كتاب : فتح القدير
المؤلف : كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي

أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الدُّخُولِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ جُعِلَ شَرْطًا لِحُدُوثِ أَمْرٍ آخَرَ فَلَا يُحْكَمُ بِوُجُودِهِ بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ .
فَإِنْ قِيلَ : الْخِلَافُ ثَابِتٌ فِيمَا لَوْ حَضَرَ وَأَنْكَرَ ثُمَّ غَابَ .
قُلْنَا : لِأَنَّ بَقَاءَ الْإِنْكَارِ شَرْطُ الْقَضَاءِ بِالْبَيِّنَةِ وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِجَوَازِ الرُّجُوعِ عَنْهُ إلَّا بِالنَّظَرِ إلَى الْأَصْلِ وَلَا عِبْرَةَ بِهِ ، وَإِنَّمَا يُقْضَى عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ إذَا حَضَرَ وَسَكَتَ لِإِنْزَالِ الشَّرْعِ إيَّاهُ مُنْكِرًا لَا لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنْكِرٍ ، وَمَا قِيلَ وَقْفُ الْبَيِّنَةِ عَلَى حُضُورِهِ غَيْرُ مُفِيدٍ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُقِرَّ أَوْ يُنْكِرَ .
وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ الدَّعْوَى لَازِمَةٌ عَلَيْهِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ مَعَ حُضُورِهِ يَحْتَمِلُ أَنْ يُقِرَّ فَيَبْطُلَ حُكْمُ الْبَيِّنَةِ أَوَّلًا ، فَيَطْعَنُ فِي الْبَيِّنَةِ وَيُثْبِتُهُ أَوْ لَا يَطْعَنُ فَيُقْضَى عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ ، وَمَعَ غَيْبَتِهِ يَشْتَبِهُ وَجْهُ الْقَضَاءِ فَلَا يَجُوزُ ، وَهَذَا لِأَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ بِالْبَيِّنَةِ أَنْ يَنْفُذَ فِي حَقِّ سَائِرِ النَّاسِ وَبِالْإِقْرَارِ يَقْتَصِرُ عَلَى الْمُقِرِّ ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِيمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَلَدَتْ عِنْدَهُ فَاسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ بِالْبَيِّنَةِ يَأْخُذُهَا وَوَلَدَهَا ، وَلَوْ أَقَرَّ بِهَا لِرَجُلٍ لَمْ يَأْخُذْ وَلَدَهَا وَلَا يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ عَلَى بَائِعِهَا وَبِالْبَيِّنَةِ تَرْجِعُ الْبَاعَةُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ .
وَمَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا لَوْ أَنْكَرَ ثُمَّ غَابَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ قِيَامُ الْإِنْكَارِ وَقْتَ الْقَضَاءِ ، وَفِيهِ خِلَافُ أَبِي يُوسُفَ فَإِنَّهُ قَالَ : يُحْكَمُ بِهَا لِأَنَّ إنْكَارَهُ سُمِعَ نَصًّا فَوَجَدَ شَرْطَ حُجِّيَّتِهَا كَمَا لَوْ أَقَرَّ ثُمَّ غَابَ يَقْضِي بِالْإِقْرَارِ .
وَفِي نَوَادِرِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يُقْضَى بِالْبَيِّنَةِ وَيُقْضَى بِالْإِقْرَارِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ فِي الْبَيِّنَةِ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَقَّ الطَّعْنِ فِي الْبَيِّنَةِ وَالْقَضَاءُ عَلَيْهِ حَالَ غَيْبَتِهِ يُبْطِلُ هَذَا الْحَقَّ ، أَمَّا

لَيْسَ لَهُ حَقُّ الطَّعْنِ فِي إقْرَارِهِ فَالْقَضَاءُ عَلَيْهِ حَالَ غَيْبَتِهِ ثَمَّ لَا يُبْطِلُ حَقًّا لَهُ .
وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ يَقُولُ أَوَّلًا : لَا يُقْضَى بِالْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ عَلَى الْغَائِبِ جَمِيعًا ، ثُمَّ رَجَعَ لَمَّا اُبْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ ، وَقَالَ : يُقْضَى فِيهِمَا جَمِيعًا وَاسْتَحْسَنَهُ حِفْظًا لِأَمْوَالِ النَّاسِ ، فَإِذَا عَلِمْنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ حُضُورِهِ أَوْ حُضُورِ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ ، فَمَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ أَحَدُ ثَلَاثٍ : نَائِبٌ بِإِنَابَتِهِ كَوَكِيلِهِ ، أَوْ بِإِنَابَةِ الشَّرْعِ كَالْوَصِيِّ مِنْ جِهَةِ الْقَاضِي .
وَقَدْ يَكُونُ حُكْمًا : يَعْنِي شَخْصًا يَقُومُ مَقَامَهُ حُكْمًا ، أَيْ يَكُونُ قِيَامُهُ عَنْهُ حُكْمًا لِأَمْرٍ لَازِمٍ لَهُ ، وَاقْتَصَرَ الْمُصَنِّفُ عَلَيْهَا نَفْيًا لِلْمُسَخَّرِ مِنْ جِهَةِ الْقَاضِي فَإِنَّ فِيهِ اخْتِلَافَ الرِّوَايَتَيْنِ وَهُوَ الَّذِي يُنَصِّبُهُ الْقَاضِي لِيَسْمَعَ عَلَيْهِ الدَّعْوَى ، وَكَذَا لَوْ أَحْضَرَ الْمُدَّعِي رَجُلًا غَيْرَ خَصْمِهِ لِيَسْمَعَ الْقَاضِي الْخُصُومَةَ وَالْقَاضِي يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِخَصْمٍ لَا يَسْمَعُ الْخُصُومَةَ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى الْمُسَخَّرِ مِنْ جِهَتِهِ ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ نَصْبُ الْقَاضِي الْوَكِيلَ عَنْ خَصْمٍ اخْتَفَى فِي بَيْتِهِ وَلَا يَحْضُرُ مَجْلِسَ الْحُكْمِ ، وَلَكِنْ بَعْدَ أَنْ يَبْعَثَ أُمَنَاءَهُ إلَى بَابِ دَارِهِ فَيُنَادِيَ عَلَى بَابِ دَارِهِ وَيَقُولَ اُحْضُرْ مَجْلِسَ الْحُكْمِ وَإِلَّا يُحْكَمُ عَلَيْك ، أَمَّا فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَلَا .
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ .
رَجُلٌ غَابَ وَجَاءَ رَجُلٌ فَادَّعَى عَلَى رَجُلٍ ذَكَرَ أَنَّهُ غَرِيمُ الْغَائِبِ وَالْغَائِبُ وَكَّلَهُ بِطَلَبِ كُلِّ حَقٍّ لَهُ عَلَى غُرَمَائِهِ بِالْكُوفَةِ وَبِالْخُصُومَةِ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ يُنْكِرُ وَكَالَتَهُ فَأَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى وَكَالَتِهِ قَضَى عَلَيْهِ بِالْوَكَالَةِ : يَعْنِي عَلَى الْغَائِبِ .
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ : فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْحُكْمِ عَلَى الْمُسَخَّرِ ، فَإِنَّهُ قَالَ ذَكَرَ أَنَّهُ غَرِيمُ الْغَائِبِ وَلَمْ يَقُلْ هُوَ غَرِيمُ الْغَائِبِ .
قَالَ الصَّدْرُ

الشَّهِيدُ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ الْقَاضِي أَنَّهُ مُسَخَّرٌ .
وَالْوَجْهُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ كَمَا ذَكَرَ ظَهِيرُ الدِّينِ فِي فَتَاوَاهُ أَنَّ فِي نَفَاذِ قَضَاءِ الْقَاضِي عَلَى الْغَائِبِ رِوَايَتَيْنِ ، ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ وَشَيْخُ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ يَنْفُذُ ، وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْمَشَايِخِ قَالُوا : لَا يَنْفُذُ ، وَفِي مَفْقُودِ خُوَاهَرْ زَادَهُ ، لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ لِلْغَائِبِ مِنْ غَيْرِ خَصْمٍ كَمَا لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ عَلَى الْغَائِبِ ، إلَّا أَنَّ مَعَ هَذَا لَوْ وَكَّلَ وَكِيلًا وَأَنْفَذَ الْخُصُومَةَ بَيْنَهُمْ فَهُوَ جَائِزٌ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى انْتَهَى .
وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ أَنْ يُقَالَ إنَّ نَفَاذَ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ مَوْقُوفٌ عَلَى إمْضَاءِ قَاضٍ ، لِأَنَّ نَفْسَ الْقَضَاءِ هُوَ الْمُجْتَهَدُ فِيهِ فَهُوَ كَقَضَاءِ الْمَحْدُودِ فِي قَذْفٍ وَنَحْوِهِ ، وَحَيْثُ قَضَى عَلَى غَائِبٍ فَلَا يَكُونُ عَنْ إقْرَارٍ عَلَيْهِ .
وَمِنْ فُرُوعِهِ مَسْأَلَةٌ عَجِيبَةٌ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنْ الْفَتَاوَى الصُّغْرَى : عَيْنٌ فِي يَدِ رَجُلٍ ادَّعَى آخَرُ أَنَّهُ مِلْكُهُ اشْتَرَاهُ مِنْ فُلَانٍ الْغَائِبِ وَصَدَّقَهُ ذُو الْيَدِ فَالْقَاضِي لَا يَأْمُرُ ذَا الْيَدِ أَنْ يُسَلِّمَهَا إلَى الْمُدَّعِي حَتَّى لَا يَكُونَ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ بِالشِّرَاءِ بِإِقْرَارِهِ ، وَهِيَ عَجِيبَةٌ لِأَنَّهُ اعْتَرَفَ بِالْمِلْكِ لِلْمُدَّعِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْهِ بِالتَّسْلِيمِ .
قَالَ : وَأَحَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ إلَى بَابِ الْيَمِينِ مِنْ أَدَبِ الْقَاضِي وَلَمْ أَجِدْهَا ثَمَّةَ .
وَأَمَّا الثَّالِثُ فَمَا إذَا كَانَ مَا يَدَّعِيهِ عَلَى الْغَائِبِ سَبَبًا لَا مَحَالَةَ ، لِمَا يَدَّعِيهِ عَلَى الْحَاضِرِ بِحَيْثُ لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ ( وَهُوَ فِي غَيْرِ صُورَةٍ فِي الْكُتُبِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ ) مَا يَدَّعِيهِ الْغَائِبُ ( شَرْطًا لِحَقِّهِ ) لَا سَبَبًا لَا مَحَالَةَ ، أَوْ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا وَقَدْ لَا يَكُونُ ( فَإِنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِهِ فِي جَعْلِ الْحَاضِرِ خَصْمًا عَنْ الْغَائِبِ )

قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَقَدْ عَرَفَ تَمَامَهُ فِي الْجَامِعِ ) .
مِثَالُ السَّبَبِ الْمَلْزُومِ لَا مَحَالَةَ فِي سِتِّ مَسَائِلَ : ثَلَاثٌ فِيمَا يَكُونُ الْمَقْضِيُّ شَيْئَيْنِ ، وَثَلَاثٌ فِيمَا يَكُونُ وَاحِدًا .
أَمَّا ثَلَاثُ الْوَاحِدِ : إحْدَاهَا ادَّعَى دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهَا مِلْكُهُ وَأَنْكَرَ ذُو الْيَدِ فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا دَارُهُ اشْتَرَاهَا مِنْ فُلَانٍ الْغَائِبِ وَهُوَ يَمْلِكُهَا فَإِنَّهُ يُقْضَى بِهَا فِي حَقِّ الْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ ، لِأَنَّ الشِّرَاءَ سَبَبٌ لِثُبُوتِ مَا يَدَّعِيهِ عَلَى الْحَاضِرِ لِأَنَّ الشِّرَاءَ مِنْ الْمَالِكِ سَبَبٌ لَا مَحَالَةَ لِمِلْكِهِ .
وَالثَّانِيَةُ ادَّعَى عَلَى آخَرَ أَنَّهُ كَفَلَ عَنْ فُلَانٍ الْغَائِبِ بِمَا يَذُوبُ لَهُ عَلَيْهِ فَأَقَرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْكَفَالَةِ وَأَنْكَرَ الذَّوْبَ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ذَابَ لَهُ عَلَى فُلَانٍ أَلْفٌ يُقْضَى بِهَا عَلَى الْكَفِيلِ وَالْغَائِبِ ، حَتَّى لَوْ حَضَرَ وَأَنْكَرَ لَا يُلْتَفَتُ إلَى إنْكَارِهِ .
الثَّالِثَةُ ادَّعَى شُفْعَةً فِي دَارٍ فِي يَدِ إنْسَانٍ فَقَالَ ذُو الْيَدِ الدَّارُ دَارِي مَا اشْتَرَيْتهَا مِنْ أَحَدٍ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ أَنَّ ذَا الْيَدِ اشْتَرَاهَا مِنْ فُلَانٍ الْغَائِبِ بِأَلْفٍ وَهُوَ يَمْلِكُهَا وَأَنَا شَفِيعُهَا يَقْضِي بِالشِّرَاءِ فِي حَقِّ ذِي الْيَدِ وَالْغَائِبِ .
وَمِثَالُ ثَلَاثِ الشَّيْئَيْنِ : إحْدَاهَا قَذَفَ مُحْصَنًا فَادَّعَى عَلَيْهِ الْحَدَّ فَقَالَ الْقَاذِفُ أَنَا عَبْدٌ وَعَلَيَّ حَدُّ الْعَبِيدِ وَقَالَ الْمُدَّعِي الْمَقْذُوفُ بَلْ أَعْتَقَك مَوْلَاك فَعَلَيْك حَدُّ الْأَحْرَارِ وَالْمَوْلَى غَائِبٌ فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ تُقْبَلُ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ وَيُقْضَى بِالْعِتْقِ فِي حَقِّ الْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ جَمِيعًا ، حَتَّى لَوْ حَضَرَ وَأَنْكَرَ الْعِتْقَ لَا يُلْتَفَتُ إلَى إنْكَارِهِ فَالْعِتْقُ سَبَبٌ لِكَمَالِ الْحَدِّ وَهُوَ الْمُدَّعِي عَلَى الْحَاضِرِ فَهُمَا شَيْئَانِ .
الثَّانِيَةُ شَاهِدَانِ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ بِمَالٍ فَقَالَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ هُمَا عَبْدَانِ لِفُلَانٍ الْغَائِبِ فَأَقَامَ الْمَشْهُودُ لَهُ

الْبَيِّنَةَ أَنَّ مَوْلَاهُمَا أَعْتَقَهُمَا قَبْلَ هَذَا وَهُوَ يَمْلِكُهُمَا تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ وَيَثْبُتُ الْعِتْقُ فِي حَقِّ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَالْمَوْلَى الْغَائِبِ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ وِلَايَةِ الشَّهَادَةِ .
الثَّالِثَةُ : رَجُلٌ قَتَلَ رَجُلًا عَمْدًا وَلَهُ وَلِيَّانِ غَابَ أَحَدُهُمَا وَادَّعَى الْحَاضِرُ عَلَى الْقَاتِلِ أَنَّ الْغَائِبَ عَفَا عَنْ نَصِيبِهِ وَانْقَلَبَ نَصِيبِي مَالًا وَأَنْكَرَ الْقَاتِلُ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ تُقْبَلُ وَيُقْضَى بِهَا عَلَى الْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ جَمِيعًا .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا مُنْتَقَضٌ بِمَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ غَائِبٍ وَحَاضِرٍ فَادَّعَى الْعَبْدُ عَلَى الْحَاضِرِ مِنْهُمَا أَنَّ الْغَائِبَ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ وَهُوَ مُوسِرٌ وَادَّعَى قَصْرَ يَدِ الْحَاضِرِ عَنْ نَفْسِهِ لِصَيْرُورَتِهِ مُكَاتَبًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْحَاضِرِ بِذَلِكَ لَا تُقْبَلُ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ أَصْلًا مَعَ أَنَّ إعْتَاقَ الْغَائِبِ نَصِيبَهُ سَبَبٌ لِقَصْرِ يَدِ الْحَاضِرِ عَنْهُ لَا مَحَالَةَ .
أُجِيبَ بِأَنَّ عَدَمَ الْقَبُولِ عِنْدَهُ هُنَا لَا لِعَدَمِ الْخَصْمِ عَنْ الْغَائِبِ بَلْ لِجَهَالَةِ الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ بِالْكِتَابَةِ لِأَنَّ السَّاكِتَ إذَا اخْتَارَ تَضْمِينَ الْمُعْتَقِ يَصِيرُ الْعَبْدُ مُكَاتَبًا مِنْ جِهَةِ الْمُعْتَقِ ، وَإِنْ اخْتَارَ الِاسْتِسْعَاءَ يَصِيرُ مُكَاتَبًا مِنْ جِهَةِ السَّاكِتِ فَكَانَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ بِالْكِتَابَةِ مَجْهُولًا فَلَمْ يُقْبَلْ .
وَأَمَّا مَا لَا يَكُونُ فِيهِ مَا يَدَّعِي بِهِ عَلَى الْغَائِبِ سَبَبًا لَا مَحَالَةَ لِمَا يَدَّعِيهِ عَلَى الْحَاضِرِ ، بَلْ قَدْ يَكُونُ وَقَدْ لَا يَكُونُ ، فَقَدْ يَكُونُ أَيْضًا شَيْئَيْنِ وَقَدْ يَكُونُ وَاحِدًا ، وَبَيَانُهُ فِي مَسْأَلَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا قَالَ لِعَبْدِ رَجُلٍ مَوْلَاك وَكَّلَنِي بِحَمْلِك إلَيْهِ فَأَقَامَ الْعَبْدُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ مَوْلَاهُ أَعْتَقَهُ تُقْبَلُ فِي حَقِّ قَصْرِ يَدِ الْحَاضِرِ وَلَا تُقْبَلُ فِي حَقِّ الْعِتْقِ عَلَى الْغَائِبِ ، حَتَّى لَوْ حَضَرَ الْغَائِبُ وَأَنْكَرَ الْعِتْقَ يَحْتَاجُ الْعَبْدُ إلَى إعَادَةِ

الْبَيِّنَةِ بِهِ .
وَالثَّانِيَةُ : رَجُلٌ قَالَ لِامْرَأَةِ غَائِبٍ وَكَّلَنِي زَوْجُك بِحَمْلِك إلَيْهِ فَأَقَامَتْ بَيِّنَةً أَنَّهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا يَقْضِي بِقَصْرِ يَدِ الْوَكِيلِ عَنْهَا دُونَ الطَّلَاقِ ، فَلَوْ حَضَرَ وَأَنْكَرَ الطَّلَاقَ يَحْتَاجُ إلَى إعَادَتِهَا أَوْ بَيِّنَةٍ أُخْرَى فَالْمُدَّعِي الْعِتْقَ وَقَصْرَ الْيَدِ وَالطَّلَاقَ وَقَصْرَ الْيَدِ ، لِأَنَّ الْعِتْقَ وَالطَّلَاقَ قَدْ يَتَحَقَّقُ وَلَا يُوجِبُ انْعِزَالَ الْوَكِيلِ بِأَنْ لَا يَكُونَ هُنَاكَ وَكَالَةٌ ، وَقَدْ يَتَحَقَّقُ مُوجِبًا لِلِانْعِزَالِ بِأَنْ وُجِدَ بَعْدَ الْوَكَالَةِ ، فَلَيْسَ انْعِزَالُ الْوَكِيلِ حُكْمًا أَصْلِيًّا لِلطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ ، فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَيْسَ سَبَبًا لِحَقِّ الْحَاضِرِ فِي الْجُمْلَةِ لَا يَكُونُ الْحَاضِرُ فِيهِ خَصْمًا عَنْ الْغَائِبِ ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا قَبِلْنَا الْبَيِّنَةَ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى حَقِّ الْحَاضِرِ فِي قَصْرِ يَدِهِ وَانْعِزَالِهِ عَنْ الْوَكَالَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ انْعِزَالِ الْوَكِيلِ تَحَقُّقُ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ ، وَلَا مِنْ ضَرُورَةِ تَحَقُّقِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ انْعِزَالُ الْوَكِيلِ فَلَا يُقْضَى بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ .
وَمِنْ هَذَا الْقِسْمِ وَهُوَ دَعْوَى شَيْئَيْنِ ، إلَّا أَنَّ مَا يَدَّعِيهِ عَلَى الْغَائِبِ لَيْسَ سَبَبًا لِمَا يَدَّعِيهِ عَلَى الْحَاضِرِ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْبَقَاءِ فَبَيَانُهُ فِي مَسَائِلَ : إحْدَاهَا قَالُوا فِيمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَادَّعَى الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ أَنَّهُ كَانَ زَوَّجَهَا مِنْ فُلَانٍ الْغَائِبِ وَلَمْ يَعْلَمْ الْمُشْتَرِي وَيُرِيدُ أَنْ يَرُدَّهَا بِهَذَا الْعَيْبِ وَأَنْكَرَ الْبَائِعُ فَأَقَامَ الْمُشْتَرِي عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً فَإِنَّهُ لَا يُقْضَى بِهَا لَا فِي حَقِّ الْحَاضِرِ وَلَا فِي حَقِّ الْغَائِبِ ، لِأَنَّ الْمُدَّعَى شَيْئَانِ : الرَّدُّ بِالْعَيْبِ عَلَى الْحَاضِرِ ، وَالنِّكَاحُ عَلَى الْغَائِبِ .
وَالنِّكَاحُ الْمُدَّعَى بِهِ عَلَى الْغَائِبِ لَيْسَ سَبَبًا لِمَا يَدَّعِي عَلَى الْحَاضِرِ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْبَقَاءِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ تَزَوَّجَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا ، فَإِنْ

أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْبَقَاءِ بِأَنْ شَهِدُوا عَلَى أَنَّهَا امْرَأَتُهُ لِلْحَالِ لَا تُقْبَلُ أَيْضًا لِأَنَّ الْبَقَاءَ تَبَعٌ لِلِابْتِدَاءِ .
وَالثَّانِيَةُ الْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا إذَا أَرَادَ الْبَائِعُ الِاسْتِرْدَادَ فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ بَاعَ مِنْ فُلَانٍ الْغَائِبِ لَا تُقْبَلُ لِإِبْطَالِ حَقِّ الِاسْتِرْدَادِ لَا فِي حَقِّ الْحَاضِرِ وَلَا فِي حَقِّ الْغَائِبِ ، لِأَنَّ نَفْسَ الْبَيْعِ لَيْسَ سَبَبًا لِبُطْلَانِ حَقِّ الْبَائِعِ فِي الِاسْتِرْدَادِ لِجَوَازِ أَنَّهُ بَاعَ ثُمَّ انْفَسَخَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا فَيَعُودُ حَقُّ الْبَائِعِ فِي الِاسْتِرْدَادِ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ خَصْمًا فِي إثْبَاتِ نَفْسِ الْبَيْعِ لَمْ يَكُنْ خَصْمًا فِي إثْبَاتِ الْبَقَاءِ لِأَنَّ الْبَقَاءَ تَبَعٌ لِلِابْتِدَاءِ كَمَا ذَكَرْنَا .
الثَّالِثَةُ رَجُلٌ فِي يَدِهِ دَارٌ بِيعَتْ بِجَنْبِهَا دَارٌ فَأَرَادَ ذُو الْيَدِ أَنْ يَأْخُذَ الْمُشْتَرَاةَ بِالشُّفْعَةِ فَقَالَ الْمُشْتَرِي لَهُ : الدَّارُ الَّتِي بِيَدِك لَيْسَتْ لَك وَإِنَّمَا هِيَ لِفُلَانٍ فَأَقَامَ الشَّفِيعُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا دَارُهُ اشْتَرَاهَا مِنْ فُلَانٍ الْغَائِبِ لَا يُقْضَى بِالشِّرَاءِ لَا فِي حَقِّ الْحَاضِرِ وَلَا فِي حَقِّ الْغَائِبِ ، لِأَنَّ الْمُدَّعَى شَيْئَانِ ، وَالْمُدَّعَى عَلَى الْغَائِبِ مِنْ شِرَاءِ الدَّارِ لَيْسَ سَبَبًا لِثُبُوتِ حَقِّهِ فِي الشُّفْعَةِ مَا لَمْ يَثْبُتْ الْبَقَاءُ ، لِأَنَّهُ لَوْ فَسَخَ بَعْدَ الشِّرَاءِ وَأَزَالَهَا عَنْ مِلْكِهِ بِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ لَا يَكُونُ لَهُ شُفْعَةٌ ، وَإِنَّمَا تَكُونُ الشُّفْعَةُ بِاعْتِبَارِ الْبَقَاءِ وَلَا بَيِّنَةَ عَلَيْهِ ؛ وَلَوْ أَقَامَ عَلَى الْبَقَاءِ لَمْ تُقْبَلْ أَيْضًا لِمَا ذَكَرْنَا .
وَأَمَّا مَا يَكُونُ شَرْطًا فَعَامَّةُ الْمَشَايِخِ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْتَصِبُ الْحَاضِر خَصْمًا عَنْ الْغَائِبِ فِيمَا يَدَّعِيهِ .
وَصُورَتُهُ : قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ طَلَّقَ فُلَانٌ امْرَأَتَهُ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَادَّعَتْ أَنَّ فُلَانًا طَلَّقَ زَوْجَتَهُ وَأَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ لَا يُقْضَى بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ بِهَا لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ .
وَقَدْ

أَفْتَى بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ كَفَخْرِ الْإِسْلَامِ والأوزجندي فِيهِ بِانْتِصَابِ الْحَاضِرِ خَصْمًا عَنْ الْغَائِبِ ، وَيُقْضَى بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ كَمَا لَوْ قَالَ إنْ دَخَلَ فُلَانٌ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَبَرْهَنَتْ عَلَى دُخُولِ فُلَانٍ حَيْثُ يَصِحُّ وَإِنْ كَانَ فُلَانٌ غَائِبًا .
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا قَضَاءٌ عَلَى الْغَائِبِ بِشَيْءٍ إذْ لَيْسَ فِيهِ إبْطَالُ حَقٍّ لَهُ فَصَارَ الْأَصْلُ أَنَّ مَا كَانَ شَرْطًا لِثُبُوتِ الْحَقِّ لِلْحَاضِرِ مِنْ غَيْرِ إبْطَالِ حَقِّ الْغَائِبِ قُبِلَتْ الْبَيِّنَةُ فِيهِ إذْ لَيْسَ فِيهِ قَضَاءٌ عَلَى الْغَائِبِ ، وَمَا تَضَمَّنَ إبْطَالًا عَلَيْهِ لَا يُقْبَلُ .

قَالَ ( وَيُقْرِضُ الْقَاضِي أَمْوَالَ الْيَتَامَى وَيَكْتُبُ ذِكْرَ الْحَقِّ ) لِأَنَّ فِي الْإِقْرَاضِ مَصْلَحَتَهُمْ لِبَقَاءِ الْأَمْوَالِ مَحْفُوظَةً مَضْمُونَةً ، وَالْقَاضِي يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِخْرَاجِ وَالْكِتَابَةِ لِيَحْفَظَهُ ( وَإِنْ أَقْرَضَ الْوَصِيُّ ضَمِنَ ) لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِخْرَاجِ ، وَالْأَبُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيِّ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ لِعَجْزِهِ عَنْ الِاسْتِخْرَاجِ .

( قَوْلُهُ وَيُقْرِضُ الْقَاضِي أَمْوَالَ الْيَتَامَى وَيَكْتُبُ ذِكْرَ الْحَقِّ ) وَهُوَ الْمُسَمَّى فِي عُرْفِنَا بِالصَّكِّ وَالْحَقُّ هُنَا هُوَ الْإِقْرَاضُ ، وَهَذَا لِأَنَّ فِي الْإِقْرَاضِ مَصْلَحَتَهُمْ ) لِأَنَّ بَقَاءَهُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ لَا يُؤْمَنُ مَعَهُ السَّارِقُ وَالْغَاصِبُ الْمُكَابِرُ ، وَفِي الْقَرْضِ بَقَاؤُهَا مَحْفُوظَةً عَنْ ذَلِكَ مَضْمُونَةً ( وَالْقَاضِي يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِخْرَاجِ ) فَكَانَ النَّظَرُ فِي الْإِقْرَاضِ بِخِلَافِ الْوَصِيِّ فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِخْرَاجِ ، إذْ رُبَّمَا لَا يُوَافِقُهُ الشُّهُودُ أَوْ لَا يَجِدُهُمْ ، وَلَوْ وَجَدَهُمْ فَلَيْسَ كُلُّ بَيِّنَةٍ تَعْدِلُ وَلَا كُلُّ قَاضٍ يَعْدِلُ ، وَفِي الْجُثُوِّ بَيْنَ يَدِي الْقُضَاةِ ذُلٌّ وَصَغَارٌ فَكَانَ إضْرَارًا بِالصِّغَارِ عَلَى الِاعْتِبَارِ ( وَالْأَبُ كَالْوَصِيِّ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ ) لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِخْرَاجِ .
وَوَجْهُ الْأُخْرَى أَنَّهُ أَعَمُّ وِلَايَةً مِنْ الْوَصِيِّ لِأَنَّهَا فِي الْمَالِ وَالنَّفْسِ كَوِلَايَةِ الْقَاضِي ، وَيَزِيدُ عَلَيْهَا بِزِيَادَةِ الشَّفَقَةِ الْمَانِعُ مِنْ تَرْكِ النَّظَرِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُقْرِضُ مِمَّنْ يَأْمَنُ جُحُودَهُ ، وَعَلَى هَذَا قَالُوا : لَوْ أَخَذَهُ الْأَبُ قَرْضًا لِنَفْسِهِ يَجُوزُ وَإِنْ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي جَوَازِ الْقَرْضِ وَعَدَمِهِ لَيْسَ لِقُرْبِ الْقَرَابَةِ وَلَا لِزِيَادَةِ الْوِلَايَةِ بَلْ لِتَمَامِ الْقُدْرَةِ عَلَى الِاسْتِرْجَاعِ بَعْدَ وُجُودِ أَصْلِ الْوِلَايَةِ وَلَا قُدْرَةَ لِلْأَبِ عَلَيْهِ ، بِخِلَافِ الْقَاضِي فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَجِدْ الشُّهُودَ لِمَوْتٍ أَوْ غَيْبَةٍ قَضَى بِعِلْمِهِ وَاسْتَخْرَجَ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ قُدْرَةَ هَذَا إنَّمَا تُفِيدُ مَعَ وُجُودِ الْمُلَاءَةِ .
أَمَّا لَوْ أَعْسَرَ الْمُسْتَقْرِضُ صَارَ الْقَاضِي كَغَيْرِهِ فِي عَدَمِ الْقُدْرَةِ ، وَعَنْ هَذَا قَالَ الْخَصَّافُ : يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَتَفَقَّدَ أَحْوَالَ الَّذِينَ أَقْرَضَهُمْ الْمَالَ حَتَّى لَوْ اخْتَلَّ حَالُ أَحَدٍ مِنْهُمْ يَأْخُذُ مِنْهُمْ الْمَالَ قَبْلَ

أَنْ يُعْسِرَ فَلَا يَقْدِرُ ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الْمُسْتَقْرِضُ مُعْسِرًا فِي الِابْتِدَاءِ لَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي إقْرَاضُهُ ، وَقَدْ انْتَظَمَ مَا ذَكَرْنَا حُكْمَ الْقَاضِي بِعِلْمِهِ وَلْنُفَصِّلْهَا فَعِنْدَنَا وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَجُوزُ ، وَظَاهِرُ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ لَا يَجُوزُ ، وَعَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا رِوَايَةٌ بِالْجَوَازِ كَقَوْلِنَا لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَالَ لِهِنْدِ بِنْتِ عُتْبَةَ خُذِي مِنْ مَالِهِ مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ } فَهَذَا قَضَاءٌ بِعِلْمِهِ ، وَشَرْطُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ يَعْلَمَ فِي حَالِ قَضَائِهِ فِي الْمِصْرِ الَّذِي هُوَ قَاضِيهِ بِحَقٍّ غَيْرِ حَدٍّ خَالِصٍ لِلَّهِ مِنْ قَرْضٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ غَصْبٍ أَوْ تَطْلِيقِ رَجُلٍ امْرَأَتَهُ أَوْ قَتْلِ عَمْدٍ أَوْ حَدِّ قَذْفٍ .
وَأَمَّا إذَا عَلِمَ قَبْلَ الْقَضَاءِ فِي حَقِّ الْعِبَادِ ثُمَّ وُلِّيَ فَرُفِعَتْ إلَيْهِ تِلْكَ الْحَادِثَةُ أَوْ عَلِمَهَا فِي حَالِ قَضَائِهِ فِي غَيْرِ مِصْرِهِ ثُمَّ دَخَلَهُ فَرُفِعَتْ إلَيْهِ لَا يَقْضِي عِنْدَهُ ، وَقَالَ : يُقْضَى .
وَفِي التَّجْرِيدِ جَعَلَ قَوْلَ مُحَمَّدٍ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَلَوْ عَلِمَ فِي رُسْتَاقِ مِصْرِهِ عِنْدَهُمَا يَقْضِي .
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَسَوَاءٌ كَانَ مُقَلِّدًا لِلرُّسْتَاقِ أَوْ لَمْ يَكُنْ ، وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي فِي الْقَرْيَةِ وَالْمَفَازَةِ لَا يَنْفُذُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ .
وَنَصَّ أَصْحَابُ الْأَمَالِي عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ فِي السَّوَادِ ، وَهَكَذَا فِي النَّوَادِرِ عَنْ مُحَمَّدٍ .
وَلَوْ عَلِمَ بِحَادِثَةٍ وَهُوَ قَاضٍ فِي مِصْرِهِ ثُمَّ عُزِلَ ثُمَّ أُعِيدَ إلَى الْقَضَاءِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَقْضِي ، وَعِنْدَهُمَا يَقْضِي .
وَأَمَّا فِي حَدِّ الشُّرْبِ وَالزِّنَا فَلَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ بِعِلْمِهِ اتِّفَاقًا ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .

( بَابُ التَّحْكِيمِ ) .
( وَإِذَا حَكَّمَ رَجُلَانِ رَجُلًا فَحَكَمَ بَيْنَهُمَا وَرَضِيَا بِحُكْمِهِ جَازَ ) لِأَنَّ لَهُمَا وِلَايَةً عَلَى أَنْفُسِهِمَا فَصَحَّ تَحْكِيمُهُمَا وَيَنْفُذُ حُكْمُهُ عَلَيْهِمَا ، وَهَذَا إذَا كَانَ الْمُحَكَّمُ بِصِفَةِ الْحَاكِمِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْقَاضِي فِيمَا بَيْنَهُمَا فَيُشْتَرَطُ أَهْلِيَّةُ الْقَضَاءِ ، وَلَا يَجُوزُ تَحْكِيمُ الْكَافِرِ وَالْعَبْدِ وَالذِّمِّيِّ وَالْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ وَالْفَاسِقِ وَالصَّبِيِّ لِانْعِدَامِ أَهْلِيَّةِ الْقَضَاءِ اعْتِبَارًا بِأَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ وَالْفَاسِقُ إذَا حَكَمَ يَجِبُ أَنْ يَجُوزَ عِنْدَنَا كَمَا مَرَّ فِي الْمُوَلَّى ( وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُحَكِّمَيْنِ أَنْ يَرْجِعَ مَا لَمْ يَحْكُمْ عَلَيْهِمَا ) لِأَنَّهُ مُقَلَّدٌ مِنْ جِهَتِهِمَا فَلَا يَحْكُمُ إلَّا بِرِضَاهُمَا جَمِيعًا ( وَإِذَا حَكَمَ لَزِمَهُمَا ) لِصُدُورِ حُكْمِهِ عَنْ وِلَايَةٍ عَلَيْهِمَا ( وَإِذَا رَفَعَ حُكْمَهُ إلَى الْقَاضِي فَوَافَقَ مَذْهَبَهُ أَمْضَاهُ ) لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي نَقْضِهِ ثُمَّ فِي إبْرَامِهِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ ( وَإِنْ خَالَفَهُ أَبْطَلَهُ ) لِأَنَّ حُكْمَهُ لَا يَلْزَمُهُ لِعَدَمِ التَّحْكِيمِ مِنْهُ .

( بَابُ التَّحْكِيمِ ) هَذَا أَيْضًا مِنْ فُرُوعِ الْقَضَاءِ ، وَالْمُحَكَّمُ أَحَطُّ رُتْبَةً مِنْ الْقَاضِي ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي فِيمَا لَا يَقْضِي الْمُحَكَّمُ فَأَخَّرَهُ عَنْهُ ، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ : إنَّهُ لَا يَجُوزُ تَعْلِيقُ التَّحْكِيمِ بِالشَّرْطِ وَإِضَافَتِهِ ، بِخِلَافِ الْقَضَاءِ لِأَنَّ حُكْمَهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِصْلَاحِ وَالْوَاقِعُ مِنْهُ كَالصُّلْحِ ، أَوْ هُوَ صُلْحٌ مِنْ وَجْهٍ فَلَا يَكُونُ مِثْلَهُ بِالشَّكِّ .
وَالتَّحْكِيمُ جَائِزٌ بِالْكِتَابِ قَوْله تَعَالَى { فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ } الْآيَةَ ، وَفِيهِ نَظَرٌ .
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا { قَالَ أَبُو شُرَيْحٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ قَوْمِي إذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ فَأَتَوْنِي فَحَكَمْت بَيْنَهُمْ فَرَضِيَ عَنِّي الْفَرِيقَانِ ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : مَا أَحْسَنَ هَذَا } رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَأُجْمِعَ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمِلَ بِحُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ لَمَّا اتَّفَقَتْ الْيَهُودُ عَلَى الرِّضَا بِحُكْمِهِ فِيهِمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ عُمَرَ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ مُنَازَعَةٌ فِي نَخْلٍ فَحَكَّمَا بَيْنَهُمَا زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَأَتَيَاهُ فَخَرَجَ زَيْدٌ وَقَالَ لِعُمَرَ : هَلَّا بَعَثْت إلَيَّ فَآتِيك يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، فَقَالَ عُمَرُ : فِي بَيْتِهِ يُؤْتَى الْحَكَمُ ، فَدَخَلَا بَيْتَهُ فَأَلْقَى لَعُمَرَ وِسَادَةً ، فَقَالَ عُمَرُ : هَذَا أَوَّلُ جَوْرِك فَكَانَتْ الْيَمِينُ عَلَى عُمَرَ ، فَقَالَ زَيْدٌ لِأُبَيٍّ : لَوْ أَعْفَيْت أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، فَقَالَ عُمَرُ : يَمِينٌ لَزِمَتْنِي ، فَقَالَ أُبَيٌّ : نُعْفِي أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَنُصَدِّقُهُ ، وَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَظُنُّ بِأَحَدٍ مِنْهُمَا فِي هَذِهِ الْخُصُومَةِ التَّلْبِيسَ ، وَإِنَّمَا هِيَ لِاشْتِبَاهِ الْحَادِثَةِ عَلَيْهِمَا فَتَقَدَّمَا إلَى الْحَكَمِ لِلتَّبْيِينِ لَا لِلتَّلْبِيسِ .
وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ التَّحْكِيمِ وَأَنَّ زَيْدًا كَانَ مَعْرُوفًا بِالْفِقْهِ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ

عَنْهُمَا كَانَ يَخْتَلِفُ إلَيْهِ وَيَأْخُذُ بِرِكَابِهِ عِنْدَ رُكُوبِهِ ، وَقَالَ هَكَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَصْنَعَ بِفُقَهَائِنَا ، فَقَبَّلَ زَيْدٌ يَدَهُ وَقَالَ : هَكَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَصْنَعَ بِأَشْرَافِنَا .
وَفِيهِ أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَكُونُ قَاضِيًا فِي حَقِّ نَفْسِهِ ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنَّ مَنْ احْتَاجَ إلَى الْعِلْمِ يَأْتِي إلَى الْعَالِمِ فِي بَيْتِهِ وَلَا يَبْعَثُ إلَيْهِ لِيَأْتِيَهُ وَإِنْ كَانَ أَوْجَهَ النَّاسِ .
وَأَمَّا إلْقَاءُ زَيْدٍ الْوِسَادَةَ فَاجْتِهَادٌ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا أَتَاكُمْ كَرِيمُ قَوْمٍ فَأَكْرِمُوهُ } { وَبَسَطَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِدَاءً لَعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ } ، وَأَنَّ الْخَلِيفَةَ لَيْسَ كَغَيْرِهِ ، وَاجْتِهَادُ عُمَرَ عَلَى تَخْصِيصِ هَذِهِ الْحَالَةِ مِنْ عُمُومِ الْأَوَّلِ ، وَأَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالْحَلِفِ صَادِقًا ، وَامْتِنَاعُ عُثْمَانَ عَنْ الْيَمِينِ حِينَ لَزِمَتْهُ كَانَ لِأَمْرٍ آخَرَ ، وَأَنَّ الْيَمِينَ حَقُّ الْمُدَّعِي لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَهَا وَيَسْقُطَ بِإِسْقَاطِهِ .
( قَوْلُهُ وَإِذَا حَكَّمَ رَجُلَانِ رَجُلًا ) أَوْ امْرَأَةً ( فَحَكَمَ بَيْنَهُمَا وَرَضِيَا بِحُكْمِهِ ) إلَى أَنْ حَكَمَ ( جَازَ لِأَنَّ لَهُمَا وِلَايَةً عَلَى أَنْفُسِهِمَا فَصَحَّ تَحْكِيمُهُمَا ) وَسَنَذْكُرُ لِهَذَا تَخْصِيصَاتٍ : أَوَّلُهَا قَوْلُهُ ( وَهَذَا إذَا كَانَ الْمُحَكَّمُ بِصِفَةِ الْحَاكِمِ ) بِأَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلشَّهَادَةِ ( فَلَا يَجُوزُ تَحْكِيمُ الْكَافِرِ وَالْعَبْدِ وَالذِّمِّيِّ ) إلَّا أَنْ يُحَكِّمَهُ ذِمِّيَّانِ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ ( وَ ) كَذَلِكَ ( الْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ وَالْفَاسِقُ ) لَا يَجُوزُ تَحْكِيمُ أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ ( لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الْقَضَاءِ لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ .
وَالْفَاسِقُ إذَا حَكَمَ يَجِبُ أَنْ يَجُوزَ عِنْدَنَا كَمَا مَرَّ فِي الْمَوْلَى ) الْفَاسِقِ يَنْفُذُ حُكْمُهُ .
وَقَوْلُهُ ( وَيَنْفُذُ حُكْمُهُ عَلَيْهِمَا ) عَطْفٌ عَلَى جَوَابِ الْمَسْأَلَةِ : أَعْنِي قَوْلَهُ جَازَ ، وَهَذِهِ شُرُوطُ التَّحْكِيمِ

فَقَدَّمْنَاهَا عَلَى الْجَوَابِ ، وَلَوْ قَدَّمَ الْمَجْرُورَ فَقَالَ وَعَلَيْهِمَا يَنْفُذُ حُكْمُهُ كَانَ مُفِيدًا لِلْحَصْرِ فَيُفِيدُ أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ عَلَى غَيْرِهِمَا ، فَلَوْ حَكَّمَاهُ فِي عَيْبٍ بِالْمَبِيعِ فَقَضَى بِرَدِّهِ لَيْسَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى بَائِعِهِ إلَّا أَنْ يَتَرَاضَى الْبَائِعُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي وَالْمُشْتَرِي عَلَى تَحْكِيمِهِ فَحِينَئِذٍ يَرُدُّهُ عَلَى الْأَوَّلِ ، وَلَوْ اخْتَصَمَ الْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ مَعَ الْمُشْتَرِي مِنْهُ فِي الْعَيْبِ فَحَكَمَ بِرَدِّهِ عَلَى الْوَكِيلِ لَمْ يَلْزَمْ الْمُوَكِّلَ إذَا كَانَ الْعَيْبُ يَحْدُثُ مِثْلُهُ رِوَايَةً وَاحِدَةً إلَّا أَنْ يَرْضَى الْمُوَكِّلُ بِتَحْكِيمِهِ مَعَهُمَا .
وَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ وَلَمْ يَدْخُلْ الْمُوَكِّلُ مَعَهُمْ فِي التَّحْكِيمِ فَفِي لُزُومِهِ لِلْمُوَكِّلِ رِوَايَتَانِ ، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ حُكْمُهُ وَلَمْ يَتَعَدَّ لِأَنَّهُ كَالْمُصَالِحِ .
ثُمَّ تُشْتَرَطُ هَذِهِ وَقْتَ التَّحْكِيمِ وَوَقْتَ الْقَضَاءِ جَمِيعًا حَتَّى لَوْ حَكَّمَا عَبْدًا فَعَتَقَ أَوْ صَبِيًّا أَوْ ذِمِّيًّا فَبَلَغَ وَأَسْلَمَ ثُمَّ حَكَمَ لَا يَنْفُذُ كَمَا فِي الْمُقَلَّدِ ، وَكَذَا لَوْ كَانَ مُسْلِمًا وَقْتَ التَّحْكِيمِ ثُمَّ ارْتَدَّ لَا يَنْفُذُ حُكْمُهُ ثُمَّ الْإِضَافَاتُ فِي قَوْلِهِ وَلَا يَجُوزُ تَحْكِيمُ الْعَبْدِ إلَخْ مِنْ إضَافَةِ الْمَصْدَرِ إلَى الْمَفْعُولِ ، وَلَوْ اُعْتُبِرَتْ إلَى الْفَاعِلِ جَازَ فِي بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ .
وَفِي الْمُغْنِي : يَجُوزُ تَحْكِيمُ الْمُكَاتَبِ وَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ كَالْحُرِّ ، وَتَحْكِيمُ الذِّمِّيِّ ذِمِّيًّا لِيَحْكُمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذِمِّيٍّ يَجُوزُ لِمَا ذَكَرْنَا .
( قَوْلُهُ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُحَكِّمِينَ أَنْ يَرْجِعَ مَا لَمْ يَحْكُمْ عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُ مُقَلَّدٌ مِنْ جِهَتِهِمَا ) إذْ هُمَا الْمُوَلِّيَانِ لَهُ فَلَهُمَا عَزْلُهُ قَبْلَ أَنْ يَحْكُمَ كَمَا أَنَّ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَعْزِلَ الْقَاضِيَ قَبْلَ أَنْ يَحْكُمَ وَلَوْ حَكَمَ قَبْلَ عَزْلِهِ نَفَذَ وَعَزْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُبْطِلُهُ فَكَذَا هَذَا ( وَإِذَا نَفَذَ حُكْمُهُ لَزِمَهُمَا لِصُدُورِ حُكْمِهِ

عَنْ وِلَايَةٍ كَامِلَةٍ عَلَيْهِمَا ) فَقَطْ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ دُونَ الصُّلْحِ وَبَعْدَمَا تَمَّ الصُّلْحُ لَيْسَ لِوَاحِدٍ أَنْ يَرْجِعَ .
( قَوْلُهُ وَإِذَا رُفِعَ حُكْمُهُ إلَى الْقَاضِي فَوَافَقَ مَذْهَبَهُ أَمْضَاهُ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي نَقْضِهِ ثُمَّ إبْرَامِهِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ ) بِعَيْنِهِ ( وَإِنْ خَالَفَهُ أَبْطَلَهُ ) وَقَالَ مَالِكٌ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى : هُوَ كَالْمُقَلَّدِ فَلَا يُبْطِلُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ جَوْرًا بَيِّنًا لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ أَهْلُ الْعِلْمِ ، وَنَحْنُ فَرَّقْنَا بِأَنَّ وِلَايَةَ الْقَاضِي عَامَّةٌ عَلَى النَّاسِ لِعُمُومِ وِلَايَةِ الْخَلِيفَةِ الْمُقَلِّدِ لَهُ ، بِخِلَافِ الْمُوَلِّيَيْنِ لَهُ إنَّمَا لَهُمَا وِلَايَةٌ عَلَى أَنْفُسِهِمَا فَقَطْ لَا عَلَى الْقَاضِي فَلَا يَلْزَمُ حُكْمُهُ الْقَاضِيَ لِأَنَّهُ لَمْ يُحَكِّمْهُ ، وَلِأَنَّ تَقْلِيدَهُمَا إيَّاهُ بِمَنْزِلَةِ اصْطِلَاحِهِمَا عَلَى شَيْءٍ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ كَانَ لِلْقَاضِي أَنْ يُبْطِلَهُ أَوْ يُنْفِذَهُ فَكَذَا هَذَا ، وَهَذَا يُبَيِّنُ لَك أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ وَإِنْ خَالَفَهُ أَبْطَلَهُ لَيْسَ مَا يُعْفِيهِ ظَاهِرُهُ مِنْ لُزُومِ إبْطَالِ الْقَاضِي إيَّاهُ بَلْ جَوَازُ أَنْ يُبْطِلَهُ وَأَنْ يُنْفِذَهُ .
وَعِبَارَةُ الْمَبْسُوطِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْوَجْهَ فَلَا يَجِبُ تَنْفِيذُ حُكْمِهِ عَلَى الْقَاضِي .

( وَلَا يَجُوزُ التَّحْكِيمُ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ ) لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُمَا عَلَى دَمِهِمَا وَلِهَذَا لَا يَمْلِكَانِ الْإِبَاحَةَ فَلَا يُسْتَبَاحُ بِرِضَاهُمَا قَالُوا : وَتَخْصِيصُ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّحْكِيمِ فِي سَائِرِ الْمُجْتَهَدَاتِ كَالطَّلَاقِ وَالنِّكَاحِ وَغَيْرِهِمَا ، وَهُوَ صَحِيحٌ إلَّا أَنَّهُ لَا يُفْتَى بِهِ ، وَيُقَالُ يُحْتَاجُ إلَى حُكْمِ الْمُوَلَّى دَفْعًا لِتَجَاسُرِ الْعَوَامّ وَإِنْ حَكَّمَاهُ فِي دَمِ خَطَإٍ فَقَضَى بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِمْ إذْ لَا تَحْكِيمَ مِنْ جِهَتِهِمْ .
وَلَوْ حَكَمَ عَلَى الْقَاتِلِ بِالدِّيَةِ فِي مَالِهِ رَدَّهُ الْقَاضِي وَيَقْضِي بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِرَأْيِهِ وَمُخَالِفٌ لِلنَّصِّ أَيْضًا إلَّا إذَا ثَبَتَ الْقَتْلُ بِإِقْرَارِهِ لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَعْقِلُهُ ( وَيَجُوزُ أَنْ يَسْمَعَ الْبَيِّنَةَ وَيَقْضِيَ بِالنُّكُولِ وَكَذَا بِالْإِقْرَارِ ) لِأَنَّهُ حُكْمٌ مُوَافِقٌ لِلشَّرْعِ ، وَلَوْ أَخْبَرَ بِإِقْرَارِ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ أَوْ بِعَدَالَةِ الشُّهُودِ وَهُمَا عَلَى تَحْكِيمِهِمَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ قَائِمَةٌ وَلَوْ أَخْبَرَ بِالْحُكْمِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ لِانْقِضَاءِ الْوِلَايَةِ كَقَوْلِ الْمُوَلَّى بَعْدَ الْعَزْلِ .

( قَوْلُهُ وَلَا يَجُوزُ التَّحْكِيمُ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ ) وَهَذَا إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْقِصَاصِ وَهِيَ رِوَايَةُ الْخَصَّافِ .
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي شَرْحِ أَدَبِ الْخَصَّافِ : مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالُوا هَذَا فِي الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى ، لِأَنَّ الْإِمَامَ هُوَ الْمُتَعَيِّنُ لِاسْتِيفَائِهَا وَلَيْسَ لَهُمَا وِلَايَةٌ عَلَى سَائِرِ النَّاسِ .
وَأَمَّا الْقِصَاصُ وَحَدُّ الْقَذْفِ فَيَجُوزُ التَّحْكِيمُ فِيهِمَا ، وَلَكِنَّ صَاحِبَ الْكِتَابِ يُرِيدُ الْخَصَّافَ أَطْلَقَ وَقَالَ لَا يَجُوزُ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ حُكْمَ الْحَكَمِ بِمَنْزِلَةِ الصُّلْحِ ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ بِالصُّلْحِ ، وَلِأَنَّهُمَا يَنْدَرِئَانِ بِالشُّبُهَاتِ ، وَفِي حُكْمِهِ شُبْهَةٌ لِأَنَّهُ حُكْمٌ فِي حَقِّهِمَا لَا فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا ، وَأَيُّ شُبْهَةٍ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( قَالُوا وَتَخْصِيصُ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّحْكِيمِ فِي سَائِرِ الْمُجْتَهَدَاتِ وَهُوَ صَحِيحٌ ) وَفِي الْخُلَاصَةِ : قَضَاءُ الْحُكْمِ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالنِّكَاحِ وَالْكَفَالَةِ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ وَالدُّيُونِ وَالْبُيُوعِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالْقِصَاصِ وَأَرْشِ الْجِنَايَاتِ وَقَطْعِ يَدٍ عَمْدًا بِبَيِّنَةٍ عَادِلَةٍ جَائِزٌ إذَا وَافَقَ رَأْيَ الْقَاضِي .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ : لَا يَجُوزُ فِي الْقِصَاصِ .
وَنَقَلَ النَّاصِحِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيّ فِي الْقِصَاصِ : يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ لِأَنَّ وَلِيَّ الْقِصَاصِ لَوْ اسْتَوْفَى الْقِصَاصَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرْفَعَ إلَى السُّلْطَانِ جَازَ ، فَكَذَا إذَا حَكَّمَ فِيهِ لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ بَنِي آدَمَ .
وَتَوْجِيهُ الْمُصَنِّفِ بِأَنَّهُمَا لَا وِلَايَةَ لَهُمَا عَلَى دَمِهِمَا وَلِذَا لَا يَمْلِكَانِ الْإِبَاحَةَ : يَعْنِي لَوْ قَالَ لِشَخْصٍ اُقْتُلْنِي لَا يَصِحُّ أَمْرُهُ وَلَا يَحِلُّ لِلْآخَرِ قَتْلُهُ لَا يَدْفَعُهُ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْضِيَّ عَلَيْهِ هُوَ الْأَصْلُ فِي التَّحْكِيمِ ، وَالْآخَرُ : أَعْنِي الطَّالِبَ تَبَعٌ فَكَوْنُ أَحَدِهِمَا وَهُوَ الَّذِي تَحْكِيمُهُ لَيْسَ

الْأَقْوَى يَمْلِكُ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ لَا يَقْتَضِي صِحَّةَ التَّحْكِيمِ فِيهِ بَلْ حَتَّى يَرْضَى الْآخَرُ ، وَالْآخَرُ لَا يَمْلِكُ مَا حَكَمَ فِيهِ فَلَا يَصِحُّ التَّحْكِيمُ فِيهِ .
وَفِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى : حُكْمُ الْمُحَكَّمِ فِي الطَّلَاقِ وَالْمُضَافِ يَنْفُذُ لَكِنْ لَا يُفْتِي بِهِ .
وَفِيهَا : رُوِيَ عَنْ أَصْحَابِنَا مَا هُوَ أَوْسَعُ مِنْ هَذَا ، وَهُوَ أَنَّ صَاحِبَ الْحَادِثَةِ لَوْ اسْتَفْتَى فَقِيهًا عَدْلًا فَأَفْتَاهُ بِبُطْلَانِ الْيَمِينِ الْمُضَافَةِ وَسِعَهُ اتِّبَاعُ فَتْوَاهُ وَإِمْسَاكُ الْمَرْأَةِ الْمَحْلُوفِ بِطَلَاقِهَا .
وَرُوِيَ عَنْهُمْ مَا هُوَ أَوْسَعُ مِنْ هَذَا وَهُوَ أَنَّهُ إذَا اسْتَفْتَى أَوَّلًا فَقِيهًا فَأَفْتَاهُ بِبُطْلَانِ الْيَمِينِ وَسِعَهُ إمْسَاكُ الْمَرْأَةِ فَإِنْ تَزَوَّجَ أُخْرَى وَكَانَ حَلَفَ بِطَلَاقِ كُلِّ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَاسْتَفْتَى فَقِيهًا آخَرَ فَأَفْتَاهُ بِصِحَّةِ الْيَمِينِ فَإِنَّهُ يُفَارِقُ الْأُخْرَى وَيُمْسِكُ الْأُولَى عَمَلًا بِفَتْوَاهُمَا .
وَفِي الذَّخِيرَةِ : فِيمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِغَيْرِ وَلِيٍّ فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَبَعَثَ الْقَاضِي إلَى شَافِعِيٍّ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمَا بِبُطْلَانِ ذَلِكَ النِّكَاحِ وَبِبُطْلَانِ الثَّلَاثِ يَجُوزُ ، وَكَذَا لَوْ حَكَّمَا بِذَلِكَ حَكَمًا يَجُوزُ ، وَلَا يُفْتَى بِهِ لِمَا مَرَّ : يَعْنِي مَا قَدَّمَهُ مِنْ خَشْيَةِ تَجَاسُرِ الْعَوَامّ : يَعْنِي عَلَى هَدْمِ الْمَذْهَبِ .
قَالَ : وَكَذَا مَنْ غَابَ عَنْ امْرَأَتِهِ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً وَلَمْ يُخَلِّفْ لَهَا نَفَقَةً فَبَعَثَ إلَى شَافِعِيٍّ لِيَحْكُمَ بِفَسْخِ النِّكَاحِ لِعَجْزِ النَّفَقَةِ يَجُوزُ .
ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَلَوْ حَكَّمَاهُ فِي دَمِ خَطَإٍ فَقَضَى بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ لَا يَنْفُذُ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْعَاقِلَةِ إذَا لَمْ يُحَكِّمُوهُ ، وَكَذَا لَوْ حَكَمَ عَلَى الْقَاتِلِ بِالدِّيَةِ فِي مَالِهِ ) فَإِنَّ الْقَاضِيَ ( يَرُدُّهُ وَيَقْضِي ) بِمَا هُوَ الْحَقُّ وَهُوَ كَوْنُهُ ( عَلَى الْعَاقِلَةِ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِرَأْيِهِ وَلِلنَّصِّ ) وَهُوَ حَدِيثُ حَمْلِ بْنِ مَالِكٍ ( إلَّا إذَا ثَبَتَ الْقَتْلُ ) وَهُوَ قَتْلُ

الْخَطَإِ ( بِإِقْرَارِهِ ) فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ قَضَاؤُهُ بِالدِّيَةِ حِينَئِذٍ عَلَى الْقَاتِلِ ، لِأَنَّ الْعَوَاقِلَ لَا تَعْقِلُ الْقَتْلَ الثَّابِتَ بِالْإِقْرَارِ كَمَا لَا تَعْقِلُ الْعَمْدَ وَالصُّلْحَ عَلَى الدِّيَةِ لِأَنَّ إقْرَارَهُ لَا يَنْفُذُ فِي حَقِّهِمْ إذْ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِمْ فَاقْتَصَرَ عَلَى نَفْسِهِ فَوَجَبَتْ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ ، وَعَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ أُرُوشُ الْجِرَاحَاتِ إنْ كَانَتْ بِحَيْثُ لَا تَعْقِلُهَا الْعَاقِلَةُ ، بَلْ تَجِبُ فِي مَالِ الْجَانِي بِأَنْ كَانَتْ دُونَ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ وَهُوَ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ وَثَبَتَ ذَلِكَ بِالْإِقْرَارِ وَالنُّكُولِ أَوْ كَانَ عَمْدًا ، وَإِنْ بَلَغَ خَمْسَمِائَةٍ فَقَضَى الْحَكَمُ عَلَى الْجَانِي جَازَ لِأَنَّهُ لَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ ، وَإِنْ كَانَتْ بِحَيْثُ تَتَحَمَّلُهَا الْعَاقِلَةُ لَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ بِهَا أَصْلًا لِأَنَّهُ إنْ قَضَى عَلَى الْجَانِي خَالَفَ الشَّرْعَ ، وَعَلَى الْعَاقِلَةِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُحَكِّمُوهُ .
( قَوْلُهُ وَلَوْ أَخْبَرَ ) يَعْنِي الْمُحَكَّمُ لَوْ قَالَ : لِأَحَدِهِمَا أَقْرَرْت عِنْدِي أَوْ قَامَتْ عِنْدِي بَيِّنَةٌ عَلَيْك بِهَذَا فَعَدَلُوا عِنْدِي وَقَدْ أَلْزَمْتُك ذَلِكَ وَحَكَمْت بِهَذَا فَأَنْكَرَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ أَقَرَّ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى قَوْلِهِ وَمَضَى الْقَضَاءُ عَلَيْهِ مَا دَامَ الْمَجْلِسُ بَاقِيًا لِأَنَّ الْحَكَمَ مَا دَامَ تَحْكِيمُهُمَا قَائِمًا كَالْقَاضِي الْمُقَلِّدِ ، وَلَوْ قَالَ الْمُقَلِّدُ ذَلِكَ لَا يُلْتَفَتُ إلَى إنْكَارِ الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ ، فَكَذَا الْحَكَمُ إلَّا أَنْ يُخْرِجَهُ الْمُخَاطَبُ عَنْ الْحُكْمِ وَيَعْزِلَهُ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ حَكَمْت عَلَيْك ثُمَّ قَالَ الْمُحَكَّمُ ذَلِكَ أَوْ قَالَهُ بَعْدَ أَنْ قَامَ مِنْ الْمَجْلِسِ لِأَنَّهُ بِالْقِيَامِ مِنْ الْمَجْلِسِ يَنْعَزِلُ كَمَا يَنْعَزِلُ بِعَزْلِ أَحَدِهِمَا قَبْلَ الْحُكْمِ فَصَارَ كَالْقَاضِي ، إذَا قَالَ بَعْدَ الْعَزْلِ قَضَيْت بِكَذَا لَا يُصَدَّقُ كَذَا هَذَا .

( وَحُكْمُ الْحَاكِمِ لِأَبَوَيْهِ وَزَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ بَاطِلٌ وَالْمُوَلَّى وَالْمُحَكَّمُ فِيهِ سَوَاءٌ ) وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِهَؤُلَاءِ لِمَكَانِ التُّهْمَةِ فَكَذَلِكَ لَا يَصِحُّ الْقَضَاءُ لَهُمْ ، بِخِلَافِ مَا إذَا حَكَمَ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِمْ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ فَكَذَا الْقَضَاءُ ، وَلَوْ حَكَّمَا رَجُلَيْنِ لَا بُدَّ مِنْ اجْتِمَاعِهِمَا لِأَنَّهُ أَمْرٌ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الرَّأْيِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

( قَوْلُهُ وَحُكْمُ الْحَاكِمِ ) سَوَاءٌ كَانَ قَاضِيًا أَوْ مُحَكَّمًا ( لِأَبَوَيْهِ وَوَلَدِهِ وَزَوْجَتِهِ ) وَكُلُّ مَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ ( بَاطِلٌ لِمَكَانِ التُّهْمَةِ ) بِخِلَافِ مَا إذَا حَكَمَ عَلَيْهِمْ يَجُوزُ لِانْتِفَائِهَا .
( قَوْلُهُ وَلَوْ حَكَّمَا رَجُلَيْنِ لَا بُدَّ مِنْ اجْتِمَاعِهِمَا لِأَنَّ الْحُكْمَ أَمْرٌ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الرَّأْيِ ) وَإِنَّمَا رَضِيَ الْخَصْمَانِ بِرَأْيِهِمَا فَلَا يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا ثُمَّ لَا يُصَدَّقُ الْحَكَمَانِ فِي إخْبَارِهِمَا عَنْ الْحُكْمِ إذَا قَامَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ انْعِزَالِهِمَا فَالْتَحَقَا بِسَائِرِ الرَّعَايَا فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا عَلَى فِعْلٍ بَاشَرَاهُ حَتَّى يَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُهُمَا ، وَلَوْ شَهِدَ عِنْدَ الْحَكَمَيْنِ شَاهِدَانِ ثُمَّ مَاتَ الشَّاهِدَانِ أَوْ غَابَا فَسَأَلَ الْمُدَّعِي الْحَكَمَيْنِ أَنْ يَشْهَدَا لَهُ عَلَى شَهَادَتِهِمَا لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُمَا مَا حَمَلَاهُمَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَا عَلَى شَهَادَتِهِمَا .
وَإِذَا عَرَفَ أَنَّ أَحَدَ الْحَكَمَيْنِ لَا يَنْفَرِدُ فَلَوْ حَكَّمَا عَبْدًا وَحُرًّا لَمْ يَجُزْ ، وَلَوْ حَكَّمَ مُسْلِمٌ وَمُرْتَدٌّ رَجُلًا فَحَكَمَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ قَتَلَ الْمُرْتَدَّ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ لَمْ يَجُزْ حُكْمُهُ عَلَيْهِمَا وَلَوْ أَمَرَ الْإِمَامُ رَجُلًا بِأَنْ يَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ وَهُوَ مِمَّنْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ جَازَ وَيَصِيرُ كَالْقَاضِي ، وَلَوْ أَمَرَ الْقَاضِي رَجُلًا لَمْ يَجُزْ إلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ إلَّا أَنْ يُجِيزَهُ بَعْدَ الْحُكْمِ أَوْ يَتَرَاضَى بِهِ الرَّجُلَانِ بَعْدَ الْحُكْمِ ، وَلَوْ حَكَّمَا رَجُلًا فَأَخْرَجَهُ الْقَاضِي مِنْ الْحُكُومَةِ فَحَكَمَ بَعْدَهُ بَيْنَهُمَا فَأَجَازَاهُ جَازَ ، وَلَيْسَ لِلْحَكَمِ أَنْ يُفَوِّضَ إلَى غَيْرِهِ ، وَلَوْ فَوَّضَ وَحَكَمَ الثَّانِي بِلَا رِضَاهُمْ فَأَجَازَ الْقَاضِي لَمْ يَجُزْ إلَّا أَنْ يُجِيزَاهُ بَعْدَ الْحُكْمِ ، وَقِيلَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَالْوَكِيلِ الْأَوَّلِ إذَا أَجَازَ فِعْلَ الْوَكِيلِ الثَّانِي ، وَلَوْ حَكَّمَا وَاحِدًا فَحَكَمَ لِأَحَدِهِمَا ثُمَّ حَكَّمَا آخَرَ يَنْفُذُ حُكْمُ الْأَوَّلِ إنْ كَانَ

جَائِزًا عِنْدَهُ وَإِنْ كَانَ جَوْرًا أَبْطَلَهُ ، وَكِتَابُ الْحَكَمِ إلَى الْقَاضِي وَقَلْبُهُ لَا يَجُوزُ ، فَإِنْ كَتَبَ إلَيْهِ قَاضٍ فَرَضِيَ بِهِ الْخَصْمَانِ حَكَمَ حِينَئِذٍ بِمُقْتَضَى الْكِتَابِ .

( مَسَائِلُ شَتَّى مِنْ كِتَابِ الْقَضَاءِ ) قَالَ ( وَإِذَا كَانَ عُلْوٌ لِرَجُلٍ وَسُفْلٌ لِآخَرَ فَلَيْسَ لِصَاحِبِ السُّفْلِ أَنْ يَتِدَ فِيهِ وَتَدًا وَلَا يَنْقُبَ فِيهِ كَوَّةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) مَعْنَاهُ بِغَيْرِ رِضَا صَاحِبِ الْعُلْوِ ( وَقَالَا : يَصْنَعُ مَا لَا يَضُرُّ بِالْعُلْوِ ) وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا أَرَادَ صَاحِبُ الْعُلْوِ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى عُلْوِهِ .
قِيلَ مَا حُكِيَ عَنْهُمَا تَفْسِيرٌ لِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَلَا خِلَافَ .
وَقِيلَ الْأَصْلُ عِنْدَهُمَا الْإِبَاحَةُ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِهِ وَالْمِلْكُ يَقْتَضِي الْإِطْلَاقَ وَالْحُرْمَةُ بِعَارِضِ الضَّرَرِ فَإِذَا أُشْكِلَ لَمْ يَجُزْ الْمَنْعُ وَالْأَصْلُ عِنْدَهُ الْحَظْرُ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مَحَلٍّ تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ مُحْتَرَمٌ لِلْغَيْرِ كَحَقِّ الْمُرْتَهِنِ وَالْمُسْتَأْجِرِ وَالْإِطْلَاقُ بِعَارِضٍ فَإِذَا أُشْكِلَ لَا يَزُولُ الْمَنْعُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُعَرَّى عَنْ نَوْعِ ضَرَرٍ بِالْعُلْوِ مِنْ تَوْهِينِ بِنَاءٍ أَوْ نَقْضِهِ فَيُمْنَعُ عَنْهُ .

( مَسَائِلُ مَنْثُورَةٌ مِنْ كِتَابِ الْقَضَاءِ ) ( قَوْلُهُ وَإِذَا كَانَ عُلْوٌ لِرَجُلٍ وَسُفْلٌ لِآخَرَ فَلَيْسَ لِصَاحِبِ السُّفْلِ أَنْ يَتِدَ فِيهِ وَتَدًا ، وَلَا يَنْقُبُ فِيهِ كَوَّةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَيْ بِغَيْرِ رِضَا صَاحِبِ الْعُلْوِ ) وَكَذَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُدْخِلَ فِيهِ جِذْعًا ، وَالِاتِّفَاقُ عَلَى أَنْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَهْدِمَ سُفْلَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّ صَاحِبِ الْعُلْوِ فِي سُكْنَاهُ الْعُلْوَ ( وَقَالَا : يَصْنَعُ مَا لَا يَضُرُّ بِالْعُلْوِ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا أَرَادَ صَاحِبُ الْعُلْوِ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى عُلْوِهِ ) أَوْ يَضَعَ عَلَيْهِ جِذْعًا أَوْ يَشْرَعَ كَنِيفًا .
وَالْكَوَّةُ بِفَتْحِ الْكَافِ وَيُقَالُ وَتَدَ وَتَدًا يَتِدُهُ مِنْ بَابِ ضَرَبَهُ ( قِيلَ مَا حُكِيَ عَنْهُمَا تَفْسِيرٌ لِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ) لِأَنَّهُ إنَّمَا يُمْنَعُ مَا فِيهِ ضَرَرٌ ظَاهِرٌ لَا مَا لَا ضَرَرَ فِيهِ ( فَلَا خِلَافَ ) بَيْنَهُمْ ( وَقِيلَ ) بَلْ بَيْنَهُمَا خِلَافٌ وَهُوَ فِي مَحَلِّ وُقُوعِ الشَّكِّ ، فَمَا لَا شَكَّ فِي عَدَمِ ضَرَرِهِ كَوَضْعِ مِسْمَارٍ صَغِيرٍ أَوْ وَسَطٍ يَجُوزُ اتِّفَاقًا ، وَمَا فِيهِ ضَرَرٌ ظَاهِرٌ كَفَتْحِ الْبَابِ يَنْبَغِي أَنْ يُمْنَعَ اتِّفَاقًا وَمَا يَشُكُّ فِي التَّضَرُّرِ بِهِ كَدَقِّ الْوَتَدِ فِي الْجِدَارِ وَالسَّقْفِ فَعِنْدَهُمَا لَا يُمْنَعُ ، لِأَنَّ ( الْأَصْلَ ) فِيهِ ( الْإِبَاحَةُ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِهِ وَالْحَظْرُ بِعَارِضِ الضَّرَرِ فَإِذَا أُشْكِلَ لَمْ يَجُزْ الْمَنْعُ ) لِأَنَّ الْيَقِينَ لَا يُزَالُ بِالشَّكِّ ؛ كَمَا لَوْ بَاعَ نَصِيبَهُ مِنْ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ يَجُوزُ ، وَلَوْ كَاتَبَ نَصِيبَهُ لَا يَجُوزُ ، وَلِلشَّرِيكِ حَقُّ فَسْخِهِ ( وَعِنْدَهُ الْأَصْلُ الْحَظْرُ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مَحَلٍّ تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ مُحْتَرَمٌ لِلْغَيْرِ ) وَلِهَذَا يُمْنَعُ مِنْ هَدْمِهِ اتِّفَاقًا ، وَتَعَلُّقُ حَقِّ الْغَيْرِ بِمِلْكِهِ يَمْنَعُ تَصَرُّفَهُ بِهِ كَالْمَرْهُونِ وَالْمُسْتَأْجَرِ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ فَمُنِعَ الرَّاهِنُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ .
وَذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ عَلَى

قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ صَاحِبُ الْعُلْوِ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَضُرَّ بِالسُّفْلِ رِوَايَةً وَاحِدَةً .
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَيْضًا : إذَا أُشْكِلَ تَصَرُّفُ صَاحِبِ الْعُلْوِ وَهَلْ يَضُرُّ بِالسُّفْلِ أَوَّلًا لَا يَمْلِكُهُ بِالِاتِّفَاقِ .
وَقَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ : الْمُخْتَارُ أَنَّهُ إذَا أُشْكِلَ لَا يَمْلِكُهُ ، وَإِذَا لَمْ يَضُرَّ يَمْلِكُهُ .
وَذَكَرَ قَاضِي خَانْ : لَوْ حَفَرَ صَاحِبُ السُّفْلِ فِي سَاحَتِهِ بِئْرًا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَهُ ذَلِكَ وَإِنْ تَضَرَّرَ بِهِ صَاحِبُ الْعُلْوِ ، وَعِنْدَهُمَا الْحُكْمُ مَعْلُولٌ بِعِلَّةِ الضَّرَرِ ، وَعَلِمْت أَنْ لَيْسَ لِصَاحِبِ السُّفْلِ هَدْمُهُ ، فَلَوْ هَدَمَهُ يُجْبَرُ عَلَى بِنَائِهِ لِأَنَّهُ تَعَدَّى عَلَى حَقِّ صَاحِبِ الْعُلْوِ وَهُوَ قَرَارُ الْعُلْوِ ، كَالرَّاهِنِ إذَا قَتَلَ الْمَرْهُونَ وَالْمَوْلَى إذَا قَتَلَ عَبْدَهُ الْمَدْيُونَ ، وَهَذَا أَصْلٌ كُلِّيٌّ ، كُلُّ مَنْ أُجْبِرَ عَلَى أَنْ يَفْعَلَ مَعَ شَرِيكِهِ فَإِذَا فَعَلَ أَحَدُهُمَا بِغَيْرِ أَمْرِ شَرِيكِهِ فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ لِأَنَّهُ لَهُ طَرِيقٌ وَهُوَ الْمُطَالَبَةُ بِالْمُشَارَكَةِ فِي الْفِعْلِ كَنَهْرٍ بَيْنَهُمَا امْتَنَعَ أَحَدُهُمَا عَنْ كَرْيِهِ وَكَرَى الْآخَرُ ، أَوْ سَفِينَةٍ تَتَخَوَّفُ الْغَرَقَ أَوْ بَيْتٍ أَوْ دَارٍ أَوْ حَمَّامٍ أَوْ طَاحُونَةٍ فَأَصْلَحَهُ أَحَدُهُمَا أَوْ عَبْدٍ مُشْتَرَكٍ جَنَى فَفَدَاهُ أَحَدُهُمَا فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ لِأَنَّ الْآخَرَ يُجْبَرُ ، وَإِنْ كَانَ لَا يُجْبَرُ لَمْ يَكُنْ مُتَطَوِّعًا كَعُلْوٍ لِرَجُلٍ وَسُفْلٍ لِآخَرَ وَسَقَطَ السُّفْلُ فَبَنَاهُ الْآخَرُ لَا يَكُونُ مُتَطَوِّعًا لِأَنَّهُ لَا يُجْبَرُ صَاحِبُ السُّفْلِ عَلَى بِنَائِهِ فَكَانَ فِي بِنَائِهِ إيَّاهُ مُضْطَرًّا لِيَصِلَ إلَى حَقِّهِ ، وَإِذَا بَنَاهُ وَبَنَى عَلَيْهِ عُلْوَهُ لَهُ مُنِعَ صَاحِبُ السُّفْلِ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ وَالسُّكْنَى حَتَّى يُؤَدِّيَ قِيمَتَهُ .
وَاخْتُلِفَ فِي أَنَّ الْقِيمَةَ هَلْ تُعْتَبَرُ وَقْتَ الْبِنَاءِ أَوْ وَقْتَ الرُّجُوعِ ، وَالصَّحِيحُ وَقْتَ الْبِنَاءِ .
وَإِنَّمَا قُلْنَا فِي الدَّارِ وَالْبَيْتِ وَالطَّاحُونَةِ

وَالْحَمَّامِ مَا ذَكَرْنَا إذَا كَانَ يُمْكِنُهُ قِسْمَةُ السَّاحَةِ لِيَبْنِيَ فِي نَصِيبِهِ .
وَفِي الْخُلَاصَةِ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي فِي الْحَائِطِ وَعِمَارَتِهِ قَالَ : وَذَكَرَ الْخَصَّافُ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِمَا أَنْفَقَ ، وَهَذَا عِنْدِي فِي غَايَةِ الْحُسْنِ إذَا كَانَ بِقَضَاءٍ .
وَيَجِبُ أَنْ لَا يَضْمَنَ لَوْ عَلَا بِنَاءُ السُّفْلِ عَلَى قَدْرِ مَا كَانَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْقَدْرُ ، أَمَّا إذَا كَانَتْ السَّاحَةُ صَغِيرَةً لَا يُمْكِنُ بِنَاءُ ذَلِكَ فِيهَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَإِنَّهُ إذَا بَنَى لَا يَكُونُ مُتَطَوِّعًا ، وَكَذَا إذَا انْهَدَمَ بَعْضُهُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِنَصِيبِهِ إلَّا بِبِنَائِهِ فَلَا يَكُونُ مُتَطَوِّعًا .
وَفِي فَتَاوَى النَّسَفِيِّ : دَارٌ لِجَارَيْنِ سَطْحُ إحْدَاهُمَا أَعْلَى وَمَسِيلُ مَاءِ الْعُلْيَا عَلَى الْأُخْرَى فَأَرَادَ صَاحِبُ السُّفْلِ أَنْ يَرْفَعَ سَطْحَهُ أَوْ يَبْنِي عَلَيْهِ لَهُ ذَلِكَ وَلَيْسَ لِلْجَارِ مَنْعُهُ ، وَلَكِنْ يُطَالِبُهُ بِتَسْيِيلِ مَائِهِ إلَى طَرَفِ الْمِيزَابِ .
وَإِذَا انْهَدَمَ السُّفْلُ أَوْ هَدَمَهُ الْمَالِكُ لَيْسَ لِلْآخَرِ أَنْ يُكَلِّفَهُ الْعِمَارَةَ لِأَجْلِ إسَالَةِ الْمَاءِ لَكِنْ يَبْنِي هُوَ وَيَمْنَعُ صَاحِبَهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ انْتَهَى .
فَرَّقَ بَيْنَ حَقِّ التَّعَلِّي وَبَيْنَ حَقِّ التَّسْيِيلِ حَيْثُ لَوْ هُدِمَ فِي الْأَوَّلِ يُجْبَرُ عَلَى الْبِنَاءِ ، وَلَوْ هُدِمَ فِي الثَّانِي لَا يُجْبَرُ .
وَفِي الْحَائِطِ بَيْنَ اثْنَيْنِ لَوْ كَانَ لَهُمَا عَلَيْهِ خَشَبٌ فَبَنَى أَحَدُهُمَا لِلْبَانِي أَنْ يَمْنَعَ الْآخَرَ مِنْ وَضْعِ الْخَشَبِ عَلَى الْحَائِطِ حَتَّى يُعْطِيَهُ نِصْفَ قِيمَةِ الْبِنَاءِ مَبْنِيًّا .
وَفِي الْأَقْضِيَةِ : حَائِطٌ مُشْتَرَكٌ أَرَادَ أَحَدُهُمَا نَقْضَهُ وَأَبَى الشَّرِيكُ ؛ إنْ كَانَ بِحَالٍ لَا يَخَافُ سُقُوطَهُ لَا يُجْبَرُ ، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يَخَافُ عَنْ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ يُجْبَرُ ، وَإِنْ هَدَمَاهُ وَأَرَادَ أَحَدُهُمَا أَنْ يَبْنِيَ وَأَبَى الْآخَرُ إنْ كَانَ أُسُّ الْحَائِطِ عَرِيضًا يُمْكِنُهُ أَنْ يَبْنِيَ حَائِطًا فِي نَصِيبِهِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ لَا يُجْبَرُ الشَّرِيكُ ،

وَإِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُ يُجْبَرُ كَذَا عَنْ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى : وَتَفْسِيرُ الْجَبْرِ أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَافِقْهُ الشَّرِيكُ وَأَنْفَقَ عَلَى الْعِمَارَةِ رَجَعَ عَلَى الشَّرِيكِ بِنِصْفِ مَا أَنْفَقَ إنْ كَانَ الْحَائِطُ لَا يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ ، وَفِي شَهَادَاتِ فَتَاوَى الْفَضْلِيِّ : لَوْ هَدَمَاهُ وَامْتَنَعَ أَحَدُهُمَا يُجْبَرُ ، وَلَوْ انْهَدَمَ لَا يُجْبَرُ وَلَكِنْ يُمْنَعُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ مَا لَمْ يَسْتَوْفِ نِصْفَ مَا أَنْفَقَ فِيهِ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي ، وَإِنْ كَانَ بِلَا قَضَاءٍ فَبِنِصْفِ قِيمَةِ الْبِنَاءِ انْتَهَى .
فَلَوْ حُمِلَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَوْنِ الرُّجُوعِ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ عَلَى مَا إذَا كَانَ بِلَا قَضَاءٍ وَقَوْلُ الْخَصَّافِ مَعَ قَوْلِ ابْنِ الْفَضْلِ بِمَا أَنْفَقَ عَلَى مَا إذَا كَانَ بِقَضَاءٍ ارْتَفَعَ الْخِلَافُ الظَّاهِرِيُّ .
فَلْيَكُنْ هُوَ الْمَحْمَلَ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُضْطَرًّا فِي الْبِنَاءِ كَانَ لَهُ تَضْمِينُ مَا صُرِفَ لِذَلِكَ غَيْرَ أَنَّهُ لَيْسَ مُضْطَرًّا فِي تَرْكِ مُرَاجَعَةِ مَنْ لَهُ الْوِلَايَةُ عَلَى الشَّرِيكِ وَهُوَ الْقَاضِي فَيَرْجِعُ بِالْقِيمَةِ ، وَلَوْ كَانَ الْحَائِطُ صَحِيحًا فَهَدَمَ أَحَدُهُمَا بِإِذْنِ الشَّرِيكِ لَا شَكَّ أَنَّهُ يُجْبَرُ الْهَادِمُ عَلَى الْبِنَاءِ إنْ أَرَادَهُ الْآخَرُ كَمَا لَوْ هَدَمَاهُ وَإِنْ هَدَمَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الشَّرِيكِ .
وَفِي كِتَابِ الْحِيطَانِ : رَجُلٌ أَرَادَ أَنْ يَهْدِمَ دَارِهِ وَلِأَهْلِ السِّكَّةِ ضَرَرٌ لِأَنَّهُ يُخَرِّبُ السِّكَّةَ الْمُخْتَارُ أَنَّهُ يُمْنَعُ ، فَلَوْ هَدَمَ مَعَ هَذَا وَأَنَّهُ يَضُرُّ بِالْجِيرَانِ إنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْبِنَاءِ يُجْبَرُ عَلَى الْبِنَاءِ ، قِيلَ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ .
وَفِي كِتَابِ الْغَصْبِ مِنْ الْخُلَاصَةِ : رَجُلٌ هَدَمَ دَارِهِ فَانْهَدَمَ دَارُ جَارِهِ لَا يَضْمَنُ .

قَالَ ( وَإِذَا كَانَتْ زَائِغَةً مُسْتَطِيلَةً تَنْشَعِبُ مِنْهَا زَائِعَةٌ مُسْتَطِيلَةٌ وَهِيَ غَيْرُ نَافِذَةٍ فَلَيْسَ لِأَهْلِ الزَّائِغَةِ الْأُولَى أَنْ يَفْتَحُوا بَابًا فِي الزَّائِغَةِ الْقُصْوَى ) لِأَنَّ فَتْحَهُ لِلْمُرُورِ وَلَا حَقَّ لَهُمْ فِي الْمُرُورِ إذْ هُوَ لِأَهْلِهَا خُصُوصًا حَتَّى لَا يَكُونَ لِأَهْلِ الْأُولَى فِيمَا بِيعَ فِيهَا حَقُّ الشُّفْعَةِ ، بِخِلَافِ النَّافِذَةِ لِأَنَّ الْمُرُورَ فِيهَا حَقُّ الْعَامَّةِ .
قِيلَ الْمَنْعُ مِنْ الْمُرُورِ لَا مِنْ فَتْحِ الْبَابِ لِأَنَّهُ رَفَعَ بَعْضَ جِدَارِهِ .
وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْمَنْعَ مِنْ الْفَتْحِ لِأَنَّ بَعْدَ الْفَتْحِ لَا يُمْكِنُهُ الْمَنْعُ مِنْ الْمُرُورِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ .
وَلِأَنَّهُ عَسَاهُ يَدَّعِي الْحَقَّ فِي الْقُصْوَى بِتَرْكِيبِ الْبَابِ ( وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَدِيرَةً قَدْ لَزِقَ طَرَفَاهَا فَلَهُمْ أَنْ يَفْتَحُوا ) بَابًا لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَقَّ الْمُرُورِ فِي كُلِّهَا إذْ هِيَ سَاحَةٌ مُشْتَرَكَةٌ وَلِهَذَا يَشْتَرِكُونَ فِي الشُّفْعَةِ إذَا بِيعَتْ دَارٌ مِنْهَا .

( قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَتْ زَائِغَةً مُسْتَطِيلَةً تَنْشَعِبُ مِنْهَا زَائِغَةٌ أُخْرَى مُسْتَطِيلَةٌ وَهِيَ غَيْرُ نَافِذَةٍ ) يَعْنِي الْمُنْشَعِبَةَ ( فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الزَّائِغَةِ الْأُولَى ) إذَا كَانَ لَهُ جِدَارٌ فِي الزَّائِغَةِ الْمُنْشَعِبَةِ أَنْ يَفْتَحَ فِي جِدَارِهِ ذَلِكَ بَابًا فِي الزَّائِغَةِ الْمُنْشَعِبَةِ ، وَهَذِهِ صُورَتُهَا : وَاَلَّذِي يُمْكِنُهُ أَنْ يَفْتَحَ بَابًا فِي الزَّائِغَةِ الْقُصْوَى هُوَ صَاحِبُ الدَّارِ الَّتِي فِي رُكْنِ الزَّائِغَةِ الثَّانِيَةِ ، وَإِنَّمَا قُلْنَا لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ فَتْحَهُ لِلْمُرُورِ وَلَا حَقَّ لِأَهْلِ الزَّائِغَةِ الْأُولَى فِي الْمُرُورِ فِي الزَّائِغَةِ الْقُصْوَى بَلْ هُوَ لِأَهْلِهَا عَلَى الْخُصُوصِ ، وَلِذَا لَوْ بِيعَتْ دَارٌ فِي الْقُصْوَى لَمْ يَكُنْ لِأَهْلِ الْأُولَى شُفْعَةٌ فِيهَا ، بِخِلَافِ أَهْلِ الْقُصْوَى فَإِنَّ لِأَحَدِهِمْ أَنْ يَفْتَحَ بَابًا فِي الْأُولَى لِأَنَّ لَهُ حَقَّ الْمُرُورِ فِيهَا ، وَ ( بِخِلَافِ النَّافِذَةِ فَإِنَّ الْمُرُورَ فِيهَا حَقُّ الْعَامَّةِ ) وَلَا خِلَافَ أَنَّ لَهُ أَنْ يَفْتَحَ .
قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ : لَا يُمْنَعُ مِنْ فَتْحِ الْبَابِ بَلْ مِنْ الْمُرُورِ لِأَنَّ فَتْحَ الْبَابِ رَفْعُ بَعْضِ جِدَارِهِ ، وَلَهُ أَنْ يَرْفَعَهُ كُلَّهُ فَكَذَا لَهُ أَنْ يَرْفَعَ بَعْضَهُ ، وَالْأَصَحُّ أَنْ يُمْنَعَ مِنْ الْفَتْحِ لِأَنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الرِّوَايَةِ بِنَصِّ مُحَمَّدٍ فِي الْجَامِعِ ، وَلِأَنَّ الْمَنْعَ بَعْدَ الْفَتْحِ لَا يُمْكِنُ إذْ لَا يُمْكِنُ مُرَاقَبَتُهُ لَيْلًا وَنَهَارًا فِي الْخُرُوجِ فَيَخْرُجُ ، وَلِأَنَّهُ عَسَاهُ يَدَّعِي بَعْدَ تَرْكِيبِ الْبَابِ وَطُولِ الزَّمَانِ حَقًّا فِي الْمُرُورِ ، وَيَسْتَدِلُّ عَلَيْهِ بِتَرْكِيبِ الْبَابِ فَيَكُونُ بِتَرْكِيبِ الْبَابِ مُمَهِّدٌ لِنَفْسِهِ دَعْوَى حَقِّ الْمُرُورِ وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ لِلظَّاهِرِ الَّذِي مَعَهُ وَهُوَ فَتْحُ الْبَابِ ( وَلَوْ كَانَتْ ) الْمُنْشَعِبَةُ ( مُسْتَدِيرَةً فَلَهُمْ أَنْ يَفْتَحُوا لِأَنَّ لِكُلِّ مِنْهُمْ حَقَّ الْمُرُورِ فِي كُلِّهَا إذْ هِيَ سَاحَةٌ مُشْتَرَكَةٌ ) غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ فِيهَا اعْوِجَاجًا ( وَلِهَذَا

يَشْتَرِكُونَ فِي الشُّفْعَةِ إذَا بِيعَتْ دَارٌ مِنْهَا ) وَهَذِهِ صُورَتُهَا : وَفِي الْحِيطَانِ زُقَاقٌ غَيْرُ نَافِذٍ أَرَادَ إنْسَانٌ : يَعْنِي مِنْ أَهْلِهِ أَنْ يَتَّخِذَ طِينًا إنْ تَرَكَ مِنْ الطَّرِيقِ قَدْرَ الْمَمَرِّ لِلنَّاسِ وَيَرْفَعَهُ سَرِيعًا وَيَفْعَلَ فِي الْأَحَايِينِ مَرَّةً لَا يُمْنَعُ مِنْهُ ، وَكَذَا لَوْ أَرَادَ أَنْ يَبْنِيَ آرِيًّا أَوْ دُكَّانًا وَهُوَ الَّذِي نُسَمِّيهِ فِي عُرْفِنَا مِصْطَبَةً ، وَلَوْ اسْتَأْذَنَ رَجُلًا فِي وَضْعِ جُذُوعٍ عَلَى حَائِطِهِ أَوْ حَفْرِ سِرْدَابٍ تَحْتَ دَارِهِ فَفَعَلَ ثُمَّ بَاعَ الْآذِنُ دَارِهِ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَهُ بِرَفْعِهَا إلَّا إذَا شَرَطَ بَقَاءَهَا عِنْدَ الْبَيْعِ ، وَكَذَا لَوْ كَانَ نَصَبَ أَعْمِدَةً مُلَاصِقَةً لِجِدَارِ الرَّجُلِ مُقَابِلَةً لِبَابِهِ وَنَصَبَ عَلَيْهَا وَعَلَى وَجْهِ دَارِهِ سَقِيفَةً لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُطَالِبَهُ بِإِزَالَتِهَا إلَّا إذَا شَرَطَهَا ، وَلَوْ أَنَّ لِرَجُلٍ حَائِطًا وَوَجْهُهُ فِي دَارِ رَجُلٍ فَأَرَادَ أَنْ يُطَيِّنَ حَائِطَهُ وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ إلَّا بِدُخُولِ دَارِ الرَّجُلِ أَوْ انْهَدَمَ الْحَائِطُ فَوَقَعَ نَقْضُهُ فِي دَارِهِ فَأَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ لِيَبُلَّ الطِّينَ وَغَيْرَهُ فَمَنَعَهُ صَاحِبُ الدَّارِ أَوْ لَهُ مَجْرَى مَاءٍ فِي دَارِهِ فَأَرَادَ حَفْرَهُ وَإِصْلَاحَهُ وَلَا يُمْكِنُ إلَّا بِدُخُولِ دَارِ الرَّجُلِ وَهُوَ يَمْنَعُهُ يُقَالُ لَهُ إمَّا أَنْ تَتْرُكَهُ يَدْخُلُ وَيُصْلِحُ وَيَفْعَلُ بِمَالِهِ أَوْ تَفْعَلُ بِمَالِك ، كَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ وَبِهِ أَخَذَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ .
وَفِي وَقْفِ النَّوَازِلِ : دَارٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ قَوْمٍ لِبَعْضِهِمْ أَنْ يَرْبِطُوا الدَّابَّةَ فِيهَا وَأَنْ يَضَعُوا الْخَشَبَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَضُرُّ بِصَاحِبِهِ ، وَأَنْ يَتَوَضَّئُوا بِحَيْثُ لَا تَضِيقُ عَلَيْهِمْ الطَّرِيقُ لِمُرُورِهِمْ وَلَوْ عَطِبَ بِهَا أَحَدٌ لَا يَضْمَنُ ، وَلَوْ حَفَرَ الْأَرْضَ يُؤْمَرُ أَنْ يُسَوِّيَهَا فَإِنْ نَقَصَ الْحَفْرُ يَضْمَنُ النُّقْصَانَ ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الطَّرِيقُ بَيْنَ قَوْمٍ وَهُوَ غَيْرُ نَافِذٍ ، غَيْرَ أَنَّ فِي الطَّرِيقِ لَا يَضْمَنُ نُقْصَانَ الْحَفْرِ .
وَفِي

أَوَّلِ قِسْمَةِ الْأَصْلِ قُبَيْلَ بَابِ قِسْمَةِ الدَّارِ : رَجُلٌ أَصَابَ سَاحَةً فِي الْقِسْمَةِ فَأَرَادَ أَنْ يَبْنِيَهَا وَيَرْفَعَ بِنَاءَهَا وَأَرَادَ الْآخَرُ مَنْعَهُ وَقَالَ تَسُدُّ عَلَيَّ الرِّيحَ وَالشَّمْسَ لَهُ أَنْ يَرْفَعَ بِنَاءَهُ وَلَهُ أَنْ يَتَّخِذَ فِيهَا حَمَّامًا أَوْ تَنُّورًا ، وَإِنْ كَفَّ عَمَّا يُؤْذِي جَارَهُ فَهُوَ حَسَنٌ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ .
وَلَوْ فَتَحَ صَاحِبُ الْبِنَاءِ فِي عُلْوِ بِنَائِهِ بَابًا أَوْ كَوَّةً لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِ السَّاحَةِ مَنْعُهُ ، وَلِصَاحِبِ السَّاحَةِ أَنْ يَبْنِيَ فِي مِلْكِهِ مَا يَسْتُرُ مَهَبَّهُ .
وَلَوْ اتَّخَذَ بِئْرًا فِي مِلْكِهِ أَوْ كِرْبَاسًا أَوْ بَالُوعَةً فَنَزَّ مِنْهَا حَائِطُ جَارِهِ وَطَلَبَ جَارُهُ مِنْهُ تَحْوِيلَهُ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ ، فَإِنْ سَقَطَ الْحَائِطُ مِنْ ذَلِكَ لَا يَضْمَنُ .
هَذَا كُلُّهُ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ وَجَوَابُ الرِّوَايَةِ .
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ رَجُلًا شَكَا إلَيْهِ مِنْ بِئْرٍ حَفَرَهَا جَارُهُ فِي دَارِهِ فَقَالَ احْفِرْ فِي دَارِك بِقُرْبِ تِلْكَ الْبِئْرِ بَالُوعَةً فَفَعَلَ ، فَسُجِّسَتْ الْبِئْرُ فَكَبَسَهَا صَاحِبُهَا وَلَمْ يُفْتِهِ بِمَنْعِ الْحَافِرِ بَلْ هَدَاهُ إلَى هَذِهِ الْحِيلَةِ ، وَبِذَلِكَ كَانَ يُفْتِي الشَّيْخُ الْإِمَامُ ظَهِيرُ الدِّينِ الْمَرْغِينَانِيُّ .
وَفِي مُضَارَبَةِ النَّوَازِلِ : لَوْ اتَّخَذَ دَارِهِ حَظِيرَةً لِلْغَنَمِ وَالْجِيرَانُ يَتَأَذَّوْنَ مِنْ نَتِنِ السِّرْقِينِ وَلَا يَأْمَنُونَ عَلَى الرُّعَاةِ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْحُكْمِ مَنْعُهُ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ .
وَلَوْ حَفَرَ فِي دَارِهِ بِئْرًا فَنَزَّ مِنْهَا حَائِطُ جَارِهِ لَيْسَ لَهُ مَنْعُهُ .
قَالَ فِي فُصُولِ الْعِمَادِيِّ نَقْلًا عَنْ الذَّخِيرَةِ بَعْدَ أَنْ نَقَلَ عَنْ نَصِرْ بْنِ يَحْيَى أَنَّ لِلْقَاضِي مَنْعَ الْجَارِ مِنْ ذَلِكَ ، وَذَكَرَ غَيْرُهُ تَمَسُّكَهُمْ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ } وَالْوَجْهُ لِظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ صَاحِبَ الْبِنَاءِ كَانَ يَنْتَفِعُ بِهَوَاءِ مِلْكِ صَاحِبِ السَّاحَةِ قَبْلَ الْبِنَاءِ فَصَاحِبُ السَّاحَةِ إذَا سَدَّ الْهَوَاءَ

بِالْبِنَاءِ فَإِنَّمَا مَنَعَهُ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِهِ وَلَمْ يُتْلِفْ عَلَيْهِ مِلْكًا وَلَا مَنْفَعَةً ، فَصَارَ كَمَا لَوْ كَانَ لِرَجُلٍ شَجَرَةٌ يَسْتَظِلُّ بِهَا جَارُهُ فَأَرَادَ قَطْعَهَا لَا يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ وَإِنْ تَضَرَّرَ بِهِ الْجَارُ يَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ الِانْتِفَاعِ ، وَتَصِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ رِوَايَةً فِي مَسْأَلَةٍ لَا رِوَايَةً لَهَا فِي الْكُتُبِ ، وَصُورَتُهَا بِالْفَارِسِيَّةِ فِي الذَّخِيرَةِ وَغَيْرِهَا .
وَحَاصِلُهَا بِالْعَرَبِيَّةِ بَيْتَانِ لِرَجُلَيْنِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا سَقْفٌ وَاحِدٌ فَأَرَادَ أَحَدُهُمَا أَنْ يَرْفَعَ الْبِنَاءَ وَيَجْعَلَهُ ذَا سَقْفَيْنِ .
قَالَ فِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى : إنْ كَانَا فِي الْقَدِيمِ بِسَقْفٍ وَاحِدٍ لِلْآخَرِ أَنْ يَمْنَعَهُ ، وَإِنْ كَانَ بِسَقْفَيْنِ فَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهُ ، قَالَ : وَحَدُّ الْقَدِيمِ أَنْ لَا تُحْفَظَ أَقْرَانُهُ وَرَاءَ هَذَا الْوَقْتِ كَيْفَ كَانَ .
قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ : فَلَوْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ قَدِيمٌ وَالْآخَرُ عَلَى أَنَّهُ مُحْدَثٌ فَبَيِّنَةُ الْقَدِيمِ أَوْلَى .
قَالَ : وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ السِّكَّةِ فِي هَذَا .
قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ : يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ الْمَنْعُ عَلَى قِيَاسِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّ صَاحِبَ الْبَيْتِ الْآخَرِ يَجْعَلُ بَيْتَهُ ذَا سَقْفَيْنِ وَيَمْنَعُهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهَوَاءِ مِلْكِ نَفْسِهِ انْتَهَى .
وَعَلَى تَقْدِيرِ الْفَرْقِ فَالْفَرْقُ أَنَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْبَيْتَيْنِ يُرِيدُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ الضَّوْءِ وَالضَّوْءُ مِنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ ، وَفِي مَسْأَلَةِ الْأَصْلِ يَمْنَعُهُ عَنْ الشَّمْسِ وَالرِّيحِ وَذَا مِنْ الْحَوَائِجِ الزَّائِدَةِ انْتَهَى .
وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ } فَلَا شَكَّ أَنَّهُ عَامٌّ مَخْصُوصٌ لِلْقَطْعِ بِعَدَمِ امْتِنَاعِ كَثِيرٍ مِنْ الضَّرَرِ كَالتَّعَازِيرِ وَالْحُدُودِ وَنَحْوِ مُوَاظَبَةِ طَبْخٍ يَنْتَشِرُ بِهِ دُخَانٌ قَدْ يَنْحَبِسُ فِي خُصُوصِ أَمَاكِنَ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ جِيرَانٌ لَا يَطْبُخُونَ لِفَقْرِهِمْ وَحَاجَتِهِمْ خُصُوصًا

إذَا كَانَ فِيهِمْ مَرِيضٌ يَتَضَرَّرُ بِهِ ، وَكَمَا أَرَيْنَاك مِنْ التَّضَرُّرِ بِقَطْعِ الشَّجَرَةِ الْمَمْلُوكَةِ لِلْقَاطِعِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى خُصُوصٍ مِنْ الضَّرَرِ وَهُوَ مَا يُؤَدِّي إلَى هَدْمِ بَيْتِ الْجَارِ وَنَحْوِهِ مِنْ الضَّرَرِ الْبَيِّنِ الْفَاحِشِ .
وَفِي الذَّخِيرَةِ : حُكِيَ عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ الدَّارَ إذَا كَانَتْ مُجَاوِرَةً لِدُورٍ فَأَرَادَ صَاحِبُ الدَّارِ أَنْ يَبْنِيَ فِيهَا تَنُّورًا لِلْخُبْزِ الدَّائِمِ أَوْ رَحًى لِلطَّحْنِ أَوْ مِدَقَّةً لِلْقَصَّارِينَ يُمْنَعُ مِنْهُ لِأَنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِهِ جِيرَانُهُ ضَرَرًا فَاحِشًا .
قِيلَ وَأَجْمَعُوا عَلَى مَنْعِ الدَّقِّ الَّذِي يَهْدِمُ الْحِيطَانَ وَيُوهِنُهَا وَدَوَرَانُ الرَّحَى مِنْ ذَلِكَ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقِيَاسَ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنْ يَفْعَلَ صَاحِبُ الْمِلْكِ مَا بَدَا لَهُ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ وَإِنْ كَانَ يُلْحِقُ الضَّرَرَ بِغَيْرِهِ ، لَكِنْ يُتْرَكُ الْقِيَاسُ فِي مَوْضِعٍ يَتَعَدَّى ضَرَرُهُ إلَى غَيْرِهِ ضَرَرًا فَاحِشًا كَمَا تَقَدَّمَ وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْبَيِّنِ فِيمَا ذَكَرَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ وَهُوَ مَا يَكُونُ سَبَبًا لِلْهَدْمِ وَمَا يُوهِنُ الْبِنَاءَ سَبَبٌ لَهُ أَوْ يَخْرُجُ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِالْكُلِّيَّةِ وَهُوَ مَا يَمْنَعُ مِنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ كَسَدِّ الضَّوْءِ بِالْكُلِّيَّةِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْفَرْقِ الْمُتَقَدِّمِ وَاخْتَارُوا الْفَتْوَى عَلَيْهِ .
وَأَمَّا التَّوَسُّعُ إلَى مَنْعِ كُلِّ ضَرَرٍ مَا فَيَسُدُّ بَابَ الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِ الْإِنْسَانِ كَمَا ذَكَرْنَا قَرِيبًا ، وَمِنْهُ مَا ذَكَرَ أَبُو اللَّيْثِ فِي فَتَاوَاهُ : حُجْرَةٌ سَطْحُهَا وَسَطْحُ جَارِهِ مُتَسَاوِيَانِ فَأَخَذَ جَارُهُ حَتَّى يَتَّخِذَ حَائِطًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ جَارِهِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ .
فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ الصُّعُودِ حَتَّى يَتَّخِذَ سُتْرَةً ، إنْ كَانَ إذَا صَعِدَ يَقَعُ بَصَرُهُ فِي دَارِ جَارِهِ لَهُ الْمَنْعُ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَقَعُ لَكِنْ يَقَعُ إذَا كَانُوا عَلَى السَّطْحِ لَيْسَ لَهُ الْمَنْعُ .
قَالَ فِي فُصُولِ الْعِمَادِيِّ :

وَعَلَى قِيَاسِ الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَهِيَ أَنْ لَا يُمْنَعَ صَاحِبُ السَّاحَةِ مِنْ أَنْ يَفْتَحَ صَاحِبُ الْعُلْوِ كَوَّةً يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ فِي هَذِهِ لَيْسَ لِلْجَارِ حَقُّ الْمَنْعِ مِنْ الصُّعُودِ وَإِنْ كَانَ بَصَرُهُ يَقَعُ فِي دَارِ جَارِهِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لِصَاحِبِ السَّاحَةِ حَقَّ مَنْعِ صَاحِبِ الْبِنَاءِ عَنْ فَتْحِ الْكَوَّةِ فِي عُلْوِهِ مَعَ أَنَّ بَصَرَهُ يَقَعُ فِي السَّاحَةِ ، وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ يَأْخُذُ جَارُهُ بِبِنَاءِ السُّتْرَةِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي بِنَائِهَا لَا أَنْ يَسْتَقِلَّ هُوَ بِذَلِكَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ بَعْضُ الْعِبَارَاتِ فِي كِتَابِ الْحِيطَانِ : دَارٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ قَسَمَاهَا وَقَالَ أَحَدُهُمَا نَبْنِي حَاجِزًا بَيْنَنَا لَيْسَ عَلَى الْآخَرِ إجَابَتُهُ ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يُؤْذِي الْآخَرَ بِالِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ كَانَ لِلْقَاضِي أَنْ يَأْمُرَهُمَا بِبِنَائِهِ يَتَخَارَجَانِ نَفَقَتَهُ بِقَدْرِ حِصَّةِ كُلٍّ مِنْهُمَا يَفْعَلُهُ الْقَاضِي لِلْمَصْلَحَةِ .
وَنَظِيرُهَا فِي فَتَاوَى أَبِي اللَّيْثِ : رَجُلٌ فِي دَارِهِ شَجَرَةُ فِرْصَادٍ ، فَإِذَا ارْتَقَاهَا يَطَّلِعُ عَلَى عَوْرَاتِ الْجَارِ يَمْنَعُهُ الْقَاضِي مِنْهُ إذَا رَآهُ .
قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ : وَعَلَى قِيَاسِ مَسْأَلَةِ فَتْحِ الْكَوَّةِ لَيْسَ لِلْجَارِ وِلَايَةُ الْمُرَافَعَةِ وَلَا لِلْقَاضِي الْمَنْعُ انْتَهَى .
وَلَقَدْ أَحْسَنَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ فِي وَاقِعَاتِهِ حَيْثُ قَالَ : الْمُخْتَارُ أَنَّ الْمُرْتَقِيَ يُخْبِرُهُمْ وَقْتَ الِارْتِقَاءِ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ حَتَّى يَسْتُرُوا أَنْفُسَهُمْ لِأَنَّ هَذَا جَمَعَ بَيْنَ الْحَقَّيْنِ .

قَالَ ( وَمَنْ ادَّعَى فِي دَارِ دَعْوَى وَأَنْكَرَهَا الَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ ثُمَّ صَالَحَهُ مِنْهَا فَهُوَ جَائِزٌ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الصُّلْحِ عَلَى الْإِنْكَارِ ) وَسَنَذْكُرُهَا فِي الصُّلْحِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَالْمُدَّعِي وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا فَالصُّلْحُ عَلَى مَعْلُومٍ عَنْ مَجْهُولٍ جَائِزٌ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ جَهَالَةٌ فِي السَّاقِطِ فَلَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ عَلَى مَا مَرَّ .
( قَوْلُهُ وَمَنْ ادَّعَى فِي دَارٍ دَعْوَى وَأَنْكَرَهَا الَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ ثُمَّ صَالَحَهُ مِنْهَا فَهُوَ جَائِزٌ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الصُّلْحِ عَلَى الْإِنْكَارِ ، وَسَنَذْكُرُهَا فِي الصُّلْحِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ) وَنُقِلَ فِي النِّهَايَةِ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ أَرَادَ بِالدَّعْوَى مِقْدَارًا مُعَيَّنًا كَالثُّلُثِ وَنَحْوِهِ لِتَصِحَّ الدَّعْوَى فَإِنَّهَا لَا تَصِحُّ مَعَ جَهَالَةِ الْمُدَّعَى بِهِ .
وَنُقِلَ عَنْ وَالِدِ ظَهِيرِ الدِّينِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : الصُّلْحُ عَنْ الدَّعْوَى إنَّمَا يَصِحُّ إذَا كَانَتْ صَحِيحَةً ، لِأَنَّ الصُّلْحَ إنَّمَا يَصِحُّ لِافْتِدَاءِ الْيَمِينِ وَالْيَمِينُ إنَّمَا تَتَوَجَّهُ إذَا صَحَّتْ الدَّعْوَى .
قَالَ : وَهَذَا يُشْكَلُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، فَإِنَّهُ لَوْ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى امْرَأَةٍ نِكَاحًا فَصَالَحَتْهُ عَلَى مَالٍ دَفَعَتْهُ إلَيْهِ صَحَّ مَعَ أَنَّ الْيَمِينَ لَا تُتَصَوَّرُ فِي النِّكَاحِ عِنْدَهُ ، فَالْحَقُّ أَنَّ الصُّلْحَ يَتَحَقَّقُ لِدَفْعِ الشَّغَبِ وَالْخِصَامِ صَحَّتْ الدَّعْوَى أَوْ لَمْ تَصِحَّ ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَالْمُدَّعِي وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا فَالصُّلْحُ عَنْ مَجْهُولٍ عَلَى مَعْلُومٍ جَائِزٌ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ جَهَالَةٌ فِي السَّاقِطِ فَلَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ ) يَعْنِي وَهُوَ الْمَانِعُ .

قَالَ ( وَمَنْ ادَّعَى دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهُ وَهَبَهَا لَهُ فِي وَقْتِ كَذَا فَسُئِلَ الْبَيِّنَةَ فَقَالَ جَحَدَنِي الْهِبَةَ فَاشْتَرَيْتهَا مِنْهُ وَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ قَبْلَ الْوَقْتِ الَّذِي يَدَّعِي فِيهِ الْهِبَةَ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ ) لِظُهُورِ التَّنَاقُضِ إذْ هُوَ يَدَّعِي الشِّرَاءَ بَعْدَ الْهِبَةِ وَهُمْ يَشْهَدُونَ بِهِ قَبْلَهَا ، وَلَوْ شَهِدُوا بِهِ بَعْدَهَا تُقْبَلُ لِوُضُوحِ التَّوْفِيقِ ، وَلَوْ كَانَ ادَّعَى الْهِبَةَ ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ قَبْلَهَا وَلَمْ يَقُلْ جَحَدَنِي الْهِبَةَ فَاشْتَرَيْتهَا لَمْ تُقْبَلْ أَيْضًا ذَكَرَهُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ لِأَنَّ دَعْوَى الْهِبَةِ إقْرَارٌ مِنْهُ بِالْمِلْكِ لِلْوَاهِبِ عِنْدَهَا ، وَدَعْوَى الشِّرَاءِ رُجُوعٌ عَنْهُ فَعُدَّ مُنَاقِضًا ، بِخِلَافِ مَا إذَا ادَّعَى الشِّرَاءَ بَعْدَ الْهِبَةِ لِأَنَّهُ تَقَرَّرَ مِلْكُهُ عِنْدَهَا .

قَوْلُهُ وَمَنْ ادَّعَى دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهُ وَهَبَهَا لَهُ فِي وَقْتٍ ) يَعْنِي ذَكَرَ وَقْتًا عَيَّنَهُ كَقَوْلِهِ مُنْذُ شَهْرٍ وَسَلَّمَهَا إلَيَّ فَمَلَكْتهَا وَهِيَ الْآنَ فِي يَدِهِ وَأُطَالِبُهُ بِدَفْعِهَا إلَيَّ فَطَالَبَهُ الْقَاضِي بِالْبَيَانِ فَقَالَ لَيْسَ لِي بَيِّنَةٌ عَلَى الْهِبَةِ بَلْ عَلَى الشِّرَاءِ لِأَنَّهُ بَعْدَ الْهِبَةِ وَالتَّسْلِيمِ ظَفِرَ بِهَا فَحَبَسَهَا عَنِّي فَاشْتَرَيْتهَا مِنْهُ وَأَقَامَ بَيِّنَةً فَشَهِدُوا وَأَرَّخُوا وَقْتًا قَبْلَ الْوَقْتِ الَّذِي يَدَّعِي فِيهِ الْهِبَةَ ( لَا تُقْبَلُ لِظُهُورِ التَّنَاقُضِ ) بَيْنَ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَةِ ، لِأَنَّ الدَّعْوَى أَنَّ الشِّرَاءَ فِي تَارِيخٍ بَعْدَ تَارِيخِ الْهِبَةِ وَهُمْ يَشْهَدُونَ بِأَنَّهُ قَبْلَ الْهِبَةِ وَبَيْنَ نَفْسِ أَجْزَاءِ الدَّعْوَى لِأَنَّهُ بِمُقْتَضَى الْبَيِّنَةِ ، وَقَوْلُهُ كَأَنَّهُ قَالَ وُهِبَ لِي هَذَا الشَّيْءُ وَكَانَ مِلْكِي بِالشِّرَاءِ قَبْلُ فَلَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ بِالْهِبَةِ بَعْدَ الشِّرَاءِ فَكَانَ مُنَاقِضًا ( وَلَوْ شَهِدُوا بِهِ بَعْدَهَا تُقْبَلُ لِوُضُوحِ التَّوْفِيقِ ) الَّذِي وَفَّقَهُ ( وَلَوْ ادَّعَى الْهِبَةَ ) يَعْنِي وَأَرَّخَ فَطُولِبَ بِالْبَيِّنَةِ ( فَقَامَتْ عَلَى الشِّرَاءِ قَبْلَهُ وَلَمْ يَقُلْ جَحَدَنِي الْهِبَةَ فَاشْتَرَيْتهَا ) تَوْفِيقًا .
( وَلَمْ تُقْبَلْ أَيْضًا ذَكَرَهُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ ) كَأَنَّهُ يُرِيدُ نُسَخَ الْأَصْلِ ( لِأَنَّ دَعْوَى الْهِبَةِ إقْرَارٌ مِنْهُ بِالْمِلْكِ لِلْوَاهِبِ عِنْدَهَا ، وَدَعْوَى الشِّرَاءِ رُجُوعٌ مِنْهُ فَعُدَّ مُنَاقِضًا بِخِلَافِ مَا إذَا ادَّعَى الشِّرَاءَ بَعْدَ الْهِبَةِ لِأَنَّهُ تَقَرَّرَ مِلْكُ الْوَاهِبِ عِنْدَهَا ) أَيْ عِنْدَ الْهِبَةِ ، وَلَوْ لَمْ يُؤَرِّخْ الشِّرَاءَ تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ كَمَا لَوْ ذَكَرَ تَارِيخًا بَعْدَ الْهِبَةِ لِإِمْكَانِ الْحَمْلِ عَلَى مَا يَنْتَفِي بِهِ التَّنَاقُضُ ، وَهَذَا عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي تَصْحِيحِ الدَّعْوَى إذَا أَمْكَنَ التَّوْفِيقُ وَإِنْ لَمْ يُوَفِّقْ الْمُدَّعِي .
وَشَاهِدُهُ مَا ذُكِرَ فِي رَجُلٍ ادَّعَى دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهَا دَارُهُ اشْتَرَاهَا مِنْ أَبِيهِ فِي صِحَّتِهِ

وَهُوَ يُنْكِرُ وَأَقَامَ الْمُدَّعِي عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً وَلَمْ تُزَكَّ أَوْ لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ وَحَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ثُمَّ أَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهَا دَارُهُ وَرِثَهَا مِنْ أَبِيهِ قَبِلَ الْقَاضِي بَيِّنَتَهُ وَلَا يَكُونُ دَعْوَاهُ الْإِرْثَ تَنَاقُضًا ، وَلَوْ ادَّعَى الْإِرْثَ مِنْ الْأَبِ أَوَّلًا ثُمَّ ادَّعَى الشِّرَاءَ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَقَامَ عَلَيْهِ بَيِّنَةً لَا يُقْضَى لَهُ بِالدَّارِ لِإِمْكَانِ التَّوْفِيقِ فِي الْأَوَّلِ ، بِخِلَافِ الثَّانِي .
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ إذَا أَمْكَنَ التَّوْفِيقُ تَصِحُّ الدَّعْوَى وَإِنْ لَمْ يَدَّعِ الْمُدَّعِي التَّوْفِيقَ .
وَفِي دَعْوَى الْمَبْسُوطِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَةٌ إلَّا أَنْ يُوَفِّقَ الْمُدَّعِي ، فَكَانَ التَّوْفِيقُ مِنْ الْمُدَّعِي شَرْطًا فِي رِوَايَةٍ وَلَيْسَ شَرْطًا فِي أُخْرَى .
وَفِي الْمُحِيطِ : قِيلَ مَا قَالُوا يُوَفِّقُ بِغَيْرِ دَعْوَى الْمُدَّعِي قِيَاسٌ ، وَمَا قَالُوا لَا يُوَفِّقُ بِدُونِ دَعْوَاهُ اسْتِحْسَانٌ .
فَإِنْ قِيلَ : يَنْبَغِي أَنْ لَا تُقْبَلَ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ لِأَنَّهُ يَدَّعِي شِرَاءَ مَا مَلَكَهُ بِالْهِبَةِ وَالتَّسْلِيمِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ سَائِرَ الْعُقُودِ تَنْفَسِخُ بِالتَّجَاحُدِ إلَّا النِّكَاحُ ، وَهُنَا كَذَلِكَ فَإِنَّ الْفَسْخَ يَتَحَقَّقُ مِنْ جِهَةِ الْوَاهِبِ يَجْحَدُهُ ، وَحِينَ أَقْدَمَ الْآخَرُ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْهُ فَقَدْ رَضِيَ بِذَلِكَ فَانْفَسَخَتْ الْهِبَةُ بِتَرَاضِيهِمَا ، فَإِذَا اشْتَرَى هُوَ ذَلِكَ فَقَدْ اشْتَرَى مَا لَا يَمْلِكُهُ .

( وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ اشْتَرَيْت مِنِّي هَذِهِ الْجَارِيَةَ فَأَنْكَرَ الْآخَرُ إنْ أَجْمَعَ الْبَائِعُ عَلَى تَرْكِ الْخُصُومَةِ وَسِعَهُ أَنْ يَطَأَهَا ) لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمَّا جَحَدَهُ كَانَ فَسْخًا مِنْ جِهَتِهِ ، إذْ الْفَسْخُ يَثْبُتُ بِهِ كَمَا إذَا تَجَاحَدَا فَإِذَا عَزَمَ الْبَائِعُ عَلَى تَرْكِ الْخُصُومَةِ ثُمَّ الْفَسْخِ ، وَبِمُجَرَّدِ الْعَزْمِ إنْ كَانَ لَا يَثْبُتُ الْفَسْخُ فَقَدْ اقْتَرَنَ بِالْفِعْلِ وَهُوَ إمْسَاكُ الْجَارِيَةِ وَنَقْلُهَا وَمَا يُضَاهِيهِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الثَّمَنِ مِنْ الْمُشْتَرِي فَاتَ رِضَا الْبَائِع فَيَسْتَبِدُّ بِفَسْخِهِ .

( قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ اشْتَرَيْت مِنِّي هَذِهِ الْجَارِيَةَ فَأَنْكَرَ إنْ أَجْمَعَ الْبَائِعُ عَلَى تَرْكِ الْخُصُومَةِ وَسِعَهُ أَنْ يَطَأَهَا لِ ) وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا ( أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمَّا جَحَدَ كَانَ فَسْخًا مِنْ جِهَتِهِ إذْ الْفَسْخُ يَثْبُتُ بِالْجَحْدِ كَمَا إذَا تَجَاحَدَا ) مَعًا حَيْثُ يَنْقَسِمُ قَطْعًا ( فَإِنْ عَزَمَ الْبَائِعُ عَلَى تَرْكِ الْخُصُومَةِ تَمَّ الْفَسْخُ ) وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّ مُجَرَّدَ الْعَزْمِ لَا يَحْصُلُ بِهِ الْفَسْخُ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ لَهُ خِيَارُ الشَّرْطِ إذَا عَزَمَ بِقَلْبِهِ عَلَى فَسْخِ الْعَقْدِ لَا يَنْفَسِخُ .
الْجَوَابُ بِأَنَّ الْمُرَادَ الْعَزْمُ الْمُؤَكَّدُ بِفِعْلٍ اقْتَرَنَ بِهِ مِنْ إمْسَاكِهَا أَوْ نَقْلِهَا إلَى بَيْتِهِ ، فَإِنَّ إمْسَاكَهَا لَا يَحِلُّ بِلَا فَسْخٍ فَكَانَ الْفَسْخُ ثَابِتًا بِهِ دَلَالَةً كَمَنْ قَالَ لِآخَرَ أَجَّرْتُك هَذِهِ الدَّابَّةَ يَوْمًا بِكَذَا لِتَرْكَبَهَا إلَى مَكَانِ كَذَا فَأَخَذَ الْمُسْتَأْجِرُ لِيَرْكَبَهَا كَانَ ذَلِكَ قَبُولًا دَلَالَةً ، لِأَنَّ الْأَخْذَ وَالِاسْتِعْمَالَ لَا يَحِلُّ بِلَا قَبُولٍ .
وَفِي الْمُحِيطِ تَفْسِيرُ الْعَزْمِ عَلَى تَرْكِ الْخُصُومَةِ بِالْقَلْبِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ ، وَقِيلَ أَنْ يَشْهَدَ بِلِسَانِهِ عَلَى الْعَزْمِ بِالْقَلْبِ وَلَا يَكْتَفِي بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ .
وَبَنَى فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ عَلَيْهِ فَرْعًا ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ : اشْتَرَى عَبْدًا ثُمَّ بَاعَهُ مِنْ آخَرَ فَجَحَدَ الْمُشْتَرِي الثَّانِي الْبَيْعَ فَخَاصَمَهُ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ إلَى الْقَاضِي وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ فَعَزَمَ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ عَلَى تَرْكِ الْخُصُومَةِ ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ كَانَ عِنْدَ الْبَائِعِ الْأَوَّلِ وَأَرَادَ رَدَّهُ فَاحْتَجَّ الْبَائِعُ الْأَوَّلُ عَلَيْهِ بِدَعْوَاهُ الْبَيْعَ عَلَى الثَّانِي ، فَإِنْ كَانَ عَزَمَ الْمُشْتَرِي عَلَى تَرْكِ الْخُصُومَةِ بَعْدَ تَحْلِيفِ الثَّانِي يَرُدُّهُ ، أَوْ قَبْلَهُ فَلَا لِأَنَّهُ غَيْرُ مُضْطَرٍّ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ الثَّانِي ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ جَحَدَ الزَّوْجُ النِّكَاحَ وَحَلَفَ وَعَزَمَتْ الزَّوْجَةُ عَلَى تَرْكِ الْخُصُومَةِ

لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ ، وَالنِّكَاحُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ .
الْوَجْهُ الثَّانِي الْتِزَامُ أَنَّ الْفَسْخَ يَحْصُلُ بِوَاحِدٍ وَهُوَ قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الثَّمَنِ مِنْ الْمُشْتَرِي فَاتَ رِضَا الْبَائِعِ فَيَسْتَبِدُّ بِفَسْخِهِ لِفَوَاتِ شَرْطِ الْبَيْعِ وَهُوَ التَّرَاضِي ، وَسَنَذْكُرُ نَظَرَ صَاحِبِ الْكَافِي فِي تَدَافُعِ الْوَجْهَيْنِ قَرِيبًا .

قَالَ ( وَمَنْ أَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَ مِنْ فُلَانٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهَا زُيُوفٌ صُدِّقَ ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ اقْتَضَى ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْقَبْضِ أَيْضًا .
وَوَجْهُهُ أَنَّ الزُّيُوفَ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ إلَّا أَنَّهَا مَعِيبَةٌ ، وَلِهَذَا لَوْ تَجَوَّزَ بِهِ فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ جَازَ ، وَالْقَبْضُ لَا يَخْتَصُّ بِالْجِيَادِ فَيُصَدَّقُ لِأَنَّهُ أَنْكَرَ قَبْضَ حَقِّهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَ الْجِيَادَ أَوْ حَقَّهُ أَوْ الثَّمَنَ أَوْ اسْتَوْفَى لِإِقْرَارِهِ بِقَبْضِ الْجِيَادِ صَرِيحًا أَوْ دَلَالَةً فَلَا يُصَدَّقُ وَالنَّبَهْرَجَةُ كَالزُّيُوفِ وَفِي السَّتُّوقَةِ لَا يُصَدَّقُ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ ، حَتَّى لَوْ تَجَوَّزَ بِهِ فِيمَا ذَكَرْنَا لَا يَجُوزُ .
وَالزَّيْفُ مَا زَيَّفَهُ بَيْتُ الْمَالِ ، وَالنَّبَهْرَجَةُ مَا يَرُدُّهُ التُّجَّارُ ، وَالسَّتُّوقَةُ مَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ الْغِشُّ

( قَوْلُهُ وَمَنْ أَقَرَّ ) هُنَا مَسَائِلُ الْإِقْرَارِ بِالْقَبْضِ وَمَسَائِلُ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ ، أَمَّا مَسَائِلُ الْقَبْضِ مَا إذَا أَقَرَّ ( أَنَّهُ قَبَضَ مِنْ فُلَانٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهَا زُيُوفٌ صُدِّقَ .
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ اقْتَضَى وَهُوَ أَيْضًا الْقَبْضُ ) يَعْنِي أَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَ مِنْ مَدْيُونِهِ بِدَيْنِ قَرْضٍ اقْتَرَضَهُ أَوْ ثَمَنِ مَبِيعٍ أَوْ بَدَلِ إجَارَةٍ أَوْ قَالَ غَصَبْت مِنْهُ أَوْ أَوْدَعَنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ ثُمَّ قَالَ إلَّا أَنَّهَا زُيُوفٌ أَوْ نَبَهْرَجَةٌ أَوْ قَالَ بَعْدُ نَعَمْ هِيَ زُيُوفٌ أَوْ نَبَهْرَجَةٌ يُصَدَّقُ فِي الْوَصْلِ وَالْفَصْلِ .
وَفِي الْمَبْسُوطِ : أَقَرَّ الطَّالِبُ أَنَّهُ قَبَضَ مِمَّا لَهُ عَلَى فُلَانٍ مِائَةَ دِرْهَمٍ ثُمَّ قَالَ وَجَدْتهَا زُيُوفًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَصَلَ أَمْ فَصَلَ ، وَإِطْلَاقُ الْمُصَنِّفِ قَوْلَهُ صِدْقٌ يُفِيدُهُ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّ بِالدَّيْنِ .
فِي الْمَبْسُوطِ فِي بَابِ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ : لَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ أَوْ قَرْضٍ أَوْ إجَارَةٍ إلَّا أَنَّهَا زُيُوفٌ أَوْ نَبَهْرَجَةٌ لَمْ يُصَدَّقْ فِي دَعْوَى الزِّيَافَةِ وَصَلَ أَمْ فَصَلَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَعِنْدَهُمَا يُصَدَّقُ إنْ وَصَلَ لَا إنْ فَصَلَ .
وَلَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ سَبَبِ تِجَارَةٍ أَوْ غَصْبٍ قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ : هُوَ عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا لِأَنَّ مُطْلَقَ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ يَنْصَرِفُ إلَى الِالْتِزَامِ بِالتِّجَارَةِ إذْ هُوَ اللَّائِقُ بِحَالِ الْمُسْلِمِ .
وَقِيلَ يُصَدَّقُ هُنَا إذَا وَصَلَ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ صِفَةَ الْجَوْدَةِ تَصِيرُ مُسْتَحَقَّةً بِعَقْدِ التِّجَارَةِ ، فَإِذَا لَمْ يُصَرِّحْ فِي كَلَامِهِ بِجِهَةِ التِّجَارَةِ لَا تَصِيرُ صِفَةُ الْجَوْدَةِ مُسْتَحَقَّةً ، وَتَأْتِي الْحُجَجُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْجَانِبَيْنِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ : إذَا فَصَلَ لَا يُقْبَلُ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ لِأَنَّهُ كَمَا ذَكَرَ الْعَشَرَةَ فَهُمْ الْجِيَادُ .
وَقَوْلُهُ هِيَ زُيُوفٌ رُجُوعٌ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ .

قُلْنَا : مَسْأَلَتُنَا إنَّمَا أَقَرَّ بِقَبْضِ الدَّرَاهِمِ وَقَبْضُ الدَّرَاهِمِ لَا يَخْتَصُّ بِالْجِيَادِ ، لِأَنَّ اسْمَ الدَّرَاهِمِ لَا يَخْتَصُّ بِالْجِيَادِ بَلْ يَقَعُ عَلَى الزُّيُوفِ وَالنَّبَهْرَجَةِ ، فَإِذَا قَالَ هِيَ زُيُوفٌ أَوْ نَبَهْرَجَةٌ كَانَ حَاصِلُهُ أَنَّهُ اعْتَرَفَ بِقَبْضِ عِدَّةٍ مِنْ الدَّرَاهِمِ مُنْكِرًا أَنَّهُ قَبَضَ حَقَّهُ أَعْنِي الْجِيَادَ ، فَيُصَدَّقُ مَعَ يَمِينِهِ إذَا كَانَ الْآخَرُ يُكَذِّبُهُ وَلَمْ يَكُنْ رُجُوعًا عَنْ شَيْءٍ لِأَنَّ الْأَعَمَّ يُصَدَّقُ عَلَى كُلِّ أَخَصَّ ، فَإِذَا نَفَى أَنَّهُ بَعْدَمَا صَدَقَ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ وَأَنَّهُ مِنْ صَدَقَاتِهِ الْأُخْرَى لَا يَكُونُ مُنَاقِضًا ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ هِيَ سَتُّوقَةٌ أَوْ رَصَاصٌ لَا يُقْبَلُ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِهَا فَكَانَ رُجُوعًا .
وَأَمَّا لَوْ اعْتَرَفَ أَنَّهُ قَبَضَ الْجِيَادَ أَوْ حَقَّهُ أَوْ الثَّمَنَ أَوْ اسْتَوْفَى مَالَهُ عَلَيْهِ لَا يُصَدَّقُ فِي دَعْوَاهُ الزُّيُوفَ وَالنَّبَهْرَجَةَ ، لِأَنَّهُ فِي هَذَا مُقِرٌّ بِقَبْضِ الْجِيَادِ صَرِيحًا فِي الْأَوَّلِ وَدَلَالَةً فِيمَا بَعْدَهُ لِأَنَّ حَقَّهُ الثَّمَنُ ، وَكَذَا بَدَلُ الْإِجَارَةِ هِيَ الْجِيَادُ .
قَالَ فِي النِّهَايَةِ : جَمَعَ الْمُصَنِّفُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْأَرْبَعِ فِي الْجَوَابِ بِأَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ وَلَيْسَ الْحُكْمُ فِيهَا عَلَى السَّوَاءِ ، فَإِنَّهُ إذَا أَقَرَّ بِقَبْضِ الْجِيَادِ ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهَا زُيُوفٌ لَا يُصَدَّقُ لَا مَوْصُولًا وَلَا مَفْصُولًا ، وَفِيمَا بَقِيَ يُصَدَّقُ مَوْصُولًا لَا مَفْصُولًا .
وَالْفَرْقُ أَنَّ قَوْلَهُ قَبَضْت مَا لِي عَلَيْهِ أَوْ حَقِّي إقْرَارٌ بِقَبْضِ الْقَدْرِ وَالْجَوْدَةِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ ، فَإِذَا اسْتَثْنَى الْجَوْدَةَ فَقَدْ اسْتَثْنَى الْبَعْضَ مِنْ الْجُمْلَةِ فَيَصِحُّ مَوْصُولًا كَمَا لَوْ قَالَ عَلَيَّ أَلْفٌ إلَّا مِائَةً .
أَمَّا إذَا قَالَ قَبَضْت عَشَرَةً جِيَادًا فَقَدْ أَقَرَّ بِالْقَدْرِ بِلَفْظٍ عَلَى حِدَةٍ وَبِالْجَوْدَةِ بِلَفْظٍ عَلَى حِدَةٍ ، فَإِذَا قَالَ إلَّا أَنَّهَا زُيُوفٌ فَقَدْ اسْتَثْنَى الْكُلَّ مِنْ الْكُلِّ فِي حَقِّ الْجَوْدَةِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ ، كَمَا إذَا قَالَ

عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَدِينَارٌ إلَّا دِينَارًا فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مَوْصُولًا .
فَإِنْ قِيلَ : يَجِبُ أَنْ لَا يَصِحَّ اسْتِثْنَاءُ الْجَوْدَةِ وَإِنْ دَخَلَتْ تَحْتَ الْإِقْرَارِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ الْجَوْدَةَ تَبَعٌ لِلدَّرَاهِمِ وَصِفَةٌ لَهَا ، وَاسْتِثْنَاءُ التَّبَعِ مَوْصُولًا لَا يَصِحُّ كَاسْتِثْنَاءِ الْبِنَاءِ مِنْ الدَّارِ لَا يَصِحُّ وَإِنْ كَانَ مَوْصُولًا .
قُلْنَا : إنَّمَا لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْبِنَاءِ لِأَنَّهُ دَخَلَ تَحْتَ اسْمِ الدَّارِ تَبَعًا فَلَا يَجُوزُ إخْرَاجُهُ مَوْصُولًا .
وَأَمَّا الْجَوْدَةُ فَدَخَلَتْ تَحْتَ اللَّفْظِ مَقْصُودًا كَالْوَزْنِ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِقَبْضِ مَا عَلَيْهِ ، وَكَمَا عَلَيْهِ تَسْلِيمُ الْوَزْنِ عَلَيْهِ الْجَوْدَةُ فَكَانَتْ دَاخِلَةً تَحْتَ قَوْلِهِ مَا لِي عَلَيْهِ وَحَقِّي عَلَيْهِ مَقْصُودًا لَا تَبَعًا فَيَجُوزُ اسْتِثْنَاؤُهُ مَوْصُولًا انْتَهَى .
وَقَالَ صَاحِبُ الدِّرَايَةِ بَعْدَ أَنْ نَقَلَهُ : فِيهِ نَوْعُ تَأَمُّلٍ .
وَعِنْدِي أَنَّ التَّأَمُّلَ يَشُدُّهُ لَا يَرُدُّهُ ؛ وَكَأَنَّهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أُشْكِلَ عَلَيْهِ تَبَعِيَّةُ الْجَوْدَةِ لِمَا ذُكِرَ فِي السُّؤَالِ مِنْ أَنَّهَا تَبَعٌ وَصِفَةٌ لِلدَّرَاهِمِ وَالصِّفَةُ أَبَدًا تَابِعَةٌ لِلْمَوْصُوفِ .
وَهَذَا سَهْوٌ عَنْ قَوْلِهِ دَخَلَتْ تَحْتَ اللَّفْظِ مَقْصُودًا .
فَحَاصِلُ رَدِّهِ عَلَى السَّائِلِ أَنَّ مَا يَكُونُ تَبَعًا فِي الْوُجُودِ قَدْ يَكُونُ مَقْصُودًا لِلْمُتَكَلِّمِ بِاللَّفْظِ وَصِحَّةُ الِاسْتِثْنَاءِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ مَقْصُودًا مِنْ اللَّفْظِ كَقَصْدِ الْبَاقِي سَوَاءٌ كَانَ تَبَعًا فِي الْوُجُودِ لَهُ أَوْ أَصْلًا مِثْلُهُ .
وَإِنَّمَا كَانَتْ السَّتُّوقَةُ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ لِأَنَّ غِشَّهَا غَالِبٌ ، وَاسْمُ الدَّرَاهِمِ بِاعْتِبَارِ الْفِضَّةِ وَالنِّسْبَةِ إلَى الْغَالِبِ مُتَعَيَّنٌ .
فَإِذَا كَانَ الْغَالِبُ هُوَ الْغِشُّ فَلَيْسَتْ دَرَاهِمَ إلَّا مَجَازًا ، وَلِذَا قِيلَ هُوَ مُعَرَّبُ سه طَاقه : يَعْنِي ثَلَاثَ طَاقَاتٍ الطَّاقُ الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلُ فِضَّةٌ ، وَالْأَوْسَطُ نُحَاسٌ ، وَهِيَ شِبْهُ الْمُمَوَّهِ .
وَتَعَقَّبَ فِي النِّهَايَةِ

إطْلَاقَ قَوْلِهِ فِي السَّتُّوقَةِ لَا يُصَدَّقُ بَلْ ذَاكَ إذَا قَالَ مَفْصُولًا ، أَمَّا فِي الْمَوْصُولِ يَجِبُ أَنْ يُصَدَّقَ لِأَنَّهُ قَالَ فِي إقْرَارِ الْمَبْسُوطِ : لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ مِمَّا لَهُ عَلَى الْمَدْيُونِ ثُمَّ قَالَ بَعْدَمَا سَكَتَ هُوَ رَصَاصٌ لَمْ يُصَدَّقْ ، لِأَنَّ اسْمَ الدَّرَاهِمِ لَا يَتَنَاوَلُ الرَّصَاصَ حَقِيقَةً ، وَإِنْ قَالَ مَوْصُولًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ لِأَنَّ الرَّصَاصَ مِنْ الدَّرَاهِمِ صُورَةً وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهَا مَعْنًى فَكَانَ بَيَانًا مُغَيِّرًا لِظَاهِرِ كَلَامِهِ إلَى مَا هُوَ مُحْتَمَلٌ فَيَصِحُّ مَوْصُولًا فَفِي السَّتُّوقَةِ أَوْلَى ، لِأَنَّ الرَّصَاصَ أَبْعَدُ مِنْهَا إلَى الدَّرَاهِمِ .
وَذَكَرَ الْمَحْبُوبِيُّ فِي جَامِعِهِ مُصَرِّحًا فَقَالَ : فَأَمَّا إذَا قَالَ وَجَدْتهَا سَتُّوقَةً أَوْ رَصَاصًا قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ : ذَكَرَ مُحَمَّدٌ أَنَّهُ يَصِحُّ إذَا كَانَ مَوْصُولًا ، وَقَدَّمْنَا أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْقَابِضِ مَعَ يَمِينِهِ فَلَا يَمِينَ عَلَى الطَّالِبِ أَنَّهَا كَانَتْ جِيَادًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : أُحَلِّفُهُ إذَا اتَّهَمْته .

قَالَ ( وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ لَك عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَقَالَ لَيْسَ لِي عَلَيْك شَيْءٌ ثُمَّ قَالَ فِي مَكَانِهِ بَلْ لِي عَلَيْك أَلْفُ دِرْهَمٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ ) لِأَنَّ إقْرَارَهُ هُوَ الْأَوَّلُ وَقَدْ ارْتَدَّ بِرَدِّ الْمُقَرِّ لَهُ ، وَالثَّانِي دَعْوَى فَلَا بُدَّ مِنْ الْحُجَّةِ أَوْ تَصْدِيقِ خَصْمِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ اشْتَرَيْت وَأَنْكَرَ الْآخَرُ لَهُ أَنْ يُصَدِّقَهُ ، لِأَنَّ أَحَدَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لَا يَتَفَرَّدُ بِالْفَسْخِ كَمَا لَا يَتَفَرَّدُ بِالْعَقْدِ ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ حَقُّهُمَا فَبَقِيَ الْعَقْدُ فَعَمِلَ التَّصْدِيقُ ، وَأَمَّا الْمُقَرُّ لَهُ يَتَفَرَّدُ بِرَدِّ الْإِقْرَارِ فَافْتَرَقَا .

( قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ لَك عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَقَالَ لَيْسَ لِي عَلَيْك شَيْءٌ ) أَوْ قَالَ هِيَ لَك أَوْ قَالَ هِيَ لِفُلَانٍ فَقَدْ رُدَّ إقْرَارُهُ ، فَلَوْ عَادَ إلَى تَصْدِيقِهِ وَادَّعَى الْأَلْفَ لَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ ، لَا إنْ عَادَ الْمُقِرُّ إلَى الْإِقْرَارِ بِهَا بَعْدَ رَدِّ الْمُقَرِّ لَهُ فَصَدَّقَهُ بَعْدَ الْإِقْرَارِ الثَّانِي فَإِنَّهُ يَثْبُتُ اسْتِحْسَانًا لَا قِيَاسًا ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَقَرَّ سَيِّدُ الْعَبْدِ بِنَسَبِهِ لِإِنْسَانٍ فَكَذَّبَهُ الْمُقَرُّ لَهُ ثُمَّ ادَّعَاهُ الْمُقِرُّ لِنَفْسِهِ حَيْثُ لَا يَثْبُتُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالنَّسَبِ لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ حَتَّى كَانَ لِلرَّادِّ أَنْ يَعُودَ وَيَدَّعِيَهُ ، فَلَمَّا لَمْ يَبْطُلْ بِالرَّدِّ بَقِيَ مُقِرًّا بِنَسَبِهِ لِغَيْرِهِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَدَّعِيَهُ لِنَفْسِهِ ( وَلَوْ كَانَ الْإِقْرَارُ بِسَبَبِ الْمَالِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ اشْتَرَيْت مِنِّي وَأَنْكَرَ ، لَهُ أَنْ ) يَعُودَ فَ ( يُصَدِّقَهُ لِأَنَّ أَحَدَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لَا يَنْفَرِدُ بِالْفَسْخِ ) فَإِنْكَارُهُ إنْ كَانَ فَسْخًا مِنْ جِهَتِهِ لَا يَحْصُلُ بِهِ الِانْفِسَاخُ ، وَكَانَ الْعَقْدُ قَائِمًا بَعْدَ إنْكَارِهِ فَلَهُ أَنْ يُصَدِّقَهُ بَعْدَ ذَلِكَ ( أَمَّا الْمُقَرُّ لَهُ ) بِالْمَالِ ( فَيَتَفَرَّدُ بِالرَّدِّ فَافْتَرَقَا ) وَنَاقَضَهُ فِي الْكَافِي بِأَنَّهُ ذَكَرَ هُنَا أَنَّ أَحَدَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لَا يَنْفَرِدُ بِالْفَسْخِ ، وَفِيمَا تَقَدَّمَ : يَعْنِي مِنْ مَسْأَلَةِ التَّجَاحُدِ قَالَ : وَلِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الثَّمَنِ مِنْ الْمُشْتَرِي فَاتَ رِضَا الْبَائِعِ فَيَسْتَبِدُّ بِالْفَسْخِ وَالتَّوْفِيقُ بَيْنَ كَلَامَيْهِ صَعْبٌ انْتَهَى ، وَهُوَ صَحِيحٌ .
وَيَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ تَعَذَّرَ الِاسْتِيفَاءُ مَعَ الْإِقْرَارِ بِأَنْ مَاتَ وَلَا بَيِّنَةَ أَنَّ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ وَيَسْتَمْتِعَ بِالْجَارِيَةِ فَالْوَجْهُ مَا قَدَّمَهُ أَوَّلًا .
[ وَهَذِهِ فُرُوعٌ ذَكَرَهَا فِي النِّهَايَةِ ] لَوْ صَدَّقَهُ ثُمَّ رَدَّ إقْرَارَهُ لَا يَرْتَدُّ .
لَوْ وَهَبَتْ الْمَرْأَةُ صَدَاقَهَا لِزَوْجِهَا وَقَبِلَ ثُمَّ رَدَّهُ

فَرَدُّهُ بَاطِلٌ ، وَكَذَا لَوْ قَبِلَ الْمَدْيُونُ الْإِبْرَاءَ ثُمَّ رَدَّهُ ، وَكَذَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ وَهَبْت لَك رَقَبَتَك فَرَدَّهُ لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ لِأَنَّهُ إعْتَاقٌ ، هَذَا كُلُّهُ فِي رَدِّ الْمُقَرِّ لَهُ إقْرَارَ الْمُقِرِّ .
فَأَمَّا لَوْ رَدَّ الْمُقِرُّ إقْرَارَ نَفْسِهِ كَأَنْ أَقَرَّ بِقَبْضِ الْمَبِيعِ أَوْ الثَّمَنِ ثُمَّ قَالَ لَمْ أَقْبِضْ وَأَرَادَ تَحْلِيفَ الْآخَرِ أَنَّهُ أَقْبَضَهُ أَوْ قَالَ بَعْدَ أَنْ أَقَرَّ بِقَبْضِ الْمَبِيعِ لَمْ أَقْبِضْ أَوْ قَالَ هَذَا لِفُلَانٍ ثُمَّ قَالَ هُوَ لِي وَأَرَادَ تَحْلِيفَ فُلَانٍ أَوْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ ثُمَّ قَالَ كُنْت كَاذِبًا وَأَرَادَ تَحْلِيفَ الدَّائِنِ أَنَّهُ أَقْبَضَهُ لَا يَحْلِفُ فِي الْمَسَائِلِ كُلِّهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ مُتَنَاقِضٌ ، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ لَيْسَ لِي عَلَى فُلَانٍ شَيْءٌ ثُمَّ ادَّعَى عَلَيْهِ مَالًا وَأَرَادَ تَحْلِيفَهُ لَا يَحْلِفُ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ يَحْلِفُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ ، لِأَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ تَحَقُّقِهَا تَحَرُّزًا مِنْ امْتِنَاعِ الْقَابِضِ عَنْ الْإِشْهَادِ بَعْدَ أَنْ يُسَلِّمَهُ فَيَجِبَ أَنْ يُرَاعِيَ الْعَادَةَ ، وَصَارَ كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِالْبَيْعِ وَقَالَ : كَانَ تَلْجِئَةً وَطَلَبَ يَمِينَ الْآخَرِ حَلَفَ عَلَيْهِ ، كَذَا هَذَا .
وَقَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ : الرَّأْيُ فِي التَّحْلِيفِ إلَى الْقَاضِي يُرِيدُ أَنَّهُ يَجْتَهِدُ فِي خُصُوصِ الْوَقَائِعِ ، فَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ حِينَ أَقَرَّ وَأَشْهَدَ يَحْلِفُ لَهُ خَصْمُهُ وَإِنْ لَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهِ فِيهِ ذَلِكَ لَا يُحَلِّفُهُ ، وَهَذَا إنَّمَا هُوَ بِالتَّفَرُّسِ فِي الْأَخْصَامِ وَاَللَّهُ الْهَادِي .

قَالَ ( وَمَنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ مَالًا فَقَالَ مَا كَانَ لَك عَلَيَّ شَيْءٌ قَطُّ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى أَلْفٍ وَأَقَامَ هُوَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْقَضَاءِ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ ) وَكَذَلِكَ عَلَى الْإِبْرَاءِ .
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا تُقْبَلُ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَتْلُو الْوُجُوبَ وَقَدْ أَنْكَرَهُ فَيَكُونُ مُنَاقِضًا .
وَلَنَا أَنَّ التَّوْفِيقَ مُمْكِنٌ لِأَنَّ غَيْرَ الْحَقِّ قَدْ يُقْضَى وَيَبْرَأُ مِنْهُ دَفْعًا لِلْخُصُومَةِ وَالشَّغَبِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ قَضَى بِبَاطِلٍ وَقَدْ يُصَالَحُ عَلَى شَيْءٍ فَيَثْبُتُ ثُمَّ يُقْضَى ، وَكَذَا إذَا قَالَ لَيْسَ لَك عَلَيَّ شَيْءٌ قَطُّ لِأَنَّ التَّوْفِيقَ أَظْهَرُ ( وَلَوْ قَالَ مَا كَانَ لَك عَلَيَّ شَيْءٌ قَطُّ وَلَا أَعْرِفُك لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ عَلَى الْقَضَاءِ ) وَكَذَا عَلَى الْإِبْرَاءِ لِتَعَذُّرِ التَّوْفِيقِ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ بَيْنَ اثْنَيْنِ ، أَخْذٌ وَإِعْطَاءٌ وَقَضَاءٌ وَاقْتِضَاءٌ وَمُعَامَلَةٌ بِدُونِ الْمَعْرِفَةِ .
وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ تُقْبَلُ أَيْضًا لِأَنَّ الْمُحْتَجِبَ أَوْ الْمُخَدَّرَةَ قَدْ يُؤْذَى بِالشَّغَبِ عَلَى بَابِهِ فَيَأْمُرُ بَعْضَ وُكَلَائِهِ بِإِرْضَائِهِ وَلَا يَعْرِفُهُ ثُمَّ يَعْرِفُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَأَمْكَنَ التَّوْفِيقُ .

( قَوْلُهُ وَمَنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ مَالًا ) مَعْلُومَ الْقَدْرِ وَمَا تَصِحُّ بِهِ الدَّعْوَى ( فَقَالَ ) الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ( مَا كَانَ لَك عَلَيَّ شَيْءٌ قَطُّ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى أَلْفٍ وَأَقَامَ هُوَ بَيِّنَةً عَلَى الْقَضَاءِ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ ، وَكَذَلِكَ ) لَوْ أَقَامَهَا ( عَلَى الْإِبْرَاءِ .
وَقَالَ زُفَرُ لَا تُقْبَلُ ) وَنُقِلَ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى ( لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَتْلُو الْوُجُوبَ وَقَدْ أَنْكَرَ الْوُجُوبَ ) حَيْثُ قَالَ مَا كَانَ لَك عَلَيَّ شَيْءٌ قَطُّ ، فَإِذَا أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى أَنَّهُ قَضَاهُ نَاقَضَ ( وَلَنَا أَنَّ التَّوْفِيقَ مُمْكِنٌ لِأَنَّ غَيْرَ الْحَقِّ قَدْ يُقْضَى دَفْعًا لِلشَّغَبِ ) وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَقٌّ ( وَيَبْرَأُ مِنْهُ وَ ) لِذَا ( يُقَالُ قَضَى بِبَاطِلٍ ، وَ ) أَيْضًا ( قَدْ يُصَالَحُ عَلَى شَيْءٍ فَيَثْبُتُ ثُمَّ يَقْضِي ، وَكَذَا لَوْ قَالَ لَيْسَ لَك عَلَيَّ شَيْءٌ قَطُّ لِأَنَّ التَّوْفِيقَ أَظْهَرُ ) لِأَنَّهُ نَفَى فِي الْحَالِ وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ النَّفْيَ مُطْلَقًا لِجَوَازِ الْقَضَاءِ أَوْ الْإِبْرَاءِ بَعْدَ اللُّزُومِ فَيَنْتَفِي فِي الْحَالِ بَعْدَ وُجُودِهِ ، وَهَذَا الْإِطْلَاقُ يَقْتَضِي قَبُولَ الْبَيِّنَةِ إذَا احْتَاجَ إلَى التَّوْفِيقِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى التَّوْفِيقِ .
وَفِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ شَرَطَ مُحَمَّدٌ دَعْوَى التَّوْفِيقِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ فَقِيلَ يُشْتَرَطُ الدَّعْوَى فِي الْكُلِّ وَيُحْمَلُ مَا سَكَتَ فِيهِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِيهِ حَتَّى قَالَ فِي الْأَقْضِيَةِ : لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُوَفِّقَ لِأَنَّهُ نُصِبَ لِفَصْلِ الْخُصُومَاتِ لَا لِإِنْشَائِهَا وَلِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَدْرِي مَا يُوَفِّقُ بِهِ الْمُدَّعِي .
وَفِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ : كَانَ وَالِدِي يُفْتِي بِأَنَّ التَّوْفِيقَ إذَا كَانَ مُمْكِنًا يَجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ التَّوْفِيقُ كَيْ لَا تَتَعَطَّلَ حُجَجُ الشَّرْعِ .
وَالتَّوَسُّطُ فِي هَذَا أَنَّ وَجْهَ التَّوْفِيقِ إذَا كَانَ ظَاهِرًا مُتَبَادِرًا يَجِبُ أَنْ يَسْمَعَ الْبَيِّنَةَ بِلَا تَوْفِيقِ الْمُدَّعِي كَقَوْلِهِ لَيْسَ لَك عَلَيَّ شَيْءٌ ثُمَّ أَقَامَهَا عَلَى أَنَّهُ

قَضَاهُ وَنَحْوُهُ ، وَإِنْ كَانَ مُتَكَلِّفًا لَا يَعْتَبِرُهُ الْقَاضِي وَاقِعًا مَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُدَّعِي ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ وَهَبَهَا لِي ثُمَّ أَنْكَرَهَا فَاشْتَرَيْتهَا ، وَكَذَا فِيمَا يَأْتِي فِي الْجَارِيَةِ لَمْ أَبِعْهَا لَهُ وَلَكِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً كَاذِبَةً بِالْبَيْعِ فَسَأَلْته أَنْ يُبْرِئَنِي مِنْ الْعُيُوبِ فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا فِي الْحَقِيقَةِ تَلْقِينٌ لِلْحُجَّةِ .
هَذَا ( فَلَوْ ) زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَ ( قَالَ مَا كَانَ لَك عَلَيَّ شَيْءٌ قَطُّ وَلَا أَعْرِفُك ) أَوْ قَالَ وَلَا رَأَيْتُك أَوْ قَالَ وَلَا جَرَى بَيْنِي وَبَيْنَك مُخَالَطَةٌ وَلَا أَخْذٌ وَلَا إعْطَاءٌ أَوْ مَا اجْتَمَعْت مَعَك فِي مَكَان وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ثُمَّ أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى الْقَضَاءِ أَوْ الْإِبْرَاءِ ( لَمْ تُقْبَلْ ) لِتَعَذُّرِ التَّوْفِيقِ ( وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ ) عَنْ أَصْحَابِنَا ( أَنَّهَا تُقْبَلُ أَيْضًا لِأَنَّ الْمُحْتَجِبَ أَوْ الْمُخَدَّرَةَ قَدْ يُؤْذَى بِالشَّغَبِ عَلَى بَابِهِ فَيَأْمُرُ بِإِرْضَائِهِ وَلَا يَعْرِفُهُ ثُمَّ يَعْرِفُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَأَمْكَنَ التَّوْفِيقُ ) فَعَلَى هَذَا قَالُوا يَجِبُ التَّفْصِيلُ ، فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِمَّنْ يَتَوَلَّى الْأَعْمَالَ بِنَفْسِهِ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ وَإِلَّا قُبِلَتْ .
وَفِي الشَّافِي : لَوْ قَالَ لَمْ أَدْفَعْ إلَيْهِ شَيْئًا ثُمَّ ادَّعَى الدَّفْعَ لَمْ يُسْمَعْ لِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَقُولَ لَمْ أَدْفَعْ إلَيْهِ شَيْئًا وَقَدْ دَفَعْته ، أَمَّا لَوْ ادَّعَى إقْرَارَهُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ أَوْ الْقَضَاءِ يَنْبَغِي أَنْ يَسْمَعَ لِأَنَّ الْمُنَاقِضَ هُوَ الَّذِي يَجْمَعُ بَيْنَ كَلَامَيْنِ وَهُنَا لَمْ يَجْمَعْ ، وَلِهَذَا لَوْ صَدَّقَهُ الْمُدَّعِي عِيَانًا لَا يَكُونُ مُنَاقِضًا ذَكَرَهُ التُّمُرْتَاشِيُّ .
وَقِيلَ تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْإِبْرَاءِ فِي هَذَا الْفَصْلِ بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ يَتَحَقَّقُ بِلَا مَعْرِفَةٍ .

قَالَ ( وَمَنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ أَنَّهُ بَاعَهُ جَارِيَتَهُ فَقَالَ لَمْ أَبِعْهَا مِنْك قَطُّ فَأَقَامَ الْمُشْتَرِي الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ فَوَجَدَ بِهَا أُصْبُعًا زَائِدَةً فَأَقَامَ الْبَائِعُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ بَرِئَ إلَيْهِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَةُ الْبَائِعِ ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهَا تُقْبَلُ اعْتِبَارًا بِمَا ذَكَرْنَا .
وَوَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ شَرْطَ الْبَرَاءَةِ تَغْيِيرٌ لِلْعَقْدِ مِنْ اقْتِضَاءِ وَصْفِ السَّلَامَةِ إلَى غَيْرِهِ فَيَسْتَدْعِي وُجُودَ الْبَيْعِ وَقَدْ أَنْكَرَهُ فَكَانَ مُنَاقِضًا ، بِخِلَافِ الدَّيْنِ لِأَنَّهُ قَدْ يُقْضَى وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا عَلَى مَا مَرَّ .

( قَوْلُهُ وَمَنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ أَنَّهُ بَاعَهُ جَارِيَةً فَقَالَ لَمْ أَبِعْهَا مِنْك قَطُّ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى شِرَائِهِ ) إيَّاهَا مِنْهُ فَقَبَضَهَا ( فَوَجَدَ بِهَا أُصْبُعًا زَائِدَةً ) أَوْ نَحْوَهُ مِنْ عَيْبٍ لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ لِيَعْلَمَ أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِ الْبَائِعِ وَأَرَادَ رَدَّهَا ( فَأَقَامَ الْبَائِعُ بَيِّنَةً أَنَّهُ بَرِئَ إلَيْهِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ لَمْ تُقْبَلْ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا تُقْبَلُ اعْتِبَارًا بِمَا ذَكَرْنَا ) يَعْنِي التَّوْفِيقَ فِي الدَّيْنِ .
وَقَوْلُهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ يُشِيرُ إلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ عَنْهُ ، وَلِذَا لَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ فِيهِ خِلَافًا بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، وَإِنَّمَا حَكَاهُ الْخَصَّافُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَوَجْهُ التَّوْفِيقِ هُنَا أَنْ يَقُولَ لَمْ يَكُنْ بَيْنَنَا بَيْعٌ ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا ادَّعَى عَلَيَّ الْبَيْعَ سَأَلْته أَنْ يُبْرِئَنِي مِنْ الْعَيْبِ فَأَبْرَأَنِي .
قَالَ شَارِحٌ : وَلِأَنَّ الْبَيْعَ غَيْرُ الْبَرَاءَةِ مِنْ الْعَيْبِ فَجُحُودُ أَحَدِهِمَا لَا يَمْنَعُ دَعْوَى الْآخَرِ ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ .
وَذُكِرَ فِي وَجْهِ التَّوْفِيقِ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْبَائِعُ وَكِيلًا عَنْ الْمَالِكِ فِي الْبَيْعِ فَكَانَ قَوْلُهُ لِلْمَالِكِ مَا بِعْتهَا لَك قَطُّ صِدْقًا فَإِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْبَرَاءَةِ مِنْ الْعُيُوبِ لَيْسَ مُنَاقِضًا ، وَالْوَجْهُ أَعَمُّ ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الدَّعْوَى عَلَى الْوَكِيلِ نَفْسِهِ لَا يُوَفِّقُ بِذَلِكَ .
وَنَظِيرُهُ مَا ذَكَرَ التُّمُرْتَاشِيُّ : أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى الشِّرَاءِ وَذُو الْيَدِ يُنْكِرُ ، ثُمَّ أَقَامَ الْمُنْكِرُ بَيِّنَةً عَلَى أَنَّ الْمُدَّعِيَ قَدْ رَدَّ الْبَيْعَ قُبِلَتْ ، وَلَا يُبْطِلُ إنْكَارُهُ الْبَيْعَ بَيِّنَتَهُ لِأَنَّهُ يَقُولُ أَخَذَهَا مِنِّي بِبَيِّنَةٍ كَاذِبَةٍ ثُمَّ اسْتَقَلْته فَأَقَالَنِي وَوَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ شَرْطَ الْبَرَاءَةِ تَغْيِيرٌ لِلْعَقْدِ مِنْ اقْتِضَائِهِ وَصْفَ السَّلَامَةِ إلَى غَيْرِهِ فَيَسْتَدْعِي وُجُودَ الْبَيْعِ وَقَدْ أَنْكَرَهُ فَكَانَ

مُنَاقِضًا ، بِخِلَافِ الدَّيْنِ لِأَنَّهُ قَدْ يُقْضَى وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا ) وَلَا يَخْفَى أَنَّ كُلًّا مِنْ وَجْهَيْ التَّوْفِيقِ الْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ يَدْفَعُ هَذَا .

قَالَ ( ذِكْرُ حَقٍّ كُتِبَ فِي أَسْفَلِهِ وَمَنْ قَامَ بِهَذَا الذِّكْرِ الْحَقِّ فَهُوَ وَلِيُّ مَا فِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، أَوْ كُتِبَ فِي شِرَاءٍ فَعَلَى فُلَانٍ خَلَاصُ ذَلِكَ وَتَسْلِيمُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بَطَلَ الذِّكْرُ كُلُّهُ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَالَا : إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ عَلَى الْخَلَاصِ وَعَلَى مَنْ قَامَ بِذِكْرِ الْحَقِّ ، وَقَوْلُهُمَا اسْتِحْسَانٌ ذَكَرَهُ فِي الْإِقْرَارِ ) لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَنْصَرِفُ إلَى مَا يَلِيهِ لِأَنَّ الذِّكْرَ لِلِاسْتِيثَاقِ ، وَكَذَا الْأَصْلُ فِي الْكَلَامِ الِاسْتِبْدَادُ وَلَهُ أَنَّ الْكُلَّ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ بِحُكْمِ الْعَطْفِ فَيُصْرَفُ إلَى الْكُلِّ كَمَا فِي الْكَلِمَاتِ الْمَعْطُوفَةِ مِثْلِ قَوْلِهِ عَبْدُهُ حُرٌّ وَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ وَعَلَيْهِ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ؛ وَلَوْ تَرَكَ فُرْجَةً قَالُوا : لَا يَلْتَحِقُ بِهِ وَيَصِيرُ كَفَاصِلِ السُّكُوتِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

( قَوْلُهُ ذِكْرُ حَقٍّ ) يَعْنِي صَكًّا فِي إقْرَارٍ بِدَيْنٍ ( قَالَ فِي آخِرِهِ : وَمَنْ قَامَ بِهَذَا الذِّكْرِ فَهُوَ وَلِيُّ مَا فِيهِ ) يَعْنِي مَنْ أَخْرَجَهُ كَانَ لَهُ وِلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ بِمَا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ ، ثُمَّ كَتَبَ ( إنْ شَاءَ اللَّهُ ) مُتَّصِلًا بِهَذِهِ الْكِتَابَةِ أَوْ صَكَّ شِرَاءٍ كَتَبَ فِيهِ وَمَا أَدْرَكَ فُلَانًا الْمُشْتَرِي مِنْ الدَّرَكِ فَعَلَى فُلَانٍ خُلَاصَةً إنْ شَاءَ اللَّهُ ( فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَبْطُلُ الصَّكُّ كُلُّهُ ) الدَّيْنُ فِي الْأَوَّلِ وَالشِّرَاءُ فِي هَذَا وَالْخَلَاصُ ( وَعِنْدَهُمَا كُلٌّ مِنْ الدَّيْنِ وَالشِّرَاءِ صَحِيحٌ ، وَقَوْلُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ يَنْصَرِفُ إلَى مَا يَلِيهِ ) وَهُوَ وَكَالَةُ مَنْ قَامَ بِهِ وَضَمَانُ الدَّرَكِ خَاصَّةً ( وَقَوْلُهُمَا اسْتِحْسَانٌ لَهُ أَنَّ الْكُلَّ بِوَاسِطَةِ الْعَطْفِ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ ) اتَّصَلَ بِهِ الِاسْتِثْنَاءُ ( فَيَنْصَرِفُ إلَى الْكُلِّ ) لِلِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ عَبْدُهُ حُرٌّ وَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ وَعَلَيْهِ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ يُبْطِلُ الْكُلَّ فَلَا يَقَعُ طَلَاقٌ وَلَا عَتَاقٌ وَلَا يَلْزَمُ نَذْرٌ ( وَلَهُمَا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَنْصَرِفُ إلَى مَا يَلِيهِ لِأَنَّ الذِّكْرَ لِلِاسْتِيثَاقِ ، وَكَذَا الْأَصْلُ فِي الْكَلَامِ الِاسْتِبْدَادُ ) فَقَامَ الْعِلْمُ بِالْمَقْصُودِ مِنْ كَتْبِ الصَّكِّ دَلَالَةً عَلَى قَصْرِ انْصِرَافِهِ إلَى الْأَخِيرِ ، هَذَا هُوَ الْعَادَةُ وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ الْحَادِثُ لَا عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُكْتَبُ لِلْإِبْطَالِ لِغَرَضٍ قَدْ يَتَّفِقُ .
وَظَاهِرُ الْوَجْهِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ أَنَّ إنْ شَاءَ اللَّهُ أُجْرِيَ بِالِاتِّفَاقِ مَجْرَى الِاسْتِثْنَاءِ ، غَيْرَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ خَالَفَ مُقْتَضَاهُ وَهُوَ انْصِرَافُ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى مَا يَلِيهِ خَاصَّةً بِسَبَبِ الْعَطْفِ ، وَهُمَا سَلَّمَا ذَلِكَ لَوْلَا عُرُوضُ فَهْمِ الْغَرَضِ مِنْ كُتُبِهِ وَهُوَ بَعِيدٌ ، إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يُتَصَوَّرْ وُجُودُ جُمَلٍ مُتَعَدِّدَةٍ بِبَعْضِهَا اسْتِثْنَاءٌ فَيَنْصَرِفُ إلَى الْأَخِيرَةِ لِأَنَّ وُجُودَ الْجُمَلِ الْمُتَعَدِّدَةِ إنَّمَا يَكُونُ

بِالْعَطْفِ ، فَإِذَا كَانَ الْعَطْفُ يُصَيِّرُهَا كَوَاحِدٍ لَزِمَ فِي كُلِّ اسْتِثْنَاءٍ مُتَّصِلٍ بِجُمَلٍ مَنْسُوقٍ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ أَنْ يَنْصَرِفَ إلَى الْكُلِّ وَيَسْتَحِيلَ وُجُودُ الْمَسْأَلَةِ ، بَلْ الْوَجْهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ شَرْطٌ ، وَحُكْمُ الشَّرْطِ إذَا تَعَقَّبَ جُمَلًا مَنْسُوقَةً بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ أَنْ يَنْصَرِفَ إلَى الْكُلِّ وَلِذَلِكَ لَمْ يَعْتِقْ وَلَمْ تَطْلُقْ وَلَمْ يَلْزَمْ النَّذْرُ فِيمَا ذَكَرْنَا ، فَمَشَى أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى حُكْمِهِ ، وَهُمَا أَخْرَجَا صُوَرَ كُتُبِ الصَّكِّ مِنْ عُمُومِهِ بِعَارِضٍ اقْتَضَى تَخْصِيصَ الصَّكِّ مِنْ عُمُومِ حُكْمِ الشَّرْطِ الْمُتَعَقِّبِ جُمَلًا مُتَعَاطِفَةً وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَلِذَا كَانَ قَوْلُهُمَا اسْتِحْسَانًا رَاجِحًا عَلَى قَوْلِهِ .
هَذَا إذَا كَانَ إنْ شَاءَ اللَّهُ مَكْتُوبًا مُتَّصِلًا بِالْكِتَابَةِ ، فَلَوْ فَصَلَ بِبَيَاضٍ وَهُوَ الْفُرْجَةُ صَارَ كَفَاصِلِ السُّكُوتِ فَلَا يَعْمَلُ شَيْئًا اتِّفَاقًا .
وَقَدْ أَوْرَدَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكْتُبْ إنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَبْطُلْ شَيْءٌ ، وَيَلْزَمُهُ صِحَّةُ الْوَكَالَةِ لِلْمَجْهُولِ بِالْخُصُومَةِ فِي قَوْلِهِ وَمَنْ قَامَ بِهَذَا الذِّكْرِ فَهُوَ وَلِيُّ مَا فِيهِ ، وَتَوْكِيلُ الْمَجْهُولِ لَا يَصِحُّ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ الْكِتَابَةِ إثْبَاتُ رِضَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِتَوْكِيلِ مَنْ يُوَكِّلُهُ الْمُدَّعِي ، فَلَا يَمْتَنِعُ الْمَدْيُونُ عَنْ سَمَاعِ خُصُومَةِ الْوَكِيلِ بِالْخُصُومَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، فَإِنَّ التَّوْكِيلَ بِالْخُصُومَةِ لَا يَصِحُّ إلَّا بِرِضَا الْخَصْمِ عِنْدَهُ .
وَدَفَعَ بِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ عَلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ بِهَذَا يَثْبُتُ الرِّضَا بِتَوْكِيلِ وَكِيلٍ مَجْهُولٍ ، وَالرِّضَا بِتَوْكِيلِ وَكِيلٍ مَجْهُولٍ بَاطِلٌ فَلَا يُفِيدُ عَلَى قَوْلِهِ أَيْضًا .
وَقِيلَ بَلْ فَائِدَتُهُ التَّحَرُّزُ عَنْ قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى فَإِنَّهُ لَا يُصَحِّحُ التَّوْكِيلَ بِالْخُصُومَةِ بِلَا رِضَا الْخَصْمِ إلَّا إذَا وُجِدَ الرِّضَا بِتَوْكِيلِ وَكِيلٍ مَجْهُولٍ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ ، لَكِنْ ذُكِرَ فِي كُتُبِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ

أَنَّ عِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ بِغَيْرِ رِضَا الْخَصْمِ مُطْلَقًا .

( فَصْلٌ فِي الْقَضَاءِ بِالْمَوَارِيثِ ) قَالَ ( وَإِذَا مَاتَ نَصْرَانِيٌّ فَجَاءَتْ امْرَأَتُهُ مُسْلِمَةً وَقَالَتْ أَسْلَمْت بَعْدَ مَوْتِهِ وَقَالَتْ الْوَرَثَةُ أَسْلَمَتْ قَبْلَ مَوْتِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَرَثَةِ ) وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ : الْقَوْلُ قَوْلُهَا لِأَنَّ الْإِسْلَامَ حَادِثٌ فَيُضَافُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ .
وَلَنَا أَنَّ سَبَبَ الْحِرْمَانِ ثَابِتٌ فِي الْحَالِ فَيَثْبُتُ فِيمَا مَضَى تَحْكِيمًا لِلْحَالِ كَمَا فِي جَرَيَانِ مَاءِ الطَّاحُونَةِ ؛ وَهَذَا ظَاهِرٌ نَعْتَبِرُهُ لِلدَّفْعِ ؛ وَمَا ذَكَرَهُ يَعْتَبِرُهُ لِلِاسْتِحْقَاقِ ؛ وَلَوْ مَاتَ الْمُسْلِمُ وَلَهُ امْرَأَةٌ نَصْرَانِيَّةٌ فَجَاءَتْ مُسْلِمَةً بَعْدَ مَوْتِهِ وَقَالَتْ أَسْلَمْت قَبْلَ مَوْتِهِ وَقَالَتْ الْوَرَثَةُ أَسْلَمَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمْ أَيْضًا ، وَلَا يُحَكَّمُ الْحَالُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ وَهِيَ مُحْتَاجَةٌ إلَيْهِ ، أَمَّا الْوَرَثَةُ فَهُمْ الدَّافِعُونَ وَيَشْهَدُ لَهُمْ ظَاهِرُ الْحُدُوثِ أَيْضًا .

فَصْلٌ فِي الْقَضَاءِ بِالْمَوَارِيثِ ) ( وَإِذَا مَاتَ نَصْرَانِيٌّ فَجَاءَتْ امْرَأَتُهُ مُسْلِمَةً وَقَالَتْ أَسْلَمْت بَعْدَ مَوْتِهِ ) فَأَنَا أَسْتَحِقُّ فِي مِيرَاثِهِ ( وَقَالَتْ الْوَرَثَةُ ) بَلْ ( أَسْلَمْت قَبْلَ مَوْتِهِ ) فَلَا مِيرَاثَ لَك ( فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَرَثَةِ ) كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ بَدَلُ قَوْلِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَرَثَةِ لَا تُصَدَّقُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ مَنْ كَانَ الْقَوْلُ لَهُ يَكُونُ مَعَ يَمِينِهِ ، وَلَا حَلِفَ عَلَيْهِمْ إلَّا إنْ ادَّعَتْ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ كُفْرَهَا بَعْدَ مَوْتِهِ فَلَهَا أَنْ تُحَلِّفَهُمْ عَلَى الْعِلْمِ ( وَقَالَ زُفَرُ : الْقَوْلُ لَهَا لِأَنَّ الْإِسْلَامَ حَادِثٌ فَ ) الظَّاهِرُ ( إضَافَتُهُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ .
وَلَنَا أَنَّ سَبَبَ الْحِرْمَانِ ) مِنْ الْمِيرَاثِ ( ثَابِتٌ فِي الْحَالِ فَيَثْبُتُ فِيمَا مَضَى تَحْكِيمًا لِلْحَالِ كَمَا فِي جَرَيَانِ مَاءِ الطَّاحُونَةِ وَهَذَا ظَاهِرٌ ) هُوَ اسْتِصْحَابٌ : أَعْنِي اسْتِصْحَابَ الْمَاضِي لِلْحَالِ ( نَعْتَبِرُهُ لِلدَّفْعِ ، وَمَا ذَكَرَهُ ) اسْتِصْحَابُ هُوَ عَكْسُ ذَلِكَ لِأَنَّ الِاسْتِصْحَابَ يَكُونُ مِنْ الْمَاضِي لِلْحَالِ وَمِنْ الْحَالِ إلَى الْمَاضِي ، وَلَكِنَّهُ ( اعْتَبَرَهُ لِلِاسْتِحْقَاقِ ) وَلَيْسَ حُكْمُ الِاسْتِصْحَابِ كَذَلِكَ ، وَالْمُرَادُ بِجَرَيَانِ مَاءِ الطَّاحُونَةِ مَا إذَا اخْتَلَفَ مَالِكُهَا مَعَ الْمُسْتَأْجِرِ إذَا طَالَبَهُ بِمُدَّةٍ فَقَالَ : كَانَ الْمَاءُ مُنْقَطِعًا حُكْمُ جَرَيَانِهِ فِي الْحَالِ ، فَإِذَا كَانَ مُنْقَطِعًا فِي الْحَالِ فَيُعْطَفُ عَلَى الْمَاضِي لِدَفْعِ اسْتِحْقَاقِ أُجْرَةِ الْمَاضِي فَكَذَا هَذَا ، وَالتَّعْبِيرُ بِالِاسْتِصْحَابِ أَحْسَنُ مِنْ التَّعْبِيرِ بِالظَّاهِرِ ، فَإِنَّ مَا يَثْبُتُ بِهِ الِاسْتِحْقَاقُ كَثِيرًا مَا يَكُونُ ظَاهِرًا كَأَخْبَارِ الْآحَادِ قَدْ أَثْبَتَ مَا يُوجِبُ اسْتِحْقَاقًا ( وَلَوْ مَاتَ الْمُسْلِمُ وَلَهُ امْرَأَةٌ نَصْرَانِيَّةٌ فَجَاءَتْ مُسْلِمَةً بَعْدَ مَوْتِهِ وَقَالَتْ أَسْلَمْت قَبْلَ مَوْتِهِ وَقَالَتْ الْوَرَثَةُ أَسْلَمْت بَعْدَ مَوْتِهِ فَالْقَوْلُ لَهُمْ أَيْضًا وَلَا يُحَكَّمُ الْحَالُ ) هُنَا (

لِأَنَّ الِاسْتِصْحَابَ لِلِاسْتِحْقَاقِ وَهِيَ مُحْتَاجَةٌ إلَيْهِ ، أَمَّا الْوَرَثَةُ فَهُمْ الدَّافِعُونَ ) وَالِاسْتِصْحَابُ يَكْفِي لَهُمْ فِي ذَلِكَ وَهُوَ اسْتِصْحَابُ مَا فِي الْمَاضِي مِنْ كُفْرِهَا إلَى مَا بَعْدَ مَوْتِهِ ، فَالْمَسْأَلَتَانِ مَبْنِيَّتَانِ عَلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّ الِاسْتِصْحَابَ اُعْتُبِرَ فِيهِمَا لِلدَّفْعِ لَا لِلِاسْتِحْقَاقِ .
فَإِنْ قِيلَ : اعْتِبَارُ الْحَالِ فِي مَاءِ الطَّاحُونَةِ شَاهِدًا لِلْمَاضِي عُمِلَ بِإِثْبَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ بِالِاسْتِصْحَابِ فَإِنَّ بِهِ يَسْتَحِقُّ مَالِكُهَا أَجْرَ الْمَاضِي إذَا كَانَ جَارِيًا .
أُجِيبَ بِأَنَّ هُنَاكَ اتَّفَقَا عَلَى وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَهُوَ الْعَقْدُ ، وَلَكِنْ اخْتَلَفَا فِي التَّأْكِيدِ ، وَالظَّاهِرُ يَصْلُحُ حُجَّةً لِلتَّأْكِيدِ .
فِي مَسْأَلَةِ الْمِيرَاثِ نَفْسُ السَّبَبِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَهُوَ الزَّوْجِيَّةُ مَعَ اتِّفَاقِ الزَّوْجَيْنِ فِي الدِّينِ عِنْدَ الْمَوْتِ .
وَاسْتُشْكِلَ بِمَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ إذَا مَاتَ وَتَرَكَ ابْنَيْنِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا مَاتَ أَبِي مُسْلِمًا وَقَدْ كُنْت مُسْلِمًا حَالَ حَيَاتِهِ وَقَالَ الْآخَرُ صَدَقْت وَأَنَا أَيْضًا أَسْلَمْت حَالَ حَيَاتِهِ وَكَذَّبَهُ الِابْنُ الْمُتَّفَقُ عَلَى إسْلَامِهِ وَقَالَ بَلْ أَسْلَمْت بَعْدَ مَوْتِهِ فَالْقَوْلُ لِلِابْنِ الْمُتَّفَقِ عَلَى إسْلَامِهِ ، وَلَمْ يُجْعَلْ الْحَالُ حُكْمًا عَلَى إسْلَامِهِ فِيمَا مَضَى مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ فِي الْحَالِ وَهُوَ الْبُنُوَّةُ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ إنَّمَا يُصَارُ لِمَا ذُكِرَ مِنْ الطَّرِيقِ إذَا اخْتَلَفَا فِي تَمَامِ الْمَاضِي فِي ثُبُوتِ مَا هُوَ ثَابِتٌ لِلْحَالِ ، وَأَمَّا إذَا اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارٍ مِنْهُ فَلَا يُصَارُ إلَى تَحْكِيمِ الْحَالِ وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ قَائِمًا ، حَتَّى إنَّ فِي مَسْأَلَةِ الطَّاحُونَةِ إذَا اتَّفَقَا عَلَى الِانْقِطَاعِ فِي بَعْضِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ بِأَنْ قَالَ الْمُسْتَأْجِرُ كَانَ الْمَاءُ مُنْقَطِعًا شَهْرَيْنِ وَقَالَ الْآخَرُ شَهْرًا فَالْقَوْلُ لِلْمُسْتَأْجِرِ مَعَ يَمِينِهِ مُنْقَطِعًا كَانَ الْمَاءُ أَوْ جَارِيًا فِي الْحَالِ لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي جَرَيَانِ مُقَدَّرٍ

هُوَ غَيْرُ ثَابِتٍ لِلْحَالِ .
وَفِي مَسْأَلَةِ الِابْنَيْنِ وَمَسْأَلَةِ الْكِتَابِ الِاخْتِلَافُ وَاقِعٌ فِي مِقْدَارِ مُدَّةِ الْإِسْلَامِ لَا فِي نَفْسِ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ كَانَ أَوْ لَمْ يَكُنْ وَالثَّابِتُ فِي الْحَالِ نَفْسُ الْإِسْلَامِ لَا إسْلَامٌ مُقَدَّرٌ فَهَذَا هُوَ الْمَأْخَذُ فِي الْمَسْأَلَةِ .
وَذَكَرَ الْإِمَامُ التُّمُرْتَاشِيُّ مَسْأَلَةً وَهِيَ تَرُدُّ أَيْضًا شُبْهَةً عَلَى الْأَصْلِ : أَعْنِي كَوْنَ الِاسْتِحْقَاقِ لَا يَثْبُتُ بِالظَّاهِرِ ؛ وَهُوَ لَوْ ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ أَبَانَهَا فِي الْمَرَضِ فَصَارَ فَارًّا فَأَنَا أَرِثُ وَقَالَتْ الْوَرَثَةُ بَلْ فِي الصِّحَّةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا لِأَنَّهَا أَنْكَرَتْ الْمَانِعَ مِنْ الْإِرْثِ وَهُوَ الطَّلَاقُ فِي الصِّحَّةِ : يَعْنِي وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْمَانِعِ .

قَالَ ( وَمَنْ مَاتَ وَلَهُ فِي يَدِ رَجُلٍ أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً فَقَالَ الْمُسْتَوْدَعُ هَذَا ابْنُ الْمَيِّتِ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ فَإِنَّهُ يَدْفَعُ الْمَالَ إلَيْهِ ) لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّ مَا فِي يَدِهِ حَقُّ الْوَارِثِ خِلَافَةً فَصَارَ كَمَا إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ حَقُّ الْمُوَرِّثِ وَهُوَ حَيٌّ أَصَالَةً ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّ لِرَجُلٍ أَنَّهُ وَكِيلُ الْمُودِعِ بِالْقَبْضِ أَوْ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْهُ حَيْثُ لَا يُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِقِيَامِ حَقِّ الْمُودِعِ إذْ هُوَ حَيٌّ فَيَكُونُ إقْرَارًا عَلَى مَالِ الْغَيْرِ ، وَلَا كَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ ، بِخِلَافِ الْمَدْيُونِ إذَا أَقَرَّ بِتَوْكِيلِ غَيْرِهِ بِالْقَبْضِ لِأَنَّ الدُّيُونَ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا فَيَكُونُ إقْرَارًا عَلَى نَفْسِهِ فَيُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ ( فَلَوْ قَالَ الْمُودَعُ لِآخَرَ هَذَا ابْنُهُ أَيْضًا وَقَالَ الْأَوَّلُ لَيْسَ لَهُ ابْنٌ غَيْرِي قَضَى بِالْمَالِ لِلْأَوَّلِ ) لِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّ إقْرَارُهُ لِلْأَوَّلِ انْقَطَعَ يَدُهُ عَنْ الْمَالِ فَيَكُونُ هَذَا إقْرَارًا عَلَى الْأَوَّلِ فَلَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ لِلثَّانِي ، كَمَا إذَا كَانَ الْأَوَّلُ ابْنًا مَعْرُوفًا ، وَلِأَنَّهُ حِينَ أَقَرَّ لِلْأَوَّلِ لَا مُكَذِّبَ لَهُ فَصَحَّ ، وَحِينَ أَقَرَّ لِلثَّانِي لَهُ مُكَذِّبٌ فَلَمْ يَصِحَّ .

( قَوْلُهُ وَمَنْ مَاتَ وَلَهُ فِي يَدِ رَجُلٍ أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ ) مَثَلًا ( وَدِيعَةً فَأَقَرَّ الْمُسْتَوْدَعُ أَنَّهُ ابْنُ الْمَيِّتِ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ ) فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي عَلَيْهِ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ ( لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّ مَا فِي يَدِهِ حَقُّ الْوَارِثِ ) مِلْكٌ لَهُ ( خِلَافَةً فَهُوَ كَمَا إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ حَقُّ الْمُوَرِّثِ وَهُوَ حَيٌّ أَصَالَةً ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّ ) الْمُودَعُ ( لِرَجُلٍ أَنَّهُ وَكِيلُ الْمُودِعِ بِالْقَبْضِ ) أَيْ بِقَبْضِ الْوَدِيعَةِ ( أَوْ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ ) أَيْ اشْتَرَى الْوَدِيعَةَ الَّتِي فِي يَدِهِ مِنْ الْمُودِعِ ( حَيْثُ لَا يُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِقِيَامِ حَقِّ الْمُودِعِ ) وَمِلْكِهِ فِي الْوَدِيعَةِ الْآنَ ( إذْ هُوَ حَيٌّ فَيَكُونُ إقْرَارًا عَلَى مَالِ الْغَيْرِ ، وَلَا كَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ ) لِزَوَالِ مِلْكِهِ فَإِنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِمِلْكِهِ لِمَا فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ ثُبُوتِ مِلْكِ مَالِكٍ مُعَيَّنٍ فِيهِ لِلْحَالِ وَفِي فَصْلِ الشِّرَاءِ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَقَرَّ بِزَوَالِ مِلْكِ الْمُودِعِ لَكِنْ لَا يَنْفُذُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ : أَعْنِي الْمَالِكَ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إبْطَالَ مِلْكِهِ بِإِقْرَارِهِ فَصَارَ كَالْإِقْرَارِ بِالْوَكَالَةِ بِقَبْضِ الْوَدِيعَةِ ، ثُمَّ لَوْ دَفَعَ إلَى الَّذِي اعْتَرَفَ لَهُ بِالْوَكَالَةِ بِقَبْضِ الْوَدِيعَةِ هَلْ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهَا ؟ قِيلَ لَا لِأَنَّهُ يَصِيرُ سَاعِيًا فِي نَقْضِ مَا تَمَّ بِهِ .
وَقَالَ ظَهِيرُ الدِّينِ كَانَ وَالِدِي يَتَرَدَّدُ فِي جَوَابِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، وَلَوْ لَمْ يَدْفَعْ الْوَدِيعَةَ لِلَّذِي أَقَرَّ لَهُ بِالْوَكَالَةِ حَتَّى هَلَكَتْ قِيلَ يَضْمَنُهَا لِأَنَّهُ مَنَعَهَا مِنْ وَكِيلِ الْمُودِعِ فِي زَعْمِهِ فَهُوَ كَمَا لَوْ مَنَعَهَا مِنْ نَفْسِ الْمُودِعِ ، وَقِيلَ لَا لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الدَّفْعُ ( بِخِلَافِ الْمَدْيُونِ إذَا أَقَرَّ لِرَجُلٍ أَنَّهُ وَكِيلُ الدَّائِنِ بِقَبْضِ مَالِهِ عَلَيْهِ ) فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُقِرٍّ عَلَى مَالِ غَيْرِهِ ( إذًا الدُّيُونُ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا ) وَالْمِثْلُ مِلْكُ

الْمُقِرِّ ( فَإِنَّمَا أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ ) حَتَّى يَرْجِعَ عَلَيْهِ الدَّائِنُ إذَا لَمْ يَعْتَرِفْ بِالْوَكَالَةِ إذَا قَدِمَ ( فَيُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ .
وَلَوْ قَالَ الْمُودَعُ لِآخَرَ هَذَا ابْنُهُ أَيْضًا وَأَنْكَرَ الِابْنُ الْأَوَّلُ قُضِيَ بِالْمَالِ لِلْأَوَّلِ ) وَحْدَهُ ( لِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّ إقْرَارُهُ لِلْأَوَّلِ ) عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ ( انْقَطَعَ يَدُهُ عَلَى الْمَالِ فَيَكُونُ إقْرَارًا عَلَى ) الْغَيْرِ وَهُوَ الِابْنُ ( الْأَوَّلُ فَلَا يَصِحُّ كَمَا لَوْ كَانَ الْأَوَّلُ ابْنًا مَعْرُوفًا ، وَلِأَنَّهُ حِينَ أَقَرَّ لِلْأَوَّلِ لَا مُكَذِّبَ لَهُ فَصَحَّ ، وَحِينَ أَقَرَّ لِلثَّانِي لَهُ مُكَذِّبٌ ) وَهُوَ الْأَوَّلُ ( فَلَا يَصِحُّ ) وَهَلْ يَضْمَنُ لِلِابْنِ الثَّانِي شَيْئًا .
قَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ : إنَّهُ لَا يَغْرَمُ الْمُودَعُ لِلِابْنِ الثَّانِي شَيْئًا بِإِقْرَارِهِ لَهُ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ لَمْ يَثْبُتْ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ التَّلَفُ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ مُجَرَّدِ ثُبُوتِ الْبُنُوَّةِ ثُبُوتُ الْإِرْثِ فَلَا يَكُونُ الْإِقْرَارُ بِالْبُنُوَّةِ إقْرَارًا بِالْمَالِ .
وَفِي الدِّرَايَةِ وَالنِّهَايَةِ وَغَيْرِهِمَا يَضْمَنُ الْمُودَعُ نِصْفَ مَا أَدَّى لِلِابْنِ الثَّانِي الَّذِي أَقَرَّ لَهُ إذَا دَفَعَ الْوَدِيعَةَ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي .
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ وَأَحْمَدُ فِي قَوْلٍ ، وَفِي قَوْلٍ لَا يَضْمَنُ لِأَنَّ إقْرَارَهُ لِلثَّانِي صَادَفَ مِلْكَ الْغَيْرِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ شَيْءٌ .
وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ : فَإِنْ قِيلَ : كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَضْمَنَ الْمُودَعُ لِلِابْنِ الثَّانِي الَّذِي أَقَرَّ لَهُ أَنَّهُ ابْنُ الْمَيِّتِ كَمَا لَوْ بَدَأَ الْمُودَعُ بِالْإِقْرَارِ لِغَيْرِ الْقَاضِي الْمَعْزُولِ الْوَدِيعَةِ ثُمَّ أَقَرَّ بِتَسْلِيمِ الْقَاضِي إلَيْهِ ، وَقَدْ ذُكِرَ فِي أَدَبِ الْقَاضِي مِنْ الْكِتَابِ أَنَّهُ يَضْمَنُ لِلْقَاضِي قِيمَتَهُ .
قُلْنَا : هُنَا أَيْضًا يَضْمَنُ إذَا دَفَعَ الْوَدِيعَةَ إلَى الِابْنِ الْأَوَّلِ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي نِصْفَ مَا أَدَّى إلَى الْأَوَّلِ انْتَهَى .
وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ .
وَاخْتُلِفَ فِي اللُّقَطَةِ إذَا أَقَرَّ

الْمُلْتَقِطُ بِهَا لِرَجُلٍ هَلْ يُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ ؟ مَذْكُورٌ فِي اللُّقَطَةِ .
وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : لَوْ ادَّعَى الْوِصَايَةَ وَصَدَّقَهُ مُودِعُ الْمَيِّتِ أَوْ الْغَاصِبُ مِنْهُ لَا يُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ ، هَذَا كُلُّهُ فِي الِابْنِ ، فَلَوْ أَقَرَّ الْمُودَعُ لِرَجُلٍ أَنَّهُ أَخُو الْمَيِّتِ شَقِيقُهُ وَأَنَّهُ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ وَهُوَ يَدَّعِيهِ أَوْ لِمَنْ ادَّعَى وَصِيَّةً بِأَلْفٍ مَثَلًا أَنَّهُ صَادِقٌ فَالْقَاضِي يَتَأَنَّى فِي ذَلِكَ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْأَخِ بِشَرْطِ عَدَمِ الِابْنِ ، بِخِلَافِ الِابْنِ لِأَنَّهُ وَارِثٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ غَيْرَ أَنَّهُ احْتَمَلَ مُشَارَكَةَ غَيْرِهِ وَهُوَ مَوْهُومٌ وَالْبِنْتُ كَالِابْنِ وَفِي الْوَصِيَّةِ هُوَ مُقِرٌّ عَلَى الْغَيْرِ لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِخَلَفٍ عَنْ الْمَيِّتِ ، إذَا تَأَنَّى إنْ حَضَرَ وَارِثٌ آخَرُ دَفَعَ الْمَالَ إلَيْهِ لِأَنَّهُ خَلَفٌ عَنْ الْمَيِّتِ وَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي الْوَصِيَّةِ ، وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ وَارِثٌ آخَرُ أَعْطَى كُلَّ مُدَّعٍ مَا أَقَرَّ بِهِ لَكِنْ بِكَفِيلٍ ثِقَةٍ ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ كَفِيلًا أَعْطَاهُ الْمَالَ وَضَمِنَهُ إنْ كَانَ ثِقَةً حَتَّى لَا يَهْلَكُ أَمَانَةً ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ تَلَوَّمَ الْقَاضِي حَتَّى يَظْهَرَ أَنَّهُ لَا وَارِثَ لِلْمَيِّتِ ، أَوْ أَكْبَرُ رَأْيِهِ ذَلِكَ ثُمَّ يُعْطِيهِ الْمَالَ وَيَضْمَنُهُ ، وَلَمْ يُقَدِّرْ مُدَّةَ التَّلَوُّمِ بِشَيْءٍ بَلْ مَوْكُولٌ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي وَهَذَا أَشْبَهَ بِأَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا مُقَدَّرٌ بِحَوْلٍ ، هَكَذَا حَكَى الْخِلَافَ فِي الْخُلَاصَةِ عَنْ الْأَقْضِيَةِ .
قَالَ : وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ مُقَدَّرٌ بِشَهْرٍ ، هَذَا إذَا قَالَ ذُو الْيَدِ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ ، فَإِنْ قَالَ لَهُ وَارِثٌ وَلَا أَدْرَى أَمَاتَ أَمْ لَا لَا يَدْفَعُ إلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ شَيْئًا لَا قَبْلَ التَّلَوُّمِ وَلَا بَعْدَهُ حَتَّى يُقِيمَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً تَقُولُ لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ ، وَكُلُّ مَنْ يَرِثُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ كَالْأَخِ وَالْأَبِ وَالْأُمِّ وَالْبِنْتِ كَالِابْنِ ؛ وَلَوْ ادَّعَى أَنَّهُ أَخُو الْغَائِبِ وَأَنَّهُ

مَاتَ وَهُوَ وَارِثُهُ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ ، أَوْ ادَّعَى أَنَّهُ ابْنُهُ أَوْ أَبُوهُ أَوْ مَوْلَاهُ أَعْتَقَهُ أَوْ كَانَتْ امْرَأَةً وَادَّعَتْ أَنَّهَا عَمَّةُ الْمَيِّتِ أَوْ خَالَتُهُ أَوْ بِنْتُ أَخِيهِ وَقَالَ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرِي وَادَّعَى آخَرُ أَنَّهُ زَوْجٌ أَوْ زَوْجَةٌ لِلْمَيِّتِ أَوْ أَنَّ الْمَيِّتَ أَوْصَى لَهُ بِجَمِيعِ مَالِهِ أَوْ ثُلُثِهِ وَصَدَّقَهُمَا ذُو الْيَدِ وَقَالَ لَا أَدْرِي لِلْمَيِّتِ وَارِثًا غَيْرَهُمَا أَوْ لَا لَمْ يَكُنْ لِمُدَّعِي الْوَصِيَّةِ شَيْءٌ بِهَذَا الْإِقْرَارِ ، وَيَدْفَعُ الْقَاضِي إلَى الْأَبِ وَالْأُمِّ وَالْأَخِ وَمَوْلَى الْعَتَاقَةِ أَوْ الْعَمَّةِ أَوْ الْخَالَةِ أَوْ بِنْتِ الْأَخِ إذَا انْفَرَدَ ، أَمَّا عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ فَلَا يُزَاحِمُ مُدَّعِي الْبُنُوَّةِ مُدَّعِيَ الْأُخُوَّةِ لَكِنْ مُدَّعِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إذَا زَاحَمَهُ مُدَّعِي الزَّوْجِيَّةِ أَوْ الْوَصِيَّةِ بِالْكُلِّ أَوْ الثُّلُثِ مُسْتَدِلًّا بِإِقْرَارِ ذِي الْيَدِ فَمُدَّعِي الْأُخُوَّةِ أَوْ الْبُنُوَّةِ أَوْلَى بَعْدَمَا يُسْتَحْلَفُ الِابْنُ مَا هَذِهِ زَوْجَةُ الْمَيِّتِ أَوْ مُوصًى لَهُ ، هَذَا إذَا لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ أَوْ الْوَصِيَّةِ ، فَإِنْ قَامَ أَخَذَ بِهَا ، وَهَلْ يُؤْخَذُ مِنْهُ الْكَفِيلُ ؟ تَقَدَّمَ ، وَلَوْ أَقَرَّ ذُو الْيَدِ أَنَّ الْمَيِّتَ أَقَرَّ أَنَّ هَذَا ابْنُهُ أَوْ أَبُوهُ أَوْ مَوْلَاهُ أَعْتَقَهُ أَوْ أَوْصَى لَهُ بِالْكُلِّ أَوْ ثُلُثِهِ ، أَوْ أَنَّ هَذِهِ زَوْجَتُهُ فَالْمَالُ لِلِابْنِ وَالْمَوْلَى كَمَا لَوْ عَايَنَاهُ أَقَرَّ ، بِخِلَافِ النِّكَاحِ وَوَلَاءِ الْمُوَالَاةِ وَالْوَصِيَّةِ لِأَنَّ ذَا الْيَدِ أَقَرَّ بِسَبَبٍ مُنْتَقَضٍ

قَالَ ( وَإِذَا قُسِمَ الْمِيرَاثُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ وَالْوَرَثَةِ فَإِنَّهُ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ كَفِيلٌ وَلَا مِنْ وَارِثٍ وَهَذَا شَيْءٌ احْتَاطَ بِهِ بَعْضُ الْقُضَاةِ وَهُوَ ظُلْمٌ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَالَا : يُؤْخَذُ الْكَفِيلُ ، وَالْمَسْأَلَةُ فِيمَا إذَا ثَبَتَ الدَّيْنُ وَالْإِرْثُ بِالشَّهَادَةِ وَلَمْ يَقُلْ الشُّهُودُ لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ .
لَهُمَا أَنَّ الْقَاضِيَ نَاظِرٌ لِلْغُيَّبِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ فِي التَّرِكَةِ وَارِثًا غَائِبًا أَوْ غَرِيمًا غَائِبًا ، لِأَنَّ الْمَوْتَ قَدْ يَقَعُ بَغْتَةً فَيُحْتَاطُ بِالْكَفَالَةِ .
كَمَا إذَا دَفَعَ الْآبِقَ وَاللُّقَطَةَ إلَى صَاحِبِهِ وَأَعْطَى امْرَأَةَ الْغَائِبِ النَّفَقَةَ مِنْ مَالِهِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ حَقَّ الْحَاضِرِ ثَابِتٌ قَطْعًا ، أَوْ ظَاهِرًا فَلَا يُؤَخَّرُ لِحَقٍّ مَوْهُومٍ إلَى زَمَانِ التَّكْفِيلِ كَمَنْ أَثْبَتَ الشِّرَاءَ مِمَّنْ فِي يَدِهِ أَوْ أَثْبَتَ الدَّيْنَ عَلَى الْعَبْدِ حَتَّى بِيعَ فِي دَيْنِهِ لَا يَكْفُلُ ، وَلِأَنَّ الْمَكْفُولَ لَهُ مَجْهُولٌ فَصَارَ كَمَا إذَا كُفِلَ لِأَحَدِ الْغُرَمَاءِ بِخِلَافِ النَّفَقَةِ لِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ ثَابِتٌ وَهُوَ مَعْلُومٌ .
وَأَمَّا الْآبِقُ وَاللُّقَطَةُ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ عَلَى الْخِلَافِ .
وَقِيلَ إنْ دَفَعَ بِعَلَامَةِ اللُّقَطَةِ أَوْ إقْرَارِ الْعَبْدِ يَكْفُلُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الْحَقَّ غَيْرُ ثَابِتٍ ، وَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يُمْنَعَ .
وَقَوْلُهُ ظُلْمٌ : أَيْ مَيْلٌ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ، وَهَذَا يَكْشِفُ عَنْ مَذْهَبِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ لَا كَمَا ظَنَّهُ الْبَعْضُ .

( قَوْلُهُ وَإِذَا قُسِمَ الْمِيرَاثُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ ) أَوْ بَيْنَ الْوَرَثَةِ ( لَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ كَفِيلٌ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ( وَ ) قَالَ ( هَذَا شَيْءٌ احْتَاطَ فِيهِ بَعْضُ الْقُضَاةِ وَهُوَ ظُلْمٌ ) كَأَنَّهُ عَنَى بِهِ ابْنَ أَبِي لَيْلَى فَإِنَّهُ كَانَ يَفْعَلُهُ بِالْكُوفَةِ ( وَقَالَا : يُؤْخَذُ الْكَفِيلُ ) أَيْ لَا يَدْفَعُ إلَيْهِمْ حَتَّى يَكْفُلُوا ( وَالْمَسْأَلَةُ فِيمَا إذَا ثَبَتَ الدَّيْنُ وَالْإِرْثُ بِالشَّهَادَةِ وَلَمْ يَقُلْ الشُّهُودُ لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ ) أَمَّا إذَا ثَبَتَا بِالْإِقْرَارِ فَيُؤْخَذُ الْكَفِيلُ بِالِاتِّفَاقِ ، وَإِذَا قَالَ الشُّهُودُ لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ لَا يُكْفَلُ بِالِاتِّفَاقِ وَلَا يَتَأَنَّى الْقَاضِي سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْوَارِثُ مِمَّنْ يَحْجُبُ أَوْ لَا يَحْجُبُ ، وَلَوْ قَالُوا لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ فَكَذَلِكَ اسْتِحْسَانًا .
ثُمَّ مَا ذُكِرَ مِنْ نَفْيِ الدَّفْعِ إذَا لَمْ يَقُلْ الشُّهُودُ لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا آخَرَ هُوَ فِيمَا إذَا كَانَ وَارِثًا لَا يُحْجَبُ بِغَيْرِهِ ، وَتَفْصِيلُ الْمَسْأَلَةِ فِي أَدَبِ الْقَاضِي لِلصَّدْرِ الشَّهِيدِ قَالَ : وَإِذَا حَضَرَ الرَّجُلُ وَادَّعَى دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهَا كَانَتْ لِأَبِيهِ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَهُ وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً وَلَمْ يَشْهَدُوا عَلَى عَدَدِ الْوَرَثَةِ وَلَمْ يَعْرِفُوهُمْ بَلْ قَالُوا وَتَرَكَهَا لِوَرَثَتِهِ لَا تُقْبَلُ وَلَا يَدْفَعُ إلَيْهِ شَيْئًا حَتَّى يُقِيمَ بَيِّنَةً عَلَى عَدَدِ الْوَرَثَةِ لِيَصِيرَ نَصِيبُ هَذَا الْوَاحِدِ مَعْلُومًا ، وَالْقَضَاءُ بِغَيْرِ الْمَعْلُومِ مُتَعَذِّرٌ .
وَهُنَا ثَلَاثَةُ فُصُولٍ : الْأَوَّلُ هَذَا ، وَهُوَ مَا إذَا لَمْ يَشْهَدُوا عَلَى عَدَدِ الْوَرَثَةِ وَلَمْ يَعْرِفُوهُمْ .
وَالثَّانِي أَنْ يَشْهَدُوا أَنَّهُ ابْنُهُ وَوَارِثُهُ لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بِجَمِيعِ التَّرِكَةِ بِلَا تَلَوُّمٍ ، الثَّالِثُ أَنْ يَشْهَدُوا أَنَّهُ ابْنُ فُلَانٍ مَالِكِ هَذِهِ الدَّارِ وَلَمْ يَشْهَدُوا عَلَى عَدَدِ الْوَرَثَةِ وَلَمْ يَقُولُوا لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ فَإِنَّ

الْقَاضِيَ يَتَلَوَّمُ زَمَانًا عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى ، فَإِنْ حَضَرَ وَارِثٌ آخَرُ قَسَمَ الْمَالَ بَيْنَهُمْ ، وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ دَفَعَ الدَّارَ إلَيْهِ وَيَأْخُذُ كَفِيلًا عِنْدَهُمَا .
وَلَا يَأْخُذُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثُمَّ إنَّمَا يَدْفَعُ إلَى الْوَارِثِ الَّذِي حَضَرَ جَمِيعَ الْمَالِ إذَا كَانَ مِمَّنْ لَا يُحْجَبُ كَالْأَبِ وَالِابْنِ ، فَإِنْ كَانَ يُحْجَبُ بِغَيْرِهِ كَالْجَدِّ وَالْأَخِ وَالْعَمِّ لَا يَدْفَعُ إلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُحْجَبُ حَجْبَ نُقْصَانٍ كَالزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ يَدْفَعُ إلَيْهِ أَقَلَّ النَّصِيبَيْنِ عِنْدَ أَبِي يُوسُف ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ أَوْفَرَهُمَا وَهُوَ النِّصْفُ لِلزَّوْجِ وَالرُّبْعُ لِلزَّوْجَةِ .
وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ مُضْطَرِبٌ .
هَذَا إذَا ثَبَتَ الدَّيْنُ وَالْإِرْثُ بِالشَّهَادَةِ ، فَأَمَّا إذَا ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ فَيُؤْخَذُ الْكَفِيلُ بِالِاتِّفَاقِ .
وَمِنْ صُوَرِهِ مَا إذَا أَقَرَّ الْمُودَعُ لِرَجُلٍ أَنَّهُ ابْنُ الْمَيِّتِ وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ فَالْقَاضِي يَتَأَنَّى عَلَى حَسَبِ مَا يَرَى وَلَا تَقْدِيرَ فِيهِ ، وَهُوَ أَلْيَقُ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ أَنْ يَنْتَظِرَ زَمَانًا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ ابْنٌ آخَرُ لَظَهَرَ ، وَقَدَّرَهُ الطَّحَاوِيُّ بِعَامٍ ، فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ وَارِثٌ آخَرُ دَفَعَ الْمَالَ وَأَخَذَ كَفِيلًا لِاحْتِمَالِ أَنْ يَظْهَرَ وَارِثٌ آخَرُ .
قِيلَ هَذَا قَوْلُهُمَا ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَأْخُذُ ، وَقِيلَ يَأْخُذُ عِنْدَ الْكُلِّ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْإِقْرَارِ دُونَ الثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ ( لَهُمَا أَنَّ الْقَاضِيَ نَاظِرٌ لِلْغُيَّبِ ) أَيْ مَأْمُورٌ بِالنَّظَرِ لَهُمْ ( وَالظَّاهِرُ أَنَّ فِي التَّرِكَةِ وَارِثًا غَائِبًا أَوْ غَرِيمًا غَائِبًا ، لِأَنَّ الْمَوْتَ قَدْ يَقَعُ بَغْتَةً فَيُحْتَاطُ بِالْكَفَالَةِ ، كَمَا إذَا دَفَعَ ) الْقَاضِي ( الْآبِقَ وَاللُّقَطَةَ إلَى ) الَّذِي أَثْبَتَ عِنْدَهُ أَنَّهُ ( صَاحِبُهُ ) أَخَذَ كَفِيلًا لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا وَهُوَ أَنَّ الْقَاضِيَ مَأْمُورٌ بِالنَّظَرِ لِكُلِّ مَنْ عَجَزَ عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ ( وَ ) كَذَا

إذَا ( أَعْطَى امْرَأَةَ الْغَائِبِ ) يَعْنِي إذَا كَانَتْ تَسْتَنْفِقُ : أَيْ تَطْلُبُ ( النَّفَقَةَ ) وَزَوْجُهَا غَائِبٌ وَلَهُ فِي يَدِ رَجُلٍ وَدِيعَةٌ وَهُوَ مُقِرٌّ بِالزَّوْجِيَّةِ الْوَدِيعَةِ فَالْقَاضِي يُعْطِيهَا ( مِنْ مَالِهِ ) وَيَأْخُذُ كَفِيلًا ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْحَقَّ ثَابِتٌ قَطْعًا ) أَيْ فِيمَا إذَا كَانَ الْوَارِثُ الْآخَرُ مَعْدُومًا ( أَوْ ظَاهِرًا ) فِيمَا إذَا كَانَ مَوْجُودًا وَالْقَاضِي لَمْ يُكَلَّفْ بِإِظْهَارِهِ عَلَى وَجْهٍ يُوجِبُ حَقَّ الْحَاضِرِ بَلْ هُوَ مُكَلَّفٌ بِالْعَمَلِ بِمَا ظَهَرَ عِنْدَهُ ( فَلَا يُؤَخَّرُ ) إلَى زَمَانِ التَّكْفِيلِ ( لِحَقٍّ مَوْهُومٍ ) أَرَأَيْت لَوْ لَمْ يَجِدْ كَفِيلًا كَانَ مَنْعُ حَقِّهِ هَذَا ظُلْمًا وَصَارَ ( كَمَنْ أَثْبَتَ الشِّرَاءَ مِمَّنْ فِي يَدِهِ ) لَا يُؤْخَذُ كَفِيلٌ مِنْ الْمُشْتَرِي بَعْدَمَا أَثْبَتَ شِرَاءَهُ بِالْحُجَّةِ ( وَ ) لَا يُؤْخَذُ الْكَفِيلُ مِنْ رَبِّ الدَّيْنِ ( الَّذِي أَثْبَتَ دَيْنَهُ عَلَى الْعَبْدِ ) بِالْبَيِّنَةِ ( حَتَّى بِيعَ ) الْعَبْدُ ( لِأَجْلِ دَيْنِهِ ) وَإِنْ كَانَ يُتَوَهَّمُ حُضُورُ مُشْتَرٍ آخَرَ قَبْلَهُ وَغَرِيمٍ آخَرَ لِلْعَبْدِ ( وَلِأَنَّ الْمَكْفُولَ لَهُ مَجْهُولٌ فَهُوَ كَمَا لَوْ كَفَلَ ) لِأَحَدِ الْغُرَمَاءِ ، بِخِلَافِ النَّفَقَةِ لِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ ثَابِتٌ وَالزَّوْجُ مَعْلُومٌ ، فَأَمَّا الْآبِقُ وَاللُّقَطَةُ فَفِي أَخْذِ ( الْكَفِيلِ رِوَايَتَانِ عَنْهُ .
وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ عَلَى الْخِلَافِ .
وَقِيلَ إنْ دَفَعَ اللُّقَطَةَ بِعَلَامَةٍ أَوْ بِإِقْرَارِ الْعَبْدِ يَكْفُلُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الْحَقَّ غَيْرُ ثَابِتٍ .
وَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يُمْنَعَ ) مَعَ الْعَلَامَةِ وَإِقْرَارِ الْعَبْدِ بِالْإِبَاقِ .
لَا يُقَالُ : يَأْخُذُ الْكَفِيلَ لِنَفْسِهِ صِيَانَةً لِقَضَائِهِ عَنْ النَّقْضِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِخَصْمٍ ، وَلَا يُقَالُ يَأْخُذُ لِلْمَيِّتِ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي تَسْلِيمِ مَالِهِ إلَى وَارِثِهِ وَقَدْ أَثْبَتَ وِرَاثَتَهُ فَلَا مَعْنَى لِلِاشْتِغَالِ بِأَخْذِ الْكَفِيلِ .
فَإِنْ قِيلَ : الْقَاضِي يَتَلَوَّمُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِالْإِجْمَاعِ ذَكَرَهُ فِي الْأَسْرَارِ وَكَذَا ذَكَرَ

الصَّدْرُ الشَّهِيدُ ، وَالتَّلَوُّمُ : إنَّمَا هُوَ لِتَوَهُّمِ وَارِثٍ أَوْ غَرِيمٍ آخَرَ ، وَبَعْدَ التَّلَوُّمِ مَا انْقَطَعَتْ الشُّبْهَةُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَ الْكَفِيلَ لِبَقَاءِ الشُّبْهَةِ وَيَدْفَعُ إلَى الْحَاضِرِ لِقِيَامِ الْحُجَّةِ لِأَنَّ الْحُجَّةَ رَاجِحَةٌ عَلَى الشُّبْهَةِ فَأَظْهَرْنَا رُجْحَانَهَا فِي الدَّفْعِ إلَيْهِ فَيَجِبُ أَنْ يَظْهَرَ قِيَامُ الشُّبْهَةِ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ عَمَلًا بِالْجِهَتَيْنِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْعَمَلَ يَجِبُ بِالْحُجَّةِ بَعْدَ قِيَامِهَا لَا بِالشُّبْهَةِ وَلَيْسَ التَّكْفِيلُ كَالتَّلَوُّمِ لِأَنَّ التَّلَوُّمَ لِطَلَبِ عِلْمٍ زَائِدٍ لَهُ لِيَتِمَّ عِلْمُهُ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ ، فَإِنَّ التَّلَوُّمَ يَقُومُ مَقَامَ قَوْلِ الشُّهُودِ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِشَهَادَةٍ لِأَنَّهَا عَلَى النَّفْيِ ، بَلْ هُوَ خَبَرٌ يُؤَكِّدُ ظَنَّ انْتِفَاءِ غَيْرِهِ ، أَمَّا الْكَفَالَةُ فَطَلَبُ أَمْرٍ زَائِدٍ مِنْ الْمُسْتَحَقِّ فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِتَوَجُّهِ حَقٍّ عَلَيْهِ وَلَا يَتَوَجَّهُ بِالْمَوْهُومِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَقَوْلُهُ ظُلْمٌ ) أَيْ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ( يَكْشِفُ عَنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ لَا كَمَا ظَنَّهُ الْبَعْضُ ) أَنَّهُ قَائِلٌ بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ كَقَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ جَرَّهُمْ إلَى هَذَا الْقَوْلِ بِوُجُوبِ الْأَصْلَحِ فَكَانَ صِيَانَةُ الْمُجْتَهِدِينَ عَنْ الْخَطَإِ وَتَقْرِيرُهُمْ عَلَى الصَّوَابِ وَاجِبًا .
وَسَبَبُ نِسْبَةِ هَذَا الْقَوْلِ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ مَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِيُوسُفَ بْنِ خَالِدٍ السَّمْتِيِّ : كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ ، وَالْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ وَاحِدٌ .
وَلَوْ حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِهِ لَكَانَ مُتَنَاقِضًا ، إذْ قَوْلُهُ وَالْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ وَاحِدٌ يُفِيدُ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ أَصَابَ الْحَقَّ ، وَإِلَّا لَكَانَ الْحَقُّ مُتَعَدِّدًا ، فَلَزِمَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ : أَيْ يُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى بِالِاجْتِهَادِ ، فَإِنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ الِاجْتِهَادَ عَلَى الْمُتَأَهِّلِ لَهُ فَإِذَا اجْتَهَدَ فَقَدْ أَصَابَ بِسَبَبِ

قِيَامِهِ بِالْوَاجِبِ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : وَلَوْ تَلَاعَنَا ثَلَاثًا فَفَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا نَفَذَ وَقَالَ أَخْطَأَ السُّنَّةَ .

قَالَ ( وَإِذَا كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِ رَجُلٍ وَأَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ فُلَانٍ الْغَائِبِ قُضِيَ لَهُ بِالنِّصْفِ وَتَرَكَ النِّصْفَ الْآخَرَ فِي يَدِ الَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ وَلَا يَسْتَوْثِقُ مِنْهُ بِكَفِيلٍ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَا : إنْ كَانَ الَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ جَاحِدًا أُخِذَ مِنْهُ وَجُعِلَ فِي يَدِ أَمِينٍ ، وَإِنْ لَمْ يَجْحَدْ تُرِكَ فِي يَدِهِ ) لَهُمَا أَنَّ الْجَاحِدَ خَائِنٌ فَلَا يُتْرَكُ الْمَالُ فِي يَدِهِ ، بِخِلَافِ الْمُقِرِّ لِأَنَّهُ أَمِينٌ .
وَلَهُ أَنَّ الْقَضَاءَ وَقَعَ لِلْمَيِّتِ مَقْصُودًا وَاحْتِمَالُ كَوْنِهِ مُخْتَارَ الْمَيِّتِ ثَابِتٌ فَلَا تُنْقَضُ يَدُهُ كَمَا إذَا كَانَ مُقِرًّا وَجُحُودُهُ قَدْ ارْتَفَعَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي ، وَالظَّاهِرُ عَدَمُ الْجُحُودِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِصَيْرُورَةِ الْحَادِثَةِ مَعْلُومَةً لَهُ وَلِلْقَاضِي ، وَلَوْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي مَنْقُولٍ فَقَدْ قِيلَ يُؤْخَذُ مِنْهُ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْحِفْظِ وَالنَّزْعُ أَبْلَغُ فِيهِ ، بِخِلَافِ الْعَقَارِ لِأَنَّهَا مُحَصَّنَةٌ بِنَفْسِهَا وَلِهَذَا يَمْلِكُ الْوَصِيُّ بَيْعَ الْمَنْقُولِ عَلَى الْكَبِيرِ الْغَائِبِ دُونَ الْعَقَارِ ، وَكَذَا حُكْمُ وَصِيِّ الْأُمِّ وَالْأَخِ وَالْعَمِّ عَلَى الصَّغِيرِ .
وَقِيلَ الْمَنْقُولُ عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا ، وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيهِ أَظْهَرُ لِحَاجَتِهِ إلَى الْحِفْظِ ، وَإِنَّمَا لَا يُؤْخَذُ الْكَفِيلُ لِأَنَّهُ إنْشَاءُ خُصُومَةٍ وَالْقَاضِي إنَّمَا نُصِبَ لِقَطْعِهَا لَا لِإِنْشَائِهَا ، وَإِذَا حَضَرَ الْغَائِبُ لَا يَحْتَاجُ إلَى إعَادَةِ الْبَيِّنَةِ وَيُسَلَّمُ النِّصْفُ إلَيْهِ بِذَلِكَ الْقَضَاءِ لِأَنَّ أَحَدَ الْوَرَثَةِ يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْ الْبَاقِينَ فِيمَا يَسْتَحِقُّ لَهُ وَعَلَيْهِ دَيْنًا كَانَ أَوْ عَيْنًا لِأَنَّ الْمَقْضِيَّ لَهُ وَعَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ الْمَيِّتُ فِي الْحَقِيقَةِ وَوَاحِدٌ مِنْ الْوَرَثَةِ يَصْلُحُ خَلِيفَةٌ عَنْهُ فِي ذَلِكَ ، بِخِلَافِ الِاسْتِيفَاءِ لِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ عَامِلٌ فِيهِ لِنَفْسِهِ فَلَا يَصْلُحُ

نَائِبًا عَنْ غَيْرِهِ ، وَلِهَذَا لَا يَسْتَوْفِي إلَّا نَصِيبَهُ وَصَارَ كَمَا إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِدَيْنِ الْمَيِّتِ ، إلَّا أَنَّهُ إنَّمَا يَثْبُتُ اسْتِحْقَاقُ ، الْكُلِّ عَلَى أَحَدِ الْوَرَثَةِ إذَا كَانَ الْكُلُّ فِي يَدِهِ .
ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ خَصْمًا بِدُونِ الْيَدِ فَيَقْتَصِرُ الْقَضَاءُ عَلَى مَا فِي يَدِهِ .

( قَوْلُهُ وَإِذَا كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِ رَجُلٍ وَأَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ فُلَانٍ الْغَائِبِ قُضِيَ لَهُ بِالنِّصْفِ وَتَرَكَ النِّصْفَ الْآخَرَ فِي يَدِ الَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ ) إلَى أَنْ يَحْضُرَ الْغَائِبُ ( وَلَا يَسْتَوْثِقُ مِنْهُ بِكَفِيلٍ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَقَالَا : إنْ كَانَ الَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ ) قَدْ ( جَحَدَ ) فَأُقِيمَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ ( أُخِذَ مِنْهُ ) النِّصْفُ ( فَوُضِعَ عَلَى يَدِ أَمِينٍ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَحَدَ تُرِكَ فِي يَدِهِ .
لَهُمَا أَنَّ الْجَاحِدَ خَائِنٌ ) ظَهَرَتْ خِيَانَتُهُ بِالْجَحْدِ ( فَلَا يُتْرَكُ فِي يَدِهِ ) لِقُرْبِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ إمَّا لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهَا مِلْكُهُ وَأَنَّ الْبَيِّنَةَ كَذْبَةٌ أَوْ لِلْخِيَانَةِ ( بِخِلَافِ مَا لَوْ أَقَرَّ ) أَنَّهَا مَالُ الْمَيِّتِ مُودَعٌ عِنْدَهُ فَإِنَّهُ لَمْ تَظْهَرْ مِنْهُ خِيَانَةٌ وَقَدْ رَضِيَهُ الْمَيِّتُ فَكَانَ أَوْلَى بِحِفْظِهَا ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقَضَاءَ ) إنَّمَا ( يَقَعُ أَوَّلًا لِلْمَيِّتِ مَقْصُودًا ) لِأَنَّهُ بَعْدَ ثُبُوتِ أَنَّهُ مَالُهُ حِينَئِذٍ تُقْضَى دُيُونُهُ وَيُقْسَمُ الْمَالُ ( وَكَوْنُهُ مُخْتَارَ الْمَيِّتِ ثَابِتٌ ) مَعَ جَحْدِهِ ( فَلَا تُنْقَضُ يَدُهُ كَالْمُقِرِّ وَجُحُودُهُ قَدْ ارْتَفَعَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي ) بِهَا لِلْمَيِّتِ ( وَالظَّاهِرُ عَدَمُ جُحُودِهِ بَعْدَ ذَلِكَ لِصَيْرُورَةِ الْحَادِثَةِ مَعْلُومَةً لَهُ وَلِلْقَاضِي ) وَمَوْتُ الْقَاضِي وَعَزْلُهُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ الْغَائِبُ ، وَكَذَا احْتِرَاقُ الْمَحْضَرِ وَالتَّلَفُ نَادِرٌ لَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْحُكْمِ لِنُدْرَتِهِ ( فَلَوْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي مَنْقُولٍ ) وَأَنْكَرَ وَالْبَاقِي بِحَالِهِ ( فَقَدْ قِيلَ يُؤْخَذُ مِنْهُ ) النِّصْفُ ( بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى الْحِفْظِ وَالنَّزْعُ أَبْلَغُ فِي الْحِفْظِ ) مِنْ تَرْكِهِ فِي يَدِهِ إذْ رُبَّمَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ مُتَأَوِّلًا كَمَا ذَكَرْنَا أَوْ خِيَانَةً ( بِخِلَافِ الْعَقَارِ لِأَنَّهَا مُحَصَّنَةٌ بِنَفْسِهَا وَلِهَذَا ) أَيْ وَلِأَجْلِ أَنَّ

الْمَنْقُولَ مُحْتَاجٌ إلَى الْحِفْظِ دُونَ الْعَقَارِ .
وَالنَّزْعُ أَبْلَغُ فِي حِفْظِهِ مِنْ تَرْكِهِ ( يَمْلِكُ الْوَصِيُّ بَيْعَ الْمَنْقُولِ عَلَى الْكَبِيرِ الْغَائِبِ دُونَ الْعَقَارِ وَكَذَا حُكْمُ وَصِيِّ الْأُمِّ وَالْأَخِ وَالْعَمِّ عَلَى الصَّغِيرِ ) يَمْلِكُ بَيْعَ الْمَنْقُولِ مَعَ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَيْسَ لَهُمْ وِلَايَةٌ فِي الْمَالِ ( وَقِيلَ الْمَنْقُولُ عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا ) عِنْدَهُ يُتْرَكُ فِي يَدِ الَّذِي جَحَدَ وَعِنْدَهُمَا يُؤْخَذُ مِنْهُ ( وَإِنَّمَا لَا يُؤْخَذُ الْكَفِيلُ ) عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ الَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ ( لِأَنَّهُ إنْشَاءُ خُصُومَةٍ وَالْقَاضِي إنَّمَا نُصِبَ لِقَطْعِهَا ) وَهَذَا لِأَنَّهُ رُبَّمَا لَا يَجِدُ كَفِيلًا أَوْ لَا يَسْمَحُ بِإِعْطَائِهِ وَالْأَخُ الْحَاضِرُ يُطَالِبُهُ بِهِ فَتَثُورُ الْخُصُومَةُ ( ثُمَّ إذَا حَضَرَ الْغَائِبُ لَا يَحْتَاجُ إلَى إعَادَةِ الْبَيِّنَةِ وَيُسَلِّمُ النِّصْفَ إلَيْهِ بِذَلِكَ الْقَضَاءِ ) الْكَائِنِ فِي غَيْبَتِهِ ( لِأَنَّ أَحَدَ الْوَرَثَةِ يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ فِيمَا لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ دَيْنًا كَانَ أَوْ عَيْنًا ) فَقَدْ قَامَتْ عَلَى خَصْمٍ حَاضِرٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ الْوَرَثَةِ وَهَذَا مِنْهُمْ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ الْمَقْضِيَّ لَهُ وَعَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ الْمَيِّتُ فِي الْحَقِيقَةِ ) عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَرِيبٍ ( وَوَاحِدٌ مِنْ الْوَرَثَةِ يَصْلُحُ خَلِيفَةً عَنْهُ فِي ذَلِكَ ، بِخِلَافِ الِاسْتِيفَاءِ ) أَيْ اسْتِيفَاءِ نَصِيبِهِ ( لِأَنَّهُ عَامِلٌ فِيهِ لِنَفْسِهِ ) لَا لِلْمَيِّتِ ( فَلَا يَصْلُحُ نَائِبًا عَنْ غَيْرِهِ فَلِهَذَا لَا يَسْتَوْفِي إلَّا نَصِيبَ نَفْسِهِ وَصَارَ كَمَا إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِدَيْنٍ لِلْمَيِّتِ ) فَإِنَّهُ يُقْضَى بِالْكُلِّ وَلَا يَأْخُذُ إلَّا نَصِيبَ نَفْسِهِ .
وَقَوْلُهُ ( إلَّا أَنَّهُ إنَّمَا يَثْبُتُ اسْتِحْقَاقُ الْكُلِّ عَلَى أَحَدِ الْوَرَثَةِ ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ لِأَنَّ أَحَدَ الْوَرَثَةِ يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْ الْبَاقِينَ فِيمَا يَسْتَحِقُّ لَهُ وَعَلَيْهِ وَيَكُونُ قَضَاءٌ عَلَى جَمِيعِ الْوَرَثَةِ ( إذَا كَانَتْ ) التَّرِكَةُ كُلُّهَا ( فِي يَدِهِ ) أَيْ

فِي يَدِ الْحَاضِرِ ، حَتَّى لَوْ كَانَ الْبَعْضُ فِي يَدِهِ يَنْفُذُ بِقَدْرِهِ لِأَنَّهُ لَا خُصُومَةَ بِدُونِ الْيَدِ ، ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ .
قَالَ فِي شَهَادَاتِ الْمَوَارِيثِ : وَلَوْ مَاتَ وَتَرَكَ دَارًا وَثَلَاثَةَ بَنِينَ وَابْنَانِ غَائِبَانِ وَالدَّارُ فِي يَدِ الْحَاضِرِ فَادَّعَى رَجُلٌ الدَّارَ عَلَى الْحَاضِرِ فَقَصَّ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ وَقَالَ مَاتَ وَالِدُنَا وَأَخَوَايَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ قَبَضَا نَصِيبَهُمَا وَأَوْدَعَانِي وَغَابَا وَقَالَ الْمُدَّعِي كَانَتْ دَارِي فِي يَدِ أَبِيكُمْ وَأَعْلَمُ أَنَّ الْغَائِبَيْنِ قَبَضَا ثُلُثَيْهَا شَائِعًا وَأَوْدَعَاهَا عِنْدَك وَأَنَا أُقِيمُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا دَارِي تُقْبَلُ وَذُو الْيَدِ خَصْمٌ لِأَنَّ أَحَدَ الْوَرَثَةِ يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْ الْمَيِّتِ فِيمَا يُدَّعَى عَلَيْهِ ، فَإِنْ حَضَرَ الْغَائِبَانِ وَصَدَقَا فِي الْإِرْثِ وَجَحَدَا حَقَّ الْمُدَّعِي فَالْقَضَاءُ مَاضٍ ، وَإِنْ كَذَّبَاهُ وَقَالَا لَمْ نَرِثْهَا مِنْ أَبِينَا بَلْ ثُلُثَاهَا لَنَا لَا بِالْإِرْثِ يُقَالُ لِلْمُدَّعِي أَعِدْ بَيِّنَتَك عَلَيْهِمَا فِي ثُلُثَيْ الدَّارِ لِأَنَّ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ خَصْمٍ لِأَنَّ إقْرَارَ الْحَاضِرِ يَعْمَلُ فِي حَقِّهِ لَا فِي حَقِّ الْغَائِبَيْنِ .
قَالَ الْعَتَّابِيُّ : قَالَ مَشَايِخُنَا : هَذَا إذَا لَمْ تَكُنْ الدَّارُ مَقْسُومَةً ، أَمَّا إذَا اقْتَسَمُوهَا وَأَوْدَعَ اثْنَانِ نَصِيبَهُمَا الْحَاضِرَ وَغَابَا لَا تُقْبَلُ بَيِّنَةُ الْمُدَّعِي فِي نَصِيبِهِمَا عَلَى الْحَاضِرِ وَالْتَحَقَ هَذَا بِسَائِرِ أَمْوَالِهِمَا فَلَا يَكُونُ الْحَاضِرُ خَصْمًا فِيهَا ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ لِأَنَّهُ مُبْقًى عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْمَيِّتِ عَلَى مَا عُرِفَ .
وَلَوْ كَانَ ثُلُثَا الدَّارِ فِي يَدِ رَجُلٍ مَقْسُومٍ أَوْ غَيْرِ مَقْسُومٍ أَوْدَعَهُ عِنْدَهُ الْغَائِبَانِ وَهُوَ مُقِرٌّ بِأَنَّهُ وَدِيعَةٌ لَهُمَا مِيرَاثٌ مِنْ أَبِيهِمَا لَمْ يَكُنْ خَصْمًا لِلْمُدَّعِي ، وَكَذَلِكَ الِابْنُ الْحَاضِرُ لَا يَكُونُ خَصْمًا فِي ذَلِكَ لِأَنَّ الْوَارِثَ إنَّمَا يَكُونُ خَصْمًا لِلْمُدَّعِي عَلَى الْمَيِّتِ فِيمَا فِي يَدِهِ لَا فِيمَا فِي يَدِ غَيْرِهِ .
قَالَ

الْأُسْرُوشَنِيُّ فَالْحَاصِلُ أَنَّ أَحَدَ الْوَرَثَةِ يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْ الْمَيِّتِ فِي عَيْنٍ هُوَ فِي يَدِهِ لَا فِي عَيْنٍ لَيْسَ فِي يَدِهِ ، حَتَّى إنَّ مَنْ ادَّعَى عَيْنًا مِنْ التَّرِكَةِ وَأَحْضَرَ وَارِثًا لَيْسَ فِي يَدِهِ ذَلِكَ الْعَيْنُ لَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ ، وَفِي دَعْوَى الدَّيْنِ يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْ الْمَيِّتِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ شَيْءٌ .

قَالَ ( وَمَنْ قَالَ مَالِي فِي الْمَسَاكِينِ صَدَقَةٌ فَهُوَ عَلَى مَا فِيهِ الزَّكَاةُ ، وَإِنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ) وَالْقِيَاسُ أَنْ يَلْزَمَهُ التَّصَدُّقُ بِالْكُلِّ ، وَبِهِ قَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ لِعُمُومِ اسْمِ الْمَالِ كَمَا فِي الْوَصِيَّةِ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ إيجَابَ الْعَبْدِ مُعْتَبَرٌ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَنْصَرِفُ إيجَابُهُ إلَى مَا أَوْجَبَ الشَّارِعُ فِيهِ الصَّدَقَةَ مِنْ الْمَالِ .
أَمَّا الْوَصِيَّةُ فَأُخْتُ الْمِيرَاثِ لِأَنَّهَا خِلَافَةٌ كَهِيَ فَلَا يَخْتَصُّ مَالٌ دُونَ مَالٍ ، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ الْتِزَامُ الصَّدَقَةِ مِنْ فَاضِلِ مَالِهِ وَهُوَ مَالُ الزَّكَاةِ ، أَمَّا الْوَصِيَّةُ تَقَعُ فِي حَالِ الِاسْتِغْنَاءِ فَيَنْصَرِفُ إلَى الْكُلِّ وَتَدْخُلُ فِيهِ الْأَرْضُ الْعُشْرِيَّةُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهَا سَبَبُ الصَّدَقَةِ ، إذْ جِهَةُ الصَّدَقَةِ فِي الْعُشْرِيَّةِ رَاجِحَةٌ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا تَدْخُلُ لِأَنَّهَا سَبَبُ الْمُؤْنَةِ ، إذْ جِهَةُ الْمُؤْنَةِ رَاجِحَةٌ عِنْدَهُ ، وَلَا تَدْخُلُ أَرْضُ الْخَرَاجِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ يَتَمَحَّضُ مُؤْنَةً .
وَلَوْ قَالَ مَا أَمْلِكُهُ صَدَقَةٌ فِي الْمَسَاكِينِ فَقَدْ قِيلَ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَالٍ لِأَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ لَفْظِ الْمَالِ .
وَالْمُقَيَّدُ إيجَابُ الشَّرْعِ وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِلَفْظِ الْمَالِ فَلَا مُخَصِّصَ فِي لَفْظِ الْمِلْكِ فَبَقِيَ عَلَى الْعُمُومِ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ لِأَنَّ الْمُلْتَزِمَ بِاللَّفْظَيْنِ الْفَاضِلُ عَنْ الْحَاجَةِ عَلَى مَا مَرَّ ، ( ثُمَّ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ سِوَى مَا دَخَلَ تَحْتَ الْإِيجَابِ يُمْسِكُ مِنْ ذَلِكَ قُوتَهُ ، ثُمَّ إذَا أَصَابَ شَيْئًا تَصَدَّقَ بِمِثْلِ مَا أَمْسَكَ ) لِأَنَّ حَاجَتَهُ هَذِهِ مُقَدَّمَةٌ وَلَمْ يُقَدِّرْ مُحَمَّدٌ بِشَيْءٍ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ فِيهِ .
وَقِيلَ الْمُحْتَرِفُ يُمْسِكُ قُوتَهُ لِيَوْمٍ وَصَاحِبُ الْغَلَّةِ لِشَهْرٍ وَصَاحِبُ الضِّيَاعِ لِسَنَةٍ عَلَى حَسَبِ التَّفَاوُتِ فِي مُدَّةِ وُصُولِهِمْ إلَى الْمَالِ ، وَعَلَى هَذَا صَاحِبُ التِّجَارَةِ

يُمْسِكُ بِقَدْرِ مَا يَرْجِعُ إلَيْهِ مَالُهُ .

( قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ مَالِي فِي الْمَسَاكِينِ صَدَقَةٌ فَهُوَ عَلَى مَا فِيهِ الزَّكَاةُ ) فَيَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِجَمِيعِ مَا يَمْلِكُهُ مِنْ النَّقْدَيْنِ وَالسَّوَائِمِ وَأَمْوَالِ التِّجَارَةِ وَيُمْسِكُ قُوتَهُ ، فَإِذَا أَصَابَ شَيْئًا تَصَدَّقَ بِقَدْرِ مَا أَمْسَكَ ، وَإِذَا وَجَبَ التَّصَدُّقُ بِكُلِّهِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَبْلُغَ مَا عِنْدَهُ نِصَابًا أَوْ لَا ، لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ جِنْسُ مَا فِيهِ الزَّكَاةُ دُونَ قَدْرِهِ ، وَلِذَا قَالُوا نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَالِهِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مُحِيطٌ بِكُلِّ مَالِهِ لَزِمَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ ، فَإِنْ قَضَى بِهِ دَيْنًا لَزِمَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَا يَكْتَسِبُهُ بَعْدَ إلَى أَنْ يُوَفَّى ( وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ فَهُوَ عَلَى كُلِّ مَالٍ ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَلْزَمَهُ التَّصَدُّقُ بِالْكُلِّ ) فِيهِمَا ( وَبِهِ قَالَ زُفَرُ ) وَالْبَتِّيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ : يَتَصَدَّقُ بِثُلُثِ مَالِهِ { لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي لُبَابَةَ حِينَ قَالَ : إنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً : يُجْزِئُك الثُّلُثُ } ( لِعُمُومِ اسْمِ الْمَالِ كَالْوَصِيَّةِ ) وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ } ( وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ إيجَابَ الْعَبْدِ مُعْتَبَرٌ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَنْصَرِفُ إلَى مَا أَوْجَبَ الشَّرْعُ فِيهِ الصَّدَقَةَ ) وَمَا أَوْجَبَ بِهِ التَّصَدُّقَ ذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْعُمُومِ وَعَلَّقَ الْإِيجَابَ بِبَعْضِهِ .
قَالَ تَعَالَى { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } وَلَمْ يَعُمَّ كُلَّ مَالٍ ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ مُقْتَضَى اللَّفْظِ إنَّمَا يَصْدُقُ بِالْأَخْذِ مِنْ كُلِّ مَالٍ ، وَذَكَرْنَا فِي الْأُصُولِ أَنَّ بِالْأَخْذِ مِنْ جِنْسِ الْأَمْوَالِ يَصْدُقُ بِأَنَّهُ أَخَذَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ حَقِيقَةً ، وَإِنَّمَا ذَاكَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، وَالْأَحْسَنُ أَنَّ حَمْلَهُ عَلَى الْعُمُومِ مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ إذْ مُنِعَ مِنْهُ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ } فَوَجَبَ تَقْيِيدُهَا بِبَعْضِهَا ، ثُمَّ

عَيَّنَا ذَلِكَ الْبَعْضَ بِتَعْيِينِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهَا بِإِيجَابِ التَّصَدُّقِ مِنْهَا .
وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ } لَا يُنَافِيهِ لِأَنَّ إخْرَاجَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَجْنَاسِ الْمَالِ طَاعَةٌ ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ تَقَيَّدَ بِجَمِيعِ مَا تَلَفَّظَ بِهِ وَهُوَ مُنْتَفٍ بِلُزُومِ الْمَعْصِيَةِ .
وَحَدِيثُ أَبِي لُبَابَةَ لَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ نَذَرَ ذَلِكَ فَهُوَ عَلَى أَنَّهُ نَوَى ذَلِكَ وَقَصَدَهُ .
وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ فَجَرَيْنَا فِيهَا عَلَى نَحْوِ ذَلِكَ أَيْضًا فَقُلْنَا : لَوْ أَوْصَى بِجَمِيعِ مَالِهِ وَلَهُ وَرَثَةٌ لَا يَنْفُذُ لِأَنَّ فِي تَنْفِيذِهِ ارْتِكَابَ الْمَعْصِيَةِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى الثُّلُثِ الْمَفْسُوخِ لَهُ فِيهِ مَعَ وُجُودِ الْوَرَثَةِ .
وَأَمَّا نَفَاذُهُ فِي الْكُلِّ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَرَثَةٌ فَلِأَنَّهَا إنَّمَا تُوجِبُ ذَلِكَ فِي حَالِ اسْتِغْنَائِهِ بِالْمَوْتِ فَانْتَفَى الْمَانِعُ الشَّرْعِيُّ ، وَهَذَا لِأَنَّ النَّهْيَ مَا كَانَ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ إلَّا لِقِيَامِ حَاجَتِهِ النَّاجِزَةِ فِي الْحَيَاةِ وَعَدَمِ الْبُدَاءَةِ بِنَفْسِهِ الْمَأْمُورِ بِهَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ابْدَأْ بِنَفْسِك ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ } فَيُؤَدِّي إلَى ضِيقِ نَفْسِهِ وَحَرَجِهَا وَهُوَ قَدْ يَكُونُ سَبَبَ الْمَعْصِيَةِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى مُنْتَفٍ بَعْدَ الْمَوْتِ .
وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ ( وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ إنَّمَا يَلْتَزِمُ الصَّدَقَةَ إلَخْ ) يَصْلُحُ تَقْرِيرًا لِإِبْدَاءِ الْمُخَصِّصِ يَعْنِي أَنَّ الْعُمُومَ وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا لَكِنَّ هُنَا مَعْنًى يُخَصِّصُهُ وَهُوَ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ إرْسَالِ لَفْظٍ عَامٍّ بِالْخُرُوجِ عَنْ كُلِّ مَالِهِ مَعَ قِيَامِ حَاجَتِهِ الْمُسْتَمِرَّةِ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ عَدَمُ كَوْنِهِ عَلَى وَجْهٍ يَدْخُلُ الضَّرَرُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ ، فَكَانَ ظَاهِرًا فِي إرَادَةِ الْخُصُوصِ ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ لُزُومِ الْمَعْصِيَةِ بِتَقْدِيرِ اعْتِبَارِ عُمُومٍ هُوَ أَيْضًا مِنْ إبْدَاءِ الْمُخَصِّصِ ، وَهَذَا مِنْ أَفْرَادِ تَرْكِ الْحَقِيقَةِ بِدَلَالَةٍ .
وَهَلْ

تَدْخُلُ الْأَرْضُ الْعُشْرِيَّةُ فَيَجِبُ التَّصَدُّقُ بِهَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ نَعَمْ لِأَنَّ جِهَةَ الصَّدَقَةِ غَالِبَةٌ فِي الْعُشْرِ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا ، لِأَنَّ جِهَةَ الْمُؤْنَةِ غَالِبَةٌ عِنْدَهُ ، وَلَا تَدْخُلُ الْخَرَاجِيَّةُ اتِّفَاقًا لِتَمَحُّضِ الْخَرَاجِ مُؤْنَةً وَلِذَا وَجَبَ فِي أَرْضِ الصَّبِيِّ وَالْوَقْفِ ( وَلَوْ ) كَانَ ( قَالَ مَا أَمْلِكُ صَدَقَةً قِيلَ يَجِبُ الْكُلُّ ) لِأَنَّ الْمُقَيَّدَ فِي الشَّرْعِ الْمَذْكُورُ بِلَفْظِ الْمَالِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ لِأَنَّ الْمُلْتَزِمَ بِاللَّفْظَيْنِ الْفَاضِلُ عَنْ الْحَاجَةِ ) وَهَذَا يُؤْذِنُك بِقَصْدِهِمْ إلَى التَّخْصِيصِ بِذَلِكَ الْمَعْنَى بِقَلِيلِ تَأَمُّلٍ ، وَكَانَ مُقْتَضَى مَا ذُكِرَ فِي اللَّفْظَيْنِ أَنْ يَثْبُتَ مِثْلُهُ فِي قَوْلِهِ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُهْدِيَ جَمِيعَ مَالِي أَوْ جَمِيعَ مِلْكِي ، إلَّا أَنَّ الطَّحَاوِيَّ ذَكَرَ أَنَّهُ يَجِبُ الْكُلُّ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ حَلَفَ بِهِ فَقَالَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُهْدِيَ جَمِيعَ مَالِي حَيْثُ يَجِبُ الْكُلُّ بِلَا إشْكَالٍ لِأَنَّ عَقْدَ الْيَمِينِ لِمَنْعِ النَّفْسِ عَنْ الْمَذْكُورِ بِالْتِزَامِ مَا يَكْرَهُهُ عَلَى تَقْدِيرِهِ فَانْفَتَحَ بَابُ إرَادَةِ الْعُمُومِ ، إلَّا أَنَّ هَذَا عَلَى جَعْلِ الْمُخَصِّصِ الْمَعْنَى الَّذِي عَيَّنَهُ الْمُصَنِّفُ ، وَأَمَّا عَلَى جَعْلِهِ لُزُومَ الْمَعْصِيَةِ فَيَجِبُ أَنْ يَخُصَّ أَيْضًا فَكَانَ تَعْوِيلُهُمْ لَيْسَ عَلَيْهِ ، وَقَوْلُهُ ( عَلَى مَا مَرَّ ) يُرِيدُ وَجْهَ الِاسْتِحْسَانِ هَذَا .
ثُمَّ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ إلَّا مَا دَخَلَ تَحْتَ الْإِيجَابِ ) يَعْنِي مَالَ الزَّكَاةِ عَلَى بُعْدِ ذَلِكَ ( يُمْسِكُ مِنْهُ قُوتَهُ ) وَيَتَصَدَّقُ بِمَا سِوَاهُ ( وَإِذَا اسْتَفَادَ شَيْئًا تَصَدَّقَ بِقَدْرِ مَا أَمْسَكَ وَلَمْ يُقَدِّرْ مُحَمَّدٌ ) مِقْدَارًا فِي أَصْلِ الْمَبْسُوطِ ( لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ ) مِنْ قِلَّةِ الْعِيَالِ أَوْ كَثْرَتِهِمْ وَالرَّخَاءِ وَالْغَلَاءِ فَيَخْتَلِفُ الِاعْتِبَارُ ( وَقِيلَ الْمُحْتَرِفُ يُمْسِكُ لِيَوْمٍ ) لِأَنَّهُ يَكْتَسِبُ

يَوْمًا فَيَوْمًا ( وَصَاحِبُ الْغَلَّةِ ) وَهُوَ مَنْ لَهُ حَوَانِيتُ أَوْ دُورٌ يَجْبِيهَا يُمْسِكُ ( شَهْرًا ) لِأَنَّ يَدَهُ تَصِلُ إلَى نَفَقَتِهِ بَعْدَ شَهْرٍ ( وَصَاحِبُ الضِّيَاعِ لِسَنَةٍ ) لِأَنَّ غَلَّتَهَا كَذَلِكَ ، وَأَمَّا فِي عُرْفِ دِيَارِنَا فَبَعْضُهُمْ كَذَلِكَ وَبَعْضُهُمْ يُؤَجِّرُهَا بِدَرَاهِمَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَاطٍ كُلُّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ قِسْطٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يُمْسِكَ إلَى تَمَامِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ( وَعَلَى هَذَا فَصَاحِبُ التِّجَارَةِ يُمْسِكُ بِقَدْرِ مَا يَرْجِعُ إلَيْهِ مَالُهُ ) .

قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى إلَيْهِ وَلَمْ يَعْلَمْ الْوَصِيَّةَ حَتَّى بَاعَ شَيْئًا مِنْ التَّرِكَةِ ) فَهُوَ وَصِيٌّ وَالْبَيْعُ جَائِزٌ ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْوَكِيلِ حَتَّى يَعْلَمَ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ أَيْضًا لِأَنَّ الْوِصَايَةَ إنَابَةٌ بَعْدَ الْمَوْتِ فَتُعْتَبَرُ بِالْإِنَابَةِ قَبْلَهُ وَهِيَ الْوَكَالَةُ .
وَوَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى الظَّاهِرِ أَنَّ الْوِصَايَةَ خِلَافَةٌ لِإِضَافَتِهَا إلَى زَمَانِ بُطْلَانِ الْإِنَابَةِ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ كَمَا فِي تَصَرُّفِ الْوَارِثِ .
أَمَّا الْوَكَالَةُ فَإِنَابَةٌ لِقِيَامِ وِلَايَةِ الْمَنُوبِ عَنْهُ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَوْ تَوَقَّفَ لَا يَفُوتُ النَّظَرُ لِقُدْرَةِ الْمُوَكَّلِ ، وَفِي الْأَوَّلِ يَفُوتُ لِعَجْزِ الْمُوصِي ( وَمَنْ أَعْلَمَهُ مِنْ النَّاسِ بِالْوَكَالَةِ يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ ) لِأَنَّهُ إثْبَاتُ حَقٍّ لَا إلْزَامُ أَمْرٍ .
قُلْ ( وَلَا يَكُونُ النَّهْيُ عَنْ الْوَكَالَةِ حَتَّى يَشْهَدَ عِنْدَهُ شَاهِدَانِ أَوْ رَجُلٌ عَدْلٌ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَالَا : هُوَ وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ لِأَنَّهُ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ وَبِالْوَاحِدِ فِيهَا كِفَايَةٌ .
وَلَهُ أَنَّهُ خَبَرٌ مُلْزِمٌ فَيَكُونُ شَهَادَةً مِنْ وَجْهٍ فَيُشْتَرَطُ أَحَدُ شَطْرَيْهَا وَهُوَ الْعَدَدُ أَوْ الْعَدَالَةُ ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ ، وَبِخِلَافِ رَسُولِ الْمُوَكَّلِ لِأَنَّ عِبَارَتَهُ كَعِبَارَةِ الْمُرْسِلِ لِلْحَاجَةِ إلَى الْإِرْسَالِ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا أُخْبِرَ الْمَوْلَى بِجِنَايَةِ عَبْدِهِ وَالشَّفِيعُ وَالْبِكْرُ وَالْمُسْلِمُ الَّذِي لَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا .

( قَوْلُهُ وَمَنْ أَوْصَى إلَيْهِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِالْوَصِيَّةِ حَتَّى بَاعَ شَيْئًا مِنْ التَّرِكَةِ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ وَهُوَ وَصِيٌّ ) بِخِلَافِ الْوَكِيلِ إذَا بَاعَ ثُمَّ عَلِمَ بِالْوَكِيلِ لَا يَنْفُذُ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ وَكِيلًا حَتَّى يَعْلَمَ ( وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ فِي الْوَصِيَّةِ أَيْضًا لِأَنَّ الْوِصَايَةَ إنَابَةٌ ) أَيْ اسْتِنَابَةٌ وَالْمَعْرُوفُ مِنْ اللُّغَةِ فِي الْإِنَابَةِ إنَّمَا هُوَ مَعْنَى الرُّجُوعِ وَالْإِقْلَاعِ مِنْ أَنَابَ إلَى اللَّهِ .
وَاسْتَدَلَّ فِي النِّهَايَةِ أَنَّهَا بِمَعْنَى الِاسْتِنَابَةِ بِاسْتِعْمَالِ الزَّمَخْشَرِيِّ لَهَا كَذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الرُّومِ ، وَالزَّمَخْشَرِيُّ نَفْسُهُ يَفْعَلُ كَذَلِكَ فَيُنَزِّلُ عِلْمَ الْمُتَكَلِّمِ بِمَنْزِلَةِ رِوَايَتِهِ فَرُبَّمَا يَسْتَشْهِدُ بِبَيْتٍ لِأَبِي تَمَّامٍ وَأَبِي الطَّيِّبِ ( وَوَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ) بَيْنَ الْوِصَايَةِ وَالتَّوْكِيلِ ( أَنَّ الْوِصَايَةَ خِلَافٌ ) فِي التَّصَرُّفِ عَنْ الْمَيِّتِ كَالْوِرَاثَةِ فَلَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ كَالْوَكَالَةِ ( لِإِضَافَتِهَا ) إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَيَتَصَرَّفُ كَتَصَرُّفِ الْوَارِثِ ، وَلِذَا لَوْ بَاعَ شَيْئًا ثُمَّ ظَهَرَ مَوْتُ الْمُوَرِّثِ ظَهَرَ نَفَاذُهُ حِينَ صَدَرَ وَالْوِصَايَةُ اسْتِخْلَافُ مُضَافٍ ( إلَى ) مَا بَعْدَ الْمَوْتِ أَيْضًا وَهُوَ ( زَمَانُ بُطْلَانِ الْإِنَابَةِ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ ) كَالْوِرَاثَةِ ( لِقِيَامِ وِلَايَةِ الْمَنُوبِ عَنْهُ ) وَلِهَذَا يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ بِالْمَوْتِ ، بِخِلَافِ الْمَيِّتِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ ( وَهَذَا لِأَنَّهُ ) إذَا وَقَفْنَاهُ عَلَى الْعِلْمِ ( لَا يَفُوتُ النَّظَرُ ) لِقِيَامِ وِلَايَةِ الْمُوَكَّلِ وَقُدْرَتِهِ ( وَفِي الْأَوَّلِ يَفُوتُ لِعَجْزِ الْمُوصِي ) بِالْمَوْتِ ، وَهَذَا إذَا ثَبَتَتْ الْوَكَالَةُ قَصْدًا ، أَمَّا إذَا ثَبَتَتْ فِي ضِمْنِ الْأَمْرِ بِالْفِعْلِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ ، ذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ لِعَبْدِهِ اذْهَبْ إلَى فُلَانٍ يَبِيعُك أَوْ لِامْرَأَتِهِ اذْهَبِي إلَى فُلَانٍ يُطَلِّقُك أَوْ اذْهَبْ بِعَبْدِي إلَى فُلَانٍ فَيَبِيعَهُ مِنْك فَذَهَبَ

كَمَا أَخْبَرَهُ فَفَعَلَ .
ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ أَنَّهُ جَائِزٌ ، وَذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فَكَانَ فِيهِ رِوَايَتَانِ : فِي إحْدَاهُمَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ ، وَفِي أُخْرَى لَا بُدَّ مِنْ الْعِلْمِ .
وَذَكَرَ فِي الْمَأْذُونِ مَا يُوَافِقُ الْأَوَّلَ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا قَالَ لِلنَّاسِ بَايِعُوا عَبْدِي فَإِنِّي أَذِنْت لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَبَايَعُوهُ جَازَ مَعَ أَنَّهُ لَا عِلْمَ لِلْعَبْدِ بِالْإِذْنِ ، وَإِذَا تَوَقَّفَتْ الْوَكَالَةُ عَلَى الْعِلْمِ فَلْنَذْكُرْ بِمَاذَا يَحْصُلُ الْعِلْمُ الْمُثْبِتُ لِلْوَكَالَةِ فَقَالَ ( كُلُّ مَنْ أَعْلَمَهُ بِالْوَكَالَةِ جَازَ بِهِ تَصَرُّفُهُ ) بِشَرْطِ كَوْنِهِ مُمَيِّزًا رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً فَاسِقًا كَانَ أَوْ عَدْلًا مُسْلِمًا كَانَ أَوْ ذِمِّيًّا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ لَا تَثْبُتُ الْوَكَالَةُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ أَصْلًا لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ عَقْدًا كَغَيْرِهِ مِنْ الْعُقُودِ وَ ( لِأَنَّهُ ) تَسْلِيطٌ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ قُلْنَا ( إنَّهُ إثْبَاتُ حَقٍّ ) هُوَ حَقُّ أَنْ يَتَصَرَّفَ ( لَا إلْزَامُ أَمْرٍ ) فَإِنَّهُ مُخْتَارٌ فِي الْقَبُولِ وَعَدَمِهِ وَكَانَ كَقَبُولِ الْهَدِيَّةِ مِمَّنْ ذَكَرَ أَنَّهَا عَلَى يَدِهِ ، وَهُوَ مَحَلُّ الْإِجْمَاعِ وَالنَّصِّ ، فَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْبَلُهَا مِنْ الْعَبْدِ وَالتَّقِيِّ وَيَشْتَرِي مِنْ الْكَافِرِ ( أَمَّا الْعَزْلُ عَنْ الْوَكَالَةِ فَعِنْدَهُمَا هُوَ وَالْإِخْبَارُ بِهَا سَوَاءٌ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَثْبُتُ حَتَّى يَشْهَدَ عِنْدَهُ شَاهِدُ عَدْلٍ أَوْ شَاهِدَانِ ) أَيْ مُخْبِرَانِ لِأَنَّ لَفْظَةَ الشَّهَادَةِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ عَدَلَا أَوْ لَمْ يَعْدِلَا ( وَجْهُ قَوْلِهِمَا إنَّهُ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ وَبِالْوَاحِدِ فِيهَا كِفَايَةٌ ) وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ عَدَالَةِ الْمُخْبِرِ وَاحِدًا كَانَ أَوْ أَكْثَرَ ، وَبِهِ أَخَذَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ وَزَعَمَ أَنَّهُ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَ مَعْنَى إطْلَاقِ الْكِتَابِ أَنْ لَا يُعْلَمَ حَالُهُمَا إلَّا أَنْ يَعْلَمَهُمَا بِالْفِسْقِ .
وَقِيلَ

بَلْ هُوَ عَلَى إطْلَاقِهِ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الْعَدَدِ فَوْقَ تَأْثِيرِ الْعَدَالَةِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَضَاءَ بِوَاحِدٍ عَدْلٍ لَا يَنْفُذُ وَبِفَاسِقَيْنِ يَنْفُذُ فَبِطَرِيقٍ أَوْلَى يَثْبُتُ بِهِ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ ( وَهَذَا لِأَنَّهُ خَبَرٌ مُلْزِمٌ ) أَيْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَإِنَّهُ يُمْنَعُ الْوَكِيلُ مِنْ التَّصَرُّفِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ .
وَمَا قِيلَ مُلْزِمٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ بِنَاءً عَلَى مُجَرَّدِ اصْطِلَاحِ أَنْ يُرَادَ بِالْمُلْزِمِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مَا كَانَ إلْزَامًا عَلَى خَصْمٍ مُنْكِرٍ بِشَرْطِ لَفْظِ الشَّهَادَةِ وَحُكْمِ الْحَاكِمِ .
وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ هَذَا الْإِلْزَامُ كَذَلِكَ كَانَ إلْزَامًا فِيهِ قُصُورٌ ، وَوُجُوبُ الضَّمَانِ لَوْ تَصَرَّفَ بِنَاءً عَلَى الْإِلْزَامِ مِنْ وَجْهٍ ، ثُمَّ يَكْفِي لِاشْتِرَاطِ الْعَدَدِ أَوْ الْعَدَالَةِ كَوْنُهُ مُلْزِمًا مِنْ وَجْهٍ بِالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا ، بِخِلَافِ الْإِعْلَامِ بِالْوَكَالَةِ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إلْزَامٌ أَصْلًا لَمْ يَلْزَمْ أَحَدُ شَطْرَيْ الشَّهَادَةِ ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُخْبِرَ بِالْعَزْلِ لَوْ كَانَ فَاسِقًا وَصَدَّقَهُ يَنْعَزِلُ .
( قَوْلُهُ وَعَلَى هَذَا إذَا أُخْبِرَ الْمَوْلَى بِجِنَايَةِ عَبْدِهِ إلَخْ ) هَذِهِ سِتُّ مَسَائِلَ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ مِنْهَا ثَلَاثَةً فِي الْأَصْلِ وَاثْنَتَيْنِ فِي النَّوَادِرِ وَالسَّادِسَةُ قَاسَهَا مَشَايِخُنَا عَلَى هَذِهِ .
أَمَّا الثَّلَاثُ فَإِحْدَاهَا عَزْلُ الْوَكِيلِ .
وَالثَّانِيَةُ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ إذَا أَخْبَرَهُ وَاحِدٌ بِالْحَجْرِ إنْ كَانَ رَسُولًا يَنْحَجِرُ فَاسِقًا كَانَ أَوْ عَدْلًا ، وَإِنْ كَانَ فُضُولِيًّا يُشْتَرَطُ أَحَدُ شَطْرَيْ الشَّهَادَةِ فَيَنْحَجِرُ صَدَّقَهُ الْعَبْدُ أَوْ كَذَّبَهُ ، وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا إنْ صَدَّقَهُ انْحَجَرَ وَإِلَّا فَالْمَسْأَلَةُ عَلَى الْخِلَافِ .
وَالثَّالِثَةُ الْعَبْدُ إذَا جَنَى جِنَايَةً وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْمَوْلَى حَتَّى أَعْتَقَهُ أَوْ بَاعَهُ يَلْزَمُهُ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدِّيَةِ ، فَإِنْ أَخْبَرَهُ وَاحِدٌ بِالْجِنَايَةِ فَكَذَلِكَ إنْ كَانَ فَاسِقًا ، إنْ صَدَّقَهُ ثُمَّ بَاعَ أَوْ أُعْتِقَ يَصِيرُ مُخْتَارًا

لِلدِّيَةِ .
وَإِنْ كَذَّبَهُ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَكُونُ مُخْتَارًا لِلدِّيَةِ ، وَعِنْدَهُمَا يَصِيرُ مُخْتَارًا لَهَا .
وَأَمَّا اللَّتَانِ فِي النَّوَادِرِ فَإِحْدَاهُمَا الْحَرْبِيُّ إذَا أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَأَخْبَرَهُ إنْسَانٌ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ الْفَرَائِضِ إنْ كَانَ الْمُخْبِرُ عَدْلًا ، أَوْ أَخْبَرَهُ اثْنَانِ لَزِمَتْهُ حَتَّى لَوْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْهَا كَانَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ إجْمَاعًا ، وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا فَإِنْ صَدَّقَهُ فَكَذَلِكَ وَإِنْ كَذَّبَهُ فَعَلَى الْخِلَافِ .
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ : الْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ هَاهُنَا اتِّفَاقًا لِأَنَّ الْمُخْبِرَ لَهُ رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَفِيهِ نَظَرٌ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِنَا الْمُسَمَّى بِتَحْرِيرِ الْأُصُولِ .
وَالثَّانِيَةُ الشَّفِيعُ إذَا أُخْبِرَ بِالشِّرَاءِ فَسَكَتَ فَعَلَى مَا قُلْنَا إنْ أَخْبَرَهُ فَاسِقٌ فَصَدَّقَهُ ثَبَتَ الشِّرَاءُ فِي حَقِّهِ وَإِنْ كَذَّبَهُ فَهِيَ عَلَى الْخِلَافِ ، فَإِذَا سَكَتَ لَا تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا تَبْطُلُ .
وَالسَّادِسَةُ الْبِكْرُ إذَا زُوِّجَتْ بِلَا اسْتِئْذَانٍ فَأُخْبِرَتْ فَسَكَتَتْ فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْوُجُوهِ .

قَالَ ( وَإِذَا بَاعَ الْقَاضِي أَوْ أَمِينُهُ عَبْدًا لِلْغُرَمَاءِ وَأَخَذَ الْمَالَ فَضَاعَ وَاسْتُحِقَّ الْعَبْدُ لَمْ يَضْمَنْ ) لِأَنَّ أَمِينَ الْقَاضِي قَائِمٌ مَقَامَ الْقَاضِي وَالْقَاضِي مَقَامَ الْإِمَامِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَا يَلْحَقُهُ ضَمَانٌ كَيْ لَا يَتَقَاعَدُ عَنْ قَبُولِ هَذِهِ الْأَمَانَةِ فَيُضَيِّعُ الْحُقُوقَ وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْغُرَمَاءِ ، لِأَنَّ الْبَيْعَ وَاقِعٌ لَهُمْ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِمْ عِنْدَ تَعَذُّرِ الرُّجُوعِ عَلَى الْعَاقِدِ ، كَمَا إذَا كَانَ الْعَاقِدُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ وَلِهَذَا يُبَاعُ بِطَلَبِهِمْ ( وَإِنْ أَمَرَ الْقَاضِي الْوَصِيَّ بِبَيْعِهِ لِلْغُرَمَاءِ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ أَوْ مَاتَ قَبْلَ الْقَبْضِ وَضَاعَ الْمَالُ رَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْوَصِيِّ ) لِأَنَّهُ عَاقِدٌ نِيَابَةً عَنْ الْمَيِّتِ وَإِنْ كَانَ بِإِقَامَةِ الْقَاضِي عَنْهُ فَصَارَ كَمَا إذَا بَاعَهُ بِنَفْسِهِ .
قَالَ ( وَرَجَعَ الْوَصِيُّ عَلَى الْغُرَمَاءِ ) لِأَنَّهُ عَامِلٌ لَهُمْ ، وَإِنْ ظَهَرَ لِلْمَيِّتِ مَالٌ يَرْجِعُ الْغَرِيمُ فِيهِ بِدَيْنِهِ .
قَالُوا : وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ يَرْجِعُ بِالْمِائَةِ الَّتِي غَرِمَهَا أَيْضًا لِأَنَّهُ لَحِقَهُ فِي أَمْرِ الْمَيِّتِ ، وَالْوَارِثُ إذَا بِيعَ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْغَرِيمِ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي التَّرِكَةِ دَيْنٌ كَانَ الْعَاقِدُ عَامِلًا لَهُ .

( قَوْلُهُ وَإِذَا بَاعَ الْقَاضِي أَوْ أَمِينُهُ عَبْدًا لِلْغُرَمَاءِ ) أَيْ لِأَجَلِهِمْ لِيُوفِيَ دُيُونَهُمْ الَّتِي كَانَتْ عَلَى الْمَيِّتِ ( وَأَخَذَ الْمَالَ ) أَيْ الثَّمَنَ ( فَضَاعَ ) عِنْدَهُ ( ثُمَّ اُسْتُحِقَّ الْعَبْدُ ) أَوْ مَاتَ قَبْلَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي ( لَمْ يَضْمَنْ ) الْقَاضِي وَلَا أَمِينُهُ لِلْمُشْتَرِي شَيْئًا ( لِأَنَّ أَمِينَ الْقَاضِي بِمَنْزِلَةِ الْقَاضِي وَالْقَاضِي كَالْإِمَامِ وَكُلٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ لَا يَلْحَقُهُ ضَمَانٌ كَيْ لَا يَتَقَاعَدَ النَّاسُ عَنْ قَبُولِ هَذِهِ الْأَمَانَةِ ، وَ ) إذَا لَمْ يَرْجِعْ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ مِنْ هَؤُلَاءِ ( يَرْجِعُ ) بِالثَّمَنِ ( عَلَى الْغُرَمَاءِ ) أَوْ الْغَرِيمِ ( لِأَنَّ الْبَيْعَ ) وَالتَّصَرُّفَ ( وَاقِعٌ لِأَجَلِهِمْ ) فَتَرْجِعُ الْعُهْدَةُ عَلَيْهِمْ وَصَارَ ( كَمَا إذَا كَانَ الْعَاقِدُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ ) عَبْدًا أَوْ صَبِيًّا يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَكَّلَهُ رَجُلٌ بِبَيْعِ مَالِهِ جَازَ الْعَقْدُ بِمُبَاشَرَتِهِمَا ، وَلَا تَتَعَلَّقُ الْحُقُوقُ بِهِمَا بَلْ بِمُوَكَّلِهِمَا لِأَنَّ الْتِزَامَ الْعُهْدَةِ لَا يَصِحُّ مِنْهُمَا لِقُصُورِ الْأَهْلِيَّةِ فِي الصَّبِيِّ وَحَقُّ السَّيِّدِ فِي الْعَبْدِ وَالْأَصْلُ أَنَّهُ إذَا تَعَذَّرَ تَعَلُّقُ الْحُقُوقِ بِالْعَاقِدِ تَتَعَلَّقُ بِأَقْرَبِ النَّاسِ إلَى الْعَقْدِ ، وَأَقْرَبُ النَّاسِ فِي مَسْأَلَتِنَا مَنْ يَنْتَفِعُ بِهَذَا الْعَقْدِ وَهُوَ الْغَرِيمُ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَأْمُرُ الْوَصِيَّ أَوْ أَمِينَهُ بِالْبَيْعِ حَتَّى يَطْلُبَ الْغَرِيمُ فَلِذَا يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ عَلَيْهِ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ ( وَلَوْ كَانَ الْبَائِعُ الْوَصِيَّ يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ لِأَنَّهُ عَاقِدٌ نِيَابَةً عَنْ الْمَيِّتِ وَإِنْ كَانَ بِإِقَامَةِ الْقَاضِي إيَّاهُ عَنْهُ ثُمَّ الْوَصِيُّ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْغَرِيمِ ) وَكَذَا لَوْ بَاعَ الْوَصِيُّ الْعَبْدَ لِنَفَقَةِ الْوَارِثِ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَرْجِعُ عَلَى الْوَصِيِّ وَالْوَصِيَّ يَرْجِعُ عَلَى الْوَارِثِ لِمَا قُلْنَا إنَّ الْبَيْعَ لِأَجَلِهِ وَهُوَ الَّذِي يُنْتَفَعُ بِهِ ، فَلَوْ كَانَ الْوَارِثُ صَغِيرًا نَصَبَ

الْقَاضِي عَنْهُ مَنْ يَقْضِي دَيْنَهُ ( فَلَوْ ظَهَرَ لِلْمَيِّتِ مَالٌ يَرْجِعُ الْغَرِيمُ فِيهِ بِدَيْنِهِ ) : بِلَا شَكٍّ وَهَلْ يَرْجِعُ بِمَا ضَمِنَ لِلْمُشْتَرِي .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( قَالُوا وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ يَرْجِعُ بِالْمِائَةِ الَّتِي غَرِمَهَا أَيْضًا ) يُرِيدُ بِالْمِائَةِ مَا ضَمِنَ لِلْمُشْتَرِي فَرْضُهَا مِائَةٌ ( لِأَنَّهُ لَحِقَهُ ) ذَلِكَ ( فِي أَمْرِ الْمَيِّتِ ) وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا بِالِاتِّفَاقِ : أَعْنِي جَوَازَ أَنْ يُقَالَ : وَأَمَّا الْوَاقِعُ مِنْ الْقَوْلِ بِالرُّجُوعِ بِمَا ضَمِنَ فَفِيهِ خِلَافٌ .
قِيلَ نَعَمْ ، وَقَالَ مَجْدُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ : لَا يَأْخُذُ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْجَوَابِ لِأَنَّ الْغَرِيمَ إنَّمَا ضَمِنَ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ لَهُ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى غَيْرِهِ .
وَفِي الْكَافِي : الْأَصَحُّ الرُّجُوعُ لِأَنَّهُ قَضَى ذَلِكَ وَهُوَ مُضْطَرٌّ فِيهِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي التَّصْحِيحِ كَمَا سَمِعْت .

فَصْلٌ آخَرُ .
فَصْلٌ ( وَإِذَا قَالَ الْقَاضِي قَدْ قَضَيْت عَلَى هَذَا بِالرَّجْمِ فَارْجُمْهُ أَوْ بِالْقَطْعِ فَاقْطَعْهُ أَوْ بِالضَّرْبِ فَاضْرِبْهُ وَسِعَك أَنْ تَفْعَلَ ) وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ هَذَا وَقَالَ : لَا تَأْخُذْ بِقَوْلِهِ حَتَّى تُعَايِنَ الْحُجَّةَ ، لِأَنَّ قَوْلَهُ يَحْتَمِلُ الْغَلَطَ وَالْخَطَأَ وَالتَّدَارُكُ غَيْرُ مُمْكِنٍ ، وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَا يُقْبَلُ كِتَابُهُ .
وَاسْتَحْسَنَ الْمَشَايِخُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ لِفَسَادِ حَالِ أَكْثَرِ الْقُضَاةِ فِي زَمَانِنَا إلَّا فِي كِتَابِ الْقَاضِي لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ .
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ أُخْبِرَ عَنْ أَمْرٍ يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ فَيُقْبَلُ لِخُلُوِّهِ عَنْ التُّهْمَةِ ، وَلِأَنَّ طَاعَةَ أُولِي الْأَمْرِ وَاجِبَةٌ ، وَفِي تَصْدِيقِهِ طَاعَةٌ .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو مَنْصُورٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : إنْ كَانَ عَدْلًا عَالِمًا يُقْبَلُ قَوْلُهُ لِانْعِدَامِ تُهْمَةِ الْخَطَإِ وَالْخِيَانَةِ ، وَإِنْ كَانَ عَدْلًا جَاهِلًا يُسْتَفْسَرُ ، فَإِنْ أَحْسَنَ التَّفْسِيرَ وَجَبَ تَصْدِيقُهُ وَإِلَّا فَلَا ، وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا فَاسِقًا أَوْ عَالِمًا فَاسِقًا لَا يُقْبَلُ إلَّا أَنْ يُعَايِنَ سَبَبَ الْحُكْمِ لِتُهْمَةِ الْخَطَإِ وَالْخِيَانَةِ .

( فَصْلٌ آخَرُ ) لَمَّا كَانَتْ مَسَائِلُ هَذَا الْفَصْلِ تَرْجِعُ إلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَ الْقَاضِي بِانْفِرَادِهِ هَلْ يُقْبَلُ مُوَلًّى وَمَعْزُولًا أَخَّرَهُ ( قَوْلُهُ وَإِذَا قَالَ الْقَاضِي قَدْ قَضَيْت عَلَى هَذَا بِالرَّجْمِ فَارْجُمْهُ أَوْ بِالْقَطْعِ فَاقْطَعْهُ أَوْ بِالضَّرْبِ فَاضْرِبْهُ وَسِعَك أَنْ تَفْعَلَ ) بِمُجَرَّدِ إخْبَارِهِ هَذَا ( وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ هَذَا وَقَالَ لَا تَأْخُذْ بِقَوْلِهِ حَتَّى تُعَايِنَ الْحُجَّةَ ) الَّتِي عَنْهَا حَكَمَ فِيهِ بِذَلِكَ .
قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ : رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ : لَا يَسَعُهُ ذَلِكَ مَا لَمْ تَكُنْ الشَّهَادَةُ بِحَضْرَتِهِ ، وَزَادَ جَمَاعَةٌ عَلَى هَذَا فَقَالُوا : أَوْ يَشْهَدُ مَعَ الْقَاضِي شَاهِدٌ عَدْلٌ عَلَى ذَلِكَ ، وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ الْقَاضِيَ يَشْهَدُ ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ إلَّا أَنْ يَشْهَدَ الْقَاضِي وَالْعَدْلُ عَلَى شَهَادَةِ الَّذِينَ شَهِدُوا بِسَبَبِ الْحَدِّ لَا عَلَى حُكْمِ الْقَاضِي ، وَإِلَّا كَانَ الْقَاضِي شَاهِدًا عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ ، وَلَيْسَ هُنَا مَنْ يَشْهَدُ عِنْدَهُ إلَّا الْمَأْمُورُ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ ، وَهَذَا بَعِيدٌ فِي الْعَادَةِ : أَعْنِي أَنْ يَشْهَدَ الْقَاضِي عِنْدَ الْجَلَّادِ بِأَنَّهُ شَهِدَ عَلَى فُلَانٍ وَفُلَانٍ وَيُؤَدِّي الْآخَرُ عِنْدَهُ ، وَلِذَا اقْتَصَرَ مُحَمَّدٌ عَلَى مُعَايَنَةِ حُضُورِ الشَّهَادَةِ مِنْ الْمَأْمُورِ وَهَذَا ( لِأَنَّ الْغَلَطَ وَالْخَطَأَ فِي الْحُكْمِ مُحْتَمَلٌ ) لِأَنَّ الْقَطْعَ بِنَفْيِهِمَا لَيْسَ إلَّا لِلْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ( وَعَلَى هَذَا لَا يُقْبَلُ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي ) لِأَنَّ الِاعْتِمَادَ فِيهِ عَلَى خَبَرِ الْقَاضِي الْكَاتِبِ بِمُفْرَدِهِ ( وَاسْتَحْسَنَ الْمَشَايِخُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ فِي هَذَا الزَّمَانِ لِفَسَادِ حَالِ أَكْثَرِ الْقُضَاةِ إلَّا فِي كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي ) لِأَنَّ فِيهِ ضَرُورَةَ إحْيَاءِ الْحُقُوقِ ، وَلَمَّا كَانَ عَدَمُ الِاعْتِمَادِ مُعَلَّلًا بِالْفَسَادِ وَالْغَلَطِ اقْتَضَى الْحَالُ التَّفْصِيلَ فِي

التَّوَقُّفِ لَا إطْلَاقَهُ ( فَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو مَنْصُورٍ : إنْ كَانَ الْقَاضِي عَدْلًا عَالِمًا يُقْبَلُ قَوْلُهُ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ ) فِي الدِّينِ بِالْعَدَالَةِ وَالْخَطَإِ فِي الْحُكْمِ بِالْعِلْمِ ( وَإِنْ كَانَ عَدْلًا جَاهِلًا اُسْتُفْسِرَ ، فَإِنْ أَحْسَنَ ) فِي بَيَانِ سَبَبِ حُكْمِهِ وَشُرُوطِهِ ( وَجَبَ تَصْدِيقُهُ ) لِلْعَدَالَةِ وَتَرَكَ الْمُصَنِّفُ قِسْمَيْنِ آخَرَيْنِ وَهُوَ مَا إذَا كَانَ فَاسِقًا عَالِمًا أَوْ جَاهِلًا ، فَإِنَّ الْفِسْقَ مَانِعٌ مِنْ الرُّكُونِ لِإِخْبَارِهِ بِالِاسْتِفْسَارِ ، وَحُكْمُهُ بِقَصْدِ الْمُخَالَفَةِ فَلَا يُؤْخَذُ بِقَوْلِهِ وَلَا بِتَفْسِيرِهِ ( وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّهُ أُخْبِرَ عَنْ أَمْرٍ يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ ) فِي الْحَالِ ( فَيُقْبَلُ لِخُلُوِّهِ عَنْ التُّهْمَةِ ) لِأَنَّ التُّهْمَةَ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ فِي إخْبَارٍ بِأَمْرٍ لَا يُمْكِنُ إنْشَاؤُهُ فِي الْحَالِ فَيُحْتَمَلُ عَدَمُ الْمُطَابَقَةِ ، أَمَّا إذَا كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُقْدَرُ عَلَى إنْشَائِهِ فِي الْحَالِ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ أَنْشَأَهُ فِي الْحَالِ بِمُعَايَنَةِ الْحَاضِرِينَ وَلَا يَخْفَى أَنَّ الَّذِي يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ لَيْسَ إلَّا الْحُكْمَ وَهُوَ لَا يُفِيدُ ، فَإِنَّ الِاحْتِمَالَ الْمَانِعَ قَائِمٌ إذَا عَايَنَ الْحُكْمَ وَإِنْ لَمْ يُعَايِنْ الشَّهَادَةَ وَالشُّرُوطَ ، وَلِذَا قَالَ مُحَمَّدٌ : لَا يَسَعُهُ ذَلِكَ مَا لَمْ تَكُنْ الشَّهَادَةُ بِحَضْرَتِهِ وَلَمْ يَقُلْ الْحُكْمَ فَلَا يُفِيدُ هَذَا الْوَجْهُ شَيْئًا .
وَلَمَّا زَادَ مَنْ زَادَ عَلَى مَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ قَوْلَهُمْ أَوْ يَشْهَدُ مَعَ الْقَاضِي عَدْلٌ عَلَى ذَلِكَ احْتَاجُوا أَنْ يَزِيدُوا وَجْهًا آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الْعَادَةَ أَنْ يُنْصَبَ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ قَاضٍ وَاحِدٌ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ خَبَرُ الْقَاضِي بِانْفِرَادِهِ حُجَّةً فِي الْإِلْزَامِ لَقُلِّدَ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ قَاضِيَانِ ، وَأَنْتَ سَمِعْت مَا قَدَّمْنَاهُ فِي تِلْكَ الزِّيَادَةِ وَعَلِمْت أَنَّ الِاحْتِمَالَ الْمَذْكُورَ لَا يَزُولُ إلَّا بِالْعِلْمِ بِسَبَبِ الْقَضَاءِ ، وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ الْمَأْمُورِ إلَّا أَنْ يَحْضُرَ وُقُوعَ السَّبَبِ أَوْ يَشْهَدَ عِنْدَهُ عَدْلَانِ أَنَّهُ

شَهِدَ عِنْدَ الْقَاضِي الْآمِرِ فُلَانٌ وَفُلَانٌ عَلَى الْوَجْهِ الْفُلَانِيِّ وَيَشْهَدُوا تَوَفُّرَ الشُّرُوطِ ، وَهَذَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى تَكْثِيرِ الْقُضَاةِ بَلْ عَلَى وُجُودِ الشُّهُودِ قُضَاةً كَانُوا أَوْ لَا ، فَلَا يَلْزَمُ لِذَلِكَ تَكْثِيرُهُمْ ، فَالْمُلَازَمَةُ بَيْنَ عَدَمِ قَبُولِ خَبَرِهِ بِانْفِرَادِهِ وَتَكْثِيرِ الْقُضَاةِ مَمْنُوعَةٌ

قَالَ ( وَإِذَا عُزِلَ الْقَاضِي فَقَالَ لِرَجُلٍ أَخَذْتُ مِنْك أَلْفًا وَدَفَعْتهَا إلَى فُلَانٍ قَضَيْتُ بِمَا عَلَيْك فَقَالَ الرَّجُلُ أَخَذْتَهَا ظُلْمًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَاضِي ، وَكَذَا لَوْ قَالَ قَضَيْت بِقَطْعِ يَدِك فِي حَقٍّ ، هَذَا إذَا كَانَ الَّذِي قُطِعَتْ يَدُهُ وَاَلَّذِي أُخِذَ مِنْهُ الْمَالُ مُقِرَّيْنِ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ وَهُوَ قَاضٍ ) وَوَجْهُهُ أَنَّهُمَا لَمَّا تَوَافَقَا أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ فِي قَضَائِهِ كَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهُ .
إذْ الْقَاضِي لَا يَقْضِي بِالْجَوْرِ ظَاهِرًا ( وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ ) لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِعْلُهُ فِي قَضَائِهِ بِالتَّصَادُقِ وَلَا يَمِينَ عَلَى الْقَاضِي .
( وَلَوْ أَقَرَّ الْقَاطِعُ وَالْآخِذُ بِمَا أَقَرَّ بِهِ الْقَاضِي لَا يَضْمَنُ أَيْضًا ) لِأَنَّهُ فَعَلَهُ فِي حَالِ الْقَضَاءِ وَدَفْعُ الْقَاضِي صَحِيحٌ كَمَا إذَا كَانَ مُعَايِنًا ( وَلَوْ زَعَمَ الْمَقْطُوعُ يَدُهُ أَوْ الْمَأْخُوذُ مَالُهُ أَنَّهُ فَعَلَ قَبْلَ التَّقْلِيدِ أَوْ بَعْدَ الْعَزْلِ فَالْقَوْلُ لِلْقَاضِي أَيْضًا ) هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ أَسْنَدَ فِعْلَهُ إلَى حَالَةٍ مَعْهُودَةٍ مُنَافِيَةٍ لِلضَّمَانِ فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ طَلَّقْت أَوْ أَعْتَقْت وَأَنَا مَجْنُونٌ وَالْجُنُونُ مِنْهُ كَانَ مَعْهُودًا ( وَلَوْ أَقَرَّ الْقَاطِعُ أَوْ الْآخِذُ فِي هَذَا الْفَصْلِ بِمَا أَقَرَّ بِهِ الْقَاضِي بِضَمَانٍ ) لِأَنَّهُمَا أَقَرَّا بِسَبَبِ الضَّمَانِ ، وَقَوْلُ الْقَاضِي مَقْبُولٌ فِي دَفْعِ الضَّمَانِ عَنْ نَفْسِهِ لَا فِي إبْطَالِ سَبَبِ الضَّمَانِ عَلَى غَيْرِهِ ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِعْلُهُ فِي قَضَائِهِ بِالتَّصَادُقِ ( وَلَوْ كَانَ الْمَالُ فِي يَدِ الْآخِذِ قَائِمًا وَقَدْ أَقَرَّ بِمَا أَقَرَّ بِهِ الْقَاضِي وَالْمَأْخُوذُ مِنْهُ الْمَالُ صُدِّقَ الْقَاضِي فِي أَنَّهُ فَعَلَهُ فِي قَضَائِهِ أَوْ ادَّعَى أَنَّهُ فَعَلَهُ فِي غَيْرِ قَضَائِهِ يُؤْخَذُ مِنْهُ ) لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّ الْيَدَ كَانَتْ لَهُ فَلَا يُصَدَّقُ فِي دَعْوَى تَمَلُّكِهِ إلَّا بِحُجَّةٍ ، وَقَوْلُ الْمَعْزُولِ فِيهِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ .

( قَوْلُهُ وَإِذَا عُزِلَ الْقَاضِي فَقَالَ لِرَجُلٍ إلَخْ ) صُورَتُهَا عُزِلَ الْقَاضِي فَادَّعَى عَلَيْهِ رَجُلٌ أَنَّهُ أَخَذَ مِنْهُ أَلْفًا بِغَيْرِ حَقٍّ أَوْ قَطَعَ يَدَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ فَقَالَ قَضَيْت بِهَا عَلَيْك لِفُلَانٍ وَدَفَعْتهَا إلَيْهِ وَقَضَيْت بِقَطْعِك فِي حَقٍّ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَاضِي ، وَلَمْ يُحْكَ فِي هَذَا جَرَيَانُ تِلْكَ الرِّوَايَةِ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ هَذَا فِي أَمْرٍ فَاتَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ لِلْقَاضِي ، وَإِلَّا امْتَنَعَ النَّاسُ مِنْ قَبُولِ الْقَضَاءِ إذَا كَانَ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْعَزْلِ خُصُومَاتٌ فِي أَنْفُسٍ وَأَمْوَالٍ لَا تُحْصَرُ حِينَئِذٍ فَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ الْقَوْلِ لَهُ فِي هَذَا ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَهُ لِأَنَّ الْقَتْلَ وَالْقَطْعَ بَعْدُ لَمْ يَقَعْ فَكَانَ إعْمَالُ ذَلِكَ الِاحْتِمَالِ مُفِيدًا ، نَعَمْ كَوْنُ الْقَوْلِ لَهُ عَلَى الِاتِّفَاقِ مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا كَانَ الْمُدَّعِي مُقِرًّا بِأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ وَهُوَ قَاضٍ ، لِأَنَّهُمَا لَمَّا تَوَافَقَا عَلَى ذَلِكَ صَارَ كَأَنَّ هَذِهِ الدَّعْوَى جَرَتْ وَهُوَ قَاضٍ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ لِمَا قُلْنَا ( وَ ) لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ ( لَا يَقْضِي بِالْجَوْرِ ثُمَّ لَا يَمِينَ ) عَلَى الْمَعْزُولِ ( لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِعْلُهُ ) وَهُوَ ( فِي ) حَالِ ( قَضَائِهِ بِالتَّصَادُقِ ، وَ ) لَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ فِي حَالِ قَضَائِهِ بِذَلِكَ ( لَا يَمِينَ عَلَيْهِ ) فَكَذَا بَعْدَهُ ( وَلَوْ أَقَرَّ الْقَاطِعُ ) الْمَأْمُورُ ( أَوْ الْآخِذُ ) لِلْمَالِ بِأَمْرِ الْقَاضِي ( بِمَا أَقَرَّ بِهِ الْقَاضِي ) وَهُوَ أَنَّ الْقَطْعَ مِنْهُ وَالْأَخْذَ كَانَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِالْأَخْذِ وَأَمْرِهِ بِالدَّفْعِ ( لَا يَضْمَنُ أَيْضًا ) كَالْقَاضِي لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ فَعَلَهُ فِي حَالِ قَضَائِهِ ، وَهُوَ كَمَا لَوْ كَانَ دَفَعَ الْقَاضِي الْمَالَ إلَى الْآخِذِ مُعَايِنًا لِلْمَأْخُوذِ مِنْهُ فِي حَالِ قَضَائِهِ وَيَصِيرُ الْقَطْعُ بِإِقْرَارِ الْمَقْطُوعِ أَنَّهُ قَطَعَهُ فِي حَالِ قَضَائِهِ كَالْمُعَايِنِ لِلْحَاكِمِ الَّذِي رَفَعَ إلَيْهِ الْمَقْطُوعُ وَاقِعَتَهُ ( فَ ) أَمَّا ( لَوْ زَعَمَ

الْمَقْطُوعُ وَالْمَأْخُوذُ مَالَهُ أَنَّهُ فَعَلَهُ قَبْلَ التَّقْلِيدِ ) أَوْ بَعْدَهُ وَالْقَاضِي يَقُولُ بَلْ فَعَلْته فِي حَالِ قَضَائِي فَفِيهِ خِلَافٌ ( وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْقَوْلَ أَيْضًا لِلْقَاضِي ، لِأَنَّهُ ) أَيْ الْقَاضِي ( أَضَافَهُ إلَى حَالَةٍ مَعْهُودَةٍ مُنَافِيَةٍ لِلضَّمَانِ فَصَارَ كَمَا إذَا ) اتَّفَقَا عَلَى الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ .
وَقَالَتْ الْمَرْأَةُ وَالْعَبْدُ كَانَ ذَلِكَ فِي صِحَّةِ عَقْلِكَ وَ ( قَالَ ) بَلْ ( وَأَنَا مَجْنُونٌ وَكَانَ جُنُونُهُ مَعْهُودًا ) فَالْقَوْلُ لَهُ وَكَمَا لَوْ قَالَ أَقْرَرْت لَكَ وَأَنَا ذَاهِبُ الْعَقْلِ مِنْ بِرْسَامٍ وَهُوَ مَعْلُومٌ أَنَّهُ كَانَ بِهِ ، وَاحْتُرِزَ بِقَوْلِهِ هُوَ الصَّحِيحُ عَمَّا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي شَرْحِهِ لِلْجَامِعِ الصَّغِيرِ إنَّ الْقَوْلَ لِلْمُدَّعِي لِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ حَادِثٌ فَيُضَافُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ ، وَهَذَا يَخُصُّ مَا إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى بَعْدَ الْعَزْلِ خَاصَّةً ، وَكَذَا أَفْرَضَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فَإِنَّهُ قَالَ : فَأَمَّا إذَا زَعَمَ : أَيْ الْمُدَّعِي أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ الْعَزْلِ فَإِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ لِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ حَادِثٌ إلَخْ .
قَالَ : وَمَنْ ادَّعَى فِيهِ تَارِيخًا سَابِقًا لَا يُصَدَّقُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ ، فَالتَّصْحِيحُ يَخُصُّ مَا إذَا كَانَتْ دَعْوَاهُ أَنَّهُ فَعَلَهُ بَعْدَ الْعَزْلِ ، وَلَكِنَّهُ ذَكَرَ فِي تَعْلِيلِهِ مَا يَعُمُّ كَوْنَ الْقَوْلِ لِلْقَاضِي فَإِنَّهُ قَالَ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْمُنَازَعَةَ مَتَى وَقَعَتْ فِي الْحَالَةِ الْمَاضِيَةِ يُحَكَّمُ الْحَالُ كَمَسْأَلَةِ الطَّاحُونَةِ ، وَفِي الْحَالِ فِعْلُهُ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ ، وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ يَدَّعِي سُقُوطَهُ ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ حَيْثُ تَصَادَقَا أَنَّهُ فَعَلَهُ وَهُوَ قَاضٍ إلَى آخِرِ مَا ذُكِرَ ، وَلَكِنَّ الْمَذْكُورَ فِي عَامَّةِ نُسَخِ شُرُوحِ الْجَامِعِ أَنَّ الْقَوْلَ لِلْقَاضِي وَهُوَ اخْتِيَارُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ وَالصَّدْرِ الشَّهِيدِ ، لِأَنَّهُ بِالْإِسْنَادِ إلَى الْحَالَةِ الْمَعْهُودَةِ الْمُنَافِيَةِ لِلضَّمَانِ مُنْكِرٌ لِلضَّمَانِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ، كَمَا لَوْ قَالَ الْوَكِيلُ

بِالْبَيْعِ بَعْدَ الْعَزْلِ بِعْت وَسَلَّمْت قَبْلَ الْعَزْلِ فَقَالَ الْمُوَكِّلُ بَعْدَهُ فَالْقَوْلُ لِلْوَكِيلِ إنْ كَانَ الْمَبِيعُ مُسْتَهْلَكًا وَإِنْ كَانَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ لَمْ يُصَدَّقْ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ أَمْرٍ لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ فَيَصِيرُ مُدَّعِيًا ، وَكَذَا لَوْ قَالَ الْعَبْدُ بَعْدَ الْعِتْقِ لِرَجُلٍ قَطَعْت يَدَك خَطَأً وَأَنَا عَبْدٌ وَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ بَلْ وَأَنْتَ حُرٌّ فَالْقَوْلُ لِلْعَبْدِ وَلَا ضَمَانَ ، وَكَذَا إذَا قَالَ أَخَذْت مِنِّي كُلَّ شَهْرٍ كَذَا مِنْ الْمَالِ بَعْدَ الْعِتْقِ فَقَالَ السَّيِّدُ قَبْلَهُ فَالْقَوْلُ لِلسَّيِّدِ إنْ كَانَتْ الْغَلَّةُ هَالِكَةً ، وَإِنْ كَانَتْ قَائِمَةً فَالْقَوْلُ لِلْعَبْدِ ، وَيَأْخُذُهُ مِنْ الْمَوْلَى لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالْأَخْذِ ثُمَّ بِالْإِضَافَةِ يُرِيدُ التَّمَلُّكَ عَلَيْهِ فَكَانَ مُدَّعِيًا ، وَكَذَا الْوَصِيُّ لَوْ ادَّعَى بَعْدَ بُلُوغِ الْيَتِيمِ أَنَّهُ أَنْفَقَ عَلَيْهِ كَذَا وَهُوَ فِي يَدِهِ وَادَّعَى الْيَتِيمُ أَنَّهُ اسْتَهْلَكَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَصِيِّ ، ذَكَرَهُ الْمَحْبُوبِيُّ .
وَاسْتُشْكِلَ بِمَا ذَكَرَهُ فِي بَابِ جِنَايَةِ الْمَمْلُوكِ فِيمَنْ أَعْتَقَ جَارِيَتَهُ ثُمَّ قَالَ لَهَا قَطَعْت يَدَك وَأَنْتِ أَمَتِي فَقَالَتْ بَلْ وَأَنَا حُرَّةٌ فَالْقَوْلُ لَهَا ، وَكَذَا كُلُّ مَا أُخِذَ مِنْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ مَعَ أَنَّهُ مُنْكِرٌ بِإِسْنَادِهِ إلَى الْحَالَةِ الْمَعْهُودَةِ الْمُنَافِيَةِ لِلضَّمَانِ ، وَلَوْ قُلْت أَقَرَّ هُنَاكَ بِسَبَبِ الضَّمَانِ وَهُوَ الْقَطْعُ ثُمَّ ادَّعَى مَا يُبْرِئُهُ فَلَا يُسْمَعُ فَهَاهُنَا أَيْضًا أَقَرَّ بِسَبَبِ الضَّمَانِ وَهُوَ إقْرَارُهُ لِلْمُقَرِّ لَهُ بِشَيْءٍ ثُمَّ ادَّعَى مَا يُبْرِئُهُ بِذَهَابِ الْعَقْلِ ، وَكَذَا الْقَاضِي إذَا أَقَرَّ بَعْدَ الْعَزْلِ بِالْأَخْذِ ثُمَّ ادَّعَى مَا يُبْرِئُهُ بِالْإِسْنَادِ وَكَذَا الْوَصِيُّ .
أُجِيبَ بِالْفَرْقِ بِأَنَّ الْمَوْلَى أَقَرَّ بِأَخْذِ مَالِ الْغَيْرِ وَادَّعَى جِهَةَ التَّمَلُّكِ لِنَفْسِهِ فَيُصَدَّقُ فِي الْإِقْرَارِ لَا فِي جِهَةِ التَّمَلُّكِ ، كَمَا لَوْ قَالَ أَخَذْت مِنْك أَلْفًا هِيَ دَيْنِي عَلَيْك أَوْ الْهِبَةُ

الَّتِي وَهَبْتهَا وَأَنْكَرَ الْآخَرُ كَانَ الْقَوْلُ لِلْآخَرِ ، وَكَذَا لَوْ قَالَ أَكَلْت طَعَامَك بِإِذْنِك وَقَالَ : بِغَيْرِ إذْنِي فَالْقَوْلُ لِصَاحِبِ الطَّعَامِ ، بِخِلَافِ الْقَاضِي وَالْوَكِيلِ وَالْوَصِيِّ لِأَنَّهُمْ مَا ادَّعَوْا جِهَةَ التَّمَلُّكِ لِأَنْفُسِهِمْ ، وَكَذَا فِي دَعْوَى الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ مَا ادَّعَوْا التَّمَلُّكَ لِأَنْفُسِهِمْ لِمَا هُوَ مِلْكُ الْغَيْرِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُمْ فِي إضَافَتِهِمْ إلَى الْحَالَةِ الْمَعْهُودَةِ الْمُنَافِيَةِ ( قَوْلُهُ وَلَوْ أَقَرَّ الْقَاطِعُ أَوْ الْآخِذُ فِي هَذَا الْفَصْلِ ) وَهُوَ فَصْلُ زَعْمٍ لِمَأْخُوذٍ مِنْهُ وَالْمَقْطُوعُ أَنَّ الْقَاضِيَ فَعَلَ ذَلِكَ قَبْلَ التَّقْلِيدِ أَوْ بَعْدَ الْعَزْلِ فَأَقَرَّ الْقَاطِعُ وَالْقَابِضُ إنِّي فَعَلْت ذَلِكَ بِأَمْرِ الْقَاضِي وَهُوَ عَلَى قَضَائِهِ ، وَالْمَأْخُوذُ مِنْهُ وَالْمَقْطُوعُ يَدَهُ يَقُولُ بَلْ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ ( يَضْمَنَانِ ) وَلَا يَضْمَنُ الْقَاضِي ( لِأَنَّهُمَا أَقَرَّا بِسَبَبِ الضَّمَانِ ) وَهُوَ مُبَاشَرَتُهُمَا الْأَخْذَ وَالْقَطْعَ ( وَقَبُولُ قَوْلِ الْقَاضِي ) فِي ذَلِكَ ( لِدَفْعِ الضَّمَانِ عَنْ نَفْسِهِ ) بِسَبَبٍ يَخُصُّهُ وَهُوَ كَيْ لَا يَمْتَنِعَ النَّاسُ عَنْ قَبُولِهِ فَتَضِيعُ الْحُقُوقُ وَهِيَ مَفْسَدَةٌ عَظِيمَةٌ فَلَا يُوجِبُ بُطْلَانُهُ عَنْ غَيْرِهِ لِعَدَمِ الِاشْتِرَاكِ فِي ذَلِكَ السَّبَبِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ كَانَ الْمَالُ فِي يَدِ الْآخِذِ قَائِمًا ) هَذَا قَيْدٌ فِيمَا يَلْزَمُ جَوَابُ الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الصُّورَتَيْنِ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ ، فَإِنَّ لَازِمَ كَوْنِ الْقَوْلِ لِلْقَاضِي وَلِلْقَاطِعِ وَالْآخِذِ فِي صُورَةِ التَّصَادُقِ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ كَانَ فِي حَالَةِ الْقَضَاءِ أَنَّهُ لَا رُجُوعَ بِالْمَالِ الْمَأْخُوذِ لِلْمَأْخُوذِ مِنْهُ مُطْلَقًا فَإِنَّهُ قَدْ حَكَمَ بِنَفَاذِ قَوْلِهِ فَأَفَادَ أَنَّ ذَلِكَ : أَعْنِي عَدَمَ الرُّجُوعِ فِيمَا إذَا كَانَ الْمَأْخُوذُ هَالِكًا ، أَمَّا إذَا كَانَ قَائِمًا فَيُؤْخَذُ مِنْ الْقَابِضِ سَوَاءٌ صُدِّقَ الْقَابِضُ فِي أَنَّهُ أَخَذَهُ فِي حَالِ قَضَائِهِ أَوْ كَذَّبَهُ وَقَالَ بَلْ قَبْلَ التَّقْلِيدِ أَوْ بَعْدَ

الْعَزْلِ ، عَلَّلَهُ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ فَقَالَ لِأَنَّ الشَّيْءَ قَائِمٌ بِعَيْنِهِ فَلَا يُصَدَّقُ أَنَّهُ أَخَذَهُ عَلَى وَجْهِ الْحُكْمِ ، قَالُوا : مَعْنَاهُ أَنَّ الْقَاضِيَ لَمَّا أَقَرَّ بِالْأَخْذِ يَصِيرُ شَاهِدًا لِغَيْرِهِ بِالْكَلَامِ الثَّانِي ، وَإِقْرَارُهُ بِالْأَخْذِ صَحِيحٌ وَشَهَادَتُهُ بِالْمِلْكِ لِغَيْرِهِ بَاطِلَةٌ ، وَلِأَنَّ الْقَابِضَ أَقَرَّ بِسَبَبِ الضَّمَانِ حَيْثُ أَقَرَّ أَنَّ الْيَدَ كَانَتْ لِلْمَأْخُوذِ مِنْهُ فَلَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ التَّمَلُّكَ عَلَيْهِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ ، وَقَوْلُ الْمَعْزُولِ لَيْسَ بِبَيِّنَةٍ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ شَاهِدًا بِالدَّيْنِ بَلْ بِفِعْلِ نَفْسِهِ الْمُنَافِي لِلضَّمَانِ .

( كِتَابُ الشَّهَادَاتِ ) ( قَالَ : الشَّهَادَةُ فَرْضٌ تَلْزَمُ الشُّهُودَ وَلَا يَسَعُهُمْ كِتْمَانُهَا إذَا طَالَبَهُمْ الْمُدَّعِي ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا يَأْبَى الشُّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا } وقَوْله تَعَالَى { وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ طَلَبُ الْمُدَّعِي لِأَنَّهَا حَقُّهُ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى طَلَبِهِ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ .
.

( كِتَابُ الشَّهَادَاتِ ) يَتَبَادَرُ أَنَّ تَقْدِيمَهَا عَلَى الْقَضَاءِ أَوْلَى لِأَنَّ الْقَضَاءَ مَوْقُوفٌ عَلَيْهَا ، إذْ كَانَ ثُبُوتُ الْحَقِّ بِهَا إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْقَضَاءُ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الشَّهَادَةِ قَدَّمَهُ تَقْدِمَةً لِلْمَقْصُودِ عَلَى الْوَسِيلَةِ .
وَالشَّهَادَةُ لُغَةً ، إخْبَارٌ قَاطِعٌ ، وَفِي عُرْفِ أَهْلِ الشَّرْعِ إخْبَارُ صِدْقٍ لِإِثْبَاتِ حَقٍّ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَتَخْرُجُ شَهَادَةُ الزُّورِ فَلَيْسَتْ شَهَادَةً .
وَقَوْلُ الْقَائِلِ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي أَشْهَدُ بِرُؤْيَةِ كَذَا لِبَعْضِ الْعُرْفِيَّاتِ .
وَسَبَبُ وُجُوبِهَا طَلَبُ ذِي الْحَقِّ أَوْ خَوْفُ فَوْتِ حَقِّهِ ، فَإِنَّ مَنْ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ لَا يَعْلَمُ بِهَا صَاحِبُ الْحَقِّ وَخَافَ فَوْتَ الْحَقِّ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَ بِلَا طَلَبٍ .
وَشَرْطُهَا الْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ وَالْوِلَايَةُ ، فَخَرَجَ الصَّبِيُّ وَالْعَبْدُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ لِلْحَاجَةِ إلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَلَمْ يُذْكَرْ الْإِسْلَامُ لِأَنَّ الدِّينَ أَصْلُ الشَّهَادَةِ فِي الْجُمْلَةِ .
وَرُكْنُهَا اللَّفْظُ الْخَاصُّ الَّذِي هُوَ مُتَعَلِّقٌ لِلْإِخْبَارِ .
وَحُكْمُهَا وُجُوبُ الْحُكْمِ عَلَى الْقَاضِي وَالْقِيَاسُ يَأْبَى جَوَازَهَا لَكِنَّهُ تُرِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ } وَنَظَائِرُهُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَثِيرَةٌ ، وَسَبَبِيَّةُ الطَّلَبِ ثَبَتَتْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا يَأْبَى الشُّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا } وَسَبَبِيَّةُ خَوْفِ الْفَوْتِ بِالْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ سَبَبِيَّةَ الطَّلَبِ إنَّمَا ثَبَتَتْ كَيْ لَا يَفُوتَ الْحَقُّ ( قَوْلُهُ الشَّهَادَةُ فَرْضٌ ) يَعْنِي أَدَاءَهَا بَعْدَ التَّحَمُّلِ ، فَإِنَّهَا تُقَالُ لِلتَّحَمُّلِ كَمَا يُقَالُ لِلْأَدَاءِ فِي الْعُرْفِ مِنْ غَيْرِ مُلَاحَظَةِ الْمُتَكَلِّمِ مُسَوِّغًا لِلْإِطْلَاقِ فِي قَصْدِ التَّحَمُّلِ فَيَكُونُ مُعْتَبَرًا مُشْتَرَكًا لَفْظِيًّا عِنْدَ عُرْفِ أَهْلِ التَّكَلُّمِ وَافْتِرَاضُ الْأَدَاءِ إلَّا فِي الْحُدُودِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وقَوْله تَعَالَى { وَلَا يَأْبَى الشُّهَدَاءُ

إذَا مَا دُعُوا } مُحْتَمَلٌ أَنْ يُرَادَ النَّهْيُ عَنْ الْإِبَاءِ عَنْ التَّحَمُّلِ إذَا دُعِيَ إلَيْهِ ، وَيَكُونُ اسْمُ الشُّهَدَاءِ مَجَازًا فِيمَنْ سَيَتَّصِفُ بِالشَّهَادَةِ فَيَكُونُ النَّهْيُ لِكَرَاهَةِ الْإِبَاءِ عَنْ التَّحَمُّلِ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ وَمَرْجِعُهَا خِلَافُ الْأَوْلَى لِأَنَّ التَّحَمُّلَ لِمَا فِيهِ مِنْ إعَانَةِ الْمُسْلِمِ عَلَى حِفْظِ حَقِّهِ أَوْلَى .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ نَهْيُ مُسَمَّى الشُّهَدَاءِ عَنْ الْإِبَاءِ ، وَحَقِيقَةُ الشُّهَدَاءِ مَنْ اتَّصَفَ بِالشَّهَادَةِ فَيَكُونُ نَهْيُ مَنْ اتَّصَفَ بِالشَّهَادَةِ حَقِيقَةً عَنْ الْإِبَاءِ إذَا ادَّعَى ، وَلَا اتِّصَافَ قَبْلَ الدُّعَاءِ إلَّا بِالتَّحَمُّلِ فَيَلْزَمُ كَوْنُ النَّهْيِ عَنْ إبَاءِ الْأَدَاءِ وَهُوَ الرَّاجِحُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُحَافَظَةِ عَلَى حَقِيقَةِ اللَّفْظِ ، وَالْأَدَاءُ الْمَفْرُوضُ لَا يَكُونُ إلَّا عِنْدَ الْحَاكِمِ فَقَدْ فَرَضَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى الْمُتَحَمِّلِ أَنْ يَذْهَبَ إذَا دُعِيَ إلَى الْحَاكِمِ لِلْأَدَاءِ .
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ } وَهُوَ تَحْرِيمُ الْكِتْمَانِ عَنْ الْقَاضِي فَيَكُونُ الْإِظْهَارُ لِلْقَاضِي وَهُوَ الْأَدَاءُ فَرْضًا عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُ الضِّدُّ الَّذِي لَا يَتَحَقَّقُ الِانْتِهَاءُ عَنْ الْمُحَرَّمِ الذِّشِي هُوَ الْكِتْمَانُ إلَّا بِهِ ، ثُمَّ أَكَّدَ سُبْحَانَهُ التَّحْرِيمَ الْمُفَادَ بِالنَّهْيِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } وَهُوَ تَأْكِيدٌ فِي تَأْكِيدٍ ، لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى فَإِنَّهُ آثِمٌ تَأْكِيدٌ ، وَإِضَافَةُ الْإِثْمِ إلَى الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ أَشْرَفُ أَعْضَاءِ الْبَدَنِ وَرَئِيسُهَا تَأْكِيدٌ فِي تَأْكِيدٍ .
وَلِأَنَّهُ هُوَ مَحَلُّ الْكِتْمَانِ فَهُوَ مَحَلُّ الْمَعْصِيَةِ بِتَمَامِهَا هُنَا ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَعَاصِي الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ مَسْبُوقَةً بِمَعْصِيَةِ الْقَلْبِ وَهُوَ الْهَمُّ الْمُتَّصِلُ بِالْفِعْلِ فَلَيْسَ هُوَ مَحَلًّا لِتَمَامِهَا .
قَالُوا : يَلْزَمُ إذَا كَانَ مَجْلِسُ الْقَاضِي قَرِيبًا ، فَإِنْ كَانَ بَعِيدًا .
فَعَنْ نَصْرٍ : إنْ كَانَ

بِحَالٍ يُمْكِنُهُ الرُّجُوعُ إلَى أَهْلِهِ فِي يَوْمِهِ يَجِبُ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ ، وَلَوْ كَانَ شَيْخًا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ فَأَرْكَبَهُ الطَّالِبُ لَا بَأْسَ بِهِ ، وَعَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ فِيمَنْ أَخْرَجَ الشُّهُودَ إلَى ضَيْعَةٍ فَاسْتَأْجَرَ لَهُمْ حَمِيرًا فَرَكِبُوهَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ ، وَفِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّهَا الْعَادَةُ وَهِيَ إكْرَامُ الشُّهُودِ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ وَفَصَّلَ فِي النَّوَازِلِ بَيْنَ كَوْنِ الشَّاهِدِ شَيْخًا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ وَلَا يَجِدُ مَا يَسْتَأْجِرُهُ دَابَّةً فَتُقْبَلُ وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ فَلَا تُقْبَلُ ، وَلَوْ وَضَعَ لِلشُّهُودِ طَعَامًا فَأَكَلُوا إنْ كَانَ مُهَيَّأً قَبْلَ ذَلِكَ تُقْبَلُ ، وَإِنْ صَنَعَهُ لِأَجْلِهِمْ لَا تُقْبَلُ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ لَا تُقْبَلُ فِيهِمَا .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : تُقْبَلُ فِيهِمَا ، وَهُوَ الْأَوْجَهُ لِلْعَادَةِ الْجَارِيَةِ بِإِطْعَامِ مَنْ حَلَّ مَحَلَّ الْإِنْسَانِ مِمَّنْ يَعِزُّ عَلَيْهِ شَاهِدًا أَوْ لَا ، وَيُؤْنِسُهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْإِهْدَاءَ إذَا كَانَ بِلَا شَرْطٍ لِيَقْضِيَ حَاجَتَهُ عِنْدَ الْأَمِيرِ يَجُوزُ كَذَا قِيلَ ، وَفِيهِ نَظَرٌ ، فَإِنَّ الْأَدَاءَ فَرْضٌ ، بِخِلَافِ الذَّهَابِ إلَى الْأَمِيرِ .
وَعِنْدَ الْفَقِيهِ أَبِي بَكْرٍ فِيمَنْ لَا يَعْرِفُهُ الْقَاضِي إنْ عَلِمَ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْبَلُهُ نَرْجُو أَنْ يَسَعَهُ أَنْ لَا يَشْهَدَ .
وَفِي الْعُيُونِ : إنْ كَانَ فِي الصَّكِّ جَمَاعَةٌ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ وَسِعَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَوْ كَانَ لَكِنَّ قَبُولَهَا مَعَ شَهَادَتِهِ أَسْرَعُ وَجَبَ .
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ : إذَا دُعِيَ فَأَخَّرَ بِلَا عُذْرٍ ظَاهِرٍ ثُمَّ أَدَّى لَا تُقْبَلُ لِتَمَكُّنِ التُّهْمَةِ فِيهِ إذْ يُمْكِنُ أَنَّ تَأْخِيرَهُ بِعُذْرٍ وَيُمْكِنُ أَنَّهُ لِاسْتِجْلَابِ الْأُجْرَةِ انْتَهَى .
وَالْوَجْهُ أَنْ تُقْبَلَ وَيُحْمَلَ عَلَى الْعُذْرِ مِنْ نِسْيَانٍ ثُمَّ تَذَكُّرٍ أَوْ غَيْرِهِ

( وَالشَّهَادَةُ فِي الْحُدُودِ يُخَيَّرُ فِيهَا الشَّاهِدُ بَيْنَ السَّتْرِ وَالْإِظْهَارِ ) لِأَنَّهُ بَيْنَ حِسْبَتَيْنِ إقَامَةِ الْحَدِّ وَالتَّوَقِّي عَنْ الْهَتْكِ ( وَالسَّتْرُ أَفْضَلُ ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي شَهِدَ عِنْدَهُ { لَوْ سَتَرْته بِثَوْبِك لَكَانَ خَيْرًا لَك } وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ سَتَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } وَفِيمَا نُقِلَ مِنْ تَلْقِينِ الدَّرْءِ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ السَّتْرِ ( إلَّا أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَشْهَدَ بِالْمَالِ فِي السَّرِقَةِ فَيَقُولُ : أَخَذَ ) إحْيَاءً لِحَقِّ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ ( وَلَا يَقُولُ سَرَقَ ) مُحَافَظَةً عَلَى السَّتْرِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ ظَهَرَتْ السَّرِقَةُ لَوَجَبَ الْقَطْعُ وَالضَّمَانُ لَا يُجَامِعُ الْقَطْعَ فَلَا يَحْصُلُ إحْيَاءُ حَقِّهِ .

( قَوْلُهُ وَالشَّهَادَةُ فِي الْحُدُودِ ) أَيْ الْأَدَاءُ فِي الْحُدُودِ يُخَيَّرُ فِيهَا بَيْنَ الْأَدَاءِ وَالتَّرْكِ لِأَنَّ النَّهْيَ فِي الْقُرْآنِ وَإِنْ كَانَ عَامًّا لَكِنْ ثَبَتَ تَخْصِيصُهُ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْحُدُودِ لِمَا فِيهِ مِنْ السَّتْرِ ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي شَهِدَ عِنْدَهُ { لَوْ سَتَرْته بِثَوْبِك لَكَانَ خَيْرًا لَك } كَذَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ ، وَالْمَعْرُوفُ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ هَذَا قَالَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهَزَّالٍ .
ذَكَرَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ : بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ يُقَالُ لَهُ هَزَّالٌ { لَوْ سَتَرْته بِرِدَائِك لَكَانَ خَيْرًا لَك } وَالْمُرَادُ بِمَرْجِعِ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ سَتَرْته مَاعِزٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ يَزِيدَ بْنِ نُعَيْمٍ عَنْ أَبِيهِ { أَنَّ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقَرَّ عِنْدَهُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فَأَمَرَ بِرَجْمِهِ وَقَالَ لِهَزَّالٍ : لَوْ سَتَرْتَهُ بِرِدَائِك لَكَانَ خَيْرًا لَك } وَإِنَّ هَزَّالًا هُوَ الَّذِي أَشَارَ عَلَى مَاعِزٍ أَنْ يَأْتِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُقِرَّ عِنْدَهُ وَلَمْ يَكُنْ شَاهِدًا ، لِأَنَّ مَاعِزًا إنَّمَا حُدَّ بِالْإِقْرَارِ ، أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ أَنَّ هَزَّالًا أَمَرَ مَاعِزًا أَنْ يَأْتِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُخْبِرَهُ .
وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَزَادَ .
وَقَالَ شُعْبَةُ : قَالَ يَحْيَى : فَذَكَرْت هَذَا الْحَدِيثَ بِمَجْلِسٍ فِيهِ يَزِيدُ بْنُ نُعَيْمِ بْنِ هَزَّالٍ فَقَالَ يَزِيدُ : هَذَا هُوَ الْحَقُّ ، هَذَا حَدِيثُ جَدِّي وَقَالَ : صَحِيحُ الْإِسْنَادِ .
وَرَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ ، وَفِيهِ { قَالَ فِي هَزَّالٍ بِئْسَمَا صَنَعْت ، لَوْ سَتَرْته بِطَرْفِ رِدَائِك لَكَانَ خَيْرًا لَك ، قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ أَدْرِ أَنَّ فِي الْأَمْرِ سَعَةً } وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ {

مَنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ .
وَتَلْقِينُ الدَّرْءِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَيْ تَلْقِينُ مَا يَحْصُلُ بِهِ الدَّرْءُ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى قَصْدِهِ إلَى السَّتْرِ وَالسَّتْرُ يَحْصُلُ بِالْكِتْمَانِ ، فَكَانَ كِتْمَانُ الشَّهَادَةِ بِالْحُدُودِ مَخْصُوصًا مِنْ عُمُومِ تَحْرِيمِهِ ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا أَسْنَدَ الطَّحَاوِيُّ إلَى أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ { أُتِيَ بِسَارِقٍ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ هَذَا سَرَقَ فَقَالَ لَهُ مَا إخَالُهُ سَرَقَ } .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِلِصٍّ قَدْ اعْتَرَفَ اعْتِرَافًا وَلَمْ يُوجَدْ مَعَهُ مَتَاعٌ ، فَقَالَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا إخَالُكَ سَرَقْت ، قَالَ فَأَعَادَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا فَأَمَرَ بِهِ فَقُطِعَ } الْحَدِيثَ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمَاعِزٍ : لَعَلَّك قَبَّلْت أَوْ غَمَزْت أَوْ نَظَرْت ، قَالَ : لَا } الْحَدِيثُ قَدَّمْنَاهُ فِي الْحُدُودِ .
فَإِنْ قُلْت : كَيْفَ صَحَّ لَك الْقَوْلُ بِتَخْصِيصِ الْعَامِّ مِنْ الْكِتَابِ بِهَذِهِ وَهِيَ أَخْبَارُ آحَادٍ ، وَأَيْضًا شَرْطُ التَّخْصِيصِ عِنْدَكُمْ الْمُقَارَنَةُ وَمِنْ أَيْنَ ثَبَتَ لَك ذَلِكَ .
قُلْت : هَذِهِ الْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ فِي طَلَبِ السَّتْرِ بَلَغَتْ مَبْلَغًا لَا تَنْحَطُّ بِهِ عَنْ دَرَجَةِ الشُّهْرَةِ لِتَعَدُّدِ مُتُونِهَا مَعَ قَبُولِ الْأُمَّةِ لَهَا فَصَحَّ التَّخْصِيصُ بِهَا ، أَوْ هِيَ مُسْتَنَدُ الْإِجْمَاعِ عَلَى تَخْيِيرِ الشَّاهِدِ فِي الْحُدُودِ ، فَثُبُوتُ الْإِجْمَاعِ دَلِيلُ ثُبُوتِ الْمُخَصِّصِ .
وَأَمَّا الْمُقَارَنَةُ فَإِنَّمَا هِيَ شَرْطُ التَّخْصِيصِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ، وَهَذَا التَّخْصِيصُ الَّذِي ادَّعَيْنَاهُ هُنَا لَيْسَ بِذَاكَ بَلْ هُوَ جَمْعٌ لِلْمُعَارَضَةِ عَلَى مَا كَتَبْنَاهُ فِي التَّعَارُضِ مِنْ كِتَابِ تَحْرِيرِ الْأُصُولِ مِنْ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ إذَا تَعَارَضَا بِأَنْ يُحْمَلَ

عَلَى تَخْصِيصِهِ بِهِ ، فَإِذَا وَجَبَ لِلْجَمْعِ حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ تَضَمُّنُ الْحُكْمِ مِنَّا بِأَنَّهُ كَانَ مُقَارِنًا أَوْ أَنَّهَا لَيْسَتْ تَخْصِيصَاتٍ أُوَلَ كَمَا أَنَّا إذَا رَجَّحْنَا فِي التَّعَارُضِ الْمُحَرِّمَ عَلَى الْمُبِيحِ وَثَبَتَ صِحَّتُهُمَا تَضَمَّنَ حُكْمُنَا أَنَّ الْمُبِيحَ كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى التَّحْرِيمِ فَنَسَخَ حُكْمًا لِوُجُوبِ تَرْجِيحِ الْمُحَرِّمِ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ تَقَدُّمُهُ بِعِلْمِ تَارِيخِهِ ، وَكَثِيرًا مَا يَعْتَرِضُ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الشَّارِحِينَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ الْمَحْكُومِ فِيهَا بِالتَّخْصِيصِ مِنْ أَصْحَابِنَا بِأَنَّ الْمُقَارَنَةَ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ فَلَا يَثْبُتُ التَّخْصِيصُ ، وَمُرَادُهُمْ فِي تِلْكَ الْأَمَاكِنِ مَا ذَكَرْنَا ، هَذَا كُلُّهُ إذَا نَظَرْنَا إلَى مُجَرَّدِ إطْلَاقِ قَوْله تَعَالَى { وَلَا يَأْبَى الشُّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا } فَأَمَّا إذَا قَيَّدْنَاهُ بِمَا إذَا دُعُوا لِلشَّهَادَةِ فِي الدَّيْنِ الْمَذْكُورِ أَوَّلَ الْآيَةِ : أَيْ قَوْله تَعَالَى { إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ } .
ثُمَّ قَالَ { وَلَا يَأْبَى الشُّهَدَاءُ } يَعْنِي بِذَلِكَ الدَّيْنَ فَظَاهِرٌ ( قَوْلُهُ إلَّا أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَشْهَدَ بِالْمَالِ ) اسْتِدْرَاكٌ مِنْ قَوْلِهِ مُخَيَّرٌ فِي الْحُدُودِ ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَشْهَدَ بِالسَّرِقَةِ فَقَدْ يَتَبَادَرُ أَنَّهُ لَا يَشْهَدُ فِيهَا مُطْلَقًا لِاسْتِلْزَامِهِ الْحَدَّ فَقَالَ يَجِبُ أَنْ يَشْهَدَ بِالْمَالِ إحْيَاءً لِحَقِّ مَالِكِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ فَيَقُولُ أَخَذَ الْمَالَ وَلَا يَقُولُ سَرَقَ ، فَإِنَّ الْأَخْذَ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ غَصْبًا أَوْ عَلَى ادِّعَاءِ أَنَّهُ مِلْكُهُ مُودَعًا عِنْدَ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ ، فَلَا تَسْتَلْزِمُ الشَّهَادَةُ بِالْأَخْذِ مُطْلَقًا ثُبُوتَ الْحَدِّ بِهَا مَعَ أَنَّ فِيهِ مَصْلَحَةً لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ ، لِأَنَّهُ إذَا قَالَ سَرَقَ فَثَبَتَتْ السَّرِقَةُ وَجَبَ الْقَطْعُ وَبِهِ يَنْتَفِي ضَمَانُ الْمَالِ إنْ كَانَ أَتْلَفَهُ

( وَالشَّهَادَةُ عَلَى مَرَاتِبَ : مِنْهَا الشَّهَادَةُ فِي الزِّنَا يُعْتَبَرُ فِيهَا أَرْبَعَةٌ مِنْ الرِّجَالِ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاَللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ } وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى { ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } ( وَلَا تُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ النِّسَاءِ ) لِحَدِيثِ الزُّهْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَضَتْ السُّنَّةُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالْخَلِيفَتَيْنِ مِنْ بَعْدِهِ أَنْ لَا شَهَادَةَ لِلنِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ ، وَلِأَنَّ فِيهَا شُبْهَةَ الْبَدَلِيَّةِ لِقِيَامِهَا مَقَامَ شَهَادَةِ الرِّجَالِ فَلَا تُقْبَلُ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ

( قَوْلُهُ وَالشَّهَادَةُ عَلَى مَرَاتِبِهَا ) أَرْبَعَةٌ ( مِنْهَا الشَّهَادَةُ فِي الزِّنَا ) وَالشَّهَادَةُ فِي بَقِيَّةِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ ، وَالشَّهَادَةُ فِيمَا سِوَاهَا مِنْ الْمُعَامَلَاتِ ، وَالشَّهَادَةُ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ مِنْ النِّسَاءِ .
أَمَّا عَلَى الزِّنَا فَيُعْتَبَرُ فِيهَا أَرْبَعَةٌ مِنْ الرِّجَالِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ } وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ : حَدَّثَنَا حَفْصٌ عَنْ حَجَّاجٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ : مَضَتْ السُّنَّةُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخَلِيفَتَيْنِ بَعْدَهُ أَنْ لَا تَجُوزَ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ وَالدِّمَاءِ انْتَهَى .
وَتَخْصِيصُ الْخَلِيفَتَيْنِ .
يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لِأَنَّهُمَا اللَّذَانِ كَانَ مُعْظَمُ تَقْرِيرِ الشَّرْعِ وَطُرُقِ الْأَحْكَامِ فِي زَمَانِهِمَا وَبَعْدَهُمَا مَا كَانَ مِنْ غَيْرِهِمَا إلَّا الِاتِّبَاعُ ، وَلِأَنَّ النَّصَّ أَوْجَبَ أَرْبَعَةَ رِجَالٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { أَرْبَعَةً مِنْكُمْ } فَقَبُولُ امْرَأَتَيْنِ مَعَ ثَلَاثَةٍ مُخَالِفٌ لِمَا نُصَّ عَلَيْهِ مِنْ الْعَدَدِ وَالْمَعْدُودِ .
وَغَايَةُ الْأَمْرِ الْمُعَارَضَةُ بَيْنَ عُمُومِ { فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ } وَبَيَّنَ هَذِهِ فَتُقَدَّمَ هَذِهِ لِأَنَّهَا مَانِعَةٌ وَتِلْكَ مُبِيحَةٌ .
وَأَيْضًا هَذِهِ تُفِيدُ زِيَادَةَ قَيْدٍ وَزِيَادَةُ الْقَيْدِ مِنْ طُرُقِ الدَّرْءِ فَإِنَّهُ كُلَّمَا كَثُرَتْ قُيُودُ الشَّيْءِ قَلَّ وُجُودُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا لَيْسَ فِيهِ زِيَادَةُ تَقْيِيدٍ ، وَلِأَنَّ فِيهَا شُبْهَةَ الْبَدَلِيَّةِ ، وَلِذَا لَا تُقْبَلُ فِيهَا الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى { فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ } الْآيَةُ ظَاهِرَةٌ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُنَّ إلَّا عِنْدَ عَدَمِ رِجَالٍ يَشْهَدُونَ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ ذَلِكَ فَاعْتُبِرَ حَقِيقَةُ الْبَدَلِيَّةِ لَكِنْ لَمَّا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَعْمُولًا بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ نَزَلَتْ إلَى شُبْهَةِ الْبَدَلِيَّةِ

وَالشُّبْهَةُ كَالْحَقِيقَةِ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ .
وَسَائِرُ مَا سِوَى حَدِّ الزِّنَا مِنْ الْحُدُودِ يُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ وَلَا تُقْبَلُ النِّسَاءُ لِمَا ذَكَرْنَا

( وَمِنْهَا الشَّهَادَةُ بِبَقِيَّةِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ تُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ } ( وَلَا تُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ النِّسَاءِ ) لِمَا ذَكَرْنَا .

( قَالَ : وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْحُقُوقِ يُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ سَوَاءٌ كَانَ الْحَقُّ مَالًا أَوْ غَيْرَ مَالٍ مِثْلُ النِّكَاحِ ) وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْعِدَّةِ وَالْحَوَالَةِ وَالْوَقْفِ وَالصُّلْحِ ( وَالْوَكَالَةِ وَالْوَصِيَّةِ ) وَالْهِبَةِ وَالْإِقْرَارِ وَالْإِبْرَاءِ وَالْوَلَدِ وَالْوِلَادِ وَالنَّسَبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ إلَّا فِي الْأَمْوَالِ وَتَوَابِعِهَا لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا عَدَمُ الْقَبُولِ لِنُقْصَانِ الْعَقْلِ وَاخْتِلَالِ الضَّبْطِ وَقُصُورِ الْوِلَايَةِ فَإِنَّهَا لَا تَصْلُحُ لِلْإِمَارَةِ وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ فِي الْحُدُودِ ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَرْبَعِ مِنْهُنَّ وَحْدَهُنَّ إلَّا أَنَّهَا قُبِلَتْ فِي الْأَمْوَالِ ضَرُورَةً ، وَالنِّكَاحُ أَعْظَمُ خَطَرًا وَأَقَلُّ وُقُوعًا فَلَا يَلْحَقُ بِمَا هُوَ أَدْنَى خَطَرًا وَأَكْثَرُ وُجُودًا .
وَلَنَا أَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا الْقَبُولُ لِوُجُودِ مَا يُبْتَنَى عَلَيْهِ أَهْلِيَّةُ الشَّهَادَةِ وَهُوَ الْمُشَاهَدَةُ وَالضَّبْطُ وَالْأَدَاءُ ، إذْ بِالْأَوَّلِ يَحْصُلُ الْعِلْمُ لِلشَّاهِدِ ، وَبِالثَّانِي يَبْقَى ، وَبِالثَّالِثِ يَحْصُلُ الْعِلْمُ لِلْقَاضِي وَلِهَذَا يُقْبَلُ إخْبَارُهَا فِي الْأَخْبَارِ ، وَنُقْصَانُ الضَّبْطِ بِزِيَادَةِ النِّسْيَانِ انْجَبَرَ بِضَمِّ الْأُخْرَى إلَيْهَا فَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ ذَلِكَ إلَّا الشُّبْهَةُ فَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ ، وَهَذِهِ الْحُقُوقُ تَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ وَعَدَمُ قَبُولِ الْأَرْبَعِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ كَيْ لَا يَكْثُرَ خُرُوجُهُنَّ .

وَكَذَا الْقِصَاصُ وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ : أَيْ وَكُلُّ مَا سِوَى ذَلِكَ يُقْبَلُ فِيهِ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ سَوَاءٌ كَانَ الْحَقُّ مَالًا أَوْ لَا كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْوَكَالَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَالْعِتْقِ وَالرَّجْعَةِ وَالنَّسَبِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ إلَّا فِي الْأَمْوَالِ وَتَوَابِعِهَا كَالْإِذْنِ وَشَرْطِ الْخِيَارِ وَالشُّفْعَةِ وَالْإِجَارَةِ وَقَتْلِ الْخَطَإِ وَكُلِّ جُرْحٍ لَا يُوجِبُ إلَّا الْمَالَ ، وَكَذَا فَسْخُ الْعُقُودِ وَقَبْضُ نُجُومِ الْكِتَابَةِ إلَّا النَّجْمُ الْأَخِيرُ فَفِيهِ وَجْهَانِ لِتَرَتُّبِ الْعِتْقِ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا عَدَمُ الْقَبُولِ لِنُقْصَانِ الْعَقْلِ وَاخْتِلَالُ الضَّبْطِ ، وَكَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ مَالِكٌ .
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ رِوَايَةٌ كَقَوْلِنَا وَرِوَايَةٌ كَقَوْلِهِمَا ، وَقُصُورُ الرِّوَايَةِ حَتَّى إنَّهَا لَا تَصْلُحُ لِلْإِمَارَةِ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَرْبَعِ مِنْهُنَّ ، لَكِنْ خَرَجَ عَنْ الْأَصْلِ شَرْعًا فِي الْأَمْوَالِ ضَرُورَةً لِكَثْرَةِ وُقُوعِ أَسْبَابِهَا فَيَلْحَقُ الْحَرَجُ بِطَلَبِ رَجُلَيْنِ فِي كُلِّ حَادِثَةٍ ، وَكَذَا الْعَادَةُ أَنْ يُوَسَّعَ فِيمَا يَكْثُرُ وُقُوعُهُ .
بِخِلَافِ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ مَعَ كَوْنِهِ أَعْظَمَ خَطَرًا أَقَلَّ وُقُوعًا فَلَا يَلْحَقُ الْحَرَجُ بِالِاشْتِرَاطِ ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى فِي الرَّجْعَةِ { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } وَالرَّجْعَةُ مِنْ تَوَابِعِ النِّكَاحِ فَأُلْحِقَتْ بَقِيَّةُ التَّوَابِعِ بِهِ كَالْخُلْعِ وَالطَّلَاقِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَلَنَا أَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا الْقَبُولُ ) فَابْتَدَأَ بِتَضْمِينِ مَنْعِ مُقَدِّمَتِهِ الْقَائِلَةِ : الْأَصْلُ عَدَمُ الْقَبُولِ ، ثُمَّ أَثْبَتَ هَذِهِ بِوُجُودِ مَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ أَهْلِيَّةُ الشَّهَادَةِ وَهُوَ الْمُشَاهَدَةُ إلَخْ .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْمُشَاهَدَةَ وَالضَّبْطَ أَهْلِيَّةُ الْأَدَاءِ لَا أَهْلِيَّةُ الشَّهَادَةِ ، بَلْ هِيَ كَمَا قَالَ فِي الْأَسْرَارِ : إنَّ أَهْلِيَّتَهَا بِالْوِلَايَةِ وَالْوِلَايَةُ

مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْحُرِّيَّةِ ، وَالْإِرْثِ وَالنِّسَاءُ فِي هَذَا كَالرِّجَالِ .
بَقِيَ أَهْلِيَّةُ التَّحَمُّلِ وَهُوَ بِالْمُشَاهَدَةِ وَالضَّبْطِ وَالنِّسَاءُ فِي ذَلِكَ كَالرِّجَالِ وَلِهَذَا قُبِلَتْ رِوَايَتُهُنَّ لِأَحَادِيثِ الْأَحْكَامِ الْمُلْزِمَةِ لِلْأُمَّةِ .
فَعَنْ هَذَا قَدْ يُقَالُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ : إنْ جَعَلَ الشَّارِعُ الثِّنْتَيْنِ فِي مَقَامِ رَجُلٍ لَيْسَ لِنُقْصَانِ الضَّبْطِ وَنَحْوِ ذَلِكَ بَلْ لِإِظْهَارِ دَرَجَتِهِنَّ عَنْ الرِّجَالِ لَيْسَ غَيْرُ ، وَلَقَدْ نَرَى كَثِيرًا مِنْ النِّسَاءِ يَضْبِطْنَ أَكْثَرَ مِنْ ضَبْطِ الرِّجَالِ لِاجْتِمَاعِ خَاطِرِهِنَّ أَكْثَرَ مِنْ الرِّجَالِ لِكَثْرَةِ الْوَارِدَاتِ عَلَى خَاطِرِ الرِّجَالِ وَشُغْلِ بَالِهِمْ بِالْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ وَقِلَّةِ الْأَمْرَيْنِ فِي جِنْسِ النِّسَاءِ .
سَلَّمْنَا أَنَّهُ لِنُقْصَانِ الضَّبْطِ وَزِيَادَةِ النِّسْيَانِ فِي جِنْسِهِنَّ وَإِنْ كَانَ بَعْضُ أَفْرَادِهِنَّ أَضْبَطَ مِنْ بَعْضِ أَفْرَادِ الرِّجَالِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { أَنْ تَضِلَّ إحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى } لَكِنْ ذَلِكَ انْجَبَرَ بِضَمِّ الْأُخْرَى إلَيْهَا فَلَمْ يَبْقَ حِينَئِذٍ إلَّا الشُّبْهَةُ فَلَمْ تُقْبَلْ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ ، وَهَذِهِ الْحُقُوقُ تَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ ، وَأَمَّا عَدَمُ قَبُولِ الْأَرْبَعِ فَعَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ كَأَنَّهُ كَيْ لَا يَكْثُرَ خُرُوجُهُنَّ

قَالَ ( وَتُقْبَلُ فِي الْوِلَادَةِ وَالْبَكَارَةِ وَالْعُيُوبِ بِالنِّسَاءِ فِي مَوْضِعٍ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ شَهَادَةُ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { شَهَادَةُ النِّسَاءِ جَائِزَةٌ فِيمَا لَا يَسْتَطِيعُ الرِّجَالُ النَّظَرَ إلَيْهِ } وَالْجَمْعُ الْمُحَلَّى بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ يُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ فَيَتَنَاوَلُ الْأَقَلَّ .
وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي اشْتِرَاطِ الْأَرْبَعِ ، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا سَقَطَتْ الذُّكُورَةُ لِيَخِفَّ النَّظَرُ لِأَنَّ نَظَرَ الْجِنْسِ إلَى الْجِنْسِ أَخَفُّ فَكَذَا يَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْعَدَدِ إلَّا أَنَّ الْمُثَنَّى وَالثَّلَاثَ أَحْوَطُ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْإِلْزَامِ ( ثُمَّ حُكْمُهَا فِي الْوِلَادَةِ شَرَحْنَاهُ فِي الطَّلَاقِ ) وَأَمَّا حُكْمُ الْبَكَارَةِ فَإِنْ شَهِدْنَ أَنَّهَا بِكْرٌ يُؤَجَّلُ فِي الْعِنِّينِ سَنَةً وَيُفَرَّقُ بَعْدَهَا لِأَنَّهَا تَأَيَّدَتْ بِمُؤَيِّدٍ إذْ الْبَكَارَةُ أَصْلٌ ، وَكَذَا فِي رَدِّ الْمَبِيعَةِ إذَا اشْتَرَاهَا بِشَرْطِ الْبَكَارَةِ ، فَإِنْ قُلْنَ إنَّهَا ثَيِّبٌ يَحْلِفُ الْبَائِعُ لِيَنْضَمَّ نُكُولُهُ إلَى قَوْلِهِنَّ وَالْعَيْبُ يَثْبُتُ بِقَوْلِهِنَّ فَيَحْلِفُ الْبَائِعُ ، وَأَمَّا شَهَادَتُهُنَّ عَلَى اسْتِهْلَالِ الصَّبِيِّ لَا تُقْبَلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي حَقِّ الْإِرْثِ لِأَنَّهُ مِمَّا يَطْلُعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ إلَّا فِي حَقِّ الصَّلَاةِ لِأَنَّهَا مِنْ أُمُورِ الدِّينِ .
وَعِنْدَهُمَا تُقْبَلُ فِي حَقِّ الْإِرْثِ أَيْضًا لِأَنَّهُ صَوْتٌ عِنْدَ الْوِلَادَةِ وَلَا يَحْضُرُهَا الرِّجَالُ عَادَةً فَصَارَ كَشَهَادَتِهِنَّ عَلَى نَفْسِ الْوِلَادَةِ

( قَوْلُهُ وَتُقْبَلُ فِي الْوِلَادَةِ وَالْبَكَارَةِ وَالْعُيُوبِ بِالنِّسَاءِ فِي مَوْضِعٍ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ شَهَادَةُ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ ) مُسْلِمَةٍ حُرَّةٍ عِدْلَةٍ وَالثِّنْتَانِ أَحْوَطُ وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ .
وَشَرَطَ الشَّافِعِيُّ أَرْبَعًا .
وَمَالِكٌ ثِنْتَيْنِ .
لَهُ أَنَّ كُلَّ ثِنْتَيْنِ يَقُومَانِ مَقَامَ رَجُلٍ .
وَلِمَالِكٍ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الشَّهَادَةِ أَمْرَانِ الْعَدَدُ وَالذُّكُورَةُ ، وَقَدْ سَقَطَ اعْتِبَارُ الذُّكُورَةِ فَبَقِيَ الْعَدَدُ .
وَلَنَا مَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي أَوَّلِ بَابِ شَهَادَاتِ النِّسَاءِ مِنْ الْأَصْلِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ غَالِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَطَاوُسٍ قَالُوا : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { شَهَادَةُ النِّسَاءِ جَائِزَةٌ فِيمَا لَا يَسْتَطِيعُ الرِّجَالُ النَّظَرَ إلَيْهِ } وَهَذَا مُرْسَلٌ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ .
وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا الْحَدِيثِ قَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّ اللَّامَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ اعْتِبَارُهَا فِي الْعَهْدِ إذْ لَا عَهْدَ فِي مَرْتَبَةٍ بِخُصُوصِهَا مِنْ مَرَاتِبِ الْجَمْعِ كَانَتْ لِلْجِنْسِ وَهُوَ يَتَنَاوَلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ فَتَصِحُّ بِوَاحِدَةٍ وَالْأَكْثَرُ أَحْسَنُ فَقُلْنَا كَذَلِكَ .
وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ : أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ : { مَضَتْ السُّنَّةُ أَنْ تَجُوزَ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ غَيْرُهُنَّ مِنْ وِلَادَاتِ النِّسَاءِ وَعُيُوبِهِنَّ } ، وَهَذَا مُرْسَلٌ حُجَّةٌ عِنْدَنَا ، وَهُوَ مِثْلُ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ .
وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَيْضًا أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ بْنُ أَبِي سَبْرَةَ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ الْقَعْقَاعِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ وَحْدَهُنَّ إلَّا عَلَى مَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إلَّا هُنَّ مِنْ عَوْرَاتِ النِّسَاءِ .
وَلَهُ مَخَارِجُ أُخَرُ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( ثُمَّ حُكْمُهَا فِي الْوِلَادَةِ

شَرَحْنَاهُ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ ) أَيْ فِي بَابِ ثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْهُ .
وَفِي الْمَبْسُوطِ : لَوْ شَهِدَ بِالْوِلَادَةِ رَجُلٌ فَقَالَ فَاجَأْتهَا فَاتَّفَقَ نَظَرِي إلَيْهَا تُقْبَلُ إذَا كَانَ عَدْلًا ، وَلَوْ قَالَ تَعَمَّدْت النَّظَرَ لَا تُقْبَلُ ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا : إنْ قَالَ تَعَمَّدْت النَّظَرَ تُقْبَلُ أَيْضًا ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَأَمَّا حُكْمُ الْبَكَارَةِ ، فَإِنْ شَهِدَتْ أَنَّهَا بِكْرٌ يُؤَجَّلُ الْعِنِّينُ سَنَةً فَإِذَا مَضَتْ فَقَالَ وَصَلْت إلَيْهَا فَأَنْكَرَتْ تَرَى النِّسَاءُ ، فَإِنْ قُلْنَ هِيَ بِكْرٌ تُخَيَّرُ فَإِنْ اخْتَارَتْ الْفُرْقَةَ فُرِّقَ لِلْحَالِ ، وَإِنَّمَا فُرِّقَ بِقَوْلِهِنَّ لِأَنَّهَا تَأَيَّدَتْ بِمُؤَيِّدٍ وَهُوَ مُوَافَقَةُ الْأَصْلِ ، إذْ الْبَكَارَةُ أَصْلٌ ، وَلَوْ لَمْ تَتَأَيَّدْ شَهَادَتُهُنَّ بِمُؤَيِّدٍ اُعْتُبِرَتْ فِي تَوَجُّهِ الْخُصُومَةِ لَا فِي إلْزَامِ الْخَصْمِ ، وَكَذَا فِي رَدِّ الْمَبِيعِ إذَا اشْتَرَاهَا بِشَرْطِ الْبَكَارَةِ فَقَالَ الْمُشْتَرِي هِيَ ثَيِّبٌ يُرِيهَا النِّسَاءَ ، فَإِنْ قُلْنَ هِيَ بِكْرٌ لَزِمَتْ الْمُشْتَرِيَ لِتَأَيُّدِ شَهَادَتِهِنَّ بِمُؤَيِّدٍ هُوَ الْأَصْلُ ، وَإِنْ قُلْنَ هِيَ ثَيِّبٌ لَمْ يَثْبُتْ حَقُّ الْفَسْخِ لِأَنَّ حَقَّ الْفَسْخِ قَوِيٌّ وَشَهَادَتُهُنَّ ضَعِيفَةٌ وَلَمْ تَتَأَيَّدْ بِمُؤَيِّدٍ لَكِنْ ثَبَتَ حَقُّ الْخُصُومَةِ فَتَتَوَجَّهُ الْيَمِينُ عَلَى الْبَائِعِ لَقَدْ سَلَّمْتهَا بِحُكْمِ الْبَيْعِ وَهِيَ بِكْرٌ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَبَضَهَا حَلَفَ بِاَللَّهِ لَقَدْ بِعْتهَا وَهِيَ بِكْرٌ ، فَإِنْ نَكَلَ رُدَّتْ عَلَيْهِ ، وَإِنْ حَلَفَ لَزِمَ الْمُشْتَرِيَ ، وَأَمَّا شَهَادَتُهُنَّ عَلَى اسْتِهْلَالِ الصَّبِيِّ فَتُقْبَلُ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ بِالِاتِّفَاقِ .
وَأَمَّا فِي حَقِّ الْإِرْثِ فَعِنْدَهُمَا كَذَلِكَ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تُقْبَلُ إلَّا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ لِأَنَّ الِاسْتِهْلَالَ صَوْتٌ مَسْمُوعٌ وَالرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فِيهِ سَوَاءٌ فَكَانَ مِمَّا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ ، بِخِلَافِ

الْوِلَادَةِ فَإِنَّهَا انْفِصَالُ الْوَلَدِ مِنْ الْأُمِّ فَلَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ وَهُمَا يَقُولَانِ صَوْتُهُ يَقَعُ عِنْدَ الْوِلَادَةِ وَعِنْدَهَا لَا يَحْضُرُ الرِّجَالُ فَصَارَ كَشَهَادَتِهِنَّ عَلَى نَفْسِ الْوِلَادَةِ ، وَبِقَوْلِهِمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَهُوَ أَرْجَحُ

قَالَ ( وَلَا بُدَّ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ الْعَدَالَةِ وَلَفْظَةِ الشَّهَادَةِ ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ الشَّاهِدُ لَفْظَةَ الشَّهَادَةِ وَقَالَ أَعْلَمُ أَوْ أَتَيَقَّنُ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ ) أَمَّا الْعَدَالَةُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى { مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ } وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } وَلِأَنَّ الْعَدَالَةَ هِيَ الْمُعِينَةُ لِلصِّدْقِ ، لِأَنَّ مَنْ يَتَعَاطَى غَيْرَ الْكَذِبِ قَدْ يَتَعَاطَاهُ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْفَاسِقَ إذَا كَانَ وَجِيهًا فِي النَّاسِ ذَا مُرُوءَةٍ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِأَنَّهُ لَا يُسْتَأْجَرُ لِوَجَاهَتِهِ وَيَمْتَنِعُ عَنْ الْكَذِبِ لِمُرُوءَتِهِ ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ، إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ لَوْ قَضَى بِشَهَادَةِ الْفَاسِقِ يَصِحُّ عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَصِحُّ ، وَالْمَسْأَلَةُ مَعْرُوفَةٌ .
وَأَمَّا لَفْظَةُ الشَّهَادَةِ فَلِأَنَّ النُّصُوصَ نَطَقَتْ بِاشْتِرَاطِهَا إذْ الْأَمْرُ فِيهَا بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ ، وَلِأَنَّ فِيهَا زِيَادَةَ تَوْحِيدٍ ، فَإِنَّ قَوْلَهُ أَشْهَدُ مِنْ أَلْفَاظِ الْيَمِينِ كَقَوْلِهِ أَشْهَدُ بِاَللَّهِ فَكَانَ الِامْتِنَاعُ عَنْ الْكَذِبِ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ أَشَدَّ .
وَقَوْلُهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إشَارَةٌ إلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ حَتَّى يُشْتَرَطَ الْعَدَالَةُ ، وَلَفْظَةُ الشَّهَادَةِ فِي شَهَادَةِ النِّسَاءِ فِي الْوِلَادَةِ وَغَيْرِهَا هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْإِلْزَامِ حَتَّى اخْتَصَّ بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَلِهَذَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْحُرِّيَّةُ وَالْإِسْلَامُ ( قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَقْتَصِرُ الْحَاكِمُ عَلَى ظَاهِرِ الْعَدَالَةِ فِي الْمُسْلِمِ وَلَا يَسْأَلُ عَنْ حَالِ الشُّهُودِ حَتَّى يَطْعَنَ الْخَصْمُ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ، إلَّا مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ } وَمِثْلُ ذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ هُوَ الِانْزِجَارُ عَمَّا هُوَ مُحَرَّمٌ دِينُهُ ، وَبِالظَّاهِرِ كِفَايَةٌ إذْ لَا وُصُولَ إلَى

الْقَطْعِ .

( قَوْلُهُ وَلَا بُدَّ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ الْعَدَالَةِ وَلَفْظَةِ الشَّهَادَةِ ) حَتَّى لَوْ قَالَ الشَّاهِدُ أَعْلَمُ أَوْ أَتَيَقَّنُ لَا تُقْبَلُ .
وَثَالِثٌ وَهُوَ التَّفْسِيرُ حَتَّى لَوْ قَالَ أَشْهَدُ عَلَى شَهَادَتِهِ أَوْ مِثْلَ شَهَادَتِهِ لَا تُقْبَلُ ، وَكَذَا مِثْلُ شَهَادَةِ صَاحِبِي عِنْدَ الْخَصَّافِ لِلِاحْتِمَالِ .
أَمَّا اشْتِرَاطُ الْعَدَالَةِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى { مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ } وَلِأَنَّ الْعَدَالَةَ هِيَ الْمُعَيِّنَةُ لِجِهَةِ الصِّدْقِ ، فَإِنَّ الشَّهَادَةَ إخْبَارٌ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ عَلَى السَّوَاءِ بِالنَّظَرِ إلَى نَفْسِ الْمَفْهُومِ ، فَبِذَلِكَ لَا يَلْزَمُ كَوْنُهُ صِدْقًا حَتَّى يَعْمَلَ بِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : الْمُنْكِرُ أَيْضًا قَدْ يَكُونُ عَدْلًا .
فَالْجَوَابُ أَنَّهُ يُعَارِضُهُ اخْتِلَافُ الْمُدَّعِي فَيَتَسَاقَطَانِ وَتَسْلَمُ الشَّهَادَةُ عَنْ الْمُعَارِضِ أَوْ يَتَرَجَّحُ إخْبَارُ الْمُدَّعِي بِالشَّهَادَةِ ( وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْفَاسِقَ إذَا كَانَ وَجِيهًا فِي النَّاسِ ) كَمُبَاشِرِي السُّلْطَانِ وَالْمَكَسَةِ وَغَيْرِهِمْ ( تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِأَنَّهُ لَا يُسْتَأْجَرُ لِشَهَادَةِ الزُّورِ لِوَجَاهَتِهِ وَيَمْتَنِعُ عَنْ الْكَذِبِ لِمُرُوءَتِهِ ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ) لِأَنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ فَلَا يُقْبَلُ إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ إنْ قَضَى بِشَهَادَةِ الْفَاسِقِ يَنْفُذُ عِنْدَنَا ) وَيَكُونُ الْقَاضِي عَاصِيًا .
( وَأَمَّا ) اشْتِرَاطُ ( لَفْظَةِ الشَّهَادَةِ فَلِأَنَّ النُّصُوصَ نَطَقَتْ بِاشْتِرَاطِهَا إذْ الْأَمْرُ فِيهَا ) أَيْ فِي النُّصُوصِ ( بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ ) قَالَ تَعَالَى { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } { وَأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ } { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ } { فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ } { وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ } وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إذَا رَأَيْت مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ } .
وَحَاصِلُ هَذَا أَنَّ النُّصُوصَ وَرَدَتْ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : غَايَاتُهَا

وَرَدَتْ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ عَلَى الشَّاهِدِ لَفْظَ الشَّهَادَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى { وَرَبَّك فَكَبِّرْ } وَلَمْ يُرِدْ مِنْ السُّنَّةِ فِي تَكْبِيرِ الِافْتِتَاحِ إلَّا بِلَفْظِ التَّكْبِيرِ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ } وَلَمْ يُشْتَرَطْ لِذَلِكَ لَفْظُ التَّكْبِيرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَمِنْ أَيْنَ لَزِمَ فِي الشَّهَادَةِ ؟ قُلْنَا : لِفَرْقٍ مَعْنَوِيٍّ وَهُوَ أَنَّ لَفْظَةَ الشَّهَادَةِ أَقْوَى فِي إفَادَةِ تَأْكِيدِ مُتَعَلِّقِهَا مِنْ غَيْرِهَا مِنْ الْأَلْفَاظِ كَأَعْلَم وَأَتَيَقَّنُ لِمَا فِيهَا مِنْ اقْتِضَاءِ مَعْنَى الْمُشَاهَدَةِ وَالْمُعَايَنَةِ الَّتِي مَرْجِعُهَا الْحِسُّ وَلِأَنَّهَا مِنْ أَلْفَاظِ الْحَلِفِ فَالِامْتِنَاعُ مَعَ ذِكْرِهَا عَنْ الْكَذِبِ أَظْهَرُ .
وَقَدْ وَقَعَ الْأَمْرُ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ } وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إذَا رَأَيْت مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ } فَلَزِمَ لِذَلِكَ لَفْظُ الشَّهَادَةِ ، بِخِلَافِ التَّكْبِيرِ فَإِنَّهُ التَّعْظِيمُ ، وَلَيْسَ لَفْظُ أَكْبَرَ أَبْلَغَ مِنْ أَجَلَّ وَأَعْظَمَ فَكَانَتْ الْأَلْفَاظُ سَوَاءً ، فَلَمْ تَثْبُتْ خُصُوصِيَّةٌ تُوجِبُ تَعْيِينَ لَفْظِ أَكْبَرَ .
وَقَوْلُهُ ( فِي ذَلِكَ كُلِّهِ ) أَيْ فِي الْمَرَاتِبِ الْأَرْبَعِ كُلِّهَا تُشْتَرَطُ فِيهَا الْعَدَالَةُ ، وَلَفْظُ الشَّهَادَةِ فِي شَهَادَةِ النِّسَاءِ وَغَيْرِهَا .
وَقَوْلُهُ ( هُوَ الصَّحِيحُ ) احْتِرَازٌ عَمَّا قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ مِنْ عَدَمِ اشْتِرَاطِ لَفْظِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّهَا خَبَرٌ كَالشَّهَادَةِ عَلَى هِلَالِ رَمَضَانَ .
وَوَجْهُ الظَّاهِرِ وَهُوَ قَوْلُ سَائِرِ النَّاسِ وَمِنْهُمْ مَشَايِخُ الْمَذْهَبِ مِنْ الْبُخَارِيِّينَ وَالْبَلْخِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ مَا ذَكَرْنَا مِنْ النُّصُوصِ مَعَ وَجْهِ إفَادَةِ اشْتِرَاطِهَا ، بِخِلَافِ رَمَضَانَ فَإِنَّ اللَّازِمَ فِيهِ لَيْسَ الشَّهَادَةَ بَلْ الْإِخْبَارَ ذُكِرَ فِي الْخُلَاصَةِ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ ، لَوْ أَخْبَرَ عَدْلٌ الْقَاضِيَ بِمَجِيءِ رَمَضَانَ يُقْبَلُ قَوْلُهُ وَيَأْمُرُ النَّاسَ بِالصَّوْمِ يَعْنِي فِي

يَوْمِ الْغَيْمِ ، وَلَا يُشْتَرَطُ لَفْظُ الشَّهَادَةِ وَشَرَائِطُ الْقَضَاءِ ، أَمَّا فِي الْعِيدِ فَيُشْتَرَطُ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ انْتَهَى .
وَلِهَذَا احْتَاجُوا إلَى الْحِيلَةِ فِي إثْبَاتِ الرَّمَضَانِيَّةِ .
قَالُوا : يَدَّعِي عِنْدَ الْقَاضِي بِوَكَالَةٍ مُعَلَّقَةٍ بِدُخُولِ رَمَضَانَ بِقَبْضِ دَيْنٍ فَيُقِرُّ الْخَصْمُ بِالدَّيْنِ وَيُنْكِرُ دُخُولَ رَمَضَانَ فَيَشْهَدُ الشُّهُودُ بِذَلِكَ فَيُقْضَى بِالْمَالِ فَيَثْبُتُ مَجِيءُ رَمَضَانَ ، لِأَنَّ إثْبَاتَ مَجِيءِ رَمَضَانَ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ .
ذَكَرَهُ أَيْضًا فِي شَهَادَاتِ الْخُلَاصَةِ .
وَاتَّفَقَ الْكُلُّ عَلَى اشْتِرَاطِ الْحُرِّيَّةِ وَالْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ وَالْإِسْلَامِ : يَعْنِي فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْمُسْلِمِ ، وَإِلَّا فَالذِّمِّيُّ يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى مِثْلِهِ عِنْدَنَا ( قَوْلُهُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ) يَعْنِي لَمَّا اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ عَلَى وُجُوبِ الْعَدَالَةِ .
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقْتَصِرُ الْحَاكِمُ عَلَى ظَاهِرِ عَدَالَةِ الْمُسْلِمِ لِأَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ ظَاهِرُ حَالِهِ مِنْ الْتِزَامِ الْإِسْلَامِ الْتِزَامُ الِاجْتِنَابِ عَنْ مَحْظُورَاتِهِ فَيُقْبَلُ كُلُّ مُسْلِمٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ عَدْلٌ .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إلَّا مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ } رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ ، وَمِثْلُ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
قَالَ فِي كِتَابِهِ الَّذِي كَتَبَهُ لِأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَقَدَّمْنَا بَعْضَهُ وَفِيهِ " الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إلَّا مَجْلُودًا فِي قَذْفٍ ، أَوْ مُجَرَّبًا فِي شَهَادَةِ زُورٍ ، أَوْ ظَنِينًا فِي وَلَاءٍ أَوْ قَرَابَةٍ " رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقٍ فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي حُمَيْدٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ .
وَمِنْ طَرِيقٍ آخَرَ حَسَنَةٌ ، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ غَيْرِ الطَّرِيقَيْنِ جَيِّدَةٍ ، وَإِذَا كَانَ الثَّابِتُ ظَاهِرًا هِيَ الْعَدَالَةُ

اكْتَفَى بِهَا ، إذْ الْقَطْعُ لَا يَحْصُلُ وَلَوْ مَعَ الِاسْتِقْصَاءِ .
نَعَمْ تَزْدَادُ قُوَّةُ الظَّنِّ وَلَا مُوجِبَ لِطَلَبِ الزِّيَادَةِ إلَّا بِدَلِيلٍ وَلَمْ يُوجَدْ ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ السَّلَفُ يَسْأَلُونَ قَبْلُ .

( إلَّا فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فَإِنَّهُ يَسْأَلُ عَنْ الشُّهُودِ ) لِأَنَّهُ يَحْتَالُ لِإِسْقَاطِهَا فَيُشْتَرَطُ الِاسْتِقْصَاءُ فِيهَا ، وَلِأَنَّ الشُّبْهَةَ فِيهَا دَارِئَةٌ ، وَإِنْ طَعَنَ الْخَصْمُ فِيهِمْ سَأَلَ عَنْهُمْ لِأَنَّهُ تَقَابَلَ الظَّاهِرَانِ فَيَسْأَلُ طَلَبًا لِلتَّرْجِيحِ ( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : لَا بُدَّ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُمْ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ ) لِأَنَّ الْقَضَاءَ مَبْنَاهُ عَلَى الْحُجَّةِ وَهِيَ شَهَادَةُ الْعُدُولِ فَيَتَعَرَّفُ عَنْ الْعَدَالَةِ ، وَفِيهِ صَوْنُ قَضَائِهِ عَنْ الْبُطْلَانِ .
وَقِيلَ هَذَا اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا فِي هَذَا الزَّمَانِ .

وَأَوَّلُ مَنْ سَأَلَ ابْنُ شُبْرُمَةَ ، بِخِلَافِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ لِأَنَّهُ وَجَدَ فِيهَا دَلِيلَ طَلَبِ الزِّيَادَةِ فَيَسْأَلُ عَلَى مَا عُرِفَ احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ ، إذْ رُبَّمَا يَعْجِزُ عَنْ التَّزْكِيَةِ فَيَنْدَرِئُ الْحَدُّ وَهُوَ مَطْلُوبٌ .
وَأَوْرَدَ أَنَّ الظَّاهِرَ إنَّمَا يَكْفِي لِلدَّفْعِ وَالشَّهَادَةُ تُوجِبُ الِاسْتِحْقَاقَ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الظَّاهِرَ فِي الشَّهَادَةِ كَالْقَطْعِ لَمَّا لَمْ يُمْكِنْ الْوُصُولُ إلَى الْقَطْعِ وَلَا بِالتَّزْكِيَةِ .
وَالْحَقُّ أَنَّ الظَّاهِرَ يُوجِبُ الِاسْتِحْقَاقَ ، وَالْمُرَادُ بِالظَّاهِرِ الَّذِي لَا يَثْبُتُ بِهِ الِاسْتِحْقَاقُ هُوَ الِاسْتِصْحَابُ .
وَأَمَّا إذَا طَعَنَ الْخَصْمُ فَقَدْ تَقَابَلَ ظَاهِرَانِ فَيَسْأَلُ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : لَا بُدَّ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُمْ طَعَنَ الْخَصْمُ أَوْ لَمْ يَطْعَنْ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ .
وَقَالَ مَالِكٌ مَنْ كَانَ مَشْهُورًا بِالْعَدَالَةِ لَا يُسْأَلُ عَنْهُ ، وَمَنْ عُرِفَ جُرْحُهُ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ ، وَإِنَّمَا يَسْأَلُ إذَا شَكَّ .
وَإِنَّمَا قُلْنَا لَا بُدَّ مِنْ السُّؤَالِ مُطْلَقًا لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَنْبَنِي عَلَى الْحُجَّةِ وَهِيَ شَهَادَةُ الْعُدُولِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَثْبُتَ عِنْدَهُ الْعَدَالَةُ وَذَلِكَ بِذَلِكَ ، وَلَا يَخْفَى قُوَّةُ دَلِيلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى ذَلِكَ .
وَكَوْنُهُ لَا بُدَّ أَنْ يَثْبُتَ الْعَدَالَةُ لَمْ يُخَالِفْ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَلَكِنْ يَقُولُ : طَرِيقُ الثُّبُوتِ هُوَ الْبِنَاءُ عَلَى ظَاهِرِ عَدَالَةِ الْمُسْلِمِ خُصُوصًا مَعَ مَا رَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ وَمَعَ ذَلِكَ الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا لِاخْتِلَافِ حَالِ الزَّمَانِ ، وَلِذَلِكَ قَالُوا : هَذَا الْخِلَافُ خِلَافُ زَمَانٍ لَا حُجَّةٍ وَبُرْهَانٍ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي زَمَانِ أَبِي حَنِيفَةَ الصَّلَاحُ بِخِلَافِ زَمَانِهِمَا .
وَمَا قِيلَ بِأَنَّهُ أَفْتَى فِي الْقَرْنِ الثَّالِثِ وَهُوَ الْمَشْهُودُ لَهُمْ بِالصَّلَاحِ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ {

خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ } وَهُمَا أَفْتَيَا فِي الْقَرْنِ الرَّابِعِ فَفِيهِ نَظَرٌ .
فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تُوُفِّيَ فِي عَامِ خَمْسِينَ وَمِائَةٍ فَكَيْفَ أَفْتَى فِي الْقَرْنِ الثَّالِثِ .
وَقَوْلُهُ خَيْرُ الْقُرُونِ إلَخْ إثْبَاتُ الْخَيْرِيَّةِ بِالتَّدْرِيجِ وَالتَّفَاوُتِ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ فِي الزَّمَانِ الْمُتَأَخِّرِ غَلَبَةَ الْفِسْقِ ، وَالظَّاهِرُ الَّذِي يَثْبُتُ بِالْغَالِبِ أَقْوَى مِنْ الظَّاهِرِ الَّذِي يَثْبُتُ بِظَاهِرِ حَالِ الْإِسْلَامِ .
وَتَحْقِيقُهُ أَنَّهُ لَمَّا قَطَعْنَا بِغَلَبَةِ الْفِسْقِ فَقَدْ قَطَعْنَا بِأَنَّ أَكْثَرَ مَنْ الْتَزَمَ الْإِسْلَامَ لَمْ يَجْتَنِبْ مَحَارِمَهُ فَلَمْ يَبْقَ مُجَرَّدُ الْتِزَامِ الْإِسْلَامِ مَظِنَّةَ الْعَدَالَةِ فَكَانَ الظَّاهِرُ الثَّابِتُ بِالْغَالِبِ بِلَا مُعَارِضٍ .

[ فَرْعٌ ] لَوْ تَابَ الْفَاسِقُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ مَا لَمْ تَمْضِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ سَنَةٌ ، وَلَوْ كَانَ عَدْلًا فَشَهِدَ بِالزُّورِ ثُمَّ تَابَ فَشَهِدَ تُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ مُدَّةٍ

قَالَ ( ثُمَّ التَّزْكِيَةُ فِي السِّرِّ أَنْ يَبْعَثَ الْمَسْتُورَةَ إلَى الْمُعَدِّلِ فِيهَا النَّسَبُ وَالْحَلْيُ وَالْمُصَلَّى وَيَرُدُّهَا الْمُعَدِّلُ ) كُلُّ ذَلِكَ فِي السِّرِّ كَيْ لَا يَظْهَرَ فَيُخْدَعَ أَوْ يُقْصَدَ ( وَفِي الْعَلَانِيَةِ لَا بُدَّ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْمُعَدِّلِ وَالشَّاهِدِ ) لِتَنْتَفِي شُبْهَةُ تَعْدِيلِ غَيْرِهِ ، وَقَدْ كَانَتْ الْعَلَانِيَةُ وَحْدَهَا فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ ، وَوَقَعَ الِاكْتِفَاءُ بِالسِّرِّ فِي زَمَانِنَا تَحَرُّزًا عَنْ الْفِتْنَةِ .
وَيُرْوَى عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : تَزْكِيَةُ الْعَلَانِيَةِ بَلَاءٌ وَفِتْنَةٌ .
ثُمَّ قِيلَ : لَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ الْمُعَدِّلُ هُوَ عَدْلٌ جَائِزُ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ يُعَدَّلُ ، وَقِيلَ يَكْتَفِي بِقَوْلِهِ هُوَ عَدْلٌ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ ثَابِتَةٌ بِالدَّارِ وَهَذَا أَصَحُّ .
.

( قَوْلُهُ ثُمَّ التَّزْكِيَةُ فِي السِّرِّ أَنْ يَبْعَثَ الْمَسْتُورَةَ ) وَهِيَ الْوَرَقَةُ الَّتِي يَكْتُبُ فِيهَا الْقَاضِي أَسْمَاءَ الشُّهُودِ وَنَسَبَهُمْ وَحَالَهُمْ وَالْمُصَلَّى : أَيْ مَسْجِدَ مَحَلَّتِهِمْ ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَخْتَارَ إلَّا مُعَدِّلًا صَالِحًا زَاهِدًا كَيْ لَا يُخْدَعَ بِالْمَالِ مَأْمُونًا أَعْظَمَ مَنْ يَعْرِفُهُ فِي هَذِهِ الْأَوْصَافِ فَيَكْتُبُ إلَيْهِ ثُمَّ هُوَ يَسْأَلُ عَنْهُمْ أَهْلَ مَحَلَّتِهِمْ وَسُوقِهِمْ وَمَنْ يَعْرِفُهُمْ ، وَيَكُونُ الْمُزَكِّي صَاحِبَ خِبْرَةٍ بِالنَّاسِ مُدَاخِلًا لَهُمْ لَا مُنْزَوِيًا عَنْهُمْ ، فَإِنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالْمُخَالَطَةِ وَالْمُدَاخَلَةِ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إلَّا أَهْلَ مَجْلِسِهِ يَسْأَلُهُمْ عَنْهُ ، فَإِنْ وَجَدَهُمْ غَيْرَ ثِقَاتٍ يَعْتَبِرُ تَوَاتُرَ الْأَخْبَارِ .
وَعَنْ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ : يَجُوزُ فِي تَزْكِيَةِ السِّرِّ الْمَرْأَةُ وَالْعَبْدُ وَالْمَحْدُودُ إذَا كَانُوا عُدُولًا ، وَلَا يَجُوزُ فِي تَزْكِيَةِ الْعَلَانِيَةِ إلَّا مَنْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ فَيُشْتَرَطُ فِيهَا مَا يُشْتَرَطُ فِيهَا إلَّا لَفْظَةُ الشَّهَادَةِ فَقَطْ ، لِأَنَّ تَزْكِيَةَ السِّرِّ مِنْ الْإِخْبَارِ بِالْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ ، وَكُلٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ يُقْبَلُ خَبَرُهُ فِي الْأَمْرِ الدِّينِيِّ إذَا كَانَ عَدْلًا كَمَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ لِلْأَخْبَارِ ، فَإِذَا قَالَ الْمَسْئُولُ عَنْهُ هُوَ عَدْلٌ كَتَبَ الْمُزَكِّي هُوَ عَدْلٌ مَرَضِيٌّ مَقْبُولٌ جَائِزُ الشَّهَادَةِ ، وَإِلَّا يَكْتُبُ هُوَ غَيْرُ عَدْلٍ .
وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ : إنْ عَرَفَ فِسْقَهُ لَا يَكْتُبُ تَحْتَ اسْمِهِ ذَلِكَ بَلْ يَسْكُتُ احْتِرَازًا عَنْ الْهَتْكِ ، أَوْ يَقُولُ اللَّهُ أَعْلَمُ ، إلَّا إذَا خَافَ أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِ فَيُصَرِّحُ حِينَئِذٍ بِذَلِكَ ، وَمَنْ لَا يَعْرِفُهُ لَا بِعَدَالَةٍ وَلَا بِفِسْقٍ يَكْتُبُ مَسْتُورٌ ثُمَّ يَرُدُّ الْمَسْتُورَةَ مَعَ أَمِينِ الْقَاضِي إلَيْهِ كُلُّ ذَلِكَ فِي السِّرِّ كَيْ لَا يَظْهَرَ الْأَمْرُ فَيُخْدَعَ الْمُزَكِّي أَوْ يُقْصَدَ بِالْأَذَى .
وَأَمَّا الْعَلَانِيَةُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الشَّاهِدِ

وَالْمُعَدِّلِ لِتَنْتَفِي شُبْهَةُ تَعْدِيلِ الْمُعَدِّلِ لِغَيْرِ هَذَا الشَّاهِدِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ الْقَاضِي إذْ قَدْ يَتَّفِقُ اسْمٌ وَشُهْرَةٌ وَصِفَةٌ لِاثْنَيْنِ ، وَقَدْ كَانَتْ الْعَلَانِيَةُ وَحْدَهَا فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُمْ كَانَ يَغْلِبُ عَلَيْهِمْ الصَّبْرُ لِلْحَقِّ ، وَوَقَعَ الِاكْتِفَاءُ بِالسِّرِّ فِي زَمَانِنَا لِغَلَبَةِ النُّفُوسِ فِيهِ فَيُوجِبُ الْفِتْنَةَ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ : تَزْكِيَةُ الْعَلَانِيَةِ بَلَاءٌ وَفِتْنَةٌ ، ثُمَّ قِيلَ : لَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ الْمُعَدِّلُ هُوَ عَدْلٌ جَائِزُ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَكُونُ عَدْلًا وَهُوَ غَيْرُ جَائِزِ الشَّهَادَةِ .
وَقِيلَ يُكْتَفَى بِقَوْلِهِ هُوَ عَدْلٌ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ ثَابِتَةٌ بِالدَّارِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِهَا فَلَا تَلْزَمُ تِلْكَ الزِّيَادَةُ ، وَهَذَا أَصَحُّ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الظَّاهِرَ الْحُرِّيَّةُ نَظَرًا إلَى الدَّارِ فَيُكْتَفَى بِهِ مَا لَمْ يَطْعَنْ الْخَصْمُ بِالرِّقِّ

قَالَ ( وَفِي قَوْلِ مَنْ رَأَى أَنْ يَسْأَلَ عَنْ الشُّهُودِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ الْخَصْمِ إنَّهُ عَدْلٌ ) مَعْنَاهُ قَوْلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ يَجُوزُ تَزْكِيَتُهُ ، لَكِنْ عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَضُمُّ تَزْكِيَةَ الْآخَرِ إلَى تَزْكِيَتِهِ لِأَنَّ الْعَدَدَ عِنْدَهُ شَرْطٌ .
وَوَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ فِي زَعْمِ الْمُدَّعِي وَشُهُودِهِ أَنَّ الْخَصْمَ كَاذِبٌ فِي إنْكَارِهِ مُبْطَلٌ فِي إصْرَارِهِ فَلَا يَصْلُحُ مُعَدِّلًا ، وَمَوْضُوعُ الْمَسْأَلَةِ إذَا قَالَ هُمْ عُدُولٌ إلَّا أَنَّهُمْ أَخْطَئُوا أَوْ نَسُوا ، أَمَّا إذَا قَالَ صَدَقُوا أَوْ هُمْ عُدُولٌ صَدَقَةٌ فَقَدْ اعْتَرَفَ بِالْحَقِّ .
ثُمَّ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَفْرِيعًا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ مَنْ رَأَى أَنْ يَسْأَلَ عَنْ الشُّهُودِ بِلَا طَعْنٍ لَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْخَصْمِ : يَعْنِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إذَا قَالَ فِي شُهُودِ الْمُدَّعِي هُمْ عُدُولٌ فَلَا تَقَعُ بِهِ التَّزْكِيَةُ لِأَنَّ فِي زَعْمِ الْمُدَّعِي وَشُهُودِهِ أَنَّ الْخَصْمَ كَاذِبٌ فِي إنْكَارِهِ مُبْطَلٌ فِي إصْرَارِهِ فَلَا يَصْلُحُ مُعَدِّلًا لِأَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطٌ فِي الْمُزَكِّي بِالْإِجْمَاعِ ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ ، يَجُوزُ قَوْلُهُ ذَلِكَ تَعْدِيدٌ ، لَكِنْ عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَضُمُّ تَزْكِيَةُ آخَرَ إلَى تَزْكِيَتِهِ أَيْ تَزْكِيَةِ الْخَصْمِ لِأَنَّ الْعَدَدَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ فِي الْمُزَكِّي شَرْطٌ ، وَمَوْضُوعُ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَقُولَ هُمْ عُدُولٌ إلَّا أَنَّهُمْ أَخْطَئُوا أَوْ نَسُوا .
أَمَّا لَوْ قَالَ صَدَقُوا أَوْ هُمْ عُدُولٌ صَدَقَةٌ أَوْ مَعْنًى هَذَا فَقَدْ اعْتَرَفَ بِالْحَقِّ وَانْقَطَعَ النِّزَاعُ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَا إذَا قَالَ هُمْ عُدُولٌ فَالْقَاضِي يَسْأَلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَشَهِدُوا عَلَيْك بِحَقٍّ أَمْ بِبَاطِلٍ ، فَإِنْ قَالَ بِحَقٍّ فَهُوَ إقْرَارٌ ، وَإِنْ قَالَ بِغَيْرِ حَقٍّ لَا يُقْضَى بِشَيْءٍ .

[ فَرْعٌ ] إذَا شَهِدَ فَعُدِّلَ ثُمَّ شَهِدَ لَا يُسْتَعْدَلُ إلَّا إذَا طَالَ ، فَوَقَّتَ مُحَمَّدٌ شَهْرًا وَأَبُو يُوسُفَ سَنَةً ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ

( وَإِذَا كَانَ رَسُولُ الْقَاضِي الَّذِي يَسْأَلُ عَنْ الشُّهُودِ وَاحِدًا جَازَ وَالِاثْنَانِ أَفْضَلُ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَجُوزُ إلَّا اثْنَانِ ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْمُزَكِّي ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ رَسُولُ الْقَاضِي إلَى الْمُزَكِّي وَالْمُتَرْجِمُ عَنْ الشَّاهِدِ لَهُ أَنَّ التَّزْكِيَةَ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْقَضَاءِ تَنْبَنِي عَلَى ظُهُورِ الْعَدَالَةِ وَهُوَ بِالتَّزْكِيَةِ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ كَمَا تُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ فِيهِ ، وَتُشْتَرَطُ الذُّكُورَةُ فِي الْمُزَكِّي وَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ .
وَلَهُمَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ لَفْظَةُ الشَّهَادَةِ وَمَجْلِسُ الْقَضَاءِ ، وَاشْتِرَاطُ الْعَدَدِ أَمْرٌ حُكْمِيٌّ فِي الشَّهَادَةِ فَلَا يَتَعَدَّاهَا .

( قَوْلُهُ وَإِذَا كَانَ رَسُولُ الْقَاضِي الَّذِي يَسْأَلُ عَنْ الشُّهُودِ وَاحِدًا جَازَ وَالِاثْنَانِ أَفْضَلُ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا يَجُوزُ إلَّا اثْنَانِ ، وَالْمُرَادُ ) مِنْ رَسُولِ الْقَاضِي ( الْمُزَكِّي ) وَهُوَ الْمَسْئُولُ مِنْهُ عَنْ الشُّهُودِ فَيَجِبُ أَنْ يَقْرَأَ قَوْلَهُ الَّذِي يُسْأَلُ عَنْ الشُّهُودِ بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَكْفِي فِي التَّزْكِيَةِ الْوَاحِدُ ، وَكَذَا الرِّسَالَةُ إلَيْهِ وَالرِّسَالَةُ مِنْهُ إلَى الْقَاضِي ، وَكَذَا فِي التَّرْجَمَةِ عَنْ الشَّاهِدِ وَغَيْرِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا بُدَّ مِنْ اثْنَيْنِ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ لِمُحَمَّدٍ أَنَّ التَّزْكِيَةَ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ ، لِأَنَّ وِلَايَةَ الْقَاضِي تَنْبَنِي عَلَى ظُهُورِ الْعَدَالَةِ وَهِيَ بِالتَّزْكِيَةِ فَتَوَقَّفَتْ عَلَيْهَا كَمَا تَوَقَّفَتْ عَلَيْهَا فَيُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ كَمَا يُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ ، وَلِذَا اُشْتُرِطَتْ الذُّكُورَةُ فِي الْمُزَكِّي فِي الْحُدُودِ كَمَا اُشْتُرِطَتْ فِي الشَّهَادَةِ عَلَيْهَا .
وَلَهُمَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ وَالتَّوَقُّفُ لَا يَسْتَلْزِمُ اشْتَرَاك كُلِّ مَا تَوَقَّفَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ حُكْمٍ ، بَلْ مَا كَانَ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ الَّتِي بِهَا ثُبُوتُ الْحَقِّ يَكُونُ مِثْلُهَا وَمَا لَا فَلَا يَلْزَمُ ، وَالتَّزْكِيَةُ لَا يَسْتَنِدُ إلَيْهَا ثُبُوتُ الْحَقِّ بَلْ إلَى الشَّهَادَةِ ، فَكَانَتْ التَّزْكِيَةُ شَرْطًا لَا عِلَّةً ، وَلِهَذَا وَقَعَ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الشَّهَادَةِ بِالْإِجْمَاعِ فِي عَدَمِ اشْتِرَاطِ لَفْظِ الشَّهَادَةِ فِي التَّزْكِيَةِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ اشْتِرَاطِ الْعَدَدِ فِي الشَّهَادَةِ اشْتِرَاطُهَا فِي التَّزْكِيَةِ ، عَلَى أَنَّ التَّعَدِّيَةَ تَكُونُ بِجَامِعٍ يُعْلَمُ اعْتِبَارُهُ ، وَاشْتِرَاطُ الْعَدَدِ فِي الشَّهَادَةِ أَمْرٌ تَحَكُّمِيٌّ فِي الشَّهَادَةِ يَعْنِي تَعَبُّدِيٌّ .
وَفِي الْمَبْسُوطِ : هُوَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ .
وَهَذَا زِيَادَةٌ

عَلَى كَوْنِهِ تَعَبُّدِيًّا إذْ فِي الْقِيَاسِ يَكْفِي الْوَاحِدُ الْعَدْلُ لِأَنَّ خَبَرَهُ مُوجِبٌ لِلْعَمَلِ لَا عِلْمِ الْيَقِينِ ، وَكَمَا لَا يَثْبُتُ الْعِلْمُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لَا يَثْبُتُ بِخَبَرِ الِاثْنَيْنِ فَلَا يَتَعَدَّاهَا : أَيْ لَا يَتَعَدَّى الشَّهَادَةَ إلَى التَّزْكِيَةِ ، وَهَذَا الْخِلَافُ فِي تَزْكِيَةِ السِّرِّ ، فَأَمَّا تَزْكِيَةُ الْعَلَانِيَةِ فَيُشْتَرَطُ الْعَدَدُ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْخَصَّافُ ، مَعَ أَنَّ الْوَجْهَ الْمَذْكُورَ يَجْرِي فِيهِ ، وَقَدَّمْنَا أَنَّهُ زِيَادَةُ شِبْهٍ لَهَا بِالشَّهَادَةِ مِنْ حَيْثُ اشْتِرَاطِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ لَهَا اتِّفَاقًا ، وَلَمَّا ظَهَرَ مِنْ مُحَمَّدٍ اعْتِبَارُ التَّزْكِيَةِ بِالشَّهَادَةِ فِي حَقِّ الْعَدَدِ .
قَالَ الْمَشَايِخُ : فَيَجِبُ عِنْدَهُ اشْتِرَاطُ أَرْبَعَةٍ مِنْ الْمُزَكِّينَ فِي شُهُودِ الزِّنَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( وَلَا يُشْتَرَطُ أَهْلِيَّةُ الشَّهَادَةِ فِي الْمُزَكِّي فِي تَزْكِيَةِ السِّرِّ ) حَتَّى صَلُحَ الْعَبْدُ مُزَكِّيًا ، فَأَمَّا فِي تَزْكِيَةِ الْعَلَانِيَةِ فَهُوَ شَرْطٌ ، وَكَذَا الْعَدَدُ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى مَا قَالَهُ الْخَصَّافُ رَحِمَهُ اللَّهُ لِاخْتِصَاصِهَا بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ .
قَالُوا : يُشْتَرَطُ الْأَرْبَعَةُ فِي تَزْكِيَةِ شُهُودِ الزِّنَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ .

( فَصْلٌ ) وَمَا يَتَحَمَّلُهُ الشَّاهِدُ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا مَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ بِنَفْسِهِ مِثْلُ الْبَيْعِ وَالْإِقْرَارِ وَالْغَصْبِ وَالْقَتْلِ وَحُكْمِ الْحَاكِمِ ، فَإِذَا سَمِعَ ذَلِكَ الشَّاهِدُ أَوْ رَآهُ وَسِعَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ ( لِأَنَّهُ عَلِمَ مَا هُوَ الْمُوجِبُ بِنَفْسِهِ ) وَهُوَ الرُّكْنُ فِي إطْلَاقِ الْأَدَاءِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } وَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إذَا عَلِمْت مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ وَإِلَّا فَدَعْ } قَالَ ( وَيَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّهُ بَاعَ وَلَا يَقُولُ أَشْهَدَنِي ) لِأَنَّهُ كَذِبٌ ، وَلَوْ سَمِعَ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ ، وَلَوْ فَسَّرَ لِلْقَاضِي لَا يَقْبَلُهُ لِأَنَّ النَّغْمَةَ تُشْبِهُ النَّغْمَةَ فَلَمْ يَحْصُلْ الْعِلْمُ إلَّا إذَا كَانَ دَخَلَ الْبَيْتَ وَعَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ سِوَاهُ ثُمَّ جَلَسَ عَلَى الْبَابِ وَلَيْسَ فِي الْبَيْتِ مَسْلَكٌ غَيْرُهُ فَسَمِعَ إقْرَارَ الدَّاخِلِ وَلَا يَرَاهُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ لِأَنَّهُ حَصَلَ الْعِلْمُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ .

( فَصْلٌ يَتَعَلَّقُ بِكَيْفِيَّةِ الْأَدَاءِ وَمُسَوِّغِهِ ) قَوْلُهُ وَمَا يَتَحَمَّلُهُ الشَّاهِدُ عَلَى قِسْمَيْنِ : أَحَدُهُمَا مَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ بِنَفْسِهِ ) أَيْ يَكُونُ هُوَ تَمَامُ السَّبَبِ لِذَلِكَ الْحُكْمِ قَوْلًا كَانَ مِثْلَ الْبَيْعِ وَالطَّلَاقِ وَالْإِقْرَارِ وَحُكْمِ الْحَاكِمِ .
أَوْ فِعْلًا كَالْغَصْبِ وَالْقَتْلِ ، فَإِذَا سَمِعَ الشَّاهِدُ الْقَوْلَ كَأَنْ سَمِعَ قَاضِيًا يُشْهِدُ جَمَاعَةً مَا عَلَى حُكْمِهِ أَوْ رَأَى الْفِعْلَ كَالْقَتْلِ وَالْغَصْبِ وَسِعَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِذَلِكَ فَيَقُولَ أَشْهَدُ أَنَّهُ بَاعَ أَشْهَدُ أَنَّهُ قَضَى ، فَلَوْ كَانَ الْبَيْعُ بَيْعَ مُعَاطَاةٍ فَفِي الذَّخِيرَةِ يَشْهَدُونَ عَلَى الْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ .
وَقِيلَ يَشْهَدُونَ عَلَى الْبَيْعِ كَالْقَوْلِيِّ ، وَلَا يَقُولُ أَشْهَدَنِي لِأَنَّهُ كَذِبٌ ، وَإِنَّمَا جَازَ الْأَدَاءُ بِلَا إشْهَادٍ لِأَنَّهُ عَلِمَ الْمُوجِبَ بِنَفْسِهِ ، وَهُوَ أَيْ عِلْمُ الْمُوجِبِ الرُّكْنُ الْمُسَوِّغُ لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّهُ لَا حَقِيقَةَ لِمُسَوِّغِ الْأَدَاءِ سِوَاهُ .
وَقَوْلُهُ فِي إطْلَاقٍ يَعْنِي مُطْلَقَ الْأَدَاءِ .
وَاسْتَدَلَّ عَلَى تَسْوِيغِ الشَّرْعِ لِلْأَدَاءِ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } فَأَفَادَ أَنَّ مَنْ شَهِدَ عَالِمًا بِحَقٍّ كَانَ مَمْدُوحًا فَلَزِمَ أَنَّ ذَلِكَ مُطْلَقٌ شَرْعًا وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ مَمْدُوحًا .
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إذَا عَلِمْت مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ } فَأَمَرَ بِالشَّهَادَةِ عِنْدَ الْعِلْمِ يَقِينًا ، فَعَنْ هَذَا صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهُ لَا تَشْهَدْ عَلَيَّ بِمَا سَمِعْته مِنِّي ثُمَّ قَالَ بِحَضْرَتِهِ لِرَجُلٍ بَقِيَ لَك عَلَيَّ كَذَا وَغَيْرُ ذَلِكَ حَلَّ لَهُ ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ .
وَفِي الْخُلَاصَةِ : اشْتَرَى عَبْدًا وَادَّعَى عَلَى الْبَائِعِ عَيْبًا بِهِ فَلَمْ يُثْبِتْهُ فَبَاعَهُ مِنْ رَجُلٍ فَادَّعَى الْمُشْتَرِي الثَّانِي عَلَيْهِ هَذَا الْعَيْبَ فَأَنْكَرَ ، فَاَلَّذِينَ سَمِعُوا مِنْهُ حَلَّ لَهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا عَلَى الْعَيْبِ فِي الْحَالِ .
وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي

الْمُسْتَدْرَكِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الشَّهَادَةِ فَقَالَ : هَلْ تَرَى الشَّمْسَ ؟ قَالَ نَعَمْ ، قَالَ : عَلَى مِثْلِهَا فَاشْهَدْ أَوْ دَعْ } صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ .
وَتَعَقَّبَهُ الذَّهَبِيُّ بِأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ سُلَيْمَانَ بْنِ مَشْمُولٍ ضَعَّفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ انْتَهَى .
وَالْمَعْلُومُ أَنَّ النَّسَائِيّ ضَعَّفَهُ ، وَوَافَقَهُ ابْنُ عَدِيٍّ ، وَفِي الْعِبَارَةِ الْمَذْكُورَةِ مَا يُفِيدُ أَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ .
وَلَوْ سَمِعَ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ كَثِيفٍ لَا يَشِفُّ مِنْ وَرَائِهِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ ، وَلَوْ شَهِدَ وَفَسَّرَهُ لِلْقَاضِي بِأَنْ قَالَ سَمِعْته بَاعَ وَلَمْ أَرَ شَخْصَهُ حِينَ تَكَلَّمَ لَا يَقْبَلُهُ لِأَنَّ النَّغْمَةَ تُشْبِهُ النَّغْمَةَ إلَّا إذَا أَحَاطَ بِعِلْمِ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسَوِّغَ هُوَ الْعِلْمُ غَيْرَ أَنَّ رُؤْيَتَهُ مُتَكَلِّمًا بِالْعَقْدِ طَرِيقُ الْعِلْمِ بِهِ فَإِذَا فَرَضَ تَحَقُّقَ طَرِيقٍ آخَرَ جَازَ ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ دَخَلَ الْبَيْتَ فَرَآهُ فِيهِ وَعَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِهِ أَحَدٌ غَيْرَهُ وَلَا مَنْفَذَ غَيْرُ الْبَابِ وَهُوَ قَدْ جَلَسَ عَلَيْهِ وَسَمِعَ الْإِقْرَارَ أَوْ الْبَيْعَ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَجُوزُ لَهُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ بِمَا سَمِعَ لِأَنَّهُ حَصَلَ بِهِ الْعِلْمُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ .
وَنَحْوُهُ مَا فِي الْأَقْضِيَةِ : ادَّعَى عَلَى وَرَثَةٍ مَالًا فَقَالَا نَشْهَدُ أَنَّ فُلَانًا الْمُتَوَفَّى قَبَضَ مِنْ الْمُدَّعِي صُرَّةً فِيهَا دَرَاهِمُ وَلَمْ يَعْلَمَا كَمْ وَزْنُهَا إنْ فَهِمَا قَدْرَهَا وَأَنَّهَا دَرَاهِمُ وَأَنَّ كُلَّهَا جِيَادٌ بِمَا يَقَعُ عَلَيْهِ يَقِينُهُمَا بِذَلِكَ فَإِذَا شَهِدَا بِهِ جَازَ .
وَفِي الْفَتَاوَى : إذَا أَقَرَّتْ الْمَرْأَةُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ لَا يَجُوزُ لِمَنْ سَمِعَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى إقْرَارِهَا إلَّا إذَا رَأَى شَخْصَهَا فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ .
أَجْمَلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَوَضَعَهَا فِي الْخُلَاصَةِ وَغَيْرِهَا هَكَذَا الشَّهَادَةُ عَلَى امْرَأَةٍ لَا يَعْرِفُهَا سَأَلَ ابْنُ مُحَمَّدِ

بْنِ الْحَسَنِ أَبَا سُلَيْمَانَ عَنْهَا قَالَ : لَا يَجُوزُ حَتَّى يَشْهَدَ جَمَاعَةٌ أَنَّهَا فُلَانَةُ أَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَأَبِيك فَيَجُوزُ إذَا شَهِدَ عِنْدَهُ عَدْلَانِ أَنَّهَا فُلَانَةُ .
وَهَلْ يُشْتَرَطُ رُؤْيَةُ وَجْهِهَا ؟ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ ، مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ وَإِلَيْهِ مَالَ الْإِمَامُ خُوَاهَرْ زَادَهْ .
وَفِي النَّوَازِلِ قَالَ : يُشْتَرَطُ رُؤْيَةُ شَخْصِهَا .
وَفِي الْجَامِعِ الْأَصْغَرِ : يُشْتَرَطُ رُؤْيَةُ وَجْهِهَا ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةٍ تُفِيدُ التَّمْيِيزَ عِنْدَ الْأَدَاءِ عَلَيْهَا ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ التَّعْرِيفَ يُفِيدُ التَّمْيِيزَ لَزِمَ أَنْ لَا حَاجَةَ إلَى رُؤْيَةِ وَجْهِهَا وَلَا شَخْصِهَا كَمَا اخْتَارَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ ، إلَّا إذَا لَمْ يُوجَدْ مَنْ يَعْرِفُهَا ، وَإِذَا وُجِدَ حِينَئِذٍ يَجْرِي الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ أَنَّهُ يَكْفِي فِي الْمَعْرِفَةِ عَدْلَانِ أَوْ لَا بُدَّ مِنْ جَمَاعَةٍ ، وَيُوَافِقُهُ مَا فِي الْمُنْتَقَى : تَحَمَّلَ الشَّاهِدُ الشَّهَادَةَ عَلَى امْرَأَةٍ فَمَاتَتْ فَشَهِدَا عِنْدَهُ أَنَّ الْمُقِرَّةَ فُلَانَةُ جَازَ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهَا ، نَقَلَهُ فِي الْخُلَاصَةِ .
وَفِي الْمُحِيطِ : شَهِدَا عَلَى امْرَأَةٍ سَمَّيَاهَا وَنَسِيَاهَا وَكَانَتْ حَاضِرَةً ، فَقَالَ الْقَاضِي أَتَعْرِفَانِهَا ، فَإِنْ قَالَا لَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا ، وَلَوْ قَالَا تَحَمَّلْنَاهَا عَلَى الْمُسَمَّاةِ بِفُلَانَةَ بِنْتِ فُلَانٍ الْفُلَانِيَّةِ وَلَا نَدْرِي أَنَّهَا هَذِهِ أَمْ لَا صَحَّتْ الشَّهَادَةُ وَكُلِّفَ الْمُدَّعِي أَنْ يَأْتِي بِآخَرَيْنِ يَشْهَدَانِ أَنَّهَا فُلَانَةُ بِنْتُ فُلَانٍ ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُمَا هُنَاكَ أَقَرَّا بِالْجَهَالَةِ فَبَطَلَتْ الشَّهَادَةُ ، فَهَذَا وَنَحْوُهُ يُفِيدُ مَا قُلْنَاهُ .

( وَمِنْهُ مَا لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِيهِ بِنَفْسِهِ مِثْلُ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ ، فَإِذَا سَمِعَ شَاهِدًا يَشْهَدُ بِشَيْءٍ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ إلَّا أَنْ يُشْهِدَ عَلَيْهَا ) لِأَنَّ الشَّهَادَةَ غَيْرُ مُوجِبَةٍ بِنَفْسِهَا ، وَإِنَّمَا تَصِيرُ مُوجِبَةً بِالنَّقْلِ إلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِنَابَةِ وَالتَّحْمِيلِ وَلَمْ يُوجَدْ ( وَكَذَا لَوْ سَمِعَهُ يُشْهِدُ الشَّاهِدَ عَلَى شَهَادَتِهِ لَمْ يَسَعْ لِلسَّامِعِ أَنْ يَشْهَدَ ) لِأَنَّهُ مَا حَمَلَهُ وَإِنَّمَا حَمَلَ غَيْرَهُ .

وَمِنْهُ مَا لَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ بِنَفْسِهِ وَهُوَ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ ، فَإِذَا سَمِعَ شَاهِدًا يَشْهَدُ بِشَيْءٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ إلَّا أَنْ يُشْهِدَهُ ذَلِكَ الشَّاهِدُ عَلَى شَهَادَةِ نَفْسِهِ ، لِأَنَّ الشَّهَادَةَ غَيْرُ مُوجِبَةٍ بِنَفْسِهَا بَلْ بِالنَّقْلِ إلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِنَابَةِ وَالتَّحْمِيلِ ، وَلِهَذَا لَوْ سَمِعَهُ يُشْهِدُ شَاهِدًا عَلَى شَهَادَتِهِ لَمْ يَسَعْ السَّامِعَ أَنْ يَشْهَدَ لِأَنَّهُ مَا حَمَّلَهُ وَإِنَّمَا حَمَّلَ غَيْرَهُ ، وَهَذَا الْإِطْلَاقُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ سَمِعَهُ يَشْهَدُ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي حَلَّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ مُلْزِمَةٌ .
[ فُرُوعٌ ] كَتَبَ إلَى آخَرَ رِسَالَةً : مِنْ فُلَانٍ إلَى فُلَانٍ .
كَتَبْت تَتَقَاضَى الْأَلْفَ الَّتِي لَك عَلَيَّ وَكُنْت قَضَيْتُك مِنْهَا خَمْسَمِائَةٍ وَبَقِيَ عَلَيَّ خَمْسُمِائَةٍ ، أَوْ كَتَبَ إلَى زَوْجَتِهِ : قَدْ بَلَغَنِي كِتَابُك تَسْأَلِينِي الطَّلَاقَ فَأَنْتِ طَالِقٌ طَلُقَتْ سَاعَةَ كَتَبَ ، وَيَنْبَغِي لِمَنْ عَلِمَ ذَلِكَ أَنْ يَشْهَدَ بِالْمَالِ وَالطَّلَاقِ وَهِيَ شَهَادَةُ حَقٍّ .
بِخِلَافِ مَا لَوْ كَتَبَ صَكَّ وَصِيَّةٍ وَقَالَ لِلشُّهُودِ اشْهَدُوا عَلَيَّ بِمَا فِيهِ وَلَمْ يَقْرَأْهُ عَلَيْهِمْ ، قَالَ عُلَمَاؤُنَا : لَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا عَلَيْهِ ، وَقِيلَ لَهُمْ ذَلِكَ .
وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ وَإِنَّمَا يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا بِمَا فِيهِ إذَا قَرَأَهُ عَلَيْهِمْ أَوْ رَأَوْهُ يَكْتُبُ وَهُمْ يَقْرَءُونَهُ أَوْ كَتَبَهُ غَيْرُهُ ثُمَّ قَرَأَهُ عَلَيْهِ بِحَضْرَةِ الشُّهُودِ فَقَالَ لَهُمْ هُوَ اشْهَدُوا عَلَيَّ بِمَا فِيهِ ، وَلَوْ قَرَأَهُ عَلَيْهِ فَقَالَ الشَّاهِدَانِ نَشْهَدُ عَلَيْك بِمَا فِيهِ فَحَرَّك رَأْسَهُ بِنَعَمْ بِلَا نُطْقٍ فَهُوَ بَاطِلٌ إلَّا فِي الْأَخْرَسِ ، وَمِثْلُهُ مَا إذَا وَقَّعَ إلَيْهِمْ وَصِيَّةً مَخْتُومَةً .
وَقَالَ هَذِهِ وَصِيَّتِي وَخَتْمِي فَاشْهَدُوا عَلَيَّ بِمَا فِيهِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدُوا بِمَا فِيهِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ : إذَا كَتَبَ بِحَضْرَةِ الشُّهُودِ وَأَوْدَعَهُ الشَّاهِدَ وَلَمْ

يَعْرِفْ الشَّاهِدُ مَا فِيهِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِمَا فِيهِ وَسِعَهُ أَنْ يَشْهَدَ ، لِأَنَّهُ إذَا كَانَ فِي يَدِهِ كَانَ مَعْصُومًا مِنْ التَّبْدِيلِ .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ إنَّمَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ إذَا كَانَ الْكِتَابُ عَلَى الرَّسْمِ الْمَعْرُوفِ بِأَنْ كَانَ عَلَى وَرَقَةٍ وَعُنْوَانٍ كَمَا هُوَ الْعَادَةُ فِي الْكِتَابَةِ إلَى الْغَائِبِ .
وَإِذَا شَهِدَ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ فَقَالَ لَهُمْ لَمْ أُرِدْ الْإِقْرَارَ وَالطَّلَاقَ لَا يَدِينُهُ الْقَاضِي وَيَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى .
أَمَّا لَوْ رَآهُ كَتَبَ ذِكْرَ حَقٍّ عَلَى نَفْسِهِ لِرَجُلٍ لَا عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ وَلَمْ يُشْهِدْهُمْ بِهِ لَا يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا بِالدَّيْنِ لِجَوَازِ كَوْنِهِ لِلتَّجْرِبَةِ ، بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ الْمَرْسُومَةِ ، وَبِخِلَافِ خَطِّ السِّمْسَارِ وَالصَّرَّافِ لِأَنَّهُ حُجَّةٌ لِلْعُرْفِ الْجَارِي بِهِ عَلَى مَا يَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ

وَلَا يَحِلُّ لِلشَّاهِدِ إذَا رَأَى خَطَّهُ أَنْ يَشْهَدَ إلَّا أَنْ يَتَذَكَّرَ الشَّهَادَةَ لِأَنَّ الْخَطَّ يُشْبِهُ الْخَطَّ فَلَمْ يَحْصُلْ الْعِلْمُ .
قِيلَ هَذَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ .
وَقِيلَ هَذَا بِالِاتِّفَاقِ ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا وَجَدَ الْقَاضِي شَهَادَتَهُ فِي دِيوَانِهِ أَوْ قَضِيَّتَهُ ، لِأَنَّ مَا يَكُونُ فِي قِمْطَرِهِ فَهُوَ تَحْتَ خَتْمِهِ يُؤْمَنُ عَلَيْهِ مِنْ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فَحَصَلَ لَهُ الْعِلْمُ بِذَلِكَ وَلَا كَذَلِكَ الشَّهَادَةُ فِي الصَّكِّ لِأَنَّهُ فِي يَدِ غَيْرِهِ ، وَعَلَى هَذَا إذَا تَذَكَّرَ الْمَجْلِسَ الَّذِي كَانَ فِيهِ الشَّهَادَةُ أَوْ أَخْبَرَهُ قَوْمٌ مِمَّنْ يَثِقُ بِهِ أَنَّا شَهِدْنَا نَحْنُ وَأَنْتَ .
.

( قَوْلُهُ وَلَا يَحِلُّ لِلشَّاهِدِ إذَا رَأَى خَطَّهُ أَنْ يَشْهَدَ إلَّا إذَا تَذَكَّرَ شَهَادَتَهُ ) الَّتِي صَدَرَتْ مِنْهُ فَإِنْ لَمْ يَتَذَكَّرْ وَجَزَمَ أَنَّهُ خَطَّهُ لَا يَشْهَدُ ، لِأَنَّ هَذَا الْجَزْمَ لَيْسَ بِجَزْمٍ بَلْ تَخَيُّلُ الْجَزْمِ لِأَنَّ الْخَطَّ يُشْبِهُ الْخَطَّ فَلَمْ يَحْصُلْ الْعِلْمُ ، هَكَذَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ ، وَلَمْ يَذْكُرْ خِلَافًا هُوَ وَلَا فِي شَرْحِهِ لِلْأَقْطَعِ ، وَكَذَا الْخَصَّافُ ذَكَرَهَا فِي أَدَبِ الْقَاضِي وَلَمْ يَحْكِ خِلَافًا .
وَلَمَّا حَكَى الْخِلَافَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ وَغَيْرُهُ كَشَمْسِ الْأَئِمَّةِ قَالَ الْمُصَنِّفُ : قِيلَ هَذَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ .
وَقِيلَ هَذَا بِالِاتِّفَاقِ : يَعْنِي عَدَمَ جَوَازِ الشَّهَادَةِ إذْ رَأَى وَلَمْ يَتَذَكَّرْ ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا وَجَدَ الْقَاضِي شَهَادَةً فِي دِيوَانِهِ : يَعْنِي رَأَى فِي دِيوَانِهِ شَهَادَةَ شُهُودٍ أُدِّيَتْ عِنْدَهُ وَلَمْ يَتَّصِلْ بِهَا حُكْمٌ ثُمَّ جَاءَ الْمَشْهُودُ لَهُ وَطَلَبَ حُكْمَ الْقَاضِي وَالْقَاضِي لَا يَتَذَكَّرُ أَنَّهُ شَهِدَ عِنْدَهُ شُهُودٌ بِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ عِنْدَهُ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ إذَا وَجَدَهُ فِي قِمَطْرِهِ تَحْتَ خَاتَمِهِ يَجُوزُ أَنْ يَقْضِي بِهِ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ .
وَكَذَا إذَا رَأَى قَضِيَّتَهُ : أَيْ رَأَى حُكْمَهُ مَكْتُوبًا فِي خَرِيطَتِهِ وَهِيَ الْقِمَطْرَةُ وَلَمْ يَتَذَكَّرْ أَنَّهُ حَكَمَ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ ، فَظَهَرَ أَنَّ الْمُصَنِّفَ حَكَى الْخِلَافَ فِيهِمَا وَاحِدًا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا ، وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي أَدَبِ الْقَاضِي مِنْ الْمَبْسُوطِ حَكَى الْخِلَافَ كَذَلِكَ فِي وِجْدَانِ صَحِيفَةِ الْحُكْمِ ، وَأَمَّا فِي شَهَادَةِ الشَّاهِدِ يَجِدُهَا فِي صَكٍّ وَعَلِمَ أَنَّهُ خَطُّهُ وَلَمْ يَتَذَكَّرْ الْحَادِثَةَ وَفِي الْحَدِيثِ يَجِدُهُ مَكْتُوبًا بِخَطِّهِ وَلَمْ يَتَذَكَّرْ وَوَجَدَ سَمَاعَهُ مَكْتُوبًا بِخَطِّ غَيْرِهِ وَهُوَ خَطٌّ مَعْرُوفٌ فَعَلَى خِلَافِ ذَلِكَ ، وَقَدْ

صَارَتْ الْفُصُولُ ثَلَاثَةً : وِجْدَانُ الْقَاضِي الشَّهَادَةَ عِنْدَهُ أَوْ حُكْمُهُ ، وَوِجْدَانُ الشَّاهِدِ خَطَّهُ ، وَالرَّاوِي فِي الْحَدِيثِ .
قَالَ مُحَمَّدٌ : أَخَذَ فِي الْفُصُولِ الثَّلَاثَةِ بِالرُّخْصَةِ تَيْسِيرًا وَقَالَ : يُعْتَمَدُ الْخَطُّ إذَا كَانَ مَعْرُوفًا ، وَأَبُو يُوسُفَ فِي مَسْأَلَةِ الْقَضَاءِ وَالرِّوَايَةِ أَخَذَ بِالرُّخْصَةِ لِأَنَّ الْمَكْتُوبَ كَانَ فِي يَدِهِ أَوْ يَدِ أَمِينِهِ .
وَفِي مَسْأَلَةِ الشَّهَادَةِ أَخَذَ بِالْعَزِيمَةِ لِأَنَّهُ كَانَ فِي يَدِ الْخَصْمِ فَلَا يَأْمَنُ الشَّاهِدُ التَّغْيِيرَ فَلَا يُعْتَمَدُ خَطُّهُ .
وَحَاصِلُ وَجْهِ غَيْرِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي صُوَرِ خِلَافِهِمْ أَنَّ وَضْعَ الْخَطِّ لِيَرْجِعَ إلَيْهِ عِنْدَ النِّسْيَانِ وَإِلَّا فَلَا فَائِدَةَ ، وَهُوَ يَمْنَعُ حَصْرَ الْفَائِدَةِ فِي ذَلِكَ ، بَلْ صَحَّ أَنْ تَكُونَ فَائِدَتُهُ أَنْ يَتَذَكَّرَ بِرُؤْيَتِهِ عِنْدَ النِّسْيَانِ إلَّا أَنِّي أَرَى أَنَّهُ إذَا كَانَ مَحْفُوظًا مَأْمُونًا عَلَيْهِ مِنْ التَّغْيِيرِ كَأَنْ يَكُونَ تَحْتَ خَتْمِهِ فِي خَرِيطَتِهِ الْمَحْفُوظَةِ عِنْدَهُ أَنْ يَتَرَجَّحَ الْعَمَلُ بِهَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ عِنْدَ غَيْرُهُ لِأَنَّ الْخَطَّ يُشْبِهُ الْخَطَّ ، وَرَأَيْنَا كَثِيرًا تَتَحَاكَى خُطُوطُهُمْ حَتَّى أَنِّي رَأَيْت بِبَلْدَةِ الْإِسْكَنْدَرِيَّة خَطَّ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يُعْرَفُ بِالْقَاضِي بَدْرِ الدِّينِ الدَّمَامِينِيِّ كَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقِيهًا مَالِكِيًّا شَاعِرًا أَدِيبًا فَصِيحًا ، وَخَطَّ آخَرَ بِهَا شَاهِدٌ يُعْرَفُ بِالْخَطِيبِ لَا يُفَرِّقُ الْإِنْسَانُ بَيْنَ خَطَّيْهِمَا أَصْلًا .
وَدَمَامِينُ بِالنُّونِ بَلْدَةٌ بِالصَّعِيدِ .
وَلَقَدْ أَخْبَرَنِي مَنْ أَثِقُ بِصَلَاحِهِ وَخَبَرِهِ أَنَّهُ شَاهَدَ رَجُلًا كَانَ مُعِيدًا فِي الصَّلَاحِيَةِ بِالْقُدْسِ الشَّرِيفِ وَضَعَ رَسْمَ شَهَادَتِهِ فِي صَكٍّ فَأَخَذَ مِنْ صَاحِبِهِ عُدْوَانًا فَكَتَبَ رَجُلٌ مِثْلَهُ ثُمَّ عَرَضَهُ عَلَى ذَلِكَ الْكَاتِبِ فَلَمْ يَشُكَّ أَنَّهُ خَطُّهُ .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ ، وَيَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ كَانَ الصَّكُّ فِي يَدِ الشَّاهِدِ تَرَكَهُ الطَّالِبُ فِي يَدِهِ مُنْذُ كَتَبَهُ جَازَ أَنْ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78