأَنَّ فِيهِ إلْزَامًا عَلَى نَفْسِهَا دُونَ غَيْرِهَا انْتَهَى .
فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ الْقَوْلُ بِاحْتِيَاجِهَا إلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ فَتَدَبَّرْ ( وَإِنْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ وَزَعَمَتْ أَنَّهُ ابْنُهَا مِنْهُ ) أَيْ ادَّعَتْ أَنَّ الْوَلَدَ ابْنُهَا مِنْ ذَلِكَ الزَّوْجِ ( وَصَدَّقَهَا ) أَيْ وَصَدَّقَ ( الزَّوْجُ ) إيَّاهَا ( فَهُوَ ابْنُهُمَا وَإِنْ لَمْ تَشْهَدْ امْرَأَةٌ ) أَيْ وَإِنْ لَمْ تَشْهَدْ امْرَأَةٌ عَلَى الْوِلَادَةِ : يَعْنِي لَا حَاجَةَ هَاهُنَا إلَى شَهَادَةِ الْقَابِلَةِ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ الزَّوْجَ ( الْتَزَمَ نَسَبَهُ ) أَيْ نَسَبَ الْوَلَدِ ( فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ الْحُجَّةِ ) لِأَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ إقْرَارِ الزَّوْجِ بِلَا دَعْوَى امْرَأَةٍ إذْ لَيْسَ فِيهِ تَحْمِيلُ النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ ، وَمَعَ دَعْوَى امْرَأَةٍ أَوْلَى ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ مَسَائِلِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ .

( وَإِنْ كَانَ الصَّبِيُّ فِي أَيْدِيهِمَا وَزَعَمَ الزَّوْجُ أَنَّهُ ابْنُهُ مِنْ غَيْرِهَا وَزَعَمَتْ أَنَّهُ ابْنُهَا مِنْ غَيْرِهِ فَهُوَ ابْنُهُمَا ) لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْوَلَدَ مِنْهُمَا لِقِيَامِ أَيْدِيهِمَا أَوْ لِقِيَامِ الْفِرَاشِ بَيْنَهُمَا ، ثُمَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُرِيدُ إبْطَالَ حَقِّ صَاحِبِهِ فَلَا يُصَدَّقُ عَلَيْهِ ، وَهُوَ نَظِيرُ ثَوْبٍ فِي يَدِ رَجُلَيْنِ يَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هُوَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ آخَرَ غَيْرِ صَاحِبِهِ يَكُونُ الثَّوْبُ بَيْنَهُمَا إلَّا أَنَّ هُنَاكَ يَدْخُلُ الْمُقَرُّ لَهُ فِي نَصِيبِ الْمُقِرِّ لِأَنَّ الْمَحَلَّ يَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ ، وَهَاهُنَا لَا يَدْخُلُ لِأَنَّ النَّسَبَ لَا يَحْتَمِلُهَا .

( وَإِنْ كَانَ الصَّبِيُّ فِي أَيْدِيهِمَا ) أَيْ فِي أَيْدِي الزَّوْجَيْنِ ( فَزَعَمَ الزَّوْجُ أَنَّهُ ابْنُهُ مِنْ غَيْرِهَا ) أَيْ زَعَمَ الزَّوْجُ أَنَّ الصَّبِيَّ ابْنُهُ مِنْ امْرَأَةٍ أُخْرَى لَهُ ( وَزَعَمَتْ أَنَّهُ ابْنُهَا مِنْ غَيْرِهِ ) أَيْ وَزَعَمَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ ابْنُهَا مِنْ زَوْجٍ آخَرَ كَانَ لَهَا ( فَهُوَ ابْنُهُمَا ) أَيْ كَانَ الصَّبِيُّ ابْنَهُمَا مَعًا هَذَا إذَا كَانَ الصَّبِيُّ لَا يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ فَالْقَوْلُ لَهُ أَيُّهُمَا صَدَّقَ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ بِتَصْدِيقِهِ ، كَذَا فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ وَعَزَاهُ صَاحِبُ الْغَايَةِ إلَى شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ ، ثُمَّ إنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْكِتَابِ مِنْ مَسَائِلِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَيْضًا .
قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِهَا ( لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْوَلَدَ مِنْهُمَا ) أَيْ مِنْ الزَّوْجَيْنِ الَّذِينَ كَانَ الْوَلَدُ فِي أَيْدِيهِمَا ( لِقِيَامِ أَيْدِيهِمَا أَوْ لِقِيَامِ الْفِرَاشِ بَيْنَهُمَا ) أَقُولُ : فِيهِ شَيْءٌ ، وَهُوَ أَنَّ قِيَامَ الْفِرَاشِ بَيْنَهُمَا لَا يَدُلُّ عَلَى تَعْيِينِ الْوَلَدِ ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ النَّسَبِ بَعْدَ تَعْيِينِ الْوَلَدِ : أَيْ بَعْدَ ثُبُوتِ وِلَادَتِهِ مِنْ تِلْكَ الزَّوْجَةِ ، وَلِهَذَا لَمْ تَجُزْ دَعْوَةُ امْرَأَةٍ ذَاتِ زَوْجٍ صَبِيًّا أَنَّهُ ابْنُهَا إذَا لَمْ يُصَدِّقْهَا الزَّوْجُ مَا لَمْ تَشْهَدْ امْرَأَةٌ عَلَى الْوِلَادَةِ كَمَا مَرَّ آنِفًا ، فَفِي مَسْأَلَتِنَا أَيْضًا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ فَتَأَمَّلْ ( ثُمَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ) أَيْ مِنْ الزَّوْجَيْنِ ( يُرِيدُ إبْطَالَ حَقِّ صَاحِبِهِ فَلَا يُصَدَّقُ عَلَيْهِ ) أَيْ عَلَى صَاحِبِهِ : يَعْنِي لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ ( وَهُوَ نَظِيرُ ثَوْبٍ فِي يَدِ رَجُلَيْنِ يَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هُوَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ آخَرَ غَيْرِ صَاحِبِهِ ) حَيْثُ لَا يُصَدَّقُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فِي إبْطَالِ حَقِّ صَاحِبِهِ ( بَلْ يَكُونُ الثَّوْبُ بَيْنَهُمَا ) فَكَذَا هُنَا ( إلَّا أَنَّ هُنَاكَ يَدْخُلُ الْمُقَرُّ لَهُ فِي نَصِيبِ الْمُقِرِّ ) أَيْ يَصِيرُ مَا

حَصَلَ لِلْمُقِرِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُقَرِّ لَهُ نِصْفَانِ ( لِأَنَّ الْمَحَلَّ ) وَهُوَ الثَّوْبُ ( يَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ ، وَهُنَا لَا يَدْخُلُ لِأَنَّ النَّسَبَ لَا يَحْتَمِلُهَا ) اعْلَمْ أَنَّ الْمُنَاقَضَةَ فِي دَعْوَى النَّسَبِ غَيْرُ مَانِعَةٍ لِصِحَّةِ الدَّعْوَى ، حَتَّى أَنَّ الصَّبِيَّ إذَا كَانَ فِي يَدِ امْرَأَةٍ فَقَالَ رَجُلٌ : هُوَ ابْنِي مِنْكِ مِنْ زِنًا وَقَالَتْ : مِنْ نِكَاحٍ ثُمَّ قَالَ الرَّجُلُ : مِنْ نِكَاحٍ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ ، وَكَذَا لَوْ قَالَ : هُوَ ابْنِي مِنْ نِكَاحٍ مِنْكِ وَقَالَتْ : هُوَ ابْنُك مِنِّي مِنْ زِنًا لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ مِنْهُ لِعَدَمِ اتِّفَاقِهِمَا فِي النِّكَاحِ ، فَإِنْ قَالَتْ بَعْدَ ذَلِكَ : هُوَ ابْنُك مِنِّي مِنْ نِكَاحٍ يَثْبُتُ لِمَا قُلْنَا : إنَّ الْمُنَاقَضَةَ لَا تُبْطِلُ دَعْوَى النَّسَبِ ، كَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ التُّمُرْتَاشِيُّ .
وَذَكَرَ فِي الْإِيضَاحِ أَنَّ دَعْوَى النَّسَبِ إنَّمَا لَا تَبْطُلُ بِالتَّنَاقُضِ لِأَنَّ التَّنَاقُضَ إنَّمَا يَكُونُ بَيْنَ الْمُتَسَاوِيَيْنِ وَلَا مُسَاوَاةَ ، فَإِنَّ دَعْوَى النَّسَبِ أَقْوَى مِنْ النَّفْيِ .
وَذَكَرَ فِيهِ أَيْضًا : إذَا تَصَادَقَ الزَّوْجَانِ عَلَى أَنَّ الْوَلَدَ مِنْ الزِّنَا مِنْ فُلَانٍ فَالنَّسَبُ ثَابِتٌ مِنْ الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ ثُبُوتِ النَّسَبِ قَائِمٌ وَهُوَ الْفِرَاشُ وَالنَّسَبُ يَثْبُتُ حَقًّا لِلصَّبِيِّ فَلَا يُقْبَلُ تَصَادُقُهُمَا عَلَى إبْطَالِ النَّسَبِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ الْمَنْكُوحَةُ أَمَةً أَوْ كَانَ النِّكَاحُ فَاسِدًا لِأَنَّ الْفِرَاشَ قَدْ وُجِدَ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ .
أَقُولُ : الَّذِي نُقِلَ عَنْ الْإِيضَاحِ أَوَّلًا مِنْ تَعْلِيلِ عَدَمِ بُطْلَانِ دَعْوَى النَّسَبِ بِالتَّنَاقُضِ مَحَلُّ نَظَرٍ مَنْعًا وَنَقْضًا فَتَأَمَّلْ .

قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَلَدَتْ وَلَدًا عِنْدَهُ فَاسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ غَرِمَ الْأَبُ قِيمَةَ الْوَلَدِ يَوْمَ يُخَاصِمُ ) لِأَنَّهُ وَلَدُ الْمَغْرُورِ فَإِنَّ الْمَغْرُورَ مَنْ يَطَأُ امْرَأَةً مُعْتَمِدًا عَلَى مِلْكِ يَمِينٍ أَوْ نِكَاحٍ فَتَلِدُ مِنْهُ ثُمَّ تُسْتَحَقُّ ، وَوَلَدُ الْمَغْرُورِ حُرٌّ بِالْقِيمَةِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَلِأَنَّ النَّظَرَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَاجِبٌ فَيُجْعَلُ الْوَلَدُ حُرَّ الْأَصْلِ فِي حَقِّ أَبِيهِ رَقِيقًا فِي حَقِّ مُدَّعِيهِ نَظَرًا لَهُمَا ، ثُمَّ الْوَلَدُ حَاصِلٌ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ فَلَا يَضْمَنُهُ إلَّا بِالْمَنْعِ كَمَا فِي وَلَدِ الْمَغْصُوبَةِ ، فَلِهَذَا تُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْوَلَدِ يَوْمَ الْخُصُومَةِ لِأَنَّهُ يَوْمُ الْمَنْعِ ( وَلَوْ مَاتَ الْوَلَدُ لَا شَيْءَ عَلَى الْأَبِ ) لِانْعِدَامِ الْمَنْعِ ، وَكَذَا لَوْ تَرَكَ مَالًا لِأَنَّ الْإِرْثَ لَيْسَ بِبَدَلٍ عَنْهُ ، وَالْمَالُ لِأَبِيهِ لِأَنَّهُ حُرُّ الْأَصْلِ فِي حَقِّهِ فَيَرِثُهُ ( وَلَوْ قَتَلَهُ الْأَبُ يَغْرَمُ قِيمَتَهُ ) لِوُجُودِ الْمَنْعِ وَكَذَا لَوْ قَتَلَهُ غَيْرُهُ فَأَخَذَ دِيَتَهُ ، لِأَنَّ سَلَامَةَ بَدَلِهِ لَهُ كَسَلَامَتِهِ ، وَمَنْعَ بَدَلِهِ كَمَنْعِهِ فَيَغْرَمُ قِيمَتَهُ كَمَا إذَا كَانَ حَيًّا ( وَيَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ عَلَى بَائِعِهِ ) لِأَنَّهُ ضَمِنَ لَهُ سَلَامَتَهُ كَمَا يَرْجِعُ بِثَمَنِهِ ، بِخِلَافِ الْعُقْرِ لِأَنَّهُ لَزِمَهُ لِاسْتِيفَاءِ مَنَافِعِهَا فَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْبَائِعِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

( قَالَ ) أَيْ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ : ( وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَلَدَتْ وَلَدًا عِنْدَهُ ) يَعْنِي وَلَدَتْ وَلَدًا مِنْ الْمُشْتَرِي ( فَاسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ غَرِمَ الْأَبُ قِيمَةَ الْوَلَدِ يَوْمَ يُخَاصِمُ ) وَكَذَا إذَا مَلَكَهَا بِسَبَبٍ آخَرَ غَيْرِ الشِّرَاءِ أَيِّ سَبَبٍ كَانَ ، وَكَذَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ فَوَلَدَتْ لَهُ ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ وَسَيُفْهَمُ مِنْ نَفْسِ الْكِتَابِ ( لِأَنَّهُ وَلَدُ الْمَغْرُورِ ، فَإِنَّ الْمَغْرُورَ مَنْ يَطَأُ امْرَأَةً مُعْتَمِدًا عَلَى مِلْكِ يَمِينٍ ) بِأَيِّ سَبَبٍ كَانَ مِثْلُ الشِّرَاءِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ ، كَذَا فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ وَغَيْرِهَا ( أَوْ نِكَاحٍ ) عَطْفٌ عَلَى يَمِينٍ .
وَالْمَعْنَى أَوْ مُعْتَمِدًا عَلَى مِلْكِ نِكَاحٍ ( فَتَلِدُ مِنْهُ ) أَيْ تَلِدُ الْمَرْأَةُ مِمَّنْ يَطَؤُهَا ( ثُمَّ تُسْتَحَقُّ ) بِأَنْ يَظْهَرَ بِالْبَيِّنَةِ كَوْنُهَا أَمَةً ، هُنَا تَمَّ تَفْسِيرُ وَلَدِ الْمَغْرُورِ ( وَوَلَدُ الْمَغْرُورِ حُرٌّ بِالْقِيمَةِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ) فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ أَنَّ وَلَدَ الْمَغْرُورِ حُرُّ الْأَصْلِ ، وَلَا خِلَافَ أَيْضًا بَيْنَ السَّلَفِ أَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَى الْأَبِ إلَّا أَنَّ السَّلَفَ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ ضَمَانِهِ ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : يُفَكُّ الْغُلَامُ بِالْغُلَامِ وَالْجَارِيَةُ بِالْجَارِيَةِ : يَعْنِي إنْ كَانَ الْوَلَدُ غُلَامًا فَعَلَى الْأَبِ غُلَامٌ مِثْلُهُ ، وَإِنْ كَانَ جَارِيَةً فَعَلَيْهِ جَارِيَةٌ مِثْلُهَا .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : عَلَيْهِ قِيمَةُ الْوَلَدِ ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَصْحَابُنَا لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ أَنَّ الْحَيَوَانَ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا بِالْمِثْلِ .
وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : يُفَكُّ الْغُلَامُ بِقِيمَةِ الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةُ بِقِيمَةِ الْجَارِيَةِ ، كَذَا فِي

الْعِنَايَةِ .
أَقُولُ : يَرِدُ عَلَى ظَاهِرِهِ أَنَّ اخْتِلَافَ السَّلَفِ فِي كَيْفِيَّةِ ضَمَانِ وَلَدِ الْمَغْرُورِ ، وَقَوْلَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِضَمَانِ مِثْلِهِ دُونَ قِيمَتِهِ يُنَافِي مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ أَنَّ وَلَدَ الْمَغْرُورِ حُرٌّ بِالْقِيمَةِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ ، فَكَيْفَ يَصْلُحُ مَا ذَكَرَ فِي الْعِنَايَةِ لَأَنْ يَكُونَ شَرْحًا وَبَيَانًا لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ ؟ وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْهُ بِأَنْ يُقَالَ : إنَّ اخْتِلَافَهُمْ فِي كَيْفِيَّةِ ضَمَانِهِ اخْتِلَافٌ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ دُونَ الْحَقِيقَةِ بِنَاءً عَلَى احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِحَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : يُفَكُّ الْغُلَامُ بِقِيمَةِ الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةُ بِقِيمَةِ الْجَارِيَةِ .
فَحَاصِلُ الشَّرْحِ وَالْبَيَانُ هَاهُنَا أَنَّ السَّلَفَ وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ ضَمَانِهِ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ مِنْ أَقْوَالِهِمْ إلَّا أَنَّ الْخِلَافَ مُرْتَفِعٌ فِي الْحَقِيقَةِ بِتَأْوِيلِ كَلَامِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَبْيِينُ مَرَامِهِ عَلَى وَفْقِ مَا يَقْتَضِيهِ النَّصُّ الدَّالُ عَلَى أَنَّ الْحَيَوَانَ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا بِالْمِثْلِ ( وَلِأَنَّ النَّظَرَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَاجِبٌ ) إذْ الْمَغْرُورُ بَنَى أَمْرَهُ عَلَى سَبِيلٍ صَحِيحٍ فِي الشَّرْعِ فَاسْتَوْجَبَ النَّظَرَ ، وَالْأَمَةُ مِلْكُ الْمُسْتَحِقِّ وَالْوَلَدُ مُتَفَرِّعٌ عَنْ مِلْكِهِ فَاسْتَوْجَبَ النَّظَرَ أَيْضًا فَوَجَبَ الْجَمْعُ بَيْنَ حَقَّيْهِمَا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ ، وَذَا بِأَنْ يَحْيَى حَقُّ الْمُسْتَحِقِّ فِي مَعْنَى الْمَمْلُوكِ وَيَحْيَى حَقُّ الْمَغْرُورِ فِي صُورَتِهِ ، كَذَا فِي الْكَافِي ( فَيُجْعَلُ الْوَلَدُ حُرَّ الْأَصْلِ فِي حَقِّ أَبِيهِ رَقِيقًا فِي حَقِّ مُدَّعِيهِ نَظَرًا لَهُمَا ) وَدَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُمَا ( ثُمَّ الْوَلَدُ حَاصِلٌ فِي يَدِهِ ) أَيْ فِي يَدِ الْمَغْرُورِ ( مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ ) أَيْ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ مِنْهُ ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ ( فَلَا يَضْمَنُهُ إلَّا بِالْمَنْعِ كَمَا فِي وَلَدِ الْمَغْصُوبَةِ ) فَإِنَّهُ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْغَاصِبِ عِنْدَنَا لَا يَضْمَنُهُ الْغَاصِبُ إلَّا بِالْمَنْعِ (

فَلِهَذَا ) أَيْ فَلِأَنَّ الْمَغْرُورَ لَا يَضْمَنُ الْوَلَدَ إلَّا بِالْمَنْعِ ( تُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْوَلَدِ يَوْمَ الْخُصُومَةِ لِأَنَّهُ يَوْمُ الْمَنْعِ ) وَذَكَرَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ يَغْرَمُ قِيمَةَ الْوَلَدِ يَوْمَ الْقَضَاءِ لِأَنَّ الْوَلَدَ يُعَلَّقُ فِي حَقِّ الْمُسْتَوْلِدِ حُرًّا وَيُعَلَّقُ فِي حَقِّ الْمُسْتَحِقِّ رَقِيقًا فَلَا يَتَحَوَّلُ حَقُّهُ مِنْ الْعَيْنِ إلَى الْبَدَلِ إلَّا بِالْقَضَاءِ فَيَعْتَبِرُ قِيمَةَ الْوَلَدِ يَوْمَ الْقَضَاءِ كَذَلِكَ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ .
ثُمَّ عَلِمَ أَنَّ وَلَدَ الْمَغْرُورِ إنَّمَا يَكُونُ حُرًّا بِالْقِيمَةِ إذَا كَانَ الْمَغْرُورُ حُرًّا ، أَمَّا إذَا كَانَ مُكَاتَبًا أَوْ عَبْدًا مَأْذُونًا لَهُ فِي التَّزَوُّجِ يَكُونُ وَلَدُهُ عَبْدًا لِلْمُسْتَحِقِّ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ ، وَسَيَجِيءُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْمُكَاتَبِ كَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ ( وَلَوْ مَاتَ الْوَلَدُ ) يَعْنِي لَوْ مَاتَ وَلَدُ الْمَغْرُورِ قَبْلَ الْخُصُومَةِ ( لَا شَيْءَ عَلَى الْأَبِ ) أَيْ لَيْسَ عَلَى الْأَبِ شَيْءٌ مِنْ قِيمَتِهِ ( لِانْعِدَامِ الْمَنْعِ ) إذْ الْمَنْعُ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ بَعْدَ الطَّلَبِ ، فَإِذَا هَلَكَ قَبْلَ الطَّلَبِ لَمْ يُوجَدْ سَبَبُ ضَمَانِهِ فَلَا يَضْمَنُ ، كَمَا لَوْ هَلَكَ وَلَدُ الْمَغْصُوبَةِ عِنْدَ الْغَاصِبِ فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ قِيمَتَهُ ، كَذَا فِي الْكَافِي ( وَكَذَا لَوْ تَرَكَ مَالًا ) أَيْ وَكَذَا لَوْ تَرَكَ وَلَدُ الْمَغْرُورِ مَالًا مِيرَاثًا لِأَبِيهِ فَأَخَذَهُ أَبُوهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْأَبِ لِلْمُسْتَحِقِّ مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ لَمْ يَتَحَقَّقْ ، لَا عَنْ الْوَلَدِ لِمَا مَرَّ وَلَا عَنْ بَدَلِهِ ( لِأَنَّ الْإِرْثَ لَيْسَ بِبَدَلِهِ عَنْهُ ) فَلَمْ يَجْعَلْ سَلَامَةَ الْإِرْثِ كَسَلَامَةِ نَفْسِهِ ( وَالْمَالُ لِأَبِيهِ ؛ لِأَنَّهُ ) أَيْ الْوَلَدَ ( حُرُّ الْأَصْلِ فِي حَقِّهِ ) أَيْ فِي حَقِّ أَبِيهِ كَمَا مَرَّ ( فَيَرِثُهُ ) فَإِنْ قِيلَ : الْوَلَدُ وَإِنْ كَانَ حُرَّ الْأَصْلِ فِي حَقِّ أَبِيهِ إلَّا أَنَّهُ رَقِيقٌ فِي حَقِّ مُدَّعِيهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمَالُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمْ .
قُلْنَا :

الْوَلَدُ عَلِقَ حُرَّ الْأَصْلِ فِي حَقِّ الْمُدَّعِي أَيْضًا ، وَلِهَذَا لَا يَكُونُ الْوَلَاءُ لَهُ .
وَإِنَّمَا قَدَّرْنَا الرِّقَّ فِي حَقِّهِ ضَرُورَةَ الْقَضَاءِ بِالْقِيمَةِ وَالثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ لَا يَعْدُو مَوْضِعَهَا ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ وَالْكَافِي .
أَقُولُ : يُنَافِي هَذَا الْجَوَابُ ظَاهِرَ مَا ذَكَرَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ عَلَى مَا نَقَلْنَاهُ آنِفًا فَلْيَتَأَمَّلْ فِي التَّوْفِيقِ أَوْ التَّرْجِيحِ ( وَلَوْ قَتَلَهُ الْأَبُ يَغْرَمُ قِيمَتَهُ ) أَيْ يَضْمَنُهَا ( لِوُجُودِ الْمَنْعِ ) بِالْقَتْلِ ( وَكَذَا لَوْ قَتَلَهُ غَيْرُهُ فَأَخَذَ دِيَتَهُ ) أَيْ فَأَخَذَ الْأَبُ دِيَتَهُ ( لِأَنَّ سَلَامَةَ بَدَلِهِ لَهُ ) أَيْ لِأَنَّ سَلَامَةَ بَدَلِ الْوَلَدِ وَهُوَ دِيَتُهُ لِلْأَبِ ( كَسَلَامَتِهِ ) أَيْ كَسَلَامَةِ الْوَلَدِ نَفْسِهِ ( وَمَنْعَ بَدَلِهِ كَمَنْعِهِ ) أَيْ وَمَنْعَ بَدَلِ الْوَلَدِ كَمَنْعِ الْوَلَدِ نَفْسِهِ ( فَيَغْرَمُ قِيمَتَهُ كَمَا إذَا كَانَ حَيًّا ) وَأَمَّا إذَا لَمْ يَأْخُذْ الْأَبُ دِيَتَهُ مِنْ الْقَاتِلِ فَلَا يَضْمَنُ شَيْئًا لِأَنَّهُ لَمْ يَمْنَعْ الْوَلَدَ أَصْلًا : أَيْ لَا حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا ، نَصَّ عَلَيْهِ فَخْرُ الدِّينِ قَاضِي خَانْ وَغَيْرُهُ فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ .
وَذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ : فَإِنْ قَضَى لَهُ بِالدِّيَةِ فَلَمْ يَقْبِضْهَا لَمْ يُؤْخَذْ بِالْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ لَمْ يَتَحَقَّقْ فِيمَا لَمْ يَصِلْ إلَى يَدِهِ مِنْ الْبَدَلِ ، فَإِنْ قَبَضَ مِنْ الدِّيَةِ قَدْرَ قِيمَةِ الْمَقْتُولِ قَضَى عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ لِلْمُسْتَحِقِّ ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ تَحَقَّقَ بِوُصُولِ يَدِهِ إلَى الْبَدَلِ فَيَكُونُ مَنْعُهُ قَدْرَ قِيمَةِ الْوَلَدِ كَمَنْعِهِ الْوَلَدَ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَالْكِفَايَةِ ( وَيَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ عَلَى بَائِعِهِ ) أَيْ وَيَرْجِعُ الْأَبُ بِمَا غَرِمَ مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ عَلَى بَائِعِهِ لِأَنَّهُ أَيْ بَائِعَهُ ( ضَمِنَ لَهُ ) أَيْ لِلْمُشْتَرِي ( سَلَامَتَهُ ) أَيْ سَلَامَةَ الْمَبِيعِ عَنْ الْعَيْبِ وَلَا عَيْبَ فَوْقَ الِاسْتِحْقَاقِ ، كَذَا فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ ، وَيُسَاعِدُهُ تَقْرِيرُ صَاحِبِ النِّهَايَةِ .
أَقُولُ :

يَرِدُ عَلَى ظَاهِرِ هَذَا الشَّرْحِ أَنَّهُ لَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ الْبَائِعَ ضَامِنٌ لِلْمُشْتَرِي سَلَامَةَ الْمَبِيعِ عَنْ الْعَيْبِ ، إلَّا أَنَّ الْمَبِيعَ فِي مَسْأَلَتِنَا هِيَ الْأُمُّ دُونَ الْوَلَدِ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ ، فَكَأَنَّ كَثِيرًا مِنْ الشُّرَّاحِ قَصَدُوا دَفْعَ هَذَا فَقَالُوا فِي بَيَانِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ : لِأَنَّهُ ضَمِنَ لَهُ سَلَامَتَهُ : يَعْنِي أَنَّ الْوَلَدَ جُزْءُ الْأُمِّ وَالْبَائِعُ قَدْ ضَمِنَ لِلْمُشْتَرِي سَلَامَةَ الْمَبِيعِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ انْتَهَى .
أَقُولُ : وَيَرُدُّ عَلَى هَذَا الشَّرْحِ أَنَّ الْبَائِعَ إنَّمَا ضَمِنَ لِلْمُشْتَرِي سَلَامَةَ الْمَبِيعِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ الْمَوْجُودَةِ عِنْدَ الْبَيْعِ لَا بِجُزْئِهِ الَّذِي يَحْدُثُ بَعْدَ الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْجُزْءِ مَعْدُومٌ حِينَ الْبَيْعِ وَلَا يَصِحُّ إدْخَالُ الْمَعْدُومِ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ أَصْلًا فَضْلًا عَنْ ضَمَانِ سَلَامَتِهِ عَنْ الْعَيْبِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْوَلَدَ فِي مَسْأَلَتِنَا مِمَّنْ حَدَثَ بَعْدَ الْبَيْعِ .
وَالْحَقُّ عِنْدِي فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنْ يُطْرَحَ حَدِيثُ الْجُزْئِيَّةِ مِنْ الْبَيِّنِ وَيُقَالُ فِي بَيَانِ مُرَادِ الْمُصَنِّفِ مِنْ قَوْلِهِ الْمَذْكُورِ : إنَّ الْبَائِعَ ضَمِنَ لِلْمُشْتَرِي سَلَامَةَ الْوَلَدِ بِوَاسِطَةِ ضَمَانِهِ سَلَامَةَ الْمَبِيعِ الَّذِي هُوَ الْأُمُّ عَنْ الْعَيْبِ ، فَإِنَّ كَوْنَ وَلَدِ الْجَارِيَةِ غَيْرَ سَالِمٍ عَنْ عَيْبِ الِاسْتِحْقَاقِ عَيْبٌ لِنَفْسِ الْجَارِيَةِ أَيْضًا لِأَنَّ مِنْ مَنَافِعِهَا الِاسْتِيلَادَ وَكَوْنَ وَلَدِهَا مِنْ مَوْلَاهَا حُرَّ الْأَصْلِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَحِقَّهُ أَحَدٌ فَكَانَتْ سَلَامَتُهَا عَنْ الْعَيْبِ مُسْتَلْزِمَةً لِسَلَامَةِ وَلَدِهَا فَضَمَانُ الْبَائِعِ سَلَامَتَهَا ضَمَانٌ لِسَلَامَتِهِ ( كَمَا يَرْجِعُ بِثَمَنِهِ ) قَالَ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ : أَيْ بِالثَّمَنِ الَّذِي أَدَّاهُ الْمُشْتَرِي إلَى الْبَائِعِ فَالضَّمِيرُ لِلْمُشْتَرِي .
وَقِيلَ بِثَمَنِ الْمُشْتَرِي إذَا اسْتَحَقَّ أَوْ بِثَمَنِ الْوَلَدِ لَوْ تُصُوِّرَ شِرَاؤُهُ وَاسْتَحَقَّهُ أَحَدٌ انْتَهَى .
وَاخْتَارَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ مِنْ بَيْنِ هَذِهِ الْمَعَانِي

الثَّلَاثَةِ الْمَعْنَى الْوَسْطَانِيَّ حَيْثُ قَالَ : كَمَا يَرْجِعُ بِثَمَنِهِ : أَيْ بِثَمَنِ الْمَبِيعِ وَهُوَ الْأُمُّ لِأَنَّ الْغُرُورَ شَمَلَهَا انْتَهَى .
وَأَقُولُ : لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَعْنَى الْوَجِيهُ هَاهُنَا ، وَلَكِنْ فِي تَذْكِيرِ الضَّمِيرِ هَاهُنَا نَوْعُ عُدُولٍ عَنْ الظَّاهِرِ وَلِهَذَا قَالَ فِي الْوِقَايَةِ وَغَيْرِهَا : وَرَجَعَ بِهَا كَثَمَنِهَا بِتَأْنِيثِ الضَّمِيرِ : أَيْ وَرَجَعَ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ كَثَمَنِ الْأُمِّ ( بِخِلَافِ الْعُقْرِ ) يَعْنِي أَنَّ الْمَغْرُورَ لَا يَرْجِعُ عَلَى بَائِعِهِ بِعُقْرٍ وَجَبَ عَلَيْهِ وَأَخَذَ مِنْهُ الْمُسْتَحِقُّ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ لِأَنَّ الْعُقْرَ ( لَزِمَهُ ) أَيْ لَزِمَ الْمَغْرُورَ ( لِاسْتِيفَاءِ مَنَافِعِهَا ) أَيْ لِاسْتِيفَاءِ مَنَافِعِ الْجَارِيَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ : أَيْ مَنَافِعِ بُضْعِهَا ( فَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْبَائِعِ ) إذْ لَوْ رَجَعَ بِهِ سَلَّمَ لَهُ الْمُسْتَوْفَى مَجَّانًا ، وَالْوَطْءُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسَلَّمَ لِلْوَاطِئِ مَجَّانًا ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا .

( كِتَابُ الْإِقْرَارِ ) .
كِتَابُ الْإِقْرَارِ ) ذِكْرُ كِتَابِ الدَّعْوَى مَعَ ذِكْرِ مَا يَقْفُوهُ مِنْ الْكُتُبِ مِنْ الْإِقْرَارِ وَالصُّلْحِ وَالْمُضَارَبَةِ الْوَدِيعَةِ ظَاهِرُ التَّنَاسُبِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ دَعْوَى الْمُدَّعِي إذَا تَوَجَّهَتْ إلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَأَمْرُهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُقِرَّ أَوْ يُنْكِرَ ، وَإِنْكَارُهُ سَبَبٌ لِلْخُصُومَةِ وَالْخُصُومَةُ مُسْتَدْعِيَةٌ لِلصُّلْحِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا } وَبَعْدَمَا حَصَلَ لَهُ مِنْ الْمَالِ إمَّا بِالْإِقْرَارِ أَوْ بِالصُّلْحِ فَأَمْرُ صَاحِبِ الْمَالِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَسْتَرْبِحَ مِنْهُ أَوْ لَا ، فَإِنْ اسْتَرْبَحَ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَسْتَرْبِحَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ ، وَقَدْ ذَكَرَ اسْتِرْبَاحَهُ بِنَفْسِهِ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ لِلْمُنَاسَبَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا هُنَاكَ بِمَا قَبْلَهُ ، وَذَكَرَ هَاهُنَا اسْتِرْبَاحَهُ بِغَيْرِهِ وَهُوَ الْمُضَارَبَةُ ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَرْبِحْ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَحْفَظَهُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ حِفْظَهُ بِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حُكْمٌ فِي الْمُعَامَلَاتِ فَبَقِيَ حِفْظُهُ بِغَيْرِهِ وَهُوَ الْوَدِيعَةُ ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ .

ثُمَّ إنَّ مَحَاسِنَ الْإِقْرَارِ كَثِيرَةٌ : مِنْهَا إسْقَاطُ وَاجِبِ النَّاسِ عَنْ ذِمَّتِهِ ، وَقَطْعُ أَلْسِنَتِهِمْ عَنْ مَذَمَّتِهِ .
وَمِنْهَا إيصَالُ الْحَقِّ إلَى صَاحِبِهِ وَتَبْلِيغُ الْمَكْسُوبِ إلَى كَاسِبِهِ فَكَانَ فِيهِ إنْفَاعُ صَاحِبِ الْحَقِّ وَإِرْضَاءُ خَالِقِ الْخَلْقِ .
وَمِنْهَا إحْمَادُ النَّاسِ الْمُقِرَّ بِصِدْقِ الْقَوْلِ وَوَصْفُهُمْ إيَّاهُ بِوَفَاءِ الْعَهْدِ وَإِنَالَةِ النَّوْلِ .
ثُمَّ إنَّ هَاهُنَا احْتِيَاجًا إلَى بَيَانِ الْإِقْرَارِ لُغَةً وَشَرِيعَةً ، وَبَيَانِ سَبَبِهِ وَشَرْطِهِ وَرُكْنِهِ وَحُكْمِهِ وَدَلِيلِ كَوْنِهِ حُجَّةً .
أَمَّا الْإِقْرَارُ لُغَةً فَهُوَ إفْعَالٌ مِنْ قَرَّ الشَّيْءُ إذَا ثَبَتَ ، فَالْإِقْرَارُ إثْبَاتٌ لِمَا كَانَ مُتَزَلْزِلًا بَيْنَ الْإِقْرَارِ وَالْجُحُودِ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ .
وَأَمَّا شَرِيعَةً فَهُوَ إخْبَارٌ عَنْ ثُبُوتِ حَقٍّ لِلْغَيْرِ عَلَى نَفْسِهِ كَذَا فِي الْكَافِي وَعَامَّةِ الْمُتُونِ وَالشُّرُوحِ .
وَقَالَ فِي الْعِنَايَةِ الْإِقْرَارُ مُشْتَقٌّ مِنْ الْقَرَارِ فَكَانَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ إثْبَاتِ مَا كَانَ مُتَزَلْزِلًا .
وَفِي الشَّرِيعَةِ : عِبَارَةٌ عَنْ الْإِخْبَارِ عَنْ ثُبُوتِ الْحَقِّ انْتَهَى .
أَقُولُ : لَقَدْ أَصَابَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي بَيَانِ مَعْنَى الْإِقْرَارِ لُغَةً وَلَمْ يُصِبْ فِي بَيَانِ مَعْنَاهُ شَرِيعَةً .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ أَخْذَ الْإِقْرَارِ فِي تَعْرِيفِ مَعْنَى الْإِقْرَارِ لُغَةً كَمَا فَعَلَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ مَعَ كَوْنِهِ مُؤَدِّيًا إلَى الْمُصَادَرَةِ مِمَّا يَخْتَلُّ بِهِ الْمَعْنَى ، إذْ لَا مَعْنَى لِكَوْنِ إثْبَاتِ مَا كَانَ مُتَزَلْزِلًا بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ الْمَخْصُوصَيْنِ هُوَ أَحَدُ ذَيْنِك الشَّيْئَيْنِ كَمَا لَا يَخْفَى .
وَأَيْضًا إنَّ الْإِقْرَارَ فِي اللُّغَةِ لَيْسَ بِمَخْصُوصٍ بِإِثْبَاتِ مَا تَزَلْزَلَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ الْمَخْصُوصَيْنِ ، بَلْ هُوَ عَامٌّ لِإِثْبَاتِ كُلِّ مَا تَزَلْزَلَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ مُطْلَقًا كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَأْخَذُ اشْتِقَاقِهِ وَهُوَ الْقَرَارُ بِمَعْنَى الثُّبُوتِ مُطْلَقًا .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ

الْإِخْبَارَ عَنْ ثُبُوتِ الْحَقِّ يَتَنَاوَلُ الدَّعْوَةَ وَالشَّهَادَةَ أَيْضًا وَإِنَّمَا يَمْتَازُ الْإِقْرَارُ الشَّرْعِيُّ عَنْهُمَا بِقَيْدٍ لِلْغَيْرِ عَنْ نَفْسِهِ فَإِنَّ الدَّعْوَى إخْبَارٌ عَنْ ثُبُوتِ الْحَقِّ لِنَفْسِهِ عَلَى الْغَيْرِ ، وَالشَّهَادَةَ إخْبَارٌ عَنْ ثُبُوتِ الْحَقِّ لِلْغَيْرِ عَلَى الْغَيْرِ ، فَإِذَا زِيدَ فِي تَعْرِيفِ الْإِقْرَارِ الشَّرْعِيِّ قَيْدٌ لِلْغَيْرِ عَلَى نَفْسِهِ كَمَا فَعَلَهُ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ يَخْرُجُ عَنْهُ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةُ .
وَأَمَّا إذَا أَطْلَقَ وَقِيلَ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْإِخْبَارِ عَنْ ثُبُوتِ الْحَقِّ كَمَا فَعَلَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فَيَدْخُلُ فِيهِ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةُ فَيَخْتَلُّ التَّعْرِيفُ ثُمَّ أَقُولُ : فِي تَعْرِيفِ الْعَامَّةِ أَيْضًا شَيْءٌ ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ أَنَّ التَّصَرُّفَاتِ إمَّا إثْبَاتَاتٌ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْهِبَةِ وَنَحْوِهَا ، وَإِمَّا إسْقَاطَاتٌ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ وَنَحْوِهَا .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْ ثُبُوتِ حَقٍّ لِلْغَيْرِ عَلَى نَفْسِهِ لَا يَصْدُقُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِقِسْمِ الْإِسْقَاطَاتِ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ تَعْرِيفُهُمْ الْمَذْكُورُ جَامِعًا .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ إقْرَارَ الْمُكْرَهِ لِآخَرَ بِشَيْءٍ مِنْ الْحُقُوقِ غَيْرُ صَحِيحٍ شَرْعًا عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ ، مَعَ أَنَّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ ثُبُوتِ حَقٍّ لِلْغَيْرِ عَلَى نَفْسِهِ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ تَعْرِيفُهُمْ الْمَزْبُورُ مَانِعًا .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْ الثَّانِي بِأَنَّ كَوْنَ إقْرَارِ الْمُكْرَهِ غَيْرَ صَحِيحٍ شَرْعًا ، إنَّمَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ صَحِيحًا شَرْعًا لَا أَنْ لَا يَكُونَ إقْرَارًا مُطْلَقًا فِي الشَّرْعِ ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُمْ تَعْرِيفَ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْإِقْرَارُ فِي الشَّرْعِ سَوَاءٌ كَانَ صَحِيحًا أَوْ فَاسِدًا ، وَعَنْ هَذَا تُرَى التَّعْرِيفَاتُ الشَّرْعِيَّةُ لِكَثِيرٍ مِنْ الْعُقُودِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَنَحْوِهِمَا يَتَنَاوَلُ الصَّحِيحَ مِنْهُ وَالْفَاسِدَ ، حَتَّى

إنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ تَرَكُوا قَيْدَ التَّرَاضِي فِي تَعْرِيفِ الْبَيْعِ بِحَسَبِ الشَّرْعِ لِيَتَنَاوَلَ بَيْعَ الْمُكْرَهِ كَسَائِرِ الْبَيْعَاتِ الْفَاسِدَةِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي مَوْضِعِهِ .
وَأَمَّا سَبَبُ الْإِقْرَارِ فَإِرَادَةُ إسْقَاطِ الْوَاجِبِ عَنْ ذِمَّتِهِ بِإِخْبَارِهِ وَإِعْلَامِهِ لِئَلَّا يَبْقَى فِي تَبِعَةِ الْوَاجِبِ .
وَأَمَّا شَرْطُهُ فَسَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ .
وَأَمَّا رُكْنُهُ فَالْأَلْفَاظُ الْمَذْكُورَةُ فِيمَا يَجِبُ بِهِ مُوجَبُ الْإِقْرَارَ .
وَأَمَّا حُكْمُهُ فَظُهُورُ مَا أَقَرَّ بِهِ لَا ثُبُوتُهُ ابْتِدَاءً ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْإِقْرَارُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ مَعَ الْإِكْرَاهِ ، وَالْإِنْشَاءُ يَصِحُّ مَعَ الْإِكْرَاهِ عِنْدَنَا ، وَلِهَذَا قَالُوا : لَوْ أَقَرَّ لِغَيْرِهِ بِمَالٍ وَالْمُقَرُّ لَهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِي إقْرَارِهِ لَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُهُ عَنْ كَرَمِهِ مِنْهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا أَنْ يُسَلِّمَهُ بِطِيبٍ مِنْ نَفْسِهِ فَيَكُونُ تَمْلِيكًا مُبْتَدَأً عَلَى سَبِيلِ الْهِبَةِ ، وَالْمِلْكُ يَثْبُتُ لِلْمُقَرِّ لَهُ بِلَا تَصْدِيقٍ وَقَبُولٍ وَلَكِنْ يَبْطُلُ بِرَدِّهِ ، وَالْمُقَرُّ لَهُ إذَا صَدَّقَهُ ثُمَّ رَدَّهُ لَا يَصِحُّ رَدُّهُ ، كَذَا فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ .
وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَمَنْ يَحْذُو حَذْوَهُ : وَحُكْمُهُ لُزُومُ مَا أَقَرَّ بِهِ عَلَى الْمُقِرِّ ، وَعَمَلُهُ إظْهَارُ الْمُخْبَرِ بِهِ لِغَيْرِهِ لَا التَّمْلِيكُ بِهِ ابْتِدَاءً .
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَسَائِلُ : إحْدَاهَا أَنَّ الرَّجُلَ إذَا أَقَرَّ بِعَيْنٍ لَا يَمْلِكُهُ يَصِحُّ إقْرَارُهُ حَتَّى لَوْ مَلَكَهُ الْمُقِرُّ يَوْمًا مِنْ الدَّهْرِ يُؤْمَرُ بِتَسْلِيمِهِ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ ، وَلَوْ كَانَ الْإِقْرَارُ تَمْلِيكًا مُبْتَدَأً لَمَا صَحَّ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَمْلِيكُ مَا لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لَهُ .
وَالثَّانِيَةُ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْخَمْرِ لِلْمُسْلِمِ يَصِحُّ حَتَّى يُؤْمَرَ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ ، وَلَوْ كَانَ تَمْلِيكًا مُبْتَدَأً لَمْ يَصِحَّ .
وَالثَّالِثَةُ أَنَّ الْمَرِيضَ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ إذَا أَقَرَّ بِجَمِيعِ مَالِهِ لِأَجْنَبِيٍّ

صَحَّ إقْرَارُهُ وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْوَرَثَةِ ، وَلَوْ كَانَ تَمْلِيكًا مُبْتَدَأً لَمْ يَنْفُذْ إلَّا بِقَدْرِ الثُّلُثِ عِنْدَ عَدَمِ إجَازَتِهِمْ .
وَالرَّابِعَةُ أَنَّ الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ إذَا أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِعَيْنٍ فِي يَدِهِ صَحَّ إقْرَارُهُ ، وَلَوْ كَانَ الْإِقْرَارُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ ابْتِدَاءً كَانَ تَبَرُّعًا مِنْ الْعَبْدِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ فِي الْكَثِيرِ .
وَأَمَّا دَلِيلُ كَوْنِهِ حُجَّةً عَلَى الْمُقِرِّ فَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ وَنَوْعٌ مِنْ الْمَعْقُولِ .
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى { وَلْيُمْلِلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا } بَيَانُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِإِمْلَاءِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ ، فَلَوْ لَمْ يَلْزَمْهُ بِالْإِمْلَاءِ شَيْءٌ لَمَا أَمَرَ بِهِ وَالْإِمْلَاءُ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالْإِقْرَارِ ، وَأَيْضًا نَهَى عَنْ الْكِتْمَانِ وَهُوَ آيَةٌ عَلَى لُزُومِ مَا أَقَرَّ بِهِ كَمَا فِي نَهْيِ الشُّهُودِ عَنْ كِتْمَانِ الشَّهَادَةِ .
وقَوْله تَعَالَى { قَالَ ءَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَالِكُمْ إصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا } بَيَانُهُ أَنَّهُ طَلَبَ مِنْهُمْ الْإِقْرَارَ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْإِقْرَارُ حُجَّةً لَمَا طَلَبَهُ .
وقَوْله تَعَالَى { كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ } قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : شَهَادَةُ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ إقْرَارٌ .
" وقَوْله تَعَالَى { بَلْ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : أَيْ شَاهِدٌ بِالْحَقِّ " وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَمَ مَاعِزًا بِإِقْرَارِهِ بِالزِّنَا وَالْغَامِدِيَّةَ بِاعْتِرَافِهَا ، } وَقَالَ فِي قِصَّةِ الْعَسِيفِ : { وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا } فَأَثْبَتَ الْحَدَّ بِالِاعْتِرَافِ وَالْحَدِيثَانِ مَشْهُورَانِ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْإِقْرَارُ حُجَّةً لَمَا طَلَبَهُ وَأَثْبَتَ الْحَدَّ بِهِ وَإِذَا كَانَ حُجَّةً فِيمَا يَنْدَرِئُ

بِالشُّبُهَاتِ فَلَأَنْ يَكُونَ حُجَّةً فِي غَيْرِهِ أَوْلَى وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعُوا عَلَى كَوْنِ الْإِقْرَارِ حُجَّةً مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ .
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَلِأَنَّ الْخَبَرَ كَانَ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فِي الْأَصْلِ ، لَكِنْ ظَهَرَ رُجْحَانُ الصِّدْقِ عَلَى الْكَذِبِ لِوُجُودِ الدَّاعِي إلَى الصِّدْقِ وَالصَّارِفِ عَنْ الْكَذِبِ ، لِأَنَّ عَقْلَهُ وَدِينَهُ يَحْمِلَانِهِ عَلَى الصِّدْقِ وَيَزْجُرَانِهِ عَنْ الْكَذِبِ ، وَنَفْسُهُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ رُبَّمَا تَحْمِلُهُ عَلَى الْكَذِبِ فِي حَقِّ الْغَيْرِ ، أَمَّا فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَلَا فَصَارَ عَقْلُهُ وَدِينُهُ وَطَبْعُهُ دَوَاعِيَ إلَى الصِّدْقِ زَوَاجِرَ عَنْ الْكَذِبِ ، فَكَانَ الصِّدْقُ ظَاهِرًا فِيمَا أَقَرَّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ فَوَجَبَ قَبُولُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ .

قَالَ ( وَإِذَا أَقَرَّ الْحُرُّ الْبَالِغُ الْعَاقِلُ بِحَقٍّ لَزِمَهُ إقْرَارُهُ مَجْهُولًا كَانَ مَا أَقَرَّ بِهِ أَوْ مَعْلُومًا ) اعْلَمْ أَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ عَنْ ثُبُوتِ الْحَقِّ ، وَأَنَّهُ مُلْزِمٌ لِوُقُوعِهِ دَلَالَةً ؛ أَلَا تَرَى كَيْفَ أَلْزَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاعِزًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الرَّجْمَ بِإِقْرَارِهِ وَتِلْكَ الْمَرْأَةَ بِاعْتِرَافِهَا .
وَهُوَ حُجَّةٌ قَاصِرَةٌ لِقُصُورِ وِلَايَةِ الْمُقِرِّ عَنْ غَيْرِهِ فَيَقْتَصِرُ عَلَيْهِ .
وَشَرْطُ الْحُرِّيَّةِ لِيَصِحَّ إقْرَارُهُ مُطْلَقًا ، فَإِنَّ الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ لَهُ وَإِنْ كَانَ مُلْحَقًا بِالْحُرِّ فِي حَقِّ الْإِقْرَارِ ، لَكِنَّ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالْمَالِ وَيَصِحُّ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ لِأَنَّ إقْرَارَهُ عُهِدَ مُوجِبًا لِتَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِرَقَبَتِهِ وَهِيَ مَالُ الْمَوْلَى فَلَا يُصَدَّقُ عَلَيْهِ ، بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ لِأَنَّهُ مُسَلَّطٌ عَلَيْهِ مِنْ جِهَتِهِ ، وَبِخِلَافِ الْحَدِّ وَالدَّمِ لِأَنَّهُ مُبْقًى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ فِي ذَلِكَ ، حَتَّى لَا يَصِحَّ إقْرَارُ الْمَوْلَى عَلَى الْعَبْدِ فِيهِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ لِأَنَّ إقْرَارَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ غَيْرُ لَازِمٍ لِانْعِدَامِ أَهْلِيَّةِ الِالْتِزَامِ ، إلَّا إذَا كَانَ الصَّبِيُّ مَأْذُونًا لَهُ لِأَنَّهُ مُلْحَقٌ بِالْبَالِغِ بِحُكْمِ الْإِذْنِ ، وَجَهَالَةُ الْمُقَرِّ بِهِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ يَلْزَمُ مَجْهُولًا بِأَنْ أَتْلَفَ مَالًا لَا يَدْرِي قِيمَتَهُ أَوْ يَجْرَحَ جِرَاحَةً لَا يَعْلَمُ أَرْشَهَا أَوْ تَبْقَى عَلَيْهِ بَاقِيَةُ حِسَابٍ لَا يُحِيطُ بِهِ عِلْمُهُ ، وَالْإِقْرَارُ إخْبَارٌ عَنْ ثُبُوتِ الْحَقِّ فَيَصِحُّ بِهِ ، بِخِلَافِ الْجَهَالَةِ فِي الْمُقَرِّ لَهُ لِأَنَّ الْمَجْهُولَ لَا يَصْلُحُ مُسْتَحِقًّا ، ( وَيُقَالُ لَهُ : بَيِّنْ الْمَجْهُولَ ) لِأَنَّ التَّجْهِيلَ مِنْ جِهَتِهِ فَصَارَ كَمَا إذَا أَعْتَقَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ ( فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ أَجْبَرَهُ الْقَاضِي عَلَى الْبَيَانِ ) لِأَنَّهُ لَزِمَهُ الْخُرُوجُ عَمَّا لَزِمَهُ

بِصَحِيحِ إقْرَارِهِ وَذَلِكَ بِالْبَيَانِ .

قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( وَإِذَا أَقَرَّ الْحُرُّ الْبَالِغُ الْعَاقِلُ بِحَقٍّ لَزِمَهُ ) أَيْ لَزِمَ الْمُقِرَّ ( إقْرَاره ) أَيْ مُوجَبُ إقْرَارِهِ أَوْ مَا أَقَرَّ بِهِ .
أَقُولُ : يَرِدُ عَلَيْهِ النَّقْضُ بِمَا إذَا أَقَرَّ الْحُرُّ الْبَالِغُ الْعَاقِلُ بِحَقٍّ مُكْرَهًا فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إقْرَارُهُ ، فَكَانَ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الطَّائِعِ أَيْضًا لَا يُقَالُ : تَرَكَهُ اعْتِمَادًا عَلَى ظُهُورِ كَوْنِ الطَّوْعِ وَالرِّضَا مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْإِقْرَارِ .
لِأَنَّا نَقُولُ : لَيْسَ ظُهُورُهُ بِمَثَابَةِ ظُهُورِ اشْتِرَاطِ الْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ اللَّذَيْنِ هُمَا مَدَارُ الْأَحْكَامِ كُلِّهَا وَلَمْ يَتْرُكْهُمَا مَجْهُولًا كَانَ مَا أَقَرَّ بِهِ أَوْ مَعْلُومًا ) هَذَا أَيْضًا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ : يَعْنِي لَا فَرْقَ فِي صِحَّةِ الْإِقْرَارِ وَلُزُومِهِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَا أَقَرَّ بِهِ مَعْلُومًا أَوْ مَجْهُولًا كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( اعْلَمْ أَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ عَنْ ثُبُوتِ الْحَقِّ ) أَرَادَ بِهَذَا ، التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ عَنْ ثُبُوتِ الْحَقِّ فِيمَا مَضَى لَا إنْشَاءُ الْحَقِّ ابْتِدَاءً لِئَلَّا يَرِدَ الْإِشْكَالُ بِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ بِخَمْرٍ لِلْمُسْلِمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى كَوْنِ الْإِقْرَارِ إخْبَارًا عَمَّا ثَبَتَ فِيمَا مَضَى لَا إنْشَاءً فِي الْحَالِ كَمَا بَيَّنَّاهَا فِيمَا مَرَّ ، وَلَمْ يَرُدَّ بِذَلِكَ تَعْرِيفَ الْإِقْرَارِ حَتَّى يَرِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةَ أَيْضًا فَلَمْ يَكُنْ مَانِعًا عَنْ دُخُولِ الْأَغْيَارِ كَمَا زَعَمَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ ( وَأَنَّهُ مُلْزِمٌ ) أَيْ وَأَنَّ الْإِقْرَارَ عَلَى الْمُقِرِّ مَا أَقَرَّ ( بِهِ لِوُقُوعِهِ ) أَيْ لِوُقُوعِ الْإِقْرَارِ ( دَلَالَةً ) أَيْ دَلِيلًا عَلَى وُجُودِ الْمُخْبَرِ بِهِ كَمَا يَشْهَدُ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ وَنَوْعٌ مِنْ الْمَعْقُولِ عَلَى مَا فَصَّلْنَاهُ فِيمَا مَرَّ .
وَقَدْ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَى بَعْضٍ مِنْهَا بِقَوْلِهِ ( أَلَا تَرَى كَيْفَ أَلْزَمَ رَسُولُ

اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاعِزًا الرَّجْمَ بِإِقْرَارِهِ ) أَيْ بِإِقْرَارِهِ بِالزِّنَا ( وَتِلْكَ الْمَرْأَةَ ) أَيْ وَكَيْفَ أَلْزَمَ تِلْكَ الْمَرْأَةَ وَهِيَ الْغَامِدِيَّةُ الرَّجْمَ ( بِاعْتِرَافِهَا ) أَيْ بِاعْتِرَافِهَا بِالزِّنَا أَيْضًا ، فَإِذَا كَانَ مُلْزِمًا فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ فَلَأَنْ يَكُونَ مُلْزِمًا فِي غَيْرِهِ أَوْلَى كَذَا قَالُوا .
أَقُولُ : يَرُدُّ عَلَى ظَاهِرِهِ مَنْعُ إطْلَاقِ هَذِهِ الْأَوْلَوِيَّةِ فَإِنَّ الْعَبْدَ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَلَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالْمَالِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِيمَا سَيَأْتِي فَكَانَ مُلْزَمًا فِي حَقِّهِ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ دُونَ غَيْرِهِ فَتَأَمَّلْ فِي الدَّفْعِ ( وَهُوَ ) أَيْ الْإِقْرَارُ ( حُجَّةٌ قَاصِرَةٌ ) أَيْ قَاصِرَةٌ عَلَى نَفْسِ الْمُقِرِّ غَيْرُ مُتَعَدِّيَةٍ إلَى الْغَيْرِ ( لِقُصُورِ وِلَايَةِ الْمُقِرِّ عَنْ غَيْرِهِ فَيَقْتَصِرُ عَلَيْهِ ) أَيْ عَلَى الْمُقِرِّ نَفْسِهِ ، حَتَّى لَوْ أَقَرَّ مَجْهُولُ الْأَصْلِ بِالرِّقِّ لِرَجُلٍ جَازَ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَلَمْ يَصْدُقْ عَلَى أَوْلَادِهِ وَأُمَّهَاتِهِمْ وَمُدَبَّرِيهِ وَمُكَاتَبِيهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ أَوْ اسْتِحْقَاقُ الْحُرِّيَّةِ لِهَؤُلَاءِ فَلَا يَصْدُقُ عَلَيْهِمْ ، بِخِلَافِ الْبَيِّنَةِ فَإِنَّهَا تَصِيرُ حُجَّةً بِالْقَضَاءِ وَلِلْقَاضِي وِلَايَةٌ عَامَّةٌ فَتَتَعَدَّى إلَى الْكُلِّ ، أَمَّا الْإِقْرَارُ فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى الْقَضَاءِ فَيُنَفَّذُ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ وَحْدَهُ ، كَذَا فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا لَا يُنَافِي مَا ذَكَرُوا أَنَّ الْإِقْرَارَ حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ فَوْقَ الشَّهَادَةِ بِنَاءً عَلَى انْتِفَاءِ التُّهْمَةِ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْقُوَّةَ وَالضَّعْفَ وَرَاءَ التَّعْدِيَةِ وَالِاقْتِصَارِ ، فَاتِّصَافُ الْإِقْرَارِ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى نَفْسِ الْمُقِرِّ وَالشَّهَادَةِ بِالتَّعَدِّيَةِ إلَى الْغَيْرِ لَا يُنَافِي اتِّصَافَهُ بِالْقُوَّةِ ، وَاتِّصَافَهَا بِالضَّعْفِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ بِنَاءً عَلَى انْتِفَاءِ التُّهْمَةِ فِيهِ دُونَهَا (

وَشَرَطَ الْحُرِّيَّةَ لِيَصِحَّ إقْرَارُهُ مُطْلَقًا ) أَيْ فِي الْمَالِ وَغَيْرِهِ ( فَإِنَّ الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ لَهُ وَإِنْ كَانَ مُلْحَقًا بِالْحُرِّ فِي حَقِّ الْإِقْرَارِ ) حَتَّى إذَا أَقَرَّ بِدَيْنٍ لِرَجُلٍ أَوْ بِوَدِيعَةٍ أَوْ عَارِيَّةٍ أَوْ غَصْبٍ يَصِحُّ ( لَكِنَّ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالْمَالِ وَيَصِحُّ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَكَأَنَّ هَذَا اعْتِذَارٌ عَنْ قَوْلِهِ إذَا أَقَرَّ الْحُرُّ ، وَلَعَلَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِأَنَّهُ قَالَ : إذَا أَقَرَّ الْحُرُّ بِحَقٍّ لَزِمَهُ وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَأَمَّا أَنَّ غَيْرَ الْحُرِّ إذَا أَقَرَّ لَزِمَ أَوْ لَمْ يَلْزَمْ فَسَاكِتٌ عَنْهُ فَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ شَيْءٌ ا هـ .
أَقُولُ : لَيْسَ مَا ذَكَرَهُ بِصَحِيحٍ ، إذْ قَدْ صَرَّحُوا فِي مَوَاضِعَ شَتَّى مِنْ هَذَا الْكِتَابِ وَغَيْرِهِ بِأَنَّ التَّخْصِيصَ بِالذِّكْرِ فِي الرِّوَايَاتِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ بِلَا خِلَافٍ ، حَتَّى أَنَّ الشَّارِحَ الْمَذْكُورَ قَالَ فِي أَوَاخِرِ فَصْلِ الْقِرَاءَةِ مِنْ بَابِ النَّوَافِلِ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ : فَإِنْ قِيلَ : التَّخْصِيصُ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى النَّفْيِ قُلْنَا : ذَلِكَ فِي النُّصُوصِ دُونَ الرِّوَايَاتِ انْتَهَى .
فَكَيْفَ يَصِحُّ قَوْلُهُ هَاهُنَا ، وَأَمَّا أَنَّ غَيْرَ الْحُرِّ إذَا أَقَرَّ لَزِمَ أَوْ لَمْ يَلْزَمْ فَسَاكِتٌ عَنْهُ ، وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّ لُزُومَ إقْرَارِ غَيْرِ الْحُرِّ وَعَدَمَ لُزُومِهِ مَسْكُوتٌ عَنْهُ لَا يَقْصِدُ نَفْيَ لُزُومِ ذَلِكَ بِطَرِيقِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ لَمْ يَصِحَّ قَوْلُهُ فَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ شَيْءٌ ، إذْ يَرِدُ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ اسْتِدْرَاكُ قَيْدِ الْحُرِّ فَيَحْتَاجُ إلَى الِاعْتِذَارِ عَنْ ذِكْرِهِ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ : لَيْسَ بِمَعْذِرَةٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ لِبَيَانِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْعَبِيدِ فِي صِحَّةِ أَقَارِيرِهِمْ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَحَجْرِ الْمَحْجُورِ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالْمَالِ دُونَ الْمَأْذُونِ لَهُ انْتَهَى .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا أَيْضًا بِصَحِيحٍ ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ لَا يَشُكُّ

الْعَاقِلُ النَّاظِرُ إلَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ : وَشَرَطَ الْحُرِّيَّةَ لِيَصِحَّ إقْرَارُهُ مُطْلَقًا إلَخْ فِي أَنَّ مُرَادَهُ هُوَ الْمَعْذِرَةُ عَنْ ذِكْرِ قَيْدِ الْحُرِّ لَا بَيَانُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْعَبِيدِ ، وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ هَذَا لِبَيَانِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْعَبِيدِ لَمَا كَانَ لِذِكْرِ قَوْلِهِ : وَيَصِحُّ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ مَوْقِعٌ ، إذْ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمْ بَلْ هُوَ مُخِلٌّ بِهِ لِأَنَّهُمْ مُتَّحِدُونَ فِي صِحَّةِ أَقَارِيرِهِمْ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ ، فَالْمَحْمَلُ الصَّحِيحُ لِكَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا عَلَى فَرْضِ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمَعْذِرَةَ إنَّمَا هُوَ بَيَانُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْقُيُودِ الثَّلَاثَةِ الْوَاقِعَةِ فِي كَلَامِ الْقُدُورِيِّ بِأَنَّ قَيْدَ الْحُرِّيَّةِ شَرْطُ صِحَّةِ الْإِقْرَارِ مُطْلَقًا لَا شَرْطُ صِحَّةِ مُطْلَقِ الْإِقْرَارِ ، بِخِلَافِ الْقَيْدَيْنِ الْآخَرَيْنِ : أَعْنِي الْبُلُوغَ وَالْعَقْلَ تَأَمَّلْ تَقِفْ .
ثُمَّ أَقُولُ : بَقِيَ بَحْثٌ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ كَوْنَ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ مُلْحَقًا بِالْحُرِّ فِي حَقِّ الْإِقْرَارِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فَإِنَّ الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ وَإِنْ كَانَ مُلْحَقًا بِالْحُرِّ فِي حَقِّ الْإِقْرَارِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ ، فَإِنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالْمَهْرِ وَالْكَفَالَةِ وَقَتْلِ الْخَطَأِ وَقَطْعِ يَدِ الرَّجُلِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِتِجَارَةٍ وَهُوَ مُسَلَّطٌ عَلَى التِّجَارَةِ لَا غَيْرُ ، وَلَا شَكَّ فِي صِحَّةِ إقْرَارِ الْحُرِّ بِتِلْكَ الْأُمُورِ فَكَانَ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ مِمَّنْ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ مُطْلَقًا بِخِلَافِ الْحُرِّ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ فَإِنَّ الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ وَإِنْ كَانَ مُلْحَقًا بِالْحُرِّ فِي حَقِّ الْإِقْرَارِ عَلَى الْفَرْضِ وَالْمُبَالَغَةِ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ إقْرَارَ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِالْمَالِ نَافِذٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ ، وَيَلْزَمُهُ الْمَالُ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ

وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْهُ فِي الْحَالِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي كِتَابِ الْحَجْرِ ، فَمَا مَعْنَى نَفْيِ صِحَّةِ إقْرَارِهِ بِالْمَالِ هَاهُنَا بِقَوْلِهِ لَكِنَّ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالْمَالِ .
لَا يُقَالُ : مُرَادُهُ هَاهُنَا أَنَّ إقْرَارَهُ بِالْمَالِ لَا يَصِحُّ فِي الْحَالِ لَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مُطْلَقًا فَيُوَافِقُ مَا ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الْحَجْرِ .
لِأَنَّا نَقُولُ : لَا شَكَّ أَنَّ مَقْصُودَهُ هَاهُنَا تَوْجِيهُ اشْتِرَاطِ الْحُرِّيَّةِ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ ، وَالْمَذْكُورُ فِي جَوَابِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لُزُومُ الْإِقْرَارِ مُطْلَقًا : أَيْ بِلَا تَقْيِيدٍ بِالْحَالِ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ ، وَأَيْضًا عَدَمُ اللُّزُومِ فِي الْحَالِ يُوجَدُ فِي الْحُرِّ أَيْضًا كَمَا إذَا أَقَرَّ بِالدُّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ ، وَكَمَا إذَا أَقَرَّ لِإِنْسَانٍ بِعَيْنٍ مَمْلُوكَةٍ لِلْغَيْرِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ فِي الْحَالِ ، وَإِذَا مَلَكَهَا يَوْمًا يَلْزَمُهُ وَيُؤْمَرُ بِتَسْلِيمِهَا إلَى الْمُقَرِّ لَهُ ، عَلَى أَنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هَاهُنَا عَدَمُ صِحَّةِ إقْرَارِ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِالْمَالِ لَا عَدَمُ لُزُومِهِ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ لُزُومِ إقْرَارِهِ بِالْمَالِ فِي الْحَالِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الْحَجْرِ عَدَمُ صِحَّةِ إقْرَارِهِ بِهِ فِي الْحَالِ فَلَا يَتِمُّ التَّوْفِيقُ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ تُحْمَلَ الصِّحَّةُ هَاهُنَا عَلَى اللُّزُومِ .
قَالَ فِي الْبَدَائِعِ : وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ ، فَيَصِحُّ إقْرَارُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ بِالدَّيْنِ وَالْعَيْنِ لِمَا بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْمَأْذُونِ ، وَكَذَا بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ ، وَكَذَا الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالْمَالِ لَكِنْ لَا يُنَفَّذُ عَلَى الْمَوْلَى لِلْحَالِ حَتَّى لَا تُبَاعَ رَقَبَتُهُ بِالدَّيْنِ ، بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ ، إلَّا أَنَّهُ يَصِحُّ إقْرَارُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ حَتَّى يُؤَاخَذَ بِهِ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْإِقْرَارِ لِوُجُودِ الْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ النَّفَاذُ عَلَى الْمَوْلَى لِلْحَالِ لِحَقِّهِ

، فَإِذَا عَتَقَ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ فَيُؤَاخَذُ بِهِ ، وَكَذَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالْحَدِّ وَالْقِصَاصِ فَيُؤَاخَذُ بِهِ لِلْحَالِ ؛ لِأَنَّ نَفْسَهُ فِي حَقِّ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ كَالْخَارِجِ عَنْ مِلْكِ الْمَوْلَى ، وَلِهَذَا لَوْ أَقَرَّ الْمَوْلَى عَلَيْهِ بِالْحَدِّ وَالْقِصَاصِ لَا يَصِحُّ انْتَهَى .
وَقَالَ فِي التَّبْيِينِ : وَكَوْنُ الْمُقِرِّ حُرًّا لَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى يَصِحَّ إقْرَارُ الْعَبْدِ وَيَنْفُذَ فِي الْحَالِ فِيمَا لَا تُهْمَةَ فِيهِ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ ، وَفِيمَا فِيهِ تُهْمَةٌ لَا يُؤَاخَذُ بِهِ فِي الْحَالِ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ عَلَى الْغَيْرِ وَهُوَ مَوْلًى ، وَيُؤَاخَذُ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ لِزَوَالِ الْمَانِعِ ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ أَقَرَّ الْحُرُّ لِإِنْسَانٍ بِعَيْنٍ مَمْلُوكَةٍ لِغَيْرِهِ لَا يَنْفُذُ لِلْحَالِ ، وَأَمَّا إذَا مَلَكَهَا يَوْمًا يُؤْمَرُ بِتَسْلِيمِهَا إلَى الْمُقَرِّ لَهُ لِزَوَالِ الْمَانِعِ انْتَهَى .
قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ مَجْمُوعِ مَا ذَكَرَهُ هَاهُنَا ( لِأَنَّ إقْرَارَهُ ) أَيْ إقْرَارَ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ ( عُهِدَ ) أَيْ عُرِفَ ( مُوجِبًا لِتَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِرَقَبَتِهِ ) لِأَنَّ ذِمَّتَهُ ضَعُفَتْ بِالرِّقِّ فَانْضَمَّتْ إلَيْهَا مَالِيَّةُ الرَّقَبَةِ ، كَذَا فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ ( وَهِيَ ) أَيْ رَقَبَةُ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ ( مَالُ الْمَوْلَى فَلَا يُصَدَّقُ عَلَيْهِ ) أَيْ عَلَى الْمَوْلَى لِقُصُورِ الْحُجَّةِ ( بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ لِأَنَّهُ ) أَيْ الْمَأْذُونَ ( مُسَلَّطٌ عَلَيْهِ ) أَيْ عَلَى الْإِقْرَارِ ( مِنْ جِهَتِهِ ) أَيْ مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى لِأَنَّ الْإِذْنَ لَهُ بِالتِّجَارَةِ إذْنٌ لَهُ بِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ لِلتِّجَارَةِ وَهُوَ الْإِقْرَارُ ، إذْ لَوْ لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ انْحَسَمَ عَلَيْهِ بَابُ التِّجَارَةِ ، فَإِنَّ النَّاسَ لَا يُبَايِعُونَهُ إذَا عَلِمُوا أَنَّ إقْرَارَهُ لَا يَصِحُّ ، إذْ لَا يَتَهَيَّأُ لَهُمْ الِاسْتِشْهَادُ فِي كُلِّ تِجَارَةٍ يَعْمَلُونَهَا مَعَهُ ، كَذَا فِي مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ وَالذَّخِيرَةِ ( وَبِخِلَافِ الْحَدِّ وَالدَّمِ ) أَيْ الْقِصَاصِ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ لِأَنَّ الْعَبْدَ (

مُبْقًى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ فِي ذَلِكَ ) أَيْ فِي الْحَدِّ وَالدَّمِ بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ ، أَوْ لِجَوَازِ اسْتِعْمَالِ ذَلِكَ فِي الْمُثَنَّى أَيْضًا كَمَا قَالُوا فِي قَوْله تَعَالَى { عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ } ( حَتَّى لَا يَصِحَّ إقْرَارُ الْمَوْلَى عَلَى الْعَبْدِ فِيهِ ) أَيْ فِيمَا ذَكَرَ مِنْ الْحَدِّ وَالْقِصَاصِ لِأَنَّ وُجُوبَ الْعُقُوبَةِ بِنَاءً عَلَى الْجِنَايَةِ وَالْجِنَايَةُ بِنَاءً عَلَى كَوْنِهِ مُكَلَّفًا وَكَوْنُهُ مُكَلَّفًا مِنْ خَوَاصِّ الْآدَمِيَّةِ وَالْآدَمِيَّةُ لَا تَزُولُ بِالرِّقِّ ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ .
قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : هَذَا اسْتِدْلَالٌ لَا يُدْفَعُ مَا لَوْ قِيلَ فِي إقْرَارِهِ بِالْقِصَاصِ إهْلَاكَ رَقَبَتِهِ الَّتِي هِيَ مَالُ الْمَوْلَى فَيَكُونُ إقْرَارًا عَلَى الْغَيْرِ .
وَالْأَوْلَى أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِمَا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ انْتَهَى .
أَقُولُ : بَلْ ذَلِكَ مَدْفُوعٌ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْقِصَاصِ وَإِهْلَاكُ مَالِيَّةِ رَقَبَةِ الْعَبْدِ إنَّمَا هُوَ بِالتَّبَعِ فَلَا يَكُونُ إقْرَارُهُ بِالْقِصَاصِ إقْرَارًا عَلَى الْغَيْرِ بِالنَّظَرِ إلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ أَصَالَةً ، وَلَا يَضُرُّهُ لُزُومُ إهْلَاكِ مَالِ الْغَيْرِ بِالتَّبَعِ ، إذْ كَمْ مِنْ شَيْءٍ يَثْبُتُ ضِمْنًا وَلَا يَثْبُتُ أَصَالَةً وَذُكِرَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ أَنَّ الْعَبْدَ يَصِحُّ مِنْهُ الْإِقْرَارُ بِالْحَدِّ وَالْقِصَاصِ وَالسَّرِقَةِ الْمُسْتَهْلَكَةِ ؛ لِأَنَّ الْحَيَاةَ وَالدَّمَ حَقُّهُ لِاحْتِيَاجِهِ إلَيْهِمَا فِي الْبَقَاءِ ، وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْمَوْلَى إتْلَافَهُمَا .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا تَوَهَّمَهُ ذَلِكَ الْقَائِلُ يَتَوَجَّهُ إلَى مَا ذُكِرَ فِيهَا أَيْضًا وَالْمُخَلَّصُ مَا حَقَقْنَاهُ ( وَلَا بُدَّ مِنْ الْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ لِأَنَّ إقْرَارَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ غَيْرُ لَازِمٍ لِانْعِدَامِ أَهْلِيَّةِ الِالْتِزَامِ ) فَلَا يَلْزَمُ إقْرَارَهُمَا شَيْءٌ ( إلَّا إذَا كَانَ الصَّبِيُّ مَأْذُونًا لَهُ ) فَحِينَئِذٍ يَصِحُّ إقْرَارُهُ فِي قَدْرِ مَا أُذِنَ لَهُ فِيهِ ( لِأَنَّهُ مُلْحَقٌ بِالْبَالِغِ بِحُكْمِ الْإِذْنِ ) لَا بِخِيَارِ رَأْيِهِ بِرَأْيِ الْوَلِيِّ فَيُعْتَبَرُ

كَالْبَالِغِ وَالنَّائِمُ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ كَالْمَجْنُونِ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّمْيِيزِ ، وَهُمَا شَرْطَانِ لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ ، وَإِقْرَارُ السَّكْرَانِ جَائِزٌ بِالْحُقُوقِ كُلِّهَا إلَّا بِالْحُدُودِ الْخَالِصَةِ ، وَالرِّدَّةُ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ تَنْفُذُ مِنْ السَّكْرَانِ كَمَا تَنْفُذُ مِنْ الصَّاحِي ، كَذَا فِي الْكَافِي وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ ( وَجَهَالَةُ الْمُقَرِّ بِهِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ ) يَعْنِي لَوْ كَانَ الْمُقَرُّ بِهِ مَجْهُولًا بِأَنْ قَالَ الْمُقِرُّ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ شَيْءٌ أَوْ حَقٌّ يَصِحُّ الْإِقْرَارُ وَيَلْزَمُهُ مَا أَقَرَّ بِهِ ( لِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ يَلْزَمُ مَجْهُولًا ) يَعْنِي أَنَّ الْحَقَّ قَدْ يَلْزَمُ الْإِنْسَانَ مَجْهُولًا ( بِأَنْ أَتْلَفَ مَالًا لَا يَدْرِي قِيمَتَهُ أَوْ يَجْرَحَ جِرَاحَةً لَا يَعْلَمُ أَرْشَهَا ) لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْجِرَاحَاتِ أَنْ يَسْتَأْنِيَ حَوْلًا فَلَا يَعْلَمُ فِي الْحَالِ مُوجَبَهُ ( أَوْ تَبْقَى عَلَيْهِ بَقِيَّةُ حِسَابٍ لَا يُحِيطُ بِهِ ) أَيْ بِمَا بَقِيَ مِنْ الْحِسَابِ ( عِلْمُهُ وَالْإِقْرَارُ إخْبَارٌ عَنْ ثُبُوتِ الْحَقِّ فَيَصِحُّ بِهِ ) أَيْ فَيَصِحُّ بِكَوْنِ الْمُقَرِّ بِهِ مَجْهُولًا .
فَإِنْ قُلْت : الشَّهَادَةُ إخْبَارٌ عَنْ ثُبُوتِ الْحَقِّ أَيْضًا وَمَعَ ذَلِكَ تُمْنَعُ صِحَّتُهَا بِجَهَالَةِ الْمَشْهُودِ بِهِ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا .
قُلْت : الشَّرْعُ لَمْ يَجْعَلْ الشَّهَادَةَ حُجَّةً إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْمَشْهُودِ بِهِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا رَأَيْت مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ وَإِلَّا فَدَعْ } وَأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تُوجِبُ حَقًّا إلَّا بِانْضِمَامِ الْقَضَاءِ إلَيْهَا ، وَالْقَضَاءُ بِالْمَجْهُولِ لَا يُتَصَوَّرُ ، أَمَّا الْإِقْرَارُ فَمُوجِبٌ بِنَفْسِهِ قَبْلَ اتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ ، وَقَدْ أَمْكَنَ إزَالَةُ الْجَهَالَةِ بِالْإِجْبَارِ عَلَى الْبَيَانِ فَيَصِحُّ بِالْمَجْهُولِ وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ وَيَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْ الشَّهَادَةِ

قَبْلَ اتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهَا ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ ( بِخِلَافِ الْجَهَالَةِ فِي الْمُقَرِّ لَهُ ) يَعْنِي أَنَّهَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ ( لِأَنَّ الْمَجْهُولَ لَا يَصْلُحُ مُسْتَحِقًّا ) ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي مَبْسُوطِهِ وَالنَّاطِفِيُّ فِي وَاقِعَاتِهِ أَنَّ جَهَالَةَ الْمُقَرِّ لَهُ إنَّمَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ إذَا كَانَتْ مُتَفَاحِشَةً بِأَنْ قَالَ هَذَا الْعَبْدُ لِوَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ ، أَمَّا إذَا لَمْ تَكُنْ مُتَفَاحِشَةً بِأَنْ قَالَ : هَذَا الْعَبْدُ لِأَحَدِ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ فَلَا تَمْنَعُ ذَلِكَ .
وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ : لَا يَصِحُّ الْإِقْرَارُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَيْضًا لِأَنَّهُ إقْرَارٌ لِلْمَجْهُولِ ، وَأَنَّهُ لَا يُفِيدُ لِأَنَّ فَائِدَتَهُ الْجَبْرُ عَلَى الْبَيَانِ ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَى الْبَيَانِ هَاهُنَا لِأَنَّهُ إنَّمَا يُجْبَرُ لِصَاحِبِ الْحَقِّ وَهُوَ مَجْهُولٌ .
وَفِي الْكَافِي : وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَصِحُّ لِأَنَّهُ يُفِيدُ ، إذْ فَائِدَتُهُ وُصُولُ الْحَقِّ إلَى الْمُسْتَحِقِّ ، وَطَرِيقُ الْوُصُولِ ثَابِتٌ لِأَنَّهُمَا إذَا اتَّفَقَا عَلَى أَخْذِهِ فَلَهُمَا حَقُّ الْأَخْذِ انْتَهَى .
قَالَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ : وَكَذَلِكَ جَهَالَةُ الْمُقِرِّ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ ، نَحْوُ أَنْ يَقُولَ لِرَجُلٍ : لَك عَلَى أَحَدِنَا أَلْفُ دِرْهَمٍ لِأَنَّ الْمَقْضِيَّ عَلَيْهِ مَجْهُولٌ ، وَهَكَذَا ذَكَرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ شُرُوحِ هَذَا الْكِتَابِ نَقْلًا عَنْهُ .
أَقُولُ : فِي تَمْثِيلِ جَهَالَةِ الْمُقِرِّ بِالْمِثَالِ الْمَذْكُورِ نَظَرٌ ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ الْجَهَالَةَ فِيهِ فِي الْمُقَرِّ عَلَيْهِ لَا فِي الْمُقِرِّ لِأَنَّهُ مُتَعَيِّنٌ وَهُوَ الْمُتَكَلِّمُ ، وَالْأَوْلَى فِي تَمْثِيلِ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ لِرَجُلٍ أَحَدٍ مِنْ جَمَاعَةٍ أَوْ مِنْ اثْنَيْنِ : لَك عَلَيَّ أَلْفٌ وَلَا يَدْرِي أَيَّهُمْ أَوْ أَيَّهُمَا قَالَ ذَلِكَ ( وَيُقَالُ لَهُ بَيِّنْ الْمَجْهُولَ ) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ : يَعْنِي يُقَالُ لِلْمُقِرِّ فِيمَا أَقَرَّ بِمَجْهُولٍ بَيِّنْ الْمَجْهُولَ ( لِأَنَّ التَّجْهِيلَ مِنْ جِهَتِهِ ) أَيْ مِنْ

جِهَةِ الْمُقِرِّ : يَعْنِي أَنَّ الْإِجْمَالَ وَقَعَ مِنْ جِهَتِهِ فَعَلَيْهِ الْبَيَانُ ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَ شَيْئًا يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ نَحْوُ أَنْ يُبَيِّنَ حَبَّةً أَوْ فَلْسًا أَوْ جَوْزَةً أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ .
أَمَّا إذَا بَيَّنَ شَيْئًا لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ : عَنَيْت حَقَّ الْإِسْلَامِ أَوْ كَفًّا مِنْ تُرَابٍ أَوْ نَحْوَهُ ، كَذَا فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ ، وَذُكِرَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ ( فَصَارَ كَمَا إذَا أَعْتَقَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ ) أَيْ فَصَارَ إقْرَارُهُ بِالْمَجْهُولِ كَمَا إذَا أَعْتَقَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ فِي وُجُوبِ الْبَيَانِ عَلَيْهِ ( فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ ) أَيْ فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ الْمُقِرُّ مَا أَجْمَلَهُ ( أَجْبَرَهُ الْقَاضِي عَلَى الْبَيَانِ لِأَنَّهُ لَزِمَهُ الْخُرُوجُ عَمَّا لَزِمَهُ بِصَحِيحِ إقْرَارِهِ ) بِالْبَاءِ الْجَارَّةِ .
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ : بِصَرِيحِ إقْرَارِهِ ( وَذَلِكَ ) أَيْ الْخُرُوجُ عَمَّا لَزِمَهُ بِصَحِيحِ إقْرَارِهِ ( بِالْبَيَانِ ) لَا غَيْرِهِ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَعَنْ الشَّافِعِيِّ فِي قَوْلٍ : إنْ وَقَعَ الْإِقْرَارُ الْمُبْهَمُ فِي جَوَابِ دَعْوَى وَامْتَنَعَ عَنْ التَّفْسِيرِ يُجْعَلُ ذَلِكَ إنْكَارًا مِنْهُ وَيُعْرَضُ الْيَمِينُ عَلَيْهِ فَإِنْ أَصَرَّ جُعِلَ نَاكِلًا عَنْ الْيَمِينِ وَحَلَفَ الْمُدَّعِي ، وَإِنْ أَقَرَّ ابْتِدَاءً يُقَالُ لِلْمُقَرِّ لَهُ : ادَّعِ حَقَّك فَإِذَا ادَّعَى وَأَقَرَّ أَوْ أَنْكَرَ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُهُ كَذَا فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ .

( فَإِنْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ شَيْءٌ لَزِمَهُ أَنْ يُبَيِّنَ مَا لَهُ قِيمَةٌ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ الْوُجُوبِ فِي ذِمَّتِهِ ، وَمَا لَا قِيمَةَ لَهُ لَا يَجِبُ فِيهَا ) ، فَإِذَا بَيَّنَ غَيْرَ ذَلِكَ يَكُونُ رُجُوعًا .
قَالَ ( وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ إنْ ادَّعَى الْمُقَرُّ لَهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ) لِأَنَّهُ هُوَ الْمُنْكِرُ فِيهِ ( وَكَذَا إذَا قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ حَقٌّ ) لِمَا بَيَّنَّا ، وَكَذَا لَوْ قَالَ : غَصَبْت مِنْهُ شَيْئًا وَيَجِبُ أَنْ يُبَيِّنَ مَا هُوَ مَالٌ يَجْرِي فِيهِ التَّمَانُعُ تَعْوِيلًا عَلَى الْعَادَةِ .

( فَإِنْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ شَيْءٌ لَزِمَهُ أَنْ يُبَيِّنَ مَا لَهُ قِيمَةٌ ) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِهِ ( لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ الْوُجُوبِ فِي ذِمَّتِهِ ) كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظَةُ عَلَيَّ لِأَنَّهَا لِلْإِيجَابِ وَالْإِلْزَامِ ( وَمَا لَا قِيمَةَ لَهُ لَا يَجِبُ فِيهَا ) أَيْ فِي الذِّمَّةِ ( فَإِذَا بَيَّنَ غَيْرَ ذَلِكَ ) أَيْ غَيْرَ مَا لَهُ قِيمَةٌ ( يَكُونُ رُجُوعًا ) عَنْ الْإِقْرَارِ فَلَا يُقْبَلُ ( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ : ( وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ) أَيْ قَوْلُ الْمُقِرِّ ( مَعَ يَمِينِهِ إنْ ادَّعَى الْمُقَرُّ لَهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ) أَيْ مِمَّا بَيَّنَهُ ، يَعْنِي إذَا بَيَّنَ الْمُقِرُّ مَا لَهُ قِيمَةٌ مِمَّا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ مَكِيلًا كَانَ أَوْ مَوْزُونًا أَوْ عَدَدِيًّا نَحْوُ كُرِّ حِنْطَةٍ أَوْ فَلْسٍ أَوْ جَوْزَةٍ ، فَإِمَّا أَنْ يُسَاعِدَهُ الْمُقَرُّ لَهُ أَوْ لَا ، فَإِنْ سَاعَدَهُ أَخَذَهُ ، وَإِنْ لَمْ يُسَاعِدْهُ بَلْ ادَّعَى عَلَيْهِ الزِّيَادَةَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ مَعَ يَمِينِهِ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ لِأَنَّ الْمُقِرَّ ( هُوَ الْمُنْكِرُ فِيهِ ) أَيْ فِيمَا يَدَّعِي عَلَيْهِ الْمُقَرُّ لَهُ مِنْ الزِّيَادَةِ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَكَذَا إذَا قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ حَقٌّ ) أَيْ لَزِمَهُ هُنَا أَيْضًا أَنْ يُبَيِّنَ مَا لَهُ قِيمَةٌ ( لِمَا بَيَّنَّا ) أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ الْوُجُوبِ فِي ذِمَّتِهِ وَمَا لَا قِيمَةَ لَهُ لَا يَجِبُ فِيهَا .
وَذُكِرَ فِي الْمُحِيطِ وَالْمُسْتَزَادِ : وَلَوْ قَالَ الرَّجُلُ لِفُلَانٍ عَلَيَّ حَقٌّ ثُمَّ قَالَ مَفْصُولًا عَنَيْت بِهِ حَقَّ الْإِسْلَامِ لَا يُصَدَّقُ ، وَإِنْ قَالَ مَوْصُولًا يُصَدَّقُ لِأَنَّهُ بَيَانٌ يُعْتَبَرُ بِاعْتِبَارِ الْعُرْفِ لِأَنَّهُ لَا يُرَادُ بِهِ فِي الْعُرْفِ حَقُّ الْإِسْلَامِ وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ حُقُوقٌ مَالِيَّةٌ ، كَذَا فِي الْكَافِي ( وَكَذَا لَوْ قَالَ : غَصَبْتُ مِنْهُ شَيْئًا ) هَذِهِ مِنْ مَسَائِلِ الْمَبْسُوطِ ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ تَفْرِيعًا عَلَى مَسْأَلَةِ الْقُدُورِيِّ يَعْنِي لَوْ قَالَ : غَصَبْت

مِنْ فُلَانٍ شَيْئًا صَحَّ إقْرَارُهُ وَلَزِمَهُ الْبَيَانُ أَيْضًا .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ تَصَرُّفٍ لَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهِ وَتَحَقُّقِهِ إعْلَامُ مَا صَادَفَهُ ذَلِكَ التَّصَرُّفُ فَالْإِقْرَارُ بِهِ مَعَ الْجَهَالَةِ صَحِيحٌ ، وَذَلِكَ كَالْغَصْبِ الْوَدِيعَةِ فَإِنَّ الْجَهَالَةَ لَا تَمْنَعُ تَحَقُّقَ الْغَصْبِ الْوَدِيعَةِ ، فَإِنَّ مَنْ غَصَبَ مِنْ رَجُلٍ مَالًا مَجْهُولًا فِي كِيسٍ أَوْ أَوْدَعَهُ مَالًا مَجْهُولًا فِي كِيسٍ فَإِنَّهُ يَصِحُّ الْغَصْبُ الْوَدِيعَةُ وَيَثْبُتُ حُكْمُهُمَا ، وَكُلُّ تَصَرُّفٍ يُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهِ وَتَحَقُّقِهِ إعْلَامُ مَا صَادَفَهُ ذَلِكَ التَّصَرُّفُ فَالْإِقْرَارُ بِهِ مَعَ الْجَهَالَةِ لَا يَصِحُّ وَذَلِكَ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ ، فَإِنَّ مَنْ أَقَرَّ أَنَّهُ بَاعَ مِنْ فُلَانٍ شَيْئًا أَوْ أَجَّرَ مِنْ فُلَانٍ شَيْئًا أَوْ اشْتَرَى مِنْ فُلَانٍ كَذَا بِشَيْءٍ لَا يَصِحُّ وَلَا يُجْبَرُ الْمُقِرُّ عَلَى تَسْلِيمِ شَيْءٍ ، وَهَذَا لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْإِقْرَارِ كَالثَّابِتِ مُعَايَنَةً .
وَلَوْ عَايَنَّا أَنَّهُ بَاعَ مِنْهُ شَيْئًا مَجْهُولًا لَا يَجِبُ تَسْلِيمُ شَيْءٍ بِحُكْمِ هَذَا الْبَيْعِ لِكَوْنِهِ فَاسِدًا فَكَذَا إذَا ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ ، وَلَوْ عَايَنَّا أَنَّهُ غَصَبَ شَيْئًا مَجْهُولًا فِي كِيسٍ يُجْبَرُ عَلَى الرَّدِّ فَكَذَا إذَا ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ ، وَإِذَا صَحَّ الْإِقْرَارُ بِالْغَصْبِ مَعَ الْجَهَالَةِ يُجْبَرُ الْمُقِرُّ عَلَى الْبَيَانِ حَقًّا لِلْمُقَرِّ لَهُ ، كَذَا فِي الْكَافِي وَالْمُحِيطِ الْبُرْهَانِيِّ ( وَيَجِبُ أَنْ يُبَيِّنَ مَا هُوَ مَالٌ يَجْرِي فِيهِ التَّمَانُعُ تَعْوِيلًا عَلَى الْعَادَةِ ) أَيْ اعْتِمَادًا عَلَيْهَا .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ : رَجُلٌ قَالَ : غَصَبْتُ مِنْ فُلَانٍ شَيْئًا فَالْإِقْرَارُ صَحِيحٌ وَيَلْزَمُهُ مَا يُبَيِّنُهُ ، وَلَا بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَ شَيْئًا هُوَ مَالٌ لِأَنَّ الشَّيْءَ حَقِيقَةً اسْمٌ لِمَا هُوَ مَوْجُودٌ مَالًا ، كَانَ أَوْ غَيْرَ مَالٍ ، إلَّا أَنَّ لَفْظَ الْغَصْبِ دَلِيلٌ عَلَى الْمَالِيَّةِ فِيهِ ، فَإِنَّ الْغَصْبَ لَا يَرِدُ إلَّا عَلَى مَا هُوَ مَالٌ ، وَمَا ثَبَتَ بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ فَهُوَ

كَالْمَلْفُوظِ كَقَوْلِهِ : اشْتَرَيْت مِنْ فُلَانٍ شَيْئًا يَكُونُ إقْرَارًا بِشِرَاءِ مَا هُوَ مَالٌ لِأَنَّ الشِّرَاءَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِيهِ ، وَلَا بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَ مَا لَا يَجْرِي فِيهِ التَّمَانُعُ بَيْنَ النَّاسِ ، حَتَّى لَوْ فَسَّرَهُ بِحَبَّةِ حِنْطَةٍ لَا يُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْغَصْبِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَمْنُوعًا مِنْ جِهَةِ صَاحِبِهِ حَتَّى غَلَبَ عَلَيْهِ فَغَصَبَهُ وَهَذَا مِمَّا يَجْرِي فِيهِ التَّمَانُعُ ، فَإِذَا بَيَّنَ شَيْئًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ قُبِلَ بَيَانُهُ لِأَنَّ هَذَا بَيَانٌ مُقَرَّرٌ لِأَصْلِ كَلَامِهِ وَبَيَانُ التَّقْرِيرِ يَصِحُّ مَوْصُولًا كَانَ أَوْ مَفْصُولًا ، وَيَسْتَوِي أَنْ يُبَيِّنَ شَيْئًا يُضْمَنُ بِالْغَصْبِ أَوْ لَا يُضْمَنُ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يَجْرِي فِيهِ التَّمَانُعُ حَتَّى إذَا بَيَّنَ أَنَّ الْمَغْصُوبَ خَمْرٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَكَذَلِكَ إنْ بَيَّنَ أَنَّ الْمَغْصُوبَ دَارٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تُضْمَنُ بِالْغَصْبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيمَا إذَا بَيَّنَ أَنَّ الْمَغْصُوبَ زَوْجَتُهُ أَوْ وَلَدُهُ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : بَيَانُهُ مَقْبُولٌ لِأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِمُبْهَمِ كَلَامِهِ فَإِنَّ لَفْظَ الْغَصْبِ يُطْلَقُ عَلَى الزَّوْجِ وَالْوَلَدِ عَادَةً ، وَالتَّمَانُعُ فِيهِ يَجْرِي بَيْنَ النَّاسِ أَكْثَرَ مِمَّا يَجْرِي فِي الْأَمْوَالِ .
وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ بَيَانُهُ بِهَذَا لِأَنَّ حُكْمَ الْغَصْبِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِيمَا هُوَ مَالٌ فَبَيَانُهُ بِمَا لَيْسَ بِمَالٍ يَكُونُ إنْكَارًا لِحُكْمِ الْغَصْبِ بَعْدَ إقْرَارِهِ بِسَبَبِهِ وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ مِنْهُ ، إلَى هُنَا لَفْظُ الْمَبْسُوطِ .
وَصَرَّحَ فِي الْإِيضَاحِ وَغَيْرِهِ بِأَنَّ الْأَوَّلَ وَهُوَ قَبُولُ بَيَانِهِ بِأَنَّ الْمَغْصُوبَ زَوْجَتُهُ أَوْ وَلَدُهُ اخْتِيَارُ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ .
وَالثَّانِي وَهُوَ عَدَمُ قَبُولِ بَيَانِهِ بِذَلِكَ اخْتِيَارُ مَشَايِخِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ .
وَإِذَا قَدْ عَرَفْت ذَلِكَ تَبَيَّنَ لَك أَنَّ الْمُصَنِّفَ اخْتَارَ هَاهُنَا قَوْلَ مَشَايِخِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ حَيْثُ قَالَ :

وَيَجِبُ أَنْ يُبَيِّنَ مَا هُوَ مَالٌ يَجْرِي فِيهِ التَّمَانُعُ تَعْوِيلًا عَلَى الْعَادَةِ : يَعْنِي أَنَّ مُطْلَقَ اسْمِ الْغَصْبِ يَنْطَلِقُ عَلَى أَخْذِ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ فِي الْعُرْفِ .
هَذَا وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ : وَكَذَا لَوْ قَالَ غَصَبْت مِنْهُ شَيْئًا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ مَا هُوَ مَالٌ ، حَتَّى لَوْ بَيَّنَ أَنَّ الْمَغْصُوبَ زَوْجَتُهُ أَوْ وَلَدُهُ لَا يَصِحُّ وَهُوَ اخْتِيَارُ مَشَايِخِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ .
وَقِيلَ يَصِحُّ وَهُوَ اخْتِيَارُ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّ الْغَصْبَ أَخْذُ مَالٍ فَحُكْمُهُ لَا يَجْرِي فِيمَا لَيْسَ بِمَالٍ ، وَلَا بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَ مَا يَجْرِي فِيهِ التَّمَانُعُ حَتَّى لَوْ بَيَّنَ فِي حَبَّةِ حِنْطَةٍ أَوْ فِي قَطْرَةِ مَاءٍ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ لَمْ تَجْرِ بِغَصْبِ ذَلِكَ فَكَانَتْ مُكَذِّبَةً لَهُ فِي بَيَانِهِ ، وَلَوْ بَيَّنَ فِي الْعَقَارِ أَوْ فِي خَمْرِ الْمُسْلِمِ يَصِحُّ لِأَنَّهُ مَالٌ يَجْرِي فِيهِ التَّمَانُعُ .
فَإِنْ قِيلَ : الْغَصْبُ أَخْذُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ مُحْتَرَمٍ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ عَلَى وَجْهٍ يُزِيلُ يَدَهُ وَهُوَ لَا يُصَدَّقُ عَلَى الْعَقَارِ وَخَمْرِ الْمُسْلِمِ فَلَزِمَ نَقْضُ التَّعْرِيفِ أَوْ عَدَمُ قَبُولِ الْبَيَانِ فِيهِمَا .
فَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ حَقِيقَتُهُ ، وَقَدْ تُتْرَكُ الْحَقِيقَةُ بِدَلَالَةِ الْعَادَةِ كَمَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ ، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعْوِيلًا عَلَى الْعَادَةِ ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ صِحَّةَ مَا ذَكَرَهُ فِي هَذَا الْجَوَابِ مِنْ أَنَّ حَقِيقَةَ الْغَصْبِ تُتْرَكُ بِدَلَالَةِ : الْعَادَةِ تُنَافِي صِحَّةَ مَا ذَكَرَهُ فِي تَعْلِيلِ أَصِحِّيَّةِ مَشَايِخِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ فِيمَا لَوْ بَيَّنَ أَنَّ الْمَغْصُوبَ زَوْجَتُهُ أَوْ وَلَدُهُ مِنْ أَنَّ الْغَصْبَ أَخْذُ مَالٍ فَحُكْمُهُ لَا يَجْرِي فِيمَا لَيْسَ بِمَالٍ ؛ لِأَنَّ مَشَايِخَ الْعِرَاقِ يَقُولُونَ : إنَّ لَفْظَ الْغَصْبِ يُطْلَقُ عَلَى الزَّوْجِ وَالْوَلَدِ عَادَةً ، وَالتَّمَانُعُ فِيهِ يَجْرِي بَيْنَ النَّاسِ أَكْثَرَ مِمَّا يَجْرِي

فِي الْأَمْوَالِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْمَبْسُوطِ وَغَيْرِهِ ، وَلَيْسَ مَعْنَى هَذَا الْقَوْلِ مِنْهُمْ إلَّا أَنَّ حَقِيقَةَ الْغَصْبِ تُتْرَكُ فِي ذَلِكَ بِدَلَالَةِ الْعَادَةِ ، فَكَيْفَ يَصِحُّ تَعْلِيلُ أَصَحِّيَّةِ اخْتِيَارِ مَشَايِخِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ فِيهِ بِأَنَّ الْغَصْبَ أَخْذُ مَالٍ فَحُكْمُهُ لَا يَجْرِي فِيمَا لَيْسَ بِمَالٍ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعْوِيلًا عَلَى الْعَادَةِ لَا يَكَادُ يَصِحُّ لِأَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ : تَعْوِيلًا عَلَى الْعَادَةِ عِلَّةٌ لِوُجُوبِ أَنْ يُبَيِّنَ مَا هُوَ مَالٌ يَجْرِي فِيهِ التَّمَانُعُ وَمَعْنَاهُ أَنَّ حَقِيقَةَ الْغَصْبِ وَإِنْ تَنَاوَلَتْ مَا يَجْرِي فِيهِ التَّمَانُعُ مِنْ الْأَمْوَالِ وَمَا لَا يَجْرِي فِيهِ التَّمَانُعُ مِنْهَا ، إلَّا أَنَّ الْعَادَةَ خَصَّصَتْهُ بِالْأَوَّلِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَ ذَلِكَ ، وَمَقْصُودُهُ الِاحْتِرَازُ عَمَّا لَوْ بَيَّنَ حَبَّةَ حِنْطَةٍ أَوْ قَطْرَةَ مَاءٍ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ قَطْعًا .
وَأَمَّا أَنَّ حَقِيقَةَ الْغَصْبِ تُتْرَكُ بِدَلَالَةِ الْعَادَةِ إلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْهَا فَلَا إشَارَةَ إلَيْهِ فِي كَلَامِهِ أَصْلًا ، كَيْفَ وَلَوْ صَحَّ ذَلِكَ عِنْدَهُ وَكَانَ فِي كَلَامِهِ إشَارَةً إلَيْهِ لَمَا صَحَّ الْقَوْلُ مِنْهُ بِوُجُوبِ أَنْ يُبَيِّنَ مَالًا ، إذْ الْعَادَةُ جَارِيَةٌ قَطْعًا عَلَى إطْلَاقِ لَفْظِ الْغَصْبِ عَلَى مَا لَيْسَ بِمَالٍ كَالزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ إطْلَاقًا جَارِيًا عَلَى اللُّغَةِ لَا عَلَى حَقِيقَتِهِ الشَّرْعِيَّةِ .
وَبِالْجُمْلَةِ إنَّ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا مَسُوقٌ عَلَى مَا هُوَ مُخْتَارُ مَشَايِخِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ دُونَ مُخْتَارِ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ ، وَفِيمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ خَلْطٌ لِلْمَذْهَبَيْنِ .

( وَلَوْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ مَالٌ فَالْمَرْجِعُ إلَيْهِ فِي بَيَانِهِ لِأَنَّهُ الْمُجْمِلُ وَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ ) لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مَالٌ فَإِنَّهُ اسْمٌ لِمَا يُتَمَوَّلُ بِهِ ( إلَّا أَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ دِرْهَمٍ ) لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ مَالًا عُرْفًا ( وَلَوْ قَالَ : مَالٌ عَظِيمٌ لَمْ يُصَدَّقْ فِي أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ ) لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِمَالٍ مَوْصُوفٍ فَلَا يَجُوزُ إلْغَاءُ الْوَصْفِ وَالنِّصَابُ عَظِيمٌ حَتَّى اُعْتُبِرَ صَاحِبُهُ غَنِيًّا بِهِ ، وَالْغَنِيُّ عَظِيمٌ عِنْدَ النَّاسِ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَهِيَ نِصَابُ السَّرِقَةِ لِأَنَّهُ عَظِيمٌ حَيْثُ تُقْطَعُ بِهِ الْيَدُ الْمُحْتَرَمَةُ ، وَعَنْهُ مِثْلُ جَوَابِ الْكِتَابِ ، وَهَذَا إذَا قَالَ مِنْ الدَّرَاهِمِ ، أَمَّا إذَا قَالَ مِنْ الدَّنَانِيرِ فَالتَّقْدِيرُ فِيهَا بِالْعِشْرِينِ ، وَفِي الْإِبِلِ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ لِأَنَّهُ أَدْنَى نِصَابٍ يَجِبُ فِيهِ مِنْ جِنْسِهِ وَفِي غَيْرِ مَالِ الزَّكَاةِ بِقِيمَةِ النِّصَابِ ( وَلَوْ قَالَ : أَمْوَالٌ عِظَامٌ فَالتَّقْدِيرُ بِثَلَاثَةِ نُصُبٍ مِنْ أَيِّ فَنٍّ سَمَّاهُ ) اعْتِبَارًا لِأَدْنَى الْجَمْعِ ( وَلَوْ قَالَ : دَرَاهِمُ كَثِيرَةٌ لَمْ يُصَدَّقْ فِي أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ( وَعِنْدَهُمَا لَمْ يُصَدَّقْ فِي أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْنِ ) لِأَنَّ صَاحِبَ النِّصَابِ مُكْثِرٌ حَتَّى وَجَبَ عَلَيْهِ مُوَاسَاةُ غَيْرِهِ ، بِخِلَافِ مَا دُونَهُ .
وَلَهُ أَنَّ الْعَشَرَةَ أَقْصَى مَا يَنْتَهِي إلَيْهِ اسْمُ الْجَمْعِ ، يُقَالُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ ثُمَّ يُقَالُ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا فَيَكُونُ هُوَ الْأَكْثَرُ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِ ( وَلَوْ قَالَ دَرَاهِمُ فَهِيَ ثَلَاثَةٌ ) لِأَنَّهَا أَقَلُّ الْجَمْعِ الصَّحِيحِ ( إلَّا أَنْ يُبَيِّنَ أَكْثَرَ مِنْهَا ) لِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُهُ وَيَنْصَرِفُ إلَى الْوَزْنِ الْمُعْتَادِ ( وَلَوْ قَالَ : كَذَا كَذَا دِرْهَمًا لَمْ يُصَدَّقْ فِي أَقَلَّ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا ) لِأَنَّهُ ذَكَرَ عَدَدَيْنِ مُبْهَمَيْنِ لَيْسَ

بَيْنَهُمَا حَرْفُ الْعَطْفِ وَأَقَلُّ ذَلِكَ مِنْ الْمُفَسَّرِ أَحَدَ عَشَرَ ( وَلَوْ قَالَ : كَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا لَمْ يُصَدَّقْ فِي أَقَلَّ مِنْ أَحَدٍ وَعِشْرِينَ ) لِأَنَّهُ ذَكَرَ عَدَدَيْنِ مُبْهَمَيْنِ بَيْنَهُمَا حَرْفُ الْعَطْفِ ، وَأَقَلُّ ذَلِكَ مِنْ الْمُفَسَّرِ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ فَيُحْمَلُ كُلُّ وَجْهٍ عَلَى نَظِيرِهِ ( وَلَوْ قَالَ كَذَا دِرْهَمًا فَهُوَ دِرْهَمٌ ) لِأَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِلْمُبْهَمِ ( وَلَوْ ثَلَّثَ كَذَا بِغَيْرِ وَاوٍ فَأَحَدَ عَشَرَ ) لِأَنَّهُ لَا نَظِيرَ لَهُ سِوَاهُ ( وَإِنْ ثَلَّثَ بِالْوَاوِ فَمِائَةٌ وَأَحَدٌ وَعِشْرُونَ ، وَإِنْ رَبَّعَ يُزَادُ عَلَيْهَا أَلْفٌ ) لِأَنَّ ذَلِكَ نَظِيرُهُ .

( وَلَوْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ مَالٌ فَالْمَرْجِعُ إلَيْهِ فِي بَيَانِهِ ) وَهَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ : يَعْنِي لَوْ قَالَ أَحَدٌ فِي إقْرَارِهِ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ مَالٌ فَالرُّجُوعُ إلَى الْمُقِرِّ فِي بَيَانِ قَدْرِ الْمَالِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِهِ ( لِأَنَّهُ الْمُجْمِلُ ) يَعْنِي أَنَّ الْمُقِرَّ هُوَ الْمُجْمِلُ وَالرُّجُوعُ فِي بَيَانِ الْمُجْمَلِ إلَى الْمُجْمِلِ ( وَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ ) وَهَذَا مِنْ تَتِمَّةِ كَلَامِ الْقُدُورِيِّ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِهِ : ( لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مَالٌ ، فَإِنَّهُ ) أَيْ الْمَالُ ( اسْمٌ لِمَا يُتَمَوَّلُ بِهِ ) وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ ، ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ ( إلَّا أَنَّهُ ) أَيْ الْمُقِرَّ ( لَا يُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ دِرْهَمٍ ) وَالْقِيَاسُ أَنْ يُصَدَّقَ فِيهِ أَيْضًا لِأَنَّهُ مَالٌ .
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ : لَا يُصَدَّقُ فِيهِ ، وَجْهُهُ تَرْكُ الْحَقِيقَةِ بِدَلَالَةِ الْعُرْفِ ، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ الْأَقَلَّ مِنْ دِرْهَمٍ ( لَا يُعَدُّ مَالًا عُرْفًا ) فَإِنَّ مَا دُونَ الدِّرْهَمِ مِنْ الْكُسُورِ وَلَا يُطْلَقُ اسْمُ الْمَالِ عَلَيْهِ عَادَةً ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ .
قَالَ الْإِمَامُ عَلَاءُ الدِّينِ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِ الْكَافِي لِلْحَاكِمِ الشَّهِيدِ : وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ مَالٌ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِيهِ وَدِرْهَمٌ مَالٌ .
ثُمَّ قَالَ : وَهَذَا اللَّفْظُ يُوهِمُ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إذَا بَيَّنَ أَقَلَّ مِنْ دِرْهَمٍ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَنْبَغِي أَنْ يُقْبَلَ قَوْلُهُ فِي الْبَيَانِ لِأَنَّ اسْمَ الْمَالِ مُنْطَلِقٌ عَلَى نِصْفِ دِرْهَمٍ وَسُدُسِ دِرْهَمٍ كَمَا يَنْطَلِقُ عَلَى الدِّرْهَمِ .
ثُمَّ قَالَ : وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ لِأَنَّ الْمَالَ الَّذِي يَدْخُلُ تَحْتَ الِالْتِزَامِ وَالْإِقْرَارِ لَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ دِرْهَمٍ ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي حُكْمِ الْعَادَةِ فَحَمَلْنَا عَلَيْهِ كَلَامَهُ ا هـ .
وَقَالَ النَّاطِفِيُّ فِي أَجْنَاسِهِ : وَفِي نَوَادِرِ هِشَامٍ قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَوْ قَالَ : لِفُلَانٍ

عَلَيَّ مَالٌ لَهُ أَنْ يُقِرَّ بِدِرْهَمٍ .
ثُمَّ قَالَ : وَقَالَ الْهَارُونِيُّ : لَوْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ مَالٌ هُوَ عَلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ جِيَادٍ ، وَلَا يُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يُصَدَّقُ فِي ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ وَلَا يُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْهُ ، إلَى هُنَا لَفْظُ الْأَجْنَاسِ ( وَلَوْ قَالَ مَالٌ عَظِيمٌ لَا يُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ ) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ : يَعْنِي لَوْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ مَالٌ عَظِيمٌ فَعَلَيْهِ مَا يَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ وَهُوَ مِائَتَا دِرْهَمٍ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : هُوَ مِثْلُ الْأَوَّلِ قُلْنَا : فِيهِ إلْغَاءٌ لِوَصْفِ الْعِظَمِ فَلَا يَجُوزُ ، وَقَدْ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِمَالٍ مَوْصُوفٍ ) أَيْ مَوْصُوفٍ بِوَصْفِ الْعِظَمِ ( فَلَا يَجُوزُ إلْغَاءُ الْوَصْفِ ) بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الْبَيَانِ بِمَا يُعَدُّ عَظِيمًا عِنْدَ النَّاسِ ( وَالنِّصَابُ ) مَالٌ ( عَظِيمٌ ) فِي الشَّرْعِ وَالْعُرْفِ ، ( حَتَّى اُعْتُبِرَ صَاحِبُهُ غَنِيًّا بِهِ ) فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ مُوَاسَاةَ الْفُقَرَاءِ ( وَالْغَنِيُّ عَظِيمٌ عِنْدَ النَّاسِ ) فَكَانَ فِيمَا قُلْنَا رِعَايَةُ حُكْمِ الشَّرْعِ وَالْعُرْفِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَلَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذَا الْفَصْلِ فَاخْتَلَفَتْ رِوَايَةُ الْمَشَايِخِ عَنْهُ فِيهِ ، فَأَرَادَ الْمُصَنِّفُ بَيَانَ ذَلِكَ فَقَالَ ( وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ) أَيْ رُوِيَ عَنْهُ ( أَنَّهُ ) أَيْ الْمُقِرُّ فِي هَذَا الْفَصْلِ ( لَا يُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَهِيَ نِصَابُ السَّرِقَةِ ) وَنِصَابُ الْمَهْرِ أَيْضًا ( لِأَنَّهُ ) أَيْ لِأَنَّ هَذَا النِّصَابَ ( عَظِيمٌ حَيْثُ تُقْطَعُ بِهِ الْيَدُ الْمُحْتَرَمَةُ ) وَيُسْتَبَاحُ بِهِ الْبِضْعُ الْمُحْتَرَمُ ( وَعَنْهُ ) أَيْ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( مِثْلُ جَوَابِ الْكِتَابِ ) أَيْ مِثْلُ مَا ذَكَرَ فِي مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ مِنْ أَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ .
قَالَ

فِي غَايَةِ الْبَيَانِ : وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ عَدَدًا حَتَّى تَجِبَ مُرَاعَاةُ اللَّفْظِ فِيهِ فَأَوْجَبْنَا الْعَظِيمَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَهُوَ الْمَالُ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ لِأَنَّهُ أَقَلُّ مَالٍ لَهُ خَطَرٌ فِي الشَّرْعِ ا هـ .
وَذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَيْضًا بِقِيلٍ خَلَا قَوْلِهِ لِأَنَّهُ أَقَلُّ مَالٍ لَهُ خَطَرٌ فِي الشَّرْعِ .
أَقُولُ : فِيهِ بَحْثٌ ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ الْمَذْكُورَ لَا يُفِيدُ كَوْنَ مَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ هُوَ الصَّحِيحَ ؛ لِأَنَّ إيجَابَنَا الْعَظِيمَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَمْرٌ مُقَرَّرٌ عَلَى كِلْتَا الرِّوَايَتَيْنِ ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي أَنَّ ذَلِكَ الْعَظِيمَ مَاذَا ؟ هَلْ هُوَ نِصَابُ الزَّكَاةِ أَمْ نِصَابُ السَّرِقَةِ وَالْمَهْرِ ؟ فَقَوْلُهُ : وَهُوَ الْمَالُ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى ، وَكَذَا قَوْلُهُ لِأَنَّهُ أَقَلُّ مَالٍ لَهُ خَطَرٌ فِي الشَّرْعِ ، إذْ لِصَاحِبِهَا أَنْ يَقُولَ : بَلْ هُوَ الْمَالُ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ قَطْعُ الْيَدِ الْمُحْتَرَمَةِ وَيُسْتَبَاحُ بِهِ الْبُضْعُ الْمُحْتَرَمُ وَهُوَ أَقَلُّ مَالٍ لَهُ خَطَرٌ فِي الشَّرْعِ فَلَمْ يَتِمَّ التَّقْرِيبُ .
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَالْأَصَحُّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُبْنَى عَلَى حَالِ الْمُقِرِّ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى ، فَإِنَّ الْقَلِيلَ عِنْدَ الْفَقِيرِ عَظِيمٌ ، وَأَضْعَافُ ذَلِكَ عِنْدَ الْغَنِيِّ حَقِيرٌ ، وَكَمَا أَنَّ الْمِائَتَيْنِ عَظِيمٌ فِي حُكْمِ الزَّكَاةِ فَالْعَشَرَةُ عَظِيمٌ فِي حُكْمِ قَطْعِ يَدِ السَّارِقِ ، وَتَقْدِيرُ الْمَهْرِ بِهَا فَوَقَعَ التَّعَارُضُ فَيَرْجِعُ إلَى حَالِ الْمُقِرِّ ، كَذَا فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ وَذُكِرَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ ( وَهَذَا ) أَيْ مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ ( إذَا قَالَ مِنْ الدَّرَاهِمِ ) أَيْ إذَا قَالَ لَهُ عَلَيَّ مَالٌ عَظِيمٌ مِنْ الدَّرَاهِمِ سَوَاءٌ قَالَ كَذَلِكَ ابْتِدَاءً أَوْ قَالَ فِي الِابْتِدَاءِ : لَهُ عَلَيَّ مَالٌ عَظِيمٌ ، ثُمَّ بَيَّنَ مُرَادَهُ مِنْ الْمَالِ الْعَظِيمِ

بِالدَّرَاهِمِ فَقَوْلُ صَاحِبَيْ النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ فِي شَرْحِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ هَذَا إذَا قَالَ مِنْ الدَّرَاهِمِ : أَيْ بَيَّنَ وَقَالَ : إنَّ مُرَادِي بِالْمَالِ الْعَظِيمِ الدَّرَاهِمُ لَا يَخْلُو عَنْ تَقْصِيرٍ ( أَمَّا إذَا قَالَ مِنْ الدَّنَانِيرِ ) أَيْ إذَا قَالَ ذَلِكَ ابْتِدَاءً أَوْ ثَانِيًا عِنْدَ الْبَيَانِ ( فَالتَّقْدِيرُ فِيهَا ) أَيْ فِي الدَّنَانِيرِ ( بِالْعِشْرِينِ ) أَيْ بِعِشْرِينَ مِثْقَالًا لِأَنَّهُ نِصَابُ الزَّكَاةِ فِي الذَّهَبِ ( وَفِي الْإِبِلِ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ ) يَعْنِي وَفِيمَا إذَا قَالَ مِنْ الْإِبِلِ يُقَدَّرُ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ إبِلًا ( لِأَنَّهُ أَدْنَى نِصَابٍ يَجِبُ فِيهِ مِنْ جِنْسِهِ ) كَعِشْرِينَ مِثْقَالًا فِي الدَّنَانِيرِ وَمِائَتَيْ دِرْهَمٍ فِي الدَّرَاهِمِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إذَا بَيَّنَ بِجِنْسٍ مِنْ أَجْنَاسِ الْأَمْوَالِ الزَّكَوِيَّةِ فَالْمُعْتَبَرُ أَقَلُّ مَا يَكُونُ نِصَابًا فِي ذَلِكَ الْجِنْسِ .
فَإِنْ قِيلَ : يَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّرَ فِي الْإِبِلِ بِخَمْسٍ لِأَنَّهُ تَجِبُ فِيهِ شَاةٌ فَكَانَ صَاحِبُهَا بِهَا غَنِيًّا .
قُلْنَا : هِيَ مَالٌ عَظِيمٌ مِنْ وَجْهٍ حَتَّى يَجِبَ فِيهَا الزَّكَاةُ ، وَلَيْسَتْ بِمَالٍ عَظِيمٍ مِنْ وَجْهٍ حَتَّى لَا يَجِبَ فِيهَا مِنْ جِنْسِهَا ، فَاعْتَبَرْنَا مَا ذَكَرْنَا لِيَكُونَ عَظِيمًا مُطْلَقًا إذْ الْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ ، كَذَا فِي الْكَافِي وَبَعْضِ الشُّرُوحِ ( وَفِي غَيْرِ مَالِ الزَّكَاةِ بِقِيمَةِ النِّصَابِ ) يَعْنِي وَفِيمَا إذَا بَيَّنَ بِغَيْرِ مَالِ الزَّكَاةِ يُقَدَّرُ بِقِيمَةِ النِّصَابِ : أَيْ بِقَدْرِ النِّصَابِ قِيمَةً ( وَلَوْ قَالَ أَمْوَالٌ عِظَامٌ ) أَيْ وَلَوْ قَالَ : عَلَيَّ أَمْوَالٌ عِظَامٌ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ ( فَالتَّقْدِيرُ بِثَلَاثَةِ نُصُبٍ مِنْ أَيِّ فَنٍّ سَمَّاهُ ) أَيْ مِنْ أَيِّ نَوْعٍ سَمَّاهُ ، حَتَّى لَوْ قَالَ مِنْ الدَّرَاهِمِ كَانَ التَّقْدِيرُ بِسِتِّمِائَةِ دِرْهَمٍ ، وَلَوْ قَالَ مِنْ الدَّنَانِيرِ كَانَ بِسِتِّينَ مِثْقَالًا ، وَلَوْ قَالَ مِنْ الْإِبِلِ كَانَ بِخَمْسٍ وَسَبْعِينَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَجْنَاسِ ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ( اعْتِبَارًا لِأَدْنَى الْجَمْعِ

) فَإِنَّ أَدْنَى الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ فَيُحْمَلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْوَالٍ عِظَامٍ وَهُوَ ثَلَاثَةُ نُصُبٍ مِنْ جِنْسِ مَا سَمَّاهُ .
وَلَوْ قَالَ : عَلَيَّ مَالٌ نَفِيسٌ أَوْ كَرِيمٌ أَوْ خَطِيرٌ أَوْ جَلِيلٌ قَالَ النَّاطِفِيُّ : لَمْ أَجِدْهُ مَنْصُوصًا ، وَكَانَ الْجُرْجَانِيُّ يَقُولُ يَلْزَمُهُ مِائَتَانِ ، وَكَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ نَقْلًا عَنْ الْإِيضَاحِ وَالذَّخِيرَةِ وَفِي غَايَةِ الْبَيَانِ نَقْلًا عَنْ الْفَتَاوَى الصُّغْرَى قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِفَايَتِهِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ : قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ دَرَاهِمُ مُضَاعَفَةٌ يَلْزَمُهُ سِتَّةٌ ؛ لِأَنَّ أَقَلَّ الدَّرَاهِمِ ثَلَاثَةٌ وَالتَّضْعِيفُ أَقَلُّهُ مَرَّةٌ فَيُضَعَّفُ مَرَّةً ، قَالَ : لَهُ عَلَيَّ دَرَاهِمُ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً أَوْ قَالَ مُضَاعَفَةً أَضْعَافًا عَلَيْهِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ لِأَنَّ الْأَضْعَافَ جَمْعُ الضِّعْفِ فَيُضَاعَفُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَكَانَتْ تِسْعَةً ، وَقَوْلُهُ مُضَاعَفَةً يَقْتَضِي ضِعْفَ ذَلِكَ فَيَقْتَضِي ثَمَانِيَةَ عَشَرَ .
وَفِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ الدَّرَاهِمُ الْمُضَاعَفَةُ سِتَّةٌ وَأَضْعَافُهَا ثَلَاثُ مَرَّاتٍ فَيَكُونُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ ، قَالَ : عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَأَضْعَافُهَا مُضَاعَفَةً عَلَيْهِ ثَمَانُونَ دِرْهَمًا لِأَنَّ أَضْعَافَ الْعَشَرَةِ ثَلَاثُونَ فَإِذَا ضُمَّتْ إلَى الْعَشَرَةِ كَانَ أَرْبَعِينَ فَأَوْجَبَهَا مُضَاعَفَةً فَيَكُونُ ثَمَانِينَ ( وَلَوْ قَالَ دَرَاهِمُ كَثِيرَةٌ ) أَيْ لَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ دَرَاهِمُ كَثِيرَةٌ ( لَمْ يُصَدَّقْ فِي أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ ) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَمْ يُصَدَّقْ فِي أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْنِ ) وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُصَدَّقُ فِي ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ وَلَا يُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ دَنَانِيرُ كَثِيرَةٌ لَمْ يُصَدَّقْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَنَانِيرَ وَعِنْدَهُمَا فِي أَقَلَّ مِنْ عِشْرِينَ مِثْقَالًا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ دَنَانِيرَ ، كَذَا

ذَكَرَ الْخِلَافَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ فِي مَبْسُوطِهِ .
وَقَالَ الْقُدُورِيُّ فِي كِتَابِ التَّقْرِيبِ : رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِثْلَ قَوْلِهِمَا .
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ وَصَفَ الدَّرَاهِمَ مَثَلًا بِصِفَةٍ لَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِهَا وَهِيَ الْكَثْرَةُ فَيَلْغُو ذِكْرُهَا ، وَذَلِكَ لِأَنَّ إثْبَاتَ صِفَةِ الْكَثْرَةِ لِمِقْدَارٍ مِنْ الْمَقَادِيرِ الْكَثِيرَةِ عَلَى التَّعْيِينِ غَيْرُ مُمْكِنٍ ، لَا بِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ وَلَا بِاعْتِبَارِ الْعُرْفِ وَلَا بِاعْتِبَارِ الْحُكْمِ .
أَمَّا مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ فَلِأَنَّ الْكَثْرَةَ أَمْرٌ إضَافِيٌّ يَصْدُقُ بَعْدَ الْوَاحِدِ عَلَى كُلِّ عَدَدٍ .
وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْعُرْفُ فَلِأَنَّ النَّاسَ مُتَفَاوِتُونَ فِي ذَلِكَ ، فَكَمْ مِنْ كَثِيرٍ عِنْدَ قَوْمٍ قَلِيلٌ عِنْدَ الْآخَرِينَ .
وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ فَلِأَنَّ حُكْمَ الشَّرْعِ يَتَعَلَّقُ تَارَةً بِالْعَشَرَةِ عِنْدَ الْبَعْضِ وَبِمَا دُونَهُ عِنْدَ الْآخَرِ كَمَا فِي نِصَابِ السَّرِقَةِ وَالْمَهْرِ ، وَيَتَعَلَّقُ تَارَةً بِالْمِائَتَيْنِ كَمَا فِي نِصَابِ الزَّكَاةِ وَحُرْمَةِ الصَّدَقَةِ ، وَيَتَعَلَّقُ تَارَةً بِأَكْثَرَ مِنْ مِائَتَيْنِ كَمَا فِي الِاسْتِطَاعَةِ فِي الْحَجِّ فِي الْأَمَاكِنِ الْبَعِيدَةِ فَلَمْ يُمْكِنْ الْعَمَلُ بِهَا أَصْلًا فَإِذَا تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِهَا لَغَا ذِكْرُهَا فَيَعْمَلُ بِقَوْلِهِ دَرَاهِمَ وَيَنْصَرِفُ إلَى ثَلَاثَةٍ ، وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ مَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ ( لِأَنَّ صَاحِبَ النِّصَابِ ) يَعْنِي صَاحِبَ نِصَابِ الزَّكَاةِ ( مُكْثِرٌ حَتَّى وَجَبَ عَلَيْهِ مُوَاسَاةُ غَيْرِهِ ) بِدَفْعِ زَكَاتِهِ وَالتَّصَدُّقِ عَلَى الْفَقِيرِ ( بِخِلَافِ مَا دُونَهُ ) أَيْ بِخِلَافِ مَا دُونَ النِّصَابِ .
فَإِنَّ صَاحِبَهُ مُقِلٌّ وَلِهَذَا لَمْ يَلْزَمْهُ مُوَاسَاةُ غَيْرِهِ .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي تَقْرِيرِ دَلِيلِهِمَا : وَقَالَا أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِهَا : أَيْ بِالْكَثْرَةِ حُكْمًا لِأَنَّ فِي النِّصَابِ كَثْرَةٌ حُكْمِيَّةٌ فَالْعَمَلُ بِهِ أَوْلَى مِنْ الْإِلْغَاءِ ا

هـ .
أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ نِصَابَ الزَّكَاةِ وَإِنْ كَانَ لَهُ كَثْرَةٌ فِي تَرْتِيبِ حُكْمِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ إلَّا أَنَّ نِصَابَ السَّرِقَةِ وَالْمَهْرِ وَهُوَ الْعَشَرَةُ عِنْدَنَا لَهُ أَيْضًا كَثْرَةٌ فِي تَرْتِيبِ حُكْمِ ثُبُوتِ قَطْعِ الْيَدِ وَاسْتِبَاحَةِ الْبُضْعِ ، وَكَذَا الْأَكْثَرُ مِنْ الْمِائَتَيْنِ مِمَّا يَحْصُلُ بِهِ الِاسْتِطَاعَةُ فِي الْحَجِّ مِنْ الْأَمَاكِنِ الْبَعِيدَةِ لَهُ كَثْرَةٌ فِي تَرْتِيبِ حُكْمِ وُجُوبِ الْحَجِّ فَوَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ هَاتِيك الْكَثْرَاتِ الْحُكْمِيَّةِ فَلَمْ يُمْكِنْ الْعَمَلُ بِإِحْدَاهَا عَلَى التَّعْيِينِ ، فَقَوْلُهُ : لِأَنَّ فِي النِّصَابِ كَثْرَةً حُكْمِيَّةً لَا يُجْدِي شَيْئًا وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَكَذَا قَوْلُهُ فَالْعَمَلُ بِهِ أَوْلَى مِنْ الْإِلْغَاءِ ؛ لِأَنَّ أَوْلَوِيَّةَ الْعَمَلِ بِهِ مِنْ الْإِلْغَاءِ لَا يَسْتَلْزِمُ أَوْلَوِيَّةَ الْعَمَلِ بِهِ مِنْ الْعَمَلِ بِمَا فِيهِ كَثْرَةٌ أُخْرَى فَلَا يَتِمُّ الْمَطْلُوبُ وَقَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ فِي تَقْرِيرِ دَلِيلِهِمَا : وَلِأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ الْعَمَلَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَإِنْ تَعَذَّرَ مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ وَالْعُرْفُ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، لَكِنْ أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِهَا حُكْمًا ، وَلَا يُلْغَى مِنْ كَلَامِ الْعَاقِلِ مَا أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ ، فَيَجِبُ حَمْلُ الْكَثْرَةِ عَلَى الْكَثْرَةِ مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ حَتَّى لَا تَلْغُوَ هَذِهِ الصِّفَةُ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ دَرَاهِمُ كَثِيرَةٌ حُكْمًا ، وَالدَّرَاهِمُ الْكَثِيرَةُ حُكْمًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مِائَتَا دِرْهَمٍ لِأَنَّهَا كَثِيرَةٌ شَرْعًا فِي حَقِّ الْقَطْعِ وَالْمَهْرِ وَوُجُوبِ الزَّكَاةِ وَحُرْمَةِ الصَّدَقَةِ .
فَأَمَّا الْعَشَرَةُ إنْ كَانَتْ كَثِيرَةً فِي حَقِّ الْقَطْعِ وَجَوَازِ النِّكَاحِ فَفِي حَقِّ حُرْمَةِ الصَّدَقَةِ وَوُجُوبِ الزَّكَاةِ قَلِيلَةٌ ، وَمُطْلَقُ الِاسْمِ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ مِنْ ذَلِكَ الِاسْمِ لَا إلَى النَّاقِصِ ، وَأَقَلُّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْكَثْرَةِ حُكْمًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مِائَتَا دِرْهَمٍ ، فَأَمَّا الْعَشَرَةُ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78