كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي

طُلِّقَتْ بِهَا الْأُولَى طَلْقَةً ثَانِيَةً وَطُلِّقَتِ الثَّانِيَةُ طَلْقَةً ثَانِيَةً وَطُلِّقَتْ بِهَا وَالرَّابِعَةُ طَلْقَةً ثَالِثَةً ، فَإِنْ حَاضَتِ الرَّابِعَةُ طُلِّقَتْ بِهَا الْأُولَى طَلْقَةً ثَالِثَةً ، وَطُلِّقَتْ بِهَا الثَّانِيَةُ طَلْقَةً ثَانِيَةً ، وَطُلِّقَتْ بِهَا الثَّالِثَةُ طَلْقَةً ثَالِثَةً ، فَيُطَلَّقْنَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا ، فَلَوْ قُلْنَ : قَدْ حِضْنَا فَإِنْ كَذَّبَهُنَّ لَمْ تُطَلَّقْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ ، لِأَنَّ طَلَاقَهَا بِحَيْضِ ضَرَائِرِهَا لَا بِحَيْضِهَا ، وَإِنْ صَدَّقَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ وَكَذَّبَ الْبَاقِيَاتِ طُلِّقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمُكَذَّبَاتِ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً وَاحِدَةً : لِأَنَّهُ قَدْ صَدَّقَ عَلَيْهَا وَاحِدَةً ، وَلَا تُطَلَّقُ الْمُصَدَّقَةُ : لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ ضَرَائِرِهَا مُكَذَّبَةٌ . وَلَوْ صَدَّقَ اثْنَتَيْنِ وَكَذَّبَ اثْنَتَيْنِ طُلِّقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمُكَذَّبَتَيْنِ طَلْقَتَيْنِ : لِأَنَّهُ قَدْ صَدَّقَ عَلَيْهَا ضَرَّتَيْنِ وَطُلِّقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمُصَدَّقَتَيْنِ طَلْقَةً وَاحِدَةً ، لِأَنَّهُ قَدْ صَدَّقَ عَلَيْهَا ضَرَّةً وَاحِدَةً ، وَلَوْ صَدَّقَ ثَلَاثًا وَكَذَّبَ وَاحِدَةً طُلِّقَتِ الْمُكَذَّبَةُ ثَلَاثًا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَدَّقَ عَلَيْهَا ثَلَاثَ ضَرَائِرَ وَطُلِّقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمُصَدَّقَاتِ طَلْقَتَيْنِ : لِأَنَّهُ قَدْ صَدَّقَ عَلَيْهَا ضَرَّتَيْنِ ، وَلَوْ صَدَّقَ الْأَرْبَعَ كُلَّهُنَّ طُلِّقَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ ثَلَاثًا : لِأَنَّهُ قَدْ صَدَّقَ عَلَيْهَا ثَلَاثَ ضَرَائِرَ .

فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَ لَهَا : إِذَا حِضْتِ حَيْضَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً ، فَإِذَا حِضْتِ حَيْضَتَيْنِ فَأَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ فما الحكم . فَحَاضَتْ حَيْضَتَيْنِ طُلِّقَتْ ثَلَاثًا ، بِالْأُولَى مِنْهُمَا طَلْقَةٌ : لِأَنَّهَا قَدْ حَاضَتْ حَيْضَةً ، وَبِالثَّانِيَةِ مِنْهُمَا طَلْقَتَيْنِ ؛ لِأَنَّهَا قَدْ حَاضَتْ حَيْضَتَيْنِ . وَمِثَالُهُ أَنْ يَقُولَ : إِنْ كَلَّمْتِ رَجُلًا فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً ، وَإِنْ كَلَّمْتِ شَيْخًا فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَإِنْ كَلَّمْتِ زَيْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً فَكَلَّمَتْ زَيْدًا وَكَانَ شَيْخًا فما الحكم طُلِّقَتْ ثَلَاثًا ، وَاحِدَةً بِأَنَّهُ رَجُلٌ وَثَانِيَةً بِأَنَّهُ شَيْخٌ وَثَالِثَةً بِأَنَّهُ زَيْدٌ ، وَلَوْ كَلَّمَتْ عَمْرًا وَإِنْ كَانَ شَابًّا لَمْ تُطَلَّقْ إِلَّا وَاحِدَةً بِأَنَّهُ رَجُلٌ . وَلَوْ كَانَ شَيْخًا لَمْ تُطَلَّقْ إلَّا اثْنَتَيْنِ وَاحِدَةً بِأَنَّهُ رَجُلٌ وَثَانِيَةً بِأَنَّهُ شَيْخٌ ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ لَهَا : إِذَا حِضْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً ، ثُمَّ إِذَا حِضْتِ حَيْضَتَيْنِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ فما الحكم لَمْ تُطَلَّقْ ثَلَاثًا إِلَّا بِثَلَاثِ حِيَضٍ لِأَجْلِ قَوْلِهِ . فَيَقَعُ مِنْهُمَا بِالْحَيْضَةِ الْأُولَى طَلْقَةٌ وَلَا تُطَلَّقُ بِالْحَيْضَةِ الثَّانِيَةِ شَيْئًا ، فَإِذَا حَاضَتِ الْحَيْضَةَ الثَّالِثَةَ صَارَتْ مَعَ الْحَيْضَةِ الثَّانِيَةِ صِفَةً لِوُقُوعِ الطَّلْقَتَيْنِ فَتُطَلَّقُ حِينَئِذٍ ثَلَاثًا ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ، لِأَنَّ " ثُمَّ " تُوجِبُ التَّرَاخِيَ وَالْفَصْلَ ، وَالْوَاوَ تُوجِبُ الِاشْتِرَاكَ وَالْجَمْعَ ، فَلِذَلِكَ افْتَرَقَا فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ . فَصْلٌ آخَرُ : إِذَا قَالَ وَلَهُ امْرَأَتَانِ : إِذَا حِضْتُمَا حَيْضَةً فَأَنْتُمَا طَالِقَتَانِ فما الحكم فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ عَلَّقَ طَلَاقَهُمَا بِحَيْضَةٍ مِنْهُمَا وَمُسْتَحِيلٌ أَنْ يَشْتَرِكَا فِي حَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَا بِحَيْضِ إِحْدَاهُمَا : لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ الْحَيْضَةُ مِنْهُمَا فَصَارَ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِهَا لَغْوًا فَلَمْ تَقَعْ .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الشَّرْطَ صَحِيحٌ وَتَعْلِيقَ الطَّلَاقِ بِهِ جَائِزٌ ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ : إِذَا حِضْتُمَا حَيْضَةً أَيْ إِذَا حَاضَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا حَيْضَةً فَأَنْتُمَا طَالِقَتَانِ ، وَالْكَلَامُ إِذَا كَانَ مَفْهُومَ الْمَعْنَى وَأَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى الصِّحَّةِ . وَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ لَمْ يَجُزْ حَمْلُهُ عَلَى الْإِلْغَاءِ وَالْفَسَادِ ، فَإِذَا حَاضَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ حَيْضَةً كَامِلَةً طُلِّقَتْ طَلَاقَ السُّنَّةِ لِوُقُوعِهِ فِي أَوَّلِ الطُّهْرِ وَإِنْ حَاضَتْ إِحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى لَمْ تُطَلَّقْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا . وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : اخْتِلَافُ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَأَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتَيْهِ إِذَا وَلَدْتُمَا وَلَدًا فَأَنْتُمَا طَالِقَتَانِ ، فَذَهَبَ الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ مِنْ أَصْحَابِنَا . وَأَبُو يُوسُفَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُمَا لَا يَلْحَقُهُمَا بِالْوِلَادَةِ طَلَاقٌ : لِأَنَّهُ إِنْ وَلَدَتْ إِحْدَاهُمَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْهُمَا وَإِنْ وَلَدَتَا مَعًا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ وَلَدًا ، فَلِذَلِكَ لَمْ تُطَلَّقْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا بِوِلَادَتِهَا وَلَا بِوِلَادَتِهِمَا . وَذَهَبَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إِلَى أَنَّ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ بِهِمَا صَحِيحٌ وَالْمُرَادُ بِهِ وِلَادَةُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ، فَإِذَا وَلَدَتْ إِحْدَاهُمَا لَمْ تُطَلَّقْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا ، وَإِنْ وَلَدَتَا مَعًا طُلِّقَتَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا بَعْضُهُنَّ لِلسُنَّةِ وَبَعْضُهُنَّ لِلْبِدْعَةِ فما الحكم وَقَعَتِ اثْنَتَانِ فِي أَيِّ الْحَالَيْنِ كَانَتْ وَالْأُخْرَى إِذَا صَارَتْ فِي الْحَالِ الْأُخْرَى قُلْتُ أَنَا أَشْبَهُ بِمَذْهَبِهِ عِنْدِي أَنَّ قَوْلَهُ بَعْضُهُنَّ يَحْتَمِلُ وَاحِدَةً فَلَا يَقَعُ غَيْرُهَا أَوِ اثْنَتَيْنِ فَلَا يَقَعُ غَيْرُهُمَا أَوْ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ فَيَقَعُ بِذَلِكَ ثَلَاثٌ فَلَمَّا كَانَ الشَكُّ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ مَا أَرَادَ بِبَعْضِهِنَّ فِي الْحَالِ الْأُولَى إِلَّا وَاحِدَةً وَبَعْضُهُنَ الْبَاقِي فِي الْحَالِ الثَّانِيَةِ فَالْأَقَلُّ يَقِينٌ وَمَا زَادَ شَكٌّ وَهُوَ لَا يَسْتَعْمِلُ الْحُكْمَ بِالشَكِّ فِي الطَّلَاقِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا بَعْضُهُنَّ لِلسُّنَّةِ وَبَعْضُهُنَّ لِلْبِدْعَةِ ، فَالْبَعْضُ اسْمٌ مُبْهَمٌ يَجُوزُ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى أَقَلِّ الثَّلَاثِ وَعَلَى أَكْثَرِهَا ، وَعَلَى الْعَدَدِ الصَّحِيحِ مِنْهَا وَالْمَكْسُورِ . فَإِذَا جَعَلَ بَعْضَ الثَّلَاثِ لِلسُّنَّةِ وَبَعْضَهَا لِلْبِدْعَةِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُقَدِّرَ بِلَفْظِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يُقَدِّرَ بِنِيَّتِهِ ، فَإِنْ أَطْلَقَ وَلَمْ يُقَدِّرْ بِلَفْظِهِ وَلَا بِنِيَّتِهِ اقْتَضَى إِطْلَاقَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْبَعْضِ وَأَلَّا يُفَضِّلَ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِدَارٍ لِرَجُلَيْنِ كَانَتْ بَيْنَهُمَا مِنْ غَيْرِ تَفْضِيلٍ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ تَفْضِيلُ أَحَدِهِمَا بِالزِّيَادَةِ بِأَوْلَى مِنْ تَفْضِيلِ الْآخَرِ . فَلِذَلِكَ وَجَبَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا . وَأَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْبَعْضَيْنِ طَلْقَةً وَنِصْفًا ، فَيُجْعَلُ الْبَعْضُ الْوَاقِعُ فِي الْحَالِ طَلْقَةً وَنِصْفًا . وَالطَّلَاقُ لَا يَتَبَعَّضُ بَلْ يَكْمُلُ فَوَجَبَ أَنْ يَقَعَ فِي الْحَالِ طَلْقَتَانِ ، فَإِنْ كَانَتِ الْحَالُ الْأُولَى حَالَ السُّنَّةِ ، كَانَتِ الطَّلْقَتَانِ لِلسُّنَّةِ ، وَوَقَعَتْ

الثَّالِثَةُ لِلْبِدْعَةِ . وَإِنْ كَانَتِ الْحَالُ الْأُولَى حَالَ الْبِدْعَةِ كَانَتِ الطَّلْقَتَانِ لِلْبِدْعَةِ ، وَالطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ لِلسُّنَّةِ . وَقَالَ الْمُزَنِيُّ : إِطْلَاقُ التَّبْعِيضِ يَقْتَضِي تَعْجِيلَ أَقَلِّهِمَا ، فَلَا يَقَعُ فِي الْحَالِ الْأُولَى إِلَّا وَاحِدَةٌ : لِأَنَّ ذَلِكَ يَقِينٌ وَالزِّيَادَةُ شَكٌّ . وَإِذَا اقْتَرَنَ بِيَقِينِ الطَّلَاقِ شَكٌّ لَمْ يَعْمَلْ إِلَّا عَلَى الْيَقِينِ دُونَ الشَّكِّ وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْبَعْضَيْنِ فِي الْإِطْلَاقِ أَوْلَى مِنَ التَّفْضِيلِ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَإِنْ قَدَّرَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْبَعْضَيْنِ بِلَفْظٍ ، حُمِلَ عَلَى مَا قَدَّرَهُ بِلَفْظِهِ ، سَوَاءٌ عَجَّلَ الْأَكْثَرَ فَأَوْقَعَ فِي الْحَالِ الْأُولَى طَلْقَتَيْنِ ، وَفِي الْحَالِ الْأُخْرَى طَلْقَةً أَوْ عَجَّلَ الْأَقَلَّ فَأَوْقَعَ فِي الْحَالِ الْأُولَى طَلْقَةً وَفِي الْحَالِ الْأُخْرَى طَلْقَتَيْنِ أَوْ سَوَّى بَيْنَ الْحَالَيْنِ فَأَوْقَعَ فِي الْأُولَى طَلْقَتَيْنِ وَفِي الْأُخْرَى طَلْقَةً : لِأَنَّ التَّقْدِيرَ مَلْفُوظٌ بِهِ كَالطَّلَاقِ فَوَجَبَ أَنْ يُعْمَلَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ قَدَّرَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْبَعْضَيْنِ بِنِيَّتِهِ نُظِرَ فَإِنْ نَوَى بِأَعْجَلِ الْبَعْضَيْنِ أَكْثَرَهُمَا أَوِ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا عُمِلَ عَلَى نِيَّتِهِ فَوَقَعَ فِي الْحَالِ الْأُولَى طَلْقَتَانِ ، وَفِي الْحَالِ الثَّانِيَةِ طَلْقَةٌ . وَإِنْ نَوَى بِأَعْجَلِ الْبَعْضَيْنِ أَقَلَّهُمَا ، وَهُوَ أَنْ يَقَعَ فِي الْحَالَةِ الْأُولَى وَاحِدَةٌ وَفِي الْحَالِ الثَّانِيَةِ طَلْقَتَانِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ . وَلَا يَقَعُ فِي الْحَالِ الْأُولَى إِلَّا وَاحِدَةٌ وَيَقَعُ فِي الْحَالِ الْأُخْرَى طَلْقَتَانِ كَمَا لَوْ قَدَّرَهُ بِلَفْظِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا : أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ فِي الظَّاهِرِ وَيَلْزَمُهُ فِي الْحَالِ طَلْقَتَانِ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ وَيَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ قَالَ بِوَقْتٍ إِلَى شَهْرٍ وَهَذَا خَطَأٌ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْبَعْضَ حَقِيقَةٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِطْلَاقُ الطَّلَاقِ ، إِذَا نَوَى أَنْ يَكُونَ إِلَى شَهْرٍ ؛ لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ تَعْجِيلُ الطَّلَاقِ فَجَازَ أَلَّا يُحْمَلَ فِي الظَّاهِرِ عَلَى نِيَّتِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ أَعْدَلَ أَوْ أَحْسَنَ أَوْ أَكْمَلَ أَوْ مَا أَشْبَهَهُ سَأَلْتُهُ عَنْ نِيَّتِهِ فَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا وَقَعَ الطَّلَاقُ لِلسُّنَّةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ أَعْدَلَ الطَّلَاقِ أَوْ أَكْمَلَ الطَّلَاقِ أَوْ أَفْضَلَ الطَّلَاقِ أَوْ أَحْسَنَ الطَّلَاقِ أَوْ أَهْنَأَهُ أَوْ أَسْرَاهُ أَوْ أَسْوَأَهُ أَوْ أَنْهَاهُ أَوْ قَالَ شِبْهَ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْحَمْدِ فما الحكم لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهِ نِيَّةٌ أَوْ لَا نِيَّةَ لَهُ فِيهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ نِيَّةٌ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى طَلَاقِ السُّنَّةِ ، لِأَنَّهُ الْأَعْدَلُ الْأَفْضَلُ الْأَجْمَلُ الْأَكْمَلُ سَوَاءٌ تَغَلَّظَ ذَلِكَ عَلَيْهِ بِالتَّعْجِيلِ أَوْ تَخَفَّفَ بِالتَّأْجِيلِ ، وَإِنْ كَانَتْ طَاهِرًا طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ طَلَاقَ السُّنَّةِ . وَإِنْ كَانَتْ حَائِضًا لَمْ تُطَلَّقْ حَتَّى إِذَا طَهُرَتْ طُلِّقَتْ حِينَئِذٍ لِلسُّنَّةِ وَإِنْ كَانَتْ لَهُ نِيَّةٌ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ نِيَّتُهُ مُوَافِقَةً لِظَاهِرِ لَفْظِهِ وَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ طَلَاقَ السُّنَّةِ فَيُحْمَلُ عَلَى مَا نَوَى مِنْ طَلَاقِ السُّنَّةِ وَتَكُونُ النِّيَّةُ تَأْكِيدًا لِلظَّاهِرِ : لِأَنَّهُ إِذَا حُمِلَ عَلَى طَلَاقِ السُّنَّةِ فِي غَيْرِ نِيَّةٍ كَانَ أَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ مَعَ النِّيَّةِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ نِيَّتُهُ مُخَالِفَةً لِظَاهِرِ لَفْظِهِ ، وَهُوَ أَنْ يُرِيدَ بِهِ طَلَاقَ الْبِدْعَةِ لِأَنَّهُ اعْتَقَدَ أَنَّ الْأَعْدَلَ مَعَ قُبْحِ طَرِيقِهَا ، وَالْأَجْمَلَ بِسُوءِ خُلُقِهَا ، أَنْ يُطَلِّقَ لِلْبِدْعَةِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ أَغْلَظَ حَالَيْهِ بِأَنْ تَكُونَ حَائِضًا أَوْ مُجَامَعَةً فَيُحْمَلُ عَلَى طَلَاقِ الْبِدْعَةِ ، وَيَقَعُ الطَّلَاقُ فِي الْحَالِ : لِأَنَّهُ أَغْلَظُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ أَخَفَّ حَالَيْهِ بِأَنْ تَكُونَ فِي الْحَالِ طَاهِرًا غَيْرَ مُجَامَعَةٍ ، دِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى . وَهَلْ تُقْبَلُ مِنْهُ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُقْبَلُ مِنْهُ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ وُقُوعُ الطَّلَاقَ إِلَّا إِذَا صَارَتْ إِلَى حَالِ الْبِدْعَةِ ، لِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنَ التَّأْوِيلِ قَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يُعْدَلَ بِظَاهِرِ اللَّفْظِ إِلَيْهِ ثُمَّ لَا يَلْزَمُهُ فِي ذَلِكَ إِلَّا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ مَا لَمْ يُرِدْ أَكْثَرَ مِنْهَا . فَإِنْ قِيلَ فَهَلَّا إِذَا قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ أَكْمَلَ الطَّلَاقِ يَلْزَمُهُ الثَّلَاثُ لِأَنَّهَا أَكْمَلُ الطَّلَاقِ قِيلَ : الثَّلَاثُ هِيَ أَكْمَلُ الطَّلَاقِ عَدَدًا وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ أَكْمَلَ الطَّلَاقِ صِفَةً وَحُكْمًا ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى كَمَالِ الْعَدَدِ دُونَ الصِّفَةِ إِلَّا بِنِيَّةٍ : لِأَنَّ الثَّلَاثَ زِيَادَةٌ فَلَمْ تَقَعْ إِلَّا بِالْيَمِينِ وَلَكِنْ لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ أَكْثَرَ الطَّلَاقِ وَقَعَ ثَلَاثًا : لِأَنَّ الْكَثْرَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا فِي الْعَدَدِ ، دُونَ الصِّفَةِ ، وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ أَكْثَرَ الطَّلَاقِ كَانَ وَاحِدَةً وَلَمْ يَكُنْ ثَلَاثًا إِلَّا بِالنِّيَّةِ : لِأَنَّهُ الْأَكْثَرُ قَدْ يَعُودُ إِلَى الصِّفَةِ كَمَا يَعُودُ إِلَى الْعَدَدِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَ أَقْبَحَ أَوْ أَسْمَجَ أَوْ أَفْحَشَ أَوْ مَا أَشْبَهَهُ سَأَلْتُهُ عَنْ نِيَّتِهِ فَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا وَقَعَ لِلْبِدْعَةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا نَصُّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ صِفَةِ الطَّلَاقِ بِصِفَاتِ الْحَمْدِ فَإِذَا قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ أَقْبَحَ الطَّلَاقِ أَوْ أَسْمَجَ الطَّلَاقِ أَوْ أَفْحَشَ الطَّلَاقِ أَوْ أَرْدَأَهُ أَوْ أَنْدَاهُ أَوْ أَضَرَّهُ أَوْ أَنْكَرَهُ أَوْ أَمَرَّهُ . أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الذَّمِّ ، فما الحكم فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ حُمِلَ عَلَى طَلَاقِ الْبِدْعَةِ ، لِأَنَّهُ الْأَسْمَجُ ، الْأَقْبَحُ الْأَضَرُّ الْأَمَرُّ . وَإِنْ كَانَتْ لَهُ نِيَّةٌ نُظِرَ فِيهَا فَإِنْ وَافَقَتْ ظَاهِرَ لَفْظِهِ ، أَنْ يُرِيدَ بِهِ طَلَاقَ الْبِدْعَةِ حُمِلَ عَلَيْهَا ، وَكَانَ عِشْرَتُهَا هُوَ الْأَسْمَجَ الْأَقْبَحَ ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَغْلَظَ حَالَيْهِ وَأَعْجَلَهُمَا عُمِلَ عَلَيْهِ وَقُبِلَ قَوْلُهُ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ أَخَفَّ حَالَيْهِ وَأَبْعَدَهُمَا دِينَ فِيهِ ، وَفِي قَبُولِهِ مِنْهُ فِي الْحُكْمِ وَجْهَانِ :

أَحَدُهُمَا : لَا يُقْبَلُ مِنْهُ اعْتِبَارًا بِظَاهِرِ اللَّفْظِ . وَالثَّانِي : يُقْبَلُ مِنْهُ لِاحْتِمَالِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّأْوِيلِ .

فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ أَشَدَّ الطَّلَاقِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فما الحكم طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ سُنَّةٍ وَلَا بِدْعَةٍ ، لِأَنَّ أَشَدَّ الطَّلَاقِ تَعْجِيلُهُ وَتَكُونُ رَجْعِيَّةً ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ أَطْوَلَ الطَّلَاقِ أَوْ أَعْرَضَ الطَّلَاقِ أَوْ أَقْصَرَ الطَّلَاقِ كَانَتْ وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً : لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا طُولَ لَهُ وَلَا عَرْضَ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِذَا قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ أَكْبَرَ الطَّلَاقِ أَوْ أَطْوَلَ الطَّلَاقِ أَوْ أَعْرَضَ الطَّلَاقِ أَوْ أَشَدَّ الطَّلَاقِ طُلِّقَتْ طَلْقَةً وَاحِدَةً بَائِنَةً . وَوَافَقَ فِي الْأَقْصَرِ وَالْأَصْغَرِ أَنَّهَا تَكُونُ رَجْعِيَّةً . وَعِنْدَنَا لَا تَكُونُ الْوَاحِدَةُ بَائِنَةً بِحَالٍ إِلَّا فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا . وَالْكَلَامُ مَعَهُ يَأْتِي .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً حَسَنَةً قَبِيحَةً أَوْ جَمِيلَةً فَاحِشَةً طُلِّقَتْ حِينَ تَكَلَّمَ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا قَصَدَ الطَّلَاقَ بِصِفَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ فَقَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً حَسَنَةً قَبِيحَةً ، أَوْ جَمِيلَةً فَاحِشَةً ، أَوْ ضَارَّةً نَافِعَةً ، أَوْ سُنِّيَّةً بِدْعِيَّةً وَقَعَ طَلَاقُهَا فِي الْحَالِ ، سَوَاءٌ كَانَتْ فِي حَالِ السُّنَّةِ أَوْ فِي حَالِ الْبِدْعَةِ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ تَعْلِيلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ وَصَفَهَا بِصِفَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا صِفَةُ طَلَاقِ السُّنَّةِ وَالْأُخْرَى صِفَةُ طَلَاقِ الْبِدْعَةِ ، وَهِيَ فِي أَحَدِ الْحَالَتَيْنِ ، فَوَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا بِوُجُودِ إِحْدَى الصِّفَتَيْنِ . وَقَالَ آخَرُونَ : بَلِ الْعِلَّةُ فِيهِ أَنَّ تَقَابُلَ الصِّفَتَيْنِ أَوْجَبَ سُقُوطَهُمَا ، لِأَجْلِ الْمُضَادَّةِ فِيهِمَا فَصَارَتِ الطَّلْقَةُ بِسُقُوطِ الصِّفَتَيْنِ مُطْلَقَةً ، فَوَقَعَ الطَّلَاقُ بِهَا فِي الْحَالِ ، وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقَ الْحَرَجِ وَالسِّرِّ ، فما الحكم وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا فِي الْحَالِ ، لِأَنَّ طَلَاقَ الْحَرَجِ هُوَ طَلَاقُ الْبِدْعَةِ فَصَارَ وَاصِفًا لَهَا بِصِفَتَيْنِ مُتَضَادَّتَيْنِ فَيَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ مُعَجَّلًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنِ اخْتِلَافِ الْعِلَّتَيْنِ فَلَوْ قَالَ : أَرَدْتُ بِالْحَرَجِ ، طَلَاقَ الثَّلَاثِ وَبِالسُّنَّةِ أَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ طُهْرٍ وَاحِدَةٌ ، فَهَذَا يَحْتَمِلُ ظَاهِرُ كَلَامِهِ أَيْضًا . وَهُوَ أَغْلَظُ عَلَيْهِ مِنَ الْوَاحِدَةِ الْمُعَجَّلَةِ فَتَقَعُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا عَلَى مَا نَوَى . وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ مِلْءَ مَكَّةَ أَوْ مِلْءَ الْحِجَازِ أَوْ مِلْءَ الدُّنْيَا ، فما الحكم طُلِّقَتْ وَاحِدَةً لَمْ يُرِدْ أَكْثَرَ مِنْهَا . لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَشْمَلُ مَحَلًّا ، فَيَقَعُ فِي مَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ . وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ : مِلْءَ الدُّنْيَا أَيْ يَظْهَرُ ذِكْرُهَا فِي الدُّنْيَا ، وَقَدْ ظَهَرَ فِيهَا ذِكْرُ الْوَاحِدَةِ كَظُهُورِ الثَّلَاثِ .



مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إِذَا قَدِمَ فُلَانٌ لِلسُنَّةِ فما الحكم فَقَدِمَ فُلَانٌ فَهِيَ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : لِأَنَّهُ عَلَّقَ طَلَاقَهَا بِشَرْطٍ وَصِفَةٍ ، فَالشَّرْطُ قُدُومُ زَيْدٍ وَالصِّفَةُ أَنْ يَكُونَ طَلَاقَ السُّنَّةِ فَوَجَبَ أَنْ تُعْتَبَرَ الصِّفَةُ بَعْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَلَا طَلَاقَ قَبْلَ قُدُومِ زَيْدٍ ، فَإِذَا قَدِمَ فَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطُ فَوَجَبَ مُرَاعَاةُ الصِّفَةِ فَإِنْ كَانَتْ عِنْدَ قُدُومِ زَيْدٍ فِي طُهْرٍ لَمْ تُجَامَعْ فِيهِ ، طُلِّقَتْ حَالَ قُدُومِهِ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَالصِّفَةِ مَعًا ، وَإِنْ كَانَتْ حَائِضًا أَوْ فِي طُهْرٍ قَدْ جُومِعَتْ فِيهِ ، لَمْ تُطَلَّقْ بِوُجُودِ الشَّرْطِ لِعَدَمِ الصِّفَةِ حَتَّى إِذَا صَارَتْ فِي طُهْرٍ لَا جِمَاعَ فِيهِ ، طُلِّقَتْ بِحُدُوثِ الصِّفَةِ بَعْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَلَا يُعْتَبَرُ اجْتِمَاعُ الصِّفَةِ وَالشَّرْطِ . وَلَكِنْ لَوْ قَالَ : إِذَا قَدِمَ فُلَانٌ وَأَنْتِ مِنْ ذَوَاتِ السُّنَّةِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فما الحكم لَمْ تُطَلَّقْ إِلَّا بِقُدُومِ فُلَانٍ وَهِيَ فِي طُهْرٍ لَا جِمَاعَ فِيهِ ، لِأَنَّهُ قَدْ جَعَلَ الصِّفَةَ شَرْطًا ، وَجَعَلَ طَلَاقَهَا مُعَلَّقًا بِاجْتِمَاعِ شَرْطَيْنِ ، فَلَمْ تُطَلَّقْ بِوُجُودِ أَحَدِهِمَا وَلَا بِانْفِرَادِهِمَا . وَلَوْ قَالَ : إِذَا قَدِمَ زَيْدٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، وَلَمْ يُعَلِّقْهُ بِسُنَّةٍ وَلَا بِدْعَةٍ ، فما الحكم طُلِّقَتْ بِقُدُومِهِ طَاهِرًا كَانَتْ أَوْ حَائِضًا . لَكِنْ إِنْ كَانَتْ طَاهِرًا فَهُوَ طَلَاقُ سُنَّةٍ ، وَإِنْ كَانَتْ حَائِضًا فَهُوَ طَلَاقُ بِدْعَةٍ ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ بِهِ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْهُ . أَلَا تَرَى أَنَّ مُتَعَمِّدَ وَطْءِ الشُّبْهَةِ آثِمٌ ، وَمَنْ لَمْ يَتَعَمَّدْهُ غَيْرُ آثِمٍ ، وَإِذَا لَمْ يَأْثَمْ لَمْ يُنْدَبْ إِلَى الرَّجْعَةِ كَالْآثِمِ ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالرَّجْعَةِ قَطْعُ الْإِثْمِ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ إِذَا قَدِمَ زَيْدٌ وَبَيْنَ قَوْلِهِ إِنْ قَدِمَ زَيْدٌ ، أَنَّهَا لَا تُطَلَّقُ إِلَّا بِقُدُومِ زَيْدٍ ، لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا حَرْفَا شَرْطٍ . وَلَكِنْ لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ إِذَا قَدِمَ زَيْدٌ ، وَأَنْتِ طَالِقٌ أَنْ قَدِمَ بِفَتْحِ الْأَلِفِ فما الحكم طُلِّقَتْ مَكَانَهَا ، لِأَنَّهُمَا حَرْفَا جَزَاءٍ عَنْ مَاضٍ سَوَاءٌ كَانَ زَيْدٌ قَدْ قَدِمَ أَمْ لَا ؛ لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَقْدُمْ بَطَلَ الْجَزَاءُ وَثَبَتَ الْحُكْمُ .

فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ إِذَا جَاءَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ ، فما الحكم فَيَوْمُ الْجُمُعَةِ شَرْطٌ وَطَلَاقُ السُّنَّةِ صِفَةٌ فَإِنْ جَاءَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَهِيَ فِي طُهْرٍ لَا جِمَاعَ فِيهِ طُلِّقَتْ ، وَإِنْ كَانَتْ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ حَائِضًا فَإِذَا طَهُرَتْ طُلِّقَتْ ، وَلَوْ كَانَ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ فما الحكم فَإِنْ كَانَتْ فِيهِ طَاهِرًا طُلِّقَتْ ، وَإِنْ كَانَتْ حَائِضًا فِيهِ لَمْ تُطَلَّقْ إِذَا طَهُرَتْ ، لِأَنَّهُ جَعَلَ وُقُوعَ طَلَاقِهَا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ شَرْطًا ، فَلَمْ يَقَعْ فِي غَيْرِهِ . وَلَمْ يَجْعَلْهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى شَرْطًا فَجَازَ أَنْ يَقَعَ فِي غَيْرِهِ فَلِذَلِكَ افْتَرَقَا .

فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ لِصَغِيرَةٍ أَوْ حَامِلٍ أَوْ غَيْرِ مَدْخُولٍ بِهَا : إِذَا قَدِمَ زَيْدٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ فما الحكم . فَإِنْ قَدِمَ زَيْدٌ قَبْلَ بُلُوغِ الصَّغِيرَةِ وَوَضْعِ الْحَامِلِ ، وَوَطْءِ غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا

طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ ، لِأَنَّهُ لَا سُنَّةَ فِي طَلَاقِهِنَّ وَلَا بِدْعَةَ . وَإِنْ قَدِمَ زَيْدٌ بَعْدَ حَيْضِ الصَّغِيرَةِ ، وَوَضْعِ الْحَامِلِ ، وَوَطْءِ غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا ، رُوعِيَ فِيهِنَّ طَلَاقُ السُّنَّةِ اعْتِبَارًا بِحَالِ الشَّرْطِ لَا وَقْتَ الْعَقْدِ ، فَإِنْ كُنَّ فِي طُهْرٍ طُلِّقْنَ ، وَإِنْ كُنَّ فِي حَيْضٍ لَمْ يُطَلَّقْنَ فِيهِ حَتَّى إِذَا طَهُرْنَ طُلِّقْنَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ لِفُلَانٍ فما الحكم طُلِّقَتْ مَكَانَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا إِذَا قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ لِفُلَانٍ فَهِيَ طَالِقٌ فِي الْحَالِ ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ لِأَجْلِ فُلَانٍ ، وَأَمَّا إِذَا قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ لِرِضَا فُلَانٍ ، فما الحكم فَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ رِضَا فُلَانٍ شَرْطٌ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ ، وَهَذَا خَطَأٌ بَلِ الطَّلَاقُ وَاقِعٌ فِي الْحَالِ ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّكِ طَالِقٌ لِرِضَا فُلَانٍ كَقَوْلِهِ لِعَبْدِهِ : أَنْتَ حُرٌّ لِرِضَا اللَّهِ ، أَوْ لِوَجْهِ اللَّهِ ، فَإِنَّهُ يُعْتَقُ وَلَا يَكُونُ شَرْطًا ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ لِرِضَا اللَّهِ ، فَإِنْ قَالَ : أَرَدْتُ بِقَوْلِي لِرِضَا فُلَانٍ الشَّرْطَ وَأَنَّ مَعْنَاهُ إِنْ رَضِيَ فُلَانٌ فَلَا تُطَلَّقُ إِنْ لَمْ يَرْضَ فُلَانٌ وَدِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ، فَلَمْ يَقَعْ إِلَّا أَنْ يَرْضَى فُلَانٌ . فَأَمَّا الظَّاهِرُ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي الظَّاهِرِ مُعَجَّلًا اعْتِبَارًا بِحُكْمِ الظَّاهِرِ فِي الْجَزَاءِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَقَعُ فِي الظَّاهِرِ إِلَّا عَلَى مَا نَوَى ، إِذَا رَضِيَ فُلَانٌ اعْتِبَارًا بِاحْتِمَالِ الْكَلَامِ فِي كَوْنِهِ شَرْطًا .

فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ رَضِيَ زَيْدٌ وَإِذَا رَضِيَ زَيْدٌ ، فما الحكم صَارَ الرِّضَا شَرْطًا فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ ، لِأَنَّ " إِذَا " وَ " إِنْ " مِنْ حُرُوفِ الشَّرْطِ الْمُسْتَقْبَلَةِ ، فَإِنْ رَضِيَ زَيْدٌ وَقَعَ الطَّلَاقُ ، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ لَمْ يَقَعْ ، لَكِنَّ الرِّضَا فِي قَوْلِهِ : إِنْ رَضِيَ عَلَى الْفَوْرِ فَإِنْ تَرَاخَى الرِّضَا لَمْ يَصِحَّ ، وَفِي قَوْلِهِ إِذَا رَضِيَ عَلَى التَّرَاخِي ، فَلَوْ رَضِيَ وَلَوْ بَعْدَ طُولِ زَمَانٍ صَحَّ ، لِمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ " إِنْ " وَ " إِذَا " . وَأَمَّا رِضَا زَيْدٍ فَلَا يُعْرَفُ إِلَّا بِقَوْلِهِ قَدْ رَضِيتُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْتَبَرَ أَمَارَاتُ فِعْلِهِ كَالْمَشِيئَةِ ، لَكِنْ إِنْ كَانَ زَيْدٌ صَادِقًا فِي رِضَاهُ وَقَعَ الطَّلَاقُ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ . وَهَلْ يَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَدِينُ اعْتِبَارًا بِحَقِيقَةِ الرِّضَا بِهِ بِالْقَلْبِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَدِينُ اعْتِبَارًا بِالْقَوْلِ الَّذِي لَا يَتَحَقَّقُ مَا سِوَاهُ . وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ زَيْدٌ فَقَالَ زَيْدٌ : قَدْ شِئْتُ كَاذِبًا فما الحكم كَانَ الطَّلَاقُ وَاقِعًا فِي الْحُكْمِ . وَهَلْ يَدِينُ فِيهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ، فَأَمَّا إِذَا قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ إِذَا رَضِيَ زَيْدٌ وَأَنْ رَضِيَ زَيْدٌ بِفَتْحِ الْأَلِفِ طُلِّقَتْ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الرِّضَا لِأَنَّهُمَا حَرْفَا جَزَاءٍ عَنْ مَاضٍ .

فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ رَضِيَ زَيْدٌ وَكَانَ زَيْدٌ صَغِيرًا فَرَضِيَ فِي صِغَرِهِ فما الحكم فَفِيهِ وَجْهَانِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا حُكْمَ لِرِضَاهُ ، لِأَنَّهُ بِالصِّغَرِ خَارِجٌ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الرِّضَا ، فَعَلَى هَذَا لَا تُطَلَّقُ بِرِضَاهُ فِي صِغَرِهِ ، مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الرِّضَا ، وَلَا تُطَلَّقُ بِرِضَاهُ فِي كِبَرِهِ لِتَرَاخِي الرِّضَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ ضَعِيفٌ أَنَّهَا تُطَلَّقُ بِقَوْلِهِ فِي صِغَرِهِ : قَدْ رَضِيتُ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الطَّلَاقِ بِالصِّفَةِ ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ زَيْدٌ وَكَانَ زَيْدٌ صَغِيرًا فَقَالَ : قَدْ شِئْتُ كَانَ وُقُوعُ طَلَاقِهَا عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ لَهَا وَهِيَ صَغِيرَةٌ أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شِئْتِ فَقَالَتْ : قَدْ شِئْتُ . كَانَ وُقُوعُ طَلَاقِهَا عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ . وَلَكِنْ لَوْ قَالَ لِلْبَالِغِ وَهِيَ سَكْرَى مِنْ شَرَابٍ مُحَرَّمٍ ، أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شِئْتِ فَشَاءَتْ فِي سُكْرِهَا طُلِّقَتْ لِأَنَّ السَّكْرَانَ فِي حُكْمِ الصَّاحِي ، وَلَوْ قَالَ لَهَا وَهِيَ صَغِيرَةٌ : أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ ، فَطُلِّقَتْ وَجْهًا وَاحِدًا كَمَا لَوْ عَلَّقَ ذَلِكَ بِدُخُولِ مَنْ لَا قَصْدَ لَهُ مِنْ حِمَارٍ أَوْ بَهِيمَةٍ طُلِّقَتْ .

فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شِئْتِ ، فَقَالَتْ : قَدْ شِئْتُ إِنْ شِئْتَ . فَقَالَ الزَّوْجُ : قَدْ شِئْتُ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الطَّلَاقَ وَاقِعٌ لِحُصُولِ مَشِيئَتِهَا بِمَشِيئَةِ الزَّوْجِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَوْلَاهُمَا أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ بِمَشِيئَتِهَا يَقْتَضِي وُجُودَ مَشِيئَةٍ مُطْلَقَةٍ ، وَهَى عَلَّقَتْ مَشِيئَتَهَا بِمَشِيئَةِ الزَّوْجِ فَكَانَتْ مِنْهُ غَيْرَ مُطْلَقَةٍ . وَالثَّانِي : أَنَّ تَعْلِيقَ الْمَشِيئَةِ بِالصِّفَةِ لَا يَجُوزُ ، لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شِئْتِ إِنْ قَامَ زَيْدٌ لَمْ يَصِحَّ ، كَذَلِكَ إِذَا عَلَّقَتْ مَشِيئَتَهَا بِمَشِيئَةِ الزَّوْجِ .

فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً إِلَّا أَنْ تَشَائِي ثَلَاثًا ، فَقَالَتْ : قَدْ شِئْتُ ثَلَاثًا فما الحكم لَمْ تُطَلَّقْ وَاحِدَةً وَلَا ثَلَاثًا ، لِأَنَّهُ جَعَلَ وُقُوعَ الْوَاحِدَةِ مَشْرُوطًا بِأَلَّا تَشَاءَ ثَلَاثًا ، فَإِذَا شَاءَتْ ثَلَاثًا عُدِمَ الشَّرْطُ فِي الْوَاحِدَةِ فَلَمْ تَقَعْ . فَأَمَّا الثَّلَاثُ فَالْمَشِيئَةُ فِيهَا شَرْطٌ فِي رَفْعِ الْوَاحِدَةِ ، وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي وُقُوعِ الثَّلَاثِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَ إِنْ لَمْ تَكُونِي حَامِلًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فما الحكم وُقِفَ عَنْهَا حَتَّى تَمُرَّ لَهَا دَلَالَةٌ عَلَى الْبَرَاءَةِ مِنَ الْحَمْلِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا قَوْلُهُ : إِنْ لَمْ تَكُونِي حَامِلًا فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَمَعْنَاهُ إِنْ كُنْتِ حَائِلًا فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ تَكُونَ حَامِلًا أَوْ حَائِلًا ، فَإِذَا نَفَاهُ عَنْ أَحَدِهِمَا تَعَلَّقَ بِالْآخَرِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالظَّاهِرُ عِنْدَ اشْتِبَاهِ حَالِهَا أَنَّهَا حَائِلٌ ، فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ وَطْئُهَا ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا بِعِدَّةِ حُرَّةٍ ، ثَلَاثَةَ أَقْرَاءٍ هِيَ أَطْهَارٌ .

وَسَوَاءٌ كَانَ قَدِ اسْتَبْرَأَهَا قَبْلَ عَقْدِ طَلَاقِهِ أَمْ لَا ، لِأَنَّ هَذَا اسْتِبْرَاءُ طَلَاقٍ فِي الظَّاهِرِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْتَدَّ بِهِ قَبْلَ زَمَانِ وُقُوعِهِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا عِنْدَ انْقِضَاءِ الْأَقْرَاءِ مِنْ أَنْ تَكُونَ مُسْتَبْرَئَةً أَوْ غَيْرَ مُسْتَبْرَئَةٍ . فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُسْتَبْرَئَةٍ بَانَتْ بِالظَّاهِرِ ، وَهَلْ تَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ قَبْلَ أَنْ تَمْضِيَ مُدَّةُ أَكْثَرِ الْحَمْلِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا قَدْ حَلَّتْ فِي الظَّاهِرِ لِلْأَزْوَاجِ وَإِنْ جَازَ فِي الْمُمْكِنِ أَنْ يَكُونَ بِهَا حَمْلٌ ، كَمَا تَحِلُّ الَّتِي نَجُزَ طَلَاقُهَا إِذَا اعْتَدَّتْ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ بِهَا حَمْلٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَى الْأَزْوَاجِ حَتَّى تَمْضِيَ مُدَّةُ أَكْثَرِ الْحَمْلِ وَهِيَ أَرْبَعُ سِنِينَ فَتَبِينُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا بِيَقِينِ كَوْنِهَا حَائِلًا وَقْتَ عَقْدِ طَلَاقِهَا ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ وَبَيْنَ الَّتِي نَجُزَ طَلَاقُهَا فَأَمْكَنَ بَعْدَ الْأَقْرَاءِ الثَّلَاثَةِ أَنْ تَكُونَ حَامِلًا فَلَا تَحْرُمُ عَلَى الْأَزْوَاجِ بِهَذَا التَّوَهُّمِ الْمُمْكِنِ ، وَتَحْرُمُ فِي مَسْأَلَتِنَا بِهَذَا التَّوَهُّمِ الْمُمْكِنِ ، أَنَّ التَّوَهُّمَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يُوقِعُ شَكًّا فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ ، فَجَازَ أَنْ تَحْرُمَ عَلَى الْأَزْوَاجِ ، وَالتَّوَهُّمُ فِي الطَّلَاقِ النَّاجِزِ لَا يُوقِعُ شَكًّا فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ ، وَإِنَّمَا يُوقِعُهُ فِي الْعِدَّةِ مَعَ انْقِضَائِهَا بِحُكْمِ الشَّرْعِ فِي الظَّاهِرِ ، فَجَازَ أَلَّا تَحْرُمَ عَلَى الْأَزْوَاجِ .

فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَتْ عِنْدَ انْقِضَاءِ الثَّلَاثَةِ أَقْرَاءٍ مُسْتَبْرَئَةً بِأَنْ ظَهَرَ مِنْهَا أَمَارَاتُ الْحَمْلِ وَشَوَاهِدُهُ ، فَفِي اسْتِبَاحَةِ وَطْئِهَا بِهَذِهِ الْأَمَارَاتِ وَجْهَانِ يَخْرُجَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ ، فِي نَفَقَةِ الْحَامِلِ الْمُعْتَدَّةِ : أَحَدُهُمَا : يَسْتَبِيحُ وَطْئَهَا بِأَمَارَاتِ الْحَمْلِ اعْتِبَارًا بِالظَّاهِرِ وَتَغْلِيبًا لِحُكْمِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَسْتَبِيحُ وَطْئَهَا وَهُوَ عَلَى تَحْرِيمِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ غِلَظًا وَرِيحًا وَلَا يَكُونُ حَمْلًا صَحِيحًا . وَالْوَطْءُ الْمَحْظُورُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَبَاحَ بِالشَّكِّ ، فَعَلَى هَذَا لَهَا حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَلَّا تَضَعَ حَمْلًا ، فَالطَّلَاقُ قَدْ وَقَعَ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ ، وَالْعِدَّةُ قَدِ انْقَضَتْ بِالْأَقْرَاءِ الثَّلَاثَةِ مِنْ بَعْدِ الْعَقْدِ ، فَإِنْ كَانَ وَطَأَهَا فَهُوَ وَطْءُ شُبْهَةٍ ، تَعْتَدُّ مِنْهُ ثَلَاثَةَ أَقْرَاءٍ لَا يَمْلِكُ فِيهَا رَجْعَةً . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ تَضَعَ وَلَدًا فَلَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَضَعَهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ عَقْدِ الطَّلَاقِ فَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ لِعِلْمِنَا بِكَوْنِهَا حَامِلًا عِنْدَ عَقْدِهِ ، لِأَنَّ الْحَمْلَ لَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ سِتَّةٍ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ تَضَعَهُ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ ، فَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ وَالْعِدَّةُ مُنْقَضِيَةٌ بِالْأَقْرَاءِ الثَّلَاثَةِ ، لِأَنَّ الْحَمْلَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَدِيمَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ فَيَتَعَيَّنُ بِذَلِكَ أَنَّهَا

كَانَتْ عِنْدَ عَقْدِ الطَّلَاقِ حَامِلًا فَإِنْ كَانَ وَطَأَهَا قَبْلَ الْحَمْلِ ، اعْتَدَّتْ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ ، لِأَنَّهُ وَطْءُ شُبْهَةٍ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ تَضَعَهُ مَا بَيْنَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَأَرْبَعِ سِنِينَ ، فَلِلزَّوْجِ حَالَتَانِ إِحْدَاهُمَا أَلَّا يَكُونَ قَدْ وَطِئَهَا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ فَيُحْكَمُ لِحَمْلِهَا بِالتَّقَدُّمِ ، وَوُجُودِهِ عِنْدَ عَقْدِ الطَّلَاقِ فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ قَدْ وَطِئَهَا ، فَيُنْظَرُ فِي وَضْعِ الْحَمْلِ ، فَإِنْ وَضَعَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْوَطْءِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ فَهُوَ حَمْلٌ مُتَقَدِّمٌ وَقْتَ الْعَقْدِ فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ ، وَإِنْ وَضَعَتْهُ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنَ الْوَطْءِ وَالْعَقْدِ جَمِيعًا فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهَا تُطَلَّقُ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ حُدُوثِهِ لَا بِنَاءً عَلَى يَقِينٍ مِنْهُ ، وَفِي شَكٍّ فِي تَقَدُّمِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهَا لَا تُطَلَّقُ لِجَوَازِ تَقَدُّمِهِ ، وَتَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْيَقِينِ فِي بَقَاءِ نِكَاحِهِ وَإِسْقَاطًا لِلشَّكِّ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا عَكَسَ مَسْأَلَةَ الْكِتَابِ فَقَالَ : إِنْ كُنْتِ حَائِلًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فما الحكم فَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ وَطْئِهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ حَامِلًا فَتُطَلَّقَ ، وَفِي هَذَا الْمَنْعِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مَنْعُ تَحْرِيمٍ كَالْمَنْعِ فِي قَوْلِهِ : إِنْ كُنْتِ حَائِلًا فَأَنْتِ طَالِقٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ كَرَاهَةٌ لَا تَحْرِيمٌ وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي " الْإِمْلَاءِ " ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يُعَلِّقَ طَلَاقَهَا بِوُجُودِ الْحَمْلِ فَيَكُونَ الْمَنْعُ لِكَرَاهَةٍ لَا لِتَحْرِيمٍ وَبَيْنَ أَنْ يُعَلِّقَهُ بِعَدَمِ الْحَمْلِ فَيَكُونَ الْمَنْعُ مَنْعَ تَحْرِيمٍ هُوَ أَنَّ الْأَصْلَ أَلَّا حَمْلَ فَحَرُمَ وَطْئُهَا ، إِذَا عَلَّقَهُ بِعَدَمِهِ ، وَلَمْ يَحْرُمْ إِذَا عَلَّقَهُ بِوُجُودِهِ . وَإِذَا لَزِمَ اسْتِبْرَاؤُهَا لِوَطْئِهِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدِ اسْتَبْرَأَهَا قَبْلَ عَقْدِ طَلَاقِهَا ، أَوْ لَمْ يَسْتَبْرِئْهَا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدِ اسْتَبْرَأَهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَبْرِئَ ، وَفِي قَدْرِ مَا يَسْتَبْرِئُ بِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ هِيَ ثَلَاثَةُ أَطْهَارٍ لِأَنَّ اسْتِبْرَاءَ الْحُرَّةِ لَا يَكُونُ بِأَقَلَّ مِنْهَا كَالْعِدَّةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَسْتَبْرِئُهَا بِقُرْءٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ اسْتِبْرَاءٌ لِاسْتِبَاحَةِ الْوَطْءِ وَلَيْسَ بِاسْتِبْرَاءٍ مِنْ فُرْقَةٍ ، فَجَرَى مَجْرَى اسْتِبْرَاءِ الْأَمَةِ الْمُشْتَرَاةِ وَالْمَسْبِيَّةِ وَخَالَفَ الِاسْتِبْرَاءَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، لِأَنَّهُ اسْتِبْرَاءُ الْفُرْقَةِ ، فَعَلَى هَذَا هَلْ يَكُونُ الْقُرْءُ طُهْرًا أَوْ حَيْضًا ؟ فِيهِ وَجْهَانِ مِنِ اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي اسْتِبْرَاءِ الْأَمَةِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ الطُّهْرُ .

وَالثَّانِي : أَنَّهُ الْحَيْضُ ، وَإِنْ كَانَ قَدِ اسْتَبْرَأَهَا قَبْلَ عَقْدِ طَلَاقِهِ ، فَفِي إِجْزَائِهِ عَنِ اسْتِبْرَائِهِ بَعْدَ عَقْدِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُجْزِئُ ، لِأَنَّهُ قَدْ يَعْلَمُ بِهِ بَرَاءَةَ الرَّحِمِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ ، لِتَقَدُّمِهِ عَلَى سَبَبِهِ ، كَمَا لَا يُجْزِئُ اسْتِبْرَاءُ أَمَةٍ قَبْلَ الشِّرَاءِ عَنْ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا بَعْدَ الشِّرَاءِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ مِنْ أَنْ تَظْهَرَ بِهَا أَمَارَاتُ الْحَمْلِ أَوْ لَا تَظْهَرُ ، فَإِنْ لَمْ تَظْهَرْ بِهَا أَمَارَاتُ الْحَمْلِ وَلَا اسْتَرَابَتْ بِنَفْسِهَا بَعْدَ زَمَانِ الِاسْتِبْرَاءِ فَهِيَ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ وَلَهُ وَطْؤُهَا ، وَإِنْ ظَهَرَ بِهَا أَمَارَاتُ الْحَمْلِ انْتَظَرَ بِهِ حَالَ الْوَضْعِ ، وَلَا يَخْلُو حَالُهُ إِذَا وَضَعَتْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَضَعَهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ عَقْدِهِ فَالطَّلَاقُ بِهِ وَاقِعٌ لِعِلْمِنَا بِوُجُودِهِ وَقْتَ الْعَقْدِ وَقَدِ انْقَضَتِ الْعِدَّةُ بِانْفِصَالِهِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ قَدْ وَطِئَهَا مَا بَيْنَ عَقْدِ طَلَاقِهِ وَوَضْعِهِ أَمْ لَا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ تَضَعَهُ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ وَقْتِ عَقْدِهِ ، فَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ لِعِلْمِنَا أَنَّهُ كَانَ مَعْدُومًا عِنْدَ عَقْدِهِ ، وَالْوَلَدُ لَاحِقٌ بِهِ ، سَوَاءٌ كَانَ يَطَأُ أَمْ لَا ، لِأَنَّهَا فِرَاشٌ لَهُ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ تَضَعَهُ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَلِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الزَّوْجِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ وَطِئَ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ أَوْ لَمْ يَطَأْ ، فَإِنْ لَمْ يَطَأْ طُلِّقَتْ ، لِعِلْمِنَا بِوُجُودِهِ حُكْمًا وَقْتَ الْعَقْدِ ، وَإِنْ وَطِئَ فَلَا يَخْلُو أَنْ تَضَعَهُ قَبْلَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَطْئِهِ ، أَوْ بَعْدَهَا ، فَإِنْ وَضَعَتْهُ قَبْلَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَطْئِهِ فَهُوَ حَمْلٌ مُتَقَدِّمٌ عِنْدَ الْعَقْدِ ، فَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ بِوَضْعِهِ مُنْقَضِيَةً ، وَإِنْ وَضَعَتْهُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَطْئِهِ فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَادِثًا ، وَالطَّلَاقُ لَا يَقَعُ بِالشَّكِّ فَلَا يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ وَجْهًا وَاحِدًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَتْ لَهُ طَلِّقْنِي فَقَالَ كُلُّ امْرَأَةٍ لِي طَالِقٌ فما الحكم طُلِّقَتِ امْرَأَتُهُ الَّتِي سَأَلَتْهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَزَلَهَا بِنِيَّتِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا قَالَتْ لَهُ وَاحِدَةٌ مِنْ نِسَائِهِ طَلِّقْنِي إِمَّا لِخُصُومَةٍ وَتَغَايُرٍ بَيْنَ الضَّرَائِرِ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَقَالَ : نِسَائِي طَوَالِقٌ . فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُرْسِلَ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ فِي عَزْلِ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ، فَيُطَلَّقْنَ جَمِيعًا ، السَّائِلَةُ وَغَيْرُهَا ، وَقَالَ مَالِكٌ : لَا تُطَلَّقُ السَّائِلَةُ وَتُطَلَّقُ مَنْ سِوَاهَا ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهَا تُوَاجِهُهُ بِالْخِطَابِ ، وَلَوْ أَرَادَهَا لَقَابَلَهَا بِالْمُوَاجَهَةِ فَلَمَّا عَدَلَ إِلَى خِطَابِ غَائِبٍ خَرَجَتْ مِنْ جُمْلَتِهِنَّ . وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَوْ قَالَ مُبْتَدِئًا : كُلُّ نِسَائِي طَوَالِقٌ ، طُلِّقَتْ هَذِهِ الْحَاضِرَةُ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ سَائِلَةً فِي الطَّلَاقِ لِعُمُومِهَا ، لِدُخُولِهَا فِي عُمُومِ اللَّفْظِ دُونَ سَبَبِهِ ، فَلِذَلِكَ قُلْنَا : إِنَّهُنَّ يُطَلَّقْنَ جَمِيعًا فَقَدْ صَارَ مَالِكٌ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ تَارِكًا لِمَذْهَبِهِ وَمَذْهَبِنَا . فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ ، بِأَنَّ عُدُولَهُ عَنِ الْمُوَاجَهَةِ يُخْرِجُهَا مِنَ الْخِطَابِ ، فَتَفْسَدُ بِهِ إِذَا قَالَ مُبْتَدِئًا : لِأَنَّهَا تَدْخُلُ فِي الطَّلَاقِ وَلَوْ لَمْ يَتَنَاوَلْهَا الْخِطَابُ لَمْ تُطَلَّقْ .

فَصْلٌ : وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ لَهُ نِيَّةٌ فِي عَزْلِ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ قالت له طلقني فقال كل امرأة لي طالق فَلَا تُطَلَّقُ الْمَعْزُولَةُ مِنْهُنَّ سَوَاءٌ كَانَتِ السَّائِلَةَ أَوْ غَيْرَهَا ، وَيُطَلَّقُ مَنْ سِوَاهَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تُطَلَّقُ الْمَعْزُولَةُ مِنْهُنَّ سَوَاءٌ فِي الْعُمُومِ كَدُخُولِهَا فِي التَّعْيِينِ وَهَذَا فَاسِدٌ ، لِأَنَّ اللَّفْظَ يَصْلُحُ لِجَمَاعَتِهِنَّ مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءِ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ كَمَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ، وَإِذَا صَلُحَ لِكِلَا الْأَمْرَيْنِ جَازَ أَنْ يَصْرِفَهُ إِلَى أَيِّهِمَا شَاءَ كَالْعُمُومِ ، وَفِي هَذَا الْوَجْهِ خَالَفَ التَّعْيِينَ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ طَلَاقَ الْمَعْزُولَةِ لَا يَقَعُ فَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَقَعُ ظَاهِرًا وَلَا بَاطِنًا ، فَإِنِ اتَّهَمَتْهُ الْمَعْزُولَةُ أَحْلَفْتُهُ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : لَا تُطَلَّقُ فِي الْبَاطِنِ ، وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَتُطَلَّقُ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ ، لِأَنَّ إِطْلَاقَ الْقَوْلِ يُخَالِفُ تَقْيِيدَ النِّيَّةِ ، فَدِينَ فِيهِ وَلَمْ يُقْبَلْ فِي الْحُكْمِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

بَابُ مَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ مِنَ الْكَلَامِ وَمَا لَا يَقَعُ إِلَّا بِالنِّيَّةِ

بَابُ مَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ مِنَ الْكَلَامِ وَمَا لَا يَقَعُ إِلَّا بِالنِّيَّةِ وَالطَّلَاقِ مِنَ الْجَامِعِ مِنْ كِتَابِ الرَّجْعَةِ وَمِنْ كِتَابِ النِّكَاحِ وَمِنْ إِمْلَاءِ مَسَائِلِ مَالِكٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ . قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الطَّلَاقَ فِي كِتَابِهِ بِثَلَاثَةِ أَسْمَاءَ : الطَّلَاقِ وَالْفِرَاقِ وَالسَّرَاحِ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الطَّلَاقُ فَلَا يَقَعُ إِلَّا بِالْكَلَامِ وَمَا قَامَ مَقَامَهُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْكَلَامِ . وَلَا يَقَعُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ مِنْ غَيْرِ كَلَامٍ ، فَلَوْ نَوَى طَلَاقَ امْرَأَتِهِ لَمْ تُطَلَّقْ . وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ وَمَالِكٌ فِي إِحْدَى رِوَايَاتِهِ تُطَلَّقُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ حَتَّى لَوْ نَوَى طَلَاقَ امْرَأَتِهِ طُلِّقَتْ ، اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى قَالَ : وَلِأَنَّهُ لَمَّا وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِنِيَّةِ الرِّدَّةِ ، جَازَ أَنْ يَقَعَ الطَّلَاقُ وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ بِنِيَّةِ أَنْفُسِهَا . وَالنِّيَّةُ مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ . فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ مَوْضُوعَةً عَنْهُ ، وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ إِزَالَةُ مِلْكٍ وَالْمِلْكُ لَا يَزُولُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ كَالْعِتْقِ وَالْهِبَةِ ، وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ أَحَدُ طَرَفَيِ النِّكَاحِ فَلَمْ يَصِحَّ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ كَالْعَقْدِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : إِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَالْمُرَادُ بِهِ ثَوَابُ قُرَبِهِ الَّتِى فَعَلَهَا ، فَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ نِيَّةُ الطَّلَاقِ ، لَمْ يَفْعَلْ . فَأَمَّا الرِّدَّةُ فَلِأَنَّ ثُبُوتَ الرِّدَّةِ تُوقِعُ الْفُرْقَةَ وَالرِّدَّةَ تَكُونُ بِمُجَرَّدِ الِاعْتِقَادِ كَالْإِيمَانِ وَلَيْسَ كَالطَّلَاقِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا صَحَّ أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ إِلَّا بِالْقَوْلِ . فَالْأَلْفَاظُ فِيهِ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : قِسْمٌ يَكُونُ صَرِيحًا فِيهِ ، وَالصَّرِيحُ مَا وَقَعَتْ بِهِ الْفُرْقَةُ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ ، وَقِسْمٌ يَكُونُ كِنَايَةً فِيهِ . وَالْكِنَايَةُ مَا وَقَعَتْ بِهِ الْفُرْقَةُ مَعَ النِّيَّةِ وَلَمْ تَقَعْ بِهِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ ، وَقِسْمٌ لَا يَكُونُ صَرِيحًا فِيهِ وَلَا كِنَايَةً : وَهُوَ مَا لَا يَقَعُ بِهِ الْفُرْقَةُ سَوَاءٌ كَانَتْ مَعَهُ نِيَّةٌ أَوْ لَمْ تَكُنْ . فَأَمَّا صَرِيحُ الطَّلَاقِ ألفاظه فَهُوَ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ثَلَاثَةُ أَلْفَاظٍ : الطَّلَاقُ وَالْفِرَاقُ والسَّرَاحُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : صَرِيحُ الطَّلَاقِ لَفْظَةٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ الطَّلَاقُ دُونَ الْفِرَاقِ وَالسَّرَاحِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ كُلَّ لَفْظٍ تَعَارَفَ النَّاسُ اسْتِعْمَالَهُ فِي الطَّلَاقِ وَغَيْرِ الطَّلَاقِ ، لَمْ يَكُنْ صَرِيحًا

فِي الطَّلَاقِ ، قِيَاسًا عَلَى قَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ ، وَقَدْ تَعَارَفَ النَّاسُ اسْتِعْمَالَ الْفِرَاقِ وَالسَّرَاحِ فِي غَيْرِ الطَّلَاقِ ، فَلَمْ يَكُنْ صَرِيحًا فِي الطَّلَاقِ . وَدَلِيلُنَا هُوَ : أَنَّ كُلَّ لَفْظٍ وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ قَصَدَ الْفُرْقَةَ بَيْنَ الْأَزْوَاجِ كَانَ صَرِيحًا فِيهَا كَالطَّلَاقِ ، وَقَدْ وَرَدَ الْقُرْآنُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ . أَمَّا الطَّلَاقُ فَبِقَولِهِ : الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ [ الْبَقَرَةِ : ] . وَبِقَوْلِهِ : إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [ الطَّلَاقِ : ] . وَغَيْرُ ذَلِكَ . وَأَمَّا السَّرَاحُ فَبِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَقَالَ فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا [ الْأَحْزَابِ : ] . وَأَمَّا الْفِرَاقُ فَبِقَوْلِهِ : فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ [ الطَّلَاقِ : ] اعْتَرَضُوا عَلَى هَذِهِ الدَّلَالَةِ ، وَهِيَ دَلَالَةُ الشَّافِعِيِّ بِخَمْسَةِ أَسْئِلَةٍ : أَحَدُهَا : أَنْ قَالُوا : هَذَا مُنْتَقِضٌ بِالْفِدْيَةِ ، قَدْ وَرَدَ بِهَا الْقُرْآنُ فِي الْفُرْقَةِ بِقَوْلِهِ : فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [ الْبَقَرَةِ : ] . وَلَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي الطَّلَاقِ فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْفِدْيَةَ لَفْظٌ صَرِيحٌ فِي حُكْمِهِ أَنَّهُ فَسْخٌ أَوْ طَلَاقٌ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَقْصُودَ الْفِدْيَةِ اسْتِبَاحَةُ مَالِهَا بِهِ ، بَعْدَ أَنْ كَانَ مَحْظُورًا قَبْلَهُ بِقَوْلِهِ : وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا [ النِّسَاءِ : ] . فَنُسِخَ بِقَوْلِهِ : فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [ الْبَقَرَةِ : ] . وَالسُّؤَالُ الثَّانِي : أَنْ قَالُوا : الْكِنَايَةُ قَدْ وَرَدَ بِهَا الْقُرْآنُ فِي الْعِتْقِ بِقَوْلِهِ : فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا [ النُّورِ : ] . وَالْفَكُّ قَدْ وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ فِي الْعِتْقِ بِقَوْلِهِ : وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ [ الْبَلَدِ : ، ] . وَلَيْسَ الْكِنَايَةُ وَالْفَكُّ مِنْ صَرِيحِ الْعِتْقِ وَكَذَلِكَ السَّرَاحُ وَالْفِرَاقُ جَازَ وَإِنْ وَرَدَ بِهِمَا الْقُرْآنُ أَوْ لَا يَكُونُ مِنْ صَرِيحِ الطَّلَاقِ ، فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : لَيْسَ يَلْزَمُ إِذَا كَانَ مَا وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ فِي الطَّلَاقِ صَرِيحًا ، أَنْ يَكُونَ مَا وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ فِي الطَّلَاقِ صَرِيحًا وَلَا يَكُونُ افْتِرَاقُهُمَا فِيهِ مَانِعًا مِنْ أَنْ يَخْتَصَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحُكْمِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْكِنَايَةَ الْمُرَادُ بِهَا الْعَقْدُ الْمَكْتُوبُ بَيْنَ السَّيِّدِ وَعَبْدِهِ دُونَ الْعِتْقِ وَهِيَ صَرِيحٌ فِيهِ ، وَأَمَّا فَكُّ الرَّقَبَةِ ، فَلِنُزُولِ ذَلِكَ سَبَبٌ ، وَهُوَ أَنَّ أَبَا الْأَشَدِّ ابْنَ الْمُحْيِي كَانَ ذَا قُوَّةٍ يُدِلُّ بِهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ : أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ إِلَى قَوْلِهِ : فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ [ الْبَلَدِ : ] . أَيْ أَنَّهُ وَإِنْ دَلَّ بِقُوَّتِهِ فَلَيْسَ يَقْدِرُ عَلَى اقْتِحَامِ الْعَقَبَةِ ، إِلَّا

بِفَكِّ رَقَبَةٍ ، فَخَرَجَ مَخْرَجَ الْخَبَرِ عَنْ صِفَةِ مُقْتَحِمِهَا ، وَلَمْ يَخْرُجْ مَخْرَجَ الْأَمْرِ فَيَصِيرُ بِذَلِكَ مُعْتِقًا لَهَا . وَالسُّؤَالُ الثَّالِثُ : أَنَّ السَّرَاحَ لَوْ كَانَ صَرِيحًا كَالطَّلَاقِ ، لَمَا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى : الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ عَنِ الثَّالِثَةِ حَتَّى بَيَّنَ فَقَالَ : أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَكَانَ السَّائِلُ يَعْلَمُ أَنَّهُ صَرِيحٌ فَيَسْتَغْنِي عَنِ السُّؤَالِ . فَالْجَوَابُ عَنْهُ : أَنَّ صَرِيحَ الطَّلَاقِ وَكِنَايَتَهُ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي تَخْفَى عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ فَسَأَلَهُ لِيَعْلَمَ صَرِيحَ الشَّرْعِ دُونَ اللُّغَةِ ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ أَحَدٌ . وَالسُّؤَالُ الرَّابِعُ : أَنَّ الطَّلَاقَ إِنَّمَا كَانَ صَرِيحًا ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ وَرَدَ بِهِ ، وَلَكِنْ لِأَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ الْفُرْقَةِ ، لِذَلِكَ صَارَ صَرِيحًا ، وَالْفِرَاقُ وَالسَّرَاحُ قَدْ يُسْتَعْمَلَانِ فِي غَيْرِ الْفُرْقَةِ فَكَانَا كِنَايَةً . قِيلَ : قَدْ يُسْتَعْمَلُ الطَّلَاقُ فِي غَيْرِ الْفُرْقَةِ ، فَيُقَالُ : فُلَانٌ قَدْ طَلَّقَ الدُّنْيَا ، إِذَا زَهِدَ فِيهَا وَطَلَّقْتُ فُلَانًا مِنْ وَثَاقِهِ ، وَقَدْ دَاعَبَ الشَّافِعِيُّ بَعْضَ إِخْوَانِهِ فَقَالَ . اذْهَبْ حَصِينُ فَإِنَّ وِدَّكَ طَالِقٌ مِنِّي وَلَيْسَ طَلَاقَ ذَاتِ الْبَيْنِ فَمَا أَنْكَرَ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ ، فَلَمَّا لَمْ يَمْنَعْ مِنِ اسْتِعْمَالِ الطَّلَاقِ فِي غَيْرِهِ أَنْ يَكُونَ صَرِيحًا فِيهِ ، كَذَلِكَ الْفِرَاقُ وَالسَّرَاحُ . وَالسُّؤَالُ الْخَامِسُ : أَنَّ الطَّلَاقَ كَانَ صَرِيحًا لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهِ ، وَالْفِرَاقُ وَالسَّرَاحُ يَقِلُّ اسْتِعْمَالُهُمَا فَكَانَا كِنَايَةً ، قِيلَ : الصَّرِيحُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ فَاقْتَضَى أَنْ يُرَاعَى فِيهِ عُرْفُ الشَّرْعِ لَا عُرْفَ الِاسْتِعْمَالِ ، وَهُمَا فِي عُرْفِ الشَّرْعِ كَالطَّلَاقِ ، وَإِنْ خَالَفَاهُ فِي عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ . وَقِيَاسٌ ثَانٍ : وَهُوَ أَنَّ إِزَالَةَ الْمِلْكِ إِذَا سَرَى لَمْ يَقِفْ صَرِيحُهُ عَلَى لَفْظٍ وَاحِدٍ كَالْعِتْقِ . وَقِيَاسٌ ثَالِثٌ : وَهُوَ أَنَّ الطَّلَاقَ أَحَدُ طَرَفَيِ النِّكَاحِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَزِيدَ صَرِيحُهُ عَلَى لَفْظِهِ وَاحِدَةً كَالْعَقْدِ ، وَقِيَاسٌ رَابِعٌ : وَهُوَ أَنَّ كُلَّ لَفْظٍ لَا يَفْتَقِرُ فِي الطَّلَاقِ عِنْدَ الْغَضَبِ وَالطَّلَبِ إِلَى نِيَّةِ الطَّلَاقِ كَانَ صَرِيحًا فِيهِ كَالطَّلَاقِ ، وَقِيَاسٌ خَامِسٌ : أَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيِ الطَّلَاقِ فَلَمْ يَقِفْ عَلَى لَفْظَةٍ وَاحِدَةٍ ، كَالْكِنَايَةِ لِأَنَّ الطَّلَاقَ صَرِيحٌ وَكِنَايَةٌ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ فَقَدْ مَضَى فِي أَجْوِبَةِ الْأَسْئِلَةِ ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِهِ الْقُرْآنُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِنْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ قَدْ طَلَّقْتُكِ أَوْ فَارَقْتُكِ أَوْ سَرَّحْتُكِ لَزِمَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا ثَبَتَ مَا دَلَّلْنَا عَلَيْهِ ، أَنَّ صَرِيحَ الطَّلَاقِ ثَلَاثَةُ أَلْفَاظٍ ، الطَّلَاقُ

وَالْفِرَاقُ وَالسَّرَاحُ ، فَإِذَا قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ قَدْ طَلَّقْتُكِ ، أَوْ أَنْتِ مُطَلَّقَةٌ ، أَوْ يَا مُطَلَّقَةُ ، كَانَ كُلُّ هَذَا صَرِيحًا فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِذَا قَالَ لَهَا : أَنْتِ مُطَلَّقَةٌ ، لَمْ يَكُنْ صَرِيحًا ، لِأَنَّهُ إِخْبَارٌ ، وَإِذَا قَالَ لَهَا يَا مُطَلَّقَةُ لَمْ يَكُنْ صَرِيحًا ، لِأَنَّهُ نِدَاءٌ ، وَهَذَا خَطَأٌ ، لِأَنَّ إِخْبَارَهَا وَنِدَاءَهَا إِنَّمَا يَكُونُ بِحُكْمٍ قَدِ اسْتَقَرَّ عَلَيْهَا ، وَلَوْ لَمْ يَسْتَقِرَّ لَمَا صَحَّ أَنْ يَكُونَ نِدَاءً وَلَا خَبَرًا ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ أَنْتِ طَالِقٌ إِخْبَارٌ ، وَهُوَ صَرِيحٌ ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : وَأَنْتِ مُطَلَّقَةٌ ، فَإِذَا صَحَّ أَنْ يَكُونَ النِّدَاءُ صَرِيحًا وَهَكَذَا لَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ مُفَارَقَةٌ أَوْ قَدْ فَارَقْتُكِ ، أَوْ يَا مُفَارَقَةُ ، الطلاق كَانَ صَرِيحًا فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ : أَنْتِ مُسَرَّحَةٌ أَوْ قَدْ سَرَّحْتُكِ ، أَوْ يَا مُسَرَّحَةُ ، الطلاق كَانَ كُلُّ هَذَا صَرِيحًا فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا .

فَصْلٌ : لَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ يَا مُطَلَّقَةُ صَارَ هَذَا النِّدَاءُ بَعْدَ تَقْدِيمِ الطَّلَاقِ مُحْتَمَلًا فَيُرْجَعُ فِيهِ إِلَى إِرَادَتِهِ ، لِزِيَادَةِ طَلَاقٍ ، أَوْ لِنِدَاءِ مَنْ وَقَعَ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ ، وَكَذَلِكَ نَظَائِرُ هَذَا .

فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَ لَهَا : أَنْتِ الطَّلَاقُ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ صَرِيحٌ يَقَعُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ اعْتِبَارًا بِاللَّفْظِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَكُونُ كِنَايَةً ، لِأَنَّهَا تَكُونُ مُطَلَّقَةً ، وَلَا يَكُونُ طَلَاقًا .

فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَ لَهُ رَجُلٌ طَلَّقْتَ امْرَأَتَكَ هَذِهِ فَقَالَ : نَعَمْ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ صَرِيحًا فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الْأَظْهَرُ : أَنَّهُ يَكُونُ صَرِيحًا لَا يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى إِرَادَتِهِ كَمَا يَكُونُ الْإِقْرَارُ عِنْدَ سُؤَالِ الْحَاكِمِ صَرِيحًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى إِرَادَتِهِ ، لِأَنَّ ظَاهِرَهُ إِخْبَارٌ عَنْ سُؤَالٍ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَمْ يَنْوِ فِي الْحُكْمِ وَيَنْوِي فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ قَدْ يُرِيدُ طَلَاقًا مِنْ وَثَاقٍ كَمَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ يُرِيدُ حُرَّ النَّفْسِ وَلَا يَسَعُ امْرَأَتَهُ وَعَبْدَهُ أَنْ يَقْبَلَا مِنْهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ مَنْ تَلَفَّظَ بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَقْصِدَ اللَّفْظَ وَيَنْوِيَ الْفُرْقَةَ ، فَيَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ إِجْمَاعًا ، إِذَا كَانَ الْمُتَلَفِّظُ مِنْ أَهْلِ الطَّلَاقِ .

وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَقْصِدَ اللَّفْظَ وَلَا يَنْوِيَ الْفُرْقَةَ ، فَيَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ ، لِأَنَّ الصَّرِيحَ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ ، وَقَالَ دَاوُدُ : لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ إِلَّا مَعَ النِّيَّةِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى وَهَذَا خَطَأٌ . لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ثَلَاثٌ جَدُّهُنَّ جَدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جَدٌّ . النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالْعِتَاقُ . وَلِأَنَّ الْفُرْقَةَ تَقَعُ بِالْفَسْخِ تَارَةً وَبِالطَّلَاقِ أُخْرَى . فَلَمَّا لَمْ يَفْتَقِرِ الْفَسْخُ إِلَى النِّيَّةِ ، لَمْ يَفْتَقِرِ الطَّلَاقُ إِلَيْهَا ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَفْتَقِرْ صَرِيحُ الْعِتْقِ إِلَى النِّيَّةِ ، لَمْ يَفْتَقِرْ صَرِيحُ الطَّلَاقِ إِلَى النِّيَّةِ وَلِأَنَّهُ قَدِ افْتَرَقَ فِي الطَّلَاقِ حُكْمُ الصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ ، فَلَوِ افْتَقَرَ الصَّرِيحُ إِلَى النِّيَّةِ ، لَصَارَ جَمِيعُهُ كِنَايَةً ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ وَقَعَ الطَّلَاقُ مَعَ عَدَمِ النِّيَّةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يُبْعِدَ اللَّفْظَ وَيُرِيدَ بِهِ طَلَاقًا مِنْ وِثَاقٍ ، أَوْ فِرَاقًا إِلَى سَفَرٍ ، أَوْ تَسْرِيحًا إِلَى أَهْلٍ ، فَيَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ ، وَيَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْبَاطِنِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ ، وَلَا يَدِينُ كَمَا لَا يَدِينُ إِذَا تَلَفَّظَ بِالطَّلَاقِ وَيُرِيدُ بِهِ غَيْرَ الطَّلَاقِ . وَدَلِيلُنَا : قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا تُحَاسِبُوا الْعَبْدَ حِسَابَ الرَّبِّ أَيْ لَا تُحَاسِبُوهُ إِلَّا عَلَى الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى يُحَاسِبُ عَلَى الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَمَا أَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ وَيَتَوَلَّى اللَّهُ السَّرَائِرَ ، وَلِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُ مَا نَوَى ، لِأَنَّهُ لَوْ صَرَّحَ بِهِ لَكَانَ مَحْمُولًا عَلَيْهِ فَاقْتَضَى إِذَا نَوَاهُ أَنْ يَكُونَ مَدِينًا فِيهِ ، لِأَنَّهُ أَحَدُ احْتِمَالَيْهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا أَوْقَعَ الطَّلَاقَ مُرِيدًا بِهِ غَيْرَ الطَّلَاقِ ، لِأَنَّهُ يَسْلُبُ اللَّفْظَ حُكْمَهُ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَلَّا يَقْصِدَ اللَّفْظَ وَلَا يُرِيدَ بِهِ الْفُرْقَةَ وَإِنَّمَا يَسْبِقُ لِسَانُهُ غَلَطًا أَوْ دَهَشًا أَوْ كَانَ أَعْجَمِيًّا [ لَا يَعْرِفُ لَفْظَ الطَّلَاقِ وَلَا حُكْمَهُ ] فَالطَّلَاقُ لَازِمٌ لَهُ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ وَهُوَ مَدِينٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ، فَلَا يَلْزَمُهُ فِي الْبَاطِنِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا زَوْجَةُ الْمَدِينِ فِي طَلَاقِهِ ، إِذَا أُلْزِمَ الطَّلَاقَ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ ، فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : إِمَّا أَنْ تَعْلَمَ صِدْقَهُ فِيمَا دِينَ فِيهِ فَيَسَعُهَا فِيمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ تُقِيمَ مَعَهُ وَتُمَكِّنَهُ مِنْ نَفْسِهَا ، وَلَا يُكْرَهُ لَهَا ، وَيَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ نَفَقَتُهَا ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهَا النُّشُوزُ عَنْهُ ، فَإِنْ نَشَزَتْ لَمْ يُجْبِرْهَا الْحَاكِمُ ، وَإِنْ أَثِمَتْ لِوُقُوعِ طَلَاقِهِ فِي

الظَّاهِرِ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْحَاكِمِ إِذَا رَآهُمَا عَلَى الِاجْتِمَاعِ ، هَلْ يَلْزَمُهُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهُمَا أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَلْزَمُهُ بِحُكْمِ الظَّاهِرِ الْفُرْقَةُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَلْزَمُهُ لِأَنَّ مَا هُمَا عَلَيْهِ مِنَ الِاجْتِمَاعِ ، يَجُوزُ إِبَاحَتُهُ فِي الشَّرْعِ ، فَلَوْ فَرَّقَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا فَفِي تَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ فِي الْبَاطِنِ وَجْهَانِ مِنِ اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي وُجُوبِ حُكْمِهِ بِالْفُرْقَةِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ تَعْلَمَ الزَّوْجَةُ كَذِبَهُ فِيمَا دِينَ فِيهِ ، فَعَلَيْهَا الْهَرَبُ مِنْهُ ، وَلَا يَسَعُهَا فِي حُكْمِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ أَنْ تُمَكِّنَهُ مِنْ نَفْسِهَا ، وَإِنْ جَوَّزْنَا لِلزَّوْجِ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِهَا ، وَإِنْ سَأَلَتِ الْحَاكِمَ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمَا بِالْفُرْقَةِ لَزِمَهُ الْحُكْمُ بِهَا ، وَيَجُوزُ لَهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِغَيْرِهِ وَيَجُوزُ لِمَنْ خَطَبَتْهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا إِنْ لَمْ يُصَدِّقِ الزَّوْجَ فِيمَا دِينَ فِيهِ ، فَإِنْ عَلِمَ صِدْقَهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا إِنْ لَمْ يَحْكُمِ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا بِالْفُرْقَةِ . وَفِي جَوَازِ تَزْوِيجِهِ بِهَا بَعْدَ الْحُكْمِ بِالْفُرْقَةِ وَجْهَانِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَلَّا تَعْلَمَ الزَّوْجَةُ صِدْقَهُ فِيمَا دِينَ فِيهِ وَلَا كَذِبَهُ فَيُكْرَهُ لَهَا تَمْكِينُهُ مِنْ نَفْسِهَا لِجَوَازِ كَذِبِهِ ، وَفِي تَحْرِيمِهِ فِيمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا تَحْرُمُ عَلَيْهَا فِي الْبَاطِنِ تَغْلِيبًا لِبَقَاءِ النِّكَاحِ ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ فِي حُكْمِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : يَحْرُمُ عَلَيْهَا فِي الْبَاطِنِ تَغْلِيبًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ فِي الظَّاهِرِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ فِي حُكْمِ الْقِسْمِ الثَّانِي . فَلَوِ ادَّعَى عَلَيْهِ تَصْدِيقَهُ فِيمَا دِينَ فِيهِ وَأَنْكَرَتْهُ ، فَفِي وُجُوبِ إِحْلَافِهَا عَلَيْهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى مَا مَضَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ عِنْدَ غَضَبٍ أَوْ مَسْأَلَةِ طَلَاقٍ أَوْ رِضًا وَقَدْ يَكُونُ السَبَبُ وَيَحْدُثُ كَلَامٌ عَلَى غَيْرِ السَبَبِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا صَرِيحُ الطَّلَاقِ ، عند الغضب فَيَسْتَوِي حُكْمُهُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا ، وَعِنْدَ مَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ ، وَفِي الِابْتِدَاءِ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَأَمَّا كِنَايَاتُ الطَّلَاقِ عند الغضب فَحُكْمُهَا عِنْدَنَا فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا سَوَاءٌ . وَعِنْدَ مَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ وَفِي الِابْتِدَاءِ أَنَّهُ لَا يَقَعُ إِلَّا بِنِيَّتِهِ وَإِرَادَتِهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ : إِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِالْكِنَايَاتِ سَبَبٌ ، مِنْ غَضَبٍ أَوْ طَلَبٍ فَلَمْ يَقَعْ بِهَا الطَّلَاقُ إِلَّا مَعَ النِّيَّةِ ، وَإِنْ قَارَنَهَا سَبَبٌ مِنْ طَلَبٍ أَوْ غَضَبٍ فَعِنْدَ مَالِكٍ يَقَعُ الطَّلَاقُ بِجَمِيعِهَا مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ : يَقَعُ الطَّلَاقُ بِسِتَّةِ أَلْفَاظٍ مِنْهَا بِغَيْرِ نِيَّةٍ ،

وَهِيَ قَوْلُهُ : أَنْتِ خَلِيَّةٌ أَوْ بَرِيَّةٌ أَوْ بَتَّةٌ ، أَوْ بَائِنٌ أَوْ حَرَامٌ أَوْ أَمْرُكِ بِيَدِكِ ، وَلَا يَقَعُ بِغَيْرِهَا مِنَ الْكِنَايَاتِ إِلَّا مَعَ النِّيَّةِ ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ دَلَالَةَ الْحَالِ تَصْرِفُ الْكَلَامَ عَنْ حَقِيقَتِهِ وَمَوْضُوعِهِ إِلَى غَيْرِهِ ، وَتَخُصُّهُ بِحُكْمٍ دُونَ حُكْمٍ ، اسْتِشْهَادًا بِأَنَّ الْخُلْعَ لَوِ اقْتَرَنَ بِهِ الْعِوَضُ كَانَ صَحِيحًا ، وَلَوْ تَجَرَّدَ عَنِ الْعِوَضِ كَانَ كِنَايَةً ، فَاخْتَلَفَ حُكْمُهُ بِالْقَرِينَةِ ، كَذَلِكَ سَائِرُ الْكِنَايَاتِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ جَزَاءُ الشَّرْطِ مَقْصُورًا عَلَيْهِ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ عَنْ سَبَبٍ مَحْمُولًا عَلَيْهِ . قَالَ : وَلِأَنَّهُ لَفْظٌ مِنْ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ ، وَرَدَ عَلَى طَلَبِ الطَّلَاقِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ طَلَاقًا كَالْفِرَاقِ وَالسَّرَاحِ . وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ أَنَّ رُكَانَةَ بْنَ عَبْدِ يَزِيدَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ سُهَيْمَةَ الْبَتَّةَ ، وَجَاءَ إِلَى النَبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ لَهُ : طَلَّقْتُ امْرَأَتِي الْبَتَّةَ ، فَقَالَ لَهُ : مَا أَرَدْتَ بِهَا ، فَقَالَ وَاللَّهِ مَا أَرَدْتُ إِلَّا وَاحِدَةً ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : آللَّهِ إِنَّكَ مَا أَرَدْتَ إِلَّا وَاحِدَةً ؟ فَقَالَ : وَاللَّهِ مَا أَرَدْتُ إِلَّا وَاحِدَةً . فَرَجَعَ فِيهِ إِلَى إِرَادَتِهِ ، وَلَوِ اخْتَلَفَ حُكْمُهُ بِالسَّبَبِ ، أَوْ عِنْدَ الْغَضَبِ وَالطَّلَبِ ، لَسَأَلَهُ عَنْهُ وَلَبَيَّنَهُ لَهُ . وَلِأَنَّ الْأَحْكَامَ لَا تَخْتَلِفُ بِالْغَضَبِ وَالرِّضَا كَسَائِرِ الْأَحْكَامِ ، وَلِأَنَّ الْكِنَايَةَ أَحَدُ نَوْعَيِ الطَّلَاقِ فَلَمْ تَخْتَلِفْ بِالرِّضَا وَالْغَضَبِ كَالصَّرِيحِ ، وَلِأَنَّهَا كِنَايَةٌ لَمْ تَقْتَرِنْ بِنِيَّةِ الطَّلَاقِ ، فَلَمْ يَكُنْ طَلَاقًا كَالرِّضَا وَعَدَمِ الطَّلَبِ . فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِأَنَّ دَلَالَةَ الْحَالِ ، تَصْرِفُ الْكَلَامَ عَنْ حَقِيقَتِهِ وَمَوْضُوعِهِ ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : إِنَّ الْأَسْبَابَ مُتَقَدِّمَةٌ وَالْأَيْمَانَ بَعْدَهَا مُحْدَثَةٌ ، وَقَدْ يَخْرُجُ عَلَى مِثَالِهَا وَعَلَى خِلَافِهَا ، فَأَخَذَتْهُ لِمَخْرَجِ يَمِينِهِ ، فَإِذَا كَانَ لَفْظُهُ عَامًّا ، لَمْ أَعْتَبِرْ بِخُصُوصِ السَّبَبِ . وَإِذَا كَانَ لَفْظُهُ خَاصًّا لَمْ أَعْتَبِرْ بِعُمُومِ السَّبَبِ وَيَرْجِعُ عَنْ نِيَّةِ الطَّلَاقِ فِي حَالِ الْغَضَبِ وَفِي اسْتِشْهَادِهِ كَلَامٌ مَضَى ، فِي مَوْضِعِهِ يَمْنَعُ بِهِ مِنْ صِحَّةِ الِاسْتِشْهَادِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْفِرَاقِ وَالسَّرَاحِ فَلِأَنَّهُمَا صَرِيحَانِ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ كـَالطَّلَاقِ . وَأَمَّا الشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ مُخَالِفٌ لِلْحُكْمِ وَالسَّبَبِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : اتِّصَالُ الشَّرْطِ وَانْفِصَالُ السَّبَبِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الشَّرْطَ مَنْطُوقٌ بِهِ فَلَمْ يَدْخُلْهُ احْتِمَالٌ ، وَالسَّبَبُ غَيْرُ مَنْطُوقٍ بِهِ ، فَدَخَلَهُ الِاحْتِمَالُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .



مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَإِنْ قَالَ قَدْ فَارَقْتُكِ سَائِرًا إِلَى الْمَسْجِدِ أَوْ سَرَّحْتُكِ إِلَى أَهْلِكِ أَوْ قَدْ طَلَّقْتُكِ مِنْ وَثَاقِكِ الطلاق أَوْ مَا أَشْبَهَ هَذَا لَمْ يَكُنْ طَلَاقًا فَإِنْ قِيلَ قَدْ يَكُونُ هَذَا طَلَاقًا تَقَدَّمَ فَأَتْبَعَهُ كَلَامًا يَخْرُجُ بِهِ مِنْهُ قِيلَ قَدْ يَقُولُ : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَيَكُونُ مُؤْمِنًا يُبِينُ آخِرُ الْكَلَامِ عَنْ أَوَّلِهِ وَلَوْ أَفْرَدَ " لَا إِلَهَ " كَانَ كَافِرًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا قُيِّدَ بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ بِمَا يُغَلِّبُ حُكْمَ الصَّرِيحِ ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : قَدْ طَلَّقْتُكِ مِنْ وَثَاقِكِ وَفَارَقْتُكِ إِلَى الْمَسْجِدِ ، وَسَرَّحْتُكِ إِلَى أَهْلِكِ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ فَاصِلًا بَيْنَ قَوْلِهِ : طَلَّقْتُكِ ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ مِنْ وَثَاقِكِ ، فَقَدِ اسْتَقَرَّ حُكْمُ الطَّلَاقِ فِي الْوُقُوعِ بِإِمْسَاكِهِ عَلَى قَوْلِهِ قَدْ طَلَّقْتُكِ وَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ مَا اسْتَأْنَفَهُ بَعْدَ الْإِمْسَاكِ مِنْ قَوْلِهِ مِنْ وَثَاقِكِ وَلِظُهُورِ أَوَّلِ الْكَلَامِ مَرْبُوطًا بِآخِرِهِ كَمَا لَا يُؤَثِّرُ الِاسْتِثْنَاءُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَيُبَيِّنُ الْعَدَدَ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْكَلَامِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ مُتَّصِلًا ، لَا يَفْصِلُ بَيْنَ قَوْلِهِ : طَلَّقْتُكِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ : مِنْ وَثَاقِكِ فَيَصِيرُ أَوَّلُ الْكَلَامِ مَرْبُوطًا بِآخِرِهِ ، فَيَخْرُجُ أَوَّلُهُ مِنَ الصَّرِيحِ ، بِمَا اتَّصَلَ فِيهِ وَفِي آخِرِهِ . كَمَا لَوِ اتَّصَلَ بِالْكَلَامِ اسْتِثْنَاءٌ ، صَارَ حُكْمُ أَوَّلِهِ مَحْمُولًا عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ بِآخِرِهِ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَدَحَ صَرِيحَ الطَّلَاقِ بِقَوْلِهِ : قَدْ طَلَّقْتُكِ ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَقَّبَهُ نَدَمٌ ، فَيَصِلُهُ بِقَوْلِهِ مِنْ وَثَاقِكِ ، قِيلَ لَا مَعْنَى لِهَذَا التَّوَهُّمِ لِأَنَّ الْكَلَامَ الْمُتَّصِلَ يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِجَمِيعِهِ لَا بِبَعْضِهِ ، أَلَا تَرَى لَوْ قَالَ : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، كَانَ مُوَحِّدًا بِالْإِيمَانِ ، وَإِنْ كَانَ أَوَّلُهُ نَفْيًا وَآخِرُهُ إِثْبَاتًا ، وَلَيْسَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : قَدْ كَفَرَ بِقَوْلِهِ لَا إِلَهَ ثُمَّ خَافَ فَاسْتَدْرَكَ بِقَوْلِهِ إِلَّا اللَّهُ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْكَمَ بِكُفْرِهِ ، وَلَا يُحْكَمَ بِإِيمَانِهِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ، صَارَ اللَّفْظُ الصَّرِيحُ بِمَا اتَّصَلَ بِهِ مِنَ الْقَرِينَةِ ، كِنَايَةً يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ إِنْ نَوَاهُ ، وَلَا يَقَعُ بِهِ إِنْ لَمْ يَنْوِهِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ : أَنَا طَالِقٌ مِنْكِ ، كَانَ كِنَايَةً يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ إِنْ نَوَاهُ ، وَلَا يَقَعُ إِنْ لَمْ يَنْوِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ جَعَلَ إِلَيْهَا طَلَاقَ نَفْسِهَا ، فَقَالَتْ : أَنْتَ طَالِقٌ مِنِّي كَانَ كِنَايَةً يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ ، إِنْ نَوَتْهُ ، وَلَا يَقَعُ إِنْ لَمْ تَنْوِهِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَقَعُ بِهِمَا الطَّلَاقُ إِلَّا إِذَا قَالَ الزَّوْجُ : أَنَا طَالِقٌ مِنْكِ ، وَلَا إِذَا قَالَتِ الزَّوْجَةُ : أَنْتَ طَالِقٌ مِنِّي ، وَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ : أَنَا بَائِنٌ مِنْكِ ، أَوْ أَنَا حَرَامٌ عَلَيْكِ ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ إِنْ نَوَاهُ ، وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى مَا خَالَفَنَا فِيهِ بِأَنَّ رَجُلًا جَعَلَ أَمْرَ امْرَأَتِهِ بِيَدِهَا ، فَطَلَّقَتْ زَوْجَهَا ، فَسَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَنْ ذَلِكَ ، فَقَالَ : خَطَّأَ اللَّهُ نُؤْهَا ، هَلَّا طَلَّقَتْ نَفْسَهَا ، إِنَّمَا الطَّلَاقُ لَكَ عَلَيْهَا ، وَلَيْسَ لَهَا عَلَيْكَ . وَلِأَنَّهُ لَمَّا اخْتَصَّ اسْمُ الطَّلَاقِ بِالزَّوْجَةِ دُونَ

الزَّوْجِ ، فَقِيلَ لَهَا : إِنَّهَا طَالِقٌ ، وَلَمْ يُقَلْ لِلزَّوْجِ : إِنَّهُ طَالِقٌ ، وَجَبَ أَنْ يَخْتَصَّ حُكْمُ الطَّلَاقِ بِالزَّوْجَةِ دُونَ الزَّوْجِ ، فَتَقَعُ الْفُرْقَةُ بِالطَّلَاقِ عَلَيْهَا وَلَا تَقَعُ بِالطَّلَاقِ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الِاسْمِ ، وَانْتِفَاءَ الِاسْمِ يَقْتَضِي انْتِفَاءَ الْحُكْمِ كَمَا أَنَّ انْتِفَاءَ اسْمِ الزَّوْجِيَّةِ يُوجِبُ انْتِفَاءَ حُكْمِهَا وَثُبُوتَ اسْمِهَا يُوجِبُ ثُبُوتَ حُكْمِهَا ، قَالَ : وَلِأَنَّ الزَّوْجَ لَوْ كَانَ مَحَلًّا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهِ ، لَكَانَ صَرِيحُ الطَّلَاقِ فِيهِ صَرِيحًا ، وَلَكَانَ حُكْمُهُ بِهِ مُتَعَلِّقًا فَلَمَّا انْتَفَى عَنْهُ صَرِيحُ الطَّلَاقِ ، وَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الْعِدَّةُ مِنَ الطَّلَاقِ ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلطَّلَاقِ كَالْأَجْنَبِيِّ ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ لِزَوْجَتِهِ : أَنَا طَالِقٌ مِنْكِ ، كَقَوْلِهِ لِعَبْدِهِ : أَنَا حُرٌّ مِنْكَ ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ هَذَا عِتْقًا ، لَمْ يَكُنْ هَذَا طَلَاقًا ، قَالَ : وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ هُوَ الْإِطْلَاقُ مِنَ الْحَبْسِ ، وَالزَّوْجَةُ مَحْبُوسَةٌ عَنِ الْأَزْوَاجِ . فَجَازَ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ وَالزَّوْجُ غَيْرُ مَحْبُوسٍ بِهَا عَنِ الزَّوْجَاتِ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ . وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، سَأَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَى الزَّوْجِ فَقَالَ عُمَرُ : كَيْفَ تَرَى أَنْتَ ، فَقَالَ : أَرَى أَنَّهَا وَاحِدَةٌ ، وَزَوْجُهَا أَحَقُّ بِهَا ، فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نِعْمَ مَا رَأَيْتَ ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى إِجْمَاعِهِمَا عَلَى أَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ عَلَى الزَّوْجِ كِنَايَةٌ فِيهِ ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ ، فَجَازَ أَنْ تَقَعَ الْفُرْقَةُ ، بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهِ كَالزَّوْجَةِ ، وَلِأَنَّ مَا صَلَحَ أَنْ تَقَعَ بِهِ الْفُرْقَةُ إِذَا وَقَعَ عَلَى الزَّوْجَةِ ، جَازَ أَنْ تَقَعَ بِهِ الْفُرْقَةُ إِذَا وَقَعَ عَلَى الزَّوْجِ ، كَالتَّحْرِيمِ وَالْبَيْنُونَةِ ، وَلِأَنَّ مَنْ صَحَّ إِضَافَةُ كِنَايَةِ الطَّلَاقِ إِلَيْهِ صَحَّ إِضَافَةُ صَرِيحِهِ إِلَيْهِ ، كَالزَّوْجَةِ طَرْدًا وَكَالْأَجْنَبِيَّةِ عَكْسًا . وَالِاسْتِدْلَالُ مِنْ هَذَا الْأَصْلِ هُوَ : أَنَّ صَرِيحَ الطَّلَاقِ أَقْوَى مِنْ كِنَايَتِهِ ، فَلَمَّا وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِكِنَايَةِ الطَّلَاقِ فِي الزَّوْجِ كَانَ وُقُوعُهَا بِصَرِيحِهِ بِهِ أَوْلَى . فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، فَقَدْ خَالَفَ عُمَرَ وَابْنَ مَسْعُودٍ ، وَقَوْلُ الِاثْنَيْنِ أَقْوَى مِنْ قَوْلِ الْوَاحِدِ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِانْتِفَاءِ الِاسْمِ عَنِ الزَّوْجِ أَوْجَبَ انْتِفَاءَ حُكْمِهِ فَبَاطِلٌ بِقَوْلِهِ : أَنَا بَائِنٌ مِنْكِ ، وَحَرَامٌ عَلَيْكِ ، عَلَى أَنَّ حُكْمَ الطَّلَاقِ مُتَعَلِّقٌ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ وَإِنِ اخْتَصَّ أَحَدُهُمَا بِالِاسْمِ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ صَرِيحُ الطَّلَاقِ فِيهِ صَرِيحًا وَلَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْعِدَّةُ لَمْ يَكُنْ مَحَلًّا لَهُ . فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي حَقِيقَتِهِ صَرِيحًا . لِأَنَّ الصَّرِيحَ مَا اقْتَرَنَ بِهِ عُرْفُ الِاسْتِعْمَالَ عِنْدَهُمْ وَعُرْفُ الْقُرْآنِ عِنْدَنَا وَلَمْ يَتَنَاوَلْ جِهَةَ الزَّوْجِ عُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ وَعُرْفُ الْقُرْآنَ ، فَكَانَ صَرِيحًا ، وَقَدْ تَنَاوَلَهُ فِي جِهَةِ الزَّوْجَةِ عُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ وَعُرْفُ الْقُرْآنِ فَكَانَ صَرِيحًا . وَأَمَّا الْعِدَّةُ فَهِيَ الِامْتِنَاعُ مِنَ الْأَزْوَاجِ وَالزَّوْجَةُ مَمْنُوعَةٌ مِنْ ذَلِكَ ، فِي حَالِ الزَّوْجِيَّةِ

فَمُنِعَتْ مِنْهُ بَعْدَ الزَّوْجِيَّةِ وَالزَّوْجُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْهُ فِي حَالِ الزَّوْجِيَّةِ ، فَلَمْ يَكُنْ مَمْنُوعًا مِنْهُ بَعْدَ الزَّوْجِيَّةِ . وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِقَوْلِهِ لِعَبْدِهِ : أَنَا حُرٌّ مِنْكَ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ كِنَايَةً عَنْ عِتْقِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : يَكُونُ كِنَايَةً فِي عِتْقِهِ ، يُعْتَقُ بِهِ إِذَا نَوَاهُ ، فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ لَا يَكُونُ كِنَايَةً ، وَلَا يُعْتَقُ بِهِ ، فَعَلَى هَذَا الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا ، أَنَّ الْعِتْقَ إِنَّمَا هُوَ إِزَالَةُ الرِّقِّ ، وَالرِّقُّ يَخْتَصُّ بِالْعَبْدِ دُونَ السَّيِّدِ فَلَمْ يَصِحَّ الْعِتْقُ إِلَّا أَنْ يَتَوَجَّهَ اللَّفْظُ إِلَى الْعَبْدِ دُونَ السَّيِّدِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الطَّلَاقُ ، لِأَنَّهُ رَفْعُ الزَّوْجِيَّةِ الَّتِي قَدِ اشْتَرَكَ فِيهَا الزَّوْجَانِ ، فَجَازَ أَنْ تَقَعَ الْفُرْقَةُ بِوُقُوعِهَا عَلَى الزَّوْجَيْنِ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّ الطَّلَاقَ هُوَ إِطْلَاقٌ مِنَ الْحَبْسِ ، وَهَذَا مُخْتَصٌّ بِالزَّوْجَةِ دُونَ الزَّوْجِ فَفِيهِ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الطَّلَاقَ هُوَ الْإِطْلَاقُ مِنْ عَقْدِ النِّكَاحِ وَالْعَقْدُ مُتَعَلِّقٌ بِهِمَا فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ وَاقِعًا عَلَيْهَا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ إِطْلَاقًا مِنْ حَبْسٍ ، فَهُوَ مَحْبُوسٌ بِهَا عَنْ نِكَاحِ أُخْتِهَا ، وَخَالَتِهَا وَعَمَّتِهَا وَعَنْ نِكَاحِ أَرْبَعٍ سِوَاهَا ، كَمَا كَانَتْ مَحْبُوسَةً عَنْ غَيْرِهِ فَجَازَ أَنْ يَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهِ ، لِيَنْطَلِقَ مِنْ حَبْسِ هَذَا التَّحْرِيمِ كَمَا وَقَعَ عَلَيْهَا ، فَانْطَلَقَتْ مِنْ حَبْسِ التَّحْرِيمِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَ أَنْتِ خَلِيَّةٌ أَوْ بَائِنٌ أَوْ بَرِيئَةٌ أَوْ بَتَّةٌ أَوْ حَرَامٌ أَوْ مَا أَشْبَهَهُ فَإِنْ قَالَ قُلْتُهُ وَلَمْ أَنْوِ طَلَاقًا وَأَنْوِي بِهِ السَّاعَةَ طَلَاقًا لَمْ يَكُنْ طَلَاقًا حَتَّى يَبْتَدِئَهُ وَنِيَّتُهُ الطَّلَاقُ وَمَا أَرَادَ مِنْ عَدَدٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَلْفَاظَ الَّتِي يُخَاطِبُ بِهَا الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ فِي الطَّلَاقِ تَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ صَرِيحٍ وَكِنَايَةٍ وَمَا لَيْسَ بِصَرِيحٍ وَلَا كِنَايَةٍ ، فَأَمَّا الصَّرِيحُ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ ثَلَاثَةُ أَلْفَاظٍ : الطَّلَاقُ ، وَالْفِرَاقُ ، وَالسَّرَاحُ ، وَمَعْنَى الصَّرِيحِ أَنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ فِي وُقُوعِهِ إِلَى نِيَّةٍ ، وَأَمَّا الْكِنَايَةُ فَهُوَ الَّذِي لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِهِ إِلَّا مَعَ النِّيَّةِ ، وَهُوَ كُلُّ لَفْظٍ دَلَّ عَلَى الْمُبَاعَدَةِ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ " الرَّجْعَةِ " : كُلُّ مَا يُشْبِهُ الطَّلَاقَ فَهُوَ كِنَايَةٌ ، وَالْكِنَايَاتُ ضَرْبَانِ : ظَاهِرَةٌ وَبَاطِنَةٌ ، فَالظَّاهِرَةُ سِتَّةُ أَلْفَاظٍ ، بَتَّةٌ وَخَلِيَّةٌ وَبَرِيَّةٌ وَبَايِنٌ وَبَتْلَةٌ وَحَرَامٌ .

وَالْبَاطِنَةُ اعْتَدِّي وَاذْهَبِي وَالْحَقِي بِأَهْلِكِ ، وَحَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ وَلَا حَاجَةَ لِي فِيكِ وَانْكَحِي مَنْ شِئْتِ وَاسْتَبْرِئِي وَتَقَنَّعِي وَقُومِي وَاخْرُجِي وَتَجَرَّعِي ، وَذُوقِي وَكُلِي وَاشْرَبِي وَاخْتَارِي وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ عَلَى مَا سَنَشْرَحُهُ ، وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ الضَّرْبَيْنِ عِنْدَنَا سَوَاءٌ ، وَحُكْمُ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ عِنْدَنَا وَاحِدٌ . فَإِنِ اقْتَرَنَ بِالنِّيَّةِ وَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ وَإِنْ تَجَرَّدَ عَنْهَا لَمْ يَقَعْ . وَقَالَ مَالِكٌ : الْكِنَايَاتُ الظَّاهِرَةُ يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ ، فَإِنْ نَوَى بِهَا وَاحِدَةً كَانَتْ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا مَا نَوَى ، وَفِي الْمَدْخُولِ بِهَا ثَلَاثًا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : جَمِيعُ الْكِنَايَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ الطلاق يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ ، إِذَا قَارَنَهَا أَحَدُ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : النِّيَّةُ أَوِ الْغَضَبُ أَوْ طَلَبُ الطَّلَاقِ ، وَلَكِنْ مَا كَانَ ظَاهِرًا وَقَعَ بَائِنًا ، وَمَا كَانَ مِنْهَا بَاطِنًا وَقَعَ رَجْعِيًّا ، إِلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِمَا ثَلَاثًا فَتَكُونَ ثَلَاثًا ، وَلَوْ أَرَادَ اثْنَتَيْنِ لَمْ تَكُنْ إِلَّا وَاحِدَةً ، وَلَوْ أَرَادَ بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ ثَلَاثًا أَوِ اثْنَتَيْنِ ، لَمْ تَكُنْ إِلَّا وَاحِدَةً ، وَلَهُ فِي كُلِّ لَفْظَةٍ مَذْهَبٌ يَطُولُ شَرْحُهُ ، لَكِنَّ تَقْرِيبَ جُمْلَتِهِ مَا ذَكَرْنَاهُ فَصَارَ الْخِلَافُ مَعَهُ فِي أَرْبَعَةِ فُصُولٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْغَضَبَ وَالطَّلَبَ هَلْ يَقُومَانِ فِي الْكِنَايَةِ مَقَامَ النِّيَّةِ أَمْ لَا ؟ . وَالثَّانِي : أَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ بِالْكِنَايَاتِ الظَّاهِرَةِ هَلْ يَكُونُ بَائِنًا أَمْ لَا ؟ . وَالثَّالِثُ : إِذَا أَرَادَ بِالْكِنَايَاتِ اثْنَتَيْنِ هَلْ تَكُونُ اثْنَتَيْنِ أَمْ لَا ؟ . وَالرَّابِعُ : أَنَّهُ أَرَادَ بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثَ هَلْ تَكُونُ ثَلَاثًا أَمْ لَا ؟ . فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي الطَّلَبِ وَالْغَضَبِ فَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِمَا ، وَذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لَهُمَا فِي صَرِيحٍ وَلَا كِنَايَةٍ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ بِالْكِنَايَاتِ الظَّاهِرَةِ ، هَلْ يَكُونُ رَجْعِيًّا إِذَا لَمْ يُرِدْ بِهِ ثَلَاثًا ، فَعِنْدَمَا يَكُونُ رَجْعِيًّا إِنْ أَرَادَ بِهِ وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ ، أَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فِي عَدَدِهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَكُونُ بَائِنًا ، لَا يَمْلِكُ فِيهِ الرَّجْعَةَ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ قَوْلَهُ : أَنْتِ بَائِنٌ لَفْظٌ يَقْتَضِي الْبَيْنُونَةَ فَوَجَبَ أَنْ يَقَعَ الطَّلَاقُ بِهِ بَائِنًا كَالثَّلَاثِ ، وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يَعْمَلَ هَذَا اللَّفْظُ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ ، فَيَجِبُ أَنْ يَقَعَ عَلَى مُقْتَضَاهُ ، وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ تَجَرَّدَتِ النِّيَّةُ عَنْ لَفْظٍ عَامِلٍ ، فَيَجِبُ أَلَّا يَقَعَ بِهِ طَلَاقٌ . وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ رُكَانَةَ بْنِ عَبْدِ يَزِيدَ حِينَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ سُهَيْمَةَ الْبَتَّةَ ، فَسَأَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا أَرَادَ بِـ " الْبَتَّةَ " فَقَالَ : وَاحِدَةً ، فَأَحْلَفَهُ عَلَيْهَا ، وَرَدَّهَا عَلَيْهِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَا تَكُونُ ثَلَاثًا . فَخَالَفَ قَوْلَ مَالِكٍ وَتَكُونُ رَجْعِيَّةً بِخِلَافِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَرُوِيَ أَنَّ الْمُطَّلِبَ بْنَ حَنْطَبٍ

طَلَّقَ امْرَأَتَهُ الْبَتَّةَ ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ ، فَإِنَّ الْوَاحِدَةَ لَا تَبُتُّ ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَيْهِمَا ، وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ : فَإِنَّ الْوَاحِدَةَ تَبُتُّ ، يَعْنِي بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ إِنْ لَمْ يُمْسِكْ . وَرُوِيَ أَنِ التَّوْأَمَةَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ الْبَتَّةَ فَقَالَ عُمَرُ : مَا أَرَدْتَ قَالَ : وَاحِدَةً فَاسْتَحْلَفَهُ ، فَقَالَ : أَتُرَانِي أُقِيمُ عَلَى فَرْجٍ حَرَامٍ ، فَأَحْلَفَهُ وَأَقَرَّهُ عَلَى نِكَاحِهِ ، وَلَيْسَ يُعْرَفُ لِعُمَرَ فِي هَذَا مُخَالِفٌ ، فَكَانَ إِجْمَاعًا عَلَى مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ ، لِأَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ إِذَا تَجَرَّدَ عَنْ عَدَدٍ وَعِوَضٍ ، كَانَ رَجْعِيًّا فِي الْمَدْخُولِ بِهَا ، قِيَاسًا عَلَى قَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ ، أَوِ اعْتَدِّي أَوِ اسْتَبْرِئِي رَحِمَكِ ، أَوْ أَنْتِ وَاحِدَةٌ ، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَافَقَ عَلَى هَذِهِ الْأَرْبَعِ أَنَّهُ يَمْلِكُ بِهَا الرَّجْعَةَ ، وَلِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ يَلْحَقُهَا الطَّلَاقُ فَوَجَبَ أَنْ يَمْلِكَ رَجْعَتَهَا كَالْمُطَلَّقَةِ بِالصَّرِيحِ ، وَبِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْكِنَايَةِ ، وَلِأَنَّ مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِكِنَايَتِهِ ، لِتَحْرِيمِ الثَّلَاثِ ، وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَمْنَعْ صَرِيحُهُ مِنَ الرَّجْعَةِ لَمْ تَمْنَعْ كِنَايَتُهُ مِنَ الرَّجْعَةِ لِقَوْلِهِ : أَنْتِ وَاحِدَةٌ ، هُوَ كِنَايَةُ أَنْتِ طَالِقٌ . وَلِأَنَّ صَرِيحَ الطَّلَاقِ مِنْ كِنَايَتِهِ فَلَمَّا لَمْ يَرْفَعِ الصَّرِيحُ الرَّجْعَةَ ، فَأَوْلَى أَلَّا تَرْفَعَهَا الْكِنَايَةُ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ نَوَى بِالطَّلَاقِ صَرِيحَ أَنَّهُ بَائِنٌ لَمْ يَرْفَعِ الرَّجْعَةَ ، فَإِذَا تَجَرَّدَ لَفْظُ الْبَائِنِ عَنِ الصَّرِيحِ ، فَأَوْلَى أَلَّا يَرْفَعَ الرَّجْعَةَ ، فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّهُ لَفْظٌ يَقْتَضِي الْبَيْنُونَةَ ، فَمُنْتَقَضٌ بِقَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ وَلَا رَجْعَةَ لِي عَلَيْكِ ، تَكُونُ طَالِقًا وَلَهُ الرَّجْعَةُ ، فَلَمْ يَرْتَفِعْ بِهَذَا اللَّفْظِ ، وَإِنْ كَانَ مُقْتَضِيًا لِلْبَيْنُونَةِ ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ الثَّلَاثُ ، اسْتِيفَاءُ الْعَدَدِ ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّهُ إِذَا وَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ وَقَعَ مُقْتَضَاهُ ، فَمُنْتَقَضٌ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ ، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي طَلَاقًا مِنْ جِنْسِهِ ، وَقَدْ يَكُونُ رَجْعِيًّا لَا يَخْرُجُ بِهِ مَنْ جِنْسِهِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ : وَهُوَ إِذَا نَوَى بِالْكِنَايَاتِ اثْنَتَيْنِ الطلاق وَقَعَ اثْنَتَانِ عِنْدَنَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا تَقَعُ إِلَّا وَاحِدَةً ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ قَوْلَهُ : أَنْتِ بَائِنٌ يَتَضَمَّنُ الْبَيْنُونَةَ وَهِيَ نَوْعَانِ الطلاق : صُغْرَى وَهِيَ الَّتِي تُثْبِتُ الرَّجْعَةَ وَتَحِلُّ قَبْلَ زَوْجٍ ، وَكُبْرَى وَهِيَ الَّتِي تَقْطَعُ عِصْمَةَ الرَّجْعَةِ وَلَا تَحِلُّ إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ ، فَإِذَا أَرَادَ الْكُبْرَى وَكَانَتِ الثَّلَاثُ تَبَعًا وَإِنْ لَمْ يُرِدِ الْكُبْرَى وَقَعَتِ الصُّغْرَى ، لِأَنَّهَا لَا تَنْفَكُّ عَنْهَا وَهِيَ وَاحِدَةٌ ، فَأَمَّا الثِّنْتَانِ فَخَارِجٌ مِنْهُمَا ، وَلِأَنَّ لَفْظَ الْبَيْنُونَةِ لَا يَتَضَمَّنُ عَدَدًا ، لِأَنَّ الْبَائِنَ مِثْلُ الْحَائِضِ وَالطَّاهِرِ ، وَلَا يَحْسُنُ أَنْ تَقُولَ : أَنْتِ بَائِنَتَانِ كَمَا لَا يَحْسُنُ أَنْ تَقُولَ : أَنْتِ حَائِضَتَانِ وَطَاهِرَتَانِ ، فَإِذَا لَمْ يَتَضَمَّنِ الْعَدَدَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَلَّقَ عَلَيْهِ الْعَدَدُ . وَدَلِيلُنَا هُوَ : أَنَّ كُلَّ عَدَدٍ مَلَكَ إِيقَاعَهُ بِالصَّرِيحِ ، مَلَكَ إِيقَاعَهُ بِالْكِنَايَةِ كَالثَّلَاثِ ، وَلِأَنَّ وُقُوعَ الثَّلَاثِ أَغْلَظُ مِنْ وُقُوعِ الثِّنْتَيْنِ ، لِأَنَّ الثَّالِثَةَ لَا تَقَعُ إِلَّا بَعْدَ الثَّانِيَةِ ، فَإِذَا وَقَعَتِ الثِّنْتَانِ مَعَ الثَّالِثَةِ فَأَوْلَى أَنْ تَقَعَ الثِّنْتَانِ دُونَ الثَّالِثَةِ ، فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّ الْبَيْنُونَةَ

بِالصَّرِيحِ لَا تَكُونُ بِوَاحِدَةٍ فَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ وُقُوعُهَا بِالْوَاحِدَةِ ، وَأَنْ يَصِحَّ ضَمُّ ثَانِيَةٍ إِلَيْهَا ، كَالْمُخْتَلِعَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ تَبِينُ بِالْوَاحِدَةِ يَجُوزُ أَنْ يُخَالِعَهَا عَلَى اثْنَتَيْنِ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّ لَفْظَ الْبَائِنِ لَا يَتَضَمَّنُ عَدَدًا ، لِأَنَّهُ لَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ أَنْتِ بَائِنَتَانِ فَفَاسِدٌ بِالثَّلَاثِ ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَضَمَّنِ الْعَدَدَ لَمْ تَقَعِ الثَّلَاثُ ، وَإِذَا جَازَ أَنْ تَقَعَ ثَلَاثًا ، جَازَ أَنْ تَقَعَ ثِنْتَيْنِ وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ : أَنْتِ بَائِنٌ ثِنْتَيْنِ ، كَمَا لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ : أَنْتِ بَائِنٌ ثَلَاثٌ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الرَّابِعُ : وَهُوَ إِذَا نَوَى بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ ثَلَاثًا ، فَقَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ ، وَنَوَى الثَّلَاثَ كَانَتْ ثَلَاثًا ، وَلَوْ نَوَى اثْنَتَيْنِ كَانَتِ اثْنَتَيْنِ ، فَيُحْمَلُ صَرِيحُ الطَّلَاقِ عَلَى مَا نَوَى مِنْ عَدَدِهِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَقَعُ بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ إِلَّا وَاحِدَةً ، وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ يَنْوِي طَلْقَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا لَمْ تَقَعْ إِلَّا وَاحِدَةً ، إِلَّا أَنْ يَتَلَفَّظَ بِالْعَدَدِ نُطْقًا ، أَوْ يَقُولَ أَنْتِ طَالِقٌ نَاوِيًا الثَّلَاثَ فَتُطَلَّقُ ثَلَاثًا وَفَرَّقَ بَيْنَ قَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ يَنْوِي ثَلَاثًا فَيُطَلِّقُ وَاحِدَةً ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ وَيَنْوِي الثَّلَاثَ ، فَيُطَلِّقُ ثَلَاثًا ، بِأَنَّ الطَّلَاقَ مَصْدَرٌ يَحْتَمِلُ الْعَدَدَ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ . وَقَوْلُهُ : أَنْتِ طَالِقٌ إِخْبَارٌ عَنْ صِفَةٍ ، لَا تَحْتَمِلُ الْعَدَدَ كَمَا لَا تَحْتَمِلُ دُخُولَ الْعَدَدِ فِي قَوْلِهِمْ أَنْتَ قَائِمٌ وَقَاعِدٌ وَرَاكِعٌ وَسَاجِدٌ وَجَعَلَ هَذَا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا دَلِيلًا . قَالَ : وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ صَرِيحٌ فِي الْوَاحِدِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ كِنَايَةً فِي الثَّلَاثِ ، لِأَنَّهُ يُؤَخَّرُ إِلَى أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ الْوَاحِدُ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ صَرِيحًا وَكِنَايَةً فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ وَهَذَا فَاسِدٌ وَدَلِيلُنَا أَنَّ قَوْلَهُ : أَنْتِ طَالِقٌ ، عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ اسْمُ فَاعِلٍ ، لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ طُلِّقَتْ فَهِيَ طَالِقٌ كَمَا قَالُوا حَاضَتْ فَهِيَ حَائِضٌ ، وَضَرَبَتْ فَهِيَ ضَارِبٌ ، وَاسْمُ الْفَاعِلِ يَحْتَمِلُ الْعَدَدَ ، لِأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُفَسَّرَ بِأَعْدَادِ الْمَصَادِرِ ، فَيُقَالُ : أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَتَيْنِ ، وَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ وَمِائَةَ طَلْقَةٍ وَضَارِبٌ مِائَةَ ضَرْبَةٍ ، وَلَوْ كَانَ الِاسْمُ لَا يَتَضَمَّنُ أَعْدَادَ مَصَادِرِهِ ، فَأَحْسَنُ أَنْ يُعْتَبَرَ بِهِ كَمَا لَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ : أَنْتِ ضَارِبٌ طَلْقَةً ، وَقَائِمٌ قَعْدَةً . وَلِذَا تَضَمَّنَ الْعَدَدَ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا ، جَازَ أَنْ يَقَعَ بِهِ الثَّلَاثُ ، كَمَا يَقَعُ بِقَوْلِهِ : أَنْتِ الطَّلَاقُ . وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا : أَنَّ كُلَّ لَفْظٍ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْعَدَدُ فِيهِ مُظْهَرًا ، جَازَ أَنْ يَكُونَ الْعَدَدُ فِيهِ مُضْمَرًا ، كَالْمَصْدَرِ إِذَا قَالَ : أَنْتِ الطَّلَاقُ . وَدَلِيلٌ ثَانٍ : وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَقَعَتِ الثَّلَاثُ ، بِقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَكَانَ قَوْلُهُ ثَلَاثًا تَفْسِيرًا لِلْعَدَدِ الْمُضْمَرِ فِيهِ ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ لِغَيْرِ مَدْخُولٍ بِهَا ، أَنْتِ طَالِقٌ

ثَلَاثًا طُلِّقَتْ ثَلَاثًا وَلَوْ كَانَتِ الثَّلَاثُ لَا تَقَعُ إِلَّا بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ ، لَمَا وَقَعَ عَلَيْهَا إِلَّا وَاحِدَةً ، لِأَنَّ غَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهَا لَا تُطَلَّقُ بِلَفْظٍ بَعْدَ لَفْظٍ ، لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَقَعَتِ الْأُولَى وَلَمْ تَقَعِ الثَّانِيَةُ ، وَإِذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ الْعَدَدُ فِيهِ مُضْمَرًا فِيهِ ، إِذَا أَظْهَرَهُ ، جَازَ أَنْ يَكُونَ مُضْمَرًا فِيهِ إِذَا نَوَاهُ . وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا : أَنَّ كُلَّ عَدَدٍ جَازَ أَنْ يَتَضَمَّنَهُ مَصْدَرُ الطَّلَاقِ ، جَازَ أَنْ يَتَضَمَّنَهُ اسْمُ الطَّلَاقِ كَالْمُظْهَرِ . وَدَلِيلٌ ثَالِثٌ : وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ ، وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ الثَّلَاثِ ، طُلِّقَتْ ثَلَاثًا وَنِيَّةُ الثَّلَاثِ أَقْوَى مِنْ إِشَارَتِهِ بِالثَّلَاثِ ، لِأَنَّ الْكِنَايَةَ تَعْمَلُ فِيهَا النِّيَّةُ ، وَلَا تَعْمَلُ فِيهَا الْإِشَارَةُ فَلَمَّا وَقَعَتِ الثَّلَاثُ بِالْإِشَارَةِ ، فَأَوْلَى أَنْ تَقَعَ بِالنِّيَّةِ ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّ قَوْلَهُ : أَنْتِ طَالِقٌ إِخْبَارٌ عَنْ صِفَةٍ ، لَا تَتَضَمَّنُ عَدَدًا فَهُوَ خَطَأٌ ، لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ اسْمٌ يَحْتَمِلُ الْعَدَدَ بِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ جَوَازِ قَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا ، وَقَوْلِهِ : أَنْتِ حَائِضٌ وَطَاهِرٌ وَقَائِمٌ وَقَاعِدٌ ، فَهُوَ مِمَّا لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْتَمِعَ مِنْهُ عَدَدٌ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ ، فَلَمْ يَتَضَمَّنِ الْعَدَدَ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الطَّلَاقُ : لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَجْتَمِعَ مِنْهُ الْعَدَدُ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ ، فَجَازَ أَنْ يَتَضَمَّنَ الْعَدَدَ ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ : أَنْتَ عَالِمٌ عِلْمَيْنِ ، وَجَائِرٌ جَوْرَيْنِ فَيَجُوزُ أَنْ يَتَضَمَّنَهُ الْعَدَدُ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِي الْوَاحِدَةِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً فِي الثَّلَاثِ ، فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ ، لِأَنَّهُ إِذَا نَوَى الثَّلَاثَ ، كَانَ صَرِيحًا فِيهَا ، وَلَمْ يَكُنْ صَرِيحًا فِي وَاحِدَةٍ ، كِنَايَةً فِي اثْنَتَيْنِ فَلَمْ يُسَلَّمْ لَهُمُ الِاسْتِدْلَالُ .

فَصْلٌ : وَإِذَا تَمَهَّدَ حُكْمُ الْكِنَايَةِ في الطلاق وَأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ بِهَا إِلَّا مَعَ النِّيَّةِ ، فَإِنْ تَجَرَّدَتْ عَنِ النِّيَّةِ لَمْ يَقَعْ بِهَا طَلَاقٌ ، لِأَنَّ قَوْلَهُ : أَنْتِ خَلِيَّةٌ يَحْتَمِلُ خَلِيَّةً مِنْ خَيْرٍ ، وَخَلِيَّةً مِنْ شَرٍّ وَخَلِيَّةً مِنْ زَوْجٍ فَلَمْ يُحْمَلْ عَلَى إِحْدَى احْتِمَالَاتِهِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : أَنْتِ بَائِنٌ يَحْتَمِلُ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالزَّوْجِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْكِنَايَاتِ ، يَتَقَابَلُ فِيهَا الِاحْتِمَالُ ، فَلَمْ يَقَعْ بِهَا طَلَاقٌ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ ، فَأَمَّا إِذَا وُجِدَتِ الْكِنَايَةُ وَنِيَّةُ الطَّلَاقِ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ النِّيَّةِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ مُتَقَدِّمَةً عَلَى جَمِيعِ اللَّفْظِ ، فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ ، وَلِأَنَّ النِّيَّةَ تَجَرَّدَتْ عَنْ لَفْظٍ فَلَمْ يَقَعْ بِهَا طَلَاقٌ ، وَاللَّفْظَ تَجَرَّدَ عَنْ نِيَّةٍ ، فَلَمْ يَقَعْ بِهِ طَلَاقٌ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ مُتَأَخِّرَةً عَنْ جَمِيعِ اللَّفْظِ ، فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ أَيْضًا ، لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ اللَّفْظَ لَمَّا تَجَرَّدَ عَنِ النِّيَّةِ لَمْ يَقَعْ بِهِ طَلَاقٌ ، وَالنِّيَّةَ لَمَّا تَجَرَّدَتْ عَنِ اللَّفْظِ لَمْ يَقَعْ بِهَا طَلَاقٌ . مِثَالُ هَذَيْنِ : نِيَّةُ الصَّلَاةِ ، إِنْ تَقَدَّمَتْ عَلَى الْإِحْرَامِ لَمْ تَصِحَّ ، وَإِنْ تَأَخَّرَتْ عَنْهُ لَمْ تَصِحَّ .

وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ مُقَارِنَةً لِجَمِيعِ اللَّفْظِ ، فَتُوجَدُ مِنْ أَوَّلِ اللَّفْظِ إِلَى آخِرِهِ فَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ ، بِاللَّفْظِ وَالنِّيَّةِ مَعًا ، وَلَا يَكُونُ وُقُوعُهُ بِأَحَدِهِمَا ، وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ هُوَ الْمُغَلَّبُ لِظُهُورِهِ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ تُوجَدَ النِّيَّةُ فِي بَعْضِ اللَّفْظِ وَتُعْدَمَ فِي بَعْضِهِ ، إِمَّا أَنْ تُوجَدَ فِي أَوَّلِهِ وَتُعْدَمَ فِي آخِرِهِ ، أَوْ تُوجَدَ فِي آخِرِهِ ، وَتُعْدَمَ فِي أَوَّلِهِ ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ لَهَا : أَنْتِ بَائِنٌ ، فَيَنْوِي عِنْدَ قَوْلِهِ : " أَنْتِ بَا " بِتَرْكِ النِّيَّةِ عِنْدَ قَوْلِهِ " ئِنٌ " ، أَوْ يَتْرُكُ النِّيَّةَ عِنْدَ قَوْلِهِ : " أَنْتِ بَا " وَيَنْوِي عِنْدَ قَوْلِهِ " ئِنٌ " ، فَفِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا : أَحَدُهُمَا : لَا يَقَعُ اللَّفْظُ إِذَا اعْتُبِرَتْ فِيهِ النِّيَّةُ ، كَانَ وُجُودُهَا عِنْدَ بَعْضِهَا ، كَعَدَمِهَا فِي جَمِيعِهِ كَالنِّيَّةِ فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الطَّلَاقَ وَاقِعٌ ، لِأَنَّ اسْتِصْحَابَ النِّيَّةِ فِي جَمِيعِ مَا يُعْتَبَرُ فِيهِ النِّيَّةُ لَيْسَ بِلَازِمٍ كَالصَّلَاةِ لَا يَلْزَمُ اسْتِصْحَابُ النِّيَّةِ فِي جَمِيعِهَا . وَالْأَصَحُّ عِنْدِي ، أَنْ يُنْظَرَ فِي النِّيَّةِ فَإِنْ وُجِدَتْ فِي أَوَّلِ اللَّفْظِ ، وَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ ، وَإِنْ عُدِمَتْ فِي آخِرِهِ ، كَالصَّلَاةِ إِذَا وُجِدَتِ النِّيَّةُ فِي أَوَّلِهَا ، جَازَ أَنْ تُعْدَمَ فِي آخِرِهَا ، وَإِنْ وُجِدَتِ النِّيَّةُ فِي آخِرِ اللَّفْظِ وَعُدِمَتْ فِي أَوَّلِهِ ، لَمْ يَقَعْ لَهُ الطَّلَاقُ ، كَالنِّيَّةِ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ ، وَلِأَنَّ النِّيَّةَ إِذَا انْعَقَدَتْ مَعَ أَوَّلِ اللَّفْظِ ، كَانَ بَاقِيهِ رَاجِعًا إِلَيْهَا ، وَإِذَا خَلَتْ مِنْ أَوَّلِهِ صَارَ لَغْوًا وَكَانَ مَا بَقِيَ مِنْهُ مَعَ النِّيَّةِ نَاقِصًا ، فَخَرَجَ مِنْ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ ، وَهَذَا التَّفْصِيلُ أَشْبَهُ بِنَصِّ الشَّافِعِيِّ ، لِأَنَّهُ قَالَ : لَمْ يَكُنْ طَلَاقًا حَتَّى يَبْتَدَأَ وَنِيَّتُهُ الطَّلَاقُ ، فَاعْتَبَرَهَا فِي ابْتِدَاءِ اللَّفْظِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " ( قَالَ ) وَلَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ حُرَّةٌ يُرِيدُ بِهَا الطَّلَاقَ وَلِأَمَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ يُرِيدُ الْعِتْقَ لَزِمَهُ ذَلِكَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، أَمَّا صَرِيحُ الْعِتْقِ فَهُوَ كِنَايَةٌ فِي الطَّلَاقِ إِجْمَاعًا ، فَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ ، أَنْتِ حُرَّةٌ أَوْ أَنْتِ مُعْتَقَةٌ ، يُرِيدُ طَلَاقَهَا ، طُلِّقَتْ ، لِأَنَّ عِتْقَ الْأَمَةِ إِطْلَاقٌ مِنْ حَبْسِ الرِّقِّ ، كَمَا أَنَّ طَلَاقَ الزَّوْجَةِ إِطْلَاقٌ مِنْ حَبْسِ النِّكَاحِ ، فَتَقَارَبَ مَعْنَاهُمَا ، وَأَمَّا صَرِيحُ الطَّلَاقِ فَهُوَ كِنَايَةٌ عِنْدَنَا فِي الْعِتْقِ ، فَإِذَا قَالَ لِأَمَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ، أَوْ مُسَرَّحَةٌ أَوْ مُفَارَقَةٌ ، يُرِيدُ عِتْقَهَا عُتِقَتْ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا تُعْتَقُ وَلَا يَكُونُ صَرِيحَ الطَّلَاقِ كِنَايَةً فِي الْعِتْقِ ، وَإِنْ كَانَ صَرِيحُ الْعِتْقِ كِنَايَةً فِي الطَّلَاقِ ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الطَّلَاقَ يُوجِبُ التَّحْرِيمَ ، وَتَحْرِيمُ الْأَمَةِ لَا يُوجِبُ عِتْقَهَا ، لِأَنَّهُ يَمْلِكُ مَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ بِنَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ ، وَلَا تُعْتَقُ عَلَيْهِ ، وَلَا يُشْبِهُ قَوْلُهُ لِزَوْجَتِهِ ، أَنْتِ حُرَّةٌ فَتُطَلَّقُ ، لِأَنَّ عِتْقَ الْأَمَةِ

تَحْرِيمٌ ، وَتَحْرِيمَ الزَّوْجَةِ مُوجِبٌ لِزَوَالِ الْمِلْكِ عَنْهَا ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ طَلَاقًا لَهَا ، قَالَ : وَلِأَنَّ كُلَّ لَفْظٍ كَانَ صَرِيحًا فِي تَحْرِيمِ الْحَرَائِرِ لَمْ يَكُنْ كِنَايَةً فِي عِتْقِ الْإِمَاءِ كَالظِّهَارِ ، وَلِأَنَّ لَفْظَ الطَّلَاقِ أَضْعَفُ حُكْمًا مِنْ لَفْظِ الْحُرِّيَّةِ ، لِأَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِإِزَالَةِ الْمِلْكِ عَنِ الِاسْتِمْتَاعِ ، وَالْحُرِّيَّةُ تُزِيلُ الْمِلْكَ عَنِ الرِّقِّ وَالِاسْتِمْتَاعِ ، فَجَازَ أَنْ تَكُونَ الْحُرِّيَّةُ كِنَايَةً فِي الطَّلَاقِ لِقُوَّتِهَا ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ كِنَايَةً فِي الْعِتْقِ لِضَعْفِهِ ، كَالْبَيْعِ لَمَّا كَانَ أَقْوَى مِنَ الْإِجَارَةِ ، جَازَ أَنْ تَنْعَقِدَ الْإِجَارَةُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْعَقِدَ الْبَيْعُ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ ، وَلِأَنَّ صَرِيحَ مَا يَجْرِي فِيهِ النِّيَّةُ أَنَّهُ كِنَايَةٌ ، فِي مِثْلِهِ كَالْعِتْقِ فِي الطَّلَاقِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ لَفْظٍ صَحَّ اسْتِعْمَالُهُ فِي الطَّلَاقِ ، صَحَّ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْعِتْقِ ، كَقَوْلِهِ : لَا سُلْطَانَ لِي عَلَيْكِ ، وَلِأَنَّ مَا صَحَّ وُقُوعُ الطَّلَاقِ بِهِ ، صَحَّ وُقُوعُ الْحُرِّيَّةِ بِهِ ، كَقَوْلِهِ أَنْتِ حُرَّةٌ ، وَلِأَنَّ صَرِيحَ الطَّلَاقِ أَقْوَى مِنْ كِنَايَتِهِ فَلَمَّا وَقَعَتِ الْحُرِّيَّةُ بِكِنَايَةِ الطَّلَاقِ ، فَأَوْلَى أَنْ تَقَعَ بِصَرِيحِهِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الْحُرِّيَّةُ كِنَايَةً فِي طَلَاقِ الْحُرَّةِ ، وَهِيَ صِفَتُهَا فِي حَالِ الزَّوْجِيَّةِ ، فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ كِنَايَةً فِي عِتْقِ الْأَمَةِ وَلَيْسَ مِنْ صِفَتِهَا فِي حَالِ الرِّقِّ . فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّ تَحْرِيمَ الطَّلَاقِ لَا يُنَافِي بَقَاءَ الرِّقِّ ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ صَرِيحَ الطَّلَاقِ إِنَّمَا كَانَ كِنَايَةً فِي الْعِتْقِ ، لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْإِطْلَاقَ مِنْ حَبْسِ الْعِتْقِ ، لَا بِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ التَّحْرِيمِ ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الظِّهَارِ ، فَالظِّهَارُ عِنْدَنَا كِنَايَةٌ فِي الْعِتْقِ كَالطَّلَاقِ فَسَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ ثُمَّ لَوْ سُلِّمَ لَهُمْ هَذَا الْأَصْلُ - وَلَيْسَ بِمُسَلَّمٍ - لَكَانَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ مُزِيلٌ لِلْمِلْكِ مَعَ التَّحْرِيمِ ، فَجَازَ أَنْ تَقَعَ بِهِ الْحُرِّيَّةُ ، وَالظِّهَارُ مُخْتَصٌّ بِالتَّحْرِيمِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَزُولَ بِهِ الْمِلْكُ ، فَلَمْ تَقَعْ بِهِ الْحُرِّيَّةُ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ لَفْظَ الطَّلَاقِ أَضْعَفُ مِنْ لَفْظِ الْعِتَاقِ لِاخْتِصَاصِهِ بِإِزَالَةِ الِاسْتِمْتَاعِ عَنِ الْمَنْفَعَةِ دُونَ الرَّقَبَةِ ، فَالْجَوَابُ : أَنَّهُ وَإِنْ ضَعُفَ عَنْهُ فِي الْإِمَاءِ فَهُوَ أَقْوَى مِنْهُ فِي الْحَرَائِرِ ، ثُمَّ لَا يُنْكَرُ أَنْ يُسَاوِيَهُ فِي الْقُوَّةِ إِذَا انْضَمَّتْ إِلَيْهِ النِّيَّةُ كَمَا تُسَاوِيهِ كِنَايَةُ الطَّلَاقِ الَّتِي هِيَ أَضْعَفُ مِنْ صَرِيحِ الطَّلَاقِ ، إِذَا انْضَمَّتْ إِلَيْهِ النِّيَّةُ ، وَاسْتِشْهَادُهُمْ بِالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ ، فَهُمْ لَا يُجَوِّزُونَ عَقْدَ الْإِجَارَةِ بِلَفْظِ الْبَيْعِ ، كَمَا لَا يَجُوزُ عَقْدُ الْبَيْعِ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ وَإِنْ جَازَ عِنْدَنَا ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ لَفْظَ الْبَيْعِ أَعَمُّ مِنْ لَفْظِ الْإِجَارَةِ ، فَجَازَ أَنْ يُعْقَدَ الْأَخَصُّ بِاللَّفْظِ الْأَعَمِّ ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْقَدَ الْأَعَمُّ بِاللَّفْظِ الْأَخَصِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً بَائِنًا كَانَتْ وَاحِدَةً يَمْلِكُ الَّرَجْعَةَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَمَ فِي الْوَاحِدَةِ وَالثِّنْتَيْنِ بِالرَّجْعَةِ كَمَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ وَلَا وَلَاءَ لِي

عَلَيْكَ كَانَ حُرًّا وَالْوَلَاءُ لَهُ جَعَلَ عَلَيْهِ الصَلَاةُ وَالسَّلَامُ الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ كَمَا جَعَلَ اللَّهُ الرَّجْعَةَ لِمَنْ طَلَّقَ وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ وَطَلَّقَ رُكَانَةُ امْرَأَتَهُ الْبَتَّةَ فَأَحْلَفَهُ النَبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَرَادَ إِلَّا وَاحِدَةً وَرَدَّهَا عَلَيْهِ وَطَلَّقَ الْمُطَّلِبُ بْنُ حَنْطَبٍ امْرَأَتَهُ الْبَتَّةَ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمْسِكْ عَلَيْكَ امْرَأَتَكَ فَإِنَّ الْوَاحِدَةَ لَا تَبُتُّ وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِرَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ حَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ مَا أَرَدْتِ ؟ وَقَالَ شُرَيْحٌ أَمَّا الطَّلَاقُ فَسُنَّةٌ فَأَمْضُوهُ وَأَمَّا الْبَتَّةُ فَبِدْعَةٌ فَدِينُوهُ ( قَالَ ) وَيَحْتَمِلُ طَلَاقُ الْبَتَّةَ يَقِينًا وَيَحْتَمِلُ الْإِبْتَاتَ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ شَيْءٌ وَيَحْتَمِلُ وَاحِدَةً مُبِينَةً مِنْهُ حَتَّى يَرْتَجِعَهَا فَلَمَّا احْتَمَلَتْ مَعَانِيَ جُعِلَتْ إِلَى قَائِلِهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا الْكَلَامُ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَاحِدَةً بَائِنَةً كَانَتْ رَجْعِيَّةً ، وَلَا تَبِينُ بِالْوَاحِدَةِ ، وَإِنْ جَعَلَهَا بَائِنَةً ، كَمَا لَا يَسْقُطُ وَلَاءُ الْعِتْقِ ، وَإِذَا شَرَطَ سُقُوطَهُ فِي الْعِتْقِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَكُونُ الْوَاحِدَةُ بَائِنَةً إِذَا جَعَلَهَا بَائِنَةً ، وَتَسْقُطُ الرَّجْعَةُ فِيهَا بِإِسْقَاطِهِ لَهَا ، وَبَنَى ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِ ، إِذَا قَالَ لَهَا : أَنْتِ بَائِنٌ يُرِيدُ بِهِ الطَّلَاقَ ، أَنَّهَا تُطَلَّقُ وَاحِدَةً بَائِنَةً ، لَا يَمْلِكُ فِيهَا الرَّجْعَةَ ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِيهِ ، ثُمَّ يَفْسُدُ مَذْهَبُهُ هَاهُنَا مِنْ وَجْهَيْنِ أَيْضًا : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً بَائِنَةً ، كَانَتْ طَالِقًا وَاحِدَةً غَيْرَ بَائِنَةٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً ، لَا رَجْعَةَ فِيهَا ، كَانَتْ طَالِقًا وَاحِدَةً لَهُ الرَّجْعَةُ ، كَذَلِكَ فِي الْوَاحِدَةِ وَالثَّانِيَةِ . وَالْفَصْلُ الثَّانِي : فِي الْكِنَايَةِ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْكِنَايَةَ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِهَا إِلَّا مَعَ النِّيَّةِ ، وَإِنْ وَقَعَ بِالصَّرِيحِ رَدًّا عَلَى مَالِكٍ حَيْثُ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ بِالْكِنَايَةِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ ، وَعَلَى مَنْ ذَهَبَ إِلَى قَوْلِ دَاوُدَ : أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ بِالصَّرِيحِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُمَا وَالْفَرْقُ بَيْنَ الصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ ، فِي اعْتِبَارِ النِّيَّةِ فِي الْكِنَايَةِ ، دُونَ الصَّرِيحِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الصَّرِيحَ لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا مَعْنًى وَاحِدًا ، فَحُمِلَ عَلَى مُوجِبِهِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ ، وَالْكِنَايَةُ تَحْمِلُ مَعَانِيَ ، فَلَمْ تَنْصَرِفْ إِلَى أَحَدِهَا إِلَّا بِنْيَةٍ ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَا كَانَ مِنَ الْعِبَادَاتِ لَا يُعْقَدُ إِلَّا عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ ، كَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ ، وَإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ لَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى نِيَّةٍ ، وَمَا كَانَ مُحْتَمِلًا كَالصَّوْمِ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ عِبَادَةً إِلَّا بِالنِّيَّةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الصَّرِيحَ حَقِيقَةٌ وَالثَّانِيَ مَجَازٌ ، وَالْحَقَائِقُ يُفْهَمُ مَقْصُودُهَا بِغَيْرِ قَرِينَةٍ

وَالْمَجَازُ لَا يَقُومُ مَقْصُودُهُ إِلَّا بِقَرِينَةٍ ، فَلِذَلِكَ افْتَقَرَتِ الْكِنَايَةُ إِلَى نِيَّةٍ ، وَلَمْ يَفْتَقِرِ الصَّرِيحُ إِلَى نِيَّةٍ . وَالْفَصْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْكِنَايَةَ إِذَا وَقَعَ بِهَا الطَّلَاقُ مَعَ النِّيَّةِ كَالْبَائِنِ وَالْبَتَّةِ وَالْخَلِيَّةِ وَالْبَرِيَّةِ كَانَ رَجْعِيًّا ، إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ ثَلَاثًا ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَكُونُ بَائِنًا ، لَا يَمْلِكُ فِيهِ الرَّجْعَةَ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِيهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَوْ كَتَبَ بِطَلَاقِهَا فَلَا يَكُونُ طَلَاقًا إِلَّا بِأَنْ يَنْوِيَهُ كَمَا لَا يَكُونُ مَا خَالَفَهُ الصَّرِيحُ طَلَاقًا إِلَّا بِأَنْ يَنْوِيَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا وُقُوعُ الطَّلَاقِ بِغَيْرِ الْكَلَامِ فَيَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : فِعْلٌ وَكِنَايَةٌ وَإِشَارَةٌ ، فَأَمَّا الْفِعْلُ مِثْلُ الضَّرْبِ وَالْإِخْرَاجِ مِنَ الْمَنْزِلِ ، وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ مِنَ الْإِبْعَادِ وَالطَّرْدِ ، فَلَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَإِنْ نَوَاهُ وَعِنْدَ مَالِكٍ يَكُونُ طَلَاقًا ، لِأَنَّهُ يُوقِعُ الطَّلَاقَ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ ، فَأَوْلَى أَنْ يُوقِعَهُ بِالْفِعْلِ مَعَ النِّيَّةِ وَفِيمَا مَضَى مِنَ الدَّلِيلِ ، عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ بِالنِّيَّةِ ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِالْفِعْلِ ، وَإِنِ اقْتَرَنَتْ بِهِ النِّيَّةُ . وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَيْضًا : أَنَّ الطَّلَاقَ أَعْظَمُ حُكْمًا مِنَ الْإِيلَاءِ وَالظِّهَارِ ، لِأَنَّهُ يُسَاوِيهِمَا فِي قَصْدِ التَّحْرِيمِ ، وَيَزِيدُ عَلَيْهِمَا فِي رَفْعِ الْعَقْدِ ، فَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ الْإِيلَاءُ وَالظِّهَارُ إِلَّا بِقَوْلِهِ دُونَ النِّيَّةِ وَالْفِعْلِ ، كَانَ الطَّلَاقُ بِذَلِكَ أَوْلَى .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْكِنَايَةُ وَهُوَ أَنْ يَكْتُبَ بِخَطِّ يَدِهِ ، أَنْتِ طَالِقٌ ، أَوْ قَدْ طَلَّقْتُكِ ، أَوْ أَنْتِ مُطَلَّقَةٌ فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيمَا حُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ : أَنَّهَا صَرِيحٌ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِهَا لَا يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ كَالْكَلَامِ ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَنْذَرَ بِكُتُبِهِ فَقَالَ تَعَالَى : لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [ الْأَنْعَامِ : ] . وَقَدْ بَلَّغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرِّسَالَةَ بِمُكَاتَبَةٍ مَعَ كَاتِبِهِ ، وَلِأَنَّهَا تَقُومُ فِي الْإِفْهَامِ مَقَامَ الْكَلَامِ ، ثُمَّ هِيَ أَعَمُّ مِنْ إِفْهَامِ الْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ مِنَ الْكَلَامِ الْمُخْتَصِّ بِإِفْهَامِ الْحَاضِرِ دُونَ الْغَائِبِ ، وَلِأَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِاسْتِعْمَالِهَا فِي مَوْضِعِ الْكَلَامِ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ جَارِيَةً فِي الْحُكْمِ مَجْرَى الْكَلَامِ ، وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَدْ جَمَعُوا الْقُرْآنَ فِي الْمُصْحَفِ خَطًّا ، وَأَقَامُوهُ مَقَامَ تَلَفُّظِهِمْ بِهِ نُطْقًا ، حَتَّى صَارَ مَا تَضَمَّنَهُ إِجْمَاعًا لَا يَجُوزُ خِلَافُهُ ، وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْكِتَابَةَ لَيْسَتْ صَرِيحًا فِي الْكَلَامِ ، وَلَا يَجْرِي عَلَيْهَا حُكْمُ الصَّرِيحِ مِنَ الْكَلَامِ ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَرْسَلَ رَسُولَهُ نَذِيرًا لِأُمَّتِهِ وَمُبَلِّغًا لِرِسَالَتِهِ فَقَالَ تَعَالَى : إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [ الْبَقَرَةِ : ] . فَلَوْ كَانَتِ الْكِتَابَةُ كَالْكَلَامِ الصَّرِيحِ ، لَمَكَّنَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ مِنْهَا ، وَلَعَلَّمَهُ إِيَّاهَا لِيَكُونَ مَعَ تَكْلِيفِ الْإِنْذَارِ مُمَكَّنًا مِنْ آلَائِهِ ، وَكَامِلًا لِصِفَاتِهِ ، وَمُعَانًا عَلَيْهِ مِنْ سَائِرِ جِهَاتِهِ ، حَتَّى لَا يَنَالَهُ نَقْصٌ فَيُقَصِّرَ ، وَلَا ضَعْفٌ فَيَعْجِزَ ، وَلَكَانَ لَا يَبْعَثُ رَسُولًا ،

إِلَّا أُمِّيًّا لَا يَكْتُبُ ، وَإِنْ تَكَلَّمَ ، كَمَا لَا يَبْعَثُ رَسُولًا أَخْرَسَ ، لَا يَتَكَلَّمُ وَإِنْ كَتَبَ ، وَفِي فَحْوَى هَذَا دَلِيلٌ عَلَى خُرُوجِ الْكِتَابَةِ مِنْ صَرِيحِ الْكَلَامِ ، وَلِأَنَّهَا لَوْ قَامَتْ مَقَامَ صَرِيحِ الْكَلَامِ لَأَجْزَأَ مِنْ كَتْبِ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ عَنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ فِي الصَّلَاةِ ، وَلَاقْتَضَى مِنَ الْمُرْتَدِّ إِذَا كَتَبَ الشَّهَادَتَيْنِ عَنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِالشَّهَادَتَيْنِ ، وَفِي امْتِنَاعِنَا مِنْ ذَلِكَ خُرُوجُ الْكِتَابَةِ مِنْ حُكْمِ الْكَلَامِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَتِ الْكِتَابَةُ صَرِيحًا كَالْكَلَامِ لَصَحَّ بِهَا عَقْدُ النِّكَاحِ ، كَمَا يَقَعُ بِهَا فِيهِ الطَّلَاقُ ، وَفِي إِجْمَاعِنَا عَلَى أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ بِهَا لَا يِصِحُّ دَلِيلٌ عَلَى خُرُوجِهِمَا مِنْ صَرِيحِ الْكَلَامِ فِي الطَّلَاقِ ، فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنْ لَيْسَتِ الْكِتَابَةُ صَرِيحًا فِي الطَّلَاقِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، هَلْ يَكُونُ كِنَايَةً فِيهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَأَشَارَ إِلَيْهِ فِي كِتَابِ الرَّجْعَةِ . وَقَالَ بِهِ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا : أَنَّهَا لَا تَكُونُ كِنَايَةً ، وَلَا يَقَعُ بِهَا طَلَاقٌ وَإِنْ نَوَاهُ ، لِأَنَّهَا فِعْلٌ فَأَشْبَهَتْ سَائِرَ الْأَفْعَالِ ، وَلِأَنَّ كِتَابَةَ الْيَدِ تُرْجُمَانِ اللِّسَانِ وَمُعَبِّرٌ عَنْهُ كَمَا أَنَّ كِنَايَةَ الْكَلَامِ تُرْجُمَانُ الْقَلْبِ وَمُعَبِّرٌ عَنْهُ فَلَمَّا لَمْ تَقُمِ الْكِتَابَةُ مَقَامَ الصَّرِيحِ إِلَّا بِنِيَّةِ الْقَلْبِ لَمْ تَقُمِ الْكِنَايَةُ مَعَ الْكَلَامِ إِلَّا بِنُطْقِ اللِّسَانِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ الصَّحِيحُ نَصَّ عَلَيْهِ هَاهُنَا وَفِي الْإِمْلَاءِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ : إِنَّ الْكِتَابَةَ كِنَايَةٌ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِهَا مَعَ النِّيَّةِ ، وَلَا يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ إِنْ تَجَرَّدَتْ عَنِ النِّيَّةِ ، لِأَنَّهَا نَقْصٌ عَنِ الْكَلَامِ لِاحْتِمَالِهَا وَتُخَالِفُ الْأَفْعَالَ لِإِفْهَامِ الْمُخَاطَبِ بِهَا ، وَلِأَنَّ الْعُرْفَ فِي اسْتِعْمَالِهَا أَنَّهَا بَدَلٌ مِنَ الْكَلَامِ ، تَقْتَضِي أَنْ يَتَعَلَّقَ عَلَيْهَا بَعْضُ أَحْكَامِ الْكَلَامِ ، فَصَارَتْ كَالْمُحْتَمَلِ فِيهِ مِنِ اعْتِبَارِ النِّيَّةِ فِيهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا قُلْنَا بِالْأَوَّلِ أَنَّ الْكِتَابَةَ لَيْسَتْ صَرِيحًا وَلَا كِنَايَةً ، فَلَا يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ وَإِنْ نَوَاهُ مِنْ حَاضِرٍ وَلَا غَائِبٍ ، وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ ، فَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي فِي أَنَّ الْكِتَابَةَ كِنَايَةٌ يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ إِذَا اقْتَرَنَتْ بِالنِّيَّةِ ، وَلَا يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ إِذَا تَجَرَّدَتْ عَنِ النِّيَّةِ ، فَكَذَلِكَ الْعِتْقُ ، وَيَصِحُّ بِهَا الطَّلَاقُ وَالْعِتَاقُ مِنَ الْغَائِبِ ، وَهَلْ يَصِحُّ مِنَ الْحَاضِرِ أَمْ لَا ؟ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَصِحُّ مِنَ الْحَاضِرِ كَمَا يَصِحُّ مِنَ الْغَائِبِ ، لِأَنَّ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ مِنَ الْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ سَوَاءٌ ، فَكَذَلِكَ الْكِتَابَةُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَصِحُّ بِهَا الطَّلَاقُ وَالْعِتَاقُ ، مِنَ الْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا مِنَ الْغَائِبِ ضَرُورَةٌ كَإِشَارَةِ الْأَخْرَسِ ، وَمِنَ الْحَاضِرِ غَيْرُ ضَرُورَةٍ كَإِشَارَةِ النَّاطِقِ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي عُرْفِ الْغَائِبِ ، وَغَيْرُ مُسْتَعْمَلَةٍ فِي عُرْفِ الْحَاضِرِ ، فَأَمَّا

الظِّهَارُ بِالْكِتَابَةِ فَهُوَ كَالطَّلَاقِ عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَأَمَّا الْإِيلَاءُ بِالْكِتَابَةِ فَلَا يَصِحُّ قَوْلًا وَاحِدًا ، لِأَنَّ الْإِيلَاءَ يَمِينٌ بِاللَّهِ تَعَالَى لَا يَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَةِ ، وَأَمَّا عَقْدُ الْبَيْعِ وَالْإِجَابَةِ بِالْكِتَابَةِ ، فَإِنْ قِيلَ إِنِ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ بِهِمَا وَلَا يَكُونُ كِنَايَةً فِيهِ فَأَوْلَى أَلَّا يَنْعَقِدَ بِهَا بَيْعٌ وَلَا إِجَارَةٌ ، وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ بِهَا ، وَإِنَّهَا كِنَايَةٌ فِيهِ ، فَفِي عَقْدِ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ بِهِمَا وَجْهَانِ ، مِنِ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي عَقْدِ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ بِصَرِيحِ الْعَقْدِ وَكِنَايَتِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا تَصِحُّ بِالْكِتَابَةِ ، إِذَا قِيلَ إِنَّهُ لَا تَصِحُّ بِالْكِنَايَاتِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ تَصِحُّ بِالْكِتَابَةِ إِذَا قِيلَ إِنَّهُ تَصِحُّ بِالْكِنَايَاتِ . وَقَدْ حَكَى أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ : أَنَّهُ وَجَدَ نَصًّا عَنِ الشَّافِعِيِّ ، أَنَّهُ إِذَا كَتَبَ إِلَى رَجُلٍ فِي بَلَدٍ أَنِّي قَدْ بِعْتُكَ دَارِي فِيهِ بِكَذَا صَحَّ الْبَيْعُ ، إِذَا قَبِلَهُ الْمُكَاتَبُ إِلَيْهِ ، وَكَانَ لَهُ الْخِيَارُ مَا لَمْ يُفَارِقْ مَجْلِسَهُ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِذَا كَتَبَ إِذَا جَاءَكِ كِتَابِي فَحَتَّى يَأْتِيَهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَإِذْ قَدْ مَضَى الْكَلَامُ ، حُكْمُ الْكِتَابَةِ بِالطَّلَاقِ أَنَّهَا لَيْسَتْ صَرِيحَةً فِيهِ ، وَفِي كَوْنِهَا كِنَايَةً قَوْلَانِ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ مَنْ كَتَبَ بِطَلَاقِ زَوْجَتِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَقْتَرِنَ بِكِتَابَتِهِ لَفْظٌ . وَالثَّانِي : أَنْ يَقْتَرِنَ بِهَا نِيَّةٌ . وَالثَّالِثُ : أَنْ تَتَجَرَّدَ عَنْ لَفْظٍ وَنِيَّةٍ ، فَإِنْ قَارَنَهَا لَفْظٌ ، وَقَعَ الطَّلَاقُ ، لِأَنَّ اللَّفْظَ لَوْ تَجَرَّدَ عَنِ الْكِتَابَةِ وَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ ، فَإِذَا انْضَمَّ إِلَى الْكِتَابَةِ فَأَوْلَى أَنْ يَقَعَ بِهِ ، وَإِنْ قَارَنَهَا نِيَّةُ الطَّلَاقِ ، فَفِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِهَا قَوْلَانِ ، إِنْ قِيلَ كِنَايَةٌ وَقَعَ الطَّلَاقُ ، وَإِنْ قِيلَ لَيْسَتْ كِنَايَةً لَمْ يَقَعْ ، وَإِنْ تَجَرَّدَتِ الْكِتَابَةُ عَنْ قَوْلٍ وَنِيَّةٍ لَمْ يَقَعْ بِهَا الطَّلَاقُ ، لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَتَبَ حَاكِيًا عَنْ غَيْرِهِ ، أَوْ مُجَرِّبًا لِخَطِّهِ ، أَوْ مُرْهِبًا لِزَوْجَتِهِ ، فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا ، فَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى زَوْجَتِهِ إِذَا جَاءَكِ كِتَابِي هَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ ، إِمَّا مَعَ لَفْظٍ اقْتَرَنَ بِهِ فَكَانَ طَلَاقًا قَوْلًا وَاحِدًا وَإِمَّا مَعَ نِيَّةٍ اقْتَرَنَتْ بِخَطِّهِ ، فَكَانَ طَلَاقًا فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ ، وَعَلَيْهِ تَفَرُّعُ جَمِيعِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ ، فَهُوَ طَلَاقٌ مُعَلَّقٌ بِصِفَةٍ ، وَهُوَ مَجِيءُ الْكِتَابِ إِلَيْهَا ، فَإِنْ لَمْ يَجِئْهَا الْكِتَابُ لَمْ تُطَلَّقْ فَإِنْ تَأَخَّرَ لِهَلَاكِهِ فَقَدْ بَطَلَتْ صِفَةُ طَلَاقِهَا ، فَهُوَ غَيْرُ مُنْتَظَرٍ سَوَاءٌ كَانَ هَلَاكُهُ بِسَبَبٍ مِنْهَا أَوْ مِنْ غَيْرِهِ ، وَإِنْ تَأَخَّرَ مَعَ بَقَائِهِ فَالصِّفَةُ بَاقِيَةٌ ، وَتَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِهَا مُنْتَظِرٌ لِمَجِيءِ الْكِتَابِ إِلَيْهَا ، لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ سَلِيمًا ، فَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ سَوَاءٌ قَرَأَتْهُ أَوْ لَمْ تَقْرَأْهُ ، لِأَنَّهُ عَلَّقَ طَلَاقَهَا بِمَجِيئِهِ لَا بِقِرَاءَتِهِ ، وَلَوْ كَانَ كَتَبَ إِذَا جَاءَكِ كِتَابٌ وَقَرَأْتِيهِ لَمْ تُطَلَّقْ لِمَجِيئِهِ حَتَّى

تَقْرَأَهُ ، فَإِنْ قُرِأَ عَلَيْهَا لَمْ تُطَلَّقْ ، إِنْ كَانَتْ تُحْسِنُ الْقِرَاءَةَ ، وَطُلِّقَتْ إِنْ كَانَتْ لَا تُحْسِنُهَا اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَصِلَ الْكِتَابُ مَمْحُوَّ الْكِتَابَةِ ، فَلَا طَلَاقَ ، لِأَنَّ الْكِتَابَ هُوَ الْمَكْتُوبُ وَمَا لَا كِتَابَةَ فِيهِ فَهُوَ كَأَخْذٍ وَلَيْسَ بِكِتَابٍ ، سَوَاءٌ كَانَ هُوَ الْمَاحِيَ لَهُ أَوْ غَيْرَهُ ، وَلَكِنْ لَوْ تَطَلَّسَتْ كِتَابَتُهُ وَلَمْ تُمْحَ ، نُظِرَ فَإِنْ كَانَ مَفْهُومَ الْقِرَاءَةِ طُلِّقَتْ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَفْهُومٍ لَمْ تُطَلَّقْ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَصِلَ الْكِتَابُ وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُهُ ، فَإِنْ كَانَ الذَّاهِبُ مِنْهُ مَوْضِعَ طَلَاقِهَا لَمْ تُطَلَّقْ ، لِأَنَّ مَقْصُودَهُ لَمْ يَصِلْ ، وَإِنْ كَانَ مَوْضِعَ طَلَاقِهَا بَاقِيًا وَالذَّاهِبُ مِنْ غَيْرِهِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُقُوعِ طَلَاقِهَا بِهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : لَا تُطَلَّقُ سَوَاءٌ كَانَ الذَّاهِبُ مِنْهُ مَكْتُوبًا أَوْ غَيْرَ مَكْتُوبٍ ، لِأَنَّ الْوَاصِلَ مِنْهُ بَعْضُهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا تُطَلَّقُ ، سَوَاءٌ كَانَ الذَّاهِبُ مَكْتُوبًا أَوْ غَيْرَ مَكْتُوبٍ ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ هُوَ لَفْظُ الطَّلَاقِ وَاصِلٌ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : إِنْ كَانَ الذَّاهِبُ مِنَ الْمَكْتُوبِ لَمْ تُطَلَّقْ ، لِأَنَّهُ بَعْضُ الْكِتَابِ وَإِنْ كَانَ الذَّاهِبُ مِنْ غَيْرِ الْمَكْتُوبِ طُلِّقَتْ ، لِأَنَّ الْمَكْتُوبَ هُوَ جَمِيعُ الْكِتَابِ . وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ : إِنْ وَصَلَ أَكْثَرُهُ طُلِّقَتْ ، وَإِنْ وَصَلَ أَقَلُّهُ لَمْ تُطَلَّقِ اعْتِبَارًا بِالْأَغْلَبِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِنْ كَتَبَ أَمَّا بَعْدُ فَأَنْتِ طَالِقٌ مِنْ حِينِ كَتَبَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا اقْتَرَنَ بِكِتَابَتِهِ نِيَّةُ الطَّلَاقِ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ بِالْأَصَحِّ مِنْ قَوْلَيْهِ ، الَّذِي تَفَرَّعَ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُ كَتَبَ طَلَاقًا نَاجِزًا ، وَلَمْ يُعَلِّقْهُ بِوُصُولِ الْكِتَابِ إِلَيْهَا ، فَيَعْمَلُ وُقُوعُهُ فِي الْحَالِ ، كَمَا لَوْ تَلَفَّظَ بِطَلَاقِهَا نَاجِزًا وَخَالَفَ أَنْ يُكْتَبَ ، إِذَا وَصَلَ إِلَيْكِ كِتَابِي فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَلَا تُطَلَّقُ إِلَّا بِوُصُولِهِ ، لِأَنَّ هَذَا مُقَيَّدٌ بِصِفَةٍ ، وَذَاكَ نَاجِزٌ ، فَلَوْ كَانَ قَالَ لَهَا : إِذَا أَتَاكِ طَلَاقِي فَأَنْتِ طَالِقٌ ، ثُمَّ كَتَبَ إِلَيْهَا إِذَا جَاءَكِ كِتَابِي فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَجَاءَهَا الْكِتَابُ طُلِّقَتْ طَلْقَتَيْنِ ، إِحْدَاهُمَا بِوُصُولِ الْكِتَابِ وَالثَّانِيَةُ بِمَجِيءِ الطَّلَاقِ ، لِأَنَّ الصِّفَتَيْنِ مَوْجُودَتَانِ فِي وُصُولِهِ ، وَعَلَى مِثَالِهِ أَنْ يَقُولَ لَهَا : إِنْ أَكَلْتِ نِصْفَ رُمَّانَةٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَإِنْ أَكَلْتِ رُمَّانَةً ، فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَأَكَلَتْ رُمَّانَةً فَتُطَلَّقُ طَلْقَتَيْنِ لِأَنَّهَا قَدْ أَكَلَتْ نِصْفَ رُمَّانَةٍ وَأَكَلَتْ رُمَّانَةً وَلَوْ قَالَ لَهَا : كُلَّمَا أَكَلْتِ نِصْفَ رُمَّانَةٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَكُلَّمَا أَكَلْتِ رُمَّانَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَأَكَلَتْ رُمَّانَةً طُلِّقَتْ طَلْقَتَيْنِ ، لِأَنَّ فِيهَا نِصْفَيْنِ ، فَطُلِّقَتْ طَلْقَتَيْنِ وَهِيَ رُمَّانَةٌ ، فَطُلِّقَتْ ثَالِثَةً .



مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ شُهِدَ عَلَيْهِ أَنَّ هَذَا خَطُّهُ لَمْ يَلْزَمْهُ حَتَّى يُقِرَّ بِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا أَنْ تَدَّعِيَ الْمَرْأَةُ عَلَى زَوْجِهَا ، أَنَّهُ كَتَبَ إِلَيْهَا بِطَلَاقِهَا ، وَتُحْضِرَ كِتَابًا بِالطَّلَاقِ تَدَّعِي أَنَّهُ كِتَابُهُ وَيُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ كِتَابَهُ ، فَإِنْ لَمْ تَصِلِ الْمَرْأَةُ الدَّعْوَى بِأَنَّهُ كِتَابُهُ ، نَاوِيًا لِلطَّلَاقِ ، لَمْ يُحْلَفِ الزَّوْجُ ، وَإِنْ وَصَلَتْ دَعْوَاهَا ، بِأَنَّهُ كَتَبَ نَاوِيًا أُحْلِفَ الزَّوْجُ حِينَئِذٍ عَلَى إِنْكَارِهِ ، فَإِنْ كَانَ مُنْكِرًا لِلْكِتَابِ ، أُحْلِفَ أَنَّهُ مَا كَتَبَهُ وَإِنْ كَانَ مُنْكِرًا لِلنِّيَّةِ ، أُحْلِفَ أَنَّهُ مَا نَوَى ، وَإِنْ أُحْلِفَ أَنَّهَا لَمْ تُطَلَّقْ مِنْهُ لَمْ يَجُزْ ، لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِمَّنْ لَا يَعْتَقِدُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ بِالْكِتَابِ ، وَيَعْتَقِدُهُ الْحَاكِمُ فَإِنْ شَهِدَ عَلَيْهِ عِنْدَ إِنْكَارِ الْكِتَابِ شَاهِدَانِ ، أَنَّهُ خَطُّهُ وَكِتَابُهُ لَمْ تُطَلَّقْ ، لِأَنَّ ، الْكِتَابَةَ لَا يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ إِلَّا مَعَ النِّيَّةِ ، وَالشَّهَادَةُ وَإِنْ صَحَّتْ عَلَى الْكِتَابَةِ فَلَا تَصِحُّ عَلَى النِّيَّةِ ، لِأَنَّ النِّيَّةَ تَخْفَى وَالْكِتَابَةَ لَا تَخْفَى ، وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يَلْزَمْهُ حَتَّى يُقِرَّ بِهِ ، يَعْنِي يُقِرُّ بِالْكِتَابِ وَالنِّيَّةِ مَعَ كِتَابَتِهِ ، فَإِنْ قِيلَ فَكَيْفَ تَصِحُّ الشَّهَادَةُ عَلَى خَطِّهِ ؟ قِيلَ بِأَنْ رَأَيَاهُ يَكْتُبُهُ ، وَلَا يَغِيبُ الْكِتَابُ عَنْ أَعْيُنِهِمَا حَتَّى يَشْهَدَا بِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَأَيَاهُ يَكْتُبُهُ وَلَكِنَّهُمَا عَرَفَا خَطَّهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْهَدَا بِهِ ، لِأَنَّ الْخَطَّ ( يُشْبِهُ الْخَطَّ ) وَإِنْ رَأَيَاهُ قَدْ كَتَبَهُ وَغَابَ الْكِتَابُ عَنْهُمَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْهَدَا بِهِ ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مُزَوَّرًا عَلَيْهِ فَيَتَشَبَّهُ بِهِ وَهَذِهِ الشَّهَادَةُ لَا تَلْزَمُ الشَّاهِدَيْنِ ، أَنْ يَشْهَدَا بِهَا ، وَلَا الْحَاكِمَ أَنْ يَسْتَدْعِيَهُمَا ، لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمٌ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْإِشَارَةُ بِالطَّلَاقِ ، فَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْأَخْرَسِ ، قَامَتْ مَقَامَ نُطْقِهِ ، وَوَقَعَ الطَّلَاقُ بِإِشَارَتِهِ كَمَا يَقَعُ طَلَاقُ النَّاطِقِ بِلَفْظِهِ ، إِذَا كَانَتْ إِشَارَتُهُ مَفْهُومَةً ، وَتَكُونُ الْإِشَارَةُ مِنْهُ طَلَاقًا صَرِيحًا وَإِنْ كَانَتِ الْإِشَارَةُ مِنْ نَاطِقٍ ، لَمْ يَقَعْ بِهَا الطَّلَاقُ لَا صَرِيحًا وَلَا كِنَايَةً ، لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ بِالطَّلَاقِ أَخَصُّ . فَلَوْ قَالَ : أَنْتِ وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ الثَّلَاثِ مُرِيدًا بِهَا الطَّلَاقَ لَمْ تُطَلَّقْ ، لِأَنَّ بِقَوْلِهِ أَنْتِ بَدْءٌ وَلَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي الطَّلَاقِ وَلَا كِنَايَةً ، فَالْإِشَارَةُ بَعْدَ الْبَدْءِ ، لَا يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ ، وَنِيَّةُ الطَّلَاقِ قَدْ تَجَرَّدَتْ عَنْ لَفْظٍ فَلَمْ يَقَعْ بِهَا الطَّلَاقُ ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ كَذَا وَأَشَارَ بِإِصْبَعٍ وَاحِدَةٍ طُلِّقَتْ وَاحِدَةً ، وَلَوْ أَشَارَ بِإِصْبَعَيْنِ ، طُلِّقَتْ طَلْقَتَيْنِ ، وَلَوْ أَشَارَ بِثَلَاثَةِ أَصَابِعَ ، طُلِّقَتْ ثَلَاثًا ، وَقَامَتْ إِشَارَتُهُ مَقَامَ الثَّلَاثِ ، مَعَ قَوْلِهِ هَكَذَا مَقَامَ نِيَّتِهِ بِالثَّلَاثِ نَصَّ عَلَيْهِ ابْنُ سُرَيْجٍ ، فَلَوْ أَشَارَ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ قَائِمَةٍ وَبِإِصْبَعَيْنِ مَعْقُودَتَيْنِ فَإِنْ أَرَادَ الثَّلَاثَ الْقَائِمَةَ طُلِّقَتْ ثَلَاثًا ، وَإِنْ أَرَادَ الْإِصْبَعَيْنِ الْمَعْقُودَتَيْنِ طُلِّقَتْ ثِنْتَيْنِ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ نِيَّةٌ ، طُلِّقَتْ بِالثَّلَاثِ أَصَابِعَ ثَلَاثًا ، لِأَنَّ فِيهَا زِيَادَةَ إِشَارَةٍ .

قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ سُرَيْجٍ : وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ ، وَلَمْ يَقُلْ هَكَذَا ، وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ الثَّلَاثِ لَمْ يَلْزَمْهُ بِالْإِشَارَةِ عَدَدٌ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ اخْتَارِي أَوْ أَمْرُكِ بِيَدِكِ فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا فَقَالَ مَا أَرَدْتُ طَلَاقًا لَمْ يَكُنْ طَلَاقًا إِلَّا بِأَنْ يُرِيدَهُ وَلَوْ أَرَادَ طَلَاقًا فَقَالَتْ قَدِ اخْتَرْتُ نَفْسِي سُئِلَتْ فَإِنْ أَرَادَتْ طَلَاقًا فَهُوَ طَلَاقٌ وَإِنْ لَمْ تُرِدْهُ فَلَيْسَ بِطَلَاقٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ لِلزَّوْجِ فِي الطَّلَاقِ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَتَوَلَّاهُ لِنَفْسِهِ مُبَاشِرًا فَيَقَعُ الطَّلَاقُ بِمُبَاشَرَتِهِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَسْتَنِيبَ فِيهِ وَكِيلًا ، فَيَقُومُ الْوَكِيلُ فِي الطَّلَاقِ الَّذِي اسْتَنَابَهُ فِيهِ مَقَامَ نَفْسِهِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يُفَوِّضَهُ إِلَى زَوْجَتِهِ وَهِيَ مَسْأَلَتُنَا فَيَكُونُ ذَلِكَ تَمْلِيكًا لَهَا وَلَا يَكُونُ تَوْكِيلًا وَاسْتِنَابَةً ، وَهُوَ جَائِزٌ يَصِحُّ بِهِ وُقُوعُ الْفُرْقَةِ ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيَّرَ نِسَاءَهُ ، فَاخْتَرْنَهُ فَلَوْلَا أَنَّ لِتَخْيِيرِهِنَّ تَأْثِيرًا فِي الْفُرْقَةَ إِنِ اخْتَرْنَهَا ، مَا كَانَ لِتَخْيِيرِهِنَّ مَعْنًى ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ تَفْوِيضِهِ الطَّلَاقَ إِلَى زَوْجَتِهِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ بِصَرِيحٍ مِنْهُمَا . وَالثَّانِي : بِكِنَايَةٍ مِنْهُمَا ، وَالثَّالِثُ : بِصَرِيحٍ مِنْهُ وَكِنَايَةٍ مِنْهَا ، وَالرَّابِعُ : بِكِنَايَةٍ مِنْهُ وَصَرِيحٍ مِنْهَا . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِصَرِيحٍ مِنْهُمَا جَمِيعًا فَصُورَتُهُ : أَنْ يَقُولَ لَهَا طَلِّقِي نَفْسَكِ فَتَقُولَ : قَدْ طَلَّقْتُ نَفْسِي ، فَقَدْ وَقَعَ الطَّلَاقُ بِطَلَاقِهَا لِنَفْسِهَا ، وَلَا يُرَاعَى مِنْ أَصْلِ الطَّلَاقِ وَوُقُوعِهِ نِيَّةُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، فَأَمَّا عَدَدُ الطَّلَاقِ فَلَهُمَا فِيهِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَذْكُرَاهُ . وَالثَّانِيَةُ : أَنْ يَنْوِيَاهُ . وَالثَّالِثَةُ : أَنْ يُطْلِقَاهُ ، فَإِنْ ذَكَرَاهُ فَلَهُمَا فِيهِ حَالَتَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَتَّفِقَا عَلَيْهِ . وَالثَّانِيَةُ : أَنْ يَخْتَلِفَا فِيهِ ، فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَيْهِ وَقَعَ الْعَدَدُ الَّذِي اتَّفَقَا عَلَيْهِ كَأَنَّهُ قَالَ لَهَا : طَلِّقِي نَفْسَكِ وَاحِدَةً ، فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَاحِدَةً ، أَوْ قَالَ لَهَا : طَلِّقِي نَفْسَكِ طَلْقَتَيْنِ ، فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا طَلْقَتَيْنِ ، أَوْ قَالَ لَهَا : طَلِّقِي نَفْسَكِ ثَلَاثًا فَقَالَتْ : قَدْ طَلَّقْتُ نَفْسِي ثَلَاثًا وَقَعَ الثَّلَاثُ أَوْ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ مِنَ الْعَدَدِ ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِيهِ وَقَعَ أَقَلُّ الْعَدَدَيْنِ .

مِثَالُهُ : أَنْ يَقُولَ لَهَا : طَلِّقِي نَفْسَكِ ثَلَاثًا فَتُطَلِّقَ نَفْسَهَا وَاحِدَةً فَلَا تُطَلَّقُ إِلَّا وَاحِدَةً ، وَلَوْ قَالَ لَهَا : طَلِّقِي نَفْسَكِ وَاحِدَةً فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا لَمْ تُطَلَّقْ إِلَّا وَاحِدَةً . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ قَالَ لَهَا : طَلِّقِي نَفْسَكِ ثَلَاثًا فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَاحِدَةً لَمْ تُطَلَّقْ . وَقَالَ مَالِكٌ مِثْلَ هَذَا وَأَمَّا إِنْ نَوَيَا الْعَدَدَ وَلَمْ يَذْكُرَاهُ حُمِلَا فِيهِ عَلَى نِيَّتِهِمَا ، فَإِنِ اتَّفَقَا فِي نِيَّةِ الْعَدَدِ فَنَوَيَا طَلْقَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا كَانَ عَلَى مَا نَوَيَا مِنَ الْعَدَدِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا تَأْثِيرَ لِلنِّيَّةِ فِي الْعَدَدِ ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ ، فَإِنِ اخْتَلَفَا فِي النِّيَّةِ كَانَ الْعَدَدُ مَحْمُولًا عَلَى أَقَلِّ الثِّنْتَيْنِ كَمَا لَوْ أَظْهَرَاهُ قَوْلًا ، فَإِنْ نَوَى الزَّوْجُ ثَلَاثًا وَنَوَتِ الزَّوْجَةُ وَاحِدَةً في الطلاق كَانَتْ وَاحِدَةً وَإِنْ لَمْ يَذْكُرَا عَدَدًا وَلَا نَوَيَاهُ طُلِّقَتْ وَاحِدَةً .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَذْلُهُ كِنَايَةً وَقَبُولُهَا كِنَايَةً كَقَوْلِهِ : اخْتَارِي نَفْسَكِ فَتَقُولُ : قَدِ اخْتَرْتُ نَفْسِي ، فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ حَتَّى يَنْوِيَاهُ جَمِيعًا فَإِنْ نَوَاهُ دُونَ الزَّوْجَةِ أَوِ الزَّوْجَةُ دُونَ الزَّوْجِ لَمْ يَقَعْ . وَقَالَ مَالِكٌ : يَقَعُ وَإِنْ لَمْ يَنْوِيَاهُ وَلَا وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الْكِنَايَةَ الظَّاهِرَةَ لَا تَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِذَا نَوَاهُ الزَّوْجُ وَحْدَهُ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَإِنْ لَمْ تَنْوِهِ الزَّوْجَةُ ، اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ أَنَّ الصَّحَابَةَ سُئِلُوا عَمَّنْ خَيَّرَ زَوْجَتَهُ فَقَالَ عُمَرُ : إِنِ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَوَاحِدَةً وَلَهَا الرَّجْعَةُ ، وَإِنِ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَلَا طَلَاقَ ، وَتَابَعَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إِنِ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ ، وَإِنِ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَوَاحِدَةٌ وَهُوَ أَحَقُّ بِهَا . وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ : إِنِ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا طُلِّقَتْ ثَلَاثًا وَإِنِ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ فَأَوْقَعَ جَمِيعُهُمُ الطَّلَاقَ عَلَيْهَا بِاخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا ، وَلَمْ يَعْتَبِرُوا النِّيَّةَ ، فَصَارُوا مُجْمِعِينَ عَلَى أَنَّ النِّيَّةَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ مِنْ جِهَتِهَا ، قَالَ : وَلِأَنَّ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا لَا يُوجِبُ اعْتِبَارَ نِيَّتِهَا فِيهِ كَمَا لَوْ قَالَ : إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، طُلِّقَتْ بِدُخُولِ الدَّارِ ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ كَذَلِكَ فِي الِاخْتِيَارِ وَدَلِيلُنَا هُوَ : أَنَّهُ لَمَّا كَانَ تَخْيِيرُ الزَّوْجِ لَهَا كِنَايَةً ، يَرْجِعُ فِيهِ إِلَى نِيَّتِهِ ، لِاحْتِمَالِهِ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ اخْتَارِي نَفْسَكِ لِلنِّكَاحِ أَوِ الطَّلَاقِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ اخْتِيَارُهَا لِنَفْسِهَا كِنَايَةً ، تَرْجِعُ فِيهِ إِلَى نِيَّتِهَا لِاحْتِمَالِهِ أَنْ يَكُونَ اخْتَرْتُ نَفْسِي لِنِكَاحِكَ أَوْ طَلَاقِكَ ، أَلَا تَرَاهَا لَوْ قَالَتْ : قَدِ اخْتَرْتُ نَفْسِي لِنِكَاحِكَ لَمْ تُطَلَّقْ ، كَذَلِكَ إِذَا أَطْلَقَتْ ، فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ ، فَلَا دَلِيلَ فِيهِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْتَبِرُوا نِيَّةَ الزَّوْجِ ، وَهِيَ مُعْتَبَرَةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ ، فَكَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَعْتَبِرُوا نِيَّةَ الزَّوْجَةِ ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُمْ لِعِلْمِهِمْ بِوُجُودِ النِّيَّةِ مِنْهُمَا .

وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِدُخُولِ الدَّارِ ، فَحَسْبُنَا بِهِ دَلِيلًا ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ إِذَا عَلَّقَ طَلَاقَهَا صَحَّ ، بِدُخُولِ الدَّارِ لَمْ تُطَلَّقْ إِلَّا بِوُجُودِ الدُّخُولِ مِنْهَا ، كَذَلِكَ إِذَا خَيَّرَهَا فِي طَلَاقِ نَفْسِهَا ، لَمْ تُطَلَّقْ حَتَّى تَخْتَارَ طَلَاقَ نَفْسِهَا ، فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ النِّيَّةَ مُعْتَبَرَةٌ مِنْهُمَا ، وَأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ إِلَّا بِنِيَّتِهِمَا فَلَهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا . وَالثَّانِيَةُ : أَنْ تَخْتَارَ زَوْجَهَا . وَالثَّالِثَةُ : أَلَّا يَكُونَ لَهَا اخْتِيَارٌ . فَإِنِ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا ، طُلِّقَتْ وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً ، وَإِنِ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهَا اخْتِيَارٌ لَمْ تُطَلَّقْ ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ : عُمَرُ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنِ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا طُلِّقَتْ وَاحِدَةً بَائِنَةً ، وَإِنِ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا لَمْ تُطَلَّقْ ، وَقَالَ رَبِيعَةُ : إِنِ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا طُلِّقَتْ وَاحِدَةً بَائِنَةً ، وَإِنِ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا ، طُلِّقَتْ وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ : عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ : إِنِ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا طُلِّقَتْ ثَلَاثًا ، وَإِنِ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا طُلِّقَتْ وَاحِدَةً بَائِنَةً وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ اخْتِيَارَهَا لِزَوْجِهَا لَا يَكُونُ طَلَاقًا ، مَا رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ : لَمَّا أُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَخْيِيرِ نِسَائِهِ بَدَأَ بِي ، فَقَالَ : إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا فَلَا تَعْجَلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ : يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا [ الْأَحْزَابِ : ] الْآيَةَ . فَقُلْتُ فِي أَيِّ هَذَيْنِ أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ ، فَإِنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ ، قَالَتْ : ثُمَّ فَعَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ مَا فَعَلْتُ ، وَلَمْ يَكُنْ حِينَ قَالَ لَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ ، فَاخْتَرْنَهُ طَلَاقًا مِنْ أَجْلِ أَنَّهُنَّ اخْتَرْنَهُ " . وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ أَيْضًا : أَنَّ اخْتِيَارَهَا لِزَوْجِهَا ضِدُّ اخْتِيَارِهَا لِنَفْسِهَا ، فَلَمَّا طُلِّقَتْ بِاخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا ، وَجَبَ أَلَّا تُطَلَّقَ بِاخْتِيَارِ زَوْجِهَا ، لِأَنَّ اخْتِلَافَ الضِّدَّيْنِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْحُكْمَيْنِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا تَكُونُ وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً ، وَلَا تَكُونُ ثَلَاثًا وَلَا وَاحِدَةً بَائِنَةً ، مَا قَدَّمْنَا فِي حُكْمِ الطَّلَاقِ إِذَا وَقَعَ بِالْكِنَايَةِ ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ لَهَا أَمْرُكِ بِيَدِكِ ، فَقَالَتْ : قَدِ اخْتَرْتُ نَفْسِي الطلاق أَوْ قَالَ لَهَا : أَبِينِي نَفْسَكِ ، فَقَالَتْ : قَدْ أَبَنْتُ نَفْسِي ، الطلاق وَهَكَذَا لَوِ اخْتَلَفَتِ الْكِنَايَةُ مِنْهُمَا ، فَقَالَ لَهَا : حَرِّمِي نَفْسَكِ فَقَالَتْ : قَدِ اخْتَرْتُ نَفْسِي ، أَوْ قَالَ لَهَا : اخْتَارِي نَفْسَكِ ، فَقَالَتْ قَدْ حَرَّمْتُ نَفْسِي لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ حَتَّى يَنْوِيَاهُ جَمِيعًا .



فَصْلٌ : فَإِنْ قَالَ لَهَا : اخْتَارِي نَفْسَكِ ، فَقَالَتْ : قَدِ اخْتَرْتُ أَبِي وَأُمِّي ، في الطلاق لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ ، وَإِنْ نَوَتْهُ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِصَرِيحٍ وَلَا كِنَايَةً ، إِذْ لَيْسَ اخْتِيَارُهَا لِأَبِيهَا مُوجِبًا لِفِرَاقِ زَوْجِهَا . وَلَوْ قَالَتْ : قَدِ اخْتَرْتُ الْأَزْوَاجَ فَفِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِهِ إِذَا نَوَتْهُ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ ، لِأَنَّهَا لَا تَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ مَعَ بَقَائِهَا عَلَى نِكَاحِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ لِعِلَّتَيْنِ . إِحْدَاهُمَا : أَنَّهُ مِنَ الْأَزْوَاجِ . وَالثَّانِيَةُ : أَنَّ اخْتِيَارَهَا لِنَفْسِهَا لَا تَكُونُ ذَاتَ زَوْجٍ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَتْ : قَدِ اخْتَرْتُ زَيْدًا نَاوِيَةً لِلطَّلَاقِ طُلِّقَتْ عَلَى التَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ ، وَلَمْ تُطَلَّقْ عَلَى التَّعْلِيلِ الثَّانِي .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَذْلُهُ صَرِيحًا وَقَبُولُهَا كِنَايَةً . فَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ لَهَا : طَلِّقِي نَفْسَكِ ، أَوْ قَدْ جَعَلْتُ بِيَدِكِ طَلَاقَ نَفْسِكِ ، فَتَقُولُ : قَدِ اخْتَرْتُ نَفْسِي أَوْ قَدْ أَبَنْتُ نَفْسِي ، فَتُعْتَبَرُ نِيَّةُ الزَّوْجَةِ وَلَا تُعْتَبَرُ نِيَّةُ الزَّوْجِ ، لِأَنَّ صَرِيحَ الزَّوْجِ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ وَكِنَايَةَ الزَّوْجَةِ تَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ ، الطلاق فَإِذَا قَالَتْ ذَلِكَ نَاوِيَةً لِلطَّلَاقِ طُلِّقَتْ ، عَلَى قَوْلِ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا ، وَقَالَ مِنْهُمْ أَبُو عُبَيْدِ بْنُ حَرْبَوَيْهِ ، وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ : لَا تُطَلَّقُ لِأَنَّ قَبُولَ الصَّرِيحِ يَكُونُ صَرِيحًا لِلنِّكَاحِ ، وَهَذَا فَاسِدٌ ، لِأَنَّ الْكِنَايَةَ مَعَ النِّيَّةِ تَقُومُ مَقَامَ الصَّرِيحِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ ، وَجَرَى اخْتِلَافُ الصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ مَجْرَى اخْتِلَافِ الصَّرِيحَيْنِ وَاخْتِلَافِ الْكِنَايَتَيْنِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَسُئِلَتِ الزَّوْجَةُ عَنْ نِيَّتِهَا ، فَقَالَتْ : مَا أَرَدْتُ الطَّلَاقَ . لَمْ تُطَلَّقْ ، فَإِنْ أَكْذَبَهَا الزَّوْجُ طُلِّقَتْ بِإِقْرَارِهِ أَنَّهَا قَدْ نَوَتْ ، وَإِنْ قَالَتْ : أَرَدْتُ الطَّلَاقَ ، طُلِّقَتْ فَإِنْ أَكْذَبَهَا الزَّوْجُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا مَعَ يَمِينِهَا ، لِأَنَّ النِّيَّةَ بَاطِنَةٌ لَا تُعْرَفُ إِلَّا مِنْ جِهَتِهَا . وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ : الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ ، وَلَا يُصَدَّقُ قَوْلُهَا فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهِ كَمَا لَوِ ادَّعَتْهُ ، وَكَمَا لَوْ قَالَ لَهَا : إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَقَالَتْ : قَدْ دَخَلْتُ ، وَهَذَا خَطَأٌ ، لِأَنَّ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ بِمَا يُعْتَبَرُ فِيهِ نِيَّتُهَا ، أَخْفَى مِنْ تَعْلِيقِهِ بِحَيْضِهَا ، فَلَمَّا كَانَ لَوْ قَالَ لَهَا إِذَا حِضْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَقَالَتْ : قَدْ حِضْتُ ، قُبِلَ فِيهِ قَوْلُهَا ، وَإِنْ أَكْذَبَهَا ، فَأَوْلَى أَنْ يُقْبَلَ قَوْلُهَا فِيمَا تَعَلَّقَ مِنْ نِيَّتِهَا ، لِأَنَّ إِقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى نِيَّتِهَا أَشَدُّ تَعَذُّرًا مِنْ إِقَامَتِهَا عَلَى حَيْضِهَا ، لِاسْتِحَالَةِ تِلْكَ وَإِمْكَانِ هَذِهِ ، وَخَالَفَ قَوْلُهُ لَهَا : إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَتَدَّعِي دُخُولَهَا ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا ، لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى دُخُولِهَا .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَذْلُهُ كِنَايَةً وَقَبُولُهَا صَرِيحًا فَصُورَتُهُ : أَنْ يَقُولَ لَهَا اخْتَارِي نَفْسَكِ أَوْ أَمْرُكِ بِيَدِكِ ، فَتَقُولُ قَدْ طَلَّقْتُ نَفْسِي ، فَتُعْتَبَرُ نِيَّةُ الزَّوْجِ وَلَا

تُعْتَبَرُ نِيَّةُ الزَّوْجَةِ ، لِأَنَّ كِنَايَةَ الزَّوْجِ تَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ ، وَصَرِيحَ الزَّوْجَةِ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ ، فَإِنْ قَالَ أَرَدْتُ الطَّلَاقَ طُلِّقَتْ ، وَإِنْ قَالَ لَمْ أُرِدْهُ ، لَمْ تُطَلَّقْ ، وَإِنْ جُنَّ أَوْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ تُعْلَمَ إِرَادَتُهُ ، لَا تُطَلَّقُ وَكَانَ لَهَا مِيرَاثُهَا مِنْهُ ، لِأَنَّ إِرَادَتَهُ مُجَوِّزَةٌ وَالطَّلَاقَ لَا يَقَعُ بِالشَّكِّ ، فَلَوْ قَالَ لَهَا : أَمْرُكِ بِيَدِكِ فَأَرَادَ بِهِ طَلَاقَهَا فِي الْحَالِ ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ بَذْلًا يَقِفُ عَلَى قَبُولِهَا . قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ " الْإِمْلَاءِ " : لَمْ تُطَلَّقْ ، لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنْهُ إِذَا اقْتَرَنَ بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهَا صَارَ صَرِيحًا ، فِي جَعْلِ الطَّلَاقِ إِلَيْهَا ، وَتَعْلِيقِهِ بِقَبُولِهَا ، فَلَمْ يَقَعْ إِلَّا بِهِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ ، لِأَنَّهُ مِنْ كِنَايَاتِهِ الْجَارِي مَجْرَى قَوْلِهِ : قَدْ مَلَّكْتُكِ نَفْسَكِ ، وَتَزَوَّجِي مَنْ شِئْتِ فَيَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ إِذَا نَوَاهُ ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ لَهَا : طَلِّقِي نَفْسَكِ وَأَرَادَ بِهِ وُقُوعَ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقِفَهُ عَلَى قَبُولِهَا وَتَطْلِيقِهَا لِنَفْسِهَا لَمْ تُطَلَّقْ إِلَّا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا ، لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ .

فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ لَهَا : إِنْ أَحْبَبْتِ فِرَاقِي ، فَأَمْرُكِ بِيَدِكِ ، الطلاق لَمْ تُطَلَّقْ إِذَا طَلَّقَتْ نَفْسَهَا ، حَتَّى تَقُولَ قَبْلَ الطَّلَاقِ قَدْ أَحْبَبْتُ فِرَاقَكَ ، ثُمَّ تُطَلِّقُ نَفْسَهَا فَتُطَلَّقُ حِينَئِذٍ ، لِأَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِهَذَا الشَّرْطِ وَلَوْ قَالَ لَهَا : إِذَا مَضَتْ سَنَةٌ فَأَمْرُكِ بِيَدِكِ ، أَوْ قَالَ لَهَا : إِذَا قَدِمَ زَيْدٌ فَأَمْرُكِ بِيَدِكِ لَمْ يَجُزْ ، لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ مُؤَجَّلٌ ، وَبَذْلٌ مُنْتَظَرٌ ، فَإِنْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا بَعْدَ مُضِيِّ السَّنَةِ ، أَوْ بَعْدَ قُدُومِ زَيْدٍ ، لَمْ تُطَلَّقْ ، لِبُطْلَانِ التَّمْلِيكِ ، وَفَسَادِ الْبَذْلِ ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ : أَمْرُكِ بِيَدِكِ تُطَلِّقِينَ نَفْسَكِ بَعْدَ سَنَةٍ أَوْ إِذَا قَدِمَ زَيْدٌ ، فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْإِمْلَاءِ " وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَاخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ أَنَّهُ جَازَ ، تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الطَّلَاقِ بِالصِّفَةِ ، وَلَهَا إِذَا مَضَتِ السَّنَةُ أَوْ قَدِمَ زَيْدٌ أَنْ تُعَجِّلَ طَلَاقَهَا ، فَإِنْ أَخَّرَتْهُ لَمْ تُطَلَّقْ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ ، وَهُوَ الْأَصَحُّ لَا يَجُوزُ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ التَّمْلِيكِ ، الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَلَّقَ لِأَجَلٍ مُنْتَظَرٍ ، وَلَا بِصِفَةٍ مُتَوَقَّعَةٍ ، فَإِنْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا عِنْدَ مُضِيِّ السَّنَةِ ، وَقُدُومِ زَيْدٍ لَمْ تُطَلَّقْ ، لِبُطْلَانِ التَّمْلِيكِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " لَا أَعْلَمُ خِلَافًا أَنَّهَا إِنْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا مِنَ الْمَجْلِسِ وَتُحْدِثُ قَطْعًا لِذَلِكَ أَنَ الطَّلَاقَ يَقَعُ عَلَيْهَا فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِهَذَا الْمَوْضِعِ إِجْمَاعٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا جَعَلَ إِلَيْهَا طَلَاقَ نَفْسِهَا فَهُوَ تَمْلِيكٌ ، يُرَاعَى فِيهِ تَعْجِيلُ الْقَبُولِ ، وَالْقَبُولُ أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا فَتَمْلِكَ بِتَعْجِيلِ الطَّلَاقِ مَا مَلَّكَهَا ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا : إِنْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا مِنَ الْمَجْلِسِ أَوْ تُحْدِثَ قَطْعًا لِذَلِكَ ، وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا ، فَجَعَلَ وُقُوعَ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا مُقَيَّدًا بِشَرْطَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ قَبْلَ افْتِرَاقِهِمَا عَنْ مَجْلِسِهِمَا . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ قَبْلَ أَنْ يُحْدِثَا مَا يَقْطَعُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ أَصْحَابُنَا أَنَّهَا مَتَى طَلَّقَتْ نَفْسَهَا بَعْدَ افْتِرَاقِهِمَا عَنِ الْمَجْلِسِ ، لَمْ تُطَلَّقْ ، وَمَتَى طَلَّقَتْ نَفْسَهَا فِي الْمَجْلِسِ بَعْدَ أَنْ حَدَثَ تَشَاغُلٌ بِغَيْرِهِ مِنْ كَلَامٍ أَوْ فِعَالٍ لَمْ تُطَلَّقْ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ خِيَارُهَا مُمْتَدًّا فِي جَمِيعِ الْمَجْلِسِ أَوْ يَكُونُ عَلَى الْفَوْرِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِهِ هَاهُنَا ، وَفِي " الْإِمْلَاءِ " أَنَّهُ مُمْتَدٌّ فِي جَمِيعِ الْمَجْلِسِ ، فَمَتَى طَلَّقَتْ نَفْسَهَا فِيهِ طُلِّقَتْ ، وَإِنْ تَرَاخَى الزَّمَانُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَالْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا : أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ فِي الْمَجْلِسِ ، لِأَنَّهُ قَبُولُ تَمْلِيكٍ ، فَأَشْبَهَ الْقَبُولَ فِي تَمْلِيكِ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ ، وَإِطْلَاقُ الشَّافِعِيِّ مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ ، لِأَنَّ أُصُولَهُ مُقَرَّرَةٌ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّهُ ذَكَرَ الْإِجْمَاعَ فِيهِ ، أَنَّهَا إِذَا طَلَّقَتْ نَفْسَهَا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ ، كَانَ إِجْمَاعًا وَلَا يَكُونُ إِلَّا أَنْ يَتَعَجَّلَ عَلَى الْفَوْرِ مِنْ غَيْرِ مُهْلَةٍ . وَقَالَ مَالِكٌ فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْهِ : لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ إِلَى شَهْرٍ ، وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ : مَا لَمْ تُمَكِّنْهُ مِنْ وَطْئِهَا ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ مَرْدُودٌ وَمَدْفُوعٌ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا مَلَّكَهَا طَلَاقَ نَفْسِهَا ، ثُمَّ رَجَعَ فِي التَّمْلِيكِ ، قَبْلَ أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا صَحَّ رُجُوعُهُ وَبَطَلَ تَمْلِيكُهُ ، فَإِنْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا لَمْ تُطَلَّقْ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ مِنْ أَصْحَابِنَا : لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ ، وَإِذَا طَلَّقَتْ نَفْسَهَا بَعْدَ رُجُوعِهِ طُلِّقَتْ ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ طَلَاقٌ مُعَلَّقٌ بِصِفَةٍ ، فَلَمْ يَمْلِكِ الزَّوْجُ الرُّجُوعَ فِيهِ ، كَقَوْلِهِ : إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ إِبْطَالَ هَذِهِ الصِّفَةِ وَتُطَلَّقُ مَتَى دَخَلَتِ الدَّارَ . وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهُ تَمْلِيكٌ لِلطَّلَاقِ لِوُقُوفِهِ عَلَى قَبُولِهَا ، وَلِلْمَالِكِ بَعْدَ بَذْلِهِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ قَبْلَ قَبُولِهِ مِنْهُ ، كَمَا يَرْجِعُ فِي بَذْلِ الْهِبَةِ وَالْبَيْعِ ، قَبْلَ قَبُولِهِمَا مِنْهُ ، وَخَالَفَ تَعْلِيقَ طَلَاقِهَا بِدُخُولِ الدَّارِ ، لِأَنَّهُ لَا يَقِفُ عَلَى قَبُولِهَا ، وَلَيْسَ لَهَا إِبْطَالُ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهَا ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ إِبْطَالُ ذَلِكَ عَلَيْهَا ، وَلَيْسَ كَالتَّمْلِيكِ الَّذِي لَهَا أَنْ تُبْطِلَهُ عَلَى نَفْسِهَا ، فَكَانَ لَهُ إِبْطَالُهُ عَلَيْهَا ، وَإِذَا صَحَّ رُجُوعُهُ كَمَا ذَكَرْنَا ، فَمَتَى طَلَّقَتْ نَفْسَهَا بَعْدَ عِلْمِهَا بِرُجُوعِهِ ، كَانَ فِي وُقُوعِ طَلَاقِهَا وَجْهَانِ ، مِنَ الْوَكِيلِ فِي الْقِصَاصِ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ بِالرُّجُوعِ حَتَّى اقْتَصَّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ : " وَقَالَ فِي الْإِمْلَاءِ عَلَى مَسَائِلِ مَالِكٍ : وَإِنْ مَلَّكَ أَمْرَهَا غَيْرَهَا فَهَذِهِ وَكَالَةٌ مَتَى أَوْقَعَ الطَّلَاقَ وَقَعَ وَمَتَى شَاءَ الزَّوْجُ رَجَعَ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ وَالْوَكَالَةُ فِي الطَّلَاقِ جَائِزَةٌ ، لِأَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ طَلَّقَهَا وَكِيلُ زَوْجِهَا ، بِمَشْهَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَمْضَاهُ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَتِ الْوَكَالَةُ فِي النِّكَاحِ مَعَ تَغْلِيظِ حُكْمِهِ كَانَ جَوَازُهَا فِي الطَّلَاقِ أَوْلَى ، فَإِذَا وَكَّلَ رَجُلًا عَاقِلًا جَازَ ، سَوَاءٌ كَانَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا ، مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوَكِّلَ مَجْنُونًا وَلَا صَغِيرًا ، لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لِقَوْلِهِمَا ، وَفِي جَوَازِ تَوْكِيلِهِ لِامْرَأَةٍ وَجْهَانِ مَضَيَا فِي الْخُلْعِ ، ثُمَّ الْوَكَالَةُ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ مُطْلَقَةً وَهُوَ أَنْ يَقُولَ : قَدْ وَكَّلْتُكَ فِي طَلَاقِ زَوْجَتِي فُلَانَةَ ، فَلَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا عَلَى الْفَوْرِ وَالتَّرَاخِي بِخِلَافِ مَا لَوْ مَلَّكَهَا الطَّلَاقَ لِنَفْسِهَا ، لِأَنَّ هَذِهِ نِيَابَةٌ وَذَاكَ تَمْلِيكٌ ، فَإِنْ ذَكَرَ لَهُ مِنَ الطَّلَاقِ عَدَدًا لَمْ يَتَجَاوَزْهُ ، فَلَوْ قَالَ لَهُ : طَلِّقْهَا ثَلَاثًا فَقَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا ، طُلِّقَتْ ثَلَاثًا ، وَلَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ وَنَوَى أَنْ يَكُونَ ثَلَاثًا الْوَكَالَةُ فِي الطَّلَاقِ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : تُطَلَّقُ ثَلَاثًا ، لِأَنَّ نِيَّةَ الثَّلَاثِ تَقُومُ مَقَامَ التَّلَفُّظِ بِالثَّلَاثِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا تُطَلَّقُ ثَلَاثًا وَلَا تَقُومُ نِيَّتُهُ مَقَامَ نِيَّةِ الزَّوْجِ ، لِأَنَّ الزَّوْجَ مَدِينٌ فِي الطَّلَاقِ مَعْمُولٌ عَلَى نِيَّتِهِ فِيهِ ، وَالْوَكِيلُ غَيْرُ مَدِينٍ فِي الطَّلَاقِ فَلَمْ يُعْمَلْ عَلَى نِيَّتِهِ فِيهِ ، وَهَكَذَا لَوْ طَلَّقَهَا الْوَكِيلُ بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ ، كَانَ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ ، فَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً ، فَفِي وُقُوعِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَقَعُ ، لِأَنَّهُ بَعْضُ مَا وَكَّلَ فِيهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَقَعُ لِأَنَّهُ وُكِّلَ فِي طَلَاقٍ بَائِنٍ ، وَهَذَا الطَّلَاقُ غَيْرُ بَائِنٍ فَصَارَ غَيْرَ مَا وُكِّلَ فِيهِ ، فَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَاحِدَةً ، لَمْ تَقَعِ الثَّلَاثُ ، وَفِي وُقُوعِ الْوَاحِدَةِ وَجْهَانِ : لَوْ وَكَّلَهُ فِي طَلَاقِ وَاحِدَةٍ مِنْ نِسَائِهِ وَلَمْ يُعَيِّنْهَا لَهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ أَيَّتَهُنَّ طَلَّقَهَا صَحَّ ، لِأَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ الْمُبْهَمِ جَائِزٌ ، فَكَانَ التَّوْكِيلُ فِيهِ جَائِزًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُطَلِّقَ وَاحِدَةً قَبْلَ أَنْ يُعَيِّنَهَا الزَّوْجُ ، فَإِنْ طَلَّقَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ قَبْلَ تَعْيِينِهَا لَمْ تُطَلَّقْ ، لِأَنَّ إِبْهَامَ الطَّلَاقِ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ يَجُوزُ ، لِأَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى خِيَارِهِ فِي التَّعْيِينِ ، وَمِنْ جِهَةِ الْوَكِيلِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَوْقُوفٍ عَلَى خِيَارِهِ فِي التَّعْيِينِ .

فَصْلٌ : وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ الْوَكَالَةُ مُقَيَّدَةً ، وَهُوَ أَنْ يُوَكِّلَهُ فِي طَلَاقِهَا عَلَى صِفَةٍ ، وَهُوَ أَنْ يَأْمُرَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُطَلِّقَهَا إِلَّا فِيهِ ، فَإِنْ طَلَّقَهَا فِي غَيْرِهِ لَمْ تُطَلَّقْ ، أَوْ يَأْمُرَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا لِلسُّنَّةِ ، فَإِنْ طَلَّقَهَا لِلْبِدْعَةِ لَمْ تُطَلَّقْ ، أَوْ

يَأْمُرَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا لِلْبِدْعَةِ ، فَإِنْ طَلَّقَهَا لِلسُّنَّةِ لَمْ تُطَلَّقْ ، فَلَوْ قَالَ لَهُ : طَلِّقْهَا إِنْ شِئْتَ الْوَكَالَةُ فِي الطَّلَاقِ لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ حَتَّى يَقُولَ قَدْ شِئْتُ وَلَا يَكُونُ إِيقَاعُهُ لِلطَّلَاقِ مَشِيئَةً مِنْهُ ، لِأَنَّهُ قَدْ يُوقِعُ الطَّلَاقَ بِمَشِيئَةٍ وَغَيْرِ مَشِيئَةٍ ، وَالْمَشِيئَةُ لَا تُعْلَمُ إِلَّا بِالْقَوْلِ . وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ مَشِيئَتِهِ الْفَوْرُ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِمَشِيئَتِهَا ، لِأَنَّ تَعْلِيقَهُ لِلطَّلَاقِ بِمَشِيئَتِهَا ، تَمْلِيكٌ فَرُوعِيَ فِيهِ الْفَوْرُ ، وَتَعْلِيقَهُ لِلطَّلَاقِ بِمَشِيئَتِهِ صِفَةٌ ، فَلَمْ يُرَاعَ فِيهَا الْفَوْرُ ، وَلِأَنَّهُ جَعَلَ إِلَيْهَا طَلَاقَهَا إِذَا شَاءَ ، فَلَمَّا جَازَ أَنْ يُطَلِّقَهَا عَلَى الْفَوْرِ وَالتَّرَاخِي جَازَ أَنْ تَكُونَ مَشِيئَتُهُ مَعَ الطَّلَاقِ الْمُتَرَاخِي ، لَكِنْ مِنْ صِحَّةِ مَشِيئَتِهِ أَنْ يُخْبِرَ بِهَا الزَّوْجَ قَبْلَ طَلَاقِهِ فَإِنْ أَخْبَرَ بِهَا غَيْرَهُ ثُمَّ طَلَّقَ لَمْ يَقَعْ ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ إِخْبَارُهُ بِهَا شَرْطًا ، كَانَ إِخْبَارُ الزَّوْجِ بِهَا أَحَقَّ ، وَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ شَرْطًا ، فَلَوْ قَالَ لَهُ : طَلِّقْهَا إِنْ شَاءَتْ ، الْوَكَالَةُ فِي الطَّلَاقِ رُوعِيَتْ مَشِيئَتُهَا عِنْدَ عَرْضِ الْوَكِيلِ الطَّلَاقَ عَلَيْهَا ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُطَلِّقَهَا إِلَّا بَعْدَ عَرْضِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا وَسُؤَالِهَا عَنْ مَشِيئَتِهَا ، فَتَصِيرُ حِينَئِذٍ مَشِيئَتُهَا مُعْتَبَرَةً عَلَى الْفَوْرِ ، فَإِنْ عَجَّلَهَا وَقَعَ الطَّلَاقُ ، وَإِذَا أَوْقَعَهُ الْوَكِيلُ بَعْدَهَا ، سَوَاءٌ أَوْقَعَهُ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ عَلَى التَّرَاخِي ، فَإِنْ تَرَاخَتْ مَشِيئَتُهَا ، لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ بَعْدَهَا ، لِفَسَادِ الْمَشِيئَةِ .

فَصْلٌ : وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ فِي الطَّلَاقِ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ فِيهِ ، فَإِنْ وَكَّلَ وَكِيلَيْنِ فِي طَلَاقِ زَوْجَةٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُطَلِّقَهَا ، فَأَيُّهُمَا سَبَقَ بِطَلَاقِهَا ثَلَاثًا ، بَطَلَتْ وَكَالَةُ الْآخَرِ وَلَوْ جَعَلَ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُطَلِّقَهَا وَاحِدَةً فَإِذَا سَبَقَ أَحَدُهُمَا فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً لَمْ تَبْطُلْ وَكَالَةُ الْآخَرِ وَجَازَ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا أُخْرَى ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مَا صَحَّ . وَهَكَذَا لَوْ وَكَّلَ وَاحِدًا فِي طَلَاقِهَا ثَلَاثًا ثُمَّ بَادَرَ الزَّوْجُ فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا بَطَلَتِ الْوَكَالَةُ . وَلَوْ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ وَاحِدَةً ، كَانَتِ الْوَكَالَةُ بِحَالِهَا فِي الطَّلْقَتَيْنِ الْبَاقِيَتَيْنِ ، وَإِنْ طَلَّقَهَا الْوَكِيلُ ثَلَاثًا وَقَعَ مِنْهُمَا طَلْقَتَانِ ، لِأَنَّهُمَا الْبَاقِيَتَانِ مِنْ طَلَاقِ الزَّوْجِ ، بَعْدَ الْوَاحِدَةِ الَّتِي أَوْقَعَهَا وَلَوْ وَكَّلَهُ فِي طَلَاقِهَا وَاحِدَةً ثُمَّ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ وَاحِدَةً ، لَمْ تَبْطُلِ الْوَكَالَةُ مَا لَمْ تَنْقَضِ الْعِدَّةُ ، فَإِنْ طَلَّقَهَا الْوَكِيلُ وَاحِدَةً فِي الْعِدَّةِ ، طُلِّقَتْ سَوَاءٌ رَاجَعَهَا الزَّوْجُ مِنْ طَلْقَتِهِ ، أَوْ لَمْ يُرَاجِعْ ، فَلَوِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا مِنْ طَلْقَةِ الزَّوْجِ ثُمَّ اسْتَأْنَفَ نِكَاحَهَا الْوَكَالَةُ فِي الطَّلَاقِ فَفِي بَقَاءِ الْوَكَالَةِ وَجَوَازِ طَلَاقِ الْوَكِيلِ لَهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : الْوَكَالَةُ بَاقِيَةٌ وَطَلَاقُ الْوَكِيلِ لَهَا وَاقِعٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْوَكَالَةَ قَدْ بَطَلَتْ وَطَلَاقَهُ غَيْرُ وَاقِعٍ ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي عَقْدِ الطَّلَاقِ فِي نِكَاحٍ ، هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ فِي غَيْرِهِ أَمْ لَا .

فَصْلٌ : فَإِذَا رَجَعَ الزَّوْجُ عَنِ الْوَكَالَةِ أَوْ جُنَّ أَوْ مَاتَ - الْوَكَالَةُ فِي الطَّلَاقِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَ ، فَإِنْ طَلَّقَ لَمْ يَقَعْ ، فَلَوْ لَمْ يَعْلَمِ الْوَكِيلُ بِجُنُونِ مُوَكِّلِهِ أَوْ مَوْتِهِ فَطَلَّقَ ، لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ ، لِأَنَّ

# الطَّلَاقَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَقَعَ عَنْ زَوْجٍ مَيِّتٍ ، أَوْ مَجْنُونٍ ، وَلَوْ لَمْ يَعْلَمِ الْوَكِيلُ بِرُجُوعِ الزَّوْجِ حَتَّى طَلَّقَ ، كَانَ فِي وُقُوعِ طَلَاقِهِ قَوْلَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْمُوَكَّلِ فِي الْقِصَاصِ ، إِذَا اقْتَصَّ قَبْلَ الْعِلْمِ بِالْعَفْوِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ جَعَلَ لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا ثَلَاثًا فَطَلَّقَتْ وَاحِدَةً فَإِنَّ لَهَا ذَلِكَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا قَالَ لَهَا : طَلِّقِي نَفْسَكِ ثَلَاثًا ، فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَاحِدَةً ، طُلِّقَتْ وَاحِدَةً ، وَقَالَ مَالِكٌ إِذَا قَالَ طَلِّقِي نَفْسَكِ ثَلَاثًا ، فَطَلَّقَتْ وَاحِدَةً لَا يَقَعُ شَيْءٌ وَإِذَا قَالَ : طَلِّقِي وَاحِدَةً فَطَلَّقَتْ ثَلَاثًا ، وَقَعَتِ الثَّلَاثُ ، وَعَنْهُ لَا تُطَلَّقُ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ قَبُولَهَا بَعْضَ مَا مَلَّكَهَا مُوجِبٌ لِفَسَادِ الْقَبُولِ ، وَبُطْلَانِ التَّمْلِيكِ كَمَا لَوْ بَاعَهَا عَبْدَيْنِ بِمِائَةٍ فَقَبِلَتْ أَحَدَهُمَا لَمْ يَصِحَّ . وَدَلِيلُنَا هُوَ : أَنَّ مَنْ مَلَكَ إِيقَاعَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ مَلَكَ إِيقَاعَ الطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ كَالزَّوْجِ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِتَبْعِيضِ الْقَبُولِ فِي الْبَيْعِ ، فَإِنَّمَا لَمْ يَصِحَّ ، لِأَنَّ الْبَذْلَ إِنَّمَا كَانَ فِي مُقَابَلَةِ ثَمَنٍ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ بِالتَّبْعِيضِ ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ قَبُولُ الْبَعْضِ ، وَلَوْلَا الثَّمَنُ لَصَحَّ ، أَلَا تَرَى لَوْ وَهَبَ لَهَا عَبْدَيْنِ ، فَقَبِلَتْ أَحَدَهُمَا صَحَّ ، فَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا جَعَلَ إِلَيْهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا وَاحِدَةً ، فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا ، طُلِّقَتْ وَاحِدَةً . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا تُطَلَّقُ ، لِأَنَّ مَا عَدَلَتْ إِلَيْهِ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ ، فَلَمْ يَجُزْ . وَدَلِيلُنَا هُوَ : أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ فِي طَلَاقِهَا مَأْذُونٌ فِيهِ وَغَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ ، لَمْ يَمْنَعْ غَيْرُ الْمَأْذُونِ فِيهِ مِنْ وُقُوعِ الْمَأْذُونِ فِيهِ ، كَمَا لَوْ جَعَلَ إِلَيْهَا طَلَاقَ نَفْسِهَا ، فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَضَرَائِرَهَا ، وَادَّعَى فِيهِ أَنَّ الْوَاحِدَةَ لَا تَتَمَيَّزُ عَنِ الثَّلَاثِ ، غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ الْمَأْذُونَ فِيهِ مُتَمَيِّزٌ عَنْ غَيْرِ الْمَأْذُونِ فِيهِ وَرُبَّمَا حُكِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْأُولَى عَنْ مَالِكٍ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَقَالَ فِيهِ وَسَوَاءٌ قَالَتْ طَلَّقْتُكَ أَوْ طَلَّقْتُ نَفْسِي إِذَا أَرَادَتْ طَلَاقًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا جَعَلَ إِلَيْهَا طَلَاقَ نَفْسِهَا ، فَإِنْ قَالَتْ قَدْ طَلَّقْتُ نَفْسِي ، طُلِّقَتْ وَكَانَ هَذَا صَرِيحًا لَا يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّتِهَا . وَإِنْ قَالَتْ : قَدْ طَلَّقْتُكَ كَانَتْ كِنَايَةً يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ إِذَا نَوَتْهُ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَإِنْ نَوَتْهُ ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ .



مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ طَلَّقَ بِلِسَانِهِ وَاسْتَثْنَى بِقَلْبِهِ لَزِمَهُ الطَّلَاقُ وَلَمْ يَكُنِ الِاسْتِثْنَاءُ إِلَّا بِلِسَانِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الطَّلَاقِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : مَا يَصِحُّ مُضْمَرًا وَمُظْهَرًا . وَالثَّانِي : مَا لَا يَصِحُّ مُضْمَرًا ، وَلَا مُظْهَرًا . وَالثَّالِثُ : مَا يَصِحُّ مُظْهَرًا وَلَا يَصِحُّ مُضْمَرًا . فَأَمَّا مَا يَصِحُّ إِظْهَارُهُ وَإِضْمَارُهُ فَهُوَ مَا جَازَ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلطَّلَاقِ ، أَوْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ حَالًا لِلْمُطَلَّقَةِ ، فَالَّذِي يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلطَّلَاقِ مِثْلَ قَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ وَثَاقٍ ، أَوْ مُسَرَّحَةٌ إِلَى أَهْلِكِ ، أَوْ مُفَارَقَةٌ إِلَى الْمَسْجِدِ فَإِنْ أَظْهَرَهُ بِلَفْظِهِ صَحَّ وَحُمِلَ عَلَيْهِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ الطَّلَاقُ ، لِأَنَّهُ وَصَفَهُ بِمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ صِفَاتِهِ فِي غَيْرِ الطَّلَاقِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ ، وَإِنْ لَمْ يُظْهِرْهُ فِي لَفْظِهِ وَأَضْمَرَهُ فِي نِيَّتِهِ صَحَّ إِضْمَارُهُ ، وَدِينَ فِيهِ وَلَمْ يَلْزَمْهُ الطَّلَاقُ فِي الْبَاطِنِ ، اعْتِبَارًا بِالْمُضْمَرِ ، وَلَزِمَهُ الطَّلَاقُ فِي الظَّاهِرِ ، اعْتِبَارًا بِالْمَظْهَرِ ، وَأَمَّا الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حَالًا لِلْمُطَلَّقَةِ فَمِثْلُ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إِلَى رَأْسِ الشَّهْرِ ، وَلَوْ دَخَلْتِ الدَّارَ ، أَوْ إِنْ كَلَّمْتِ زَيْدًا ، فَإِنْ أَظْهَرَ ذَلِكَ بِلَفْظِهِ عُمِلَ عَلَيْهِ فِي الظَّاهِرِ ، وَلَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ إِلَّا عَلَى الْحَالِ الَّتِي شَرَطَهَا ، وَإِنْ أَضْمَرَهُ بِقَلْبِهِ ، وَلَمْ يُظْهِرْهُ بِلَفْظِهِ دِينَ فِيهِ ، وَفِي الْبَاطِنِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ الطَّلَاقُ إِلَّا بِذَلِكَ الشَّرْطِ ، اعْتِبَارًا بِإِضْمَارِهِ وَلَزِمَهُ الطَّلَاقُ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ اعْتِبَارًا بِإِظْهَارِهِ ، فَهَذَا ضَرْبٌ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا مَا لَا يَصِحُّ إِضْمَارُهُ وَلَا إِظْهَارُهُ ، فَهُوَ مَا كَانَ فِيهِ إِبْطَالُ مَا أَوْقَعَ وَنَفْيُ مَا أَثْبَتَ ، كَقَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا ثَلَاثًا ، أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ إِلَّا أَنْتِ ، فَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ وَالِاسْتِثْنَاءُ بَاطِلٌ فِي إِظْهَارِهِ بِاللَّفْظِ وَإِضْمَارِهِ بِالْقَلْبِ ، لِأَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ يَمْنَعُ مِنْ رَفْعِهِ ، لَا سِيَّمَا مَعَ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثٌ جَدُّهُنَّ جَدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جَدٌّ النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالْعِتَاقُ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا حَيْثُ بَطَلَ وَبَيْنَ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ حَيْثُ صَحَّ : أَنَّ ذَاكَ صِفَةٌ مُحْتَمَلَةٌ وَحَالٌ مُمْكِنَةٌ ، يَبْقَى مَعَهَا اللَّفْظُ عَلَى احْتِمَالٍ مُجَوَّزٍ ، وَهَذَا رُجُوعٌ لَا يَحْتَمِلُ وَلَا يَجُوزُ ، وَإِذَا بَطَلَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ بِمَا عَلَّلْنَا ، وَقَعَ الطَّلَاقُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّالِثُ : وَهُوَ مَا يَصِحُّ إِظْهَارُهُ وَلَا يَصِحُّ إِضْمَارُهُ ، فَهُوَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ الْعَدَدِ ، أَوِ الشَّرْطُ الْوَاقِعُ بِحُكْمِ الطَّلَاقِ ، فَالِاسْتِثْنَاءُ مِنَ الْعَدَدِ ، أَنْ يَقُولَ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا اثْنَتَيْنِ وَالشَّرْطُ الرَّافِعُ لِحُكْمِ الطَّلَاقِ ، أَنْ يَقُولَ : أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، فَإِنْ أَظْهَرَهُ فِي لَفْظِهِ مُتَّصِلًا بِكَلَامِهِ صَحَّ ، وَكَانَ مَحْمُولًا عَلَيْهِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ ، فَلَا يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ إِذَا قَالَ : إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَيَقَعُ عَلَيْهَا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ ، إِذَا قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ

ثَلَاثًا إِلَّا اثْنَتَيْنِ ، لِأَنَّ بَعْضَ الْكَلَامِ مُرْتَبِطٌ بِبَعْضٍ ، فَأَوَّلُهُ مَوْقُوفٌ عَلَى آخِرِهِ ، وَهُوَ كَلَامٌ لَا يَنْقُضُ بَعْضُهُ بَعْضًا ، فَصَحَّ وَلَوْ لَمْ يَتَلَفَّظْ بِهَذَا الِاسْتِثْنَاءِ بِلِسَانِهِ وَأَضْمَرَهُ بِقَلْبِهِ وَنَوَى بِقَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ أَنْ يَكُونَ مُعَلَّقًا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ ، أَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَنَوَى الْاثْنَتَيْنِ ، لَمْ يَصِحَّ مَا أَضْمَرَهُ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ ، وَمِنَ الْعَدَدِ ، وَوَقَعَ الطَّلَاقُ ثَلَاثًا فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ ، وَإِنَّمَا كَانَ صَحِيحًا مَعَ الْإِظْهَارِ وَبَاطِلًا مَعَ الْإِضْمَارِ ، لِأَنَّ حُكْمَ اللَّفْظِ أَقْوَى مِنَ النِّيَّةِ ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ ، وَلَا يَقَعُ لِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ مِنْ غَيْرِ لَفْظٍ ، فَإِذَا تَعَارَضَتِ النِّيَّةُ وَاللَّفْظُ ، يُغَلَّبُ حُكْمُ اللَّفْظِ لِقُوَّتِهِ عَلَى حُكْمِ النِّيَّةِ لِضَعْفِهِ ، فَوَقَعَ الطَّلَاقُ وَبَطَلَ الِاسْتِثْنَاءُ . فَلَوْ قَالَ وَلَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ : أَنْتُنَّ طَوَالِقٌ ، وَاسْتَثْنَى وَاحِدَةً مِنْهُنَّ فَعَزَلَهَا مِنَ الطَّلَاقِ صَحَّ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ طَلَاقِهِنَّ ، مُظْهَرًا وَمُضْمَرًا ، فَلَا يَقَعُ طَلَاقُهَا إِنِ اسْتَثْنَاهَا ظَاهِرًا بِلَفْظِهِ لَا فِي الظَّاهِرِ ، وَلَا فِي الْبَاطِنِ ، وَلَا يَقَعُ طَلَاقُهَا إِنِ اسْتَثْنَاهَا ، بَاطِنًا بِنِيَّتِهِ فِي الْبَاطِنِ ، وَإِنْ كَانَ وَاقِعًا ، وَإِنْ كَانَ وَاقِعًا فِي الظَّاهِرِ ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ لِلْأَرْبَعِ : أَنْتُنَّ يَا أَرْبَعُ طَوَالِقٌ ، وَأَرَادَ إِلَّا وَاحِدَةً فَإِنِ اسْتَثْنَاهَا بِلَفْظِهِ صَحَّ ، وَإِنْ عَزَلَهَا بِنِيَّتِهِ لَمْ يَصِحَّ ، كَالِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الْعَدَدِ لِأَنَّهُ قَدْ صَرَّحَ بِذِكْرِ الْأَرْبَعِ ، وَلَمْ يُصَرِّحْ بِذِكْرِهِنَّ فِيمَا تَقَدَّمَ ، فَلَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ وَأَرَادَ بِقَلْبِهِ الْإِشَارَةَ بِالطَّلَاقِ إِلَى إِصْبَعِهِ دُونَ زَوْجَتِهِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَدِينُ فِي بَاطِنِ الْحُكْمِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَدِينُ فِيهِ لِاحْتِمَالِهِ . وَالثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ : لَا يَدِينُ فِيهِ ، وَيَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ جَمِيعًا لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْإِصْبَعَ لَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهَا طَلَاقُ انْفِصَالٍ ، وَلَا طَلَاقُ تَحْرِيمٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَوْقَعَ طَلَاقًا عَلَى أَلَّا يَكُونَ طَلَاقًا فَصَارَ كَقَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ إِلَّا أَنْتِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ يُرِيدُ تَحْرِيمَهَا بِلَا طَلَاقٍ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَ جَارِيَتَهُ فَأُمِرَ بِكَفَّارَةِ يَمِينٍ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُمَا تَحْرِيمُ فَرْجَيْنِ حِلَّيْنِ بِمَا لَمْ يَحْرُمَا بِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِزَوْجَتِهِ : أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ ، فَإِنْ أَرَادَ بِهِ الطَّلَاقَ ، كَانَ طَلَاقًا يَقَعُ مِنْ عَدَدِهِ مَا نَوَاهُ ، مِنْ وَاحِدَةٍ أَوِ اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ عَدَدًا ، كَانَتْ وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ الظِّهَارَ كَانَ ظِهَارًا ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ الْإِيلَاءَ

لَمْ يَكُنْ إِيلَاءً ، لِأَنَّ الْإِيلَاءَ يَمِينٌ لَا يَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَةِ وَإِنْ أَرَادَ بِهِ تَحْرِيمَ وَطْئِهَا لَمْ يَحْرُمْ ، وَلَزِمَهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِرَادَةٌ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ طَلَاقٌ وَلَا ظِهَارٌ وَلَا تَحْرِيمٌ ، وَهَلْ تَجِبُ بِهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ ذَكَرَهُمَا فِي " الْإِمْلَاءِ " . وَلَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ : أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ ، فَإِنْ أَرَادَ بِهِ عِتْقَهَا ، عَتَقَتْ وَإِنْ أَرَادَ تَحْرِيمَ وَطْئِهَا لَمْ تَحْرُمْ وَكَفَّرَ كَفَّارَةَ يَمِينٍ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَرَادَ لَزِمَتْهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ قَوْلًا وَاحِدًا . وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالْحُرَّةِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخْرَجَ الْحُرَّةَ وَالْأَمَةَ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عِنْدَ فَقْدِ الْإِرَادَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : تَجِبُ فِي الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ . وَالثَّانِي : لَا تَجِبُ فِي الْحُرَّةِ وَلَا فِي الْأَمَةِ . وَالثَّالِثُ : تَجِبُ فِي الْأَمَةِ ، وَلَا تَجِبُ فِي الْحُرَّةِ ، لِأَنَّ التَّحْرِيمَ فِي الْأَمَةِ أَصْلٌ ، وَفِي الْحُرَّةِ فَرْعٌ وَلَا يَنْعَقِدُ بِهِ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا يَمِينٌ ، هَذَا مَذْهَبُنَا . وَقَدِ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ ثُمَّ التَّابِعُونَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي لَفْظِ التَّحْرِيمِ الَّذِي يُوجِبُ إِذَا فُقِدَتْ فِيهِ الْإِرَادَةُ إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِزَوْجَتِهِ : أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ ، عَلَى ثَمَانِيَةِ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : مَا حُكِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهَا يَمِينٌ يَجِبُ بِهَا إِذَا حَنِثَ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ، وَبِهِ قَالَتْ عَائِشَةُ وَالْأَوْزَاعِيُّ . وَالثَّانِي : مَا حُكِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهَا طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ ، وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ . وَالثَّالِثُ : مَا حُكِيَ عَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ يَكُونُ ظِهَارًا تَجِبُ بِهِ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَبِهِ قَالَ : سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ . وَالرَّابِعُ : مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ يَكُونُ طَلَاقًا لَا تَحِلُّ مِنْهُ إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ ، وَبِهِ قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَمَالِكٌ . وَالْخَامِسُ : مَا حُكِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَابْنِ عُمَرَ ، أَنَّهُ تَجِبُ بِهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ ، وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ . وَالسَّادِسُ : مَا حُكِيَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، وَمَسْرُوقٍ أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِيهِ . قَالَ أَبُو سَلَمَةَ : مَا أُبَالِي حَرَّمْتُهَا أَوْ حَرَّمْتُ مَاءَ الْبِئْرِ ، وَقَالَ مَسْرُوقٌ : مَا أُبَالِي حَرَّمْتُهَا أَوْ حَرَّمْتُ قَصْعَةَ ثَرِيدٍ ، وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ . وَالسَّابِعُ : مَا حُكِيَ عَنِ النَّخَعِيِّ أَنَّهَا طَلْقَةٌ بَائِنٌ ، وَبِهِ قَالَ الْحَكَمُ بْنُ عُيَيْنَةَ ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ .

وَالثَّامِنُ : مَا حُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، أَنَّهُ يَكُونُ إِيلَاءٌ ، يُؤَجَّلُ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ، فَإِنْ وَطِئَ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ، وَإِنْ لَمْ يَطَأْ حَتَّى مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ طُلِّقَتْ طَلْقَةً بَائِنَةً ، فَيَصِيرُ قَوْلُهُ مُوَافِقًا لِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهَا يَمِينٌ ، ثُمَّ يَزِيدُ عَلَيْهِ بِمَا يُعَلِّقُ عَلَيْهَا مِنْ حُكْمِ الْإِيلَاءِ ، وَيَقُولُ إِنَّهُ لَوْ حَرَّمَ طَعَامَهُ أَوْ مَالَهُ عَلَى نَفْسِهِ كَانَ يَمِينًا يَلْزَمُهُ بِهَا كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَلَا يَلْزَمُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ، بِتَحْرِيمِ طَعَامِهِ وَمَالِهِ كَفَّارَةٌ . وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ يَمِينٌ يُوجِبُ مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْإِيلَاءِ وَالْكَفَّارَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ [ التَّحْرِيمِ : ، ] . فَكَانَ اسْتِدْلَالًا بِذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الَّذِي حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ ، فَحَكَى عُرْوَةُ وَابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ ، أَنَّهُ حَرَّمَ الْعَسَلَ عَلَى نَفْسِهِ لِأَنَّهُ كَانَ يَشْرَبُهُ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ ، فَقَالَتِ الْبَاقِيَاتُ : نَجِدُ مِنْكَ رِيحَ الْمَعَافِيرِ ، وَالْمَعَافِيرُ صَمْغُ الْعُرْفُطِ ، لِأَنَّ مِنَ النَّحْلِ مَا يَكُونُ يَرْعَاهُ ، فَيَظْهَرُ فِيهِ رِيحُهُ ، وَكَانَ يُكْرَهُ رِيحُهُ ، فَحَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ ثُمَّ كَفَّرَ . وَحَكَى الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ ، أَنَّهُ حَرَّمَ مَارِيَةَ عَلَى نَفْسِهِ ، لِأَنَّهُ كَانَ خَلَا بِهَا فِي مَنْزِلِ حَفْصَةَ ، فَغَارَتْ فَحَرَّمَهَا ثُمَّ كَفَّرَ ، فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي الْإِمَاءِ وَالطَّعَامِ ، وَكَفَّارَةُ الْيَمِينِ تَجِبُ فِي الْإِمَاءِ . وَالثَّانِي : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ فَدَلَّ بِهَذَا النَّصِّ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ عَلَى يَمِينٍ ، وَبِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : الْحَرَامُ يَمِينٌ تُكَفَّرُ وَهَذَا نَصٌّ . وَلِأَنَّ مَا أَوْجَبَ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ فِي الزَّوْجَةِ وَالْأَمَةِ ، كَانَتْ يَمِينًا تُوجِبُ الْكَفَّارَةَ فِي الطَّعَامِ وَالْمَالِ كَالْحَلِفِ بِاللَّهِ تَعَالَى . وَدَلِيلُنَا : قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ فَأَنْكَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَحَلَّهُ لَهُ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ لَمْ يَقَعْ فَبَطَلَ بِهِ قَوْلُ مَنْ جَعَلَهُ طَلَاقًا وَظِهَارًا ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ حَرَّمَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ ، بِيَمِينٍ حَلَفَ بِهَا ، فَعُوتِبَ فِي التَّحْرِيمِ ، وَأُمِرَ بِالْكَفَّارَةِ فِي الْيَمِينِ ، وَلَمْ يَكُنِ التَّحْرِيمُ يَمِينًا ، لِأَنَّ الْيَمِينَ إِنَّمَا يَكُونُ خَبَرًا عَنْ مَاضٍ وَوَعْدًا بِمُسْتَقْبَلٍ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ يَمِينًا ، وَيَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ : آلَى رَسُولُ اللَّهِ مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا ، وَحَرَّمَ جَارِيَتَهُ يَوْمًا بِيَمِينٍ ، وَكَفَّرَ عَنْ

تَحْرِيمِهِ . فَبَطَلَ بِهَذَا أَنْ يَكُونَ التَّحْرِيمُ يَمِينًا ، أَوْ يَصِيرَ مُؤْلِيًا ، وَأَخْبَرَتْ أَنَّهُ كَفَّرَ عَنْ تَحْرِيمِ الْجَارِيَةِ دُونَ الْعَسَلِ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الِاعْتِبَارِ ، أَنَّ كُلَّ لَفْظٍ عَرَبِيٍّ عَنِ اسْمٍ لِلَّهِ تَعَالَى وَصِفَتِهِ لَمْ تَنْعَقِدْ بِهِ الْيَمِينُ ، قِيَاسًا عَلَى كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ وَسَائِرِ الْكَلَامِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَهُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا ، وَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالشَّعْبِيُّ أَنَّهُ حَرَّمَ مَارِيَةَ عَلَى نَفْسِهِ بِيَمِينٍ حَلَفَ بِهَا . وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ ، فَقَدْ رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحْرِزٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَقَدْ ذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ أَنَّ ابْنَ مُحْرِزٍ ضَعِيفٌ ، وَلَمْ يَرَوِهِ عَنْ قَتَادَةَ عَلَى أَنَّهُ يَحْمِلُ قَوْلَهُ : الْحَرَامُ يَمِينٌ تُكَفَّرُ ، أَيْ فِي الْحَرَامِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ، وَأَمَّا الْقِيَاسُ بِالْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ خَالَفَ اللَّهَ تَعَالَى فَانْعَقَدَتْ بِهِ الْيَمِينُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَ كُلُّ مَا أَمْلِكُ عَلَيَّ حَرَامٌ يَعْنِي امْرَأَتَهُ وَجَوَارِيَهُ وَمَالَهُ كَفَّرَ عَنِ الْمَرْأَةِ وَالْجَوَارِي كَفَّارَةَ يَمِينٍ وَاحِدَةً وَلَمْ يُكَفِّرْ عَنْ مَالِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ مَا يَمْلِكُ مِنْ نِسَائِهِ وَجَوَارِيهِ وَأَمْوَالِهِ ، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ فِي الْأَمْوَالِ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَأَنَّهُ لَا حُرْمَةَ لَهُ وَلَا تَغْلِيظَ وَلَا حَدَّ فِي تَنَاوُلِ مَحْظُورِهِ ، وَأَمَّا نِسَاؤُهُ وَجَوَارِيهِ ، فَإِنْ أَرَادَ تَحْرِيمَ وَطْئِهِنَّ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ ، وَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ ، وَظَاهِرُ نَصِّهِ هَاهُنَا ، عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ ، لِأَنَّ لَفْظَةَ التَّحْرِيمِ وَاحِدَةٌ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : عَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ نِسَائِهِ وَجَوَارِيهِ كَفَّارَةٌ ، اعْتِبَارًا بِأَعْدَادِهِنَّ ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مُحَرَّمَةٌ ، وَمِثْلُهُ مَنْ ظَاهَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ لَهُ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ كَانَ فِيمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْكَفَّارَةِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : كَفَارَّةٌ وَاحِدَةٌ ، لِأَنَّ اللَّفْظَةَ وَاحِدَةٌ . وَالثَّانِي : أَرْبَعُ كَفَّارَاتٍ ، بِاعْتِبَارِ أَعْدَادِهِنَّ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مُحَرَّمَةٌ أَنَّهُ مُظَاهِرٌ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ . وَهَكَذَا مَنْ قَذَفَ جَمَاعَةً بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ ، كَانَ فِيمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْحَدِّ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : حَدٌّ وَاحِدٌ ، لِأَنَّ اللَّفْظَةَ وَاحِدَةٌ . وَالثَّانِي : يُحَدُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ حَدًّا ، لِأَنَّهُ مَقْذُوفٌ فِي عَيْشِهِ .

وَأَمَّا إِذَا حَرَّمَهُنَّ غَيْرَ مُرِيدٍ لِتَحْرِيمِ وَطْئِهِنَّ ، وجوب الكفارة فَفِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى : أَحَدُهُمَا : لَا كَفَّارَةَ فِيهِ ، وَيَكُونُ لَفْظُ التَّحْرِيمِ كِنَايَةً فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ ، لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مَعَ فَقْدِ الْإِرَادَةِ حُكْمٌ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ صَرِيحٌ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ مَعَ فَقْدِ الْإِرَادَةِ ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ بِهِ الْكَفَّارَةُ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا يَلْزَمُهُ مِنْهَا ، فَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إِلَى أَنَّهَا عَلَى قَوْلَيْنِ كَمَا لَوْ أَرَادَ بِهِ تَحْرِيمَ وَطْئِهِنَّ : أَحَدُهُمَا : كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ . وَالثَّانِي : بِأَعْدَادِهِنَّ . وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : لَا تَجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ ، قَوْلًا وَاحِدًا ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ فِي إِرَادَةِ التَّحْرِيمِ ، يَحْرُمُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ، فَجَازَ اعْتِبَارُ الْكَفَّارَةِ بِأَعْدَادِهِنَّ ، وَمَعَ فَقْدِ الْإِرَادَةِ ، فَالْحُكْمُ فِي الْكَفَّارَةِ مُتَعَلِّقٌ بِاللَّفْظِ دُونَهُنَّ ، فَلَمْ يَكُنْ لِاعْتِبَارِ عَدَدِهِنَّ وَجْهٌ ، فَلَزِمَهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ : " وَقَالَ فِي الْإِمْلَاءِ وَإِنْ نَوَى إِصَابَةً قُلْنَا أَصِبْ وَكَفِّرْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِنَّمَا أَرَادَ الشَّافِعِيُّ بِهَذَا ، وَإِنْ جَوَّزَ تَقْدِيمَ الْكَفَّارَةِ فِي تَحْرِيمِ الْوَطْءِ الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الظِّهَارِ لِأَنَّهُ فِي الظِّهَارِ تَجِبُ عَلَيْهِ تَقْدِيمُ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْوَطْءِ ، وَيَعْصِي اللَّهَ تَعَالَى إِنْ أَخَّرَهَا ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا [ الْمُجَادَلَةِ : ] وَيَجُوزُ لَهُ فِي تَحْرِيمِ الْوَطْءِ أَنْ يُقَدِّمَ الْإِصَابَةَ وَيُؤَخِّرَ الْكَفَّارَةَ ، وَإِنْ تَقَدَّمَ وُجُوبُهَا عَلَى الْإِصَابَةِ ، وَجَازَ تَعْجِيلُهَا لِأَنَّهَا غَيْرُ مُقَيَّدَةٍ بِشَرْطٍ .

فَصْلٌ : فَلَوْ قَالَ لِنِسَائِهِ : أَنْتُنَّ عَلَيَّ حَرَامٌ يُرِيدُ تَحْرِيمَ وَطْئِهِنَّ ، إِنْ أَصَابَهُنَّ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ حَتَّى يُصِيبَهُنَّ ، لِأَنَّهُ جَعَلَ التَّحْرِيمَ مَشْرُوطًا فِي نِيَّتِهِ بِإِصَابَتِهِنَّ ، فَإِذَا أَصَابَهُنَّ وَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ وَيُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ ، بِخِلَافِ مَا يَنْوِيهِ مِنْ شُرُوطِ الطَّلَاقِ ، الَّذِي يُقْبَلُ مِنْهُ فِي الْبَاطِنِ دُونَ الظَّاهِرِ ، لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يَخْتَصُّ بِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي يَدِينُ فِيهَا ، فَاسْتَوَى فِيهَا حُكْمُ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ ، وَلَيْسَ كَالْكَلَامِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ ، فَجَازَ أَنْ يَخْتَلِفَ فِيهِ حُكْمُ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ فَهُوَ كَالْحَرَامِ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ أَوْ لِأَمَتِهِ : أَنْتِ عَلَيَّ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ ، أَوْ كَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ ، فَهَذَا قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ وَالظِّهَارِ وَالْعِتْقِ ، فَإِنْ أَرَادَ بِهِ طَلَاقًا أَوْ ظِهَارًا أَوْ عِتْقًا صَحَّ ، وَإِنْ لَمْ يُرِدْ بِهِ ذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ . أَحَدُهَا : أَنْ يُرِيدَ بِهِ تَحْرِيمَ الْوَطْءِ ، فَيَكُونُ كِنَايَةً فِيهِ فَتَجِبُ بِهِ الْكَفَّارَةُ ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ كِنَايَةً فِي الطَّلَاقِ فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً فِي تَحْرِيمِ الْوَطْءِ تَجِبُ بِهِ الْكَفَّارَةُ ، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ بِهِ التَّحْرِيمُ ، كَقَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ ، يُرِيدُ تَحْرِيمَ الْوَطْءِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يُرِيدَ بِهِ لَفْظَ التَّحْرِيمِ ، فَيَجْعَلَهُ قَائِمًا مَقَامَ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ ، فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الْحَرَامَ صَرِيحٌ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ ، كَانَ هَذَا كِنَايَةً عَنْهُ ، لِأَنَّ الصَّرِيحَ يُكَنَّى عَنْهُ ، فَيَصِيرُ بِالنِّيَّةِ جَارِيًا مَجْرَى قَوْلِهِ : أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ ، فَتَكُونُ الْكَفَّارَةُ بِهِ وَاجِبَةً ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الْحَرَامَ كِنَايَةٌ فِي الْكَفَّارَةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مَعَ فَقْدِ الْإِرَادَةِ حُكْمٌ ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي هَذَا ، لِأَنَّ الْكِنَايَةَ لَيْسَ لَهَا كِنَايَةٌ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَلَّا يُرِيدَ شَيْئًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ الْكِنَايَةَ مَعَ فَقْدِ الْإِرَادَةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمٌ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ وَهِيَ مُحْرِمَةٌ ، أَوْ حَائِضٌ أَوْ فِي عِدَّةٍ مِنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ ، أَوْ فِي ظِهَارٍ لَمْ يُكَفِّرْ عَنْهُ : أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ ، يُرِيدُ تَحْرِيمَ وَطْئِهَا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ ، لِأَنَّ - وَطْأَهَا مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ ، وَقَدْ زَوَّجَهَا أَوْ كَاتَبَهَا : أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ ، يُرِيدُ تَحْرِيمَ وَطْئِهَا ، لَمْ تَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ ، لِأَنَّ وَطْئَهَا مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ ، وَإِنْ قَالَ ذَلِكَ لَهُمَا وَهُمَا عَلَى الْحَالِ الَّتِي ذَكَرْنَا ، لَا يُرِيدُ تَحْرِيمَ وَطْئِهِمَا ، فَإِنْ جَعَلْنَا اللَّفْظَ صَرِيحًا فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ وَجَبَتْ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ الْحُكْمَ يَصِيرُ مُعَلَّقًا بِاللَّفْظِ وَإِنْ جَعَلْنَاهُ كِنَايَةً فِيهِمَا ، لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ : فَرَجُكِ عَلَيَّ حَرَامٌ أَوْ قَالَ : رَأْسُكِ عَلَيَّ حَرَامٌ فَهُمَا سَوَاءٌ وَلَيْسَ لِذِكْرِ الْفَرْجِ زِيَادَةُ حُكْمٍ ، لِأَنَّهُ بَعْضُهَا كَرَأْسِهَا ، فَدَخَلَا فِي قَوْلِهِ : أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ ، فَجَرَى عَلَيْهِ حُكْمُهُ وَإِنْ كَانَ لَفْظُ التَّحْرِيمِ أَعَمَّ ، فَإِنْ أَرَادَ بِتَحْرِيمِ الْفَرْجِ وَالرَّأْسِ تَحْرِيمَ الْوَطْءِ ، لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ إِرَادَةٌ فَعَلَى قَوْلَيْنِ ، وَلَوْ قَالَ بَطْنُكِ عَلَيَّ حَرَامٌ ، كَانَ صَرِيحًا فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ لِانْتِفَاءِ الِاحْتِمَالِ عَنْهُ .

فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ طَالِقٌ ، وَلَا نِيَّةَ لَهُ طُلِّقَتْ ، وَلَمْ تَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ ، وَصَارَ مَا تَعَقَّبَ التَّحْرِيمَ مِنَ الطَّلَاقِ تَفْسِيرًا لَهُ ، وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ وَأَنْتِ طَالِقٌ ، لَمْ يَصِرِ الطَّلَاقُ تَفْسِيرًا لِاسْتِئْنَافِهِ بِلَفْظٍ مُبْتَدَأٍ ، وَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ فِي التَّحْرِيمِ ، عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ .

وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَظَهْرِ أُمِّي ، وَلَا نِيَّةَ لَهُ ، كَانَ مُظَاهِرًا وَلَمْ تَلْزَمْهُ بِالتَّحْرِيمِ كَفَّارَةٌ ، لِأَنَّهُ قَدْ تَفَسَّرَ إِطْلَاقُهُ بِقَوْلِهِ : كَظَهْرِ أُمِّي ، فَيَكُونُ ظِهَارًا ، وَلَا يَكُونُ طَلَاقًا . وَالثَّانِي : أَنْ يُرِيدَ الطَّلَاقَ بِقَوْلِهِ : أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ ، فَيَكُونَ مُطَلِّقًا مُظَاهِرًا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَأَمَّا مَا لَا يُشْبِهُ الطَّلَاقَ مِثْلُ قَوْلِ بَارَكَ اللَّهُ فِيكِ أَوِ اسْقِينِي أَوْ أَطْعَمِينِي أَوِ ارْوِينِي أَوْ زَوِّدِينِي وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَلَيْسَ بِطَلَاقٍ وَإِنْ نَوَاهُ وَلَوْ أَجَزْتُ النِّيَّةَ بِمَا لَا يُشْبِهُ الطَّلَاقَ أَجَزْتُ أَنْ يُطَلِّقَ فِي نَفْسِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَلْفَاظَ فِي الطَّلَاقِ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : صَرِيحٌ وَقَدْ مَضَى ، وَكِنَايَةٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ ، وَمَا لَيْسَ بِصَرِيحٍ وَلَا كِنَايَةٍ ، وَهُوَ هَذَا ، كَقَوْلِهِ : أَطْعِمِينِي أَوِ اسْقِينِي أَوْ زَوِّدِينِي وَمَا أَحْسَنَ عِشْرَتَكِ وَمَا أَظْهَرَ أَخْلَاقَكِ ، وَمَا جَرَى مَجْرَى هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تُوضَعُ لِلْفُرْقَةِ وَلَا تَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْبُعْدِ ، فَلَا يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ ، سَوَاءٌ نَوَاهُ أَوْ لَمْ يَنْوِهِ ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَوْ وَقَعَ بِمَا لَا يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْفُرْقَةِ ، لَوَقَعَ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ ، وَقَدْ رَدَدْنَا عَلَى مَالِكٍ فِي إِيقَاعِهِ الطَّلَاقَ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ ، فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ . فَأَمَّا إِذَا قَالَ لَهَا : اطْعَمِي أَوِ اشْرَبِي ، كَانَ كِنَايَةً يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ ، إِذَا نَوَاهُ . وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ : لَا يَكُونُ كِنَايَةً ، كَمَا قَالَ أَطْعِمِينِي وَاسْقِينِي ، وَهَذَا فَاسِدٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ اطْعَمِي وَاشْرَبِي ، يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْبُعْدِ ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ اطْعَمِي مَا لَكِ وَاشْرَبِي شَرَابَكِ وَهِيَ تَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الْأَغْلَبِ ، إِذَا خَلَتْ مِنْ زَوْجٍ ، وَقَوْلُهُ : أَطْعِمِينِي وَاسْقِينِي ، إِذْنٌ لَهَا وَتَقْرِيبٌ ، فَجَرَى هَذَا مَجْرَى قَوْلِهِ قِرِّي ، وَلَيْسَ بِكِنَايَةٍ وَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى قَوْلِهِ اذْهَبِي ، وَهِيَ كِنَايَةٌ ، وَلَوْ قَالَ : تَجَرَّعِي وَتَفَصَّصِي ، كَانَ كِنَايَةً ، وَافَقَ عَلَيْهِ أَبُو إِسْحَاقَ ، وَلَوْ قَالَ : جَرِّعِينِي وَغَصِّصِينِي كَانَ فِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَكُونُ كِنَايَةً ، كَمَا لَوْ قَالَ : أَطْعِمِينِي وَاسْقِينِي . وَالثَّانِي : يَكُونُ كِنَايَةً ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ جَرَّعَنِي فِرَاقُكِ ، وَغَصَّصْتِينِي لِبِعَادِكِ ، وَلَوْ قَالَ لَهَا : بَارَكَ اللَّهُ فِيكِ ، لَا يَكُونُ كِنَايَةً ، وَلَوْ قَالَ : بَارَكَ اللَّهُ لَكِ ، كَانَ كِنَايَةً ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مَا ذَكَرْنَاهُ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا إِذَا قَالَ لَهَا : أَنْتِ الطَّلَاقُ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا ، هَلْ يَكُونُ صَرِيحًا ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ صَرِيحٌ ، فَعَلَى هَذَا تُطَلَّقُ وَاحِدَةً ، إِلَّا أَنْ يُرِيدَ أَكْثَرَ مِنْهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : تَكُونُ كِنَايَةً ، لِأَنَّهَا فِي نَفْسِهَا لَا تَكُونُ طَلَاقًا ، وَإِنَّمَا يَقَعُ الطَّلَاقُ

عَلَيْهَا إِذَا أَوْقَعَهُ ، فَلِذَلِكَ صَارَ كِنَايَةً فَيُرْجَعُ فِيهِ إِلَى إِرَادَتِهِ ، فَإِنْ لَمْ يُرِدْ بِهِ الطَّلَاقَ لَمْ يَقَعْ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَ لِلَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ وَقَعْنَ مَعًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا إِذَا طَلَّقَ غَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهَا ثَلَاثًا ، طُلِّقَتْ ثَلَاثًا وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ ، وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ : وَالْمَغْرِبِيُّ تُطَلَّقُ وَاحِدَةً ، لِأَنَّهَا قَدْ بَانَتْ بِقَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ ، فَلَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ بِقَوْلِهِ ثَلَاثًا شَيْءٌ ، وَهَذَا فَاسِدٌ ، لِأَنَّ وُقُوعَ الثَّلَاثِ هُوَ بِقَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ ، لِاحْتِمَالِهِ الْعَدَدَ ، وَقَوْلُهُ ثَلَاثًا تَفْسِيرًا مِنْهُ لِلْعَدَدِ الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ ، وَلِذَلِكَ جَاءَ بِهِ مَنْصُوبًا ، لِكَوْنِهِ تَفْسِيرًا ، كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ : عَلَيَّ عِشْرُونَ دِرْهَمًا ، صَارَ الدِّرْهَمُ لِكَوْنِهِ مَنْصُوبًا ، تَفْسِيرًا لِلْعَدَدِ كَذَلِكَ الثَّلَاثُ تَفْسِيرٌ لِلْعَدَدِ . وَقَدْ حُكِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا ، إِذَا طُلِّقَتْ ثَلَاثًا ، قَالَ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ : فَقُلْتُ وَالِاثْنَتَيْنِ ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ : وَأَمَّا هِيَ الْوَاحِدَةُ بَيَّنَتْهَا ، وَالثَّلَاثُ تُحَرِّمُهَا حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ طَلَاقَ الثَّلَاثِ : يَقَعُ عَلَى غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا ، كَوُقُوعِهِ عَلَى الْمَدْخُولِ بِهَا فَقَالَ لَهَا وَهِيَ غَيْرُ مَدْخُولٍ بِهَا : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ ، وَقَعْنَ مَعًا فِي الْحَالِ ، عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَتْ مِنْ حَيْضٍ أَوْ طُهْرٍ ، لِأَنَّنَا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ غَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهَا ، لَا سُنَّةَ فِي طَلَاقِهَا وَلَا بِدْعَةَ ، وَلَيْسَ عِنْدَنَا فِي عَدَدِ الطَّلَاقِ سُنَّةٌ وَلَا بِدْعَةٌ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، أَنَّهَا تُطَلَّقُ وَاحِدَةً تَبِينُ بِهَا وَلَا يَقَعُ عَلَيْهَا غَيْرُهَا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ ، فِي أَنَّ طَلَاقَ الثَّلَاثِ بِدْعَةٌ ، وَأَنَّ السُّنَّةَ فِيهِ ، أَنْ تَقَعَ فِي كُلِّ قُرْءٍ طَلْقَةٌ ، وَهِيَ بِالطَّلْقَةِ الْأُولَى قَدْ بَانَتْ ، فَلَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا غَيْرُهَا ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ ، وَقَعَتِ الْأُولَى وَبَانَتْ بِلَا عِدَّةٍ . وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا ، إِذَا قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ ، أَنْتِ طَالِقٌ ، أَنْتِ طَالِقٌ ، مُرِيدًا بِالثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ الِاسْتِئْنَافَ ، طُلِّقَتْ وَاحِدَةً بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ ، وَلَمْ تَقَعْ بِالثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ لِأَنَّهَا بِالْأُولَى بَانَتْ . وَقَالَ مَالِكٌ : تُطَلَّقُ ثَلَاثًا إِذَا قَالَ لَهَا : مُتَّصِلًا لِأَنَّ بَعْضَ الْكَلَامِ مُرْتَبِطٌ بِبَعْضٍ ، وَحُكْمُ أَوَّلِهِ مَوْقُوفٌ عَلَى آخِرِهِ ، فَجَرَى مَجْرَى قَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا ، وَهَذَا فَاسِدٌ ، لِأَنَّهُ طَلَاقٌ مُرَتَّبٌ قُدِّمَ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ فَإِذَا وَقَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنْهُ مَنْعَ مِنْ وُقُوعِ مَا تَأَخَّرَ عَنْهُ ،

وَخَالَفَ قَوْلَهُ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا ، لِأَنَّهُنَّ وَقَعْنَ مَعًا بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ تَرْتِيبٍ ، وَحُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ : إِنَّهَا تُطَلَّقُ ثَلَاثًا كَقَوْلِ مَالِكٍ فَخَرَّجَهُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ قَوْلًا ثَانِيًا ، وَأَبَاهُ سَائِرُ أَصْحَابِنَا وَجَعَلُوهُ جَوَابَهُ عَنْ مَالِكٍ .

فَصْلٌ : فَإِذَا قَالَ لِغَيْرِ مَدْخُولٍ بِهَا : أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَتَيْنِ وَنِصْفًا ، طُلِّقَتْ طَلْقَتَيْنِ وَلَمْ تَقَعْ عَلَيْهَا الثَّالِثَةُ لِانْفِرَادِهَا عَنْ مَا قَبْلَهَا بِوَاوِ الْعَطْفِ ، وَلَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا نِصْفَ وَاحِدَةٍ ، طُلِّقَتْ ثَلَاثًا لِأَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ ، طَلْقَتَانِ وَنِصْفٌ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَكَمُلَتْ ثَلَاثًا .

فَصْلٌ : فَإِذَا قَالَ لِغَيْرِ مَدْخُولٍ بِهَا : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً بَعْدَهَا وَاحِدَةً ، فَهِيَ طَالِقٌ وَاحِدَةً لَيْسَ بَعْدَهَا شَيْءٌ ، لِأَنَّهَا قَدْ بَانَتْ بِالْوَاحِدَةِ . وَلَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً قَبْلَهَا وَاحِدَةٌ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا طَلَاقَ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا يُوجِبُ وُقُوعَ طَلْقَةٍ قَبْلَهَا وَوُقُوعَ مَا قَبْلَهَا يَمْنَعُ مِنْ وُقُوعِهَا ، فَاقْتَضَى تَنَافِي الدَّوْرِ إِسْقَاطَ الْجَمِيعِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّهَا تُطَلَّقُ وَاحِدَةً لَيْسَ قَبْلَهَا شَيْءٌ ، لِأَنَّ وُقُوعَ مَا قَبْلَهَا مُوجِبٌ لِإِسْقَاطِهَا ، وَإِسْقَاطَ مَا قَبْلَهَا يُوجِبُ إِثْبَاتَهَا ، وَإِسْقَاطَ مَا قَبْلَهَا ، وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً مَعَهَا وَاحِدَةٌ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : تُطَلَّقُ طَلْقَتَيْنِ ، لِأَنَّهُمَا يَقَعَانِ مَعًا لَا تَتَقَدَّمُ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى ، فَصَارَ كَقَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَتَيْنِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ الْمُزَنِيِّ أَنَّهَا تُطَلَّقُ وَاحِدَةً ، لَيْسَ مَعَهَا شَيْءٌ ، لِأَنَّهُ قَدْ أَفْرَدَهَا ، فَصَارَ كَقَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً بَعْدَهَا وَاحِدَةٌ .

فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ لَهَا وَهِيَ غَيْرُ مَدْخُولٍ بِهَا : إِذَا دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً ، ثُمَّ قَالَ لَهَا : إِذَا دَخَلْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ ، فَدَخَلَتِ الدَّارَ ، طُلِّقَتْ ثَلَاثًا لِوُقُوعِهِنَّ مَعًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ .

فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ : إِذَا دَخَلْتِ الدَّارَ ، فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً ، مَعَهَا وَاحِدَةٌ ، فَدَخَلَتِ الدَّارَ ، طُلِّقَتْ ثِنْتَيْنِ لِوُقُوعِهِمَا مَعًا ، وَلَوْ قَالَ : إِذَا دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً ، بَعْدَهَا وَاحِدَةٌ طُلِّقَتْ بِدُخُولِ الدَّارِ وَاحِدَةً ، لَيْسَ بَعْدَهَا شَيْءٌ ، لِأَنَّهُ رَتَّبَهُمَا . وَلَوْ قَالَ : إِذَا دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً قَبْلَهَا وَاحِدَةٌ ، كَانَ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا لَا تُطَلَّقُ بِدُخُولِ الدَّارِ أَصْلًا . وَالثَّانِي : تُطَلَّقُ وَاحِدَةً لَيْسَ قَبْلَهَا شَيْءٌ .

وَلَوْ قَالَ : إِذَا دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ طَالِقٌ ، فَدَخَلَتِ الدَّارَ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَقَعَ عَلَيْهَا بِدُخُولِ الدَّارِ طَلْقَتَانِ ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَقَعُ بِدُخُولِ الدَّارِ مِنْ غَيْرِ تَرْتِيبٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَقَعُ عَلَيْهَا إِلَّا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ ، كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا مُوَاجَهَةً : أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ ، لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا إِلَّا وَاحِدَةٌ ، وَهَذَا فَاسِدٌ لِأَنَّهُ فِي الْمُوَاجَهَةِ يَتَرَتَّبُ وَفِي تَعْلِيقِهِ بِدُخُولِ الدَّارِ غَيْرُ مُرَتَّبٍ وَلَعَلَّ قَائِلَ هَذَا الْوَجْهِ ، أَوْقَعَ الْوَاحِدَةَ ، لِأَنَّ الْمُوَاجَهَةَ عِنْدَهُ تُوجِبُ التَّرْتِيبَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ الطَّلَاقِ بِالْوَقْتِ وَطَلَاقِ الْمُكْرَهِ

أَيُّ أَجَلٍ طَلَّقَ لَمْ يَلْزَمْهُ قَبْلَ وَقْتِهِ

بَابُ الطَّلَاقِ بِالْوَقْتِ وَطَلَاقِ الْمُكْرَهِ وَغَيْرِهِ مِنْ كِتَابِ إِبَاحَةِ الطَّلَاقِ وَالْإِمْلَاءِ وَغَيْرِهِمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَأَيُّ أَجَلٍ طَلَّقَ لَمْ يَلْزَمْهُ قَبْلَ وَقْتِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . الطَّلَاقُ يَقَعُ نَاجِزًا وَعَلَى صِفَةٍ ، وَإِلَى أَجَلٍ ، فَوُقُوعُهُ نَاجِزًا أَنْ يَقُولَ : أَنْتِ طَالِقٌ فَتَقَعُ بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ ، وَوُقُوعُهُ عَلَى صِفَةٍ أَنْ يَقُولَ : إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، أَوْ إِنْ قَدِمَ زَيْدٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ قَبْلَ وُجُودِ الصِّفَةِ ، سَوَاءٌ بِصِفَةٍ مُضَافَةٍ إِلَيْهَا بِدُخُولِ الدَّارِ ، أَوْ مُضَافَةٍ إِلَى غَيْرِهَا كَقُدُومِ زَيْدٍ ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَأَمَّا تَعْلِيقُهُ بِأَجَلٍ فَكَقَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ إِلَى بَعْدِ شَهْرٍ ، أَوْ إِلَى سَنَةٍ ، أَوْ رَأْسِ الشَّهْرِ فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ ، سَوَاءٌ كَانَ الْأَجَلُ مَعْلُومًا أَوْ مَجْهُولًا وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ ، وَقَالَ مَالِكٌ : يَقَعُ الطَّلَاقُ مُعَجَّلًا ، اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَصِيرُ نِكَاحًا إِلَى مُدَّةٍ وَهَذَا بَاطِلٌ كَالْمُتْعَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ عَقْدَ التَّحْرِيمِ إِلَى أَجَلٍ ، يُوجِبُ تَعْجِيلَهُ كَالْمُكَاتَبَةِ لَمَّا أَوْجَبَتِ الْكِتَابَةُ تَحْرِيمَهَا بِالْعِتْقِ بَعْدَ الْأَدَاءِ ، تُعَجِّلُ تَحْرِيمَهَا بِنَفْسِ الْكِتَابَةِ قَبْلَ الْأَدَاءِ . وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهُ تَعْلِيقُ طَلَاقٍ بِشَرْطٍ ، فَوَجَبَ أَلَّا يَقَعَ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ ، قِيَاسًا عَلَى تَعْلِيقِهِ بِمَوْتِ زَيْدٍ ، فَإِنْ قِيلَ فَمَوْتُ زَيْدٍ مَجْهُولُ الْأَجَلِ ، قِيلَ إِذَا ثَبَتَ فِيهِ الْأَجَلُ الْمَجْهُولُ كَانَ ثُبُوتُ الْأَجَلِ الْمَعْلُومِ أَحَقَّ ، وَلِأَنَّهُ إِزَالَةُ مِلْكٍ لَوْ عُلِّقَ بِأَجَلٍ مَعْلُومٍ أَوْ مَجْهُولٍ ، لَمْ يَزُلْ قَبْلَهُ وَجَبَ ، وَإِذَا عُلِّقَ بِأَجَلٍ مَعْلُومٍ أَلَّا يَزُولَ قَبْلَهُ كَالْعِتْقِ ، وَلِأَنَّهُ أَجَلٌ لَوْ عُلِّقَ بِهِ الْعِتْقُ لَمْ يَقَعْ قَبْلَهُ ، فَوَجَبَ إِذَا عُلِّقَ بِهِ الطَّلَاقُ أَلَّا يَقَعَ قَبْلَهُ كَالْمَجْهُولِ ، أَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْمُتْعَةِ لِأَنَّهُ نِكَاحٌ إِلَى مُدَّةٍ فَغَلَطٌ ، لِأَنَّ النِّكَاحَ عَقْدٌ يَمْتَنِعُ فِيهِ دُخُولُ الْأَجَلِ ، فَفَسَدَ بِالْمَعْلُومِ وَالْمَجْهُولِ وَالطَّلَاقُ حَدٌّ لَا يَفْسَدُ بِالْأَجَلِ الْمَجْهُولِ ، فَكَانَ أَوْلَى أَلَّا يَفْسَدَ بِالْأَجَلِ الْمَعْلُومِ ، عَلَى أَنَّ دُخُولَ الْأَجَلِ فِي النِّكَاحِ مُبْطِلٌ لَهُ ، فَلَوْ كَانَ الطَّلَاقُ مِثْلَهُ ، لَكَانَ دُخُولُ الْأَجَلِ فِيهِ مُبْطِلًا لَهُ دُونَ النِّكَاحِ ، وَمَالِكٌ يَجْعَلُهُ مُبْطِلًا لِلنِّكَاحِ دُونَ الطَّلَاقِ . وَأَمَّا الْكِتَابَةُ فَلَا يَصِحُّ الِاعْتِبَارُ لَهَا ، لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ قَدْ مَلَكَتْ نَفْسَهَا وَمَلَكَ الْمَالَ عَلَيْهَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ مِلْكِ الْمَالِ عَلَيْهَا وَمِلْكِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا كَالْخُلْعِ ، وَخَالَفَ

الطَّلَاقَ الْمُؤَجَّلَ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ عَلَيْهَا مَا يَمْنَعُ مِنْ بَقَاءِ مِلْكِهِ عَلَى الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا فَافْتَرَقَا .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا ، مِنْ أَنَّ الطَّلَاقَ الْمُؤَجَّلَ لَا يَتَعَجَّلُ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ بَعْدَ شَهْرٍ ، وَبَيْنَ أَنْ يَقُولَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ إِلَى شَهْرٍ ، فِي أَنَّهَا زَوْجَةٌ فِي الْحَالَيْنِ وَيَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا قَبْلَ شَهْرٍ ، وَإِنْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ إِلَى شَهْرٍ ، وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا فِي الْحَالِ لِأَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ أَجَلًا ، لِمُدَّةِ الطَّلَاقِ ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ شَرْطًا فِي وُقُوعِهِ ، وَهَذَا فَاسِدٌ ، بَلْ كِلَا الْأَمْرَيْنِ شَرْطٌ ، وَالطَّلَاقُ فِيهِمَا مُؤَجَّلٌ بَعْدَ شَهْرٍ ، لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِ الْقَائِلِ : أَنَا خَارِجٌ بَعْدَ شَهْرٍ وَبَيْنَ أَنْ يَقُولَ : أَنَا خَارِجٌ إِلَى شَهْرٍ ، فِي أَنَّ الشَّهْرَ أَجَلٌ لِكَوْنِ الْخُرُوجِ بَعْدَهُ .

فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي " الْإِمْلَاءِ " : وَلَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ رَأْسَ الشَّهْرِ ، ثُمَّ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ تِلْكَ الطَّلْقَةَ الْآنَ ، فَإِنْ أَرَادَ بِهِ تَعْجِيلَهَا ، طُلِّقَتْ وَاحِدَةً ، لِأَنَّهُ قَدْ عَجَّلَ مَا أَجَّلَ ، فَكَانَ أَغْلَظَ ، وَإِنْ أَرَادَ رَفْعَ تِلْكَ وَإِيقَاعَ هَذِهِ ، طُلِّقَتْ طَلْقَتَيْنِ ، لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ رَفْعَ الطَّلَاقِ الْمُؤَجَّلِ وَلَا الْمُعَلَّقِ بِصِفَةٍ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَ فِي شَهْرِ كَذَا أَوْ فِي غُرَّةِ هِلَالِ كَذَا طُلِّقَتْ فِي الْمَغِيبِ مِنَ اللَّيْلَةِ الَّتِي يُرَى فِيهَا هِلَالُ ذَلِكَ الشَّهْرِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا إِذَا قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ، طُلِّقَتْ بِدُخُولِ أَوَّلِ شَهْرِ رَمَضَانَ ، وَذَلِكَ بِأَوَّلِ جُزْءٍ مِنَ اللَّيْلَةِ الَّتِي يُرَى فِيهَا هِلَالُ رَمَضَانَ ، وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ : لَا تُطَلَّقُ إِلَّا فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ ، لِيَسْتَوْعِبَ بِهِ الصِّفَةَ الَّتِي عَلَّقَ بِهَا طَلَاقَهَا ، وَهَذَا فَاسِدٌ ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ الْمُعَلَّقَ بِالصِّفَةِ يَقَعُ بِأَوَّلِ وُجُودِ الصِّفَةِ ، كَقَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ ، تُطَلَّقُ بِدُخُولِ الدَّارِ كَذَلِكَ إِذَا عَلَّقَهُ بِشَهْرِ رَمَضَانَ ، وَجَبَ أَنْ تُطَلَّقَ بِأَوَّلِ دُخُولِهِ فَإِذَا صَحَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ طَلَاقِهَا بِدُخُولِ أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ ، وَذَلِكَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ أَوَّلِ لَيْلَةٍ يُرَى فِيهَا هِلَالُهُ فَقَالَ : أَرَدْتُ بِقَوْلِي أَنْتِ طَالِقٌ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ، وُقُوعَ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا فِي آخِرِهِ دِينَ فِيهِ ، وَحُمِلَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ لِاحْتِمَالِهِ ، وَأُلْزِمَ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ وُقُوعَ الطَّلَاقِ فِي أَوَّلِهِ اعْتِبَارًا بِظَاهِرِ لَفْظِهِ .

فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ فِي أَوَّلِ شَهْرِ رَمَضَانَ طُلِّقَتْ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْهُ ، كَالَّذِي قُلْنَا بِوِفَاقِ أَبِي ثَوْرٍ هَاهُنَا ، فَلَوْ قَالَ : أَرَدْتُ أَنْ تَكُونَ طَالِقًا فِي آخِرِهِ لِمَ يُدَيَّنْ فِيهِ ، وَلَزِمَهُ فِي الظَّاهِرِ تَعْجِيلُهُ فِي أَوَّلِهِ ، لِأَنَّ آخِرَهُ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ أَوَّلِهِ . وَلَوْ قَالَ : أَرَدْتُ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ أَوَّلِهِ دِينَ فِيهِ لِاحْتِمَالِهِ ، وَأَنَّهُ مِنْ أَوَّلِهِ . وَلَوْ قَالَ :

أَرَدْتُ فِي آخِرِ النِّصْفِ الْأَوَّلِ مِنْهُ فَهَلْ يَدِينُ فِيهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مِنْ مَسْأَلَةٍ نَذْكُرُهَا فِيمَا بَعْدُ . وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ فِي غُرَّةِ شَهْرِ رَمَضَانَ ، طُلِّقَتْ بِدُخُولِ أَوَّلِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، فَلَوْ قَالَ أَرَدْتُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ فِي آخِرِهِ ، لِمَ يُدَيَّنْ فِيهِ ، لِأَنَّهُ لَا يَنْطَلِقُ اسْمُ الْغُرَّةِ عَلَيْهِ . وَلَوْ أَرَادَ وُقُوعَهُ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْهُ ، وَثَانِيهِ وَثَالِثِهِ ، دِينَ فِيهِ : لِأَنَّ الثَّلَاثَ الْأُوَلَ مِنَ الشَّهْرِ مِنْ غُرَّتِهِ لِقَوْلِهِمْ : ثَلَاثٌ غُرَرٌ ، وَثَلَاثٌ بُهَرٌ ، فَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ مُسْتَهَلَّ شَهْرِ رَمَضَانَ ، طُلِّقَتْ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْهُ ، فَإِنْ أَرَادَ بِهِ مَا بَعْدَ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ مِنْهُ ، لِمَ يُدَيَّنْ فِيهِ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مُسْتَهَلِّهِ ، وَإِنْ أَرَادَ الْيَوْمَ الْأَوَّلَ إِلَى آخِرِهِ دِينَ فِيهِ ، لِأَنَّهُ مُسْتَهَلُّ أَيَّامِهِ .

فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ فِي آخِرِ شَهْرِ رَمَضَانَ ، أَوْ فِي انْسِلَاخِ شَهْرِ رَمَضَانَ ، أَوْ فِي انْقِضَاءِ شَهْرِ رَمَضَانَ طُلِّقَتْ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْهُ ، لِأَنَّ أَوَّلَ الشَّهْرِ يَكُونُ بِدُخُولِ اللَّيْلِ وَآخِرَهُ بِخُرُوجِ النَّهَارِ ، لِأَنَّ الشَّهْرَ يَجْمَعُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّمَا يَجْمَعُهُمَا لُغَةً ، وَالشَّرْعُ يَخُصُّ النَّهَارَ مِنْهُمَا ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [ الْبَقَرَةِ : ] . فَأَوْجَبَ الشَّرْعُ صَوْمَ النَّهَارِ دُونَ اللَّيْلِ ، فَكَانَ النَّهَارُ هُوَ الشَّهْرَ الشَّرْعِيَّ ، وَكَانَ أَوْلَى أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ حُكْمُ الشَّرْعِ ، قِيلَ قَدْ جَاءَ الشَّرْعُ بِجَمْعِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ [ الطَّلَاقِ : ] . وَهِيَ تَعْتَدُّ فِيهَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ جَمِيعًا ، فَلَمْ يَكُنْ لِتَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِأَحَدِهِمَا وَجْهٌ ، مَا لَمْ يَخُصُّهُ دَلِيلٌ .

فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ فِي أَوَّلِ آخِرِ الشَّهْرِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا تُطَلَّقُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ مِنَ اللَّيْلَةِ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ مِنْهُ لِأَنَّ آخِرَ الشَّهْرِ نِصْفُهُ الثَّانِي ، وَأَوَّلَ النِّصْفِ الثَّانِي غُرُوبُ الشَّمْسِ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلَةِ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا تُطَلَّقُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْهُ ، فَإِنْ كَانَ الشَّهْرُ كَامِلًا ، فَهُوَ يَوْمُ الثَّلَاثِينَ وَإِنْ كَانَ الشَّهْرُ نَاقِصًا ، فَهُوَ يَوْمُ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ ، لِأَنَّ آخِرَ الشَّهْرِ هُوَ آخِرُ يَوْمٍ مِنْهُ ، وَأَوَّلُ الْيَوْمِ طُلُوعُ فَجْرِهِ .

فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ فِي آخِرِ أَوَّلِ الشَّهْرِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ أَنَّهَا تُطَلَّقُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ فِي الْيَوْمِ الْخَامِسَ عَشَرَ ، لِأَنَّ أَوَّلَ الشَّهْرِ نِصْفُهُ الْأَوَّلُ ، وَآخِرَهُ غُرُوبُ الشَّمْسِ فِي الْخَامِسَ عَشَرَ مِنْهُ .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : تُطَلَّقُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْهُ ، لِأَنَّ أَوَّلَهُ الْيَوْمُ الْأَوَّلُ وَآخِرَهُ غُرُوبُ شَمْسِهِ .

فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ فِي أَوَّلِ آخِرِ أَوَّلِ الشَّهْرِ ، فَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ : تُطَلَّقُ عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنَ الْيَوْمِ السَّادِسِ عَشَرَ ، لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ أَوَّلَ آخِرِ الشَّهْرِ ، أَوَّلُ اللَّيْلَةِ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ فَكَانَ آخِرُهَا طُلُوعَ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : تُطَلَّقُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْهُ ، لِأَنَّ أَوَّلَ آخِرِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ، طُلُوعُ الْفَجْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِهِ ، فَكَانَ آخِرُهُ غُرُوبَ شَمْسِهِ .

فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ فِي أَوَّلِ آخِرِ أَوَّلِ الشَّهْرِ ، فَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ : تُطَلَّقُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ مِنَ الْيَوْمِ الْخَامِسَ عَشَرَ ، لِأَنَّ آخِرَ أَوَّلِهِ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنَ الْيَوْمِ الْخَامِسَ عَشَرَ فَكَانَ أَوَّلُهُ طُلُوعَ فَجْرِهِ . وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي : تُطَلَّقُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ مَنْ أَوَّلِ يَوْمٍ مِنَ الشَّهْرِ لِأَنَّ آخِرَ أَوَّلِ الشَّهْرِ غُرُوبُ الشَّمْسِ مِنْ أَوَّلِ أَيَّامِهِ ، فَكَانَ أَوَّلُهُ طُلُوعَ الْفَجْرِ .

فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ ، طُلِّقَتْ فِي وَقْتِهِ ، وَلَوْ قَالَ : فِي غَدٍ طُلِّقَتْ عِنْدَ طُلُوعِ فَجْرِهِ ، فَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ أَوْ غَدًا ، طُلِّقَتْ فِي غَدٍ ، لِأَنَّهُ تَيَقَّنَ . وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ وَغَدًا ، طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ وَاحِدَةً ، وَرُجِعَ إِلَى بَيَانِهِ فِي غَدٍ ، فَإِنْ أَرَادَ وُقُوعَ أُخْرَى فِيهِ ، طُلِّقَتْ ثَانِيَةً ، وَإِنْ أَرَادَ وُقُوعَ طَلْقَةٍ فِي هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ ، لَمْ تُطَلَّقْ إِلَّا وَاحِدَةً ، فِي الْيَوْمِ وَإِنْ أَرَادَ تَأْخِيرَ الطَّلَاقِ مِنَ الْيَوْمِ إِلَى غَدٍ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ ، وَدِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ إِرَادَةٌ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ الْعِرَاقِيِّينَ لَا تُطَلَّقُ إِلَّا وَاحِدَةً فِي الْيَوْمِ ، لِأَنَّهَا إِذَا طُلِّقَتْ فِي الْيَوْمِ فَهِيَ فِي غَدٍ كَذَلِكَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا تُطَلَّقُ فِي الْيَوْمِ وَاحِدَةً ، وَفِي غَدٍ أُخْرَى ، لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْيَوْمِ فَجَرَى عَلَيْهِ حُكْمُهُ تَسْوِيَةً بَيْنَ الْعَطْفِ وَالْمَعْطُوفِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ فِي الْيَوْمِ بَعْضَ تَطْلِيقَةٍ ، وَفِي غَدٍ بَعْضَ تَطْلِيقَةٍ ، طُلِّقَتْ فِي الْيَوْمِ وَاحِدَةً وَسُئِلَ عَنْ إِرَادَتِهِ عَنْ بَعْضِ التَّطْلِيقَةِ فِي غَدٍ ، فَإِنْ أَرَادَ الْبَاقِيَ مِنَ التَّطْلِيقَةِ الْأُولَى ، لَمْ تُطَلَّقْ فِي غَدٍ ، لِأَنَّهُ قَدْ عَجَّلَ بَاقِيَهَا ، بِتَكْمِيلِ الطَّلْقَةِ فِي الْيَوْمِ ، وَإِنْ أَرَادَ بَعْضَ تَطْلِيقَةٍ أُخْرَى طُلِّقَتْ فِي غَدٍ تَطْلِيقَةً ثَانِيَةً تَكْمِيلًا لِلْبَعْضَيْنِ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ إِرَادَةٌ فَفِيهِ وَجْهَانِ :

أَحَدُهُمَا : لَا تُطَلَّقُ وَاحِدَةً ، لِأَنَّهَا يَقِينٌ . وَالثَّانِي : تُطَلَّقُ تَطْلِيقَتَيْنِ وَاحِدَةً فِي الْيَوْمِ ، وَأُخْرَى فِي غَيْرِ تَسْوِيَةٍ بَيْنَ حُكْمِ الْيَوْمَيْنِ ، وَأَنَّ بَعْضَ التَّطْلِيقَةِ يَقُومُ مَقَامَ التَّطْلِيقَةِ ، لِوُجُوبِ تَكْمِيلِهَا بِالشَّرْعِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَ إِذَا رَأَيْتُ هِلَالَ شَهْرِ كَذَا حَنِثَ إِذَا رَآهُ غَيْرُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَرَادَ رُؤْيَةَ نَفْسِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا قَالَ : إِذَا رَأَيْتُ هِلَالَ شَهْرِ رَمَضَانَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَإِنْ رَآهُ جَمِيعُ النَّاسِ طُلِّقَتْ إِجْمَاعًا ، وَإِنْ رَآهُ النَّاسُ دُونَهُ طُلِّقَتْ عِنْدَنَا ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا تُطَلَّقُ مَتَى يَرَاهُ بِنَفْسِهِ ، لِأَنَّ تَعْلِيقَ الْحِنْثِ بِرُؤْيَتِهِ لَا يُوجِبُ وُقُوعَهُ بِرُؤْيَةِ غَيْرِهِ ، كَمَا لَوْ قَالَ : إِذَا رَأَيْتُ زَيْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَرَآهُ غَيْرُهُ ، لَمْ تُطَلَّقْ ، وَهَذَا فَاسِدٌ ، لِأَنَّ الشَّرْعَ قَدْ قَرَّرَ أَنَّ رُؤْيَةَ غَيْرِهِ لِلْهِلَالِ كَرُؤْيَتِهِ ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ . ثُمَّ عَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ وَيُفْطِرَ بِرُؤْيَةِ غَيْرِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِطْلَاقُ رُؤْيَةِ الشَّهْرِ مَحْمُولًا عَلَى مَا قَيَّدَهُ الشَّرْعُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، إِذَا عَلَّقَهُ بِرُؤْيَةِ زَيْدٍ ، لِأَنَّ الشَّرْعَ مَا جَعَلَ رُؤْيَةَ الْغَيْرِ لَهُ كَرُؤْيَتِهِ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ : أَرَدْتُ رُؤْيَةَ نَفْسِي ، دِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ، عَلَى مَا نَوَى ، وَلَمْ يَحْنَثْ إِلَّا بِرُؤْيَةِ نَفْسِهِ وَحَنِثَ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ بِرُؤْيَةِ غَيْرِهِ ، فَلَوْ رَآهُ وَقَدْ أَرَادَ رُؤْيَةَ نَفْسِهِ فِي نَهَارِ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ شَعْبَانَ قَبْلَ غُرُوبِ شَمْسِهِ ، فَفِي حِنْثِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَحْنَثُ ، لِأَنَّهُ هِلَالُ شَهْرِ رَمَضَانَ وَإِنْ تَقَدَّمَهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ ، أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ ، لِأَنَّ هِلَالَ الشَّهْرِ مَا كَانَ مَرْئِيًّا فِيهِ ، فَلَوْ لَمْ يَرَ هِلَالَ رَمَضَانَ فِي أَوَّلِهِ حَتَّى صَارَ قَمَرًا فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَحْنَثُ تَغْلِيبًا لِلْإِشَارَةِ ، إِلَّا أَنْ يُرِيدَ حَقِيقَةَ الِاسْمِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَحْنَثُ اعْتِبَارًا بِحَقِيقَةِ الِاسْمِ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ الْإِشَارَةَ ، وَاخْتَلَفُوا مَتَى يَصِيرُ الْهِلَالُ قَمَرًا ، فَقَالَ قَوْمٌ : يَصِيرُ قَمَرًا بَعْدَ ثَلَاثٍ . وَقَالَ آخَرُونَ : إِذَا اسْتَدَارَ . وَقَالَ آخَرُونَ : إِذَا بَهَرَ ضَوْؤُهُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَ إِذَا مَضَتْ سَنَةٌ وَقَدْ مَضَى مِنَ الْهِلَالِ خَمْسٌ لَمْ تُطَلَّقْ حَتَّى تَمْضِيَ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً مِنْ يَوْمِ تَكَلَّمَ وَأَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا بِالْأَهِلَّةِ وَخَمْسٌ بَعْدَهَا " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ إِذَا مَضَتْ سَنَةٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِالسَّنَةِ الْهِلَالِيَّةِ ، الَّتِي هِيَ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا بِالْأَهِلَّةِ ، بِكَمَالِ الشُّهُورِ وَنُقْصَانِهَا ، لِأَنَّ الشَّهْرَ مَا بَيْنَ الْهِلَالَيْنِ كَامِلًا كَانَ أَوْ نَاقِصًا ، فَإِنْ كَمُلَ فَهُوَ ثَلَاثُونَ يَوْمًا ، لَا يَزِيدُ عَلَيْهَا ، وَإِنْ نَقَصَ فَهُوَ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا لَا يَنْقُصُ مِنْهَا ، وَالْأَغْلَبُ مِنَ السَّنَةِ الْهِلَالِيَّةِ أَنَّهَا ثَلَاثُمِائَةٍ وَأَرْبَعَةٌ وَخَمْسُونَ يَوْمًا ، وَرُبَّمَا نَقَصَتْ يَوْمًا أَوْ زَادَتْ يَوْمًا ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا اعْتِبَارَ فِيهَا بِالْأَهِلَّةِ ، وَهَى مُقَدَّرَةٌ بِثَلَاثِمِائَةٍ وَسِتِّينَ يَوْمًا لِأَنَّهَا أَيَّامُ السَّنَةِ عُرْفًا ، وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [ الْبَقَرَةِ : ] فَلَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ تَعَالَى لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ عِلْمًا إِلَّا بِهَا ، وَقَدْ يَكْمُلُ مَا بَيْنَ الْهِلَالَيْنِ تَارَةً وَيَنْقُصُ أُخْرَى ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الِاعْتِبَارُ بِاثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا . وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَا يُقَدَّرُ بِالشُّهُورِ ، لَا يُرَاعَى فِيهِ كَمَالُ الْأَيَّامِ ، وَجَبَ فِيمَا تَعَلَّقَ بِالسِّنِينَ لَا يُرَاعَى فِيهِ كَمَالُ الشُّهُورِ . فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ، لَمْ يَخْلُ حَالُ الْوَقْتِ الَّذِي عُقِدَ فِيهِ هَذَا الطَّلَاقُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ . إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي أَوَّلِ شَهْرٍ ، أَوْ قَضَاءً عَيَّنَهُ ، فَإِنْ كَانَ فِي أَوَّلِ شَهْرٍ وَمَعَ رَأْسِ هِلَالِهِ ، اعْتُبِرَتِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا بِالْأَهِلَّةِ ، فَإِذَا طَلَعَ هِلَالُ الشَّهْرِ الثَّالِثَ عَشَرَ ، فَقَدِ انْقَضَتِ السَّنَةُ ، وَوَقَعَ الطَّلَاقُ ، وَإِنْ كَانَ فِي قَضَاءٍ عُيِّنَ شَهْرٌ ، كَأَنَّهُ قَالَ هَذَا وَقَدْ مَضَى مِنَ الشَّهْرِ خَمْسَةُ أَيَّامٍ ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ هَذَا الشَّهْرُ كَامِلًا ، أَوْ نَاقِصًا ، فَإِنْ كَانَ كَامِلًا ، وَبَاقِيهِ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا ، فَإِذَا مَضَى بَقِيَّةُ الشَّهْرِ وَأَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا بِالْأَهِلَّةِ ، وَمَضَى مِنَ الشَّهْرِ الثَّالِثَ عَشَرَ خَمْسَةُ أَيَّامٍ ، فَقَدْ تَمَّتِ السَّنَةُ ، وَوَقَعَ الطَّلَاقُ ، وَإِنْ كَانَ الشَّهْرُ الْأَوَّلُ نَاقِصًا ، وَبَاقِيهِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا ، كَانَ انْقِضَاءُ السَّنَةِ بِأَنْ يَمْضِيَ مِنَ الشَّهْرِ الثَّالِثِ عَشَرَ سِتَّةُ أَيَّامٍ ، اعْتِبَارًا بِكَمَالِ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ ، وَإِنْ لَمْ يُعْتَبَرْ كَمَالُ غَيْرِهِ مِنَ الشُّهُورِ ، لِأَنَّ فَوَاتَ هِلَالِهِ يُوجِبُ اعْتِبَارَ كَمَالِهِ كَالصَّوْمِ ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ . فَلَوْ شَكَّ فِي وَقْتِ عَقْدِهِ لِهَذَا الطَّلَاقِ ، هَلْ كَانَ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ ، أَوْ بَعْدَ عَشْرٍ الطلاق المضاف إلي وقت مَضَتْ مِنْهُ لَمْ يَلْزَمْهُ الطَّلَاقُ إِلَّا بَعْدَ عَشْرٍ مِنَ الشَّهْرِ الثَّالِثِ عَشَرَ ، اعْتِبَارًا بِالْيَقِينِ فِي بَقَاءِ الزَّوْجِيَّةِ وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ بِالشَّكِّ . وَهَلْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الشَّهْرِ وَطْئُهَا ، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ فِيهِ طَلَاقُهَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ الْأَظْهَرُ : أَنَّ وَطْأَهَا لَا يَحْرُمُ ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ فِيهَا لَمْ يَقَعْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ وَطْأَهَا يَحْرُمُ لِلشَّكِّ فِي اسْتِبَاحَتِهَا ، كَمَا لَوِ اشْتَبَهَتْ زَوْجَتُهُ بِأَجْنَبِيَّةٍ .



فَصْلٌ : فَلَوْ قَالَ : أَرَدْتُ بِقَوْلِي إِذَا مَضَتْ سَنَةٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ السَّنَةَ الْعَدَدِيَّةَ ، الَّتِي هِيَ اسْتِكْمَالُ ثَلَاثِمِائَةٍ وَسِتِّينَ يَوْمًا ، دِينَ فِي الْفُتْيَا دُونَ الْحُكْمِ ، وَلَوْ قَالَ : أَرَدْتُ السَّنَةَ الشَّمْسِيَّةَ الَّتِي هِيَ ثَلَاثُمِائَةٍ وَخَمْسٌ وَسِتُّونَ يَوْمًا تَرْجِعُ الشَّمْسُ بَعْدَهَا إِلَى الْبُرْجِ الَّذِي طَلَعَتْ مِنْهُ ، دِينَ فِي الْفُتْيَا دُونَ الْحُكْمِ ، لِأَنَّ إِطْلَاقَ التَّسْمِيَةِ فِي الشَّرْعِ يُوجِبُ حَمْلَهُ فِي الْحُكْمِ عَلَى السَّنَةِ الْهِلَالِيَّةِ ، دُونَ الْعَدَدِيَّةِ وَالشَّمْسِيَّةِ لِمَا ذَكَرْنَا ، فَلَمْ يُقْبَلْ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ ، لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْأَجَلِ ، وَدِينَ فِي الْفُتْيَا لِاحْتِمَالِهِ . وَلَوْ قَالَ : أَرَدْتُ سَنَةَ التَّأْرِيخِ ، الَّتِي أَوَّلُهَا مُسْتَهَلُّ الْمُحَرَّمِ ، وَآخِرُهَا مُنْسَلَخُ ذِي الْحِجَّةِ ، قُبِلَ مِنْهُ فِي الْفُتْيَا وَالْحُكْمِ ، لِأَنَّهُ أَضَرُّ بِهِ وَأَقْضَى لِأَجَلِهِ . فَلَوْ قَالَ : إِذَا مَضَتِ السَّنَةُ فَأَنْتِ طَالِقٌ حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِ الْحُكْمِ عَلَى سَنَةِ التَّأْرِيخِ ، لِأَنَّهَا مَعْهُودَةٌ فَإِذَا انْقَضَتْ بِانْسِلَاخِ ذِي الْحِجَّةِ لَزِمَهُ الطَّلَاقُ ، كَانَ الْبَاقِي مِنْهَا قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا ، فَلَوْ قَالَ : أَرَدْتُ كَمَالَ سَنَةِ الْأَهِلَّةِ دِينَ فِي الْفُتْيَا ، دُونَ الْحُكْمِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ الشَّهْرَ الْمَاضِيَ طُلِّقَتْ مَكَانَهَا وَإِيقَاعُهُ الطَّلَاقَ الْآنَ فِي وَقْتٍ مَضَى مُحَالٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ الشَّهْرَ الْمَاضِيَ ، وَأَنْتِ طَالِقٌ أَمْسَ ، يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّهُ يُطَلِّقُهَا فِي الشَّهْرِ الْمَاضِي طَلَاقًا يُوقِعُهُ الْآنَ فَهَذَا مُحَالٌ ، وَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ مَا مَضَى مِنَ النَّهَارِ غَيْرُ مُسْتَدْرَكٍ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّهُ يُطَلِّقُهَا الْآنَ طَلَاقًا يَقَعُ عَلَيْهَا فِي الشَّهْرِ الْمَاضِي ، فَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ فِي هَذَا الْقِسْمِ ، وُقُوعُ الطَّلَاقِ فِي الْوَقْتِ فَوَقَعَ ، وَلَمْ يُرِدْ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وُقُوعَ الطَّلَاقِ فِي الْوَقْتِ فَلَمْ يَقَعْ ، وَإِذَا وَقَعَ الطَّلَاقُ فِي هَذَا الْقِسْمِ فَهُوَ وَاقِعٌ لِوَقْتِهِ ، وَلَا يَتَقَدَّمُ حُكْمُهُ فِي الشَّهْرِ الْمَاضِي . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : هُوَ مُتَقَدِّمُ الْحُكْمِ ، فَيَكُونُ وَاقِعًا لِلشَّهْرِ الْمَاضِي ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ لَوْ عَلَّقَهُ بِوَقْتٍ مُسْتَقْبَلٍ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ ، فَوَجَبَ إِذَا عَلَّقَهُ بِوَقْتٍ مَاضٍ أَلَّا يَتَأَخَّرَ عَنْهُ ، وَهَذَا فَاسِدٌ ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ إِذَا عُلِّقَ بِشَرْطٍ صَحَّ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، وَلَمْ يَصِحَّ فِي الْمَاضِي ، لِأَنَّهُ يَصِحُّ إِيجَادُ الْفِعْلِ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ وَلَا يَصِحُّ إِيجَادُهُ فِيمَا مَضَى ، وَلِذَلِكَ صَحَّ الْأَمْرُ ، فِي الْأَفْعَالِ الْمُسْتَقْبَلَةِ دُونَ الْمَاضِيَةِ ، وَصَارَ مِنْهَا خَبَرًا ، وَلَمْ يَكُنْ أَمْرًا . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ وَلَا إِرَادَةَ لَهُ ، وَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ

الْأُمِّ ، وَنَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ ، أَنَّ الطَّلَاقَ وَاقِعٌ ، لِأَنَّهُ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ عَلَى صِفَةٍ مُسْتَحِيلَةٍ ، فَوَقَعَ الطَّلَاقُ وَأُلْغِيَتِ الصِّفَةُ ، كَمَا لَوْ قَالَ لِمَنْ لَا سُنَّةَ فِي طَلَاقِهَا وَلَا بِدْعَةَ أَنْتِ لِلسُّنَّةِ أَوْ لِلْبِدْعَةِ طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ سُنَّةٍ وَلَا بِدْعَةٍ . قَالَ الرَّبِيعُ : وَفِيهَا قَوْلٌ آخَرُ : أَنَّهُ لَا طَلَاقَ عَلَيْهِ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ ، فَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ يَجْعَلُهُ قَوْلًا ثَانِيًا لِلشَّافِعِيِّ تَعْلِيلًا بِأَنَّ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ بِالصِّفَاتِ الْمُسْتَحِيلَةِ لَا يُوجِبُ وُقُوعَهُ وَإِلْغَاءَ الصِّفَةِ ، كَمَا لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ صَعِدْتِ السَّمَاءَ ، أَوْ شَرِبْتِ مَاءَ الْبَحْرِ لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا لِاسْتِحَالَةِ صُعُودِ السَّمَاءِ وَشُرْبِ مَاءِ الْبَحْرِ كَذَلِكَ قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ فِي الشَّهْرِ الْمَاضِي لَا يَجِبُ وُقُوعُهُ فِي الْحَالِ لِاسْتِحَالَةِ وُقُوعِهِ فِي الشَّهْرِ الْمَاضِي . وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهُ مَذْهَبٌ لِلرَّبِيعِ ، وَلَيْسَ بِقَوْلٍ لِلشَّافِعِيِّ ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ أَنَّ اسْتِحَالَةَ صُعُودِ السَّمَاءِ وَشُرْبِ مَاءِ الْبَحْرِ ، لِأَنَّهُ بِخِلَافِ الْعَادَةِ لَا أَنَّهُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْقُدْرَةِ ، فَلِذَلِكَ صَارَ صِفَةً مُعْتَبَرَةً لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِإِلْغَائِهَا ، وَإِيقَاعُ الطَّلَاقِ الْحَادِثِ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي مُسْتَحِيلٌ لِخُرُوجِهِ عَنِ الْقُدْرَةِ ، فَصَارَتِ الصِّفَةُ فِيهِ مُلْغَاةً ، وَالطَّلَاقُ فِيهِ وَاقِعًا ، عَلَى أَنَّ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ وَأَوْقَعَ الطَّلَاقَ ، إِذَا عَلَّقَهُ بِصُعُودِ السَّمَاءِ وَشُرْبِ مَاءِ الْبَحْرِ ، لِاسْتِحَالَتِهِ كَمَا إِذَا عَلَّقَهُ بِالشَّهْرِ الْمَاضِي ، وَالصَّحِيحُ أَلَّا يَقَعَ ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ فَهُوَ مَا تَقَدَّمَ .

فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ لَهَا : إِذَا قَدِمَ زَيْدٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ بِشَهْرٍ ، فَإِنْ قَدِمَ زَيْدٌ بَعْدَ شَهْرٍ ، طُلِّقَتْ قَبْلَ قُدُومِهِ بِشَهْرٍ : لِأَنَّهُ طَلَاقٌ يَقَعُ بَعْدَ عَقْدِهِ ، وَإِنْ قَدِمَ زَيْدٌ قَبْلَ شَهْرٍ فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يُعَجِّلُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَالرَّبِيعِ ، لِأَنَّهُ طَلَاقٌ أَوْقَعَهُ قَبْلَ عَقْدِهِ ، وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ هَاهُنَا ، قَوْلًا وَاحِدًا . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ قَدْ كَانَ وُجُودُ الشَّرْطِ هَاهُنَا مُمْكِنًا لَا يَسْتَحِيلُ ، فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ وَوُجُودُهُ فِيمَا تَقَدَّمَ مُسْتَحِيلٌ ، فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ مَوْتِي بِشَهْرٍ ، فَمَاتَ بَعْدَ شَهْرٍ ، طُلِّقَتْ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ : لِوُجُودِ الشَّرْطِ بَعْدَ الْعَقْدِ ، وَلَوْ مَاتَ قَبْلَ شَهْرٍ لَمْ تُطَلَّقْ : لِتَقَدُّمِ الشَّرْطِ عَلَى الْعَقْدِ . وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَمَاتَتْ ثُمَّ مَاتَ بَعْدَهَا ، فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا ، إِلَّا أَنْ تَمُوتَ بَعْدَ شَهْرٍ ، وَيَكُونُ مَوْتُهَا قَبْلَهُ لِأَقَلَّ مَنْ شَهْرٍ ، لِيَكُونَ الشَّرْطُ مُصَادِفًا لِحَيَاتِهَا ، فَإِنْ مَاتَتْ قَبْلَهُ لِأَكْثَرَ مِنْ شَهْرٍ لَمْ يَصِحَّ الطَّلَاقُ ، لِمُصَادَفَةِ الشَّرْطِ بَعْدَ مَوْتِهَا ، وَالطَّلَاقُ لَا يَقَعُ بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَهَكَذَا لَوْ مَاتَتْ قَبْلَهُ بِشَهْرٍ سَوَاءٌ لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ : لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا مَعَ الْمَوْتِ ، كَمَا لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا بَعْدَ الْمَوْتِ .



فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ فِي الْيَوْمِ الَّذِي يَقْدُمُ فِيهِ زَيْدٌ ، ثُمَّ مَاتَتْ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ قَدِمَ زَيْدٌ فِي آخِرِهِ ، فَفِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْحَدَّادِ فِي " فُرُوعِهِ " ، أَنَّ الطَّلَاقَ وَاقِعٌ عَلَيْهَا : لِأَنَّهُ إِذَا قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ فِي يَوْمِ السَّبْتِ ، طُلِّقَتْ بَعْدَ طُلُوعِ فَجْرِهِ ، فَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ فِي الْيَوْمِ الَّذِي يَقْدَمُ فِيهِ زَيْدٌ ، كَانَ قُدُومُهُ فِي الْيَوْمِ يَقْتَضِي وُقُوعَ الطَّلَاقِ فِيهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ وَاقِعًا مَعَ طُلُوعِ فَجْرِهِ . وَقَدْ كَانَتْ فِي الْحَيَاةِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَقَبْلَ قُدُومِ زَيْدٍ ، فَوَجَبَ أَنْ يَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ ابْنِ سُرَيْجٍ : أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ ، إِذَا تَقَدَّمَ الْمَوْتُ عَلَى الْقُدُومِ ، وَأَنَّ قُدُومَ زَيْدٍ يُوجِبُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ بَعْدَهُ ، حَتَّى لَا يَقَعَ الطَّلَاقُ قَبْلَ وُجُودِ شَرْطِهِ وَخَالَفَ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ بِالْيَوْمِ وَحْدَهُ ، مِنْ غَيْرِ تَعْلِيقِهِ بِشَرْطٍ فِيهِ ، حَيْثُ وَقَعَ بِطُلُوعِ فَجْرِهِ ، لِأَنَّهُ فِي تَعْلِيقِهِ بِالْيَوْمِ مُعَلَّقٌ بِشَرْطٍ وَاحِدٍ ، وَقَدْ وُجِدَ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ فَوَقَعَ الطَّلَاقُ ، وَفِي تَعْلِيقِهِ بِقُدُومِ زَيْدٍ تَعْلِيقٌ لِطَلَاقِهَا بِشَرْطَيْنِ ، فَلَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ إِلَّا بِهِمَا . وَهَكَذَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ : إِذَا قَدِمَ زَيْدٌ ، فَأَنْتَ حُرٌّ ثُمَّ بَاعَهُ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ ، قَدِمَ زَيْدٌ فِي آخِرِهِ ، عُتِقَ عَلَى قَوْلِ ابْنِ الْحَدَّادِ ، وَبَطَلَ الْبَيْعُ ، وَلَمْ يُعْتَقْ عَلَى قَوْلِ سُرَيْجٍ : لِوُجُودِ الشَّرْطِ بَعْدَ صِحَّةِ الْبَيْعِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا قَبْلَ قُدُومِ زَيْدٍ بِشَهْرٍ : ثُمَّ خَلَعَهَا وَقَدِمَ زَيْدٌ فَإِنْ قَدِمَ زَيْدٌ قَبْلَ شَهْرٍ ، لَمْ تُطَلَّقْ بِقُدُومِهِ ، وَصَحَّ الْخُلْعُ ، وَإِنْ قَدِمَ زَيْدٌ بَعْدَ شَهْرٍ ، فَإِنْ كَانَ الْخُلْعُ قَبْلَ قُدُومِ زَيْدٍ بِأَكْثَرَ مِنْ شَهْرٍ صَحَّ الْخُلْعُ ، وَلَمْ تُطَلَّقْ بِقُدُومِ زَيْدٍ : لِأَنَّهَا بَانَتْ بِالْخُلْعِ قَبْلَ قُدُومِ زَيْدٍ بِأَكْثَرَ مِنْ شَهْرٍ . فَإِنْ كَانَ الْخُلْعُ قَبْلَ قُدُومِ زَيْدٍ بِأَقَلَّ مِنْ شَهْرٍ ، وَقَدِمَ زَيْدٌ بَعْدَ عَقْدِ الطَّلَاقِ بِأَكْثَرَ مِنْ شَهْرٍ طُلِّقَتْ بِقُدُومِ زَيْدٍ ، وَبَطَلَ الْخُلْعُ ، لِتَقَدُّمِ الطَّلَاقِ وَتَقَدُّمِ زَيْدٍ عَلَى الْخُلْعِ ، فَصَارَ الْخُلْعُ وَاقِعًا بَعْدَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا بِقُدُومِ زَيْدٍ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَ عَنَيْتُ أَنَّهَا مُطَلَّقَةٌ مِنْ غَيْرِي لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ إِلَّا أَنْ يُعْلَمَ أَنَهَا كَانَتْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مُطَلَّقَةً مِنْ غَيْرِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ فِي نَحْوِ ذَلِكَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا عَائِدٌ إِلَى قَوْلِهِ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ الشَّهْرَ الْمَاضِي ، وَقَالَ : أَرَدْتُ أَنَّهُ طَلَّقَهَا فِيهِ زَوْجٌ كَانَ لَهَا قَبْلِي ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ فِيهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ :

أَحَدُهَا : أَنْ يُعْلَمَ صِدْقُ قَوْلِهِ فِي تَقَدُّمِ الزَّوْجِ وَطَلَاقِهِ فَقَوْلُهُ أَنَّهُ أَرَادَ ذَلِكَ ، مَقْبُولٌ لِاحْتِمَالِهِ ، فَإِنْ صَدَّقَتْهُ الزَّوْجَةُ عَلَى إِرَادَتِهِ فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ وَإِنْ أَكْذَبَتْهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ تَعْلَمَ كَذِبَ قَوْلِهِ وَأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ زَوْجٌ غَيْرُهُ ، فَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ ، وَدَعْوَاهُ مَرْدُودَةٌ لِلْعِلْمِ بِبُطْلَانِهَا . وَالثَّالِثُ : أَنْ لَا يَعْلَمَ حَالَهَا وَيَجُوزُ الْأَمْرَانِ فِيهَا ، فَيَرْجِعُ إِلَى الزَّوْجَةِ ، وَلَهَا حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ تُصَدِّقَهُ عَلَى تَقَدُّمِ زَوْجٍ ، وَأَنَّهُ أَرَادَ بِالطَّلَاقِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ طَلَاقِ الْأَوَّلِ ، فَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ وَلَا يَمِينَ لِتَصْدِيقِهَا لَهُ عَلَى الْأَمْرَيْنِ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ تُكَذِّبَهُ عَلَى تَقَدُّمِ الزَّوْجِ ، وَعَلَى أَنَّهُ طَلَاقُ غَيْرِهِ ، فَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى تَقَدُّمِ زَوْجٍ قَبْلَهُ صَارَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ أَرَادَ طَلَاقَ الْأَوَّلِ ، وَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ عَلَى زَوْجٍ قَبْلَهُ ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الزَّوْجَةِ مَعَ يَمِينِهَا ، أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهَا زَوْجٌ قَبْلَهُ وَالطَّلَاقُ لَازِمٌ لَهُ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ وَإِنْ كَانَ مَدِينًا فِيهِ .

فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ : أَرَدْتُ بِقَوْلِي لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ فِي الشَّهْرِ الْمَاضِي ، أَنَّنِي كُنْتُ طَلَّقْتُهَا فِيهِ وَاحِدَةً ثُمَّ رَاجَعْتُهَا ، فَإِنْ صَدَّقَتْهُ الزَّوْجَةُ عَلَى ذَلِكَ ، فَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ وَلَا يَمِينَ ، وَإِنْ أَكْذَبَتْهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَدَّعِيَ طَلَاقَ زَوْجٍ ، فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ ، وَبَيْنَ أَنْ يَدَّعِيَ طَلَاقًا ارْتَجَعَهَا فِيهِ فَيُقْبَلُ مِنْهُ ، أَنَّهُ بِادِّعَاءِ الرَّجْعَةِ يُوقِعُ الطَّلَاقَ فِي نِكَاحِهِ ، وَبِادِّعَاءِ الزَّوْجِ غَيْرُ مُوقِعٍ لَهُ فِي نِكَاحِهِ .

فَصْلٌ : ثُمَّ يَتَفَرَّعُ عَلَى تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِالشُّهُورِ وَالْأَزْمِنَةِ فُرُوعٌ ، فَمِنْهَا أَنْ يَقُولَ : أَنْتِ طَالِقٌ فِي شَهْرٍ قَبْلَ رَمَضَانَ تُطَلَّقُ فِي شَعْبَانَ : لِأَنَّهُ قَبْلَ رَمَضَانَ ، وَلَوْ قَالَ : فِي شَهْرٍ قَبْلَهُ رَمَضَانُ طُلِّقَتْ فِي شَوَّالٍ ، لِأَنَّهُ قَبْلَهُ رَمَضَانُ ، وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ فِي شَهْرٍ بَعْدَ رَمَضَانَ طُلِّقَتْ فِي شَوَّالٍ ، وَلَوْ قَالَ : فِي شَهْرٍ بَعْدَهُ رَمَضَانُ طُلِّقَتْ فِي شَعْبَانَ : لِأَنَّ دُخُولَ الْهَاءِ عَلَى قَبْلُ وَبَعْدُ مُخَالِفًا لِحَذْفِهَا مِنْهُمَا : تَعْلِيلًا بِمَا يَظْهَرُ فِي النُّفُورِ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا ، فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ فِي شَهْرٍ قَبْلَ مَا قَبْلَ رَمَضَانَ ، طُلِّقَتْ فِي رَجَبٍ : لِأَنَّ مَا قَبْلَ رَمَضَانَ شَعْبَانُ ، وَمَا قَبْلَ شَعْبَانَ رَجَبٌ ، وَلَوْ قَالَ فِي شَهْرٍ قَبْلَ مَا قَبْلَهُ رَمَضَانُ : طُلِّقَتْ فِي رَمَضَانَ لِأَنَّ مَا قَبْلَ رَمَضَانَ شَوَّالٌ ، وَمَا قَبْلَ شَوَّالٍ رَمَضَانُ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ فِي شَهْرٍ بَعْدَ مَا بَعْدَ رَمَضَانَ ، طُلِّقَتْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَلَوْ قَالَ : فِي شَهْرٍ مَا بَعْدَهُ رَمَضَانُ طُلِّقَتْ فِي رَمَضَانَ .

وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ فِي شَهْرٍ قَبْلَ مَا بَعْدَ رَمَضَانَ ، طُلِّقَتْ فِي رَمَضَانَ ، وَلَوْ قَالَ فِي شَهْرٍ قَبْلَ مَا بَعْدَهُ رَمَضَانُ ، طُلِّقَتْ فِي رَجَبٍ ، وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ فِي شَهْرٍ بَعْدَ مَا قَبْلَ رَمَضَانَ طُلِّقَتْ فِي رَمَضَانَ : لِأَنَّهُ قَبْلَ مَا بَعْدَهُ ، وَلَوْ قَالَ : فِي شَهْرٍ بَعْدَ مَا قَبْلَهُ رَمَضَانُ ، طُلِّقَتْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ . وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ فِي شَهْرٍ قَبْلَ مَا قَبْلَ مَا بَعْدَ رَمَضَانَ ، طُلِّقَتْ فِي شَعْبَانَ ، وَلَوْ قَالَ : فِي شَهْرٍ قَبْلَ مَا قَبْلَ مَا بَعْدَهُ رَمَضَانُ ، طُلِّقَتْ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ ، وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ فِي شَهْرٍ بَعْدَ مَا بَعْدَ مَا قَبْلَ رَمَضَانَ ، طُلِّقَتْ فِي شَوَّالٍ ، وَلَوْ قَالَ : فِي شَهْرٍ بَعْدَ مَا بَعْدَ مَا قَبْلَهُ رَمَضَانُ ، طُلِّقَتْ فِي ذِي الْحِجَّةِ ، ثُمَّ عَلَى هَذِهِ الْعِبْرَةِ تَعْلِيلًا بِمَا ذَكَرْنَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ إِذَا طَلَّقْتُكِ فَإِذَا طَلَّقَهَا وَقَعَتْ عَلَيْهَا وَاحِدَةٌ بِابْتِدَائِهِ الطَّلَاقَ وَالْأُخْرَى بِالْحِنْثِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا قَالَ لَهَا : إِذَا طَلَّقْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، أَوْ إِنْ طَلَّقْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، أَوْ مَتَى طَلَّقْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، ثُمَّ قَالَ لَهَا : بَعْدَ ذَلِكَ أَنْتِ طَالِقٌ ، أَوْ قَالَ : أَنْتِ بَائِنٌ ، يُرِيدُ بِهِ الطَّلَاقَ أَوْ قَالَ : قَدْ مَلَّكْتُكِ نَفْسَكِ ، يُرِيدُ بِهِ الطَّلَاقَ ، فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا ، فَإِنَّهَا تُطَلَّقُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا طَلْقَتَيْنِ ، وَاحِدَةٌ بِالْمُبَاشَرَةِ صَرِيحًا كَانَ مَا بَاشَرَهَا بِهِ ، أَوْ كِنَايَةً ، وَالطَّلْقَةُ الثَّانِيَةُ بِالصِّفَةِ : لِأَنَّهُ جَعَلَ طَلَاقَهُ لَهَا صِفَةً ، فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا ، وَقَدْ وُجِدَتِ الصِّفَةُ بِقَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ ، فَوَجَبَ أَنْ يَحْنَثَ بِهَا فِي وُقُوعِ الطَّلْقَةِ الثَّانِيَةِ عَلَيْهَا ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ لَهَا : إِذَا طَلَّقْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ قَالَ لَهَا : إِنْ دَخَلَتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَدَخَلَتِ الدَّارَ ، طُلِّقَتْ طَلْقَتَيْنِ، أَحَدُهُمَا بِدُخُولِ الدَّارِ ، وَالثَّانِيَةُ بِأَنَّهُ قَدْ طَلَّقَهَا ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ الَّذِي أَوْقَعَهُ عَلَيْهَا ، طَلَاقَ مُبَاشَرَةٍ أَوْ طَلَاقًا قَدْ عَلَّقَهُ بِصِفَةٍ : لِأَنَّهُ فِي كِلَا الْحَالَيْنِ قَدْ طَلَّقَهَا فَصَارَ صِفَةً فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ الثَّانِي عَلَيْهَا ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ لَهَا مُبْتَدِئًا : إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، ثُمَّ قَالَ لَهَا : إِنْ طَلَّقْتُكِ ، فَأَنْتِ طَالِقٌ ، ثُمَّ دَخَلَتِ الدَّارَ ، لَمْ تُطَلَّقْ إِلَّا وَاحِدَةً بِدُخُولِ الدَّارِ ، وَلَا تُطَلَّقُ الثَّانِيَةَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا : لِأَنَّهُ جَعَلَ إِحْدَاثَهُ لِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا صِفَةً فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ الثَّانِي عَلَيْهَا ، وَإِذَا طُلِّقِتْ بِمَا تَقَدَّمَ ، لَمْ يَكُنْ مُحْدِثًا لِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا فَلَمْ تُوجَدِ الصِّفَةُ فَلِذَلِكَ لَمْ يَقَعِ الْحِنْثُ . وَلَوْ قَالَ لَهَا : كُلَّمَا طَلَّقْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ ، طُلِّقَتْ طَلْقَتَيْنِ كَالَّذِي ذَكَرْنَا ، إِحْدَاهَا بِالْمُبَاشَرَةِ وَالثَّانِيَةُ بِالصِّفَةِ ، وَلَا يَكُونُ لِقَوْلِهِ كُلَّمَا تَأْثِيرُهَا هُنَا ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ كُلَّمَا أَحْدَثْتُ إِيقَاعَ الطَّلَاقِ عَلَيْكِ ، فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَإِذَا قَالَ لَهَا مِنْ بَعْدُ : أَنْتِ طَالِقٌ ، فَمَا أَحْدَثَ لِلطَّلَاقِ عَلَيْهَا إِلَّا مَرَّةً ، فَلَمْ يَقَعِ الْحِنْثُ بِهِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً .

فَلَوْ قَالَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ كُلِّهَا : أَرَدْتُ بِقَوْلِي إِذَا طَلَّقْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، أَنَّهَا تَكُونُ طَالِقًا بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا ، إِخْبَارًا عَنْهُ ، وَلَمْ أُرِدْ بِهِ عَقْدَ طَلَاقٍ بِصِفَةٍ ، دِينَ فِي الْفُتْيَا ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ فِي الْبَاطِنِ إِلَّا وَاحِدَةٌ ، لِاحْتِمَالِ مَا أَرَادَ ، وَلَزِمَهُ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ طَلْقَتَانِ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الظَّاهِرِ .

فَصْلٌ : ثُمَّ يَتَفَرَّعُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ ، أَنْ يَقُولَ وَلَهُ امْرَأَتَانِ حَفْصَةُ وَعَمْرَةُ : يَا حَفْصَةُ كُلَّمَا طَلَّقْتُ عَمْرَةَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، وَيَا عَمْرَةُ كُلَّمَا طَلَّقْتُ حَفْصَةَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَقَدْ جَعَلَ طَلَاقَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا صِفَةً فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَى الْأُخْرَى ، إِلَّا أَنَّهُ قَدَّمَ عَقْدَ الطَّلَاقِ عَلَى حَفْصَةَ قَبْلَ عَمْرَةَ . فَإِنِ ابْتَدَأَ فَقَالَ لِحَفْصَةَ : أَنْتِ طَالِقٌ ، طُلِّقَتْ حَفْصَةُ وَاحِدَةً مُبَاشَرَةً ، وَطُلِّقَتْ عَمْرَةُ ثَانِيَةً بِالصِّفَةِ وَهِيَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ عَلَى عَمْرَةَ ، فَتُطَلَّقُ حَفْصَةُ طَلْقَتَيْنِ وَتُطَلَّقُ عَمْرَةُ طَلْقَةً وَاحِدَةً ، وَلَوِ ابْتَدَأَ فَقَالَ لِعَمْرَةَ أَنْتِ طَالِقٌ ، طُلِّقَتْ عَمْرَةُ وَاحِدَةً بِالْمُبَاشَرَةِ وَطُلِّقَتْ حَفْصَةُ وَاحِدَةً بِالصِّفَةِ ، وَلَمْ تُطَلَّقْ عَمْرَةُ ثَانِيَةً لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَى حَفْصَةَ ، وَإِنْ طُلِّقَتْ حَفْصَةُ ثَانِيَةً ، بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَى عَمْرَةَ : لِأَنَّهُ مُبْتَدِئٌ بِعَقْدِ الْيَمِينِ عَلَى حَفْصَةَ ، وَمُؤَخِّرٌ عَقْدَ الْيَمِينِ عَلَى عَمْرَةَ ، فَطُلِّقَتْ حَفْصَةُ ثَانِيَةً بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَى عَمْرَةَ ، لِحُدُوثِ عَقْدِ طَلَاقِهَا بَعْدَ يَمِينِهِ عَلَى حَفْصَةَ وَلَمْ تُطَلَّقْ عَمْرَةُ ثَانِيَةً بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَى حَفْصَةَ ، لِتَقَدُّمِ عَقْدِ طَلَاقِهَا قَبْلَ يَمِينِهِ عَلَى عَمْرَةَ .

فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ لَهُ أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ فَقَالَ : كُلَّمَا وَلَدَتْ وَاحِدَةٌ مِنْكُنَّ فَصَوَاحِبُهَا طَوَالِقُ ، فَوَلَدْنَ جَمِيعًا ، فَهَذَا يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ نُبَيِّنُ بِهِ حُكْمَ مَا زَادَ عَلَيْهَا . أَحَدُ الْأَقْسَامِ : أَنْ يَلِدْنَ مَعًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ ، فَتُطَلَّقُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ثَلَاثًا ثَلَاثًا وَيُعْتَدُّ بِالْأَقْرَاءِ ، لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ ثَلَاثَ صَوَاحِبَ ، يَقَعُ عَلَيْهَا بِوِلَادَةِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ طَلْقَةٌ وَلِذَلِكَ طُلِّقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ثَلَاثًا بِوِلَادَةِ صَوَاحِبِهَا الثَّلَاثِ ، وَاعْتَدَدْنَ بِالْأَقْرَاءِ ، لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهِنَّ بَعْدَ الْوِلَادَةِ ، وَأَوَّلُ عِدَدِهِنَّ طُهْرُهُنَّ بَعْدَ انْقِضَاءِ النِّفَاسِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَلِدْنَ جَمِيعًا وَاحِدَةٌ بَعْدَ وَاحِدَةٍ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا يَقَعُ عَلَيْهِنَّ مِنْ عَدَدِ الطَّلَاقِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْحَدَّادِ الْمِصْرِيِّ ، ذَكَرَهُ فِي فُرُوعِهِ ، وَتَابَعَهُ عَلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْأُولَى تُطَلَّقُ ثَلَاثًا ، وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِالْأَقْرَاءِ ، وَالثَّانِيَةَ تُطَلَّقُ وَاحِدَةً وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِالْوِلَادَةِ ، وَالثَّالِثَةَ تُطَلَّقُ طَلْقَتَيْنِ وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِالْوِلَادَةِ وَالرَّابِعَةَ تُطَلَّقُ ثَلَاثًا وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِالْوِلَادَةِ . وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ، لِأَنَّ الْأُولَى إِذَا وَلَدَتْ طُلِّقَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً وَاحِدَةً وَلَمْ تُطَلَّقِ الْأُولَى ، لِأَنَّ وِلَادَةَ كُلِّ وَاحِدَةٍ صِفَةٌ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَى غَيْرِهَا ،

وَلَيْسَ بِصِفَةٍ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا فَإِذَا وَلَدَتِ الثَّانِيَةُ ، بَانَتْ بِوِلَادَتِهَا لِوُقُوعِ الطَّلْقَةِ الْأُولَى عَلَيْهَا ، وَطُلِّقَتْ بِهَا الْأُولَى وَاحِدَةً ، وَطُلِّقَتْ بِهَا الثَّالِثَةُ طَلْقَةً ثَانِيَةً ، وَطُلِّقَتْ بِهَا : فَإِذَا وَلَدَتِ الثَّالِثَةُ طُلِّقَتْ بِهَا الْأُولَى ثَانِيَةً ، وَلَمْ تُطَلَّقْ بِهَا الثَّانِيَةُ لِانْقِضَاءِ عَدَّتِهَا بِالْوِلَادَةِ ، وَطُلِّقَتْ بِهَا الرَّابِعَةُ ثَالِثَةً ، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالْوِلَادَةِ ، بَعْدَ وُقُوعِ طَلْقَتَيْنِ عَلَيْهَا . فَإِذَا وَلَدَتِ الرَّابِعَةُ ، طُلِّقَتْ بِهَا الْأُولَى طَلْقَةً ثَالِثَةً ، وَلَمْ تُطَلَّقْ بِهَا الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ لِانْقِضَاءِ عِدَدِهِمَا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالْوِلَادَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ الْقَاصِّ ، ذَكَرَهُ فِي " تَلْخِيصِهِ " - وَلَمْ يُسَاعِدْهُ عَلَيْهِ مَنْ يُعْتَدُّ بِقَوْلِهِ - أَنَّ الْأُولَى لَا يَقَعُ عَلَيْهَا طَلَاقٌ وَتُطَلَّقُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الثَّلَاثِ تَطْلِيقَةً ، لِأَنَّ الْأُولَى إِذَا وَلَدَتْ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا بِوِلَادَتِهَا طَلَاقٌ ، وَوَقَعَ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الثَّلَاثِ تَطْلِيقَةٌ ، فَإِذَا وَلَدَتِ الثَّانِيَةُ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوِلَادَتِهَا وَلَمْ تُطَلَّقْ بِهَا غَيْرُهَا ، لِأَنَّهَا بِالْبَيْنُونَةِ خَرَجَتْ عَنْ أَنْ تَكُونَ صَاحِبَةً لَهُنَّ ، وَخَرَجْنَ بِبَقَائِهِنَّ فِي الْعِدَّةِ أَنْ يَكُنَّ صَوَاحِبَ لَهَا ، فَلَمْ يُوجَدْ شَرْطُ الطَّلَاقِ مِنْهُنَّ فَلَمْ يُطَلَّقْنَ . وَكَذَلِكَ إِذَا وَلَدَتِ الثَّالِثَةُ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا ، وَلَمْ يُطَلَّقْ بِهَا غَيْرُهَا لِهَذَا الْمَعْنَى وَكَذَلِكَ الرَّابِعَةُ ، وَالْأَصَحُّ عِنْدِي مِنْ إِطْلَاقِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَنْ يُرْجَعَ إِلَى إِرَادَةِ الزَّوْجِ بِقَوْلِهِ كُلَّمَا وَلَدَتْ وَاحِدَةٌ مِنْكُنَّ فَصَوَاحِبُهَا طَوَالِقُ . فَإِنْ أَرَادَ الشَّرْطَ ، فَالْجَوَابُ عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ الْقَاصِّ ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ التَّعْرِيفَ فَالْجَوَابُ عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ الْحَدَّادِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِرَادَةٌ ، أَوْ فَاتَ الرُّجُوعُ إِلَى إِرَادَتِهِ بِالْمَوْتِ ، كَانَ مَحْمُولًا عَلَى التَّعْرِيفِ دُونَ الشَّرْطِ ، لِأَنَّ الشُّرُوطَ عُقُودٌ لَا تَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ وَالْجِوَازِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ تَلِدَ اثْنَتَانِ مِنْهُنَّ فِي حَالٍ مَعًا ، ثُمَّ تَلِدُ بَعْدَهُمَا اثْنَتَانِ فِي حَالٍ مَعًا . فَالْجَوَابُ عَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْحَدَّادِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْأُولَتَيْنِ تُطَلَّقُ ثَلَاثًا ثَلَاثًا وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِالْأَقْرَاءِ ، وَكُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْآخِرَتَيْنِ تُطَلَّقُ تَطْلِيقَتَيْنِ وَتَنْقَضِي عِدَّتُهُمَا بِالْوِلَادَةِ : لِأَنَّ الْأُولَتَيْنِ إِذَا وَلَدَتَا طُلِّقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَطْلِيقَةً ، بِوِلَادَةِ صَاحِبَتِهَا وَلَمْ تُطَلَّقْ بِوِلَادَةِ نَفْسِهَا . وَطُلِّقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْآخِرَتَيْنِ تَطْلِيقَتَيْنِ ، بِوِلَادَةِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْأُولَتَيْنِ ، فَإِذَا وَلَدَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْآخِرَتَيْنِ ، لَمْ تُطَلَّقْ وَاحِدَةٌ بِوِلَادَةِ صَاحِبَتِهَا ، لِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بِوِلَادَتِهِمَا وَطُلِّقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْأُولَتَيْنِ طَلْقَتَيْنِ بِوِلَادَةِ الْآخِرَتَيْنِ ، فَاسْتُكْمِلَ طَلَاقُ الْأُولَتَيْنِ ثَلَاثًا وَوَقَعَ عَلَى الْآخِرَتَيْنِ تَطْلِيقَتَانِ .

وَالْجَوَابُ عَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ : أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْأُولَتَيْنِ تُطَلَّقُ وَاحِدَةً وَاحِدَةً بِوِلَادَةِ صَاحِبَتِهَا . وَكُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْآخِرَتَيْنِ تُطَلَّقُ تَطْلِيقَتَيْنِ بِوِلَادَةِ الْأُولَتَيْنِ . وَلَا تُطَلَّقُ الْأُولَتَانِ بِوِلَادَةِ الْآخِرَتَيْنِ : لِأَنَّهُمَا قَدْ خَرَجَتَا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِالْوِلَادَةِ ، مِنْ أَنْ تَكُونَا صَاحِبَتَيْنِ لِلْأُولَتَيْنِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَوْ كَانَ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ كُلَّمَا وَقَعَ عَلَيْكِ طَلَاقِي وَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً طُلِّقَتْ ثَلَاثًا وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا طُلِّقَتْ بِالْأُولَى وَحْدَهَا قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَكَذَلِكَ لَوْ خَالَعَهَا بِطَلْقَةٍ مَدْخُولًا بِهَا قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَلْطَفَ الشَّافِعِيُّ فِي وَقْتِ إِيقَاعِ الطَّلَاقِ فَلَمْ يُوقِعْ إِلَّا وَاحِدَةً " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا قَالَ لَهَا : كُلَّمَا وَقَعَ عَلَيْكِ طَلَاقِي ، فَأَنْتِ طَالِقٌ فَلَهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ مَدْخُولًا بِهَا . وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ غَيْرَ مَدْخُولَةٍ بِهَا . وَالثَّالِثُ أَنْ تَكُونَ مُخْتَلِعَةً . فَإِنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا فَمَتَى طَلَّقَهَا وَاحِدَةً طُلِّقَتْ ثَلَاثًا ، وَاحِدَةً بِمُبَاشَرَتِهِ ، وَالثَّانِيَةَ بِالصِّفَةِ وَهُوَ وُقُوعُ الْأُولَى عَلَيْهَا وَالثَّالِثَةَ بِالثَّانِيَةِ ، لِأَنَّهَا قَدْ وَقَعَتْ عَلَيْهَا فَصَارَتْ صِفَةً فِي وُقُوعِ الثَّالِثَةِ ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ لَهَا بَعْدَ عَقْدِ هَذَا الطَّلَاقِ أَوْ قَبْلَهُ ، إِنْ دَخَلَتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَدَخَلَتِ الدَّارَ ، طُلِّقَتْ ثَلَاثًا ، وَاحِدَةً بِدُخُولِ الدَّارِ ، وَثَانِيَةً بِوُقُوعِ الْأُولَى ، وَثَالِثَةً بِوُقُوعِ الثَّانِيَةِ وَكَانَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُخَالِفَةً لِمَسْطُورِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ إِذَا قَالَ لَهَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ : إِذَا طَلَّقْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، ثُمَّ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً ، طُلِّقَتْ ثِنْتَيْنِ لَا غَيْرَ . وَإِذَا قَالَ لَهَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : كُلَّمَا وَقَعَ عَلَيْكِ طَلَاقِي فَأَنْتِ طَالِقٌ ، ثُمَّ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً طُلِّقَتْ ثَلَاثًا . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الشَّرْطَ فِي الْأُولَى ، فِعْلُ الطَّلَاقِ ، وَفِي الثَّانِيَةِ وُقُوعُ الطَّلَاقِ وَفِعْلُ الطَّلَاقِ لَمْ يَتَكَرَّرْ ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَتَكَرَّرْ وُقُوعُ الطَّلَاقِ بِهِ . وَوُقُوعُ الطَّلَاقِ قَدْ تَكَرَّرَ ، فَلِذَلِكَ تَكَرَّرَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ ، وَلَوْلَا أَنَّ عَدَدَ الطَّلَاقِ مَقْصُورٌ عَلَى الثَّلَاثِ لَتَنَاهَى وُقُوعُهُ إِلَى مَا لَا غَايَةَ لَهُ ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ : كُلَّمَا أَوْقَعْتُ عَلَيْكِ طَلَاقِي فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً طُلِّقَتْ ثَانِيَةً لَا غَيْرَ ، كَقَوْلِهِ كُلَّمَا طَلَّقْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، لِأَنَّهُ قَدْ أَضَافَ الْوُقُوعَ إِلَى نَفْسِهِ فَصَارَ الطَّلَاقُ مُعَلَّقًا بِفِعْلِهِ .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى إِذَا قَالَ : إِنْ دَخَلَتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، ثُمَّ قَالَ : إِنْ طَلَّقْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَدَخَلَتِ الدَّارَ لَمْ تُطَلَّقْ إِلَّا وَاحِدَةً بِدُخُولِهَا . وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، إِنْ قَالَ لَهَا : إِنْ دَخَلَتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، ثُمَّ قَالَ لَهَا : إِنْ وَقَعَ عَلَيْكِ طَلَاقِي ، فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَدَخَلَتِ الدَّارَ ، طُلِّقَتْ ثِنْتَيْنِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ فِي الْأُولَى جَعَلَ الشَّرْطَ إِحْدَاثَ الطَّلَاقِ فَإِذَا طُلِّقَتْ بِمَا تَقَدَّمَ لَمْ يَكُنْ مُحْدِثًا لَهُ فَلَمْ تُطَلَّقْ وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ جَعَلَ وُقُوعَ الطَّلَاقِ وَهُوَ وَاقِعٌ مِنْ بَعْدُ وَإِنْ كَانَ بِعَقْدٍ مُتَقَدِّمٍ ، فَلِذَلِكَ طُلِّقَتْ . وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَجْمَعُ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَصَحُّ ، وَلَوْ قَالَ : إِذَا وَقَعَ عَلَيْكِ طَلَاقِي فَأَنْتِ طَالِقٌ ، وَلَمْ يَقُلْ كُلَّمَا ، ثُمَّ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً طُلِّقَتْ ثِنْتَيْنِ : لِأَنَّ إِذَا لَا تُوجِبُ التَّكْرَارَ ، وَكُلَّمَا تُوجِبُ التَّكْرَارَ .

فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا لَمْ تُطَلَّقْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِلَّا وَاحِدَةً وَهِيَ الْمُبَاشِرَةُ : لِأَنَّهَا قَدْ بَانَتْ بِهَا ، فَلَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا بِالصِّفَةِ ، بَعْدَ أَنْ بَانَتْ طَلَاقٌ . وَلَكِنْ لَوْ قَالَ لَهَا وَهِيَ غَيْرُ مَدْخُولٍ بِهَا : إِنْ وَطِئْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، ثُمَّ قَالَ : كُلَّمَا وَقَعَ عَلَيْكِ طَلَاقِي فَأَنْتِ طَالِقٌ ، وَقَدَّمَ هَذَا الْقَوْلَ عَلَى تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِالْوَطْءِ ، فَكِلَاهُمَا فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ ، فَإِذَا وَطِئَهَا بِأَنْ غَيَّبَ الْحَشَفَةَ فِي الْفَرْجِ ، طُلِّقَتْ ثَلَاثًا ، وَاحِدَةً بِالْوَطْءِ ، وَثَانِيَةً بِالْأُولَى : لِأَنَّهَا بِالْوَطْءِ قَدْ صَارَتْ مَدْخُولًا بِهَا ، تَجِبُ الْعِدَّةُ عَلَيْهَا ، وَثَالِثَةً بِالثَّانِيَةِ . وَأَمَّا وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَيْهِ بِوَطْئِهِ مَعَ وُقُوعِ الثَّالِثَةِ عَلَيْهِ ، فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ حِينَ أَوْلَجَ نَزَعَ وَلَمْ يُعَاوِدْ ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ قَدْ نَزَعَ ثُمَّ عَادَ ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَسْتَدِيمَهُ بَعْدَ الْإِيلَاجِ ، مِنْ غَيْرِ نَزْعٍ ، فَفِي وُجُوبِ الْحَدِّ وَجْهَانِ .

فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَتْ مُخْتَلِعَةً ، حِينَ قَالَ لَهَا : كُلَّمَا أَوْقَعْتُ عَلَيْكِ طَلَاقِي ، فَأَنْتِ طَالِقٌ ، ثُمَّ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً ، لَمْ تُطَلَّقْ بِالْمُبَاشَرَةِ وَلَا بِالصِّفَةِ : لِأَنَّ الْمُخْتَلِعَةَ لَا يَلْحَقُهَا طَلَاقٌ . وَلَوْ كَانَتْ غَيْرَ مُخْتَلِعَةٍ ، فَقَالَ لَهَا : كُلَّمَا وَقَعَ عَلَيْكِ طَلَاقِي فَأَنْتِ طَالِقٌ ، ثُمَّ خَالَعَهَا بِطَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ ، طُلِّقَتْ بِهَا ، وَلَمْ تُطَلَّقْ غَيْرَهَا بِوُقُوعِهَا : لِأَنَّهَا قَدْ بَانَتْ بِالْخُلْعِ ، كَمَا بَانَتْ بِالثَّلَاثِ .



فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ لَهَا : كُلَّمَا طَلَّقْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، ثُمَّ وَكَّلَ فِي طَلَاقِهَا فَطَلَّقَهَا الْوَكِيلُ وَاحِدَةً ، لَمْ تُطَلَّقْ غَيْرَهَا : لِأَنَّ طَلَاقَ الْوَكِيلِ لَيْسَ هُوَ فِعْلَ الزَّوْجِ وَإِنْ لَزِمَهُ حُكْمُهُ . وَلَوْ كَانَ قَالَ لَهَا : كُلَّمَا وَقَعَ عَلَيْكِ طَلَاقِي ، فَأَنْتِ طَالِقٌ ، ثُمَّ طَلَّقَهَا وَكِيلُهُ وَاحِدَةً ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا تُطَلَّقُ غَيْرَهَا ، كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا : كُلَّمَا طَلَّقْتُكِ : لِأَنَّ فِعْلَ الْوَكِيلِ لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا تُطَلَّقُ ثَلَاثًا - كَمَا لَوْ كَانَ هُوَ الْمُطَلِّقَ لَهَا - وَاحِدَةً بِمُبَاشَرَةِ الْوَكِيلِ وَثَانِيَةً بِالْأُولَى ، وَثَالِثَةً بِالثَّانِيَةِ ، لِأَنَّ طَلَاقَ الْوَكِيلِ وَاقِعٌ مِنْ جِهَةِ الْمُوَكِّلِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِهِ .

فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ وَلَهُ أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ وَعَبِيدٌ : كُلَّمَا طَلَّقْتُ وَاحِدَةً مِنْكُنَّ فَوَاحِدٌ مِنْ عَبِيدِي حُرٌّ ، وَكُلَّمَا طَلَّقْتُ اثْنَتَيْنِ فَعَبْدَانِ حُرَّانِ ، وَكُلَّمَا طَلَّقْتُ ثَلَاثًا فَثَلَاثَةُ أَعْبُدٍ أَحْرَارٌ ، وَكُلَّمَا طَلَّقْتُ أَرْبَعًا فَأَرْبَعَةُ أَعْبُدٍ أَحْرَارٌ ، فَطَلَاقُ الْأَرْبَعِ كُلِّهِنَّ عَتَقَ عَلَيْهِ خَمْسَةَ عَشْرَةَ عَبْدًا ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ عَلَّقَ الْعِتْقَ بِالْآحَادِ وَبِالِاثْنَيْنِ وَبِالثَّلَاثِ وَبِالْأَرْبَعِ وَفِي الْأَرْبَعِ أَرْبَعَةُ آحَادٍ فَعَتَقَ بِهِنَّ أَرْبَعَةُ عَبِيدٍ ، وَفِيهِنَّ اثْنَانِ وَاثْنَانِ ، فَعَتَقَ بِهِنَّ أَرْبَعَةُ عَبِيدٍ ، وَفِيهِنَّ ثَلَاثٌ وَاحِدَةٌ ، فَعَتَقَ ثَلَاثَةُ عَبِيدٍ وَفِيهِنَّ أَرْبَعٌ وَاحِدَةٌ ، فَعَتَقَ أَرْبَعَةُ عَبِيدٍ ، فَصَارَ ذَلِكَ خَمْسَةَ عَشَرَ عَبْدًا ، أَرْبَعَةٌ وَأَرْبَعَةٌ وَثَلَاثَةٌ وَأَرْبَعَةٌ ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَعْرِفَ ذَلِكَ بِطَلَاقِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ، فَإِنَّ طَلَاقَ الْأُولَى ، يَعْتِقُ بِهِ عَبْدٌ وَاحِدٌ ، وَطَلَاقَ الثَّانِيَةِ يَعْتِقُ بِهِ ثَلَاثَةُ عَبِيدٍ : لِأَنَّهُ قَدْ جُمِعَ فِيهَا صِفَتَانِ أَنَّهَا وَاحِدَةٌ وَأَنَّهَا ثَانِيَةٌ ، وَطَلَاقَ الثَّالِثَةِ يَعْتِقُ بِهِ أَرْبَعَةُ عَبِيدٍ ، لِأَنَّهُ قَدِ اجْتَمَعَ فِيهَا صِفَتَانِ ، أَنَّهَا وَاحِدَةٌ ، وَإِنَّهَا ثَالِثَةٌ ، وَطَلَاقَ الرَّابِعَةِ يَعْتِقُ بِهِ سَبْعَةُ عَبِيدٍ ، لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهَا ثَلَاثُ صِفَاتٍ أَنَّهَا وَاحِدَةٌ ، وَأَنَّهَا ثَانِيَةٌ وَأَنَّهَا رَابِعَةٌ هَذَا هُوَ أَصَحُّ مَا قِيلَ فِيهَا . وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ أَعْتَقَ بِهِنَّ سَبْعَةَ عَشَرَ عَبْدًا ، وَزَادَ عَبْدَيْنِ بِالثَّالِثَةِ ، وَجَعَلَ فِيهَا ثَلَاثَ صِفَاتٍ : صِفَةَ الْوَاحِدَةِ وَصِفَةَ الِاثْنَتَيْنِ وَالثَّالِثَةِ وَصِفَةَ الثَّلَاثِ . وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ أَعْتَقَ بِهِنَّ عِشْرِينَ عَبْدًا ، وَبِهِ قَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَجَعَلُوا فِي الرَّابِعَةِ أَرْبَعَ صِفَاتٍ ، صِفَةَ الْوَاحِدَةِ ، وَصِفَةَ الِاثْنَتَيْنِ وَصِفَةَ الثَّلَاثِ ، لِأَنَّ الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ وَالرَّابِعَةَ ثَلَاثٌ ، وَصِفَةَ الرَّابِعَةِ ، فَأَعْتَقَ بِالْأُولَى عَبْدًا ، وَبِالثَّانِيَةِ ثَلَاثَةً ، وَبِالثَّالِثَةِ ، سِتَّةً ، وَبِالرَّابِعَةِ عَشَرَةً وَكِلَا الْمَذْهَبَيْنِ خَطَأٌ ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَصَحُّ : لِأَنَّ الِاثْنَتَيْنِ وَالثَّلَاثَ إِنَّمَا يَتَكَرَّرُ بَعْدَ كَمَالِ عَدَدِهَا الْأَوَّلِ . أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ : كُلَّمَا أَكَلْتُ نِصْفَ رُمَّانَةٍ ، فَعَبْدٌ مِنْ عَبِيدِي حُرٌّ فَأَكَلَ رُمَّانَةً ، عَتَقَ

عَلَيْهِ عَبْدَانِ ، لِأَنَّ الرُّمَّانَةَ لَهَا نِصْفَانِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : يَعْتِقُ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَعْبُدٍ ، عَبْدٌ بِالنِّصْفِ الْأَوَّلِ وَعَبْدٌ ثَالِثٌ إِذَا أَكَلَ الرُّبْعَ الثَّالِثَ : لِأَنَّهُ يَكُونُ مَعَ الرُّبْعِ الثَّانِي نِصْفًا ، وَعَبْدٌ ثَالِثٌ إِذَا أَكَلَ الْبَاقِيَ ، لِأَنَّهُ مَعَ الرُّبْعِ الثَّالِثِ يَكُونُ نِصْفًا ، فَيَعْتِقُ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَعْبُدٍ ، وَيَكُونُ هَذَا فَاسِدًا : لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ نِصْفٌ ثَانٍ إِلَّا بَعْدَ كَمَالِ النِّصْفِ الْأَوَّلِ ، فَلَا يَكُونُ فِي الْوَاحِدِ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفَيْنِ ، كَذَلِكَ الْأَرْبَعَةُ لَا يَكُونُ فِيهَا أَكْثَرَ مِنَ اثْنَيْنِ وَاثْنَيْنِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَدَاخَلَ ذَلِكَ فِي بَعْضٍ ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَدَاخَلَ فِي الرُّمَّانَةِ أَحَدُ النِّصْفَيْنِ فِي الْآخَرِ ، وَبِهَذَا التَّعْلِيلِ مَا وَهِمَ فِيهِ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْقَطَّانِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَلَمْ يَعْتِقْ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، إِلَّا عَشَرَةُ أَعْبُدٍ ، وَاحِدٍ وَاثْنَيْنِ وَثَلَاثَةٍ وَأَرْبَعَةٍ ، وَهَذَا وَهْمٌ فَاسِدٌ : لِأَنَّ الْعَدَدَ لَا يَتَدَاخَلُ فِي مِثْلِهِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَدَاخَلَ فِي غَيْرِهِ ، وَالْآحَادُ مَوْجُودَةٌ فِي الْأَرْبَعَةِ فَتَضَاعَفَتْ ، وَالِاثْنَانِ تَتَضَاعَفُ فِي الْأَرْبَعَةِ ، وَلَا تُضَاعَفُ الِاثْنَتَانِ مِنَ اثْنَيْنِ ، وَلَا الثَّلَاثَةُ مِنْ ثَلَاثَةٍ ، فَفَسَدَ مَا قَالَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ فِي اقْتِصَارِهِ عَلَى عِتْقِ عَشَرَةٍ ، كَمَا فَسَدَ مَا قَالَهُ غَيْرُهُ فِي عِتْقِهِ سَبْعَةَ عَشْرَةَ وَفِي عِتْقِهِ عِشْرِينَ ، وَكَانَ الصَّحِيحُ عِتْقَ خَمْسَةَ عَشْرَةَ عَبْدًا مِنَ الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي التَّعْلِيلِ . مَسَأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إِذَا لَمْ أُطَلِّقْكِ أَوْ مَتَى مَا لَمْ أُطَلِّقْكِ فَسَكَتَ مُدَّةً يُمْكِنُهُ فِيهَا الطَّلَاقُ طُلِّقَتْ وَلَوْ كَانَ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ لَمْ أُطَلِّقْكِ لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى نَعْلَمَ أَنَّهُ لَا يُطَلِّقُهَا بِمَوْتِهِ قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَرَّقَ الشَّافِعِيُّ بَيْنَ إِذَا وَإِنْ فَأَلْزَمَ فِي إِذَا لَمْ نَفْعَلْهُ مِنْ سَاعَتِهِ وَلَمْ يُلْزِمْهُ فِي إِنْ إِلَّا بِمَوْتِهِ أَوْ بِمَوْتِهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الْأَلْفَاظَ الْمُسْتَعْمَلَةَ فِي شُرُوطِ الطَّلَاقِ سَبْعَةٌ . إِنْ وَإِذَا وَمَتَى وَمَا وَأَيُّ وَقْتٍ وَأَيُّ زَمَانٍ وَأَيُّ حِينٍ ، وَلَهَا إِذَا اسْتُعْمِلَتْ فِي شُرُوطِ الطَّلَاقِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَتَجَرَّدَ عَنْ عِوَضٍ ، وَأَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَيْهَا " لَمْ " الْمَوْضُوعَةُ لِلنَّفْيِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ لَا يَقْتَرِنَ بِهَا الْعِوَضُ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ تَدْخُلَ عَلَيْهَا " لَمْ " الْمَوْضُوعَةُ لِلنَّفْيِ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ أَنْ تَتَجَرَّدَ الْأَلْفَاظُ السَّبْعَةُ عَنِ الْعِوَضِ ، وَلَا تَدْخُلَ عَلَيْهَا لَمْ ، فَلَا تَكُونَ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ السَّبْعَةُ مُسْتَعْمَلَةً إِلَّا فِي تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِوُجُودِ الشَّرْطِ ، فَيُعْتَبَرُ بِوُجُودِ ذَلِكَ الشَّرْطِ أَبَدًا مَا لَمْ يَفُتْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُرَاعَى فِيهِ الْفَوْرُ ، وَيَكُونُ عَلَى التَّرَاخِي ، فَإِذَا وُجِدَ الشَّرْطُ وَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ ، إِذَا كَانَ قَبْلَ مَوْتِ أَحَدِهِمَا بِطَرْفَةِ عَيْنٍ . فَإِذَا قَالَ : إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، وَإِذَا دَخَلْتِ الدَّارَ أَوْ مَتَى مَا دَخَلْتِ ، أَوْ أَيُّ وَقْتٍ دَخَلْتِ الدَّارَ ، أَوْ أَيُّ زَمَانٍ دَخَلْتِ الدَّارَ ، أَوْ أَيُّ حِينٍ دَخَلْتِ الدَّارَ ، فَأَنْتِ

طَالِقٌ كَانَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ السَّبْعَةُ كُلُّهَا عَلَى التَّرَاخِي لِتَعَلُّقِهَا بِوُجُودِ شَرْطٍ ، لَا يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ دُونَ غَيْرِهِ فَمَتَى وُجِدَ الشَّرْطُ قَرِيبًا أَوْ بَعِيدًا تَعَلَّقَ بِهِ الْحُكْمُ ، وَوَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ إِذَا كَانَ قَبْلَ الْمَوْتِ ، فَلَوْ لَمْ تَدْخُلِ الدَّارَ حَتَّى مَاتَ الزَّوْجُ ، ثُمَّ دَخَلَتْ لَمْ تُطَلَّقْ ، وَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ مَوْجُودًا : لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ بَعْدَ مَوْتِ الزَّوْجِ ، فَصَارَ الشَّرْعُ رَافِعًا لِحُكْمِ الشَّرْطِ بِالْمَوْتِ ، فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ قُلْتُمْ فِي كِتَابِ الْخُلْعِ إِذَا قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شِئْتِ أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ ، وَأَنْتِ طَالِقٌ إِذَا شِئْتِ ، أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي وَسَوَّيْتُمْ هَاهُنَا بَيْنَ قَوْلِهِ ، أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ ، وَأَنْتِ طَالِقٌ إِذَا دَخَلْتِ الدَّارَ ، أَنَّهُمَا عَلَى التَّرَاخِي ، قِيلَ : قَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْخُلْعِ الْفَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ : " أَنْتِ طَالِقٌ إِذَا شِئْتِ أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي " ، " وَأَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شِئْتِ أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ " . فَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ ، فَيَكُونُ عَلَى التَّرَاخِي ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شِئْتِ ، فَيَكُونُ عَلَى الْفَوْرِ ، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِمَشِيئَتِهَا ، فَهُوَ تَخْيِيرٌ وَمِنْ حُكْمِ التَّخْيِيرِ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْفَوْرِ ، وَإِذَا عَلَّقَهُ بِدُخُولِ الدَّارِ ، فَهُوَ صِفَةٌ مَشْرُوطَةٌ ، يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِهَا مَتَى وُجِدَتْ ، فَلِذَلِكَ صَارَ عَلَى التَّرَاخِي .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهَا الْعِوَضُ ، فَيَنْقَسِمُ حُكْمُ الْأَلْفَاظِ السَّبْعَةِ بِدُخُولِ الْعِوَضِ عَلَيْهَا قِسْمَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا يَكُونُ مَعَ اقْتِرَانِ الْعِوَضِ بِهِ عَلَى التَّرَاخِي أَيْضًا ، وَهُوَ خَمْسَةُ أَلْفَاظٍ مَتَى ، وَمَتَى مَا ، وَأَيُّ وَقْتٍ ، وَأَيُّ زَمَانٍ ، وَأَيُّ حِينٍ ، فَإِذَا قَالَ : مَتَى أَعْطَيْتِنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ ، فَأَنْتِ طَالِقٌ ، أَوْ مَتَى مَا أَعْطَيْتِنِي ، أَوْ أَيُّ وَقْتٍ أَعْطَيْتِنِي ، أَوْ أَيُّ زَمَانٍ أَعْطَيْتِنِي أَوْ أَيُّ حِينٍ أَعْطَيْتِنِي ، كَانَ الْحُكْمُ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْخَمْسَةِ كُلِّهَا عَلَى التَّرَاخِي ، فَفِي أَيِّ وَقْتٍ أَعْطَتْهُ الْأَلْفَ مِنْ عَاجِلٍ أَوْ آجِلٍ طُلِّقَتْ . وَالثَّانِي : مَا يَصِيرُ بَاقِي الْعِوَضِ بِهِ عَلَى الْفَوْرِ ، وَهُوَ لَفْظَتَانِ إِنْ وَإِذَا ، فَإِذَا قَالَ : إِنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ ، أَوْ إِذَا أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا ، فَأَنْتِ طَالِقٌ ، رُوعِيَ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ ، بِدَفْعِهَا أَنْ يَكُونَ عَلَى الْفَوْرِ ، فِي الزَّمَانِ الَّذِي يَصِحُّ فِيهِ الْفَوْرُ ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ إِذَا وَإِنْ مِنْ حُرُوفِ الصِّفَاتِ ، فَإِذَا اقْتَرَنَ بِهَا الْعِوَضُ صَارَ الْحُكْمُ لَهُ ، وَصَارَا مِنْ صِفَاتِهِ ، وَمَنْ حُكْمِ الْمُعَاوَضَاتِ أَنْ يَكُونَ قَبُولُهَا عَلَى الْفَوْرِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْخَمْسَةِ : لِأَنَّهَا أَسْمَاءٌ صَرِيحَةٌ فِي الْوَقْتِ ، فَصَارَ حُكْمُهَا لِقُوَّتِهِ أَغْلَبَ مِنْ حُكْمِ الْعِوَضِ ، فَصَارَتْ عَلَى التَّرَاخِي ، لِتَسَاوِي الْأَوْقَاتِ فِيهَا ، وَصَارَ كَالْقِيَاسِ الَّذِي إِنْ قَوِيَ عَلَى تَخْصِيصِ الْعُمُومِ ، وَبَيَانِ الْمُجْمَلِ ضَعُفَ مِنْ مُقَابَلَةِ النَّصِّ وَتَغْيِيرِ حُكْمِهِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ يُدْخِلَ عَلَى الْأَلْفَاظِ السَّبْعَةِ ، لَمِ الْمَوْضُوعَةَ لِلنَّفْيِ ، الألفاظ المستعملة في تعليق الطلاق فَتَنْقَسِمَ أَيْضًا قِسْمَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : وَهُوَ خَمْسَةُ أَلْفَاظٍ تَصِيرُ بِدُخُولِ لَمْ عَلَيْهَا ، مُوجِبَةً لِلْفَوْرِ ، وَإِنْ كَانَتْ قَبْلَ دُخُولِهَا مُوجِبَةً لِلتَّرَاخِي ، وَهِيَ مَتَى ، وَمَتَى مَا ، وَأَيُّ وَقْتٍ ، وَأَيُّ زَمَانٍ ، وَأَيُّ حِينٍ ، فَإِذَا قَالَ : مَتَى لَمْ تَدْخُلِي الدَّارَ ، فَأَنْتِ طَالِقٌ أَوْ مَتَى مَا لَمْ تَدْخُلِي الدَّارَ ، أَوْ أَيُّ وَقْتٍ لَمْ تَدْخُلِي ، أَوْ أَيُّ زَمَانٍ لَمْ تَدْخُلِي أَوْ أَيُّ حِينٍ لَمْ تَدْخُلِي الدَّارَ ، فَأَنْتِ طَالِقٌ فَإِنَّهَا تَكُونُ عَلَى الْفَوْرِ فَمَتَى مَرَّ عَلَيْهَا بَعْدَ هَذَا الْقَوْلِ زَمَانٌ يُمْكِنُ دُخُولُ الدَّارِ فِيهِ فَلَمْ تَدْخُلْ طُلِّقَتْ ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ حُكْمُهَا بِدُخُولِ لَمْ عَلَيْهَا : لِأَنَّ إِذَا تَجَرَّدَتْ عَنْ لَمْ ، فَالطَّلَاقُ مَشْرُوطٌ بِوُجُودِ الصِّفَةِ . فَفِي أَيِّ زَمَانٍ وُجِدَتْ وَقَعَ بِهَا الطَّلَاقُ ، فَصَارَتْ عَلَى التَّرَاخِي ، وَإِذَا أُدْخِلَ عَلَيْهَا لَمِ الْمَوْضُوعَةُ لِلنَّفْيِ ، صَارَ الطَّلَاقُ مَشْرُوطًا بِعَدَمِ الصِّفَةِ ، وَهِيَ مَعْدُومَةٌ فِي أَوَّلِ زَمَانِ الْمُكْنَةِ ، فَلِذَلِكَ صَارَتْ عَلَى الْفَوْرِ وَوَقَعَ الطَّلَاقُ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُمَا لِلَفْظَتَانِ : إِنْ وَإِذَا ، إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِمَا لَمِ الْمَوْضُوعَةُ لِلنَّفْيِ ، فَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ ، وَنَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ هَاهُنَا ، أَنَّهُ إِذَا قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ إِذَا لَمْ أُطَلِّقْكِ ، أَوْ مَتَى مَا لَمْ أُطَلِّقْكِ فَسَكَتَ مُدَّةً يُمْكِنُهُ فِيهَا الطَّلَاقُ ، طُلِّقَتْ فَحَصَلَ ذَلِكَ عَلَى الْفَوْرِ ، وَلَوْ كَانَ قَالَ : إِنْ لَمْ أُطَلِّقْكِ لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ لَا يُطَلِّقُهَا بِمَوْتِهِ ، أَوْ مَوْتِهَا فَجَعَلَ ذَلِكَ عَلَى التَّرَاخِي ، وَفَرَّقَ بَيْنَ إِذَا وَإِنْ ، فَلَا وَجْهَ لِتَسْوِيَةِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ بَيْنَهُمَا ، لِمُخَالَفَةِ النَّصِّ وَظُهُورِ الْفَرْقِ . وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ : سَوَّى بَيْنَ إِذَا وَإِنْ ، فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فِي أَنَّهَا عَلَى التَّرَاخِي ، لَا يَقَعُ طَلَاقُ الْحِنْثِ إِلَّا أَنْ يَفُوتَ طَلَاقُ الْمُبَاشَرَةِ بِالْمَوْتِ فَجَعَلَ حُكْمَ إِذَا عِنْدَهُ كَحُكْمِ إِنْ عِنْدَنَا . وَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ أَنَّ إِذَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى الْفَوْرِ وَإِنْ عَلَى التَّرَاخِي . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : وَهُوَ فَرْقُ أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ إِذَا مَوْضِعٌ لِلْيَقِينِ وَالتَّحْقِيقِ وَإِنْ مَوْضِعٌ لِلشَّكِّ وَالتَّوَهُّمِ لِأَنَّهُ يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ : إِذَا جَاءَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ جِئْتُكَ ، وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ : إِنْ جَاءَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ جِئْتُكَ : لِأَنَّ مَجِيءَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ يَقِينٌ وَلَيْسَ بِمَشْكُوكٍ فِيهِ ، وَيَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ إِنْ جَاءَ الْمَطَرُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ أَقَمْتُ ، وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ : إِذَا جَاءَ الْمَطَرُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ أَقَمْتُ : لِأَنَّ مَجِيءَ الْمَطَرِ فِيهِ شَكٌّ وَتَوَهُّمٌ لَيْسَ بِيَقِينٍ ، وَلِذَلِكَ قَالَ : إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ [ التَّكْوِيرِ : ] لِأَنَّ تَكْوِيرَهَا يَقِينٌ ، فَلَمَّا كَانَ إِذَا مُسْتَعْمَلًا فِي الْيَقِينِ وَالتَّحْقِيقِ ، فَإِذَا مَضَى زَمَانُ الْمُكْنَةِ ، اسْتَقَرَّ حُكْمُهُ ، فَصَارَ عَلَى الْفَوْرِ ، وَلَمَّا كَانَ إِنْ مُسْتَعْمَلًا فِي الشَّكِّ وَالتَّوَهُّمِ ، لَمْ يَسْتَقِرَّ حُكْمُهُ إِلَّا بِالْفَوَاتِ ، فَصَارَ عَلَى التَّرَاخِي .

وَالْفَرْقُ الثَّانِي : وَهُوَ فَرْقُ أَبِي الْقَاسِمِ الدَّارَكِيِّ : أَنَّ إِذَا مُسْتَعْمَلٌ فِي الْأَوْقَاتِ ، وَإِنْ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْأَفْعَالِ أَلَا تَرَى لَوْ قَالَ رَجُلٌ : مَتَى تَأْتِنِي ، يَحْسُنُ فِي جَوَابِهِ ، أَنْ تَقُولَ إِذَا شِئْتَ ، وَمَتَى شِئْتَ وَلَمْ يَحْسُنْ فِي الْجَوَابِ أَنْ تَقُولَ : إِنْ شِئْتَ ، فَإِذَا قَالَ : إِنْ لَمْ أُطَلِّقْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، كَانَ عَلَى الْفَوْرِ : لِأَنَّ وَقْتَ الْمُكْنَةِ قَدْ مَضَى . وَالْفَرْقُ الثَّالِثُ وَهُوَ فَرْقُ أَبِي الْحَسَنِ الْفَرَضِيِّ ، أَنَّ إِذَا اسْمٌ فَكَانَ أَقْوَى عَمَلًا ، فَلِذَلِكَ كَانَ عَلَى الْفَوْرِ ، وَإِنْ حَرْفٌ فَكَانَ أَضْعَفَ عَمَلًا ، فَلِذَلِكَ كَانَ عَلَى التَّرَاخِي .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ إِذَا وَإِنْ ، فَقَالَ لَهَا : إِذَا لَمْ أُطَلِّقْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَمَتَى أَمْسَكَ عَنْ طَلَاقِهَا ، بَعْدَ هَذَا الْقَوْلِ ، زَمَنًا يُمْكِنُهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِيهِ بِأَنْ يَقُولَ : أَنْتِ طَالِقٌ فَقَدْ طُلِّقَتْ ، إِلَّا أَنْ يَمُوتَ أَحَدُهُمَا عَقِيبَ كَلَامِهِ فِي الْحَالِ مِنْ غَيْرِ فَصْل : يُمْكِنُهُ إِيقَاعُ طَلَاقِهَا فِيهِ فَلَا يُطَلِّقُ لِأَنَّ زَمَانَ الْمُكْنَةِ لَمْ يُوجَدْ ، وَالطَّلَاقُ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا يَقَعُ ، وَلَوْ قَالَ : إِنْ لَمْ أُطَلِّقْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، لَمْ تُطَلَّقْ إِلَّا أَنْ يَفُوتَهُ طَلَاقُهَا بِمَوْتِهِ أَوْ مَوْتِهَا ، فَتُطَلَّقُ حِينَئِذٍ ثُمَّ يَنْظُرُ ، فَإِنْ فَاتَ الطَّلَاقُ بِمَوْتِهَا ، وَقَعَ الطَّلَاقُ قَبْلَ مَوْتِهَا بِزَمَانٍ يَضِيقُ عَنْ قَوْلِهِ فِيهِ أَنْتِ طَالِقٌ ، وَلَا مِيرَاثَ لَهُ مِنْهَا إِنْ كَانَ الطَّلَاقُ ثَلَاثًا ، وَلَهُ الْمِيرَاثُ إِنْ كَانَ دُونَهَا ، وَإِنْ فَاتَ الطَّلَاقُ بِمَوْتِهِ وَقَعَ الطَّلَاقُ قَبْلَ وَقْتِهِ فِي آخِرِ زَمَانِ قُدْرَتِهِ ، إِذَا ضَاقَ عَنْ قَوْلِهِ فِيهِ ، أَنْتِ طَالِقٌ ، فَوَقَعَ الطَّلَاقُ بِمَوْتِهِ قَبْلَ زَمَانِ قُدْرَتِهِ وَبِمَوْتِهَا قَبْلَ زَمَانِ الْمَوْتِ : لِأَنَّ الطَّلَاقَ مِنْ جِهَتِهِ ، فَرُوعِيَ فِيهِ آخِرُ أَوْقَاتِ الْمَوْتِ ، إِلَّا أَنَّ الْمَوْتَ يُعْرَفُ آخِرَ أَوْقَاتِ الْقُدْرَةِ ، وَتَكُونُ كَالْمَبْتُوتَةِ فِي الْمَرَضِ فَتَرِثُهُ ، وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ ثَلَاثًا عَلَى قَوْلِ مَنْ يُورِّثُ الْمَبْتُوتَةَ ، فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا وَجَبَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ بِالْمَوْتِ ، فَهَلَّا مَنَعْتُمْ مِنْ وُقُوعِهِ ، كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا : إِذَا مُتُّ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَمَاتَ لَمْ تُطَلَّقْ ، قِيلَ : لِأَنَّ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ بِالْمَوْتِ تُوجَدُ فِيهِ الصِّفَةُ بَعْدَ زَوَالِ مِلْكِهِ بِالْمَوْتِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَقَعْ . وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا : لِأَنَّهَا صِفَةٌ تُوجَدُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ ، وَإِنْ عُلِمَ فَوَاتُهَا بِالْمَوْتِ فَلِذَلِكَ وَقَعَ .

فَصْلٌ : ثُمَّ يَتَفَرَّعُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، أَنْ يَقُولَ لَهَا : كُلَّمَا لَمْ أُطَلِّقْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَإِذَا مَضَى عَلَيْهَا بَعْدَ هَذَا الْقَوْلِ ثَلَاثَةُ أَوْقَاتٍ ، يُمْكِنُهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنْهَا ، أَنْ يَقُولَ لَهَا فِيهِ : أَنْتِ طَالِقٌ فَقَدْ طُلِّقَتْ ثَلَاثًا لِأَنَّ كُلَّمَا مَوْضُوعٌ لِلتَّكْرَارِ ، فَإِذَا مَضَى الْوَقْتُ الْأَوَّلُ ، طُلِّقَتْ وَاحِدَةً ، ثُمَّ إِذَا مَضَى الْوَقْتُ الثَّانِي وَهِيَ مَدْخُولٌ بِهَا طُلِّقَتْ ثَانِيَةً ، فَإِذَا مَضَى الْوَقْتُ الثَّالِثُ طُلِّقَتْ ثَلَاثًا ، وَلَوْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا لَمْ تُطَلَّقْ إِلَّا وَاحِدَةً ، لِأَنَّهَا قَدْ بَانَتْ بِهَا ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا ، وَوَضَعَتْ حَمْلَهَا بَعْدَ الْوَقْتِ الْأَوَّلِ ، وَقَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ الثَّانِي ، لَمْ تُطَلَّقْ غَيْرَ الْأُولَى : لِأَنَّهَا قَدْ بَانَتْ بَعْدَهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ فَلَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا طَلَاقٌ ، وَلَوْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا فَخَالَعَهَا فِي الْوَقْتِ الْأَوَّلِ ، طُلِّقَتْ بِالْخُلْعِ دُونَ الْحِنْثِ ، وَلَا يَقَعُ عَلَيْهَا بِدُخُولِ الْوَقْتِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ طَلَاقٌ : لِأَنَّ الْمُخْتَلِعَةَ بَائِنٌ لَا يَلْحَقُهَا طَلَاقٌ .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110