كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي

سَبْعًا ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا بِكِ مِنْ هَوَانٍ عَلَى أَهْلِكِ ، إِنْ شِئْتِ سَبَّعْتُ عِنْدَكِ ، وَسَبَّعْتُ عِنْدَهُنَّ ، وَإِنْ شِئْتِ ثَلَّثْتُ عِنْدَكِ وَدُرْتُ . رَوَى أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : لِلْبِكْرِ سَبْعَةُ أَيَّامٍ وَلِلثَّيِّبِ ثَلَاثَةٌ ، ثُمَّ يَعُودُ إِلَى نِسَائِهِ . فَدَلَّ عَلَى اسْتِحْقَاقِ هَذِهِ الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فَرْقُهُ فِيهِ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ . وَالثَّانِي : حَصْرُهُ بِعَدَدٍ ، وَمَا يَقْضِي لَا يَفْتَرِقَانِ فِيهِ ، وَلَا يَنْحَصِرُ جَرَيَانُ الْعَادَةِ فِيمَا تَخْتَصُّ بِهِ الْمُسْتَجَدَّةُ عُرْفًا وَشَرْعًا ، تَجْعَلُهُ حُكْمًا مُسْتَحَقًّا ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا خُصَّتِ الْمُسْتَجَدَّةُ بِوَلِيمَةِ الْعُرْسِ إِكْرَامًا وَإِينَاسًا ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَيْلًا ، خُصَّتْ بِهَذِهِ الْمُدَّةِ لِهَذَا الْمَعْنَى ، وَلِأَنَّ لِلْمُسْتَجَدَّةِ حِشْمَةً لَا تَرْتَفِعُ إِلَّا بِمُكَاثَرَةِ الِاجْتِمَاعِ وَمُطَاوَلَةِ الْإِينَاسِ ، وَلِذَلِكَ وَقَعَ الْفَرْقُ فِي أَنْ خُصَّتِ الْبِكْرُ بِسَبْعٍ ، وَالثَّيِّبُ بِثَلَاثٍ ؛ لِأَنَّ الثَّيِّبَ لِاخْتِبَارِ الرِّجَالِ أَسْرَعُ أَنَسَةً مِنَ الْبِكْرِ الَّتِي هِيَ أَكْثَرُ انْقِبَاضًا ، وَأَقَلُّ اخْتِبَارًا . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ ، فَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَيْلٍ ؛ لِأَنَّهُ يَفْعَلُهُ مَعَ كُلِّ زَوْجَةٍ . وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَنِ النَّفَقَةِ ، فَعَنْهُ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ قِيَاسٌ يَرْفَعُ النِّصْفَ ، فَكَانَ مُطَّرَحًا . وَالثَّانِي : أَنَّ التَّسَاوِيَ فِي النَّفَقَةِ لَا يُوجِبُ التَّسَاوِيَ فِي الْقَسْمِ ؛ لِأَنَّ الْحُرَّةَ وَالْأَمَةَ يَسْتَوِيَانِ فِي النَّفَقَةِ ، وَيَخْتَلِفَانِ فِي الْقَسْمِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ النَّفَقَةَ لَمَّا لَمْ تَخْتَلِفْ بِالْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ ، لَمْ تَخْتَلِفْ فِي الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ ، وَلَمَّا اخْتَلَفَ الْقَسْمُ بِالْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ ، اخْتَلَفَ فِي الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى قَسْمِ الِانْتِهَاءِ فَمُنْتَقَضٌ بِالَّتِي سَافَرَ بِهَا عَلَى أَنَّهُ لَمَّا جَازَ قَطْعُ النَّوْبَةِ فِي قَسْمِ الِابْتِدَاءِ وَلَمْ يَجُزْ فِي قَسْمِ الِانْتِهَاءِ دَلَّ عَلَى الْفَصْلِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ بَيْنَ قَسْمِ الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْبِكْرَ مَخْصُوصَةٌ بِسَبْعٍ ، وَالثَّيِّبَ بِثَلَاثٍ ، فَلَيْسَ لَهُ النُّقْصَانُ مِنْهَا إِلَّا بِرِضَا الْمُسْتَجَدَّةِ ، وَلَا لَهُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا إِلَّا بِرِضَا الْمُتَقَدِّمَاتِ ، فَإِنْ أَقَامَ عِنْدَ الثَّيِّبِ سَبْعًا كَالْبِكْرِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَقْضِي مَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ ، وَلَا يَقْضِي الثَّلَاثَ ؛ لِأَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ لَهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي - ذَكَرَهُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ - : أَنَّهُ تُقْضَى السَّبْعُ كُلُّهَا ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمِّ سَلَمَةَ إِنْ شِئْتِ سَبَّعْتُ عِنْدَكِ وَعِنْدَهُنَّ ، وَإِنْ شِئْتِ ثَلَّثْتُ عِنْدَكِ وَدُرْتُ .

فَصْلٌ : وَإِذَا اسْتَجَدَّ نِكَاحَ امْرَأَتَيْنِ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَهُمَا فِي الدُّخُولِ ، كَمَا لَا يَجْمَعُ بَيْنَ زَوْجَتَيْنِ فِي قَسْمٍ ، وَيَبْدَأُ بِأَسْبَقِهِمَا زِفَافًا إِلَيْهِ ، فَإِنْ زُفَّا إِلَيْهِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ ، بَدَأَ بِأَسْبَقِهِمَا نِكَاحًا ، فَإِنْ نَكَحَهُمَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ قَرَعَ بَيْنَهُمَا ، وَبَدَأَ بِالْقَارِعَةِ مِنْهُمَا ، فَإِنْ قَدَّمَ إِحْدَاهُمَا مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ كَرِهْنَا ذَلِكَ لَهُ وَأَجْزَأَهُ ، ثُمَّ يَدْخُلُ بِالثَّانِيَةِ وَيُوَالِي بَيْنَ الزِّفَافَيْنِ ، وَلَيْسَ لِلْمُتَقَدِّمَاتِ مِنْ نِسَائِهِ أَنَّ تَمْنَعَهُ مِنَ الْمُوَالَاةِ بَيْنَهُمَا ، فَلَوْ أَقَامَ عِنْدَ هَذِهِ يَوْمًا ، وَعِنْدَ هَذِهِ يَوْمًا حَتَّى وَفَّاهُمَا - وَهُمَا بِكْرَانِ - أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، فَقَدْ أَسَاءَ وَأَجْزَأَ ؛ لِأَنَّ الْمُوَالَاةَ مُسْتَحَقَّةٌ ، وَإِنْ سَقَطَتْ بِالتَّفْرِقَةِ كَقَضَاءِ الدُّيُونِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ لَهُ زَوْجَتَانِ ، وَقَسَمَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لَيْلَتَيْنِ ، فَأَقَامَ عِنْدَ إِحْدَاهِمَا بَعْضَ زَمَانِهَا اسْتَجَدَّ نِكَاحَ ثَالِثَةٍ زُفَّتْ إِلَيْهِ ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ تَقَضَّتِ اللَّيْلَةُ بِكَمَالِهَا كَأَنَّهُ أَقَامَ عِنْدَ الْمُتَقَدِّمَةِ إِحْدَى اللَّيْلَتَيْنِ بِكَمَالِهَا ، وَبَقِيَتْ لَهَا اللَّيْلَةُ الْأُخْرَى ، فَاسْتَجَدَّ نِكَاحَ الثَّالِثَةِ قَدَّمَ قَسْمَ الْمُسْتَجَدَّةِ ، وَقَطَعَ قَسْمَ الْمُتَقَدِّمَةِ لِمَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ قَسْمَ الْمُسْتَجَدَّةِ مُسْتَحَقٌّ بِالْعَقْدِ ، وَقَسْمَ الْمُتَقَدِّمَةِ مُسْتَحَقٌّ بِالْفِعْلِ ، وَالْمُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ أَوْكَدُ . وَالثَّانِي : أَنَّ قَسْمَ الْمُسْتَجَدَّةِ لَا يُقْضَى ، وَقَسْمَ الْمُتَقَدِّمَةِ يُقْضَى ، وَمَا لَا يَلْزَمُ قَضَاؤُهُ أَوْكَدُ . فَإِذَا وَفَّى الْمُسْتَجَدَّةَ قَسْمَهَا وَفَّى الْمُتَقَدِّمَةَ بَاقِي قَسْمِهَا ، وَهُوَ لَيْلَةٌ ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ الْقَسْمَ بَيْنَ الثَّلَاثِ ، وَإِنْ كَانَ قَدِ اسْتَجَدَّهَا فِي تَضَاعِيفِ اللَّيْلَةِ الْأُولَى مِنْ قَسْمِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَقْطَعُ اللَّيْلَةَ عَلَيْهَا ، وَيَقْسِمُ لِلْمُسْتَجَدَّةِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ ، ثُمَّ يَقْضِي لِلْمُتَقَدِّمَةِ بَقِيَّةَ لَيْلَتِهَا الْأُولَى وَجَمِيعَ اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُكْمِلُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَعَيَّنَ اسْتِحْقَاقُ الْمُتَقَدِّمَةِ بِهَا بِالدُّخُولِ فِيهَا ، وَإِنَّ فِي تَبْعِيضِ اللَّيْلَةِ عَلَيْهَا مُبَايَنَةً لَهَا وَانْكِسَارًا لِنَفْسِهَا ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ : أَنَّهُ لَمَّا جَازَ فِي النَّهَارِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ عِنْدِهَا جَازَ أَنْ يَقْسِمَ لِمَنِ اسْتَجَدَّ نِكَاحَهَا ، وَلَمَّا لَمْ يَجُزْ فِي اللَّيْلِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ عِنْدِهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْسِمَ فِيهِ لِغَيْرِهَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَا أُحِبُّ أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ ، وَلَا شُهُودِ جَنَازَةٍ ، وَلَا بِرٍّ كَانَ يَفْعَلُهُ ، وَلَا إِجَابَةِ دَعْوَةٍ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا كَانَ مَعَ الْمُسْتَجَدَّةِ فِي قَسْمِ الِابْتِدَاءِ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ عِنْدِهَا ؛ لِئَلَّا يَقْسِمَ فِي الْمُتَقَدِّمَاتِ فِي الِانْتِهَاءِ ، وَجَازَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ عِنْدِهَا نَهَارًا فِي أَشْغَالِهِ وَمُتَصَرَّفَاتِهِ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْقَسْمَيْنِ سَوَاءٌ ، لَكِنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِأَنْ تَكُونَ مُلَازَمَتُهُ الْمُسْتَجَدَّةَ فِي نَهَارِ قَسْمَتِهَا أَكْثَرَ مِنَ الْمُتَقَدِّمَاتِ ؛ لِيَتَعَجَّلَ بِذَلِكَ أُنْسَهَا ، وَيَقْوَى بِهِ مَيْلُهَا ، لَكِنَّنَا لَا نُحِبُّ لَهُ أَنْ يَتَخَلَّفَ بِهَا عَنْ حُضُورِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ ، وَعِيَادَةِ الْمَرْضَى ، وَتَشْيِيعِ الْجَنَائِزِ ، وَلَا عَنْ بِرٍّ كَانَ يَفْعَلُهُ ، وَإِنْ دُعِيَ إِلَى وَلِيمَةٍ أَجَابَ ، وَيُخْتَارُ لَهُ فِي هَذَا الْقَسْمِ إِنْ كَانَ مُعْتَادًا الصِّيَامَ وَالتَّطَوُّعَ أَنْ يُفْطِرَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهَا أَيَّامُ بِعَالٍ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ : أَلَا إِنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَبِعَالٍ ، فَلَا تَصُومُوا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ الْقَسْمِ لِلنِّسَاءِ إِذَا حَضَرَ سَفَرٌ

بَابُ الْقَسْمِ لِلنِّسَاءِ إِذَا حَضَرَ سَفَرٌ ، مِنَ الْجَامِعِ مِنْ كِتَابِ الطَّلَاقِ ، وَمِنْ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَمِنْ نُشُوزِ الرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " أَخْبَرَنَا عَمِّي مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ شَافِعٍ ، أَحْسَبُهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ ، ( شَكَّ الْمُزَنِيُّ ) : عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ ، وَأَرَادَ سَفَرًا ، فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُسَافِرَ بِجَمِيعِهِنَّ ، فَلَهُ ذَاكَ ، إِذَا كَانَ سَفَرُهُ مَأْمُونًا ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَافَرَ بِجَمِيعِ نِسَائِهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ ، وَلِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الِاسْتِمْتَاعَ بِهِنَّ فِي السَّفَرِ ، كَمَا يَسْتَحِقُّهُ فِي الْحَضَرِ ، فَإِذَا سَافَرَ بِهِنَّ كُنَّ عَلَى قَسْمِهِنَّ فِي السَّفَرِ ، كَمَا كُنَّ عَلَيْهِ فِي الْحَضَرِ ، فَإِنِ امْتَنَعَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ أَنْ تُسَافِرَ مَعَهُ ، صَارَتْ نَاشِزًا ، وَسَقَطَ قَسْمُهَا وَنَفَقَتُهَا ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ مَعْذُورَةً بِمَرَضٍ ؛ لِعَجْزِهَا عَنِ السَّفَرِ ، فَلَا تَعْصِي ، وَلَهَا النَّفَقَةُ ، وَلَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ قَسْمِهَا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَذَلَ ذَلِكَ لَهَا فَكَانَ الِامْتِنَاعُ مِنْ جِهَتِهَا ، وَإِنْ عُذِرَتْ فِيهِ بِأَنْ كَانَ سَفَرُهُ فِي مَعْصِيَةٍ وَامْتَنَعَ مِنَ السَّفَرِ لِأَجْلِ الْمَعْصِيَةِ ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عُذْرًا لَهُنَّ عَنِ التَّأَخُّرِ إِذَا أَمِنَّ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ يَدْعُوهُنَّ إِلَى مَعْصِيَةٍ ، وَإِنَّمَا يَدْعُوهُنَّ إِلَى اسْتِيفَاءِ حَقٍّ لَا يَسْقُطُ بِالْمَعْصِيَةِ ، فَإِنْ أَقَمْنَ بِذَلِكَ عَلَى امْتِنَاعِهِنَّ نَشَزْنَ وَسَقَطَ قَسْمُهُنَّ وَنَفَقَتُهُنَّ .

فَصْلٌ : وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَتْرُكَهُنَّ فِي أَوْطَانِهِنَّ وَلَا يُرِيدُ السَّفَرَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ القسم بين الزوجات ، فَلَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَوِ اعْتَزَلَهُنَّ وَهُوَ مُقِيمٌ جَازَ ، فَإِذَا اعْتَزَلَهُنَّ بِالسَّفَرِ كَانَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ إِذَا قَامَ بِمَا يَجِبُ لَهُنَّ مِنَ الْكُسْوَةِ وَالنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى ، فَإِذَا خِفْنَ عَلَى أَنْفُسِهِنَّ إِذَا سَافَرَ عَنْهُنَّ ، لَزِمَهُ أَنْ يُسْكِنَهُنَّ فِي مَوْضِعٍ يَأْمَنَّ فِيهِ ، فَإِنْ وُجِدَ ذَلِكَ فِي وَطَنِهِ ، وَإِلَّا نَقَلَهُنَّ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمَوَاطِنِ الْمَأْمُونَةِ ، فَإِنْ أَمَرَهُنَّ بَعْدَ سَفَرِهِ عَنْهُنَّ أَنْ يَخْرُجْنَ إِلَيْهِ ، لَزِمَهُنَّ الْخُرُوجُ إِذَا كَانَ السَّفَرُ مَأْمُونًا ، وَوَجَدْنَ ذَا مَحْرَمٍ ، فَإِنِ امْتَنَعْنَ نَشَزْنَ وَسَقَطَتْ نَفَقَاتُهُنَّ .



فَصْلٌ : وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يُرِيدَ السَّفَرَ بِبَعْضِهِنَّ دُونَ بَعْضٍ ، فَلَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ فَعَلَ ذَاكَ فِي أَكْثَرِ أَسْفَارِهِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يُسَافِرَ بِجَمِيعِهِنَّ ، فَأَوْلَى أَنْ يُسَافِرَ بِبَعْضِهِنَّ ، وَلَمَّا جَازَ أَنْ يَتْرُكَ جَمِيعَهُنَّ ، فَأَوْلَى أَنْ يَتْرُكَ بِعَضَّهُنَّ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَخَيَّرَ بَعْضَهُنَّ لِلسَّفَرِ إِلَّا بِالْقُرْعَةِ الَّتِي تَزُولُ بِهَا عَنْهُ التُّهْمَةُ ؛ لِمَا رَوَتْهُ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا ، وَلِأَنَّهُنَّ قَدْ تَسَاوَيْنَ فِي اسْتِحْقَاقِ الْقَسْمِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُمَيِّزَهُنَّ فِيهِ مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ كَابْتِدَاءِ الْقَسْمِ ، فَإِذَا أَقْرَعَ بَيْنَهُنَّ لِيُسَافِرَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَ ، فَأَيَّتُهُنَّ قَرَعَتْ سَافَرَ بِهَا عَلَى مَا سَنَذْكُرُ مِنْ صِفَةِ الْقُرْعَةِ فِي بَابِهَا ، وَلَوْ رَاضَاهُنَّ عَلَى السَّفَرِ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِغَيْرِ قُرْعَةٍ جَازَ ، فَإِنِ امْتَنَعْنَ بَعْدَ الرِّضَا مِنْ تَسْلِيمِ الْخُرُوجِ لِتِلْكَ إِلَّا بِالْقُرْعَةِ ، كَانَ ذَلِكَ لَهُنَّ إِذَا لَمْ يَشْرَعْ فِي الْخُرُوجِ ، فَإِنْ شَرَعَ فِيهِ وَسَافَرَ حَتَّى جَازَ لَهُ الْقَصْرُ ، لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ ذَلِكَ ، وَاسْتَقَرَّ حَتَّى الْمُتَرَاضَى سَفَرُهَا وَتَعَيَّنَ ذَلِكَ لَهَا ، وَلَوْ أَرَادَ الزَّوْجُ بَعْدَ خُرُوجِهَا عَلَى الْمُرَاضَاةِ أَنْ يَرُدَّهَا بَعْدَ شُرُوعِهِ فِي السَّفَرِ جَازَ ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَعْتَزِلَهَا فِي السَّفَرِ ، فَجَازَ لَهُ رَدُّهَا مِنَ السَّفَرِ ، وَكَذَلِكَ الْخَارِجَةُ مِنْهُ بِالْقُرْعَةِ ، وَلَوْ أَقْرَعَ بَيْنَهُنَّ ، فَقَرَعَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ ، فَقَالَ الزَّوْجُ : لَسْتُ أُرِيدُهَا ، فَإِنْ قَالَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُرِيدُ السَّفَرَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ جَازَ ، وَإِنْ قَالَهُ مُرِيدًا لِلسَّفَرِ بِغَيْرِهَا لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ قَسْمٌ قَدْ تَعَيَّنَ حَقُّهَا بِالْقُرْعَةِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا سَافَرَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ عَنْ قُرْعَةٍ أَوْ تَرَاضٍ لَمْ يَقْضِ لِلْمُقِيمَاتِ مُدَّةَ سَفَرِهِ مَعَ الْخَارِجَةِ القسم بين الزوجات ، سَوَاءٌ كَانَ فِي السَّفَرِ مُخَالِطًا لَهَا أَوْ مُعْتَزِلًا عَنْهَا ؛ لِأَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - لَمَّا حَكَتْ قُرْعَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ يُسَافِرُ بِهَا لَمْ تَحْكِ بِأَنَّهُ قَضَى بَاقِي نِسَائِهِ مِثْلَ مُدَّتِهَا ، وَلَوْ فَعَلَهُ لَحَكَتْهُ . وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ لِبَعْضِ أَسْفَارِهِ ، فَخَرَجَتِ الْقُرْعَةُ لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - فَسَافَرَ بِهِمَا ، وَلَمْ يَقْضِ لِلْبَاقِيَاتِ . وَلِأَنَّ الْمُسَافِرَةَ مَعَهُ ، وَإِنْ حَظِيَتْ بِهِ ، فَقَدْ عَانَتْ مِنْ لَأْوَاءِ السَّفَرِ وَمَشَاقِّهِ مَا صَارَ فِي مُقَابَلَتِهِ ، كَمَا أَنَّ الْمُقِيمَاتِ وَإِنْ أَوْحَشَهُنَّ فِرَاقُهُ ، فَقَدْ حَصَلَ لَهُنَّ مِنْ رَفَاهَةِ الْمُقَامِ مَا فِي مُقَابَلَتِهِ ، فَلَا يَجْمَعُ لَهُنَ بَيْنَ الْقَسْمِ وَالرَّفَاهَةِ الَّتِي حُرِمَتْهَا الْمُسَافِرَةُ . قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ : أَوْ كَذَلِكَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ بِاثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ ، أَقْرَعَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، يَجُوزُ لِلزَّوْجِ أَنْ يُسَافِرَ بِوَاحِدَةٍ مِنْ أَرْبَعٍ ، وَبِاثْنَيْنِ مِنْهُنَّ ، وَبِثَلَاثٍ وَيَخْلُفُ وَاحِدَةً ، كَمَا جَازَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِوَاحِدَةٍ ، وَيَخْلُفَ ثَلَاثًا ، لَكِنَّهُ يَسْتَعْمِلُ الْقُرْعَةَ فِي إِخْرَاجِ الْوَاحِدَةِ ، فَإِذَا قَرَعَ اثْنَانِ مِنْهُنَّ ، وَسَافَرَ بِهِمَا قَسَمَ بَيْنَهُمَا فِي سَفَرِهِ ، كَمَا كَانَ

يَقْسِمُ بَيْنَهُمَا فِي حَضَرِهِ ، إِلَّا أَنْ يَعْتَزِلَهُمَا فَيَسْقُطُ الْقَسْمُ لَهُمَا ، وَلَا يَقْضِي الْمُقِيمِينَ مُدَّةَ سَفَرِهِ بِالْخَارِجَتَيْنِ ، وَإِنْ قَسَمَ لَهُمَا كَمَا لَا يَقْضِي مُدَّةَ سَفَرِهِ بِالْوَاحِدَةِ ، فَلَوْ سَافَرَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِالْقُرْعَةِ ، ثُمَّ أَرَادَ فِي سَفَرِهِ إِخْرَاجَ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمُقِيمَاتِ أَقْرَعَ بَيْنَهُنَّ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُنَّ أَنْ يَنْفَرِدْنَ بِالْقُرْعَةِ ؛ لِأَنَّ فِيهَا حَقًّا لِلزَّوْجِ فَلَا يَبْطُلُ حَقُّهُ مِنَ الْقُرْعَةِ بِانْفِرَادِهِنَّ بِهَا ، وَأَقْرَعَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُنَّ ، وَأَخْرَجَ مَنْ قُرِعَتْ مِنْهُنَّ ، فَإِذَا وَصَلَتْ إِلَيْهِ اسْتَأْنَفَ الْقَسْمَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمُتَقَدِّمَةِ مَعَهُ ، وَلَمْ يَقْضِهَا مُدَّةَ سَفَرِهَا إِلَيْهِ . فَلَوْ تَرَاضَى الْمُقِيمَاتُ بِإِخْرَاجِ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِغَيْرِ قُرْعَةٍ لَمْ يَجُزْ لِحَقِّ الزَّوْجِ فِي الْقُرْعَةِ ، فَلَوْ حَصَلَ مَعَهُ فِي السَّفَرِ اثْنَتَانِ بِالْقُرْعَةِ ، فَأَرَادَ رَدَّ إِحْدَاهِمَا ، لَمْ يَكُنْ لَهُ رَدُّهَا إِلَّا بِالْقُرْعَةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ لَهُ زَوْجَتَانِ فَاسْتَجَدَّ نِكَاحَ زَوْجَتَيْنِ فَصِرْنَ أَرْبَعًا ، وَأَرَادَ أَنْ يُسَافِرَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ، وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْرَعَ بَيْنَ الْأَرْبَعِ ، فَأَيَّتُهُنَّ قُرِعَتْ سَافَرَ بِهَا ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَخْتَصَّ بِإِخْرَاجِ إِحْدَى الْجَدِيدَتَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ قَسْمُ الْعَقْدِ لَهَا مُعَجَّلًا ، فَإِنْ خَرَجَتْ قُرْعَةُ السَّفَرِ عَلَى إِحْدَى الْمُتَقَدِّمِينَ فَسَافَرَ بِهَا ، وَجَبَ عَلَيْهِ إِذَا عَادَ مِنْ سَفَرِهِ أَنْ يَقْسِمَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمُسْتَجَدَّتَيْنِ قَسْمَ الْعَقْدِ يُقَدِّمُ إِحْدَاهُمَا فِيهِ بِالْقُرْعَةِ ، ثُمَّ الثَّانِيَةَ بَعْدَهَا ، فَإِذَا أَوْفَاهَا حَقَّ الْعَقْدِ اسْتَأْنَفَ قَسْمَ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَ جَمَاعَتَيْنِ ، وَلَوْ خَرَجَتْ قُرْعَةُ السَّفَرِ عَلَى إِحْدَى الْمُسْتَجَدَّتَيْنِ ، فَسَافَرَ بِهَا سَقَطَ حَقُّهَا مِنْ قَسْمِ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ التَّفَرُّدِ بِهَا لِلْأُلْفَةِ وَالِاسْتِمْتَاعِ ، وَقَدْ حَصَلَ لَهَا ذَلِكَ بِالسَّفَرِ مَعَهُ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِ مُدَّةٍ . فَعَلَى هَذَا لَوْ قَدَمَ قَبْلَ سَبْعٍ وَهِيَ بِكْرٌ ، لَمْ يَلْزَمْهُ لَهَا تَمَامُ السَّبْعِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَزِمَهُ إِتْمَامُ سَبْعٍ إِذَا عَادَ قَبْلَهَا لَمُنِعَتِ الزِّيَادَةَ إِذَا طَالَ سَفَرُهَا ، ثُمَّ إِذَا قَدِمَ فَهَلْ يَسْقُطُ حَقُّ الْمُسْتَجَدَّةِ الْمُقِيمَةِ مِنْ قَسْمِ الْعَقْدِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَدْ سَقَطَ حَقُّهَا مِنْ ذَلِكَ ، وَيَقْسِمُ لَهَا مَعَ الْجَمَاعَةِ قَسْمَ الْمُمَاثَلَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَنْكُوحَةَ مَعَهَا قَدْ سَقَطَ حَقُّهَا مِنْ قَسْمِ الْعَقْدِ بِالسَّفَرِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَخُصَّهَا بِقَسْمِ الْعَقْدِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّفْضِيلِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي - وَهُوَ أَصَحُّ - : لَهَا عَلَيْهِ قَسْمُ الْعَقْدِ ، فَتَقَدُّمُهَا بِهِ قَبْلَ قَسْمِ الْمُمَاثِلَةِ ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهَا تَوَفَّاهُ ، وَقَدْ صَارَ إِلَى الْمُسَافِرَةِ مِنْ قَسْمِ السَّفَرِ مَا يَقُومُ مَقَامَ قَسْمِ الْعَقْدِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ خَرَجَ بِوَاحِدَةٍ بِغَيْرِ قُرْعَةٍ القسم بين الزوجات كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْسِمَ لِمَنْ بَقِيَ بِقَدْرِ وَاحِدَةٍ ، إِلَّا أَوْفَى الْبَوَاقِيَ مِثْلَ مُقَامِهِ مَعَهَا مَغِيبِهِ مَعَ الَّتِي خَرَجَ بِهَا ، وَلَوْ أَرَادَ السَّفَرَ لِنَقْلَةٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ إِذَا أَرَادَ السَّفَرَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْرَعَ بَيْنَهُنَّ ، فَمَنْ قُرِعَتْ سَافَرَ بِهَا لَمْ يَقْضِ الْمُقِيمَاتِ مُدَّةَ سَفَرِهِ مَعَهَا ، فَأَمَّا إِنْ سَافَرَ بِوَاحِدَةٍ مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ الْمُقِيمَاتِ مُدَّةَ غَيْبَتِهِ مَعَهَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَقْضِي ؛ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْقَسْمَ يَسْقُطُ عَنِ الْمُسَافِرِ ، وَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ إِذَا لَمْ يَقْرَعْ لَوَجَبَ عَلَيْهِ إِذَا أَقْرَعَ كَالْحَضَرِ . وَدَلِيلُنَا : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ ، فَلَوْ سَقَطَ الْقَضَاءُ فِي الْحَالَيْنِ لَمْ يَكُنْ لِلْقُرْعَةِ مَعْنًى ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا افْتَرَقَ وُجُودُ الْقُرْعَةِ وَعَدَمُهَا فِي الْإِبَاحَةِ ، افْتَرَقَا فِي الْقَضَاءِ ، وَلِأَنَّهُ خَصَّ إِحْدَى نِسَائِهِ بِمُدَّةٍ يَلْحَقُهُ فِيهَا التُّهْمَةُ فَوَجَبَ بِهِ الْقَضَاءُ كَالْمُقِيمَةِ ، وَلَيْسَ لِمَا ادَّعَاهُ مِنْ سُقُوطِ الْقَسْمِ عَنِ الْمُسَافِرِ لِمَا لَهُ مِنْ تَرْكِهِنَّ وَجْهٌ ؛ لِأَنَّ الْمُقِيمَ لَوِ اعْتَزَلَهُنَّ جَازَ ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى سُقُوطِ الْقَسْمِ عَنْهُ كَذَلِكَ الْمُسَافِرُ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ سَافَرَ بِاثْنَتَيْنِ لَزِمَهُ الْقَسْمُ لَهُمَا ، وَلَوْ سَقَطَ عَنْهُ بِالسَّفَرِ لَمْ يَلْزَمْهُ ، فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ ، فَوُجُوبُهُ يَكُونُ بِمُخَالَطَتِهِ لِلْمُسَافِرَةِ ، وَحُلُولِهَا مَعَهُ فِي سَفَرِهِ حَيْثُ يَحُلُّ . فَأَمَّا إِنِ اعْتَزَلَهَا فِي سَفَرِهِ ، وَأَفْرَدَهَا بِخَيْمَةٍ غَيْرِ خَيْمَتِهِ ، وَفِي مَسْكَنٍ - إِذَا دَخَلَ بَلَدًا - غَيْرِ سَكَنِهِ ، فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ ، وَلَا يَكُونُ قُرْبُهُ مِنْهَا فِي السَّفَرِ قَسْمًا يُقْضَى كَمَا لَا يَكُونُ قُرْبُهَا فِي الْحَضَرِ قَسْمًا مُؤَدًّى ، فَلَوْ خَالَطَهَا شَهْرًا وَاعْتَزَلَهَا شَهْرًا قَضَى شَهْرَ مُخَالَطَتِهَا وَلَمْ يَقْضِ شَهْرَ اعْتِزَالِهَا ، فَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي الْمُقَامِ وَالِاعْتِزَالِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ .

فَصْلٌ : وَلَوْ سَافَرَ بِإِحْدَى نِسَائِهِ بِالْقُرْعَةِ إِلَى بَلَدٍ قَرِيبٍ ، ثُمَّ سَافَرَ مِنْهُ إِلَى بَلَدٍ هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُ قسمة الزوج بين باقي زوجاته في هذه الحالة ، أَوْ عَلَى أَنَّ مُدَّةَ سَفَرِهِ شَهْرٌ ، فَصَارَ أَكْثَرَ مِنْهُ ، جَازَ ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ سَفَرٌ وَاحِدٌ قَدْ أَقْرَعَ فِيهِ ، وَلَيْسَ يَنْحَصِرُ السَّفَرُ بِمُدَّةٍ وَمَسَافَةٍ ؛ لِأَنَّهُ عَوَارِضُ السَّفَرِ .

فَصْلٌ : وَلَوْ تَزَوَّجَ عَلَى الَّتِي سَافَرَ بِهَا زَوْجَةً أُخْرَى فِي سَفَرِهِ القسم بين الزوجات ، خَصَّهَا بِقَسْمِ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ مَعَهَا غَيْرَهَا ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ لَهَا قَسْمَ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُسَافِرَةِ ، وَلَا يَقْضِي الْبَاقِيَاتِ ، إِنْ كَانَ سَفَرُهُ بِالْوَاحِدَةِ بِقُرْعَةٍ وَيَقْضِيهِنَّ إِنْ سَافَرَ بِهَا بِغَيْرِ قُرْعَةٍ .

مَسْأَلَةٌ لَوْ خَرَجَ بِهَا مُسَافِرًا بِقُرْعَةٍ ثُمَّ أَزْمَعَ الْمُقَامَ لِنَقْلَةٍ احْتُسِبَ عَلَيْهَا مُقَامُهُ بَعْدَ الْإِزْمَاعِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ خَرَجَ بِهَا مُسَافِرًا بِقُرْعَةٍ ثُمَّ أَزْمَعَ الْمُقَامَ لِنَقْلَةٍ ، احْتُسِبَ عَلَيْهَا مُقَامُهُ بَعْدَ الْإِزْمَاعِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا سَافَرَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِالْقُرْعَةِ سَفَرَ حَاجَةٍ ، ثُمَّ صَارَ إِلَى بَلَدٍ فَنَوَى الْمُقَامَ فِيهِ القسم بين الزوجات ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَنْوِيَ الْمُقَامَ فِيهِ مُسْتَوْطِنًا لَهُ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ الْبَاقِيَاتِ مُدَّةَ مُقَامِهِ مَعَهَا بَعْدَ نِيَّتِهِ إِلَّا أَنْ يَعْتَزِلَهَا ؛ لِأَنَّهُ بِالِاسْتِيطَانِ قَدْ خَرَجَ مِنْ حُكْمِ السَّفَرِ .

وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَنْوِيَ الْمُقَامَ مُدَّةً مُقَدَّرَةً يَلْزَمُهُ لَهَا إِتْمَامُ الصَّلَاةِ ثُمَّ يَعُودُ مِنْ غَيْرِ اسْتِيطَانٍ ، كَأَنَّهُ نَوَى مُقَامَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ فَمَا زَادَ إِلَى مُدَّةٍ قَدَّرَهَا ثُمَّ يَعُودُ إِلَى وَطَنِهِ ، فَفِي وُجُوبِ قَضَائِهِ لِتِلْكَ الْمُدَّةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُقِيمًا ، فَهُوَ غَيْرُ مُسْتَوْطِنٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ ؛ لِأَنَّهُ مُقِيمٌ فَأَشْبَهَ الْمُسْتَوْطِنَ ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مِنِ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا ، هَلْ يَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمُعَةُ أَمْ لَا ؟ فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ : أَنَّ الْجُمُعَةَ لَا تَنْعَقِدُ بِهِ ، وَإِنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ فَعَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الْقَسْمِ ؛ لِأَنَّهُ بِالْمُسَافِرِ أَخَصُّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْجُمُعَةَ تَنْعَقِدُ بِهِ ، كَمَا تَجِبُ عَلَيْهِ ، فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الْقَسْمِ ؛ لِأَنَّهُ بِالْمُقِيمِ أَخَصُّ ، فَإِذَا قِيلَ : لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ ، فَلَا مَقَالَ . وَإِذَا قِيلَ : عَلَيْهِ الْقَضَاءُ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ مُدَّةَ الْمُقَامِ ، وَفِي قَضَاءِ مُدَّةِ الْعَوْدِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَقْضِيهِ إِلْحَاقًا بِمَا تَقَدَّمَهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَقْضِيهِ لُمَعَانَاةِ السَّفَرِ فِيهِ كَالسَّفَرِ فِي التَّوَجُّهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ نُشُوزِ الْمَرْأَةِ عَلَى الرَّجُلِ

بَابُ نُشُوزِ الْمَرْأَةِ عَلَى الرَّجُلِ ، مِنَ الْجَامِعِ مِنْ كِتَابِ نُشُوزِ الرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ ، وَمِنْ كِتَابِ الطَّلَاقِ ، وَمِنْ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ : قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ الْآيَةَ ، ( قَالَ ) : وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى اخْتِلَافِ حَالِ الْمَرْأَةِ فِيمَا تُعَاتَبُ فِيهِ وَتُعَاقَبُ عَلَيْهِ ، فَإِذَا رَأَى مِنْهَا دَلَالَةً عَلَى الْخَوْفِ مِنْ فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ وَعَظَهَا ، فَإِنْ أَبْدَتْ نُشُوزًا هَجَرَهَا ، فَإِنْ أَقَامَتْ عَلَيْهِ ضَرَبَهَا ، وَقَدْ يُحْتَمَلُ تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ إِذَا نَشَزْنَ ، فَخِفْتُمْ لَجَاجَتَهُنَّ فِي النُّشُوزِ ، يَكُونُ لَكُمْ جَمْعُ الْعِظَةِ وَالْهَجْرِ وَالضَّرْبِ ، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا تَضْرِبُوا إِمَاءَ اللَّهِ ، قَالَ : فَأَتَاهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَئِرَ النِّسَاءُ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ ، فَأَذِنَ فِي ضَرْبِهِنَّ ، فَأَطَافَ بِآلِ مُحَمَّدٍ نِسَاءٌ كَثِيرٌ كُلُهُنَّ يَشْتَكِينَ أَزْوَاجَهُنَّ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَقَدْ أَطَافَ بِآلِ مُحَمَّدٍ سَبْعُونَ امْرَأَةً كُلُهُنَّ يَشْتَكِينَ أَزْوَاجَهُنَّ ، فَلَا تَجِدُونَ أُولَئِكَ خِيَارَكُمْ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ بِضَرْبِهِنَّ ، ثُمَّ أَذِنَ فَجَعَلَ لَهُمُ الضَّرْبَ ، فَأَخْبَرَ أَنَّ الِاخْتِيَارَ تَرْكُ الضَّرْبِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا نُشُوزُ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا ، فَهُوَ امْتِنَاعُهَا عَلَيْهِ إِذَا دَعَاهَا إِلَى فِرَاشِهِ النشوز مَأْخُوذٌ مِنَ الِارْتِفَاعِ ، وَلِذَلِكَ قِيلَ لِلْمَكَانِ الْمُرْتَفِعِ نَشْزٌ فَسُمِّيَتِ الْمُمْتَنِعَةُ عَلَى زَوْجِهَا نَاشِزًا ؛ لِارْتِفَاعِهَا عَنْهُ وَامْتِنَاعِهَا مِنْهُ ، وَلَا يَخْلُو حَالُ النُّشُوزِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ النُّشُوزُ مِنَ الزَّوْجِ عَلَى الزَّوْجَةِ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ [ النِّسَاءِ : 128 ] . وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيمَا يَلْزَمُهُ بِنُشُوزِهِ عَنْهُ ، وَمَا لَا يَلْزَمُهُ ، فَإِنَّ الَّذِي يُؤْخَذُ بِهِ جَبْرًا فِي نُشُوزِهِ النَّفَقَةُ وَالْكُسْوَةُ وَالسُّكْنَى ، وَالْقَسْمُ الَّذِي يُنْدَبُ إِلَيْهِ اسْتِحْبَابًا أَلَّا يَهْجُرَ مُبَاشَرَتَهَا وَلَا يُظْهِرَ كَرَاهِيَتَهَا وَلَا يُسِيءَ عِشْرَتَهَا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ النُّشُوزُ مِنَ الزَّوْجَةِ عَلَى الزَّوْجِ ، وَالْأَصْلُ فِي بَيَانِ حُكْمِهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ [ النِّسَاءِ : 34 ] ،

يَعْنِي أَنَّ الرِّجَالَ أَهْلُ قِيَامٍ عَلَى نِسَائِهِمْ فِي تَأْدِيبِهِنَّ ، وَالْأَخْذِ عَلَى أَيْدِيهِنَّ فِيمَا يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى ، وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ ، وَقَوْلُهُ : بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ [ النِّسَاءِ : 34 ] . يَعْنِي بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ الرِّجَالَ عَلَى النِّسَاءِ مِنَ الْعَقْلِ وَالرَّأْيِ ، وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمِ مِنَ الْمُهُورِ وَالْقِيَامِ بِالْكِفَايَةِ ، ثُمَّ قَالَ : فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ [ النِّسَاءِ : 34 ] ، يَعْنِي فَالصَّالِحَاتُ الْمُسْتَقِيمَاتُ الدِّينِ الْعَامِلَاتُ بِالْخِيَرِ ، وَيَعْنِي بِالْقَانِتَاتِ الْمُطِيعَاتِ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِأَزْوَاجِهِنَّ وَحَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ ، أَيْ لِأَنْفُسِهِنَّ عِنْدَ غَيْبَةِ أَزْوَاجِهِنَّ ، وَلِمَا أَوْجَبَهُ مِنْ حُقُوقِهِمْ عَلَيْهِنَّ . وَفِي قَوْلِهِ : بِمَا حَفِظَ اللَّهُ فِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَعْنِي بِحِفْظِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُنَّ حَتَّى صِرْنَ كَذَلِكَ . وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ . وَالثَّانِي : بِمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ مِنْ مُهُورِهِنَّ وَنَفَقَاتِهِنَّ ، حَتَّى صِرْنَ بِهَا مَحْفُوظَاتٍ . وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ . وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : خَيْرُ النِّسَاءِ امْرَأَةٌ إِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهَا سَرَّتْكَ ، وَإِذَا أَمَرْتَهَا أَطَاعَتْكَ ، وَإِذَا غِبْتَ عَنْهَا حَفِظَتْكَ فِي مَالِهَا وَنَفْسِهَا ، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ [ النِّسَاءِ : 34 ] . إِلَى آخِرِ الْآيَةِ . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا [ النِّسَاءِ : 34 ] . فَأَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى مُعَاقَبَتَهَا عَلَى النُّشُوزِ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : بِالْعِظَةِ ، وَالضَّرْبِ ، وَالْهَجْرِ . ثُمَّ قَالَ : فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ يَعْنِي فِي الْإِقْلَاعِ عَنِ النُّشُوزِ ، فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ، فِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : فَلَا تُقَابِلُوهُنَّ بِالنُّشُوزِ عَنْهُنَّ . وَالثَّانِي : أَلَّا يُكَلِّفَهَا مَعَ الطَّاعَةِ أَنْ تُحِبَّكَ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ ، مِنَ النُّشُوزِ : فَهُوَ أَنْ يُشْكِلَ حَالُ الزَّوْجَيْنِ فِيهِ ، فَلَا يُعْلَمُ أَيُّهُمَا هُوَ النَّاشِزُ عَلَى صَاحِبِهِ فَهُوَ الَّذِي ذَكَرْنَا فِيهِ أَنَّ الْحَاكِمَ يُسْكِنُهُمَا فِي جِوَارِ أَمِينِهِ لِيُرَاعِيَهُمَا ، وَيَعْلَمَ النَّاشِزَ مِنْهُمَا ، فَيَسْتَوْفِيَ مِنْهُ حَقَّ صَاحِبِهِ أَوْ يُنْهِيَهُ إِلَى الْحَاكِمِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ يَكُونَ النُّشُوزُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْآخَرِ ، فَهُوَ الَّذِي أَنْزِلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ : وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا [ النِّسَاءِ : 35 ] الْآيَةَ ، وَسَيَأْتِي فِي الْبَابِ الْآتِي .

فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ ، فَهَذَا الْبَابُ مَقْصُورٌ عَلَى نُشُوزِ الزَّوْجَةِ ، وَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَخَافَ نُشُوزَهَا بِأَمَارَاتٍ دَالَّةٍ عَلَيْهِ ، مِنْ غَيْرِ إِظْهَارٍ لَهُ ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ عَادَتُهَا أَنْ تُلَبِّيَ دَعْوَتَهُ وَتُسْرِعَ إِجَابَتَهُ وَتُظْهِرَ كَرَامَتَهُ ، فَتَعْدِلُ عَنْ ذَلِكَ ؛ فَلَا تُلَبِّي لَهُ دَعْوَةً ، وَلَا تُسْرِعُ لَهُ إِجَابَةً ، وَلَا تُظْهِرُ لَهُ كَرَامَةً ، وَلَا تَلْقَاهُ إِلَّا مُعَبِّسَةً ، وَلَا تُجِيبُهُ إِلَّا مُتَبَرِّمَةً ، لَكِنَّهَا مُطِيعَةٌ لَهُ فِي الْفِرَاشِ ، فَهَذَا مِنْ أَسْبَابِ النُّشُوزِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نُشُوزًا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَظْهَرَ مِنْهَا ابْتِدَاءُ النُّشُوزِ الصَّرِيحِ مِنْ غَيْرِ إِضْرَارٍ عَلَيْهِ ، وَلَا مُدَاوَمَةٍ لَهُ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ تُصِرَّ عَلَى النُّشُوزِ الصَّرِيحِ وَتُدَاوِمُهُ . وَإِذَا كَانَ لَهَا فِي النُّشُوزِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ ، فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى عُقُوبَتَهَا عَلَيْهِ بِثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ : وَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْعُقُوبَاتِ الثَّلَاثِ ، هَلْ تُرَتَّبُ عَلَى الْأَحْوَالِ الثَّلَاثِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا - وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ - : أَنَّ الْعُقُوبَاتِ مُتَرَتِّبَاتٌ عَلَى أَحْوَالِهَا الثَّلَاثِ ، وَيَكُونُ التَّرْتِيبُ مُضَمَّنًا فِي الْآيَةِ وَيَكُونُ مَعْنَاهَا : إِنْ خَافَ نُشُوزَهَا وَعَظَهَا ، فَإِنْ أَبْدَتِ النُّشُوزَ هَجَرَهَا ، فَإِنْ أَقَامَتْ عَلَى النُّشُوزِ ضَرَبَهَا ، وَيَكُونُ هَذَا الْإِضْمَارُ فِي تَرْتِيبِهَا كَالْمُضْمَرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ [ الْمَائِدَةِ : 33 ] وَإِنَّ مَعْنَاهَا الْمُضْمَرَ فِيهَا : أَنْ يُقَتَّلُوا إِنْ قَتَلُوا ، أَوْ يُصَلَّبُوا إِنْ قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ ، أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ إِنْ أَخَذُوا الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلُوا ، كَذَلِكَ آيَةُ النُّشُوزِ ؛ لِأَنَّ الْعُقُوبَاتِ الْمُخْتَلِفَةَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ فِي ذُنُوبٍ مُخْتَلِفَةٍ ، وَلَا تَكُونُ كَبَائِرُ الْعُقُوبَاتِ لِصَغَائِرِ الذُّنُوبِ ، وَلَا صَغَائِرُ الْعُقُوبَاتِ لِكَبَائِرِ الذُّنُوبِ ، فَأَوْجَبَ اخْتِلَافُ الْعُقُوبَاتِ أَنْ تَكُونَ عَلَى اخْتِلَافِ الذُّنُوبِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي - قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ ، وَذَكَرَ احْتِمَالَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ - : أَنَّ الْعُقُوبَاتِ الثَّلَاثَ مُسْتَحَقَّةٌ فِي حَالَيْنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي كَيْفِيَّتِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا - وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ - : أَنَّهُ إِذَا خَافَ نُشُوزَهَا وَعَظَهَا وَهَجَرَهَا ، فَإِذَا أَبْدَتِ النُّشُوزَ ضَرَبَهَا ، وَكَذَلِكَ إِذَا أَقَامَتْ عَلَيْهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي - وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ - : أَنَّهُ إِذَا خَافَ نُشُوزَهَا وَعَظَهَا ، فَإِذَا أَبْدَتِ النُّشُوزَ هَجَرَهَا وَضَرَبَهَا ، وَكَذَلِكَ إِذَا أَقَامَتْ عَلَيْهِ ، وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْعُقُوبَةَ هِيَ الضَّرْبُ وَمَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الْعِظَةِ وَالْهَجْرِ إِنْذَارٌ وَالْعُقُوبَةُ تَكُونُ بِالْإِقْدَامِ عَلَى الذُّنُوبِ لَا

بِمُدَاوَمَتِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ سَائِرَ الْحُدُودِ تَجِبُ بِالْإِقْدَامِ عَلَى الذُّنُوبِ لَا بِمُدَاوَمَتِهَا ، فَكَذَلِكَ ضَرْبُ النُّشُوزِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى إِبْدَائِهِ دُونَ مُلَازَمَتِهِ ، فَصَارَ تَحْرِيرُ الْمَذْهَبِ فِي ذَلِكَ أَنَّ لَهُ عِنْدَ خَوْفِ النُّشُوزِ أَنْ يَعِظَهَا ، وَهَلْ لَهُ أَنْ يَهْجُرَهَا أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ، وَلَهُ عِنْدَ إِبْدَاءِ النُّشُوزِ أَنْ يَعِظَهَا وَيَهْجُرَهَا ، وَهَلْ لَهُ أَنْ يَضْرِبَهَا أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : وَلَهُ عِنْدَ مُقَامِهَا عَلَى النُّشُوزِ أَنْ يَعِظَهَا وَيَهْجُرَهَا وَيَضْرِبَهَا .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى صِفَةِ الْعِظَةِ وَالْهَجْرِ وَالضَّرْبِ الشقاق بين الزوجين . أَمَّا الْعِظَةُ : فَهُوَ أَنْ يُخَوِّفَهَا بِاللَّهِ تَعَالَى وَبِنَفْسِهِ ، فَتَخْوِيفُهَا بِاللَّهِ أَنْ يَقُولَ لَهَا : اتَّقِ اللَّهَ وَخَافِيهِ ، وَاخْشَيْ سُخْطَهُ وَاحْذَرِي عِقَابَهُ ؛ فَإِنَّ التَّخْوِيفَ بِاللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَبْلَغِ الزَّوَاجِرِ فِي ذَوِي الدِّينِ ، وَتَخْوِيفُهَا مِنْ نَفْسِهِ أَنْ يَقُولَ لَهَا : إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَوْجَبَ لِي عَلَيْكِ حَقًّا إِنْ مَنَعْتِيهِ أَبَاحَنِي ضَرْبَكِ ، وَأَسْقَطَ عَنِّي حَقَّكِ ، فَلَا تَضُرِّي نَفْسَكِ بِمَا أُقَابِلُكِ عَلَى نُشُوزِكِ ، إِنْ نَشَزْتِ بِالضَّرْبِ الْمُؤْلِمِ وَقَطْعِ النَّفَقَةِ الدَّارَّةِ ؛ فَإِنَّ تَعْجِيلَ الْوَعِيدِ أَزْجَرُ لِمَنْ قَلَّتْ مُرَاقَبَتُهُ . وَهَذِهِ الْعِظَةُ ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى خَوْفِ نُشُوزٍ لَمْ يَتَحَقَّقْ ، فَلَيْسَ يُضَارُّهُ ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الْأَمَارَاتُ الَّتِي ظَهَرَتْ مِنْهَا لِنُشُوزٍ تُبْدِيهِ كَفَّهَا عَنْهُ وَمَنَعَهَا مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِهِ مِنْ هَمٍّ طَرَأَ عَلَيْهَا ، أَوْ لِفَتْرَةٍ حَدَثَتْ مِنْهَا ، أَوْ لِسَهْوٍ لَحِقَهَا ، لَمْ يَضُرَّهَا أَنْ تَعْلَمَ مَا حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فِي النُّشُوزِ ، وَأَمَّا الْهَجْرُ نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا : فِي الْفِعْلِ . وَالثَّانِي : فِي الْكَلَامِ . فَأَمَّا الْهَجْرُ فِي الْفِعْلِ ، فَهُوَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ ، وَهُوَ الْإِعْرَاضُ عَنْهَا ، وَأَلَّا يُضَاجِعَهَا فِي فِرَاشٍ أَوْ يُوَلِّيَهَا ظَهْرَهُ فِيهِ ، أَوْ يَعْتَزِلَهَا فِي بَيْتِ غَيْرِهِ . أَمَّا هَجْرُ الْكَلَامِ ، فَهُوَ الِامْتِنَاعُ مِنْ كَلَامِهَا . قَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا أَرَى بِهِ بَأْسًا ، فَكَأَنَّهُ يَرَى أَنَّ الْآيَةَ ، وَإِنْ لَمْ تَضْمَنْهُ فَهِيَ مِنْ إِحْدَى الزَّوَاجِرِ إِلَّا أَنَّ هَجْرَ الْفِعْلِ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَدِيمَهُ الزَّوْجُ بِحَسْبِ مَا يَرَاهُ صَلَاحًا . فَأَمَّا هَجْرُ الْكَلَامِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَدِيمَهُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ قَالَ : لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ ، وَالسَّابِقُ أَسْبَقُهُمَا إِلَى الْجَنَّةِ . وَأَمَّا الضَّرْبُ فَهُوَ ضَرْبُ التَّأْدِيبِ وَالِاسْتِصْلَاحِ ، وَهُوَ كَضَرْبِ التَّعْزِيرِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَبْلُغَ بِهِ أَدْنَى الْحُدُودِ ، وَيَتَوَقَّى بِالضَّرْبِ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ : أَنْ يَقْتُلَ أَوْ يُزْمِنَ أَوْ يُدْمِيَ أَوْ يَشِينَ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَا يَضْرِبْهَا ضَرْبًا مُبَرِّحًا وَلَا مُدْمِيًا وَلَا مُزْمِنًا ، وَيَقِي الْوَجْهَ ، فَالْمُبَرِّحُ الْقَاتِلُ ،

وَالْمُدْمِي إِنْهَارُ الدَّمِ ، وَالْمُزْمِنُ تَعْطِيلُ إِحْدَى أَعْضَائِهَا ، ضَرْبُ الْوَجْهِ يَشِينُهَا وَيُقَبِّحُ صُورَتَهَا . وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ ، عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ نِسَاؤُنَا مَا نَأْتِي مِنْهُنَّ وَمَا نَذَرُ ، قَالَ : حَرْثُكَ ، فَأْتِ حَرْثَكَ أَنَّى شِئْتَ غَيْرَ أَنْ تَضْرِبَ الْوَجْهَ ، وَلَا تُقَبِّحَ وَلَا تَهْجُرَ إِلَّا فِي الْبَيْتِ ، وَأَطْعِمْ إِذَا أَطْعَمْتَ ، وَاكْسُ إِذَا اكْتَسَيْتَ ، كَيْفَ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ . وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اضْرِبُوهُنَّ إِذَا عَصَيْنَكُمْ فِي الْمَعْرُوفِ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ تَوَقَّى شِدَّةَ الضَّرْبِ ، وَتَوَقَّى ضَرْبَ الْوَجْهِ ، وَتَوَقَّى الْمَوَاضِعَ الْقَاتِلَةَ مِنَ الْبَدَنِ كَالْفُؤَادِ وَالْخَاصِرَةِ ، وَتَوَقَّى أَنْ تُوَالِيَ الضَّرْبَ مَوْضِعًا فَيَنْهَرَ الدَّمُ ، فَإِنْ ضَرَبَهَا فَمَاتَتْ مِنَ الضَّرْبِ ، نُظِرَ ؛ فَإِنْ كَانَ مِثْلُهُ قَاتِلًا فَهُوَ قَاتِلُ عُمَدٍ ، وَعَلَيْهِ الْقَوْدُ ، وَإِنْ كَانَ مِثْلُهُ يَقْتُلُ وَلَا يَقْتُلُ فَهُوَ خَطَأٌ شِبْهُ الْعَمْدِ ، فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ مُغَلَّظَةٌ يَتَحَمَّلُهَا عِنْدَ الْعَاقِلَةِ ، وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ فِي الْحَالَيْنِ ، وَبَانَ بِإِفْضَاءِ الضَّرْبِ إِلَى الْقَتْلِ أَنَّهُ كَانَ غَيْرَ مُبَاحٍ ، كَمَا تَقُولُهُ فِي التَّعْزِيرِ ، وَضَرْبِ الْمُعَلِّمِ الصِّبْيَانَ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا مَا وَرَدَ مِنَ السُّنَّةِ فِي إِبَاحَةِ الضَّرْبِ وَحَظْرِهِ الشقاق بين الزوجين ، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لَا تَضْرِبُوا إِمَاءَ اللَّهِ ، فَنَهَى عَنْ ضَرْبِهِنَّ ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْآيَةِ فِي إِبَاحَةِ الضَّرْبِ . وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : كُنَّا مَعَاشِرَ قُرَيْشٍ يَغْلِبُ رِجَالُنَا نِسَاءَنَا ، وَكَانَ الرَّجُلُ مِنَّا بِمَكَّةَ مَعَهُ هِرَاوَةٌ إِذَا تَرَمْرَمَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ هَرَاهَا بِهَا ، فَقَدِمْنَا هَذَيْنِ الْحَيَّيْنِ الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ ، فَوَجَدْنَا رِجَالًا مَغَانِمَ لِنِسَائِهِمْ يَغْلِبُ نِسَاؤُهُمْ رِجَالَهُمْ ، فَاخْتَلَطَ نِسَاؤُنَا بِنِسَائِهِمْ فَذَئِرْنَ ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَئِرَ النِّسَاءُ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ ، فَأْذَنْ فِي ضَرْبِهِنَّ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَاضْرِبُوهُنَّ ، قَالَ : فَضَرَبَ النَّاسُ نِسَاءَهُمْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ ، قَالَ : فَأَتَى نِسَاءٌ كَثِيرٌ يَشْتَكِينَ الضَّرْبَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَقَدْ أَطَافَ بِآلِ مُحَمَّدٍ اللَّيْلَةَ سَبْعُونَ امْرَأَةً كُلُّهُنَّ يَشْتَكِينَ أَزْوَاجَهُنَّ ، وَلَا تَجِدُونَ أُولَئِكَ خِيَارَكُمْ ، وَفِي قَوْلِ عُمَرَ ذَئِرَ النِّسَاءُ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ الْبَطَرُ وَالْأَشَرَةُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ الْبِذَاءُ وَالِاسْتِطَابَةُ ، قَالَ الشَّاعِرُ : لَمَّا أَتَانِي عَنْ تَمِيمٍ أَنَّهُمْ ذَئِرُوا لِقَتْلَى عَامِرٍ وَتَغَضَّبُوا

وَهَذَا الْخَبَرُ مُخَالِفٌ لِلْخَبَرِ الْمُتَقَدِّمِ ، وَإِنْ كَانَ مُوَافِقًا لِلْآيَةِ . فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ يَتَرَتَّبُ هَذَانِ الْخَبَرَانِ مَعَ الْآيَةِ ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنْ يَنْسَخَ الْقُرْآنَ السُّنَةُ ، فَلِأَصْحَابِنَا عَنْ ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ مَا جَاءَتْ بِهِ الْآيَةُ وَالْخَبَرُ مِنْ إِبَاحَةِ الضَّرْبِ فَوَارِدٌ فِي النُّشُوزِ ، وَمَا وَرَدَ بِهِ الْخَبَرُ الْآخَرُ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الضَّرْبِ فَفِي غَيْرِ النُّشُوزِ ، فَأَبَاحَ الضَّرْبَ مَعَ وُجُودِ سَبَبِهِ ، وَنَهَى عَنْهُ مَعَ ارْتِفَاعِ سَبَبِهِ ، وَهَذَا مُتَّفِقٌ لَا يُعَارِضُ بَعْضُهُ بَعْضًا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَبَاحَ الضَّرْبَ جَوَازًا ، وَنَهَى عَنْهُ اخْتِيَارًا ، فَيَكُونُ الضَّرْبُ وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا بِالْإِذْنِ فِيهِ ، فَتَرْكُهُ أَوْلَى لِلنَّهْيِ عَنْهُ ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مُتَنَافِيًا وَلَا نَاسِخًا وَمَنْسُوخًا . وَالثَّالِثُ : أَنَّ خَبَرَ النَّهْيِ عَنِ الضَّرْبِ مَنْسُوخٌ بِخَبَرِ عُمَرَ الْوَارِدِ بِإِبَاحَتِهِ ، ثُمَّ جَاءَتِ الْآيَةُ مُبَيِّنَةً لِسَبَبِ الْإِبَاحَةِ ، فَكَانَتِ السُّنَّةُ نَاسِخَةً لِلسُّنَّةِ ، وَالْكِتَابُ مُبِيِّنًا وَلَمْ يَنْسَخِ الْكِتَابَ السُّنَّةُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ الْحُكْمِ فِي الشِّقَاقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ
باب تسميته شقاقا

بَابُ الْحُكْمِ فِي الشِّقَاقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ ، مِنَ الْجَامِعِ مِنْ كِتَابِ الطَّلَاقِ ، وَمِنْ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَمِنْ نُشُوزِ الرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ : " فَلَمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا خِفْنَا الشِّقَاقَ بَيْنَهُمَا بِالْحَكَمَيْنِ ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ حُكْمَهُمَا غَيْرُ حُكْمِ الْأَزْوَاجِ ، فَإِذَا اشْتَبَهَ حَالُهُمَا فَلَمْ يَفْعَلِ الرَّجُلُ الصُّلْحَ وَلَا الْفُرْقَةَ ، وَلَا الْمَرْأَةُ تَأْدِيَةَ الْحَقِّ وَلَا الْفِدْيَةَ ، وَصَارَا مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ لَهُمَا وَلَا يَحْسُنُ ، وَتَمَادَيَا ، بَعَثَ الْإِمَامُ حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا ، مَأْمُونَيْنِ بِرِضَا الزَّوْجَيْنِ وَتَوْكِيلِهِمَا إِيَّاهُمَا بِأَنْ يَجْمَعَا أَوْ يُفَرِّقَا إِذَا رَأَيَا ذَلِكَ ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : ابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا ، ثُمَّ قَالَ لِلْحَكَمَيْنِ : هَلْ تَدْرِيَانِ مَا عَلَيْكُمَا ؟ عَلَيْكُمَا أَنْ تَجْمَعَا إِنْ رَأَيْتُمَا أَنْ تَجْمَعَا ، وَأَنْ تُفَرِّقَا إِنْ رَأَيْتُمَا أَنْ تُفَرِّقَا ، فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ : رَضِيتُ بِكِتَابِ اللَّهِ بِمَا عَلَيَّ فِيهِ وَلِي ، فَقَالَ الرَّجُلُ : أَمَّا الْفُرْقَةُ فَلَا ، فَقَالَ عَلِيٌّ : كَذَبْتَ وَاللَّهِ حَتَّى تُقِرَّ بِمِثْلِ الَّذِي أَقَرَّتْ بِهِ ، فَدَلَّ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لِلْحَاكِمِ إِلَّا بِرِضَا الزَّوْجَيْنِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لَبَعَثَ بِغَيْرِ رِضَاهُمَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا الْبَابُ يَشْتَمِلُ عَلَى الْحُكْمِ فِي نُشُوزِ الزَّوْجَيْنِ ، وَهُوَ الشِّقَاقُ ، وَفِي تَسْمِيَتِهِ شِقَاقًا تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ فَعَلَ مَا شَقَّ عَلَى صَاحِبِهِ . وَالثَّانِي : لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ صَارَ فِي شِقٍّ بِالْعَدَاوَةِ وَالْمُبَايَنَةِ . وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا [ النِّسَاءِ : 35 ] فَإِذَا شَاقَّ الزَّوْجَانِ ، وَشِقَاقُهُمَا يَكُونُ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجَةِ بِنُشُوزِهَا عَنْهُ ، وَتَرْكِ لُزُومِهَا لِحَقِّهِ ، وَيَكُونُ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ بِعُدُولِهِ عَنْ إِمْسَاكٍ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٍ بِإِحْسَانٍ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَلَّا يَكُونَا قَدْ خَرَجَا فِي الْمُشَاقَّةِ إِلَى قُبْحٍ مِنْ فِعْلٍ كَالضَّرْبِ ، وَلَا إِلَى قَبِيحٍ مِنْ قَوْلٍ كَالسَّبِّ ، فَإِنَّ الْحَاكِمَ يُنَصِّبُ لَهُمَا أَمِينًا يَأْمُرُهُ بِالْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمَا ، وَأَنْ يَسْتَطِيبَ نَفْسَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ مِنْ عَفْوٍ أَوْ هِبَةٍ ، فَإِنَّ سَوْدَةَ لَمَّا هَمَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَلَاقِهَا

اسْتَعْطَفَتْهُ بِأَنْ وَهَبَتْ يَوْمَهَا مِنْهُ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ؛ لِعِلْمِهَا بِشِدَّةِ مَيْلِهِ إِلَيْهَا فَعَطَفَ لَهَا ، وَأَمْسَكَهَا ، فَنَزَلَ فِيهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ [ النِّسَاءِ : 128 ] . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الشِّقَاقُ قَدْ أَخْرَجَهُمَا إِلَى قَبِيحِ الْفِعْلِ فَتَضَارَبَا ، وَإِلَى قَبِيحِ الْقَوْلِ فَتَشَاتَمَا ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ : وَصَارَا مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ لَهُمَا ، وَلَا يَحْسُنُ ، فَهِيَ الْحَالُ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا [ النِّسَاءِ : 35 ] فَيَجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ إِذَا تَرَافَعَا إِلَيْهِ فِيهَا أَنْ يَخْتَارَ مِنْ أَهْلِ الزَّوْجِ حَكَمًا مَرْضِيًّا ، وَمِنْ أَهْلِهَا حَكَمًا مَرْضِيًّا ، فَإِنْ جَعَلَ الْحَاكِمُ إِلَى الْحَكَمَيْنِ الْإِصْلَاحَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ دُونَ الْفُرْقَةِ جَازَ ، بَلْ لَوْ فَعَلَهُ الْحَاكِمُ مُبْتَدِئًا قَبْلَ تَرَافُعِ الزَّوْجَيْنِ إِلَيْهِ أَوْ فَعَلَهُ الْحُكَمَاءُ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمَا مِنْ غَيْرِ إِذْنِ الْحَاكِمِ لَهُمَا جَازَ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [ النِّسَاءِ : 114 ] وَإِنْ أَرَادَ الْحَاكِمُ أَنْ يَرُدَّ إِلَى الْحَكَمَيْنِ الْإِصْلَاحَ إِنْ رَأَيَاهُ أَوْلَى ، وَالَفُرْقَةَ إِنْ رَأَيَاهَا أَصْلَحَ ، أَوِ الْخُلْعَ إِنْ رَأَيَاهُ أَنْجَحَ ، فَهَلْ يَصِحُّ ذَلِكَ مِنَ الْحَكَمَيْنِ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ مِنْ غَيْرِ تَوْكِيلِ الزَّوْجَيْنِ ، أَمْ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِتَوْكِيلِهِمَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَصِحُّ ذَلِكَ مِنَ الْحَكَمَيْنِ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ مِنْ غَيْرِ تَوْكِيلِ الزَّوْجَيْنِ ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ مِنْ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَدَلِيلُهُ : قَوْلُهُ تَعَالَى : فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا [ النِّسَاءِ : 35 ] فَكَانَ الدَّلِيلُ فِيهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ خِطَابٌ تُوِجَّهَ إِلَى الْحَاكِمِ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مَا يَضْمَنُهُ مِنْ إِنْفَاذِ الْحَكَمَيْنِ مِنْ جِهَةِ الْحَاكِمِ دُونَ الزَّوْجَيْنِ . وَالثَّانِي : قَوْلُهُ : إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا رَاجِعٌ إِلَى الْحَكَمَيْنِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِرَادَةَ لَهُمَا دُونَ الزَّوْجَيْنِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ إِطْلَاقَ اسْمِ الْحَكَمَيْنِ عَلَيْهِمَا ؛ لِنُفُوذِ الْحُكْمِ جَبْرًا مِنْهُمَا كَالْحَاكِمِ ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ ذَلِكَ إِلَى تَوْكِيلِ الزَّوْجَيْنِ . وَرُوِيَ أَنَّهُ شَجَرَ بَيْنَ عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ فَاطِمَةَ بِنْتِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ خُصُومَةٌ تَنَافَرَا فِيهَا ، وَكَانَ سَبَبُهَا أَنَّ فَاطِمَةَ كَانَتْ ذَاتَ مَالٍ تَدِلُّ بِمَالِهَا عَلَى عَقِيلٍ ، وَتُكْثِرُ إِذْكَارَهُ بِمَنْ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ مِنْ أَهْلِهَا ، فَتَقُولُ لَهُ : مَا فَعَلَ عُتْبَةُ ، مَا فَعَلَ الْوَلِيدُ ، مَا فَعَلَ شَيْبَةُ ، وَعَقِيلٌ يُعْرِضُ عَنْهَا إِلَى أَنْ دَخَلَ ذَاتَ يَوْمٍ ضَجِرًا ، فَقَالَتْ لَهُ : مَا فَعَلَ عُتْبَةُ وَالْوَلِيدُ وَشَيْبَةُ ،

فَقَالَ لَهَا : إِذَا دَخَلْتِ النَّارَ فَعَلَى يَسَارِكِ ، فَجَمَعَتْ رَحْلَهَا وَبَلَغَ ذَلِكَ عُثْمَانَ ، فَقَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى : وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا [ النِّسَاءِ : 35 ] ، فَاخْتَارَ مِنْ أَهْلِ عَقِيلٍ : عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ ، وَمِنْ أَهْلِ فَاطِمَةَ : مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ ، وَقَالَ : عَلَيْكُمَا أَنْ تَجْمَعَا إِنْ رَأَيْتُمَا ، أَوْ تُفَرِّقَا إِنْ رَأَيْتُمَا . فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ : وَاللَّهِ لَأَحْرِصَنَّ عَلَى الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا . فَفَالَ مُعَاوِيَةُ : وَاللَّهِ لَا فَرَّقْتُ بَيْنَ شَيْخَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ فَمَضَيَا إِلَيْهِمَا وَقَدِ اصْطَلَحَا . فَدَلَّ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُمَا عَلَى أَنَّ الْحَكَمَيْنِ يَمْلِكَانِ الْفُرْقَةَ إِنْ رَأَيَاهَا ، وَذَلِكَ بِمَشْهَدٍ مِنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَقَدْ حَضَرَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ مَنْ حَضَرَ فَلَمْ يُنْكِرْهُ ؛ وَلِأَنَّ لِلْحَاكِمِ مَدْخَلًا فِي إِيقَاعِ الْفُرْقَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِالْعُيُوبِ وَالْعُنَّةِ وَفِي الْإِيلَاءِ ، فَجَازَ أَنْ يَمْلِكَ بِهَا تَفْوِيضَ ذَلِكَ إِلَى الْحَكَمَيْنِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنَ الْحَكَمَيْنِ إِيقَاعُ الْفُرْقَةِ وَالْخُلْعِ إِلَّا بِتَوْكِيلِ الزَّوْجَيْنِ ، وَلَا يَمْلِكُ الْحَاكِمُ الْإِذْنَ لَهُمَا فِيهِ ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " وَ " الْإِمْلَاءِ " وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا [ النِّسَاءِ : 35 ] فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَرْدُودَ إِلَى الْحَكَمَيْنِ الْإِصْلَاحُ دُونَ الْفُرْقَةِ . وَلِمَا رَوَى ابْنُ عَوْنٍ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ السَّلْمَانِيِّ قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ إِلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قِيَامٌ مِنَ النَّاسِ يَعْنِي جَمْعًا ، فَتَلَى الْآيَةَ ، وَبَعَثَ إِلَى الْحَكَمَيْنِ ، وَقَالَ : رُوَيْدَكُمَا حَتَّى أُعْلِمَكُمَا مَاذَا عَلَيْكُمَا ، إِنْ رَأَيْتُمَا أَنْ تَجْمَعَا جَمَعْتُمَا ، وَإِنْ رَأَيْتُمَا أَنْ تُفَرِّقَا فَرَّقْتُمَا ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى الْمَرْأَةِ وَقَالَ : قَدْ رَضِيتِ بِمَا حَكَمَا ؟ قَالَتْ : نَعَمْ رَضِيتُ بِكِتَابِ اللَّهِ عَلَيَّ ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى الرَّجُلِ فَقَالَ : قَدْ رَضِيتَ بِمَا حَكَمَا ؟ فَقَالَ : لَا وَلَكِنْ أَرْضَى أَنْ تَجْمَعَا وَلَا أَرْضَى أَنْ تُفَرِّقَا ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ : كَذَبْتَ وَاللَّهِ لَا تَبْرَحُ حَتَّى تَرْضَى بِمِثْلِ الَّذِي رَضِيَتْ . فَمَوْضِعُ الدَّلِيلِ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ أَنَّهُ لَوْ مَلَكَ الْحَكَمَانِ ذَلِكَ بِغَيْرِ تَوْكِيلِ الزَّوْجَيْنِ لَمْ يَكُنْ لِرُجُوعِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى رِضَا الزَّوْجِ وَجْهٌ ، وَلَكَانَ بِإِذْنِ الْحَكَمَيْنِ فِيهِ ، وَإِنِ امْتَنَعَ فَإِنْ قِيلَ : فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ كَذَبْتَ وَاللَّهِ حَتَّى تَرْضَى بِمِثْلِ الَّذِي رَضِيتَ ؟ وَكَيْفَ يَكُونُ امْتِنَاعُهُ مِنَ الرِّضَا كَذِبًا ؟ فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَقَدَّمَ مِنْهُ الرِّضَا ثُمَّ أَنْكَرَهُ ، فَصَارَ كَذِبًا وَزَالَ بِالْإِنْكَارِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّوْكِيلِ .

وَالثَّانِي : أَنَّ قَوْلَهُ كَذَبْتَ بِمَعْنَى أَخْطَأَتْ ، وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنِ الْخَطَأِ بِالْكَذِبِ ؛ لِأَنَّهُ بِخِلَافِ الْحَقِّ ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ : كَذَبَتْكَ عَيْنُكَ أَمْ رَأَيْتَ بِوَاسِطٍ غَلَسَ الظَّلَامِ مِنَ الرَّبَابِ خَيَالَا يَعْنِي أَخْطَأَتْكَ عَيْنُكَ ، وَيَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلِ الطَّلَاقَ إِلَّا إِلَى الْأَزْوَاجِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَمْلِكَهُ غَيْرُهُمْ ، وَلِأَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَمْلِكُ إِيقَاعَ الطَّلَاقِ وَالْخُلْعِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ إِلَّا عَنْ رِضَاهُمَا ، فَلِئَلَّا يَمْلِكَهُ الْحَكَمَانِ مِنْ قِبَلِهِ أَوْلَى .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ كَانَ الْحَكَمَانِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ حَاكِمَيْنِ ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي وَكِيلَيْنِ ، وَلَا بُدَّ مِنِ اعْتِبَارِ شُرُوطٍ فِي صِحَّةِ تَحْكِيمِهِمَا الحكمان في شقاق الزوجين ، وَهِيَ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ . قِسْمٌ يَجِبُ اعْتِبَارُهُ فِيهِمَا . وَقِسْمٌ يُسْتَحَبُّ اعْتِبَارُهُ فِيهِمَا . وَقِسْمٌ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْقَوْلِ فِيهِمَا . فَأَمَّا مَا يَجِبُ اعْتِبَارُهُ فِيهِمَا مِنَ الشُّرُوطِ فَثَلَاثَةٌ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ ، فَإِنْ كَانَا أَوْ أَحَدُهُمَا امْرَأَةً ، لَمْ يَجُزْ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَا حُرَّيْنِ ، فَإِنْ كَانَا أَوْ أَحَدُهُمَا عَبْدًا ، لَمْ يَجُزْ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَا عَدْلَيْنِ ، فَإِنْ كَانَا أَوْ أَحَدُهُمَا غَيْرَ عَدْلٍ ، لَمْ يَجُزْ . وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا هَذِهِ الشُّرُوطَ الثَّلَاثَةَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا ؛ لِأَنَّهُمَا إِنْ كَانَا حَاكِمَيْنِ فَلَا بُدَّ مِنِ اعْتِبَارِ هَذِهِ الشُّرُوطِ فِي الْحَاكِمِ ، وَإِنْ كَانَا وَكِيلَيْنِ فَقَدِ اقْتَرَنَ بِوَكَالَتِهِمَا وِلَايَةُ اخْتِيَارِ الْحَاكِمِ لَهُمَا ، وَلَا يَصِحُّ فِيمَنْ رُدَّ الْحُكْمُ إِلَيْهِ نَظَرٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَاكِمَ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَرُدَّ النَّظَرَ فِي مَالِ يَتِيمٍ إِلَى عَبْدٍ أَوْ فَاسْقٍ لَمْ يَجُزْ ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا . وَأَمَّا مَا يُسْتَحَبُّ اعْتِبَارُهُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْحَكَمَانِ مِنْ أَهْلِ الزَّوْجَيْنِ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا ، وَلِأَنَّ الْأَوَّلَ أَخَصُّ بِطَلَبِ الْحَظِّ مِنَ الْأَجَانِبِ ؛

وَلِأَنَّ الْأُنْسَ بِالْأَهْلِ وَالِاسْتِجَابَةَ لَهُمْ ، وَشَرْحَ الْحَالِ مَعَهُمْ أَكْثَرُ مِنَ الْأَجَانِبِ ، فَلِهَذِهِ الْأُمُورِ اخْتَرْنَا أَنْ يَكُونَ الْحَكَمَانِ مِنْ أَهْلِ الزَّوْجَيْنِ ، فَإِنْ كَانَا أَجْنَبِيَّيْنِ جَازَ ؛ لِأَنَّهُ إِنْ جَرَى التَّحْكِيمُ مَجْرَى الْحَاكِمِ ، فَحُكْمُ الْأَجْنَبِيِّ نَافِذٌ ، وَإِنْ جَرَى مَجْرَى الْوَكَالَةِ فَوَكَالَةُ الْأَجْنَبِيِّ جَائِزَةٌ ؛ وَلِأَنَّهُ قَدْ لَا يَكُونُ لِوَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ أَهْلٌ وَلَا إِنْ كَانُوا حَضَرُوا ، وَلَا إِنْ حَضَرُوا كَانُوا عُدُولًا ، فَدَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَى جَوَازِ تَحْكِيمِ غَيْرِ الْأَهْلِ . وَأَمَّا مَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْقَوْلِ فِيهِمَا الحكمان بين الزوجين ، فَهُوَ أَنْ يَكُونَا فَقِيهَيْنِ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِي الْأَحْكَامِ . فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّهُمَا يَجْرِيَانِ مَجْرَى الْحَاكِمَيْنِ ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَا مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُونَا مِنْ أَهْلِهِ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ فَلَمْ يَنْفُذْ إِلَّا مِنْ مُجْتَهِدٍ ، وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّهُمَا يَجْرِيَانِ مَجْرَى الْوَكِيلَيْنِ جَازَ أَلَّا يَكُونَا مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ ؛ لِأَنَّ وَكَالَةَ الْعَامَّةِ جَائِزَةٌ ، فَإِنْ عَدَلَ الْحَاكِمُ عَنْ أَهْلِهَا إِلَى أَجْنَبِيَّيْنِ اخْتَارَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَكَمًا يَثِقُ بِهِ وَيَأْنَسُ إِلَيْهِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحَكِّمَ عَلَيْهِمَا عَدُوَّيْنِ لِلتُّهْمَةِ اللَّاحِقَةِ بِهِمَا .

مَسْأَلَةٌ لَوْ فَوَّضَا مَعَ الْخُلْعِ وَالْفُرْقَةِ إِلَى الْحَكَمَيْنِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ فَوَّضَا مَعَ الْخُلْعِ وَالْفُرْقَةِ إِلَى الْحَكَمَيْنِ الْأَخْذَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ كَانَ عَلَى الْحَكَمَيْنِ الِاجْتِهَادُ فِيمَا يَرَيَانِهِ أَنَّهُ صَلَاحٌ لَهُمَا الشقاق بين الزوجين بَعْدَ مَعْرِفَةِ اخْتِلَافِهِمَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : عَلَى مَا يَتِمُّ بِهِ وِلَايَةُ الْحَكَمَيْنِ . وَالثَّانِي : مَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَهُ الْحَكَمَانِ ، وَمَا لَا يَجُوزُ لَهُمَا فِعْلُهُ الحكمان بين الزوجين . فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِيمَا يَتِمُّ بِهِ وِلَايَةُ الْحَكَمَيْنِ فَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِاخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ فِيهِمَا . فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّهُمَا حَكَمَانِ تَمَّتْ وِلَايَتُهُمَا بِتَقْلِيدِ الْحَاكِمِ لَهُمَا ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِمَا إِذَنُ الزَّوْجَيْنِ وَلَا رِضَاهُمَا ، لَكَانَ لَا بُدَّ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُعَيِّنَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْحَكَمَيْنِ أَنْ يَكُونَ مُخْتَصًّا بِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ ، فَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْهُ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنُوبُ عَنْ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ فِي اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ مِنَ الْآخَرِ ، وَالنَّظَرِ فِي مَصْلَحَتِهِ ثُمَّ يَرُدُّ إِلَيْهِمَا مَا رَأَيَاهُ صَلَاحًا مِنْ إِصْلَاحٍ أَوْ طَلَاقٍ أَوْ خُلْعٍ ، فَإِنْ أَرَادَ بَعْدَ تَحْكِيمِهِمَا أَنْ يَسْتَبْدِلَ بِهِمَا غَيْرَهُمَا ، فَإِنْ كَانَ لِتَغَيُّرِ حَالِهِمَا أَوْ لِوُجُودِ مَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُمَا جَازَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِتَغَيُّرِ حَالٍ وَلَا لِوُجُودِ مَنْ هُوَ أَوْلَى لَمْ يَجُزْ ، وَلَوِ اعْتَزَلَ الْحَكَمَانِ جَازَ ، وَمَا يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ لَهُمَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِعَجْزٍ مِنْهُمَا أَوْ لِاشْتِبَاهِ الْأَصْلَحِ عَلَيْهِمَا ، وَلَيْسَ لَهُمَا بَعْدَ أَنْ عُزِلَا أَوِ اعْتَزَلَا أَنْ يَحْكُمَا عَلَيْهِمَا بِشَيْءٍ ، فَإِنْ

حَكَمَا لَمْ يُنَفَّذْ حُكْمُهُمَا ، وَإِنْ قُلْتُ إِنَّ الْحَكَمَيْنِ وَكِيلَانِ ، لَمْ يَتِمَّ وِلَايَتُهُمَا إِلَّا بِتَوْكِيلِ الزَّوْجَيْنِ إِلَى إِذَنِ الْحَاكِمِ ، وَإِنَّمَا افْتَقَرَا مَعَ تَوْكِيلِ الزَّوْجَيْنِ إِلَى إِذْنِ الْحَاكِمِ لَهُمَا ؛ لِأَنَّ لَهُ مَعَ الْوَكَالَةِ وِلَايَةً لَا تَصِحُّ إِلَّا بِالْحَاكِمِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ احْتَاجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِتَوْكِيلِ الْحَكَمِ الَّذِي يَنُوبُ عَنْهُ ، فَيَأْذَنُ الزَّوْجُ لِحَكَمِهِ فِي الطَّلَاقِ وَعَدَدِهِ ، وَفِي الْخُلْعِ وَمِقْدَارِهِ ، وَلَا يَكْتَفِي فِي الْإِذْنِ بِالطَّلَاقِ عَنِ الْإِذْنِ فِي الْخُلْعِ لِأَنَّ الْخُلْعَ يُسْقِطُ الرَّجْعَةَ فَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إِلَّا بِإِذْنِ مُسْتَحِقِّيهَا ، وَتَأْذَنُ الزَّوْجَةُ لِحَكَمِهَا أَنْ يُخَالِعَ عَنْهَا مِنْ مَالِهَا بِمَا تُقَدِّرُهُ لَهُ أَوْ تُعَيِّنُهُ ، ثُمَّ يَأْذَنُ الْحَاكِمُ لِلْحَكَمَيْنِ بَعْدَ تَوْكِيلِ الزَّوْجَيْنِ فِي فِعْلِ مَا وُكِّلَا فِيهِ وَإِمْضَائِهِ ، فَيَكُونُ التَّوْكِيلُ مِنَ الزَّوْجَيْنِ ، وَالْوِلَايَةُ مِنَ الْحَاكِمِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا مَا يُسْتَحَقُّ عَلَى الْحَكَمَيْنِ فِعْلُهُ الحكمان بين الزوجين ، فَهُوَ الِاجْتِمَاعُ عَلَى فِعْلِ الْأَصْلَحِ لِلزَّوْجَيْنِ ، فَإِنْ كَانَ الْأَصْلَحُ لَهُمَا الْإِصْلَاحَ بَيْنَهُمَا ، فَلَيْسَ لَهُمَا أَنْ يَعْدِلَا عَنِ الْإِصْلَاحِ إِلَى طَلَاقٍ أَوْ خُلْعٍ ، فَإِنْ طَلَّقَا أَوْ خَالَعَا ، لَمْ يَجُزْ وَكَانَ مَرْدُودًا ، وَإِنْ كَانَ الْأَصْلَحُ لَهُمَا الطَّلَاقَ مِنْ غَيْرِ خُلِعٍ اتَّفَقَا عَلَيْهِ ، تَفَرَّدَ حَكَمُ الزَّوْجِ بِإِيقَاعِهِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُخَالِعَا ، وَإِنْ كَانَ الْأَصْلَحُ لَهُمَا الْخُلْعَ اجْتَمَعَا عَلَى عَقْدِ الْخُلْعِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى عَدَدِ الطَّلَاقِ ، وَقَدْرِ الْعِوَضِ وَتَفَرَّدَ حَكَمُ الزَّوْجَةِ بِالْبَذْلِ وَحَكَمُ الزَّوْجِ بِالْقَبُولِ وَإِيقَاعِ الطَّلَاقِ . فَلَوْ أَرَادَ الْحَكَمَانِ فَسْخَ النِّكَاحِ بِغَيْرِ طَلَاقٍ الحكمان بين الزوجين لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُمَا الْحَاكِمُ فِي الْفَسْخِ جَازَ إِنْ قِيلَ : إِنَّ التَّحْكِيمَ حُكْمٌ ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ بِالْفَسْخِ أَخَصُّ مِنْهُ بِالطَّلَاقِ ، وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ التَّحْكِيمَ وَكَالَةٌ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ لَمْ يُرِدِ الْفَسْخَ إِلَيْهِمَا ، فَلَوْ رَدَّ الزَّوْجَانِ إِلَيْهِمَا الْفَسْخَ لَمْ يَجُزْ ؛ وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ التَّحْكِيمَ وَكَالَةٌ ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَيْنِ لَا يَمْلِكَانِ الْفَسْخَ إِلَّا بِالْعَيْبِ . فَأَمَّا إِنْ ظَهَرَ لِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ عَلَى صَاحِبِهِ مَالٌ لَمْ يَكُنْ لِلْحَكَمَيْنِ أَنْ يَسْتَوْفِيَاهُ الحكمان بين الزوجين إِلَّا عَنْ إِذْنِ مُسْتَحِقِّهِ مِنَ الزَّوْجَيْنِ دُونَ الْحَاكِمِ ؛ لِأَنَّهُ رَشِيدٌ لَا يُوَلَّى عَلَيْهِ ، فَإِنْ أَخَذَهُ الْحَاكِمُ لَمْ يَبْرَأْ مِنْهُ الدَّافِعُ ، فَإِنْ جَعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ إِلَى حَكَمِهِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ مَا وَجَبَ لَهُ مِنْ حَقٍّ عَلَى صَاحِبِهِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى إِذْنِ الْحَاكِمِ فِيهِ ، وَجَازَ لَهُ اسْتِيفَاؤُهُ ، وَلَوْ جَعَلَ الْحَاكِمُ ذَلِكَ إِلَيْهِ لَمْ يَجُزْ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا ، سَوَاءٌ قِيلَ : إِنَّ الْحَكَمَ حَاكِمٌ أَوْ وَكِيلٌ ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي اسْتِيفَاءِ حُقُوقِ أَهْلِ الرُّشْدِ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ مَدْخَلٌ فِي إِيقَاعِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمْ ، وَهَكَذَا لَا يَجُوزُ لِلْحَكَمَيْنِ الْإِبْرَاءُ مِنْ حَقٍّ وَجَبَ لِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ دَيْنٍ ؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ لَا يَصِحُّ إِلَّا مِنْ مَالِكٍ أَوْ بِإِذْنِ مَالِكٍ .

مَسْأَلَةٌ لَوْ غَابَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ وَلَمْ يَفْسَخِ الْوَكَالَةَ أَمْضَى الْحَكَمَانِ رَأْيَهُمَا

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ غَابَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ وَلَمْ يَفْسَخِ الْوَكَالَةَ الحكمان بين الزوجين ، أَمْضَى الْحَكَمَانِ رَأْيَهُمَا " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا اسْتَقَرَّتْ وِلَايَةُ الْحَكَمَيْنِ فِي شِقَاقِ الزَّوْجَيْنِ ، فَغَابَ الزَّوْجَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا ، وَأَرَادَ الْحَكَمَانِ تَنْفِيذَ مَا إِلَيْهِمَا ، فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ فِيهِمَا ، فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ التَّحْكِيمَ وَكَالَةٌ ، جَازَ لَهُمَا مَعَ غَيْبَةِ الزَّوْجَيْنِ أَنْ يَفْعَلَا مَا رَأَيَاهُ صَلَاحًا ؛ لِأَنَّ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ حَقَّ مُوَكِّلِهِ ، وَيُوَفِّيَ مَا عَلَيْهِ مِنْ حَقٍّ ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا هَذَا إِذَا كَانَا مُفْتَرِقَيْنِ فِي الْغَيْبَةِ ، فَأَمَّا إِذَا كَانَا فِي غَيْبَتِهِمَا مُجْتَمِعَيْنِ لَمْ يَكُنْ لِلْحَكَمَيْنِ إِيقَاعُ طَلَاقٍ وَلَا خُلْعٍ ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَصْطَلِحَا فِي الْغَيْبَةِ ، وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ التَّحْكِيمَ حُكْمٌ لَمْ يَجُزْ لِلْحَكَمَيْنِ أَنْ يَحْكُمَا مَعَ غَيْبَتِهِمَا ، سَوَاءٌ كَانَا فِيهِمَا مُجْتَمِعَيْنَ أَوْ مُفْتَرِقَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ جَازَ الْحُكْمُ عِنْدَنَا عَلَى الْغَائِبِ ، فَالْحُكْمُ لَهُ لَا يَجُوزُ حَتَّى يَحْضُرَ ، فَإِنْ رَجَعَ الزَّوْجَانِ عَنِ التَّحْكِيمِ فَإِنْ كَانَ مَعَ اصْطِلَاحِهِمَا بَطَلَتْ وِلَايَةُ الْحَكَمَيْنِ الحكمان بين الزوجين ، سَوَاءٌ قِيلَ : إِنَّ التَّحْكِيمَ حُكْمٌ أَوْ وَكَالَةٌ ؛ لِأَنَّ الشِّقَاقَ قَدْ زَالَ ، وَإِنْ كَانَ مَعَ مُقَامِهَا عَلَى الشِّقَاقِ بَطَلَ التَّحْكِيمُ إِنْ قِيلَ : إِنَّهُ وَكَالَةٌ ، وَلَمْ يَبْطُلْ إِنْ قِيلَ : إِنَّهُ حُكْمٌ . وَلَوْ رَجَعَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ دُونَ الْآخَرِ كَانَ كَرُجُوعِهِمَا مَعًا يَبْطُلُ بِهِ التَّحْكِيمُ إِنْ قِيلَ : إِنَّهُ وَكَالَةٌ ، وَلَمْ يَبْطُلْ بِهِ إِنْ قِيلَ : إِنَّهُ حُكْمٌ ؛ لِأَنَّ التَّحْكِيمَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِحَكَمَيْنِ .

مَسْأَلَةٌ أَيُّهُمَا غُلِبَ عَلَى عَقْلِهِ لَمْ يَمْضِ الْحَكَمَانِ بَيْنَهُمَا شَيْئًا حَتَّى يَفِيقَ ثُمَّ يُحْدِثُ الْوَكَالَةَ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَأَيُّهُمَا غُلِبَ عَلَى عَقْلِهِ ، لَمْ يَمْضِ الْحَكَمَانِ بَيْنَهُمَا شَيْئًا الحكمان بين الزوجين ، حَتَّى يَفِيقَ ثُمَّ يُحْدِثُ الْوَكَالَةَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا جُنَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ بَعْدَ تَحْكِيمِ الْحَكَمَيْنِ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ ، لَمْ يَجُزْ لِلْحَكَمَيْنِ أَنْ يُنَفِّذَا حُكْمَ الشِّقَاقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا ؛ لِأَنَّهُ إِنْ قِيلَ : إِنَّ التَّحْكِيمَ وَكَالَةٌ فَقَدْ بَطَلَتْ بِجُنُونِ الْمُوَكِّلِ . وَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ حُكْمٌ فَالْجُنُونُ قَدْ قَطَعَ الشِّقَاقَ ، فَإِنْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ مِنْهُمَا بَطَلَ التَّحْكِيمُ إِنْ قِيلَ : إِنَّهُ وَكَالَةٌ ، حَتَّى يَسْتَأْنِفَهَا الْمُفِيقُ مِنْهُمَا دُونَ الْآخَرِ ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِئْنَافِ إِذْنٍ مِنَ الْحَاكِمِ ، وَلَمْ يَبْطُلِ التَّحْكِيمُ إِنْ قِيلَ : إِنَّهُ حُكْمٌ ، وَجَازَ لِلْحَكَمَيْنِ بِالْإِذْنِ الْأَوَّلِ إِمْضَاءُ حُكْمِهِمَا عَلَى الزَّوْجَيْنِ ، وَلَمْ يُؤَثِّرِ الْجُنُونُ فِي إِبْطَالِ تَحْكِيمِهِمَا ، وَإِنَّمَا أَثَّرَ التَّوَقُّفَ إِلَى إِفَاقَتِهِمَا لِيَعْلَمَ حَالَهُمَا بَعْدَ الْإِفَاقَةِ فِي مُقَامِهِمَا عَلَى الشِّقَاقِ أَوْ إِقْلَاعِهِمَا عَنْهُ .

مَسْأَلَةٌ عَلَى السُّلْطَانِ إِنْ لَمْ يَرْضَيَا حَكَمَيْنِ أَنْ يَأْخُذَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ مَا يَلْزَمُ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَعَلَى السُّلْطَانِ إِنْ لَمْ يَرْضَيَا حَكَمَيْنِ أَنْ يَأْخُذَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ مَا يَلْزَمُ الحكمان بين الزوجين ، وَيُؤَدِّبَ أَيَّهُمَا رَأَى أَدَبَهُ ، إِنِ امْتَنَعَ بِقَدْرِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ ، ( وَقَالَ ) فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ مِنْ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ : وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ نُجْبِرُهُمَا عَلَى الْحَكَمَيْنِ كَانَ مَذْهَبًا ، ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : هَذَا ظَاهِرُ الْآيَةِ ، وَالْقِيَاسُ مَا قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الطَّلَاقَ لِلْأَزْوَاجِ فَلَا يَكُونُ إِلَّا لَهُمْ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا أَنْ يَمْتَنِعَ الزَّوْجَانِ مِنَ الرِّضَا بِالْحَكَمَيْنِ مَعَ مُقَامِهِمَا عَلَى الشِّقَاقِ . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ التَّحْكِيمَ حَكَمٌ ، لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ امْتِنَاعُ الزَّوْجَيْنِ ، وَأَمْضَى الْحَاكِمُ رَأْيَهُ عَنِ اخْتِيَارِ الْحَكَمَيْنِ . وَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ وَكَالَةٌ ، لَمْ يَصِحَّ مَعَ امْتِنَاعِ الزَّوْجَيْنِ ، وَلَا يَجُوزُ إِجْبَارُهُمَا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ لَا تَصِحُّ مَعَ الْإِجْبَارِ ، وَكَذَلِكَ لَوِ امْتَنَعَ أَحَدُهُمَا كَانَ كَامْتِنَاعِهِمَا ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ التَّحْكِيمُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ إِلَّا عَنْ رِضَا الزَّوْجَيْنِ ، فَعَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَنْظُرَ بَيْنَهُمَا ، وَيَسْتَوْفِيَ الْحَقَّ لِمَنْ وَجَبَ لَهُ عَلَى مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُوقِعُ بَيْنَهُمَا طَلَاقًا ، وَلَا خُلْعًا ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ مَنْدُوبٌ إِلَى اسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ وَإِنْصَافِ الْمَظْلُومِ ، فَإِنْ عَلِمَ مِنْ أَحَدِهِمَا عُدْوَانًا عَلَى صَاحِبِهِ مَنَعَهُ مِنْهُ ، فَإِنْ لَمْ يَمْتَنِعْ أَدَّبَهُ عَلَيْهِ .

مَسْأَلَةٌ لَوِ اسْتَكْرَهَهَا عَلَى شَيْءٍ أَخَذَهُ مِنْهَا عَلَى أَنْ طَلَّقَهَا وَأَقَامَتْ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَلَوِ اسْتَكْرَهَهَا عَلَى شَيْءٍ أَخَذَهُ مِنْهَا عَلَى أَنْ طَلَّقَهَا ، وَأَقَامَتْ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً ، رَدَّ مَا أَخَذَهُ وَلَزِمَهُ مَا طَلَّقَ وَكَانَتْ لَهُ الرَّجْعَةُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ مِنَ الْخُلْعِ ، وَكَثِيرًا مَا يَخْتِمُ الْمُزَنِيُّ بِمَسْأَلَةٍ مِنَ الْكِتَابِ الَّذِي يَلِيهِ . وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ أَكْرَهَ زَوْجَتَهُ عَلَى الْخُلْعِ بِضَرْبٍ أَوْ حَبْسٍ أَوْ أَحَدِ أَنْوَاعِ الْإِكْرَاهِ حَتَّى بَذَلَتْ لَهُ مَالًا عَلَى طَلَاقِهَا ، فَالْخُلْعُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ عُقُودَ الْمُعَارَضَاتِ لَا تَصِحُّ مَعَ الْإِكْرَاهِ ، وَعَلَيْهِ رَدُّ الْمَالِ عَلَيْهَا وَطَلَاقُهُ وَاقِعٌ ؛ لِأَنَّهُ أَوْقَعَهُ بِاخْتِيَارِهِ ، وَلَهُ الرَّجْعَةُ إِنْ كَانَ الطَّلَاقُ دُونَ الثَّلَاثِ ؛ لِأَنَّ الْبَذْلَ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ ، فَإِنِ ادَعَتْ عَلَيْهِ أَنَّهُ خَالَعَهَا مُكْرَهًا فَذَكَرَ أَنَّهُ خَالَعَهَا مُخْتَارَةً ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا ؛ لِأَنَّهَا تُنْكِرُ اسْتِحْقَاقَ الْبَذْلِ وَهُوَ يَدَّعِيهِ وَطَلَاقُهُ قَدْ وَقَعَ بَائِنًا وَلَا رَجْعَةَ لَهُ ، مُقِرٌّ بِطَلَاقٍ لَا يَسْتَحِقُّ فِيهِ الرَّجْعَةَ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَالَّتِي تَقَدَّمَتْهَا فِي الرَّجْعَةِ : أَنَّهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مُقِرٌّ بِفَسَادِ الْخُلْعِ فَثَبَتَ لَهُ الرَّجْعَةُ ، وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُقِرٌّ بِصِحَّةِ الْخُلْعِ فَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ الرَّجْعَةُ ، فَلَوِ ادَّعَتْ عَلَيْهِ أَنَّهُ خَالَعَهَا مُكْرَهًا لَهَا فَأَنْكَرَهَا الْخُلْعَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ ، وَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُنْكِرٌ لِلطَّلَاقِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ ، وَفِي الَّتِي تَقَدَّمَهَا مُقِرٌّ بِالطَّلَاقِ فَلَزِمَهُ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .

_____كِتَابُ الْخُلْعِ _____

بَابُ الْوَجْهِ الَّذِي تَحِلُّ بِهِ الْفِدْيَةُ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ - كِتَابُ الْخُلْعِ بَابُ الْوَجْهِ الَّذِي تَحِلُّ بِهِ الْفِدْيَةُ مِنَ الْجَامِعِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ : وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا الْآيَةَ وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ فَوَجَدَ حَبِيبَةَ بِنْتَ سَهْلٍ عِنْدَ بَابِهِ فَقَالَ : مَنْ هَذِهِ ؟ فَقَالَتْ : أَنَا حَبِيبَةُ بِنْتُ سَهْلٍ لَا أَنَا وَلَا ثَابِتٌ - لِزَوْجِهَا - فَلَمَّا جَاءَ ثَابِتٌ قَالَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هَذِهِ حَبِيبَةُ تَذْكُرُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَذْكُرَ فَقَالَتْ حَبِيبَةُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، كُلُّ مَا أَعْطَانِي عِنْدِي فَقَالَ عَلَيْهِ الصَلَاةُ وَالسَّلَامُ " خُذْ مِنْهَا " فَأَخَذَ مِنْهَا وَجَلَسَتْ فِي أَهْلِهَا .

الْقَوْلُ فِي حَدِّ الْخُلْعِ

الْقَوْلُ فِي حَدِّ الْخُلْعِ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْخُلْعُ فِي اللُّغَةِ : فَهُوَ الِانْتِزَاعُ عَلَى مُهْلَةٍ وَمِنْهُ خَلَعَ الثَّوْبَ : نَزَعَهُ ، وَالْخُلْعُ فِي الشَّرْعِ : هُوَ افْتِرَاقُ الزَّوْجَيْنِ عَلَى عِوَضٍ . وَإِنَّمَا سُمِّيَ خُلْعًا لِأَنَّهَا قَدْ كَانَتْ بِالزَّوْجِيَّةِ لِبَاسًا لَهُ ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى . هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ [ الْبَقَرَةِ : ] فَإِذَا افْتَرَقَا بَعِوَضٍ ، فَقَدْ خَلَعَ لِبَاسَهَا ، وَخَلَعَتْ لِبَاسَهُ فَسُمِّيَ خُلْعًا . وَقِيلَ : فِدْيَةٌ : لِأَنَّ الْمَرْأَةَ قَدْ فَدَتْ نَفْسَهَا مِنْهُ بِمَالِهَا ، كَفِدْيَةِ الْأَسِيرِ بِالْمَالِ .

الدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ الْخُلْعِ

الدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ الْخُلْعِ وَالْأَصْلُ فِي إِبَاحَةِ الْخُلْعِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا [ الْبَقَرَةِ : ] وَهَذَا خِطَابٌ لِلْأَزْوَاجِ حَذَّرَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ أَزْوَاجِهِمْ مَا آتَوْهُمْ مِنَ الصَّدَاقِ بِغَيْرِ طِيبِ أَنْفُسِهِمْ ، ثُمَّ قَالَ : إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ . وَالْخَوْفُ هَاهُنَا بِمَعْنَى الظَّنِّ ، وَتَقْدِيرُهُ إِلَّا أَنْ يَظُنَّا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ : أَتَانِي عَنْ نُصَيْبٍ كَلَامٌ يَقُولُ وَمَا خِفْتُ يَا سَلَامُ أَنَّكَ عَاتِبُ وَفِيمَا يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَاهُ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : هُوَ كَرَاهَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ الْمُسَيَّبِ .

وَالثَّانِي : أَنَّهُ مِنَ الزَّوْجَةِ أَلَّا تُطِيعَ لَهُ أَمْرًا ، وَمِنَ الزَّوْجِ أَلَّا يُؤَدِّيَ لَهَا حَقًّا . ثُمَّ قَالَ : فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تفسير فِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ نَفْسَهَا مِنَ الصَّدَاقِ الَّذِي أَعْطَاهَا لَا غَيْرَ ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ . وَالثَّانِي : مِنْ جَمِيعِ مَالِهَا وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا . وَقَالَ تَعَالَى : فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا يَعْنِي مِنَ الصَّدَاقِ فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا فَإِذَا أَبَاحَ أَنْ يَأْخُذَ مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسًا مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ كَانَ بِالطَّلَاقِ أَوْلَى . وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ السُّنَّةِ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ أَنَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ سَهْلٍ أَخْبَرَتْهَا أَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ فَوَجَدَهَا عِنْدَ بَابِهِ بِالْغَلَسِ ، فَقَالَ : مَنْ هَذِهِ ؟ فَقُلْتُ : أَنَا حَبِيبَةُ بِنْتُ سَهْلٍ . قَالَ : مَا شَأْنُكِ ؟ قُلْتُ : لَا أَنَا وَلَا ثَابِتٌ لِزَوْجِهَا ، فَلَمَّا جَاءَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هَذِهِ حَبِيبَةُ بِنْتُ سَهْلٍ تَذْكُرُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَذْكُرَ ، فَقَالَتْ حَبِيبَةُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ كُلُّ مَا أَعْطَانِي عِنْدِي ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُذْ مِنْهَا ، فَأَخَذَ مِنْهَا ، وَجَلَسَتْ فِي أَهْلِهَا . يَعْنِي خُذْ مِنْهَا وَطَلِّقْهَا . فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَحْكَامٍ مِنْهَا : جَوَازُ اسْتِمَاعِ الدَّعْوَى عَلَى غَائِبٍ حكم . وَمِنْهَا : أَنَّ الْمُدَّعِيَ إِذَا عَرَّفَ الدَّعْوَى لَمْ يَحْتَجِ الْحَاكِمُ أَنْ يُعِيدَهَا عَلَيْهِ . وَمِنْهَا : جَوَازُ الْخُلْعِ وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ قَدْ ضَرَبَهَا ، وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الضَّرْبُ لِأَجْلِ الْخُلْعِ . وَمِنْهَا : جَوَازُ الْخُلْعِ فِي الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ حكم لِأَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْ عَنْ حَالِهَا . وَمِنْهَا : أَنَّهُ لَا رَجْعَةَ عَلَى الْمُخْتَلِعَةِ لِأَمْرِهِ لَهَا بِالْجُلُوسِ فِي أَهْلِهَا . فَدَلَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْآيَةِ وَالْخَبَرِ عَلَى جَوَازِ الْخُلْعِ وَهُوَ قَوْلُ الْجَمَاعَةِ وَحُكِيَ عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ أَنَّ الْخُلْعَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى تَحْرِيمِ الْخُلْعِ وَنَسْخِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ إِبَاحَتِهِ ، وَهَذَا خَطَأٌ ، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنَعَتْ مِنْ أَخْذِ مَا لَمْ تَطِبْ بِهِ نَفْسًا وَلَمْ تَمْنَعْ مِمَّا بَذَلَتْهُ بِطِيبِ نَفْسٍ وَاخْتِيَارٍ كَمَا قَالَ : فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ أَنَّ الرُّبَيِّعَ بِنْتَ

مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ حَدَّثَتْهُ قَالَتْ : كَانَ لِي زَوْجٌ يُقِلُّ عَلَيَّ الْخَيْرَ إِذَا حَضَرَ ، وَيَحْرِمُنِي إِذَا غَابَ ، قَالَتْ : وَكَانَتْ مِنِّي زَلَّةٌ يَوْمًا ، فَقُلْتُ : أَخْلَعُ مِنْكَ بِكُلِّ شَيْءٍ أَمْلِكُهُ ، قَالَ : نَعَمْ ، قَالَتْ : فَفَعَلْتُ فَخَاصَمَ عَنِّي مُعَاذُ بْنُ عَفْرَاءَ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَجَازَ الْخُلْعَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا دُونَ عِقَاصِ الرَّأْسِ . وَرَوَى أَيُّوبُ عَنْ كَثِيرٍ مَوْلَى سَمُرَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أُتِيَ بِامْرَأَةٍ نَاشِزٍ فَأَمَرَ بِهَا إِلَى بَيْتٍ كَثِيرِ الزَّبَلِ فَحَبَسَهَا فِيهِ ثَلَاثًا ثُمَّ دَعَاهَا ، فَقَالَ كَيْفَ وَجَدْتِ مَكَانَكِ ؟ قَالَتْ : مَا وَجَدْتُ رَاحَةً مُذْ كُنْتُ عِنْدَهُ إِلَّا هَذِهِ اللَّيَالِي الَّتِي حَبَسْتَنِي ، فَقَالَ لِزَوْجِهَا : اخْتَلِعْهَا وَلَوْ مِنْ قُرْطِهَا . وَهَذِهِ قَضِيَّةُ إِمَامَيْنِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخُلْعِ لَمْ يُخَالِفْهُمَا فِيهَا مِنَ الصَّحَابَةِ أَحَدٌ ، فَدَلَّ عَلَى إِجْمَاعِهِمْ عَلَى ثُبُوتِ حُكْمِهِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَمْلِكَ الزَّوْجُ الْبُضْعَ بِعِوَضٍ ، جَازَ أَنْ يُزِيلَ مِلْكَهُ عَنْهُ بِعِوَضٍ كَالشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ ، فَيَكُونُ عَقْدُ النِّكَاحِ كَالشِّرَاءِ وَالْخُلْعُ كَالْبَيْعِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ الْمَانِعَةُ مَا يَجِبُ عَلَيْهَا لَهُ الْمُفْتَدِيَةُ تَخْرُجُ مِنْ أَلَّا تُؤَدِّيَ حَقَّهُ أَوْ كَرَاهِيَةً لَهُ فَتَحِلُّ الْفِدْيَةُ لِلزَّوْجِ وَهَذِهِ مُخَالَفَةٌ لِلْحَالِ الَّتِي تَشْتَبِهُ فِيهَا حَالُ الزَّوْجَيْنِ خَوْفَ الشِّقَاقِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَجُمْلَةُ الْخُلْعِ أَنَّهُ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ عَنْ سَبَبٍ يَدْعُو إِلَيْهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ عَنْ غَيْرِ سَبَبٍ . فَإِنْ كَانَ عَنْ سَبَبٍ يَدْعُو إِلَيْهِ فَهُوَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ الخلع : مُبَاحٍ وَمَكْرُوهٍ وَفَاسِدٍ وَمُخْتَلَفٍ فِيهِ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الْمُبَاحُ فَيَكُونُ مِنْ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ : إِمَّا لِكَرَاهَةٍ وَإِمَّا لِعَجْزٍ الخلع . فَأَمَّا الْكَرَاهَةُ فَهُوَ أَنْ تَكْرَهَ مِنْهُ إِمَّا سُوءَ خُلُقِهِ ، وَإِمَّا سُوءَ فِعْلِهِ وَإِمَّا قِلَّةَ دِينِهِ وَإِمَّا قُبْحَ مَنْظَرِهِ وَهُوَ مُقِيمٌ بِحَقِّهَا ، فَتَرَى لِكَرَاهَتِهَا لَهُ بِأَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ أَنْ تَفْتَدِيَ مِنْهُ نَفْسَهَا فَتُخَالِعُهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ مُبَاحًا . وَأَمَّا الْعَجْزُ فَيَكُونُ تَارَةً لِعَجْزِهِ عَنِ الِاسْتِمْتَاعِ أَوِ الْمَالِ ، وَأَمَّا الْعَجْزُ عَنْ كَثْرَةِ الِاسْتِمْتَاعِ فَتُخَالِعُهُ لِأَجْلِ الْعَجْزِ فَيَكُونُ الْخُلْعُ مُبَاحًا . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ الْمَكْرُوهُ حكم الخلع فَيَكُونُ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ : تَارَةً مِنْ جِهَتِهَا وَتَارَةً مِنْ جِهَتِهِ ، فَأَمَّا الَّذِي مِنْ جِهَتِهَا فَهُوَ أَنْ تَمِيلَ إِلَى غَيْرِهِ وَتَرْغَبَ فِي نِكَاحِهِ فَتُخَالِعَ هَذَا لِتَنْكِحَ مَنْ مَالَتْ إِلَيْهِ وَرَغِبَتْ فِيهِ فَهَذَا خُلْعٌ مَكْرُوهٌ لِمَا رَوَاهُ ثَابِتُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ :

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْمُخْتَلِعَاتُ الْمُنْتَزِعَاتُ هُنَّ الْمُنَافِقَاتُ يَعْنِي الَّتِي تُخَالِعُ الزَّوْجَ لِمَيْلِهَا إِلَى غَيْرِهِ ، الزوجة إِلَّا أَنَّ الْخُلْعَ جَائِزٌ : لِأَنَّ هَذَا يُفْضِي إِلَى التَّبَاغُضِ وَالْكَرَاهَةِ ، فَيَكُونُ الْخُلْعُ جَائِزًا وَهُوَ مَكْرُوهٌ مِنْ جِهَتِهَا لَا مِنْ جِهَتِهِ . وَأَمَّا الَّذِي مِنْ جِهَتِهِ فَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ ذَاتَ مَالٍ فَيُضَيِّقُ الزَّوْجُ عَلَيْهَا مَعَ قِيَامِهِ بِالْوَاجِبِ لَهَا طَمَعًا فِي مَالِهَا ما يكره من الخلع أَنْ تُخَالِعَهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ فَهَذَا مَكْرُوهٌ مِنْ جِهَتِهِ لَا مِنْ جِهَتِهَا وَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّ لَهُ سَبَبًا يُفْضِي إِلَى التَّبَاغُضِ وَالْكَرَاهَةِ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ الْفَاسِدُ حكم الخلع فَيَكُونُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَنَالَهَا بِالضَّرْبِ وَالْأَذَى حَتَّى تُخَالِعَهُ الزوج فَيَكُونُ الْخُلْعُ بَاطِلًا لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ عَنْ إِكْرَاهٍ فَكَانَ كَسَائِرِ عُقُودِ الْمَكْرُوهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَمْنَعَهَا مَا تَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهِ مِنَ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى وَالْقَسْمِ لِتُخَالِعَهُ الزوج فَيَكُونُ الْخُلْعُ مَعَ ذَلِكَ بَاطِلًا لِأَنَّهُ بِمَنْعِ الْحَقِّ قَدْ صَارَ مُكْرِهًا . وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ : وَهُوَ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ فَهُوَ أَنْ تَزْنِيَ الزَّوْجَةُ فَيَعْضُلَهَا ، لِتَفْتَدِيَ نَفْسَهَا مِنْهُ الخلع المختلف فيه فَالْعَضْلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَمْنَعَهَا النَّفَقَةَ وَالْكُسْوَةَ الْوَاجِبَةَ لَهَا فَهَذَا الْعَضْلُ مَحْظُورٌ وَالْخُلْعُ مَعَهُ بَاطِلٌ . وَالثَّانِي : أَنْ يَقُومَ بِجَمِيعِ حُقُوقِهَا وَيَعْضُلَهَا بِالتَّضْيِيقِ عَلَيْهَا حِذَارًا مِنَ الزِّنَا من أنواع العضل فَهَذَا مُبَاحٌ ، وَالْخُلْعُ مَعَهُ جَائِزٌ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَقُومَ بِنَفَقَتِهَا وَيَعْضُلَهَا فِي الْقَسْمِ لَهَا فَلَا يَقْسِمُ لَهَا لِتَفْتَدِيَ مِنْهُ نَفْسَهَا فَفِي جَوَازِ الْخُلْعِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [ النِّسَاءِ : ] يَعْنِي الزِّنَا فَمَنَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْعَضْلِ لِأَجْلِ الْفِدْيَةِ إِلَّا مَعَ الزِّنَا فَكَانَ الظَّاهِرُ يَقْتَضِي جَوَازَهُ بِالْعَضْلِ مَعَ وُجُودِ الزِّنَا وَلِأَنَّهُ يَمْنَعُهَا مِنَ الْقَسْمِ مَعَ وُجُودِ الزِّنَا مِنْهَا لِيَحْفَظَ فِرَاشَهُ عَنْ مَاءِ غَيْرِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ هَذَا الْعَضْلَ حَرَامٌ ، وَهِيَ عَلَى حَقِّهَا مِنَ الْقَسْمِ وَامْتِنَاعُهُ مِنَ الْقَسْمِ لَهَا لَا يَمْنَعُ مِنْ لُحُوقِ وَلَدِهَا بِهِ ، لِوُجُودِهِ عَلَى فِرَاشِهِ ، وَأَنَّهُ قَدْ يَقْدِرُ بِالطَّلَاقِ عَلَى الْفِرَاقِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ بِهَذَا الْمَعْنَى أَنْ يُسْقِطَ حَقَّهَا مِنَ الْقَسْمِ حَتَّى تُخَالِعَهُ لَجَازَ لِأَجْلِهِ إِسْقَاطُ حَقِّهَا مِنَ النَّفَقَةِ لِتُخَالِعَهُ . فَأَمَّا الْآيَةُ فَفِيهَا جَوَابَانِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ حِينَ نُسِخَ حَبْسُ الزَّانِيَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا [ النِّسَاءِ : ] . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَمَا أَشْبَهَ مَا قِيلَ بِمَا قِيلَ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْفَاحِشَةَ الْمُبَيِّنَةَ هِيَ النُّشُوزُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَيَجُوزُ لَهُ مَعَ النُّشُوزِ أَنْ يَعْضُلَهَا وَيُخَالِعَهَا .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْخُلْعُ بِغَيْرِ سَبَبٍ وَهُوَ أَلَّا يَكُونَ مِنْ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ تَقْصِيرٌ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ وَلَا كَرَاهَةٌ لَهُ فَيَجُوزُ خُلْعُهُمَا وَلَا يُكْرَهُ لَهُمَا وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ . وَحُكِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَعَطَاءٍ وَالنَّخَعِيِّ أَنَّ الْخُلْعَ فَاسِدٌ وَبِهِ قَالَ دَاوُدُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا تفسيرها إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْخُلْعِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : تَحْرِيمُ الْخُلْعِ إِلَّا مَعَ الْخَوْفِ . وَالثَّانِي لُحُوقُ الْجُنَاحِ إِلَّا مَعَ ارْتِفَاعِ الْخَوْفِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا [ النِّسَاءِ : ] فَإِذَا حَلَّ لَهُ أَنْ يَمْتَلِكَ مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُمَلِّكَهَا بِهِ بُضْعَهَا ، فَأَوْلَى أَنْ يَحِلَّ لَهُ إِذَا مَلَّكَهَا بِهِ بُضْعَهَا ، وَلِأَنَّ كُلَّ عَقْدٍ صَحَّ مَعَ الْكَرَاهَةِ فَأَوْلَى أَنْ يَصِحَّ مَعَ الرِّضَا ، وَكَسَائِرِ الْعُقُودِ مِنَ الْبُيُوعِ وَغَيْرِهَا . فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْآيَةِ فَقَدْ قَرَأَ حَمْزَةُ : " إِلَّا أَنْ يُخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ " . بِضَمِّ الْيَاءِ ، وَيَكُونُ مَعْنَاهُ إِلَّا أَنْ يَخَافَ الْحَاكِمُ أَلَّا يُقِيمَا - الزَّوْجَانِ - حُدُودَ اللَّهِ تَعَالَى ، هَذِهِ الْقِرَاءَةُ تُسْقِطُ أَنْ يَكُونَ خَوْفُ الزَّوْجَيْنِ شَرْطًا فِي جَوَازِ الْخُلْعِ . وَقَرَأَ جَمَاعَةُ الْقُرَّاءِ ( إِلَّا أَنْ يَخَافَا ) بِفَتْحِ الْيَاءِ إِشَارَةً إِلَى الزَّوْجَيْنِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ ذَلِكَ مَعْدُولًا بِهِ عَنِ الشَّرْطِ الظَّاهِرِ إِلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا لِوُرُودِهَا عَلَى سَبَبٍ مِنَ الْخَوْفِ ، وَإِنْ كَانَ حُكْمُهَا عَامًّا ، وَإِمَّا عَلَى الْأَغْلَبِ مِنَ الْخُلْعِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ خَوْفٍ ، وَإِنْ جَازَ فِي حَالٍ نَادِرَةٍ لَيْسَ مَعَهَا خَوْفٌ ، وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ النَّادِرَةُ لَابُدَّ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهَا خَوْفٌ ، وَإِنْ قَلَّ ، لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَبْذُلُ مَالَهَا لِافْتِدَاءِ نَفْسِهَا وَهِيَ رَاغِبَةٌ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ خَرَجَ فِي بَعْضِ مَا تَمْنَعُهُ مِنَ الْحَقِّ إِلَى أَدَبِهَا بِالضَّرْبِ أَجَزْتُ ذَلِكَ لَهُ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَذِنَ لِثَابِتٍ بِأَخْذِ الْفِدْيَةِ مِنْ حَبِيبَةَ وَقَدْ نَالَهَا بِضَرْبٍ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّهُ إِذَا ضَرَبَهَا عَلَى نُشُوزٍ أَوْ تَأْدِيبٍ فَخَالَعَتْهُ بَعْدَ الضَّرْبِ إِمَّا لِأَجْلِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الضَّرْبِ أَوْ لِغَيْرِهِ مِنَ الْأَسْبَابِ فَالْخُلْعُ جَائِزٌ لِأَنَّهُ وَقَعَ عَنْ رِضًا وَخَلَا مِنْ إِكْرَاهٍ فَأَمَّا إِنْ كَانَ الضَّرْبُ لِأَجْلِ الْخُلْعِ فَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ مَعْقُودٌ عَلَى إِكْرَاهٍ فَافْتَرَقَا وَلِذَلِكَ أَجَازَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُلْعَ ثَابِتٍ لِزَوْجَتِهِ حَبِيبَةَ مَعَ ضَرْبِهِ لَهَا لِأَنَّ الضَّرْبَ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْخُلْعِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَمْ يَقُلْ لَا يَأْخُذُ مِنْهَا إِلَّا فِي قَبْلِ عِدَّتِهَا كَمَا أَمَرَ الْمُطَلِّقَ غَيْرَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، الْمُخْتَلِعَةُ لَا سُنَّةَ فِي طَلَاقِهَا وَلَا بِدْعَةَ بِخِلَافِ الْمُطَلَّقَةِ بِغَيْرِ خُلْعٍ ، حَيْثُ كَانَ فِي طَلَاقِهَا سُنَّةٌ وَبِدْعَةٌ ، فَيَجُوزُ أَنْ يُخَالِعَهَا فِي الطُّهْرِ وَالْحَيْضِ جَمِيعًا ، المختلعة وَهُمَا سَوَاءٌ فِي وُقُوعِ الْخُلْعِ فِيهِمَا ، وَلَوْ كَانَتْ غَيْرَ مُخْتَلِعَةٍ لَكَانَ طَلَاقُهَا فِي الطُّهْرِ سُنَّةً وَفِي الْحَيْضِ بِدْعَةً ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ظَاهِرًا وَمَعْنًى ، أَمَّا الظَّاهِرُ فَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ خَالَعَ حَبِيبَةَ وَزَوْجَهَا ثَابِتًا ، لَمْ يَسْأَلْهَا عَنْ حَالِ طُهْرِهَا وَحَيْضِهَا وَأَنْكَرَ عَلَى ابْنِ عُمَرَ الطَّلَاقَ فِي الْحَيْضِ ، حكمه وَلَوْ كَانَ الْخُلْعُ فِيهِ مُنْكَرًا لَأَبَانَهُ وَمَنَعَ مِنْهُ وَأَمَّا الْمَعْنَى فَهُوَ أَنَّ الْأَغْلَبَ مِنْ خُلْعِ الزَّوْجَيْنِ أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَوْ مُنِعَا مِنْهُ إِلَى وَقْتِ الطُّهْرِ لَوَقَعَا فِيهِ ، وَأَثِمَا بِهِ ، وَخَالَفَ ذَلِكَ حَالَ الْمُطَلِّقِ بِغَيْرِ خَوْفٍ ، وَلِأَنَّ الْمُطْلَّقَةَ مُنِعَ زَوْجُهَا مِنْ طَلَاقِهَا فِي الْحَيْضِ لِئَلَّا تَطُولَ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ ، وَالْمُخْتَلِعَةَ وَقَعَ طَلَاقُهَا بِاخْتِيَارِهَا ، فَصَارَتْ مُخْتَارَةً لِطُولِ الْعِدَّةِ ، فَلَمْ يُمْنَعِ الزَّوْجُ مِنْ خَلْعِهَا فَافْتَرَقَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْخُلْعَ لَيْسَ بِطَلَاقٍ وَعَنْ عُثْمَانَ قَالَ هِيَ تَطْلِيقَةٌ إِلَّا أَنْ تَكُونَ سَمَّيْتَ شَيْئًا ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَطَعَ فِي بَابِ الْكَلَامِ الَّذِي يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ أَنَّ الْخُلْعَ سَمَّيْتَ فَلَا يَقَعُ إِلَّا بِمَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ أَوْ مَا يُشْبِهُهُ مِنْ إِرَادَةِ الطَّلَاقِ فَإِنْ سَمَّى عَدَدًا أَوْ نَوَى عَدَدًا فَهُوَ مَا نَوَى " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا تَخَالَعَ الزَّوْجَانِ لَمْ يَخْلُ عَقْدُ الْخُلْعِ بَيْنَهُمَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَعْقِدَاهُ بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ الفاظ الخلع كَقَوْلِهِ : قَدْ طَلَّقْتُكِ بِأَلْفٍ ، أَوْ فَارَقْتُكِ بِأَلْفٍ أَوْ سَرَّحْتُكِ بِأَلْفٍ ، فَهَذَا صَرِيحٌ بِغَيْرِ عِوَضٍ ، فَكَانَ صَرِيحًا فِي الطَّلَاقِ مَعَ الْعِوَضِ وَلَا يَكُونُ فَسْخًا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَعْقِدَاهُ بِكِنَايَاتِ الطَّلَاقِ ، الفاظ الخلع كَقَوْلِهِ : أَنْتِ بَائِنٌ بِأَلْفٍ ، أَوْ أَنْتِ خَلِيَّةٌ ، أَوْ بَرِيَّةٌ بِأَلْفٍ فَهَذَا كِنَايَةٌ بِغَيْرِ عِوَضٍ ، وَكِنَايَةٌ مَعَ الْعِوَضِ فِي الطَّلَاقِ دُونَ الْفَسْخِ ،

فَإِنْ أَرَادَ بِهِ الطَّلَاقَ وَقَعَ وَاسْتَحَقَّ بِهِ الْعِوَضَ ، وَإِنْ لَمْ يُرِدِ الطَّلَاقَ لَمْ يَقَعْ وَلَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعِوَضَ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَعْقِدَاهُ بِلَفْظِ الْخُلْعِ وَالْمُفَادَاةِ الفاظ الخلع كَقَوْلِهِ قَدْ خَالَعْتُكِ بِأَلْفٍ ، أَوْ فَادَيْتُكِ بِأَلْفٍ ، فَهَاتَانِ اللَّفْظَتَانِ كِنَايَةٌ فِي الطَّلَاقِ إِذَا تَجَرَّدَتْ عَنْ عِوَضٍ فَتَجْرِي مَجْرَى سَائِرِ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ فَأَمَّا مَعَ الْعِوَضِ فَفِيهِمَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْأُمِّ أَنَّهُ كِنَايَةٌ فِي الطَّلَاقِ ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ كِنَايَةً فِيهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ كَانَ كِنَايَةً فِيهِ مَعَ الْعِوَضِ كَسَائِرِ كِنَايَاتِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي ، وَهُوَ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ وَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي سَائِرِ كُتُبِهِ أَنَّهُ صَرِيحٌ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى قَدْ جَاءَ بِهِ كَمَا جَاءَ بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ بِالنَّصِّ صَرِيحًا يَخْرُجُ عَنْ حُكْمِ الْكِنَايَاتِ . وَالثَّانِي : أَنَّ اقْتِرَانَ الْعِوَضِ بِهِ قَدْ نَفَى عَنْهُ احْتِمَالَ الْكِنَايَاتِ ، فَصَارَ بِانْتِفَاءِ الِاحْتِمَالِ عَنْهُ صَرِيحًا ، فَعَلَى هَذَا إِذَا كَانَ صَرِيحًا فَهَلْ يَكُونُ طَلَاقًا أَوْ فَسْخًا ؟ فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : قَالَهُ فِي " الْأُمِّ " وَ " الْإِمْلَاءِ " وَ " أَحْكَامِ الْقُرْآنِ " أَنَّهُ صَرِيحٌ فِي الطَّلَاقِ . وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُثْمَانُ ، وَعَلِيٌّ ، وَابْنُ مَسْعُودٍ ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ : الْأَوْزَاعِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٌ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ . وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ [ الْبَقَرَةِ ] إِلَى قَوْلِهِ : فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [ الْبَقَرَةِ : ] ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ : فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [ الْبَقَرَةِ : ] . فَلَمَّا ذَكَرَ الْخُلْعَ بَيْنَ طَلَاقَيْنِ عُلِمَ أَنَّهُ مُلْحَقٌ بِهِمَا ، وَلِأَنَّهُ لَفْظٌ لَا يَمْلِكُهُ غَيْرُ الزَّوْجِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ طَلَاقًا كَالطَّلَاقِ ، وَلِأَنَّ الْفَسْخَ مَا كَانَ عَنْ سَبَبٍ مُتَقَدِّمٍ كَالْعُيُوبِ وَالْخُلْعُ يَكُونُ مُبْتَدَأً مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ فَكَانَ طَلَاقًا لِأَنَّهُ يَكُونُ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ أَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ فَسْخًا لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ سَبَبٍ ، وَلِأَنَّ الْفَسْخَ يُوجِبُ اسْتِرْجَاعَ الْبَدَلِ كَالْفَسْخِ فِي الْبَيْعِ ، فَلَوْ كَانَ الْخُلْعُ فَسْخًا لَمَا جَازَ إِلَّا بِالصَّدَاقِ ، وَفِي جَوَازِهِ بِالصَّدَاقِ وَغَيْرِهِ دَلِيلُ خُرُوجِهِ عَنِ الْفَسْخِ وَدُخُولِهِ فِي الطَّلَاقِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ أَنَّهُ صَرِيحٌ فِي الْفَسْخِ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ .

وَمِنَ التَّابِعِينَ عِكْرِمَةُ وَطَاوُسٌ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ . وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ إِلَى قَوْلِهِ : فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [ الْبَقَرَةِ ] ثُمَّ قَالَ : فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [ الْبَقَرَةِ ] . وَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْخُلْعُ طَلَاقًا لَصَارَ مَعَ الطَّلْقَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ ثَلَاثًا ، وَحَرُمَتْ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ، وَلَمَّا قَالَ بَعْدَهُ : ( فَإِنْ طَلَّقَهَا ) يَعْنِي الثَّالِثَةَ فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ لِأَنَّهُ قَدْ طَلَّقَهَا الثَّالِثَةَ ، وَصَارَ التَّحْرِيمُ مُتَعَلِّقًا بِأَرْبَعٍ لَا بِثَلَاثٍ . وَلِأَنَّ الْفُرْقَةَ فِي النِّكَاحِ تَكُونُ بِطَلَاقٍ وَفَسْخٍ ، فَلَمَّا كَانَتِ الْفُرْقَةُ بِالطَّلَاقِ تَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ بِعِوَضٍ وَغَيْرِ عِوَضٍ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْفُرْقَةُ بِالْفَسْخِ تَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ بِعِوَضٍ وَغَيْرِ عِوَضٍ ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ ، فَإِذَا لَحِقَهُ الْفَسْخُ إِجْبَارًا جَازَ أَنْ يَلْحَقَهُ الْفَسْخُ اخْتِيَارًا كَالْبَيْعِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالطَّلَاقِ ، أَنَّهُ لَوْ نَكَحَهَا بَعْدَ الْفَسْخِ كَانَتْ مَعَهُ عَلَى ثَلَاثٍ وَلَوْ نَكَحَهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ كَانَتْ مَعَهُ عَلَى اثْنَتَيْنِ ، وَلَوْ كَانَ قَدْ طَلَّقَهَا طَلْقَتَيْنِ ثُمَّ فَسَخَ حَلَّتْ لَهُ قَبْلَ زَوْجٍ وَلَوْ طَلَّقَ لَمْ تَحِلَّ لَهُ إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ ، وَلَوْ فَسَخَ نِكَاحَهَا فِي ثَلَاثَةِ عُقُودٍ حَلَّتْ بِهِ قَبْلَ زَوْجٍ وَلَوْ طَلَّقَهَا فِي ثَلَاثَةِ عُقُودٍ لَمْ تَحِلَّ لَهُ إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ فَهَذَا أَصَحُّ مَا عِنْدَنَا مِنْ تَرْتِيبِ الْمَذْهَبِ فِي حُكْمِ الْخُلْعِ ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ رَتَّبَهُ غَيْرَ هَذَا التَّرْتِيبِ فَجَعَلَ فِي لَفْظِ الْخُلْعِ قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ فَسْخٌ ، وَالثَّانِي أَنَّهُ طَلَاقٌ ، وَهَلْ يَكُونُ طَلَاقًا صَرِيحًا أَوْ كِنَايَةً ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ خَرَّجَهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ فَسْخٌ ، وَالثَّانِي طَلَاقٌ صَرِيحٌ ، وَالثَّالِثُ كِنَايَةٌ فِي الطَّلَاقِ .

مَسْأَلَةٌ : ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَإِذَا كَانَ الْفِرَاقُ عَنْ تَرَاضٍ وَلَا يَكُونُ إِلَّا بِالزَّوْجِ وَالْعَقْدُ صَحِيحٌ لَيْسَ فِي أَصْلِهِ عِلَّةٌ فَالْقِيَاسُ عِنْدِي أَنَّهُ طَلَاقٌ وَمِمَّا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا الْفَصْلُ أَوْرَدَهُ الْمُزَنِيُّ مُرِيدًا بِهِ أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْخُلْعَ طَلَاقٌ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْخُلْعَ يَصِحُّ عِنْدَ سُلْطَانٍ وَغَيْرِ سُلْطَانٍ إِذَا تَرَاضَيَا بِهِ الزَّوْجَانِ . وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْأُمِّ وَلَيْسَ حُضُورُ السُّلْطَانِ وَلَا إِذْنُهُ شَرْطًا فِيهِ الخلع وَهُوَ قَوْلُ

جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ . وَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ . أَنَّ الْخُلْعَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِسُلْطَانٍ احْتِجَاجًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [ الْبَقَرَةِ : ] . وَأَوَّلُ الْكَلَامِ خِطَابٌ لِلْحُكَّامِ وَهُوَ قَوْلُهُ : فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَآخِرُهُ خِطَابٌ لِلْأَزْوَاجِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ حُضُورَ الْحَاكِمِ شَرْطٌ فِيهِ كَمَا أَنَّ حُضُورَ الْأَزْوَاجِ شَرْطٌ فِيهِ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَلَّى الْخُلْعَ بَيْنَ حَبِيبَةَ وَثَابِتٍ وَلَوْ جَازَ لَهُمَا التَّفَرُّدُ بِذَلِكَ لَوَكَلَهُ إِلَيْهِمَا وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شِهَابٍ أَنَّ امْرَأَةً خَالَعَتْ زَوْجَهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَجَازَهُ ، وَخَالَعَتِ الرُّبَيِّعُ بِنْتُ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ زَوْجَهَا بِجَمِيعِ مِلْكِهَا فَأَجَازَهُ عُثْمَانُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا دُونَ عِقَاصِ الرَّأْسِ وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى حُكْمِ حَاكِمٍ كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ ، وَلِأَنَّهُ تَمَلَّكَ الْبُضْعَ بِالنِّكَاحِ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى حُكْمِ حَاكِمٍ ، فَكَذَلِكَ تَمْلِيكُهُ بِالْخُلْعِ أَوْلَى أَلَّا يَفْتَقِرَ إِلَى حُكْمِ حَاكِمٍ لِأَنَّ شُرُوطَ النِّكَاحِ أَغْلَظُ مِنْ شُرُوطِ الْخُلْعِ . فَأَمَّا قَوْلُهُ : فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَهُوَ خِطَابٌ لِلْأَزْوَاجِ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ بِهِ عَلَى قَوْلِهِ : وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا وَهَذَا خِطَابٌ لِلْأَزْوَاجِ ، وَكَذَلِكَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَكُنْ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ . وَأَمَّا خُلْعُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ حَبِيبَةَ وَزَوْجِهَا فَلِأَنَّهُمَا تَخَاصَمَا إِلَيْهِ قَبْلَ الْخُلْعِ ، فَصَارَ الْخُلْعُ تَبَعًا لِلتَّخَاصُمِ ، وَلِأَنَّ بَيَانَ حُكْمِ الْخُلْعِ شَرْعًا مَأْخُوذٌ عَنْهُ ، فَجَازَ أَنْ يَتَوَلَّاهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ غَيْرُهُ مِنْ حُكَّامِ أُمَّتِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا كَانَ طَلَاقًا فَاجْعَلْ لَهُ الرَّجْعَةَ قِيلَ لَهُ لَمَّا أَخَذَ مِنَ الْمُطَلَّقَةِ عِوَضًا وَكَانَ مَنْ مَلَكَ عِوَضَ شَيْءٍ خَرَجَ مِنْ مِلْكِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَجْعَةٌ فِيمَا مَلَكَ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ الْمُخْتَلِعَةُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، فُرْقَةُ الْخُلْعِ لَا يَمْلِكُ فِيهَا الرَّجْعَةَ وَإِنْ كَانَتِ الْمُخْتَلِعَةُ فِي الْعِدَّةِ . سَوَاءٌ خَالَعَهَا بِلَفْظِ الْخُلْعِ أَوْ لَفْظِ الطَّلَاقِ ، وَسَوَاءٌ قِيلَ إِنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ أَوْ طَلَاقٌ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ ، وَحُكِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالزُّهْرِيِّ أَنَّ الْخُلْعَ يَقْطَعُ الرَّجْعَةَ غَيْرَ أَنَّ الزَّوْجَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِالْمَالِ فَتَسْقُطَ الرَّجْعَةُ وَبَيْنَ أَنْ يَرُدَّ الْمَالَ فَتَثْبُتَ لَهُ الرَّجْعَةُ ، وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ : إِنْ خَالَعَهَا بِلَفْظِ الطَّلَاقِ فَلَهُ الرَّجْعَةُ ، وَإِنْ خَالَعَهَا بِلَفْظِ الْخُلْعِ فَلَيْسَ لَهُ الرَّجْعَةُ لِأَنَّ الْخُلْعَ عِنْدَهُ فَسْخٌ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْعِتْقَ يُوجِبُ الْوَلَاءَ ، كَمَا أَنَّ الطَّلَاقَ

يُوجِبُ الرَّجْعَةَ ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ دُخُولَ الْعِوَضِ فِي الْعِتْقِ لَا يَمْنَعُ مِنْ ثُبُوتِ الْوَلَاءِ كَذَلِكَ ثُبُوتُ الْعِوَضِ فِي الطَّلَاقِ لَا يَمْنَعُ مِنْ ثُبُوتِ الرَّجْعَةِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ وَالِافْتِدَاءُ هُوَ الْخَلَاصُ وَالِاسْتِنْقَاذُ ، مَأْخُوذٌ مِنِ افْتِدَاءِ الْأَسِيرِ وَهُوَ خَلَاصُهُ وَاسْتِنْقَاذُهُ ، فَلَوْ ثَبَتَتِ الرَّجْعَةُ فِيهِ لَمَا حَصَلَ بِهِ الْخَلَاصُ وَالِاسْتِنْقَاذُ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِافْتِدَاءَ يَمْنَعُ مِنْ ثُبُوتِ الرَّجْعَةِ ، وَلِأَنَّ الزَّوْجَةَ مَلَكَتْ بُضْعَهَا بِالْخُلْعِ كَمَا مَلَكَ الزَّوْجُ بُضْعَهَا بِالنِّكَاحِ ، فَلَمَّا كَانَ الزَّوْجُ قَدْ مَلَكَ بِالنِّكَاحِ بُضْعَهَا مِلْكًا تَامًّا لَا سُلْطَانَ فِيهِ لِلزَّوْجَةِ وَجَبَ أَنْ تَمْلِكَ الزَّوْجَةُ بُضْعَهَا بِالْخُلْعِ مِلْكًا تَامًّا لَا سُلْطَانَ فِيهِ لِلزَّوْجِ وَلِأَنَّ الزَّوْجَ قَدْ مَلَكَ عِوَضَ الْخُلْعِ فِي مُقَابَلَةِ مِلْكِ الزَّوْجَةِ لِلْبُضْعِ فَلَمَّا اسْتَقَرَّ مِلْكُ الزَّوْجِ لِلْعِوَضِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ لِلزَّوْجَةِ فِيهِ حَقٌّ وَجَبَ أَنْ يَسْتَقِرَّ مِلْكُ الزَّوْجَةِ لِلْبُضْعِ وَأَلَّا يَبْقَى لِلزَّوْجِ فِيهِ حَقٌّ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْعِتْقِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْعِتْقَ لَا يَنْفَكُّ مِنْ ثُبُوتِ الْوَلَاءِ فَلِذَلِكَ اسْتَوَى حَالُهُ مَعَ وُجُودِ الْعِوَضِ وَعَدَمِهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الطَّلَاقُ لِأَنَّهُ قَدْ يَنْفَكُّ مِنْ ثُبُوتِ الرَّجْعَةِ . فَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ حَالُهُ فِي وُجُودِ الْعِوَضِ وَعَدَمِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَيْسَ فِي ثُبُوتِ الْوَلَاءِ مَا يَمْنَعُ مِنْ مَقْصُودِ الْعِتْقِ فِي زَوَالِ الرِّقِّ وَجَوَازِ التَّصَرُّفِ ، فَثَبَتَ الْوَلَاءُ مَعَ الْعِوَضِ ، كَمَا يَثْبُتُ مَعَ عَدَمِهِ ، وَثُبُوتُ الرَّجْعَةِ تَمْنَعُ مِنْ مَقْصُودِ الْخُلْعِ فِي إِسْقَاطِ حَقِّ الزَّوْجَةِ وَإِزَالَةِ ضَرَرِهِ فَلِذَلِكَ لَمْ تَثْبُتِ الرَّجْعَةُ فِيهِ . وَجَوَابٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنَّ ثُبُوتَ الْوَلَاءِ لَا يَقْتَضِي عَوْدَ الْعَبْدِ إِلَى مِلْكِ السَّيِّدِ ، وَالرَّجْعَةَ تَقْتَضِي عَوْدَ الزَّوْجَةِ إِلَى نِكَاحِ الزَّوْجِ فَافْتَرَقَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَإِذَا حَلَّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسًا عَلَى غَيْرِ فِرَاقٍ حَلَّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسًا وَيَأْخُذَ مَا الْفِرَاقُ بِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، الْخُلْعُ يَجُوزُ بِمَا اتَّفَقَ الزَّوْجَانِ عَلَيْهِ مِنَ الْعِوَضِ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا سَوَاءٌ كَانَ بِمِثْلِ الْمَهْرِ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ وَسَوَاءٌ كَانَ مِنْ جِنْسِهِ أَوْ غَيْرِ جِنْسِهِ ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَمِنَ التَّابِعِينَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَقَالَ قَوْمٌ : لَا يَجُوزُ الْخُلْعُ إِلَّا بِالْمَهْرِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ عَلَيْهِ ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمِنَ التَّابِعِينَ الْحَسَنُ وَابْنُ الْمُسَيَّبِ وَالشَّعْبِيُّ وَعَطَاءٌ وَالزُّهْرِيُّ .

وَمِنَ الْفُقَهَاءِ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ ، وَاسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ [ الْبَقَرَةِ : ] فَكَانَ ذَلِكَ عَائِدًا إِلَى مَا أَعْطَى مِنَ الْمَهْرِ دُونَ غَيْرِهِ ، وَبِمَا رَوَاهُ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ خَوْلَةَ بِنْتَ سَلُولَ أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَا أَعِيبُ عَلَى ثَابِتٍ خُلُقًا وَلَا دِينًا وَلَكِنِّي لَا أَسْتَطِيقُهُ وَأَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الْإِسْلَامِ ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ ، فَقَالَ لِثَابِتٍ : خُذْهَا وَلَا تَزْدَدْ . فَمَنَعَهُ مِنَ الزِّيَادَةِ فَدَلَّ عَلَى حَظْرِهَا . وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [ الْبَقَرَةِ : ] فَاقْتَضَى رَفْعَ الْجُنَاحِ عَنْ جَمِيعِ مَا افْتَدَتْ بِهِ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ ، وَلِأَنَّ الرُّبَيِّعَ بِنْتَ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ خَالَعَتْ زَوْجَهَا بِجَمِيعِ مِلْكِهَا فَأَمْضَاهُ عُثْمَانُ وَجَعَلَ لَهُ مَا دُونَ عِقَاصِ الرَّأْسِ ، وَلِأَنَّ مَا اسْتُعِيدَ مِنَ الْإِبْدَالِ بِعُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ لَمْ تَتَقَدَّرْ كَالْأَثْمَانِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَقَدَّرْ مَا يَمْتَلِكُهُ مِنْ مَالِهَا هِبَةً فَأَوْلَى أَلَّا يَتَقَدَّرَ مَا يَمْتَلِكُهُ مِنْ مَالِهَا خُلْعًا . فَأَمَّا الْآيَةُ فَأَوَّلُهَا تَتَضَمَّنُ النَّهْيَ عَنْ أَخْذِ مَا أَعْطَى ، وَآخِرُهَا يَتَضَمَّنُ إِبَاحَةَ أَخْذِ الْفِدَاءِ ، فَلَمْ يُخَصَّ خُصُوصُ أَوَّلِهَا فِي النَّهْيِ بِعُمُومِ آخِرِهَا فِي الْإِبَاحَةِ لِأَنَّ النَّهْيَ ضِدُّ الْإِبَاحَةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُخَصَّ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ خُلْعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ خَوْلَةَ وَزَوْجِهَا بِالْمَهْرِ الَّذِي أَعْطَاهَا فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِهِ بِالْمَهْرِ وَلَا يَمْنَعُ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ كَمَا لَا يَمْنَعُ مِنَ النُّقْصَانِ مِنْهُ ، لِأَنَّ الزَّوْجَ لَمْ يَطْلُبْ زِيَادَةً كَمَا لَمْ تَطْلُبِ الزَّوْجَةُ نُقْصَانًا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْإِمْلَاءِ عَلَى مَسَائِلِ مَالِكٍ : وَلَوْ خَلَعَهَا تَطْلِيقَةً بِدِينَارٍ عَلَى أَنَّ لَهُ الرَّجْعَةَ حكم فَالطَّلَاقُ لَازِمٌ لَهُ وَلَهُ الرَّجْعَةُ وَالدِّينَارُ مَرْدُودٌ وَلَا يَمْلِكُهُ وَالرَّجْعَةُ مَعًا وَلَا أُجِيزُ عَلَيْهِ مِنَ الطَّلَاقِ إِلَّا مَا أَوْقَعَهُ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَ هَذَا قَيَاسَ أَصْلِهِ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ النِّكَاحَ وَالْخُلْعَ بِالْبَدَلِ الْمَجْهُولِ وَالشَرْطِ الْفَاسِدِ سَوَاءً وَيَجْعَلُ لَهَا فِي النِّكَاحِ مَهْرَ مِثْلِهَا وَلَهُ عَلَيْهَا فِي الْخُلْعِ مَهْرُ مِثْلِهَا وَمِنْ قَوْلِهِ لَوْ خَلَعَهَا بِمِائَةٍ عَلَى أَنَّهَا مَتَى طَلَبَتْهَا فَهِيَ لَهَا وَلَهُ الرَّجْعَةُ عَلَيْهَا أَنَّ الْخُلْعَ ثَابِتٌ وَالشَّرْطَ وَالْمَالَ بَاطِلٌ وَعَلَيْهَا مَهْرُ مِثْلِهَا ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ وَمِنْ قَوْلِهِ لَوْ خَلَعَ مَحْجُورًا عَلَيْهَا بِمَالٍ إِنَّ الْمَالَ يَبْطُلُ وَلَهُ الرَّجْعَةُ ، وَإِنْ أَرَادَ يَكُونُ بَائِنًا كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً بَائِنًا لَمْ يَكُنْ بَائِنًا وَكَانَ لَهُ الرَّجْعَةُ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَكَذَلِكَ إِذَا طَلَّقَهَا بِدِينَارٍ عَلَى أَنَّ لَهُ الرَّجْعَةَ لَا يُبْطِلُهُ الشَّرْطُ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَمُقَدِّمَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْخُلْعَ مَا اسْتُحِقَّ فِيهِ الْعِوَضُ ، وَسَقَطَتْ فِيهِ الرَّجْعَةُ وَأَنَّ الْخُلْعَ يَتِمُّ بِالْعِوَضِ الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ وَالْمَعْلُومِ وَالْمَجْهُولِ لَكِنْ إِنْ كَانَ الْعِوَضُ صَحِيحًا كَانَ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ هُوَ الْمُسْتَحَقَّ وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا فَالْمُسْتَحَقُّ فِيهِ مَهْرُ الْمِثْلِ فَامْتَنَعَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنْ يَجْتَمِعَ فِي الْفُرْقَةِ بِالْخُلْعِ اسْتِحْقَاقُ الْعِوَضِ وَثُبُوتُ الرَّجْعَةِ ، فَإِنِ اسْتُحِقَّ الْعِوَضُ سَقَطَتِ الرَّجْعَةُ وَإِنِ اسْتُحِقَّتِ الرَّجْعَةُ سَقَطَ الْعِوَضُ . فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي رَجُلٍ خَالَعَ امْرَأَتَهُ عَلَى طَلْقَةٍ بِدِينَارٍ عَلَى أَنَّ لَهُ الرَّجْعَةَ فَشَرَطَ لِنَفْسِهِ الدِّينَارَ وَالرَّجْعَةَ وَاجْتِمَاعُهُمَا مُتَنَافِيَانِ وَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَلَا بُدَّ مِنْ إِثْبَاتِ أَحَدِهِمَا وَإِسْقَاطِ الْأُخْرَى فَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ ثُبُوتُ الرَّجْعَةِ وَسُقُوطُ الدِّينَارِ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا وَلَا شَيْءَ لَهُ . وَقَالَ الْمُزَنِيُّ : يَقَعُ الطَّلَاقُ بَائِنًا لَا رَجْعَةَ فِيهِ ، وَيَكُونُ لِلزَّوْجِ مَهْرُ الْمِثْلِ ، فَاخْتَارَ ذَلِكَ مَذْهَبًا لِنَفْسِهِ ، وَذَكَرَ أَنَّهُ قِيَاسُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ . وَنَقَلَ الرَّبِيعُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَنَقَلَ جَوَابَهَا ، كَمَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ رَجْعِيًّا وَلَا شَيْءَ لِلزَّوْجِ ، ثُمَّ قَالَ : وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ بَائِنًا وَيَكُونُ لِلزَّوْجِ مَهْرُ الْمِثْلِ فَحَكَى قَوْلًا ثَانِيًا كَالَّذِي اخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ . فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَخْرِيجِهِ قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ قَوْلٌ ثَانٍ لِلشَّافِعِيِّ لِأَنَّ الرَّبِيعَ ثِقَةٌ فِيمَا يَرْوِيهِ ، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ : لَيْسَ بِقَوْلٍ لِلشَّافِعِيِّ وَإِنَّمَا خَرَّجَهُ الرَّبِيعُ احْتِمَالًا ، وَلَمْ يَحْكِهِ نَقْلًا ، فَلَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ إِلَّا الْقَوْلُ الَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ عَنْهُ ، وَوَافَقَهُ الرَّبِيعُ عَلَيْهِ أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ رَجْعِيًّا وَلَا شَيْءَ لِلزَّوْجِ ، وَالدِّينَارُ مَرْدُودٌ عَلَى الزَّوْجَةِ . فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ اسْتَدَلَّ لِصِحَّةِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ بَائِنًا وَاسْتِحْقَاقِ مَهْرِ الْمِثْلِ بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْخُلْعَ فِي مُقَابَلَةِ النِّكَاحِ ، لِأَنَّ النِّكَاحَ عَقْدٌ وَالْخُلْعَ حَلٌّ ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ فِي النِّكَاحِ يُوجِبُ ثُبُوتَ النِّكَاحِ وَسُقُوطَ الشَّرْطِ وَوُجُوبَ مَهْرِ الْمِثْلِ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ الْفَاسِدُ فِي الْخُلْعِ مُوجِبًا لِثُبُوتِ الْخُلْعِ وَسُقُوطِ الشَّرْطِ وَاسْتِحْقَاقِ مَهْرِ الْمِثْلِ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَا أَثْبَتَ الرَّجْعَةَ مِنَ الطَّلَاقِ لَوْ شُرِطَ سُقُوطُهَا فِيهِ لَمْ يَسْقُطْ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا انْتَفَتْ عَنْهُ الرَّجْعَةُ مِنَ الطَّلَاقِ إِذَا شُرِطَ ثُبُوتُهَا فِيهَا لَمْ تَثْبُتْ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَدْ قَالَ نَصًّا فِي الْإِمْلَاءِ : لَوْ خَالَعَهَا عَلَى طَلْقَةٍ بِمِائَةٍ عَلَى أَنَّهَا مَتَى شَاءَتْ أَخَذَتِ الْمِائَةَ وَرَاجَعَهَا وَقَعَ الطَّلَاقُ بَائِنًا لَا رَجْعَةَ فِيهِ ، وَكَانَ لَهُ مَهْرُ الْمِثْلِ كَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا لِاتِّفَاقِهِمَا فِي الشَّرْطِ .

وَالرَّابِعُ : إِنْ قَالَ الِاعْتِبَارُ فِي الْخُلْعِ بِالرُّشْدِ لِأَنَّ الْمَحْجُورَ عَلَيْهَا لَا يَصِحُّ خُلْعُهَا فِي الْأَحْوَالِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ خُلْعُ مَنْ لَا حَجْرَ عَلَيْهَا صَحِيحًا فِي الْأَحْوَالِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى ثُبُوتِ الرَّجْعَةِ وَسُقُوطِ الْعِوَضِ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ لمن خالع واشترط الرجعة : أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَمَّا تَنَافَى ثُبُوتُ الرَّجْعَةِ وَاسْتِحْقَاقُ الْعِوَضِ وَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ ثُبُوتِ أَحَدِهِمَا وَإِسْقَاطِ الْآخَرِ كَانَ ثُبُوتُ الرَّجْعَةِ وَسُقُوطُ الْعِوَضِ أَوْلَى مِنْ ثُبُوتِ الْعِوَضِ وَسُقُوطِ الرَّجْعَةِ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ تَثْبُتُ بِغَيْرِ شَرْطٍ وَالْعِوَضَ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِشَرْطٍ وَمَا ثَبَتَ بِغَيْرِ شَرْطٍ أَقْوَى مِمَّا لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِشَرْطٍ . وَالثَّانِي : أَنَّ فِي إِثْبَاتِ الرَّجْعَةِ وَإِسْقَاطِ الْعِوَضِ تَصْحِيحًا لِأَحَدِ الشَّرْطَيْنِ وَإِبْطَالًا لِلْآخَرِ وَفِيمَا قَالَ الْمُزَنِيُّ إِبْطَالٌ لِلشَّرْطَيْنِ مِنَ الرَّجْعَةِ وَالْعِوَضِ الْمُسَمَّى وَإِثْبَاتٌ لِثَالِثٍ لَمْ يَتَضَمَّنْهُ الشَّرْطُ وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ فَكَانَ مَا أَثْبَتَ أَحَدَ الشَّرْطَيْنِ أَوْلَى مِمَّا نَفَاهُمَا وَأَثْبَتَ غَيْرَهُمَا . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ لَمَّا تَعَارَضَ الشَّرْطَانِ وَتَنَافَى اجْتِمَاعُهُمَا وَلَمْ يَكُنْ إِثْبَاتُ أَحَدِهِمَا أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ وَجَبَ إِسْقَاطُهُمَا وَاعْتِبَارُ طَلَاقٍ لَا شَرْطَ فِيهِ وَذَلِكَ مُوجِبُ الرَّجْعَةِ فَلِذَلِكَ ثَبَتَتِ الرَّجْعَةُ . وَالرَّابِعُ : أَنَّ الِاعْتِيَاضَ عَلَى زَوَالِ الْمِلْكِ يَكُونُ مَقْصُورًا عَلَى مَا قَصَدَ زَوَالَهُ مِنَ الْمِلْكِ اعْتِبَارًا بِالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ لَا يَدْخُلُ فِيهِمَا إِلَّا الْمُسَمَّى وَالزَّوْجُ لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنِ الْبُضْعِ إِلَّا مَعَ اسْتِيفَاءِ الرَّجْعَةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَزُولَ مِلْكُهُ عَنِ الرَّجْعَةِ فَأَمَّا اسْتِدْلَالُ الْمُزَنِيِّ الْأَوَّلُ بِالنِّكَاحِ فَهُوَ دَلِيلُنَا ، لِأَنَّ فَسَادَ الشَّرْطِ فِي النِّكَاحِ إِذَا عَادَ إِلَى الْعِوَضِ لَمْ يَفْسُدِ النِّكَاحُ ، كَذَلِكَ الْخُلْعُ إِذَا عَادَ فَسَادُ الشَّرْطِ إِلَى الْعِوَضِ لَمْ يَفْسُدِ الْخُلْعُ ، وَفَسَادُ الشَّرْطِ فِي النِّكَاحِ إِذَا عَادَ إِلَى الْبُضْعِ كَالشِّغَارِ وَالْخِيَارِ أَوْجَبَ فَسَادَ النِّكَاحِ ، كَذَلِكَ فِي الْخُلْعِ إِذَا عَادَ فَسَادُ الشَّرْطِ فِيهِ إِلَى الْبُضْعِ أَوْجَبَ فَسَادَ الْخُلْعِ . وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ الثَّانِي بِأَنَّ مَا ثَبَتَ فِيهِ الرَّجْعَةُ لَمْ يَسْقُطْ بِالشَّرْطِ كَذَلِكَ ، فَأُسْقِطَتْ فِيهِ الرَّجْعَةُ لَمْ تَثْبُتْ بِالشَّرْطِ فَهُوَ إِلْزَامُ الْعَكْسِ ، وَهَذَا لَا يَلْزَمُ . ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْمَوْضِعَيْنِ بَقَاءُ الرَّجْعَةِ بَعْدَ النِّكَاحِ . وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ الثَّالِثُ بِمَسْأَلَةِ الْإِمْلَاءِ ، فَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَنْقِلُ جَوَابَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ إِلَى الْأُخْرَى ، وَيُخْرِجُهَا عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَفَرَّقَ سَائِرُهُمْ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ بِأَنَّهُ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ لَمْ يُمَلِّكْهَا نَفْسَهَا لِاشْتِرَاطِ الرَّجْعَةِ فِي الْحَالِ ، فَلِذَلِكَ ثَبَتَ حُكْمُهَا ، وَبَطَلَ الْعِوَضُ .

وَفِي مَسْأَلَةِ الْإِمْلَاءِ قَدْ مَلَّكَهَا نَفْسَهَا بِسُقُوطِ الرَّجْعَةِ ، وَإِنَّمَا شَرَطَ حُدُوثَ خِيَارٍ لَهَا فِي ثُبُوتِ الرَّجْعَةِ فَلِذَلِكَ ثَبَتَ حُكْمُ الْعِوَضِ وَبَطَلَتِ الرَّجْعَةُ . وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ الرَّابِعُ بِالْمَحْجُورِ عَلَيْهَا فَهُوَ أَوْهَى اسْتِدْلَالٍ ذَكَرَهُ وَلَيْسَ إِذَا فَسَدَ عَقْدُ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ فِي الْأَحْوَالِ مَا أَوْجَبَ أَلَّا يَصِحَّ عَقْدُ غَيْرِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ فِي الْأَحْوَالِ كَالْبُيُوعِ وَسَائِرِ الْعُقُودِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَلَا يَلْحَقُ الْمُخْتَلِعَةَ طَلَاقٌ وَإِنْ كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ يَلْحَقُهَا الطَّلَاقُ فِي الْعِدَّةِ وَاحْتَجَّ بِبَعْضِ التَّابِعِينَ وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْإِجْمِاعِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَلْحَقُهَا بِمَا ذَكَرَ اللَّهُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مِنَ اللِّعَانِ وَالظِّهَارِ وَالْإِيلَاءِ وَالْمِيرَاثِ وَالْعِدَّةِ بِوَفَاةِ الزَّوْجِ فَدَلَّتْ خَمْسُ آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ وَإِنَمَا جَعَلَ اللَّهُ الطَّلَاقَ يَقَعُ عَلَى الزَّوْجَةِ فَخَالَفَ الْقُرْآنَ وَالْأَثَرَ وَالْقِيَاسَ ، ثُمَّ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ مُتَنَاقِضٌ فَزَعَمَ إِنْ قَالَ لَهَا أَنْتِ خَلِيَّةٌ أَوْ بَرِيَّةٌ أَوْ بَتَّةٌ يَنْوِي الطَّلَاقَ أَنَّهُ لَا يَلْحَقُهَا طَلَاقٌ فَإِنْ قَالَ كُلُّ امْرَأَةٍ لِي طَالِقٌ لَا يَنْوِيهَا وَلَا غَيْرَهَا طُلِّقَ نِسَاؤُهُ دُونَهَا وَلَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ طُلِّقَتْ فَكَيْفَ يُطَلِّقُ غَيْرَ امْرَأَتِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا خَالَعَ زَوْجَتَهُ عَلَى طَلْقَةٍ أَوْ طَلْقَتَيْنِ وَبَقِيَتْ عَلَى وَاحِدَةٍ أَوِ اثْنَتَيْنِ ثُمَّ طَلَّقَهَا فِي الْعِدَّةِ لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ سَوَاءً طَلَّقَهَا بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ أَوْ بِكِنَايَتِهِ وَسَوَاءً عَجَّلَ ذَلِكَ فِي الْعِدَّةِ أَوْ بَعْدَ الْعِدَّةِ . وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ : ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ . وَمِنَ التَّابِعِينَ : عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ . وَمِنَ الْفُقَهَاءِ : أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ طَلَّقَهَا فِي الْعِدَّةِ بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ وَقَعَ طَلَاقُهُ وَإِنْ طَلَّقَهَا بِكِنَايَةِ الطَّلَاقِ كَقَوْلِهِ : أَنْتِ بَائِنٌ أَوْ حَرَامٌ أَوْ عَلَى صِفَةٍ كَقَوْلِهِ : إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَدَخَلَتْهَا ، أَوْ قَالَ : كُلُّ نِسَائِي طَوَالِقٌ ، لَمْ تُطَلَّقْ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثِ . وَقَالَ مَالِكٌ : إِنْ طَلَّقَهَا عَقِيبَ خُلْعِهِ حَتَّى اتَّصَلَ طَلَاقُهُ بِخُلْعِهِ طُلِّقَتْ وَإِنِ انْفَصَلَ عَنْ خُلْعِهِ لَمْ تُطَلَّقْ . وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : إِنْ طَلَّقَهَا فِي مَجْلِسِ خُلْعِهِ طُلِّقَتْ وَإِنْ طَلَّقَهَا فِي غَيْرِهِ لَمْ تُطَلَّقْ ، وَاسْتَدَلَّ مِنْ نَصِّ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ [ الْبَقَرَةِ : ] إِلَى

قَوْلِهِ : فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تفسيرها [ الْبَقَرَةِ : ] يُرِيدُ الْخُلْعَ ثُمَّ قَالَ : فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [ الْبَقَرَةِ : ] فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ بَعْدَ الْخُلْعِ وَاقِعٌ . وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ فِي أَمَالِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : الْمُخْتَلِعَةُ يَلْحَقُهَا الطَّلَاقُ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ ، وَلِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ مِنْ طَلَاقٍ فَوَجَبَ أَنْ يَلْحَقَهَا مَا بَقِيَ مِنْ عَدَدِ الطَّلَاقِ كَالرَّجْعِيَّةِ ، وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ كَالْعِتْقِ لِسَرَايَنِهِمَا ، وَجَوَازِ أَخْذِ الْعِوَضِ عَلَيْهِمَا ، وَالْخُلْعَ كَالْكِتَابَةِ لِثُبُوتِ الْعِوَضِ فِيهِمَا ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الْمُكَاتَبَ إِذَا أُعْتِقَ صَحَّ عِتْقُهُ لِبَقَايَا أَحْكَامِ الْمِلْكِ ، وَجَبَ إِذَا طُلِّقَتِ الْمُخْتَلِعَةُ أَنْ يَصِحَّ طَلَاقُهَا لِبَقَايَا أَحْكَامِ النِّكَاحِ . وَلِأَنَّ الْمُخْتَلِعَةَ كَالْمُتَظَاهَرِ مِنْهَا لِتَحْرِيمِهَا ، وَبَقَايَا أَحْكَامِ نِكَاحِهَا ، فَلَمَّا صَحَّ طَلَاقُ الْمُتَظَاهَرِ مِنْهَا وَجَبَ أَنْ يَصِحَّ طَلَاقُ الْمُخْتَلِعَةِ ، وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ تفسيرها [ الْبَقَرَةِ : ] فَجَعَلَ التَّسْرِيحَ لِمَنْ لَهُ الْإِمْسَاكُ ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِزَوْجِ الْمُخْتَلِعَةِ إِمْسَاكُهَا ، لَمْ يَكُنْ بِهِ تَسْرِيحُهَا وَطَلَاقُهَا وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ لِأَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ ، وَلَيْسَ لَهُمَا مُخَالِفٌ ، وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ إِذَا لَمْ يَرْفَعْ نِكَاحًا وَلَمْ يُسْقِطْ رَجْعَةً كَانَ مُطَّرِحًا كَالْمُطَلَّقَةِ بَعْدَ الْعِدَّةِ ، وَلِأَنَّهَا امْرَأَةٌ لَا تَحِلُّ لَهُ إِلَّا بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ فَلَمْ يَلْحَقْهَا طَلَاقُهُ كَالْأَجْنَبِيَّةِ . فَإِنْ قِيلَ : الْأَجْنَبِيَّةُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ ، فَلَمْ يَلْحَقْهَا الطَّلَاقُ ، وَالْمُخْتَلِعَةُ يَجْرِي عَلَيْهَا مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ وُجُوبُ الْعِدَّةِ وَاسْتِحْقَاقُ السُّكْنَى وَلُحُوقُ النَّسَبِ فَجَازَ أَنْ يَلْحَقَهَا الطَّلَاقُ . فَالْجَوَابُ عَنْهُ : أَنَّ وُجُوبَ الْعِدَّةِ وَلُحُوقَ النَّسَبِ مِنْ أَحْكَامِ الْوَطْءِ دُونَ النِّكَاحِ . أَلَا تَرَى لَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ لَمْ تَعْتَدَّ ، وَلَوْ طَلَّقَهَا عَقِبَ نِكَاحِهِ فَقَالَ : قَدْ قَبِلْتُ نِكَاحَهَا هِيَ طَالِقٌ لَمْ يُلْحَقْ بِهِ الْوَلَدُ ، وَلَوْ وَطِئَهَا بِشُبْهَةٍ مِنْ غَيْرِ نِكَاحٍ وَجَبَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَلُحِقَ بِهِ الْوَلَدُ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعِدَّةَ وَلُحُوقَ النَّسَبِ مِنْ أَحْكَامِ الْوَطْءِ دُونَ النِّكَاحِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الطَّلَاقُ ، لِأَنَّهُ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ دُونَ الْوَطْءِ .

وَأَمَّا السُّكْنَى فَسُكْنَى الْمُعْتَدَّةِ مُسْتَحَقٌّ بِالطَّلَاقِ دُونَ النِّكَاحِ ، لِأَنَّ سُكْنَى النِّكَاحِ مُخَالِفٌ لِسُكْنَى الطَّلَاقِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ سُكْنَى النِّكَاحِ يَسْقُطُ بِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى تَرْكِهِ ، وَسُكْنَى الطَّلَاقِ لَا يَسْقُطُ وَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى تَرْكِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ سُكْنَى النِّكَاحِ يَكُونُ حَيْثُ شَاءَ الزَّوْجُ ، وَسَكَنَ الطَّلَاقِ مُسْتَحَقٌّ فِي الْمَنْزِلِ الَّذِي طُلِّقَتْ فِيهِ فَافْتَرَقَا . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّ الْمُخْتَلِعَةَ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهَا مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ شَيْءٌ وَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ ، وَلَوْ كَانَ وُجُوبُ الْعِدَّةِ مُوجِبًا لِبَقَاءِ النِّكَاحِ وَوُقُوعِ الطَّلَاقِ ، لَوَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا إِذَا اعْتَدَّتْ مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ أَوْ مِنَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ ، وَلَكَ أَنْ تُحَرِّرَ هَذَا الِانْفِصَالَ قِيَاسًا ثَانِيًا فَتَقُولُ : كُلُّ تَصَرُّفٍ اسْتَفَادَ بِعَقْدِ النِّكَاحِ يَجِبُ أَنْ يَزُولَ بِزَوَالِ النِّكَاحِ كَالْإِيلَاءِ وَالظِّهَارِ وَاللِّعَانِ . فَإِنْ قِيلَ : فَالْإِيلَاءُ يَصِحُّ مِنْهَا وَتَضْرِبُ لَهُ الْمُدَّةَ إِذَا تَزَوَّجَهَا ، قِيلَ فَكَذَلِكَ الْأَجْنَبِيَّةُ عِنْدَكُمْ ، وَيَكُونُ يَمِينًا يَصِيرُ بِالنِّكَاحِ الْمُسْتَجَدِّ إِيلَاءً وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ إِيلَاءَ زَوْجَتِهِ لَضَرَبَتْ لَهُ الْمُدَّةَ وَطُولِبَ بَعْدَ الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ بِالْبَيِّنَةِ أَوِ الطَّلَاقِ كَمَا يُطَالَبُ بِهِ فِي الزَّوْجِيَّةِ فَبَطَلَ مَا قَالُوهُ مِنْ صِحَّةِ الْإِيلَاءِ مِنْهَا ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَا يَمْلِكُ عَلَيْهَا الطَّلَاقَ بِبَدَلٍ لَا يَمْلِكُ عَلَيْهَا الطَّلَاقَ بِغَيْرِ بَدَلٍ كَالْأَجْنَبِيَّاتِ طَرْدًا وَالزَّوْجَاتِ عَكْسًا . فَإِنْ نُوقِضَ بِالْمَجْنُونَةِ يَصِحُّ طَلَاقُهَا بِغَيْرِ بَدَلٍ ، وَلَا يَصِحُّ بِبَدَلٍ لَمْ يَصِحَّ النَّقْضُ ، لِأَنَّ الْمَجْنُونَةَ لَا يَصِحُّ طَلَاقُ الْخُلْعِ مَعَهَا ، وَيَصِحُّ مَعَ وَلِيِّهَا ، وَمَعَ أَجْنَبِيٍّ مِنْهَا فَصَارَ طَلَاقُهَا بِالْبَدَلِ صَحِيحًا ، وَلِأَنَّ مَنْ لَا يَلْحَقُهَا مَكْنِيُّ الطَّلَاقِ لَمْ يَلْحَقْهَا صَرِيحُهُ ، كَالْأَجْنَبِيَّةِ طَرْدًا ، وَالزَّوْجَةِ عَكْسًا . فَإِنْ قِيلَ : فَالْكِنَايَةُ أَضْعَفُ مِنَ الصَّرِيحِ فَلَمْ يَلْحَقْهَا كِنَايَةُ طَلَاقٍ لِضَعْفِهِ وَلَحِقَهَا صَرِيحُهُ لِقُوَّتِهِ . قِيلَ : الْكِنَايَةُ مَعَ النِّيَّةِ كَالصَّرِيحِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ . فَاسْتَوَيَا فِي الْقُوَّةِ ، وَلِأَنَّ مَا أَفَادَ الْفُرْقَةَ فِي الزَّوْجَةِ لَمْ يُفْسِدْهُ فِي الْمُخْتَلِعَةِ كَالْكِنَايَةِ . فَإِنْ قِيلَ : نِكَاحُ الْمُخْتَلِعَةِ أَضْعَفُ مِنْ نِكَاحِ الزَّوْجَةِ ، فَإِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا ضَعْفُ الْكِنَايَةِ لَمْ يَعْمَلْ فِيهَا ، وَإِنْ عَمِلَ فِي الزَّوْجَةِ ، قِيلَ : عَكْسُ هَذَا أَلْزَمُ لِأَنَّهُ إِذَا عَمِلَ أَضْعَفَ ، وَأَضْعَفُ الطَّلَاقَيْنِ فِي أَقْوَى النِّكَاحَيْنِ كَانَ أَوْلَى أَنْ يَعْمَلَ فِي أَضْعَفِهِمَا . فَأَمَّا الِاحْتِجَاجُ بِالْآيَةِ فَلَا دَلِيلَ لَهُمْ فِيهَا ، لِأَنَّهُ قَالَ : الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَجَوَّزَ بَعْدَ الثَّانِيَةِ الْخُلْعَ أَوِ الطَّلَاقَ ، وَلَمْ يُجَوِّزْ بَعْدَ الْخُلْعِ ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهَا دَلِيلٌ . وَأَمَّا الْخَبَرُ فَضَعِيفٌ

لِأَنَّهُ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ ، وَإِنَّمَا رَوَاهُ أَبُو يُوسُفَ فِي أَمَالِيهِ مِنْ غَيْرِ إِسْنَادٍ رَفَعَهُ فِيهِ وَمِثْلُ ذَلِكَ لَا يُحْتَجُّ بِهِ ، وَقَدْ كَانَ الشَّافِعِيُّ إِذَا ذُكِرَ لَهُ حَدِيثٌ لَا يَعْرِفُهُ قَالَ : ثَبِّتْهُ لِي حَتَّى أَصِيرَ إِلَيْهِ . عَلَى أَنَّنَا نَتَنَاوَلُ قَوْلَهُ : الْمُخْتَلِعَةُ يَلْحَقُهَا الطَّلَاقُ ، بِأَحَدِ تَأْوِيلَيْنِ : إِمَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّ الْخُلْعَ طَلَاقٌ وَلَيْسَ بِفَسْخٍ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ ، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْخُلْعِ بِغَيْرِ بَدَلٍ إِذَا اقْتَرَنَ بِهِ النِّيَّةُ كَانَ طَلَاقًا . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الرَّجْعِيَّةِ فَتِلْكَ زَوْجَةٌ لِأَنَّهُمَا يَتَوَارَثَانِ ، وَتَحِلُّ لَهُ بِغَيْرِ نِكَاحٍ ، وَيَلْحَقُهَا ظِهَارُهُ وَإِيلَاؤُهُ وَلِعَانُهُ وَيَصِحُّ طَلَاقُهَا بِالْكِنَايَةِ وَعَلَى بَدَلٍ ، فَجَازَ أَنْ يَلْحَقَهَا صَرِيحُ الطَّلَاقِ بِغَيْرِ بَدَلٍ ، وَالْمُخْتَلِعَةُ كَالْأَجْنَبِيَّةِ فِي إِنْفَاءِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ عَنْهَا كَذَلِكَ فِي إِنْفَاءِ الطَّلَاقِ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْمُكَاتَبِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ عِتْقَ الْمُكَاتَبِ إِبْرَاءٌ وَتَحْرِيرُ الْعِتْقِ يَكُونُ بِالْعَقْدِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمُخْتَلِعَةُ . وَالثَّانِي : أَنَّ بَقَاءَ الْمَالِ عَلَى الْمُكَاتَبِ كَبَقَاءِ الرَّجْعَةِ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ . لِأَنَّهُ يُعْتَقُ بِالصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ ، المكاتب وَلَوْ قَالَ كُلُّ عَبِيدِي أَحْرَارٌ دَخَلَ فِي جُمْلَتِهِمْ ، فَكَذَلِكَ جَازَ أَنْ يَلْحَقَ الْمُكَاتَبَ الْعِتْقُ كَمَا يَلْحَقُ الرَّجْعِيَّةَ الطَّلَاقُ بِالصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ وَتَدْخُلُ فِي جُمْلَةِ نِسَائِهِ إِنْ طَلَّقَهُنَّ . وَلَا يَلْحَقُ الْمُخْتَلِعَةَ الطَّلَاقُ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ رَجْعَتَهَا وَلَا يَلْحَقُهَا كِنَايَةُ الطَّلَاقِ وَلَا تُطَلَّقُ لَوْ قَالَ كُلُّ نِسَائِي طَوَالِقُ ، فَكَانَ إِلْحَاقُ الْمُكَاتَبِ بِالرَّجْعِيَّةِ فِي الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا ، أَوْلَى مِنْ إِلْحَاقِهِ بِالْمُخْتَلِعَةِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : إِذَا قَالَتِ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا : طَلِّقْنِي وَاحِدَةً بِأَلْفٍ ، فَقَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَطَالِقٌ ثَانِيَةً وَطَالِقٌ ثَالِثَةً . فَإِنْ أَرَادَ بِالْعِوَضِ الطَّلْقَةَ الْأُولَى لَمْ تَقَعِ الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ لِأَنَّهَا مُخْتَلِعَةٌ بِالْأُولَى فَبَانَتْ بِهَا ، وَإِنْ أَرَادَ بِالْعِوَضِ الثَّانِيَةَ طُلِّقَتِ الْأَوْلَى وَالثَّانِيَةَ وَلَمْ تَقَعِ الثَّالِثَةُ ، وَإِنْ أَرَادَ بِالْعِوَضِ الثَّالِثَةَ طُلِّقَتْ ثَلَاثًا لِأَنَّ الْخُلْعَ كَانَ بِالثَّالِثَةِ فَوَقَعَ مَا تَقَدَّمَهَا مِنَ الطَّلْقَتَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ مَا يَقَعُ وَمَا لَا يَقَعُ عَلَى امْرَأَتِهِ مِنَ الطَّلَاقِ وَمِنْ إِبَاحَةِ الطَّلَاقِ وَمِمَّا سَمِعْتُ مِنْهُ لَفْظًا

بَابُ مَا يَقَعُ وَمَا لَا يَقَعُ عَلَى امْرَأَتِهِ مِنَ الطَّلَاقِ وَمِنْ إِبَاحَةِ الطَّلَاقِ وَمِمَّا سَمِعْتُ مِنْهُ لَفْظًا قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَلَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فِي كُلِّ سَنَةٍ وَاحِدَةً حكم فَوَقَعَتْ عَلَيْهَا تَطْلِيَقَةٌ ثَمَّ نَكَحَهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَجَاءَتْ سَنَةٌ وَهِيَ تَحْتَهُ لَمْ يَقَعْ بِهَا طَلَاقٌ لِأَنَّهَا قَدْ خَلَتْ مِنْهُ وَصَارَتْ فِي حَالٍ لَوْ أَوْقَعَ عَلَيَهَا الطَّلَاقَ لَمْ يَقَعْ وَإِنَمَا صَارَتْ عِنْدَهُ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ فَلَا يَقَعُ فِيهِ طَلَاقُ نِكَاحٍ غَيْرِهِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا أَشْبَهُ بِأَصْلِهِ مِنْ قَوْلِهِ تُطَلَّقُ كُلَّمَا جَاءَتْ سَنَةٌ وَهِيَ تَحْتَهُ طُلِّقَتْ حَتَّى يَنْقَضِيَ طَلَاقُ ذَلِكَ الْمِلْكِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَا يَخْلُو قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ مَعَانٍ إِمَّا أَنْ يُرِيدَ فِي هَذَا النِّكَاحِ الَّذِي عَقَدَتْ فِيهِ الطَّلَاقَ فَقَدْ بَطَلَ وَحَدَثَ غَيْرُهُ فَكَيْفَ يَلْزَمُهُ وَإِمَّا أَنْ يُرِيدَ فِي غَيْرِ مِلْكِي فَهَذَا لَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ أَحَدٌ يَعْقِلُ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ وَإِمَّا أَنْ يُرِيدَ فِي نِكَاحٍ يَحْدُثُ فَقَوْلُهُ لَا طَلَاقَ قَبْلَ النِّكَاحِ فَهَذَا طَلَاقٌ قَبْلَ النِّكَاحِ . فَتَفَهَّمْ يَرْحَمُكَ اللَّهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ مُعَجَّلًا وَمُؤَجَّلًا وَعَلَى صِفَةٍ فَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فِي كُلِّ سَنَةٍ وَاحِدَةً ، فَقَدْ قَرَنَ مَا مَلَكَهُ مِنَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ جَعَلَهَا أَجَلًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ فِيهَا فَيَكُونُ ابْتِدَاءُ الْأَجَلِ مِنْ وَقْتِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ تُخَالِفُ مُطْلَقَ لَفْظِهِ ، لِأَنَّ الْآجَالَ إِذَا أُطْلِقَتْ تَعَيَّنَ ابْتِدَاؤُهَا مِنْ وَقْتِ إِطْلَاقِهَا كَآجَالِ الْأَثْمَانِ وَالْأَيْمَانِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأَوَّلُ السَّنَةِ الْأُولَى مِنْ وَقْتِ عَقْدِهِ لِلطَّلَاقِ فَإِذَا مَضَى مِنْهَا بَعْدَ عَقْدِهِ جُزْءٌ وَإِنْ قَلَّ طُلِّقَتْ وَاحِدَةً لِوُجُودِ الصِّفَةِ بِدُخُولِ السَّنَةِ ، كَقَوْلِهِ : إِذَا دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَإِذَا دَخَلَتْ أَوَّلَ جُزْءِ الدَّارِ طُلِّقَتْ ، وَلَا يَقَعُ عَلَيْهَا فِي السَّنَةِ الْأُولَى إِلَّا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ . وَقَالَ مَالِكٌ : تُطَلَّقُ ثَلَاثًا فِي وَقْتِهِ ، لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ فِي وَقْتِهِ مُعَجَّلًا وَلَا يَتَأَجَّلُ وَالْكَلَامُ مَعَهُ يَأْتِي . وَعِنْدَنَا أَنَّهَا لَا تُطَلَّقُ فِي الْمُؤَجَّلِ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ وَتُطَلَّقُ بَعْدَ أَوَّلِ جُزْءٍ مِنَ السَّنَةِ الْأُولَى طَلْقَةً وَاحِدَةً ، وَبَعْدَ أَوَّلِ جُزْءٍ مِنَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ طَلْقَةً ثَانِيَةً لِدُخُولِ الْأَجَلِ الثَّانِي الَّذِي

قَدْ صَارَ صِفَةً لِلطَّلْقَةِ الثَّانِيَةِ ، وَتُطَلَّقُ بَعْدَ أَوَّلِ جُزْءٍ مِنَ السَّنَةِ الثَّالِثَةِ طَلْقَةً ثَالِثَةً لِدُخُولِ الْأَجَلِ الثَّالِثِ الَّذِي قَدْ صَارَ صِفَةً لِلطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُهَا بَعْدَ وُقُوعِ الطَّلْقَةِ الْأُولَى عَلَيْهَا بَعْدَ أَوَّلِ جُزْءٍ مِنَ السَّنَةِ الْأُولَى عِنْدَ دُخُولِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ وَالسَّنَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ زَوْجَةً بِعَقْدِ نِكَاحِهِ هَذَا . وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ بَائِنًا مِنْهُ . وَالثَّالِثُ : أَنْ تَكُونَ بِعَقْدِ نِكَاحٍ جَدِيدٍ . فَإِنْ دَخَلَتِ السَّنَةُ الثَّانِيَةُ وَالسَّنَةُ الثَّالِثَةُ وَهِيَ زَوْجَةٌ بِعَقْدِ نِكَاحِهِ هَذَا ، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إِمَّا أَنْ يُرَاجِعَهَا بَعْدَ الطَّلْقَةِ الْأُولَى فَتُطَلَّقُ بَعْدَ أَوَّلِ جُزْءٍ مِنَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ طَلْقَةً ثَانِيَةً ثُمَّ يُرَاجِعُهَا فَتُطَلَّقُ بَعْدَ أَوَّلِ جُزْءٍ مِنَ السَّنَةِ الثَّالِثَةِ طَلْقَةً ثَالِثَةً فَيَقَعُ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ فِي السِّنِينَ الثَّلَاثِ ، لِأَنَّ الرَّجْعَةَ تَرْفَعُ حَالَ الْعَقْدِ وَتَرْفَعُ تَحْرِيمَ الطَّلَاقِ فَيَصِيرُ عَقْدُ الطَّلَاقِ وَوُجُودُ الصِّفَةِ فِي نِكَاحٍ وَاحِدٍ فَلِذَلِكَ وَقَعَ فَهَذَا وَجْهٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَلَّا يُرَاجِعَهَا بَعْدَ الطَّلْقَةِ الْأُولَى ، وَلَكِنْ تَطُولُ بِهَا الْعِدَّةُ حَتَّى تَدْخُلَ السَّنَةُ الثَّانِيَةُ فَتُطَلَّقُ بِأَوَّلِ جُزْءٍ مِنْهَا الطَّلْقَةَ الثَّانِيَةَ ، لِأَنَّ الْمُعْتَدَّةَ مِنَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ زَوْجَةٌ يَلْحَقُهَا الطَّلَاقُ وَالظِّهَارُ وَالْإِيلَاءُ لِأَنَّهُمَا يَتَوَارَثَانِ فِيهِمَا بِالزَّوْجِيَّةِ وَإِنْ حَرُمَ اسْتِمْتَاعُهُ بِهَا كَمَا يَحْرُمُ فِي الْإِحْرَامِ وَبِالظِّهَارِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ تَدْخُلَ السَّنَةُ الثَّانِيَةُ وَالسَّنَةُ الثَّالِثَةُ وَهِيَ بَائِنٌ مِنْهُ وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ طَلَّقَهَا فِي السَّنَةِ الْأُولَى بَعْدَ الطَّلْقَةِ الْأُولَى طَلْقَتَيْنِ فَاسْتَكْمَلَ طَلَاقَهَا ثَلَاثًا فَلَا تُطَلَّقُ بِدُخُولِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ وَإِنْ كَانَتْ فِي عِدَّتِهَا لِاسْتِيفَاءِ مَا مَلَكَهُ مِنْ طَلَاقِهَا . وَإِمَّا بِأَنْ تَقْضِيَ عِدَّتَهَا مِنَ الطَّلْقَةِ الْأُولَى فِي السَّنَةِ الْأُولَى فَتَدْخُلُ السَّنَةُ الثَّانِيَةُ وَالسَّنَةُ الثَّالِثَةُ وَهِيَ غَيْرُ زَوْجَةٍ فَلَا تُطَلَّقُ بِدُخُولِهَا ، لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَجْنَبِيَّةً وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ لَا أَعْرِفُ فِيهِ خِلَافًا إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ بَكْرِ بْنِ الْأَشَجِّ أَنَّهَا تُطَلَّقُ بِدُخُولِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ .

وَإِنْ كَانَتْ بَائِنًا مِنْهُ ، لِأَنَّ عَقْدَ طَلَاقِهَا كَانَ وَهِيَ زَوْجَةٌ وَيَكُونُ تَأْثِيرُهُ أَلَّا تَحِلَّ لَهُ إِلَّا بِزَوْجٍ ، وَهَذَا خَطَأٌ ، لِأَنَّهَا فِي حَالٍ لَوْ بَاشَرَهَا بِالطَّلَاقِ الْمُعَجَّلِ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا ، فَإِذَا صَادَفَهَا طَلَاقٌ مُؤَجَّلٌ فَأَوْلَى أَلَّا يَقَعَ عَلَيْهَا وَلِأَنَّ الصِّفَةَ بِدُخُولِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ قَدْ تَأْتِي وَهِيَ زَوْجَةٌ لِغَيْرِهِ فَتُطَلَّقُ تَحْتَ زَوْجٍ مِنْ غَيْرِهِ وَرُبَّمَا طَلَّقَهَا زَوْجُهَا فَتَصِيرُ طَالِقًا مِنْ زَوْجَيْنِ ، وَهَذَا مُسْتَحِيلٌ . وَلِأَنَّهُ لَوْ عَلَّقَ عِتْقَ عَبْدِهِ بِصِفَةٍ ثُمَّ بَاعَهُ ثُمَّ وُجِدَتِ الصِّفَةُ لَمْ يُعْتَقْ وَإِنْ عَقَدَهَا فِي مِلْكِهِ فَكَذَلِكَ الزَّوْجَةُ . وَفِيهِ رَدٌّ عَمَّا تَعَلَّقَ بِهِ . وَإِذَا لَمْ يَلْحَقْهَا الطَّلَاقُ فَلَوْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ السَّنَةِ الثَّالِثَةِ لَمْ تُطَلَّقْ بِدُخُولِ مَا بَعْدَهَا مِنَ السِّنِينَ لِأَنَّ مَا بَعْدَ الثَّالِثَةِ لَمْ يُجْعَلْ أَجَلًا لِطَلَاقِهَا وَلَا صِفَةً فِيهِ وَلِذَلِكَ تَوَصَّلْنَا بِالْخُلْعِ إِلَى رَفْعِ مَا عَلَّقَ بِهِ مِنَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ مِنَ الشُّرُوطِ وَالصِّفَاتِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ لَهَا : إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ وَإِنْ كَلَّمْتِ زَيْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا ، فَلَا تَجِدُ بُدًّا مِنْ دُخُولِ الدَّارِ ، وَمِنْ كَلَامِ زِيدٍ ، فَيُخَالِفُهَا عَلَى طَلْقَةٍ ثُمَّ تَدْخُلُ الدَّارَ وَتُكَلِّمُ زَيْدًا وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ فَلَا تُطَلَّقُ ، لِأَنَّهَا مُخْتَلِعَةٌ بَائِنٌ ، وَالْمُخْتَلِعَةُ لَا يَلْحَقُهَا طَلَاقٌ ، ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ الْعَقْدَ عَلَيْهَا مِنْ وَقْتِهِ إِنْ شَاءَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ فَإِذَا دَخَلَتْ بَعْدَ أَنْ تَزَوَّجَهَا الدَّارَ وَكَلَّمَتْ زَيْدًا لَمْ تُطَلَّقْ ، لِأَنَّ الصِّفَةَ إِذَا لَمْ يَقَعْ بِهَا الطَّلَاقُ عِنْدَ وُجُودِهَا سَقَطَتْ فَلَمْ يَكُنْ لَهَا بَعْدَ ذَلِكَ حُكْمٌ . وَهَذَا مِمَّا وَافَقَنَا عَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ . وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا : إِنَّ وُجُودَ الصِّفَةِ بَعْدَ الْخُلْعِ لَا يُسْقِطُهَا ، وَإِنَّ الْخُلْعَ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي رَفْعِ الصِّفَاتِ إِذَا وُجِدَتْ فِي النِّكَاحِ . قَالُوا لِأَنَّ قَوْلَهُ : إِذَا دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَوُجُودُ الزَّوْجَةِ مُضْمَرٌ فِي الصِّفَةِ وَتَقْدِيرُ كَلَامِهِ : إِذَا دَخَلْتِ الدَّارَ وَأَنْتِ زَوْجَةٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَصَارَتِ الصِّفَةُ مُفِيدَةً بِشَرْطٍ فَإِذَا وُجِدَتْ مَعَ عَدَمِ الشَّرْطِ لَمْ يَسْقُطْ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا : إِذَا دَخَلْتِ الدَّارَ صَائِمَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ فَدَخَلَتْهَا مُفْطِرَةً لَمْ تَسْقُطِ الصِّفَةُ ، وَطُلِّقَتْ إِذَا دَخَلَتْهَا مِنْ بَعْدُ وَهِيَ صَائِمَةٌ . وَهَذَا خَطَأٌ ، لِأَنَّ إِضْمَارَ الصِّفَاتِ لَا يُعْتَمَدُ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ ، وَلَا أَنْ يُعْتَدَّ بِالْمَشْرُوطِ بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ . أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ لَهَا : إِذَا دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَدَخَلَتْهَا زَحْفًا أَوْ حَبْوًا طُلِّقَتْ ، وَإِنْ كَانَ دُخُولًا يُخَالِفُ الْعَادَةَ ، وَلَمْ يَجْعَلِ الْعَادَةَ بِدُخُولِهَا مَشْيًا شَرْطًا فِي الصِّفَةِ الَّتِي يَقَعُ

بِهَا الطَّلَاقُ كَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ تَدْخُلَ السَّنَةُ الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ وَهِيَ زَوْجَةٌ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ من قال لزوجته أنت طلق ثلاثا في كل سنة واحدة إِمَّا أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مِنَ الطَّلْقَةِ الْأُولَى فَيَسْتَأْنِفَ نِكَاحَهَا قَبْلَ الثَّانِيَةِ . وَإِمَّا بِأَنْ يُكْمِلَ طَلَاقَهَا ثَلَاثًا وَتَسْتَحِلَّ بِزَوْجٍ ثُمَّ يَعُودُ فَيَتَزَوَّجُهَا قَبْلَ الثَّانِيَةِ فَهَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ بِوُجُودِ الصِّفَةِ فِي النِّكَاحِ الثَّانِي أَمْ لَا ؟ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ النِّكَاحِ الْأَوَّلِ ، فَإِنْ زَالَ بِطَلَاقٍ دُونَ الثَّلَاثِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ وَأَحَدُ قَوْلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ بِوُجُودِ الصِّفَةِ فِي النِّكَاحِ الثَّانِي فَتُطَلَّقُ بِأَوَّلِ جُزْءٍ مِنَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ طَلْقَةً ثَانِيَةً بِأَوَّلِ جُزْءٍ وَمِنَ السَّنَةِ الثَّالِثَةِ طَلْقَةً ثَالِثَةً . وَالْقَوْلُ الثَّانِي فِي الْجَدِيدِ أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ بِوُجُودِ الصِّفَةِ فِي النِّكَاحِ الثَّانِي لِأَنَّهَا لَا تُطَلَّقُ بِدُخُولِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ وَإِنْ زَالَ النِّكَاحُ الْأَوَّلُ بِالطَّلَاقِ الثَّالِثِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ وَأَحَدُ قَوْلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي فِي الْقَدِيمِ أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ فَكَانَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي الْقَدِيمِ أَقْوَى مِنْهُ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ وَوُقُوعُهُ مَعَ زَوَالِ النِّكَاحِ الْأَوَّلِ بِدُونِ الثَّلَاثِ أَقْوَى مِنْ وُقُوعِهِ إِنْ زَالَ بِالثَّلَاثِ . وَقَدْ يَخْرُجُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ فِي النِّكَاحِ الثَّانِي عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَا يَقَعُ سَوَاءٌ كَانَ الطَّلَاقُ الْأَوَّلُ ثَلَاثًا أَوْ دُونَهَا وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُزَنِيِّ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَقَعُ سَوَاءٌ كَانَ الْأَوَّلُ ثَلَاثًا أَوْ دُونَهَا وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ يَقَعُ إِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ وَلَا يَقَعُ إِنْ كَانَ ثَلَاثًا . فَإِذَا قِيلَ بِالْأَوَّلِ إِنَّهُ لَا يَقَعُ فَوَجْهُهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا طَلَاقَ قَبْلَ نِكَاحٍ وَهَذَا طَلَاقٌ قَبْلَ نِكَاحٍ . وَلِأَنَّ مَقْصُودَ عَقْدِ الطَّلَاقِ قَبْلَ النِّكَاحِ يَمْنَعُ مِنْ وُقُوعِهِ فِي النِّكَاحِ كَمَا لَوْ عَقَدَهُ فِي أَجْنَبِيَّةٍ ، وَلِأَنَّ زَوَالَ النِّكَاحِ الْأَوَّلِ يَجِبُ ارْتِفَاعُ أَحْكَامِهِ ، وَعَقْدُ الطَّلَاقِ مِنْ أَحْكَامِهِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَبْقَى بَعْدَ ارْتِفَاعِهِ وَلِمَا ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ . وَإِنْ قِيلَ بِالثَّانِي أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ فَوَجْهُهُ أَنَّ عَقْدَ الطَّلَاقِ وَوُجُودَ صِفَتِهِ كَانَا مَعًا فِي مِلْكِهِ وَنِكَاحِهِ فَاقْتَضَى أَنْ يَقَعَ كَمَا لَوْ كَانَا فِي نِكَاحٍ وَاحِدٍ ، وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ مُعْتَبَرٌ بِحَالَيْنِ : عَقْدِهِ وَوُقُوعِهِ وَلَا اعْتِبَارَ بِمَا تَخَلَّلَهُمَا مِنْ أَحْوَالِ الْمَنْعِ كَالْعَاقِدِ لِلطَّلَاقِ فِي صِحَّتِهِ إِذَا وُجِدَتْ صِفَتُهُ بَعْدَ جُنُونِهِ لَمْ يَمْنَعْ وُقُوعُهُ كَذَلِكَ هَذَا . وَإِذَا قِيلَ بِالثَّالِثِ أَنَّهُ يَعُودُ إِنِ ارْتَفَعَ بِدُونِ الثَّلَاثِ وَلَا يَعُودُ إِنِ ارْتَفَعَ بِالثَّلَاثِ فَوَجْهُهُ

أَنَّ ارْتِفَاعَهُ بِدُونِ الثَّلَاثِ مُوجِبٌ لِبَقَايَا أَحْكَامِهِ مِنْ عَدَمِ الطَّلَاقِ فَأَوْجَبَ بَقَاءَ عَقْدِهِ بِالطَّلَاقِ وَإِذَا ارْتَفَعَ بِالثَّلَاثِ لَمْ يَبْقَ لَهُ حُكْمٌ مِنْ عَدَدِ الطَّلَاقِ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ حُكْمٌ فِي الطَّلَاقِ . وَعَلَى هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ الثَّلَاثَةِ فِي الطَّلَاقِ يَكُونُ حُكْمُ الظِّهَارِ وَالْإِيلَاءِ إِذَا عَقَدَهُ بِشَرْطٍ فِي النِّكَاحِ الْأَوَّلِ فَوُجِدَ فِي النِّكَاحِ الثَّانِي فَإِنْ قُلْنَا بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ فِيهِ ثَبَتَ فِيهِ الظِّهَارُ وَالْإِيلَاءُ وَإِنْ قُلْنَا : لَا يَقَعُ فِيهِ الطَّلَاقُ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ الظِّهَارُ وَالْإِيلَاءُ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي خَصَائِصِ النِّكَاحِ فَأَمَّا الْمُعْتِقُ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ لِعَبْدِهِ : إِذَا دَخَلْتَ الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ ثُمَّ يَبِيعُهُ وَيَشْتَرِيهِ وَيَدْخُلُ الدَّارَ بَعْدَ الشِّرَاءِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي بَيْعِهِ هَلْ يَجْرِي مَجْرَى الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ أَمْ مَجْرَى الثَّلَاثِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الرَّجْعِيِّ ، لِأَنَّهُ يَمْلِكُ شِرَاءَهُ بِغَيْرِ شَرْطٍ ، فَأَشْبَهَ نِكَاحَ الرَّجْعِيَّةِ فَعَلَى هَذَا يُعْتَقُ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ وَفِي الْجَدِيدِ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الثَّلَاثِ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لِلْمِلْكِ الْأَوَّلِ حُكْمٌ . فَعَلَى هَذَا لَا يُعْتَقُ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ وَالْقَدِيمِ عَلَى قَوْلَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ الطَّلَاقِ قَبْلَ النِّكَاحِ

بَابُ الطَّلَاقِ قَبْلَ النِّكَاحِ مِنَ الْإِمْلَاءِ عَلَى مَسَائِلِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَمِنْ مَسَائِلَ شَتَّى سَمِعْتُهَا لَفْظًا قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَلَوْ قَالَ : كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا طَالِقٌ أَوِ امْرَأَةٌ بِعَيْنِهَا أَوْ لِعَبْدٍ إِنْ مَلَكْتُكَ حُرٌّ حكم فَتَزَوَّجَ أَوْ مَلَكَ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ لِأَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي لَهُ الْحُكْمُ كَانَ وَهُوَ غَيْرُ مَالِكٍ فَبَطَلَ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ لَا يَمْلِكُهَا أَنْتِ طَالِقٌ السَّاعَةَ لَمْ تُطَلَّقْ فَهِيَ بَعْدَ مُدَّةٍ أَبْعَدُ فَإِذَا لَمْ يَعْمَلِ الْقَوِيُّ فَالضَّعِيفُ أَوْلَى أَلَّا يَعْمَلَ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَجْمَعُوا أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى طَلَاقِ مَنْ لَمْ يَمْلِكْ لِلسُّنَّةِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا فَهِيَ مِنْ أَنْ تُطَلَّقَ بِبِدْعَةٍ أَوْ عَلَى صِفَةٍ أَبْعَدُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عَقْدِ الطَّلَاقِ قَبْلَ النِّكَاحِ هَلْ يَصِحُّ أَمْ لَا عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ عَقْدُ الطَّلَاقِ قَبْلَ النِّكَاحِ لَا فِي الْعُمُومِ وَلَا فِي الْخُصُوصِ وَلَا فِي الْأَعْيَانِ . فَالْعُمُومُ أَنْ يَقُولَ : كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ . وَالْخُصُوصُ أَنْ يَقُولَ : كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا مِنْ بَنِي تَمِيمٍ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ فَهِيَ طَالِقٌ . وَالْأَعْيَانُ أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَةٍ بِعَيْنِهَا : إِنْ تَزَوَّجْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ . فَلَا يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ إِذَا تَزَوَّجَ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ ، وَهَكَذَا الْعِتْقُ قَبْلَ الْمِلْكِ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ وَالْأَعْيَانِ لَا يَقَعُ بِحَالٍ ، وَبِهَذَا قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ ، وَفِي الْفُقَهَاءِ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الطَّلَاقَ يَنْعَقِدُ قَبْلَ النِّكَاحِ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ وَالْأَعْيَانِ وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ .

وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ : وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ أَنَّ الطَّلَاقَ يَنْعَقِدُ قَبْلَ النِّكَاحِ فِي الْخُصُوصِ وَالْأَعْيَانِ وَلَا يَنْعَقِدُ فِي الْعُمُومِ إِذَا قَالَ : كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِذَلِكَ مُحَرِّمًا لِمَا أَحَلَّهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ النِّكَاحِ ، وَلَا يَصِيرُ الْخُصُوصُ وَالْأَعْيَانُ مُحَرِّمًا لِلنِّكَاحِ ، لِأَنَّهُ قَدْ يَسْتَبِيحُ نِكَاحَ مَنْ لَمْ يُحَصِّنْهَا وَيَعْنِيهَا وَبِهِ قَالَ رَبِيعَةُ وَالْأَوْزَاعِيُّ . قَالَ الرَّبِيعُ : وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي الْأَمَالِي وَحَكَى خِلَافَ النَّاسِ فِيهَا فَقُلْتُ فَمَا تَقُولُ أَنْتَ فِيهَا فَقَالَ أَنَا مُتَوَقِّفٌ . وَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَوْلٍ آخَرَ لِأَنَّهُ قَدْ صَرَّحَ بِأَنَّهُ لَا يَقَعُ . وَاسْتَدَلُّوا عَلَى عَقْدِهِ قَبْلَ النِّكَاحِ ، وَوُقُوعِهِ بَعْدَ النِّكَاحِ بِأَنَّ الطَّلَاقَ يَصِحُّ بِالْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ فَصَحَّ عَقْدُهُ فِي غَيْرِ مِلْكٍ وَإِذَا أُضِيفَ إِلَى الْمِلْكِ كَالْوَصِيَّةِ وَالنَّذْرِ . وَبَيَانُهُ أَنَّ الْغَرَرَ فِي الطَّلَاقِ أَنْ يَقُولَ : إِنْ قَدِمَ زَيْدٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، لِأَنَّهُ قَدْ يَقْدُمُ وَقَدْ لَا يَقْدُمُ ، وَالْجَهَالَةُ فِيهِ أَنْ يَقُولَ إِحْدَى نِسَائِي طَالِقٌ ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالطَّلَاقِ مَجْهُولَةٌ . وَالْغَرَرُ فِي الْوَصِيَّةِ أَنْ يُوصِيَ بِحَمْلٍ أَوْ نَاقَةٍ أَوْ ثَمَرَةٍ أَوْ شَجَرَةٍ . وَالْجَهَالَةُ فِيهَا أَنْ يُوصِيَ بِأَحَدِ عَبِيدِهِ ثُمَّ يَثْبُتُ أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَنْعَقِدُ فِي غَيْرِ مِلْكٍ وَهُوَ أَنْ يُوصِيَ بِثُلُثِ مَالِهِ وَلَا مَالَ لَهُ فَيَصِيرُ ذَا مَالٍ أَوْ يُوصِيَ بِعَبْدٍ وَلَيْسَ لَهُ عَبْدٌ ، ثُمَّ يَمْلِكُ عَبْدًا وَكَذَلِكَ فِي النَّذْرِ وَكَذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ . قَالُوا : وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ مَبْنِيٌّ عَلَى السِّرَايَةِ فَصَحَّ عَقْدُهُ قَبْلَ الْمِلْكِ كَالْعِتْقِ إِذَا قَالَ لِأَمَتِهِ : إِذَا وَلَدْتِ وَلَدًا فَهُوَ حُرٌّ عَتَقَ عَلَيْهَا وَلَدَهَا إِذَا وَلَدَتْهُ بِمَا عَقَدَهُ قَبْلَ الْمِلْكِ كَذَلِكَ الطَّلَاقُ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ فَشَرَطَ أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ بَعْدَ النِّكَاحِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ النِّكَاحِ . مِنَ السُّنَّةِ مَا رَوَاهُ جَابِرٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَعَائِشَةُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا طَلَاقَ قَبْلَ نِكَاحٍ . وَرَوَى جُوَيْبِرٌ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ النَّزَّالِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لَا رَضَاعَ بَعْدَ فِصَالٍ وَلَا وِصَالَ فِي صِيَامٍ وَلَا يُتْمَ بَعْدَ حُلُمٍ وَلَا صَمْتَ يَوْمٍ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا طَلَاقَ قَبْلَ نِكَاحٍ . وَرَوَى مَطَرٌ الْوَرَّاقُ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَيْسَ عَلَى الرَّجُلِ طَلَاقٌ فِيمَا لَا يَمْلِكُ وَلَا بَيْعٌ فِيمَا لَا يَمْلِكُ وَلَا عِتْقٌ فِيمَا لَا يَمْلِكُ

. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنْ طَلَّقَ مَا لَا يَمْلِكُ فَلَا طَلَاقَ لَهُ ، وَمَنْ أَعْتَقَ مَنْ لَا يَمْلِكُ فَلَا عِتْقَ لَهُ ، وَمَنْ نَذَرَ مَا لَا يَمْلِكُ فَلَا نَذْرَ لَهُ . وَرَوَى عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ فَكَانَ فِيمَا عَهِدَ إِلَيْهِ أَلَّا يُطَلِّقَ الرَّجُلُ مَا لَمْ يَتَزَوَّجْ وَلَا يَعْتِقَ مَا لَا يَمْلِكُ . وَهَذِهِ كُلُّهَا نُصُوصٌ تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا . فَإِنْ قِيلَ : فَقَوْلُهُ " لَا طَلَاقَ قَبْلَ نِكَاحٍ " مَحْمُولٌ عَلَى وُقُوعِ الطَّلَاقِ دُونَ عَقْدٍ ، حكم لِأَنَّ اسْمَ الطَّلَاقِ يَتَنَاوَلُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ دُونَ عَقْدِهِ أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : إِنْ طَلَّقْتُكِ فَعَبْدِي حُرٌّ ، ثُمَّ قَالَ لَهَا : إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ لَمْ يُعْتَقْ عَبْدُهُ ، حَتَّى تَدْخُلَ الدَّارَ ، وَلَوْ كَانَ عَقَدَ الطَّلَاقَ طَلَاقًا لَعَتَقَ فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ " لَا طَلَاقَ قَبْلَ نِكَاحٍ " أَيْ لَا طَلَاقَ يَقَعُ قَبْلَ نِكَاحٍ . قَالُوا : وَنَحْنُ نُوقِعُهُ بَعْدَ النِّكَاحِ وَإِنْ عَقَدَهُ قَبْلَ النِّكَاحِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الطَّلَاقَ إِذَا كَانَ رَفْعًا لِلنِّكَاحِ فَمَعْلُومٌ مِنْ حَالِ الْأَجْنَبِيَّةِ الَّتِي لَا نِكَاحَ عَلَيْهَا أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا فَلَا يَحْتَاجُ فِيمَا هُوَ مَعْقُولٌ إِلَى بَيَانٍ مُسْتَفَادٍ مِنَ الرَّسُولِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يُحْمَلُ قَوْلُهُ " لَا طَلَاقَ قَبْلَ النِّكَاحِ " عَلَى عُمُومِ الْأَمْرَيْنِ فَلَا طَلَاقَ وَاقِعٌ وَلَا مَعْقُودٌ ، لِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُهَا . أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ : " لَا طَلَاقَ قَبْلَ النِّكَاحِ " وَاقِعًا وَلَا مَعْقُودًا ، لَصَحَّ ؟ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِطْلَاقُ اللَّفْظِ مَحْمُولًا عَلَى مُحْتَمَلَيْهِ مَعًا دُونَ أَحَدِهِمَا . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ قَدْ نُقِلَ مَا يَدْفَعُ هَذَا التَّأْوِيلَ وَيَمْنَعُ مِنْ حَمْلِهِ إِلَّا عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَهُوَ مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ قَالَ : يَوْمَ أَتَزَوَّجُ فُلَانَةَ هِيَ طَالِقٌ ، فَقَالَ : طَلَّقَ مَا لَا يَمْلِكُ وَرَوَى زَيْدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بِإِسْنَادِهِ أَنَّ امْرَأَةً أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ ابْنِي خَطَبَ امْرَأَةً ، وَإِنَّ ابْنِي قَالَ : هِيَ طَالِقٌ إِنْ تَزَوَّجْتُهَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرِيهِ فَلْيَتَزَوَّجْهَا فَإِنَّهُ لَا طَلَاقَ قَبْلَ نِكَاحٍ . فَأَمَّا اسْتِشْهَادُهُ بِالْحَالِفِ عَلَى أَنَّ لَفْظَ الطَّلَاقِ يَتَنَاوَلُ الْوُقُوعَ دُونَ الْعَقْدِ ، فَلِأَنَّ الْأَيْمَانَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ دُونَ الْعُرْفِ ، ثُمَّ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْقِيَاسِ أَنَّهُ طَلَاقٌ مُعَلَّقٌ بِالصِّفَةِ قَبْلَ النِّكَاحِ فَلَمْ يَصِحَّ وُقُوعُهُ فِي النِّكَاحِ . أَصْلُهُ إِذَا قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ دَخَلَتِ الدَّارَ بَعْدَ أَنْ تَزَوَّجَهَا أَوْ قَالَ لَهَا : إِذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ بَعْدَ أَنْ تَزَوَّجَهَا لَمْ تُطَلَّقْ مُوَافِقَةً لَنَا فَكَذَلِكَ فِيمَا خَالَفَنَا .

فَإِنْ قِيلَ : الْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ فِيهِ ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُضَافٍ إِلَى مِلْكِهِ وَوَقَعَ فِي الْفَرْعِ لِأَنَّهُ مُضَافٌ إِلَى مِلْكِهِ ، وَلَوْ كَانَ قَالَ : إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ وَأَنْتِ زَوْجَتِي فَأَنْتِ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَهَا ثُمَّ دَخَلَتِ الدَّارَ طُلِّقَتْ ، لِأَنَّهُ قَدْ أَضَافَ الطَّلَاقَ إِلَى مِلْكِهِ ، يُوَضِّحُ هَذَا الْفَرْقُ فِي الطَّلَاقِ بَيْنَ إِضَافَتِهِ إِلَى مِلْكِهِ فَيَقَعُ وَبَيْنَ أَلَّا يُضَافَ إِلَى مِلْكِهِ فَلَا يَقَعُ اتِّفَاقًا عَلَى مِثْلِهِ فِي النَّذْرِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ : إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتِقَ عَبْدَ زَيْدٍ فَشَفَى اللَّهُ مَرِيضَهُ ، وَمَلَكَ عَبْدَ زَيْدٍ لَمْ يَلْزَمْهُ عِتْقُهُ ، وَلَوْ قَالَ : إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي وَمَلَكْتُ عَبْدَ زَيْدٍ فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتِقَهُ فَإِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضَهُ وَمَلَكَ عَبْدَ زَيْدٍ لَزِمَهُ عِتْقُهُ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّهُ فِي الْأَصْلِ مَا أَضَافَ الْعَبْدَ إِلَى مِلْكِهِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ عِتْقُهُ وَفِي الثَّانِي أَضَافَهُ إِلَى مِلْكِهِ فَلَزِمَهُ عِتْقُهُ كَذَلِكَ الطَّلَاقُ . فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَقْدُ الطَّلَاقَ بِالصِّفَةِ قَبْلَ النِّكَاحِ صَحِيحًا كَعَقْدِهِ بَعْدَ النِّكَاحِ لَمْ يَقَعِ الْفَرْقُ قَبْلَ النِّكَاحِ وَبَيْنَ إِضَافَتِهِ إِلَى مِلْكِهِ وَبَيْنَ إِطْلَاقِهِ كَمَا لَمْ يَقَعِ الْفَرْقُ بَعْدَ النِّكَاحِ بَيْنَ إِضَافَتِهِ وَإِطْلَاقِهِ . فَإِنْ قِيلَ : فَهُوَ بَعْدَ النِّكَاحِ مَالِكٌ فَأَغْنَى وُجُودُ الْمِلْكِ عَنْ إِضَافَتِهِ إِلَى الْمِلْكِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَبْلَ النِّكَاحِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ فَافْتَقَرَ مَعَ عَدَمِ الْمِلْكِ إِلَى إِضَافَتِهِ إِلَى الْمِلْكِ . فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ وُجُودَ الْمِلْكِ فِي الزَّوْجَةِ لَا يُغْنِي عَنِ اشْتِرَاطِ الْمِلْكِ وَيَفْتَرِقُ الْحُكْمُ بَيْنَ اشْتِرَاطِهِ وَعَدَمِهِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ لِزَوْجَتِهِ : إِذَا دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، ثُمَّ خَالَعَهَا فَدَخَلَتِ الدَّارَ بَعْدَ خُلْعِهِ سَقَطَتِ الْيَمِينُ فَلَوْ تَزَوَّجَهَا ثُمَّ دَخَلَتِ الدَّارَ لَمْ تُطَلَّقْ ، وَلَوْ كَانَ قَالَ لَهَا إِذَا دَخَلْتِ وَأَنْتِ زَوْجَتِي فَأَنْتِ طَالِقٌ ، ثُمَّ خَالَعَهَا ، فَدَخَلَتِ الدَّارَ بَعْدَ خُلْعِهِ لَمْ تَسْقُطِ الْيَمِينُ ، وَلَوْ تَزَوَّجَهَا ثُمَّ دَخَلَتِ الدَّارَ طُلِّقَتْ فَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ وُجُودَ الْمِلْكِ فِي الزَّوْجَةِ لَا يَقُومُ مَقَامَ اشْتِرَاطِ الْمِلْكِ فِيهَا فَبَطَلَ مَا قَالُوهُ مِنَ الِاسْتِغْنَاءِ بِوُجُودِ الْمِلْكِ عَنِ اشْتِرَاطِ الْمِلْكِ . وَأَمَّا النَّذْرُ فَإِنَّمَا لَمْ يَلْزَمْهُ إِذَا قَالَ : إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتِقَ عَبْدَ زَيْدٍ ، لِأَنَّ نَذْرَهُ لِعِتْقِ عَبْدِ غَيْرِهِ مَعْصِيَةٌ وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ ، وَلَزِمَ إِذَا قَالَ إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي وَمَلَكْتُ عَبْدَ زِيدٍ فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتِقَهُ لِأَنَّهُ نَذَرَ عِتْقَ مِلْكِهِ وَقَدْ عَلَّقَ الْعِتْقَ بِذِمَّتِهِ فَلَزِمَهُ ، لِأَنَّهُ قَدْ يَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ مَا يَمْلِكُهُ . وَمِثَالُهُ مِنَ الطَّلَاقِ أَنْ يَقُولَ : إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي وَمَلَكْتُ عَبْدَ زَيْدٍ فَهُوَ حُرٌّ . فَشَفَى اللَّهُ مَرِيضَهُ وَمَلَكَ عَبْدَ زَيْدٍ لَمْ يُعْتَقْ عَلَيْهِ . وَقِيَاسٌ ثَانٍ وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ إِيقَاعُ الطَّلَاقِ الْمُعَجَّلِ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ عَقْدُ الطَّلَاقِ الْمُؤَجَّلِ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّمَا لَمْ يَصِحَّ مِنَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ الطلاق من لِعَدَمِ التَّكْلِيفِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمُكَلَّفُ .

قِيلَ افْتِرَاقُهُمَا لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ تَسَاوِيهِمَا فِي الطَّلَاقِ الْمُعَجَّلِ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ تَسَاوِيهِمَا فِي الطَّلَاقِ الْمُؤَجَّلِ . وَقِيَاسٌ ثَالِثٌ : وَهُوَ أَنَّ كُلَّ قَوْلٍ وُضِعَ لِرَدِّ الْمِلْكِ لَمْ يَصِحَّ تَقَدُّمُهُ عَلَى الْمِلْكِ كَالْإِقَالَةِ . وَقِيَاسٌ رَابِعٌ : وَهُوَ أَنَّ الْفُرْقَةَ فِي النِّكَاحِ لَا يَصِحُّ وُقُوعُهَا بِلَفْظٍ مُتَقَدِّمٍ كَالْفَسْخِ . وَقِيَاسٌ خَامِسٌ : وَهُوَ أَنَّهُ طَلَاقٌ يُنَافِيهِ الْجُنُونُ وَالصِّغَرُ فَوَجَبَ أَنْ يُنَافِيَهُ عَدَمُ الْمِلْكِ كَالطَّلَاقِ الْمُعَجَّلِ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْوَصِيَّةِ وَالنَّذْرِ فَهُوَ أَنَّ عَقْدَ الْوَصِيَّةِ إِيجَابٌ وَقَبُولٌ وَعَقْدُ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ يَصِحُّ فِي غَيْرِ مِلْكٍ كَالسَّلَمِ ، وَعَقْدُ الطَّلَاقِ تَنْفِيرٌ وَعَقْدُ التَّنْفِيرِ لَا يَصِحُّ إِلَّا فِي مِلْكٍ كَبَيْعِ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ عِتْقِ وَلَدِ أَمَتِهِ قَبْلَ وِلَادَتِهِ فَهُوَ أَنَّ لِأَصْحَابِنَا فِيهِ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا يُعْتَقُ لِأَنَّهُ عِتْقٌ قَبْلَ الْمِلْكِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُعْتَقُ فَعَلَى هَذَا إِنَّمَا عُتِقَ الْوَلَدُ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِأُمِّهِ وَالْأُمُّ فِي مِلْكِهِ ، فَجَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْمِلْكِ ، لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلْمِلْكِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْأَجْنَبِيَّةُ ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي مِلْكِهِ وَلَا تَبَعًا لِمِلْكِهِ فَاخْتَلَفَا .

فَصْلٌ : وَهَكَذَا الظِّهَارُ وَالْإِيلَاءُ قَبْلَ النِّكَاحِ حكم لَا يَصِحُّ فَإِذَا قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ : إِنْ تَزَوَّجْتُكِ فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي ، فَتَزَوَّجَهَا لَمْ يَصِرْ مُظَاهِرًا مِنْهَا ، لِأَنَّ الظِّهَارَ تَبَعٌ فِي الطَّلَاقِ فِي الثُّبُوتِ وَالنَّفْيِ . وَلَوْ قَالَ لَهَا : إِذَا تَزَوَّجْتُكِ فَوَاللَّهِ لَا وَطِئْتُكِ أَبَدًا لَمْ يَكُنْ مُولِيًا ، لِأَنَّ الْإِيلَاءَ لَا يَصِحُّ إِلَّا مِنْ زَوْجَةٍ كَالطَّلَاقِ ، وَلَكِنْ يَكُونُ حَالِفًا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا ، وَمَتَى وَطِئَهَا حَنِثَ وَكَفَّرَ ، وَإِنْ لَمْ يُؤَجِّلْ لَهَا أَجَلَ الْإِيلَاءِ لِأَنَّ الْيَمِينَ يَصِحُّ مِنَ الْأَجْنَبِيَّةِ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ مِنْهَا الْإِيلَاءُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ مُخَاطَبَةِ الْمَرْأَةِ بِمَا يَلْزَمُهَا مِنَ الْخُلْعِ وَمَا لَا يَلْزَمُهَا مِنَ النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ

بَابُ مُخَاطَبَةِ الْمَرْأَةِ بِمَا يَلْزَمُهَا مِنَ الْخُلْعِ وَمَا لَا يَلْزَمُهَا مِنَ النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ إِمْلَاءً عَلَى مَسَائِلِ مَالِكٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَلَوْ قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ إِنْ طَلَّقْتَنِي ثَلَاثًا فَلَكَ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ فَهُوَ كَقَوْلِ الرَّجُلِ بِعْنِي ثَوْبَكَ هَذَا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَلَهُ الْمِائَةُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الْخُلْعَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يَجْرِي مَجْرَى الْمَبِيعِ ، لِأَنَّ الزَّوْجَ يَمْلِكُ بِهِ الْبَدَلَ وَتَمْلِكُ الزَّوْجَةُ بِهِ الْبُضْعَ ، فَيَحُلُّ الزَّوْجُ فِيهِ مَحَلَّ الْبَائِعِ ، وَتَحُلُّ الزَّوْجَةُ فِيهِ مَحَلَّ الْمُشْتَرِي ، فَرُبَّمَا اجْتَمَعَ الْخُلْعُ وَالْبَيْعُ فِي صِفَةِ الْعَقْدِ وَرُبَّمَا اخْتَلَفَا كَمَا يَخْتَلِفَانِ فِي أَحْكَامِ الْعَقْدِ فَيَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ خِيَارُ الْعَقْدِ وَالشَّرْطِ ، وَلَا يَدْخُلُ بِوَاحِدٍ مِنَ الْخِيَارَيْنِ فِي الْخُلْعِ . فَإِذَا قَالَتِ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا طَلِّقْنِي ثَلَاثًا بِأَلْفٍ فَقَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ وَلَهُ الْأَلْفُ ، لِأَنَّهَا طَلَبَتْ مِنْهُ أَنْ تَمْلِكَ بُضْعَهَا بِالْأَلْفِ فَأَجَابَهَا إِلَى أَنْ مَلَّكَهَا بُضْعَ نَفْسِهَا بِالْأَلْفِ فَتَمَّ ذَاكَ بِطَلَبِهَا وَإِيجَابِ الزَّوْجِ إِذَا كَانَ عَقِيبَ الطَّلَبِ وَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى الْبَيْعِ وَعَلَى صِفَتِهِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ : بِعْنِي عَبْدَكَ هَذَا بِأَلْفٍ ، فَيَقُولُ الْمَالِكُ : قَدْ بِعْتُكَ عَبْدِي هَذَا بِأَلْفٍ ، فَيَتِمُّ الْبَيْعُ وَلَا يَحْتَاجُ الْمُشْتَرِي أَنْ يَقُولَ قَدْ قَبِلْتُ لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْمُشْتَرِي طَلَبٌ وَمَا حَازَ بِهِ الْمَالِكُ إِيجَابٌ فَتَمَّ الْبَيْعُ بِالطَّلَبِ وَالْإِيجَابِ كَمَا يَتِمُّ الْبَدَلُ وَالْقَبُولُ . وَلَوْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ حِينَ قَالَتْ : طَلِّقْنِي ثَلَاثًا بِأَلْفٍ قَالَ لَهَا الزَّوْجُ : قَدْ طَلَّقْتُكِ ثَلَاثًا وَلَمْ يَقُلْ بِأَلْفٍ ، طُلِّقَتْ ثَلَاثًا ، وَلَهُ الْأَلْفُ لِأَنَّهُ إِيجَابٌ مِنْهُ فِي مُقَابَلَةِ طَلَبِهَا فَتَنَاوَلَ الْإِيجَابُ مَا تَضَمَّنَهُ الطَّلَبُ . وَمِثْلُهُ فِي الْبَيْعِ جَائِزٌ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ : بِعْنِي عَبْدَكَ هَذَا بِأَلْفٍ فَيَقُولُ قَدْ بِعْتُكَ وَلَا يَقُولُ بِأَلْفٍ فَيَكُونُ بَائِعًا لَهُ بِالْأَلْفِ ، لِأَنَّهُ إِيجَابٌ فِي مُقَابَلَةِ طَلَبٍ تَضَمَّنَ الْأَلْفَ ، فَاسْتَغْنَى عَنْ أَنْ يُصَرِّحَ فِي إِيجَابِهِ بِالْأَلْفِ . وَلَوْ قَالَ الْوَلِيُّ فِي النِّكَاحِ : قَدْ زَوَّجْتُكَ بِنْتِي عَلَى صَدَاقِ أَلْفٍ ، فَقَالَ الزَّوْجُ قَبِلْتُ نِكَاحَهَا ، وَلَمْ يَقُلْ بِالْأَلْفِ صَحَّ النِّكَاحُ وَلَمْ يَلْزَمْهُ الْأَلْفُ فِي أَظْهَرِ الْوَجْهَيْنِ .

وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْبَيْعِ أَنَّ الْبَيْعَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالثَّمَنِ فَإِذَا أَطْلَقَ الْإِيجَابَ بِالْبَيْعِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الثَّمَنَ عَادَ إِلَى الْبَيْعِ وَالثَّمَنِ لِأَنَّهُمَا لَا يَفْتَرِقَانِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ النِّكَاحُ ، لِأَنَّهُ يَصِحُّ بِغَيْرِ صَدَاقٍ ، فَإِذَا صَرَّحَ بِقَبُولِ النِّكَاحِ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِقَبُولِ الصَّدَاقِ ، حكم لَزِمَهُ النِّكَاحُ دُونَ الصَّدَاقِ لِأَنَّهُمَا قَدْ يَفْتَرِقَانِ ، فَإِنْ قِيلَ : فَهَذَا التَّعْلِيلُ فِي الْفَرْقِ يَقْتَضِي أَلَّا يَجِبَ لَهُ فِي الْخُلْعِ الْأَلْفُ حَتَّى يَقُولَ قَدْ طَلَّقْتُكِ ثَلَاثًا بِأَلْفٍ ، لِأَنَّهُ يَصِحُّ الطَّلَاقُ بِغَيْرِ الْأَلْفِ . قِيلَ : مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ تَعْلِيلِ الْفَرْقِ لَا يَقْتَضِي هَذَا فِي الْخُلْعِ وَإِنِ اقْتَضَاهُ فِي النِّكَاحِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ الْقَبُولَ فِي النِّكَاحِ فِي مُقَابَلَةِ الْتِزَامِهِ الْعَقْدَ وَالصَّدَاقَ فَإِنْ صَرَّحَ بِهِمَا ، وَإِلَّا انْصَرَفَ إِلَى الْمَقْصُودِ مِنْهُمَا ، وَهُوَ النِّكَاحُ وَلَيْسَ فِي الْخُلْعِ إِلَّا الْتِزَامٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْعِوَضُ فَتَوَجَّهَ إِطْلَاقُ الْإِجَابَةِ إِلَيْهِ .

فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَتِ الزَّوْجَةُ : إِنْ طَلَّقْتَنِي ثَلَاثًا فَلَكَ عَلَيَّ أَلْفٌ ، أَوْ قَالَتْ فَلَكَ أَلْفٌ . فَقَالَ الزَّوْجُ : قَدْ طَلَّقْتُكِ ثَلَاثًا بِأَلْفٍ أَوْ قَالَ قَدْ طَلَّقْتُكِ ثَلَاثًا ، وَلَمْ يَقُلْ بِأَلْفٍ ، طُلِّقَتْ ثَلَاثًا ، وَلَهُ الْأَلْفُ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الشَّافِعِيِّ . وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي الْبَيْعِ لَا يَصِحُّ ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ : إِنْ بِعْتَنِي عَبْدَكَ هَذَا فَلَكَ عَلَيَّ أَلْفٌ فَيَقُولُ الْمَالِكُ : قَدْ بِعْتُكَ هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفٍ ، فَلَا يَتِمُّ الْبَيْعُ حَتَّى يَقْبَلَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ بَذْلِ الْبَائِعِ فَيَقُولُ : قَدْ قَبِلْتُ ابْتِيَاعَهُ بِالْأَلْفِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْخُلْعِ وَالْبَيْعِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ حَرْفَ الشَّرْطِ فِي قَوْلِهَا : إِنْ طَلَّقْتَنِي فَلَكَ أَلْفٌ إِذَا لَمْ يَتَضَمَّنْ طَلَبًا بِأَجْرٍ تَضَمَّنَ الْتِزَامًا فَصَحَّ الطَّلَاقُ بِالزَّوْجِ وَحْدَهُ وَقَدْ وُجِدَ الِالْتِزَامُ مِنْهَا لَهُ فَصَحَّ الْخُلْعُ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْبَيْعُ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ بِمُجَرَّدِ الِالْتِزَامِ حَتَّى يَقْتَرِنَ بِهِ الطَّلَبُ ، وَلَيْسَ فِي لَفْظِ الشَّرْطِ طَلَبٌ فَصَارَ الْتِزَامُ الْمُشْتَرِي سَوْمًا فَلَمْ يَتِمَّ الْبَيْعُ بَعْدَ بَذْلِ الْبَائِعِ إِلَّا بِقَبُولِ الْمُشْتَرِي . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ شَبَّهَ الشَّافِعِيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِالْبَيْعِ قَبْلَ مَوْضِعِ التَّشْبِيهِ بَيْنَهُمَا فِي اسْتِحْقَاقِ الْعِوَضِ لَا فِي صِفَةِ الْعَقْدِ . وَهَكَذَا لَوْ قَالَتْ : طَلِّقْنِي ثَلَاثًا عَلَى أَنْ أَدْفَعَ إِلَيْكَ أَلْفًا ، فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا اسْتَحَقَّ عَلَيْهَا أَلْفًا لِالْتِزَامِهَا عَلَى الطَّلَاقِ أَلْفًا فَصَارَ الطَّلَاقُ شَرْطًا ، وَالْأَلْفُ جَزَاءً وَمِثْلُ هَذَا فِي الْبَيْعِ لَا يَصِحُّ لِمَا ذَكَرْنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَتْ لَهُ اخْلَعْنِي أَوْ بِتَّنِي أَوْ أَبِنِّي أَوِ ابْرَأْ مِنِّي أَوْ بَارِئْنِي وَلَكَ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَهِيَ تُرِيدُ الطَّلَاقَ وَطَلَّقَهَا فَلَهُ مَا سَمَّتْ لَهُ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي يَتَخَالَعُ بِهِ الزَّوْجَانِ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا كَانَ صَرِيحًا فِي الطَّلَاقِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَلْفَاظٍ : الطَّلَاقُ وَالْفِرَاقُ وَالسَّرَاحُ من ألفاظ الطلاق الصريح فَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ الثَّلَاثَةُ صَرِيحَةٌ فِي الطَّلَاقِ سَوَاءٌ كَانَ مَعَهَا عِوَضٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَا كَانَ كِنَايَةً فِي الطَّلَاقِ وَهُوَ قَوْلُهَا بِتَّنِي أَوْ أَبِنِّي أَوِ ابْرَأْ مِنِّي أَوْ بَارِئْنِي أَوْ خَلِّينِي أَوْ أَبْعِدْنِي أَوْ حَرِّمْنِي ، كناية لفظ الطلاق والخلع فَهَذَا وَمَا شَاكَلَهُ مِنَ الْأَلْفَاظِ كِنَايَةٌ سَوَاءٌ كَانَ مَعَهُ عِوَضٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ وَهُوَ لَفْظَانِ : الْخُلْعُ وَالْمُفَادَاةُ ، المختلف فيه من لفظ الطلاق والخلع فَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِمَا عِوَضٌ كَانَ مَعَهُ عِوَضٌ فَهُمَا كِنَايَةٌ فِي الطَّلَاقِ ، وَإِنِ اقْتَرَنَ بِهِمَا عِوَضٌ فَفِيهِمَا ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْإِمْلَاءِ إِنَّهُ صَرِيحٌ كَالطَّلَاقِ فَيَكُونُ كَالْقِسْمِ الْأَوَّلِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ ، وَنَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ إِلَى مُخْتَصَرِهِ هَذَا ، أَنَّهُ كِنَايَةٌ فِي الطَّلَاقِ فَيَكُونُ كَالْقِسْمِ الثَّانِي . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ يَكُونُ فَسْخًا صَرِيحًا فَيَكُونُ حُكْمُهُ حِينَئِذٍ مُخَالِفًا لِحُكْمِ الْقِسْمَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا لَمْ يَخْلُ حَالُهُمَا فِي عَقْدِ الْخُلْعِ مِنْ أَحَدِ قِسْمَيْنِ الزوجين : إِمَّا أَنْ يَتَّفِقَا فِي لَفْظِ الْخُلْعِ وَإِمَّا أَنْ يَخْتَلِفَا . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَتَّفِقَا فِي لَفْظِ الْخُلْعِ الزوجان فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَسْأَلَهُ بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ فَيُجِيبَهَا بِمِثْلِهِ مِثْلَ أَنْ تَقُولَ لَهُ : طَلِّقْنِي ثَلَاثًا بِأَلْفٍ ، فَيَقُولُ لَهَا : قَدْ فَارَقْتُكِ . أَوْ تَقُولُ لَهُ : سَرِّحْنِي بِأَلْفٍ ، فَيَقُولُ لَهَا : قَدْ سَرَّحْتُكِ فَقَدْ تَمَّ الْخُلْعُ بِطَلَبِهَا وَإِيجَابِهِ ، وَلَا يُسْأَلُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَنْ مُرَادِهِ . وَهَكَذَا لَوْ قَالَتْ لَهُ : طَلِّقْنِي ، فَقَالَ لَهَا : قَدْ فَارَقْتُكِ ، أَوْ قَالَتْ لَهُ سَرِّحْنِي : فَقَالَ لَهَا : قَدْ طَلَّقْتُكِ ، لِأَنَّ جَمِيعَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ صَرِيحَةٌ يَقُومُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مَقَامَ الْآخَرِ فَكَانَ مُمَاثِلًا فِي حُكْمِهِ وَإِنْ خَالَفَهُ فِي لَفْظِهِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ تَسْأَلَهُ بِكِنَايَةِ الطَّلَاقِ فَيُجِيبَهَا بِمِثْلِهِ في الخلع مِثْلَ أَنْ تَقُولَ لَهُ أَبِنِّي بِأَلْفٍ أَوْ أَبِنِّي أَوِ ابْرَأْ مِنِّي أَوْ حَرِّمْنِي أَوْ أَبْعِدْنِي فَيَقُولُ لَهَا : قَدْ أَبَنْتُكِ أَوْ بِنْتُكِ أَوْ بَارَأْتُكِ أَوْ حَرَّمْتُكِ أَوْ أَبْعَدْتُكِ .

وَبِأَيِّ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ أَجَابَهَا عَنْ أَيِّ لَفْظَةٍ مِنْهَا سَأَلَتْ بِهَا كَانَ مُجِيبًا بِمِثْلِهَا فِي الْحُكْمِ ، وَإِنْ خَالَفَهَا فِي اللَّفْظِ ، لِأَنَّ جَمِيعَ أَلْفَاظِ الْكِنَايَةِ مُمَاثِلَةٌ فِي الْحُكْمِ ، وَإِنْ كَانَتْ مُخْتَلِفَةً فِي اللَّفْظِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأَلْفَاظُ الْكِنَايَةِ لَا يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ إِلَّا مَعَ النِّيَّةِ فَإِنْ تَجَرَّدَتْ عَنِ النِّيَّةِ لَمْ يَقَعْ بِهَا طَلَاقٌ وَلَمْ يَكُنْ لَهَا حُكْمٌ ، فَيُسْأَلُ الزَّوْجَانِ عَنْ نِيَّتِهِمَا فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُهُمَا فِيهِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تُرِيدَ الزَّوْجَةُ بِسُؤَالِهَا وَيُرِيدَ الزَّوْجُ بِإِجَابَتِهِ الطَّلَاقَ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ ، وَيَتِمُّ الْخُلْعُ ، وَتَقُومُ الْكِنَايَةُ مَعَ النَّيَّةِ مَقَامَ الصَّرِيحِ فِي الطَّلَبِ وَالْإِيجَابِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَلَّا يُرِيدَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا الطَّلَاقَ فَلَا طَلَاقَ وَلَا خُلْعَ لَا حُكْمَ لِلَّفْظِ الْجَارِي بَيْنَهُمَا فِي فُرْقَةٍ وَلَا عِوَضٍ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ تُرِيدَ الزَّوْجَةُ الطَّلَاقَ وَلَا يُرِيدَهُ الزَّوْجُ فَلَا طَلَاقَ وَقَدْ سَأَلَتْهُ مَا لَمْ يُجِبْهَا إِلَيْهِ ، وَلَا يَلْزَمُهَا مَا بَذَلَتْ مِنَ الْعِوَضِ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهَا مَا سَأَلَتْ مِنَ الطَّلَاقِ ، فَإِنْ أَكْذَبَتْهُ وَادَّعَتْ إِرَادَةَ الطَّلَاقِ أَحْلَفَتْهُ ، وَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا . وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يُرِيدَ الزَّوْجُ الطَّلَاقَ وَلَا تُرِيدَهُ الزَّوْجَةُ فَيُقَالُ لِلزَّوْجِ : هَلْ عَلِمْتَ حِينَ أَرَدْتَ الطَّلَاقَ أَنَّ الزَّوْجَةَ لَمْ تُرِدِ الطَّلَاقَ ، فَإِنْ قَالَ : نَعَمْ ، وَقَعَ طَلَاقُهُ رَجْعِيًّا وَلَا عِوَضَ لَهُ عَلَيْهَا ، وَكَأَنَّهُ طَلَّقَهَا مِنْ غَيْرِ طَلَبِهَا ، وَإِنْ قَالَ : ظَنَنْتُ أَنَّهَا أَرَادَتِ الطَّلَاقَ وَلَمْ أَعْلَمْ أَنَّهَا لَمْ تُرِدْهُ . قِيلَ لَهُ : أَفَتُصَدِّقُهَا عَلَى أَنَّهَا لَمْ تُرِدِ الطَّلَاقَ فَإِنْ صَدَّقَهَا لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ ، لِأَنَّهُ طَلَّقَ عَلَى شَرْطِ عِوَضٍ لَمْ يَحْصُلْ فَإِذَا لَمْ يُؤْخَذِ الشَّرْطُ لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ ، وَإِنْ أَكْذَبَهَا وَقَالَ : بَلْ أَرَدْتِ الطَّلَاقَ وَقَعَ طَلَاقُهُ بَائِنًا لِاعْتِرَافِهِ بِوُقُوعِهِ ، وَلَهُ إِحْلَافُهَا أَنَّهَا لَمْ تُرِدِ الطَّلَاقَ ، فَإِذَا حَلَفَتْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا ، فَإِنْ نَكَلَتْ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَيْهِ ، فَإِذَا حَلَفَ كَانَ لَهُ عَلَيْهَا الْأَلْفُ الَّتِي صَرَّحَتْ بِذِكْرِهَا ، وَحَلِفَ الزَّوْجُ عَلَيْهَا . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ تَسْأَلَهُ بِلَفْظِ الْخُلْعِ فَيُجِيبَهَا بِمِثْلِهِ في الخلع مِثْلَ أَنْ تَقُولَ : اخْلَعْنِي بِأَلْفٍ ، فَقَالَ : قَدْ خَالَعْتُكِ أَوْ تَقُولَ لَهُ : فَادِنِي بِأَلْفٍ فَيَقُولَ لَهَا : قَدْ فَادَيْتُكِ أَوْ تَقُولَ لَهُ : اخْلَعْنِي فَيَقُولَ : قَدْ خَلَعْتُكِ فَكُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ ، لِأَنَّ لَفْظَ الْخُلْعِ وَالْمُفَادَاةِ صَرِيحَانِ مُتَسَاوِيَانِ فِي الْحُكْمِ ، أَمَّا الْمُفَادَاةُ فَلِوُرُودِ الْقُرْآنِ بِهَا وَأَمَّا الْخُلْعُ فَلِمَعْهُودِ اللُّغَةِ فِيهِ . وَهَذَا الْقِسْمُ إِنَّمَا يَتَمَيَّزُ عَنِ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ إِذَا قِيلَ إِنَّ لَفْظَ الْخُلْعِ وَالْمُفَادَاةِ فَسْخٌ ، وَلَوْ قِيلَ : إِنَّهُ طَلَاقٌ أَوْ كِنَايَةٌ لَدَخَلَ فِيهِمَا وَلَمْ يَتَمَيَّزْ عَنْهُمَا ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ تَمَّ الْخُلْعُ

بَيْنَهُمَا بِلَفْظِ الْخُلْعِ ، وَوَقَعَ بِهِ فَسْخُ النِّكَاحِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقَضِ بِهِ عَدَدُ الطَّلَاقِ وَاسْتَحَقَّ عَلَيْهَا الْأَلْفَ الَّتِي بَذَلَهَا فَلَوْ كَانَ حِينَ سَأَلَتْهُ الْخُلْعَ أَجَابَهَا بِالْفَسْخِ مِثْلَ أَنْ تَقُولَ لَهُ : اخْلَعْنِي بِأَلْفٍ ، فَقَالَ لَهَا : قَدْ فَسَخْتُ نِكَاحَكِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا يَصِحُّ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ نِكَاحَهَا إِلَّا بِعَيْبٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَصِحُّ ذَلِكَ مِنْهُمَا ، وَيَكُونُ فَسْخًا يَقُومُ مَقَامَ الْخُلْعِ ، لِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّ مِنْهُ الْخُلْعُ وَكَانَ فَسْخًا أَوْلَى أَنْ يَصِحَّ مِنْهُ بِصَرِيحِ الْفَسْخِ ، وَيَكُونَ خُلْعًا ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَتْ : افْسَخْ نِكَاحِي بِأَلْفٍ ، فَقَالَ : قَدْ فَسَخْتُهُ ، كَانَ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي فِي الْأَصْلِ وَهُوَ أَنْ يَخْتَلِفَ لَفْظُهُمَا فِي عَقْدِ النِّكَاحِ فَهَذَا عَلَى سِتَّةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَسْأَلَهُ بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ فَيُجِيبُهَا بِكِنَايَةٍ ، فما الحكم مِثْلَ أَنْ تَقُولَ لَهُ : طَلِّقْنِي بِأَلْفٍ ، فَيَقُولَ لَهَا : قَدْ أَبَنْتُكِ أَوْ حَرَّمْتُكِ ، فَإِنْ لَمْ يُرِدْ بِهِ الطَّلَاقَ ، فَلَا خُلْعَ ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ الطَّلَاقَ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ : لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ ، لِأَنَّهَا سَأَلَتْهُ صَرِيحَ الطَّلَاقِ فَعَدَلَ عَنْهُ إِلَى كِنَايَتِهِ فَلَمْ يَصِرْ مُجِيبًا إِلَى مَا سَأَلَتْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ الطَّلَاقَ وَاقِعٌ ، وَلَهُ الْأَلْفُ لِأَنَّ كِنَايَةَ الطَّلَاقِ مَعَ النِّيَّةِ يَقُومُ مَقَامَ صَرِيحِ الطَّلَاقِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ تَسْأَلَهُ بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ فَيُجِيبَهَا بِالْخُلْعِ ، فما الحكم كَأَنَّهَا قَالَتْ لَهُ : طَلِّقْنِي بِأَلْفٍ فَقَالَ : قَدْ خَالَعْتُكِ بِأَلْفٍ . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ لَفْظَ الْخُلْعِ صَرِيحٌ فِي الطَّلَاقِ فَقَدْ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ وَاسْتَحَقَّ الْبَدَلَ وَصَارَ كَمَا لَوْ أَجَابَهَا بِصَرِيحٍ عَنْ صَرِيحٍ . وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْخُلْعَ كِنَايَةٌ ، فَهُوَ عَلَى مَا مَضَى مِنْ إِجَابَتِهِ عَنِ الصَّرِيحِ بِالْكِنَايَةِ . وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ ، وَعَلَيْهِ التَّفْرِيعُ فِيمَا نَذْكُرُهُ مِنَ الْأَقْسَامِ كُلِّهَا لِيَصِحَّ أَنْ يَكُونَ مُمَيَّزًا بِحُكْمٍ مَخْصُوصٍ فَعَلَى هَذَا فِي وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْفُرْقَةَ قَدْ وَقَعَتْ ، لِأَنَّ كِلَا اللَّفْظَيْنِ صَرِيحٌ فِي الْفُرْقَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا تَقَعُ بِهِ الْفُرْقَةُ ، وَلَا يَكُونُ جَوَابًا إِلَى مَا سَأَلَتْ ، لِأَنَّهَا سَأَلَتْهُ طَلَاقًا يَنْقَضِي بِهِ مَا مَلَكَهُ عَلَيْهَا مِنْ عَدَدِ الطَّلَاقِ فَأَجَابَهَا إِلَى فَسْخٍ لَا يَنْقَضِي بِهِ عَدَدُ الطَّلَاقِ ، فَصَارَ مُجِيبًا إِلَى غَيْرِ مَا سَأَلَتْ ، فَلَمْ تَقَعْ بِهِ الْفُرْقَةُ ، وَلَمْ يَسْتَحِقَّ بِهِ الْبَدَلَ .

وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ تَسْأَلَهُ بِكِنَايَةِ الطَّلَاقِ فَيُجِيبَهَا بِصَرِيحِهِ ، فما الحكم كَأَنَّهَا قَالَتْ لَهُ : أَبِنِّي بِأَلْفٍ ، فَقَالَ : قَدْ طَلَّقْتُكِ بِهَا ، فَإِنَّهَا تُسْأَلُ عَنْ إِرَادَتِهَا دُونَهُ فَإِنْ أَرَادَتِ الطَّلَاقَ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَلَهُ الْأَلْفُ ، لِأَنَّ الصَّرِيحَ أَقْوَى مِنَ الْكِنَايَةِ ، وَإِنْ لَمْ تُرِدِ الزَّوْجَةُ بِالْكِنَايَةِ الطَّلَاقَ لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ لِعَدَمِ الشَّرْطِ وَلَمْ يَسْتَحِقَّ الْبَدَلَ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : تَسْأَلُهُ بِكِنَايَةِ الطَّلَاقِ فَيُجِيبُهَا بِالْخُلْعِ حكم الزوجة و الزوج كَأَنَّهَا قَالَتْ : أَبِنِّي بِأَلْفٍ ، فَقَالَ لَهَا : قَدْ خَلَعْتُكِ بِهَا فَإِنَّهَا تُسْأَلُ عَنْ إِرَادَتِهَا بِالْكِنَايَةِ فَإِنْ لَمْ تُرِدِ الطَّلَاقَ ، فَلَا خُلْعَ ، وَإِنْ أَرَادَتِ الطَّلَاقَ فَفِي وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِلَفْظِ الْخُلْعِ وَجْهَانِ إِذَا قِيلَ : إِنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ كَمَا لَوْ سَأَلَتْهُ بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ فَأَجَابَهَا بِالْخُلْعِ . وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ : أَنْ تَسْأَلَهُ بِالْخُلْعِ فَيُجِيبَهَا بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ ، حكم الزوجة و الزوج كَأَنَّهَا قَالَتْ لَهُ : اخْلَعْنِي بِأَلْفٍ ، فَقَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ بِأَلْفٍ ، فَالطَّلَاقُ هَاهُنَا وَاقِعٌ ، وَالْأَلْفُ مُسْتَحَقَّةٌ ، لِأَنَّهَا سَأَلَتْهُ بِالْخُلْعِ فُرْقَةً لَا يَنْقُصُ بِهَا عَدَدُ الطَّلَاقِ ، فَأَجَابَهَا بِالطَّلَاقِ الَّذِي تَقَعُ بِهِ الْفُرْقَةُ وَيَنْقُصُ بِهَا عَدَدُ الطَّلَاقِ فَصَارَ مَا أَجَابَهَا إِلَيْهِ أَكْثَرَ مِمَّا سَأَلَتْهُ مِنْهُ ، وَخَالَفَ سُؤَالَهَا لِلطَّلَاقِ فَيُجِيبُهَا بِالْخُلْعِ ، لِأَنَّ الْخُلْعَ انْقَضَى فَلَمْ يَصِرْ مُجِيبًا إِلَى مَا سَأَلَتْ . وَالْقِسْمُ السَّادِسُ : أَنْ تَسْأَلَهُ بِالْخُلْعِ فَيُجِيبَهَا بِكِنَايَةِ الطَّلَاقِ حكم الزوجة و الزوج كَأَنَّهَا قَالَتْ لَهُ : اخْلَعْنِي بِأَلْفٍ ، فَقَالَ لَهَا : قَدْ أَبَنْتُكِ بِهَا ، فَيُسْأَلُ عَنْ إِرَادَتِهِ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَلَّا يُرِيدَ بِهِ الطَّلَاقَ فَيَصِيرَ بِالنِّيَّةِ طَلَاقًا ، فَيَقَعُ الطَّلَاقُ وَتُسْتَحَقُّ الْأَلْفُ ، وَيَصِيرُ كَأَنَّهَا سَأَلَتْهُ الْخُلْعَ ، فَأَجَابَهَا بِالطَّلَاقِ فَيَقَعُ ، لِأَنَّهُ أَغْلَظُ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُرِيدَ بِهِ فَسْخَ الْخُلْعِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ هَلْ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً فِي فَسْخِ الْخُلْعِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَصِحُّ ، لِأَنَّ الْفَسْخَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالصِّفَةِ ، فَلَمْ يَصِحَّ بِالْكِنَايَةِ ، فَعَلَى هَذَا لَا فُرْقَةَ وَلَا بَذْلَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَصِحُّ ، وَيَكُونُ كِنَايَةً فِي الْفَسْخِ ، كَمَا كَانَ كِنَايَةً فِي الطَّلَاقِ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ سَأَلَتْهُ بِصَرِيحِ الْفَسْخِ فَأَجَابَهَا بِكِنَايَةٍ فَيَكُونُ وُقُوعُ الْفُرْقَةِ بِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ ، كَمَا لَوْ سَأَلَتْهُ بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ فَأَجَابَهَا بِكِنَايَةٍ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَلَّا يُرِيدَ بِهِ طَلَاقًا وَلَا فَسْخًا فَلَا تَقَعُ بِهِ الْفُرْقَةُ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَتِ اخْلَعْنِي عَلَى أَلْفٍ كَانَتْ لَهُ أَلْفٌ مَا لَمْ يَتَنَاكَرَا " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْخُلْعَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ كَالْبَيْعِ يَنْزِلُ الزَّوْجُ فِيهِ مَنْزِلَةَ الْبَائِعِ ، وَالزَّوْجَةُ مَنْزِلَةَ الْمُشْتَرِي ، وَيَكُونُ الْعِوَضُ فِيهِ كَالثَّمَنِ ، فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ مَعْلُومَ الْقَدْرِ وَالْجِنْسِ وَالصِّفَةِ ، لِيَنْتَفِيَ عَنْهَا الْجَهَالَةُ كَالْأَثْمَانِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَصُورَةُ مَسْأَلَتِنَا فِي امْرَأَةٍ خَالَعَتْ زَوْجَهَا عَلَى أَلْفٍ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : لَهُ الْأَلْفُ ، مَا لَمْ يَتَنَاكَرَا . فَنَقُولُ : إِنَّ هَذِهِ الْأَلْفَ قَدِ اسْتُفِيدَ بِهَا مَعْرِفَةُ الْقَدْرِ ، وَبَقِيَ الْجِنْسُ وَالصِّفَةُ ، فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُذْكَرَ الْجِنْسُ وَالصِّفَةُ فَيَقُولَا : أَلْفُ دِرْهَمٍ رَاضِيَّةٍ فَيُسْتَفَادُ بِذِكْرِ الدَّرَاهِمِ الْجِنْسُ وَيُسْتَفَادُ بِذِكْرِ الرَّضِيَّةِ الصِّفَةُ فَيَصِيرُ هَذَا الْعِوَضُ مَعْلُومَ الْقَدْرِ وَالْجِنْسِ وَالصِّفَةِ . فَعَلَى هَذَا إِنْ تَنَاكَرَا الصِّفَةَ مَعَ اتِّفَاقِهِمَا فِي الْقَدْرِ وَالْجِنْسِ ، فَقَالَ الزَّوْجُ : هِيَ رَاضِيَّةٌ ، وَقَالَتِ الزَّوْجَةُ : هِيَ سَلَامِيَّةٌ . وَإِنِ اخْتَلَفَا وَلَا بَيِّنَةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا تَحَالَفَا كَمَا يَتَحَالَفُ الْمُتَبَايِعَانِ إِذَا اخْتَلَفَا فَلَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الرَّاضِيَّةِ كَقِيمَةِ السَّلَامِيَّةِ تَحَالَفَا ، وَلَمْ يَمْنَعْ تَسَاوِي قِيمَتِهَا مِنْ تَحَالُفِهِمَا ، لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي أَحَدِ النَّوْعَيْنِ غَرَضٌ ، وَإِنْ لَمْ يَخْتَصَّ بِزِيَادَةِ قِيمَةٍ . وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْجِنْسِ فَقَالَ الزَّوْجُ : أَلْفُ دِينَارٍ ، وَقَالَتِ الزَّوْجَةُ : أَلْفُ دِرْهَمٍ ، تَحَالَفَا أَيْضًا ، وَحُكِمَ لِلزَّوْجِ مَعَ تَحَالُفِهِمَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ ، لِأَنَّ الْبُضْعَ قَدْ صَارَ مُسْتَهْلَكًا بِالطَّلَاقِ الْمَطْلُوبِ ، فَاسْتَحَقَّ الزَّوْجُ قِيمَتَهُ وَقِيمَةَ مَهْرِ الْمِثْلِ ، وَجَرَى مَجْرَى تَحَالُفِهِمَا فِي الْبَيْعِ بَعْدَ اسْتِهْلَاكِ الْمُشْتَرِي لِلسِّلْعَةِ ، فَيَلْزَمُهُ قِيمَتُهَا . وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْقَدْرِ فَقَالَ الزَّوْجُ : عَلَى أَلْفٍ ، وَقَالَتِ الزَّوْجَةُ : عَلَى مِائَةٍ ، تَحَالَفَا وَرَجَعَ الزَّوْجُ عَلَيْهَا بَعْدَ التَّحَالُفِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا ، فَهَذَا قِسْمٌ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يُذْكَرَ الْجِنْسُ وَيُغْفِلَا ذِكْرَ الصِّفَةِ فَيَقُولَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ ، فَيُنْتَظَرُ فَإِنْ كَانَ لِلْبَلَدِ نَقْدٌ غَالِبٌ فِي الدَّرَاهِمِ انْصَرَفَ إِطْلَاقُ الْجِنْسِ إِلَى الْأَغْلَبِ مِنْ دَرَاهِمِ الْبَلَدِ ، لِأَنَّهُ عُرْفٌ يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَيْهِ ، كَمَا تَقُولُ فِيمَنْ بَاعَ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لَمْ يَصِفْهَا أَنَّهَا تَكُونُ مِنْ غَالِبِ دَرَاهِمِ الْبَلَدِ ، فَلَوْ كَانَ لِلْبَلَدِ أَنْوَاعٌ مِنَ الدَّرَاهِمِ ، وَلَيْسَ أَحَدُهَا بِأَغْلَبَ مِنْ غَيْرِهِ بَطَلَ الْبَيْعُ ، وَفَسَدَ الْخُلْعُ ، لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ عُرْفٌ يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَيْهِ ، وَإِذَا حُمِلَ إِطْلَاقُ الدَّرَاهِمِ عَلَى الْأَغْلَبِ مِنْ دَرَاهِمِ الْبَلَدِ فَاخْتَلَفَا فِي الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ تَحَالَفَا . كَذَلِكَ لَوِ اخْتَلَفَا فِي الْإِطْلَاقِ فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا لِيَسْتَحِقَّ بِهِ الْأَغْلَبَ مِنْ دَرَاهِمِ الْبَلَدِ فَاخْتَلَفَا فِي الْجِنْسِ أَوِ الْقَدْرِ تَحَالَفَا وَادَّعَى غَيْرُهُ تَعْيِينَهُ بِصِفَةٍ مِنْ دَرَاهِمَ غَيْرِهَا تَحَالَفَا وَحُكِمَ لَهُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ مِنْ غَالِبِ نُقُودِ الْمَهْرِ .

وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَلَّا يَذْكُرَ بَعْدَ الْقَدْرِ جِنْسًا وَلَا صِفَةً فَيَقُولَانِ عَلَى أَلْفٍ وَلَا يَقُولَا مِنْ أَيِّ شَيْءٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَا قَدْ أَشَارَا إِلَى جِنْسٍ وَصِفَةٍ قَدْ تَقَرَّرَا بَيْنَهُمَا قَبْلَ الْعَقْدِ ، فَيُحْمَلَانِ عَلَى ذَلِكَ ، لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ عِنْدَهُمَا وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا عِنْدَ غَيْرِهِمَا فَإِنِ اخْتَلَفَا فِي ذَلِكَ تَحَالَفَا عَلَى مَا مَضَى . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَلَّا يُشِيرَا بِذَلِكَ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْأَجْنَاسِ فَهَذَا خُلْعٌ فَاسِدٌ يَقَعُ فِيهِ الطَّلَاقُ بَائِنًا وَيَسْتَحِقُّ فِيهِ الزَّوْجُ مَهْرَ الْمِثْلِ ، لِأَنَّ إِطْلَاقَ الْقَدْرِ يَتَنَاوَلُ كُلَّ جِنْسٍ مِنْ دَرَاهِمَ وَدَنَانِيرَ وَثِيَابٍ وَعَبِيدٍ فَصَارَ الْعِوَضُ مَجْهُولًا فَبَطَلَ وَلَمْ يَبْطُلِ الْخُلْعُ ، لِاسْتِهْلَاكِ الْبُضْعِ فِيهِ بِالطَّلَاقِ ، فَأَوْجَبَ مَهْرَ الْمِثْلِ ، لِأَنَّهُ عَنْ بَدَلٍ فَاسِدٍ . فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا حَمَلْتُمْ إِطْلَاقَ الْأَلْفِ عَلَى الْأَغْلَبِ مِمَّا يَتَعَامَلُ بِهِ أَهْلُ الْبَلَدِ وَهُوَ الدَّرَاهِمُ كَمَا حَمَلْتُمْ إِطْلَاقَ الدَّرَاهِمِ عَلَى الْأَغْلَبِ مِنْ دَرَاهِمِ الْبَلَدِ . قِيلَ : لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُذْكَرِ الْجِنْسُ كَثُرَتْ فِيهِ الْجَهَالَةُ فَبَطَلَ ، وَإِذَا ذُكِرَ الْجِنْسُ قَلَّتْ فِيهِ الْجَهَالَةُ فَصَحَّ فَعَلَى هَذَا إِنِ اخْتَلَفَا فِي هَذَا الْقِسْمِ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَدَّعِيَ أَحَدُهُمَا إِطْلَاقَ الْأَلْفِ وَيَدَّعِيَ الْآخَرُ تَعْيِينَهَا بِذِكْرِ الْجِنْسِ فَإِنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ ، لِأَنَّ مُدَّعِي إِطْلَاقِ الْأَلْفِ يَدَّعِي مَهْرَ الْمِثْلِ ، وَمُدَّعِي ذِكْرِ الْجِنْسِ يَدَّعِيهَا مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ فَيَتَحَالَفَانِ وَمُدَّعِي مِثْلِ هَذَا فِي الْبَيْعِ لَا يُوجِبُ التَّحَالُفَ ، لِأَنَّ أَحَدَ الْمُتَبَايِعَيْنِ لَوْ قَالَ : تَبَايَعْنَا هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفٍ لَمْ نُسَمِّهَا وَقَالَ الْآخَرُ بَلْ بِأَلْفٍ سَمَّيْنَاهَا وَذَكَرَ جِنْسَهَا فَلَا تَحَالُفَ بَيْنَهُمَا وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ أَنْكَرَ ذِكْرَ الْجِنْسِ لِأَنَّهُ يَذْكُرُ فَسَادَ الْعَقْدِ وَالْآخَرُ يَدَّعِي صِحَّتَهُ ، وَإِذَا اخْتَلَفَا فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ وَفَسَادِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنِ ادَّعَى فَسَادَهُ دُونَ صِحَّتِهِ ، لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلْعَقْدِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْخُلْعُ لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ فِي صَحِيحِهِ وَفَاسِدِهِ فَتَحَالَفَا عَلَى صَحِيحِهِ وَفَاسِدِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَلَّا يَدَّعِيَ أَحَدُهُمَا ذِكْرَ الْجِنْسِ وَلَكِنْ يَقُولُ أَحَدُهُمَا : أَرَدْنَاهُ بِقُلُوبِنَا وَيَقُولُ الَآخَرُ : لَمْ نُرِدْهُ ، أَوْ يَقُولُ أَحَدُهُمَا : أَرَدْنَا الدَّرَاهِمَ ، وَيَقُولُ الْآخَرُ : أَرَدْنَا الدَّنَانِيرَ فَفِي جَوَازِ تَحَالُفِهِمَا فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ لِأَنَّ ضَمَائِرَ الْقُلُوبِ لَا تُعْلَمُ إِلَّا بِالْقَوْلِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجُوزُ أَنْ يَتَحَالَفَا لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ بَيْنَهُمَا مِنْ أَمَارَاتِ الْأَحْوَالِ مَا تَدُلُّ عَلَى ضَمَائِرِ الْقُلُوبِ كَالْأَحْوَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِنْ قَالَتْ عَلَيَّ أَلْفٌ ضَمِنَهَا لَكَ غَيْرِي أَوْ عَلَى أَلْفُ فَلْسٍ وَأَنْكَرَ في الخلع تَحَالَفَا وَكَانَ لَهُ عَلَيْهَا مَهْرُ مِثْلِهَا " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : جَمَعَ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا بَيْنَ مَسْأَلَتَيْنِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ تَقُولَ الزَّوْجَةُ خَالَعْتُكَ عَلَى أَلْفِ فَلْسٍ ، وَيَقُولَ الزَّوْجُ : بَلْ خَالَعْتُكِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ ، فَقَدِ اتَّفَقَا عَلَى الْخُلْعِ ، وَاخْتَلَفَا فِي الْعِوَضِ ، فَيَتَحَالَفَانِ وَيَقَعُ طَلَاقُهُ بَائِنًا ، وَيُحْكَمُ لَهُ عَلَيْهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ ، عَلَى مَا مَضَى . وَمَا أَجَابَ بِهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ تَحَالُفِهِمَا فِيهَا صَحِيحٌ . وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فَهُوَ أَنْ يَقُولَ الزَّوْجُ : خَالَعْتُكِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَيْكِ ، فَتَقُولُ : خَالَعْتَنِي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ ضَمِنَهَا لَكَ غَيْرِي فَهَذَا ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَقُولَ الزَّوْجَةُ قَدْ خَالَعْتُكَ عَلَيْهَا لَكِنْ ضَمِنَهَا لَكِ فُلَانٌ عَنِّي فَلَا تَحَالُفَ بَيْنَهُمَا ، لِأَنَّ الضَّمَانَ زِيَادَةُ وَثِيقَةٍ لَا تَبْرَأُ بِهِ الْمَضْمُونَ عَنْهُ ، وَلَهُ مُطَالَبَتُهَا بِالْأَلْفِ لِأَنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مُطَالَبَةَ الْمَضْمُونِ عَنْهُ وَلَا يَكُونُ الضَّمَانُ مَانِعًا مِنْ مُطَالَبَتِهِ فَهَذَا الْقِسْمُ مِمَّا لَا تَحَالُفَ فِيهِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ وَلَا يَتَنَاوَلُهُ مُرَادُ الشَّافِعِيِّ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ تَقُولَ : خَالَعْتَنِي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ لِي فِي ذِمَّةِ غَيْرِي ، وَيَقُولُ الزَّوْجُ : بَلْ خَالَعْتُكِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فِي ذِمَّتِكِ فَقَدِ اتَّفَقَا فِي هَذَا الْقِسْمِ عَلَى الْخُلْعِ وَاخْتَلَفَا فِي الْأَلْفِ ، فَالزَّوْجُ يَدَّعِي أَنَّهَا أَلْفٌ فِي ذِمَّتِهَا وَالزَّوْجَةُ تَدَّعِي أَنَّهَا أَلْفٌ فِي ذِمَّةِ غَيْرِهَا ، وَمَا فِي ذِمَّتِهَا غَيْرُ مَا فِي ذِمَّةِ غَيْرِهَا ، وَإِنْ كَانَا جَمِيعًا فِي مِلْكِهَا فَصَارَ ذَلِكَ كَاخْتِلَافِهِمَا فِي الْعِوَضِ فَيَقُولُ الزَّوْجُ : خَالَعْتُكِ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ ، فَتَقُولُ الزَّوْجَةُ : بَلْ خَالَعْتَنِي عَلَى هَذَا الْعَبْدِ الْآخَرِ فَيَتَحَالَفَانِ كَذَلِكَ هَاهُنَا ، لِأَنَّ اخْتِلَافَ الذِّمَّتَيْنِ كَاخْتِلَافِ الْعَبْدَيْنِ وَيَكُونُ لَهُ مَهْرُ الْمِثْلِ فِي ذِمَّتِهَا ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقِسْمُ هُوَ الَّذِي أَرَادَهُ الشَّافِعِيُّ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَقُولَ الزَّوْجُ خَالَعْتُكِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَتَقُولَ الزَّوْجَةُ بَلْ خَالَعَكَ فُلَانٌ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَيْهِ دُونِي ، فَهَذِهِ مِثْلُ أَنْ تَكُونَ قَدْ خَالَعَتْهُ بِشَيْءٍ وَمُقِرَّةً بِغَيْرِهَا بِأَنَّهُ خَالَعَ الزَّوْجَ عَنْهَا فَلَا تَحَالُفَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهَا مُنْكِرَةٌ لِلْعَقْدِ ، وَالتَّحَالُفُ إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ الِاعْتِرَافِ بِالْعَقْدِ وَالِاخْتِلَافِ فِي صِفَةٍ ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهَا مَعَ يَمِينِهَا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا عَلَى الْغَيْرِ بِأَنَّهُ خَالَعَ الزَّوْجَ عَنْهَا ، وَيَقَعُ طَلَاقُ الزَّوْجِ بَائِنًا لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِأَنَّهَا بَانَتْ مِنْهُ بِأَلْفٍ قَدِ اسْتَحَقَّهَا . فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ الْأَلْفُ بِالْجُحُودِ فَيَنْبَغِي أَلَّا يَلْزَمَهُ الطَّلَاقُ بِالْإِقْرَارِ ، كَمَا لَوِ ادَّعَى أَنَّهُ بَاعَ عَبْدَهُ عَلَى زَيْدٍ بِأَلْفٍ وَأَنْكَرَهُ زَيْدٌ لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنِ الْعَبْدِ وَإِنِ اعْتَرَفَ بِبَيْعِهِ عَلَى زَيْدٍ ، لِأَنَّ الثَّمَنَ لَمْ يَحْصُلْ بِهِ بِجُحُودِ زِيدٍ . قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْبَيْعَ لَا يَنْفَكُّ عَنِ الثَّمَنِ ، فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ الثَّمَنُ لَمْ

يَلْزَمْهُ الْبَيْعُ ، وَالطَّلَاقُ قَدْ يَنْفَكُّ عَنِ الْعِوَضِ ، فَجَازَ أَنْ يَلْزَمَهُ الطَّلَاقُ ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ الْعِوَضُ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ يَخْتَلِفُ أَحْكَامُهَا فِي التَّحَالُفِ وَالْعِوَضِ . فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ لَا تَحَالُفَ فِيهِ ، وَيُسْتَحَقُّ فِيهِ الْعِوَضُ فَلَا يَدْخُلُ فِيمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ مِنَ التَّحَالُفِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي يَتَحَالَفَانِ وَيُسْتَحَقُّ فِيهِ مَهْرُ الْمِثْلِ وَيَدْخُلُ فِيمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ مِنَ التَّحَالُفِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : لَا يَتَحَالَفَانِ فِيهِ وَلَا يُسْتَحَقُّ فِيهِ الْعِوَضُ وَلَا يَدْخُلُ فِيمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ مِنَ التَّحَالُفِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَتْ لَهُ طَلِّقْنِي وَلَكَ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَقَالَ أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى الْأَلْفِ إِنْ شِئْتِ فَلَهَا الْمَشِيئَةُ وَقْتَ الْخِيَارِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى سُؤَالَيْنِ وَجَوَابَيْنِ فَالسُّؤَالَانِ : أَحَدُهُمَا : قَوْلُ الْمَرْأَةِ : طَلِّقْنِي عَلَى أَلْفٍ . وَالثَّانِي : قَوْلُ الرَّجُلِ إِنْ شِئْتِ . وَأَمَّا الْجَوَابَانِ فَأَحَدُهُمَا قَوْلُ الرَّجُلِ : أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَلْفٍ . وَالثَّانِي : قَوْلُ الْمَرْأَةِ : إِنْ شِئْتُ ، فَإِذَا بَدَأَتِ الْمَرْأَةُ بِالطَّلَبِ فَقَالَتْ : طَلِّقْنِي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ ، فَإِنْ عَجَّلَ جَوَابَهَا فِي الْحَالِ فَقَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَلْفٍ ، تَمَّ الْخُلْعُ بِسُؤَالٍ وَاحِدٍ وَجَوَابٍ وَاحِدٍ ، وَصَارَ سُؤَالُهَا طَلَبًا وَجَوَابُهُ إِيجَابًا ، فَتَمَّ الْخُلْعُ ، وَلَمْ تَحْتَجِ الْمَرْأَةُ إِلَى الْقَبُولِ بَعْدَ الْإِيجَابِ ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَجَّلْ طَلَاقُ الرَّجُلِ لَهَا حَتَّى تَرَاخَى خَرَجَ طَلَاقُهُ عَنْ حُكْمِ الْإِيجَابِ وَصَارَ بَدَلًا وَكَأَنَّهُ ابْتَدَأَهَا مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ مِنْهَا فَقَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَلْفٍ فَلَا يَتِمُّ الْخُلْعُ بَعْدَ بَذْلِهِ حَتَّى تَقُولَ الزَّوْجَةُ فِي الْحَالِ : قَدْ قَبِلْتُ ، فَيَتِمُّ الْخُلْعُ بِالْبَذْلِ وَالْقَبُولِ ، لِأَنَّ تَرَاخِيَ جَوَابِ الزَّوْجِ عَنْ طَلَبِ الزَّوْجَةِ يُخْرِجُهُ مِنْ حُكْمِ الْإِيجَابِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَى الْفَوْرِ بَعْدَ الطَّلَبِ ، وَيَجْعَلُهُ حُكْمَ الْبَذْلِ الْمُسْتَبْدَأِ . فَأَمَّا إِنْ قَيَّدَ الزَّوْجُ جَوَابَهُ بِشَرْطٍ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فَقَالَ عَقِيبَ قَوْلِهَا : طَلِّقْنِي عَلَى أَلْفٍ : أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَلْفٍ إِنْ شِئْتِ ، فَتَمَامُ الْخُلْعِ أَنْ يُوجَدَ مِنْهَا شَرْطُ الطَّلَاقِ ، فَتَقُولُ : قَدْ شِئْتُ ، وَلَا يَمْنَعُ وُقُوعَ الْخُلْعِ بِهَذَا الشَّرْطِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ بِالصِّفَاتِ وَبِالشُّرُوطِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَشِيئَتُهَا وَإِنْ كَانَتْ بِالْقَلْبِ فَلَا تُعْلَمُ إِلَّا بِقَوْلِهَا : قَدْ شِئْتُ ، فَإِذَا قَالَتْ : قَدْ شِئْتُ ، صَارَ الْقَوْلُ مَشِيئَةً مِنْهَا ، وَإِنْ كَانَ اخْتِيَارًا عَنْهَا ، وَمِنْ شُرُوطِ الْمَشِيئَةِ أَنْ تَكُونَ عَلَى الْفَوْرِ ، فَإِنَّهَا لَا تَصِيرُ قَبُولًا

لِبَذْلٍ ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَلَهَا الْمَشِيئَةُ فِي وَقْتِ الْخِيَارِ " فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ وَقْتَ الْخِيَارِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّهُ أَرَادَ خِيَارَ الْقَبُولِ بَعْدَ الْبَذْلِ ، فَعَلَى هَذَا مِنْ صِحَّةِ مَشِيئَتِهَا أَنْ تَكُونَ عَلَى الْفَوْرِ ، مِنْ غَيْرِ مُهْلَةٍ ، كَمَا يَكُونُ قَبُولُ الْبَذْلِ عَلَى الْفَوْرِ مِنْ غَيْرِ مُهْلَةٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ أَنَّهُ أَرَادَ خِيَارَ الْجَوَابِ بَعْدَ السُّؤَالِ وَهُوَ أَنْ تَشَاءَ فِي الْمَجْلِسِ قَبْلَ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ وَبَعْدَهُ ، وَقَبْلَ أَخْذِهَا فِي غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا مُهْلَةٌ يَسِيرَةٌ ، كَمَا يَكُونُ فِي الْعَادَةِ جَوَابًا لِلسُّؤَالِ ، وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ إِنْ تَرَاخَى زَمَانُ مَشِيئَتِهَا لَمْ يَصِحَّ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : خِيَارُهَا فِي الْمَشِيئَةِ مُمْتَدٌّ عَلَى التَّرَاخِي . وَأَصْلُهُ اخْتِلَافُنَا وَإِيَّاهُ إِذَا قَالَ لَهَا : اخْتَارِي نَفْسَكِ ، فَعِنْدَهُ أَنَّ خِيَارَهَا مُمْتَدٌّ ، وَعِنْدَنَا أَنَّ خِيَارَهَا عَلَى الْفَوْرِ وَالْكَلَامُ مَعَهُ يَأْتِي .

فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَتْ لَهُ : طَلِّقْنِي بِأَلْفٍ ، فَقَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَلْفٍ إِنْ كُنْتِ حَائِلًا ، فَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا فَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَتْ حَائِلًا وَقَعَ الطَّلَاقُ بَائِنًا ، وَكَانَ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ دُونَ الْأَلْفِ لِأَنَّ الْخُلْعَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِصِفَةٍ ، فَلِذَلِكَ بَطَلَ الْمُسَمَّى فِيهِ لِبُطْلَانِهِ وَوَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ ، وَلَا يُحْكَمُ لَهُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ إِلَّا بَعْدَ وَضْعِهَا لِيُعْلَمَ بِهِ يَقِينُ حَمْلِهَا ، لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ غَلَطًا ، وَفِي تَحْرِيمِ وَطْئِهَا عَلَيْهِ فِي حَالِ الْحَمْلِ وَقَبْلَ الْوَضْعِ وَجْهَانِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ أَعْطَتْهُ إِيَّاهَا فِي وَقْتِ الْخِيَارِ لَزِمَهُ الطَّلَاقُ وَسَوَاءٌ هَرَبَ الزَّوْجُ أَوْ غَابَ حَتَّى مَضَى وَقْتُ الْخِيَارِ أَوْ أَبْطَأَتْ هِيَ بِالْأَلْفِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا الْكَلَامُ الَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ هَاهُنَا عَنِ الشَّافِعِيِّ مَبْتُورٌ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ . فَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ عَطْفٌ عَلَى الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا إِذَا قَالَتْ لَهُ طَلِّقْنِي عَلَى أَلْفٍ ، فَقَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَلْفٍ إِنْ شِئْتِ ، فَإِنْ شَاءَتْ فِي وَقْتِ الْخِيَارِ عَلَى الْفَوْرِ لَزِمَهُ ، سَوَاءً أَعْطَتْهُ الْأَلْفَ فِي وَقْتِ الْخِيَارِ ، أَوْ أَخَّرَتْهَا لِهَرَبِ الزَّوْجِ ، أَوْ لِإِبْطَائِهَا لِأَنَّ الْعَطِيَّةَ تَصِيرُ شَرْطًا فِي الْقَبُولِ فَيُرَاعَى فِيهَا الْفَوْرُ . وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا بَلْ هِيَ مَسْأَلَةٌ مُبْتَدَأَةٌ أَغْفَلَ الْمُزَنِيُّ ذِكْرَهَا وَنَقْلَ جَوَابِهَا ، وَقَدْ نَقَلَهَا الرَّبِيعُ فِي كِتَابِ الْأُمِّ ، وَذَكَرَ فِيهَا هَذَا الْجَوَابَ ، وَصُورَتُهَا : أَنْ يَقُولَ الزَّوْجُ لِامْرَأَتِهِ : إِنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَإِنْ أَعْطَتْهُ فِي وَقْتِ الْخِيَارِ عَاجِلًا وَقَعَ

الطَّلَاقُ ، وَإِنْ أَخَّرَتْ دَفْعَ الْأَلْفِ إِمَّا لِسَبَبٍ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ بِأَنْ غَابَ أَوْ هَرَبَ ، وَإِمَّا لِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهَا بِأَنْ أَبْطَأَتْ لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِ عُذْرٍ لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ ، لِأَنَّ دَفْعَ الْأَلْفِ قَدْ صَارَ شَرْطًا فِي الْخُلْعِ فَرُوعِيَ فِيهِ الْفَوْرُ كَالْقَبُولِ لَكِنَّ الْفَوْرَ فِيهِ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الْجَوَابِ ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا مُهْلَةٌ يَسِيرَةٌ وَجْهًا وَاحِدًا ، بِخِلَافِ الْمَشِيئَةِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ، لِأَنَّ هَذَا فِعْلٌ وَالْمَشِيئَةَ قَوْلٌ وَزَمَانُ الْفِعْلِ أَوْسَعُ مِنْ زَمَانِ الْقَوْلِ . ثُمَّ نَقَلَ الرَّبِيعُ فِي الْأُمِّ مَعَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا مَسْأَلَةً ثَالِثَةً أَغْفَلَهَا الْمُزَنِيُّ هَاهُنَا ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ لَهَا الزَّوْجُ : إِنْ ضَمِنْتِ لِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَإِنْ ضَمِنَتْهَا عَلَى الْفَوْرِ فِي الْحَالِ طُلِّقَتْ سَوَاءً دَفَعَتْهَا فِي الْحَالِ ، أَوْ أَخَّرَتْهَا ، وَإِنْ لَمْ تَضْمَنْهَا عَلَى الْفَوْرِ حَتَّى تَرَاخَى الْوَقْتُ لَمْ تُطَلَّقْ سَوَاءً دَفَعَتْهَا فِي الْحَالِ ، أَوْ أَخَّرَتْهَا ، لِأَنَّ شَرْطَ الْخُلْعِ هُوَ الضَّمَانُ دُونَ الدَّفْعِ فَلِذَلِكَ رُوعِيَ تَعْجِيلُ الضَّمَانِ ، وَلَمْ يُرَاعَ تَعْجِيلُ الدَّفْعِ وَالْفَوْرُ هَاهُنَا مُعْتَبَرٌ بِفَوْرِ الْقَبُولِ بَعْدَ الْبَذْلِ وَجْهًا وَاحِدًا بِخِلَافِ الْمَشِيئَةِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ، لِأَنَّهُمَا ، وَإِنْ كَانَا مَعًا بِالْقَوْلِ فَالضَّمَانُ قَبُولٌ مَحْضٌ فَسَاوَاهُ ، وَالْمَشِيئَةُ جَارِيَةٌ مَجْرَاهُ فَصَارَ تَحْرِيرُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ أَنَّهُ مَتَى عُلِّقَ الْخُلْعُ بِدَفْعِ الْأَلْفِ رُوعِيَ فِيهِ خِيَارُ الْجَوَابِ فَجَازَ بَعْدَ مُهْلَةٍ يَسِيرَةٍ ، وَإِنْ عُلِّقَ بِضَمَانِ الْأَلْفِ رُوعِيَ فِيهِ خِيَارُ الْقَبُولِ ، فَلَمْ يَجُزْ بَعْدَ مُهْلَةٍ يَسِيرَةٍ وَإِنْ عُلِّقَ بِالْمَشِيئَةِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُرَاعَى فِيهِ خِيَارُ الْجَوَابِ كَالدَّفْعِ . وَالثَّانِي : يُرَاعَى فِيهِ خِيَارُ الْقَبُولِ كَالضَّمَانِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِنِ اخْتَلَفَ حَرْفُ الشَّرْطِ بِـ " إِنْ " وَ " إِذَا " ، فَهُمَا مَعًا حَرْفَا شَرْطٍ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي خُلْعٍ يُسْتَحَقُّ فِيهِ الْعِوَضُ فَيَقُولُ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَلْفٍ إِنْ شِئْتِ ، أَوْ يَقُولُ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَلْفٍ إِذَا شِئْتِ ، فَهُمَا سَوَاءٌ وَيُعْتَبَرُ وُجُودُ الْمَشِيئَةِ مِنْهُمَا عَلَى الْفَوْرِ فِي " إِنْ " ، وَ " إِذَا " ، لِأَنَّ دُخُولَ الْعِوَضِ فِيهِ يَجْعَلُهُ تَمْلِيكًا يُرَاعَى فِيهِ حُكْمُ الْقَبُولِ فَاسْتَوَى حُكْمُ " إِذَا " وَ " إِنْ " فِي اعْتِبَارِ الْفَوْرِ فِيهِمَا فَإِنْ تَرَاخَى الْوَقْتُ فِي أَحَدِهِمَا بَطَلَ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِ خُلْعٍ وَبِغَيْرِ عِوَضٍ ، فَإِنْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شِئْتِ ، رُوعِيَ مَشِيئَتُهَا عَلَى الْفَوْرِ فَإِنْ تَرَاخَتْ بَطَلَتْ ، وَلَمْ تُطَلَّقْ وَإِنْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ إِذَا شِئْتِ صَحَّتْ مَشِيئَتُهَا عَلَى التَّرَاخِي ، فَمَتَى شَاءَتْ طُلِّقَتْ ، لِأَنَّهُمَا وَإِنْ كَانَا حَرْفَيْ شَرْطٍ فَـ " إِنْ " شَرْطٌ فِي الْفِعْلِ ، وَ " إِذَا " شَرْطٌ فِي الْوَقْتِ ، لِأَنَّهُ يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ : إِنْ تَأْتِنِي آتِكَ ، وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ : إِذَا تَأْتِينِي آتِكَ ، فَلَمَّا كَانَتْ " إِنْ " شَرْطًا فِي الْفِعْلِ ، وَهُوَ

مَقْصُودٌ رَوْعِيَ تَقْدِيمُهُ فَصَارَ عَلَى الْفَوْرِ ، وَلَمَّا كَانَ " إِذَا " شَرْطًا فِي الْوَقْتِ ، وَكَانَ جَمِيعُهُ مُتَسَاوِيًا صَارَ عَلَى التَّرَاخِي . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ يَدْخُلَ مَعَهُمَا حَرْفُ النَّفْيِ فَيَكُونُ حُكْمُهُمَا بِضِدِّ مَا تَقَدَّمَ . مِثَالُهُ أَنْ يَقُولَ : إِنْ لَمْ تَشَائِي فَأَنْتِ طَالِقٌ فَيَكُونُ عَلَى التَّرَاخِي ، فَمَتَى شَاءَتْ لَمْ تُطَلَّقْ ، وَلَوْ قَالَ : إِذَا لَمْ تَشَائِي فَأَنْتِ طَالِقٌ فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى الْفَوْرِ ، فَإِنْ شَاءَتْ فِي الْحَالِ لَمْ تُطَلَّقْ ، وَإِنْ لَمْ تَشَأْ حَتَّى تَرَاخَى الزَّمَانُ طُلِّقَتْ ، كَمَنْ لَمْ تَشَأْ لِأَنَّهُمَا وَإِنْ كَانَا حَرْفَيْ شَرْطٍ فَـ " إِنْ " مَوْضُوعَةٌ لِلشَّكِّ وَالتَّوَهُّمِ فَصَارَتْ بِالنَّفْيِ عَلَى التَّرَاخِي لِتُفِيدَ بِفَوَاتِ الْفِعْلِ يَقِينًا فَلِذَلِكَ جُعِلَتْ عَلَى التَّرَاخِي ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ " إِذَا " لِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلْيَقِينِ ، فَإِذَا تَأَخَّرَ الْفِعْلُ عَنْ وَقْتِ إِمْكَانِهِ فَقَدْ خَالَفَ مَوْضُوعَهُ فَلِذَلِكَ صَارَ عَلَى الْفَوْرِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ فَأَعْطَتْهُ إِيَّاهَا زَائِدَةً فَعَلَيْهِ طَلْقَةٌ لِأَنَّهَا أَعْطَتْهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَزِيَادَةً " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا قَالَ : إِنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَقَدْ ذَكَرْنَا إِنْ أَعْطَتْهُ الْأَلْفَ يَكُونُ عَلَى الْفَوْرِ فِي وَقْتِ الْخِيَارِ ، وَهُوَ خِيَارُ الْجَوَابِ ، لَا خِيَارُ الْقَبُولِ ، فَإِذَا أَعْطَتْهُ الْأَلْفَ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تُعْطِيَهُ أَلْفًا كَامِلَةً مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ ، فَقَدْ طُلِّقَتْ وَاحِدَةً إِنْ لَمْ يُرِدِ الزَّوْجُ بِقَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ أَكْثَرَ مِنْهَا ، وَسَوَاءٌ دَفَعَتِ الْأَلْفَ إِلَيْهِ فِي دَفْعَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ فِي دَفَعَاتٍ إِذَا كَانَ دَفْعُ جَمِيعِهَا فِي وَقْتِ الْخِيَارِ ، لِأَنَّ دَفْعَ الْأَلْفِ قَدْ وُجِدَ مَعَ الِافْتِرَاقِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ تَدْفَعَ إِلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ ، كَأَنَّهَا دَفَعَتْ إِلَيْهِ أَلْفَيْنِ ، فَإِنْ دَفَعَتِ الزِّيَادَةَ مُفْرَدَةً طُلِّقَتْ إِجْمَاعًا ، وَإِنْ دَفَعَتِ الزِّيَادَةَ مَعَ الْأَلْفِ فَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِرَاقِ إِلَى أَنَّهَا لَا تُطَلَّقُ ، وَتَكُونُ الزِّيَادَةُ مُعْتَبَرَةً بِصِفَةِ الشَّرْطِ كَالنُّقْصَانِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ قَالَ : قَدْ بِعْتُكَ دَارِي بِأَلْفٍ فَقَالَ قَدِ اشْتَرَيْتُهَا بِأَلْفَيْنِ لَمْ يَصِحَّ ، وَإِنْ كَانَتِ الْأَلْفُ دَاخِلَةً فِيهَا فَكَذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ ، وَهَذَا خَطَأٌ ، لِأَنَّ وُجُودَ الصِّفَةِ مَعَ الزِّيَادَةِ لَا تَمْنَعُ مِنْ ثُبُوتِ حُكْمِهَا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ ، كَمَا لَوْ أَعْطَتْهُ أَلْفًا وَعَبْدًا طُلِّقَتْ ، وَلَا يَمْنَعُ زِيَادَةَ الْعَبْدِ مِنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ لِوُجُودِ الْأَلْفِ ، كَذَلِكَ لَا تَمْنَعُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْأَلْفِ مِنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ ، لِوُجُودِ الْأَلْفِ فَأَمَّا النُّقْصَانُ فَلَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ ، لِعَدَمِ الْأَلْفِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْبَيْعِ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الطَّلَاقَ مُعَلَّقٌ بِصِفَةٍ فَلَمْ تَمْنَعِ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا مِنْ ثُبُوتِ حُكْمِهَا ، وَالْبَيْعُ مُعَاوَضَةٌ تَمَّ بِالْقَبُولِ الْمُوَافِقِ لِلْبَدَلِ فَافْتَرَقَا فَإِذَا تَقَرَّرَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ مَعَ دَفْعِ الزِّيَادَةِ ، فَلَهَا اسْتِرْجَاعُ الزِّيَادَةِ ، وَلَا يَمْلِكُهَا الزَّوْجُ بِالْأَخْذِ وَإِنْ مَلَكَ الْأَلْفَ إِلَّا أَنْ يَقْبِضَهَا بِالْهِبَةِ فَيَمْلِكَهَا بِالْهِبَةِ وَيَمْلِكَ الْأَلْفَ بِالْخُلْعِ .

وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ تَدْفَعَ إِلَيْهِ أَقَلَّ مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ نُقْصَانُهَا فِي الْعَدَدِ دُونَ الْوَزْنِ كَأَنَّهَا دَفَعَتْ إِلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَازِنَةً عَدَدُهَا أَقَلُّ مِنْ أَلْفٍ ، فَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ لِأَنَّ الطَّلَاقَ بِإِطْلَاقِ الدَّرَاهِمِ يَتَنَاوَلُ الْوَازِنَةَ دُونَ الْمَعْدُودَةِ شَرْعًا كَالزَّكَاةِ ، وَعُرْفًا كَالْبَيْعِ ، فَصَارَتِ الصِّفَةُ مَوْجُودَةً بِكَمَالِ الْوَزْنِ مَعَ نُقْصَانِ الْعَدَدِ فَلِذَلِكَ وَقَعَ الطَّلَاقُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ نَاقِصَةَ الْوَزْنِ كَامِلَةَ الْعَدَدِ ، فَلَا طَلَاقَ ، لِأَنَّ الصِّفَةَ لَمْ تَكْمُلْ شَرْعًا وَلَا عُرْفًا ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي بَلَدٍ جَرَتْ عَادَةُ أَهْلِهِ أَنْ يَتَعَامَلُوا فِيهِ بِالدَّرَاهِمِ عَدَدًا لَا وَزْنًا ، فَيَقَعُ الطَّلَاقُ بِكَمَالِ الْعَدَدِ مَعَ نُقْصَانِ الْوَزْنِ تَغْلِيبًا لِلْعُرْفِ دُونَ الشَّرْعِ ، وَلَا تُطَلَّقُ مَعَ هَذَا الْعُرْفِ بِنُقْصَانِ الْعَدَدِ مَعَ كَمَالِ الْوَزْنِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ أَعْطَتْهُ إِيَّاهَا رَدِيئَةً فَإِنْ كَانَتْ فِضَّةً يَقَعُ عَلَيْهَا اسْمُ دَرَاهِمَ طُلِّقَتْ وَكَانَ عَلَيْهَا بَدَلُهَا فَإِنْ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا اسْمُ دَرَاهِمَ لَمْ تُطَلَّقْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا قَالَ لَهَا : إِنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُعَيِّنَ تِلْكَ الْأَلْفَ فَيَقُولُ : إِنْ أَعْطَيْتِنِي هَذِهِ الْأَلْفَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ إِلَّا بِدَفْعِهَا ، فَإِنْ أَعْطَتْهُ غَيْرَهَا لَمْ تُطَلَّقْ ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَهَا أَوْ أَجْوَدَ مِنْهَا لِعَدَمِ الشَّرْطِ فِي دَفْعِ غَيْرِهَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَلَّا يُعَيِّنَ الْأَلْفَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَصِفَ الْأَلْفَ . وَالثَّانِي : أَلَّا يَصِفَهَا . فَإِنْ وَصَفَهَا كَانَ دَفْعُهَا عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ شَرْطًا فِي وُقُوعِ طَلَاقِهَا ، وَإِنْ دَفَعَتْهَا عَلَى غَيْرِ تِلْكَ الصِّفَةِ سَوَاءٌ كَانَ مَا دَفَعَتْهُ مِنْ غَالِبِ دَرَاهِمِ الْبَلَدِ ، أَوْ مِنْ غَيْرِهَا إِذَا لَمْ تُوجَدْ تِلْكَ الصِّفَةُ فِيهَا ثُمَّ إِذَا دَفَعَتْهَا عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ مَلَكَهَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَلَّا يَصِفَ الْأَلْفَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ لِلْبَلَدِ نَقْدٌ غَالِبٌ مِنَ الدَّرَاهِمِ فَهَلْ يَصِيرُ نَقْدُ الْبَلَدِ كَالصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِهَا أَوْ لَا في الخلع عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَصِيرُ كَالصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ فَإِنْ دَفَعَتْ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ لَمْ تُطَلَّقْ وَإِنْ كَانَ اسْمُ الدَّرَاهِمِ عَلَيْهَا مُنْطَلِقًا ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ نَقْدُ الْبَلَدِ كَالصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ فِي

الْعُقُودِ كَانَ كَذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ فَعَلَى هَذَا إِنْ دَفَعَتْ إِلَيْهِ مِنْ نَقْدِ الْبَلَدِ طُلِّقَتْ وَمَلَكَهَا ، وَإِنْ دَفَعَتْ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ لَمْ تُطَلَّقْ وَلَمْ يَمْلِكْهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : دُونَ الْعُرْفِ فَإِنْ دَفَعَتْ إِلَيْهِ مِنْ غَالِبِ دَرَاهِمِ الْبَلَدِ ، طُلِّقَتْ ، وَمَلَكَ تِلْكَ الدَّرَاهِمَ ، وَإِنْ دَفَعَتْ مِنْ غَيْرِ دَرَاهِمِ الْبَلَدِ طُلِّقَتْ وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ تِلْكَ الدَّرَاهِمَ لِأَنَّهُ يَمْلِكُهَا بِعَقْدٍ فَاعْتُبِرَ فِيهَا الْعُرْفُ مِنْ غَالِبِ دَرَاهِمِ الْبَلَدِ وَاعْتُبِرَ فِي الطَّلَاقِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الطَّلَاقِ ، وَكَانَ لَهُ عَلَيْهَا أَلْفٌ مِنْ غَالِبِ دَرَاهِمِ الْبَلَدِ ، لِأَنَّهَا تُمْلَكُ عَنْ مُعَاوَضَةٍ تُعْتَبَرُ فِيهَا غَالِبُ الدَّرَاهِمِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ لِلْبَلَدِ نُقُودٌ مُخْتَلِفَةٌ ، وَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهَا بِأَغْلَبَ مِنْ غَيْرِهِ فَأَيُّ دَرَاهِمَ دَفَعَتْهَا إِلَيْهِ مِمَّا يَنْطَبِقُ اسْمُ الدَّرَاهِمِ عَلَيْهَا طُلِّقَتْ بِهَا ، وَلَمْ يَمْلِكْهَا الزَّوْجُ ، وَكَانَ لَهُ عَلَيْهَا مَهْرُ مِثْلِهَا قَوْلًا وَاحِدًا ، لِأَنَّهُ لَيْسَ الْعِوَضُ مُعَيَّنًا وَلَا مَوْصُوفًا وَلَا فِيهِ نَقْدٌ مُسْتَحَقٌّ مِثْلُهُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ هَذَا التَّفْصِيلِ ، وَطَلَّقَهَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ دَفَعَتْهَا إِلَيْهِ فَطُلِّقَتْ بِهَا ، وَمَلَكَهَا فِي الظَّاهِرِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ، ثُمَّ بَانَ لَهُ أَنَّ الدَّرَاهِمَ رَدِيئَةٌ مَعِيبَةٌ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ التي أعطتها له في الخلع : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْأَلْفُ مَعِيبًا فَلَا يَخْلُو عَيْبُهَا مِنْ أَنْ يُخْرِجَهَا مِنْ جِنْسِ الصِّفَةِ أَوْ لَا يُخْرِجُهَا فَإِنْ أَخْرَجَهَا مِنْ جِنْسِ الصِّفَةِ فَكَانَتْ نُحَاسًا أَوْ رَصَاصًا لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ ، لِأَنَّهُ قَدْ تَضَمَّنَ وُقُوعَ الطَّلَاقِ بِدَفْعِهَا أَنْ تَكُونَ مِنْ دَرَاهِمِ الْفِضَّةِ ، فَإِذَا لَمْ تُوجَدْ هَذِهِ الصِّفَةُ فِيهَا لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ لِعَدَمِ الصِّفَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ الْفِضَّةِ وَقَعَ الطَّلَاقُ لِوُجُودِ الصِّفَةِ ، وَهُوَ لِأَجْلِ الْعَيْبِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْمُقَامِ أَوِ الرَّدِّ ، فَإِنْ أَقَامَ لَمْ يَرْجِعْ بِأَرْشِهَا وَإِنْ رَدَّ فَمَاذَا يَرْجِعُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : بِمِثْلِهَا غَيْرِ مَعِيبَةٍ . وَالثَّانِي : بِمَهْرِ الْمِثْلِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ الْأَلْفُ غَيْرَ مَعِيبَةٍ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ . أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ عَيْبُهَا لَا يُخْرِجُهَا مِنْ جِنْسِ الصِّفَةِ ، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ رَدِيءِ الْفِضَّةِ وَخَشَنِهَا لِرَدَاءَةِ مَعْدِنِهَا ، فَالطَّلَاقُ هَاهُنَا قَدْ وَقَعَ ، وَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَسْمَحَ بِعَيْبِهَا كَمَا يَسْمَحُ بِعَيْبِ الْمَعِيبِ وَبَيْنَ أَنْ يَرُدَّهَا وَيَرْجِعَ بِمِثْلِهَا مِنْ جَيِّدِ الْفِضَّةِ غَيْرِ مَعِيبٍ وَلَا يَرْجِعُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ قَوْلًا وَاحِدًا ، لِأَنَّ حَقَّهُ فِي أَلْفِ دِرْهَمٍ غَيْرِ مَعِيبَةٍ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ عَيْبُهَا وَرَدَاءَتُهَا قَدْ أَخْرَجَهَا مِنْ جِنْسِ الْفِضَّةِ لِمَا فِيهَا مِنْ رَصَاصٍ أَوْ مَاسٍ فَالطَّلَاقُ هَاهُنَا غَيْرُ وَاقِعٍ ، لِأَنَّهُ جَعَلَ طَلَاقَهَا مَشْرُوطًا بِدَفْعِ أَلْفِ دِرْهَمٍ ، وَهَذِهِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْغِشِّ أَقَلُّ مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ ، فَلَمْ تُطَلَّقْ لِنُقْصَانِ الْفِضَّةِ ، وَلَكِنْ

لَوْ دَفَعَتْ إِلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ فِيهَا مِنَ الْفِضَّةِ أَلْفُ دِرْهَمٍ طُلِّقَتْ لِوُجُودِ الْفِضَّةِ وَزِيَادَةِ الْغِشِّ ، وَلَهُ بَدَلُهَا إِنْ شَاءَ . فَإِنْ قِيلَ : فَعَلَى هَذَا إِنْ دَفَعَتْ إِلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ نَقْرَةً فِضَّةً يَنْبَغِي عَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ أَنْ تُطَلَّقَ . قِيلَ : لَا تُطَلَّقُ بِالْفِضَّةِ النَّقْرَةِ وَإِنْ طُلِّقَتْ بِالْفِضَّةِ فِي الدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ ، لِأَنَّ النَّقْرَةَ لَا يَنْطَلِقُ اسَمُ الدَّرَاهِمِ عَلَيْهَا ، وَإِنْ كَانَتْ فِضَّةً ، وَالدَّرَاهِمَ الْمَغْشُوشَةَ يَنْطَلِقُ اسْمُ الدَّرَاهِمِ عَلَيْهَا إِذَا كَانَ فِيهَا فِضَّةٌ فَافْتَرَقَا فِي الْحُكْمِ لِافْتِرَاقِهِمَا فِي الِاسْمِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَ مَتَى أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ " فَذَلِكَ لَهَا وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ أَخْذِهَا وَلَا لَهَا إِذَا أَعْطَتْهُ أَنْ تَرْجِعَ فِيهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا قَالَ لَهَا مَتَى أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ ، أَوْ مَتَى مَا أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَهُمَا سَوَاءٌ ، لِأَنَّ " مَا " حَرْفُ صِلَةٍ تَدْخُلُ فِي الْكَلَامِ لِلتَّأْكِيدِ لَا يُفِيدُ نَفْيًا وَلَا إِثْبَاتًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [ آلِ عِمْرَانَ : ] أَيْ فَبِرَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأَيُّ وَقْتٍ أَعْطَتْهُ الْأَلْفَ طُلِّقَتْ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ عَلَى التَّرَاخِي ، لِأَنَّ " مَتَى " حَرْفٌ وُضِعَ لِلتَّرَاخِي فِي الْأَوْقَاتِ ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ : أَيُّ وَقْتٍ أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا ، أَوْ : فِي أَيِّ زَمَانٍ أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَهُوَ عَلَى التَّرَاخِي مَتَى أَعْطَتْهُ الْأَلْفَ طُلِّقَتْ ، لَا يَخْتَصُّ بِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ ، وَلَا بِالْفَوْرِ دُونَ التَّرَاخِي ، لِأَنَّ كُلَّ هَذِهِ الْحُرُوفِ يَخْتَصُّ بِالزَّمَانِ فَعَمَّتْ جَمِيعَ الْأَزْمَانِ . فَإِنْ قِيلَ : أَفَلَيْسَ لَوْ قَالَ إِنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا أَوْ قَالَ : إِذَا أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا أَنْتِ طَالِقٌ أَنَّهُ يَكُونُ عَلَى الْفَوْرِ ، وَإِنِ اخْتَلَفَ حُكْمُ " إِنْ " وَ " إِذَا " فِي الشَّرْطِ ، لِأَنَّ اقْتِرَانَ الْعِوَضِ بِهِمَا سَوَّى بَيْنَ حُكْمَيْهِمَا فِي الْفَوْرِ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْعِوَضِ الْمُسْتَحَقِّ قَبُولُهُ عَلَى الْفَوْرِ فَهَلَّا كَانَ قَوْلُهُ : مَتَى أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا ، يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الْفَوْرِ ، وَإِنْ كَانَ مَوْضُوعًا لِلتَّرَاخِي تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْعِوَضِ . قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ " إِذَا " وَ " إِنْ " مِنْ حُرُوفِ الشَّرْطِ الَّتِي لَا تَخْتَصُّ بِالزَّمَانِ ، وَ " مَتَى " مِنْ حُرُوفِ الزَّمَانِ الَّتِي تَعُمُّ جَمِيعَهَا حَقِيقَةً وَالْعِوَضُ مُخْتَصٌّ بِالْفَوْرِ مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ ، لَا مِنْ طَرِيقِ الْحَقِيقَةِ فَإِذَا اقْتَرَنَ بِحَرْفِ الشَّرْطِ حُمِلَ عَلَى مُقْتَضَاهُ مِنَ الْفَوْرِ ، وَإِنْ كَانَ بِالِاسْتِدْلَالِ ، لِأَنَّهُ لَمْ تُعَارِضْهُ مَا يُنَافِيهِ ، وَإِذَا اقْتَرَنَ بِحَرْفِ الزَّمَانِ الْمُوجِبِ لِلتَّرَاخِي حُمِلَ عَلَى التَّرَاخِي ، لِأَنَّ مَا أَوْجَبَ التَّرَاخِيَ مِنْ طَرِيقِ الْحَقِيقَةِ غَيْرُ مُحْتَمَلٍ ، وَمَا أَوْجَبَ الْفَوْرَ مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ مُحْتَمَلٌ ، كَمَا تَقُولُ فِي الْقِيَاسِ إِنَّهُ يُخَصُّ بِالْعُمُومِ ، لِأَنَّهُ مُحْتَمَلٌ وَلَا يَخُصُّ النَّصَّ ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَمَلٍ ، فَإِذَا دَخَلَ عَلَى " مَتَى "

حَرْفُ النَّفْيِ فَقَالَ لَهَا : مَتَى لَمْ تُعْطِنِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ الْفَوْرَ عَلَى التَّرَاخِي ، فَمَتَى جَاءَ زَمَانٌ يُمْكِنُهَا دَفْعُ الْأَلْفِ فِيهِ فَلَمْ تَدْفَعْهَا طُلِّقَتْ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا هُوَ أَنَّ " مَتَى " يَخْتَصُّ بِالزَّمَانِ ، فَإِذَا اقْتَرَنَ بِهِ الْإِثْبَاتُ صَارَ تَقْدِيرُهُ : مَتَى جَاءَ زَمَانٌ أَعْطَيْتِنِي فِيهِ أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَإِذَا أَعْطَتْهُ بَعْدَ تَرَاخِي الزَّمَانِ فَقَدْ جَاءَ زَمَانٌ دَفَعَتْ فِيهِ الْأَلْفَ فَطُلِّقَتْ . فَأَمَّا إِذَا اقْتَرَنَ بِهِ حَرْفُ النَّفْيِ صَارَ تَقْدِيرُهُ مَتَى جَاءَ زَمَانٌ لَمْ تَدْفَعِي فِيهِ أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَإِذَا مَضَى زَمَانُ الْمُكْنَةِ فَقَدْ جَاءَ زَمَانٌ يُمْكِنُهَا دَفْعُ الْأَلْفِ فِيهِ فَطُلِّقَتْ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَلَيْسَ لِلزَّوْجِ بَعْدَ انْعِقَادِ الطَّلَاقِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ أَنْ يُبْطِلَهَا وَلَا أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مُعَاوَضَةٌ لَمْ يُقْبَلْ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الطَّلَاقِ بِالصِّفَةِ دُونَ الْمُعَاوَضَةِ ، كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ إِبْطَالُ مَا عَلَّقَهُ مِنَ الطَّلَاقِ بِدُخُولِ الدَّارِ ، وَإِنَّمَا غُلِّبَ حُكْمُ الطَّلَاقِ بِالصِّفَةِ عَلَى حُكْمِ الْمُعَاوَضَةِ لِأَنَّهُ لَوْ جُنَّ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ لَمْ يَبْطُلْ ، وَلَوْ كَانَ حُكْمُ الْمُعَاوَضَةِ أَغْلَبَ كَمَا يَبْطُلُ بِهِ بَذْلُ الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبُولِ . فَأَمَّا الزَّوْجَةُ فَلَيْسَ عَلَيْهَا دَفَعُ الْأَلْفِ وَهِيَ فِي دَفْعِهَا بِالْخِيَارِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مُوقِعٌ لِطَلَاقِهَا ، وَلَيْسَ عَلَيْهَا فِعْلُ مَا أَوْقَعَ طَلَاقَهَا كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا : إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ لَمْ يَلْزَمْهَا دُخُولُ الدَّارِ لِتُطَلَّقَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ قَبُولُ مُعَاوَضَةٍ فَلَمْ يَجُزْ عَلَيْهَا كَقَبُولِ الْبَيْعِ . وَإِذَا كَانَتْ بِالْخِيَارِ فَمَتَى أَعْطَتْهُ الْأَلْفَ فَأَخَذَهَا طُلِّقَتْ ، وَإِنْ أَعْطَتْهُ فَلَمْ يَأْخُذْهَا فَإِنْ كَانَ لِتَعَذُّرِ أَخْذِهَا عَلَيْهِ إِمَّا لِغَيْبَةٍ أَوْ حَبْسٍ أَوْ جُنُونٍ لَمْ تُطَلَّقْ ، لِأَنَّ الْإِعْطَاءَ لَمْ يَكْمُلْ ، وَإِنْ كَانَ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْ أَخْذِهَا طُلِّقَتْ ، لِأَنَّ الْإِعْطَاءَ قَدْ وُجِدَ ، وَهُوَ التَّمْكِينُ مِنَ الْأَخْذِ بِفِعْلِ الْمُعْطِي ، وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ الْأَخْذُ ، أَلَا تَرَاهُمْ يَقُولُونَ : قَدْ أَعْطَانِي فَلَمْ آخُذْ مِنْهُ ، ثُمَّ إِذَا طُلِّقَتْ بِإِعْطَاءِ الْأَلْفِ قَبْلَ أَخْذِهَا فَقَدِ اسْتَحَقَّ الْأَلْفَ وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْهَا ، لِأَنَّهَا فِي مُقَابَلَةِ مَا لَزِمَهُ مِنَ الطَّلَاقِ ، فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَمْنَعَهُ مِنْهَا بَعْدَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا ، وَهَلْ يَتَعَيَّنُ اسْتِحْقَاقُهُ لِتِلْكَ الْأَلْفِ أَمْ لَا فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : قَدْ تَعَيَّنَ اسْتِحْقَاقُهُ لِتَعَيُّنِ الطَّلَاقِ بِهَا ، فَإِنْ أَرَادَتْ دَفْعَ غَيْرِهَا لَمْ يَجُزْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنِ اسْتِحْقَاقُهُ لَهَا وَإِنْ طُلِّقَتْ بِهَا لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْعَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِتَعَيُّنِهَا بِالْعَقْدِ أَوْ بِالْقَبْضِ ، وَلَمْ يُوجَدْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فِي هَذِهِ الْأَلْفِ فَكَانَتْ بِالْخِيَارِ فِي دَفْعِهَا أَوْ دَفْعِ أَلْفٍ مِثْلِهَا .



فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ إِذْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا ، طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ ، لِأَنَّهُ مُقِرٌّ أَنَّهَا أَعْطَتْهُ أَلْفًا عَلَى طَلَاقِهَا ، لِأَنَّ " إِذْ " تَخْتَصُّ بِمَاضِي الزَّمَانِ دُونَ مُسْتَقْبَلِهِ ، وَ " إِذَا " تَخْتَصُّ بِمُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ دُونَ مَاضِيهِ ، فَإِنْ أَنْكَرَتْهُ ذَلِكَ وَطَالَبَتْهُ بِالْأَلْفِ لَزِمَهُ رَدُّهَا ، لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِقَبْضِهَا وَمُدَّعٍ اسْتِحْقَاقَهَا فَلَزِمَهُ إِقْرَارُهُ وَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ دَعْوَاهُ وَيَقَعُ طَلَاقُهُ بَائِنًا ، وَإِنَّ رَدَّ الْأَلْفِ لِاعْتِرَافِهِ بِهِ ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ أَنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا - بِفَتْحِ الْأَلِفِ - وَلِأَنَّ " أَنْ " الْمَفْتُوحَةَ لِمَاضِي الزَّمَانِ دُونَ مُسْتَقْبَلِهِ وَ " إِنْ " بِالْكَسْرِ لِمُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ دُونَ مَاضِيهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا كَالْفَرْقِ بَيْنَ " إِذْ " وَ " إِذَا " فَإِنْ طَالَبَتْهُ بِالْأَلْفِ عِنْدَ إِنْكَارِهَا لِلْخُلْعِ لَزِمَهُ رَدُّهَا لِاعْتِرَافِهِ بِأَخْذِهَا ، وَلَهُ إِحْلَافُهَا عَلَى إِنْكَارِهَا وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَتْ لَهُ طَلِّقْنِي ثَلَاثًا وَلَكَ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً فَلَهُ ثُلُثُ الْأَلْفِ وَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَلَهُ الْأَلْفُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا قَالَتْ لَهُ طَلِّقْنِي ثَلَاثًا بِأَلْفٍ ، فَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ، فَلَهُ جَمِيعُ الْأَلْفِ ، وَإِنْ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً كَانَ لَهُ ثُلُثُ الْأَلْفِ ، لِأَنَّ الْأَلْفَ جُعِلَتْ عِوَضًا عَلَى مُقَابَلَةِ ثَلَاثَةِ أَعْدَادٍ مُتَسَاوِيَةٍ فَقُسِّطَتْ عَلَيْهَا ، وَكَانَ قِسْطُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثَ الْأَلْفِ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَسْتَحِقَّ بِكُلِّ طَلْقَةٍ مِنْهَا ، ثُلُثَ الْأَلْفِ ، كَمَا لَوْ أَبَقَ مِنْهُ ثَلَاثَةُ أَعْبُدٍ فَقَالَ مَنْ جَاءَنِي بِهِمْ فَلَهُ دِينَارٌ فَجِيءَ بِوَاحِدٍ مِنْهُمْ لَزِمَهُ ثُلُثُ الدِّينَارِ ، لِأَنَّ الدِّينَارَ قَابَلَ ثَلَاثَةَ أَعْدَادٍ مُتَسَاوِيَةً فَتُقُسِّطَ عَلَيْهِمْ أَثْلَاثًا مُتَسَاوِيَةً . فَإِنْ قِيلَ : أَفَلَيْسَ لَوْ قَالَ لَهَا إِنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا ، فَأَعْطَتْهُ ثُلُثَ الْأَلْفِ لَمْ تُطَلَّقْ بِهَا وَاحِدَةً ، وَإِنْ قَابَلَتْ ثُلُثَ الْأَلْفِ فَهَلَّا كَانَ فِي مَسْأَلَتِنَا إِذَا طَلَّقَهَا وَاحِدَةً لَمْ يَسْتَحِقَّ ثُلُثَ الْأَلْفِ . قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُغَلَّبَ فِي الْخُلْعِ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجَةِ حُكْمُ الْمُعَاوَضَةِ ، فَجَازَ أَنْ يُقَسَّطَ الْعِوَضُ عَلَى أَعْدَادِ الْمُعَوَّضِ ، وَالْمُغَلَّبُ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ حُكْمُ الطَّلَاقِ بِالصِّفَةِ ، وَالصِّفَةُ إِذَا تَبَعَّضَتْ لَمْ يَتَبَعَّضْ مَا عُلِّقَ بِهَا مِنَ الطَّلَاقِ ، وَلَا يَقَعُ إِلَّا بِكَمَالِهَا ، كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا : إِذَا دَخَلْتِ الدَّارَ ثَلَاثًا فَأَنْتَ طَالِقٌ ثَلَاثًا ، فَدَخَلَتْهَا مَرَّةً لَمْ تُطَلَّقْ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ دُخُولَهَا ثَلَاثًا ، فَتُطَلَّقَ ثَلَاثًا ، فَصَحَّ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَاسْتَحَقَّ بِالطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ ثُلُثَ الْأَلْفِ ، لِأَنَّهُ قَدْ مَلَّكَهَا ثُلُثَ مَا سَأَلَتْ ، فَاسْتَحَقَّ عَلَيْهَا ثُلُثَ مَا بَذَلَتْ ، وَهَكَذَا لَوْ طَلَّقَهَا طَلْقَتَيْنِ اسْتَحَقَّ بِهِمَا ثُلُثَيِ الْأَلْفِ ، لِأَنَّهُ قَدْ مَلَّكَهَا ثُلُثَيْ مَا سَأَلَتْ ، فَاسْتَحَقَّ عَلَيْهَا ثُلُثَيْ مَا بَذَلَتْ ، فَلَوْ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً وَنِصْفًا طُلِّقَتْ ثِنْتَيْنِ ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَتَبَعَّضُ ، وَفِي قَدْرِ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الْأَلْفِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : ثُلُثَيِ الْأَلْفِ ، لِأَنَّهَا قَدْ طُلِّقَتْ طَلْقَتَيْنِ مِنْ ثَلَاثِ طَلْقَاتٍ .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ نِصْفَ الْأَلْفِ لِأَنَّهُ قَدْ أَوْقَعَ عَلَيْهَا نِصْفَ اَلثَّلَاثِ وَأَنَّ مَا يَكْمُلُ بِالشَّرْعِ لَا يَفْعَلُهُ .

فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَتْ : طَلِّقْنِي ثَلَاثًا بِأَلْفٍ ، فَقَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ ، وَقَالَ : نَوَيْتُ أَنْ تَكُونَ اَلْأَلْفُ فِي مُقَابَلَةِ اَلثَّلَاثِ ، طُلِّقَتِ اَلْأُولَى وَحْدَهَا ، وَكَانَ لَهُ ثُلُثُ اَلْأَلْفِ ، وَلَمْ تَقَعِ اَلثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ ، لِأَنَّهُ إِذَا جَعَلَ لِلْأُولَى فَظَاهِرُ الْأَلْفِ صَارَتْ مُخْتَلِعَةً لَا يَلْحَقُهَا طَلَاقٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ لَمْ يَكُنْ بَقِيَ عَلَيْهَا إِلَّا طَلْقَةٌ فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً كَانَتْ لَهُ الْأَلْفُ لِأَنَّهَا قَامَتْ مَقَامَ الثَّلَاثِ فِي أَنَّهَا تُحَرِّمُهَا حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ وَقِيَاسُ قَوْلِهِ مَا حَرَّمَهَا إِلَّا الْأُولَيَانِ مَعَ الثَّالِثَةِ كَمَا لَمْ يُسْكِرْهُ فِي قَوْلِهِ إِلَّا الْقَدَحَانِ مَعَ الثَّالِثِ وَكَمَا لَمْ يَعُمَّ الْأَعْوَرَ الْمَفْقُوءَةَ عَيْنُهُ الْبَاقِيَةُ إِلَّا الْفَقْءُ الْأَوَّلُ مَعَ الْفَقْءِ الْآخِرِ وَأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْفَاقِئِ الْأَخِيرِ عِنْدَهُ إِلَّا نِصْفُ الدِّيَةِ فَكَذَلِكَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَقُولَ لَمْ يُحَرِّمْهَا عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ إِلَّا الْأُولَيَانِ مَعَ الثَّالِثَةِ فَلَيْسَ عَلَيْهَا إِلَّا ثُلُثُ الْأَلْفِ بِالطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ طَلْقَتَيْنِ ، وَبَقِيَتْ مَعَهُ عَلَى وَاحِدَةٍ ، فَقَالَتْ لَهُ : طَلِّقْنِي ثَلَاثًا بِأَلْفٍ ، فَقَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً ، لمن بقي له طلقة واحدة أَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ الثَّالِثَةَ ، أَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا بِأَلْفٍ ، فَكُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ ، وَلَا تُطَلَّقُ مِنْهُ إِلَّا وَاحِدَةً ، لِأَنَّ الْبَاقِيَ لَهُ عَلَيْهَا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : كَانَتْ لَهُ بِهَذِهِ الطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ جَمِيعُ الْأَلْفِ ثُمَّ عَلَّلَ الشَّافِعِيُّ فِي اسْتِحْقَاقِهَا لِجَمِيعِ الْأَلْفِ بِأَنَّ هَذِهِ الطَّلْقَةَ الْوَاحِدَةَ قَدْ قَامَتْ مَقَامَ الثَّلَاثِ فِي أَنَّهَا تَحْرُمُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ، فَصَارَ لَهَا بِهَذِهِ الطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ مَقْصُودُهَا بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ وَهُوَ التَّحْرِيمُ الَّذِي لَا تَحِلُّ مَعَهُ إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ فَاسْتَحَقَّ بِهَا مَا يَسْتَحِقُّ بِالثَّلَاثِ ، وَهُوَ جَمِيعُ الْأَلْفِ . فَاعْتَرَضَ الْمُزَنِيُّ عَلَى الشَّافِعِيِّ فَقَالَ : " يَنْبَغِي أَلَّا يَسْتَحِقَّ إِلَّا ثُلُثَ الْأَلْفِ ، لِأَنَّ قِيَاسَ قَوْلِهِ " مَا حَرَّمَهَا إِلَّا الْأُولَيَانِ مَعَ الثَّالِثَةِ كَمَا لَمْ يُسْكِرْهُ فِي قَوْلِهِ إِلَّا الْقَدَحَانِ مَعَ الثَّالِثِ وَكَمَا لَمْ يَعُمَّ الْأَعْوَرَ الْمَفْقُوءَةَ عَيْنُهُ الْبَاقِيَةُ إِلَّا الْفَقْءُ الْأَوَّلُ مَعَ الْفَقْءِ الْآخِرِ ، وَأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْفَاقِئِ الْأَخِيرِ إِلَّا نِصْفُ الدِّيَةِ ، كَذَلِكَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَقُولَ : لَمْ يُحَرِّمْهَا عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ إِلَّا الْأُولَيَانِ مَعَ الثَّالِثَةِ فَلَيْسَ أَنْ يَقُولَ عَلَيْهَا إِلَّا ثُلُثَ الْأَلْفِ بِالطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ .

فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا لِهَذَا الِاعْتِرَاضِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْحُكْمَ عَلَى مَا قَالَهُ الْمُزَنِيُّ مِنْ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ بِالثَّالِثَةِ إِلَّا ثُلُثَ الْأَلْفِ سَوَاءً عَلِمَتْ أَنَّ الْبَاقِيَ عَلَيْهَا طَلْقَةٌ أَوْ لَمْ تَعْلَمْ ، تَعْلِيلًا بِمَا اسْتَشْهَدَ بِهِ الْمُزَنِيُّ مِنْ حَالِ السُّكْرِ بِالْقَدَحِ الثَّالِثِ أَنَّهُ يَكُونُ بِهِ وَبِالْأَوَّلَيْنِ وَيُفْقِئُ عَيْنَ الْأَعْوَرِ أَنَّهُ يَكُونُ ذَهَابُ الْبَصَرِ بِالْفَقْءِ الثَّانِي مَعَ الْأَوَّلِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ جَوَابَ الشَّافِعِيِّ صَحِيحٌ عَلَى ظَاهِرِهِ ، وَأَنَّ لَهُ جَمِيعَ الْأَلْفِ بِالطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ تَعْلِيلًا بِمَا ذَكَرَهُ مِنْ حُصُولِ التَّحْرِيمِ بِهَا كَحُصُولِهِ بِالثَّلَاثِ ، سَوَاءً عَلِمَتْ أَنَّ الْبَاقِيَ عَلَيْهَا طَلْقَةٌ أَوْ لَمْ تَعْلَمْ ، وَانْفَصَلُوا عَنِ اسْتِشْهَادِ الْمُزَنِيِّ بِالسُّكْرِ وَالْفَقْءِ بِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَقْدَاحِ الثَّلَاثَةِ تَأْثِيرٌ فِي مَبَادِئِ السُّكْرِ بِالْأَوَّلِ وَبِوَسَطِهِ بِالثَّانِي وَكَمَالِهِ بِالثَّالِثِ ، وَكَذَلِكَ الْفَقْءُ الْأَوَّلُ قَدْ أَثَّرَ فِي ضَعْفِ النَّظَرِ ، وَقِلَّةِ الْبَصَرِ ثُمَّ ذَهَبَ بِالثَّانِي ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ حَالُ الطَّلْقَتَيْنِ الْأُولَتَيْنِ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِمَا شَيْءٌ مِنْ تَحْرِيمِ الثَّلَاثِ وَكَانَتْ تَحِلُّ بِالرَّجْعَةِ بَعْدَهُمَا ، كَمَا تَحِلُّ قَبْلَهُمَا ، ثُمَّ وَقَعَتِ الثَّالِثَةُ فَتَعَلَّقَ بِهَا جَمِيعُ التَّحْرِيمِ فَصَارَ مَا اسْتَشْهَدَ بِهِ مُفَارِقًا لِلطَّلَاقِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ جَوَابَ الشَّافِعِيِّ مَفْرُوضٌ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَةَ عَلِمَتْ أَنَّ الْبَاقِيَ لَهُ عَلَيْهَا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ ، فَصَارَ قَوْلُهَا طَلِّقْنِي ثَلَاثًا بِأَلْفٍ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ ثَلَاثًا مَحْمُولًا عَلَى أَنَّهَا أَرَادَتِ الثَّالِثَةَ ، فَلِذَلِكَ كَانَ لَهُ جَمِيعُ الْأَلْفِ وَلَوْ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الْبَاقِيَ لَهُ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ وَظَنَّتْ أَنَّهُ يَمْلِكُ مَعَهَا ثَلَاثَ طَلْقَاتٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِلَّا ثُلُثُ الْأَلْفِ ، لِأَنَّهَا لَمْ تَبْذُلِ الْأَلْفَ إِلَّا فِي مُقَابَلَةِ الثَّلَاثِ ، فَعَلَى هَذَا لَوِ اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فَقَالَ الزَّوْجُ : قَدْ عَلِمْتِ أَيَّتُهَا الزَّوْجَةُ أَنَّ الْبَاقِيَ لِي عَلَيْكِ طَلْقَةٌ فَلِي جَمِيعُ الْأَلْفِ . وَقَالَتِ الزَّوْجَةُ : بَلْ ظَنَنْتُ أَنَّكَ تَمْلِكُ الثَّلَاثَ وَلَمْ أَعْلَمْ أَنَّ الْبَاقِيَ لَكَ تَطْلِيقَةٌ فَلَيْسَ لَكَ إِلَّا ثُلُثُ الْأَلْفِ فَإِنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ وَيُحْكَمُ لَهُ بَعْدَ التَّحَالُفِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ ، لِأَنَّ هَذَا اخْتِلَافٌ مِنْهُمَا فِي قَدْرِ الْعِوَضِ فَهِيَ تَقُولُ : خَالَعْتُكَ عَلَى هَذِهِ الْوَاحِدَةِ بِثُلُثِ الْأَلْفِ ، وَهُوَ يَقُولُ : بِجَمِيعِ الْأَلْفِ ، فَلِذَلِكَ وَجَبَ التَّحَالُفُ وَالرُّجُوعُ إِلَى مَهْرِ الْمِثْلِ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ قَدْ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً وَبَقِيَتْ مَعَهُ عَلَى اثْنَتَيْنِ فَقَالَتْ : طَلِّقْنِي ثَلَاثًا بِأَلْفٍ ، فَطَلَّقَهَا طَلْقَتَيْنِ اسْتَحَقَّ إِنْ عَلِمَتْ جَمِيعَ الْأَلْفِ ، وَإِنْ جَهِلَتْ ثُلُثَيِ الْأَلْفِ ، وَلَوْ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً اسْتَحَقَّ إِنْ عَلِمَتْ نِصْفَ الْأَلْفِ ، وَإِنْ جَهِلَتْ ثُلُثَ الْأَلْفِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَلَوْ قَالَتْ لَهُ طَلِّقْنِي وَاحِدَةً بِأَلْفٍ فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا كَانَ لَهُ الْأَلْفُ وَكَانَ مُتَطَوِّعًا بِالِاثْنَتَيْنِ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، لِأَنَّ الطَّلْقَةَ الَّتِي سَأَلَتْهَا دَاخِلَةٌ فِي الثَّلَاثِ الَّتِي أَوْقَعَهَا فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَحِقَّ عَلَيْهَا الْأَلْفَ الَّتِي بَذَلَتْهَا ، وَإِنْ تَطَوَّعَ بِالزِّيَادَةِ عَلَيْهَا كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ إِنْ جِئْتَنِي بِعَبْدِي الْآبِقِ فَلَكَ دِينَارٌ ، فَجَاءَهُ بِعَبْدَيْنِ اسْتَحَقَّ الدِّينَارَ ، وَإِنْ تَطَوَّعَ بِمَجِيئِهِ بِالْعَبْدِ الْآخَرِ .

فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَتْ لَهُ طَلِّقْنِي عَشْرًا بِأَلْفٍ فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً فَفِيمَا يَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَهُ عُشْرُ الْأَلْفِ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الطَّلَاقُ عَشْرًا ، لِأَنَّهَا جَعَلَتْ لَهُ عَلَى كُلِّ طَلْقَةٍ عُشْرَ الْأَلْفِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَهُ ثُلُثُ الْأَلْفِ لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ مِنَ الطَّلَاقِ لَغْوٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ ، وَلَوْ طَلَّقَهَا طَلْقَتَيْنِ كَانَ لَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنَ الْأَلْفِ عُشْرَاهَا ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي ثُلُثَاهَا ، وَلَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ، كَانَ لَهُ عَلَى الزَّوْجَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ثَلَاثَةُ أَعْشَارِ الْأَلْفِ ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي جَمِيعُ الْأَلْفِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ بَقِيَتْ لَهُ عَلَيْهَا طَلْقَةٌ فَقَالَتْ طَلِّقْنِي بِأَلْفٍ وَاحِدَةً أَحْرُمُ بِهَا عَلَيْكَ وَاثْنَتَيْنِ إِنْ نَكَحْتَنِي بَعْدَ زَوْجٍ فَلَهُ مَهْرُ مِثْلِهَا إِذَا طَلَّقَهَا كَمَا قَالَتْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ طَلْقَتَيْنِ ، وَبَقِيَتْ لَهُ عَلَيْهَا وَاحِدَةٌ ، فَقَالَتْ لَهُ طَلِّقْنِي ثَلَاثًا بِأَلْفٍ وَاحِدَةً أَحْرُمُ بِهَا عَلَيْكَ فِي هَذَا النِّكَاحِ ، وَاثْنَتَانِ أَحْرُمُ بِهَا عَلَيْكَ إِذَا نَكَحْتَنِي نِكَاحًا ثَانِيًا ، فَالْخُلْعُ فِي الطَّلَاقِ الْمُسْتَقْبَلِ بَاطِلٌ لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَمِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَصِحُّ فِيهِ السَّلَمُ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ لَا يَقَعُ قَبْلَ النِّكَاحِ . فَأَمَّا الْخُلْعُ فِي الطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ فِي هَذَا النِّكَاحِ فَفِيهِ قَوْلَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الصَّفْقَةِ الْوَاحِدَةِ إِذَا اجْتَمَعَتْ صَحِيحًا وَفَاسِدًا ، فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ بَاطِلٌ فِي الصَّحِيحِ لِبُطْلَانِهِ فِي الْفَاسِدِ مَنْعًا لِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ ، فَعَلَى هَذَا الطَّلْقَةُ قَدْ وَقَعَتْ ، وَإِنْ فَسَدَ الْخُلْعُ فِيهَا ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ اسْتِهْلَاكٌ لَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهُ بَعْدَ وُقُوعِهِ وَقَدْ وَقَعَ عَلَى بَدَلٍ فَاسِدٍ فَوَجَبَ فِيهِ مَهْرُ الْمِثْلِ وَجَرَى عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مَجْرَى مَنْ بَاعَ عَبْدَيْنِ مَغْصُوبًا وَمَمْلُوكًا بِأَلْفٍ فَبَطَلَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا ، وَاسْتَهْلَكَ الْمُشْتَرِي الْمَمْلُوكَ مِنْهُمَا وَوَجَبَتْ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ كَذَلِكَ هَاهُنَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْخُلْعَ فِي الطَّلْقَةِ جَائِزٌ إِذَا قِيلَ : إِنَّ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ جَائِزٌ وَإِنَّ مَنْ

بَاعَ عَبْدَيْنِ مَمْلُوكًا وَمَغْصُوبًا لَمْ يَبْطُلِ الْبَيْعُ فِي الْمَمْلُوكِ لِبُطْلَانِهِ فِي الْمَغْصُوبِ فَعَلَى هَذَا فِيمَا يَسْتَحِقُّهُ الزَّوْجُ بِالطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : ثُلُثُ الْأَلْفِ إِذَا قِيلَ : يَأْخُذُ مَا صَحَّ مِنَ الْمَبِيعِ فِي تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَهُ جَمِيعُ الْأَلْفِ إِذَا قِيلَ إِنَّهُ يَأْخُذُ مَا صَحَّ مِنَ الْمَبِيعِ فِي تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ ، وَهَلْ لِلزَّوْجَةِ فِي ذَلِكَ خِيَارٌ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا خِيَارَ لَهَا ، لِأَنَّ الْخِيَارَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى رَفْعِ الْعَقْدِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَهَا الْخِيَارُ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْخُلْعِ فِي الطَّلْقَةِ بِجَمِيعِ الْأَلْفِ وَبَيْنَ الْفَسْخِ فِي الْأَلْفِ وَدَفْعِ مَهْرِ الْمِثْلِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ خَلَعَهَا عَلَى أَنْ تَكْفُلَ وَلَدَهُ عَشْرَ سِنِينَ فَجَائِزٌ إِنِ اشْتَرَطَا إِذَا مَضَى الْحَوْلَانِ نَفَقَتَهُ بَعْدَهُمَا فِي كُلِّ شَهْرٍ كَذَا قَمْحًا وَكَذَا زَيْتًا فَإِنْ كَفَى وَإِلَّا رَجَعَتْ عَلَيْهِ بِمَا يَكْفِيهِ وَإِنْ مَاتَ رَجَعَ عَلَيْهَا بِمَا بَقِيَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا : فِي رَجُلٍ خَالَعَ زَوْجَتَهُ عَلَى أَنْ تَكْفُلَ وَلَدَهُ عَشْرَ سِنِينَ تُرْضِعُهُ مِنْهَا حَوْلَيْنِ وَتُنْفِقُ عَلَيْهِ بَعْدَهُمَا تَمَامَ الْعَشْرِ ، فَلَابُدَّ بَعْدَ ذِكْرِ الرَّضَاعِ مِنْ ذِكْرِ جِنْسِ النَّفَقَةِ وَنَوْعِهَا وَصِفَتِهَا وَقَدْرِهَا وَأَجَلِهَا ، فَيَقُولُ : عَلَى أَنْ تُطْعِمِيهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنَ الْحِنْطَةِ الْعِرَاقِيَّةِ الصَّافِيَةِ كَذَا ، وَمِنَ الزَّيْتِ الشَّامِيِّ كَذَا ، وَمِنَ السُّكَّرِ الْفَارِدِ كَذَا ، وَمِنَ الْعَسَلِ الْأَبْيَضِ كَذَا ، وَإِنْ شَرَطَ عَلَيْهَا مَعَ النَّفَقَةِ كِسْوَتَهُ قَالَ : عَلَى أَنْ تَكْسُوَهُ فِي أَوَّلِ كُلِّ سَنَةٍ كُسْوَةَ الصَّيْفِ مِنَ الْكَتَّانِ التَّوْزِيِّ الْمُرْتَفِعِ ثَوْبًا طُولُهُ كَذَا ذِرَاعًا فِي عَرْضِ كَذَا شِبْرًا يَقْطَعُ لَهُ مِنْهُ قَمِيصَيْنِ وَخَمْسَ أَذْرُعٍ مِنْ مُنِيرِ الْبَغْدَادِيِّ الْمُرْتَفِعِ فِي عَرْضِ كَذَا شِبْرًا يَقْطَعُ لَهُ مِنْهُ سَرَاوِيلَ وَمِنْدِيلَ مِنْ قَصَبِ مِصْرَ طُولُهُ كَذَا ذِرَاعًا ، فِي عَرْضِ كَذَا شِبْرًا صِفَتُهُ كَذَا ، وَفِي أَوَّلِ النِّصْفِ الثَّانِي مِنَ السَّنَةِ كُسْوَةُ الشِّتَاءِ مِنَ الْخَزِّ ثَوْبًا مُرْتَفِعًا مِنْ خَزِّ الْكُوفَةِ أَوِ السُّنْدُسِ طُولُهُ كَذَا ذِرَاعًا فِي عَرْضِ كَذَا شِبْرًا يَقْطَعُهُ جُبَّةً ، وَمِنَ الْحَرِيرِ الْفُلَانِيِّ كَذَا ذِرَاعًا فِي عَرْضِ كَذَا شِبْرًا ، يَقْطَعُهُ قَمِيصًا ، فَإِذَا اسْتَوْفَى صِفَةَ كُلِّ مَا أَوْجَبَهُ عَلَيْهَا وَنَفَقَتَهُ وَكُسْوَتَهُ جِنْسًا وَنَوْعًا وَصِفَةً وَقَدْرًا وَصَارَ مَعْلُومًا يَنْتَفِي عَنْهُ الْجَهَالَةُ وَمَعْلُومَ الْأَجَلِ غَيْرَ مَجْهُولِ الْمُدَّةِ كَالْمَوْصُوفِ فِي السَّلَمِ لِيَصِحَّ بِهِ الْخُلْعُ فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى ثَلَاثِةِ أُصُولٍ فِي كُلِّ أَصْلٍ مِنْهَا قَوْلَانِ : أَحَدُ الْأُصُولِ : أَنَّ الْعَقْدَ الْوَاحِدَ إِذَا جَمَعَ شَيْئَيْنِ مُخْتَلِفَيِ الْحُكْمِ كَبَيْعٍ وَإِجَارَةٍ كَانَ عَلَى قَوْلَيْنِ وَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ قَدْ جَمَعَ إِجَارَةً وَرَضَاعًا وَسَلَمًا فِي طَعَامٍ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ عَلَى قَوْلَيْنِ .

وَالْأَصْلُ الثَّانِي : أَنَّ عَقْدَ السَّلَمِ فِي جِنْسَيْنِ بِثَمَنٍ وَاحِدٍ يَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَهَذَا سَلَمٌ فِي أَجْنَاسٍ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَالْأَصْلُ الثَّالِثُ : أَنَّ عَقْدَ السَّلَمِ إِلَى أَجَلَيْنِ يَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَهَذَا أَسْلَمَ إِلَى آجَالٍ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَابِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِاخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ فِي هَذِهِ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ فَكَانَ بَعْضُهُمْ يُخْرِجُهَا عَلَى قَوْلَيْنِ كَالْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْخُلْعَ بَاطِلٌ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ جَائِزٌ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ هَذَا الْخُلْعَ يَصِحُّ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَإِنْ كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى أُصُولٍ هِيَ عَلَى قَوْلَيْنِ لِاخْتِصَاصِ الْخُلْعِ بِثَلَاثَةِ مَعَانٍ يُفَارِقُ بِهَا أُصُولَهُ : أَحَدُهَا : أَنَّ النَّفَقَةَ هَاهُنَا تَبَعٌ لِلرَّضَاعِ ، وَقَدْ يُخَفَّفُ حُكْمُ التَّبَعِ عَنْ حُكْمِ الِانْفِرَادِ كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ مَا لَمْ يُؤَبَّرْ مِنَ الثَّمَرَةِ تَبَعًا لِنَخْلِهَا ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا بِانْفِرَادِهَا ، وَكَمَا يَجُوزُ بَيْعُ الْحَمْلِ تَبَعًا لِلْأَمَةِ ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مُفْرَدًا عَنْهَا . وَالثَّانِي : أَنَّ الضَّرُورَةَ دَعَتْ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ بِعَقْدٍ وَاحِدٍ ، لِأَنَّ عَقْدَ الْخُلْعِ إِذَا أُفْرِدَ بِأَحَدِهِمَا لَمْ يَصِحَّ بَعْدَهُ عَقْدُ خُلْعٍ آخَرَ فَدَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَى جَمْعِهِ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ غَيْرُهُ مِنَ الْعُقُودِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ عَقْدَ الْخُلْعِ مُفَادَاةٌ قُصِدَ بِهَا اسْتِنْقَاذُهُمَا مِنْ مَعْصِيَةٍ فَكَانَ حُكْمُهُ أَوْسَعَ مِنْ سَائِرِ الْعُقُودِ كَمَا وَسَّعَ فِي جَوَازِهِ عَقْدُهُ عَلَى الصِّفَاتِ الَّتِي لَا يَجُوزُ مِثْلُهَا فِي عُقُودِ الْبِيَاعَاتِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الْخُلْعِ عَلَى مَا وَصَفْنَا أَخَذَتِ الزَّوْجَةُ بِرَضَاعِهِ وَبِنَفَقَتِهِ ، وَكَانَ الزَّوْجُ فِي النَّفَقَةِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَسْتَنِيبَهَا فِيهَا لِتَتَوَلَّى النَّفَقَةَ عَلَيْهِ بِنَفْسِهَا ، وَبَيْنَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ ذَلِكَ مِنْهَا بِنَفْسِهِ أَوْ بِوَكِيلِهِ ، لِيَكُونَ هُوَ الْمُتَوَلِّيَ لِلنَّفَقَةِ عَلَيْهَا ، وَالزَّوْجُ أَيْضًا بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ تِلْكَ النَّفَقَةَ وَيُطْعِمَهُ ذَلِكَ الطَّعَامَ وَبَيْنَ أَنْ يَتَمَلَّكَهُ وَيُطْعِمَهُ مِنْ غَيْرِهِ ، وَلَا يَخْلُو الْمُقَدَّرُ عَلَيْهَا مِنَ النَّفَقَةِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ إذا خَالَع رجلَ زَوْجَتَهُ عَلَى أَنْ تَكْفُلَ وَلَدَهُ عَشْرَ سِنِينَ إذا لم يحدث موت : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ بِقَدْرِ كِفَايَتِهِ لَا يَزِيدُ عَلَيْهَا وَلَا يَنْقُصُ مِنْهَا ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ لِوَلَدِهِ أَكْثَرُ مِنْهَا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ كِفَايَتِهِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْفَاضِلَ ، لِأَنَّ نَفَقَةَ الْوَلَدِ مُقَدَّرَةٌ بِالْكِفَايَةِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ تَكُونَ أَقَلَّ مِنْ كِفَايَتِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ لَهُ مِنْ مَالِهِ قَدْرَ كِفَايَتِهِ .

وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ يَزِيدَ عَلَى كِفَايَتِهِ فِي الصِّغَرِ ، وَيَنْقُصَ عَنْ كِفَايَتِهِ فِي الْكِبَرِ ، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الزِّيَادَةَ فِي صِغَرِهِ ، وَيُتِمَّ النُّقْصَانَ فِي كِبَرِهِ ، وَتُجْرِي أَمْرَ الرَّضَاعِ وَالنَّفَقَةِ مَا لَمْ يَحْدُثْ مَوْتٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا حَتَّى تُوَفِّيَ مَا عَلَيْهَا .

فَصْلٌ : فَإِنْ حَدَثَ مَوْتٌ فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَمُوتَ الْوَلَدُ . وَالثَّانِي : أَنْ تَمُوتَ الزَّوْجَةُ في حالة إذا خَالَع رجلَ زَوْجَتَهُ عَلَى أَنْ تَكْفُلَ وَلَدَهُ عَشْرَ سِنِين فماتت الزوجة . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَمُوتَ الزَّوْجُ في حالة إذا خَالَع رجلَ زَوْجَتَهُ عَلَى أَنْ تَكْفُلَ وَلَدَهُ عَشْرَ سِنِين فمات الزوج . فَإِنْ مَاتَ الْوَلَدُ في حالة إذا خَالَع رجلَ زَوْجَتَهُ عَلَى أَنْ تَكْفُلَ وَلَدَهُ عَشْرَ سِنِين فمات الولد فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَمُوتَ فِي الْحَالِ قَبْلَ الرَّضَاعِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَمُوتَ بَعْدَ الرَّضَاعِ ، وَقَبْلَ اسْتِيفَاءِ الطَّعَامِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَمُوتَ بَعْدَ أَنْ مَضَى بَعْضُ الرَّضَاعِ ، وَبَقِيَ بَعْضُهُ وَجَمِيعُ الطَّعَامِ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ أَنْ يَمُوتَ فِي الْحَالِ قَبْلَ الرَّضَاعِ وَالطَّعَامِ في حالة إذا خَالَع رجلَ زَوْجَتَهُ عَلَى أَنْ تَكْفُلَ وَلَدَهُ عَشْرَ سِنِين فمات الولد فَهَلْ لِلْأَبِ أَنْ يَأْتِيَ بِوَلَدٍ تُرْضِعُهُ بَدَلًا مِنْهُ أَمْ لَا ؟ فَهَلْ لِلْأَبِ أَنْ يَأْتِيَ بِوَلَدٍ تُرْضِعُهُ بَدَلًا مِنْهُ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ نَذْكُرُ تَوْجِيهَهُمَا مِنْ بَعْدُ : أَحَدُهُمَا : يَأْتِي بِبَدَلِهِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْخُلْعُ بِحَالِهِ لَا يَبْطُلُ بِمَوْتِ الْوَلَدِ لِأَنَّ غَيْرَهُ قَدْ قَامَ مَقَامَهُ فِي الرَّضَاعِ وَالنَّفَقَةِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْتِيَ بِبَدَلِهِ ، فَعَلَى هَذَا قَدْ بَطَلَ الْخُلْعُ فِي الرَّضَاعِ فَتَفَرَّقَتْ بِهِ الصَّفْقَةُ بِمَعْنًى طَرَأَ بَعْدَ الْعَقْدِ . وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ بَعْدَ الْعَقْدِ هَلْ يَكُونُ كَتَفْرِيقِهَا حَالَ الْعَقْدِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمَا فِي تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ سَوَاءٌ ، فَعَلَى هَذَا هَلْ يَبْطُلُ الْخُلْعُ فِي الطَّعَامِ لِبُطْلَانِهِ فِي الرَّضَاعِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَدْ بَطَلَ إِذَا لَمْ يُجَوَّزْ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ ، فَعَلَى هَذَا قَدْ وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَى خُلْعٍ فَاسِدٍ ، فَوَقَعَ بَائِنًا ، وَبِمَاذَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِأُجْرَةِ رَضَاعِ الْحَوْلَيْنِ وَقِيمَةِ الطَّعَامِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِمَهْرِ مِثْلِهَا كَمَا قُلْنَا فِي بُطْلَانِ الصَّدَاقِ أَنَّ فِيمَا تَرْجِعُ بِهِ الزَّوْجَةُ قَوْلَيْنِ .

وَالْقَوْلُ الثَّانِي : فِي الْأَصْلِ أَنَّ الْخُلْعَ فِي الطَّعَامِ لَا يَبْطُلُ ، وَإِنْ بَطَلَ فِي الرَّضَاعِ إِذَا جَوَّزْنَا تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الزَّوْجُ لِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْخُلْعِ فِي الطَّعَامِ وَبَيْنَ فَسْخِهِ ، فَإِنْ فَسَخَ فَفِيمَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : بِأُجْرَةِ الرَّضَاعِ وَقِيمَةِ الطَّعَامِ . وَالثَّانِي : بِمَهْرِ الْمِثْلِ ، وَإِنْ أَقَامَ فَعَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُقِيمَ عَلَى الطَّعَامِ بِجَمِيعِ الْخُلْعِ وَإِلَّا فَسَخَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يُقِيمُ عَلَيْهِ بِحِسَابِهِ وَقِسْطِهِ ، وَيَرْجِعُ بِحِسَابِ الرَّضَاعِ وَقِسْطِهِ ، وَبِمَاذَا يَكُونُ رُجُوعُهُ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الْقَدِيمُ بِأُجْرَةِ رَضَاعِ الْحَوْلَيْنِ . وَالثَّانِي : وَهُوَ الْجَدِيدُ بِقِسْطِهِ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ . مِثَالُهُ : أَنْ يَنْظُرَ أُجْرَةَ الرَّضَاعِ وَقِيمَةَ الطَّعَامِ ، فَإِذَا كَانَتْ أُجْرَةُ الرَّضَاعِ مِائَةً ، وَقِيمَةُ الطَّعَامِ مِائَتَيْنِ كَانَ الرَّضَاعُ ثُلُثَ الْخُلْعِ فَيَرْجِعُ بِثُلُثِ مَهْرِ الْمِثْلِ ، فَهَذَا الْكَلَامُ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْ أَصْحَابِنَا أَنَّ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ بَعْدَ الْعَقْدِ لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الْعَقْدِ فِيمَا يَفِي بِخِلَافِهِمَا حَالَ الْعَقْدِ . فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْخُلْعُ جَائِزًا فِي الطَّعَامِ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَإِنْ بَطَلَ فِي الرَّضَاعِ وَيَكُونُ فِيهِ بِالْخِيَارِ عَلَى مَا مَضَى ، فَإِنْ أَقَامَ عَلَى الطَّعَامِ فَهَلْ يَكُونُ إِلَى آجَالِهِ أَوْ يَتَعَجَّلُ عَلَى وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ : أَحَدُهُمَا : قَدْ حَلَّ ، لِأَنَّهُ كَانَ مُؤَجَّلًا بِتَأْجِيلِ الرَّضَاعِ ، فَإِذَا بَطَلَ الرَّضَاعُ ارْتَفَعَ الْأَجَلُ فَحَلَّ الطَّعَامُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي ، وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّ الطَّعَامَ إِلَى أَجَلِهِ لَا يَتَعَجَّلُ ، لِأَنَّ الْمُؤَجَّلَ لَا يَتَعَجَّلُ إِلَّا بِمَوْتِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ دُونَ مُسْتَوْفِيهِ ، وَالطَّعَامَ أَحَدُ الْمَقْصُودِينَ ، وَلَيْسَ بِبَيْعٍ مَحْضٍ وَيَكُونُ فِيهِ بِالْخِيَارِ ، فَإِنْ فَسَخَ ، الْجَوَابُ فِيمَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى مَا مَضَى ، وَإِنْ أَقَامَ عَلَيْهِ أَخَذَهُ بِقِسْطِهِ قَوْلًا وَاحِدًا وَرَجَعَ بِبَاقِيهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يَمُوتَ الْوَلَدُ بَعْدَ رَضَاعِ الْحَوْلَيْنِ ، وَقَبْلَ الطَّعَامِ ، في حالة إذا خَالَع رجلَ زَوْجَتَهُ عَلَى أَنْ تَكْفُلَ وَلَدَهُ عَشْرَ سِنِين فمات الولد فَالْخُلْعُ بِحَالِهِ عَلَى صِحَّتِهِ ، لِأَنَّ مَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْمَوْتُ مِنَ الرَّضَاعِ قَدِ اسْتُوفِيَ وَالطَّعَامَ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْمَوْتُ ، فَكَانَ عَلَى صِحَّتِهِ لَكِنْ هَلْ يَحِلُّ أَوْ يَكُونُ إِلَى أَجَلِهِ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ يَمُوتَ الْوَلَدُ بَعْدَ أَنْ مَضَى بَعْضُ الرَّضَاعِ وَبَقِيَ

بَعْضُهُ في حالة إذا خَالَع رجلَ زَوْجَتَهُ عَلَى أَنْ تَكْفُلَ وَلَدَهُ عَشْرَ سِنِين فمات الولد فَهَلْ لِلْأَبِ أَنْ يَأْتِيَ بِوَلَدٍ تُرْضِعُهُ بَدَلًا مِنْهُ أَمْ لَا ؟ وَجَمِيعُ الطَّعَامِ كَأَنَّهُ مَاتَ بَعْدَ أَنْ مَضَى أَحَدُ الْحَوْلَيْنِ وَبَقِيَ الثَّانِي فَهَلْ يَأْتِي بِوَلَدٍ آخَرَ تُرْضِعُهُ مَكَانَ ذَلِكَ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَأْتِي بِوَلَدٍ آخَرَ ، فَعَلَى هَذَا الْخُلْعُ بِحَالِهِ ، وَيَسْتَوْفِي رَضَاعَ الْحَوْلِ الثَّانِي بِوَلَدٍ آخَرَ وَيَسْتَوْفِي الطَّعَامَ فِي نُجُومِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يَأْتِي بِغَيْرِ ذَلِكَ الْوَلَدِ ، فَعَلَى هَذَا قَدْ بَطَلَ الْخُلْعُ فِي رَضَاعِ الْحَوْلِ الثَّانِي ، وَهَلْ يَبْطُلُ فِي رَضَاعِ الْحَوْلِ الْأَوَّلِ وَالطَّعَامِ الْبَاقِي أَمْ لَا ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ تَتَخَرَّجُ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَاضِي مِنِ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا مِنَ الْفَسَادِ الطَّارِئِ بَعْدَ الْعَقْدِ هَلْ يَكُونُ كَالْفَسَادِ الْمُقَارِنِ لِلْعَقْدِ ثُمَّ عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ أَحَدُ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ أَنَّ الْخُلْعَ بَاطِلٌ فِي الْجَمِيعِ فَيَبْطُلُ فِي الْحَوْلِ الْمَاضِي ، وَفِي الطَّعَامِ لِبُطْلَانِهِ فِي الْحَوْلِ الْبَاقِي ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَجْعَلُ الْفَسَادَ الطَّارِئَ بَعْدَ الْعَقْدِ كَالْفَسَادِ الْمُقَارِنِ لِلْعَقْدِ ، وَيَمْنَعُ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ عَلَى الزَّوْجِ أُجْرَةُ رَضَاعِ الْحَوْلِ الْمَاضِي ، وَبِمَاذَا يَرْجِعُ عَلَى الزَّوْجَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ مَضَيَا : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الْقَدِيمُ بِأُجْرَةِ رَضَاعِ الْحَوْلَيْنِ وَبِقِيمَةِ الطَّعَامِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ ذُو مِثْلٍ فَيَرْجِعُ بِمِثْلِ ذِي الْمِثْلِ وَقِيمَةِ غَيْرِ ذِي الْمِثْلِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ الْجَدِيدُ أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي مِنَ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ : أَنَّ الْخُلْعَ جَائِزٌ فِي الْحَوْلِ الْمَاضِي ، وَفِي الطَّعَامِ الْبَاقِي ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يَجْعَلُ حُدُوثَ الْفَسَادِ بَعْدَ الْعَقْدِ كَوُجُودِهِ مَعَ الْعَقْدِ ، فَعَلَى هَذَا هَلْ يَكُونُ لِلزَّوْجِ بِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ خِيَارُ الْفَسْخِ أَمْ لَا ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : لَا خِيَارَ لَهُ بِحَالٍ فَعَلَى هَذَا التَّقْسِيمِ عَلَى رَضَاعِ الْحَوْلِ الْمَاضِي وَجَمِيعِ الطَّعَامِ بِحِسَابِهِ وَقِسْطِهِ وَيَرْجِعُ بِحِسَابِ الْحَوْلِ الْبَاقِي وَقِسْطِهِ وَمِنْ مَاذَا يَرْجِعُ بِهِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مِنْ عِوَضِ الْخُلْعِ فَعَلَى هَذَا يَرْجِعُ بِأُجْرَةِ رَضَاعِ الْحَوْلِ الْبَاقِي . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ فَعَلَى هَذَا يَنْظُرُ أُجْرَةَ رَضَاعِ الْحَوْلَيْنِ وَقِيمَةَ الطَّعَامِ فَإِذَا قِيلَ : أُجْرَةُ رَضَاعِ الْحَوْلَيْنِ مِائَتَا دِرْهَمٍ ، وَقِيمَةُ الطَّعَامِ ثَلَاثُ مِائَةِ دِرْهَمٍ فَقَدْ بَقِيَ لَهُ بِأُجْرَةِ رَضَاعِ الْحَوْلِ الْبَاقِي مِائَةُ دِرْهَمٍ ، وَهِيَ الْخُمُسُ فَيَرْجِعُ عَلَيْهَا بِخُمُسِ مَهْرِ الْمِثْلِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ لَهُ الْخِيَارَ فِي فَسْخِ الْحَوْلِ الْمَاضِي ، وَالطَّعَامِ الْبَاقِي أَوِ الْمُقَامِ عَلَيْهِمَا فَإِنْ فَسَخَ كَانَتْ عَلَيْهِ أُجْرَةُ الْحَوْلِ الْمَاضِي ، وَبِمَاذَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : بِمَهْرِ الْمِثْلِ . وَالثَّانِي : بِأُجْرَةِ رَضَاعِ الْحَوْلَيْنِ وَبِقِيمَةِ مَا لَيْسَ لَهُ مِنَ الطَّعَامِ مِثْلٌ وَبِمِثْلِ مَا لَهُ مِنْهُ

مِثْلٌ ، وَيَكُونُ ذَلِكَ حَالًّا وَجْهًا وَاحِدًا ، لِأَنَّ فَسْخَ الْعَقْدِ قَدْ مَنَعَ مِنْ ثُبُوتِ نُجُومِهِ ، وَإِنْ أَقَامَ عَلَى الْحَوْلِ الْمَاضِي ، وَعَلَى الطَّعَامِ ، فَهَلْ يُقِيمُ عَلَيْهِ بِجَمِيعِ الْخُلْعِ أَوْ حِسَابِهِ وَقِسْطِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ كَمَا مَضَى وَهَلْ يَحِلُّ الطَّعَامُ أَوْ يَكُونُ عَلَى نُجُومِهِ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ الْخُلْعَ لَازِمٌ لَهُ فِي الْحَوْلِ الْمَاضِي ، وَلَا خِيَارَ لَهُ فِيهِ لِاسْتِيفَائِهِ وَلَهُ الْفَسْخُ فِي الطَّعَامِ أَوِ الْمُقَامُ فَيَصِيرُ الْخُلْعُ إِذَا كَانَ أُجْرَةُ الرَّضَاعِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ ، وَقِيمَةُ الطَّعَامِ ثَلَاثَ مِائَةِ دِرْهَمٍ بَاطِلًا فِي خُمُسِهِ وَهُوَ الْحَوْلُ الْبَاقِي ، وَلَازِمًا فِي خُمُسِهِ وَهُوَ الْحَوْلُ الْمَاضِي ، وَجَائِزًا فِي ثَلَاثَةِ أَخْمَاسِهِ وَهُوَ الطَّعَامُ فَإِنْ فَسَخَ أَوْ أَقَامَ فَعَلَى مَا مَضَى ، فَهَذَا حُكْمُ الْمَذْهَبِ الثَّانِي مِنَ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ . وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ مِنَ الْمَذَاهِبِ : أَنَّ الْخُلْعَ صَحِيحٌ فِي الْحَوْلِ الْمَاضِي لِاسْتِيفَائِهِ ، وَبَاطِلٌ فِي الطَّعَامِ لِبُطْلَانِهِ فِي الْحَوْلِ الْبَاقِي ، فَعَلَى هَذَا هَلْ يَسْتَحِقُّ خِيَارَ الْفَسْخِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا خِيَارَ لَهُ ، فَعَلَى هَذَا يُقِيمُ عَلَى الْحَوْلِ الْمَاضِي بِحِسَابِهِ وَقِسْطِهِ وَهُوَ الْخُمُسُ : لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ مِائَةٍ مِنْ خَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ ، وَيَرْجِعُ بِحِسَابِ مَا بَقِيَ وَقِسْطِهِ ، وَمِنْ مَاذَا يَكُونُ رُجُوعُهُ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ مَهْرِ الْمِثْلِ . وَالثَّانِي : مِنْ أُجْرَةِ رَضَاعِ الْحَوْلِ الْبَاقِي ، وَمِثْلِ ذِي الْمِثْلِ ، وَقِيمَةِ غَيْرِ ذِي الْمِثْلِ ، وَيَكُونُ ذَلِكَ حَالًّا لِفَسْخِ الْعَقْدِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالْمُقَامِ ، فَإِنْ فَسَخَ رَدَّ أُجْرَةَ الْحَوْلِ الْمَاضِي وَبِمَاذَا يَرْجِعُ ؟ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ . وَإِنْ أَقَامَ فَهَلْ يُقِيمُ عَلَى الْحَوْلِ الْمَاضِي وَالطَّعَامِ بِجَمِيعِ الْخُلْعِ أَوْ بِحِسَابِهِ وَقِسْطِهِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ ثُمَّ عَلَى مَا مَضَى فَهَذَا الْكَلَامُ فِي مَوْتِ الْوَلَدِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ تَمُوتَ الزَّوْجَةُ في حالة إذا خَالَع رجلَ زَوْجَتَهُ عَلَى أَنْ تَكْفُلَ وَلَدَهُ عَشْرَ سِنِين فماتت فَالْحُكْمُ فِي مَوْتِهَا كَالْحُكْمِ فِي مَوْتِ الْوَلَدِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَقْسَامِ وَالْأَحْكَامِ إِلَّا فِي شَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْخُلْعَ يَبْطُلُ فِي الرَّضَاعِ إِذَا مَاتَتْ قَبْلَهُ ، وَلَا يُقَامُ غَيْرُهَا مَقَامَهَا فِي الرَّضَاعِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، كَمَا أُقِيمَ مَقَامَ الْوَلَدِ غَيْرُهُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الرَّضَاعَ مُسْتَوْفًى مِنَ الْأُمِّ فَتَعَيَّنَتْ بِالْعَقْدِ ، وَالْوَلَدَ مُسْتَوْفٍ فَلَمْ يَتَعَيَّنْ بِالْعَقْدِ كَالْأَجِيرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ لَمَّا كَانَ الْأَجِيرُ مُسْتَوْفًا مِنْهُ تَعَيَّنَ بِالْعَقْدِ ، فَبَطَلَ بِمَوْتِهِ ، وَلَمَّا كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ مُسْتَوْفِيًا لَمْ يَتَعَيَّنْ بِالْعَقْدِ فَلَمْ يَبْطُلْ بِمَوْتِهِ .

وَالثَّانِي : أَنَّ الطَّعَامَ الْمُنَجَّمَ يَحِلُّ بِمَوْتِهَا وَجْهًا وَاحِدًا ، وَإِنْ لَمْ يَحِلَّ بِمَوْتِ الْوَلَدِ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْحَقَّ عَلَى الزَّوْجَةِ فَحَلَّ بِمَوْتِهَا ، وَأَنَّ الدُّيُونَ الْمُؤَجَّلَةَ تَحِلُّ بِمَوْتِ مَنْ هِيَ عَلَيْهِ ، وَلَا تَحِلُّ بِمَوْتِ مُسْتَوْفِيهَا ، أَوْ مَنْ هِيَ لَهُ . ثُمَّ الْجَوَابُ فِيمَا سِوَى هَذَيْنِ عَلَى مَا مَضَى .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ يَمُوتَ الزَّوْجُ في حالة إذا خَالَع رجلَ زَوْجَتَهُ عَلَى أَنْ تَكْفُلَ وَلَدَهُ عَشْرَ سِنِين فمات الزوج فَلَا يُؤَثِّرُ مَوْتُهُ فِي فَسَادِ الْخُلْعِ ، لَا فِي رَضَاعِهِ وَلَا فِي طَعَامِهِ ، لَكِنْ يَكُونُ الطَّعَامُ مَوْرُوثًا لَا يَخْتَصُّ بِهِ الْوَلَدُ : لِأَنَّ نَفَقَتَهُ تَسْقُطُ عَنِ الْأَبِ بِمَوْتِهِ . فَأَمَّا الرَّضَاعُ فَهَلْ يَكُونُ مَوْرُوثًا أَوْ يَكُونُ الْوَلَدُ أَحَقَّ بِهِ وهَلْ يَقُومُ غَيْرُهُ فِيهِ مَقَامَهُ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ مُخَرَّجَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي مَوْتِ الْوَلَدِ هَلْ يَقُومُ غَيْرُهُ فِيهِ مَقَامَهُ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ الرَّضَاعُ مَوْرُوثًا وَيَكُونُ الْوَلَدُ أَحَقَّ بِهِ ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الطَّعَامُ إِلَى نُجُومِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ غَيْرَ الْوَلَدِ يَقُومُ مَقَامَ الْوَلَدِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الرَّضَاعُ مَوْرُوثًا لَا يَخْتَصُّ بِهِ الْوَلَدُ ، وَهَلْ يَحِلُّ الطَّعَامُ أَوْ يَكُونُ إِلَى نُجُومِهِ ، عَلَى وَجْهَيْنِ مَضَيَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : إِذَا خَالَعَ زَوْجَتَهُ عَلَى نَفَقَةِ عِدَّتِهَا وَأُجْرَةِ سُكْنَاهَا لِيَبْرَأَ مِنْهُ بِالْخُلْعِ لَمْ يَجُزْ وَكَانَ الْخُلْعُ فَاسِدًا يَقَعُ الطَّلَاقُ فِيهِ بَائِنًا ، وَيَرْجِعُ عَلَيْهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ ، وَلَا يَبْرَأُ مِنَ السُّكْنَى وَالنَّفَقَةِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَصِحُّ الْخُلْعُ عَلَى ذَلِكَ وَيَبْرَأُ مِنَ السُّكْنَى وَالنَّفَقَةِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ النِّكَاحَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى وَوُجُودُ السَّبَبِ كَوُجُودِ الْمُسَبَّبِ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ سَبَبُ وُجُوبِهَا كَوُجُوبِهَا فِي جَوَازِ الْخُلْعِ بِهَا وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا خَالَعَتْهُ عَلَى مَا لَمْ يَسْتَقِرَّ عَلَيْهِ مِلْكُهَا ، وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ مَوْجُودًا فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا كَمَا لَوْ خَالَعَهَا عَلَى قِيمَةِ عَبْدِهَا إِنْ قَتَلَهُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ أُبْرِئَ مِنَ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى قَبْلَ اسْتِحْقَاقِهَا وَهِيَ لَوْ أَبْرَأَتْهُ بِغَيْرِ خُلْعٍ لَمْ يَصِحَّ فَكَذَلِكَ بِالْخُلْعِ . فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّ وُجُودَ السَّبَبِ كَوُجُودِ الْمُسَبَّبِ فَغَلَطٌ : لِأَنَّ النِّكَاحَ سَبَبٌ لِنَفَقَةِ الزَّوْجِيَّةِ ، وَلَيْسَ سَبَبًا لِنَفَقَةِ الْحَمْلِ فِي الْعِدَّةِ ، وَإِنَّمَا سَبَبُ هَذِهِ النَّفَقَةِ الطَّلَاقُ وَالْحَمْلُ فَلَمْ يُوجَدِ السَّبَبُ فَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ حُكْمُ الْمُسَبَّبِ .



مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَ أَمْرُكِ بِيَدِكِ فَطَلِّقِي نَفْسَكِ إِنْ ضَمِنْتِ لِي أَلْفَ دِرْهَمٍ فَضَمِنَتْهَا فِي وَقْتِ الْخِيَارِ لَزِمَهَا وَلَا يَلْزَمُهَا فِي غَيْرِ وَقْتِ الْخِيَارِ كَمَا لَوْ جَعَلَ أَمْرَهَا إِلَيْهَا لَمْ يَجُزْ إِلَّا فِي وَقْتِ الْخِيَارِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا طَلَاقٌ مُعَلَّقٌ بِشَرْطَيْنِ نُبَيِّنُ حُكْمَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُمَّ نَجْمَعُ بَيْنَهُمَا ، أَمَّا إِذَا قَالَ لَهَا : طَلِّقِي نَفْسَكِ ، أَوْ قَدْ جَعَلْتُ إِلَيْكِ طَلَاقَ نَفْسِكِ أَوِ اخْتَارِي طَلَاقَ نَفْسِكِ ، فَكُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ ، وَقَدْ مَلَّكَهَا الطَّلَاقَ فَإِنْ عَجَّلَتْ طَلَاقَ نَفْسِهَا فِي الْمَجْلِسِ عَلَى الْفَوْرِ فِي وَقْتِ الْجَوَابِ طُلِّقَتْ ، وَإِنْ أَخَّرَتْهُ حَتَّى تَرَاخَى الزَّمَانُ لَمْ تُطَلَّقْ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : مَتَى طَلَّقَتْ نَفْسَهَا عَلَى الْفَوْرِ أَوِ التَّرَاخِي طُلِّقَتِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ رَدَّ إِلَيْهَا طَلَاقَ نَفْسِهَا كَمَا يَرُدُّ إِلَى وَكِيلِهِ طَلَاقَهَا ، وَلَوْ رَدَّهُ إِلَى الْوَكِيلِ جَازَ أَنْ يُطَلِّقَهَا عَلَى التَّرَاخِي كَذَلِكَ إِذَا رَدَّهُ إِلَيْهَا . وَهَذَا خَطَأٌ ، لِأَنَّ رَدَّ الطَّلَاقِ إِلَيْهَا تَمْلِيكٌ وَرَدُّهُ إِلَى الْوَكِيلِ اسْتِنَابَةٌ فَلَزِمَ فِي التَّمْلِيكِ تَعْجِيلُ الْقَبُولِ كَالْهِبَةِ ، وَلَمْ يَلْزَمْ فِي الِاسْتِنَابَةِ تَعْجِيلُ النِّيَابَةِ كَالْبَيْعِ ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ لِرَجُلٍ : بِعْ عَبْدِي هَذَا ، جَازَ أَنْ يَبِيعَهُ عَلَى التَّرَاخِي ، لِأَنَّهَا وَكَالَةٌ . وَلَوْ قَالَ لَهُ : قَدْ بِعْتُكَ عَبْدِي هَذَا لَزِمَهُ قَبُولُهُ عَلَى الْفَوْرِ : لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ كَذَلِكَ الطَّلَاقُ يَجِبُ أَنْ يَقَعَ الْفَرْقُ فِيهِ بَيْنَ التَّمْلِيكِ وَالتَّوْكِيلِ . وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يُعَلِّقَ طَلَاقَهَا بِشَرْطِ الضَّمَانِ كَقَوْلِهِ : إِنْ ضَمِنْتِ لِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَشَرْطُ وُقُوعِ هَذَا الطَّلَاقِ تَعْجِيلُ الضَّمَانِ فِي الْمَجْلِسِ عَلَى الْفَوْرِ فِي وَقْتِ الْقَبُولِ ، وَهُوَ أَضْيَقُ مِنْ وَقْتِ الْجَوَابِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ . فَإِذَا تَقَرَّرَ حُكْمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّرْطَيْنِ عَلَى انْفِرَادِهِ فَمَسْأَلَةُ الْكِتَابِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا فَيَقُولُ : قَدْ جَعَلْتُ إِلَيْكِ طَلَاقَ نَفْسِكِ إِنْ ضَمِنْتِ إِلَيَّ أَلْفًا فَيُعَلِّقُ طَلَاقَهَا بِشَرْطَيْنِ : أَحَدُهُمَا : ضَمَانُ أَلْفٍ وَالثَّانِي : أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا وَكِلَا الشَّرْطَيْنِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْفَوْرِ لَكِنْ مِنْ صِحَّتِهَا تَقَدُّمُ الضَّمَانِ عَلَى الطَّلَاقِ ، فَإِنْ عَجَّلَتِ الطَّلَاقَ قَبْلَ الضَّمَانِ لَمْ تُطَلَّقْ حَتَّى تُقَدِّمَ الضَّمَانَ عَلَى الطَّلَاقِ : لِأَنَّهُ قَدْ جَعَلَ الضَّمَانَ شَرْطًا فِي الطَّلَاقِ فَيَلْزَمُ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الشَّرْطَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَشْرُوطِ فِيهِ ، وَإِذَا لَزِمَ تَقْدِيمُ الضَّمَانِ وَتَعْقِيبُهُ بِالطَّلَاقِ فَلَا يَخْلُو حَالُهَا إِذَا ضَمِنَتِ الْأَلْفَ وَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَفْعَلَهُمَا عَلَى الْفَوْرِ فَيَصِحَّانِ ، وَقَدْ طُلِّقَتْ وَلَزِمَهَا ضَمَانُ الْأَلْفِ . وَالثَّانِي : أَنْ تَفْعَلَهُمَا عَلَى التَّرَاخِي فَيَبْطُلَانِ وَلَا طَلَاقَ وَلَا ضَمَانَ .

وَالثَّالِثُ : أَنْ تَضْمَنَ عَلَى الْفَوْرِ ، وَتُطَلِّقَ نَفْسَهَا عَلَى التَّرَاخِي ، فَلَا طَلَاقَ لِتَرَاخِي إِيقَاعِهِ وَيَسْقُطُ الضَّمَانُ بَعْدَ صِحَّتِهِ : لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَنْ طَلَاقٍ لَمْ يَقَعْ . وَالرَّابِعُ : أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا عَلَى الْفَوْرِ ، وَتَضْمَنَ عَلَى التَّرَاخِي فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ لِفَسَادِ الضَّمَانِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : تَرَاخِي زَمَانِهِ . وَالثَّانِي : تَأْخِيرُهُ عَنِ الطَّلَاقِ ، وَفَسَادُ الَّذِي هُوَ شَرْطٌ فِي الطَّلَاقِ يَمْنَعُ مِنْ وُقُوعِهِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَإِنَّهُ ذَكَرَ هَاهُنَا أَنَّهَا إِذَا ضَمِنَتِ الْأَلْفَ فِي وَقْتِ الْخِيَارِ لَزِمَهَا الطَّلَاقُ ، إذا قال لزوجتهَ أَمْرُكِ بِيَدِكِ فَطَلِّقِي نَفْسَكِ إِنْ ضَمِنْتِ لِي أَلْفَ دِرْهَمٍ وَلَمْ يَذْكُرْ تَطْلِيقَ نَفْسِهَا وَإِنْ كَانَ شَرْطًا فِي وُقُوعِهِ وَلِأَصْحَابِنَا فِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ سَقَطَ عَنِ الْكَاتِبِ فِي نَقْلِهِ ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الرَّبِيعُ فِي كِتَابِ الْأُمِّ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ قَصَدَ بَيَانَ حُكْمِ الضَّمَانِ أَنْ يُتَعَجَّلَ عَلَى الْفَوْرِ وَأَغْفَلَ ذِكْرَ الطَّلَاقِ إِمَّا اكْتِفَاءً بِمَا قَدَّمَهُ مِنْ شَرْطِهِ ، وَإِمَّا اسْتِغْنَاءً بِمَا قَدَّمَهُ مِنْ بَيَانِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَ إِنْ أَعْطَيْتِنِي عَبْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَأَعْطَتْهُ أَيَّ عَبْدٍ مَا كَانَ فَهِيَ طَالِقٌ وَلَا يَمْلِكُ الْعَبْدَ وَإِنَّمَا يَقَعُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِمَا يَقَعُ بِهِ الْحِنْثُ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَ هَذَا قِيَاسَ قَوْلِهِ لِأَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى الْعِوَضِ وَقَدْ قَالَ فِي هَذَا الْبَابِ مَتَى أَوْ مَتَى أَعْطَيْتِنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَذَلِكَ لَهَا وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ أَخْذِهَا وَلَا لَهَا أَنْ تَرْجِعَ إِنْ أَعْطَتْهُ فِيهَا وَالْعَبْدُ وَالدِّرْهَمُ عِنْدِي سَوَاءٌ غَيْرَ أَنَّ الْعَبْدَ مَجْهُولٌ فَيَكُونَ لَهُ عَلَيْهَا مِثْلُهَا . " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ قَالَ لِزَوْجَتِهِ : إِنْ أَعْطَيْتِنِي عَبْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُعَيِّنَ الْعَبْدَ فَيَقُولَ : إِنْ أَعْطَيْتِنِي عَبْدَكِ هَذَا ، فَإِنْ أَعْطَتْهُ غَيْرَ ذَلِكَ الْعَبْدِ ، لَمْ تُطَلَّقْ ، وَإِنْ أَعْطَتْهُ ذَلِكَ الْعَبْدَ طُلِّقَتْ بِهِ ، وَمَلَكَهُ الزَّوْجُ : لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِالتَّعْيِينِ مَعْلُومًا فَصَحَّ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا ، فَإِنْ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا كَانَ لِأَجْلِهِ بِالْخِيَارِ فَإِنْ رَدَّهُ لَمْ يَرْتَفِعِ الطَّلَاقُ لِوُقُوعِهِ بِوُجُودِ صِفَتِهِ ، وَبِمَاذَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا ، وَهُوَ الْقَدِيمُ : بِقِيمَتِهِ أَنْ لَوْ كَانَ سَلِيمًا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي ، وَهُوَ الْجَدِيدُ : بِمَهْرِ الْمِثْلِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَلَّا يُعَيِّنَ الْعَبْدَ في رَجُلٍ قَالَ لِزَوْجَتِهِ : إِنْ أَعْطَيْتِنِي عَبْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَصِفَهُ فَتَكُونَ صِفَاتُهُ شَرْطًا فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِهِ فَإِنْ أَعْطَتْهُ عَبْدًا عَلَى غَيْرِ تِلْكَ الصِّفَاتِ لَمْ تُطَلَّقْ ، وَإِنْ أَعْطَتْهُ عَبْدًا عَلَى تِلْكَ الصِّفَاتِ طُلِّقَتْ بِهِ .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110