كتاب : فتح القدير
المؤلف : كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي

قِيمَتِهِ يَوْمَ الْقَبْضِ لِأَنَّ الْهَالِكَ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ يَوْمَ الْقَبْضِ عَلَى تَقْدِيرِ الْفَسْخِ كَمَا هُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ ، حَتَّى قَالَ : يَضْمَنُ الْمُشْتَرِي قِيمَةَ الْهَالِكِ عَلَى تَقْدِيرِ التَّحَالُفِ عِنْدَهُ فَيَجِبُ إعْمَالُ التَّحَالُفِ فِي اعْتِبَارِ قِيمَةِ الْهَالِكِ يَوْمَ الْقَبْضِ فَلِهَذَا يُعْتَبَرُ قِيمَتُهُمَا يَوْمَ الْقَبْضِ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَأَكْثَرِ الشُّرُوحِ ، أَقُولُ : فِي التَّوْجِيهِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْإِمَامُ ظَهِيرُ الدِّينِ نَظَرٌ ، لِأَنَّ تَحَقُّقَ مَا يُوجِبُ الْفَسْخَ فِيمَا صَارَ مَقْصُودًا بِالْعَقْدِ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ مَمْنُوعٌ ، لِأَنَّ مَا يُوجِبُ ذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ إنَّمَا هُوَ التَّحَالُفُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ ، وَالتَّحَالُفُ إنَّمَا يَجْرِي عِنْدَهُ فِي الْحَيِّ دُونَ الْمَيِّتِ ، وَتَعَذَّرَ الْفَسْخُ فِي الْهَالِكِ عِنْدَهُ لِامْتِنَاعِ جَرَيَانِ التَّحَالُفِ فِيهِ لِلْهَلَاكِ لَا لِمُجَرَّدِ الْهَلَاكِ بِدُونِ امْتِنَاعِ جَرَيَانِ التَّحَالُفِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مُحَمَّدًا لَمَّا أَجَازَ التَّحَالُفَ عَلَى الْهَالِكِ أَيْضًا أَجَازَ الْفَسْخَ فِي الْهَالِكِ عَلَى قِيمَتِهِ وَلَمْ يَكُنْ الْهَلَاكُ مَانِعًا عَنْهُ .
فَإِذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ التَّحَالُفُ فِي الْهَالِكِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَتَعَذَّرَ الْفَسْخُ فِيهِ أَيْضًا فَمَا الْبَاعِثُ عَلَى اعْتِبَارِ مَا هُوَ مِنْ لَوَازِمِ الْفَسْخِ فِيهِ وَمُجَرَّدُ عَدَمِ تَعَذُّرِ اعْتِبَارِهِ لَا يَقْتَضِي اعْتِبَارَهُ سِيَّمَا عِنْدَ تَحَقُّقِ مَا يَقْتَضِي اعْتِبَارَ الْقِيمَةِ يَوْمَ الْعَقْدِ وَهُوَ كَوْنُهُ مَقْصُودًا بِالْعَقْدِ .
ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ قَالَ بَعْدَ نَقْلِ مَا فِي تِلْكَ الشُّرُوحِ وَأَقُولُ : الْأَصْلُ فِيمَا هَلَكَ وَكَانَ مَقْصُودًا بِالْعَقْدِ أَنْ تُعْتَبَرَ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْعَقْدِ ؛ إلَّا إذَا وُجِدَ مَا يُوجِبُ فَسْخَ الْعَقْدِ فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ حِينَئِذٍ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْقَبْضِ ، لِأَنَّهُ لَمَّا انْفَسَخَ الْعَقْدُ وَهُوَ مَقْبُوضٌ عَلَى جِهَةِ الضَّمَانِ تَعَيَّنَ اعْتِبَارُ قِيمَتِهِ يَوْمَ قَبْضِهِ ، فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَمَّا كَانَتْ الصَّفْقَةُ

وَاحِدَةً وَانْفَسَخَ الْعَقْدُ فِي الْقَائِمِ دُونَ الْهَالِكِ صَارَ الْعَقْدُ مَفْسُوخًا فِي الْهَالِكِ نَظَرًا إلَى اتِّخَاذِ الصَّفْقَةِ غَيْرَ مَفْسُوخٍ نَظَرًا إلَى وُجُودِ الْمَانِعِ وَهُوَ الْهَلَاكُ ، فَعَمِلْنَا فِيهِ بِالْوَجْهَيْنِ وَقُلْنَا بِلُزُومِ الْحِصَّةِ مِنْ الثَّمَنِ نَظَرًا إلَى عَدَمِ الِانْفِسَاخِ ، وَبِانْقِسَامِهِ عَلَى قِيمَتِهِ يَوْمَ الْقَبْضِ نَظَرًا إلَى الِانْفِسَاخِ انْتَهَى .
أَقُولُ : وَفِيهِ أَيْضًا نَظَرٌ ، لِأَنَّ قَوْلَهُ وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَمَّا كَانَتْ الصَّفْقَةُ وَاحِدَةً وَانْفَسَخَ الْعَقْدُ فِي الْقَائِمِ صَارَ الْعَقْدُ مَفْسُوخًا فِي الْهَالِكِ نَظَرًا إلَى اتِّحَادِ الصَّفْقَةِ غَيْرُ تَامٍّ ، لِأَنَّ اتِّحَادَ الصَّفْقَةِ إنَّمَا يَقْتَضِي انْفِسَاخَ الْعَقْدِ فِي الْهَالِكِ بِانْفِسَاخِهِ فِي الْقَائِمِ لَوْ وَقَعَ الْفَسْخُ قَبْلَ قَبْضِهِمَا فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَلْزَمُ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ قَبْلَ تَمَامِهَا وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ .
وَأَمَّا إذَا وَقَعَ الْفَسْخُ بَعْدَ قَبْضِهِمَا فَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ ، فَإِنَّ اللَّازِمَ حِينَئِذٍ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ بَعْدَ تَمَامِهَا إذْ هِيَ تَتِمُّ بِالْقَبْضِ وَهُوَ جَائِزٌ ؛ أَلَا يَرَى إلَى مَا مَرَّ فِي بَابِ خِيَارِ الْعَيْبِ مِنْ أَنَّ مَنْ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ صَفْقَةً وَاحِدَةً فَقَبَضَهُمَا ثُمَّ وَجَدَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا فَإِنَّهُ يَفْسَخُ الْعَقْدَ فِي الْعُيُوبِ خَاصَّةً عِنْدَ أَئِمَّتِنَا الثَّلَاثَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ بَعْدَ تَمَامِهَا بِالْقَبْضِ جَائِزٌ ، وَالْمَسْأَلَةُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مَفْرُوضَةٌ فِيمَا إذَا هَلَكَ أَحَدُ الْعَبْدَيْنِ بَعْدَ قَبْضِهِمَا كَمَا تَبَيَّنَ فِي صَدْرِ الْمَسْأَلَةِ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ ( وَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ ) لِأَنَّهُ نَوَّرَ دَعْوَاهُ بِالْحُجَّةِ ( وَإِنْ أَقَامَاهَا فَبَيِّنَةُ الْبَائِعِ أَوْلَى ) لِأَنَّهَا أَكْثَرُ إثْبَاتًا لِإِثْبَاتِهَا الزِّيَادَةَ فِي قِيمَةِ الْهَالِكِ .
فَإِنْ قِيلَ : الْمُشْتَرِي يَدَّعِي زِيَادَةً فِي قِيمَةِ الْقَائِمِ فَوَجَبَ أَنْ تُقْبَلَ بَيِّنَتُهُ لِإِثْبَاتِهَا الزِّيَادَةَ .
قُلْنَا : إنَّ الَّذِي وَقَعَ

الِاخْتِلَافُ فِيهِ مَقْصُودًا قِيمَةُ الْهَالِكِ ، وَالِاخْتِلَافُ فِي قِيمَةِ الْقَائِمِ يَثْبُتُ ضِمْنًا لِلِاخْتِلَافِ فِي قِيمَةِ الْهَالِكِ ، وَبَيِّنَةُ الْبَائِعِ قَامَتْ عَلَى مَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِيهِ مَقْصُودًا فَكَانَتْ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ نَقْلًا عَنْ الْإِمَامِ الْمَرْغِينَانِيِّ وَقَاضِي خَانْ ( وَهُوَ ) أَيْ مَا ذُكِرَ مِنْ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَتَفْرِيعَاتِهِ ( قِيَاسُ مَا ذُكِرَ فِي بُيُوعِ الْأَصْلِ ) أَيْ الْمَبْسُوطُ ( اشْتَرَى عَبْدَيْنِ وَقَبَضَهُمَا ثُمَّ رَدَّ أَحَدَهُمَا بِالْعَيْبِ وَهَلَكَ الْآخَرُ عِنْدَهُ يَجِبُ عَلَيْهِ ثَمَنُ مَا هَلَكَ عِنْدَهُ وَيَسْقُطُ عَنْهُ ثَمَنُ مَا رَدَّهُ وَيَنْقَسِمُ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَتِهِمَا ) أَيْ يَوْمَ الْقَبْضِ .
كَذَا فِي النِّهَايَةِ ( فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي قِيمَةِ الْهَالِكِ ) أَيْ فِي مَسْأَلَةِ الْأَصْلِ ( فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ ، لِأَنَّ الثَّمَنَ قَدْ وَجَبَ بِاتِّفَاقِهِمَا ثُمَّ الْمُشْتَرِي يَدَّعِي زِيَادَةَ السُّقُوطِ بِنُقْصَانِ قِيمَةِ الْهَالِكِ وَالْبَائِعُ يُنْكِرُهُ وَالْقَوْلُ لِلْمُنْكِرِ ، وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ ) أَيْ فِي مَسْأَلَةِ الْأَصْلِ ( فَبَيِّنَةُ الْبَائِعِ أَوْلَى ) لِأَنَّهَا أَكْثَرُ إثْبَاتًا ظَاهِرًا لِإِثْبَاتِهَا الزِّيَادَةَ فِي قِيمَةِ الْهَالِكِ ، وَالْبَيِّنَاتُ شُرِعَتْ لِلْإِثْبَاتِ فَمَا كَانَ أَكْثَرَ إثْبَاتًا كَانَ أَوْلَى ، قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَهَذَا لِفِقْهٍ ) أَيْ اعْتِبَارُ بَيِّنَةِ الْبَائِعِ وَيَمِينِهِ لِمَعْنًى فِقْهِيٍّ ( وَهُوَ أَنَّ فِي الْأَيْمَانِ تُعْتَبَرُ الْحَقِيقَةُ ) أَيْ حَقِيقَةُ الْحَالِ لِئَلَّا يَلْزَمَ الْإِقْدَامُ عَلَى الْقَسَمِ بِجَهَالَةٍ ، وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( لِأَنَّهَا ) أَيْ الْأَيْمَانَ ( تَتَوَجَّهُ عَلَى أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ ) أَيْ لَا عَلَى الْوَكِيلِ وَالنَّائِبِ ( وَهُمَا ) أَيْ الْمُتَعَاقِدَانِ ( يَعْرِفَانِ حَقِيقَةَ الْحَالِ ) لِأَنَّ الْعَقْدَ فِعْلُ أَنْفُسِهِمَا وَالْإِنْسَانُ أَعْرَفُ بِحَالِ نَفْسِهِ ( فَيَبْنِي الْأَمْرَ عَلَيْهَا ) أَيْ عَلَى الْحَقِيقَةِ ( وَالْبَائِعُ مُنْكِرٌ حَقِيقَةً فَلِذَا

كَانَ قَوْلُهُ ) لِأَنَّهُ يُنْكِرُ سُقُوطَ الزِّيَادَةِ وَفِي الْبَيِّنَاتِ يُعْتَبَرُ الظَّاهِرُ لِأَنَّ الشَّاهِدَيْنِ لَا يَعْلَمَانِ حَقِيقَةَ الْحَالِ ) لِأَنَّهُمَا يُخْبِرَانِ عَنْ فِعْلِ الْغَيْرِ لَا عَنْ فِعْلِ أَنْفُسِهِمَا ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحَالُ فِي الْوَاقِعِ عَلَى خِلَافِ مَا ظَهَرَ عِنْدَهُمَا بِهَزْلٍ أَوْ تَلْجِئَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ( فَاعْتُبِرَ الظَّاهِرُ فِي حَقِّهِمَا وَالْبَائِعُ مُدَّعٍ ظَاهِرًا فَلِهَذَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ أَيْضًا ) أَيْ كَمَا اُعْتُبِرَ يَمِينُهُ ( وَتَتَرَجَّحُ ) أَيْ تَتَرَجَّحُ بَيِّنَتُهُ عَلَى بَيِّنَةِ الْمُشْتَرِي ( بِالزِّيَادَةِ الظَّاهِرَةِ عَلَى مَا مَرَّ ) هُوَ قَوْلُهُ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ إثْبَاتًا ظَاهِرًا ( وَهَذَا ) أَيْ مَا ذُكِرَ فِي بُيُوعِ الْأَصْلِ ( يُبَيِّنُ لَك مَعْنَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ) رَحِمَهُ اللَّهُ فِي التَّحَالُفِ وَتَفْرِيعَاتِهِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي بُيُوعِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ .

قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً وَقَبَضَهَا ثُمَّ تَقَايَلَا ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ فَإِنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ وَيَعُودُ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ ) وَنَحْنُ مَا أَثْبَتْنَا التَّحَالُفَ فِيهِ بِالنَّصِّ لِأَنَّهُ وَرَدَ فِي الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ وَالْإِقَالَةُ فَسْخٌ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ ، وَإِنَّمَا أَثْبَتْنَاهُ بِالْقِيَاسِ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَفْرُوضَةٌ قَبْلَ الْقَبْضِ وَالْقِيَاسُ يُوَافِقُهُ عَلَى مَا مَرَّ وَلِهَذَا نَقِيسُ الْإِجَارَةَ عَلَى الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَالْوَارِثَ عَلَى الْعَاقِدِ وَالْقِيمَةَ عَلَى الْعَيْنِ فِيمَا إذَا اسْتَهْلَكَهُ فِي يَدِ الْبَائِعِ غَيْرُ الْمُشْتَرِي .

( قَالَ ) أَيْ مُحَمَّدٌ فِي بُيُوعِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ( وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً وَقَبَضَهَا ) أَيْ وَنَقَدَ ثَمَنَهَا ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ وَفِي أَصْلِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ( ثُمَّ تَقَايَلَا ) وَلَمْ يَقْبِضْ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ بَعْدَ الْإِقَالَةِ ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ ، وَسَيُشِيرُ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ وَالْمَسْأَلَةُ مَفْرُوضَةٌ قَبْلَ الْقَبْضِ ( ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ ) فَقَالَ الْمُشْتَرِي : كَانَ الثَّمَنُ أَلْفًا فَعَلَيْك أَنْ تَرُدَّ الْأَلْفَ وَقَالَ الْبَائِعُ : كَانَ خَمْسَمِائَةٍ فَعَلَيَّ رَدُّ الْخَمْسِمِائَةِ ( فَإِنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ وَيَعُودُ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ ) حَتَّى يَكُونَ حَقُّ الْبَائِعِ فِي الثَّمَنِ وَحَقُّ الْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ كَمَا كَانَ قَبْلَ الْإِقَالَةِ ؛ مَعْنَاهُ : يَعُودُ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ إذَا فَسَخَ الْقَاضِي أَوْ فَسَخَا بِأَنْفُسِهِمَا الْإِقَالَةَ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ كَالْبَيْعِ لَا تَنْفَسِخُ إلَّا بِالْفَسْخِ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ نَقْلًا عَنْ صَدْرِ الْإِسْلَامِ .
وَلَمَّا اسْتَشْعَرَ أَنْ يُقَالَ النَّصُّ الْوَارِدُ فِي حَقِّ التَّحَالُفِ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا } لَمْ يَتَنَاوَلْ الْإِقَالَةَ ، فَمَا وَجْهُ جَرَيَانِ التَّحَالُفِ فِيهَا ؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَنَحْنُ مَا أَثْبَتْنَا التَّحَالُفَ فِيهِ ) أَيْ فِي التَّقَايُلِ ( بِالنَّصِّ لِأَنَّهُ وَرَدَ فِي الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ ) أَيْ فِي الْبَيْعِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ( وَالْإِقَالَةُ فَسْخٌ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ ) وَإِنْ كَانَ بَيْعًا جَدِيدًا فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا .
فَإِنْ قُلْت : قَوْلُهُ وَالْإِقَالَةُ فَسْخٌ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ إنَّمَا يَتَمَشَّى عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ، فَإِنَّ الْإِقَالَةَ عِنْدَهُ بَيْعٌ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَيْضًا ، وَالْمَسْأَلَةُ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا فَمَا وَجْهُ بِنَاءِ الْوِفَاقِيَّةِ عَلَى الْخِلَافِيَّةِ ؟ قُلْت : كَلَامُ الْمُصَنِّفِ هَذَا

جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ ذَكَرْنَاهُ آنِفًا ، وَذَلِكَ السُّؤَالُ إنَّمَا يَكَادُ يَتَوَجَّهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ كَمَا لَا يَخْفَى ، فَبَنَى الْجَوَابَ أَيْضًا عَلَى أَصْلِهِمَا دُونَ أَصْلِهِ فَتَدَبَّرْ ( وَإِنَّمَا أَثْبَتْنَاهُ بِالْقِيَاسِ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَفْرُوضَةٌ قَبْلَ الْقَبْضِ ) أَيْ قَبْلَ قَبْضِ الْبَائِعِ الْجَارِيَةَ بِحُكْمِ الْإِقَالَةِ ( وَالْقِيَاسُ يُوَافِقُهُ عَلَى مَا مَرَّ ) أَيْ فِي أَوَّلِ الْبَابِ ( وَلِهَذَا نَقِيسُ الْإِجَارَةَ عَلَى الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ ) تَوْضِيحٌ لِقَوْلِهِ وَإِنَّمَا أَثْبَتْنَاهُ بِالْقِيَاسِ : يَعْنِي إذَا اخْتَلَفَ الْمُؤَجِّرُ وَالْمُسْتَأْجِرُ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي الْأُجْرَةِ يَجْرِي التَّحَالُفُ بَيْنَهُمَا ( وَالْوَارِثُ عَلَى الْعَاقِدِ ) أَيْ وَنَقِيسُ الْوَارِثَ عَلَى الْعَاقِدِ : يَعْنِي إذَا اخْتَلَفَ وَارِثُ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فِي الثَّمَنِ قَبْلَ الْقَبْضِ يَجْرِي التَّحَالُفُ بَيْنَهُمَا ( وَالْقِيمَةُ عَلَى الْعَيْنِ ) أَيْ نَقِيسُ الْقِيمَةَ عَلَى الْعَيْنِ ( فِيمَا إذَا اسْتَهْلَكَهُ فِي يَدِ الْبَائِعِ غَيْرُ الْمُشْتَرِي ) يَعْنِي إذَا اسْتَهْلَكَ غَيْرُ الْمُشْتَرِي الْعَيْنَ الْمَبِيعَةَ فِي يَدِ الْبَائِعِ وَضَمِنَ الْقِيمَةَ قَامَتْ الْقِيمَةُ مَقَامَ الْعَيْنِ الْمُسْتَهْلَكَةِ ، فَإِنْ اخْتَلَفَ الْعَاقِدَانِ فِي الثَّمَنِ قَبْلَ الْقَبْضِ يَجْرِي التَّحَالُفُ بَيْنَهُمَا بِالْقِيَاسِ عَلَى جَرَيَانِ التَّحَالُفِ عِنْدَ بَقَاءِ الْعَيْنِ الْمُشْتَرَاةِ لِكَوْنِ النَّصِّ إذْ ذَاكَ مَعْقُولَ الْمَعْنَى .
وَفِي غَايَةِ الْبَيَانِ : وَهَذِهِ هِيَ النُّسْخَةُ الْمُقَابَلَةُ بِنُسْخَةِ الْمُصَنِّفِ .
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فِيمَا إذَا اسْتَهْلَكَ الْمُشْتَرِي ، وَفِي بَعْضِهَا فِيمَا إذَا اُسْتُهْلِكَ الْمَبِيعُ .
قَالَ الْإِمَامُ حَافِظُ الدِّينِ الْكَبِيرُ الْبُخَارِيُّ عَلَى حَاشِيَةِ كِتَابِهِ الصَّحِيحِ : اسْتَهْلَكَ الْمُشْتَرِي الْمُشْتَرَى انْتَهَى .
وَفِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ : الصَّوَابُ إذَا اسْتَهْلَكَهُ فِي يَدِ الْبَائِعِ غَيْرُ الْمُشْتَرِي ، وَهَذِهِ

الْعِبَارَةُ عَلَى حَاشِيَةِ نُسْخَةٍ قُوبِلَتْ بِنُسْخَةِ الْمُصَنِّفِ ، أَوْ الصَّوَابُ اُسْتُهْلِكَ الْمُشْتَرَى بِضَمِّ التَّاءِ عَلَى صِيغَةِ بِنَاءِ الْمَفْعُولِ وَالْمُشْتَرَى عَلَى صِيغَةِ الْمَفْعُولِ انْتَهَى

قَالَ ( وَلَوْ قَبَضَ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ بَعْدَ الْإِقَالَةِ فَلَا تَحَالُفَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ ) لِأَنَّهُ يَرَى النَّصَّ مَعْلُولًا بَعْدَ الْقَبْضِ أَيْضًا .

( وَلَوْ قَبَضَ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ بَعْدَ الْإِقَالَةِ فَلَا تَخَالُفَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ يَرَى النَّصَّ مَعْلُولًا بَعْدَ الْقَبْضِ أَيْضًا ) يَعْنِي أَنَّ مُحَمَّدًا يَرَى النَّصَّ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا } مَعْلُولًا بِوُجُودِ الْإِنْكَارِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَبَايِعَيْنِ لِمَا يَدَّعِيهِ الْآخَرُ مِنْ الْعَقْدِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَفَاوَتُ بَيْنَ كَوْنِ الْمَبِيعِ مَقْبُوضًا أَوْ غَيْرَ مَقْبُوضٍ .
قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : فَإِنْ قِيلَ : الْإِقَالَةُ بَيْعٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَيَكُونُ مُتَنَاوَلَ النَّصِّ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجْرِيَ التَّحَالُفُ عِنْدَهُ بَعْدَ قَبْضِ الْبَائِعِ أَيْضًا ، قُلْنَا : لَمَّا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي كَوْنِهِ بَيْعًا لَا يَتَنَاوَلُهُ النَّصُّ الْوَارِدُ فِي الْبَيْعِ الْمُطَلَّقِ لِلشُّبْهَةِ انْتَهَى .
أَقُولُ : جَوَابُهُ سَاقِطٌ جِدًّا ، لِأَنَّ التَّحَالُفَ لَيْسَ مِمَّا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ كَمَا لَا يَخْفَى ، فَلَوْ كَانَ مُجَرَّدُ وُقُوعِ الْخِلَافِ فِي كَوْنِ الْإِقَالَةِ بَيْعًا مَانِعًا عِنْدَهُ مِنْ أَنْ يَتَنَاوَلَهَا النَّصُّ الْوَارِدُ فِي الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ فِي حَقِّ حُكْمِ التَّحَالُفِ فَكَانَ ذَلِكَ مَانِعًا عِنْدَهُ عَنْ أَنْ يَتَنَاوَلَهَا النُّصُوصُ الْوَارِدَةُ فِي حَقِّ سَائِرِ أَحْكَامِ الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ أَيْضًا مَعَ أَنَّ أَحْكَامَ الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ جَارِيَةً بِأَسْرِهَا فِي الْإِقَالَةِ عِنْدَهُ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي بَابِهَا .
ثُمَّ أَقُولُ فِي دَفْعِ سُؤَالِهِ : إنَّ أَصْلَ أَبِي يُوسُفَ الْإِقَالَةُ هُوَ أَنَّهَا بَيْعٌ إلَّا أَنْ لَا يُمْكِنُ جَعْلُهَا بَيْعًا كَالْإِقَالَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي الْمَنْقُولِ فَتُجْعَلُ فَسْخًا كَمَا بَيَّنُوا فِي بَابِ الْإِقَالَةِ ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَمَّا اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ وَلَمْ يَثْبُتْ قَوْلُ أَحَدِهِمَا صَارَ الثَّمَنُ مَجْهُولًا فَلَمْ يُمْكِنْ جَعْلُهُ بَيْعًا لِعَدَمِ جَوَازِ الْبَيْعِ بِالثَّمَنِ الْمَجْهُولِ كَعَدَمِ جَوَازِ

.
بَيْعِ الْمَنْقُولِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَلَمْ يَتَنَاوَلْهُ النَّصُّ الْوَارِدُ فِي الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ فَلَمْ يَجْرِ التَّحَالُفُ فِيهِ عِنْدَهُ أَيْضًا لَا بِالنَّصِّ وَلَا بِالْقِيَاسِ

قَالَ ( وَمَنْ أَسْلَمَ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ ثُمَّ تَقَايَلَا ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ وَلَا يَعُودُ السَّلَمُ ) لِأَنَّ الْإِقَالَةَ فِي بَابِ السَّلَمِ لَا تَحْتَمِلُ النَّقْضَ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ فَلَا يَعُودُ السَّلَمُ ، بِخِلَافِ الْإِقَالَةِ فِي الْبَيْعِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ رَأْسَ مَالِ السَّلَمِ لَوْ كَانَ عَرَضًا فَرَدَّهُ بِالْعَيْبِ وَهَلَكَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ إلَى رَبِّ السَّلَمِ لَا يَعُودُ السَّلَمُ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ يَعُودُ الْبَيْعُ دَلَّ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا .

( قَالَ ) أَيْ مُحَمَّدٌ فِي بُيُوعِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ( وَمَنْ أَسْلَمَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ ثُمَّ تَقَايَلَا ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ ) أَيْ فِي رَأْسِ الْمَالِ فَقَالَ الْمُسَلَّمُ إلَيْهِ : كَانَ رَأْسُ الْمَالِ خَمْسَةً وَقَالَ رَبُّ السَّلَمِ : كَانَ عَشْرَةً ( فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ ) أَيْ مَعَ يَمِينِهِ ، لِأَنَّ رَبَّ السَّلَمِ يَدَّعِي عَلَيْهِ زِيَادَةً وَهُوَ يُنْكِرُ ( وَلَا يَعُودُ السَّلَمُ ) أَيْ لَا يَتَحَالَفَانِ وَلَا يَعُودُ السَّلَمُ ( لِأَنَّ الْإِقَالَةَ فِي بَابِ السَّلَمِ لَا تَحْتَمِلُ النَّقْضَ ) أَيْ الْفَسْخَ : يَعْنِي أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ التَّحَالُفِ الْفَسْخُ .
وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ النَّبَوِيَّةُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { تَحَالَفَا وَتَرَادَّا } وَالْإِقَالَةُ فِي بَابِ السَّلَمِ لَا تَحْتَمِلُهُ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ الْإِقَالَةَ فِي بَابِ السَّلَمِ ذَكَرَ الضَّمِيرَ بِتَأْوِيلِ التَّقَايُلِ ( إسْقَاطٌ ) لِلْمُسَلَّمِ فِيهِ وَهُوَ دَيْنٌ وَالدَّيْنُ السَّاقِطُ لَا يَعُودُ ( فَلَا يَعُودُ السَّلَمُ ، بِخِلَافِ الْإِقَالَةِ فِي الْبَيْعِ ) فَإِنَّهَا تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَيَعُودُ الْمَبِيعُ إلَى الْمُشْتَرِي بَعْدَ عَوْدِهِ إلَى الْبَائِعِ لِكَوْنِهِ مُعَيَّنًا قَائِمًا ، ( وَنَوَّرَ هَذَا بِقَوْلِهِ : أَلَا تَرَى أَنَّ رَأْسَ مَالِ السَّلَمِ لَوْ كَانَ عَرَضًا فَرَدَّهُ بِالْعَيْبِ ) أَيْ فَقَضَى الْقَاضِي بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ عَلَى رَبِّ السَّلَمِ ( وَهَلَكَ ) أَيْ فِي يَدِ الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ ( قَبْلَ التَّسْلِيمِ إلَى رَبِّ السَّلَمِ لَا يَعُودُ السَّلَمُ ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ يَعُودُ الْبَيْعُ ، دَلَّ ) أَيْ دَلَّ هَذَا الَّذِي ذُكِرَ ( عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا ) أَيْ بَيْنَ السَّلَمِ وَالْبَيْعِ .
فَإِنْ قِيلَ : مَا الْفَرْقُ لِمُحَمَّدٍ بَيْنَ إقَالَةِ السَّلَمِ وَبَيْنَ مَا إذَا هَلَكَتْ السِّلْعَةُ ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ فَإِنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ فِيمَا إذَا هَلَكَتْ السِّلْعَةُ ، وَلَا يَتَحَالَفَانِ فِي إقَالَةِ السَّلَمِ إذَا اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ رَأْسِ الْمَالِ وَإِنْ فَاتَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِي

الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا ؟ قُلْنَا : الْإِقَالَةُ فِي السَّلَمِ قِيلَ : قَبْضُ الْمُسَلَّمِ فِيهِ فُسِخَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَالتَّحَالُفُ بَعْدَ هَلَاكِ السِّلْعَةِ يَجْرِي فِي الْبَيْعِ لَا فِي الْفَسْخِ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ نَقْلًا عَنْ الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ .

قَالَ ( وَإِذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي الْمَهْرِ فَادَّعَى الزَّوْجُ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا بِأَلْفٍ وَقَالَتْ تَزَوَّجَنِي بِأَلْفَيْنِ فَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ ) لِأَنَّهُ نَوَّرَ دَعْوَاهُ بِالْحُجَّةِ .
( وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمَرْأَةِ ) لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الزِّيَادَةَ ، مَعْنَاهُ إذَا كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَقَلَّ مِمَّا ادَّعَتْهُ ( وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ تَحَالَفَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا يُفْسَخُ النِّكَاحُ ) لِأَنَّ أَثَرَ التَّحَالُفِ فِي انْعِدَامِ التَّسْمِيَةِ ، وَأَنَّهُ لَا يُخِلُّ بِصِحَّةِ النِّكَاحِ لِأَنَّ الْمَهْرَ تَابِعٌ فِيهِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّ عَدَمَ التَّسْمِيَةِ يُفْسِدُهُ عَلَى مَا مَرَّ فَيُفْسَخُ ، ( وَلَكِنْ يَحْكُمُ مَهْرُ الْمِثْلِ ، فَإِنْ كَانَ مِثْلَ مَا اعْتَرَفَ بِهِ الزَّوْجُ أَوْ أَقَلَّ قَضَى بِمَا قَالَ الزَّوْجُ ) لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ ( وَإِنْ كَانَ مِثْلَ مَا ادَّعَتْهُ الْمَرْأَةُ أَوْ أَكْثَرَ قَضَى بِمَا ادَّعَتْهُ الْمَرْأَةُ ، وَإِنْ كَانَ مَهْرُ الْمِثْلِ أَكْثَرَ مِمَّا اعْتَرَفَ بِهِ الزَّوْجُ وَأَقَلَّ مِمَّا ادَّعَتْهُ الْمَرْأَةُ قَضَى لَهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ ) لِأَنَّهُمَا لَمَّا تَحَالَفَا لَمْ تَثْبُتْ الزِّيَادَةُ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ وَلَا الْحَطُّ عَنْهُ .
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : ذَكَرَ التَّحَالُفَ أَوَّلًا ثُمَّ التَّحْكِيمَ ، وَهَذَا قَوْلُ الْكَرْخِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ لَا اعْتِبَارَ لَهُ مَعَ وُجُودِ التَّسْمِيَةِ وَسُقُوطِ اعْتِبَارِهَا بِالتَّحَالُفِ وَلِهَذَا يُقَدَّمُ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا ، وَيَبْدَأُ بِيَمِينِ الزَّوْجِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ تَعْجِيلًا لِفَائِدَةِ النُّكُولِ كَمَا فِي الْمُشْتَرِي ، وَتَخْرِيجُ الرَّازِيّ بِخِلَافِهِ وَقَدْ اسْتَقْصَيْنَاهُ فِي النِّكَاحِ وَذَكَرْنَا خِلَافَ أَبِي يُوسُفَ فَلَا نُعِيدُهُ

( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( وَإِذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي الْمَهْرِ فَادَّعَى الزَّوْجُ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا بِأَلْفٍ وَقَالَتْ : تَزَوَّجَنِي بِأَلْفَيْنِ فَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ ) قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِهِ : ( لِأَنَّهُ نَوَّرَ دَعْوَاهُ بِالْحُجَّةِ ) قَالَ الشُّرَّاحُ : أَمَّا قَبُولُ بَيِّنَةِ الْمَرْأَةِ فَظَاهِرٌ لِأَنَّهَا تَدَّعِي الزِّيَادَةَ ، وَإِنَّمَا الْإِشْكَالُ فِي قَبُولِهِ بَيِّنَةَ الزَّوْجِ لِأَنَّهُ مُنْكِرُ الزِّيَادَةِ فَكَانَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ لَا الْبَيِّنَةُ ، وَإِنَّمَا قَبِلَتْ لِأَنَّهُ مُدَّعٍ فِي الصُّورَةِ وَهِيَ كَافِيَةٌ لِقَبُولِهَا انْتَهَى ( فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمَرْأَةِ ) هَذَا مِنْ تَمَامِ كَلَامِ الْقُدُورِيِّ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِهِ ( لِأَنَّهَا ) أَيْ لِأَنَّ بَيِّنَةَ الْمَرْأَةِ ( تُثْبِتُ الزِّيَادَةَ ) وَقَالَ فِي تَوْجِيهِهِ ( مَعْنَاهُ إذَا كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا ) أَيْ مَهْرُ مِثْلِ الْمَرْأَةِ ( أَقَلَّ مِمَّا ادَّعَتْهُ ) وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي تَفْصِيلِ الْمَسْأَلَةِ : وَإِنْ أَقَامَا فَلَا يَخْلُوا إمَّا أَنْ يَكُونَ مَهْرُ الْمِثْلِ أَقَلَّ مِمَّا ادَّعَتْهُ أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَالْبَيِّنَةُ لِلْمَرْأَةِ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الزِّيَادَةَ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَالْبَيِّنَةُ لِلزَّوْجِ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الْحَطَّ وَبَيِّنَتُهَا لَا تُثْبِتُ شَيْئًا لِثُبُوتِ مَا ادَّعَتْهُ بِشَهَادَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِي تَحْرِيرِهِ خَلَلٌ ، حَيْثُ حَكَمَ فِي الْأَوَّلِ عَلَى الْإِطْلَاقِ بِكَوْنِ الْبَيِّنَةِ لِلْمَرْأَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، بَلْ الْأَوَّلُ أَيْضًا لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مَهْرُ الْمِثْلِ مِثْلَ مَا اعْتَرَفَ بِهِ الزَّوْجُ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ .
وَمِنْ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِمَّا اعْتَرَفَ بِهِ الزَّوْجُ وَأَقَلَّ مِمَّا ادَّعَتْهُ الْمَرْأَةُ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَالْبَيِّنَةُ لِلْمَرْأَةِ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الزِّيَادَةَ .
وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَتَتَعَارَضُ بَيِّنَتَاهُمَا حَيْثُ تُثْبِتُ بَيِّنَتُهَا الزِّيَادَةَ وَتُثْبِتُ

بَيِّنَتُهُ الْحَطَّ فَيَتَهَاتَرَانِ فَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ .
وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا التَّفْصِيلِ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ الْمُعْتَبَرَةِ حَتَّى الْمُتُونِ فِي بَابِ الْمَهْرِ ، بَلْ صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَيْضًا فِي ذَلِكَ الْبَابِ مِنْ شَرْحِ هَذَا الْكِتَابِ .
وَأَمَّا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ : مَعْنَاهُ إذَا كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَقَلَّ مِمَّا ادَّعَتْهُ فَلَيْسَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ مِنْ الْخَلَلِ ، إذْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِهِ مُجَرَّدَ الِاحْتِرَازِ عَمَّا إذَا كَانَ أَكْثَرَ مِمَّا ادَّعَتْهُ لَا التَّعْمِيمَ لِقَسَمِي كَوْنِ مَهْرِ مِثْلِهَا أَقَلَّ مِمَّا ادَّعَتْهُ ، بِخِلَافِ تَحْرِيرِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ فَإِنَّ عِبَارَةَ لَا يَخْلُو فِي قَوْلِهِ وَإِنْ أَقَامَا فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مَهْرُ الْمِثْلِ أَقَلَّ مِمَّا ادَّعَتْهُ أَوْ لَا تَقْتَضِي شُمُولَ الْأَقْسَامِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذَوِي الْأَفْهَامِ .
وَلَقَدْ أَحْسَنَ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ فِي هَذَا الْمَقَامِ حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِ قَوْلِ صَاحِبِ الْكَنْزِ : وَإِنْ بَرْهَنَّا فَلِلْمَرْأَةِ ، هَذَا إذَا كَانَ مَهْرُ الْمِثْلِ يَشْهَدُ لِلزَّوْجِ بِأَنْ كَانَ مِثْلَ مَا يَدَّعِي الزَّوْجُ أَوْ أَقَلَّ ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ يَشْهَدُ لِلزَّوْجِ وَبَيِّنَةُ الْمَرْأَةِ تُثْبِتُ خِلَافَ الظَّاهِرِ فَكَانَتْ أَوْلَى ، وَإِنْ كَانَ مَهْرُ الْمِثْلِ يَشْهَدُ لَهَا بِأَنْ كَانَ مِثْلَ مَا تَدَّعِيهِ الْمَرْأَةُ أَوْ أَكْثَرَ كَانَتْ بَيِّنَةُ الزَّوْجِ أَوْلَى لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الْحَطَّ وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ وَالْبَيِّنَاتُ لِلْإِثْبَاتِ ، وَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا لَا يَشْهَدُ لَهَا وَلَا لَهُ بِأَنْ كَانَ أَقَلَّ مِمَّا ادَّعَتْهُ الْمَرْأَةُ وَأَكْثَرَ مِمَّا ادَّعَاهُ الزَّوْجُ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا يَتَهَاتَرَانِ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي الْإِثْبَاتِ ، لِأَنَّ بَيِّنَتَهَا تُثْبِتُ الزِّيَادَةَ وَبَيِّنَتَهُ تُثْبِتُ الْحَطَّ فَلَا تَكُونُ إحْدَاهُمَا أَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى انْتَهَى .
( وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ ) أَيْ عَجَزَا مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ ( تَحَالَفَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَلَا يُفْسَخُ النِّكَاحُ لِأَنَّ

أَثَرَ التَّحَالُفِ فِي انْعِدَامِ التَّسْمِيَةِ ، وَإِنَّهُ لَا يُخِلُّ بِصِحَّةِ النِّكَاحِ لِأَنَّ الْمَهْرَ تَابِعٌ فِيهِ ) أَيْ فِي النِّكَاحِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْفَسْخِ ( بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّ عَدَمَ التَّسْمِيَةِ يُفْسِدُهُ ) لِبَقَائِهِ بَيْعًا بِلَا ثَمَنٍ وَهُوَ فَاسِدٌ ( عَلَى مَا مَرَّ ) أَيْ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ ، بَلْ فِي هَذَا الْبَابِ أَيْضًا حَيْثُ قَالَ : وَيُقَالُ إذَا لَمْ يَثْبُتْ الْبَدَلُ بَقِيَ بَيْعًا بِلَا بَدَلٍ وَهُوَ فَاسِدٌ ( فَيُفْسَخُ ) أَيْ الْبَيْعُ ، قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : فَإِنْ قُلْت : النَّصُّ بِشَرْعِيَّةِ التَّحَالُفِ إنَّمَا وَرَدَ فِي الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ وَهُوَ ظَاهِرٌ فَكَيْفَ تَعَدَّى حُكْمُ النَّصِّ مِنْ الْبَيْعِ إلَى النِّكَاحِ ، أَوْ نَقُولُ : إنَّ التَّحَالُفَ إنَّمَا شُرِعَ فِي عَقْدٍ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ لِمَا أَنَّ الْفَسْخَ مِنْ أَحْكَامِ التَّحَالُفِ وَلَا فَسْخَ فِي النِّكَاحِ بَعْدَ التَّحَالُفِ بِالِاتِّفَاقِ فَيَجِبُ أَنْ لَا يُشْرَعَ فِيهِ التَّحَالُفُ لِعَدَمِ حُكْمِهِ .
قُلْت : أَمَّا الْأَوَّلُ وَهُوَ وُرُودُ النَّصِّ فِي الْبَيْعِ فَقُلْنَا : إنَّ الْمَعْنَى الْمُوجِبَ لِلتَّحَالُفِ هُنَاكَ مَوْجُودٌ هَاهُنَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَيَثْبُتُ التَّحَالُفُ فِي النِّكَاحِ أَيْضًا بِدَلَالَةِ النَّصِّ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلتَّحَالُفِ هُنَاكَ هُوَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مُدَّعٍ وَمُنْكِرٌ ، وَلَمْ يُمْكِنْ تَرْجِيحُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ فِي الدَّعْوَى وَالْإِنْكَارِ لِتَسَاوِيهِمَا فِيهِمَا ، فَلِذَلِكَ قُوبِلَتْ بَيِّنَتُهُمَا وَيَمِينُهُمَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُنْكِرُ مَا يَدَّعِيهِ الْآخَرُ فَيَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى دَعْوَى صَاحِبِهِ تَمَسُّكًا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ } وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ أَنَّ الْفَسْخَ حُكْمُ التَّحَالُفِ وَالْفَسْخُ لَيْسَ بِثَابِتٍ هَاهُنَا وَجَوَابُهُ مَذْكُورٌ فِي الْكِتَابِ .
وَإِيضَاحُ ذَلِكَ هُوَ أَنَّ التَّحَالُفَ إنَّمَا أَوْجَبَ الْفَسْخَ فِي التَّحَالُفِ لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ

إثْبَاتُ دَعْوَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِسَبَبِ يَمِينِ الْآخَرِ لَزِمَ إخْلَاءُ الْعَقْدِ عَنْ الْبَدَلِ ، وَالْبَدَلُ إذَا خَلَا فِي الْبَيْعِ يَفْسُدُ الْبَيْعُ وَالْفَاسِدُ يُفْسَخُ .
وَأَمَّا النِّكَاحُ إذَا خَلَا الْعِوَضُ عَنْهُ فَلَا يَفْسُدُ كَمَا لَوْ لَمْ يَذْكُرْ التَّسْمِيَةَ ، وَإِذَا لَمْ يَفْسُدْ النِّكَاحُ لَا يُفْسَخُ إذْ الْفَسْخُ إنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ الْفَسَادِ فَافْتَرَقَا ، إلَى هَذَا أَشَارَ فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ انْتَهَى .
وَقَدْ اقْتَفَى أَثَرَهُ فِي هَذَيْنِ السُّؤَالَيْنِ وَهَذَيْنِ الْجَوَابَيْنِ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ وَصَاحِبُ الْعِنَايَةِ .
أَقُولُ : فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْجَوَابَيْنِ بَحْثٌ .
أَمَّا فِي الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُوجِبَ لِلتَّحَالُفِ وَهُوَ كَوْنُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مُدَّعِيًا وَمُنْكِرًا مَعَ عَدَمِ إمْكَانِ تَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ إنَّمَا يُوجَدُ هَاهُنَا قَبْلَ تَسْلِيمِ الْمَرْأَةِ بُضْعَهَا إلَى الزَّوْجِ ، وَأَمَّا بَعْدَ التَّسْلِيمِ فَلَا يُوجَدُ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَا يَدَّعِي عَلَى الْمَرْأَةِ حِينَئِذٍ شَيْئًا إذْ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ سَالِمٌ لَهُ .
بَقِيَ دَعْوَى الْمَرْأَةِ فِي زِيَادَةِ الْمَهْرِ وَالزَّوْجُ يُنْكِرُهَا عَلَى قِيَاسِ مَا تَقَرَّرَ فِي الِاخْتِلَافِ فِي الْبَيْعِ بَعْدَ الْقَبْضِ ، وَالْمَسْأَلَةُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَتْ بِمَفْرُوضَةٍ قَبْلَ الْقَبْضِ بَلْ هِيَ عَامَّةٌ لِمَا قَبْلَ الْقَبْضِ وَمَا بَعْدَهُ ، بَلْ كَانَتْ مُصَوَّرَةً فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ بِصُورَةٍ تَخُصُّ بِمَا بَعْدَ الْقَبْضِ فَبَقِيَ السُّؤَالُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ ، إلَّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ فَإِنَّهُ يَرَى النَّصَّ مَعْلُومًا بَعْدَ الْقَبْضِ أَيْضًا كَمَا مَرَّ .
وَأَمَّا فِي الثَّانِي فَلِأَنَّ حَاصِلَهُ بَيَانُ سَبَبِ عَدَمِ ثُبُوتِ الْفَسْخِ فِي النِّكَاحِ ، وَهُوَ لَا يَدْفَعُ السُّؤَالَ إذْ لَيْسَ فِيهِ مَا يُشْعِرُ بِالنِّزَاعِ أَوْ التَّرَدُّدِ فِي عَدَمِ ثُبُوتِ الْفَسْخِ فِي النِّكَاحِ ، بَلْ حَاصِلُهُ أَنَّ التَّحَالُفَ إنَّمَا شُرِعَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ الْفَسْخُ ، فَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ الْفَسْخُ فِي النِّكَاحِ يَنْبَغِي أَيْ لَا

يَجْرِي فِيهِ التَّحَالُفُ أَيْضًا ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ التَّحَالُفَ لَمْ يَجْرِ فِيمَا إذَا اخْتَلَفَا فِي الْإِقَالَةِ فِي السَّلَمِ لِعَدَمِ احْتِمَالِ الْإِقَالَةِ فِي بَابِ السَّلَمِ الْفَسْخَ كَمَا مَرَّ قُبَيْلَ مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ فَتَأَمَّلْ ( وَلَكِنْ يَحْكُمُ مَهْرُ الْمِثْلِ ) هَذَا اسْتِدْرَاكٌ مِنْ قَوْلِهِ وَلَا يُفْسَخُ النِّكَاحُ أَيْ لَكِنْ يَحْكُمُ مَهْرُ الْمِثْلِ لِقَطْعِ النِّزَاعِ ( فَإِنْ كَانَ ) أَيْ مَهْرُ الْمِثْلِ ( مِثْلَ مَا اعْتَرَفَ بِهِ الزَّوْجُ أَوْ أَقَلَّ ) أَيْ مِمَّا اعْتَرَفَ بِهِ الزَّوْجُ ( قَضَى بِمَا قَالَ الزَّوْجُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ ) أَيْ ظَاهِرَ الْحَالِ ( شَاهِدٌ لَهُ ) أَمَّا فِي صُورَةِ كَوْنِ مَهْرِ الْمِثْلِ مِثْلَ مَا اعْتَرَفَ بِهِ الزَّوْجُ فَظَاهِرٌ لِمُوَافَقَةِ قَوْلِهِ مَهْرَ الْمِثْلِ .
وَأَمَّا فِي صُورَةِ كَوْنِ مَهْرِ الْمِثْلِ أَقَلَّ مِمَّا اعْتَرَفَ بِهِ الزَّوْجُ فَلِكَوْنِ قَوْلِهِ أَقْرَبَ إلَى مَهْرِ الْمِثْلِ مِنْ قَوْلِنَا ( وَإِنْ كَانَ ) أَيْ مَهْرُ الْمِثْلِ ( مِثْلَ مَا ادَّعَتْهُ الْمَرْأَةُ أَوْ أَكْثَرَ ) أَيْ مِمَّا ادَّعَتْهُ الْمَرْأَةُ ( قَضَى بِمَا ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ ) لِأَنَّ الظَّاهِرَ لَهَا شَاهِدٌ حِينَئِذٍ لِمِثْلِ مَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا ( وَإِنْ كَانَ مَهْرُ الْمِثْلِ أَكْثَرَ مِمَّا اعْتَرَفَ بِهِ الزَّوْجُ وَأَقَلَّ مِمَّا ادَّعَتْهُ الْمَرْأَةُ قَضَى لَهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ لِأَنَّهُمَا لَمَّا تَحَالَفَا لَمْ تَثْبُتْ الزِّيَادَةُ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ ) أَيْ بِسَبَبِ حَلِفِ الزَّوْجِ ( وَلَا الْحَطِّ عَنْهُ ) أَيْ بِسَبَبِ حَلِفِ الْمَرْأَةِ ( قَالَ ) أَيْ الْمُصَنِّفُ ( ذَكَرَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ ( التَّحَالُفَ أَوَّلًا ثُمَّ التَّحْكِيمَ ، وَهَذَا ) أَيْ مَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ ( قَوْلُ الْكَرْخِيِّ لِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ لَا اعْتِبَارَ لَهُ مَعَ وُجُودِ التَّسْمِيَةِ ) لِأَنَّهُ مُوجِبُ نِكَاحٍ لَا تَسْمِيَةَ فِيهِ ( وَسُقُوطُ اعْتِبَارِهَا بِالتَّحَالُفِ ) أَيْ سُقُوطُ اعْتِبَارِ التَّسْمِيَةِ إنَّمَا هُوَ بِالتَّحَالُفِ ( فَلِهَذَا يُقَدَّمُ ) أَيْ التَّحَالُفُ ( فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا ) يَعْنِي فِيمَا إذَا كَانَ مَهْرُ الْمِثْلِ مَا اعْتَرَفَ بِهِ

الزَّوْجُ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ ، أَوْ كَانَ مِثْلَ مَا ادَّعَتْهُ الْمَرْأَةُ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ ، أَوْ كَانَ أَكْثَرَ مِمَّا اعْتَرَفَ بِهِ الزَّوْجُ وَأَقَلَّ مَا ادَّعَتْهُ الْمَرْأَةُ فَهَذِهِ خَمْسَةُ وُجُوهٍ ( وَيَبْدَأُ بِيَمِينِ الزَّوْجِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ تَعْجِيلًا لِفَائِدَةِ النُّكُولِ ) لِأَنَّ أَوَّلَ التَّسْمِيَةِ عَلَيْهِ فَيَكُونُ أَوَّلُ الْيَمِينَيْنِ عَلَيْهِ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ نَقْلًا عَنْ الْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّةِ ( كَمَا فِي الْمُشْتَرِي ) أَيْ كَمَا يَبْدَأُ بِيَمِينِ الْمُشْتَرِي عَلَى الْقَوْلِ الصَّحِيحِ تَعْجِيلًا لِفَائِدَةِ النُّكُولِ كَمَا مَرَّ مِنْ تَخْرِيجِ الرَّازِيّ ( بِخِلَافِهِ ) أَيْ تَخْرِيجُ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيّ ، بِخِلَافِ قَوْلِ الْكَرْخِيِّ فَإِنَّ الرَّازِيَّ يَقُولُ بِتَحْكِيمِ مَهْرِ الْمِثْلِ أَوَّلًا إذَا شَهِدَ مَهْرُ الْمِثْلِ لِأَحَدِهِمَا ، ثُمَّ يَقُولُ بِالتَّحَالُفِ إذَا لَمْ يَشْهَدْ ذَلِكَ لِأَحَدِهِمَا .
قَالَ الْمُصَنِّفُ : ( وَقَدْ اسْتَقْصَيْنَاهُ ) أَيْ تَخْرِيجَ الرَّازِيّ ( فِي النِّكَاحِ ) أَيْ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ ( وَذَكَرْنَا خِلَافَ أَبِي يُوسُفَ ) هُوَ أَنَّ الْقَوْلَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ قَوْلُ الزَّوْجِ إلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِشَيْءٍ قَلِيلٍ ، وَفِي رِوَايَةٍ : إلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِشَيْءٍ مُسْتَنْكَرٍ ، وَتَكَلَّمُوا فِي تَفْسِيرِهِ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ ( فَلَا نُعِيدُهُ ) أَيْ لَا نُعِيدُ ذِكْرَ خِلَافِهِ هَاهُنَا .
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : وَهَذَا أَيْ قَوْلُ الرَّازِيّ هُوَ الْأَصَحُّ ، لِأَنَّ تَحْكِيمَ مَهْرِ الْمِثْلِ هَاهُنَا لَيْسَ لِإِيجَابِ مَهْرِ الْمِثْلِ بَلْ لِمَعْرِفَةِ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ ، ثُمَّ الْأَصْلُ فِي الدَّعَاوَى أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ مَعَ يَمِينِهِ ، كَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ وَالْمَحْبُوبِيُّ انْتَهَى ، وَقَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ : قَالُوا : إنَّ قَوْلَ الْكَرْخِيِّ هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ لَا يَثْبُتُ مَعَ وُجُودِ التَّسْمِيَةِ ، وَإِنَّمَا تَنْعَدِمُ التَّسْمِيَةُ بِالتَّحَالُفِ لِأَنَّهُ

حِينَئِذٍ يَكُونُ كَأَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَسْمِيَةٌ أَصْلًا فَيُصَارُ إلَى مَهْرِ الْمِثْلِ ، فَلَمَّا لَمْ يَثْبُتْ مَهْرُ الْمِثْلِ مَعَ وُجُودِ التَّسْمِيَةِ كَيْفَ يَكُونُ الظَّاهِرُ مَعَ الَّذِي وَافَقَهُ مَهْرَ الْمِثْلِ انْتَهَى .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : أَقُولُ : إنْ أَرَادُوا بِقَوْلِهِمْ هُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ غَيْرَهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَصَحَّ فَلَا كَلَامَ ، وَإِنْ أَرَادُوا أَنَّ غَيْرَهُ فَاسِدٌ فَالْحَقُّ مَا قَالَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ ، لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ تَمْنَعُ الْمَصِيرَ إلَى مَهْرِ الْمِثْلِ لِإِيجَابِهِ ، وَأَمَّا لِتَحْكِيمِهِ لِمَعْرِفَةِ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ فَمَمْنُوعٌ انْتَهَى ، وَأَنَا أَقُولُ : إنَّ قَوْلَهُ إنْ أَرَادُوا بِقَوْلِهِمْ هُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ غَيْرَهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَصَحَّ ، فَلَا كَلَامَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ إذْ لَا مَجَالَ لِإِرَادَةِ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ ذَلِكَ اللَّفْظِ ، لِأَنَّهُمْ مَا قَالُوا هُوَ صَحِيحٌ حَتَّى لَا يُنَافِيَ كَوْنَ غَيْرِهِ أَصَحَّ ، بَلْ قَالُوا : هُوَ الصَّحِيحُ بِقَصْرِ الْمُسْنَدِ عَلَى الْمُسْنَدِ إلَيْهِ وَهُوَ قَصْرُ الصِّفَةِ عَلَى الْمَوْصُوفِ كَمَا تَرَى ، فَإِذَا كَانَتْ صِفَةُ الصِّحَّةِ مَقْصُورَةً عَلَيْهِ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَتَّصِفَ غَيْرُهُ بِالْأَصَحِّيَّةِ وَالِاتِّصَافُ بِالْأَصَحِّيَّةِ يَسْتَلْزِمُ الِاتِّصَافَ بِأَصْلِ الصِّحَّةِ لِأَنَّهَا زِيَادَةُ الصِّحَّةِ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ لَا كَلَامَ فِي الْمُرَادِ لَا فِي الْإِرَادَةِ فَتَأَمَّلْ .
ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : مَا بَالُهُمْ لَا يُحَكِّمُونَ قِيمَةَ الْمَبِيعِ إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ فِي الثَّمَنِ لِمَعْرِفَةِ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ كَمَا فِي النِّكَاحِ فَإِنَّهُ لَا مَحْظُورَ فِيهِ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ مَعْلُومٌ ثَابِتٌ بِيَقِينٍ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ حُكْمًا ، بِخِلَافِ الْقِيمَةِ فَإِنَّهَا تُعْلَمُ بِالْحِرْزِ وَالظَّنِّ فَلَا تُفِيدُ الْمَعْرِفَةَ فَلَا تُجْعَلُ حُكْمًا انْتَهَى .
وَأَقُولُ : فِي جَوَابِهِ تَحْكُمُ ، حَيْثُ جَعَلَ مَهْرَ الْمِثْلِ أَمْرًا

مَعْلُومًا ثَابِتًا بِيَقِينٍ ، وَالْقِيمَةَ أَمْرًا مَظْنُونًا غَيْرَ مُفِيدٍ لِلْمَعْرِفَةِ ، وَالْحَالُ أَنَّهُمَا إنْ كَانَا مُتَفَاوِتَيْنِ فِي الْمَعْرِفَةِ فَمَهْرُ الْمِثْلِ أَخْفَى مِنْ الْقِيمَةِ ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي بَابِ الْمَهْرِ أَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ يُعْتَبَرُ بِقَرَابَةِ الْمَرْأَةِ مِنْ قَوْمِ أَبِيهَا وَيُعْتَبَرُ فِيهِ التَّسَاوِي بَيْنَ الْمَرْأَتَيْنِ سِنًّا وَجَمَالًا وَمَالًا وَعَقْلًا وَدِينًا وَبَلَدًا وَعَصْرًا وَبَكَارَةً وَثِيَابَةً ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَعْرِفَةَ هَذِهِ الشَّرَائِطِ عُسْرٌ جِدًّا ، بِخِلَافِ الْقِيمَةِ إذْ يَكْفِي فِيهَا نَوْعُ خِبْرَةٍ بِأَحْوَالِ الْأَمْتِعَةِ كَمَا لَا يَخْفَى .
فَالصَّوَابُ فِي الْجَوَابِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَالْكِفَايَةِ حَيْثُ قَالَا : قُلْنَا الْقَضَاءُ هُنَاكَ بِمَا يَدَّعِيهِ أَحَدُهُمَا غَيْرُ مُمْكِنٍ ، وَإِنْ كَانَتْ الْقِيمَةُ مُطَابِقَةً لِمَا يَدَّعِيهِ أَحَدُهُمَا لِأَنَّ الْقِيمَةَ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهَا ثَمَنًا بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ ، وَمَهْرُ الْمِثْلِ يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ مَهْرًا بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ ، وَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا انْتَهَى ، وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : إلَى هَذَا أَشَارَ فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ :

( وَلَوْ ادَّعَى الزَّوْجُ النِّكَاحَ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةُ تَدَّعِيهِ عَلَى هَذِهِ الْجَارِيَةِ فَهُوَ كَالْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، إلَّا أَنَّ قِيمَةَ الْجَارِيَةِ إذَا كَانَتْ مِثْلَ مَهْرِ الْمِثْلِ يَكُونُ لَهَا قِيمَتُهَا دُونَ عَيْنِهَا ) لِأَنَّ تَمَلُّكَهَا لَا يَكُونُ إلَّا بِالتَّرَاضِي وَلَمْ يُوجَدْ فَوَجَبَتْ الْقِيمَةُ
وَلَوْ ادَّعَى الزَّوْجُ النِّكَاحَ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ ( وَالْمَرْأَةُ تَدَّعِيهِ عَلَى هَذِهِ الْجَارِيَةِ فَهُوَ كَالْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ ) يَعْنِي أَنَّهُ يَحْكُمُ مَهْرُ الْمِثْلِ أَوْ لَا ، فَمَنْ شَهِدَ لَهُ فَالْقَوْلُ لَهُ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا يَتَحَالَفَانِ وَإِلَيْهِ مَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَهُوَ تَخْرِيجُ الرَّازِيّ ، وَأَمَّا عَلَى تَخْرِيجِ الْكَرْخِيِّ فَيَتَحَالَفَانِ أَوَّلًا كَمَا تَقَدَّمَ كَذَا فِي الْعِنَايَةِ ( إلَّا أَنَّ قِيمَةَ الْجَارِيَةِ إذَا كَانَتْ مِثْلَ مَهْرِ الْمِثْلِ يَكُونُ لَهَا ) أَيْ لِلْمَرْأَةِ ( قِيمَتُهَا ) أَيْ قِيمَةُ الْجَارِيَةِ ( دُونَ عَيْنِهَا لِأَنَّ تَمَلُّكَهَا لَا يَكُونُ إلَّا بِالتَّرَاضِي وَلَمْ يُوجَدْ ) أَيْ التَّرَاضِي ( فَوَجَبَتْ الْقِيمَةُ ) أَيْ قِيمَةُ الْجَارِيَةِ .

( وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْإِجَارَةِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا ) مَعْنَاهُ اخْتَلَفَا فِي الْبَدَلِ أَوْ فِي الْمُبْدَلِ لِأَنَّ التَّحَالُفَ فِي الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ عَلَى وِفَاقِ الْقِيَاسِ عَلَى مَا مَرَّ ، وَالْإِجَارَةُ قَبْلَ قَبْضِ الْمَنْفَعَةِ نَظِيرُ الْبَيْعِ قَبْلَ قَبْضِ الْمَبِيعِ وَكَلَامُنَا قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ ( فَإِنْ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي الْأُجْرَةِ يَبْدَأُ بِيَمِينِ الْمُسْتَأْجِرِ ) لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِوُجُوبِ الْأُجْرَةِ ( وَإِنْ وَقَعَ فِي الْمَنْفَعَةِ يَبْدَأُ بِيَمِينِ الْمُؤَجِّرِ ، وَأَيُّهُمَا نَكَلَ لَزِمَهُ دَعْوَى صَاحِبِهِ ، وَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ قُبِلَتْ ، وَلَوْ أَقَامَاهَا فَبَيِّنَةُ الْمُؤَجِّرِ أَوْلَى إنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي الْأُجْرَةِ ، وَإِنْ كَانَ فِي الْمَنَافِعِ فَبَيِّنَةُ الْمُسْتَأْجِرِ أَوْلَى ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمَا قُبِلَتْ بَيِّنَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا يَدَّعِيهِ مِنْ الْفَضْلِ ) نَحْوُ أَنْ يَدَّعِيَ هَذَا شَهْرًا بِعَشْرَةٍ وَالْمُسْتَأْجِرُ شَهْرَيْنِ بِخَمْسَةٍ يَقْضِي بِشَهْرَيْنِ بِعَشْرَةٍ .
قَالَ ( وَإِنْ اخْتَلَفَا بَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ لَمْ يَتَحَالَفَا وَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُسْتَأْجِرِ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ظَاهِرٌ ، لِأَنَّ هَلَاكَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ يَمْنَعُ التَّحَالُفَ عِنْدَهُمَا ، وَكَذَا عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ الْهَلَاكَ إنَّمَا لَا يُمْنَعُ عِنْدَهُ فِي الْمَبِيعِ لِمَا أَنَّ لَهُ قِيمَةً تَقُومُ مَقَامَهُ فَيَتَحَالَفَانِ عَلَيْهَا ، وَلَوْ جَرَى التَّحَالُفُ هَاهُنَا وَفَسْخُ الْعَقْدِ فَلَا قِيمَةَ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ لَا تَتَقَوَّمُ بِنَفْسِهَا بَلْ بِالْعَقْدِ وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا عَقْدَ .
وَإِذَا امْتَنَعَ فَالْقَوْلُ لِلْمُسْتَأْجِرِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ عَلَيْهِ ( وَإِنْ اخْتَلَفَا بَعْدَ اسْتِيفَاءِ بَعْضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ تَحَالَفَا وَفُسِخَ الْعَقْدُ فِيمَا بَقِيَ وَكَانَ الْقَوْلُ فِي الْمَاضِي قَوْلَ الْمُسْتَأْجِرِ ) لِأَنَّ الْعَقْدَ يَنْعَقِدُ سَاعَةً فَسَاعَةً فَيَصِيرُ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ الْمَنْفَعَةِ

كَأَنَّ ابْتِدَاءَ الْعَقْدِ عَلَيْهَا ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِيهِ دَفْعَةٌ وَاحِدَةٌ ، فَإِذَا تَعَذَّرَ فِي الْبَعْضِ تَعَذَّرَ فِي الْكُلِّ .
.

( وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْإِجَارَةِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا ) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ : ( مَعْنَاهُ اخْتَلَفَا فِي الْبَدَلِ ) أَيْ الْأُجْرَةِ ( أَوْ فِي الْمُبْدَلِ ) أَيْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ ، وَهَذَا احْتِرَازٌ عَنْ اخْتِلَافِهِمَا فِي الْأَجَلِ ، فَإِنَّهُ لَا يَجْرِي التَّحَالُفُ بَيْنَهُمَا فِيهِ .
بَلْ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ مَنْ يُنْكِرُ الزِّيَادَةَ .
كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ .
ثُمَّ إنَّ الظَّاهِرَ كَانَ أَنْ يَزِيدَ الْمُصَنِّفُ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْبَدَلِ أَوْ الْمُبْدَلِ أَوْ فِيهِمَا كَمَا زَادَهُ صَاحِبُ الْكَافِي لِيَتَنَاوَلَ الصُّوَرَ الثَّلَاثَةَ الْآتِيَةَ ، فَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ فِي الْبَدَلِ أَوْ الْمُبْدَلِ مَنْعَ الْخُلُوِّ احْتِرَازًا عَمَّا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا لَا مَنْعَ الْجَمْعِ فَيَتَنَاوَلُهُمَا أَيْضًا فَتَدَبَّرْ ( لِأَنَّ التَّحَالُفَ فِي الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ عَلَى وِفَاقِ الْقِيَاسِ ) مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَبَايِعَيْنِ مُنْكِرٌ لِمَا يَدَّعِيهِ صَاحِبُهُ فَكَانَ الْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ ( عَلَى مَا مَرَّ ) أَيْ مِنْ أَوَّلَ هَذَا الْبَابِ ( وَالْإِجَارَةُ قَبْلَ قَبْضِ الْمَنْفَعَةِ نَظِيرُ الْبَيْعِ قَبْلَ قَبْضِ الْمَبِيعِ ) مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقْدُ مُعَاوَضَةِ يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى التَّبَرُّعِ ( وَكَلَامُنَا قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ ) لِأَنَّ وَضْعَ مَسْأَلَتِنَا فِي الِاخْتِلَافِ فِي الْإِجَارَةِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَصَارَ الِاخْتِلَافُ فِي الْإِجَارَةِ قَبْلَ قَبْضِ الْمَنْفَعَةِ كَالِاخْتِلَافِ فِي الْبَيْعِ قَبْلَ قَبْضِ الْمَبِيعِ فَجَرَى التَّحَالُفُ هَاهُنَا كَمَا جَرَى ثَمَّةَ .
فَإِنْ قِيلَ : قِيَامُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ شَرْطُ التَّحَالُفِ وَالْمَنْفَعَةُ مَعْدُومَةٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجْرِيَ فِيهَا التَّحَالُفُ .
قُلْنَا : فِي مَعْدُومٍ يَجْرِي التَّحَالُفُ كَمَا فِي السَّلَمِ وَأَنَّ الْعَيْنَ الْمُسْتَأْجَرَةَ أُقِيمَتْ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ فِي حَقِّ إيرَادِ الْعَقْدِ

عَلَيْهَا فَصَارَتْ كَأَنَّهَا قَائِمَةٌ ، كَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ فِي التَّبْيِينِ ( فَإِنْ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي الْأُجْرَةِ يَبْدَأُ بِيَمِينِ الْمُسْتَأْجِرِ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِوُجُوبِ الْأُجْرَةِ ) أَيْ لِوُجُوبِ زِيَادَةِ الْأُجْرَةِ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَخْذًا مِنْ شَرْحِ تَاجِ الشَّرِيعَةِ : فَإِنْ قِيلَ : كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَبْدَأَ بِيَمِينِ الْآجِرِ لِتَعْجِيلِ فَائِدَةِ النُّكُولِ ، فَإِنَّ تَسْلِيمَ الْمَعْقُودِ وَاجِبٌ أَوَّلًا عَلَى الْآجِرِ ثُمَّ وَجَبَتْ الْأُجْرَةُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ بَعْدَهُ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْأُجْرَةَ إنْ كَانَتْ مَشْرُوطَةَ التَّعْجِيلِ فَهُوَ الْأَسْبَقُ إنْكَارًا فَيَبْدَأُ بِهِ ، وَإِنْ لَمْ تُشْتَرَطْ لَا يُمْتَنَعُ الْآجِرُ مِنْ تَسْلِيمِ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ لِأَنَّ تَسْلِيمَهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قَبْضِ الْأُجْرَةِ فَبَقِيَ إنْكَارُ الْمُسْتَأْجِرِ لِزِيَادَةِ الْآجِرِ فَيَحْلِفُ انْتَهَى .
وَقَدْ اقْتَفَى أَثَرَ الشَّارِحِ الْعَيْنِيُّ .
أَقُولُ : فِي الْجَوَابِ بَحْثٌ مِنْ وُجُوهٍ : الْأَوَّلُ أَنَّ الْمُؤَجِّرَ وَإِنْ لَمْ يَمْتَنِعْ مِنْ تَسْلِيمِ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ بِمَا ادَّعَاهُ مِنْ الْأُجْرَةِ وَلَكِنْ يَمْتَنِعُ مِنْ تَسْلِيمِهَا بِمَا اعْتَرَفَ بِهِ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْهَا فَإِنَّ تَسْلِيمَهُ إيَّاهَا وَإِنْ لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى قَبْضِ الْأُجْرَةِ إلَّا أَنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى تَعَيُّنِهَا وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ الْمُؤَجِّرُ مُنْكِرًا لِوُجُوبِ تَسْلِيمِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِمَا عَيَّنَهُ الْمُسْتَأْجِرُ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا تَكُونَ الْإِجَارَةُ قَبْلَ قَبْضِ الْمَنْفَعَةِ نَظِيرَ الْبَيْعِ قَبْلَ قَبْضِ الْمَبِيعِ وَهَذَا خَلَفٌ .
وَالثَّانِي أَنَّ مَا ذَكَرَهُ هَاهُنَا مَنْقُوضٌ بِمَا إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ فِي الْبَيْعِ دُونَ الثَّمَنِ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ هُنَاكَ أَيْضًا لَا يَمْتَنِعُ مِنْ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَسْلِيمَهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قَبْضِ الْمَبِيعِ مَعَ أَنَّهُ يَبْدَأُ فِيهِ بِيَمِينِ الْمُشْتَرِي كَمَا يَبْدَأُ بِيَمِينِهِ فِي صُورَةِ الِاخْتِلَافِ فِي الثَّمَنِ ، وَيُعَلِّلُ

بِتَعْجِيلِ فَائِدَةِ النُّكُولِ ، وَالثَّالِثُ أَنَّ قَوْلَهُ فَبَقِيَ إنْكَارُ الْمُسْتَأْجِرِ لِزِيَادَةِ الْأُجْرَةِ فَيَحْلِفُ إنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ لَا إنْكَارَ لِلْمُؤَجِّرِ أَصْلًا كَمَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ الْعِبَارَةِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ، إذْ يَلْزَمُ حِينَئِذٍ أَنْ لَا يَحْلِفَ أَصْلًا فَيَخْتَلَّ وَضْعُ الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّ وَضْعَهَا فِي التَّحَالُفِ لَا فِي حَلِفِ الْوَاحِدِ .
وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّ لِلْمُؤَجِّرِ أَيْضًا إنْكَارَ الْمُسْتَأْجِرِ مَا يَقْتَضِي الْبَدْءَ بِيَمِينِهِ فَهُوَ أَوَّلُ الْمَسْأَلَةِ وَلَمْ يَظْهَرْ بَعْدُ .
ثُمَّ إنَّ تَاجَ الشَّرِيعَةِ أَجَابَ بَعْدَ الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ : وَلِأَنَّ الْإِجَارَةَ اُعْتُبِرَتْ بِالْبَيْعِ ، وَمِنْ شَرْطِ الْقِيَاسِ أَنْ لَا يُغَيِّرَ حُكْمَ النَّصِّ فِي الْفَرْعِ بَلْ يُعَدِّي حُكْمَ الْأَصْلِ بِعَيْنِهِ وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا انْتَهَى .
أَقُولُ : وَفِيهِ أَيْضًا بَحْثٌ لِأَنَّ هَذَا مَنْقُوضٌ بِالصُّورَةِ الثَّانِيَةِ الْآتِيَةِ ، وَهِيَ مَا إذَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي الْمَنْفَعَةِ فَإِنَّهُ يَبْدَأُ فِيهَا بِيَمِينِ الْمُؤَجِّرِ فَيَلْزَمُ مِمَّا ذُكِرَ أَنْ يُغَيِّرَ فِيهَا حُكْمَ النَّصِّ ، وَأَنْ لَا يُعَدِّيَ حُكْمَ الْأَصْلِ بِعَيْنِهِ فَإِنَّ حُكْمَهُ أَنْ يَبْدَأَ بِيَمِينِ الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ أَنْ يَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي الْبَدَلِ وَأَنْ يَقَعَ فِي الْمُبْدَلِ عَلَى مَا مَرَّ .
ثُمَّ إنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ حُكْمَ النَّصِّ مُجَرَّدُ ثُبُوتِ التَّحَالُفِ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ عِنْدَ اخْتِلَافِهِمَا فِي الْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ مَنْ يَبْدَأُ بِيَمِينِهِ مِنْهُمَا ، وَإِنَّمَا يُسْتَفَادُ ذَلِكَ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ فَلَا يَلْزَمُ تَغْيِيرُ النَّصِّ فِي شَيْءٍ مِنْ الصُّورَتَيْنِ وَلَا يَتِمُّ الْجَوَابُ ( وَإِنْ وَقَعَ ) أَيْ الِاخْتِلَافُ ( فِي الْمَنْفَعَةِ بُدِئَ بِيَمِينِ الْمُؤَجِّرِ ) لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِزِيَادَةِ الْمَنْفَعَةِ ( وَأَيُّهُمَا نَكَلَ لَزِمَهُ دَعْوَى صَاحِبِهِ ) لِأَنَّ نُكُولَهُ بَدَلٌ أَوْ إقْرَارُهُ عَلَى مَا مَرَّ ( وَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ قُبِلَتْ ) لِأَنَّهُ نَوَّرَ دَعْوَاهُ

بِالْحُجَّةِ ( وَلَوْ أَقَامَاهَا ) أَيْ الْبَيِّنَةَ ( فَبَيِّنَةُ الْمُؤَجِّرِ أَوْلَى إنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي الْأُجْرَةِ ) لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ تُثْبِتُ الزِّيَادَةَ حِينَئِذٍ ( وَإِنْ كَانَ ) أَيْ الِاخْتِلَافُ ( فِي الْمَنَافِعِ فَبَيِّنَةُ الْمُسْتَأْجِرِ ) أَيْ فَبَيِّنَةُ الْمُسْتَأْجِرِ أَوْلَى لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الزِّيَادَةَ حِينَئِذٍ ( وَإِنْ كَانَ فِيهِمَا ) أَيْ وَإِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي الْأُجْرَةِ وَالْمَنَافِعِ مَعًا ( قُبِلَتْ بَيِّنَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلَا يَدَّعِيهِ مِنْ الْفَضْلِ نَحْوُ أَنْ يَدَّعِيَ هَذَا ) أَيْ الْمُؤَجَّرُ ( شَهْرًا بِعَشْرَةٍ وَالْمُسْتَأْجِرُ شَهْرَيْنِ بِخَمْسَةٍ يَقْضِي بِشَهْرَيْنِ بِعَشْرَةٍ ) لَا يُقَالُ : كَانَ الْأَحْسَنُ أَنْ يُقَدِّمَ ذِكْرَ أَحْوَالِ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى ذِكْرِ أَحْوَالِ الْيَمِينِ وَالنُّكُولِ لِأَنَّ الْمَصِيرَ إلَى الْيَمِينِ بَعْدَ الْعَجْزِ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَالنُّكُولُ فَرْعُ تَكْلِيفِ الْيَمِينِ .
وَقَدْ عَكَسَ الْمُصَنِّفُ الْأَمْرَ ، لِأَنَّا نَقُولُ : الْعُمْدَةُ فِي هَذَا الْبَابِ بَيَانُ أَمْرِ التَّحَالُفِ وَبَاقِي الْأَقْسَامِ اسْتِطْرَادِيٌّ ، فَقَدَّمَ الْأَهَمَّ فِي هَذَا الْمَقَامِ ، فَكَأَنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ لَمْ يَتَنَبَّهْ لِهَذِهِ النُّكْتَةِ حَيْثُ غَيَّرَ أُسْلُوبَ الْمُصَنِّفِ فَقَدَّمَ ذِكْرَ أَحْوَالِ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ ( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( وَإِنْ اخْتَلَفَا بَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ ) أَيْ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِتَمَامِهِ ( لَمْ يَتَحَالَفَا وَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُسْتَأْجِرِ ، وَهَذَا ) أَيْ عَدَمُ التَّحَالُفِ هَاهُنَا ( عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ظَاهِرٌ ، لِأَنَّ هَلَاكَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ يَمْنَعُ التَّحَالُفَ عِنْدَهُمَا ) وَقَدْ هَلَكَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هَاهُنَا بَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ لِأَنَّهُ الْمَنْفَعَةُ وَهِيَ عَرَضٌ وَالْعَرَضُ لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ ( وَكَذَا عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ الْهَلَاكَ إنَّمَا لَا يُمْنَعُ عِنْدَهُ فِي الْمَبِيعِ لِمَا أَنَّ لَهُ ) أَيْ لِلْمَبِيعِ ( قِيمَةً تَقُومُ مَقَامَهُ ) لِأَنَّ الْعَيْنَ مُتَقَوِّمَةٌ

بِنَفْسِهَا فَكَانَتْ الْقِيمَةُ قَائِمَةً مَقَامَهَا ( فَيَتَحَالَفَانِ عَلَيْهَا ) أَيْ الْمُتَعَاقِدَانِ عِنْدَهُ عَلَى الْقِيمَةِ ( وَلَوْ جَرَى التَّحَالُفُ هَاهُنَا وَفُسِخَ الْعَقْدُ ) بِنَاءً عَلَى أَنَّ فَائِدَةَ التَّحَالُفِ هِيَ الْفَسْخُ ( فَلَا قِيمَةَ ) أَيْ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ( لِأَنَّ الْمَنَافِعَ لَا تَتَقَوَّمُ بِنَفْسِهَا بَلْ بِالْعَقْدِ ) أَيْ بَلْ تَتَقَوَّمُ بِالْعَقْدِ ( وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا عَقْدَ ) أَيْ وَتَبَيَّنَ بِحَلِفِهِمَا أَنَّهُ لَا عَقْدَ بَيْنَهُمَا لِانْفِسَاخِهِ مِنْ الْأَصْلِ ، فَظَهَرَ حِينَئِذٍ أَنَّهُ لَا قِيمَةَ لِلْمَنْفَعَةِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْمَبِيعُ غَيْرَ قَائِمٍ وَلَا الَّذِي يَقُومُ مَقَامَهُ فَامْتَنَعَ التَّحَالُفُ ( وَإِذَا امْتَنَعَ فَالْقَوْلُ لِلْمُسْتَأْجِرِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ ) أَيْ وَهُوَ الَّذِي اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ ، وَمَتَى وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي الِاسْتِحْقَاقِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ ، كَذَا فِي الْكَافِي ( وَإِنْ اخْتَلَفَا بَعْدَ اسْتِيفَاءِ بَعْضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ تَحَالَفَا وَفُسِخَ الْعَقْدُ فِيمَا بَقِيَ وَكَانَ الْقَوْلُ فِي الْمَاضِي قَوْلَ الْمُسْتَأْجِرِ ) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ .
وَقَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِهِ ( لِأَنَّ الْعَقْدَ ) أَيْ عَقْدَ الْإِجَارَةِ ( يَنْعَقِدُ سَاعَةً فَسَاعَةً ) عَلَى حَسَبِ حُدُوثِ الْمَنْفَعَةِ ( فَيَصِيرُ ) أَيْ الْعَقْدُ ( فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ الْمَنْفَعَةِ كَأَنَّ ابْتِدَاءَ الْعَقْدِ عَلَيْهَا ) أَيْ عَلَى كُلِّ جُزْءٍ مِنْ الْمَنْفَعَةِ فَصَارَ مَا بَقِيَ مِنْ الْمَنَافِعِ كَالْمُنْفَرِدِ بِالْعَقْدِ فَكَانَ الِاخْتِلَافُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، وَفِيهِ التَّحَالُفُ .
وَأَمَّا الْمَاضِي فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ الْمَاضِيَةَ هَالِكَةٌ ، فَكَانَ الِاخْتِلَافُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا بَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ وَلَا تَحَالُفَ فِيهِ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ بِالِاتِّفَاقِ كَمَا مَرَّ آنِفًا ( بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِيهِ دَفْعَةٌ وَاحِدَةٌ ، فَإِذَا

تَعَذَّرَ فِي الْبَعْضِ تَعَذَّرَ فِي الْكُلِّ ) ضَرُورَةً .

قَالَ ( وَإِذَا اخْتَلَفَ الْمَوْلَى وَالْمُكَاتَبُ فِي مَالِ الْكِتَابَةِ لَمْ يَتَحَالَفَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَا : يَتَحَالَفَانِ وَتُفْسَخُ الْكِتَابَةُ ) وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يَقْبَلُ الْفَسْخَ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ ، وَالْجَامِعُ أَنَّ الْمَوْلَى يَدَّعِي بَدَلًا زَائِدًا يُنْكِرُهُ الْعَبْدُ وَالْعَبْدُ يَدَّعِي اسْتِحْقَاقَ الْعِتْقِ عَلَيْهِ عِنْدَ أَدَاءِ الْقَدْرِ الَّذِي يَدَّعِيهِ وَالْمَوْلَى يُنْكِرُهُ فَيَتَحَالَفَانِ كَمَا إذَا اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْبَدَلَ مُقَابَلٌ بِفَكِّ الْحَجْرِ فِي حَقِّ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ لِلْحَالِ وَهُوَ سَالِمٌ لِلْعَبْدِ وَإِنَّمَا يَنْقَلِبُ مُقَابَلًا بِالْعِتْقِ عِنْدَ الْأَدَاءِ فَقَبْلَهُ لَا مُقَابَلَةَ فَبَقِيَ اخْتِلَافًا فِي قَدْرِ الْبَدَلِ لَا غَيْرُ فَلَا يَتَحَالَفَانِ .
.

( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( وَإِذَا اخْتَلَفَ الْمَوْلَى وَالْمُكَاتَبُ فِي مَالِ الْكِتَابَةِ لَمْ يَتَحَالَفَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) وَالْقَوْلُ لِلْعَبْدِ مَعَ يَمِينِهِ ، كَذَا فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ ( وَقَالَا : يَتَحَالَفَانِ وَتُفْسَخُ الْكِتَابَةُ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يَقْبَلُ الْفَسْخَ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ ، وَالْجَامِعُ أَنَّ الْمَوْلَى يَدَّعِي بَدَلًا زَائِدًا يُنْكِرُهُ الْعَبْدُ وَالْعَبْدُ يَدَّعِي اسْتِحْقَاقَ الْعِتْقِ عَلَيْهِ ) أَيْ عَلَى الْمَوْلَى ( عِنْدَ أَدَاءِ الْقَدْرِ الَّذِي يَدَّعِيهِ وَالْمَوْلَى يُنْكِرُهُ فَيَتَحَالَفَانِ كَمَا إذَا اخْتَلَفَا ) أَيْ الْمُتَبَايِعَانِ ( فِي الثَّمَنِ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْبَدَلَ ) أَيْ بَدَلَ الْكِتَابَةِ ( مُقَابِلٌ بِفَكِّ الْحَجْرِ ) لِأَنَّ الْكِتَابَةَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ ، وَقَدْ وَجَبَ بَدَلُ الْكِتَابَةِ عَلَى الْعَبْدِ فَيَجِبُ أَنْ يَثْبُتَ لِلْعَبْدِ أَيْضًا شَيْءٌ وَمَا ذَاكَ إلَّا فَكُّ الْحَجْرِ ( فِي بَدَلِ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ لِلْحَالِ ) اللَّامُ فِي الْحَالِ مُتَعَلِّقٌ بِمُقَابِلٍ أَيْ مُقَابِلٌ لِلْحَالِ .
الْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ ( سَالِمٌ لِلْعَبْدِ ) لِاتِّفَاقِ الْعَبْدِ وَالْمَوْلَى عَلَى ثُبُوتِ الْكِتَابَةِ ( وَإِنَّمَا يَنْقَلِبُ ) أَيْ الْبَدَلُ ( مُقَابِلًا بِالْعِتْقِ عِنْدَ الْأَدَاءِ ) أَيْ عِنْدَ أَدَاءِ الْمُكَاتَبِ بَدَلَ الْكِتَابَةِ بِتَمَامِهِ ( فَقَبِلَهُ ) أَيْ قَبِلَ الْأَدَاءَ ( لَا مُقَابَلَةً ) أَيْ لَا مُقَابَلَةً بِالْعِتْقِ وَإِلَّا لِعِتْقٍ قَبْلَ الْأَدَاءِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَطْعًا ، وَكَانَ هَذَا نَظِيرَ إجَارَةِ الدَّارِ حَيْثُ جَعَلْنَا رَقَبَةَ الدَّارِ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ فِي الْإِجَارَةِ أَصْلًا ثُمَّ يَنْتَقِلُ مِنْهَا إلَى الْمَنْفَعَةِ وَهِيَ الْمَطْلُوبَةُ آخِرًا ، فَكَذَا فِي الْكِتَابَةِ جَعَلْنَا الْفَكَّ فِي حَقِّ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفَ أَصْلًا فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ ، ثُمَّ عِنْدَ الْأَدَاءِ جَعَلْنَا الْعِتْقَ أَصْلًا وَانْتَقَلَ مِنْ فَكِّ الْحَجْرِ إلَى الْعِتْقِ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَالْكِفَايَةِ ( فَبَقِيَ اخْتِلَافًا فِي قَدْرِ الْبَدَلِ لَا

غَيْرُ ) يَعْنِي إذَا كَانَ مَا يُقَابِلُ الْبَدَلَ فِي الْحَالِ سَالِمًا لِلْعَبْدِ فَقَدْ بَقِيَ أَمْرُهُمَا اخْتِلَافًا فِي قَدْرِ الْبَدَلِ لَا غَيْرُ ( فَلَا يَتَحَالَفَانِ ) لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَدَّعِي شَيْئًا عَلَى الْمَوْلَى ، بَلْ هُوَ مُنْكِرٌ لِمَا يَدَّعِيهِ الْمَوْلَى مِنْ الزِّيَادَةِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ ، وَإِنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا بَيِّنَتَهُ تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ لِأَنَّهُ نَوَّرَ دَعْوَاهُ بِهَا ، وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ كَانَتْ بَيِّنَةُ الْمَوْلَى أَوْلَى لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الزِّيَادَةَ ، إلَّا أَنَّهُ إذَا أَدَّى قَدْرَ مَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ يُعْتَقُ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الْحُرِّيَّةَ لِنَفْسِهِ عِنْدَ أَدَاءِ هَذَا الْقَدْرِ فَوَجَبَ قَبُولُ بَيِّنَتِهِ عَلَى ذَلِكَ فَصَارَ نَظِيرَ مَا لَوْ كَاتَبَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنَّهُ إنْ أَدَّى خَمْسَمِائَةٍ يُعْتَقُ ، وَلَا يُمْتَنَعُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ بَدَلُ الْكِتَابَةِ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ ، وَلَوْ كَمَا اسْتَحَقَّ بَدَلَ الْكِتَابَةِ فَإِنَّ الْحُرِّيَّةَ لَا تَرْتَفِعُ بَعْدَ النُّزُولِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْبَدَلُ ، كَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ فِي التَّبْيِينِ .

قَالَ ( وَإِذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ فَمَا يَصْلُحُ لِلرِّجَالِ فَهُوَ لِلرَّجُلِ كَالْعِمَامَةِ ) لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ ( وَمَا يَصْلُحُ لِلنِّسَاءِ فَهُوَ لِلْمَرْأَةِ كَالْوِقَايَةِ ) لِشَهَادَةِ الظَّاهِرِ لَهَا ( وَمَا يَصْلُحُ لَهُمَا كَالْآنِيَةِ فَهُوَ لِلرَّجُلِ ) لِأَنَّ الْمَرْأَةَ وَمَا فِي يَدِهَا فِي يَدِ الزَّوْجِ وَالْقَوْلُ فِي الدَّعَاوَى لِصَاحِبِ الْيَدِ ، بِخِلَافِ مَا يَخْتَصُّ بِهَا لِأَنَّهُ يُعَارِضُهُ ظَاهِرٌ أَقْوَى مِنْهُ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ أَوْ بَعْدَمَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ .

( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( وَإِذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ فَمَا يَصْلُحُ لِلرِّجَالِ فَهُوَ لِلرَّجُلِ ) أَيْ مَعَ الْيَمِينِ ، وَكَذَا فِي جَانِبِ الْمَرْأَةِ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ نَقْلًا عَنْ الْإِمَامِ قَاضِي خَانْ وَالْإِمَامِ التُّمُرْتَاشِيِّ ( كَالْعِمَامَةِ ) وَالْقَلَنْسُوَةِ وَالْقَبَاءِ وَالْكُتُبِ وَالْقَوْسِ وَالدِّرْعِ وَالْمِنْطَقَةِ وَنَحْوِهَا ( لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ ) وَفِي الدَّعَاوَى الْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ ( وَمَا يَصْلُحُ لِلنِّسَاءِ فَهُوَ لِلْمَرْأَةِ كَالْوِقَايَةِ ) وَالدِّرْعِ وَالْخِمَارِ وَالْمِلْحَفَةِ وَالْمُلَاءَةِ وَنَحْوِهَا ( لِشَهَادَةِ الظَّاهِرِ لَهَا ) قَالَ الْإِمَامُ التُّمُرْتَاشِيُّ : إلَّا إذَا كَانَ الرَّجُلُ صَانِعًا وَلَهُ أَسَاوِرُ وَخَوَاتِيمُ النِّسَاءِ وَالْحُلِيُّ وَالْخَلْخَالُ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ ، فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ مِثْلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَهَا ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ تَبِيعُ ثِيَابَ الرِّجَالِ ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ ( وَمَا يَصْلُحُ لَهُمَا كَالْآنِيَةِ ) وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْأَمْتِعَةِ وَالْعَقَارِ وَنَحْوِهَا ( فَهُوَ لِلرِّجَالِ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ وَمَا فِي يَدِهَا فِي يَدِ الزَّوْجِ ) لِأَنَّهُ قِوَامٌ عَلَيْهَا وَالسُّكْنَى تُضَافُ إلَيْهِ ( وَالْقَوْلُ فِي الدَّعَاوَى لِصَاحِبِ الْيَدِ ) أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ تَنَازَعَ اثْنَانِ فِي شَيْءٍ وَهُوَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ كَذَا هُنَا ( بِخِلَافِ مَا يَخْتَصُّ بِهَا ) أَيْ بِالنِّسَاءِ ( لِأَنَّهُ يُعَارِضُهُ ) أَيْ يُعَارِضُ ظَاهِرَ الزَّوْجِ بِالْيَدِ ( ظَاهِرٌ أَقْوَى مِنْهُ ) وَهُوَ يَدُ الِاخْتِصَاصِ بِالِاسْتِعْمَالِ فَجَعَلْنَا الْقَوْلَ قَوْلَهَا كَالرَّجُلَيْنِ اخْتَلَفَا فِي ثَوْبٍ أَحَدُهُمَا لَابِسُهُ وَالْآخَرُ مُتَعَلِّقٌ بِكُمِّهِ فَإِنَّ اللَّابِسَ أَوْلَى ، كَذَا فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَيَنْدَفِعُ بِهَذَا مَا إذَا اخْتَلَفَا الْعَطَّارُ وَالْإِسْكَافُ فِي آلَاتِ الْأَسَاكِفَةِ وَالْعَطَّارِينَ وَهِيَ فِي أَيْدِيهِمَا فَإِنَّهَا تَكُونُ بَيْنَهُمَا

نِصْفَيْنِ عِنْدَ عُلَمَائِنَا ، وَلَمْ يُرَجَّحْ بِالِاخْتِصَاصِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا هُوَ بِالِاسْتِعْمَالِ ، وَلَمْ نُشَاهِدْ اسْتِعْمَالَ الْأَسَاكِفَةِ وَالْعَطَّارِينَ وَشَاهَدْنَا كَوْنَ هَذِهِ الْآلَاتِ فِي أَيْدِيهِمَا عَلَى السَّوَاءِ فَجَعَلْنَاهَا نِصْفَيْنِ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ كَلَامٌ ، وَهُوَ أَنَّ مُقْتَضَى هَذَا الْفَرْقِ لُزُومُ اسْتِعْمَالِ الزَّوْجِ وَالْمَرْأَةِ مُشَاهَدًا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ، مَعَ أَنَّ الظَّاهِرَ مِمَّا ذُكِرَ فِي هَذَا الْكِتَابِ ، وَفِي سَائِرِ الْمُعْتَبَرَاتِ أَنَّ مُجَرَّدَ الصَّلَاحِيَّةِ لِأَحَدِهِمَا كَافٍ فِي التَّرْجِيحِ وَإِنْ لَمْ نُشَاهِدْ اسْتِعْمَالَهُ ( وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ أَوْ بَعْدَمَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ ) أَيْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِيمَا مَرَّ مِنْ الْجَوَابِ ، ثُمَّ إنَّ مَا ذُكِرَ حُكْمُ الِاخْتِلَافِ قَبْلَ مَوْتِ أَحَدِهِمَا .

( فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا وَاخْتَلَفَتْ وَرَثَتُهُ مَعَ الْآخَرِ فَمَا يَصْلُحُ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَهُوَ لِلْبَاقِي مِنْهُمَا ) لِأَنَّ الْيَدَ لِلْحَيِّ دُونَ الْمَيِّتِ ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَدْفَعُ إلَى الْمَرْأَةِ مَا يُجَهَّزُ بِهِ مِثْلُهَا ، وَالْبَاقِي لِلزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَأْتِي بِالْجِهَازِ وَهَذَا أَقْوَى فَيَبْطُلُ بِهِ ظَاهِرُ يَدِ الزَّوْجِ ، ثُمَّ فِي الْبَاقِي لَا مُعَارِضَ لِظَاهِرٍ فَيُعْتَبَرُ ( وَالطَّلَاقُ وَالْمَوْتُ سَوَاءٌ ) لِقِيَامِ الْوَرَثَةِ مَقَامَ مُوَرِّثِهِمْ ( وَقَالَ مُحَمَّدٌ : وَمَا كَانَ لِلرِّجَالِ فَهُوَ لِلرَّجُلِ ، وَمَا كَانَ لِلنِّسَاءِ فَهُوَ لِلْمَرْأَةِ ، وَمَا يَكُونُ لَهُمَا فَهُوَ لِلرَّجُلِ أَوْ لِوَرَثَتِهِ ) لِمَا قُلْنَا لِأَبِي حَنِيفَةَ ( وَالطَّلَاقُ وَالْمَوْتُ سَوَاءٌ ) لِقِيَامِ الْوَارِثِ مَقَامَ الْمُوَرِّثِ ( وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مَمْلُوكًا فَالْمَتَاعُ لِلْحُرِّ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ ) لِأَنَّ يَدَ الْحُرِّ أَقْوَى ( وَلِلْحَيِّ بَعْدَ الْمَمَاتِ ) لِأَنَّهُ لَا يَدَ لِلْمَيِّتِ فَخَلَتْ يَدُ الْحَيِّ عَنْ الْمُعَارِضِ ( وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَالَا : الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ وَالْمُكَاتَبُ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ ) لِأَنَّ لَهُمَا يَدًا مُعْتَبَرَةً فِي الْخُصُومَاتِ .

( فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا وَاخْتَلَفَتْ وَرَثَتُهُ مَعَ الْآخَرِ فَمَا يَصْلُحُ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَهُوَ لِلْبَاقِي مِنْهُمَا ) أَيُّهُمَا كَانَ ( لِأَنَّ الْيَدَ لِلْحَيِّ دُونَ الْمَيِّتِ ) أَيْ لَا يَدَ لِلْمَيِّتِ ( وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ ) يَعْنِي مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ لَا مِنْ حَيْثُ التَّفْصِيلُ ( قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ ) لِأَنَّ الْمَذْكُورَ مِنْ حَيْثُ التَّفْصِيلُ لَيْسَ قَوْلُهُ خَاصَّةً ، فَإِنَّ كَوْنَ مَا يَصْلُحُ لِلرِّجَالِ فَهُوَ لِلرَّجُلِ وَمَا يَصْلُحُ لِلنِّسَاءِ فَهُوَ لِلْمَرْأَةِ بِالْإِجْمَاعِ فَلَا اخْتِصَاصَ لَهُ بِذَلِكَ ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ ( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَدْفَعُ إلَى الْمَرْأَةِ مَا يُجَهَّزُ بِهِ مِثْلُهَا ) وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو يُوسُفَ فِي الْمُشْكِلِ ، وَأَمَّا فِيمَا يَخْتَصُّ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ فَقَوْلُهُ كَقَوْلِهِمَا مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ مِثْلِهَا ، هَكَذَا ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ وَشُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، وَفِي لَفْظِ الْكِتَابِ نَوْعُ تَخْلِيطٍ حَيْثُ لَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ هَذَا فِيمَا ذُكِرَ قَوْلُهُمَا فِي حَقِّ الْمُشْكِلِ ، وَكَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَقُولَ : وَمَا يَصْلُحُ لَهُمَا كَالْآنِيَةِ فَهُوَ لِلرَّجُلِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَدْفَعُ لِلْمَرْأَةِ مَا يُجَهَّزُ بِهِ مِثْلُهَا ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ ( وَالْبَاقِي ) أَيْ مِنْ الْمُشْكِلِ ( لِلزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَأْتِي بِالْجِهَازِ ) تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ يَدْفَعُ إلَى الْمَرْأَةِ مَا يُجَهَّزُ بِهِ مِثْلُهَا ( وَهَذَا أَقْوَى ) أَيْ هَذَا الظَّاهِرُ ، وَهُوَ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَأْتِي بِالْجِهَازِ ظَاهِرٌ قَوِيٌّ لِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِذَلِكَ ( فَيَبْطُلُ بِهِ ظَاهِرُ يَدِ الزَّوْجِ ) وَهُوَ يَدُهُ ( ثُمَّ فِي الْبَاقِي لَا مُعَارِضَ لِظَاهِرِهِ ) أَيْ لِظَاهِرِ الزَّوْجِ ( فَيُعْتَبَرُ ) وَقَوْلُهُ ثُمَّ فِي الْبَاقِي إلَى هُنَا تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ وَالْبَاقِي لِلزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ ( وَالطَّلَاقُ وَالْمَوْتُ سَوَاءٌ ) أَيْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ( لِقِيَامِ الْوَرَثَةِ مَقَامَ مُوَرِّثِهِمْ ) .
وَقَالَ

مُحَمَّدٌ : مَا كَانَ لِلرِّجَالِ فَهُوَ لِلرَّجُلِ ، وَمَا كَانَ لِلنِّسَاءِ فَهُوَ لِلْمَرْأَةِ ، وَمَا يَكُونُ لَهُمَا فَهُوَ ( لِلرَّجُلِ ) أَيْ إنْ كَانَ حَيًّا ( أَوْ لِوَرَثَتِهِ ) إنْ كَانَ مَيِّتًا ( لِمَا قُلْنَا لِأَبِي حَنِيفَةَ ) مِنْ الدَّلِيلِ وَهُوَ أَنَّ الْمَرْأَةَ وَمَا فِي يَدِهَا فِي يَدِ الزَّوْجِ وَالْقَوْلُ لِصَاحِبِ الْيَدِ ، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحَيَاةِ وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَمَاتِ فَقَوْلُهُ ( وَالطَّلَاقُ وَالْمَوْتُ سَوَاءٌ لِقِيَامِ الْوَارِثِ مَقَامَ الْمُوَرِّثِ ) وَذَكَرَ فِي الْفَوَائِدِ : مُحَمَّدٌ يَقُولُ : وَرَثَةُ الزَّوْجِ يَقُومُونَ مَقَامَ الزَّوْجِ لِأَنَّهُمْ خُلَفَاؤُهُ فِي مَالِهِ ؛ فَكَمَا أَنَّ فِي الْمُشْكِلِ الْقَوْلَ فِي حَيَاتِهِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَمَاتِهِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ وَرَثَتِهِ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ : يَدُ الْبَاقِي مِنْهُمَا إلَى الْمَتَاعِ أَسْبَقُ ، لِأَنَّ الْوَارِثَ إنَّمَا يَثْبُتُ يَدَهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ ، وَكَمَا يَقَعُ التَّرْجِيحُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ بِقُوَّةِ الْيَدِ نَظَرًا إلَى صَلَاحِيَّةِ الِاسْتِعْمَالِ فَكَذَا يَقَعُ التَّرْجِيحُ بِسَبْقِ الْيَدِ لِأَنَّ يَدَ الْبَاقِي مِنْهُمَا يَدُ نَفْسِهِ وَيَدَ الْوَارِثِ خَلَفٌ عَنْ يَدِ الْمُوَرِّثِ ، فَهَذَا نَوْعٌ مِنْ التَّرْجِيحِ فَكَانَ الْمُشْكِلُ لِلْبَاقِي مِنْهُمَا ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ ( وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا ) أَيْ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ ( مَمْلُوكًا ) أَيْ سَوَاءٌ كَانَ مَحْجُورًا أَوْ مَأْذُونًا لَهُ أَوْ مُكَاتَبًا ( فَالْمَتَاعُ لِلْحُرِّ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ لِأَنَّ يَدَ الْحُرِّ أَقْوَى ) لِكَوْنِ الْيَدِ يَدَ نَفْسِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَيَدُ الْمَمْلُوكِ لِغَيْرِهِ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ الْمَوْلَى وَالْأَقْوَى أَوْلَى ، وَلِهَذَا قُلْنَا فِي الْحُرَّيْنِ ، فَمَا يَصْلُحُ لِلرِّجَالِ فَهُوَ لِلرَّجُلِ لِقُوَّةِ يَدِهِ فِيهِ ، وَمَا يَصْلُحُ لِلنِّسَاءِ فَهُوَ لِلْمَرْأَةِ لِذَلِكَ ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ ( وَلِلْحَيِّ بَعْدَ الْمَمَاتِ ) أَيْ وَالْمَتَاعُ لِلْحَيِّ بَعْدَ الْمَمَاتِ حُرًّا كَانَ الْمَيِّتُ أَوْ مَمْلُوكًا ، هَكَذَا وَقَعَ فِي عَامَّةِ نُسَخِ

شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ .
وَقَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ : وَلِلْحُرِّ بَعْدَ الْمَمَاتِ ، ثُمَّ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ : وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ : لِلْحَيِّ مِنْهُمَا وَهُوَ سَهْوٌ ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ .
وَاخْتَارَ الْمُصَنِّفُ مُخْتَارَ الْعَامَّةِ وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( لِأَنَّهُ لَا يَدَ لِلْمَيِّتِ فَخَلَتْ يَدُ الْحَيِّ عَنْ الْمُعَارِضِ ) فَكَانَ الْمَتَاعُ لَهُ ( وَهَذَا ) أَيْ مَا ذُكِرَ مِنْ جَوَابِ الْمَسْأَلَةِ بِلَا فَصْلٍ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالْمَحْجُورِ وَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وَالْمُكَاتَبِ ( عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا : الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ وَالْمُكَاتَبُ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ لِأَنَّ لَهُمَا يَدًا مُعْتَبَرَةً فِي الْخُصُومَاتِ ) وَلِهَذَا لَوْ اخْتَصَمَ الْحُرُّ وَالْمُكَاتَبُ فِي شَيْءٍ هُوَ فِي أَيْدِيهِمَا قَضَى بِهِ بَيْنَهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْيَدِ ، وَلَوْ كَانَ فِي يَدِ ثَالِثٍ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ اسْتَوَيَا فِيهِ ، فَكَمَا لَا يَتَرَجَّحُ الْحُرُّ بِالْحُرِّيَّةِ فِي سَائِرِ الْخُصُومَاتِ فَكَذَا فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْيَدَ عَلَى مَتَاعِ الْبَيْتِ بِاعْتِبَارِ السُّكْنَى فِيهِ ، وَالْحُرُّ فِي السُّكْنَى أَصْلٌ دُونَ الْمَمْلُوكِ فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ .

( فَصْلٌ فِيمَنْ لَا يَكُونُ خَصْمًا ) .
( وَإِنْ قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هَذَا الشَّيْءُ أَوْدَعَنِيهِ فُلَانٌ الْغَائِبُ أَوْ رَهَنَهُ عِنْدِي أَوْ غَصَبْتُهُ مِنْهُ وَأَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى ذَلِكَ فَلَا خُصُومَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُدَّعِي ) وَكَذَا إذَا قَالَ : آجَرَنِيهِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ بِبَيِّنَتِهِ أَنَّ يَدَهُ لَيْسَتْ بِيَدِ خُصُومَةٍ .
وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ : لَا تَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ إثْبَاتُ الْمِلْكِ لِلْغَائِبِ لِعَدَمِ الْخَصْمِ عَنْهُ وَدَفْعِ الْخُصُومَةِ بِنَاءً عَلَيْهِ .
قُلْنَا : مُقْتَضَى الْبَيِّنَةِ شَيْئَانِ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْغَائِبِ وَلَا خَصْمَ فِيهِ فَلَمْ يَثْبُتْ ، وَدَفْعُ خُصُومَةِ الْمُدَّعِي وَهُوَ خَصْمٌ فِيهِ فَيَثْبُتُ وَهُوَ كَالْوَكِيلِ بِنَقْلِ الْمَرْأَةِ وَإِقَامَتِهَا الْبَيِّنَةَ عَلَى الطَّلَاقِ كَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ ، وَلَا تَنْدَفِعُ بِدُونِ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى لِأَنَّهُ صَارَ خَصْمًا بِظَاهِرِ يَدِهِ ، فَهُوَ بِإِقْرَارِهِ يُرِيدُ أَنْ يُحَوِّلَ حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَى نَفْسِهِ فَلَا يَصْدُقُ إلَّا بِالْحُجَّةِ ، كَمَا إذَا ادَّعَى تَحَوُّلَ الدَّيْنِ مِنْ ذِمَّتِهِ إلَى ذِمَّةِ غَيْرِهِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : إنْ كَانَ الرَّجُلُ صَالِحًا فَالْجَوَابُ كَمَا قُلْنَاهُ ، وَإِنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالْحِيَلِ لَا تَنْدَفِعُ عَنْهُ الْخُصُومَةُ لِأَنَّ الْمُحْتَالَ مِنْ النَّاسِ قَدْ يَدْفَعُ مَالَهُ إلَى مُسَافِرٍ يُودِعُهُ إيَّاهُ وَيَشْهَدُ عَلَيْهِ الشُّهُودُ فَيَحْتَالُ لِإِبْطَالِ حَقِّ غَيْرِهِ ، فَإِذَا اتَّهَمَهُ الْقَاضِي بِهِ لَا يَقْبَلُهُ .
( وَلَوْ قَالَ الشُّهُودُ : أَوْدَعَهُ رَجُلٌ لَا نَعْرِفُهُ لَا تَنْدَفِعُ عَنْهُ الْخُصُومَةُ ) لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمُودِعُ هُوَ هَذَا الْمُدَّعِي ، وَلِأَنَّهُ مَا أَحَالَهُ إلَى مُعَيَّنٍ يُمْكِنُ لِلْمُدَّعِي اتِّبَاعُهُ ، فَلَوْ انْدَفَعَتْ لَتَضَرَّرَ بِهِ الْمُدَّعِي ، وَلَوْ قَالُوا نَعْرِفُهُ بِوَجْهِهِ وَلَا نَعْرِفُهُ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِلْوَجْهِ الثَّانِي ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ

تَنْدَفِعُ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ بِبَيِّنَتِهِ أَنَّ الْعَيْنَ وَصَلَ إلَيْهِ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ حَيْثُ عَرَفَهُ الشُّهُودُ بِوَجْهِهِ ، بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فَلَمْ تَكُنْ يَدُهُ يَدَ خُصُومَةٍ وَهُوَ الْمَقْصُودُ ، وَالْمُدَّعِي هُوَ الَّذِي أَضَرَّ بِنَفْسِهِ حَيْثُ نَسِيَ خَصْمَهُ أَوْ أَضَرَّهُ شُهُودُهُ ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُخَمَّسَةُ كِتَابِ الدَّعْوَى وَقَدْ ذَكَرْنَا الْأَقْوَالَ الْخَمْسَةَ .

.
( فَصْلٌ فِيمَنْ لَا يَكُونُ خَصْمًا ) .
لَمَّا ذَكَرَ أَحْكَامَ مَنْ يَكُونُ خَصْمًا شَرَعَ فِي بَيَانِ مَنْ لَا يَكُونُ خَصْمًا لِمُنَاسِبَةِ الْمُضَادَّةِ بَيْنَهُمَا ، وَقَدَّمَ الْأَوَّلَ لِكَوْنِ ذِكْرِهِ الْعُمْدَةَ فِي الْمَقَامِ لِأَنَّ الْكِتَابَ كِتَابُ الدَّعْوَى وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ الْخُصُومَةِ ، وَأَمَّا ذِكْرُ الثَّانِي فَلْيَتَّضِحْ بِهِ الْأَوَّلُ ، إذْ الْأَشْيَاءُ تَتَبَيَّنُ بِأَضْدَادِهَا فَإِنْ قِيلَ : الْفَصْلُ مُشْتَمِلٌ عَلَى ذِكْرِ مَنْ يَكُونُ خَصْمًا أَيْضًا .
قُلْنَا : نَعَمْ ، لَكِنْ مِنْ حَيْثُ الْفَرْقُ لَا مِنْ حَيْثُ الْقَصْدُ الْأَصْلِيُّ ( وَإِنْ قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ : هَذَا الشَّيْءُ أَوْدَعَنِيهِ فُلَانٌ الْغَائِبُ أَوْ رَهَنَهُ عِنْدِي أَوْ غَصَبْتُهُ مِنْهُ وَأَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى ذَلِكَ فَلَا خُصُومَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُدَّعِي ) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ : يَعْنِي إذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَيْنًا فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهُ مِلْكُهُ فَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الَّذِي هُوَ ذُو الْيَدِ : هَذَا الشَّيْءُ أَوْدَعَنِيهِ فُلَانٌ الْغَائِبُ أَوْ رَهَنَهُ عِنْدِي أَوْ غَصَبْتُهُ مِنْهُ وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً فَلَا خُصُومَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُدَّعِي .
قَالَ الْمُصَنِّفُ : ( وَكَذَا إذَا قَالَ : آجَرَنِيهِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ ) أَيْ إذَا قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ : آجَرَنِيهِ فُلَانٌ الْغَائِبُ وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً فَلَا خُصُومَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُدَّعِي أَيْضًا .
وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ : وَكَذَا إذَا قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ : إنَّهُ عَارِيَّةٌ عِنْدِي أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ، كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ انْتَهَى ( لِأَنَّهُ أَثْبَتَ بِبَيِّنَتَهُ أَنَّ يَدَهُ لَيْسَتْ بِيَدِ خُصُومَةٍ ) تَعْلِيلٌ لِمَجْمُوعِ الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ : يَعْنِي أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَثْبَتَ بِبَيِّنَتَهُ أَنَّ يَدَهُ لَيْسَتْ بِيَدِ خُصُومَةٍ ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ لَيْسَ بِخَصْمٍ .
قَالَ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ فِي التَّبْيِينِ بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا الدَّلِيلِ : فَصَارَ كَمَا إذَا أَقَرَّ الْمُدَّعِي بِذَلِكَ أَوْ أَثْبَتَ ذُو الْيَدِ إقْرَارَهُ بِهِ ، ثُمَّ قَالَ : وَالشَّرْطُ

إثْبَاتُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ دُونَ الْمِلْكِ ، حَتَّى لَوْ شَهِدُوا بِالْمِلْكِ لِلْغَائِبِ دُونَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَمْ تَنْدَفِعْ الْخُصُومَةُ وَبِالْعَكْسِ تَنْدَفِعُ انْتَهَى ( وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ : لَا تَنْدَفِعُ ) أَيْ الْخُصُومَةُ وَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا قَالَ ( لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ إثْبَاتُ الْمِلْكِ لِلْغَائِبِ لِعَدَمِ الْخَصْمِ عَنْهُ ) أَيْ عَنْ الْغَائِبِ لِأَنَّ الْغَائِبَ لَمْ يُوَكِّلْهُ بِإِثْبَاتِ الْمِلْكِ لَهُ : يَعْنِي أَنَّ ذَا الْيَدِ أَثْبَتَ بِبَيِّنَتَهُ الْمِلْكَ لِلْغَائِبِ وَإِثْبَاتُ الْمِلْكِ لِلْغَائِبِ بِدُونِ خَصْمٍ عَنْهُ مُتَعَذَّرٌ ، إذْ لَا وِلَايَةَ لِأَحَدٍ فِي إدْخَالِ الشَّيْءِ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِلَا رِضَاهُ ( وَدَفْعُ الْخُصُومَةِ بِنَاءً عَلَيْهِ ) أَيْ عَلَى إثْبَاتِ الْمِلْكِ وَالْبِنَاءُ عَلَى الْمُتَعَذَّرِ مُتَعَذَّرٌ .
( قُلْنَا ) أَيْ الْجَوَابُ عَمَّا قَالَهُ ابْنُ شُبْرُمَةَ ( مُقْتَضَى الْبَيِّنَةِ شَيْئَانِ ) : أَحَدُهُمَا ( ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْغَائِبِ وَلَا خَصْمَ فِيهِ فَلَمْ يَثْبُتْ وَ ) ثَانِيهِمَا ( دَفْعُ خُصُومَةِ الْمُدَّعِي وَهُوَ ) أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ( خَصْمٌ فِيهِ فَيَثْبُتُ ) أَيْ فَيَثْبُتُ دَفْعُ الْخُصُومَةِ فِي حَقِّهِ ، وَبِنَاءُ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ مَمْنُوعٌ لِانْفِكَاكِهِ عَنْهُ ، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( وَهُوَ كَالْوَكِيلِ بِنَقْلِ الْمَرْأَةِ ) أَيْ إلَى زَوْجِهَا ( وَإِقَامَتُهَا ) عُطِفَ عَلَى الْوَكِيلِ أَيْ وَإِقَامَةُ الْمَرْأَةِ ( الْبَيِّنَةَ عَلَى الطَّلَاقِ ) يَعْنِي أَنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ نَظِيرُ مَا إذَا وَكَّلَ وَكِيلًا بِنَقْلِ امْرَأَتِهِ إلَيْهِ فَأَقَامَتْ الْمَرْأَةُ بَيِّنَةً أَنَّ الزَّوْجَ طَلَّقَهَا فَإِنَّ بَيِّنَتَهَا تُقْبَلُ لِقَصْرِ يَدِ الْوَكِيلِ عَنْهَا ، وَلَا تُقْبَلُ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ مَا لَمْ يَحْضُرْ الْغَائِبُ ( كَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ ) أَيْ فِي بَابِ الْوَكَالَةِ بِالْخُصُومَةِ وَالْقَبْضِ ، فَكَذَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ لِدَفْعِ خُصُومَةِ الْمُدَّعِي عَنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَلَا تُقْبَلُ فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ لِلْغَائِبِ ، وَهَذَا لِأَنَّ مَقْصُودَ الْمُدَّعَى

عَلَيْهِ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ لَيْسَ إثْبَاتَ الْمِلْكِ لِلْغَائِبِ ، إنَّمَا مَقْصُودٌ بِهَا إثْبَاتُ أَنَّ يَدَهُ يَدُ حِفْظٍ لَا يَدُ خُصُومَةٍ ، وَفِي هَذَا الْمُدَّعِي خَصْمٌ لَهُ فَيُجْعَلُ إثْبَاتُهُ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِ خَصْمِهِ بِذَلِكَ ( وَلَا تَنْدَفِعُ ) أَيْ الْخُصُومَةُ ( بِدُونِ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ كَمَا قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى ) فَإِنَّهُ قَالَ بِانْدِفَاعِهَا بِمُجَرَّدِ إقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِلْغَائِبِ بِدُونِ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ .
وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ ذَا الْيَدِ أَقَرَّ بِالْمِلْكِ لِغَيْرِهِ وَالْإِقْرَارُ يُوجِبُ الْحَقَّ بِنَفْسِهِ لِخُلُوِّهِ عَنْ التُّهْمَةِ ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ يَدَهُ يَدُ حِفْظٍ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْبَيِّنَةِ .
وَوَجْهُ الْجَوَابِ عَنْهُ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ ذَا الْيَدِ ( صَارَ خَصْمًا بِظَاهِرِ يَدِهِ ) وَلِهَذَا كَانَ لِلْقَاضِي إحْضَارُهُ وَتَكْلِيفُهُ بِالْجَوَابِ ( فَهُوَ بِإِقْرَارِهِ يُرِيدُ أَنْ يُحَوِّلَ حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَى نَفْسِهِ ) فَهُوَ مُتَّهَمٌ فِي إقْرَارِهِ ( فَلَا يُصَدَّقُ إلَّا بِحُجَّةٍ كَمَا إذَا ادَّعَى تَحَوُّلَ الدَّيْنِ مِنْ ذِمَّتِهِ إلَى ذِمَّةِ غَيْرِهِ ) بِالْحَوَالَةِ فَإِنَّهُ لَا يَصْدُقُ هُنَاكَ فَكَذَا هُنَا .
لَا يُقَالُ : يَلْزَمُ إثْبَاتُ إقْرَارِ نَفْسِهِ بِبَيِّنَتِهِ وَهُوَ غَيْرُ مَعْهُودٍ فِي الشَّرْعِ لِأَنَّا نَقُولُ الْبَيِّنَةُ لِإِثْبَاتِ الْيَدِ الْحَافِظَةِ الَّتِي أَنْكَرَهَا الْمُدَّعِي لَا لِإِثْبَاتِ الْإِقْرَارِ ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ ، وَاسْتَشْكَلَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ قَوْلَهُ فِي السُّؤَالِ وَهُوَ غَيْرُ مَعْهُودٍ فِي الشَّرْعِ حَيْثُ قَالَ : قَدْ سَبَقَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الدَّعْوَى أَنَّ الْيَدَ لَا تَثْبُتُ فِي الْعَقَارِ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ ، وَلَا يُعْتَبَرُ إقْرَارُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْيَدِ انْتَهَى .
وَأَقُولُ : هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ ، إذْ لَيْسَ مُرَادُ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ أَنَّ عَدَمَ اعْتِبَارِ إقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَمْ يُعْهَدْ فِي الشَّرْعِ .
كَيْفَ وَلَا يَخْفَى عَلَى مِثْلِهِ أَنَّ عَدَمَ اعْتِبَارِ ذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الْمَسَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ لِعِلَلٍ شَتَّى

، كَعَدَمِ اعْتِبَارِ إقْرَارِ الْمَرِيضِ لِلْوَارِثِ ، وَعَدَمِ اعْتِبَارِ إقْرَارِهِ بِعَيْنٍ فِي يَدِهِ لِآخَرَ فِي حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ ، وَكَعَدِمِ اعْتِبَارِ إقْرَارِ غَيْرِ الْوَالِدَيْنِ كَالْأَخِ وَالْعَمِّ ، وَكَعَدِمِ اعْتِبَارِ إقْرَارِ الْمَرْأَةِ بِالْوَلَدِ أَيْضًا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُ أَنَّ إثْبَاتَ إقْرَارِ نَفْسِهِ بِالْبَيِّنَةِ لَمْ يُعْهَدْ فِي الشَّرْعِ وَلَيْسَ فِيمَا ذُكِرَ مِنْ صُورَةِ دَعْوَى الْعَقَارِ إثْبَاتُ الْمُقِرِّ نَفْسَهُ بِالْبَيِّنَةِ لِأَنَّ إثْبَاتَ الْيَدِ بِالْبَيِّنَةِ فِي دَعْوَى الْعَقَارِ إنَّمَا يَجِبُ عَلَى الْمُدَّعِي لَا عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الَّذِي هُوَ الْمُقِرُّ ( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ آخِرًا : إنْ كَانَ الرَّجُلُ صَالِحًا فَالْجَوَابُ ) أَيْ جَوَابُ الْمَسْأَلَةِ ( كَمَا قُلْنَاهُ ) أَيْ تَنْدَفِعُ عَنْهُ الْخُصُومَةُ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ ( وَإِنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالْحِيَلِ لَا تَنْدَفِعُ عَنْهُ الْخُصُومَةُ ) وَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ كَمَا قَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ ( لِأَنَّ الْمُحْتَالَ مِنْ النَّاسِ قَدْ يَدْفَعُ مَالَهُ ) سِرًّا ( إلَى مُسَافِرٍ يُودِعُهُ إيَّاهُ وَيَشْهَدُ عَلَيْهِ الشُّهُودُ ) عَلَانِيَةً ( فَيَحْتَالُ لِإِبْطَالِ حَقِّ غَيْرِهِ ) أَيْ يَكُونُ مَقْصُودُهُ مِنْ ذَلِكَ الْإِضْرَارَ بِالْمُدَّعِي لِيَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ إثْبَاتُ حَقِّهِ بِالْبَيِّنَةِ ( فَإِذَا اتَّهَمَهُ الْقَاضِي بِهِ ) أَيْ بِالِاحْتِيَالِ ( لَا يَقْبَلُهُ ) أَيْ أَيْ لَا يَقْبَلُ مَا صَنَعَهُ .
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ فِي مَبْسُوطِهِ : مَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو يُوسُفَ اسْتِحْسَانٌ ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْدَمَا اُبْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ لِأَنَّهُ مَارَسَ الْقَضَاءَ فَوَقَفَ عَلَى أَحْوَالِ النَّاسِ مَا لَمْ يَعْرِفْهُ غَيْرُهُ ، وَمَا قَالَاهُ قِيَاسٌ لِأَنَّ الْبَيِّنَاتِ حِجَجٌ مَتَى قَامَتْ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا وَلَا يَجُوزُ إبْطَالُهَا بِمُجَرَّدِ الْوَهْمِ ، كَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَتْ الْعَيْنُ قَائِمَةً فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ هَذَا الشَّيْءُ أَوْدَعَنِيهِ ،

فَإِنَّ الْإِشَارَةَ الْحِسِّيَّةَ لَا تَكُونُ إلَّا إلَى مَوْجُودٍ فِي الْخَارِجِ ، وَأَمَّا إذَا هَلَكَتْ فَلَا تَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ وَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ لِأَنَّهُ إذَا كَانَتْ قَائِمَةً فَذُو الْيَدِ يَنْتَصِبُ خَصْمًا بِظَاهِرِ الْيَدِ لِأَنَّهُ دَلِيلُ الْمِلْكِ ، إلَّا أَنَّهُ يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ فَيَنْدَفِعُ عَنْهُ الْخُصُومَةُ بِالْحُجَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمُحْتَمَلِ ، وَأَمَّا إذَا هَلَكَتْ فَالدَّعْوَى تَقَعُ فِي الدَّيْنِ وَمَحَلُّهُ الذِّمَّةُ فَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَنْتَصِبُ خَصْمًا لِلْمُدَّعِي بِذِمَّتِهِ وَبِمَا أَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ الْبَيِّنَةِ ، وَعَلَى أَنَّ الْعَيْنَ كَانَتْ فِي يَدِهِ وَدِيعَةٌ لَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ ذِمَّتَهُ كَانَتْ لِغَيْرِهِ فَلَا تَتَحَوَّلُ عَنْهُ الْخُصُومَةُ ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَكَثِيرٍ فِي الشُّرُوحِ .
ثُمَّ إنَّ الَّذِي ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ إذَا قَالَ الشُّهُودُ : أَوْدَعَهُ رَجُلٌ نَعْرِفُهُ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ وَوَجْهِهِ ( وَلَوْ قَالَ الشُّهُودُ : أَوْدَعَهُ رَجُلٌ لَا نَعْرِفُهُ ) أَيْ أَصْلًا بِاسْمِهِ وَلَا نَسَبِهِ وَلَا بِوَجْهِهِ ( وَلَا تَنْدَفِعُ عَنْهُ الْخُصُومَةُ ) أَيْ بِالْإِجْمَاعِ ، كَذَا فِي الْكَافِي وَالشُّرُوحِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُمْ بِالْإِجْمَاعِ هَاهُنَا إجْمَاعُ أَئِمَّتِنَا الثَّلَاثَةِ أَوْ إجْمَاعُ مَا عَدَا ابْنَ أَبِي لَيْلَى ، فَإِنَّ شَهَادَةَ الشُّهُودِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ عِنْدَهُ فِي انْدِفَاعِ الْخُصُومَةِ كَمَا مَرَّ ، قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ الْمَسْأَلَةِ ( لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمُودِعُ هُوَ هَذَا الْمُدَّعِي ) حَيْثُ لَمْ يَعْرِفُوهُ ( وَلِأَنَّهُ ) أَيْ ذَا الْيَدِ ( مَا أَحَالَهُ ) أَيْ مَا أَحَالَ الْمُدَّعِي ( إلَى مُعَيَّنٍ يُمْكِنُ لِلْمُدَّعِي اتِّبَاعُهُ ، فَلَوْ انْدَفَعَتْ ) أَيْ الْخُصُومَةُ ( وَلَتَضَرَّرَ بِهِ الْمُدَّعِي ) أَقُولُ : فِي تَعْلِيلِهِ الثَّانِي قُصُورٌ : أَمَّا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ فَلِأَنَّهُ أَضْمَرَ فِيهِ الْمُدَّعِي أَوَّلًا حَيْثُ قَالَ مَا أَحَالَهُ وَأَظْهَرَهُ ثَانِيًا حَيْثُ قَالَ : يُمْكِنُ لِلْمُدَّعِي اتِّبَاعُهُ .
وَلَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِأَسَالِيبِ الْكَلَامِ

سَمَاجَةُ ذَلِكَ ، وَكَوْنُ الْوَجْهِ إمَّا الْعَكْسُ وَإِمَّا الْإِضْمَارُ فِي الْمَقَامَيْنِ .
وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَلِأَنَّهُ جَعَلَهُ دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا عَلَى الْمَسْأَلَةِ الْإِجْمَاعِيَّةِ ، مَعَ أَنَّهُ مَنْقُوضٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ بِالْمَسْأَلَةِ الْآتِيَةِ وَهِيَ مَا لَوْ قَالَ الشُّهُودُ : نَعْرِفُهُ بِوَجْهِهِ وَلَا نَعْرِفُهُ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ ، فَإِنَّ الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ يَتَخَلَّفُ عَنْهُ هُنَاكَ عِنْدَهُمَا كَمَا سَيَظْهَرُ ، وَكَأَنَّ الْإِمَامَ الزَّيْلَعِيَّ تَنَبَّهْ لِهَذَا فَجَعَلَ الدَّلِيلَيْنِ دَلِيلًا وَاحِدًا حَيْثُ قَالَ فِي تَعْلِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي التَّبْيِينِ : لِأَنَّهُمْ مَا أَحَالُوا الْمُدَّعِيَ عَلَى رَجُلٍ مَعْرُوفٍ يُمْكِنُ مُخَاصَمَتُهُ ، وَلَعَلَّ الْمُدَّعِيَ هُوَ ذَلِكَ الرَّجُلُ ، فَلَوْ انْدَفَعَتْ لَبَطَلَ حَقُّهُ انْتَهَى .
ثُمَّ إنَّ الظَّاهِرَ كَأَنْ يَقُولَ الْمُصَنِّفُ أَيْضًا لِأَنَّهُمْ مَا أَحَالُوهُ بَدَلَ قَوْلِهِ لِأَنَّهُ مَا أَحَالَهُ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ فِي أَنْ لَا يَعْرِفَهُ الشُّهُودُ لَا فِي أَنْ لَا يَعْرِفَهُ ذُو الْيَدِ كَمَا لَا يَخْفَى .
وَتَوْجِيهُ مَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ أَنَّ شَهَادَةَ الشُّهُودِ لَمَّا كَانَتْ لِأَجْلِ ذِي الْيَدِ نُسِبَ حَالُهُمْ إلَيْهِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ الْبَارِزُ فِي قَوْلِهِ لِأَنَّهُ وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ مَا أَحَالَهُ رَاجِعَيْنِ إلَى الشُّهُودِ بِتَأْوِيلِ مَنْ شَهِدَ ( وَلَوْ قَالَ ) أَيْ الشُّهُودُ : ( نَعْرِفُهُ ) أَيْ الرَّجُلَ الَّذِي أَوْدَعَهُ ( بِوَجْهِهِ وَلَا نَعْرِفُهُ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ ، فَكَذَا الْجَوَابُ ) أَيْ جَوَابُ الْمَسْأَلَةِ ( عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِلْوَجْهِ الثَّانِي ) وَهُوَ قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ مَا أَحَالَهُ عَلَى مُعَيَّنٍ إلَخْ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ : أَوْدَعَهُ رَجُلٌ لَا نَعْرِفُهُ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ بِالْوَجْهِ لَيْسَتْ بِمَعْرِفَةٍ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ : تَعْرِفُ فُلَانًا ؟ قَالَ : نَعَمْ ، فَقَالَ : هَلْ تَعْرِفُ اسْمَهُ وَنَسَبَهُ ؟ فَقَالَ : لَا ،

فَقَالَ : إذًا لَا تَعْرِفُهُ } وَمَنْ حَلَفَ لَا يَعْرِفُ فُلَانًا وَهُوَ يَعْرِفُ وَجْهَهُ وَلَا يَعْرِفُ اسْمَهُ وَنَسَبَهُ لَا يَحْنَثُ ، كَذَا فِي الْكَافِي وَالشُّرُوحِ ( وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَنْدَفِعُ لِأَنَّهُ ) أَيْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ( وَأَثْبَتَ بَيِّنَتَهُ أَنَّ الْعَيْنَ وَصَلَ إلَيْهِ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ ) أَيْ غَيْرِ الْمُدَّعِي ( حَيْثُ عَرَفَهُ الشُّهُودُ بِوَجْهِهِ ) فَحَصَلَ الْعِلْمُ بِيَقِينٍ أَنَّ الْمُودِعَ غَيْرُ هَذَا الْمُدَّعِي ( بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ ) وَهُوَ مَا إذَا قَالَ الشُّهُودُ : أَوْدَعَهُ رَجُلٌ لَا نَعْرِفُهُ أَصْلًا ( فَلَمْ تَكُنْ يَدُهُ ) أَيْ لَمْ تَكُنْ يَدُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي ( يَدَ خُصُومَةٍ ) لِعَدَمِ كَوْنِهَا يَدَ مِلْكٍ بَلْ يَدَ حِفْظٍ ( وَهُوَ الْمَقْصُودُ ) أَيْ لَا تَكُونُ يَدُهُ يَدَ خُصُومَةٍ بَلْ يَدَ حِفْظٍ هُوَ مَقْصُودُهُ .
وَقَدْ أَفَادَتْهُ الشَّهَادَةُ ، وَالْحَدِيثُ الْمَارُّ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْمَعْرِفَةِ التَّامَّةِ ، وَلَيْسَ عَلَى ذِي الْيَدِ تَعْرِيفُ خَصْمِ الْمُدَّعِي تَعْرِيفًا تَامًّا ، إنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يُثْبِتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِخَصْمٍ وَقَدْ ثَبَتَ ( وَالْمُدَّعِي هُوَ الَّذِي أَضَرَّ بِنَفْسِهِ حَيْثُ نَسِيَ خَصْمَهُ أَوْ أَضَرَّهُ شُهُودُهُ ) أَيْ شُهُودُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَهُوَ ذُو الْيَدِ ، وَهَذَا جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ مُحَمَّدٍ فَلَوْ انْدَفَعَتْ الْخُصُومَةُ لَتَضَرَّرَ بِهِ الْمُدَّعِي ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الضَّرَرَ اللَّاحِقَ بِالْمُدَّعِي إنَّمَا لَحِقَهُ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ حَيْثُ نَسِيَ خَصْمَهُ ، أَوْ مِنْ جِهَةِ شُهُودِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا مِنْ جِهَةِ ذِي الْيَدِ ( وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُخَمَّسَةُ كِتَابِ الدَّعْوَى ) أَيْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ بَيْنِ مَسَائِلِ الدَّعْوَى تُسَمَّى مُخَمَّسَةَ كِتَابٍ الدَّعْوَى ، إمَّا لِأَنَّ فِيهَا خَمْسَةَ أَقْوَالٍ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( وَذَكَرْنَا الْأَقْوَالَ الْخَمْسَةَ ) وَهِيَ قَوْلُ ابْنِ شُبْرُمَةَ ، وَقَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى ، وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ ، وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ ، وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ ؛ وَإِمَّا لِأَنَّ فِيهَا خَمْسَ صُوَرٍ

وَهِيَ : الْإِيدَاعُ ، وَالْإِعَارَةُ ، وَالْإِجَارَةُ ، وَالرَّهْنُ ، وَالْغَصْبُ كَمَا ذَكَرُوهُ أَيْضًا

( وَإِنْ قَالَ : ابْتَعْتُهُ مِنْ الْغَائِبِ فَهُوَ خَصْمٌ ) لِأَنَّهُ لَمَّا زَعَمَ أَنَّ يَدَهُ يَدُ مِلْكٍ اعْتَرَفَ بِكَوْنِهِ خَصْمًا ( وَإِنْ قَالَ الْمُدَّعِي : غَصَبْتَهُ مِنِّي أَوْ سَرَقْتَهُ مِنِّي لَا تَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ وَإِنْ أَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْوَدِيعَةِ ) لِأَنَّهُ إنَّمَا صَارَ خَصْمًا بِدَعْوَى الْفِعْلِ عَلَيْهِ لَا بِيَدِهِ ، بِخِلَافِ دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ لِأَنَّهُ خَصْمٌ فِيهِ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ حَتَّى لَا يَصِحَّ دَعْوَاهُ عَلَى غَيْرِ ذِي الْيَدِ وَيَصِحُّ دَعْوَى الْفِعْلِ .

.
( وَإِنْ قَالَ : ابْتَعْتُهُ مِنْ الْغَائِبِ فَهُوَ خَصْمٌ ) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ : يَعْنِي إنْ قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ اشْتَرَيْت هَذَا الشَّيْءَ مِنْ الْغَائِبِ فَهُوَ خَصْمٌ لِلْمُدَّعِي ( لِأَنَّهُ ) أَيْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ( لَمَّا زَعَمَ أَنَّ يَدَهُ يَدُ مِلْكٍ اعْتَرَفَ بِكَوْنِهِ خَصْمًا ) كَمَا لَوْ ادَّعَى مِلْكًا مُطْلَقًا ( وَإِنْ قَالَ الْمُدَّعِي غَصَبْتَهُ مِنِّي ) أَيْ غَصَبْتَ هَذَا الشَّيْءَ مِنِّي ( أَوْ سَرَقْتَهُ مِنِّي لَا تَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ وَإِنْ أَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْوَدِيعَةِ ، لِأَنَّهُ ) أَيْ لِأَنَّ ذَا الْيَدِ ( إنَّمَا صَارَ خَصْمًا بِدَعْوَى الْفِعْلِ عَلَيْهِ ) أَيْ بِدَعْوَى الْمُدَّعِي الْفِعْلَ وَهُوَ الْغَصْبُ أَوْ السَّرِقَةُ عَلَى ذِي الْيَدِ ( لَا بِيَدِهِ ) أَيْ لَمْ يَصِرْ ذُو الْيَدِ فِي دَعْوَى الْفِعْلِ خَصْمًا بِيَدِهِ .
ثُمَّ إنَّ فِعْلَ ذِي الْيَدِ لَا يَتَرَدَّدُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلِغَيْرِهِ حَتَّى يُقَالَ : إنَّهُ أَثْبَتَ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّ فِعْلَهُ فِعْلُ غَيْرِهِ بَلْ فِعْلُهُ مَقْصُورٌ عَلَيْهِ ( بِخِلَافِ دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ لِأَنَّهُ ) أَيْ ذَا الْيَدِ ( خَصْمٌ فِيهِ ) أَيْ فِي دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ بِتَأْوِيلِ الِادِّعَاءِ ( بِاعْتِبَارِ يَدِهِ حَتَّى لَا تَصِحَّ دَعْوَاهُ ) أَيْ دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ ( عَلَى غَيْرِ ذِي الْيَدِ ) وَيَدُهُ مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ لَهُ فَيَكُونَ خَصْمًا وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِ فَلَا يَكُونَ خَصْمًا ، وَبِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ أَثْبَتَ أَنَّ يَدَهُ لِغَيْرِهِ فَلَا يَكُونُ خَصْمًا ( وَيَصِحُّ دَعْوَى الْفِعْلِ ) أَيْ يَصِحُّ دَعْوَى الْفِعْلِ عَلَى غَيْرِ ذِي الْيَدِ كَمَا يَصِحُّ دَعْوَاهُ عَلَى ذِي الْيَدِ .

( وَإِنْ قَالَ الْمُدَّعِي : سَرَقَ مِنِّي وَقَالَ صَاحِبُ الْيَدِ : أَوْدَعَنِيهِ فُلَانٌ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ لَمْ تَنْدَفِعْ الْخُصُومَةُ ) وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ : تَنْدَفِعُ لِأَنَّهُ لَمْ يَدَّعِ الْفِعْلَ عَلَيْهِ فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ : غُصِبَ مِنِّي عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ .
وَلَهُمَا أَنَّ ذِكْرَ الْفِعْلِ يَسْتَدْعِي الْفَاعِلَ لَا مَحَالَةَ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي فِي يَدِهِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْهُ دَرْءًا لِلْحَدِّ شَفَقَةً عَلَيْهِ وَإِقَامَةً لِحِسْبَةِ السِّرِّ فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ : سَرَقْت ، بِخِلَافِ الْغَصْبِ لِأَنَّهُ لَا حَدَّ فِيهِ فَلَا يُحْتَرَزُ عَنْ كَشْفِهِ

( وَإِنْ قَالَ الْمُدَّعِي سُرِقَ مِنِّي ) أَيْ إنْ قَالَ الْمُدَّعِي سُرِقَ مِنِّي هَذَا الشَّيْءُ عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ ( وَقَالَ صَاحِبُ الْيَدِ : أَوْدَعَنِيهِ فُلَانٌ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ ) أَيْ عَلَى أَنَّ فُلَانًا أَوْدَعَنِيهِ إيَّاهُ ( لَمْ تَنْدَفِعْ الْخُصُومَةُ ) هَذَا أَيْضًا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ : ( وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : تَنْدَفِعُ ) أَيْ الْخُصُومَةُ وَهُوَ الْقِيَاسُ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ الْمُدَّعِي ( لَمْ يَدَّعِ الْفِعْلَ عَلَيْهِ ) أَيْ عَلَى ذِي الْيَدِ ( فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ ) أَيْ الْمُدَّعِي ( غُصِبَ مِنِّي عَلَى مَا لَمْ يُسَمِّ فَاعِلَهُ ) يَعْنِي أَنَّ التَّجْهِيلَ أَفْسَدَ دَعْوَى السَّرِقَةِ فَبَقِيَ دَعْوَى الْمِلْكِ فَتَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ بِإِثْبَاتِ الْوَدِيعَةِ ، كَمَا لَوْ جَهِلَ الْغَصْبَ وَقَالَ : غُصِبَ مِنِّي عَلَى مَا لَمْ يُسَمِّ فَاعِلَهُ وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْوَدِيعَةِ مِنْ آخَرَ فَإِنَّهُ تَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ هُنَاكَ فَكَذَا هُنَا ، كَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ ( وَلَهُمَا ) أَيْ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ( أَنَّ ذِكْرَ الْفِعْلِ ) وَهُوَ السَّرِقَةُ ( يَسْتَدْعِي الْفِعْلَ لَا مَحَالَةَ ) لِأَنَّ الْفِعْلَ بِدُونِ الْفَاعِلِ لَا يُتَصَوَّرُ ( وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ ) أَيْ الْفَاعِلُ ( وَهُوَ الَّذِي فِي يَدِهِ إلَّا أَنَّهُ ) أَيْ الْمُدَّعِي ( لَمْ يُعَيِّنْهُ ) أَيْ لَمْ يُعَيِّنْ الْفَاعِلَ ( دَرْءًا لِلْحَدِّ شَفَقَةً عَلَيْهِ ) أَيْ عَلَى ذِي الْيَدِ ( وَإِقَامَةً لِحِسْبَةِ السِّتْرِ ) أَيْ لَأَجْلِ السِّتْرِ .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : فَإِنْ قِيلَ : إذَا لَمْ تَنْدَفِعْ الْخُصُومَةُ فَرُبَّمَا يَقْضِي بِالْعَيْنِ عَلَيْهِ وَفِي ذَلِكَ جَعَلَهُ سَارِقًا فَمَا وَجْهُ الدَّرْءِ حِينَئِذٍ ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ وَجْهَهُ أَنَّهُ إذَا جُعِلَ خَصْمًا وَقَضَى عَلَيْهِ بِتَسْلِيمِ الْعَيْنِ إلَى الْمُدَّعِي ، وَإِنْ ظَهَرَ سَرِقَتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِيَقِينٍ لَمْ تُقْطَعْ يَدُهُ لِظُهُورِ سَرِقَتِهِ بَعْدَ وُصُولِ الْمَسْرُوقِ إلَى الْمَالِكِ ، وَلَوْ لَمْ يُجْعَلْ سَارِقًا انْدَفَعَ الْخُصُومَةُ

عَنْهُ وَلَمْ يَقْضِ بِالْعَيْنِ لِلْمُدَّعِي ، فَمَتَى ظَهَرَتْ سَرِقَتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِيَقِينٍ قُطِعَتْ يَدُهُ لِظُهُورِهَا قَبْلَ أَنْ يَصِلَ الْعَيْنُ إلَى الْمَالِكِ ، فَكَانَ فِي جَعْلِهِ سَارِقًا احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ انْتَهَى ، وَأَقُولُ : فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ نَظَرٌ .
أَمَّا فِي السُّؤَالِ فَلِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ وَفِي ذَلِكَ جَعَلَهُ سَارِقًا أَنَّ فِي ذَلِكَ الْحُكْمَ عَلَيْهِ بِمُوجِبِ السَّرِقَةِ وَهُوَ الْقَطْعُ فَهُوَ مَمْنُوعٌ ، وَإِنَّمَا هُوَ عِنْدَ تَعْيِينِ كَوْنِهِ السَّارِقَ ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّ فِي ذَلِكَ مُجَرَّدَ جَعْلِهِ خَصْمًا فِي دَعْوَى كَوْنِ ذَلِكَ الشَّيْءِ مَسْرُوقًا مِنْ الْمُدَّعِي فَهُوَ مُسَلَّمٌ ، لَكِنْ لَا وَجْهَ حِينَئِذٍ لِقَوْلِهِ فَمَا وَجْهُ الدَّرْءِ حِينَئِذٍ إذْ وَجْهُهُ حِينَئِذٍ ظَاهِرٌ وَهُوَ سُقُوطُ الْقَطْعِ بِعَدَمِ التَّعْيِينِ لِشُبْهَةِ كَوْنِ السَّارِقِ غَيْرَهُ ؟ وَأَمَّا فِي الْجَوَابِ فَلِأَنَّ مُقْتَضَاهُ أَنَّ جَعْلَ ذِي الْيَدِ خَصْمًا وَالْقَضَاءُ عَلَيْهِ بِتَسْلِيمِ الْعَيْنِ إلَى الْمُدَّعِي فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ إنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ الِاحْتِيَالِ لِدَرْءِ الْحَدِّ ، وَأَنَّ الِاحْتِيَالَ لِدَرْئِهِ إنَّمَا نَشَأَ مِنْ قِبَلِ الشَّرْعِ لَا مِنْ قِبَلِ الْمُدَّعِي ، وَهَذَا مَعَ كَوْنِهِ مُخَالِفًا لِمُقْتَضَى الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ كَمَا تَرَى غَيْرَ تَامٍّ فِي نَفْسِهِ ، لِأَنَّ ظُهُورَ سَرِقَةِ ذِي الْيَدِ بَعْدَ ذَلِكَ بِيَقِينٍ أَمْرٌ مَوْهُومٌ وَخُرُوجُ الْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ مِنْ يَدِهِ عَلَى تَقْدِيرِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ بِهَا أَمْرٌ مُحَقَّقٌ فَكَيْفَ يَرْتَكِبُ الضَّرَرَ الْمُحَقَّقَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ الْمَوْهُومِ سِيَّمَا إذَا اعْتَرَفَ بِأَنَّهَا مِلْكُ الْغَيْرِ أُودَعَهَا عِنْدَهُ ، فَإِنَّ إتْلَافَ مَالِ أَحَدٍ لِدَفْعِ ضَرَرٍ مَوْهُومٍ عَنْ آخَرَ غَيْرُ مَعْهُودٍ فِي الشَّرْعِ ( فَصَارَ ) أَيْ فَصَارَ مَا إذَا قَالَ سُرِقَ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ ( كَمَا إذَا سَرَقْت ) بِالتَّعْيِينِ وَالْخِطَابِ ( بِخِلَافِ الْغَصْبِ ) أَيْ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ : غُصِبَ مِنِّي بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ حَيْثُ تَنْدَفِعُ

الْخُصُومَةُ بِإِثْبَاتِ الْوَدِيعَةِ بِالِاتِّفَاقِ ( لِأَنَّهُ لَا حَدَّ فِيهِ ) أَيْ فِي الْغَصْبِ ( فَلَا يُحْتَرَزُ عَنْ كَشْفِهِ ) فَلَمْ يَكُنْ الْمُدَّعِي مَعْذُورًا فِي التَّجْهِيلِ .

( وَإِنْ قَالَ الْمُدَّعِي : ابْتَعْتُهُ مِنْ فُلَانٍ وَقَالَ صَاحِبُ الْيَدِ : أَوْدَعَنِيهِ فُلَانٌ ذَلِكَ أُسْقِطَتْ الْخُصُومَةُ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ ) لِأَنَّهُمَا تَوَافَقَا عَلَى أَنَّ أَصْلَ الْمِلْكِ فِيهِ لِغَيْرِهِ فَيَكُونُ وُصُولُهَا إلَى ذِي الْيَدِ مِنْ جِهَتِهِ فَلَمْ تَكُنْ يَدُهُ يَدَ خُصُومَةٍ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ فُلَانًا وَكَّلَهُ بِقَبْضِهِ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ بِبَيِّنَتِهِ كَوْنَهُ أَحَقَّ بِإِمْسَاكِهَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( وَلَوْ قَالَ الْمُدَّعِي : ابْتَعْتُهُ مِنْ فُلَانٍ وَقَالَ صَاحِبُ الْيَدِ : أَوْدَعَنِيهِ فُلَانٌ ذَلِكَ ) أَيْ فُلَانٌ الَّذِي قَالَ الْمُدَّعِي : ابْتَعْتُهُ مِنْهُ ( أَسْقَطَ الْخُصُومَةَ ) أَيْ أَسْقَطَ صَاحِبُ الْيَدِ الْخُصُومَةَ عَنْ نَفْسِهِ ( بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ ) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ : ( لِأَنَّهُمَا تَوَافَقَا عَلَى أَنَّ أَصْلَ الْمِلْكِ فِيهِ ) أَيْ فِي الشَّيْءِ الْمُدَّعِي ( لِغَيْرِهِ ) أَيْ غَيْرِ صَاحِبِ الْيَدِ ( فَيَكُونُ وُصُولُهَا ) أَيْ وُصُولُ الْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ ، وَكَانَ الْمُطَابِقُ لِلضَّمَائِرِ السَّابِقَةِ أَنْ يَقُولَ الْمُصَنِّفُ : فَيَكُونُ وُصُولُهُ كَمَا قَالَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ ، وَلَكِنَّهُ يُشْبِهُ أَنَّهُ قَصَدَ التَّفَنُّنَ فِي الْعِبَارَةِ ( إلَى يَدِ ذِي الْيَدِ مِنْ جِهَتِهِ ) أَيْ مِنْ جِهَةِ الْغَيْرِ ( فَلَمْ تَكُنْ يَدُهُ يَدَ خُصُومَةٍ إلَّا أَنْ يُقِيمَ ) أَيْ الْمُدَّعِي ( الْبَيِّنَةَ أَنَّ فُلَانًا ) أَيْ فُلَانًا الْمَذْكُورَ ( وَكَّلَهُ بِقَبْضِهِ ) أَيْ بِقَبْضِ الشَّيْءِ الْمُدَّعَى ( لِأَنَّهُ ) أَيْ الْمُدَّعِي ( أَثْبَتَ بِبَيِّنَتِهِ كَوْنَهُ أَحَقَّ بِإِمْسَاكِهَا ) أَيْ بِإِمْسَاكِ الْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ كَأَنَّهُ قَصَدَ التَّفَنُّنَ هَاهُنَا أَيْضًا حَيْثُ قَالَ أَوَّلًا بِقَبْضِهِ بِالتَّذْكِيرِ ، وَثَانِيًا بِإِمْسَاكِهَا بِالتَّأْنِيثِ .

( بَابُ مَا يَدَّعِيهِ الرَّجُلَانِ ) قَالَ ( وَإِذَا ادَّعَى اثْنَانِ عَيْنًا فِي يَدِ آخَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَزْعُمُ أَنَّهَا لَهُ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ بِهَا بَيْنَهُمَا ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ : تَهَاتَرَتَا ، وَفِي قَوْلٍ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ كَاذِبَةٌ بِيَقِينٍ لِاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِ الْمِلْكَيْنِ فِي الْكُلِّ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَدْ تَعَذَّرَ التَّمْيِيزُ فَيَتَهَاتَرَانِ أَوْ يُصَارُ إلَى الْقُرْعَةِ { لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَقْرَعَ فِيهِ وَقَالَ : اللَّهُمَّ أَنْتَ الْحَكَمُ بَيْنَهُمَا } وَلَنَا حَدِيثُ تَمِيمِ بْنِ طَرْفَةَ { أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي نَاقَةٍ وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ فَقَضَى بِهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ } .
وَحَدِيثُ الْقُرْعَةِ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ نُسِخَ ، وَلِأَنَّ الْمُطْلَقَ لِلشَّهَادَةِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحْتَمَلُ الْوُجُودِ بِأَنْ يَعْتَمِدَ أَحَدُهُمَا سَبَبَ الْمِلْكِ وَالْآخَرُ الْيَدَ فَصَحَّتْ الشَّهَادَتَانِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِمَا مَا أَمْكَنَ ، وَقَدْ أَمْكَنَ بِالتَّنْصِيفِ إذْ الْمَحِلُّ يَقْبَلُهُ ، وَإِنَّمَا يُنَصَّفُ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ .

بَابُ مَا يَدَّعِيهِ الرَّجُلَانِ ) لَمَّا ذَكَرَ حُكْمَ دَعْوَى الْوَاحِدِ شَرَعَ فِي ذِكْرِ حُكْمِ دَعْوَى الِاثْنَيْنِ بَعْدَ الْوَاحِدِ ( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( وَإِذَا ادَّعَى اثْنَانِ عَيْنًا فِي يَدِ آخَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَزْعُمُ أَنَّهَا ) أَيْ الْعَيْنَ ( لَهُ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ ) أَيْ عَلَى مَا ادَّعَاهُ ( قَضَى بِهَا بَيْنَهُمَا ) أَيْ نِصْفَيْنِ ، وَإِنَّمَا وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِي دَعْوَى مِلْكِ الْعَيْنِ لِأَنَّهُمَا لَوْ تَنَازَعَا فِي نِكَاحِ امْرَأَةٍ وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً عَلَى أَنَّهَا امْرَأَتُهُ لَمْ يَقْضِ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالِاتِّفَاقِ وَفِي دَعْوَى الْخَارِجِينَ ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى لَوْ كَانَتْ بَيْنَ الْخَارِجِ وَصَاحِبِ الْيَدِ وَأَقَامَا بَيِّنَةً فَبَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى عِنْدَنَا .
وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ : تَهَاتَرَتْ الْبَيِّنَتَانِ وَيَكُونُ الْمُدَّعَى لِذِي الْيَدِ تَرْكًا فِي يَدِهِ وَهُوَ قَضَاءُ تَرْكٍ لَا قَضَاءُ مِلْكٍ .
وَفِي الْقَوْلِ الْآخَرِ تُرَجَّحُ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ فَيُقْضَى بِهِ لِذِي الْيَدِ قَضَاءَ مِلْكٍ وَفِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ ؛ لِأَنَّ فِي الْمُقَيَّدِ بِالسَّبَبِ الْمُعَيَّنِ أَوْ بِالتَّارِيخِ تَفْصِيلًا وَخِلَافًا كَمَا سَيَجِيءُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ) أَيْ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا ( فِي قَوْلِ تَهَاتَرَتَا ) أَيْ الْبَيِّنَتَانِ : أَيْ تَسَاقَطَتَا وَبَطَلَتَا ، مَأْخُوذٌ مِنْ الْهِتْرِ بِكَسْرِ الْهَاءِ وَهُوَ السَّقْطُ مِنْ الْكَلَامِ وَالْخَطَإِ فِيهِ ، كَذَا فِي الْمُغْرِبِ ( وَفِي قَوْلِ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا ) أَيْ بَيْنَ الْمُدَّعِيَيْنِ وَيَقْضِي لِمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ ( لِأَنَّ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ كَاذِبَةٌ بِيَقِينٍ لِاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِ الْمِلْكَيْنِ فِي الْكُلِّ ) أَيْ فِي كُلِّ الْعَيْنِ ( فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَدْ تَعَذَّرَ التَّمْيِيزُ ) أَيْ بَيْنَ الصَّادِقَةِ مِنْهَا وَالْكَاذِبَةِ فَيَمْتَنِعُ الْعَمَلُ بِهِمَا ( فَيَتَهَاتَرَانِ ) كَمَا لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ يَوْمَ النَّحْرِ بِمَكَّةَ ، وَآخَرَانِ أَنَّهُ

أَعْتَقَ عَبْدَهُ بِالْكُوفَةِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ ، وَهَذَا لِأَنَّ تُهْمَةَ الْكَذِبِ تَمْنَعُ الْعَمَلَ بِالشَّهَادَةِ فَالتَّيَقُّنُ بِهِ أَوْلَى ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَالْكِفَايَة ( أَوْ يُصَارُ إلَى الْقُرْعَةِ { لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَقَرَعَ فِيهِ وَقَالَ : اللَّهُمَّ أَنْتَ الْحَكَمُ بَيْنَهُمَا } ) رَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ { أَنَّ رَجُلَيْنِ تَنَازَعَا فِي أَمَةٍ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَأَقْرَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا وَقَالَ : اللَّهُمَّ أَنْتَ تَقْضِي بَيْنَ عِبَادِك بِالْحَقِّ ، ثُمَّ قَضَى بِهَا لِمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ } ( وَلَنَا حَدِيثُ تَمِيمِ بْنِ طَرْفَةَ ) الطَّائِيِّ رِوَايَةً عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ .
ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد ( { أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَاقَةٍ وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً فَقَضَى بِهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ } ) وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَيْءٍ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ ، فَقَالَ : مَا أَحْوَجَكُمَا إلَى سِلْسِلَةٍ كَسِلْسِلَةِ بَنِي إسْرَائِيلَ ، كَانَ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ إذَا جَلَسَ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ نَزَلَتْ سِلْسِلَةٌ مِنْ السَّمَاءِ بِعِتْقِ الظَّالِمِ ، ثُمَّ قَضَى بِهِ رَسُولُنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ } ( وَحَدِيثُ الْقُرْعَةِ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ نُسِخَ ) هَذَا جَوَابٌ عَنْ حَدِيثِ الْقُرْعَةِ : يَعْنِي أَنَّهُ كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ وَقْتَ إبَاحَةِ الْقِمَارِ ثُمَّ نُسِخَ بِحُرْمَةِ الْقِمَارِ لِأَنَّ تَعْيِينَ الْمُسْتَحِقِّ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِحْقَاقِ ابْتِدَاءً : فَكَمَا أَنَّ تَعْلِيقَ الِاسْتِحْقَاقِ بِخُرُوجِ قُرْعَةِ قِمَارٍ فَكَذَلِكَ تَعْيِينُ الْمُسْتَحِقِّ ، بِخِلَافِ قِسْمَةِ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ لِأَنَّ لِلْقَاضِي هُنَاكَ وِلَايَةَ التَّعْيِينِ مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ ،

وَإِنَّمَا يَقْرَعُ تَطْيِيبًا لِلْقُلُوبِ ، وَنَفْيًا لِتُهْمَةِ الْمَيْلِ عَنْ نَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الْقِمَارِ ، كَذَا فِي الْكَافِي وَسَائِرِ الشُّرُوحِ ( وَلِأَنَّ الْمُطْلِقَ ) بِكَسْرِ اللَّامِ أَيْ الْمُجَوِّزَ ( لِلشَّهَادَةِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحْتَمَلُ الْوُجُودِ ) بِفَتْحِ الْمِيمِ ( بِأَنْ يَعْتَمِدَ أَحَدُهُمَا سَبَبَ الْمِلْكِ ) كَالشِّرَاءِ ( وَالْآخَرُ الْيَدَ فَصَحَّتْ الشَّهَادَتَانِ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي حَلِّ هَذَا الْمَقَامِ : وَلَا نُسَلِّمُ كَذِبَ إحْدَاهُمَا بِيَقِينٍ لِأَنَّ الْمُطْلِقَ لِلشَّهَادَةِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحْتَمَلُ الْوُجُودِ ، فَإِنَّ صِحَّةَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ لَا تَعْتَمِدُ وُجُودَ الْمِلْكِ حَقِيقَةً لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْبٌ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الْعِبَادُ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا اعْتَمَدَ سَبَبَ الْمِلْكِ بِأَنْ رَآهُ يَشْتَرِي فَشَهِدَ عَلَى ذَلِكَ وَالْآخَرُ اعْتَمَدَ الْيَدَ فَشَهِدَ عَلَى ذَلِكَ فَكَانَتْ الشَّهَادَتَانِ صَحِيحَتَيْنِ انْتَهَى .
أَقُولُ : الظَّاهِرُ مِنْ تَقْرِيرِهِ أَنَّهُ قَدْ حَمَلَ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ وَلِأَنَّ الْمُطْلِقَ لِلشَّهَادَةِ إلَخْ عَلَى مَنْعِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ : إنَّ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ كَاذِبَةٌ بِيَقِينٍ فَيُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا مَجَالَ لِمَنْعِ ذَلِكَ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَنَّ مَعْنَى صِدْقِ الْخَبَرِ مُطَابِقَتُهُ لِلْوَاقِعِ ، وَمَعْنَى كَذِبِهِ عَدَمُ مُطَابِقَتِهِ لِأَنَّ اسْتِحَالَةَ اجْتِمَاعِ الْمِلْكَيْنِ فِي كُلِّ الْعَيْنِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ ضَرُورِيَّةٌ فَكَذَبَ إحْدَاهُمَا : أَيْ عَدَمُ مُطَابِقَتِهَا لِلْوَاقِعِ مُتَيَقَّنٌ بِلَا رَيْبٍ ، وَمَا ذَكَرَهُ فِي مَعْرِضِ السَّنَدِ لِلْمَنْعِ لَا يُجْدِي طَائِلًا مِنْ دَفْعِ هَذَا كَمَا لَا يَخْفَى .
وَالْوَجْهُ عِنْدِي أَنْ لَا يَكُونَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ الْمَذْكُورِ مَنْعَ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ ذَلِكَ ، بَلْ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِهِ الْقَوْلَ بِالْمُوجِبِ : أَيْ إثْبَاتَ مُدَّعَانَا مَعَ الْتِزَامِ مَا قَالَهُ الْخَصْمُ .
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْمُطْلِقَ لِلشَّهَادَةِ فِي حَقِّ كُلِّ

وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحْتَمَلُ الْوُجُودِ بِأَنْ يَعْتَمِدَ أَحَدُهُمَا بِسَبَبِ الْمِلْكِ وَالْآخَرُ الْيَدَ ، وَكُلُّ شَهَادَةٍ لَهَا مُطْلِقٌ كَذَلِكَ فَهِيَ صَحِيحَةٌ سَوَاءٌ طَابَقَتْ الْوَاقِعَ أَوْ لَمْ تُطَابِقْهُ ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الشَّهَادَةِ لَا تَعْتَمِدُ تَحَقُّقَ الْمَشْهُودِ بِهِ فِي الْوَاقِعِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْبٌ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الْعِبَادُ بَلْ إنَّمَا تَعْتَمِدُ ظَاهِرَ الْحَالِ فَصَحَّتْ الشَّهَادَتَانِ ( فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِمَا مَا أَمْكَنَ ) لِأَنَّ الْبَيِّنَاتِ حِجَجُ اللَّهِ تَعَالَى وَالْعَمَلُ بِهَا وَاجِبٌ مَهْمَا أَمْكَنَ وَقَدْ أَمْكَنَ هَاهُنَا ( بِالتَّنْصِيفِ إذْ الْمَحَلُّ يَقْبَلُهُ ) أَيْ يَقْبَلُ التَّنْصِيفَ ( وَإِنَّمَا يُنَصَّفُ لِاسْتِوَائِهِمَا ) أَيْ لِاسْتِوَاءِ الْمُدَّعِيَيْنِ ( فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ ) وَهُوَ الشَّهَادَةُ .
فَحَاصِلُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا عَلَى مَا وَجَّهْنَاهُ أَنَّ مَدَارَ الْعَمَلِ بِالشَّهَادَتَيْنِ صِحَّتُهُمَا لَا صِدْقُهُمَا ، فَإِنَّهُ مِمَّا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الْعِبَادُ ، وَأَنَّ وَجْهَ صِحَّتِهِمَا مَا ذَكَرَهُ يُرْشِدُ إلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ فِي التَّفْرِيعِ : فَصَحَّتْ الشَّهَادَتَانِ وَلَمْ يَقُلْ فَصَدَقَتْ الشَّهَادَتَانِ .
ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ اعْتَرَضَ عَلَى قَوْلِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ وَلَا نُسَلِّمُ كَذِبَ إحْدَاهُمَا بِيَقِينٍ .
وَأَجَابَ عَنْهُ حَيْثُ قَالَ : فِيهِ بَحْثٌ ، فَإِنَّ الْكَذِبَ هُوَ عَدَمُ مُطَابَقَةِ الْحُكْمِ لِلْوَاقِعِ وَعَدَمُ مُطَابَقَةِ كَلَامِ إحْدَاهُمَا لِنَفْسِ الْأَمْرِ مِنْ أَجْلَى الْوَاضِحَاتِ ، فَكَيْفَ يَمْنَعُ وَلَيْسَ فِيمَا ذَكَرَهُ فِي مَعْرِضِ السَّنَدِ مَا يَدْفَعُ ذَلِكَ كَمَا لَا يَخْفَى ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَانِعَ عَنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ هُوَ كَذِبُهَا شَرْعًا وَهُوَ مَفْقُودٌ هَاهُنَا ، وَإِلَّا لَزِمَ اجْتِمَاعُ إطْلَاقِ الشَّهَادَةِ وَتَكْذِيبُهَا شَرْعًا .
فَاَلَّذِي لَا يُسَلِّمُهُ الشَّارِحُ هُوَ الْكَذِبُ الشَّرْعِيُّ فَلْيُتَأَمَّلْ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِي الْجَوَابِ بَحْثٌ ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُ بِكَذِبِهَا شَرْعًا عَدَمُ مُطَابَقَتِهَا لِلِاعْتِقَادِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي

يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِلَفْظِ الْكَذِبِ هَاهُنَا بَعْدَ أَنْ لَا يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ عَدَمَ مُطَابَقَةِ الْحُكْمِ لِلْوَاقِعِ وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِمُوَجِّهٍ لِأَنَّ كَوْنَ صِدْقِ الْخَبَرِ مُطَابَقَتَهُ لِاعْتِقَادِ الْمَخْبَرِ ، وَكَذِبُهُ عَدَمُ مُطَابَقَتِهِ لِاعْتِقَادِهِ مَذْهَبُ النَّظَّامِ وَمَنْ تَابَعَهُ .
وَقَدْ أَبْطَلَهُ الْمُحَقِّقُونَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى تَصْدِيقِ الْيَهُودِيِّ فِي قَوْلِهِ : الْإِسْلَامُ حَقٌّ مَعَ مُخَالِفَتِهِ لِاعْتِقَادِهِ ، وَتَكْذِيبِهِ فِي قَوْلِهِ : الْإِسْلَامُ بَاطِلٌ مَعَ مُطَابَقَتِهِ لِاعْتِقَادِهِ ، فَكَيْفَ يُحْمَلُ الْكَذِبُ الشَّرْعِيُّ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْمَذْهَبِ الْمُزَيَّفِ وَيَجْعَلُ مَبْنَى الِاسْتِدْلَالِ أَئِمَّتَنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ؟ وَأَيْضًا لَوْ لَمْ يَكُنْ الْكَذِبُ الشَّرْعِيُّ عَدَمَ الْمُطَابَقَةِ لِلْوَاقِعِ بَلْ كَانَ عَدَمَ الْمُطَابَقَةِ لِلِاعْتِقَادِ لَمَا كَانَ لِمَا وَرَدَ فِي قَوَاعِدِ الشَّرْعِ مِنْ أَنَّهُ تَعَمَّدَ الْكَذِبَ وَلَمْ يَتَعَمَّدْهُ مَعْنًى ؛ لِأَنَّ الْكَذِبَ بِمَعْنَى عَدَمِ الْمُطَابَقَةِ لِلِاعْتِقَادِ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ التَّعَمُّدِ .
وَأَيْضًا لَا يَنْدَفِعُ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ بِمَنْعِ كَذِبِ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ بِيَقِينٍ بِمَعْنَى عَدَمِ الْمُطَابَقَةِ لِلِاعْتِقَادِ ، إذْ يَكْفِي لَهُ كَذِبُ إحْدَاهُمَا بِيَقِينٍ بِمَعْنَى عَدَمِ الْمُطَابَقَةِ لِلْوَاقِعِ فَإِنْ الْتَزَمَ جَوَازَ الْعَمَلِ بِهِمَا عِنْدَ تَيَقُّنِ عَدَمِ مُطَابَقَةِ إحْدَاهُمَا لِلْوَاقِعِ فَلِمَ لَا يَلْتَزِمُ جَوَازَ الْعَمَلِ بِهِمَا عِنْدَ تَيَقُّنِ كَذِبِ إحْدَاهُمَا بِمَعْنَى عَدَمِ الْمُطَابَقَةِ لِلْوَاقِعِ .
وَالْفَرْقُ بِمُجَرَّدِ إطْلَاقِ لَفْظِ الْكَذِبِ وَعَدَمِ إطْلَاقِهِ لَا يُؤَثِّرُ فِي تَحْقِيقِ مَعْنَى الْمَسْأَلَةِ ، فَإِنَّمَا هُوَ اعْتِبَارٌ لَفْظِيٌّ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتْرُكَ بِهِ الْقَوْلَ الْمُعَوَّلَ عَلَيْهِ فِي مَعْنَى الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ .
ثُمَّ إنَّ قَوْلَهُ : وَإِلَّا لَزِمَ اجْتِمَاعُ إطْلَاقِ الشَّهَادَةِ وَتَكْذِيبِهَا شَرْعًا إنْ أَرَادَ بِهِ أَنْ يَلْزَمَ اجْتِمَاعُ إطْلَاقِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّهَادَتَيْنِ ،

وَتَكْذِيبُهَا بِعَيْنِهَا مَمْنُوعٌ ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ يَلْزَمُ اجْتِمَاعُ إطْلَاقِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَتَكْذِيبُ إحْدَاهُمَا لَا بِعَيْنِهَا فَمُسَلَّمٌ ، لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ الْمَحْذُورَ فِيهِ ، إذْ الْكَذِبُ بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِعَيْنِهَا كَانَ مُحْتَمَلًا لَا مُحَقَّقًا فَتَأَمَّلْ

قَالَ ( فَإِنْ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِكَاحَ امْرَأَةٍ وَأَقَامَا بَيِّنَةً لَمْ يَقْضِ بِوَاحِدَةٍ مِنْ الْبَيِّنَتَيْنِ ) لِتَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِهِمَا ؛ لِأَنَّ الْمَحِلَّ لَا يَقْبَلُ الِاشْتِرَاكَ .
قَالَ ( وَيَرْجِعُ إلَى تَصْدِيقِ الْمَرْأَةِ لِأَحَدِهِمَا ) لِأَنَّ النِّكَاحَ مِمَّا يُحْكَمُ بِهِ بِتَصَادُقِ الزَّوْجَيْنِ ، وَهَذَا إذَا لَمْ تُؤَقَّتْ الْبَيِّنَتَانِ ، فَأَمَّا إذَا وَقَّتَا فَصَاحِبُ الْوَقْتِ الْأَوَّلِ أَوْلَى وَإِنْ أَقَرَّتْ لِأَحَدِهِمَا قَبْلَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ فَهِيَ امْرَأَتُهُ ) لِتَصَادُقِهِمَا ( وَإِنْ أَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ قُضِيَ بِهَا ) لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ أَقْوَى مِنْ الْإِقْرَارِ وَلَوْ تَفَرَّدَ أَحَدُهُمَا بِالدَّعْوَى وَالْمَرْأَةُ تَجْحَدُ فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ وَقَضَى بِهَا الْقَاضِي لَهُ ثُمَّ ادَّعَى الْآخَرُ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ لَا يَحْكُمُ بِهَا ) لِأَنَّ الْقَضَاءَ الْأَوَّلَ قَدْ صَحَّ فَلَا يُنْقَضُ بِمَا هُوَ مِثْلُهُ بَلْ هُوَ دُونَهُ ( إلَّا أَنْ يُؤَقِّتَ شُهُودُ الثَّانِي سَابِقًا ) لِأَنَّهُ ظَهَرَ الْخَطَأُ فِي الْأَوَّلِ بِيَقِينٍ .
وَكَذَا إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ فِي يَدِ الزَّوْجِ وَنِكَاحُهُ ظَاهِرٌ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ إلَّا عَلَى وَجْهِ السَّبْقِ .

( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( فَإِنْ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ) أَيْ مِنْ الرَّجُلَيْنِ ( نِكَاحَ امْرَأَةٍ وَأَقَامَا بَيِّنَةً لَمْ يَقْضِ بِوَاحِدَةٍ مِنْ الْبَيِّنَتَيْنِ لِتَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِهَا لِأَنَّ الْمَحِلَّ لَا يَقْبَلُ الِاشْتِرَاكَ .
قَالَ : وَيَرْجِعُ إلَى تَصْدِيقِ الْمَرْأَةِ لِأَحَدِهِمَا لِأَنَّ النِّكَاحَ مِمَّا يُحْكَمُ بِهِ بِتَصَادُقِ الزَّوْجَيْنِ ) وَحُكِيَ عَنْ رُكْنِ الْإِسْلَامِ عَلِيٍّ السُّغْدِيِّ أَنَّهُ لَا تَتَرَجَّحُ إحْدَاهُمَا إلَّا بِإِحْدَى مَعَانٍ ثَلَاثٍ : إحْدَاهُمَا إقْرَارُ الْمَرْأَةِ ، وَالثَّانِيَةُ كَوْنُهَا فِي يَدِ أَحَدِهِمَا ، وَالثَّالِثَةُ دُخُولُ أَحَدِهِمَا بِهَا إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ نِكَاحَهُ أَسْبَقُ كَذَا فِي الشُّرُوحِ نَقْلًا عَنْ الْخُلَاصَةِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَهَذَا ) أَيْ الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ ( إذَا لَمْ تُؤَقَّتْ الْبَيِّنَتَانِ ، فَأَمَّا إذَا وُقِّتَا فَصَاحِبُ الْوَقْتِ الْأَوَّلِ أَوْلَى ) لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْإِثْبَاتِ ، كَذَا فِي الْكَافِي .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : قَوْلُهُ فَصَاحِبُ الْوَقْتِ الْأَوَّلِ أَوْلَى لَيْسَ بِجَلِيٍّ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ أَوْلَى إذَا كَانَ الثَّانِي بَعْدَهُ بِمُدَّةٍ لَا تَحْتَمِلُ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ فِيهَا ، أَمَّا إذَا احْتَمَلَتْ ذَلِكَ فَيَتَسَاوَيَانِ لِجَوَازِ أَنَّ الْأَوَّلَ طَلَّقَهَا فَتَزَوَّجَ بِهَا الثَّانِي .
وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ إذَا كَانَ دَعْوَى النِّكَاحِ بَعْدَ طَلَاقِ الْأَوَّلِ وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ ، وَأَيْضًا مَا ذَكَرْنَا آنِفًا أَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ عِيَانًا ، وَلَوْ عَايَنَا تَقَدُّمَ الْأَوَّلِ حَكَمْنَا بِهِ ، فَكَذَا إذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِي الْجَوَابِ الْأَوَّلِ نَظَرٌ ، لِأَنَّهُ إذَا كَانَ دَعْوَى النِّكَاحِ بَعْدَ طَلَاقِ الْأَوَّلِ وَأُقِيمَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهَا كَانَ صَاحِبُ الْوَقْتِ الثَّانِي أَوْلَى قَطْعًا ، وَلَيْسَ مَدَارُ السُّؤَالِ عَلَى دَعْوَى أَوْلَوِيَّةِ الثَّانِي بَلْ عَلَى مَنْعِ أَوْلَوِيَّةِ الْأَوَّلِ .
وَهَذَا

الْمَنْعُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى كَوْنِ دَعْوَى النِّكَاحِ بَعْدَ طَلَاقِ الْأَوَّلِ بَلْ يَتَوَجَّهُ أَيْضًا عَلَى تَقْدِيرِ دَعْوَى النِّكَاحِ مُطْلَقًا : أَيْ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِكَوْنِهِ بَعْدَ طَلَاقِ الْأَوَّلِ فِيمَا إذَا احْتَمَلَتْ الْمُدَّةُ الَّتِي بَيْنَ الْوَقْتَيْنِ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ لِجَوَازِ أَنَّ الْأَوَّلَ طَلَّقَهَا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَتَزَوَّجَ بِهَا الثَّانِي ، كَمَا ذَكَرَ فِي السُّؤَالِ فَلَمْ تَثْبُتُ الْأَوْلَوِيَّةُ فِي الْأَوَّلِ مُطْلَقًا .
وَأَمَّا الْجَوَابُ الثَّانِي فَهُوَ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فِي نَفْسِهِ إلَّا أَنَّ فِيهِ نَوْعَ احْتِيَاجٍ إلَى بَيَانِ لَمِّيَّةِ الْحُكْمِ بِالْأَوَّلِ ، فِيمَا عَايَنَا تَقَدَّمَهُ أَيْضًا مَعَ الِاحْتِمَالِ الْمَذْكُورِ ، فَالْأَحْسَنُ هَاهُنَا مَا ذَكَرَهُ تَاجُ الشَّرِيعَةِ حَيْثُ قَالَ : فَإِنْ قُلْت : أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِالْبَيِّنَتَيْنِ بِتَخَلُّلِ الطَّلَاقِ .
قُلْت : لَا يُمْكِنُ لِأَنَّ النِّكَاحَ الثَّانِيَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الطَّلَاقِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعَ بَقَاءِ الطَّلَاقِ فَلَا يَبْطُلُ النِّكَاحُ الثَّابِتُ لِلْأَوَّلِ بِالشَّكِّ ، وَلَا يُقَالُ : يُحْمَلُ أَمْرُهُمَا عَلَى الصَّلَاحِ لِأَنَّ هَذَا إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي الدَّفْعِ لَا فِي إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ وَهَاهُنَا لِحَاجَةٍ إلَى الْإِبْطَالِ انْتَهَى .
( وَإِنْ أَقَرَّتْ لِأَحَدِهِمَا قَبْلَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ فَهِيَ امْرَأَتُهُ لِتَصَادُقِهِمَا ، فَإِنْ أَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ قُضِيَ بِهَا ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ أَقْوَى مِنْ الْإِقْرَارِ ) إذْ الْبَيِّنَةُ حُجَّةٌ مُتَعَدِّيَةٌ وَالْإِقْرَارُ حُجَّةٌ قَاصِرَةٌ .
وَذَكَرَ فِي نِكَاحِ الْمَبْسُوطِ : وَلَوْ تَنَازَعَ رَجُلَانِ فِي امْرَأَةٍ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي أَنَّهَا امْرَأَتُهُ وَيُقِيمُ الْبَيِّنَةَ .
فَإِنْ كَانَتْ فِي بَيْتِ أَحَدِهِمَا أَوْ كَانَ دَخَلَ بِهَا فَهِيَ امْرَأَتُهُ لِأَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ إذَا تَعَارَضَتَا عَلَى الْعَقْدِ تَتَرَجَّحُ إحْدَاهُمَا بِالْقَبْضِ .
كَمَا لَوْ ادَّعَى رَجُلَانِ تَلَقِّيَ الْمِلْكِ فِي عَيْنٍ مِنْ ثَالِثٍ بِالشِّرَاءِ وَأَحَدُهُمَا قَابِضٌ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ كَانَتْ

بَيِّنَةُ صَاحِبِ الْيَدِ أَوْلَى .
لِأَنَّ فِعْلَ الْمُسْلِمِ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّحَّةِ وَالْحِلِّ مَا أَمْكَنَ .
وَالْإِمْكَانُ ثَابِتٌ هُنَا بِأَنْ جَعَلَ نِكَاحَ الَّذِي دَخَلَ بِهَا ثَابِتًا حِينَ دَخَلَ ، وَهَذَا لِأَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ الدُّخُولِ بِهَا أَوْ مِنْ نَقْلِهَا إلَى بَيْتِهِ دَلِيلُ سَبْقِ عَقْدِهِ ، وَدَلِيلُ التَّارِيخِ كَالتَّصْرِيحِ بِالتَّارِيخِ ، إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا قَبْلَهُ فَحِينَئِذٍ سَقَطَ اعْتِبَارُ الدَّلِيلِ فِي مُقَابَلَةِ التَّصْرِيحِ بِالسَّبْقِ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا فَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ أَوَّلٌ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا ؛ لِأَنَّ الشُّهُودَ شَهِدُوا بِسَبْقِ التَّارِيخِ فِي عَقْدِهِ ، وَالثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ أَوْ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةٌ فَأَيُّهُمَا أَقَرَّتْ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا قَبْلَهُ أَوْ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا دُونَ الْآخَرِ فَهِيَ امْرَأَتُهُ ، إمَّا لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ تَتَرَجَّحُ بِإِقْرَارِهَا لَهُ كَمَا بَيَّنَّا فِي جَانِبِ الزَّوْجِ ، أَوْ لِأَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ لَمَّا تَعَارَضَتَا وَتَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِهِمَا بَقِيَ تَصَادُقُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ مَعَ الْمَرْأَةِ عَلَى النِّكَاحِ فَيَثْبُتُ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا بِتَصَادُقِهِمَا ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ .
وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْحِ لِمَا فِي الْكِتَابِ ، وَأَنَّهُ يَظْهَرُ مِنْهُ أَنَّ قَوْلَ الْقُدُورِيِّ : فَإِنْ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِكَاحَ امْرَأَةٍ وَأَقَامَا بَيِّنَةً لَمْ يَقْضِ بِوَاحِدَةٍ مِنْ الْبَيِّنَتَيْنِ فِيمَا إذَا لَمْ تَكُنْ الْمَرْأَةُ فِي بَيْتِ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا دَخَلَ بِهَا .
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ إذَا كَانَ التَّنَازُعُ حَالَ حَيَاةِ الْمَرْأَةِ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ بَعْدَ وَفَاتِهَا فَهُوَ عَلَى وُجُوهٍ وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْإِقْرَارُ وَالْيَدُ ، فَإِنْ أَرَّخَا وَتَارِيخُ أَحَدِهِمَا أَسْبَقُ يُقْضَى بِالنِّكَاحِ وَالْمِيرَاثِ لَهُ ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ تَمَامُ الْمَهْرِ ، وَإِنْ لَمْ يُؤَرِّخَا

أَوْ أَرَّخَا عَلَى السَّوَاءِ فَإِنَّهُ يُقْضَى بِالنِّكَاحِ بَيْنَهُمَا وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ نِصْفُ الْمَهْرِ وَيَرِثَانِ مِنْهَا مِيرَاثَ زَوْجٍ وَاحِدٍ .
فَرَّقَ بَيْنَ الدَّعْوَى حَالَةَ الْحَيَاةِ وَبَيْنَ الدَّعْوَى بَعْدَ الْوَفَاةِ .
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمَقْصُودَ فِي حَالِ الْحَيَاةِ هِيَ الْمَرْأَةُ وَهِيَ لَا تَصْلُحُ لِلشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا ، وَالْمَقْصُودُ بَعْدَ الْوَفَاةِ هُوَ الْمِيرَاثُ وَهُوَ مَالٌ يَقْبَلُ الشَّرِكَةَ ، فَإِنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْ الْأَبَوَيْنِ وَيَرِثُ الِابْنُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِيرَاثَ ابْنٍ كَامِلٍ لِأَنَّ الْبُنُوَّةَ لَا تَتَجَزَّأُ .
كَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ نَقْلًا عَنْ الْفُصُولِ ، وَفِي الْفُصُولِ نَقْلًا عَنْ الْمُحِيطِ ( وَلَوْ تَفَرَّدَ أَحَدُهُمَا بِالدَّعْوَى ) يَعْنِي أَنَّ الَّذِي ذَكَرَ مِنْ قَبْلُ فِيمَا إذَا ادَّعَيَا مَعًا ، وَلَوْ تَفَرَّدَ أَحَدُهُمَا بِالدَّعْوَى ( وَالْمَرْأَةُ تَجْحَدُ فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ وَقَضَى بِهَا الْقَاضِي لَهُ ثُمَّ ادَّعَى آخَرُ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ لَا يَحْكُمُ بِذَلِكَ ) أَيْ بِمَا ادَّعَاهُ الثَّانِي ( لِأَنَّ الْقَضَاءَ الْأَوَّلَ قَدْ صَحَّ فَلَا يُنْقَضُ بِمَا هُوَ مِثْلُهُ بَلْ هُوَ دُونَهُ ) أَيْ لَا يُنْقَضُ الْقَضَاءُ بِالْبَيِّنَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي هِيَ مِثْلُ الْأُولَى ، بَلْ دُونَهَا لِأَنَّ الْأُولَى تَأَكَّدَتْ بِالْقَضَاءِ ، وَهَذَا لِأَنَّ فِي الظَّنِّيَّات لَا يُنْقَضُ الْمِثْلُ بِالْمِثْلِ وَلِهَذَا لَا يُهْدَمُ الرَّأْيُ بِالرَّأْيِ ، كَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ ( إلَّا أَنْ يُؤَقِّتَ شُهُودُ الثَّانِي سَابِقًا ) أَيْ وَقْتًا سَابِقًا فَإِنَّهُ يَقْضِي حِينَئِذٍ بِمَا ادَّعَاهُ الثَّانِي ( لِأَنَّهُ ظَهَرَ الْخَطَأُ الْأَوَّلُ بِيَقِينٍ ) حَيْثُ ظَهَرَ أَنَّهُ تَزَوَّجَ مَنْكُوحَةَ الْغَيْرِ .
أَقُولُ : فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ بِيَقِينٍ تَسَامُحٌ .
لِأَنَّ الْبَيِّنَاتِ مِنْ الظَّنِّيَّاتِ لَا مِنْ الْيَقِينِيَّاتِ عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ ، وَلَعَلَّ صَاحِبَ الْكَافِي تَنَبَّهَ لَهُ حَيْثُ تَرَكَ لَفْظَةَ بِيَقِينٍ فِي تَحْرِيرِهِ ( وَكَذَا إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ

فِي يَدِ الزَّوْجِ وَنِكَاحُهُ ظَاهِرٌ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ إلَّا عَلَى وَجْهِ السَّبْقِ ) قَدْ مَرَّ بَيَانُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَتَمِّ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ نَقْلًا عَنْ الْمَبْسُوطِ

قَالَ ( وَلَوْ ادَّعَى اثْنَانِ كُلُّ وَاحِدِ مِنْهُمَا أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْهُ هَذَا الْعَبْدَ ) مَعْنَاهُ مِنْ صَاحِبِ الْيَدِ وَأَقَامَا بَيِّنَةً فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ نِصْفَ الْعَبْدِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ ) لِأَنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي السَّبَبِ فَصَارَ كَالْفُضُولِيِّينَ إذَا بَاعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ رَجُلٍ وَأَجَازَ الْمَالِكُ الْبَيْعَيْنِ يُخَيَّرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ تَغَيَّرَ عَلَيْهِ شَرْطُ عَقْدِهِ ، فَلَعَلَّ رَغْبَتَهُ فِي تَمَلُّكِ الْكُلِّ فَيَرُدُّهُ وَيَأْخُذُ كُلَّ الثَّمَنِ .
فَإِنْ قَضَى الْقَاضِي بِهِ بَيْنَهُمَا فَقَالَ أَحَدُهُمَا : لَا أَخْتَارُ لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يَأْخُذَ جَمِيعَهُ ) لِأَنَّهُ صَارَ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ فِي النِّصْفِ فَانْفَسَخَ الْبَيْعُ فِيهِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ خَصَمَ فِيهِ لِظُهُورِ اسْتِحْقَاقِهِ بِالْبَيِّنَةِ لَوْلَا بَيِّنَةُ صَاحِبِهِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ ذَلِكَ قَبْلَ تَخْيِيرِ الْقَاضِي حَيْثُ يَكُونُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْجَمِيعَ لِأَنَّهُ يَدَّعِي الْكُلَّ وَلَمْ يَفْسَخْ سَبَبَهُ ، وَالْعَوْدُ إلَى النِّصْفِ لِلْمُزَاحِمَةِ وَلَمْ تُوجَدْ ، وَنَظِيرُهُ تَسْلِيمُ أَحَدِ الشَّفِيعَيْنِ قَبْلَ الْقَضَاءِ ، وَنَظِيرُ الْأَوَّلِ تَسْلِيمُهُ بَعْدَ الْقَضَاءِ وَلَوْ ذَكَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَارِيخًا فَهُوَ لِلْأَوَّلِ مِنْهُمَا ) لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الشِّرَاءَ فِي زَمَانٍ لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ أَحَدٌ فَانْدَفَعَ الْآخَرُ بِهِ ( وَلَوْ وَقَّتَتْ إحْدَاهُمَا وَلَمْ تُؤَقِّتْ الْأُخْرَى فَهُوَ لِصَاحِبِ الْوَقْتِ ) لِثُبُوتِ مِلْكِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَاحْتَمَلَ الْآخَرُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ فَلَا يَقْضِي لَهُ بِالشَّكِّ ( وَإِنْ لَمْ يَذْكُرَا تَارِيخًا وَمَعَ أَحَدِهِمَا قَبْضٌ فَهُوَ أَوْلَى ) وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ فِي يَدِهِ لِأَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ قَبْضِهِ يَدُلُّ عَلَى سَبْقِ شِرَائِهِ ، وَلِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي الْإِثْبَاتِ فَلَا تُنْقَضُ الْيَدُ الثَّابِتَةُ بِالشَّكِّ ، وَكَذَا لَوْ ذَكَرَ الْآخَرُ وَقْتًا لِمَا بَيَّنَّا .
إلَّا أَنْ يَشْهَدُوا

أَنَّ شِرَاءَهُ كَانَ قَبْلَ شِرَاءِ صَاحِبِ الْيَدِ لِأَنَّ الصَّرِيحَ يَفُوقُ الدَّلَالَةَ .

( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( وَلَوْ ادَّعَى اثْنَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْهُ هَذَا الْعَبْدَ ) قَالَ الْمُصَنِّفُ ( مَعْنَاهُ ) أَيْ مَعْنَى قَوْلِهِ مِنْهُ ( مِنْ صَاحِبِ الْيَدِ ) وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِهِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَوْ ادَّعَى الشِّرَاءَ مِنْ غَيْرِ صَاحِبِ الْيَدِ فَهُوَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَدَّعِيَا الشِّرَاءَ مِنْ وَاحِدٍ أَوْ اثْنَيْنِ ، فَالْحُكْمُ عَلَى التَّفْصِيلِ يَجِيءُ بَعْدَ هَذَا فِي الْكِتَابِ كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا .
ثُمَّ إنَّ تَمَامَ قَوْلِ الْقُدُورِيِّ ( وَأَقَامَا بَيِّنَةً ) أَيْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً عَلَى مَا ادَّعَاهُ عَلَى صَاحِبِ الْعِنَايَةِ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى مَا لَوْ أَقَامَاهَا مِنْ غَيْرِ تَوْقِيتٍ حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِ الْمَقَامِ : وَأَقَامَا عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً مِنْ غَيْرِ تَوْقِيتٍ ، فَكَأَنَّهُ أَخَذَ ذَلِكَ مِنْ تَصْرِيحِ صَاحِبِ الْكَافِي هَاهُنَا حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِ الْمَقَامِ : وَلَمْ تُؤَقِّتْ وَاحِدَةٌ مِنْ الْبَيِّنَتَيْنِ وَقْتًا .
وَأَقُولُ : الْأَوْلَى تَعْمِيمُهُ لَمَّا لَمْ يُؤَقِّتَا وَلَمَّا وَقَّتَا وَوَقْتُهُمَا عَلَى السَّوَاءِ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ سَوَاءٌ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ فِي مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ وَالذَّخِيرَةِ وَفَتَاوَى قَاضِي خَانْ وَسَائِرِ الْمُعْتَبَرَاتِ ، وَلَفْظُ الْكِتَابِ مُسَاعِدٌ لِلتَّعْمِيمِ لَهُمَا ، وَلَوْ لَمْ يُعَمِّمْ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ صُورَةُ مَا وَقَّتَا وَوَقْتُهُمَا عَلَى السَّوَاءِ مَتْرُوكَةً فِي الْكِتَابِ بِالْكُلِّيَّةِ مِنْ بَيْنِ أَقْسَامِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِعَدَمِ دُخُولِهَا فِي الصُّوَرِ الْآتِيَةِ الْمُتَشَعِّبَةِ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، وَلَا يَخْفَى بَعْدَ ذَلِكَ ( فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ ، إنْ شَاءَ أَخَذَ نِصْفَ الْعَبْدِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي السَّبَبِ فَصَارَ كَالْفُضُولِيِّينَ إذَا بَاعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ رَجُلٍ وَأَجَازَ الْمَالِكُ الْبَيْعَيْنِ يُخَيَّرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ) قَالَ

الْمُصَنِّفُ ( لِأَنَّهُ تَغَيَّرَ عَلَيْهِ شَرْطُ عَقْدِهِ ) وَهُوَ رِضَاهُ لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِالْعَقْدِ إلَّا لِيُسَلِّمَ لَهُ كُلَّ الْمَبِيعِ ، فَإِذَا لَمْ يُسَلِّمْ اخْتَلَّ رِضَاهُ بِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ ، كَذَا فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ أَخْذًا مِنْ الْكَافِي .
وَفَسَّرَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ شَرْطَ عَقْدِهِ بِاتِّحَادِ الصَّفْقَةِ حَيْثُ قَالَ : لِأَنَّ شَرْطَ الْعَقْدِ الَّذِي يَدَّعِيهِ وَهُوَ اتِّحَادُ الصَّفْقَةِ قَدْ تَغَيَّرَ عَلَيْهِ ( فَلَعَلَّ رَغْبَتَهُ فِي تَمَلُّكِ الْكُلِّ ) وَلَمْ يَحْصُلْ ( فَيَرُدُّهُ وَيَأْخُذُ كُلَّ الثَّمَنِ ) وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ رَدًّا عَلَى صَاحِبِ الْعِنَايَةِ : الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ شَرْطِ الْعَقْدِ هُوَ الرِّضَا ، وَقَدْ تَغَيَّرَ لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِالْعَقْدِ إلَّا لِيُسَلِّمَ لَهُ كُلَّ الْبَيْعِ ، وَإِذَا لَمْ يُسَلِّمْ اخْتَلَّ رِضَاهُ بِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْعَلَّامَةُ الْكَاكِيُّ ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فَلَعَلَّ رَغْبَتَهُ فِي تَمَلُّكِ الْكُلِّ وَأَيْضًا لِاتِّحَادِ وَصْفِ الْعَقْدِ فَكَيْفَ يَكُونُ شَرْطًا لَهُ انْتَهَى .
أَقُولُ : الَّذِي هُوَ تَصَرُّفُ نَفْسِ ذَلِكَ الْقَائِلِ هَاهُنَا سَاقِطٌ ، أَمَّا قَوْلُهُ : وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فَلَعَلَّ رَغْبَتَهُ فِي تَمَلُّكِ الْكُلِّ فَلِأَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ هَذَا يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُؤَيِّدَهُ مَا ذَكَرَهُ الْعَلَّامَةُ الْكَاكِيُّ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ كَمَا يَظْهَرُ بِالتَّأَمُّلِ الصَّادِقِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : وَأَيْضًا لِاتِّحَادِ وَصْفِ الْعَقْدِ إلَخْ فَلِأَنَّ مُرَادَ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ أَنَّ اتِّحَادَ الصَّفْقَةِ شَرْطُ صِحَّةِ الْعَقْدِ لَا أَنَّهُ شَرْطُ نَفْسِ الْعَقْدِ ، كَمَا أَنَّ الرِّضَا أَيْضًا كَذَلِكَ لِتَحَقُّقِ نَفْسِ الْعَقْدِ فَاسِدًا فِي بَيْعِ الْمُكْرَهِ مَعَ انْتِفَاءِ الرِّضَا فِيهِ ، وَأَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ تَغَيَّرَ شَرْطُ صِحَّةِ عَقْدِهِ لَا أَنَّهُ تَغَيَّرَ شَرْطُ نَفْسِ عَقْدِهِ وَإِلَّا مَا سَاغَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ نِصْفَ الْعَبْدِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ بِحُكْمِ ذَلِكَ

الْعَقْدِ .
ثُمَّ إنَّ صِحَّةَ الْعَقْدِ وَصْفٌ لِلْعَقْدِ كَاتِّحَادِ الصَّفْقَةِ وَأَنَّهُ لَا مَحْذُورَ فِي كَوْنِ أَحَدِ وَصْفَيْهِ شَرْطًا لِلْآخَرِ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : فَإِنْ قِيلَ : كَذِبُ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ مُتَيَقَّنٌ لِاسْتِحَالَةِ تَوَارُدِ الْعَقْدَيْنِ عَلَى عَيْنٍ وَاحِدَةٍ كَمُلَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَيَنْبَغِي أَنْ تَبْطُلَ الْبَيِّنَتَانِ .
أُجِيبُ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَشْهَدَا بِكَوْنِهِمَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ بَلْ شَهِدُوا بِنَفْسِ الْعَقْدِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا اعْتَمَدَ سَبَبًا فِي وَقْتِ أَطْلَقَ لَهُ الشَّهَادَةَ بِهِ ا هـ .
وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى جَوَابِهِ حَيْثُ قَالَ : فِيهِ بَحْثٌ ، فَإِنَّهُمَا إذَا شَهِدَا بِكَوْنِهِمَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَالْجَوَابُ ذَلِكَ أَيْضًا ، وَسَيَجِيءُ مِنْ الشَّارِحِ التَّصْرِيحُ بِهِ فِي الْوَرَقِ الْآتِي ، وَذَكَرَهُ الْأَتْقَانِيُّ هَاهُنَا نَاقِلًا عَنْ مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ، فَجَوَابُ الشَّارِحِ لَا يَفِي بِدَفْعِ مَا إذَا أُورِدَ عَلَيْهِ انْتَهَى .
أَقُولُ : مَبْنَى جَوَابِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ هَاهُنَا تَقْيِيدُهُ مَسْأَلَةَ الْكِتَابِ فِيمَا سَبَقَ بِقَوْلِهِ مِنْ غَيْرِ تَوْقِيتٍ ، فَحِينَئِذٍ يَتِمُّ جَوَابُهُ ، فَإِنَّ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْجَوَابِ هَاهُنَا إنَّمَا هُوَ مِقْدَارُ مَا يَدْفَعُ السُّؤَالَ عَنْ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ ، وَقَدْ حَصَلَ هَذَا عَلَى ذَلِكَ التَّقْيِيدِ .
وَأَمَّا دَفْعُ السُّؤَالِ عَنْ مَسْأَلَةٍ أُخْرَى غَيْرِ مَذْكُورَةٍ فِي الْكِتَابِ فَفَضْلَةٌ مِنْ الْكَلَامِ هَاهُنَا فَلَا ضَيْرَ فِي عَدَمِ وَفَاءِ جَوَابِهِ بِذَلِكَ .
نَعَمْ تَقْيِيدُهُ هُنَاكَ لَيْسَ بِمُنَاسِبٍ رَأْسًا كَمَا بَيَّنَّاهُ وَلَكِنَّهُ كَلَامٌ آخَرُ مَوْضِعُهُ ثَمَّةَ ، ثُمَّ إنَّ هَاهُنَا جَوَابًا آخَرَ دَافِعًا لِلسُّؤَالِ عَنْ الْمَسْأَلَتَيْنِ مَعًا ذَكَرَهُ أَيْضًا صَاحِبُ الْكَافِي وَعَامَّةُ الشُّرَّاحِ ، وَهُوَ أَنَّ الْبَيْعَيْنِ يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُمَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ بِأَنْ وَكَّلَ الْمَالِكُ رَجُلَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ بِأَنْ يَبِيعَا عَبْدَهُ فَبَاعَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَكِيلَيْنِ مَعًا

مِنْ رَجُلٍ فَإِنَّهُ يَجُوزُ ، وَعَقْدُ الْوَكِيلِ كَعَقْدِ الْمُوَكِّلِ ، وَيُضَافُ عَقْدُهُ إلَى الْمُوَكِّلِ مَجَازًا فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِيلُ وُرُودُ الْبَيْعَيْنِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ عَلَى عَيْنٍ وَاحِدَةٍ كَمُلَا ( فَإِنْ قَضَى الْقَاضِي بِهِ ) أَيْ بِالْعَبْدِ ( بَيْنَهُمَا ) أَيْ بَيْنَ الْمُدَّعِيَيْنِ ( فَقَالَ أَحَدُهُمَا : لَا أَخْتَارُ ) أَيْ لَا أَخْتَارُ الْأَخْذَ ( لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يَأْخُذَ جَمِيعَهُ لِأَنَّهُ ) أَيْ الْآخَرَ ( صَارَ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ فِي النِّصْفِ فَانْفَسَخَ الْبَيْعُ فِيهِ ) أَيْ فِي هَذَا النِّصْفِ .
وَالْعَقْدُ مَتَى انْفَسَخَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَا يَعُودُ إلَّا بِتَجْدِيدٍ وَلَا يُوجَدْ .
فَإِنْ قِيلَ : هُوَ مُدَّعٍ فَكَيْفَ يَكُونُ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ ؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَهَذَا لِأَنَّهُ خَصْمٌ فِيهِ ) أَيْ فِي النِّصْفِ الْمَقْضِيِّ بِهِ ( لِظُهُورِ اسْتِحْقَاقِهِ بِالْبَيِّنَةِ لَوْلَا بَيِّنَةُ صَاحِبِهِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ ذَلِكَ ) أَيْ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا لَا أَخْتَارُ الْأَخْذَ ( قَبْلَ تَخْيِيرِ الْقَاضِي ) أَيْ قَبْلَ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ ( حَيْثُ يَكُونُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْجَمِيعَ لِأَنَّهُ يَدَّعِي الْكُلَّ ) وَحُجَّتُهُ قَامَتْ بِهِ ( وَلَمْ يَفْسَخْ سَبَبَهُ ) أَيْ لَمْ يَفْسَخْ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِ الْكُلِّ فِي شَيْءٍ ( وَالْعَوْدُ إلَى النِّصْفِ لِلْمُزَاحَمَةِ وَلَمْ تُوجَدْ ) يَعْنِي إنَّمَا كَانَ الْقَضَاءُ لَهُ بِالنِّصْفِ لِمَانِعٍ وَهُوَ مُزَاحَمَةُ صَاحِبِهِ لَهُ ، فَإِذَا زَالَ الْمَانِعُ حَيْثُ لَمْ تُوجَدْ الْمُزَاحَمَةُ قُضِيَ لَهُ بِالْكُلِّ ( وَنَظِيرُهُ ) أَيْ نَظِيرُ مَا قَالَ أَحَدُ مُدَّعِي الشِّرَاءِ لَا أَخْتَارُ الْأَخْذَ قَبْلَ تَخْيِيرِ الْقَاضِي ( تَسْلِيمُ أَحَدِ الشَّفِيعَيْنِ قَبْلَ الْقَضَاءِ ) أَيْ تَسْلِيمُ أَحَدِهِمَا الشُّفْعَةَ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِهَا لَهُمَا حَيْثُ يَكُونُ لِلْآخَرِ أَنْ يَأْخُذَ جَمِيعَ الدَّارِ ( وَنَظِيرُ الْأَوَّلِ ) أَيْ نَظِيرُ مَا قَالَ أَحَدُ مُدَّعِي الشِّرَاءِ لَا أَخْتَارُ الْأَخْذَ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي لَهُمَا بِالْخِيَارِ ( تَسْلِيمُهُ بَعْدَ الْقَضَاءِ )

أَيْ تَسْلِيمُ أَحَدِ الشَّفِيعَيْنِ الشُّفْعَةَ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِهَا لَهُمَا حَيْثُ لَا يَكُونُ لِلْآخَرِ إلَّا أَخْذُ نِصْفِ الدَّارِ .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْهِدَايَةِ قَوْلَهُ وَالْعَوْدُ إلَى النِّصْفِ لِلْمُزَاحَمَةِ إلَى هُنَا ، وَذُكِرَ فِي بَعْضِهَا وَلِهَذَا لَمْ يَقَعْ شَرْحُهُ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِهَا وَنَحْنُ اخْتَرْنَا شَرْحَنَا وَالتَّنْبِيهَ عَلَى عَدَمِ وُجُودِهِ فِي بَعْضِ النُّسَخِ ( وَلَوْ ذَكَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَارِيخًا فَهُوَ لِلْأَوَّلِ مِنْهُمَا ) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الشِّرَاءَ فِي زَمَانٍ لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ أَحَدٌ ) فَاسْتِحْقَاقُهُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ ( فَانْدَفَعَ الْآخَرُ بِهِ ) إذْ قَدْ تَبَيَّنَ بِهِ أَنَّ الْآخَرَ اشْتَرَاهُ مِنْ غَيْرِ الْمَالِكِ فَكَانَ شِرَاؤُهُ بَاطِلًا ( وَلَوْ وُقِّتَتْ إحْدَاهُمَا ) أَيْ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ ( وَلَمْ تُؤَقَّتْ الْأُخْرَى فَهُوَ لِصَاحِبِ الْوَقْتِ لِثُبُوتِ مِلْكِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَاحْتَمَلَ الْآخَرُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ فَلَا يَقْضِي لَهُ بِالشَّكِّ ) أَقُولُ : فِيهِ شَيْءٌ وَهُوَ أَنَّ الْآخَرَ أَثْبَتَ الْمِلْكَ أَيْضًا ، وَإِنَّمَا الشَّكُّ فِي أَنَّهُ قَبْلَ ذَلِكَ الْوَقْتِ أَوْ بَعْدَهُ فَاحْتِمَالُ قَبْلِيَّتِهِ يَقْتَضِي رُجْحَانَهُ عَلَى صَاحِبِ الْوَقْتِ وَاحْتِمَالُ بَعْدِيَّتِهِ يَقْتَضِي الْعَكْسَ ، فَمَا الْوَجْهُ فِي الْعَمَلِ بِالِاحْتِمَالِ الثَّانِي عَلَى أَنَّ الشَّكَّ فِي أَنَّ أَحَدَهُمَا مُقَدَّمٌ عَلَى الْآخَرِ أَوْ مُؤَخَّرٌ عَنْهُ يَسْتَلْزِمُ الشَّكَّ أَيْضًا فِي أَنَّ الْآخَرَ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ أَوْ مُؤَخَّرٌ عَنْهُ فَلَمْ يَظْهَرْ الرُّجْحَانُ فِي جَانِبٍ ، فَالْوَجْهُ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكَافِي حَيْثُ قَالَ : وَلَوْ وُقِّتَتْ إحْدَاهُمَا وَلَمْ تُؤَقَّتْ الْأُخْرَى قُضِيَ بِهِ لِصَاحِبِ الْوَقْتِ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ لَهُ الْمِلْكُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ، وَاَلَّذِي لَمْ يُؤَقِّتْ يَثْبُتُ مِلْكُهُ فِي الْحَالِ لِأَنَّ شِرَاءَهُ حَادِثٌ فَيُضَافُ حُدُوثُهُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ مَا لَمْ

يَثْبُتُ التَّارِيخُ فَكَانَ شِرَاءُ الْمُؤَقَّتِ سَابِقًا فَكَانَ أَوْلَى انْتَهَى .
( وَإِنْ لَمْ يَذْكُرَا تَارِيخًا وَمَعَ أَحَدِهِمَا قَبْضٌ فَهُوَ أَوْلَى ) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَمَعْنَاهُ ) أَيْ وَمَعْنَى قَوْلِهِ : وَمَعَ أَحَدِهِمَا قَبْضٌ ( أَنَّهُ فِي يَدِهِ ) أَيْ الْقَبْضُ ثَابِتٌ فِي يَدِهِ مُعَايَنَةً ، وَإِنَّمَا احْتَاجَ إلَى التَّفْسِيرِ بِهَذَا لِأَنَّ قَوْلَهُ : وَمَعَ أَحَدِهِمَا قَبْضٌ يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلُ عَلَى أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَثْبَتَ قَبْضَهُ بِالْبَيِّنَةِ فِيمَا مَضَى مِنْ الزَّمَانِ وَهُوَ فِي الْحَالِ فِي يَدِ الْبَائِعِ ، وَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ هُنَاكَ عَلَى خِلَافِ هَذَا حَيْثُ ذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ ثُبُوتَ الْيَدِ لِأَحَدِ الْمُدَّعِيَيْنِ بِالْمُعَايَنَةِ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا .
أَقُولُ : بَقِيَ هَاهُنَا كَلَامٌ ، وَهُوَ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَالْمَسْأَلَةَ السَّابِقَةَ الَّتِي كَانَتْ مَذْكُورَةً أَيْضًا فِي مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ وَهِيَ قَوْلُهُ وَلَوْ ذَكَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَارِيخًا فَهُوَ لِلْأَوَّلِ مِنْهُمَا ، وَكَذَا الْمَسْأَلَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ فِي الْبَيِّنِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَلَوْ وُقِّتَتْ إحْدَاهُمَا وَلَمْ تُؤَقَّتْ الْأُخْرَى فَهُوَ لِصَاحِبِ الْوَقْتِ كُلُّهَا مِنْ شُعَبِ الْمَسْأَلَةِ الْمَارَّةِ هِيَ قَوْلُهُ : وَلَوْ ادَّعَى اثْنَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْهُ هَذَا الْعَبْدَ وَمُتَفَرَّعَاتُهَا يُرْشِدُ إلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَعُدْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا لَفْظُ الِادِّعَاءِ وَلَا ذَكَرَ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ كَمَا كَانَ الْأُسْلُوبُ الْمُطَّرِدُ عِنْدَ الِانْتِقَالِ إلَى مَسْأَلَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ .
وَقَدْ قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي صَدْرِ الْمَسْأَلَةِ مَعْنَاهُ مِنْ صَاحِبِ الْيَدِ ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا إذَا كَانَ الْمُدَّعِي فِي يَدِ الْبَائِعِ .
وَقَالَ هَاهُنَا : وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ فِي يَدِهِ : أَيْ فِي يَدِ أَحَدِ الْمُدَّعِيَيْنِ فَاقْتَضَى هَذَا أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعِي فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَكَانَ مُخَالِفًا لِوَضْعِ

الْمَسْأَلَةِ فَلْيُتَأَمَّلْ فِي التَّوْجِيهِ ( لِأَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ قَبْضِهِ يَدُلُّ عَلَى سَبْقِ شِرَائِهِ ) تَعْلِيلُ الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا أَنَّ الْحَادِثَ يُضَافُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ .
وَالثَّانِيَةُ أَنَّ " مَا " مَعَ الْبَعْدِ بَعْدِيَّةٌ زَمَانِيَّةٌ فَهُوَ بَعْدُ ، فَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَقَبْضٌ لِقَابِضٍ وَشِرَاءُ غَيْرِهِ حَادِثَانِ فَيُضَافَانِ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ فَيَحْكُمُ بِثُبُوتِهِمَا فِي الْحَالِ ، وَقَبْضُ الْقَابِضِ مَبْنِيٌّ عَلَى شِرَائِهِ وَمُتَأَخِّرٌ عَنْهُ ظَاهِرًا فَكَانَ بَعْدَ شِرَائِهِ ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ شِرَاءُ غَيْرِ الْقَابِضِ بَعْدَ شِرَاءِ الْقَابِضِ فَكَانَ شِرَاؤُهُ أَقْدَمَ تَارِيخًا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ التَّارِيخَ الْمُتَقَدِّمَ أَوْلَى انْتَهَى .
أَقُولُ : قَدْ أَخَذَ هَذَا التَّحْقِيقَ مِنْ تَقْرِيرِ صَاحِبِ الْكَافِي وَعَلَيْهِ عَامَّةُ الشُّرَّاحِ ، لَكِنْ لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ مَا جَرَتْ عَلَيْهِ عَادَةُ الْمُصَنِّفِ فِي أُسْلُوبِ تَحْرِيرِهِ مِنْ إيجَازِ الْكَلَامِ وَتَنْقِيحِ الْمُرَادِ مَا يَأْبَى أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ ذَلِكَ ، إذْ لَوْ أَرَادَ ذَلِكَ لَاكْتَفَى بِأَنْ قَالَ لِأَنَّ قَبْضَهُ يَدُلُّ عَلَى سَبْقِ شِرَائِهِ ، إذْ يَحْصُلُ بِهِ مَا هُوَ مَدَارُ ذَلِكَ التَّحْقِيقِ فَلَا يَبْقَى لِذِكْرِ تَمَكُّنِهِ مِنْ قَبْضِهِ مَوْقِعٌ حَسَنٌ ، فَعِنْدِي أَنَّ تَحْقِيقَ مُرَادِهِ هُوَ أَنَّ تَمَكُّنَ أَحَدِهِمَا مِنْ قَبْضِ الْمُدَّعِي يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ شِرَائِهِ إيَّاهُ سَابِقًا ، إذْ لَوْ كَانَ شِرَاءُ غَيْرِ الْقَابِضِ إيَّاهُ سَابِقًا لَمَا تَمَكَّنَ الْقَابِضُ مِنْ قَبْضِهِ .
فَإِنَّهُ يَصِيرُ حِينَئِذٍ مِلْكًا لِغَيْرِ الْقَابِضِ ، وَالْإِنْسَانُ لَا يَتَمَكَّنُ عَادَةً مِنْ قَبْضِ مِلْكِ الْغَيْرِ بَلْ إنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ قَبْضِ مِلْكِ نَفْسِهِ ، فَلَمَّا تَمَكَّنَ الْقَابِضُ مِنْ قَبْضِهِ دَلَّ تَمَكُّنُهُ مِنْهُ عَلَى سَبْقِ شِرَائِهِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَعَ كَوْنِهِ ظَاهِرًا مِنْ عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ بِلَا كُلْفَةٍ وَبِلَا

تَوَقُّفٍ عَلَى بَسْطِ مُقَدِّمَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ سَتَظْهَرُ ثَمَرَتُهُ الْجَلِيلَةُ عَنْ قَرِيبٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ( وَلِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي الْإِثْبَاتِ ) أَيْ وَلِأَنَّ الْقَابِضَ وَغَيْرَ الْقَابِضِ اسْتَوَيَا فِي إثْبَاتِ الشِّرَاءِ بِالْبَيِّنَةِ ، وَلِلْقَابِضِ أَمْرٌ مُرَجِّحٌ وَهُوَ يَدُهُ الثَّابِتَةُ بِالْمُعَايَنَةِ لِأَنَّ غَيْرَ الْقَابِضِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْقَابِضِ فِي الْعَقْدِ فَيَنْقُضُ يَدَ الْقَابِضِ وَأَنْ يَكُونَ بَعْدَهُ فِي الْعَقْدِ فَلَا يَنْقُصُ يَدَهُ فَصَارَ أَمْرُهُ مَشْكُوكًا ( فَلَا تُنْقَضُ الْيَدُ الثَّابِتَةُ بِالشَّكِّ ) .
لَا يُقَالُ : بَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى مِنْ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ فَيَنْبَغِي أَنْ تَرْجِعَ بَيِّنَةُ غَيْرِ الْقَابِضِ .
لِأَنَّا نَقُولُ : بَيِّنَةُ الْخَارِجِ إنَّمَا تَكُونُ أَوْلَى مِنْ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ إذَا ادَّعَيَا مِلْكًا مُطْلَقًا .
أَمَّا إذَا ادَّعَيَا الْمِلْكَ بِسَبَبٍ فَهُمَا سِيَّانِ نَصَّ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْكَافِي هَاهُنَا .
وَقَدْ صَرَّحُوا بِهِ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا مَا مَرَّ فِي أَوَائِلِ بَابِ الْيَمِينِ .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَطُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ وَبَيْنَ مَا إذَا ادَّعَيَا الشِّرَاءِ مِنْ اثْنَيْنِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ وَأَحَدُهُمَا قَابِضٌ فَإِنَّ الْخَارِجَ هُنَاكَ أَوْلَى .
وَالْجَوَابُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُدَّعِيَيْنِ ثَمَّةَ يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ الْمِلْكِ لِبَائِعِهِ أَوَّلًا ، فَاجْتَمَعَ فِي حَقِّ الْبَائِعَيْنِ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ وَذِي الْيَدِ فَكَانَ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى ، وَهَاهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ انْتَهَى .
وَقَدْ سَبَقَهُ إلَى هَذَا السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ صَاحِبُ النِّهَايَةِ ، وَزَادَ فِي الْبَيَانِ حَيْثُ قَالَ : فَأَمَّا هَاهُنَا فَلَا يَحْتَاجَانِ إلَى إثْبَاتِ الْمِلْكِ ، بَلْ هُوَ ثَابِتٌ بِتَصَادُقِهِمَا عَلَيْهِ ، إنَّمَا حَاجَتُهُمَا إلَى إثْبَاتِ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَيْهِ وَسَبَبُ الْقَابِضِ أَقْوَى لِتَأَكُّدِهِ بِالْقَبْضِ فَكَانَ هُوَ أَوْلَى انْتَهَى .
أَقُولُ : فِي الْجَوَابِ بَحْثٌ ، وَهُوَ أَنَّ الَّذِي يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُدَّعِيَيْنِ الْمِلْكُ لَهُ

ثَمَّةَ وَهُوَ بَائِعٌ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَيْسَ بِذِي يَدٍ بَلْ هُوَ خَارِجٌ كَغَيْرِ الْقَابِضِ مِنْ الْمُدَّعِيَيْنِ ، وَكَوْنُ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ أَوْلَى مِنْ بِينَةِ ذِي الْيَدِ فِيمَا إذَا أَثْبَتَا الْمِلْكَ لِأَنْفُسِهِمَا مُسَلَّمٌ ، وَأَمَّا فِيمَا إذَا أَثْبَتَاهُ لِخَارِجٍ آخَرَ فَمَمْنُوعٌ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ الدَّلِيلَ الَّذِي ذَكَرُوا لِإِثْبَاتِ كَوْنِ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ أَوْلَى مِنْ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ ، وَهُوَ أَنَّ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ أَكْثَرُ إثْبَاتًا أَوْ إظْهَارًا ، فَإِنَّ قَدْرَ مَا أَثْبَتَتْهُ الْيَدُ لَا تُثْبِتُهُ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ دَلِيلُ مُطْلَقِ الْمِلْكِ انْتَهَى .
إنَّمَا يَجْرِي فِيمَا إذَا أَثْبَتَا الْمِلْكَ لِأَنْفُسِهِمَا لَا فِيمَا إذَا أَثْبَتَاهُ لِخَارِجٍ آخَرَ كَمَا لَا يَخْفَى فَتَأَمَّلْ ( وَكَذَا لَوْ ذَكَرَ الْآخَرُ وَقْتًا ) أَيْ لَوْ ذَكَرَ غَيْرُ الْقَابِضِ وَقْتًا كَانَ الْعَبْدُ لِذِي الْيَدِ أَيْضًا ( لِمَا بَيَّنَّا ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : بَلْ عَامَّةُ الشُّرَّاحِ قَوْلُهُ لِمَا بَيَّنَّا إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ : لِأَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ قَبْضِهِ يَدُلُّ عَلَى سَبْقِ شِرَائِهِ .
أَقُولُ : يُرَدُّ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ حَمَلُوا قَوْلَ الْمُصَنِّفِ فِيمَا مَرَّ لِأَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ قَبْضِهِ يَدُلُّ عَلَى سَبْقِ شِرَائِهِ عَلَى التَّحْقِيقِ الْمَبْنِيِّ عَلَى الْمُقَدِّمَتَيْنِ كَمَا مَرَّ ، وَذَلِكَ التَّحْقِيقُ لَا يُجْرَى فِيمَا إذَا ذَكَرَ الْآخَرُ وَقْتًا لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ شِرَاءُ الْآخَرِ الَّذِي هُوَ غَيْرُ الْقَابِضِ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ لَمْ يَبْقَ مَجَالٌ لَأَنْ يُضَافَ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ ؛ لِأَنَّ إضَافَةَ الْحَادِثِ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ إنَّمَا تُتَصَوَّرُ فِيمَا إذَا لَمْ يَثْبُتْ التَّارِيخُ فَلَمْ تَحْصُلْ الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى .
وَلَمَّا لَمْ يَثْبُتْ تَارِيخُ قَبْضِ الْقَابِضِ أُضِيفَ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ الَّذِي هُوَ الْحَالُ فَلَمْ يَكُنْ شِرَاءُ غَيْرِ الْقَابِضِ بَعْدَ شِرَاءِ الْقَابِض فَلَمْ تَحْصُلْ الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ .
وَأَمَّا شِرَاءُ الْقَابِضِ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ سَابِقًا عَلَى قَبْضِهِ فِي الظَّاهِرِ حَمْلًا

لِفِعْلِ الْمُسْلِمِ عَلَى الصَّلَاحِ دُونَ الْغَصْبِ كَمَا ذَكَرُوا فِيمَا مَرَّ ، إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَعَيِّنِ السَّبْقِ عَلَى الْوَقْتِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْآخَرُ ، بَلْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ فَلَا يَقْضِي بِالشَّكِّ مِثْلُ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِيمَا إذَا لَمْ يُوَقِّتْ أَحَدُهُمَا وَوَقَّتَ الْآخَرُ وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا قَبْضٌ فَالصَّوَابُ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِيمَا مَرَّ ؛ لِأَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ قَبْضِهِ يَدُلُّ عَلَى سَبْقِ شِرَائِهِ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ هُنَاكَ ، ثُمَّ يُجْعَلُ قَوْلُهُ هَاهُنَا لِمَا بَيَّنَّا إشَارَةً إلَى ذَلِكَ الْقَوْلِ ، إذْ الْمَعْنَى الْمَذْكُورُ يَتَمَشَّى فِيمَا نَحْنُ فِيهِ أَيْضًا كَمَا لَا يَخْفَى ، وَهَذَا هُوَ الثَّمَرَةُ الَّتِي أَشَرْنَا إلَيْهَا فِيمَا مَرَّ آنِفًا ( إلَّا أَنْ يَشْهَدُوا ) أَيْ شُهُودُ الْخَارِجِ ( أَنَّ شِرَاءَهُ ) أَيْ شِرَاءَ الْخَارِجِ كَانَ ( قَبْلَ شِرَاءِ صَاحِبِ الْيَدِ ) فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْخَارِجُ أَوْلَى ( لِأَنَّ الصَّرِيحَ يَفُوقُ الدَّلَالَةَ ) يَعْنِي أَنَّ تَقَدُّمَ عَقْدِ الْخَارِجِ حِينَئِذٍ يَثْبُتُ بِتَصْرِيحِ شُهُودِهِ .
وَتَقَدُّمُ عَقْدِ الْآخَرِ بِالدَّلَالَةِ حَيْثُ دَلَّ تَمَكُّنُهُ مِنْ قَبْضِهِ عَلَى سَبْقِ شِرَاءِهِ كَمَا مَرَّ .
وَلَا عِبْرَةَ لِلدَّلَالَةِ فِي مُقَابَلَةِ التَّصْرِيحِ

.
قَالَ : ( وَإِنْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا شِرَاءً وَالْآخَرُ هِبَةً وَقَبَضَا ) مَعْنَاهُ مِنْ وَاحِدٍ ( وَأَقَامَا بَيِّنَةً وَلَا تَارِيخَ مَعَهُمَا فَالشِّرَاءُ أَوْلَى ) لِأَنَّ الشِّرَاءَ أَقْوَى لِكَوْنِهِ مُعَاوَضَةً مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، وَلِأَنَّهُ يُثْبِتُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ وَالْمِلْكُ فِي الْهِبَةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبْضِ ، وَكَذَا الشِّرَاءُ وَالصَّدَقَةُ مَعَ الْقَبْضِ لِمَا بَيَّنَّا ( وَالْهِبَةُ وَالْقَبْضُ وَالصَّدَقَةُ مَعَ الْقَبْضِ سَوَاءٌ حَتَّى يَقْضِيَ بَيْنَهُمَا ) لِاسْتِوَائِهِمَا فِي وَجْهِ التَّبَرُّعِ ، وَلَا تَرْجِيحَ بِاللُّزُومِ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى الْمَآلِ وَالتَّرْجِيحُ بِمَعْنًى قَائِمٍ فِي الْحَالِ ، وَهَذَا فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ صَحِيحٌ ، وَكَذَا فِيمَا يَحْتَمِلُهَا عِنْدَ الْبَعْضِ لِأَنَّ الشُّيُوعَ طَارِئٌ .
وَعِنْدَ الْبَعْضِ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ تَنْفِيذُ الْهِبَةِ فِي الشَّائِعِ وَصَارَ كَإِقَامَةِ الْبَيِّنَتَيْنِ عَلَى الِارْتِهَانِ وَهَذَا أَصَحُّ .

( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ : ( وَإِنْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا شِرَاءً وَالْآخَرُ هِبَةً وَقَبْضًا ) قَالَ الْمُصَنِّفُ ( مَعْنَاهُ مِنْ وَاحِدٍ ) أَيْ مَعْنَى مَا قَالَهُ الْقُدُورِيُّ ادَّعَى أَحَدُهُمَا شِرَاءً وَالْآخَرُ هِبَةً وَقَبْضًا مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِهِ احْتِرَازًا عَمَّا إذَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ اثْنَتَيْنِ ، فَإِنَّ الْمُدَّعِيَيْنِ حِينَئِذٍ سَوَاءٌ وَلَا أَوْلَوِيَّةَ لِلشِّرَاءِ عَلَى الْهِبَةِ كَمَا سَيَجِيءُ بَعْدُ ، ثُمَّ إنَّ تَمَامَ لَفْظِ الْقُدُورِيِّ ( وَأَقَامَا بَيِّنَةً وَلَا تَارِيخَ مَعَهُمَا فَالشِّرَاءُ أَوْلَى ) وَكَذَا الْحُكْمُ إذَا أَرَّخَا وَتَارِيخُهُمَا عَلَى السَّوَاءِ كَمَا ذَكَرَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ نَقْلًا عَنْ مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ( لِأَنَّ الشِّرَاءَ أَقْوَى ) أَيْ مِنْ الْهِبَةِ ( لِكَوْنِهِ مُعَاوَضَةً مِنْ الْجَانِبَيْنِ ) وَالْهِبَةُ تَبَرُّعٌ يُوجِبُ الِاسْتِحْقَاقَ مِنْ جَانِبٍ فَكَانَتْ بَيِّنَةُ الشِّرَاءِ مُثْبَتَةً لِلْأَكْثَرِ فَكَانَتْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَاتِ تَتَرَجَّحُ بِكَثْرَةِ الْإِثْبَاتِ ( وَلِأَنَّهُ يُثْبِتُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ : لِكَوْنِهِ مُعَاوَضَةً مِنْ الْجَانِبَيْنِ لَا عَلَى قَوْلِهِ : لِأَنَّ الشِّرَاءَ أَقْوَى : أَيْ وَلِأَنَّ الشِّرَاءَ يُثْبِتُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى شَيْءٍ ( وَالْمِلْكُ فِي الْهِبَةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبْضِ ) وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا يُثْبِتُ الْمِلْكَ بِذَاتِهِ أَقْوَى مِمَّا يُثْبِتُهُ بِوَاسِطَةِ الْغَيْرِ ، فَكَانَ هَذَا دَلِيلًا آخَرَ عَلَى كَوْنِ الشِّرَاءِ أَقْوَى مِنْ الْهِبَةِ ، يَشْهَدُ بِذَلِكَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِيمَا سَيَأْتِي لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْقُوَّةِ ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَيُثْبِتُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ انْتَهَى .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ : لِأَنَّهُ لِكَوْنِهِ مُعَاوَضَةً مِنْ الْجَانِبَيْنِ كَانَ أَقْوَى ، وَلِأَنَّ الشِّرَاءَ يُثْبِتُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ وَالْهِبَةُ لَا تُثْبِتُهُ إلَّا بِالْقَبْضِ فَكَانَ الشِّرَاءُ وَالْهِبَةُ ثَابِتَيْنِ مَعًا ، وَالشِّرَاءُ يُثْبِتُ

الْمِلْكَ دُونَ الْهِبَةِ لِتَوَقُّفِهَا عَلَى الْقَبْضِ انْتَهَى .
أَقُولُ : الظَّاهِرُ مِنْ تَحْرِيرِهِ هَذَا كَمَا تَرَى أَنَّهُ جَعَلَ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ وَلِأَنَّهُ يُثْبِتُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ : لِأَنَّ الشِّرَاءَ أَقْوَى ، فَجَعَلَ كُلًّا مِنْهُمَا دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا عَلَى أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ ، وَهُوَ أَوْلَوِيَّةُ الشِّرَاءِ كَمَا هُوَ صَرِيحُ كَلَامِ صَاحِبِ الْكَافِي هَاهُنَا ، لَكِنْ لَا يَخْفَى عَلَى ذِي مِسْكَةٍ أَنَّ قَوْلَ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ بَعِيدٌ هَذَا ، وَقَوْلُهُ : لِمَا بَيَّنَّا أَشَارَ إلَى مَا ذَكَرَ مِنْ الْوَجْهَيْنِ فِي أَنَّ الشِّرَاءَ أَقْوَى انْتَهَى .
ظَاهِرُ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَلِأَنَّهُ يُثْبِتُ الْمِلْكَ إلَخْ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ لِكَوْنِهِ مُعَاوَضَةً مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَيَكُونُ كُلٌّ مِنْهَا وَجْهًا مُسْتَقِلًّا لِكَوْنِ الشِّرَاءِ أَقْوَى كَمَا قَرَّرْنَاهُ ( فِيمَا قَبْلُ ، فَبَيْنَ كَلَامَيْهِ تَدَافُعٌ لَا يَخْفَى وَكَذَا الشِّرَاءُ وَالصَّدَقَةُ مَعَ الْقَبْضِ ) أَيْ كَذَا الْحُكْمُ إذَا ادَّعَى أَحَدُهُمَا الشِّرَاءَ وَالْآخَرُ الصَّدَقَةَ مَعَ الْقَبْضِ ( لِمَا بَيَّنَّا ) إشَارَةً إلَى مَا ذَكَرَ فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ مِنْ الْوَجْهَيْنِ لِكَوْنِ الشِّرَاءِ أَقْوَى ( وَالْهِبَةُ وَالْقَبْضُ وَالصَّدَقَةُ مَعَ الْقَبْضِ سَوَاءٌ ) يَعْنِي إذَا ادَّعَى أَحَدُهُمَا هِبَةً وَقَبْضًا وَالْآخَرُ صَدَقَةً وَقَبْضًا فَهُمَا سَوَاءٌ ( حَتَّى يَقْضِيَ بَيْنَهُمَا ) أَيْ نِصْفَيْنِ ، كَذَا فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ ( لِاسْتِوَائِهِمَا فِي وَجْهِ التَّبَرُّعِ ) فَإِنْ قِيلَ : لَا نُسَلِّمُ التَّسَاوِيَ فَإِنَّ الصَّدَقَةَ لَازِمَةٌ لَا تَقْبَلُ الرُّجُوعَ دُونَ الْهِبَةِ ، أَجَابَ بِقَوْلِهِ : ( وَلَا تَرْجِيحَ بِاللُّزُومِ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى الْمَآلِ ) أَيْ يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي ثَانِي الْحَالِ ، إذْ اللُّزُومُ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ صِحَّةِ الرُّجُوعِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ( وَالتَّرْجِيحُ بِمَعْنًى قَائِمٍ فِي الْحَالِ ) أَيْ التَّرْجِيحُ إنَّمَا يَقَعُ بِمَعْنًى قَائِمٍ فِي الْحَالِ لَا بِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى الْمَآلِ .
وَأُجِيبُ أَيْضًا بِأَنَّ

امْتِنَاعَ الرُّجُوعِ فِي الصَّدَقَةِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهَا وَهُوَ الثَّوَابُ لَا لِقُوَّةِ السَّبَبِ ، وَلِهَذَا لَوْ وَقَعَتْ الْهِبَةُ لِذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ لَمْ يَرْجِعْ فِيهَا أَيْضًا لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ صِلَةُ الرَّحِمِ ( وَهَذَا ) أَيْ الْقَضَاءُ بِالتَّنْصِيفِ بَيْنَهُمَا ( فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ ) كَالْحَمَامِ وَالرَّحَى ( صَحِيحٌ ، وَكَذَا فِيمَا يَحْتَمِلُهُ ) أَيْ فِيمَا يَحْتَمِلُ الِانْقِسَامَ كَالدَّارِ وَالْبُسْتَانِ ( عِنْدَ الْبَعْضِ لِأَنَّ الشُّيُوعَ طَارِئٌ ) يَعْنِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَثْبَتَ قَبْضَهُ فِي الْكُلِّ ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَسْلَمْ لَهُ الْبَعْضُ لِمُزَاحَمَةِ صَاحِبِهِ فَكَانَ الشُّيُوعُ طَارِئًا وَذَا لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ ( وَعِنْدَ الْبَعْضِ لَا يَصِحُّ ) وَلَا يَقْضِي لَهُمَا بِشَيْءٍ ( لِأَنَّهُ تَنْفِيذُ الْهِبَةِ فِي الشَّائِعِ ) فَصَارَ كَإِقَامَةِ الْبَيِّنَتَيْنِ عَلَى الِارْتِهَانِ .
قِيلَ هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ .
أَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقْضِيَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالنِّصْفِ عَلَى قِيَاسِ هِبَةِ الدَّارِ لِرَجُلَيْنِ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّا لَوْ قَضَيْنَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالنِّصْفِ فَإِنَّمَا نَقْضِي لَهُ بِالْعَقْدِ الَّذِي شَهِدَ بِهِ شُهُودُهُ ، وَعِنْدَ اخْتِلَافِ الْعَقْدَيْنِ لَا تَجُوزُ الْهِبَةُ لِرَجُلَيْنِ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي ، وَتَمَكُّنُ الشُّيُوعِ فِي الْمِلْكِ الْمُسْتَفَادِ بِالْهِبَةِ مَانِعٌ صِحَّتَهَا ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا

قَالَ ( وَإِذَا ادَّعَى أَحَدُهُمَا الشِّرَاءَ وَادَّعَتْ امْرَأَتُهُ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا عَلَيْهِ فَهُمَا سَوَاءٌ ) لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْقُوَّةِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يُثْبِتُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ وَهَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : الشِّرَاءُ أَوْلَى وَلَهَا عَلَى الزَّوْجِ الْقِيمَةُ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِالْبَيِّنَتَيْنِ بِتَقْدِيمِ الشِّرَاءِ ، إذْ التَّزَوُّجُ عَلَى عَيْنٍ مَمْلُوكَةٍ لِلْغَيْرِ صَحِيحٌ وَتَجِبُ قِيمَتُهُ عِنْدَ تَعَذُّرِ تَسْلِيمِهِ

( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( وَإِذَا ادَّعَى أَحَدُهُمَا الشِّرَاءَ ) أَيْ شِرَاءَ شَيْءٍ كَعَبْدٍ مَثَلًا مِنْ رَجُلٍ ( وَادَّعَتْ امْرَأَتُهُ أَنَّهُ ) أَيْ ذَلِكَ الرَّجُلَ ( تَزَوَّجَهَا عَلَيْهِ ) أَيْ تَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ الْمُدَّعِيَةَ عَلَى ذَلِكَ الْمُدَّعِي ( فَهُمَا سَوَاءٌ ) أَيْ يَقْضِي بِذَلِكَ الْمُدَّعِي بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ( لِاسْتِوَائِهَا ) أَيْ لِاسْتِوَاءِ الشِّرَاءِ وَالنِّكَاحِ ( فِي الْقُوَّةِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يُثْبِتُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ ) هَذَا إذَا لَمْ يُؤَرِّخَا أَوْ أَرَّخَا وَتَارِيخُهُمَا عَلَى السَّوَاءِ ، أَمَّا إذَا أَرَّخَا وَتَارِيخُ أَحَدِهِمَا أَسْبَقُ فَالْأَسْبَقُ أَوْلَى ، كَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ نَقْلًا عَنْ مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ .
وَعَنْ هَذَا قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي تَقْرِيرِ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ : إذَا ادَّعَى أَحَدُهُمَا الشِّرَاءَ وَادَّعَتْ امْرَأَتُهُ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا عَلَيْهِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ وَلَمْ يُؤَرِّخَا أَوْ أَرَّخَا وَتَارِيخُهُمَا عَلَى السَّوَاءِ يَقْضِي بِالْعَبْدِ بَيْنَهُمَا وَانْتَهَى .
وَفِي التَّبْيِينِ لِلْإِمَامِ الزَّيْلَعِيِّ : ثُمَّ لِلْمَرْأَةِ نِصْفُ الْعَيْنِ وَنِصْفُ قِيمَةِ الْعَيْنِ عَلَى الزَّوْجِ لِاسْتِحْقَاقِ الْآخَرِ نِصْفَ الْمُسَمَّى وَلِلْمُشْتَرِي نِصْفُ الْعَيْنِ وَيَرْجِعُ بِنِصْفِ الثَّمَنِ إنْ شَاءَ ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْعَقْدَ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ انْتَهَى ( وَهَذَا ) أَيْ الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ وَهُوَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا ( عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : الشِّرَاءُ أَوْلَى وَلَهَا عَلَى الزَّوْجِ الْقِيمَةُ ) أَيْ وَلِلْمَرْأَةِ عَلَى الزَّوْجِ تَمَامُ قِيمَةِ الْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ ( لِأَنَّهُ أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِالْبَيِّنَتَيْنِ بِتَقْدِيمِ الشِّرَاءِ ) يَعْنِي أَنَّ الْعَمَلَ بِالْبَيِّنَاتِ مَهْمَا أَمْكَنَ وَاجِبٌ لِكَوْنِهَا حُجَّةً مِنْ حُجَجِ الشَّرْعِ ، فَإِنْ قَدَّمْنَا النِّكَاحَ بَطَلَ الْعَمَلُ بِهَا لِأَنَّ الشِّرَاءَ بَعْدَهُ يَبْطُلُ إذَا لَمْ تُجِزْهُ الْمَرْأَةُ ، وَإِنْ قَدَّمْنَا الشِّرَاءَ صَحَّ الْعَمَلُ بِهَا

( إذْ التَّزَوُّجُ عَلَى عَيْنٍ مَمْلُوكَةٍ لِلْغَيْرِ صَحِيحٌ وَيَجِبُ قِيمَتُهُ عِنْدَ تَعَذُّرِ تَسْلِيمِهِ ) بِأَنْ لَا يُجِيزَهُ صَاحِبُهُ فَتَعَيَّنَ تَقْدِيمُ الشِّرَاءِ .
أَقُولُ : هَاهُنَا إشْكَالٌ ظَاهِرٌ ، وَهُوَ أَنَّ الْعَمَلَ بِالْبَيِّنَتَيْنِ بِتَقْدِيمِ الشِّرَاءِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِيمَا إذَا لَمْ يُؤَرِّخَا .
وَأَمَّا إذَا أَرَّخَا وَتَارِيخُهُمَا عَلَى السَّوَاءِ فَلَا كَمَا لَا يَخْفَى .
وَالْمَسْأَلَةُ تَعُمُّ الصُّورَتَيْنِ كَمَا مَرَّ آنِفًا فَكَيْفَ يَتِمُّ خِلَافُ مُحَمَّدٍ .
وَدَلِيلُهُ الْمَذْكُورُ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ وَلَمْ يُرْوَ عَنْ أَحَدٍ تَخْصِيصُ الْخِلَافِ بِالصُّورَةِ الْأُولَى ، وَقَدْ تَمَحَّلَ بَعْضُهُمْ فِي دَفْعِهِ فَقَالَ : وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ مَعْنَى الشَّهَادَةِ عَلَى التَّارِيخَيْنِ الْمُتَّحِدَيْنِ أَنْ يَقُولَ الشُّهُودُ مَثَلًا : كَانَ الْعَقْدُ فِي أَوَّلِ الظُّهْرِ مِنْ الْيَوْمِ الْفُلَانِيِّ ، وَظَاهِرٌ أَنَّهُ يَسَعُ فِيهِ الْعُقُودَ الْمُتَعَدِّدَةَ عَلَى التَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ إذْ لَمْ نَرَ شَاهِدَيْنِ يَشْهَدَانِ عَلَى وَقْتٍ مُضَيَّقٍ لَا يَسَعُ فِيهِ عَقْدَانِ انْتَهَى .
فَتَأَمَّلْ .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَذَكَرَ فِي الْأَسْرَارِ جَوَابَ أَبِي يُوسُفَ عَمَّا قَالَهُ مُحَمَّدٌ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِ السَّبَبِ مِلْكُ الْعَيْنِ ، وَالنِّكَاحُ إذَا تَأَخَّرَ لَمْ يُوجِبْ مِلْكَ الْمُسَمَّى كَمَا إذَا تَأَخَّرَ الشِّرَاءُ فَهُمَا سَوَاءٌ فِي حَقِّ تَمَلُّكِ الْعَيْنِ انْتَهَى .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : فِيهِ بَحْثٌ ، إذْ لَا يَنْدَفِعُ بِهَذَا مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ ، فَإِنَّهُ إذَا تَأَخَّرَ النِّكَاحُ ثَبَتَ مِلْكُ الْعَيْنِ فِي الْمُسَمَّى لِمُدَّعِي الشِّرَاءِ صُورَةً وَمَعْنًى وَلِمُدَّعِيهِ الْمَهْرُ مَعْنًى فَوُجِدَ الْعَمَلُ بِالْبَيِّنَتَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا سَوَّيْنَاهُمَا انْتَهَى .
أَقُولُ : هَذَا الْبَحْثُ سَاقِطٌ لِأَنَّهُ لَا يُثْبِتُ مِلْكَ الْعَيْنِ لِمُدَّعِيَةِ الْمَهْرِ عِنْدَ تَأَخُّرِ النِّكَاحِ لَا صُورَةً وَلَا مَعْنًى ، إذْ لَمْ نَسْمَعْ جَعْلَ مِلْكِ الْقِيمَةِ مِلْكَ الْعَيْنِ لَا بِحَسَبِ اللُّغَةِ وَلَا بِحَسَبِ

الْعُرْفِ .
وَلَئِنْ سَلِمَ ذَلِكَ فَلِأَبِي يُوسُفَ أَنْ يَقُولَ : الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ السَّبَبِ مِلْكُ الْعَيْنِ صُورَةً ، إذْ لَوْلَاهُ لَاكْتَفَى فِي الدَّعْوَى بِذِكْرِ مَبْلَغِ الْقِيمَةِ فَهُمَا سَوَاءٌ فِي حَقِّ ذَلِكَ

وَإِذَا ادَّعَى أَحَدُهُمَا رَهْنًا وَقَبْضًا وَالْآخَرُ هِبَةً وَقَبْضًا وَأَقَامَا بَيِّنَةً فَالرَّهْنُ أَوْلَى ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ ، وَفِي الْقِيَاسِ الْهِبَةُ أَوْلَى لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الْمِلْكَ وَالرَّهْنُ لَا يُثْبِتُهُ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمَقْبُوضَ بِحُكْمِ الرَّهْنِ مَضْمُونٌ وَبِحُكْمِ الْهِبَةِ غَيْرُ مَضْمُونٍ وَعَقْدُ الضَّمَانِ أَقْوَى .
بِخِلَافِ الْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ لِأَنَّهُ بَيْعُ انْتِهَاءٍ وَالْبَيْعُ أَوْلَى مِنْ الرَّهْنِ لِأَنَّهُ عَقْدُ ضَمَانٍ يُثْبِتُ الْمِلْكَ صُورَةً وَمَعْنًى ، وَالرَّهْنُ لَا يُثْبِتُهُ إلَّا عِنْدَ الْهَلَاكِ مَعْنًى لَا صُورَةً فَكَذَا الْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ

( وَإِنْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا رَهْنًا وَقَبْضًا وَالْآخَرُ هِبَةً وَقَبْضًا وَأَقَامَا بَيِّنَةً فَالرَّهْنُ أَوْلَى ) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ قَالَ الْمُصَنِّفُ : ( وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ ، وَفِي الْقِيَاسِ الْهِبَةُ أَوْلَى ) وَهُوَ رِوَايَةُ كِتَابِ الشَّهَادَاتِ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ .
وَجْهُ الْقِيَاسِ قَوْلُهُ : ( لِأَنَّهَا ) أَيْ لِأَنَّ الْهِبَةَ ( تُثْبِتُ الْمِلْكَ ) أَيْ مِلْكَ الْعَيْنِ ( وَالرَّهْنَ لَا يُثْبِتُهُ ) فَكَانَتْ بَيِّنَةُ الْهِبَةِ أَكْثَرَ إثْبَاتًا فَهِيَ أَوْلَى ( وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمَقْبُوضَ بِحُكْمِ الرَّهْنِ مَضْمُونٌ ) وَلِهَذَا قَالُوا : إنَّ الرَّهْنَ مَضْمُونٌ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ ( وَبِحُكْمِ الْهِبَةِ ) أَيْ الْمَقْبُوضُ بِحُكْمِ الْهِبَةِ ( غَيْرُ مَضْمُونٍ وَعَقْدُ الضَّمَانِ أَقْوَى ) أَيْ مِنْ عَقْدِ التَّبَرُّعِ ، وَلِأَنَّ بَيِّنَةَ الرَّهْنِ تُثْبِتُ بَدَلَيْنِ الْمَرْهُونَ وَالدَّيْنَ ، وَالْهِبَةُ لَا تُثْبِتُ إلَّا بَدَلًا وَاحِدًا فَكَانَتْ أَكْثَرَ إثْبَاتًا فَكَانَتْ أَوْلَى ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ ( بِخِلَافِ الْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ ) يَعْنِي لَا تُرَدُّ الْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ نَقْضًا حَيْثُ كَانَتْ أَوْلَى مِنْ الرَّهْنِ ( لِأَنَّهُ بَيْعُ انْتِهَاءٍ ) أَيْ لِأَنَّ الْهِبَةَ بَيْعُ انْتِهَاءٍ ، وَتَذْكِيرُ الضَّمِيرِ الرَّاجِعِ إلَى الْهِبَةِ بِاعْتِبَارِ الْخَبَرِ أَوْ بِتَأْوِيلِ الْعَقْدِ ( وَالْبَيْعُ أَوْلَى مِنْ الرَّهْنِ لِأَنَّهُ ) أَيْ الْبَيْعَ ( عَقْدُ ضَمَانٍ يُثْبِتُ الْمِلْكَ صُورَةً وَمَعْنًى ، وَالرَّهْنُ لَا يُثْبِتُهُ إلَّا عِنْدَ الْهَلَاكِ مَعْنًى لَا صُورَةً هَكَذَا الْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ ) أَيْ فَكَذَا الْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ أَوْلَى مِنْ الرَّهْنِ لِكَوْنِهَا بَيْعًا انْتِهَاءً .
فَإِنْ قُلْت : التَّرْجِيحُ بِمَعْنًى قَائِمٍ فِي الْحَالِ ، وَالْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ بَيْعٌ انْتِهَاءً تَبَرُّعٌ ابْتِدَاءً فَتَكُونُ كَالْهِبَةِ مَعَ الصَّدَقَةِ .
قُلْت : نَعَمْ هِيَ مُعَاوَضَةٌ انْتِهَاءً ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى مَقْصُودُ الْعَاقِدِ فِي الِابْتِدَاءِ عَادَةً فَتَكُونُ

مُعَاوَضَةً ابْتِدَاءً نَظَرًا إلَى الْمَقْصُودِ ، بِخِلَافِ اللُّزُومِ فِي الصَّدَقَةِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِلْمُتَصَدِّقِ فَلَا يَكُونُ اللُّزُومُ قَائِمًا فِي الْحَالِ ، لَا نَظَرًا إلَى الْعَقْدِ وَلَا إلَى الْعَاقِدِ وَمَقْصُودُهُ كَذَا فِي شَرْحِ تَاجِ الشَّرِيعَةِ

( وَإِنْ أَقَامَ الْخَارِجَانِ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ وَالتَّارِيخِ فَصَاحِبُ التَّارِيخِ الْأَقْدَمِ أَوْلَى ) لِأَنَّهُ أَثْبَتَ أَنَّهُ أَوَّلُ الْمَالِكَيْنِ فَلَا يَتَلَقَّى الْمِلْكَ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ وَلَمْ يَتَلَقَّ الْآخَرُ مِنْهُ .
( وَإِنْ أَقَامَ الْخَارِجَانِ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ وَالتَّارِيخِ فَصَاحِبُ التَّارِيخِ الْأَقْدَمِ أَوْلَى ) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِهِ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ لِأَنَّ صَاحِبَ التَّارِيخِ الْأَقْدَمِ ( أَثْبَتَ أَنَّهُ أَوَّلُ الْمَالِكَيْنِ فَلَا يُتَلَقَّى الْمِلْكُ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ وَلَمْ يَتَلَقَّ الْآخَرُ مِنْهُ ) أَيْ الْفَرْضُ أَنَّ الْآخَرَ لَمْ يَتَلَقَّ مِنْهُ هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ آخِرًا ، وَبِهِ قَالَ مُحَمَّدٌ أَوَّلًا ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ آخِرًا فَيَقْضِي بَيْنَهُمَا وَلَا يَكُونُ لِلتَّارِيخِ عِبْرَةٌ ، وَإِنْ أَرَّخَ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يُؤَرِّخْ الْآخَرُ فَفِي النَّوَادِرِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَقْضِي بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ لَا عِبْرَةَ لِلتَّارِيخِ عِنْدَهُ حَالَةَ الِانْفِرَادِ فِي دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَاتِ ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يَقْضِي لِلَّذِي أَرَّخَ ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَقْضِي لِلَّذِي لَمْ يُؤَرِّخْ لِأَنَّهُ يَدَّعِي أَوَّلِيَّةَ الْمِلْكِ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ نَقْلًا عَنْ الذَّخِيرَةِ ، وَسَيَأْتِي تَمَامُ بَيَانِهِ فِي الْكِتَابِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى

قَالَ : ( وَلَوْ ادَّعَيَا الشِّرَاءَ مِنْ وَاحِدٍ ) مَعْنَاهُ مِنْ غَيْرِ صَاحِبِ الْيَدِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى تَارِيخَيْنِ فَالْأَوَّلُ أَوْلَى ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ أَثْبَتَهُ فِي وَقْتٍ لَا مُنَازِعَ لَهُ فِيهِ ( وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْ آخَرَ وَذَكَرَا تَارِيخًا ) فَهُمَا سَوَاءٌ لِأَنَّهُمَا يُثْبِتَانِ الْمِلْكَ لِبَائِعَيْهِمَا فَيَصِيرُ كَأَنَّهُمَا حَضَرَا ثُمَّ يُخَيَّرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ ( وَلَوْ وَقَّتَتْ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ وَقْتًا وَلَمْ تُؤَقِّتْ الْأُخْرَى قَضَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ) لِأَنَّ تَوْقِيتَ إحْدَاهُمَا لَا يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ الْمِلْكِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْآخَرُ أَقْدَمَ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْبَائِعُ وَاحِدًا لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ لَا يُتَلَقَّى إلَّا مِنْ جِهَتِهِ ، فَإِذَا أَثْبَتَ أَحَدُهُمَا تَارِيخًا يَحْكُمُ بِهِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ أَنَّهُ تَقَدَّمَ شِرَاءُ غَيْرِهِ .

( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( وَلَوْ ادَّعَيَا الشِّرَاءَ مِنْ وَاحِدٍ ) قَالَ الْمُصَنِّفُ ( مَعْنَاهُ مِنْ غَيْرِ صَاحِبِ الْيَدِ ) أَيْ مَعْنَى قَوْلِهِ مِنْ وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِ صَاحِبِ الْيَدِ .
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : لَيْسَ فِي تَقْيِيدِهِ بِقَوْلِهِ مَعْنَاهُ مِنْ غَيْرِ صَاحِبِ الْيَدِ زِيَادَةُ فَائِدَةٍ ، فَإِنَّ فِي هَذَا الْحُكْمِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ وَفِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ لَا يَتَفَاوَتُ أَنْ يَكُونَ دَعْوَاهُمَا الشِّرَاءَ مِنْ صَاحِبِ الْيَدِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الْبَائِعُ وَاحِدًا لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ : دَارٌ فِي يَدِ رَجُلٍ ادَّعَاهَا رَجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ صَاحِبِ الْيَدِ بِكَذَا ، فَإِنْ أَرَّخَا وَتَارِيخُهُمَا عَلَى السَّوَاءِ أَوْ لَمْ يُؤَرِّخَا فَالدَّارُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي الدَّعْوَى وَالْحُجَّةِ ، وَإِنْ أَرَّخَا وَتَارِيخُ أَحَدِهِمَا أَسْبَقُ فَالسَّابِقُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ شِرَاءَهُ فِي وَقْتٍ لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ أَحَدٌ فَيَثْبُتُ شِرَاؤُهُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ ، وَيَتَبَيَّنُ أَنَّ الْآخَرَ اشْتَرَاهَا مِنْ غَيْرِ الْمَالِكِ .
وَإِنْ أَرَّخَ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يُؤَرِّخْ الْآخَرُ فَالْمُؤَرِّخُ أَوْلَى تَقْلِيلًا لِنَقْصِ مَا هُوَ ثَابِتٌ ؛ لِأَنَّا إذَا جَعَلْنَا الْمُؤَرِّخَ أَوْلَى فَقَدْ نَقَضْنَا شِرَاءَ الْآخَرِ لَا غَيْرُ .
وَأَمَّا إذَا قَضَيْنَا لِلَّذِي لَا تَارِيخَ لَهُ لَنَقَضْنَا عَلَى صَاحِبِ التَّارِيخِ شِرَاءَهُ وَتَارِيخَهُ بَعْدَمَا ثَبَتَ الْأَمْرَانِ بِالْبَيِّنَةِ ، وَإِذَا ادَّعَى الْخَارِجَانِ تَلَقِّيَ الْمِلْكِ مِنْ وَاحِدٍ آخَرَ بِأَنْ ادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهُ اشْتَرَى هَذِهِ الدَّارَ مِنْ فُلَانٍ بِكَذَا سَمَّى رَجُلًا وَجَاءَ رَجُلٌ آخَرُ وَادَّعَى أَنَّهُ اشْتَرَى هَذِهِ الدَّارَ مِنْ فُلَانٍ ذَلِكَ بِعَيْنِهِ ، فَإِنْ لَمْ يُؤَرِّخَا أَوْ أَرَّخَا وَتَارِيخُهُمَا عَلَى السَّوَاءِ يَقْضِي بِالدَّارِ بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ أَرَّخَا وَتَارِيخُ أَحَدِهِمَا أَسْبَقُ يَقْضِي لِأَسْبَقِهِمَا تَارِيخًا ، وَإِنْ أَرَّخَ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يُؤَرِّخْ الْآخَرُ

فَالْمُؤَرِّخُ أَوْلَى لِمَا قُلْنَا انْتَهَى .
وَقَدْ اقْتَفَى أَكْثَرُ الشُّرَّاحِ أَثَرَ صَاحِبِ النِّهَايَةِ فِي مُؤَاخَذَةِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا بِالْوَجْهِ الْمَذْكُورِ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ : قَيَّدَ بِقَوْلِهِ مَعْنَاهُ مِنْ غَيْرِ صَاحِبِ الْيَدِ كَيْ لَا يَلْزَمَ التَّكْرَارُ ، لِأَنَّهُ قَالَ أَوَّلًا : وَلَوْ ادَّعَى اثْنَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْهُ هَذَا الْعَبْدَ مَعْنَاهُ مِنْ صَاحِبِ الْيَدِ ، وَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْأَحْكَامَ وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا هَذَا الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ هُنَا ، فَيَثْبُتُ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَدَّعِيَا الشِّرَاءَ مِنْ صَاحِبِ الْيَدِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ فِي هَذَا الْحُكْمِ انْتَهَى .
أَقُولُ : الْحَقُّ مَا قَالَهُ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ .
وَتَوْضِيحُهُ أَنَّ الْإِمَامَ الْقُدُورِيَّ لَمَّا ذَكَرَ هَذَا الْحُكْمَ فِي مُخْتَصَرِهِ مَرَّتَيْنِ إحْدَاهُمَا هَاهُنَا وَالْأُخْرَى فِي أَثْنَاءِ الْأَحْكَامِ الْمُتَشَعِّبَةِ مِنْ قَوْلِهِ فِيمَا مَرَّ وَلَوْ ادَّعَى اثْنَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْهُ حَيْثُ قَالَ هُنَاكَ : وَلَوْ ذَكَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَارِيخًا فَهُوَ لِلْأَوَّلِ مِنْهُمَا فُهِمَ التَّكْرَارُ مِنْ كَلَامِهِ فِي الظَّاهِرِ فَصَرَفَ الْمُصَنِّفُ قَوْلَهُ الْأَوَّلَ إلَى مَا إذَا ادَّعَيَا مِنْ صَاحِبِ الْيَدِ ، وَقَوْلَهُ الثَّانِيَ مَا إذَا ادَّعَيَا مِنْ غَيْرِ صَاحِبِ الْيَدِ احْتِرَازًا عَنْ التَّكْرَارِ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ حَمْلُ الْمُؤْمِنِ عَلَى الصَّلَاحِ فَلَا غُبَارَ فِيهِ أَصْلًا .
وَالْعَجَبُ مِمَّنْ طَعَنُوا فِيهِ أَنَّهُمْ قَالُوا بِصَدَدِ شَرْحِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فِيمَا مَرَّ مَعْنَاهُ مِنْ صَاحِبِ الْيَدِ ، إنَّمَا قَيَّدَ بِهِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَوْ ادَّعَى الشِّرَاءَ مِنْ غَيْرِ صَاحِبِ الْيَدِ فَهُوَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ ادَّعَيَا الشِّرَاءَ مِنْ وَاحِدٍ أَوْ اثْنَيْنِ ، فَالْحُكْمُ عَلَى التَّفْصِيلِ يَجِيءُ بَعْدَ هَذَا فِي الْكِتَابِ انْتَهَى ، وَذَلِكَ الْكَلَامُ مِنْهُمْ اعْتِرَافًا بِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ هَاهُنَا وَلَوْ ادَّعَيَا الشِّرَاءَ مِنْ وَاحِدٍ ادَّعَيَاهُ مِنْ غَيْرِ صَاحِبِ

الْيَدِ ، إذْ لَا يَجِيءُ فِي الْكِتَابِ مَسْأَلَةُ إنْ ادَّعَيَا الشِّرَاءَ مِنْ وَاحِدٍ غَيْرَ قَوْلِهِ هَذَا ، وَبِأَنَّ فَائِدَةَ التَّقْيِيدِ هُنَاكَ الِاحْتِرَازُ عَنْ التَّكْرَارِ فَكَيْفَ لَمْ يَتَنَبَّهُوا لِكَوْنِ فَائِدَةِ التَّقْيِيدِ هَاهُنَا أَيْضًا الِاحْتِرَازَ عَنْ التَّكْرَارِ ( وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى تَارِيخَيْنِ ) هَذَا مِنْ تَتِمَّةِ مَا سَبَقَ : أَيْ لَوْ ادَّعَيَا الشِّرَاءَ مِنْ وَاحِدٍ غَيْرِ صَاحِبِ الْيَدِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى تَارِيخَيْنِ ( فَالْأَوَّلُ أَوْلَى ) أَيْ فَصَاحِبُ التَّارِيخِ الْأَوَّلِ أَوْلَى ( لِمَا بَيَّنَّا ) أَيْ فِي مَسْأَلَةِ إنْ ادَّعَيَا الشِّرَاءَ مِنْ صَاحِبِ الْيَدِ ( أَنَّهُ أَثْبَتَهُ ) أَيْ أَنَّ صَاحِبَ التَّارِيخِ الْأَوَّلِ أَثْبَتَ الشِّرَاءَ ( فِي وَقْتٍ لَا مُنَازِعَ لَهُ فِيهِ ) أَيْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَانْدَفَعَ الْآخَرُ بِهِ ( وَإِنْ أَقَامَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْ آخَرَ ) كَأَنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْ زَيْدٍ وَالْآخَرُ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْ عَمْرٍو ( وَذَكَرَا تَارِيخَهُمَا فَهُمَا سَوَاءٌ ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ : أَيْ ذَكَرَا تَارِيخًا وَاحِدًا ، وَأَمَّا لَوْ ذَكَرَا تَارِيخَيْنِ فَالسَّابِقُ أَوْلَى لِإِثْبَاتِ الْمِلْكِ لِبَائِعِهِ فِي وَقْتٍ لَا يُنَازِعُهُ الْآخَرُ فِيهِ وَيَرْجِعُ الْآخَرُ بِالثَّمَنِ عَلَى بَائِعِهِ لِاسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ مِنْ يَدِهِ ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ انْتَهَى .
وَقَدْ سَلَكَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ مَسْلَكَهُمَا فِي شَرْحِ الْمَقَامِ حَيْثُ قَالَ : وَذَكَرَا تَارِيخًا وَاحِدًا فَهُمَا سَوَاءٌ انْتَهَى .
وَقَالَ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ أَخْذًا مِنْ الْكَافِي : أَيْ سَوَاءٌ كَانَ تَارِيخُهُمَا وَاحِدًا أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَسْبَقَ تَارِيخًا فَهُمَا سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّهُمَا يُثْبِتَانِ الْمِلْكَ لِبَائِعِهِمَا وَلَا تَارِيخَ لِمِلْكِ الْبَائِعَيْنِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُمَا حَضَرَا وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ بِدُونِ التَّارِيخِ كَانَ الْمِلْكُ بَيْنَهُمَا ، فَكَذَا فِيمَنْ تَلَقَّى الْمِلْكَ مِنْهُمَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا ادَّعَيَا الشِّرَاءَ

مِنْ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا أَنَّ الْمِلْكَ كَانَ لَهُ ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ فِي التَّلَقِّي مِنْهُ وَأَسْبَقُهُمَا تَارِيخًا ، أَثْبَتَ التَّلَقِّيَ لِنَفْسِهِ فِي زَمَانٍ لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ صَاحِبُهُ فَيُقْضَى لَهُ بِذَلِكَ ، وَلَا يُقْضَى لِلْغَيْرِ بَعْدَ ذَلِكَ إلَّا إذَا ادَّعَى التَّلَقِّيَ مِنْهُ وَالْآخَرُ لَا يَدَّعِي التَّلَقِّيَ مِنْهُ انْتَهَى .
وَقَدْ سَلَكَ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ هَذَا الْمَسْلَكَ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ مِنْ الْكَنْزِ .
أَقُولُ : السِّرُّ فِي اخْتِلَافِ كَلِمَاتِ الثِّقَاتِ مِنْ شُرَّاحِ هَذَا الْكِتَابِ وَغَيْرِهِ فِي حِلِّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ اخْتِلَافُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ الْمُجْتَهِدِينَ فِيمَا إذَا ادَّعَيَا الشِّرَاءَ مِنْ اثْنَيْنِ وَكَانَ أَحَدُهُمَا أَسْبَقَ تَارِيخًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي مُعْتَبَرَاتِ الْفَتَاوَى حَيْثُ قَالَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ : وَإِنْ ادَّعَيَا الشِّرَاءَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ رَجُلٍ آخَرَ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ فُلَانٍ وَهُوَ يَمْلِكُهَا وَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ فُلَانٍ آخَرَ وَهُوَ يَمْلِكُهَا فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ وَقَّتَا فَصَاحِبُ الْوَقْتِ الْأَوَّلِ أَوْلَى فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يَعْتَبِرُ التَّارِيخَ ، وَإِنْ أَرَّخَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ يَقْضِي بَيْنَهُمَا اتِّفَاقًا انْتَهَى .
وَقَالَ فِي الْبَدَائِعِ : أَمَّا إذَا ادَّعَيَا الشِّرَاءَ مِنْ اثْنَيْنِ سِوَى صَاحِبِ الْيَدِ مُطْلَقًا مِنْ الْوَقْتِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ يُقْضَى بَيْنَهُمَا فِي نِصْفَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ وَقْتُهُمَا وَاحِدًا فَكَذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَسْبَقَ مِنْ الْآخَرِ فَالْأَسْبَقُ تَارِيخًا أَوْلَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، وَكَذَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فِي رِوَايَةِ الْأُصُولِ ، بِخِلَافِ الْمِيرَاثِ فَإِنَّهُ يَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ عِنْدَهُ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ فِي الْإِمْلَاءِ : أَنَّهُ سَوَّى بَيْنَ الْمِيرَاثِ وَبَيْنَ الشِّرَاءِ ، وَقَالَ : لَا عِبْرَةَ بِالتَّارِيخِ فِي الشِّرَاءِ أَيْضًا إلَّا أَنْ يُؤَرِّخَا مِلْكَ

الْبَائِعَيْنِ انْتَهَى .
وَذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ أَيْضًا كَذَلِكَ مَعَ نَوْعِ تَفْصِيلٍ وَكَذَا فِي غَيْرِهَا .
ثُمَّ أَقُولُ : الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ نَقْلِ تِلْكَ الْمُعْتَبَرَاتِ أَنَّ كَوْنَ صَاحِبِ التَّارِيخِ الْأَسْبَقِ أَوْلَى فِيمَا إذَا ادَّعَيَا الشِّرَاءَ مِنْ اثْنَيْنِ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ ، وَأَنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُجْتَهِدِينَ وَأَكْبَرِهِمْ ، فَحَمْلُ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ عَلَى مَا لَا يُنَافِيهِ أَوْلَى كَمَا لَا يَخْفَى .
قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ ( لِأَنَّهُمَا يُثْبِتَانِ الْمِلْكَ لِبَائِعِهِمَا فَيَصِيرُ كَأَنَّهُمَا حَضَرَا ) أَيْ فَيَصِيرُ كَأَنَّ الْبَائِعَيْنِ حَضَرَا وَادَّعَيَا وَأَرَّخَا تَارِيخًا وَاحِدًا ( ثُمَّ يَتَخَيَّرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ ) أَيْ مِنْ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ ، إنْ شَاءَ أَخَذَ نِصْفَ الْعَبْدِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ ( وَلَوْ وَقَّتَتْ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ وَقْتًا وَلَمْ تُؤَقِّتْ الْأُخْرَى قَضَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ) يَعْنِي إذَا ادَّعَى الْخَارِجَانِ شِرَاءً كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ رَجُلٍ آخَرَ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ وَوَقَّتَتْ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ دُونَ الْأُخْرَى قَضَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ( لِأَنَّ تَوْقِيتَ إحْدَاهُمَا لَا يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ الْمِلْكِ ) أَيْ عَلَى تَقَدُّمِ مِلْكِ بَائِعِهِ : يَعْنِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُدَّعِيَيْنِ هَاهُنَا خَصْمٌ عَنْ بَائِعِهِ فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ لَهُ ، وَتَوْقِيتُ إحْدَاهُمَا لَا يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ مِلْكِ بَائِعِهِ ( لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْآخَرُ أَقْدَمَ ) أَيْ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْبَائِعُ الْآخَرُ أَقْدَمَ فِي الْمِلْكِ ( بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْبَائِعُ وَاحِدًا لِأَنَّهُمَا ) أَيْ الْمُدَّعِيَيْنِ ( اتَّفَقَا ) فِي هَذِهِ الصُّورَةِ ( عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ لَا يُتَلَقَّى ) أَيْ لَا يُؤْخَذُ ( إلَّا مِنْ جِهَتِهِ ) أَيْ مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ الْوَاحِدِ ، فَحَاجَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى إثْبَاتِ سَبَبِ الِانْتِقَالِ إلَيْهِ وَهُوَ الشِّرَاءُ لَا إلَى إثْبَاتِ الْمِلْكِ لِلْبَائِعِ ( فَإِذَا أَثْبَتَ

أَحَدُهُمَا تَارِيخًا يَحْكُمُ بِهِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ أَنَّهُ تَقَدَّمَهُ شِرَاءُ غَيْرِهِ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ عِيَانًا ، وَلَوْ عَايَنَّا بِيَدِهِ الْمِلْكَ حَكَمْنَا بِهِ فَكَذَا إذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ إلَّا إذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ تَقَدَّمَ عَلَيْهِ شِرَاءُ غَيْرِهِ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي تَوْقِيتِ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ لَا فِي إثْبَاتِهَا الْيَدَ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ الْمُؤَقَّتَةِ كَالْمِلْكِ الثَّابِتِ الْمُعَايَنِ بِالْيَدِ فَلَا تَعَلُّقَ لِقَوْلِهِ وَلَوْ عَايَنَّا بِيَدِهِ الْمِلْكَ حَكَمْنَا بِهِ بِالْمَقَامِ ، وَإِنَّمَا اللَّازِمُ مِنْ كَوْنِ الثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ عِيَانًا أَنْ يَكُونَ شِرَاءُ مَنْ وَقَّتَتْ بَيِّنَتُهُ كَالشِّرَاءِ الْمُعَايَنِ لِثُبُوتِهِ بِالْبَيِّنَةِ ، وَلَكِنَّ الْآخَرَ مُشْتَرِكٌ فِي هَذَا اللَّازِمِ لِثُبُوتِ شِرَائِهِ أَيْضًا بِالْبَيِّنَةِ .
نَعَمْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْأَوَّلَ يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ عَايَنَّا شِرَاءَهُ وَوَقْتُهُ مَعْلُومٌ مُتَعَيِّنٌ عِنْدَنَا الْآنَ .
وَالثَّانِي يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ عَايَنَّا شِرَاءَهُ أَيْضًا وَلَكِنَّ وَقْتَهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ عِنْدَنَا الْآنَ ، بَلْ مُحْتَمِلٌ لِلتَّقَدُّمِ عَلَى الْآخَرِ وَالتَّأَخُّرِ عَنْهُ ، إلَّا أَنَّ هَذَا الْفَرْقَ لَا يُجْدِي نَفْعًا ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّا لَا نَحْكُمُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَيْضًا لِصَاحِبِ الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ مَا لَمْ نَعْرِفْ أَنَّهُ أَسْبَقُ مِنْ الْآخَرِ .
فَالْوَجْهُ فِي تَعْلِيلِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا أَنْ يُقَالَ : لِأَنَّ الشِّرَاءَ أَمْرٌ حَادِثٌ ، وَالْحَادِثُ يُضَافُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ وَقْتُهُ عَلَى مَا هُوَ الْقَاعِدَةُ الْمُقَرَّرَةُ عِنْدَهُمْ ، فَشِرَاءُ غَيْرِ الْمُؤَقَّتِ يُضَافُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ وَهُوَ الْحَالُ فَيَتَأَخَّرُ عَنْ شِرَاءِ الْمُؤَقَّتِ حُكْمًا ، وَقَدْ أُشِيرَ إلَى هَذَا الْوَجْهِ هَاهُنَا إجْمَالًا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ وَشَرْحِ تَاجِ الشَّرِيعَةِ ، وَمَرَّ مِنَّا تَفْصِيلُ نَظِيرِهِ

فِيمَا سَبَقَ نَقْلًا عَنْ الْكَافِي فَتَذَكَّرْ .
ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : حَاصِلُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ مَا ذَكَرَ مِنْ قَوْلِهِ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ لَا يُتَلَقَّى إلَّا مِنْ جِهَتِهِ .
وَأَمَّا الْبَاقِي فَمُشْتَرِكٌ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ ، وَذَلِكَ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْفَرْقِ لِجَوَازِ أَنْ يُقَالَ : مَنْ ثَبَتَ لَهُ الْمِلْكُ بِالْبَيِّنَةِ فَهُوَ كَمَنْ ثَبَتَ لَهُ عِيَانًا فَيَحْكُمُ بِهِ ، إلَّا إذَا تَبَيَّنَ تَقَدُّمُ شِرَاءِ غَيْرِهِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ لِذَلِكَ مَدْخَلًا فِي الْفَرْقِ لِأَنَّ الْبَائِعَ إذَا كَانَ وَاحِدًا كَانَ التَّعَاقُبُ ضَرُورِيًّا .
وَقَدْ ثَبَتَ لِأَحَدِهِمَا بِالْبَيِّنَةِ مِلْكٌ فِي وَقْتٍ وَمِلْكُ غَيْرِهِ مَشْكُوكٌ إنْ تَأَخَّرَ لَمْ يَضُرَّ وَإِنْ تَقَدَّمَ مِلْكٌ فَتَعَارَضَا فَيَرْجِعُ بِالْوَقْتِ .
وَأَمَّا إذَا كَانَ مُتَعَدِّدًا فَكَمَا جَازَ أَنْ يَقَعَا مُتَعَاقِبَيْنِ جَازَ أَنْ يَقَعَا مَعًا ، وَفِي ذَلِكَ تَعَارُضٌ أَيْضًا فَضَعْفُ قُوَّةِ الْوَقْتِ عَنْ التَّرْجِيعِ لِتَضَاعُفِ التَّفَاوُضِ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِي الْجَوَابِ بَحْثٌ ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ : لِأَنَّ الْبَائِعَ إذَا كَانَ وَاحِدًا كَانَ التَّعَاقُبُ ضَرُورِيًّا مَمْنُوعٌ لِجَوَازِ أَنْ يُوَكِّلَ وَاحِدٌ رَجُلَيْنِ بِبَيْعِ عَبْدِهِ مَثَلًا فَيَبِيعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ رَجُلٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ .
وَعَقْدُ الْوَكِيلِ كَعَقْدِ الْمُوَكِّلِ فَيُضَافُ عَقْدُهُ إلَى الْمُوَكِّلِ مَجَازًا كَمَا ذَكَرْنَا فِيمَا مَرَّ نَقْلًا عَنْ الْكَافِي وَعَامَّةِ الشُّرَّاحِ لِدَفْعِ السُّؤَالِ بِتَيَقُّنِ كَذِبِ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ : فَيُرَجَّحُ بِالْوَقْتِ غَيْرُ تَامٍّ لِأَنَّ الشَّكَّ فِي مِلْكِ غَيْرِ الْمُؤَقَّتِ يَسْتَلْزِمُ الشَّكَّ فِي مِلْكِ الْمُؤَقَّتِ لِأَنَّ تَقَدُّمَ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ يَسْتَلْزِمُ تَأَخُّرَ الْآخَرِ عَنْهُ وَكَذَا تَأَخُّرُهُ عَنْ الْآخَرِ يَسْتَلْزِمُ تَقَدُّمَ الْآخَرِ عَلَيْهِ فَاحْتِمَالُ تَقَدُّمِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ وَتَأَخُّرِهِ عَنْهُ وَهُوَ سَبَبُ الشَّكِّ فِي

مِلْكِهِ يَسْتَلْزِمُ احْتِمَالَ تَقَدُّمِ الْآخَرِ عَلَيْهِ وَتَأَخُّرِهِ عَنْهُ فَيَلْزَمُ الشَّكُّ فِي مِلْكِهِ أَيْضًا وَلَا شَكَّ أَنَّ الْوَقْتَ مِنْ حَيْثُ هُوَ وَقْتٌ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي تَرْجِيحِ الْمِلْكِ لِأَحَدِهِمَا ، بَلْ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ التَّرْجِيحُ بِهِ لِتَقَدُّمِهِ عَلَى وَقْتِ الْآخَرِ ، فَإِذَا كَانَ هَذَا مَشْكُوكًا فَلَا مَجَالَ لِلتَّرْجِيحِ بِهِ أَصْلًا .
وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ : فَضَعْفُ قُوَّةِ الْوَقْتِ عَنْ التَّرْجِيحِ لِتَضَاعُفِ التَّعَارُضِ غَيْرُ مَعْقُولٍ ؛ لِأَنَّ التَّعَارُضَ مَتَى تَضَاعَفَ لَا يُزِيدُ شَيْئًا عَلَى التَّسَاوِي وَالتَّسَاقُطِ ، فَمَا يَصْلُحُ لِلتَّرْجِيحِ فِي مَرْتَبَةٍ مِنْ التَّعَارُضِ يَنْبَغِي أَنْ يَصْلُحَ لَهُ فِي سَائِرِ الْمَرَاتِبِ مِنْهُ ، وَلَعَمْرِي إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ قَدْ تَصَنَّعَ فِي حَلِّ هَذَا الْمَقَامِ زِيَادَةً عَلَى سَائِرِ الشُّرَّاحِ وَلَكِنْ مَا أَتَى بِشَيْءٍ يُعْتَدُّ بِهِ كَمَا عَرَفْت ، وَإِنَّ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْوَجْهِ فِي تَعْلِيلِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا لَمَنْدُوحَةً عَنْ جَمِيعِ مَا ذَكَرَهُ فَتَفَكَّرْ

وَلَوْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا الشِّرَاءَ مِنْ رَجُلٍ وَالْآخَرُ الْهِبَةَ وَالْقَبْضَ مِنْ غَيْرِهِ وَالثَّالِثُ الْمِيرَاثَ مِنْ أَبِيهِ وَالرَّابِعُ الصَّدَقَةَ وَالْقَبْضَ مِنْ آخَرَ قَضَى بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا ) لِأَنَّهُمْ يَتَلَقَّوْنَ الْمِلْكَ مِنْ بَاعَتِهِمْ فَيَجْعَلُ كَأَنَّهُمْ حَضَرُوا وَأَقَامُوا الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ .
( وَلَوْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا الشِّرَاءَ مِنْ رَجُلٍ ، وَالْآخَرُ الْهِبَةَ وَالْقَبْضَ مِنْ غَيْرِهِ ، وَالثَّالِثُ الْمِيرَاثَ مِنْ أَبِيهِ ، وَالرَّابِعُ الصَّدَقَةَ وَالْقَبْضَ مِنْ آخَرَ ) وَأَقَامُوا الْبَيِّنَةَ ( قَضَى بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا ) وَهَذِهِ مِنْ مَسَائِلِ الْمَبْسُوطِ ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ تَفْرِيعًا ، وَقَالَ فِي تَعْلِيلِهَا ( لِأَنَّهُمْ يَتَلَقَّوْنَ الْمِلْكَ مِنْ بَاعَتِهِمْ ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ بَائِعِهِمْ ، وَكِلَاهُمَا بِطَرِيقِ التَّغْلِيبِ لِأَنَّ الْبَائِعَ وَاحِدٌ مِنْ الْمُمَلِّكِينَ الْأَرْبَعَةِ فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ مِنْ مُمَلِّكِيهِمْ .
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ : مِنْ مُلْقِيهِمْ اسْتِدْلَالًا بِلَفْظِ يَتَلَقَّوْنَ كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ ( فَيَجْعَلُ كَأَنَّهُمْ ) أَيْ الْمُمَلِّكِينَ ( حَضَرُوا وَأَقَامُوا الْبَيِّنَةَ ) عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ لِأَنْفُسِهِمْ ، وَثَمَّةَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا فَكَذَا هَاهُنَا

قَالَ : ( وَإِنْ أَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِلْكٍ مُؤَرَّخٍ وَصَاحِبُ الْيَدِ بَيِّنَةً عَلَى مِلْكٍ أَقْدَمَ تَارِيخًا كَانَ أَوْلَى ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ .
وَعَنْهُ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ رَجَعَ إلَيْهِ لِأَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ قَامَتَا عَلَى مُطْلَقِ الْمِلْكِ وَلَمْ يَتَعَرَّضَا لِجِهَةِ الْمِلْكِ فَكَانَ التَّقَدُّمُ وَالتَّأَخُّرُ سَوَاءً .
وَلَهُمَا أَنَّ الْبَيِّنَةَ مَعَ التَّارِيخِ مُتَضَمِّنَةٌ مَعْنَى الدَّفْعِ ، فَإِنَّ الْمِلْكَ إذَا ثَبَتَ لِشَخْصٍ فِي وَقْتٍ فَثُبُوتُهُ لِغَيْرِهِ بَعْدَهُ لَا يَكُونُ إلَّا بِالتَّلَقِّي مِنْ جِهَتِهِ وَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ عَلَى الدَّفْعِ مَقْبُولَةٌ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ لَوْ كَانَتْ الدَّارُ فِي أَيْدِيهِمَا وَالْمَعْنَى مَا بَيَّنَّا ، وَلَوْ أَقَامَ الْخَارِجُ وَذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِلْكٍ مُطْلَقٍ وَوُقِّتَتْ إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ الْخَارِجُ أَوْلَى .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ : صَاحِبُ الْوَقْتِ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَقْدَمُ وَصَارَ كَمَا فِي دَعْوَى الشِّرَاءِ إذَا أُرِّخَتْ إحْدَاهُمَا كَانَ صَاحِبُ التَّارِيخِ أَوْلَى .
وَلَهُمَا أَنَّ بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ إنَّمَا تُقْبَلُ لِتَضَمُّنِهَا مَعْنَى الدَّفْعِ ، وَلَا دَفْعَ هَاهُنَا حَيْثُ وَقَعَ الشَّكُّ فِي التَّلَقِّي مِنْ جِهَتِهِ ، وَعَلَى هَذَا إذَا كَانَتْ الدَّارُ فِي أَيْدِيهِمَا وَلَوْ كَانَتْ فِي يَدِ ثَالِثٍ ، الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَهُمَا سَوَاءٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : الَّذِي وَقَّتَ أَوْلَى .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : الَّذِي أَطْلَقَ أَوْلَى لِأَنَّهُ ادَّعَى أَوَّلِيَّةَ الْمِلْكِ بِدَلِيلِ اسْتِحْقَاقِ الزَّوَائِدِ وَرُجُوعِ الْبَاعَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى الْبَعْضِ .
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ التَّارِيخَ يُوجِبُ الْمِلْكَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِيَقِينٍ .
وَالْإِطْلَاقُ يَحْتَمِلُ غَيْرَ الْأَوَّلِيَّةِ ، وَالتَّرْجِيحُ بِالتَّيَقُّنِ ؛ كَمَا لَوْ ادَّعَيَا الشِّرَاءَ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ التَّارِيخَ يُضَامُهُ احْتِمَالُ عَدَمِ

التَّقَدُّمِ فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ فَصَارَ كَمَا لَوْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى مِلْكٍ مُطْلَقٍ ، بِخِلَافِ الشِّرَاءِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ حَادِثٌ فَيُضَافُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ فَيَتَرَجَّحُ جَانِبُ صَاحِبِ التَّارِيخِ .

( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( وَإِنْ أَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِلْكٍ مُؤَرَّخٍ ، وَصَاحِبُ الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِلْكٍ أَقْدَمَ تَارِيخًا كَانَ أَوْلَى ) أَيْ كَانَ صَاحِبُ الْيَدِ أَوْلَى .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَهَذَا ) أَيْ هَذَا الْحُكْمُ ( عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ وَعَنْهُ ) أَيْ عَنْ مُحَمَّدٍ ( أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ رَجَعَ إلَيْهِ ) يَعْنِي أَنَّ هَذَا قَوْلُهُ الْآخَرُ الْمَرْجُوعُ إلَيْهِ .
وَفِي الْمَبْسُوطِ ذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ ، وَهُوَ أَنَّ بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ إذَا كَانَتْ أَقْدَمَ تَارِيخًا مِنْ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ كَانَتْ أَوْلَى ؛ بَعْدَ انْصِرَافِهِ مِنْ الرَّقَّةِ .
وَقَالَ : لَا أَقْبَلُ مِنْ ذِي الْيَدِ بَيِّنَةً عَلَى تَارِيخٍ وَلَا غَيْرِهِ إلَّا لِلنِّتَاجِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ ؛ لِأَنَّ التَّارِيخَ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِأَوَّلِيَّةِ الْمِلْكِ بِخِلَافِ النِّتَاجِ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ ( لِأَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ قَامَتَا عَلَى مُطْلَقِ الْمِلْكِ وَلَمْ تَتَعَرَّضَا لِجِهَةِ الْمِلْكِ فَكَانَ التَّقَدُّمُ وَالتَّأَخُّرُ سَوَاءً ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : هَذَا يَحْتَاجُ إلَى الْبَيَانِ .
أَقُولُ : فِي الْبَيَانِ لَمَّا لَمْ تَتَعَرَّضْ الْبَيِّنَتَانِ لِجِهَةِ الْمِلْكِ وَجَازَ أَنْ تَكُونَ جِهَةُ الْمِلْكِ : أَيْ سَبَبِهِ فِي حَقِّ صَاحِبِ التَّارِيخِ الْمُؤَخَّرِ أَقْدَمَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَيَكُونُ صَاحِبُ التَّارِيخِ الْمُؤَخَّرِ أَسْبَقَ مِنْ الْآخَرِ فِي الْمِلْكِ لِتَقَدُّمِ سَبَبِ مِلْكِهِ عَلَى سَبَبِ مِلْكِ الْآخَرِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَتَانِ بِالتَّارِيخِ عَلَى الشِّرَاءِ وَإِحْدَاهُمَا أَسْبَقُ مِنْ الْأُخْرَى حَيْثُ كَانَ الْأَسْبَقُ أَوْلَى لِتَعَرُّضِهِ لِسَبْقِ سَبَبِ مِلْكِ أَحَدِ الْمُشْتَرِيَيْنِ وَهُوَ الشِّرَاءُ فَلَمْ يَبْقَ احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ الْآخَرُ أَسْبَقَ فِي الْمِلْكِ ( وَلَهُمَا ) أَيْ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ( أَنَّ الْبَيِّنَةَ مَعَ

التَّارِيخِ مُتَضَمِّنَةٌ مَعْنَى الدَّفْعِ ، فَإِنَّ الْمِلْكَ إذَا ثَبَتَ لِشَخْصٍ فِي وَقْتٍ فَثُبُوتُهُ لِغَيْرِهِ بَعْدَهُ لَا يَكُونُ إلَّا بِالتَّلَقِّي مِنْ جِهَتِهِ وَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ عَلَى الدَّفْعِ مَقْبُولَةٌ ) فَإِنَّ مَنْ ادَّعَى عَلَى ذِي الْيَدِ عَيْنًا وَأَنْكَرَ ذُو الْيَدِ ذَلِكَ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْهُ تَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ ، وَقَدْ مَرَّ قَبْلَ هَذَا قَبُولُ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ فِي أَنَّ الْعَيْنَ فِي يَدِهِ وَدِيعَةٌ حَتَّى يَنْدَفِعَ عَنْهُ دَعْوَى الْمُدَّعِي عِنْدَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ ، وَلَمَّا قُبِلَتْ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ عَلَى الدَّفْعِ صَارَتْ هَاهُنَا بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ بِذِكْرِ التَّارِيخِ الْأَقْدَمِ مُتَضَمِّنَةً دَفْعَ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهَا لَا تَصِحُّ إلَّا بَعْدَ إثْبَاتِ التَّلَقِّي مِنْ قَبْلِهِ فَتُقْبَلُ لِكَوْنِهَا لِلدَّفْعِ كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ ( وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ لَوْ كَانَتْ الدَّارُ فِي أَيْدِيهِمَا ) أَيْ لَوْ كَانَتْ الدَّارُ فِي أَيْدِيهِمَا كَانَ صَاحِبُ الْوَقْتِ الْأَوَّلِ أَوْلَى فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ : لَا يُعْتَبَرُ الْوَقْتُ وَكَأَنَّهُمَا قَامَتَا عَلَى مُطْلَقِ الْمِلْكِ فَتَكُونُ بَيْنَهُمَا ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ نَقْلًا عَنْ الْإِيضَاحِ ( وَالْمَعْنَى مَا بَيَّنَّاهُ ) وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الدَّلِيلِ فِي الطَّرَفَيْنِ ( وَلَوْ أَقَامَ الْخَارِجُ وَذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِلْكٍ مُطْلَقٍ ) أَيْ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ سَبَبٍ ( وَوَقَّتَتْ إحْدَاهُمَا ) أَيْ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ ( دُونَ الْأُخْرَى ) فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ الْخَارِجُ أَوْلَى .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ : ( صَاحِبُ الْوَقْتِ أَوْلَى ) إنَّمَا قَيَّدَ بِالتَّوْقِيتِ ؛ لِأَنَّ الْخَارِجَ وَذَا الْيَدِ إذَا أَقَامَا بَيِّنَةً عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ بِلَا ذِكْرِ تَارِيخٍ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ عِنْدَ عُلَمَائِنَا كُلِّهِمْ ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ عُلَمَائِنَا فِي دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ بَيْنَ الْخَارِجِ وَذِي

الْيَدِ عِنْدَ ذِكْرِ التَّارِيخِ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ ( لِأَنَّهُ أَقْدَمُ ) دَلِيلٌ عَلَى مَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ : أَيْ لِأَنَّ صَاحِبَ الْوَقْتِ أَقْدَمُ ( وَصَارَ كَمَا فِي دَعْوَى الشِّرَاءِ ) أَيْ صَارَ الْجَوَابُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَالْجَوَابِ فِي دَعْوَى الشِّرَاءِ ( إذَا أَرَّخَتْ إحْدَاهُمَا ) أَيْ إذَا أَرَّخَتْ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ هُنَاكَ ( كَانَ صَاحِبُ التَّارِيخِ أَوْلَى ) فَكَذَا هُنَا .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الشِّرَاءَ مَعْنًى حَادِثٌ ، فَإِذَا لَمْ يُؤَرِّخْ حُكِمَ بِوُقُوعِهِ فِي الْحَالِ وَكَانَ الْمُقَدِّمُ أَوْلَى مِنْهُ ، وَالْمِلْكُ لَيْسَ بِمَعْنًى حَادِثٍ فَلَا يُحْكَمُ بِوُقُوعِهِ فِي الْحَالِ .
كَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ ( وَلَهُمَا ) أَيْ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ( أَنَّ بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ إنَّمَا تُقْبَلُ لِتَضَمُّنِهِ ) أَيْ لِتَضَمُّنِ الْبَيِّنَةِ بِتَأْوِيلِ الشَّاهِدِ ( مَعْنَى الدَّفْعِ ) لِمَا مَرَّ آنِفًا ( وَلَا دَفْعَ هَاهُنَا حَيْثُ وَقَعَ الشَّكُّ فِي التَّلَقِّي مِنْ جِهَتِهِ ) أَيْ مِنْ جِهَةِ ذِي الْيَدِ لِأَنَّ بِذِكْرِ تَارِيخِ إحْدَاهُمَا لَمْ يَحْصُلْ الْيَقِينُ بِأَنَّ الْآخَرَ تَلَقَّاهُ مِنْ جِهَتِهِ لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْأُخْرَى لَوْ وَقَّتَتْ كَانَ أَقْدَمَ تَارِيخًا ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَرَّخَا وَكَانَ تَارِيخُ ذِي الْيَدِ أَقْدَمَ كَمَا تَقَدَّمَ .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : قِيلَ الِاسْتِدْلَال بِقَوْلِهِ : إنَّ بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ إنَّمَا تُقْبَلُ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الدَّفْعِ لَا يَسْتَقِيمُ لِمُحَمَّدٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقُولُ بِذَلِكَ إلَّا لَزِمَهُ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى .
وَأُجِيبُ بِأَنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى قَوْلِهِ الْأَوَّلِ انْتَهَى .
وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ حَيْثُ قَالَ : فِيهِ بَحْثٌ .
فَإِنَّ أَوْلَوِيَّةَ الْخَارِجِ عَلَى قَوْلِهِ الْآخَرِ الَّذِي لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ التَّارِيخُ نَصَّ عَلَيْهِ الْعَلَّامَةُ الْأَتْقَانِيُّ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ فَرَاجِعْهُ انْتَهَى .
أَقُولُ : هَذَا الِاعْتِرَاضُ لَيْسَ بِشَيْءٍ ، إذْ لَيْسَ مُرَادُ الْمُجِيبِ أَنَّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ : أَعْنِي

أَوْلَوِيَّةَ الْخَارِجِ فِيمَا إذَا وَقَّتَتْ إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلَهُ الْأَوَّلَ حَتَّى يُنَافِيَهُ نَصَّ الْعَلَّامَةُ الْأَتْقَانِيُّ عَلَى أَنَّهُ قَوْلُهُ الْآخَرُ ، بَلْ مُرَادُهُ أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ : إنَّ بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ إنَّمَا تُقْبَلُ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الدَّفْعِ بِصَدَدِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ الْأَوَّلِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فَلَا يَلْزَمُهُ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى عَلَى قَوْلِهِ الثَّانِي هُنَاكَ .
وَتَوْضِيحُ الْمَقَامِ أَنَّ لِمُحَمَّدٍ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ قَوْلَيْنِ : قَوْلُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ يَقْضِي لِلَّذِي لَمْ يُؤَقِّتْ ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى اعْتِبَارِ التَّارِيخِ حَالَةَ الِانْفِرَادِ عَلَى خِلَافِ مَا عَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ غَيْرَ الْمُؤَقَّتِ أَسْبَقُهُمَا تَارِيخًا بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى وَهُوَ دَعْوَى أَوَّلِيَّةِ الْمِلْكِ .
وَقَوْلُهُ الْآخَرُ أَنَّ الْخَارِجَ أَوْلَى ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِالتَّارِيخِ فَكَانَ الْمُؤَقَّتُ لَمْ يُؤَقَّتْ فَتَكُونُ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى لِكَوْنِهَا أَكْثَرَ إثْبَاتًا عَلَى مَا هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ مَذْهَبِنَا وَهُوَ فِي قَوْلِهِ الْآخَرِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ ، كَمَا أَنَّهُ فِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مَعَهُ وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يُفْصِحُ عَنْهُ مَا ذَكَرَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ نَقْلًا عَنْ مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ .
فَإِذَا عَرَفْت هَذَا فَنَقُولُ : لَوْ أُرِيدَ الِاسْتِدْلَال عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ الثَّانِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ رِعَايَةِ قَوْلِ الثَّانِي فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لَمْ يَحْتَجْ إلَى ذِكْرِ الْمُقَدِّمَةِ الْقَائِلَةِ إنَّ بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ إنَّمَا تُقْبَلُ لِتَضَمُّنِهَا مَعْنَى الدَّفْعِ ، بَلْ كَفَى أَنْ يُقَالَ : إنَّ بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ لَا تُقْبَلُ عِنْدَهُ أَصْلًا فِي غَيْرِ النِّتَاجِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ لِمَا مَرَّ لَهُ مِنْ الدَّلِيلِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى ،

وَلَكِنَّ الْمُصَنِّفَ لَمَّا قَصَدَ الْجَمْعَ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ فِي دَلِيلٍ وَاحِدٍ لِيُسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِ دَلِيلٍ آخَرَ لِمُحَمَّدٍ اسْتَدَلَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَوْلِ مُحَمَّدٍ الْآخَرِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِمَّا يَجْمَعُهُمَا مُرَاعِيًا قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَوْلَ مُحَمَّدٍ الْأَوَّلَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فَاحْتَاجَ إلَى ذِكْرِ تِلْكَ الْمُقَدِّمَةِ ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِالْجَوَابِ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ ، فَأَيْنَ هَذَا مِمَّا فَهِمَهُ الْمُعْتَرِضُ عَلَيْهِ .
وَقَالَ ذَلِكَ الْبَعْضُ .
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ النُّكْتَةُ لِأَبِي حَنِيفَةَ .
وَوَجْهُ مُحَمَّدٍ غَيْرُ مَذْكُورٍ هُنَا ، وَقَوْلُهُ لَهُمَا مِنْ قَبِيلِ { يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ } ا هـ .
أَقُولُ : لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ مِثْلَ هَذَا التَّوْجِيهِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ أَمْرٌ مُسْتَبْعَدٌ جِدًّا مِنْ وُجُوهٍ شَتَّى فَتَبَصَّرْ ( وَعَلَى هَذَا ) أَيْ الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ ( إذَا كَانَتْ الدَّارُ فِي أَيْدِيهِمَا ) وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ فَوَقَّتَتْ بَيِّنَةُ أَحَدِهِمَا دُونَ بَيِّنَةِ الْآخَرِ : يَعْنِي لَا عِبْرَةَ لِلتَّارِيخِ عِنْدَهُمَا ، وَالْمُرَادُ لِلْمُؤَرِّخِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ( وَلَوْ كَانَتْ فِي يَدِ ثَالِثٍ ) أَيْ وَلَوْ كَانَتْ الدَّارُ الْمُدَّعَاةُ فِي يَدِ ثَالِثٍ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا ) أَيْ وَقَّتَتْ بَيِّنَةُ أَحَدِ الْخَارِجَيْنِ فِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ دُونَ الْأُخْرَى .
( فَهُمَا سَوَاءٌ ) أَيْ فَالْخَارِجَانِ سَوَاءٌ : يَعْنِي يَقْضِي بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ( عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : الَّذِي وَقَّتَ أَوْلَى .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : الَّذِي أَطْلَقَ ) أَيْ لَمْ يُؤَقِّتْ ( أَوْلَى لِأَنَّهُ ) أَيْ الْإِطْلَاقَ ( دَعْوَى أَوَّلِيَّةِ الْمِلْكِ بِدَلِيلِ اسْتِحْقَاقِ الزَّوَائِدِ ) كَالْأَوْلَادِ وَالْأَكْسَابِ ( وَرُجُوعِ الْبَاعَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ ) أَيْ وَبِدَلِيلِ رُجُوعِ الْبَاعَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ ، فَإِنَّ مَنْ أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى مُطْلَقِ الْمِلْكِ فِي جَارِيَةٍ مَثَلًا

وَاسْتَحَقَّهَا وَزَوَائِدَهَا يَرْجِعُ بَاعَتُهَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فَكَانَ مُدَّعِي مُطْلَقِ الْمِلْكِ كَانَ مُدَّعِيًا لِلْمِلْكِ مِنْ الْأَصْلِ ، وَمِلْكُ الْأَصْلِ أَوْلَى مِنْ التَّارِيخِ ( وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ التَّارِيخَ يُوجِبُ الْمِلْكَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِيَقِينٍ ، وَالْإِطْلَاقُ يَحْتَمِلُ غَيْرَ الْأَوَّلِيَّةِ ، وَالتَّرْجِيحُ بِالتَّيَقُّنِ ) يَعْنِي أَنَّ الْعَمَلَ بِالْمُتَيَقِّنِ رَاجِحٌ عَلَى الْعَمَلِ بِالْمُحْتَمَلِ ( كَمَا لَوْ ادَّعَيَا الشِّرَاءَ ) أَيْ ادَّعَيَاهُ مِنْ بَائِعٍ وَاحِدٍ وَأَرَّخَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ كَانَ صَاحِبُ التَّارِيخِ أَوْلَى كَمَا مَرَّ ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ التَّارِيخَ يُضَامُهُ ) أَيْ يُزَاحِمُهُ ( احْتِمَالُ عَدَمِ التَّقَدُّمِ فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ ) أَيْ اعْتِبَارُ التَّارِيخِ : يَعْنِي أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَارِيخُ الَّذِي أَرَّخَ سَابِقًا عَلَى تَارِيخِ صَاحِبِهِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ ، فَنَزَّلْنَاهُ مُقَارِنًا لَهُ رِعَايَةً لِلِاحْتِمَالَيْنِ ، كَذَا فِي شَرْحِ تَاجِ الشَّرِيعَةِ وَغَيْرِهِ ( فَصَارَ ) أَيْ فَصَارَ حُكْمُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ( كَمَا لَوْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى مِلْكٍ مُطْلَقٍ ) أَيْ بِدُونِ أَنْ يَذْكُرَ التَّارِيخَ أَصْلًا ( بِخِلَافِ الشِّرَاءِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ كَمَا لَوْ ادَّعَيَا الشِّرَاءَ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ الشِّرَاءُ ( أَمْرٌ حَادِثٌ فَيُضَافُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ ) وَهُوَ الْحَالُ ( فَيَتَرَجَّحُ جَانِبُ صَاحِبِ التَّارِيخِ ) لِكَوْنِ شِرَاءِ صَاحِبِ التَّارِيخِ حِينَئِذٍ سَابِقًا عَلَى شِرَاءِ الْآخَرِ مِنْ زَمَانِ التَّارِيخِ لَا مَحَالَةَ .
أَقُولُ : الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ مِنْ الْمُصَنِّفِ فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ اسْتَدَلَّ عَلَى مَسْأَلَةِ الشِّرَاءِ فِيمَا مَرَّ بِمَا هُوَ فِي سَمْتِ دَلِيلِ أَبِي يُوسُفَ هَاهُنَا وَكُنْت اسْتَشْكَلْتُهُ هُنَاكَ ، وَاخْتَرْت مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكَافِي هُنَاكَ ، مُوَافِقًا لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي خَاتِمَةِ الْكَلَامِ هَاهُنَا فَتَذَكَّرْ

قَالَ ( وَإِنْ أَقَامَ الْخَارِجُ وَصَاحِبُ الْيَدِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً عَلَى النِّتَاجِ فَصَاحِبُ الْيَدِ أَوْلَى ) لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ قَامَتْ عَلَى مَا لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ فَاسْتَوَيَا ، وَتَرَجَّحَتْ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ بِالْيَدِ فَيَقْضِي لَهُ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ خِلَافًا لِمَا يَقُولُهُ عِيسَى بْنُ أَبَانَ إنَّهُ تَتَهَاتَرُ الْبَيِّنَتَانِ وَيُتْرَكُ فِي يَدِهِ لَا عَلَى طَرِيقِ الْقَضَاءِ ،

( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ : فِي مُخْتَصَرِهِ ( وَإِنْ أَقَامَ الْخَارِجُ وَصَاحِبُ الْيَدِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً عَلَى النِّتَاجِ فَصَاحِبُ الْيَدِ أَوْلَى ) سَوَاءٌ أَقَامَ صَاحِبُ الْيَدِ بَيِّنَةً عَلَى دَعْوَاهُ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِهَا لِلْخَارِجِ أَوْ بَعْدَهُ ، وَهَذَا جَوَابُ الِاسْتِحْسَانِ .
وَأَمَّا جَوَابُ الْقِيَاسِ فَالْخَارِجُ أَوْلَى ، وَبِهِ أَخَذَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى .
وَوَجْهُهُ أَنَّ بِبِنَّةِ الْخَارِجِ أَكْثَرُ اسْتِحْقَاقًا مِنْ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ لِأَنَّ الْخَارِجَ بِبَيِّنَتِهِ كَمَا يَثْبُتُ اسْتِحْقَاقُ أَوَّلِيَّةِ الْمِلْكِ بِالنِّتَاجِ يَثْبُتُ اسْتِحْقَاقُ الْمِلْكِ الثَّابِتِ لِذِي الْيَدِ بِظَاهِرِ يَدِهِ ، وَذُو الْيَدِ بِبَيِّنَتِهِ لَا يُثْبِتُ اسْتِحْقَاقَ الْمِلْكِ الثَّابِتِ لِلْخَارِجِ بِوَجْهٍ مَا ، فَكَانَتْ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى بِالْقَبُولِ كَمَا فِي دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَكَثِيرٍ مِنْ الشُّرُوحِ .
وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ ( لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ ) أَيْ بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ ( قَامَتْ عَلَى مَا لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْيَدُ ) وَهُوَ أَوَّلِيَّةُ الْمِلْكِ بِالنِّتَاجِ كَبَيِّنَةِ الْخَارِجِ ( فَاسْتَوَيَا وَتَرَجَّحَتْ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ بِالْيَدِ فَيَقْضِي لَهُ ) أَيْ لِذِي الْيَدِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِهَا لِلْخَارِجِ أَوْ بَعْدَهُ .
أَمَّا قَبْلَهُ فَظَاهِرٌ ، وَأَمَّا بَعْدَهُ فَلِأَنَّ ذَا الْيَدِ لَمْ يَصِرْ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ دَافِعَةٌ لِبَيِّنَةِ الْخَارِجِ لِأَنَّ النِّتَاجَ لَا يَتَكَرَّرُ ، فَإِذَا ظَهَرَتْ بَيِّنَةٌ دَافِعَةٌ تَبَيَّنَ أَنَّ الْحُكْمَ لَمْ يَكُنْ مُسْتَنِدًا إلَى حُجَّةٍ فَلَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا ، كَذَا قَرَّرَ فِي الْعِنَايَةِ وَاكْتَفَى بِهِ .
أَقُولُ : يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ وَجْهَ الِاسْتِحْسَانِ بِهَذَا التَّقْرِيرِ لَا يَدْفَعُ مَا ذَكَرُوا مِنْ وَجْهِ الْقِيَاسِ ؛ لِأَنَّ تَسَاوِيَ الْبَيِّنَتَيْنِ مِنْ جِهَةِ دَلَالَةِ كُلِّ وَجْهٍ مِنْهُمَا عَلَى أَوَّلِيَّةِ الْمِلْكِ بِالنِّتَاجِ لَا يُنَافِي أَنْ تَكُونَ بَيِّنَةُ

الْخَارِجِ أَكْثَرَ إثْبَاتًا لِلِاسْتِحْقَاقِ مِنْ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ مِنْ جِهَةِ إثْبَاتِ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ اسْتِحْقَاقَ الْمِلْكِ الثَّابِتِ لِذِي الْيَدِ بِظَاهِرِ يَدِهِ ، وَعَدَمِ إثْبَاتِ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ اسْتِحْقَاقَ الْمِلْكِ الثَّابِتِ لِلْخَارِجِ بِوَجْهٍ مَا عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ فِي وَجْهِ الْقِيَاسِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى بِنَاءً عَلَى زِيَادَةِ الْإِثْبَاتِ .
وَقَدْ كَانَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَالْكِفَايَةِ تَدَارَكَا ذَلِكَ فَزَادَا فِي تَقْرِيرِهِمَا شَيْئًا لِدَفْعِهِ حَيْثُ قَالَا : وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ أَكْثَرُ اسْتِحْقَاقًا .
قُلْنَا : نَعَمْ كَذَلِكَ ، إلَّا أَنَّ فِي بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ سَبْقُ التَّارِيخِ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ أَوَّلِيَّةَ الْمِلْكِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ مِنْ جِهَةِ الْغَيْرِ فَكَانَ أَوْلَى أَلَا يَرَى أَنَّهُمَا لَوْ ادَّعَيَا مِلْكًا مُطْلَقًا وَأَرَّخَا وَذُو الْيَدِ أَسْبَقُهُمَا تَارِيخًا يَقْضِي لِذِي الْيَدِ وَإِنْ كَانَتْ فِي بَيِّنَةِ الْخَارِجِ زِيَادَةُ اسْتِحْقَاقٍ عَلَى ذِي الْيَدِ انْتَهَى .
أَقُولُ : وَيُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ كَوْنَ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ مُثْبِتَةً لِأَوَّلِيَّةِ الْمِلْكِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ مِنْ جِهَةِ الْغَيْرِ إنَّمَا نَشَأَ مِنْ إثْبَاتِهَا النِّتَاجَ الَّذِي لَا يَتَكَرَّرُ ، وَهَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ مَوْجُودٌ فِي بَيِّنَةِ الْخَارِجِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ كَلَامَنَا فِيمَا إذَا أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَارِجِ وَصَاحِبِ الْيَدِ بَيِّنَةً عَلَى النِّتَاجِ كَمَا هُوَ صَرِيحُ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ هَاهُنَا وَفِيمَا إذَا لَمْ يَذْكُرَا تَارِيخًا ، فَإِنَّ مَا إذَا ذَكَرَا تَارِيخَا مَسْأَلَةٍ أُخْرَى لَهَا أَقْسَامٌ وَأَحْكَامٌ أُخَرُ كَمَا سَيَجِيءُ فِي آخِرِ هَذَا الْبَابِ ، فَإِذًا لَا مَعْنَى لِسَبْقِ التَّارِيخِ فِي بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ فَلَا تَمْشِيَةَ لِلتَّوْجِيهِ الَّذِي ذَكَرَاهُ هَاهُنَا .
وَاعْلَمْ أَنَّ وَجْهَ الِاسْتِحْسَانِ الَّذِي لَا يَحُومُ حَوْلَهُ شَائِبَةُ إشْكَالٍ هَاهُنَا مَا رَوَى أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ الْهَيْثَمِ عَنْ رَجُلٍ

عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ { أَنَّ رَجُلًا ادَّعَى نَاقَةً فِي يَدَيْ رَجُلٍ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا نَاقَتُهُ نَتَجَهَا وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا نَاقَتُهُ نَتَجَهَا ، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا لِلَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ } ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي الشُّرُوحِ أَخْذًا مِنْ الذَّخِيرَةِ أَنَّ بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ عَلَى النِّتَاجِ إنَّمَا تَتَرَجَّحُ عَلَى بَيِّنَةِ الْخَارِجِ إذَا لَمْ يَدَّعِ الْخَارِجُ عَلَى ذِي الْيَدِ فِعْلًا نَحْوَ الْغَضَبِ أَوْ الْوَدِيعَةِ أَوْ الْإِجَارَةِ أَوْ الرَّهْنِ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ .
وَأَمَّا إذَا ادَّعَى فَبَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى لِأَنَّ ذَا الْيَدِ بَيِّنَتُهُ تُثْبِتُ مَا هُوَ ثَابِتٌ ظَاهِرُ يَدِهِ مِنْ وَجْهٍ وَالْخَارِجُ بَيِّنَتُهُ تُثْبِتُ الْفِعْلَ وَهُوَ غَيْرُ ثَابِتٍ أَصْلًا فَكَانَتْ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَكْثَرَ إثْبَاتًا فَهِيَ أَوْلَى انْتَهَى .
وَلَكِنْ قَالَ عِمَادُ الدِّينِ فِي فُصُولِهِ بَعْدَ نَقْلِ مَا فِي الشُّرُوحِ عَنْ دَعْوَى الذَّخِيرَةِ : وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ فِي بَابِ دَعْوَى النِّتَاجِ فِي الْمَبْسُوطِ مَا يُخَالِفُ الْمَذْكُورَ فِي الذَّخِيرَةِ فَقَالَ : دَابَّةٌ فِي يَدِ رَجُلٍ أَقَامَ آخَرُ بَيِّنَةً أَنَّهَا دَابَّتُهُ آجَرَهَا مِنْ ذِي الْيَدِ أَوْ أَعَارَهَا مِنْهُ أَوْ رَهَنَهَا إيَّاهُ وَصَاحِبُ الْيَدِ أَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهَا دَابَّتُهُ نَتَجَتْ عِنْدَهُ فَإِنَّهُ يَقْضِي بِهَا لِصَاحِبِ الْيَدِ لِأَنَّهُ يَدَّعِي مِلْكَ النِّتَاجِ وَالْآخَرُ يَدَّعِي الْإِعَارَةَ أَوْ الْإِجَارَةَ أَوْ الرَّهْنَ وَالنِّتَاجُ أَسْبَقُ مِنْ الْإِعَارَةِ أَوْ الْإِجَارَةِ وَالرَّهْنِ فَيَقْضِي لِذِي الْيَدِ ، وَهَذَا خِلَافُ مَا ذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ انْتَهَى ( وَهَذَا ) أَيْ مَا ذَكَرَ مِنْ الْقَضَاءِ لِذِي الْيَدِ ( هُوَ الصَّحِيحُ ) وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ ( خِلَافًا لِمَا يَقُولُهُ عِيسَى بْنُ أَبَانَ إنَّهُ تَتَهَاتَرُ الْبَيِّنَتَانِ وَيُتْرَكُ فِي يَدِهِ ) أَيْ يُتْرَكُ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ فِي يَدِ ذِي الْيَدِ ( لَا عَلَى طَرِيقِ الْقَضَاءِ ) أَيْ لَا

عَلَى طَرِيقِ قَضَاءِ الِاسْتِحْقَاقِ بَلْ عَلَى طَرِيقِ قَضَاءِ التَّرْكِ .
وَجْهُ قَوْلِهِ : إنَّ الْقَاضِيَ يَتَيَقَّنُ بِكَذِبِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ نِتَاجُ دَابَّةٍ مِنْ دَابَّتَيْنِ ، وَفِي مِثْلِ هَذَا تَتَهَاتَرُ الْبَيِّنَتَانِ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ كُوفَةَ وَمَكَّةَ عَلَى مَا مَرَّ فِي أَوَّلِ هَذَا الْبَابِ .
وَجْهُ صِحَّةِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْعَامَّةُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ ذَكَرَ فِي الْخَارِجَيْنِ : أَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ أَنَّهُ يَقْضِي بِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَلَوْ كَانَ الطَّرِيقُ مَا قَالَهُ لَكَانَ يُتْرَكُ فِي يَدِ ذِي الْيَدِ ، وَكَذَلِكَ قَالَ : لَوْ كَانَتْ الشَّاةُ الْمَذْبُوحَةُ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا وَسَوَاقِطُهَا فِي يَدِ الْآخَرِ وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ فِيهَا يَقْضِي بِهَا وَبِالسَّوَاقِطِ لِمَنْ فِي يَدِهِ أَصْلُ الشَّاةِ ، وَلَوْ كَانَ الطَّرِيقُ تَهَاتُرُ الْبَيِّنَتَيْنِ لَكَانَ يُتْرَكُ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا فِي يَدِهِ .
وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : إنَّ الْقَاضِيَ تَيَقَّنَ بِكَذِبِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي شَهَادَةِ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى الْمِلْكَيْنِ بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اعْتَمَدَ سَبَبًا ظَاهِرًا مُطْلَقًا لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى النِّتَاجِ لَا يَلْزَمُ فِيهَا مُعَايَنَةُ الِانْفِصَالِ مِنْ الْأُمِّ ، بَلْ يَكْفِي رُؤْيَةُ الْفَصِيلِ يَتْبَعُ النَّاقَةَ فَكُلٌّ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ فِي شَهَادَتِهِ عَلَى النِّتَاجِ يَجُوزُ أَنْ يَعْتَمِدَ سَبَبًا ظَاهِرًا لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا وَلَا يُصَارُ إلَى التَّهَاتُرِ بِمَنْزِلَةِ شَهَادَةِ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى الْمِلْكَيْنِ حَيْثُ لَا تَتَهَاتَرُ الْبَيِّنَتَانِ مَعَ أَنَّ الْعَيْنَ الْوَاحِدَ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لِشَخْصَيْنِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِكَمَالِهِ ، وَلَكِنْ لَمَّا وَجَدَ الْقَاضِي لِشَهَادَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ مَحْمَلًا يُطْلِقُ لَهُ أَدَاءَ الشَّهَادَةِ بِأَنْ عَايَنَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ يُبَاشِرُ

سَبَبَ الْمِلْكِ وَعَايَنَ الْفَرِيقُ الْآخَرُ الْخَصْمَ الْآخَرَ يَتَصَرَّفُ فِيهِ تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ قَبْلَ شَهَادَةِ الْفَرِيقَيْنِ ، كَذَا هَاهُنَا .
وَعَنْ هَذَا خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ مَسْأَلَةِ مَكَّةَ وَالْكُوفَةِ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَمْ يَجِدْ لِشَهَادَةِ الْفَرِيقَيْنِ هُنَاكَ مَحْمَلًا يُطْلِقُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَدَاءَ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ الْمُطْلِقَ لِلشَّهَادَةِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ مُعَايَنَةُ الشُّهُودِ إيقَاعَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ ، وَلَا يُتَصَوَّرُ سَمَاعُ الْفَرِيقَيْنِ إيقَاعَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ بِمَكَّةَ وَكُوفَةَ ؛ لِأَنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ لَا يَكُونُ فِي مِثْلِ ذَيْنِكَ الْمَكَانَيْنِ عَادَةً فَتَهَاتَرَتْ الْبَيِّنَتَانِ هُنَاكَ لِذَلِكَ ، أَمَّا هَاهُنَا فَبِخِلَافِهِ .
ثُمَّ إنَّ ثَمَرَةَ الْخِلَافِ إنَّمَا تَظْهَرُ فِي حَقِّ تَحْلِيفِ ذِي الْيَدِ وَعَدَمِهِ ، فَعِنْدَ عِيسَى بْنِ أَبَانَ يَحْلِفُ ذُو الْيَدِ لِلْخَارِجِ لِأَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ لَمَّا تَهَاتَرَتَا صَارَ كَأَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ لَمْ تَقُومَا بِالشَّهَادَةِ أَصْلًا فَيَقْضِي لِذِي الْيَدِ قَضَاءَ تَرْكٍ بَعْدَمَا حَلَفَ لِلْخَارِجِ ، وَعِنْدَ الْعَامَّةِ لَا يَحْلِفُ ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَالذَّخِيرَةِ

وَلَوْ تَلْقَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْمِلْكَ مِنْ رَجُلٍ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ عِنْدَهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ إقَامَتِهَا عَلَى النِّتَاجِ فِي يَدِ نَفْسِهِ ( وَلَوْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ وَالْآخَرُ عَلَى النِّتَاجِ فَصَاحِبُ النِّتَاجِ أَوْلَى أَيُّهُمَا كَانَ ) لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ قَامَتْ عَلَى أَوَّلِيَّةِ الْمِلْكِ فَلَا يَثْبُتُ لِلْآخَرِ إلَّا بِالتَّلَقِّي مِنْ جِهَتِهِ ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى بَيْنَ خَارِجَيْنِ فَبَيِّنَةُ النِّتَاجِ أَوْلَى لِمَا ذَكَرْنَا ( وَلَوْ قَضَى بِالنِّتَاجِ لِصَاحِبِ الْيَدِ ثُمَّ أَقَامَ ثَالِثٌ الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ يَقْضِي لَهُ إلَّا أَنْ يُعِيدَهَا ذُو الْيَدِ ) لِأَنَّ الثَّالِثَ لَمْ يَصِرْ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ بِتِلْكَ الْقَضِيَّةِ ، وَكَذَا الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ تُقْبَلُ وَيُنْقَضُ الْقَضَاءُ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ النَّصِّ .

( لَوْ تَلَقَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ) أَيْ وَلَوْ أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَارِجِ وَذِي الْيَدِ ( الْمِلْكَ مِنْ رَجُلٍ ) عَلَى حِدَةٍ فَكَانَ هُنَاكَ مُمَلِّكَانِ ( وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ عِنْدَهُ ) أَيْ وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ عِنْدَ مَنْ تَلَقَّى الْمِلْكَ مِنْهُ ( فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ إقَامَتِهَا عَلَى النِّتَاجِ فِي يَدِ نَفْسِهِ ) فَيَقْضِي بِهِ لِذِي الْيَدِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَصْمٌ عَمَّنْ يَتَلَقَّى الْمِلْكَ مِنْهُ ، فَكَأَنَّ الْمُمَلِّكَيْنِ قَدْ حَضَرَا وَأَقَامَا عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً فَإِنَّهُ يَقْضِي ثَمَّةَ لِصَاحِبِ الْيَدِ كَذَلِكَ هَاهُنَا ( وَلَوْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ وَالْآخَرُ عَلَى النِّتَاجِ فَصَاحِبُ النِّتَاجِ أَوْلَى أَيُّهُمَا كَانَ ) أَيْ خَارِجًا كَانَ صَاحِبُ النِّتَاجِ أَوْ ذَا الْيَدِ ( لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ ) أَيْ لِأَنَّ بَيِّنَةَ صَاحِبِ الْيَدِ ( قَامَتْ عَلَى أَوَّلِيَّةِ الْمِلْكِ فَلَا يَثْبُتُ ) أَيْ فَلَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ ( لِلْآخَرِ إلَّا بِالتَّلَقِّي مِنْ جِهَتِهِ ) أَيْ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِ النِّتَاجِ ، وَالْفَرْضُ أَنَّ الْآخَرَ لَمْ يَتَلَقَّ مِنْهُ ( وَكَذَا إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى بَيْنَ خَارِجَيْنِ ) بِأَنْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا الْمِلْكَ وَالْآخَرُ النِّتَاجَ ( فَبَيِّنَةُ النِّتَاجِ أَوْلَى لِمَا ذَكَرْنَا ) مِنْ أَنَّ بَيِّنَتَهُ تَدُلُّ عَلَى أَوَّلِيَّةِ الْمِلْكِ فَلَا يَثْبُتُ لِلْآخَرِ إلَّا بِالتَّلَقِّي مِنْ جِهَتِهِ ( وَلَوْ قَضَى بِالنِّتَاجِ لِصَاحِبِ الْيَدِ ثُمَّ أَقَامَ ثَالِثٌ الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ يَقْضِي لَهُ ) أَيْ لِلثَّالِثِ ( إلَّا أَنْ يُعِيدَهَا ) أَيْ الْبَيِّنَةَ ( ذُو الْيَدِ ) فَحِينَئِذٍ يَقْضِي لَهُ ( لِأَنَّ الثَّالِثَ لَمْ يَصِرْ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ بِتِلْكَ الْقَضِيَّةِ ) لِأَنَّ الْمَقْضِيَّ بِهِ الْمِلْكُ ، وَثُبُوتُ الْمِلْكِ بِالْبَيِّنَةِ فِي حَقِّ شَخْصٍ لَا يَقْضِي بِثُبُوتِهِ فِي حَقِّ آخَرَ .
فَإِنْ أَعَادَ ذُو الْيَدِ بَيِّنَتَهُ قَضَى لَهُ بِهَا تَقْدِيمًا لِبَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ عَلَى بَيِّنَةِ الْخَارِجِ فِي النِّتَاجِ وَإِنْ لَمْ يُعِدْ قَضَى بِهَا

لِلثَّالِثِ .
قَالَ فِي الْبَدَائِعِ : فَرَّقَ بَيْنَ الْمِلْكِ وَبَيْنَ الْعِتْقِ أَنَّ الْقَضَاءَ بِالْعِتْقِ عَلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ يَكُونُ قَضَاءً عَلَى النَّاسِ كَافَّةً ، وَالْقَضَاءُ بِالْمِلْكِ عَلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ لَا يَكُونُ قَضَاءً عَلَى غَيْرِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ بَيِّنَةُ النِّتَاجِ تُوجِبُ الْمِلْكَ بِصِفَةِ الْأَوَّلِيَّةِ وَأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّكْرَارَ كَالْعِتْقِ .
وَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْعِتْقَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَقْدِرُ عَلَى إبْطَالِهِ حَتَّى لَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُ الْحُرِّ بِرِضَاهُ ، وَلَوْ كَانَ حَقُّ الْعَبْدِ لَقَدَرَ عَلَى إبْطَالِهِ ، وَإِذَا كَانَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَالنَّاسُ فِي إثْبَاتِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى خُصُومٌ عَنْهُ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ لِكَوْنِهِمْ عَبِيدَهُ ، فَكَانَ حَضْرَةُ الْوَاحِدِ كَحَضْرَةِ الْكُلِّ وَالْقَضَاءُ عَلَى الْوَاحِدِ قَضَاءً عَلَى الْكُلِّ لِاسْتِوَائِهِمْ فِي الْعُبُودِيَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْوَرَثَةِ لَمَّا قَامُوا مَقَامَ الْمَيِّتِ فِي إثْبَاتِ حُقُوقِهِ وَالدَّفْعِ عَنْهُ لِكَوْنِهِمْ خُلَفَاءَهُ قَامَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ مَقَامَ الْكُلِّ لِاسْتِوَائِهِمْ فِي الْخِلَافَةِ ، بِخِلَافِ الْمِلْكِ فَإِنَّهُ خَالِصُ حَقِّ الْعَبْدِ فَالْحَاضِرُ فِيهِ لَا يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْ الْغَائِبِ إلَّا بِالْإِنَابَةِ حَقِيقَةً أَوْ ثُبُوتِ النِّيَابَةِ شَرْعًا أَوْ اتِّصَالٍ بَيْنَ الْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ فِيمَا وَقَعَ فِيهِ الدَّعْوَى عَلَى مَا عُرْفٍ وَلَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَالْقَضَاءُ عَلَى غَيْرِهِ يَكُونُ قَضَاءَ الْغَائِبِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عَنْهُ خَصْمٌ حَاضِرٌ ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ انْتَهَى ( وَكَذَا الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ ) إنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ ( وَيُنْقَضُ الْقَضَاءُ ) أَيْ وَيُنْقَضُ الْقَضَاءُ الْأَوَّلُ .
صُورَتُهُ مَا إذَا أَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذِي الْيَد فِي دَابَّةٍ مُعَيَّنَةٍ بِالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ فَقَضَى الْقَاضِي بِهَا لَهُ ثُمَّ أَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ يَقْضِي بِهَا لَهُ وَيَنْقُضُ الْقَضَاءَ الْأَوَّلَ ، وَكَذَا فِي

النِّهَايَةِ وَالْكِفَايَةِ ( لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ النَّصِّ ) أَيْ لِأَنَّ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى النِّتَاجِ بِمَنْزِلَةِ النَّصِّ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْأَوَّلِيَّةِ قَطْعًا ، فَكَانَ الْقَضَاءُ الْوَاقِعُ عَلَى خِلَافِهِ كَالْقَضَاءِ الْوَاقِعِ عَلَى خِلَافِ النَّصِّ ، وَالْقَضَاءُ يُنْقَضُ هُنَاكَ ، كَذَا هُنَا ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ .
وَفِي الْقِيَاسِ : لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ لِأَنَّهُ صَارَ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ فَلَا تُقْبَلُ ، إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ تَلَقِّيَ الْمِلْكِ مِنْ جِهَةِ الْمَقْضِيِّ لَهُ .
وَجَوَابُهُ أَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى النِّتَاجِ تَبَيَّنَ أَنَّ الدَّافِعَ لِبَيِّنَةِ الْمُدَّعِي كَانَ مَوْجُودًا وَالْقَضَاءُ كَانَ خَطَأً فَأَنَّى يَكُونُ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا .
أَقُولُ : فِيهِ شَيْءٌ ، وَهُوَ أَنَّ فِي ظَاهِرِ هَذَا الْجَوَابِ خُرُوجًا عَنْ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا ، فَإِنَّ عِبَارَةَ الْمَسْأَلَةِ هَكَذَا : وَكَذَا الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ تُقْبَلُ ، وَيُنْقَضُ الْقَضَاءُ ، وَقَدْ صَرَّحَ فِيهَا بِكَوْنِهِ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ وَيُنْقَضُ الْقَضَاءُ .
فَإِنْكَارُ كَوْنِهِ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ يُنَافِيهِ ظَاهِرًا ، فَالْأَوْلَى فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ : إنَّ كَوْنَهُ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ لَا يَضُرُّ بِقَبُولِ بَيِّنَتِهِ ؛ لِأَنَّ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى النِّتَاجِ تَبَيَّنَ أَنَّ الدَّافِعَ لِبَيِّنَةِ الْمُدَّعِي كَانَ مَوْجُودًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ ظَاهِرًا عِنْدَ الْقَاضِي ، فَإِذَا ظَهَرَ تَبَيَّنَ خَطَأُ الْقَضَاءِ الْأَوَّلِ فَلَمْ يَكُنْ مُعْتَبَرًا فَيُنْقَضُ كَالْقَضَاءِ بِالظَّاهِرِ فِي خِلَافِهِ نَصٌّ .
قَالَ الشُّرَّاحُ : فَإِنْ قِيلَ الْقَضَاءُ بِبَيِّنَةِ الْخَارِجِ مَعَ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ عَلَى النِّتَاجِ مُجْتَهَدٌ فِيهِ ، فَإِنَّ ابْنَ أَبِي لَيْلَى يُرَجِّحُ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُنْقَضَ قَضَاءُ الْقَاضِي لِمُصَادَفَتِهِ مَوْضِعَ الِاجْتِهَادِ .
قُلْنَا : إنَّمَا يَكُونُ قَضَاؤُهُ

عَنْ اجْتِهَادٍ إذَا كَانَتْ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ قَائِمَةً عِنْدَهُ وَقْتَ الْقَضَاءِ فَيُرَجِّحُ بِاجْتِهَادِهِ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ عَلَيْهَا ، وَهَذِهِ الْبَيِّنَةُ مَا كَانَتْ قَائِمَةً عِنْدَهُ حَالَ الْقَضَاءِ فَلَمْ يَكُنْ قَضَاؤُهُ عَنْ اجْتِهَادٍ بَلْ كَانَ لِعَدَمِ مَا يَدْفَعُ الْبَيِّنَةَ مِنْ ذِي الْيَدِ ، فَإِذَا أَقَامَ مَا يَدْفَعُ بِهِ انْتَقَضَ الْقَضَاءُ الْأَوَّلُ انْتَهَى .
أَقُولُ : لَا يَتَوَجَّهُ السُّؤَالُ رَأْسًا لِأَنَّ كَلَامَنَا فِي أَنَّ الْمَقْضِيَّ عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ تُقْبَلُ وَيُنْقَضُ الْقَضَاءُ ، وَتَرْجِيحُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى الْخَارِجَ فِيمَا إذَا ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَارِجِ وَذُو الْيَدِ النِّتَاجَ عَلَى مَا بَيَّنَ فِيمَا قَبْلُ وَذَلِكَ غَيْرُ مَا نَحْنُ فِيهِ ، وَأَمَّا تَرْجِيحُهُ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ فِيمَا إذَا ادَّعَى الْخَارِجُ الْمِلْكَ الْمُطْلَقَ وَذُو الْيَدِ النِّتَاجَ كَمَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَغَيْرُ ثَابِتٍ .
وَقَدْ تَتَبَّعْت الْكُتُبَ وَلَمْ أَظْفَرْ بِالتَّصْرِيحِ بِذَلِكَ مِنْ أَحَدٍ قَطُّ ، وَمَا ذَكَرُوا فِيمَا مَرَّ مِنْ وَجْهِ جَوَابِ الْقِيَاسِ الَّذِي أَخَذَ بِهِ ابْنُ أَبِي لَيْلَى لَا يُسَاعِدُ ذَلِكَ جِدًّا كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْمُتَأَمِّلِ

قَالَ ( وَكَذَلِكَ النَّسْجُ فِي الثِّيَابِ الَّتِي لَا تُنْسَجُ إلَّا مَرَّةً ) كَغَزْلِ الْقُطْنِ وَكَذَلِكَ كُلُّ سَبَبٍ فِي الْمِلْكِ لَا يَتَكَرَّرُ ) لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى النِّتَاجِ كَحَلْبِ اللَّبَنِ وَاِتِّخَاذِ الْجُبْنِ وَاللِّبَدِ وَالْمِرْعِزَّى وَجَزِّ الصُّوفِ ، وَإِنْ كَانَ يَتَكَرَّرُ قُضِيَ بِهِ لِلْخَارِجِ بِمَنْزِلَةِ الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ وَهُوَ مِثْلُ الْخَزِّ وَالْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ وَزِرَاعَةِ الْحِنْطَةِ وَالْحُبُوبِ ، فَإِنْ أَشْكَلَ يَرْجِعُ إلَى أَهْلِ الْخِبْرَةِ لِأَنَّهُمْ أَعْرَفُ بِهِ ، فَإِنْ أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ قُضِيَ بِهِ لِلْخَارِجِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِبَيِّنَتِهِ هُوَ الْأَصْلُ وَالْعُدُولُ عَنْهُ بِخَبَرِ النِّتَاجِ ، فَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ يَرْجِعُ إلَى الْأَصْلِ .

( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( وَكَذَلِكَ النَّسِيجُ ) أَيْ النَّسْجُ كَالنِّتَاجِ فِي أَنَّهُ لَا يَتَكَرَّرُ ، وَكُلُّ حُكْمٍ عَرَفْته فِي النِّتَاجِ فَهُوَ فِي النَّسِيجِ كَذَلِكَ .
وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ : إذَا ادَّعَى رَجُلٌ ثَوْبًا فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهُ مِلْكُهُ بِأَنَّهُ نَسَجَهُ فِي مِلْكِهِ وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً وَأَقَامَ صَاحِبُ الْيَدِ بَيِّنَةً عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ قُضِيَ بِالثَّوْبِ لِصَاحِبِ الْيَدِ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ ( فِي الثِّيَابِ الَّتِي لَا تُنْسَجُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً كَغَزْلِ الْقُطْنِ ) هَذَا احْتِرَازٌ عَنْ الثِّيَابِ الَّتِي تُنْسَجُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى كَالْخَزِّ .
وَفِي الْمَبْسُوطِ : النَّسْخُ فِي الثَّوْبِ مُوجِبٌ لِأَوَّلِيَّةِ الْمِلْكِ فِيهِ وَهُوَ مِمَّا لَا يَتَكَرَّرُ كَالنِّتَاجِ فِي الدَّايَةِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الثَّوْبُ بِحَيْثُ يُنْسَجُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى كَالْخَزِّ يُنْسَجُ ثُمَّ يُنْكَثُ فَيُغْزَلُ وَيُنْسَجُ ثَانِيًا فَحِينَئِذٍ يَقْضِي لِلْخَارِجِ ( وَكَذَلِكَ كُلُّ سَبَبٍ فِي الْمِلْكِ لَا يَتَكَرَّرُ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى النِّتَاجِ ) قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْقِيَاسَ فِي دَعْوَى النِّتَاجِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ ابْنُ أَبِي لَيْلَى مِنْ أَنَّ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ أَوْلَى ، وَأَنَّ مَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ مِنْ كَوْنِ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ أَوْلَى اسْتِحْسَانٌ تَرَكْنَا الْقِيَاسَ فِيهِ بِالسُّنَّةِ ، وَهِيَ حَدِيثُ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَمَا رَوَيْنَا مِنْ قَبْلُ فَلَا يُلْحَقُ بِالنِّتَاجِ إلَّا مَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَكُلُّ مَا لَا يَتَكَرَّرُ مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ فَهُوَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَيُلْحَقُ بِهِ بِدَلَالَةِ النَّصِّ ( كَحَلْبِ اللَّبَنِ وَاِتِّخَاذِ الْجُبْنِ وَاللِّبَدِ ) أَيْ وَاِتِّخَاذِ اللِّبَدِ ( وَالْمِرْعِزَّى ) أَيْ وَجَزِّ الْمِرْعِزَّى إذَا شَدَّدْت الزَّايَ قَصَرْت وَإِذَا خَفَّفَتْ مَدَدْت ، وَالْمِيمُ وَالْعَيْنُ مَكْسُورَتَانِ .
وَقَدْ يُقَالُ : مَرْعَزَاءُ بِفَتْحِ الْمِيمِ مُخَفَّفًا مَمْدُودًا وَهِيَ كَالصُّوفِ تَحْتَ شَعْرِ الْعَنْزِ ، كَذَا فِي الْمُغْرِبِ ( وَجَزِّ الصُّوفِ ) فَإِذَا ادَّعَى كُلُّ

وَاحِدٍ مِنْ الْخَارِجِ وَذِي الْيَدِ لَبَنًا أَنَّهُ مِلْكُهُ حَلَبَهُ مِنْ شَاتِه ، أَوْ ادَّعَى جُبْنًا أَنَّهُ مِلْكُهُ صَنَعَهُ فِي مِلْكِهِ ، أَوْ ادَّعَى لِبْدًا أَنَّهُ مِلْكُهُ صَنَعَهُ فِي مِلْكِهِ ، أَوْ ادَّعَى مِرْعِزَّى أَنَّهَا مِلْكُهُ جَزّهَا مِنْ عَنْزِهِ ، أَوْ ادَّعَى صُوفًا أَنَّهُ مِلْكُهُ جَزَّهُ مِنْ غَنَمِهِ وَأَقَامَا عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً فَإِنَّهُ يَقْضِي بِذَلِكَ لِذِي الْيَدِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ كُلِّهَا ؛ لِأَنَّ أَسْبَابَ الْمِلْكِ فِيهَا لَا تَكُونُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فَكَانَتْ فِي مَعْنَى النِّتَاجِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَأُلْحِقَتْ بِهِ ( وَإِنْ كَانَ يَتَكَرَّرُ ) أَيْ وَإِنْ كَانَ سَبَبُ الْمِلْكِ يَتَكَرَّرُ ( قُضِيَ بِهِ لِلْخَارِجِ بِمَنْزِلَةِ الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الثَّوْبَ الَّذِي يُنْسَجُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ لِذِي الْيَدِ بِالنَّسْجِ ثُمَّ يَغْصِبُهُ الْخَارِجُ وَيَنْقُضُهُ وَيَنْسِجُهُ مَرَّةً أُخْرَى فَيَصِيرُ مِلْكًا لَهُ بِهَذَا السَّبَبِ بَعْدَ مَا كَانَ مِلْكًا لِذِي الْيَدِ فَكَانَ بِمَعْنَى دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ، بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ الثَّوْبَ الَّذِي لَا يُنْسَجُ إلَّا مَرَّةً إذَا صَارَ لِذِي الْيَدِ يَنْسِجُهُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَصِيرَ لِلْخَارِجِ بِنَسْجِهِ فَكَانَ فِي مَعْنَى دَعْوَى النِّتَاجِ انْتَهَى .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : فِيهِ بَحْثٌ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ السَّبَبَ يُرَادُ لِحُكْمِهِ كَمَا سَيَجِيءُ بَعْدَ أَسْطُرٍ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ نَقْضُ الْيَدِ الثَّابِتَةِ بِالشَّكِّ انْتَهَى .
أَقُولُ : كِلَا بَحْثَيْهِ سَاقِطٌ جِدًّا .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ لَا يَقْضِي هَاهُنَا بِالْبَيِّنَتَيْنِ بِنَاءً عَلَى اعْتِبَارِ السَّبَبَيْنِ حَتَّى يُقَالَ : إنَّ السَّبَبَ يُرَادُ لِحُكْمِهِ وَهُوَ الْمِلْكُ وَلَمْ يَثْبُتُ الْمِلْكُ بِالنِّسْبَةِ إلَى ذِي الْيَدِ حَيْثُ كَانَ الْمُدَّعَى لِلْخَارِجِ ؛ بَلْ إنَّمَا يَقْضِي هَاهُنَا بِبَيِّنَةِ الْخَارِجِ فَقَطْ بِنَاءً عَلَى كَوْنِهَا أَكْثَرَ إثْبَاتًا كَمَا فِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ فَلَمْ

يُعْتَبَرْ إلَّا سَبَبٌ وَاحِدٌ هُوَ الْخَارِجُ ، بِخِلَافِ مَا سَيَجِيءُ بَعْدَ أَسْطُرٍ حَيْثُ يَقْضِي هُنَاكَ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ بِالْبَيِّنَتَيْنِ عَلَى اعْتِبَارِ السَّبَبَيْنِ وَيَكُونُ الْمُدَّعَى لِلْخَارِجِ ؛ فَيُتَّجَهُ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ الْإِمَامَيْنِ أَنْ يُقَالَ : إنَّ السَّبَبَ يُرَادُ لِحُكْمِهِ وَهُوَ الْمِلْكُ ، وَحَيْثُ لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ لِذِي الْيَدِ لَمْ يَكُنْ السَّبَبُ مُفِيدًا لِحُكْمِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ ، وَسَيَتَّضِحُ لَك الْأَمْرُ هُنَاكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ مِنْ الْمَعْنَى لَيْسَ عِلَّةً لِلْقَضَاءِ لِلْخَارِجِ فِيمَا يَتَكَرَّرُ مِنْ الْأَسْبَابِ حَتَّى يُقَالَ : كَيْفَ تُنْقَضُ الْيَدُ الثَّابِتَةُ بِالْمُحْتَمَلِ الْمَشْكُوكِ ، بَلْ هُوَ مُجَرَّدُ بَيَانِ كَوْنِ الدَّعْوَى بِسَبَبٍ يَتَكَرَّرُ فِي مَعْنَى دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ دُونَ دَعْوَى النِّتَاجِ حَيْثُ لَا يَدُلُّ السَّبَبُ الَّذِي يَتَكَرَّرُ عَلَى أَوَّلِيَّةِ الْمِلْكِ كَالنِّتَاجِ ، بَلْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَثْبُتَ بِهِ الْمِلْكُ أَوَّلًا وَثَانِيًا كَالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ ، وَإِنَّمَا عِلَّةُ الْقَضَاءِ لِلْخَارِجِ بَعْدَ تَقَرُّرِ ذَلِكَ الْمَعْنَى كَوْنُ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ أَكْثَرَ إثْبَاتًا مِنْ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ كَمَا تَحَقَّقَ فِي مَسْأَلَةِ دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ وَلَا حَاجَةَ إلَى بَيَانِهِ هَاهُنَا ، وَمَفَاسِدُ قِلَّةِ التَّأَمُّلِ مِمَّا يَضِيقُ عَنْ الْإِحَاطَةِ بِهِ نِطَاقُ الْبَيَانِ ، وَاسْتَشْكَلَ ذَلِكَ الْبَعْضُ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ وَإِنْ كَانَ يَتَكَرَّرُ قُضِيَ بِهِ لِلْخَارِجِ حَيْثُ قَالَ فِيهِ : إنَّ الشِّرَاءَ سَبَبٌ يَتَكَرَّرُ مَعَ أَنَّ بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ أَوْلَى فَلَا بُدَّ مِنْ الْفَرْقِ .
أَقُولُ : إذَا ادَّعَى الْخَارِجُ الشِّرَاءَ مِنْ رَجُلٍ وَادَّعَاهُ ذُو الْيَدِ مِنْ رَجُلٍ آخَرَ فَالْحُكْمُ فِيهِ كَحُكْمِ مَا إذَا ادَّعَيَا الْمِلْكَ الْمُطْلَقَ فَلَا تَفَاوَتَ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ فِي عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ ، وَذَكَرَهُ الشَّارِحُ الْأَتْقَانِيُّ فِيمَا مَرَّ نَقْلًا عَنْ مَبْسُوطِ شَيْخِ

الْإِسْلَامِ فَلَا اشْتِبَاهَ هُنَاكَ .
وَأَمَّا إذَا ادَّعَيَا الشِّرَاءَ مِنْ وَاحِدٍ فَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ أَوْلَى كَمَا مَرَّ فِي الْكِتَابِ .
فَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ هُوَ أَنَّ كُلًّا مِنْ الْخَارِجِ وَذِي الْيَدِ هُنَاكَ أَثْبَتَ بِبَيِّنَتِهِ الِاسْتِحْقَاقَ عَلَى ثَالِثٍ حَيْثُ ادَّعَيَا تَلَقِّيَ الْمِلْكِ مِنْ جِهَتِهِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ ، فَكَانَ مَا ادَّعَيَاهُ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَى الْغَيْرِ لَا سَبَبَ الْمِلْكِ وَحْدَهُ فَلَمْ يَكُنْ مَعْنَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ ، وَلَعَلَّ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ إيمَاءً إلَى ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ : وَكَذَلِكَ كُلُّ سَبَبٍ فِي الْمِلْكِ لَا يَتَكَرَّرُ ، ثُمَّ قَالَ : وَإِنْ كَانَ يَتَكَرَّرُ قُضِيَ بِهِ لِلْخَارِجِ فَاعْتَبَرَ اخْتِلَافَ حُكْمَيْ مَا يَتَكَرَّرُ وَمَا لَا يَتَكَرَّرُ فِي سَبَبِ الْمِلْكِ احْتِرَازًا عَنْ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ ( وَهُوَ ) أَيْ السَّبَبُ الْمُتَكَرِّرُ فِي الْمِلْكِ ( مِثْلُ الْخَزِّ ) أَيْ مِثْلُ نَسْجِ الْخَزِّ : وَهُوَ اسْمُ دَابَّةٍ ثُمَّ سُمِّيَ الثَّوْبُ الْمُتَّخَذُ مِنْ وَبَرِهِ خَزًّا ، كَذَا فِي الْمُغْرِبِ .
قِيلَ : هُوَ يُنْسَجُ فَإِذَا بَلِيَ يُغْزَلُ مَرَّةً أُخْرَى وَيُنْسَجُ ( وَالْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ وَزِرَاعَةِ الْحِنْطَةِ وَالْحُبُوبِ ) أَيْ وَزِرَاعَةِ الْحِنْطَةِ وَسَائِرِ الْحُبُوبِ ، فَإِذَا ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَارِجِ وَذِي الْيَدِ ثَوْبًا أَنَّهُ مِلْكُهُ نَسَجَهُ مِنْ خَزِّهِ ، أَوْ ادَّعَى دَارًا أَنَّهَا مِلْكُهُ بَنَاهَا بِمَالِهِ أَوْ ادَّعَى غَرْسًا أَنَّهُ مِلْكُهُ غَرَسَهُ .
أَوْ ادَّعَى حِنْطَةً أَنَّهَا مِلْكُهُ زَرَعَهَا أَوْ حَبًّا آخَرَ مِنْ الْحُبُوبِ كَذَلِكَ وَأَقَامَا عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً قُضِيَ بِذَلِكَ لِلْخَارِجِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ كُلِّهَا لِأَنَّ أَسْبَابَ الْمِلْكِ فِيهَا لَيْسَتْ فِي مَعْنَى النِّتَاجِ لِتَكَرُّرِهَا أَمَّا الْخَزُّ فَلِمَا نَقَلْنَاهُ ، وَأَمَّا الْبِنَاءُ فَلِأَنَّهُ يَكُونُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى ، وَأَمَّا الْغَرْسُ فَكَذَلِكَ ، وَأَمَّا الْحِنْطَةُ وَالْحُبُوبُ فَلِأَنَّهَا تُزْرَعُ ثُمَّ يُغَرْبَلُ التُّرَابُ فَتَتَمَيَّزُ

الْحِنْطَةُ وَالْحُبُوبُ ثُمَّ تُزْرَعُ ثَانِيَةً ، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ فِي مَعْنَاهُ لَمْ تُلْحَقْ بِهِ بَلْ صَارَتْ بِمَنْزِلَةِ الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ ( فَإِنْ أَشْكَلَ ) أَيْ فَإِنْ أَشْكَلَ شَيْءٌ لَا يَتَيَقَّنُ بِالتَّكْرَارِ وَعَدَمِهِ فِيهِ ( يَرْجِعُ إلَى أَهْلِ الْخِبْرَةِ ) أَيْ يَسْأَلُ الْقَاضِي أَهْلَ الْعِلْمِ عَنْ ذَلِكَ : يَعْنِي الْعُدُولَ مِنْهُمْ وَيَبْنِي حُكْمَهُ عَلَى قَوْلِهِمْ ( لِأَنَّهُمْ أَعْرَفُ بِهِ ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } الْوَاحِدُ مِنْهُمْ يَكْفِي وَالِاثْنَانِ أَحْوَطُ وَكَذَا فِي النِّهَايَةِ نَقْلًا عَنْ الْمَبْسُوطِ وَالذَّخِيرَةِ ( فَإِنْ أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ ) أَيْ فَإِنْ أَشْكَلَ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الْخِبْرَةِ أَيْضًا ( قُضِيَ بِهِ ) أَيْ بِالْمُشْكِلِ ( لِلْخَارِجِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِبَيِّنَتِهِ ) أَيْ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ ( هُوَ الْأَصْلُ ) لِأَنَّهُ الْقِيَاسُ ( وَالْعُدُولُ عَنْهُ بِخَبَرِ النِّتَاجِ ) أَيْ وَالْعُدُولُ عَنْ الْأَصْلِ كَانَ بِخَبَرِ النِّتَاجِ : أَيْ بِحَدِيثِ النِّتَاجِ ، وَهُوَ حَدِيثُ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَمَا رَوَيْنَاهُ مِنْ قَبْلُ فِي وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ فَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ يَرْجِعْ إلَى الْأَصْلِ ) الَّذِي هُوَ الْقِيَاسُ .

قَالَ ( وَإِنْ أَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ وَصَاحِبُ الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْهُ كَانَ صَاحِبُ الْيَدِ أَوْلَى ) لِأَنَّ الْأَوَّلَ إنْ كَانَ يَدَّعِي أَوَّلِيَّةَ الْمِلْكِ فَهَذَا تَلَقَّى مِنْهُ ، وَفِي هَذَا لَا تَنَافِي فَصَارَ كَمَا إذَا أَقَرَّ بِالْمِلْكِ لَهُ ثُمَّ ادَّعَى الشِّرَاءَ مِنْهُ .

( قَالَ أَيْ الْقُدُورِيُّ ) فِي مُخْتَصَرِهِ ( وَإِنْ أَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ وَصَاحِبُ الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْهُ ) أَيْ مِنْ ذَلِكَ الْخَارِجِ ( كَانَ صَاحِبُ الْيَدِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ ) أَيْ الْخَارِجَ ( وَإِنْ كَانَ يَدَّعِي أَوَّلِيَّةَ الْمِلْكِ ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ : إنْ كَانَ يُثْبِتُ أَوَّلِيَّةَ الْمِلْكِ ( فَهَذَا ) أَيْ فَصَاحِبُ الْيَدِ ( تَلَقَّى مِنْهُ ) أَيْ تَلَقَّى الْمِلْكَ مِنْ ذَلِكَ الْخَارِجِ ( وَفِي هَذَا لَا تَنَافِيَ ) كَمَا لَا يَخْفَى ( فَصَارَ ) أَيْ فَصَارَ حُكْمُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ( كَمَا إذَا أَقَرَّ بِالْمِلْكِ لَهُ ) أَيْ كَمَا إذَا أَقَرَّ صَاحِبُ الْيَدِ بِالْمِلْكِ لِلْخَارِجِ ( ثُمَّ ادَّعَى ) أَيْ صَاحِبُ الْيَدِ ( الشِّرَاءَ مِنْهُ ) أَيْ مِنْ الْخَارِجِ .
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : ذَكَرَ فِي الْفُصُولِ : وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْخَارِجَ مَعَ ذِي الْيَدِ إذَا ادَّعَيَا مِلْكًا مُطْلَقًا فَفِي كُلِّ الصُّوَرِ الْخَارِجُ أَوْلَى .
إلَّا إذَا أَقَامَ صَاحِبُ الْيَدِ بَيِّنَةً عَلَى النِّتَاجِ أَوْ أَرَّخَا وَتَارِيخُ صَاحِبِ الْيَدِ أَسْبَقُ ، وَفِي هَذِهِ الصُّوَرِ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي الْكِتَابِ تَتَرَجَّحُ بَيِّنَةُ صَاحِبِ الْيَدِ أَيْضًا ، وَهِيَ فِيمَا إذَا أَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ وَأَقَامَ صَاحِبُ الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْ الْمُدَّعِي ، وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي أَثْبَتَ أَوَّلِيَّةَ الْمِلْكِ فَهَذَا تَلَقَّى مِنْهُ ، فَحَصَلَ مِنْ هَذَا أَنَّ بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ تَتَرَجَّحُ عَلَى بَيِّنَةِ الْخَارِجِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ الثَّلَاثِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا انْتَهَى .
أَقُولُ : لَا مِسَاسَ لِهَذِهِ الصُّورَةِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي الْكِتَابِ بِمَا ذَكَرَ فِي الْفُصُولِ ؛ لِأَنَّهُ فِيمَا إذَا ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَارِجِ وَذِي الْيَدِ مِلْكًا مُطْلَقًا عَلَى مَا هُوَ مَدْلُولُ صَرِيحِ قَوْلِ صَاحِبِ الْفُصُولِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْخَارِجَ مَعَ ذِي الْيَدِ إذَا ادَّعَيَا مِلْكًا مُطْلَقًا إلَخْ ، وَمَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ فِيمَا إذَا ادَّعَى الْخَارِجُ الْمِلْكَ الْمُطْلَقَ وَذُو الْيَدِ

الْمِلْكَ الْمُقَيَّدَ بِالشِّرَاءِ فَضَمَّ هَذِهِ الصُّورَةَ إلَى الصُّورَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ فِي الْفُصُولِ بِطَرِيقِ الِاسْتِثْنَاءِ ، وَجَعَلَ مَا تَتَرَجَّحُ فِيهِ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ عَلَى بَيِّنَةِ الْخَارِجِ صُوَرًا ثَلَاثًا كَمَا فَعَلَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ مِمَّا لَا حَاصِلَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ أَنَّ مَا يَتَرَجَّحُ فِيهِ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ عَلَى بَيِّنَةِ الْخَارِجِ فِيمَا إذَا ادَّعَيَا الْمِلْكَ الْمُطْلَقَ هَذِهِ الصُّوَرَ الثَّلَاثَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ كَمَا لَا يَخْفَى ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ مَا يَتَرَجَّحُ فِيهِ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ عَلَى بَيِّنَةِ الْخَارِجِ فِيمَا إذَا ادَّعَيَا الْمِلْكَ الْمُطْلَقَ أَوْ غَيْرَهُ هَذِهِ الصُّوَرَ الثَّلَاثَ فَلَيْسَ بِتَامٍّ ؛ لِأَنَّ مَا يَتَرَجَّحُ فِيهِ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ عَلَى بَيِّنَةِ الْخَارِجِ مُطْلَقًا غَيْرُ مُنْحَصِرٍ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ الثَّلَاثِ بَلْ مُتَحَقِّقٌ فِي غَيْرِهَا أَيْضًا ، كَمَا إذَا ادَّعَيَا الشِّرَاءَ مِنْ وَاحِدٍ وَلَمْ يَكُنْ تَارِيخُ أَحَدِهِمَا أَسْبَقَ عَلَى مَا سَبَقَ فِي الْكِتَابِ

قَالَ ( وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْ الْآخَرِ وَلَا تَارِيخَ مَعَهُمَا تَهَاتَرَتْ الْبَيِّنَتَانِ وَتُتْرَكُ الدَّارُ فِي يَدِ ذِي الْيَدِ ) قَالَ : وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَقْضِي بِالْبَيِّنَتَيْنِ وَيَكُونُ لِلْخَارِجِ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِهِمَا مُمْكِنٌ فَيَجْعَلُ كَأَنَّهُ اشْتَرَى ذُو الْيَدِ مِنْ الْآخَرِ وَقَبَضَ ثُمَّ بَاعَ الدَّارَ لِأَنَّ الْقَبْضَ دَلَالَةُ السَّبْقِ عَلَى مَا مَرَّ ، وَلَا يَعْكِسُ الْأَمْرَ لِأَنَّ الْبَيْعَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ فِي الْعَقَارِ عِنْدَهُ .
وَلَهُمَا أَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى الشِّرَاءِ إقْرَارٌ مِنْهُ بِالْمِلْكِ لِلْبَائِعِ فَصَارَ كَأَنَّهُمَا قَامَتَا عَلَى الْإِقْرَارَيْنِ وَفِيهِ التَّهَاتُرُ بِالْإِجْمَاعِ ، كَذَا هَاهُنَا ، وَلِأَنَّ السَّبَبَ يُرَادُ لِحُكْمِهِ وَهُوَ الْمِلْكُ وَلَا يُمْكِنُ الْقَضَاءُ لِذِي الْيَدِ إلَّا بِمِلْكٍ مُسْتَحَقٍّ فَبَقِيَ الْقَضَاءُ لَهُ بِمُجَرَّدِ السَّبَبِ وَأَنَّهُ لَا يُفِيدُهُ .

( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ : ( وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ) أَيْ مِنْ الْخَارِجِ وَذِي الْيَدِ ( الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْ الْآخَرِ ) أَيْ أَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ اشْتَرَى هَذِهِ الدَّارَ مَثَلًا مِنْ ذِي الْيَدِ وَأَقَامَهَا ذُو الْيَدِ عَلَى أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ الْخَارِجِ ( وَلَا تَارِيخَ مَعَهُمَا تَهَاتَرَتْ الْبَيِّنَتَانِ وَتُتْرَكُ الدَّارُ فِي يَدِ ذِي الْيَدِ ) بِغَيْرِ قَضَاءٍ ( قَالَ ) أَيْ الْمُصَنِّفُ ( وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَقْضِي بِالْبَيِّنَتَيْنِ وَتَكُونُ ) أَيْ وَتَكُونُ الدَّارُ ( لِلْخَارِجِ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِهِمَا ) أَيْ بِالْبَيِّنَتَيْنِ ( مُمْكِنٌ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ اشْتَرَى ذُو الْيَدِ مِنْ الْآخَرِ وَقَبَضَ ثُمَّ بَاعَ ) أَيْ ثُمَّ بَاعَ ذُو الْيَدِ مِنْ الْخَارِجِ ( وَلَمْ يَقْبِضْ ) الْخَارِجُ ( لِأَنَّ الْقَبْضَ دَلَالَةُ السَّبْقِ ) أَيْ لِأَنَّ قَبْضَ ذِي الْيَدِ دَلِيلُ سَبْقِهِ فِي الشِّرَاءِ ( كَمَا مَرَّ ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرَا تَارِيخًا وَمَعَ أَحَدِهِمَا قَبْضٌ فَهُوَ أَوْلَى لِأَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ قَبْضِهِ يَدُلُّ عَلَى سَبْقِ شِرَائِهِ انْتَهَى ( وَلَا يَعْكِسُ الْأَمْرَ ) أَيْ لَا يَجْعَلُ كَأَنَّ الْخَارِجَ اشْتَرَاهَا مِنْ ذِي الْيَدِ أَوَّلًا ثُمَّ بَاعَهَا إيَّاهُ ( لِأَنَّ الْبَيْعَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ ) يَعْنِي أَنَّ الْعَكْسَ يَسْتَلْزِمُ الْبَيْعَ قَبْلَ الْقَبْضِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ( وَإِنْ كَانَ ) أَيْ وَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ ( فِي الْعَقَارِ عِنْدَهُ ) أَيْ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَلَهُمَا ) أَيْ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ( أَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى الشِّرَاءِ إقْرَارٌ مِنْهُ ) أَيْ مِنْ الْمُشْتَرِي ( بِالْمِلْكِ لِلْبَائِعِ فَصَارَ ) أَيْ فَصَارَ أَمْرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ( كَأَنَّهُمَا ) أَيْ الْبَيِّنَتَيْنِ ( قَامَتَا عَلَى الْإِقْرَارَيْنِ ) أَيْ عَلَى الْإِقْرَارَيْنِ مِنْ الطَّرَفَيْنِ ( وَفِيهِ التَّهَاتُرُ بِالْإِجْمَاعِ فَكَذَا هُنَا ) أَيْ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ( وَلِأَنَّ السَّبَبَ يُرَادُ لِحُكْمِهِ

وَهُوَ الْمِلْكُ ) ، هَذَا دَلِيلٌ آخَرُ مُتَضَمِّنٌ لِلْجَوَابِ عَمَّا .
قَالَهُ مُحَمَّدٌ أَنَّ الْعَمَلَ بِالْبَيِّنَتَيْنِ مُمْكِنٌ : يَعْنِي أَنَّ السَّبَبَ لَا يُرَادُ لِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا يُرَادُ لِحُكْمِهِ ، فَإِذَا كَانَ مُفِيدًا لِحُكْمِهِ كَانَ مُعْتَبَرًا وَإِلَّا فَلَا لِكَوْنِهِ غَيْرَ مَقْصُودٍ بِالذَّاتِ ( وَهَاهُنَا لَا يُمْكِنُ الْقَضَاءُ لِذِي الْيَدِ إلَّا بِمِلْكٍ مُسْتَحَقٍّ ) أَيْ لِلْخَارِجِ ؛ لِأَنَّا إذَا قَضَيْنَا بِبَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ فَإِنَّمَا نَقْضِي لِيَزُولَ مِلْكُهُ إلَى الْخَارِجِ فَلَمْ يَكُنْ السَّبَبُ الَّذِي هُوَ الْبَيِّنَةُ هَاهُنَا مُفِيدًا لِحُكْمِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ ( فَبَقِيَ الْقَضَاءُ لَهُ بِمُجَرَّدِ السَّبَبِ وَأَنَّهُ لَا يُفِيدُهُ ) فَلَمْ يَكُنْ مُعْتَبَرًا فَلَمْ يُمْكِنْ الْعَمَلُ بِالْبَيِّنَتَيْنِ .
أَقُولُ : لِمُطَالِبٍ أَنْ يُطَالِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ عَلَى قَوْلِهِمَا وَبَيْنَ مَا إذَا أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ ؛ مِنْ الْخَارِجِ وَذِي الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ وَلَا تَارِيخَ مَعَهُمَا حَيْثُ لَمْ تَتَهَاتَرْ الْبَيِّنَتَانِ هُنَاكَ عِنْدَ أَئِمَّتِنَا الثَّلَاثَةِ عَلَى مَا هُوَ الصَّحِيحُ ، بَلْ قَضَى بِبَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ لَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ اسْتَوَتَا فِي الْإِثْبَاتِ وَتَرَجَّحَتْ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ بِالْيَدِ كَمَا مَرَّ وَتَهَاتَرَتَا هَاهُنَا عِنْدَهُمَا مَعَ الِاشْتِرَاكِ فِي الْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ هُنَاكَ ، فَتَأَمَّلْ فِي الْفَرْقِ

ثُمَّ لَوْ شَهِدَتْ الْبَيِّنَتَانِ عَلَى نَقْدِ الثَّمَنِ فَالْأَلْفُ بِالْأَلْفِ قِصَاصٌ عِنْدَهُمَا إذَا اسْتَوَيَا لِوُجُودِ قَبْضٍ مَضْمُونٍ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدُوا عَلَى نَقْدِ الثَّمَنِ فَالْقِصَاصُ مَذْهَبُ مُحَمَّدٍ لِلْوُجُوبِ عِنْدَهُ .
وَلَوْ شَهِدَ الْفَرِيقَانِ بِالْبَيْعِ وَالْقَبْضِ تَهَاتَرَتَا بِالْإِجْمَاعِ ، لِأَنَّ الْجَمْعَ غَيْرُ مُمْكِنٍ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِجَوَازِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَيْعَيْنِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ .

( ثُمَّ لَوْ شَهِدَتْ الْبَيِّنَتَانِ عَلَى نَقْدِ الثَّمَنِ فَالْأَلْفُ بِالْأَلْفِ قِصَاصٌ عِنْدَهُمَا إذَا اسْتَوَيَا ) أَيْ إذَا اسْتَوَى الثَّمَنَانِ ( لِوُجُودِ قَبْضٍ مَضْمُونٍ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ) لِعَدَمِ الْقَضَاءِ بِشَيْءٍ مِنْ الْعَقْدَيْنِ عِنْدَهُمَا وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الثَّمَنَيْنِ أَكْثَرَ رَجَعَ بِالزِّيَادَةِ كَذَا فِي شَرْحِ الْكَنْزِ لِلزَّيْلَعِيِّ ، ثُمَّ إنَّ هَذَا أَيْ الْقِصَاصَ إذَا كَانَ الْمَقْبُوضُ هَالِكًا وَإِنْ كَانَ قَائِمًا وَجَبَ رَدُّهُ ، كَذَا فِي الْكَافِي .
فَإِنْ قُلْت : تَهَاتَرَتْ الْبَيِّنَتَانِ فِي الشِّرَاءِ عِنْدَهُمَا فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ فِي حَقِّ النَّقْدِ لِأَنَّهُ فِي ضِمْنِهِ .
قُلْت : أَمْكَنَ أَنْ لَا تُقْبَلَ الْبَيِّنَةُ فِي حَقِّ شَيْءٍ وَتُقْبَلُ فِي حَقِّ شَيْءٍ آخَرَ ، كَالْمَرْأَةِ إذَا أَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ عَلَى وَكِيلِ زَوْجِهَا بِنَقْلِهَا عَلَى تَطْلِيقِ زَوْجِهَا لَا تُقْبَلُ فِي حَقِّ الطَّلَاقِ وَتُقْبَلُ فِي حَقِّ قَصْرِ يَدِ الْوَكِيلِ كَذَا فِي شَرْحِ تَاجِ الشَّرِيعَةِ ( وَإِنْ لَمْ يَشْهَدَا عَلَى نَقْدِ الثَّمَنِ فَالْقِصَاصُ مَذْهَبُ مُحَمَّدٍ لِلْوُجُوبِ عِنْدَهُ ) أَيْ لِوُجُوبِ الثَّمَنِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَإِنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ لَمَّا ثَبَتَا عِنْدَهُ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُوجِبًا لِلثَّمَنِ عِنْدَ مُشْتَرِيهِ فَيُتَقَاصُّ الْوُجُوبُ بِالْوُجُوبِ ( وَلَوْ شَهِدَ الْفَرِيقَانِ بِالْبَيْعِ وَالْقَبْضِ تَهَاتَرَتَا ) أَيْ الْبَيِّنَتَانِ ( بِالْإِجْمَاعِ ) لَكِنْ عَلَى اخْتِلَافِ التَّخْرِيجِ ؛ فَعِنْدَهُمَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ دَعْوَاهُمَا مِثْلَ هَذَا الْبَيْعِ إقْرَارٌ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْمِلْكِ لِصَاحِبِهِ .
وَفِي مِثْلِ هَذَا الْإِقْرَارِ تَتَهَاتَرُ الشُّهُودُ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ بِاعْتِبَارِ أَنَّ بَيْعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَائِزٌ لِوُجُودِ الْبَيْعِ بَعْدَ الْقَبْضِ ، وَلَيْسَ فِي الْبَيْعَيْنِ ذِكْرُ تَارِيخٍ وَلَا دَلَالَةُ تَارِيخٍ حَتَّى يَجْعَلَ أَحَدَهُمَا سَابِقًا وَالْآخَرَ لَاحِقًا .
فَإِذَا جَازَ الْبَيْعَانِ وَلَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فِي الْقَبُولِ تَسَاقَطَا لِلتَّعَارُضِ فَبَقِيَ

الْعَيْنُ عَلَى صَاحِبِ الْيَدِ كَمَا كَانَتْ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ ( لِأَنَّ الْجَمْعَ غَيْرُ مُمْكِنٍ عِنْدَ مُحَمَّدٍ ) أَيْ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِهِمَا غَيْرُ مُمْكِنٍ عِنْدَهُ ( لِجَوَازِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَيْعَيْنِ ) مَعَ عَدَمِ أَوْلَوِيَّةِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ لِعَدَمِ ذِكْرِ التَّارِيخِ وَلَا دَلَالَتِهِ ، فَكَانَتْ شَهَادَةُ الْفَرِيقَيْنِ بِمَنْزِلَةِ تَعَارُضِ النَّصَّيْنِ بِحَيْثُ مَتَى لَمْ يُمْكِنْ التَّرْجِيحُ وَلَا الْحَمْلُ عَلَى الْحَالَتَيْنِ سَقَطَ الْعَمَلُ بِهِمَا ، فَبَعْدَ ذَلِكَ كَانَ الْعَمَلُ مِنْ الْحُجَّةِ عَلَى مَا عُرِفَ ، وَهَاهُنَا أَيْضًا لَمَّا سَقَطَتْ شَهَادَتُهُمَا بِالتَّعَارُضِ بَقِيَتْ الْعَيْنُ فِي يَدِ صَاحِبِ الْيَدِ كَمَا كَانَتْ ( بِخِلَافِ الْأَوَّلِ ) أَيْ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَذْكُرْ الْقَبْضَ فِي شَهَادَتِهِمَا حَيْثُ يَجْعَلُ هُنَاكَ شِرَاءَ صَاحِبِ الْيَدَ سَابِقًا وَبَيْعَهُ لَاحِقًا لِدَلَالَةِ الْقَبْضِ عَلَى السَّبْقِ ، إذْ لَوْ جَعَلَ شِرَاءَ الْخَارِجِ سَابِقًا لَزِمَ الْبَيْعُ قَبْلَ الْقَبْضِ كَمَا مَرَّ ، هَذَا زُبْدَةُ مَا فِي جُمْلَةِ الشُّرُوحِ فِي حَلِّ هَذَا الْمَقَامِ .
أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : لِمَ لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَالْعَمَلُ بِهِمَا حَيْثُ يَجْعَلُ الْعَيْنَ الْمُدَّعَاةَ بَيْنَ الْمُدَّعِيَيْنِ نِصْفَيْنِ كَمَا جَعَلْنَاهَا كَذَلِكَ فِيمَا إذَا ادَّعَى اثْنَانِ عَيْنًا فِي يَدِ آخَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَزْعُمُ أَنَّهَا لَهُ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ وَلَا تَارِيخَ مَعَهُمَا حَيْثُ قَضَيْنَا هُنَاكَ بِالْعَيْنِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ كَمَا مَرَّ فِي صَدْرِ هَذَا الْبَابِ .
وَأَيْضًا قُلْنَا : إذَا ادَّعَى اثْنَانِ عَيْنًا فِي يَدِ ثَالِثٍ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْهُ وَأَقَامَا بَيِّنَةً وَلَا تَارِيخَ مَعَهُمَا فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ ، إنْ شَاءَ أَخَذَ نِصْفَ الْعَيْنِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ .
وَقَدْ مَرَّتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ أَيْضًا فِي هَذَا الْبَابِ ، وَقَدْ مَرَّتْ فِيهِ أَيْضًا مَسَائِلُ أُخْرَى مُشْتَرِكَةٌ فِي هَذَا الْحُكْمِ : أَعَنَى التَّنْصِيفَ بِلَا خِلَافٍ

بَيْنَ أَئِمَّتِنَا .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا ذَكَرُوا هَاهُنَا لِتَخْرِيجِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَنْتَقِضُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فَتَدَبَّرْ .
وَفِي الْكَافِي : وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْهِدَايَةِ مِنْ أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ الْفَرِيقَانِ بِالْبَيْعِ وَالْقَبْضِ تَهَاتَرَتَا بِالْإِجْمَاعِ ، لِأَنَّ الْجَمْعَ غَيْرُ مُمْكِنٍ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِجَوَازِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَيْعَيْنِ يُخَالِفُ مَا ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ وَالْجَامِعِ الْكَبِيرِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَنَّهُ لَوْ شَهِدُوا بِالْبَيْعِ وَالْقَبْضِ يَقْضِي بِالْبَيِّنَتَيْنِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَيَقْضِي بِالدَّارِ لِذِي الْيَدِ ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَاتِ حُجَجُ الشَّرْعِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا مَا أَمْكَنَ لِأَنَّهُمَا أَثْبَتَا الْعَقْدَيْنِ وَالْقَبْضَ فَيَجْعَلُ كَأَنَّ ذَا الْيَدِ بَاعَهَا وَسَلَّمَهَا انْتَهَى

وَإِنْ وُقِّتَتْ الْبَيِّنَتَانِ فِي الْعَقَارِ وَلَمْ تُثْبِتَا قَبْضًا وَوَقْتُ الْخَارِجِ أَسْبَقُ يُقْضَى لِصَاحِبِ الْيَدِ عِنْدَهُمَا فَيُجْعَلُ كَأَنَّ الْخَارِجَ اشْتَرَى أَوَّلًا ثُمَّ بَاعَ قَبْلَ الْقَبْضِ مِنْ صَاحِبِ الْيَدِ ، وَهُوَ جَائِزٌ فِي الْعَقَارِ عِنْدَهُمَا .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَقْضِي لِلْخَارِجِ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ لَهُ بَيْعُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَبَقِيَ عَلَى مِلْكِهِ ، وَإِنْ أَثْبَتَا قَبْضًا يَقْضِي لِصَاحِبِ الْيَدِ لِأَنَّ الْبَيْعَيْنِ جَائِزَانِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ وَقْتُ صَاحِبِ الْيَدِ أَسْبَقَ يُقْضَى لِلْخَارِجِ فِي الْوَجْهَيْنِ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ اشْتَرَاهَا ذُو الْيَدِ وَقَبَضَ ثُمَّ بَاعَ وَلَمْ يُسَلِّمْ أَوْ سَلَّمَ ثُمَّ وَصَلَ إلَيْهِ بِسَبَبٍ آخَرَ .

( وَإِنْ وَقَّتَتْ الْبَيِّنَتَانِ فِي الْعَقَارِ ) وَقْتَيْنِ ، قَيَّدَ بِالْعَقَارِ لِيُظْهِرَ ثَمَرَةَ الْخِلَافِ كَمَا ذَكَرَ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدَّارِيَةِ ( وَلَمْ تُثْبِتَا قَبْضًا ) أَيْ وَلَمْ تُثْبِتْ الْبَيِّنَتَانِ قَبْضًا ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ : وَلَمْ تُبَيِّنَا قَبْضًا ( وَوَقْتُ الْخَارِجِ أَسْبَقُ ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ وَقْتَ الْخَارِجِ أَسْبَقُ ( يَقْضِي لِصَاحِبِ الْيَدِ عِنْدَهُمَا ) أَيْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ( فَيَجْعَلُ كَأَنَّ الْخَارِجَ اشْتَرَى أَوَّلًا ثُمَّ بَاعَ قَبْلَ الْقَبْضِ مِنْ صَاحِبِ الْيَدِ وَهُوَ جَائِزٌ فِي الْعَقَارِ عِنْدَهُمَا ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَقْضِي لِلْخَارِجِ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ ) أَيْ بَيْعُ الْعَقَارِ ( قَبْلَ الْقَبْضِ عِنْدَهُ فَيَبْقَى عَلَى مِلْكِهِ ) أَيْ فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ بَيْعُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ بَقِيَ عَلَى مِلْكِ الْخَارِجِ ( وَإِنْ أَثْبَتَا قَبْضًا ) أَيْ وَإِنْ أَثْبَتَتْ الْبَيِّنَتَانِ قَبْضًا وَبَاقِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى حَالِهِ .
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ : وَإِنْ بَيَّنَتَا قَبْضًا ( يَقْضِي لِصَاحِبِ الْيَدِ ) أَيْ بِالْإِجْمَاعِ فَيَجْعَلُ كَأَنَّ الْخَارِجَ بَاعَ ذَلِكَ مِنْ بَائِعِهِ بَعْدَمَا قَبَضَهُ ( لِأَنَّ الْبَيْعَيْنِ ) أَيْ بِالْوَجْهِ الْمَذْكُورِ ( جَائِزَانِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ ) أَيْ عَلَى قَوْلِهِمَا وَقَوْلِ مُحَمَّدٍ ( وَإِنْ كَانَ وَقْتُ صَاحِبِ الْيَدِ أَسْبَقَ ) وَبَاقِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى حَالِهِ ( يَقْضِي لِلْخَارِجِ فِي الْوَجْهَيْنِ ) أَيْ سَوَاءٌ أَثْبَتَتْ الْبَيِّنَتَانِ الْقَبْضَ أَوْ لَمْ تُثْبِتَاهُ ( فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ ذُو الْيَدِ وَقَبَضَ ثُمَّ بَاعَ وَلَمْ يُسَلِّمْ ) أَيْ ثُمَّ بَاعَ ذُو الْيَدِ مِنْ الْخَارِجِ وَلَكِنْ لَمْ يُسَلِّمْ إلَيْهِ هَذَا بِاعْتِبَارِ عَدَمِ إثْبَاتِ الْقَبْضِ ( أَوْ سَلَّمَ ) أَيْ سَلَّمَ ذُو الْيَدِ إلَى الْخَارِجِ ( ثُمَّ وَصَلَ إلَيْهِ ) أَيْ إلَى ذِي الْيَدِ ( بِسَبَبٍ آخَرَ ) مِنْ إجَارَةٍ أَوْ إعَارَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا ، وَهَذَا بِاعْتِبَارِ إثْبَاتِ الْقَبْضِ ، فَقَدْ جَمَعَ الْمُصَنِّفُ الْوَجْهَيْنِ فِي تَقْرِيرِهِ هَذَا كَمَا تَرَى .
فَإِنْ قُلْت : بَقِيَ

مِنْ أَقْسَامِ الْمَسْأَلَةِ الْمَارَّةِ صُورَتَانِ لَمْ تُذْكَرْ فِي الْكِتَابِ : إحْدَاهُمَا أَنْ تُؤَقِّتَ الْبَيِّنَتَانِ وَقْتًا وَاحِدًا ، وَثَانِيَتُهُمَا أَنْ تُؤَقِّتَ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ وَقْتًا وَلَمْ تُؤَقِّتْ الْأُخْرَى فَمَا حُكْمُهُمَا ؟ قُلْت : حُكْمُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا كَحُكْمِ مَا إذَا لَمْ تُؤَقِّتَا أَصْلًا نَصَّ عَلَيْهِ غَايَةُ الْبَيَانِ نَقْلًا عَنْ مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ

قَالَ : ( وَإِنْ أَقَامَ أَحَدُ الْمُدَّعِيَيْنِ شَاهِدَيْنِ وَالْآخَرُ أَرْبَعَةً فَهُمَا سَوَاءٌ ) لِأَنَّ شَهَادَةَ كُلِّ الشَّاهِدِينَ عِلَّةٌ تَامَّةٌ كَمَا فِي حَالَةِ الِانْفِرَادِ ، وَالتَّرْجِيحُ لَا يَقَعُ بِكَثْرَةِ الْعِلَلِ بَلْ بِقُوَّةٍ فِيهَا عَلَى مَا عُرِفَ .
( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( وَإِنْ أَقَامَ أَحَدُ الْمُدَّعِيَيْنِ شَاهِدَيْنِ وَالْآخَرُ أَرْبَعَةً فَهُمَا سَوَاءٌ ) أَيْ الِاثْنَانِ وَالْأَرْبَعَةُ مِنْ الشُّهُودِ سَوَاءٌ ( لِأَنَّ شَهَادَةَ كُلِّ شَاهِدَيْنِ عِلَّةٌ تَامَّةٌ ) لِوُصُولِهَا إلَى حَدِّ النِّصَابِ الْكَامِلِ ( كَمَا فِي حَالَةِ الِانْفِرَادِ ) فِي غَيْرِ الشَّهَادَةِ فِي الزِّنَا ( وَالتَّرْجِيحُ لَا يَقَعُ بِكَثْرَةِ الْعِلَلِ بَلْ ) يَقَعُ ( بِقُوَّةٍ فِيهَا ) أَيْ فِي الْعِلَّةِ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ الْخَبَرَ لَا يَتَرَجَّحُ بِخَبَرٍ أَوْ بِآخَرَ وَالْآيَةُ لَا تَتَرَجَّحُ بِآيَةٍ أُخْرَى لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِلَّةٌ بِنَفْسِهِ وَالْمُفَسَّرُ يَتَرَجَّحُ عَلَى النَّصِّ وَالنَّصُّ عَلَى الظَّاهِرِ بِاعْتِبَارِ الْقُوَّةِ ( عَلَى مَا عُرِفَ ) أَيْ فِي عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَكَذَلِكَ الشَّهَادَتَانِ إذَا تَعَارَضَتَا وَإِحْدَاهُمَا مَسْتُورَةٌ وَالْأُخْرَى عَادِلَةٌ تَرَجَّحَتْ الْعَادِلَةُ عَلَى الْمَسْتُورَةِ بِالْعَدَالَةِ لِأَنَّهَا صِفَةُ الشَّهَادَةِ وَلَا تَتَرَجَّحُ بِزِيَادَةِ عَدَدِ الشُّهُودِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِصِفَةٍ لِمَا هُوَ حُجَّةٌ مِنْ الشَّهَادَةِ بَلْ هِيَ مِثْلُهَا ، وَشَهَادَةُ كُلِّ عَدَدٍ رُكْنٌ مِثْلُ شَهَادَةِ الْآخَرِ إلَّا أَنْ يَكُونَ بَعْضُهَا صِفَةً لِلْبَعْضِ ، إلَى هَذَا أَشَارَ فِي التَّقْوِيمِ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ

قَالَ ( وَإِذَا كَانَتْ دَارٌ فِي يَدِ رَجُلٍ ادَّعَاهَا اثْنَانِ أَحَدُهُمَا جَمِيعَهَا وَالْآخَرُ نِصْفَهَا وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَلِصَاحِبِ الْجَمِيعِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا وَلِصَاحِبِ النِّصْفِ رُبْعُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) اعْتِبَارًا بِطَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ ، فَإِنَّ صَاحِبَ النِّصْفِ لَا يُنَازِعُ الْآخَرَ فِي النِّصْفِ فَسَلَّمَ لَهُ بِلَا مُنَازَعٍ وَاسْتَوَتْ مُنَازَعَتُهُمَا فِي النِّصْفِ الْآخَرِ فَيُنَصَّفُ بَيْنَهُمَا ( وَقَالَا : هِيَ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا ) فَاعْتَبَرَا طَرِيقَ الْعَوْلِ وَالْمُضَارَبَةِ ، فَصَاحِبُ الْجَمِيعِ يَضْرِبُ بِكُلِّ حَقِّهِ سَهْمَيْنِ وَصَاحِبُ النِّصْفِ بِسَهْمٍ وَاحِدٍ فَتُقَسَّمُ أَثْلَاثًا ، وَلِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَظَائِرُ وَأَضْدَادٌ لَا يَحْتَمِلُهَا هَذَا الْمُخْتَصَرُ وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي الزِّيَادَاتِ .
قَالَ ( وَلَوْ كَانَتْ فِي أَيْدِيهِمَا سَلِمَ لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ نِصْفُهَا عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ وَنِصْفُهَا لَا عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ ) لِأَنَّهُ خَارِجٌ فِي النِّصْفِ فَيَقْضِي بِبَيِّنَتِهِ ، وَالنِّصْفُ الَّذِي فِي يَدَيْهِ صَاحِبُهُ لَا يَدَّعِيهِ لِأَنَّ مُدَّعَاهُ النِّصْفُ وَهُوَ فِي يَدِهِ سَالِمٌ لَهُ ، وَلَوْ لَمْ يَنْصَرِفْ إلَيْهِ دَعْوَاهُ كَانَ ظَالِمًا بِإِمْسَاكِهِ وَلَا قَضَاءَ بِدُونِ الدَّعْوَى فَيُتْرَكُ فِي يَدِهِ .

( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( وَإِذَا كَانَتْ دَارٌ فِي يَدِ رَجُلٍ ادَّعَاهَا اثْنَانِ أَحَدُهُمَا جَمِيعًا وَالْآخَرُ نِصْفَهَا وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَلِصَاحِبِ الْجَمِيعِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا وَلِصَاحِبِ النِّصْفِ رُبْعُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ اعْتِبَارًا لِطَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ ، فَإِنَّ صَاحِبَ النِّصْفِ لَا يُنَازِعُ الْآخَرَ فِي النِّصْفِ فَسَلِمَ لَهُ بِلَا مُنَازِعٍ وَاسْتَوَتْ مُنَازَعَتُهُمَا فِي النِّصْفِ الْآخَرِ فَيُنَصَّفُ بَيْنَهُمَا ) فَتُجْعَلُ الدَّارُ عَلَى أَرْبَعَةٍ لِحَاجَتِنَا إلَى حِسَابٍ لَهُ نِصْفُ وَلِنِصْفِهِ نِصْفٌ وَأَقَلُّهُ أَرْبَعَةٌ ، كَذَا فِي الْكَافِي ( وَقَالَا ) أَيْ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ( هِيَ ) أَيْ الدَّارُ ( بَيْنَهُمَا ) أَيْ بَيْنَ الْمُدَّعِيَيْنِ ( أَثْلَاثًا فَاعْتَبَرَا طَرِيقَ الْعَوْلِ وَالْمُضَارَبَةِ فَصَاحِبُ الْجَمِيعِ يَضْرِبُ بِكُلِّ حَقِّهِ سَهْمَيْنِ ) أَيْ يَأْخُذُ بِحَسَبِ كُلِّ حَقِّهِ سَهْمَيْنِ .
وَفِي الْمُغْرِبِ وَقَالَ الْفُقَهَاءُ : فُلَانٌ يَضْرِبُ فِيهِ بِالثُّلُثِ : أَيْ يَأْخُذُ مِنْهُ شَيْئًا بِحُكْمِ مَالِهِ مِنْ الثُّلُثِ كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ ( وَصَاحِبُ النِّصْفِ بِسَهْمٍ وَاحِدٍ ) أَيْ وَصَاحِبُ النِّصْفِ يَضْرِبُ بِكُلِّ حَقِّهِ أَيْضًا وَهُوَ سَهْمٌ وَاحِدٌ إذْ الدَّارُ تُجْعَلُ سَهْمَيْنِ لِحَاجَتِنَا إلَى عَدَدٍ لَهُ نِصْفٌ صَحِيحٌ ، وَأَقَلُّهُ اثْنَانِ فَيَضْرِبُ صَاحِبُ الْمِلْكِ بِذَلِكَ وَصَاحِبُ النِّصْفِ بِسَهْمٍ وَاحِدٍ ( فَتُقَسَّمُ ) بَيْنَهُمَا ( أَثْلَاثًا ) أَيْ فَتُقَسَّمُ الدَّارُ بَيْنَ الْمُدَّعِيَيْنِ أَثْلَاثًا ثُلُثَاهَا لِمُدَّعِي الْجَمِيعِ وَثُلُثُهَا لِمُدَّعِي النِّصْفِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْلَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُدْلِيَ بِسَبَبٍ صَحِيحٍ وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الِاسْتِحْقَاقُ مِنْ غَيْرِ انْضِمَامِ مَعْنًى آخَرَ إلَيْهِ يَضْرِبُ بِجَمِيعِ حَقِّهِ ، كَأَصْحَابِ الْعَوْلِ وَالْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ فَمَا دُونَهُ ، وَغُرَمَاءِ الْمَيِّتِ إذَا ضَاقَتْ التَّرِكَةُ عَنْ دُيُونِهِ ، وَالْمُدْلِي بِسَبَبٍ غَيْرِ صَحِيحٍ يَضْرِبُ بِقَدْرِ مَا يُصِيبُهُ حَالَ الْمُزَاحَمَةِ

كَمَسْأَلَتِنَا هَذِهِ ، وَالْمُوصَى لَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ .
وَأَصْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ قِسْمَةَ الْعَيْنِ مَتَى وَجَبَتْ بِسَبَبِ حَقٍّ كَانَ فِي الْعَيْنِ كَانَتْ الْقِسْمَةُ عَلَى طَرِيقِ الْعَوْلِ كَالتَّرِكَةِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ ، وَمَتَى وَجَبَتْ لَا بِسَبَبِ حَقٍّ كَانَ فِي الْعَيْنِ فَالْقِسْمَةُ عَلَى طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ كَالْفُضُولِيِّ إذَا بَاعَ عَبْدَ رَجُلٍ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَفُضُولِيٍّ آخَرَ بَاعَ نِصْفَهُ وَأَجَازَ الْمَوْلَى الْبَيْعَيْنِ فَالْقِسْمَةُ بَيْنَ الْمُشْتَرِيَيْنِ بِطَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ ، أَوْ بَاعَا فَعَلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ أَمْكَنَ الِاتِّفَاقُ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ عَلَى الْعَوْلِ وَعَلَى الْمُنَازَعَةِ وَأَمْكَنَ الِافْتِرَاقُ ، فَمِمَّا اتَّفَقُوا عَلَى الْعَوْلِ فِيهِ الْعَوْلُ فِي التَّرِكَةِ ، أَمَّا عَلَى أَصْلِهِ فَلِأَنَّ السَّبَبَ لَا يَحْتَاجُ إلَى ضَمِّ شَيْءٍ ، وَأَمَّا عَلَى أَصْلِهِمَا فَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِسَبَبِ حَقٍّ فِي الْعَيْنِ لِأَنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ يَتَعَلَّقُ بِعَيْنِ التَّرِكَةِ ، وَمِمَّا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ بَيْنَ الْفُضُولِيِّ ، أَمَّا عَلَى أَصْلِهِ فَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِسَبَبٍ صَحِيحٍ لِاحْتِيَاجِهِ إلَى انْضِمَامِ الْإِجَازَةِ إلَيْهِ ، وَأَمَّا عَلَى أَصْلِهِمَا فَلِأَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُشْتَرِيَيْنِ كَانَ فِي الثَّمَنِ تَحَوَّلَ بِالشِّرَاءِ إلَى الْبَيْعِ .
وَمِمَّا افْتَرَقُوا فِيهِ مَسْأَلَتُنَا هَذِهِ ، فَعَلَى أَصْلِهِ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِ كُلٍّ مِنْهُمَا هُوَ الشَّهَادَةُ ، وَهِيَ تَحْتَاجُ إلَى اتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهَا كَمَا تَقَدَّمَ فَلَمْ يَكُنْ سَبَبًا صَحِيحًا فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ عَلَى طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ كَمَا بَيَّنَ فِي الْكِتَابِ ، وَعَلَى أَصْلِهِمَا حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُدَّعِيَيْنِ فِي الْعَيْنِ ، بِمَعْنَى أَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَائِعٌ فِيهَا ، فَمَا مِنْ جُزْءٍ إلَّا وَصَاحِبُ الْقَلِيلِ يُزَاحِمُ فِيهِ صَاحِبَ الْكَثِيرِ بِنَصِيبِهِ ، فَلِهَذَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ فِيهِ بِطَرِيقِ الْعَوْلِ كَمَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ .
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78