كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي

جِنَايَتِهِ الَّتِي تَنْدَرِجُ حَالًا بَعْدَ حَالٍ ، وَسَوَاءٌ فِي دِيَةِ الْمُنَقِّلَةِ أَنْ يَتَشَظَّى عَظْمُهَا فَلَا يُعَادُ أَوْ يَتَشَظَّى فَيُعَادُ بِعَيْنِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ أَنَّ فِي جَمِيعِهَا خَمْسَ عَشْرَةَ مِنَ الْإِبِلِ ، كَمَا يَجِبُ فِي ذَلِكَ فِي صَغِيرِ الْمُوضِحَةِ وَكَبِيرِهَا ، وَإِذَا انْتَقَلَتِ الشَّجَّةُ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ رَأْسِهِ وَقَدِ اتَّصَلَ إِيضَاحُهَا كَانَتْ مُنَقِّلَتَيْنِ كَمَا قُلْنَا فِي الْهَاشِمَتَيْنِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْفَرْقِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَذَلِكَ كُلُّهُ فِي الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ وَاللَّحْيِ الْأَسْفَلِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : يَعْنِي تَقْدِيرَ دِيَةِ الْمُوضِحَةِ بِخَمْسٍ وَالْهَاشِمَةِ بِعَشْرٍ ، وَالْمُنَقِّلَةِ بِخَمْسَ عَشْرَةَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ وَاللَّحْيِ الْأَسْفَلِ ، فَأَمَّا فِي الْجَسَدِ وَمَا قَارَبَ الرَّأْسَ مِنَ الْعُنُقِ فَلَا يَتَقَدَّرُ فِيهِ دِيَةُ الْمُوضِحَةِ وَلَا دِيَةُ الْهَاشِمَةِ ، وَلَا دِيَةُ الْمُنَقِّلَةِ وَيَجِبُ فِيهَا حُكُومَةٌ أَلَّا يَبْلُغَ بِأَرْشِ مُوضِحِهَا خَمْسًا وَلَا بِأَرْشِ هَاشِمَتِهَا عَشْرًا ، وَلَا بِأَرْشِ مُنَقِّلَتِهَا خَمْسَ عَشْرَةَ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا عَلَى الرَّأْسِ أَخْوَفُ . وَالثَّانِي : أَنَّ شَيْنَهَا فِيهِ أَقْبَحُ ، وَتَتَغَلَّظُ هَذِهِ الشِّجَاجُ فِي الرَّأْسِ بِالْعَمْدِ ، وَتَتَخَفَّفُ بِالْخَطَأِ ، وَلَا تَتَغَلَّظُ فِي الْجَسَدِ بِعَمْدٍ وَلَا خَطَأٍ ، لِأَنَّ التَّغْلِيظَ يَخْتَصُّ بِالْمُقَدَّرِ مِنَ الدِّيَاتِ وَلَا يَدْخُلُ فِيهَا مَا لَا يَتَقَدَّرُ مِنْ أُرُوشِ الْجِنَايَاتِ ، فَيَتَغَلَّظُ خُمْسُ الْمُوضِحَةِ بِالْأَثْلَاثِ ، فَيَكُونُ فِيهَا خِلْفَتَانِ ، وَجَذَعَةٌ وَنِصْفٌ ، وَحِقَّةٌ وَنِصْفٌ ، فَتُخَفَّفُ فِيهَا بِالْأَخْمَاسِ فَيَكُونُ فِيهَا جَذَعَةٌ وَحِقَّةٌ ، وَبِنْتُ لَبُونٍ ، وَابْنُ لَبُونٍ ، وَبِنْتُ مَخَاضٍ ، وَتَتَغَلَّظُ غَيْرُ الْهَاشِمَةِ بِالْأَثْلَاثِ فَيَكُونُ فِيهَا أَرْبَعُ خُلُفَاتٍ ، وَثَلَاثُ جِذَاعٍ وَثَلَاثُ حِقَاقٍ ، وَيُتَخَفَّفُ بِالْأَخْمَاسِ فَيَكُونُ فِيهَا جَذَعَتَانِ ، وَحِقَّتَانِ ، وَبِنْتَا لَبُونٍ ، وَابْنَا لَبُونٍ ، وَبِنْتَا مَخَاضٍ ، وَيَتَغَلَّظُ فِي خَمْسَ عَشْرَةَ فِي الْمُنَقِّلَةِ بِالْأَثْلَاثِ فَيَكُونُ فِيهَا سِتُّ خَلِفَاتٍ ، وَأَرْبَعُ حِقَاقٍ وَنِصْفٌ ، وَأَرْبَعُ جِذَاعٍ وَنِصْفٌ ، وَيُتَخَفَّفُ فِيهَا بِالْأَخْمَاسِ فَيَكُونُ فِيهَا ثَلَاثَةُ جِذَاعٍ ، وَثَلَاثُ حِقَاقٍ ، وَثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ ، وَثَلَاثَةُ بَنِي لَبُونٍ ، وَثَلَاثُ بَنَاتِ مَخَاضٍ ، وَعَلَى غَيْرِ هَذَا فِيمَا زَادَ وَنَقَصَ فِيمَا يُقَدَّرُ مِنْ دِيَاتِ الْأَعْضَاءِ وَالْأَطْرَافِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَفِي الْمَأْمُومَةِ صفتها وديتها ثُلُثُ النَّفْسِ وَهِيَ الَّتِي تَخْرِقُ إِلَى جِلْدِ الدِّمَاغِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْمَأْمُومَةُ فَهِيَ الْوَاصِلَةُ إِلَى أُمِّ الرَّأْسِ ، وَأُمُّ الرَّأْسِ هِيَ الْغِشَاوَةُ الْمُحِيطَةُ بِمُخِّ الدِّمَاغِ وَتُسَمَّى الْأُمَّةَ . وَأَمَّا الدَّامِغَةُ فَهِيَ الَّتِي خَرَقَتْ غِشَاوَةَ الدِّمَاغِ حَتَّى وَصَلَتْ إِلَى مُخِّهِ ، وَفِيهَا جَمِيعًا ثُلُثُ الدِّيَةِ لَا تُفَضَّلُ دِيَةُ الدَّامِغَةِ عَلَى دِيَةِ الْمَأْمُومَةِ ، وَإِنْ كُنْتُ أَرَى أَنْ يَجِبَ تَفْضِيلُهَا

بِزِيَادَةِ حُكُومَةٍ فِي خَرْقِ غِشَاوَةِ الدِّمَاغِ ، لِأَنَّهُ وَصْفٌ زَائِدٌ عَلَى صِفَةِ الْمَأْمُومَةِ وَإِنْ لَمْ يُحْكَ عَنِ الشَّافِعِيِّ . وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُومَةَ ثُلُثُ الدِّيَةِ حَدِيثَانِ : أَحَدُهُمَا : حَدِيثُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : فِي الْآمَّةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ . وَالْآخَرُ : حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي كِتَابِهِ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ : وَفِي الْمَأْمُومَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ وَلِأَنَّهَا وَاصِلَةٌ إِلَى جَوْفٍ فَأَشْبَهَتِ الْجَائِفَةَ ، فَلَوْ أَرَادَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْتَصَّ مِنَ الْإِيضَاحِ سَقَطَ مِنْ دِيَتِهَا إِذَا اقْتَصَّ دِيَةَ الْمُوضِحَةِ خَمْسًا مِنَ الْإِبِلِ وَأَخْذَ بِالْبَاقِي مِنْهَا وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ بَعِيرًا وَثُلُثٌ ، فَلَوْ شَجَّهُ رَجُلٌ مُوضِحَةً وَهَشَمَهُ ثَانٍ بَعْدِ الْإِيضَاحِ وَنَقَلَهُ ثَالِثٌ بَعْدِ الْهَشْمِ وَأَمَّهُ رَابِعٌ بَعْدِ التَّنْقِيلِ كَانَ عَلَى الْأَوَّلِ دِيَةُ الْمُوضِحَةِ خَمْسًا مِنَ الْإِبِلِ وَعَلَى الثَّانِي مَا زَادَ عَلَيْهَا مِنْ دِيَةِ الْهَاشِمَةِ وَهِيَ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ ، وَعَلَى الثَّالِثِ مَا زَادَ عَلَيْهَا مِنْ دِيَةِ الْمُنَقِّلَةِ وَهِيَ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ ، وَعَلَى الرَّابِعِ مَا زَادَ عَلَيْهَا مِنْ دِيَةِ الْمَأْمُومَةِ وَهِيَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ بَعِيرًا وَثُلُثٌ ، فَإِنْ أُرِيدَ الْقِصَاصُ اقْتُصَّ مِنَ الْأَوَّلِ الْمُوضِحِ دُونَ مَنْ عَدَاهُ ، وَأُخِذَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ دِيَةِ جِنَايَتِهِ ، وَلَوْ جَرَحَهُ فِي وَجْنَتِهِ مِنْ وَجْهِهِ جِرَاحَةً حَرَقَتِ الْجِلْدَ وَاللَّحْمَ وَهَشَمَتِ الْعَظْمَ وَنَقَلَتِ الْعَظْمَ إِلَى أَنْ وَصَلَتْ إِلَى الْأُمِّ أَوْ كَانَتْ فِي إِحْدَى الْحِصَّتَيْنِ فَخَرَقَتْ كَذَلِكَ حَتَّى وَصَلَتْ إِلَى الْفَمِ فَفِيهَا قَوْلَانِ حَكَاهُمَا أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ فِي " جَامِعِهِ " . أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا مَأْمُومَةٌ يَجِبُ فِيهَا ثُلُثُ الدِّيَةِ ، وَيَكُونُ وُصُولُهَا إِلَى الْفَمِ كَوُصُولِهَا إِلَى الدِّمَاغِ لِأَنَّهَا عَمِلَتْ عَمَلَ الْمَأْمُومَةِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَجِبُ فِيهَا دِيَةُ مُنْتَقِلَةٍ وَزِيَادَةُ حُكُومَةٍ فِي وُصُولِهَا إِلَى الْفَمِ لَا يَبْلُغُ بِهَا دِيَةَ الْمَأْمُومَةِ ، لِأَنَّ وَصُولَ الْمَأْمُومَةِ إِلَى الدِّمَاغِ أَخْوَفُ عَلَى النَّفْسِ مِنْ وُصُولِهَا إِلَى الْفَمِ فَلَمْ يَبْلُغْ بِدِيَةِ مَا قَلَّ خَوْفُهُ دِيَةَ مَا هُوَ أَخْوَفُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَلَمْ أَعْلَمْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَكَمَ فِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ حكمها بِشَيْءٍ فَفِيمَا دُونَهَا حُكُومَةٌ لَا يَبْلُغُ بِهَا قَدْرَ مُوَضِحَةٍ وَإِنْ كَانَ الشَّيْنُ أَكْثَرَ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا شِجَاجَ الرَّأْسِ قَبْلَ الْمُوضِحَةِ وَأَنَّهَا سِتٌّ : الْحَارِصَةُ صفتها : وَهِيَ الَّتِي تَشُقُّ الْجِلْدَ . ثُمَّ الدَّامِيَةُ صفتها ، وَهِيَ الَّتِي يُدْمَى بِهَا مَوْضِعُ الشَّقِّ . ثُمَّ الدَّامِغَةُ صفتها ، وَهِيَ الَّتِي يُدْمَغُ مِنْهَا الدَّمُ . ثُمَّ الْبَاضِعَةُ صفتها وَهِيَ الَّتِي تُبَضِّعُ اللَّحْمُ فَتَشُقُّهُ . ثُمَّ الْمُتَلَاحِمَةُ صفتها وَهِيَ الَّتِي تَمُورُ فِي اللَّحْمِ حَتَّى تَنْزِلَ فِيهِ وَقَدْ تُسَمَّى الْبَازِلَةَ ، وَمِنْهُمْ

مَنْ جَعَلَ الْبَازِلَةَ شَجَّةً زَائِدَةً بَيْنَ الْبَاضِعَةِ وَالْمُتَلَاحِمَةِ فَيَجْعَلُ مَا قَبْلَ الْمُوضِحَةِ سَبْعًا . ثُمَّ السِّمْحَاقُ صفتها وَهِيَ الَّتِي تَمُورُ جَمِيعَ اللَّحْمِ حَتَّى تَصِلَ إِلَى سِمْحَاقِ الرَّأْسِ وَهِيَ جِلْدَةٌ تَغْشَى عَظْمَ الدِّمَاغِ ، وَيُسَمِّيهَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ الْمِلْطَاةَ صفتها ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا بَيْنَ الْمُتَلَاحِمَةِ وَالسِّمْحَاقِ فَيَجْعَلُ شِجَاجَ مَا قَبْلَ الْمُوضِحَةِ ثَمَانِيًا ، وَلَا أَعْرِفُ لِهَذِهِ الْمِلْطَاةِ حَدًّا يَزِيدُ عَلَى الْمُتَلَاحِمَةِ وَتَنْقُصُ عَنِ السِّمْحَاقِ فَيَصِيرُ وَسَطًا بَيْنَهُمَا ، وَلَيْسَ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الشِّجَاجِ الَّتِي قَبْلَ الْمُوضِحَةِ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ بِالنَّصِّ ، وَأَوَّلُ الشِّجَاجِ الَّتِي وَرَدَ النَّصُّ بِتَقْدِيرِ أَرْشِهَا الْمُوضِحَةُ لِانْتِهَائِهَا إِلَى حَدٍّ مُقَدَّرٍ فَصَارَ أَرْشُهَا مُقَدَّرًا كَالْأَطْرَافِ ، وَإِذَا لَمْ يَتَقَدَّرْ أَرْشُ مَا قَبْلَ الْمُوضِحَةِ نَصًّا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ نُصُوصِ الشَّافِعِيِّ ، وَقَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِهِ : أَنَّ فِيهَا حُكُومَةً يَخْتَلِفُ قَدْرُهَا بِاخْتِلَافِ شَيْنِهَا تَتَقَدَّرُ بِالِاجْتِهَادِ وَلَا يَصِيرُ مَا قَدَّرُهُ الِاجْتِهَادُ فِيهَا مُقَدَّرًا مُعْتَبَرًا فِي غَيْرِهَا ، لِجَوَازِ زِيَادَةِ الشَّيْنِ وَنُقْصَانِهِ ، فَإِذَا أَفْضَى الِاجْتِهَادُ فِي حُكُومَةٍ أَرْشُهَا إِلَى مِقْدَارٍ يَنْقُصُ مِنْ دِيَةِ الْمُوضِحَةِ عَلَى مَا سَنَصِفُهُ مِنْ صِفَةِ الِاجْتِهَادِ أَوْجَبْنَا جَمِيعَهُ ، وَإِنْ زَادَ عَلَى دِيَةِ الْمُوضِحَةِ أَوْ سَاوَاهَا لَمْ يُحْكَمْ بِجَمِيعِهِ وَنُقِصَ مِنْ دِيَةِ الْمُوضِحَةِ بِحَسَبِ مَا يُؤَدِّيهِ الِاجْتِهَادُ إِلَيْهِ ، لِأَنَّ شَيْنَهَا لَوْ كَانَ فِي مُوضِحَةٍ لَمْ يَزِدْ عَلَى دِيَتِهَا ، فَإِذَا كَانَ فِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ وَجَبَ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ دِيَتِهَا . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ يَجِبُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ أَكْثَرُ مِنَ الدِّيَةِ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ فِي النَّفْسِ إِلَّا الدِّيَةُ فَهَلَّا وَجَبَ فِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ بِحَسَبِ الشَّيْنِ أَكْثَرُ مِمَّا يَجِبُ فِي الْمُوضِحَةِ . قِيلَ : لِأَنَّ مَا دُونُ الْمُوضِحَةِ بَعْضُ الْمُوضِحَةِ وَبَعْضُهَا لَا يُكَافِئُهَا وَلَيْسَتِ الْأَطْرَافُ بَعْضَ النَّفْسِ ، لِأَنَّ النَّفْسَ لَا تَتَبَعَّضُ فَجَازَ أَنْ يَجِبَ فِيهَا أَكْثَرُ مِمَّا يَجِبُ فِي النَّفْسِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنْ أُرُوشَهَا مُقَدَّرَةٌ بِالِاجْتِهَادِ كَمَا تَقَدَّرَتِ الْمُوضِحَةُ وَمَا فَوْقَهَا بِالنَّصِّ وَلَا يَمْتَنِعُ إِثْبَاتُ الْمَقَادِيرِ اجْتِهَادًا كَمَا تُقَدَّرُ الْقُلَّتَانِ بِخَمْسِمِائَةِ رِطْلٍ اجْتِهَادًا ، فَجَعَلَ فِي الْحَارِصَةِ بَعِيرًا وَاحِدًا ، وَجَعَلَ فِي الدَّامِيَةِ وَالدَّامِغَةِ بَعِيرَيْنِ ، وَجَعَلَ فِي الْبَاضِعَةِ ، وَالْبَازِلَةِ ، وَالْمُتَلَاحِمَةِ ثَلَاثَةَ أَبْعِرَةٍ ، وَجَعَلَ فِي الْمِلْطَاةِ ، وَالسِّمْحَاقِ أَرْبَعَةَ أَبْعِرَةٍ ، لِأَنَّهَا أَقْرَبُ الشِّجَاجِ مِنَ الْمُوضِحَةِ ، فَكَانَ أَرْشُهَا أَقْرَبَ الْأُرُوشِ إِلَى دِيَةِ الْمُوضِحَةِ ، وَلَمَّا كَانَتِ الْحَارِصَةُ أَوَّلَ الشِّجَاجِ كَانَ فِيهَا أَوَّلُ مَا فِي الْمُوضِحَةِ وَكَانَ فِيمَا بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ مَا يَقْتَضِيهِ قُرْبَةً مِنْ أَحَدِهِمَا فَلِذَلِكَ رَتَّبَهُ فِي التَّقْدِيرِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُسْتَقِرًّا بِالظَّاهِرِ فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَا دَخَلَهُ الِاجْتِهَادُ بِحَسَبِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ كَانَ حُكْمُهُ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يَسْتَقِرَّ الِاجْتِهَادُ فِيهِ بِمِقْدَارٍ مَحْدُودٍ لَا يُزَادُ عَلَيْهِ وَلَا يُنْقَصُ

مِنْهُ لَكَانَ اجْتِهَادُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِيهِ أَمْضَى وَتَقْدِيرُهُمْ لَهُ أَلْزَمَ ، وَقَدْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ أَنَّهُمَا قَضَيَا فِي الْمِلْطَاةِ وَالسِّمْحَاقِ بِنِصْفِ مَا فِي الْمُوضِحَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : حَكَاهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنْ يُعْتَبَرَ قَدْرُ مَا انْتَهَتْ إِلَيْهِ فِي اللَّحْمِ مِنْ مِقْدَارِ مَا بَلَغَتْهُ الْمُوضِحَةُ حَتَّى وَصَلَتْ إِلَى الْعَظْمِ إِذَا أَمْكَنَ ، فَإِذَا عُرِفَ مِقْدَارُهُ مِنْ رُبُعٍ أَوْ ثُلُثٍ أَوْ نِصْفٍ كَانَ فِيهِ بِقَدْرِ ذَلِكَ مِنْ دِيَةِ الْمُوضِحَةِ ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ النِّصْفُ وَشَكَّ فِي الزِّيَادَةِ اعْتَبَرَ شَكَّهُ بِتَقْوِيمِ الْحُكُومَةِ ، فَإِنْ زَادَ عَلَى النِّصْفِ وَبَلَغَ الثُّلُثَيْنِ زَالَ حُكْمُ الشَّكِّ فِي الزِّيَادَةِ بِإِثْبَاتِهَا وَحُكِمَ بِهَا ، وَلَزِمَ ثُلُثَا دِيَةِ الْمُوضِحَةِ ، وَإِنْ بَلَغَتِ النِّصْفَ زَالَ حُكْمُ الشَّكِّ فِي الزِّيَادَةِ بِإِسْقَاطِهَا وَحُكِمَ بِنِصْفِ الدِّيَةِ ، وَإِنْ نَقَصَتْ عَنِ النِّصْفِ بَطَلَ حُكْمُ النُّقْصَانِ وَالزِّيَادَةِ وَثَبَتَ حُكْمُ النِّصْفِ ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ مِقْدَارَ ذَلِكَ مِنَ الْمُوضِحَةِ عُدِلَ حِينَئِذٍ إِلَى الْحُكُومَةِ الَّتِي يَتَقَدَّرُ الْأَرْشُ فِيهَا بِالتَّقْوِيمِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ ، وَلِهَذَا الْوَجْهِ وَجْهٌ إِنْ لَمْ يَدْفَعْهُ أَصْلٌ وَذَلِكَ أَنَّ مِقْدَارَ الْحُكُومَةِ مُعْتَبَرٌ بِشَيْئَيْنِ : الضَّرَرِ وَالشَّيْنِ ، وَهُمَا لَا يَتَقَدَّرَانِ بِمِقْدَارِ الْمَوْرِ فِي اللَّحْمِ . وَحُكِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ : لَيْسَ فِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ أَرْشٌ ، وَلَيْسَ عَلَى الْجَانِي إِلَّا أُجْرَةُ الطَّبِيبِ لِعَدَمِ النَّصِّ فِيهِ ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ أَصْلٌ لِلْمَسْكُوتِ عَنْهُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ قَدْ أَوْجَبَ أُجْرَةَ الطَّبِيبِ وَلَمْ يَرِدْ بِهَا شَرْعٌ ، وَأَسْقَطَ أَرْشَ الدَّمِ وَقَدْ وَرَدَ بِهِ شَرْعٌ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

مَسْأَلَةٌ فِي كُلِّ جُرْحٍ مَا عَدَا الرَّأْسَ وَالْوَجْهَ حُكُومَةٌ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَفِي كُلِّ جُرْحٍ مَا عَدَا الرَّأْسَ وَالْوَجْهَ حُكُومَةٌ إِلَّا الْجَائِفَةَ فَفِيهَا ثُلُثُ النَّفْسِ وَهِيَ الَّتِي تَخْرِقُ إِلَى الْجَوْفِ مِنْ بَطْنٍ أَوْ ظَهْرٍ أَوْ صَدْرٍ أَوْ ثَغْرَةِ نَحْرٍ فَهِيَ جَائِفَةٌ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَإِذْ قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي شِجَاجِ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ فَسَنَذْكُرُ مَا عَدَاهُ مِنْ جِرَاحِ الْبَدَنِ أقسامها وَيَنْقَسِمُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ وَتَتَقَدَّرُ فِيهِ الدِّيَةُ وَهُوَ الْأَطْرَافُ .

وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَا لَا يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ وَلَا تَتَقَدَّرُ فِيهِ الدِّيَةُ ، وَهُوَ مَا دُونَ الْمُوضِحَةِ أَوْ فَوْقَهَا وَدُونَ الْجَائِفَةِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ وَلَا يَتَقَدَّرُ فِيهِ الدِّيَةُ وَهُوَ الْمُوضِحَةُ ، يَجِبُ فِيهَا الْقِصَاصُ فِي الْبَدَنِ كَالرَّأْسِ ، وَلَا تَتَقَدَّرُ فِيهَا الدِّيَةُ ، وَإِنْ تَقَدَّرَتْ فِي الرَّأْسِ وَيَجِبُ فِيهَا حُكُومَةٌ . وَالْفَرْقُ فِيهَا بَيْنَ الرَّأْسِ وَالْجَسَدِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الرَّأْسَ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى حَوَاسِّ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالشَّمِّ وَالذَّوْقِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَيْهِ أَخْوَفُ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ شَيْنَهَا فِيهِ أَقْبَحُ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : مَا تَتَقَدَّرُ فِيهِ الدِّيَةُ وَلَا يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ وَهُوَ الْجَائِفَةُ ، وَالْجَائِفَةُ وُصُولُ الْجُرْحِ إِلَى الْجَوْفِ مِنْ بَطْنٍ أَوْ ظَهْرٍ أَوْ ثَغْرَةِ نَحْرٍ تَخْرِقُ بِهِ غِطَاءَ الْجَوْفِ حَتَّى يَصِلَ إِلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ بِحَدِيدٍ أَوْ بِغَيْرِهِ مِنَ الْمُحَدَّدِ ، وَفِيهَا ثُلُثُ الدِّيَةِ ، صَغُرَتْ أَوْ كَبُرَتْ ، لِرِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : قَالَ : فِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ وَفِيَّ الْمَأمُومَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ . وَرَوَى عَمْرُو بْنُ حَزْمٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ وَفِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ وَلِأَنَّهَا وَاصِلَةٌ إِلَى غَايَةٍ مَخُوفَةٍ فَأَشْبَهَتِ الْمَأْمُومَةَ ، وَلَا قِصَاصَ فِيهَا ، لِتَعَذُّرِ الْمُمَاثَلَةِ بِنُفُوذِ الْحَدِيدِ إِلَى مَا لَا يُرَى انْتِهَاؤُهُ ، فَإِنْ أَجَافَهُ حَتَّى لَذَعَ الْحَدِيدُ كَبِدَهُ أَوْ طِحَالَهُ لَزِمَتْ ثُلُثُ الدِّيَةِ فِي الْجَائِفَةِ وَحُكُومَةٌ فِي لَذْعِ الْحَدِيدِ الْكَبِدَ وَالطِّحَالَ . وَلَوْ أَجَافَهُ فَكَسَرَ أَحَدَ أَضْلَاعِهِ غَرَّمَهُ دِيَةُ الْجَائِفَةِ ، وَتَكُونُ حُكُومَةُ الضِّلَعِ مُعْتَبَرَةً بِنُفُوذِ الْجَائِفَةِ ، فَإِنْ نَفَذَتْ مِنْ غَيْرِ ضِلَعٍ لَزِمَهُ حُكُومَةُ الضِّلَعِ ، وَإِنْ لَمْ تَنْفُذْ إِلَّا بِكَسْرِ الضِّلَعِ دَخَلَتْ حُكُومَتُهُ فِي دِيَةِ الْجَائِفَةِ ، وَإِذَا أَشْرَطَ بَطْنَهُ بِسِكِّينٍ ثُمَّ أَجَافَهُ فِي آخِرِ الشَّرْطَةِ مقدار الدية كَانَ عَلَيْهِ فِي الْجَائِفَةِ دِيَتُهَا وَفِي الشَّرْطَةِ حُكُومَتُهَا ، لِأَنَّ الشَّرْطَةَ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْجَائِفَةِ مُتَمَيِّزَةٌ عَنْهَا فَتَمَيَّزَتْ بِحُكْمِهَا كَمَا قُلْنَا إِذَا أَوْضَحَ مُؤَخِّرَ رَأْسِهِ وَأَعْلَى قَفَاهُ ، وَلَوْ جَرَحَهُ بِخِنْجَرٍ لَهُ طَرَفَانِ فَأَجَافَهُ فِي مَوْضِعَيْنِ وَبَيْنَهُمَا حَاجِزٌ مقدار الدية كَانَتْ جَائِفَتَيْنِ وَعَلَيْهِ ثُلُثَا الدِّيَةِ ، فَإِنْ خَرَقَهُ الْجَانِي أَوْ تَآكَلَ صَارَتْ جَائِفَةً وَاحِدَةً ، وَلَوْ خَرَقَهُ أَجْنَبِيٌّ كَانَتْ ثَلَاثَ جَوَائِفَ ، وَلَوْ خَرَقَهُ الْمَجْرُوحُ كَانَتْ جَائِفَتَيْنِ كَمَا قُلْنَا فِي الْمُوضِحَتَيْنِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا أَدْخَلَ فِي حَلْقِهِ خَشَبَةً أَوْ حَدِيدَةً حَتَّى وَصَلَتْ إِلَى الْجَوْفِ أَوْ أَدْخَلَهَا

فِي سَبِيلِهِ حَتَّى بَلَغَتِ الْجَوْفَ لَمْ تَكُنْ جَائِفَةً وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُ مَا خَرَقَ بِهَا حَاجِزًا ، فَإِنْ خَدَشَ بِهَا مَا حِيَالَهَا مِنْ دَاخِلِ الْجَوْفِ لَزِمَتْهُ حُكُومَتُهُ ، وَعُزِّرَ فِي الْحَالَيْنِ أَدَبًا وَإِنْ لَمْ يُعَزَّرِ الْجَانِي إِذَا أُغْرِمَ الدِّيَةَ ، لِأَنَّهُ قَدِ انْتَهَكَ مِنْهُ بِإِيلَاجِهَا مَا لَمْ يُقَابِلْهُ غُرْمٌ ، فَإِنْ خَرَقَ بِوُصُولِ الْخَشَبَةِ إِلَى الْجَوْفِ حَاجِزٌ مِنْ غِشَاوَةِ الْمَعِدَةِ أَوِ الْحَشْوَةِ فَفِي إِجْرَاءِ حُكْمِ الْجَائِفَةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْجَائِفَةِ وَيَلْزَمُهُ ثُلُثُ دِيَةٍ ، لِأَنَّهُ قَدْ خَرَقَ حَاجِزًا فِي الْجَوْفِ فَأَشْبَهَ حَاجِزَ الْبَطْنِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْجَائِفَةِ وَيَلْزَمُهُ حُكُومَةٌ لِبَقَاءِ الْبَطْنِ الَّذِي هُوَ حَاجِزٌ عَلَى جَمِيعِ الْجَوْفِ ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي الْحَاجِزِ بَيْنَ الْمُوضِحَتَيْنِ إِذَا انْخَرَقَ بَاطِنُهُ مِنَ اللَّحْمِ وَهِيَ ظَاهِرَةٌ مِنَ الْجِلْدِ هَلْ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْمُوضِحَةِ فِي الْجَمِيعِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ .

فَصْلٌ : وَلَوْ أَوْلَجَ خَشَبَةً فِي فَرْجِ عَذْرَاءَ خَرَقَ بِهَا حَاجِزَ بَكَارَتِهَا عُزِّرَ وَلَمْ يُحَدَّ ، إِلَّا أَنْ يَطَأَ فَيُحَدَّ ، وَيَلْزَمُهُ مَهْرُ الْمِثْلِ إِنْ أَكْرَهَهَا ، وَلَا تَلْزَمُهُ دِيَةُ الْجَائِفَةِ بِخَرْقِ حَاجِزِ الْبَكَارَةِ ، لِأَنَّهَا فِي مَسْلَكِ الْخَرْقِ ، وَأَمَّا الْحُكُومَةُ فَإِنْ كَانَتْ بِغَيْرِ وَطْءٍ لَزِمَهُ حُكُومَةُ بَكَارَتِهَا ، لِأَنَّهَا بِجِنَايَةٍ مِنْهُ وَإِنْ كَانَتْ بِوَطْءٍ لَمْ يَلْزَمْهُ ، لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو فِي وَطْئِهِ مِنْ إِكْرَاهٍ أَوْ مُطَاوَعَةٍ ، فَإِنْ أُكْرِهَ دَخَلَ أَرْشُ الْحُكُومَةِ فِي الْمَهْرِ ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ مَهْرُ مِثْلِهَا مِنَ الْأَبْكَارِ ، وَإِنْ طَاوَعَتْهُ كَانَتْ بِالْمُطَاوَعَةِ كَالْمُبَرَّئَةِ مِنَ الْأَرْشِ ، لِأَنَّ الْمُطَاوَعَةَ إِذْنٌ . وَإِذَا عَصَرَ بَطْنَهُ وَدَاسَهُ حَتَّى خَرَجَ الطَّعَامُ مِنْ فَمِهِ أَوِ النَّجْوِ مِنْ دُبُرِهِ مقدار الدية فَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ ، وَيُعَزَّرُ أَدَبًا ، فَإِنْ زَالَ بِالدَّوْسِ أَحَدُ أَعْضَاءِ الْجَوْفِ عَنْ مَحَلِّهِ حَتَّى تَيَاسَرَ الْكَبِدُ أَوْ تَيَامَنَ الطِّحَالُ ، لِأَنَّ الْكَبِدَ مُتَيَامِنٌ وَالطِّحَالَ مُتَيَاسِرٌ ، فَعَلَيْهِ الْحُكُومَةُ إِنْ بَقِيَ عَلَى حَالِهِ ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إِنْ عَادَ إِلَى مَحَلِّهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا جَرَحَهُ جَائِفَةً ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَأَوْلَجَ فِي الْجَائِفَةِ سِكِّينًا مقدار الدية ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الثَّانِي بَعْدَ الْأَوَّلِ مِنْ أَحَدِ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ لَا يُؤَثِّرَ فِي سِعَتِهَا وَلَا فِي عُمْقِهَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُ مَا جَرَحَ ، وَيُعَزَّرُ أَدَبًا لِلْأَذَى . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يُؤَثِّرَ فِي سِعَتِهَا وَلَا يُؤَثِّرَ فِي عُمْقِهَا ، فَعَلَيْهِ فِي زِيَادَةِ سِعَتِهَا إِذَا كَانَ ظَاهِرًا أَوْ بَاطِنًا دِيَةُ جَائِفَةٍ ، لِأَنَّهُ قَدْ أَجَافَهُ ، وَإِنِ اتَّصَلَتْ بِجَائِفَةٍ غَيْرِهِ ، فَإِنِ اتَّسَعَتْ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ أَوْ فِي الْبَاطِنِ دُونَ الظَّاهِرِ فَعَلَيْهِ حُكُومَةٌ ، لِأَنَّهُ جُرْحٌ لَمْ يَسْتَكْمِلْ جَائِفَةً .

وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يُؤَثِّرَ فِي عُمْقِهَا وَلَا يُؤَثِّرَ فِي سِعَتِهَا فَيَلْذَعُ بَعْضَ أَعْضَاءِ الْجَوْفِ مِنْ كَبِدٍ أَوْ طِحَالٍ فَعَلَيْهِ فِي لَذْعِ ذَلِكَ وَجُرْحِهِ حُكُومَةٌ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ يُؤَثِّرَ فِي سِعَتِهَا وَيُؤَثِّرَ فِي عُمْقِهَا ، فَيَلْزَمُهُ دِيَةُ جَائِفَةٍ فِي زِيَادَةِ سَعَتِهَا ، وَحُكُومَةٌ فِي جِرَاحَةِ عُمْقِهَا ، فَإِنْ قَطَعَ بِهَا مِعًا ، أَوْ حَشَوْتَهُ صَارَ مَوْجًا قَاتِلًا يَلْزَمُهُ الْقَوَدُ فِي النَّفْسِ أَوْ جَمِيعُ الدِّيَةِ ، وَيَكُونُ الْأَوَّلُ جَارِحًا جَائِفًا يَلْزَمُهُ ثُلُثُ الدِّيَةِ ، وَلَوْ جَرَحَ الثَّانِي الْمِعَاءَ وَالْحَشْوَةَ وَلَمْ يَقْطَعْهُ صَارَ الثَّانِي وَالْأَوَّلُ قَاتِلَيْنِ وَعَلَيْهِمَا الْقَوَدُ فِي النَّفْسِ أَوِ الدِّيَةِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ لِحُدُوثِ التَّلَفِ بِسِرَايَةِ جِنَايَتِهِمَا .

فَصْلٌ : وَإِذَا خَاطَ الْمَجْرُوحُ جَائِفَةً فَفَتَقَهَا آخَرُ حَتَّى عَادَتْ جَائِفَةً لَمْ يَخْلُ حَالُهَا بَعْدَ الْخِيَاطَةِ مِنْ أَحَدِ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَفْتِقَهَا قَبْلَ الْتِحَامِ ظَاهِرِهَا وَبَاطِنِهَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْجَائِفَةِ ، وَيُعَزَّرُ أَدَبًا لِلْأَذَى ، وَيُغْرَمُ قِيمَةَ الْخَيْطِ وَأُجْرَةَ مِثْلِ الْخِيَاطَةِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَفْتِقَهَا بَعْدَ الْتِحَامِ ظَاهِرِهَا وَبَاطِنِهَا ، فَقَدْ صَارَ جَائِفًا وَعَلَيْهِ دِيَةُ الْجَائِفَةِ وَإِنْ كَانَتْ فِي مَحَلِّ جَائِفَةٍ مُتَقَدِّمَةٍ ، لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ بَعْدَ الِانْدِمَالِ كَحَالِهَا قَبْلَ الْجِنَايَةِ ، كَمَا لَوْ أَوْضَحَ رَأْسَهُ فَانْدَمَلَ ، ثُمَّ عَادَ فَأَوْضَحَهُ فِي مَوْضِعِ الِانْدِمَالِ لَزِمَهُ دِيَةُ مُوضِحَةٍ ثَانِيَةٍ وَيُغْرَمُ قِيمَةَ الْخَيْطِ ، وَلَا يُغْرَمُ أُجْرَةَ الْمِثْلِ لِدُخُولِ أُجْرَةِ فَتْقِهَا فِي دِيَةِ جَائِفَتِهَا بِخِلَافِهِ لَوْ لَمْ يَغْرَمْ دِيَتَهَا . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَلْتَحِمَ بَاطِنُهَا وَلَا يَلْتَحِمَ ظَاهِرُهَا ، فَيَلْزَمُهُ حُكُومَةٌ فِي فَتْحِ مَا الْتَحَمَ مِنْ بَاطِنِهَا ، وَيَغْرَمُ قِيمَةَ الْخَيْطِ وَأُجْرَةَ مِثْلِ الْخِيَاطَةِ ، لِأَنَّهُ مَا الْتَزَمَ فِي مَحَلِّهِ غُرْمًا سَوَاءٌ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ يَلْتَحِمَ ظَاهِرُهَا وَلَا يَلْتَحِمَ بَاطِنُهَا ، فَتَلْزَمُهُ حُكُومَةٌ فِي فَتْحِ مَا الْتَحَمَ مِنْ ظَاهِرِهَا ، وَيَغْرَمُ قِيمَةَ الْخَيْطِ ، وَلَا يُغْرَمُ أُجْرَةَ الْخِيَاطَةِ ، لِدُخُولِهِ فِي حُكُومَةِ مَحَلِّهِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا جَرَحَهُ نَافِذَةً مقدار الدية ، وَالنَّافِذَةُ صفتها وديتها : أَنْ يَجْرَحَهُ بِسَهْمٍ أَوْ سِنَانٍ فَيَدْخُلُ فِي ظَهْرِهِ وَيَخْرُجُ مِنْ بَطْنِهِ ، أَوْ يَدْخُلُ فِي بَطْنِهِ وَيَخْرُجُ مِنْ ظَهْرِهِ ، أَوْ يَنْفُذُ مِنْ أَحَدِ خَصْرَيْهِ إِلَى الْآخَرِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ أَنَّ النَّافِذَةَ جَائِفَتَانِ ، وَيَلْزَمُهُ فِيهِمَا ثُلُثَا الدِّيَةِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَلْزَمُهُ دِيَةُ جَائِفَةٍ فِي الْوُصُولِ إِلَى الْجَوْفِ ، وَحُكُومَةٌ فِي النُّفُوذِ مِنْهُ ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا ، لِأَنَّ الْجَائِفَةَ مَا وَصَلَتْ إِلَى الْجَوْفِ ، وَالنَّافِذَةُ خَارِجَةٌ مِنْهُ فَكَانَتْ أَقَلَّ مِنَ الْجَائِفَةِ ، وَهَذَا خَطَأٌ ، لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَضَى عَلَى رَجُلٍ رَمَى رَجُلًا بِسَهْمٍ فَأَنْفَذَهُ بِثُلُثَيِ الدِّيَةِ ، وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ مُخَالِفٌ فَكَانَ إِجْمَاعًا ، وَلِأَنَّ مَا

خَرَقَ حِجَابَ الْجَوْفِ كَانَ جَائِفَةً كَالدَّاخِلَةِ ، فَإِنْ قَطَعَ سَهْمَ النَّافِذَةِ بِنُفُوذِهِ فِي الْجَوْفِ بَعْضَ حَشَوْتِهِ كَانَ عَلَيْهِ مَعَ دِيَةِ الْجَائِفَتَيْنِ حُكُومَةٌ فِيمَا قَطَعَ مِنْ حَشَوْتِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَفِي الْأُذُنَيْنِ مقدار الدية الدِّيَةُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَقَالَ مَالِكٌ : فِيهِمَا حُكُومَةٌ لِاخْتِصَاصِهِمَا بِالْجَمَالِ دُونَ الْمَنْفَعَةِ فَكَانَا كَالْيَدَيْنِ الشَّلَّاوَيْنِ ، وَهَذَا فَاسِدٌ ، لِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي كِتَابِهِ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ : وَفِي الْأُذُنَيْنِ الدِّيَةُ وَلِأَنَّهُمَا عُضْوَانِ يَجْتَمِعُ فِيهِمَا مَنْفَعَةٌ وَجَمَالٌ فَوَجَبَ أَنْ تَكْمُلَ فِيهِمَا الدِّيَةُ كَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ ، فَإِنْ قِيلَ : الْمَنْفَعَةُ فِيهِمَا مَفْقُودَةٌ . قِيلَ : إِنَّ مَنْفَعَتَهُمَا مَوْجُودَةٌ ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا خَلَقَ الْأَعْضَاءَ عَبَثًا وَلَا قَدَّرَهَا إِلَّا لِحِكْمَةٍ وَمَنْفَعَةٍ ، وَمَنْفَعَةُ الْأُذُنِ جَمْعُ الصَّوْتِ حَتَّى يَلِجَ إِلَيْهَا فَيَصِلُ إِلَى السَّمْعِ ، وَهَذَا أَكْبَرُ الْمَنَافِعِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الدِّيَةِ فِيهِمَا فَتَكْمُلُ الدِّيَةُ إِذَا اسْتُؤْصِلَتَا ، صَغُرَتِ الْأُذُنَانِ أَوْ كَبُرَتَا ، وَالْمَثْقُوبَةُ وَذَاتُ الْخُرْمِ مُسَاوِيَةٌ لِغَيْرِ ذَاتِ الثُّقْبِ وَالْخُرْمِ إِذَا لَمْ يَذْهَبْ شَيْءٌ مِنَ الْأُذُنِ بِالثَّقْبِ وَالْخَرْمِ ، فَإِنْ أَذْهَبْ شَيْئًا مِنْهَا سَقَطَ مِنْ دِيَتِهَا بِقَدْرِ الذَّاهِبِ ، وَإِذَا قَطَعَ إِحْدَى الْأُذُنَيْنِ مقدار الدية كَانَ فِيهَا نِصْفُ الدِّيَةِ يُمْنَى كَانَتْ أَوْ يُسْرَى كَالْيَدَيْنِ ، فَإِنْ قَطَعَ بَعْضَ أُذُنِهِ مقدار الدية كَانَ عَلَيْهِ مِنْ دِيَتِهَا بِقِسْطِ مَا قَطَعَ مِنْهَا مِنْ رُبُعٍ أَوْ ثُلُثٍ أَوْ نِصْفٍ ، سَوَاءٌ قَطَعَ مِنْ أَعْلَى أَوْ أَسْفَلَ ، وَلَا اعْتِبَارَ بِزِيَادَةِ الْجَمَالِ وَالْمَنْفَعَةِ فِي أَحَدِ النِّصْفَيْنِ كَمَا تَسْتَوِي دِيَاتُ الْأَصَابِعِ أَوِ الْأَسْنَانِ مَعَ اخْتِلَافِ مَنَافِعِهَا ، وَسَوَاءٌ قَطَعَ أُذُنَ سَمِيعٍ أَوْ أَصَمَّ ، لِأَنَّ مَحَلَّ السَّمْعِ فِي الصِّمَاخِ لَا فِي الْأُذُنِ ، لِبَقَاءِ السَّمْعِ بَعْدَ قَطْعِهِمَا ، وَخَالَفَ حُلُولَ الْبَصَرِ فِي الْعَيْنِ وَحُلُولَ حَرَكَةِ الْكَلَامِ فِي اللِّسَانِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا جَنَى عَلَى أُذُنَيْهِ فَاسْتَحْشَفَتَا مقدار الدية وَصَارَ بِهِمَا مِنَ الْيُبْسِ وَعَدَمِ الْأَلَمِ مَا بِالْيَدَيْنِ مِنَ الشَّلَلِ فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : عَلَيْهِ الدِّيَةُ كَامِلَةً كَمَا يَلْزَمُهُ فِي شَلَلِ الْيَدَيْنِ الدِّيَةُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : عَلَيْهِ حُكُومَةٌ ، لِبَقَاءِ مَنَافِعِهِمَا بَعْدَ الشَّلَلِ وَالِاسْتِحْشَافِ وَعَدَمُ مَنَافِعِ الْيَدِ بِالشَّلَلِ سَوَاءٌ ، فَلَوْ قُطِعَتِ الْأُذُنُ بَعْدَ اسْتِحْشَافِهَا كَانَ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِيهِمَا حُكُومَةٌ إِذَا قِيلَ فِي اسْتِحْشَافِهِمَا الدِّيَةُ كَالْيَدِ الشَّلَّاءِ إِذَا قُطِعَتْ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : فِيهَا الدِّيَةُ إِذَا قِيلَ فِي الِاسْتِحْشَافِ حُكُومَةٌ ، وَلَا يَجْتَمِعُ فِيهَا دِيَتَانِ إِحْدَاهُمَا بِالِاسْتِحْشَافِ ، وَالْأُخْرَى بِالْقَطْعِ ، وَلَا حُكُومَتَانِ وَيَجْتَمِعُ فِيهِمَا دِيَةٌ وَحُكُومَةٌ ، فَإِنْ أُوجِبَتِ الدِّيَةُ فِي الِاسْتِحْشَافِ كَانَتِ الْحُكُومَةُ فِي الْقَطْعِ وَإِنْ أُوجِبَتِ الْحُكُومَةُ فِي الِاسْتِحْشَافِ كَانَتِ الدِّيَةُ فِي الْقَطْعِ .

وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي الْحَالَيْنِ إِلَّا حُكُومَةُ إِحْدَاهِمَا بِالِاسْتِحْشَافِ وَالْأُخْرَى بِالْقَطْعِ ، تَسْتَوْفِي بِالْحُكُومَةِ جَمِيعَ الدِّيَةِ لَا يَجُوزُ نُقْصَانُهَا ، وَيَجُوزُ زِيَادَتُهَا ، وَهَذَا فَاسِدٌ ، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى إِحْدَى الْحُكُومَتَيْنِ حُكْمُ الْجِنَايَةِ عَلَى الصِّحَّةِ ، وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِكَمَالِ الدِّيَةِ . فَأَمَّا إِذَا جَنَى عَلَى أُذُنِهِ فَاسْوَدَّ لَوْنُهَا مقدار الدية فَفِيهَا حُكُومَةٌ كَمَا لَوْ جَنَى عَلَى يَدِهِ ، لِأَنَّ سَوَادَ اللَّوْنِ فِي الْأَبْيَضِ شَيْنٌ ، وَكَذَلِكَ بَيَاضُ اللَّوْنِ فِي الْأَسْوَدِ شَيْنٌ ، وَالْحُكُومَةُ فِي الْحَالَيْنِ وَاجِبَةٌ وَإِنْ كَانَتِ الْمَنَافِعُ بَاقِيَةً .

مَسْأَلَةٌ فِي السَّمْعِ الدِّيَةُ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَفِي السَّمْعِ الدِّيَةُ وَيُتَغَفَّلُ وَيُصَابُ بِهِ فَإِنْ أَجَابَ عُرِفَ أَنَّهُ يَسْمَعُ وَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ قَوْلُهُ ، وَإِنْ لَمْ يُجِبْ عِنْدَ غَفَلَاتِهِ وَلَمْ يَفْزَعْ إِذَا صِيحَ بِهِ حَلَفَ لَقَدْ ذَهَبَ سَمْعُهُ وَأَخَذَ الدِّيَةَ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا جَنَى عَلَيْهِ فَأَذْهَبَ سَمْعَهُ إِمَّا بِفِعْلٍ بَاشَرَ بِهِ جَسَدَهُ أَوْ بِإِحْدَاثِ صَوْتٍ هَائِلٍ خَرَقَ الْعَادَةَ حَتَّى ذَهَبَ بِهِ السَّمْعُ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَعَهُ مُبَاشَرَةٌ فَالدِّيَةُ فِي الْحَالَيْنِ وَاجِبَةٌ لِأَنَّ الصَّوْتَ الْهَائِلَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَعَهُ مُبَاشَرَةٌ قَدْ يُؤَثِّرُ فِي ذَهَابِ السَّمْعِ مَا تُؤَثِّرُهُ الْمُبَاشَرَةُ . وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ الدِّيَةِ الْكَامِلَةِ فِي ذَهَابِ السَّمْعِ رِوَايَةُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : وَفِي السَّمْعِ الدِّيَةُ . وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا رَمَى رَأْسَ رَجُلٍ بِحَجَرٍ فِي زَمَانِ عُمَرَ فَأَذْهَبَ سَمْعَهُ وَعَقْلَهُ وَلِسَانَهُ وَذَكَرَهُ ، فَقَضَى عَلَيْهِ عُمَرُ بِأَرْبَعِ دِيَاتٍ ، وَلِأَنَّ السَّمْعَ مِنْ أَشْرَفِ الْحَوَاسِّ فَأَشْبَهَ حَاسَّةَ الْبَصَرِ ، وَاخْتُلِفَ فِي أَيِّهِمَا أَفْضَلُ : فَقَالَ قَوْمٌ : حَاسَّةُ الْبَصَرِ أَفْضَلُ : لِأَنَّ بِهِ تُدْرَكُ الْأَعْمَالُ ، وَقَالَ آخَرُونَ : حَاسَّةُ السَّمْعِ أَفْضَلُ ، لِأَنَّ بِهِ يُدْرَكُ الْفَهْمُ ، وَقَدْ ذَكَرَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ فَقَرَنَهُ بِذَهَابِ الْبَصَرِ ، لِأَنَّ بِذَهَابِ الْبَصَرِ فَقَدَ النَّظَرَ وَبِذَهَابِ السَّمْعِ فَقَدَ الْعَقْلَ ، فَقَالَ تَعَالَى فِي الْبَصَرِ : وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ [ يُونُسَ : 43 ] وَقَالَ فِي السَّمْعِ : وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ [ يُونُسَ : 42 ] .

فَصْلٌ : وَالسَّمْعُ لَا يُرَى فَيُرَى ذَهَابُهُ ، فَلَمْ يَكُنْ لِلْبَيِّنَةِ فِيهِ مَدْخَلٌ مَعَ التَّنَازُعِ ، وَلَكِنْ

لَهُ أَمَارَاتٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ يُعْلَمُ بِهَا وُجُودُهُ مِنْ عَدَمِهِ ، فَإِذَا ادَّعَى الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ ذَهَابَ سَمْعِهِ مقدار الدية فَلِلْجَانِي حَالَتَانِ : تَصْدِيقٌ ، وَتَكْذِيبٌ . فَإِنْ صَدَّقَهُ عَلَى ذَهَابِ سَمْعِهِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى الِاسْتِظْهَارِ بِالْأَمَارَاتِ ، وَسَأَلَ عَنْهُ عُدُولَ الطِّبِّ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ أَمْ لَا ؟ فَإِنْ نَفَوْا عَوْدَهُ حُكِمَ لَهُ بِالدِّيَةِ دُونَ الْقِصَاصِ لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَائِهِ وَإِنْ جَوَّزُوا عَوْدَهُ إِلَى مُدَّةٍ قَدَّرُوهَا وَجَبَ الِانْتِظَارُ بِالدِّيَةِ إِلَى انْقِضَاءِ تِلْكَ الْمُدَّةِ ، فَإِنْ عَادَ السَّمْعُ فِيهَا سَقَطَتِ الدِّيَةُ ، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ حَتَّى انْقَضَتِ اسْتَقَرَّ بِهَا ذَهَابُ السَّمْعِ ، وَاسْتَحَقَّ بِهَا دَفْعَ الدِّيَةِ ، وَإِنْ كَذَّبَ الْجَانِي عَلَى ذَهَابِ السَّمْعِ اعْتُبِرَ صِدْقُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ، لِتَعَذُّرِ الْبَيِّنَةِ فَفِيهِ بِالْأَمَارَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُتَغَفَّلَ ثُمَّ يُصَاحُ بِهِ بِأَزْعَجِ صَوْتٍ وَأَهْوَلِهِ يَتَضَمَّنُ إِنْذَارًا أَوْ تَحْذِيرًا ، فَإِنْ أُزْعِجَ بِهِ وَالْتَفَتَ لِأَجْلِهِ ، أَوْ أَجَابَ عَنْهُ دَلَّ عَلَى بَقَاءِ سَمْعِهِ ، فَصَارَ الظَّاهِرُ مَعَ الْجَانِي ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ الْجَانِي مَعَ يَمِينِهِ بِاللَّهِ أَنَّ سَمْعَهُ لَبَاقٍ مَا ذَهَبَ مِنْ جِنَايَتِهِ ، وَلَوِ اقْتَصَرَ فِي يَمِينِهِ عَلَى أَنَّهُ بَاقِي السَّمْعِ أَجْزَأَ ، وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى أَنَّ سَمْعَهُ مَا ذَهَبَ بِجِنَايَتِهِ لَمْ يُجْزِهِ ، لِأَنَّ الْحَلِفَ عَلَى ذَهَابِ السَّمْعِ وَبَقَائِهِ لَا ذَهَابِهِ بِجِنَايَةِ غَيْرِهِ ، وَإِنَّمَا حَلَفَ الْجَانِي مَعَ ظُهُورِ الْأَمَارَةِ فِي جِنَايَتِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ إِزْعَاجُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بِالصَّوْتِ بِالِاتِّفَاقِ ، وَإِنْ كَانَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عِنْدَ سَمَاعِ الْأَصْوَاتِ الْمُزْعِجَةِ فِي أَوْقَاتِ غَفَلَاتِهِ غَيْرُ مُنْزَعِجٍ بِهَا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى ذَهَابِ سَمْعِهِ ، فَصَارَ الظَّاهِرُ مَعَهُ ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ فِي ذَهَابِ سَمْعِهِ مِنْ جِنَايَتِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَقُلْ مِنْ جِنَايَتِهِ لَمْ يُحْكَمْ لَهُ بِالدِّيَةِ لِجَوَازِ ذَهَابِهِ بِغَيْرِ جِنَايَتِهِ ، وَلَزِمَهُ الْيَمِينُ مَعَ وُجُودِ الْأَمَارَاتِ فِي جِنَايَتِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَتَصَنَّعَ لَهَا بِذَهَابِهِ وَجَلَدِهِ ، وَلَا يُقْتَصَرُ بِهَذِهِ الْأَصْوَاتِ الْمُزْعِجَةِ عَلَى مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ لِجَوَازِ التَّصَنُّعِ ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ جِهَاتٍ وَفِي أَوْقَاتِ الْخَلَوَاتِ حَتَّى يَتَحَقَّقَ زَوَالَ السَّمْعِ بِهَا ، فَإِنَّ الطَّمَعَ يَظْهَرُ مِنْهَا فَيَزُولُ مَعَهُ التَّصَنُّعُ .

فَصْلٌ : وَإِذَا ادَّعَى الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ صَمَمَ إِحْدَى أُذُنَيْهِ مقدار الدية سُدَّتْ سَمِيعَتُهُ بِمَا يَمْنَعُ وُصُولَ الصَّوْتِ فِيهَا ، وَأُطْلِقَتْ ذَاتُ الْجِنَايَةِ ، وَأُزْعِجَ فِي غَفَلَاتِهِ بِالْأَصْوَاتِ الْهَائِلَةِ ، فَإِنِ انْزَعَجَ بِهَا كَانَ سَمْعُهُ بَاقِيًا بِظَاهِرِ الْأَمَارَةِ ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ فِي بَقَائِهِ قَوْلَ الْجَانِي مَعَ يَمِينِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَنْزَعِجْ بِهَا كَانَ سَمْعُهَا ذَاهِبًا بِظَاهِرِ الْأَمَارَةِ ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ فِي ذَهَابِهِ قَوْلَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مَعَ يَمِينِهِ ، وَيَكُونُ عَلَى الْجَانِي نِصْفُ الدِّيَةِ ، لِأَنَّهُ قَدْ أَذْهَبَ بِصَمِّهَا نِصْفَ مَنْفَعَةٍ ، فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ تَسْمَعُ الْأُخْرَى مَا كَانَ يُدْرِكُهُ بِهَا . قِيلَ : لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنَ الِاسْتِحْقَاقِ لِلدِّيَةِ وَإِنْ كَانَ الْإِدْرَاكُ بَاقِيًا ، كَمَا لَوْ أَذْهَبَ ضَوْءَ إِحْدَى عَيْنَيْهِ لَزِمَهُ دِيَتُهَا وَإِنْ كَانَ يُدْرِكُ بِالْبَاقِيَةِ مَا كَانَ يُدْرِكُهُ بِهِمَا .

فَصْلٌ : وَلَوِ ادَّعَى الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ وَقْرًا فِي إِحْدَى أُذُنَيْهِ ذَهَبَ بِهِ بَعْضُ سَمْعِهَا اعْتُبِرَ مَا ذَهَبَ مِنْ قَدْرِ سَمْعِهَا ، تُصَمُّ ذَاتُ الْجِنَايَةِ وَسَدَّهَا وَإِطْلَاقُ السَّلِيمَةِ ، وَأَنْ يُنَادَى مِنْ بُعْدٍ فَإِذَا سَمِعَ الصَّوْتَ بَعْدَ الْمُنَادِي حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى أَقْصَرِ غَايَةٍ يَسْمَعُ صَوْتَهُ فِيهَا ، ثُمَّ صُمَّتِ السَّمِيعَةُ وَفُتِحَتْ ذَاتُ الْجِنَايَةِ ، وَنُودِيَ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ بِمِثْلِ ذَلِكَ الصَّوْتِ ، فَإِنْ سَمِعَهُ كَانَ سَمْعُهُمَا بَاقِيًا بِحَالِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْهُ قَرُبَ الْمُنَادِي مِنْهُ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى حَيْثُ يَسْمَعُ صَوْتَهُ ، وَيُعْتَبَرُ مَا بَيْنَ الْمَسَافَتَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ دَفْعًا يَزُولُ مَعَهَا التَّصَنُّعُ وَيَتَّفِقُ فِيهَا النِّدَاءُ ، فَإِنِ اخْتَلَفَ عَمِلَ عَلَى أَقَلِّ الْوُجُوبِ ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَ مَسَافَتَيِ السَّمِيعَةِ وَذَاتِ الْوَقْرِ النِّصْفُ كَانَ عَلَيْهِ رُبْعُ الدِّيَةِ ، لِأَنَّهُ قَدْ أَذْهَبَ رُبْعَ سَمْعِهِ ، وَإِنْ كَانَ الثُّلُثُ كَانَ عَلَيْهِ سُدُسُ الدِّيَةِ .

فَصْلٌ : فَإِنِ ادَّعَى الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ وَقْرًا فِي أُذُنَيْهِ مَعًا ذَهَبَ بِهِ بَعْضُ سَمْعِهِ مِنْهَا ، فَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ مَدَى سَمَاعِهِ قَبْلَ وَقْتِ الْجِنَايَةِ ، اعْتُبِرَ مَدَى سَمَاعِهِ بَعْدَ الْجِنَايَةِ ، وَاسْتَحَقَّ مِنْ دِيَةِ السَّمْعِ بِقَدْرِ مَا بَيْنَ الْمَسَافَتَيْنِ مِنْ رُبُعٍ أَوْ ثُلُثٍ أَوْ نِصْفٍ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ مَدَى سَمَاعِهِ فِي حَالِ الصِّحَّةِ فَلَا سَبِيلَ إِلَى تَحْقِيقِ الْمُسْتَحَقِّ مِنَ الدِّيَةِ وَيُعْطَى فِي الذَّاهِبِ مِنْهُ حُكُومَةً يُقَدِّرُهَا الْحَاكِمُ بِاجْتِهَادِهِ . فَلَوْ قَالَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ : أَنَا أَعْرِفُ قَدْرَ مَا ذَهَبَ مِنْ سَمْعِي ، وَهُوَ النِّصْفُ ، أُحْلِفَ عَلَى دَعْوَاهُ وَحُكِمَ بِقَوْلِهِ ، لِأَنَّهُ لَا يُوصَلُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِ فَقُبِلَ قَوْلُهُ فِيهِ مَعَ يَمِينِهِ ، كَمَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ فِي حَيْضِهَا . وَلَوِ ادَّعَى الْجَانِي عَوْدَ السَّمْعِ بَعْدَ ذَهَابِهِ وَأَنْكَرَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَوْدَهُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ ، وَهُوَ عَلَى حَقِّهِ مِنَ الدِّيَةِ ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الْيَمِينِ فَلَا يَمِينَ لَهُ عَلَى الْوَرَثَةِ إِنْ لَمْ يَدَّعِ عِلْمَهُمْ ، وَإِنِ ادَّعَاهُ أَحْلَفَهُمْ بِاللَّهِ مَا يَعْلَمُونَ سَمِعَ بَعْدَ ذَهَابِ سَمْعِهِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا قَطَعَ أُذُنَيْهِ فَذَهَبَ بِقَطْعِهِمَا سَمْعُهُ لَزِمَتْهُ دِيَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : فِي الْأُذُنَيْنِ . وَالْأُخْرَى : فِي السَّمْعِ ، لِأَنَّهَا جِنَايَةٌ عَلَى مَحَلَّيْنِ فَصَارَتْ كَالْجِنَايَةِ عَلَى عُضْوَيْنِ ، وَخَالَفَ قَلْعَ الْعَيْنِ إِذَا ذَهَبَ ضَوْؤُهَا فَلَمْ تَلْزَمْهُ إِلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ ، لِأَنَّ مَحَلَّ الضَّوْءِ فِي الْعَيْنِ ، وَمَحَلَّ السَّمْعِ فِي غَيْرِ الْأُذُنِ ، وَلِذَلِكَ كَمُلَتِ الدِّيَةُ فِي أُذُنِ الْأَصَمِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ فِي ذَهَابِ الْعَقْلِ الدِّيَةُ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَفِي ذَهَابِ الْعَقْلِ الدِّيَةُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا جَنَى عَلَيْهِ فَأَذْهَبَ عَقْلَهُ مقدار الدية ضَمِنَهُ بِالدِّيَةِ دُونَ الْقَوَدِ ، وَإِنَّمَا سَقَطَ الْقَوَدُ مِنْهُ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : اخْتِلَافُ النَّاسِ فِي مَحَلِّهِ ، فَمِنْ طَائِفَةٍ تَقُولُ مَحَلُّهُ الدِّمَاغُ .

وَأُخْرَى تَقُولُ مَحَلُّهُ الْقَلْبُ . وَأُخْرَى تَقُولُ مُشْتَرَكٌ فِيهِمَا ، وَإِنْ كَانَ الْأَصَحُّ مِنْ أَقَاوِيلِهِمْ أَنَّ مَحَلَّهُ الْقَلْبُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى . فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا [ الْحَجِّ : 46 ] وَلِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الْعُلُومِ . وَالثَّانِي : تَعَذُّرُ اسْتِيفَائِهِ ، لِأَنَّهُ يَذْهَبُ بِيَسِيرِ الْجِنَايَةِ وَلَا يَذْهَبُ بِكَثِيرِهَا ، فَأَمَّا الدِّيَةُ فَوَاجِبَةٌ فِيهِ عَلَى كَمَالِهَا لِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي كِتَابِهِ إِلَى الْيَمَنِ فِي الْعَقْلِ الدِّيَةُ . وَرَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : فِي الْعَقْلِ الدِّيَةُ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ . وَقَضَى عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْمَشْجُوجِ رَأْسُهُ حِينَ ذَهَبَ بِهَا سَمْعُهُ وَعَقْلُهُ وَلِسَانُهُ وَذَكَرُهُ بِأَرْبَعِ دِيَاتٍ ، وَلِأَنَّ الْعَقْلَ أَشْرَفُ مِنْ حَوَاسِّ الْجَسَدِ كُلِّهَا لِامْتِيَازِهِ بِهِ مِنَ الْحَيَوَانِ الْبَهِيمِ ، وَفَرْقِهِ بِهِ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ ، وَتَوَصُّلِهِ بِهِ إِلَى اخْتِلَافِ الْمَنَافِعِ وَوَقْعِ الْمَضَارِّ ، وَتَعَلُّقِ التَّكْلِيفِ بِهِ ، فَكَانَ أَحَقَّ بِكَمَالِ الدِّيَةِ مِنْ جَمِيعِ الْحَوَاسِّ مَعَ تَأْثِيرِ ذَهَابِهِ فِيهَا وَفَقْدِ أَكْثَرِ مَنَافِعِهَا .

فَصْلٌ : إِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الدِّيَةِ بِذَهَابِ الْعَقْلِ فَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ فِي الْعَقْلِ الْغَرِيزِيِّ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّكْلِيفُ ، وَهُوَ الْعِلْمُ بِالْمُدْرِكَاتِ الضَّرُورِيَّةِ ، فَأَمَّا الْعَقْلُ الْمُكْتَسَبُ الَّذِي هُوَ حُسْنُ التَّقْدِيرِ وَإِصَابَةُ التَّدْبِيرِ وَمَعْرِفَةُ حَقَائِقِ الْأُمُورِ فَلَا دِيَةَ فِيهِ مَعَ بَقَاءِ الْعَقْلِ الْغَرِيزِيِّ ، وَفِيهِ حُكُومَةٌ ، لِمَا أَحْدَثَ مِنَ الدَّهَشِ بَعْدَ التَّيَقُّظِ ، وَالِاسْتِرْسَالِ بَعْدَ التَّحَفُّظِ ، وَالْغَفْلَةِ بَعْدَ الْفِطْنَةِ يُعْتَبَرُ بِحُكُومَتِهِ ، قَدْرُ مَا حَدَثَ مِنْ ضَرَرِهِ ، وَلَا يُبْلَغُ بِهِ كَمَالُ الدِّيَةِ ، لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِلْعَقْلِ الْغَرِيزِيِّ ، وَلَا يَتَبَعَّضُ الْعَقْلُ الْغَرِيزِيُّ فِي ذَاتِهِ ، لِأَنَّهُ مَحْدُودٌ بِمَا لَا يَتَجَزَّأُ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَذْهَبَ بَعْضُهُ وَيَبْقَى بَعْضُهُ ، وَلَكِنْ قَدْ يَتَبَعَّضُ زَمَانُهُ فَيَعْقِلُ يَوْمًا وَيُجَنُّ يَوْمًا ، فَإِنْ تَبَعَّضَ زَمَانُهُ بِالْجِنَايَةِ فَكَانَ يَوْمًا وَيَوْمًا لَزِمَ الْجَانِيَ عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ ، وَإِنْ كَانَ يَعْقِلُ فِي يَوْمٍ وَيُجَنُّ فِي يَوْمَيْنِ لَزِمَهُ ثُلُثَا دِيَتِهِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْجِنَايَةُ الَّتِي يَزُولُ بِهَا الْعَقْلُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ عَنْ مُبَاشَرَةٍ . وَالثَّانِي : عَنْ غَيْرِ مُبَاشِرَةٍ .

فَأَمَّا مَا كَانَ عَنْ مُبَاشَرَةٍ فَكَضَرْبَةِ سَيْفٍ أَوْ رَمْيَةٍ بِحَجَرٍ أَوْ قَرْعَةٍ بِعَصًا ، إِمَّا عَلَى رَأْسِهِ أَوْ مَا قَرُبَ مِنْ قَلْبِهِ ، فَإِذَا ذَهَبَ بِهَا الْعَقْلُ كَانَ عَنْ جِنَايَتِهِ ، سَوَاءٌ أَثَّرَ ذَلِكَ فِي جَسَدِهِ أَوْ لَمْ يُؤَثِّرْ ، وَكَذَلِكَ لَوْ لَطَمَهُ بِيَدِهِ ، أَوْ رَكَلَهُ بِرِجْلِهِ حَتَّى أَزْعَجَهُ بِرَكْلَتِهِ أَوْ لَطْمَتِهِ الَّتِي يَقُولُ عُلَمَاءُ الطِّبِّ : إِنَّ مِثْلَهَا يُذْهِبُ الْعَقْلَ كَانَ ذَاهِبًا عَنْ جِنَايَتِهِ وَمَأْخُوذًا بِدِيَتِهِ ، وَأَمَّا مَا كَانَ عَنْ غَيْرِ مُبَاشَرَةٍ فَكَالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ بِسَيْفٍ أَوْ تَقْرِيبِ سَبُعٍ أَوْ إِدْنَاءِ أَفْعَى فَيُذْعَرُ مِنْهُ فَيَزُولُ عَقْلُهُ بِهِ فَيُعْتَبَرُ حَالُهُ فَإِنْ كَانَ طِفْلًا أَوْ مَضْعُوفًا مَذْعُورًا فَذَلِكَ مُزِيلٌ لِعَقْلِ مِثْلِهِ فَيُؤْخَذُ بِدِيَتِهِ أَوْ إِنْ كَانَ قَوِيَّ النَّفْسِ ثَابِتَ الْجَأْشِ فَعَقْلُ مِثْلِهِ لَا يَزُولُ بِهَذَا التَّفْزِيعِ فَلَا دِيَةَ فِيهِ ، وَهَكَذَا إِنْ زَعَقَ عَلَيْهِ بِصَوْتٍ مُهَوَّلٍ فَزَالَ عَقْلُهُ كَانَ مُعْتَبَرًا بِحَالِهِ فِي قُوَّةِ جَأْشِهِ أَوْ ذُعْرِهِ ، فَلَا تَلْزَمُهُ الدِّيَةُ فِي ذِي الْجَأْشِ وَتَلْزَمُهُ فِي الْمَذْعُورِ ، فَأَمَّا إِنْ أَخْبَرَهُ مُصِيبَةً حَزِنَ لَهَا فَزَالَ عَقْلُهُ أَوْ أَخْبَرَهُ بِمَسَرَّةٍ فَرِحَ بِهَا فَزَالَ عَقْلُهُ لِحُدُوثِ زَوَالِهِ عَنْ فَرَحٍ وَحُزْنٍ أَحْدَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا زَالَ عَقْلُهُ بِجِنَايَةِ مُبَاشَرَةٍ فَلَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ أَنْ يُوجِبَ غُرْمًا سِوَى دِيَةِ الْعَقْلِ أَوْ لَا يُوجِبُ ، فَإِنْ لَمْ يُوجِبْ سِوَى دِيَةِ الْعَقْلِ غُرْمًا كَاللَّطْمَةِ وَاللَّكْمَةِ وَمَا لَا يُؤَثِّرُ مِنَ الْخَشَبِ وَالْمُثْقَلِ فِي الْجَسَدِ غَيْرَ الْأَلَمِ فَتَسْتَقِرُّ بِهَا دِيَةُ الْعَقْلِ ، وَيَكُونُ مَا عَدَاهُ مِنْ أَلَمِ الضَّرْبِ هَدَرًا ، وَهَلْ يُعَزَّرُ بِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُعَزَّرُ لِإِيجَابِهِ دِيَةَ الْعَقْلِ ، وَغُرْمُهَا أَغْلَظُ مِنَ التَّعْزِيرِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُعَزَّرُ ، لِأَنَّ غُرْمَ الدِّيَةِ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْأَلَمِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَخْلُوَ مِنْ تَعْزِيرٍ إِذَا خَلَا مِنْ غُرْمٍ . وَإِنْ أَوْجَبَتِ الْجِنَايَةُ غُرْمًا سِوَى دِيَةِ الْعَقْلِ مِنْ مُقَدَّرٍ أَوْ غَيْرِ مُقَدَّرٍ فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّهُ إِنْ كَانَ مَا وَجَبَ بِالْجِنَايَةِ أَقَلَّ مِنْ دِيَةِ الْعَقْلِ كَالْمُوضِحَةِ وَالْمَأْمُومَةِ ، أَوْ قَطَعَ إِحْدَى الْأُذُنَيْنِ - دَخَلَ ذَلِكَ فِي دِيَةِ الْعَقْلِ ، وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْهَا ، وَإِنْ كَانَ مُوجِبًا مِنَ الدِّيَةِ ، لِقِطْعِ الْأُذُنَيْنِ وَجَدْعِ الْأَنْفِ ، دَخَلَتْ فِيهِ دِيَةُ الْعَقْلِ وَأَخَذَ بِدِيَةِ الْأُذُنَيْنِ وَالْأَنْفِ لِيَكُونَ الْأَقَلُّ دَاخِلًا فِي الْأَكْثَرِ ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ زَوَالَ الْعَقْلِ مُسْقِطٌ لِلتَّكْلِيفِ فَأَشْبَهَ الْمَوْتَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ وَهُوَ الْأَصَحُّ : أَنَّ دِيَةَ الْعَقْلِ لَا تَسْقُطُ بِمَا عَدَاهَا ، وَلَا يَسْقُطُ بِهَا مَا عَدَاهَا ، سَوَاءٌ كَانَ مَا وَجَبَ بِالْجِنَايَةِ أَقَلَّ مِنْ دِيَةِ الْعَقْلِ كَالْمَأْمُومَةِ ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ ثُلُثُ الدِّيَةِ فِي الْمَأْمُومَةِ وَجَمِيعُ الدِّيَةِ فِي الْعَقْلِ ، أَوْ كَانَ مَا وَجَبَ بِالْجِنَايَةِ أَكَثَرَ مِنْ دِيَةِ الْعَقْلِ كَالْأُذُنَيْنِ وَالْأَنْفِ ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ ثَلَاثُ دِيَاتٍ وَاحِدَةٌ فِي الْعَقْلِ ، وَثَانِيَةٌ فِي الْأُذُنَيْنِ ، وَثَالِثَةٌ فِي الْأَنْفِ ، لِرِوَايَةِ أَبِي الْمُهَلَّبِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ

قَضَى عَلَى رَجُلٍ رَمَى رَجُلًا بِخِنْجَرٍ فِي رَأْسِهِ فَأَذْهَبَ عَقْلَهُ وَسَمْعَهُ وَلِسَانَهُ وَذَكَرَهُ بِأَرْبَعِ دِيَاتٍ ، وَلِأَنَّ مَا اخْتُلِفَ مَحَلُّهُ لَا يَتَدَاخَلُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ كَالْأَطْرَافِ ، وَلِأَنَّ الْعَقْلَ عَرَضٌ يَخْتَصُّ بِمَحَلٍّ مَخْصُوصٍ فَلَمْ يَتَدَاخَلْ فِيهِ أَرْشُ الْجِنَايَاتِ كَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ لِرِوَايَةِ عَلِيٍّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : فِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ وَلِأَنَّهُمَا مِنْ أَعْظَمِ الْجَوَارِحِ نَفْعًا وَأَجَلِّ الْجَوَارِحِ قَدْرًا ، فَكَانَا بِإِيجَابِ الدِّيَةِ أَحَقَّ ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الصَّغِيرَةُ وَالْكَبِيرَةُ ، وَالْحَادَّةُ وَالْكَلِيلَةُ ، وَالصَّحِيحَةُ وَالْعَلِيلَةُ ، وَالْعَمْشَاءُ وَالْعَشْوَاءُ ، وَالْحَوْلَاءُ ، إِذَا كَانَ الْبَاطِنُ سَلِيمًا ، كَمَا لَا تَخْتَلِفُ دِيَاتُ الْأَطْرَافِ مَعَ اخْتِلَافِ أَوْصَافِهَا ، وَفِي إِحْدَى الْعَيْنَيْنِ مقدار الدية نِصْفُ الدِّيَةِ ، لِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي كِتَابِهِ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ : وَفِي الْعَيْنَيْنِ خَمْسُونَ مِنَ الْإِبِلِ قَالَ الشَّافِعِيُّ : أَرَادَ الْعَيْنَ الْوَاحِدَةَ . وَرَوَى مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : وَفِي إِحْدَى الْعَيْنَيْنِ نِصْفُ الدِّيَةِ وَلِأَنَّ كُلَّ دِيَةٍ وَجَبَتْ فِي عُضْوَيْنِ وَجَبَ نِصْفُهَا فِي أَحَدِ الْعُضْوَيْنِ كَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ ، وَلَا فَضْلَ لِيُمْنَى عَلَى يُسْرَى ، وَلَا لِصَحِيحَةٍ عَلَى مَرِيضَةٍ .

مَسْأَلَةٌ فِي ذَهَابِ البَصَرِ الدِّيَةُ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَفِي ذَهَابِ بَصَرِهِمَا الدِّيَةُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا جَنَى عَلَى عَيْنَيْهِ فَأَذْهَبَ بَصَرَهُمَا مَعَ بَقَاءِ الْحَدَقَةِ مقدار الدية وَجَبَتْ عَلَيْهِ الدِّيَةُ ، لِرِوَايَةِ مُعَاذٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : وَفِي الْبَصَرِ الدِّيَةُ وَلِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْعَيْنِ بِنَاظِرِهَا كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ : وَمَا انْتِفَاعُ أَخِي الدُّنْيَا بِمُقْلَتِهِ إِذَا اسْتَوَتْ عِنْدَهُ الْأَنْوَارُ وَالظُّلَمُ وَإِذَا سَلَبَهَا مَنْفَعَتَهَا كَمُلَتْ عَلَيْهِ دِيَتُهَا كَالشَّلَلِ فِي الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ ، فَإِنْ عَادَ بَعْدَ ذَهَابِ الْبَصَرِ فَقَلَعَ الْعَيْنَ فَعَلَيْهِ حُكُومَةٌ ، كَمَا لَوْ أَشَلَّ يَدَهُ فَغَرِمَ دِيَتَهَا ثُمَّ عَادَ بَعْدَ الشَّلَلِ فَقَطَعَهَا لَزِمَهُ حُكُومَتُهَا ، وَلَوْ قَطَعَهَا ابْتِدَاءً لَمْ تَلْزَمْهُ إِلَّا دِيَتُهَا ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْفَرْقَ بَيْنَ قَطْعِ الْأُذُنَيْنِ فَيَذْهَبُ بِهِمَا السَّمْعُ فَتَلْزَمُهُ دِيَتَانِ ، وَبَيْنَ قَلْعِ الْعَيْنَيْنِ فَيَذْهَبُ بِهِمَا الْبَصَرُ فَيَلْزَمُهُ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ بِأَنَّ مَحَلَّ السَّمْعِ فِي غَيْرِ الْأُذُنَيْنِ فَلَمْ تَسْقُطْ إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى ، وَمَحَلَّ الْبَصَرِ فِي الْعَيْنِ ، وَيَلْحَقُ بِالْأُذُنَيْنِ ذَهَابُ الشَّمِّ بِجَدْعِ الْأَنْفِ فَتَلْزَمُهُ دِيَتَانِ ، وَيَلْحَقُ بِالْعَيْنِ ذَهَابُ الْكَلَامِ بِقَطْعِ اللِّسَانِ فَتَلْزَمُهُ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ فِي ذَهَابِ الْبَصَرِ الدِّيَةَ نُظِرَ : فَإِنْ مُحِقَ ذَهَابُ الْبَصَرِ كَانَ الْمَحْقُ مِنْ شَوَاهِدِ ذَهَابِهِ الَّذِي يَقْطَعُ التَّنَازُعَ فِيهِ ، كَمَا لَوِ اسْتَأْصَلَ عَيْنَهُ فَفَقَأَهَا ، وَهُوَ مَا

يَئِسَ مِنْ عَوْدِهِ فَنَقْضِي فِيهِ بِالْقَوَدِ فِي الْعَمْدِ وَالدِّيَةِ فِي الْخَطَأِ وَإِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ ظَاهِرَةً لَمْ تَمْحَقْهَا الْجِنَايَةُ ، فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَذْهَبَ بَصَرُهَا مَعَ بَقَائِهَا عَلَى صُورَتِهَا فَيُوقَفُ عُلَمَاءُ الطِّبِّ عَلَيْهَا فَلَا يَخْلُو حَالُهُمْ فِيهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُمْ مِنْهَا عِلْمٌ أَوْ لَا يَكُونَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ مِنْهَا عِلْمٌ لِإِشْكَالِهَا وَتَجْوِيزِهِمْ أَنْ يَكُونَ بَصَرُهَا ذَاهِبًا وَبَاقِيًا عَمِلْنَا عَلَى قَوْلِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ دُونَ الْجَانِي ، لِأَنَّ ذَهَابَ بَصَرِهَا لَا يُعْلَمُ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِ ، فَجُعِلَ الْقَوْلُ فِيهَا قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ بَعْدَ الِاسْتِظْهَارِ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ بَالِغًا عَاقِلًا بِأَنْ يُسْتَقْبَلَ فِي أَوْقَاتِ غَفَلَاتِهِ بِمَا يُزْعِجُ الْبَصِيرَ رُؤْيَتُهُ ، وَيُشَارُ إِلَى عَيْنِهِ بِمَا يَتَوَقَّاهُ الْبَصِيرُ بِإِغْمَاضِهَا وَيُؤْمَرُ بِالْمَشْيِ فِي طَرِيقِ الْخَطَائِرِ وَالْآبَارِ وَمَعَهُ مَنْ يَحُولُهُ مِنْهَا وَهُوَ لَا يَشْعُرُ ، فَإِذَا دَلَّتْ أَحْوَالُهُ بِأَنْ لَا يُطْبِقَ طَرْفَهُ بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ وَلَا يَتَوَقَّى بِئْرًا إِنْ كَانَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ صَارَ ذَلِكَ مِنْ شَوَاهِدِ صِدْقِهِ ، فَيَحْلِفُ مَعَ ذَلِكَ لِجَوَازِ تَصَنُّعِهِ فِيهِ ، وَنَقْضِي لَهُ بَعْدَ يَمِينِهِ بِالْقَوَدِ فِي الْعَمْدِ وَالدِّيَةِ فِي الْخَطَأِ ، وَإِنْ كَانَ يُطْبِقُ طَرْفَهُ عِنْدَ الْإِشَارَةِ وَيَتَوَقَّى بِئْرًا إِنْ كَانَتْ وَيَعْدِلُ عَنْ حَائِطٍ إِنْ لَقِيَهُ صَارَتْ شَوَاهِدُ هَذَا الظَّاهِرِ مُنَافِيَةً لِدَعْوَاهُ ، فَانْتَقَلَ الظَّاهِرُ إِلَى جَنَبَةِ الْجَانِي ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ بِاللَّهِ إِنَّ بَصَرَهُ لَبَاقٍ لَمْ يَذْهَبْ ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ تَحَرُّزُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بِالِاتِّفَاقِ ، فَاسْتَظْهَرَ لَهُ بِالْيَمِينِ ، فَإِنْ كَانَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا لَمْ يُرْجَعْ إِلَى قَوْلِهِمَا وَلَمْ يُقْبَلْ دَعْوَاهُمَا ، لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لَهُمَا ، وَوُقِفَ أَمْرُهُمَا إِلَى وَقْتِ الْبُلُوغِ وَالْإِفَاقَةِ بَعْدَ حَبْسِ الْجَانِي لِيَرْجِعَ إِلَى قَوْلِهِمَا إِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ وَأَفَاقَ الْمَجْنُونُ أَوْ يَمُوتَانِ فَيَقُومُ مَقَامَهُمَا فِيمَا يَدَّعِيَانِهِ مِنْ ذَهَابِ الْبَصَرِ وَإِحْلَافِهِمَا عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مَعَهُمَا ظَاهِرٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ عِنْدَ عُلَمَاءِ الطِّبِّ مِنْ حَالِ الْعَيْنِ والحكم في الجناية عليها فَلَا يَخْلُو عِلْمُهُمْ بِهَا مِنْ أَحَدِ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَشْهَدَ عُدُولُهُمْ بِبَقَاءِ بَصَرِهَا فِي الْحَالِ وَفِي ثَانِي الْحَالِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَشْهَدُوا بِبَقَائِهِ فِي الْحَالِ وَجَوَازِ ذَهَابِهِ فِي ثَانِي حَالٍ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَشْهَدُوا بِذَهَابِهِ فِي الْحَالِ وَفِي ثَانِي حَالٍ . وَالرَّابِعُ : أَنْ يَشْهَدُوا بِذَهَابِهِ فِي الْحَالِ وَجَوَازِ عَوْدِهِ فِي ثَانِي حَالٍ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : إِذَا شَهِدُوا بِبَقَاءِ الْبَصَرِ فِي الْحَالِ وَمَا بَعْدَهَا حُكِمَ بِشَهَادَةِ عَدْلَيْنِ مِنْهُمْ ، فَبَرِئَ الْجَانِي مِنَ الْقَوَدِ وَالدِّيَةِ ، وَنُظِرَ فِي الْجِنَايَةِ فَإِنْ كَانَ لَهَا أَثَرٌ يُوجِبُ حُكُومَةً غَرِمَهَا وَلَمْ يُعَزَّرْ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَثَرٌ عُزِّرَ أَدَبًا وَلَمْ يُغَرَّمْ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : إِذَا شَهِدُوا بِبَقَاءِ بَصَرِهِ فِي حَالٍ وَجَوَازِ ذَهَابِهِ فِي ثَانِي حَالٍ لَمْ

يَخْلُ حَالُ تَجْوِيزِهِمْ لِذَهَابِهِ مِنْ أَنْ يُقَدِّرُوهُ بِمُدَّةٍ أَوْ لَا يُقَدِّرُوهُ فَإِنْ قَدَّرُوهُ بِمُدَّةٍ فَقَالُوا : يَجُوزُ أَنْ يَذْهَبَ سَنَةً وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَذْهَبَ بَعْدَهَا ، فَإِنْ ذَهَبَ فِيهَا وَإِلَّا فَقَدَ سَلِمَ مِنْهَا عُمِلَ عَلَى شَهَادَتِهِمْ ، وَوُقِفَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ سَنَةً فَإِنْ ذَهَبَ بَصَرُهُ فِيهَا كَانَ الْجَانِي مَأْخُوذًا بِالْقَوَدِ فِي الْعَمْدِ وَالدِّيَةِ فِي الْخَطَأِ ، وَإِنْ ذَهَبَ بَصَرُهُ بَعْدَهَا فَلَا شَيْءَ عَلَى الْجَانِي ، وَيُؤْخَذُ بِالْحُكُومَةِ إِذَا كَانَ لِجِنَايَتِهِ أَثَرٌ ، وَلَا يُعَزَّرُ وَلَا حُكُومَةَ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَثَرٌ وَيُعَزَّرُ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ جَنَى عَلَى عَيْنِهِ آخَرُ فَفَقَأَهَا قَبْلَ ذَهَابِ بَصَرِهِ كَانَ الثَّانِي هُوَ الْمَأْخُوذَ فِيهَا بِالْقَوَدِ وَالدِّيَةِ دُونَ الْأَوَّلِ ، سَوَاءٌ فَقَأَهَا قَبْلَ السَّنَةِ أَوْ بَعْدَهَا ، لِأَنَّهُ جَنَى وَالْبَصَرُ بَاقٍ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : إِذَا شَهِدُوا بِذَهَابِ بَصَرِهِ فِي الْحَالِ وَمَا بَعْدَهَا فَيُحْكَمُ لَهُ بِالْقَوَدِ فِي الْعَبْدِ إِذَا شَهِدَ مِنْ عُدُولِهِمْ رَجُلَانِ ، وَبِالدِّيَةِ فِي الْخَطَأِ إِذَا شَهِدَ مِنْهُمْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ ، فَلَوْ عَادَ بَصَرُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ قُضِي لَهُ بِالدِّيَةِ أَوِ الْقَوَدِ فَالْمَذْهَبُ أَنْ لَا دَرْكَ عَلَيْهِ بِعَوْدِهَا فِيمَا قُضِيَ لَهُ مِنْ قَوَدِهَا أَوْ دِيَتِهَا ، لِأَنَّ عَوْدَهَا بِهَا مِنْ عَطَايَا اللَّهِ تَعَالَى وَهِبَاتِهِ ، وَلِلشَّافِعِيِّ فِي سِنِّ الْمَثْغُورِ إِذَا قُلِعَتْ وَاقْتُصَّ مِنْهَا أَوْ أُخِذَ دِيَتُهَا ثُمَّ عَادَتْ فَيَثْبُتُ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَلْزَمُهُ رَدُّ دِيَتِهَا ، فَعَلَى هَذَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَخْرِيجِهِ فِي الْعَيْنِ إِذَا عَادَ بَصَرُهَا هَلْ يَلْزَمُهُ رَدُّ دِيَتِهَا أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَلْزَمُهُ رَدُّهَا إِذَا عَادَ بَصَرُهَا كَمَا يَلْزَمُهُ رَدُّهَا فِي السِّنِّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَلْزَمُهُ رَدُّ الدِّيَةِ بِعَوْدِ الْبَصَرِ ، وَيَلْزَمُهُ رَدُّهَا بِعَوْدِ السِّنِّ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ عَوْدَ السِّنِّ مَعْهُودٌ فِي جِنْسِهِ وَعَوْدُ الْبَصَرِ غَيْرُ مَعْهُودٍ فِي جِنْسِهِ فَاخْتَلَفَا فِي الرَّدِّ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي مَعْهُودِ الْعَوْدِ ، وَعَلَى هَذَا لَوِ اقْتُصَّ مِنْ بَصَرِ الْجَانِي فَعَادَ بَصَرُهُ بَعْدَ الْقِصَاصِ لَمْ يُؤْخَذْ بِذَهَابِهِ ثَانِيَةً عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ ، وَهَلْ يُؤْخَذُ بِهِ عَلَى الْقَوْلِ الْمُخَرَّجِ فِي السِّنِّ أَمْ لَا ؟ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ لَا يُؤْخَذُ بِهِ فِي أَحَدِهِمَا وَيُؤْخَذُ بِهِ فِي الْوَجْهِ الْآخَرِ وَيُقْتَصُّ مِنْهُ ثَانِيَةً ، فَإِنْ عَادَ بَعْدَهَا اقْتُصَّ مِنْهُ أَبَدًا حَتَّى يَذْهَبَ فَلَا يَعُودَ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : إِذَا شَهِدُوا بِذَهَابِ بَصَرِهِ فِي الْحَالِ وَجَوَازِ عَوْدِهِ فِي ثَانِي حَالٍ فَلَا يَخْلُو حَالُهُمْ فِيهِ مِنْ أَنْ يُقَدِّرُوا زَمَانَ عَوْدِهِ أَوْ لَا يُقَدِّرُوا ، فَإِنْ لَمْ يُقَدِّرُوا وَقَالُوا : يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْأَبَدِ إِلَى وَقْتِ الْمَوْتِ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ وَلَا إِيَاسٍ لَمْ تُوجِبْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ تَوَقُّفًا عَنِ الْقِصَاصِ أَوِ الدِّيَةِ ، وَأُخِذَ الْجَانِي بِهِمَا فِي الْحَالِ ، لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ مَانِعٌ مِنْ تَعْلِيقِهِ بِشَرْطٍ يُفْضِي ثُبُوتُهُ إِلَى سُقُوطِهِ . وَإِنْ قَدَّرُوا الْمُدَّةَ وَقَالُوا : يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى سَنَةٍ إِنْ كَانَ مِنْ ظُلْمَةٍ غَطَّتِ الْبَاطِنَ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ بَعْدَهَا ، لِأَنَّهُ مِنْ ذَهَابِ الْبَاطِنِ حُبِسَ الْجَانِي ، وَوُقِفَ الْبَصَرُ إِلَى

سَنَةٍ ، فَإِنْ عَادَ فِيهَا بَرِئَ الْجَانِي مِنَ الْقَوَدِ وَالدِّيَةِ ، وَكَانَ مَأْخُوذًا بِحُكُومَةِ الْجِنَايَةِ إِنْ أَثَّرَتْ ، وَلَمْ يُعَزَّرْ ، وَإِنْ لَمْ تُؤَثِّرْ عُزِّرَ وَلَمْ يُغَرَّمْ ، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ فِي السَّنَةِ حَتَّى انْقَضَّتْ أُخِذَ الْجَانِي بِالْقَوَدِ فِي الْعَمْدِ وَالدِّيَةِ فِي الْخَطَأِ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ جَنَى عَلَيْهِ قَبْلَ انْقِضَاءِ السَّنَةِ آخَرُ فَفَقَأَ عَيْنَهُ فَدِيَةُ الْبَصَرِ وَالْقَوَدِ فِيهِ عَلَى الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي ، لِأَنَّهُ ذَهَبَ بِجِنَايَةِ الْأَوَّلِ وَلَمْ يَعُدْ عِنْدَ جِنَايَةِ الثَّانِي ، فَلَوِ اخْتَلَفَ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي ، فَقَالَ الْأَوَّلُ : عَادَ الْبَصَرُ قَبْلَ جِنَايَتِكَ فَأَنْتَ الْمَأْخُوذُ بِالْقَوَدِ فِيهِ أَوِ الدِّيَةِ دُونِي . وَقَالَ الثَّانِي : بَلْ كَانَ الْبَصَرُ عِنْدَ جِنَايَتِي عَلَى ذَهَابِهِ فَأَنْتَ الْمَأْخُوذُ فِيهِ بِالْقَوَدِ أَوِ الدِّيَةِ دُونِي ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الثَّانِي مَعَ يَمِينِهِ دُونَ الْأَوَّلِ ، لِأَنَّنَا عَلَى يَقِينٍ مِنْ ذَهَابِهِ وَفِي شَكٍّ مِنْ عَوْدِهِ . فَإِنِ ادَّعَيَا عِلْمَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ إِنْ أَجَابَ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يُصَدِّقَ الْأَوَّلَ أَوِ الثَّانِيَ ، فَإِنْ صَدَّقَ الثَّانِيَ أَنَّ بَصَرَهُ لَمْ يَعُدْ حَلَفَ لِلْأَوَّلِ وَإِنْ طَلَبَ يَمِينَهُ ، وَقُضِيَ عَلَيْهِ بِالْقَوَدِ أَوِ الدِّيَةِ . وَإِنْ صَدَّقَ الْأَوَّلَ أَنَّ بَصَرَهُ عَادَ قَبْلَ جِنَايَةِ الثَّانِي بَرِئَ الْأَوَّلُ مِنَ الْقَوَدِ وَالدِّيَةِ بِتَصْدِيقِهِ ، وَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عَلَى الثَّانِي ، وَصَارَتْ عَيْنُهُ هَدَرًا ، لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَأْنَفَ بِتَصْدِيقِ الْأَوَّلِ دَعْوَى عَلَى الثَّانِي ، وَشَهَادَةً لِلْأَوَّلِ فَلَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهُ عَلَى الثَّانِي ، وَلَمْ يُسْتَمَعْ شَهَادَتُهُ لِلْأَوَّلِ لِمَا فِيهَا مِنِ اجْتِلَابِ النَّفْعِ ، وَلَوْ لَمْ يَجْنِ عَلَيْهِ ثَانٍ وَلَكِنْ مَاتَ قَبْلَ انْقِضَاءِ السَّنَةِ كَانَ الْجَانِي مَأْخُوذًا بِالْقَوَدِ وَالدِّيَةِ ، لِأَنَّهُ أَذْهَبَ بَصَرًا لَمْ يَعُدْ ، وَفِي سِنِّ مَنْ لَمْ يَثَّغِرْ إِذَا قُلِعَتْ فُقِدَ عَوْدُهَا إِلَى مُدَّةٍ مَاتَ قَبْلَهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ عَوْدُهَا فِي الْمُدَّةِ لَوْ عَاشَ إِلَيْهَا ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَخْرِيجِهِ فِي الْعَيْنِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَجِيءُ تَخْرِيجُ قَوْلٍ ثَانٍ فِي الْعَيْنِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْقَوَدُ وَلَا الدِّيَةُ وَتَلْزَمُهُ حُكُومَةٌ كَمَوْتِهِ فِي مُدَّةِ السِّنِّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجِيءُ تَخْرِيجُ هَذَا الْقَوْلِ فِي الْعَيْنِ وَإِنْ خُرِّجَ فِي السِّنِّ ، لِمَا قَدَّمْنَا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ السِّنِّ وَالْعَيْنِ ، فَلَوِ اخْتَلَفَ الْجَانِي وَوَلِيُّهُ بَعْدَ مَوْتِهِ ، فَقَالَ الْجَانِي : عَادَ بَصَرُهُ قَبْلَ الْمَوْتِ ، وَقَالَ الْوَلِيُّ : لَمْ يَعُدْ ،

فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَلِيِّ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّ بَصَرَهُ لَمْ يَعُدْ ، وَيَكُونُ الْجَانِي مَأْخُوذًا بِالْقَوَدِ أَوِ الدِّيَةِ ، فَإِنْ نَكَلَ الْوَلِيُّ حَلَفَ الْجَانِي وَبَرِئَ مِنْهُمَا ، وَلَوْ لَمْ يَذْهَبْ بَصَرُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فِي حَالِ الْجِنَايَةِ وَذَهَبَ بَعْدَهَا نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَزَلْ عَلِيلَ الْعَيْنِ أَوْ شَدِيدَ الْأَلَمِ إِلَى أَنْ ذَهَبَ بَصَرُهُ فَالظَّاهِرُ ذَهَابُهُ مِنَ الْجِنَايَةِ فَيَكُونُ الْجَانِي مَأْخُوذًا بِالْقَوَدِ فِيهِ أَوِ الدِّيَةِ كَالْمَجْرُوحِ إِذَا لَمْ يَزَلْ صَبِيًّا حَتَّى مَاتَ . وَإِنْ بَرَأَتْ عَيْنُهُ وَزَالَ أَلَمُهَا ثُمَّ ذَهَبَ بَصَرُهَا كَانَ ذَاهِبًا مِنْ غَيْرِ الْجِنَايَةِ فِي الظَّاهِرِ ، فَلَا يَلْزَمُهُ قَوَدٌ وَلَا دِيَةٌ ، وَلِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ الْإِحْلَافُ بِاللَّهِ لَقَدْ ذَهَبَ الْبَصَرُ مِنْ غَيْرِ جِنَايَةٍ إِنِ ادَّعَى ذَهَابَهُ مِنْهَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : فَإِنْ نَقَصَتْ إِحْدَاهُمَا عَنِ الْأُخْرَى اخْتَبَرْتُهُ بِأَنْ أَعْصِبَ عَيْنَهُ الْعَلِيلَةَ وَأُطْلِقَ الصَّحِيحَةَ وَأَنْصُبَ لَهُ شَخْصًا عَلَى رَبْوَةٍ أَوْ مُسْتَوًى فَإِذَا أَثْبَتَهُ بَعَّدْتُهُ حَتَّى يَنْتَهِيَ بَصَرُهَا ثَمَّ أَذْرَعُ بَيْنَهُمَا وَأُعْطِيهِ عَلَى قَدْرِ مَا نَقَصَتْ عَنِ الصَّحِيحَةِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا : أَنْ يَجْنِيَ عَلَى إِحْدَى عَيْنَيْهِ فَيَذْهَبُ بِبَعْضِ بَصَرِهَا ، فَيُمْكِنُ أَنْ يُخْتَبَرَ قَدْرُ الذَّاهِبِ مِنْهَا بِمَا وَصَفَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ تَعْصِيبِ عَيْنِهِ الْعَلِيلَةِ وَإِطْلَاقِ الصَّحِيحَةِ ، وَنَصْبِ شَخْصٍ لَهُ مِنْ بُعْدٍ عَلَى رَبْوَةٍ مُرْتَفِعَةٍ أَوْ فِي أَرْضٍ مُسْتَوِيَةٍ ، فَإِذَا رَأَى الشَّخْصَ بُوعِدَ مِنْهُ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى أَبْعَدِ مَدَى رُؤْيَتِهِ الَّذِي لَا يَرَاهُ بَعْدَهَا ، وَاخْتُبِرَ صِدْقُهُ فِي مَدَى الرُّؤْيَةِ بِالصَّحِيحَةِ بِأَنْ يُعَادَ الشَّخْصُ مِنْ جِهَاتٍ شَتَّى ، وَلَوْ ضُمَّ إِلَى الشَّخْصِ بَعْدَ مَدَى رُؤْيَتِهِ شَخْصٌ آخَرُ يُخْتَبَرُ بِهِ صِدْقُهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهِ كَانَ أَحْوَطَ ، لِأَنَّ قَصْدَهُ بُعْدَ مَدَى الْبَصَرِ بِالْعَيْنِ الصَّحِيحَةِ ، فَإِذَا أَوْثَقَ بِمَا قَالَهُ مِنْ هَذَا الِاخْتِبَارِ الَّذِي لَمْ يَخْتَلِفْ مَدَى الْبَصَرِ فِيهِ بِاخْتِلَافِ الْجِهَاتِ وَاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ مَسَحَ قَدْرَ الْمَسَافَةِ ، فَإِذَا كَانَتْ أَلْفَ ذِرَاعٍ عُلِمَ أَنَّهُ قَدْرُ مَدَى بَصَرِهِ مَعَ الصَّحِيحَةِ ، وَإِنِ اخْتَلَفَ عَمِلَ عَلَى الْأَقَلِّ احْتِيَاطًا ثُمَّ أُطْلِقَتِ الْعَلِيلَةُ الصَّحِيحَةُ ، فَإِنْ رَأَى الشَّخْصَ مِنْ مَدَاهُ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ مِنْ بَصَرِ الْعَلِيلَةِ شَيْءٌ ، وَإِنْ لَمْ يَرَهُ قَرِّبَ مِنْهُ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى حَدٍّ يَرَاهُ ، وَغَرَضُهُ فِي هَذَا تَقْلِيلُ هَدَفِ بَصَرِهِ بِالْعَلِيلَةِ كَمَا كَانَ غَرَضُهُ تَبْعِيدَ مَدَى بَصَرِهِ بِالصَّحِيحَةِ لِيَكُونَ نُقْصَانُ مَا بَيْنَ الْبَصَرَيْنِ أَكْثَرَ فَيَكُونُ أَكْثَرَ فِيمَا تَسْتَحِقُّهُ مِنَ الدِّيَةِ ، فَيَسْتَظْهِرُ عَلَيْهِ بِإِعَادَةِ الشَّخْصِ مِنْ جِهَاتٍ ، وَيُحْتَسَبُ بِأَكْثَرَ مِمَّا قَالَهُ مِنْ مَدَى بَصَرِهِ بِالْعَلِيلَةِ كَمَا احْتُسِبَ بِأَقَلِّ مَا قَالَهُ مِنْ مَدَى بَصَرِهِ بِالصَّحِيحَةِ حَتَّى يَكُونَ أَقَلَّ لِمَا يَسْتَحِقُّهُ لِيَشُكَّ فِيمَا زَادَ عَلَيْهِ بِالتَّصَنُّعِ لَهُ ،

وَيُنْظَرُ قَدْرَ مَسَافَةِ الْعَلِيلَةِ ، فَإِنْ كَانَ خَمْسَمِائَةِ ذِرَاعٍ مِنْ أَلْفٍ كَانَ الذَّاهِبُ مِنْ بَصَرِهَا النِّصْفَ ، فَيُؤْخَذُ بِرُبُعِ الدِّيَةِ ، لِأَنَّهُ نِصْفُ دِيَةِ إِحْدَى الْعَيْنَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ ذِرَاعٍ مِنْ أَلْفٍ كَانَ الذَّاهِبُ مِنْ بَصَرِهَا تِسْعَةَ أَعْشَارٍ ، فَيُؤْخَذُ بِتِسْعَةِ أَعْشَارِ نِصْفِ الدِّيَةِ ، وَعَلَى هَذِهِ الْعِبْرَةُ فِيمَا زَادَ وَنَقَصَ ، فَإِنْ سَأَلَ الْجَانِي إِحْلَافَهُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْمَسَافَةِ أُحْلِفَ لَهُ ، وَلَا قِصَاصَ فِي هَذَا ، لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ لِقَدْرِ مَا ذَهَبَ مِنَ الْبَصَرِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَسَقَطَ الْقِصَاصُ فِيهِ .

فَصْلٌ : وَلَوْ جَنَى عَلَى عَيْنَيْهِ فَأَذْهَبَ بَعْضَ بَصَرِهِمَا فَيَعْتَذِرُ فِي الْحَالِ اعْتِبَارَ مَا ذَهَبَ مِنْهُمَا بِالْجِنَايَةِ ، لِأَنَّ النُّقْصَانَ فِي الْعَيْنَيْنِ مَعًا ، فَإِنْ كَانَ قَدْ عَرَفَ مَدَى بَصَرِهِ قَبْلَ الْجِنَايَةِ اعْتَبَرَ مَدَى بَصَرِهِ بَعْدَهَا ، وَلَزِمَهُ مِنَ الدِّيَةِ بِقَدْرِ مَا بَيْنَ الْمَسَافَتَيْنِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ قَبْلَ الْجِنَايَةِ لَمْ يَعْلَمْ بَعْدَهَا قَدْرَ الذَّاهِبِ مِنْهُمَا ، فَيَلْزَمُهُ حُكُومَةٌ يُقَدِّرُهَا الْحَاكِمُ بِاجْتِهَادِهِ .

فَصْلٌ : وَلَوْ كَانَ فِي عَيْنِهِ قَبْلَ الْجِنَايَةِ عَلَيْهَا بَيَاضٌ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ لَا يُؤَثِّرَ فِي الْبَصَرِ ، وَيَرَى مَعَ الْبَيَاضِ مَا كَانَ يَرَاهُ قَبْلَهُ ، فَفِي بَصَرِهِ إِذَا ذَهَبَ بِالْجِنَايَةِ الدِّيَةُ تَامَّةً ، وَلَا يَكُونُ لِلْبَيَاضِ تَأْثِيرٌ فِي الدِّيَةِ ، كَمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الْبَصَرِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِ النَّظَرُ أَوْ لَا يَشُقُّ ، لِأَنَّهُ يُدْرِكُ مَعَ الْمَشَقَّةِ مَا كَانَ يُدْرِكُهُ بِغَيْرِ مَشَقَّةٍ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْبَيَاضُ قَدْ مَنَعَهُ مِنَ النَّظَرِ حَتَّى صَارَ لَا يُبْصِرُ مِنْ قُرْبٍ وَلَا بُعْدٍ ، فَيَكُونُ بِالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ كَالْبَصَرِ الذَّاهِبِ لَا تَجِبُ فِيهِ إِلَّا حُكُومَةٌ ، وَإِنْ كَانَ بَصَرُهُ بَاقِيًا تَحْتَ الْبَيَاضِ ، لِأَنَّهُ لَا يُبْصِرُ بِهِ كَمَا لَا يُبْصِرُ بِالذَّاهِبِ مِنْ أَصْلِهِ ، وَلَيْسَ مَا يُرْجَى مِنْ زَوَالِ الْبَيَاضِ بِالْعِلَاجِ فَيَعُودُ الْبَصَرُ بِمَانِعٍ مِنْ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ حُكْمُ الذَّاهِبِ الْبَصَرِ ، وَإِنَّمَا يَفْتَرِقَانِ فِي قَدْرِ الْحُكُومَةِ فَتَكُونُ حُكُومَةُ ذَاتِ الْبَيَاضِ أَكْثَرَ لِبَقَاءِ الْبَصَرِ تَحْتَهُ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ الْبَيَاضُ قَدْ أَذْهَبَ بَعْضَ بَصَرِهِ وَبَقِيَ بَعْضُهُ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ قَدْ غَشِيَ جَمِيعَ النَّاظِرِ ، وَهُوَ رَقِيقٌ فَصَارَ مُبْصِرًا أَقَلَّ مِنْ بَصَرِهِ قَبْلَ الْبَيَاضِ ، فَيَتَعَذَّرُ فِي هَذَا مَعْرِفَةٌ مِنْهُ بِالْبَيَاضِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ عَرَفَ مَدَى بَصَرِهِ قَبْلَ الْبَيَاضِ فَيَعْرِفُ مَا بَقِيَ مِنْهُ بَعْدَهُ أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ فِي إِحْدَى عَيْنَيْهِ وَقَدِ اعْتُبِرَ ذَلِكَ بِالْعَيْنِ الصَّحِيحَةِ فَيَلْزَمُهُ مِنَ الدِّيَةِ بِقِسْطِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ فَفِيهِ حُكُومَةٌ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْبَيَاضُ قَدْ غَشِيَ بَعْضَ النَّاظِرِ فَلَا يُبْصِرُ بِمَا غَشَاهُ

وَيُبْصِرُ بِمَا عَدَاهُ فَيَلْزَمُ الْجَانِي عَلَيْهَا إِذَا ذَهَبَ بَصَرُهَا مَا كَانَ بَاقِيًا مِنْهَا مِنْ نِصْفٍ أَوْ ثُلُثٍ أَوْ رُبُعٍ إِذَا عَرَفَ ذَلِكَ ، وَخَيْرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْبَصَرِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا ضَرَبَ عَيْنَهُ فَأَشْخَصَهَا لَمْ يَخْلُ حَالُهَا بَعْدَ الشُّخُوصِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ بَصَرُهَا بَاقِيًا بِحَالِهِ فَيَلْزَمُهُ فِي إِشْخَاصِهَا حُكُومَةٌ يَتَقَدَّرُ بِقُبْحِ الْإِشْخَاصِ ، وَلَا قِصَاصَ فِيهِ لِتَعَذُّرِهِ ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْبَصَرِ لِبَقَائِهِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَذْهَبَ بَصَرُهَا ، فَيَلْزَمُهُ جَمِيعُ دِيَتِهَا ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقْتَصَّ مِنْهُ فِي ذَهَابِ الْبَصَرِ دُونَ الْإِشْخَاصِ ، لِأَنَّ الْقَوَدَ فِيهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَذْهَبَ بَعْضُ بَصَرِهَا فَيَلْزَمُهُ أَكْثَرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ دِيَةِ الذَّاهِبِ مِنْ بَصَرِهَا أَوْ حُكُومَةِ إِشْخَاصِهَا ، وَلَا يُجْمَعُ عَلَيْهِ بَيْنَهُمَا ، لِاجْتِمَاعِ مَحَلِّهِمَا ، وَيَكُونُ أَقَلُّهُمَا دَاخِلًا فِي الْأَكْثَرِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ لَوْ قَالَ جَنَيْتُ عَلَيْهِ وَهُوَ ذَاهِبُ الْبَصَرِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَلَوْ قَالَ جَنَيْتُ عَلَيْهِ وَهُوَ ذَاهِبُ الْبَصَرِ فَعَلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ كَانَ يُبْصِرُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ ، وَذَكَرْنَا حُكْمَ الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ إِذَا اخْتَلَفَ الْجَانِي وَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ فِي سَلَامَتِهَا وَعَطَبِهَا ، وَالْعَيْنُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ ، فَإِذَا فَقَأَ رَجُلٌ عَيْنَ رَجُلٍ وَاخْتَلَفَ الْفَاقِئُ وَالْمَفْقُوءُ . فَقَالَ الْفَاقِئُ : فَقَأْتُهَا وَبَصَرُهَا ذَاهِبٌ . وَقَالَ الْمَفْقُوءُ : بَلْ كَانَ سَلِيمًا ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْفَاقِئِ مِنْ أَنْ يَعْتَرِفَ لَهُ بِتَقَدُّمِ السَّلَامَةِ أَوْ لَا يَعْتَرِفَ ، فَإِنْ لَمْ يَعْتَرِفْ لَهُ بِهَا وَقَالَ : خُلِقْتَ ذَاهِبَ الْبَصَرِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ، لِأَنَّ الْمَفْقُوءَ يُمْكِنُهُ إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى سَلَامَةِ بَصَرِهِ ، وَإِنِ اعْتَرَفَ لَهُ بِالسَّلَامَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَادَّعَى ذَهَابَ بَصَرِهِ قَبْلَ جِنَايَتِهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْفَاقِئِ مَعَ يَمِينِهِ ، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْقَوَدِ وَبَرَاءَةُ الذِّمَّةِ حَتَّى يُقِيمَ الْمَفْقُوءُ الْبَيِّنَةَ عَلَى سَلَامَتِهِ عِنْدَ الْجِنَايَةِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَفْقُوءِ مَعَ يَمِينِهِ ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهُ عَلَى سَلَامَتِهِ حَتَّى يُقِيمَ الْفَاقِئُ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَهَابِ بَصَرٍ ، وَأَصْلُ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ اخْتِلَافُ قَوْلَيْهِ فِي الْمَلْفُوفِ إِذَا قُطِعَ ، وَقَالَ الْجَانِي : قَطَعْتُهُ وَكَانَ مَيْتًا . وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُ : كَانَ حَيًّا . أَوْ هَدَمَ عَلَى جَمَاعَةٍ بَيْتًا وَقَالَ : هَدَمْتُهُ عَلَيْهِمْ وَكَانُوا مَوْتَى ، وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ : كَانُوا أَحْيَاءً ، فَفِيهَا قَوْلَانِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْجَانِي مَعَ يَمِينِهِ ، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْقَوَدِ وَبَرَاءَةُ الذِّمَّةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْأَوْلِيَاءِ مَعَ أَيْمَانِهِمْ ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الْحَيَاةِ . مَسْأَلَةٌ . قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَيَسَعُهَا أَنْ تَشْهَدَ إِذَا رَأَتْهُ يُتْبِعُ الشَّخْصَ بَصَرَهُ وَيَطْرَفُ عَنْهُ وَيَتَوَقَّاهُ وَكَذَلِكَ الْمَعْرِفَةُ بِانْبِسَاطِ الْيَدِ وَالذَّكَرِ وَانْقِبَاضِهِمَا ، وَكَذَلِكَ الْمَعْتُوهُ وَالصَّبِيُ وَمَتَى عُلِمَ أنَهُ صَحِيحٌ فَهُوَ عَلَى الصِّحَّةِ حَتَّى يُعْلَمَ غَيْرُهَا . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَصْلُ الشَّهَادَةِ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ إِلَّا بِأَقْصَى جِهَاتِ الْعِلْمِ بِهَا ، فَإِذَا شَهِدُوا بِسَلَامَةِ الْبَصَرِ وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُشَاهَدُ فَقَدْ يَقْتَرِنُ بِالشَّهَادَةِ مِنْ أَمَارَاتِ الْعِلْمِ بِهِ مَا لَا يَعْتَرِضُهُ شَكٌّ ، وَهُوَ أَنْ يَرَاهُ يَتْبَعُ الشَّخْصَ وَيَسَلُكُ الْمَعَاطِفَ وَيَتَوَقَّى الْآبَارَ ، وَيَقْرَأُ الْكُتُبَ ، وَيَتَطَرَّفُ عَيْنَهُ عَنِ الْأَذَى ، فَيَعْلَمُ بِهَذِهِ الْأَمَارَاتِ وَالدَّلَائِلِ عِلْمًا لَا يَدْخُلُهُ شَكٌّ أَنَّهُ يُبْصِرُ ، فَجَازَ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ بِسَلَامَةِ بَصَرِهِ ، وَهَكَذَا فِي سَلَامَةِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ إِذَا رَآهُ يَمْشِي عَلَى قَدَمَيْهِ ، وَيَقْبِضُ أَصَابِعَ رِجْلَيْهِ ، وَيَعْمَلُ بِيَدَيْهِ قَبْضًا وَبَسْطًا ، وَرَفْعًا وَوَضْعًا ، عَلِمَ بِذَلِكَ سَلَامَتَهَا مِنْ شَلَلٍ ، فَجَازَ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ بِالصِّحَّةِ ، وَهَكَذَا الذَّكَرُ وَهُوَ مِنَ الْأَعْضَاءِ يَجُوزُ إِذَا رَآهُ يَنْقَبِضُ وَيَنْبَسِطُ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ بِالسَّلَامَةِ مِنَ الشَّلَلِ ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُشَاهِدَهُ فِي إِحْدَى ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : إِمَّا حَالَ الصِّغَرِ قَبْلَ تَغْلِيظِ عَوْرَتِهِ . أَوْ يُشَاهِدَهُ فِي الْكِبَرِ بِالِاتِّفَاقِ مِنْ غَيْرِ تَعَمُّدٍ لِمُشَاهَدَتِهِ . أَوْ يَكُونُ طَبِيبًا قَدْ دَعَتْهُ الضَّرُورَةُ إِلَى مُشَاهَدَتِهِ ، فَأَمَّا إِنْ تَعَمَّدَ فِي الْكِبَرِ لِلنَّظَرِ بِغَيْرِ ضَرُورَةٍ فَقَدْ فَسَقَ ، وَلَا يُقْبَلُ لِلْفَاسِقِ شَهَادَةٌ ، وَكَذَلِكَ الشَّهَادَةُ لِلصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ بِسَلَامَةِ أَعْضَائِهِ ، لِأَنَّهُ يَسْتَدِلُّ عَلَيْهَا بِحَرَكَاتِ طَبْعِهِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَمَتَّى عَلِمَ أَنَّهُ صَحِيحٌ فَهُوَ عَلَى الصِّحَّةِ . وَشَهِدَ لَهُ شَاهِدَانِ بِهَا نُظِرَتْ شَهَادَتُهُمَا ، فَإِنْ شَهِدَا لَهُ بِالصِّحَّةِ عِنْدَ الْجِنَايَةِ حُكِمَ بِهَا ، وَلَمْ يُسْتَحْلَفِ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مَعَهَا ، لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ تُغْنِي عَنِ الْيَمِينِ فِيمَا تَضَمَّنَتْهُ ، وَإِنْ شَهِدَا بِالسَّلَامَةِ قَبْلَ الْجِنَايَةِ فَفِي سَمَاعِهَا وَالْحُكْمِ بِهَا قَوْلَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِيمَنْ عَلِمَ بِتَقَدُّمِ سَلَامَتِهَا هَلْ يُحْكَمُ فِيهَا عِنْدَ الْجِنَايَةِ بِقَوْلِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُحْكَمُ بِقَوْلِهِ ، فَعَلَى هَذَا لَا تُسْمَعُ الشَّهَادَةُ لَهُ بِتَقَدُّمِ سَلَامَتِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يُحْكَمُ لَهُ بِقَوْلِهِ ، فَعَلَى هَذَا تُسْمَعُ الشَّهَادَةُ لَهُ بِتَقَدُّمِ سَلَامَتِهِ ، ثُمَّ يُسْتَحْلَفُ مَعَهَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ عَلَى السَّلَامَةِ إِلَى حِينِ جِنَايَتِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَفِي الْجُفُونِ إِذَا اسْتُؤْصِلَتِ الدِّيَةُ وَفِي كُلِّ

وَاحِدٍ مِنْهُمَا رُبُعُ الدِّيَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَمَامِ خِلْقَتِهِ وَمَا يَأْلَمُ بِقَطْعِهِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا جُفُونُ الْعَيْنَيْنِ ديتها فَهِيَ أَرْبَعَةٌ تُحِيطُ بِالْعَيْنَيْنِ مِنْ أَعْلَى وَأَسْفَلَ ، وَتَحْفَظُهُمَا مِنَ الْأَذَى ، وَتَجْلِبُ إِلَيْهِمَا النَّوْمَ ، وَيَكْمُلُ بِهِنَّ جَمَالُ الْوَجْهِ وَالْعَيْنِ ، وَفِيهَا إِذَا اسْتُؤْصِلَتِ الدِّيَةُ تَامَّةً . وَقَالَ مَالِكٌ : فِيهَا حُكُومَةٌ ، لِأَنَّ مَقَادِيرَ الدِّيَاتِ مَوْقُوفٌ عَلَى النَّصِّ وَلَيْسَ فِيهَا نَصٌّ ، وَلِأَنَّهَا تَبَعٌ لِلْعَيْنَيْنِ فَلَمْ تَجِبْ فِيهَا الدِّيَةُ الْوَاجِبَةُ فِي الْعَيْنَيْنِ ، لِأَنَّ حُكْمَ التَّبَعِ أَخَفُّ مِنْ حُكْمِ الْمَتْبُوعِ . وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ : وَفِي الْجُفُونِ إِذَا اسْتُوصِلَتِ الدِّيَةُ وَلَيْسَ بِمَشْهُورٍ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ ، وَلِأَنَّهَا مِنْ تَمَامِ الْخِلْقَةِ فِيهَا مَنْفَعَةٌ وَجَمَالٌ تَأَلَّمَ بِقَطْعِهَا وَيُخَافُ عَلَى النَّفْسِ مِنْ سِرَايَةِ الْجِنَايَةِ عَلَيْهَا ، فَوَجَبَ أَنْ تَكْمُلَ الدِّيَةُ فِيهَا كَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ وَلَا يُمْتَنَعُ ، وَإِنْ كَانَتْ تَبَعًا أَنْ تُسَاوِيَ مَتْبُوعًا فِي الدِّيَةِ إِذَا اخْتُصَّتْ بِزِيَادَةِ جَمَالٍ وَمَنْفَعَةٍ كَالْأَنْفِ فِي الشَّمِّ ( الدية ) ، وَالْأُذُنَيْنِ فِي السَّمْعِ ( الدية ) ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ فِيهَا الدِّيَةَ فَسَوَاءٌ اسْتُوصِلَتْ مِنْ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ أَوْ بَصِيرٍ ، لِأَنَّ لِلضَّرِيرِ بِهَا مَنْفَعَةً وَجَمَالًا وَإِنْ كَانَتْ مَنْفَعَةُ الْبَصَرِ بِهَا أَعَمَّ . فَأَمَّا الْقَوَدُ فَإِنْ أَمْكَنَ فِيهَا وَلَمْ يَتَعَدَّ ضَرَرُهُ إِلَى الْعَيْنَيْنِ وَجَبَ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ سَقَطَ ، فَإِنْ قَلَعَ جَفْنًا وَاحِدًا فَفِيهِ رُبْعُ الدِّيَةِ ، لِأَنَّ كُلَّ ذِي عَدَدٍ مِنَ الْأَعْضَاءِ إِذَا كَمُلَتْ فِيهِ الدِّيَةُ تَقَسَّطَتْ عَلَى عَدَدِهَا كَالْيَدَيْنِ فِي تَقْسِيطِ دِيَتِهَا عَلَى الْأَصَابِعِ ، وَتُقَسَّطُ دِيَةُ الْإِصْبَعِ عَلَى الْأَنَامِلِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْجَفْنُ أَعْلَى أَوْ أَسْفَلَ ، وَفِي الْجَفْنَيْنِ نِصْفُ الدِّيَةِ ، وَفِي ثَلَاثَةِ جُفُونٍ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ ، فَلَوْ جَنَى عَلَى عَيْنَيْهِ فَقَطَعَ جُفُونَهُمَا وَأَذْهَبَ بَصَرَهُمَا لَزِمَتْهُ دِيَتَانِ . إِحْدَاهُمَا : فِي الْجُفُونِ . وَالْأُخْرَى : فِي الْعَيْنَيْنِ ، كَمَا لَوْ قَطَعَ أُذُنَيْهِ وَأَذْهَبَ سَمْعَهُ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا أَهْدَابُ الْعَيْنَيْنِ وَأَشْفَارُهُمَا إذا انتفت ( الدية ) مِنَ الشَّعْرِ النَّابِتِ فِي أَجْفَانِهِمَا فَفِيهِمَا مِنَ الْمَنْفَعَةِ ذَبُّهَا عَنِ الْبَصَرِ ، وَمِنِ الْجَمَالِ حُسْنُ الْمَنْظَرِ ، وَفِيهَا إِذَا انْتَفَتْ فَلَمْ تَعُدْ حُكُومَةً . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : فِيهَا الدِّيَةُ . وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ، لِأَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ فِي قَطْعِ مَا يُخَافُ مِنْ سِرَايَتِهِ وَيُؤْلَمُ فِي إِبَانَتِهِ ، وَهَذَا مَعْدُومٌ فِي الْأَهْدَابِ وَمَوْجُودٌ فِي الْجُفُونِ ، فَلِذَلِكَ وَجَبَ فِي الْأَجْفَانِ دِيَةٌ ، وَفِي الْأَهْدَابِ حُكُومَةٌ ، فَإِنْ نَتَفَ أَهْدَابَهُ فَعَادَ نَبَاتُهَا دُونَ مَا كَانَتْ فَفِيهَا مِنَ الْحُكُومَةِ أَقَلُّ مِمَّا فِيهَا لَوْ لَمْ تَعُدْ ، فَإِنْ عَادَ نَبَاتُهَا إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فَفِيهَا وَجْهَانِ :

أَحَدُهُمَا : لَا شَيْءَ فِيهَا لِعَدَمِ التَّأْثِيرِ وَيُعَزَّرُ لِأَجْلِ الْأَذَى . وَالثَّانِي : فِيهَا حُكُومَةٌ دُونَ حُكُومَتِهَا لَوْ عَادَ نَبَاتُهَا خَفِيفًا ، فَإِنِ اسْتَأْصَلَ أَجْفَانَهُ مَعَ أَهْدَابِهَا العين ( الدية ) فَعَلَيْهِ دِيَةُ الْجُفُونِ تَدْخُلُ فِيهَا حُكُومَةُ الْأَهْدَابِ ، وَحَكَى أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَجْهًا آخَرَ أَنَّهُ يَجْمَعُ عَلَيْهِ بَيْنَ دِيَةِ الْجُفُونِ وَحُكُومَةِ الْأَهْدَابِ ، وَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ ، لِأَنَّ الْجُفُونَ مَحَلُّ الْأَهْدَابِ فَلَمْ يَنْفَرِدْ بِالْحُكُومَةِ فِيهَا كَالْأَصَابِعِ مَعَ الْكَفِّ .


فَصْلٌ : فَأَمَّا شَعْرُ الْحَاجِبَيْنِ الجناية علية ( الدية ) فَيَخْتَصَّانِ بِالْجَمَالِ دُونَ الْمَنْفَعَةِ ، فَإِنْ نَتَفَهُ حَتَّى ذَهَبَ وَلَمْ يَعُدْ فَفِيهِ حُكُومَةٌ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : فِيهِ دِيَةٌ ، لِأَنَّهُ يُوجِبُهَا فِي أَرْبَعَةِ شُعُورٍ : شَعْرِ الرَّأْسِ ، وَاللِّحْيَةِ ، وَالْحَاجِبَيْنِ ، وَأَهْدَابِ الْعَيْنَيْنِ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَبْدًا فَيَجِبُ فِيهِ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ . فَلَوْ عَادَ شَعْرُ الْحَاجِبَيْنِ بَعْدَ نَتْفِهِ الجناية فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ ، فَلَوْ كَشَطَ جِلْدَةَ الْحَاجِبَيْنِ وَلَمْ يَسْتَخْلِفْ الجناية ، كَانَ عَلَيْهِ حُكُومَةٌ بِحَسَبَ الشَّيْنِ هِيَ أَكْثَرُ مِنْ حُكُومَةِ الشَّعْرِ ، فَإِنَّ أَوْضَحَ مَحَلَّهُمَا كَانَ عَلَيْهِ دِيَةُ مُوضِحَتَيْنِ ، وَهَلْ يَدْخُلُ فِيهِمَا حُكُومَةُ الشَّيْنِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ذَكَرْنَا نَظِيرَهُمَا مِنْ قَبْلُ .

مَسْأَلَةٌ فِي الْأَنْفِ إِذَا أُوعِبَ مَارِنَهُ جَدْعًا الدِّيَةُ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَفِي الْأَنْفِ إِذَا أُوعِبَ مَارِنَهُ جَدْعًا الدِّيَةُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَفِي الْأَنْفِ الجناية عليها ( الدية ) الدِّيَةُ ، لِمَا رَوَى ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ كِتَابٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي الْأَنْفِ إِذَا أُوعِبَ مَارِنُهُ جَدْعًا الدِّيَةُ فَأَوْرَدَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ ذَلِكَ بِلَفْظِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَمْكَنَ ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ فَبِأَلْفَاظِ الصَّحَابَةِ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبِأَلْفَاظِ التَّابِعِينَ ، وَكَثِيرًا مَا يُورِدُهَا بِلَفْظِ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ . وَرَوَى عَمْرُو بْنُ حَزْمٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِهِ إِلَى الْيَمَنِ : وَفِي الْأَنْفِ إِذَا أُوعِبَ جَدْعًا مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ لِأَنَّ الْأَنْفَ عُضْوٌ فِيهِ مَنْفَعَةٌ وَجَمَالٌ تَأَلَّمَ بِقَطْعِهِ ، وَرُبَّمَا سَرَتِ الْجِنَايَةُ عَلَيْهِ إِلَى نَفْسِهِ فَوَجَبَ أَنْ يُكْمِلَ فِيهِ الدِّيَةَ كَاللِّسَانِ وَالذَّكَرِ ، وَمَارِنُ الْأَنْفِ هُوَ مَا لَانَ مِنَ الْحَاجِزِ بَيْنَ الْمَنْخَرَيْنِ الْمُتَّصِلُ بِقَصَبَةِ الْأَنْفِ . وَالْقَصَبَةُ هِيَ الْعَظْمُ الْمُنْتَهِي إِلَى الْجَبْهَةِ ، وَكَمَالُ الدِّيَةِ فِيهِ يَجِبُ بِاسْتِيعَابِ الْمَارِنِ مَعَ الْمَنْخَرَيْنِ ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْأَنْفُ الْأَقْنَى وَالْأَفْطَسُ وَالْأَحْجَرُ ، وَالْأَخْنَسُ ، وَأَنْفُ الْأَشَمِّ وَالْأَخْشَمُ فَإِنْ قَطَعَ أَرْنَبَةَ الْأَنْفِ وَتَجَزَّأَ فِيهِ مِنَ الدِّيَةِ بِحِسَابِهِ وَقِسْطِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَتَجَزَّأْ فَفِيهِ حُكُومَةٌ ، وَلَوْ قَطَعَ أَحَدَ الْمَنْخَرَيْنِ وَبَقِيَ الْمَنْخَرُ الْآخَرُ مَعَ الْمَارِنِ ( الدية ) فَفِيمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الدِّيَةِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ :

أَحَدُهُمَا : عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ ، وَحَكَاهُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ ، لِأَنَّهُ قَدْ أَذْهَبَ نِصْفَ مَنْفَعَتِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : عَلَيْهِ ثُلُثُ الدِّيَةِ تَقْسِيطًا عَلَى الْمَنْخَرَيْنِ وَالْمَارِنِ الَّذِي يَشْتَمِلُ الْأَنْفُ عَلَيْهَا ، فَكَانَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثُ الدِّيَةِ ، وَيَلْزَمُهُ عَلَى هَذَا فِي قَطْعِ الْمَارِنِ مَعَ بَقَاءِ الْمَنْخَرَيْنِ ثُلُثُ الدِّيَةِ ، وَلَوْ شَقَّ الْمَارِنَ وَلَمْ يَقْطَعْهُ الجناية على الأنف ( حكم الدية ) فَفِيهِ حُكُومَةٌ ، انْدَمَلَ أَوْ لَمْ يَنْدَمِلْ ، غَيْرَ أَنَّهَا فِي الْمُنْدَمِلِ أَقَلُّ وَفِي غَيْرِ الْمُنْدَمِلِ أَكْثَرُ ، فَإِنْ خَرَمَ أَحَدٌ مَنْخَرَيْهِ فَإِنْ لَمْ يَذْهَبْ مِنْهُ بِالْخَرْمِ شَيْءٌ وَيُجَزَّأُ فَفِيهِ مِنَ الدِّيَةِ بِقِسْطِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَتَجَزَّأْ فَفِيهِ حُكُومَةٌ بِحَسَبِ الشَّيْنِ لَا تَبْلُغُ بِهَا ثُلُثُ الدِّيَةِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ، وَنَصِفُهَا فِي الْوَجْهِ الثَّانِي ، بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي قَطْعِ أَحَدِ الْمَنْخَرَيْنِ ، لِأَنَّ قَطْعَهُ أَكْثَرُ مَنْ خَرْمِهِ ، فَإِنِ اسْتَوْعَبَ قَطْعَ الْأَنْفِ مِنْ أَصْلِ الْمَارِنِ فَأَوْضَحَ عَظْمَ الْقَصَبَةِ فَعَلَيْهِ مَعَ دِيَةِ الْأَنْفِ دِيَةُ مُوضِحَةٍ ، وَلَوْ هَشَمَهُ لَزِمَهُ دِيَةُ هَاشِمَةٍ ، وَلَوْ نَقَّلَهُ لَزِمَهُ دِيَةُ مُنَقِّلَةٍ ، وَلَوْ أَجَافَ مَا تَحْتَهُ لَزِمَهُ دِيَةُ مَأْمُومَةٍ ، لِوُصُولِهِ إِلَى جَوْفِ الرَّأْسِ . وَحَكَى أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ فِي " جَامِعِهِ " قَوْلًا ثَانِيًا : أَنَّهُ يَلْزَمُهُ فِيهِ دِيَةُ مَأْمُومَةٍ وَيَلْزَمُهُ حُكُومَةٌ هِيَ أَكْثَرُ مِنْ دِيَةِ مُنَقِّلَةٍ ، فَإِنِ اسْتَوْعَبَ عَظْمَ الْقَصَبَةِ كُلَّهَا لَزِمَهُ مَعَ دِيَةِ الْأَنْفِ حُكُومَةُ الْقَصَبَةِ لَا يَبْلُغُ بِهَا دِيَةَ الْأَنْفِ ، لِأَنَّهَا تَبَعٌ لَهُ ، وَخَرَّجَ هَذَا التَّعْلِيلَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ قَوْلًا ثَانِيًا فِي قَصَبَةِ الْأَنْفِ إِذَا قُطِعَتْ مَعَ الْأَنْفِ قَوْلًا ثَانِيًا أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِيهَا إِلَّا دِيَةٌ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي قَطْعِ الْحَلَمَةِ مَعَ الثَّدْيَيْنِ ( الدية ) ، وَقَطْعِ الْحَشَفَةِ مَعَ بَعْضِ الذَّكَرِ ( الدية ) ، وَلَيْسَ هَذَا التَّحْرِيمُ بِصَحِيحٍ ، لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَحَلَّ الْحَلَمَةِ فِي الثَّدْيِ وَمَحَلَّ الْحَشَفَةِ عَلَى الذَّكَرِ ، وَلَيْسَ مَحَلُّ الْأَنْفِ عَلَى الْقَصَبَةِ وَإِنِ اتَّصَلَ بِهَا فَاخْتَلَفَا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ فِي إِيضَاحِ الْمَارِنِ دِيَةُ مُوضِحَةٍ كَانَ الْتِزَامُ الْغُرْمِ فِي قَطْعِ أَصْلِهَا أَحَقَّ .

فَصْلٌ : وَلَوْ جَنَى عَلَى أَنْفِهِ فَاسْتَحْشَفَ وَيَبِسَ فَفِيهِ قَوْلَانِ كَالْأُذُنَيْنِ إِذَا اسْتَحْشَفَتَا : أَحَدُهُمَا : عَلَيْهِ الدِّيَةُ تَامَّةً كَالْيَدَيْنِ إِذَا شُلَّتَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : عَلَيْهِ حُكُومَةٌ ، لِبَقَاءِ نَفْعِهِ مَعَ ذَهَابِ جَمَالِهِ بِخِلَافِ شَلَلِ الْيَدِ الَّذِي قَدْ فَاتَ بِهِ الْجَمَالُ وَالْمَنْفَعَةُ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ جَدَعَ أَنْفًا مُسْتَحْشَفًا ، كَانَ فِيمَا يَلْزَمُهُ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : حُكُومَةٌ إِذَا قِيلَ فِي اسْتِحْشَافِهِ دِيَةٌ . وَالثَّانِي : دِيَةٌ إِذَا قِيلَ فِي اسْتِحْشَافِهِ حُكُومَةٌ ، وَلَوْ جَنَى عَلَى أَنْفِهِ فَاعْوَجَّ لَزِمَتْهُ

حُكُومَةٌ ، فَإِنْ جُبِرَ حَتَّى عَادَ مُسْتَقِيمًا كَانَتْ حُكُومَتُهُ أَقَلُّ ، وَإِنْ بَقِيَ عَلَى عِوَجِهِ كَانَتْ حُكُومَتُهُ أَكْثَرَ بِحَسَبِ شَيْنِهِ .

فَصْلٌ : وَلَوْ جُدِعَ أَنْفُهُ فَأَعَادَهُ بِحَرَارَةِ دَمِهِ حَتَّى الْتَحَمَ نُظِرَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْجِنَايَةِ قَدْ بَانَ وَانْفَصَلَ فَفِيهِ حُكُومَةٌ كَالْجِرَاحَةِ الْمُنْدَمِلَةِ ، وَإِنْ بَانَ وَانْفَصَلَ فَفِيهِ الدِّيَةُ كَامِلَةً ، لِأَنَّهُ لَا يُقِرُّ عَلَى تَرْكِهِ ، وَيُؤْخَذُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى بِقَطْعِهِ ، لِأَنَّهُ صَارَ بِالِانْفِصَالِ مَيِّتًا نَجِسًا ، وَلَوْ أَلْصَقَهُ الْمُقْتَصُّ مِنْهُ حَتَّى الْتَحَمَ أُخِذَ بِقَطْعِهِ وَإِزَالَتِهِ ، فَإِنْ كَانَ إِلْصَاقُهُ قَبْلَ انْفِصَالِهِ كَانَ مَأْخُوذًا بِقَطْعِهِ فِي حَقِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ انْفِصَالِهِ كَانَ مَأْخُوذًا بِقَطْعِهِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى .

مَسْأَلَةٌ فِي ذَهَابِ الشَّمِّ الدِّيَةُ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَفِي ذَهَابِ الشَّمِّ ديته الدِّيَةُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَقَدْ حَكَى بَعْضُ الرُّوَاةِ عَنْ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي كِتَابِهِ إِلَى الْيَمَنِ : وَفِي الشَّمِّ الدِّيَةُ ، وَلِأَنَّ الشَّمَّ مِنَ الْحَوَاسِّ النَّافِعَةِ فَأَشْبَهَ حَاسَّةَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ ، وَهُوَ مِنَ الْأُمُورِ الْمُغَيَّبَةِ الَّتِي لَا تُرَى وَلَا تُعْلَمُ إِلَّا مِنْ صَاحِبِهَا ، فَإِنِ ادَّعَى الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ ذَهَابَ شَمِّهِ وَأَنْكَرَهُ الْجَانِي وَادَّعَى بَقَاءَهُ كَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ ذَهَابَهُ لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِ لَكِنْ يَسْتَظْهِرُ عَلَيْهِ بِغَايَةِ مَا يُمْكِنُ فِي اخْتِبَارِ صِدْقِهِ بِأَنْ يُثَارَ عَلَيْهِ فِي أَوْقَاتِ غَفَلَاتِهِ الرَّوَائِحُ الطَّيِّبَةُ وَالْمُنْتِنَةُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى فَإِنْ كَانَ لَا يَرْتَاحُ إِلَى الرَّوَائِحِ الطَّيِّبَةِ وَلَا يَظْهَرُ مِنْهُ كَرَاهَةٌ لِلرَّوَائِحِ الْمُنْتِنَةِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى صِدْقِهِ ، فَكَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ ، لِإِمْكَانِ تَصَنُّعِهِ ، وَإِنْ وُجِدَ مِنْهُ الِارْتِيَاحُ لِلرَّوَائِحِ الطَّيِّبَةِ وَالْكَرَاهَةُ لِلرَّوَائِحِ الْمُنْتِنَةِ ، صَارَ الظَّاهِرُ بِهَا فِي جَنَبَةِ الْجَانِي فَأُحْلِفَ عَلَى بَقَاءِ شَمِّهِ ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فَلَوْ أُحْلِفَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَلَى ذَهَابِ شَمِّهِ ثُمَّ غَطَّى أَنْفَهُ عِنْدَ رَائِحَةٍ مُنْتِنَةٍ فَادَّعَى الْجَانِي أَنَّهُ غَطَّاهُ لِبَقَاءِ شَمِّهِ . وَقَالَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ : بَلْ غَطَّيْتُهُ لِحَاجَةٍ أَوْ عَادَةٍ - كَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ دُونَ الْجَانِي ، وَيُحْكَمُ لَهُ بِالدِّيَةِ لِاحْتِمَالِ مَا قَالَهُ .

فَصْلٌ : وَلَوْ ذَهَبَ شَمُّهُ وَقَضَى لَهُ بِالدِّيَةِ ثُمَّ عَادَ شَمُّهُ لَزِمَهُ رَدُّ الدِّيَةِ ، وَعُلِمَ أَنَّ ذَهَابَ شَمِّهِ كَانَ لِحَائِلٍ دُونَهُ ، وَلَا حُكُومَةَ لَهُ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي لَمْ يَشُمَّ فِيهَا ، لِبَقَاءِ شَمِّهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَ عَوْدِهِ أَضْعَفَ مِنْهُ قَبْلَ ذَهَابِهِ ، لِأَنَّهُ كَانَ يَشُمُّ مِنْ قَرِيبٍ وَبَعِيدٍ فَصَارَ يَشُمُّ مِنَ الْقَرِيبِ ، وَلَا يَشُمُّ مِنَ الْبَعِيدِ ، أَوْ كَانَ يَشُمُّ الرَّوَائِحَ الْقَوِيَّةَ وَالضَّعِيفَةَ فَصَارَ يَشُمُّ الرَّوَائِحَ الْقَوِيَّةَ دُونَ الضَّعِيفَةِ ، فَإِنْ عُلِمَ قَدْرُ الذَّاهِبِ مِنْهُ ، وَلَا أَحْسَبُهُ يُعْلَمُ - كَانَ فِيهِ مِنَ الدِّيَةِ بِقِسْطِ الذَّاهِبِ ، فَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ فَفِيهِ حُكُومَةٌ . وَلَوْ كَانَ فِي أَصْلِ خِلْقَتِهِ يَشُمُّ شَمًّا ضَعِيفًا وَذَلِكَ بِأَنْ يَشُمَّ مِنَ الْقَرِيبِ أَوِ الْقَوِيِّ مِنَ

الرَّوَائِحِ دُونَ الضَّعِيفِ فَجَنَى عَلَيْهِ فَأَذْهَبَ شَمَّهُ صَارَ لَا يَشُمُّ قَوِيًّا وَلَا ضَعِيفًا مِنْ قَرِيبٍ وَلَا بَعِيدٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ مُحْتَمَلَانِ : أَحَدُهُمَا : فِيهِ الدِّيَةُ كَامِلَةً ، لِأَنَّ الْحَوَاسَّ تَخْتَلِفُ بِالْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ كَالْأَعْضَاءِ الَّتِي لَا تَخْتَلِفُ الدِّيَةُ بِاخْتِلَافِ قُوَّتِهَا وَضَعْفِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْمَوْجُودَ كَانَ فِيهِ بَعْضِ الشَّمِّ فَلَمْ يَلْزَمْ فِي إِذْهَابِهِ إِلَّا بَعْضُ الدِّيَةِ ، بِخِلَافِ ضَعْفِ الْأَعْضَاءِ الَّذِي يُوجَدُ جِنْسُ الْمَنَافِعِ فِيهَا . فَعَلَى هَذَا إِنْ عُلِمَ قَدْرُ مَا كَانَ ذَاهِبًا مِنْ شَمِّهِ فَفِيهِ مِنَ الدِّيَةِ بِقِسْطِهِ ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ فَفِيهِ حُكُومَةٌ يَجْتَهِدُ الْحَاكِمُ فِيهَا رَأْيَهُ .

فَصْلٌ : وَلَوْ جَدَعَ أَنْفَهُ فَذَهَبَ مِنْهُ شَمُّهُ لَزِمَهُ دِيَتَانِ ، إِحْدَاهُمَا فِي جَدْعِ الْأَنْفِ ، وَالْأُخْرَى فِي ذَهَابِ الشَّمِّ ، لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْمَحَلِّ كَالْأُذُنَيْنِ وَالسَّمْعِ ، وَخَالَفَ ذَهَابَ الْبَصَرِ مَعَ الْعَيْنَيْنِ ، وَذَهَابَ الْكَلَامِ مَعَ اللِّسَانِ ، لِاجْتِمَاعِهِمَا فِي الْمَحَلِّ .

مَسْأَلَةٌ فِي الشَّفَتَيْنِ الدِّيَةُ إِذَا اسْتُوعِبَتَا وَفِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفٌ الدِّيَةِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَفِي الشَّفَتَيْنِ ديتهما الدِّيَةُ إِذَا اسْتُوعِبَتَا وَفِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفٌ الدِّيَةِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، لِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي كِتَابِهِ إِلَى الْيَمَنِ وَفِي الشَّفَتَيْنِ الدِّيَةُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلِأَنَّهُمَا عُضْوَانِ مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ فِيهِمَا مَنْفَعَةٌ وَجَمَالٌ ، يَأْلَمُ بِقَطْعِهِمَا وَيُخَافُ مِنْ سِرَايَتِهِمَا فَأَشْبَهَا الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْغَلِيظَتَانِ وَالدَّقِيقَتَانِ ، وَالطَّوِيلَتَانِ وَالْقَصِيرَتَانِ ، مِنْ نَاطِقٍ أَوْ أَخْرَسَ ، ذِي أَسْنَانٍ وَغَيْرِ أَسْنَانٍ ، وَفِي إِحْدَى الشَّفَتَيْنِ في الجناية عليها ( الدية ) نِصْفُ الدِّيَةِ ، وَلَا فَضْلَ لِلْعُلْيَا عَلَى السُّفْلَى ، وَحُكِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ فِي السُّفْلَى ثُلُثَيِ الدِّيَةِ ، وَفِي الْعُلْيَا ثُلُثُهَا ، لِأَنَّ السُّفْلَى أَنْفَعُ مِنَ الْعُلْيَا ، لِحَرَكَتِهَا وَدَوَرَانِهَا ، وَحِفْظِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ بِهَا ، وَمَا فِيهَا مِنْ حُرُوفِ الْكَلَامِ الشَّفَوِيَّةِ ، وَهَذَا يَفْسَدُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَنْفَعَةً لَيْسَتْ لِلْأُخْرَى فَصَارَتَا مُتَسَاوِيَتَيْنِ . وَالثَّانِي : لِأَنَّ تَفَاضُلَ الْمَنَافِعِ فِي الْأَعْضَاءِ الْمُتَجَانِسَةِ لَا يُوجِبُ تَفَاضُلَهَا فِي الدِّيَاتِ كَالْأَصَابِعِ وَالْأَسْنَانِ ، فَإِنْ قَطَعَ النِّصْفَ مِنْ إِحْدَى الشَّفَتَيْنِ في الجناية عليها ( الدية ) كَانَ عَلَيْهِ رُبُعُ الدِّيَةِ ، وَإِنْ قَطَعَ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الدِّيَةِ بِحَسَبِ مَا قَطَعَ .

فَصْلٌ : وَلَوْ جَنَى عَلَيْهِمَا فَاسْتَحْشَفَتَا وَيَبِسَتَا حَتَّى لَمْ يَتَحَرَّكَا وَلَمْ يَأْلَمَا الشفتين فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ كَامِلَةً قَوْلًا وَاحِدًا ، بِخِلَافِ الْأَنْفِ إِذَا اسْتَحْشَفَهُ في الجناية علية ( الدية ) أَنَّ عَلَيْهِ حُكُومَةً فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْأَنْفِ بَاقِيَةٌ وَمَنْفَعَةَ الشَّفَةِ ذَاهِبَةٌ ، وَإِنْ تَقَلَّصَتَا بِالْجِنَايَةِ حَتَّى صَارَ كَاشِرَ الْأَسْنَانِ الشفتين

نُظِرَ فَإِنِ انْبَسَطَتَا فَذَلِكَ نَقْصٌ فِي الْمَنْفَعَةِ تَجِبُ فِيهِ حُكُومَةٌ ، وَإِنْ لَمْ تَنْبَسِطْ بِالْمَدِّ فَهُوَ ذَهَابُ جَمِيعِ الْمَنْفَعَةِ فَتَكْمُلُ فِيهِمَا الدِّيَةُ ، وَلَوْ تَقَلَّصَ بَعْضُهَا وَلَمْ يَنْبَسِطْ بِالْمَدِّ الشفتين في الجناية عليهما ( الدية ) فَفِيهِ مِنَ الدِّيَةِ بِحِسَابِ مَا تَقَلَّصَ ، وَلَوْ جَنَى عَلَيْهَا فَاسْتَرْخَتَا حَتَّى لَا يَنْفَصِلَا عَنِ الْأَسْنَانِ إِذَا كَشَّرَ أَوْ ضَحِكَ فَفِيهِمَا الدِّيَةُ كَامِلَةً ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ ، وَفِيهِ عِنْدِي نَظَرٌ ، لِبَقَاءِ مَنْفَعَتِهِمَا بِحِفْظِ الْأَسْنَانِ وَمَا يَدْخُلُ الْفَمَ مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ ، فَاقْتَضَى لِأَجْلِ ذَلِكَ أَنْ تَجِبَ فِيهِ حُكُومَةٌ بِخِلَافِ تَقَلُّصِهِمَا الْمُذْهِبِ لِجَمِيعِ مَنَافِعِهِمَا ، وَلَوْ شَقَّ الشَّفَةَ فَلَمْ يَنْدَمِلْ حَتَّى صَارَ كَالْأَعْلَمِ إِنْ كَانَ الشَّقُّ فِي الْعُلْيَا وَكَالْأَقْلَعِ إِنْ كَانَ الشَّقُّ فِي السُّفْلَى بالجناية ( الدية ) ، فَفِيهِ حُكُومَةٌ بِحَسَبِ الشَّيْنِ لَا يَبْلُغُ بِهَا إِحْدَى الشَّفَتَيْنِ ، وَإِنِ انْدَمَلَتْ فَفِيهِ حُكُومَةٌ تَقِلُّ عَنْ حُكُومَةِ مَا لَمْ يَنْدَمِلْ ، وَتَقِلَّ إِنِ انْدَمَلَتْ مُلْتَئِمَةً وَتَكْثُرْ إِنِ انْدَمَلَتْ غَيْرَ مُلْتَئِمَةٍ وَلَوْ قَطَعَ شَفَةً مَشْقُوقَةً بالجناية ( الدية ) لَزِمَهُ جَمِيعُ دِيَتِهَا إِنْ لَمْ يَذُبَّ الشَّقُّ شَيْئًا مِنْ مَنَافِعِهَا ، وَيُقَسِّطُهُ إِنْ أَذْهَبَ مَعْلُومَ الْقَدْرِ مِنْ مَنَافِعِهَا ، وَحُكُومَةً تَقِلُّ عَنْ دِيَتِهَا إِنْ لَمْ يُعْلَمْ قَدْرُ الذَّاهِبِ مِنْ مَنَافِعِهَا .

فَصْلٌ : وَحَدُّ الشَّفَتَيْنِ مَا وَصَفَهُ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " أَنَّهُ مَا زَايَلَ جِلْدَ الذَّقَنِ وَالْخَدَّيْنِ مِنَ الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلِ مُسْتَدِيرًا بِالْفَمِ كُلِّهِ مِمَّا ارْتَفَعَ عَنِ الْأَسْنَانِ وَاللِّثَةِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَفِي جِنَايَةِ الْعَمْدِ عَلَيْهِمَا الشفتين ( الدية ) الْقَوَدُ . وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ : لَا قَوَدَ فِيهِمَا ، لِأَنَّهُ قَطْعُ لَحْمٍ مِنْ لَحْمٍ فَصَارَ كَقَطْعِ بِضْعَةٍ مِنْ لُحْمَةٍ . وَهَذَا خَطَأٌ ، وَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ وُجُوبِ الْقَوَدِ أَصَحُّ ، لِأَنَّهُ مَحْدُودٌ وَإِنْ كَانَ لَحْمًا مُتَّصِلًا بِلَحْمٍ فَشَابَهَ الْمَحْدُودَ بِالْمُنْفَصِلِ وَخَالَفَ الْبِضْعَةَ مِنَ اللَّحْمِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا حَدٌّ وَلَا مَفْصِلٌ .

مَسْأَلَةٌ فِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَفِي اللِّسَانِ الجناية عليه ( الدية ) الدِّيَةُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، لِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي كِتَابِهِ إِلَى الْيَمَنِ : فِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ وَلِأَنَّهُ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلَا مُخَالِفَ لَهُمْ ، وَلِأَنَّهُ عُضْوٌ مِنْ تَمَامِ الْخِلْقَةِ فِيهِ جَمَالٌ وَمَنْفَعَةٌ يَأْلَمُ بِقَطْعِهِ ، وَرُبَّمَا سَرَى إِلَى نَفْسِهِ فَوَجَبَ أَنْ تَكْمُلَ فِيهِ الدِّيَةُ كَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ ، فَأَمَّا جَمَالُ اللِّسَانِ فَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ فِيمَ الْجَمَالُ ؟ قَالَ : فِي اللِّسَانِ . وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : الْمَرْءُ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِهِ .

وَأَمَّا مَنْفَعَةُ اللِّسَانِ فَالْمُعْتَمَدُ مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا : الْكَلَامُ الَّذِي يُعَبِّرُ بِهِ عَمَّا فِي نَفْسِهِ وَيَتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى إِرَادَتِهِ وَلِأَهْلِ التَّأْوِيلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ [ الرَّحْمَنِ : 3 ، 4 ] تَأْوِيلَانِ . أَحَدُهُمَا : الْخَطُّ . وَالثَّانِي : الْكَلَامُ . وَالثَّانِي مِنْ مَنَافِعِ اللِّسَانِ : حَاسَّةُ ذَوْقِهِ الَّذِي يُدْرِكُ بِهِ مَلَاذَ طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ ، وَيَعْرِفُ بِهِ فَرْقَ مَا بَيْنَ الْحُلْوِ وَالْحَامِضِ ، وَالَمُرِّ وَالْعَذْبِ . وَالثَّالِثُ : الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ فِي أَكْلِ الطَّعَامِ وَمَضْغِهِ وَإِدَارَتِهِ فِي لَهَوَاتِهِ حَتَّى يَسْتَكْمِلَ طَحْنَهُ فِي الْأَضْرَاسِ وَيَدْفَعَ بَقَايَاهُ مِنَ الْأَشْدَاقِ . وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ مِنْ أَجْلِ الْمَنَافِعِ الَّتِي لَا يُتَوَصَّلُ بِغَيْرِ اللِّسَانِ إِلَيْهَا ، فَكَانَ مِنْ أَجَلِّ الْأَعْضَاءِ نَفْعًا ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ فِي اللِّسَانِ الدِّيَةَ فَفِيهِ الدِّيَةُ كَامِلَةً إِذَا كَانَ نَاطِقًا سَلِيمًا ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ لِسَانِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ ، وَالْمُتَكَلِّمِ بِالْعَرَبِيَّةِ وَالْأَعْجَمِيَّةِ ، وَالْفَصِيحِ وَالْأَلْكَنِ ، وَالثَّقِيلِ وَالْعَجِلِ .

مَسْأَلَةٌ إِنْ خَرَسَ فَفِيهِ الدِّيَةُ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَإِنْ خَرَسَ فَفِيهِ الدِّيَةُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا جَنَى عَلَى لِسَانِهِ فَأَذْهَبَ كَلَامَهُ حَتَّى خَرِسَ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِحَرْفٍ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ كَامِلَةً ، لِأَنَّهُ قَدْ سَلَبَهُ أَعْظَمَ مَنَافِعِهِ ذَهَابَةً ، لِأَنَّ مَحَلَّهُ مِنَ اللِّسَانِ مَحَلُّ ذَهَابِ الْبَصَرِ مِنَ الْعَيْنِ ، وَلَوْ جَنَى عَلَيْهِ فَأَذْهَبَ حَاسَّةَ ذَوْقِهِ وَسَلَبَهُ لَذَّةَ طَعَامِهِ حَتَّى لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ طَعْمِ الْحُلْوِ وَالْحَامِضِ فَلَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ فِيهِ نَصٌّ ، وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ مَذْهَبُهُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ الدِّيَةُ كَامِلَةً ، لِأَنَّ الذَّوْقَ أَحَدُ الْحَوَاسِّ الْمُخْتَصَّةِ بِعُضْوٍ خَاصٍّ فَأَشْبَهَ حَاسَّةَ السَّمْعِ وَالشَّمِّ ، وَالذَّوْقُ أَنْفَعُ مِنَ الشَّمِّ وَآكَدُ ، فَكَانَ بِكَمَالِ الدِّيَةِ أَحَقَّ . فَإِنْ جَمَعَ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى لِسَانِهِ بَيْنَ ذَهَابِ كَلَامِهِ وَذَهَابِ ذَوْقِهِ كَانَ عَلَيْهِ دِيَتَانِ ، فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دِيَةٌ ، وَقَدْ يَصِحُّ بَقَاءُ الذَّوْقِ مَعَ قَطْعِ اللِّسَانِ ، لِأَنَّ حَاسَّةَ الذَّوْقِ تُدْرَكُ بِعَصَبِ اللِّسَانِ ، فَإِذَا بَقِيَ مِنْ عَصَبِهِ فِي أَصْلِهِ بَقِيَّةٌ كَانَ الذَّوْقُ بِهَا بَاقِيًا فَلِذَلِكَ لَمْ يَتَحَتَّمُ قَطْعُهُ إِلَّا بِذَهَابِ كَلَامِهِ ، فَإِنِ اقْتَرَنَ بِقَطْعِهِ اسْتِئْصَالُ الْعَصَبِ حَتَّى ذَهَبَ ذَوْقُهُ وَجَبَتْ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ دِيَتَانِ ، وَإِذَا وَجَبَ بِمَا ذَكَرْتُ أَنْ يَلْزَمَ فِي ذَهَابِهِ الذَّوْقَ - الدِّيَةُ ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَبْقَى مَعَ قَطْعِ اللِّسَانِ وَتَذْهَبَ مَعَ بَقَاءِ اللِّسَانِ إِذَا ذَهَبَ حِسُّ الْعَصَبِ تَعَلَّقَ بِكَمَالِ الدِّيَةِ بِذَهَابِ جَمِيعِ الذَّوْقِ ، فَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ مَذَاقِ الطُّعُومِ الْمُخْتَلِفَةِ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ نَقَصَ ذَوْقُهُ بِالْجِنَايَةِ فَنُقْصَانُهُ ضَرْبَانِ :

أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ نُقْصَانًا ضَعِيفًا ، وَهُوَ أَنْ يُدْرِكَ الْفَرْقَ مَا بَيْنَ الْحُلْوِ وَالْحَامِضِ وَلَا يُدْرِكُ حَقِيقَةَ الْحُلْوِ وَحَقِيقَةَ الْحَامِضِ ، فَذَا نَاقِصُ الْمَذَاقِ وَلَا يَنْحَصِرُ قَدْرُ نُقْصَانِهِ فَيَتَقَسَّطُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ ، فَوَجَبَ أَنْ تَلْزَمُهُ حُكُومَةٌ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النُّقْصَانِ فِي الْقَوَدِ وَالضَّعْفِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَذْهَبَ بِهَا بَعْضُ ذَوْقِهِ مَعَ بَقَاءِ بَعْضِهِ فَيَصِيرُ مُدْرِكًا طَعْمَ الْحَامِضِ دُونَ الْحُلْوِ وَطَعْمَ الْمُرِّ دُونَ الْعَذْبِ ، فَيَلْزَمُهُ مِنَ الدِّيَةِ بِقِسْطِ مَا أَذْهَبَ مِنْ مَذَاقِهِ ، وَعَدَدُ الْمَذَاقِ خَمْسَةٌ ، رُبَّمَا فَرَّعَهَا أَهْلُ الطِّبِّ إِلَى ثَمَانِيَةٍ عَلَى أُصُولِهِمْ لَا نَعْتَبِرُهَا فِي الْأَحْكَامِ ، لِدُخُولِ بَعْضِهَا فِي بَعْضٍ كَالْحَرَافَةِ مَعَ الْمَرَارَةِ ، وَالْخَمْسَةُ الْمُعْتَبَرَةُ : الْحُلْوُ ، وَالْحَامِضُ ، وَالْمُرُّ ، وَالْعَذْبُ وَالْمَالِحُ . فَتَكُونُ دِيَةُ الذَّوْقِ مُقَسَّطَةً عَلَى هَذِهِ الْخَمْسَةِ ، فَإِنْ أُذْهِبَ وَاحِدٌ مِنْهَا وَجَبَ عَلَيْهِ خُمُسُ الدِّيَةِ ، وَفِي الِاثْنَيْنِ خُمُسَاهَا ، وَلَا يُفَضَّلُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ كَمَا تُقَسَّطُ دِيَةُ الْكَلَامِ عَلَى أَعْدَادِ حُرُوفِهِ .

فَصْلٌ : فَإِنِ ادَّعَى الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ ذَهَابَ ذَوْقِهِ وَأَنْكَرَهُ الْجَانِي فَهُوَ مِنَ الْبَاطِنِ الَّذِي لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِ كَالشَّمِّ وَالسَّمْعِ ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مَعَ يَمِينِهِ بَعْدَ الِاسْتِظْهَارِ عَلَيْهِ فِي غَفَلَاتِهِ بِأَنْ يُمْزَجَ بِحُلْوِ طَعَامِهِ مُرًّا وَبِعَذْبِهِ مِلْحًا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ فَإِنِ اسْتَمَرَّ عَلَى تَنَاوُلِهَا وَلَمْ تُوجَدْ مِنْهُ أَمَارَاتُ كَرَاهَتِهَا دَلَّ عَلَى صِدْقِهِ ، وَأُحْلِفَ عَلَى ذَهَابِ ذَوْقِهِ ، وَإِنْ كَرِهَهَا وَظَهَرَتْ مِنْهُ أَمَارَاتُ كَرَاهَتِهَا صَارَ الظَّاهِرُ عَلَيْهِ لَا مَعَهُ ، فَيَصِيرُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْجَانِي مَعَ يَمِينِهِ عَلَى بَقَاءِ ذَوْقِهِ كَمَا قُلْنَا فِي ذَهَابِ الشَّمِّ وَالسَّمْعِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ إِذَا ذَهَبَ بِالْجِنَايَةِ عَلَى اللِّسَانِ بَعْضُ كَلَامِهِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَإِنْ ذَهَبَ بَعْضُ كَلَامِهِ اعْتُبِرَ عَلَيْهِ بِحُرُوفِ الْمُعْجَمِ ثُمَّ كَانَ مَا ذَهَبَ مِنْ عَدَدِ الْحُرُوفِ بِحِسَابِهِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُوَ كَمَا قَالَ : إِذَا ذَهَبَ بِالْجِنَايَةِ عَلَى اللِّسَانِ بَعْضُ كَلَامِهِ اعْتُبِرَ قَدْرُ الذَّاهِبِ مِنْهُ بِعَدَدِ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ الَّتِي عَلَيْهَا بِنَاءُ جَمِيعِ الْكَلَامِ ، وَهِيَ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ حَرْفًا إِنْ كَانَ عَرَبِيَّ اللِّسَانِ ، وَإِنْ كَانَ أَعْجَمِيَّ اللِّسَانِ اعْتُبِرَ عَدَدُ حُرُوفِ كَلَامِهِ ، فَإِنَّ حُرُوفَ اللُّغَاتِ مُخْتَلِفَةُ الْأَعْدَادِ وَالْأَنْوَاعِ ، فَالضَّادُ مُخْتَصَّةٌ بِالْعَرَبِيَّةِ ، وَبَعْضُهَا مُخْتَصٌّ بِالْأَعْجَمِيَّةِ ، وَبَعْضُهَا مُشْتَرِكٌ بَيْنَ اللُّغَاتِ كُلِّهَا ، وَبَعْضُ اللُّغَاتِ يَكُونُ حُرُوفُ الْكَلَامِ فِيهَا أَحَدًا وَعِشْرِينَ حَرْفًا ، وَبَعْضُهَا سِتَّةً وَعِشْرِينَ حَرْفًا ، وَبَعْضُهَا أَحَدًا وَثَلَاثِينَ حَرْفًا ، فَيُعْتَبَرُ قَدْرُ مَا ذَهَبَ مِنَ الْكَلَامِ بِقَدْرِ حُرُوفِ اللُّغَةِ الَّتِي يَتَكَلَّمُ بِهَا الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ ، فَإِذَا كَانَ عَرَبِيَّ اللِّسَانِ يُقَسَّطُ عَلَى تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ حَرْفًا ، وَمِنْهُمْ مَنْ عَدَّهَا ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ حَرْفًا وَأَسْقَطَ حَرْفًا لَا لِدُخُولِهِ فِي الْأَلِفِ وَاللَّامِ ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ حُرُوفُ الْحَلْقِ وَالشَّفَةِ ، هَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَقَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِهِ ، وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَكُونُ مَا ذَهَبَ مِنَ الْكَلَامِ مُعْتَبَرًا بِعَدَدِ حُرُوفِ

اللِّسَانِ ، وَيَسْقُطُ مِنْهَا حُرُوفُ الْحَلْقِ وَالشَّفَةِ ، وَهِيَ عَشَرَةُ أَحْرُفٍ ، سِتَّةٌ مِنْهَا حَلْقِيَّةٌ : وَهِيَ هَمْزَةُ الْأَلِفِ ، وَالْحَاءُ ، وَالْخَاءُ ، وَالْعَيْنُ ، وَالْغَيْنُ ، وَالْهَاءُ . وَأَرْبَعَةٌ مِنْهَا شَفَوِيَّةٌ وَهِيَ الْبَاءُ ، وَالْفَاءُ ، وَالْمِيمُ ، وَالْوَاوُ . وَيَبْقَى مِنْ حُرُوفِ الْكَلَامِ مَا يَخْتَصُّ بِاللِّسَانِ وَهُوَ تِسْعَةَ عَشَرَ حَرْفًا تَتَقَسَّطُ عَلَيْهَا مَا ذَهَبَ مِنَ الْكَلَامِ ، فَإِنْ ذَهَبَ مِنْهُ حَرْفٌ كَانَ عَلَيْهِ جُزْءًا مِنْ تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنَ الدِّيَةِ وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ هَذِهِ وَإِنْ كَانَ مَخَارِجُهَا فِي الْحَلْقِ فَالشَّفَةُ وَاللِّسَانُ مُعَبِّرٌ عَنْهَا وَنَاطِقٌ بِهَا ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَتَلَفَّظِ الْأَخْرَسُ بِهَا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَقْتَضِي غَيْرَ قَوْلِهِمَا أَنْ لَا يَلْزَمَ بِالْجِنَايَةِ عَلَى لِسَانِهِ ضَمَانُ مَا ذَهَبَ مِنْ حُرُوفِ الْحَلْقِ وَالشَّفَةِ ، وَيَكُونُ ضَمَانُهُ مُخْتَصًّا بِمَا ذَهَبَ مِنْ حُرُوفِ اللِّسَانِ وَهِيَ تِسْعَةَ عَشَرَ ، وَيَكُونُ ضَمَانُ الْحُرُوفِ الْحَلْقِيَّةِ وَالشَّفَوِيَّةِ سَاقِطًا عَنْهُ ، لِأَنَّهُ لَمْ يُجَزَّأْ عَلَى مَحَلِّهِ ، قَالَاهُ لَمْ يَقُلْهُ غَيْرُهُمَا ، وَإِنْ لَمْ يَقُولَاهُ فَسَدَ تَعْلِيلُهُمَا . وَالثَّالِثُ : يَلْزَمُهُمَا فِي الْحُرُوفِ الشَّفَوِيَّةِ أَنْ يَضْمَنَهَا إِذَا جَنَى عَلَى شَفَتِهِ ، فَإِنْ قَالَاهُ رَكِبَا الْبَابَ ، وَإِنْ لَمْ يَقُولَاهُ فَسَدَ التَّعْلِيلُ وَصَحَّ مَا رَأَيْنَاهُ مِنِ اعْتِبَارِ جَمِيعِهَا بِاللِّسَانِ الْمُفْصِحِ عَنْهَا وَالْمُتَرْجِمِ لَهَا ، فَإِنْ أَذْهَبَ بِحَرْفٍ وَاحِدٍ مِنْهَا كَانَ عَلَيْهِ جُزْءًا مِنْ تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنَ الدِّيَةِ ، وَإِنْ أَذْهَبْ بِعَشَرَةِ أَحْرُفٍ كَانَ عَلَيْهِ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ ، وَعَلَى قِيَاسِ هَذَا فِيمَا زَادَ وَنَقَصَ ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مَا خَفَّ عَلَى اللِّسَانِ وَقَلَّ هِجَاؤُهُ أَوْ ثَقُلَ عَلَى اللِّسَانِ وَكَثُرَ هِجَاؤُهُ لَا يُفَضَّلُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ ، وَتَكُونُ الدِّيَةُ مُقَسَّطَةً عَلَى أَعْدَادِ جَمِيعِهَا .

فَصْلٌ : فَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْتَبِرَ كُلَّ حَرْفٍ مِنْهَا فِي بَقَائِهِ وَذَهَابِهِ ، لَمْ تَعْتَبِرْ مُفْرَدَاتُ الْحُرُوفِ ، لِأَنَّ لِلْحَرْفِ الْوَاحِدِ يُجْمَعُ فِي الْهِجَاءِ حُرُوفًا ، لَكِنْ تَعْتَبِرُهُ بِكَلِمَةٍ يَكُونُ الْحَرْفُ مِنْ جُمْلَتِهَا إِمَّا فِي أَوَّلِهَا أَوْ فِي وَسَطِهَا أَوْ فِي آخِرِهَا ، وَلَوِ اعْتَبَرْتَهُ فِي الْأَوَّلِ وَالْوَسَطِ وَالْأَخِيرِ كَانَ أَحْوَطَ ، فَإِذَا أَرَدْتَ اعْتِبَارَهُ فِي أَوَّلِ الْكَلِمَةِ وَكَانَ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْأَلِفَ أَمَرْتَهُ أَنْ يَقُولَ : أَحْمَدُ وَأَسْهَلُ وَأَبْصَرُ وَأَبْعَدُ ، لِيَكُونَ بَعْدَ الْأَلْفِ حُرُوفٌ مُتَغَايِرَةٌ يَزُولُ بِهَا الِاشْتِبَاهُ ، فَإِنْ لَمْ يَسْلَمْ لَهُ الْأَلِفُ فِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَالْأَفْعَالِ كَانَتْ ذَاهِبَةً ، وَإِنْ سَلِمَتْ كَانَتْ بَاقِيَةً . وَإِذَا أَرَدْتَ اعْتِبَارَ الْبَاءِ أَمَرْتَهُ أَنْ يَقُولَ : بَرَكَةً وَبَابًا وَبُعْدًا ، ثُمَّ عَلَى هَذِهِ الْعِبْرَةِ مِنْ جَمِيعِ الْحُرُوفِ ، فَإِنْ ثَقُلَ عَلَيْهِ الْحَرْفُ ثُمَّ يَأْتِي بِهِ سَلِيمًا عُدَّ فِي السَّلِيمِ دُونَ الذَّاهِبِ ، وَإِنْ قَلَبَهُ بِلُثْغَةٍ صَارَتْ فِي لِسَانِهِ عُدَّ فِي الذَّاهِبِ دُونَ السَّلِيمِ ، لِأَنَّ الْأَلْثَغَ يُبَدِّلُ الْحُرُوفَ

بِاعْتِبَارِهَا فَصَارَ حَرْفُ اللُّثْغَةِ ذَاهِبًا ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَارَ بِهِ أَرَتَّ ، لِأَنَّ مَا خَفِيَ بِالرَّتَّةِ مَعْدُودًا فِي الذَّاهِبِ دُونَ السَّلِيمِ ، لِأَنَّ الْأَرَتَّ يَأْتِي مِنَ الْكَلِمَةِ بَعْضَهَا وَيُسْقِطُ بَعْضَهَا وَلَوْ صَارَ أَرَدُّ يُرَدِّدُ الْكَلِمَةَ مِرَارًا أَوْ فَأْفَاءًا يُكَرِّرُ الْفَاءَ مِرَارًا ، أَوْ تِمْتَامًا يُكَرِّرُ التَّاءَ مِرَارًا ، عُدَّ ذَلِكَ مِنْهُ فِي السَّلِيمِ دُونَ الذَّاهِبِ ، لِأَنَّ الْحَرْفَ مِنْهُ سَلِيمٌ ، وَإِنْ تَكَرَّرَ فَفِيهِ حُكُومَةٌ ، لِأَنَّ فِيهِ مَعَ بَقَائِهِ نَقْصًا ، وَلَوْ كَانَ الْبَاقِي مِنْ حُرُوفِ كَلَامِهِ بَعْدَ الذَّاهِبِ مِنْهُ لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ لَمْ يَضْمَنْهُ الْجَانِي ، لِلْعِلْمِ بِأَنَّ بَعْضَ الْحُرُوفِ لَا يَقُومُ مَقَامَ جَمِيعِهَا فَلَمْ يَلْزَمْ إِلَّا ضَمَانَ الذَّاهِبِ مِنْهَا .

مَسْأَلَةٌ إِذَا قَطَعَ بَعْضَ لِسَانِهِ فَذَهَبَ بَعْضُ كَلَامِهِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَإِنْ قَطَعَ رُبُعَ اللِّسَانِ فَذَهَبَ بِأَقَلَّ مِنْ رُبُعِ الْكَلَامِ فَرُبُعُ الدِّيَةِ وَإِنْ ذَهَبَ نِصْفُ الْكَلَامِ فَنِصْفُ الدِّيَةِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا قَطَعَ بَعْضَ لِسَانِهِ فَذَهَبَ بَعْضُ كَلَامِهِ كَانَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَمْرَيْنِ مِمَّا قَطَعَ مِنَ اللِّسَانِ أَوْ ذَهَبَ مِنَ الْكَلَامِ ، فَإِنْ قَطَعَ نِصْفَ لِسَانِهِ فَذَهَبَ نِصْفُ كَلَامِهِ فَقَدِ اسْتَوَيَا وَعَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ ، وَإِنْ قَطَعَ رُبُعَ لِسَانِهِ فَذَهَبَ نِصْفُ كَلَامِهِ كَانَ عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ اعْتِبَارًا بِمَا ذَهَبَ مِنَ الْكَلَامِ دُونَ اللِّسَانِ ، لِأَنَّهُ أَكْثَرُ ، وَإِنْ قَطَعَ نِصْفَ لِسَانِهِ فَذَهَبَ رُبُعُ كَلَامِهِ كَانَ عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ اعْتِبَارًا بِمَا قَطَعَ عَنِ اللِّسَانِ ، لِأَنَّهُ أَكْثَرُ ، وَعَلَى هَذِهِ الْعِبْرَةِ فِيمَا زَادَ أَوْ نَقَصَ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْعِلَّةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا اعْتُبِرَ وُجُوبُ أَكْثَرِ الْأَمْرَيْنِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ تَعْلِيلُ أَبِي كُنَيْزٍ وَظَاهِرُ تَعْلِيلِ الشَّافِعِيِّ فِي " الْأُمِّ " : أَنَّ مَنْفَعَةَ الْعُضْوِ إِذَا ضُمِنَتْ بِدِيَتِهِ اعْتُبِرَ فِيهَا الْأَكْثَرُ مِنْ ذَهَابِ الْمَنْفَعَةِ أَوْ ذَهَابِ الْعُضْوِ . أَلَّا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ الْخِنْصَرَ مِنْ أَصَابِعِ الْيَدِ فَشُلَّ جَمِيعُهَا لَزِمَهُ دِيَةُ جَمِيعِهَا ، لِذَهَابِ جَمِيعِ مَنَافِعِهَا ، وَلَوْ لَمْ يُشَلَّ بَاقِيهَا لَزِمَهُ دِيَةُ الْإِصْبَعِ وَهُوَ خُمُسُ دِيَةِ الْيَدِ ، لِأَنَّهُ أَخَذَ خُمُسَ الْيَدِ وَإِذَا كَانَ الذَّاهِبُ بِهَا أَقَلَّ مِنْ خُمُسِ الْمَنْفَعَةِ ، كَذَلِكَ فِيمَا ذَهَبَ مِنَ اللِّسَانِ وَالْكَلَامِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ تَعْلِيلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ قَطْعَ رُبُعِ اللِّسَانِ إِذَا أَذْهَبَ نِصْفَ الْكَلَامِ دَلِيلٌ عَلَى شَلَلِ رُبُعِ اللِّسَانِ فِي الْبَاقِي مِنْهُ ، فَيَلْزَمُهُ نِصْفُ دِيَتِهِ ، رُبُعُهَا بِالْقَطْعِ ، وَرُبُعُهَا بِالشَّلَلِ ، وَفَائِدَةُ هَذَا الِاخْتِلَافِ فِي التَّعْلِيلِ مُؤَثِّرٌ فِي فِرْعَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَقْطَعُ رُبُعَ لِسَانِهِ فَيَذْهَبُ نِصْفُ كَلَامِهِ فَيَلْزَمُهُ نِصْفُ الدِّيَةِ ، ثُمَّ يَأْتِي آخَرُ فَيَقْطَعُ بَاقِيَ لِسَانِهِ فَعَلَى التَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ تَلْزَمُهُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ ، لِأَنَّهُ قَطَعَ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ

اللِّسَانِ ، وَعَلَى التَّعْلِيلِ الثَّانِي يَلْزَمُهُ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي نِصْفِ اللِّسَانِ ، وَحُكُومَةٌ فِي رُبُعِهِ ، لِأَنَّ نِصْفَهُ سَلِيمٌ وَرُبُعُهُ أَشَلُّ . وَالْفَرْعُ الثَّانِي : أَنْ يَقْطَعَ نِصْفَ لِسَانِهِ فَيَذْهَبَ رُبُعُ كَلَامِهِ ، فَيَلْزَمَهُ نِصْفُ الدِّيَةِ ثُمَّ يَأْتِي آخَرُ فَيَقْطَعُ بَاقِيَ لِسَانِهِ ، فَعَلَى التَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ فِي اعْتِبَارِ الْأَغْلَظِ تَلْزَمُهُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ لِأَنَّهُ أَذْهَبَ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ كَلَامِهِ ، وَعَلَى التَّعْلِيلِ الثَّانِي فِي اعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ تَلْزَمُهُ نِصْفُ الدِّيَةِ ، لِأَنَّهُ قَطَعَ نِصْفَ لِسَانِهِ .

فَصْلٌ : فَإِنْ أَخَذَ دِيَةَ مَا ذَهَبَ مِنْ كَلَامِهِ ثُمَّ نَطَقَ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ رَدَّ دِيَةَ مَا أَخَذَهُ ، وَلَوْ عَادَ بَعْضُهُ رَدَّ دِيَةَ مَا عَادَ وَاسْتَحَقَّ دِيَةَ مَا لَمْ يُعِدْ ، وَلَوْ أَخَذَ دِيَةَ مَا ذَهَبَ مِنْ كَلَامِهِ ثُمَّ ذَهَبَ بَعْدَ ذَلِكَ حُرُوفٌ أُخَرُ مِنْ كَلَامِهِ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ انْدِمَالِ لِسَانِهِ وَسُكُونِ أَلَمِهِ ضَمِنَهَا ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الِانْدِمَالِ وَسُكُونِ الْأَلَمِ لَمْ يَضْمَنْ إِلَّا مَا تَقَدَّمَ .

فَصْلٌ : وَإِذَا خُلِقَ لِلِسَانِهِ طَرَفَانِ فَقَطَعَ أَحَدَهُمَا ديته فَلَا يَخْلُو حَالُهُ بَعْدَ قَطْعِهِ مِنْ أَنْ يَنْطِقَ بِجَمِيعِ كَلَامِهِ أَوْ لَا يَنْطِقَ ، فَإِنْ نَطَقَ بِجَمِيعِهِ لَمْ يَخْلُ حَالُ الطَّرَفِ الْمَقْطُوعِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لِلطَّرَفِ الثَّانِي فِي تَخْرِيجِهِ مِنْ أَصْلِ اللِّسَانِ أَوْ يَكُونَ خَارِجًا عَنْهُ ، فَإِنْ سَاوَاهُ لَزِمَهُ فِيهِ مِنَ الدِّيَةِ بِقِسْطِ الْمَقْطُوعِ مِنْ قَدْرِ اللِّسَانِ . وَلَوْ قَطَعَ الطَّرَفَيْنِ مَعًا إذا كان للسانه طرفين ( الدية ) لَزِمَهُ مِنَ الدِّيَةِ بِقِسْطِهِمَا مِنْ جَمِيعِ اللِّسَانِ ، وَإِنْ كَانَ الطَّرَفُ الْمَقْطُوعُ خَارِجًا عَنِ الِاسْتِقَامَةِ فِي اللِّسَانِ فَهُوَ طَرَفٌ زَائِدٌ يَلْزَمُهُ فِي قَطْعِهِ حُكُومَةٌ لَا تَبْلُغُ قِسْطَهُ مِنَ الدِّيَةِ لَوْ كَانَ مِنْ أَصْلِ اللِّسَانِ ، وَلَوْ قَطَعَ الطَّرَفَيْنِ مَعًا لَزِمَهُ فِي الزَّائِدِ حُكُومَةٌ ، وَفِي طَرَفِ الْأَصْلِ قِسْطُهُ مِنَ الدِّيَةِ ، وَلَوْ قَطَعَ جَمِيعَ اللِّسَانِ مِنْ أَصْلِهِ ديته لَزِمَهُ دِيَةُ اللِّسَانِ وَحُكُومَةٌ فِي الطَّرَفِ الزَّائِدِ ، وَإِنْ ذَهَبَ مَعَ قَطْعِ هَذَا الطَّرَفِ الزَّائِدِ شَيْءٌ مِنْ كَلَامِهِ لَزِمَهُ أَكْثَرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ دِيَةِ الذَّاهِبِ مِنْ كَلَامِهِ أَوِ الْمَقْطُوعِ مِنْ لِسَانِهِ .

فَصْلٌ : وَلَوْ قَطَعَ بَاطِنَ لِسَانِهِ ديته لَزِمَهُ قِسْطُهُ مِنَ الدِّيَةِ ، فَإِنْ أَذْهَبْ بِشَيْءٍ مِنْ كَلَامِهِ لَزِمَهُ أَكْثَرُ الْأَمْرَيْنِ ، وَلَا قَوَدَ فِيهِ ، لِتَعَذُّرِهِ ، وَلَا قَوَدَ فِي ذَهَابِ الْكَلَامِ أَيْضًا إِذَا أَذْهَبَهُ مَعَ بَقَاءِ اللِّسَانِ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ قَطَعَ نِصْفَ لِسَانِهِ فَذَهَبَ بِهِ نِصْفُ كَلَامِهِ قَطَعَ نِصْفَ لِسَانِ الْجَانِي : لِأَنَّ فِي جَمِيعِ اللِّسَانِ وَفِي بَعْضِهِ قَوَدٌ ، فَإِنْ ذَهَبَ بِالْقَوَدِ نِصْفُ كَلَامِهِ كَانَ وَفَاءَ جِنَايَتِهِ ، وَإِنْ ذَهَبَ بِرُبُعِ كَلَامِهِ لَزِمَهُ مَعَ الْقَوَدِ دِيَةُ رُبُعِ الْكَلَامِ ، وَلَوْ ذَهَبَ بِقَطْعِهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ كَلَامِهِ ، فَقَدْ وَفَى الْمُسْتَحَقَّ بِجِنَايَتِهِ ، وَكَانَ الزَّائِدُ فِيمَا ذَهَبَ مِنْ كَلَامِهِ هَدَرًا ، لِحُدُوثِهِ عَنْ قَوَدٍ مُسْتَحَقٍّ ، فَأَمَّا قَطْعُ اللَّهَاةِ ديته فَفِيهِ الْقَوَدُ إِنْ أَمْكَنَ ، وَفِيهِ حُكُومَةٌ لَا تَتَقَدَّرُ بِقِسْطٍ مِنْ دِيَةِ اللَّهَاةِ عَنِ الْأَعْضَاءِ الَّتِي قُدِّرَتْ فِيهَا الدِّيَاتُ .

مَسْأَلَةٌ فِي لِسَانِ الصَّبِيِّ إِذَا حَرَّكَهُ بِبُكَاءٍ أَوْ بِشَيْءٍ يُغَيِّرُ اللِّسَانَ الدِّيَةُ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَفِي لِسَانِ الصَّبِيِّ إِذَا حَرَّكَهُ بِبُكَاءٍ أَوْ بِشَيْءٍ يُغَيِّرُ اللِّسَانَ ديته الدِّيَةُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ لِسَانَ الصَّبِيِّ الطِّفْلِ يَعْجِزُ عَنِ الْكَلَامِ لِضَعْفِ الصِّغَرِ كَمَا تَعْجِزُ أَعْضَاؤُهُ عَنِ اسْتِيفَاءِ الْحَرَكَةِ ، فَيَلْزَمُ فِي لِسَانِهِ إِذَا كَانَ مَعْرُوفَ السَّلَامَةِ جَمِيعُ الدِّيَةِ مِثْلَ مَا يَلْزَمُ فِي لِسَانِ النَّاطِقِ الْكَبِيرِ ، كَمَا يَلْزَمُ فِي رِجْلَيْهِ جَمِيعُ الدِّيَةِ إِذَا عُرِفَتْ سَلَامَتُهُمَا وَإِنْ كَانَ يَنْهَضُ لِلْمَشْيِ بِهِمَا ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأَوَّلُ مَا يَظْهَرُ مِنَ الطِّفْلِ حَرْفُ الْحَلْقِ فِي الْبُكَاءِ ، ثُمَّ حُرُوفُ الشَّفَةِ فِي بَابَا وَمَامَا ، ثُمَّ حُرُوفُ اللِّسَانِ إِذَا تَكَلَّمَ ، وَبَعْضُ ذَلِكَ يَتْلُو بَعْضًا ، فَإِذَا عُرِفَ مِنْهُ أَحَدُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فِي زَمَانِهِ دَلَّ عَلَى سَلَامَةِ لِسَانِهِ فَكَمُلَتْ فِيهِ الدِّيَةُ وَإِنْ لَمْ يَسْتَكْمِلِ الْكَلَامَ ، لِأَنَّهُ يَكْمُلُ فِي غَالِبِ الْعُرْفِ إِذَا بَلَغَ زَمَانَ الْكَمَالِ ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ فِي أَوْقَاتِ هَذِهِ الْحُرُوفِ مَا يَدُلُّ عَلَى سَلَامَةِ لِسَانِهِ كَانَ ظَاهِرُهُ دَلِيلًا عَلَى خَرَسِهِ ، فَيَلْزَمُهُ فِيهِ حُكُومَةٌ ، وَلَوْ قَطَعَهُ سَاعَةَ وِلَادَتِهِ قَبْلَ أَوْقَاتِ حَرَكَاتِ لِسَانِهِ صَارَ لِسَانُهُ وَإِنْ كَانَ مِنَ الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ مِنَ الْكَبِيرِ جَارِيًا مَجْرَى الْأَعْضَاءِ الْبَاطِنَةِ فَيَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُحْمَلُ عَلَى الصِّحَّةِ ، لِتَعَذُّرِ الْبَيِّنَةِ فِيهِ اعْتِبَارًا بِالْأَغْلَبِ مِنْ أَحْوَالِ السَّلَامَةِ ، وَتَكْمُلُ فِيهِ الدِّيَةُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى عَدَمِ الصِّحَّةِ ، لِأَنْ لَا يَقْضِيَ بِالْإِلْزَامِ مَعَ إِمْكَانِ الْإِسْقَاطِ اعْتِبَارًا بِبَرَاءَةِ الذِّمَّةِ ، وَتَجِبُ فِيهِ حُكُومَةٌ .

مَسْأَلَةٌ فِي لِسَانِ الْأَخْرَسِ حُكُومَةٌ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَفِي لِسَانِ الْأَخْرَسِ حُكُومَةٌ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ فِي لِسَانِ الْأَخْرَسِ بالجناية عليه ( الجناية ) الدِّيَةُ ، لِأَنَّهُ قَدْ سُلِبَ الْكَلَامَ الَّذِي هُوَ الْأَخَصُّ الْأَغْلَبُ مِنْ مَنَافِعِ اللِّسَانِ وَإِنْ بَقِيَ بِالْخَرَسِ بَعْضُ مَنَافِعِهِ وَهُوَ الذَّوْقُ وَتَصَرُّفُهُ فِي مَضْغِ الطَّعَامِ فَلَمْ تَبْلُغْ دِيَتُهُ دِيَةَ لِسَانِ كَامِلِ الْمَنَافِعِ . فَإِنْ قِيلَ : فَمِثْلُهُ لِسَانُ الصَّبِيِّ فَهَلَّا كَانَ فِيهِ أَيْضًا حُكُومَةٌ ؟ قِيلَ : لِأَنَّ لِسَانَ الصَّبِيِّ سَلِيمُ الْكَلَامِ ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ فِي زَمَانِهِ ، وَهَذَا مَعْدُومُ الْكَلَامِ ، لِأَنَّهُ مَفْقُودٌ فِي زَمَانِهِ فَافْتَرَقَا ، فَلَوْ كَانَ اللِّسَانُ مَسْلُوبَ الذَّوْقِ لَا يُحِسُّ بِهِ طُعُومَ الْمَأْكُولَاتِ وَالْمَشْرُوبَاتِ وَهُوَ نَاطِقٌ سَلِيمُ الْكَلَامِ لَمْ تَكْمُلْ فِيهِ الدِّيَةُ ، وَكَانَ فِيهِ حُكُومَةٌ كَالْأَخْرَسِ ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ الشَّافِعِيُّ بِنَاءً عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ إِذَا أَذْهَبَتْ بِذَوْقِهِ أَنَّ فِيهِ الدِّيَةَ ، وَحُكُومَةُ الْمَسْلُوبِ الذَّوْقِ أَقَلُّ مِنْ حُكُومَةِ الْمَسْلُوبِ الْكَلَامِ ، لِأَنَّ نَقْصَ الْكَلَامِ أَظْهَرُ ، وَالْحَاجَةُ إِلَيْهِ أَدْعَى ، وَلَوِ ابْتَدَأَ بِالْجِنَايَةِ عَلَى لِسَانِ نَاطِقٍ فَأَخْرَسَهُ ، وَضَمِنَ بِالْخَرَسِ دِيَتَهُ ، ثُمَّ عَادَ هُوَ فَقَطَعَ لِسَانَهُ لَزِمَهُ حُكُومَةٌ ، لِأَنَّهُ قَطَعَ بَعْدَ الْجِنَايَةِ الْأُولَى لِسَانَ

أَخْرَسَ ، كَمَا لَوْ أَشَلَّ يَدَهُ بِجِنَايَةٍ ثُمَّ قَطَعَهَا بَعْدَ الشَّلَلِ لَزِمَتْهُ دِيَةٌ فِي الشَّلَلِ وَحُكُومَةٌ فِي الْقَطْعِ بَعْدَهُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : فَإِنْ قَالَ لَمْ أَكُنْ أَبْكَمَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْجَانِي مَعَ يَمِينِهِ فَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ نَاطِقٌ فَهُوَ نَاطِقٌ حَتَّى يُعْلَمَ خِلَالَ ذَلِكَ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ مَا مَضَى إِذَا اخْتَلَفَا بَعْدَ قَطْعِ اللِّسَانِ فِي سَلَامَتِهِ وَخَرَسِهِ الأخرس في الجناية عليه ( ديته ) فَادَّعَى الْجَانِي أَنَّهُ كَانَ أَخْرَسَ وَادَّعَى الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ نَاطِقًا فَاللِّسَانُ مِنَ الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ فِي الْكَبِيرِ ، لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ بِنُطْقِهِ وَسَلَامَتِهِ ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ الْجَانِي مَعَ يَمِينِهِ إِنْ لَمْ يَعْتَرِفْ لَهُ بِتَقَدُّمِ السَّلَامَةِ ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ مِنْ قَوَدٍ وَعَقْلٍ ، فَإِنِ اعْتَرَفَ لَهُ بِتَقَدُّمِ السَّلَامَةِ وَادَّعَى زَوَالَهَا قَبْلَ جِنَايَتِهِ دية الجناية على الأخرس فَهُوَ عَلَى قَوْلَيْنِ كَمَنْ قَطَعَ مَلْفُوفًا فِي ثَوْبٍ وَادَّعَى أَنَّهُ كَانَ مَيِّتًا - فِيهِ قَوْلَانِ ، كَذَلِكَ هَاهُنَا . فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ يَصِحُّ مِنَ الْمَقْطُوعِ اللِّسَانِ أَنْ يَقُولَ لَمْ أَكُنْ أَبْكَمَ وَهُوَ لَا يَقْدِرُ بَعْدَ قَطْعِهِ عَلَى الْقَوْلِ . قِيلَ : مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَشَارَ بِالْعَيْنِ فَعَبَّرَ عَنِ الْإِشَارَةِ بِالْقَوْلِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ : وَقَالَتْ لَهُ الْعَيْنَانِ سَمْعًا وَطَاعَةً وَخِدْرُنَا كَالدُّرِّ لَمَّا يُثْقَبِ فَعَبَّرَ عَنْ إِشَارَةِ الْعَيْنَيْنِ بِالْقَوْلِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا قَطَعَ لِسَانَهُ فَأَخَذَ بِالْقَوَدِ أَوِ الدِّيَةِ ثُمَّ ثَبَتَ لِسَانُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى سِنِّ الْمَثْغُورِ إِذَا نَبَتَ بَعْدَ أَخْذِ دِيَتِهَا ، وَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا عَطِيَّةٌ مِنَ اللَّهِ لَا يَسْتَرْجِعُ بِهَا مَا أَخَذَهُ مِنْ دِيَتِهَا ، فَعَلَى هَذَا أَوْلَى فِي اللِّسَانِ أَنْ يَكُونَ عَطِيَّتُهُ مُسْتَجَدَّةً لَا يَسْتَرْجِعُ بَعْدَ نَبَاتِهِ بِمَا أَخَذَهُ مِنْ دِيَتِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ هَذِهِ السِّنَّ الثَّابِتَةَ خَلَفٌ مِنَ السِّنِّ الذَّاهِبَةِ دَلَّ عَلَى بَقَاءِ أَصْلِهَا ، فَيَسْتَرْجِعُ مِنْهُ بَعْدَ نَبَاتِهَا مَا أَخَذَهُ مِنْ دِيَتِهَا ، فَعَلَى هَذَا هَلْ يَكُونُ حُكْمُ اللِّسَانِ إِذَا نَبَتَ بعد أخذ الدية كَذَلِكَ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي عَوْدِ ضَوْءِ الْعَيْنِ بَعْدَ ذَهَابِهِ ديته في الجناية عليه ، وَلَكِنْ لَوْ جَنَى عَلَى لِسَانِهِ فَخَرِسَ وَغَرِمَ دِيَتَهُ ثُمَّ عَادَ فَنَطَقَ رَدَّ مَا أَخَذَهُ مِنَ الدِّيَةِ قَوْلًا وَاحِدًا ، بِخِلَافِ اللِّسَانِ إِذَا نَبَتَ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ ذَهَابَ اللِّسَانِ مُسْتَحَقٌّ وَأَنَّ النَّابِتَ غَيْرُهُ وَذَهَابُ الْكَلَامِ مَظْنُونٌ ، فَدَلَّ النُّطْقُ عَلَى بَقَائِهِ .

مَسْأَلَةٌ فِي السِّنِّ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ إِذَا كَانَ قَدْ أَثْغَرَ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَفِي السِّنِّ الجناية عليه ( الدية ) خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ إِذَا كَانَ قَدْ أَثْغَرَ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : فِي كُلِّ سِنٍّ مِنْ أَسْنَانِ الْمَثْغُورِ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ ، لِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي كِتَابِهِ إِلَى الْيَمَنِ : وَفِي السِّنِّ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : وَفِي الْأَسْنَانِ خَمْسٌ خَمْسٌ فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا النَّصُّ فِي وُجُوبِ خَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ فِي كُلِّ سِنٍّ ، فَإِنَّمَا هِيَ مِنْ أَسْنَانِ الْمَثْغُورِ الَّتِي لَا تَعُودُ فِي الْأَغْلَبِ بَعْدَ الْقَلْعِ ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ صِغَارًا أَوْ كِبَارًا ، طِوَالًا أَوْ قِصَارًا ، كَمَا تُسَاوَى دِيَاتُ الْأَطْرَافِ مَعَ الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ ، وَالطُّولِ وَالْقَصْرِ ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ بَيْضَاءَ مِلَاحًا أَوْ سَوْدَاءَ قِبَاحًا كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ أَوْ طَارِئًا عَلَيْهَا ، بَاقِيَةَ الْمَنَافِعِ ، لِأَنَّ الْقَلْعَ قَدْ أَبْطَلَ مَنَافِعَهَا وَكَانَتْ كَامِلَةً وَازْدَادَ مَحَلُّهَا بِالْقَلْعِ قُبْحًا فَصَارَ مُذْهِبًا لِنَفْعِهَا وَجَمَالِهَا ، فَلِذَلِكَ كَمَّلَ دِيَتَهَا ، فَإِنْ قَلَعَهَا مِنْ أَصْلِهَا مَعَ سِنْخِهَا الدَّاخِلِ فِي لَحْمِ اللِّثَةِ الْمُمْسِكِ لَهَا بِمَرَابِطِ الْعَصَبِ فَفِيهَا دِيَتُهَا خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ فِي قَلْعِهَا مَعَ سِنْخِهَا الْمَغِيبِ حُكُومَةٌ زَائِدَةٌ ، لِأَنَّ السِّنْخَ تَابِعٌ لِمَا ظَهَرَ كَتَبَعِ الْكَفِّ لِلْأَصَابِعِ ، وَإِنْ قَلَعَ مَا ظَهَرَ مِنَ السِّنِّ وَخَرَجَ عَنْ لَحْمِ اللِّثَةِ وَبَقِيَ السِّنْخُ الْمَغِيبُ جَرَى مَجْرَى قَطْعِ الْأَصَابِعِ مِنَ الْكَفِّ ، فَإِنْ عَادَ أَوْ غَيْرُهُ فَقَلَعَ السِّنْخَ الْمَغِيبَ فَفِيهِ حُكُومَةٌ ، كَمَا لَوْ عَادَ بَعْدَ قَطْعِ الْأَصَابِعِ فَقَطَعَ الْكَفَّ لَزِمَهُ حُكُومَةٌ ، وَلَوْ كَسَرَ بَعْضَ سِنِّهِ لَزِمَهُ مِنَ الدِّيَةِ بِقِسْطِهِ وَهُوَ مُقَدَّرٌ مِنَ الظَّاهِرِ الْبَارِزِ عَنْ لَحْمِ اللِّثَةِ دُونَ السِّنْخِ الْمَغِيبِ فِيهَا ، لِأَنَّ الدِّيَةَ تَكْمُلُ بِقَلْعِ مَا ظَهَرَ فَكَانَ الْكَسْرُ مُعْتَبَرًا بِالظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ ، فَلَوْ تَقَلَّصَ عَمُودُ اللِّثَةِ حَتَّى ظَهَرَ مِنَ السِّنْخِ الْمَغِيبِ فِي اللِّثَةِ مَا لَمْ يَكُنْ ظَاهِرًا الجناية عليه كَانَ الْمَكْسُورُ مِنَ السِّنِّ مُعْتَبَرًا بِمَا كَانَ بَارِزًا مِنْهَا قَلُوصُ الْعُمُورِ عَنْهَا ، وَلَا يَعْتَبَرُ بِمَا ظَهَرَ بَعْدَهُ قُلُوصُهُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَاعْتُبِرَ الْمَكْسُورُ مِنْهَا فَإِنْ كَانَ النِّصْفُ لَزِمَهُ نِصْفُ دِيَتِهَا ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ فَبِحِسَابٍ مِنْ دِيَتِهَا ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَكْسُورُ مِنْ طُولِهَا أَوْ عَرْضِهَا ، فَلَوْ قَلَعَ آخَرُ بَقِيَّتَهَا مَعَ سِنْخِهَا بَعْدَ أَنْ كَسَرَ الْأَوَّلُ نِصْفَ ظَاهِرِهَا لَزِمَ الثَّانِيَ نِصْفُ دِيَتِهَا ، لِأَنَّهُ قَلَعَ نِصْفَهَا الْبَاقِيَ ، وَهَلْ تَلْزَمُهُ حُكُومَةٌ بِقَلْعِ سِنْخِهَا الْمَعِيبِ أَمْ لَا ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : لَا يَلْزَمُهُ حُكُومَةٌ فِي السِّنْخِ ، لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلْمَضْمُونِ بِالْمُقَدَّرِ كَمَا لَا حُكُومَةَ فِيهِ إِذَا قُلِعَ مَعَ جَمِيعِ السِّنِّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ الْمَنْصُوصُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ عَلَيْهِ فِيهِ حُكُومَةً ، لِأَنَّ السِّنْخَ تَابِعٌ لِجَمِيعِ السِّنِّ فَصَارَ أَكْثَرَ مِنَ التَّابِعِ لِنِصْفِهِ فَلَزِمَتْهُ لِهَذِهِ الزِّيَادَةِ حُكُومَةٌ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ أَنَّ الْأَوَّلَ إِنْ كَانَ قَدْ كَسَرَ نِصْفَهُ عِوَضًا لَزِمَ الثَّانِيَ فِي سِنْخِهِ حُكُومَةٌ ، لِزِيَادَتِهِ عَلَى سِنْخِ مَا قَلَعَهُ ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ قَدْ

كَسَرَهُ طُولًا لَمْ يَلْزَمِ الثَّانِيَ حُكُومَةٌ فِي السِّنْخِ ، لِأَنَّهُ سِنْخٌ لِلْبَقِيَّةِ الَّتِي قَلَعَهَا .

فَصْلٌ : وَإِذَا قَلَعَ سِنًّا قَدْ حَصَلَ فِيهَا شَقٌّ أَوْ ثُقْبٌ أَوْ أَكَلَةٌ ديتها ، فَإِنْ لَمْ يَذْهَبْ مِنْ أَجْزَائِهَا بِذَلِكَ شَيْءٌ فَعَلَيْهِ جَمِيعُ دِيَتِهَا ، كَالْيَدِ الْمَرِيضَةِ إِذَا قَطَعَهَا وَإِنْ ذَهَبَ بِالثَّقْبِ وَالتَّآكُلِ بَعْضُ أَجْزَائِهَا أُسْقِطَ مِنْ دِيَةِ السِّنِّ قَدْرُ الذَّاهِبِ مِنْهَا ، وَلَزِمَهُ بَاقِي دِيَتِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ أَسْنَانُهُ قَدْ تَصَدَّعَتْ وَتَحَرَّكَتْ حَتَّى رَبَطَهَا بِالذَّهَبِ أَوْ لَمْ يَرْبُطْهَا فَقَلَعَهَا الْجَانِي نُظِرَ فَإِنْ كَانَتْ مَنَافِعُهَا بَاقِيَةً مَعَ حَرَكَتِهَا فِي الْمَضْعِ وَحِفْظِ الطَّعَامِ وَالرِّيقِ فَفِيهَا الدِّيَةُ تَامَّةً ، وَإِنْ ذَهَبَتْ مَنَافِعُهَا كُلُّهَا فَفِيهَا حُكُومَةٌ ، وَإِنْ نَقَصَتْ مَنَافِعُهَا فَذَهَبَ بَعْضُهَا وَبَقِيَ بَعْضُهَا فَفِيهَا قَوْلَانِ نَصَّ عَلَيْهِمَا فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " : أَحَدُهُمَا : فِيهَا الدِّيَةُ تَامَّةً ، لِأَنَّ مَنَافِعَ الْأَسْنَانِ مُخْتَلِفَةٌ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : فِيهَا حُكُومَةٌ ، لِقُصُورِهَا عَمَّا اخْتَصَّ بِهَا مِنْ مَنَافِعِهَا . وَجَهْلُ قَدْرِ النَّاقِصِ يُوجِبُ فِيهَا حُكُومَةً . فَإِنِ اخْتَلَفَا فَادَّعَى الْجَانِي ذَهَابَ مَنَافِعِهَا وَادَّعَى الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بَقَاءَهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مَعَ يَمِينِهِ ، لِأَنَّ بَقَاءَ مَنَافِعِهَا لَا يُعْلَمُ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِ ، وَلَهُ دِيَتُهَا تَامَّةً ، وَلَوْ كَانَتِ السِّنُّ كَامِلَةَ الْمَنَافِعِ فَجَنَى عَلَيْهَا حَتَّى تَصَدَّعَتْ وَتَحَرَّكَتْ وَهِيَ بَاقِيَةٌ فِي مَوْضِعِهَا الدية نُظِرَ فَإِنْ ذَهَبَ بِالْجِنَايَةِ جَمِيعُ مَنَافِعِهَا حَتَّى صَارَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَضْغِ بِهَا فَفِيهَا دِيَتُهَا تَامَّةً ، وَإِنْ ذَهَبَ مِنْهَا نِصْفُ مَنَافِعِهَا فَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : عَلَيْهِ دِيَتُهَا تَامَّةً ، لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْمَسْلُوبُ مِنْ مَنَافِعِهَا مُسَاوِيًا لِمَنَافِعِ غَيْرِهَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : فِيهَا حُكُومَةٌ ، لِأَنَّ مَنْفَعَةَ كُلِّ شَيْءٍ مُعْتَبَرَةٌ بِهَا ، وَلَوْ قِيلَ بِوَجْهٍ ثَالِثٍ : إِنَّهُ إِنْ أَذْهَبَ أَكْثَرَ مَنَافِعِهَا كَمُلَتْ دِيَتُهَا ، وَإِنْ ذَهَبَ أَقَلُّهَا فَفِيهَا حُكُومَةٌ اعْتِبَارًا بِالْأَغْلَبِ كَانَ لَهُ وَجْهٌ ، فَإِنِ اخْتَلَفَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مَعَ يَمِينِهِ ، لِأَنَّ ذَهَابَ مَنَافِعِهَا لَا يُعْلَمُ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِ .

فَصْلٌ : وَلَوِ اخْتَلَفَ نَبَاتُ أَسْنَانِهِ فَكَانَ بَعْضُهَا طِوَالًا وَبَعْضُهَا قِصَارًا الدية في الجناية فَدِيَاتُهَا مُتَسَاوِيَةٌ مَعَ اخْتِلَافِهِمَا فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ ، فَإِنْ كَسَرَ بَعْضَ الطَّوِيلَةِ حَتَّى عَادَلَتْ مَا جَاوَزَهَا مِنَ الْقِصَارِ لَزِمَهُ مِنْ دِيَتِهَا بِقَدْرِ مَا كَسَرَ مِنْهُمَا ، وَإِنْ زَادَتْ مَنَافِعُهَا بِكَسْرِ الزِّيَادَةِ عَنْ نَظَائِرِهَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَسَرَ بَعْضَ الْقَصِيرَةِ حَتَّى كَانَ مَا كَسَرَ مِنْهَا مُعْتَبَرٌ بِهَا لَا بِمَا جَاوَرَهَا مِنَ الطُّولِ ، فَلَوْ كَانَ الْمَكْسُورُ نِصْفَهَا وَهُوَ مِنَ الطَّوِيلَةِ رُبُعُهَا لَزِمَهُ نِصْفُ دِيَتِهَا ، وَلَوْ جَنَى عَلَى سِنٍّ فَخَرَجَتْ عَنْ حَدِّ صَاحِبَتِهَا حَتَّى بَرَزَتْ عَمَّا جَاوَرَهَا فَإِنْ ذَهَبَتْ مَنَافِعُهَا مَعَ الْبُرُوزِ تَمَّتْ دِيَتُهَا ، وَإِذَا بَقِيَتْ مَنَافِعُهَا فَفِيهَا حُكُومَةٌ لِقُبْحِ بُرُوزِهَا .

فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَتْ إِحْدَى رَبَاعِيَّتِهِ أَقْصَرَ مِنَ الْأُخْرَى فِي أَصْلِ خِلْقَتِهَا خَالَفَتْ قِصَرَ الثَّنِيَّةِ عَنِ الرَّبَاعِيَّةِ ، لِأَنَّ السِّنَّ مُعْتَبَرَةٌ بِأُخْتِهَا لِكَوْنِهَا شِبْهًا لَهَا فِي الِاسْمِ وَالْمَحَلِّ ، وَلَا تُعْتَبَرُ بِغَيْرِهَا ، فَإِذَا نَقَصَتْ إِحْدَى الرَّبَاعِيَّتَيْنِ عَنِ الْأُخْرَى الدية في الجناية عُلِمَ أَنَّهَا رَبَاعِيَّةٌ نَاقِصَةٌ ، فَإِذَا قُلِعَتْ وَعُرِفَ قَدْرُ نُقْصَانِهَا وَجَبَ فِيهَا مِنْ دِيَةِ السِّنِّ بِقَدْرِ مَا بَقِيَ مِنْهَا وَسَقَطَ مِنْهَا قَدْرُ مَا نَقَصَ ، وَلَوْ ذَهَبَ حِدَّةُ الْأَسْنَانِ حَتَّى كَلَّتْ بِمُرُورِ الزَّمَانِ ديتها كَانَ فِيهَا الدِّيَةُ تَامَّةً ، لِأَنَّ كَلَالَهَا مَعَ بَقَائِهَا عَلَى الصِّحَّةِ يَجْرِي مَجْرَى ضَعِيفِ الْأَعْضَاءِ ، وَلَوْ حَالَتْ حَتَّى ذَهَبَ مِنْهَا بِمُرُورِ الزَّمَانِ بَعْضُ أَضْرَاسِهَا الدية في الجناية على السن سَقَطَ مِنْ دِيَتِهَا بِقِسْطِ مَا ذَهَبَ مِنْهَا وَوَجَبَ فِي قَلْعِهَا مَا بَقِيَ مِنْ دِيَتِهَا .

مَسْأَلَةٌ إِذَا قَلَعَ سِنَّ صَبِيٍّ لَمْ يَثَّغِرْ فَلَا قَوَدَ فِي الْحَالِ وَلَا دِيَةَ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : فَإِنْ لَمْ يُثْغِرِ انْتَظَرَ بِهِ فَإِنْ لَمْ تَنْبُتْ ثَمَّ عَقَلَهَا وَإِنْ نَبَتَتْ فَلَا عَقْلَ لَهَا . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُوَ كَمَا قَالَ ، إِذَا قَلَعَ سِنَّ صَبِيٍّ لَمْ يَثَّغِرْ هل عليه دية فَلَا قَوَدَ فِي الْحَالِ وَلَا دِيَةَ ، لِأَنَّ الْمَعْهُودَ مِنْ أَسْنَانِ اللَّبَنِ أَنَّهَا تَعُودُ بَعْدَ السُّقُوطِ فَلَمْ تَصِرْ مُسَاوِيَةً لِسِنِّ الْمَثْغُورِ الَّتِي لَا تَعُودُ وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ لَا تَعُودَ سِنُّ اللَّبَنِ إِذَا قُلِعَتْ ، وَإِنْ كَانَ نَادِرًا ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ تَعُودَ سِنُّ الْمَثْغُورِ إِذَا قُلِعَتْ وَإِنْ كَانَ عَوْدُهَا نَادِرًا . وَوَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمُ الْأَغْلَبِ دُونَ النَّادِرِ ، وَهُوَ أَنَّ سِنَّ اللَّبَنِ تَعُودُ وَسِنَّ الْمَثْغُورِ لَا تَعُودُ ، فَلِذَلِكَ وَجَبَ الِانْتِظَارُ بِسِنِّ اللَّبَنِ حَالَ عَوْدِهَا وَإِنْ جَازَ أَنْ لَا تَعُودَ ، وَلَمْ يَنْتَظِرْ بِسِنِّ الْمَثْغُورِ حَالَ عَوْدِهَا وَإِنْ جَازَ أَنْ تَعُودَ ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تَخْلُ سِنُّ الصَّبِيِّ إِذَا قُلِعَتْ مِنْ أَنْ يَعُودَ نَبَاتُهَا أَوْ لَا يَعُودَ فَإِنْ لَمْ يَعُدْ نَبَاتُهَا بَعْدَ نَبَاتِ أَخَوَاتِهَا ، وَقَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ : قَدْ تَجَاوَزَتْ مُدَّةُ نَبَاتِهَا وَجَبَ فِيهَا الْقِصَاصُ ، وَكَمَالُ الدِّيَةِ ، وَكَانَتْ فِي حُكْمِ سِنِّ الْمَثْغُورِ ، لِأَنَّهَا سِنٌّ لَمْ تَعُدْ بَعْدَ الْقَلْعِ . وَإِنْ عَادَ نَبَاتُهَا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَعُودَ مُسَاوِيَةً لِأَخَوَاتِهَا فِي الْمِقْدَارِ وَالْمَكَانِ فَلَا دِيَةَ فِيهَا وَلَا قَوَدَ ، فَأَمَّا الْحُكُومَةُ فَإِنْ كَانَ قَدْ جُرِحَ مَحَلُّ الْمَقْلُوعَةِ حَتَّى أَدْمَاهُ لَزِمَتْهُ حُكُومَةُ جُرْحِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَجْرَحْهُ فَفِي حُكُومَةِ الْمَقْلُوعَةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا حُكُومَةَ فِيهَا ، لِأَنَّهَا تَسْقُطُ لَوْ لَمْ تُقْلَعْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : فِيهَا حُكُومَةٌ ، لِأَنَّهُ قَدْ أَفْقَدَهُ مَنْفَعَتَهَا . وَلَوْ قِيلَ بِوَجْهٍ ثَالِثٍ : إِنَّهُ إِنْ قَلَعَهَا فِي زَمَانِ سُقُوطِهَا فَلَا حُكُومَةَ فِيهَا ، وَإِنْ قَلَعَهَا قَبْلَ زَمَانِهَا فَفِيهَا حُكُومَةٌ كَانَ مَذْهَبًا ، لِأَنَّهَا قَبْلَ زَمَانِ السُّقُوطِ نَافِعَةٌ وَفِي زَمَانِهِ مَسْلُوبَةُ الْمَنْفَعَةِ .

وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَعُودَ نَبَاتُهَا مُخَالِفًا لِنَبَاتِ أَخَوَاتِهَا وَهُوَ أَنْ يُقَاسَ الثَّنِيَّةُ بِالثَّنِيَّةِ ، وَالرَّبَاعِيَّةُ بِالرَّبَاعِيَّةِ ، وَالنَّابُ بِالنَّابِ ، وَلَا يُقَاسُ ثَنِيَّةٌ بِرَبَاعِيَّةٍ ، وَلَا نَابٍ ، وَيُقَاسُ سُفْلَى بِسُفْلَى ، وَلَا يُقَاسُ عُلْيَا بِسُفْلَى ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ اخْتِلَافِهِمَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَخْتَلِفَ فِي الْمِقْدَارِ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَعُودَ أَطْوَلَ مِنْ أُخْتِهَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي زِيَادَةِ طُولِهَا وَإِنْ شَانَ أَوْ ضَرَّ ، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَا تَكُونُ مِنْ جِنَايَةٍ ، لِأَنَّ الْجِنَايَةَ نَقْصٌ لَا زِيَادَةٌ ، وَكَذَلِكَ نَبَتَ مَعَهَا سِنٌّ زَائِدَةٌ . وَالثَّانِي : أَنْ تَعُودَ أَقْصَرَ مِنْ أُخْتِهَا فَعَلَيْهِ مِنْ دِيَتِهَا بِقَدْرِ مَا نَقَصَ مِنْ نَبَاتِهَا ، لِحُدُوثِهِ فِي الْأَغْلَبِ عَنْ جِنَايَتِهِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَخْتَلِفَ فِي الْمَحَلِّ فَنَبتَتْ هَذِهِ الْعَائِدَةُ خَارِجَةً عَنْ صَفِّ أَخَوَاتِهَا أَوْ دَاخِلَةً ، أَوْ رَاكِبَةً فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَذْهَبَ مَنَافِعُهَا بِخُرُوجِهَا عَنْ مَحَلِّهَا لِخُلُوِّهِ وَانْكِشَافِهِ فَفِيهَا الدِّيَةُ التَّامَّةُ . وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ مَنَافِعُهَا بَاقِيَةً ، لِأَنَّهَا قَدْ سَدَّتْ مَحَلَّهَا وَقَامَتْ مَقَامَ أُخْتِهَا ، فَلَا دِيَةَ فِيهَا ، لِكَمَالِ مَنَافِعِهَا ، وَفِيهَا حُكُومَةٌ لِقُبْحِ بُرُوزِهَا عَنْ مَحَلِّهَا . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَخْتَلِفَا فِي الْمَنْفَعَةِ ، فَتَكُونُ أَقَلَّ مِنْ مَنْفَعَةِ أُخْتِهَا مَعَ نَبَاتِهَا فِي مَحَلِّهَا فَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : فِيهَا الدِّيَةُ تَامَّةً . وَالثَّانِي : فِيهَا حُكُومَةٌ ، وَلَوْ قِيلَ : تَكْمُلُ دِيَتُهَا إِنْ ذَهَبَ أَكْثَرُ مَنَافِعِهَا ، وَحُكُومَةٌ إِنْ ذَهَبَ أَقَلُّهَا كَانَ مَذْهَبًا . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ يَخْتَلِفَ فِي اللَّوْنِ فَتَغَيَّرَ لَوْنُهَا مَعَ بَيَاضِ غَيْرِهَا ، فَإِنْ تَغَيَّرَ بِصُفْرَةٍ كَانَ فِيهَا حُكُومَةٌ ، وَإِنْ تَغَيَّرَ بِخُضْرَةٍ كَانَتْ حُكُومَتُهَا أَكْثَرَ مِنْ حُكُومَةِ الصُّفْرَةِ ، وَإِنْ تَغَيَّرَ بِسَوَادٍ فَصَارَتْ سُودًا فَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ فِيهَا حُكُومَةً هِيَ أَزْيَدُ مِنْ حُكُومَةِ الصُّفْرَةِ وَالْخُضْرَةِ ، لِأَنَّ شَيْنَ السَّوَادِ أَقْبَحُ ، وَخُرِّجَ قَوْلٌ آخَرُ أَنَّ فِيهَا دِيَتَهَا تَامَّةً ، وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ فِي السِّنِّ إِذَا اسْوَدَّتْ بِجِنَايَتِهِ .

فَصْلٌ : فَإِنْ مَاتَ الصَّبِيُّ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ زَمَانَ نَبَاتِهَا سنه ( ديتها ) فَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : فِيهَا الدِّيَةُ تَامَّةً ، لِأَنَّهُ قَلَعَ سِنًّا لَمْ تَعُدْ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : فِيهَا حُكُومَةٌ ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ عَوْدُهَا لَوْ بَلَغَ زَمَانَ نَبَاتِهَا . وَلَوْ مَاتَ بَعْدَ أَنْ طَلَعَ بَعْضُهَا ، وَبَقِيَ بَعْضُهَا الصبي ( سنه في الجناية عليها ) فَهُوَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ يَجِبُ فِيهَا عَلَى أَحَدِهِمَا قِسْطُ مَا تَأَخَّرَ طُلُوعُهُ مِنَ الدِّيَةِ ، وَحُكُومَةٌ فِي الْقَوْلِ الثَّانِي هِيَ أَقَلُّ مِنْ حُكُومَةِ مَا لَمْ يَعُدْ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَالضِّرْسُ سِنٌّ وَإِنْ سُمِّيَ ضِرْسًا كَمَا أَنَّ الثَّنِيَّةَ سِنٌّ وَإِنْ سُمِّيَتْ ثَنِيَّةً وَكَمَا أَنَّ اسْمَ الْإِبْهَامِ غَيْرُ اسْمِ الْخِنْصَرِ وَكِلَاهُمَا إِصْبَعٌ وَعَقْلُ كُلُّ إِصْبَعٍ سَوَاءٌ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، دِيَاتُ الْأَسْنَانِ مُتَسَاوِيَةٌ مَعَ اخْتِلَافِ أَسْمَائِهَا وَمَنَافِعِهَا ، وَفِي كُلِّ سِنٍّ مِنْهَا خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ ، تَسْتَوِي فِيهِ الثَّنِيَّةُ وَالضِّرْسُ وَالنَّابُ وَالنَّاجِزُ ، وَحُكِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ جَعَلَ فِيمَا ظَهَرَ مِنْ أَسْنَانِ الْفَمِ بِالْكَلَامِ وَالْأَكْلِ خَمْسًا مِنَ الْإِبِلِ فِي كُلِّ سِنٍّ ، وَجَعَلَ فِيمَا غَابَ مِنَ الْأَضْرَاسِ بَعِيرَيْنِ فِي كُلِّ ضِرْسٍ ، وَقِيلَ بَعِيرًا ، لِأَنَّ مَقَادِيمَ الْأَسْنَانِ تُشَارِكُ مَوَاخِيرَهَا فِي الْمَنْفَعَةِ وَتَخْتَصُّ بِالْجَمَالِ ، فَيُفَضِّلُ بَيْنَ دِيَاتِهَا ، وَاخْتُلِفَ عَنْهُ فِي مُفَاضَلَةِ دِيَاتِ الْأَصَابِعِ ، فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ فَاضَلَ بَيْنَهُمَا كَالْأَسْنَانِ ، وَرُوِيَ أَنَّهُ سَوَّى بَيْنَهُمَا وَإِنْ فَاضَلَ بَيْنَ الْأَسْنَانِ ، وَاخْتُلِفَ عَنْهُ هَلْ رَجَعَ عَنْ هَذَا التَّفَاضُلِ أَمْ لَا ؟ فَحَكَى قَوْمٌ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ ، وَحَكَى آخَرُونَ أَنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ ، وَقَدْ أَخَذَ بِمَا قَالَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَوْمٌ مِنْ شَوَاذِّ الْفُقَهَاءِ لِقَضَائِهِ بِذَلِكَ فِي إِمَامَتِهِ وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : عُمُومُ النَّصِّ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كُلِّ سِنٍّ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ وَهُوَ اسْمٌ يَعُمُّ كُلَّ سِنٍّ ، وَلِأَنَّ اخْتِلَافَ الْمَنَافِعِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِيمَا تَقَدَّرَتْ دِيَاتُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَنَافِعَ الْمَيَامِنِ مِنَ الْأَعْضَاءِ أَكْثَرُ مِنْ مَنَافِعِ مَيَاسِرِهَا مَعَ تَسَاوِي دِيَاتِهَا . وَالثَّانِي : أَنَّ مَنَافِعَهَا تَخْتَلِفُ بِالصِّغَرِ وَالْكِبْرِ ، وَالْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ ، وَدِيَاتُهَا مَعَ اخْتِلَافِ مَنَافِعِهَا سَوَاءٌ ، كَذَلِكَ الْأَسْنَانُ ، وَعَلَى أَنَّ لِكُلِّ سِنٍّ مَنْفَعَةً لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ فَلَمْ تَقُمْ مَنْفَعَةُ الثَّنِيَّةِ مَقَامَ مَنْفَعَةِ الضِّرْسِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : فَإِنْ ثَبَتَتْ سِنُّ رَجُلٍ قُلِعَتْ بَعْدَ أَخْذِهِ أَرْشَهَا ، قَالَ فِي مَوْضِعٍ : يَرُدُّ مَا أَخَذَ ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : لَا يَرُدُّ شَيْئًا ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ

اللَّهُ : هَذَا أَقْيَسُ فِي مَعْنَاهُ عِنْدِي لِأَنَّهُ لَمْ يَنْتَظِرْ بِسِنِّ الرَّجُلِ كَمَا انْتَظَرَ بِسِنِّ مَنْ لَمْ يَثَّغِرْ هَلْ تَنْبُتُ أَمْ لَا ؟ فَدَلَ ذَلِكَ عِنْدِي مِنْ قَوْلِهِ أَنَّ عَقْلَهَا أَوِ الْقَوَدَ مِنْهَا قَدْ تَمَّ ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَانْتَظَرَ كَمَا انْتَظَرَ بِسَنِّ مَنْ لَمْ يَثَّغِرْ وَقِيَاسًا عَلَى قَوْلِهِ وَلَوْ قُطِعَ لِسَانُهُ فَأَخَذَ أَرْشَهُ ثُمَّ نَبَتَ صَحِيحًا لَمْ يَرُدَّ شَيْئًا وَلَوْ قَطَعَهُ آخَرُ فَفِيهِ الْأَرْشُ تَامًّا وَمِنْ أَصْلِ قَوْلِهِ أَنَّ الْحُكْمَ عَلَى الْأَسْمَاءِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) وَكَذَلِكَ السِّنُّ فِي الْقِيَاسِ نَبَتَتْ أَوْ لَمْ تَنْبُتْ سَوَاءً إِلَّا أَنْ تَكُونَ فِي الصَّغِيرِ إِذَا نَبَتَتْ لَمْ يَكُنْ لَهَا عَقْلٌ أَصْلًا فَيُتْرَكُ لَهُ الْقِيَاسُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَقُلْنَا : إِنَّ سِنَّ الْمَثْغُورِ إِذَا قُلِعَتْ ديتها لَمْ يُنْتَظَرْ عَوْدُهَا ، وَقُضِيَ لَهُ بِقَوَدِهَا أَوْ دِيَتِهَا ، لِأَنَّهَا لَا تَعُودُ فِي الْأَغْلَبِ بِخِلَافِ الصَّغِيرِ الَّذِي تَعُودُ سِنُّهُ فِي الْأَغْلَبِ . فَلَوْ عَادَتْ سِنُّ الْمَثْغُورِ بَعْدَ أَخْذِ دِيَتِهَا هل ترد الدية فَفِي وُجُوبِ رَدِّهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجِبُ رَدُّهَا كَالصَّغِيرِ ، إِذَا عَادَتْ سِنُّهُ فَعَلَى هَذَا هَلْ يَبْقَى مِنْهَا شَيْءٌ لِلْأَلَمِ وَسَيَلَانِ الدَّمِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَحَدُهُمَا : يُرَدُّ الْكُلَّ وَلَا يُبْقَى شَيْءٌ مِنْهَا وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ هَاهُنَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُبْقَى مِنْهَا قَدْرُ حُكُومَةِ الْأَلَمِ وَسَيَلَانِ الدَّمِ وَيَرُدُّ مَا سِوَاهُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : اخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ أَنَّ الْمَثْغُورَ لَا يَرُدُّ مَا أَخَذَهُ مِنَ الدِّيَةِ لِقَوَدِ سِنِّهِ ، لِأَمْرَيْنِ ذَكَرَهُمَا الْمُزَنِيُّ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَنْتَظِرْ بِالدِّيَةِ عَوْدَ سِنِّهِ لَمْ يَلْزَمْهُ رَدُّهَا بِعَوْدِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ دِيَةَ اللِّسَانِ لَمَّا لَمْ يَلْزَمْ رَدُّهَا بَعْدَ نَبَاتِهِ لَمْ يَلْزَمْ رَدُّ دِيَةِ السِّنِّ بَعْدَ عَوْدِهِ ، وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ مَعْلُولٌ . أَمَّا الْأَوَّلُ فِي تَرْكِ الِانْتِظَارِ فَلِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْجِنَايَاتِ الْأَغْلَبُ مِنْ أَحْوَالِهَا دُونَ النَّادِرِ ، وَالْأَغْلَبُ مِنْ سِنِّ الْمَثْغُورِ أَنْ لَا تَعُودَ ، وَمِنْ سِنِّ الصَّغِيرِ أَنْ تَعُودَ فَانْتُظِرَ بِالصَّغِيرِ وَلَمْ يُنْتَظَرْ بِالْمَثْغُورِ ، وَأَمَّا نَبَاتُ اللِّسَانِ فَهُوَ أَكْثَرُ نُدُورًا وَأَبْعَدُ وُجُودًا . قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : وَقَدْ كُنَّا نُنْكِرُ عَلَى الْمُزَنِيِّ حَتَّى وَجَدْنَا فِي زَمَانِنَا رَجُلًا مِنْ أَوْلَادِ الْخُلَفَاءِ قُطِعَ لِسَانَهُ فَنَبَتَ فَعَلِمْنَا أَنَّ مِثْلَهُ قَدْ يَكُونُ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْحُكْمُ فِي نَبَاتِ اللِّسَانِ مَحْمُولٌ عَلَى عَوْدِ اللِّسَانِ . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ عَوْدَ السِّنِّ لَا يُوجِبُ رَدَّ دِيَتِهَا فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ نَبَاتُ اللِّسَانِ لَا يُوجِبُ

رَدَّ دِيَتِهِ . وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ عَوْدَ السِّنِّ يُوجِبُ رَدَّ دِيَتِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي عَوْدِ اللِّسَانِ هَلْ يُوجِبُ رَدَّ دِيَتِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : يُوجِبُ نَبَاتُ اللِّسَانِ رَدَّ دِيَتِهِ كَمَا أَوْجَبَ عَوْدُ السِّنِّ رَدَّ دِيَتِهَا ، فَسَوَّى بَيْنَهُمَا وَأُسْقِطَ اسْتِدْلَالُ الْمُزَنِيِّ ، فَعَلَى هَذَا يُسْتَبْقَى قَدْرُ الْحُكُومَةِ فِي قَطْعِ الْأَوَّلِ وَجْهًا وَاحِدًا وَرُدَّ مَا زَادَ عَلَيْهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : لَا تُرَدُّ دِيَةُ اللِّسَانِ وَإِنْ رَدَّ دِيَةَ السِّنِّ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ فِي جِنْسِ السِّنِّ مَا يَعُودُ فِي الْغَالِبِ فَأُلْحِقَ بِهِ النَّادِرُ ، وَلَيْسَ فِي جِنْسِ اللِّسَانِ مَا يَعُودُ فَصَارَ جَمِيعُهُ نَادِرًا ، وَلِذَلِكَ وُقِفَ سِنُّ الصَّغِيرِ دُونَ الْكَبِيرِ ، وَلَمْ يُوقَفْ لِسَانُ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ فَافْتَرَقَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَالْأَسْنَانُ الْعُلْيَا فِي عَظْمِ الرَّأْسِ وَالسُّفْلَى فِي اللَّحْيَيْنِ مُلْتَصِقَتَيْنِ ، فَفِي اللَّحْيَيْنِ الدِّيَةُ وَفِي كُلِ سِنٍّ مِنْ أَسْنَانِهَا خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا أَسْنَانُ الْفَمِ فَأَعْلَاهَا فِي عَظْمِ الرَّأْسِ وَأَسْفَلُهَا فِي اللَّحْيَيْنِ ، وَاللَّحْيَانِ يَجْتَمِعُ مُقَدَّمُهُمَا فِي الذَّقْنِ وَمُؤَخَّرُهُمَا فِي الْأُذُنِ ، فَإِنْ قَلَعَ الْأَسْنَانَ مَعَ بَقَاءِ اللَّحْيَيْنِ الدية كَانَ فِي كُلِّ سِنٍّ مِنْهَا خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ إِذَا لَمْ تَزِدْ عَلَى الْعِشْرِينَ سِنًّا ، وَيُسْتَكْمَلُ فِي الْعِشْرِينَ دِيَةٌ كَامِلَةٌ ، وَإِنْ زَادَتْ عَلَى الْعِشْرِينَ وَبَلَغَتِ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ سِنًّا وَهِيَ غَايَةُ الْأَسْنَانِ الْمَعْهُودَةِ فَإِنْ قَلَعَهَا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ كَانَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ ، فَيَجْتَمِعُ فِي جَمِيعِهَا مِائَةٌ وَسِتُّونَ بَعِيرًا ، وَإِنْ قَلَعَ جَمِيعِهَا دَفْعَةً وَاحِدَةً فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجِبُ فِيهَا كَمَالُ الدِّيَةِ وَلَا يُزَادُ عَلَيْهَا ، لِأَنَّ مَا يُجَانَسُ فِي الْبَدَنِ مِنْ ذَوَاتِ الْأَعْدَادِ لَمْ تَجِبْ فِيهِ أَكْثَرُ مِنَ الدِّيَةِ كَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ وَالْأَطْرَافِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَجِبُ فِي كُلِّ سِنٍّ مِنْهُمَا خَمْسٌ ، وَإِنْ زَادَتْ عَلَى دِيَةِ النَّفْسِ ، لِأَنَّ لِكُلِّ سِنٍّ مِنْهَا حُكْمَهَا ، وَلَيْسَتْ بَعْضُهَا تَبَعًا لِبَعْضٍ ، وَكَمَا لَوْ قَلَعَهَا مُتَفَرِّقًا ، فَأَمَّا اللَّحْيَانِ إِذَا قَلَعَهُمَا بالجناية عليهما ( الدية ) فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِمَا أَسْنَانٌ أَوْ لَا يَكُونُ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا أَسْنَانٌ إِمَّا فِي طِفْلٍ لَمْ تَطَلِعْ أَسْنَانُهُ أَوْ فِي شَيْخٍ قَدْ سَقَطَتْ أَسْنَانُهُ فَفِيهَا الدِّيَةُ ، لِمَا فِيهَا مِنْ كَثْرَةِ الْجَمَالِ وَعِظَمِ الْمَنْفَعَةِ ، وَأَنَّ ذَهَابَهَا أَخْوَفُ عَلَى النَّفْسِ وَأَسْلَبُ لِلْمَنَافِعِ مِنَ الْأُذُنِ ، فَكَانَ بِإِيجَابِ الدِّيَةِ أَوْلَى ، فَإِنْ قَلَعَ أَحَدَ اللَّحْيَيْنِ وَتَمَاسَكَ الْآخَرُ الدية كَانَ عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ ، لِأَنَّهَا لَمَّا كَمُلَتْ فِيهَا نُصِّفَتْ فِي أَحَدِهِمَا كَالْيَدَيْنِ . فَأَمَّا الْقَوَدُ فَإِنْ أَمْكَنَ فِيهِمَا أَوْ فِي أَحَدِهِمَا وَجَبَ ، وَإِنْ تَعَذَّرَ سَقَطَ ، وَإِنْ كَانَ فِي

اللَّحْيَيْنِ أَسْنَانٌ فَمَعْلُومٌ أَنَّهَا لَا تَنْبُتُ مَعَ قَلْعِهَا فَعَلَيْهِ دِيَةُ اللَّحْيَيْنِ وَدِيَاتُ الْأَسْنَانِ ، وَلَا تَدْخُلُ دِيَاتُهَا فِي دِيَةِ اللَّحْيَيْنِ . فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا دَخَلَتْ دِيَتُهَا فِي دِيَةِ اللَّحْيَيْنِ لِحُلُولِهَا فِيهَا كَمَا دَخَلَتْ دِيَةُ الْأَصَابِعِ فِي دِيَةِ الْيَدِ . قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ اسْمَ الْيَدِ يَنْطَلِقُ عَلَى الْكَفِّ وَالْأَصَابِعِ وَلَا يَنْطَلِقُ اسْمُ اللَّحْيَيْنِ عَلَى الْأَسْنَانِ وَلَا اسْمُ الْأَسْنَانِ عَلَى اللَّحْيَيْنِ . وَالثَّانِي : أَنَّ اللَّحْيَيْنِ قَدْ يَتَكَامَلُ خَلْقُهُمَا مَعَ عَدَمِ الْأَسْنَانِ فِي الصَّغِيرِ وَيَبْقَيَانِ عَلَى كَمَالِهِمَا بَعْدَ ذَهَابِ الْأَسْنَانِ مِنَ الْكَبِيرِ ، وَلَا يَكْمُلُ خَلْقُ الْيَدِ إِلَّا مَعَ أَصَابِعِهَا ، وَلَا تَكُونُ كَامِلَةً بَعْدَ ذَهَابِهَا . وَالثَّالِثُ : أَنَّ لِلَّحْيَيْنِ مَنَافِعَ غَيْرَ حِفْظِ الْأَسْنَانِ ، وَلِلْأَسْنَانِ مَنَافِعَ غَيْرَ مَنَافِعِ اللَّحْيَيْنِ ، فَانْفَرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحِكْمَةٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي مَنَافِعَ الْكَفِّ ، لِأَنَّهُ يَحْفَظُ الْأَصَابِعَ ، فَإِذَا زَالَتْ بَطَلَتْ مَنَافِعُهَا فَصَارَتْ تَبَعًا لَهُمَا فَلَوْ جَنَى عَلَى لَحْيَيْهِ فَيَبِسَتَا حَتَّى لَمْ يَنْفَتِحَا وَلَمْ يَنْطَبِقَا ديتها ضَمِنَهُمَا بِالدِّيَةِ كَالْيَدِ إِذَا شُلَّتْ ، وَلَا يَضْمَنُ دِيَةَ الْأَسْنَانِ وَإِنْ ذَهَبَتْ مَنَافِعُهَا ، لِأَنَّهُ لَمْ يَجْنِ عَلَيْهَا ، وَإِنَّمَا وَقَفَ نَفْعُهَا بِذَهَابِ مَنَافِعِ غَيْرِهَا ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " فَلَوِ اعْوَجَّ اللَّحْيَانِ لِجِنَايَتِهِ الدية وَجَبَ عَلَيْهِ حُكُومَةٌ بِحَسَبِ شَيْنِهِ وَضَرَرِهِ ، وَلَا يَبْلُغُ بِهَا الدِّيَةَ إِذَا كَانَا يَنْطَبِقَانِ وَيَنْفَتِحَانِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَلَوْ ضَرَبَهَا فَاسْوَدَّتْ السن ( الدية ) فَفِيهَا حُكُومَةٌ ( وَقَالَ ) فِي كِتَابِ عُقُولِهَا ثُمَّ عَقَلَهَا ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : الْحُكُومَةُ أَوْلَى لِأَنَّ مَنْفَعَتَهَا بِالْقَطْعِ وَالْمَضْغِ وَرَدِّ الرِّيقِ وَسَدِّ مَوْضِعِهَا قَائِمَةٌ كَمَا لَوِ اسْوَدَّ بَيَاضُ الْعَيْنِ لَمْ يَكُنْ فِيهَا إِلَّا حُكُومَةٌ لِأَنَّ مَنْفَعَتَهَا بِالنَّظَرَ قَائِمَةٌ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا إِذَا ضَرَبَ سِنَّهُ فَاصْفَرَّتْ أَوِ اخْضَرَّتْ حكم ديتها فَفِيهَا حُكُومَةٌ إِذَا لَمْ يَذْهَبْ شَيْءٌ مِنْ مَنَافِعِهَا ، وَحُكُومَةُ الْخُضْرَةِ أَكْثَرُ مِنْ حُكُومَةِ الصُّفْرَةِ ، لِأَنَّهَا أَقْبَحُ ، فَأَمَّا إِنْ ضَرَبَهَا فَاسْوَدَّتْ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا : فِيهَا حُكُومَةٌ كَمَا لَوِ اصْفَرَّتْ أَوِ اخْضَرَّتْ ، وَقَالَ فِي كِتَابِ الْعَقْلِ : ثُمَّ عَقَلَهَا . فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ الْمُزَنِيُّ وَالْمُتَقَدِّمُونَ مِنْهُمْ يُخَّرِجُونَ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافٍ قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِيهَا حُكُومَةٌ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ ، لِبَقَاءِ مَنَافِعِهَا بَعْدَ سَوَادِهَا ، كَمَا لَوْ جَنَى عَلَى عَيْنِهِ فَاسْوَدَّ بَيَاضُهَا لِبَقَاءِ نَظَرِهَا بَعْدَ سَوَادِ الْبَيَاضِ .

وَالْقَوْلُ الثَّانِي : فِيهَا الدِّيَةُ تَامَّةً ، لِذَهَابِ جِمَالِهَا بِالسَّوَادِ ، وَذَهَبَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا وَمُتَأَخَّرُوهُمْ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ وَلَيْسَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ ، وَالْمَوَاضِعِ الَّذِي أَوْجَبَ فِيهَا حُكُومَةً إِذَا كَانَتْ بَاقِيَةَ الْمَنَافِعِ وَالْمَوَاضِعِ الَّذِي أَوْجَبَ فِيهَا الدِّيَةَ إِذَا ذَهَبَتْ مَنَافِعُهَا ، وَهَذَا أَشْبَهُ ، لِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَ بَعْدَ اسْوِدَادِهَا أَكْثَرُ جِمَالِهَا وَهُوَ سِرُّ مَوْضِعِهَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَجِبَ فِيهَا مَعَ بَقَاءِ أَكْثَرِ جِمَالِهَا وَجَمِيعِ مَنَافِعِهَا دِيَةٌ . فَلَوْ قَلَعَ سِنًّا سَوْدَاءَ سُئِلَ عَنْهَا أَهْلُ الْعِلْمِ بِهَا فَإِنْ قَالُوا : اسْوِدَادُهَا مِنْ غِذَاءٍ أَوْ طُولِ مُكْثٍ كَمُلَتْ فِيهَا الدِّيَةُ . وَإِنْ قَالُوا : مِنْ مَرَضٍ كَانَ فِي كَمَالِ دِيَتِهَا قَوْلَانِ عَلَى اخْتِلَافِهِمَا فِي السِّنِّ إِذَا ذَهَبَ بَعْضُ مَنَافِعِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ فِي الْيَدَيْنِ الدِّيَةُ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَفِي الْيَدَيْنِ الدية في الجناية عليهما الدِّيَةُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَهُوَ نَصُّ السُّنَّةِ ، وَرَوَى مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : وَفِي الْيَدَيْنِ الدِّيَةُ وَلِأَنَّهُمَا مِنْ أَعْظَمِ الْأَعْضَاءِ نَفْعًا فِي الْبَطْشِ وَالْعَمَلِ ، وَفِي إِحْدَى الْيَدَيْنِ الدية في الجناية عليها نِصْفُ الدِّيَةِ لِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي كِتَابِهِ إِلَى الْيَمَنِ : وَفِي الْيَدِ خَمْسُونَ مِنَ الْإِبِلِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْيَدُ الَّتِي تَكْمُلُ فِيهَا الدِّيَةُ أَنْ تُقْطَعَ مِنْ مَفْصِلِ الْكَفِّ ، فَإِنْ قَطَعَهَا مِنَ الذِّرَاعِ أَوِ الْعَضُدِ وَجَبَ فِي الْكَفِّ دِيَةٌ وَفِيمَا زَادَ مِنَ الذِّرَاعِ حُكُومَةٌ ، فَإِنْ زَادَ إِلَى الْعَضُدِ كَانَتِ الْحُكُومَةُ فِيهِ أَكْثَرُ ، وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ : إِنْ قَطَعَهَا مِنَ الْمِرْفَقِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا دِيَةٌ ، وَإِنْ زَادَ عَلَى الْمِرْفَقِ فَفِي الزِّيَادَةِ حُكُومَةٌ ، لِأَنَّ حُكْمَ الْيَدِ يَسْتَوْعِبُهَا إِلَى الذِّرَاعِ وَيُفَارِقُهَا بَعْدَهُ كَالْوُضُوءِ . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدِ بْنُ حَرْبَوَيْهِ مِنْ أَصْحَابِنَا : الِاسْمُ يَتَنَاوَلُهَا إِلَى الْمَنْكِبِ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِذَا اسْتَوْعَبَ قَطْعَهَا إِلَى الْمَنْكِبِ إِلَّا الدِّيَةُ دُونَ الْحُكُومَةِ ، لِأَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ تَيَمَّمَ حِينَ أَطْلَقَ ذِكْرَ الْيَدَ فِي التَّيَمُّمِ إِلَى الْمَنَاكِبِ تَعْوِيلًا عَلَى مُطْلَقِ الِاسْمِ حَتَّى قَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : إِنَّمَا يَكْفِيكَ ضَرْبَةٌ لِوَجْهِكَ وَضَرْبَةٌ لِذِرَاعِكَ وَكِلَا الْمَذْهَبَيْنِ خَطَأٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [ الْمَائِدَةِ : 6 ] فَلَوِ اقْتَضَى إِطْلَاقَ الْيَدِ إِلَى الْمِرْفَقِ لَاقْتَصَرَ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَلَمَا قَيَّدَهَا بِالْمَرَافِقِ ، فَبَطَلَ قَوْلُ سُفْيَانَ ، وَلَمَا جَعَلَ الْمِرْفَقَ غَايَةً دَلَّ عَلَى أَنَّ حَدَّ الْيَدِ مَا دُونَ الْغَايَةِ فَبَطَلَ بِهِ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [ الْمَائِدَةِ : 38 ] وَقَطَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَهُ مِنْ مَفْصِلِ الْكَفِّ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا هِيَ الْيَدُ لُغَةً وَشَرْعًا ، وَلِأَنَّ الدِّيَةَ تَكْمُلُ فِي الرِّجْلِ إِذَا قُطِعَتْ مِنْ مَفْصِلِ الْقَدَمِ : لِأَنَّهَا تُقْطَعُ مِنْهُ فِي السَّرِقَةِ ، كَذَلِكَ الْيَدُ لَمَّا قُطِعَتْ فِي السَّرِقَةِ مِنَ الْكَفِّ وَجَبَ أَنْ تُخْتَصَّ بِكَمَالِ الدِّيَةِ .

فَصْلٌ : فَإِنْ قَطَعَ أَصَابِعَ الْكَفِّ الدية في الجناية عليها كَمُلَتْ فِيهَا دِيَةُ الْكَفِّ ، لِأَنَّ مَا أَبْقَاهُ مِنْهَا بَعْدَ قَطْعِ الْأَصَابِعِ مَسْلُوبُ الْمَنْفَعَةِ ، وَتَكُونُ دِيَةُ الْيَدِ مُقَسَّطَةً عَلَى أَعْدَادِ الْأَصَابِعِ بِالسَّوِيَّةِ ، فَيَجِبُ فِي كُلِّ إِصْبَعٍ عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ ، لِأَنَّهَا فِي الْمَعْهُودِ تَقَسَّطَتْ عَلَيْهَا خَمْسُونَ فَكَانَ قِسْطُ كُلِّ أُصْبُعٍ مِنْهَا عَشْرًا ، وَلَا يُفَضَّلُ إِبْهَامٌ عَلَى خِنْصَرٍ . وَحُكِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ فَاضِلٌ بَيْنَ دِيَاتِ الْأَصَابِعِ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ فَجَعَلَ فِي الْخِنْصَرِ سِتًّا ، وَفِي الْبِنْصِرِ تِسْعًا ، وَفِي الْوُسْطَى عَشْرًا ، وَفِي السَّبَّابَةِ عَشْرًا ، وَفِي الْإِبْهَامِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ ، فَقَسَّطَ الْخَمْسِينَ عَلَى أَصَابِعِ الْكَفِّ هَذَا التَّقْسِيطَ الْمُخْتَلِفَ اعْتِبَارًا بِاخْتِلَافِ الْمَنَافِعِ ، وَلِأَنَّ الْبِنْصِرَ وَرَاءَ الْخِلَافِ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : وَفِي الْيَدَيْنِ الدِّيَةُ وَفِي الرِّجْلَيْنِ الدِّيَةُ وَفِي كُلِّ إِصْبَعٍ مِمَّا هُنَالِكَ عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ وَرَوَى أَوْسُ بْنُ مَسْرُوقٍ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : وَالْأَصَابِعُ سَوَاءٌ قَالَ شُعْبَةُ : قُلْتُ لِغَالِبٍ التَّمَّارِ حِينَ رَوَى ذَلِكَ عَنْ أَوْسِ بْنِ مَسْرُوقٍ : عَشْرًا عَشْرًا ؟ قَالَ : نَعَمْ . وَرَوَى يَزِيدُ النَّحْوِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : الْأَصَابِعُ سَوَاءٌ وَالْأَسْنَانُ سَوَاءٌ وَهَذِهِ نُصُوصٌ لَا يَجُوزُ خِلَافُهَا ، وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يُفَاضَلَ بَيْنَهُمَا لِتَفَاضُلِ الْمَنْفَعَةِ لَكَانَ ذَلِكَ فِي أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ ، وَلَفُضِّلَتِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى ، وَالْقَوِيَّةُ عَلَى الضَّعِيفَةِ ، وَالْكَبِيرَةُ عَلَى الصَّغِيرَةِ ، وَلَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ أَحَدٌ اعْتِبَارًا بِمُطْلَقِ الِاسْمِ كَذَلِكَ فِي الْأَصَابِعِ .

فَصْلٌ : وَلَوْ جَنَى عَلَى يَدِهِ فَشُلَّتْ ديتها كَمُلَتْ دِيَتُهَا ، وَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً بَعْدَ الشَّلَلِ ، لِذَهَابِ مَنَافِعِهَا ، كَمَا لَوْ جَنَى عَلَى عَيْنِهِ فَذَهَبَ بَصَرُهَا ، فَإِنْ شُلَّتْ إِصْبَعٌ مِنْهَا فَفِيهَا دِيَتُهَا ، فَإِنْ قُطِعَتْ بَعْدَ الشَّلَلِ كَانَ فِيهَا حُكُومَةٌ لَا تَبْلُغُ دِيَةَ السَّلِيمَةِ .

مَسْأَلَةٌ فِي الرِّجْلَيْنِ الدِّيَةُ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَفِي الرِّجْلَيْنِ الدية بالجناية عليهما الدِّيَةُ وَفِي كُلِّ إِصْبَعٍ مِمَّا هُنَالِكَ عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ عَنْهُ قَالَ : فِي الرِّجْلَيْنِ الدِّيَةُ وَفِي كُلِّ إِصْبَعٍ مِمَّا هُنَالِكَ عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ .

وَلِرِوَايَةِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : وَفِي الرِّجْلَيْنِ الدِّيَةُ وَلِأَنَّ الرِّجْلَيْنِ مِنْ أَعْظَمِ الْأَعْضَاءِ نَفْعًا ، لِأَنَّ عَلَيْهَا يَسْعَى ، وَبِهَا يَتَصَرَّفُ ، وَفِي إِحْدَى الرِّجْلَيْنِ الدية في الجناية عليهما نِصْفُ الدِّيَةِ ، لِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِهِ إِلَى الْيَمَنِ : وَفِي الرِّجْلِ خَمْسُونَ مِنَ الْإِبِلِ وَلِأَنَّهَا وَاحِدٌ مِنْ عُضْوَيْنِ كَالْيَدَيْنِ ، وَلَا فَضْلَ لِيُمْنَى عَلَى يُسْرَى ، وَفِي كُلِّ إِصْبَعٍ مِنْ أَصَابِعِهَا عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ كَأَصَابِعِ الْيَدَيْنِ ، وَلَا يُفَضَّلُ إِبْهَامٌ عَلَى خِنْصَرٍ ، فَإِنْ شُلَّتْ كَانَ فِيهَا دِيَتُهَا كَالْمَقْطُوعَةِ .

مَسْأَلَةٌ فِي كُلِّ أُنْمُلَةٍ ثُلُثُ عَقْلِ أُصْبُعٍ إِلَّا أُنْمُلَةَ الْإِبْهَامِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَفِي كُلِّ أُنْمُلَةٍ ثُلُثُ عَقْلِ أُصْبُعٍ إِلَّا أُنْمُلَةَ الْإِبْهَامِ فَإِنَهَا مِفْصَلَانِ فَفِي أُنْمُلَةِ الْإِبْهَامِ نِصْفُ عَقْلِ الْإِصْبَعِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، لَمَّا قَسَّطَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دِيَةَ الْكَفِّ عَلَى أَعْدَادِ أَصَابِعِهَا وَجَبَ أَنْ يُقَسِّطَ دِيَةَ الْإِصْبَعِ عَلَى أَعْدَادِ أَنَامِلِهَا ، وَفِي كُلِّ إِصْبَعٍ ثَلَاثُ أَنَامِلَ ، فَيَكُونُ فِي كُلِّ أُنْمُلَةٍ ثُلُثُ دِيَةِ إِصْبَعٍ ثَلَاثَةُ أَبْعِرَةٍ وَثُلُثٌ ، إِلَّا الْإِبْهَامَ فَإِنَّ فِيهَا أُنْمُلَتَيْنِ فَيَجِبُ فِي كُلِّ أُنْمُلَةٍ مِنْهَا نِصْفُ دِيَةِ إِصْبَعِ خَمْسَةِ أَبْعِرَةٍ . وَقَالَ مَالِكٌ : أُنْمُلَةُ الْإِبْهَامِ كَغَيْرِهَا يَجِبُ فِيهَا ثُلُثُ دِيَةِ إِصْبَعٍ ، لِأَنَّهَا ثَلَاثُ أَنَامِلَ أَحَدُهَا بَاطِنَةٌ . وَهَذَا فَاسِدٌ ، لِأَنَّ لِجَمِيعِ الْأَصَابِعِ أَنَامِلَ بَاطِنَةً ، وَإِنَّمَا يُقَسَّطُ دِيَتُهَا عَلَى مَا ظَهَرَ مِنْ أَنَامِلِهَا ، وَالظَّاهِرُ مِنَ الْإِبْهَامِ أُنْمُلَتَانِ وَمِنْ غَيْرِهَا ثَلَاثُ أَنَامِلَ ، فَلَوْ خُلِقَ لِرَجُلٍ فِي إِبْهَامِهِ ثَلَاثُ أَنَامِلَ وَجَبَ فِي كُلِّ أُنْمُلَةٍ مِنْهَا ثُلُثُ دِيَةِ الْإِصْبَعِ ، وَلَوْ خُلِقَ فِي غَيْرِهَا أَرْبَعُ أَنَامِلَ كَانَ فِي كُلِّ أُنْمُلَةٍ مِنْهَا رُبُعُ دِيَةِ الْإِصْبَعِ ، وَلَوْ خُلِقَتْ لَهُ خَمْسُ أَنَامِلَ كَانَ فِي كُلِّ أُنْمُلَةٍ مِنْهَا خُمْسُ دِيَتِهَا ، تَقْسِيطًا لِدِيَةِ الْأَصَابِعِ عَلَى أَعْدَادِ أَنَامِلِهَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ نَقَصَتْ فَكَانَتْ أُنْمُلَتَيْنِ كَانَ فِي إِحْدَاهُمَا نِصْفُ دِيَتِهَا . فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَ قَسَّطْتُمْ دِيَةَ الْإِصْبَعِ عَلَى مَا زَادَ مِنْ أَنَامِلِهَا وَنَقَصَ وَلَمْ تَفْعَلُوا مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْأَصَابِعِ إِذَا زَادَتْ وَنَقَصَتْ وَجَعَلْتُمْ فِي الْإِصْبَعِ الزَّائِدَةِ حُكُومَةً وَلَمْ تُقَسِّطُوا دِيَةَ الْكَفِّ عَلَى مَا بَقِيَ مِنَ الْأَصَابِعِ بَعْدَ الْإِصْبَعِ النَّاقِصَةِ ؟ قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا اخْتَلَفَتِ الْأَنَامِلُ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ الْمَعْهُودَةِ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ كَانَ كَذَلِكَ فِي الْخِلْقَةِ النَّادِرَةِ ، وَلَمَّا لَمْ يَخْتَلِفِ الْأَصَابِعُ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ الْمَعْهُودَةِ ، فَارَقَهَا حُكْمُ الْخِلْقَةِ النَّادِرَةِ .

وَالثَّانِي : أَنَّ الزَّائِدَةَ مِنَ الْأَصَابِعِ مُتَمَيِّزَةٌ وَمِنِ الْأَنَامِلِ غَيْرُ مُتَمَيِّزَةٍ فَلِذَلِكَ اشْتَرَكَتِ الْأَنَامِلُ وَتَفَرَّدَتِ الْأَصَابِعُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَأَيُّهَا شُلَّ تَتِمُّ عَقْلُهَا . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ بِشَلَلِ الْأَنَامِلِ مُوجِبٌ لِدِيَتِهَا كَشَلَلِ الْأَصَابِعِ ، وَلَيْسَ يُشَلُّ بَعْضُ الْأَنَامِلِ إِلَّا فِي أَعَالِيهَا ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ تُشَلَّ أُنْمُلَةٌ وُسْطَى مَعَ سَلَامَةِ الْعُلْيَا ، وَفِي الْأَنَامِلِ الجناية عليها ( الدية ) الْقَوَدُ ، عَلَى مَا مَضَى فَإِنْ قَطَعَ بَعْضَ أُنْمُلَةٍ لَمْ يَجِبْ فِيهَا قَوَدٌ لِأَنَّهَا مِنْ غَيْرِ مَفْصِلٍ ، فَإِنْ تَقَدَّرَ الْمَقْطُوعُ مِنْهَا لَزِمَ فِيهِ مِنْ دِيَتِهَا بِقَدْرِ الْمَقْطُوعِ مِنْهَا ، وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّرْ فَفِيهِ حُكُومَةٌ .

مَسْأَلَةٌ إِنْ قُطِعَتْ مِنَ الذِّرَاعِ فَفِي الْكَفِّ نِصْفُ الدِّيَةِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَإِنْ قُطِعَتْ مِنَ الذِّرَاعِ فَفِي الْكَفِّ نِصْفُ الدِّيَةِ وَفِيمَا زَادَ حُكُومَةٌ وَمَا زَادَ عَلَى الْقَدَمِ حُكُومَةٌ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَقَدْ مَضَى وَذَكَرْنَا أَنَّ دِيَةَ الْيَدِ يَنْتَهِي كَمَالُهَا إِلَى مَفْصِلِ الْكُوعِ الَّذِي بَيْنَ الْكَفِّ وَالذِّرَاعِ ، فَإِنِ انْتَهَى الْقَطْعُ إِلَى الذِّرَاعِ كَانَ فِي الْكَفِّ دِيَتُهَا وَفِي الزِّيَادَةِ حُكُومَةٌ تَقِلُّ بِقِلَّةِ مَا قَطَعَهُ مِنَ الذِّرَاعِ وَتَزِيدُ بِزِيَادَتِهِ ، فَإِنْ قَطْعَهَا مِنَ الْمِرْفَقِ كَانَتِ الْحُكُومَةُ أَزْيَدُ ، وَيَجِبْ فِيهِ الْقَوَدُ ، وَلَا يَجِبُ فِيهِ إِذَا قَطَعَ مِنْ دُونِ الْمِرْفَقِ اعْتِبَارًا بِالْمِفْصَلِ ، فَإِنْ قَطَعَ مِنَ الْمَنْكِبِ حَتَّى اسْتَوْعَبَ بِالْقَطْعِ الذِّرَاعَ مَعَ الْعَضُدِ وَجَبَ فِيهِ الْقَوَدُ إِذَا كَانَ مِنْ مَفْصِلٍ ، وَلَا يَجِبُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الْكَفِّ إِلَّا حُكُومَةٌ هِيَ أَقَلُّ مِنْ دِيَةِ الْكَفِّ ، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَيْهَا أَصْلٌ لَهَا يَتْبَعُهَا فِي حُكْمِهَا ، وَكَذَلِكَ دِيَةُ الرِّجْلِ يَنْتَهِي كَمَالُهَا إِلَى قَطْعِ الْقَدَمِ مِنْ مَفْصِلِ الْكَعْبِ ، فَإِنْ زَادَ بِقَطْعِهَا مِنَ السَّاقِ فَفِي الزِّيَادَةِ حُكُومَةٌ ، فَإِنْ قَطَعَهَا مِنْ مَفْصِلِ الرُّكْبَةِ كَانَتِ الْحُكُومَةُ أَكْثَرَ ، وَفِيهَا الْقَوَدُ ، فَإِنْ قَطَعَهَا مِنْ نِصْفِ الْفَخِذِ كَانَتِ الْحُكُومَةُ أَكْثَرَ وَلَا قَوَدَ ، فَإِنْ قَطَعَهَا مِنْ أَصْلِ الْوَرْكِ كَانَتِ الْحُكُومَةُ أَكْثَرَ وَفِيهِ الْقَوَدُ ، وَلَا يَبْلُغُ بِالْحُكُومَةِ دِيَةَ الْقَدَمِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْيَدِ .

مَسْأَلَةٌ فِي قَدَمِ الْأَعْرَجِ وَيَدِ الْأَعْسَمِ إِذَا كَانَتَا سَالِمَتَيْنِ الدِّيَةُ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَفِي قَدَمِ الْأَعْرَجِ وَيَدِ الْأَعْسَمِ إِذَا كَانَتَا سَالِمَتَيْنِ الدية في الجناية عليهما الدِّيَةُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْعَرَجُ فِي الرِّجْلِ فَقَدْ يَكُونُ تَارَةً مِنْ قُصُورِ أَحَدِ السَّاقَيْنِ عَنِ الْأُخْرَى ، وَيَكُونُ تَارَةً مِنْ تَشَنُّجِ عَصَبِ أَحَدِ السَّاقَيْنِ ، فَتَصِيرُ إِحْدَى الرِّجْلَيْنِ أَقْصَرَ مِنَ الْأُخْرَى ، فَيَعْرُجُ إِذَا مَشَى بِالْمَيْلِ عَلَى الْقُصْرَى ، وَفِيهَا الدِّيَةُ كَامِلَةٌ ، لِأَنَّ الْقَدَمَ سَلِيمَةٌ وَالنَّقْصَ فِي غَيْرِهَا ، كَمَا يَكْمُلُ فِي ذَكَرِ الْعِنِّينِ الدِّيَةُ ، وَأُذُنِ الْأَصَمِّ ، لِأَنَّ النَّقْصَ فِي غَيْرِهِ ، وَأَمَّا يَدُ الْأَعْسَمِ فَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الْعَسَمَ قِصَرُ الْعَضُدِ أَوِ الذِّرَاعِ ، فَتَصِيرُ إِحْدَى

الْيَدَيْنِ أَطْوَلَ مِنَ الْأُخْرَى ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ اعْوِجَاجُ الرُّسْغِ إِلَى أَنْ يَخْرُجَ زَنْدُ الذِّرَاعِ عَنْ كُوعِ الْكَفِّ وَأَيُّهُمَا كَانَ فَالدِّيَةُ فِي كَفِّ الْأَعْسَمِ كَامِلَةٌ ، لِأَنَّ الْعَسَمَ نَقْصٌ فِي غَيْرِ الْكَفِّ فَسَاوَتْ غَيْرَهَا .

فَصْلٌ : وَلَوْ خَلَعَ كَفَّهُ مِنَ الزَّنْدِ حَتَّى اعْوَجَّتْ الدية لَمْ يَجِبْ فِيهِ الْقَوَدُ ، لِتَعَذُّرِهِ فِيهِ حُكُومَةٌ ، فَإِنْ جُبِرَتْ فَعَادَتْ بِالْجَبْرِ إِلَى اسْتِقَامَتِهَا قَلَّتِ الْحُكُومَةُ فِيهَا ، وَإِنْ لَمْ تَعُدْ إِلَى الِاسْتِقَامَةِ كَثُرَتْ حُكُومَتُهَا ، فَإِنْ قَالَ الْجَانِي : أَنَا أُعِيدُ خَلْعَهَا وَأُجْبِرُهَا لِتَعُودَ إِلَى اسْتِقَامَتِهَا مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ ، لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ جِنَايَةٍ مِنْهُ ، فَإِنْ فَعَلَ وَخَلَعَهَا فَعَادَتْ بَعْدَ الْجَبْرِ مُسْتَقِيمَةً لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ مَا وَجَبَ مِنَ الْحُكُومَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، وَلَزِمَتْهُ حُكُومَةٌ ثَانِيَةٌ فِي الْخَلْعِ الثَّانِي ، غَيْرَ أَنَّ الْحُكُومَةَ الْأُولَى أَكْثَرُ ، لِأَنَّهَا عَادَتْ مُعْوَجَّةً ، وَالْحُكُومَةُ الثَّانِيَةُ أَقَلُّ ، لِأَنَّهَا عَادَتْ مُسْتَقِيمَةً ، وَهَكَذَا لَوْ كَسَرَ ذِرَاعَهُ مِنَ الْعَظْمِ حَتَّى انْقَصَفَ وَتَشَظَّى ، فَإِنْ جُبِرَتْ وَعَادَتْ إِلَى حَالِهَا فَفِيهَا حُكُومَةٌ بِقَدْرِ الْأَلَمِ وَالشَّيْنِ ، وَإِنْ عَادَتْ بَعْدَ الْجَبْرِ نَاقِصَةَ الْبَطْشِ زِيدَتِ الْحُكُومَةُ فِي ذَهَابِ الْبَطْشِ فَإِنْ ذَهَبَ جَمِيعُ بَطْشِهَا كَمُلَتْ دِيَتُهَا كَالشَّلَلِ ، وَكَذَلِكَ مِثْلُهُ إِذَا كَانَ فِي خَلْعِ الْقَدَمِ وَكَسْرِ السَّاقِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَلَوْ خُلِقَتْ لِرَجُلٍ كَفَّانِ فِي ذِرَاعِ إِحْدَاهُمَا فَوْقَ الْأُخْرَى فَكَانَ يَبْطِشُ بِالسُّفْلَى ، وَلَا يَبْطِشُ بِالْعُلْيَا فَالسُّفْلَى هِيَ الْكَفُّ الَّتِي فِيهَا الْقَوَدُ وَالْعُلْيَا زَائِدَةٌ ، وَفِيهَا حُكُومَةٌ وَكَذَلَكِ قَدَمَانِ فِي سَاقٍ فَإِنِ اسْتَوَتَا فَهُمَا نَاقِصَتَانِ فَإِنْ قُطِعَتْ إِحْدَاهُمَا فَفِيهَا حُكُومَةٌ لَا تُجَاوِزُ نِصْفَ دِيَةِ قَدَمٍ وَإِنْ قُطِعَتَا مَعَا فَفِيهِمَا دِيَةُ قَدَمٍ وَيُجَاوَزُ بِهَا دِيَةُ قَدَمٍ وَإِنْ قُطِعَتْ إِحْدَاهُمَا فَفِيهَا حُكُومَةٌ فَإِنْ عَمِلَتِ الْأُخْرَى لَمَّا انْفَرَدَتْ ثُمَّ عَادَ فَقَطَعَهَا وَهِيَ سَالِمَةٌ يَمْشِي عَلَيْهَا فَفِيهَا الْقِصَاصُ مَعَ حُكُومَةِ الْأَوْلَى . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا خُلِقَ لِرَجُلٍ كَفَّانِ فِي ذِرَاعٍ الدية في الجناية عليهما أو أحدهما أَوْ ذِرَاعَانِ فِي عَضُدٍ ، أَوْ عَضُدَانِ فِي مَنْكِبٍ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ فِيهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ لَا يَبْطِشَ بِهِمَا وَلَا بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فَهُمَا يَدٌ نَاقِصَةٌ لَا قَوَدَ فِيهِمَا ، وَلَا فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَلَا دِيَةَ فِيهِمَا وَلَا فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ، لِأَنَّ عَدَمَ الْبَطْشِ قَدْ أَذْهَبَ بِمَنَافِعِهِمَا ، وَذَهَابُ الْمَنَافِعِ يَمْنَعُ مِنَ الْقَوَدِ وَالدِّيَةُ كَالشَّلَلِ ، وَفِيهِمَا حُكُومَةٌ لَا يَبْلُغُ بِهَا دِيَةَ يَدٍ بَاطِشَةٍ ، وَفِي إِحْدَاهُمَا حُكُومَةٌ عَلَى النِّصْفِ مِنْ حُكُومَتِهِمَا إِلَّا أَنْ تَكُونَ إِحْدَاهُمَا أَزْيَدَ شَيْنًا فَيُزَادُ فِي حُكُومَتِهَا ، فَلَوْ بَطَشَتِ الْبَاقِيَةُ مِنْهُمَا بَعْدَ الْمَقْطُوعَةِ عُلِمَ أَنَّهَا هِيَ الْيَدُ مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ ، فَيَجِبُ فِيهَا الْقَوَدُ إِنْ قُطِعَتْ وَكَمَالُ الدِّيَةِ .

فَصْلٌ : وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَبْطِشَ بِأَحَدِهِمَا وَلَا يَبْطِشَ بِالْأُخْرَى ، فَالْبَاطِشَةُ هِيَ الْيَدُ وَفِيهَا الْقَوَدُ أَوِ الدِّيَةُ ، وَغَيْرُ الْبَاطِشَةِ هِيَ الزَّائِدَةُ لَا قَوَدَ فِيهَا وَلَا دِيَةَ ، وَفِيهَا حُكُومَةٌ ،

وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْبَاطِشَةُ فِي اسْتِوَاءِ الذِّرَاعِ أَوْ مُنْحَرِفَةً عَنْهُ ، لِأَنَّنَا نَسْتَدِلُّ عَلَى الْأَصْلِ بِمَنَافِعِهِ كَمَا نَسْتَدِلُّ عَلَى الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ بِبَوْلِهِ ، فَإِنْ قُطِعَتِ الزَّائِدَةُ فَصَارَتِ الْبَاطِشَةُ غَيْرَ بَاطِشَةٍ لَزِمَ دِيَتَهَا كَامِلَةً مَعَ حُكُومَةِ الزَّائِدَةِ ، وَيَقُومُ ذَهَابُ بَطْشِهَا مَقَامَ الشَّلَلِ ، وَلَوْ قُطِعَتِ الْبَاطِشَةُ فَحُكِمَ فِيهَا بِالْقَوَدِ أَوْ كَمَالِ الدِّيَةِ ثُمَّ صَارَتْ غَيْرُ الْبَاطِشَةِ بَاطِشَةً وَجَبَ فِيهَا كَمَالُ الدِّيَةِ إِنْ قُطِعَتْ ، لِأَنَّهَا يَدٌ بَاطِشَةٌ ، وَيَجِيءُ فِي رَدِّ مَا أَخَذَهُ مِنَ الْأَوَّلِ مِنْ كَمَالِ الدِّيَةِ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْمَثْغُورِ إِذَا أَخَذَ دِيَةَ سِنِّهِ فَعَادَتْ : أَحَدُهُمَا : لَا يَرُدُّ مِنْ كَمَالِ دِيَتِهَا شَيْئًا وَتَكُونُ هَذِهِ قُوَّةً أَحْدَثَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِهِ . وَالثَّانِي : يَرُدُّ مَا زَادَ عَلَى قَدْرِ حُكُومَتِهَا مِنْ كَمَالِ الدِّيَةِ ، لِأَنَّ الْبَطْشَ قَدِ انْتَقَلَ إِلَى الْبَاقِيَةِ فَلَمْ يَسْلُبْهُ الْأَوَّلُ بَطْشَهُ وَبَقَاءُ الْبَطْشِ يَمْنَعُ مِنْ كَمَالِ الدِّيَةِ .

فَصْلٌ : وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ بَاطِشًا بِهِمَا جَمِيعًا إذا كان له أكثر من يد في ذراعه ( الدية ) فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ بَطْشُهُ بِإِحْدَاهُمَا أَكْثَرَ مِنَ الْأُخْرَى ، فَأَكْثَرُهُمَا بَطْشًا هِيَ الْأَصْلُ يَجِبُ فِيهَا الْقَوَدُ أَوْ كَمَالُ الدِّيَةِ وَأَقَلُّهُمَا بَطْشًا هِيَ الزَّائِدَةُ لَا قَوَدَ فِيهَا وَفِيهَا حُكُومَةٌ ، كَمَا يُسْتَدَلُّ فِي إِشْكَالِ الْخُنْثَى بِقُوَّةِ بَوْلِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَسْتَوِيَ بَطْشُهُ بِهِمَا فَيَسْقُطُ الِاسْتِدْلَالُ بِالْبَطْشِ لِتَكَافُئِهِ وَيُعْدَلُ إِلَى غَيْرِهِ ، كَمَا إِذَا سَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ فِي الْخُنْثَى بِالْبَوْلِ عِنْدَ التَّسَاوِي عُدِلَ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَمَارَاتِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُهُمَا مِنْ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الْقَدْرِ أَوْ يَخْتَلِفَا ، فَإِنِ اخْتَلَفَا فَكَانَتْ إِحْدَى الْكَفَّيْنِ أَكْبَرَ مِنَ الْأُخْرَى فَالْكَبِيرَةُ هِيَ الْأَصْلُ تَكْمُلُ فِيهَا الدِّيَةُ ، وَالصَّغِيرَةُ هِيَ الزَّائِدَةُ يَجِبُ فِيهَا حُكُومَةٌ ، فَإِنِ اسْتَوَيَا فِي الْقَدْرِ وَلَمْ تَزِدْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ إِحْدَى الْكَفَّيْنِ فِي اسْتِوَاءِ الذِّرَاعِ وَالْأُخْرَى عَادِلَةً عَنْهُ ، فَتَكُونُ الَّتِي فِي اسْتِوَاءِ الذِّرَاعِ هِيَ الْأَصْلُ تَكْمُلُ فِيهَا الدِّيَةُ وَالْخَارِجَةُ عَنِ اسْتِوَائِهِ زَائِدَةً يَجِبُ فِيهَا حُكُومَةٌ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَسْتَوِيَا فِي مَخْرَجِ الذِّرَاعِ ، فَإِنْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا كَامِلَةَ الْأَصَابِعِ وَالْأُخْرَى نَاقِصَةً فَذَاتُ الْكَمَالِ هِيَ الْأَصْلُ وَذَاتُ النَّقْصِ هِيَ الزَّائِدَةُ ، وَلَوْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا كَامِلَةَ الْأَصَابِعِ وَالْأُخْرَى زَائِدَةَ الْأَصَابِعِ لَمْ يَكُنْ فِي الزِّيَادَةِ مَعَ الْكَمَالِ دَلِيلٌ ، وَإِنْ كَانَ فِي الْكَمَالِ مَعَ النُّقْصَانِ دَلِيلٌ : لِأَنَّ الزِّيَادَةَ نَقْصٌ فَلَمْ يُسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى أَصْلٍ ، فَإِذَا عُدِمَتِ الْأَمَارَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى تَمَيُّزِ الْأَصْلِ مِنَ الزِّيَادَةِ وَاعْتَدَلَتْ فِي الْكَفَّيْنِ مَعًا فَهُمَا يَدَانِ زَائِدَتَانِ إِنْ قَطَعَهُمَا قَاطِعٌ كَانَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ وَحُكُومَةٌ فِي الزِّيَادَةِ ، وَإِنْ قَطَعَ إِحْدَاهُمَا فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ لِعَدَمِ الْمُمَاثَلَةِ ، وَعَلَيْهِ نِصْفُ دِيَةِ يَدٍ وَزِيَادَةُ حُكُومَةٍ ، لِأَنَّهَا نِصْفُ يَدٍ زَائِدَةٍ ،

فَإِنْ قَطَعَ إِصْبَعًا مِنْ إِحْدَاهُمَا فَعَلَيْهِ نِصْفُ دِيَةِ إِصْبَعٍ وَزِيَادَةُ حُكُومَةٍ ، لِأَنَّهَا نِصْفُ إِصْبَعٍ زَائِدَةٍ ، وَإِنْ قَطَعَ أُنْمُلَةَ إِصْبَعٍ مِنْ إِحْدَاهُمَا فَعَلَيْهِ نِصْفُ دِيَةِ أُنْمُلَةٍ وَزِيَادَةُ حُكُومَةٍ ، لِأَنَّهَا نِصْفُ أُنْمُلَةٍ زَائِدَةٍ ، فَأَمَّا الْقَوَدُ فِي ذَلِكَ فَيَسْقُطُ إِلَّا أَنْ يَقْطَعَ إِصْبَعَيْنِ مُتَمَاثِلَيْنِ مِنَ الْكَفَّيْنِ قَبْلَ أَنْ يَقْطَعَ إِبْهَامَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْكَفَّيْنِ فَيُقْتَصُّ مِنْ إِبْهَامِهِ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ حُكُومَةٌ فِي الزِّيَادَةِ ، كَمَا يُقْتَصُّ مِنْ كَفِّهِ إِذَا قَطَعَ الْكَفَّيْنِ وَتُؤْخَذُ مِنْهُ حُكُومَةٌ فِي الزِّيَادَةِ ، وَلَوْ قَطَعَ مِنْ إِحْدَاهُمَا إِبْهَامًا وَمِنِ الْأُخْرَى خِنْصَرًا فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ فِي الْإِبْهَامِ وَلَا فِي الْخِنْصَرِ ، لِنَقْصِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ دِيَةُ إِصْبَعٍ وَزِيَادَةُ حُكُومَةٍ ، لِأَنَّهَا إِصْبَعٌ زَائِدَةٌ .

فَصْلٌ : وَلَوْ خُلِقَ لَهُ قَدَمَانِ فِي سَاقٍ ، أَوْ سَاقَانِ فِي فَخِذٍ ، أَوْ فَخِذَانِ فِي وَرْكٍ حكم تقدير الدية في الجناية ، فَحُكْمُ ذَلِكَ جَارٍ مَجْرَى الْكَفَّيْنِ فِي تَكَافُؤِ اعْتِبَارِ الْمَشْيِ بِهِمَا ، فَإِنْ كَانَ لَا يَمْشِي بِهِمَا فَهُمَا رِجْلٌ نَاقِصَةٌ لَا قَوَدَ فِيهَا وَلَا دِيَةَ ، وَفِيهَا حُكُومَةٌ ، وَإِنْ كَانَ يَمْشِي بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا دُونَ الْأُخْرَى فَالَّتِي يَمْشِي بِهَا هِيَ الْقَدَمُ يَجِبُ فِيهَا الْقَوَدُ أَوِ الدِّيَةُ ، وَالْأُخْرَى زَائِدَةٌ لَا قَوَدَ فِيهَا وَلَا دِيَةَ ، وَفِيهَا حُكُومَةٌ ، فَإِنْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا طَوِيلَةً وَالْأُخْرَى قَصِيرَةً وَهُوَ يَمْشِي عَلَى الطَّوِيلَةِ دُونَ الْقَصِيرَةِ لِزِيَادَتِهَا فَقُطِعَتِ الطَّوِيلَةُ فَصَارَ يَمْشِي عَلَى الْقَصِيرَةِ فَفِي الْقَصِيرَةِ بَعْدَ الطَّوِيلَةِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ ، وَفِي قَطْعِ الطَّوِيلَةِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ يَمْشِي عَلَى كِلَا الْقَدَمَيْنِ فَهُوَ كَبَطْشِهِ بِالْكَفَّيْنِ فِي اعْتِبَارِ الْكِبَرِ وَالصِّغَرِ ، ثُمَّ اعْتِبَارِ الِاسْتِوَاءِ وَالْعَرَجِ فَإِنْ حَصَلَ التَّسَاوِي فِيهِمَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَهُمَا رِجْلَانِ زَائِدَتَانِ يَجِبُ فِيهِمَا الْقَوَدُ وَزِيَادَةُ حُكُومَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ فِي الْإِلْيَتَيْنِ الدِّيَةُ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَفِي الْإِلْيَتَيْنِ الدِّيَةُ وَهُمَا مَا أَشْرَفَ عَلَى الظَّهْرِ مِنَ الْمَأْكَمَتَيْنِ إِلَى مَا أَشْرَفَ عَلَى اسْتِوَاءِ الْفَخِذَيْنِ وَسَوَاءٌ قُطِعَتَا مِنْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، فِي الْإِلْيَتَيْنِ الدِّيَةُ مِنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ ، لِأَنَّهُمَا عُضْوَانِ فِيهِمَا جَمَالٌ وَمَنْفَعَةٌ ، لِأَنَّهُمَا رِبَاطٌ لِمَفْصِلِ الْوَرْكِ وَبِهِمَا يَسْتَقِرُّ الْجُلُوسُ فَكَمُلَتِ الدِّيَةُ فِيهِمَا كَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ ، وَسَوَاءٌ ذَلِكَ مِنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ ، وَمَنْ كَانَ أَرْسَخَ الْإِلْيَةِ مَعْرُوقَهَا ، أَوْ لَحِيمَ الْإِلْيَةِ غَلِيظَهَا ، فَفِيهِمَا الْقِصَاصُ إِذَا اسْتَوْعَبَهُمَا مِنَ الْحَدِّ الَّذِي بَيَّنَهُ الشَّافِعِيُّ ، وَأَسْقَطَ الْمُزَنِيُّ الْقِصَاصُ فِيهِمَا ، لِأَنَّهُمَا لَحْمٌ مُتَّصِلٌ بِلَحْمٍ كَقَطْعِ لَحْمِ بَعْضِ الْفَخِذِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ حَدَّهُمَا يَمْنَعُ مِنْ تَجَاوُزِهِمَا ، فَإِنْ تَعَذَّرَ الْقِصَاصُ سَقَطَ وَوَجَبَتِ الدِّيَةُ ، فَإِنْ قَطَعَ إِحْدَى الْإِلْيَتَيْنِ فَنِصْفُ الدِّيَةِ كَقَطْعِ إِحْدَى الرِّجْلَيْنِ ، وَلَوْ قَطَعَ بَعْضَ إِحْدَاهُمَا وَعُلِمَ قَدْرُ الْمَقْطُوعِ مِنْهَا فَفِيهِ مِنَ الدِّيَةِ بِحِسَابِهِ ، فَإِنْ جُهِلَ فَفِيهِ حُكُومَةٌ ، وَلَوْ قَطَعَهُمَا حَتَّى أَبْقَاهُمَا عَلَى جِلْدٍ لَمْ تَنْفَصِلْ ، وَأُعِيدَتَا فَالْتَحَمَتَا كَانَ فِيهِمَا حُكُومَةٌ ،

كَالْجِرَاحِ الْمُنْدَمِلِ ، وَلَوْ ثَبَتَتِ الْإِلْيَتَانِ بَعْدَ قَطْعِهِمَا لَمْ يَرُدَّ الْمَأْخُوذَ مِنْ دِيَتِهِمَا ، وَقَدْ خُرِّجَ فِي رَدِّهَا قَوْلٌ آخَرُ كَاللِّسَانِ إِذَا نَبَتَ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَكُلُّ مَا قُلْتُ فِيهِمَا الدِّيَةُ فَفِي إِحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ الدية في الجناية على الأليين . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، لِأَنَّ النَّصَّ وَارِدٌ بِهِ ، وَالْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَيْهِ ، وَالِاعْتِبَارَ مُوجِبٌ لَهُ ، فَإِنْ وَجَبَتْ فِي ثَلَاثَةٍ كَالْأَنَامِلِ كَانَ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا الثُّلُثُ ، وَإِنْ وَجَبَتْ فِي أَرْبَعَةٍ كَالْجُفُونِ كَانَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا رُبُعُ الدِّيَةِ ، وَإِنْ وَجَبَتْ فِي خَمْسَةٍ كَالْأَصَابِعِ كَانَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا الْخُمُسُ ، ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ ، لِأَنَّ مَا قَابَلَ الْجُمْلَةَ تَقَسَّطَتْ أَجْزَاؤُهُ عَلَى أَجْزَائِهَا كَالْأَثْمَانِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَلَا تُفَضَّلُ يُمْنَى عَلَى يُسْرَى الأليين ( الدية في الجناية عليهما ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، لِأَنَّ مُطْلَقَ الِاسْمِ يَتَنَاوَلُهُمَا ، وَالنَّفْعَ وَالْجَمَالَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا ، وَلَئِنْ تَفَاضَلَا فِي الْمَنْفَعَةِ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُوجِبٍ لِتُفَاضِلِ الدِّيَةِ ، كَمَا لَا تُفَضَّلُ يَدُ الْكَاتِبِ وَالصَّانِعِ عَلَى يَدِ مَنْ لَيْسَ بِكَاتِبٍ وَلَا صَانِعٍ ، وَكَمَا لَا تُفَضَّلُ يَدُ الْكَبِيرِ الْقَوِيِّ عَلَى يَدِ الصَّغِيرِ الضَّعِيفِ ، وَعَلَى أَنَّ لِمَيَاسِرِ الْأَعْضَاءِ نَفْعًا رُبَّمَا لَمْ يَكُنْ لِمَيَامِنِهَا . فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا تَسَاوَيَا فِي حُكْمِ الدِّيَةِ فَهَلَّا تَسَاوَيَا فِي الْقَوَدِ فَجَازَ أَخْذُ الْيُمْنَى بِالْيُسْرَى . قِيلَ : الْقَوَدُ يُعْتَبَرُ فِيهِ مَعَ التَّسَاوِي فِي الْحُكْمِ التَّسَاوِي فِي الْمَحَلِّ وَهُمَا وَإِنِ اشْتَرَكَا فِي الْحُكْمِ فَقَدِ افْتَرَقَا فِي الْمَحَلِّ فَكَذَلِكَ لَوِ اسْتَوَيَا فِي الدِّيَةِ وَاخْتَلَفَا فِي الْقَوَدِ وَكَمَا لَا تُفَضَّلُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى وَإِنِ اخْتَلَفَتَا فِي الْقَوَدِ كَذَلِكَ لَا تُفَضَّلُ الْعُلْيَا عَلَى السُّفْلَى فِي الْأَنَامِلِ وَالْأَسْنَانِ وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْقَوَدِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَلَا عَيْنُ أَعْوَرَ عَلَى عَيْنِ لَيْسَ بِأَعْوَرَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِيهَا دِيَةٌ تَامَّةٌ وَإِنَّمَا قَضَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ وَعَيْنُ الْأَعْوَرِ كَيَدِ الْأَقْطَعِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا فُقِئَتْ عَيْنُ الْأَعْوَرِ ديتها فَفِيهَا دِيَةُ عَيْنٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ نِصْفُ الدِّيَةِ كَعَيْنِ مَنْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ . وَقَالَ مَالِكٌ : فِيهَا جَمِيعُ الدِّيَةِ وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ ، احْتِجَاجًا بِأَنَّهُ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ وَإِجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ .

رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ أَوْجَبُوا فِي عَيْنِ الْأَعْوَرِ الدِّيَةَ وَأَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - خَيَّرَهُ إِذَا كَانَ لِلْجَانِي عَيْنَانِ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ إِحْدَاهُمَا وَيَأْخُذَ نِصْفَ الدِّيَةِ ، وَبَيْنَ أَنْ يَعْدِلَ عَنِ الْقِصَاصِ وَيَأْخُذَ جَمِيعَ الدِّيَةِ ، وَلَيْسَ يُعْرَفُ لِقَوْلِهِمْ مَعَ انْتِشَارِهِ مُخَالِفٌ فَكَانَ إِجْمَاعًا . وَلِأَنَّ الْأَعْوَرَ يُدْرِكُ بِعَيْنِهِ جَمِيعَ مَا يُدْرِكُهُ ذُو الْعَيْنَيْنِ ، فَإِذَا قَلَعَ عَيْنَهُ فَقَدْ أَذْهَبَ بَصَرًا كَامِلًا فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَ فِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ ، وَخَالَفَ يَدَ الْأَقْطَعِ ، لِأَنَّهُ لَا يَعْمَلُ بِهَا مَا كَانَ يُعْمَلُ بِهِمَا ، وَلِذَلِكَ جَازَ فِي الْكَفَّارَةِ عِتْقُ الْعَوْرَاءِ وَلَمْ يَجُزْ عِتْقُ الْقَطْعَاءِ ، وَلِأَنَّ ضَوْءَ الْعَيْنَيْنِ يُحَوَّلُ فَيَنْتَقِلُ مِنْ إِحْدَى الْعَيْنَيْنِ إِلَى الْأُخْرَى ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَرَادَ تَحْدِيدَ نَظَرِهِ فِي رَمْيٍ أَوْ ثَقْبٍ أَغْمَضَ إِحْدَى عَيْنَيْهِ لِيُقَوِّيَ ضَوْءَ الْأُخْرَى فَيُدْرِكَ بِهَا نَظَرًا لِمَا يُدْرَكُ مَعَ فَتْحِ أُخْتِهَا ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ عُلِمَ أَنَّ ضَوْءَ الذَّاهِبَةِ انْتَقَلَ إِلَى الْبَاقِيَةِ فَلَزِمَ فِيهَا جَمِيعَ الدِّيَةِ ، وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : فِي الْعَيْنِ خَمْسُونَ مِنَ الْإِبِلِ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْأَعْوَرِ وَغَيْرِهِ فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ ، وَقَوْلُ الصَّحَابَةِ يُدْفَعُ بِعُمُومِ السُّنَّةِ ، وَلِأَنَّهَا عَيْنٌ وَاحِدَةٌ فَلَمْ تَكْمُلْ فِيهَا دِيَةُ الْعَيْنَيْنِ كَعَيْنِ ذِي الْعَيْنَيْنِ . وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ عُضْوَيْنِ إِذَا وَجَبَ فِيهِمَا نِصْفُ الدِّيَةِ مَعَ بَقَاءِ نَظِيرِهِ وَجَبَ فِيهِ ذَلِكَ النِّصْفُ مَعَ عَدَمِ نَظِيرِهِ كَيَدِ الْأَقْطَعِ . وَلِأَنَّهُ لَوْ قَامَتْ عَيْنُ الْأَعْوَرِ مَقَامَ عَيْنَيْنِ لَوَجَبَ أَنْ يُقْتَصَّ بِهَا مِنْ عَيْنَيِ الْجَانِي لِقِيَامِهَا مَقَامَ عَيْنَيْهِ ، وَلَوَجَبَ إِذَا قَلَعَ عَيْنَ الْأَعْوَرِ إِحْدَى عَيْنَيْنِ أَنْ لَا يُقْتَصَّ مِنْهُ كَمَا لَا يُقْتَصُّ مِنْ عَيْنَيْنِ بِعَيْنٍ ، وَفِي الْإِجْمَاعِ عَلَى خِلَافِ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ مَا قَالُوهُ . وَلِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ فِي عَيْنِ الْأَعْوَرِ كَمَالُ الدِّيَةِ لَوَجَبَ عَلَى مَنْ قَلَعَ عَيْنَيْ رَجُلٍ وَاحِدَةً بَعْدَ الْأُخْرَى أَنْ تَلْزَمَهُ دِيَةٌ وَنَصِفٌ ، لِأَنَّهُ قَدْ جَعَلَهُ بِقَلْعِ الْأُولَى أَعْوَرَ فَلَزِمَهُ بِهَا نِصْفُ الدِّيَةِ وَبِقَلْعِ الْأُخْرَى بَعْدَ الْعَوَرِ جَمِيعُ الدِّيَةِ وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ ، فَدَلَّ عَلَى فَسَادِ مَا اعْتَبَرُوهُ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ احْتِجَاجِهِمْ بِالْإِجْمَاعِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَدْ خَالَفَ فِيهِ عَائِشَةَ وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ فَلَمْ يَكُنْ إِجْمَاعًا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ رَجَعَ عَمَّا قَالُوا وَخَالَفَهُمْ ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ أَنَّهُ يُدْرِكُ بِالْبَاقِيَةِ مَا كَانَ يُدْرِكُهُ بِهِمَا فَعَنْهُ جَوَابَانِ :

إِحْدَاهُمَا : دَفْعُ هَذِهِ الدَّعْوَى ، لِأَنَّ الْأَعْوَرَ لَا يَرَى الْبَعِيدَ كَرُؤْيَةِ ذِي الْعَيْنَيْنِ وَقَدْ يَكُونُ بَيْنَهُمَا ضِعْفُ الْمَسَافَةِ فَلَمْ يَسْلَمْ مَا ادَّعَوْهُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ أَوْجَبَ هَذَا كَمَالَ الدِّيَةِ فِي الْعَيْنِ الْبَاقِيَةِ لَوَجَبَ مِثْلُهُ فِيمَنْ بَقِيَ سَمْعُهُ مِنْ إِحْدَى أُذُنَيْهِ أَنْ يَلْزَمَ فِي ذَهَابِهِ مِنَ الْأُذُنِ الْأُخْرَى كَمَالُ الدِّيَةِ كَمَا قَالَهُ يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ ، لِأَنَّهُ يَسْمَعُ بِهَا مَا كَانَ يَسْمَعُ بِهِمَا ، وَلَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ فِي سَمْعِ الْأُذُنَيْنِ ، فَكَذَلِكَ فِي ضَوْءِ الْعَيْنَيْنِ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إِنْ ضَوْءَ الْعَيْنِ يَنْتَقِلُ مِنَ الذَّاهِبَةِ إِلَى الْبَاقِيَةِ فَفَاسِدٌ ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ مَنْ قَلَعَ وَاحِدَةً مِنْ عَيْنَيْنِ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ دِيَتُهَا ، لِأَنَّ ضَوْءَهَا قَدِ انْتَقَلَ إِلَى الْأُخْرَى فَصَارَ كَالْجَانِي عَلَى عَيْنٍ لَا ضَوْءَ لَهَا ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ أَكْثَرُ مِنْ حُكُومَتِهَا ، وَهَذَا مَدْفُوعٌ بِالْإِجْمَاعِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الضَّوْءَ غَيْرُ مُنْتَقِلٍ ، وَإِنَّمَا يُغْمِضُ الرَّامِي إِحْدَى عَيْنَيْهِ ، وَكَذَلِكَ النَّاظِرُ فِي ثُقْبٍ حَتَّى لَا يَنْتَشِرَ ضَوْءُ الْعَيْنَيْنِ وَيَقْتَصِرَ عَلَى إِحْدَاهُمَا لِيَسْتَقِيمَ تَرَاجُعُ السَّهْمِ وَالثُّقْبِ وَلَا يَخْتَلِفَ السَّمْتُ بِاخْتِلَافِ النَّظَرَيْنِ . وَأَمَّا فَرْقُهُمْ بَيْنَ الْعَوْرَاءِ وَالْقَطْعَاءِ لِفَرْقِ مَا بَيْنَهُمَا فِي الْكَفَّارَةِ فَقَدْ كَانَ الْأَوْزَاعِيُّ يُسَوِّي بَيْنَهُمَا فِي كَمَالِ الدِّيَةِ وَيَقُولُ : إِنَّ مَنْ قُطِعَتْ يَدُهُ فِي الْجِهَادِ كَانَ فِي الْبَاقِيَةِ إِذَا قُطِعَتْ جَمِيعُ الدِّيَةِ وَنَحْنُ نُسَوِّي بَيْنَهُمَا فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ وَأَنْتَ تُخَالِفُ بَيْنَهُمَا لِافْتِرَاقِهِمَا فِي الْكَفَّارَةِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِصَحِيحٍ ، لِأَنَّ مَنْ قُطِعَتْ خِنْصَرُ أَصَابِعِهِ يُجْزِئُ فِي الْكَفَّارَةِ ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ قَطَعَ الْكَفَّ بَعْدَ ذَهَابِ خِنْصَرِهَا يَلْزَمُهُ جَمِيعُ دِيَتِهَا لِإِجْزَائِهَا فِي الْكَفَّارَةِ ، كَذَلِكَ عَيْنُ الْأَعْوَرِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا قَلَعَ الْأَعْوَرُ عَيْنَ بَصِيرٍ ذِي عَيْنَيْنِ ديتها كَانَ لِلْبَصِيرِ أَنْ يَقْتَصَّ مِنَ الْأَعْوَرِ ، فَإِنْ عَفَا عَنْهُ كَانَ لَهُ عَلَى الْأَعْوَرِ نِصْفُ الدِّيَةِ . وَقَالَ مَالِكٌ : لَهُ أَنْ يَقْتَصَّ مِنَ الْأَعْوَرِ ، فَإِنْ عَفَا عَنْهُ وَجَبَ لَهُ عَلَى الْأَعْوَرِ بِعَيْنِهِ الْوَاحِدَةِ جَمِيعُ الدِّيَةِ ، لِأَنَّهُ قَدْ عَفَا لَهُ عَنْ جَمِيعِ بَصَرِهِ ، وَهَذَا خَطَأٌ ، لِأَنَّ الْعَفْوَ عَنِ الْقِصَاصِ يُوجِبُ دِيَةَ الْعُضْوِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ، لَا دِيَةَ الْمُقْتَصِّ مِنْهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ رَجُلًا لَوْ قَطَعَ يَدَ امْرَأَةٍ ديتها كَانَ لَهَا عَلَيْهِ أَنْ تَقْتَصَّ مِنْ يَدِهِ ، فَإِنْ عَفَتْ عَنِ الْقِصَاصِ كَانَ لَهَا دِيَةُ يَدِهَا لَا دِيَةُ يَدِ الرَّجُلِ ، كَذَلِكَ وُجُوبُ الْقِصَاصِ عَلَى الْأَعْوَرِ ، وَهَكَذَا لَوْ قَطَعَ عَبْدٌ يَدَ حُرٍّ فَعَفَا الْحُرُّ عَنِ الْقِصَاصِ كَانَ لَهُ دِيَةُ يَدِ الْحُرِّ لَا دِيَةُ يَدِ الْعَبْدِ ، لِأَنَّ فِي الْعَيْنَيْنِ دِيَةً وَاحِدَةً ، وَمَا قَالَهُ مَالِكٌ يُفْضِي إِلَى إِيجَابِ دِيَتَيْنِ ، لِأَنَّهُ إِذَا قَلَعَ إِحْدَى عَيْنَيْهِ أَعْوَرُ أَوْجَبَ عَلَيْهِ دِيَةً ثُمَّ يَصِيرُ بَعْدَ قَلْعِهَا أَعْوَرَ ، فَيُوجِبُ فِيهَا إِذَا قُلِعَتْ دِيَةً ثَانِيَةً ، وَمَا أَفْضَى إِلَى هَذَا كَانَ مُطْرَحًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ إِنْ كُسِرَ صُلْبُهُ فَلَمْ يُطِقِ الْمَشْيَ فَفِيهِ الدِّيَةُ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : فَإِنْ كُسِرَ صُلْبُهُ فَلَمْ يُطِقِ الْمَشْيَ ديته فَفِيهِ الدِّيَةُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، لِأَنَّهُ قَدْ أَذْهَبَ جَمَالَهُ بِكَسْرِ صُلْبِهِ وَأَبْطَلَ تَصَرُّفَهُ بِذَهَابِ مَشْيِهِ فَكَمُلَتْ فِيهِ الدِّيَةُ ، فَإِنْ كُسِرَ صُلْبُهُ وَلَمْ يَذْهَبْ مَشْيُهُ وَصَارَ يَمْشِي كَالرَّاكِعِ وَجَبَ فِيهِ حُكُومَةٌ ، لِذَهَابِ الْجَمَالِ مَعَ بَقَاءِ الْمَنْفَعَةِ ، وَلَوْ صَارَ بَعْدَ كَسْرِ صُلْبِهِ مُنْتَصِبَ الظَّهْرِ لَكِنْ ذَهَبَ مَشْيُهُ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ تَامَّةً ، لِذَهَابِ الْمَنْفَعَتَيْنِ مَعَ بَقَاءِ الْجَمَالِ ، كَمَا لَوْ ضَرَبَ يَدَهُ فَشُلَّتْ ، فَلَوْ صَارَ ضَعِيفَ الْمَشْيِ لَا يَقْدِرُ عَلَى السَّعْيِ وَلَا عَلَى السُّرْعَةِ فَفِيهِ حُكُومَةٌ ، لِأَنَّهُ قَدْ أَذْهَبَ مِنْ مَشْيِهِ مَا لَا يَنْحَصِرُ ، وَلَوِ انْحَصَرَ لَوَجَبَ فِيهِ مِنَ الدِّيَةِ بِقِسْطِهَا ، وَلَوْ صَارَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ إِلَّا مُعْتَمِدًا عَلَى عَصًا كَانَتْ عَلَيْهِ حُكُومَةٌ هِيَ أَكْثَرُ مِنْ حُكُومَتِهِ لَوْ مَشَى بِغَيْرِ عَصًا ، وَكُلَّمَا أَوْجَبْنَاهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الدِّيَةِ أَوِ الْحُكُومَةِ فَإِنَّمَا نُوجِبُهُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْجِنَايَةِ بِالتَّوَقُّفِ عَنِ الْحُكْمِ بِهَا حَتَّى يَنْظُرَ مَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ أَمْرُهَا ، فَلَوْ حَكَمَ لَهُ بِالدِّيَةِ لِذَهَابِ مَشْيِهِ ثُمَّ صَارَ يَمْشِي مِنْ بَعْدُ اسْتَرْجَعَ مِنْهُ مَا أَخَذَهُ مِنَ الدِّيَةِ إِلَّا قَدْرَ حُكُومَةِ الْأَلَمِ وَالشَّيْنِ ، فَإِنِ اقْتَرَنَ بِكَسْرِ الصُّلْبِ وَذَهَابِ الْمَشْيِ شَلَلُ الْقَدَمَيْنِ ديته لَزِمَتْهُ دِيَتَانِ ، إِحْدَاهُمَا فِي ذَهَابِ الْمَشْيِ ، وَالْأُخْرَى فِي شَلَلِ الرِّجْلَيْنِ . فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا وَجَبَتْ دِيَةُ الرِّجْلَيْنِ بِذَهَابِ الْمَشْيِ وَإِنْ لَمْ يَصِرْ فِيهِمَا شَلَلٌ ، لِأَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ نَفْعَهُمَا . قِيلَ : لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الرِّجْلَيْنِ بَاقِيَةٌ فِي انْقِبَاضِهِمَا وَبَسْطِهِمَا لَا تَذْهَبُ إِلَّا بِالشَّلَلِ ، وَإِنَّمَا ذَهَبَ الْمَشْيُ لِنَقْصٍ فِي غَيْرِهِمَا ، فَلِذَلِكَ لَمْ تَجِبْ دِيَتُهَا إِلَّا بِشَلَلِهِمَا .

فَصْلٌ : وَلَوْ كَسَرَ صُلْبَهُ فَعَجَزَ عَنِ الْجِمَاعِ حكم ديته فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ عَجْزُهُ عَنْهُ لِضَعْفِ حَرَكَتِهِ مَعَ بَقَاءِ مَنِيِّهِ وَانْتِشَارِ ذَكَرِهِ فَفِيهِ حُكُومَةٌ ، لِأَنَّهُ قَدْ يَقْدِرُ عَلَى الْإِنْزَالِ بِاسْتِدْخَالِ ذَكَرِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ عَجْزُهُ عَنِ الْجِمَاعِ لِذَهَابِ مَنِيِّهِ وَعَدَمِ انْتِشَارِ ذَكَرِهِ فَفِيهِ الدِّيَةُ كَامِلَةً ، لِأَنَّهُ قَدْ أَذْهَبَ مَنْفَعَةَ الصُّلْبِ بِذَهَابِ الْمَنِيِّ ، فَإِنْ أَنْكَرَ الْجَانِي مَا ادَّعَاهُ نُظِرَ فَإِنِ اقْتَرَنَتْ بِدَعْوَاهُ عَلَامَةٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ جُعِلَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ فِي ذَهَابِهِ : لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ عَلَامَةٌ سُئِلَ عَنْهُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِهِ ، فَإِنْ قَالُوا : لَا يَذْهَبُ مِنْهُ الْجِمَاعُ حَلَفَ الْجَانِي وَلَمْ يَلْزَمِ الدِّيَةَ ، وَإِنْ قَالُوا : يَجُوزُ أَنْ يَذْهَبَ مِنْهُ الْجِمَاعُ حَلَفَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ وَاسْتَحَقَّ الدِّيَةَ ، وَلَوْ كَسَرَ صُلْبَهُ فَأَذْهَبُ مَشْيَهُ وَجِمَاعَهُ مَعًا فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَلْزَمُهُ إِلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ ، لِأَنَّهُمَا مَنْفَعَةُ عُضْوٍ وَاحِدٍ ، حَكَاهُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : تَلْزَمُهُ دِيَتَانِ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ، لِأَنَّهُمَا مَنْفَعَتَانِ فِي مَحَلَّيْنِ فَلَزِمَتْ فِيهِمَا دِيَتَانِ ، وَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ ، كَمَا لَوْ قَطَعَ أُذُنَهُ فَذَهَبَ سَمْعُهُ ديته ، أَوْ جَدَعَ أَنْفَهُ فَذَهَبَ شَمُّهُ ديته .

فَصْلٌ : وَلَوْ جَنَى عَلَيْهِ فَالْتَوَتْ عُنُقُهُ وَانْعَطَفَ وَجْهُهُ فَصَارَ كَالْمُلْتَفِتِ وَجْهُهُ ديته وَجَبَتْ فِيهِ حُكُومَةٌ بِحَسَبِ الشَّيْنِ وَالْأَلَمِ لَا تَبْلُغُ بِهَا الدِّيَةُ ، لِبَقَاءِ بَعْضِ الْمَنَافِعِ ، وَلَوْ كَانَ وَجْهُهُ بَعْدَ الْجِنَايَةِ عَلَى اسْتِقَامَتِهِ لَكِنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِالْتِفَاتِ بِهِ كَانَتْ فِيهِ حُكُومَةٌ وَهِيَ أَقَلُّ مِنْ حُكُومَةِ انْعِطَافِهِ ، لِأَنَّ شَيْنَهُ أَقَلُّ ، فَإِنْ ذَهَبَ بِهَا بَعْضُ كَلَامِهِ لَزِمَهُ مَعَ حُكُومَةِ الْوَجْهِ دِيَةُ مَا ذَهَبَ مِنَ الْكَلَامِ ، فَإِنْ أَذْهَبَ جَمِيعَ كَلَامِهِ بِالْتِوَاءِ عُنُقِهِ كَمُلَتْ دِيَةُ الْكَلَامِ وَزِيدَ فِي حُكُومَةِ الِالْتِوَاءِ ، فَإِنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى مَضْغِ الطَّعَامِ إِلَّا بِشِدَّةٍ ضُمَّ إِلَى ذَلِكَ حُكُومَةٌ فِي نُقْصَانِ الْمَضْغِ ، فَإِنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَضْغِ وَلَا يَصِلُ الطَّعَامُ إِلَى جَوْفِهِ إِلَّا بِالْوُجُورِ زِيدَ فِي حُكُومَتِهِ ، فَإِنْ كَانَ لَا يَنَسْاغُ الطَّعَامُ وَلَا يَصِلُ إِلَى جَوْفِهِ بِوُجُورٍ وَلَا غَيْرِهِ قِيلَ : هَذَا لَا يَعِيشُ وَيَنْتَظَرُ بِهِ فَإِنْ مَاتَ وَجَبَتْ دِيَتُهُ .

مَسْأَلَةٌ دِيَةُ الْمَرْأَةِ وَجِرَاحُهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ فِيمَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَدِيَةُ الْمَرْأَةِ وَجِرَاحُهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ فِيمَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : دِيَةُ الْمَرْأَةِ فِي نَفْسِهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ ، وَقَالَ الْأَصَمُّ وَابْنُ عُلَيَّةَ : دِيَتُهَا كَدِيَةِ الرَّجُلِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ تَسَاوِيَهُمَا فِي الْقِصَاصِ يُوجِبُ تَسَاوِيَهُمَا فِي الدِّيَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ اسْتِوَاءَ الْغُرَّةِ فِي الْجَنِينِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى يُوجِبُ تَسَاوِيَ الدِّيَةِ فِي الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ ، لِأَنَّ الْغُرَّةَ أَحَدُ الدِّيَتَيْنِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ رِوَايَةُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : وَدِيَةُ الْمَرْأَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ وَهَذَا نَصٌّ ، وَلِأَنَّهُ قَوْلُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلَيْسَ يُعْرَفُ لَهُمْ مُخَالِفٌ فَصَارَ إِجْمَاعًا ، وَلِأَنَّ الدِّيَةَ مَالٌ وَالْقِصَاصُ حَدٌّ ، وَالْمَرْأَةُ تُسَاوِي الرَّجُلَ فِي الْحُدُودِ فَسَاوَتْهُ فِي الْقِصَاصِ ، وَلَا تُسَاوِيهِ فِي الْمِيرَاثِ وَتَكُونُ عَلَى النِّصْفِ مِنْهُ فَلَمْ تُسَاوِهِ فِي الدِّيَةِ .

وَكَانَتْ عَلَى النِّصْفِ مِنْهَا وَفِيهِ انْفِصَالٌ . فَأَمَّا الْجَنِينُ فَلِأَنَّ اشْتِبَاهَ حَالِهِ فِي الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ وَالذُّكُورِيَّةِ وَالْأُنُوثِيَّةِ أَوْجَبَتْ حَسْمَ الِاخْتِلَافِ بِإِيجَابِ الْغُرَّةِ مَعَ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَاسَ عَلَيْهِ مَا زَالَ عَنْهُ الِاشْتِبَاهُ وَالْحَسْمُ فِيهِ التَّنَازُعُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ دِيَتَهَا فِي النَّفْسِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي دِيَةِ أَطْرَافِهَا وَجِرَاحِهَا المرأة عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ فِيمَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ . وَبِهِ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَهْلِ الْكُوفَةِ ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيِّ فِي أَهْلِ الْبَصْرَةِ ، وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ فِي أَهْلِ مِصْرَ . وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَشُرَيْحٌ : الْمَرْأَةُ تُعَاقِلُ الرَّجُلَ إِلَى نِصْفِ عُشْرِ دِيَتِهِ أَيْ تُسَاوِيهِ فِي الدِّيَةِ إِلَى نِصْفِ عُشْرِهَا وَهُوَ دِيَةُ السِّنِّ وَالْمُوضِحَةِ ثُمَّ تَكُونُ عَلَى النِّصْفِ مِنَ الرَّجُلِ فِيمَا زَادَ عَلَيْهِ . وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ : تُعَاقِلُ الرَّجُلَ إِلَى دِيَةِ الْمُنَقِّلَةِ وَذَلِكَ عُشْرُ الدِّيَةِ وَنِصْفُ عُشْرِهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَى النِّصْفِ فِيمَا زَادَ . وَقَالَ مَالِكٌ : تُعَاقِلُهُ إِلَى ثُلُثِ الدِّيَةِ أَرْشِ الْمَأْمُومَةِ وَالْجَائِفَةِ ثُمَّ تَكُونُ عَلَى النِّصْفِ مِنْهُ فِيمَا زَادَ . وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . وَمِنِ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالزُّهْرِيُّ . وَمِنِ الْفُقَهَاءِ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَقَدْ ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ فَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ جَعَلَهُ مَذْهَبًا لَهُ فِي الْقَدِيمِ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جَعَلَهُ حِكَايَةً عَنْ مَذْهَبِ غَيْرِهِ . قَالَ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ : سَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ كَمْ فِي إِصْبَعِ الْمَرْأَةِ ؟ قَالَ : عَشْرٌ ، قُلْتُ : فَفِي إِصْبَعَيْنِ ؟ قَالَ : عِشْرُونَ . قُلْتُ : فَفِي ثَلَاثٍ ؟ قَالَ : ثَلَاثُونَ ، قُلْتُ : فَفِي أَرْبَعٍ ؟ قَالَ : عِشْرُونَ فَقُلْتُ لَهُ : لَمَّا عَظُمَتْ مُصِيبَتُهَا قَلَّ عَقْلُهَا ، قَالَ : هَكَذَا السُّنَّةُ يَا ابْنَ أَخِي . وَاسْتَدَلَّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا بِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : الْمَرْأَةُ تُعَاقِلُ الرَّجُلَ إِلَى ثُلُثُ دِيَتِهَا وَلَعَلَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ أَشَارَ

بِقَوْلِهِ " هَكَذَا السُّنَّةُ " إِلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ ، وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَمَّا سَاوَتِ الرَّجُلَ فِي الْمِيرَاثِ إِلَى الْمُقَدَّرِ بِالثُّلُثِ وَهُوَ مِيرَاثُ وَلَدِ الْأُمِّ الَّذِي يَسْتَوِي فِيهِ الذَّكَرُ وَالْإِنَاثُ وَكَانَتْ عَلَى النِّصْفِ مِنَ الرَّجُلِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَجَبَ أَنْ تَسَاوِيَهُ فِي الدِّيَةِ إِلَى الثُّلُثِ وَتَكُونَ عَلَى النِّصْفِ فِيمَا زَادَ . وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ نَقْصَ الْأُنُوثَةِ لَمَّا مَنَعَ مِنْ مُسَاوَاةِ الرَّجُلِ فِي دِيَةِ النَّفْسِ كَانَ أَوْلَى أَنْ يَمْنَعَ مِنْ مُسَاوَاتِهِ فِيمَا دُونَهَا مِنْ دِيَاتِ الْأَطْرَافِ وَالْجِرَاحِ ، لِأَنَّ دِيَةَ النَّفْسِ أَغْلَظُ اعْتِبَارًا بِالْمُسْلِمِ مَعَ الْكَافِرِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْقِصَاصُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مُعْتَبَرًا بِالْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الدِّيَةُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مُعْتَبَرَةً بِدِيَةٍ النَّفْسِ وَهِيَ فِيهِ عَلَى النِّصْفِ فَكَذَلِكَ فِيمَا دُونَهَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ فَلَمْ يُسْنِدْهُ ، لِأَنَّ جَدَّهُ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ لَا صُحْبَةَ لَهُ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مُسْنَدًا إِذَا رَوَاهُ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ، وَلِأَنَّهُ هُوَ الصَّحَابِيُّ ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : لَمْ أَجِدْ لَهُ نَفَاذًا يَعْنِي طَرِيقًا لِصُحْبَتِهِ . وَأَمَّا الْمِيرَاثُ فَقَدْ تَكُونُ فِيهِ عَلَى النِّصْفِ مِنَ الرَّجُلِ فِيمَا نَقَصَ مِنَ الثُّلُثِ عِنْدِ مُقَاسَمَةِ الْإِخْوَةِ ، وَإِنَّمَا سَاوَتْ وَلَدَ الْأُمِّ ، لِأَنَّ الْإِدْلَاءَ فِيهِ بِالرَّحِمِ الَّذِي يُوجِبُ تَسَاوِيَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ فِيهِ كَفَرْضِ الْأَبَوَيْنِ ، فَإِنْ تَكُنِ الْعِلَّةُ فِيهِ تَقْدِيرَهُ بِالثُّلْثِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْصُلَ اخْتِلَافٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ فِي ثَدْيَيْهَا دِيَتُهَا

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَفِي ثَدْيَيْهَا دِيَتُهَا . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، لِأَنَّ فِي الثَّدْيَيْنِ ديتهما للمرأة جَمَالًا وَمَنْفَعَةً فَصَارَا فِي الدِّيَةِ كَالْيَدَيْنِ ، وَسَوَاءٌ كَانَا كَبِيرَيْنِ أَوْ صَغِيرَيْنِ ، مِنْ كَبِيرَةٍ أَوْ صَغِيرَةٍ ، نَزَلَ فِيهِمَا لَبَنٌ أَوْ لَمْ يَنْزِلْ ، فَإِنْ قَطَعَهُمَا وَأَجَافَ مَا تَحْتَهُمَا كَانَ عَلَيْهِ الدِّيَةُ فِيهِمَا وَأَرْشُ جَائِفَتَيْنِ تَحْتَهُمَا ، وَلَوْ ضَرَبَهُمَا فَاسْتَحْشَفَتَا وَيَبِسَا حَتَّى صَارَا لَا يَأْلَمَانِ فَهَذَا شَلَلٌ ، وَفِيهَا الدِّيَةُ كَامِلَةً ؟ لِأَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ مَنَافِعَهُمَا وَإِنْ بَقِيَ الْجَمَالُ فِيهِمَا ، كَمَا لَوْ أَشَلَّ يَدَهُ ، وَلَوْ ضَرَبَهُمَا فَذَهَبَا مَعَ بَقَاءِ الْأَلَمِ فِيهِمَا فَفِيهِمَا حُكُومَةٌ ، وَلَوْ ضَرَبَهَا فَذَهَبَ لَبَنُهُمَا فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَهَابُهُ مِنَ الضَّرْبِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِهِ فَيُسْأَلُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِهِ فَإِنْ قَالُوا : إِنَّهُ مِنَ الضَّرْبِ كَانَ فِيهِ حُكُومَةٌ ، وَإِنْ قَالُوا : مِنْ غَيْرِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِيهِ ، وَلَوْ قَطَعَ إِحْدَى الثَّدْيَيْنِ المرأة في الدية كَانَ فِيهِ نِصْفُ الدِّيَةِ كَإِحْدَى الْيَدَيْنِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ ضَرَبَهُ فَشُلَّ .

مَسْأَلَةٌ فِي حَلَمَتَيْهَا دِيَتُهَا

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَفِي حَلَمَتَيْهَا دِيَتُهَا لِأَنَّ فِيهِمَا مَنْفَعَةَ الرَّضَاعِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، لِأَنَّ جَمَالَ الثَّدْيِ وَمَنْفَعَتُهُ بِالْحَلَمَةِ كَمَا أَنَّ مَنْفَعَةَ

الْيَدِ بِالْأَصَابِعِ ، فَإِذَا قَطَعَ الْحَلَمَتَيْنِ ديتهما للمرأة كَانَ فِيهِمَا الدِّيَةُ كَامِلَةً كَمَا تَكْمُلُ الدِّيَةُ بِقَطْعِ الْأَصَابِعِ ، فَإِنْ عَادَ أَوْ غَيْرُهُ فَقَطَعَ مَا بَقِيَ مِنَ الثَّدْيَيْنِ بَعْدَ قَطْعِ الْحَلَمَتَيْنِ كَانَ فِي بَقِيَّتِهِمَا حُكُومَةٌ كَمَا يَجِبُ فِي قَطْعِ الْكَفِّ بَعْدَ قَطْعِ أَصَابِعِهَا حُكُومَةٌ ، وَكَذَلِكَ إِذَا اسْتَحْشَفَتِ الْحَلَمَتَانِ بِجِنَايَتِهِ كَمُلَتْ دِيَتَهُمَا لِذَهَابِ مَنَافِعِهِمَا ، فَإِنْ قَطَعَ إِحْدَى الْحَلَمَتَيْنِ أَوْ أَحْشَفَهُمَا ديتهما كَانَ فِيهَا نِصْفُ الدِّيَةِ ، وَلَوْ قَطَعَ بَعْضَ أَجْزَائِهَا كَانَ فِيهِ مِنَ الدِّيَةِ بِقِسْطِهِ ، وَهَلْ يُعْتَبَرُ قِسْطُ الْمَقْطُوعِ مِنْ نَفْسِ الْحَلَمَةِ أَوْ مِنْ جَمِيعِ الثَّدْيِ ، عَلَى قَوْلَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي قَطْعِ بَعْضِ حَشَفَةِ الذَّكَرِ هَلْ يَعْتَبِرُ قِسْطَهُ مِنَ الْحَشَفَةِ أَوْ مِنْ جَمِيعِ الذَّكَرِ : عَلَى قَوْلَيْنِ نَذْكُرُهُمَا مِنْ بَعْدُ ، لِأَنَّ مَحَلَّ الْحَلَمَةِ مِنَ الثَّدْيِ مَحَلُّ الْحَشَفَةِ مِنَ الذَّكَرِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الرَّجُلِ فَفِيهِمَا مِنَ الرَّجُلِ حُكُومَةٌ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا ثَدْيُ الرَّجُلِ ديته في الجناية عليه فَهُوَ أَقَلُّ مَنْفَعَةً وَجَمَالًا مِنْ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ وَإِنْ لَمْ يَخْلُ مِنْ مَنْفَعَةٍ وَجَمَالٍ وَفِي قَطْعِهِمَا مِنْهُ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فِيهِمَا حُكُومَةٌ ، لِأَنَّ كَمَالَ مَنْفَعَتِهِمَا بِالرَّضَاعِ وَذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِالْمَرْأَةِ دُونَ الرَّجُلِ ، فَوَجَبَ فِيهِمَا مِنَ الرَّجُلِ حُكُومَةٌ ، وَمِنِ الْمَرْأَةِ دِيَةٌ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : قَالَهُ فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ : فِيهِمَا الدِّيَةُ كَامِلَةً ، لِكَمَالِ نَفْعِهِمَا فِي الْجِنْسِ ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ نَفْعِهِمَا فِي غَيْرِ الْجِنْسِ ، وَلَوْ قَطَعَهُمَا وَأَجَافَ مَوْضِعَهُمَا فَعَلَيْهِ فِي إِحْدَى الْقَوْلَيْنِ حُكُومَةٌ فِي الثَّدْيَيْنِ وَدِيَةُ جَائِفَتَيْنِ . وَفِي الْقَوْلِ الثَّانِي : دِيَةٌ كَامِلَةٌ فِي الثَّدْيَيْنِ وَدِيَةُ جَائِفَتَيْنِ ، وَلَوْ قَطَعَ حَلَمَتَيْ ثَدْيَيْهِ كَانَ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِيهِمَا حُكُومَةٌ دُونَ حُكُومَةِ الثَّدْيَيْنِ . وَالثَّانِي : فِيهِمَا دِيَةٌ كَامِلَةٌ كَدِيَةِ الْيَدَيْنِ ، وَفِي قَطْعِ إِحْدَاهُمَا نِصْفُ الْوَاجِبِ فِي قَطْعِهِمَا مِنْ حُكُومَةٍ أَوْ دِيَةٍ .

مَسْأَلَةٌ فِي شَفْرَتَيْهَا دِيَتُهَا

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَفِي إِسْكَتَيْهَا وَهُمَا شَفْرَاهَا إِذَا أُوعِبَتَا دِيَتُهَا وَالرَّتْقَاءُ الَّتِي لَا تُؤْتَى وَغَيْرُهَا سَوَاءٌ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْإِسْكَتَانِ ديتهما في الجناية عليهما وَهُمَا الشَّفْرَانِ فَهُمَا مَا غَطَّى الْفَرْجَ وَانْضَمَّ عَلَيْهِ مِنْ جَانِبَيْهِ كَالشَّفَتَيْنِ فِي غِطَاءِ الْفَمِ ، وَالْجُفُونِ فِي غِطَاءِ الْعَيْنَيْنِ ، وَفِيهِمَا الدِّيَةُ كَامِلَةً إِذَا قُطِعَا مِنَ الْجَانِبَيْنِ : لِمَا فِيهِمَا مِنْ كَمَالِ الْمَنْفَعَةِ كَالشَّفَتَيْنِ ، فَإِنْ كَانَ الْقَاطِعُ لَهُمَا امْرَأَةً

وَجَبَ عَلَيْهَا الْقِصَاصُ إِنْ أَمْكَنَ ، وَقَالَ الْمُزَنِيُّ : لَا قِصَاصَ مَعَ الْمُكْنَةِ ، لِأَنَّهُ قَطْعُ لَحْمٍ مِنْ لَحْمٍ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ : لِأَنَّ أَحَدَهُمَا فِي الْخِلْقَةِ يَجْرِي عَلَيْهِمَا حُكْمُ الْمَفْصِلِ فِي الْقِصَاصِ ، وَسَوَاءٌ قُطِعَا مِنْ بِكْرٍ أَوْ ثَيِّبٍ ، صَغِيرَةٍ أَوْ كَبِيرَةٍ ، يُطَاقُ جِمَاعُهَا أَوْ لَا يُطَاقُ ، مِنْ رَتْقٍ أَوْ قَرْنٍ ، لِأَنَّ الرَّتْقَ وَالْقَرَنَ عَيْبٌ فِي الْفَرْجِ مَعَ سَلَامَةِ الْإِسْكَتَيْنِ فَجَرَيَا فِي كَمَالِ الدِّيَةِ مَجْرَى شَفَتَيِ الْأَخْرَسِ وَأُذُنَيِ الْأَصَمِّ وَأَنْفِ الْأَخْشَمِ ، وَلَوْ ضَرَبَ إِسْكَتَيْهَا فَشُلَّا كَمُلَتْ دِيَتُهَا وَلَا قِصَاصَ فِيهِمَا كَالْيَدِ إِذَا شُلَّتْ ، وَهُوَ بِخِلَافِ الْأُذُنِ إِذَا اسْتَحْشَفَتْ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، لِأَنَّ شَلَلَهُمَا قَدْ أَذْهَبَ مِنْ مَنَافِعِهِمَا مَا لَمْ يُذْهِبِ اسْتِحْشَافُ الْأُذُنِ ، وَلَوْ قَطَعَ إِحْدَى الْإِسْكَتَيْنِ كَانَ فِيهِ نِصْفُ الدِّيَةِ كَمَا لَوْ قَطَعَ إِحْدَى الشَّفَتَيْنِ . فَأَمَّا الرَّكَبُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْعَانَةِ مِنَ الرَّجُلِ ، وَفِي قَطْعِهِ مِنَ الْمَرْأَةِ حُكُومَةٌ لَا يَبْلُغُ بِهِمَا الدِّيَةَ ، فَإِنْ قَطَعَهُ مَعَ الشَّفْرَيْنِ فَعَلَيْهِ دِيَةٌ فِي الشَّفْرَيْنِ وَحُكُومَةٌ فِي الرَّكَبِ ، وَالْمَخْفُوضَةُ وَغَيْرُهَا سَوَاءٌ ، وَالْخَفْضُ قَطْعُ جِلْدَةٍ نَابِتَةٍ فِي أَعْلَى الْفَرَجِ مِثْلِ عُرْفِ الدِّيكِ وَهِيَ الَّتِي وَرَدَ الشَّرْعُ بِأَخْذِهَا مِنَ النِّسَاءِ كَالْخِتَانِ فِي الرِّجَالِ ، وَلَا شَيْءَ فِيهَا إِنْ قُطِعَتْ بِجِنَايَةٍ مِنْ دِيَةٍ وَلَا حُكُومَةٍ لِوُرُودِ الشَّرْعِ بِأَخْذِهَا تَعَبُّدًا ، وَإِنْ كَانَ يَأْخُذُهَا مُتَعَدِّيًا إِلَّا أَنْ تَسْرِي فَيَضْمَنُ أَرْشَ سِرَايَتِهَا لِتَعَدِّيهِ .

مَسْأَلَةٌ لَوْ أَفْضَى ثَيِّبًا كَانَ عَلَيْهِ دِيَتُهَا وَمَهْرُ مِثْلِهَا بِوَطْئِهِ إِيَّاهَا

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَلَوْ أَفْضَى ثَيِّبًا كَانَ عَلَيْهِ دِيَتُهَا وَمَهْرُ مِثْلِهَا بِوَطْئِهِ إِيَّاهَا . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا إِفْضَاءُ الْمَرْأَةِ ديته في الجناية عليه فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ فَذَهَبَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجُمْهُورُ الْمِصْرِيِّينَ إِلَى أَنَّهُ هَتْكُ الْحَاجِزِ الَّذِي بَيْنَ سَبِيلِ الْفَرْجَيْنِ الْقَبُلِ وَالدُّبُرِ ، وَذَهَبَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ وَجُمْهُورُ الْبَغْدَادِيِّينَ إِلَى أَنَّهُ هَتْكُ الْحَاجِزِ الَّذِي فِي الْفَرْجِ بَيْنَ مَدْخَلِ الذَّكَرِ وَمَخْرَجِ الْبَوْلِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ ، لِأَنَّ خَرْقَ الْحَاجِزِ الَّذِي فِي الْقُبُلِ بَيْنَ مَدْخَلِ الذَّكَرِ وَمَخْرَجِ الْبَوْلِ هُوَ اسْتِهْلَاكٌ لِبَعْضِ مَنَافِعِهِ وَلَيْسَ فِي أَعْضَاءِ الْجَسَدِ مَا تَكْمُلُ الدِّيَةُ فِي بَعْضِ مَنَافِعِهِ ، وَإِذَا خَرَقَ مَا بَيْنَ السَّبِيلَيْنِ كَانَ اسْتِهْلَاكًا لِجَمِيعِ الْمَنَافِعِ فَكَانَ بِكَمَالِ الدِّيَةِ أَحَقَّ . فَإِنْ قِيلَ بِهَذَا أَنَّهُ خَرَقَ مَا بَيْنَ السَّبِيلَيْنِ كَانَ عَلَى خَرْقِ الْحَاجِزِ الَّذِي فِي الْقُبُلِ حُكُومَةٌ . وَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ خَرْقُ حَاجِزِ الْقُبُلِ كَانَ خَرْقُ مَا بَيْنَ السَّبِيلَيْنِ أَوْلَى بِوُجُوبِ الدِّيَةِ ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالْإِفْضَاءُ مَضْمُونٌ بِالدِّيَةِ الْكَامِلَةِ وَإِنْ كَانَ الْبَوْلُ مَعَهُ مُسْتَمْسِكًا ، فَإِنِ اسْتَرْسَلَ الْبَوْلُ وَلَمْ يَسْتَمْسِكْ وَجَبَ مَعَ دِيَةِ الْإِفْضَاءِ حُكُومَةٌ فِي اسْتِرْسَالِ الْبَوْلِ .

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنِ اسْتَرْسَلَ الْبَوْلُ بِالْإِفْضَاءِ فَفِيهِ الدِّيَةُ التَّامَّةُ وَحْدَهَا مِنْ غَيْرِ حُكُومَةٍ ، وَإِنِ اسْتَمْسَكَ الْبَوْلُ فَفِي الْإِفْضَاءِ ثُلُثُ الدِّيَةِ ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا حُكُومَةَ عَلَيْهِ مَعَ اسْتِرْسَالِ الْبَوْلِ بِأَنَّ مَا ضُمِنَ إِتْلَافُهُ بِالدِّيَةِ دَخَلَ غُرْمُ مَنَافِعِهِ فِي دِيَتِهِ ، كَمَا لَوْ قَطَعَ لِسَانَهُ فَأَذْهَبَ كَلَامَهُ ديته ، أَوْ فَقَأَ عَيْنَهُ فَأَذْهَبَ بَصَرَهُ ديتها ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ فِيهِ مَعَ اسْتِمْسَاكِ الْبَوْلِ ثُلُثُ الدِّيَةِ بِأَنَّهُ لَيْسَ هَتْكُ هَذَا الْحَاجِزِ بِأَعْظَمَ مِنْ حَاجِزِ الْجَائِفَةِ ، فَلَمَّا وَجَبَتْ فِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ كَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يَجِبَ فِي الْإِفْضَاءِ أَكْثَرُ مِنْ ثُلُثِ الدِّيَةِ ، وَتُقَدَّرُ بِثُلُثِ الدِّيَةِ ، لِأَنَّهُمَا مَعًا هَتْكُ حَاجِزٍ فِي جَوْفٍ . وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ فِي اسْتِرْسَالِ الْبَوْلِ حُكُومَةً زَائِدَةً عَلَى دِيَةِ الْإِفْضَاءِ أَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَسْتَمْسِكَ الْبَوْلُ مَعَ وُجُودِ الْإِفْضَاءِ وَجَازَ أَنْ يَسْتَرْسِلَ عُلِمَ أَنَّهُ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْإِفْضَاءِ فَصَارَ مِنْ مَنَافِعِ غَيْرِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَرْشُهُ زَائِدًا عَلَى أَرْشِ الْإِفْضَاءِ ، كَمَا لَوْ قَطَعَ أُذُنَهُ فَأَذْهَبَ سَمْعَهُ أَوْ جَدَعَ أَنْفَهُ فَأَذْهَبَ شَمَّهُ لَزِمَهُ غُرْمُهَا ، وَخَالَفَ ذَهَابَ الْكَلَامِ بِقَطْعِ اللِّسَانِ وَذَهَابَ الْبَصَرِ بِفَقْءِ الْعَيْنِ لِاخْتِصَاصِهِمَا بِمَحَلِّ الْجِنَايَةِ إِذْ لَيْسَ يَصِحُّ أَنْ يَتَكَلَّمَ مَعَ قَطْعِ لِسَانِهِ وَلَا يُبْصِرَ مَعَ فَقْءِ عَيْنِهِ ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَضْمَنْهَا بِزِيَادَةٍ عَلَى أَرْشِ الْجِنَايَةِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ فِي الْإِفْضَاءِ دِيَةً كَامِلَةً أَنَّ الْأَعْضَاءَ الْبَاطِنَةَ فِي الْجَسَدِ أَخْوَفُ عَلَى النَّفْسِ مِنَ الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ فَكَانَتْ بِكَمَالِ الدِّيَةِ أَحَقَّ ، وَهَذَا الْحَاجِزُ مِنْ تَمَامِ الْخِلْقَةِ وَمَخْصُوصٌ بِمَنْفَعَةٍ لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِهِ ، لِامْتِيَازِ الْحَيْضِ وَمَخْرَجِ الْوَلَدِ عَنْ مَخْرَجِ الْبَوْلِ ، لِأَنَّ الْحَيْضَ وَالْوَلَدَ يَخْرُجَانِ مِنْ مَدْخَلِ الذَّكَرِ ، فَإِذَا انْخَرَقَ الْحَاجِزُ بِالْإِفْضَاءِ زَالَ بِالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ مَا لَا يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ فَأَشْبَهَ الْأَعْضَاءَ الْمُفْرَدَةَ مِنَ اللِّسَانِ وَالْأَنْفِ ، وَلِأَنَّ الْإِفْضَاءَ يَقْطَعُ التَّنَاسُلَ ، لِأَنَّ النُّطْفَةَ لَا تَسْتَقِرُّ فِي مَحَلِّ الْعُلُوقِ لِامْتِزَاجِهَا بِالْبَوْلِ فَجَرَى مَجْرَى قَطْعِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ وَفِي ذَلِكَ كَمَالُ الدِّيَةِ ، فَكَذَلِكَ الْإِفْضَاءُ . فَأَمَّا الِاسْتِشْهَادُ بِالْجَائِفَةِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ ، لِأَنَّ دِيَةَ الْجَائِفَةِ الثُّلُثُ لِانْدِمَالِهَا ، وَلَوْ لَمْ تَنْدَمِلْ لَأَفْضَتْ إِلَى النَّفْسِ فَكَمُلَ فِيهَا الدِّيَةُ ، وَالْإِفْضَاءُ غَيْرُ مُنْدَمِلٍ فَكَمُلَتْ فِيهِ الدِّيَةُ وَلَوِ انْدَمَلَ لَمَا كَمُلَتْ فِيهِ الدِّيَةُ وَلَوَجَبَ فِيهِ حُكُومَةٌ فَافْتَرَقَا .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ حُكْمِ الْإِفْضَاءِ للمرأة بالجناية عليه ( ديته ) فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ بِوَطْءٍ أَوْ بِغَيْرِ وَطْءٍ ، فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ وَطْءٍ وَهُوَ نَادِرٌ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَنْدَمِلَ أَوْ لَا يَنْدَمِلَ ، فَإِنِ انْدَمَلَ فَفِيهِ حُكُومَةٌ ، وَإِنْ لَمْ يَنْدَمِلْ فَفِيهِ الدِّيَةُ ، فَإِنِ اقْتَرَنَ بِهِ اسْتِرْسَالُ الْبَوْلِ فَفِيهِ مَعَ الدِّيَةِ حُكُومَةٌ ، فَإِنِ اقْتَرَنَ بِالْإِفْضَاءِ ذَهَابُ الْعُذْرَةِ مِنَ الْبِكْرِ وَجَبَ فِيهِ مَعَ دِيَةِ الْإِفْضَاءِ حُكُومَةُ الْعُذْرَةِ عَلَى غَيْرِ الزَّوْجِ وَلَمْ يَجِبْ فِيهِ عَلَى الزَّوْجِ حُكُومَةٌ ، لِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِإِزَالَتِهَا بِاسْتِمْتَاعِهِ فَاسْتَوَى الزَّوْجُ وَغَيْرُهُ فِي دِيَةِ الْإِفْضَاءِ وَحُكُومَةِ اسْتِرْسَالِ الْبَوْلِ ، وَلَمْ يَكُنْ لِهَذَا الْإِفْضَاءِ تَأْثِيرٌ فِي وُجُوبِ الْمَهْرِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ ، وَلَا فِي كَمَالِهِ عَلَى الزَّوْجِ ، لِخُلُوِّهِ مِنْ وَطْءٍ وَإِنْ

كَانَ هَذَا الْإِفْضَاءُ بِوَطْءٍ وَهُوَ الْأَغْلَبُ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ مِنْ زَوْجٍ فِي نِكَاحٍ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ مِنْ زِنًا . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْ زَوْجٍ فِي عَقْدِ نِكَاحٍ فَعَلَيْهِ دِيَةُ الْإِفْضَاءِ وَكَمَالُ الْمَهْرِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِفْضَاؤُهَا غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى الزَّوْجِ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمَهْرِ ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ مَا اسْتُبِيحَ مِنَ الْوَطْءِ لَمْ يُضْمَنْ بِهِ مَا حَدَثَ مِنِ اسْتِهْلَاكٍ كَزَوَالِ الْعُذْرَةِ ، وَلِأَنَّ الْفِعْلَ الْمُبَاحَ لَا تُضْمَنُ سِرَايَتُهُ كَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ . وَدَلِيلُنَا : هُوَ أَنَّهَا جِنَايَةٌ قَدْ يَتَجَرَّدُ الْوَطْءُ عَنْهَا فَلَمْ يَدْخُلْ أَرْشُهَا فِي حُكْمِهِ كَالْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ لَا يَسْقُطُ بِالْمَهْرِ فِيهِ دِيَةُ الْإِفْضَاءِ ، وَلِأَنَّهُمَا حَقَّانِ مُخْتَلِفَانِ وَجَبَا بِسَبَبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ ، لِأَنَّهُ مَهْرٌ مُسْتَحَقٌّ بِالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ وَدِيَةٌ مُسْتَحَقَّةٌ بِالْإِفْضَاءِ فَجَازَ اجْتِمَاعُهُمَا كَالْجَزَاءِ وَالْقِيمَةِ فِي قَتْلِ الْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ ، وَلِأَنَّ الْجِنَايَاتِ إِذَا ضَمِنَهَا غَيْرُ الزَّوْجِ ضَمِنَهَا الزَّوْجُ كَقَطْعِ الْأَعْضَاءِ ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْعُذْرَةُ ، لِأَنَّهَا مِنَ الزَّوْجِ مُسْتَحَقَّةٌ ، وَبِهَذَا فَرَّقْنَا بَيْنَهُمَا ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِحُدُوثِ سِرَايَتِهِ عَنْ فِعْلٍ مُبَاحٍ فَلَيْسَ مَا أَدَّى إِلَى الْإِفْضَاءِ مُبَاحًا ، وَجَرَى مَجْرَى ضَرْبِ الزَّوْجَةِ يُسْتَبَاحُ مِنْهُ مَا لَمْ يُؤَدِّ إِلَى التَّلَفِ وَلَا يُسْتَبَاحُ مَا أَدَّى إِلَيْهِ ، وَهُوَ يُضْمَنُ فِي الضَّرْبِ مَا أَدَّى إِلَى التَّلَفِ فَوَجَبَ أَنْ يُضْمَنَ بِالْوَطْءِ مَا أَدَّى إِلَى الْإِفْضَاءِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْإِفْضَاءُ مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ ديته ، فَيَلْزَمُ الْوَاطِئَ بِالشُّبْهَةِ مَهْرُ الْمِثْلِ بِالْوَطْءِ ، وَدِيَةُ الْإِفْضَاءِ ، وَلَا يَسْقُطُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَلْزَمُهُ دِيَةُ الْإِفْضَاءِ وَيَسْقُطُ بِهَا الْمَهْرُ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ ضَمَانَ الْعُضْوِ بِالْإِتْلَافِ يَدْخُلُ فِيهِ ضَمَانُ الْمَنْفَعَةِ كَمَا يَضْمَنُ يَدَهُ إِذَا قَطَعَهَا بِمَا يَضْمَنُهَا بِهِ لَوْ أَشَلَّهَا . وَدَلِيلُنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ ، وَلِأَنَّهَا جِنَايَةٌ قَدْ تَنْفَكُّ عَنْ وَطْءٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَدْخُلَ الْمُهْرُ فِي أَرْشِهَا ، كَمَا لَوْ قَطَعَ أَحَدَ أَعْضَائِهَا ، وَلِأَنَّهُمَا حَقَّانِ مُخْتَلِفَانِ وَجَبَا بِسَبَبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَلَمْ يَتَدَاخَلَا كَالْقِيمَةِ وَالْجَزَاءِ ، وَهَذَا يَمْنَعُ مِنْ جَمْعِهِمْ بَيْنَ قَطْعِ الْيَدِ وَشَلَلِهَا . فَإِذَا ثَبَتَ الْجَمْعُ بَيْنَ مَهْرِ الْمِثْلِ وَدِيَةِ الْإِفْضَاءِ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْمُفْضَاةِ مِنْ أَنْ تَكُونَ بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا ، فَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا الْتَزَمَ مُفْضِيهَا ثَلَاثَةَ أَحْكَامٍ ، مَهْرَ مِثْلِهَا ، وَدِيَةَ إِفْضَائِهَا ، وَحُكُومَةَ اسْتِرْسَالِ بَوْلِهَا ، وَإِنْ كَانْتَ بِكْرًا الْتَزَمَ الْأَحْكَامَ الثَّلَاثَةَ ، وَهَلْ يَلْتَزِمُ مَعَهَا أَرْشَ بَكَارَتِهَا أَوْ تَكُونُ دَاخِلًا فِي دِيَةِ إِفْضَائِهَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : يَلْزَمُهُ أَرْشُ الْبَكَارَةِ ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ وَإِنْ لَمْ يُفْضِهَا فَكَانَ لُزُومُهُ مَعَ إِفْضَائِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَلْزَمُهُ مَعَ دِيَةِ الْإِفْضَاءِ أَرْشُ الْبَكَارَةِ ، وَيَكُونُ دَاخِلًا فِي الدِّيَةِ ، لِأَنَّهَا جِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ فَوَجَبَ أَنْ يَدْخُلَ حُكْمُ ابْتِدَائِهَا فِي انْتِهَائِهَا كَدُخُولِ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ فِي دِيَةِ الْمَأْمُومَةِ ، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ : لَوْ أَفْضَى ثَيِّبًا كَانَ عَلَيْهِ دِيَتُهَا لَيْسَ بِشَرْطٍ ، لِأَنَّ إِفْضَاءَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ فِي الدِّيَةِ سَوَاءٌ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْإِفْضَاءُ مِنْ وَطْءِ زِنًا ديتها فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمَوْطُوءَةِ مِنْ أَنْ تَكُونَ مُطَاوِعَةً أَوْ مُكْرَهَةً ، فَإِنْ كَانَتْ مُطَاوِعَةً فَلَيْسَ لَهَا مَهْرٌ وَلَا أَرْشُ الْبَكَارَةِ ، لِأَنَّهَا مُبِيحَةٌ لَهُ بِالْمُطَاوَعَةِ وَلَهَا دِيَةُ الْإِفْضَاءِ ، لِأَنَّهُ قَدْ يَتَجَرَّدُ عَنِ الْوَطْءِ بِخِلَافِ الِافْتِضَاضِ وَذَهَابِ الْعُذْرَةِ فَصَارَتْ بِالْمُطَاوَعَةِ غَيْرَ مُبِيحَةٍ لِلْإِفْضَاءِ وَإِنْ أَبَاحَتْ ذَهَابَ الْعُذْرَةِ وَعَلَيْهَا الْحَدُّ ، وَإِنْ كَانَتْ مُكْرَهَةً وَجَبَ لَهَا مَهْرٌ وَدِيَةُ الْإِفْضَاءِ ، وَفِي وُجُوبِ أَرْشِ الْبَكَارَةِ وَجْهَانِ عَلَى مَا مَضَى مِنْ وَطْءِ الشُّبْهَةِ يَجِبُ فِي أَحَدِهِمَا وَلَا يَجِبُ فِي الْآخَرِ ، وَعَلَيْهِ حَدُّ الزِّنَا دُونَهَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَسْقُطُ عَنْهُ الْمَهْرُ مَعَ وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ وَلَا يَسْقُطُ مَهْرُهَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِسُقُوطِ الْحَدِّ عَنْهَا وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهَا .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ حُكْمِ الْإِفْضَاءِ وَوُجُوبِ الدِّيَةِ الْكَامِلَةِ فِيهِ مَعَ مَا يَقْتَرِنُ بِهِ مِنَ الْأُرُوَشِ الزَّائِدَةِ فِي اسْتِرْسَالِ الْبَوْلِ وَذَهَابِ الْعُذْرَةِ فَقَدْ يَنْقَسِمُ الْإِفْضَاءُ للمرأة بالجناية عليه ( ديته ) ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْعَمْدِ الْمَحْضِ ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْمَوْطُوءَةُ صَغِيرَةً وَالْوَاطِئُ كَبِيرَ الذَّكَرِ يَعْلَمُ أَنَّ وَطْءَ مِثْلِهِ يُفْضِيهَا فَهُوَ عَامِدٌ فِي الْإِفْضَاءِ فَيَلْزَمُهُ دِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ حَالَّةٌ فِي مَالِهِ ، وَإِنْ أَفْضَى الْإِفْضَاءُ إِلَى تَلَفِهَا كَانَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ ، وَدَخَلَتْ دِيَةُ الْإِفْضَاءِ فِي دِيَةِ النَّفْسِ ، وَكَذَلِكَ أَرْشُ الْبَكَارَةِ ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ مَهْرُ الْمِثْلِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَا يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ عَمْدِ الْخَطَأِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ وَطْءُ مِثْلِهِ لِمِثْلِهَا يَجُوزُ أَنْ يُفْضِيَهَا وَيَجُوزُ أَنْ لَا يُفْضِيَهَا ، فَيَلْزَمُهُ دِيَةُ الْإِفْضَاءِ مُغَلَّظَةً عَلَى عَاقِلَتِهِ ، وَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ فِي النَّفْسِ إِنِ انْتَهَى الْإِفْضَاءُ إِلَى النَّفْسِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْخَطَأِ الْمَحْضِ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ وَطْءُ مِثْلِهِ مُفْضِيًا لِلصَّغِيرَةِ وَغَيْرَ مُفْضٍ لِلْكَبِيرَةِ ، فَيَطَأُ الصَّغِيرَةَ وَهُوَ يَظُنُّهَا الْكَبِيرَةَ فَيُفْضِيهَا فَيَكُونُ إِفْضَاؤُهَا خَطَأً مَحْضًا ، فَتَكُونُ الدِّيَةُ فِيهِ مُخَفَّفَةً عَلَى عَاقِلَتِهِ دُونَهُ ، وَلَا قَوَدَ فِي النَّفْسِ إِنِ انْتَهَى الْإِفْضَاءُ إِلَى التَّلَفِ ، وَتَجِبُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ مَعَ الدِّيَةِ ، لِأَنَّ الْإِفْضَاءَ صَارَ قَتْلًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ فِي الْعَيْنِ الْقَائِمَةِ وَالْيَدِ وَالرِّجْلِ الشَّلَّاءِ حُكُومَةٌ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَفِي الْعَيْنِ الْقَائِمَةِ ديتها في الجناية عليها وَالْيَدِ وَالرِّجْلِ الشَّلَّاءِ حُكُومَةٌ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْعَيْنُ الْقَائِمَةُ فَهِيَ الَّتِي قَدْ ذَهَبَ بَصَرُهَا وَهِيَ صُورَةُ الصَّحِيحَةِ فَذَهَبَ نَفْعُهَا وَبَقِيَ جَمَالُهَا ، فَفِيهَا إِذَا قُلِعَتْ حُكُومَةٌ لِأَجْلِ الْأَلَمِ وَمَا أُذْهِبَ مِنْ جَمَالِهَا . وَحُكِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَوْجَبَ فِيهَا ثُلُثَ الدِّيَةِ وَحُكِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ أَوْجَبَ فِيهِمَا مِائَةَ دِينَارٍ ، وَهَذَا فِيهَا عَلَى وَجْهِ الْحُكُومَةِ إِنْ تَقَدَّرَتْ بِاجْتِهَادِ أَبِي بَكْرٍ ثُلُثَ الدِّيَةِ ، وَبِاجْتِهَادِ زَيْدٍ مِائَةَ دِينَارٍ ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ تَتَقَدَّرَ بِاجْتِهَادِ مَنْ بَعْدَهُمَا مِنَ الْحُكَّامِ بِهَذَا الْمِقْدَارِ وَبِأَقَلَّ مِنْهُ وَبِأَكْثَرَ ، بِحَسَبِ اخْتِلَافِهِ فِي الشَّيْنِ وَالْقُبْحِ وَالْأَلَمِ ، لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ فِي الْحُكُومَاتِ لَا يَجْعَلُهَا مَحْدُودَةً فِي جَمِيعِ الْجِنَايَاتِ ، وَكَذَلِكَ الْيَدُ الشَّلَّاءُ الَّتِي لَا تَأْلَمُ ديتها في الجناية عليها ، وَالرِّجْلُ الشَّلَّاءُ إِذَا قَطَعَهَا ديتها لَا دِيَةَ فِيهَا ، لِذَهَابِ مَنْفَعَتِهَا ، لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْيَدِ الْبَطْشُ ، وَمَنْفَعَةَ الرِّجْلِ الْمَشْيُ ، وَقَدْ ذَهَبَ بَطْشُ الْيَدِ وَمَشْيُ الرِّجْلِ بِشَلَلِهِمَا وَبَقِيَ الْجَمَالُ فِيهِمَا ، فَسَقَطَتِ الدِّيَةُ لِذَهَابِ الْمَنْفَعَةِ ، وَوَجَبَتِ الْحُكُومَةُ لِأَجْلِ الْجَمَالِ .

مَسْأَلَةٌ فِي لِسَانُ الْأَخْرَسِ حُكُومَةٌ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَلِسَانُ الْأَخْرَسِ ديته بالجناية عليه . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : يَعْنِي أَنَّ فِيهِ حُكُومَةً إِذَا قُطِعَ : لِأَنَّ ذَهَابَ الْكَلَامِ قَدْ سَلَبَهُ الْمَنْفَعَةَ فَصَارَ كَالْعَيْنِ الْقَائِمَةِ ، فَاقْتَضَى لِهَذَا التَّعْلِيلِ أَنْ تَجِبَ فِي قَطْعِهِ حُكُومَةٌ كَمَا يَجِبُ فِي الْعَيْنِ الْقَائِمَةِ ديتها في الجناية ، وَهَذَا الْقَوْلُ عَلَى الْإِطْلَاقِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ عِنْدِي ، لِأَنَّ مَقْصُودَ اللِّسَانِ أَفْعَالٌ : أَحَدُهَا : الْكَلَامُ ، وَالثَّانِي : الذَّوْقُ ، وَيَقْتَرِنُ بِهِمَا ثَالِثٌ يَكُونُ اللِّسَانُ عَوْنًا فِيهِ وَهُوَ إِدَارَةُ الطَّعَامِ بِهِ فِي الْفَمِ لِلْمَضْغِ ، فَإِنْ كَانَ ذَوْقُ الْأَخْرَسِ بَعْدَ قَطْعِ لِسَانِهِ بَاقِيًا فَفِيهِ حُكُومَةٌ كَمَا أَطْلَقَهُ الشَّافِعِيُّ ، وَلِأَنَّهُ مَا سَلَبَهُ الْقَطْعُ أَحَدَ النَّفْعَيْنِ الْمَقْصُودِينَ ، وَإِنَّمَا سَلَبَهُ أَقَلَّ مَنَافِعِهِ وَهُوَ إِدَارَةُ الطَّعَامِ بِهِ فِي فَمِهِ ، وَإِنْ ذَهَبَ ذَوْقُ الْأَخْرَسِ بِقَطْعِ لِسَانِهِ فَفِيهِ الدِّيَةُ كَامِلَةً ، لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ وُجُوبِ الدِّيَةِ فِي ذَهَابِ الذَّوْقِ ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ الْحَوَاسِّ كَالشَّمِّ بَلْ هُوَ أَنْفَعُ فَيَكُونُ الْإِطْلَاقُ مَحْمُولًا عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ فِي ذَكَرُ الْأَشَلِّ حُكُومَةٌ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَذَكَرُ الْأَشَلِّ فَيَكُونُ مُنْبَسِطًا لَا يَنْقَبِضُ أَوْ مُنْقَبِضًا لَا يَنْبَسِطُ .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الذَّكَرُ ديته بالجناية عليه السَّلِيمُ مِنْ شَلَلٍ فَفِيهِ الدِّيَةُ تَامَّةً ، لِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي كِتَابِهِ إِلَى الْيَمَنِ : وَفِي الذَّكَرِ الدِّيَةُ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَضَى فِي الْأُدَافِ الدِّيَةَ ، قَالَ قُطْرُبٌ : الْأُدَافُ الذَّكَرُ ، وَلِأَنَّهُ مِنْ آلَةِ التَّنَاسُلِ وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْمَنَافِعِ ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ مَنَافِذِ الْجَسَدِ فَأَشْبَهَ الْأَنْفَ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ ذَكَرِ الصَّبِيِّ وَالرَّجُلِ وَالشَّيْخِ الْهَرِمِ وَالْعِنِّينِ الَّذِي لَا يَأْتِي النِّسَاءَ ، لِأَنَّ الْعُنَّةَ عَيْبٌ فِي غَيْرِ الذَّكَرِ ، لِأَنَّ الشَّهْوَةَ فِي الْقَلْبِ وَالْمَنِيَّ فِي الصُّلْبِ ، فَإِنْ كَانَتِ الْعُنَّةُ مِنْ قِلَّةِ الشَّهْوَةِ فَمَحَلُّهَا فِي الْقَلْبِ ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ قِلَّةِ الْمَاءِ فَمَحَلُّهُ فِي الصُّلْبِ ، وَالذَّكَرُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فَكَانَ سَلِيمًا مِنَ الْعِنِّينِ كَسَلَامَتِهِ مِنْ غَيْرِ الْعِنِّينِ ، وَكَانَتِ الدِّيَةُ فِي قَطْعِهِ مِنْهُمَا عَلَى سَوَاءٍ ، فَإِنْ قَطَعَ حَشَفَةَ الذَّكَرِ حَتَّى اسْتَوْعَبَهَا مَعَ بَقَاءِ الْقَضِيبِ ديتها فَفِيهَا الدِّيَةُ ، لِأَنَّ نَفْعَ الذَّكَرِ بِحَشَفَتِهِ كَمَا تَكْمُلُ دِيَةُ الْكَفِّ بِقَطْعِ الْأَصَابِعِ ، فَإِنْ قَطَعَ بَعْضَ الْحَشَفَةِ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الدِّيَةِ بِقِسْطِهَا ، وَهَلْ يَتَقَسَّطُ عَلَى الْحَشَفَةِ وَحْدَهَا أَمْ عَلَى جَمِيعِ الذَّكَرِ : عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : تَتَقَسَّطُ عَلَى الْحَشَفَةِ ، لِأَنَّ الدِّيَةَ تَكْمُلُ بِقَطْعِهَا ، فَتُقَسَّطُ عَلَيْهَا أَبْعَاضُهَا ، فَيَلْزَمُهُ فِي نِصْفِ الْحَشَفَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ الذَّكَرِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ تَتَقَسَّطُ دِيَةُ الْمَقْطُوعِ مِنَ الْحَشَفَةِ عَلَى جَمِيعِ الذَّكَرِ ، لِأَنَّهُ الْأَصْلُ الْمَقْصُودُ بِكَمَالِ الدِّيَةِ فَكَانَتْ أَبْعَاضُهُ مُقَسَّطَةً عَلَيْهِ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ الْمَقْطُوعُ مِنْ نِصْفِ الْحَشَفَةِ هُوَ سُدُسُ الذَّكَرِ لَزِمَهُ سُدْسُ الدِّيَةِ ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْحَلَمَةِ مِنَ الثَّدْيِ إِذَا قَطَعَ بَعْضَهَا ديتها كَانَ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْأُنْثَيَانِ ديتهما بالجناية عليهما وَهُمَا الْخُصْيَتَانِ فَفِيهِمَا الدِّيَةُ ، لِأَنَّهُمَا مِنْ تَمَامِ الْخِلْقَةِ وَهُمَا مَحَلُّ التَّنَاسُلِ ، لِانْعِقَادِ مَنِيِّ الصُّلْبِ فِي يُسْرَاهُمَا إِذَا نَزَلَ إِلَيْهَا فَصَارَ لِقَاحًا فِيهِمَا ، وَلِأَنَّ الْحَيَاةَ مَحَلُّهُمَا ، وَلِذَلِكَ كَانَ عَصْرُ الْأُنْثَيَيْنِ مُفْضِيًا إِلَى التَّلَفِ ، وَلَا فَرْقَ فِي الْأُنْثَيَيْنِ بَيْنَ قَطْعِهِمَا مِنْ كَبِيرٍ أَوْ صَغِيرٍ ، عِنِّينٍ وَغَيْرِ عِنِّينٍ ، سَوَاءٌ كَانَ بَاقِيَ الذَّكَرِ أَوْ مَجْبُوبًا ، لِأَنَّ جَبَّ الذَّكَرِ نَقْصٌ فِي غَيْرِهِ ، وَأَوْجَبَ مَالِكٌ فِي أُنْثَيَيِ الْمَجْبُوبِ الذَّكَرِ حُكُومَةً ، لِأَنَّ جَبَّ الذَّكَرِ قَدْ أَثَّرَ فِي نَقْصِ الْأُنْثَيَيْنِ بِعَدَمِ النَّسْلِ ، وَهَذَا فَاسِدٌ بِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ نَقْصٌ فِي غَيْرِهِ فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ مَعَ سَلَامَتِهِ ، وَفِي إِحْدَى الْأُنْثَيَيْنِ نِصْفُ الدِّيَةِ ، وَلَا فَضْلَ لِيُسْرَى عَلَى يُمْنَى . وَحُكِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ أَوْجَبَ فِي الْبَيْضَةِ الْيُسْرَى ثُلُثَيِ الدِّيَةِ ، وَفِي الْيُمْنَى ثُلُثَهَا ، لِأَنَّ مَحَلَّ الْمَنِيِّ فِي الْيُسْرَى ، وَمَحَلَّ الشَّعْرِ فِي الْيُمْنَى ، وَهَذَا قَوْلٌ فَاسِدٌ ، لِأَنَّ كُلَّ عُضْوَيْنِ كَمُلَتْ فِيهِمَا الدِّيَةُ تَنَصَّفَتْ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى سَوَاءٍ ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ مَنَافِعُهُمَا كَالْيَدَيْنِ ، وَعَلَى أَنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ لِقَاحِ الْيُسْرَى مَظْنُونٌ بِمَا ذَكَرَهُ الطِّبُّ .

وَقَدْ حُكِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ أَنَّهُ قَالَ : عَجِبَتْ مَنْ يُفَضِّلُ الْبَيْضَةَ الْيُسْرَى عَلَى الْيُمْنَى : لِأَنَّ النَّسْلَ مِنْهَا ، كَانَ لَنَا غَنَمٌ فَخَصَيْنَاهَا مِنَ الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ فَكُنَّ يُلَقِّحْنَ . فَإِنْ قَطَعَ الذَّكَرَ مَعَ الْأُنْثَيَيْنِ الدية لَزِمَهُ دِيَتَانِ إِحْدَاهُمَا فِي الذَّكَرِ وَالْأُخْرَى فِي الْأُنْثَيَيْنِ سَوَاءٌ قَطَعَهُمَا مَعًا أَوْ قَطَعَ إِحْدَاهُمَا بَعْدَ الْأُخْرَى ، سَوَاءٌ قَدَّمَ قَطْعَ الذَّكَرِ أَوْ قَطْعَ الْأُنْثَيَيْنِ . وَقَالَ مَالِكٌ : إِنْ قَطَعَهُمَا مَعًا فَفِيهِ الدِّيَةُ وَحُكُومَةٌ ، وَإِنْ قَطَعَ الذَّكَرَ ثُمَّ الْأُنْثَيَيْنِ وَجَبَ دِيَةٌ فِي الْأُنْثَيَيْنِ وَحُكُومَةٌ فِي الذَّكَرِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ قَطَعَهُمَا مَعًا أَوْ قَطَعَ الذَّكَرَ ثُمَّ الْأُنْثَيَيْنِ فَعَلَيْهِ دِيَتَانِ كَمَا قُلْنَا ، وَإِنْ قَطَعَ الْأُنْثَيَيْنِ أَوَّلًا ثُمَّ الذَّكَرَ فَعَلَيْهِ دِيَةٌ فِي الْأُنْثَيَيْنِ وَحُكُومَةٌ فِي الذَّكَرِ كَمَا قَالَ مَالِكٌ . وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ كُلَّ مَا كَمُلَتْ فِيهِ الدِّيَةُ إِذَا انْفَرَدَ لَمْ تَنْقُصْ دِيَتُهُ إِذَا اقْتَرَنَ بِغَيْرِهِ كَالْيَدَيْنِ مَعَ الرِّجْلَيْنِ ، أَوْ قَطْعِ الْأُذُنَيْنِ مَعَ ذَهَابِ السَّمْعِ . وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ : إِنَّ كُلَّ عُضْوَيْنِ كَمُلَتْ دِيَتَاهُمَا إِذَا اجْتَمَعَا كَمُلَتْ دِيَتَاهُمَا إِذَا افْتَرَقَا كَمَا لَوْ قَدَّمَ قَطْعَ الذَّكَرِ ، وَهَكَذَا لَوْ وَجَأَ ذَكَرَهُ حَتَّى اسْتَحْشَفَ وَوَجَأَ أُنْثَيَيْهِ حَتَّى اسْتَحْشَفَتَا وَجَبَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دِيَةٌ كَامِلَةٌ ، لِأَنَّهُ قَدْ أُذْهِبَتْ مَنَافِعُهُمَا بِالِاسْتِحْشَافِ وَالشَّلَلِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا قَطَعَ ذَكَرَ أَشَلَّ يَنْقَبِضُ فَلَا يَنْبَسِطُ ، أَوْ يَنْبَسِطُ فَلَا يَنْقَبِضُ ديته فَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ ، وَفِيهِ حُكُومَةٌ كَقَطْعِ الْيَدِ الشَّلَّاءِ ، لِأَنَّ شَلَلَ الذَّكَرِ قَدْ أَبْطَلَ مَنَافِعَهُ . فَإِنْ قِيلَ : فَمَنَافِعُهُ بَاقِيَةٌ ، لِأَنَّهُ مَخْرَجُ الْبَوْلِ وَخُرُوجُهُ مِنَ الْأَشَلِّ كَخُرُوجِهِ مِنْ غَيْرِ الْأَشَلِّ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَكْمُلَ فِيهِ الدِّيَةُ . قِيلَ : مَخْرَجُ الْبَوْلِ مِنْهُ هُوَ أَقَلُّ مَنَافِعِهِ ، لِأَنَّ الْبَوْلَ يَخْرُجُ مَعَ قَطْعِهِ وَقَدْ فَاتَ بِقَطْعِهِ أَكْثَرُهَا فَلَمْ يَلْزَمْ فِيهِ إِلَّا حُكُومَةً ، وَهَكَذَا لَوْ قَطَعَ خُصْيَتَيْنِ مُسْتَحْشِفَتَيْنِ ديتهما كَانَ فِيهِمَا حُكُومَةٌ لِذَهَابِ مَنَافِعِهِمَا بِالِاسْتِحْشَافِ .

مَسْأَلَةٌ فِي الْأُذُنَيْنِ الْمُسْتَحْشِفَتَيْنِ بِهِمَا مِنَ الِاسْتِحْشَافِ مَا بِالْيَدِ مِنَ الشَّلَلِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَفِي الْأُذُنَيْنِ الْمُسْتَحْشِفَتَيْنِ ديتهما ، بِهِمَا مِنَ الِاسْتِحْشَافِ مَا بِالْيَدِ مِنَ الشَّلَلِ ، وَذَلِكَ أَنْ تُحَرَّكَا فَلَا تَتَحَرَّكَا أَوْ تُغْمَزَا بِمَا يُؤْلِمُ فَلَا تَأْلَمَا . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ شَلَلَ الْأَعْضَاءِ عَلَى ضَرْبَيْنِ في الجنايات : أَحَدُهُمَا : مَا يَسْلُبُهَا جَمِيعَ الْمَنْفَعَةِ وَلَا يَبْقَى فِيهَا إِلَّا الْجَمَالُ وَحْدَهُ عَلَى نَقْصٍ فِيهِ كَشَلَلِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ ، لِأَنَّهُ قَدْ أَذْهَبَ مَنَافِعَهُمَا وَبَقِيَ بَعْضُ جَمَالِهِمَا ، لِأَنَّهُ لَيْسَ جَمَالُ

السَّلِيمَةِ كَجَمَالِ الشَّلَّاءِ فَفِيهِمَا إِذَا شُلَّتْ بِجِنَايَتِهِ الدِّيَةُ ، لِذَهَابِ الْمَنْفَعَةِ ، وَلَوْ قَطَعَهُمَا بَعْدَ الشَّلَلِ كَانَ فِيهِمَا حُكُومَةٌ لِذَهَابِ الْجَمَالِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مَا يَبْقَى بَعْدَ الشَّلَلِ الْجَمَالُ وَالْمَنْفَعَةُ عَلَى نَقْصٍ فِيهِمَا كَاسْتِحْشَافِ الْأُذُنَيْنِ وَالْأَنْفِ ، لِأَنَّ الْأُذُنَيْنِ بَعْدَ اسْتِحْشَافِهِمَا تَجْمَعُ الصَّوْتَ ، وَالْأَنْفَ بَعْدَ اسْتِحْشَافِهِ يَجْذِبُ الرَّوَائِحَ الْمَشْمُومَةَ فَفِيهِمَا إِذَا جَنَى عَلَيْهِمَا فَاسْتَحْشَفَتَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : الدِّيَةُ كَامِلَةٌ كَغَيْرِهَا مِنَ الْأَعْضَاءِ إِذَا شُلَّتْ . وَالثَّانِي : حُكُومَةٌ لِبَقَاءِ الْجَمَالِ وَالْمَنْفَعَةِ ، وَلَوْ قَطَعَهُمَا بَعْدَ الِاسْتِحْشَافِ كَانَ عَلَى قَوْلَيْنِ أَيْضًا : أَحَدُهُمَا : فِيهِمَا الدِّيَةُ إِذَا قِيلَ فِي اسْتِحْشَافِهِمَا حُكُومَةٌ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : فِيهِمَا حُكُومَةٌ إِذَا قِيلَ فِي اسْتِحْشَافِهِمَا الدِّيَةُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَكُلُّ جُرْحٍ لَيْسَ فِيهِ أَرْشٌ مَعْلُومٌ حُكُومَةٌ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : هَذَا صَحِيحٌ ، وَهُوَ مَا دُونَ الْمُوضِحَةِ فِي شِجَاجِ الرَّأْسِ وَمَا دُونَ الْجَائِفَةِ فِي جِرَاحِ الْجَسَدِ ديتها فَفِيهَا حُكُومَةٌ تَتَقَدَّرُ بِالِاجْتِهَادِ بِحَسَبِ الْأَلَمِ وَالشَّيْنِ لَا يَبْلُغُ بِمَا فِي شِجَاجِ الرَّأْسِ دِيَةَ الْمُوضِحَةِ ، وَلَا مِمَّا فِي جِرَاحِ الْبَدَنِ دِيَةَ الْجَائِفَةِ ، لِأَنَّ الْمُوضِحَةَ أَغْلَظُ مِمَّا تَقَدَّمَهَا وَالْجَائِفَةَ أَجْوَفُ مِمَّا دُونَهَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَبْلُغَ بِالْأَقَلِّ دِيَةَ الْأَكْثَرِ .

مَسْأَلَةٌ فِي شَعْرِ الرَّأْسِ وَالْحَاجِبَيْنِ وَاللِّحْيَةِ وَأَهْدَابِ الْعَيْنَيْنِ فِي كُلِّ ذَلِكَ حُكُومَةٌ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَفِي شَعْرِ الرَّأْسِ وَالْحَاجِبَيْنِ وَاللِّحْيَةِ وَأَهْدَابِ الْعَيْنَيْنِ ديتها فِي كُلِّ ذَلِكَ حُكُومَةٌ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا قَالَهُ رَدًّا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ ، لِأَنَّهُ أَوْجَبَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الشُّعُورِ الْأَرْبَعَةِ الدِّيَةَ تَامَّةً ، وَأَوْجَبَ الشَّافِعِيُّ فِي جَمِيعِهَا حُكُومَةً تَتَقَدَّرُ بِحَسَبِ الشَّيْنِ ، وَلَمْ يُوجِبْ فِيهَا الدِّيَةَ : لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ فِيمَا يَكُونُ لَهُ مَعَ الْجَمَالِ مَنْفَعَةٌ ، وَهَذَا مَسْلُوبُ الْمَنْفَعَةِ فَلَمْ تَجِبْ فِيهِ الدِّيَةُ . وَالثَّانِي : أَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ فِيمَا يُؤْلِمُ قَطْعُهُ وَيُخَافُ سِرَايَتُهُ ، وَقَدْ عُدِمَ فِي الشَّعْرِ الْأَلَمُ وَالسِّرَايَةُ فَلَمْ يَجِبْ فِيهِ دِيَةٌ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ الشَّعْرِ الْمَأْخُوذِ مِنَ الْجَسَدِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ :

أَحَدُهَا : مَا لَا يُحْدِثُ أَخْذُهُ شَيْنًا فِي جَمِيعِ النَّاسِ وَذَلِكَ مِثْلُ شَعْرِ الْإِبِطِ وَالْعَانَةِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ ، سَوَاءٌ عَادَ أَوْ لَمْ يَعُدْ ، إِلَّا أَنْ يُحْدِثَ فِي الْجِلْدِ أَثَرًا فَيَلْزَمُ فِي أَثَرِ الْجَلْدِ حُكُومَةٌ دُونَ الشَّعْرِ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ ، وَقَدْ خَرَّجَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِيهِ وَجْهًا ثَانِيًا أَنَّ فِيهِ إِذَا لَمْ يَعُدْ حُكُومَةً وَإِنْ كَانَ ذَهَابُهُ أَجْمَلَ ، لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَدْ أَوْجَبَ فِي لِحْيَةِ الْمَرْأَةِ إِذَا نُتِفَتْ فَلَمْ تَعُدْ حُكُومَةً ، وَإِنْ كَانَ ذَهَابُهَا أَجْمَلَ بِالْمَرْأَةِ مِنْ بَقَائِهَا وَهُمَا فِي الْمَعْنَى سَوَاءٌ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَا يُحْدِثُ أَخْذُهُ شَيْنًا فِي جَمِيعِ النَّاسِ كَشَعْرِ اللِّحْيَةِ وَالْحَاجِبَيْنِ وَأَهْدَابِ الْعَيْنَيْنِ فَفِيهِ إِذَا لَمْ يَعُدْ حُكُومَةٌ ، وَإِنْ عَادَ مِثْلَ نَبَاتِهِ قَبْلَ أَخْذِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا شَيْءَ فِيهِ . وَالثَّانِي : فِيهِ حُكُومَةٌ هِيَ دُونَ حُكُومَةِ مَا لَمْ يَعُدْ ، وَقَدْ لَوَّحَ الشَّافِعِيُّ إِلَى الْوَجْهَيْنِ مَعًا ، فَلَوْ خَرَجَ عَلَى قَوْلَيْنِ كَانَ مُحْتَمَلًا ، فَلَوْ نَبَتَ بَعْضُهُ وَلَمْ يَنْبُتْ بَعْضُهُ لَزِمَتْهُ حُكُومَةُ مَا لَمْ يَنْبُتْ ، وَفِي حُكُومَةِ مَا نَبَتَ وَجْهَانِ عَلَى مَا مَضَى . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا يُحْدِثُ أَخْذُهُ شَيْنًا فِي بَعْضِ النَّاسِ ، وَلَا يُحْدِثُ شَيْنًا فِي بَعْضِهِمْ وَهُوَ شَعْرُ الرَّأْسِ وَالشَّارِبِ ، يُحْدِثُ شَيْنًا فِيمَنْ لَمْ تَجْرِ عَادَتُهُ بِحَلْقِ رَأَسِهِ وَحَفِّ شَارِبِهِ ، وَلَا يُحْدِثُ شَيْنًا فِيمَنْ جَرَتْ عَادَتُهُ بِذَلِكَ ، فَإِنْ أَخَذَهُ مَنْ لَا يُشِينُهُ أَخْذُهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إِنْ عَادَ ، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ فَهَلْ فِيهِ حُكُومَةٌ هِيَ أَقَلُّ مِنْ حُكُومَةِ الشَّعْرِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ، وَإِنْ أَخَذَهُ مِمَّنْ يَشِينُهُ أَخْذُهُ فَفِيهِ إِنْ لَمْ يَعُدْ حُكُومَةٌ وَهِيَ أَكْثَرُ مِنْ حُكُومَتِهِ فِيمَنْ لَا يُشِينُهُ أَخْذُهُ ، وَإِنْ عَادَ فَفِيهِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ . فَأَمَّا الْقِصَاصُ فِي نَتْفِ الشَّعْرِ فَلَا يَجِبُ لِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي كَثَافَتِهِ وَخِفَّتِهِ ، وَطُولِهِ وَقِصَرِهِ ، وَشَيْنِهِ وَجَمَالِهِ ، وَذَهَابِهِ وَنَبَاتِهِ .

مَسْأَلَةٌ بيان مَعْنَى الْحُكُومَةِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَمَعْنَى الْحُكُومَةِ أَنْ يُقَوَّمَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ كَمْ يَسْوَى أَنْ لَوْ كَانَ عَبْدًا غَيْرَ مَجْنِيٍّ عَلَيْهِ ثُمَّ يُقَوِّمُ مَجْنِيًّا عَلَيْهِ فُيُنْظَرُ كَمْ بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ فَإِنْ كَانَ الْعُشْرَ فَفِيهِ عُشْرُ الدِّيَةِ أَوِ الْخُمُسَ فَعَلَيْهِ خُمُسُ الدِّيَةِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَجُمْلَةُ الْأُرُوشِ فِي الْجِنَايَاتِ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِتَقْدِيرِهِ فَيَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الدِّيَةِ وَاسْمُ الْأَرْشِ إِلَّا دِيَةَ النَّفْسِ فَلَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا اسْمُ الْأَرْشِ ، لِأَنَّ الْأَرْشَ لِتَلَافِي خَلَلٍ وَلَمْ يَبْقَ مَعَ تَلَفِ النَّفْسِ مَا يُتَلَافَى فَلَمْ تُسَمَّ دِيَتُهَا أَرْشًا ، فَكُلُّ شَيْءٍ تَقَدَّرَتْ دِيَتُهُ بِالشَّرْعِ زَالَ الِاجْتِهَادُ فِيهِ ، وَتَسَاوَى الْحُكْمَ مَعَ قِلَّةِ الشَّيْنِ وَكَثْرَتِهِ ، فَمَا تَقَدَّرَتْ أُرُوشُهُ بِالدِّيَةِ الْكَامِلَةِ كَالْأَنْفِ وَاللِّسَانِ وَالذَّكَرِ فَفِيهِ مِنَ الْعَبْدِ جَمِيعُ قِيمَتِهِ ، وَمَا تَقَدَّرَ أَرْشُهُ بِنِصْفِ الدِّيَةِ كَإِحْدَى الْعَيْنَيْنِ وَإِحْدَى الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ فَفِيهِ مِنَ الْعَبْدِ نِصْفُ قِيمَتِهِ ، وَمَا تَقَدَّرَ أَرْشُهُ بِعُشْرِ الدِّيَةِ كَالْإِصْبَعِ فَفِيهِ

مِنِ الْعَبْدِ عُشْرُ قِيمَتِهِ ، وَكَذَلِكَ فِيمَا زَادَ وَنَقَصَ ، فَيَصِيرُ الْحُرُّ أَصْلًا لِلْعَبْدِ فِي الْمُقَدَّرِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مَا لَمْ يَرِدِ الشَّرْعُ بِتَقْدِيرِ أَرْشِهِ فَالْوَاجِبُ فِيهِ حُكُومَةٌ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الشَّيْنِ ، لَا تَتَقَدَّرُ إِلَّا بِاجْتِهَادِ الْحُكَّامِ ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ حُكُومَةً لِاسْتِقْرَارِهَا بِالْحُكْمِ ، فَإِنِ اجْتَهَدَ فِيهَا مَنْ لَيْسَ بِحَاكِمٍ مُلْزَمٍ لَمْ يَسْتَقِرَّ تَقْدِيرُهُ ، لِأَنَّهُ لَا يَنْفُذُ حُكْمُهُ ، ثُمَّ إِذَا تَقَدَّرَتْ بِاجْتِهَادِ الْحَاكِمِ فِي وَاحِدٍ لَمْ يَصِرْ ذَلِكَ حُكْمًا مُقَدَّرًا فِي كُلِّ أَحَدٍ : لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لِقُصُورِ مَرْتَبَةِ الِاجْتِهَادِ عَنِ النَّصِّ ، فَصَارَ الِاجْتِهَادُ خُصُوصًا وَالنَّصُّ عُمُومًا . وَالثَّانِي : لِاعْتِبَارِ الشَّيْنِ فِي الِاجْتِهَادِ ، وَحَذْفِهِ مِنَ النَّصِّ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَعْرِفَةُ الْحُكُومَةِ أَنْ يُقَوَّمَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ عَبْدًا لَا جِنَايَةَ بِهِ ، فَإِذَا قِيلَ : مِائَةُ دِينَارٍ قُوِّمَ وَبِهِ هَذِهِ الْجِنَايَةُ ، وَإِذَا قِيلَ : تِسْعُونَ دِينَارًا عُلِمَ أَنَّ نَقْصَ الْجِنَايَةِ عَشَرَةٌ مِنْ مِائَةٍ هِيَ عُشْرُهَا مُعْتَبَرٌ مِنْ دِيَةِ نَفْسِ الْحُرِّ فَيَكُونُ أَرْشُهَا عُشْرَ الدِّيَةِ ، وَلَوْ نَقَصَ بَعْدَ الْجِنَايَةِ عِشْرُونَ مِنْ مِائَةٍ هِيَ خُمْسُهَا كَانَ أَرْشُهَا خُمُسَ الدِّيَةِ ، وَكَذَلِكَ فِيمَا زَادَ وَنَقَصَ ، وَلَوْ كَانَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَبْدًا كَانَ النَّاقِصُ مِنْ قِيمَتِهِ هُوَ أَرْشَ حُكُومَتِهِ ، فَيَصِيرُ الْعَبْدُ أَصْلًا لِلْحُرِّ فِي الْحُكُومَةِ ، وَالْحُرُّ أَصْلًا لِلْعَبْدِ فِي التَّقْدِيرِ ، وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَجْعَلُ نَقْصَ الْجِنَايَةِ مُعْتَبَرًا مِنْ دِيَةِ الْعُضْوِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لَا مِنْ دِيَةِ النَّفْسِ ، فَإِنْ كَانَ عَلَى يَدٍ وَهُوَ الْعُشْرُ أَوْجَبَ عُشْرَ دِيَةِ الْيَدِ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى إِصْبَعٍ أَوْجَبَ عُشْرَ دِيَةِ الْإِصْبَعِ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الرَّأْسِ فِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ أَوْجَبَ عُشْرَ دِيَةِ الْمُوضِحَةِ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْجَسَدِ فِيمَا دُونَ الْجَائِفَةِ أَوْجَبَ عُشْرَ دِيَةِ الْجَائِفَةِ وَلَمْ يَعْتَبِرْهُ مِنْ دِيَةِ النَّفْسِ حَذَرًا مِنْ أَنْ يَبْلُغَ أَرْشُ الْحُكُومَةِ دِيَةَ ذَلِكَ الْعُضْوِ أَوْ زِيَادَةً عَلَيْهِ ، وَهَذَا الِاعْتِبَارُ فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا كَانَ التَّقْوِيمُ لِلنَّفْسِ دُونَ الْعُضْوِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ النَّقْصُ مُعْتَبَرًا مِنْ دِيَةِ النَّفْسِ دُونَ الْعُضْوِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ قَدْ تُقَارِبُ جِنَايَةُ الْحُكُومَةِ جِنَايَةَ الْمُقَدَّرِ كَالسِّمْحَاقِ مَعَ الْمُوضِحَةِ ، فَلَوِ اعْتُبِرَ النَّقْصُ مِنْ دِيَةِ الْمُوضِحَةِ لِبُعْدِ مَا بَيْنَ الْأَرْشَيْنِ مَعَ قُرْبِ مَا بَيْنَ الْجِنَايَتَيْنِ ، فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا اعْتَبَرْتُمُوهُ مِنْ دِيَةِ النَّفْسِ رُبَّمَا سَاوَاهُ وَزَادَ عَلَيْهِ . قِيلَ : يَخْتَبِرُ زَمَنَ هَذِهِ الْمُسَاوَاةِ وَالزِّيَادَةُ حَدٌّ فِيهَا وَالنُّقْصَانُ فِيهَا عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ ، فَلَا تُوجِبُ زِيَادَةً وَلَا مُسَاوَاةً .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنِ اخْتِيَارِ الْحُكُومَةِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْجِنَايَةِ ذَاتِ الْحُكُومَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهَا تَأْثِيرٌ فِي نُقْصَانِ الْقِيمَةِ أَوْ لَا يَكُونَ ، فَإِنْ كَانَ لَهَا تَأْثِيرٌ فِي النُّقْصَانِ وَهُوَ الْعُشْرُ الْمُوجِبُ لِعُشْرِ الدِّيَةِ نُظِرَتْ ، فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ دِيَةِ الْعُضْوِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ كَالْجِنَايَةِ عَلَى إِحْدَى الْعَيْنَيْنِ يُقَدَّرُ أَرْشُ الْحُكُومَةِ بِعُشْرِ الدِّيَةِ ، فَيَجِبُ بِهَا عُشْرُ الدِّيَةِ ، وَإِنْ كَانَ مُسَاوِيًا لِدِيَةِ الْعُضْوِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ كَالْجِنَايَةِ عَلَى الْإِصْبَعِ لَمْ تُوجِبْ فِيهِ حُكُومَتُهَا عُشْرَ الدِّيَةِ ، لِأَنْ لَا يُسَاوِيَ أَرْشُ حُكُومَتِهَا دِيَةَ قَطْعِهَا ، وَنَقَصَتْ مِنْ عُشْرِ الدِّيَةِ الَّتِي هِيَ دِيَةُ الْإِصْبَعِ مَا يَقْتَضِيهِ الِاجْتِهَادُ بِحَسَبِ كَثْرَةِ الشَّيْنِ وَقِلَّتِهِ ، وَلَوْ كَانَتْ عَلَى الرَّأْسِ وَهِيَ دُونَ الْمُوضِحَةِ وَكَانَ نَقْصُهَا عُشْرَ الْقِيمَةِ لَمْ تُوجِبْ بِهَا عُشْرَ الدِّيَةِ ، لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مِنْ دِيَةِ الْمُوضِحَةِ وَنَقَصَتْ مِنْ دِيَةِ الْمُوضِحَةِ بِحَسَبِ الشَّيْنِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ النُّقْصَانَ نَاقِصًا حَقَّهُ أَوْ أَقَلَّهُ مَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا لِبَيْعٍ أَوْ صَدَاقًا لِزَوْجَةٍ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْجِنَايَةِ تَأْثِيرٌ فِي نُقْصَانِ الْقِيمَةِ وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ ، إِمَّا بِأَنْ لَا يَكُونَ لِلْجِرَاحِ بَعْدَ انْدِمَالِهَا تَأْثِيرٌ ، أَوْ يَكُونَ كَقَطْعِ إِصْبَعٍ زَائِدَةٍ أَوْ قَلْعِ سِنٍّ شَاغِبَةٍ أَوْ نَتْفِ لِحْيَةِ امْرَأَةٍ فَقَدْ أَذْهَبَتِ الْجِنَايَةُ شَيْنًا وَأَحْدَثَتْ جَمَالًا فَفِيهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ : أَنَّهُ لَا أَرْشَ لَهَا وَتَكُونُ هَدَرًا ، لِأَنَّهَا لَمْ تُحْدِثْ نَقْصًا ، وَقَدْ أَشَارَ الشَّافِعِيُّ إِلَى هَذَا فِي اللَّطْمَةِ تُوجِبُ الْحُكُومَةَ إِنْ أَثَّرَتْ فِي تَغْيِيرِ الْبَشَرَةِ وَتَكُونُ هَدَرًا إِنْ لَمْ تُؤَثِّرْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : أَنَّهَا تُضْمَنُ وَلَا تَكُونُ هَدَرًا ، لِاسْتِهْلَاكِ بَعْضِ الْخِلْقَةِ الَّتِي تُوجِبُ ضَمَانَ جُمْلَتِهَا ضَمَانَ أَجْزَائِهَا ، وَقَدْ أَشَارَ الشَّافِعِيُّ إِلَى هَذَا فِي لِحْيَةِ الْمَرْأَةِ إِذَا نُتِفَتْ أَنَّهَا تُوجِبُ حُكُومَةً دُونَ حُكُومَةِ لِحْيَةِ الرَّجُلِ ، وَإِنْ لَمْ يُحْدِثْ نَتْفُهَا فِي الْمَرْأَةِ شَيْنًا ، فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ عَدَمُ التَّأْثِيرِ فِي جُرْحٍ قَدِ انْدَمَلَ لَمْ يَبْقَ لَهُ بَعْدَ الِانْدِمَالِ أَثَرٌ اعْتَبَرَتْ نُقْصَانَ أَثَرِهِ قَبْلَ الِانْدِمَالِ وَبَعْدَ انْقِطَاعِ دَمِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَأْثِيرٌ اعْتَبَرَتْ نُقْصَانَهُ عِنْدَ سَيَلَانِ دَمِهِ فَنَجِدُ لَهُ فِي نُقْصَانِ الْقِيمَةِ أَثَرًا ، وَكَذَلِكَ فِي اعْتِبَارِ قَطْعِ الْإِصْبَعِ الزَّائِدَةِ يُعْتَبَرُ وَقْتُ سَيَلَانِ الدَّمَ وَإِنْ كَانَ قَلْعَ سِنٍّ شَاغِبَةٍ فَهِيَ وَإِنْ شَانَتْ فَقَدْ كَانَتْ مُقَوِّيَةً لِمَا وَرَاءَهَا مِنْ سِنِّ الْأَصْلِ فَصَارَتْ بَعْدَ قَلْعِهَا أَضْعَفَ فَيُعْتَبَرُ نُقْصَانُ تَأْثِيرِ قُوَّةِ تِلْكَ السِّنِّ وَضَعْفِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ فِي نَتْفِ لِحْيَةِ امْرَأَةٍ فَهُوَ يُحْدِثُ فِي الْمَرْأَةِ زِيَادَةً وَفِي الرَّجُلِ نُقْصَانًا ، فَسَقَطَتِ الزِّيَادَةُ الْحَادِثَةُ فِي الْمَرْأَةِ مِنَ النُّقْصَانِ الْحَادِثِ فِي الرَّجُلِ ، وَيَنْظُرُ الْبَاقِيَ بَعْدَهُ فَيَعْتَبِرُهُ مِنْ دِيَتِهَا ، فَإِنْ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ إِسْقَاطِ الزِّيَادَةِ شَيْءٌ مِنَ النُّقْصَانِ أَوْجَبَ حِينَئِذٍ مَا قَلَّ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا أَوْ صَدَاقًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ مَا كُسِرَ مِنْ سِنٍّ أَوْ قُطِعَ مِنْ شَيْءٍ لَهُ أَرْشٌ مَعْلُومٌ فَعَلَى حِسَابِ مَا ذَهَبَ مِنْهُ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَمَا كُسِرَ مِنْ سِنٍّ أَوْ قُطِعَ مِنْ شَيْءٍ لَهُ أَرْشٌ مَعْلُومٌ ديته فَعَلَى حِسَابِ مَا ذَهَبَ مِنْهُ .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَذَكَرْنَا أَنَّ مَا تَقَدَّرَتْ فِيهِ الدِّيَةُ مِنَ الْأَعْضَاءِ وَالْأَسْنَانِ كَانَ فِي أَبْعَاضِهَا إِذَا عُرِفَ مِقْدَارُهُ مِنْهَا قَسَّطَهُ مِنْ دِيَتِهَا ، لِأَنَّ مَا قَابَلَ جُمْلَةً تَقَسَّطَ عَلَى أَجْزَائِهَا كَالْأَثْمَانِ ، فَيَكُونُ فِي نِصْفِ السِّنِّ نِصْفُ دِيَةِ السِّنِّ ، وَفِي نِصْفِ الْأُذُنِ نِصْفُ دِيَةِ الْأُذُنِ ، وَكَذَلِكَ فِيمَا زَادَ وَنَقَصَ ، فَإِنْ جُهِلَ قَدْرُ الذَّاهِبِ مِنَ الْبَاقِي تُقَدَّرْ تَقْسِيطُ الدِّيَةِ عَلَيْهِ فَوَجَبَتْ فِيهِ حُكُومَةٌ .

مَسْأَلَةٌ فِي التَّرْقُوَةِ جَمَلٌ وَفِي الضِّلَعِ جَمَلٌ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : فِي التَّرْقُوَةِ جَمَلٌ وَفِي الضِّلَعِ جَمَلٌ ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : يُشْبِهُ مَا حُكِيَ عَنْ عُمَرَ فِيمَا وَصَفْتُ حُكُومَةٌ لَا تَوْقِيتَ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : هَذَا أَشْبَهُ بِقَوْلِهِ كَمَا يُؤَوَّلُ قَوْلُ زَيْدٍ فِي الْعَيْنِ الْقَائِمَةِ مِائَةُ دِينَارٍ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَى الْحُكُومَةِ لَا تَوْقِيتَ ، وَقَدْ قَطَعَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِهَذَا الْمَعْنَى ، فَقَالَ : فِي كُلِّ عَظْمٍ كُسِرَ سِوَى السِّنِّ حُكُومَةٌ ، فَإِذَا جُبِرَ مُسْتَقِيمًا فَفِيهِ حُكُومَةٌ بِقَدَرِ الْأَلَمِ وَالشَّيْنِ وَإِنْ جُبِرَ مَعِيبًا بِعَجْزِ أَوْ عَرَجٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ زِيدَ فِي حُكُومَتِهِ بِقَدْرِ شَيْنِهِ وَضُرِّهِ وَأَلَمِهِ لَا يَبْلُغُ بِهِ دِيَةَ الْعَظْمِ لَوْ قُطِعَ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : نَقَلَ الْمُزَنِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ : فِي التَّرْقُوَةِ ديتها جَمَلٌ إِذَا كُسِرَتْ ، وَفِي الضِّلَعِ جَمَلٌ إِذَا كُسِرَ ، وَهَذَا قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ ، وَنُقِلَ عَنْهُ فِي الْجَدِيدِ أَنَّ فِيهِمَا حُكُومَةً ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ الْمُزَنِيُّ وَطَائِفَةٌ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ يُخَرِّجُونَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْجَمَلَ مِنْهُمَا تَقْدِيرٌ يَقْطَعُ الِاجْتِهَادَ فِيهِ وَيَمْنَعُ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ وَالنُّقْصَانِ مِنْهُ : لِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَكَمَ فِيهِمَا بِالْجَمَلِ ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ إِذَا انْتَشَرَ وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ مُخَالِفٌ وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَنْتَشِرْ فَعَلَى قَوْلَيْنِ ، وَهَذَا قَوْلٌ قَدِ انْتَشَرَ فَكَانَ الْعَمَلُ بِهِ وَاجِبًا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنْ فِيهِ حُكُومَةً ، لِأَنَّ مَقَادِيرَ الدِّيَاتِ تُؤْخَذُ عَنْ نَصٍّ أَوْ قِيَاسٍ ، وَلَيْسَ فِيهِ نَصٌّ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَصْلٌ يُقَاسُ عَلَيْهِ وُجُوبُ الْجَمَلِ فِيهِ ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ : إِنَّهُ لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَمَذْهَبُهُ فِيهِ وُجُوبُ الْحُكُومَةِ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ فِيهِمَا الْجَمَلَ تَبَرُّكًا بِقَوْلِ عُمَرَ ، وَأَثْبَتَهُ عَلَى قَدْرِ الْحُكُومَةِ أَنَّهَا لَا تَبْلُغُ دِيَةَ السِّنِّ ، وَأَنَّ مَا نَفَذَ مِنَ الِاجْتِهَادِ فِيهِ بِهَذَا الْقَدْرِ كَانَ مَا تَعَقَّبَهُ عَنِ الِاجْتِهَادِ مُقَارِنًا لَهُ ، فَإِنْ زَادَ عَلَيْهِ فَيَصِيرُ وَإِنْ نَقَصَ عَنْهُ فَيَصِيرُ ، وَلَا يَصِيرُ حَدًّا لَا يُتَجَاوَزُ . فَأَمَّا الْعَيْنُ الْقَائِمَةُ فَلَا تَتَقَدَّرُ رَقَبَتُهَا فَصَارَتْ يَدًا بِمِائَةِ دِينَارٍ قَوْلًا وَاحِدًا ، لِأَنَّ

أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَدْ خَالَفَهُ فَأَوْجَبَ فِيهَا ثُلُثَ الدِّيَةِ ، فَتَعَارَضَ قَوْلَاهُمَا وَلَزِمَتِ الْحُكُومَةُ ، وَخَالَفَ التَّرْقُوَةَ وَالضِّلَعَ الَّذِي لَمْ يَظْهَرْ فِيهِ مُخَالِفٌ لِعُمَرَ ، وَلَوْ قَدَّرَهُ عُمَرُ بِالْجَمَلِ تَقْدِيرًا عَامًّا فِي جَمِيعِ النَّاسِ مَا جَازَ خِلَافُهُ ، لِأَنَّهُ صَارَ إِجْمَاعًا ، وَلَكِنَّهُ قَضَى بِهِ فِي رَجُلٍ بِعَيْنِهِ انْتَهَتْ حُكُومَتُهُ إِلَيْهِ ، وَجَازَ أَنْ يُؤَدِّيَهُ اجْتِهَادُهُ فِي غَيْرِهِ إِلَى أَقَلَّ مِنْهُ أَوْ أَكْثَرَ بِحَسَبِ الشَّيْنِ ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَصِرْ حَدًّا ، وَخَالَفَ حُكْمَ الصَّحَابَةِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ الَّذِي يَكُونُ اجْتِهَادُهُمْ فِيهِ مَتْبُوعًا ، لِأَنَّهُ عَلَى الْعُمُومِ دُونَ الْخُصُوصِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ فِي التَّرْقُوَةِ وَالضِّلَعِ حُكُومَةٌ فَإِنِ انْجَبَرَ مُسْتَقِيمًا قَلَّتْ حُكُومَتُهُ ، وَإِنِ انْجَبَرَ مُعَوَّجًا كَانَتْ حُكُومَتُهُ أَكْثَرَ ، وَإِنْ كَانَ مَعَ اعْوِجَاجِهِ قَدْ صَارَ ذَا عُقْدَةٍ كَانَتْ حُكُومَتُهُ أَكْثَرَ ، لِأَنَّ زِيَادَةَ الشَّيْنِ فِي الْحُكُومَاتِ مُعْتَبَرَةٌ ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَسَرَ سَائِرَ عِظَامِ الْجَسَدِ سِوَى الْأَسْنَانِ فَفِيهِ حُكُومَةٌ بِقَدْرِ ضَرَرِهِ وَشَيْنِهِ لَا يَبْلُغُ دِيَةَ ذَلِكَ الْعُضْوِ إِلَّا أَنْ يُشَلَّ ، فَلَوْ ضَرَبَ عَظْمَهُ حَتَّى تَشَظَّى لَمْ يَجِبْ فِيهِ دِيَةُ مُنَقِّلَةٍ وَلَا هَاشِمَةٍ كَمَا لَا تَجِبُ فِي مُوضِحَةِ الْجَسَدِ دِيَةُ الْمُوضِحَةِ فِي الرَّأْسِ ، وَكَانَتِ الْحُكُومَةُ فِيهِ بِقَدْرِ أَلَمِهِ وَضَرَرِهِ وَشَّيْنِهِ ، فَلَوْ أُنْفِذَ عَظْمُهُ وَأُخْرِجَ مُخُّهُ كَانَتِ الْحُكُومَةُ أَكْثَرَ ، لِأَنَّ الضَّرَرَ أَعْظَمُ وَالْخَوْفَ أَكْثَرُ ، وَلَوْ سَلَخَ جِلْدَهُ فَضَرَرُهُ أَعْظَمُ وَخَوْفُهُ أَكْثَرُ ، وَفِيهِ حُكُومَةٌ لَا تَبْلُغُ دِيَةَ النَّفْسِ ، وَيُعْتَبَرُ انْدِمَالُهُ ، فَإِنْ عَادَ جِلْدُهُ كَانَتْ حُكُومَتُهُ أَقَلَّ مِنْهَا إِذَا لَمْ يَعُدْهُ وَلَوْ لَطَمَهُ فَإِنْ أَثَّرَ فِي جِلْدِهِ أَثَرًا بَقِيَ شَيْنُهُ فَفِيهِ حُكُومَةٌ ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ لَهُ أَثَرٌ فَلَا شَيْءَ فِيهِ وَيُعَزَّرُ اللَّاطِمُ أَدَبًا ، فَصَارَ تَقْدِيرُ هَذَا الشَّرْحِ أَنَّهُ مَتَى بَقِيَ لِلْجِنَايَةِ أَثَرُ شَيْنٍ فِي الْجُرْحِ ، أَوْ فِي كَسْرِ الْعَظْمِ ، أَوْ فِي اللَّطْمِ وَجَبَتْ فِيهِ حُكُومَةٌ ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنْ ذَلِكَ أَثَرُ شَيْنٍ فِي كَسْرِ الْعَظْمِ وَفِي جُرْحِ الْجَسَدِ وَفِي اللَّطْمِ وَجَبَ فِي كَسْرِ الْعَظْمِ حُكُومَةٌ وَلَمْ تَجِبْ فِي اللَّطْمَةِ حُكُومَةٌ ، وَفِي وُجُوبِ الْحُكُومَةِ فِي الْجُرْحِ وَجْهَانِ ، لِأَنَّ الْعَظْمَ وَإِنِ انْجَبَرَ مُسْتَقِيمًا فَهُوَ بَعْدَ الْجَبْرِ أَضْعَفُ مِنْهُ قَبْلَهُ ، فَلِذَلِكَ وَجَبَتْ فِيهِ الْحُكُومَةُ وَاللَّطْمَةُ لَمْ تُؤَثِّرْ فِي الْجَسَدِ شَيْئًا وَلَا ضَعْفًا فَلِذَلِكَ لَمْ يَجِبْ فِيهَا حُكُومَةٌ . فَأَمَّا الْجُرْحُ فَمُتَرَدِّدٌ بَيْنَ هَذَيْنِ فَلِذَلِكَ كَانَ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِيهِ حُكُومَةٌ ، لِأَنَّهُ قَدْ أَسَالَ دَمًا وَأَحْدَثَ نَقْصًا كَالْعَظْمِ إِذَا انْجَبَرَ مُسْتَقِيمًا . وَالثَّانِي : لَا حُكُومَةَ فِيهِ ، لِأَنَّهُ مَا أَحْدَثَ شَيْنًا وَلَا ضَعْفًا كَاللَّطْمَةِ إِذَا لَمْ تُحْدِثْ أَثَرًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ .



مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَلَوْ جَرَحَهُ فَشَانَ وَجْهَهُ أَوْ رَأْسَهُ شَيْنًا يَبْقَى فَإِنْ كَانَ الشَّيْنُ أَكْثَرَ مِنَ الْجُرْحِ أُخِذَ بِالشَّيْنِ وَإِنْ كَانَ الْجُرْحُ أَكْثَرَ مِنَ الشِّينِ أُخِذَ بِالْجُرْحِ وَلَمْ يُزَدْ لِلشَّيْنِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ شِجَاجَ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ تَتَقَدَّرُ دِيَاتُهَا فِي الْمُوضِحَةِ وَمَا فَوْقَهَا مِنَ الْهَاشِمَةِ وَالْمُنَقِّلَةِ وَالْمَأْمُومَةِ وَإِنْ لَمْ تَتَقَدَّرْ دِيَاتُهَا فِي الْجَسَدِ تَغْلِيظًا لِحُكْمِ الرَّأْسِ عَلَى حُكْمِ الْجَسَدِ ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ فِيمَا لَا تَتَقَدَّرُ دِيَاتُهُ مِنْ شِجَاجِ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ فِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ مِنَ الْحَارِصَةِ وَالدَّامِيَةِ وَالدَّامِغَةِ وَالْبَاضِعَةِ وَالْمُتَلَاحِمَةِ وَالسِّمْحَاقِ أَنْ تَكُونَ حُكُومَاتُهَا فِي الرَّأْسِ أَغْلَظَ مِنْ حُكُومَاتِهَا فِي الْجَسَدِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ فِي الرَّأْسِ أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهَا أَغْلَظُ الْأَمْرَيْنِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي تَفْصِيلِهِ الَّذِي قَدَّمَهُ مِنَ الشَّيْنِ أَوِ الْجِرَاحِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَأْوِيلِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ : أَنَّهُ أَرَادَ أَكْثَرَ الْحُكُومَتَيْنِ مِنْ حَالِ الشَّيْنِ بَعْدَ انْدِمَالِهِ فِي الِانْتِهَاءِ ، أَوْ قَالَ : الْجُرْحُ عِنْدَ سَيَلَانِ دَمِهِ فِي الِابْتِدَاءِ فَأَيُّهُمَا كَانَ أَكْثَرَ فَهُوَ الْقَدْرُ الْمُسْتَحِقُّ تَغْلِيظًا لِشِجَاجِ الرَّأْسِ عَلَى شِجَاجِ الْبَدَنِ فِي غَيْرِ الْمُقَدَّرِ كَمَا تُغَلَّظُ فِي الْمُقَدَّرِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ وَطَائِفَةٍ مِنَ الْبَغْدَادِيِّينَ أَنَّ مُرَادَ الشَّافِعِيِّ بِأَكْثَرِ الْحُكُومَتَيْنِ أَنْ يُعْتَبَرَ قَدْرُهَا فِي الْعُمْقِ مِنْ قَدْرِ الْمُوضِحَةِ ، فَإِنْ كَانَ نِصْفَهَا اعْتُبِرَ قَدْرُ شَيْنِهَا بَعْدَ الِانْدِمَالِ ، فَإِنْ نَقَصَتْ عَنْ نِصْفِ الْمُوضِحَةِ أَوْجَبَتْ نِصْفَ الْمُوضِحَةِ وَهُوَ الْجُرْحُ ، لِأَنَّهُ أَغْلَظُ مِنْ قَدْرِ الشَّيْنِ وَإِنْ كَانَ قَدْرُ شَيْنِهَا زَائِدًا عَلَى نِصْفِ الْمُوضِحَةِ . وَبَلَغَ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهَا أَوْجَبَتْ حُكُومَةَ الشَّيْنِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمُوضِحَةِ ، لِأَنَّهُ أَغْلَظُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : فَإِنْ كَانَ الشَّيْنُ أَكْثَرَ مِنْ مُوضِحَةٍ نَقَصْتُ مِنَ الْمُوضِحَةِ شَيْئًا مَا كَانَ الشَّيْنُ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مُوَضِحَةً مَعَهَا شَيْنٌ لَمْ أَزِدْ عَلَى مُوَضِحَةٍ فَإِذَا كَانَ الشَّيْنُ مَعَهَا وَهُوَ أَقَلُّ مِنْ مُوَضِحَةٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَبْلُغَ بِهِ مُوضِحَةً وَفِي الْجِرَاحِ عَلَى قَدْرِ دِيَاتِهِمِ وَالْمَرْأَةُ مِنْهُمْ وَجِرَاحُهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ فِيمَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، لِأَنَّ مَا نَقَصَ عَنِ الْمُقَدَّرِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَجِبَ فِيهِ مَا يَجِبُ فِي الْمُقَدَّرِ ، لِأَنَّهُ يَقْضِي إِلَى تَفَاضُلِ الْجِنَايَاتِ وَتَسَاوِي الدِّيَاتِ ، وَهَذَا مُمْتَنِعٌ .

فَإِنْ قِيلَ : فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ هَذَا لِأَنَّكُمْ تُوجِبُونَ فِي قَطْعِ الْأَصَابِعِ ديتها مَا تُوجِبُونَهُ فِي جَمِيعِ الْكَفِّ وَهُوَ أَقَلُّ ؟ قِيلَ : لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْكَفِّ ذَاهِبَةٌ بِقَطْعِ الْأَصَابِعِ فَلِذَلِكَ وَجَبَ فِيهَا مَا يَجِبُ فِي جَمِيعِ الْكَفِّ ، وَخَالَفَ ذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَجِبَ فِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ ، إِنْ كَثُرَ شَيْنُهَا دِيَةُ الْمُوضِحَةِ وَوَجَبَ أَنْ يَنْقُصَ مِنْهَا مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ الِاجْتِهَادُ ، وَكَذَلِكَ لَا يَبْلُغُ بِالْحُكُومَةِ عَلَى الْكَفِّ دِيَةَ الْكَفِّ ، وَلَا بِالْحُكُومَةِ عَلَى الْإِصْبَعِ دِيَةَ الْإِصْبَعِ ، وَلَا بِالْحُكُومَةِ عَلَى الْأُنْمُلَةِ دِيَةَ الْأُنْمُلَةِ ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْجِرَاحِ : " عَلَى قَدْرِ دِيَاتِهِمْ " يَعْنِي وَفِي الْجِرَاحِ عَلَى الْأَعْضَاءِ عَلَى قَدْرِ دِيَاتِهَا لَا يَبْلُغُ بِحُكُومَتِهَا قَدْرَ دِيَتِهَا ، وَتَأَوَّلَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يَعْتَبِرُ نَقْصَ الْحُكُومَةِ مِنْ دِيَةِ الْعُضْوِ لَا مِنْ دِيَةِ النَّفْسِ ، وَهُوَ قَوْلُ مَنْ قَدَّمْنَا مَذْهَبَهُ فِي اعْتِبَارِ الْحُكُومَةِ ، وَقَدْ أَبْطَلْنَاهُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ . ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَالْمَرْأَةُ مِنْهُمْ وَجِرَاحُهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ فِيمَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ . يَعْنِي أَنَّ دِيَةَ شِجَاجِ الْمَرْأَةِ وَجِرَاحِهَا وَأَطْرَافِهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ ، لِأَنَّ دِيَتَهَا نِصْفُ دِيَةِ الرَّجُلِ ، فَيَجِبُ فِي مُوضِحَتِهَا بَعِيرَانِ وَنِصْفٌ ، وَفِي هَاشِمَتِهَا خَمْسٌ ، فَأَمَّا حُكُومَتُهَا فَهِيَ مُعْتَبَرَةٌ مِنْ دِيَتِهَا ، وَدِيَتُهَا عَلَى النِّصْفِ ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ تَنْصِيفِ الْحُكُومَةِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَفِي الْجِرَاحِ فِي غَيْرِ الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ حكم ديتها بِقَدْرِ الشَّيْنِ الْبَاقِي بَعْدَ الْتِئَامِهِ لَا يَبْلُغُ بِهَا الدِّيَةَ إِنْ كَانَ حُرًّا وَلَا ثَمَنَهُ إِنْ كَانَ عَبْدًا وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْجَسَدِ قَدْرٌ مَعْلُومٌ سِوَى الْجَائِفَةِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، لِأَنَّ مَا اقْتَضَاهُ التَّعْلِيلُ الْمُتَقَدِّمُ مِنْ تَغْلِيظِ شِجَاجِ الرَّأْسِ ، وَالْوَجْهِ عَلَى جِرَاحِ الْجَسَدِ يُوجِبُ اعْتِبَارَ حُكُومَاتِهَا بِحَالِ الشَّيْنِ بَعْدَ الِانْدِمَالِ ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهَا أَغْلَظُ الْأَمْرَيْنِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْجِرَاحِ فِي الْجَسَدِ مِنْ أَنْ تَكُونَ عَلَى عُضْوٍ أَوْ فِي الْبَدَنِ ، فَإِنْ كَانَتْ عَلَى عُضْوٍ اعْتُبِرْ فِي حُكُومَتِهَا حَالَ الشَّيْنِ بَعْدَ الِانْدِمَالِ ، فَقُوِّمَ سَلِيمًا وَشَائِنًا ، وَوَجَبَ بِقِسْطِ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ دِيَةِ الْحُرِّ وَقِيمَةِ الْعَبْدِ إِلَّا أَنْ تَزِيدَ عَلَى دِيَةِ الْعُضْوِ فَيَنْقُصُ مِنْهَا قَدْرُ مَا يُؤَدِّي الِاجْتِهَادُ إِلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى الْبَدَنِ كَالظَّهْرِ وَالْبَطْنِ وَالصَّدْرِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَنْصُوصِ الشَّافِعِيِّ : أَنَّهُ يَعْتَبِرُ حُكُومَةَ الشَّيْنِ مَا لَمْ تَبْلُغْ دِيَةَ النَّفْسِ ، فَإِنْ بَلَغَهَا نَقَصَ مِنْهَا وَلَا اعْتِبَارَ بِدِيَةِ الْجَائِفَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَعْتَبِرُ حُكُومَةَ الشَّيْنَ مَا لَمْ تَبْلُغْ دِيَةَ الْجَائِفَةِ ، فَإِذَا بَلَغَهَا نَقَصَ

فِيهَا مَا يُؤَدِّي الِاجْتِهَادُ إِلَيْهِ ، لِأَنَّهَا الْمُقَدَّرُ فِي جِرَاحِ الْجَسَدِ فَأَشْبَهَتِ الْمُوضِحَةَ فِي شِجَاجِ الرَّأْسِ ، وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يُفَضَّلَ بَيْنَ الْمُوضِحَةِ مَعَ مَا تَقَدَّمَهَا وَبَيْنَ الْجَائِفَةِ مَعَ غَيْرِهَا أَنَّ مَا تَقَدَّمَ الْمُوَضِّحَةَ بَعْضُ الْمُوضِحَةِ فَلَمْ يَبْلُغْ دِيَتَهَا ، وَغَيْرُ الْجَائِفَةِ قَدْ لَا يَكُونُ بَعْضُهَا لِمَا فِيهِ مِنْ كَسْرِ عَظْمٍ وَإِتْلَافِ لَحْمٍ ، فَجَازَ أَنْ تَزِيدَ حُكُومَتُهَا عَلَى دِيَتِهَا وَهُوَ الْأَصَحُّ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلشَّيْنِ بَعْدَ انْدِمَالِهِ أَثَرٌ وَلَا لِلْحُكُومَةِ فِيهِ قَدْرٌ فَفِيهِ وَجْهَانِ ذَكَرْنَاهُمَا مِنْ قَبْلُ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ ، تَكُونُ هَدَرًا . وَالثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : يَعْتَبِرُ مَا قَبْلَ الِانْدِمَالِ ، وَلَا يُقَدِّرُ مَعَ حَالِ الْأَلَمِ وَإِرَاقَةِ الدَّمِ ، فَيَعْتَبِرُ مَا قَبْلَ الِانْدِمَالِ حَالًا قَبْلَ حَالٍ حَتَّى يَبْلُغَ إِلَى وَقْتِ الْجَرْحِ وَسَيَلَانِ الدَّمِ لِلضَّرُورَةِ ، كَمَا يَلْزَمُ فِي حَمْلِ الْأَمَةِ إِذَا أَعْتَقَ بِوَطْءِ شُبْهَةٍ أَنْ يَعْتَبِرَ قِيمَتَهُ بَعْدَ ظُهُورِهِ لَمَّا تَقَدَّرَتْ قِيمَتُهُ عِنْدَ عُلُوقِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَدِيَةُ النَّصْرَانِيِّ وَالْيَهُودِيِّ ثُلُثُ الدِّيَةِ وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِعُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي دِيَةِ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْمُعَاهِدِينَ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّهَا كَدِيَةِ الْمُسْلِمِ سَوَاءً . وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ مَسْعُودٍ . وَمِنِ التَّابِعِينَ الزُّهْرِيُّ . وَمِنِ الْفُقَهَاءِ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ . وَالثَّانِي : وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهَا نِصْفُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ ، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ . وَالثَّالِثُ : وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ : إِنْ قَتَلَ عَمْدًا فَمِثْلُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَإِنْ قَتَلَ خَطَأً فَنِصْفُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ كَقَوْلِ مَالِكٍ . وَالرَّابِعُ : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ : أَنَّ دِيَتَهُ ثُلُثُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ . وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ وَعُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110