كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي

وَالثَّانِيَةُ : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَاءَ صَوْمَهُ ، وَهَذَا فَاسِدٌ بِالْعِتْقِ ، فَأَمَّا إِذَا أَطْلَقَ النِّيَّةَ ثُمَّ شَكَّ هَلْ أَوْقَعَهَا قَبْلَ الْفَجْرِ أَوْ بَعْدَهُ ؟ لَمْ يُجْزِهِ ، وَعَلَيْهِ إِعَادَةُ صَوْمِهِ ، لِأَنَّا عَلَى يَقِينٍ مِنْ حُدُوثِ نِيَّةٍ وَفِي شَكٍّ مِنْ تَقَدُّمِهَا .

فَصْلٌ : إِذَا أَصْبَحَ نَاوِيًا ثُمَّ اعْتَقَدَ تَرْكَ صَوْمِهِ ، وَفَطِرَ يَوْمَهُ بِأَكْلٍ أَوْ جِمَاعٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ عَلَى صَوْمِهِ مَا لَمْ يَأْكُلْ أَوْ يُجَامِعْ ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ إِمْسَاكٌ طَرَأَ عَلَى نِيَّةٍ سَابِقَةٍ ، فَلَمَّا لَمْ يُفَارِقِ الْإِمْسَاكَ فَهُوَ عَلَى صَوْمِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ صَوْمَهُ قَدْ بَطَلَ كَمَا تُبْطُلُ صَلَاتُهُ ، إِذَا اعْتَقَدَ تَرْكَهَا وَالْخُرُوجَ مِنْهَا ، فَعَلَى هَذَا فِي زَمَانِ فِطْرِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : فِي الْحَالِ . وَالثَّانِي : حَتَّى يَمْضِيَ عَلَيْهِ مِنَ الزَّمَانِ قَدْرُ الْأَكْلِ وَالْجِمَاعِ ، فَأَمَّا إِذَا نَوَى أَنْ يُفْطِرَ بَعْدَ سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ مُفْطِرًا وَكَانَ عَلَى صَوْمِهِ ، وَلَوْ نَوَى أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُصَلٍّ بَعْدَ سَاعَةٍ احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ .
لا بأس أن ينوي لصوم التطوع نهارا قبل الزوال مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَأَمَّا فِي التَطَوُّعِ فَلَا بَأْسَ إِنْ أَصْبَحَ وَلَمْ يَطْعَمْ شَيْئًا أَنْ يَنْوِيَ الصَّوْمَ قَبْلَ الزَّوَالِ ، وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَزْوَاجِهِ فَيَقُولُ " هَلْ مِنْ غَدَاءٍ ؟ " فَإِنْ قَالُوا : لَا . قَالَ : " إِنِّي صَائِمٌ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : لَا بَأْسَ أَنْ يَنْوِيَ لِصَوْمِ التَّطَوُّعِ نَهَارًا قَبْلَ الزَّوَالِ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَقَالَ مَالِكٌ وَدَاوُدُ : التَّطَوُّعُ كَالْفَرْضِ فِي وُجُوبِ النِّيَّةِ في صيام التطوع ، تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ قَالُوا : وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَتَنَوَّعُ فَرْضًا وَنَفْلًا ؛ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ النِّيَّةِ فِي نَفْلِهَا ، كَمَحَلِّ النِّيَّةِ فِي فَرْضِهَا أَصْلُهُ الصَّلَاةُ ، وَدَلِيلُنَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَفَذَ إِلَى أَهْلِ الْعَوَالِي فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ : " مَنْ أَكَلَ فَلْيُمْسِكْ بَقِيَّةَ نَهَارِهِ ، وَمَنْ لَمْ يَأْكُلْ فَلْيَصُمْ " وَمَعْلُومٌ أَنَّ عَاشُورَاءَ كَانَ نَافِلَةً ، وَأَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِصَوْمِهِ نَهَارًا . رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُ : " هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ غَدَاءٍ " فَإِنْ قُلْنَا : لَا قَالَ : " إِنِّي صَائِمٌ "

وَرُوِيَ " إِنِّي إِذًا صَائِمٌ " . وَالدَّلَالَةُ فِي هَذَا الْخَبَرِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْتِمَاسَهُ الطَّعَامَ لِيَأْكُلَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُفْطِرًا إِذْ لَوْ كَانَ صَائِمًا مَا الْتَمَسَ طَعَامًا وَلَا أَهَمَّ بِالْإِفْطَارِ ، فَإِنْ قِيلَ : إِنَّمَا الْتَمَسَهُ لِوَقْتِ الْإِفْطَارِ لَا لِلْأَكْلِ فِي الْحَالِ ، قُلْنَا : لَوْ كَانَ هَذَا مُرَادَهُ لَقَالَ هَلْ مِنْ عَشَاءٍ ، فَلَمَّا قَالَ : هَلْ مِنْ غَدَاءٍ عُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ أَكْلَهُ فِي الْحَالِ ، فَإِنْ قِيلَ : إِنَّمَا سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ خَبَرَ مَنْزِلِهِ ، قُلْنَا : هَذَا خَطَأٌ ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ : " هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ غَدَاءٍ أَتَغَذَّى بِهِ " يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا : لَا . قَالَ : " إِنِّي صَائِمٌ " فَعَقَّبَ ذَلِكَ بِمَا دَلَّ عَلَى مُرَادِهِ عَلَى أَنَّا رَوَيْنَا أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَحْضَرُوا الْغَدَاءَ أَكَلَ ، وَإِنْ لَمْ يُحْضِرُوهُ قَالَ : " إِنِّي صَائِمٌ " . وَالدَّلِيلُ الثَّانِي : مِنَ الْخَبَرِ أَنَّهُ لَمَّا أَخْبَرَ بِصِيَامِهِ عِنْدَ فَقْدِ الطَّعَامِ دَلَّ عَلَى حُدُوثِ نِيَّتِهِ ، وَأَنَّ صَوْمَهُ إِنَّمَا كَانَ لِفَقْدِهِ لِيَكُونَ الْحُكْمُ مَحْمُولًا عَلَى سُنَّتِهِ . وَالدَّلِيلُ الثَّالِثُ مِنْهُ : قَوْلُهُ " إِنِّي إِذًا صَائِمٌ " فَمَعْلُومٌ أَنَّ إِذًا لِلِابْتِدَاءِ وَالِاسْتِثْنَاءِ لَا لِمَا مَضَى وَتَقَدَّمَ ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى : أَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ يَتَنَوَّعُ جِنْسُهَا فَرْضًا وَنَفْلًا وَيُخْرَجُ مِنْهَا بِالْفَسَادِ ، فَوَجَبَ أَنْ يُخَالِفَ نَفْلُهَا فَرْضَهَا فِي تَرْكِ التَّوَجُّهِ وَالْقِيَامِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْحَجُّ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُخْرَجُ مِنْهُ بِالْفَسَادِ ، فَإِنْ قِيلَ : قَدْ يَخْتَلِفُ فَرْضُ الصِّيَامِ وَنَفْلُهُ فِي كَفَّارَةِ الْوَطْءِ قُلْنَا : لَيْسَتِ الْكَفَّارَةُ مِنْ أَفْعَالِ الصَّوْمِ وَإِنَّمَا هِيَ مُوجِبَاتُ إِفْسَادِهِ ، عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ إِنَّمَا تَلْزَمُ لِحُرْمَةِ رَمَضَانَ لَا لِفَرْضِ الصِّيَامِ ، فَأَمَّا تَعَلُّقُهُمْ بِعُمُومِ الْخَبَرِ فَمَخْصُوصٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الصَّلَاةِ ، فَالْمَعْنَى فِيهَا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْفَرْضَ مِنْهَا يُخَالِفُ النَّفْلَ مِنْ وُجُوهٍ ، فَجَازَ أَنْ يَتَّفِقَا فِي النِّيَّةِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الصِّيَامُ عَلَى أَنَّ نِيَّةَ الصِّيَامِ لَمَّا جَازَ تَقَدُّمُهَا جَازَ تَأْخِيرُهَا ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الصَّلَاةُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ جَوَازُ النِّيَّةِ فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ بعد الزوال نَهَارًا قَبْلَ الزَّوَالِ ، فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَنْوِيَ فِيهِ بَعْدَ الزَّوَالِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ ظَاهِرُ مَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ وَالرَّبِيعُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي نِيَّةِ الصِّيَامِ أَنَّ مَحَلَّهَا اللَّيْلُ لِلْخَبَرِ فِي ذَلِكَ ، ثُمَّ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهَا قَبْلَ الزَّوَالِ ، وَيَبْقَى مَا بَعْدَهُ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ ظَاهِرُ مَا نَقَلَهُ حَرْمَلَةُ جَوَازُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ اللَّيْلُ مَحَلًا لِلنِّيَّةِ فِي

صَوْمِ الْفَرِيضَةِ ، وَاسْتَوَى حُكْمُ جَمِيعِهِ ثُمَّ كَانَ النَّهَارُ مَحَلًا لِلنِّيَّةِ فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ ، وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُ جَمِيعِهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا نَوَى صَوْمَ التَّطَوُّعِ نَهَارًا عَلَى الْوَجْهِ الْجَائِزِ فَهَلْ يُحْتَسَبُ لَهُ صَوْمُ جَمِيعِ الْيَوْمِ وَيُحْكَمُ لَهُ بِثَوَابِ سَائِرِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا يُحْتَسَبُ لَهُ صَوْمُ جَمِيعِ الْيَوْمِ ، وَيُحْكَمُ لَهُ بِثَوَابِ سَائِرِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ يُحْتَسَبُ لَهُ مِنْ وَقْتِ نِيَّتِهِ ، وَمَا بَعْدَهُ دُونَ مَا تَقَدَّمَهُ وَيُحْكَمُ لَهُ مِنَ الثَّوَابِ بِقَدْرِ ذَلِكَ ، قَالَ : لِأَنَّ الْعِبَادَاتِ كُلَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى إِثْبَاتِ النِّيَّةِ فِي ابْتِدَائِهَا فَلَوْ حُكِمَ لَهُ بِصَوْمِ جَمِيعِ الْيَوْمِ ، إِذَا نَوَى فِي بَعْضِهِ لَتَأَخَّرَتْ نِيَّتُهُ عَنِ ابْتِدَاءِ الْعِبَادَةِ ، وَذَلِكَ خِلَافُ الْأُصُولِ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ غَلَطٌ ، وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ لَا يَتَبَعَّضُ ، وَيُمْتَنَعُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ صَائِمًا فِي بَعْضِ نَهَارِهِ مُفْطِرًا فِي بَعْضِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَكَلَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ ثُمَّ نَوَى أَنْ يَصُومَ بَقِيَّةَ نَهَارِهِ لَمْ يَصِحَّ ، لِامْتِنَاعِ تَبْعِيضِ الصَّوْمِ وَتَفْرِيقِ الْيَوْمِ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مُمْتَنَعًا وَقَدْ حُكِمَ لَهُ بِصَوْمِ بَعْضِ الْيَوْمِ وَجَبَ أَنْ يُحْكَمَ لَهُ بِجَمِيعِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ زَمَانَ اللَّيْلِ لَمَّا كَانَ مُنَافِيًا لِلصَّوْمِ صَحَّ فِيهِ اجْتِمَاعُ الْأَكْلِ وَالنِّيَّةِ لِصَوْمِ الْغَدِ ، وَلَمَّا كَانَ زَمَانُ النَّهَارِ غَيْرَ مُنَافٍ لِلصَّوْمِ ، لَمْ يَصِحَّ فِيهِ اجْتِمَاعُ الْأَدَاءِ وَالنِّيَّةِ لِصَوْمِ مَا بَعْدُ ، وَلَيْسَ يُمْكِنُ أَنْ يُدْرِكَ الرَّجُلُ بَعْضَ الْعِبَادَةِ وَيُحْكَمَ لَهُ بِإِدْرَاكِ جَمِيعِهَا وَثَوَابِ سَائِرِهَا ، كَالْمُصَلِّي يُدْرِكُ الْإِمَامَ رَاكِعًا فَيُحْتَسَبُ لَهُ بِجَمِيعِ الرَّكْعَةِ ، وَثَوَابِ سَائِرِهَا ، وَإِنْ كَانَ مُدْرِكًا لِبَعْضِهَا ، وَكَذَلِكَ الصِّيَامُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى يَسْتَيْقِنَ أَنَّ الْهِلَالَ قَدْ كَانَ ، أَوْ يَسْتَكْمِلَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ ، فَيَعْلَمَ أَنَّ الْحَادِيَ وَالثَّلَاثِينَ مِنْ رَمَضَانَ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَصُومُوا حَتَى تَرَوْهُ ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِصِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ ، إِذَا عُلِمَ دُخُولُهُ ، وَالْعِلْمُ بِدُخُولِهِ يَكُونُ بِأَحَدِ شَيْئَيْنِ : إِمَّا رُؤْيَةُ الْهِلَالِ إثبات دخول شهر رمضان ، أَوِ اسْتِكْمَالُ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا إثبات دخول شهر رمضان ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُجْرِ فِي الْعَادَةِ أَنْ يَكُونَ الشَّهْرُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ، وَلَا أَقَلَّ مِنْ تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا ، فَإِذَا وَقَعَ الْإِشْكَالُ بَعْدَ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ فِي عَدَدِ الشَّهْرِ عَمِلَ عَلَى الْيَقِينِ وَهُوَ عَلَى الثَّلَاثِينَ ، وَأَطْرَحَ الشَّكَّ ، وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ الشِّيعَةِ أَنَّهُمْ عَمِلُوا فِي صَوْمِهِمْ عَلَى الْعَدَدِ ، وَأَسْقَطُوا حُكْمَ الْأَهِلَّةِ ؛ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " شَهْرَا النُسُكِ

لَا يَنْقُصَانِ " يَعْنِي شَهْرَ الصِّيَامِ ، وَشَهْرَ الْحَجِّ ، وَبِمَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " يَوْمُ صَوْمِكُمْ يَوْمُ نَحْرِكُمْ " وَحُكِيَ عَنْ آخَرِينَ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ عَمِلُوا فِي صَوْمِهِمْ عَلَى النُّجُومِ وَمَا تُوجِبُهُ أَحْكَامُ الْحِسَابِ تَعَلُّقًا بُقُولِهِ وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [ النَّحْلِ : ] فَأَخْبَرَ أَنَّ الِابْتِدَاءَ يَكُونُ بِالنَّجْمِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى كِلَا الْفَرِيقَيْنِ رِوَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ " فَعَلَّقَ حُكْمَهُ بِأَحَدِ شَرْطَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا ، وَرَوَى حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ أَوْ تُكْمِلُوا الْعِدَّةَ ، وَلَا تُفْطِرُوا حَتَى تَرَوُا الْهِلَالَ أَوْ تُكْمِلُوا الْعِدَّةَ " مَنَعَ مِنَ الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ إِلَّا بِأَحَدِ شَرْطَيْنِ : وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " نَحْنُ أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسِبُ ، الشَهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا " وَبَسَطَ يَدَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، يَعْنِي ثَلَاثِينَ ثُمَّ قَالَ : " وَالشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا " ثُمَّ بَسَطَهَا مَرَّتَيْنِ ، ثُمَّ قَبَضَ فِي الثَّالِثَةِ إِبْهَامَهُ مِنْ إِحْدَى يَدَيْهِ وَرُوِيَ بِنْصَرَهُ يَعْنِي : تِسْعَةً وَعِشْرِينَ . وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ " مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَذَّبَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ " وَيُرْوَى " فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ " فَأَمَّا تَعَلُّقُ أَصْحَابِ الْعَدَدِ بِقَوْلِهِ : " شَهْرَا النُّسُكِ لَا يَنْقُصَانِ " فَفِيهِ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ لَا أَصْلَ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْمُشَاهِدَةَ تَدْفَعُهُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ إِنْ صَحَّ فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ خَرَجَ جَوَابًا لِمَنْ أَخْبَرَ بِنُقْصَانِهِمَا فِي سَنَةٍ بِعَيْنِهَا وَكَانَا كَامِلَيْنِ ، فَأَخْبَرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمَا غَيْرُ نَاقِصَيْنِ يَعْنِي فِي تِلْكَ السَّنَةِ ، وَأَمَّا تَعَلُّقُهُمْ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " يَوْمُ صَوْمِكُمْ يَوْمُ نَحْرِكُمْ " فَفِيهِ أَيْضًا كَمَا ذَكَرْنَا ، عَلَى أَنَّا رَوَيْنَا عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :

" صَوْمُكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ ، وَفِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ ، وَأَضْحَاكُمْ يَوْمَ تُضَحُّونَ " وَأَمَّا تَعَلُّقُ أَصْحَابِ النُّجُومِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [ النَّحْلِ : ] ، فَالْمُرَادُ بِهِ دَلَائِلُ الْقِبْلَةِ ، وَمَسَالِكُ السَّابِلَةِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى : يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ [ الْبَقَرَةِ : ] .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعِلْمَ بِدُخُولِ شَهْرِ رَمَضَانَ يَحْصُلُ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ ، لَا ثَالِثَ لَهُمَا : إِمَّا رُؤْيَةُ الْهِلَالِ ، أَوِ اسْتِكْمَالُ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا فَلَا فَرْقَ ، بَيْنَ أَنْ يَرَى الْهِلَالَ ظَاهِرًا ، أَوْ خَفِيًّا وَيَلْزَمُ الصِّيَامُ برؤية الهلال على أي وجه كان بِرُؤْيَتِهِ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ ، فَلَوْ رَآهُ جَمَاعَةٌ مِنْ بَلَدٍ وَلَمْ يَرَهُ بَاقِيهِمْ لَزِمَ جَمِيعَهُمُ الصِّيَامُ ؛ بِدَلِيلِ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى وُجُوبِ الصِّيَامِ عَلَى الْأَعْمَى وَالْمَحْبُوسِ وَإِنْ لَمْ يَرَيَاهُ ، فَلَوْ رَآهُ أَهْلُ الْبَلَدِ وَلَمْ يَرَهُ أَهْلُ بَلَدٍ آخَرَ هلال رمضان ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي أَهْلِ ذَلِكَ الْبَلَدِ الَّذِينَ لَمْ يَرَوْهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ عَلَيْهِمْ يَصُومُوا إِذْ لَيْسَ رُؤْيَةُ الْجَمِيعِ شَرْطًا فِي وُجُوبِ الصِّيَامِ ، وَفَرْضُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى جَمِيعِهِمْ وَاحِدًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَلْزَمُهُمْ صِيَامُهُ حَتَّى يَرَوْهُ ؛ لِأَنَّ الطَّوَالِعَ وَالْغَوَارِبَ قَدْ تَخْتَلِفُ لِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ ، وَكُلُّ قَوْمٍ فَإِنَّمَا خُوطِبُوا بِمَطْلَعِهِمْ وَمُغْرِبِهِمْ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْفَجْرَ قَدْ يَتَقَدَّمَ طُلُوعُهُ فِي بَلَدٍ ، وَيَتَأَخَّرُ فِي آخَرَ وَكَذَلِكَ الشَّمْسُ ، قَدْ يَتَعَجَّلُ غُرُوبُهَا فِي بَلَدٍ وَيَتَأَخَّرُ فِي آخَرَ ، ثُمَّ كَانَ الصَّائِمُ يُرَاعِي طُلُوعَ الْفَجْرِ وَغُرُوبَ الشَّمْسِ فِي بَلَدِهِ فَكَذَلِكَ الْهِلَالُ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : إِنْ كَانُوا مِنْ إِقْلِيمٍ وَاحِدٍ لَزِمَهُمْ أَنْ يَصُومُوا ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ إِقْلِيمَيْنِ لَمْ يَلْزَمْهُمْ ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ ثَوْبَانَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنَ الشَّامِ فَأَخْبَرَهُمْ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ قَبْلَ الْمَدِينَةِ بِلَيْلَةٍ ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : " لَا يَلْزَمُنَا لَهُمْ شَامُهُمْ وَلَنَا حِجَازُنَا " فَأَجْرَى عَلَى الْحِجَازِ حُكْمًا وَاحِدًا وَإِنِ اخْتَلَفَتْ بِلَادُهُ ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّامِ .
اختصاص الناس في صيام يوم الشك على خمسة مذاهب مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَتَقَدَّمُ الصِّيَامَ بِيَوْمٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي صِيَامِ يَوْمِ الشَّكِّ عَلَى خَمْسَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ أَنَّ صَوْمَهُ مَكْرُوهٌ ، سَوَاءٌ صَامَهُ فَرْضًا أَوْ نَفْلًا أَوْ كَفَّارَةً أَوْ نَذْرًا إِلَّا أَنْ يَصِلَهُ بِمَا قَبْلَهُ ، أَوْ يُوَافِقَ يَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ ، فَلَا يُكْرَهُ لَهُ ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ : عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَمِنَ التَّابِعِينَ : الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ : مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ .

وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : أَنَّ صَوْمَهُ غَيْرُ مَكْرُوهٍ فِي الْفَرْضِ وَالنَّفْلِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ عَائِشَةَ وَأَسْمَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا . وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ إِنْ كَانَ صَحْوًا فَصَوْمُهُ مَكْرُوهٌ ، وَإِنْ كَانَ غَيْمًا صَامَهُ عَنْ رَمَضَانَ ، وَبِهِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا . وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ : أَنَّ النَّاسَ فِي صَوْمِهِمْ تَبَعٌ لِإِمَامِهِمْ إِنْ صَامَ صَامُوهُ ، وَإِنْ أَفْطَرَ أَفْطَرُوهُ وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ . وَالْمَذْهَبُ الْخَامِسُ : إِنْ صَامَهُ عَنْ فَرْضِ رَمَضَانَ لَمْ يَجُزْ ، وَإِنْ صَامَهُ نَافِلَةً جَازَ وَلَمْ يُكْرَهْ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَجَازَ صَوْمَهُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى اخْتِلَافِ مَذَاهِبِهِمْ فِيهِ ، بِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : " لِأَنْ أَصُومَ يَوْمًا مِنْ شَعْبَانَ ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُفْطِرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ " فَقَدِ اخْتَارَ صَوْمَهُ ، وَاسْتَحَبَّهُ قَالَ وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَتَقَدَّمُ الصِّيَامَ بِيَوْمٍ قَالُوا : وَلِمَا فِيهِ مِنَ الِاحْتِيَاطِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مِنْ رَمَضَانَ قَالُوا : وَلِأَنَّ صَوْمَهُ كَالنَّفْلِ قَبْلَ الْفَرِيضَةِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مُسْتَحَبًّا كَالصَّلَوَاتِ ، وَلِأَنَّهُ صَوْمُ يَوْمٍ مِنْ شَعْبَانَ ، فَلَا يَكُنْ فِيهِ مَكْرُوهًا كَسَائِرِ أَيَّامِهِ . وَدَلِيلُنَا عَلَى كَرَاهَةِ صَوْمِهِ رِوَايَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَا تَقَدَّمُوا الشَّهْرَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلَا يَوْمَيْنِ إِلَّا أَنْ يُوَافِقَ صَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ ، لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ ، وَلًا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا ثَلَاثِينَ " وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا تَقَدَّمُوا الشَّهْرَ بِصَوْمِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ فَإِنْ حَالَ سَحَابَةٌ أَوْ غَمَامَةٌ فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ " وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ صِيَامِ سِتَّةِ أَيَّامٍ : يَوْمِ الْفِطْرِ وَيَوْمِ النَحْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَيَوْمِ الشَّكِّ وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَيْضًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " إِذَا انْتَصَفَ الشَهْرُ فَلَا تَصُومُوا حَتَى يَكُونَ رَمَضَانُ " رُوِيَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ أَنَّهُ قَالَ : " مَنْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ " وَلِأَنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ بَيْنَ يَوْمَيْنِ يَوْمِ شَكٍّ وَيَوْمِ فِطْرٍ ، ثُمَّ تَقَرَّرَ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ صِيَامِ يَوْمِ الْفِطْرِ فَكَذَلِكَ يَوْمُ الشَّكِّ ، فَأَمَّا مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّمَا صَامَهُ ؛ لِأَنَّ شَاهِدًا شَهِدَ بِالْهِلَالِ عِنْدَهُ كَذَا رَوَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْحُسَيْنِ ، وَكَذَا نَقُولُ ، وَأَمَّا صِيَامُ ابْنِ

عُمَرَ فَلِأَنَّهُ وَافَقَ يَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ ، بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : " لَوْ صُمْتُ الدَّهْرَ لَأَفْطَرْتُ يَوْمَ الشَّكِّ " وَمَا ذَكَرَهُ مِنَ الِاحْتِيَاطِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ ؛ لِأَنَّهُ دُخُولٌ فِي الْعِبَادَةِ مَعَ الشَّكِّ ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ أَنَّ التَّنَفُّلَ قَبْلَ الْفَرْضِ ، قُلْنَا : يَفْسَدُ عَلَيْكُمْ بِوَقْتِ الْهَاجِرَةِ إِذَا اسْتَوَتِ الشَّمْسُ لِلزَّوَالِ ، وَعِنْدَ الْغُرُوبِ فَإِنَّ التَّنَفُّلَ فِيهِمَا مَكْرُوهٌ ، وَإِنْ كَانَ تَنَفُّلًا قَبْلَ الْفَرِيضَةِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى سَائِرِ أَيَّامِ الشَّهْرِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّ الْهِلَالَ رُؤِيَ قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ بَعْدَهُ ، فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ وَوَجَبَ الصِّيَامُ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا رَأَى النَّاسُ الْهِلَالَ فِي نَهَارِ يَوْمِ الشَّكِّ ، أَوْ شَهِدَ رُؤْيَتَهُ عَدْلَانِ ، فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ سَوَاءٌ كَانَ رُؤْيَتَهُ قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ بَعْدَهُ ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ : إِنْ رُئِيَ قَبْلَ الزَّوَالِ فَهُوَ لِلَّيْلَةِ السَّالِفَةِ ، وَإِنْ رُئِيَ بَعْدَ الزَّوَالِ فَهُوَ لِلْمُسْتَقْبَلَةِ ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ : بِقَوْلِهِمْ ، وَفِي هِلَالِ شَوَّالٍ بِقَوْلِنَا احْتِيَاطًا وَاسْتِظْهَارًا ، وَاسْتَدَلُّوا فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ " فَوَجَبَ لِهَذَا الظَّاهِرِ أَنْ يَكُونَ الْفِطْرُ مُعَلَّقًا بِرُؤْيَتِهِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّ الْهِلَالَ لَا بُدَّ مِنْ إِضَافَتِهِ إِلَى لَيْلٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يُضَافَ إِلَى مَا قَارَبَهُ ، وَمَا قَبْلَ الزَّوَالِ أَقْرَبُ إِلَى اللَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ ، فَيَجِبُ أَنْ يُضَافَ إِلَيْهَا ، وَمَا بَعْدَ الزَّوَالِ أَقْرَبُ إِلَى اللَّيْلَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ ، فَيَجِبُ أَنْ يُضَافَ إِلَيْهَا وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا قُلْنَا إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا : إِذَا [ رُئِيَ الْهِلَالُ يَوْمَ الشَّكِّ فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ وَلِأَنَّهُ ] رُئِيَ هِلَالٌ فِي يَوْمِ الشَّكِّ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لِلَّيْلَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ إِذَا رُئِيَ بَعْدَ الزَّوَالِ فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْخَبَرِ فَلَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي وُجُوبَ الصِّيَامِ عِنْدَ حُصُولِ الرُّؤْيَةِ ، وَإِذَا رَآهُ نَهَارًا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ صِيَامِهِ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْيَوْمُ الَّذِي يَلِيهِ ، وَأَمَّا مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنَ اعْتِبَارِ الْقُرْبِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ ؛ لِأَنَّهُ إِلَى اللَّيْلَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ أَقْرَبُ بِكُلِّ حَالٍ ، لِأَنَّكَ إِذَا اعْتَبَرْتَ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ إِلَى مُقَارَبَةِ الزَّوَالِ ، وَمِنْ مُقَارَبَةِ الزَّوَالِ إِلَى أَوَّلِ اللَّيْلَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ كَانَ هَذَا أَقْرَبَ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ شَهِدَ عَلَى رُؤْيَتِهِ عَدْلٌ وَاحِدٌ رَأَيْتُ أَنْ أَقْبَلَهُ لِلْأَثَرِ فِيهِ وَالِاحْتِيَاطِ وَرَوَاهُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ " أَصُومُ يَوْمًا مِنْ شَعْبَانَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُفْطِرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ " ( قَالَ ) وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُقْبَلُ عَلَى مُغَيَّبٍ إِلَّا شَاهِدَانِ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا هِلَالُ شَوَّالٍ وَسَائِرُ الْأَهِلَّةِ سِوَى رَمَضَانَ ، فَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ فِيهِ أَقَلُّ مِنْ شَاهِدَيْنِ إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ أَبِي ثَوْرٍ ، أَنَّهُ قَبِلَ شَهَادَةَ الْوَاحِدِ فِي هِلَالِ شَوَّالٍ قِيَاسًا عَلَى هِلَالِ رَمَضَانَ لِتَعَلُّقِهِ بِعِبَادَةٍ ، وَهَذَا غَلَطٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا خَبَرَ فِيهِ وَلَا أَثَرَ ، وَلَا فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ بِهِ الْخَبَرُ ، فَأَمَّا هِلَالُ رَمَضَانَ فَإِنْ شَهِدَ بِرُؤْيَتِهِ عَدْلَانِ وَجَبَ اسْتِمَاعُهُمَا وَالْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِمَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِذَا كَانَتِ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً ، لَمْ أَقْبَلْ مِنْهُ إِلَّا التَّوَاتُرَ مِمَّنْ يَقَعُ الْعِلْمُ بِقَوْلِهِمْ ، وَلَا يَجُوزُ السَّهْوُ عَلَيْهِمْ ، وَإِنْ كَانَتْ مُغَيَّمَةً قَبِلْتُ شَهَادَةَ الْوَاحِدِ ، قَالَ : لِأَنَّ الْهِلَالَ يُدْرَكُ بِحَاسَّةِ الْبَصَرِ الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا الْكَافَّةُ ، وَلَا تَخْتَصُّ بِهَا طَائِفَةٌ فَإِذَا لَمْ يَشْهَدْ رُؤْيَتَهُ عَدَدٌ يَقَعُ الْعِلْمُ بِشَهَادَتِهِمْ ، لَمْ يُقْبَلُوا فَأَمَّا مَعَ الْغَيْمِ فَيُقْبَلُ الْوَاحِدُ ؛ لِأَنَّ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَنْجَلِيَ الْغَيْمُ عَنِ الْهِلَالِ فَيَرَاهُ وَاحِدٌ مِنَ النَّاسِ ، ثُمَّ يَتَخَلَّلُهُ السَّحَابُ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى قَبُولِ شَهَادَةِ عَدْلَيْنِ وَتَسْوِيَةِ الْحُكْمِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ صَحِبْنَا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعَلَّمْنَا مِنْهُمْ فَكَانُوا يُخْبِرُونَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ ، فَإِنْ شَهِدَ ذَوَا عَدْلٍ فَصُومُوا " فَدَلَّ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَلَيْسَ اشْتِرَاكُ النَّاسِ فِي حَاسَّةِ الْبَصَرِ يُوجِبُ تَمَاثُلَهُمْ فِي الْإِدْرَاكِ ، لِأَنَّا قَدْ نَجِدُ بَصِيرَيْنِ يَعْتَمِدَانِ نَظَرَ شَيْءٍ عَلَى بُعْدٍ فَيَرَاهُ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ لِحِدَّةِ بَصَرِهِ ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ قَادِحًا فِي الشَّيْءِ الْمَرْئِيِّ ، ثُمَّ يَتَوَجَّهُ هَذَا الْقَوْلُ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ إِذَا رَآهُ عَدَدٌ يَقَعُ الْعِلْمُ بِقَوْلِهِمْ وَلَمْ يَرَهُ الْكَافَّةُ مَعَ تَمَاثُلِهِمْ فِي الْحَاسَّةِ أَنْ لَا يُحْكَمَ بِهِمْ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا شَهِدَ عَلَى رُؤْيَتِهِ عَدْلٌ وَاحِدٌ هلال رمضان فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ عَلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِ ، وَقَالَ فِي الْبُوَيْطِيِّ : لَا يُقْبَلُ فِيهِ إِلَّا شَاهِدَانِ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَرْتِيبِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَذْهَبَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ : لَا يُقْبَلُ فِيهِ أَقَلُّ مِنْ شَاهِدَيْنِ ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ ، وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " فَإِنْ شَهِدَ ذَوَا عَدْلٍ فَصُومُوا " فَعَلَّقَ حُكْمَ الشَّهَادَةِ بِعَدْلَيْنِ فَعُلِمَ أَنَّ حُكْمَ الْوَاحِدِ مُخَالِفٌ لِحُكْمِهِمَا ، وَلِأَنَّهَا شَهَادَةٌ عَلَى رُؤْيَةِ الْهِلَالِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُقْبَلَ فِيهَا أَقَلُّ مِنْ عَدْلَيْنِ قِيَاسًا عَلَى هِلَالِ شَوَّالٍ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يُقْبَلُ فِيهِ شَاهِدٌ وَاحِدٌ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إِذَا كَانَتِ السَّمَاءُ مُغَيَّمَةً ، وَدَلِيلُ هَذَا الْقَوْلِ رِوَايَةُ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ تَرَاءَى النَّاسُ الْهِلَالَ فَرَأَيْتُهُ وَحْدِي فَأَخْبَرْتُ رَسُولَ

اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَصَامَ ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِالصِّيَامِ وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَأَيْتُ الْهِلَالَ فَقَالَ : " أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ؟ " قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : " أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ " قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : " قُمْ يَا بِلَالُ فَأَذِّنْ فِي النَّاسِ فَلْيَصُومُوا غَدًا " . وَرُوِيَ عَنْ طَاوُسٍ قَالَ شَهِدْتُ الْمَدِينَةَ وَبِهَا ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ ، فَشَهِدَ رَجُلٌ عِنْدَ الْوَالِي أَنَّهُ رَأَى الْهِلَالَ فَبَعَثَ الْوَالِي إِلَيْهِمَا يَسْأَلُهُمَا فَأَمَرَاهُ أَنْ يُجِيزَ شَهَادَتَهُمَا ، وَأَخْبَرَاهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْمُرُ بِالصَّوْمِ بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ ، وَكَانَ لَا يَقْبَلُ فِي الْفِطْرِ إِلَّا الِاثْنَيْنِ وَرَوَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْحُسَيْنِ ، أَنَّ رَجُلًا شَهِدَ عِنْدَ عَلِيٍّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ عَلَى رُؤْيَةِ الْهِلَالِ فَصَامَ ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِالصِّيَامِ وَقَالَ : " لِأَنْ أَصُومَ يَوْمًا مِنْ شَعْبَانَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُفْطِرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ " وَلِأَنَّهُ حَالٌ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُخْبِرُ وَالْمُخْبَرُ فَوَجَبَ أَنْ يُحْكَمَ فِيهِ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ . أَصْلُهُ : حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : فِي تَرْتِيبِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يُقَالَ : إِنْ صَحَّتْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ ، وَثَبَتَتْ قَبْلَ شَهَادَةِ الْوَاحِدِ قَوْلًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ ضَعَّفَهَا ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَهَا وَإِنْ لَمْ تَصِحَّ فَعَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُقْبَلُ إِلَّا شَاهِدَانِ كَسَائِرِ الْأَهِلَّةِ . وَالثَّانِي : يُقْبَلُ شَاهِدٌ وَاحِدٌ لِلِاحْتِيَاطِ وَالْأَثَرِ الثَّابِتِ عَنْ عَلِيٍّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَإِذَا قِيلَ : بِقَبُولِ شَهَادَةِ الْوَاحِدِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقْبَلَ شَاهِدٌ عَبْدًا ، وَلَا امْرَأَةٌ وَلَا صَبِيٌّ لِأَنَّهُمْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الشَّهَادَةِ ، وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ شَهَادَةَ الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ وَأَجْرَاهُ مَجْرَى الْخَبَرِ ، وَسَاعَدَهُ عَلَيْهِ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَلَيْسَ بِمَذْهَبٍ لِلشَّافِعِيِّ بَلْ مَنْصُوصُهُ خِلَافُهُ ، وَلَوْ جَرَى مَجْرَى الْخَبَرِ لَلَزِمَ فِيهِ قَبُولُ الْوَاحِدِ عَنِ الْوَاحِدِ ، وَلَمْ يَقُلْ بِهَذَا أَحَدٌ فَعُلِمَ أَنَّهَا شَهَادَةٌ ، فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا أَمَرْتُمْ بِالصِّيَامِ بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ ثُمَّ أَوْجَبْتُمُ الْفِطْرَ بَعْدَ تَمَامِ الثَّلَاثِينَ ، فَقَدْ قَضَيْتُمْ فِي الْفِطْرِ بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ قِيلَ : فِي ذَلِكَ وَجْهَانِ ذَكَرَهُمَا أَبُو إِسْحَاقَ فِي شَرْحِهِ : أَحَدُهُمَا : إِذَا لَمْ يَرَ النَّاسُ هِلَالَ شَوَّالٍ صَامُوا أَحَدًا وَثَلَاثِينَ اعْتِبَارًا بِهَذَا الْمَعْنَى .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ : أَنَّهُ إِذَا صَامَ النَّاسُ الثَّلَاثِينَ أَفْطَرُوا فِي الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ رَأَوُا الْهِلَالَ أَوْ لَمْ يُرَوْهُ ؛ لِأَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ الِابْتِدَاءُ لَمْ يَكُنْ مَا طَرَأَ عَلَيْهِ مِمَّا لَا يَثْبُتُ بِهِ قَادِحًا فِي إِثْبَاتِهِ ، كَمَا تَثْبُتُ الْوِلَادَةُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ ، وَإِنْ كَانَ يَتْبَعُهَا أَحْكَامُ النَّسَبِ وَالْمِيرَاثِ ، وَمَا لَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَعَلَيْهِ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ بِنِيّة يَّةَ الصِّيَامِ لِلْغَدِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ .

مَنْ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنَ احْتِلَامٍ فَهُوَ عَلَى صَوْمِهِ إِجْمَاعًا

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَمَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا مِنْ جِمَاعٍ أَوِ احْتِلَامٍ اغْتَسَلَ وَأَتَمَّ صَوْمَهُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ جِمَاعٍ ثَمَّ يَصُومُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا مَنْ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنَ احْتِلَامٍ حكم صيامه فَهُوَ عَلَى صَوْمِهِ إِجْمَاعًا ، وَكَذَلِكَ لَوِ احْتَلَمَ نَهَارًا حكم صيامه كَانَ عَلَى صَوْمِهِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ ، فَأَمَّا مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا مِنْ جِمَاعٍ كَانَ فِي اللَّيْلِ حكم صيامه ، فَعِنْدَ جَمَاعَةِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ عَلَى صَوْمِهِ يَغْتَسِلُ وَيُجْزِئُهُ . وَحُكِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالْحُسَيْنِ بْنِ صَالِحِ بْنِ حَيٍّ : أَنَّ صَوْمَهُ قَدْ فَسَدَ لِمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنَّهُ قَالَ : " مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا مِنْ جِمَاعٍ فَلَا صَوْمَ لَهُ " وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ صَوْمِهِ ، قَوْلُهُ تَعَالَى : فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ إِلَى قَوْلِهِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ [ الْبَقَرَةِ : ] وَكَانَ السَّبَبُ فِي نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ ، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ قَدْ حَرَّمَ عَلَى النَّاسِ الْأَكْلَ وَالْجِمَاعَ فِي لَيْلِ الصِّيَامِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَبَعْدَ النَّوْمِ ، حَتَّى رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ امْرَأَتَهُ فِي لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فَقَالَتْ : إِنِّي صَلَّيْتُ الْعِشَاءَ فَوَاقَعَهَا وَأَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى : أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ [ الْبَقَرَةِ : ] الْآيَةَ وَرَوَى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ أَنَّ صِرْمَةَ بْنَ قَيْسٍ وَكَانَ شَيْخًا

مِنَ الْأَنْصَارِ أَتَى مَنْزِلَهُ ، وَلَمْ يُهَيَّأْ إِفْطَارُهُ فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ ثُمَّ أُتِيَ بِالطَّعَامِ ، وَقَدْ نَامَ فَلَمْ يَأْكُلْ وَأَصْبَحَ طَاوِيًا ، خَرَجَ إِلَى ضَيْعَتِهِ فَعَمِلَ فِيهَا فَغُشِيَ عَلَيْهِ ، وَخَافَ التَّلَفَ فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [ الْبَقَرَةِ : ] فَلَمَّا أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَكْلَ وَالْجِمَاعَ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ ، وَلَمِ يَسْتَثْنِ زَمَانَ الْغُسْلِ عُلِمَ أَنَّهُ لَا يُفْسِدُ الصَّوْمَ ، وَرَوَتْ عَائِشَةُ وَأُمُّ سَلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ جِمَاعٍ ، لَا مِنَ احْتِلَامٍ وَيَصُومُ وَرَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى الْبَابِ فَقَالَ لَهُ : إِنِّي أُصْبِحُ جُنُبًا وَأَنَا أُرِيدُ الصَوْمَ ، فَقَالَ : " وَأَنَا أُصْبِحُ جُنُبًا وَأُرِيدُ الصَّوْمَ " ، ثُمَّ قَالَ : إِنَّكَ لَسْتَ مِثْلَنَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ فَغَضِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : " إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَعْلَمَكُمْ بِمَا أَتَّقِي " وَأَيْضًا فَإِنَّ الْغُسْلَ عَنِ الْوَطْءِ كَالشِّبَعِ وَالرِّيِّ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ ، ثُمَّ كَانَ هَذَا غَيْرَ مُفْسِدٍ لِلصَّوْمِ كَذَلِكَ غُسْلُ الْجَنَابَةِ ؛ لِأَنَّهُ ثَمَرَةُ فِعْلٍ مُبَاحٍ . فَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَغَيْرُ ثَابِتٍ ، وَإِنْ صَحَّ فَقَدْ رَجَعَ عَنْهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ : دَخَلْتُ مَعَ أَبِي ، عَلَى مَرْوَانَ فَتَذَاكَرْنَا الْجَنَابَةَ فِي الصَّوْمِ ، فَقَالَ مَرْوَانُ : حَدَّثَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا مِنْ جِمَاعٍ فَلَا صَوْمَ لَهُ " ثُمَّ أَقْسَمَ مَرْوَانُ عَلَيْنَا أَنْ نَسْأَلَ عَائِشَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَتَا : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ جِمَاعٍ ، لَا مِنَ احْتِلَامٍ وَيُتِمُّ صَوْمَهُ فَأَقْسَمَ عَلَيْنَا مَرْوَانُ أَنْ نَلْقَى أَبَا هُرَيْرَةَ فَلَقِينَاهُ ، فَأَخْبَرْنَاهُ بِمَا جَرَى فَقَالَ أَخْبَرَنِي بِذَلِكَ مُخْبِرٌ وَرَوَى أَنَّهُ قَالَ أَخْبَرَنِي بِذَلِكَ الْفَضْلُ ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِ ، وَكَانَ الْفَضْلُ مَيِّتًا وَمَا كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ لَمْ يَصِحَّ التَّعَلُّقُ بِهِ وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَجَعَ عَنْهُ قَبْلَ مَوْتِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ كَانَ يَرَى الْفَجْرَ لَمْ يَجِبْ وَقَدْ وَجَبَ أَوْ يَرَى أَنَّ اللَّيْلَ قَدْ وَجَبَ وَلَمْ يَجِبْ أَعَادَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ أَمَّا إِنِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ دُخُولُ اللَّيْلِ ، فَظَنَّ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَرَبَتْ ، وَأَنَّ اللَّيْلَ قَدْ دَخَلَ فَأَفْطَرَ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ كَانَ نَهَارًا ، وَأَنَّ الشَّمْسَ لَمْ تَكُنْ غَرَبَتْ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ ، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ .

وَحُكِيَ عَنْ دَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ أَنَّهُ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ ؛ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ " وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أُتِيَ بِسَوِيقٍ ، وَهُوَ صَائِمٌ فَأَكَلَ ، وَعِنْدَهُ أَنَّ اللَّيْلَ قَدْ وَجَبَ وَأَكَلَ النَّاسُ مَعَهُ ثُمَّ طَلَعَتِ الشَّمْسُ ، فَقَالَ : وَاللَّهِ مَا نَقْضِي مَا جَانَفْنَا إِثْمًا . وَالدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِ الْإِعَادَةِ مَا رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ قَالَتْ : جَاءَ قَوْمٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا : إِنَّا ظَنَنَّا أَنَّ اللَّيْلَ قَدْ دَخَلَ فَأَكَلْنَا ثُمَّ عَلِمْنَا أَنَّهُ كَانَ نَهَارًا ، فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِعَادَةِ يَوْمٍ مَكَانَهُ . وَرُوِيَ أَنَّ النَّاسَ أَفْطَرُوا عَلَى عَهْدِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثُمَّ بَانَ لَهُمْ ظُهُورُ الشَّمْسِ ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْخَطْبُ يَسِيرٌ نَقْضِي يَوْمًا مَكَانَهُ وَهَذَا صَحِيحٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ : يَعْنِي إِنَّ فِيهِ قَضَاءَ يَوْمٍ ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يَشُقُّ ، وَلِأَنَّ الِاشْتِبَاهَ لَا يُسْقِطُ حُكْمَ الْوَقْتِ كَمَا إِذَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ زَوَالُ الشَّمْسِ فَصَلَّى ، ثُمَّ بَانَ لَهُ الْخَطَأُ لَزِمَهُ الْإِعَادَةُ فَكَذَلِكَ فِي الصِّيَامِ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ أَكَلَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَدُخُولِ اللَّيْلِ ، فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ فَإِنْ قِيلَ : فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَنْ صَلَّى شَاكًّا فِي دُخُولِ الْوَقْتِ ، ثُمَّ بَانَ لَهُ أَنَّهُ كَانَ قَدْ دَخَلَ ، فِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ عَلَى الْمُصَلِّي ، وَسُقُوطِهَا عَنِ الصَّائِمِ قُلْنَا : إِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا هُوَ أَنَّ الصَّائِمَ يَكُونُ مُفْطِرًا بِدُخُولِ اللَّيْلِ ، وَإِنْ لَمْ يَأْكُلْ وَلَا يَكُونُ بِدُخُولِ الْوَقْتِ مُصَلِّيًا حَتَّى يَفْعَلَ الصَّلَاةَ . وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَبْقَى عَلَى جُمْلَةِ الِاشْتِبَاهِ ، وَلَا يَتَبَيَّنَ لَهُ الْيَقِينُ فَهَذَا يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ النَّهَارِ ، فَلَا يَنْتَقِلُ عَنْ حُكْمِهِ إِلَّا بِيَقِينِ خُرُوجِهِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ طُلُوعُ الْفَجْرِ فَأَكَلَ فَإِنْ كَانَ عَلَى شَكٍّ ، وَاشْتِبَاهٍ ، فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ أَيْضًا : أَحَدُهَا : أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ فِيمَا بَعْدُ أَنَّ الْفَجْرَ كَانَ طَالِعًا حِينَ أَكَلَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ ؛ لِأَنَّ الِاشْتِبَاهَ لَا يُسْقِطُ حُكْمَ الْوَقْتِ مَعَ إِمْكَانِ التَّحَرُّزِ مِنْهُ ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ : لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَنِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ وَقْتُ الْغُرُوبِ ؛ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ فِي الْأَكْلِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ بَقَاءُ اللَّيْلِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي أَكَلَ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ ، لِمُصَادَفَتِهِ زَمَانَ الْإِبَاحَةِ . وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَبْقَى عَلَى حَالِ الِاشْتِبَاهِ فَلَا يَبِينُ لَهُ بَقَاءُ اللَّيْلِ ، وَلَا طُلُوعُ الْفَجْرِ فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ اللَّيْلِ ، وَإِبَاحَةُ الْأَكْلِ مَا لَمْ يَتَيَقَّنْ طُلُوعَ الْفَجْرِ .



مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ طَلَعَ الْفَجْرُ وَفِي فِيهِ طَعَامٌ لَفَظَهُ فَإِنِ ازْدَرَدَهُ أَفْسَدَ صَوْمَهُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ وَفِي فِيهِ طَعَامٌ أَوْ مَاءٌ طلع الفجر وفي فم الصائم طعام أو ماء فَعَلَيْهِ أَنْ يَلْفِظَ الطَّعَامَ ، وَيَمُجَّ الْمَاءَ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ عَلَى صَوْمِهِ ، وَكَأَنَّهُ تَمَضْمَضَ وَإِنِ ازْدَرَدَهُ وَابْتَلَعَهُ أَفْطَرَ ، وَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ إِنْ كَانَ ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ ، وَصَارَ فِي حُكْمِ الْآكِلِ عَامِدًا ؛ لِأَنَّ حُصُولَ الطَّعَامِ فِي فَمِهِ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِي صَوْمِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَ ذَلِكَ فِي فَمِهِ جَمِيعَ يَوْمِهِ كَانَ عَلَى صَوْمِهِ ، وَإِنْ وَصَلَ طَعْمُهُ إِلَى حَلْقِهِ فَلَوْ سَبَقَهُ الطَّعَامُ وَدَخَلَ إِلَى جَوْفِهِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ لِازْدِرَادِهِ ، وَهُوَ ذَاكِرٌ لِصَوْمِهِ فَفِي إِفْطَارِهِ وَجْهَانِ مُخْرَجَانِ مِنَ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ . أَصَحُّهُمَا : عَلَيْهِ الْقَضَاءُ . وَالثَّانِي : لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ كَانَ مُجَامِعًا أَخْرَجَهُ مَكَانَهُ فَإِنْ مَكَثَ شَيْئًا أَوْ تَحَرَّكَ لِغَيْرِ إِخْرَاجِهِ أَفْسَدَ وَقَضَى وَكَفَّرَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ جَامَعَ أَهْلَهُ ، فَطَلَعَ عَلَيْهِ الْفَجْرُ ، وَهُوَ مُجَامِعٌ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُبَادِرَ إِلَى إِخْرَاجِهِ مَعَ طُلُوعِ الْفَجْرِ سَوَاءً ، فَإِنْ فَعَلَ فَهُوَ عَلَى صَوْمِهِ ، وَقَالَ الْمُزَنِيُّ وَزُفَرُ بْنُ الْهُذَيْلِ : قَدْ بَطَلَ صَوْمُهُ بِالْإِخْرَاجِ ، كَمَا يَبْطُلُ صَوْمُهُ بِالْإِيلَاجِ ؛ لِأَنَّ اللَّذَّةَ فِيهِمَا سَوَاءٌ وَهَذَا خَطَأٌ وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ صَوْمِهِ ، قَوْلُهُ تَعَالَى : أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ [ الْبَقَرَةِ : ] فَكَانَ جَمِيعُ اللَّيْلِ زَمَانًا لِلْإِبَاحَةِ ، فَإِذَا نَزَعَ مَعَ آخِرِ الْإِبَاحَةِ اقْتَضَى أَنْ لَا يَفْسُدَ صَوْمُهُ ، وَلِأَنَّ الْإِخْرَاجَ تَرْكُ الْجِمَاعِ وَضِدُّ الْإِيلَاجِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَخْتَلِفَ الْحُكْمُ فِيهِمَا ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ : وَاللَّهِ لَا دَخَلْتُ هَذِهِ الدَّارَ . وَهُوَ دَاخِلُهَا فَبَادَرَ إِلَى الْخُرُوجِ مِنْهَا لَمْ يَحْنَثْ ، وَلَوْ قَالَ : وَاللَّهِ لَا لَبِسْتُ هَذَا الثَّوْبَ ، وَهُوَ لَابِسُهُ فَبَادَرَ إِلَى نَزْعِهِ لَمْ يَحْنَثْ كَذَلِكَ حُكْمُ الْإِخْرَاجِ ، يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا لِحُكْمِ الْإِيلَاجِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا إِنْ لَبِثَ عَلَى جِمَاعِهِ ، وَأَمْسَكَ عَنْ إِخْرَاجِهِ رَجُلٍ جَامَعَ أَهْلَهُ ، فَطَلَعَ عَلَيْهِ الْفَجْرُ ، وَهُوَ مُجَامِعٌ فلبث على جماعه ، فَقَدْ أَفْسَدَ صَوْمَهُ وَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْمُزَنِيُّ : عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ ، قَالُوا : وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْجِمَاعَ مُنَافٍ لِلصِّيَامِ فَإِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ عَلَيْهِ وَهُوَ مُجَامِعٌ وَطُلُوعُ الْفَجْرِ أَوَّلُ الصَّوْمِ - انْعِقَادِ صَوْمِهِ - لِمُصَادَفَةِ مَا نَافَاهُ فَأَشْبَهَ مَنْ تَرَكَ النِّيَّةِ نَاسِيًا ثُمَّ جَامَعَ ، فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ وَالدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِهِمَا عَلَيْهِ هُوَ أَنَّهُ هَتَكَ حُرْمَةَ يَوْمٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ بِوَطْءٍ أَثِمَ فِيهِ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ الْقَضَاءُ

وَالْكَفَّارَةُ ، أَصْلُهُ إِذَا ابْتَدَأَ الْوَطْءَ فِي خِلَالِ النَّهَارِ وَلِأَنَّ كُلَّ مَعْنًى إِذَا طَرَأَ عَلَى الصَّوْمِ أَفْسَدَهُ ، فَإِذَا قَارَنَ أَوَّلَهُ مَنَعَ انْعِقَادَهُ ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ الْحُكْمُ فِيمَا يُفْسِدُهُ ، وَفِيمَا يَمْنَعُ انْعِقَادَهُ كَالْأَكْلِ يَسْتَوِي الْحُكْمُ فِيهِ ، إِذَا قَارَبَ طُلُوعَ الْفَجْرِ ، وَإِذَا طَرَأَ عَلَيْهِ فِي خِلَالِ النَّهَارِ ، وَلِأَنَّهُ حُكْمٌ يَتَعَلَّقُ بِالْجِمَاعِ إِذَا فَسَدَ الصَّوْمُ فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ إِذَا مَنَعَ انْعِقَادَهُ - أَصْلُهُ الْقَضَاءُ - فَأَمَّا مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ تَارِكِ النِّيَّةِ ، فَلَا دَلِيلَ فِيهِ لَهُمْ لِاسْتِوَاءِ حُكْمِهِ ، إِذَا قَارَنَ الصَّوْمَ وَإِذَا طَرَأَ عَلَيْهِ فَنَوَى الْإِفْطَارَ فَإِنَّهُ يُفْطِرُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ ، وَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْوَطْءُ أَيْضًا يَسْتَوِي حُكْمُهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ عَلَيْهِ وَهُوَ مُجَامِعٌ فَلَمْ يَعْلَمْ بِطُلُوعِهِ حَتَّى خَرَجَ مِنْ جِمَاعِهِ ، ثُمَّ عَلِمَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ هَتْكَ حُرْمَةِ الصَّوْمِ ، وَلَوْ طَلَعَ الْفَجْرُ عَلَيْهِ ، وَهُوَ مُجَامِعٌ فَظَنَّ أَنَّ صَوْمَهُ قَدْ بَطَلَ لَوْ أَقْلَعَ ، فَمَكَثَ مُمْسِكًا عَنْ إِخْرَاجِهِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ قَاصِدٍ لِهَتْكِ الْحُرْمَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ كَانَ بَيْنَ أَسْنَانِهِ مَا يَجْرِي بِهِ الرِّيقُ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا كَانَ بَيْنَ أَسْنَانِهِ مِنْ بَقَايَا أَكْلِهِ مَا يَجْرِي بِهِ الرِّيقُ لَا يُمْكِنُهُ ازْدِرَادُهُ حكم صيامه خِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ ، أَنَّهُ عَلَى صَوْمِهِ لَا يُفْطِرُ لِمَا يَلْحَقُ مِنَ الْمَشَقَّةِ فِي التَّحَرُّزِ مِنْ مِثْلِهِ ، فَصَارَ فِي مَعْنَى الدُّخَانِ وَالْغُبَارِ وَالرَّوَايِحِ الْعَطِرَةِ الَّتِي عُفِيَ عَنْهَا ، لِإِدْرَاكِ الْمَشَقَّةِ فِي التَّحَرُّزِ مِنْهَا قَائِمًا إِنْ كَانَ بَيْنَ أَسْنَانِهِ مَا يُمْكِنُهُ ازْدِرَادُهُ فَإِنِ ازْدَرَدَهُ ، أَفْطَرَ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا ، بَلْ كَانَ كَالسِّمْسِمَةِ أَفْطَرَ بِهِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : " لَا يُفْطِرُ بِهَذَا الْقَدْرِ " ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمَأْكُولِ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي قَدْرِ مَا يُفْطِرُ بِهِ ، وَلَا فَرْقَ عِنْدَنَا بَيْنَ قَلِيلِ ذَلِكَ وَكَثِيرِهِ فِي أَنَّ الْفِطْرَ وَاقِعٌ بِهِ لِحُصُولِ الِازْدِرَادِ وَعَدَمِ التَّخْصِيصِ ، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ أَكْلِ الْمَغِصَا وَأَمَرَ بِأَكْلِ الْقَضْمِ وَالْمَغِصَا مَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْنِ الْأَسْنَانِ إِلَّا بِالْخِلَالِ ، وَالْقَضْمُ مَا خَرَجَ بِاللِّسَانِ بِلَذَّةِ أَكْلٍ لَمْ يَخْرُجْ بِالْخِلَالِ ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمَأْكُولِ كَالْقَيْءِ ، وَأَمَرَ بِأَكْلِهِ فَكَانَ إِخْرَاجُ مَا خَرَجَ بِاللِّسَانِ كَالْبَاقِي فِي الْفَمِ ، وَأَطْلَقَ اسْمَ الْأَكْلِ عَلَيْهِمَا فَدَلَّ عَلَى اسْتِوَائِهِمَا فِي الْفِطْرِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا بَلْعُ الرِّيقِ ، وَازْدِرَادُهُ للصائم فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَبْلَعَ مَا يَتَخَلَّفُ فِي فَمِهِ حَالًا فَحَالًا ، فَهَذَا جَائِزٌ لَا يَفْسُدُ بِهِ الصَّوْمُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ .

وَالثَّانِي : أَنْ يَمُجَّ الرِّيقَ مِنْ فَمِهِ ثُمَّ يَزْدَرِدُهُ وَيَبْتَلِعُهُ فَهَذَا يُفْطِرُ بِهِ إِجْمَاعًا ؛ لِأَنَّهُ كَالْمُسْتَأْنِفِ لِلْأَكْلِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَجْمَعَهُ فِي فَمِهِ حَتَّى يَكْثُرَ ، ثُمَّ يَبْتَلِعَهُ فَفِي فِطْرِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : قَدْ أَفْطَرَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا مَشَقَّةَ فِي التَّحَرُّزِ مِنْ مِثْلِهِ . وَالثَّانِي : لَا يُفْطِرُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفْطِرُ بِقَلِيلِهِ ، فَكَذَلِكَ لَا يُفْطِرُ بِكَثِيرِهِ ، وَأَمَّا النُّخَامَةُ إِذَا ابْتَلَعَهَا الصائم فَفِيهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : قَدْ أَفْطَرَ بِهَا . وَالثَّانِي : لَمْ يُفْطِرْ بِهَا وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُفْطِرُ ، فَإِنْ أَخْرَجَهَا مِنْ صَدْرِهِ ثُمَّ ابْتَلَعَهَا فَقَدْ أَفْطَرَ كَالْقَيْءِ ، وَإِنْ أَخْرَجَهَا مِنْ حَلْقِهِ ، أَوْ دِمَاغِهِ لَمْ يُفْطِرْ كَالرِّيقِ .

مَسْأَلَةٌ في التقيؤ العمد

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ تَقَيَّأَ عَامِدًا إن تقيأ الصائم عمدا أَفْطَرَ ، وَإِنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ لَمْ يُفْطِرْ ، وَاحْتَجَّ فِي الْقَيْءِ بِابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) وَقَدْ رَوَيْنَاهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) أَقْرَبُ مَا يَحْضُرُنِي لِلشَّافِعِيِّ فِيمَا يَجْرِي بِهِ الرِّيقُ أَنَّهُ لَا يُفْطِرُ مَا غَلَبَ النَاسَ مِنَ الْغُبَارِ فِي الطَّرِيقِ ، وَغَرْبَلَةِ الدَّقِيقِ وَهَدْمِ الرَّجُلِ الدَّارَ ، وَمَا يَتَطَايَرُ مِنْ ذَلِكَ فِي الْعُيُونِ وَالْأُنُوفِ وَالْأَفْوَاهِ ، وَمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ يَصِلُ إِلَى الْحَلْقِ حِينَ يَفْتَحُهُ فَتَدْخُلُ فِيهِ ، فَتُشْبِهُ مَا قَالَ الشَّافِعِيُّ مِنْ قِلَّةِ مَا يَجْرِي بِهِ الرِّيقُ ( قَالَ ) وَحَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ قَالَ سَمِعْتُ الرِّبِيعَ أَخْبَرَ عَنِ الشَّافِعِيِّ قَالَ الَّذِي أُحِبَّ أَنْ يُفْطِرَ يَوْمَ الشَكِّ أَنْ لَا يَكُونَ صَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ ، وَيَحْتَمِلُ مَذْهَبُ ابْنِ عُمَرَ أَنْ يَكُونَ مُتَطَوِّعًا قَبْلَهُ وَيَحْتَمِلُ خِلَافَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ الْقَيْءُ عِنْدَنَا كَالْأَكْلِ سَوَاءٌ إِنِ اسْتَقَاءَ عَامِدًا أَفَطَرَ وَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ وَإِنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ وَغَلَبَهُ لَمْ يُفْطِرْ . وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ الْقَيْءَ لَا يُفْطِرُ بِحَالٍ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " ثَلَاثٌ لَا يُفْطِرْنَ الصَّائِمَ الْقَيْءُ وَالْحِجَامَةُ وَالِاحْتِلَامُ " . وَحُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَأَبِي ثَوْرٍ : أَنَّ الْقَيْءَ يُفْطِرُ بِكُلِّ حَالٍ ، وَيُوجِبُ الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَاهُ ، وَإِبْطَالِ مَا عَدَاهُ : رِوَايَةُ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ

رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنِ اسْتَقَاءَ عَامِدًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ ، وَمَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ قَلَا قَضَاءَ " وَرَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مِنِ اسْتَقَاءَ عَامِدًا أَفْطَرَ وَمَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ لَمْ يُفْطِرْ " وَرَوَى مَعْدَانُ بْنُ طَلْحَةَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاءَ فَأَفْطَرَ فَإِنْ قِيلَ : إِنَّمَا يَكُونُ الْفِطْرُ بِمَا يَدْخُلُ الْجَوْفَ لَا بِمَا يَخْرُجُ مِنْهُ ، قُلْنَا : قَدْ يَكُونُ الْفِطْرُ بِالْأَمْرَيْنِ مَعًا ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَبَّلَ أَوْ لَمَسَ فَأَنْزَلَ أَفْطَرَ ، وَإِنْ كَانَ الْمَنِيُّ خَارِجًا مِنْهُ ، عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ عَوْدِ بَعْضِ الْقَيْءِ إِلَى جَوْفِهِ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ " ثَلَاثٌ لَا يُفْطِرْنَ الصَّائِمَ " فَمَحْمُولٌ عَلَيْهِ إِذَا ذَرَعَهُ الْقَيْءُ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَاهُ فَأَمَّا خَبَرُنَا فَفِيهِ دَلَائِلُ : أَحَدُهَا : مِنْهَا أَنَّ الْأَكْلَ عَامِدًا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ ؛ لِأَنَّهُ كَالْمُتَقَيِّئِ عَامِدًا . وَمِنْهَا أَنَّ الْأَكْلَ نَاسِيًا لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ ، وَلَا كَفَّارَةَ . وَمِنْهَا أَنَّ الْمُكْرَهَ عَلَى الْإِفْطَارِ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى مَنْ غَلَبَهُ الْقَيْءُ .
إذا أكره على الفطر لا يفطر عند الشافعي ويفطر عند أبي حنيفة مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " إِذَا أُكْرِهَ عَلَى الْفِطْرِ لَا يُفْطِرُ عِنْدَنَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُفْطِرُ ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ أَكَلَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يُفْطِرَ بِهِ كَالْمَرِيضِ ، وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ " وَلِأَنَّ مَحْظُورَاتِ الصِّيَامِ طَرَأَتْ بِغَيْرِ فِعْلِهِ لَمْ يُفْطِرْ بِهَا كَغُبَارِ الدَّقِيقِ ، وَلِأَنَّ الْأَكْلَ نَاسِيًا أَحْسَنُ حَالًا مِنَ الْمُكْرَهِ ، وَلَا يُفْطِرُ بِهِ فَكَانَ الْمُكْرَهُ أَوْلَى أَنْ لَا يُفْطِرَ ، فَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْمَرِيضِ فَهُوَ أَكْلٌ لِأَجْلِ الْمَرَضِ مُخْتَارًا ، فَخَالَفَ الْمُكْرَهَ الَّذِي أُوْجِرَ الطَّعَامُ فِي حَلْقِهِ ، فَإِنْ دُفِعَ إِلَيْهِ الطَّعَامُ ، فَأُكْرِهَ بِالتَّخْوِيفِ حَتَّى أَكَلَهُ فَفِي فِطْرِهِ بِهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا : يُفْطِرُ بِهِ كَالْمَرِيضِ . وَالثَّانِي : لَا يُفْطِرُ بِهِ لِارْتِفَاعِ الِاخْتِيَارِ وَثُبُوتِ الْإِكْرَاهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ أَصْبَحَ لَا يَرَى أَنَّ يَوْمَهُ مِنْ رَمَضَانَ وَلَمْ يَطْعَمْ ثُمَّ اسْتَبَانَ ذَلِكَ لَهُ فَعَلَيْهِ صِيَامُهُ وَإِعَادَتُهُ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يُصْبِحَ يَوْمَ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ عَلَى شَكٍّ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ بِشَهَادَةِ عَدْلَيْنِ عَلَى الْهِلَالِ ، فَعَلَيْهِ وَعَلَى النَّاسِ أَنْ يُمْسِكُوا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمْ ، وَلَا يُفْطِرُوا سَوَاءً أَكَلُوا فِي أَوَّلِهِ أَوْ لَمْ يَأْكُلُوا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا بَانَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ لَزِمَ الْتِزَامُ حُرْمَتِهِ ، وَإِمْسَاكُ بَقِيَّتِهِ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا الْإِمْسَاكِ هَلْ يُسَمَّى صَوْمًا شَرْعًا أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ : أَنَّهُ يُسَمَّى صَوْمًا شَرْعِيًّا بِوُجُوبِ الْإِمْسَاكِ فِيهِ . وَالثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا : أَنَّهُ إِمْسَاكٌ وَاجِبٌ ، فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ صَوْمًا شَرْعِيًّا فَلَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ الِاعْتِدَادُ بِهِ لَا عَنْ رَمَضَانَ ، وَلَا عَنْ غَيْرِهِ ، فَإِذَا أَمْسَكُوا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَعَلَيْهِمْ ، الْإِعَادَةُ بِكُلِّ حَالٍ طَعِمُوا بِهِ أَمْ لَا ؟ لِإِخْلَالِهِمْ بِالنِّيَّةِ عَنِ اللَّيْلِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ بَانَ لَهُمْ قَبْلَ الزَّوَالِ ، وَلَمْ يَطْعَمُوا أَجْزَأَهُمْ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي جَوَازِ النِّيَّةِ نَهَارًا وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ مُسْتَوْفًى فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ وَطِئَ فِي يَوْمِهِ هَذَا لَمْ يَلْزَمْهُ كَفَّارَةٌ ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُفْطِرِ ، وَإِنْ لَزِمَهُ الْإِمْسَاكُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ نَسِيَ النِّيَّةَ فِي يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى أَصْبَحَ ثُمَّ وَطِئَ فِي نَهَارِهِ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ نَوَى أَنْ يَصُومَ غَدًا فَإِنْ كَانَ أَوَّلَ الشَّهْرِ فَهُوَ فَرْضٌ وَإِلَّا فَهُوَ تَطَوُّعٌ ، فَإِنْ بَانَ لَهُ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ لَمْ يُجْزِئْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصُمْهُ عَلَى أَنَّهُ فَرْضٌ وَإِنَّمَا صَامَهُ عَلَى الشَّكِّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . إِذَا أَمْسَى النَّاسُ لَيْلَةَ ثَلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ عَلَى شَكٍّ مِنْ دُخُولِ رَمَضَانَ فَنَوَى رَجُلٌ ، وَقَالَ أَنَا غَدًا صَائِمٌ ، فَإِنْ كَانَ مِنْ رَمَضَانَ فَهُوَ فَرْضٌ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ شَعْبَانَ فَهُوَ تَطَوُّعٌ ، فَبَانَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ لَمْ يُجْزِهِ وَلَزِمَتْهُ الْإِعَادَةُ ؛ لِأَنَّهُ عَلَى غَيْرِ يَقِينٍ مِنْ دُخُولِهِ ، وَلَا مُسْتَنِدٌ إِلَى أَصْلٍ يَجْرِي الْحُكْمُ عَلَيْهِ إِذِ الْأَصْلُ بَقَاءُ شَعْبَانَ ، وَهُوَ عَلَى شَكٍّ مِنْ دُخُولِ رَمَضَانَ ، وَبَيَانُ هَذَا فِي الزَّكَاةِ ، أَنْ يُخْرِجَ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ ، وَيَقُولَ : إِنْ وَرِثْتُ مَالَ وَالِدِي فَهَذِهِ زَكَاتُهُ ، وَإِنْ كَانَ حَيًّا وَلَمْ يَمُتْ فَهِيَ تَطَوُّعٌ ، فَبَانَ لَهُ مَوْتُ وَالِدِهِ ، وَأَنَّهُ كَانَ مَالِكًا لِلْمَالِ عِنْدَ إِخْرَاجِهِ لَمْ يُجْزِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ وَهُوَ عَلَى شَكٍّ مِنْ تَمَلُّكِهِ وَالْأَصْلُ حَيَاةُ وَالِدِهِ ، وَلَوْ قَالَ : أَنَا غَدًا صَائِمٌ ، فَإِنْ كَانَ مِنْ رَمَضَانَ فَهُوَ فَرْضٌ أَوْ نَافِلَةٌ ، فَبَانَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ لَمْ يُجْزِهِ ، لِمَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا ذَكَرْنَا .

وَالثَّانِي : الِاشْتِرَاكُ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّافِلَةِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : أَنَا غَدًا صَائِمٌ إِنْ كَانَ مِنْ رَمَضَانَ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ رَمَضَانَ فَأَنَا مُفْطِرٌ فَبَانَ مِنْ رَمَضَانَ لَمْ يُجْزِهِ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ نِيَّتَهُ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ صَوْمِهِ وَفِطْرِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : أَنَا غَدًا صَائِمٌ إِنْ كَانَ مِنْ رَمَضَانَ ، فَبَانَ مِنْ رَمَضَانَ لَمْ يُجْزِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ رَمَضَانَ فَأَنَا مُفْطِرٌ ، فَبَانَ مِنْ رَمَضَانَ لَمْ يُجْزِهِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا أَمْسَى النَّاسُ لَيْلَةَ ثَلَاثِينَ مِنْ رَمَضَانَ عَلَى شَكٍّ مِنْ دُخُولِ شَوَّالٍ ، فَقَالَ رَجُلٌ : أَنَا غَدًا صَائِمٌ إِنْ كَانَ مِنْ رَمَضَانَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ رَمَضَانَ ، فَأَنَا مُفْطِرٌ فَبَانَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ أَجْزَأَهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : أَنَا غَدًا صَائِمٌ ، فَإِنْ كَانَ مِنْ رَمَضَانَ ، فَهُوَ فَرْضٌ وَإِنْ كَانَ مِنْ شَوَّالٍ ، فَهُوَ تَطَوُّعٌ ، فَبَانَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ أَجَزْأَهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّهُ إِنْ بَانَ مِنْ شَوَّالٍ فَهُوَ مُفْطِرٌ ، وَإِنْ نَوَى الصَّوْمَ ، وَإِنَّمَا أَجْزَأَهُ عَنْ فَرْضِهِ فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ ، وَلَمْ يُجْزِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ رَمَضَانَ ثَابِتٌ لَهُ ، مَا لَمْ يَتَيَقَّنْ زَوَالَهُ بِحُدُوثِ مَا سِوَاهُ فَصَارَ أَصْلًا يَسْتَنِدُ إِلَيْهِ ، وَمِثَالُ هَذَا مِنَ الزَّكَاةِ أَنْ يُخْرِجَ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ فَيَقُولُ : هَذَا زَكَاةُ مَالِي الْغَائِبِ إِنْ كَانَ سَالِمًا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَالِمًا فَنَافِلَةٌ فَبَانَ سَالِمًا أَجْزَأَهُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ مَالِهِ مَا لَمْ يُعْلَمْ تَلَفُهُ ، فَلَوْ قَالَ : أَنَا غَدًا صَائِمٌ إِنْ كَانَ مِنْ رَمَضَانَ أَوْ مُفْطِرٌ ، فَبَانَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ لَمْ يُجْزِهِ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ نِيَّتَهُ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ صَوْمِهِ وَفِطْرِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : أَنَا غَدًا صَائِمٌ فَإِنْ بَانَ مِنْ رَمَضَانَ ، فَهُوَ فَرْضٌ أَوْ نَافِلَةٌ لَمْ يُجْزِهِ ، وَمِثَالُهُ مِنَ الزَّكَاةِ أَنْ يَقُولَ : هَذَا زَكَاةُ مَالِي الْغَائِبِ ، إِنْ كَانَ سَالِمًا ، أَوْ نَافِلَةٌ لَا يُجْزِئُهُ وَإِنْ كَانَ سَالِمًا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِالنِّيَّةِ قَصْدَ فَرْضٍ خَالِصٍ ، وَإِنَّمَا جَعَلَهَا مُشْتَرَكَةً بَيْنَ فَرْضٍ وَنَافِلَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ عَقَدَ رَجُلٌ عَلَى أَنَّ غَدًا عِنْدَهُ مِنْ رَمَضَانَ فِي يَوْمِ شَكٍّ ثَمَّ بَانَ لَهُ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ أَجْزَأَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . إِذَا صَحَّ عِنْدَهُ أَنَّ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ ؛ لِأَنَّهُ رَآهُ وَحْدَهُ ، وَالْقَاضِي لَا يَسْمَعُ قَوْلَهُ وَالْقَاضِي أَخْبَرَهُ بِمَا يَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِهِ وَعَبِيدِهِ فَنَوَى صِيَامَ الْغَدِ ، وَالنَّاسُ عَلَى شَكٍّ ثُمَّ بَانَ لَهُمْ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ فَقَدْ أَجْزَأَهُ صَوْمُهُ ، وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي الصَّوْمِ عَنْ دَلَالَةٍ ، وَاسْتَفْتَحَ الْعِبَادَةَ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ لَا بِالشُّبْهَةِ ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ سَمِعَ أَذَانَ الظُّهْرِ ، فَاسْتَفْتَحَ الصَّلَاةَ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ أَجْزَأَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ يَقِينًا دُخُولَ الْوَقْتِ أَجْزَأَهُ ، وَلَوِ اسْتَفْتَحَهَا عَلَى شُبْهَةٍ وَشَكٍّ لَمْ يُجْزِهِ ، وَإِنْ صَادَفَ الْوَقْتَ ، فَكَذَا الصِّيَامُ مِثْلُهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ ، فَأَمَّا إِذَا عَلِمَ أَنَّ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ بِحِسَابِ النُّجُومِ ، وَمَنَازِلِ الْقَمَرِ فَنَوَى الصَّوْمَ ، ثُمَّ بَانَ لِلنَّاسِ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُجْزِيهِ صَوْمُهُ وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَنَدَ إِلَى دَلَالَةٍ وَقَعَ لَهُ الْعِلْمُ بِهَا .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يُجْزِيهِ وَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ ؛ لِأَنَّ النُّجُومَ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي الْعِبَادَاتِ وَأَحْكَامِ الشَّرْعِ أَلَا تَرَى أَنَّ النُّجُومَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِي الْعِلْمِ بِدُخُولِ الشَّهْرِ . وَفِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ : أَنَّهُ إِنْ عَلِمَ ذَلِكَ مِنْ مَنَازِلِ الْقَمَرِ ، وَتَقْدِيرِ شَهْرِهِ أَجْزَأَهُ ، وَإِنْ عَلِمَهُ بِالنُّجُومِ لَمْ يُجْزِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ أَكَلَ شَاكًّا فِي الْفَجْرِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْأَكْلُ فَمُبَاحٌ مَا لَمْ يَطْلُعِ الْفَجْرُ الثَّانِي : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَكُلُوا وَاشْرَبُوا [ الْبَقَرَةِ : ] الْآيَةَ وَرُوِيَ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ أَنَّهُ أَخَذَ خَيْطَيْنِ أَبْيَضَ وَأَسْوَدَ ، وَتَرَكَهُمَا عَلَى وِسَادَتِهِ ، وَرَاعَاهُمَا إِلَى الصَّبَاحِ فَلَمْ يَسْتَبِنْ لَهُ ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ " إِنَّكَ لَعَرِيضُ الْوِسَادِ ، إِنَّمَا هُوَ بَيَاضُ النَّهَارِ وَسَوَادُ اللَّيْلِ " وَالْعَرَبُ تُسَمِّي فَجْرَ الصُّبْحِ خَيْطًا قَالَ أَبُو دُؤَادَ الْأَيَادِيُّ فَلَمَّا أَضَاءَتْ لَهُ سَدَفَةً وَلَاحَ مِنَ الصُبْحِ خَيْطٌ أَنَارَا وَفِي قَوْلِهِ : " إِنَّكَ لَعَرِيضُ الْوِسَادِ " تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ نَسَبَهُ إِلَى الْخِفَّةِ وَالْحُمْقِ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَنْ أَرَادَ مَعْرِفَةَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنْ وِسَادَتِهِ وَظَنَّ أَنَّهُمَا قَدِ اجْتَمَعَا فِيهَا ، فَإِنَّ وِسَادَتَهُ عَرِيضَةٌ ، وَهَذَا إِنَّمَا قَالَهُ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ وَضَعَ الْخَيْطَ تَحْتَ وِسَادَتِهِ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ طُلُوعَ الْفَجْرِ الثَّانِي أَوَّلُ زَمَانِ الصِّيَامِ ، فَشَكَّ فِي طُلُوعِهِ ، فَالْأَوْلَى لَهُ اجْتِنَابُ الْأَكْلِ خَوْفًا مِنْ مُصَادَفَةِ نَهَارِ زَمَانِ الْخَطَرِ ، فَإِنْ أَكَلَ وَهُوَ عَلَى جُمْلَةِ الشَّكِّ ، فَهُوَ عَلَى صَوْمِهِ ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ طُلُوعُهُ ، وَقَالَ مَالِكٌ : عَلَيْهِ الْقَضَاءُ مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ بَقَاءُ اللَّيْلِ ، وَهَذَا غَلَطٌ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ اللَّيْلِ ، فَبِالشَّكِّ لَا يُجِبُ الِانْتِقَالُ عَنْهُ فَأَمَّا إِنْ أَفْطَرَ شَاكًّا فِي الْغُرُوبِ ، وَلَمْ يَبِنْ لَهُ الْيَقِينُ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ النَّهَارِ ، وَثُبُوتُ التَّحْرِيمِ .



مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ وَطِئَ امْرَأَتَهُ وَأَوْلَجَ عَامِدًا فَعَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الصَّائِمُ فَمَمْنُوعٌ مِنَ الْوَطْءِ إِجْمَاعًا ، فَإِنْ وَطِئَ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ فَقَدْ أَفْسَدَ صَوْمَهُ ، وَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ ، وَحُكِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ ، أَنَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ وَلَا كَفَّارَةَ قِيَاسًا عَلَى الْأَكْلِ ، وَعَلَى مَنْ وَطِئَ فِي الصَّلَاةِ ، وَهَذَا خَطَأٌ وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى خِلَافِهِ ، فَلَا مَعْنَى لِلِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِ مَعَ حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ عَلَى مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبَى هُرَيْرَةَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَلْطِمُ نَحْرَهُ وَيَنْتِفُ شَعْرَهُ ، وَهُوَ يَقُولُ : هَلَكْتُ وَأَهْلَكْتُ ، وَرُوِيَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَحْرَقْتُ وَاحْتَرَقْتُ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَا الَّذِي أَهْلَكَكَ " ؟ فَقَالَ : وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي وَأَنَا صَائِمٌ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ؛ فَقَالَ : " اعْتِقْ رَقَبْةً " فَقَالَ : لَا أَجِدُ فَقَالَ : " صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ " فَقَالَ : لَا أَسْتَطِيعُ فَقَالَ : " أَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا مُدًّا مُدًّا " ، قَالَ : لَا أَجِدُ ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعِرْقٍ فِيهِ تَمْرٌ وَرُوِيَ مِكْتَلٌ فَقَالَ : " أَطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِينًا " فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ نَبِيًّا مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا أَحْوَجُ مَنَّا إِلَيْهِ بَيْتًا ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ وَقَالَ : " خُذْهُ فَكُلْهُ " . فَإِنْ قِيلَ : هَذَا وَارِدٌ فِي سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ حِينَ ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ قُلْنَا : حَدِيثُ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ غَيْرُ حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ ؛ لِأَنَّهُ وَارِدٌ فِي الظِّهَارِ وَرُوِيَ عَنْ سَلَمَةَ أَنَّهُ أَرَادَ وَطْأَ امْرَأَتِهِ فِي لَيْلِ رَمَضَانَ ، فَرَأَى خُلْخَالًا لَهَا فِي لَيْلَةٍ فَأَعْجَبَتْهُ فَظَاهَرَ مِنْهَا ، ثُمَّ وَثَبَ عَلَيْهَا فَوَاقَعَهَا . وَالْأَعْرَابِيُّ فَإِنَّمَا وَطِئَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ ، فَلَمْ يَشْتَبِهَا ، فَأَمَّا مَا سِوَى رَمَضَانَ مِنَ النُّذُورِ وَالْكَفَّارَاتِ ، وَقَضَاءِ رَمَضَانَ ، وَصَوْمِ التَّطَوُّعِ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَى الْوَاطِئِ فِي شَيْءٍ مِنْهُ ، وَحُكِيَ عَنْ قَتَادَةَ وَأَبِي ثَوْرٍ أَنَّهُمَا أَوْجَبَا الْكَفَّارَةَ عَلَى الْوَاطِئِ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ ، وَهَذَا مَذْهَبٌ يُفَارِقُ قَوْلَ الْجَمَاعَةِ ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ إِنَّمَا وَجَبَتْ فِي صَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ لِتَأَكُّدِ حُرْمَتِهِ ، وَتَعْيِينِ زَمَانِهِ ، وَإِنَّ الْفِطْرَ لَا يَتَخَلَّلُهُ وَالْقَضَاءُ مُخَالِفٌ لَهُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَالْكَفَّارَةُ وَاحِدَةٌ عَنْهُ وَعَنْهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ لمن جامع في نهار رمضان ، فَإِذَا اسْتَقَرَّ وُجُوبُهَا ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي كُتُبِهِ الْقَدِيمَةِ وَالْجَدِيدَةِ ، أَنَّ الْوَاجِبَ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ عَلَى الزَّوْجِ دُونَهَا وَفِي كَيْفِيَّةِ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ قَوْلَانِ :

أَحَدُهُمَا : وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ . أَنَّهَا وَجَبَتْ عَلَيْهَا ، ثُمَّ تَحَمَّلَ الزَّوْجُ عَنْهَا . وَالثَّانِي : أَنَّهَا وَجَبَتِ ابْتِدَاءً عَلَى الزَّوْجِ . وَذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي بَعْضٍ أَمَالَيْهِ أَنَّ عَلَيْهِمَا كَفَارَّتَيْنِ ، فَخَرَّجَهُ أَصْحَابُنَا قَوْلًا ثَانِيًا : وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُمَا لَمَّا اشْتَرَكَا فِي سَائِرِ مُوجِبَاتِ الْوَطْءِ مِنَ الْمَأْثَمِ وَالْقَضَاءِ ، وَوُجُوبِ الْغُسْلِ وَالْعُقُوبَةِ ، وَجَبَ أَنْ يَشْتَرِكَا فِي الْكَفَّارَةِ أَيْضًا ، فَيَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفَّارَةٌ ، وَلِأَنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِي سَبَبٍ تَجِبُ بِهِ الْكَفَّارَةُ ، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفَّارَةٌ كَالْقَتْلِ ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ عَقْدٌ مِنَ الْعُقُودِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَتَحَمَّلَ بِهِ الْكَفَّارَةُ ، أَصْلُهُ عَقْدُ الْبَيْعِ ، وَالْإِجَارَةِ قَالُوا : وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إِيجَابُكُمُ الْكَفَّارَةَ الْوَاحِدَةَ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ تَجِبَ عَلَى الزَّوْجِ وَحْدَهُ أَوْ تَجِبَ عَلَيْهِمَا مَعًا ، فَيَبْطُلَ أَنْ تَجِبَ عَلَى الزَّوْجِ وَحْدَهُ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي مُوجِبِ الْكَفَّارَةِ وَهُوَ الْوَطْءُ ، وَيَبْطُلَ أَنْ تَجِبَ عَلَيْهِمَا مَعًا ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَلْزَمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ كَفَّارَةٍ وَهَذَا خِلَافُ الْأُصُولِ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَاهُ فِي وُجُوبِ كَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَيْهِمَا ، مَا رَوَيْنَاهُ فِي حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " اعْتِقْ رَقَبَةً " وَالدَّلِيلُ فِي هَذَا الْخَبَرِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْأَعْرَابِيَّ إِنَّمَا سَأَلَهُ عَنْ فِعْلٍ شَارَكَ فِيهِ زَوْجَتَهُ مَعَ جَهْلِهِمَا بِحُكْمِهِ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ جَوَابُهُ حُكْمًا لِجَمِيعِ الْحَادِثَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا كَانَ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ لَا يَجُوزُ ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ أَمَرَ الْمَرْأَةَ بِالْكَفَّارَةِ ، وَلَا رَاسَلَهَا بِإِخْرَاجِهَا مَعَ جَهْلِهَا بِالْحُكْمِ ، فِيمَا دَلَّ عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَلْزَمُهَا فَإِنْ قِيلَ : إِنَّمَا لَمْ يَأْمُرْهَا بِالْكَفَّارَةِ ، لِأَنَّهَا مُكْرَهَةٌ لِقَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ هَلَكْتُ وَأَهْلَكْتُ ، قِيلَ : الْمَنْقُولُ فِي الْخَبَرِ غَيْرُ هَذَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَكَانَ هُوَ الْحُجَّةُ فِي عَدَمِ الْإِكْرَاهِ ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَةَ لَا تَهْلِكُ بِفِعْلِ مَا أُكْرِهَتْ عَلَيْهِ ، وَلَا يَلْحَقُهَا فِيهِ إِثْمٌ فَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ أَهْلَكَهَا عُلِمَ أَنَّهُ سَأَلَهَا فَطَاوَعَتْهُ ، فَهَلَكَتْ بِمُطَاوَعَتِهِ ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ فِي مَالٍ يَتَعَلَّقُ بِالْوَطْءِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَخْتَصَّ الزَّوْجُ بِتَحَمُّلِهِ كَالْمَهْرِ ، فَأَمَّا مَا احْتَجُّوا بِهِ مِنَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْإِثْمِ وَالْقَضَاءِ ، فَجَمْعٌ بِلَا مَعْنَى عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ يُعْتَبَرُ بِهَا الْفِعْلُ ، وَإِنَّمَا لَا يُعْتَبَرُ بِهَا الْفَاعِلُ ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِكَا فِي الْفِعْلِ ، وَيَخْتَلِفَ أَحْكَامُهُمَا بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمَا كَالزِّنَا ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى كَفَّارَةِ الْقَتْلِ ، فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مُوجِبَاتِ الْوَطْءِ ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى عَقْدِ الْبَيْعِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَا يُوجِبُ النَّفَقَةَ وَالْكُسْوَةَ وَزَكَاةَ الْفِطْرِ . وَقَوْلُهُمْ : لَا يَخْلُو حَالُ الْكَفَّارَاتِ ، إِمَّا أَنْ تَجِبَ عَلَى الزَّوْجِ ، أَوْ عَلَيْهِمَا قُلْنَا : فِيهِ قَوْلَانِ :

الصَّوْمُ أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا وَجَبَتْ عَلَى الزَّوْجِ وَحْدَهُ ، وَهَذَا غَيْرُ مُمْتَنَعٍ كَمَا يَشْتَرِكَانِ فِي الْوَطْءِ ، وَيَخْتَصُّ الزَّوْجُ بِالْتِزَامِ الْمَهْرِ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِمَا ، وَهَذَا غَيْرُ مُمْتَنَعٍ كَمَا يَشْتَرِكَانِ فِي قَتْلِ صَيْدٍ فَيَكُونُ الْجَزَاءُ بَيْنَهُمَا .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ فِي الْكَفَّارَةِ لمن جامع في نهار رمضان قَوْلَيْنِ أَصَحُّهُمَا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ . وَالثَّانِي : كَفَّارَتَانِ فَإِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِ كَفَّارَتَيْنِ رَاعَيْتَ حَالَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نَفْسِهِ مِنْ يَسَارِهِ وَإِعْسَارِهِ ، فَرُبَّمَا اتَّفَقَتْ أَحْوَالُهُمَا فَأَعْتَقَا مَعًا ، أَوْ صَامَا مَعًا أَوْ أَطْعَمَا مَعًا وَرُبَّمَا اخْتَلَفَتْ أَحْوَالُهُمَا فَأَعْتَقَ أَحَدُهُمَا ، فَصَامَ الْآخَرُ أَوْ صَامَ أَحَدُهُمَا وَأَطْعَمَ الْآخَرُ ، فَلَا يَكُونُ لِأَحَدِهِمَا تَعَلُّقٌ بِحَالِ صَاحِبِهِ ، كَمَا لَوْ حَنِثَا فِي يَمِينٍ وَإِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِ كَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ فَفِي كَيْفِيَّةِ وُجُوبِهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا وَجَبَتِ ابْتِدَاءً عَلَى الزَّوْجِ كَالْمَهْرِ الَّذِي يَخْتَصُّ بِهِ الزَّوْجُ ، وَإِنِ اشْتَرَكَا فِي الْوَطْءِ فَعَلَى هَذَا يُعْتَبَرُ بِهَا حَالُ الزَّوْجِ وَحْدَهُ ، فَإِنْ أَعْتَقَ أَوْ صَامَ أَوْ أَطْعَمَ أَجْزَأَ ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الزَّوْجَةِ بِحَالٍ ، لَا حَظَّ لَهَا فِي الْوُجُوبِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْكَفَّارَةَ وَجَبَتْ عَلَيْهِمَا ، ثُمَّ يُحَمَّلُ الزَّوْجُ عَنْهُمَا لِأَنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِي هَتْكِ الْحُرْمَةِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَشْتَرِكَا فِي الْكَفَّارَةِ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَخْلُو حَالُهُمَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ تَتَّفِقَ أَحْوَالُهُمَا أَوْ تَخْتَلِفَ ، فَإِنِ اتَّفَقَتْ أَحْوَالُهُمَا فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ مِنْ أَهْلِ الْعِتْقِ وَهِيَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ ، فَعَلَى الزَّوْجِ عِتْقُ رَقَبَةٍ ثُمَّ يُنْظَرُ فِي حَالِهَا ، فَإِنْ كَانَتْ مَعَ كَوْنِهَا مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ ، مِمَّنْ يَجُوزُ أَنْ تُكَفِّرَ بِالْعِتْقِ لِحُرِّيَّتِهَا فَعِتْقُ الزَّوْجِ يَجْزِيهِمَا ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ أَنْ لَا تُكَفِّرَ بِالْعِتْقِ لِرِقِّهَا ، فَعَلَيْهَا صِيَامُ شَهْرَيْنِ لَا يُجْزِيهَا عِتْقُ الزَّوْجِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ مِنْ أَهْلِ الْعِتْقِ ، وَهِيَ مِنْ أَهْلِ الْإِطْعَامِ فَعَلَى الزَّوْجِ عِتْقُ رَقَبَةٍ وَيُجْزِيهِمَا ؛ لِأَنَّ مَنْ لَزِمَهُ الْإِطْعَامُ أَجْزَأَهُ الْعِتْقُ ، لِأَنَّهُمَا حَقَّانِ فِي مَالٍ وَالْعِتْقُ أَغْلَظُ حَالًا . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ ، وَهِيَ مِنْ أَهْلِ الْإِطْعَامِ فَعَلَى الزَّوْجِ صِيَامُ شَهْرَيْنِ عَنْ نَفْسِهِ ، وَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا عَنْ زَوْجَتِهِ ؛ لِأَنَّ الصِّيَامَ لَا يَنُوبُ عَنْ إِطْعَامٍ وَجَبَ عَلَى غَيْرِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ أَعْلَى حَالًا مِنَ الزَّوْجِ ، فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ هِيَ مِنْ أَهْلِ الْعِتْقِ ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ ، فَعَلَيْهِ صِيَامُ شَهْرَيْنِ عَنْ

نَفْسِهِ ، وَعِتْقُ رَقَبَةٍ عَنْ زَوْجَتِهِ تَكُونُ فِي ذِمَّتِهِ إِلَى حِينِ يَسَارِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِعْسَارَ لَا يُسْقِطُ حَقًّا لَزِمَ عَنِ الْغَيْرِ ؛ لِأَنَّهُ مُؤْنَةٌ كَالدَّيْنِ ، وَإِنَّمَا يُسْقِطُ مَا تَعَلَّقَ بِخَاصَّةِ نَفْسِهِ ، فَإِنْ بَدَأَ بِالصِّيَامِ لَزِمَهُ عِتْقُ الرَّقَبَةِ بَعْدَ صِيَامِهِ ، وَإِنْ بَدَأَ بِالْعِتْقِ أَوَّلًا نُظِرَ فِي حَالِهِ فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ التَّكْفِيرُ بِالْعِتْقِ لِحُرِّيَّتِهِ ، وَعَدَمِ رِقِّةِ أَجْزَأَتْهُ الرَّقَبَةُ ، وَسَقَطَ عَنْهُ الصِّيَامُ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّكْفِيرُ بِالْعِتْقِ لِرِقِّهِ أَوْ رِقِّ بَعْضِهِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الصَّوْمُ ، بِعِتْقِ الرَّقَبَةِ ، وَلَزِمَهُ صَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ مِنْ أَهْلِ الْعِتْقِ ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْإِطْعَامِ فَعَلَيْهِ إِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا عَنْ نَفْسِهِ ، وَعِتْقُ رَقَبَةٍ عَنْ زَوْجَتِهِ فَإِنْ بَدَأَ بِالْإِطْعَامِ أَوَّلًا ، لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْعِتْقُ ، وَلَزِمَهُ تَحْرِيرُ الرَّقَبَةِ ، وَإِنْ أَعْتَقَ أَوَّلًا أَجْزَأَهُ ، وَسَقَطَ عَنْهُ الْإِطْعَامُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَدَّى مَا وَجَبَ عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَغْلَظُ مِنْهُ ، إِذْ هُمَا مِنْ حُقُوقِ الْأَمْوَالِ وَالْعِتْقُ أَغْلَظُ حَالًا . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ وَالزَّوْجِ مِنْ أَهْلِ الْإِطْعَامِ فَعَلَيْهَا صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ عَنْ نَفْسِهَا ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ ، وَعَلَى الزَّوْجِ إِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا عَنْ نَفْسِهِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ تَحَمُّلُ شَيْءٍ عَنْ زَوْجَتِهِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا وَطِئَ الصَّائِمُ زَوْجَتَهُ فِي يَوْمٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ عَامِدًا ، ثُمَّ وَطِئَهَا فِي يَوْمٍ ثَانٍ فَعَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَطِئَهَا فِي يَوْمٍ ثَالِثٍ وَرَابِعٍ ، كَانَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ كَفَّارَةٌ ، وَسَوَاءٌ كَفَّرَ عَنِ الْوَطْءِ الْأَوَّلِ أَمْ لَا ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إِنْ كَفَّرَ عَنِ الْوَطْءِ الْأَوَّلِ ، فَعَلَيْهِ لِلْوَطْءِ الثَّانِي كَفَّارَةٌ أُخْرَى وَإِنْ لَمْ يُكَفِّرْ عَنِ الْأَوَّلِ فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ تُجْزِيهِ عَنْهُمَا قَالَ ؛ لِأَنَّ اسْمَ رَمَضَانَ يَعُمُّ جَمِيعَ الشَّهْرِ فَصَارَ كَالْعِبَادَةِ الْوَاحِدَةِ وَالْيَوْمِ الْوَاحِدِ الَّذِي لَا يَلْزَمُ فِيهِ إِلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ ، قَالَ : وَلِأَنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ فَشَابَهَ الْحَجَّ الَّذِي لَا يَلْزَمُ فِيهِ إِلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ ، قَالَ : وَلِأَنَّ الْكَفَّارَاتِ حُدُودٌ وَعُقُوبَاتٌ ، إِذْ لَا تَجِبُ إِلَّا بِمَأْثَمٍ مَخْصُوصٍ ، وَالْحُدُودُ إِذَا تَرَادَفَتْ تَدَاخَلَتْ ، وَكَانَ الْحَدُّ الْوَاحِدُ نَائِبًا عَنْ جَمِيعِهَا كَحَدِّ الزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ فَكَذَلِكَ الْكَفَّارَاتُ ، وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهُ أَفْسَدَ بِوَطْئِهِ صَوْمَ يَوْمَيْنِ ، لَوْ كَفَّرَ عَنِ الْأَوَّلِ لَزِمَهُ الْكَفَّارَةُ عَنِ الثَّانِي ، فَوَجَبَ أَنْ تَلْزَمَهُ الْكَفَّارَةُ عَنِ الثَّانِي ، وَإِنْ لَمْ يُكَفِّرْ عَنِ الْأَوَّلِ . أَصْلُهُ إِذَا كَانَ الْيَوْمَانِ مِنْ رَمَضَانَ فِي عَامَيْنِ ، وَلِأَنَّهُمَا يَوْمَانِ لَوْ أُفْرِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْفَسَادِ ، لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ ، فَوَجَبَ إِذَا أَفْسَدَهُمَا مَعًا أَنْ تَلْزَمَهُ كَفَّارَتَانِ ، أَصْلُهُ إِذَا كَفَّرَ عَنِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ أَوِ الْيَوْمَيْنِ مِنْ رَمَضَانَيْنِ فِي عَامَيْنِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ حُكْمٍ تَعَلَّقَ بِالْجِمَاعِ الْأَوَّلِ تَعَلَّقَ بِالْجِمَاعِ الثَّانِي ، كَالْقَضَاءِ وَلِأَنَّ لِكُلِّ يَوْمٍ مِنَ الشَّهْرِ حُرْمَةٌ يَتَمَيَّزُ بِهَا عَنِ الْآخَرِ لِمَا يَلْزَمُهُ مِنْ تَجْدِيدِ النِّيَّةِ ، وَلَا يَتَعَدَّى فَسَادَ الْيَوْمِ ، إِلَى غَيْرِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ بِهَتْكِ حُرْمَةِ يَوْمٍ كَفَّارَةٌ مُجَدَّدَةٌ ، فَأَمَّا قَوْلُهُ : إِنَّهُ كَالْعِبَادَةِ الْوَاحِدَةِ ؛ لِأَنَّ اسْمَ الشَّهْرِ يَجْمَعُهُ ، فَالْجَوَابُ وَإِنْ كَانَ عِبَادَةً وَاحِدَةً ، فَإِنَّهُ يَجْمَعُ عِبَادَاتٍ وَاحِدَةً ، فَإِنَّهُ هِيَ رُكْنٌ وَاحِدٌ ، وَعِبَادَةٌ وَاحِدَةٌ ثُمَّ يَجْمَعُ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ ، وَلِكُلِّ صَلَاةٍ حُكْمُ

نَفْسِهَا فِي الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ فَكَذَلِكَ الصِّيَامُ يَجِبُ أَنْ يَخْتَصَّ كُلُّ يَوْمٍ بِحُكْمِ نَفْسِهِ ، وَأَمَّا اعْتِبَارُهُمْ بِالْحَجِّ فَلَنَا فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : عَلَيْهِ لِكُلِّ وَطْءٍ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ فَسَقَطَ هَذَا الِاعْتِبَارُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصِّيَامِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ لِلْحَجِّ إِحْرَامًا مَا يَجْمَعُ أَرْكَانَهُ وَيَتَعَدَّى فَسَادُ آخِرِهِ فِي صِحَّةِ أَوَّلِهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ صِيَامُ الْيَوْمَيْنِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْحَجَّ يَلْزَمُهُ إِتْمَامُ فَاسِدِهِ وَتَسْتَوِي حُرْمَةُ جَمِيعِهِ فَإِذَا وَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ لِحُرْمَةِ بَعْضِهِ ، فَهِيَ نَائِبَةٌ عَنْ حُرْمَةِ جَمِيعِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ صِيَامُ الْيَوْمَيْنِ ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْحُدُودِ فَالْمَعْنَى فِيهَا أَنَّهَا حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى لَيْسَ لِآدَمِيٍّ فِيهَا نَصِيبٌ ، فَلِذَلِكَ تَدَاخَلَتْ ، وَالْكَفَّارَاتُ تَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ ، فَلَمْ تَتَدَاخَلْ فَصَحَّ أَنَّ عَلَيْهِ لِكُلِّ يَوْمٍ كَفَّارَةً .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا وَطِئَ فِي صَدْرِ النَّهَارِ ، ثُمَّ وَطِئَ فِي وَسَطِهِ ثُمَّ وَطِئَ فِي آخِرِهِ ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْيَوْمِ وَاحِدَةٌ قَدِ انْتَهَكَهَا بِالْوَطْءِ الْأَوَّلِ ، فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَ لَا أَوْجَبْتُمْ عَلَيْهِ لِكُلِّ وَطْءٍ كَفَّارَةً كَالْحَجِّ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ؟ قُلْنَا : لِأَنَّ الْحَجَّ لَا يَخْرُجُ مِنْهُ بِالْفَسَادِ فَكَانَتْ حُرْمَتُهُ بَاقِيَةً ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الصِّيَامُ .

فَصْلٌ : وَلَوْ وَطِئَ أَرْبَعَ زَوْجَاتٍ لَهُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ في صيام رمضان ، كَانَ عَلَيْهِ أَرْبَعُ كَفَّارَاتٍ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، إِذَا قِيلَ : إِنَّ الْكَفَّارَةَ وَجَبَتْ عَلَيْهِمَا ، وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي : كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ إِذَا قِيلَ : إِنَّهَا وَجَبَتْ عَلَى الزَّوْجِ وَحْدَهُ ، فَلَوْ كَانَ لَهُ زَوْجَتَانِ مُسْلِمَةٌ وَذِمِّيَّةٌ فَوَطِئَهُمَا مَعًا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ ، نُظِرَ فِي حَالِهِ فَإِنْ وَطِئَ الذِّمِّيَّةَ أَوَّلًا ثُمَّ الْمُسْلِمَةَ بَعْدَهَا ، فَعَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ، وَإِنْ وَطِئَ الْمُسْلِمَةَ أَوَّلًا ثُمَّ الذِّمِّيَّةَ بَعْدَهَا ، فَلَيْسَ عَلَيْهِمَا إِلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ .

فَصْلٌ : وَإِذَا تَقَدَّمَ الْمُسَافِرُ نَهَارًا مِنْ سَفَرِهِ ، وَقَدْ أَفْطَرَ فِي صَدْرِ يَوْمِهِ فَصَادَفَ زَوْجَتَهُ ، قَدْ طَهُرَتْ مِنْ حَيْضِهَا فِي تَضَاعِيفِ يَوْمِهَا فَوَطِئَهَا فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِمَا ، وَلَا كَفَّارَةَ لِارْتِفَاعِ حُرْمَةِ الْيَوْمِ بِالْإِفْطَارِ السَّابِقِ ، وَلَكِنْ لَوْ قَدِمَ مِنْ سَفَرِهِ مُفْطِرًا فَأَخْبَرَتْهُ بِطُهْرِهَا مِنْ حَيْضِهَا كَاذِبَةً ، فَوَطِئَهَا وَهِيَ صَائِمَةٌ فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ الْكَفَّارَةَ فِي الْأَصْلِ وَجَبَتْ عَلَى الزَّوْجِ وَحْدَهُ ، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِمَا فَعَلَيْهَا الْكَفَّارَةُ دُونَهُ لِأَنَّهَا غَرَّتْهُ وَخَرَجَ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّ الْكَفَّارَةَ عَلَى الزَّوْجِ وَإِنْ غَرَّتْهُ لِأَجْلِ اسْتِمَاعِهِ ، فَصَارَ فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : لَا كَفَّارَةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا . وَالثَّانِي : أَنَّ الْكَفَّارَةَ عَلَيْهِمَا .

وَالثَّالِثُ : أَنَّ الْكَفَّارَةَ عَلَيْهِ دُونَهَا ، فَلَوْ قَدِمَ مُفْطِرًا مِنْ سَفَرِهِ فَأَخْبَرَتْهُ بِصَوْمِهَا ، فَوَطِئَهَا عَالِمًا مِنْ غَيْرِ إِكْرَاهٍ ، فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ الْكَفَّارَةَ وَجَبَتْ عَلَى الزَّوْجِ وَحْدَهُ ، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَجْلِ فِطْرِهِ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ لَمْ يَتَوَجَّهْ إِلَيْهَا ، وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِمَا فَالْكَفَّارَةُ عَلَى الزَّوْجِ عَلَى حَسَبِ حَالِهَا ، فَلَوْ قَدِمَ مِنْ سَفَرِهِ مُفْطِرًا فَصَادَفَهَا صَائِمَةً ، وَأَكْرَهَهَا عَلَى الْوَطْءِ بِلَا اخْتِيَارٍ مِنْهَا وَلَا تَمْكِينٍ ، فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِمَا وَلَا كَفَّارَةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَإِنَّمَا لَمْ تَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ عَنْ نَفْسِهِ لِأَجْلِ فِطْرِهِ وَلَا عَنْهَا ، لِارْتِفَاعِ الْإِثْمِ عَنْهَا ، وَلَكِنْ لَوْ خَوَّفَهَا فَأَجَابَتْهُ خَوْفًا مِنْهُ ، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحَالٍ وَفِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهَا قَوْلَانِ . فَصْلٌ آخَرُ : وَإِذَا أُكْرِهَ الرَّجُلُ عَلَى الْوَطْءِ فَشُدَّتْ يَدَاهُ ، وَأُدْخِلَ ذَكَرُهُ فِي الْفَرَجِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ ، وَلَا قَصْدٍ نُظِرَ فِي حَالِهِ ، فَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ فَهُوَ عَلَى صَوْمِهِ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَةَ ، وَإِنْ أَنْزَلَ فَفِي صَوْمِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ عَلَى صَوْمِهِ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَةَ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُفْطِرْ بِالْإِيلَاجِ لَمْ يُفْطِرْ بِمَا حَدَثَ عَنْهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ قَدْ أَفْطَرَ وَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ ؛ لِأَنَّ الْإِنْزَالَ لَا يَحْدُثُ إِلَّا عَنْ قَصْدٍ ، وَاخْتِيَارٍ ، فَعَلَى هَذَا فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ . وَالثَّانِي : لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَجْلِ الشُّبْهَةِ . فَأَمَّا إِذَا كَانَ الرَّجُلُ مُخْتَارًا وَأَكْرَهَهَا عَلَى الْوَطْءِ ، فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ بِكُلِّ حَالٍ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهَا ، لِمَوْضِعِ الْإِكْرَاهِ ، وَلَوْ خَوَّفَهَا لَزِمَهُ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ ، وَفِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَيْهَا قَوْلَانِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا وَطِئَ الْمَجْنُونُ زَوْجَتَهُ ، وَهِيَ صَائِمَةٌ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا إِكْرَاهٍ ، فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ الْكَفَّارَةَ وَجَبَتْ عَلَى الزَّوْجِ وَحْدَهُ ، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِمَا لِارْتِفَاعِ الْقَلَمِ عَمَّنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِمَا مَعًا فَفِيهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ : الْكَفَّارَةُ فِي مَالِ الزَّوْجِ لِأَنَّهَا جِنَايَةٌ مِنْهُ فَأَشْبَهَتْ أُرُوشَ جِنَايَاتِهِ . وَالثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ : الْكَفَّارَةُ فِي مَالِهَا ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْمَجْنُونِ لَا حُكْمَ لَهُ ، وَهِيَ الْجَانِيَةُ بِتَمْكِينِهَا ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ الرَّجُلُ نَائِمًا فَاسْتَدْخَلَتْ ذَكَرَهُ فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ الْكَفَّارَةَ وَجَبَتْ عَلَى الزَّوْجِ وَحْدَهُ ، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِمَا فَالْكَفَّارَةُ عَلَيْهَا دُونَهُ ؛

لِأَنَّ النَّائِمَ لَا قَصْدَ لَهُ وَلَا فِعْلَ ، وَإِنَّمَا الْفِعْلُ لَهَا وَلَكِنْ لَوْ كَانَتْ هِيَ الْمَجْنُونَةُ ، أَوِ النَّائِمَةَ وَالزَّوْجُ عَاقِلًا مُسْتَيْقِظًا فَوَطِئَهَا ، فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ بِكُلِّ حَالٍ ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهَا ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : فِي النَّائِمَةِ عَلَيْهَا الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ ، وَقَالَ مَالِكٌ عَلَيْهَا الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ ، وَالدَّلَالَةَ عَلَيْهِمَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ " ذَكَرَ فِيهِمَا النَّائِمَ حَتَّى يَنْتَبِهَ ، وَلِأَنَّ مَا لَا يَقَعُ الْفِطْرُ بِهِ نَاسِيًا ، لَا يَقَعُ الْفِطْرُ بِهِ نَائِمًا كَالْأَكْلِ ، وَلِأَنَّ مَنْ لَا يُفْطِرُ بِالْأَكْلِ لَا يُفْطِرُ بِالْوَطْءِ كَالنَّاسِي .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا وَطِئَ الرَّجُلُ فِي صَدْرِ النَّهَارِ ثُمَّ جُنَّ فِي آخِرِهِ أَوْ مَرِضَ فَفِي سُقُوطِ الْكَفَّارَةِ عَنْهُ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : قَدْ سَقَطَتْ عَنْهُ الْكَفَّارَةُ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ . ؛ لِأَنَّ أَوَّلَ الْيَوْمِ مُرْتَبِطٌ بِآخِرِهِ وَحُكْمُ جَمِيعِهِ وَاحِدٌ ، فَإِذَا طَرَأَ عَلَيْهِ الْجُنُونُ لَمْ تَسْتَقِرَّ فِيهِ ، وَإِذَا زَالَتِ الْحُرْمَةُ سَقَطَتِ الْكَفَّارَةُ وَلِأَنَّهَا تَجِبُ بِهَتْكِ الْحُرْمَةِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْكَفَّارَةَ ثَابِتَةٌ لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ . وَبِهِ قَالَ رَبِيعَةُ وَمَالِكٌ ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ وَجَبَتْ بِالْوَطْءِ السَّابِقِ الَّذِي انْتُهِكَ بِهِ حُرْمَةُ الصَّوْمِ ، وَلَا حُكْمَ لِمَا طَرَأَ بَعْدَ وُجُوبِهَا ، كَمَا لَوْ سَافَرَ بَعْدَ الْوَطْءِ لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ الْكَفَّارَةُ بِالسَّفَرِ الطَّارِئِ بَعْدَ ثُبُوتِهَا .

فَصْلٌ : وَإِذَا زَنَا رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ، فَقَدْ عَصَى اللَّهَ تَعَالَى وَلَزِمَهُمَا الْحَدُّ وَالْقَضَاءُ ، وَوَجَبَ عَلَى الزَّانِي الْكَفَّارَةُ وَفِي وُجُوبِهَا عَلَى الزَّانِيَةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِمَا إِذَا قِيلَ : إِنَّهَا وَجَبَتْ عَلَى الْوَاطِئِ وَحْدَهُ . وَالثَّانِي : عَلَيْهَا الْكَفَّارَةُ إِذَا قِيلَ : إِنَّهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِمَا ، وَإِنَّمَا لِمَنْ يَتَحَمَّلُ عَنْهَا الْكَفَّارَةَ كَالزَّوْجَةِ ؛ لِأَنَّ الزِّنَا لَا يُثْبِتُ حُرْمَةً يَجِبُ بِهَا التَّحَمُّلُ ، وَكَانَ الْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ يَزْعُمُ أَنَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفَّارَةً لَا يَخْتَلِفُ ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ لَمْ يَأْتِ فِيمَنْ زَنَا وَلَا الزَّانِي فِي مَعْنَاهُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ كَانَ نَاسِيًا فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِمَا لِلْخَبَرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَكْلِ النَّاسِي . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا وَطِئَ الصَّائِمُ نَاسِيًا فِي نَهَارِهِ ، أَوْ أَكَلَ نَاسِيًا فَهُوَ عَلَى صَوْمِهِ ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَةَ . وَقَالَ مَالِكٌ وَرَبِيعَةُ : عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : عَلَيْهِ الْقَضَاءُ فِي الْأَمْرَيْنِ وَالْكَفَّارَةُ فِي الْجِمَاعِ ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنْ قَالُوا : لِأَنَّهُ جِمَاعٌ تَامٌّ صَادَفَ صَوْمًا ، فَوَجَبَ أَنْ يُفْطِرَ بِهِ كَالْعَامِدِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يُفْسِدُهَا جِمَاعُ الْعَامِدِ فَوَجَبَ أَنْ يُفْسِدَهَا جِمَاعُ النَّاسِي

كَالْحَجِّ ، قَالُوا : وَلِأَنَّ السَّهْوَ فِي الْأَكْلِ وَالْجِمَاعِ يَقَعُ تَارَةً فِي ابْتِدَاءِ الصَّوْمِ ، وَتَارَةً فِي انْتِهَائِهِ ، ثُمَّ لَوْ أَكَلَ أَوْ جَامَعَ فِي اللَّيْلِ ، ثُمَّ بَانَ لَهُ طُلُوعُ الْفَجْرِ عِنْدَ أَكْلِهِ وَجِمَاعِهِ أَفْطَرَ ، وَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ فَكَذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ صَوْمِهِ قَالُوا : وَلِأَنَّ عَمْدَ الْحَدَثِ وَسَهْوَهُ سَوَاءٌ فِي نَقْضِ الطَّهَارَةِ لِتَنَافِيهِمَا ، فَكَذَلِكَ الْأَكْلُ وَالْجِمَاعُ فِي الصَّوْمِ يَجِبُ أَنْ يَسْتَوِيَ الْحُكْمُ فِي عَمْدِهِ وَسَهْوِهِ لِتَنَافِيهِمَا وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ صَوْمِهِ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " رُفِعَ عَنِ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ " وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَكَلْتُ وَشَرِبْتُ وَأَنَا صَائِمٌ فَقَالَ : " اللَّهُ أَطْعَمَكَ وَسَقَاكَ " وَفِيهِ دَلِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ سَلَبَهُ فِعْلَهُ وَأَضَافَهُ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْقَضَاءِ مَعَ جَهْلِ السَّائِلِ بِحُكْمِ فِعْلِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ عَلَى صَوْمِهِ وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا وَهُوَ صَائِمٌ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ ، فَإِنَّمَا اللَّهُ أَطْعَمَهُ وَسَقَاهُ " فَلَمَّا أَمَرَهُ بِإِتْمَامِ صَوْمِهِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُفْطِرْ ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يُفْسِدُهَا الْأَكْلُ عَامِدًا فَوَجَبَ أَنْ لَا يُفْسِدَهَا الْأَكْلُ نَاسِيًا كَالصَّلَاةِ ، إِذَا أَكَلَ فِيهَا لُقْمَةً نَاسِيًا ، وَلِأَنَّهُ مَعْنًى وَقَعَ فِي أَثْنَاءِ الصَّوْمِ يَخْتَصُّ عَمْدُهُ بِإِفْسَادِ الصَّوْمِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَفْسُدَ بِسَهْوِهِ . أَصْلُهُ إِذَا ذَرَعَهُ الْقَيْءُ ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ تَارِكُ النِّيَّةِ ، لِأَنَّهَا لَا تَقَعُ فِي أَثْنَاءِ الصَّوْمِ ، وَلَا تَدْخُلُ عَلَيْهِ الرِّدَّةُ لِأَنَّهَا لَا تَخْتَصُّ بِالصَّوْمِ ، وَلَا تُفْسِدُهُ وَإِنَّمَا يَبْطُلُ بِهَا الْإِيمَانُ فَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْعَامِدِ ، فَالْمَعْنَى فِيهِ إِمْكَانُ الِاحْتِرَازِ مِنْهُ وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْحَجِّ قُلْنَا فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمْ يَفْسُدْ فَسَقَطَ مَا أَوْرَدُوهُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ قَدْ فَسَدَ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ النَّوَاهِيَ فِي الْحَجِّ ضَرْبَانِ : ضَرْبٌ اسْتَوَى الْحُكْمُ فِي عَمْدِهِ وَسَهْوِهِ كَالْحَلْقِ ، وَقَتْلِ الصَّيْدِ . وَضَرْبٌ فُرِّقَ بَيْنَ عَمْدِهِ وَسَهْوِهِ كَاللِّبَاسِ وَالطِّيبِ فَأُلْحِقِ الْجِمَاعُ بِالضَّرْبِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ إِتْلَافٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الصَّوْمُ ، لِأَنَّا وَجَدْنَا النَّوَاهِيَ فِيهِ نَوْعًا وَاحِدًا ، وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ وَهُوَ الْقَيْءُ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْجِمَاعُ وَالْأَكْلُ لَاحِقَيْنِ ، وَأَمَّا جَمْعُهُمْ بَيْنَ النَّاسِي وَالْمُخْطِئِ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ ، فَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُخْطِئٌ فِي الْوَقْتِ وَهَذَا مُخْطِئٌ فِي الْفِعْلِ ، وَقَدْ وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْخَطَإِ فِي الْأَوْقَاتِ وَالْخَطَإِ فِي الْأَفْعَالِ ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ أَخْطَأَ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ ، وَصَلَّى لَزِمَهُ الْقَضَاءُ ، وَلَوْ أَخْطَأَ فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ ، وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْحَدَثِ ، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : وُرُودُ السُّنَّةِ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَمْنَعُوا مِنْ تَسْلِيمِ الْمُنَافَاةِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَاهُ ، فَلَا قَضَاءَ عَلَى مَنْ أَكَلَ وَجَامَعَ نَاسِيًا ، فَلَوْ أَكَلَ نَاسِيًا فَظَنَّ أَنَّ صَوْمَهُ قَدْ بَطَلَ فَجَامَعَ عَامِدًا لَزِمَهُ الْقَضَاءُ ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ هَتْكَ الْحُرْمَةِ وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ عَلَى صَوْمِهِ فَجَامَعَ فَعَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ وَهَذَا خَطَأٌ ، وَدَلِيلُنَا : هُوَ أَنَّ الْمُبَاحَ وَالْمَحْظُورَ إِذَا صَادَفَا الْعِبَادَةَ لَمْ يَتَغَيَّرْ حُكْمُ أَحَدِهِمَا لِمَكَانِ الْآخَرِ ، كَالْحَجِّ إِذَا صَادَفَهُ لِبَاسٌ وَوَطْءٌ وَلِأَنَّ كُلَّ وَطْءٍ تَعَلَّقَتْ بِهِ الْكَفَّارَةُ لَوْ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ ، فَإِنَّهُ تَتَعَلَّقُ بِهِ الْكَفَّارَةُ ، وَإِنْ تَقَدَّمَهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ كَالْوَطْءِ فِي الْحَجِّ وَلِأَنَّهُ أَكْلٌ لَمْ يُفْسِدِ الصَّوْمَ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَمْنَعَ مِنْ كَفَّارَةِ الْوَطْءِ كَالْمُكْرَهِ عَلَى الْأَكْلِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَالْكَفَّارَةُ أنواعها عِتْقُ رَقَبَةٍ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ، فَإِنْ أَفْطَرَ فِيهِمَا ابْتَدَأَهُمَا فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مُدًّا لِكُلِّ مِسْكِينٍ بِمُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَخْبَرَهُ الْوَاطِئُ أَنَّهُ لَا يَجِدُ رَقَبَةً ، وَلَا يَسْتَطِيعُ صِيَامَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ، وَلَا يَجِدُ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا أَتَى بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ - ( قَالَ ) سُفْيَانُ وَالْعَرَقُ الْمِكْتَلُ - فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اذْهَبْ فَتَصَدَّقْ بِهِ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) وَالْمِكْتَلُ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا وَهُوَ سِتُونَ مُدًّا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : كَفَّارَةُ الْوَطْءِ فِي رَمَضَانَ مُرَتَّبَةٌ بِلَا تَخْيِيرٍ فَيَبْدَأُ بِالْعِتْقِ ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ لَمْ يَصُمْ ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ صَامَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ أَطْعَمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ وَقَالَ مَالِكٌ : هِيَ عَلَى التَّخْيِيرِ مِثْلُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ إِنْ شَاءَ أَعْتَقَ أَوْ صَامَ ، أَوْ أَطْعَمَ ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ رَجُلًا أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ ، أَنْ يَعْتِقَ أَوْ يَصُومَ أَوْ يُطْعِمَ ، وَهَذَا خَطَأٌ لِمَا رَوَيْنَاهُ فِي حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " اعْتِقْ رَقَبَةً " فَقَالَ : لَا أَجِدُ . فَقَالَ : صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فَقَالَ : لَا أَسْتَطِيعُ . فَقَالَ : " أَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا " فَلَمْ يَنْقِلْهُ عَنِ الْعِتْقِ إِلَى الصِّيَامِ إِلَّا بِالْعَجْزِ عَنْهُ فَدَلَّ عَلَى عَدَمِ التَّخْيِيرِ ، وَوُجُوبِ التَّرْتِيبِ وَلِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ الَّذِي أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ بِكَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى تَرْتِيبِهَا ، وَلِأَنَّهُ نَوْعُ تَكْفِيرٍ يَجِبُ بِضَرْبٍ مِنَ الْمَأْثَمِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ شَرْطِ التَّرْتِيبِ ، أَصْلُهُ كَفَّارَةُ الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ ، وَلِأَنَّ الْكَفَّارَاتِ فِي الشَّرْعِ ضَرْبَانِ : ضَرْبٌ بُدِئَ فِيهَا بِالْأَغْلَظِ فَكَانَ التَّرْتِيبُ فِيهَا وَاجِبًا ، مِثْلُ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ بُدِئَ فِيهَا بِالْعِتْقِ ، وَضَرْبٌ بُدِئَ فِيهَا بِالْأَخَفِّ فَكَانَ التَّخْيِيرُ فِيهَا مُسْتَحَقًّا ، مِثْلُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ

بُدِئَ فِيهَا بِالْإِطْعَامِ ثُمَّ وَجَدْنَا كَفَّارَةَ الْجِمَاعِ بُدِئَ فِيهَا بِالْأَغْلَظِ ، وَهُوَ الْعِتْقُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ التَّرْتِيبُ فِيهَا مُسْتَحَقًّا ، فَأَمَّا مَا رَوَاهُ مَالِكٌ فَقَدْ رَوَيْنَاهُ عَلَى التَّرْتِيبِ ، وَالْقِصَّةُ وَاحِدَةٌ وَرِوَايَتُنَا أَوْلَى لِكَثْرَةِ الرُّوَاةِ ، وَنَقْلِ لَفْظِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَتَفْسِيرِ أَلْفَاظِهِ الَّتِي لَا يَدْخُلُهَا احْتِمَالٌ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهَا عَلَى التَّرْتِيبِ ، فَيُبْدَأُ أَوَّلًا بِعِتْقِ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ سَلِيمَةٍ مِنَ الْعُيُوبِ الْمُضِرَّةِ بِالْعَمَلِ إِضْرَارًا بَيِّنًا ، وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ عِتْقَ رَقَبَةٍ كَافِرَةٍ ، وَالْكَلَامُ يَأْتِي مَعَهُ فِي كِتَابِ الظِّهَارِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، فَإِنْ عَدِمَ الرَّقَبَةَ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا ، صَامَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ سِوَى يَوْمِ الْقَضَاءِ ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : إِنْ كَفَّرَ بِالصِّيَامِ سَقَطَ عَنْهُ الْقَضَاءُ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ رِوَايَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ : " صُمْ يَوْمًا مَكَانَ مَا أَصَبْتَ وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ " وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى : إِنْ صَامَهُ مُنْفَرِدًا أَجْزَأَهُ وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ سِوَى يَوْمِ الْقَضَاءِ فَإِذَا أَفْطَرَ فِيهَا يَوْمًا لَزِمَهُ الِاسْتِئْنَافُ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الصِّيَامِ ، أَطْعَمُ سِتِّينَ مِسْكِينًا لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدًّا بِمُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهُوَ رَطْلٌ وَثُلُثٌ مِنَ الْأَقْوَاتِ الْمُزَكَّاةِ ، عَلَى مَا مَضَى فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ " . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ أَخْرَجَ شَعِيرًا أَوْ تَمْرًا فَعَلَيْهِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ صَاعٌ ، وَإِنْ أَخْرَجَ بُرًّا فَنِصْفُ صَاعٍ وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا " فَقَالَ : لَا أَجِدُ . فَدَعَا بِفَرَقٍ فِيهِ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا تَمْرًا وَقَالَ : " أَطْعِمْهُ سِتِّينَ مِسْكِينًا " وَالصَّاعُ أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌّ ، فَإِنْ عَدِمَ الْإِطْعَامَ وَلَمْ يَجِدْ إِلَى التَّكْفِيرِ سَبِيلًا فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : قَدْ سَقَطَتْ عَنْهُ الْكَفَّارَةُ ، وَبَرِئَتْ ذِمَّتُهُ مِنْهَا فَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهَا فِيمَا بَعْدُ يَلْزَمُهُ إِخْرَاجُهَا ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ لِلْأَعْرَابِيِّ فِي أَكْلِ التَّمْرِ حِينَ أَخْبَرَهُ بِحَاجَتِهِ ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِإِخْرَاجِهَا إِذَا قَدَرَ عَلَيْهَا مَعَ جَهْلِهِ بِالْحُكْمِ فِيهَا ، وَقِيَاسًا عَلَى زَكَاةِ الْفِطْرِ إِذَا عَدِمَهَا وَقْتَ الْوُجُوبِ ، ثُمَّ وَجَدَهَا فِيمَا بَعْدُ لِتَعَلُّقِهَا بِطُهْرَةِ الصَّوْمِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ الْكَفَّارَةَ لَازِمَةٌ لَهُ ، وَإِخْرَاجَهَا وَاجِبٌ عَلَيْهِ ، إِذَا أَمْكَنَهُ ؛ لِأَنَّ الْأَعْرَابِيَّ لَمَّا أَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَجْزِهِ عَنْ أَجْنَاسِ الْكَفَّارَةِ ، لَمْ يُبَيِّنْ لَهُ سُقُوطَهَا عَنْهُ بَلْ أَمَرَ لَهُ بِمَا يُكَفِّرُ بِهِ مِنَ التَّمْرِ ، فَدَلَّ عَلَى ثُبُوتِهَا فِي ذِمَّتِهِ ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا ، وَقِيَاسًا عَلَى جَزَاءِ الصَّيْدِ يَلْزَمُهُ وَإِنْ أَعْسَرَ بِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ دَخَلَ فِي الصَّوْمِ ثُمَّ وَجَدَ رَقَبَةً فَلَهُ أَنْ يُتْمَّ صَوْمَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا إِنْ وَجَدَ الرَّقَبَةَ بَعْدَ كَمَالِ الصَّوْمِ ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ عِتْقُهَا وَالصَّوْمُ يُجْزِيهِ

وَلَكِنْ لَوْ وَجَدَهَا قَبْلَ دُخُولِهِ فِي الصَّوْمِ فَإِنْ كَفَّرَ بِهَا ، فَقَدْ أَحْسَنَ وَأَجْزَأَهُ . وَإِنْ عَدَلَ عَنْهَا إِلَى الصَّوْمِ مَعَ الْيَسَارِ الطَّارِئِ ، فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يُجْزِيهِ اعْتِبَارٌ بِحَالِ الْوُجُوبِ قِيَاسًا عَلَى الْحُدُودِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : فِي الْجَدِيدِ لَا يُجْزِيهِ اعْتِبَارًا بِحَالِ الْأَدَاءِ قِيَاسًا عَلَى الصَّلَوَاتِ ، فَأَمَّا إِنْ دَخَلَ فِي الصَّوْمِ ثُمَّ وَجَدَ الرَّقَبَةَ قَبْلَ كَمَالِهِ ، فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ تَمَّمَ صَوْمَهُ وَأَجْزَأَهُ ، وَإِنْ شَاءَ خَرَجَ مِنْ صَوْمِهِ وَأَعْتَقَ عَنْ كَفَّارَتِهِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : وَالْمُزَنِيُّ عَلَيْهِ عِتْقُ الرَّقَبَةِ ، وَلَا يُجْزِئُهُ الصَّوْمُ بِنَاءً عَلَى الْمُتَيَمِّمِ إِذَا رَأَى الْمَاءَ فِي أَثْنَاءِ صَلَاتِهِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُمْ فِيهِ ، ثُمَّ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ يُجْزِئُهُ هُوَ أَنَّ الْعِتْقَ مَعْنَى وُجُودِهِ يَمْنَعُ الدُّخُولَ فِي الصَّوْمِ ، فَوَجَبَ إِذَا وُجِدَ بَعْدَ الدُّخُولِ فِي الصَّوْمِ أَنْ لَا يَلْزَمُهُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ ، أَصْلُهُ الْمُتَمَتِّعُ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْهَدْيَ فَصَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، وَدَخَلَ فِي السَّبْعَةِ ثُمَّ وَجَدَ الْهَدْيَ قَبْلَ كَمَالِهَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ أَكَلَ عَامِدًا فِي صَوْمِ رَمَضَانَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْعُقُوبَةُ ، وَلَا كَفَّارَةَ إِلَّا بِالْجِمَاعِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : لَا كَفَّارَةَ عَلَى الْأَكْلِ عَامِدًا فِي رَمَضَانَ ، وَقَالَ مَالِكٌ : عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ بِكُلِّ حَالٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ أَفْطَرَ بِجِنْسِ مَا يَقَعُ بِهِ الِاغْتِذَاءُ غَالِبًا لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ ، وَإِنْ أَفْطَرَ بِمَا لَا يَقَعُ بِهِ الِاغْتِذَاءُ كَجَوْزَةٍ أَوْ حَصَاةٍ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ ، وَاسْتَدَلَّا بِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّ رَجُلًا أَفْطَرَ فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْكَفَّارَةِ وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ فِطْرٍ ، وَبِرِوَايَةِ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ فَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُظَاهِرِ " وَاسْتَدَلَّ مَالِكٌ مُنْفَرِدًا بِهِ بِأَنْ قَالَ : لِأَنَّهُ إِفْطَارٌ بِمَعْصِيَةٍ فَوَجَبَ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِهِ الْكَفَّارَةُ . أَصْلُهُ : الْجِمَاعُ . وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ مُنْفَرِدًا بِأَنْ قَالَ : لِأَنَّهُ إِفْطَارٌ بِأَعْلَى مَا يَقَعُ بِهِ هَتْكُ حُرْمَةِ الصَّوْمِ مِنْ جِنْسِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِهِ الْكَفَّارَةُ كَالْجِمَاعِ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا فِي سُقُوطِ الْكَفَّارَةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَنِ اسْتَقَاءَ عَامِدًا أَفْطَرَ " وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْكَفَّارَةِ وَالْمُسْتَقِيءُ عَامِدًا كَالْآكِلِ عَامِدًا ، وَلِأَنَّهُ أَفْطَرَ بِمَا لَا يَجِبُ الْحَدُّ بِشَيْءٍ مِنْ جِنْسِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَلْزَمَهُ الْكَفَّارَةُ كَالْمُسْتَقِيءِ عَامِدًا ، وَلِأَنَّهُ أَفْطَرَ بِغَيْرِ جِمَاعٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَلْزَمَهُ الْكَفَّارَةُ الْعُظْمَى . أَصْلُهُ : إِذَا ابْتَلَعَ حَصَاةً وَهَذِهِ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ ، وَلِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ مَنَعَتْ مِنَ الْوَطْءِ وَغَيْرِهِ فَحُكْمُ الْوَطْءِ فِيهَا أَعْلَى ، كَالْحَجِّ لَمَّا اسْتَوَى حَكَمُ الْوَطْءِ ، وَغَيْرُهُ فِي إِيجَابِ الْكَفَّارَةِ اخْتَصَّ

الْوَطْءُ أَغْلَظَ الْأَحْكَامِ تَغْلِيظًا بِإِفْسَادِ الْحَجِّ فَكَذَلِكَ فِي الصَّوْمِ ، لَمَّا سَاوَى الْوَطْءُ الْأَكْلَ فِي إِفْسَادِ الصَّوْمِ اقْتَضَى أَنْ يَخْتَصَّ الْوَطْءُ بِالْكَفَّارَةِ تَغْلِيظًا دُونَ الْأَكْلِ ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يَتَعَلَّقُ بِالْوَطْءِ فِيهَا كَفَّارَةٌ ، فَلَمْ يُسْتَحَقَّ تِلْكَ الْكَفَّارَةَ بِمَحْظُورٍ غَيْرِ الْوَطْءِ كَالْحَجِّ ، فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ الْمُفْطِرَ بِالْكَفَّارَةِ ، وَهَذَا مُجْمَلُ رَاوِيَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَقَدْ فَسَّرَهُ فِيمَا رَوَيْنَاهُ مِنْ قِصَّةِ الْأَعْرَابِيِّ ، وَأَنَّهَا وَارِدَةٌ فِي الْجِمَاعِ ، وَتَفْسِيرُ الرَّاوِي أَوْلَى مِنْ إِجْمَالِهِ ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِقَوْلِهِ : " مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ فَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُظَاهِرِ " فَلَا دَلِيلَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ عَلَى الْمُظَاهِرِ الِاسْتِغْفَارُ وَإِنَّمَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ بِالْعَوْدِ ، لَا بِالظِّهَارِ ، فَكَانَ دَلِيلُ هَذَا الْخَبَرِ يُوجِبُ عَلَى الْأَكْلِ الِاسْتِغْفَارَ ، وَسُقُوطَ الْكَفَّارَةِ ، وَأَمَّا قِيَاسُ مَالِكٍ فَفَاسِدٌ بِمَنِ اسْتَقَاءَ عَامِدًا . وَأَمَّا قِيَاسُ أَبِي حَنِيفَةَ فَفَاسِدٌ بِالْقَيْءِ أَيْضًا إِذَا مَلَأَ الْفَمَ ؛ لِأَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ ، عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ : " عَلَى مَا يَقَعُ بِهِ هَتْكُ الْحُرْمَةِ " ، لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْفِطْرِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَفْطَرَ بِالسَّهْوِ مَا لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَعْلَى الْمَأْكُولِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ سُقُوطُ الْكَفَّارَةِ عَنِ الْأَكْلِ عَامِدًا ، فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْعُقُوبَةُ فَيُعَزَّرُ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ ، وَلَا تَبْلُغُ بِهِ أَدْنَى الْحُدُودِ . وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُطْعِمَ فَوْقَ كَفَّارَةِ الْحَامِلِ ، وَدُونَ كَفَّارَةِ الْوَاطِئِ وَهَذَا مَذْهَبٌ لَا يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى خَبَرٍ وَلَا أَثَرٍ ، وَلَا قِيَاسٍ . وَحُكِيَ عَنْ رَبِيعَةَ أَنَّ عَلَيْهِ قَضَاءُ اثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا مَكَانَ يَوْمٍ ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ : أَنَّ عَلَيْهِ قَضَاءَ شَهْرٍ مَكَانَ يَوْمٍ ، وَعَنِ النَّخَعِيِّ : أَنَّ عَلَيْهِ قَضَاءَ ثَلَاثَةِ آلَافِ يَوْمٍ مَكَانَ يَوْمٍ ، وَعَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ لَا يَقْضِيهِ بِصِيَامِ الدَّهْرِ وَالَّذِي عَلَيْهِ عِنْدَنَا أَنْ يَقْضِيَ يَوْمًا مَكَانَ يَوْمٍ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " وَصُمْ يَوْمًا مَكَانَهُ " .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ تَلَذَّذَ بِامْرَأَتِهِ حَتَّى يُنْزِلَ فَقَدْ أَفْطَرَ وَلَا كَفَّارَةَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا إِنْ وَطِئَ دُونَ الْفَرْجِ أَوْ قَبَّلَ أَوْ بَاشَرَ فَلَمْ يُنْزِلْ فَهُوَ عَلَى صَوْمِهِ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ ، وَلَا كَفَّارَةَ وَإِنْ أَنْزَلَ فَقَدْ أَفْطَرَ ، وَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ إِجْمَاعًا ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ . وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو ثَوْرٍ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ ؛ لِأَنَّهُ إِنْزَالٌ عَنْ مُبَاشَرَةٍ ، فَوَجَبَ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِهِ الْكَفَّارَةُ كَالْوَطْءِ فِي الْفَرْجِ . وَدَلِيلُنَا أَنَّهُ إِفْطَارٌ بِغَيْرِ جِمَاعٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَلْزَمَهُ الْكَفَّارَةُ ، أَصْلُهُ إِذَا تَقَيَّأَ عَامِدًا وَالْمَعْنَى فِي الْجِمَاعِ فِي الْفَرْجِ الْإِيلَاجُ لَا الْإِنْزَالُ ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَلْزَمُهُ بِالْإِيلَاجِ أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ .



مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ أَدْخَلَ فِي دُبُرِهَا حَتَى يُغَيِّبَهُ ، أَوْ فِي بَهِيمَةٍ ، أَوْ تَلَوَّطَ ذَاكِرًا لِلصَّوْمِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَارَةُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا أَوْلَجَ ذَكَرَهُ فِي فَرْجٍ مِنْ قُبُلٍ أَوْ دُبُرٍ ، أَوْ أَتَى بَهِيمَةً فِي أَحَدِ فَرْجَيْهَا ، أَوْ تَلَوَّطَ عَامِدًا ، فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ ، مَعَ مَا ارْتَكَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالْمَعْصِيَةِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَقَعُ بِهِ التَّحْصِينُ كَالْوَطْءِ دُونَ الْفَرْجِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ : هُوَ أَنَّهُ عَمَدَ هَتْكَ حُرْمَةِ الصَّوْمِ بِوَطْءٍ فِي الْفَرْجِ ، فَوَجَبَ أَنْ تَلْزَمَهُ الْكَفَّارَةُ كَالْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ ، وَلِأَنَّهُ إِيلَاجٌ يَجِبُ بِهِ الْغَسْلُ فَجَازَ أَنْ تَجِبَ فِيهِ الْكَفَّارَةُ . أَصْلُهُ : قُبُلُ الْمَرْأَةِ ، وَأَمَّا مَا اعْتَبَرَهُ بِالتَّحْصِينِ فَيَفْسُدُ بِالزِّنَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ ، وَلَا يَقَعُ بِهِ التَّحْصِينُ ، وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَقُولُ : إِنَّ إِتْيَانَ الْبَهَائِمِ إِذَا قِيلَ : لَا حَدَّ فِيهِ فَفِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ وَجْهَانِ ، وَهَذَا غَلَطٌ ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ بِالْحَدِّ ؛ لِأَنَّ وَطْءَ الزَّوْجَةِ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ وَلَا يُوجِبُ الْحَدَّ ، فَأَمَّا مَنِ اسْتَمْنَى فِي كَفِّهِ عَامِدًا ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ ، فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ ، وَلَوْحَكَّ ذَكَرَهُ لِعَارِضٍ فَأَنْزَلَ ، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ، وَهَلْ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَالْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ إِذَا خَافَتَا عَلَى وَلَدِهِمَا أَفْطَرَتَا وَعَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ وَتَصَدَّقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَنْ كُلِّ يَوْمٍ عَلَى مِسْكِينٍ بِمُدٍّ مِنْ حِنْطَةٍ ، ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) كَيْفَ يُكَفِّرُ مَنْ أُبِيحَ لَهُ الْأَكْلُ وَالْأَفْطَارُ وَلَا يُكَفِّرُ مَنْ لَمْ يُبَحْ لَهُ الْأَكْلُ فَأَكَلَ وَأَفْطَرَ ؟ وَفِي الْقِيَاسِ أَنَّ الْحَامِلَ كَالْمَرِيضِ وَكَالْمُسَافِرِ ، وَكُلٌّ يُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ فَهُوَ فِي الْقِيَاسِ سَوَاءٌ ، وَاحْتَجَّ بِالْخَبَرِ " مَنِ اسْتَقَاءَ عَامِدًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ " ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) وَلَمْ يَجْعَلْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلِمْتُهُ فِيهِ كَفَّارَةً وَقَدْ أَفْطَرَ عَامِدًا وَكَذَا قَالُوا فِي الْحَصَاةِ يَبْتَلِعُهَا الصَّائِمُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : لَا يَخْلُو حَالُ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ فِي إِفْطَارِهِمَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يُفْطِرَا لِخَوْفٍ وَحَاجَةٍ أَمْ لَا ؟ فَإِنْ أَفْطَرَتَا بِغَيْرِ خَوْفٍ عَلَيْهِمَا وَلَا عَلَى وَلَدِهِمَا وَلَا حَاجَةٍ دَعَتْهُمَا إِلَى الْإِفْطَارِ مَاسَّةٍ فَحُكْمُهُمَا حُكْمُ الْمُفْطِرِ عَامِدًا فِي الْإِثْمِ وَالْمَعْصِيَةِ ، وَوُجُوبِ الْقَضَاءِ فَأَمَّا الْكَفَّارَةُ فَعَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِيهَا ، وَإِنْ أَفْطَرَتَا لِخَوْفٍ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْخَوْفُ عَلَيْهِمَا فِي أَنْفُسِهِمَا وَأَبْدَانِهِمَا ، فَلَا شُبْهَةَ فِي جَوَازِ فِطْرِهِمَا وَوُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِمَا ، وَلَا كَفَّارَةَ كَالْمَرِيضِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْخَوْفُ عَلَى الْوَلَدِ وَالْحَمْلِ دُونَ أَنْفُسِهِمَا فَلَا خِلَافَ أَنَّ الْفِطْرَ مُبَاحٌ لَهُمَا ، فَإِذَا أَفْطَرَتَا فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ ، وَمَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ وَالرَّبِيعُ

أَنَّ عَلَيْهِمَا الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مُدٌّ مِنْ حِنْطَةٍ ، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَأَحْمَدُ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : فِي كِتَابِ " الْبُوَيْطِيِّ " تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْمُرْضِعِ دُونَ الْحَامِلِ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو عَبِيدٍ وَأَبُو ثَوْرٍ وَالْمُزَنِيُّ : لَا كَفَّارَةَ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ، وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ لَهُمَا ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ خَرَّجَهُ قَوْلًا ثَالِثًا لِلشَّافِعِيِّ ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَهُ ، وَحُكِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا أَوْجَبَا الْكَفَّارَةَ وَأَسْقَطَا الْقَضَاءَ ، وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ تَابَعَهُ بِرِوَايَةِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنِ الْمُسَافِرِ شَطْرَ الصَّلَاةِ ، وَوَضَعَ الصَّوْمَ عَنِ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ وَالْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ " . فَاقْتَضَى ظَاهِرُ هَذَا الْخَبَرِ ، أَنَّ أَحْكَامَ الصَّوْمِ مَوْضُوعَةٌ مِنْ كَفَّارَةٍ وَقَضَاءٍ إِلَّا مَا قَامَ دَلِيلُهُ مِنْ وُجُوبِ الْقَضَاءِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّهُ إِفْطَارٌ بِعُذْرٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَلْزَمَ بِهِ الْكَفَّارَةُ كَالْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّ الْأَعْذَارَ فِي الْفِطْرِ ضَرْبَانِ : ضَرْبٌ يُوجِبُ الْقَضَاءَ ، وَيُسْقِطُ الْكَفَّارَةَ كَالسَّفَرِ وَالْمَرَضِ . وَضَرْبٌ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ وَيُسْقِطُ الْقَضَاءَ كَالشَّيْخِ الْهَرِمِ ، فَأَمَّا اجْتِمَاعُهُمَا بِعُذْرٍ فَخِلَافُ الْأُصُولِ ، وَمِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الْمُزَنِيُّ أَنَّهُ قَالَ : إِذَا كَانَ الْأَكْلُ عَامِدًا لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ مَعَ كَوْنِهِ آثِمًا عَاصِيًا ، فَالْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ اللَّذَانِ لَمْ يَعْصِيَا بِالْفِطْرِ ، وَلَمْ يَأْثَمَا بِهِ أَوْلَى أَنْ لَا تَجِبَ عَلَيْهِمَا الْكَفَّارَةُ ، وَهَذَا خَطَأٌ وَالدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [ الْبَقَرَةِ : ] وَالْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ مِمَّنْ يُطِيقُ الصِّيَامَ فَوَجَبَ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ تَلْزَمَهُمَا الْفِدْيَةُ ، فَإِنْ قِيلَ : فَهَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [ الْبَقَرَةِ : ] فَحَتَّمَ الصَّوْمَ عَلَى الْمُطِيقِينَ ، وَأَسْقَطَ عَنْهُمُ الْفِدْيَةَ قِيلَ : إِنَّمَا نُسِخُ مِنْهَا التَّخْيِيرُ ، فِيمَا عَدَا الْحَامِلَ وَالْمُرْضِعَ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى جَوَازِ الْفِطْرِ لَهُمَا مَعَ الطَّاقَةِ وَالْقُدْرَةِ ، فَبَقِيَتِ الْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ ، وَلِأَنَّهَا مُقِيمَةٌ صَحِيحَةٌ بَاشَرَتِ الْفِطْرَ بِعُذْرٍ مُعْتَادٍ فَوَجَبَ أَنْ تَلْزَمَهَا الْكَفَّارَةُ كَالشَّيْخِ الْهَرِمِ ، وَلِأَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ يَجْتَمِعُ فِيهَا الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ الْعُظْمَى فَجَازَ أَنْ يَجْتَمِعَ فِيهَا الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ الصُّغْرَى كَالْحَجِّ ، وَلِأَنَّ الْفِطْرَ فِطْرَانِ : فِطْرٌ بِعُذْرٍ وَفِطْرٌ بِغَيْرِ عُذْرٍ ، ثُمَّ كَانَ الْفِطْرُ بِغَيْرِ عُذْرٍ يَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ ، نَوْعٌ يَثْبُتُ بِهِ الْقَضَاءُ حَسْبُ وَهُوَ الْأَكْلُ ، وَنَوْعٌ يَثْبُتُ بِهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ وَهُوَ الْجِمَاعُ فَكَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَتَنَوَّعَ الْفِطْرُ بِعُذْرٍ نَوْعَيْنِ ، نَوْعٌ يَجِبُ بِهِ الْقَضَاءُ حَسْبُ ، وَنَوْعٌ يَجِبُ بِهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ ، وَإِنْ شِئْتَ حَرَّرْتَ هَذَا فَقُلْتَ : لِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيِ الْفِطْرِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ مَا يَجِبُ بِهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ كَالْإِفْطَارِ بِغَيْرِ عُذْرٍ ، فَأَمَّا الْخَبَرُ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ انْحِتَامِ الصَّوْمِ ، لَا يُؤْذِنُ بِسُقُوطِ الْكَفَّارَةِ ، أَلَا تَرَى الشَّيْخَ الْهَرِمَ قَدْ سَقَطَ عَنْهُ انْحِتَامُ الصَّوْمِ ، وَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ وَقِيَاسُهُمْ عَلَى

الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ ، فَالْمَعْنَى فِيهِ : أَنَّهُ فِطْرٌ يَخْتَصُّ بِنَفْسِهِ ارْتَفَقَ بِهِ شَخْصٌ وَاحِدٌ ، وَهَذَا فِطْرٌ ارْتَفَقَ بِهِ شَخْصَانِ فَشَابَهَ الْجِمَاعَ ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إِنَّ فِي اجْتِمَاعِهِمَا مُخَالَفَةً لِلْأُصُولِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ مُخَالِفًا لِلْأُصُولِ إِذَا وَافَقَ مَعْنَى الْأُصُولِ وَخَالَفَهَا فِي الْحُكْمِ ، فَأَمَّا إِذَا خَالَفَهَا فِي الْمَعْنَى فَيَجِبُ أَنْ يُخَالِفَهَا فِي الْحُكْمِ ، كَمَا أَنَّ الْمَعْنَى فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ لَمَّا كَانَ مُخَالِفًا لِمَعْنَى الْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ وَالْقُفَّازَيْنِ أَوْجَبَ اخْتِلَافَ الْحُكْمِ فِيهِمَا ، وَالْمَعْنَى فِي الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ أَنَّهُ فِطْرٌ ارْتَفَقَ بِهِ شَخْصَانِ فَشَابَهَ الْجِمَاعَ ، وَخَالَفَ الْمُسَافِرَ وَالْمَرِيضَ ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ ، فَيُقَالُ لَهُ : لَيْسَتِ الْكَفَّارَاتُ مُعْتَبَرَةً بِكَثْرَةِ الْآثَامِ وَالْمَعْصِيَةِ ، وَإِنَّمَا هِيَ حِكْمَةٌ اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِهَا أَلَا تَرَى أَنَّ الرِّدَّةَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ أَعْظَمُ مِنَ الْوَطْءِ ، ثُمَّ لَا كَفَّارَةَ فِيهَا عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُمَا يَتَفَرَّقُ بِمَا ذَكَرْنَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَمَنْ حَرَّكَتِ الْقُبُلَةُ شَهْوَتَهُ كَرِهْتُهَا لَهُ ، وَإِنْ فَعَلَ لَمْ يَنْتَقِضْ صَوْمُهُ ، وَتَرْكُهُ أَفْضَلُ ، ( قَالَ إِبْرَاهِيمُ ) سَمِعْتُ الرَبِيعَ يَقُولُ : فِيهِ قَوْلٌ آخَرُ أَنَّهُ يُفْطِرُ إِلَّا أَنْ يَغْلِبَهُ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى الْمُكْرَهِ يَبْقَى مَا بَيْنَ أَسْنَانِهِ وَفِي فِيهِ مِنَ الطَّعَامِ فَيَجْرِي بِهِ الرِّيقُ وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ قَالَتْ عَائِشَةُ وَكَانَ أَمْلَكَكُمْ لِإِرْبِهِ بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي ( قَالَ ) وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا كَانَا يَكْرَهَانِهَا لِلشَّبَابِ وَلَا يَكْرَهَانِهَا لِلشَّيْخِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . وَحُكِيَ عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ وَابْنِ شُبْرُمَةَ : أَنَّ الْقُبْلَةَ تُفْطِرُ الصَّائِمَ تَعَلُّقًا بِرِوَايَةِ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِذَا قَبَّلَ الصَّائِمُ الصَّائِمَةَ فَقَدْ أَفْطَرَ " . وَذَهَبَ سَائِرُ الْفُقَهَاءِ : إِلَى أَنَّ الْقُبْلَةَ لَا تُفْطِرُ الصَّائِمَ إِلَّا أَنْ يُنْزِلَ مَعَهَا ، فَإِنْ أَنْزَلَ أَفْطَرَ ، وَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ ، وَإِنَّمَا لَمْ يُفْطِرْ بِالْقُبْلَةِ إِذَا لَمْ يُنْزِلْ ؛ لِمَا رَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُقَبِّلُ بَعْضَ أَزْوَاجِهِ وَهُوَ صَائِمٌ ، فَقَالَ أَرَاكِ هِيَ فَضَحِكَتْ .

وَرَوَى الْأَسْوَدُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ وَيُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ ، وَكَانَ أَمْلَكَكُمُ لِإِرْبِهِ بِتَسْكِينِ الرَّاءِ ، وَرُوِيَ لِإِرَبِهِ بِفَتْحِهَا وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَرَادَتِ الْعُضْوَ نَفْسَهُ . وَالثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ إِنَّهَا أَرَادَتْ شَهْوَتَهُ ، وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ زَوْجَتَهُ أَنْ تَسْأَلَ أُمَّ سَلَمَةَ عَنِ الصَّائِمِ ، يُقَبِّلُ زَوْجَتَهُ فَسَأَلَتْهَا ، فَقَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ . فَرْجَعَتِ الْمَرْأَةُ وَأَخْبَرَتْ زَوْجَهَا فَغَضِبَ وَقَالَ : لَسْنَا كَرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهُ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ ، ارْجِعِي فَسْأَلِيهَا عَنْ حَالِنَا فَرْجَعَتْ إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ وَأَخْبَرَتْهَا فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ : لَا عِلْمَ لِي حَتَّى أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَتْهُ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَلَا أَخْبَرْتِيهَا بِذَلِكَ ؟ " فَقَالَتْ قَدْ أَخْبَرْتُهَا فَقَالَتْ كَيْتَ وَكَيْتَ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : " إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَقْوَمَكُمْ عَلَى دِينِهِ " . وَرَوَى جَابِرٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ : هَشَشْتُ فَقَبَّلْتُ وَأَنَا صَائِمٌ فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ صَنَعْتُ أَمْرًا عَظِيمًا أَفَتَجِدُ لِي مِنْ رَجْعَةٍ ؟ فَقَالَ وَمَا ذَلِكَ ؟ فَقُلْتُ : قَبَّلْتُ وَأَنَا صَائِمٌ فَقَالَ : " يَا عُمَرُ أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ بِالْمَاء ؟ " قُلْتُ لَا بَأْسَ بِهِ ، قَالَ : " فَفِيمَ ؟ " يَعْنِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ الْقُبْلَةَ بِلَا إِنْزَالٍ كَالْمَضْمَضَةِ بِلَا ازْدِرَادٍ . فَأَمَّا خَبَرُ مَيْمُونَةَ فَإِنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ عَلَى أَنَّهُ وَإِنْ صَحَّ فَمَعْنَاهُ إِذَا أَنْزَلَ ، أَوْ يَكُونُ عَلَى طَرِيقِ التَّغْلِيظِ وَالزَّجْرِ ، كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ " أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ " .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقُبْلَةَ بِلَا إِنْزَالٍ لَا تُفْطِرُ الصَّائِمَ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى الْكَرَاهَةِ ، فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُنْظَرُ فِي حَالِهِ ، فَإِنْ كَانَتِ الْقُبْلَةُ تُحَرِّكُ شَهْوَتَهُ فَهِيَ مَكْرُوهَةٌ ، وَلَا تُبْطِلُ صَوْمَهُ إِلَّا أَنْ يُنْزِلَ فَإِنْ لَمْ تُحَرِّكْ شَهْوَتَهُ ، فَهِيَ غَيْرُ مَكْرُوهَةٍ ، وَتَرْكُهَا أَفْضَلُ ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ

عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهَا غَيْرُ مَكْرُوهَةٍ فِي الْحَالَيْنِ ، وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَرِهَهَا فِي الْحَالَيْنِ وَبِهِ قَالَ عُمَرُ ؛ تَعَلُّقًا بِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ فَأَعْرَضَ عَنِّي ، فَقُلْتُ : مَا لِي فَقَالَ : " إِنَّكَ تُقَبِّلُ وَأَنْتَ صَائِمٌ " قَالَ ، وَلِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مَنَعَ مِنَ الْجِمَاعِ مَنَعَ مِنْ دَوَاعِيهِ كَالْحَجِّ وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَاهُ مَعَ مَا رَوَيْنَاهُ مِنَ الْأَخْبَارِ الْمُتَقَدِّمَةِ مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَنِ الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ فَرَخَّصَ لَهُ فِيهَا ، ثُمَّ سَأَلَهُ رَجُلٌ آخَرُ فَنَهَاهُ عَنْهَا ، فَإِذَا الَّذِي رَخَّصَ لَهُ فِيهَا شَيْخٌ وَالَّذِي نَهَاهُ عَنْهَا شَابٌ وَلِأَنَّ الْقُبْلَةَ إِنَّمَا تُكْرَهُ خَوْفَ الْإِنْزَالِ ، فَإِذَا لَمْ تَتَحَرَّكْ عَلَيْهِ الشَّهْوَةُ وَأَمِنَ الْإِنْزَالَ فَلَمْ تُكْرَهْ لَهُ ، وَإِذَا تَحَرَّكَتْ عَلَيْهِ الشَّهْوَةُ ، خَافَ الْإِنْزَالَ فَكُرِهَتْ لَهُ فَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّا قَدْ رُوِّينَا عَنْهُ لَفْظًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَاحَ قُبْلَةَ الصَّائِمِ ، وَلَا يَجُوزُ تَرْكُ مَا نَقَلَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَفْظًا فِي الْيَقَظَةِ ، بِمَا رَوَاهُ فِي الْمَنَامِ . وَالثَّانِي : أَنَّ فِي اسْتِعْمَالِهِ نَسْخًا لِلْخَبَرِ الْآخَرِ وَالنَّسْخُ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَقَعُ وَاعْتِبَارُهُمْ بِالْحَجِّ فَلَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ أَدْخَلَ فِي الْمَنْعِ مِنْ دَوَاعِي الْجِمَاعِ مِنَ الصَّوْمِ ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنَ الْعَقْدِ وَالطِّيبِ فَجَازَ أَنْ يَمْنَعَ مِنَ الْقُبْلَةِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الصَّوْمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ وَطِئَ دُونَ الْفَرْجِ فَأَنْزَلَ أَفْطَرَ وَلَمْ يُكَفِّرْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ وَقَدْ ذَكَرْنَا إِنْ أَنْزَلَ أَحَدٌ عَنْ مُبَاشَرَةٍ بِلَا إِيلَاجٍ فَفِيهِ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ ، مِثْلُ أَنْ يَمَسَّ ، أَوْ يَلْمَسَ أَوْ يُقَبِّلَ أَوْ يُضَاجِعَ أَوْ يَطَأَ دُونَ الْفَرْجِ ، وَقَالَ مَالِكٌ : عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ وَقَدْ دَلَّلْنَا لَهُ وَعَلَيْهِ ، فَأَغْنَى عَنِ الْإِعَادَةِ ثُمَّ يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّا وَجَدْنَا كُلَّ عِبَادَةٍ حُرِّمَ فِيهَا الْوَطْءُ أَوْ غَيْرُهُ فَلِلْوَطْءِ فِيهِ مَزِيَّةٌ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ كَالْحَجِّ فَكَذَلِكَ الصَّوْمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ تَلَذَّذَ بِالنَّظَرِ فَأَنْزَلَ لَمْ يُفْطِرْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا إِنْ فَكَّرَ بِقَلْبِهِ فَأَنْزَلَ ، فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَةَ إِجْمَاعًا ؛ لِأَنَّ الْفِكْرَ مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ ، وَرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَجَاوَزَ عَنْ أَمَّتِي الْخَطَأَ وَالنَسْيَانَ وَمَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا " فَأَمَّا إِذَا نَظَرَ فَأَنْزَلَ فَإِنْ كَانَ بِأَوَّلِ نَظْرَةٍ لَمْ يَأْثَمْ ، وَإِنْ كَرَّرَ النَّظَرَ وَتَلَذَّذَ بِهِ فَقَدْ أَثِمَ ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ فِي الْحَالَيْنِ ، وَقَالَ مَالِكٌ : إِنْ أَنْزَلَ بِأَوَّلِ نَظْرَةٍ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ دُونَ

الْكَفَّارَةِ ، وَإِنْ كَرَّرَ النَّظَرَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ ، وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ وَيُكَذِّبُهُ الْفَرْجُ " فَسَوَّى بَيْنَ النَّظَرِ وَاللَّمْسِ ، وَهَذَا خَطَأٌ ؛ لِأَنَّهُ إِنْزَالٌ عَنْ غَيْرِ مُبَاشَرَةٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُفْطِرَ كَالْفِكْرِ وَالِاحْتِلَامِ ، وَلِأَنَّ النَّظْرَةَ الْأُولَى لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهَا ، وَمَا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ لَا يَقَعُ بِهِ الْفِطْرُ كَالدُّخَانِ وَالْغُبَارِ ، فَأَمَّا الْخَبَرُ فَكَذَا نَقُولُ إِذَا صَدَّقَهُ الْفَرْجُ صَارَ زِنًا يُسْتَوْجَبُ بِهِ الْحَدُّ وَالْكَفَّارَةُ ، فَأَمَّا بِمُجَرَّدِ الرُّؤْيَةِ فَلَا حَدَّ وَلَا كَفَّارَةَ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا أُغْمِيَ عَلَى رَجُلٍ فَمَضَى لَهُ يَوْمٌ أَوْ يَوْمَانِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ ، وَلَمْ يَكُنْ أَكَلَ وَلَا شَرِبَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ ، فَإِنْ أَفَاقَ فِي بَعْضِ النَّهَارِ فَهُوَ فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ صَائِمٌ ، وَكَذَلِكَ إِنْ أَصْبَحَ رَاقِدًا ثُمَّ اسْتَيْقَظَ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) إِذَا نَوَى مِنَ اللَّيْلِ ثُمَّ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فَهُوَ عِنْدِي صَائِمٌ أَفَاقَ أَوْ لَمْ يَفِقْ وَالْيَوْمُ الثَّانِي لَيْسَ بِصَائِمٍ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِهِ فِي اللَّيْلِ وَإِذَا لَمْ يَنْوِ فِي اللَّيْلِ فَأَصْبَحَ مُفِيقًا فَلَيْسَ بِصَائِمٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا إِذَا نَوَى الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ ثُمَّ أُغْمِيَ عَلَيْهِ نَهَارَهُ أَجْمَعَ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ صَوْمَهُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِنِيَّةٍ مُجَرَّدَةٍ عَرِيَتْ عَنْ قَصْدٍ وَعَمَلٍ فَشَابَهَ الصَّلَاةَ ، وَقَالَ الْمُزَنِيُّ : صَوْمُهُ جَائِزٌ قِيَاسًا عَلَى النَّائِمِ فَأَمَّا إِذَا نَوَى الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ ، ثُمَّ نَامَ نَهَارَهُ أَجْمَعَ ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ عَلَى صَوْمِهِ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْعِبَادَاتِ جَارٍ عَلَيْهِ ، وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ : صَوْمُهُ بَاطِلٌ قِيَاسًا عَلَى الْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ النَّوْمِ وَالْإِغْمَاءِ وَاضِحٌ ، وَهُوَ أَنَّ النَّوْمَ جِبِلَّةٌ ، وَعَادَةٌ تَجْرِي مَجْرَى الصِّحَّةِ الَّتِي لَا قِوَامَ لِلْبَدَنِ إِلَّا بِهَا وَالْإِغْمَاءُ عَارِضٌ مُزِيلٌ لِحُكْمِ الْخِطَابِ فَلَمْ يَصِحَّ مَعَهُ الصِّيَامُ إِذَا اتَّصَلَ وَاسْتَدَامَ ، فَأَمَّا إِذَا أُغْمَى عَلَيْهِ فِي بَعْضِ النَّهَارِ ، وَأَفَاقَ فِي بَعْضِهِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا : " إِذَا أَفَاقَ فِي بَعْضِ نَهَارِهِ صَحَّ صَوْمُهُ " ، وَقَالَ فِي كِتَابِ الظِّهَارِ إِذَا أَفَاقَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ صَحَّ صَوْمُهُ ، وَقَالَ فِي اخْتِلَافِ الْعِرَاقِيِّينَ : " وَإِذَا حَاضَتْ ، أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهَا بَطَلَ صَوْمُهَا " ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ مَنْصُوصَةٍ : أَحَدُهَا : مَتَى أَفَاقَ فِي بَعْضِ نَهَارِهِ صَحَّ صَوْمُهُ . وَالثَّانِي : أَنَّ صَوْمَهُ لَا يَصِحُّ حَتَّى يَكُونَ مُفِيقًا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ .

وَالثَّالِثُ : أَنَّ صَوْمَهُ يَبْطُلُ بِالْإِغْمَاءِ كَالْحَيْضِ وَالْجُنُونِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَتَى أَفَاقَ فِي بَعْضِ النَّهَارِ صَحَّ صَوْمُهُ . وَالثَّانِي : لَا يَصِحُّ صَوْمُهُ حَتَّى يَكُونَ مُفِيقًا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ ، وَمَا قَالَهُ فِي اخْتِلَافِ الْعِرَاقِيِّينَ ، إِذَا حَاضَتْ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهَا بَطَلَ صَوْمُهَا فَفِيهِ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ جَوَابَهُ عَادَ إِلَى الْحَيْضِ دُونَ الْإِغْمَاءِ وَقَدْ يَجْمَعُ الشَّافِعِيُّ بَيْنَ مَسَائِلَ ، ثُمَّ يُعِيدُ الْجَوَابَ إِلَى بَعْضِهَا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَرَادَ إِغْمَاءَ الْجُنُونِ لَا إِغْمَاءَ الْمَرَضِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ ، أَنَّ صَوْمَهُ لَا يَصِحُّ حَتَّى يَكُونَ مُفِيقًا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ ، هَذَا اخْتِيَارُ أَبِي الْعَبَّاسِ ، وَحَمْلُ إِطْلَاقِ بَعْضِ النَّهَارِ عَلَى مَا قَيَّدَهُ فِي كِتَابِ " الظِّهَارِ " ، قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ فَإِذَا أَفَاقَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ فَمِنْ صِحَّةِ صَوْمِهِ أَنْ يَكُونَ مُفِيقًا فِي آخِرِهِ ، فَاعْتَبَرَ الْإِفَاقَةَ فِي الطَّرَفَيْنِ عِنْدَ الدُّخُولِ فِي الصَّوْمِ ، وَعِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْهُ فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ ، يَغْلَطُ فَيُخْرِجُ هَذَا قَوْلًا رَابِعًا لِلشَّافِعِيِّ وَلَيْسَ يُعْرَفُ لِلشَّافِعِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَهَذِهِ أَحَدُ مَسَائِلِ أَبِي إِسْحَاقَ الَّتِي غَلِطَ فِيهَا عَلَى الشَّافِعِيِّ فَهَذَا الْكَلَامُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ ، وَسَنَذْكُرُ تَوْجِيهَ كُلِّ قَوْلٍ فِي كِتَابِ " الظِّهَارِ " إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، فَأَمَّا الْيَوْمُ الثَّانِي ، وَمَا يَلِيهِ مِنْ أَيَّامِ الْإِغْمَاءِ فَصَوْمُهُ فِيهِ بَاطِلٌ لَا يُخْتَلَفُ ، وَعَلَيْهِ قَضَاءُ ذَلِكَ لِإِخْلَالِهِ بِالنِّيَّةِ ، فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا أَسْقَطْتُمْ عَنْهُ قَضَاءَ الصِّيَامِ كَمَا أَسْقَطْتُمْ عَنْهُ قَضَاءَ الصَّلَاةِ ، قِيلَ : لِأَنَّ الصَّلَاةَ يَلْزَمُ اسْتِدَامَةُ قَصْدِ الْعَمَلِ فِيهَا فَإِذَا خَرَجَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْقَصْدِ سَقَطَ عَنْهُ الْقَضَاءُ وَالصَّوْمُ لَا يَلْزَمُهُ اسْتِدَامَةُ قَصْدِ الْعَمَلِ فِيهِ ، وَيَصِحُّ مِنْهُ وَإِنْ أَخَلَّ بِالْقَصْدِ فِي بَعْضِهِ ، فَلِذَلِكَ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ ، وَلَمْ يَسْقُطْ مِنْهُ زَوَالُ الْقَصْدِ ، وَهَذَا الْفَرْقُ تَعْلِيلٌ مِنْ أَصْحَابِنَا وَالَّذِي يُوجِبُهُ الْقِيَاسُ ، أَنْ يَسْتَوِيَ الْجُنُونُ وَالْإِغْمَاءُ فِي سُقُوطِ الصَّوْمِ كَمَا اسْتَوَيَا فِي سُقُوطِ الصَّلَاةِ ، وَيَسْتَوِيَ حُكْمُ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ فِي سُقُوطِ الْقَضَاءِ ، كَمَا اسْتَوَيَا فِي الْجُنُونِ فَأَمَّا الْجُنُونُ إِذَا طَرَأَ عَلَى الصَّوْمِ ، فَقَدْ أَفْسَدَهُ سَوَاءٌ وُجِدَ فِي جَمِيعِ النَّهَارِ أَوْ فِي بَعْضِهِ ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ لِارْتِفَاعِ الْقَلَمِ عَنْهُ فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا لَزِمَ فِيهِ الْقَضَاءُ كَالْإِغْمَاءِ قِيلَ : لِأَنَّ الْإِغْمَاءَ مَرَضٌ فِي الْقَلْبِ وَعَارِضٌ لَا يَدُومُ ، وَإِنَّمَا هُوَ كَالنَّوْمِ يَجُوزُ حُدُوثُ مِثْلِهِ لِلْأَنْبِيَاءِ ، وَالْجُنُونُ يُزِيلُ الْعَقْلَ وَيُسْقِطُ حُكْمَ التَّكْلِيفِ ، وَلَا يَجُوزُ حُدُوثُ مِثْلِهِ لِلْأَنْبِيَاءِ ، فَلِهَذَا افْتَرَقَا فِي حُكْمِ الْقَضَاءِ أَوْ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا يَدْفَعُ هَذَا الْفَرْقَ الْمَدْخُولَ فِيهِ ، فَأَمَّا الرِّدَّةُ إِذَا طَرَأَتْ فِي شَيْءٍ مِنْ نَهَارِ الصَّوْمِ فَقَدْ أَبْطَلَتْهُ ؛

لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يَصِحُّ مِنْهُ أَدَاءُ عِبَادَةٍ فِي حَالِ الرِّدَّةِ لِفَسَادِ الْمُعْتَقَدِ فَإِذَا عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ كَمَا يَقْضِي مَا تَرَكَ مِنَ الصَّلَوَاتِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ فَلَا صَوْمَ عَلَيْهَا ، فَإِذَا طَهُرَتْ قَضَتِ الصَوْمَ ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا أَنْ تُعِيدَ مِنَ الصَّلَاةِ إِلَّا مَا كَانَ فِي وَقْتِهَا الَّذِي هُوَ وَقْتُ الْعُذْرِ وَالضَرُورَةِ كَمَا وَصَفْتُ فِي بَابِ الصَّلَاةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْحَائِضَ لَا صَوْمَ عَلَيْهَا فِي زَمَانِ حَيْضِهَا بَلْ لَا يَجُوزُ لَهَا ، وَمَتَى طَرَأَ الْحَيْضُ عَلَى الصَّوْمِ أَبْطَلَهُ ، إِلَّا طَائِفَةٌ مِنَ الْحَرُورِيَّةِ تَزْعُمُ أَنَّ الْفِطْرَ لَهَا رُخْصَةٌ فَإِنْ صَامَتْ أَجْزَأَهَا ، وَهَذَا مَذْهَبٌ قَدْ شَذَّ عَنِ الْكَافَّةِ وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِهِ مَعَ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى خِلَافِهِ ، وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَلَيْسَ الْمَرْأَةُ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تَصُمْ ، وَلَمْ تُصَلِّ فَذَلِكَ نُقْصَانُ دِينِهَا " وَلِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : كَانَ يَكُونُ عَلَيْنَا قَضَاءُ رَمَضَانَ فَلَا نَقْضِيهِ إِلَّا فِي شَعْبَانَ اشْتِغَالًا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْنِي قَضَاءَ رَمَضَانَ مِنْ أَجْلِ الْحَيْضِ ، فَإِنَّ أَكْثَرَ مَا فِي الْحَائِضِ أَنْ تَكُونَ مُحْدِثَةً وَالْحَدَثُ وَالْجَنَابَةُ لَا يَمْنَعَانِ الصَّوْمَ ، قِيلَ : قَدْ فَرَّقَتِ السُّنَّةُ بَيْنَهُمَا ، ثُمَّ الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ الْحَدَثَ وَالْجَنَابَةَ لَا يُسْقِطَانِ الصَّلَاةَ ، وَيُمْكِنُ دَفْعُهُمَا بِالطَّهَارَةِ ، وَالْحَيْضُ يُسْقِطُ الصَّلَاةَ وَلَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ بِالطَّهَارَةِ قَبْلَ انْقِطَاعِهِ ، فَلِذَلِكَ مَا افْتَرَقَ حُكْمُ الصَّوْمِ فِيهِمَا فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْحَائِضَ تَدَعُ الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ ، فَإِذَا طَهُرَتْ لَزِمَهَا قَضَاءُ الصِّيَامِ دُونَ الصَّلَاةِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : كُنَّا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصِّيَامِ وَلَا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمَشَقَّةَ لَاحِقَةٌ فِي إِعَادَةِ الصَّلَوَاتِ لِتَرَادُفِهَا مَعَ الْأَوْقَاتِ وَالصَّوْمِ لِقِلَّتِهِ لَا تَلْحَقُ الْمَشَقَّةُ فِي إِعَادَتِهِ ، فَلِهَذَا مَا لَزِمَهَا قَضَاءُ الصِّيَامِ دُونَ الصَّلَاةِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَأُحِبُّ تَعْجِيلَ الْفِطْرِ وَتَأْخِيرَ السُّحُورِ ، اتِّبَاعًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . تَعْجِيلُ الْفِطْرِ إِذَا تُيُقِّنَ غُرُوبُ الشَّمْسِ مَسْنُونٌ ؛ لِمَا رَوَاهُ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا يَزَالُ النَاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ وَلَمْ يُؤَخِّرُوهُ تَأْخِيرَ أَهْلِ الْمَشْرِقِ "

وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ثَلَاثٌ مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ : تَعْجِيلُ الْفِطْرِ ، وَتَأْخِيرُ السُّحُورِ ، وَوَضْعُ الْيَمِينِ عَلَى الشِّمَالِ فِي الصَّلَاةِ " فَإِذَا قِيلَ : فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا كَانَا يُؤَخِّرَانِ الْإِفْطَارَ حَتَّى يَسْوَدَّ الْأُفُقُ قِيلَ : إِنَّمَا فَعَلَا ذَلِكَ لَا رَغْبَةً عَنْ فَضْلِ التَّعْجِيلِ ، وَلَكِنْ لِيُبَيِّنَا جَوَازَ التَّأْخِيرِ ، وَأَنَّ التَّعْجِيلَ غَيْرُ وَاجِبٍ كَمَا رُوِيَ أَنَّهُمَا كَانَا لَا يُضَحِّيَانِ كَرَاهَةَ أَنْ يُرَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ وَيُسْتَحَبَّ لَهُ أَنْ يَكُونَ إِفْطَارُهُ عَلَى التَّمْرِ ، فَإِنْ تَعَذَّرَ فَالْمَاءُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُفْطِرُ عَلَى رُطَبَاتٍ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَتَمَرَاتٌ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَشَرْبَةُ مَاءٍ .

فَصْلٌ في أن السحور سنة ويستحب تأخيره

فَصْلٌ : فَأَمَّا السُّحُورُ فَسُنَّةٌ ، وَيُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهُ السحور لِرِوَايَةِ سَلَمَةَ بْنِ وَهْرَامٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : اسْتَعِينُوا بِطَعَامِ السَّحَرِ عَلَى صِيَامِ النَهَارِ " وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً " وَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : الْجَمَاعَةُ بَرَكَةٌ وَالثَّرِيدُ بَرَكَةٌ ، وَالسَّحُورُ بَرَكَةٌ تَسَحَّرُوا وَلَوْ عَلَى جَرْعَةٍ مِنْ مَاءٍ ، صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَى الْمُتَسَحِّرِينَ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " ثَلَاثٌ مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ " ذَكَرَ مِنْهَا تَأْخِيرَ السَّحُورِ وَرُوِيَ عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ أَنَّهُ قَالَ جِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَتَسَحَّرُ ، فَقَالَ لِي : " كُلْ " فَلَمْ آكُلْ ، وَوَدِدْتُ أَنْ كُنْتُ أَكَلْتُ . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لِغُلَامِهِ قَنْبَرٍ ائْتِنِي بِالْغِذَاءِ الْمُبَارَكِ فَيَتَسَحَّرُ وَيَخْرُجُ فَيُؤْذِنُ وَيُصَلِّي ، وَلِأَنَّ فِي تَعْجِيلِ الْفِطْرِ وَتَأْخِيرِ السَّحُورِ قُوَّةً لِجَسَدِهِ وَمَعُونَةً لِأَدَاءِ عِبَادَتِهِ .



مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا سَافَرَ الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ سَفَرًا يَكُونُ سِتَّةً وَأَرْبَعِينَ مِيلًا بِالْهَاشِمِيِّ ، كَانَ لَهُمَا أَنْ يُفْطِرَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَيَأْتِيَ أَهْلَهُ ، فَإِنْ صَامَا فِي سَفَرِهِمَا أَجْزَأَهُمَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، كُلُّ مَسَافَةٍ جَازَ أَنْ تُقْصَرَ فِيهَا الصَّلَاةُ جَازَ أَنْ يُفْطَرَ فِيهَا . فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ؛ لِأَنَّ الْفِطْرَ رُخْصَةٌ كَالْقَصْرِ ، وَاخْتَلَفُوا فِي قَدْرِ الْمَسَافَةِ التي يحل لها الفطر فَعِنْدَنَا أَنَّهَا مَسَافَةُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ بِسَيْرِ النَّقْلِ ، وَدَبِيبِ الْأَقْدَامِ وَقَدْرُ ذَلِكَ سِتَّةٌ وَأَرْبَعُونَ مِيلًا بِالْهَاشِمِيِّ ، أَوْ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ مِيلًا بِالْمَرْوَانِيِّ ، وَهُوَ سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا ، وَهُوَ أَرْبَعَةُ بُرُدٍ وَحَكَيْنَا خِلَافَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ ، وَدَلَّلْنَا عَلَيْهِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَا تُفْطِرُوا يَا أَهْلَ مَكَّةَ فِي أَقَلِّ مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ " وَذَلِكَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى عَسَفَانَ وَإِلَى الطَّائِفِ ، فَإِذَا سَافَرَ قَدْرَ الْمَسَافَةِ الْمَذْكُورَةِ جَازَ لَهُمَا الْفِطْرُ إِنْ شَاءَ بِالْأَكْلِ أَوْ بِالْجِمَاعِ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْفِطْرَ الْمُبَاحَ يَسْتَوِي فِيهِ حَالُ الْأَكْلِ وَالْجِمَاعِ ، وَالْفِطْرُ فِي السَّفَرِ مُبَاحٌ ، وَحُكِيَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَبِهِ قَالَ قَوْمٌ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّ الْفِطْرَ فِي السَّفَرِ وَاجِبٌ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [ الْبَقَرَةِ : ] فَأَمَرَهُ بِالْقَضَاءِ عَلَى الْأَحْوَالِ كُلِّهَا وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ " وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " الصَّائِمُ فِي السَفَرِ كَالْمُفْطِرِ فِي الْحَضَرِ " وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْفِطْرَ رُخْصَةٌ وَإِبَاحَةٌ رِوَايَةُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِحَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيِّ " إِنْ شِئْتَ فَصُمْ وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ " وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : " كُلُّ ذَلِكَ فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَمَّ وَقَضَى وَصَامَ وَأَفْطَرَ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيٍّ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُمَا قَالَا : سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَّا الصَّائِمُ وَمِنَّا الْمُفْطِرُ لَا يَعِيبُ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى : فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [ الْبَقَرَةِ : ] ، فَفِي الْآيَةِ الْإِضْمَارُ وَهُوَ الْفِطْرُ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ الْقَضَاءُ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ : " لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي

السَّفَرِ " فَخَارِجٌ عَلَى سَبَبٍ ، وَهُوَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِرَجُلٍ ، وَقَدِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَاسُ وَهُوَ يُنْقَلُ مِنْ فَيْءٍ إِلَى فَيْءٍ فَسَأَلَ عَنْهُ فَقَالُوا : أَجْهَدَهُ الصَّوْمُ فَقَالَ : لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ " يَعْنِي لِمَنْ كَانَ فِي مِثْلِ حَالِهِ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ " الصَّائِمُ فِي السَّفَرِ كَالْمُفْطِرِ فِي الْحَضَرِ " فَمَوْقُوفٌ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فَإِنْ صَحَّ فَمَعْنَاهُ إِذَا اعْتَقَدَ وُجُوبَ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْفِطْرَ رُخْصَةٌ فَالصَّوْمُ أَوْلَى لَهُ إِذَا قَدَرَ عَلَيْهِ وَقَالَ مَالِكٌ : الْفِطْرُ أَوْلَى لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ " وَفِي رِوَايَةٍ " إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِرُخَصِهِ ، كَمَا يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِعَزَائِمِهِ " قَالَ وَكَمَا أَنَّ قَصْرَ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ أَوْلَى مِنْ إِتْمَامِهَا كَذَلِكَ الْفِطْرُ أَوْلَى مِنَ الصِّيَامِ ، وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " مَنْ كَانَ لَهُ حَمُولَةُ زَادٍ فَإِذَا شَبِعَ فَلْيَصُمْ رَمَضَانَ حَيْثُ أَدْرَكَهُ " وَرُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَمَّا فَرَغَتْ مِنْ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ صُمْتُ وَمَا أَفْطَرْتُ وَأَتْمَمْتُ وَمَا قَصَرْتُ ، فَقَالَ لَهَا : " أَحْسَنْتِ " فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ أَفْضَلُ ، وَلِأَنَّ الْفِطْرَ رُخْصَةٌ وَالصَّوْمَ عَزِيمَةٌ وَفِعْلُ الْعَزِيمَةِ أَفْضَلُ مِنْ فِعْلِ الرُّخْصَةِ ، فَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِرُخَصِهِ ، كَمَا يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِعَزَائِمِهِ " فَضَعِيفٌ عِنْدَ أَهْلِ النَّقْلِ ، وَإِنْ صَحَّ فَلَا دَلِيلَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ أَحَبَّ الْأَخْذَ بِالرُّخْصَةِ وَالْعَزِيمَةِ ، وَإِذَا أَحَبَّهُمَا مَعًا ، وَكَانَ أَحَدُهُمَا مُسْقِطًا لِمَا تَعَلَّقَ بِالذِّمَّةِ ، فَهُوَ أَوْلَى ، وَأَمَّا قَصْرُ الصَّلَاةِ فَلَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُنَا فَقَالَ بَعْضُهُمُ الْإِتْمَامُ أَوْلَى كَالصَّوْمِ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : الْقَصْرُ أَوْلَى ، وَإِنَّمَا كَانَ الْقَصْرُ أَوْلَى مِنَ الْإِتْمَامِ ، وَأَفْضَلَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ فِيهِ الْقَضَاءُ ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ إِيجَابُ ضَمَانٍ فِي الذِّمَّةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْفِطْرُ ؛ لِأَنَّهُ إِذَا أَفْطَرَ تَعَلَّقَ بِذِمَّتِهِ ضَمَانُ الْقَضَاءِ فَلِذَلِكَ مَا اخْتَلَفَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَصُومَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ دَيْنًا وقضاء لغيره وَلَا قَضَاءً لِغَيْرِهِ ، فَإِنْ فَعَلَ لَمْ يُجْزِهِ لِرَمَضَانَ وَلَا لِغَيْرِهِ ، صَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّفَرِ وَأَفْطَرَ وَقَالَ لِحَمْزَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " إِنْ شِئْتَ فَصُمْ وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ زَمَانَ رَمَضَانَ يَمْنَعُ مِنْ إِيقَاعِ غَيْرِهِ فِيهِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ ، فَإِنْ صَامَ فِيهِ نَذْرًا أَوْ قَضَاءً أَوْ كَفَّارَةً أَوْ تَطَوُّعًا لَمْ يُجْزِهِ عَنْ رَمَضَانَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِهِ ، وَلَا عَنْ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ الزَّمَانَ يَمْنَعُ مِنْ إِيقَاعِهِ ، وَحَكَيْنَا خِلَافَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ ، وَدَلَّلْنَا لَهُ وَعَلَيْهِ بِمَا فِيهِ كِفَايَةً وَغِنًا .



مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ قَدِمَ رَجُلٌ مِنْ سَفَرٍ نَهَارًا مُفْطِرًا كَانَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ حَيْثُ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ ، وَإِنْ كَانَتِ امْرَأَتُهُ حَائِضًا فَطَهُرَتْ كَانَ لَهُ أَنْ يُجَامِعَهَا ، وَلَوْ تَرَكَ ذَلِكَ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا قَدِمَ رَجُلٌ نَهَارًا مِنْ سَفَرِهِ ، وَكَانَ قَدْ أَفْطَرَ فِي أَوَّلِ يَوْمِهِ ، فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ فِي بَقِيَّةِ الْيَوْمِ ، وَإِنْ صَادَفَ امْرَأَتَهُ قَدْ طَهُرَتْ مِنْ حَيْضِهَا فَلَهُ أَنْ يُجَامِعَهَا ، لَكِنْ يَسْتَتِرُ بِهَذَا الْفِعْلِ خَوْفًا مِنَ التُّهْمَةِ وَالتَّعْرِيضِ لِلْعُقُوبَةِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ إِمْسَاكٌ بَقِيَّةَ هَذَا الْيَوْمِ ، وَلَوْ فَعَلَ كَانَ حَسَنًا ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : عَلَيْهِ أَنْ يُمْسِكَ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ ؛ تَعَلُّقًا بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ إِلَى أَهْلِ الْعَوَالِي فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ فَقَالَ : " مَنْ أَكَلَ فَلْيُمْسِكْ ، وَمَنْ لَمْ يَأْكُلْ فَلْيَصُمْ " فَأَمَرَهُمْ بِالْإِمْسَاكِ مَعَ تَقَدُّمِ الْفِطْرِ . قَالَ : وَلِأَنَّ كُلَّ مَعْنًى لَوْ وُجِدَ فِي ابْتِدَاءِ الصَّوْمِ لَزِمَهُ إِمْسَاكُ ذَلِكَ الْيَوْمِ فَإِذَا وُجِدَ فِي أَثْنَائِهِ لَزِمَهُ إِمْسَاكُ بَقِيَّتِهِ . أَصْلُ ذَلِكَ : إِذَا أَصْبَحَ يَوْمَ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ عَلَى شَكٍّ ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ ، وَهَذَا خَطَأٌ ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ جَازَ لَهُ الْأَكْلُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ مَعَ الْعِلْمِ بِالصَّوْمِ ، فَإِذَا أَفْطَرَ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُمْسِكَ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ . أَصْلُهُ الْحَائِضُ إِذَا طَهُرَتْ أَوِ السَّفَرُ إِذَا اتَّصَلَ ، فَأَمَّا حَدِيثُ عَاشُورَاءَ فَقَدْ كَانَ تَطَوُّعًا وَأُمِرُوا بِإِمْسَاكِهِ اسْتِحْبَابًا ، وَلَوْ صَحَّ وُجُوبُهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ لِأَنَّهُمْ لَوْ عَلِمُوا وُجُوبَهُ ، قَبْلَ الْأَكْلِ لَزِمَهُمُ الصَّوْمُ فَشَابَهَ يَوْمَ الشَّكِّ الَّذِي يَلْزَمُهُمْ إِمْسَاكُ بَقِيَّتِهِ إِذَا عَلِمُوا أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْعِلْمَ لَوْ تَقَدَّمَ لَزِمَهُمُ الصَّوْمُ ، وَلَمْ يَجُزِ الْفِطْرُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمُسَافِرُ ؛ لِأَنَّ الْفِطْرَ لَهُ جَائِزٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْحَائِضُ إِذَا طَهُرَتْ فِي نَهَارِ يَوْمٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ ، فَلَيْسَ عَلَيْهَا إِمْسَاكُ بَقِيَّتِهِ بِوِفَاقِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْهُ وُجُوبُ الْإِمْسَاكِ عَلَيْهَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَلَغَ صَبِيٌّ أَوْ أَسْلَمَ كَافِرٌ أَوْ أَفَاقَ مَجْنُونٌ فِي نَهَارٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ ، لَمْ يَلْزَمْهُمْ إِمْسَاكُ بَقِيَّةِ الْيَوْمِ كَالْمُسَافِرِ وَالْحَائِضِ ، وَخَالَفَنَا أَبُو حَنِيفَةَ فَأَلْزَمَهُمُ الْإِمْسَاكَ ، وَفِيمَا مَضَى مِنَ الدَّلِيلِ كِفَايَةٌ ، فَأَمَّا الْمَرِيضُ إِذَا أَفْطَرَ فِي صَدْرِ النَّهَارِ لِمَرَضٍ ، ثُمَّ صَحَّ فِي آخِرِهِ فَعِنْدَ الْبَغْدَادِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ كَالْمُسَافِرِ لَا يَلْزَمُهُ الْإِمْسَاكُ ، وَعِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ عَلَيْهِ أَنْ يُمْسِكَ ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أُبِيحَ لَهُ الْفِطْرُ لِعَجْزِهِ عَنِ الصَّوْمِ فَإِذَا زَالَ الْعَجْزُ ، وَأَمْكَنَهُ الصَّوْمُ ارْتَفَعَ مَعْنَى الْإِبَاحَةِ وَلَزِمَهُ الْإِمْسَاكُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمُسَافِرُ ؛ لِأَنَّهُ يُفْطِرُ وَإِنْ أَطَاقَ الصَّوْمَ ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَقْيَسُ ، وَهَذَا أَشْبَهُ .

فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " : " فَإِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرِهِ ، وَلَمْ يَكُنْ أَكَلَ وَلَا شَرِبَ وَلَا نَوَى الصَّوْمَ وَكَانَ عَلَى نِيَّةِ الْفِطْرِ ، فَلَمْ يُفْطِرْ حَتَّى قَدِمَ فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْإِمْسَاكُ ، وَلَوْ أَمْسَكَ كَانَ أَوْلَى " وَإِنَّمَا لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِمْسَاكُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَفْطَرَ بِتَرْكِ النِّيَّةِ ، وَإِنْ لَمْ يَأْكُلْ فَصَارَ بِمَثَابَةِ

مَنْ أَفْطَرَ بِالْأَكْلِ فَأَمَّا إِذَا نَوَى الصَّوْمَ فِي سَفَرِهِ ، ثُمَّ قَدِمَ نَاوِيًا فَهَلْ يَلْزَمُهُ إِتْمَامُ صَوْمِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ يَلْزَمُهُ إِتْمَامُ صَوْمِهِ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ ؛ لِأَنَّ زَوَالَ السَّفَرِ قَدْ رَفَعَ حُكْمَ الْإِبَاحَةِ كَالْمُسَافِرِ إِذَا نَوَى الْقَصْرَ ، ثُمَّ أَقَامَ لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ ، فِي حَرْمَلَةَ ، أَنَّهُ عَلَى خِيَارِهِ إِنْ شَاءَ صَامَ ، وَإِنْ شَاءَ أَفْطَرَ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْيَوْمِ مُعْتَبَرٌ بِأَوَّلِهِ لَا تَرَاهُ لَوْ نَوَى الصَّوْمَ مُقِيمًا ، ثُمَّ سَافَرَ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ اعْتِبَارًا بِحُكْمِ أَوَّلِهِ ، فَكَذَلِكَ إِذَا نَوَى الصَّوْمَ مُسَافِرًا ، ثُمَّ أَقَامَ فَلَهُ أَنْ يُفْطِرَ اعْتِبَارًا بِحُكْمِ أَوَّلِ الْيَوْمِ ، فَلَوْ نَوَى الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُفْطِرَ فِي سِفْرِهِ فَلَهُ ذَلِكَ ، وَلَوْ نَوَى إِتْمَامَ الصَّلَاةِ ثُمَّ أَرَادَ الْقَصْرَ لَمْ يَجُزْ لَهُ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْفِطْرَ يُضْمَنُ بِالْقَضَاءِ وَعُذْرُ الْإِفْطَارِ قَائِمٌ بِدَوَامِ السَّفَرِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْقَصْرُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُضْمَنُ بِالْقَضَاءِ ، وَقَدْ ضُمِنَ الْإِتْمَامُ عَلَى نَفْسِهِ فَلِهَذَا الْمَعْنَى فَصَلَ بَيْنَهُمَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ أَنَّ مُقِيمًا نَوَى الصَّوْمَ قَبْلَ الْفَجْرِ ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَ الْفَجْرِ مُسَافِرًا لَمْ يُفْطِرْ يَوْمَهُ ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ فِيهِ مُقِيمًا ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَنَّهُ صَامَ فِي مَخْرَجِهِ إِلَى مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ وَصَامَ النَّاسُ مَعَهُ ، ثُمَّ أَفْطَرَ وَأَمَرَ مَنْ صَامَ مَعَهُ بِالْإِفْطَارِ وَلَوْ كَانَ لَا يَجُوزُ فِطْرُهُ مَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا الْفَصْلُ يَشْتَمِلُ عَلَى أَرْبَعِ مَسَائِلَ : أَحَدُهَا : أَنْ يَبْتَدِئَ السَّفَرَ قَبْلَ الْفَجْرِ فَلَا شُبْهَةَ أَنَّهُ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ صَامَ ، وَإِنْ شَاءَ أَفْطَرَ ؛ لِأَنَّهُ ابْتَدَأَ السَّفَرَ فِي زَمَانٍ يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ فِيهِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَتَحَتَّمُ عَلَيْهِ صَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ . وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَنْوِيَ الصِّيَامَ وَهُوَ مُقِيمٌ ثُمَّ يُسَافِرَ بَعْدَ الْفَجْرِ ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ صَوْمَهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ ، وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُزَنِيِّ أَنَّ لَهُ الْخِيَارَ فِي الصَّوْمِ وَالْإِفْطَارِ تَعَلُّقًا بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَامَ الْفَتْحِ مِنَ الْمَدِينَةِ صَائِمًا فَلَمَّا بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ أَفْطَرَ فَحَصَلَ صَائِمًا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ مُفْطِرًا فِي آخِرِهِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّ الْفِطْرَ إِنَّمَا أُبِيحَ بِأَحَدِ شَيْئَيْنِ : الْمَرَضُ وَالسَّفَرُ ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ لِلْمَرِيضِ أَنْ يُفْطِرَ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ ، وَإِنْ صَامَ فِي أَوَّلِهِ فَكَذَلِكَ الْمُسَافِرُ وَهَذَا خَطَأٌ وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [ مُحَمَّدٍ : ] لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَخْتَلِفُ بِالسَّفَرِ وَالْحَضَرِ فَوَجَبَ إِذَا ابْتَدَأَهَا فِي الْحَضَرِ ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِ السَّفَرُ ، أَنْ يَغْلِبَ حُكْمُ الْحَضَرِ كَالصَّلَاةِ وَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ ، وَلِأَنَّهُ قَدْ خَلَطَ إِبَاحَةً بِحَظْرٍ وَلَا بُدَّ مِنْ تَغْلِيبِ أَحَدِهِمَا فِي الْحُكْمِ ، فَكَانَ تَغْلِيبُ

الْحَظْرِ أَوْلَى ، وَأَمَّا حَدِيثُ كُرَاعِ الْغَمِيمِ فَمِنَ الْمَدِينَةِ إِلَيْهِ مَسِيرَةُ أَيَّامٍ ، وَقِيلَ ذَلِكَ لِلْمُزَنِيِّ فَرَجَعَ عَنْهُ ، وَقَالَ أَضْرِبُوا عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ ، لَمْ يَصِحَّ لَهُمُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا هَلْ سَافَرَ قَبْلَ الْفَجْرِ أَوْ بَعْدَهُ ؟ وَأَمَّا الْمَرِيضُ فَإِنَّمَا جَازَ لَهُ الْفِطْرُ لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ فِيمَا أَحْدَثَ ، بِلَا اخْتِيَارِهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ السَّفَرُ ؛ لِأَنَّهُ أَنْشَأَهُ مُخْتَارًا ، وَلَمْ تَدْعُهُ الضَّرُورَةُ إِلَى الْفِطْرِ وَالْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَنْوِيَ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ ثُمَّ يُسَافِرُ ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ هَلْ سَافَرَ قَبْلَ الْفَجْرِ ، أَوْ بَعْدَهُ فَهَذَا يَلْزَمُهُ إِتْمَامُ صَوْمِهِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ ؛ لِأَنَّهُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ حُدُوثِ السَّفَرِ ، وَفِي شَكٍّ مِنْ تَقَدُّمِهِ ، وَبِالشَّكِّ لَا تُبَاحُ الرُّخَصُ . الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : أَنْ لَا يَنْوِيَ الصِّيَامَ أَصْلًا ، ثُمَّ يُسَافِرَ بَعْدَ الْفَجْرِ فَهَذَا يُفْطِرُ لِإِخْلَالِهِ بِالنِّيَّةِ مِنَ اللَّيْلِ ، وَعَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْيَوْمِ قَدْ ثَبَتَتْ بِأَوَّلِهِ ، وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ ؛ لِأَنَّهُ مُفْطِرٌ بِتَرْكِ النِّيَّةِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَمَنْ رَأَى الْهِلَالَ وَحْدَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الصِّيَامُ ، فَإِنْ رَأَى هِلَالَ شَوَّالٍ حَلَّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ حَيْثُ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ وَلَا يُعَرِّضُ نَفْسَهُ لِلتُّهْمَةِ بِتَرْكِ فَرْضِ اللَّهِ وَالْعُقُوبَةِ مِنَ السُّلْطَانِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا رَأَى الْهِلَالَ وَحْدَهُ ، فَقَدْ تَعَلَّقَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْعِبَادَةِ وَسَوَاءٌ حَكَمَ الْقَاضِي بِقَوْلِهِ أَمْ لَا ، فَإِنْ كَانَ هِلَالَ رَمَضَانَ لَزِمَهُ الصِّيَامُ ، وَإِنْ كَانَ هِلَالَ شَوَّالٍ لَزِمَهُ الْإِفْطَارُ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَمَالِكٌ : يَلْزَمُهُ الصِّيَامُ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْإِفْطَارُ فِي هِلَالِ شَوَّالٍ ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ وَشَرِيكٌ وَإِسْحَاقُ لَا يَلْزَمُهُ الصِّيَامُ وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْإِفْطَارُ ، بَلْ هُمَا فِي الْحُكْمِ سِيَّانِ ، وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [ الْبَقَرَةِ : ] فَحَتَّمَ الصَّوْمَ عَلَى مَنْ شَهِدَهُ ، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " صُومُوا لِرُويَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ " فَعَلَّقَ الْحُكْمَ بِالرُّؤْيَةِ فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَرَأَى هِلَالَ شَوَّالٍ وَحْدَهُ فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ حَيْثُ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ خَوْفًا مِنَ التُّهْمَةِ ، وَعُقُوبَةِ السُّلْطَانِ ، وَإِنْ رَأَى هِلَالَ رَمَضَانَ لَزِمَهُ الصِّيَامُ ، فَإِنْ جَامَعَ فِيهِ لَزِمَهُ الْكَفَّارَةُ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ يَوْمٌ مَحْكُومٌ بِهِ مِنْ شَعْبَانَ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ قِيَاسًا عَلَى يَوْمِ الشَّكِّ ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ شُبْهَةٌ فَوَجَبَ إِدْرَاءُ الْحَدِّ ، وَهَذَا خَطَأٌ ؛ لِأَنَّهُ يَوْمٌ لَزِمَهُ صَوْمُهُ مِنْ رَمَضَانَ فَوَجَبَ أَنْ تَلْزَمَهُ الْكَفَّارَةُ ، إِذَا هَتَكَ حُرْمَتَهُ بِالْوَطْءِ . أَصْلُهُ : إِذَا حَكَمَ الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِ ، فَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى يَوْمِ الشَّكِّ فَغَيْرُ صَحِيحٍ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْزَمْهُ صَوْمُهُ عَنْ رَمَضَانَ ، وَهَذَا يَوْمٌ لَزِمَهُ صَوْمُهُ عَنْ رَمَضَانَ .



مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا أَقْبَلُ عَلَى رُؤْيَةِ الْفِطْرِ إِلَّا عَدْلَيْنِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) هَذَا بَعْضٌ لِأَحَدِ قَوْلَيْهِ أَنْ لَا يَقْبَلَ فِي الصَوْمِ إِلَّا عَدْلَيْنِ ( قَالَ ) حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ حَدَثَنَا الرَّبِيعُ قَالَ الشَّافِعِيُّ : " لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَامَ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصَامَ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ ، وَلِأَنَّهُ الِاحْتِيَاطُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ هِلَالَ شَوَّالٍ لَا يُقْبَلُ فِيهِ إِلَّا شَهَادَةُ عَدْلَيْنِ ، وَأَجَازَ أَبُو ثَوْرٍ شَهَادَةَ عَدْلٍ وَاحِدٍ ، فَأَمَّا هِلَالُ رَمَضَانَ فَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُقْبَلُ فِيهِ إِلَّا عَدْلَانِ . وَالثَّانِي : يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ عَدْلٍ وَاحِدٍ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَوْجِيهَ كُلِّ قَوْلٍ وَحَكَيْنَا خِلَافَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَدَلَّلْنَا عَلَيْهِ فَلَمْ يَكُنْ لَنَا إِلَى الْإِعَادَةِ حَاجَةٌ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللِّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ صَحَا قَبْلَ الزَّوَالِ أَفْطَرَ ، وَصَلَّى بِهِمُ الْإِمَامُ صَلَاةَ الْعِيدِ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الزَّوَالِ فَلَا صَلَاةَ فِي يَوْمِهِ ، وَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يُصَلِّيَ الْعِيدَ مِنَ الْغَدِ لِمَا ذُكِرَ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) وَلَهُ قَوْلٌ آخَرُ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي مِنَ الْغَدِ وَهُوَ عِنْدِي أَقْيَسُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يَقْضِيَ جَازَ فِي يَوْمِهِ وَإِذَا لَمْ يَجُزِ الْقَضَاءُ فِي أَقْرَبِ الْوَقْتِ كَانَ فِيمَا بَعْدَهُ أَبْعَدَ وَلَوْ كَانَ ضُحَى غَدٍ مِثْلَ ضُحَى الْيَوْمِ لَزِمَ فِي ضُحَى يَوْمٍ بَعْدَ شَهْرٍ ؛ لِأَنَّهُ مِثْلُ ضُحَى الْيَوْمِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يُصْبِحَ النَّاسُ يَوْمَ الثَّلَاثِينَ مِنْ رَمَضَانَ شَاكِّينَ فِي يَوْمِهِمْ هَلْ هُوَ مِنْ رَمَضَانَ أَوْ مِنْ شَوَّالٍ ؟ فَعَلَيْهِمْ صِيَامُهُ مَا لَمْ تَقُمِ الْبَيِّنَةُ ، أَنَّهُ مِنْ شَوَّالٍ فَإِنْ شَهِدَ بِرُؤْيَتِهِ شَاهِدَانِ نُظِرَ فِي عَدَالَتِهِمَا ، فَإِنْ لَمْ يَكُونَا مِنْ أَهْلِ الْعَدَالَةِ لَمْ يُحْكَمْ بِشَهَادَتِهِمَا ، وَكَانَ النَّاسُ عَلَى صَوْمِهِمْ ، وَإِنْ ثَبَتَتْ عَدَالَتُهُمَا حَكَمَ الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا ، وَأَفْطَرَ الْقَاضِي أَوَّلًا ، ثُمَّ الشَّاهِدَانِ ، ثُمَّ النَّاسُ بَعْدَهُمْ ، وَسَوَاءٌ بَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ بَعْدَهُ ، فَأَمَّا صَلَاةُ الْعِيدِ فَيُنْظَرُ فَإِنْ بَانَتْ عَدَالَتُهُمَا قَبْلَ الزَّوَالِ صَلَّى الْإِمَامُ بِهِمْ صَلَاةَ الْعِيدِ ؛ لِأَنَّ وَقْتَهَا مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى زَوَالِهَا ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَخْرُجَ بِالنَّاسِ إِلَى الْمُصَلَّى فَعَلَ ، وَإِنْ ضَاقَ عَلَيْهِ الْوَقْتُ صَلَّى بِهِمْ حَيْثُ أَمْكَنَهُ مِنْ جَامِعٍ أَوْ مَسْجِدٍ ، وَإِنْ بَانَتْ عَدَالَتُهُمَا بَعْدَ الزَّوَالِ ، فَقَدْ فَاتَ وَقْتُ الصَّلَاةِ ، وَهَلْ تُقْضَى أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ لَا تُقْضَى لِأَنَّهَا صَلَاةُ نَافِلَةٍ سُنَّ لَهَا الْجَمَاعَةُ فَوَجَبَ أَنْ تَسْقُطَ بِالْفَوَاتِ كَصَلَاةِ الْخَوْفِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهَا تُقْضَى لِأَنَّهَا صَلَاةٌ رَاتِبَةٌ فِي وَقْتٍ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَسْقُطَ بِفَوَاتِ وَقْتِهَا كَالْفَرَائِضِ ، وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ يَخْرُجُ قَضَاءُ الْوِتْرِ وَرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ ، فَإِذَا قِيلَ : إِنَّهَا

تُقْضَى نَظَرَ فَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ اجْتِمَاعُ النَّاسِ فِي بَقِيَّةِ يَوْمِهِمْ ، لِتَفَرُّقِهِمْ وَسَعَةِ بَلَدِهِمْ أَمَرَهُمْ أَنْ يَجْتَمِعُوا مِنَ الْغَدِ ، فَإِذَا اجْتَمَعُوا صَلَّى بِهِمْ صَلَاةَ الْعِيدِ فِي وَقْتِهَا مِنَ الْغَدِ مِنْ جَمَاعَةٍ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا تَكَامُلُ الْجَمَاعَةِ وَإِظْهَارُ الزِّينَةِ ، وَأَنْ يَحُثَّهُمْ عَلَى الصَّدَقَةِ وَفِعْلِ الْخَيْرِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمَأْثَمِ ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُصَلِّ قَبْلَ اجْتِمَاعِهِمْ ، وَإِنْ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ فِي يَوْمِهِمْ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : أَنَّهُ يُصَلِّي بِهِمْ فِي بَقِيَّةِ يَوْمِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى وَقْتِهَا مِنَ الْغَدِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ يُؤَخِّرُهَا إِلَى الْغَدِ لِيُصَلِّيَهَا فِي مِثْلِ وَقْتِهَا وَلَا يُصَلِّيهَا فِي بَقِيَّةِ الْيَوْمِ ؛ لِرِوَايَةِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَاهَا مِنَ الْغَدِ فَأَمَّا إِنْ بَانَتْ عَدَالَةُ الشَّاهِدَيْنِ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ ، فَإِنَّهُمْ يُصَلُّونَ الْعِيدَ مِنَ الْغَدِ قَوْلًا وَاحِدًا لَا يُخْتَلَفُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " فِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ " فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ اخْتَارَ أَنْ لَا يَقْضِيَ ، وَاعْتَرَضَ بِسُؤَالَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ قَالَ لَوْ جَازَ أَنْ يَقْضِيَ مِنَ الْغَدِ لَجَازَ فِي يَوْمِهِ ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْوَقْتِ أَقْرَبُ ، قُلْنَا : فَقَدْ أَجَازَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْقَضَاءَ فِي بَقِيَّةِ الْيَوْمِ ، فَسَقَطَ هَذَا الِاعْتِرَاضُ عَلَى أَنَّا إِنَّمَا نَأْمُرُ بِالْقَضَاءِ بِهَا مِنَ الْغَدِ ، لِأَنَّهَا صَلَاةُ ضُحًى جُعِلَ سَبَبُهَا أَوَّلَ النَّهَارِ ، فَاحْتَاجَتْ فِي الْقَضَاءِ إِلَى الْأَدَاءِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنْ قَالَ : لَوْ جَازَتْ فِي ضُحَى الْغَدِ لَجَازَتْ بَعْدَ شَهْرٍ قُلْنَا : إِنَّمَا جَوَّزْنَا لِحُدُوثِ الْإِشْكَالِ فِي رُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَهَذَا غَيْرُ مَوْجُودٍ فِيمَا بَعْدُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ لِمَرَضٍ أَوْ سَفَرٍ ، فَلَمْ يَقْضِهِ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِ شَهْرُ رَمَضَانَ آخَرُ ، كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ الشَهْرَ ثُمَّ يَقْضِيَ مِنْ بَعْدِهِ الَّذِي عَلَيْهِ ، وَيُكَفِّرَ لِكُلِّ يَوْمٍ مُدًّا لِمِسْكِينٍ بِمُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا أَفْطَرَ أَيَّامًا مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِهِ ، فَالْأَوْلَى بِهِ أَنْ يُبَادِرَ بِالْقَضَاءِ وَذَلِكَ مُوَسَّعٌ لَهُ مَا لَمْ يَدْخُلْ رَمَضَانُ ثَانٍ ، فَإِنْ دَخَلَ عَلَيْهِ شَهْرُ رَمَضَانَ ثَانٍ صَامَهُ عَنِ الْفَرْضِ ، لَا عَنِ الْقَضَاءِ فَإِذَا أَكْمَلَ صَوْمَهُ قَضَى مَا عَلَيْهِ ثُمَّ يَنْظُرُ فِي حَالِهِ ، فَإِنْ كَانَ أَخَّرَ الْقَضَاءَ لِعُذْرٍ دَامَ بِهِ مِنْ مَرَضٍ أَوْ سَفَرٍ ، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ أَخَّرَهُ غَيْرَ مَعْذُورٍ فَعَلَيْهِ مَعَ الْقَضَاءِ الْكَفَّارَةُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ بِمُدٍّ مِنْ طَعَامٍ ، وَهُوَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : ( فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) [ الْبَقَرَةِ : ] وَفِي إِيجَابِ الْفِدْيَةِ زِيَادَةٌ فِي النَّصِّ ، وَذَلِكَ نَسْخٌ . قَالَ : وَلِأَنَّهُ صَوْمٌ وَاجِبٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَ بِتَأْخِيرِهِ الْكَفَّارَةُ ، كَالنَّذْرِ وَصَوْمِ الْمُتَمَتِّعِ ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ وَاجِبَةٌ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَ بِتَأْخِيرِهِ الْكَفَّارَةُ كَالصَّلَاةِ ، وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ

[ الْبَقَرَةِ : ] فَكَانَ هَذَا عَامًّا فِي كُلِّ مُطِيقٍ إِلَّا مَا قَامَ دَلِيلُهُ ، وَرَوَى مُجَاهِدٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنْ أَفْطَرَ رَمَضَانَ بِمَرَضٍ ثُمَّ صَحَّ ، فَلَمْ يَقْضِ حَتَّى أَدْرَكَهُ رَمَضَانُ آخَرُ فَلْيَصُمْ مَا أَدْرَكَهُ ، ثُمَّ لِيَقْضِ الَّذِي فَاتَهُ وَلْيُطْعِمْ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا " وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِإِفْسَادِهَا الْكَفَّارَةَ ، فَجَازَ أَنْ تَجِبَ بِتَأْخِيرِهَا الْكَفَّارَةَ كَالْحَجِّ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِإِفْسَادِهِ وَتَجِبُ بِفَوَاتِ عَرَفَةَ هَذَا مَعَ إِجْمَاعِ سِتَّةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ لَا يُعْرَفُ لَهُمْ خِلَافٌ ، فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى : فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [ الْبَقَرَةِ : ] فَلَا دَلِيلَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْفِدْيَةَ لَمْ تَجِبْ بِالْفِطْرِ ، وَإِنَّمَا وَجَبَتْ بِالتَّأْخِيرِ ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى صَوْمِ النَّذْرِ وَالتَّمَتُّعِ ، فَيَفْسُدُ بِصَوْمِ رَمَضَانَ إِذَا أَخَّرَهُ بِأَكْلٍ أَوْ جِمَاعٍ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ ، أَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَجِبُ بِإِفْسَادِ شَيْءٍ مِنْ جِنْسِهِ ، وَكَذَا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الصَّلَاةِ ، فَلَوْ أَخَّرَ الْقَضَاءَ أَعْوَامًا ، لَمْ تَلْزَمْهُ إِلَّا فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ ، فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي ، عَلَيْهِ بِكُلِّ عَامٍ فِدْيَةٌ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ مَاتَ أُطْعِمَ عَنْهُ ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الْقَضَاءُ حَتَى مَاتَ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ صِيَامُ أَيَّامٍ مِنْ نَذْرٍ أَوْ كَفَّارَةٍ أَوْ قَضَاءٍ فَلَمْ يَصُمْهَا حَتَّى مَاتَ ، فَلَهُ حَالَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَمُوتَ بَعْدَ إِمْكَانِ الْقَضَاءِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَمُوتَ قَبْلَ إِمْكَانِ الْقَضَاءِ ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ إِمْكَانِ الْقَضَاءِ سَقَطَ عَنْهُ الصَّوْمُ وَلَا كَفَّارَةَ فِي مَالِهِ ، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ إِمْكَانِ الْقَضَاءِ ، سَقَطَ عَنْهُ الصَّوْمُ أَيْضًا وَوَجَبَ فِي مَالِهِ الْكَفَّارَةُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مُدٌّ مِنْ طَعَامٍ ، وَلَا يَجُوزُ لِوَلِيِّهِ أَنْ يَصُومَ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ ، هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَهُوَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ . وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ : يَصُومُ عَنْهُ وَلِيُّهُ إِنْ شَاءَ أَوْ يَسْتَأْجِرُ مَنْ يَصُومُ عَنْهُ ، وَقَدْ حَكَى بَعْضُ أَصْحَابِنَا هَذَا الْقَوْلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ ، قَالَ : لِأَنَّهُ قَالَ وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ خَبَرٌ فَإِنْ صَحَّ قُلْتُ بِهِ ، فَخَرَّجَهُ قَوْلًا ثَانِيًا ، وَأَنْكَرَهُ سَائِرُ أَصْحَابِنَا أَنْ يَكُونَ لِلشَّافِعِيِّ مَذْهَبًا ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَجَازَ الصَّوْمَ عَنِ الْمَيِّتِ بِمَا رَوَاهُ عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ الصِّيَامُ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ " قَدْ رَوَاهُ أَيْضًا ابْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

وَرَوَى سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمٌ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " اقْضِ عَنْهَا " وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ امْرَأَةً رَكِبَتِ الْبَحْرَ فَنَذَرَتْ أَنْ تَصُومَ شَهْرًا ، فَمَاتَتْ قَبْلَ أَنْ تَصُومَ فَسَأَلَ أَخُوهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهُ بِالصِّيَامِ عَنْهَا قَالَ : وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يَدْخُلُهَا الْجُبْرَانُ بِالْمَالِ فَجَازَ أَنْ تَدْخُلَهَا النِّيَابَةُ كَالْحَجِّ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا رِوَايَةُ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمُ رَمَضَانَ فَلْيُطْعِمْ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا " فَأَسْقَطَ الْقَضَاءَ وَأَمَرَ بِالْكَفَّارَةِ ، وَرَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ بِمَرَضٍ ، وَلَمْ يَقْضِ حَتَّى مَاتَ ، أَطْعَمَ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مُدَّيْنِ " يَعْنِي مُدًّا لِلْقَضَاءِ وَمُدًّا لِلتَّأْخِيرِ ؛ لِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ . رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعُمَرَ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، أَنَّهُمْ قَالُوا : مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ أُطْعِمَ عَنْهُ ، وَلَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ ، وَلَا مُخَالِفَ لَهُمْ ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ لَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ مَعَ الْعَجْزِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَدْخُلَهَا النِّيَابَةُ بَعْدَ الْوَفَاةِ ، أَصْلُهُ الصَّلَاةُ ، وَعَكْسُهُ الْحَجُّ وَلِأَنَّ الصَّوْمَ إِذَا فَاتَ انْتَقَلَ عَنْهُ إِلَى الْمَالِ لَا إِلَى النِّيَابَةِ كَالشَّيْخِ الْهَرِمِ فَأَمَّا مَا رَوَوْهُ مِنَ الْأَخْبَارِ ، فَالْمُرَادُ بِهَا فِعْلُ مَا يَنُوبُ عَنِ الصِّيَامِ مِنَ الْإِطْعَامِ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْحَجِّ ، فَالْمَعْنَى فِيهِ جَوَازُ النِّيَابَةِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الصَّوْمُ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ إِمْكَانِ الصَّوْمِ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ إِمْكَانِ الصَّوْمِ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ فِي مَالِهِ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مُدٌّ لِمِسْكِينٍ ، فَلَوْ أَفْطَرَ أَيَّامًا مِنْ رَمَضَانَ ، وَلَمْ يَصُمْهَا مَعَ الْقُدْرَةِ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثَانٍ ثُمَّ مَاتَ ، فَعَلَيْهِ لِكُلِّ يَوْمٍ مُدَّانِ : مُدٌّ بَدَلٌ عَنِ الصِّيَامِ ، وَمُدٌّ بَدَلٌ عَنِ التَّأْخِيرِ ، هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَسَائِرِ أَصْحَابِهِ ، وَقَدْ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ عَلَيْهِ مُدٌّ وَاحِدٌ ؛ لِأَنَّ الْفَوَاتَ يُضْمَنُ بِالْمُدِّ الْوَاحِدِ كَالشَّيْخِ الْهَرِمِ ، وَهَذَا غَلَطٌ وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ رِوَايَةُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ لِمَرَضٍ ، فَلَمْ يَقْضِهْ حَتَّى مَاتَ أُطْعِمَ عَنْهُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مُدَّانِ . "

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَمَنْ قَضَى مُتَفَرِّقًا أَجْزَأَهُ وَمُتَتَابِعًا أَحَبُّ إِلَيَّ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، الْأَوْلَى فِي الْقَضَاءِ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ مُتَتَابِعًا ، وَإِنْ قَضَى مُتَفَرِّقًا أَجْزَأَهُ ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُعَاذٌ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَرَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ . وَحُكِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمِ ، وَدَاوُدَ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ أَنَّهُمْ قَالُوا : إِنْ قَضَى مُتَفَرِّقًا لَمْ يُجْزِهِ ؛ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [ الْبَقَرَةِ : ] وَهَذَا أَمْرٌ يَلْزَمُ الْمُبَادَرَةُ بِهِ ، وَبِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنْ كَانَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ صَوْمِ رَمَضَانَ فَلْيَسْرُدْهُ وَلَا يُفَرِّقْهُ " قَالُوا : وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ فِي كُلِّ عِبَادَةٍ مِثْلَ الْأَدَاءِ ثُمَّ تَقَرَّرَ أَنَّ التَّتَابُعَ شَرْطٌ فِي أَدَاءِ رَمَضَانَ فَكَذَلِكَ فِي قَضَائِهِ ، وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [ الْبَقَرَةِ : ] ، فَفِي أَيِّ زَمَانٍ قُضِيَ كَانَ مُمْتَثِلًا لِلْأَمْرِ ، فَإِنْ قِيلَ : فَهَذَا أَمْرٌ وَالْأَمْرُ عَلَى الْفَوْرِ لَا عَلَى التَّرَاخِي ، قُلْنَا لَنَا فِيهِ مَذْهَبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي ، فَلَمْ يَلْزَمْنَا هَذَا السُّؤَالُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ لَكِنْ قَامَ دَلِيلٌ عَلَى التَّرَاخِي ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى : فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [ الْبَقَرَةِ : ] ، دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ التَّرَاخِي ؛ لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ فَعِدَّةٌ فِي أَيَّامٍ أُخَرَ وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنْ كَانَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ رَمَضَانَ . فَإِنْ شَاءَ صَامَهُ مُتَتَابِعًا ، وَإِنْ شَاءَ صَامَهُ مُتَفَرِّقَا " وَرَوَى أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ : سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَقْطِيعِ قَضَاءِ رَمَضَانَ قَالَ : " أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أَحَدِكُمْ دَيْنٌ فَقَضَاهُ بِالدِّرْهَمِ وَالدَرْهَمَيْنِ أَمَا كَانَ قَدْ قَضَى دَيْنَهُ " فَقَالَ : نَعَمْ ، اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يَغْفِرَ وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ فِي كُلِّ عِبَادَةٍ مِثْلَ الْأَدَاءِ ثُمَّ تَقَرَّرَ أَنَّ التَّتَابُعَ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْأَدَاءِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنَ الشَّهْرِ لَمْ يُبْطِلْ مَا يَلِيهِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ ، فَكَذَلِكَ الْقَضَاءُ فَأَمَّا الْآيَةُ فَدَلِيلُنَا ، وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنْ صَحَّ فَمَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ ، فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ فَقَدْ قَلَبْنَاهُ عَلَيْهِمْ .
صوم يوم الفطر ويوم النحر حرام مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا يُصَامُ يَوْمُ الْفِطْرِ وَلَا يَوْمُ النَّحْرِ وَلَا أَيَّامُ مِنًى فَرْضًا أَوْ نَفْلًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا يَوْمُ الْفِطْرِ وَيَوْمُ النَّحْرِ حكم صومهما فَلَا يُعْرَفُ خِلَافٌ فِي أَنَّ صَوْمَهُمَا حَرَامٌ ، لِرِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ صِيَامِ يَوْمِ الْفِطَرِ وَالْأَضْحَى

وَلِرِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ مَوْلَى أَزْهَرَ قَالَ : شَهِدْتُ الْعِيدَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَصَلَّى وَخَطَبَ وَقَالَ : " إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ صَوْمِ هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ ؛ يَوْمُ فِطْرِكُمْ عَنْ صِيَامِكُمْ وَيَوْمَ تَأْكُلُونَ فِيهِ لَحْمَ نُسُكِكُمْ " ثُمَّ شَهِدْتُ مَعَ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهَ عَنْهُ فَصَلَّى وَخَطَبَ ، ثُمَّ شَهِدْتُ مَعَ عَلِيٍّ وَعُثْمَانُ مَحْفُورٌ ، فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَ صَوْمِهِمَا بِإِجْمَاعٍ ، فَلَوْ صَامَهُمَا أَحَدٌ ، كَانَ عَاصِيًا لِلَّهِ تَعَالَى بَلْ لَا يَصِحُّ صَوْمُهُمَا كَاللَّيْلِ ، فَلَوْ نَذَرَ صَوْمَهُمَا كَانَ نَذْرُهُ بَاطِلًا وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : نَذْرُهُ صَحِيحٌ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ فَإِنْ صَامَهُمَا جَازَ ، وَسَقَطَ عَنْهُ النَّذْرُ ، وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ " وَلِأَنَّ كُلَّ زَمَانٍ لَا يَصِحُّ فِيهِ صَوْمُ التَّطَوُّعِ لَا يَنْعَقِدُ فِيهِ النَّذْرُ كَاللَّيْلِ وَأَيَّامِ الْحَيْضِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا أَيَّامُ التَّشْرِيقِ حكم صومها وَهِيَ أَيَّامُ مِنًى الثَّلَاثَةُ ، فَلَقَدْ كَانَ الشَّافِعِيُّ يَذْهَبُ فِي الْقَدِيمِ إِلَى أَنَّ لِلْمُتَمَتِّعِ أَنْ يَصُومَهَا عَنْ تَمَتُّعِهِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ [ الْبَقَرَةِ : ] ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي يَوْمِ التَّرْوِيَةِ ، وَهُوَ الثَّامِنُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ فَعُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ بِهَا أَيَّامَ التَّشْرِيقِ ، وَلِرِوَايَةِ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْخَصَ لِلْمُتَمَتِّعِ إِذَا لَمْ يَجِدْ هَدْيًا ، وَلَمْ يَصُمْ فِي الْعَشْرِ أَنْ يَصُومَ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ هَذَا فِي الْجَدِيدِ ، وَمَنَعَ مِنْ صِيَامِهَا لِلْمُتَمَتِّعِ وَغَيْرِهِ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ أُمِّهِ أَنَّهَا قَالَتْ كُنَّا بِمِنًى إِذْ أَتَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَاكِبًا يُنَادِي أَلَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : هَذِهِ أَيَّامُ طُعْمٍ وَشُرْبٍ ، فَلَا يَصُومُهَا أَحَدٌ " وَلِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ صِيَامِ سِتَةِ أَيَّامٍ : يَوْمِ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى وَيَوْمِ الشَّكِّ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَلِأَنَّ كُلَّ زَمَانٍ لَمْ يَجُزْ صَوْمُهُ تَطَوُّعًا لَمْ يَجُزْ صَوْمُهُ تَمَتُّعًا كَيَوْمِ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى ، فَإِذَا قِيلَ : لَيْسَ لِلْمُتَمَتِّعِ أَنْ يَصُومَهَا فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ أَنْ يَصُومَهَا بِحَالٍ لَا نَذْرًا وَلَا تَطَوُّعًا وَلَا كَفَّارَةً وَلَا قَضَاءً ، وَإِذَا قِيلَ : بِجَوَازِ صِيَامِهَا لِلْمُتَمَتِّعِ فَإِنْ أَرَادَ غَيْرَ الْمُتَمَتِّعِ صِيَامَهَا فَلَهُ حَالَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَصُومَهَا تَطَوُّعًا مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ تَقَدَّمَ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لَا يُخْتَلَفُ . وَالثَّانِي : أَنْ يَصُومَهَا وَاجِبًا عَنْ سَبَبٍ مُتَقَدِّمٍ كَالنُّذُورِ وَالْكَفَّارَاتِ وَقَضَاءِ رَمَضَانَ ، فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ :

أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْمُتَمَتِّعَ مَخْصُوصٌ بِالرُّخْصَةِ . وَالثَّانِي : يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ فِي اسْتِثْنَاءِ الْمُتَمَتِّعِ تَنْبِيهًا عَلَى مَا فِي مَعْنَاهُ مِنَ الصَّوْمِ الَّذِي لَهُ سَبَبٌ كَالْأَوْقَاتِ الَّتِي نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا ، ثُمَّ اسْتُثْنِيَ مِنْهَا مَا لَهُ سَبَبٌ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ بَلَعَ حَصَاةً أَوْ مَا لَيْسَ بِطَعَامٍ أَوِ احْتَقَنَ أَوْ دَاوَى جُرْحَهُ حَتَّى يَصِلَ إِلَى جَوْفِهِ أَوِ اسْتَعَطَ حَتَّى يَصِلَ إِلَى جَوْفِ رَأْسِهِ ، فَقَدْ أَفْطَرَ إِذَا كَانَ ذَاكِرًا ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ نَاسِيًا . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا ابْتَلَعَ طَعَامًا أَوْ شَرَابًا ، أَوْ مَا لَيْسَ بِطَعَامٍ وَلَا شَرَابٍ كَدِرْهَمٍ أَوْ حَصَاةٍ ، أَوْ جَوْزَةٍ أَوْ لَوْزَةٍ ، فَقَدْ أَفْطَرَ بِهَذَا كُلِّهِ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ ، إِذَا كَانَ عَامِدًا ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ وَإِنْ كَانَ نَاسِيًا ، فَهُوَ عَلَى صَوْمِهِ ، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحِ بْنِ حَيٍّ الْكُوفِيِّ : لَا يُفْطِرُ إِلَّا بِطَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو طَلْحَةَ فِي " الْبُرُدِ " ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَطْعُومٍ وَلَا مَشْرُوبٍ ، وَهَذَا خَطَأٌ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى : ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [ الْبَقَرَةِ : ] وَالصِّيَامُ تعريفه هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلِأَنَّهُ بِالْإِجْمَاعِ مَمْنُوعٌ مِنَ ابْتِلَاعِهِ ، وَإِنَّمَا مُنِعَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ يُفْطِرُهُ أَلَا تَرَى الْغُبَارَ وَشَمَّ الرَّوَائِحِ لَمَّا لَمْ يُفْطِرْهُ لَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ ، وَلَمَّا كَانَ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ يُفْطِرُهُ مُنِعَ مِنْهُ فَكَذَلِكَ هَذَا .

إِذَا احْتَقَنَ بِالدَّوَاءِ أَفْطَرَ

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا احْتَقَنَ بِالدَّوَاءِ الصائم فَقَدْ أَفْطَرَ قَلِيلًا كَانَ ذَلِكَ أَوْ كَثِيرًا ، أَوْ سَوَاءً وَصَلَ إِلَى الْمَعِدَةِ أَمْ لَا ؟ وَكَذَلِكَ لَوْ قُطِرَ فِي إِحْلِيلِهِ دَوَاءٌ الصائم أَفْطَرَ بِهِ ، وَسَوَاءٌ وَصَلَ إِلَى الْمَعِدَةِ أَمْ لَا ؛ لِأَنَّ بَاطِنَ السَّبِيلَيْنِ لَا يُجَوَّفُ . وَقَالَ مَالِكٌ : إِنْ كَانَ كَثِيرًا أَفْطَرَ بِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا لَمْ يُفْطِرْهُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يُفْطِرُ بِالْحُقْنَةِ ، وَلَا يُفْطِرُ بِمَا دَخَلَ فِي إِحْلِيلِهِ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ ، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ لَا يُفْطِرُ بِهِمَا ، وَإِنَّمَا يُفْطِرُ بِمَا وَصَلَ إِلَى جَوْفِهِ مِنْ فَمِهِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَالِكٍ هُوَ أَنَّ كُلَّ مَا أَفْسَدَ الصَّوْمَ كَثِيرُهُ أَفْسَدَهُ قَلِيلُهُ كَالْأَكْلِ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مَنْفَذٌ إِلَى الْجَوْفِ يُفْطِرُ بِالْخَارِجِ مِنْهُ وَهُوَ الْمَنِيُّ ، فَوَجَبَ أَنْ يُفْطِرَ بِالْخَارِجِ مِنْهُ كَالْفَمِ يُفْطِرُ بِمَا دَخَلَ مِنْهُ وَهُوَ الْأَكْلُ ، وَبِمَا خَرَجَ مِنْهُ وَهُوَ الْقَيْءُ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ هُوَ أَنَّهُ ذَاكِرٌ لِلصَّوْمِ أَوْصَلَ إِلَى جَوْفِهِ بِاخْتِيَارِهِ مَا يُمْكِنُهُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ ، فَوَجَبَ أَنْ يُفْطِرَ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا دَاوَى جُرْحَهُ بِدَوَاءٍ وَصَلَ إِلَى جَوْفِهِ ، وَهُوَ ذَاكِرٌ لِصَوْمِهِ ، فَقَدْ أَفْطَرَ بِهِ رَطْبًا كَانَ أَوْ يَابِسًا .

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُفْطِرُ بِالرَّطْبِ وَلَا يُفْطِرُ بِالْيَابِسِ ؛ لِأَنَّ الْيَابِسَ يُمْسِكُهُ الْجُرْحُ فَلَا يَصِلُ إِلَى الْجَوْفِ . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : لَا يُفْطِرُ بِرَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَعْمِلُهُ عِلَاجًا لَا اغْتِذَاءً فَجَرَى مَجْرَى الضَّرُورَةِ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمْ هُوَ أَنَّ كُلَّ مَنْفَذٍ أَفْطَرَ بِالدَّاخِلِ فِيهِ إِذَا كَانَ رَطْبًا ، أَفْطَرَ بِهِ وَإِنْ كَانَ يَابِسًا كَالْفَمِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا وَصَلَ مِنَ الْفَمِ أَفْطَرَ بِهِ فَإِذَا وَصَلَ مِنْ غَيْرِهِ ، أَفْطَرَ بِهِ كَالرَّطْبِ .

إِذَا جَرَحَ نَفْسَهُ مُخْتَارًا أَوْ جَرَحَهُ غَيْرُهُ بِاخْتِيَارِهِ فَنَفَذَتِ الْجِرَاحَةُ إِلَى جَوْفِهِ فَقَدْ أَفْطَرَ

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا جَرَحَ نَفْسَهُ مُخْتَارًا ، أَوْ جَرَحَهُ غَيْرُهُ بِاخْتِيَارِهِ فَنَفَذَتِ الْجِرَاحَةُ إِلَى جَوْفِهِ وهو صائم فَقَدْ أَفْطَرَ ، وَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ وَلَوْ جُرِحَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ لَمْ يُفْطِرْ ، وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ لَا يُفْطِرُ بِحَالٍ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إِنْ لَمْ تَظْهَرْ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ لَمْ يُفْطِرْ وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْقِيَاسِ مَعَ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ ، فَأَمَّا إِذَا أَسْقَطَ الدُّهْنَ أَوْ غَيْرَهُ حَتَّى وَصَلَ إِلَى جَوْفِهِ أَوْ رَأْسِهِ وهو صائم فَلَقَدْ أَفْطَرَ بِهِ ، وَقَالَ دَاوُدُ هُوَ عَلَى صَوْمِهِ وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَقِيطِ بْنِ صَبْرَةَ : " بَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا فَتَرَفَّقْ " وَإِنَّمَا أَمَرَهُ بِالرِّفْقِ خَوْفًا مِنَ الْفِطْرِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا اسْتَنْشَقَ رَفَقَ فَإِنِ اسْتَيْقَنَ أَنَّهُ قَدْ وَصَلَ إِلَى الرَّأْسِ أَوِ الْجَوْفِ فِي الْمَضْمَضَةِ وَهُوَ عَامِدٌ ذَاكِرٌ لِصَوْمِهِ أَفْطَرَ ( وَقَالَ ) فِي كِتَابِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى لَا يَلْزَمُهُ حَتَى يُحْدِثَ ازْدِرَادًا فَأَمَّا إِنْ كَانَ أَرَادَ الْمَضْمَضَةَ فَسَبَقَهُ لِإِدْخَالِ النَّفَسِ وَإِخْرَاجِهِ فَلَا يُعِيدُ وَهَذَا خَطَأٌ فِي مَعْنَى النِّسْيَانِ أَوْ أَخَفُّ مِنْهُ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) إِذَا كَانَ الْآكِلُ لَا يَشُكُّ فِي اللَّيْلِ فَيُوَافِي الْفَجْرَ مُفْطِرًا بِإِجْمَاعٍ وَهُوَ بِالنَّاسِي أَشْبَهُ ؛ لِأَنَّ كِلَيْهِمَا لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ صَائِمٌ وَالسَّابِقُ إِلَى جَوْفِهِ الْمَاءُ يَعْلَمُ أَنَّهُ صَائِمٌ فَإِذَا أَفْطَرَ فِي الْأَشْبَهِ بِالنَاسِي كَانَ الْأَبْعَدُ عِنْدِي أَوْلَى بِالْفِطْرِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : مَنْ أَرَادَ الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ فِي صَوْمِهِ ، فَالْأَوْلَى لَهُ أَنْ يَرْفُقَ وَلَا يُبَالِغَ ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ لَقِيطًا بِذَلِكَ ، فَإِنْ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ فَوَصَلَ الْمَاءُ إِلَى رَأْسِهِ أَوْ جَوْفِهِ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ نَاسِيًا لِصَوْمِهِ ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَهُوَ عَلَى صَوْمِهِ كَالْآكِلِ نَاسِيًا . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ قَاصِدًا لِإِيصَالِ الْمَاءِ إِلَى جَوْفِهِ أَوْ رَأْسِهِ فَهَذَا يُفْطِرُ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ ، كَالْآكِلِ عَامِدًا ، وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ غَيْرَ قَاصِدٍ إِلَى إِيصَالِ الْمَاءِ إِلَى جَوْفِهِ ، وَإِنَّمَا سَبَقَهُ الْمَاءُ وَغَلَبَهُ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ قَدْ بَالَغَ فِي الِاسْتِنْشَاقِ . وَالثَّانِي : لَمْ يُبَالِغْ ، فَإِنْ بَالَغَ فَقَدْ أَفْطَرَ وَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَادِثٌ عَنْ سَبَبٍ مَكْرُوهٍ كَالْإِنْزَالِ إِذَا حَدَثَ عَنِ الْقُبْلَةِ ، وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْبَغْدَادِيِّينَ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُبَالَغَةِ وَغَيْرِهَا ، وَلَيْسَ يَصِحُّ لِمَا ذَكَرْنَا ، فَإِنْ لَمْ يُبَالِغْ فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : قَدْ أَفْطَرَ وَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ وَوَجْهُهُ مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قُبْلَةِ الصَّائِمِ فَقَالَ : " أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضَتْ " فَشَبَّهَ الْقُبْلَةَ بِالْمَضْمَضَةِ ، ثُمَّ كَانَتِ الْقُبْلَةُ مَعَ الْإِنْزَالِ تُفْطِرُ ، فَكَذَلِكَ الْمَضْمَضَةُ مَعَ الِازْدِرَادِ ، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الِاسْتِنْشَاقِ : " إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا فَتَرَفَّقْ " خَوْفًا مِنْ إِفْطَارِهِ بِوُصُولِ الْمَاءِ إِلَى رَأْسِهِ ، وَلِأَنَّ الْأَسْبَابَ الْحَادِثَةَ عَنِ الْأَفْعَالِ تَجْرِي مَجْرَى الْمُبَاشَرَةِ لَهَا فِي الْحُكْمِ كَالْجَنَابَةِ ، يَجِبُ الْقَوَدُ فِيهَا بِالْمُبَاشَرَةِ وَالسِّرَايَةِ فَكَذَلِكَ الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ يَجِبُ أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُ السَّبَبِ فِيهِمَا وَالْمُبَاشَرَةُ ، وَلِمَا ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ مِنْ قِيَاسِهِ عَلَى الْأَكْلِ شَاكًّا فِي الْفَجْرِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : نُصَّ عَلَيْهِ فِي اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى ، أَنَّهُ عَلَى صَوْمِهِ ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ . وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ أَنَّهُ مَغْلُوبٌ عَلَى هَذَا الْفِعْلِ فَصَارَ بِمَثَابَةِ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْأَكْلِ ، وَلِأَنَّهُ وَصَلَ إِلَى جَوْفِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُفْطِرَ ، أَصْلُهُ الذُّبَابُ إِذَا طَارَ إِلَى حَلْقِهِ ، وَلِأَنَّ الْفِطْرَ يَقَعُ تَارَةً بِمَا يَصِلُ إِلَى الْجَوْفِ ، وَتَارَةً بِمَا يَنْفَصِلُ عَنْهُ ، ثُمَّ تَقَرَّرَ أَنَّ مَا يَنْفَصِلُ عَنْهُ بِلَا اخْتِيَارٍ كَالْقَيْءِ وَالْإِنْزَالِ لَا يُفْطِرُ ، فَكَذَلِكَ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ مِنَ الْمَضْمَضَةِ بِالِاخْتِيَارِ ، وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ فِي صَوْمِ الْفَرْضِ وَالنَّفْلِ سَوَاءٌ ، وَحُكِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ إِنْ تَوَضَّأَ لِنَافِلَةٍ أَفَطَرَ ، وَإِنْ تَوَضَّأَ لِفَرِيضَةٍ لَمْ يُفْطِرْ ؛ لِأَنَّهُ فِي الْفَرِيضَةِ مُضْطَرٌّ ، وَفِي النَّافِلَةِ مُخْتَارٌ وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ فِي الطَّهَارَتَيْنِ غَيْرُ مُضْطَرٍّ إِلَى الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ ، لِأَنَّهُمَا سُنَّتَانِ فِي الطَّهَارَتَيْنِ مَعًا . وَالثَّانِي : أَنَّ حُكْمَ الْفِطْرِ فِي الِاضْطِرَارِ وَالِاخْتِيَارِ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَجْهَدَهُ الصَّوْمُ ، فَأَكَلَ خَوْفَ التَّلَفِ أَفَطَرَ ، وَلَوِ ابْتَدَأَ الْأَكْلَ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ أَفَطَرَ ، فَدَلَّ عَلَى أَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ الْهُ عَنْهُ : " وَإِنِ اشْتَبَهَتِ الشَّهُورُ عَلَى أَسِيرٍ فَتَحَرَّى شَهْرَ رَمَضَانَ فَوَافَقَهُ أَوْ مَا بَعْدَهُ أَجْزَأَهُ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَبَسَهُ الْمُشْرِكُونَ فِي مَطْمُورَةٍ فَاشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الشُّهُورُ وَأَشْكَلَ عَلَيْهِ شَهْرُ رَمَضَانَ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَحَرَّى فِيهِ وَيَجْتَهِدَ ثُمَّ يَصُومَ عَلَى غَالِبِ ظَنِّهِ كَمَا يَجْتَهِدُ فِي الْقِبْلَةِ ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ ثُمَّ أُطْلِقَ لَمْ تَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُبَيَّنَ لَهُ صَوَابُ اجْتِهَادِهِ وَمُوَافَقَتُهُ رَمَضَانَ نَفْسِهِ ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ أَجْزَأَهُ صَوْمُهُ ، وَهَذَا قَوْلُ الْفُقَهَاءِ كَافَّةً ، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ : عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَاتِ لَا يَصِحُّ أَدَاؤُهَا مَعَ الشَّكِّ فِي دُخُولِ وَقْتِهَا كَالصَّلَاةِ ، وَهَذَا خَطَأٌ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ مَعَ إِجْمَاعِ السَّلَفِ قَبْلَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [ الْبَقَرَةِ : ] وَهَذَا قَدْ شَهِدَ الشَّهْرَ وَصَامَهُ وَلِأَنَّهُ أَدَّى الْعِبَادَةَ بِاجْتِهَادٍ ، فَوَجَبَ إِذَا بَانَ لَهُ صَوَابُ اجْتِهَادِهِ أَنْ يُجْزِيَهُ ، كَمَا لَوِ اجْتَهَدَ فِي الْقِبْلَةِ وَصَلَّى وَبَانَ لَهُ صَوَابُ الِاجْتِهَادِ ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ دُخُولِ الْوَقْتِ ، فَلَيْسَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ ؛ لِأَنَّهُ إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ دُخُولُ الْوَقْتِ فَصَلَّى أَجَزْأَهُ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَبِينَ لَهُ صِيَامُ مَا بَعْدَ رَمَضَانَ فَهَذَا يُجْزِئُهُ ، وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ إِلَّا فِيمَا لَا يَصِحُّ صِيَامُهُ مِنَ الْعِيدَيْنِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ ، وَإِنَّمَا أَجْزَأَهُ ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ قَدِ اسْتَقَرَّ فِي ذِمَّتِهِ بِفَوَاتِ الشَّهْرِ ، ثُمَّ وَافَقَ صَوْمُهُ زَمَانَ الْقَضَاءِ فَكَذَلِكَ أَجْزَأَهُ فَإِنْ بَانَ لَهُ صِيَامُ شَوَّالٍ لَمْ يَخْلُ حَالُ الشَّهْرَيْنِ أَعْنِي رَمَضَانَ وَشَوَّالًا مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : إِمَّا أَنْ يَكُونَا تَامَّيْنِ ، أَوْ نَاقِصَيْنِ ، أَوْ يَكُونَ شَهْرُ رَمَضَانَ تَامًّا وَشَوَّالٌ نَاقِصًا ، أَوْ يَكُونَ شَهْرُ رَمَضَانَ نَاقِصًا وَشَوَّالٌ تَامًّا ، فَإِنْ كَانَا تَامَّيْنِ لَزِمَهُ فَضَاءُ يَوْمِ الْفِطْرِ وَحْدَهُ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَا نَاقِصَيْنِ ، فَإِذَا قَضَاهُ فَقَدْ أَدَّى فَرْضَهُ وَأَجْزَأَهُ ، وَإِنْ كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ تَامًّا وَشَوَّالٌ نَاقِصًا لَزِمَهُ قَضَاءُ يَوْمَيْنِ ، يَوْمُ الْفِطْرِ وَيَوْمُ النُّقْصَانِ ، وَإِنْ كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ نَاقِصًا وَشَوَّالٌ تَامًّا ، فَقَدْ أَجْزَأَهُ عَنْ فَرْضِهِ ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ يَوْمَ الْفِطْرَ مِنْ شَوَّالٍ بُدِّلَ مِنَ الْيَوْمِ النَّاقِصِ مِنْ رَمَضَانَ ، وَلَوْ بَانَ لَهُ أَنَّهُ صَامَ نِصْفَ رَمَضَانَ وَنِصْفَ شَوَّالٍ أَجْزَأَهُ إِلَّا يَوْمَ الْفِطْرِ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ ، وَيَكُونُ نِصْفُ صَوْمِهِ قَضَاءً وَنَصِفُهُ أَدَاءً . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَبِينَ لَهُ صِيَامُ مَا قَبْلَ رَمَضَانَ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ شَهْرُ رَمَضَانَ بَاقِيًا لَمْ يَفُتْ فَعَلَيْهِ إِعَادَةُ الصَّوْمِ فِيهِ لَا يُخْتَلَفُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [ الْبَقَرَةِ : ] . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ رَمَضَانَ قَدْ فَاتَ وَمَضَى فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي كُتُبِهِ وُجُوبُ الْإِعَادَةِ عَلَيْهِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ مِنَ الْأُمِّ وَلَوْ قَالَ : إِذَا تَأَخَّرَ فَبَانَ لَهُ صِيَامُ مَا قَبْلَهُ أَجْزَأَهُ ، كَانَ مَذْهَبًا فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ لَيْسَ هَذَا مَذْهَبًا لَهُ ، وَإِنَّمَا حَكَاهُ عَنْ غَيْرِهِ وَمَذْهَبُهُ وُجُوبُ الْإِعَادَةِ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ فِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ قَوْلَانِ :

أَحَدُهُمَا : أَنْ لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَجِبُ بِإِفْسَادِهَا الْكَفَّارَةُ ، فَوَجَبَ إِذَا أَدَّاهَا قَبْلَ الْوَقْتِ أَنْ يُجْزِئَهُ ، كَالْحَاجِّ إِذَا أَخْطَأَ الْوَقْتَ بِعَرَفَةَ فَوَقَفُوا يَوْمَ التَّرْوِيَةِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ الصَّحِيحُ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ ؛ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ لَهُ يَقِينُ الْخَطَأِ فِيمَا يَأْمَنُ مِثْلَهُ فِي الْقَضَاءِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ الْقَضَاءُ ، أَصْلُهُ إِذَا اجْتَهَدَ فِي الْإِنَاءَيْنِ ثُمَّ بَانَ نَجَاسَةُ مَا اسْتَعْمَلَهُ ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ عَلَى الْبَدَنِ يَقْدِرُ عَلَى أَدَائِهَا بِيَقِينٍ ، فَوَجَبَ إِذَا بَانَ لَهُ الْأَدَاءُ قَبْلَ الْوَقْتِ ، أَنْ تَلْزَمَهُ الْإِعَادَةُ كَالصَّلَاةِ ، قَالَ فَأَمَّا الْحَاجُّ فَيَسْتَحِيلُ وُقُوفُهُمْ بِعَرَفَةَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ ، فَلَمْ يَصِحَّ قِيَاسُ الصَّوْمِ عَلَيْهِ فَلَوْ بَانَ لَهُ صِيَامُ نِصْفِ شَعْبَانَ وَنِصْفِ رَمَضَانَ فَمَا صَادَفَ مِنْ رَمَضَانَ يُجْزِيهِ ، وَفِيمَا صَادَفَ مِنْ شَعْبَانَ قَوْلَانِ : وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ لَا يَبِينَ لَهُ زَمَانُ صِيَامِهِ هَلْ وَافَقَ رَمَضَانَ أَوْ مَا قَبْلَهُ أَوْ مَا بَعْدَهُ فَهَذَا يُجْزِيهِ صَوْمُهُ وَلَا إِعَادَةَ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنَ الِاجْتِهَادِ صِحَّةُ الْأَدَاءِ ، مَا لَمْ يُعْلَمْ يَقِينُ الْخَطَأِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَللصَّائِمِ أَنْ يَكْتَحِلَ وَيَنْزِلَ الْحَوْضَ فَيَغْطَسَ فِيهِ وَيَحْتَجِمَ كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَحْتَجِمُ صَائِمًا قَالَ وَمِمَّا سَمِعْتُ مِنَ الرَّبِيعِ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) وَلَا أَعْلَمُ فِي الْحِجَامَةِ شَيْئًا يَثْبُتُ وَلَوْ ثَبَتَ الْحَدِيثَانِ حَدِيثُ " أَفْطَرَ الْحَاجِمُ " وَحَدِيثٌ آخَرُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ فَإِنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ نَاسِخٌ لِلْأَوَّلِ وَأَنَّ فِيهِ بَيَانٌ ، وَأَنَّهُ زَمَنُ الْفَتْحِ ، وَحِجَامَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا اكْتِحَالُ الصَّائِمِ فَغَيْرُ مَكْرُوهٍ ، وَإِنْ وَجَدَ طَعْمَهُ فِي حَلْقِهِ لَمْ يُفْطِرْ . وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ : يُكْرَهُ لِلصَّائِمِ أَنْ يَكْتَحِلَ وَلَا يُفْطِرَ ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَابْنُ سِيرِينَ : إِنِ اكْتَحَلَ الصَّائِمُ أَفْطَرَ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَمِيعِهِمْ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي رَافِعٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ خَيْبَرَ وَدَعَا بِكُحْلٍ إِثْمِدٍ ، فَاكْتَحَلَ فِي رَمَضَانَ وَهُوَ صَائِمٌ . وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْكُحْلِ لِلصَّائِمِ فَقَالَ الْإِثْمِدُ غُبَارٌ فَمَا يَضُرُّ الصَّائِمَ إِذَا نَزَلَ الْغُبَارُ وَلَيْسَ فِي الصَّحَابَةِ لَهُ مُخَالِفٌ وَلِأَنَّ الْفِطْرَ يَحْصُلُ بِمَا وَصَلَ إِلَى الْجَوْفِ مِنْ مَنْفَذٍ ، فَأَمَّا مَا وَصَلَ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ مَنْفَذٍ ، فَلَا يَحْصُلُ بِهِ الْفِطْرُ كَمَا يَصِلُ بَرْدُ الْمَاءِ إِلَى الْكَبِدِ وَبَاطِنِ الْجَسَدِ ، ثُمَّ لَا يُفْطِرُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ وَصَلَ مِنْ غَيْرِ مَنْفَذٍ .



فَصْلٌ : وَأَمَّا اغْتِسَالُ الصَّائِمِ وَنُزُولُهُ الْمَاءَ فَجَائِزٌ ، وَغَيْرُ مَكْرُوهٍ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا فَيَغْتَسِلُ وَيُتِمُّ صَوْمَهُ وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا كَانَا يَتَمَاقَلَانِ فِي الْمَاءِ ، وَكَانَا صَائِمَيْنِ ، وَلَيْسَ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْحِجَامَةُ فَلَا تُفْطِرُ الصَّائِمَ ، وَلَا تُكْرَهُ لَهُ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ وَالْفُقَهَاءِ ، وَحُكِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَعَائِشَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَمِنَ التَّابِعِينَ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ : أَنَّ الْحِجَامَةَ تُفْطِرُ الصَّائِمَ تَعَلُّقًا بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ يَوْمَ الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ رَمَضَانَ بِرَجُلٍ يَحْتَجِمُ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ " رَوَاهُ ثَوْبَانُ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَشَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ وَرَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ ، وَلِأَنَّهُ دَمٌ يَخْرُجُ مِنَ الْبَدَنِ مُعْتَادٌ ، فَجَازَ أَنْ يُفْطِرَ بِهِ كَدَمِ الْحَيْضِ ، وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَهُوَ مُحْرِمٌ صَائِمٌ وَلِرِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْخَصَ فِي الْحِجَامَةِ لِلصَائِمِ وَلِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " ثَلَاثٌ لَا يُفْطِرْنَ الصَائِمَ الْقَيْءُ وَالْحِجَامَةُ وَالِاحْتِلَامُ " وَلِرِوَايَةِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِجَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، وَهُوَ يَحْتَجِمُ فَقَالَ : " أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ " ثُمَّ رَخَّصَ بَعْدَهُ فِي الْحِجَامَةِ فَكَانَ أَنَسٌ يَحْتَجِمُ وَهُوَ صَائِمٌ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ لَا يُفْطِرُ بِالْوَاصِلِ إِلَيْهِ ، لَا يُفْطِرُ بِالْخَارِجِ مِنْهُ ، أَصْلُهُ الْفِصَادُ ، وَعَكْسُهُ الْقَيْءُ ، وَأَمَّا خَبَرُهُمْ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مَنْسُوخٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَنَسٍ وَأَبِي سَعِيدٍ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ وَرَدَ عَامَ الْفَتْحِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَبَرُنَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ سَنَةَ عَشْرٍ وَالْمُتَأَخِّرُ أَوْلَى . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ " يَعْنِي بِغَيْرِ الْحِجَامَةِ كَأَنَّهُ عَلِمَ تَقَوُّمَ فِطْرِهِمَا ، أَوْ رَآهُمَا يَغْتَابَانِ فَقَالَ : أَفْطَرَ بِمَعْنَى أَنَّهُ سَقَطَ ثَوَابَهُمَا ، أَوْ عَلِمَ بِهِمَا ضَعْفًا عَلِمَ أَنَّهُمَا يُفْطِرَانِ مَعَهُ ، وَإِنَّمَا تَأَوَّلْنَاهُ بِهَذَا ؛ لِأَنَّهُ ضَمَّ الْحَاجِمَ إِلَيْهِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ فَمُنْتَقَضٌ بِالْفِصَادِ ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْحَيْضِ أَنَّ الْوَاصِلَ إِلَى مَكَانِهِ يَقَعُ بِهِ الْفِطْرُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَأَكْرَهُ الْعِلْكَ للصائم ؛ لِأَنَّهُ يَجْلِبُ الرِّيقَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ وَإِنَّمَا كَرِهْنَاهُ ، لِأُمُورٍ مِنْهَا أَنَّهُ يُجَمِّعُ الرِّيقَ ، وَيَدْعُو إِلَى الْقَيْءِ وَيُورِثُ الْعَطَشَ ، وَلَا يَأْمَنُ أَنْ يَبْتَلِعَهُ فَإِنْ مَضَغَهُ ، وَلَمْ يَصِلْ مِنْهُ شَيْءٌ إِلَى جَوْفِهِ فَهُوَ عَلَى صَوْمِهِ .



مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَصَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ وَاجِبٌ ، عَلَى كُلِّ بَالِغٍ مِنْ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ وَعَبْدٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ صَوْمَ شَهْرِ رَمَضَانَ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ بَالِغٍ عَاقِلٍ مِنْ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ وَحُرٍّ وَعَبْدٍ ، فَأَمَّا الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ في الصيام فَلَا صَوْمَ عَلَيْهِمَا لِارْتِفَاعِ الْقَلَمِ عَنْهُمَا وَزَوَالِ التَّكْلِيفِ الَّذِي يُسْقِطُ أَعْمَالَ الْأَبْدَانِ ، وَيُسْتَحَبُّ لِوَلِيِّ الصَّبِيِّ إِذَا عَقَلَ وَمَيَّزَ مِثْلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالصِّيَامِ لِيَعْتَادَهُ وَيَأْلَفَهُ ، فَإِذَا صَامَ صَحَّ صَوْمُهُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَصِحُّ مِنْهُ صَوْمٌ وَلَا صَلَاةٌ وَلَا حَجٌّ ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى صِحَّةِ صَلَاتِهِ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ وَنَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ حَجِّهِ فِي كِتَابِ الْحَجِّ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ صَوْمِهِ مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَهْلَ الْعَوَالِي بِصِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ قَالُوا : فَصُمْنَا وَصَوَّمْنَا الصِّبْيَانَ وَاتَّخَذْنَا لَهُمُ اللُّعَبَ مِنَ الْعِهْنِ لِيَلْعَبُوا بِهَا وَيَشْتَغِلُوا عَنِ الْأَكْلَ بِلُعَبِهِمْ

مَسْأَلَةٌ الكافر إذا أسلم في أيام شهر رمضان فعليه صيام ما بقى

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَمَنِ احْتَلَمَ مِنَ الْغِلْمَانِ أَوْ أَسْلَمَ مِنَ الْكُفَّارِ بَعْدَ أَيَّامٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فَإِنَهُمَا يَسْتَقْبِلَانِ الصَوْمَ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِمَا فِيمَا مَضَى " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْكَافِرُ إِذَا أَسْلَمَ فِي أَيَّامٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ ، فَعَلَيْهِ صِيَامُ مَا بَقِيَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [ الْبَقَرَةِ : ] وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ فِيمَا مَضَى عَلَى قَوْلِ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ إِلَّا الْحَسَنَ وَعَطَاءً ، فَإِنَّهُمَا قَالَا عَلَيْهِ الْقَضَاءُ فِيمَا مَضَى وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا قَوْلُهُ تَعَالَى : قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [ الْأَنْفَالِ : ] وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ " . فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ يَسْتَأْنِفُ صِيَامَ مَا بَقِيَ ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ فِيمَا مَضَى لَمْ تَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ إِسْلَامُهُ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا ، فَإِنْ أَسْلَمَ لَيْلًا اسْتَأْنَفَ الصِّيَامَ مِنَ الْغَدِ ، وَإِنْ أَسْلَمَ نَهَارًا فَهَلْ عَلَيْهِ قَضَاءُ يَوْمِهِ الَّذِي أَسْلَمَ فِيهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ فِي " حَرْمَلَةَ " " وَالْبُوَيْطِيِّ " لَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى صِيَامِ هَذَا الْيَوْمِ مَعَ إِسْلَامِهِ فِي بَعْضِهِ فَصَارَ كَمَنْ أَسْلَمَ لَيْلًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : عَلَيْهِ قَضَاءُ يَوْمٍ مَكَانَهُ ؛ لِأَنَّ إِسْلَامَهُ فِي بَعْضِ النَّهَارِ ، يُوجِبُ عَلَيْهِ صِيَامَ مَا بَقِيَ ، وَلَا يُمْكِنُهُ إِفْرَادُ ذَلِكَ بِالصَّوْمِ لَا بِقَضَاءِ يَوْمٍ كَامِلٍ كَمَا نَقُولُ هُوَ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ هُوَ فِيهِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْمِثْلِ مِنَ النَّعَمِ ، وَبَيْنَ الْإِطْعَامِ وَبَيْنَ أَنْ يَصُومَ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا ، فَلَوْ كَانَ فِي الْأَمْدَادِ كَسْرٌ لَزِمَهُ أَنْ يَصُومَ مَكَانَهُ يَوْمًا كَامِلًا .
الصبي إذا بلغ في أيام شهر رمضان فعليه أن يستأنف صيام ما بقى

فَصْلٌ : فَأَمَّا الصَّبِيُّ إِذَا بَلَغَ فِي أَيَّامٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْنِفَ صِيَامَ مَا بَقِيَ ، وَلَا يَلْزَمَهُ قَضَاءُ مَا مَضَى فَإِنْ كَانَ بُلُوغُهُ لَيْلًا ، اسْتَأْنَفَ الصِّيَامَ مِنَ الْغَدِ ، وَإِنْ كَانَ بُلُوغُهُ نَهَارًا فَلَهُ حَالَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ صَائِمًا . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مُفْطِرًا فَإِنْ كَانَ فِي يَوْمِهِ مُفْطِرًا فَفِي وُجُوبِ قَضَائِهِ وَجْهَانِ كَالْكَافِرِ إِذَا أَسْلَمَ . أَحَدُهُمَا : عَلَيْهِ الْقَضَاءُ . وَالثَّانِي : لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ يُتَمِّمُ صَوْمَهُ وَاجِبًا ، وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ وَلَا يُمْتَنَعُ أَنْ يَكُونَ مُتَنَفِّلًا بِالصِّيَامِ فِي أَوَّلِهِ مُفْتَرِضًا فِي آخِرِهِ ، كَالصَّائِمِ الْمُتَطَوِّعِ إِذَا نَذَرَ إِتْمَامَ صَوْمِهِ إِنْ قَدِمَ زَيْدٌ ، فَإِذَا قَدِمَ زِيدٌ لَزِمَهُ إِتْمَامُهُ ، وَإِنْ كَانَ مُتَطَوِّعًا فِي ابْتِدَائِهِ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ يُسْتَحَبُّ لَهُ إِتْمَامُهُ ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ إِعَادَتُهُ وَإِنَّمَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ ؛ لِأَنَّ نِيَّتَهُ مِنَ اللَّيْلِ كَانَتْ لِلنَّفْلِ لَا لِلْفَرْضِ ، وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي كِتَابِ " الصَّلَاةِ " وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ رَتَّبَهَا عَلَى غَيْرِ هَذَا فَقَالَ : إِذَا قِيلَ : إِذَا كَانَ مُفْطِرًا لَمْ يَلْزَمْهُ الْقَضَاءُ فَهَذَا أَوْلَى أَنْ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ ، وَإِذَا قِيلَ : لَوْ كَانَ مُفْطِرًا لَزِمَهُ الْقَضَاءُ فَفِي هَذَا وَجْهَانِ :

فَصْلٌ في بيان حال المجنون إذا أفاق

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمَجْنُونُ إِذَا أَفَاقَ هل عليه قضاء ما فاته من رمضان ، فَلَهُ حَالَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُفِيقَ بَعْدَ مُضِيِّ زَمَانِ رَمَضَانَ ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَسَائِرِ الْفُقَهَاءِ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ . وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ عَلَيْهِ قَضَاءُ جَمِيعِ الشَّهْرِ كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ ، وَهَذَا مَذْهَبٌ لَهُ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ " وَيُفَارِقَ الْإِغْمَاءَ لِأَنَّ الْإِغْمَاءَ مَرَضٌ يَحْدُثُ مِثْلُهُ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالْجُنُونُ نَقْصٌ يَزُولُ مَعَهُ التَّكْلِيفُ ، وَلَا يَجُوزُ حُدُوثُ مِثْلِهِ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ ، أَنْ يُفِيقَ فِي خِلَالِ شَهْرِ رَمَضَانَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْنِفَ صِيَامَ مَا بَقِيَ ، وَلَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ مَا مَضَى فَإِنْ أَفَاقَ لَيْلًا وَاسْتَأْنَفَ الصِّيَامَ مِنَ الْغَدِ وَإِنْ أَفَاقَ نَهَارًا فَهَلْ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ يَوْمِهِ ، أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مَضَيَا ، فَأَمَّا قَضَاءُ مَا مَضَى فَلَا يَلْزَمُهُ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِذَا أَفَاقَ فِي خِلَالِ الشَّهْرِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ مَا مَضَى مِنْهُ ؛ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [ الْبَقَرَةِ : ] قَالَ : وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ أَرَادَ مَنْ شَهِدَ جُزْءًا مِنْهُ فَلْيَصُمْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ مَنْ شَهِدَ جَمِيعَهُ لَوَقَعَ الصِّيَامُ فِي شَوَّالٍ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَذَا الْمَجْنُونُ ، قَدْ شَهِدَ جُزْءًا مِنَ الشَّهْرِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ صِيَامُ جَمِيعِهِ قَالَ : وَلِأَنَّهُ مَعْنَى لَا يُنَافِي الصَّوْمَ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُسْقِطَ الْقَضَاءَ كَالْإِغْمَاءِ قَالَ فَإِنْ مَنَعْتُمْ مِنْ تَسْلِيمِ الْوَصْفِ دَلَّلْنَا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مَعْنَى يُزِيلُ الْعَقْلَ فَوَجَبَ

أَنْ لَا يُنَافِيَ الصَّوْمَ كَالْإِغْمَاءِ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى فَسَادِ قَوْلِهِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ " رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ " ذَكَرَ فِيهَا الْمَجْنُونَ حَتَّى يُفِيقَ ، وَلِأَنَّهُ مَعْنًى لَوْ دَامَ جَمِيعَ الشَّهْرِ أَسْقَطَ الْقَضَاءَ فَوَجَبَ إِذَا اتَّصَلَ بِبَعْضِ الشَّهْرِ أَنْ يُسْقِطَ الْقَضَاءَ ، أَصْلُهُ الصِّغَرُ وَعَكْسُهُ الْمَرَضُ ، وَلِأَنَّهُ زَمَانٌ مَرَّ عَلَيْهِ فِي الْجُنُونِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ ، أَصْلُهُ إِذَا جُنَّ جَمِيعَ الشَّهْرِ ، فَأَمَّا الْآيَةُ فَالْمُرَادُ بِهَا غَيْرُ مَا أَدْرَكَهُ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهَا مَنْ أَدْرَكَ جُزْءًا مِنَ الشَّهْرِ فَلْيَصُمْ مَا ذَكَرَ ، فَإِنْ أَدْرَكَ جَمِيعَ الشَّهْرِ لَزِمَهُ صِيَامُ جَمِيعِهِ ، وَإِنْ أَدْرَكَ بَعْضَهُ لَزِمَهُ صِيَامُ بَعْضِهِ ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إِنَّهُ مَعْنَى لَا يُنَافِي الصَّوْمَ ، فَلَا نُسَلِّمُ لَهُمْ وَيُنَازِعُوا فِي مَعْنَى الْأَصْلِ الْمَرْدُودِ إِلَيْهِ ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ لَهُمْ أَنَّهُ لَا يُنَافِي الصَّوْمَ لَمْ يَدُلَّ عَلَى إِيجَابِ الْقَضَاءِ ، كَالصِّغَرِ لَا يُنَافِي الصَّوْمَ وَلَا يُوجِبُ الْقَضَاءَ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَأُحِبُّ لِلصَائِمِ أَنْ يُنَزِّهَ صِيَامَهُ عَنِ اللَّغَطِ الْقَبِيحِ وَالْمُشَاتَمَةِ وَإِنْ شُوتِمَ أَنْ يَقُولَ إِنِّي صَائِمٌ لِلْخَبَرِ فِي ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَمَّا الْكَذِبُ وَالْغِيبَةُ وَالشَّتْمُ وَالنَّمِيمَةُ للصائم ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مَمْنُوعٌ مِنْهُ غَيْرَ أَنَّ الصَّائِمَ بِالْمَنْعِ أَوْلَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى : إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا [ التَّوْبَةِ : ] إِلَى قَوْلِهِ : مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [ التَّوْبَةِ : ] فَالظُّلْمُ وَإِنْ كَانَ قَبِيحًا فِي جَمِيعِ السَّنَةِ فَهُوَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ أَقْبَحُ ، وَإِنَّمَا كَانَ الصَّائِمُ بِالْمَنْعِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الصِّيَامَ أَفْضَلُ أَعْمَالِ الْقُرَبِ . وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " صَمْتُ الصَّائِمِ تَسْبِيحٌ ، وَنَوْمُهُ عِبَادَةٌ ، وَدُعَاؤُهُ مُسْتَجَابٌ ، وَعَمَلُهُ مُضَاعَفٌ ، وَلِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ : فَرْحَةٌ عِنْدِ إِفْطَارِهِ وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ ، وَلَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رَائِحَةِ الْمِسْكِ " وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ " وَرَوَى الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صَوْمِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ وَرُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ " . وَرَوَى أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : الصَّوْمُ جُنَّةٌ ، فَإِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ صَائِمًا فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ ، وَإِنِ امْرُؤٌ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ : إِنِّي صَائِمٌ إِنِّي صَائِمٌ " وَفِيهِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ :

أَحَدُهَا : أَنَّهُ فِي قَوْلِهِ : إِنِّي صَائِمٌ إِنِّي صَائِمٌ شِفَاءٌ لِغَيْظِهِ وَسُكُونٌ لِنَفْسِهِ ، فَيَمْتَنِعُ عَنْ جَوَابِ خَصْمِهِ . وَالثَّالِثُ : لِيَعْلَمَ خَصْمُهُ صِيَامَهُ ، فَيَكُفَّ عَنْ شَتْمِهِ وَأَذَاهُ ، فَلَوْ خَالَفَ هَذَا فَكَذَبَ أَوِ اغْتَابَ أَوْ نَمَّ أَوْ شَتَمَ كَانَ آثِمًا مُسِيئًا وَهُوَ عَلَى صَوْمِهِ ، وَبِهِ قَالَ جَمِيعُ الْفُقَهَاءِ إِلَّا الْأَوْزَاعِيَّ فَإِنَّهُ قَالَ : قَدْ أَفْطَرَ وَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ ؛ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " خَمْسٌ يُفْطِرْنَ الْغِيبَةُ وَالنَمِيمَةُ وَالْكَذِبُ وَالنَظَرُ بِالشَّهْوَةِ وَالْيَمِينُ الْكَاذِبَةُ " وَهَذَا الْخَبَرُ وَرَدَ عَلَى طَرِيقِ الزَّجْرِ وَالتَّغْلِيظِ ، وَسُقُوطِ الثَّوَابِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا [ الْحُجُرَاتِ : ] وَالْإِنْسَانُ لَا يَأْكُلُ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا بِالْغِيبَةِ وَإِنَّمَا أَثِمَ كَإِثْمِهِ لَوْ أَكَلَ ، وَكَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ تَكَلَّمَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَلَا جُمُعَةَ " تَشْدِيدٌ فِي سُقُوطِ الثَّوَابِ وَإِنَّمَا حَمَلْنَاهُ عَلَى هَذَا ؛ لِأَنَّ دَلِيلَ الْإِجْمَاعِ يَدْفَعُهُ ، وَلِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ كَانَ الْمُبَاحُ مِنْهُ لَا يُفْطِرُ ، فَإِنَّ الْمَحْظُورَ مِنْهُ لَا يُفْطِرُ ، أَصْلُهُ الْقُبْلَةُ وَعَكْسُهُ الْأَكْلُ وَالْجِمَاعُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَالشَّيْخُ الْكَبِيرُ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الصَوْمَ وَيَقْدِرُ عَلَى الْكَفَّارَةِ يَتَصَدَّقُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ بِمُدٍّ مِنْ حِنْطَةٍ ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ جَلَّ وَعَزَّ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ قَالَ الْمَرْأَةُ الْهَرِمَةُ وَالشَّيْخُ الْكَبِيرُ الْهَرِمُ يُفْطِرَانِ وَيُطْعِمَانِ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ يَقْرَءُونَهَا " يُطِيقُونَهُ " وَكَذَلِكَ نَقْرَؤُهَا وَنَزْعُمُ أَنَّهَا نَزَلَتْ حِينَ نَزَلَ فَرْضُ الصَوْمِ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ ، قَالَ : وَآخِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَزَادَ عَلَى مِسْكِينٍ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ ثُمَّ قَالَ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ قَالَ فَلَا يَأْمُرُ بِالصِّيَامِ مَنْ لَا يُطِيقُهُ ثَمَّ بَيَّنَ فَقَالَ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَإِلَى هَذَا نَذْهَبُ وَهُوَ أَشْبَهُ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) هَذَا بَيِّنٌ فِي التَّنْزِيلِ مُسْتَغْنًى فِيهِ عَنِ التَّأْوِيلِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الشَّيْخُ الْهَرِمُ وَالشَّيْخَةُ الْهَرِمَةُ إِذَا عَجَزَا عَنِ الصَّوْمِ لِعَارِضٍ يُرْجَى زَوَالُهُ فَهُمَا كَالْمَرِيضِ لَهُمَا أَنْ يُفْطِرَا أَوْ يَقْضِيَا إِذَا أَطَاقَا وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِمَا ، فَأَمَّا إِذَا عَجَزَا عَنِ الصِّيَامِ لِضَعْفِ الْكِبَرِ ، وَمَا لَا يُرْجَى زَوَالُهُ ، أَوْ كَانَا يُلْحَقَا فِي الصَّوْمِ مَشَقَّةً عَظِيمَةً ، فَلَهُمَا أَنْ يُفْطِرَا وَعَلَيْهِمَا أَنْ يُطْعِمَا عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مُدًّا إِنْ أَمْكَنَهُمَا ، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ ، إِلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ : يُطْعِمَانِ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِنَ الْبُرِّ مُدَّيْنِ ، وَمِنَ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ صَاعًا ؛ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي الْكَفَّارَةِ .

وَقَالَ رَبِيعَةُ وَمَالِكٌ : لَهُمَا أَنْ يُفْطِرَا وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِمَا اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُمَا أَفْطَرَا لِأَجْلِ أَنْفُسِهِمَا بِعُذْرٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَلْزَمَهُمَا الْفِدْيَةُ ، كَالْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ قَالُوا : وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ عَلَى الْبَدَنِ ، فَوَجَبَ أَنْ تَنْقَلِبَ إِلَى الْمَالِ أَصْلُهُ الصَّلَاةُ قَالُوا وَلِأَنَّ الْعَجْزَ عَنِ الصَّوْمِ يُوجِبُ سُقُوطَ الْكَفَّارَةِ كَالْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ إِذَا مَاتَا قَبْلَ إِمْكَانِ الصَّوْمِ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِ الْفِدْيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [ الْبَقَرَةِ : ] ، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ فِيهِمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ قَدْ خَيَّرَ النَّاسَ فِي بَدْءِ الْإِسْلَامِ بَيْنَ أَنْ يَصُومُوا ، وَبَيْنَ أَنْ يُفْطِرُوا ثُمَّ يَفْتَدُوا ، ثُمَّ حَتَّمَ اللَّهُ الصِّيَامَ عَلَى مَنْ أَطَاقَهُ ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [ الْبَقَرَةِ : ] ، وَبَقِيَ مَنْ لَمْ يُطِقْ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ فِي جَوَازِ الْفِطْرِ وَوُجُوبِ الْفِدْيَةِ ، وَقَدْ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ يَعْنِي يُكَلِّفُونَهُ ، فَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى صِيَامِهِ ، وَقِرَاءَةُ الصَّحَابِيِّ تَجْرِي مَجْرَى خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقُولُ ذَلِكَ إِلَّا سَمَاعًا وَتَوْقِيفًا ، وَإِنَّمَا عَدَلَ الشَّافِعِيُّ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ ، لِأَنَّهَا تَشُذُّ عَنِ الْجَمَاعَةِ وَتُخَالِفُ رَسْمَ الْمُصْحَفِ ، وَيَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، أَنَّهُمْ قَالُوا : الْهَرِمُ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ إِذَا أَفْطَرَ ، وَلَيْسَ لَهُمْ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ وَلِأَنَّهُ صَوْمٌ وَاجِبٌ فَجَازَ أَنْ يَسْقُطَ إِلَى بَدَلٍ ، وَهُوَ الطَّعَامُ ، أَصْلُهُ الصَّوْمُ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يَدْخُلُ فِي جُبْرَانِهَا الْمَالُ فَجَازَ أَنْ يَقُومَ فِيهِ غَيْرُ عَمَلِهِ مَقَامَ عَمَلِهِ ، أَصْلُهُ الْحَجُّ ، فَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ عُذْرٌ أَوْجَبَ الْقَضَاءَ فَأَسْقَطَ الْكَفَّارَةَ ، وَهَذَا عُذْرٌ أَسْقَطَ الْقَضَاءَ فَلِذَلِكَ أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الصَّلَاةِ فَبَاطِلٌ بِالصَّوْمِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إِنَّ الْعَجْزَ عَنِ الصَّوْمِ يُوجِبُ سُقُوطَ الْكَفَّارَةِ كَالْمَرِيضِ ، إِذَا مَاتَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَى الصِّيَامِ قُلْنَا : الْمَعْنَى فِيهِمَا سَوَاءٌ وَذَاكَ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمَرِيضِ الْقَضَاءُ ، فَإِذَا مَاتَ قَبْلَ الْإِمْكَانِ سَقَطَ عَنْهُ ، فَهُمَا مِنْ مَعْنَى الْعَجْزِ سَوَاءٌ ، وَالْوَاجِبُ عَلَى الشَّيْخِ الْهَرِمِ الْفِدْيَةُ ، فَإِذَا مَاتَ قَبْلَ الْإِمْكَانِ سَقَطَتْ عَنْهُ ، فَهُمَا فِي مَعْنَى الْعَجْزِ سَوَاءٌ ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَا فِيمَا لَزِمَهُمَا قَبْلَ الْعَجْزِ ، فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ أَحَالَ قِرَاءَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَنَعَ أَنْ يَكُونَ لَهَا وَجْهٌ تَعَقَّبَهَا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ [ الْبَقَرَةِ : ] وَالْعَاجِزُ عَنِ الصَّوْمِ يُؤْمَرُ بِتَرْكِهِ لَا بِفِعْلِهِ قُلْنَا : هَذَا عَائِدٌ إِلَى الْمُطِيقِ فَلَمْ يَمْتَنِعْ مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .

يُكْرَهُ لِلصَّائِمِ أَنْ يَسْتَاكَ عَشِيًّا مِنْ زَوَالِ الشَّمْسِ إِلَى غُرُوبِهَا

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا أَكْرَهُ فِي الصَّوْمِ السِّوَاكَ للصائم بِالْعُودِ الرَّطْبِ وَغَيْرِهِ وَأَكْرَهُهُ بِالْعَشِيِّ لِمَا أُحِبُّ مِنْ خُلُوفِ فَمِ الصَّائِمِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . يُكْرَهُ لِلصَّائِمِ أَنْ يَسْتَاكَ عَشِيًّا مِنْ زَوَالِ الشَّمْسِ إِلَى غُرُوبِهَا ، وَلَمْ يُحَدِّدْهُ الشَّافِعِيُّ

بِالزَّوَالِ وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْعَشِيَّ فَحَدَّهُ أَصْحَابُنَا بِالزَّوَالِ ، فَأَمَّا السِّوَاكُ غُدْوَةً إِلَى قَبْلِ الزَّوَالِ فَجَائِزٌ ، وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ جَوَازُهُ قَبْلَ الزَّوَالِ وَبَعْدَهُ ؛ تَعَلُّقًا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ أَنَّهُ قَالَ : رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَا أُحْصِي يَسْتَاكُ وَهُوَ صَائِمٌ . وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " خَيْرُ خِصَالِ الصَائِمِ السِّوَاكُ " وَرُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الصَّائِمِ هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَاكَ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ . شَيْءٌ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ : نَعَمْ . وَلِأَنَّ مَا يُسْتَحَبُّ فِعْلُهُ لِلصَّائِمِ قَبْلَ الزَّوَالِ يُسْتَحَبُّ لَهُ فِعْلُهُ بَعْدَ الزَّوَالِ كَالْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى كَرَاهَتِهِ عَشِيًّا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصَوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ ، وَلَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ " وَمَا هَذِهِ صِفَتُهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحَبًّا ، وَمَا كَانَ مُسْتَحَبًّا فَإِزَالَتُهُ مَكْرُوهَةٌ ، وَخُلُوفُ الصَّوْمِ يَكُونُ عَشِيًّا ، فَأَمَّا غُدْوَةً فَعَنْ نَوْمٍ ، وَرُوِيَ عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِذَا صَامَ أَحَدُكُمُ فَلْيَسْتَكْ بِالْغَدَاةِ وَلَا يَسْتَكْ بِالْعَشِيِّ ، فَمَا مِنْ صَائِمٍ تَيْبَسُ شَفَتَاهُ إِلَّا كَانَ ذَلِكَ نُورًا بَيْنَ عَيْنَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَعَلَّقَتْ بِالْفَمِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ لِلصَّوْمِ تَأْثِيرٌ فِي مَنْعِهَا كَالْمُبَالَغَةِ فِي الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ وَلِأَنَّهَا رَائِحَةٌ تَوَلَّدَتْ مِنْ عِبَادَةٍ ، فَجَازَ أَنْ يُكْرَهَ قَطْعُهَا ، أَصْلُهُ غَسْلُ دَمِ الشَّهِيدِ ، فَأَمَّا خَبَرُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ وَعَائِشَةَ فَمَحْمُولٌ عَلَى مَا قَبْلَ الزَّوَالِ بِدَلِيلِ مَا رَوَيْنَا ، وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ فَغَيْرُ ثَابِتٍ عَلَى أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْجَوَازِ وَإِخْبَارُنَا عَلَى الْكَرَاهَةِ عَلَى أَنَّ خَبَرَنَا أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي الْحَظْرَ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ التَّعْلِيلِ ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمَضْمَضَةِ فَالْمَعْنَى فِيهَا أَنَّهَا لَا تُزِيلُ الْخُلُوفَ ، وَلَا تُقْطَعُ بِهَا الرَّائِحَةُ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا السِّوَاكُ بِالْعُودِ الرَّطْبِ للصائم فَقَدْ كَرِهَهُ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ قَالُوا : لِأَنَّهُ يَحْلِبُ الْفَمَ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَكْرُوهًا كَالْعِلْكِ ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالْفُقَهَاءُ إِلَى جَوَازِهِ بِالْعُودِ الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ ، مِنْ غَيْرٍ كَرَاهَةٍ ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنِ اسْتُحِبَّ لَهُ السِّوَاكُ بِالْعُودِ الْيَابِسِ اسْتُحِبَّ لَهُ السِّوَاكُ بِالْعُودِ الرَّطْبِ ، كَغَيْرِ الصَّائِمِ ، وَلِأَنَّ رُطُوبَةَ الْعُودِ لَيْسَ بِأَكْثَرَ مِنْ رُطُوبَةِ الْمَاءِ فِي الْمَضْمَضَةِ ثُمَّ لَمْ يُمْنَعِ الصَّائِمُ مِنْهَا ، كَذَلِكَ مِنْ رُطُوبَةِ الْعُودِ فَأَمَّا الْعِلْكُ ، فَإِنَّمَا كَرِهْنَاهُ ؛ لِأَنَّهُ يَدْعُو الْقَيْءَ وَيُورِثُ الْعَطَشَ ، وَيَحْلِبُ الْفَمَ وَهَذِهِ الْأَوْصَافُ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ فِي الْعُودِ الرَّطْبِ ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُكْرَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ صِيَامِ التَّطَوُّعِ وَالْخُرُوجِ مِنْهُ قَبْلَ تَمَامِهِ

بَابُ صِيَامِ التَّطَوُّعِ وَالْخُرُوجِ مِنْهُ قَبْلَ تَمَامِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ عَمَّتِهِ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ أَنَّهَا قَالَتْ دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ خَبَّأْنَا لَكَ حَيْسًا فَقَالَ " أَمَا إِنِّي كُنْتُ أُرِيدُ الصَوْمَ وَلَكِنْ قَرِّبِيهِ " قَالَ وَقَدْ صَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرِهِ حَتَى بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ ثُمَّ أَفْطَرَ وَرَكَعَ عُمَرُ رَكْعَةً ثُمَّ انْصَرَفَ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ إِنَّمَا هُوَ تَطَوُّعٌ فَمَنْ شَاءَ زَادَ وَمَنْ شَاءَ نَقَصَ وَمِمَّا يَثْبُتُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِثْلَ ذَلِكَ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَجَابِرٍ أَنَّهُمَا كَانَا لَا يَرَيَانِ بِالْإِفْطَارِ فِي صَوْمِ التَّطَوُعِ بَأْسًا وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رَجُلٍ صَلَّى رَكْعَةً وَلَمْ يُصَلِّ مَعَهَا لَهُ أَجْرٌ مَا احْتَسَبَ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : فَمَنْ دَخَلَ فِي صَوْمٍ أَوْ صَلَاةٍ فَأُحِبُّ أَنْ يَسْتَتِمَّ وَإِنْ خَرَجَ قَبْلَ التَّمَامِ لَمْ يُعِدْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ فِي صِيَامِ التَّطَوُّعِ ، أَوْ صَلَاةَ التَّطَوُّعِ وخرج منه قبل إتمامه ، فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ إِتْمَامُ ذَلِكَ ، فَإِنْ خَرَجَ مِنْهُ قَبْلَ إِتْمَامِهِ جَازَ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ مَعْذُورًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَعْذُورٍ ، وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْلُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ ، وَفِي الْفُقَهَاءِ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ . وَقَالَ مَالِكٌ إِنْ خَرَجَ مِنْهُ بِعُذْرٍ جَازَ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ خَرَجَ مِنْهُ بِغَيْرِ عُذْرٍ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : عَلَيْهِ إِتْمَامُهُ فَإِنْ خَرَجَ مِنْهُ قَبْلَ إِتْمَامِهِ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ مَعْذُورًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَعْذُورٍ ، وَالْخِلَافُ مَعَهُ فِي فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي وُجُوبِ إِتْمَامِهِ . وَالثَّانِي : فِي وُجُوبِ قَضَائِهِ وَالْكَلَامُ فِيهِمَا سَوَاءٌ ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْإِتْمَامِ بِحَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ ، وَقَوْلِهِ " هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا " فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِلَّا أَنْ تَتَطَوَّعَ " تَقْدِيرُهُ إِلَّا أَنْ تَتَطَوَّعَ فَيَلْزَمُكَ

التَطَوُّعُ أَيْضًا وَلِأَنَّ كُلَّ مَا وَجَبَ فِيهِ الْمُضِيُّ بِالنَّذْرِ وَجَبَ الْمُضِيُّ فِيهِ بِالْفِعْلِ كَالْحَرَجِ وَاسْتَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ عِنْدَ فَقْدِ الْإِتْمَامِ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا أَفْطَرَتَا يَوْمًا تَطَوُّعًا فَقَالَتَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُهْدِيَ لَنَا طَعَامٌ فَاشْتَهَيْنَا فَأَفْطَرْنَا فَقَالَ : " لَا عَلَيْكُمَا اقْضِيَا يَوْمًا مَكَانَهُ " قَالَ : وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ انْعَقَدَتْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي افْتَتَحَهَا ، فَوَجَبَ إِذَا أَفْسَدَهَا أَنْ يَلْزَمَهُ قَضَاؤُهَا كَالْحَجِّ ، وَقَوْلُهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي افْتَتَحَهَا احْتِرَازًا مِمَّنْ أَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ وَقْتِهَا ، أَوْ أَحْرَمَ بِصَلَاةٍ فَائِتَةٍ ثُمَّ بَانَ لَهُ أَدَاؤُهَا فَلَهُ الْخُرُوجُ مِنْ ذَلِكَ قَبْلَ الْإِتْمَامِ ، وَلِأَنَّهَا لَمْ تَنْعَقِدْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي افْتَتَحَهَا عَلَيْهِ ، وَهَذَا خَطَأٌ وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ الْخُرُوجِ مِنْ ذَلِكَ قَبْلَ إِتْمَامِهِ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي أَوَّلِ الْبَابِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ : خَبَّأْنَا لَكَ حَيْسًا فَقَالَ : " أَمَا إِنِّي كُنْتُ أُرِيدُ الصَوْمَ وَلَكِنْ قَرِّبِيهِ " فَإِنْ قِيلَ : فَقَوْلُهُ : أُرِيدُ الصَوْمَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صَائِمٌ ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ إِرَادَةٍ يُحْدِثُهَا ، قِيلَ : قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَرَادَ الصَّوْمَ ، فِيمَا مَضَى وَمَنْ أَرَادَ الصَّوْمَ فِيمَا مَضَى كَانَ صَائِمًا فِي الْحَالِ عَلَى أَنَّا رُوِّينَا عَنْهُ ، أَنَّهُ قَالَ : " كُنْتُ أَصْبَحْتُ صَائِمًا وَلَكِنْ قَرِّبِيهِ " وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ جَعْدَةَ عَنْ أُمِّ هَانِيءٍ وَهِيَ جَدَّتُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمَ الْفَتْحِ فَأَتَى بِإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ فَشَرِبَ ثُمَّ نَاوَلَنِي ، فَقُلْتُ : إِنِّي صَائِمَةٌ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ الْمُتَطَوِّعَ أَمِيرُ نَفْسِهِ فَإِنْ شِئْتِ فَصُومِي ، وَإِنْ شِئْتِ فَأَفْطِرِي " وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى طَعَامٍ وَهُوَ صَائِمٌ تَطَوُّعًا فَلْيُفْطِرْ فَإِنَّ ذَلِكَ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ " وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يَخْرُجُ بِالْفَسَادِ مِنْهَا فَوَجَبَ أَنْ لَا يُلْزِمَهُ بِالدُّخُولِ فِيهَا كَالِاعْتِكَافِ ، أَوْ كَمَنْ أَحْرَمَ بِصَلَاةِ فَرِيضَةٍ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِهَا ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى سُقُوطِ الْقَضَاءِ مَا رُوِيَ عَنْ أُمِّ هَانِيءٍ قَالَتْ لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ جَاءَتِ الْوَلِيدَةُ بِإِنَاءٍ فِيهِ شَرَابٌ فَنَاوَلَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَرِبَ مِنْهُ ثَمَّ نَاوَلَنِي فَشَرِبْتُ فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْطَرْتُ وَكُنْتُ صَائِمَةً وَكَرِهْتُ أَنْ أَرُدَّ سُؤْرَكَ فَقَالَ : " إِنْ كَانَ فَرْضًا فَاقْضِ يَوْمًا مَكَانَهُ ، وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا فَإِنْ شِئْتِ فَاقْضِي وَإِنْ شِئْتِ فَلَا تَقْضِي " وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يَخْرُجُ بِالْفَسَادِ مِنْهَا فَوَجَبَ إِذَا تَطَوَّعَ بِالدُّخُولِ فِيهَا ثُمَّ أَفْسَدَهَا لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ كَالطَّهَارَةِ وَالِاعْتِكَافِ ، فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِحَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ فَمَعْنَاهُ إِلَّا أَنْ تَتَطَوَّعَ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَنْ تَفْعَلَ ذَلِكَ وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْحَجِّ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنَ الْحَجِّ بِالْفَسَادِ ، وَيَخْرُجُ مِنْ غَيْرِهِ بِالْفَسَادِ .

وَالثَّانِي : أَنَّ فَرْضَ الْحَجِّ وَنَفْلَهُ يَسْتَوِي فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِالْإِفْسَادِ ، وَيُخَالِفُ غَيْرَهُ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ فَضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّ الرَّاوِيَ لَهُ الزُّهْرِيُّ ، وَقَدْ قَالَ لَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ سَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ عَنْهُ فَقَالَ : سَمِعْتُ رَجُلًا عَلَى بَابِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ يُحَدِّثُ بِهِ لَا أَعْرِفُهُ ، وَقَدْ رَوَى أَنَّهُ قَالَ : " اقْضِيَا يَوْمًا مَكَانَهُ إِنْ شِئْتُمَا " عَلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ : يَوْمًا مَكَانَهُ أَيْ مِثْلَهُ وَمِثْلُهُ تَطَوُّعٌ لَا وَاجِبٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ النَّهْيِ عَنِ الْوِصَالِ فِي الصَّوْمِ

بَابُ النَّهْيِ عَنِ الْوِصَالِ فِي الصَّوْمِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الْوِصَالِ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ تُوَاصِلُ قَالَ : " إِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ إِنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى " ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) وَفَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ النَّاسِ فِي أُمُورٍ أَبَاحَهَا لَهُ حَظَرَهَا عَلَيْهِمْ ، وَفِي أُمُورٍ كَتَبَهَا عَلَيْهِ خَفَّفَهَا عَنْهُمْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْوِصَالُ فِي الصِّيَامِ فَهُوَ أَنْ يَصُومَ الرَّجُلُ يَوْمَهُ فَإِذَا دَخَلَ اللَّيْلُ امْتَنَعَ مِنَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ ، ثُمَّ أَصْبَحَ مِنَ الْغَدِ صَائِمًا فَيَصِيرُ وَاصِلًا بَيْنَ الْيَوْمَيْنِ بِالْإِمْسَاكِ لَا بِالصَّوْمِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَفْطَرَ بِدُخُولِ اللَّيْلِ ، وَإِنْ لَمْ يَأْكُلْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَاهُنَا وَأَدْبَرَ النَهَارُ مِنْ هَاهُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ " رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ فَهَذَا هُوَ الْوِصَالُ الْمَكْرُوهُ الَّذِي نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَكَانَ الْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاصَلَ فَوَاصَلَ النَّاسُ ثُمَّ نَهَاهُمْ عَنِ ، الْوِصَالِ فَانْتَهَوْا ثُمَّ وَاصَلَ فَوَاصَلُوا فَقَالَ : " أَمَا إِنِّي كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنِ الْوِصَالِ " فَقَالُوا رَأَيْنَاكَ وَاصَلْتَ فَوَاصَلْنَا فَقَالَ " إِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ إِنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى " وَرَوَى أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِيَّاكُمْ وَالْوِصَالَ إِيَّاكُمْ وَالْوِصَالَ إِيَّاكُمْ وَالْوِصَالَ ، إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي " وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يُطْعِمُهُ وَيَسْقِيهِ حَقِيقَةً . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَمُدُّهُ مِنَ الْقُوَّةِ بِمَا يَقُومُ مَقَامَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ . فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَالْوِصَالُ مَكْرُوهٌ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَلِأَنَّ الْوِصَالَ يُورِثُ ضَعْفًا ، وَيُقَاسِي فِيهِ مَشَقَّةً وَجُهْدًا فَرُبَّمَا أَعْجَزَهُ عَنْ أَدَاءِ مُفْتَرَضَاتِهِ ، فَإِنْ وَاصَلَ فَقَدْ أَسَاءَ وَصَوْمُهُ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ تَوَجَّهَ إِلَى غَيْرِ زَمَانِ الصَّوْمِ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَادِحًا فِي صِيَامِهِ ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَاصَلَ الصِّيَامَ سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، ثُمَّ أَفْطَرَ عَلَى سَمْنٍ وَلَبَنٍ وَصَبِرٍ وَتَأَوَّلَ فِي السَّمْنِ أَنَّهُ يُلَيِّنُ الْأَمْعَاءَ ، وَفِي اللَّبَنِ أَنَّهُ أَلْطَفُ غِذَاءٍ ، وَفِي الصَّبِرِ أَنَّهُ يُقَوِّي الْأَعْضَاءَ .

بَابُ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ وَيَوْمِ عَاشُورَاءَ

بَابُ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ وَيَوْمِ عَاشُورَاءَ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ قَالَ حَدَثَنَا دَاوُدُ بْنُ شَابُورٍ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي قَزَعَةَ عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ عَنْ أَبِي حَرْمَلَةَ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ كَفَارَةُ السَّنَةِ وَالسَّنَةِ التِّي تَلِيهَا ، وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ يُكَفِّرُ سَنَةً " قَالَ فَأُحِبُّ صَوْمَهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَاجًّا فَأُحِبُّ لَهُ تَرْكَ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ ؛ لِأَنَّهُ حَاجٌّ مُضَحٍّ مُسَافِرٌ وَلِتَرْكِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَوْمَهُ فِي الْحَجِّ وَلِيَقْوَى بِذَلِكَ عَلَى الدُّعَاءِ وَأَفْضَلُ الدَّعَاءِ يَوْمَ عَرَفَةَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . يُسْتَحَبُّ صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ لِغَيْرِ الْحَاجِّ ، لِمَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ كَفَّارَةُ سَنَتَيْنِ " وَرَوَى أَبُو قَتَادَةَ كَفَّارَةُ السَّنَةِ وَالسَّنَةِ الَّتِي تَلِيهَا وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَغْفِرُ لَهُ ذُنُوبَ سَنَتَيْنِ . وَالثَّانِي : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَعْصِمُهُ فِي هَاتَيْنِ السَّنَتَيْنِ فَلَا يَعْصِي فِيهِمَا ، فَأَمَّا صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ لِلْحَاجِّ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ . أَحَدُهَا : وَهُوَ قَوْلُ عَائِشَةَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَإِسْحَاقَ ، أَنَّ الْأَوْلَى لَهُمْ صِيَامُهُ كَسَائِرِ النَّاسِ . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ إِنْ كَانَ صَيْفًا فَالْأَوْلَى لَهُمْ إِفْطَارُهُ ، وَإِنْ كَانَ شِتَاءً فَالْأَوْلَى لَهُمْ صِيَامُهُ . وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ : وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، وَسَائِرِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْأَوْلَى لَهُمْ أَنْ يُفْطِرُوا يَوْمَ

عَرَفَةَ ، لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي صِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَةَ قَالَ : فَأَرْسَلَتْ أُمُّ الْفَضْلِ عَلَى يَدَيِ الْعَبَّاسِ قَدَحًا فِيهِ لَبَنُ الْأَوْرَاكِ ، فَشَرِبَهُ وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ بِالْمَوْقِفِ . وَرَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : سُئِلَ ابْنُ عُمَرَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ ، فَقَالَ : حَجَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَصُمْهُ ، وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ فَلَمْ يَصُمْهُ وَمَعَ عُمَرَ فَلَمْ يَصُمْهُ وَمَعَ عُثْمَانَ فَلَمْ يَصُمْهُ ، وَأَنَا لَا أَصُومُهُ ، وَلَا آمُرُ بِصِيَامِهِ ، وَلَا أَنْهَى عَنْهُ وَلِأَنَّ فِي إِفْطَارِهِ تَقْوِيَةً عَلَى أَدَاءِ حَجِّهِ ، وَعَلَى الدُّعَاءِ وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ يَوْمَ عَرَفَةَ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا يَوْمُ عَاشُورَاءَ ، فَهُوَ الْعَاشِرُ مِنَ الْمُحَرَّمِ ، قَدْ صَامَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ ، وَأَنْفَذَ إِلَى أَهْلِ الْعَوَالِي يَأْمُرُ مَنْ أَكَلَ فِيهِ بِالْإِمْسَاكِ ، وَمَنْ لَمْ يَأْكُلْ بِالصِّيَامِ أَوْ كَانَ السَّبَبُ فِي صِيَامِهِ ، مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَوَجَدَ الْيَهُودَ يَصُومُونَهُ فَقَالَ : " مَا هَذَا الْيَوْمُ ؟ " قَالُوا هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي فَلَقَ اللَّهُ فِيهِ الْبَحْرَ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَنَجَّى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى وَأَغْرَقَ آلَ فِرْعَوْنَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " نَحْنُ أَحَقُّ بِمُوسَى " فَصَامَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ وَقَالَ : " صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ كَفَّارَةُ سَنَةٍ . وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي صَوْمِهِ هَلْ كَانَ فَرْضًا ثُمَّ نُسِخَ أَمْ لَا ؟ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَطَائِفَةٌ : كَانَ صَوْمُهُ فَرْضًا ثُمَّ نُسِخَ بِشَهْرِ رَمَضَانَ . وَقَالَ آخَرُونَ وَهُوَ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَشْبَهُ أَنَّ صَوْمَهُ لَمْ يَزَلْ مَسْنُونًا لِمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ شَقِيقٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ : سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ يَقُولُ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّنَةِ الَّتِي حَجَّ فِيهَا : يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " يَوْمُ عَاشُورَاءَ لَمْ يُكْتَبْ عَلَيْكُمْ صِيَامُهُ ، وَإِنِّي صَائِمٌ فَمَنْ شَاءَ صَامَ ، وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرْ " فَأَمَّا يَوْمُ التَّاسِعِ مِنَ الْمُحَرَّمِ صيامه فَيُسْتَحَبُّ صَوْمُهُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَئِنْ عِشْتُ لَأَصُومَنَّ يَوْمَ التَّاسِعِ مِنَ الْمُحَرَّمِ " فَمَاتَ قَبْلَهُ .

وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : صُومُوا التَّاسِعَ وَالْعَاشِرَ ، وَخَالِفُوا الْيَهُودَ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا سَائِرُ شُهُورِ السَّنَةِ ، وَأَيَّامُهَا فَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَفْضِيلِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ ، مَا أَنَا ذَاكِرُهُ فَمِنْ ذَلِكَ شَهْرُ الْمُحَرَّمِ فضل صيامه رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فَضْلِ صِيَامِهِ أَنَّهُ سُئِلَ أَيُّ الصَّوْمِ أَفْضَلُ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ ، فَقَالَ : " شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ " .

فَصْلٌ : وَمِنْ ذَلِكَ شَهْرُ رَجَبٍ فضل الصيام فيه ، رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ : أَيُّ الصَّوْمِ أَفْضَلُ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ ؟ فَقَالَ : " شَهْرُ اللَّهِ الْأَصَمُّ " وَرُوِيَ الْأَصَبُّ . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : يَعْنِي رَجَبًا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَصُبُّ فِيهِ الرَّحْمَةَ صَبًّا ، وَسُمِّيَ أَصَمَّ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ فِيهِ الْقِتَالَ ، فَلَا يُسْمَعُ فِيهِ سَفْكُ دَمٍ ، وَلَا حَرَكَةُ سِلَاحٍ وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " صِيَامُ أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ رَجَبٍ كَفَّارَةُ ثَلَاثِ سِنِينَ ، وَصِيَامُ الْيَوْمِ الثَّانِي كَفَّارَةُ سَنَتَيْنِ ، وَصِيَامُ الْيَوْمِ الثَّالِثِ كَفَّارَةُ سَنَةٍ ثُمَّ كُلُّ يَوْمٍ كَفَّارَةُ شَهْرٍ " .

فَصْلٌ : وَمِنْ ذَلِكَ شَعْبَانُ وفضل الصيام فيه رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنْ وَحَرِ صَدْرِهِ فَلْيَصُمْ شَهْرَ الصَّبْرِ ، وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ " يَعْنِي بِشَهْرِ الصَّبْرِ شَعْبَانَ ، وَقِيلَ رَمَضَانَ وَقِيلَ وَحَرُ صَدْرِهِ يَعْنِي : غِشَّ صَدْرِهِ وَبَلَابِلِهِ ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ أَنَّهُ لَا يُفْطِرُ ، وَيُفْطِرُ حَتَى نَقُولَ أَنَّهُ لَا يَصُومُ وَمَا رَأَيْتُهُ صَامَ شَهْرًا أَكْثَرَ مِنْ شَعْبَانَ " فَهَذِهِ الشُّهُورُ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا تَفْضِيلُ الصِّيَامِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْأَيَّامُ الَّتِي وَرَدَتْ فِيهَا السُّنَّةُ بِصِيَامِهَا ، فَمِنْهَا يَوْمُ عَرَفَةَ وَعَاشُورَاءَ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فَضْلَ الصِّيَامِ فِيهَا ، وَمِنْهَا صِيَامُ الْأَيَّامِ الْبِيضِ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ قَدْ رُوِيَ أَنْ أَعْرَابِيًّا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنَ الشَهْرِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنْ كُنْتَ صَائِمًا فَصُمِ الْغُرَّ " .

وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : الْغُرُّ الْبَيْضُ بِطُلُوعِ الْقَمَرِ فِي جَمِيعِهَا . رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَلَاءِ عَنْ أَبِي الْأَزْهَرِ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " صُومُوا الشَّهْرَ وَسِرَّهُ " وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ عَنَى بِالشَّهْرِ رَمَضَانَ وَسِرِّهِ الْأَيَّامَ السِّتَّةَ الَّتِي تَلِيهِ مِنْ أَوَّلِ شَوَّالٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَرَادَ بِالشَّهْرِ مُسْتَهَلَّ الشَّهْرِ ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْهِلَالَ شَهْرًا قَالَ الشَّاعِرُ : أَخَوَانِ مِنْ نَجْدٍ عَلَانِيَةً وَالشَّهْرُ مِثْلُ قُلَامَةِ الظُّفْرِ وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَ بِصِيَامِ الشَهْرِ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا الْأَيَّامُ الْبِيضُ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا الْأَيَّامُ الْأُوَلُ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ أَكْثَرُهُ وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْأَيَّامِ الْبِيضِ ، هَلْ كَانَتْ فَرْضًا ثُمَّ نُسِخَتْ ؟ عَلَى مَذْهَبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا كَانَتْ فَرْضًا ثُمَّ نُسِخَتْ بِشَهْرِ رَمَضَانَ . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : وَهُوَ أَشْبَهُ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ، أَنَّهَا سُنَّةٌ لَمْ تَزَلْ ، وَاخْتَلَفُوا فِي زَمَانِهَا ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : الثَّانِيَ عَشَرَ وَمَا يَلِيهِ . وَقَالَ آخَرُونَ : الثَّالِثَ عَشَرَ وَمَا يَلِيهِ .

فَصْلٌ : وَمِنْهَا صِيَامُ سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ بَعْدَ يَوْمِ الْفِطْرِ ، وَكَرِهَ صِيَامَهَا مَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ فِي صِيَامِهَا ذَرِيعَةً إِلَى زِيَادَةِ الصَّوْمِ فَشَابَهَتْ يَوْمَ الشَّكِّ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ صِيَامَهَا سُنَّةً مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ، وَأَتْبَعَهُ بِسِتَةٍ مِنْ شَوَّالٍ فَكَأَنَّمَا صَامَ الدَهْرَ كُلَّهُ " يَعْنِي : إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعْطِي بِالْحَسَنَةِ عَشْرًا فَتَحْصُلُ لَهُ بِشَهْرِ رَمَضَانَ وَهُوَ ثَلَاثُونَ يَوْمًا بِثَلَاثِمِائَةِ حَسَنَةٍ ، وَبِسِتَّةٍ مِنْ شَوَّالٍ سِتُّونَ حَسَنَةً ، وَذَلِكَ عَدَدُ أَيَّامِ السَّنَةِ .



فَصْلٌ : وَمِنْهَا صِيَامُ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ ، فَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَدَعُ صِيَامَ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ ، فَقَالَ : " هُمَا يَوْمَانِ تُعْرَضُ فِيهِمَا الْأَعْمَالُ ، وَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ لِي فِيهِمَا عَمَلٌ صَالِحٌ " فَيُخْتَارُ صِيَامُ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الشَّهْرِ وَالْأَيَّامِ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالسَّلَفِ مِنْ بَعْدِهِ ، مَا لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ إِضْعَافُ جَسَدِهِ ، وَتَرْكُ مَا هُوَ أَوْلَى مِنْ عِبَادَاتِهِ ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِذَلِكَ بِرَحْمَتِهِ . وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ شُعَيْبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ : " صُمْ يَوْمًا وَلَكَ عَشْرَةُ أَيَّامٍ " قَالَ : زِدْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ فِيَّ قُوَّةً قَالَ : " صُمْ يَوْمَيْنِ وَلَكَ تِسْعَةُ أَيَّامٍ " قَالَ : زِدْنِي يَا رَسُولُ اللَّهِ قَالَ : " صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَكَ ثَمَانِيَةٌ " وَمَعْنَاهُ : أَنَّهُ يَضُمُّ الثَّمَانِيَةَ إِلَى التِّسْعَةِ إِلَى الْعَشَرَةِ فَتَكُونُ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا ، وَتَبْقَى ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَقِيَّةَ الشَّهْرِ فَيَصِيرُ لَهُ بِالْحَسَنَةِ عَشْرًا .

بَابُ النَّهْيِ عَنْ صِيَامِ يَوْمَيِ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ

بَابُ النَّهْيِ عَنْ صِيَامِ يَوْمَيِ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَأَنْهَى عَنْ صِيَامِ يَوْمِ الْفِطْرِ ، وَيَوْمِ الْأَضْحَى ، وَأَيَّامِ التَشْرِيقِ لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا . وَلَوْ صَامَهَا مُتَمَتِّعٌ لَا يَجِدُ هَدْيًا عَنْهُ عِنْدَنَا ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) قَدْ كَانَ قَالَ : يُجْزِيهِ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ صِيَامِ سَبْعَةِ أَيَّامٍ : الْعِيدَيْنِ وَأَيَّامِ مِنًى وَيَوْمِ الشَكِّ وَيَوْمِ الْجُمُعَةِ . فَأَمَّا الْعِيدَانِ فَنَهَى عَنْ صَوْمِهِمَا نَهْيَ تَحْرِيمٍ ، وَأَمَّا أَيَّامُ مِنًى ، فَقَدْ كَانَ الشَّافِعِيُّ يَذْهَبُ فِي الْقَدِيمِ إِلَى جَوَازِ صِيَامِهَا لِلْمُتَمَتِّعِ ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ فِي الْجَدِيدِ ، وَمَنَعَ مِنْ صِيَامِهَا لِلْمُتَمَتِّعِ وَغَيْرِهِ ، وَحَرَّمَهَا كَالْعِيدَيْنِ فَلَا يَجُوزُ صَوْمُهَا تَطَوُّعًا وَلَا نَذْرًا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي جَوَازِ صِيَامِهَا نَذْرًا ، وَأَمَّا يَوْمُ الشَّكِّ حكم صومه ، فَقَدْ ذَكَرْنَا مَعْنَى نَهْيِ الصَّوْمِ فِيهِ ، وَأَنَّهُ لِلْكَرَاهَةِ لَا لِلتَّحْرِيمِ ، فَأَمَّا يَوْمُ الْجُمُعَةِ صيامه فَقَدْ رَوَى نَهْيَ صَوْمِهِ جَابِرٌ وَأَبُو هُرَيْرَةَ ، فَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ فَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ : رَأَيْتُ جَابِرًا فِي الطَّوَافِ فَقُلْتُ لَهُ : " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ وَرَبِّ هَذِهِ الْكَعْبَةِ وَأَمَّا أَبُو هُرَيْرَةَ فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : مَا أَنَا نَهَيْتُ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ وَلَكَنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْهُ . فَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مَعْنَى هَذَا النَّهْيِ . فَقَالَ بَعْضُهُمْ : لِأَنَّهُ يَوْمُ عِيدٍ كَالْفِطَرِ وَالْأَضْحَى . وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ : إِنَّمَا وَرَدَ النَّهْيُ فِيمَنْ أَفْرَدَ صَوْمَهُ دُونَ مَنْ وَصَلَهُ بِغَيْرِهِ ، لِمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهَا وَهِيَ صَائِمَةٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ

فَقَالَ لَهَا : " أَصُمْتِ يَوْمًا قَبْلَهُ ؟ " فَقَالَتْ : لَا . فَقَالَ لَهَا : " أَتَصُومِينَ يَوْمًا بَعْدَهُ ؟ " فَقَالَتْ : لَا . فَقَالَ : " فَأَفْطِرِي " وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ مَعْنَى نَهْيِ الصَّوْمِ فِيهِ أَنَّهُ يَضْعُفُ عَنْ حُضُورِ الْجُمُعَةِ وَالدُّعَاءِ فِيهَا ، فَكَانَ مَنْ أَضْعَفَهُ الصَّوْمُ عَنْ حُضُورِ الْجُمُعَةِ كَانَ صَوْمُهُ مَكْرُوهًا ، فَأَمَّا مَنْ لَمْ يُضْعِفْهُ الصَّوْمُ عَنْ حُضُورِهَا فَلَا بَأْسَ أَنْ يَصُومَهُ ، قَدْ دَاوَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى صَوْمِ شَعْبَانَ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ فِيهِ جُمُعَاتٍ كَانَ يَصُومُهَا كَذَلِكَ رَمَضَانُ فَعُلِمَ أَنَّ مَعْنَى نَهْيِ الصَّوْمِ فِيهِ مَا ذَكَرْنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ فَضْلِ الصَّدَقَةِ فِي رَمَضَانَ وَطَلَبِ الْقِرَاءَةِ

بَابُ فَضْلِ الصَّدَقَةِ فِي رَمَضَانَ وَطَلَبِ الْقِرَاءَةِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ أَجْوَدَ النَاسِ بِالْخَيْرِ ، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ، وَكَانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ فِي رَمَضَانَ فَيَعْرِضُ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ ، فَإِذَا لَقِيَهُ كَانَ أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) وَأُحِبُّ لِلرَّجُلِ الزِّيَادَةَ بِالْجُودِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ اقْتِدَاءً بِهِ وَلِحَاجَةِ النَّاسِ فِيهِ إِلَى مَصَالِحِهِمْ وَلِتَشَاغُلِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ بِالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ عَنْ مَكَاسِبِهِمْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : يُخْتَارُ لِلنَّاسِ أَنْ يُكْثِرُوا مِنَ الْجُودِ وَالْإِفْضَالِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَبِالسَّلَفِ الصَّالِحِ مِنْ بَعْدِهِ ، وَلِأَنَّهُ شَهْرٌ شَرِيفٌ قَدِ اشْتَغَلَ النَّاسُ فِيهِ بِصَوْمِهِمْ عَنْ طَلَبِ مَكَاسِبِهِمْ ، وَيُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُوَسِّعَ فِيهِ عَلَى عِيَالِهِ وَيُحْسِنَ إِلَى ذَوِي أَرْحَامِهِ وَجِيرَانِهِ ، لَا سِيَّمَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْهُ ، وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ أَمْكَنَهُ إِفْطَارُ صَائِمٍ أَنْ يُفْطِرَهُ ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنْ أَفْطَرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا " . وَرَوَتْ أُمُّ عُمَارَةَ الْأَنْصَارِيَّةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَيْسَ مِنْ صَائِمٍ أَكَلَ

عِنْدَهُ مُفْطِرُونَ إِلَّا صَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ مَا دَامَ الْقَوْمُ يَأْكُلُونَ " وَيُخْتَارُ لَهُ أَنْ يَقُولَ إِذَا أَفْطَرَ مَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَفْطَرَ قَالَ : " ذَهَبَ الظَّمَأُ وَابْتَلَّتِ الْعُرُوقُ ، وَثَبَتَ الْأَجْرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ " وَيَسْأَلُ اللَّهَ التَوْفِيقَ لِمَا قَرَّبَ إِلَيْهِ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ .
_____كِتَابُ الِاعْتِكَافِ_____
بيان الأصل في الاعتكاف

كِتَابُ الِاعْتِكَافِ تعريفه أَمَّا الِاعْتِكَافُ فِي اللُّغَةِ فَهُوَ الْمُقَامُ وَاللُّبْثُ عَلَى الشَّيْءِ بِرًّا كَانَ أَوْ إِثْمًا ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ [ الْأَعْرَافِ : ] ، أَيْ : يُقِيمُونَ وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ : تَظَلُّ الطَّيْرُ عَاكِفَةً عَلَيْهِمْ وَتَنْتَزِعُ الْحَوَاجِبَ وَالْعُيُونَا وَقَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ : فَهُنَّ عُكُوفٌ كَنَوْحِ الْحَمَامِ قَدْ شَفَى أَكْبَادَهُنَّ الْهَوَى ثُمَّ جَاءَ الشَّرْعُ فَقَرَّرَ الِاعْتِكَافَ لُبْثًا عَلَى صِفَةٍ فِي مَكَانٍ مَخْصُوصٍ . وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ : وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [ الْبَقَرَةِ : ] وَقَوْلُهُ تَعَالَى : أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [ الْبَقَرَةِ : ] ، وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : تَطْهِيرُهُ مِنَ الْكُفَّارِ . وَالثَّانِي : مِنَ الْأَصْنَامِ . وَرَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْتَكِفُ عَشْرًا مِنْ رَمَضَانَ ، فَلَمَّا كَانَ فِي الْعَامِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ اعْتَكَفَ عِشْرِينَ يَوْمًا وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ إِلَى أَنْ تَوَفَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ . فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا ، فَالِاعْتِكَافُ سُنَّةٌ حَسَنَةٌ وَقُرْبَةٌ مَأْمُورٌ بِهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَلَازِمَةٍ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ، رِوَايَةُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ فَلْيَعْتَكِفِ الْعَشْرَ

الْأَوَاخِرَ " فَعَلَّقَهُ بِالْإِرَادَةِ ، وَلِأَنَّ الْعِبَادَاتِ الْوَاجِبَاتِ قَدْ قَرَّرَ لَهَا الشَّرْعُ أَسْبَابًا رَاتِبَةً كَالصَّلَاةِ ، أَوْ عَارِضَةً كَالزَّكَاةِ ، وَلَيْسَ لِلِاعْتِكَافِ سَبَبٌ رَاتِبٌ ، وَلَا عَارِضٌ فَعُلِمَ أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الْهَادِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَرْثِ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَكِفُ فِي الْعَشْرِ الْأَوْسَطِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ ، فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْ صَبِيحَتِهَا مِنِ اعْتِكَافِهِ ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعِي فَلْيَعْتَكِفِ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ " قَالَ : " وَأُرِيتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ ثُمَّ أُنْسِيتُهَا " قَالَ : " وَرَأَيْتُنِي أَسْجُدُ فِي صَبِيحَتِهَا فِي مَاءٍ وَطِينٍ فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ وَالْتَمِسُوهَا فِي كُلِّ وِتْرٍ " ، فَمَطَرَتِ الْسَّمَاءُ مِنْ تِلْكَ اللَّيْلَةِ ، وَكَانَ الْمَسْجِدُ عَلَى عَرِيشٍ فَوَكَفَ الْمَسْجِدُ ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ فَأَبْصَرَتْ عَيْنَايَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْصَرَفَ عَلَيْنَا وَعَلَى جَبْهَتِهِ وَأَنْفِهِ أَثَرُ الْمَاءِ وَالطِّينِ فِي صَبِيحَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) وَحَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ وَالَذِي يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ لَيْلَةُ إِحْدَى أَوْ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَلَا أُحِبُّ تَرْكَ طَلَبِهَا فِيهَا كُلِّهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَإِنَّمَا بَدَأَ الشَّافِعِيُّ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ لِشَرَفِهَا ، وَأَنَّهَا تُوَافِقُ عَشْرَ الِاعْتِكَافِ ، وَاخْتُلِفَ فِي تَسْمِيَتِهَا لَيْلَةَ الْقَدْرِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُقَدِّرُ فِيهَا أُمُورَ السَّنَةِ أَيْ : يَقْضِيهَا : وَالثَّانِي : لِأَنَّهَا عَظِيمَةُ الْقَدْرِ جَلِيلَةُ الْخَطَرِ ، مِنْ قَوْلِهِمْ رَجُلٌ لَهُ قَدْرٌ ، وَالْأَصْلُ فِيهَا قَوْلُهُ تَعَالَى : إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [ الْقَدْرِ : ] ، يَعْنِي الْقُرْآنَ جُمْلَةً أُنْزِلَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا ، فَكَانَ يَنْزِلُ نَجْمًا بَعْدَ نَجْمٍ ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى : فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ [ الْوَاقِعَةِ : ] ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى : لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [ الْقَدْرِ : ] ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ عُمُرِ أَلْفِ شَهْرٍ ، وَهُوَ قَوْلُ الرَّبِيعِ . وَالثَّانِي : أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ لَيْسَ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ . وَالثَّالِثُ : مَعْنَاهُ : أَنَّ الْعَمَلَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنَ الْعَمَلِ فِي أَلْفِ شَهْرٍ لَيْسَ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ . وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ ، ثُمَّ قَالَ : تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا [ الْقَدْرِ : ] وَفِي الرُّوحِ تَأْوِيلَانِ :

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110