كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
اللَّهُمَّ يَسِّرْ وَأَعِنْ يَا كَرِيمُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَوْضَحَ لَنَا شَرَائِعَ دِينِهِ وَمَنَّ عَلَيْنَا بِتَنْزِيلِ كِتَابِهِ وَأَمَدَّنَا بِسُنَّةِ رَسُولِهِ حَتَّى تَمَهَّدَ لِعُلَمَاءِ الْأُمَّةِ أُصُولٌ ، بِنَصٍّ وَمَعْقُولٍ ، تَوَصَّلُوا بِهَا إِلَى عِلْمِ الْحَادِثِ النَّازِلِ وَإِدْرَاكِ الْغَامِضِ الْمُشْكِلِ ، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ مِنْ هِدَايَتِهِ ، وَصَلَوَاتُهُ عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَأَصْحَابِهِ . ثُمَّ لَمَّا كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَدْ تَوَسَّطَ بِحُجَّتَيِ النُّصُوصِ الْمَنْقُولَةِ وَالْمَعَانِي الْمَعْقُولَةِ حَتَّى لَمْ يَصْرِهِ بِالْمَيْلِ إِلَى أَحَدِهِمَا مُقَصِّرًا عَنِ الْأُخْرَى أَحَقُّ ، وَبِطَرِيقِهِ أَوْثَقُ . وَلَمَّا كَانَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدِ اقْتَصَرُوا عَلَى مُخْتَصَرِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ يَحْيَى الْمُزَنِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، لِانْتِشَارِ الْكُتُبِ الْمَبْسُوطَةِ عَنْ فَهْمِ الْمُتَعَلِّمِ ، وَاسْتِطَالَةِ مُرَاجَعَتِهَا عَلَى الْعَالِمِ حَتَّى جَعَلُوا الْمُخْتَصَرَ أَصْلًا يُمْكِنُهُمْ تَقْرِيبُهُ عَلَى الْمُبْتَدِئِ ، وَاسْتِيفَاؤُهُ لِلْمُنْتَهِي ، وَجَبَ صَرْفُ الْعِنَايَةِ إِلَيْهِ وَإِيقَاعُ الِاهْتِمَامِ بِهِ . وَلَمَّا صَارَ مُخْتَصَرُ الْمُزَنِيِّ بِهَذِهِ الْحَالِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ، لَزِمَ اسْتِيعَابُ الْمَذْهَبِ فِي شَرْحِهِ وَاسْتِيفَاءُ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ الْمُغْلَقِ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ خُرُوجًا عَنْ مُقْتَضَى الشَّرْحِ الَّذِي يَقْتَضِي الِاقْتِصَارَ عَلَى إِبَانَةِ الْمَشْرُوحِ لِيَصِحَّ الِاكْتِفَاءُ بِهِ ، وَالِاسْتِغْنَاءُ عَنْ غَيْرِهِ . وَقَدِ اعْتَمَدْتُ بِكِتَابِي هَذَا شَرْحَهُ عَلَى أَعْدَلِ شُرُوحِهِ وَتَرْجَمْتُهُ بِـ " الْحَاوِي " رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ حَاوِيًا لِمَا أُوجِبُهُ بِقَدْرِ الْحَالِ مِنَ الِاسْتِيفَاءِ وَالِاسْتِيعَابِ فِي أَوْضَحِ تَقْدِيمٍ وَأَصَحِّ تَرْتِيبٍ وَأَسْهَلِ مَأْخَذٍ وَاحِدٍ فِي فُصُولٍ . وَأَنَا أَسْأَلُ اللَّهَ أَكْرَمَ مَسْئُولٍ أَنْ يَجْعَلَ التَّوْفِيقَ لِي مَادَّةً وَالْمَعُونَةَ هِدَايَةً بِطَوْلِهِ وَمَشِيئَتِهِ . قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ يَحْيَى الْمُزَنِيُّ : اخْتَصَرْتُ هَذَا مِنْ عِلْمِ الشَّافِعِيِّ مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ : لِأُقَرِّبَهُ عَلَى مَنْ أَرَادَهُ مَعَ إِعْلَامِيَّةِ نَهْيِهِ عَنْ تَقْلِيدِهِ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِ لِيَنْظُرَ فِيهِ لِدِينِهِ وَيَحْتَاطَ فِيهِ لِنَفْسِهِ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ . قَالَ " الْمَاوَرْدِيُّ " : ابْتَدَأَ الْمُزَنِيُّ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ فِي كِتَابِهِ فَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ فِيهَا مِنْ حُسَّادِ الْفَضْلِ مَنْ أَغْرَاهُمُ التَّقَدُّمُ بِالْمُنَازَعَةِ ، وَبَعَثَهُمُ الِاشْتِهَارُ عَلَى الْمَذَمَّةِ ، وَكَانَ مِمَّنِ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ فِيهَا " النَّهْرُمَانِيُّ " وَ " الْمَغْرِبِيُّ " وَ " الْقَهِيُّ " وَأَبُو طَالِبٍ الْكَاتِبُ ، ثُمَّ تَعَقَّبَهُمُ ابْنُ دَاوُدَ فَكَانَ اعْتِرَاضُهُمْ فِيهَا مِنْ وُجُوهٍ : فَأَوَّلُ وُجُوهِ اعْتِرَاضِهِمْ فِيهَا أَنْ قَالُوا : لِمَ لَمْ يَحْمَدِ اللَّهَ تَعَالَى

تَبَرُّكًا بِذِكْرِهِ وَاقْتِدَاءً بِغَيْرِهِ ، وَاتِّبَاعًا لِمَا رَوَاهُ الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ قُرَّةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَمْ يُبْدَأْ فِيهِ بِحَمْدِ اللَّهِ فَهُوَ أَبْتَرُ . فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُقْلَبَ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِمْ ، وَيُسْتَعْمَلَ دَلِيلُ الْخَبَرِ فِي سُؤَالِهِمْ ، فَيُقَالُ لَهُمْ : إِنْ كَانَ سُؤَالُكُمْ ذَا بَالٍ فَهَلَّا قَدَّمْتُمْ عَلَيْهِ حَمْدَ اللَّهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ ذِي بَالٍ ، فَلَا نُعَوِّلُ عَلَيْهِ ، وَكُلُّ سُؤَالٍ انْقَلَبَ عَلَى سَائِلِهِ كَانَ مُطَّرَحًا . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّ حَمْدَ اللَّهِ تَارَةً يَكُونُ خَطًّا ، وَتَارَةً يَكُونُ لَفْظًا ، وَهُوَ أَشْبَهُ الْأَمْرَيْنِ بِظَاهِرِ الْأَمْرِ ، وَالْمُزَنِيُّ تَرَكَ حَمْدَ اللَّهِ خَطًّا وَقَدْ ذَكَرَهُ لَفْظًا حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ تَصْنِيفِ كُلِّ بَابٍ . وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ : أَنَّ الْمُزَنِيَّ قَدْ حَمِدَ اللَّهَ وَسَمَّى وَأَتَى بِهِ كِتَابَةً وَلَفْظًا ، وَقَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا شَرِيكَ لَهُ ، الَّذِي هُوَ كَمَا وَصَفَ وَفَوْقَ مَا يَصِفُهُ بِهِ خَلْقُهُ ، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ، فَحَذَفَ ذَلِكَ بَعْضُ النَّاقِلِينَ .

وَالْجَوَابُ الرَّابِعُ : أَنَّ الْمُرَادَ بِحَمْدِ اللَّهِ إِنَّمَا هُوَ ذِكْرُ اللَّهِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ : لَمْ يُبْدَأْ بِذِكْرِ اللَّهِ . وَالثَّانِي : يُقَدَّرُ اسْتِعْمَالُهُ ، لِأَنَّ التَّحْمِيدَ إِنْ قُدِّمَ عَلَى التَّسْمِيَةِ خُولِفَ فِيهِ الْعَادَةُ ، وَإِنْ ذُكِرَ بَعْدَ التَّسْمِيَةِ لَمْ يَقَعْ بِهِ الْبِدَايَةُ ، فَثَبَتَ بِهَذَيْنِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ ذِكْرُ اللَّهِ ، وَقَدْ بَدَأَ بِذِكْرِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . وَالْجَوَابُ الْخَامِسُ : أَنَّ الْأَمْرَ بِهِ مَحْمُولٌ عَلَى ابْتِدَاءِ الْخُطْبَةِ دُونَ غَيْرِهَا ، زَجْرًا عَمَّا كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ عَلَيْهِ مِنْ تَقْدِيمِ الْمَنْثُورِ وَالْمَنْظُومِ وَالْكَلَامِ الْمَنْثُورِ ، وَإِنَّمَا كَانَ لِثَلَاثَةِ أُمُورٍ . أَحَدُهَا : مَا رُوِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا خَطَبَ فَتَرَكَ التَّحْمِيدَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَمْ يُبْدَأْ فِيهِ بِحَمْدِ اللَّهِ فَهُوَ أَبْتَرُ . وَالثَّانِي : أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَوْلُهُ : اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [ الْعَلَقِ : ] . وَقَوْلُهُ : يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [ الْمُدَّثِّرِ : ] : وَلَيْسَ فِي ابْتِدَائِهِمَا حَمْدُ اللَّهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْمُرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى دَالٌّ عَلَى خِلَافِهِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ خَبَرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِخِلَافِ مُخْبَرِهِ فَقَدْ قَالَ : " فَهُوَ أَبْتَرُ " وَكِتَابُ الْمُزَنِيِّ أَشْهَرُ كِتَابٍ صُنِّفَ ، وَأَبْدَعُ مُخْتَصَرٍ أُلِّفَ ، فَعُلِمَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْخُطَبِ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ وَالْكُتُبِ . فَصْلٌ : وَالِاعْتِرَاضُ الثَّانِي أَنْ قَالُوا : لِمَ قَالَ : اخْتَصَرْتُ قَبْلَ اخْتِصَارِهِ ؟ وَهَذَا كَذِبٌ . وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ تَرْجَمَ كِتَابَهُ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْهُ ، وَأَرَادَ مَا قَدِ اخْتَصَرَ بِالِاخْتِصَارِ . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّهُ صَوَّرَ الْكِتَابَ فِي نَفْسِهِ مُخْتَصَرًا أَوْ أَشَارَ بِالِاخْتِصَارِ إِلَى مَا فِي نَفْسِهِ مُخْتَصَرًا . وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ قَالَ : اخْتَصَرْتُ بِمَعْنَى سَأَخْتَصِرُ ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ : فَعَلْتُ بِمَعْنَى سَأَفْعَلُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ [ النَّحْلِ : ] بِمَعْنَى سَيَأْتِي أَمْرُ اللَّهِ . وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ [ الْأَعْرَافِ : ] بِمَعْنَى سَيُنَادِي أَصْحَابُ الْجَنَّةِ . فَصْلٌ : وَالِاعْتِرَاضُ الثَّالِثُ : إِنْ قَالُوا : لِمَ قَالَ : اخْتَصَرْتُ هَذَا ؟ وَ " هَذَا " كَلِمَةٌ مَوْضُوعَةٌ فِي اللُّغَةِ إِشَارَةً إِلَى حَاضِرٍ مُعَيَّنٍ كَمَا أَنَّ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى غَائِبٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ ، وَلَمْ يَكُنْ ثَمَّ حَاضِرٍ يُشِيرُ إِلَيْهِ . وَهَذَا جَهْلٌ بِاللُّغَةِ ، وَهُوَ مَوْضُوعُ الْكَلَامِ ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ :

أَحَدُهَا : أَنَّهُ تَرْجَمَ كِتَابَهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ ، فَصَارَ ذَلِكَ مِنْهُ إِشَارَةً إِلَى حَاضِرٍ مُعَيَّنٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ صَوَّرَهُ فِي نَفْسِهِ ، وَأَشَارَ إِلَى مَا يُعَيِّنُ فِي ضَمِيرِهِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ " هَذَا " وَإِنْ كَانَ إِشَارَةً إِلَى حَاضِرٍ مُعَيَّنٍ فَقَدْ يَسْتَعْمِلُهُ الْعَرَبُ إِشَارَةً إِلَى غَائِبٍ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ [ الْمُرْسَلَاتِ : ] هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ [ الْمُرْسَلَاتِ : ] إِشَارَةً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْضُوعًا حَاضِرًا لِلْإِشَارَةِ إِلَى غَائِبٍ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : الم ذَلِكَ الْكِتَابُ [ الْبَقَرَةِ : - ] يَعْنِي هَذَا الْكِتَابُ . وَكَقَوْلِ خُفَافِ بْنِ نُدْبَةَ السُّلَمِيِّ : فَإِنْ تَكُ حُبْلَى قَدْ أَصَبْتَ حَمِيمَهَا فَعَمْدًا عَلَى عَيْنٍ تَيَمَّمْتُ مَالِكَا أَقُولُ لَهُ وَالرُّمْحُ يَأْطُرُ مَنُّهُ تَأَمَّلْ خِفَافًا إِنَّنِي أَنَا ذَلِكَا يَعْنِي : إِنَّنِي أَنَا هَذَا . فَصْلٌ : ثُمَّ يَبْدَأُ بِشَرْحِ التَّرْجَمَةِ فَيَقُولُ : أَمَّا قَوْلُهُ " اخْتَصَرْتُ هَذَا " فَحَدُّ الِاخْتِصَارِ هُوَ تَقْلِيلُ اللَّفْظِ مَعَ اسْتِبْقَاءِ الْمَعْنَى ، وَقَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ : هُوَ مَا دَلَّ قَلِيلُهُ عَلَى كَثِيرِهِ ، وَهِيَ اخْتِصَارُ الِاجْتِمَاعَةِ ، كَمَا سُمِّيَتِ الْمُخْتَصَرَةَ لِاجْتِمَاعِ السُّوَرِ فِيهَا ، وَسُمِّيَ خَصْرُ الْإِنْسَانِ لِاجْتِمَاعِهِ ، وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ : رَأَتْ رَجُلًا أَمَّا إِذَا الشَّمْسُ عَارَضَتْ فَيَضْحَى وَأَمَّا بِالْعَشِيِّ فَيَخْصُرُ

مَعْنَى أَنَّهُ مُجْتَمِعٌ مِنْ شِدَّةِ الْبَرْدِ . وَأَمَّا " هَذَا " فَهِيَ كَلِمَةُ إِشَارَةٍ تَجْمَعُ حَرْفًا وَاسْمًا ، فَالْحَرْفُ الْهَاءُ الْمَوْضُوعَةُ لِلتَّنْبِيهِ ، وَالِاسْمُ ذَا وَهُوَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمُبْهَمَةِ ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ حَسُنَ أَنْ يُفْصَلَ بَيْنَهُمَا ، فَنَقُولُ : هَذَا . فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَ اخْتَصَرَ كِتَابَهُ وَهَلَّا بَسَطَهُ ، فَإِنَّ الْمَبْسُوطَ أَقْرَبُ إِلَى الْأَفْهَامِ ، وَأَغْنَى عَنِ الشَّرْحِ . قِيلَ : إِنَّمَا اخْتَصَرَهُ لِأَنَّ الْمُخْتَصَرَ أَقْرَبُ إِلَى الْحِفْظِ ، وَأَبْسَطُ لِلْقَارِئِ ، وَأَحْسَنُ مَوْقِعًا فِي النُّفُوسِ ، وَلِذَلِكَ تَدَاوَلَ إِعْجَازُ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [ الْبَقَرَةِ : ] لِاخْتِصَارِ لَفْظِهِ وَإِجْمَاعِ مَعَانِيهِ وَعَجِبُوا مِنْ وَجِيزِ قَوْلِهِ تَعَالَى : فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ [ الْحِجْرِ : ] . وَمِنَ اخْتِصَارِ قَوْلِهِ تَعَالَى : يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي [ هُودٍ : ] . وَقَالُوا : إِنَّهَا أَخْصَرُ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى . وَاسْتَحْسَنُوا اخْتِصَارَ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ [ الزُّخْرُفِ : ] كَيْفَ جَمَعَ بِهَذَا اللَّفْظِ الْوَجِيزِ بَيْنَ جَمِيعِ الْمَطْعُومَاتِ وَجَمِيعِ الْمَلْبُوسَاتِ . وَلِفَضْلِ الِاخْتِصَارِ عَلَى الْإِطَالَةِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَاخْتُصِرَتْ لِيَ الْحِكْمَةُ اخْتِصَارًا " . وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ : خَيْرُ الْكَلَامِ مَا قَلَّ وَدَلَّ وَلَمْ يَطُلْ فَيَمَلَّ . غَيْرَ أَنَّ لِلْإِطَالَةِ مَوْضِعًا يُحْمَدُ فِيهِ ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مُخْتَصَرًا بِهِ ، وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ فِي بَعْضِ خُطَبَاءِ إِيَادٍ : يَرْمُونَ بِالْخُطَبِ الطِّوَالِ وَتَارَةً وَحْيَ الْمُلَاحِظِ خِيفَةَ الرُّقَبَاءِ غَيْرَ أَنَّ الِاخْتِصَارَ فِيمَا وَضَعَهُ الْمُزَنِيُّ أَحْمَدُ . وَقَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ : يُخْتَصَرُ الْكِتَابُ لِيُحْفَظَ ، وَيُبْسَطُ لِيُفْهَمَ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ شَرَطَ اخْتِصَارَ كِتَابِهِ ، وَقَدْ أَطَالَ كَثِيرًا مِنْهُ ، فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ شَرَطَ اخْتِصَارَ عِلْمِ الشَّافِعِيِّ ، وَقَدِ اخْتَصَرَهُ وَإِنَّمَا أَطَالَ كَلَامَ نَفْسِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْحُكْمَ لِلْأَغْلَبِ ، وَالْأَغْلَبُ مِنْهُ مُخْتَصَرٌ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا قَوْلُهُ : " مِنْ عِلْمِ الشَّافِعِيِّ " فَقَدِ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ مَنْ ذَكَرْنَا ، وَقَالُوا : عِلْمُ الشَّافِعِيِّ لَا يُمْكِنُهُ اخْتِصَارُهُ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مُضْمَرٌ فِي النَّفْسِ وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَصِلُ إِلَيْهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْعِلْمَ عَرَضٌ ، وَالْعُرُوضُ يَسْتَحِيلُ اخْتِصَارُهَا . وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ فَاسِدٌ بِمَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ مُرَادِ الْمُزَنِيِّ بِهِ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مُرَادِهِ ، فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : أَرَادَ مِنْ كُتُبِ الشَّافِعِيِّ فَعَبَّرَ بِالْعِلْمِ عَنِ الْكُتُبِ ، لِأَنَّهُ قَدْ يُوصَلُ بِهَا إِلَى الْعِلْمِ كَمَا قِيلَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى : هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا [ الْأَنْعَامِ : ] أَيْ مِنْ كِتَابٍ ، وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَرَادَ مِنْ مَعْلُومِ الشَّافِعِيِّ ، فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْعِلْمِ ، لِأَنَّهُ حَادِثٌ عَلَى الْعِلْمِ كَمَا قِيلَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ ، أَيْ مِنْ مَعْلُومِهِ ، وَمَعْلُومُ الشَّافِعِيِّ مَا أُخِذَ عَنْهُ قَوْلًا وَرَسْمًا . فَصْلٌ : اعْتِرَاضٌ وَرَدٌّ وَأَمَّا قَوْلُهُ : " وَمِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ " فَقَدِ اعْتَرَضَ فِيهِ مَنْ ذَكَرْنَا ، وَقَالُوا : الْمَعْنَى هُوَ صِفَةُ الْحُكْمِ وَاخْتِصَارُهُ مُبْطِلٌ لَهُ . وَهَذَا جَهْلٌ بِمَقْصُودِ الْكَلَامِ . وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مُرَادِ الْمُزَنِيِّ بِمَا اخْتَصَرَهُ مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ اخْتِصَارَ الْمَعْنَى هُوَ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْهُ بِأَوْجَزِ لَفْظٍ ، وَأَخْصَرِ كَلَامٍ . وَقَدْ أَفْصَحَ الْمُزَنِيُّ بِهَذَا فِي أَوَّلِ جَامِعِهِ الْكَبِيرِ فَقَالَ : وَلَيْسَ اخْتِصَارُ الْمَعَانِي هُوَ تَرْكُ بَعْضِهَا وَالْإِتْيَانُ بِالْبَعْضِ ، وَلَكِنِ الْإِتْيَانُ بِالْمَعَانِي بِأَلْفَاظٍ مُخْتَصَرَةٍ .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ اخْتِصَارَهُ الْمَعْنَى غَيْرُ رَاجِعٍ إِلَى لَفْظِهِ ، وَإِنَّمَا هُوَ رَاجِعٌ إِلَى عَيْنِهِ . وَلِمَنْ قَالَ بِهَذَا فِي كَيْفِيَّتِهِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ . أَحَدُهَا : أَنَّهُ اخْتَصَرَ الْمَعْنَى بِإِيرَادِ إِحْدَى دَلَائِلِ الْمَسْأَلَةِ دُونَ جَمِيعِهَا فَيَكُونُ ذَلِكَ اخْتِصَارًا لَهَا ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْحُكْمَ إِذَا ثَبَتَ لِمَعْنَيَيْنِ ، مِثْلَ الْكَلْبِ الْمَيِّتِ هُوَ نَجَسٌ ، لِأَنَّهُ كَلْبٌ ، وَلِأَنَّهُ مَيِّتٌ ، اخْتَصَرَ ذَلِكَ بِإِيرَادِ أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يُعَلِّلَ الْأُصُولَ بِمَعْنًى يَجْمَعُ أُصُولًا يُسْتَغْنَى بِهِ عَنْ تَعْلِيلِ كُلِّ أَصْلٍ مِنْهَا ، بِمَعْنًى مُفْرَدٍ . مِثْلَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ " فَعَلَّلَ إِثْبَاتَ النِّيَّةِ فِي الصَّوْمِ بِأَنَّهُ عَمَلٌ مَقْصُودٌ فِي عَيْنِهِ يَصِيرُ التَّعْلِيلُ بِهَذَا الْمَعْنَى مُوجِبًا لِإِثْبَاتِ النِّيَّةِ فِي الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَالصِّيَامِ وَلَا يَحْتَاجُ أَنْ تُخْتَصَرَ كُلُّ عِبَادَةٍ مِنْهَا بِمَعْنًى يُوجِبُ النِّيَّةَ فِيهَا فَيَكُونُ هَذَا اخْتِصَارًا لِلْمَعْنَى . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ قَوْلَهُ : " وَمِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ " يُرِيدُ : عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ : فَيَكُونُ " مِنْ " بِمَعْنَى " عَلَى " ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا [ الْأَنْبِيَاءِ : ] . أَيْ عَلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا ، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ : أَنَّهُ لَمَّا اخْتَصَرَ مَنْصُوصَاتِ الشَّافِعِيِّ اخْتَصَرَ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ فُرُوعًا مِنْ عِنْدِهِ كَمَا فَعَلَ فِي الْحَوَالَةِ وَالضَّمَانِ وَالشَّرِكَةِ وَالشُّفْعَةِ . فَصْلٌ : وَأَمَّا قَوْلُهُ : " لِأُقَرِّبَهُ عَلَى مَنْ أَرَادَهُ " فَمَعْنَاهُ : لِأُسَهِّلَهُ عَلَى فَهْمِ مَنْ أَرَادَهُ ، لِأَنَّ التَّقْرِيبَ يُسْتَعْمَلُ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إِمَّا عَلَى تَقْرِيبِ الدَّانِي مِنَ الْبَعِيدِ . وَإِمَّا تَقْرِيبُ التَّسْهِيلِ عَلَى الْفَهْمِ ، وَهَذَا مُرَادُ الْمُزَنِيِّ دُونَ الْأَوَّلِ لِأَمْرَيْنِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمَقْصُودَ بِتَقْرِيبِ الْعِلْمِ إِنَّمَا هُوَ تَسْهِيلُهُ عَلَى الْفَهْمِ لَا الْأَدْنَى مِنَ الْبُعْدِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ قَالَ : عَلَى مَنْ أَرَادَهُ . وَتَقْرِيبُ الْأَدْنَى ، فَقَالَ فِيهِ : مَنْ أَرَادَهُ . فَأَمَّا الْهَاءُ الَّتِي فِي : " أُقَرِّبَهُ " " وَأَرَادَهُ " ، فَهُمَا كِنَايَتَانِ اخْتَلَفَ الْأَصْحَابُ فِيمَا يَرْجِعَانِ إِلَيْهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ :

أَحَدُهَا : أَنَّهُمَا كِنَايَتَانِ يَرْجِعَانِ إِلَى الْعِلْمِ فَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ : لِأُقَرِّبَ عِلْمَ الشَّافِعِيِّ بِاخْتِصَارِ هَذَا الْكِتَابِ عَلَى مَنْ أَرَادَ الْعِلْمَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُمَا كِنَايَتَانِ يَرْجِعَانِ إِلَى الْكِتَابِ وَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ : لِأُقَرِّبَ هَذَا الْكِتَابَ بِاخْتِصَارِهِ ، عَلَى مَنْ أَرَادَهُ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ الْكِنَايَةَ الْأُولَى تَرْجِعُ إِلَى الْعِلْمِ ، وَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ : لِأُقَرِّبَ هَذَا الْكِتَابَ بِاخْتِصَارِهِ عَلَى مَنْ أَرَادَ الْعِلْمَ . وَخَصَّ بِهِ الْمُرِيدَ ، لِأَنَّ غَيْرَ الْمُرِيدِ لَا يُقَرَّبُ عَلَى فَهْمِهِ . فَصْلٌ : وَأَمَّا قَوْلُهُ : " مَعَ إِعْلَامِيَّةِ نَهْيِهِ عَنْ تَقْلِيدِهِ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِ " فَفِيهِ خَمْسُ كِنَايَاتٍ : مِنْهُنَّ كِنَايَتَانِ فِي " إِعْلَامِيَّةِ " وَهُمَا الْيَاءُ وَالْهَاءُ ، وَثَلَاثُ كِنَايَاتٍ فِي نَهْيِهِ وَتَقْلِيدِهِ وَغَيْرِهِ فَلَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا فِي أَنَّ الْيَاءَ كِنَايَةٌ رَاجِعَةٌ وَأَنَّ الْهَاءَ فِي تَقْلِيدِهِ وَغَيْرِهِ كِنَايَتَانِ رَاجِعَتَانِ إِلَى الشَّافِعِيِّ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْهَاءِ الَّتِي فِي إِعْلَامِهِ ، وَفِي الْهَاءِ الَّتِي فِي نَهْيِهِ ، إِلَى مَا تَرْجِعُ الْكِنَايَةُ بِهِمَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُمَا كِنَايَتَانِ رَاجِعَتَانِ إِلَى الشَّافِعِيِّ أَيْضًا وَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ : مَعَ إِعْلَامِ الشَّافِعِيِّ وَنَهْيِ الشَّافِعِيِّ عَنْ تَقْلِيدِهِ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِ مِنَ الْفُقَهَاءِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الطَّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُمَا كِنَايَتَانِ رَاجِعَتَانِ إِلَى الْمَزِيدِ عَنْ تَقْلِيدِ الشَّافِعِيِّ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِ ، وَهَذَا حَكَاهُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ الْهَاءَ الَّتِي فِي " إِعْلَامِيَّةِ " كِنَايَةٌ رَاجِعَةٌ إِلَى الْمَزِيدِ ، وَالْهَاءَ الَّتِي فِي نَهْيِهِ كِنَايَةٌ رَاجِعَةٌ إِلَى الشَّافِعِيِّ ، وَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ : مَعَ إِعْلَامِي الْمَزِيدَ مِنْ نَهْيِ الشَّافِعِيِّ عَنِ التَّقْلِيدِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِنَا فَيَكُونُ النَّهْيُ عَنِ التَّقْلِيدِ صَادِرًا عَنِ الشَّافِعِيِّ إِلَى الْمُزَنِيِّ وَالْمُرِيدِ .

فَصْلٌ : فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَ نَهَى الشَّافِعِيُّ عَنْ تَقْلِيدِهِ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِ ، وَتَقْلِيدُهُ جَائِزٌ لِمَنِ اسْتَفْتَاهُ مِنَ الْعَامَّةِ ، وَيَجُوزُ لَهُ وَلِغَيْرِهِ تَقْلِيدُ الصَّحَابَةِ ؟ قِيلَ : أَمَّا التَّقْلِيدُ فَهُوَ قَبُولُ قَوْلٍ بِغَيْرِ حُجَّةٍ : مَأْخُوذٌ مِنْ قِلَادَةِ الْعُنُقِ . وَإِطْلَاقُ هَذَا النَّهْيِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا نَصِفُهُ مِنْ أَحْوَالِ التَّقْلِيدِ فَنَقُولُ : اعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي التَّقْلِيدِ وأقسامه يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ .

قِسْمٌ فِيمَا يَجُوزُ فِيهِ التَّقْلِيدُ وَفِيمَا لَا يَجُوزُ . وَقِسْمٌ فِيمَنْ يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ ، وَفِيمَنْ لَا يَجُوزُ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فَيَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ . قِسْمٌ يَجُوزُ فِيهِ التَّقْلِيدُ . وَقِسْمٌ لَا يَجُوزُ فِيهِ التَّقْلِيدُ . وَقِسْمٌ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْمُقَلِّدِ وَالْمُقَلَّدِ . فَأَمَّا مَا لَا يَجُوزُ فِيهِ التَّقْلِيدُ فَتَوْحِيدُ اللَّهِ تَعَالَى ، وَإِثْبَاتُ صِفَاتِهِ ، وَبَعْثُهُ أَنْبِيَاءَهُ ، وَتَصْدِيقُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَاءَ بِهِ ، لِأَنَّهُ قَدْ يُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِالْعَقْلِ الَّذِي يَشْتَرِكُ فِيهِ جَمِيعُ الْمُكَلَّفِينَ ، فَصَارَ جَمِيعُ أَهْلِ التَّكْلِيفِ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي الْعَقْلِ الْمُؤَدِّي إِلَيْهِ ، فَلَمْ يَجُزْ لِبَعْضِهِمْ تَقْلِيدُ بَعْضٍ ، كَالْعُلَمَاءِ الَّذِينَ لَا يَجُوزُ لِبَعْضِهِمْ تَقْلِيدُ بَعْضٍ ، لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي آلَةِ الِاجْتِهَادِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى أَحْكَامِ الشَّرْعِ . وَأَمَّا مَا يَجُوزُ فِيهِ التَّقْلِيدُ فَالْأَخْبَارُ ، وَهِيَ تَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ : أَخْبَارُ تَوَاتُرٍ وَأَخْبَارُ

آحَادٍ . فَأَمَّا أَخْبَارُ التَّوَاتُرِ فَخَارِجٌ عَنْ حَدِّ التَّقْلِيدِ لِحُصُولِ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ بِهِ .

وَأَمَّا خَبَرُ الْوَاحِدِ فَتَقْلِيدُ الْمُخْبَرِ بِهِ إِذَا كَانَ ظَاهِرَ الصِّدْقِ جَائِزٌ : لِأَنَّهُ لَمَّا دَعَتِ الضَّرُورَةُ فِيمَا غَابَ إِلَى قَبُولِ الْخَبَرِيَّةِ لِعَدَمِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ ، جَازَ التَّقْلِيدُ فِيهِ . وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ مَنَعَ أَنْ

يَكُونَ خَبَرُ الْوَاحِدِ تَقْلِيدًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ التَّسْلِيمُ لِقَوْلِهِ إِلَّا بَعْدَ الِاجْتِهَادِ فِي عَدَالَتِهِ فَصَارَ قَوْلُهُ مَقْبُولًا بِدَلِيلٍ ، وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَهُوَ خَطَأٌ ؛ لِأَنَّ عَدَالَةَ الْمُخْبِرِ لَيْسَتْ بِدَلِيلٍ عَلَى صِحَّةِ الْخَبَرِ كَمَا لَا يَكُونُ عَدَالَةُ الْعَالِمِ دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ فَتْوَاهُ ، وَإِنَّمَا الدَّلِيلُ مَا اخْتَصَّ بِالْقَوْلِ الْمَقْبُولِ مِنْ خَبَرِ أَوْ حُكْمِ مَا اخْتَصَّ بِالْقَائِلِ مِنْ عَدَالَةٍ وَصِدْقٍ . وَأَمَّا مَا اخْتَلَفَ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْمُقَلِّدِ وَالْمُقَلَّدِ فَالْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ الَّتِي تَنْقَسِمُ إِلَى تَحْلِيلٍ وَتَحْرِيمٍ وَإِبَاحَةٍ وَحَظْرٍ وَاسْتِحْبَابٍ وَكَرَاهِيَةٍ وَوُجُوبٍ وَإِسْقَاطٍ ، فَالتَّقْلِيدُ فِيهَا مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ مِنْ فَهْمِ آلَةِ الِاجْتِهَادِ الْمُؤَدِّي إِلَيْهِ أَوْ عَدَمِهِ ؛ لِأَنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ مِنْ فَرْضِ الْكِفَايَةِ وَلَوْ مُنِعَ جَمِيعُ النَّاسِ مِنَ التَّقْلِيدِ وَكُلِّفُوا الِاجْتِهَادَ لَتَعَيَّنَ فَرْضُ الْعِلْمِ عَلَى الْكَافَّةِ ، وَفِي هَذَا حَلُّ نِظَامٍ وَفَسَادٌ ، وَلَوْ جَازَ لِجَمِيعِهِمُ الِاجْتِهَادُ لَبَطَلَ الِاجْتِهَادُ ، وَسَقَطَ فَرْضُ الْعِلْمِ ،

وَفِي هَذَا تَعْطِيلُ الشَّرِيعَةِ وَذَهَابُ الْعِلْمِ ، فَكَذَلِكَ مَا وَجَبَ الِاجْتِهَادُ عَلَى مَنْ نَفَعَ بِهِ كِفَايَةً لِيَكُونَ الْبَاقُونَ تَبَعًا وَمُقَلِّدِينَ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ فَلَمْ يَسْقُطِ الِاجْتِهَادُ عَنْ جَمِيعِهِمْ وَلَا أُمِرَ بِهِ كَافَّتُهُمْ . فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي فَيَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : قِسْمٌ فِيمَنْ لَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ . وَقِسْمٌ فِيمَنْ يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ . وَقِسْمٌ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ السَّائِلِ وَالْمَسْئُولِ . فَأَمَّا مَنْ لَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُمْ فَهُمُ الْعَامَّةُ الَّذِينَ عُدِمُوا آلَةَ الِاجْتِهَادِ ، فَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ ، لِأَنَّهُمْ بِعَدَمِ الْآلَةِ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الصَّوَابِ وَالْخَطَأِ ، كَالْأَعْمَى الَّذِي لَا يَجُوزُ لِلْبَصِيرِ أَنْ يُقَلِّدَهُ فِي الْقِبْلَةِ ، لِأَنَّهُ بِفَقْدِ الْبَصَرِ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْقِبْلَةِ وَخَطَئِهَا . فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْعَامَّةِ اسْتَفْتَى فَقِيهًا فِي حَادِثَةٍ فَأَفْتَاهُ بِجَوَابِهَا فَاعْتَقَدَهُ الْعَامِّيُّ مَذْهَبًا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِهِ ، وَلَا لِغَيْرِهِ أَنْ يُقَلِّدَهُ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ مُعْتَقَدًا لَهُ ، لِأَنَّهُ غَيْرُ عَالِمٍ بِصِحَّتِهِ ، وَلَكِنْ يَجُوزُ لَهُ الْإِخْبَارُ بِهِ . فَلَوْ عَلِمَ حُكْمَ الْحَادِثَةِ وَدَلِيلَهَا ، وَأَرَادَ أَنْ يُفْتِيَ غَيْرَهُ بِهَا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُهُ فِيهَا ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : يَجُوزُ لِأَنَّهُ قَدْ وَصَلَ إِلَى الْعِلْمِ بِهِ بِمِثْلِ وُصُولِ الْعَالِمِ إِلَيْهِ . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي ، وَهُوَ أَصَحُّ : لَا يَجُوزُ : لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ هُنَاكَ دَلَالَةٌ تُعَارِضُهَا هِيَ أَقْوَى مِنْهَا . وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ إِنْ كَانَ الدَّلِيلُ عَلَيْهَا نَصًّا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ سُنَّةٍ جَازَ تَقْلِيدُهُ فِيهَا وَاسْتِفْتَاؤُهُ فِي حُكْمِهَا ، وَإِنْ كَانَ نَظَرًا أَوِ اسْتِنْبَاطًا لَمْ يَجُزْ . فَصْلٌ . مَنْ يَجُوزُ تَقْلِيدُهُمْ وَأَمَّا مَنْ يَجُوزُ تَقْلِيدُهُمْ فَهُمْ أَرْبَعَةُ أَصْنَافٍ : أَحَدُهَا : النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا شَرَعَهُ وَأَمَرَ بِهِ . وَالصِّنْفُ الثَّانِي : الْمُخْبِرُونَ عَنْهُ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ . وَالصِّنْفُ الثَّالِثُ : الْمُجْمِعُونَ فِيمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ . وَالصِّنْفُ الرَّابِعُ : الصَّحَابَةُ فِيمَا قَالُوهُ وَفَعَلُوهُ . فَأَمَّا الْأَوَّلُ وَهُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَقْلِيدُهُ فِيمَا شَرَعَهُ وَأَمَرَ بِهِ وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [ الْحَشْرِ : ] . وَمَنَعَ أَصْحَابُنَا مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمَأْخُوذُ

عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقْلِيدًا لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى صِدْقِهِ : وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ ، لِأَنَّ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ لَا يُسْأَلُ عَنْ دَلِيلٍ فِيهِ ، وَهَذِهِ صِفَةُ التَّقْلِيدِ ، وَلَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْأَحْكَامِ الْمَأْخُوذَةِ عَنْهُ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ بِهَا اجْتِهَادًا أَمْ لَا الرسول صلى الله عليه وسلم ؟ . فَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِهَادُ فِيهَا ، لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ فَضِيلَةٌ تَقْتَضِي الثَّوَابَ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَمْنُوعًا مِنْهَا . وَقَالَ آخَرُونَ : لَا يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِهَادُ وَإِنَّمَا يُشَرِّعُ الْأَحْكَامَ بِوَحْيِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنِ أَمْرِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [ النَّجْمِ : ، ] . وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا هَلْ لِأَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِي عَصْرِهِ أَنْ يَجْتَهِدُوا فِي الْأَحْكَامِ أَمْ يَلْزَمُهُمْ سُؤَالُهُ وَلَا يَجُوزُ لَهُمُ الِاجْتِهَادُ الرسول صلى الله عليه وسلم ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : يَجُوزُ لَهُمُ الِاجْتِهَادُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ : " بِمَ تَحْكُمُ ؟ قَالَ : بِكِتَابِ اللَّهِ ، قَالَ : فَإِنْ لَمْ تَجِدْ ؟ قَالَ : بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ . قَالَ : فَإِنْ لَمْ تَجِدْ ؟ قَالَ : أَجْتَهِدُ رَأْيِي ، فَقَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللَّهِ " . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ لَهُمُ الِاجْتِهَادُ ، لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ يَجُوزُ مَعَ عَدَمِ النَّصِّ ، وَالنَّصُّ مُمْكِنٌ فِي عَصْرِهِ بِسُؤَالِهِ . وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ : يَجُوزُ لِمَنْ بَعُدَ ، وَلَا يَجُوزُ لِمَنْ قَرُبَ مِنْهُ ، لِإِمْكَانِ السُّؤَالِ عَلَى مَنْ قَرُبَ ، وَتَعَذُّرِهِ عَلَى مَنْ بَعُدَ . فَصْلٌ : الصِّنْفُ الثَّانِي وَأَمَّا الصِّنْفُ الثَّانِي وَهُمُ الْمُخْبِرُونَ عَنْهُ فَتَقْلِيدُهُمْ فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ وَرَوَوْهُ عَنْهُ وَاجِبٌ إِنْ كَانَ الْمُخْبِرُ وَاحِدًا ، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ مِمَّنْ لَا يَقُولُ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ : إِنِّي لَا أَقْبَلُ إِلَّا خَبَرَ اثْنَيْنِ حَتَّى يَتَّصِلَ ذَلِكَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَعْمَلْ عَلَى خَبَرِ ذِي الْيَدَيْنِ فِي سَهْوِهِ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى سَأَلَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَلَمْ يَعْمَلْ أَبُو بَكْرٍ عَلَى خَبَرِ الْمُغِيرَةِ فِي إِعْطَاءِ الْجَدَّةِ السُّدُسَ حَتَّى أَخْبَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ . وَهَذَا خَطَأٌ ، لِأَنَّ الصَّحَابَةَ قَدْ عَمِلَتْ عَلَى خَبَرِ عَائِشَةَ فِي الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ وَعَمِلَ عُمَرُ عَلَى خَبَرِ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ فِي دِيَةِ الْجَنِينِ ، وَلَيْسَ فِيمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْعُدُولِ عَنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ دَلِيلٌ عَلَى الْعُدُولِ عَنْ خَبَرِ كُلِّ وَاحِدٍ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ مَقْبُولٌ فَلَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ إِلَّا بَعْدَ ثُبُوتٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِذَا عُلِمَ إِسْلَامُهُ جَازَ الْعَمَلُ بِخَبَرِهِ ، وَقَبُولُ شَهَادَتِهِ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ عَنْ عَدَالَتِهِ ، لِأَنَّ الْأَعْرَابِيَّ لَمَّا أَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ ، فَقَالَ : " أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا

اللَّهُ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، وَتَشْهَدُ أَنِّي مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ " فَقَبِلَ خَبَرَهُ وَصَامَ وَأَمَرَ النَّاسَ بِالصِّيَامِ لَمَّا عَلِمَ إِسْلَامَهُ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ عَنْ عَدَالَتِهِ . وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ خَطَأٌ ، لِأَنَّ الْمُسْلِمَ يَكُونُ عَلَى صِفَةٍ لَا يَجُوزُ مَعَهَا قَبُولُ خَبَرِهِ ، كَمَا أَنَّ الْمَجْهُولَ قَدْ يَكُونُ غَيْرَ مُسْلِمٍ فَلَا يَجُوزُ قَبُولُ خَبَرِهِ ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ قَبُولُ خَبَرِ الْمَجْهُولِ إِلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ إِسْلَامِهِ لَمْ يَجُزْ قَبُولُ خَبَرِ الْمُسْلِمِ إِلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ عَدَالَتِهِ ، فَأَمَّا خَبَرُ الْأَعْرَابِيِّ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَسْلَمَ فِي الْحَالِ فَكَانَ عَدْلًا عَلَى أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ أَحْوَالِ الْمُسْلِمِينَ فِي عَصْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَدَالَةُ بِخِلَافِ الْأَعْصَارِ مِنْ بَعْدِهِ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطٌ فِي قَبُولِ خَبَرِهِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ ، وَالرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ . فَأَمَّا الصَّبِيُّ فَخَبَرُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ : لِأَنَّ قَوْلَهُ لَا يَلْزَمُ بِهِ حُكْمٌ ، وَلَكِنْ لَوْ سَمِعَ صَغِيرًا وَرَوَى كَبِيرًا جَازَ ، فَقَدْ كَانَ سَمِعَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ زُبَيْرٍ قَبْلَ بُلُوغِهِمَا ، فَقَبِلَ الْمُسْلِمُونَ أَخْبَارَهُمَا ، وَلَا يَصِحُّ لِلْمُخْبِرِ أَنْ يَرْوِيَ إِلَّا بَعْدَ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَسْمَعَ لَفْظَ مَنْ أَخْبَرَهُ ، وَإِمَّا أَنْ يَقْرَأَ عَلَيْهِ فَيَعْتَرِفَ بِهِ ، وَإِمَّا بِالْإِجَازَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرْوِيَ عَنْهُ ، وَمِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ مَنْ أَجَازَ الرِّوَايَةَ

بِالْإِجَازَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إِنْ كَانَتِ الْإِجَازَةُ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ جَازَ أَنْ يَرْوِيَهُ وَإِنْ كَانَتْ عَامَّةً لَمْ يَجُزْ .

وَهُوَ يَرْوِي كُتُبًا فِي السُّنَنِ ، أَوْ يَقُولُ : أَجَزْتُ لِمُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ الدِّمَشْقِيِّ ، وَهُنَاكَ جَمَاعَةٌ مُشْتَرِكُونَ فِي هَذَا الِاسْمِ . وَقَالَ آخَرُونَ : إِنْ دَفَعَ الْمُحَدِّثُ الْكِتَابَ مِنْ يَدِهِ ، وَقَالَ : قَدْ أَجَزْتُكَ هَذَا جَازَ أَنْ يَرْوِيَهُ وَإِنْ لَمْ يَدْفَعْهُ إِلَيْهِ مِنْ يَدِهِ لَمْ يَجُزْ ، وَكُلُّ هَذَا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ غَلَطٌ لَا يَجُوزُ الْأَخْذُ بِهِ وَلَا الْعَمَلُ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يُقَوِّيَهُ الْمُحَدِّثُ ، أَوْ يَقْرَأَ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ مَا فِي الْكِتَابِ مَجْهُولٌ قَدْ يَكُونُ فِيهِ الصَّحِيحُ وَالْفَاسِدُ ، وَلَوْ صَحَّتِ الْإِجَازَةُ لَبَطَلَتِ الرِّحْلَةُ ، وَلَا يَسْتَغْنِي النَّاسُ بِهَا عَنِ الطَّلَبِ وَمُعَانَاةِ السَّمَاعِ ، فَإِذَا سَمِعَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَكَتَبَهُ جَازَ أَنْ يَرْوِيَهُ مِنْ كِتَابِهِ إِذَا وَثِقَ بِهِ ، وَعَرَفَ خَطَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَافِظًا لِمَا يَرْوِيهِ ، وَلَا ذَاكِرًا لَهُ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجُوزُ أَنْ يَرْوِيَ عَنْ خَطِّهِ ، وَإِنْ عَرَفَهُ إِلَّا أَنْ يَذْكُرَهُ وَيَحْفَظَهُ ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ نَشْهَدَ بِمَعْرِفَةِ خَطِّهِ حَتَّى يَذْكُرَ مَا نَشْهَدُ بِهِ ، وَهَذَا فَاسِدٌ بِالْأَثَرِ الْمَعْمُولِ عَلَيْهِ وَالِاعْتِبَارِ الْمَأْخُوذِ بِهِ فَالْأَثَرُ مَا عَمِلَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ

فِيمَا أَخَذُوهُ مِنْ أَحْكَامِهِمْ ، مِنْ كُتُبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا كِتَابُهُ إِلَى عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَمِنْهَا الصَّحِيفَةُ الَّتِي أَخَذَهَا أَبُو بَكْرٍ مِنْ قِرَابِ سَيْفِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نِصْفِ الزَّكَاةِ فَلَمَّا جَازَ ذَلِكَ فِي الْأَحْكَامِ ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ فِي الشَّهَادَةِ جَازَ أَنْ يَعْمَلَ عَلَيْهِ فِيمَا رَوَاهُ عَلَى خَطِّهِ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ نَشْهَدَ بِخَطِّهِ . وَرَوَى أَنَسٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : قَيِّدُوا الْعِلْمَ بِالْكِتَابِ فَلَوْلَا أَنَّ الرُّجُوعَ إِلَيْهِ عِنْدَ النِّسْيَانِ جَائِزٌ لَمْ يَكُنْ لِتَقْيِيدِهِ بِالْخَطِّ فَائِدَةٌ ، وَلِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَزَالُوا عَلَى قَدِيمِ الزَّمَانِ وَحُدُوثِهِ يَسْمَعُونَ عَمَّنْ حَدَّثَ مِنْ كِتَابِهِ فَلَا يُنْكِرُونَهُ وَلَا يَجْتَنِبُونَ سَمَاعَهُ فَصَارَ ذَلِكَ مِنْهُمْ إِجْمَاعًا ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَرْوِيَ عَنْ سَمَاعِ صَوْتِ الْمُحَدِّثِ ، وَإِنْ لَمْ يَرَهُ لِرَحِمِهِ أَوْ لِذَهَابِ بَصَرِهِ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ جَازَ أَنْ يَرْوِيَ مِنْ خَطِّهِ الْمَوْثُوقِ بِهِ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ . فَصْلٌ : الصِّنْفُ الثَّالِثُ وَأَمَّا الصِّنْفُ الثَّالِثُ وَهُمُ الْمُجْمِعُونَ عَلَى حُكْمٍ فَتَقْلِيدُهُمْ عَلَى مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ وَاجِبٌ ، وَفَرْضُ الِاجْتِهَادِ عَنَّا فِيهِ سَاقِطٌ ، لِكَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً لَا يَجُوزُ خِلَافُهَا وَلَا وَجْهَ لِمَا قَالَهُ النَّظَّامُ وَذَهَبَ إِلَيْهِ الْخَوَارِجُ مِنْ إِبْطَالِ الْإِجْمَاعِ وَإِسْقَاطِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ ، اسْتِدْلَالًا بِتَجْوِيزِ الْخَطَأِ عَلَى جَمِيعِ الصَّحَابَةِ إِلَّا وَاحِدًا وَهُوَ عَلَى الْآخَرِ لَجَوَّزَ ، فَلَمَّا كَانَ خِلَافُ الْجَمِيعِ إِلَّا وَاحِدًا جَازَ خِلَافُهُمْ مَعَ الْوَاحِدِ لِأَنَّ هَذِهِ شُبْهَةٌ فَاسِدَةٌ يُبْطِلُهَا النَّصُّ وَيُفْسِدُهَا الدَّلِيلُ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [ النِّسَاءِ : ] . فَتَوَعَّدَ عَلَى اتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ جَوَّزَ خِلَافَ الْإِجْمَاعِ فَقَدِ اتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ " وَمَنْ أَبْطَلَ الْإِجْمَاعَ جَعَلَهُمْ مُجْتَمِعِينَ عَلَى ضَلَالٍ ، وَلِأَنَّ الْإِجْمَاعَ مِنَ الْكَافَّةِ مَعَ اخْتِلَافِ أَغْرَاضِهِمْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِلَّا عَنْ دَلِيلٍ يُوجِبُ اتِّفَاقَهُمْ ، وَلَا يَخْلُو ذَلِكَ الدَّلِيلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَقْطُوعًا بِهِ ، أَوْ غَيْرَ مَقْطُوعٍ ، فَإِنْ كَانَ مَقْطُوعًا بِهِ لَمْ يَجُزْ خِلَافُهُ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَقْطُوعٍ بِهِ لَمْ يَجُزْ تَرْكُهُ إِلَّا بِمَا هُوَ أَظْهَرُ مِنْهُ ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ مِنْ وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَنْ وَصَلَ إِلَى الْأَخْفَى كَانَ وُصُولُهُ إِلَى الْأَظْهَرِ أَوْلَى . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَى الْكَافَّةِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ ، وَيَكُونُ الْوَاحِدُ بِهِ ظَافِرًا . فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا عُلِمَ مِنْ دِينِ الرَّسُولِ ضَرُورَةً حُجَّةً عَلَى الْإِجْمَاعِ كَوُجُوبِ الصَّلَاةِ ، وَالصِّيَامِ ، وَالزَّكَاةِ ، وَالْحَجِّ ، وَتَحْرِيمِ الرِّبَا ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ ، فَهَذَا يَجِبُ الِانْقِيَادُ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الْإِجْمَاعِ فِيهِ ، لِأَنَّ مَا عُلِمَ حُكْمُهُ ضَرُورَةً لَوْ صُوِّرَ أَنَّ الْأُمَّةَ خَالَفَتْهُ لَكَانُوا مَحْجُوبِينَ بِهِ فَصَارَ حُكْمُهُ ثَابِتًا بِغَيْرِ الْإِجْمَاعِ لِكَوْنِهِ حُجَّةً عَلَى الْإِجْمَاعِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مَا لَمْ يُعْلَمْ مِنْ ضَرُورَةٍ من الإجماع وَذَلِكَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا اشْتَرَكَ فِيهِ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ فِي مَعْرِفَةِ حُكْمِهِ كَأَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ ، وَمَوَاقِيتِ الصَّلَوَاتِ ، وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ ، وَتَحْرِيمِ بِنْتِ الْبِنْتِ ، كَالْبِنْتِ ، وَإِحْلَالِ بِنْتِ الْعَمِّ ، بِخِلَافِ الْعَمَّةِ ، فَهَذَا يُعْتَبَرُ فِيهِ إِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ ، وَهَلْ يَكُونُ إِجْمَاعُ الْعَامَّةِ مَعَهُمْ مُعْتَبَرًا فِيهِ ؟ لَوْلَا وَفَاقُهُمْ عَلَيْهِ مَا ثَبَتَ إِجْمَاعًا عَلَى وَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا . أَحَدُهُمَا : أَنَّ إِجْمَاعَهُمْ مُعْتَبَرٌ فِي انْعِقَادِهِ وَلَوْلَاهُ مَا ثَبَتَ إِجْمَاعٌ لِاشْتِرَاكِهِمْ وَالْعُلَمَاءَ فِي الْعِلْمِ بِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّ إِجْمَاعَهُمْ فِيهِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ ، وَهُوَ مُنْعَقِدٌ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ دُونَهُمْ ، لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا وَقَعَ عَنْ نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ ، وَلَيْسَ الْعَامَّةُ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فَلَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ ، وَلِأَنَّ الْإِجْمَاعَ يَكُونُ مُعْتَبَرًا بِمَنْ يَكُونُ خِلَافُهُ مُؤَثِّرًا ، وَخِلَافُ الْعَامَّةِ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ ، فَكَانَ إِجْمَاعُهُمْ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ .

وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : مَا اخْتُصَّ بِالْعُلَمَاءِ بِمَعْرِفَةِ حُكْمِهِ دُونَ الْعَامَّةِ كَنَصْبِ الزَّكَاةِ ، وَتَحْرِيمِ الْمَرْأَةِ عَلَى خَالَتِهَا وَعَمَّتِهَا ، وَإِبْطَالِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ ، فَالْمُعْتَبَرُ فِيهِ إِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَالْفَتَيَاتِ دُونَ الْعَامَّةِ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يُرَاعَى فِيهِ إِجْمَاعُ غَيْرِ الْفُقَهَاءِ وَمِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُرَاعَى إِجْمَاعُهُمْ فِيهِ وَيُؤَثِّرُ خِلَافُهُمْ ، لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ ، وَلَهُمْ مَعْرِفَةٌ بِاعْتِبَارِ الْأُصُولِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ إِجْمَاعَ الْمُتَكَلِّمِينَ فِيهِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ ، وَخِلَافُهُمْ فِيهِ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ ، لِأَنَّ الْفُقَهَاءَ أَقْوَمُ بِمَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ ، وَأَكْثَرُ حِفْظًا لِلْفُرُوعِ ، وَأَكْثَرُ ارْتِيَاضًا بِالْفِقْهِ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ أَهْلَ الِاجْتِهَادِ مِنَ الْعُلَمَاءِ هُمُ الْمُعْتَبَرُونَ فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ فَخَالَفَ مِنْهُمْ وَاحِدٌ لَمْ يَنْعَقِدِ الْإِجْمَاعُ ، لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ خَالَفَ الصَّحَابَةَ فِي مَسَائِلَ ، وَلَمْ يَجْعَلُوا أَقْوَالَهُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ ، لِتَفَرُّدِهِ بِالْخِلَافِ فِيهِ ، وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا هَلْ يَكُونُ خِلَافُ الْوَاحِدِ مَانِعًا مِنَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ مَشْرُوطًا بِعَدَمِ الْإِنْكَارِ أَبَدًا ؟ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ : إِنَّمَا يُمْنَعُ خِلَافُ الْوَاحِدِ إِنْ أَنْكَرَهُ مِنَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنَ الْبَاقِينَ إِنْكَارٌ ، فَيَكُونُ تَرْكُ التَّكْبِيرِ مِنْهُمْ دَلِيلًا عَلَى جَوَازِ الْخِلَافِ فِيهِمْ ، فَأَمَّا مَنْ أَنْكَرُوهُ عَلَيْهِ كَانَ مَحْجُوبًا بِهِمْ . وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ قَدِ ارْتَفَعَ الْإِجْمَاعُ بِخِلَافِ الْوَاحِدِ سَوَاءٌ أَنْكَرُوا قَوْلَهُ عَلَيْهِ ، أَوْ لَمْ يُنْكِرُوهُ ، لِأَنَّ مِمَّنْ شَهِدَ لِلَّهِ بِالْحَقِّ ، وَلِأَنَّ قَوْلَ الْأَقَلِّ غَيْرُ مَحْجُوجٍ بِالْأَكْثَرِ ، كَذَلِكَ قَوْلُ الْوَاحِدِ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ جَعَلَ قَوْلَ الْأَكْثَرِ أَوْلَى بِالْحَقِّ مِنْ قَوْلِ الْأَقَلِّ ، وَهَكَذَا لَوْ أَجْمَعُوا ثُمَّ رَجَعَ أَحَدُهُمْ بَطَلَ الْإِجْمَاعُ ، لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ مِنْ أَهْلِ الْعَصْرِ حُجَّةٌ عَلَى غَيْرِهِمْ ، وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَيْهِمْ . ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ إِجْمَاعَ كُلِّ عَصْرٍ حُجَّةٌ ، وَخَصَّ أَهْلُ الظَّاهِرِ الْإِجْمَاعَ بَعْدَ الصَّحَابَةِ ، وَهَذَا خَطَأٌ ، لِأَنَّ كُلَّ عَصْرٍ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ فَلَوْ جَازَ عَلَيْهِمُ الْخَطَأُ فِيمَا أَجْمَعُوا حَتَّى لَا يَنْعَقِدَ الْإِجْمَاعُ بِهِ لَبَطَلَ التَّبْلِيغُ وَلَمَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ عَصْرٍ حُجَّةً عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ فَعَلَى هَذَا لَوِ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي حَادِثَةٍ أَجْمَعَ التَّابِعُونَ فِيهَا عَلَى أَحَدِهِمَا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا : هَلْ يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ بِهِمْ بَعْدَ خِلَافِ الصَّحَابَةِ قَبْلَهُمْ ، فَذَهَبَ أَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ سُرَيْجٍ وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إِلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ قَدِ انْعَقَدَ وَالْخِلَافَ الْمُتَقَدِّمَ قَدِ ارْتَفَعَ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ

إِجْمَاعُ الْعَصْرِ الثَّانِي حُجَّةً مَعَ عَدَمِ الْخِلَافِ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً مَعَ وُجُودِ الْخِلَافِ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ حُجَّةً لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَعْصَارِ وَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إِلَى أَنَّ حُكْمَ الْخِلَافِ بَاقٍ ، وَالْإِجْمَاعَ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ ، لِأَنَّ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ : إِجْمَاعٌ مِنْهُمْ عَلَى تَسْوِيغِ الْقَوْلِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَوْلَيْنِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ إِجْمَاعُ التَّابِعِينَ مُبْطِلًا لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ ، وَلِأَنَّ الْإِجْمَاعَ الثَّانِيَ لَوْ رَفَعَ الْقَوْلَ الْآخَرَ ، كَانَ نَسْخًا ، وَلَا يَجُوزُ حُدُوثُ النَّسْخِ بَعْدَ ارْتِفَاعِ الْوَحْيِ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ أَدْرَكَ أَحَدُ التَّابِعِينَ عَصْرَ الصَّحَابَةِ وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فَخَالَفَهُمْ فِيمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ هل يكون ذلك مانعا من انعقاد الإجماع فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ مَانِعًا مِنَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ أَوْ لَا ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ ، وَأَنَّ خِلَافَ التَّابِعِيِّ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ ، لِأَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنْكَرَتْ عَلَى أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ خِلَافَهُ ، لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ فِي عِدَّةِ الْحَامِلِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَقَالَتْ : أَرَاكَ كَالْفَرُّوجِ يَصْفَعُ مَعَ الدِّيَكَةِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِهِمْ أَنَّ خِلَافَهُ مُعْتَدٌّ بِهِ ، وَمَانِعٌ انْعِقَادَ الْإِجْمَاعِ دُونَهُ ، لِأَنَّهُ قَدْ عَاصَرَ الصَّحَابَةَ كَثِيرٌ مِنَ التَّابِعِينَ فَكَانُوا يُفْتُونَ بِاجْتِهَادِهِمْ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِمْ فَصَارُوا مَعَهُمْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَنَعُوهُمْ مِنَ الْفُتَى خَوْفًا مِنَ الْفُتْيَا بِمَا يُخَالِفُهُمْ . وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ : وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ إِنَّ التَّابِعِيَّ إِنْ كَانَ حِينَ أَدْرَكَهُمْ خَاضَ مَعَهُمْ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ أُعِيدَ بِخِلَافِهِ ، وَلَمْ يَنْعَقِدِ الْإِجْمَاعُ دُونَهُ ، وَإِنْ تَكَلَّمَ فِيهِ بَعْدَ أَنْ سَبَقَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ لَمْ يُعْتَدَّ بِخِلَافِهِ . فَإِنْ قِيلَ : فَهَلْ يَكُونُ انْقِرَاضُ الْعَصْرِ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْإِجْمَاعِ قَبْلَ الْإِجْمَاعِ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : إِجْمَاعٌ عَنْ قَوْلٍ . وَالثَّانِي : إِجْمَاعٌ عَنِ انْتِشَارٍ وَإِمْسَاكٍ ، فَالْإِجْمَاعُ عَلَى الِانْتِشَارِ وَالْإِمْسَاكِ ، لَا يَنْعَقِدُ إِلَّا بِانْقِرَاضِ الْعَصْرِ ؛ لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ قَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِالْتِمَاسِ الدَّلِيلِ ، وَيُحْتَمَلُ الْوِفَاقُ ، فَإِذَا انْقَرَضُوا عَلَيْهِ زَالَ الِاحْتِمَالُ ، وَيَثْبُتُ أَنَّهُ إِمْسَاكُ وِفَاقٍ ، وَلَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْمَاسِكِينَ فِيهِ ، هَلْ يُعْتَبَرُ فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ بِهِمْ وُجُودُ الرِّضَى مِنْهُمْ وَالِاعْتِقَادِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُعْتَبَرُ فِيهِ اعْتِقَادُهُمْ ، لِأَنَّ بِالِاعْتِقَادِ يَثْبُتُ الْحُكْمُ .

وَالثَّانِي : يُعْتَبَرُ فِيهِ الرِّضَى لِأَنَّ الِاعْتِقَادَ غَيْرُ مَوْصُولٍ إِلَيْهِ ، وَالرِّضَى دَلِيلٌ عَلَيْهِ ، وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ عَنْ قَوْلٍ فَهُوَ أَوْكَدُ مِنْهُ ، لِانْتِفَاءِ الِاحْتِمَالِ عَنْهُ ، وَلَيْسَ انْقِرَاضُ الْعَصْرِ شَرْطًا فِي انْعِقَادِهِ ، وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ انْقِرَاضَ الْعَصْرِ شَرْطٌ فِي انْعِقَادِهِ ؛ لِأَنَّ لِبَعْضِ الْمُجْمِعِينَ الرُّجُوعَ كَمَا رَجَعَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ ، لَوْ كَانَ مُنْعَقِدًا لَمَا جَازَ خِلَافُهُ ، وَهَذَا خَطَأٌ ، لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ إِنَّمَا يَنْعَقِدُ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ ، وَذَلِكَ مِمَّا يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ انْقِرَاضُ الْعَصْرِ شَرْطًا فِيهِ ، لِأَنَّ الْمَوْتَ يُبْطِلُ مَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ بِهِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ قَوْلُهُ حُجَّةً بَعْدَ مَوْتِهِ كَانَ قَوْلُهُ حُجَّةً فِي حَيَاتِهِ كَالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لِبَعْضِهِمُ الرُّجُوعُ ، وَإِنْ كَانَ الْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدًا ، لِأَنَّ إِجْمَاعَهُمْ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَيْهِمْ ، وَإِنَّمَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ . فَصْلٌ : الصِّنْفُ الرَّابِعُ فَأَمَّا الصِّنْفُ الرَّابِعُ وَهُمُ الصَّحَابَةُ فَتَقْلِيدُهُمْ يَخْتَلِفُ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ فِيمَا قَالُوهُ وَلَهُمْ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُجْمِعُوا عَلَى الشَّيْءِ قَوْلًا ، وَيَتَّفِقُوا لَفْظًا ، فَهَذَا إِجْمَاعٌ لَا يَجُوزُ خِلَافُهُ ، وَتَقْلِيدُهُمْ فِيهِ وَاجِبٌ ، وَالْمَصِيرُ إِلَى قَوْلِهِمْ فِيهِ لَازِمٌ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَقُولَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ قَوْلًا ، وَيَنْتَشِرَ فِي جَمِيعِهِمْ وَهُمْ مِنْ بَيْنِ قَائِلٍ بِهِ ، وَسَاكِتٍ عَلَى الْخِلَافِ فِيهِ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَظْهَرَ الرِّضَى مِنَ السَّاكِتِ عَمَّا ظَهَرَ النُّطْقُ مِنَ الْقَائِلِ ، فَهَذَا إِجْمَاعٌ لَا يَجُوزُ خِلَافُهُ ؛ لِأَنَّ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ نُطْقٌ مَوْجُودٌ فِي رِضَاءِ السَّاكِتِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَظْهَرَ مِنَ السَّاكِتِ الرِّضَى وَلَا الْكَرَاهَةُ ، فَهُوَ حُجَّةٌ ، لِأَنَّهُمْ لَوْ عَلِمُوا خِلَافَهُ لَمْ يَسَعْهُمُ الْإِقْرَارُ عَلَيْهِ وَهَلْ يَكُونُ إِجْمَاعًا أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ إِجْمَاعًا ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهِمْ مُخَالِفٌ لَبَعَثَتْهُ الدَّوَاعِي عَلَى إِظْهَارِ خِلَافِهِ ، لِأَنَّ كَتْمَ الشَّرِيعَةِ يَنْتَفِي عِنْدَهُمْ ، فَالْقَوْلُ الثَّانِي لَا يَكُونُ إِجْمَاعًا ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : مَنْ نَسَبَ إِلَى سَاكِتٍ كَلَامًا فَقَدْ كَذَبَ عَلَيْهِ ، وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يَقُولُ : إِنْ كَانَ مَا قَالَهُ الْوَاحِدُ فِيهِمْ حُكْمًا حَكَمَ بِهِ كَانَ انْتِشَارُهُ فِيهِمْ وَسُكُوتُهُمْ عَنِ الْخِلَافِ فِيهِ إِجْمَاعًا وَإِنْ كَانَ فِينَا لَمْ يَكُنْ إِجْمَاعًا ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ إِلَّا عَنْ مَشُورَةٍ وَمُطَالَعَةٍ وَبُعْدِ نَظَرٍ وَمُبَاحَثَةٍ ، وَإِنْ كَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَقُولُ بِضِدِّ هَذَا ، إِنْ كَانَ فِينَا إِجْمَاعًا ، وَإِنْ كَانَ حُكْمًا لَمْ يَكُنْ إِجْمَاعًا ، لِأَنَّ الْحُكْمَ لَازِمٌ لَا يَجُوزُ اعْتِرَاضُ السَّاكِتِينَ فِيهِ ، لِمَا فِيهِ مِنْ إِظْهَارِ الْمُبَايَنَةِ ، وَالْفُتْيَا غَيْرُ لَازِمَةٍ ، وَلَيْسَ الْمُخَالَفَةُ فِيهَا مُبَايَنَةً ، وَكَانَ السُّكُوتُ دَلِيلًا عَلَى رِضًى وَمُوَافَقَةٍ .

وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَقُولَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ قَوْلًا لَا يُعْلَمُ انْتِشَارُهُ وَلَا يَظْهَرُ مِنْهُمْ خِلَافُهُ فَلَا يَكُونُ إِجْمَاعًا ، وَهَلْ يَكُونُ حُجَّةً يَلْزَمُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ : إِنَّهُ حُجَّةٌ يَلْزَمُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ قَدْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَأْخُذُ بِقَوْلٍ مِنْ غَيْرِ طَلَبِ دَلِيلٍ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ قَوْلَ آحَادِهِمْ حُجَّةٌ ، فَعَلَى هَذَا هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَخْتَصَّ بِهِ عُمُومُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَوْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ لِأَنَّ الْعُمُومَ يَخْتَصُّ بِقِيَاسٍ مُحْتَمَلٍ ، وَقَوْلُهُ أَقْوَى مِنَ الْقِيَاسِ الْمُحْتَمَلِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِهِ ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ قَدْ كَانُوا يَتْرُكُونَ أَقْوَالَهُمْ لِعُمُومِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ : إِنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ مِنْ غَيْرِ انْتِشَارٍ لَيْسَ بِحُجَّةٍ ، وَيَجُوزُ لِلتَّابِعِيِّ خِلَافُهُ ، لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا يَلْزَمُهُ قَبُولُ قَوْلِ الْمُجْتَهِدِ ، وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ عَلَيْنَا وَعَلَى الصَّحَابِيِّ ، وَلَيْسَ قَوْلُ الْوَاحِدِ حُجَّةً عَلَى جَمِيعِ الصَّحَابَةِ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ وَافَقَ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ قِيَاسَ التَّقْرِيبِ فَهَلْ يَكُونُ أَوْلَى مِنْ قِيَاسِ الْمَعْنَى بِانْفِرَادِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ قِيَاسَ الْمَعْنَى بِانْفِرَادِهِ أَوْلَى لِأَنَّ بِانْفِرَادِهِ حُجَّةً . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ مَعَ مُوَافَقَةِ قِيَاسِ النَّصِّ أَوْلَى مِنْ قِيَاسِ الْمَعْنَى الْمُنْفَرِدِ بِهِ . وَقَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : وَقَدْ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ بِهِ فِي عُيُوبِ الْحَيَوَانِ حَيْثُ أَخَذَ بِقَضَاءِ عُثْمَانَ لِمُوَافَقَتِهِ قِيَاسَ التَّقْرِيبِ مَعَ مُخَالَفَتِهِ قِيَاسَ الْمَعْنَى . وَالْحَالَةُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَقُولَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ قَوْلًا يُخَالِفُهُ فِيهِ غَيْرُهُ فَيَظْهَرُ الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ وَيَنْتَشِرُ فِيهِمْ فَفِيهِ قَوْلَانِ . قَالَ فِي الْقَدِيمِ : يُؤْخَذُ بِقَوْلِ الْأَكْثَرِينَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : عَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ فَإِنِ اسْتَوَى أَخَذَ بِقَوْلِ مَنْ مَعَهُ مِنَ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ بَعْدِي فَإِنِ اسْتَوَى صَارَ كَالدَّلِيلَيْنِ إِذَا تَقَابَلَا فَيَرْجِعُ إِلَى التَّرْجِيحِ .

وَالْقَوْلُ الثَّانِي : قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ إِنَّهُ يَعُودُ عِنْدَ اخْتِلَافِهِمْ إِلَى مَا يُوجِبُهُ الدَّلِيلُ ، وَيَقْتَضِيهِ الِاجْتِهَادُ ؛ لِأَنَّ التَّقْلِيدَ مَعَ الِاخْتِلَافِ يُفْضِي إِلَى اعْتِقَادِ مَا لَا يُؤْمَنُ كَوْنُهُ جَهْلًا ، وَالْإِقْدَامُ عَلَى مَا لَا يُؤْمَنُ بِهِ يَكُونُ قَبِيحًا ، وَقُبْحُ مَا يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى مُقَرَّرٌ فِي الْعُقُولِ ، وَإِفْرَادُ الصَّحَابَةِ كَإِفْرَادِ سَائِرِ الْأُمَّةِ فِيمَا عَلَيْهِمْ مِنَ الِاجْتِهَادِ فِي الْحَادِثَةِ لَكِنْ إِذَا اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ لَمْ يَكُنْ لِمَنْ بَعْدَهُمْ إِحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ ، بِخِلَافِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ دَاوُدُ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إِجْمَاعٌ مِنْهُمْ عَلَى مَا سِوَى الْقَوْلَيْنِ بَاطِلٌ لَيْسَ بِحَقٍّ ، فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَصْنَافٍ يَجُوزُ تَقْلِيدُهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَرْتِيبِ الْحُكْمِ فِيهَا وَلَمْ يَرُدَّ الشَّافِعِيُّ شَيْئًا مِنْهَا بِنَهْيِهِ عَنْ تَقْلِيدِ غَيْرِهِ . فَصْلٌ : وَأَمَّا مَنْ يَخْتَلِفُ حَالُهُمْ بِاخْتِلَافِ حَالِ السَّائِلِ وَالْمَسْئُولِ فَهُمْ عُلَمَاءُ الْأَمْصَارِ ، فَإِنْ كَانَ السَّائِلُ عَامِّيًّا لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ تقليد علماء الأمصار في هذه الحالة جَازَ لَهُ تَقْلِيدُهُمْ ، فِيمَا يَأْخُذُ بِهِ وَيَعْمَلُ عَلَيْهِ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ، [ الْأَنْبِيَاءِ : ] . وَلِأَنَّ الْعَامِّيَّ عَادِمٌ لِآلَةِ الِاجْتِهَادِ لِلْوَصْلِ إِلَى حُكْمِ الْحَادِثَةِ فَجَرَى مَجْرَى الضَّرِيرِ يَرْجِعُ فِي الْقِبْلَةِ لِذَهَابِ بَصَرِهِ إِلَى تَقْلِيدِ الْبَصِيرِ لَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَلْزَمُهُ الِاجْتِهَادُ فِي الْأَعْيَانِ مِنَ الْمُعَيَّنِينَ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ يَلْزَمُهُ أَنْ يَجْتَهِدَ وَلَا يُقَلِّدَ إِلَّا أَعْلَمَهُمْ وَأَوْرَعَهُمْ وَأَسَنَّهُمْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا لَا يَلْزَمُهُمْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِلُ إِلَى مَعْرِفَةِ الْأَعْلَمِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُشَارِكًا فِي الْعِلْمِ ، وَالْعَامِّيُّ لَيْسَ بِمُشَارِكٍ فَصَارَ عَادِمًا لِآلَةِ الِاجْتِهَادِ فِي أَعْلَمِهِمْ ، كَمَا كَانَ عَادِمًا لِآلَةِ الِاجْتِهَادِ فِي حُجَّةِ قَوْلِهِمْ ، فَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لَوْ وَجَدَ عَالِمَيْنِ وَعَلِمَ أَنَّ أَحَدَهُمَا أَعْلَمُ فمن يقدم في التقليد فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَلْزَمُهُ تَقْلِيدُ الْأَعْلَمِ عِنْدَهُ ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي : هُوَ بِالْخِيَارِ ؛ لِأَنَّ كَوْنَ أَحَدِهِمَا أَعْلَمَ فِي الْجُمْلَةِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْآخَرُ أَوْصَلَ إِلَى حُكْمِ الْحَادِثَةِ الْمَسْئُولِ عَنْهَا ، أَوْ مُسَاوِيًا فِيهَا ، وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ ، لَوِ اسْتَفْتَى فَقِيهًا لَمْ يَسْكُنْ إِلَى فُتْيَاهُ تقليد العامي للعالم فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَلْزَمُهُ أَنْ يَسْأَلَ ثَانِيًا وَثَالِثًا حَتَّى يَصِيرُوا عَدَدًا تَسْكُنُ نَفْسُهُ إِلَى فُتْيَاهُمْ ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي لَا يَلْزَمُهُ سُؤَالُ غَيْرِهِ ، وَيَجُوزُ لَهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى فُتْيَاهُ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ نُفُورُ نَفْسِهِ وَلَا سُكُونُهَا حُجَّةً . وَلَوِ اسْتَفْتَى فَقِيهًا ، ثُمَّ رَجَعَ الْفَقِيهُ عَنْ فُتْيَاهُ تقليد العامي للعالم ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ السَّائِلُ بِالرُّجُوعِ فَهُوَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِهَا ، وَإِنْ أَخْبَرَهُ بِرُجُوعِهِ ، فَإِنْ كَانَ الْفَقِيهُ خَالَفَ نَصًّا لَزِمَ السَّائِلَ أَنْ يَرْجِعَ عَنِ الْأَوَّلِ إِلَى الثَّانِي ، وَإِنْ كَانَ قَدْ خَالَفَ أُولَى التَّصْوِيرِ ، فَإِنْ كَانَ قَدْ فَعَلَ السَّائِلُ بِمَا أَفْتَاهُ بِهِ لَمْ

يَنْقُضْهُ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ أَمْسَكَ عَنْهُ ، وَلَوِ اسْتَفْتَى فَقِيهَيْنِ فَأَفْتَاهُ أَحَدُهُمَا بِتَحْلِيلٍ ، وَالْآخِرُ بِتَحْرِيمٍ تقليد العامي للعالم ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ بِالْخِيَارِ بِالْأَخْذِ بِقَوْلِ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا ، كَمَا كَانَ بِالْخِيَارِ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى قَوْلِ أَحَدِهِمَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَأْخُذُ بِأَثْقَلِهِمَا عَلَيْهِ ، لِأَنَّ الْحَقَّ ثَقِيلٌ . فَهَذَا مَا فِي تَقْلِيدِ الْعَامِّيِّ لِلْعَالِمِ ، وَلَمْ يَرُدَّهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِالنَّبِيِّ عَنْ تَقْلِيدِهِ ، فَأَمَّا الْعَالِمُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُقَلِّدَ عَالِمًا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَرُدَّ تَقْلِيدَهُ فِيمَا يُفْتِي بِهِ أَوْ يَحْكُمُ ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ ، وَجَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَلِذَلِكَ أَجَازَ لِلْعَامِّيِّ الْقَضَاءَ لِيَسْتَفْتِيَ الْعُلَمَاءَ فِيمَا يَحْكُمُ بِهِ ، وَهَذَا خَطَأٌ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [ الْأَنْبِيَاءِ : ] . فَجَعَلَ فَقْدَ هَذَا الْعِلْمِ فِي سُؤَالِ أَهْلِ الذِّكْرِ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ تَقْلِيدُ أَحَدِهِمَا لِصَاحِبِهِ بِأَوْلَى مِنْ تَقْلِيدِ صَاحِبِهِ لَهُ ، كَالْمُبْصِرِينَ لَا يَجُوزُ لِأَحَدِهِمَا تَقْلِيدُ صَاحِبِهِ فِي الْقِبْلَةِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَرُدَّ تَقْلِيدَهُ فِيمَا نَزَلَتْ بِهِ مِنْ حَادِثَةٍ ، فَإِنْ كَانَ الْوَقْتُ مُتَّسِعًا لِاجْتِهَادِهِ فِيهَا لَمْ يَجُزْ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ ، وَإِنْ ضَاقَ الْوَقْتُ عَنِ الِاجْتِهَادِ هل يجوز للعالم أن يقلد عالم مثله فِيهَا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَجُوزُ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ فِيهَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ ، وَيَصِيرُ كَالْعَامِّيِّ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ لِتَعَذُّرِ وُصُولِهِ إِلَى الدَّلَالَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ ، وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّقْلِيدُ ، لِأَنَّهُ قَدْ يَتَوَصَّلُ إِلَى الْحُكْمِ بِطَرِيقِ النَّظَرِ بِالسُّؤَالِ عَنْ وَجْهِ الدَّلِيلِ فَيَصِلُ بِاجْتِهَادِهِ وَنَظَرِهِ بَعْدَ السُّؤَالِ وَالْكَشْفِ إِلَى حُكْمِ الْحَادِثَةِ مِنْ غَيْرِ تَقْلِيدٍ ، فَهَذَا مَا فِي تَقْلِيدِ الْمُجْتَهِدِ لِلْمُجْتَهِدِ ، وَهَذَا الَّذِي أَوْرَدَهُ الشَّافِعِيُّ بِالنَّهْيِ عَنْ تَقْلِيدِهِ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِ . فَصْلٌ : قَوْلُهُ : " لِيَنْظُرَ فِيهِ لِدِينِهِ " فَالْمَعْنَى بِالنَّاظِرِ هُوَ الْمُرِيدُ ، وَالنَّظَرُ ضَرْبَانِ : الْأَوَّلُ : نَظَرُ مُشَاهَدَةٍ بِالْبَصَرِ . وَالثَّانِي : نَظَرُ فِكْرٍ بِالْقَلْبِ ، وَمُرَادُهُ هُوَ الْفِكْرُ بِالْقَلْبِ دُونَ الْمُشَاهَدَةِ بِالْبَصَرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [ الْأَعْرَافِ : ] . يَعْنِي أَفَلَمْ يَتَفَكَّرُوا بِقُلُوبِهِمْ لِيَعْتَبِرُوا فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ : " لِيَنْظُرَ فِيهِ لِدِينِهِ " تَأْوِيلَانِ عَلَى مَا مَضَى . أَحَدُهُمَا : فِي الْعِلْمِ . وَالثَّانِي : فِي مُخْتَصَرِهِ هَذَا ، وَأَمَّا قَوْلُهُ " لِدِينِهِ " فَلِأَنَّ الْفِقْهَ عِلْمٌ دِينِيٌّ ، فَالنَّاظِرُ فِيهِ نَاظِرٌ فِي دِينِهِ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ " وَيَحْتَاطُ لِنَفْسِهِ " : أَيْ لِيَطْلُبَ الِاحْتِيَاطَ لِنَفْسِهِ بِالِاجْتِهَادِ فِي الْمَذَاهِبِ فَتَرَكَ التَّقْلِيدَ بِطَلَبِ الدَّلَالَةِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
_____كِتَابُ الطَّهَارَةِ_____

بَابُ الطَّهَارَةِ

[ كِتَابُ الطَّهَارَةِ ] بَابُ الطَّهَارَةِ قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا [ الْفَرْقَانِ : ] . وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَنَّهُ قَالَ فِي الْبَحْرِ : هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْتَرَضَ مَنْ ذَكَرْنَا إِعْنَاتَهُ لِلْمُزَنِيِّ عَلَى هَذَا الْفَصْلِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَالُوا : أَسْنَدَ الْمُزَنِيُّ الْقُرْآنَ عَنِ الشَّافِعِيِّ ، وَالْقُرْآنُ مَقْطُوعٌ بِهِ ، لَا يَقْتَصِرُ إِلَى الْإِسْنَادِ لِاسْتِوَاءِ الْكُلِّ فِيهِ . وَالْجَوَابُ عَنْهُ بَعْدَ الِاسْتِيعَاذِ مِنْ خِدَعِ الْهَوَى : أَنَّ الْمُزَنِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ إِسْنَادَ الْقُرْآنِ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ إِضَافَةَ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ إِلَى الشَّافِعِيِّ لِيَعْلَمَ النَّاظِرُ فِيهِ أَنَّ الْمُسْتَدِلَّ بِالْآيَةِ هُوَ الشَّافِعِيُّ دُونَ الْمُزَنِيِّ . وَالِاعْتِرَاضُ الثَّانِي إِنْ قَالُوا : قَدَّمَ الدَّلِيلَ عَلَى الْمَدْلُولِ وَهَذَا خَطَأٌ فِي الْمَوْضُوعِ . وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَمَّا ابْتَدَأَ بِالنَّهْيِ عَنِ التَّقْلِيدِ حَسُنَ أَنْ يَبْدَأَ بِتَقْدِيمِ الدَّلِيلِ عَلَى الْمَدْلُولِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِيَكُونَ مُبْتَدِئًا بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى تَبَرُّكًا عَلَى أَنَّ الدَّلَائِلَ ضَرْبَانِ : ضَرْبٌ يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى مَسْأَلَةٍ ، فَالْأَوْلَى تَأْخِيرُهُ عَنِ الْمَسْأَلَةِ . وَضَرْبٌ يَكُونُ دَلَالَةً عَلَى أَصْلِ الْبَابِ ، فَالْأَوْلَى تَقْدِيمُهُ عَلَى الْبَابِ .

فَصْلٌ دَلَائِلُ طَهَارَةِ الْمَاءِ

فَصْلٌ : دَلَائِلُ طَهَارَةِ الْمَاءِ وَالدَّلَائِلُ عَلَى طَهَارَةِ الْمَاءِ وَجَوَازِ التَّطْهِيرِ بِهِ آيَتَانِ :

إِحْدَاهُمَا : قَوْلُهُ تَعَالَى : وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا ، وَالثَّانِيَةُ : وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ، وَسُنَّتَانِ : إِحْدَاهُمَا : مَا رَوَاهُ رَاشِدُ بْنُ سَعْدٍ ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : خُلِقَ الْمَاءُ طَهُورًا لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إِلَّا مَا غَيَّرَ لَوْنَهُ أَوْ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَهُ . وَالثَّانِيَةُ : مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ ، عَنْ مَالِكٍ ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ سَلَمَةَ ،

أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ أَبِي بُرْدَةَ ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ : سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ وَمَعَنَا الْقَلِيلُ مِنَ الْمَاءِ فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا ، أَنَتَوَضَّأُ بِمَاءِ الْبَحْرِ الوضوء به ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ " . وَرُوِيَ فِي خَبَرٍ آخَرَ أَنَّ الْعَرَكِيَّ قَالَ : " إِنَّا نَرْكَبُ فِي الْبَحْرِ فِي أَرْمَاثٍ لَنَا " ، وَالْعَرَكِيُّ : الصَّيَّادُ . وَالْأَرْمَاثُ : الْخَشَبُ يُضَمُّ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ فَنَرْكَبُ عَلَيْهَا فِي الْبَحْرِ " . قَالَ الشَّاعِرُ : تَمَنَّيْتُ مِنْ حُبِّي بُثَيْنَةَ أَنَّنَا عَلَى رَمَثٍ فِي الْبَحْرِ لَيْسَ لَنَا وَفْرُ قَالَ الْحُمَيْدِيُّ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " هَذَا الْحَدِيثُ نِصْفُ الْعِلْمِ الطَّهَارَةُ ، وَلَعَمْرِي إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ صَحِيحٌ ، لِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ دَلَّ عَلَى طَهَارَةِ مَا يَنْبُعُ مِنَ الْأَرْضِ الوضوء به ، وَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى طَهَارَةِ مَا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ الوضوء به ، وَالْمَاءُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ نَازِلًا مِنَ السَّمَاءِ أَوْ نَابِعًا مِنَ الْأَرْضِ فَصْلٌ : فَأَمَّا الطَّهُورُ الْمَوْصُوفُ بِهِ الْمَاءُ فِي الْآيَةِ وَالْخَبَرِ ، فَهُوَ صِفَةٌ تَزِيدُ عَلَى الطَّاهِرِ يَتَعَدَّى التَّطْهِيرُ مِنْهُ لِغَيْرِهِ ، فَيَكُونُ مَعْنَى الطَّهُورِ هُوَ الْمُطَهِّرُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ ، وَابْنُ دَاوُدَ وَالْأَصَمُّ : إِنَّ الطَّهُورَ بِمَعْنَى الطَّاهِرِ لَا يَخْتَصُّ بِزِيَادَةِ التَّعَدِّي . وَفَائِدَةُ هَذَا الْخِلَافِ تَجْوِيزُهُمْ إِزَالَةَ الْأَنْجَاسِ بِالْمَائِعَاتِ الطَّاهِرَاتِ وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا [ الْإِنْسَانِ : ] . يَعْنِي طَاهِرًا ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى التَّطْهِيرِ بِهِ وَقَالَ جَرِيرٌ :

إِلَى رَجَحِ الْأَكْفَالِ عُدَّ مِنَ الظُّبَى عِذَابُ الثَّنَايَا رِيقُهُنَّ طَهُورُ يَعْنِي : طَاهِرًا ، لِأَنَّ رِيقَهُنَّ لَا يَكُونُ مُطَهِّرًا قَالُوا : وَلِأَنَّ كُلَّ فَعُولٍ كَانَ مُتَعَدِّيًا كَانَ فَاعِلُهُ مُتَعَدِّيًا كَالْمَقْتُولِ وَالْقَاتِلِ ، وَكُلَّ فَاعِلٍ كَانَ غَيْرَ مُتَعَدٍّ كَانَ فَعُولُهُ غَيْرَ مُتَعَدٍّ كَالصَّبُورِ وَالصَّابِرِ ، فَلَمَّا كَانَ الطَّاهِرُ غَيْرَ مُتَعَدٍّ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الطَّهُورُ غَيْرَ مُتَعَدٍّ ، قَالُوا : وَلِأَنَّ الطَّهُورَ لَوْ كَانَ مُتَعَدِّيًا لَمَا انْطَلَقَ هَذَا الِاسْمُ عَلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ وُجُودِ التَّعَدِّي مِنْهُ ، كَالْقَتُولِ وَالضَّرُوبِ ، فَلَمَّا انْطَلَقَ اسْمُ الطُّيُورِ عَلَى الْمَاءِ قَبْلَ وُجُودِ التَّطَهُّرِ بِهِ ، عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُسَمَّ بِهِ لِتَعَدِّي الْفِعْلِ مِنْهُ ، بَلْ لِلُزُومٍ ، وَالصِّفَةُ لَهُ أَيِ الْوَصْفُ ، قَالُوا : وَلِأَنَّ الطَّهُورَ لَوْ كَانَ مُتَعَدِّيًا لَوَجَبَ أَنْ يَتَكَرَّرَ فِعْلُ التَّطْهِيرِ مِنْهُ كَالْقَتُولِ وَالضَّرُوبِ ، فَلَمَّا لَمْ يَتَكَرَّرْ مِنْهُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ مُسْتَعْمَلًا عُلِمَ أَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ [ الْأَنْفَالِ : ] فَأَخْبَرَ أَنَّ الْمَاءَ يُتَطَهَّرُ بِهِ ، وَهَذِهِ عِبَارَةٌ عَنْ تَعَدِّي الْفِعْلِ مِنْهُ ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْبَحْرِ : هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ جَوَابًا عَنْ سُؤَالِهِمْ فِي تَعَدِّي فِعْلِهِ إِلَيْهِمْ إِذْ قَدْ عَلِمُوا طَهَارَتَهُ قَبْلَ سُؤَالِهِمْ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ قَبْلِي نَبِيٌّ " فَذَكَرَ مِنْهَا : " وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَتُرَابُهَا طَهُورًا " يَعْنِي مُطَهِّرًا ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ طَاهِرًا عَلَى مُحَمَّدٍ وَغَيْرِهِ ، وَإِنَّمَا افْتَخَرَ بِمَا خُصَّ بِهِ مِنْ زِيَادَةِ التَّطْهِيرِ بِهِ . وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : " دِبَاغُهَا طَهُورُهَا " : أَيْ مُطَهِّرُهَا . وَقَالَ : " طَهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ " أَيْ : مُطَهِّرُهُ ، فَكَانَتْ هَذِهِ الظَّوَاهِرُ الشَّرْعِيَّةُ كُلُّهَا دَلَالَةً عَلَى أَنَّ الطَّهُورَ بِمَعْنَى مُطَهِّرٍ ، وَكَذَا فِي كُلِّ مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ . وَأَمَّا مِنْ طَرِيقِ اللُّغَةِ فَهُوَ أَنَّ فَعُولَ أَبْلَغُ فِي اللُّغَةِ مِنْ فَاعِلٍ ، فَلَمَّا اخْتَصَّ قَوْلَهُمْ : طَهُورٌ ، بِمَا يَكُونُ مِنْهُ التَّطْهِيرُ مِنَ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ دُونَ مَا كَانَ طَاهِرًا مِنَ الْخَشَبِ وَالثِّيَابِ عَلَى أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الْمُبَالَغَةِ تَعَدِّي الطَّهُورِ ، وَلُزُومُ الطَّاهِرِ ، وَلِأَنَّ مَا أَمْكَنَ الْفَرْقُ بَيْنَ فَعُولِهِ وَفَاعِلِهِ بِالتَّكْرَارِ ، لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا بِالتَّعَدِّي ، كَالْقَتُولِ وَالْقَاتِلِ ، وَمَا لَمْ يُمْكِنِ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بِالتَّكْرَارِ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا بِالتَّعَدِّي ، وَلَيْسَ يُمْكِنُ الْفَرْقُ بَيْنَ طَهُورٍ وَطَاهِرٍ بِتَكْرَارِ الْفِعْلِ فَبَانَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بِالتَّعَدِّي . فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْآيَةِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّ هَذِهِ صِفَةٌ لِلْمَاءِ ، فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْهَا عَدَمُ الْحَاجَةِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَى التَّطْهِيرِ بِهِ . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْآيَةِ الِامْتِنَانُ بِمَا أَعَدَّهُ اللَّهُ تَعَالَى لِخَلْقِهِ فِي الْجَنَّةِ مِمَّا هُوَ أَعَزُّ مَشْرُوبًا فِي الدُّنْيَا . وَأَمَّا قَوْلُ جَرِيرٍ فَهُوَ دَلِيلٌ لَنَا ، لِأَنَّهُ قَصَدَ بِهِ الْمَدْحَ لِرِيقِهِنَّ بِالطَّهُورِ بِهِ مُبَالَغَةً ، وَلَوْ كَانَ مَعْنَاهُ طَاهِرًا لَمَا كَانَ مَادِحًا ، لِأَنَّ رِيقَ الْبَهَائِمِ طَاهِرٌ أَيْضًا ، وَإِنَّمَا بَالَغَ بِأَنْ جَعَلَهُ مُطَهِّرًا تَشْبِيهًا بِالْمَاءِ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ كُلَّ فَعُولٍ كَانَ مُتَعَدِّيًا كَانَ فَاعِلُهُ مُتَعَدِّيًا . فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ إِنَّمَا سَوَّى بَيْنَهُمَا فِي التَّعَدِّي إِذَا أَمْكَنَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ غَيْرِ التَّعَدِّي ، وَلَيْسَ يُمْكِنُ الْفَرْقُ بَيْنَ الطَّهُورِ وَالطَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ التَّعَدِّي . فَثَبَتَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ التَّعَدِّي . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إِنَّهُ لَوْ كَانَ مُتَعَدِّيًا لَمْ يَنْطَلِقِ الِاسْمُ عَلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ وُجُودِ التَّعَدِّي مِنْهُ ، فَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى بِصِفَةٍ قَدْ تُوجَدُ فِي الْبَاقِي مِنْهُ كَقَوْلِهِمْ : طَعَامٌ مُشْبِعٌ ، وَمَاءٌ مَرْوِيٌّ ، نَارٌ مُحْرِقَةٌ ، وَسَيْفٌ قَاطِعٌ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : لَوْ كَانَ مُتَعَدِّيًا لَتَكَرَّرَ الْفِعْلُ مِنْهُ . فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ هَذِهِ صِفَةٌ لِجِنْسِ الْمَاءِ ، وَجِنْسُ الْمَاءِ يَتَكَرَّرُ مِنْهُ فِعْلُ الطَّهَارَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنَ الْمَاءِ يَتَكَرَّرُ مِنْهُ الْفِعْلُ فِي إِمْرَارِهِ عَلَى الْعُضْوِ وَانْتِقَالِهِ مِنْ مَحَلٍّ إِلَى مَحَلٍّ .

وَكُلُّ مَاءٍ مِنْ بَحْرٍ عَذْبٍ أَوْ مَالِحٍ أَوْ بِئْرٍ أَوْ سَمَاءٍ أَوْ بَرَدٍ أَوْ ثَلْجٍ مُسَخَّنٍ وَغَيْرِ مُسَخَّنٍ فَسَوَاءٌ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَكُلُّ مَاءٍ مِنْ بَحْرٍ عَذْبٍ أَوْ مَالِحٍ أَوْ بِئْرٍ أَوْ سَمَاءٍ أَوْ بَرَدٍ أَوْ ثَلْجٍ مُسَخَّنٍ وَغَيْرِ مُسَخَّنٍ فَسَوَاءٌ ، وَالتَّطَهُّرُ بِهِ جَائِزٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْتَرَضَ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْفَصْلِ مَنْ ذَكَرْنَا مِنْ طَرِيقِ اللُّغَةِ فَقَالُوا : قَوْلُهُ " فَكُلُّ مَاءٍ مِنْ بَحْرٍ عَذْبٍ أَوْ مَالِحٍ " خَطَأٌ فِي اللُّغَةِ ، لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ : مَاءٌ مِلْحٌ ، وَلَا تَقُولُ : مَالِحٌ ، وَإِنَّمَا هَذَا مِنْ كَلَامِ الْعَامَّةِ . وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَصَدَ بِهِ إِفْهَامَ الْعَامَّةِ ، لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ مَاءٌ مِلْحٌ لَأَشْكَلَ عَلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَ هُوَ الصَّوَابَ . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ مَاءٌ مِلْحٌ وَمَاءٌ مَالِحٌ . قَالَ عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ وَهُوَ شَاعِرُ قُرَيْشٍ :

فَلَوْ تَفِلَتْ فِي الْبَحْرِ وَالْبَحْرُ مَالِحٌ لَأَصْبَحَ مَاءُ الْبَحْرِ مِنْ رِيقِهَا عَذْبًا وَقَالَ آخَرُ : تَلَوَّنْتَ أَلْوَانًا عَلَيَّ كَثِيرَةً وَخَالَطَ عَذْبًا مِنْ إِخَايِكَ مَالِحُ وَمَاءُ الْبَحْرِ التطهر به طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ غَيْرُ مَكْرُوهٍ ، وَحُكِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ، أَنَّهُمْ كَرِهُوهُ وَقَدَّمُوا التَّيَمُّمَ عَلَيْهِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ [ فَاطِرٍ : ] . فَمَنْعُهُ مِنَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا يَمْنَعُ مِنْ تَسَاوِي الْحُكْمِ فِي الطَّهَارَةِ بِهِمَا ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : الْبَحْرُ نَارٌ مِنْ نَارٍ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْبَحْرِ : " الْبَحْرُ هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ " . وَرَوَى الشَّافِعِيُّ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عُمَرَ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ ثَوْبَانَ ، عَنْ أَبِي هِنْدٍ الْفِرَاسِيِّ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " مَنْ لَمْ يُطَهِّرْهُ الْبَحْرُ فَلَا طَهَّرَهُ اللَّهُ " وَلِأَنَّ الْمَاءَ قَدْ يَخْتَلِفُ فِي طَعْمِهِ وَلَوْنِهِ ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنِ اخْتِلَافُ أَلْوَانِهِ يَمْنَعُ مِنْ تَسَاوِي الْحُكْمِ فِي الطَّهَارَةِ بِهِ لَمْ يَكُنِ اخْتِلَافُ طَعْمِهِ مَانِعًا مِنْ تَسَاوِي حُكْمِهِ فِي الطَّهَارَةِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : " وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ [ فَاطِرٍ : ] . فَإِنَّمَا نَعْنِي مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ أَحَدَهُمَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ ، وَالْآخَرُ مِلْحٌ أُجَاجٌ غَيْرُ سَائِغٍ شَرَابُهُ . وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : " الْبَحْرُ نَارٌ فِي نَارٍ " يَعْنِي أَنَّهُ كَالنَّارِ لِسُرْعَةِ إِتْلَافِهِ أَوْ أَنَّهُ يَصِيرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَارًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ [ التَّكْوِيرِ : ] . فَثَبَتَ أَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَاءِ الْمَالِحِ وَالْعَذْبِ الطهارة بهما ، فَأَمَّا الْمَاءُ الَّذِي يَنْعَقِدُ مِنْهُ الْمِلْحُ فَإِنِ ابْتَدَأَ بِالْجُمُودِ خَرَجَ عَنْ حَدِّ الْجَارِي ، فَلَمْ يَجُزِ اسْتِعْمَالُهُ ، وَإِنْ كَانَ مَاءً جَارِيًا فَهُوَ ضَرْبَانِ : ضَرْبٌ يَصِيرُ مِلْحًا بِجَوْهَرِهِ فِي الْمَاءِ ، دُونَ الْبَرِّيَّةِ كَأَعْيُنِ الْمِلْحِ الَّتِي تَنْبُعُ مَاءً مَائِعًا وَيَصِيرُ جَوْهَرُهُ مِلْحًا جَامِدًا ، فَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ جَوَازُ اسْتِعْمَالِهِ ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ يَتَنَاوَلُهُ فِي الْحَالِ ، وَإِنْ كَانَ هَذَا الِاسْمُ يُؤَوَّلُ عَنْهُ إِذَا جَمُدَ فِي ثَانِي الْحَالِ كَمَا يَجْمُدُ الْمَاءُ فَيَصِيرُ ثَلْجًا . قَالَ أَبُو سَهْلٍ الصُّعْلُوكِيُّ : لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ ، لِأَنَّهُ جِنْسٌ آخَرُ غَيْرُ الْمَاءِ كَالنِّفْطِ وَالْقَارِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ : أَوْ بِئْرٍ أَوْ سَمَاءٍ . فَإِنَّمَا أَرَادَ مَاءَ بِئْرٍ أَوْ مَاءَ سَمَاءٍ فَحَذَفَ ذِكْرَ الْمَاءِ اكْتِفَاءً بِفَهْمِ السَّامِعِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ [ فَاطِرٍ : ] . يَعْنِي مَاءَ الْبَحْرَيْنِ ، وَأَمَّا مَاءُ السَّمَاءِ فَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى جَوَازِ الطَّهَارَةِ بِهِ لِقَوْلِهِ : وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا [ الْفَرْقَانِ : ] . وَأَمَّا مَاءُ الْبِئْرِ وَالْعَيْنِ وَالنَّهْرِ فَبِقَوْلِهِ تَعَالَى : " أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ [ الزُّمُرِ : ] . يَعْنِي : بِهَا مَاءَ الْبِئْرِ وَالْعَيْنِ وَالنَّهْرِ الطهارة بهم . فَصْلٌ : وَأَمَّا قَوْلُهُ : أَوْ بَرَدٍ أَوْ ثَلْجٍ . فَيُرِيدُ بِهِ أَيْضًا مَاءَ بَرَدٍ أَوْ مَاءَ ثَلْجٍ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ الطَّهَارَةِ بِهِ مَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : اللَّهُمَّ طَهِّرْنِي بِمَاءِ الثَّلْجِ وَالْبَرَدِ كَمَا تُطَهِّرُ الثَّوْبَ مِنَ الدَّرَنِ " وَلِأَنَّهُ كَانَ مَاءً فَجَمُدَ ، ثُمَّ صَارَ مَاءً حِينَ ذَابَ وَانْحَلَّ ، فَأَمَّا إِذَا أُخِذَ الثَّلْجَ وَالْبَرَدَ فَدَلَكَ بِهِ أَعْضَاءَ طَهَارَتِهِ قَبْلَ ذَوَبَانِهِ وَانْحِلَالِهِ ، قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : يُجْزِيهِ ، وَإِطْلَاقُ مَا قَالَهُ الْأَوْزَاعِيُّ غَيْرُ صَحِيحٍ ، لِأَنَّ إِمْرَارَهُ الثَّلْجَ عَلَى أَعْضَائِهِ يَكُونُ مَسْحًا يَصِلُ إِلَى الْعُضْوِ بِكُلِّ الْمَاءِ ، فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَحَقُّ فِي الْعُضْوِ الْمَسْحَ كَالرَّأْسِ أَجْزَأَهُ بِحُصُولِ الْمَسْحِ ، وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَحَقُّ الْغَسْلَ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ حَدَّ الْغَسْلِ أَنْ يَجْرِيَ الْمَاءُ بِطَبْعِهِ ، وَهَذَا مَسْحٌ ، وَلَيْسَ بِغَسْلٍ ، وَمَسْحُ مَا يَجِبُ غَسْلُهُ غَيْرُ مُجْزِئٍ ، فَلَوْ كَانَ فِي إِمْرَارِهِ عَلَى الْأَعْضَاءِ يَذُوبُ عَلَيْهَا ثُمَّ يَجْرِي مَاؤُهُ عَلَيْهَا فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا ، أَحَدُهُمَا : يُجْزِئُ لِحُصُولِ الْغَسْلِ بِجَرَيَانِ الْمَاءِ عَلَى الْأَعْضَاءِ ، وَالثَّانِي : لَا يُجْزِئُ لِأَنَّهُ بَعْدَ مُلَاقَاةِ الْأَعْضَاءِ صَارَ جَارِيًا . فَصْلٌ : وَأَمَّا قَوْلُهُ " مُسَخَّنٍ وَغَيْرِ مُسَخَّنٍ فَسَوَاءٌ ، وَالتَّطَهُّرُ بِهِ جَائِزٌ " فَإِنَّمَا قَصَدَ بِالْمُسَخَّنِ أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُسَخَّنِ بِالنَّارِ وَبَيْنَ الْحَامِي بِالشَّمْسِ فِي أَنَّ الْمُسَخَّنَ غَيْرُ مَكْرُوهٍ وَالْمُشَمَّسَ مَكْرُوهٌ . وَالثَّانِي : الرَّدُّ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ مُجَاهِدٌ ، وَزَعَمُوا أَنَّ الْمُسَخَّنَ بِالنَّارِ مَكْرُوهٌ ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُسَخَّنُ لَهُ الْمَاءُ فَيَسْتَعْمِلُهُ في الوضوء وَالصَّحَابَةُ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ مِنْهُ ، وَلَا يُنْكِرُونَهُ ، وَلِأَنَّ تَسْخِينَ الْمَاءِ بِمَنْزِلَةِ التَّبْرِيدِ يُرْفَعَانِ عَنْهُ تَارَةً وَيَحِلَّانِ فِيهِ أُخْرَى ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ تَبْرِيدُهُ مَانِعًا مِنَ اسْتِعْمَالِهِ لَمْ يَكُنْ تَسْخِينُهُ الدَّافِعَ لِرَدِّهِ مَانِعًا مِنَ اسْتِعْمَالِهِ ، وَلَعَلَّ مُجَاهِدًا كَرِهَ مِنْهُ مَا اشْتَدَّ حَمَاهُ ، فَلَمْ يُمْكِنِ اسْتِعْمَالُهُ ، وَذَلِكَ عِنْدَنَا

مَكْرُوهٌ ، وَكَذَلِكَ كَمَا اشْتَدَّ بَرْدُهُ فَلَمْ يُمْكِنِ اسْتِعْمَالُهُ ، فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَالْمِيَاهُ كُلُّهَا نَوْعَانِ : نَوْعٌ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ مِيَاهٍ : مَاءُ الْمَطَرِ ، وَمَاءُ الثَّلْجِ ، وَمَاءُ الْبَرَدِ ، وَنَوْعٌ يَنْبُعُ مِنَ الْأَرْضِ وَهُوَ أَرْبَعُ مِيَاهٍ : مَاءُ الْبَحْرِ ، وَمَاءُ النَّهْرِ ، وَمَاءُ الْعَيْنِ ، وَمَاءُ الْبِئْرِ ، وَجَمِيعُ هَذِهِ الْمِيَاهِ طَاهِرَةٌ مُطَهِّرَةٌ عَلَى اخْتِلَافِهَا فِي اللَّوْنِ وَالطَّعْمِ وَالرَّائِحَةِ .
في كراهية الماء المشمس من ناحية الطب مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَلَا أَكْرَهُ الْمَاءَ الْمُشَمَّسَ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الطِّبِّ لِكَرَاهِيَةِ عُمْرَ ذَلِكَ وَقَوْلِهِ : " يُورِثُ الْبَرَصَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : فَهَذَا صَحِيحٌ ، اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ الْمُشَمَّسِ مَكْرُوهٌ لِرِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ ، عَنْ جَابِرٍ ، أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا شَمَّسَتْ مَاءً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا تَفْعَلِي يَا حُمَيْرَا فَإِنَّهُ يُورِثُ الْبَرَصَ " وَرُوِيَ عَنْ عُمْرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنَّهُ كَرِهَ الْمَاءَ الْمُشَمَّسَ ، وَقَالَ : إِنَّهُ يُورِثُ الْبَرَصَ ، فَإِذَا ثَبَتَ الْخَبَرُ وَالْأَثَرُ كَرَاهِيَةُ الْمَاءِ الْمُشَمَّسِ ، فَإِنَّ الْكَرَاهَةَ مُخْتَصَّةٌ بِمَا أَثَّرَتْ فِيهِ الشَّمْسُ مِنْ مِيَاهِ الْأَوَانِي ، وَأَمَّا مِيَاهُ الْبِحَارِ وَالْأَنْهَارِ وَالْآبَارِ لَا يُكْرَهُ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الشَّمْسَ لَا تُؤَثِّرُ فِيهَا كَتَأْثِيرِهَا فِي الْأَوَانِي . وَالثَّانِي : التَّحَرُّزُ مِنْهَا غَيْرُ مُمْكِنٍ وَمِنَ الْأَوَانِي مُمْكِنٌ ، وَتَأْثِيرُ الشَّمْسِ فِي مِيَاهِ الْأَوَانِي قَدْ يَكُونُ تَارَةً بِالْحَمَا ، وَتَارَةً بِزَوَالِ بِرْدِهِ ، وَالْكَرَاهَةُ فِي الْحَالَيْنِ عَلَى سَوَاءٍ ، فَإِنْ لَمْ تُؤَثِّرِ الشَّمْسُ فِيهِ لَمْ يُكْرَهْ فَسَوَاءٌ مَا قَصَدَ بِهِ الشَّمْسَ ، وَمَا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ ، وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ الْمَكْرُوهَ مِنْهُ مَا قَصَدَ بِهِ الشَّمْسَ دُونَ مَا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ حكم الماء المشمس ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَائِشَةَ : " لَا تَفْعَلِي " فَكَانَ النَّهْيُ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْفِعْلِ وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ نَصَّ عَلَى مَعْنَى النَّهْيِ وَأَنَّهُ يُورِثُ الْبَرَصَ ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَخْتَصُّ بِالْقَصْدِ دُونَ غَيْرِهِ ، وَكَذَا أَيْضًا لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا حَمِيَ بِالشَّمْسِ فِي بِلَادِ تِهَامَةَ وَالْحِجَازِ ، وَبَيْنَ مَا حَمِيَ بِهَا فِي سَائِرِ الْبِلَادِ ، وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَجْعَلُ النَّهْيَ مَخْصُوصًا بِمَا حَمِيَ بِتِهَامَةَ وَالْحِجَازِ لِأَنَّهُ هُنَاكَ تُورِثُ الْبَرَصَ دُونَ مَا حَمِيَ بِالْعِرَاقِ وَسَائِرِ الْبِلَادِ ، وَهَذَا التَّخْصِيصُ إِنَّمَا هُوَ إِطْلَاقُ قَوْلٍ

بِغَيْرِ دَلِيلٍ مَعَ عُمُومِ النَّهْيِ الشَّامِلِ لِجَمِيعِ الْبِلَادِ ، فَأَمَّا مَا حَمِيَ بِالشَّمْسِ ثُمَّ بَرُدَ استعماله في الطهارة فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي كَرَاهَةِ اسْتِعْمَالِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ عَلَى حَالِ الْكَرَاهَةِ لِثُبُوتِ حُكْمٍ لَهُ قَبْلَ الْبَرْدِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ غَيْرُ مَكْرُوهٍ ، لِأَنَّ مَعْنَى الْكَرَاهَةِ كَانَ لِأَجْلِ الْحَمْيِ ، فَإِذَا زَالَ الْحَمْيُ زَالَ مَعْنَى الْكَرَاهَةِ ، وَكَانَ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِنَا يَقُولُ : يَنْبَغِي أَنْ يُرْجَعَ فِيهِ إِلَى عُدُولِ الطِّبِّ فَإِنْ قَالُوا : إِنَّهُ بَعْدَ بَرْدِهِ يُورِثُ الْبَرَصَ كَانَ مَكْرُوهًا ، وَإِنْ قَالُوا : إِنَّهُ لَا يُورِثُ الْبَرَصَ لَمْ يَكُنْ مَكْرُوهًا ، وَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ ، لِأَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ لَا تَثْبُتُ بِغَيْرِ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِي الشَّرِيعَةِ ، لِأَنَّ مِنَ الطِّبِّ مَنْ يُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ الْمُشَمَّسُ يُورِثُ الْبَرَصَ وَلَا يُرْجَعُ إِلَى قَوْلِهِ فِيهِ . فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ كَرَاهَةُ الْمَاءِ الْمُشَمَّسِ فَإِنَّمَا تَخْتَصُّ الْكَرَاهَةُ فِي اسْتِعْمَالِهِ فِيمَا يُلَاقِي الْجَسَدَ مِنْ طَهَارَةِ حَدَثٍ ، وَإِزَالَةِ نَجَسٍ أَوْ بَرَدٍ ، أَوْ تَنْظِيفٍ ، أَوْ شُرْبٍ ، سَوَاءٌ لَاقَى الْجَسَدَ فِي عِبَادَةٍ أَوْ غَيْرِ عِبَادَةٍ ، فَأَمَّا اسْتِعْمَالُهُ فِيمَا لَا يُلَاقِي الْجَسَدَ مِنْ غَسْلِ ثَوْبٍ أَوْ إِنَاءٍ أَوْ إِزَالَةِ نَجَاسَةٍ عَنْ أَرْضٍ الماء المشمس ، فَلَا يُكْرَهُ ، لِأَنَّ مَعْنَى الْكَرَاهَةِ أَنَّهُ يُورِثُ الْبَرَصَ ، وَهَذَا مُخْتَصٌّ بِمُلَاقَاةِ الْجَسَدِ دُونَ غَيْرِهِ ، فَأَمَّا إِنِ اسْتَعْمَلَهُ فِي طَعَامٍ يُرِيدُ أَكْلَهُ الماء المشمس ، فَإِنْ كَانَ قَدْ يَبْقَى فِي الطَّعَامِ كَالْمُرِّيِّ بِهِ فِي الطَّبْخِ كَانَ مَكْرُوهًا ، وَإِنْ كَانَ لَا يَبْقَى مَا يُعَافِيهِ كَالدَّقِيقِ الْمَعْجُونِ بِهِ ، أَوِ الْأُرْزِ الْمَطْبُوخِ بِهِ لَمْ يُكْرَهْ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ مَاءِ وَرْدٍ أَوْ شَجَرٍ أَوْ عَرَقٍ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مُعْتَصَرًا مِنْ شَجَرٍ أَوْ ثَمَرٍ ، أَوْ وَرَقٍ إستعماله في الطهارة ؟ ، كَمَاءِ الْوَرْدِ وَالْبُقُولِ الْفَوَاكِهِ فَهُوَ طَاهِرٌ غَيْرُ مُطَهِّرٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ فِي حَدَثٍ ، وَلَا نَجَسٍ ، وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى ، وَالْأَصَمِّ ، أَنَّهُ طَاهِرٌ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْحَدَثِ وَالنَّجَسِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي إِزَالَةِ النَّجَسِ دُونَ الْحَدَثِ ، فَأَمَّا ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالْأَصَمُّ فَاسْتَدَلَّا بِأَنَّهُ مَائِعٌ طَاهِرٌ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُطَهِّرًا كَالْمَاءِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْدَعَ كُلَّ مَاءٍ مَعْدِنًا وَأَوْدَعَ هَذِهِ الْمِيَاهَ فِي النَّبَاتِ كَمَا أَوْدَعَ غَيْرَهَا فِي الْعُيُونِ وَالْآبَارِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَغَيَّرَ حُكْمُهَا فِي التَّطْهِيرِ بِاخْتِلَافِ مَعَادِنِهَا كَسَائِرِ الْمِيَاهِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ تَخْصِيصُ اللَّهِ تَعَالَى الْمَاءَ

الْمُطْلَقَ بِالتَّطْهِيرِ ، وَتَخْصِيصُ الذِّكْرِ إِذَا عُلِّقَ بِصِفَةٍ يُوجِبُ اخْتِصَاصَهَا بِالْحُكْمِ وَمَنَعَ غَيْرَهَا مِنَ الْمُشَارَكَةِ ؛ وَلِأَنَّ مَا خَرَجَ عَنِ اسْمِ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ خَرَجَ عَنْ حُكْمِهِ فِي التَّطْهِيرِ كَالْأَدْهَانِ وَمَاءِ اللَّحْمِ ، وَهَذَا يُفْسِدُ مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ .

دَلِيلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالرَّدُّ عَلَيْهِ

فَصْلٌ : دَلِيلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالرَّدُّ عَلَيْهِ وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَاسْتَدَلَّ عَلَى إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِكُلِّ مَائِعٍ طَاهِرٍ بِمَا رُوِيَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنِّي امْرَأَةٌ أُطِيلُ ذَيْلِي وَأَجُرُّهُ فِي الْمَكَانِ الْقَذِرِ . فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : " يُطَهِّرُهُ مَا بَعْدَهُ " وَمَعْلُومٌ أَنْ لَيْسَ بَعْدَهُ إِلَّا التُّرَابُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لِغَيْرِ الْمَاءِ مَدْخَلٌ فِي تَطْهِيرِ النَّجَاسَةِ ، وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَصَابَ ثَوْبَهَا دَمٌ فَبَلَّتْهُ وَقَرَصَتْهُ بِرِيقِهَا ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الرِّيقَ إزالة النجاسة به يُزِيلُ النَّجَاسَةَ ، وَقَالُوا : وَلِأَنَّهُ مَائِعٌ طَاهِرٌ مُزِيلٌ فَزَالَ إِزَالَةَ النَّجَاسَةِ بِهِ كَالْمَاءِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّ مَا أَزَالَ عَيْنَ النَّجَاسَةِ أَوْجَبَ إِزَالَةَ حُكْمِهَا ، كَالْقَطْعِ بِالْمِقَصِّ ، قَالُوا : وَلِأَنَّ مَا اسْتَحَقَّ إِزَالَةَ عَيْنِهِ بَعِيدًا لَمْ يَخْتَصَّ بِالْمَاءِ كَالطِّيبِ عَلَى بَدَنِ الْمُحْرِمِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّ الْحُكْمَ إِذَا ثَبَتَ لِمَعْنًى زَالَ الْحُكْمُ بِزَوَالِ ذَلِكَ الْمَعْنَى ، فَلَمَّا كَانَ الْمَعْنَى فِي تَنْجِيسِ الْمَحَلِّ وُجُودَ الْعَيْنِ وَجَبَ إِذَا ارْتَفَعَتْ أَنْ يَزُولَ تَنْجِيسُ الْمَحَلِّ ، قَالُوا : وَلِأَنَّ إِنَاءَ الْخَمْرِ لَمَّا طَهُرَ بِانْقِلَابِهِ خَلًّا ، عُلِمَ أَنَّ الْخَلَّ طَهَّرَهُ ، فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَكُونَ الْخَلُّ مُطَهِّرًا لِإِنَاءِ الْخَمْرِ ، جَازَ أَنْ يَكُونَ مُطَهِّرًا لِكُلِّ نَجِسٍ ، قَالُوا : وَلِأَنَّ هِرًّا لَوْ أَكَلَتْ فَارَةً أَوْ مَيْتَةً ثُمَّ وَلَغَتْ فِي إِنَاءٍ كَانَ الْمَاءُ طَاهِرًا ، فَدَلَّ أَنَّ فِيهَا طَهُرَ بَرِيقِهَا ، قَالُوا : وَلِأَنَّ لَمَّا كَانَ لِغَيْرِ الْمَائِعِ مَدْخَلٌ فِي إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ ، وَهُوَ الشَّثُّ وَالْقَرَظُ فِي الدِّبَاغَةِ لَمْ يَكُنِ الْمَاءُ مُخْتَصًّا بِالْإِزَالَةِ فَكَانَ الْمَائِعُ أَوْلَى مِنَ الْجَامِدِ ، لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْإِزَالَةِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : " وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ [ الْأَنْفَالِ : ] . وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْرَجَ هَذَا مَخْرَجَ الْفَضِيلَةِ لِلْمَاءِ وَالِامْتِنَانِ بِهِ ، فَلَوْ شَارَكَهُ غَيْرُهُ فِيهِ لَبَطَلَتْ فَائِدَةُ الِامْتِنَانِ . وَالثَّانِي . أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ بِالنَّصِّ عَلَى الْمَاءِ التَّنْبِيهَ عَلَى مَا سِوَاهُ لَنَصَّ عَلَى أَدْوَنِ الْمَائِعَاتِ ، لِيَكُونَ تَنْبِيهًا عَلَى أَعْلَاهَا ، فَلَمَّا نَصَّ عَلَى الْمَاءِ وَعَلَى أَعْلَى الْمَائِعَاتِ عُلِمَ أَنَّ اخْتِصَاصَهُ بِالْحُكْمِ .

وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " وَلَا سِيَّمَا فِي دَمِ الْحَيْضِ يُصِيبُ الثَّوْبَ حُتِّيهِ ثُمَّ اقْرُصِيهِ ثُمَّ اغْسِلِيهِ بِالْمَاءِ " فَأَمَرَهَا بِالْمَاءِ ، وَالْأَمْرُ إِذَا وَرَدَ مُقَيَّدًا بِشَرْطٍ لَمْ يَسْقُطْ إِلَّا بِوُجُودِ ذَلِكَ الشَّرْطِ ، وَلِأَنَّهَا طَهَارَةٌ شَرْعِيَّةٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَجُوزَ بِمَائِعٍ غَيْرِ الْمَاءِ ، كَرَفْعِ الْحَدَثِ ، وَلِأَنَّهُ غَسْلٌ مَفْرُوضٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ بِمَائِعٍ غَيْرِ الْمَاءِ كَالْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ ؛ وَلِأَنَّهُ مَائِعٌ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَزُولَ النَّجَسُ كَالدُّهْنِ ، وَالْمَرَقِ ، وَلِأَنَّ لِلْمَاءِ نَوْعَيْنِ مِنَ التَّطْهِيرِ : أَحَدُهُمَا : تَطْهِيرُ نَفْسِهِ بِالْمُكَاثَرَةِ . وَالثَّانِي : تَطْهِيرُ غَيْرِهِ بِالْمُبَاشَرَةِ . فَلَمَّا انْتَفَى عَنِ الْمَائِعِ تَطْهِيرُ نَفْسِهِ بِالْمُكَاثَرَةِ . وَجَبَ أَنْ تَنْتَفِيَ عَنِ الْمَائِعِ تَطْهِيرُ غَيْرِهِ بِالْمُبَاشَرَةِ ، وَتَحْرِيرُهُ أَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيِ التَّطْهِيرِ فَوَجَبَ أَنْ يَنْتَفِيَ عَنِ الْمَائِعِ قِيَاسًا عَلَى تَطْهِيرِ الْمُكَاثَرَةِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا نَجِسَ بِوُرُودِ النَّجَاسَةِ عَلَيْهِ بِكُلِّ حَالٍ ، نَجِسَ بِوُرُودِهِ عَلَى النَّجَاسَةِ بِكُلِّ حَالٍ كَغَيْرِهِ الْمَائِعِ طَرْدًا ، وَكَالْمَاءِ عَكْسًا ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ : مُلَاقَاةُ الْحِلِّ وَالنَّجَاسَةِ يُوجِبُ أَنْ يَغْلِبَ عَلَيْهِ حُكْمُ النَّجَاسَةِ ، كَمَا لَوْ وَقَعَتْ مِنْهُ نَجَاسَةٌ ، وَلِأَنَّ إِزَالَةَ النَّجَسِ أَعَلَا مِنْ رَفْعِ الْحَدَثِ بِدَلَالَةِ أَنَّ مَنْ كَانَ مُحْدِثًا ، وَعَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ ، وَوَجَدَ مِنَ الْمَاءِ مَا يَكْفِي أَحَدَهُمَا لَزِمَهُ اسْتِعْمَالُهُ فِي النَّجَاسَةِ دُونَ الْحَدَثِ ، فَلَمْ يَجُزِ اسْتِعْمَالُ الْمَائِعَاتِ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ وَهُوَ أَخَفُّ الْأَمْرَيْنِ حَالًا فَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَجُوزَ اسْتِعْمَالُهُ فِي إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ لِأَنَّهُ أَغْلَظُهُمَا حَالًا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ تَعَلُّقِهِمْ بِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : " يُطَهِّرُهُ مَا بَعْدَهُ " فَهُوَ أَنَّهَا إِشَارَاتٌ إِلَى غَيْرِ النَّجَاسَةِ ، أَوْ إِلَى نَجَاسَةٍ يَابِسَةٍ بِدَلِيلِ أَنَّ النَّجَاسَةَ الرَّطْبَةَ لَا تُطَهَّرُ بِالدَّلْكِ اتِّفَاقًا . وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ فَمَحْمُولٌ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا عَلَى نَجَاسَةٍ يَسِيرَةٍ يُعْفَى عَنْ مِثْلِهَا أَوْ عَلَى أَنَّهَا فَعَلَتْ ذَلِكَ لِتُلِينَ النَّجَاسَةَ بَرِيقِهَا ، ثُمَّ تَغْسِلُهَا بِدَلِيلِ أَنَّ الرِّيقَ لَا يُزِيلُ النَّجَاسَةَ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمَاءِ ، فَالْمَعْنَى فِي الْمَاءِ أَنَّهُ يَرْفَعُ الْحَدَثَ فَلِذَلِكَ أَزَالَ النَّجَسَ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْقَطْعِ بِالْمِقَصِّ ، فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ أَزَالَ مَحَلَّ النَّجَاسَةِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الطِّيبِ فِي بَدَنِ الْمُحْرِمِ فَالْمَعْنَى فِي الطِّيبِ أَنَّ الْقَصْدَ مِنْهُ إِزَالَةُ رِيحِهِ لَا إِزَالَةَ حُكْمِهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ النَّجَاسَةُ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إِنَّ ارْتِفَاعَ الْمَعْنَى الْمُوجِبِ لِلْحِكَمِ يُوجِبُ ارْتِفَاعَ ذَلِكَ الْحُكْمِ ، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ ، وَيَقُولُ : لَيْسَ ارْتِفَاعُ مَعْنَى الْحُكْمِ مُوجِبًا لِارْتِفَاعِ ذَلِكَ الْحُكْمِ ،

فَعَلَى هَذَا يَمْنَعُونَ مِنْ وَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ ، وَقَالَ أَكْثَرُهُمْ : إِنَّ ارْتِفَاعَهُ يُوجِبُ ارْتِفَاعَ حُكْمِهِ ، فَعَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى هُوَ حُكْمُ النَّجَاسَةِ دُونَ الْعَيْنِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ حُكْمُ النَّجَاسَةِ مَعَ عَدَمِ الْعَيْنِ ، وَذَلِكَ فِي وُلُوغِ الْكَلْبِ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ إِذَا نَجِسَ ، وَقَدْ يُوجَدُ عَيْنُ النَّجَاسَةِ فِي الْمَاءِ الْكَثِيرِ ، وَلَا يُحْكَمُ بِنَجَاسَتِهِ مَا لَمْ تُغَيِّرْهُ ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا حُكْمُ النَّجَاسَةِ لَمْ يَزُلْ بِالْمَائِعِ فَكَانَ مَعْنَى الْحُكْمِ بَاقِيًا ، وَأَمَّا نَجَاسَةُ الْإِنَاءِ إِذَا ارْتَفَعَتْ بِانْقِلَابِ الْخَمْرِ خَلًّا ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِأَنَّ نَجَاسَةَ الْإِنَاءِ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ إِجْزَاءِ الْخَمْرِ فَإِذَا انْقَلَبَتْ فِي الْإِنَاءِ خَلًّا انْقَلَبَتْ تِلْكَ الْأَجْزَاءُ مَعَهَا فَصَارَتْ خَلًّا فَطَهَّرَ الْجَمِيعَ ، وَلَا يَكُونُ هَذَا إِزَالَةَ نَجَسٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ انْقِلَابُ خَمْرٍ إِلَى خَلٍّ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْهِرَّةِ إِذَا أَكَلَتْ فَأْرَةً ثم ولغت في الآناء هل ينجس ؟ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ ؛ لِأَنَّنَا مَتَى عَلِمْنَا نَجَاسَةَ فَمِهَا بِأَنْ وَلَغَتْ فِي الْإِنَاءِ قَبْلَ أَنْ تَغِيبَ عَنِ الْعَيْنِ فَالْمَاءُ نُجِّسَ ، وَإِنْ غَابَتْ عَنِ الْعَيْنِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَصَحُّهُمَا : أَنَّ الْمَاءَ نَجِسٌ ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ النَّجَاسَةِ فِي فَمِهَا . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمَاءَ طَاهِرٌ لِأَنَّ الْأَصْلَ طَهَارَةُ الْمَاءِ ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنَّ الْهِرَّةَ حِينَ غَابَتْ وَلَغَتْ فِي إِنَاءٍ آخَرَ فَطَهُرَ فَمُهَا . وَأَمَّا اسْتِشْهَادُهُمْ بِالدِّبَاغَةِ فَحُكْمُهَا خَارِجٌ عَنْ إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الدِّبَاغَةَ لَا تَجُوزُ بِالْمَاءِ الَّذِي هُوَ أَقْوَى الْمَائِعَاتِ حُكْمًا فِي إِزَالَةِ الْأَنْجَاسِ ، لِخُرُوجِهَا عَنْ حُكْمِ سَائِرِ الْأَنْجَاسِ . .

فَصْلٌ : وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ : " أَوْ عَرَقٍ ، فِيهِ لِأَصْحَابِنَا رِوَايَتَانِ " : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ عَرِقٌ بِكَسْرِ الْعَيْنِ يَعْنِي عُرُوقَ الْأَشْجَارِ ، إِذَا اعْتُصِرَ مَاؤُهَا هل يتطهر بها ، كَانَ غَيْرَ مُطَهِّرٍ ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ . وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ : عَرَقٌ بِفَتْحِ الْعَيْنِ ، يَعْنِي : عَرَقَ الْإِنْسَانِ يَرْشَحُ مِنْ بَدَنِهِ ، لَا يَجُوزُ التَّطَهُّرُ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ طَاهِرًا ، وَكَذَلِكَ كُلَّمَا اعْتُصِرَ مِنْ أَجْوَافِ الْإِبِلِ إِذَا نُحِرَتْ عِنْدَ الْعَطَشِ لَا يَجُوزُ التَّطَهُّرُ بِهِ ، وَيَكُونُ نَجِسًا وَسُمِّيَ عَرَقًا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " أَوْ مَاءِ زَعْفَرَانٍ أَوْ عُصْفُرٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَا خَالَطَهُ مَذْرُورٌ طَاهِرٌ كَالزَّعْفَرَانِ وَالْعُصْفُرِ وَالْحِنَّاءِ ، أَوْ خَالَطَ الْمَائِعَ طهارته طَاهِرٌ كَمَاءِ الْوَرْدِ وَالْخَلِّ ، فَإِنْ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي تَغَيُّرِ الْمَاءِ جَازَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْحَدَثِ وَالنَّجَسِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَائِعُ الْمَخَالِطُ أَكْثَرَ ، وَإِنْ غَيَّرَ أَحَدَ أَوْصَافِ الْمَاءِ مِنْ لَوْنٍ أَوْ طَعْمٍ أَوْ رَائِحَةٍ لَمْ يَجُزِ اسْتِعْمَالُهُ فِي حَدَثٍ وَلَا نَجَسٍ ، وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ اسْتِعْمَالَهُ فِي الْأَنْجَاسِ عَلَى أَصْلِهِ ، وَفِي الْأَحْدَاثِ أَيْضًا مَا لَمْ يَحْتَرِزْ بِالْمَذْرُورِ فَيَخْرُجُ عَنْ طَبْعِهِ فِي الْجَرَيَانِ وَمَا لَمْ يَكُنِ الْمَائِعُ أَكْثَرَ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ مَا كَانَ طَاهِرًا إِذَا غَلَبَ عَلَى الْمَاءِ لَمْ يَمْنَعْهُ حُكْمُ التَّطْهِيرِ ،

كَالتُّرَابِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَسْلُبْهُ التُّرَابُ حُكْمَ التَّطْهِيرِ لَمْ يَسْلُبْهُ غَيْرُهُ مِنَ الْمَذْرُورَاتِ حُكْمَ التَّطْهِيرِ ، كَمَا الَّذِي لَمْ يَتَغَيَّرْ بِالْمُخَالَطَةِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ تَغَيُّرٍ لَوْ كَانَ لِطُولِ الْمُكْثِ لَوْ يَمْنَعُ مِنَ التَّطْهِيرِ ، وَجَبَ إِذَا كَانَ بِالْمُخَالَطَةِ أَنْ لَا يَمْنَعَ مِنَ التَّطْهِيرِ كَالْمُلُوحَةِ . وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهُ مَا تَغَيَّرَ بِمُخَالَطَةِ مَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ مِنَ التَّطْهِيرِ بِهِ كَمَاءِ الْبَاقِلَّاءِ وَلِأَنَّهُ مَا تَغَيَّرَ بِمُخَالَطَةِ مَأْكُولٍ فَوَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ جَوَازَ التَّطَهُّرِ بِهِ كَالْمَرَقِ ، وَلِأَنَّ الْمَذْرُورَاتِ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : قِسْمٌ مُوَافِقٌ لِلْمَاءِ فِي الطَّهَارَةِ وَالتَّطْهِيرِ وَهُوَ التُّرَابُ ، فَإِذَا غَلَبَ عَلَى الْمَاءِ لَمْ يَسْلُبْهُ وَاحِدَةً مِنْ صِفَتَيْهِ لَا الطَّهَارَةِ وَلَا التَّطْهِيرِ لِمُوَافَقَتِهِ لَهُمَا فِيهِمَا . وَقِسْمٌ مُخَالِفٌ لِلْمَاءِ فِي الطَّهَارَةِ وَالتَّطْهِيرِ وَهُوَ النَّجَاسَةُ فَإِذَا غَلَبَ عَلَى الْمَاءِ سَلَبَهُ الْوَصْفَيْنِ مَعًا الطَّهَارَةَ وَالتَّطَهُّرَ ، لِمُخَالَفَتِهِ لَهُ فِيهِمَا جَمِيعًا . وَقِسْمٌ مُوَافِقٌ الْمَاءَ فِي الطَّهَارَةِ دُونَ التَّطْهِيرِ وَهُوَ الزَّعْفَرَانُ وَمَا شَاكَلَهُ ، فَإِذَا غَلَبَ عَلَى الْمَاءِ وَجَبَ أَنْ يَسْلُبَهُ الصِّفَةَ الَّتِي يُخَالِفُهُ فِيهَا وَهُوَ التَّطْهِيرُ دُونَ الصِّفَةِ الَّتِي وَافَقَهُ فِيهَا وَهُوَ الطَّهَارَةُ ، وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ يَمْنَعُ مِنْ جَمْعِهِمْ بَيْنَ التُّرَابِ وَسَائِرِ الْمَذْرُورَاتِ ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ ، فَالْمَعْنَى فِيهِ فَقْدُ الْغَلَبَةِ بِعَدَمِ التَّأْثِيرِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمُلُوحَةِ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ ، وَسَنَذْكُرُ الْمَذْهَبَ فِيمَا تَغَيَّرَ بِالْمِلْحِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " أَوْ نَبِيذٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ لَا يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَنْبِذَةِ لَا نَيًّا ، وَلَا مَطْبُوخًا ، لَا فِي حَضَرٍ ، وَلَا فِي سَفَرٍ ، وَهُوَ نَجِسٌ إِنْ أَسْكَرَ ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِسَائِرِ الْأَنْبِذَةِ ، وَيُرْوَى نَحْوُهُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِنَبِيذِ التَّمْرِ الْمَطْبُوخِ ، إِذَا كَانَ مُسْكِرًا فِي السَّفَرِ دُونَ الْحَضَرِ ، وَقَالَ : مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : يَجْمَعُ بَيْنَ النَّبِيذِ وَالتَّيَمُّمِ ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ أَبُو فَزَارَةَ الْعَبْسِيُّ ، عَنْ أَبِي زَيْدٍ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ ، عَنِ

ابْنِ مَسْعُودٍ ، قَالَ : كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْجِنِّ فَقَالَ : يَا عَبْدَ اللَّهِ أَمَعَكَ مَاءٌ ؟ ، قُلْتُ : لَا ، مَعِي نَبِيذُ التَّمْرِ ، فَقَالَ : " هَاتِهِ تَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ " وَتَوَضَّأَ بِهِ ثُمَّ صَلَّى بِنَا صَلَاةَ الْفَجْرِ . قَالُوا : وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " النَّبِيذُ وُضُوءُ مَنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ " . قَالُوا : وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا وَابْنَ عَبَّاسٍ تَوَضَّآ بِالنَّبِيذِ ، فَلَا يَخْلُوَا فِعْلُ ذَلِكَ مِنْهُمَا أَنْ يَكُونَ عَنْ قِيَاسٍ أَوْ تَوْقِيفٍ ، فَلَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِي هَذَا ، لِأَنَّهُ لَا يَقْتَضِيهِ فَثَبَتَ أَنَّهُ تَوْقِيفٌ قَالُوا : وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا [ الْمَائِدَةِ : ] . وَفِي النَّبِيذِ مَاءٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَيَمَّمَ مَعَ وُجُودِهِ . قَالُوا : وَلِأَنَّهُ مَائِعٌ سُمِّيَ فِي الشَّرْعِ طَهُورًا فَجَازَ الْوُضُوءُ بِهِ كَالْمَاءِ . قَالُوا : وَلِأَنَّ الرَّأْسَ وَالرِّجْلَيْنِ عُضْوَانِ مِنْ أَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ فَثَبَتَ فِيهِمَا بَدَلٌ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ كَالْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ . قَالُوا : وَلِأَنَّ الْوُضُوءَ نَوْعُ تَطْهِيرٍ يُفْضِي إِلَى بَدَلَيْنِ كَالْعِتْقِ فِي الْكَفَّارَةِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا . فَنَقَلَنَا اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ إِلَى التُّرَابِ بِلَا وَسِيطٍ ، وَهُوَ النَّبِيذُ ، وَلَيْسَ النَّبِيذُ مَاءً مُطْلَقًا ، لَا فِي اللُّغَةِ ، وَلَا فِي الشَّرْعِ . فَإِنْ قَالُوا : هُوَ مَاءٌ فِي الشَّرْعِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : " تَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ " . قِيلَ : لَوْ دَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ النَّبِيذَ مَاءٌ فِي الشَّرْعِ لَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ تَمْرٌ فِي الشَّرْعِ ، وَهَذَا مَدْفُوعٌ بِالْإِجْمَاعِ ، ثُمَّ لَوْ كَانَ مِنْ طَرِيقِ الشَّرْعِ مَا يُسَاوِي حُكْمَ سَائِرِ الْمِيَاهِ ، وَفِي مُبَايَنَتِهِ لَهَا مَعَ مَا مَنَعَ مِنْ إِطْلَاقِ الِاسْمِ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّهُ مَائِعٌ لَا يَدْفَعُ الْحَدَثَ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُسْتَبَاحَ بِهِ الصَّلَاةُ كَالْخَلِّ ، وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَجُزِ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْحَضَرِ لَمْ يَجُزِ اسْتِعْمَالُهُ فِي السَّفَرِ ، كَالنَّقِيعِ ، وَلِأَنَّهُ

شَرَابٌ مُسْكِرٌ فَلَمْ يَجُزِ الْوُضُوءُ بِهِ كَالْخَمْرِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَائِعٍ لَا يَجُوزُ التَّطَهُّرُ بِهِ قَبْلَ طَبْخِهِ ، لَمْ يَجُزِ التَّطَهُّرُ بِهِ بَعْدَ الطَّبْخِ استعمال الماء في هذه الحالة كَالْمَاءِ النَّجِسِ ، وَلِأَنَّ تَأْثِيرَ الطَّبْخِ عِنْدَهُمْ عَدَمُ التَّطْهِيرِ دُونَ إِبَاحَتِهِ كَمَاءِ الزَّعْفَرَانِ يَجُوزُ الطَّهَارَةُ بِهِ عِنْدَهُمْ قَبْلَ الطَّبْخِ ، وَلَا يَجُوزُ بَعْدَ الطَّبْخِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : ضَعْفُ الْخَبَرِ مِنْ وَجْهَيْنِ : ضَعْفُ رِوَايَةٍ لِأَنَّ أَبَا فَزَارَةَ كَانَ نَبَّاذًا بِالْكُوفَةِ ، وَأَبُو زَيْدٍ مَجْهُولٌ وَلَيْسَ رِوَايَةُ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي فَزَارَةَ دَلِيلًا عَلَى ثِقَتِهِ كَمَا رَوَى

الشَّعْبِيُّ عَنِ الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ وَقَالَ : كَانَ وَالِدُهُ كَذَّابًا . وَالثَّانِي : أَنَّ الطَّحَاوِيَّ خَصَّ نَقْلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِأَبِي حَنِيفَةَ قَالَ : فَاعْتَمَدَ أَبُو حَنِيفَةَ فِيهَا عَلَى حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَلَيْسَ ثَابِتٌ فَهَذَا أَحَدُ الْأَجْوِبَةِ . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : مُعَارَضَةُ الْخَبَرِ مِمَّا تَنْفِيهِ وَهُوَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيَّ رَوَى عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ : قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ : كَنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْجِنِّ فَقَالَ : لَا وَدِدْتُ

أَنْ لَوْ كُنْتُ مَعَهُ ، قَالَ : فَقُلْتُ : إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ إِنَّكَ كُنْتَ مَعَهُ ، قَالَ : فَقَدْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ ، فَقُلْنَا : اغْتِيلَ أَوِ اسْتُطِيرَ فَبِتْنَا بِشَرِّ لَيْلَةٍ بَاتَ لَهَا أَهْلُهَا ، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا أَقْبَلَ مِنْ نَاحِيَةِ حِرَاءَ وَذَكَرَ أَنَّ دَاعِيَ الْجِنِّ أَتَاهُ . فَتَعَارَضَتِ الرِّوَايَةُ فَسَقَطَتَا . فَإِنْ قِيلَ : فَخَبَرُنَا مُثْبِتٌ وَخَبَرُكُمْ نَافٍ وَالْمُثْبَتُ أَوْلَى . قِيلَ : هُمَا سَوَاءٌ فَخَبَرُكُمْ يُثْبِتُ كَوْنَ عَبْدِ اللَّهِ مَعَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَيَنْفِي كَوْنَهُ مَعَ الصَّحَابَةِ ، وَخَبَرُنَا يُثْبِتُ كَوْنَهُ مَعَ الصَّحَابَةِ وَيَنْفِي كَوْنَهُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ : تَسْلِيمُ الْخَبَرِ وَالِانْفِصَالُ عَنْهُ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ إِمَّا بِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ التَّيَمُّمِ ، لِأَنَّ لَيْلَةَ الْجِنَّ كَانَتْ بِمَكَّةَ ، وَآيَةُ التَّيَمُّمِ نَزَلَتْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ ، وَإِمَّا بِأَنْ يُسْتَعْمَلَ فِي مَا نَبَذَ فِيهِ التَّمْرَ لِيُحِلُّوا لِأَنَّ قَوْلَهُ : تَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ تَقْتَضِي ذَلِكَ تَمْيِيزَ أَحَدِهِمَا مِنَ الْآخَرِ وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ إِنَّ مَعِي نَبِيذًا ، يَعْنِي : مَا يَصِيرُ نَبِيذًا ، وَبِمَعْنَى قَدْ نَبَذَ فِيهِ تَمْرًا . فَإِنْ قِيلَ : فَيُحْمَلُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " تَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ " عَلَى أَنَّهُ كَانَ تَمْرًا وَمَاءً طَهُورًا . قِيلَ : إِذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ حَمْلِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْحَقِيقَةِ وَالْآخَرِ عَلَى الْمَجَازِ كَانَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى الْحَقِيقَةِ مِنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ كَذَا يُجَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِأَنَّهُ قَدْ نَبَذَ فِيهِ ، لِأَنَّهُ نَبِيذٌ مُشْتَدٌّ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ رِوَايَتِهِمْ عَنِ اسْتِعْمَالِ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَهُ فَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ عَنْ تَوْقِيفٍ ، وَلَوْ كَانَ لَنَقَلُوهُ ، وَلَيْسَ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ لَا حَتْمًا دِرَايَةً إِنْ صَحَّ النَّقْلُ عَنْهُمَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : " إِنَّ فِي النَّبِيذِ مَاءَ سَهْوٍ " هُوَ جَهْلٌ مِنْ قَائِلِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مَاءٌ وَانْتَقَلَ عَنْهُ لِأَنَّ اسْمَ الْمَاءِ فِي اللُّغَةِ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يَنْطَلِقَ اسْمُ الْمَاءِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَاءً لَكَانَ الْخَلُّ أَحَقَّ ، لِأَنَّهُ طَاهِرٌ بِاتِّفَاقٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهِ مَاءٌ مُطْلَقٌ لَاسْتَوَى حُكْمُهُ وَحُكْمَ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ ، وَهُمَا مُفْتَرِقَانِ فِي الِاسْمِ وَالْحُكْمِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ بِأَنَّهُ مَائِعٌ سُمِّيَ فِي الشَّرْعِ طَهُورٌ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " تَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ " فَوَصَفَ الْمَاءَ بِأَنَّهُ طَهُورٌ ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْمَاءِ أَنَّهُ لَمَّا جَازَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْحَضَرِ جَازَ اسْتِعْمَالُهُ فِي السَّفَرِ ، وَلَمَّا لَمْ يَجُزِ اسْتِعْمَالُ النَّبِيذِ فِي الْحَضَرِ لَمْ يَجُزِ اسْتِعْمَالُهُ فِي السَّفَرِ .

وَأَمَّا قِيَاسُهُمُ الرَّأْسَ وَالرِّجْلَيْنِ بِهِ فِي انْتِقَالِهِمَا إِلَى بَلَلٍ يَدُلُّ عَلَى الْوَجْهِ وَالذِّرَاعَيْنِ . وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا سَقَطَ فَرْضُ الرَّأْسِ وَالرِّجْلَيْنِ عَنْهُ بَدَلَ الْوَجْهِ وَالذِّرَاعَيْنِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَصِيرَ إِذَا بُدِّلَ كَالْوَجْهِ وَالذِّرَاعَيْنِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْعِتْقِ فِي الْكَفَّارَةِ فَمُنْتَقَصٌ بِالْعِتْقِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ لَيْسَ لَهُ بَدَلًا إِلَّا الصَّوْمُ ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي بَدَلِ الْعِتْقِ فِي الْكَفَّارَةِ وُجُودُ النَّصِّ فِيهِمَا ، وَاقْتِصَارُ النَّصِّ فِي الْوُضُوءِ عَلَى أَحَدِهِمَا ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُلْحَقَ بِالثَّانِي مِنْ بَدَلِ الْعِتْقِ جِنْسُ الْبَدَلِ الثَّانِي حَتَّى تَكُونَ طَعَامًا بَعْدَ صِيَامٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُلْحَقَ بِهِ ثُبُوتُ أَصْلِهِ حَتَّى يَكُونَ بَدَلًا ثَانِيًا بَعْدَ أَوَّلٍ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " أَوْ مَاءٍ بُلَّ فِيهِ خُبْزٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ حَتَّى يُضَافَ إِلَى مَا خَالَطَهُ أَوْ خَرَجَ مِنْهُ فَلَا يَجُوزُ التَّطَهُّرُ بِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي شَرْحِ الْمِيَاهِ إِلَّا أَنَّا نَخْتَصِرُهُ بِقِسْمٍ جَامِعٍ نُمَهِّدُ بِهِ أُصُولَهُ وَتُبْتَنَى عَلَيْهِ فُرُوعُهُ ، فَنَقُولُ : الْمَاءُ ضَرْبَانِ مُطْلَقٌ ، وَمُضَافٌ ، فَالْمُطْلَقُ عَلَى حُكْمِ أَصْلِهِ فِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْحَدَثِ وَالنَّجَسِ ، وَالْمُضَافُ عَلَى ضَرْبَيْنِ : إِضَافَةٌ تَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ ، وَإِضَافَةٌ لَا تَمْنَعُ مِنْهُ ، فَأَمَّا الَّتِي لَا تَمْنَعُ مِنَ الِاسْتِعْمَالِ فَإِضَافَتَانِ : إِضَافَةُ قَرَارٍ كَمَاءِ الْبَحْرِ وَالزَّهْرِ ، وَإِضَافَةُ صِفَةٍ كَمَاءٍ عَذْبٍ أَوْ أُجَاجٍ ، فَأَمَّا الْمَانِعَةُ مِنْ جَوَازِ الِاسْتِعْمَالِ فَيَتَقَسَّمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : إِضَافَةُ حُكْمٍ وَإِضَافَةُ جِنْسٍ وَإِضَافَةُ غَلَبَةٍ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ إِضَافَةُ الْحُكْمِ فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا سَلَبَ الْمَاءَ حُكْمَ التَّطْهِيرِ دُونَ الطَّهَارَةِ كَالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ فَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي حَدَثٍ وَلَا نَجَسٍ لِمَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ بَعْدُ . وَالثَّانِي : مَا سَلَبَهُ حُكْمَ التَّطْهِيرِ وَالطَّهَارَةِ كَالْمَاءِ النَّجِسِ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ إِضَافَةُ الْجِنْسِ كَمَاءِ الْوَرْدِ وَالْفَوَاكِهِ وَالْبُقُولِ وَكُلِّ مُعْتَصَرٍ مِنْ نَبَاتٍ فَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي حَدَثٍ ، وَلَا نَجَسٍ ، وَخَالَفَنَا أَبُو حَنِيفَةَ فِيهِ فَيُجَوِّزُ إِزَالَةَ النَّجَاسَةِ بِهِ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ مَعَهُ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ إِضَافَةُ الْغَلَبَةِ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : غَلَبَةُ مُخَالَطَةٍ . وَالثَّانِي : غَلَبَةُ مُجَاوَرَةٍ . فَأَمَّا غَلَبَةُ الْمُخَالَطَةِ فَهُوَ أَنْ يَتَغَيَّرَ الْمَاءُ بِمَائِعٍ كَالْعَسَلِ أَوْ مَذْرُورٍ كَالزَّعْفَرَانِ استعمال الماء في هذه الحالة ، وَذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ جَوَازِ الِاسْتِعْمَالِ ، وَأَمَّا غَلَبَةُ الْمُجَاوَرَةِ فَهُوَ أَنْ يَتَغَيَّرَ الْمَاءُ بِجَامِدٍ كَالْخَشَبِ أَوْ مُتَمَيِّزٍ كَالدُّهْنِ استعمال الماء في هذه الحالة ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَقْسِيمِ الْمِيَاهِ فَجَمِيعُ الْفُرُوعِ مُرَتَّبٌ عَلَيْهَا وَمُسْتَفَادٌ مِنْهَا فَمِنْ فُرُوعٍ هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ التَّمْرَ وَالزَّبِيبَ وَالْبُرَّ وَالشَّعِيرَ إِذَا وَقَعَ فِي الْمَاءِ فَغَيَّرَهُ استعمال الماء في هذه الحالة ، فَإِنْ كَانَ بِحَالِهِ صَحِيحًا لَمْ يَنْحَلَّ فِي الْمَاءِ فَاسْتِعْمَالُهُ جَائِزٌ ، لِأَنَّهُ تَغْيِيرُ مُجَاوَرَةٍ كَمَا لَوْ تَغَيَّرَ بِالْخَشَبِ وَإِنْ ذَابَ فِي الْمَاءِ وَانْحَلَّ فَاسْتِعْمَالُهُ غَيْرُ جَائِزٍ ، لِأَنَّهُ تَغْيِيرُ مُخَالَطَةٍ كَمَا لَوْ تَغَيَّرَ بِمَذْرُورِ الزَّعْفَرَانِ وَالْعُصْفُرِ ، وَهَكَذَا حُكْمُ سَائِرِ الْحُبُوبِ مِنَ الْأُرْزِ وَالْحِمَّصِ وَالْعَدَسِ وَإِنْ طُبِخَ بِالنَّارِ فَإِنِ انْحَلَّتْ فِي الْمَاءِ استعمال الماء في هذه الحالة فَاسْتِعْمَالُهُ غَيْرُ جَائِزٍ ، وَإِنْ لَمْ يَنْحَلَّ وَلَا تَغَيَّرَ بِهَا الْمَاءُ فَاسْتِعْمَالُهُ جَائِزٌ ، وَإِنْ تَغَيَّرَ بِهَا الْمَاءُ مِنْ غَيْرِ انْحِلَالِ أَجْزَائِهَا فَفِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ كَمَا لَوْ يَتَغَيَّرُ بِلَا انْحِلَالٍ مِنْ غَيْرِ طَبْخٍ . وَالثَّانِي : لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ ، لِأَنَّهُ بِالطَّبْخِ صَارَ مَرَقًا . وَمِنْ فُرُوعِ هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ الْقَطِرَانَ إِذَا وَقَعَ فِي الْمَاءِ فَغَيَّرَهُ استعمال الماء في هذه الحالة فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ : لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ كَمَا وَهَمَ فِيهِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا ، وَلَكِنَّ الْقَطِرَانَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : الْأَوَّلُ : ضَرْبٌ فِيهِ دُهْنِيَّةٌ فَتَغَيُّرُ الْمَاءِ بِهِ لَا يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ ، كَمَا لَوْ تَغَيَّرَ بِدُهْنٍ . وَالثَّانِي : ضَرْبٌ لَا دُهْنِيَّةَ فِيهِ فَتَغَيُّرُ الْمَاءِ فِيهِ مَانِعٌ مِنْ جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ كَمَا لَوْ يَتَغَيَّرُ بِمَائِعٍ . وَمِنْ فُرُوعِ هَذَا الْفَصْلِ : أَنَّ الْمَاءَ إِذَا تَغَيَّرَ بِالشَّمْعِ استعمال الماء في هذه الحالة جَازَ اسْتِعْمَالُهُ ، كَمَا لَوْ تَغَيَّرَ بِدُهْنٍ ، وَلَوْ تَغَيَّرَ شَحْمٌ أُذِيبَ فِيهِ بِالنَّارِ استعمال الماء في هذه الحالة كَانَ فِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ لِأَنَّ الشَّحْمَ دُهْنٌ . وَالثَّانِي : لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ لِأَنَّ مُخَالَطَةَ الشَّحْمِ لِلْمَاءِ تَجْعَلُهُ مَرَقًا . وَمِنْ فُرُوعِ هَذَا الْفَصْلِ : أَنَّ الْمَاءَ إِذَا تَغَيَّرَ بِالْكَافُورِ استعمال الماء في هذه الحالة فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : حَالٌ يُعْلَمُ انْحِلَالَ الْكَافُورِ فِيهِ فَاسْتِعْمَالُهُ غَيْرُ جَائِزٍ ، لِأَنَّهُ تَغَيُّرُ مُخَالَطَةٍ . وَحَالٌ يُعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَنْحَلَّ فِيهِ فَاسْتِعْمَالُهُ جَائِزٌ ، لِأَنَّهُ تَغَيُّرُ مُجَاوَرَةٍ . وَحَالَةُ شَكٍّ فِيهِ ، فَيُنْظَرُ فِي صَفَاءِ التَّغَيُّرِ ، فَإِنْ تَغَيَّرَ الطَّعْمُ دُونَ الرَّائِحَةِ فَهُوَ دَالٌّ عَلَى تَغَيُّرِ الْمُخَالَطَةِ وَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ ، وَإِنْ كَانَ تَغَيُّرَ الرِّيحُ فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَغْلِبَ فِيهِ تَغَيُّرُ الْمُخَالَطَةِ فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَغْلِبُ تَغَيُّرُ الْمُجَاوَرَةِ فَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ .

وَمِنْ فُرُوعِ هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ الْمَنِيَّ إِذَا وَقَعَ فِي الْمَاءِ كَانَ طَاهِرًا لِطَهَارَةِ الْمَنِيِّ استعمال الماء في هذه الحالة ، فَإِنْ لَمْ يُغَيِّرِ الْمَاءَ جَازَ اسْتِعْمَالُهُ وَإِنْ تَغَيَّرَ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ اسْتِعْمَالَهُ غَيْرُ جَائِزٍ كَمَا لَوْ تَغَيَّرَ بِمَائِعٍ غَيْرَ الْمَنِيِّ . وَالثَّانِي : أَنَّ اسْتِعْمَالَهُ جَائِزٌ لِأَنَّهُ لَا يَكَادُ يُمَاعُ فِي الْمَاءِ كَالدُّهْنِ ، فَلَمْ يَمْنَعْ مِنَ اسْتِعْمَالِهِ ، لِأَنَّ تَغَيُّرَهُ تَغَيُّرُ مُجَاوَرَةٍ . قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ الْعَاصِ : إِنَّ الْوَرَقَ فِي الْمَاءِ بَعْدَ أَنْ رَبَا استعمال الماء في هذه الحالة فَاسْتِعْمَالُهُ غَيْرُ جَائِزٍ ، وَإِنْ لَمْ يُعْصَرْ فِيهِ جَازَ اسْتِعْمَالُهُ ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ وَرَقُ الشَّجَرِ مَدْقُوقًا نَاعِمًا فَغَيَّرَ الْمَاءَ استعمال الماء في هذه الحالة لَمْ يَجُزِ اسْتِعْمَالُهُ ، لِأَنَّهُ تَغَيُّرُ مُخَالَطَةٍ كَالزَّعْفَرَانِ ، وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ : يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ كَمَا لَوْ كَانَ صَحِيحًا ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ ، لِأَنَّ تَغَيُّرَ الْمَاءِ بِالْوَرَقِ الْمَدْقُوقِ تَغَيُّرُ مُخَالَطَةٍ ، وَتَغَيُّرُهُ بِالْوَرَقِ الصَّحِيحِ تَغَيُّرُ مُجَاوَرَةٍ . وَمِنْ فُرُوعِ هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ الْمَاءَ إِذَا تَغَيَّرَ بِالْمِلْحِ لَمْ يَنْحَلَّ أَنْ يَكُونَ مِلْحَ حَجَرٍ حكم الماء أَوْ مِلْحَ جَمْدٍ فَإِنْ كَانَ مِلْحَ حَجَرٍ فَاسْتِعْمَالُ مَا تَغَيَّرَ بِهِ مِنَ الْمَاءِ غَيْرُ جَائِزٍ ، كَمَا لَوْ تَغَيَّرَ الْمَاءُ بِمَا يَنْحَلُّ فِيهِ مِنْ جَوَاهِرِ الْأَرْضِ كَالْكُحْلِ وَغَيْرِهِ ، وَإِنْ كَانَ مِلْحَ جَمْدٍ فَفِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ لِأَنَّ أَصْلَهُ مَا قَدْ جَمَدَ ، فَإِذَا ذَابَ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ جَوَازِ الِاسْتِعْمَالِ كَالثَّلْجِ إِذَا ذَابَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَحَالَ عَنِ الْمَاءِ فَصَارَ جَوْهَرًا كَغَيْرِهِ . وَمِنْ فُرُوعِ هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ الْمَاءَ إِذَا تَغَيَّرَ بِالْجَمَادِ أَوْ بِطُولِ الْمُكْثِ حكم استعمال الماء كَانَ اسْتِعْمَالُهُ جَائِزًا لِأَنَّهُ تَغَيُّرُ مُجَاوَرَةٍ ، فَأَمَّا إِذَا تَغَيَّرَ بِالتُّرَابِ فَإِنْ صَارَ بِحَيْثُ لَا يُجْزِئُ بِطَبْعِهِ لَمْ يَجُزِ اسْتِعْمَالُهُ ، لِأَنَّهُ صَارَ عَلَيْنَا ، وَإِنْ كَانَ جَارِيًا بِطَبْعِهِ لَكِنْ تَكَدَّرَ لَوْنُهُ وَتَغَيَّرَ طَبْعُهُ فَفِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ مَذْرُورٌ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ الْأَصَحُّ يَجُوزُ قَرَارٌ لِلْمَاءِ لَا يَنْفَكُّ غَالِبًا عَنْهُ كَالطِّينِ .

وَمِنَ الْفُرُوعِ الْمُضَاهِيَةِ لِهَذَا الْفَصْلِ تَكْمِيلُ مَاءِ الطَّهَارَةِ بِمَائِعٍ طَاهِرٍ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ يَكْتَفِي فِي غَسْلِهِ بِعَشَرَةِ أَرْطَالٍ مِنْ مَاءٍ فَيَجِدُ ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ قِيمَتُهَا بِرِطْلَيْنِ مِنْ لَبَنٍ أَوْ مَائِعٍ غَيْرِهِ ، وَلَا تُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْ أَوْصَافِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِ جَمِيعِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ وَطَائِفَةٍ أَنَّ اسْتِعْمَالَ جَمِيعِهِ غَيْرُ جَائِزٍ لِلْإِحَاطَةِ بِاسْتِعْمَالِ الْمَائِعِ فِي طَهَارَتِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ أَنَّ اسْتِعْمَالَهُ جَائِزٌ لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لِمَا صَارَ مُسْتَهْلَكًا فِيهِ مِنَ الْمَائِعِ ، أَلَّا تَرَى أَنَّهُ لَوِ اسْتَعْمَلَ ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ هِيَ مِقْدَارُ الْمَاءِ وَبَقِيَ مِنْهُ رَطْلَانِ هِيَ مِقْدَارُ الْمَائِعِ جَازَ ، وَإِنْ أُحِطْنَا عِلْمًا بِأَنَّ الثَّانِيَ لَيْسَ بِمَائِعٍ فَرْدٍ ، وَأَنَّ الَّذِي اسْتَعْمَلَهُ لَيْسَ بِمَاءٍ فَرْدٍ ، فَكَذَا إِذَا اسْتَعْمَلَ الْكُلَّ لِكَوْنِ الْمَائِعِ مُسْتَهْلَكًا فِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ الْآنِيَةِ

يُتَوَضَّأ فِي جُلُودِ الْمَيِّتَةِ إِذَا دُبِغَتْ

بَابُ الْآنِيَةِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَيَتَوَضَّأُ فِي جُلُودِ الْمَيِّتَةِ إِذَا دُبِغَتْ " وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : " أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ " كَذَلِكَ جُلُودُ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنَ السِّبَاعِ إِذَا دُبِغَتْ إِلَّا جِلْدَ كَلْبٍ أَوْ خِنْزِيرٍ حكم طهارتهما ، لِأَنَّهُمَا نَجِسَانِ وَهُمَا حَيَّانِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَإِنَّمَا بَدَأَ بِأَوَانِي الْجُلُودِ لِاخْتِلَافِ أَحْكَامِهَا وَاخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِيمَا يَطْهُرُ مِنْهَا ، وَلِلْكَلَامِ فِيهَا مُقَدِّمَتَانِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْحَيَوَانَ كُلَّهُ طَاهِرٌ إِلَّا خَمْسَةً : وَهِيَ الْكَلْبُ ، وَالْخِنْزِيرُ ، وَمَا تَوَلَّدَ مِنْ كَلْبٍ وَخِنْزِيرٍ ، وَمَا تَوَلَّدَ مِنْ كَلْبٍ وَحَيَوَانٍ طَاهِرٍ ، وَمَا تَوَلَّدَ مِنْ خِنْزِيرٍ وَحَيَوَانٍ طَاهِرٍ ، وَسَيَأْتِي الدَّلِيلُ عَلَى تَنْجِيسِهَا فِي مَوْضِعِهِ ، وَمَا سِوَاهَا مِنَ الْحَيَوَانَاتِ كُلِّهَا مِنْ دَوَابِّهِ وَطَائِرِهِ طَاهِرٌ فِي حَيَاتِهِ . وَالْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ : أَنَّ الْمَيْتَةَ كُلَّهَا نَجِسَةٌ إِلَّا خَمْسَةَ أَشْيَاءَ : وَهِيَ الْحُوتُ ، وَالْجَرَادُ وَابْنُ آدَمَ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَالْجَنِينُ إِذَا مَاتَ بَعْدَ ذَكَاةِ أُمِّهِ حكم طهارته ، وَالصَّيْدُ إِذَا مَاتَ فِي يَدِ الْجَارِحِ بَعْدَ إِرْسَالِ مُرْسِلِهِ طاهر أم نجس ، وَسَنَدُلُّ عَلَى طَهَارَتِهَا . وَمَا سِوَاهَا مِنَ الْمَيْتَةِ كُلِّهَا نَجِسَةٌ فَإِذَا ثَبَتَتْ هَاتَانِ الْمُقَدِّمَتَانِ ، فَكُلُّ مَا كَانَ طَاهِرًا بَعْدَ مَوْتِهِ جَازَ اسْتِعْمَالُ جِلْدِهِ قَبْلَ دِبَاغِهِ إِلَّا ابْنَ آدَمَ فَإِنَّ الِانْتِفَاعَ بِشَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ مُحَرَّمٌ لِحُرْمَتِهِ ، وَلَيْسَ لِلْجَرَادِ جِلْدٌ يُوصَفُ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ ، وَالْحُوتُ فَقَدْ يَكُونُ لِبَعْضِهِ مِنَ الْبَحْرِيِّ جِلْدٌ يُنْتَفَعُ بِهِ . فَصْلٌ ؟ وَأَمَّا الْحَيَوَانُ فَمَا كَانَ مِنْهُ نَجِسًا فِي حَيَاتِهِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ الْخَمْسَةِ لَا يَطْهُرُ جِلْدُ شَيْءٍ مِنْهَا بِذَكَاتِهِ وَلَا بِدِبَاغِهِ ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي ذَائِبٍ وَلَا يَابِسٍ . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ ، وَدَاوُدُ : يَطْهُرُ جُلُودُ جَمِيعِهَا بِالدِّبَاغَةِ .

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَطْهُرُ جِلْدُ الْكَلْبِ حكمه إذا دبغ دُونَ الْخِنْزِيرِ اسْتِدْلَالًا بِعُمُومِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : " أَيُّمَا إِهَابٍ دُفِّيَ فَقَدْ طَهُرَ " ، وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ حَيًّا فَجَازَ أَنْ يَطْهُرَ جِلْدُهُ بِالدِّبَاغِ كَالْبَغْلِ ، وَالْحِمَارِ . قَالَ : وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ مُخْتَلِفٍ فِي جَوَازِ أَكْلِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَطْهُرَ جِلْدُهُ بِالدِّبَاغِ قِيَاسًا عَلَى الضَّبُعِ . وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : " لَا تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ " ، وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ نَجِسٌ فِي حَيَاتِهِ فَلَمْ يَطْهُرْ جِلْدُهُ بِالدِّبَاغِ كَالْخِنْزِيرِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَطْهُرْ مِنَ الْخِنْزِيرِ لَمْ يَطْهُرْ مِنَ الْكَلْبِ كَاللَّحْمِ ، وَلِأَنَّ النَّجَاسَةَ إِنَّمَا تَزُولُ بِالْمُعَالَجَةِ إِذَا كَانَتْ طَارِئَةً عَلَى مَحَلٍّ طَاهِرٍ كَالثَّوْبِ النَّجِسِ فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ لَازِمَةً لِوُجُودِ الْعَيْنِ فِي ابْتِدَاءِ ظُهُورِهَا فَلَا يَطْهُرُ بِالْمُعَالَجَةِ كَالْعُذْرَةِ وَالدَّمِ ، وَنَجَاسَةُ الْكَلْبِ لَازِمَةٌ لَا طَارِئَةٌ ، وَلِأَنَّ الْحَيَاةَ أَقْوَى فِي التَّطْهِيرِ مِنَ الدِّبَاغَةِ لِتَطَهُّرِهَا جَمِيعَ الْحَيَوَانِ حَيًّا وَاخْتِصَاصُ الدِّبَاغَةِ بِتَطْهِيرِ جِلْدِهَا مُنْفَرِدًا فَلَمَّا لَمْ يُؤَثِّرِ الْحَيَاةُ فِي تَطْهِيرِ الْكَلْبِ فَالدِّبَاغَةُ أَوْلَى أَنْ لَا تُؤَثِّرَ فِي تَطْهِيرِ جِلْدِهِ فَأَمَّا عُمُومُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَمَخْصُوصٌ بِدَلِيلِنَا ، فَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ فَالْمَعْنَى فِيهِ : طَهَارَتُهُ حَيًّا وَكَذَلِكَ الضَّبْعُ .

الْحَيَوَانُ الطَّاهِرُ ضَرْبَانِ مَأْكُولٌ وَغَيْرُ مَأْكُولٍ

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْحَيَوَانُ الطَّاهِرُ فَضَرْبَانِ : [ الْأَوَّلُ ] : مَأْكُولٌ . وَ [ الثَّانِي ] : غَيْرُ مَأْكُولٍ . فَأَمَّا غَيْرُ الْمَأْكُولُ كَالْبَغْلِ ، وَالْحِمَارِ وَالسَّبُعِ ، وَالذِّئْبِ فَيَطْهُرُ جِلْدُهُ بِالدِّبَاغَةِ وَلَا يَطْهُرُ بِالذَّكَاةِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَطْهُرُ جِلْدُهُ بِالذَّكَاةِ كَمَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغَةِ . وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ - إِبْرَاهِيمُ بْنُ بِشْرٍ - لَا يَطْهُرُ جِلْدُهُ بِالدِّبَاغِ كَمَا لَا يَطْهُرُ بِالذَّكَاةِ ، فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَاسْتَدَلَّ عَلَى طَهَارَةِ جِلْدِهِ بِالذَّكَاةِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : " دِبَاغُ الْأَدِيمِ ذَكَاتُهُ " فَأَقَامَ الذَّكَاةَ مَقَامَ الدِّبَاغَةِ ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ جِلْدَهُ بِالدِّبَاغَةِ يَطْهُرُ ، فَوَجَبَ أَنْ يَطْهُرَ بِالذَّكَاةِ كَالْمَأْكُولِ .

قَالَ : وَلِأَنَّ مَا طَهَّرَ جِلْدَ الْمَأْكُولِ طَهَّرَ جِلْدَ غَيْرِ الْمَأْكُولِ من الحيوان كَالدِّبَاغَةِ . وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ تَقْوِيتَ الرُّوحِ إِذَا لَمَّ يُطَهِّرْ غَيْرَ الْجِلْدِ لَمْ يُطَهِّرِ الْجِلْدَ كَالرَّمْيِ فِي الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ مِنَ الْحَيَوَانِ طَرْدًا ، وَفِي غَيْرِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ عَكْسًا ، وَلِأَنَّهَا ذَكَاةٌ لَا تُبِيحُ أَكْلَ لَحْمِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُفِيدَ طَهَارَةَ جِلْدِهِ كَزَكَاةِ الْمَجُوسِيِّ طَرْدًا ، أَوْ كَزَكَاةِ الْمُسْلِمِ عَكْسًا ، وَلِأَنَّ التَّطْهِيرَ الْمُسْتَفَادَ بِذَكَاةِ الْمَأْكُولِ يَنْتَفِي عَنْ ذَكَاةِ غَيْرِ الْمَأْكُولِ كَتَطَهُّرِ اللَّحْمِ . وَأَمَّا الْخَبَرُ فَمَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : " دِبَاغُ الْأَدِيمِ ذَكَاتُهُ " ، أَيْ : مُطَهِّرُهُ أَوِ الذَّكَاةُ لَا تُطَهِّرُ ، لِأَنَّهَا تُبْقِي نَجَاسَةً نَظَرًا بِالْمَوْتِ لَا أَنَّهَا تُبْقِي نَجَاسَةً ثَابِتَةً قَبْلُ عَلَى الْمَأْكُولِ فَالْمَعْنَى فِي ذَكَاتِهِ أَنَّهَا أَبَاحَتْ أَكْلَ لَحْمِهِ فَأَفَادَتْ طَهَارَةَ جِلْدِهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ غَيْرُ الْمَأْكُولِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الدِّبَاغَةِ فَالْمَعْنَى فِي الدِّبَاغَةِ : أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِنَفْيِ النَّجَاسَةِ الطَّارِئَةِ بِالْمَوْتِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الذَّكَاةُ . وَأَمَّا أَبُو ثَوْرٍ فَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ لَا يَطْهُرُ جِلْدُهُ بِالدِّبَاغَةِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " دِبَاغُ الْأَدِيمِ ذَكَاتُهُ " ، فَلَمَّا لَمْ تَعْمَلِ الذَّكَاةُ فِي غَيْرِ الْمَأْكُولِ لَمْ تَعْمَلْ فِيهِ الدِّبَاغَةُ وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ

النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " نَهَى عَنِ افْتِرَاشِ جُلُودِ السِّبَاعِ " فَلَوْ كَانَتْ تَطْهُرُ بِالدِّبَاغَةِ لَمْ يُنْهَ عَنِ افْتِرَاشِهَا ، وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ لَا يَطْهُرُ جِلْدُهُ بِالذَّكَاةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَطْهُرَ بِالدِّبَاغَةِ كَالْكَلْبِ ، وَالْخِنْزِيرِ ، وَلِأَنَّ الدِّبَاغَةَ أَحَدُ مَا يَطْهُرُ بِهِ الْجِلْدُ فَوَجَبَ أَنْ يَنْتَفِيَ عَنْ غَيْرِ الْمَأْكُولِ كَالذَّكَاةِ . وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : " أَيُّمَا أَهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ طَاهِرٌ فَجَازَ أَنْ يَطْهُرَ جِلْدُهُ بِالدِّبَاغَةِ كَالْمَأْكُولِ ، وَلِأَنَّ مَا يَنْفِي عَنِ الْمَأْكُولِ تَنْجِيسَ جِلْدِهِ يَنْفِي عَنْ غَيْرِ الْمَأْكُولِ تَنْجِيسَ جِلْدِهِ كَالْحَيَاةِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ ، فَقَدْ تَقَدَّمَ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ الدِّبَاغَةِ وَالذَّكَاةِ مَا يُوَضِّحُ الْجَوَابَ عَنْهُ . وَأَمَّا نَهْيُهُ عَنِ افْتِرَاشِ جُلُودِ السِّبَاعِ فَمَحْمُولٌ عَلَى مَا قَبْلَ الدِّبَاغَةِ ، أَوْ عَلَى مَا بَعْدَ الدِّبَاغَةِ إِذَا كَانَ الشَّعْرُ بَاقِيًا ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا شُعُورُهَا كَالْفُهُودَةِ وَالنُّمُورَةِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ فَالْمَعْنَى فِيهِ : نَجَاسَةٌ فِي الْحَيَاةِ ، وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الذَّكَاةِ فَالْمَعْنَى فِي الذَّكَاةِ : أَنَّهَا لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي إِزَالَةِ الْأَنْجَاسِ ، وَلِلدِّبَاغَةِ مَدْخَلٌ فِي إِزَالَةِ الْأَنْجَاسِ .

الْمَأْكُولُ يَطْهُرُ جِلْدُهُ بِالذَّكَاةِ إِجْمَاعًا وَبِالدِّبَاغَةِ إِنْ مَاتَ

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمَأْكُولُ من الحيوان حكم طهارة جلده فَيَطْهُرُ جِلْدُهُ بِالذَّكَاةِ إِجْمَاعًا ، وَبِالدِّبَاغَةِ إِنْ مَاتَ . وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : جِلْدُ الْمَيْتَةِ حكم طهوريته بالدباغة لَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغَةِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [ الْمَائِدَةِ : ] . إِشَارَةٌ إِلَى حَمْلِهَا وَإِجْرَائِهَا . وَبِرِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ قَالَ : كَتَبَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرَيْنِ : " أَنْ لَا تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ " . وَلِأَنَّ مَا نَجِسَ بِالْمَوْتِ لَمْ يَطْهُرْ بِالدِّبَاغَةِ كَاللَّحْمِ ، وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَطْهُرْ بِهِ اللَّحْمُ لَمْ يَطْهُرْ بِهِ الْجِلْدُ كَالْغَسْلِ ، وَلِعِلَّةِ التَّنْجِيسِ بِالْمَوْتِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْتَفِعَ التَّنْجِيسُ مَعَ بَقَاءِ الْمَوْتِ ، لِأَنَّ ارْتِفَاعَ الْحُكْمِ مَعَ بَقَاءِ الْعِلَّةِ مُحَالٌ . وَدَلِيلُنَا : مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ ، عَنْ مَالِكٍ ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، عَنِ ابْنِ وَعْلَةَ الْمِصْرِيِّ ، عَنِ

ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِذَا دُبِغَ الْإِهَابُ فَقَدْ طَهُرَ " إِنَّمَا يَكُونُ فِيمَا لَحِقَهُ التَّنْجِيسُ ، فَصَارَ بِمَثَابَةِ قَوْلِهِ : أَيُّمَا إِهَابٍ نَجِسَ بِالْمَوْتِ طَهُرَ بِالدِّبَاغَةِ . وَرَوَى الشَّافِعِيُّ ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِشَاةٍ لِمَوْلَاةِ مَيْمُونَةَ مَيْتَةً فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَا عَلَى أَهْلِ هَذِهِ لَوْ أَخَذُوا إِهَابَهَا فَدَبَغُوهُ فَانْتَفَعُوا بِهِ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَيْسَتْ مَيْتَةً ؟ ! فَقَالَ : إِنَمَا حُرِّمَ مِنَ الْمَيْتَةِ أَكْلُهَا " وَهَذَا نَصٌّ . وَرَوَى الشَّافِعِيُّ ، عَنْ مَالِكٍ ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيْطٍ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَانَ ، عَنْ أُمِّهِ ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَمَرَ أَنْ يُسْتَمْتَعَ بِجُلُودِ الْمَيْتَةِ إِذَا دُبِغَتْ " وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ طَاهِرٌ فَجَازَ أَنْ يَطْهُرَ جِلْدُهُ بَعْدَ وَفَاةِ رُوحِهِ كَالْمُذَكَّى ، وَلِأَنَّهُ جِلْدٌ نَجِسَ بَعْدَ طَهَارَةٍ فَجَازَ أَنْ يَطْرَأَ عَلَيْهِ الطَّهَارَةُ كَالَّذِي نَجِسَ بِدَمٍ ، أَوْ غَيْرِهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مَعَ ضَعْفِهِ مُرْسَلٌ ، لِأَنَّ عَلِيَّ بْنَ الْمَدِينِيِّ قَالَ : مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

وَلِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ سَنَةٌ ، وَقَدْ كَانَ يَرْوِيهِ مَرَّةً عَنْ شَيْخِهِ قَوْمُهُ نَاسٌ مِنْ جُهَيْنَةَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ عَلَى مَا قَبْلَ الدِّبَاغَةِ ، لِأَنَّ اسْمَ الْإِهَابِ يَتَنَاوَلُ الْجِلْدَ قَبْلَ دِبَاغِهِ ، وَيَنْتَقِلُ عَنْهُ الِاسْمُ بَعْدَ دِبَاغِهِ ، قَالَ عَنْتَرَةُ : فَشَكَكْتُ بِالرُّمْحِ الْأَصَمِّ إِهَابَهُ لَيْسَ الْكَرِيمُ عَلَى الْفَتَى بِمُحَرَّمِ وَأَمَّا الْآيَةُ فَمَخْصُوصَةٌ ، وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى اللَّحْمِ فَهُوَ قِيَاسٌ يَرْفَعُ النَّصَّ فَاطَّرَحْنَاهُ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي اللَّحْمِ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلدِّبَاغَةِ فِيهِ تَأْثِيرٌ لَمْ يَطْهُرْ بِهَا وَالْجِلْدُ لَمَّا أَثَّرَتْ فِيهِ الدِّبَاغَةُ طَهُرَ بِهَا . وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْغَسْلِ فَكَذَا الْجَوَابُ عَنْهُ ، لِأَنَّ الْغَسْلَ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْجِلْدِ كَتَأْثِيرِ الدِّبَاغَةِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : إِنَّ الْمَوْتَ عِلَّةُ التَّنْجِيسِ فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ عِلَّةَ التَّنْجِيسِ الْمَوْتُ وَفَقْدُ الدِّبَاغَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمَوْتَ عِلَّةٌ فِي تَنْجِيسِهِ غَيْرُ مُتَأَبِّدٍ وَفَقْدَ الدِّبَاغَةِ عِلَّةٌ فِي التَّنْجِيسِ الْمُتَأَبِّدِ . فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ جِلْدَ الْمَيْتَةِ يَطْهُرُ بِالدِّبَاغَةِ ، فَإِنَّهُ يَطْهُرُ بِهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الذَّائِبِ وَالْيَابِسِ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ وَفِيهِ . وَقَالَ مَالِكٌ : يَطْهُرُ ظَاهِرُهُ دُونَ بَاطِنِهِ وَجَازَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْيَابِسِ دُونَ الذَّائِبِ وَجَازَتِ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ جلد الميتة بعد الدبغ ، وَلَمْ يَجُزْ فِيهِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الدِّبَاغَةَ تُؤَثِّرُ فِيمَا لَاقَتْهُ وَهُوَ ظَاهِرُ الْجِلْدِ دُونَ بَاطِنِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَطْهُرَ بِهَا ظَاهِرُ الْجِلْدِ دُونَ بَاطِنِهِ . وَدَلِيلُنَا : قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : " أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ " فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي طَهَارَةِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ . وَرُوِيَ عَنْ سَوْدَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : " مَاتَتْ لَنَا شَاةٌ وَدَبَغْنَا إِهَابَهَا فَجَعَلْنَاهُ قِرْبَةً كُنَّا نَنْبِذُ فِيهَا

إِلَى أَنْ صَارَتْ شَنًّا " . وَمَالُكٌ لَا يُجَوِّزُ الِانْتِبَاذَ في جلد الميتة بعد الدبغ فِيهَا وَإِنَّمَا يُجَوِّزُ اسْتِعْمَالَهَا فِي الْمَاءِ ، لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ الْمَاءَ لَا يَنْجَسُ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ ، وَلِأَنَّ مَا طَهُرَ بِهِ ظَاهِرُ الْجِلْدِ طَهُرَ بِهِ بَاطِنُهُ كَالذَّكَاةِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ مِنَ الْجِلْدِ طَهُرَ بِالذَّكَاةِ طَهُرَ بِالدِّبَاغَةِ كَالظَّاهِرِ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّهَا تُؤَثِّرُ فِيمَا لَاقَتْهُ فَخَطَأٌ ، لِأَنَّ تَأْثِيرَهَا فِي نَشْفِ الرُّطُوبَةِ الْبَاطِنَةِ وَالسُّهُوكَةِ الدَّاخِلَةِ كَتَأْثِيرِهَا فِي الظَّاهِرِ فِيهَا . فَإِذَا ثَبَتَ طَهَارَةُ ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ بِالدِّبَاغَةِ فَهُوَ قَبْلَ الدِّبَاغَةِ مَمْنُوعٌ مِنَ الِاسْتِعْمَالِ فِي الذَّائِبِ . وَقَالَ الزُّهْرِيُّ : هُوَ قَبْلَ الدِّبَاغَةِ وَبَعْدَهَا عَلَى سَوَاءٍ فِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ فِي الذَّائِبَاتِ وَالْيَابِسَاتِ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ الْحَارِثِ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَانَ ، عَنْ عَائِشَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنَّ عَنَاقًا كَانَتْ عِنْدَهُمْ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهَا مَاتَتْ قَالَ : أَلَا أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ ، فَأَبَاحَ الِانْتِفَاعَ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَذْكُرَ دِبَاغًا . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : " أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ " عَلَى أَنَّ قَبْلَ دِبَاغِهِ لَمْ يَطْهُرِ الْإِهَابُ ، وَلِأَنَّ مَا أَوْجَبَ تَنْجِيسَ اللَّحْمِ أَوَجَبَ تَنْجِيسَ الْجِلْدِ كَنَجَاسَةِ الْكَلْبِ ، وَلِأَنَّ فَقْدَ الْحَيَاةِ يُوجِبُ تَسَاوِيَ الْحُكْمِ فِي الْجِلْدِ وَاللَّحْمِ كَالْحُوتِ ، وَالْجَرَادِ فِي التَّطْهِيرِ ، وَالْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ فِي التَّنْجِيسِ ، وَأَمَّا الْخَبَرُ فَمَحْمُولٌ عَلَى مَا بَعْدَ الدِّبَاغَةِ بِمَا بَيَّنَهُ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَخْبَارِ وَعَلَى الِانْتِفَاعِ بِهِ فِي الْيَابِسَاتِ .

فَصْلٌ بِمَا يَكُونُ الدِّبَاغُ

فَصْلٌ : بِمَ يَكُونُ الدِّبَاغُ فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ جِلْدَ الْمَيْتَةِ نَجِسٌ وَأَنَّهُ بَعْدَ الدِّبَاغَةِ طَاهِرٌ انْتَقَلَ الْكَلَامُ فِيهِ إِلَى مَا تَكُونُ بِهِ الدِّبَاغَةُ فَقَدْ جَاءَ الْخَبَرُ بِالنَّصِّ عَلَى الشَّثِّ وَالْقَرَظِ فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ فَذَهَبَ أَهْلُ الظَّاهِرِ

إِلَى أَنَّ حُكْمَ الدِّبَاغَةِ مَقْصُورٌ عَلَيْهِ ، وَأَنَّهُ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِهِ : لِأَنَّ الدِّبَاغَةَ رُخْصَةٌ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ حُكْمُهَا مَوْقُوفًا عَلَى النَّصِّ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْمَعْنَى فِي الشَّثِّ وَالْقَرَظِ أَنَّهُ مُنَشَّفٌ مُجَفَّفٌ بِكُلِّ شَيْءٍ كَانَ فِيهِ تَنْشِيفُ الْجِلْدِ وَتَجْفِيفُهُ جَازَتْ بِهِ الدِّبَاغَةُ حَتَّى بِالشَّمْسِ وَالنَّارِ ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْمَعْنَى فِي الشَّثِّ وَالْقَرَظِ أَنَّهُ يُحْدِثُ فِي الْجِلْدِ أَرْبَعَةَ أَوْصَافٍ : أَحَدُهَا : تَنْشِيفُ فُضُولِهِ الطَّاهِرَةِ وَرُطُوبَتِهِ الْبَاطِنَةِ . وَالثَّانِي : تَطْيِيبُ رِيحِهِ وَإِزَالَةُ مَا ظَهَرَ عَلَيْهِ مِنْ سُهُوكَةٍ وَنَتَنٍ . وَالثَّالِثُ : نَقْلُ اسْمِهِ مِنَ الْإِهَابِ إِلَى الْأَدِيمِ وَالسِّبْتِ وَالدَّارِشِ . وَالرَّابِعُ : بَقَاؤُهُ عَلَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ بَعْدَ الِاسْتِعْمَالِ ، فَكُلُّ شَيْءٍ أَثَّرَ فِي الْجِلْدِ هَذِهِ الْأَوْصَافَ الْأَرْبَعَةَ مِنَ الْعَفْصِ وَقُشُورِ الرُّمَّانِ جَازَتْ بِهِ الدِّبَاغَةُ ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الشَّثِّ وَالْقَرَظِ وَهَذَا صَحِيحٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا أَثَّرَ الشَّثُّ وَالْقَرَظُ هَذِهِ الْأَوْصَافَ الْأَرْبَعَةَ لَمْ يَكُنِ اعْتِبَارُ بَعْضِهَا بِالدِّبَاغَةِ بِأَوْلَى مِنْ بَعْضٍ فَصَارَ جَمِيعُهَا مُعْتَبَرًا وَلَمْ يَكُنْ حُكْمُهَا عَلَى الشَّثِّ وَالْقَرَظِ مَقْصُودًا ؛ لِأَنَّهَا فِي غَيْرِهَا مَوْجُودَةٌ . وَالثَّانِي : أَنَّ الدِّبَاغَةَ عُرْفٌ فِي الْعَرَبِ وَلَمْ يَكُنْ فِي عُرْفِهِمْ مَقْصُورًا عَلَى الشَّثِّ وَالْقَرَظِ ، كَمَا قَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ لِاخْتِلَافِ عَادَتِهِمْ فِي الْبِلَادِ وَلَا اقْتَصَرُوا فِيهَا عَلَى مُجَرَّدِ التَّجْفِيفِ بِالشَّمْسِ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فَصَارَ كِلَا الْمَذْهَبَيْنِ مَدْفُوعَيْنِ بِعُرْفِ الْكَافَّةِ وَمَعْهُودِ الْجَمِيعِ ، فَثَبَتَ بِهَذَا جَوَازُ الدِّبَاغَةِ بِمَا سِوَى الشَّثِّ وَالْقَرَظِ إِذَا حَدَثَ فِي الْجِلْدِ مَا وَصَفْنَا مِنَ الْأَوْصَافِ الْأَرْبَعَةِ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ شَرْطًا في الدباغة فِيهَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَيْسَ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ شَرْطًا فِيهَا وَيَجْرِي الِاقْتِصَارُ فِيهَا عَلَى مَذْرُورَاتِ الدِّبَاغَةِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُنْشَقَّةِ ، فَإِذَا دُبِغَ الْجِلْدُ طَهُرَ وَجَازَ اسْتِعْمَالُهُ مِنْ غَيْرِ غَسْلٍ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - : " أَوَلَيْسَ فِي الشَّثِّ وَالْقَرَظِ مَا يُذْهِبُ رِجْسَهُ وَنَجَسَهُ " فَجَعَلَ مُجَرَّدَ الشَّثِّ وَالْقَرَظِ مُذْهِبًا لِرِجْسِهِ وَنَجَسِهِ وَلِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَطْهُرُ بِانْقِلَابِهِ ، فَلَيْسَ لِطَهَارَتِهِ إِلَّا وَجْهٌ وَاحِدٌ يَطْهُرُ بِهِ كَالْخَمْرِ إِذَا انْقَلَبَ خَلًّا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ فِي الدِّبَاغَةِ شَرْطٌ فِي صِحَّتِهَا لِرِوَايَةِ مَيْمُونَةَ

قَالَتْ : مَرَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ يَجُرُّونَ شَاةً لَهُمْ مِثْلَ الْحِمَارِ . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَوْ أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا فَقَالُوا : إِنَّهَا مَيْتَةٌ . فَقَالَ : يُطَهِّرُ الْمَاءُ وَالْقَرَظُ " فَأَحَالَ تَطْهِيرَهُ عَلَى الْمَاءِ وَالْقَرَظِ ، وَلِأَنَّ جِلْدَ الْمَيْتَةِ أَغْلَظُ تَنْجِيسًا وَالْمَاءَ أَقْوَى تَطْهِيرًا ، فَكَانَ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ أَخَصَّ ، فَعَلَى هَذَا فِي كَيْفِيَّةِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ في الدباغة وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي إِنَاءِ الدِّبَاغَةِ لِيَلِينَ الْجِلْدُ بِالْمَاءِ ، فَيَصِلُ عَمَلُ الشَّثِّ وَالْقَرَظِ إِلَى جِمِيعِ أَجْزَاءِ الْجِلْدِ ، فَيَكُونُ أَبْلَغَ فِي تَنْشِيفِهَا وَتَطْهِيرِهَا ، فَيَصِيرُ دِبَاغَةُ الْجِلْدِ وَتَطْهِيرُهُ بِهَا جَمِيعًا مَعًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَسْتَعْمِلُ الْمَاءَ بَعْدَ الدِّبَاغَةِ لِيَخْتَصَّ الشَّثُّ وَالْقَرَظُ بِدِبَاغَتِهِ وَيَخْتَصَّ الْمَاءُ بِتَطْهِيرِهِ ، فَيَصِيرُ بَعْدَ الدِّبَاغَةِ وَقَبْلَ الْغَسْلِ كَالثَّوْبِ النَّجِسِ يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الدِّبَاغَةُ بِمَا كَانَ نَجِسًا مِنَ الشَّثِّ وَالْقَرَظِ ، فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ ، وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجْعَلُ طَهَارَةَ الْجِلْدِ مُخْتَصَّةً بِالشَّثِّ وَالْقَرَظِ دُونَ الْمَاءِ ، لِأَنَّ النَّجَاسَةَ لَا تَرْتَفِعُ بِالنَّجَاسَةِ إِذْ مَا لَا يَرْفَعُ نَجَاسَةَ نَفْسِهِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَرْفَعَ نَجَاسَةَ غَيْرِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الدِّبَاغَةَ بِهَا جَائِزَةٌ ، وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجْعَلُ طَهَارَةَ الْجَلْدِ مُخْتَصَّةً بِالْمَاءِ ؛ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الشَّثِّ وَالْقَرَظِ فِي الْجِلْدِ وَإِنْ كَانَ نَجِسًا كَتَأْثِيرِهِ وَهُوَ طَاهِرٌ ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ بِالْمُلَاقَاةِ نَجِسًا فَعَلَى هَذَا إِذَا انْدَبَغَ بِهِ لَمْ يَطْهُرْ إِلَّا بَعْدَ غَسْلِهِ .

فَصْلٌ : وَالدِّبَاغَةُ لَا تَفْتَقِرُ إِلَى فِعْلِ فَاعِلٍ ؛ لِأَنَّ مَا طَرِيقُهُ إِزَالَةُ النَّجَاسَةِ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى فِعْلٍ ، كَالسَّيْلِ إِذَا مَرَّ بِنَجَاسَةٍ فَأَزَالَهَا طَهُرَ مَحَلُّهَا ، وَلِذَلِكَ لَمْ تَفْتَقِرْ إِزَالَتُهَا إِلَى نِيَّةٍ النجاسة بِخِلَافِ الْحَدَثِ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ أَطَارَتِ الرِّيحُ جِلْدَ مَيْتَةٍ وَأَلْقَتْهُ فِي الْمَدْبَغَةِ فَانْدَبَغَ صَارَ طَاهِرًا ، فَأَمَّا إِنْ أَخَذَ رَجُلٌ جِلْدَ مَيْتَةِ غَيْرِهِ فَدَبَغَهُ فمن يملكه فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا : هَلْ يَكُونُ مِلْكًا لِرَبِّهِ أَوْ لِدَابِغِهِ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ :

أَحَدُهَا : يَكُونُ مِلْكًا لِرَبِّهِ دُونَ دَابِغِهِ كَالْخَمْرِ الْمُنْقَلِبِ خَلًّا فِي يَدِ أَحَدِهِمْ يَكُونُ مِلْكُهُ لِرَبِّهِ دُونَ مَنْ صَارَ خَلًّا فِي يَدِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَكُونُ مِلْكًا لِدَابِغِهِ دُونَ رَبِّهِ كَالْمُحْيِي أَرْضًا مَوَاتًا بَعْدَ إِجَازَةِ غَيْرِهِ يَكُونُ مِلْكًا لِمَنْ أَحْيَاهَا دُونَ مَنْ أَجَازَهَا . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ كَانَ رَبُّ الْجِلْدِ قَدْ رَفَعَ يَدَهُ عَنْهُ فَأَخَذَهُ الدَّابِغُ فَدَبَغَهُ كَانَ مِلْكًا لدَابِغِهِ دُونَ رَبِّهِ ، وَإِنْ كَانَتْ يَدُهُ عَلَيْهِ فَغَصْبُهُ إِيَّاهُ كَانَ مِلْكًا لِرَبِّهِ دُونَ دَابِغِهِ ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ جِلْدَ الْمَيْتَةِ لَا يُوصَفُ بِثُبُوتِ الْمِلْكِ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا يُوصَفُ بِثُبُوتِ الْيَدِ عَلَيْهِ ، فَإِذَا رَفَعَ يَدَهُ زَالَتْ صِفَةُ اسْتِحْقَاقِهِ . فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا مِنْ طَهَارَةِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ بِالدِّبَاغَةِ ، تَعَلَّقَ الْكَلَامُ بِفَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : بَيَانُ حُكْمِهِ قَبْلَ الدِّبَاغَةِ جلد الميتة . وَالثَّانِي : بَيَانُ حُكْمِهِ بَعْدَ الدِّبَاغَةِ . فَأَمَّا مَا قَبْلَ الدِّبَاغَةِ فَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْيَابِسَاتِ دُونَ الذَّائِبَاتِ وَيَجُوزُ هِبَتُهُ ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ ، وَلَا رَهْنُهُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ بَيْعُهُ وَرَهْنُهُ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ مَا أَمْكَنَ تَطْهِيرُهُ بَعْدَ نَجَاسَتِهِ جَازَ بَيْعُهُ كَالثَّوْبِ النَّجِسِ . وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [ الْمَائِدَةِ : ] . لِأَنَّ الْأَعْيَانَ النَّجِسَةَ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا كَالْعُذْرَةِ . وَأَمَّا الثَّوْبُ فَهُوَ طَاهِرُ الْعَيْنِ وَإِنَّمَا جَاوَرَتْهُ النَّجَاسَةُ فَجَازَ بَيْعُهُ لِأَنَّ الْعُذْرَةَ تَتَنَاوَلُ عَيْنًا ظَاهِرَةً وَإِنْ جَاوَرَتْهَا نَجَاسَةٌ وَكَذَلِكَ الْجِلْدُ الطَّاهِرُ إِذَا جَاوَرَتْهُ نَجَاسَةٌ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا بَعْدَ الدِّبَاغَةِ فَفِي جَوَازِ بَيْعِهِ وَرَهْنِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [ الْمَائِدَةِ : ] وَلِأَنَّ إِبَاحَةَ الِانْتِفَاعِ بِالْمَيْتَةِ لَا تَقْتَضِي جَوَازَ بَيْعِهَا كَالْمُضْطَرِّ إِلَى أَكْلِهَا ، وَلِأَنَّ تَأْثِيرَ الدِّبَاغَةِ إِنَّمَا هُوَ التَّطْهِيرُ ، وَلَيْسَ التَّطْهِيرُ عِلَّةً فِي جَوَازِ الْبَيْعِ كَـ " أُمِّ الْوَلَدِ " . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنَّ بَيْعَهُ جَائِزٌ لِأَنَّهُ جِلْدٌ طَاهِرٌ فَجَازَ بَيْعُهُ كَـ " الْمُزَكَّى " وَلِأَنَّ حُدُوثَ النَّجَاسَةِ إِذَا مَنَعَ مِنْ جَوَازِ الْبَيْعِ كَانَ مَأْذُونًا بِجَوَازِ الْبَيْعِ كَنَجَاسَةِ الْخَمْرِ إِذَا ارْتَفَعَتْ بِانْقِلَابِهَا خَلًّا ، وَلِأَنَّ دِبَاغَةَ الْجِلْدِ قَدْ أَعَادَتْهُ إِلَى حُكْمِ الْحَيَاةِ ، فَلَمَّا كَانَ بَيْعُهُ فِي الْحَيَاةِ جَائِزًا اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الدِّبَاغَةِ جَائِزًا . فَأَمَّا الْآيَةُ فَمَخْصُوصَةٌ ، وَأَمَّا الْمُضْطَرُّ إِلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ فَإِنَّمَا اسْتَبَاحَهَا لِمَعْنًى فِيهِ لَا فِي الْمَيْتَةِ ، وَاسْتِبَاحَةُ الْجَلْدِ لِمَعْنًى فِي الْجِلْدِ لَا فِي الْمُسْتَبِيحِ .

وَأَمَّا أُمُّ الْوَلَدِ فَالْمَنْعُ مِنْ بَيْعِهَا لِحُرْمَتِهَا ، فَلَمْ تَكُنْ طَهَارَتُهَا عِلْمًا فِي جَوَازِ بَيْعِهَا ، وَجِلْدُ الْمَيْتَةِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ لِنَجَاسَتِهِ وَكَانَتْ طَهَارَتُهُ عِلْمًا فِي جَوَازِ بَيْعِهِ ، فَإِذَا ثَبَتَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فِي الْبَيْعِ وَالرَّهْنِ تَعَلَّقَ بِهِمَا فَرْعَانِ : أَحَدُهُمَا : جَوَازُ أَكْلِهِ إِنْ كَانَ مِنْ جِلْدِ مَأْكُولٍ ، فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ بَيْعَهُ لَا يَجُوزُ لَمْ يَجُزْ أَكْلُهُ ، لِأَنَّ تَحْرِيمَ بَيْعِهِ لِبَقَاءِ حُكْمِ مَوْتِهِ ، وَإِنْ قُلْنَا بِجَوَازِ بَيْعِهِ كَانَ فِي جَوَازِ أَكْلِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ لِأَنَّ إِبَاحَتَهُ الْبَيْعَ لِارْتِفَاعِ حُكْمِ الْمَوْتِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ لِلنَّصِّ عَلَى تَحْرِيمِ أَكْلِهِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : " إِنَّمَا حَرُمَ مِنَ الْمَيْتَةِ أَكْلُهَا " وَالْفَرْعُ الثَّانِي : فِي جَوَازِ إِجَارَتِهِ جلد الميتة ، فَإِنْ قُلْنَا بِجَوَازِ بَيْعِهِ جَازَتْ إِجَارَتُهُ ، وَإِنْ قُلْنَا بِبُطْلَانِ بَيْعِهِ فَفِي جَوَازِ إِجَارَتِهِ وَجْهَانِ كَالْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ .

لَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ إِلَّا الْإِهَابُ وَحْدَهُ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَلَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ إِلَّا الْإِهَابُ وَحْدَهُ ، وَلَوْ كَانَ الصُّوفُ وَالشَّعْرُ وَالرِّيشُ لَا يَمُوتُ بِمَوْتِ ذَوَاتِ الرُّوحِ أَوْ كَانَ يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ لَكَانَ ذَلِكَ فِي قَرْنِ الْمَيْتَةِ وَسَيِّهَا وَجَازَ فِي عَظْمِهَا ، لِأَنَّهُ قَبْلَ الدِّبَاغِ وَبَعْدَهُ سَوَاءٌ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَالْمُعَوَّلِ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ إِنَّ الصُّوفَ ، وَالشَّعْرَ ، وَالرِّيشَ ، وَالْوَبَرَ حكم طهارته ضَرْبَانِ : طَاهِرٌ ، وَنَجِسٌ ، فَالطَّاهِرُ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا أُخِذَ مِنَ الْمَأْكُولِ اللَّحْمَ فِي حَيَاتِهِ . وَالثَّانِي : مَا أُخِذَ مِنْهُ بَعْدَ ذَكَاتِهِ . وَالنَّجِسُ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا أُخِذَ مِنْ غَيْرِ الْمَأْكُولِ وَمَا أُخِذَ مِنْ مَيِّتٍ وَأَنَّهُ ذُو رُوحٍ إِذَا فَقَدَهَا نَجِسَ بِالْمَوْتِ ، وَكَذَلِكَ فِي الْعَظْمِ ، وَالْقَرْنِ ، وَالسِّنِّ ، وَالظُّفُرِ يَنْجَسُ بِالْمَوْتِ من الحيوان ، هَذَا الْمَرْوِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كُتُبِهِ ، وَالَّذِي نَقَلَهُ أَصْحَابُ الْقَدِيمِ ، وَحَكَى أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ ، عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيِّ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيِّ ، أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَجَعَ عَنْ تَنْجِيسِ الشَّعْرِ شعر الميتة ، وَحَكَى إِبْرَاهِيمُ الْبَلَدِيُّ ، عَنِ الْمُزَنِيِّ ، أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَجَعَ عَنْ تَنْجِيسِ شَعْرِ ابْنِ آدَمَ ، وَحَكَى

الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْجِيزِيُّ ، عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الشَّعْرَ تَابِعٌ لِلْجِلْدِ يَنْجَسُ بِنَجَاسَتِهِ وَيَطْهُرُ بِطَهَارَتِهِ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذِهِ الْحِكَايَاتِ الثَّلَاثِ الَّتِي شَذَّتْ عَنِ الْجُمْهُورِ وَخَالَفَتِ الْمَسْطُورَ ، فَكَانَ بَعْضُهُمْ يَجْعَلُهَا قَوْلًا ثَانِيًا لِلشَّافِعِيِّ فِي الشَّعْرِ أَنَّهُ طَاهِرٌ لَا يَنْجَسُ بِالْمَوْتِ ، وَلَا يُحِلُّهُ رُوحٌ وَامْتَنَعَ جُمْهُورُهُمْ مِنْ تَخْرِيجِهَا قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ لِمُخَالَفَتِهَا نُصُوصَ كُتُبِهِ وَمَا تَوَاتَرَ بِهِ النَّقْلُ الصَّحِيحُ عَنْ أَصْحَابِهِ وَأَنَّهُ قَدْ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ مِنْهُ حِكَايَةُ غَيْرِهِ . وَأَمَّا شَعْرُ بَنِي آدَمَ حكم طهارته بعد موته أو انفصاله فَخَرَّجُوهُ عَلَى قَوْلَيْنِ . أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الْأَشْهَرُ عَنْهُ أَنَّهُ نَجِسٌ بَعْدَ انْفِصَالِهِ وَإِنْ عَفَى عَنْ يَسِيرِهِ ، لِأَنَّهُ شَعْرُ غَيْرِ مَأْكُولٍ . وَالثَّانِي : وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْهُ فِي الْجَدِيدِ أَنَّهُ طَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ ابْنَ آدَمَ لَمَّا اخْتُصَّ شَعْرُهُ بِالطَّهَارَةِ مَيِّتًا اخْتُصَّ شَعْرُهُ بِالطَّهَارَةِ مُنْفَصِلًا ، وَكَانَ أَبُو جَعْفَرٍ التِّرْمِذِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا يَزْعُمُ أَنَّ شَعْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْدَهُ طَاهِرٌ ، وَشَعْرُ غَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ نَجِسٌ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ حَلَقَ شَعْرَهُ بِمِنًى قَسَّمَهُ بَيْنَ أَصْحَابِهِ ، وَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَمَنَعَهُمْ مِنْهُ ، وَلَيْسَ بِمُنْكَرٍ اخْتِصَاصُ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ الْفَضِيلَةِ قِيلَ لَهُ : وَإِنْ كَانَ هَذَا دَلِيلًا عَلَى طَهَارَةِ شَعْرِهِ فَقَدْ حَجَمَهُ أَبُو طَيْبَةَ وَشَرِبَ مِنْ دَمِهِ بِحَضْرَتِهِ ، أَفَتَقُولُ إِنَّ دَمَهُ طَاهِرٌ النبي صلى الله عيله وسلم ؟ فَرَكَّبَ الْبَابَ ، وَقَالَ : أَقُولُ بِطَهَارَتِهِ ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقِرَّ أَحَدًا عَلَى مُنْكَرٍ ، وَقَدْ أَقَرَّ أَبَا طَيْبَةَ عَلَى شُرْبِهِ . قِيلَ : فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً شَرِبَتْ بَوْلَهُ فَقَالَ : " إِذًا لَا يُوجِعُكِ بَطْنُكِ " أَفَتَقُولُ بِطَهَارَةِ بَوْلِهِ النبي صلى الله عيله وسلم ؟ قَالَ : لَا ؛ لِأَنَّ الْبَوْلَ مُنْقَلِبٌ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الشَّعْرُ وَالدَّمُ ، لِأَنَّهُمَا مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ قِيلَ لَهُ : فَقَدْ بَطَلَ دَلِيلُكَ عَلَى طَهَارَةِ دَمِهِ بِإِقْرَارِهِ أَبَا طَيْبَةَ عَلَى شَرَابِهِ ، وَهَذَا قَوْلٌ مَدْخُولٌ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَسَائِرِ أُمَّتِهِ كَانَ مِنْهُمْ طَاهِرٌ وَنَجِسٌ ، وَمَا فَعَلَهُ مِنْ تَقْسِيمِ شَعْرِهِ بَيْنَ

أَصْحَابِهِ فَقَدْ أَلْقَى شَعْرَهُ مِرَارًا وَلَمْ يُقَسِّمْهُ وَلَا خَصَّ بِهِ أَحَدًا ، وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ مَرَّةً بِمِنًى ، وَقَصَدَ بِهِ أَحَدَ أَمْرَيْنِ : إِمَّا التَّوَصُّلَ إِلَيْهِمْ مِنْ بَرَكَتِهِ ، وَإِمَّا لِتَمَيُّزِ مَنْ خَصَّهُ فَيَصِيرُ ذَلِكَ لَهُمْ شَرَفًا وَفَخْرًا ، وَقَدْ أَنْكَرَ عَلَى أَبِي طَيْبَةَ شُرْبَهُ دَمَهُ وَنَهَاهُ عَنْ مِثْلِهِ وَقَالَ : حَرَّمَ اللَّهُ جِسْمَكَ عَلَى النَّارِ . فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَالْمَذْهَبُ نَجَاسَةُ الشَّعْرِ بِالْمَوْتِ لِحُلُولِ الرُّوحِ فِيهِ ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ : أَقُولُ فِيهِ لَا حَيَاةَ وَلَا أَقُولُ فِيهِ رُوحٌ ، وَهَذَا اخْتِلَافُ عِبَارَةٍ تَتَّفِقُ الْمَعْنَى فِيهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الشَّعْرُ وَالْعَظْمُ لَيْسَ بِذِي رُوحٍ ، وَلَا يَنْجَسُ بِالْمَوْتِ . وَقَالَ مَالِكٌ : الشَّعْرُ لَيْسَ بِذِي رُوحٍ وَلَا فِي الْعَظْمِ رُوحٌ تَنْجَسُ بِالْمَوْتِ . وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ لَا رُوحَ فِيهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَنْجَسُ بِالْمَوْتِ . فَأَمَّا دَلِيلُهُمْ عَلَى أَنْ لَا رُوحَ فِيهِ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْأَلَمَ مِنْ سِمَاتِ الرُّوحِ ، فَلَمَّا كَانَ وُجُودُهُ دَلِيلًا عَلَى ثُبُوتِ الْحَيَاةِ كَانَ انْتِفَاؤُهُ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ الْحَيَاةِ ، وَلَيْسَ فِي الشَّعْرِ وَالْعَظْمِ أَلَمٌ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ حَيَاةٌ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَا حَلَّتْهُ الْحَيَاةُ أَسْرَعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ بِزَوَالِ الْحَيَاةِ كَاللَّحْمِ ، فَلَمَّا كَانَ الْعَظْمُ وَالشَّعْرُ عَلَى حَالٍ وَاحِدَةٍ قَبْلَ الْمَوْتِ وَبَعْدَهُ فِي انْتِفَاءِ الْفَسَادِ عَنْهُ دَلَّ عَلَى أَنْ لَا حَيَاةَ فِيهِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ مَا حَلَّتْهُ الْحَيَاةُ فَالشَّرْعُ مَانَعَ مِنْ أَخْذِهِ مِنْهُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ كَالْجِلْدِ وَمَا لَمْ تُحِلَّهُ الْحَيَاةُ لَمْ يَمْنَعِ الشَّرْعُ مِنْ أَخْذِهِ مِنْهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ كَاللَّبَنِ ، فَلَمَّا جَازَ أَخْذُ الشَّعْرِ مِنَ الْحَيَوَانِ دَلَّ عَلَى أَنْ لَيْسَ فِيهِ حَيَاةٌ . وَأَمَّا دَلِيلُهُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْجَسُ بِالْمَوْتِ الشعر والعظم فَمِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : قَوْلُهُ تَعَالَى : وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ [ النَّحْلِ : ] فَكَانَ مِنْهَا دَلِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا يَقْتَضِيهِ عُمُومُ لَفْظِهَا مِنَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ .

وَالثَّانِي : أَنَّهُ خِطَابٌ خَرَجَ عَلَى وَجْهِ الِامْتِنَانِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ بِتَنْجِيسِ شَيْءٍ مِنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ إِسْقَاطِ الِامْتِنَانِ . وَالثَّانِي : حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ : " لَا بَأْسَ بِمَسْكِ الْمَيِّتِ إِذَا دُبِغَ وَشَعْرِهَا إِذَا غُسِلَ " ، فَمَا اقْتَضَى هَذَا الْحَدِيثُ طَهَارَةَ الشَّعْرِ بَعْدَ الْغَسْلِ ، وَالْعَيْنُ النَّجِسَةُ لَا تَطْهُرُ بِالْغَسْلِ ، دَلَّ عَلَى طَهَارَةِ الشَّعْرِ قَبْلَ الْغَسْلِ . وَالثَّالِثُ : مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سُئِلَ عَنِ الْفِرَاءِ فَقَالَ : " أَيْنَ الدِّبَاغُ " فَدَلَّ عَلَى طَهَارَةِ الشَّعْرِ بِالدِّبَاغِ . وَالرَّابِعُ : أَنَّ الْأَعْيَانَ الَّتِي لَا تَنْجَسُ بِانْفِصَالِهَا مِنَ الْحَيَوَانِ الْحَيِّ لَا تَنْجَسُ بِاتِّصَالِهَا بِالْحَيَوَانِ كَالْوَلَدِ طَرْدًا وَالْأَعْضَاءِ عَكْسًا ، فَلَمَّا لَمْ يَنْجَسِ الشَّعْرُ بِأَخْذِهِ حَيًّا لَمْ يَنْجَسْ بِاتِّصَالِهِ مَيِّتًا . وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمْ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : إِثْبَاتُ الْحَيَاةِ فِيهِ . وَالثَّانِي : نَجَاسَةُ الْمَوْتِ . فَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى ثُبُوتِ الْحَيَاةِ فَثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا : قَوْلُهُ تَعَالَى : قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ [ ، ] . وَالْإِحْيَاءُ إِنَّمَا يَكُونُ بِحَيَاةٍ تَعُودُ بِهَا إِلَى مَا قَبْلَ الْمَوْتِ . وَالثَّانِي : أَنَّ النَّمَاءَ مِنْ سِمَاتِ الْحَيَاةِ لِحُدُوثِ النَّمَاءِ بِوُجُودِهَا وَفَقْدِهِ بِزَوَالِهَا ، فَلَمَّا كَانَ الشَّعْرُ نَامِيًا فِي حَالِ الِاتِّصَالِ مَفْقُودَ النَّمَاءِ بَعْدَ الِانْفِصَالِ دَلَّ عَلَى ثُبُوتِ الْحَيَاةِ فِيهِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ مَا اتَّصَلَ نَامِيًا بِذِي حَيَاةٍ وَجَبَ أَنْ تُحِلَّهُ كَاللَّحْمِ طَرْدًا وَاللَّبَنِ عَكْسًا . وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى نَجَاسَةٍ بِالْمَوْتِ فَخَمْسَةُ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا : قَوْلُهُ تَعَالَى : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [ الْمَائِدَةِ : ] . هَذَا تَحْرِيمُ تَنْجِيسٍ لِعَدَمِ حُرْمَتِهِ وَالشَّعْرُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَيْتَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَمَسُّ مَيْتَةً يَحْنَثُ بِمَسِّهِ وَلَيْسَ إِذَا انْفَرَدَ بِاسْمٍ بَعْدَ الِانْفِصَالِ فَخَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْجُمْلَةِ فِي الِاتِّصَالِ كَاسْمِ الْإِنْسَانِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَدْخُلَ فِي عُمُومِ التَّحْرِيمِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ شَعْرٌ نَابِتٌ عَلَى مَحَلٍّ نَجِسٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَجِسًا كَشَعْرِ الْخِنْزِيرِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ مَا طَرَأَ عَلَى الْحَيَوَانِ مِنْ حَظْرٍ تَعَلَّقَ بِهِ وَبِالشَّعْرِ كَالْإِحْرَامِ .

وَالرَّابِعُ : أَنَّ مَا وَرَدَ التَّعَبُّدُ بِقَطْعِهِ فِي حَالٍ نَجِسٍ بِالْمَوْتِ قِيَاسًا عَلَى مَوْضِعِ الْخِتَانِ ، وَالتَّعَبُّدُ فِي قَطْعِ الشَّعْرِ يَكُونُ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ . وَالْخَامِسُ : أَنَّ مَا وَجَبَ الْأَرْشُ بِقَطْعِهِ لَحِقَهُ حُكْمُ التَّنْجِيسِ كَاللَّحْمِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : إِنَّ عِلَّةَ الْحَيَاةِ حُدُوثُ الْأَلَمِ فَهُوَ أَنَّ لِلْحَيَاةِ عِلَّتَيْنِ : حُدُوثُ الْأَلَمِ فِي حَالٍ ، وَوُجُودُ النَّمَاءِ فِي حَالٍ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِلَّةٌ لِلْحَيَاةِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَقْدُ الْأَلَمِ مَانِعًا مِنْ ثُبُوتِ الْحَيَاةِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَدْ يُفْقَدُ الْأَلَمُ مِنْ لَحْمِ الْعَصَبِ وَلَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْحَيَاةِ فَكَذَلِكَ الشَّعْرُ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْأَلَمَ قَدْ يَخْتَلِفُ فِي الْمَوَاضِعِ الْمُؤْلِمَةِ عَلَى حَسَبِ كَثْرَةِ الدَّمِ فِيهِ أَوْ قُرْبِهِ مِنَ الْعَصَبِ وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْحَيَاةَ مُخْتَلِفَةٌ فِيهِ بِحَسْبَ أَلَمِهِ ، فَكَذَلِكَ فِي حَالِ عَدَمِهِ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ امْتِنَاعَ الْفَسَادِ عَنْهُ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ الْحَيَاةِ مِنْهُ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ، لِأَنَّ إِسْرَاعَ الْفَسَادِ إِنَّمَا يَكُونُ لِكَثْرَةِ الرُّطُوبَةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْجِلْدَ قَبْلَ دِبَاغِهِ يُسْرِعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ لِرُطُوبَتِهِ وَبَعْدَ الدِّبَاغِ يَنْتَفِي عَنْهُ الْفَسَادُ لِذَهَابِ رُطُوبَتِهِ ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجِلْدَ لَا حَيَاةَ فِيهِ كَذَلِكَ الشَّعْرُ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِوُرُودِ الشَّرْعِ بِإِبَاحَةِ أَخْذِهِ فِي الْحَيَاةِ بِخِلَافِ اللَّحْمِ فَهُوَ أَنَّ هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْحَيَاةِ فِي اللَّحْمِ وَفَقْدِهَا فِي الشَّعْرِ ، وَلَكِنَّ أَخْذَ الشَّعْرِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ من الحيوان لَا يَضُرُّ بِالْحَيَوَانِ وَرُبَّمَا نَفَعَهُ ، فَوَرَدَ الشَّرْعُ بِإِبَاحَةِ أَخْذِهِ لِانْتِفَاءِ الضَّرَرِ عَنْهُ ، وَاللَّحْمُ فِي أَخْذِهِ مِنْهُ إِضْرَارٌ بِهِ : فَمَنَعَ الشَّرْعُ مِنْ أَخْذِهِ مِنْهُ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ [ النَّحْلِ : ] . فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهَا عَامَّةٌ وَمَخْصُوصَةٌ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الدَّلِيلِ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا مُجْمَلَةٌ لِأَنَّهُ أَبَاحَهَا إِلَى حِينٍ ، فَقَدَ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ إِلَى حِينِ الْمَوْتِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهَا تَقْتَضِي التَّبْعِيضَ ، لِأَنَّهُ قَالَ : وَمِنْ أَصْوَافِهَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مِنْهَا مَا لَا يَكُونُ أَثَاثًا ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ أَثَاثًا . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ ، فَرَاوِيهِ يُوسُفُ بْنُ السَّفْرِ ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ كَثِيرٍ ، عَنْ أَبِي سُلَيْمٍ ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَيُوسُفُ بْنُ السَّفْرِ ضَعِيفٌ ، وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّ قَوْلَهُ لَا بَأْسَ لَا يَدُلُّ عَلَى الطَّهَارَةِ وَإِنَّمَا يَقْتَضِي إِبَاحَةَ الِاسْتِعْمَالِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ شَرَطَ فِيهِ الْغَسْلَ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْغَسْلِ نَجِسًا ، وَالْغَسْلُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فَلَمْ يَكُنْ فِي ظَاهِرِهِ دَلِيلٌ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ حِينَ سُئِلَ عَنِ الْفِرَاءِ " أَيْنَ الدِّبَاغُ " يَعْنِي لِاسْتِصْلَاحِ لَبْسِهَا إِذْ لَا يَكُونُ لَبْسُهَا قَبْلَ الدِّبَاغِ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ فَإِنَّمَا لَمْ يَنْجَسْ بِمَوْتِ الْأُمِّ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مُنْفَصِلٌ عَنْهَا وَالشَّعْرُ مُتَّصِلٌ بِهَا . وَالثَّانِي : أَنَّ الْحَيَاةَ لَا تُفَارِقُ الْوَلَدَ بِمَوْتِ الْأُمِّ وَتُفَارِقُ الشَّعْرَ بِمَوْتِ الْأَصْلِ لِوُجُودِ النَّمَاءِ فِي الْوَلَدِ وَفَقْدِ النَّمَاءِ فِي الشَّعْرِ ، فَإِذَا ثَبَتَ نَجَاسَةُ الشَّعْرِ بِالْمَوْتِ فَلَا يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ ، وَلَا بِالدِّبَاغِ . وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ : وَالشَّعْرُ يَنْجَسُ بِالْمَوْتِ ، وَلَكِنْ مُطَهَّرٌ بِالْغَسْلِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : " لَا بَأْسَ بِمَسْكِ الْمَيْتَةِ إِذَا دُبِغَ وَشَعْرِهَا إِذَا غُسِلَ " وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ الْأَعْيَانَ النَّجِسَةَ لَا تَطْهُرُ بِالْغَسْلِ كَاللَّحْمِ ، وَالرَّوَثِ ، وَالْخَبَرُ مَحْمُولٌ عَلَى نَفْيِ النَّاسِ فِي إِبَاحَةِ الِاسْتِعْمَالِ فِي حُصُولِ التَّطْهِيرِ ، فَلَوْ دُبِغَ جِلْدُ الْمَيْتَةِ بِشَعْرِهِ لَطَهُرَ الْجِلْدُ دُونَ الشَّعْرِ ، لِتَأْثِيرِ الدِّبَاغَةِ فِي الْجِلْدِ دُونَ الشَّعْرِ ، وَلَا يُسْتَحَبُّ اسْتِعْمَالُهُ إِلَّا بَعْدَ إِمَاطَةِ الشَّعْرِ عَنْهُ ، فَإِنَّ اسْتِعْمَالَهُ قَبِلَ إِمَاطَتِهِ فِي يَابِسٍ جَازَ ، وَإِنَّ اسْتِعْمَالَهُ فِي ذَائِبٍ نُظِرَ ، فَإِنِ اسْتَعْمَلَهُ فِي بَاطِنِهِ الَّذِي لَا شَعْرَ عَلَيْهِ جَازَ ، وَإِنِ اسْتَعْمَلَهُ فِي ظَاهِرِهِ الَّذِي عَلَيْهِ الشَّعْرُ نَجِسَ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ قُلَّتَيْنِ مِنْ مَاءٍ فَيَكُونُ طَاهِرًا .



فَصْلٌ : فَلَوْ بَاعَ جِلْدَ الْمَيْتَةِ بَعْدَ دِبَاغَتِهِ وَقَبْلَ إِمَاطَةِ الشَّعْرِ عَنْهُ . وَقِيلَ : يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ جِلْدَ الْمَيْتَةِ إِذَا دُبِغَ وبه شعر فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَبِيعَ الْجِلْدَ دُونَ شَعْرِهِ فَبَيْعُهُ جَائِزٌ . وَالثَّانِي : أَنْ يَبِيعَهُ مَعَ شَعْرِهِ فَالْبَيْعُ فِي الشَّعْرِ بَاطِلٌ ، وَفِي الْجِلْدِ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَبِيعَهُ مُطْلَقًا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا : هَلْ يَقْتَضِي إِطْلَاقُهُ دُخُولَ الشَّعْرِ فِي الْبَيْعِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَقْتَضِي دُخُولَهُ فِي الْبَيْعٍ ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ وَلَا يَصِحُّ فِيهِ الْبَيْعُ ، فَلَمْ يَتَوَجَّهْ إِلَيْهِ الْعَقْدُ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ بَيْعُ الْجِلْدِ جَائِزًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي الْبَيْعِ لِاتِّصَالِهِ بِالْمَبِيعِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْبَيْعُ فِي الشَّعْرِ بَاطِلًا ، وَهَلْ يَبْطُلُ فِي الْجِلْدِ ؟ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ ، فَلَوْ رَأَى شَعْرًا فَلَمْ يَعْلَمْ أَطَاهِرٌ هُوَ أَمْ نَجِسٌ ، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرَابٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ مِنْ مَأْكُولِ اللَّحْمِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يُشْكَلَ هَلْ هُوَ مِنْ مَأْكُولِ اللَّحْمِ أَوْ غَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْكُولِ اللَّحْمِ فَهُوَ نَجِسٌ إِذْ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الطَّهَارَةِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ شَعْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ فَهُوَ طَاهِرٌ اعْتِبَارًا بِأَصْلِهِ ، وَأَنَّ الطَّاهِرَ أَخَذَهُ فِي حَيَاتِهِ ، وَإِنَّ شَكَّ فَلَمْ يَعْلَمْ أَمِنْ شَعْرِ مَأْكُولٍ أَوْ غَيْرِ مَأْكُولٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ مِنَ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي أُصُولِ الْأَشْيَاءِ هَلْ هِيَ عَلَى الْحَظْرِ أَوْ عَلَى الْإِبَاحَةِ : إِنَّ الْأَشْيَاءَ فِي أُصُولِهَا عَلَى الْحَظْرِ كَانَ هَذَا الشَّعْرُ نَجِسًا ، وَإِنْ قِيلَ . إِنَّهَا عَلَى الْإِبَاحَةِ كَانَ هَذَا الشَّعْرُ طَاهِرًا .

فَصْلٌ : فَأَمَّا حَمْلُ الْمَيْتَةِ - أَيْ وَلَدِ الْمَيْتَةِ - إِذَا انْفَصَلَ بَعْدَ مَوْتِهَا حَيًّا حكم طهارته فَهُوَ طَاهِرٌ ، لَكِنْ قَدْ نَجِسَ ظَاهِرُ جِسْمِهِ بِالْبَلَلِ الْخَارِجِ مَعَهُ ، وَلَوْ كَانَ قَدِ انْفَصَلَ عَنْهَا فِي حَيَاتِهَا كَانَ الْبَلَلُ الْخَارِجُ مَعَهُ ولد الميتة المنفصل بعد موتها حيا وَمَعَ الْبَيْضَةِ مِنَ الطَّاهِرِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا : أَحَدُهُمَا : نَجِسُّ كَالْبَوْلِ . وَالثَّانِي : طَاهِرٌ كَالْمَنِيِّ ، وَهَكَذَا الْبَلَلُ الْخَارِجُ مِنَ الْفَرْجِ فِي حَالِ الْمُبَاشَرَةِ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ ، فَأَمَّا مَا فِي جَوْفِ الطَّائِرِ الْمَيِّتِ مِنَ الْبَيْضِ طهارته فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ نَجِسٌ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ الِانْفِصَالِ حُرْمَتُهَا .

وَالثَّانِي : أَنَّهُ طَاهِرٌ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لِتَمَيُّزِهِ فِيهَا فَصَارَ بِالْوَلَدِ أَشْبَهَ . وَالثَّالِثُ : إِنْ كَانَ قَوِيًّا فَهُوَ طَاهِرٌ مَأْكُولٌ ، وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا رَخْوًا ، فَهُوَ نَجِسٌ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْفَيَّاضِ وَأَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْقَطَّانِ مِنْ أَصْحَابِنَا ، فَلَوْ وُضِعَتْ هَذِهِ الْبَيْضَةُ تَحْتَ طَائِرٍ فَصَارَتْ فَرْخًا بيضة أخذت من طائر ميت كَانَ الْفَرْخُ طَاهِرًا عَلَى الْمَذَاهِبِ كُلِّهَا .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْعَظْمُ ، وَالْقَرْنُ ، وَالسِّنُّ ، وَالظُّفُرُ ، وَالْخُفُّ ، وَالْحَافِرُ طهارته من الحيوان فَضَرْبَانِ : [ الْأَوَّلُ ] : ضَرْبٌ أُخِذَ مِنْ غَيْرِ مَأْكُولٍ فَهُوَ نَجِسٌ إِذْ لَا أَصْلَ لِطَهَارَةِ أَجْزَائِهِ . وَ [ الثَّانِي ] : وَضَرْبٌ أُخِذَ مِنْ مَأْكُولِ اللَّحْمِ ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الذَّكَاةِ فَهُوَ طَاهِرٌ ، لِأَنَّ الذَّكَاةَ قَدْ طَهَّرَتْ جَمِيعَ أَجْزَائِهِ سِوَى دَمِهِ ، وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ الشَّاذَّةِ أَنَّهُ قَالَ بِطَهَارَةِ دَمِهِ ، وَهَذَا قَوْلٌ مَدْفُوعٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ . فَأَمَّا الْمَأْخُوذُ مِنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ فَنَجِسُّ لِمَا دَلَّلْنَا ، وَكَذَا الْمَأْخُوذُ مِنْهُ فِي حَيَاتِهِ لِرِوَايَةِ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَا قُطِعَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ مَيِّتٌ " . فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا كَانَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ فِي حَيَاتِهِ طَاهِرًا كَالشَّعْرِ . قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الشَّعْرَ طَاهِرٌ بَارِزٌ فَصَارَ كَالْمُتَمَيِّزِ ، وَالْعَظْمَ بَاطِنٌ كَامِنٌ يَجْرِي مَجْرَى اللَّحْمِ وَالشَّحْمِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الشَّعْرَ يُسْتَخْلَفُ ، وَفِي أَخْذِهِ مَنْفَعَةٌ فَصَارَ بِاللَّبَنِ أَشْبَهَ ، وَالْعَظْمَ لَا يُسْتَخْلَفُ وَفِي أَخْذِهِ مَضَرَّةٌ بِالْأَعْضَاءِ وَإِذَا نَجِسَ الْعَظْمُ لَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغَةِ ، وَلَا بِالْغَسْلِ ، وَلَا

بِالطَّبْخِ ، وَحُكِيَ عَنِ اللَّيْثِ أَنَّ الْعَظْمَ النَّجِسَ إِذَا طُبِخَ حَتَّى خَرَجَ دُهْنُهُ صَارَ طَاهِرًا ، وَهَذَا خَطَأٌ ، لِأَنَّ عَظْمَ الْمَيْتَةِ نَجِسُ الذَّاتِ فَلَمْ يَطْهُرْ بِفِرَاقِ مَا جَافَرَهُ مِنَ الدُّهْنِ ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الذَّائِبَاتِ لَكِنْ يَجُوزُ فِي الْيَابِسَاتِ ، وَيَجُوزُ وَقُودُهُ فِي النَّارِ تَحْتَ الْقُدُورِ ، وَفِي التَّنَانِيرِ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي نَجَاسَةِ دُخَانِهِ وَدُخَانِ سَائِرِ النَّجَاسَاتِ الْمُوقَدَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ طَاهِرٌ : لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَبَاحَ الِاسْتِصْبَاحَ بِالزَّيْتِ النَّجِسِ مَعَ عِلْمِهِ بِحَالِ دُخَانِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ نَجِسٌ : لِأَنَّهُ حَادِثٌ عَنْ عَيْنٍ نَجِسَةٍ ، وَالنَّارُ لَا تُطَهِّرُ النَّجَاسَةَ ، فَعَلَى هَذَا هَلْ يُعْفَى عَنْهُ أَمْ لَا الدخان المتخلف عن حرق النجس ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُعْفَى عَنْهُ لِلُحُوقِ الْمَشَقَّةِ فِي التَّحَرُّزِ مِنْهُ وَاعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ الْمُسْتَعْمَلِ فِيهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يُعْفَى عَنْهُ : لِأَنَّ نَجَاسَتَهُ نَادِرَةٌ فَكَانَ التَّحَرُّزُ مِنْهُمَا مُمْكِنًا فَعَلَى هَذَا لَوْ حَصَلَ فِي تَنُّورٍ مَسْجُورٍ الدخان النجس وَجَبَ مَسْحُهُ قَبْلَ الْخَبْزِ فِيهِ : فَإِنْ مَسَحَهُ بِخِرْقَةٍ يَابِسَةٍ طَهُرَ ، لِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ يَابِسَةٌ زَالَتْ عَنْهُ بِالْمَسْحِ ، وَإِنْ مَسَحَهُ بِخِرْقَةٍ رَطْبَةٍ لَمْ يَطْهُرْ إِلَّا بِالْغَسْلِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَلَا بِدُهْنٍ فِي عَظْمِ فِيلٍ ، وَاحْتَجَّ بِكَرَاهِيَةِ ابْنِ عُمَرَ لِذَلِكَ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . وَالْفِيلُ فِي الْأَصْلِ طَاهِرُ الْخِلْقَةِ حَيًّا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : هُوَ نَجِسٌ ، لِأَنَّهُ سَبُعٌ ، وَالسِّبَاعُ عِنْدَهُ نَجِسَةٌ وَالْكَلَامُ مَعَهُ يَأْتِي . وَهُوَ غَيْرُ مَأْكُولٍ . وَقَالَ مَالِكٌ : هُوَ مَأْكُولٌ وَالْكَلَامُ مَعَهُ يَأْتِي مِنَ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ حَدِيثُ ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَعَنْ كُلِّ ذِي مَخْلَبٍ مِنَ الطُّيُورِ " . وَالْفِيلُ حكم طهارته وبيعه مِنْ أَعْظَمِهَا نَابًا ، وَبَيْعُهُ إِنْ كَانَ مُنْتَفَعًا بِهِ جَائِزٌ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُنْتَفَعٍ بِهِ فَبَاطِلٌ ، لِأَنَّهُ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ . فَأَمَّا إِذَا مَاتَ أَوْ ذُكِّيَ فَالْحُكْمُ فِيهِمَا قَدْ عَمَّ سوَى ، وَكُلُّهُ نَجِسٌ لَا يَطْهُرُ شَيْءٌ مِنْهُ إِلَّا جِلْدُهُ بِالدِّبَاغَةِ ، وَحَكَى عَنْ طَائِفَةٍ أَنَّ جِلْدَهُ لَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ لِثِخَنِهِ ، وَأَنَّ الدِّبَاغَةَ لَا تَصِلُ إِلَى

بَاطِنِهِ ، وَهَذَا خَطَأٌ لِمَا فِيهِ مِنْ دَفْعِ الْعِيَانِ مِنْ وُصُولِ الدِّبَاغَةِ إِلَيْهِ فَتَأْثِيرُهَا فِيهِ مَعَ الْعُمُومِ الْمُشْتَمَلِ عَلَيْهِ . فَأَمَّا عَظْمُهُ وَنَابُهُ الَّذِي هُوَ الْعَاجُ فَنَجِسٌ لَا يَطْهُرُ بِحَالٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : هُوَ طَاهِرٌ سَوَاءٌ مَاتَ أَوْ ذُكِّيَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الْعَظْمَ لَا تُحِلُّهُ الْحَيَاةُ . وَقَالَ مَالِكٌ : إِنْ ذُكِّيَ كَانَ عَظْمُهُ طَاهِرًا ، لِأَنَّهُ مَأْكُولٌ عِنْدَهُ وَإِنْ مَاتَ كَانَ نَجِسًا ، لِأَنَّ الْعَظْمَ تُحِلُّهُ الْحَيَاةُ عِنْدَهُ ، وَكِلَا الْمَذْهَبَيْنِ فَاسِدٌ ، وَمَا مَهَّدْنَا مِنَ الْأُصُولِ كَافٍ . فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ نَجِسٌ فَلَا يَطْهُرُ بِحَالٍ . وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ : طَهَارَةُ الْعَاجِ خَرْطُهُ ، فَإِذَا خُرِطَ صَارَ طَاهِرًا . وَاسْتَدَلَّ بِأَنَّهُ فِي جِهَازِ فَاطِمَةَ سِوَارَانِ مِنْ عَاجٍ . وَهَذَا غَلَطٌ : لِأَنَّ جُمْلَةَ الْعَيْنِ نَجِسَةٌ ، وَالْعَيْنُ النَّجِسَةُ لَا تَطْهُرُ بِذَهَابِ بَعْضِ الْجُمْلَةِ وَبَقَاءِ بَعْضِهَا ، وَمَا رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ فِي جِهَازِ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَامُ سِوَارَانِ مِنْ عَاجٍ ، فَقَدْ قِيلَ : إِنَّهُ مِنْ عَظْمِ بَعِيرٍ . وَقِيلَ : مِنْ ذَبْلٍ وَهُوَ عَظْمُ سَمَكَةٍ فِي الْبَحْرِ سُمِّيَ عَاجًا لِبَيَاضِهِ . فَأَمَّا اسْتِدْلَالُ الشَّافِعِيِّ بِكَرَاهَةِ ابْنِ عُمَرَ فَهِيَ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ ، لِأَنَّ عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ رَوَى أَنَّهُ كَرِهَ ، لِأَنَّهُ مَيْتَةٌ وَإِنَّمَا خَصَّ الشَّافِعِيُّ عَظْمَ الْفِيلِ بِالذِّكْرِ وَإِنْ كَانَ دَاخِلًا فِي عُمُومِ مَا بَيَّنَهُ مِنْ عَظْمِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ لِلْخِلَافِ فِيهِ وَكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ لَهُ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ أَخَذَ رَجُلٌ إِنَاءً مِنْ عَاجٍ وَاسْتَعْمَلَهُ فِي الذَّائِبَاتِ صَارَ نَجِسًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ قُلَّتَيْنِ مِنْ مَاءٍ ، وَإِنِ اسْتَعْمَلَهُ فِي يَابِسٍ كَرِهْنَاهُ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا ، وَلَوِ اتَّخَذَ مُشْطًا مِنْ عَاجٍ ثُمَّ سَرَّحَ بِهِ شَعْرَهُ كَرِهْنَاهُ ، وَإِنِ اسْتَعْمَلَهُ وَكَانَ الْمُشْطُ أَوِ الشَّعْرُ نِدِيًّا فَقَدْ نَجِسَ ، وَوَجَبَ غَسْلُ شَعْرِهِ وَإِنْ كَانَ يَابِسًا جَازَ .

كُلُّ مَأْكُولِ اللَّحْمِ إِذَا ذُكِّيَ فَجِلْدُهُ طَاهِرٌ وَاسْتِعْمَالُهُ قَبْلَ الدِّبَاغَةِ فِي الذَّائِبِ وَالْيَابِسِ جَائِزٌ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : فَأَمَا جِلْدُ كُلِّ ذَكِيٍّ يُؤْكَلُ لَحْمُهُ فَلَا بَأْسَ بِالْوُضُوءِ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يُدْبَغْ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . كُلُّ مَأْكُولِ اللَّحْمِ إِذَا ذُكِّيَ فَجِلْدُهُ طَاهِرٌ وَاسْتِعْمَالُهُ قَبْلَ الدِّبَاغَةِ فِي الذَّائِبِ وَالْيَابِسِ جَائِزٌ ، وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ وَفِيهِ مَا لَمْ يَنْجَسْ بِفَرْثٍ وَلَا دَمٍ وَلَيْسَ يُدْبَغُ لِنَجَاسَتِهِ وَلَكِنْ

لِاسْتِحْكَامِهِ وَبَقَائِهِ وَتَنْشِيفِ فُضُولِهِ الَّتِي تُسْرِعُ فِي فَسَادِهِ ، وَلِأَنَّ تَطَيُّبَ النَّفْسِ بِاسْتِعْمَالِهِ لِطِيبِ رَائِحَتِهِ .
المكروه من الآنية الذهب والفضة مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَلَا أَكْرَهُ مِنَ الْآنِيَةِ إِلَّا الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " الَّذِي يَشْرَبُ فِيِ آنِيَةِ الْفِضَّةِ إِنِّمَا يُجَرْجِرُ فِي جَوْفِهِ نَارَ جَهَنَمَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ الْأَوَانِي ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا كَانَ مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ . وَالثَّانِي : مَا كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْأَثْمَانِ ، فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ فَأَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَاسْتِعْمَالُهَا حَرَامٌ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَغَيْرِهِ . وَقَالَ دُوَادُ بْنُ عَلِيٍّ : إِنَّمَا يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهَا فِي الشُّرْبِ وَحْدَهُ دُونَ الْأَكْلِ وَغَيْرِهِ اسْتِدْلَالًا بِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " الَّذِي يَشْرَبُ فِي آنِيَةِ الْفِضَّةِ إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي جَوْفِهِ نَارَ جَهَنَّمَ " . فَلَمَّا خَصَّ الشُّرْبَ بِالذِّكْرِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِالتَّحْرِيمِ . وَبِمَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى ، أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ اسْتَسْقَى مِنْ دِهْقَانٍ بِالْمَدَائِنِ مَاءً ، فَسَقَاهُ فِي إِنَاءٍ مِنْ فِضَّةٍ ، فَحَذَفَهُ ثُمَّ اعْتَذَرَ إِلَى الْقَوْمِ فَقَالَ : إِنِّي كُنْتُ نُهِيتُهُ أَنْ تَسْقِيَنِي فِيهِ ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ فِينَا خَطِيبًا فَقَالَ : لَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلَا تَلْبَسُوا الدِّيبَاجَ وَالْحَرِيرَ فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَكُمْ فِي الْآخِرَةِ . وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ ابْنِ سِيرِينَ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " نَهَى عَنِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ " وَهَذَا نَصٌّ : لِأَنَّهُ نَهَى عَنِ الْأَكْلِ وَدَاوُدُ يُجِيزُهُ ، وَلِأَنَّ

الشُّرْبَ فِيهِ أَصْوَنُ اسْتِعْمَالًا مِنَ الِاغْتِسَالِ مِنْهُ ، فَلَمَّا كَانَ الشُّرْبُ مُحَرَّمًا ، وَكَانَ مَا سِوَاهُ أَوْلَى بِالتَّحْرِيمِ ، وَلِأَنَّ تَحْرِيمَ الشُّرْبِ فِيهِ لِأَحَدِ مَعْنَيَيْنِ : إِمَّا لِمَا فِيهِ مِنَ الْخُيَلَاءِ وَالْكِبْرِ الْمُفْضِي إِلَى الْبَغْضَاءِ وَالْمَقْتِ ، وَلِمَا فِيهِ مِنَ انْكِسَارِ قُلُوبِ الْفُقَرَاءِ الْمُفْضِي إِلَى التَّحَاسُدِ وَالتَّقَاطُعِ ، وَوُجُودُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ فِيمَا سِوَى الشُّرْبِ مِنَ الِاسْتِعْمَالِ أَكْثَرُ مِنْ وُجُودِهِ فِي الشُّرْبِ وَكَانَ بِالتَّحْرِيمِ أَحَقَّ . وَأَمَّا نَصُّهُ عَلَى الشُّرْبِ يُنَبَّهُ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الِاسْتِعْمَالِ ، كَمَا نَصَّ عَلَى الْفِضَّةِ يُنَبَّهُ بِهِ عَلَى الذَّهَبِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : " إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي جَوْفِهِ نَارَ جَهَنَّمَ " فَالْجَرْجَرَةُ : التَّصْوِيتُ . قَالَ الشَّاعِرُ : وَهُوَ إِذَا جَرْجَرَ بَعْدَ الَّهَبِ جَرْجَرَ فِي حَنْجَرِهِ كَالْحَبِّ وَقَوْلُهُ : نَارُ جَهَنَّمَ . فَالْجَرْجَرَةُ يَعْنِي : سَيَصِيرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَارًا فَعَبَّرَ عَنِ الْحَالِ بِالْمَآلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا [ النِّسَاءِ : ] . يَعْنِي : يَصِيرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَارًا . فَإِذَا ثَبَتَ تَحْرِيمُ اسْتِعْمَالِهَا فَأَكَلَ فِيهَا وَتَوَضَّأَ مِنْهَا آنية الذهب والفضة كَانَ الطَّعَامُ حَلَالًا وَالْوُضُوءُ جَائِزًا وَإِنَّمَا يَكُونُ بِالِاسْتِعْمَالِ عَاصِيًا ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْهُ لِمَعْنًى فِي الْإِنَاءِ لَا لِمَعْنًى فِي الْمَاءِ وَالطَّعَامِ بِخِلَافِ الْمَاءِ النَّجِسِ الَّذِي يَخْتَصُّ النَّهْيُ عَنْهُ لِمَعْنًى فِيهِ لَا فِي غَيْرِهِ ، وَالْأُصُولُ مُقَرَّرَةٌ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ وُرُودِ النَّهْيِ عَنِ الشَّيْءِ لِمَعْنًى فِيهِ فَتَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَبَيْنَ وُرُودِهِ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ فَلَا تَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ ، كَالنَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي بُقْعَةٍ نَجِسَةٍ لِمَا اخْتُصَّ لِمَعْنًى فِي الْبُقْعَةِ بَطَلَتْ ، وَفِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ لَمَّا اخْتُصَّ لِمَعْنًى فِي الْمَالِكِ لَمْ يَبْطُلْ وَالْأَوْلَى : لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَوَقَّى الْمَعْصِيَةَ بِأَكْلِ مَا فِي أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ أَنْ يُخْرِجَ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ مِنْهَا ثُمَّ يَأْكُلَهُ إِنْ شَاءَ " وَلَا يَعْصِي بِهِ كَمَا حُكِيَ أَنَّ فَرْقَدًا السَّبَخِيَّ ، وَالْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ حَضَرَا وَلِيمَةً بِالْبَصْرَةِ فَقُدِّمَ إِلَيْهِمَا طَعَامٌ فِي إِنَاءٍ مِنْ فِضَّةٍ فَقَبَضَ يَدَهُ عَنِ الْأَكْلِ مِنْهُ فَأَخَذَ الْحَسَنُ الْإِنَاءَ وَأَكَبَّهُ عَلَى الْخِوَانِ وَقَالَ : كُلِ الْآنَ إِنْ شِئْتَ . فَأَمَّا اتِّخَاذُ أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِلِادِّخَارِ وَالزِّينَةِ دُونَ الِاسْتِعْمَالِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ لِاخْتِصَاصِ الِاسْتِعْمَالِ بِالتَّحْرِيمِ .

وَالثَّانِي : لَا يَجُوزُ لِأَنَّ ادِّخَارَهَا دَاعٍ إِلَى اسْتِعْمَالِهَا وَمَا دَعَا إِلَى الْحَرَامِ كَانَ حَرَامًا ، كَإِمْسَاكِ الْخَمْرِ لَمَّا كَانَ دَاعِيًا إِلَى تَنَاوُلِهَا كَانَ الْإِمْسَاكُ حَرَامًا .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي : مِنَ الْأَوَانِي فَهُوَ مَا سِوَى أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا لَمْ يَكُنْ فَاخِرًا وَلَا ثَمِينًا " كَالصُّفْرِ " وَ " النُّحَاسِ " وَ " الرَّصَاصِ " وَ " الْخَشَبِ " وَ " الْحَجَرِ " فَاسْتِعْمَالُهَا جَائِزٌ إِذَا كَانَتْ طَاهِرَةً . وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ تَوَضَّأَ فِي تَوْرٍ مِنْ صُفْرٍ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ فَاخِرًا ثَمِينًا فَذَلِكَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ كَثْرَةُ ثَمَنِهِ لِحُسْنِ صَنْعَتِهِ وَلِنَفَاسَةِ جَوْهَرِهِ كَأَوَانِي الزُّجَاجِ الْمُحْكَمِ وَالْبَلُّورِ الْمَخْرُوطِ استعمالها فَاسْتِعْمَالُهَا حَلَالٌ : لِأَنَّ مَا فِيهِ مِنَ الصَّنْعَةِ لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ وَهُوَ قَبْلَ الصَّنْعَةِ لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ كَثْرَةُ ثَمَنِهِ لِنَفَاسَةِ جَوْهَرِهِ كَالْعَقِيقِ وَالْفَيْرُوزَجِ وَالْيَاقُوتِ وَالزَّبَرْجَدِ استعمال أوانيها فَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ اسْتِعْمَالَهَا حَرَامٌ : لِأَنَّ الْمُبَاهَاةَ بِهَا أَعْظَمُ ، وَالْمُفَاخَرَةَ فِي اسْتِعْمَالِهَا أَكْثَرُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ اسْتِعْمَالَهَا حَلَالٌ لِاخْتِصَاصِ خَوَاصِّ النَّاسِ بِمَعْرِفَتِهَا وَجَهْلِ أَكْثَرِ الْعَوَامِّ بِهَا ، وَالذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ يَعْرِفُ قَدْرَهُمَا الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَانِي الْمُتَّخَذَةُ مِنَ الطِّيبِ الرَّفِيعِ كَالْكَافُورِ الْمُرْتَفِعِ وَالْكَافُورِ الْمُصَاعِدِ ، وَالْمَعْجُونِ مِنَ الْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ استعمال أوانيها فَتَخْرُجُ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهَا بِحُصُولِ الْمُبَاهَاةِ وَالْمُفَاخَرَةِ بِهَا . وَالثَّانِي : لَا يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهَا لِانْصِرَافِ عَوَامِّ النَّاسِ عَنْهَا ، فَأَمَّا غَيْرُ الْمُرْتَفِعِ مِنْهَا كَالصَّنْدَلِ وَالْمِسْكِ فَاسْتِعْمَالُهَا جَائِزٌ .

يكره الْمُضَبَّبَ بِالْفِضَّةِ لِئَلَّا يَكُونَ شَارِبًا عَلَى فِضَّةٍ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَأَكْرَهُ الْمُضَبَّبَ بِالْفِضَّةِ الشرب فيه لِئَلَّا يَكُونَ شَارِبًا عَلَى فِضَّةٍ . وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، اعْلَمْ أَنَّ الْمُضَبَّبَ بِالْفِضَّةِ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ التَّضْبِيبُ فِي جَمِيعِ الْإِنَاءِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ فِي بَعْضِهِ ، فَإِنْ كَانَ التَّضْبِيبُ فِي جَمِيعِ الْإِنَاءِ حَتَّى قَدْ غَطَّى جَمِيعَهُ وَغَشَّى سَائِرَهُ فَاسْتِعْمَالُهُ حَرَامٌ كَالْمُصْمَتِ مِنْ أَوَانِي الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : اسْتِعْمَالُهُ جَائِزٌ : لِأَنَّهُ إِنَاءٌ جَاوَرَتْهُ فِضَّةٌ أَوْ ذَهَبٌ فَجَازَ اسْتِعْمَالُهُ كَمَا لَوْ أَخَذَ إِنَاءً بِكَفِّهِ وَفِيهَا خَاتَمٌ .

قَالَ : وَلِأَنَّ الْفِضَّةَ تَابِعَةٌ لِلْإِنَاءِ فَأَشْبَهَ الثَّوْبَ الْمُطَرَّزَ ، وَمَا كَانَ سِوَاهُ مِنْ حَرِيرٍ وَلُحْمَتُهُ قُطْنٌ . وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنْ شَرِبَ مِنْ إِنَاءِ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ إِنَاءٍ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ " وَهَذَا نَصٌّ ، وَلِأَنَّ غِشَاءَ الْإِنَاءِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ هُوَ إِنَاءٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ جَاوَرَهُ غَيْرُهُ ، وَأَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لَا يَحِلُّ اسْتِعْمَالُهَا لِمُجَاوَرَةِ غَيْرِهَا ، وَلِأَنَّ أَوَانِيَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إِنَّمَا حُرِّمَ اسْتِعْمَالُهَا إِمَّا لِمَا فِيهَا مِنَ الْمُبَاهَاةِ وَالْمُفَاخَرَةِ وَإِمَّا لِمَا فِيهَا مِنَ انْكِسَارِ قُلُوبِ الْفُقَرَاءِ وَإِمَّا لِمَا فِيهَا مِنْهُ السَّرَفُ ، وَكُلُّ هَذِهِ الْمَعَانِي مَوْجُودَةٌ فِي الْمُضَبَّبِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُحَرَّمًا كَتَحْرِيمِ الْمُصْمَتِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : إِنَّهُ إِنَاءٌ جَاوَرَتْهُ فِضَّةٌ أَوْ ذَهَبٌ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ إِنَاءٌ مِنْ فِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ جَاوَرَهُ غَيْرُهُ عَلَى أَنَّهُمَا لَوِ اسْتَوَيَا لَكَانَ تَغْلِيبُ الْحَظْرِ أَوْلَى . وَأَمَّا قَوْلُهُ : إِنَّ الْفِضَّةَ تَابِعَةٌ فَصَارَتْ كَالثَّوْبِ الْمَنْسُوجِ مِنْ حَرِيرٍ وَغَيْرِهِ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَجْعَلَ الْفِضَّةَ تَابِعَةً لِغَيْرِهَا فِي الْإِبَاحَةِ وَلَا لِغَيْرِهِ أَنْ يَجْعَلَ غَيْرَ الْفِضَّةِ تَابِعَةً لِلْفِضَّةِ فِي التَّحْرِيمِ ، ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَ الثَّوْبِ الْمَنْسُوجِ مِنَ الْحَرِيرِ وَغَيْرِهِ وَبَيْنَ الْإِنَاءِ مِنَ الْفِضَّةِ أَوِ الْحَرِيرِ مُبَاحٌ لِجِنْسٍ مِنَ النَّاسِ وَهُوَ النِّسَاءُ ، فَجَازَ أَنْ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ مَعَ غَيْرِهِ ، وَأَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لَمْ يَأْتِ الشَّرْعُ بِإِبَاحَتِهِ لِأَحَدٍ فَلَمْ يَعْفُ عَنْهُ مَعَ غَيْرِهِ .

فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ التَّضْبِيبُ فِي بَعْضِ الْإِنَاءِ دُونَ جَمِيعِهِ فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ بِالْفِضَّةِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ بِالذَّهَبِ فَإِنْ كَانَ بِالذَّهَبِ فَاسْتِعْمَالُهُ حَرَامٌ ، لِأَنَّ الذَّهَبَ مُبَاهَاةٌ وَسَرَفٌ ، وَإِنْ كَانَ بِالْفِضَّةِ فَعَلَى أَرْبَعَةٍ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ كَثِيرًا ، لِغَيْرِ حَاجَةٍ فَاسْتِعْمَالُهُ حَرَامٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمُبَاهَاةِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ كَثِيرًا لِحَاجَةٍ ، فَإِنْ كَانَ فِي أَعَالِيهِ وَمَوْضِعِ الشُّرْبِ مِنْهُ كَانَ اسْتِعْمَالُهُ حَرَامًا . قَالَ الشَّافِعِيُّ : لِأَنْ لَا يَكُونَ شَارِبًا عَلَى فِضَّةٍ ، وَإِنْ كَانَ فِي أَسَافِلِهِ وَغَيْرِ مَوَاضِعِ الشُّرْبِ مِنْهُ كَانَ اسْتِعْمَالُهُ مَكْرُوهًا . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا فَاسْتِعْمَالُهُ جَائِزٌ ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ لَهُ قَصْعَةٌ فِيهَا حَلْقَتَانِ فِضَّةٌ وَكَانَ لِسَيْفِهِ قَبِيعَةٌ قَائِمَةٌ فِضَّةٌ ، وَأَهْدَى فِي بُدْنِهِ عَامَ حَجِّهِ جَمَلًا لِأَبِي جَهْلٍ فِي أَنْفِهِ بُرَّةٌ مِنْ فِضَّةٍ .

وَالضَّرْبُ الرَّابِعُ : أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا لِغَيْرِ حَاجَةٍ فَاسْتِعْمَالُهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ ، وَفِي كَرَاهَةِ اسْتِعْمَالِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : غَيْرُ مَكْرُوهٍ كَالثَّوْبِ الْمُطَرَّزِ بِالْحَرِيرِ . وَالثَّانِي : مَكْرُوهٌ بِخِلَافِ الطِّرَازِ ، لِأَنَّ الْحَرِيرَ أَخَفُّ لِإِبَاحَتِهِ لِجِنْسٍ مِنَ النَّاسِ فَكَانَ حُكْمُهُ أَخَفَّ مِنَ الْفِضَّةِ الَّتِي لَمْ يَسْتَبِحْ أَوَانِيهَا لِجِنْسٍ .

لَا بَأْسَ بِالْوُضُوءِ مِنْ مَاءِ مُشْرِكٍ وَبِفَضْلِ وُضُوئِهِ مَا لَمْ يُعْلَمْ نَجَاسَتُهُ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَلَا بَأْسَ بِالْوُضُوءِ مِنْ مَاءِ مُشْرِكٍ وَبِفَضْلِ وُضُوئِهِ مَا لَمْ يُعْلَمْ نَجَاسَتُهُ فَقَدْ تَوَضَّأَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَهُ عَنْهُ - مِنْ مَاءٍ فِي جَرَّةٍ نَصْرَانِيَّةٍ " . وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . الْمُشْرِكُونَ طهارتهم عَلَى أَصْلِ الطَّهَارَةِ فِي أَبْدَانِهِمْ ، وَثِيَابِهِمْ ، وَأَوَانِيهِمْ ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ . وَحَكَى عَنْ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَدَاوُدَ أَنَّهُمْ أَنْجَاسٌ يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُ مَا لَقَوْهُ بِأَجْسَادِهِمُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [ التَّوْبَةِ : ] . فَنَصَّ عَلَى نَجَاسَتِهِمْ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ [ الْمَائِدَةِ : ] . وَمَعْلُومٌ أَنَّ طَعَامَهُمْ مَصْنُوعٌ بِأَيْدِيهِمْ وَمِيَاهِهِمْ وَفِي أَوَانِيهِمْ فَدَلَّ عَلَى طَهَارَةِ ذَلِكَ كُلِّهِ . وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرِبَ مَاءً مِنْ مَزَادَةِ وَثَنِيَّةٍ وَرُوِيَ أَنَّ عُمْرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَوَضَّأَ مِنْ جَرِّ نَصْرَانِيَّةٍ وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ يَأْذَنُ لِلْمُشْرِكِينَ فِي دُخُولِ مَسْجِدِهِ وَرَبَطَ ثُمَامَةَ بْنَ أَثَالٍ حِينَ أَسَرَهُ عَلَى سَارِيَةٍ فِي الْمَسْجِدِ ، وَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَكَانَ أَوْلَى الْأُمُورِ بِهِ تَطْهِيرُ مَسْجِدِهِ مِنْهُ ، وَلِأَنَّ الِاعْتِقَادَ لَا يُؤَثِّرُ فِي تَنْجِيسِ الْأَعْيَانِ ، وَلَوْ كَانَ بِسُوءِ مُعْتَقَدِهِ يُنَجِّسُ مَا كَانَ طَاهِرًا لَكَانَ حُسْنُ مُعْتَقَدِنَا يُطَهِّرُ مَا كَانَ نَجِسًا . فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى : إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [ التَّوْبَةِ : ] . فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ أَنْجَاسُ الْأَبْدَانِ كَنَجَاسَةِ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ ، وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ . وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ كَذَلِكَ ، وَأَوْجَبَ الْوُضُوءَ عَلَى مَنْ صَافَحَهُمْ .

وَالثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ سَمَّاهُمْ نَجَسًا ، لِأَنَّهُمْ لَا يَغْتَسِلُونَ مِنَ الْجَنَابَةِ فَصَارُوا لَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِمُ الْغُسْلُ كَالنَّجَاسَةِ الَّتِي يَجِبُ غَسْلُهَا لَا أَنَّهُمْ فِي أَبْدَانِهِمْ أَنْجَاسٌ . فَإِذَا ثَبَتَ طَهَارَةُ الْمُشْرِكِينَ فَهُمْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ . [ الْأَوَّلُ ] : ضَرْبٌ مِنْهُمْ يَرَوْنَ اجْتِنَابَ الْأَنْجَاسِ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ، وَاسْتِعْمَالُ مِيَاهِهِمْ وَالصَّلَاةُ فِي ثِيَابِهِمْ اليهود والنصارى جَائِزَةٌ . وَ [ الثَّانِي ] : ضَرْبٌ مِنْهُمْ لَا يَرَوْنَ اجْتِنَابَهَا وَلَا يَعْتَقِدُونَ الْعِبَادَةَ فِي اسْتِعْمَالِهَا كَالدَّهْرِيَّةِ وَالزَّنَادِقَةِ ، فَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُ مِيَاهِهِمْ وَالصَّلَاةُ فِي ثِيَابِهِمْ ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا الطَّهَارَةُ ، وَنَكْرَهُهَا خَوْفًا مِنْ حُلُولِ النَّجَاسَةِ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ لَا يَجْتَنِبُوهَا وَيَرَوْنَ الْعِبَادَةَ فِي اسْتِعْمَالِهَا كَالْبَرَاهِمَةِ مِنَ الْهِنْدِ ، وَطَائِفَةٌ مِنَ الْمَجُوسِ يَرَوْنَ اسْتِعْمَالَ الْأَبْوَالِ قُرْبَةً ، فَاسْتِعْمَالُ مِيَاهِهِمْ جَائِزٌ وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا ، وَأَمَّا الصَّلَاةُ فِي ثِيَابِهِمْ المشركين فَيَجُوزُ فِيمَا لَمْ يَلْبَسُوهُ كَثِيرًا كَالْيَوْمِ أَوْ بَعْضِهِ ، وَأَمَّا مَا كَثُرَ لِبَاسُهُمْ لَهَا حَتَّى طَالَ زَمَانُهُمْ فِيهَا ، فَفِي جَوَازِ الصَّلَاةِ فِيهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ ، لَا يَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهَا ، وَمَنْ صَلَّى فِيهَا فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ ، لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيهَا حُلُولُ النَّجَاسَةِ كَالْمُسْلِمِ الَّذِي لَا يَخْلُو لِبَاسُهُ إِذَا طَالَ عَلَيْهِ مِنْ حُلُولِ الْمَاءِ فِيهِ ، لِأَنَّهُ يَسْتَعْمِلُهُ عِبَادَةً فَلَمْ يَنْفَكَّ مِنْهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ الصَّلَاةَ فِيهَا جَائِزَةٌ وَإِنْ كُرِهَتْ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا الطَّهَارَةُ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ نَجَاسَتَهَا بِالشَّكِّ ، وَأَشَدُّ مَا يُكْرَهُ مِنْ ثِيَابِ مَنْ لَا يَجْتَنِبُ الْأَنْجَاسَ الْمَيَارِزَ وَالسَّرَاوِيلَاتِ ، فَأَمَّا أَوَانِي الْمُشْرِكِينَ استعمالها ، فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ لَا يَرَى أَكْلَ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ جَازَ اسْتِعْمَالُ أَوَانِيهِمْ ، وَمَنْ كَانَ يَرَى أَكْلَهُ ، فَفِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِهَا إِذَا طَالَ اسْتِعْمَالُهُمْ لَهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ لَا يَجُوزُ ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ نَجَاسَتُهَا ، وَقَدْ رَوَى أَبُو قِلَابَةَ ، عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ قَالَ : سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ : إِنَّا بِأَرْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ ، وَأَنَا مُحْتَاجٌ إِلَى آنِيَتِهِمْ ، فَقَالَ : فَارْحَضُوهَا بِالْمَاءِ ثُمَّ اطْبُخُوا فِيهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ اسْتِعْمَالَهَا جَائِزٌ ، وَإِنْ كُرِهَتِ اعْتِبَارًا بِالْأَصْلِ فِي طَهَارَتِهَا ، وَإِسْقَاطُهَا بِحُكْمِ الشَّكِّ فِي نَجَاسَتِهَا غَيْرُ مُسْتَحَبٍّ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ السِّوَاكِ

استحباب السِّوَاكَ لِلصَّلَوَاتِ

بَابُ السِّوَاكِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَأُحِبُّ السِّوَاكَ لِلصَّلَوَاتِ ، وَعِنْدَ كُلِّ حَالٍ تَغَيَّرَ فِيهَا الْفَمُ ، لِلِاسْتِيقَاظِ مِنَ النَّوْمِ وَالْأَدَمِ وَكُلِّ مَا يُغَيِّرُ الْفَمَ ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ " . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَأَمَرَهُمْ بِهِ شَقَّ أَوْ لَمْ يَشُقَّ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، السِّوَاكُ حكمه عِنْدَنَا سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ ، وَفَضِيلَةٌ حَسَنَةٌ ، لِمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ ، عَنِ ابْنِ أَبِي عَتِيقٍ ، عَنْ عَائِشَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ . وَرُوِيَ مَثْرَاةٌ لِلْمَالِ ، مَنْمَاةٌ لِلْوَلَدِ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " طَهِّرُوا أَفْوَاهَكُمْ بِالسِّوَاكِ ، فَإِنَّهَا مَسَالِكُ الْقُرْآنِ .

وَرُوِيَ أَنَّ النَاسَ اسْتَبْطَأُوا الْوَحْيَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَكَيْفَ لَا يُبْطِئُ وَأَنْتُمْ لَا تُسَوِّكُونَ أَفْوَاهَكُمْ ، وَلَا تُقَلِّمُونَ أَظْفَارَكُمْ ، وَلَا تَنْقَعُونَ بَرَاجِمَكُمْ . وَرَوَى الزُّبَيْرُ ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : عَشْرٌ مِنَ الْفِطْرَةِ : قَصُّ الشَّارِبِ ، وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ ، وَالسِّوَاكُ ، وَالْمَضْمَضَةُ ، وَالِاسْتِنْشَاقُ ، وَقَصُّ الْأَظْفَارِ ، وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ ، وَنَتْفُ الْإِبْطِ ، وَحَلْقُ الْعَانَةِ ، وَانْتِفَاضُ الْمَاءِ يَعْنِي : " الِاسْتِنْجَاءَ " . فَإِذَا ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ السِّوَاكَ مَأْمُورٌ بِهِ ، فَهُوَ سُنَّةٌ لَيْسَ بِوَاجِبٍ ، وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ : السِّوَاكُ وَاجِبٌ ، لَكِنْ لَا يَقْدَحُ تَرْكُهُ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ . وَقَالَ إِسْحَاقُ ابْنُ رَاهْوَيْهِ : السِّوَاكُ وَاجِبٌ ، فَإِنْ تَرَكَهُ عَامِدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ ، وَإِنْ تَرَكَهُ نَاسِيًا لَمْ تَبْطُلْ ، وَاسْتَدَلَّا جَمِيعًا عَلَى وُجُوبِهِ بِمَا رُوِيَ أَنَّ قَوْمًا دَخَلُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَى فِي أَسْنَانِهِمْ صُفْرَةً ، فَقَالَ : مَا لِي أَرَاكُمْ تَدْخُلُونَ عَلَيَّ قُلْحًا اسْتَاكُوا . وَهَذَا أَمْرٌ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ ، وَالْقَلَحُ فِي الْأَسْنَانِ : الصُّفْرَةُ . وَرَوَى سُفْيَانُ ، عَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالسِّوَاكِ حَتَى خَشِيتُ أَنْ يَدْرِدَنِي " . أَيْ : تَتَنَاثَرُ أَسْنَانِي ، فَأَصِيرُ أَدْرَدَ مِنْ كَثْرَةِ السِّوَاكِ ، وَمِنْ قَوْلِ الشَّاعِرِ : أَخَذْتُ بِالْجُمَّةِ رَأْسًا ارْعَوَا وَبِالثَّنَايَا الْوَاضِحَاتِ الدَرْدَرَا وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ ، مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ ، عَنِ الْأَعْرَجِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِتَأْخِيرِ

الْعِشَاءِ وَبِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِ صَلَاةٍ . وَفِيهِ دَلِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ ، أَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا ، لَأَمَرَهُمْ بِهِ ، شَقَّ أَوْ لَمْ يَشُقَّ . وَالثَّانِي : أَنَّ قَوْلَهُ : " لَأَمَرْتُهُمْ " بِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِهِ ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالسِّوَاكِ حَتَّى خَشِيتُ أَنْ يَفْرِضَهُ " . فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُفْرَضْ ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : " كُتِبَ الْوِتْرُ عَلَيَّ وَلَمْ يُكْتَبْ عَلَيْكُمْ ، وَكُتِبَ الْأَضْحَى عَلَيَّ وَلَمْ يُكْتَبْ عَلَيْكُمْ وَكُتِبَ السِّوَاكُ عَلَيَّ وَلَمْ يُكْتَبْ عَلَيْكُمْ " . وَهَذَا نَصٌّ ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : اسْتَاكُوا فَهُوَ أَنَّهُ أَمَرَ بِهِ لِإِزَالَةِ الْقَلَحِ ، وَإِزَالَةُ الْقَلَحِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ ، وَكَذَلِكَ السِّوَاكُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ ، وَأَمَّا الْخَبَرُ الْآخَرُ ، فَقَدْ بَيَّنَهُ " حَتَّى خَشِيتُ أَنْ يَفْرِضَهُ " فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ ، فَهُوَ مُسْتَحَبٌّ فِي خَمْسَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : عِنْدَ الْقِيَامِ مِنَ النَّوْمِ استعمال السواك ، لِرِوَايَةِ أَبِي وَائِلٍ ، عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَيْلِ ، شَوَّصَ فَاهُ بِالسِّوَاكِ . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : الشَّوْصُ الْغَسْلُ . وَالْمَوْصُ مِثْلُهُ ، وَأَنْشَدَ لِامْرِئِ الْقَيْسِ : بِأَسْوَدَ مُلْتَفِّ الْغَدَائِرِ وَارِدٌ وَذِي أُشُرٍ تُسُوفُهُ وَتَشُوصُ وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : عِنْدَ الْوُضُوءِ لِلصَّلَاةِ استعمال السواك ، لِرِوَايَةِ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ ، عَنْ عَائِشَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُوضَعُ لَهُ وُضُوءُهُ وَسِوَاكُهُ .

وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : عِنْدَ الْقِيَامِ إِلَى الصَّلَاةِ استعمال السواك ، لِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِالْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ ، طَاهِرًا كَانَ أَوْ غَيْرَ طَاهِرٍ ، فَلَمَّا شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ ، أَمَرَ بِالسِّوَاكِ لِكُلِّ صَلَاةٍ . وَالْحَالَةُ الرَّابِعَةُ : عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : " السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ ، مَرْضَاةٌ لِلرَبِّ " . وَالْفَمُ قَدْ يَتَغَيَّرُ فِي أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ : إِمَّا عِنْدَ كَثْرَةِ الْكَلَامِ ، وَإِمَّا بِطُولِ السُّكُوتِ ، وَإِمَّا بِشِدَّةِ الْجُوعِ ، وَإِمَّا لِأَكْلِ مَا يُغَيِّرُ الْفَمَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُرِيحَةِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَالِاسْتِيقَاظُ مِنَ النَّوْمِ ، وَالْأَزْمُ ، وَفِي الْأَزْمِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ الْجُوعُ ، وَمِنْهُ مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَأَلَ الْحَارِثَ بْنَ كَلَدَةَ ، وَكَانَ طَبِيبَ الْعَرَقِ فَقَالَ : مَا أَلَذُّ ؟ فَقَالَ : الْأَكْلُ ، فَقَالَ : وَمَا الدَّوَاءُ ؟ قَالَ : الْأَزْمُ . يَعْنِي الْجُوعَ وَالِاحْتِمَاءَ . وَقَالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ : الْمُطْعِمُونَ إِذَا مَا أَزْمَةٌ وَالطَّيِّبُونَ ثِيَابًا كُلَّمَا عَرِقُوا وَالثَّانِي : أَنَّهُ السُّكُوتُ ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ : الْإِمْسَاكُ ، فَتَارَةً يُقَرِّبُهُ عَنِ الْجُوعِ ، لِأَنَّهُ إِمْسَاكٌ عَنِ الْأَكْلِ ، وَتَارَةً يُعَبِّرُ بِهِ عَنِ السُّكُوتِ ، لِأَنَّهُ إِمْسَاكٌ عَنِ الْكَلَامِ . فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا ، فَقَدْ قَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ : السِّوَاكُ مَأْخُوذٌ مِنَ الِاضْطِرَابِ وَالتَّحَرُّكِ ، مِنْ قَوْلِهِمْ : تَسَاوَكَتِ الْإِبِلُ ، إِذَا اضْطَرَبَتْ أَعْنَاقُهَا مِنَ الْهُزَالِ ، وَأَنْشَدَ قَوْلَ الشَّاعِرِ : إِلَى اللَّهِ أَشْكُو مَا أَرَى بِجِيَادِنَا تَسَاوَكُ هَزْلَى مُخُّهُنَّ قَلِيلُ

صِفَةِ السِّوَاكِ وَمَا يُسْتَحَبُّ بِهِ السِّوَاكُ

وَالْكَلَامُ فِي السِّوَاكِ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي صِفَةِ السِّوَاكِ . وَالثَّانِي : مَا يُسْتَحَبُّ بِهِ السِّوَاكُ . فَأَمَّا صِفَةُ السِّوَاكِ ، فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَاكَ عَرْضًا فِي ظَاهِرِ الْأَسْنَانِ وَبَاطِنِهَا ، وَيَمُرُّ السِّوَاكُ عَلَى أَطْرَافِ أَسْنَانِهِ ، وَكَرَاسِيِّ أَضْرَاسِهِ ، لِيُجْلُوا جَمِيعًا مِنَ الصُّفْرَةِ وَالتَّغَيُّرِ ، وَمَمَرُّهُ عَلَى سَقْفِ حَلْقِهِ إِمْرَارًا خَفِيفًا لِيَزُولَ الْخُلُوفُ عَنْهُ ، فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَشُوصُ فَاهُ

بِالسِّوَاكِ ، وَيَكْرَهُ أَنْ يَسْتَاكَ طُولًا مِنْ أَطْرَافِ أَسْنَانِهِ إِلَى عَمُودِهِ ، لِمَا فِيهِ مِنْ إِدْمَاءِ اللِّثَةِ ، وَفَسَادِ الْعَمُودِ ، وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " اسْتَاكُوا عَرْضًا وَادَّهِنُوا غِبًّا وَاكْتَحِلُوا وِتْرًا " وَإِنَّمَا اخْتَارَهُ أَنْ يَدَّهِنَ غِبًّا ، وَلَا يَدَّهِنُ فِي كُلِّ يَوْمٍ ، لِمَا فِيهِ مِنْ دَرَنِ الثَّوْبِ ، وَتَنْمِيسِ الشَّعْرِ ، وَكَذَلِكَ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَثْرَةِ الْأَدْفَاهِ ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : هُوَ كَثْرَةُ التَّدْهِينِ ، وَإِنَّمَا يُرَادُ الدُّهْنُ لِتَحْسِينِ الْبَشَرَةِ ، وَإِذْهَابِ النَّوْسِ . وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " ادَّهِنُوا يَذْهَبِ النَّوْسُ عَنْكُمْ ، وَالْبَسُوا تَظْهَرْ نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ، وَأَحْسِنُوا إِلَى مَمَالِيكِكُمْ ، فَإِنَّهُ أَكْبَتُ لِعَدُوِّكُمْ ، وَأَدْفَعُ لِنَقْمَةِ اللَّهِ عَنْكُمْ " ، فَأَمَّا مَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُسْتَاكَ بِهِ ، فَهُوَ الْأَرَاكُ ، لِرِوَايَةِ أَبِي خَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْتَاكُ بِالْأَرَاكِ ، فَإِنْ تَعَذَّرَ الْأَرَاكُ ، اسْتَاكَ بِعَرَاجِينِ النَّخْلِ ، فَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ ، اسْتَاكَ بِمَا وَجَدَهُ تعذر عليه سواك الآراك ، وَيَخْتَارُ أَنْ يَكُونَ الْعُودُ الَّذِي يَسْتَاكُ بِهِ صفته نَدِيًّا ، وَلَا يَكُونَ يَابِسًا فَيَجْرَحَ ، وَلَا رَطْبًا فَلَا تَبْقَى ، فَلَوْ لَفَّ عَلَى أُصْبُعِهِ خِرْقَةً خَشِنَةً وَأَمَرَّهَا عَلَى أَسْنَانِهِ حَتَّى زَالَ الصُّفْرَةَ وَالْخُلُوفَ ، فَقَدْ أَتَى بِسُنَّةِ السِّوَاكِ ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ : لِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ الْعُودِ فِي الْإِنْقَاءِ ، فَأَمَّا خِلَالُ أَسْنَانِهِ بِالْحَدِيدِ ، أَوْ بَرْدُهَا بِالْمِبْرَدِ ، فَمَكْرُوهٌ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يُذِيبُ الْأَسْنَانَ وَيُفْضِي إِلَى انْكِسَارِهَا . وَالثَّانِي : أَنَّهَا تَخْشُنُ فَتُرَاكِبُ الصُّفْرَةُ وَالْخُلُوفُ فِيهَا ، وَلِذَلِكَ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَاشِرَةَ وَالْمُسْتَوْشِرَةَ ، وَهِيَ : الَّتِي تُبَرِّدُ أَسْنَانَهَا بِالْمِبْرَدِ ، فَأَمَّا الصَّائِمُ السواك للصائم ، فَلَا يَأْمَنُ أَنْ يَسْتَاكَ غَدْوَةً ، وَيُكْرَهَ لَهُ أَنْ يَسْتَاكَ عَشِيًّا عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ ، فَإِنِ اسْتَاكَ عَشِيًّا لَمْ يَفْسُدْ صَوْمُهُ وَإِنْ أَسَاءَ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - .

بَابُ نِيَّةِ الْوُضُوءِ

لَا يُجْزِئُ طَهَارَةٌ مِنْ غُسْلٍ وَلَا وُضُوءَ إِلَّا بِنِيَّةٍ

بَابُ نِيَّةِ الْوُضُوءِ قَالَ الشَافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَلَا يُجْزِئُ طَهَارَةٌ مِنْ غُسْلٍ وَلَا وُضُوءَ إِلَّا بِنِيَّةٍ ، وَاحْتَجَّ عَلَى مَنْ أَجَازَ الْوُضُوءَ بِغَيْرِ نِيَّةٍ بِقَوْلِهِ : إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ، وَلَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ إِلَّا بِنِيَّةٍ وَهُمَا طَهَارَتَانِ فَكَيْفَ يَفْتَرِقَانِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : الطَّهَارَةُ ضَرْبَانِ مِنْ نَجَسٍ وَحَدَثٍ . فَأَمَّا طَهَارَةُ النَّجَسِ فَلَا تَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ إِجْمَاعًا لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ إِزَالَةَ النَّجَاسَةِ إِنَّمَا هُوَ تَعَبُّدُ مُفَارَقَةٍ وَتَرْكٍ ، وَالتُّرُوكُ لَا تَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ كَسَائِرِ مَا أُمِرَ بِاجْتِنَابِهِ فِي عِبَادَاتِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا طَهَّرَ مَا أَصَابَتْهُ النَّجَاسَةُ مِنَ الْأَرْضِ وَالثَّوْبِ بِمُرُورِ السَّيْلِ عَلَيْهِ وَإِصَابَةِ الْمَاءِ لَهُ عُلِمَ أَنَّ الْقَصْدَ فِيهِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ ، وَأَنَّ النِّيَّةَ فِي إِزَالَتِهِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ . فَأَمَّا طَهَارَةُ الْحَدَثِ فَلَا تَصِحُّ إِلَّا بِنِيَّةٍ سَوَاءٌ كَانَتْ بِمَائِعٍ كَالْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ ، أَوْ بِجَامِدٍ كَالتُّرَابِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَأَحْمَدُ ، وَإِسْحَاقُ ، وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْحِجَازِ . وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ ، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ الْكُوفِيُّ تَصِحُّ بِغَيْرِ نِيَّةٍ سَوَاءٌ كَانَتْ بِمَائِعٍ أَوْ جَامِدٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ : الطَّهَارَةُ بِالْمَاءِ لَا تَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ ، وَالتَّيَمُّمُ بِالتُّرَابِ يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [ الْمَائِدَةِ : ] . فَأَمَرَ بِغَسْلِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ وَلَمْ يَذْكُرِ النِّيَّةَ . وَفِي إِيجَابِهَا مَا يُخْرِجُ الْغَسْلَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ جَوَازُ الصَّلَاةِ ، وَذَلِكَ نَسْخٌ لِأَنَّهُ إِبْطَالُ حُكْمِهِ ، وَفِي إِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّ آيَةَ الطَّهَارَةِ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ مَا يُوجِبُ مَنْعَ

الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا ، وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ : كَيْفَ أَتَوَضَّأُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ : تَوَضَأْ كَمَا أَمَرَكَ اللَّهُ ، اغْسِلْ وَجْهَكَ وَذِرَاعَيْكَ وَامْسَحْ بِرَأْسِكَ وَاغْسِلْ رِجْلَيْكَ . فَأَجَابَهُ عَلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ مِنْ غَسْلِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ دُونَ النِّيَّةِ . قَالُوا : وَلِأَنَّهَا طَهَارَةٌ بِالْمَاءِ فَوَجَبَ أَلَّا تَفْتَقِرَ إِلَى نِيَّةٍ كَإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ . قَالُوا : وَلِأَنَّهُ أَصْلٌ يُسْتَبَاحُ بِهِ الصَّلَاةُ فَوَجَبَ أَلَّا يَفْتَقِرَ إِلَى نِيَّةٍ كَسَتْرِ الْعَوْرَةِ . قَالُوا : وَلِأَنَّ النِّيَّةَ لَوْ كَانَتْ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الطَّهَارَةِ لَمَا صَحَّ غُسْلُ الذِّمِّيَّةِ مِنَ الْحَيْضِ ، وَلَمَا اسْتَبَاحَ الزَّوْجُ الْمُسْلِمُ وَطْأَهَا ، وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى صِحَّةِ غُسْلِهَا وَجَوَازِ وَطْئِهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النِّيَّةَ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ طَهَارَتِهَا . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [ الْبَيِّنَةِ : ] [ فَأُمِرُوا ] بِالْإِخْلَاصِ فِي الْعِبَادَةِ ، وَالْإِخْلَاصُ عَمَلُ الْقَلْبِ . وَقَالَ تَعَالَى : إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [ الْمَائِدَةِ : ] . وَمِنْهَا دَلِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أنَّ قَوْلَهُ : فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [ الْمَائِدَةِ : ] . يَعْنِي : لِلصَّلَاةِ فَحُذِفَ ذِكْرُهَا اكْتِفَاءً بِمَا تَقَدَّمَ مِنْهُ كَمَا يُقَالُ : إِذَا رَأَيْتَ الْأَمِيرَ فَقُمْ . يَعْنِي لِلْأَمِيرِ . وَإِذَا رَأَيْتَ الْأَسَدَ فَتَأَهَّبْ . يَعْنِي لِلْأَسَدِ ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [ الْمَائِدَةِ : ] . يَعْنِي لِلسَّرِقَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ قَوْلَهُ : إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا [ الْمَائِدَةِ : ] . يَعْنِي : قَبْلَ قِيَامِكُمْ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ لِإِرَادَةِ الصَّلَاةِ . وَمِنَ السُّنَّةِ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيِّ قَالَ : سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَلَى الْمِنْبَرِ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى

اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ . وَالدَّلَالَةُ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَوْلُهُ : إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ . وَلَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ إِثْبَاتَ وُجُودِهَا ، لِأَنَّهَا قَدْ تُوجَدُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهَا إِثْبَاتُ حُكْمِهَا . وَالثَّانِي : قَوْلُهُ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ، فَكَانَ دَلِيلُ خِطَابِهِ أَنْ لَيْسَ لَهُ مَا لَمْ يَنْوِهِ ، عَلَى أَنَّ قَوْلَهُمْ إِنَّمَا هِيَ مَوْضُوعَةٌ فِي اللُّغَةِ لِإِثْبَاتٍ مَا اتَّصَلَ بِهَا وَنَفْيِ مَا انْفَصَلَ عَنْهَا . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " لَا يَقْبَلُ اللَّهُ قَوْلًا إِلَّا بِعَمَلٍ وَلَا قُوَةً وَلَا عَمَلًا إِلَّا بِنِيَّةٍ . وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَنْظُرُ إِلَى أَعْمَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى نِيَّاتِكُمْ " . ثُمَّ الدَّلِيلُ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنَّهَا طَهَارَةٌ مِنْ حَدَثٍ فَوَجَبَ أَنْ تَفْتَقِرَ إِلَى النِّيَّةِ كَالتَّيَمُّمِ ، فَإِنْ قِيلَ : قِيَاسُ الْوُضُوءِ عَلَى التَّيَمُّمِ غَيْرُ جَائِزٍ ، لِأَنَّ الْوُضُوءَ أَصْلٌ وَالتَّيَمُّمَ فَرْعٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ حُكْمُ الْأَصْلِ مِنَ الْفَرْعِ . قِيلَ : التَّيَمُّمُ بَدَلٌ مِنَ الْوُضُوءِ وَلَيْسَ بِفَرْعٍ لَهُ ، لِأَنَّ فَرْعَ الْأَصْلِ مَا كَانَ حُكْمُهُ مَأْخُوذًا مِنْ ذَلِكَ الْأَصْلِ . وَلَيْسَ حُكْمُ التَّيَمُّمِ مَأْخُوذًا مِنَ الْوُضُوءِ ، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْمُبْدَلِ مَأْخُوذًا مِنْ بَدَلِهِ إِذَا كَانَ الْبَدَلُ مُجْتَمِعًا عَلَى حُكْمِهِ ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَرْجِعُ فِي حَالِ الْعُذْرِ إِلَى شَرْطِهَا . فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ شَطْرَهَا كَالصَّلَاةِ ، فَإِنْ مَنَعُوا أَنْ يَكُونَ الْوُضُوءُ عِبَادَةً كَانَ نِزَاعًا مُطْرَحًا ، لِأَنَّ الْعِبَادَةَ مَا وَرَدَ التَّعَبُّدُ بِهِ قُرْبَةً لِلَّهِ ، وَهَذِهِ صِفَةُ الْوُضُوءِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " الْوُضُوءُ شَطْرُ الْإِيمَانِ " وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالَتَهُ فَمِنَ الْمُحَالِ أَلَّا تَكُونَ عِبَادَةً ، وَلِأَنَّ كُلَّ عَمَلٍ كَانَتِ النِّيَّةُ شَرْطًا فِي بَدَلِهِ كَانَتِ النِّيَّةُ شَرْطًا فِي مُبْدَلِهِ كَالْكَفَّارَاتِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا افْتَقَرَ نَقْلُهُ إِلَى النِّيَّةِ افْتَقَرَ فَرْضُهُ إِلَى النِّيَّةِ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ .

وَبَيَانُهُ : أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ أَوْجَبَ النِّيَّةَ فِي تَجْدِيدِ الْوُضُوءِ فَاقْتَضَى أَنْ تَجِبَ النِّيَّةُ فِي فَرْضِهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْآيَةِ فَهُوَ أَنَّ وَجْهَيِ اسْتِدْلَالِنَا يَمْنَعُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْنَا بِهَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِحَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ فَهُوَ : أَنَّ فِي قَوْلِهِ : تَوَضَّأْ كَمَا أَمَرَكَ اللَّهُ ، وَقَدْ ثَبَتَ بِمَا ذَكَرَنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَمَرَ بِالنِّيَّةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَمْرَ الْأَعْرَابِيِّ مُتَضَمِّنٌ النِّيَّةَ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ قَوْلَهُ طَهَارَةٌ بِالْمَاءِ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْأَصْلِ ، لِأَنَّ إِزَالَةَ النَّجَاسَةِ بِالْجَامِدِ وَالْمَانِعِ سَوَاءٌ فِي سُقُوطِ النِّيَّةِ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الْأَصْلِ سَقَطَ اعْتِبَارُهُ وَانْتَقَضَتِ النِّيَّةُ بِالتَّيَمُّمِ . وَالثَّانِي : أَنَّا نَقْلِبُهُ عَلَيْهِمْ ، فَنَقُولُ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ الطَّهَارَةُ بِالْمَائِعِ وَالْجَامِدِ فَيَ اعْتِبَارِ النِّيَّةِ قِيَاسًا عَلَى إِزَالَةِ الْأَنْجَاسِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ إِزَالَةَ الْأَنْجَاسِ طَرِيقُهَا التَّرْكُ ، وَالتُّرُوكُ لَا تَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ . كَتَرْكِ الرِّبَا وَالْقَتْلِ وَالْغَصْبِ ، وَالْوُضُوءُ فِعْلٌ ، وَالْفِعْلُ مِنْ شَرْطِهِ النِّيَّةُ كَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَالصَّوْمِ ، مَخْصُوصٌ مِنْ سَائِرِ التُّرُوكِ بِإِيجَابِ النِّيَّةِ فِيهِ ، وَالْقِيَاسِ عَلَى الْجُمْلَةِ دُونَ الْمَخْصُوصِ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي النَّجَاسَةِ أَنَّهَا طَهَارَةٌ لَا تَتَعَدَّى إِلَى مَحَلِّ مُوجِبِهَا . وَالْحَدَثُ يَتَعَدَّى مَحَلَّ مُوجِبِهِ كَالتَّيَمُّمِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ ، عَلَى سَتْرِ الْعَوْرَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ حكمه لغير الصلاة لَا يَخْتَصُّ بِالصَّلَاةِ ، لِأَنَّهُ وَاجِبٌ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِ الصَّلَاةِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الطَّهَارَةُ لِاخْتِصَاصِهَا بِالصَّلَاةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ لِلصَّلَاةِ مُقَارِنٌ لِلصَّلَاةِ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا ، فَاكْتَفَى بِنِيَّةِ الصَّلَاةِ كَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ حَالُ الْوُضُوءِ ، لِأَنَّ فِعْلَهُ يَتَقَدَّمُ الصَّلَاةَ ، وَإِنَّمَا يَسْتَصْحِبُ حُكْمَهُ فِي الصَّلَاةِ فَلَمْ يُجِزْهُ نِيَّةُ الصَّلَاةِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِطَهَارَةِ الذِّمِّيَّةِ فَهُوَ : أَنَّ طَهَارَتَهَا غَيْرُ مُجْزِئَةٍ ، وَكَذَلِكَ لَزِمَهَا إِعَادَةُ الطَّهَارَةِ إِذَا أَسْلَمَتْ ، وَإِنَّمَا أَجَزْنَا غَسْلَهَا فِي حَقِّ الزَّوْجِ ، لِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ مُضَيَّقٌ ، وَفِي مَنْعِهِ مِنْ وَطْئِهَا إِلَّا بَعْدَ إِسْلَامِهَا تَفْوِيتٌ لِحَقِّهِ وَمَنْعٌ مِنْ تَزْوِيجِ أَهْلِ الذِّمَّةِ ، فَصَارَتْ كَالْمَجْنُونَةِ الَّتِي يَسْتَبِيحُ زَوْجُهَا وَطْأَهَا إِذَا اغْتَسَلَتْ فِي جُنُونِهَا بِغَيْرِ نِيَّةٍ غسل المجنونة لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ ، وَلَوْ أَفَاقَتْ لَمْ يَجُزْ وَطْؤُهَا إِذَا اغْتَسَلَتْ إِلَّا بِنْيَةٍ ، كَذَلِكَ الذِّمِّيَّةُ يَجُوزُ وَطْؤُهَا إِذَا اغْتَسَلَتْ مِنْ حَيْضِهَا بِغَيْرِ نِيَّةٍ ، وَلَوْ أَسْلَمَتْ لَمْ يَجُزْ وَطْؤُهَا إِذَا اغْتَسَلَتْ إِلَّا بِنِيَّةٍ .

إِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ النِّيَّةِ فِي طَهَارَةِ الْحَدَثِ فَقَدْ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ وُضُوءٌ وَغُسْلٌ وَتَيَمُّمٌ

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ النِّيَّةِ فِي طَهَارَةِ الْحَدَثِ فَقَدْ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : وُضُوءٌ ، وَغُسْلٌ ، وَتَيَمُّمٌ ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي وُجُوبِ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ .

فَأَمَّا الْغُسْلُ فَقَدْ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : فَرْضٌ عَلَى الْأَعْيَانِ ، وَفَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ ، وَمَسْنُونٌ . فَأَمَّا فَرْضُ الْأَعْيَانِ فَثَلَاثَةٌ : الْأَوَّلُ : غُسْلُ الْجَنَابَةِ والنيه فيه ، وَالثَّانِي : غُسْلُ الْحَيْضِ والنيه فيه ، وَالثَّالِثُ : غُسْلُ النِّفَاسِ والنيه فيه ، وَالنِّيَّةُ فِيهَا مُسْتَحَقَّةٌ لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَتِ النِّيَّةُ فِي الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى كَانَ وُجُوبُهَا فِي الطَّهَارَةِ الْكُبْرَى أَوْلَى . فَأَمَّا الْمَسْنُونُ فَغُسْلُ الْجُمُعَةِ ، وَالْعِيدَيْنِ والنيه فيه ، وَمَا يَسْتَوْفِي عَدَدَهُ فِي مَوْضِعِهِ ؛ فَالنِّيَّةُ مُسْتَحَقَّةٌ لِيَمْتَازَ بِهَا عَمَّا لَيْسَ بِعِبَادَةٍ مِنَ الْغُسْلِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ كَانْتِ النِّيَّةُ مُسْتَحَقَّةً فِي فَرْضِهَا كَانَتِ النِّيَّةُ مُسْتَحَقَّةً فِي نَفْلِهَا كَالصَّلَاةِ ، وَالصِّيَامِ . وَأَمَّا فَرْضُ الْكِفَايَةِ : فَغُسْلُ الْمَوْتَى ، فَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ يُجْزِئُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ لِأَنَّ الْمُزَنِيَّ نَقَلَ عَنْهُ فِي " جَامِعِهِ الْكَبِيرِ " : أَنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا مَاتَ وَلَهُ زَوْجَةٌ ذِمِّيَّةٌ كَرِهَتْ أَنْ تُغَسِّلَهُ فَلَوْ غَسَّلَتْهُ أَجْزَأَ " . فَلَوْ كَانَتِ النِّيَّةُ عِنْدَهُ شَرْطًا فِي جَوَازِ غُسْلِهِ لَمَا جَازَ أَنْ تُغَسِّلَهُ الذِّمِّيَّةُ ، لِأَنَّ النِّيَّةَ مِنَ الذِّمِّيَّةِ لَا تَصِحُّ ، فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ مَذْهَبِهِ عَلَى أَنَّ النِّيَّةَ فِي غُسْلِ الْمَيِّتِ غَيْرُ مُسْتَحَقَّةٍ ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ أَنَّ فِعْلَ الطَّهَارَةِ إِذَا كَانَ مُسْتَحَقًّا فِي بَدَنِ الْغَيْرِ سَقَطَتِ النِّيَّةُ عَنْ فَاعِلِ التَّطْهِيرِ كَالزَّوْجِ إِذَا اسْتَحَقَّ غُسْلَ زَوْجَتِهِ الْمَجْنُونَةِ مِنْ حَيْضِهَا لِيَسْتَبِيحَ وَطْأَهَا سَقَطَتْ عَنْهُ النِّيَّةُ فِي غُسْلِهَا . وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِلَى وُجُوبِ النِّيَّةِ فِي غُسْلِ الْمَيِّتِ كَوُجُوبِهَا فِي غُسْلِ الْحَيِّ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدِي ، لِأَنَّ غُسْلَ الْأَبْدَانِ إِذَا اسْتَحَقَّ تَعَبُّدَ اللَّهِ تَعَالَى اسْتَحَقَّتِ النِّيَّةُ فِيهِ ، كَالْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ ، وَلَوْ كَانَ غُسْلُ الْمَيِّتِ لَا يَسْتَحِقُّ النِّيَّةَ فِيهِ لَمَا وَجَبَ غُسْلُ الْغَرِيقِ لِوُصُولِ الْمَاءِ إِلَى جَسَدِهِ . وَفِي اسْتِحْقَاقِ غُسْلِهِ بَعْدَ وُصُولِ الْمَاءِ إِلَى جَسَدِهِ ، دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْقَاقِ النِّيَّةِ الْمَفْقُودَةِ فِي الْغُسْلِ الْأَوَّلِ ، فَأَمَّا غُسْلُ الزَّوْجِ امْرَأَتَهُ الْمَجْنُونَةَ فَإِنَّمَا سَقَطَتِ النِّيَّةُ عَنْهُ ، لِأَنَّ غُسْلَهَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُرِدْ إِصَابَتَهَا لَمَا وَجَبَ غَسْلُهَا ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ غُسْلُ الْمَيِّتِ لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَحَقَّ تَعَبُّدَ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

إِنْ تَوَضَّأَ لِنَافِلَةٍ أَوْ لِقِرَاءَةِ مُصْحَفٍ أَوْ لِجَنَازَةٍ أَوْ لِسُجُودِ قُرْآنٍ أَجْزَأَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ الْفَرِيضَةَ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَإِنْ تَوَضَّأَ لِنَافِلَةٍ أَوْ لِقِرَاءَةِ مُصْحَفٍ أَوْ لِجَنَازَةٍ أَوْ لِسُجُودِ قُرْآنٍ أَجْزَأَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ الْفَرِيضَةَ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَشْتَمِلُ عَلَى أَرْبَعَةِ فُصُولٍ : أَحَدُهَا : فِي مَحَلِّ النِّيَّةِ . وَالثَّانِي : فِي زَمَانِ النِّيَّةِ . وَالثَّالِثُ : فِي كَيْفِيَّةِ النِّيَّةِ . وَالرَّابِعُ : فِيمَنْ تَصِحُّ مِنْهُ النِّيَّةُ .

فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ مَحَلُّ النِّيَّةِ : فَهُوَ الْقَلْبُ ، لِأَنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْإِنَاءِ ، لِاخْتِصَاصِهَا بِإِنَاءِ أَعْضَاءِ الْجَسَدِ وَهُوَ الْقَلْبُ . فَالنِّيَّةُ اعْتِقَادٌ بِالْقَلْبِ وَذِكْرٌ بِاللِّسَانِ . وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا : النِّيَّةُ اعْتِقَادٌ بِالْقَلْبِ وَذِكْرٌ بِاللِّسَانِ لِيُظْهِرَ بِلِسَانِهِ مَا اعْتَقَدَهُ بِقَلْبِهِ فَيَكُونُ عَلَى كَمَالٍ مِنْ نِيَّتِهِ وَثِقَةٍ مِنَ اعْتِقَادِهِ ، وَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ : لِأَنَّ الْقَوْلَ لَمَّا اخْتَصَّ بِاللِّسَانِ حكم النية به لَمْ يَلْزَمِ اعْتِقَادُهُ بِالْقَلْبِ ، وَجَبَ أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ إِذَا اخْتَصَّتْ بِالْقَلْبِ لَا يَلْزَمْ ذِكْرُهَا بِاللِّسَانِ . فَعَلَى هَذَا لَوْ ذَكَرَ النِّيَّةَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَعْتَقِدْهَا بِقَلْبِهِ لَمْ يُجِزْهُ عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ مَعًا . فَلَوِ اعْتَقَدَهَا بِقَلْبِهِ وَذَكَرَهَا بِلِسَانِهِ أَجْزَأَهُ عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ جَمِيعًا وَذَلِكَ أَكْمَلُ أَحْوَالِهِ ، وَلَوِ اعْتَقَدَ النِّيَّةَ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَذْكُرْهَا بِلِسَانِهِ أَجْزَأَهُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ، وَلَمْ يُجْزِئْهُ عَلَى مَذْهَبِ الزُّبَيْرِيِّ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي : وَهُوَ زَمَانُ النِّيَّةِ فَهُوَ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الطَّهَارَةِ فَإِنْ كَانَتْ غُسْلًا فَعِنْدَ أَوَّلِ إِفَاضَةِ الْمَاءِ عَلَى جَسَدِهِ ، فَإِنْ نَوَى بَعْدَ أَنْ غَسَلَ بَعْضَ جَسَدِهِ أَجْزَأَتْهُ النِّيَّةُ ، لَكِنْ عَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ غَسْلَ مَا غَسَلَهُ قَبْلَ نِيَّتِهِ ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ فِي الْغُسْلِ لَا يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ الِابْتِدَاءُ بِمَحَلٍّ مِنْ جَسَدِهِ فَكُلُّ مَوْضِعٍ مِنْهُ فِي جَوَازِ الِابْتِدَاءِ بِغَسْلِهِ جَائِزٌ ، فَجَازَ أَنْ يَنْوِيَ عِنْدَ غُسْلِهِ وَلَا يَعْتَدُّ بِمَا غَسَلَهُ مِنْ قَبْلُ ، وَإِنْ كَانَ وُضُوءًا فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْوِيَ عِنْدَ غَسْلِ وَجْهٍ ، لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ الِابْتِدَاءُ بِوَجْهِهِ . وَمِنْ حِكَمِ الْعِبَادَةِ أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ مَنُوطَةً بِأَوَّلِهَا مَا خَلَا الصَّوْمَ الْمَخْصُوصَ بِالشَّرْعِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَهُ فِي النِّيَّةِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ من حيث وقتها : أَحَدُهَا : حَالُ اسْتِحْبَابٍ . وَالثَّانِيَةُ : حَالُ جَوَازٍ . وَالثَّالِثَةُ : حَالُ فَسَادٍ . وَالرَّابِعَةُ : حَالُ اخْتِلَافٍ . فَأَمَّا الْحَالَةُ الْأُولَى فِي الِاسْتِحْبَابِ : فَهُوَ أَنْ يَبْتَدِئَ بِالنِّيَّةِ عِنْدَ غَسْلِ كَفَّيْهِ وَيَسْتَدِيمَهَا ذِكْرًا إِلَى غَسْلِ وَجْهِهِ ، ثُمَّ عَلَيْهِ بَعْدَ الْوَجْهِ أَنْ يَسْتَدِيمَهَا حُكْمًا وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَدِيمَهَا ذِكْرًا ، وَمَعْنَى اسْتِدَامَتِهَا ذِكْرًا النية : أَنْ يَكُونَ مُسْتَصْحِبًا لِذِكْرِهَا وَاعْتِقَادِهَا ، فَإِنْ أَخَلَّ بِهَا نَاسِيًا أَوْ عَامِدًا لَمْ يُجِزْهُ ، وَهَذَا لَازِمٌ لَهُ فِي الْوُضُوءِ إِلَى غَسْلِ الْوَجْهُ ، وَاسْتِدَامَتُهَا حُكْمًا أَنْ يَكُونَ مُسْتَصْحِبًا

لِحُكْمِ نِيَّتِهِ ، فَلَا يُحْدِثُ نِيَّةً تُخَالِفُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ نِيَّتِهِ ، وَإِنْ أَخَلَّ بِذِكْرِهِ عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا أَجْزَأَهُ ، وَهَذَا لَازِمٌ لَهُ بَعْدَ الْوَجْهِ إِلَى فَرَاغِهِ مِنْ طَهَارَتِهِ ، فَإِنِ اسْتَدَامَهَا ذِكْرًا كَانَ أَكْمَلَ . وَأَمَّا الْحَالُ الثَّانِيَةُ فِي الْجَوَازِ : فَهُوَ أَنْ يَبْتَدِئَ بِالنِّيَّةِ عِنْدَ غَسْلِ الْوَجْهِ فَيُجْزِئُهُ وَإِنْ أَخَلَّ بِالنِّيَّةِ فِيمَا قَبِلُ ، لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ الْوَجْهَ فِي الْوُضُوءِ مِنْ غَسْلِ الْكَفَّيْنِ وَالْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ مَسْنُونٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ ، وَتَرْكُهُ لَا يَقْدَحُ فِي وُضُوئِهِ ، فَكَذَلِكَ تَرْكُ النِّيَّةِ عِنْدَهُ . لَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا فَعَلَهُ ثُمَّ أَحْدَثَ النِّيَّةَ بَعْدَهُ . هَلْ يَكُونُ فَاعِلًا لِلْمَسْنُونِ مِنْهُ ، مُعْتَدًّا بِهِ مِنْ وُضُوئِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَكُونُ فَاعِلًا لِمَسْنُونِهِ وَلَا مُعْتَدًّا بِهِ مِنْ وُضُوئِهِ لِخُلُوِّهِ عَنْ نِيَّةٍ قَارَنَتْهُ أَوْ تَقَدَّمَتْهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا لِلسُّنَّةِ مُعْتَدًّا بِهِ مِنَ الْوُضُوءِ ، لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ طَهَارَةٍ قَدْ أَتَى بِالنِّيَّةِ لَهَا فِي مَحَلِّهَا ، فَلَوْ نَوَى بَعْدَ أَنْ غَسَلَ بَعْضَ وَجْهِهِ انْعَقَدَتْ نِيَّتُهُ وَلَزِمَهُ إِعَادَةُ غَسْلِ مَا كَانَ غَسَلَهُ كَالْجُنُبِ إِذَا نَوَى عِنْدَ غَسْلِ بَعْضِ جَسَدِهِ . وَأَمَّا الْحَالُ الثَّالِثَةُ فِي الْفَسَادِ : فَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ بَعْدَ غَسْلِ الْوَجْهِ فَلَا يُجْزِئُهُ لِفَسَادِ نِيَّتِهِ بِتَأْخِيرِهَا عَنِ ابْتِدَاءِ وُضُوئِهِ ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ غَسْلَ وَجْهِهِ مُبْتَدِئًا بِالنِّيَّةِ بِهِ حَتَّى تَكُونَ النِّيَّةُ مُقَارِنَةً لِغَسْلِ الْوَجْهِ . وَأَمَّا الْحَالُ الرَّابِعَةُ فِي اخْتِلَافِ النِّيَّةِ : فَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ قَبْلَ غَسْلِ وَجْهِهِ وَيَحِلَّ بِالنِّيَّةِ عِنْدَ غَسْلِ وَجْهِهِ ، فَإِنْ نَوَى قَبْلَ أَخْذِهِ فِي الْوُضُوءِ فِي غَسْلِ الْكَفَّيْنِ وَالْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ لَمْ يُجِزْهُ . وَإِنْ نَوَى عِنْدَ غَسْلِ كَفَّيْهِ أَوْ عِنْدَ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ حكم النية فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِ ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَفْصِ بْنِ الْوَكِيلِ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ لِأَنَّ غَسْلَ الْكَفَّيْنِ شُرُوعٌ فِي الْوُضُوءِ فَصَارَتِ النِّيَّةُ مَوْجُودَةً عِنْدَ ابْتِدَائِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ عِنْدَ غَسْلِ كَفَّيْهِ ، لِأَنَّهُ غَسْلٌ لَا يُعْتَدُّ بِهِ ، وَيُجْزِئُهُ عِنْدَ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ ، لِأَنَّهُمَا فِي الْوَجْهِ فَصَارَتِ النِّيَّةُ مَوْجُودَةً عِنْدَ أَخْذِهِ فِي تَطْهِيرِ الْوَجْهِ .

وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ سَوَاءٌ نَوَى عِنْدَ غَسْلِ كَفَّيْهِ أَوْ عِنْدَ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ حَتَّى يَنْوِيَ عِنْدَ غَسْلِ الْوَجْهِ ، لِأَنَّ الْوُضُوءَ قَدْ يَصِحُّ بِغَيْرِ مَضْمَضَةٍ وَاسْتِنْشَاقٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حِينَ تَمَضْمَضَ أَوِ اسْتَنْشَقَ أَصَابَ الْمَاءُ شَيْئًا مِنْ وَجْهِهِ فَيُجْزِئُهُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ نَاوِيًا عِنْدَ غَسْلِ وَجْهِهِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ وَهُوَ كَيْفِيَّةُ النِّيَّةِ : فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَنْوِيَ أَحَدَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : إِمَّا رَفْعَ الْحَدَثِ أَوِ اسْتِبَاحَةَ الصَّلَاةِ ، أَوِ الطَّهَارَةَ لِفِعْلِ مَا لَا يَصِحُّ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ رَفْعَ الْحَدَثِ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ مُتَوَضِّئًا . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مُغْتَسِلًا . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ مُتَيَمِّمًا . فَإِنْ كَانَ مُتَوَضِّئًا أَجْزَأَهُ أَنْ يَنْوِيَ رَفْعَ الْحَدَثِ سَوَاءٌ عَيَّنَ الْحَدَثَ فِي نِيَّتِهِ أَوْ لَمْ يُعَيِّنْهُ ، نَوَى رَفْعَ جَمِيعِهَا أَوْ رَفْعَ أَحَدِهَا ، وَإِنَّمَا أَجْزَأَهُ أَنْ يَنْوِيَ رَفْعَ الْحَدَثِ ، لِأَنَّ الْحَدَثَ هُوَ الْمَانِعُ مِنَ الصَّلَاةِ فَإِذَا نَوَى رَفْعَهُ زَالَ مَا كَانَ مَانِعًا مِنَ الصَّلَاةِ وَأَجْزَأَهُ . فَلَوْ كَانَ بِهِ حَدَثَانِ حَدَثٌ مِنْ بَوْلٍ وَحَدَثٌ مِنْ نَوْمٍ فَنَوَى رَفْعَ أَحَدِهِمَا ارْتَفَعَا مَعًا لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ بَقَاءُ أَحَدِهِمَا مَعَ ارْتِفَاعِ الْآخَرِ ، فَلَوْ نَوَى رَفْعَ أَحَدِهِمَا عَلَى أَلَّا يَرْفَعَ الْآخَرَ فَفِي صِحَّةِ وُضُوئِهِ وَارْتِفَاعِ حَدَثِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ وُضُوءَهُ بَاطِلٌ وَحَدَثَهُ بَاقٍ ، لِأَنَّهُ لَمَّا شَرَطَ فِي نِيَّتِهِ بَقَاءَ أَحَدِ الْحَدَثَيْنِ كَانَ ذَلِكَ قَادِحًا فَفَسَدَتِ النِّيَّةُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ وُضُوءَهُ صَحِيحٌ وَحَدَثَهُ مُرْتَفِعٌ ، لِأَنَّهُ لَمَّا نَوَى رَفْعَ أَحَدِ الْحَدَثَيْنِ كَانَ ذَلِكَ أَقْوَى حُكْمًا فَبَطَلَ الشَّرْطُ ، فَلَوْ كَانَ بِهِ حَدَثٌ مِنْ بَوْلٍ لَا غَيْرَ فَنَوَى رَفْعَ الْحَدَثِ مِنْ نَوْمٍ وَلْمٍ يَكُنْ قَدْ أَحْدَثَ عَنْ نَوْمٍ أَجْزَأَهُ ؛ لِأَنَّ تَغْيِيرَ النِّيَّةِ عَنِ الْحَدَثِ لَا يَلْزَمُ ، وَالنَّوْمُ حُدُوثٌ فَصَارَ نَاوِيًا رَفْعَ الْحَدَثِ . وَإِنْ كَانَ مُغْتَسِلًا فَيَحْتَاجُ أَنْ يَنْوِيَ رَفْعَ الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ فَلَوْ نَوَى رَفْعَ الْحَدَثِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي نِيَّتِهِ الْأَكْبَرَ أَجْزَأَهُ ، لِأَنَّ نِيَّتَهُ تَنْصَرِفُ إِلَى حَدَثِهِ الَّذِي هُوَ فِيهِ ، فَلَوْ كَانَ بِهِ حَدَثَانِ أَصْغَرُ وَأَكْبَرُ فَاغْتَسَلَ فَنَوَى رَفْعَ الْحَدَثِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ هَلْ يَسْقُطُ حُكْمُهُ بِالْحَدَثِ الْأَكْبَرِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَدْ سَقَطَ حُكْمُهُ ، فَعَلَى هَذَا يُجْزِئُهُ غُسْلُهُ عَنْ حَدَثِهِ الْأَكْبَرِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ حَدَثُهُ الْأَصْغَرُ ، فَعَلَى هَذَا لَا يُجْزِئُهُ غُسْلُهُ مِنْ وَاحِدٍ مِنَ الْحَدَثَيْنِ لِامْتِيَازِهِمَا ، وَإِنْ أَطْلَقَ النِّيَّةَ يُحْتَمَلُ التَّشْرِيكُ بَيْنَهُمَا ، فَلَوْ عَيَّنَ النِّيَّةَ فَنَوَى غُسْلَ

الْجَنَابَةِ أَوْ كَانَتِ امْرَأَةً فَنَوَتْ غُسْلَ الْحَيْضِ أَجْزَأَهُمَا ذَلِكَ ، فَلَوْ كَانَ جُنُبًا فَنَوَى رَفْعَ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ لَمْ يُجْزِهِ ، وَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا فَنَوَى رَفْعَ الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ أَجْزَأَهُ ، لِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُرْفَعَ الْأَدْنَى بِالْأَعْلَى ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُرْفَعَ الْأَعْلَى بِالْأَدْنَى . فَإِنْ كَانَ مُتَيَمِّمًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْوِيَ رَفْعَ الْحَدَثِ ، لِأَنَّ حَدَثَهُ لَا يَرْتَفِعُ بِالتَّيَمُّمِ وَهَكَذَا الْمُسْتَحَاضَةُ ، وَمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ لَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَنْوُوا رَفْعَ الْحَدَثِ لِأَنَّ حَدَثَهُمْ لَا يَرْتَفِعُ . وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا : أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُتَيَمِّمِ وَالْمُسْتَحَاضَةِ ، وَمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ كيفية النية أَنْ يَنْوُوا رَفْعَ الْحَدَثِ ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِرَفْعِ الْحَدَثِ اسْتِبَاحَةُ الصَّلَاةِ ، وَهَؤُلَاءِ قَدْ يَسْتَبِيحُونَ الصَّلَاةَ بِطَهَارَتِهِمْ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ اسْتِبَاحَةَ الصَّلَاةِ عند الوضوء فَيُجْزِئُهُ ، لِأَنَّ الْحَدَثَ مَانِعٌ مِنَ اسْتِبَاحَتِهَا فَصَارَ اسْتِبَاحَتُهَا رَفَعًا لِلْحَدَثِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ مُتَوَضِّئًا أَوْ مُغْتَسِلًا فَلَيْسَ عَلَيْهِ تَعْيِينُ الصَّلَاةِ الَّتِي يَسْتَبِيحُ فِعْلَهَا ، وَسَوَاءٌ نَوَى اسْتِبَاحَةَ الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا أَوْ نَوَى اسْتِبَاحَةَ صَلَاةٍ بِعَيْنِهَا سَوَاءٌ كَانَتِ الصَّلَاةُ فَرْضًا أَوْ نَفْلًا ؛ لِأَنَّ النَّفْلَ لَا يَصِحُّ فِعْلُهُ بِالْحَدَثِ كَالْفَرْضِ . فَأَمَّا الْمُتَيَمِّمُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا : هَلْ يَلْزَمُهُ فِي نِيَّتِهِ تَعْيِينُ الصَّلَاةِ الَّتِي يُرِيدُ أَنْ يَسْتَبِيحَهَا بِتَيَمُّمِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ كَالْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَلْزَمُهُ فِي النِّيَّةِ أَنْ يُعَيِّنَ الصَّلَاةَ الَّتِي يَتَيَمَّمُ لَهَا ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ لَمَّا لَمْ يَرْفَعِ الْحَدَثَ وَاخْتَصَّ بِأَدَاءِ فَرْضٍ وَاحِدٍ مِنْ جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ صَارَ شَرْطًا فِيهَا فَيَلْزِمَهُ تَعْيِينُهَا إِلَّا أَنْ يُرِيدَ التَّيَمُّمَ لِنَافِلَةٍ فَيَجُوزُ أَلَّا يَنْوِيَ تَعْيِينَ النِّيَّةِ لَهَا لِأَنَّ النَّوَافِلَ لَا تَتَعَيَّنُ . فَلَوْ تَوَضَّأَ رَجُلٌ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ جَازَ أَنْ يُصَلِّيَهَا وَمَا شَاءَ مِنَ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ وَالْمَسْنُونَاتِ مَا لَمْ يُحْدِثْ ؛ لِأَنَّ النَبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعُمَرَ حِينَ أَذْكَرَهُ عَامَ الْفَتْحِ أَنَّهُ صَلَّى الْخَمْسَ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : عَمْدًا فَعَلْتَ ذَلِكَ يَا عُمَرُ . فَلَوْ تَوَضَّأَ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ عَلَى أَلَّا يُصَلِّيَ بِهِ مَا سِوَاهَا مِنَ الصَّلَاةِ ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ لِأَصْحَابِنَا : أَحَدُهَا : أَنَّ وُضُوءَهُ صَحِيحٌ وَيُصَلِّي بِهِ مَا شَاءَ مِنَ الصَّلَوَاتِ ؛ لِأَنَّ الْحَدَثَ إِذَا ارْتَفَعَ لِصَلَاةٍ ارْتَفَعَ لِجَمِيعِ الصَّلَوَاتِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ وُضُوءَهُ بَاطِلٌ وَحَدَثَهُ بَاقٍ ؛ لِأَنَّ حَدَثَهُ إِذَا لَمْ يَرْتَفِعْ لِجَمِيعِ الصَّلَوَاتِ لَمْ يَرْتَفِعْ لِتِلْكَ الصَّلَاةِ .

وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ وُضُوءَهُ يَصِحُّ وَحَدَثَهُ يَرْتَفِعُ لِتِلْكَ الصَّلَاةِ وَحْدَهَا دُونَ غَيْرِهَا ؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ قَدْ تَصِحُّ أَنْ تَكُونَ لِصَلَاةٍ بِعَيْنِهَا دُونَ غَيْرِهَا كَالْمُسْتَحَاضَةِ وَالْمُتَيَمِّمِ وَالْمَاسِحِ عَلَى خُفَّيْهِ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ الطَّهَارَةَ لِفِعْلِ مَا لَا يَصِحُّ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ ، فَجُمْلَةُ أَعْمَالِ الَّتِي يَتَطَهَّرُ لَهَا أَنَّهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : مَا يَجِبُ فِيهِ طَهَارَةٌ وَلَا يَصِحُّ فِعْلُهُ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ كَالطَّوَافِ ، وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ ، وَحَمْلِ الْمُصْحَفِ وَسُجُودِ السَّهْوِ وَالشُّكْرِ وَالتِّلَاوَةِ . فَمَنْ تَوَضَّأَ أَوِ اغْتَسَلَ يَنْوِي فِعْلَ شَيْءٍ مِنْ هَذَا كُلِّهِ ارْتَفَعَ حَدَثُهُ وَصَحَّ وُضُوءُهُ وَغُسْلُهُ ، لِأَنَّ الْحَدَثَ لَمَّا كَانَ مَانِعًا مِنْ هَذَا كُلِّهِ كَالصَّلَاةِ صَارَ الْمُتَوَضِّئُ لَهُ كَالْمُتَوَضِّئِ لِفِعْلِ الصَّلَاةِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مَا يَصِحُّ فِعْلُهُ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ وَلَيْسَ بِمَنْدُوبٍ فِيهِ إِلَى الطَّهَارَةِ كَالصِّيَامِ وَعُقُودِ الْمَنَاكِحِ وَالْبَيْعَاتِ وَلِقَاءِ السُّلْطَانِ وَالْخُرُوجِ إِلَى سَفَرٍ ، فَهَذِهِ كُلُّهَا أَعْمَالٌ تَصِحُّ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ وَلَيْسَ الْإِنْسَانُ مَنْدُوبًا فِيهَا إِلَى الطَّهَارَةِ ، فَإِذَا تَوَضَّأَ أَوِ اغْتَسَلَ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا كُلِّهِ فَوُضُوؤُهُ وَغُسْلُهُ بَاطِلَانِ لَا يَرْتَفِعُ بِهِمَا حَدَثٌ وَلَا يُسْتَبَاحُ بِهِمَا صَلَاةٌ ؛ لِأَنَّ الْحَدَثَ لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ هَذِهِ الْأَعْمَالِ لَمْ يَكُنْ لِلطَّهَارَةِ لَهَا تَأْثِيرٌ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ ، وَهَكَذَا لَوْ تَوَضَّأَ لِلتَّبَرُّدِ وَالتَّنَظُّفِ فَهُوَ عَلَى حَدَثِهِ وَوُضُوءٍ غَيْرِ مُجْزِئٍ ، وَلَكِنْ لَوْ تَوَضَّأَ لِرَفْعِ الْحَدَثِ وَالتَّبَرُّدِ وَالتَّنَظُّفِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : أَجْزَأَهُ لِأَنَّ التَّبَرُّدَ وَالتَّنَظُّفَ قَدْ يَحْصُلُ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَنْوِهْ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : مَا يَصِحُّ فِعْلُهُ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ لَكِنَّهُ مَنْدُوبٌ فِي فِعْلِهِ إِلَى الطَّهَارَةِ كَالْمُحْدِثِ إِذَا تَوَضَّأَ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ طَاهِرًا أَوْ لِدُخُولِ الْمَسْجِدِ وَالْمُقَامِ فِيهِ أَوْ لِدِرَاسَةِ الْعِلْمِ وَأَحَادِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ لِأَنْ يُؤَذِّنَ أَوْ يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَوْ لِأَنْ يَقِفَ بِعَرَفَةَ أَوْ لِزِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَفِي صِحَّةِ وُضُوئِهِ وَارْتِفَاعِ حَدَثِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ وُضُوءَهُ صَحِيحٌ وَحَدَثَهُ مُرْتَفِعٌ ؛ لِأَنَّهُ وَضَوْءٌ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ ، فَأَشْبَهَ وُضُوءَهُ لِمَا لَا يَجُوزُ بِغَيْرِ وُضُوءٍ ، وَاسْتِشْهَادًا مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ : وَلَوْ تَوَضَّأَ لِنَافِلَةٍ أَوْ قِرَاءَةِ مُصْحَفٍ فَجَمَعَ بَيْنَ الْوُضُوءِ لِلْقِرَاءَةِ وَبَيْنَ الْوُضُوءِ لِلنَّافِلَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ ، أَنَّ وُضُوءَهُ بَاطِلٌ وَحَدَثَهُ بَاقٍ ؛ لِأَنَّهُ تَوَضَّأَ لِمَا يَصِحُّ بِغَيْرِ وُضُوءٍ فَأَشْبَهَ وُضُوءَهُ لِمَا لَمْ يُنْدَبْ فِيهِ إِلَى الْوُضُوءِ ، وَحَمَلَ قَائِلُ هَذَا الْوَجْهِ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ وَلَوْ تَوَضَّأَ لِنَافِلَةٍ أَوْ لِقِرَاءَةِ مُصْحَفٍ أَنَّهُ أَرَادَ الْقَارِئَ فِي الْمُصْحَفِ إِذَا كَانَ حَامِلًا لَهُ . وَمَنْ تَوَضَّأَ لِحَمْلِ مُصْحَفٍ ارْتَفَعَ حَدَثُهُ لِأَنَّ حَمْلَ الْمُصْحَفِ لَا يَجُوزُ لِمُحْدِثٍ ( وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ يَكُونُ الْجَوَابُ ) فِيمَنْ تَوَضَّأَ يَنْوِي تَجْدِيدَ الطَّهَارَةِ لِأَنَّ تَجْدِيدَ الطَّهَارَةِ مَنْدُوبٌ

إِلَيْهِ فَيَكُونُ ( فِي صِحَّةِ ) الطَّهَارَةِ وَجْهَانِ : فَأَمَّا مَنْ تَوَضَّأَ يَنْوِي الطَّهَارَةَ وَحْدَهَا أَجْزَأَهُ وُضُوؤُهُ وَارْتَفَعَ حَدَثُهُ ؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ لِرَفْعِ الْحَدَثِ ، وَلَكِنْ لَوْ نَوَى الْوُضُوءَ وَحْدَهُ فَالْوُضُوءُ قَدْ يَكُونُ مَنْدُوبًا إِلَيْهِ وَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا فَيَكُونُ فِي ارْتِفَاعِ حَدَثِهِ وَجْهَانِ كَمَنْ تَوَضَّأَ لِمَنْدُوبٍ إِلَيْهِ . فَأَمَّا الْجُنُبُ : إِذَا نَوَى الْغُسْلَ وَحْدَهُ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ الْغُسْلَ قَدْ يَكُونُ تَارَةً عِبَادَةً وَتَارَةً غَيْرَ عِبَادَةٍ ( فَصَارَ نَاوِي الطَّهَارَةِ يُجْزِئُهُ وَنَاوِي الْغُسْلِ لَا يُجْزِئُهُ ) وَفِي نَاوِي الْوُضُوءِ وَجْهَانِ : فَأَمَّا الْجُنُبُ إِذَا نَوَى بِغُسْلِهِ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ أَوِ الْمَقَامِ فِي الْمَسْجِدِ أَجْزَأَهُ ؛ لِأَنَّ الْجُنُبَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْرَأَ وَلَا أَنْ يُقِيمَ فِي الْمَسْجِدِ ، وَلَكِنْ لَوْ نَوَى أَنْ يَمُرَّ فِي الْمَسْجِدِ عَابِرُ سَبِيلٍ غسل الجنب كَانَ فِي صِحَّةِ غُسْلِهِ وَجْهَانِ ؛ لِأَنَّ غُسْلَهُ لِلْمُرُورِ فِي الْمَسْجِدِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ ، وَهَكَذَا لَوْ نَوَى غُسْلَ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ طهارة الجنب كَانَ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ غُسْلٌ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ فَلَوْ تَوَضَّأَ مُحْدِثٌ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ فَصَلَّاهَا ثُمَّ جَدَّدَ وَضَوْءَهُ لِلظُّهْرِ وَصَلَّاهَا ثُمَّ أَحْدَثَ وَقْتَ الْعَصْرِ فَتَوَضَّأَ أَوْ صَلَّاهَا ثُمَّ تَيَقَّنَ أَنَّهُ تَرَكَ غَسْلَ وَجْهِهِ فِي إِحْدَى الطَّهَارَاتِ الثَّلَاثِ نَظَرَ ، فَإِنْ تَيَقَّنَ تَرْكَهُ مِنْ طَهَارَةِ الصُّبْحِ أَعَادَهَا وَلَمْ يُعِدِ الْعَصْرَ ، وَفِي إِعَادَةِ الظُّهْرِ وَجْهَانِ ؛ لِأَنَّهُ تَوَضَّأَ لَهَا تَجْدِيدًا لَا فَرْضًا ، وَإِنْ تَيَقَّنَ تَرْكَهُ مِنْ طَهَارَةِ الظُّهْرِ لَمْ يَلْزَمْهُ إِعَادَتُهَا وَلَا إِعَادَةُ الصُّبْحِ قَبْلَهَا وَلَا إِعَادَةُ الْعَصْرِ بَعْدَهَا ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يُجَدِّدْ طَهَارَتَهُ لِلظُّهْرِ ، وَإِنْ تَيَقَّنَ أَنَّهُ تَرَكَهُ مِنْ طَهَارَةِ الْعَصْرِ أَعَادَهَا وَحْدَهَا ، وَإِنْ شَكَّ وَلَمْ يَعْلَمْ مِنْ أَيِّ طَهَارَةٍ تَرَكَهَا أَعَادَ الصُّبْحَ وَالْعَصْرَ لِجَوَازِ أَنَّهُ تَرَكَهُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَفِي وُجُوبِ إِعَادَةِ الظُّهْرِ وَجْهَانِ لِأَنَّهُ تَوَضَّأَ لَهَا تَجْدِيدًا .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِيمَنْ تَصِحُّ مِنْهُ النِّيَّةُ للطهارة : فَتَصِحُّ فِي أَكْمَلِ أَحْوَالِهَا مِمَّنْ قَدْ جَمَعَ ثَلَاثَةَ شُرُوطٍ : الْبُلُوغَ وَالْعَقْلَ وَالْإِسْلَامَ ، فَإِذَا كَانَ فِي حَالِ نِيَّتِهِ لِوُضُوئِهِ أَوْ غُسْلِهِ أَوْ تَيَمُّمِهِ عَاقِلًا بَالِغًا مُسْلِمًا انْعَقَدَتْ نِيَّتُهُ وَصَحَّتْ طَهَارَتُهُ . فَأَمَّا الصَّبِيُّ غَيْرُ الْبَالِغِ إِذَا تَوَضَّأَ فَإِنْ كَانَ طِفْلًا لَا يُمَيِّزُ فَوُضُوؤُهُ بَاطِلٌ وَطَهَارَتُهُ عَبَثٌ ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ مِنْ مِثْلِهِ لَا تَصِحُّ ، وَإِنْ كَانَ مُرَاهِقًا مُمَيِّزًا صَحَّ وُضُوءُهُ إِذَا نَوَى وَارْتَفَعَ حَدَثُهُ حَتَّى لَوْ بَلَغَ بَعْدَ وُضُوئِهِ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ الْوُضُوءُ لَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ لِصِحَّةِ قَصْدِهِ . أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ : " لَوْ أَحْرَمَ صَبِيٌّ بِصَلَاةٍ ثُمَّ بَلَغَ فِي تَضَاعِيفِهَا وَأَتَمَّهَا أَجْزَأَهُ " فَلَوْلَا صِحَّةُ نِيَّتِهِ فِي طَهَارَتِهِ وَصَلَاتِهِ وَانْعِقَادِهَا بِقَصْدِهِ لَمْ تُجْزِهِ . وَهَكَذَا لَوْ فَعَلَ صَبِيٌّ مَا يُوجِبُ الْغُسْلَ مِنَ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ وَاغْتَسَلَ نَاوِيًا ثُمَّ بَلَغَ صَحَّ غُسْلُهُ وَارْتَفَعَتْ جَنَابَتُهُ . وَلَكِنْ لَوْ تَيَمَّمَ قَبْلَ بُلُوغِهِ لِنَفْلٍ أَوْ لِفَرْضٍ ثُمَّ بَلَغَ الصبي لَمْ يُجْزِهِ أَنْ يُصَلِّيَ بِذَلِكَ التَّيَمُّمِ فَرْضًا بِحَالٍ ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ بُلُوغِهِ غَيْرُ مُلْتَزِمٍ لِفَرْضٍ فَصَارَ حِينَ تَيَمَّمَ غَيْرَ مُحْتَاجٍ إِلَى التَّيَمُّمِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤَدِّيَ بِهِ الْفَرْضَ كَمَنْ تَيَمَّمَ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ النَّفْلَ ، وَأَمَّا الْمَجْنُونُ إِذَا تَوَضَّأَ فِي حَالِ جُنُونِهِ عَنْ حَدَثٍ أَوِ اغْتَسَلَ مِنْ جَنَابَةٍ لَمْ يُجْزِهِ وُضُوؤُهُ وَلَا غُسْلُهُ وَلَزِمَهُ إِعَادَةُ

ذَلِكَ بَعْدَ إِفَاقَتِهِ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ ؛ لِأَنَّ لِلصَّبِيِّ تَمْيِيزًا وَقَصْدًا وَلَيْسَ لِلْمَجْنُونِ قَصْدٌ وَلَا تَمْيِيزٌ ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيَلْزَمُهُ بَعْدَ إِسْلَامِهِ أَنْ يَتَوَضَّأَ عَنْ حَدَثِهِ فِي كُفْرِهِ ، فَلَوْ كَانَ قَدْ تَوَضَّأَ مِنَ الْحَدَثِ قَبْلَ إِسْلَامِهِ نَاوِيًا فَفِي إِجْزَائِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُجْزِيهِ ؛ لِأَنَّهُ أَصَحُّ قَصْدًا مِنَ الصَّبِيِّ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا تَصِحُّ مِنْهُ مَعَ الْكُفْرِ انْعِقَادُ عِبَادَةٍ ، كَمَا لَا تَصِحُّ مِنْهُ انْعِقَادُ الصَّلَاةِ ، وَخَالَفَ الصَّبِيَّ الَّذِي تَصِحُّ مِنْهُ انْعِقَادُ الصَّلَاةِ ، وَأَمَّا إِذَا أَجْنَبَ الْكَافِرُ قَبْلَ إِسْلَامِهِ فَقَدْ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ : إِنَّ حُكْمَ جَنَابَتِهِ سَاقِطٌ بِإِسْلَامِهِ ، فَإِنَّ اغْتِسَالَهُ مِنْهَا غَيْرُ وَاجِبٍ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْمُرْ جَمِيعَ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْكُفَّارِ بِالْغُسْلِ مَعَ كَوْنِهِمْ غَالِبًا عَلَى جَنَابَةٍ ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو إِسْحَاقَ وَسَائِرُ أَصْحَابِنَا : إِنَّ حُكْمَ جَنَابَتِهِ بَاقٍ ، وَإِنَّ الْغُسْلَ عَلَيْهِ بَعْدَ إِسْلَامِهِ وَاجِبٌ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَسْقُطْ بِالْإِسْلَامِ حُكْمُ حَدَثِهِ فِي حَالِ الْكُفْرِ وَلَزِمَهُ الْوُضُوءُ لَمْ يَسْقُطْ حُكْمُ جَنَابَتِهِ وَلَزِمَهُ الْغُسْلُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا لَزِمَ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ غُسْلُ الْجَنَابَةِ بَعْدَ الْإِفَاقَةِ وَالْبُلُوغِ وَهُمَا فِي حَالِ الْحَدَاثَةِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ التَّكْلِيفِ ، فَالْكَافِرُ إِذَا أَسْلَمَ أَوْلَى أَنْ يَلْزَمَهُ غُسْلُ الْجَنَابَةِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ ، فَأَمَّا الْمُرْتَدُّ إِذَا أَسْلَمَ جُنُبًا فَمَأْخُوذٌ بِجَنَابَتِهِ ، وَالْغُسْلُ مِنْهَا وَاجِبٌ عَلَيْهِ بِوِفَاقِ أَبِي سَعِيدٍ ، فَلَوْ كَانَ قَدِ اغْتَسَلَ فِي حَالِ رِدَّتِهِ كَانَ عَلَى وَجْهَيْنِ كَالْكَافِرِ .

وَلَوْ نَوَى فَتَوَضَّأَ ثُمَّ عَزَبَتْ نِيَّتُهُ أَجْزَأَهُ نِيَّةٌ وَاحِدَةٌ مَا لَمْ يُحْدِثْ نِيَّةَ أَنْ يَتَبَرَّدَ أَوْ يَتَنَظَّفَ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ نَوَى فَتَوَضَّأَ ثُمَّ عَزَبَتْ نِيَّتُهُ أَجْزَأَهُ نِيَّةٌ وَاحِدَةٌ مَا لَمْ يُحْدِثْ نِيَّةَ أَنْ يَتَبَرَّدَ أَوْ يَتَنَظَّفَ ، فَيُعِيدُ مَا كَانَ غَسَلَهُ لِتَبَرُّدٍ أَوْ لِتَنَظُّفٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا تَقْطِيعُ النِّيَّةِ عَلَى أَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ ، وَصُورَتُهُ أَنْ يَنْوِيَ عِنْدَ غَسْلِ وَجْهِهِ رَفْعَ الْحَدَثِ عَنْ وَجْهِهِ وَحْدَهُ وَيَنْوِيَ عِنْدَ غَسْلِ ذِرَاعَيْهِ رَفْعَ الْحَدَثِ عَنْهُمَا لَا غَيْرَ وَكَذَلِكَ عِنْدَ كُلِّ عُضْوٍ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ :

أَحَدُهُمَا : لَا يُجْزِيهِ كَمَا لَا يَجُوزُ تَقْطِيعُ النِّيَّةِ عَلَى رَكَعَاتِ الصَّلَاةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَخَلَّلَهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا فَلَمْ يَجُزْ تَقْطِيعُ النِّيَّةِ عَلَيْهَا ، فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَصُورَةُ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ فِي مُتَوَضِّئٍ غَسَلَ وَجْهَهُ نَاوِيًا بِهِ رَفْعَ الْحَدَثِ جُمْلَةً ثُمَّ اسْتَصْحَبَ حُكْمَ نِيَّتِهِ حَتَّى غَسَلَ ذِرَاعَيْهِ وَمَسَحَ رَأْسَهُ ثُمَّ غَيَّرَ النِّيَّةَ عِنْدَ غَسْلِ رِجْلَيْهِ فَغَسَلَهُمَا بِنِيَّةِ التَّبَرُّدِ وَالتَّنَظُّفِ فَيُجْزِيهِ غَسْلُ وَجْهِهِ وَذِرَاعَيْهِ وَمَسْحُ رَأْسِهِ دُونَ غَسْلِ رِجْلَيْهِ وَجْهًا وَاحِدًا سَوَاءٌ قُلْنَا بِجَوَازِ تَقْطِيعِ النِّيَّةِ عَلَى أَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ أَوْ لَا ؛ لِأَنَّ نِيَّتَهُ الْأُولَى كَانَتْ عَامَّةً لِجَمِيعِ أَعْضَائِهِ فَارْتَفَعَ حَدَثُ مَا غَسَلَهُ بِتِلْكَ النِّيَّةِ وَلَمْ يَرْتَفِعْ حَدَثُ مَا غَيَّرَ فِيهِ النِّيَّةَ مِنْ غَسْلِ رِجْلَيْهِ ، وَلَا يُجْزِيهِ أَنْ يُصَلِّيَ بِهَذَا الْوُضُوءِ شَيْئًا حَتَّى يُعِيدَ غَسْلَ رِجْلَيْهِ نَاوِيًا بِغَسْلِهِمَا رَفْعَ الْحَدَثِ ، فَإِنْ فَعَلَ هَذَا وَالزَّمَانُ قَرِيبٌ لَمْ يَطُلْ صَحَّ وُضُوؤُهُ وَارْتَفَعَ حَدَثُهُ ، وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ بَعْدَ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ وَبُعْدِهِ كَانَ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الْوُضُوءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ سُنَّةِ الْوُضُوءِ

إِذَا قَامَ الرَّجُلُ إِلَى الصَّلَاةِ مِنْ نَوْمٍ أَوْ كَانَ غَيْرَ مُتَوَضِّئٍ فَأُحِبُّ أَنْ يُسَمِّيَ اللَّهَ تَعَالَى

بَابُ سُنَّةِ الْوُضُوءِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَإِذَا قَامَ الرَّجُلُ إِلَى الصَّلَاةِ مِنْ نَوْمٍ أَوْ كَانَ غَيْرَ مُتَوَضِّئٍ فَأُحِبُّ أَنْ يُسَمِّيَ اللَّهَ تَعَالَى . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ أَوَّلُ مَا يَبْدَأُ بِهِ الْمُتَوَضِّئُ مِنْ أَعْمَالِ وُضُوئِهِ التَّسْمِيَةُ فَيَقُولُ : " بِسْمِ اللَّهِ " وَهِيَ سُنَّةٌ . وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ : هِيَ هَيْئَةٌ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْهَيْئَةِ وَالسُّنَّةِ بِأَنْ قَالَ : الْهَيْئَةُ مَا تَهَيَّأَ بِهِ لِفِعْلِ الْعِبَادَةِ ، وَالسُّنَّةُ مَا كَانَتْ فِي أَفْعَالِهَا الرَّاتِبَةِ فِيهَا وَهَكَذَا نَقُولُ فِي غَسْلِ الْكَفَّيْنِ : وَهَذَا يُعَدُّ فِي الْعِبَارَةِ مَعَ تَسْلِيمِ الْمَعْنَى . وَقَالَ إِسْحَاقُ ابْنُ رَاهْوَيْهِ : التَّسْمِيَةُ في الوضوء وَاجِبَةٌ ، فَإِنْ تَرَكَهَا عَامِدًا بَطَلَ وُضُوؤُهُ وَإِنْ تَرَكَهَا نَاسِيًا أَجْزَأَهُ . وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ : هِيَ وَاجِبَةٌ وَإِنْ تَرَكَهَا عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا لَمْ يُجْزِهِ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَا وُضُوءَ لَهُ وَلَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَهِ عَلَيْهِ " .

قَالُوا : وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَبْطُلُ بِالْحَدَثِ فَوَجَبَ أَنْ يَفْتَقِرَ ابْتِدَاؤُهَا إِلَى نُطْقٍ كَالصَّلَاةِ وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [ الْمَائِدَةِ : ] فَلَمَّا كَانَتْ وَاجِبَاتُ الْوُضُوءِ مَأْخُوذَةً مِنْهَا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَعْرَابِيِّ : " تَوَضَّأْ كَمَا أَمَرَكَ اللَّهُ " ، وَلَمْ يَكُنْ لِلتَّسْمِيَةِ فِيهَا ذِكْرٌ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " مَنْ تَوَضَّأَ وَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ كَانَ طَهُورًا لِجَمِيعِ بَدَنِهِ ، وَمَنْ تَوَضَّأَ وَلَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ كَانَ طَهُورًا لِأَعْضَائِهِ ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ لَيْسَ فِي آخِرِهَا نُطْقٌ وَاجِبٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ فِي ابْتِدَائِهَا نُطْقٌ وَاجِبٌ كَالصِّيَامِ ، وَلِأَنَّهَا طَهَارَةٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ شَرْطِهَا التَّسْمِيَةُ كَإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ . فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْحَدِيثِ فَضَعِيفُ الْإِسْنَادِ لِأَنَّهُ مَرْوِيٌّ مِنْ طَرِيقَيْنِ وَاهِيَيْنِ . أَحَدُهُمَا : أَبُو فَضَّالٍ ، عَنْ جَدَّتِهِ ، عَنْ أَبِيهَا أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ . وَالثَّانِي : يَعْقُوبُ بْنُ سَلَمَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : لَيْسَ فِي التَّسْمِيَةِ حَدِيثٌ ثَبْتٌ وَلَوْ سَلِمَ لَكَانَ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ تَحَمُّلَ التَّسْمِيَةِ عَلَى النِّيَّةِ ، وَهُوَ تَأْوِيلُ الْأَوْزَاعِيِّ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى نَفْيِ الْكَمَالِ دُونَ الْإِجْزَاءِ ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الصَّلَاةِ فَمُنْتَقَضٌ بِالطَّوَافِ ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الصَّلَاةِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي آخِرِهَا نُطْقٌ وَاجِبٌ كَانَ فِي أَوَّلِهَا نُطْقٌ وَاجِبٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الْوُضُوءِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ التَّسْمِيَةَ في الوضوء سُنَّةٌ فَهِيَ سُنَّةٌ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ وَالتَّيَمُّمِ مُبْتَدِئًا بِهَا عَلَى طَهَارَتِهِ فَإِنْ نَسِيَهَا فِي الِابْتِدَاءِ ؟ . قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْقَدِيمِ يُسَمِّي إِذَا ذَكَرَهَا فِي ابْتِدَاءِ الطَّهَارَةِ أَوْ آخِرِهَا . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " ثُمَّ يُفْرِغُ الْمَاءَ مِنْ إِنَائِهِ عَلَى يَدَيْهِ فَيَغْسِلُهُمَا ثَلَاثًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ غَسْلُ الْكَفَّيْنِ ثَلَاثًا قَبْلَ إِدْخَالِهِمَا الْإِنَاءَ سُنَّةٌ عَلَى كُلِّ مُتَوَضِّئٍ أَوْ مُغْتَسِلٍ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ ، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيُّ : غَسْلُ الْكَفَّيْنِ قَبْلَ إِدْخَالِهِمَا الْإِنَاءَ وَاجِبٌ عَلَى مَنْ قَامَ مِنَ النَّوْمِ فَإِنْ غَمَسَهُمَا فِي الْإِنَاءِ قَبْلَ غَسْلِهِمَا نَجَّسَ الْمَاءَ سَوَاءٌ تَيَقَّنَ نَجَاسَةَ كَفَّيْهِ أَمْ لَا ، وَقَالَ دَاوُدُ : غَسْلُهُمَا وَاجِبٌ لَكِنْ لَا يُنَجِّسُ الْمَاءَ بِتَرْكِ الْغَسْلِ إِلَّا أَنْ يَعْلَمَ نَجَاسَةَ كَفَّيْهِ .

وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : غَسْلُهُمَا وَاجِبٌ عَلَى مَنْ قَامَ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ دُونَ النَّهَارِ وَلَا يُنَجِّسُ الْمَاءَ بِتَرْكِ الْغَسْلِ مَا لَمْ يَتَيَقَّنِ النَّجَاسَةَ . وَاسْتَدَلُّوا جَمِيعًا بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ " ، فَحَمْلَهُ الْحَسَنُ وَدَاوُدُ عَلَى كُلِّ قَائِمٍ مِنَ النَّوْمِ لِعُمُومِ اللَّفْظِ ، وَحَمَلَهُ أَحْمَدُ عَلَى نَوْمِ اللَّيْلِ لِقَوْلِهِ : فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ وَالْبَيَاتُ يَكُونُ فِي اللَّيْلِ دُونَ النَّهَارِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [ الْمَائِدَةِ : ] وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَعْرَابِيِّ : " تَوَضَّأْ كَمَا أَمَرَكَ اللَّهُ اغْسِلْ وَجْهَكَ وَذِرَاعَيْكَ " ، فَلَمْ يُقَدَّمْ فِي الْآيَةِ ، وَالْخَبَرُ عَلَى الْوَجْهِ فَرْضًا ؛ وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَلْزَمْ غَسْلُهُ فِي وُضُوئِهِ مِنْ غَيْرِ النَّوْمِ لَا يَلْزَمُ غَسْلُهُ فِي وُضُوئِهِ مِنَ النَّوْمِ أَصْلُهُ سَائِرُ الْجَسَدِ . وَلِأَنَّهَا طَهَارَةٌ عَنْ حَدَثٍ فَوَجَبَ أَلَّا تَلْزَمَ تَكْرَارَ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ فِيهَا كَالتَّيَمُّمِ ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ فَهُوَ أَنَّ مَا ذُكِرَ فِيهِ مِنَ التَّعْلِيلِ دَلِيلُنَا عَلَى حَمْلِهِ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ دُونَ الْإِيجَابِ ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَ بِغَسْلِ الْيَدِ خَوْفَ النَّجَاسَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ : فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يَسْتَعْمِلُونَ الْأَحْجَارَ وَيَنَامُونَ فَيَعْرَقُونَ ، وَرُبَّمَا حَصَّلَتْ أَيْدِيهِمْ مَوْضِعَ النَّجَاسَةِ فَنُجِّسَتْ وَهَذَا مُتَوَهَّمٌ ، وَتَنْجيِسُهَا شَكٌّ وَمَا وَقَعَ الشَّكُّ فِي تَنْجِيسِهِ لَمْ يَجِبْ غَسْلُهُ وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ قَيْسًا الْأَشْجَعِيَّ قَالَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ : فَكَيْفَ بِنَا إِذَا أَتَيْنَا مِهْرَاسَكُمْ هَذَا ، فَقَالَ : أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّكَ يَا قَيْسُ . وَلَوْ كَانَ غَسْلُ الْيَدَيْنِ وَاجِبًا عَلَى مَنْ أَرَادَ إِدْخَالَهُمَا فِي الْإِنَاءِ لَوَجَبَ عَلَى مَنْ لَمْ يُدْخِلْهُمَا فِي الْإِنَاءِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ غَسْلَ كَفَّيْهِ ثَلَاثًا للمتوضئ سُنَّةٌ فَهُوَ سُنَّةٌ عَلَى كُلِّ مُتَوَضِّئٍ سَوَاءٌ قَامَ مَنْ نَوْمٍ أَوْ لَمْ يَقُمْ ، لَكِنَّهُ إِذَا قَامَ مِنْ نَوْمٍ فَالسُّنَّةُ أَنْ يَغْسِلَهُمَا ثَلَاثًا قَبْلَ إِدْخَالِهِمَا فِي الْإِنَاءِ فَإِنْ لَمْ يَقُمْ مِنْ نَوْمٍ فَقَدْ قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إِنْ شَاءَ أَدْخَلَهُمَا فِي الْإِنَاءِ ( قَبْلَ غَسْلِهِمَا وَإِنْ شَاءَ غَسَلَهُمَا قَبْلَ إِدْخَالِهِمَا ) . قَالَ : لِأَنَّ الْقَائِمَ مِنَ النَّوْمِ شَاكٌّ فِي نَجَاسَتِهِمَا وَغَيْرَ الْقَائِمِ مِنْ نَوْمٍ مُتَيَقِّنٌ لِطَهَارَتِهِمَا وَالصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِيمَنْ قَامَ مِنَ النَّوْمِ أَوْ لَمْ يَقُمْ فَلَا يَغْمِسُ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى ( يَغْسِلَهُمَا لِأَنَّهُ ) لَمَّا اسْتَوَيَا فِي سُنَّةِ الْغَسْلِ وَإِنْ وَرْدَ النَّصُّ فِي

الْقَائِمِ مِنَ النَّوْمِ فَاسْتَوَيَا فِي تَقْدِيمِ الْغَسْلِ عَلَى الْغَمْسِ . فَعَلَى هَذَا لَوْ غَمَسَ الْمُتَوَضِّئُ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ قَبْلَ غَسْلِهِمَا فَإِنْ تَيَقَّنَ طَهَارَتَهُمَا أَوْ شَكَّ فِيهِ فَالْمَاءُ طَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ الطَّهَارَةُ وَإِنْ تَيَقَّنَ نَجَاسَةَ يَدِهِ فَهِيَ نَجَاسَةٌ وَرَدَتْ عَلَى مَاءٍ قَلِيلٍ فَيَكُونُ نَجِسًا .

أَصْلِ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " ثَمَّ يُدْخِلُ يَدَهُ الْيُمْنَى فِي الِإنَاءِ فَيَغْرِفُ غَرْفَةً لِفِيهِ وَأَنْفِهِ وَيَتَمَضْمَضُ وَيَسْتَنْشِقُ ثَلَاثًا وَيُبْلِغُ خَيَاشِيمَهُ الْمَاءَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ صَائِمًا فَيَرْفَقُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ فِيِ فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي أَصْلِ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَوْ سُنَّةٌ . وَالثَّانِي : فِي صِفَتِهِ وَكَيْفِيَّتِهِ . فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ : فِي أَصْلِ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ : فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ . أَحَدُهُمَا : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَالِكٌ أَنَّهُمَا سُنَّتَانِ فِي الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى الَّتِي هِيَ الْوُضُوءُ ، وَفِي الطَّهَارَةِ الْكُبْرَى الَّتِي هِيَ الْغُسْلُ . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : وَهُوَ مَذْهَبُ عَطَاءٍ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَإِسْحَاقَ أَنَّهُمَا وَاجِبَتَانِ فِي الطَّهَارَةِ الْكُبْرَى وَالصُّغْرَى مَعًا . وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ : وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَدَاوُدَ وَأَبِي ثَوْرٍ أَنَّ الِاسْتِنْشَاقَ وَاجِبٌ فِي الطَّهَارَتَيْنِ الصُّغْرَى وَالْكُبْرَى وَالْمَضْمَضَةُ سُنَّةٌ فِيهِمَا . وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُمَا وَاجِبَتَانِ فِي الطَّهَارَةِ الْكُبْرَى مَسْنُونَتَانِ فِي الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَوْجَبَهُمَا فِي الطَّهَارَتَيْنِ بِغُسْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمَا وَفِعْلُهُ بَيَانٌ ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَوْجَبَ الِاسْتِنْشَاقَ فِيهِمَا دُونَ الْمَضْمَضَةِ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنْ تَوَضَّأَ فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ مَاءً ثُمَّ لِيَنْثُرْهُ " وَبِحَدِيثِ عَاصِمِ بْنِ لَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِيِ عَنِ الْوُضُوءِ قَالَ : أَسْبِغِ الْوُضُوءَ وَخَلِّلْ بَيْنَ الْأَصَابِعِ وَبَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا " .

وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى إِيجَابِهَا فَيَ الطَّهَارَةِ الْكُبْرَى بِرِوَايَةِ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جَنَابَةٌ فَبِلُّوا الشَّعْرَ وَأَنْقُوا الْبَشَرَةَ " قَالَ : وَفِي الْأَنْفِ شَعْرٌ وَفِي الْفَمِ بَشَرَةٌ . وَبِمَا رَوَاهُ يُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطٍ ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ سَعِيدٍ ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ لِلْجُنُبِ ثَلَاثًا فَرِيضَةً ، قَالَ : وَلِأَنَّهُ عُضْوٌ سُنَّ غَسْلُهُ فِي الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى فَاقْتَضَى أَنْ يَجِبَ غَسْلُهُ فِي الطَّهَارَةِ الْكُبْرَى كَالْأُذُنَيْنِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَحَلٍّ مِنَ الْبَدَنِ وَجَبَ تَطْهِيرُهُ مِنَ النَّجَاسَةِ وَجَبَ تَطْهِيرُهُ مِنَ الْجَنَابَةِ كَالْبَشَرَةِ الَّتِي تَحْتَ شَعْرِ الْوَجْهِ ، قَالَ وَلِأَنَّ الْفَمَ وَالْأَنْفَ فِي مَعْنَى ظَاهِرِ الْبَدَنِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ إِيصَالَ الْمَاءِ إِلَيْهِمَا لَا يَشُقُّ . وَالثَّانِي : أَنَّ حُصُولَ الطَّعَامِ فِيهِمَا لَا يُفْطِرُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَا فِي إِيصَالِ الْمَاءِ إِلَيْهِمَا وَاجِبًا كَظَاهِرِ الْبَدَنِ . قَالَ : وَلِأَنَّ اللِّسَانَ يَلْحَقُهُ حُكْمُ الْجَنَابَةِ فِي الْمَنْعِ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فَوَجَبَ أَنْ يَلْحَقَهُ حُكْمُ الْجَنَابَةِ فِي التَّطْهِيرِ بِالْمَاءِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ سُنَّةٌ وَهُوَ دَلِيلُ الْجَنَابَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا [ النِّسَاءِ : ] . فَكَانَ الْغُسْلُ وَحْدَهُ غَايَةَ الْحُكْمِ .

وَرُوِيَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي امْرَأَةٌ أَشُدُّ ضَفْرَ رَأْسِي أَفَأَنْقُضُهُ لِلْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ فَقَالَ : لَا إِنَّمَا يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِيَ عَلَى رَأْسِكِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ مِنْ مَاءٍ ثُمَّ تُفِيضِي عَلَيْكِ الْمَاءَ فَإِذَا أَنْتِ قَدْ طَهُرْتِ " . فَكَانَ مِنْهُ دَلِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِالْإِفَاضَةِ . وَالثَّانِي : قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِذَا أَنْتِ قَدْ طَهُرْتِ . وَرَوَى جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ قَالَ : تَذَاكَرْنَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُسْلَ الْجَنَابَةِ فَقَالَ : " أَمَّا أَنَا فَأَحْثِي عَلَى رَأْسِي ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ مِنْ مَاءٍ فَإِذَا أَنَا قَدْ طَهُرْتُ " . وَمِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنَّهَا طَهَارَةٌ عَنْ حَدَثٍ فَوَجَبَ أَلَّا يَسْتَحِقَّ فِيهَا الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ كَغُسْلِ الْمَيِّتِ ؛ وَلِأَنَّ مَا لَا يَجِبُ غَسْلُهُ مِنَ الْمَيِّتِ لَمْ يَجِبْ غَسْلُهُ مِنَ الْجُنُبِ كَالْعَيْنَيْنِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِقَوْلِهِ تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جَنَابَةٌ فَهُوَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ رَاوِيَهُ الْحَارِثُ بْنُ وَجِيهٍ ، عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ وَكَانَ الْحَارِثُ ضَعِيفًا وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى مَا ظَهَرَ مِنَ الشَّعْرِ وَالْبَشَرِ بِدَلِيلِ أَنَّ شَعْرَ الْعَيْنِ لَا يَجِبُ غَسْلُهُ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ لِلْجُنُبِ ثَلَاثًا فَرِيضَةً ، أَنَّهُ رَوَاهُ بَرَكَةُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَلَبِيُّ ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ أَسْبَاطٍ وَكَانَ بَرَكَةُ مَشْهُورًا بِوَضْعِ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ يَحْمِلُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَيَكُونُ قَوْلُهُ فَرِيضَةً يَعْنِي تَقْدِيرًا أَلَا تَرَاهُ جَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثًا ، وَالثَّلَاثُ اسْتِحْبَابٌ وَلَيْسَ بِفَرْضٍ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : إِنْ كَانَ مَسْنُونًا فِي الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى كَانَ مَفْرُوضًا فِي الطَّهَارَةِ الْكُبْرَى ، مُنْتَقَضٌ بِالْمُبَالَغَةِ فِي الِاسْتِنْشَاقِ وَالتَّكْرَارِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : إِنَّ كُلَّ مَحَلٍّ وَجَبَ تَطْهِيرُهُ مِنَ النَّجَاسَةِ وَجَبَ تَطْهِيرُهُ مِنَ الْجَنَابَةِ فَهُوَ أَنَّهُ مُنْتَقَضٌ بِدَاخِلِ الْعَيْنَيْنِ ؛ لِأَنَّ غَسْلَهُ مِنَ النَّجَاسَةِ وَاجِبٌ وَمِنَ الْجَنَابَةِ غَيْرُ وَاجِبٍ . فَإِنْ قَالُوا دَاخِلُ الْعَيْنَيْنِ لَا يَجِبُ غَسْلُهُ ، مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ صَقِيلٌ لَا يَقْبَلُ النَّجَاسَةَ فَهَذِهِ دَعْوَى غَيْرُ مُسَلَّمَةٍ عَلَى أَنَّ بُطُونَ الْجُفُونِ غَيْرُ صَقِيلَةٍ تَقْبَلُ النَّجَاسَةَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَقَلُّ مِنَ الدِّرْهَمِ فَهَذَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ الْجُفُونَ الْأَرْبَعَةَ أَكْثَرُ مِنَ الدِّرْهَمِ .

وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : إِنَّ الْفَمَ وَالْأَنْفَ فِي مَعْنَى ظَاهِرِ الْبَدَنِ ، مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ إِيصَالَ الْمَاءِ إِلَيْهِمَا لَا يَشُقُّ فَهَذَا يُفْسَدُ بِالْحُلْقُومِ ؛ لِأَنَّ إِيصَالَ الْمَاءِ إِلَيْهِ بِالشُّرْبِ لَا يَشُقُّ . وَالثَّانِي : أَنَّ حُصُولَ الطَّعَامِ فِيهِ لَا يُفْطِرُ وَهَذَا يُفْسَدُ بِدَاخِلِ الْعَيْنَيْنِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : إِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِاللِّسَانِ حُكْمُ الْجَنَابَةِ لِمَنْعِهِ مِنَ الْقِرَاءَةِ فَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَتَعَلَّقَ حُكْمُ الْحَدَثِ بِعُضْوٍ ثُمَّ يَرْتَفِعُ بِغَسْلِ غَيْرِهِ كَالْمُحْدِثِ هُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ حَمْلِ الْمُصْحَفِ بِشَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ وَإِذَا غَسَلَ أَعْضَاءَهُ الْأَرْبَعَةَ لَمْ يُمْنَعْ فَهَذَا جَوَابُ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُ مَنْ أَوْجَبَهُمَا فِي الطَّهَارَتَيْنِ بِفِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمَا فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَحْمُولًا عَلَى الْإِيجَابِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بَيَانًا الْمُجْمَلَ فِي الْكِتَابِ ، وَالطَّهَارَةُ مَعْقُولَةٌ غَيْرُ مُجْمَلَةٍ ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ أَوْجَبَ الِاسْتِنْشَاقَ وَحْدَهُ بِقَوْلِهِ : مَنْ تَوَضَّأَ فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ مَاءً ثُمَّ لِيَنْثُرَ ، فَهُوَ أَنَّ ظَاهِرَهُ وَإِنْ كَانَ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ فَمَعْدُولٌ عَنْهُ بِمَا ذَكَرْنَا إِلَى الِاسْتِحْبَابِ ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ لَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ فَهُوَ أَنَّهُ أَمْرٌ بِالْمُبَالَغَةِ وَتِلْكَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ فَلَمْ يَكُنْ مِنْهُ دَلِيلٌ .

صِفَةِ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ وَكَيْفِيَّتِهِمَا

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي : فِي صِفَةِ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ وَكَيْفِيَّتِهِمَا : أَمَّا الْمَضْمَضَةُ فَهِيَ إِدْخَالُ الْمَاءِ إِلَى مُقَدَّمِ الْفَمِ ، وَالْمُبَالَغَةُ فِيهَا إِدَارَتُهُ فِي جَمِيعِ الْفَمِ ، وَالِاسْتِنْشَاقُ فَهُوَ إِدْخَالُ الْمَاءِ مُقَدَّمَ الْأَنْفِ ، وَالْمُبَالَغَةُ فِيهِ إِيصَالُهُ إِلَى خَيْشُومِ الْأَنْفِ ، وَالْمُبَالَغَةُ فِيهِمَا سُنَّةٌ زَائِدَةٌ عَلَيْهِمَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ صَائِمًا فَيُبَالِغُ فِي الْمَضْمَضَةِ وَلَا يُبَالِغُ فِي الِاسْتِنْشَاقِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ : " أَسْبِغِ الْوُضُوءَ وَخَلِّلْ بَيْنَ الْأَصَابِعِ وَبَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إِلَّا أَنْ تَكْونَ صَائِمًا " . وَالْفَرْقُ فِي الصَّائِمِ بَيْنَ أَنْ يُبَالِغَ فِي الْمَضْمَضَةِ وَلَا يُبَالِغَ فِي الِاسْتِنْشَاقِ ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ بِإِطْبَاقِ حَلْقِهِ رَدُّ الْمَاءِ عَنْ وُصُولِهِ إِلَى جَوْفِهِ وَلَا يُمْكِنُهُ رَدُّ الْمَاءِ بِخَيْشُومِهِ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى رَأْسِهِ . فَإِذَا مَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنَ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ فَالسُّنَّةُ فِيهِمَا ثَلَاثًا ثَلَاثًا وَفِي كَيْفِيَّتِهِمَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ وَالرَّبِيعُ أَنَّهُ يَتَمَضْمَضُ وَيَسْتَنْشِقُ ثَلَاثًا بِغَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَغْرِفُ الْمَاءَ بِكَفِّهِ الْيُمْنَى فَيَأْخُذُ مِنْهُ بِفَمِهِ فَيَتَمَضْمَضُ ثُمَّ يَأْخُذُ مِنْهُ بِأَنْفِهِ فَيَسْتَنْشِقُ ثُمَّ يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَانِيَةً ثُمَّ يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَالِثَةً ، كُلُّ ذَلِكَ مِنْ غَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَا يُقَدِّمُ الْمَضْمَضَةَ ثَلَاثًا عَلَى الِاسْتِنْشَاقِ ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ رِوَايَةُ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ مِنْ كَفٍّ وَاحِدَةٍ يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلَاثًا .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110