كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي

وَإِنْ جَعَلْنَاهُ مُتَنَقِّلًا إِلَى الْوَرَثَةِ لَمْ يُحْتَسَبْ عَلَى الْوَرَثَةِ ، فَهَذَا حُكْمُ الْقَوْلِ الَّذِي يَجْعَلُ الْوَصِيَّةَ بِالْقَبُولِ مُمَلَّكَةً . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : وَهَذَا قَوْلٌ يَنْكَسِرُ . ا هـ . وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْقَبُولَ يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ الْمِلْكِ بِالْمَوْتِ ، فَأَوْلَادُ الْجَارِيَةِ وَمَا وُهِبَ لَهَا مِلْكًا لِلْمُوصَى لَهُ ، لَا يُحْتَسَبُ بِهِ مِنَ الثُّلُثِ ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَمْ يَمْلِكْهُ . إِلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَإِنْ رَدَّهَا فَإِنَّمَا أَخْرَجَهَا مِنْ مِلْكِهِ إِلَى الْمَيِّتِ ، وَلَهُ وَلَدُهَا وَمَا وُهِبَ لَهَا . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا ، فَكَانَ بَعْضُهُمْ يَجْعَلُ ذَلِكَ خَارِجًا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ : أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْمُوصَى لَهُ بِالْمَوْتِ كَالْمِيرَاثِ ، فَكَذَلِكَ إِذَا رَدَّ الْوَصِيَّةَ بَعْدَ الْمَوْتِ ، فَقَدْ أَخْرَجَهَا مِنْ مِلْكِهِ وَمِلْكِ مَا حَدَثَ مِنْ كَسْبِهَا وَوَلَدِهَا . وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ هَذَا خَارِجٌ مِنْهُ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَجْعَلُهُ بِالْقَبُولِ مَالِكًا مِنْ حِينِ الْمَوْتِ . وَاخْتَلَفَ مَنْ قَالَ بِهَذَا فِي تَأْوِيلِ كَلَامِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَعْنَاهُ وَإِنْ رَدَّ فَكَأَنَّمَا أَخْرَجَهَا مِنْ مِلْكِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ لَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا ، فَإِذَا رَدَّهَا فَقَدْ أَبْطَلَ مِلْكَهُ . وَقَوْلُهُ : " وَلَهُ وَلَدُهَا وَمَا وُهِبَ لَهَا " ، يَعْنِي : لِوَارِثِ الْمُوصِي . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ قَبِلَهَا ، ثُمَّ رَدَّهَا بِالْهِبَةِ . هَذَا جَوَابُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، فَهَذَا شَرْحُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي كَسْبِهَا وَوَلَدِهَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : " لِلْمُوصَى لَهُ الْجَارِيَةُ وَثُلُثُ وَلَدِهَا وَثُلُثُ مَا وُهِبَ لَهَا " تَعْلِيلًا بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَهَا الْمُوصَى لَهُ بِالْوَصِيَّةِ إِلَّا مَا صَارَ لِلْوَرَثَةِ مِثْلَاهُ وَقَدْ صَارَ إِلَيْهِمْ مِثْلَا الْجَارِيَةِ ؛ فَلِذَلِكَ صَارَ جَمِيعُهَا لِلْمُوصَى لَهُ وَلَمْ يَصِرْ إِلَيْهِمْ مِثْلَا الْوَلَدِ وَالْكَسْبِ ؛ فَلِذَلِكَ صَارَ لِلْمُوصَى لَهُ مِنْ ذَلِكَ ثُلُثُهُ وَلِلْوَرَثَةِ ثُلُثَاهُ . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : لَهُ ثُلُثَا الْجَارِيَةِ وَثُلُثَا وَلَدِهَا وَكَسْبِهَا . وَلَسْتُ أَعْرِفُ تَعْلِيلًا مُحْتَمِلًا مَا ذَكَرَاهُ ، وَكِلَا هَذَيْنِ الْمَذْهَبَيْنِ فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ الْكَسْبَ وَالْوَلَدَ تَبَعٌ لِمَالِكِ الْأَصْلِ ، فَإِنْ كَانَتِ الْجَارِيَةُ عِنْدَ حُدُوثِ النَّمَاءِ وَالْمَكْسَبِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَقَبْلَ الْقَبُولِ مِلْكًا لِلْوَرَثَةِ فَلَهُمْ كُلُّ الْكَسْبِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَ مِنْهُ الْمُوصَى لَهُ شَيْئًا . وَإِنْ كَانَتْ مِلْكًا لِلْمُوصَى لَهُ ، فَلَهُ كُلُّ الْكَسْبِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَ مِنْهُ الْوَرَثَةُ شَيْئًا . فَأَمَّا تَبْعِيضُ الْمِلْكِ فِي النَّمَاءِ وَالْكَسْبِ مِنْ غَيْرِ تَبْعِيضِ مِلْكِ الْأَصْلِ وَجْهٌ لَهُ وَلَيْسَ

بِلَازِمٍ أَنْ يَمْلِكَ الْوَرَثَةُ مِثْلَيْ مَا يَمْلِكُهُ الْمُوصَى لَهُ ، بَعْدَ اسْتِقْرَارِ مِلْكِهِ ، كَمَا لَا يَلْزَمُ فِيمَا حَدَثَ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ الْقَبُولِ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ فِيمَا مَلَكَ مِنْ تَرِكَةٍ بَيْنَهُمْ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا مَا لَا يَتَمَيَّزُ مِنَ الزِّيَادَةِ ، كَالسِّمَنِ وَزِيَادَةِ الْبَدَنِ ، إِذَا حَدَثَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي وَقَبْلَ قَبُولِ الْمُوصَى لَهُ ، فَهُوَ لِلْمُوصَى لَهُ وَمَحْسُوبٌ عَلَيْهِ مِنَ الثُّلُثِ ؛ لِأَنَّ مَا اتَّصَلَ مِنَ الزِّيَادَةِ تَبَعٌ لِأَصْلِهِ يَتَنَقَّلُ مَعَ الْأَصْلِ إِلَى حَيْثُ انْتَقَلَ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْوَصِيَّةُ إِذَا رَدَّهَا ، فَلِلْمُوصَى لَهُ فِي رَدِّهَا أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَرُدَّهَا فِي حَيَاةِ الْمُوصِي رد الوصية ، فَلَا يَكُونُ لِرَدِّهِ تَأْثِيرٌ كَمَا لَا يَكُونُ لِقَبُولِهِ لَهُ لَوْ قَبِلَ فِي هَذِهِ الْحَالِ تَأْثِيرًا ، وَخَالَفَ فِيهِ خِلَافًا يَذْكُرُهُ بَعْدُ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَرُدَّهَا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي وَقَبْلَ قَبُولِهِ رد الوصية ، فَالرَّدُّ صَحِيحٌ قَدْ أَبْطَلَ الْوَصِيَّةَ وَرُدَّ ذَلِكَ إِلَى التَّرِكَةِ وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ قَبُولُ الْوَرَثَةِ وَيَكُونُوا فِيهِ عَلَى فَرَائِضِهِمْ . فَإِنْ قَالَ : رَدَدْتُ ذَلِكَ لِفُلَانٍ . قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ : احْتَمَلَ ذَلِكَ مَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ أَظْهَرُهُمَا : أَنْ يُرِيدَ لِرِضَا فُلَانٍ ، أَوْ لِكَرَامَةِ فُلَانٍ ، فَإِنْ أَرَادَ ذَلِكَ ، صَحَّ الرَّدُّ وَبَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ وَعَادَتْ إِلَى التَّرِكَةِ . وَالثَّانِي : أَنْ يُرِيدَ بِالرَّدِّ لِفُلَانٍ هِبَتَهَا لَهُ ، فَلَا تَصِحُّ هِبَتُهُ لَهَا قَبْلَ الْقَبُولِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهَا بَعْدُ . وَلَوْ قَبِلَهَا ، صَحَّ إِذَا وُجِدَتْ فِيهَا شُرُوطُ الْهِبَةِ ، وَلَا يَكُونُ فَسَادُ هَذِهِ الْهِبَةِ مُبْطِلًا لِلْوَصِيَّةِ وَمَانِعًا مِنْ قَبُولِهَا ؛ لِأَنَّ هِبَتَهُ لَهَا إِنَّمَا اقْتَضَتْ زَوَالَ الْمِلْكِ بَعْدَ دُخُولِهَا فِيهِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَرُدَّهَا بَعْدَ قَبُولِ الْوَصِيَّةِ وَقَبْلَ قَبْضِهَا رد الوصية ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَا تَصِحُّ إِلَّا بِلَفْظِ الْهِبَةِ إِيجَابًا وَقَبُولًا ، لِدُخُولِ الْوَصِيَّةِ فِي مِلْكِهِ بِالْقَبُولِ . فَعَلَى هَذَا تَعُودُ الْوَصِيَّةُ لِلْوَرَثَةِ خُصُوصًا دُونَ أَهْلِ الدَّيْنِ وَالْوَصَايَا وَيَكُونُ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى فِيهَا سَوَاءً ؛ لِأَنَّهَا هِبَةٌ لَهُمْ مَحْضَةٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَصِحُّ رَدُّهَا بِلَفْظِ الرَّدِّ دُونَ الْهِبَةِ ، لَكِنْ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْقَبُولِ ، لِأَنَّهَا وَإِنْ دَخَلَتْ فِي مِلْكِهِ فَهِيَ كَالْإِقَالَةِ . وَإِنْ كَانَ مِلْكُ الْمُشْتَرِي فِيهَا ثَابِتًا فَإِنَّهُ يَنْتَقِلُ بِغَيْرِ لَفْظِ الْهِبَةِ ، لَكِنْ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ قَبُولٍ ، كَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ بَعْدَ الْقَبُولِ . فَعَلَى هَذَا تَعُودُ بَعْدَ الرَّدِّ وَالْقَبُولِ تَرِكَةً ، يَجْرِي فِيهَا حُكْمُ الدَّيْنِ وَالْوَصَايَا وَفَرَائِضُ الْوَرَثَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهَا تَصِحُّ بِالرَّدِّ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ ؛ لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ مِلْكًا لِلْمُوصَى لَهُ بِقَبُولِهَا فَمِلْكُهُ لَهَا قَبْلَ الْقَبْضِ غَيْرُ مُنْبَرِمٍ ، فَجَرَتْ مَجْرَى الْوَقْفِ إِذَا رَدَّهُ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ بَعْدَ قَبُولِهِ وَقَبْلَ قَبْضِهِ ،

صَحَّ رَدُّهُ وَلَمْ يَفْتَقِرِ الرَّدُّ إِلَى الْقَبُولِ وَإِنْ كَانَ مِلْكًا ، ثُمَّ تَكُونُ الْوَصِيَّةُ بَعْدَ الرَّدِّ تَرِكَةً .

فَصْلٌ : وَإِذَا رَدَّ الْوَصِيَّةَ بِمَا يَدُلُّ لَهُ عَلَى الرَّدِّ ، لَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ الْمَالَ وَلَمْ يَبْطُلْ حَقُّهُ فِي الْوَصِيَّةِ بِالرَّدِّ . وَقَالَ مَالِكٌ : يَمْلِكُ الْمَالَ وَيَصِحُّ الرَّدُّ ، وَمِثْلُهُ يَقُولُ فِي الشُّفْعَةِ ، إِذَا عَفَا عَنْهَا عَلَى مَالٍ بُذِلَ لَهُ . وَهَذَا خَطَأٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ ؛ لِأَنَّ أَخْذَ الْعِوَضِ عَلَى مَا لَمْ يَسْتَقِرَّ مِلْكُهُ عَلَيْهِ بَاطِلٌ كَالْبَيْعِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِثُلُثِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ اسْتَحَقَّ ثُلُثَاهُ ، كَانَ لَهُ الثُّلُثُ الْبَاقِي إِنِ احْتَمَلَهُ ثُلُثُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا أَوْصَى لَهُ بِثُلُثِ دَارٍ هُوَ فِي الظَّاهِرِ مَالِكٌ لِجَمِيعِهَا ، فَاسْتَحَقَّ ثُلُثَيِ الدَّارِ وَبَقِيَ عَلَى مِلْكِ الْمُوصِي ثُلُثُهَا . فَالثُّلُثُ كَانَ لِلْمُوصَى لَهُ إِذَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ . وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ : يَكُونُ لَهُ ثُلُثُ الثُّلُثِ ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ لَمَّا أَوْصَى لَهُ بِثُلُثِهَا وَهُوَ فِي الظَّاهِرِ مَالِكٌ لِجَمِيعِهَا ، تَنَاوَلَتِ الْوَصِيَّةُ ثُلُثَ مِلْكِهِ مِنْهَا ، فَإِذَا بَانَ أَنَّ مِلْكَهُ مِنْهَا الثُّلُثُ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْوَصِيَّةُ بِثُلُثِ الثُّلُثِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مِلْكَهُ مِنْهَا ، كَمَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ وَهُوَ ثَلَاثُمِائَةِ دِرْهَمٍ ، فَاسْتُحِقَّ مِنْهَا مِائَتَانِ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِثُلُثِ الْمِائَةِ الْبَاقِيَةِ . وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَا طَرَأَ مِنِ اسْتِحْقَاقِ الثُّلُثَيْنِ لَيْسَ بِأَكْثَرَ مِنْ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الْوَصِيَّةِ غَيْرُ مِلْكِهِ لِلثُّلْثَيْنِ ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى لَهُ بِثُلُثِ دَارٍ قَدْرِ مِلْكِهِ ، كَانَ لَهُ جَمِيعُ الثُّلُثِ إِذَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ ، كَذَلِكَ إِذَا أَوْصَى لَهُ بِثُلُثِهَا ، فَاسْتَحَقَّ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ مِنْهَا . وَالثَّانِي : هُوَ أَنَّ رَفْعَ يَدِهِ بِالِاسْتِحْقَاقِ كَزَوَالِ مِلْكِهِ بِالْبَيْعِ ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ بَاعَ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ مِنْهَا مَا بَقِيَ مِنْ ثُلُثِهَا صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ بِكُلِّ الثُّلُثِ الْبَاقِي بَعْدَ الْبَيْعِ ، فَكَذَلِكَ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِالثُّلُثِ الْبَاقِي بَعْدَ الْمُسْتَحَقِّ ، وَلَيْسَ لِمَا ذَكَرَهُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِثُلُثِ الْمَالِ وَجْهٌ ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَمْ تُعْتَبَرْ إِلَّا فِي ثُلُثِ مِلْكِهِ وَمِلْكُهُ هُوَ الْبَاقِي بَعْدَ الِاسْتِحْقَاقِ . وَلَوْ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْوَصِيَّةِ بِالدَّارِ فَقَالَ : قَدْ أَوْصَيْتُ لَكَ بِثُلُثِ مِلْكِي مِنْ هَذِهِ الدَّارِ فَاسْتَحَقَّ ثُلُثَاهَا كَانَ لَهُ ثُلُثُ ثُلُثِهَا الْبَاقِي ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ لَهُ جَمِيعَ الثُّلُثِ بَعْدَ اسْتِحْقَاقِ الثُّلُثَيْنِ ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْوَصَايَا فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ مَسْأَلَةَ الِاسْتِحْقَاقِ : " وَلَوْ أَوْصَى بِالثُّلُثِ مِنْ دَارٍ أَوْ أَرْضٍ ، فَأَذْهَبَ السَّيْلُ ثُلُثَيْهَا وَبَقِيَ ثُلُثُهَا ، فَالثُّلُثُ الْبَاقِي

لِلْمُوَصَى لَهُ إِذَا خَرَجَ مِنَ الثُّلُثِ ، وَقِيلَ : إِنَّ الْوَصِيَّةَ مَوْجُودَةٌ وَخَارِجَةٌ مِنَ الثُّلُثِ " . ا هـ . فَسَوَّى الشَّافِعِيُّ بَيْنَ اسْتِحْقَاقِ الثُّلُثَيْنِ مَشَاعًا وَبَيْنَ ذَهَابِ ثُلُثِهَا بِالسَّيْلِ تَجَوُّزًا فِي أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَجُوزُ بِالثُّلُثِ الْبَاقِي بَعْدَ الِاسْتِحْقَاقِ وَالتَّلَفِ بِالسَّيْلِ . وَالَّذِي أَرَاهُ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ مِنْ أَنَّ اسْتِحْقَاقِ الثُّلُثَيْنِ لَا يَمْنَعُ مِنْ إِمْضَاءِ الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ الْبَاقِي كُلِّهِ . وَذَهَابُ الثُّلُثَيْنِ مِنْهَا بِالسَّيْلِ يَمْنَعُ أَنْ تَكُونَ الْوَصِيَّةُ بِجَمِيعِ الثُّلُثِ الْبَاقِي وَيُوجِبُ أَنْ تَكُونَ الْوَصِيَّةُ بِثُلُثِ الثُّلُثِ الْبَاقِي . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالثُّلُثِ مِنْهَا هُوَ مَا تُبِعَ فِي جَمِيعِهَا ، فَإِذَا اسْتُحِقَّ ثُلُثَاهَا لَمْ يُمْنَعْ أَنْ يَكُونَ الثُّلُثُ الْبَاقِي سَائِغًا فِي جَمِيعِهَا فَصَحَّتِ الْوَصِيَّةُ فِي جَمِيعِهِ . وَإِذَا هَلَكَ ثُلُثَاهَا بِالسَّيْلِ ، يَجُوزُ إِنْ لَمْ يَكُنِ الثُّلُثُ الْبَاقِي مِنْهَا هُوَ الثُّلُثُ الْمُشَاعُ فِي جَمِيعِهَا ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْوَصِيَّةُ بِثُلُثِ مَا بَقِيَ وَثُلُثِ مَا هَلَكَ ، فَيَكُونُ حُكْمُ الْإِشَاعَةِ فِي الْجَمِيعِ بَاقِيًا . أَلَا تَرَى لَوْ أَنَّ رَجُلًا اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ نِصْفَ دَارِ جَمِيعُهَا بِيَدِهِ ، ثُمَّ اسْتَحَقَّ بَعْدَ الشِّرَاءِ نِصْفَهَا ، كَانَ النِّصْفُ الْبَاقِي هُوَ الْمَبِيعُ مِنْهَا وَلَوْ لَمْ يَسْتَحِقَّ نِصْفَهَا ، وَلَكِنْ أَذْهَبَ السَّيْلُ نِصْفَهَا ، كَانَ لِلْمُشْتَرِي نِصْفُ مَا بَقِيَ بَعْدَمَا أَذْهَبَهُ السَّيْلُ مِنْهَا . فَإِنْ قِيلَ : فَلَيْسَ لَوْ أَوْصَى لَهُ بِرَأْسٍ مِنْ غَنَمِهِ فَهَلَكَ جَمِيعُهَا إِلَّا رَأْسًا مِنْهَا بَقِيَ ، فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ تَتَعَيَّنُ فِيهِ وَلَا يَكُونُ الْهَالِكُ وَإِنْ كَانَ مُتَمَيِّزًا مِنَ الْوَصِيَّةِ وَغَيْرِهَا ، فَهَلَّا كَانَ مَا ذَهَبَ بِالسَّيْلِ مِثْلَ ذَلِكَ ؟ قِيلَ الْوَصِيَّةُ بِرَأْسٍ مِنْ غَنَمِهِ يُوجِبُ الْإِشَاعَةَ فِي كُلِّ رَأْسٍ مِنْهَا ، وَإِنَّمَا جُعِلَ إِلَى الْوَارِثِ أَنْ يُعَيِّنَهُ فِيمَا شَاءَ مِنْ مِيرَاثِهِ . وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ بِثُلُثِ الدَّارِ ؛ لِأَنَّ الثُّلُثَ شَائِعٌ فِي جَمِيعِهَا فَافْتَرَقَا . فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْتُهُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الِاسْتِحْقَاقِ وَالتَّلَفِ وَمَا رَأَيْتُهُ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ الِاسْتِحْقَاقِ وَالتَّلَفِ ، تَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ مَا يَصِحُّ بِهِ الْجَوَابَانِ . فَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يُخَلِّفَ رَجُلٌ ثَلَاثَمِائَةِ دِرْهَمٍ وَثَلَاثِينَ دِينَارًا وَقِيمَتُهَا ثَلَاثُمِائَةِ دِرْهَمٍ وَيُوصِي بِثُلُثِ مَالِهِ لِرَجُلٍ ، فَيَكُونُ لَهُ ثُلُثُ الدَّنَانِيرِ وَثُلُثَا الدَّرَاهِمِ . فَإِذَا أَرَادَ الْوَرَثَةُ أَنْ يُعْطُوهُ ثُلُثَ الْجَمِيعِ مِنْ أَحَدِهِمَا ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُمْ ؛ لِأَنَّ الْمُوصِيَ جَعَلَهُ فِي الْجَمِيعِ مُشَارِكًا [ لَهُمْ ] . فَلَوْ تَلِفَ مِنَ الدَّنَانِيرِ عِشْرُونَ وَبَقِيَ مِنْهَا عَشَرَةٌ ، كَانَ لَهُ ثُلُثُ الْعَشَرَةِ الْبَاقِيَةِ وَثُلُثُ الثَّلَاثِمِائَةِ دِرْهَمٍ كُلِّهَا .

فَأَمَّا إِذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ الدَّنَانِيرِ بِعَيْنِهَا وَأَوْصَى لِآخَرَ بِثُلُثِ الدَّارَهِمْ بِعَيْنِهَا ، فَهَلَكَ مِنَ الدَّنَانِيرِ عِشْرُونَ وَبَقِيَ مِنْهَا عَشَرَةٌ وَسَلِمَتِ الدَّرَاهِمُ كُلُّهَا ، فَعَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَرَاهُ أَنَّهُ يَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الدَّنَانِيرِ ثُلُثُ الْعَشَرَةِ الْبَاقِيَةِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ دَنَانِيرَ وَثُلُثُ دِينَارٍ ، وَلِلْمُوصِي بِثُلُثِ الدَّرَاهِمِ ثُلُثُ الثَّلَاثِمِائَةِ وَهُوَ مِائَةُ دِرْهَمٍ . وَعَلَى الظَّاهِرِ مِمَّا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ يَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الدَّنَانِيرِ مِنَ الْعَشَرَةِ الْبَاقِيَةِ سِتَّةُ دَنَانِيرَ وَثُلُثَا دِينَارٍ . وَيَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الدَّرَاهِمِ مِنْ جَمِيعِ الثَّلَاثِمِائَةِ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ دِرْهَمًا وَثُلُثَا دِرْهَمٍ قِيمَةُ الْجَمِيعِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ دِينَارًا وَثُلُثُ دِينَارٍ وَيَبْقَى مَعَ الْوَرَثَةِ ثَلَاثَةُ دَنَانِيرَ وَثُلُثٌ وَمِائَتَانِ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ دِرْهَمًا وَثُلُثٌ وَقِيمَةُ الْجَمِيعِ سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ دِينَارًا وَثُلُثَا دِينَارٍ وَهُوَ ضِعْفُ مَا صَارَ إِلَى الْمُوصَى لَهُ ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَتِ الْوَصِيَّتَانِ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ . وَوَجْهُ الْعَمَلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ : الْوَصِيَّتَانِ تُعَادِلُ عِشْرِينَ دِينَارًا مِنْ سِتِّينَ دِينَارًا ، فَإِذَا تَلِفَ مِنَ التَّرِكَةِ عِشْرُونَ دِينَارًا فَهُوَ ثُلُثُ التَّرِكَةِ وَيَرْجِعُ النَّقْصُ عَلَى الْوَصِيَّتَيْنِ مَعًا دُونَ أَحَدِهِمَا ، فَنُقِصَ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا الثُّلُثُ . فَالْمُوَصَى لَهُ بِثُلُثِ الدَّنَانِيرِ كَانَ لَهُ قَبْلَ التَّلَفِ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ ، فَصَارَ لَهُ بَعْدَ التَّلَفِ ثُلُثَاهَا وَذَلِكَ سِتَّةُ دَنَانِيرَ وَثُلُثَا دِينَارٍ وَلِلْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الدَّرَاهِمِ ، كَانَ لَهُ قَبْلَ التَّلَفِ مِائَةُ دِرْهَمٍ ، فَصَارَ لَهُ بَعْدَ تَلَفِ الدَّنَانِيرِ ثُلُثَا الدَّرَاهِمِ وَذَلِكَ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ دِرْهَمًا وَثُلُثَا دِرْهَمٍ . وَعَلَى هَذَا لَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِسُدُسِ الدَّرَاهِمِ بِأَعْيَانِهَا وَسُدُسِ الدَّنَانِيرِ بِأَعْيَانِهَا وَالتَّرِكَةُ بِحَالِهَا ، كَانَ لَهُ خَمْسَةُ دَنَانِيرَ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا ، فَلَوْ تَلِفَ مِنَ الدَّرَاهِمِ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَبَقِيَتْ مِائَةُ دِرْهَمٍ مَعَ جَمِيعِ الدَّنَانِيرِ وَهِيَ ثَلَاثُونَ دِينَارًا ، فَعَلَى الْوَجْهِ الَّذِي رَأَيْتُهُ يَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ خَمْسَةُ دَنَانِيرَ وَسِتَّةَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَثُلُثُ دِرْهَمٍ وَهُوَ سُدُسُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَالَيْنِ . وَعَلَى الظَّاهِرِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ، يَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ ثَلَاثَةُ دَنَانِيرَ وَثُلُثُ دِينَارٍ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ دِرْهَمًا وَثُلُثُ دِرْهَمٍ ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ نَقْصَ أَحَدِ الْمَالَيْنِ رَاجِعًا إِلَى الْمَالَيْنِ وَقَدْ نُقِصَ الثُّلُثُ مِنَ الْوَصِيَّةِ بِسُدُسِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَالَيْنِ الثُّلُثَ ، فَصَارَ مَعَ الْمُوصَى لَهُ ثَلَاثَةُ دَنَانِيرَ وَثُلُثُ دِينَارٍ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ دِرْهَمًا وَثُلُثُ دِرْهَمٍ قِيمَةُ الْجَمِيعِ سِتَّةُ دَنَانِيرَ وَثُلُثَا دِينَارٍ ، وَذَلِكَ سُدُسُ الْأَرْبَعِينَ الْبَاقِيَةِ مِنَ التَّرِكَةِ عَيْنًا وَوَرِقًا .

فَصْلٌ : فِي خَلْعِ الثُّلُثِ قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ - :

" إِذَا أَوْصَى الرَّجُلُ بِمِائَةِ دِينَارٍ لَهُ حَاضِرَةٍ وَتَرَكَ غَيْرَهَا أَلْفَ دِينَارٍ دَيْنًا غَائِبَةً : فَالْوَرَثَةُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْوَصِيَّةِ بِالْمِائَةِ كُلِّهَا عَاجِلًا ، سَوَاءٌ أَمَضَى الدَّيْنَ وَسَلَّمَ الْغَائِبَ أَمْ لَا ، وَبَيْنَ أَنْ يُسَلِّمُوا ثُلُثَ الْمِائَةِ الْحَاضِرَةِ وَثُلُثَ الدَّيْنِ مِنَ الْمَالِ الْغَائِبِ وَيَصِيرُ الْمُوصَى لَهُ بِالْمِائَةِ شَرِيكًا بِالثُّلُثِ فِي كُلِّ التَّرِكَةِ وَإِنْ كَثُرَتْ وَسُمِّيَ ذَلِكَ خَلْعَ الثُّلُثِ ، وَاسْتِدْلَالًا بِأَنَّ لِلْمُوصَى لَهُ ثُلُثَ مَالِهِ ، فَإِذَا غَيَّرَ الْوَصِيَّةَ فِي بَعْضِهِ ، فَقَدْ أَدْخَلَ الضَّرَرَ عَلَيْهِمْ بِتَعْيِينِهِ ، فَصَارَ لَهُمُ الْخِيَارُ بَيْنَ الْتِزَامِ الضَّرَرِ بِالتَّعْيِينِ وَبَيْنَ الْعُدُولِ إِلَى مَا كَانَ يَسْتَحِقُّهُ الْمُوصَى لَهُ ، فَهَذَا دَلِيلُ مَالِكٍ وَمَا عَلَيْهِ فِي هَذَا الْقَوْلِ . وَاسْتَدَلَّ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ بِأَنَّ تَعْيِينَ الْمُوصِي لِلْمِائَةِ الْحَاضِرَةِ مِنْ جُمْلَةِ التَّرِكَةِ الْغَائِبَةِ بِمَنْزِلَةِ الْقَبُولِ لِلْجَانِي إِذَا تَعَلَّقَتِ الْجِنَايَةُ فِي رَقَبَتِهِ فَسَيِّدُهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَفْدِيَهُ بِأَرْشِ جِنَايَتِهِ ، أَوْ تَسْلِيمِهِ . فَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَدَلِيلَاهُ . وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ : أَنَّ لِلْمُوصَى لَهُ ثُلُثَ الْمِائَةِ الْحَاضِرَةِ ، وَثُلُثَاهَا الْبَاقِي مَوْقُوفٌ عَلَى قَبْضِ الدَّيْنِ وَوُصُولِ الْغَائِبِ ، لَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ الْوُرَّاثُ وَلَا الْمُوصَى لَهُ ، وَإِذَا قُبِضَ الدَّيْنُ وَوَصَلَ مِنَ الْغَائِبِ مَا يُخْرِجُ الْمِائَةَ كُلَّهَا مِنْ ثُلُثِهِ أُمْضِيَتِ الْوَصِيَّةُ بِجَمِيعِ الْمِائَةِ . وَإِنْ وَصَلَ مَا يُخْرِجُ بَعْضَهَا أُمْضِيَ قَدْرُ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ مِنْهَا ، فَإِنْ بَرِئَ الدَّيْنُ وَقَدِمَ الْغَائِبُ ، اسْتَقَرَّتِ الْوَصِيَّةُ فِي ثُلُثِ الْمِائَةِ الْحَاضِرَةِ وَتَصَرَّفَ الْوَرَثَةُ فِي ثُلُثَيْهَا ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ جَمِيعَ التَّرِكَةِ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا إِذَا انْتُظِرَ بِالْوَصِيَّةِ قَبْضُ الدَّيْنِ وَوُصُولُ الْغَائِبِ ، هَلْ يُمَكَّنُ الْمُوصَى لَهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي ثُلُثِ الْمِائَةِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُمَكَّنُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهَا ؛ لِأَنَّهُ ثُلُثٌ مَحْضٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُمْنَعُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَصَرَّفَ الْمُوصَى لَهُ فِيمَا لَا يَتَصَرَّفُ الْوَرَثَةُ فِي مِثْلَيْهِ ، وَقَدْ مُنِعَ الْوَرَثَةُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي ثُلُثِ الْمِائَةِ الْمَوْقُوفِ ، فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ الْمُوصَى لَهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الثُّلُثِ الْمَمْضِيِّ . وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ أَنَّهُ يَئُولُ إِلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ بِمَنْعِ الْوَصِيَّةِ مِنْهَا ؛ لِأَنَّهُ إِذَا خُيِّرَ الْوَرَثَةُ بَيْنَ الْتِزَامِ الْوَصِيَّةِ فِي ثُلُثِ كُلِّ التَّرِكَةِ ، أَوْ إِمْضَاءِ الْوَصِيَّةِ فِي كُلِّ الْمِائَةِ ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ خَارِجٌ عَنْ حُكْمِ الْوَصِيَّةِ ، لِأَنَّهُمْ إِذَا اخْتَارُوا مَنْعَهُ مِنْ كُلِّ الْمِائَةِ ، فَقَدْ أَلْزَمَهُمْ ثُلُثُ كُلِّ التَّرِكَةِ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُوصًى لَهُ ،

وَإِنِ اخْتَارُوا أَلَّا يُعْطُوا ثُلُثَ التَّرِكَةِ ، فَقَدْ أَلْزَمَهُمْ إِمْضَاءُ الْوَصِيَّةِ بِكُلِّ الْمِائَةِ ، فَعُلِمَ فَسَادُ [ دَلِيلِ ] مَذْهَبِهِ بِمَا يَئُولُ إِلَيْهِ حَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْخِيَارَيْنِ . وَأَمَّا جَعْلُهُمْ تَعْيِينَ الْوَصِيَّةِ بِالْمِائَةِ الْحَاضِرَةِ أَدْخَلَ ضَرَرًا ، فَالضَّرَرُ قَدْ رَفَعْنَاهُ بِوَقْفِ الثُّلُثَيْنِ ، فَعَلَى قَبْضِ الدَّيْنِ وَوُصُولِ الْغَائِبِ ، فَصَارَ الضَّرَرُ بِذَلِكَ مُرْتَفِعًا ، وَإِذَا زَالَ الضَّرَرُ ارْتَفَعَتِ الْجِنَايَةُ مِنْهُ فَبَطَلَ الْخِيَارُ فِيهِ . فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَاهُ يُفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ : أَنْ يُوصِيَ بِعِتْقِ عَبْدٍ حَاضِرٍ وَبَاقِي تَرِكَتِهِ الَّتِي يَخْرُجُ كُلُّ الْعَبْدِ مِنْ ثُلُثِهَا دَيْنٌ غَائِبٌ ، فَيُعْتَقُ فِي الْعَبْدِ ثُلُثُهُ وَيُوقَفُ ثُلُثَاهُ عَلَى قَبْضِ الدَّيْنِ وَوُصُولِ الْغَائِبِ . فَإِذَا قُبِضَ أُوصِلَ مِنْهُمَا ، أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا كَمَا يَخْرُجُ كُلُّ الْعَبْدِ مِنْ ثُلُثِهِ لِعِتْقِ جَمِيعِهِ وَهَلْ يُمَكَّنُ الْوَرَثَةُ فِي خِلَالِ وَقْفِ الثُّلُثَيْنِ الْمَوْقُوفَيْنِ مِنَ الْعَبْدِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُمَكَّنُونَ مِنْ ذَلِكَ لِئَلَّا يَلْزَمَهُمْ إِمْضَاءُ الْوَصِيَّةِ بِمَا لَا يَنْتَفِعُوا بِمِثْلَيْهِ ، وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقُولُ إِنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالْمِائَةِ إِذَا وَقَّفَ ثُلُثَيْهَا مُنِعَ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي ثُلُثِهَا اعْتِبَارًا بِالتَّسْوِيَةِ . فَعَلَى هَذَا إِنْ تَلِفَ الدَّيْنُ وَتَلِفَ الْغَائِبُ ، اسْتَقَرَّ مِلْكُهُمْ عَلَى مَا وَقَفَ مِنْ ثُلُثَيْهِ وَجَازَ لَهُمْ بَيْعُهُ . وَإِنْ قُبِضَ مِنَ الدَّيْنِ ، أَوْ قَدِمَ مِنَ الْغَائِبِ مَا يُخْرِجُ جَمِيعَهُ مِنْ ثُلُثِهِ رَجَعَ الْعَبْدُ عَلَيْهِمْ بِمَا أَخَذَهُ مِنْ كَسْبِهِ وَأُجْرَةِ خِدْمَتِهِ وَلَيْسَ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يَرْجِعُوا عَلَى الْعَبْدِ بِمَا أَنْفَقُوهُ عَلَيْهِ أَوِ اسْتَخْدَمُوهُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ لَهُمْ إِجَازَةُ عِتْقِهِ ، فَصَارُوا مُتَطَوِّعِينَ بِالنَّفَقَةِ عَلَيْهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُمْ يُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ ، كَمَا يُمْنَعُونَ مِنَ التَّصَرُّفِ بِالْبَيْعِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ نُفُوذُ الْوَصِيَّةِ بِعِتْقِهِ وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجُوزُ لِلْمُوصَى لَهُ التَّصَرُّفُ فِي ثُلُثِ الْمِائَةِ وَإِنْ مُنِعَ الْوَرَثَةُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي ثُلُثَيْهَا . فَعَلَى هَذَا إِنْ بَرِئَ الدَّيْنُ وَتَلِفَ الْغَائِبُ رَقَّ ثُلُثَاهُ وَرَجَعَ الْوَرَثَةُ بِثُلُثَيْ كَسْبِهِ .

فَصْلٌ فِي الْوَصِيَّةِ بِالْعَيْنِ وَالدَّيْنِ

فَصْلٌ : فِي الْوَصِيَّةِ بِالْعَيْنِ وَالدَّيْنِ وَإِذَا مَاتَ رَجُلٌ وَتَرَكَ ابْنَيْنِ وَتَرَكَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ عَيْنًا ، وَعَشَرَةَ دَرَاهِمَ دَيْنًا عَلَى أَحَدِ الِابْنَيْنِ وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ ، فَلِلْمُوصَى لَهُ الثُّلُثُ ثُلُثُ الْعَيْنِ وَثُلُثُ الدَّيْنِ ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ ، سَهْمٌ لِلْمُوصَى لَهُ وَيَبْقَى سَهْمَانِ بَيْنَ الِابْنَيْنِ . وَفِي اسْتِيفَاءِ الِابْنِ حَقَّهُ مِنْ دَيْنِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ يَشْتَرِكُونَ فِي الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ ، فَلَا يَسْتَوْفِي مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ حَقَّهُ مِنَ الدَّيْنِ لِاسْتِحْقَاقِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمْ فِي الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ كَمَا لَوْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَى أَجْنَبِيٍّ .

فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْعَشَرَةُ الْعَيْنُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا ، يَأْخُذُ الْمُوصَى لَهُ ثُلُثَهَا ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ وَثُلُثًا ، وَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الِابْنَيْنِ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ وَثُلُثًا ، وَيَبْرَأُ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ مِنْ ثُلُثِ مَا عَلَيْهِ وَهُوَ قَدْرُ حَقِّهِ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثٌ وَيَبْقَى عَلَيْهِ سِتَّةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثَانِ مِنْهَا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثٌ لِلْمُوصَى لَهُ ، وَثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثٌ لِلِابْنِ الْآخَرِ ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ لَوْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِالرُّبُعِ أَوِ الْخُمُسِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ مِنَ الِابْنَيْنِ يُسْتَوْفَى حَقُّهُ مِنْهُ وَيَخْتَصُّ بِالْعَيْنِ الْمُوصَى لَهُ وَالِابْنُ الَّذِي لَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ ، وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ سُرَيْجٍ وَعَلَيْهِ فَرْعٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِأَنْ يَأْخُذَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ مِنَ التَّرِكَةِ مَا يَلْزَمُ رَدُّهُ إِلَى التَّرِكَةِ وَيَجْعَلَ بَدَلَ أَخْذِهِ بِقَدْرِ حَقِّهِ وَرَدِّهِ قَضَاهَا مِنْ دَيْنِهِ . فَعَلَى هَذَا يَكُونُ وَجْهُ الْعَمَلِ فِيهِ أَنْ تَكُونَ التَّرِكَةُ وَهِيَ عِشْرُونَ دِينَارًا عَيْنًا وَدَيْنًا بَيْنَهُمْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ ، يُسْتَحَقُّ بِكُلِّ سَهْمٍ مِنْهَا فِي التَّرِكَةِ سِتَّةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثَانِ ، فَيَبْرَأُ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ مِنْ قَدْرِ حَقِّهِ وَهُوَ سِتَّةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثَانِ مِنَ الدَّيْنِ عَلَيْهِ ، وَيَبْقَى عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثٌ . وَتُقَسَّمُ الْعَشَرَةُ الْعَيْنُ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ وَالِابْنِ الْآخَرِ بِالتَّسْوِيَةِ ، فَيَأْخُذُ الْمُوصَى لَهُ خَمْسَةً وَيَبْقَى لَهُ مِنِ اسْتِكْمَالِ الثُّلُثِ دِرْهَمٌ وَثُلُثَانِ ، يُرْجَعُ بِهِ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ وَيَأْخُذُ الِابْنُ الْآخَرُ خَمْسَةً وَيُرْجَعُ بِبَاقِي حَقِّهِ وَهُوَ دِرْهَمٌ وَثُلُثَانِ ، عَلَى أَخِيهِ وَقَدِ اسْتَوْفَوْا جَمِيعًا حُقُوقَهُمْ . فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِالرُّبُعِ وَالتَّرِكَةُ بِحَالِهَا ، قِيلَ التَّرِكَةُ فِي الْأَصْلِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ : سَهْمٌ وَهُوَ الرُّبُعُ لِلْمُوصَى لَهُ وَيَبْقَى ثَلَاثَةٌ بَيْنَ الِابْنَيْنِ لَا تَصِحُّ ، فَابْسُطْهَا مِنْ ثَمَانِيَةٍ يَخْرُجُ الْكَسْرُ مِنْهَا فَتُقَسَّمُ الْعِشْرُونَ الْعَيْنُ وَالدَّيْنُ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ ، سَهْمَانِ مِنْهَا لِلْمُوصَى لَهُ بِالرُّبُعِ ، وَثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ لِكُلِّ ابْنٍ فَيَسْقُطُ مِنْ دَيْنِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ قَدْرُ حَقِّهِ مِنْ جَمِيعِ التَّرِكَةِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَثْمَانِ الْعِشْرِينَ سَبْعَةُ دَرَاهِمَ وَنِصْفٌ وَتُقَسَّمُ الْعَشَرَةُ الْعَيْنُ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ وَالِابْنِ الْآخَرِ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ ، فَيَأْخُذُ الْمُوصَى لَهُ بِسَهْمٍ مِنْهَا أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ ، وَيَأْخُذُ الِابْنُ بِثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ مِنْهَا سِتَّةَ دَرَاهِمَ وَيَبْقَى عَلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ دِرْهَمَانِ وَنِصْفٌ وَهِيَ بَيْنَ أَخِيهِ وَالْمُوصَى لَهُ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ مِنْهَا لِأَخِيهِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ دِرْهَمٌ وَنِصْفٌ ، يَنْضَمُّ إِلَى مَا أَخَذَهُ مِنَ الْعَيْنِ وَهُوَ سِتَّةٌ ، تَصِيرُ سَبْعَةَ دَرَاهِمَ وَنِصْفًا وَهُوَ جَمِيعُ حَقِّهِ . وَلِلْمُوَصَى لَهُ مِنْ بَقِيَّةِ الدَّيْنِ سَهْمَانِ ، دِرْهَمٌ وَاحِدٌ ، يَنْضَمُّ إِلَى مَا أَخَذَهُ مِنَ الْعَيْنِ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ ، تَصِيرُ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ وَهُمْ جَمِيعُ الرُّبُعِ الَّذِي أَوْصَى لَهُ بِهِ . وَعَلَى هَذَا : لَوْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِالْخُمُسِ ، كَانَتِ التَّرِكَةُ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ ، مِنْهَا سَهْمٌ لِلْمُوصَى لَهُ ، وَسَهْمَانِ لِكُلِّ ابْنٍ ، فَيَأْخُذُ صَاحِبُ الدَّيْنِ سَهْمَيْنِ مِنْ دَيْنِهِ وَهُوَ ثَمَانِيَةُ دَرَاهِمَ ، وَيَبْقَى عَلَيْهِ دِرْهَمَانِ ، وَتَكُونُ الْعَشَرَةُ الْعَيْنُ بَيْنَ أَخِيهِ وَالْمُوصَى لَهُ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ ، سَهْمَانِ لِلْأَخِ سِتَّةُ دَرَاهِمٍ وَثُلُثَانِ ، وَسَهْمٌ لِلْمُوصَى لَهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثٌ ، وَيَكُونُ الدِّرْهَمَانِ الْبَاقِيَانِ عَلَى

صَاحِبِ الدَّيْنِ بَيْنَ أَخِيهِ وَالْمُوصَى لَهُ عَلَى ثَلَاثَةٍ ، ثُلُثَاهُ لِأَخِيهِ وَهُوَ دِرْهَمٌ وَثُلُثٌ وَيَصِيرُ مَعَ مَا أَخَذَهُ ثَمَانِيَةَ دَرَاهِمَ ، وَثُلُثُهُ لِلْمُوصَى لَهُ وَهُوَ ثُلُثَيْ دِرْهَمٍ ، يَصِيرُ مَعَ مَا أَخَذَهُ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ ، ثُمَّ يَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ . وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ عَلَى الِابْنِ جَمْعُ دَيْنِ أَبِيهِ ، عَشَرَةُ دَرَاهِمَ دَيْنٌ لِأَجْنَبِيٍّ وَقَدْ أَفْلَسَ بِهَا فِي حَالِ حَيَاةِ الْأَبِ . فَفِيمَا يَسْتَحِقُّهُ الِابْنُ مِنَ الْعَشَرَةِ الْعَيْنِ وَجْهَانِ ذَكَرَهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِهَا إِخْوَةُ الْمُوصَى لَهُ دُونَ غَرِيمِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَخَذَ مِنْهَا بِإِزَائِهِ مِنْ دَيْنِهِ ، فَيَكُونُ الْجَوَابُ عَلَى مَا مَضَى وَيَبْقَى عَلَيْهِ دَيْنُ الْغَرِيمِ بِكَمَالِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ حَقَّهُ مِنَ الْعَيْنِ مَالٌ مُكْتَسَبٌ ، فَلَا يَخْتَصُّ بِهِ بَعْضُ الدَّيْنِ وَيَسْتَوِي فِيهِ شُرَكَاؤُهُ وَالْغَرِيمُ . وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ تَخْرِيجُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الشُّفْعَةِ ، إِذَا وَرِثَ الْأَخَوَانِ دَارًا ، ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا وَخَلَّفَ ابْنَيْنِ ، فَبَاعَ أَحَدُ الِابْنَيْنِ حَقَّهُ فِي الدَّارِ ، فَفِي مُسْتَحِقِّ الشُّفْعَةِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا لِأَخِيهِ وَالْمُوصَى لَهُ دُونَ عَمِّهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الشُّفْعَةَ بَيْنَ أَخِيهِ وَعَمِّهِ . فَعَلَى هَذَا تَكُونُ حِصَّةُ صَاحِبِ الدَّيْنِ بَيْنَ أَخِيهِ وَالْمُوصَى لَهُ وَغَرِيمِهِ . فَإِذَا قِيلَ بِهَذَا الْوَجْهِ ، فَطَرِيقُ الْعَمَلِ بِهِ أَنْ يُقَالَ : يَبْرَأُ صَاحِبُ الدَّيْنِ مِنْ ثُلُثِ دَيْنِهِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثٌ قَدْرُ حَقِّهِ مِنْهُ ، عَلَيْهِ ثُلُثَاهُ سِتَّةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثَانِ ، ثُمَّ تُقَسَّمُ الْعَشَرَةُ الْعَيْنُ أَثْلَاثًا وَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُوصَى لَهُ وَالْأَخِ ثُلُثَهَا ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ وَثُلُثًا وَيَبْقَى ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثٌ هِيَ حِصَّةُ صَاحِبِ الدَّيْنِ ، فَتُقَسَّمُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ عَلَى قَدْرِ دُيُونِهِمْ وَالَّذِي عَلَيْهِ لِأَخِيهِ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثٌ قَدْرُ مِيرَاثِهِ مِنْ دَيْنِهِ وَلِلْمُوصَى لَهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثٌ قَدْرُ الْوَصِيَّةِ لَهُ مِنْ دَيْنِهِ وَعَلَيْهِ لِغَرِيمِهِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ ، فَتُقَسَّمُ الثَّلَاثَةُ وَالثُّلُثُ بَيْنَهُمْ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ وَيَأْخُذُ الْأَخُ بِسَهْمِهِ مِنْهَا ، ثُلُثَيْ دِرْهَمٍ وَيَبْقَى لَهُ دِرْهَمَانِ وَثُلُثَانِ وَيَأْخُذُ الْمُوصَى لَهُ بِسَهْمٍ مِنْهَا وَيَبْقَى لَهُ دِرْهَمَانِ وَثُلُثَانِ وَيَأْخُذُ الْغَرِيمُ بِثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ مِنْهَا ، دِرْهَمَيْنِ وَيَبْقَى لَهُ ثَمَانِيَةُ دَرَاهِمَ . ثُمَّ يَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا أَنْ يَتْرُكَ عَشَرَةً عَيْنًا وَعَشَرَةً دَيْنًا عَلَى أَحَدِ ابْنَيْهِ وَلَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُمَا وَيُوصِي لِرَجُلٍ بِثُلُثَيْ دَيْنِهِ ، فَتَنْقَسِمُ الْعَشَرَةُ الْعَيْنُ نِصْفَيْنِ ، يَأْخُذُ الِابْنُ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ نِصْفَهَا خَمْسَةً وَيَبْقَى خَمْسَةٌ هِيَ حِصَّةُ الِابْنِ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ ، فَتُصْرَفُ فِيمَا يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ مِنْ دَيْنِهِ وَفِي مُسْتَحِقِّهَا وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ بُنِيَا عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهَا تُقَسَّمُ بَيْنَ أَخِيهِ وَبَيْنَ الْمُوصَى لَهُ بِثُلُثَيِ الدَّيْنِ عَلَى قَدْرِ حِصَّتِهِمَا وَذَلِكَ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ لِأَخِيهِ دِرْهَمٌ وَثُلُثَانِ وَلِلْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الدَّيْنِ سِتَّةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثَانِ ، فَيَكُونُ لِلْأَخِ سَهْمٌ مِنَ الْخَمْسَةِ وَيَأْخُذُ بِهِ مِنَ الْخَمْسَةِ دِرْهَمًا وَاحِدًا وَيَبْقَى

مِنْ حَقِّهِ ثُلُثُ دِرْهَمٍ وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى أَخِيهِ وَيَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ مِنْ خَمْسَةٍ وَيَأْخُذُ بِهَا مِنَ الْخَمْسَةِ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ وَيَبْقَى لَهُ مِنْ وَصِيَّتِهِ دِرْهَمَانِ وَثُلُثَانِ وَيَرْجِعُ بِهَا عَلَى الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ وَقَدْ بَرِئَ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ مِنْ سِتَّةِ دَرَاهِمَ وَثُلُثَيْنِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْخَمْسَةَ الْعَيْنَ الَّتِي هِيَ حِصَّةُ الِابْنِ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ مِنَ الْعَيْنِ مُخْتَصٌّ بِهَا الْمُوصَى لَهُ بِثُلُثَيِ الدَّيْنِ دُونَ الْأَخِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ إِلَى الْأَخِ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ ، لِلْمُوصَى لَهُ مِنْ بَقِيَّةِ ثُلُثَيِ الدَّيْنِ دِرْهَمُ وَثُلُثَانِ وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ وَيَبْقَى لِلْآخَرِ دِرْهَمٌ وَثُلُثَانِ ، يَرْجِعُ بِهِ عَلَى أَخِيهِ . وَفِي هَذَا الْفَصْلِ مِنْ دَقِيقِ الْمَسَائِلِ فِقْهٌ وَحِسَابٌ وَمَا أَغْفَلْنَاهُ كَرَاهَةَ الْإِطَالَةِ وَالضَّجَرِ ( وَاللَّهُ الْمُعِينُ وَبِهِ التَّوْفِيقُ ) .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِهِ لِلْمَسَاكِينِ نُظِرَ إِلَى مَالِهِ فَقُسِّمَ ثُلُثُهُ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِهِ لِلْمَسَاكِينِ دَخَلَ مَعَهُمُ الْفُقَرَاءُ ، وَلَوْ أَوْصَى بِهِ لِلْفُقَرَاءِ دَخَلَ مَعَهُمُ الْمَسَاكِينُ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : " لِأَنَّ الْفَقِيرَ مِسْكِينٌ ، وَالْمِسْكِينَ فَقِيرٌ ، وَإِنَّمَا يَتَمَيَّزُ الطَّرَفَانِ إِذَا جُمِعَ بَيْنَهُمَا بِالذِّكْرِ " . فَالْفَقِيرُ هُوَ الَّذِي لَا مَالَ لَهُ وَلَا كَسْبَ ، وَالْمِسْكِينُ هُوَ الَّذِي لَهُ مَالٌ أَوْ كَسْبٌ لَا يُغْنِيهِ . فَالْفَقِيرُ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْمِسْكِينِ عَلَى مَا يُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ فِي قَسْمِ الصَّدَقَاتِ . فَإِذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِلْمَسَاكِينِ ، قُسِّمَ فِي ثَلَاثَةٍ فَصَاعِدًا مِنَ الْمَسَاكِينِ أَوْ مِنَ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ، أَوْ مِنَ الْفُقَرَاءِ دُونَ الْمَسَاكِينِ . وَهَكَذَا إِذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِلْفُقَرَاءِ ، قُسِّمَ فِي ثَلَاثَةٍ فَصَاعِدًا مِنَ الْفُقَرَاءِ ، أَوْ مِنَ الْمَسَاكِينِ وَالْفُقَرَاءِ ، أَوْ مِنَ الْمَسَاكِينِ دُونَ الْفُقَرَاءِ ؛ لِأَنَّ كِلَا الصِّنْفَيْنِ فِي الِانْفِرَادِ وَاحِدٌ . ثُمَّ قُسِّمَ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ حَاجَاتِهِمْ ، فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَسْتَغْنِي بِمِائَةٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَغْنِي بِخَمْسِينَ أَعْطَى مَنْ غِنَاهُ مِائَةٌ سَهْمَيْنِ وَأَعْطَى مَنْ غِنَاهُ خَمْسِينَ سَهْمًا وَاحِدًا . وَلَا يُفَضَّلُ ذُو قَرَابَةٍ بِقَرَابَتِهِ ، وَإِنَّمَا يُقَدَّمُ ذُو الْقَرَابَةِ عَلَى غَيْرِهِ إِذَا كَانَ فَقِيرًا لِقَرَابَتِهِ ؛ لِأَنَّ لِلْعَطِيَّةِ لَهُ صَدَقَةً وَصِلَةً وَمَا جَمَعَ ثَوَابَيْنِ كَانَ أَفْضَلَ مِنَ التَّفَرُّدِ بِأَحَدِهِمَا . فَإِذَا صُرِفَ الثُّلُثُ فِي أَقَلِّ مِنْ ثَلَاثَةٍ مِنَ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ضُمِنَ ، فَإِنْ صَرَفَ حِصَّتَهُ فِي اثْنَيْنِ كَانَ فِي قَدْرِ مَا يَضْمَنُهُ وَجْهَانِ :

أَحَدُهُمَا وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ : أَنَّهُ يَضْمَنُ ثُلُثَ الثُّلُثِ ؛ لِأَنَّ أَقَلَّ الْأَجْزَاءِ ثَلَاثَةٌ وَالظَّاهِرُ مُسَاوَاتُهُمْ فِيهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَضْمَنُ عَنِ الثُّلُثِ قَدْرَ مَا لَوْ دَفَعَهُ إِلَى ثَالِثٍ آخَرَ ، فَلَا يَنْحَصِرُ بِالثُّلُثِ ؛ لَأَنَّ لَهُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمْ وَالتَّفْضِيلَ . وَلَوْ كَانَ اقْتَصَرَ عَلَى وَاحِدٍ ، فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ أَنَّهُ يَضْمَنُ ثُلُثَيِ الثُّلُثِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَضْمَنُ أَقَلَّ مَا يُجْزِئُهُ فِي الدَّفْعِ إِلَيْهِمَا ، فَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ، صُرِفَ الثُّلُثُ فِي الصِّنْفَيْنِ بِالتَّسْوِيَةِ وَدُفِعَ السُّدُسُ إِلَى الْفُقَرَاءِ وَأَقَلُّهُمْ ثَلَاثَةٌ ، وَإِنْ صَرَفَهُ فِي أَحَدِ الصِّنْفَيْنِ ضُمِنَ السُّدُسُ لِلنِّصْفِ الْآخَرِ وَجْهًا وَاحِدًا . ثُمَّ عَلَيْهِ صَرْفُ الثُّلُثِ فِي فُقَرَاءِ الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْمَالُ دُونَ الْمَالِكِ كَالزَّكَاةِ ، فَإِنْ تَفَرَّقَ مَالُهُ ، أَخْرَجَ فِي كُلِّ بَلَدٍ ثُلُثَ مَا فِيهِ ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدُوا فِيهِ ، نُقِلَ إِلَى أَقْرَبِ الْبِلَادِ إِلَيْهِ كَمَا قُلْنَا فِي زَكَاةِ الْمَالِ ، فَأَمَّا زَكَاةُ الْفِطْرِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا تُخْرَجُ فِي بَلَدِ الْمَالِ دُونَ الْمَالِكِ كَزَكَاةِ الْمَالِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا تُخْرَجُ فِي بَلَدِ الْمَالِكِ دُونَ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهَا عَنْ فِطْرَةِ بَدَنِهِ وَطَهُورٌ لِصَوْمِهِ . فَإِنْ نَقَلَ الزَّكَاةَ عَنْ بَلَدِ الْمَالِ إِلَى غَيْرِهِ كَانَ فِي الْإِجْزَاءِ قَوْلَانِ . فَأَمَّا نَقْلُ الْوَصِيَّةِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا : فَمِنْهُمْ مَنْ خَرَّجَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالزَّكَاةِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يُجْزِئُ قَوْلًا وَاحِدًا وَإِنْ أَسَاءَ ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ عَطِيَّةٌ مِنْ آدَمِيٍّ ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَضَعَهَا حَيْثُ شَاءَ .

فَصْلٌ : فَإِذَا فُرِّقَ الثُّلُثُ فِيمَا وَصَفْنَا مِنَ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ كيف يملكوه ؟ ، لَمْ يَمْلِكُوهُ إِلَّا بِالْقَبُولِ وَالْقَبْضِ ، قَوْلًا وَاحِدًا وَهَكَذَا كُلُّ وَصِيَّةٍ عُلِّقَتْ بِصِفَةٍ لَا يَلْزَمُ اسْتِيعَابُ جِنْسِهَا وَإِنَّمَا الْقَوْلَانِ فِيمَنْ كَانَ مُسَمًّى فِي الْوَصِيَّةِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ مَنْ تَعَيَّنَ بِالْعَطِيَّةِ لَمْ يَمْلِكْ إِلَّا بِهَا ، وَمَنْ تَعَيَّنَ بِالْوَصِيَّةِ مَلَكَ بِهَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْصَى لِغَازِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُمُ الَّذِينَ مِنَ الْبَلَدِ الَّذِي بِهِ مَالُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ : إِذَا جُعِلَ ثُلُثُ مَالِهِ مَصْرُوفًا فِي الْغَارِمِينَ . وَالْغَارِمُونَ ضَرْبَانِ : ضَرْبٌ اسْتَدَانُوا فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ كَتَحَمُّلٍ لِلدِّيَةِ " الْعَمْدِ " ، أَوْ غَرِمَ مَالًا فِي إِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ ، أَوْ تَيْسِيرِ الْحَجِّ ، أَوْ إِصْلَاحِ سَبِيلِهِمْ . فَهَذَا الصِّنْفُ مِنَ الْغَارِمِينَ لَا يُرَاعَى فَقْرُهُمْ وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطَوْا مَعَ الْغِنَى .

وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَسْتَدِينُوا فِي مَصَالِحِ أَنْفُسِهِمْ ، فَيُرَاعَى فِيهِمُ الْفَقْرُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَوْا مَعَ الْغِنَى وَالْقُدْرَةِ . ثُمَّ يُنْظَرُ فِيمَا اسْتَدَانُوا : فَإِنْ كَانُوا صَرَفُوهُ فِي مُسْتَحَبٍّ أَوْ مُبَاحٍ ، أُعْطَوْا ، وَإِنْ صَرَفُوهُ فِي مَعْصِيَةٍ ، فَإِنْ لَمْ يَتُوبُوا مِنْهَا لَمْ يُعْطَوْا ، لِمَا فِي إِعْطَائِهِمْ مِنْ إِعَانَتِهِمْ عَلَيْهَا وَإِغْرَائِهِمْ بِهَا . وَإِنْ تَابُوا فَفِي إِعْطَائِهِمْ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : " لَا يُعْطَوْنَ " لِهَذَا الْمَعْنَى . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُعْطَوْنَ لِارْتِفَاعِهَا بِالتَّوْبَةِ . وَأَقَلُّ مَا يُصْرَفُ الثُّلُثُ فِي ثَلَاثَةٍ فَصَاعِدًا فِي الْغَارِمِينَ ، وَأَيُّ الصِّنْفَيْنِ أَعْطَى مِنْهُمْ أَجْزَأَ ، وَيَكُونُ مَا يُعْطِيهِمْ بِحَسْبِ غُرْمِهِمْ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَيُعْطِي مَنْ لَهُ الدَّيْنُ عَلَيْهِمْ أَحَبُّ إِلَيَّ ، وَلَوْ أَعْطَوْهُ فِي دَيْنِهِمْ رَجَوْتُ أَنْ يَسَعَ " . فَإِنْ صَرَفَهُ فِي اثْنَيْنِ غَرِمَ لِلثَّالِثِ ، وَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَضْمَنُ ثُلُثَ الثُّلُثِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَضْمَنُ أَقَلَّ مَا يُجْزِئُهُ أَنْ يُعْطِيَهُ ثَالِثًا ، وَيَكُونُ ذَلِكَ خَاصًّا بِغَارِمِي بَلَدِ الْمَالِ وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ ذَا رَحِمٍ ، أَوْلَى لِمَا فِي صِلَتِهَا مِنْ زِيَادَةِ الثَّوَابِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا فَجِيرَانُ الْمَالِ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ [ النِّسَاءِ : 36 ] وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَأَقْصَى الْجِوَارِ بَيْنَهُمْ أَرْبَعُونَ دَارًا مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ " ا هـ . هَكَذَا لَوْ أَوْصَى لِجِيرَانِهِ ، كَانَ جِيرَانُهُ مُنْتَهَى أَرْبَعِينَ دَارًا مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ . وَقَالَ قَتَادَةُ : الْجَارُ : الدَّارُ وَالدَّارَانِ . وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الْإِقَامَةَ . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : هُمْ أَهْلُ الْمَسْجِدِ . وَدَلِيلُنَا : مَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا كَانَ نَازِلَا بَيْنَ قَوْمٍ فَأَتَى النبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَشْكُوَهُمْ ، فَبَعَثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَقَالَ : اخْرُجُوا إِلَى بَابِ الْمَسْجِدِ وَقُولُوا : أَلَا إِنَّ الْجِوَارَ أَرْبَعُونَ دَارًا .

فَصْلٌ : وَلَوْ أَوْصَى بِإِخْرَاجِ ثُلُثِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . وَجَبَ صَرْفُهُ فِي الْغُزَاةِ - كَمَا قُلْنَا فِي الزَّكَاةِ - وَيُصْرَفُ ذَلِكَ فِي ثَلَاثَةٍ فَصَاعِدًا مِنْ غُزَاةِ

الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ مَالُهُ ، عَلَى حَسَبِ مَغَازِيهِمْ ، فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ فَارِسًا ، أَوْ رَاجِلًا ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدُوا فِي بَلَدِ الْمَالِ ، نُقِلَ إِلَى أَقْرَبِ الْبِلَادِ فِيهِ .

فَصْلٌ : وَلَوْ أَوْصَى بِإِخْرَاجِ ثُلُثِهِ فِي بَنِي السَّبِيلِ . صُرِفَ فِيمَنْ أَرَادَ سَفَرًا ، إِذَا كَانَ فِي بَلَدِ الْمَالِ ، سَوَاءٌ كَانَ مُجْتَازًا ، أَوْ مُبْتَدِئًا بِالسَّفَرِ . فَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِهِ فِي الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ وَهُمْ أَهْلُ الزَّكَاةِ ، صُرِفَ فِيهِمْ وَهُمْ أَهْلُ الزَّكَاةِ وَقُسِّمَ بَيْنَ أَصْنَافِهِمْ بِالتَّسْوِيَةِ ، وَجَازَ تَفْضِيلُ أَهْلِ الصِّنْفِ بِحَسْبِ الْحَاجَةِ كَمَا قُلْنَا فِي الزَّكَاةِ ، إِلَّا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّ الزَّكَاةَ إِذَا عُدِمَ صِنْفٌ مِنْهَا ، رُدَّ عَلَى بَاقِي الْأَصْنَافِ وَإِذَا عُدِمَ فِي الْوَصِيَّةِ أَهْلُ صِنْفٍ لَمْ يُرَدَّ عَلَى بَاقِي الْأَصْنَافِ ، وَنُقِلَ إِلَى أَهْلِ ذَلِكَ الصِّنْفِ فِي أَقْرَبِ بَلَدٍ يُوجَدُونَ فِيهِ ، فَإِنْ عُدِمُوا ، رَجَعَ سَهْمُهُمْ إِلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْوَصِيَّةِ وَالزَّكَاةِ : أَنَّ الْوَصِيَّةَ لَمَّا تَعَيَّنَتْ لِلْأَشْخَاصُ تَعَيَّنَتْ لِلْأَصْنَافِ ، وَالزَّكَاةُ لَمَّا لَمْ تَتَعَيَّنْ لِلْأَشْخَاصِ لَمْ تَتَعَيَّنْ لِلْأَصْنَافِ .

فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ : اصْرِفُوا ثُلُثِي فِي سَبِيلِ الْخَيْرِ ، أَوْ فِي سَبِيلِ الْبِرِّ ، أَوْ فِي سَبِيلِ الثَّوَابِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : " جُزِّأَ أَجْزَاءً ، فَأُعْطِيَ ذُو قَرَابَتِهِ فُقَرَاءً كَانُوا أَوْ أَغْنِيَاءً ، وَالْفُقَرَاءُ ، وَالْمَسَاكِينُ ، وَفِي الرِّقَابِ ، وَالْغَارِمِينَ ، وَالْغُزَاةُ ، وَابْنُ السَّبِيلِ ، وَالْحَاجُّ ، وَيَدْخُلُ الضَّيْفُ وَالسَّائِلُ وَالْمُعْتَرُّ فِيهِمْ . فَإِنْ لَمْ يَفْعَلِ الْمُوصِي ، ضَمِنَ سَهْمَ مَنْ مَنَعَهُ إِذَا كَانَ مَوْجُودًا .

فَصْلٌ : وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ إِلَى رَجُلٍ يَضَعُهُ حَيْثُ رَآهُ . لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ لِنَفْسِهِ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِصَرْفِهِ لَا بِأَخْذِهِ . وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُصْرَفَ إِلَى وَارِثٍ لِلْمُوصِي وَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ مَمْنُوعٌ مِنَ الْوَصِيَّةِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ عِنْدَ نَفْسِهِ وَلَا أَنْ يُودِعَهُ غَيْرَهُ . قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَأَخْتَارُ لَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ أَهْلَ الْحَاجَةِ مِنْ قَرَابَةِ الْمَيِّتِ حَتَّى يُغْنِيَهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ وَلَيْسَ الرَّضَاعُ قَرَابَةً ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَرَابَةٌ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ وَالْأُمِّ وَكَانَ رَضِيعًا أَحْبَبْتُ أَنْ يُعْطِيَهُمْ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَضِيعٌ أَحْبَبْتُ أَنْ يُعْطِيَ جِيرَانَهُ الْأَقْرَبَ مِنْهُمْ فَالْأَقْرَبَ ، وَأَقْصَى الْجِوَارِ مُنْتَهَى أَرْبَعِينَ دَارًا مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ ، وَأُحِبُّ أَنْ يُعْطِيَهُ أَفْقَرَ مَنْ يَجِدُهُ وَأَشَدَّهُمْ تَعَفُّفًا وَاسْتِئْثَارًا وَلَا يُبْقِي فِي يَدِهِ شَيْئًا يُمْكِنُهُ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ سَاعَتِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَوْ أَوْصَى لَهُ فَقَبِلَ ، أَوْ رَدَّ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي فيمن أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ إِلَى رَجُلٍ يَضَعُهُ حَيْثُ رَآهُ كَانَ لَهُ قَبُولُهُ وَرَدُّهُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَسَوَاءٌ أَوْصَى لَهُ بِأَبِيهِ أَوْ غَيْرِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَشْتَمِلُ عَلَى أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : الْعَطِيَّةُ . وَالثَّانِي : الْوِلَايَةُ .

فَأَمَّا الْعَطِيَّةُ فَهُوَ مَا يُوصِي بِهِ الرَّجُلُ مِنْ أَمْوَالِهِ لِمَنْ أَحَبَّ ، فَالْوَقْتُ الَّذِي يَصِحُّ فِيهِ قَبُولُ ذَلِكَ وَرَدُّهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي . فَإِنْ قَبِلَ أَوْ رَدَّ بَعْدَ مَوْتِهِ ، صَحَّ وَكَانَ عَلَى مَا مَضَى مِنْ حُكْمِ الْقَبُولِ وَالرَّدِّ . فَأَمَّا فِي حَيَاةِ الْمُوصِي ، فَلَا يَصِحُّ قَبُولُهُ وَلَا رَدُّهُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : " يَصِحُّ الرَّدُّ وَلَا يَصِحُّ الْقَبُولُ ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ أَوْسَعُ حُكْمًا مِنَ الْقَبُولِ " ا هـ . وَهَذَا فَاسِدٌ لِأُمُورٍ مِنْهَا : أَنَّ الرَّدَّ فِي مُقَابَلَةِ الْقَبُولِ ، لِأَنَّهُمَا مَعًا يَرْجِعَانِ إِلَى الْوَصِيَّةِ ، فَلَمَّا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مَا قَبْلَ الْمَوْتِ زَمَانًا لِلْقَبُولِ ، امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ زَمَانًا لِلرَّدِّ ، وَصَارَ كَزَمَانِ مَا قَبْلَ الْوَصِيَّةِ الَّذِي لَا يَصِحُّ فِيهِ قَبُولٌ وَلَا رَدٌّ وَعَكْسُهُ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ كَمَا صَحَّ فِيهِ الْقَبُولُ صَحَّ فِيهِ الرَّدُّ . وَمِنْهَا : أَنَّ الرَّدَّ فِي حَالِ الْحَيَاةِ عَفْوٌ قَبْلَ وَقْتِ الِاسْتِحْقَاقِ ، فَجَرَى مَجْرَى الْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ قَبْلَ وُجُوبِهِ وَعَنِ الشُّفْعَةِ قَبْلَ اسْتِحْقَاقِهَا . وَمِنْهَا : أَنَّهُ قَبْلَ الْمَوْتِ مَرْدُودٌ عَنِ الْوَصِيَّةِ ، فَلَمْ يَكُنْ رَدُّهُ لَهُ مُخَالِفًا لِحُكْمِهَا .

فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَسَوَاءٌ أَوْصَى لَهُ بِأَبِيهِ أَوْ غَيْرِهِ " ا هـ وَهَذَا قَالَهُ رَدًّا عَلَى طَائِفَتَيْنِ زَعَمَتْ إِحْدَاهُمَا أَنَّ مَنْ أَوْصَى لَهُ بِأَبِيهِ وَأُمِّهِ أَوْ بِابْنِهِ حكم قَبُولُ هذه الْوَصِيَّةِ أو رَدُّهَا ، فَعَلَيْهِ قَبُولُ الْوَصِيَّةِ وَلَا يَجُوزُ لَهُ رَدُّهَا . وَزَعَمَتِ الثَّانِيَةُ أَنَّهُ إِذَا قَبِلَ الْوَصِيَّةَ بِأَبِيهِ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي ، صَحَّ الْقَبُولُ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ وَلَيْسَ لَهُ الرَّدُّ بَعْدَ الْمَوْتِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنَ الْوَصَايَا . وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ عِنْدَنَا خَطَأٌ ، وَيَكُونُ مُخَيَّرًا بَعْدَ الْمَوْتِ فِي قَبُولِهِ وَرَدِّهِ كَغَيْرِهِ لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ . فَعَلَى هَذَا إِنْ قَبِلَ الْوَصِيَّةَ بِأَبِيهِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي عُتِقَ عَلَيْهِ ثُمَّ نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ قَبُولُهُ صَحِيحًا ، وَرِثَهُ أَبُوهُ لَوْ مَاتَ . فَلَوْ كَانَ عِنْدَ قَبُولِهِ مَرِيضًا كَانَ فِي مِيرَاثِهِ لَوْ مَاتَ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَرِثُ ؛ لِأَنَّ عِتْقَهُ بِالْقَبُولِ وَصِيَّةٌ لَا تَصِحُّ لِوَارِثٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ : أَنَّهُ يَرِثُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُخْرِجْ ثَمَنَهُ مِنْ مَالِهِ ، فَيَكُونُ وَصِيَّةً . فَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لَوْ قَبِلَهُ فِي مَرَضِهِ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يُعْتَقُ ثُلُثُهُ وَيَرِقُّ ثُلُثَاهُ ؛ لِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ لَهُ وَلَيْسَ الْوَصِيَّةُ مِنْهُ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي وَهُوَ الْوَصِيَّةُ بِالْوِلَايَةِ عَلَى مَالِ طِفْلٍ وَتَفْرِيقِ ثُلُثِهِ ، أَوْ تَنْفِيذِ وَصِيَّةٍ ، فَيَصِحُّ قَبُولُهَا وَرَدُّهَا فِي حَيَاةِ الْمُوصِي وَبَعْدَ مَوْتِهِ ، بِخِلَافِ وَصَايَا الْعَطَايَا . لِأَنَّ هَذَا عَقْدٌ ، فَكَانَ قَبُولُهُ فِي حَيَاةِ الْعَاقِدِ أَصَحُّ وَتِلْكَ عَطِيَّةٌ تُقْبَلُ فِي زَمَانِ التَّمْلِيكِ وَقَبُولُهَا عَلَى التَّرَاخِي مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ تَنْفِيذُ الْوَصَايَا .

وَلَوْ رَدَّ الْوَصِيَّةَ فِي حَالِ حَيَاةِ الْمُوصِي ، لَمْ يُمْكِنْ لَهُ قَبُولُهَا بَعْدَ مَوْتِهِ وَلَا فِي حَيَاتِهِ . وَلَوْ قَبِلَهَا فِي حَيَاةِ الْمُوصِي صَحَّتْ وَكَانَ لَهُ الْمُقَامُ عَلَيْهَا إِنْ شَاءَ وَالْخُرُوجُ مِنْهَا إِنْ شَاءَ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي وَبَعْدَ مَوْتِهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَيْسَ لَهُ الْخُرُوجُ مِنَ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي وَيَجُوزُ لَهُ الْخُرُوجُ مِنْهَا فِي حَيَاتِهِ ، إِذَا كَانَ حَاضِرًا ، وَإِنْ غَابَ لَمْ يَجُزْ . وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَا كَانَ لَازِمًا مِنَ الْعُقُودِ اسْتَوَى حُكْمُهُ فِي الْحَيَاةِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ ، وَمَا كَانَ غَيْرَ لَازِمٍ بَطَلَ بِالْمَوْتِ ، وَالْوَصِيَّةُ إِنْ خَرَجَتْ عَنْ أَحَدِهِمَا صَارَتْ أَصْلًا يَفْتَقِرُ إِلَى دَلِيلٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ كَانَ حُضُورُ صَاحِبِ الْحَقِّ شَرْطًا فِي الْخُرُوجِ مِنَ الْوَصِيَّةِ ، لَكَانَ رِضَاهُ مُعْتَبَرًا ، وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ رِضَاهُ وَإِنْ كَانَ حَاضِرًا غَيْرَ مُعْتَبَرٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لِيُسْرٍ بِشَرْطٍ .

فَصْلٌ : وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ أَبَاهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ هِيَ قَدْرُ ثُلُثِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ سِوَى ثَلَاثِمِائَةِ دِرْهَمٍ عُتِقَ عَلَيْهِ مِنَ الثُّلُثِ وَلَمْ يَرِثْهُ ؛ لِأَنَّ عِتْقَهُ إِذَا كَانَ فِي الثُّلُثِ وَصِيَّةٌ وَلَا يُجْمَعُ لَهُ بَيْنَ الْوَصِيَّةِ وَالتَّوْرِيثِ ، وَلَوْ وَرِثَ لَمُنِعَ الْوَصِيَّةَ وَلَوْ مُنِعَهَا لَبَطَلَ الْعِتْقُ وَالشِّرَاءُ ، وَإِذَا بَطَلَ الْعِتْقُ وَالشِّرَاءُ بَطَلَ الْمِيرَاثُ ، فَلَمَّا كَانَ تَوْرِيثُهُ يُفْضِي إِلَى إِبْطَالِ الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ ، أَثْبَتْنَا الْوَصِيَّةَ وَأَبْطَلْنَا الْمِيرَاثَ . فَلَوِ اشْتَرَى بَعْدَ أَنْ عُتِقَ أَبُوهُ عَبْدًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَأَعْتَقَهُ كَانَ عِتْقُهُ بَاطِلًا ؛ لِأَنَّهُ قَدِ اشْتَرَى ثُلُثَهُ بِعِتْقِ أَبِيهِ ، فَرُدَّ عَلَيْهِ عِتْقُ مَنْ سِوَاهُ . وَلَوْ كَانَ قَبْلَ شِرَاءِ أَبِيهِ أَعْتَقَ عَبْدًا هُوَ جَمِيعُ ثُلُثِهِ ، ثُمَّ اشْتَرَى أَبَاهُ وَلَيْسَ لَهُ ثُلُثٌ يَحْتَمِلُهُ وَلَا شَيْئٌ مِنْهُ ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الشِّرَاءَ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَثَبَتَ الْمِلْكُ ، وَلَوْ ثَبَتَ الْمِلْكُ لَنَفَذَ الْعِتْقُ وَالْعِتْقُ لَا يَنْفُذُ جَبْرًا فِيمَا جَاوَزَ الثُّلُثَ ، فَكَذَلِكَ كَانَ الشِّرَاءُ بَاطِلًا ، وَسَوَاءٌ أَفَادَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا خَرَّجَ ثَمَنَ الْأَبِ مِنْ ثُلُثِهِ أَوْ لَمْ يُفِدْ ، لِفَسَادِ الْعَقْدِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الشِّرَاءَ لَازِمٌ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْتَرِفْ بِالْعَقْدِ مَا يُفْسِدُهُ ، وَإِنَّمَا عِتْقُهُ بِالْمِلْكِ حَالٌ يَخْتَصُّ بِالْعَاقِدِ ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي فَسَادِ الْعَقْدِ . فَعَلَى هَذَا يُسْتَبْقَى رِقُّ الْأَبِ عَلَى مِلْكِ وَلَدِهِ ، وَإِنْ أَفَادَ مَا يُخَرَّجُ بِهِ مِنْ ثَمَنُ الْأَبِ مِنْ ثُلُثِهِ عُتِقَ وَلَمْ يَرِثْ ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَفِدْ شَيْئًا كَانَ عَلَى رِقِّهِ ، فَإِذَا مَاتَ الِابْنُ الْمُشْتَرِي صَارَ الْأَبُ مَوْرُوثًا لِوَرَثَةِ ابْنِهِ . فَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ يُعْتَقُ عَلَيْهِمُ الْأَبُ لِأَنَّهُمْ إِخْوَةٌ أَوْ بَنُونَ ، عُتِقَ عَلَيْهِمْ بِمِلْكِهِمْ لَهُ بِالْمِيرَاثِ . وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْوَرَثَةُ مِمَّنْ يُعْتَقُ عَلَيْهِمُ الْأَبُ ، لِأَنَّهُمْ أَعْمَامٌ ، أَوْ بَنُو أَعْمَامٍ كَانَ مِلْكُهُمْ مَوْقُوفًا .

وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ الشِّرَاءَ مَوْقُوفٌ ، فَإِنْ أَفَادَ الِابْنُ مَا يُخْرِجُ بِهِ عَنِ الْأَبِ مِنْ ثُلُثِهِ ، عُتِقَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَرِثْهُ وَإِنْ أَبْرَأَهُ الْبَائِعُ مِنْ ثَمَنِهِ ، عُتِقَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ كَالْمَوْهُوبِ لَهُ ، وَفِي مِيرَاثِهِ وَجْهَانِ ؛ لِأَنَّ عِتْقَهُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ ثَمَنٍ . وَإِنْ لَمْ يُفِدْ شَيْئًا وَلَا أُبْرِئَ مِنْ ثَمَنِهِ ، فُسِخَ الْبَيْعُ حِينَئِذٍ وَرُدَّ الْأَبُ عَلَى الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَ الِابْنُ أَبَاهُ ، فَلَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ ؛ فَلِذَلِكَ فُسِخَ الْعَقْدُ فِيهِ . وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ حَكَاهُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ . فَعَلَى هَذَا لَوِ اشْتَرَى الِابْنُ أَبَاهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ وَثَمَنُهُ خَارِجٌ مِنْ ثُلُثِهِ ، ثُمَّ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ يَسْتَوْعِبُ جَمِيعَ تَرِكَتِهِ ، فَإِنْ أَمْضَى الْغُرَمَاءُ مَا أَعْتَقَهُ نَفَذَ ، وَإِنْ رَدُّوهُ فَهُوَ عَلَى الرِّقِّ ، وَفِي بُطْلَانِ الشِّرَاءِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلٌ ، لِئَلَّا يُسْتَبْقَى مِلْكُ الِابْنِ لِأَبِيهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : جَائِزٌ وَيُبَاعُ فِي دَيْنِهِ ، لِعَجْزِ الثُّلُثِ عَنْ ثَمَنِهِ . ثُمَّ يَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا : لَوْ وُهِبَ أَبَاهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ ، فَقَبِلَهُ وَقَبَضَهُ وَكَانَتْ عَلَيْهِ دُيُونٌ تَسْتَوْعِبُ جَمِيعَ تَرِكَتِهِ ، لَمْ تَبْطُلِ الْهِبَةُ . وَهَلْ يُنَفَّذُ عِتْقُهُ ، أَوْ يُبَاعُ لِدُيُونِ غُرَمَائِهِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ عِتْقَهُ نَافِذٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَهْلِكْ عَلَى غُرَمَائِهِ مِنْ مَالِهِ شَيْئًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ عِتْقَهُ يُرَدُّ كَمَا يُرَدُّ عِتْقُ الْمُبَاشَرَةِ وَتُبَاعُ دُيُونُ غُرَمَائِهِ ؛ لِأَنَّ دُيُونَهُمْ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْعِتْقِ فِي الْمَرَضِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَوْ أَوْصَى بِدَارٍ كَانَتْ لَهُ وَمَا ثَبَتَ فِيهَا مِنَ أَبْوَابِهَا وَغَيْرِهَا دُونَ مَا فِيهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ إِذَا كَانَتْ بِالدَّارِ ، دَخَلَ فِيهَا كُلُّ مَا كَانَ مِنَ الدَّارِ وَلَهَا ، وَلَمْ يَدْخُلْ فِي الْوَصِيَّةِ كُلُّ مَا كَانَ فِي الدَّارِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْهَا . الدَّاخِلُ فِي الْوَصِيَّةِ : حِيطَانُهَا وَسُقُوفُهَا وَأَبْوَابُهَا الْمَنْصُوبَةُ عَلَيْهَا وَمَا كَانَ مُتَّصِلًا بِهَا مِنْ زُخْرُفِهَا وَدُرُجِهَا . وَلَمْ يَدْخُلْ فِيهَا مَا انْفَصَلَ عَنْهَا مِنْ أَبْوَابِهَا وَرُفُوفِهَا وَسَلَالِمِهَا الْمُنْفَصِلَةِ عَنْهَا . وَجُمْلَةُ ذَلِكَ : أَنَّ كُلَّ مَا جَعَلْنَاهُ دَاخِلًا فِي الْبَيْعِ " مَعَهَا " دَخَلَ فِي الْوَصِيَّةِ بِهَا وَكُلُّ مَا جَعَلْنَاهُ خَارِجًا عَنِ الْبَيْعِ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْوَصِيَّةِ . وَلَوْ كَانَ الْمُوصَى بِهِ أَرْضًا ، دَخَلَ فِي الْوَصِيَّةِ نَخْلُهَا وَشَجَرُهَا وَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ زَرْعُهَا . وَلَوْ كَانَ نَخْلُهَا عِنْدَ الْوَصِيَّةِ مُثْمِرًا لَمْ يَدْخُلْ ثَمَرُهَا فِي الْوَصِيَّةِ إِنْ كَانَ مَوْزًا ، وَفِي دُخُولِهِ فِيهَا إِنْ كَانَ غَيْرَ مَوْزٍ وَجْهَانِ :

أَحَدُهُمَا : يَدْخُلُ كَالْبَيْعِ . وَالثَّانِي : لَا يَدْخُلُ لِخُرُوجِهِ عَنْ الِاسْمِ وَإِنْ كَانَ مُتَّصِلًا . وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي دُخُولِهِ فِي الرَّهْنِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَوِ انْهَدَمَتْ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي كَانَتْ لَهُ إِلَّا مَا انْهَدَمَ مِنْهَا ، فَصَارَ غَيْرَ ثَابِتٍ فِيهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِدَارٍ فَانْهَدَمَتْ ، فَلَا يَخْلُو انْهِدَامُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَنْهَدِمَ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي . وَالثَّانِي : بَعْدَ مَوْتِهِ وَبَعْدَ قَبُولِ الْمُوصَى لَهُ . وَالثَّالِثُ : بَعْدَ مَوْتِهِ وَقَبْلَ قَبُولِ الْمُوصَى لَهُ . فَإِنِ انْهَدَمَتْ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي في رجل أَوْصَى لِرَجُلٍ بِدَارٍ فَانْهَدَمَتْ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهَا : أَنْ يَزُولَ اسْمُ الدَّارِ عَنْهَا بِالِانْهِدَامِ . وَالثَّانِي : أَلَّا يَزُولَ ، فَإِنْ لَمْ يَزُلِ اسْمُ الدَّارِ عَنْهَا لِبَقَاءِ بُنْيَانٍ فِيهَا يُسَمَّى بِهِ دَارًا فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ وَلَهُ مَا كَانَ ثَابِتًا فِيهَا مِنْ بُنْيَانِهَا . فَأَمَّا الْمُنْفَصَلُ عَنْهَا بِالْهَدْمِ ، فَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ : أَنَّهُ يَكُونُ خَارِجًا عَنِ الْوَصِيَّةِ . فَذَهَبَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا إِلَى حَمْلِ ذَلِكَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَأَنَّهُ خَارِجٌ عَنِ الْوَصِيَّةِ ؛ لِأَنَّ مَا انْفَصَلَ عَنْهَا دَارٌ ، فَلَمْ يَكُنْ لِلْمُوصَى لَهُ بِالدَّارِ فِيهِ حَقٌّ . وَحُكِيَ عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ كَجٍّ وَجْهٌ آخَرُ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّ نَصَّ الشَّافِعِيِّ عَلَى خُرُوجِ مَا انْهَدَمَ مِنَ الْوَصِيَّةِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ هَدَمَهُ بِنَفْسِهِ ، فَصَارَ ذَلِكَ رُجُوعًا فِيهِ . وَلَوِ انْهَدَمَ بِسَبَبٍ مِنَ السَّمَاءِ ، لَا يُنْسَبُ إِلَى فِعْلِ الْمُوصِي وَكَانَ مَا انْفَصَلَ بِالْهَدْمِ لِلْمُوصَى لَهُ مَعَ الدَّارِ لِأَنَّهُ مِنْهَا ، وَإِنَّمَا بَانَ عَنْهَا بَعْدَ أَنْ تَنَاوَلَتْهُ الْوَصِيَّةُ وَإِنْ كَانَتِ الدَّارُ بَعْدَ انْهِدَامِهَا لَا تُسَمَّى دَارًا ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ عَرْصَةً لَا بِنَاءَ فِيهَا ، فَفِي بُطْلَانِ الْوَصِيَّةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا تَبْطُلُ ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ جَعَلَ الْآلَةَ بَعْدَ انْفِصَالِهَا مِلْكًا لِلْمُوصَى لَهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِهَا بَاطِلَةٌ وَهُوَ الْأَصَحُّ ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ عَرْصَةً لَمْ تُسَمَّ دَارًا . أَلَا تَرَى لَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُهَا ، لَمْ يَحْنَثْ بِدُخُولِهِ عَرْصَتَهَا بَعْدَ ذَهَابِ بِنَائِهَا . وَهَذَا قَوْلُ مَنْ جَعَلَ مَا انْفَصَلَ عَنْهَا غَيْرَ دَاخِلٍ فِي الْوَصِيَّةِ . فَإِنْ كَانَ انْهِدَامُهَا ، بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي وَبَعْدَ قَبُولِ الْمُوصَى لَهُ في رجل أَوْصَى لِرَجُلٍ بِدَارٍ فَانْهَدَمَتْ فَالْوَصِيَّةُ بِهَا مُمْضَاةٌ وَجَمِيعُ مَا انْفَصَلَ مِنْ آلَتِهَا كَالْمُتَّصِلِ ، يَكُونُ مِلْكًا لِلْمُوصَى لَهُ لِاسْتِقْرَارِ مِلْكِهِ عَلَيْهِ بِالْقَبُولِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِنْ كَانَ انْهِدَامُهَا ، بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي وَقَبْلَ قَبُولِ الْمُوصَى لَهُ في رجل أَوْصَى لِرَجُلٍ بِدَارٍ فَانْهَدَمَتْ ، فَإِنْ لَمْ يَزَلْ

اسْمُ الدَّارِ عَنْهَا ، فَالْوَصِيَّةُ بِحَالِهَا ، فَإِذَا قَبِلَهَا الْمُوصَى لَهُ ، فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْقَبُولَ يُبْنَى عَلَى تَقَدُّمِ الْمِلْكِ بِمَوْتِ الْمُوصَى ، فَكُلُّ ذَلِكَ مِلْكٌ لِلْمُوصَى لَهُ ، الْمُنْفَصِلُ مِنْهَا وَالْمُتَّصِلُ . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْقَبُولَ هُوَ الْمِلْكُ فَلَهُ رَدُّهَا وَمَا اتَّصَلَ بِهَا مِنَ الْبِنَاءِ وَفِي الْمُنْفَصِلِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لِلْمُوصَى لَهُ . وَالثَّانِي : لِلْوَارِثِ . وَإِنْ لَمْ تُسَمَّ الدَّارُ بَعْدَ انْهِدَامِهَا دَارًا ، فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ الْقَبُولَ يُبْنَى عَلَى تَقَدُّمِ الْمِلْكِ فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ وَلَهُ الْعَرْصَةُ وَجَمِيعُ مَا فِيهَا مِنْ مُتَّصِلٍ ، أَوْ مُنْفَصِلٍ إِذَا كَانَ عِنْدَ الْمَوْتِ مُتَّصِلًا . وَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْقَبُولَ هُوَ الْمِلْكُ ، فَفِي الْبُطْلَانِ بِانْهِدَامِهَا وَجْهَانِ عَلَى مَا مَضَى : أَحَدُهُمَا : بَاطِلَةٌ . وَالثَّانِي : جَائِزَةٌ وَلَهُ مَا اتَّصَلَ بِهَا وَفِي الْمُنْفَصِلِ وَجْهَانِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِعَبْدٍ فَعَمِيَ أَوْ زَمِنَ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ ، فَالْوَصِيَّةُ بِحَالِهَا ، لَا يُؤَثِّرُ فِيهَا عَمَى الْعَبْدِ وَلَا زَمَانَتُهُ . وَلَوْ قُطِعَتْ يَدُهُ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي الْوَصِيَّةُ بِعَبْدٍ فَالْوَصِيَّةُ بِحَالِهَا فِي الْعَبْدِ مَقْطُوعًا ، وَدِيَةُ " يَدِهِ " لِلْمُوصِي ، تَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ وَجْهًا وَاحِدًا ، بِخِلَافِ مَا انْهَدَمَ مِنْ آلَةِ الدَّارِ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْآلَةَ ، عَيْنٌ مِنْ أَعْيَانِ الْوَصِيَّةِ وَلَيْسَتِ الدِّيَةُ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا بَدَلٌ . فَأَمَّا إِذَا قُتِلَ الْعَبْدُ قَتْلًا مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ الْوَصِيَّةُ بِعَبْدٍ ، فَفِي بُطْلَانِ الْوَصِيَّةِ قَوْلَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْعَبْدِ الْمَبِيعِ إِذَا قُتِلَ فِي يَدِ بَائِعِهِ ، هَلْ يَبْطُلُ الْبَيْعُ بِقَتْلِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : كَذَلِكَ يَجِيءُ هَاهُنَا فِي بُطْلَانِ الْوَصِيَّةِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : قَدْ بَطَلَتْ ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ لَا تَكُونُ عَبْدًا وَكَمَا لَوْ قُطِعَتْ يَدُهُ لَمْ يَكُنْ أَرْشُهَا لَهُ ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْوَصِيَّةَ لَا تَبْطُلُ ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ بَدَلٌ مِنْ رَقَبَتِهِ فَأُقِيمَتْ مَقَامَهَا وَخَالَفَتْ قِيمَةُ رَقَبَتِهِ أَرْشَ يَدِهِ ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْعَبْدِ مُنْطَلَقٌ عَلَيْهِ ، بَعْدَ قَطْعِ يَدِهِ فَلَمْ يَسْتَحِقَّ أَرْشَ يَدِهِ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ لَهُ مَا يَنْطَلِقُ اسْمُ الْعَبْدِ عَلَيْهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَعْدَ قَتْلِهِ . وَلَكِنْ لَوْ قَتَلَهُ السَّيِّدُ بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ بِهِ قَوْلًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَضَمَّنُ قِيمَةَ عَبْدِهِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ وَكَمَا لَوْ أَوْصَى لَهُ بِحِنْطَةٍ فَطَحَنَهَا ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .

فَصْلٌ : وَلَوْ أَوْصَى بِعِتْقِ عَبْدِهِ ، فَقُتِلَ الْعَبْدُ قَبْلَ عِتْقِهِ نُظِرَ : فَإِنْ قُتِلَ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ بِعِتْقِهِ ، لِخُرُوجِهِ فِي حَيَاةِ السَّيِّدِ عَنْ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا ، وَإِنْ كَانَ قَتْلُهُ بَعْدَ مَوْتِ السَّيِّدِ ، فَقَدْ حُكِيَ عَنِ الْمُزَنِيِّ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لَا تَبْطُلُ بِعِتْقِهِ ،

وَيُشْتَرَى بِقِيمَتِهِ عَبْدٌ يُعْتَقُ مَكَانَهُ ؛ لِأَنَّ قِيمَتَهُ بَدَلٌ مِنْهُ ، فَصَارَ كَمَنْ نَذَرَ أُضْحِيَةً فَأَتْلَفَهَا بِتَلَفٍ ، صُرِفَتْ قِيمَتُهَا فِي أُضْحِيَةٍ غَيْرِهَا ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَبْطُلَ الْوَصِيَّةُ لِخُرُوجِ الْقِيمَةِ عَنْ أَنْ تَكُونَ عَبْدًا وَخَالَفَ نَذْرُ الْأُضْحِيَةِ لِاسْتِقْرَارِ حُكْمِهَا وَالْعَبْدُ لَا يَسْتَقِرُّ حُكْمُهُ إِلَّا بِالْعِتْقِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَيَجُوزُ نِكَاحُ الْمَرِيضِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً صَحَّ نِكَاحُهَا وَلَهَا الْمِيرَاثُ وَالصَّدَاقُ ، إِنْ لَمْ يَزِدْ عَلَى صَدَاقِ مِثْلِهَا . فَإِنْ زَادَ ، رُدَّتِ الزِّيَادَةُ إِنْ كَانَتْ وَارِثَةً وَأُمْضِيَتْ فِي الثُّلُثِ إِنْ كَانَتْ غَيْرَ وَارِثَةٍ . وَهَكَذَا الْمَرِيضَةُ إِذَا نَكَحَتْ رَجُلًا صَحِيحًا صَحَّ نِكَاحُهَا وَوَرِثَهَا الزَّوْجُ وَعَلَيْهِ صَدَاقُهَا ، إِنْ كَانَ مَهْرُ الْمِثْلِ فِيمَا زَادَ . فَإِنْ نَكَحَتْهُ بِأَقَلَّ مِنْ صَدَاقِ مِثْلِهَا بِالْمُحَابَاةِ فَالنُّقْصَانُ وَصِيَّةٌ لَهُ فَتُرَدُّ إِنْ كَانَ وَارِثًا ، وَتَمْضِي فِي الثُّلُثِ إِنْ كَانَ الزَّوْجُ غَيْرَ وَارِثٍ . وَقَالَ مَالِكٌ : نِكَاحُ الْمَرِيضِ فَاسِدٌ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ مِيرَاثًا وَلَا يَجِبُ فِيهِ صَدَاقٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَصَابَهَا فَيَلْزَمُهُ مَهْرُ الْمِثْلِ مِنَ الثُّلُثِ مُقَدَّمًا عَلَى الْوَصَايَا . وَكَذَلِكَ نِكَاحُ الْمَرِيضَةِ فَاسِدٌ وَلَا مِيرَاثَ لِلزَّوْجِ . وَقَالَ الزُّهْرِيُّ : النِّكَاحُ فِي الْمَرَضِ جَائِزٌ وَلَا مِيرَاثَ . وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : إِنْ ظَهَرَ مِنْهُ الْإِضْرَارُ فِي تَزْوِيجِهِ لَمْ يَجُزْ ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ الْإِضْرَارُ وَظَهَرَ مِنْهُ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ فِي خِدْمَةٍ أَوْ غَيْرِهَا جَازَ . وَدَلِيلُ مَنْ مَنَعَ مِنْهُ شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : وُجُودُ التُّهْمَةِ بِإِدْخَالِهِمُ الضَّرَرَ عَلَى الْوَرَثَةِ ، فَصَارَ كَالْمُتْلِفِ لِمَالِهِ فِي مَرَضِهِ . وَالثَّانِي : مُزَاحَمَتُهُمْ لِمِيرَاثِهَا وَدَفْعُهُمْ عَلَى مَا تَرِثُهُ وِلْدَانٌ صَارَ لَهَا ، فَصَارَ كَالْمَانِعِ لِلْوَرَثَةِ مِنَ الْمِيرَاثِ . وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى : فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ [ النِّسَاءِ : 3 ] وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ صَحِيحٍ وَمَرِيضٍ ، وَرُوِيَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ فِي مَرَضِهِ : " زَوِّجُونِي لِئَلَّا أَلْقَى اللَّهَ عَزَبًا " . وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ : " لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنْ أَجَلِي إِلَّا عَشَرَةُ أَيَّامٍ مَا أَحْبَبْتُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ لِي زَوْجَةٌ " . وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ الزُّبَيْرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دَخَلَ عَلَى قُدَامَةَ يَعُودُهُ فَبَصُرَ

عِنْدَهُ بِجَارِيَةٍ ، فَقَالَ قُدَامَةُ : زَوِّجْنِي بِهَا ، فَقَالَ : مَا تَصْنَعُ بِهَا وَأَنْتَ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ ؟ فَقَالَ : إِنْ أَنَا عِشْتُ فَبِنْتُ الزُّبَيْرِ ، وَإِنْ مِتُّ فَهُمْ أَحَقُّ مَنْ يَرِثُنِي . وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يُمْنَعْ مِنَ التَّسَرِّي بِالْإِمَاءِ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ نِكَاحِ الْحَرَائِرِ كَالصَّحِيحِ . وَلِأَنَّهُ فِرَاشٌ لَا يُمْنَعُ مِنْهُ الصَّحِيحُ ، فَوَجَبَ أَلَّا يُمْنَعَ مِنْهُ الْمَرِيضُ كَالِاسْتِمْتَاعِ بِالْإِمَاءِ ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ الْمَرَضُ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ ، وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَقْدُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِحَاجَةٍ ، أَوْ لِشَهْوَةٍ ، فَإِنْ كَانَ لِحَاجَةٍ لَمْ يَجُزْ مَنْعُهُ ، وَإِنْ كَانَ لِشَهْوَةٍ فَهِيَ مُبَاحَةٌ لَهُ كَمَا أُبِيحُ لَهُ أَنْ يَلْتَزِمَ بِمَا شَاءَ مِنْ أَكْلٍ أَوْ لُبْسٍ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالتُّهْمَةِ وَدُخُولِ الضَّرَرِ فَهُوَ أَنَّ التُّهْمَةَ تَبْعُدُ عَمَّنْ هُوَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ ؛ لِأَنَّهُ فِي الْأَغْلَبِ يَقْصِدُ وَجْهَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - ، وَالضَّرَرُ لَا يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ الْعُقُودِ كَالْبَيْعِ ، وَلِأَنَّهُ إِنْ كَانَ ضَرَرًا لِوَرَثَتِهِ فَهُوَ مَنْفَعَةٌ لِنَفْسِهِ وَهُوَ أَحَقُّ بِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ مِنْ مَنْفَعَةِ وَرَثَتِهِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ فِيهِ مُزَاحَمَةً لِبَعْضِ الْوَرَثَةِ " وَدَفْعًا " لِبَعْضِهِمْ فَهُوَ أَنَّ مَا لَمْ تَمْنَعِ الصِّحَّةُ مِنْهُ لَمْ يَمْنَعِ الْمَرَضُ مِنْهُ كَالْإِقْرَارِ بِوَارِثٍ وَكَالِاسْتِيلَاءِ لِلْأَمَةِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ إِبَاحَةُ النِّكَاحِ فِي الْمَرَضِ ، فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ مَا أَبَاحَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ وَاحِدَةٍ إِلَى أَرْبَعٍ ، فَهُوَ فِي الصِّحَّةِ وَلَهُنَّ الْمِيرَاثُ ، إِنْ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ أَوْ غَيْرِهِ . وَأَمَّا الصَّدَاقُ ، فَإِنْ كَانَ مَهْرُهُنَّ صَدَاقَ أَمْثَالِهِنَّ ، فَلَهُنَّ الصَّدَاقُ مَعَ الْمِيرَاثِ ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْهِ دُيُونٌ شَارَكَهُنَّ الْغُرَمَاءُ فِي التَّرِكَةِ وَضَرَبْنَ مَعَهُمْ بِالْحِصَصِ . وَإِنْ تَزَوَّجَهُنَّ أَوْ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ بِأَكْثَرَ مِنْ صَدَاقِ مِثْلِهَا ، كَانَتِ الزِّيَادَةُ عَلَى صَدَاقِ الْمِثْلِ وَصِيَّةً فِي الثُّلُثِ . فَإِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ وَارِثَةً رُدَّتِ الْوَصِيَّةُ ؛ لِأَنَّهُ لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ . وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ وَارِثَةٍ لِرِقٍّ أَوْ كُفْرٍ ، دُفِعَتِ الزِّيَادَةُ إِلَيْهَا إِنِ احْتَمَلَهَا الثُّلُثُ ، وَمَا احْتَمَلَهُ مِنْهَا يَتَقَدَّمُ مِنْهَا عَلَى الْوَصَايَا كُلِّهَا ؛ لِأَنَّهَا عَطِيَّةٌ فِي الْحَيَاةِ . وَهَكَذَا لَوْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ حُرَّةً مُسْلِمَةً فَمَاتَتْ قَبْلَهُ ، صَحَّتِ الزِّيَادَةُ لَهَا ، إِنِ احْتَمَلَهَا الثُّلُثُ ؛ لِأَنَّهَا بِالْمَوْتِ قَبْلَهُ غَيْرُ وَارِثَةٍ . فَلَوْ كَانَتْ حِينَ نِكَاحِهَا فِي الْمَرَضِ أَمَةً أَوْ ذِمِّيَّةً ، فَأُعْتِقَتِ الْأَمَةُ وَأَسْلَمَتِ الذِّمِّيَّةُ ، صَارَتْ وَارِثَةً وَمُنِعَتْ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى صَدَاقِ مِثْلِهَا ، وَلَوْ صَحَّ الْمَرِيضُ مِنْ مَرَضِهِ ، ثُمَّ مَاتَ مِنْ غَيْرِهِ أَوْ لَمْ يَمُتْ ، صَحَّتِ الزِّيَادَةُ عَلَى صَدَاقِ الْمِثْلِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ لِوَارِثِهِ وَغَيْرِ وَارِثِهِ . فَعَلَى هَذَا : لَوْ تَزَوَّجَ فِي مَرَضِهِ ذِمِّيَّةً عَلَى صَدَاقٍ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَصَدَاقُ مِثْلِهَا خَمْسُمِائَةٍ وَمَاتَ ،

وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُ الْأَلْفِ الَّتِي هِيَ صَدَاقُهَا ، أُعْطِيَتْ مِنَ الْأَلْفِ سِتَّمِائَةٍ وَسِتَّةً وَسِتِّينَ دِرْهَمًا وَثُلُثَ دِرْهَمٍ ؛ لِأَنَّهَا لَهَا خَمْسُمِائَةٍ مِنَ الْمَالِ وَتَبْقَى خَمْسُمِائَةٍ هِيَ جَمِيعُ التَّرِكَةِ وَهِيَ الْوَصِيَّةُ لَهَا ، فَأُعْطِيَتْ ثُلُثَهَا وَذَلِكَ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ دِرْهَمًا وَثُلُثُ دِرْهَمٍ ، تَأْخُذُهَا مَعَ صَدَاقِ مِثْلِهَا . وَلَوْ خَلَّفَ الزَّوْجُ مَعَ الصَّدَاقِ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ ، صَارَتِ التَّرِكَةُ بَعْدَ صَدَاقِ الْمِثْلِ أَلْفَ دِرْهَمٍ ، فَلَهَا ثُلُثُهَا ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ دِرْهَمًا وَثُلُثٌ . وَلَوْ خَلَّفَ مَعَ الصَّدَاقِ أَلْفَ دِرْهَمٍ ، خَرَّجَ الزِّيَادَةَ عَلَى صَدَاقِ الْمِثْلِ مِنَ الثُّلُثِ وَأَخَذَتِ الْأَلْفَ كُلَّهَا .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ فِي مَرَضِهِ امْرَأَةً عَلَى صَدَاقٍ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَمَهْرُ مِثْلِهَا خَمْسُمِائَةٍ ، ثُمَّ مَاتَتِ الْمَرْأَةُ قَبْلَهُ ، ثُمَّ مَاتَ الزَّوْجُ مِنْ مَرَضِهِ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُ الْأَلْفِ الَّتِي أَصْدَقَهَا وَلَا لَهَا ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ مِنَ الْمُحَابَاةِ قَدْرُ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ بِالْمَوْتِ قَبْلَهُ غَيْرَ وَارِثَةٍ وَصَارَ وَارِثًا لَهَا ، فَزَادَتْ تَرِكَتُهُ بِمَا وَرِثَهُ مِنْهَا . وَإِذَا زَادَتْ تَرِكَتُهُ بِمَا وَرِثَهُ مِنْهَا ، زَادَ فِي قَدْرِ مَا يَجُوزُ مِنَ الْمُحَابَاةِ لَهَا ، فَإِذَا رُدَّتْ مِنْهَا النِّصْفُ صَحَّ لَهَا مِنَ الْمُحَابَاةِ ثَلَاثُمِائَةِ دِرْهَمٍ ، فَتُضَمُّ إِلَى صَدَاقِ مِثْلِهَا وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ ، يَصِيرُ لَهَا مِنَ الْأَلْفِ بِصَدَاقِ الْمِثْلِ وَالْمُحَابَاةِ وَلَهُ النِّصْفُ وَهُوَ أَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ يَصِيرُ مَعَهُ سِتُّمِائَةِ دِرْهَمٍ ، وَذَلِكَ ضِعْفُ مَا خَرَجَ مِنَ الْمُحَابَاةِ وَهِيَ ثَلَاثُمِائَةِ دِرْهَمٍ . وَمَخْرَجُهُ بِحِسَابِ الْجَبْرِ سَهْلٌ عَلَى الْمِرْيَاضِ ، وَلَكِنْ نَذْكُرُ وَجْهَ عَمَلِهِ بِحِسَابِ الْبَابِ لِسُهُولَتِهِ عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بِحَسْبِ الْجَبْرِ ارْتِيَاضٌ . عَمَلُهُ بِحِسَابِ الْبَابِ أَنْ نَنْظُرَ تَرِكَةَ الزَّوْجِ وَهِيَ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ الَّتِي هِيَ الْمُحَابَاةُ مِنَ الصَّدَاقِ ، وَيُضَمُّ إِلَيْهَا مَا وَرَّثَهُ زَوْجَتَهُ مِنْ صَدَاقِ مِثْلِهَا وَهُوَ نِصْفُ الْخَمْسِمِائَةِ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ ، تَصِيرُ جَمِيعُ التَّرِكَةِ سَبْعُمِائَةٍ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا وَتَسْتَحِقُّ الزَّوْجَةُ مِنْهَا بِالْمُحَابَاةِ ثُلُثَهَا وَهُوَ سَهْمٌ مِنْ ثَلَاثَةٍ وَقَدْ عَادَ إِلَى الزَّوْجِ نِصْفُهُ بِالْمِيرَاثِ وَهُوَ نِصْفُ سَهْمٍ ، فَأَسْقَطَهُ مِنَ الثُّلُثِ يَبْقَى سَهْمَانِ وَنِصْفٌ فَأَضْعَفَهَا لِيَخْرُجَ الْكَسْرُ مِنْهَا يَكُنْ خَمْسَةَ أَسْهُمٍ ، ثُمَّ أَضْعِفِ التَّرِكَةَ لِأَجْلِ مَا أَضْعَفْتَهُ مِنَ السِّهَامِ تَكُنْ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَخَمْسَمِائَةٍ ، ثُمَّ أَقْسِمْهَا عَلَى السِّهَامِ الْخَمْسَةِ ، تَكُنْ حِصَّةُ كُلٍّ مِنْهُمْ مِنْهَا ثَلَاثَمِائَةٍ وَهِيَ قَدْرُ الْمُحَابَاةِ . فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا وَخَلَّفَ الزَّوْجُ مَعَ الْأَلْفِ الَّتِي أَصْدَقَهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ . فَطَرِيقُ الْعَمَلِ فِيهَا بِحِسَابِ الْبَابِ الَّذِي ذَكَرْتُهُ أَنْ يُنْظَرَ تَرِكَةُ الزَّوْجِ وَهِيَ سَبْعُمِائَةٍ ؛ لِأَنَّ لَهُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ سِوَى الصَّدَاقِ وَخَمْسَمِائَةٍ مُحَابَاةٍ عَنِ الصَّدَاقِ ، فَاضْمُمْ إِلَيْهَا مَا وَرِثَهُ عَنِ زَوْجَتِهِ مِنْ صَدَاقِ مِثْلِهَا وَهُوَ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ ، تَصِيرُ جَمِيعُ التَّرِكَةِ تِسْعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا

تُقَسَّمُ عَلَى سَهْمَيْنِ وَنِصْفٍ ، فَاضْعِفِ السِّهَامَ وَالتَّرِكَةَ ، تَكُنِ السِّهَامُ خَمْسَةً وَالتَّرِكَةُ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَتِسْعَمِائَةِ دِرْهَمٍ ، ثُمَّ أَقْسِمْهَا عَلَى السِّهَامِ الْخَمْسَةِ تَكُنْ حِصَّةُ كُلِّ سَهْمٍ مِنْهَا ثَلَاثَمِائَةِ دِرْهَمٍ وَثَمَانِينَ دِرْهَمًا ، وَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ مِنَ الْمُحَابَاةِ . وَإِذَا ضَمَمْتَهُ إِلَى صَدَاقِ الْمِثْلِ وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ صَارَ ثَمَانِمِائَةٍ وَثَمَانِينَ دِرْهَمًا ، وَقَدْ بَقِيَ مَعَ وَارِثِ الزَّوْجِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا ، وَعَادَ إِلَيْهِ نِصْفُ تَرِكَةِ الزَّوْجَةِ بِالْمِيرَاثِ وَذَلِكَ أَرْبَعُمَائَةٍ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا يَصِيرُ الْجَمِيعُ تِسْعَمِائَةٍ وَسِتِّينَ دِرْهَمًا وَهُوَ ضِعْفُ مَا خَرَجَ بِالْمُحَابَاةِ ؛ لِأَنَّ الَّذِي خَرَجَ مِنْهَا ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَمَانُونَ دِرْهَمًا . فَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا وَخَلَّفَ الزَّوْجُ مَعَ الْأَلْفِ الَّتِي أَصْدَقَ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ صَحَّتِ الْمُحَابَاةُ كُلُّهَا ؛ لِأَنَّ بِيَدِ وَرَثَةِ الزَّوْجِ عِنْدَهُ الْخَمْسَمِائَةِ وَيَعُودُ إِلَيْهِ نِصْفُ مِيرَاثِ الزَّوْجَةِ وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ يَصِيرُ بِيَدِهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ هِيَ ضِعْفُ الْمُحَابَاةِ . فَلِذَلِكَ صَحَّ جَمِيعُهَا وَلَوْ لَمْ يُخَلِّفِ الزَّوْجُ شَيْئًا سِوَى الْأَلْفِ الصَّدَاقِ وَلَكِنْ خَلَّفَتِ الزَّوْجَةُ سِوَى الصَّدَاقِ أَلْفًا أُخْرَى صَحَّتِ الْمُحَابَاةُ كُلُّهَا ؛ لِأَنَّهَا تَصِيرُ تَرِكَةُ الزَّوْجَةِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ ، يَرِثُ الزَّوْجُ نِصْفَهَا وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَهِيَ ضَعْفُ الْمُحَابَاةِ ، فَذَلِكَ صَحَّتْ . فَلَوْ تَرَكَتِ الزَّوْجَةُ سِوَى الْأَلْفِ الصَّدَاقِ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ كَانَ الْخَارِجُ لَهَا بِالْمُحَابَاةِ أَرْبَعَمِائَةِ دِرْهَمٍ ؛ لِأَنَّ تَرِكَةَ الزَّوْجَةِ هِيَ الْخَمْسُمِائَةِ الْمُحَابَاةُ وَوَرِثَ مِنَ الزَّوْجَةِ نِصْفَ تَرِكَتِهَا وَهِيَ أَلْفُ دِرْهَمٍ ؛ لِأَنَّ تَرِكَتَهَا صَدَاقُ مِثْلِهَا وَهِيَ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ وَمَا خَلَّفَتْهُ سِوَى ذَلِكَ وَهُوَ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ ، فَإِذَا أَخَذَ الزَّوْجُ نِصْفَ تَرِكَتِهَا وَهُوَ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ وَضُمَّ إِلَى مَا اخْتَصَّ بِهِ مِنَ التَّرِكَةِ ، صَارَتْ تَرِكَتُهُ " أَلْفَ " دِرْهَمٍ ، تُقَسَّمُ عَلَى سَهْمَيْنِ وَنِصْفٍ ، فَإِذَا أَضْعَفْتَ سِهَامَ التَّرِكَةِ صَارَتِ السِّهَامُ خَمْسَةً وَالتَّرِكَةُ أَلْفَيْنِ ، فَإِنْ قَسَّمْتَهَا عَلَى الْخَمْسَةِ كَانَتْ حِصَّةُ كُلِّ سَهْمٍ مِنْهَا أَرْبَعَمِائَةِ دِرْهَمٍ ، وَذَلِكَ قَدْرُ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ مِنَ الْمُحَابَاةِ وَقَدْ بَقِيَ مَعَ وَارِثِ الزَّوْجِ مِنْ بَقِيَّةِ الصَّدَاقِ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَصَارَ إِلَيْهِ مِنْ تَرِكَةِ الزَّوْجِ ، بِحَقِّ النِّصْفِ سَبْعُمِائَةِ دِرْهَمٍ ، فَصَارَ الْجَمِيعُ ثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَذَلِكَ ضِعْفُ مَا خَرَجَ بِالْمُحَابَاةِ ؛ لِأَنَّ الْخَارِجَ مِنْهَا أَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ . فَصْلٌ آخَرُ مِنْهُ : فَإِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى صَدَاقٍ أَلْفٍ لَا يَمْلِكُ غَيْرَهَا وَمَهْرُ مِثْلِهَا خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ ، ثُمَّ مَاتَتْ قَبْلَهُ وَهِيَ ذَاتُ وَلَدٍ في الرجل يتزوج حال مرضه يُحْجَبُ الزَّوْجُ إِلَى الرُّبُعِ وَلَمْ يُخَلِّفْ سِوَى الْأَلْفِ فَبَابُ الْعَمَلِ فِيهِ أَنْ يُضَمَّ " رُبُعُ " الْخَمْسِمِائَةِ الَّتِي هِيَ صَدَاقُ مِثْلِهَا وَهِيَ مِائَةٌ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ إِلَى الْخَمْسِمِائَةِ الَّتِي لَهُ وَهِيَ الْمُحَابَاةُ تَكُنْ سِتَّمِائَةٍ وَخَمْسَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا لِلزَّوْجَةِ مِنْهَا ثُلُثُهَا وَهُوَ سَهْمٌ مِنْ ثَلَاثَةٍ ، وَقَدْ وَرِثَ الزَّوْجُ أَرْبَعَةً وَهُوَ رُبُعُ سَهْمٍ فَأَسْقَطَهُ مِنَ الثَّلَاثَةِ وَيَبْقَى سَهْمَانِ وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعٍ فَابْسُطْهَا أَرْبَاعًا تَكُنْ أَحَدَ عَشَرَ ، ثُمَّ اضْرِبِ السِّتَّمِائَةِ وَالْخَمْسَةَ وَالْعِشْرِينَ فِي أَرْبَعَةٍ تَكُنْ أَلْفَيْنِ وَخَمْسَمِائَةٍ فَاقْسِمْهَا عَلَى أَحَدَ عَشَرَ تَكُنْ حِصَّةُ كُلِّ سَهْمٍ مِنْهَا مَا تَبَقَّى ، دِرْهَمٌ وَسَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا وَثَلَاثَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ وَهُوَ الْخَارِجُ لَهَا بِالْمُحَابَاةِ .

وَإِذَا ضَمَمْتَهُ إِلَى الْخَمْسِمِائَةِ الَّتِي هِيَ صَدَاقُ الْمِثْلِ صَارَتْ تَرِكَتُهَا - سَبْعُمِائَةٍ وَسَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا وَثَلَاثَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ - الْأَلْفَ مِائَتَيْنِ وَاثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ دِرْهَمًا وَثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ وَوَرِثَ مِنَ الزَّوْجَةِ رُبُعَ تَرِكَتِهَا وَذَلِكَ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَأَحَدٌ وَثَمَانُونَ دِرْهَمًا وَتِسْعَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ . يَصِيرُ الْجَمِيعُ أَرْبَعَمِائَةٍ وَأَرْبَعًا وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا وَسِتَّةَ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ ، وَذَلِكَ مِثْلَمَا خَرَجَ بِالْمُحَابَاةِ ؛ لِأَنَّ الْخَارِجَ بِهَا مِائَتَانِ وَسَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا وَثَلَاثَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ . فَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا وَلَحِقَ رُبُعَ الزَّوْجِ عَوْلٌ " لِأَنَّهُ كَانَ مَعَهُ مِنْ وَرَثَتِهَا أَبَوَانِ فَقَدْ صَارَتْ فَرِيضَتُهَا مِنْ خَمْسَ عَشَرَ لِلزَّوْجِ مِنْهَا ثَلَاثَةٌ فَصَارَتْ مَعَهُ خَمْسَةٌ ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَاضْمُمْ إِلَى تَرِكَتِهِ وَهِيَ خَمْسُمِائَةٍ الْمُحَابَاةُ مَا وَرِثَهُ عَنْ زَوْجَتِهِ مِنْ صَدَاقِ مِثْلِهَا ، وَهُوَ خُمُسُ الْخَمْسِمِائَةِ تَكُنْ مِائَةَ دِرْهَمٍ تَصِيرُ مَعَهُ سِتُّمِائَةِ دِرْهَمٍ لِلزَّوْجَةِ مِنْهَا بِالْمُحَابَاةِ الثُّلُثُ سَهْمٌ مِنْ ثَلَاثَةٍ قَدْ وَرِثَ الزَّوْجُ خَمْسَةً فَأَسْقَطَهُ مِنَ الثَّلَاثَةِ يَبْقَى سَهْمَانِ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسٍ ، فَابْسُطْهُ أَخْمُسًا تَكُنْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ ، ثُمَّ اضْرِبْ تَرِكَةَ الزَّوْجِ وَهِيَ سِتُّمِائَةٍ فِي خَمْسَةٍ تَكُنْ ثَلَاثَةَ آلَافٍ ، ثُمَّ اقْسِمْهَا عَلَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ تَكُنْ حِصَّةُ كُلِّ سَهْمٍ مِنْهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَسُبْعَيْ دِرْهَمٍ وَهُوَ قَدْرُ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ فِي الْمُحَابَاةِ ، فَإِذَا ضُمَّ إِلَى صَدَاقِ مِثْلِهَا وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ صَارَتْ تَرِكَتُهَا سَبْعَمِائَةِ دِرْهَمٍ وَخَمْسَةً وَثَمَانِينَ دِرْهَمًا وَخَمْسَةَ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ وَوَرِثَ مِنْ تَرِكَةِ الزَّوْجَةِ خُمُسَهَا وَذَلِكَ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَاثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا وَسِتَّةُ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ ، فَصَارَ مَعَهُ أَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ وَثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا وَأَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ وَذَلِكَ مِثْلَا مَا خَرَجَ بِالْمُحَابَاةِ ؛ لِأَنَّ الْخَارِجَ بِهَا مِائَتَا دِرْهَمٍ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَسُبُعَا دِرْهَمٍ . فَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا وَكَانَ مِيرَاثُ الزَّوْجِ بِالْعَوْلِ خُمُسًا وَأَوْصَتِ الزَّوْجَةُ بِإِخْرَاجِ ثُلُثِهَا فَوَجْهُ الْعَمَلِ بِالْبَابِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ أَنْ تُضَمَّ إِلَى تَرِكَةِ الزَّوْجِ وَهِيَ خَمْسُمِائَةٍ الْمُحَابَاةُ قَدْرُ مَا يَرِثُهُ مِنْ زَوْجَتِهِ مِنْ صَدَاقِ مِثْلِهَا وَهُوَ الْخُمُسُ مِنْ ثُلُثِ الْخَمْسِمِائَةِ ، وَذَلِكَ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ دِرْهَمًا وَثُلُثُ دِرْهَمٍ تَكُنْ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ وَسِتَّةً وَسِتِّينَ دِرْهَمًا وَثُلُثَيْ دِرْهَمٍ لِلزَّوْجَةِ مِنْهَا بِالْمُحَابَاةِ ثُلُثُهَا ، وَقَدْ أَوْصَتْ فِي هَذَا الثُّلُثِ بِإِخْرَاجِ ثُلُثِهِ ، فَبَقِيَ لَهَا مِنَ الثُّلُثِ ثُلُثَاهُ وَذَلِكَ تُسْعَا الْمَالِ ، ثُمَّ وَرِثَ الزَّوْجُ خُمُسَ هَذَيْنِ التُّسْعَيْنِ وَذَلِكَ سَهْمَانِ مِنْ خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ سَهْمًا هِيَ مَضْرُوبُ ثَلَاثَةٍ فِي ثَلَاثَةٍ فِي خَمْسَةٍ ؛ لِأَنَّ فِيهَا ثُلُثَ ثُلُثٍ وَخُمُسًا فَأَسْقِطْ هَذَيْنِ السَّهْمَيْنِ مِنْ عَوْلِ هَذِهِ السِّهَامِ ، تَبْقَى ثَلَاثَةٌ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا ، ثُمَّ اضْرِبِ التَّرِكَةَ وَهِيَ خَمْسُمِائَةٍ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ دِرْهَمًا وَثُلُثَا دِرْهَمٍ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ هِيَ مَخْرَجُ الثُّلُثِ وَالْخُمُسِ لِأَنَّكَ ضَرَبْتَ الثَّلَاثَةَ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ ، فَإِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ كَانَ مَعَكَ ثَمَانِيَةُ آلَافٍ وَخَمْسُمِائَةٍ فَاقْسِمْهَا عَلَى ثَلَاثَةٍ وَأَرْبَعِينَ سَهْمًا ، يَكُنْ قِسْطُ السَّهْمِ الْوَاحِدِ مِنْهَا مِائَةَ دِرْهَمٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ دِرْهَمًا وَتِسْعَةً وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنْ ثَلَاثَةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ ، وَهُوَ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ مِنَ الْمُحَابَاةِ . فَإِذَا ضَمَمْتَهُ إِلَى صَدَاقِ مِثْلِهَا وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ صَارَ جَمِيعُ مَا تَمَلَّكَهُ مِنَ الْأَلْفِ سِتَّمِائَةِ

دِرْهَمٍ وَسَبْعَةً وَتِسْعِينَ دِرْهَمًا وَتِسْعَةً وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنْ ثَلَاثَةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ ، وَبَقِيَ لِلزَّوْجِ مِنَ الْأَلْفِ ثَلَاثُمِائَةِ دِرْهَمٍ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ ثَلَاثَةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ ، يَكُنْ بَاقِي تَرِكَتِهَا بَعْدَ إِخْرَاجِ الثُّلُثِ أَرْبَعَمِائَةِ دِرْهَمٍ وَخَمْسَةً وَسَبْعِينَ دِرْهَمًا وَخَمْسَةَ أَجْزَاءٍ مِنْ ثَلَاثَةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ يَرِثُ الزَّوْجُ خُمُسَهَا وَهُوَ ثَلَاثَةٌ وَتِسْعُونَ دِرْهَمًا وَجُزْءًا مِنْ ثَلَاثَةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ ، فَإِذَا ضَمَمْتَهُ إِلَى مَا بَقِيَ لَهُ مِنَ الْأَلْفِ وَهُوَ ثَلَاثُمِائَةِ دِرْهَمٍ وَدِرْهَمَانِ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ جُزْءًا صَارَ الْجَمِيعُ ثَلَاثَمِائَةٍ وَخَمْسَةً وَتِسْعِينَ دِرْهَمًا وَخَمْسَةَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ ثَلَاثَةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ وَهُوَ مِثْلَيْ مَا خَرَجَ بِالْمُحَابَاةِ ؛ لِأَنَّ الْخَارِجَ بِهَا مِائَةُ دِرْهَمٍ وَسَبْعَةٌ وَتِسْعُونَ دِرْهَمًا وَتِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ جُزْءًا مِنْ ثَلَاثَةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ . وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ قَدْ أَوْصَى فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِإِخْرَاجِ ثُلُثِهِ رُدَّتْ وَصِيَّتُهُ ؛ لِأَنَّ ثُلُثَهُ مُسْتَحَقٌّ فِي مُحَابَاةِ مَرَضِهِ وَالْعَطَايَا فِي الْمَرَضِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْوَصَايَا بَعْدَ الْمَوْتِ . فَصْلٌ آخَرُ مِنْهُ : فَإِذَا أَعْتَقَ الْمُوصِي جَارِيَةً فِي مَرَضِهِ وَقِيمَتُهَا خَارِجَةٌ مِنْ ثُلُثِهِ ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا عَلَى صَدَاقٍ لَا يَعْجِزُ الْمَالُ عَنِ احْتِمَالِهِ كَانَ الْعِتْقُ نَافِذًا فِي الثُّلُثِ وَالنِّكَاحُ جَائِزُ النُّفُوذِ وَالْعِتْقُ لَهَا وَالصَّدَاقُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مُحَابَاةٌ ، وَإِنْ كَانَتْ فِيهِ مُحَابَاةٌ كَانَتْ فِي الثُّلُثِ وَلَا مِيرَاثَ لَهَا مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْمَعَ لِشَخْصٍ بَيْنَ الْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ ، فَلَوْ وَرِثَتْ مُنِعَتِ الْوَصِيَّةُ ، وَإِذَا مُنِعَتِ الْوَصِيَّةُ بَطَلَ الْعِتْقُ وَإِذَا بَطَلَ الْعِتْقُ بَطَلَ النِّكَاحُ ، وَإِذَا بَطَلَ النِّكَاحُ سَقَطَ الْمِيرَاثُ ، فَلَمَّا كَانَ تَوْرِيثُهَا مُفْضِيًا إِلَى إِبْطَالِ عِتْقِهَا وَمِيرَاثِهَا أَمْضَيْتُ الْوَصِيَّةَ بِالْعِتْقِ وَصَحَّ النِّكَاحُ وَأُسْقِطَ الْمِيرَاثُ . وَلَوْ كَانَ هَذَا الْمُعْتِقُ لَا يَمْلِكُ غَيْرَ هَذِهِ الْأَمَةِ ، عُتِقَ ثُلُثُهَا وَرَقَّ ثُلُثَاهَا وَبَطَلَ نِكَاحُهَا ، لِأَجْلِ مَا بَقِيَ لَهُ مِنْ رِقِّهَا ، فَإِنْ لَمْ يُجَامِعْهَا فَلَا دَوْرَ فِيهَا وَقَدْ صَارَ الْعِتْقُ مُسْتَقِرًّا فِي ثُلُثِهَا وَالرِّقُّ بَاقِيًا فِي ثُلُثَيْهَا ، وَإِنْ وَطِئَهَا دَخَلَهَا دَوْرٌ لِأَجْلِ مَا اسْتَحَقَّتْهُ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا بِالْوَطْءِ ، فَلَوْ كَانَتْ قِيمَتُهَا مِائَةً وَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ غَيْرُهَا وَمَهْرُ مِثْلِهَا خَمْسُونَ اسْتَحَقَّتْ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا يُجْزِئُ مِنْ عِتْقِهَا وَسَقَطَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا بَقِيَ مِنْ رِقِّهَا فَيُعْتَقُ سُبُعَاهَا وَيُرَقُّ لِلْوَرَثَةِ أَرْبَعَةُ أَسِبَاعِهَا وَيُوقَفُ سُبُعُهَا ، لِأَجْلِ مَا اسْتَحَقَّتْهُ مِنْ سُبُعَيْ مَهْرِهَا . وَوَجْهُ الْعَمَلِ فِيهِ : أَنْ تُجْعَلَ لِلْعِتْقِ سَهْمًا وَلِلْوَرَثَةِ سَهْمَيْنِ ، لِيَكُونَ لَهُمْ مِثْلَيْ مَا أَعْتَقَ وَلَهُمُ الْمِثْلُ نِصْفُ سَهْمٍ ؛ لِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ نِصْفُ قِيمَتِهَا يَكُونُ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ وَنِصْفًا ، فَابْسُطْهَا لِمَخْرَجِ النِّصْفِ يَكُنْ سَبْعَةَ أَسْهُمٍ فَاجْعَلْهَا مَقْسُومَةً عَلَى هَذِهِ السِّهَامِ السَّبْعَةِ سَهْمَانِ مِنْهَا لِلْعِتْقِ فَيُعْتَقُ سُبُعَاهَا وَذَلِكَ بِثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا وَأَرْبَعَةِ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ وَرَقَّ أَرْبَعَةُ أَسِبَاعِهَا لِلْوَرَثَةِ ، وَذَلِكَ سَبْعَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا وَسُبُعُ دِرْهَمٍ ، وَهُوَ مِثْلَا مَا خَرَجَ بِالْعِتْقِ وَيُوقَفُ سُبُعَاهَا وَذَلِكَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَسُبُعَا دِرْهَمٍ ، بِإِزَاءِ سُبُعَيْ مَهْرِ مِثْلِهَا الَّذِي اسْتُحِقَّ بِقَدْرِ حُرِّيَّتِهَا ، فَإِنْ بِيعَ لَهَا اسْتَرَقَّهُ الْمُشْتَرِي وَإِنْ فَدَاهُ الْوَرَثَةُ اسْتَرَقُّوهُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْبَاعِهِمْ وَإِنْ أَخَذَتْهُ بِحَقِّهَا عُتِقَ عَلَيْهَا بِالْمِلْكِ ، فَإِنْ أَبْرَأَتِ السَّيِّدَ مِنْهُ ، عُتِقَ عَلَيْهَا مَعَ سُبُعَيْهَا وَصَارَ ثُلُثُ أَسْبَاعِهَا حُرًّا .

فَلَوْ كَانَتْ قِيمَتُهَا مِائَةَ دِرْهَمٍ فَأَعْتَقَهَا ، فَتَزَوَّجَهَا عَلَى صَدَاقٍ مِائَةِ دِرْهَمٍ وَخَلَّفَ مَعَهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ ، فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا قَبْلَ مَوْتِهِ عُتِقَ جَمِيعُهَا وَصَحَّ نِكَاحُهَا وَبَطَلَ صَدَاقُهَا وَسَقَطَ مِيرَاثُهَا وَاعْتَدَّتْ عِدَّةَ الْوَفَاةِ ، وَأَمَّا نُفُوذُ عِتْقِهَا فَلِأَنَّهُ قَدْ حَصَلَ لِلْوَرَثَةِ مِائَتَا دِرْهَمٍ هِيَ مِثْلَا قِيمَتِهَا ، وَأَمَّا صِحَّةُ نِكَاحِهَا فَلِأَنَّهُ قَدْ عُتِقَ جَمِيعُهَا ، وَأَمَّا سُقُوطُ مَهْرِهَا فَلِأَنَّهَا لَوْ أَخَذَتْهُ لَعَجَزَتِ التَّرِكَةُ عَنْ جَمِيعِهَا وَعَجْزُهَا عَنْ جَمِيعِهَا يُوجِبُ بُطْلَانَ نِكَاحِهَا وَبُطْلَانُ نِكَاحِهَا يُوجِبُ سُقُوطَ مَهْرِهَا ، فَصَارَ إِيجَابُ صَدَاقِهَا مُفْضِيًا إِلَى بُطْلَانِ عِتْقِهَا وَنِكَاحِهَا وَصَدَاقِهَا . فَأُسْقِطَ الصَّدَاقُ لِيَصِحَّ الْعِتْقُ وَالنِّكَاحُ ، وَأَمَّا سُقُوطُ الْمِيرَاثِ فَلِئَلَّا يُجْمَعَ لَهَا بَيْنَ الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ ، وَأَمَّا عِدَّةُ الْوَفَاةِ فَلِمَوْتِهِ عَنْهَا وَهِيَ عَلَى زَوْجَتَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا فَقَدِ اسْتَحَقَّتْ بِالدُّخُولِ مَهْرًا ، فَإِنْ أُبْرِأَتْ مِنْهُ بَعْدَ الْعِتْقِ فَقَدْ صَحَّ النِّكَاحُ وَاعْتَدَّتْ عِدَّةَ الْوَفَاةِ ، وَإِنْ طَالَبَتْ بِهِ كَانَ لَهَا لِاسْتِحْقَاقِهَا لَهُ بِالدُّخُولِ وَصَارَ دَيْنًا لَهَا فِي التَّرِكَةِ لِعَجْزِ الثُّلُثِ عَنْ عِتْقِ جَمِيعِهَا ، وَإِذَا عَجَزَ الثُّلُثُ عَنْ عِتْقِ جَمِيعِهَا رَقَّ مِنْهَا قَدْرُ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ الثُّلُثُ ، وَإِذَا رَقَّ مِنْهَا شَيْءٌ بَطَلَ نِكَاحُهَا وَلَمْ يَلْزَمْهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ وَاسْتَحَقَّتْ حُرِّيَّتَهَا مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى ؛ لِأَنَّ بُطْلَانَ النِّكَاحِ قَدْ أَسْقَطَ الْمُسَمَّى وَدَخَلَهَا دَوْرٌ . فَإِذَا كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا خَمْسِينَ دِرْهَمًا وَقِيمَتُهَا مِائَةُ دِرْهَمٍ وَقَدْ خَلَّفَ مَعَهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ صَارَتْ تَرِكَتُهُ ثَلَاثَمِائَةِ دِرْهَمٍ فَقُسِّمَتْ عَلَى سَبْعَةِ أَسْهُمٍ ؛ لِأَنَّ لَهَا بِالْعِتْقِ سَهْمًا وَبِالْمَهْرِ نِصْفُ سَهْمٍ وَلِلْوَرَثَةِ سَهْمَانِ ، تَكُونُ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ وَنِصْفًا ، فَإِذَا بَسَطْتَ كَانَتْ سَبْعَةَ أَسْهُمٍ فَيُعْتَقُ عَنْهَا بِسُبُعَيِ التَّرِكَةِ سِتَّةُ أَسْبَاعِهَا ، وَذَلِكَ بِخَمْسٍ وَثَمَانِينَ دِرْهَمًا وَخَمْسَةِ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ ، وَجُعِلَتْ لَهَا سِتَّةُ أَسْبَاعِ مَهْرِ مِثْلِهَا وَذَلِكَ سُبُعُ التَّرِكَةِ وَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا وَسِتَّةُ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ وَجُعِلَتْ لِلْوَرَثَةِ أَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ التَّرِكَةِ وَذَلِكَ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَاحِدٌ وَسَبْعُونَ دِرْهَمًا وَثَلَاثَةُ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ . وَقَدْ بَقِيَ مَعَهُمْ مِنَ الدَّرَاهِمِ مِائَةٌ وَسَبْعَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا وَسُبُعُ دِرْهَمٍ وَرَقَّ لَهُمْ مِنَ الْمِائَةِ سُبُعُهَا ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَسُبُعَيْ دِرْهَمٍ صَارَ جَمِيعُ مَالِهِ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَاحِدًا وَسَبْعِينَ دِرْهَمًا وَثَلَاثَةَ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ وَهُوَ مِثْلَا مَا أُعْتِقَ مِنْهَا . فَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا وَكَانَتِ الْمِائَتَا دِرْهَمٍ الَّتِي تَرَكَهَا السَّيِّدُ مِنْ كَسْبِهَا فَقَدْ صَارَ لَهَا فِي التَّرِكَةِ حَقَّانِ : أَحَدُهُمَا مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ كَسْبِهَا بِقَدْرِ حُرِّيَّتِهَا ، وَالثَّانِي : مَا تَسْتَحِقُّهُ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا فَيُجْعَلُ لَهَا بِالْعِتْقِ سَهْمًا وَبِالْكَسْبِ سَهْمَيْنِ ؛ لِأَنَّهَا كَسَبَتْ مِثْلَيْ قِيمَتِهَا ، وَيُجْعَلُ لَهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ نِصْفُ سَهْمٍ ؛ لِأَنَّ مَهْرَ مِثْلِهَا مِثْلُ نِصْفِ قِيمَتِهَا وَبِجَعْلِ لِلْوَرَثَةِ سَهْمَيْنِ وَذَلِكَ مِثْلَا سَهْمِ عِتْقِهَا يَصِيرُ الْجَمِيعُ خَمْسَةَ أَسْهُمٍ وَنِصْفًا ، فَاضْعِفْ لِمَخْرَجِ النِّصْفِ مِنْهَا تَكُنْ أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا ، مِنْهَا لِلْعِتْقِ سَهْمَانِ وَلِلْكَسْبِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَلِلْمَهْرِ سَهْمٌ وَلِلْوَرَثَةِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ ، ثُمَّ اجْمَعْ بَيْنَ سَهْمِ الْعِتْقِ وَسِهَامِ الْكَسْبِ الْأَرْبَعَةِ تَكُنْ سِتَّةً ، وَهِيَ قَدْرُ مَا يُعْتَقُ مِنْهَا فَيُعْتَقُ مِنْهَا سِتَّةُ أَسْهُمٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا وَقِيمَةُ ذَلِكَ أَرْبَعَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا وَسِتَّةُ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ وَيَمْلِكُ بِذَلِكَ سِتَّةَ أَسْهُمٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا مِنْ كَسْبِهَا وَذَلِكَ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَتِسْعَةُ دَرَاهِمَ وَجُزْءٌ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ ، وَتَسْتَحِقُّ بِذَلِكَ سِتَّةَ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا

وَذَلِكَ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا وَثَلَاثَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ وَيَبْقَى مَعَ الْوَرَثَةِ مِنَ الْكَسْبِ ثَلَاثَةٌ وَسِتُّونَ دِرْهَمًا وَسَبْعَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ وَقَدْ رَقَّ لَهُمْ مِنْ رَقَبَتْهَا خَمْسَةُ أَسْهُمٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا ، وَقِيمَةُ ذَلِكَ خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا وَخَمْسَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ ، يَصِيرُ جَمِيعُ مَا بِأَيْدِيهِمْ مِائَةً وَتِسْعَةَ دَرَاهِمَ وَجُزْءًا مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ ، وَذَلِكَ مِثْلَا مَا عُتِقَ مِنْهَا ؛ لِأَنَّ الَّذِي عُتِقَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا وَسِتَّةُ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا أَعْتَقَ الْمَرِيضُ عَبْدًا هُوَ بِقَدْرِ ثُلُثِهِ ، ثُمَّ أَعْتَقَ بَعْدَهُ عَبْدًا آخَرَ هُوَ بِقَدْرِ ثُلُثِهِ ، نَفَذَ عِتْقُ الْأَوَّلِ وَرَقَّ الثَّانِي مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ - : يَكُونُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، وَيُعْتَقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ . ا هـ . وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ قَدِ اسْتَوْعَبَ الثُّلُثَ كُلَّهُ ، فَأَمَّا إِذَا أَعْتَقَهُمَا مَعًا بِلَفْظَةٍ وَاحِدَةٍ وَهُمَا ثُلُثَا مَالِهِ ، أُعْتِقَ أَحَدُهُمَا بِالْقُرْعَةِ تَكْمِيلًا لِلْعِتْقِ فِي أَحَدِهِمَا ، فَلَوِ اسْتَحَقَّ أَحَدُهُمَا تَعَيَّنَ الْعِتْقُ فِي الثَّانِي مِنْهُمَا وَبَطَلَتِ الْقُرْعَةُ . وَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا هُوَ قَدْرُ ثُلُثِهِ فَاسْتَحَقَّ نِصْفَهُ لَمْ يَبْطُلِ الْعِتْقُ فِي النِّصْفِ الْمُسْتَحَقِّ وَكَانَ لِمُسْتَحِقِّهِ قِيمَتُهُ وَكَانَ كَشَرِيكٍ أَعْتَقَ حِصَّتَهُ فِي عَبْدٍ وَهُوَ مُوسِرٌ ، وَخَالَفَ اسْتِحْقَاقَ أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ . وَلَوْ دَبَّرَ عَبْدًا هُوَ قَدْرُ ثُلُثِهِ ، فَاسْتَحَقَّ نِصْفَهُ ، بَطَلَ فِيهِ التَّدْبِيرُ وَلَا تَقْوِيمَ ، بِخِلَافِ الْمُعْتِقِ ؛ لِأَنَّ مَنْ دَبَّرَ حِصَّتَهُ مِنْ عَبْدٍ لَمْ يُقَوَّمْ عَلَيْهِ وَإِنْ مَاتَ مُوسِرًا ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ الْمَوْتِ مُعْسِرٌ ، وَلَوْ قَالَ : إِذَا أَعْتَقْتُ سَالِمًا ، فَغَانِمٌ حُرٌّ ، ثُمَّ قَالَ : يَا سَالِمُ أَنْتَ حُرٌّ ، فَإِنْ خَرَجَ سَالِمٌ وَغَانِمٌ مِنْ ثُلُثِهِ ، عُتِقَا جَمِيعًا وَكَانَ عِتْقُ سَالِمٍ بِالْمُبَاشَرَةِ وَعِتْقُ غَانِمٍ بِالصِّفَةِ . وَإِنْ خَرَجَ أَحَدُهُمَا مِنَ الثُّلُثِ دُونَ الْآخَرِ عُتِقَ سَالِمٌ الْمُنْجَزُ عِتْقُهُ بِالْمُبَاشَرَةِ دُونَ غَانِمٍ الْمُعَلَّقِ عِتْقُهُ بِالصِّفَةِ ؛ لِأَنَّ " يَا سَالِمُ " يُعْتِقُ سَالِمًا ، لَمْ تَكْمُلِ الصِّفَةُ الَّتِي عُلِّقَ بِهَا عِتْقُ غَانِمٍ ؛ فَلِذَلِكَ قُدِّمَ عِتْقُ سَالِمٍ عَلَى غَانِمٍ . وَلَوْ كَانَ قَالَ : إِذَا أَعْتَقْتُ سَالِمًا ، فَغَانِمٌ فِي حَالِ عِتْقِ سَالِمٍ حُرٌّ ، ثُمَّ أَعْتَقَ سَالِمًا ، وَالثُّلُثُ يَحْتَمِلُ أَحَدَهُمَا فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ : أَنَّهُمَا عَلَى سَوَاءٍ ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُمَا مَعًا ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ عِتْقَ الصِّفَةِ فِي حَالَةِ عِتْقِ الْمُبَاشَرَةِ وَبِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ ، فَيُعْتَقُ أَحَدُهُمَا بِالْقُرْعَةِ وَلَا يُقَدَّمُ عِتْقُ الْمُبَاشَرَةِ عَلَى عِتْقِ الصِّفَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ : أَنَّهُ يُقَدَّمُ عِتْقُ سَالِمٍ الْمُعْتَقِ

بِالْمُبَاشَرَةِ عَلَى عِتْقِ غَانِمٍ الْمُعْتَقِ بِالصِّفَةِ ؛ لِأَنَّ عِتْقَ الْمُبَاشَرَةِ أَصْلٌ وَعِتْقَ الصِّفَةِ فَرْعٌ ، فَكَانَ حُكْمُ الْأَصْلِ أَقْوَى مِنْ حُكْمِ الْفَرْعِ ، فَسَوَّى بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَالَّتِي تَقَدَّمَتْ . وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ : يَا سَالِمُ إِذَا تَزَوَّجْتُ فُلَانَةً فَأَنْتَ حُرٌّ ، ثُمَّ تَزَوَّجَ فُلَانَةً عَلَى صَدَاقٍ أَلْفٍ وَمَهْرُ مِثْلِهَا خَمْسُمِائَةٍ وَقِيمَةُ سَالِمٍ خَمْسُمِائَةٍ وَثُلُثُ مَالِهِ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ ، فَإِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ وَارِثَةً ، بَطَلَتِ الْمُحَابَاةُ فِي صَدَاقِهَا ؛ لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ لَا تَصِحُّ لِوَارِثٍ ، وَعُتِقَ سَالِمٌ لِأَنَّهُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ . وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ وَارِثَةٍ كَانَتْ أَحَقَّ بِالثُّلُثِ فِي مُحَابَاةِ صَدَاقِهَا مِنَ الْعِتْقِ ، وَرَقَّ سَالِمٌ ؛ لِأَنَّ صِفَةَ عِتْقِهِ تَقْدُمُ النِّكَاحَ ، فَصَارَتِ الْمُحَابَاةُ فِيهِ أَسْبَقَ مِنَ الْعِتْقِ . وَلَوْ قَالَ : إِذَا تَزَوَّجْتُ فُلَانَةً فَأَنْتَ حُرٌّ فِي حَالِ تَزَوُّجِي لَهَا ، فَإِنْ وَرِثَتِ الزَّوْجَةُ ، عُتِقَ سَالِمٌ وَإِنْ لَمْ تَرِثْ ، فَعَلَى قَوْلَيِ ابْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي حَامِدٍ جَمِيعًا : يَكُونُ سَهْمًا ؛ لِأَنَّهُ مِثْلُ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَلِلْوَرَثَةِ سَهْمَانِ ، ثُمَّ اجْمَعِ السِّهَامَ تَكُنْ أَرْبَعَةً وَتُقَسِّمُ التَّرِكَةَ عَلَيْهَا وَهِيَ ثَلَاثُمِائَةِ دِرْهَمٍ ، يَكُنْ قِسْطُ كُلِّ سَهْمٍ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ دِرْهَمًا وَهُوَ سَهْمُ الْعِتْقِ ، فَأَعْتِقْ مِنْهُ بِخَمْسَةٍ وَسَبْعِينَ دِرْهَمًا ، تَكُنْ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهِ ، فَيَصِيرُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ حُرًّا وَيَأْخُذُ مِنَ التَّرِكَةِ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعٍ أَرْشَ جِنَايَتِهِ وَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ دِرْهَمًا ، وَيَبْقَى مَعَ الْوَرَثَةِ مِائَةٌ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا وَرُبُعُ الْعَبْدِ بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا وَهُوَ مِثْلَا مَا خَرَجَ بِالْعِتْقِ . فَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا وَكَانَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ ثَلَاثَمِائَةِ دِرْهَمٍ ، جَعَلْتَ لِلْعِتْقِ سَهْمًا وَلِلْأَرْشِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ ؛ لِأَنَّهُ ثَلَاثَةُ أَمْثَالِ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَلِلْوَرَثَةِ سَهْمَيْنِ يَكُنِ الْجَمِيعُ سِتَّةَ أَسْهُمٍ ، ثُمَّ قَسَّمْتَ التَّرِكَةَ وَهِيَ ثَلَاثُمِائَةِ دِرْهَمٍ ، عَلَى سِتَّةِ أَسْهُمٍ تَكُنْ خَمْسَةً ، كُلُّ سَهْمٍ خَمْسُونَ دِرْهَمًا وَهُوَ سَهْمُ الْعِتْقِ فَاعْتِقْ مِنْهُ بِالْخَمْسِينَ دِرْهَمًا ، تَكُنْ نِصْفَهُ ، فَيَصِيرُ نِصْفُهُ حُرًّا وَنِصْفُهُ رِقًّا ، وَنَأْخُذُ مِنَ التَّرِكَةِ نِصْفَ أَرْشِ جِنَايَتِهِ وَذَلِكَ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا وَيَبْقَى مَعَ الْوَرَثَةِ خَمْسُونَ دِرْهَمًا وَنِصْفُ الْعَبْدِ خَمْسُونَ دِرْهَمًا ، يَصِيرُ الْجَمِيعُ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَذَلِكَ مِثْلَيْ مَا خَرَجَ بِالْعِتْقِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ . الثُّلُثُ فِي الْمُحَابَاةِ وَالْعِتْقُ بِالسَّوِيَّةِ وَلَا يُقَدَّمُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الْعِتْقِ وُجُودُ النِّكَاحِ وَالنِّكَاحُ قَدْ كَمُلَ وَإِنْ بَطَلَتْ بَعْضُ مُحَابَاتِهِ وَلَيْسَ كَالْعِتْقِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ . فَصْلٌ مِنْهُ مُتَعَلِّقٌ بِالدَّوْرِ وَإِذَا أَعْتَقَ الْمَرِيضُ عَبْدًا قِيمَتُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ لَا مَالَ لَهُ سِوَاهُ ، عُتِقَ ثُلُثُهُ وَرَقَّ ثُلُثَاهُ . فَإِنْ أَجَازَ الْوَرَثَةُ عِتْقَ ثُلُثَيْهِ ، فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ إِجَازَتَهُمْ تَنْفِيذٌ وَإِمْضَاءٌ ، لَمْ يَحْتَجِ الْوَارِثُ مَعَ الْإِجَازَةِ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِالْعِتْقِ وَكَانَ وَلَاءُ جَمِيعِهِ لِلْمُعْتِقِ . وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ إِجَازَتَهُمُ ابْتِدَاءُ عَطِيَّةٍ مِنْهُمْ ، لَمْ يُعْتَقْ بِالْإِجَازَةِ إِلَّا أَنْ يَتَلَفَّظَ بِعِتْقِهِ ، أَوْ يَنْوِيَ بِالْإِجَازَةِ الْعِتْقَ ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ كِنَايَةٌ فِي الْعِتْقِ ، ثُمَّ قَدْ صَارَ جَمِيعُهُ حُرًّا وَوَلَاءُ ثُلُثِهِ

لِلْمُعْتِقِ الْمَيِّتِ وَفِي وَلَاءِ بَاقِي ثُلُثَيْهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ الْإِصْطَخْرِيِّ : لِلْوَارِثِ ؛ لِأَنَّهُ تَحَرَّرَ بِعِتْقِهِ . وَالثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ : أَنَّهُ لِلْمُعْتِقِ الْمَيِّتِ تَبَعًا لِلثُّلُثِ ؛ لِأَنَّ الْوُرَّاثَ نَابَ فِيهِ عَنِ الْمَوْرُوثِ الْمُعْتِقِ ، وَصَارَ كَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَنْ غَيْرِهِ بِأَمْرِهِ ، فَإِنَّ وَلَاءَهُ يَكُونُ لِلْمُعْتِقِ عَنْهُ دُونَ الْمَالِكِ . فَإِذَا أَعْتَقَ فِي مَرَضِهِ عَبْدًا قِيمَتُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَخَلَّفَ سِوَى الْعَبْدِ مِائَةَ دِرْهَمٍ ، عُتِقَ ثُلُثَا الْعَبْدِ وَذَلِكَ ثُلُثُ التَّرِكَةِ ؛ لِأَنَّ التَّرِكَةَ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَثُلُثَهَا سِتَّةٌ وَسِتُّونَ دِرْهَمًا وَثُلُثَانِ وَذَلِكَ قِيمَةُ ثُلُثَيِ الْعَبْدِ . فَلَوْ خَلَّفَ سِوَى الْعَبْدِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ عُتِقَ جَمِيعُهُ لِخُرُوجِهِ مِنْ ثُلُثِ التَّرِكَةِ . فَلَوْ كَانَ السَّيِّدُ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا قَدْ جَنَى عَلَى الْعَبْدِ بَعْدَ عِتْقِهِ جِنَايَةً أَرْشُهَا مِائَةُ دِرْهَمٍ ، قِيلَ لِلْعَبْدِ إِنْ عَفَوْتَ عَنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ نَفَذَ عِتْقُكَ لِخُرُوجِ قِيمَتِكَ مِنَ الثُّلُثِ ، وَإِنْ لَمْ تَعْفُ عَجَزَ جَمِيعُ الثُّلُثِ عَنْ قِيمَتِكَ فَرَقَّ مِنْكَ قَدْرُ مَا عَجَزَ الثُّلُثُ عَنْهُ وَسَقَطَ مِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ بِقِسْطِهِ وَكَانَ لَكَ مِنَ الْأَرْشِ بِقَدْرِ مَا عُتِقَ مِنْكَ وَصَارَ فِيكَ دَوْرٌ ، وَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَبَابُ الْعَمَلِ فِيهِ أَنْ تَجْعَلَ لِلْعِتْقِ سَهْمًا وَلِلْأَرْشِ سَهْمَيْنِ . فَصْلٌ آخَرُ مِنْهُ : وَإِذَا أَعْتَقَ الْمَرِيضُ عَبْدًا قِيمَتُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَلَا مَالَ لَهُ سِوَاهُ فَكَسَبَ الْعَبْدُ فِي حَيَاةِ سَيِّدِهِ مِائَةَ دِرْهَمٍ فَكَسَبَ لِنَفْسِهِ عَلَى حُرِّيَّتِهِ وَرِقِّهِ فَمَا قَابَلَ حُرِّيَّتَهُ فَهُوَ لَهُ غَيْرُ مَضْمُومٍ إِلَى التَّرِكَةِ وَغَيْرُ مَحْسُوبٍ فِي الثُّلُثِ ، وَمَا قَابَلَ رِقَّهُ فَهُوَ لِلسَّيِّدِ مَضْمُومٌ إِلَى تَرِكَتِهِ فَزَائِدٌ فِي ثُلُثِهِ فَيَصِيرُ بِالْكَسْبِ دَوْرٌ فِي الْعِتْقِ ، وَقَدْرُ الدَّائِرِ السُّدُسُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكْتَسِبْ شَيْئًا لَعُتِقَ ثُلُثُهُ وَإِذَا كَسَبَ مِثْلَ قِيمَتِهِ عُتِقَ نِصْفُهُ ، فَصَارَ الزَّائِدُ بِكَسْبِهِ فِي الْعِتْقِ بِقَدْرِ سُدُسِهِ وَبَابُهُ أَنْ نَجْعَلَ لِلْعِتْقِ سَهْمًا وَلِلْكَسْبِ سَهْمًا وَلِلْوَرَثَةِ سَهْمَيْنِ تَصِيرُ أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ فَاقْسِمِ الْعَبْدَ عَلَيْهَا فَأَعْتِقْ مِنْهُ بِسَهْمَيْنِ مِنْهَا وَهُوَ سَهْمُ الْمُعْتِقِ وَسَهْمُ الْكَسْبِ فَيُعْتَقُ نِصْفُهُ بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا يَمْلِكُ بِهِ نِصْفَ كَسْبِهِ وَهُوَ خَمْسُونَ دِرْهَمًا يَصِيرُ مَعَهُمْ مِنْ رَقَبَتِهِ وَكَسْبِهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ هِيَ مِثْلَا مَا خَرَجَ بِالْعِتْقِ ، وَإِنْ كَسَبَ الْعَبْدُ ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ جَعَلْتَ لَهُ بِالْعِتْقِ سَهْمًا وَبِالْكَسْبِ سَهْمَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ مِثْلُ قِيمَتِهِ وَجَعَلْتَ لِلْوَرَثَةِ سَهْمَيْنِ تَكُنْ خَمْسَةَ أَسْهُمٍ يُقَسَّمُ الْعَبْدُ عَلَيْهَا فَيُعْتَقُ مِنْهُ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ هِيَ سَهْمُ الْعِتْقِ وَسَهْمَا الْكَسْبِ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِهِ بِسِتِّينَ دِرْهَمًا وَيَمْلِكُ بِهِ ثَلَاثَةَ أَخْمَاسِ كَسْبِهِ - مِائَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا - وَيَزِيدُ لِلْوَرَثَةِ خُمُسَاهُ بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا وَيَبْقَى لَهُمْ خُمُسَا كَسْبِهِ - ثَمَانُونَ دِرْهَمًا - وَذَلِكَ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا هِيَ مِثْلَا مَا أَعْتَقَ مِنْهُ وَإِنْ شِئْتَ ضَمَمْتَ الْكَسْبَ وَهُوَ مِائَتَا دِرْهَمٍ إِلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ وَهِيَ مِائَةُ دِرْهَمٍ تَكُنْ ثَلَاثَمِائَةِ دِرْهَمٍ ، ثُمَّ قَسَّمْتَهَا عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ يَكُنْ قِسْطُ كُلِّ سَهْمٍ سِتِّينَ دِرْهَمًا فَيُعْتَقُ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا خَرَجَ بِهِ السَّهْمُ الْوَاحِدُ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِهِ ، وَتُتْبِعُهُ ثَلَاثَةَ أَخْمَاسِ كَسْبِهِ فَيَزِيدُ خُمُسَاهُ وَتُتْبِعُهُ خُمُسَا كَسْبِهِ وَلَوْ كَانَ كَسْبُهُ خَمْسِينَ دِرْهَمًا جَعَلْتَ لَهُ بِالْعِتْقِ سَهْمًا وَبِالْكَسْبِ نِصْفَ سَهْمٍ ؛ لِأَنَّهُ مِثْلُ نِصْفِ قِيمَتِهِ وَجَعَلْتَ لِلْوَرَثَةِ سَهْمَيْنِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ وَنِصْفًا فَابْسُطْهُمَا لِمَخْرَجِ النِّصْفِ تَكُنْ سَبْعَةً ، ثُمَّ اقْسِمِ الْعَبْدَ عَلَيْهَا وَأَعْتِقْ مِنْهُ ثَلَاثَةَ

أَسْهُمٍ مِنْهَا وَهِيَ سَهْمَا الْعِتْقِ وَسَهْمَا الْكَسْبِ يُعْتَقُ مِنْهُ ثَلَاثَةُ أَسْبَاعِهِ مَعَ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا وَسِتَّةِ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ وَيَمْلِكُ بِهِ ثَلَاثَةَ أَسْبَاعِ كَسْبِهِ أَحَدًا وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا وَثَلَاثَةَ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ وَيَزِيدُ لِلْوَرَثَةِ أَرْبَعَةُ أَسْبَاعِهِ لِسَبْعَةٍ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا وَسُبُعِ دِرْهَمٍ ، وَتَبْقَى لَهُمْ أَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ كَسْبِهِ وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا وَأَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ يَكُنِ الْجَمِيعُ خَمْسَةً وَثَمَانِينَ دِرْهَمًا وَخَمْسَةَ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ ، وَذَلِكَ مِثْلُ مَا عُتِقَ مِنْهُ ، وَلَوْ أَعْتَقَهُ وَقِيمَتُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَخَلَّفَ سِوَاهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَكَسَبَ الْعَبْدُ قَبْلَ مَوْتِ سَيِّدِهِ مِائَةَ دِرْهَمٍ فَاجْعَلْ لِلْعِتْقِ سَهْمًا وَلِلْكَسْبِ سَهْمًا وَلِلْوَرَثَةِ سَهْمَيْنِ ، ثُمَّ اجْمَعِ الْكَسْبَ إِلَى التَّرِكَةِ تَكُنْ ثَلَاثَمِائَةِ دِرْهَمٍ ، ثُمَّ اقْسِمْهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ . تَكُنْ حِصَّةُ كُلِّ سَهْمٍ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ دِرْهَمًا وَهُوَ قَدْرُ مَا خَرَجَ بِالْعِتْقِ ، فَاعْتِقْ فِي الْعَبْدِ بِخَمْسَةٍ وَسَبْعِينَ دِرْهَمًا ، تَكُنْ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهِ وَتَأْخُذُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ كَسْبِهِ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ دِرْهَمًا ، يَبْقَى مَعَ الْوَرَثَةِ مِائَةُ دِرْهَمٍ مِنْ أَصْلِ التَّرِكَةِ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا بَقِيَّةُ الْكَسْبِ وَرُبُعُ الْعَبْدِ بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا ، يَكُنِ الْجَمِيعُ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا وَهُوَ مِثْلَا مَا عُتِقَ مِنْهُ ، وَهَكَذَا لَوْ زَادَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ كَانَتْ فِي حُكْمِ كَسْبِهِ ؛ لِأَنَّهُ فِي قَدْرِ مَا عُتِقَ مِنْهُ مُقَوَّمٌ لِيَوْمِ الْعِتْقِ وَفِيمَا رَقَّ مِنْهُ مُقَوَّمٌ يَوْمَ الْمَوْتِ ، فَإِنْ زَادَ مِثْلَ قِيمَتِهِ كَانَ كَمَا لَوْ كَسَبَ مِثْلَ قِيمَتِهِ ، وَإِنْ زَادَ نِصْفَ قِيمَتِهِ كَانَ كَمَا لَوْ كَسَبَ نِصْفَ قِيمَتِهِ ، فَإِذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ يَوْمَ الْعِتْقِ فَصَارَتْ قِيمَتُهُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ يَوْمَ الْمَوْتِ عُتِقَ مِنْهُ نِصْفُهُ وَقِيمَةُ نِصْفِهِ يَوْمَ الْعِتْقِ خَمْسُونَ دِرْهَمًا وَرَقَّ نِصْفُهُ وَقِيمَةُ نِصْفِهِ يَوْمَ الْمَوْتِ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَذَلِكَ مِثْلَا مَا عُتِقَ مِنْهُ وَالْعَمَلُ فِيهِ كَالْعَمَلِ فِي الْكَسْبِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا أَعْتَقَ فِي مَرَضِهِ أَمَةً حَامِلًا عُتِقَتْ مَعَ حَمْلِهَا ، سَوَاءٌ أَرَادَهُ أَوْ لَمْ يُرِدْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَلِدَ الْحُرَّةُ مَمْلُوكًا ، وَفِيمَا يُقَوَّمُ فِي ثُلُثِ الْعِتْقِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : تُقَوَّمُ الْأَمَةُ حَامِلًا يَوْمَ الْعِتْقِ وَلَا اعْتِبَارَ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ ، فَإِنْ خَرَجَتِ الْأَمَةُ مِنَ الثُّلُثِ نَفَذَ عِتْقُهَا وَعُتِقَ وَلَدُهَا وَإِنْ لَمْ تَخْرُجِ الْأَمَةُ مِنَ الثُّلُثِ عُتِقِ مِنْهَا بِقَدْرِ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ مِنْ نِصْفِ مِثْلِهِ ، وَعُتِقَ مِنْ وَلَدِهَا مِثْلُهُ ، وَرَقَّ مِنْهَا مَا لَمْ يَحْتَمِلْهُ الثُّلُثُ وَرَقَّ مَنْ وَلَدِهَا مِثْلُهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يُنْظَرَ بِالْأَمَةِ حَتَّى تَلِدَ ، ثُمَّ تُقَوَّمُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ وَيُقَوَّمُ الْوَلَدُ يَوْمَ وُلِدَ وَيُجْمَعُ بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ فَيُعْتَبَرُ أَنَّهُ فِي الثُّلُثِ ، فَإِنِ احْتَمَلَهُمَا الثُّلُثُ عُتِقَا وَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلْهُمَا الثُّلُثُ عُتِقَ مِنْهُمَا مَعًا بِالسَّوِيَّةِ قَدْرُ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ وَلَمْ يُقْرَعْ بَيْنَهُمَا ، بِخِلَافِ الْعَبْدَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ تَبَعُ الْأَمَةِ إِذَا كَانَ حَمْلًا يُعْتَقُ بِعِتْقِهَا وَيَرِقُّ بِرِقِّهَا ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا شَيْءٌ لَا يُعْتَقُ مِنْ حَمْلِهَا مِثْلُهُ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الْأُمِّ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَقِيمَةُ الْوَلَدِ يَوْمَ وُلِدَ خَمْسِينَ دِرْهَمًا ، فَإِنْ كَانَ الثُّلُثُ مِائَةً وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا عُتِقَا مَعًا ، وَإِنْ كَانَ الثُّلُثُ مِائَةً فَهُوَ بِقَدْرِ ثُلُثَيِ الْعَبْدِ فَيَعْتِقُ مِنَ الْأُمِّ ثُلُثَيْهَا سِتَّةً وَسِتِّينَ دِرْهَمًا وَثُلُثَيْ دِرْهَمٍ وَيَعْتَقِ مِنَ الْوَلَدِ ثُلُثَيْهُ ثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ دِرْهَمًا وَثُلُثَ دِرْهَمٍ وَرَقَّ ثُلُثُ الْأُمِّ وَثُلُثُ الْوَلَدِ ، وَلَوْ أَنَّ مَرِيضًا أَعْتَقَ كُلَّ حَمْلِ أَمَتِهِ لَمْ يَسْرِ الْعِتْقُ إِلَى الْأُمِّ ، وَكَانَ الْحَمْلُ وَحْدَهُ حُرًّا ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى ، وَاحِدًا أَوْ عَدَدًا ؛ لِأَنَّ الْأَمَةَ قَدْ يَجُوزُ أَنْ تَلِدَ حُرًّا ؛ فَلِذَلِكَ لَمْ يَسْرِ عِتْقُ الْحَمْلِ إِلَى الْأُمِّ ، وَالْحُرَّةُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَلِدَ عَبْدًا ؛ فَلِذَلِكَ سَرَى عِتْقُ الْأُمِّ إِلَى الْحَمْلِ .

فَعَلَى هَذَا تُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْحَمْلِ بَعْدَ الْوِلَادَةِ وَجْهًا وَاحِدًا ، فَلَوْ أَعْتَقَ الْأُمَّ بَعْدَ عِتْقِ حَمْلِهَا نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ الثُّلُثُ مُحْتَمِلًا لِقِيمَةِ الْأَوْلَادِ وَالْأُمِّ عُتِقُوا جَمِيعًا كُلُّهُمْ ، وَإِنِ احْتَمَلَ قِيمَةَ الْأَوْلَادِ دُونَ الْأُمِّ عُتِقَ الْأَوْلَادُ وَرَقَّتِ الْأُمُّ مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ ؛ لِأَنَّهُ قَدَّمَ عِتْقَهُمْ عَلَى عِتْقِ الْأُمِّ ، وَلَوِ اتَّسَعَ الثُّلُثُ لِلْأَوْلَادِ وَبَعْضِ الْأُمِّ عُتِقَ جَمِيعُ الْأَوْلَادِ وَعُتِقَ مِنَ الْأُمِّ قَدْرُ مَا بَقِيَ مِنَ الثُّلُثِ ، وَكَانَ بَاقِيهَا رِقًّا ، وَلَوْ ضَاقَ الثُّلُثُ عَنْ قِيمَةِ الْأَوْلَادِ كُلِّهِمْ أُقْرِعَ بَيْنَ الْأَوْلَادِ وَجَرَى عِتْقُ مَنِ احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ مِنْهُمْ ، وَرُقَّ مَنْ لَمْ يَحْتَمِلْهُ الثُّلُثُ مَعَ الْأُمِّ ، وَإِنَّمَا أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ وَلَمْ يُجْعَلْ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ مِنَ الْعِتْقِ مُقَسَّطًا بَيْنَهُمْ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُعْتَقَ بَعْضُهُمْ وَيَرِقَّ بَعْضُهُمْ وَقَدْ أَعْتَقَهُمْ بِلَفْظَةٍ وَاحِدَةٍ ، فَصَارَ كَمَنْ أَعْتَقُ ثَلَاثَةَ أَعْبُدٍ لَهُ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ وَالثُّلُثُ لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا أَحَدَهُمْ ، عُتِقَ أَحَدُهُمْ بِالْقُرْعَةِ . وَلَوْ أَنَّ مَرِيضًا أَعْتَقَ أَمَةً حَامِلًا وَأَعْتَقَ حَمْلَهَا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ ، لَمْ يَكُنْ لِمَا اسْتَأْنَفَهُ مِنْ عِتْقِ الْحَمْلِ تَأْثِيرًا ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ أُعْتِقُوا مَعَ الْأُمِّ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ . وَلَوْ أَنَّ صَحِيحًا قَالَ لِعَبْدِهِ أَوْ أَمَتِهِ : إِذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ فَأَنْتَ حُرٌّ ، ثُمَّ صَارَ رَأْسُ الشَّهْرِ وَالسَّيِّدُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ ، كَانَ عِتْقُهُمْ عِتْقَ صِحَّةٍ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ تَلَفَّظَ بِهِ فِيهِمْ فِي حِصَّتِهِ فَلَمْ تَنْتَقِلْ عَنْ حُكْمِهِ لِحُدُوثِ الْمَرَضِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ فِي هِبَةِ الْمَرِيضِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ فِي الدَّوْرِ

فَصْلٌ : فِي هِبَةِ الْمَرِيضِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ فِي الدَّوْرِ وَإِذَا وَهَبَ الْمَرِيضُ فِي مَرَضِهِ هِبَةً ، فَإِنْ كَانَتْ لِوَارِثٍ فَهِيَ مَرْدُودَةٌ ؛ لِأَنَّ هِبَةَ الْمَرِيضِ وَصِيَّةٌ مِنْ ثُلُثِهِ وَالْوَارِثُ مَمْنُوعٌ مِنَ الْوَصِيَّةِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ وُهِبَ لِغَيْرِ وَارِثٍ فَصَارَ عِنْدَ الْمَوْتِ وَارِثًا كَانَتْ بَاطِلَةً ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ هِبَةً لِوَارِثٍ ، وَلَوْ وَهَبَ لِوَارِثٍ فَصَارَ عِنْدَ الْمَوْتِ غَيْرَ وَارِثٍ ، فَهِيَ هِبَةٌ لِغَيْرِ وَارِثٍ اعْتِبَارًا بِحَالِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ . وَلَوْ وَهَبَ فِي مَرَضِهِ لِوَارِثِهِ ، ثُمَّ مَاتَ الْمَوْهُوبُ لَهُ قَبْلَ الْوَاهِبِ ، صَحَّتِ الْهِبَةُ إِنِ احْتَمَلَهَا الثُّلُثُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مَاتَ قَبْلَهُ صَارَ غَيْرَ وَارِثٍ . وَلَوْ وَهَبَ لِوَارِثٍ فِي مَرَضِهِ ، ثُمَّ صَحَّ مِنْهُ وَمَاتَ مِنْ غَيْرِهِ ، كَانَتِ الْهِبَةُ جَائِزَةً ؛ لِأَنَّ تَعَقُّبَ الصِّحَّةِ يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَا يُقَدِّمُهُ وَصِيَّةً . فَأَمَّا إِذَا وَهَبَ لِأَجْنَبِيٍّ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ مِنْهُ هِبَةً ، فَإِنْ لَمْ يَقْبِضْهَا حَتَّى مَاتَ ، فَالْهِبَةُ بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَتِمُّ إِلَّا بِالْقَبْضِ . وَإِنْ أَقْبَضَهُ قَبْلَ الْمَوْتِ ، صَحَّتِ الْهِبَةُ وَكَانَتْ مِنَ الثُّلُثِ ، تَمْضِي إِنِ احْتَمَلَهَا الثُّلُثُ وَيُرَدُّ مِنْهَا مَا عَجَزَ الثُّلُثُ عَنْهُ . وَهَكَذَا لَوْ وَهَبَ فِي صِحَّتِهِ وَأَقْبَضَ فِي مَرَضِهِ ، كَانَتْ فِي ثُلُثِهِ ؛ لِأَنَّهَا بِالْقَبْضِ فِي الْمُوصِي ، فَصَارَتْ هِبَةً فِي الْمَرَضِ . فَلَوْ وَهَبَ فِي مَرَضِهِ وَأَقْبَضَ وَأَعْتَقَ ، فَإِنْ كَانَ الثُّلُثُ يَحْتَمِلُهَا ، صَحَّتِ الْهِبَةُ وَالْعِتْقُ ،

وَإِنْ كَانَ الثُّلُثُ لَا يَحْتَمِلُهَا لَمْ يَصِحَّ ، وَإِنْ كَانَ الثُّلُثُ يَحْتَمِلُ أَحَدَهُمَا صَحَّتِ الْهِبَةُ لِتَقَدُّمِهَا وَرُدَّ الْعِتْقُ لِتَأَخُّرِهِ . وَلَوْ أَعْتَقَ قَدْرَ ثُلُثِهِ ثُمَّ وَهَبَ صَحَّ ، وَرُدَّتِ الْهِبَةُ اعْتِبَارًا بِالتَّقَدُّمِ ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُتَقَدِّمُ عِتْقًا أَوْ هِبَةً . وَلَوْ وَهَبَ قَدْرَ ثُلُثِهِ ، ثُمَّ أَوْصَى بِالثُّلُثِ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي عِتْقٍ أَوْ غَيْرِهِ ، كَانَتِ الْهِبَةُ فِي الْمَرَضِ مُقَدَّمَةً عَلَى الْوَصِيَّةِ ؛ لِأَنَّهَا عَطِيَّةٌ نَاجِزَةٌ ، فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فَدَوْرُ هَذَا الْفَصْلِ يُتَصَوَّرُ فِي مَرِيضٍ وَهَبَ لِأَخِيهِ عَبْدًا قِيمَتُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ لَا يَمْلِكُ غَيْرَهُ ، ثُمَّ مَاتَ الْمَوْهُوبُ لَهُ قَبْلَ الْوَاهِبِ وَخَلَّفَ بِنْتًا ، فَقَدْ زَادَتْ تَرِكَةُ الْوَاهِبِ بِمَا وَرِثَهُ مِنَ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَزَادَتِ الْهِبَةُ بِالزَّائِدِ فِي الْمِيرَاثِ ، وَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَطَرِيقُ الْعَمَلِ فِيهِ أَنْ تَقُولَ الْخَارِجُ بِالْهِبَةِ سَهْمٌ مِنْ ثَلَاثَةٍ ، فَإِذَا وَرِثَ الْوَارِثُ نِصْفَهُ وَأَسْقَطَ مِنْ سَهْمَيْهِ يَبْقَى لَهُ سَهْمٌ وَنِصْفٌ وَالْهِبَةُ سَهْمٌ فَابْسُطْ ذَلِكَ لِمَخْرَجِ النِّصْفِ تَكُنْ خَمْسَةً مِنْهَا لِلْهِبَةِ سَهْمَانِ فَتَصِحُّ الْهِبَةُ فِي خُمُسِ الْعَبْدِ وَيَبْقَى مَعَ الْوَاهِبِ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِهِ ، ثُمَّ وَرِثَ مِنَ الْمَوْهُوبِ أَحَدَ الْخُمُسَيْنِ ، فَصَارَ مَعَهُ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْعَبْدِ وَذَلِكَ مِثْلَيْ مَا صَحَّتْ فِيهِ الْهِبَةُ مِنَ الْخُمُسَيْنِ . فَلَوْ كَانَ الْوَاهِبُ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا مَعَ الْعَبْدِ الْمَوْهُوبِ الَّذِي قِيمَتُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ صَارَ مَالُ الْوَاهِبِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَاقْسِمْهَا عَلَى خَمْسَةٍ يَكُنْ قِسْطُ كُلِّ وَاحِدٍ سَهْمًا أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا ، فَامْضِ مِنْ هِبَةِ الْعَبْدِ بِسَهْمَيْنِ مِنْهُمَا تَكُنْ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ وَهُوَ قَدْرُ مَا جَازَتْ فِيهِ الْوَصِيَّةُ وَبَقِيَ مَعَ الْوَاهِبِ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَخُمُسُ الْعَبْدِ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا وَوَرِثَ مِنَ الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ الْمَوْهُوبَةِ خُمُسَيْنِ بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا وَمَعَهُ مِائَةٌ وَسِتُّونَ دِرْهَمًا ، وَذَلِكَ مِثْلَا مَا جَازَتْ فِيهِ الْوَصِيَّةُ . وَلَوْ كَانَ الْوَاهِبُ قَدْ خَلَّفَ مِائَةً وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا جَازَتِ الْهِبَةُ فِي الْعَبْدِ كُلِّهِ ؛ لِأَنَّ التَّرِكَةَ تَصِيرُ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا ، فَإِذَا قَسَّمْتَهَا عَلَى خَمْسَةٍ كَانَ قِسْطُ كُلِّ سَهْمٍ خَمْسِينَ دِرْهَمًا ، فَإِذَا جَمَعْتَ بَيْنَ سَهْمَيْنِ كَانَ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَهِيَ قِيمَةُ كُلِّ الْعَبْدِ وَيَبْقَى مَعَ الْوَاهِبِ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا ، ثُمَّ وَرِثَ نِصْفَ الْعَبْدِ خَمْسِينَ دِرْهَمًا صَارَ مَعَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَذَلِكَ مِثْلَا قِيمَةِ الْعَبْدِ . فَلَوْ كَانَ الْوَاهِبُ لَا يَمْلِكُ غَيْرَ الْعَبْدِ وَكَانَ عَلَيْهِ خَمْسُونَ دِرْهَمًا دَيْنًا ، كَانَ نِصْفُ الْعَبْدِ مُسْتَحَقًّا فِي الدَّيْنِ وَنِصْفُهُ الْبَاقِي مَقْسُومًا عَلَى خَمْسَةٍ لِلْهِبَةِ مِنْهُ بِسَهْمَيْنِ الْخُمُسُ بِعِشْرِينَ ، وَيَبْقَى مَعَ الْوَاهِبِ خُمُسٌ وَنِصْفٌ بِثَلَاثِينَ دِرْهَمًا وَوَرِثَ مِنَ الْخُمُسِ الْمَوْهُوبِ نِصْفُهُ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ صَارَ مَعَهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا وَهِيَ مِثْلَا مَا خَرَجَ بِالْهِبَةِ . فَلَوْ كَانَ الْوَاهِبُ لَا يَمْلِكُ غَيْرَ الْعَبْدِ وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ ، لَكِنْ خَلَّفَ الْمَوْهُوبَ لَهُ سِوَى مَا وَهَبَ لَهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ فَطَرِيقُ الْعَمَلِ فِيهِ أَنْ تَقُولَ : تَرَكَ الْوَاهِبُ عَبْدًا قِيمَتُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَقَدْ وَرِثَ عَنْ أَخِيهِ نِصْفَ الْمَالِ خَمْسِينَ دِرْهَمًا ، صَارَ الْجَمِيعُ مِائَةً وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا ، فَإِذَا قَسَّمْتَ عَلَى الْخَمْسَةِ كَانَ قِسْطُ كُلِّ سَهْمٍ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا فَامْضِ مِنْ هِبَةِ الْعَبْدِ بِسَهْمَيْنِ قَدْرُهُمَا سِتُّونَ دِرْهَمًا تَكُنْ ثَلَاثَةَ أَخْمَاسِهِ وَهُوَ قَدْرُ مَا كَانَتْ فِيهِ الْهِبَةُ وَقَدْ بَقِيَ مَعَ الْوَاهِبِ خُمُسَاهُ بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا

وَوَرِثَ نِصْفَ ثَلَاثَةِ أَخْمَاسِهِ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا وَنِصْفَ الْمِائَةِ خَمْسِينَ دِرْهَمًا ، صَارَ مَعَهُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا وَذَلِكَ مِثْلَا مَا جَازَ بِالْهِبَةِ . فَصْلٌ آخَرُ مِنْهُ : وَإِذَا وَهَبَ الْمَرِيضُ لِمَرِيضٍ عَبْدًا ، ثُمَّ وَهَبَهُ الْمَرِيضُ الْمَوْهُوبُ لَهُ لِلْمَرِيضِ الْوَاهِبِ ، ثُمَّ مَاتَا وَلَمْ يُخَلِّفَا غَيْرَ الْعَبْدِ الَّذِي يُوهِبَاهُ ، فَالْعَبْدُ بَيْنَ وَرَثَتَيْهِمَا عَلَى ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ ، مِنْهَا لِوَرَثَةِ الْوَاهِبِ الْأَوَّلِ سِتَّةُ أَثْمَانِهِ ، وَلِوَرَثَةِ الْوَاهِبِ الثَّانِي ثُمُنَاهُ . فَوَجْهُ الْعَمَلِ فِيهِ أَنَّ الْوَاهِبَ الْأَوَّلَ لَمَّا وَهَبَهُ نَفَذَتِ الْهِبَةُ فِي ثُلُثِهِ ، وَلَمَّا وَهَبَ الثَّانِي الثُّلُثَ نَفَذَتِ الْهِبَةُ فِي ثُلُثِهِ ، فَصَارَ الدَّايِرُ عَلَى الْأَوَّلِ ثُلُثَ الثُّلُثِ وَهُوَ سَهْمٌ مِنْ تِسْعَةٍ فَأَسْقِطْهُ لِيَتَقَطَّعَ دَوْرُهُ بَقِيَ مِنَ التِّسْعَةِ ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ لِلْعَبْدِ مَقْسُومٌ عَلَيْهَا مِنْهَا هِبَةُ الْأَوَّلِ لِلثَّانِي ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَهِبَةُ الثَّانِي لِلْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ أَسْهُمٍ ، وَقَدْ كَانَ مَعَ الْأَوَّلِ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ وَعَادَ إِلَيْهِ سَهْمٌ ، فَصَارَ مَعَ وَرَثَتِهِ سِتَّةَ أَثْمَانِ الْعَبْدِ ، وَهُوَ مِثْلَا مَا جَازَ مِنْ هِبَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْجَائِزَ مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَثْمَانِهِ ، وَمَعَ وَرَثَةِ الثَّانِي ثُمُنَا الْعَبْدِ وَهُوَ مِثْلَا مَا جَازَ مِنْ هِبَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْجَائِزَ ثُمُنُهُ ، وَسَوَاءٌ مَاتَ الثَّانِي قَبْلَ الْأَوَّلِ أَوِ الْأَوَّلُ قَبْلَ الثَّانِي ؛ لِأَنَّهَا هِبَةٌ بَتَاتًا ، وَلَكِنْ لَوْ كَانَ الْوَاهِبُ الثَّانِي مَا وَهَبَ هِبَةً بَتَاتًا وَأَوْصَى وَلَوْ أَوْصَى الثَّانِي لِلْأَوَّلِ بِثُلُثِ مَالِهِ نُظِرَ ، فَإِنْ مَاتَ الثَّانِي قَبْلَ الْأَوَّلِ كَانَ الْجَوَابُ عَلَى مَا مَضَى ؛ لِأَنَّهُ قَدْ عَادَ إِلَى الْأَوَّلِ ثُلُثُ مَا وَهَبَ ، وَإِنْ مَاتَ الْأَوَّلُ قَبْلَ الثَّانِي بَطَلَتْ وَصِيَّةُ الثَّانِي لِلْأَوَّلِ وَصَحَّتْ هِبَةُ الْأَوَّلِ فِي ثُلُثِ الْعَبْدِ لِانْقِطَاعِ الدَّوْرِ .

فَصْلٌ فِي بَيْعِ الْمَرِيضِ وَشِرَائِهِ

فَصْلٌ : فِي بَيْعِ الْمَرِيضِ وَشِرَائِهِ وَبَيْعُ الْمَرِيضِ وَشِرَاؤُهُ جَائِزٌ إِذَا كَانَ بِثَمَنِ مِثْلِهِ وَلَمْ يَدْخُلْهُ غَبْنٌ لَا يَتَغَابَنُ أَهْلُ الْمِصْرِ بِمِثْلِهِ ، وَسَوَاءٌ بَاعَ الْمَرِيضُ عَلَى وَارِثٍ أَوْ غَيْرِ وَارِثٍ ، أَوِ اشْتَرَى الْمَرِيضُ مِنْ وَارِثٍ أَوْ غَيْرِ وَارِثٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِذَا بَاعَ الْمَرِيضُ عَلَى وَارِثِهِ كَانَ بَيْعُهُ مَرْدُودًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ غَبْنٌ وَلَا مُحَابَاةٌ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ خَصَّ بَعْضَ وَرَثَتِهِ بِمَالٍ يَتَسَاوَى فِيهِ . وَهَذَا فَاسِدٌ ، بَلْ بَيْعُهُ عَلَيْهِ لَازِمٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مُحَابَاةٌ وَلَا غَبْنٌ ؛ لِأَنَّ اعْتِرَاضَ الْوَرَثَةِ عَلَى الْمَرِيضِ فِي الْمِقْدَارِ لَا فِي الْأَعْيَانِ ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ بَاعَ أَجْنَبِيًّا بِثَمَنِ مِثْلِهِ صَحَّ الْبَيْعُ مَعَ انْتِقَالِ الْعَيْنِ لِحُصُولِ الْمِقْدَارِ ، وَلَوْ بَاعَهُمْ بِأَقَلَّ كَانَ لَهُمْ فِيهِ اعْتِرَاضٌ لِنَقْصِ الْمِقْدَارِ . فَأَمَّا إِذَا حَابَى الْمَرِيضُ فِي بَيْعِهِ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ أَهْلُ الْمِصْرِ بِمِثْلِهِ ، كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ عَطِيَّةً فِي مَرَضِهِ مَحَلُّهَا الثُّلُثُ إِنْ لَمْ يُنْقِصْهُ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي وَارِثًا رُدَّتِ الْمُحَابَاةُ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَجُوزُ لِوَارِثٍ . فَعَلَى هَذَا لَوْ بَاعَ عَبْدًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَالْعَبْدُ يُسَاوِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ الْمَرِيضُ فِي بَيْعِهِ ، فَالْمِائَةُ الَّتِي هِيَ ثَمَنُهُ تُقَابِلُ نِصْفَ قِيمَتِهِ ، فَصَارَتِ الْمُحَابَاةُ بِنِصْفِهِ ، فَيُقَالُ لِلْوَارِثِ لَكَ الْخِيَارُ فِي أَنْ تَأْخُذَ بِالْمِائَةِ نِصْفَ الْعَبْدِ وَهُوَ قَدْرُ مِثْلِهَا مُحَابَاةً فِيهِ ، وَيَكُونُ النِّصْفُ الْآخَرُ الَّذِي هُوَ الْمُحَابَاةُ مَرْدُودًا إِلَى

التَّرِكَةِ ، وَإِنَّمَا كَانَ لَهُ الْخِيَارُ لِأَنَّهُ عَاقِدٌ بِالْمِائَةِ عَلَى جَمِيعِ الْعَبْدِ فَوَصَلَ لَهُ نِصْفُهُ . وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ يُسَاوِي مِائَةً وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا وَقَدْ بَاعَهُ عَلَيْهِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ ، كَانَ لَهُ الْخِيَارُ فِي أَحَدِ ثُلُثَيِ الْعَبْدِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَرُدَّ ثُلُثُهُ الَّذِي هُوَ قَدْرُ الْمُحَابَاةِ ، أَوْ يُفْسَخُ الْبَيْعُ وَيَسْتَرْجِعُ الْمِائَةَ وَلَهُ بَدَلُ الْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ قِيمَةُ مَا زَادَ بِالْمُحَابَاةِ مِنْ نِصْفٍ أَوْ ثُلُثٍ لَمْ يُجِيزُوا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِيهِ قَدْ بَطَلَ فَلَمْ يَلْزَمْهُمْ أَنْ يَسْتَأْنِفُوا مَعَهُ عَقْدًا فِيهِ إِلَّا عَنْ مُرَاضَاةٍ ، وَإِنَّمَا يُمَلَّكُ عَلَيْهِمْ بِعَقْدِ الْبَيْعِ مَا لَا مُحَابَاةَ فِيهِ . وَكَانَ أَبُو الْقَاسِمِ الدَّارَكِيُّ يَحْمِلُ صِحَّةَ الْبَيْعِ فِيمَا لَا مُحَابَاةَ فِيهِ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَجُوزُ فِيهِ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ ، فَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي لَا يَجُوزُ فِيهِ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ فَيَجْعَلُ الْبَيْعَ فِي الْجَمِيعِ بَاطِلًا ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ ؛ لِأَنَّ قَدْرَ الْمُحَابَاةِ فِي حُكْمِ الْهِبَةِ وَمَا لَا مُحَابَاةَ لَهُ بَيْعٌ لَمْ تَفْتَرِقْ صِفَتُهُ ، فَكَذَلِكَ صَحَّ الْعَقْدُ فِيهِ قَوْلًا وَاحِدًا وَإِنْ ثَبَتَ فِيهِ خِيَارٌ ، وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي أَجْنَبِيًّا كَانَ قَدْرُ الْمُحَابَاةِ فِي الثُّلُثِ ، فَإِنِ احْتَمَلَهَا الثُّلُثُ أَمْضَى الْبَيْعَ فِي الْجَمِيعِ ، وَإِنْ عَجَزَ الثُّلُثُ عَنْهَا أَمَضَى مِنْهُ قَدْرَ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ بَاعَ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ عَبْدًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَالْعَبْدُ يُسَاوِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَالْمُحَابَاةُ هِيَ نِصْفُ الْعَبْدِ وَقِيمَةُ نِصْفِهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ ، فَإِنْ خَلَّفَ الْبَائِعُ مَعَ هَذَا الْحَدِّ مِائَةَ دِرْهَمٍ خَرَجَتِ الْمُحَابَاةُ كُلُّهَا مِنَ الثُّلُثِ وَأَخَذَ الْمُشْتَرِي الْعَبْدَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَقَدْرُ الْمُحَابَاةِ نِصْفُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَحَصَلَ مَعَ الْوَرَثَةِ مِائَتَا دِرْهَمٍ مِائَةٌ مِنْهَا ثَمَنٌ وَمِائَةٌ مِنْهَا تَرِكَةٌ وَهُمَا مِثْلَيِ الْمُحَابَاةِ ، فَلَوْ وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِالْعَبْدِ عَيْبًا فَأَرَادَ رَدَّهُ ، فَلَهُ ذَلِكَ وَيَسْتَرْجِعُ الْمِائَةَ الَّتِي دَفَعَهَا ثَمَنًا ، فَلَوْ قَالَ أَرُدُّ نِصْفَ الْمِائَةِ وَآخُذُ نِصْفَهُ بِالْمُحَابَاةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا مُحَابَاةٌ فِي عَقْدٍ فَلَمْ يَصِحَّ ثُبُوتُهَا مَعَ ارْتِفَاعِ الْعَقْدِ . فَأَمَّا إِذَا لَمْ يُخَلِّفِ الْبَائِعُ غَيْرَ الْعَبْدِ الَّذِي بَاعَهُ بِمِائَةٍ وَقِيمَتُهُ مِائَتَانِ فَالْمُحَابَاةُ بِنِصْفِهِ وَلَزِمَهُ ثُلُثُ جَمِيعِ التَّرِكَةِ وَهُوَ ثُلُثُ الْعَبْدِ ، فَيَكُونُ لَهُ الْخِيَارُ فِي أَنْ يَأْخُذَ خَمْسَةَ أَسْدَاسِهِ بِالْمِائَةِ ، أَوْ يَفْسَخَ وَيَسْتَرْجِعَ الْمِائَةَ ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَقُولَ لَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ ثَمَنًا وَلَهُ ثُلُثُ التَّرِكَةِ وَصِيَّةً وَذَلِكَ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ دِرْهَمًا وَثُلُثَا دِرْهَمٍ يَصِيرُ الْجَمِيعُ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَسِتَّةً وَسِتِّينَ دِرْهَمًا وَثُلُثَيْ دِرْهَمٍ فَيَأْخُذُ مِنَ الْعَبْدِ بِهَا وَذَلِكَ خَمْسَةُ أَسْدَاسِ الْعَبْدِ وَيَبْقَى مَعَ وَرَثَةِ الْبَائِعِ سُدُسُهُ بِثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ دِرْهَمًا وَثُلُثُ دِرْهَمٍ وَمِائَةُ دِرْهَمٍ ثَمَنًا يَصِيرُ الْجَمِيعُ مِثْلَيْ مَا خَرَجَ بِالْمُحَابَاةِ . فَلَوْ كَانَ الْبَائِعُ قَدْ خَلَّفَ سِوَى الْعَبْدِ خَمْسِينَ دِرْهَمًا ، كَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَ خَمْسَةَ أَسْدَاسِهِ وَنِصْفَ سُدُسِهِ بِالْمِائَةِ ؛ لِأَنَّ التَّرِكَةَ تَصِيرُ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا ، ثُلُثُهَا ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ دِرْهَمًا وَثُلُثُ دِرْهَمٍ ، فَإِذَا انْضَمَّ إِلَى الثُّمُنِ وَهُوَ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ دِرْهَمًا وَثُلُثُ دِرْهَمٍ فَيَأْخُذُ مِنَ الْعَبْدِ ثُمُنًا ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مُقَابِلًا لِخَمْسَةِ أَسْدَاسِهِ وَنِصْفِ سُدُسِهِ وَيَبْقَى مَعَ الْوَرَثَةِ نِصْفُ سُدُسِهِ بِسِتَّةَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَثُلُثَيْ دِرْهَمٍ ، وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا تَرِكَةٌ وَمِائَةُ دِرْهَمٍ ثَمَنٌ صَارَ الْجَمِيعُ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَسِتَّةً وَسِتِّينَ دِرْهَمًا وَثُلُثَيْ دِرْهَمٍ وَذَلِكَ مِثْلَا مَا خَرَجَ بِالْمُحَابَاةِ ، فَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ الَّذِي بَاعَهُ الْمَرِيضُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ يُسَاوِي مِائَةً وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا صَحَّ الْبَيْعُ فِي جَمِيعِهِ وَإِنْ

لَمْ يُخَلِّفْ غَيْرَهُ ؛ لِأَنَّ قَدْرَ الْمُحَابَاةِ فِيهِ خَمْسُونَ دِرْهَمًا هِيَ قَدْرُ ثُلُثِهِ ، فَصَحَّ جَمِيعُهَا ، فَهَذَا حُكْمُ الْمُحَابَاةِ فِي الْبَيْعِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُحَابَاةُ فِي الشِّرَاءِ فَهُوَ : أَنْ يَشْتَرِيَ الْمَرِيضُ عَبْدًا بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ يُسَاوِي مِائَةً . فَقَدْرُ الْمُحَابَاةِ فِي ثَمَنِهِ ، مِائَةُ دِرْهَمٍ . فَإِنْ صَحَّ الْمُشْتَرِي مِنْ مَرَضِهِ ، لَزِمَهُ دَفْعُ الْمِائَتَيْنِ ثَمَنًا ، وَإِنْ مَاتَ مِنْ مَرِضِهِ ، نُظِرَ فِي الْبَائِعِ ، فَإِنْ كَانَ وَارِثًا ، لَا تَجُوزُ لَهُ الْمُحَابَاةُ فِي الْمَرَضِ وَرُدَّتْ ، وَكَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يَمْضِيَ الْبَيْعُ فِي الْعَبْدِ كُلِّهِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ الَّتِي هِيَ ثَمَنُ مِثْلِهِ وَبَيْنَ أَنْ يُفْسَخَ وَيُرْجَعَ الْعَبْدُ ؛ لِأَنَّهُ بَاعَهُ بِثَمَنٍ صَارَ لَهُ بَعْضُهُ ؛ فَلِذَلِكَ ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ . فَإِنِ اخْتَارَ إِمْضَاءَ الْبَيْعِ ، فَلَا خِيَارَ لِوَرَثَةِ الْمُشْتَرِي ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِمْ نَقْصٌ . وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ أَجْنَبِيًّا فَإِنْ خَلَّفَ الْمُشْتَرِي مَعَ الثَّمَنِ مِائَةَ دِرْهَمٍ صَحَّتِ الْمُحَابَاةُ ؛ لِأَنَّ التَّرِكَةَ ثَلَاثُمِائَةِ دِرْهَمٍ وَقَدْرَ الْمُحَابَاةِ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَهِيَ ثُلُثُ التَّرِكَةِ . فَلَوْ وَجَدَ وَرَثَةُ الْمُشْتَرِي بِالْعَبْدِ عَيْبًا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْمُشْتَرِي ، كَانَ لَهُمْ فِي الْخِيَارِ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ وَإِبْطَالِ الْمُحَابَاةِ وَاسْتِرْجَاعِ الثَّمَنِ كُلِّهِ ؛ لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ إِنَّمَا تَلْزَمُهُمْ عِنْدَ احْتِمَالِ الثُّلُثِ لَهَا إِذَا لَمْ يَحْدُثْ خِيَارٌ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْفَسْخَ . أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَرِيضَ لَوْ رَآهُ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْفَسْخَ ، فَكَذَلِكَ وَرَثَتُهُ . وَإِنْ لَمْ يُخَلِّفِ الْمُشْتَرِي شَيْئًا سِوَى الثَّمَنِ وَهُوَ مِائَتَا دِرْهَمٍ ، صَحَّتِ الْمُحَابَاةُ بِثُلُثِ الْمِائَتَيْنِ وَذَلِكَ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ دِرْهَمًا وَثُلُثَا دِرْهَمٍ ، وَيَكُونُ لِلْبَائِعِ الْخِيَارُ فِي إِمْضَاءِ الْبَيْعِ فِي الْعَبْدِ كُلِّهِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَسِتَّةٍ وَسِتِّينَ دِرْهَمًا وَثُلُثَيْ دِرْهَمٍ وَيُرَدُّ الْبَاقِي الَّذِي لَا يَحْتَمِلُهُ الثُّلُثُ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ دِرْهَمًا وَثُلُثُ دِرْهَمٍ . فَإِذَا عَادَ إِلَى الْوَرَثَةِ مَعَهُمْ عَبْدٌ يُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ صَارَ مَعَهُمْ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ دِرْهَمًا وَثُلُثُ دِرْهَمٍ ، فَذَلِكَ مِثْلَا مَا خَرَجَ بِالْمُحَابَاةِ ، ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ . وَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُحَابَاةِ فِي الشِّرَاءِ وَالْمُحَابَاةِ فِي الْبَيْعِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ الثُّلُثُ مِنَ الْمُحَابَاةِ فِي الْبَيْعِ يَكُونُ مَرْدُودًا مِنَ الْمَبِيعِ دُونَ الثَّمَنِ ، وَمَا لَا يَحْتَمِلُهُ الثُّلُثُ مِنَ الْمُحَابَاةِ فِي الشِّرَاءِ يَكُونُ مَرْدُودًا مِنَ الثَّمَنِ دُونَ الْمَبِيعِ . وَالْفَرْقُ الثَّانِي : أَنَّهُ إِذَا زَادَتِ الْمُحَابَاةُ فِي الْبَيْعِ ، كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ . وَإِذَا زَادَتِ الْمُحَابَاةُ فِي الشِّرَاءِ ، كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ دُونَ الْمُشْتَرِي ، فَلَوِ اشْتَرَى الْمَرِيضُ مِنْ مَرِيضٍ عَبْدًا يُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ بِعَبْدٍ يُسَاوِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ ، فَمُشْتَرِي الْعَبْدِ الْأَعْلَى غَابِنٌ ، فَلَا خِيَارَ لِوَرَثَتِهِ ، وَمُشْتَرِي الْعَبْدِ الْأَدْنَى مَغْبُونٌ ، فَإِنْ لَمْ يُخَلِّفْ غَيْرَ الْعَبْدِ الَّذِي دَفَعَهُ ثَمَنًا وَقِيمَتُهُ مِائَتَا

دِرْهَمٍ ، فَلِوَرَثَتِهِ أَخْذُ الْعَبْدِ الْأَدْنَى بِخَمْسَةِ أَسْدَاسِ الْعَبْدِ الْأَعْلَى ، وَلِوَرَثَةِ صَاحِبِ الْغَبْنِ الْأَدْنَى الْخِيَارُ فِي إِمْضَاءِ الْبَيْعِ أَوْ فِي الْفَسْخِ . وَهَكَذَا الْغَبْنُ فِي الْمَرَضِ يَجْرِي مَجْرَى الْمُحَابَاةِ فِي اعْتِبَارِهَا مِنَ الثُّلُثِ . فَلَوِ اشْتَرَى الْمَرِيضُ عَبْدًا بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ ، ثُمَّ اشْتَرَى عَبْدًا ثَانِيًا بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ ، فَإِنْ كَانَ الثُّلُثُ يَحْتَمِلُ الْمُحَابَاةَ فِي الْعَبْدَيْنِ ، لَزِمَتِ الْمُحَابَاةُ فِيهِمَا . وَإِنْ كَانَ الثُّلُثُ يَحْتَمِلُ الْمُحَابَاةَ فِي أَحَدِهِمَا وَيَعْجَزُ فِي الْآخَرِ ، قُدِّمَتِ الْمُحَابَاةُ فِي الْأَوَّلِ ، ثُمَّ جُعِلَ مَا بَقِيَ مِنَ الثُّلُثِ مَصْرُوفًا فِي مُحَابَاةِ الثَّانِي . وَلَوْ كَانَ الثُّلُثُ بِقَدْرِ الْمُحَابَاةِ فِي الْعَبْدِ الْأَوَّلِ جُعِلَ الثُّلُثُ مَصْرُوفًا فِي مُحَابَاةِ الْعَبْدِ الْأَوَّلِ وَزَادَتِ الْمُحَابَاةُ فِي الْعَبْدِ الثَّانِي ، فَعَلَى هَذَا لَوْ وَجَدَ وَرَثَةُ الْمُشْتَرِي بِالْعَبْدِ الْأَوَّلِ عَيْبًا ، فَلَهُمُ الْخِيَارُ فِي إِمْضَاءِ الْبَيْعِ فِيهِ وَرَدِّهِ . فَإِنْ أُرْضَوْهُ فَالْمُحَابَاةُ فِيهِ هِيَ اللَّازِمَةُ ، دُونَ الْمُحَابَاةِ الثَّانِيَةِ . وَإِنْ رَدُّوهُ ، أُمْضِيَتِ الْمُحَابَاةُ فِي الْعَبْدِ الثَّانِي وَصَارَ الثُّلُثُ مَصْرُوفًا إِلَيْهِمَا ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ قَدْ جَعَلَ ثُلُثَ مَالِهِ لَهَا وَإِنَّمَا اخْتَصَّ الْأَوَّلُ بِهِ لِتَقَدُّمِهِ ، فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْهُ بِالْفَسْخِ صَارَ الثَّانِي ؛ لِأَنَّ إِخْرَاجَ الثُّلُثِ لَازِمٌ لِلْوَرَثَةِ فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا .

فَصْلٌ : فَلَوِ اخْتَلَفَ وَرَثَةُ الْمَيِّتِ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي ، فَقَالَ وَرَثَةُ الْبَائِعِ لِلْمُشْتَرِي : حَابَاكَ فَبَاعَكَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِهِ ، وَأَنْكَرَ الْمُشْتَرِي الْمُحَابَاةَ ، أَوْ قَالَ وَرَثَةُ الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ : حَابَاكَ فَاشْتَرَى مِنْكَ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ ، وَأَنْكَرَ الْبَائِعُ الْمُحَابَاةَ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ السِّلْعَةُ بَاقِيَةً . وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ تَالِفَةً . فَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَزِدْ فِي بَدَنِهَا وَلَا سُوقِهَا وَلَمْ تَنْقُصْ . وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ قُطِعَ اخْتِلَافُهُمَا بِتَقْوِيمِ مُقَوِّمَيْنِ ، فَمَا قَالَاهُ مِنْ ظُهُورِ الْمُحَابَاةِ أَوْ عَدَمِهَا عُمِلَ عَلَيْهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَخْتَلِفَا مَعَ بَقَائِهَا فِي سُوقِهَا وَبَدَنِهَا ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَذْكُرَ مُدَّعِي الْمُحَابَاةِ أَنَّهَا كَانَتْ زَائِدَةً فِي بَدَنِهَا أَوْ سُوقِهَا عِنْدَ الْعَقْدِ فَنَقَصَتْ عِنْدَ التَّقْوِيمِ . وَقَالَ مُنْكِرُ الْمُحَابَاةِ : لَمْ تَزَلْ نَاقِصَةً فِي سُوقِهَا وَبَدَنِهَا عِنْدَ الْعَقْدِ وَالتَّقْوِيمِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مُنْكِرِ الْمُحَابَاةِ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ مُنْكِرٌ لِمَا ادُّعِيَ عَلَيْهِ مِنْ تَقَدُّمِ الزِّيَادَةِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَذْكُرَ مُدَّعِي الْمُحَابَاةِ أَنَّهَا لَمْ تَزَلْ عِنْدَ الْعَقْدِ وَالتَّقْوِيمِ عَلَى هَذِهِ الزِّيَادَةِ فِي سُوقِهَا وَبَدَنِهَا وَيَذْكُرَ مُنْكِرُ الْمُحَابَاةِ أَنَّهَا كَانَتْ نَاقِصَةً عِنْدَ الْعَقْدِ ، فَزَادَتْ عِنْدَ التَّقْوِيمِ فِي سُوقِهَا أَوْ بَدَنِهَا .

فَالْقَوْلُ قَوْلُ مُدَّعِي الْمُحَابَاةِ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِتَقَدُّمِ النُّقْصَانِ ، فَهَذَا حُكْمُ اخْتِلَافِهِمَا إِذَا كَانَتِ السِّلْعَةُ بَاقِيَةً . فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ تَالِفَةً لَا يُمْكِنُ الرُّجُوعُ إِلَى تَقْوِيمِهَا ، فَإِنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَهُمَا فِي الْمُحَابَاةِ مَئُولٌ إِلَى الِاخْتِلَافِ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ أَوْ قَدْرِ الْمُثَمَّنِ . وَإِذَا بَاعَ الْمَرِيضُ كُدَّ طَعَامٍ يُسَاوِي ثَلَاثَمِائَةِ دِرْهَمٍ لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ ، بِكُدِّ شَعِيرٍ يُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ ، فَقَدْرُ الْمُحَابَاةِ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَالثُّلُثُ مِائَةُ دِرْهَمٍ ، فَلِلْوَرَثَةِ أَنْ يَأْخُذُوا كُدَّ الشَّعِيرِ بِثُلُثَيْ كُدِّ الطَّعَامِ وَقِيمَتُهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ ، قَدْ دَخَلَهَا مِنَ الْمُحَابَاةِ قَدْرُ الثُّلُثِ مِائَةُ دِرْهَمٍ ، ثُمَّ الْخِيَارُ لِصَاحِبِ الشَّعِيرِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَخَذَ بِكُلِّ الشَّعِيرِ بَعْضَ الطَّعَامِ ، وَلَا خِيَارَ لِصَاحِبِ الطَّعَامِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَخَذَ بِبَعْضِ الطَّعَامِ كُلَّ الشَّعِيرِ . وَلَوْ كَانَ كُدُّ الشَّعِيرِ يُسَاوِي مِائَةً وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا ، كَانَ لِوَرَثَةِ صَاحِبِ الطَّعَامِ أَنْ يَأْخُذُوا كُدَّ الشَّعِيرِ بِخَمْسَةِ أَسْدَاسِ كُدِّ الطَّعَامِ ؛ لِأَنَّ الثُّلُثَ مِائَةُ دِرْهَمٍ ، فَإِذَا زِدْتَهُ عَلَى ثَمَنِ الشَّعِيرِ صَارَ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا ، وَذَلِكَ يُقَابِلُ خَمْسَةَ أَسْدَاسِ ثَمَنِ الطَّعَامِ ؛ فَلِذَلِكَ أَخَذَ خَمْسَةَ أَسْدَاسِهِ . فَلَوْ بَاعَ الْمَرِيضُ كُدَّ طَعَامٍ يُسَاوِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ ، بِكُدِّ طَعَامٍ يُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ ، فَيَحْتَاجُ فِي اعْتِبَارِ هَذِهِ الْمُحَابَاةِ مِنَ الثُّلُثِ إِلَى أَنْ يَكُونَ الْخَارِجُ مِنْهَا دَاخِلًا فِي قَدْرٍ يَتَسَاوَى فِيهِ الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ ؛ لِأَنَّ التَّفَاضُلَ فِيهِ حَرَامٌ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَحَّ الْبَيْعُ فِي ثُلُثَيْ كُدٍّ مِنَ الطَّعَامِ الْأَجْوَدِ ، بِثُلُثَيْ كُدٍّ مِنَ الطَّعَامِ الْأَدْنَى ؛ لِأَنَّ التَّرِكَةَ مِائَتَا دِرْهَمٍ ، ثُلُثُهَا سِتَّةٌ وَسِتُّونَ دِرْهَمًا وَثُلُثَا دِرْهَمٍ وَقَدْ حَابَاهُ فِي الْكُدِّ الْأَجْوَدِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ ، فَإِذَا أَخَذَ ثُلُثَيْ كُدِّهِ مِنَ الطَّعَامِ الْأَجْوَدِ قِيمَتُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ دِرْهَمًا وَثُلُثُ دِرْهَمٍ ، بِثُلُثَيْ كُدٍّ مِنَ الطَّعَامِ الْأَرْدَإِ وَقِيمَتُهُ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ دِرْهَمًا وَثُلُثَا دِرْهَمٍ ، كَانَ قَدْرُ الْمُحَابَاةِ بَيْنَهُمَا سِتَّةً وَسِتِّينَ دِرْهَمًا وَثُلُثَيْ دِرْهَمٍ وَهُوَ قَدْرُ الثُّلُثِ . وَأُحْضِرُ بَابًا تَصِلُ إِلَى الِاسْتِخْرَاجِ لِلْعَمَلِ فِيهِ ، بِأَنِ اسْتَخْرَجْتُهُ سَهْلَ الطَّرِيقَةِ وَاضِحَ الْعَمَلِ ، وَهُوَ أَنْ تَنْظُرَ قَدْرَ الْمُحَابَاةِ وَقَدْرَ الثُّلُثِ ، ثُمَّ تَنْظُرُ قَدْرَ الثُّلُثِ وَالْمُحَابَاةِ ، فَإِذَا نَاسَبَهُ إِلَى جُزْءٍ مَعْلُومٍ فَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي إِنْ أُنْفِذَ الْبَيْعُ فِيهِ اسْتَوْعَبَ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ مِنَ الْمُحَابَاةِ مِنْ غَيْرِ تَفَاضُلٍ . مِثَالُهُ : أَنْ تَقُولَ : إِذَا بَاعَ الْكُدَّ الْمُسَاوِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ بِالْكُدِّ الْمُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ أَنَّ الْمُحَابَاةَ بَيْنَهُمَا مِائَةُ دِرْهَمٍ وَقَدْرُ الثُّلُثِ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ دِرْهَمًا وَثُلُثُ دِرْهَمٍ ، فَإِذَا قَابَلْتَ بَيْنَ الثُّلُثِ وَالْمُحَابَاةِ وَجَدْتَ الثُّلُثَ مُقَابِلًا لِثُلُثَيِ الْمُحَابَاةِ ، فَتَعْلَمُ بِذَلِكَ أَنَّ ثُلُثَيِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إِذَا بِيعَ بِمِثْلِهِ اسْتَوْعَبَ ( ثُلُثَ ) التَّرِكَةِ . فَعَلَى هَذَا إِذَا بَاعَ كُدًّا يُسَاوِي ثَلَاثَمِائَةِ دِرْهَمٍ ، بِكُدٍّ يُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ فَعَمَلُهُ بِالْبَابِ الَّذِي قَدَّمْتُهُ أَنْ تَقُولَ :

قَدْرُ الْمُحَابَاةِ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَالثُّلُثُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَالْمِائَةُ نِصْفُ الْمِائَتَيْنِ فَيُعْلَمُ أَنَّ قَدْرَهَا يَحْتَمِلُ الثُّلُثَ مِنَ الْمُحَابَاةِ وَهُوَ نِصْفُ كُدٍّ مِنَ الطَّعَامِ الْأَجْوَدِ قِيمَتُهُ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا ، بِنِصْفِ كُدٍّ مِنَ الطَّعَامِ الْأَرْدَإِ قِيمَتُهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا وَبَيْنَهُمَا مِنَ الْفَضْلِ مِائَةُ دِرْهَمٍ هِيَ قَدْرُ الثُّلُثِ . وَلَوْ بَاعَ كُدَّ طَعَامٍ يُسَاوِي أَرْبَعَمِائَةِ دِرْهَمٍ ، بِكُدِّ طَعَامٍ يُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ وَيُخَلِّفُ الْبَائِعُ مَعَ الْكُدِّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ ، فَالتَّرِكَةُ سِتُّمِائَةٍ ، ثُلُثَاهَا مِائَتَا دِرْهَمٍ ، وَقَدْرُ الْمُحَابَاةِ ثَلَاثُمِائَةِ دِرْهَمٍ ، فَكَانَ الثُّلُثُ مُقَابِلًا لِثُلُثَيِ الْمُحَابَاةِ ، فَيَصِحُّ الْبَيْعُ فِي ثُلُثَيْ كُدِّ الطَّعَامِ الْجَيِّدِ قِيمَتُهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ دِرْهَمًا وَثُلُثَا دِرْهَمٍ وَبَيْنَهُمَا مِنَ الْفَضْلِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ هِيَ قَدْرُ الثُّلُثِ . فَلَوْ بَاعَهُ كُدًّا مِنْ طَعَامٍ يُسَاوِي خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ ، بِكُدٍّ مِنْ طَعَامٍ يُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ وَخَلَّفَ مَعَ الْكُدِّ الَّذِي بَاعَهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ ، فَالتَّرِكَةُ سِتُّمِائَةِ دِرْهَمٍ ثُلُثَاهَا مِائَتَا دِرْهَمٍ ، وَقَدْ حَابَاهُ بِأَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ ، فَكَانَ الثُّلُثُ نِصْفَ الْمُحَابَاةِ ، فَيَصِحُّ الْبَيْعُ فِي نِصْفِ كُدٍّ مِنَ الطَّعَامِ الْجَيِّدِ ، قِيمَتُهُ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا ، بِنِصْفِ كُدٍّ مِنَ الطَّعَامِ الْأَرْدَإِ قِيمَتُهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا وَبَيْنَهُمَا مِنَ الْفَضْلِ مِائَتَا دِرْهَمٍ هِيَ قَدْرُ الثُّلُثِ . ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ فِي الدَّوْرِ وَبَيْعِ الْمَرِيضِ

فَصْلٌ : فِي الدَّوْرِ وَبَيْعِ الْمَرِيضِ وَإِذَا بَاعَ الْمَرِيضُ عَلَى أَخِيهِ كُدَّ طَعَامٍ يُسَاوِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ بِكُدِّ شَعِيرٍ يُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ وَلَا مَالَ لَهُمَا غَيْرُ الْكُدِّ ، ثُمَّ مَاتَ صَاحِبُ الشَّعِيرِ قَبْلَ أَخِيهِ وَخَلَّفَ بِنْتًا وَأَخَاهُ ، ثُمَّ مَاتَ صَاحِبُ الطَّعَامِ وَخَلَّفَ ابْنًا ، فَالْبَيْعُ فِي جَمِيعِ الْكُدِّ الطَّعَامِ بِجَمِيعِ الْكُدِّ الشَّعِيرِ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الشَّعِيرِ بِتَقَدُّمِ مَوْتِهِ قَدْ صَارَ غَيْرَ وَارِثٍ ، وَالْمُحَابَاةُ تَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ صَاحِبِ الطَّعَامِ ؛ لِأَنَّ قَدْرَ الْمُحَابَاةِ بَيْنَ الْكُدَّيْنِ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَقَدْ صَارَ إِلَى صَاحِبِ الطَّعَامِ كُدُّ شَعِيرٍ يُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ ، ثُمَّ وَرِثَ نِصْفَ الْكُدِّ الطَّعَامِ وَقِيمَتُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ ، فَصَارَ مَعَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَذَلِكَ مِثْلَا مَا خَرَجَ بِالْمُحَابَاةِ . وَبَابُ الْعَمَلِ فِيهِ أَنْ تَقُولَ : تَرِكَةُ صَاحِبِ الطَّعَامِ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَقَدْ وَرِثَ نِصْفَ تَرِكَةِ أَخِيهِ خَمْسِينَ دِرْهَمًا ، فَصَارَتِ التَّرِكَةُ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا ، الْخَارِجُ مِنْهَا بِالْمُحَابَاةِ سَهْمٌ مِنْ ثُلُثِهِ ، قَدْ فَوَّتَ نِصْفَهُ ، فَأَسْقَطَهُ مِنَ الثُّلُثِ ، يَبْقَى سَهْمَانِ وَنِصْفٌ ، فَاقْسِمِ التَّرِكَةَ عَلَيْهَا ، يَكُنْ قِسْطُ كُلِّ سَهْمٍ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَهُوَ قَدْرُ الْمُحَابَاةِ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ بَاعَ الْمَرِيضُ عَلَى أَخِيهِ كُدَّ طَعَامٍ يُسَاوِي ثَلَاثَمِائَةِ دِرْهَمٍ ، بِكُدِّ شَعِيرٍ يُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ وَمَاتَ صَاحِبُ الشَّعِيرِ وَخَلَّفَ مَعَ كُدِّ الشَّعِيرِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَتَرَكَ بِنْتَيْنِ وَأَخَاهُ ، ثُمَّ مَاتَ الْأَخُ صَاحِبُ الطَّعَامِ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ غَيْرَهُ وَتَرَكَ ابْنًا ، صَحَّ الْبَيْعُ فِي كُدِّ الشَّعِيرِ بِخَمْسَةِ أَسْدَاسِ كُدِّ الطَّعَامِ .

وَعَمَلُهُ بِالْبَابِ الْمُقَدَّمِ أَنْ تَقُولَ : تَرِكَةُ صَاحِبِ الطَّعَامِ ثَلَاثُمِائَةِ دِرْهَمٍ وَتَرِكَةُ صَاحِبِ الشَّعِيرِ ثَلَاثُمِائَةِ دِرْهَمٍ ، فَإِذَا وَرِثَ صَاحِبُ الطَّعَامِ مَعَ الْبِنْتَيْنِ ثُلُثَ تَرِكَةِ أَخِيهِ مِائَةَ دِرْهَمٍ ، صَارَتْ تَرِكَتُهُ أَرْبَعَمِائَةِ دِرْهَمٍ ، فَالْخَارِجُ بِالْمُحَابَاةِ ثُلُثُهَا سَهْمٌ مِنْ ثَلَاثَةٍ ، فَأَسْقِطْهُ مِنَ الثَّلَاثَةِ يَبْقَى سَهْمَانِ مِنْ ثَلَاثَةٍ ، فَابْسُطْهَا أَرْبَاعًا تَكُنْ ثَمَانِيَةً ، ثُمَّ اقْسِمِ التَّرِكَةَ عَلَيْهَا وَهِيَ أَرْبَعُمِائَةٍ يَكُنْ قِسْطُ كُلِّ سَهْمٍ مِنْهَا خَمْسِينَ دِرْهَمًا وَلِلْمُحَابَاةِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ ، تَكُنْ قَدْرُ الْمُحَابَاةِ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا ، فَإِذَا ضَمَمْتَهُ إِلَى ثَمَنِ الشَّعِيرِ وَهُوَ مِائَةُ دِرْهَمٍ ، فَصَارَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا وَذَلِكَ يُقَابِلُ مِنْ كُدِّ الطَّعَامِ خَمْسَةَ أَسْدَاسِهِ ؛ لِأَنَّ قِيمَتَهُ ثَلَاثُمِائَةِ دِرْهَمٍ ، فَيَصِحُّ الْبَيْعُ فِي كُدِّ الشَّعِيرِ بِخَمْسَةِ أَسْدَاسِ كُدِّ الطَّعَامِ وَفَضْلُ مَا بَيْنَهُمَا مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا وَهُوَ قَدْرُ الْمُحَابَاةِ وَقَدْ بَقِيَ مَعَ صَاحِبِ الطَّعَامِ سُدُسُ كُدِّ قِيمَتِهِ خَمْسُونَ دِرْهَمًا وَأَخَذَ كُدَّ شَعِيرٍ قِيمَتُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَوَرِثَ مِنْ أَخِيهِ ثُلُثَ مِائَتَيِ الدِّرْهَمِ سِتَّةً وَسِتِّينَ دِرْهَمًا وَثُلُثَ دِرْهَمٍ وَثُلُثَ خَمْسَةِ أَسْدَاسِ كُدِّ الطَّعَامِ ، بِثَلَاثَةٍ وَثَمَانِينَ دِرْهَمًا وَثُلُثِ دِرْهَمٍ ، فَصَارَ مَعَهُ ثَلَاثُمِائَةِ دِرْهَمٍ وَهِيَ مِثْلَا مَا خَرَجَ بِالْمُحَابَاةِ ؛ لِأَنَّ الْخَارِجَ بِهَا مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا . فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا وَكَانَ بَدَلُ كُدِّ الشَّعِيرِ الَّذِي قِيمَتُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ ، كُدَّ طَعَامٍ قِيمَتُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ ، يَحْرُمُ التَّفَاضُلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّعَامِ الْجَيِّدِ ، الَّذِي قِيمَتُهُ ثَلَاثُمِائَةِ دِرْهَمٍ . وَعَمَلُهُ بِالْبَابِ الَّذِي قَدَّمْتُ لَكَ اسْتِخْرَاجَهُ ، فَقُلْتُ الْمُحَابَاةُ فِي الْكُدِّ الْأَجْوَدِ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَقَدْرُ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ مِنْهَا مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا ، عَلَى مَا بَيَّنَاهُ وَبَقِيَ مِنَ الْمِائَتَيْنِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا ، فَيَصِحُّ الْبَيْعُ فِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ كُدِّ الطَّعَامِ الْأَجْوَدِ وَقِيمَتُهُ مِائَتَانِ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا ، بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ كُدٍّ مِنَ الطَّعَامِ الْأَدْوَنِ وَقِيمَتُهُ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ دِرْهَمًا وَفَضْلُ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُحَابَاةِ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا وَهُوَ قَدْرُ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ . فَهَذَا آخِرُ مَا تَعَلَّقَ بِالدَّوْرِ الَّذِي نَعْمَلُ بِقِيَاسِهِ مَا أَغْفَلْنَاهُ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ : " ( وَقَالَ ) فِي الْإِمْلَاءِ يَلْحَقُ الْمَيِّتَ مِنْ فِعْلِ غَيْرِهِ ثَلَاثٌ : حَجٌّ يُؤَدَّى ، وَمَالٌ يُتَصَدَّقُ بِهِ عَنْهُ الميت ، أَوْ دَيْنٌ يُقْضَى عن الميت وَدُعَاءٌ ، أَجَازَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَجَّ عَنِ الْمَيِّتِ وَنَدَبَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى الدُّعَاءِ للميت وَأَمَرَ بِهِ رَسُولَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ، فَإِذَا جَازَ لَهُ الْحَجُّ حَيًّا جَازَ لَهُ مَيِّتًا وَكَذَلِكَ مَا تُطُوِّعَ بِهِ عَنْهُ مِنْ صَدَقَةٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَذَهَبَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ ، إِلَى أَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَلْحَقُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ ثَوَابٌ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَلْحَقَهُ الْإِيمَانُ إِذَا مَاتَ كَافِرًا ، بِإِيمَانِ غَيْرِهِ عَنْهُ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَلْحَقَهُ ثَوَابُ فِعْلِ غَيْرِهِ عَنْهُ . وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْمَيِّتَ قَدْ يَلْحَقُهُ الثَّوَابُ بِفِعْلِ غَيْرِهِ عَلَى مَا سَنِصِفُهُ لِقَوْلِهِ

تَعَالَى : إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [ الْأَحْزَابِ : 56 ] . فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالصَّلَاةِ عَلَى نَبِيِّهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ بِمَا لَا يَقْبَلُهُ مِنَ الدُّعَاءِ . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ [ الْحَشْرِ : 10 ] . فَلَوْلَا تَأْثِيرُ هَذَا الدُّعَاءِ عِنْدَهُ لَمَا نَدَبَ إِلَيْهِ . وَرَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، رَوَاهُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ ، أَوْ عِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ ، أَوْ وَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ . وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ أُمِّيَ اقْتَتَلَتْ نَفْسُهَا وَلَوْلَا ذَلِكَ لَتَصَدَّقْتُ وَأَعْطَيْتُ ، أَفَيَجُزْ لِي أَنْ أَتَصَدَّقَ عَنْهَا ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : نَعَمْ فَتَصَدَّقِي عَنْهَا . قَوْلُهَا : اقْتَتَلَتْ نَفْسُهَا ، أَيْ : مَاتَتْ فَلْتَةً مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ . وَرَوَى عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنِ ابِنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ أُمِّي تُوُفِّيَتْ ، أَفَيَنْفَعُهَا أَنْ أَتَصَدَّقَ عَنْهَا ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : فَإِنَّ لِي لَمَخْرَفًا وَأُشْهِدُكَ أَنِّي قَدْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَنْهَا . وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ وَاجِبَةٌ عَلَيْنَا وَهِيَ دُعَاءٌ لَهُ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ لَاحِقًا بِهِ ، مَسْمُوعًا مِنْهُ فِي صَلَاةٍ وَغَيْرِ صَلَاةٍ . وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَحِقَ الْمَيِّتَ قَضَاءُ الدُّيُونِ عَنْهُ حَتَّى لَا يَكُونَ مُؤَاخَذًا بِهَا وَمُعَاقَبًا عَلَيْهَا وَلَعَلَّهُ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ حِينَ جَازَ فِي الصَّدَقَةِ وَإِنْ لَمْ يُوصِ بِهِ حَيًّا . فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [ النَّجْمِ : 39 ] فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ : وَأَنْ لَيْسَ عَلَى الْإِنْسَانِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا [ الْإِسْرَاءِ : 7 ] أَيْ فَعَلَيْهَا ، عَلَى أَنَّ مَا مَاتَ عَنْ غَيْرِهِ فِيهِ ، جَازَ أَنْ يَكُونَ فِي حُكْمِ مَا يَسْعَى فِي قَصْدِهِ . وَأَمَّا الْإِيمَانُ فَإِنَّهُ لَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهِ عَنِ الْحَيِّ ، فَكَذَلِكَ عَنِ الْمَيِّتِ وَلَيْسَ كَالصَّدَقَةِ ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَتَيَسَّرُ حُكْمُ الْإِيمَانِ عَنِ الْإِنْسَانِ إِلَى غَيْرِهِ ، كَمَا يَكُونُ الْأَبُ مُتَيَسِّرًا إِلَى صِغَارِ وَلَدِهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ عَوْدِ الثَّوَابِ إِلَى الْمَيِّتِ ، بِفِعْلِ غَيْرِهِ ، فَمَا يُفْعَلُ عَنْهُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا يَجُوزُ أَنْ يُفْعَلَ عَنْهُ بِأَمْرِهِ وَغَيْرِ أَمْرِهِ .

وَذَلِكَ قَضَاءُ الدُّيُونِ عن الميت وَأَدَاءُ الزَّكَاةِ عن الميت وَفِعْلُ مَا وَجَبَ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ ، وَالدُّعَاءُ لَهُ وَالْقِرَاءَةُ عِنْدَ قَبْرِهِ الميت . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَا لَا يَجُوزُ فِعْلُهُ عَنْهُ بِأَمْرِهِ وَلَا بِغَيْرِ أَمْرِهِ ، وَذَلِكَ كُلُّ مَا لَا تَصِحُّ فِيهِ النِّيَابَةُ مِنَ الْعِبَادَاتِ عن الميت ، كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ ، وَكَانَ فِي الْقَدِيمِ يَرَى جَوَازَ النِّيَابَةِ فِي صَوْمِ الْفَرْضِ إِذَا أَنَابَ عَنْهُ وَارِثٌ ، وَفِي نِيَابَةِ الْأَجْنَبِيِّ عَنْهُ وَجْهَانِ ، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ خِلَافُهُ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا يَجُوزُ أَنْ يُفْعَلَ عَنْهُ بِأَمْرِهِ وَلَا يَجُوزَ أَنْ يُفْعَلَ عَنْهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ ، وَهُوَ النَّذْرُ بِالْعِتْقِ لِمَا فِيهِ مِنْ لُحُوقِ الْوِلَايَةِ . وَالرَّابِعُ : مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُفْعَلَ عَنْهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَفِي فِعْلِهِ عَنْهُ بِأَمْرِهِ قَوْلَانِ وَهُوَ حَجُّ التَّطَوُّعِ عن الميت .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " ( وَقَالَ ) فِي كِتَابٍ آخَرَ : وَلَوْ أَوْصَى لَهُ وَلِمَنْ لَا يُحْصَى بِثُلُثِهِ فَالْقِيَاسُ أَنَّهُ كَأَحَدِهِمْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِزَيْدٍ وَالْمَسَاكِينِ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ زَيْدٍ مِنْ أَنْ يَكُونَ غَنِيًّا أَوْ مِسْكِينًا ، فَإِنْ كَانَ مِسْكِينًا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا يُعْطَى مِنَ الثُّلُثِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ : أَنَّهُ يَكُونُ كَأَحَدِهِمْ يُعْطِيهِ الْوَصِيُّ مَا يَرَاهُ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ ، فَيُعْطَاهُ أَحَدُ الْمَسَاكِينِ وَيُسْتَفَادُ بِتَعَيُّنِهِ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُعْطَى الرُّبُعَ مِنَ الثُّلُثِ الْمُوصَى بِهِ وَيُصْرَفُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ لِلْمَسَاكِينِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ذَكَرَهُ مَعَ جَمْعٍ أَقَلُّهُمْ ثَلَاثَةٌ ، فَصَارَ مَعَهُمْ رَابِعًا ، فَاخْتَصَّ بِالرَّابِعِ اعْتِبَارًا بِالتَّسْوِيَةِ ، ثُمَّ تَجُوزُ الثَّلَاثَةُ الْأَرْبَاعُ فِي أَكْثَرِ مِنْ ثَلَاثَةٍ تَفْضِيلًا وَتَسْوِيَةً . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ يُعْطَى النِّصْفَ مِنَ الثُّلُثِ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الثُّلُثَ مَصْرُوفًا فِي خَمْسِينَ . وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا فَفِيمَا يُعْطَاهُ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا الرُّبُعُ ، وَالثَّانِي النِّصْفُ ، فَأَمَّا جَعْلُهُ كَأَحَدِهِمْ فَلَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ مُخَالَفَتَهُ فِي صِفَتِهِمْ تَقْتَضِي مُخَالَفَتَهُ فِي حُكْمِهِمْ .

فَصْلٌ : فَلَوِ امْتَنَعَ الْمُسَمَّى مَعَ الْمَسَاكِينِ مِنْ قَبُولِ مَا جُعِلَ لَهُ مِنَ الثُّلُثِ لَمْ يَجُزْ رَدُّ حِصَّتِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ ؛ لِأَنَّهُ مُوصًى بِهِ لِغَيْرِهِمْ وَصُرِفَ فِيهِمْ مَا سِوَى قَدْرِ اسْتِحْقَاقِهِ مِنَ الثُّلُثِ . وَهَكَذَا : لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لَزِيدٍ وَلِعَمْرٍو فَقَبِلَ زَيْدٌ وَلَمْ يَقْبَلْ عَمْرٌو ، كَانَ لِزَيْدٍ نِصْفُ الثُّلُثِ وَيَرْجِعُ مَا كَانَ لِعَمْرٍو ، وَلَوْ قَبِلَ كَانَ مِيرَاثًا ، وَلَوْ أَوْصَى بِعَبْدِهِ سَالِمٍ لِزَيْدٍ وَبِبَاقِي ثُلُثِهِ لِعَمْرٍو ، فَمَاتَ عَبْدُهُ سَالِمٌ قَبْلَ دَفْعِهِ فِي الْوَصِيَّةِ ، قُوِّمَ الْعَبْدُ كَمَا لَوْ كَانَ حَيًّا يَوْمَ مَاتَ الْمُوصِي وَأُسْقِطَتْ قِيمَتُهُ مِنَ الثُّلُثِ ، ثُمَّ دُفِعَ إِلَى عَمْرٍو مَا بَقِيَ مِنَ الثُّلُثِ بَعْدَ إِسْقَاطِ قِيمَةِ الْعَبْدِ .



فَصْلٌ : وَإِذَا أَوْصَى لِزَيْدٍ بِدِينَارٍ وَأَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِلْفُقَرَاءِ وَكَانَ زَيْدٌ فَقِيرًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطَى غَيْرَ الدِّينَارِ ؛ لِأَنَّهُ بِالتَّقْدِيرِ قَدْ قَطَعَ اجْتِهَادَ الْوَصِيِّ وَإِعْطَائَهُ زِيَادَةً عَلَى تَقْدِيرِهِ .

فَصْلٌ : وَلَوْ أَوْصَى رَجُلٌ بِثُلُثِ مَالِهِ لِزَيْدٍ وَوَلَدِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِزَيْدٍ وَلَدٌ فَلَهُ نِصْفُ الثُّلُثِ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ ، فَإِنْ كَانَ وَاحِدًا كَانَ الثُّلُثُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَلَدِهِ نِصْفَيْنِ ، سَوَاءٌ كَانَ الْوَلَدُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى ، وَإِنْ كَانُوا عَدَدًا فَفِيمَا لَزِيدٍ مِنْهُ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ لَهُ نِصْفَ الثُّلُثِ . وَالثَّانِي أَنَّهُ كَأَحَدِهِمْ .

فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ : ادْفَعُوا ثُلُثِي إِلَى زَيْدٍ وَإِلَى جِبْرِيلَ الوصية ، دُفِعَ إِلَى زَيْدٍ نِصْفُ الثُّلُثِ وَكَانَ النِّصْفُ الْبَاقِي الَّذِي سَمَّاهُ لِجِبْرِيلَ رَاجِعًا إِلَى وَرَثَتِهِ ، وَلَوْ قَالَ : ادْفَعُوا ثُلُثِي إِلَى زَيْدٍ وَإِلَى الْمَلَائِكَةِ كَانَ فِي قَدْرِ مَا لِزَيْدٍ مِنْهُ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : النِّصْفُ . وَالثَّانِي : الرُّبُعُ وَيُرَدُّ الْبَاقِي عَلَى الْوَرَثَةِ ، وَلَوْ قَالَ : ادْفَعُوا ثُلُثِي إِلَى زَيْدٍ وَالشَّيَاطِينِ الوصية ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ لَهُ جَمِيعَ الثُّلُثِ . وَالثَّانِي : لَهُ نِصْفُ الثُّلُثِ . وَالثَّالِثُ : رُبُعُ الثُّلُثِ ، ثُمَّ يُرَدُّ بَاقِي الثُّلُثِ عَلَى الْوَرَثَةِ ، وَلَوْ قَالَ : اصْرِفُوا ثُلُثِي إِلَى زَيْدٍ وَالرِّيَاحِ الوصية ، كَانَ فِيمَا لَزِيدٍ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا جَمِيعُ الثُّلُثِ ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الرِّيَاحِ لَغْوٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَهُ نِصْفُ الثُّلُثِ ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ الْجِهَتَيْنِ وَيَرْجِعُ النِّصْفُ الْآخَرُ عَلَى الْوَرَثَةِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِبَنِي فُلَانٍ ، فَإِنْ كَانُوا عَدَدًا مَحْصُورًا ، صُرِفَ الثُّلُثُ فِي جَمِيعِهِمْ بِالسَّوِيَّةِ مِنْ غَيْرِ تَفْضِيلِ كَبِيرٍ عَلَى صَغِيرٍ ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِمُ الْإِنَاثُ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ بَنِينَ ، فَإِنْ كَانُوا عَدَدًا لَا يُحْصَرُ كَبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي تَمِيمٍ ، فَفِي الْوَصِيَّةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلَةٌ لِتَعَذُّرِ الْوُصُولِ إِلَى جَمِيعِهِمِ . وَالثَّانِي : جَائِزَةٌ وَيُعْطَى الثُّلُثَ لِثَلَاثَةٍ فَصَاعِدًا عَلَى تَسْوِيَةٍ وَتَفْضِيلٍ كَالْمَسَاكِينِ ، وَيَدْخُلُ الْإِنَاثُ فِيهِمْ عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ اعْتِبَارًا بِالْقَبِيلَةِ . وَهَكَذَا لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِهِ لِأَهْلِ الْبَصْرَةِ ، كَانَ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ إِلَّا أَنْ يَزِيدَ فَقُرَاءُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ ، فَيَجُوزُ وَجْهًا وَاحِدًا .

فَصْلٌ : وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِزَيْدٍ فَفِيمَا لَزِيدٍ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَهُ جَمِيعُ الثُّلُثِ وَيَكُونُ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى افْتِتَاحًا لِلسَّلَامِ تَبَرُّكًا بِاسْمِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ [ الْأَنْفَالِ : 41 ] . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ لِزَيْدٍ نِصْفَ الثُّلُثِ ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ الْجِهَتَيْنِ لِلثُّلُثِ ، وَفِي النِّصْفِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مَصْرُوفًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَهُمُ الْغُزَاةُ . وَالثَّانِي : فِي الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ .

بَابُ الْوَصِيَّةِ لِلْقَرَابَةِ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ

بَابُ الْوَصِيَّةِ لِلْقَرَابَةِ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : " وَلَوْ قَالَ ثُلُثِي لِقَرَابَتِي أَوْ لِذَوِيَّ وَأَرْحُمِي لِأَرْحَامِي فَسَوَاءٌ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ وَالَأُمِّ وَأَقْرَبُهُمْ وَأَبْعَدُهُمْ وَأَغْنَاهُمْ وَأَفْقَرُهُمْ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّهُمْ أُعْطُوا بِاسْمِ الْقَرَابَةِ كَمَا أُعْطِيَ مَنْ شَهِدَ الْقِتَالَ بِاسْمِ الْحُضُورِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ قَبِيلَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ أُعْطِيَ بِقَرَابَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَ الْعَامَّةِ ، فَيُنْظَرُ إِلَى الْقَبِيلَةِ الَّتِي يُنْسَبُ إِلَيْهَا فَيُقَالُ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ ، ثُمَّ يُقَالُ : وَقَدْ تَفْتَرِقُ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ فَمِنْ أَيِّهِمْ ؟ قِيلَ مِنْ بَنِي عَبْدِ يَزِيدَ بْنِ هَاشِمِ بْنِ الْمُطَّلِبِ ، فَإِنْ قِيلَ : أَفَيَتَمَيَّزُ هَؤُلَاءِ ؟ قِيلَ : نَعَمْ . هُمْ قَبَائِلُ ، فَإِنْ قِيلَ : فَمِنْ أَيِّهِمْ ؟ قِيلَ مِنْ بَنِي عُبَيْدِ بْنِ عَبْدِ يَزِيدَ ، فَإِنْ قِيلَ : أَفَيَتَمَيَّزُ هَؤُلَاءِ ؟ قِيلَ : نَعَمْ . بَنُو السَّائِبِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عَبْدِ يَزِيدَ ، فَإِنْ قِيلَ : أَفَيَتَمَيَّزُ هَؤُلَاءِ ؟ قِيلَ : نَعَمْ . بَنُو شَافِعٍ وَبَنُو عَلِيٍّ وَبَنُو عَبَّاسٍ ، أَوْ عَيَّاشٍ شَكَّ الْمُزَنِيُّ وَكُلُّ هَؤُلَاءِ بَنُو السَّائِبِ ، فَإِنْ قِيلَ : أَفَيَتَمَيَّزُ هَؤُلَاءِ ؟ قِيلَ : نَعَمْ كُلُّ بَطْنٍ مِنْ هَؤُلَاءِ يَتَمَيَّزُ عَنْ صَاحِبِهِ ، فَإِذَا كَانَ مِنْ آلِ شَافِعٍ قِيلَ لِقَرَابَتِهِ هُمْ آلُ شَافِعٍ دُونَ آلِ عَلِيٍّ وَالْعَبَّاسِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ هَؤُلَاءِ مُتَمَيِّزٌ ظَاهِرٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْوَصِيَّةُ لِلْأَقَارِبِ فَمُسْتَحَبَّةٌ وَغَيْرُ وَاجِبَةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ [ النِّسَاءِ : 8 ] وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى وُجُوبِهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ [ الْإِسْرَاءِ : 26 ] . وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى بُطْلَانِهَا لِلْجَهْلِ بِعَدَدِهِمْ وَأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ قَرَابَةٌ ؛ لِأَنَّ أَبَاهُمْ يَجْمَعُهُمْ . وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ فَاسِدٌ ، أَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ فَمَا قَدَّمْنَا مِنَ الْآيَةِ . وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْأَقَارِبِ بَاطِلَةٌ لِلْجَهْلِ بِعَدَدِهِمْ فَمُنْتَقَضٌ بِالزَّكَاةِ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِإِخْرَاجِهَا إِلَى أَقْوَامٍ لَا يَنْحَصِرُ عَدَدُهُمْ ، ثُمَّ هِيَ وَاجِبَةٌ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الْوَصِيَّةِ لِلْقَرَابَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مُسْتَحِقِّ الْوَصِيَّةِ مِنْهُمْ عِنْدَ إِطْلَاقِ ذِكْرِهِمْ . فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : هُمْ كُلُّ ذِي رَحِمِ مَحْرَمٍ . وَقَالَ مَالِكٌ : هُمْ كُلُّ مَنْ جَازَ أَنْ يَرِثَ دُونَ مَنْ لَا يَرِثُ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : هُمْ كُلُّ مَنْ جَمَعَهُ وَإِيَّاهُمْ أَوَّلُ أَبٍ فِي الْإِسْلَامِ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهُمُ الْمَنْسُوبُونَ فِي عُرْفِ النَّاسِ إِلَى قَرَابَتِهِ الْمَخْصُوصَةِ إِذَا كَانَ

اسْمُ الْقَرَابَةِ فِي الْعُرْفِ جَامِعًا لَهُمْ ؛ لِأَنَّ عُرْفَ الشَّرْعِ فِي سَهْمِ ذِي الْقُرْبَى لَمْ يَخُصَّ قَرِيبًا مِنْ بَعِيدٍ فَبَطَلَ بِهِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ جَعَلَ ذَلِكَ لِذَوِي الْأَرْحَامِ الْمَحَارِمِ وَبَطَلَ بِهِ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ حَيْثُ جَعَلَهُ لِمَنْ جَمَعَهُ أَوَّلُ أَبٍ فِي الْإِسْلَامِ ، وَلِأَنَّ اسْمَ الْقَرَابَةِ يَنْطَلِقُ فِي الْعُرْفِ عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ مِنَ الْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ ، فَبَطَلَ بِهِ قَوْلُ مَالِكٍ ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ كَلَامِ الْمُوصِي مَحْمُولٌ عَلَى الْعُرْفِ شَرْعًا أَوْ عَادَةً ، وَعُرْفُهَا جَمِيعًا بِمَا قُلْنَا .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ مَا انْطَلَقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْقَرَابَةِ عُرْفًا وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ ، فَاعْتِبَارُهُ أَنْ يُنْظَرَ فِي الْمُوصِي ، فَإِنْ كَانَ عَرَبِيًّا خَرَجَ مِنْهُ الْعَجَمُ وَلَمْ يُدْفَعْ إِلَى كُلِّ الْعَرَبِ حَتَّى يُقَالَ مِنْ أَيِّهِمْ ، فَإِذَا قِيلَ مِنْ مُضَرَ ، قِيلَ مِنْ أَيِّهِمْ ؟ وَلِمَ يُدْفَعُ إِلَى جَمِيعِ مُضَرَ ، فَإِذَا قِيلَ مِنْ قُرَيْشٍ لَمْ يُدْفَعْ إِلَى جَمِيعِهِمْ وَقِيلَ مِنْ أَيِّ قُرَيْشٍ ؟ فَإِذَا قِيلَ بَنِي هَاشِمٍ لَمْ يُدْفَعْ إِلَى جَمِيعِهِمْ وَقِيلَ مِنْ أَيِّ بَنِي هَاشِمٍ ؟ فَإِذَا قِيلَ : مِنْ عَبَّاسٍ لَمْ يُدْفَعْ إِلَى كُلِّ عَبَّاسِيٍّ وَإِنْ قِيلَ : طَالِبِيٌّ . لَمْ يُدْفَعْ إِلَى كُلِّ طَالِبِيٍّ . فَإِذَا قِيلَ فِي الْعَبَّاسِ : مَنْصُورِيٌّ . لَمْ يُدْفَعْ إِلَى جَمِيعِهِمْ حَتَّى يُقَالَ مِنْ بَنِي الْمَأْمُونِ أَوْ مِنْ بَنِي الْمُهْتَدِي ، فَيَدْفَعُ ذَلِكَ إِلَى آلِ الْمَأْمُونِ وَآلِ الْمُهْتَدِي . فَإِنْ قِيلَ فِي الْمُطَّلِبِ أَنَّهُ عَلَوِيٌّ لَمْ يُدْفَعْ إِلَى جَمِيعِهِمْ حَتَّى يُقَالَ مِنْ أَيِّهِمْ ، فَإِذَا قِيلَ : حُسَيْنِيٌّ لَمْ يُدْفَعْ إِلَى جَمِيعِهِمْ حَتَّى يُقَالَ مِنْ أَيِّهِمْ ، فَإِذَا قِيلَ زَيْدِيٌّ أَوْ مُوسَوِيٌّ دُفِعَ ذَلِكَ إِلَى آلِ زَيْدٍ وَآلِ مُوسَى . وَقَدْ شَبَّهَ الشَّافِعِيُّ ذَلِكَ بِنَسَبِهِ ، وَسَوَاءٌ اجْتَمَعُوا إِلَى أَرْبَعَةِ آبَاءٍ أَوْ أَبْعَدَ . وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ مَنِ اجْتَمَعَ مَعَهُ مِنَ الْأَبِ الرَّابِعِ كَانَ مِنْ قَرَابَتِهِ . وَمَنِ اجْتَمَعَ بَعْدَ الرَّابِعِ خَرَجَ مِنَ الْقَرَابَةِ ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الرَّابِعَ جُعِلَ قَرَابَةَ مَنِ اجْتَمَعَ مَعَهُ فِي الْأَبِ الرَّابِعِ . وَهَذَا خَطَأٌ ؛ لِأَنَّ جَعْلَهُمْ قَرَابَةً اعْتِبَارًا بِالنَّسَبِ الْأَشْهَرِ لَا تَعْلِيلًا بِالْأَبِ الرَّابِعِ .

فَصْلٌ : وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ قَرَابَتُهُ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ ، أَوْ قَرَابَتِهِ مِنْ جِهَةِ أُمِّهِ ، فَتُعْتَبَرُ قَرَابَةُ أُمِّهِ كَمَا اعْتَبَرْنَا قَرَابَةَ أَبِيهِ الوصية ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ : لِذَوِي أَرْحَامِي ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ لِقَرَابَتِهِ ، فَيُدْفَعُ إِلَى مَنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ وَمَنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ أُمِّهِ . وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الْقَرَابَةَ مَنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ ، وَذَوِي الْأَرْحَامِ مَنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ . وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ عُرْفَ النَّاسِ فِي الِاسْمَيْنِ يَنْطَلِقُ عَلَى مَنْ كَانَ مِنَ الْجِهَتَيْنِ .

فَصْلٌ : وَسَوَاءٌ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ قَرِيبًا أَوْ بَعِيدًا .

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْقَرِيبُ مِنْهُمْ أَحَقُّ مِنَ الْبَعِيدِ ، فَجَعَلَ الْإِخْوَةَ أَوْلَى مِنْ بَنِيهِمْ وَبَنِي الْإِخْوَةِ أَوْلَى مِنَ الْأَعْمَامِ ، فَأَمَّا بَنُو الْأَعْمَامِ فَلَيْسُوا عِنْدَهُ مِنَ الْقَرَابَةِ . وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْقَرَابَةِ إِذَا انْطَلَقَ عَلَيْهِمْ مَعَ عَدَمِ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ ، انْطَلَقَ عَلَيْهِمْ مَعَ وُجُودِ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ .

فَصْلٌ : وَسَوَاءٌ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا . وَقَالَ مَالِكٌ : يَخْتَصُّ بِهِ الْفُقَرَاءُ مِنْهُمْ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ . وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّهُمْ أُعْطَوْا بِالِاسْمِ لَا بِالْحَاجَةِ فَاسْتَوَى فِيهِ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ كَالْمِيرَاثِ وَسَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى .

فَصْلٌ : وَيُسَوِّي بَيْنَ ذُكُورِهِمْ وَإِنَاثِهِمْ . وَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ أَنَّهُ يُعْطِي الذَّكَرَ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ الوصية للأقارب ، كَسَهْمِ ذِي الْقُرْبَى . وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّهَا عَطِيَّةٌ لِمُسَمَّى فَأَشْبَهَتِ الْهِبَاتِ وَالصَّدَقَاتِ ، وَأَمَّا سَهْمُ ذِي الْقُرْبَى فَإِنَّهُمْ لَمْ يَسْتَحِقُّوهُ بِالْقَرَابَةِ وَحْدَهَا ، وَإِنَّمَا اسْتَحَقُّوهُ بِالنُّصْرَةِ مَعَ الْقَرَابَةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَخْرَجَ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَنَوْفَلٍ وَأَدْخَلَ بَنِي الْمُطَّلِبِ وَقَرَابَتَهُمْ وَاحِدَةً ؛ لِأَنَّ بَنِي الْمَطَّلِبِ نَصَرُوا بَنِي هَاشِمٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ وَإِذَا اسْتَحَقُّوا بِالنُّصْرَةِ مَعَ الْقَرَابَةِ ، فُضِّلَ الرِّجَالُ عَلَى النِّسَاءِ لِاخْتِصَاصِهِمْ بِالنُّصْرَةِ .

فَصْلٌ : وَيَدْخُلُ فِيهِمْ مَنْ لَمْ يَرِثْ مِنَ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ . وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ الْآبَاءَ وَالْأَبْنَاءَ مِنَ الْقَرَابَةِ وَهَذَا خَطَأٌ لِمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [ الْبَقَرَةِ : 180 ] أَنَّهُمُ الْأَوْلَادُ . وَلَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [ الشُّعَرَاءِ : 214 ] . كَانَتْ فَاطِمَةُ فِي جُمْلَةِ مَنْ دَعَاهَا لِلْإِنْذَارِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا نُظِرَ فِي أَقَارِبِهِ ، فَإِنْ كَانُوا عَدَدًا مَحْصُورًا فُرِّقَ الثُّلُثُ عَلَى جَمِيعِهِمْ بِالتَّسْوِيَةِ القرابة في الوصية بَيْنَ قَرِيبِهِمْ وَبِعِيدِهِمْ وَصَغِيرِهِمْ وَكَبِيرِهِمْ وَغَنِيِّهِمْ وَفَقِيرِهِمْ ، ذُكُورِهِمْ وَإِنَاثِهِمْ ، وَلَوْ مُنِعَ أَحَدُهُمْ مِنْ سَهْمِهِ كَانَ الْوَصِيُّ الْمَانِعُ لَهُ ضَامِنًا بِقَدْرِ حَقِّهِ ، وَلَوْ رَدَّ أَحَدُهُمْ سَهْمَهُ مِنَ الْوَصِيَّةِ وَلَمْ يَقْبَلْ كَانَ رَاجِعًا إِلَى الْوَرَثَةِ فِي التَّرِكَةِ وَلَا يَرْجِعُ إِلَى بَاقِي الْقَرَابَةِ . وَإِنْ كَانَ أَقَارِبُهُ عَدَدًا كَبِيرًا لَا يَنْحَصِرُونَ جَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِهِمْ كَالْفُقَرَاءِ ، فَيَدْفَعُهُ إِلَى ثَلَاثَةٍ فَصَاعِدًا مِنْهُمْ وَيَجُوزُ لَهُ التَّفْضِيلُ بَيْنَهُمْ ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ لَمْ يَلْزَمْ إِعْطَاءُ الْجَمِيعِ ، لَمْ يَحْرُمِ التَّفْضِيلُ ، فَلَوْ أَنَّ مَنْ صُرِفَ الثُّلُثُ إِلَيْهِ لَمْ يَقْبَلْهُ ، لَمْ يَعُدْ مِيرَاثًا وَصُرِفَ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْقَرَابَةِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ فَلَا يَدْخُلَانِ فِي اسْمِ الْقَرَابَةِ وَكَذَلِكَ الْمُعْتَقُ وَالرَّضِيعُ .

وَلَوْ أَوْصَى لِأَهْلِهِ فَهُمُ الْقَرَابَةُ ، وَفِي دُخُولِ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ مَعَهُمْ دُونَ الْمُعْتَقِ وَالرَّضِيعِ وَجْهَانِ ، وَلَكِنْ لَوْ أَوْصَى لِعُصْبَتِهِ دَخَلَ فِيهِمُ الْمُعْتَقُ دُونَ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ وَدُونَ ذَوِي الْأَرْحَامِ وَإِنْ كَانُوا قَرَابَةً .

فَصْلٌ : وَلَوْ أَوْصَى لِمَنَاسِبِهِ فَهُوَ لِمَنْ يَنْتَسِبُ إِلَى الْمُوصِي مِنْ أَوْلَادِهِ الَّذِينَ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ فِي نَسَبِهِمْ دُونَ مَنْ عَلَا مِنْ آبَائِهِ الَّذِي يَرْجِعُ الْمُوصِي إِلَيْهِمْ فِي نَسَبِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ نَسَبَهُمْ إِلَيْهِ وَنَسَبُ الْآبَاءِ لَا يَرْجِعُ إِلَى الْوَلَدِ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي دُخُولِ أَوْلَادِ بَنَاتِهِ فِيهِمْ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَدْخُلُونَ فِيهِمْ لِأَنَّهُمْ مِنْ وَلَدِهِ . وَالثَّانِي وَهُوَ أَشْبَهُ أَنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ فِيهِ لِأَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ فِي النَّسَبِ إِلَى آبَائِهِمْ . وَلَكِنْ لَوْ قَالَ : ادْفَعُوا ثُلُثِي لِمَنْ أُنَاسِبُهُ ، دَخَلَ فِيهِمُ الْآبَاءُ دُونَ الْأَبْنَاءِ وَدَخَلَ فِيهِمُ الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ وَالْأَعْمَامُ وَالْعَمَّاتُ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي دُخُولِ الْأَجْدَادِ فِيهِمْ وَالْجَدَّاتِ الوصية بالقرابة عَلَى وَجْهَيْنِ كَاخْتِلَافِهِمْ فِي أَوْلَادِ الْبَنَاتِ ، وَلَكِنْ لَا يَدْخُلُ فِيهِمُ الْأَخْوَالُ وَالْخَالَاتُ وَلَا الْإِخْوَةُ لِلْأُمِّ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مَنَاسِبِهِ ، بِخِلَافِ الْأُمِّ الْمُخْتَصَّةِ بِالْوِلَادَةِ وَالْبَعْضِيَّةِ .

فَصْلٌ : وَلَوْ أَوْصَى لِوَرَثَةِ زَيْدٍ فَالْوَصِيَّةُ مَوْقُوفَةٌ حَتَّى يَمُوتَ زَيْدٌ ، ثُمَّ تُدْفَعُ الْوَصِيَّةُ إِلَى مَنْ وَرِثَهُ ، وَلَا اعْتِبَارَ بِمَنْ كَانَ مَنْسُوبًا إِلَى وَرَثَتِهِ فِي حَيَاتِهِ ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ مَنْ حَازَ الْمِيرَاثَ وَقَدْ يَجُوزُ أَلَّا يَرِثَهُ هَؤُلَاءِ لِحُدُوثِ مَنْ يَحْجُبُهُمْ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَوْ قَالَ لِأَقْرَبِهِمْ بِي رَحِمًا أُعْطِيَ أَقْرَبُهُمْ بِأَبِيهِ وَأُمِّهِ سَوَاءً وَأَيُّهُمْ جَمَعَ قَرَابَةَ الْأَبِ وَالْأُمِّ كَانَ أَقْرَبَ مِمَّنِ انْفَرَدَ بِأَبٍ أَوْ أُمٍّ ، فَإِنْ كَانَ أَخًا وَجَدًّا لِلْأَخِ فِي قَوْلِ مَنْ جَعَلَهُ أَوْلَى بِوَلَاءِ الْمَوَالِي " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا فِي الْوَصِيَّةِ لِلْقَرَابَةِ أَنَّهُ يَشْتَرِكُ فِيهَا الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ إِذَا كَانَ اسْمُ الْقَرَابَةِ عَلَيْهِمْ مُنْطَلِقًا ، أَوْ كَانَ فِي جُمْلَتِهُمْ دَاخِلًا . فَأَمَّا إِذَا قَالَ ثُلُثِي لِأَقْرَبِ النَّاسِ إِلَيَّ ، أَوْ قَالَ لِأَقْرَبِهِمْ رَحِمًا لِي ، فَلَا حَقَّ فِيهِ لِلْأَبْعَدِ مَعَ وُجُودِ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ ، وَإِذَا كَانَ هَكَذَا رَاعَيْتَ الدَّرَجَةَ ، فَأَيُّهُمَا كَانَ أَقْرَبَ كَانَ أَحَقَّ وَإِنِ اسْتَوَتِ الدَّرَجَةُ تَشَارَكُوا ، وَيَسْتَوِي فِيهِ مَنْ أَدْلَى بِأُمٍّ وَمَنْ أَدْلَى بِأَبٍ ، فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ أَدْلَى بِالْأَبَوَيْنِ مَعًا كَانَ أَوْلَى مِمَّنْ أَدْلَى بِأَحَدِهِمَا . فَعَلَى هَذَا الْأَوْلَادُ عَمُودٌ وَهُمْ أَقْرَبُ مِنَ الْآبَاءِ ، لِأَنَّهُمْ بَعْضُ الْمُوصِي وَأَقْرَبُ الْأَوْلَادِ صُلْبُهُ ، فَإِنْ كَانَ وَاحِدًا أَخَذَ الثُّلُثَ كُلَّهُ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا وَارِثًا أَوْ غَيْرَ وَارِثٍ إِذَا أَجَازَ الْوَرَثَةُ الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لِقَرَابَتِي ، فَلَا يَدْخُلُ فِيهِمْ وَارِثٌ ؛ لِأَنَّهُ بِالْأَقْرَبِ قَدْ عُيِّنَ بِهِ ، ثُمَّ هُوَ بَعْدَ أَوْلَادِ صُلْبِهِ لِأَوْلَادِ وَلَدِهِ دُونَ مَنْ نَزَلَ عَنْهُمْ بِدَرَجَةٍ ، يَسْتَوِي فِيهِ

أَوْلَادُ الْبَنِينَ وَأَوْلَادُ الْبَنَاتِ ، ثُمَّ هُوَ بَعْدَهُمْ لِأَوْلَادِهِمْ وَأَهْلُ الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ ، ثُمَّ هُوَ بَعْدَ الثَّالِثَةِ لِأَهْلِ الدَّرَجَةِ الرَّابِعَةِ هَكَذَا أَبَدًا . فَإِذَا عُدِمَ عَمُودُ الْأَوْلَادِ ، فَالْأَبَوَانِ وَهُمَا الْأَبُ وَالْأُمُّ يَشْتَرِكَانِ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِمَا ، فَإِنْ عُدِمَ أَحَدُهُمَا كَانَ الثُّلُثُ لِلْبَاقِي مِنْهُمَا ، سَوَاءٌ كَانَ أَبًا أَوْ أُمًّا . فَإِنْ عُدِمَ الْأَبَوَانِ فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْإِخْوَةَ وَالْأَخَوَاتِ أَقْرَبُ مِنَ الْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ رَاكَضُوهُ فِي الرَّحِمِ ، فَإِنْ كَانُوا لِأَبٍ فَهُوَ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ وَإِنْ كَانُوا لِأُمٍّ فَهُوَ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِأَبٍ وَبَعْضُهُمْ لِأُمٍّ فَهُوَ بَيْنَ جَمِيعِهِمْ ذَكَرُهُمْ وَأُنْثَاهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِأَبٍ وَبَعْضُهُمْ لِأُمٍّ بِالسَّوِيَّةِ وَبَعْضُهُمْ لِأَبٍ وَأُمٍّ ، فَمَنْ كَانَ لِأَبٍ وَأُمٍّ فَهُوَ أَقْرَبُ وَأَحَقُّ لِقُوَّتِهِ بِهَا عَلَى مَا تَفَرَّدَ بِأَحَدِهِمَا . ثُمَّ بَعْدَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ بَنُوهُمْ وَبَنُو بَنِيهِمْ وَإِنْ سَفِلُوا يَكُونُوا أَقْرَبَ مِنَ الْجَدِّ وَإِنْ دَنَا ، وَيَشْتَرِكُ فِي ذَلِكَ أَوْلَادُ الْإِخْوَةِ وَأَوْلَادُ الْأَخَوَاتِ كَمَا اشْتَرَكُوا فِيهِ أَوْلَادُ الْبَنِينَ وَأَوْلَادُ الْبَنَاتِ ؛ لِأَنَّهُمْ أَخَذُوا بِاسْمِ الْقَرَابَةِ لَا بِالْمِيرَاثِ ، ثُمَّ هَكَذَا بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ . وَإِذَا عُدِمُوا عَدَلْنَا حِينَئِذٍ إِلَى الْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ ، فَيَكُونُ بَعْدَهُمْ لِجَدَّيْنِ وَجَدَّتَيْنِ ، جَدٍّ وَجَدَّةٍ لِأَبٍ وَجَدٍّ وَجَدَّةٍ لِأُمٍّ فَيَنْقَسِمُ بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَعْمَامٌ وَلَا عَمَّاتٌ فَهُمْ بَعْدَهُمْ لِأَرْبَعَةِ أَجْدَادٍ وَأَرْبَعِ جَدَّاتٍ بَعْدَ ثَلَاثٍ دَرَجَةٌ فَيَنْقَسِمُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا . ثُمَّ هُوَ فِي الدَّرَجَةِ الرَّابِعَةِ بَيْنَ ثَمَانِيَةِ أَجْدَادٍ وَثَمَانِ جَدَّاتٍ ، وَإِنْ كَانَ مَعَ جَدِّ الْأَبِ أَعْمَامٌ وَعَمَّاتٌ وَمَعَ جَدِّ الْأُمِّ أَخْوَالٌ وَخَالَاتٌ ، فَفِيهِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْأَعْمَامَ وَالْعَمَّاتِ أَوْلَى مِنْ جَدِّ الْأَبِ وَجَدَّتِهِ وَالْأَخْوَالَ وَالْخَالَاتِ أَوْلَى مِنْ جَدِّ الْأُمِّ وَجَدَّتِهَا ، كَمَا كَانَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْإِخْوَةُ أَوْلَى مِنَ الْجَدَّةِ وَيُشْرَكُ بَيْنَ الْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ وَبَيْنَ الْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الدَّرَجَةِ وَتَكَافُئِهِمَا فِي الْقُرْبِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُمْ يُشَارِكُونَ أَجْدَادَ الْأَبَوَيْنِ وَجَدَّاتِهِمَا . فَعَلَى هَذَا يُجْمَعُ مَعَ الْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ وَمَعَ الْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ أَرْبَعَةُ أَجْدَادٍ وَأَرْبَعُ جَدَّاتٍ ، فَيَنْقَسِمُ ذَلِكَ بَيْنَ جَمِيعِهِمْ بِالسَّوِيَّةِ .

فَصْلٌ : وَالْقَوْلُ الثَّانِي فِي الْأَهْلِ . أَنَّ الْجَدَّةَ وَالْإِخْوَةَ سَوَاءٌ في القربة لِاجْتِمَاعِهِمْ فِي الْإِدْلَاءِ بِالْأَدَبِ . وَعَلَى هَذَا يُشْرَكُ بَيْنَ الْإِخْوَةِ وَبَيْنَ الْأَخَوَاتِ وَبَيْنَ جَدَّيْنِ وَجَدَّتَيْنِ جَدُّ جَدَّةٍ لِأَبٍ وَجَدُّ جَدَّةٍ لِأُمٍّ وَيَكُونُ الْجَدَّانِ وَالْجَدَّتَانِ أَوْلَى مِنْ وَلَدِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ ، ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَ الْجَدِّ وَالْجَدَّةِ لِجَدِّ الْأَبِ وَجَدَّتِهِ وَلِجَدِّ الْأُمِّ وَجَدَّتِهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ جَدِّ الْأَبِ وَجَدَّتِهِ عَمٌّ وَلَا عَمَّةٌ وَلَا مَعَ جَدِّ الْأُمِّ وَجَدَّتِهَا خَالٌ وَلَا خَالَةٌ .

فَيَنْقَسِمُ ذَلِكَ بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَجْدَادٍ وَأَرْبَعِ جَدَّاتٍ أَثْمَانًا وَجَدَّانِ وَجَدَّتَانِ لِلْأَبِ وَجَدَّانِ وَجَدَّتَانِ لِلْأُمِّ . وَإِنْ كَانَ مَعَ جَدِّ الْأَبِ وَجَدَّتِهِ عَمٌّ وَعَمَّةٌ وَمَعَ جَدِّ الْأُمِّ وَجَدَّتِهَا خَالٌ وَخَالَةٌ ، فَفِيهِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْعَمَّ وَالْعَمَّةَ وَالْخَالَ وَالْخَالَةَ يُسَاوِي جَدَّ الْأَبَوَيْنِ وَجَدَّتَيْهِمَا فَتُقَسَّمُ بَيْنَ الْعَمِّ وَالْعَمَّةِ وَالْخَالِ وَالْخَالَةِ وَبَيْنَ أَرْبَعَةِ أَجْدَادٍ وَأَرْبَعِ جَدَّاتٍ كَمَا تُشَارِكُ الْإِخْوَةُ وَالْجَدُّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ جَدَّيِ الْأَبَوَيْنِ وَجَدَّتَيْهِمَا أَوْلَى مِنَ الْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ وَمِنَ الْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ لِاخْتِصَاصِهِمْ بِالْبَعْضِيَّةِ .

فَصْلٌ : فَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْمُقَرَّرِ يَكُونُ التَّفْرِيعُ لِيَتَّضِحَ وَيَبِينَ ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَجْتَمِعَ جَدٌّ لِأَبٍ وَأَخٌ لِأُمٍّ في الميراث ، فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْأَخَّ لِلْأُمِّ أَوْلَى . وَالثَّانِي : أَنَّهُ وَالْجَدَّ سَوَاءٌ . وَهَكَذَا لَوِ اجْتَمَعَ جَدٌّ لِأُمٍّ وَأَخٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ في الميراث كَانَ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : اسْتَوَيَا . وَالثَّانِي : يُقَدَّمُ الْأَخُ . وَلَوِ اجْتَمَعَ جَدٌّ وَابْنُ أَخٍ إذا ، فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ : أَنَّ الْجَدَّ أَوْلَى . وَالثَّانِي : أَنَّ ابْنَ الْأَخِ أَوْلَى . وَلَا يُشْرَكُ بَيْنَهُمَا عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا . وَلَوِ اجْتَمَعَ جَدٌّ وَعَمٌّ إذا ، كَانَ الْجَدُّ أَوْلَى ، وَلَوِ اجْتَمَعَ جَدَّانِ وَعَمٌّ إذا ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ جَدَّ الْأَبِ أَوْلَى . وَالثَّانِي : أَنَّ الْعَمَّ أَوْلَى . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُمَا سَوَاءٌ . وَهَكَذَا لَوْ كَانَ مَعَ جَدِّ الْأَبِ عَمَّةٌ ، أَوْ خَالٌ ، أَوْ خَالَةٌ ، أَوْ كَانَ مَعَ الْعَمِّ وَالْعَمَّةِ وَالْخَالِ وَالْخَالَةِ جَدَّةٌ أَنَّهُ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ . وَلَوِ اجْتَمَعَ جَدٌّ لِأُمٍّ وَخَالٌ وَخَالَةٌ إذا ، كَانَ عَلَى هَذِهِ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ : أَحَدُهَا : أَنَّ جَدَّ الْأُمِّ أَوْلَى . وَالثَّانِي : أَنَّ الْخَالَ وَالْخَالَةَ أَوْلَى . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُمْ سَوَاءٌ . وَهَكَذَا لَوْ كَانَ مَعَ جَدِّ الْأُمِّ أَوْ مَعَ جَدَّةِ الْأُمِّ عَمَّةٌ وَعَمٌّ ، كَانَ عَلَى هَذِهِ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَمِّ وَالْخَالِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ جَدِّ الْأَبِ وَجَدِّ الْأُمِّ . وَهَكَذَا لَوِ اجْتَمَعَ جَدَّانِ وَابْنُ عَمٍّ كَانَ جَدُّ الْأَبِ أَوْلَى ، وَهَكَذَا لَوِ اجْتَمَعَ جَدُّ أُمٍّ وَابْنُ خَالٍ كَانَ جَدُّ الْأُمِّ أَوْلَى ، وَهَكَذَا لَوِ اجْتَمَعَ جَدُّ أُمٍّ وَابْنُ عَمٍّ كَانَ جَدُّ الْأُمِّ أَوْلَى ، وَلَوِ اجْتَمَعَ جَدُّ جَدٍّ وَابْنُ عَمٍّ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : مِثْلُ جَدٍّ وَابْنِ أَخٍ ، أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْجَدَّ أَوْلَى ، وَالثَّانِي : أَنَّ الْعَمَّ أَوْلَى وَلَا يَجِيءُ الْوَجْهُ الثَّالِثُ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا ، كَمَا لَا يُسَوَّى بَيْنَ الْجَدِّ وَابْنِ الْأَخِ ، فَهَذَا مُسْتَمِرٌّ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي

بَيَّنَّاهُ ، ثُمَّ إِنْ كَانَ الْأَقْرَبُ إِلَيْهِ وَاحِدًا انْفَرَدَ بِالْوَصِيَّةِ وَإِنْ كَانُوا عَدَدًا ، اشْتَرَكُوا فِيهِ بِالسَّوِيَّةِ وَلَمْ يَخْتَصَّ بِهِ بَعْضُهُمْ .

فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ ادْفَعُوا ثُلُثِي إِلَى جَمَاعَةٍ مِنْ أَقْرَبِ النَّاسِ مِنِّي الوصية ، وَكَانَ الْأَقْرَبُ إِلَيْهِ وَاحِدًا ، ضُمَّ إِلَيْهِ مَنْ هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُ لِيُصْرَفَ فِي ثَلَاثَةٍ هُمْ أَقَلُّ الْجَمْعِ . فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ ثَلَاثَةُ بَنِي ابْنٍ بَعْضُهُمْ أَسْفَلُ مِنْ بَعْضٍ ، دُفِعَ إِلَى الْأَوَّلِ ثُلُثٌ وَإِلَى الثَّانِي ثُلُثٌ وَإِلَى الثَّالِثِ ثُلُثٌ ، لِيَكُونَ الثُّلُثُ مَقْسُومًا بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا ، فَلَوْ كَانَ الْبَطْنُ الثَّالِثُ مِنْ بَنِي الِابْنِ ثَلَاثَةً قُسِّمَ الثُّلُثُ أَثْلَاثًا فَدُفِعَ إِلَى الْأَوَّلِ ثُلُثٌ وَإِلَى الثَّانِي ثُلُثٌ وَجُعِلَ الثُّلُثُ الثَّالِثُ بَيْنَ ثَلَاثَتِهِمْ مِنَ الْبَطْنِ الثَّالِثِ أَثْلَاثًا وَلَمْ يَخُصَّ بِهِ بَعْضَهُمْ لِاسْتِوَائِهِمْ فِي الدَّرَجَةِ ، فَيَصِيرُ الثُّلُثُ مَقْسُومًا بَيْنَهُمْ عَلَى تِسْعَةٍ . وَلَوْ كَانَ لَهُ بِنْتُ بِنْتٍ وَخَمْسُ أَخَوَاتٍ الوصية ، كَانَ لِبِنْتِ الْبِنْتِ ثُلُثُ الثُّلُثِ وَلِلْأَخَوَاتِ ثُلُثَاهُ . وَلَوْ كَانَ لَهُ أَخٌ وَبِنْتُ أَخٍ وَعَشَرَةُ أَعْمَامٍ ، كَانَ لِلْأَخِ ثُلُثُ الثُّلُثِ وَلِبِنْتِ الْأَخِ ثُلُثٌ آخَرُ وَكَانَ الثُّلُثُ الثَّالِثُ بَيْنَ الْأَعْمَامِ الْعَشَرَةِ عَلَى عَشَرَةٍ ، فَيَصِيرُ الثُّلُثُ مَقْسُومًا بَيْنَهُمْ عَلَى ثَلَاثِينَ سَهْمًا .

فَصْلٌ : وَإِذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لاثنين مات أحدهما في حياة الموصي لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو فَمَاتَ عَمْرٌو بَعْدَ الْوَصِيَّةِ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي : كَانَ لِزَيْدٍ نِصْفُ الثُّلُثِ ، وَلَوْ كَانَ عَمْرٌو عِنْدَ الْوَصِيَّةِ مَيِّتًا ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لِزَيْدٍ جَمِيعُ الثُّلُثِ ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَمَّا لَمْ تَصِحَّ لِمَيِّتٍ صَارَ الثُّلُثُ كُلُّهُ لِلْحَيِّ ، بِخِلَافِ مَوْتِهِ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ . وَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ : لَا يَكُونُ لِزَيْدٍ إِلَّا نِصْفُ الثُّلُثِ كَمَا لَوْ مَاتَ عَمْرٌو بَعْدَ الْوَصِيَّةِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لِزَيْدٍ مَعَ الشَّرِيكِ فِي الْوَصِيَّةِ إِلَّا نِصْفُهَا كَمَا لَوْ مَاتَ بَعْدَهَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

بَابُ مَا يَكُونُ رُجُوعًا فِي الْوَصِيَّةِ

بَابُ مَا يَكُونُ رُجُوعًا فِي الْوَصِيَّةِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَإِذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِعَبْدٍ بِعَيْنِهِ ، ثُمَّ أَوْصَى بِهِ لِآخَرَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ لِلْمُوصِي الرُّجُوعَ فِي وَصِيَّتِهِ ؛ لِأَنَّهَا عَطِيَّةٌ لَمْ يَزُلْ عَنْهَا مِلْكُ مُعْطِيهَا فَأَشْبَهَتِ الْهِبَاتِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَإِنَّمَا لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ فِي عَطَايَا مَرَضِهِ لِزَوَالِ مِلْكِهِ . ثُمَّ الرُّجُوعُ فِي الْوَصِيَّةِ يَكُونُ بِقَوْلٍ أَوْ دَلَالَةٍ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ . وَإِذَا كَانَ حُكْمُ الْوَصِيَّةِ جَارِيًا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فَصُورَةُ مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ فِي رَجُلٍ أَوْصَى بِعَبْدِهِ لِزَيْدٍ ، ثُمَّ أَوْصَى بِهِ لِعَمْرٍو فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي حُكْمِ ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا وَهُوَ مَذْهَبُ دَاوُدَ : أَنَّهُ يَكُونُ وَصِيَّةً لِلْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ . وَالثَّانِي وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ : أَنَّهُ يَكُونُ وَصِيَّةً لِلثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ بِالرُّجُوعِ أَشْبَهُ . وَالثَّالِثُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنٍ الشَّافِعِيِّ : أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِهَا بَاطِلَةٌ لَا تَصِحُّ لِوَاحِدٍ مِنْهَا لِإِشْكَالِ حَالِهِمَا . وَالرَّابِعُ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَبَى حَنِيفَةَ : أَنَّهَا تَكُونُ وَصِيَّةً لَهُمَا فَتُجْعَلُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ . وَهَكَذَا لَوْ أَوْصَى بِهِ لِثَالِثٍ ، جَعَلْنَاهُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا ، وَلَوْ أَوْصَى بِهِ لِرَابِعٍ جَعَلْنَاهُ بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا . وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ ثَلَاثَةُ مَعَانٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَمَّا كَانَ قَوْلُهُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ : " قَدْ أَوْصَيْتُ بِعَبْدِي هَذَا لِزَيْدٍ وَأَوْصَيْتُ بِهِ لِعُمَرَ " ، كَانَ بَيْنَهُمَا إِجْمَاعًا ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَرَاخَى بَيْنَ الْوَصِيَّتَيْنِ وَأَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا حِجَابًا ؛ إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ اقْتِرَانِ الْوَصِيَّتَيْنِ وَبَيْنَ اقْتِرَانِهِمَا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِزَيْدٍ ، ثُمَّ أَوْصَى بَعْدَ زَمَانٍ بِثُلُثِ مَالِهِ لِعَمْرٍو وَأَنَّ الثُّلُثَ إِذَا لَمْ تُجِزِ الْوَرَثَةُ بَيْنَهُمَا كَذَلِكَ يَكُونُ الْعَبْدُ بَيْنَهُمَا فِي الْوَصِيَّةِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَصِيَّةُ الثَّانِيَةُ رُجُوعًا ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِنِسْيَانِ الْأُولَى ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَقْصِدَ بِهَا التَّشْرِيكَ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي ، فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ مَعَ هَذَا

الِاحْتِمَالِ عَلَى التَّشْرِيكِ بَيْنَهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْوَصِيَّةِ لَهُمَا ، وَلَيْسَ يُلْزَمُ فِي الْوَصَايَا الْمُطْلَقَةِ تَقْدِيمُ الْأَوَّلِ عَلَى الثَّانِي وَلَا الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ فِي الْعَطَايَا النَّاجِزَةِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ جَارِيَةٌ حَامِلٌ فَأَوْصَى بِهَا لِرَجُلٍ ، ثُمَّ أَوْصَى بَعْدَ ذَلِكَ بِحَمْلِهَا لِآخَرَ فَالْجَارِيَةُ تَكُونُ لِلْأَوَّلِ وَالْوَلَدُ يَكُونُ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي . وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَوْصَى بِالْجَارِيَةِ لِلْأَوَّلِ كَانَ حَمْلُهَا دَاخِلًا فِي الْوَصِيَّةِ تَبَعًا ، فَلَمَّا أَوْصَى بِالْحَمْلِ لِلثَّانِي صَارَ مُوصِيًا بِهِ لَهُمَا ، فَكَانَ بَيْنَهُمَا ، وَهَكَذَا لَوِ ابْتَدَأَ فَأَوْصَى بِحَمْلِهَا لِرَجُلٍ ، ثُمَّ أَوْصَى بِهَا لِآخَرَ كَانَ الْحَمْلُ بَيْنَهُمَا وَالْجَارِيَةُ لِلثَّانِي مِنْهُمَا لِمَا ذَكَرْنَاهُ . وَلَكِنْ لَوْ قَالَ : أَوْصَيْتُ لِزَيْدٍ بِهَذِهِ الْجَارِيَةِ دُونَ حَمْلِهَا وَأَوْصَيْتُ لِعَمْرٍو بِحَمْلِهَا دُونَهَا ، صَحَّ وَانْفَرَدَ زَيْدٌ بِالْأُمِّ وَعَمْرٌو بِالْوَلَدِ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ أَنَّ زَيْدًا الْمُوصَى لَهُ بِالْأُمِّ أَعْتَقَهَا وَهِيَ حَامِلٌ ، عُتِقَتْ وَلَمْ يَسْرِ عِتْقُهَا إِلَى الْحَمْلِ وَكَانَ الْحَمْلُ إِذَا وُلِدَ رَقِيقًا لِعَمْرٍو ، وَسَوَاءٌ كَانَ مُعْتِقُ الْأُمِّ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا ؛ لِأَنَّ الْأُمَّ تَتَمَيَّزُ عَنِ الْوَلَدِ وَقَدْ تَمَيَّزَا فِي الْمِلْكِ ؛ فَلِذَلِكَ لَمْ يَسْرِ الْعِتْقُ .

فَصْلٌ : وَإِذَا أَوْصَى الرَّجُلُ بِعَبْدِهِ لِوَاحِدٍ مِنْ رَجُلَيْنِ لَمْ يُعَيِّنْهُ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةً . وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِوَاحِدٍ مِنْ عَبْدَيْنِ لَمْ يُعَيِّنْهُ ، كَانَتِ الْوَصِيَّةُ جَائِزَةً وَدَفَعَ الْوَارِثُ أَيَّهُمَا شَاءَ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْوَصِيَّةُ لِأَحَدِ الرَّجُلَيْنِ جَائِزَةٌ ، كَالْوَصِيَّةِ بِأَحَدِ الْعَبْدَيْنِ . وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ إِنَّمَا تَصِحُّ إِذَا كَانَتْ لِمُوصَى لَهُ إِمَّا بِالنَّصِّ أَوْ بِإِطْلَاقِ اسْمٍ تَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ ، وَلَيْسَ فِي الْوَصِيَّةِ لِأَحَدِ الرَّجُلَيْنِ نَصٌّ وَلَا عُمُومُ اسْمٍ ، وَإِنَّمَا تَدْخُلُ فِي الْعُمُومِ إِذَا قَالَ : ادْفَعُوا عَبْدَيَّ أَيْ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ شِئْتُمْ ، فَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ كُلُّهَا . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْوَصِيَّةِ لِأَحَدِ الرَّجُلَيْنِ وَبَيْنَ الْوَصِيَّةِ بِأَحَدِ الْعَبْدَيْنِ هُوَ الْجَهْلُ بِمُسْتَحِقِّهَا فِي أَحَدِ الرَّجُلَيْنِ وَالْعِلْمُ بِمُسْتَحِقِّهَا فِي أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ . وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " : وَلَوْ أَنَّ شَاهِدًا قَالَ : أَشْهَدُ أَنَّ أَحَدَ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ قَتَلَ زَيْدًا لَمْ يَكُنْ لِأَوْلِيَائِهِ أَنْ يُقْسِمُوا مَعَ شَهَادَتِهِمْ وَلَا يَكُونُ لَوْثًا ، وَلَوْ قَالَ : أَشْهَدُ أَنَّ زَيْدًا قَتَلَ أَحَدَ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ ، كَانَ ذَلِكَ لَوْثًا لِمَنِ ادَّعَاهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِينَ وَيُقْسِمُونَ مَعَ شَهَادَتِهِمْ ، وَفُصِلَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ الْقَاتِلُ تَوَجَّهَتِ الدَّعْوَى عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتِ الْمَقْتُولُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَثْبُتِ الْقَاتِلُ ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى لَا تَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ مَعَ إِثْبَاتِ الْمَقْتُولِ . وَمِثْلُهُ أَنْ يَقُولَ عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ أَلْفٌ لَمْ تُسْمَعِ الدَّعْوَى مِنْهُ ، وَلَوْ قَالَ : لِي عَلَى هَذَا الرَّجُلِ أَحَدُ هَذَيْنِ الْمَالَيْنِ سُمِعَتِ الدَّعْوَى مِنْهُ تَوَجُّهًا وَأَخْذًا بِالْبَيَانِ تَعْيِينًا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَوْ قَالَ الْعَبْدُ الَّذِي أَوْصَيْتُ بِهِ لِفُلَانٍ لِفُلَانٍ ، أَوْ قَدْ أَوْصَيْتُ بِالَّذِي أَوْصَيْتُ بِهِ لِفُلَانٍ لِفُلَانٍ ، كَانَ هَذَا رُجُوعًا عَنِ الْأَوَّلِ إِلَى الْآخَرِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَحُكِيَ عَنِ الْمُزَنِيِّ أَنَّهُ لَا يَكُونُ رُجُوعًا وَيَكُونُ الْعَبْدُ وَصِيَّةً لَهُمَا كَمَا

لَوْ أَوْصَى بِهِ لِلثَّانِي مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْأَوَّلِ وَسَاعَدَهُ عَلَى هَذَا بَعْضُ أَصْحَابِنَا احْتِجَاجًا بِأَنَّهُ لَوْ وَكَّلَ زَيْدًا بِبَيْعِ سِلْعَةٍ سَمَّاهَا ، ثُمَّ قَالَ قَدْ وَكَّلْتُ عَمْرًا بِمَا وَكَّلْتُ بِهِ زَيْدًا أَنَّهُمَا يَكُونَانِ مَعًا وَكِيلَيْنِ فِي بَيْعِهِمَا ، وَلَا يَكُونُ لِوَكِيلِ الثَّانِي رُجُوعٌ عَنِ الْأَوَّلِ مَعَ ذِكْرِهِ ، فَكَذَلِكَ فِي الْوَصِيَّةِ . وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّهُ إِذَا صَرَّحَ بِذِكْرِ الْأَوَّلِ عِنْدَ الْوَصِيَّةِ بِهِ لِلثَّانِي ، زَالَ احْتِمَالُ النِّسْيَانِ بِالذِّكْرِ وَزَالَ احْتِمَالُ التَّشْرِيكِ بِقَوْلِهِ : فَقَدْ أَوْصَيْتُ بِهِ لِلثَّانِي ، فَصَارَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي الرُّجُوعِ . فَأَمَّا الْوَكَالَةُ : فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ ضَيَّقَ عَلَيْهِ الْفَرْقَ فَجَعَلَ ذَلِكَ رُجُوعًا فِي تَوْكِيلِ الْأَوَّلِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْوَكَالَةَ نِيَابَةٌ فَصَحَّ أَنْ يُوَكَّلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْجَمَاعَةِ فِي كُلِّ الْبَيْعِ ، وَالْوَصِيَّةُ تَمْلِيكٌ لَا يَصِحُّ أَنْ يَمْلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْجَمَاعَةِ كُلَّ الْوَصِيَّةِ ، فَكَانَ هَذَا فَرْقًا بَيْنَ الْوَكَالَةِ وَبَيْنَ الْوَصِيَّةِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنْ يَكُونَ رُجُوعًا عَنِ الْأَوَّلِ إِلَى الثَّانِي ، فَسَأَلَ الْأَوَّلُ إِحْلَافَ الثَّانِي أَنَّ الْمُوصِيَ أَرَادَ بِهِ الرُّجُوعَ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ يَمِينٌ ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ فِي هَذَا إِلَى لَفْظِ الْمُوصِي فِيمَا احْتَمَلَهُ مِنَ الْمَعْنَى دُونَ إِرَادَتِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَوْ أَوْصَى أَنْ يُبَاعَ ، أَوْ دَبَّرَهُ ، أَوْ وَهَبَهُ كَانَ هَذَا رُجُوعًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ لِلْمُوصِي الرُّجُوعَ فِي وَصِيَّتِهِ مَتَى شَاءَ ، وَأَنَّ الرُّجُوعَ قَدْ يَكُونُ بِقَوْلٍ أَوْ دَلَالَةٍ أَوْ فِعْلٍ . فَأَمَّا الْقَوْلُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ صَرِيحًا : رَجَعْتُ فِي وَصِيَّتِي ، أَوْ قَدْ أَبْطَلْتُهَا ، فَيَكُونُ ذَلِكَ رُجُوعًا مِنْهُ وَتَبْطُلُ بِهِ وَصِيَّتُهُ . وَأَمَّا دَلَالَةُ الْفِعْلِ فَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ فِي هَذَا الْفَصْلِ ثَلَاثَ مَسَائِلَ : أَحَدُهَا : أَنْ يُوصِيَ بِبَيْعِهِ . وَالثَّانِيةُ : أَنْ يُدَبِّرَهُ . وَالثَّالِثَةُ : أَنْ يَهَبَهُ . فَأَمَّا الْبَيْعُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَتَوَلَّاهُ فِي حَيَاتِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يُوصِيَ بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ ، فَإِنْ بَاعَهُ فِي حَيَاتِهِ كَانَ هَذَا رُجُوعًا ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ إِنَّمَا تَصِحُّ إِذَا انْتَقَلَتْ عَنْ مِلْكِ الْمُوصِي بِمَوْتِهِ إِلَى مِلْكِ الْمُوصَى لَهُ بِقَبُولِهِ وَالْبَيْعُ قَدْ أَزَالَ مِلْكَهُ عَنْهَا فَلَمْ يَصِحَّ بَقَاءُ الْوَصِيَّةِ بِهِ . فَلَوِ اشْتَرَاهُ بَعْدَ بَيْعِهِ لَمْ تَعُدِ الْوَصِيَّةُ بِهِ لِبُطْلَانِهَا بِالْبَيْعِ ، وَخَالَفَ الْمُفْلِسُ إِذَا اشْتَرَى مَا أَبَاعَهُ فِي رُجُوعِ الْبَائِعِ بِهِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ . وَالِابْنُ إِذَا اشْتَرَى مَا بَاعَهُ فِي هِبَةِ أَبِيهِ فِي رُجُوعِ الْأَبِ بِهِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ .

وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ رُجُوعَ الْأَبِ فِيمَا وَهَبَهُ لِابْنِهِ وَرُجُوعَ الْبَائِعِ عَلَى الْمُفْلِسِ بِعَيْنِ مَالِهِ حَقٌّ لَهُمَا ، لَيْسَ لِلِابْنِ وَلَا لِلْمُفْلِسِ إِبْطَالُ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا ، فَكَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بَيْعُهُمَا وَعَوْدُهُ إِلَى مِلْكِهِمَا مَانِعًا مِنَ الرُّجُوعِ بِذَلِكَ عَلَيْهِمَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ ؛ لِأَنَّ لِلْمُوصِي إِبْطَالُهَا ، فَإِذَا بَطَلَتْ بِالْبَيْعِ لَمْ تَعُدْ بِالشِّرَاءِ . وَلَكِنْ لَوْ أَنَّ الْمُوصِيَ عَرَضَ ذَلِكَ لِلْبَيْعِ ، فَفِي كَوْنِهِ رُجُوعًا فِي الْوَصِيَّةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ رُجُوعًا فِي الْوَصِيَّةِ ؛ لِأَنَّ تَعْرِيضَهُ لِلْبَيْعِ دَلِيلٌ عَلَى قَصْدِهِ لِلرُّجُوعِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَكُونُ رُجُوعًا فِي الْوَصِيَّةِ لِبَقَائِهَا عَلَى مِلْكِهِ . فَأَمَّا إِذَا أَوْصَى أَنْ يُبَاعَ بَعْدَ مَوْتِهِ ، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَقُولَ بِيعُوهُ بَعْدَ مَوْتِي ، وَلَمْ يَذْكُرْ بِكُمْ يُبَاعُ وَلَا عَلَى مَنْ يُبَاعُ ، فَالْوَصِيَّةُ بِهَذَا الْبَيْعِ بَاطِلَةٌ وَالْوَرَثَةُ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءُوا بَاعُوهُ وَإِنْ شَاءُوا تَمَسَّكُوا بِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْ مَنْ تَصِحُّ لَهُ الْوَصِيَّةُ فِيهِ ، لَكِنْ يُسْتَفَادُ بِذَلِكَ إِبْطَالُ الْوَصِيَّةِ وَأَنْ تَكُونَ مِلْكًا لِوَرَثَتِهِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يُوصِيَ بِبَيْعِهِ عَلَى زَيْدٍ بِثَمَنٍ ذَكَرَهُ يُعْلَمُ أَنَّ فِيهِ مُحَابَاةً فَالْوَصِيَّةُ بِهَذَا الْبَيْعِ جَائِزَةٌ ، ثُمَّ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنْ يَكُونَ رُجُوعًا عَنِ الْوَصِيَّةِ الْأُولَى وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَقُولُ : إِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْوَصِيَّتَيْنِ جَمِيعًا كَمَا لَوْ أَوْصَى بِهِ لِزَيْدٍ ، ثُمَّ أَوْصَى بِهِ لِعَمْرٍو . قَالَ : وَيَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ الْمُحَابَاةِ فِي الثَّمَنِ ، فَإِنْ كَانَتِ الْمُحَابَاةِ بِنِصْفِ ثَمَنِهِ صَارَ كَأَنَّهُ قَدْ أَوْصَى بِجَمِيعِهِ لِزَيْدٍ ، ثُمَّ أَوْصَى بِنِصْفِهِ لِعَمْرٍو ، فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا وَإِنْ كَانَتِ الْمُحَابَاةُ بِثُلُثِ ثَمَنِهِ كَانَتْ بَيْنَهُمَا أَرْبَاعًا . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يُوصِيَ بِبَيْعِهِ عَلَى زَيْدٍ وَلَا يَذْكُرُ قَدْرَ ثَمَنِهِ الَّذِي يُبَاعُ عَلَيْهِ بِهِ ، فَهُوَ بِذَلِكَ مُبْطِلٌ لِوَصِيَّتِهِ الْأُولَى وَفِي صِحَّةِ وَصِيَّةِ بَيْعِهِ عَلَى زَيْدٍ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنُصَّ عَلَى ثَمَنٍ تَكُونُ الْمُحَابَاةُ فِيهِ وَصِيَّةً وَيَكُونُ الْخِيَارُ لِلْوَرَثَةِ فِي بَيْعِهِ وَإِمْسَاكِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْوَصِيَّةَ جَائِزَةٌ ؛ لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ قَصْدَ تَمَلُّكِهِ إِيَّاهُ وَيُبَاعُ عَلَيْهِ بِثَمَنِ مِثْلِهِ إِنِ اشْتَرَاهُ . وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فَهُوَ تَدْبِيرُ مَا أَوْصَى بِهِ ، فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ التَّدْبِيرَ عِتْقٌ بِصِفَةٍ ، كَانَ تَدْبِيرُهُ رُجُوعًا فِي الْوَصِيَّةِ وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّهُ كَالْوَصِيَّةِ ، فَإِنْ قُلْنَا بِتَقْدِيمِ الْوَصِيَّةِ بِالْعِتْقِ عَلَى الْوَصِيَّةِ بِالتَّمْلِيكِ ، كَانَ التَّدْبِيرُ رُجُوعًا فِي الْوَصِيَّةِ ، وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْعِتْقِ وَالتَّمْلِيكِ سَوَاءٌ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ : أَنَّهُ يَكُونُ نِصْفُهُ وَصِيَّةً وَنِصْفُهُ مُدَبَّرًا كَمَا لَوْ أَوْصَى بِالثَّانِي بَعْدَ أَوَّلٍ ، كَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : أَنَّهُ يَكُونُ جَمِيعُهُ مُدَبَّرًا وَرُجُوعًا عَنِ الْوَصِيَّةِ ؛ لِأَنَّ عِتْقَ التَّدْبِيرِ نَاجِزٌ بِالْمَوْتِ ، فَيُقَدَّمُ عَلَى الْوَصَايَا ، كَالنَّاجِزِ مِنَ الْعَطَايَا . وَإِنْ قُدِّمَ تَدْبِيرُهُ ثُمَّ أَوْصَى بِهِ ، فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ التَّدْبِيرَ عِتْقٌ بِصِفَةٍ لَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهِ ، كَانَ عَلَى تَدْبِيرِهِ وَكَانَتِ الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةً ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ كَالْوَصَايَا نُظِرَ ، فَإِنْ قَالَ : الْعَبْدُ الَّذِي دَبَّرْتُهُ قَدْ أَوْصَيْتُ بِهِ لِزَيْدٍ ، كَانَ رُجُوعًا فِي تَدْبِيرِهِ وَمُوصِيًا بِجَمِيعِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكْفُلْ ذَلِكَ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّهُ يَكُونُ نِصْفُهُ بَاقِيًا عَلَى تَدْبِيرٍ وَنِصْفُهُ مُوصًى بِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : أَنَّ تَدْبِيرَهُ أَقْوَى مِنَ الْوَصِيَّةِ وَيَكُونُ عَلَى التَّدْبِيرِ . وَلَوْ أَوْصَى بِعِتْقِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ رُجُوعًا عَنِ الْوَصِيَّةِ الْأُولَى وَمُوصًا بِعِتْقِهِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَكُونُ رُجُوعًا عَنِ الْوَصِيَّةِ بِصِفَةٍ وَمُوصًا بِعِتْقِ نِصْفِهِ ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ . وَلَوْ قَدَّمَ الْوَصِيَّةَ بِعِتْقِهِ ، ثُمَّ أَوْصَى بِهِ لِزَيْدٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ مُوصًى بِعِتْقِهِ وَالْوَصِيَّةُ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ بَاطِلَةٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ نِصْفَهُ يَكُونُ مُوصًى بِعِتْقِهِ وَنِصْفَهُ مُوصًى بِمِلْكِهِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَهُوَ أَنْ يَهَبَ مَا أَوْصَى بِهِ ، فَهَذَا يُنْظَرُ ، فَإِنْ أَقْبَضَهُ فِي الْهِبَةِ ، كَانَ رُجُوعًا فِي الْوَصِيَّةِ لِإِخْرَاجِهِ بِالْقَبْضِ عَنْ مِلْكِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْهُ فَفِي كَوْنِهِ رُجُوعًا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : يَكُونُ رُجُوعًا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ عَقَدَ فِيهِ عَقْدًا يَقْضِي إِلَى زَوَالِ الْمِلْكِ مُخَالِفًا لِمَا قَصَدَهُ مِنْ قَبْلُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْبَغْدَادِيِّينَ : أَنَّهُ لَا يَكُونُ رُجُوعًا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي مِلْكِهِ ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي رُجُوعِهِ . وَلَوْ وَهَبَهُ هِبَةً فَاسِدَةً ، فَفِي كَوْنِهِ رُجُوعًا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : يَكُونُ رُجُوعًا قَبَضَ أَوْ لَمْ يَقْبِضْ ، وَهَذَا قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَكُونُ رُجُوعًا قَبَضَ أَوْ لَمْ يَقْبِضْ ، لِبَقَائِهِ عَلَى مَالِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ إِنْ أُقْبِضَ كَانَ رُجُوعًا وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْ لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا ؛ لِأَنَّ فِي الْقَبْضِ تَصَرُّفًا بَيَانِيًّا . وَهَكَذَا لَوْ رَهَنَهُ كَانَ فِي كَوْنِ الرَّهْنِ رُجُوعًا فِي الْوَصِيَّةِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ :

أَحَدُهَا : يَكُونُ الرُّجُوعُ أُقْبِضَ أَوْ لَمْ يَقْبِضْ . وَالثَّانِي : لَا يَكُونُ رُجُوعًا أُقْبِضَ أَوْ لَمْ يَقْبِضْ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ إِنْ أُقْبِضَ كَانَ رُجُوعًا وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْ لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَوْ أَجَّرَهُ ، أَوْ عَلَّمَهُ ، أَوْ زَوَّجَهُ لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا أُجِّرَ الْعَبْدُ الَّذِي أَوْصَى بِهِ لَمْ تَكُنِ الْإِجَارَةُ رُجُوعًا فِي وَصِيَّتِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدٌ عَلَى مَنَافِعِهِ وَلَهُ اسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ وَاسْتِخْدَامٌ بِغَيْرِ بَدَلٍ ، فَكَذَلِكَ إِذَا اسْتَوْفَاهَا إِجَارَةً بِبَدَلٍ ، فَإِنْ مَاتَ الْمُوصِي بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ انْتَقَلَ الْعَبْدُ إِلَى الْمُوصَى لَهُ بِمَنَافِعِهِ وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ كَانَتْ لَازِمَةً إِلَى انْقِضَاءِ مُدَّتِهَا وَإِذَا قَبِلَهُ الْمُوصَى لَهُ لَزِمَهُ تَمْكِينُ الْمُسْتَأْجِرِ إِلَى انْقِضَائِهَا وَالْأُجْرَةُ لِلْوَرَثَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُوصِيَ قَدْ مَلَكَهَا بِعَقْدٍ ، ثُمَّ تَمَلَّكَ مَنَافِعَهُ بَعْدَ الرَّقَبَةِ مِنْ بَعْدِ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ ، فَكَذَلِكَ قَدْ رَجَعَ فِي الْإِجَارَةِ فِي بَعْضِ مَنَافِعِهِ . فَأَمَّا إِذَا أَوْصَى لَهُ بِسُكْنَى دَارِهِ ثُمَّ أَجَّرَهَا وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ رُجُوعًا فِي الْوَصِيَّةِ بِسُكْنَاهَا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ تَنْقَضِيَ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي ، فَإِنِ انْقَضَتْ قَبْلَ مَوْتِهِ صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ بِجَمِيعِ السُّكْنَى وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ انْقِضَائِهَا فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَسْكُنُ مُدَّةَ وَصِيَّتِهِ كُلَّهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ مَا بَقِيَ مِنْ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ وَلَا يَكُونُ بَقِيَ شَيْءٌ مِنَ الْمُدَّةِ مُؤَثِّرًا فِي الرُّجُوعِ فِي الْوَصِيَّةِ لِاسْتِيفَاءِ مُدَّةِ الْوَصِيَّةِ مُمْكِنٌ . فَإِذَا كَانَ الْبَاقِي مِنْ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ شَهْرًا وَالْوَصِيَّةُ بِالسُّكْنَى سَنَةٌ ، فَإِذَا مْضَى شَهْرُ الْإِجَارَةِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي ، سَكَنَهَا الْمُوصَى لَهُ سَنَةً . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَبْطُلُ مِنَ الْوَصِيَّةِ بِالسُّكْنَى بِقَدْرِ مَا بَقِيَ مِنْ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ ، كَأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالسُّكْنَى سَنَةً وَالْبَاقِيَ مِنْ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ شَهْرٌ ، فَيَبْطُلُ مِنَ الْوَصِيَّةِ بِالسَّنَةِ شَهْرٌ وَيَبْقَى لِلْمُوصَى لَهُ أَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا ، وَلَوْ كَانَ الْبَاقِي مِنْهَا سَنَةً بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ بِالسُّكْنَى كُلِّهَا .

فَصْلٌ : وَلَوْ أَوْصَى بِعَبْدٍ فَعَلَّمَهُ عِلْمًا أَوْ صِنَاعَةً ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ رُجُوعًا ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ مَصَالِحِهِ ، فَصَارَ كَالنَّفَقَةِ عَلَيْهِ ، وَهَكَذَا لَوْ خَتَنَهُ ، أَوْ حَجَمَهُ ، أَوْ دَاوَاهُ لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا ، وَهَكَذَا لَوْ زَوَّجَهُ لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا وَنَفَقَةُ الزَّوْجَةِ وَمَهْرُهَا فِي كَسْبِهِ ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَتْ أَمَةً فَزَوَّجَهَا ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ رُجُوعًا وَالْمُهْرُ لِلْمُوصِي ، فَإِذَا مَاتَ لَمْ يَكُنْ لِلْمُوصَى لَهُ أَنْ يَفْسَخَ نِكَاحَهَا وَكَأَنَّهُ قَدْ رَجَعَ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا مُدَّةَ مَقَامِ الزَّوْجِ مَعَهَا كَالْإِجَارَةِ ، فَلَوْ وَطِئَهَا الْمُوصِي لَمْ يَكُنْ وَطْئُهُ رُجُوعًا كَمَا لَوِ اسْتَخْدَمَهَا إِلَّا أَنْ يُحَبِّلَهَا فَتَصِيرُ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ وَتَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ . وَقَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ الْمِصْرِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا : إِنْ عَزَلَ عَنْهَا لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا ، وَإِنْ لَمْ يَعْزِلْ عَنْهَا كَانَ رُجُوعًا وَزَعَمَ أَنَّهُ أَخَذَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْإِيلَاءِ : وَلَوْ حَلَفَ لَا يَتَسَرَّى فَوَطَأَ جَارِيَةً لَهُ ، فَإِنْ كَانَ يَعْزِلُ عَنْهَا فَهُوَ غَيْرُ مُتَسَرٍ وَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْزِلْ عَنْهَا فَهُوَ مُتَسَرٍّ وَقَدْ حَنِثَ .

قَالَ : فَلَمَّا جُعِلَ الْمُتَسَرِّي طَلَبَ الْوَلَدِ لَا الِاسْتِمْتَاعَ دَلَّ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَكَانَ طَلَبُ الْوَلَدِ رُجُوعًا فِي الْوَصِيَّةِ دُونَ الِاسْتِمْتَاعِ .

فَصْلٌ : وَلَوْ كَانَ الْمُوصَى بِهِ أَرْضًا فَزَرَعَهَا لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا ؛ لِأَنَّ الزَّرْعَ لَا يَتَبَقَّى ، وَلَوْ بَنَى فِيهَا أَوْ غَرَسَهَا فَفِيهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ ذَلِكَ رُجُوعًا ، فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ الْبِنَاءُ وَالْغَرْسُ فِي جَمِيعِهَا ، كَانَ رُجُوعًا فِي الْجَمِيعِ ، وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِهَا ، كَانَ رُجُوعًا فِيمَا غَرَسَهُ وَبَنَاهُ دُونَ مَا لَمْ يَغْرِسْهُ وَلَمْ يَبْنِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَكُونُ رُجُوعًا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ اسْتِيفَاءِ مَنَافِعِهَا ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْوَصِيَّةُ فِيمَا بَيْنَ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ مِنْ بَيَاضِ الْأَرْضِ بِحَالِهَا . فَأَمَّا أَسَاسُ الْبِنَاءِ وَقَرَارُ الْغَرْسِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَكُونُ رُجُوعًا وَإِذَا تَلِفَ الْغَرْسُ وَانْهَدَمَ الْبِنَاءُ عَادَ إِلَى الْمُوصَى لَهُ . وَالثَّانِي : يَكُونُ رُجُوعًا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ تِبَاعًا لَهَا عَلَيْهِ وَمُسْتَهْلَكًا بِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَوْ كَانَ الْمُوصَى بِهِ قَمْحًا فَخَلَطَهُ بِقَمْحٍ ، أَوْ طَحَنَهُ دَقِيقًا فَصَيَّرَهُ عَجِينًا كَانَ أَيْضًا رُجُوعًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذِهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ : أَحَدُهَا : إِذَا أَوْصَى لَهُ بِحِنْطَةٍ فَخَلَطَهَا بِحِنْطَةٍ أُخْرَى كَانَ هَذَا رُجُوعًا ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ كَانَتْ بِحِنْطَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَبِخَلْطِهَا قَدْ تَعَذَّرَ الْوُصُولُ إِلَى عَيْنِهَا ، سَوَاءٌ خَلَطَهَا بِمِثْلِهَا فِي الْجَوْدَةِ أَوْ بِأَجْوَدَ أَوْ بِأَرْدَأَ ، وَإِنْ خَلَطَهَا بِغَيْرِ جِنْسِهَا فَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَشُقُّ تَمْيِيزُهُ ، أَوْ لَا يَشُقُّ ، فَإِنْ خَلَطَهَا بِمَا يَشُقُّ تَمْيِيزُهُ مِنْهَا كَحِنْطَةٍ أَخْلَطَ بِهَا شَعِيرًا ، أَوْ أَرْزًا ، أَوْ عَدَسًا فَهَذَا رُجُوعٌ ؛ لِأَنَّهُ خَلَطَ بِمَا لَا يَتَمَيَّزُ ، وَإِنْ خَلَطَهَا بِمَا لَا يَشُقُّ تَمْيِيزُهُ كَالْجَوْزِ وَاللَّوْزِ ، لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا كَمَا لَوْ أَحْرَزَهَا ، وَلَوْ نَقَلَ الْحِنْطَةَ عَنِ الْبَلَدِ إِلَى غَيْرِهِ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَنْقُلَهَا إِلَى مَا هُوَ أَقْرَبُ إِلَى بَلَدِ الْمُوصَى لَهُ ، فَهَذَا لَا يَكُونُ رُجُوعًا ؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْحِرْصِ وَتَمَامِهَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَنْقُلَهَا إِلَى بَلَدٍ هُوَ أَبْعَدُ إِلَى الْمُوصَى لَهُ مِنَ الْبَلَدِ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِعُذْرٍ ظَاهِرٍ مِنْ خَوْفٍ طَرَأَ ، أَوْ فِتْنَةٍ حَدَثَتْ ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ رُجُوعًا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِغَيْرِ عُذْرٍ ، فَفِي كَوْنِهِ رُجُوعًا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ رُجُوعًا اعْتِبَارًا بِظَاهِرِ فِعْلِهِ .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَكُونُ رُجُوعًا اعْتِبَارًا بِبَقَائِهَا عَلَى صِفَتِهَا عَلَى مِلْكِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : فَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : أَنَّ لَوْ أَوْصَى لَهُ بِحِنْطَةٍ فَيَطْحَنُهَا ، فَيَكُونُ ذَلِكَ رُجُوعًا لِعِلَّتَيْنِ : إِحْدَاهُمَا زَوَالُ الِاسْمِ عَنْهَا بِالطَّحْنِ ، وَالثَّانِيةُ الْقَصْدُ إِلَى اسْتِهْلَاكِهَا بِالْأَكْلِ . وَهَكَذَا لَوْ قَلَاهَا سَوِيقًا ، فَإِنْ طَحَنَهَا كَانَ رُجُوعًا لِعِلَّتَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَطْحَنْهَا بَعْدَ الْقَلْيِ كَانَ رُجُوعًا لِإِحْدَى الْعِلَّتَيْنِ وَهُوَ قَصْدُ اسْتِهْلَاكِهَا . وَهَكَذَا لَوْ بَذَرَهَا كَانَ رُجُوعًا ، وَكَذَلِكَ لَوْ عَمِلَهَا نِشًا أَوْ بَلَّهَا بِالْمَاءِ كَانَ رُجُوعًا .

فَصْلٌ : وَالْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يُوصِيَ لَهُ بِدَقِيقٍ فَيُصَيِّرُهُ عَجِينًا ، فَهَذَا رُجُوعٌ ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ بِهِ الِاسْتِهْلَاكَ ، وَهَكَذَا لَوْ أَوْصَى لَهُ بِعَجِينٍ فَخَبَزَهُ خُبْزًا ، كَانَ رُجُوعًا لِزَوَالِ الِاسْمِ دُونَ الِاسْتِهْلَاكِ ، وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِخُبْزٍ فَدَقَّهُ فَتُوتًا ، فَفِي كَوْنِهِ رُجُوعًا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ رُجُوعًا لِزَوَالِهِ عَنْ صِفَتِهِ . وَالثَّانِي : لَا يَكُونُ رُجُوعًا لِبَقَاءِ اسْمِ الْخُبْزِ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّ دَقَّهُ إِبْقَاءٌ لَهُ ، وَلَكِنْ لَوْ جُعِلَ سَرِيدًا كَانَ رُجُوعًا .

فَصْلٌ : وَلَوْ أَوْصَى بِقُطْنٍ فَغَزَلَهُ ، كَانَ رُجُوعًا لِزَوَالِ الِاسْمِ عَنْهُ ، وَلَوْ حَشَاهُ فِي مِخَدِّهِ أَوْ مِضْرَبِهِ ، فَفِي كَوْنِهِ رُجُوعًا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ : أَنَّهُ يَكُونُ رُجُوعًا كَمَا لَوْ غَزَلَهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَكُونُ رُجُوعًا ؛ لِأَنَّهُ مَا أَزَالَ عَنْهُ الِاسْمَ وَلَا قَصَدَ بِهِ الِاسْتِهْلَاكَ ، وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِغَزْلٍ فَنَسَجَهُ ثَوْبًا ، كَانَ رُجُوعًا لِزَوَالِ اسْمِ الْغَزَلِ عَنْهُ . وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِثَوْبٍ فَقَطَعَهُ قَمِيصًا كَانَ رُجُوعًا لِانْتِقَالِ الِاسْمِ وَقَصْدِ الِاسْتِعْمَالِ ، وَلَوْ غَسَلَهُ لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا ، وَلَوْ صَبَغَهُ كَانَ رُجُوعًا ، وَلَوْ قَصَّرَهُ ، فَفِي كَوْنِهِ رُجُوعًا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَكُونُ رُجُوعًا كَالْغَسْلِ . وَالثَّانِي : يَكُونُ رُجُوعًا كَالصَّبْغِ .

فَصْلٌ : فَلَوْ أَوْصَى بِشَاةٍ فَذَبَحَهَا ، كَانَ رُجُوعًا لِزَوَالِ الِاسْمِ وَقَصْدِ الِاسْتِهْلَاكِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَكُونُ رُجُوعًا . وَلَوْ أَوْصَى " لَهُ " بِلَحْمٍ فَقَدَّدَهُ لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا ؛ لِأَنَّهُ بِالتَّقْدِيدِ يُسْتَبْقَى ، وَلَوْ طَحَنَهُ كَانَ رُجُوعًا ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَهْلَكًا وَإِذَا شَوَى كَانَ أَبْقَى لَهُ .

فَصْلٌ : وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِنُقْرَةِ فِضَّةٍ ، فَطَبَعَهَا دَرَاهِمَ أَوْ صَاغَهَا حُلِيًّا ، كَانَ رُجُوعًا ، لِانْتِقَالِ الِاسْمِ . وَهَكَذَا لَوْ أَوْصَى لَهُ بِحُلِيٍّ أَوْ دَرَاهِمَ فَسَبَكَهَا نُقْرَةً كَانَ رُجُوعًا .

وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِتَمْرٍ فَكَذَّهُ ، لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا لِأَنَّهُ يُسْتَبْقَى بِهِ . وَلَوْ جَعَلَهُ دِبْسًا ، كَانَ رُجُوعًا لِزَوَالِ الِاسْمِ . وَهَكَذَا لَوْ أَوْصَى لَهُ بِعِنَبٍ فَجَعَلَهُ عَصِيرًا ، أَوْ زَيْتُونٍ فَجَعَلَهُ زَيْتًا ، أَوْ بِسِمْسِمٍ فَجَعَلَهُ شَيْرَجًا ، كَانَ رُجُوعًا . وَلَوْ أَوْصَى بِرُطَبٍ فَجَفَّفَهُ تَمْرًا ، أَوْ بِعِنَبٍ فَجَفَّفَهُ زَبِيبًا ، لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا ؛ لِأَنَّهُ بِذَلِكَ يُدَّخَرُ وَهُوَ عَلَى صِفَتِهِ ، فَصَارَ كَمَا لَوْ أَوْصَى لَهُ بِجَدْيٍ فَصَارَ تَيْسًا ، أَوْ بِبَصَلٍ فَصَارَ خَلًّا .

فَصْلٌ : وَإِذَا أَوْصَى لَهُ دَارًا فَهَدَمَهَا كَانَ رُجُوعًا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَكُونُ هَدْمُ الدَّارِ رُجُوعًا وَهَذَا خَطَأٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ طَحْنُ الْحِنْطَةِ رُجُوعًا ، كَانَ هَدْمُ الدَّارِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ رُجُوعًا ، وَلَوْ جَعَلَ الدَّارَ حَمَّامًا كَانَ رُجُوعًا بِوِفَاقٍ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ فِي هَدْمِهَا . وَلَكِنْ لَوْ عَمَّرَهَا لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا ، وَلَوْ جَعَلَ عَلَيْهَا سُبَاطًا لَمْ يَكُنْ دَاخِلًا فِي الْوَصِيَّةِ . وَهَلْ يَكُونُ وَضْعُ السُّبَاطِ عَلَيْهِ مِنْ حِيطَانِهَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ كَمَا قُلْنَا فِي قَرَارِ الْغَرْسِ وَأَسَاسِ الْبِنَاءِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِمِكْيَلَةِ حِنْطَةٍ مِمَّا فِي بَيْتِهِ ، ثُمَّ خَلَطَهَا بِمِثْلِهَا لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا وَكَانَتْ لَهُ الْمِكْيَلَةُ بِحَالِهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيمَنْ أَوْصَى بِصُبْرَةٍ مُمَيَّزَةٍ وَأَنَّهُ مَتَى خَلَطَهَا بِغَيْرِهَا كَانَ رُجُوعًا . فَأَمَّا مَسْأَلَتُنَا هَذِهِ مُصَوَّرَةٌ فِي رَجُلٍ أَوْصَى لِزَيْدٍ بِقَفِيزٍ مِنْ صُبْرَةِ حِنْطَةٍ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ خَلَطَهَا ، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَخْلِطَهَا بِمِثْلِهَا ، فَهَذَا لَا يَكُونُ رُجُوعًا ؛ لِأَنَّ الْقَدْرَ الْمُوصَى بِهِ كَانَ مُخْتَلِطًا بِغَيْرِهِ وَخَالَفَ الْحِنْطَةَ الْمُتَمَيِّزَةَ الَّتِي يَصِيرُ خَلْطُهَا رُجُوعًا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَخْلِطَهَا بِأَجْوَدَ مِنْهَا فَهَذَا يَكُونُ رُجُوعًا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَحْدَثَ فِيهَا بِالْخَلْطِ زِيَادَةً لَا يَمْلِكُهَا الْمُوصَى لَهُ ، فَصَارَ كَالذَّهَبِ إِذَا صَاغَهُ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَخْلِطَهَا بِأَرْدَأَ مِنْهَا ، فَفِي كَوْنِهِ رُجُوعًا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : لَا يَكُونُ رُجُوعًا ؛ لِأَنَّهُ نَقْصٌ أَحْدَثَهُ فِيهَا ، فَصَارَ كَمَا لَوْ أَخَذَ بَعْضَهَا لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا فِيمَا بَقِيَ عَنْهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَكُونُ رُجُوعًا ؛ لِأَنَّ الْحِنْطَةَ تَتَغَيَّرُ بِالْأَرْدَإِ ، كَمَا تَتَغَيَّرُ بِالْأَجْوَدِ وَجُمْلَةُ مَا يَكُونُ رُجُوعًا فِي الْوَصِيَّةِ مَعَ بَقَائِهَا عَلَى مِلْكِ الْمُوصِي أَنْ يَقْصِدَ إِلَى اسْتِهْلَاكِهَا ، أَوْ يُحْدِثَ فِيهَا بِفِعْلِهِ زِيَادَةً لَا يُمْكِنُ تَمْيِيزُهَا .



فَصْلٌ : وَلَوْ حَجَرَ الْمُوصِي الْوَصِيَّةَ كَانَ رُجُوعًا . وَحُكِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنٍ أَنَّ الْحُجُورَ لَا يَكُونُ رُجُوعًا وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ الْحُجُورَ أَغْلَظُ مِنَ الرُّجُوعِ ، وَلَوْ قَالَ : هَذَا عَلَيَّ حَرَامٌ ، كَانَ رُجُوعًا ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَا تَكُونُ عَلَيْهِ حَرَامًا . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : لَا يَكُونُ ذَلِكَ رُجُوعًا . وَلَوْ قَالَ : هِيَ لِوَرَثَتِي كَانَ رُجُوعًا ، وَلَوْ قَالَ هِيَ مِنْ تَرِكَتِي ، فَفِي كَوْنِهِ رُجُوعًا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ رُجُوعًا لِأَنَّ التَّرِكَةَ لِلْوَرَثَةِ . وَالثَّانِي : لَا يَكُونُ رُجُوعًا ؛ لِأَنَّ الْوَصَايَا مِنْ حَمْلَةِ التَّرِكَةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ الْمَرَضِ الَّذِي تَجُوزُ فِيهِ الْعَطِيَّةُ وَلَا تَجُوزُ وَالْمَخُوفُ غَيْرُ الْمَرَضِ

بَابُ الْمَرَضِ الَّذِي تَجُوزُ فِيهِ الْعَطِيَّةُ وَلَا تَجُوزُ وَالْمَخُوفُ غَيْرُ الْمَرَضِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " كُلُّ مَرَضٍ كَانَ الْأَغْلَبُ فِيهِ أَنَّ الْمَوْتَ مَخُوفٌ عَلَيْهِ فَعَطِيَّتُهُ إِنْ مَاتَ فِي حُكْمِ الْوَصَايَا وَإِلَّا فَهُوَ كَالصَّحِيحِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ مَا يُخْرِجُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ مَالِهِ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : وَصَايَاهُ بَعْدَ مَوْتِهِ . وَالثَّانِي : عَطَايَاهُ الْمُنْجَزَةُ فِي حَيَاتِهِ . فَأَمَّا الْوَصَايَا فَهِيَ مِنَ الثُّلُثِ ، سَوَاءٌ أَوَصَى بِهَا فِي صِحَّةٍ أَوْ مَرَضٍ ، فَإِنِ اتَّسَعَ الثُّلُثُ لِجَمِيعِهَا أُمْضِيَتْ وَلَمْ يَكُنْ لِلْوَارِثِ فِيهَا اعْتِرَاضٌ ، وَإِنْ ضَاقَ الثُّلُثُ عَنْهَا ، رُدَّ الْفَاضِلُ عَلَى الثُّلُثِ إِنْ لَمْ يُجِزْهُ الْوَرَثَةُ وَيُحَاصُّ أَهْلُ الْوَصَايَا الْوَرَثَةَ بِالثُّلُثِ ، وَسَوَاءٌ مَنْ تَقَدَّمَتِ الْوَصِيَّةُ لَهُ أَوْ تَأَخَّرَتْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ عِتْقٌ ، فَيَكُونُ فِي تَقْدِيمِهِ عَلَى الْوَصَايَا قَوْلَانِ . وَأَمَّا الْعَطَايَا الْمُنْجَزَةُ فِي الْحَيَاةِ : فَكَالْهِبَةِ ، وَالصَّدَقَةِ ، وَالْمُحَابَاةِ ، وَالْعِتْقِ ، وَالْوَقْفِ ، فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا كَانَ فِي الصِّحَّةِ . وَالثَّانِي : مَا كَانَ فِي الْمَرَضِ . فَأَمَّا عَطَايَا الصِّحَّةِ ، فَمِنْ رَأْسِ الْمَالِ ، سَوَاءٌ قَرُبَ عَهْدُهَا بِالْمَوْتِ أَوْ بَعُدَ . وَأَمَّا عَطَايَا الْمَرَضِ فَالْمَرَضُ يَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : قِسْمٌ يَكُونُ غَيْرَ مَخُوفٍ ، كَوَجَعِ الضِّرْسِ وَرَمَدِ الْعَيْنِ وَنُفُورِ الطِّحَالِ وَحُمَّى يَوْمٍ ، فَالْعَطَايَا فِيهِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَطْبُوعٌ عَلَى أَحْوَالٍ مُتَغَايِرَةٍ وَلَا يَبْقَى مَعَهَا عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَا يَخْلُو فِي تَغْيِيرِهِ وَاسْتِحَالَتِهِ ، فَإِنْ أَعْطَى فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَانَتْ عَطِيَّتُهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ ، مِثَالُهُ كَالصَّحِيحِ وَإِنْ مَاتَ عُقَيْبَ عَطِيَّتِهِ ؛ لِأَنَّ حُدُوثَ الْمَوْتِ بِغَيْرِهِ فَهَذَا هُوَ قِسْمٌ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : حَالُ الْمُعَايَنَةِ وَضَجَّةُ النَّفْسِ وَبُلُوغُ الرُّوحِ التَّرَاقِيَ ، فَلَا يَجْرِي عَلَيْهِ فِيهَا حُكْمُ قَلَمٍ وَلَا يَكُونُ لِقَوْلِهِ حُكْمٌ ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمَوْتَى ، وَإِنْ كَانَ يَتَحَرَّكُ حَرَكَةَ الْمَذْبُوحِ ، وَكَذَلِكَ مَنْ شُقَّ بَطُنُهُ وَأُخْرِجَتْ حَشْوَتُهُ لَا يُحْكَمُ بِقَوْلِهِ وَوَصِيَّتِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ، وَإِنْ كَانَ يَتَحَرَّكُ أَوْ يَتَكَلَّمُ ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ مِنْهُ كَحَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ بَعْدَ الذَّبْحِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : الْمَرَضُ الْمَخُوفُ الَّذِي الْحَيَاةُ فِيهِ بَاقِيَةٌ وَالْإِيَاسُ مِنْ صَاحِبِهِ وَاقِعٌ كَالطَّوَاعِينِ وَالْجِرَاحِ النَّافِذَةِ ، فَعَطَايَاهُ كُلُّهَا مِنْ ثُلُثِهِ ، سَوَاءٌ كَانَ هِبَةً ، أَوْ مُحَابَاةً ، أَوْ عِتْقًا . وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ : الْعِتْقُ كُلُّهُ مِنَ الثُّلُثِ ، لِلْخَبَرِ فِيهِ وَمَا سِوَاهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ .

وَقَالَ طَاوُسٌ : الْعِتْقُ وَغَيْرُهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ اسْتِدْلَالًا بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَافْعَلُوا الْخَيْرَ [ الْحَجِّ : 77 ] ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَا أَنْفَقَهُ مِنْ مَالِهِ فِي مَلَاذِّهِ وَشَهَوَاتِهِ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ ، كَانَ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ مِنْ عِتْقِهِ وَهِبَاتِهِ وَمُحَابَاتِهِ أَوْلَى أَنْ تَكُونَ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [ آلِ عِمْرَانَ : 143 ] ، يَعْنِي بِهِ خَوْفَ الْقَتْلِ وَأَسْبَابَ التَّلَفِ وَسَمَّاهُ بِاسْمِهِ لِقُرْبِهِ مِنْهُ وَاتِّصَالِ حُكْمِهِ بِحُكْمِهِ وَقَالَ تَعَالَى : كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [ الْبَقَرَةِ : 180 ] . يَعْنِي بِحُضُورِ الْمَوْتِ ظُهُورَ دَلَائِلِهِ وَوُجُودَ أَسْبَابِهِ . وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْطَاكُمْ ثُلُثَ أَمْوَالِكُمْ فِي آخِرِ أَعْمَارِكُمْ زِيَادَةً فِي أَعْمَالِكُمْ . فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِنَفَقَاتِ مَلَذَّاتِهِ وَشَهَوَاتِهِ ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ مَا اخْتَصَّ بِهِ الْمَرِيضُ مِنْ مَصَالِحِهِ ، هُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ وَرَثَتِهِ وَمَا عَادَ إِلَى غَيْرِهِ مِنْ هِبْتِهِ وَمُحَابَاتِهِ فَوَرَثَتُهُ أَحَقُّ بِهِ ؛ فَلِذَلِكَ أُمْضِيَتْ نَفَقَاتُهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ لِتَعَلُّقِهَا بِمَصَالِحِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ وَجُعِلَتْ هِبَاتُهُ مِنْ ثُلُثِهِ لِتَعَلُّقِهَا بِمَصْلَحَةِ غَيْرٍ ، ثُمَّ بِنَفْسِهِ بَعْدَ مَمَاتِهِ ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ إِلَّا مَا جُعِلَتْ لَهُ الشَّرِيعَةُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَمِنَ الْمَخُوفِ مِنْهُ إِذَا كَانَتْ حُمَّى بَدَأَتْ بِصَاحِبِهَا ، ثُمَّ إِذَا تَطَاوَلَتْ فَهُوَ مَخُوفٌ إِلَّا الرِّبْعَ فَإِنَّهَا إِذَا اسْتَمَرَّتْ بِصَاحِبِهَا رِبْعًا فَغَيْرُ مَخُوفَةٍ ، وَإِنْ كَانَ مَعَهَا وَجَعٌ كَانَ مَخُوفًا وَذَلِكَ مِثْلُ الْبِرْسَامِ ، أَوِ الرُّعَافِ الدَّائِمِ ، أَوْ ذَاتِ الْجَنْبِ ، أَوِ الْخَاصِرَةِ ، أَوِ الْقُولَنْجِ وَنَحْوِهِ فَهُوَ مَخُوفٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ عَطَايَا الْمَرَضِ الْمَخُوفِ مِنَ الثُّلُثِ كَالْوَصَايَاتِ ، وَإِنْ تَقَدَّمَتْ عَلَيْهَا فَالْمَرَضُ الْمَخُوفُ هُوَ الَّذِي لَا تَتَطَاوَلُ بِصَاحِبِهِ مَعَهُ الْحَيَاةُ . وَقَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ : الْمَخُوفُ هُوَ مِنَ الْمُضْنِي الْمُضْعِفِ عَنِ الْحَرَكَةِ الَّذِي يَصِيرُ بِهِ الْإِنْسَانُ صَاحِبَ فِرَاشٍ وَإِنْ تَطَاوَلَ بِهِ أَجَلُهُ ، وَهَذَا خَطَأٌ عِنْدِنَا ؛ لِأَنَّ مَا تَطَاوَلَ بِالْإِنْسَانِ فَهُوَ مُهْلَتُهُ وَبَقِيَّةُ أَجَلِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ طَارِئٌ عَلَى كُلِّ حَيٍّ وَإِنْ صَحَّ وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ حَالُهُ فِيمَا تَعَجَّلَ بِهِ الْمَوْتُ وَجَاءَ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ [ الْبَقَرَةِ : 180 ] . وَالْحَاضِرُ مَا كَانَ قَرِيبًا مِنْهُ لَا مَا بَعُدَ . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْطَاكُمْ ثُلُثَ أَمْوَالِكُمْ فِي آخِرِ أَعْمَارِكُمْ زِيَادَةً فِي أَعْمَالِكُمْ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْمَخُوفَ مَا جَاءَ وَعُجِّلَ ، فَالْأَمْرَاضُ كُلُّهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ :

أَحَدُهَا : مَا كَانَ غَيْرَ مَخُوفٍ فِي الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ كَوَجَعِ الضِّرْسِ وَرَمَدِ الْعَيْنِ وَجَرَبِ الْيَدِ ، فَعَطَايَاهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ ، فَإِنْ مَاتَ فَبِحُدُوثِ غَيْرِهِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَا كَانَ مَخُوفًا فِي الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ : كَالْبِرْسَامِ ، وَذَاتِ الْجَنْبِ وَالْخَاصِرَةِ ، فَعَطَايَاهُ فِيهِ مِنْ ثُلُثِهِ ، فَإِنْ صَحَّ فِيهِ أَوْ قُتِلَ ، أَوْ مَاتَ تَحْتَ هَدْمٍ بَانَ أَنَّهُ كَانَ غَيْرَ مَخُوفٍ ، فَيَكُونُ عَطَايَاهُ فِيهِ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا كَانَ فِي ابْتِدَائِهِ غَيْرَ مَخُوفٍ وَفِي انْتِهَائِهِ مَخُوفًا ، كَالْحُمَّى وَالسُّلِّ ، فَعَطِيَّتُهُ فِي ابْتِدَائِهِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَفِي انْتِهَائِهِ مِنْ ثُلُثِهِ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : مَا كَانَ فِي ابْتِدَائِهِ مَخُوفًا وَفِي انْتِهَائِهِ غَيْرَ مَخُوفٍ : كَالْفَالِجِ يَكُونُ فِي ابْتِدَائِهِ عِنْدَ غَلَبَةِ الْبَلْغَمِ عَلَيْهِ مَخُوفًا ، فَإِذَا انْتَهَى بِصَاحِبِهِ حَتَّى صَارَ فَالِجًا فَهُوَ غَيْرُ مَخُوفٍ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَدُومُ بِصَاحِبِهِ شَهْرًا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : وَإِذَا تَقَرَّرَ مَا مَهَّدْنَاهُ مِنْ أُصُولِ الْأَمْرَاضِ المرض المخوف فَسَنَذْكُرُ مِنْ تَفْصِيلِهَا مَا يَكُونُ مِثَالًا لِنَظَائِرِهِ ، فَمِنْ ذَلِكَ الْحُمَّى ، فَهِيَ يَوْمٌ أَوْ يَوْمَانِ ، أَوْ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ غَيْرُ مَخُوفٍ ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ مِنْ تَعَبِ الْإِغْمَاءِ وَظُهُورِ الْحُمَّى وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا [ مَرْيَمَ : 71 ] إِنَّهَا الْحُمَّى . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : الْفَيْحُ الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ فَأَبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ ، فَإِنِ اسْتَمَرَّتْ بِصَاحِبِهَا فَهِيَ مَخُوفَةٌ ؛ لِأَنَّهَا تَدْفِنُ الْقُوَّةَ الَّتِي هِيَ قِوَامُ الْحَيَاةِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : الْحُمَّى دَابِرُ الْمَوْتِ وَهِيَ هِجْرَةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَرْضِهِ ، يَحْبِسُ عَبْدَهُ بِهِ إِذَا شَاءَ فَيُرْسِلُهُ إِذَا شَاءَ . وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : حُمَّى يَوْمٍ كَفَّارَةُ سَنَةٍ وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ يُضْرَبُ بِهَا عُرُوقُ الْبَدَنِ كُلُّهَا وَهِيَ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ عِرْقًا ، فَجَعَلَ كُلَّ عِرْقٍ لِكُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ السَّنَةِ الَّتِي هِيَ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ يَوْمًا ، فَإِنْ صَارَتِ الْحُمَّى عِنْدَ اسْتِمْرَارِهَا رَفْعًا فَهِيَ غَيْرُ مَخُوفَةٍ ؛ لِأَنَّ مَا يَحْدُثُ مِنَ الْقُوَّةِ فِي أَيَّامِ الِاسْتِرَاحَةِ يَكُونُ خَلَفًا مِمَّا ذَهَبَ بِهَا فِي يَوْمِ النَّوْبَةِ فَصَارَتِ الْقُوَّةُ مَحْفُوظَةً فَزَالَ الْخَوْفُ . فَأَمَّا إِذَا اقْتَرَنَ بِمَا لَا يَكُونُ مَخُوفًا مِنْ حُمَّى يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ بِبِرْسَامٍ ، أَوْ ذَاتِ الْجَنْبِ ، أَوْ وَجَعِ الْخَاصِرَةِ ، أَوِ الْقُولَنْجِ ، فَقَدْ صَارَ مَخُوفًا . فَإِنْ قِيلَ : هَذِهِ الْأَمْرَاضُ بِانْفِرَادِهَا مَخُوفَةٌ فَكَيْفَ جَعَلَهَا الشَّافِعِيُّ مَعَ حُمَّى يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ مَخُوفَةً ؟ فَلِأَصْحَابِنَا عَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَرَادَ مِنْ هَذِهِ الْأَمْرَاضِ مَا كَانَ مِنْهَا لَا يَكُونُ بِانْفِرَادِهِ مَخُوفًا ، فَإِذَا اقْتَرَنَ بِحُمَّى يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ صَارَ مَخُوفًا . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّ مَنْ حُمَّى حُمَّى يَوْمٍ فَهُوَ كَالصَّحِيحِ وَلَا يَكُونُ مَخُوفًا عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ تَحْدُثَ بِهِ هَذِهِ الْأَمْرَاضُ الَّتِي يَصِيرُ حُدُوثُهَا بِالصَّحِيحِ مَخُوفًا . وَهَكَذَا حُمَّى الرِّبْعِ إِذَا اقْتَرَنَ بِهَا هَذِهِ الْأَمْرَاضُ صَارَتْ مَخُوفَةً ، فَأَمَّا الرُّعَافُ ، فَإِنْ قَلَّ وَلَمْ

يَسْتَمِرَّ فَهُوَ غَيْرُ مَخُوفٍ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ غَلَبَةِ الدَّمِ زِيَادَتِهِ فَبَطَلَتْ مِنْ مَنَافِذِ الْجَسَدِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ ، وَإِنْ كَثُرَ وَاسْتَمَرَّ فَهُوَ مَخُوفٌ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَنْزِفُ دَمَهُ وَالدَّمُ هُوَ قِوَامُ الرُّوحِ وَمَادَّةُ الْحَيَاةِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَإِنْ سَهُلَ بَطْنُهُ يَوْمًا أَوِ اثْنَيْنِ وَتَأَتَّى مِنْهُ الدَّمُ عِنْدَ الْخَلَاءِ الوصية في المرض لَمْ يَكُنْ مَخُوفًا ، فَإِنِ اسْتَمَرَّ بِهِ بَعْدَ يَوْمَيْنِ حَتَى يَعْجَلَهُ أَوْ يَمْنَعَهُ النَّوْمَ ، أَوْ يَكُونَ الْبَطْنُ مُتَحَرِّقًا فَهُوَ مَخُوفٌ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَحَرِّقًا وَمَعَهُ زَحِيرٌ أَوْ تَقْطِيعٌ فَهُوَ مَخُوفٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا سَهْلُ الْبَطْنِ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ ، إِذَا لَمْ يَكُنِ الْبَطْنُ مُتَحَرِّقًا وَلَا وَجَدَ مَعَهُ وَجَعًا ، لَمْ يَكُنْ مَخُوفًا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ فَضْلَةٍ فِي غِذَاءٍ ، أَوْ خَلْطٍ فِي بَدَنٍ ، وَلِأَنَّ الصَّحِيحَ قَدْ يَقْصِدُ إِسْهَالَ بَطْنِهِ بِشُرْبِ الدَّوَاءِ وَالْمَطْبُوخِ ، لِإِخْرَاجِ الْخَلْطِ الْفَاسِدِ ، فَمَا أَجَابَ بِهِ الطَّبْعُ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ أَدَلُّ عَلَى الصِّحَّةِ . فَأَمَّا إِنِ اسْتَدَامَ بِهِ الْإِسْهَالُ الوصية في المرض صَارَ مَخُوفًا ؛ لِأَنَّهُ تَضْعُفُ مَعَهُ الْقُوَّةُ وَلَا يَثْبُتُ مَعَهُ الْغِذَاءُ . وَلَوْ لَمْ يَتَطَاوَلْ وَكَانَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ ، لَكِنْ كَانَ الْبَطْنُ مُتَخَرِّقًا بِعَجَلَةٍ ، فَلَا يَقْدِرُ عَلَى حَبْسِهِ كَانَ مَخُوفًا ، وَهَكَذَا لَوْ لَمْ يَكُنْ مُتَحَرِّقًا ، لَكِنْ كَانَ مَعَهُ زَحِيرٌ وَتَقْطِيعُ دَمٍ ، أَوْ أَلَمٌ يَمْنَعْهُ مِنَ النَّوْمِ فَهُوَ مَخُوفٌ . وَأَمَّا إِنْ كَانَ مَعَهُ فِي الْيَوْمِ أَوِ الْيَوْمَيْنِ دَمٌ ، فَقَدْ نَقَلَ الْمُزَنِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ هَذَا : " وَيَأْتِي مَعَهُ الدَّمُ عِنْدَ الْخَلَاءِ لَمْ يَكُنْ مَخُوفًا " . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ : لَا يَأْتِي فِيهِ دَمٌ لَا شَيْءَ غَيْرُ مَا يُخْرِجُ الْخَلَاءُ لَمْ يَكُنْ مَخُوفًا فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا ، فَكَانَ بَعْضُهُمْ يَنْسِبُ إِلَى الْمُزَنِيِّ الْخَطَأَ فِي نَقْلِهِ وَجَعَلَ خُرُوجَ الدَّمِ مَعَ الْإِسْهَالِ مَخُوفًا عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُهُ فِي الْأُمِّ ، وَحَكَى الدَّارَكِيُّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ النَّقْلَ صَحِيِحٌ وَأَنَّ الْجَوَابَ مُخْتَلِفٌ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ ، وَحَمَلُوا نَقْلَ الْمُزَنِيِّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ مَخُوفًا إِذَا كَانَ خُرُوجُ الدَّمِ مِنْ بَوَاسِيرٍ أَوْ بَوَاصِيرٍ وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَخُوفًا إِذَا كَانَ خُرُوجُ الدَّمِ مِنَ الْمَخُوفِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَإِذَا أَشْكَلَ سُئِلَ عَنْهُ أَهْلُ الْبَصَرِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الْأَمْرَاضَ ضَرْبَانِ الوصية في المرض : ضَرْبٌ يَكُونُ الْعِلْمُ بِهِ جَلِيًّا يَشْتَرِكُ فِي مَعْرِفَتِهِ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ ، فَهَذَا لَا يَحْتَاجُ فِي مَعْرِفَتِهِ إِلَى سُؤَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهِ . وَضَرْبٌ يَكُونُ الْعِلْمُ بِهِ خَفِيًّا يَخْتَصُّ بِهِ أَهْلُ الْعِلْمِ بِهِ فَيُسْأَلُوا ، أَوْ يُرْجَعُ إِلَى قَوْلِهِمْ فِيهِ . كَمَا أَنَّ عِلْمَ الشَّرِيعَةِ ضَرْبَانِ : ضَرْبٌ جَلِيٌّ يَشْتَرِكُ فِيهِ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَأَعْدَادِ رَكَعَاتِهَا وَصَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَوُجُوبِهِ ، فَلَا يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى سُؤَالِ الْعُلَمَاءِ إِلَّا فِيمَا يَتَفَرَّعُ مِنْ أَحْكَامِهِ . وَضَرْبٌ يَكُونُ خَفِيًّا فَيَلْزَمُهُمْ سُؤَالُ الْعُلَمَاءِ عَنْهُ إِذَا ابْتُلُوا بِهِ . ثُمَّ إِذَا لَزِمَ سُؤَالُ أَهْلِ الطِّبِّ فِيمَا أَشْكَلَ مِنَ الْأَمْرَاضِ ، لَمْ يَقْتَنِعْ فِيهِ بِأَقَلَّ مِنْ عَدْلَيْنِ مِنْ

طِبِّ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ ، فَإِنْ قَالُوا غَالَبَهُ التَّلَفُ جُعِلَتِ الْعَطَايَا مِنَ الثُّلُثِ لِكَوْنِهِ مَخُوفًا ، وَإِنْ قَالُوا غَالَبَهُ السَّلَامَةُ فَهُوَ غَيْرُ مَخُوفٍ ، وَهَكَذَا لَوْ قَالُوا غَالَبَهُ الْمَوْتُ بَعْدَ زَمَانٍ طَوِيلٍ فَهُوَ غَيْرُ مَخُوفٍ ، وَالْعَطَايَا فِيهِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ . فَلَوْ مَاتَ فَقَالَ : مَنْ شَهِدَ بِسَلَامَتِهِ مِنَ الطِّبِّ أَخْطَأْنَا قَدْ كُنَّا ظَنَنَّاهُ أَنَّهُ غَيْرُ مُوحٍ فَبَانَ مُوحِيًا ، قَبْلَ قَوْلِهِمْ ؛ لِأَنَّ مَا رَجَعُوا إِلَيْهِ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ أَمَارَةٌ دَالَّةٌ وَهُوَ الْمَوْتُ ، فَلَوِ اخْتَلَفُوا فِي الْمَرَضِ فَحَكَمَ بَعْضٌ بِأَنَّهُ مَخُوفٌ مُوحٍ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ غَيْرُ مَخُوفٍ ، رُجِعَ إِلَى قَوْلِ الْأَعْلَمِ مِنْهُمْ ، فَإِنِ اسْتَوَوْا فِي الْعِلْمِ وَأَشْكَلَ عَلَى الْأَعْلَمِ ، رُجِعَ إِلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِ مِنْهُمْ عَدَدًا ، فَإِنِ اسْتَوَوْا فِي الْعَدَدِ رُجِعَ إِلَى قَوْلِ مَنْ حَكَمَ بِالْمَخُوفِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ مِنْ غَامِضِ الْمَرَضِ مَا خَفِيَ عَلَى غَيْرِهِ . فَلَوِ اخْتَلَفَ الْمُعْطَى وَالْوَارِثُ فِي الْمَرَضِ عِنْدَ اعْوِزَازِ الْبَيِّنَةِ ، فَادَّعَى الْوَارِثُ أَنَّهُ كَانَ مَخُوفًا وَقَالَ الْمُعْطَى غَيْرُ مَخُوفٍ ، فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْمُعْطَى مَعَ يَمِينِهِ دُونَ الْوُرَّاثِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّنَا عَلَى يَقِينٍ مِنْ تَقَدُّمِ السَّلَامَةِ وَفِي شَكٍّ مِنْ حُدُوثِ الْخَوْفِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مَالِكٌ لِمَا أُعْطِيَ فَلَا يُنْزَعُ بَعْضُهُ بِالدَّعْوَى .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَمَنْ سَاوَرَهُ الدَّمُ حَتَّى تَغَيَّرَ عَقْلُهُ أَوِ الْمُرَارِ أَوِ الْبَلْغَمٍ الوصية في المرض ، كَانَ مَخُوفًا ، فَإِنِ اسْتَمَرَّ بِهِ فَالِجٌ فَالْأَغْلَبُ إِذَا تَطَاوَلَ بِهِ أَنَّهُ غَيْرُ مَخُوفٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا مُسَاوَرَةُ الدَّمِ ، يَعْنِي : بِهِ مُلَازَمَةَ الدَّمِ وَغَلَبَتَهُ . وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ : سَاوَرَتْنِي صَيْلَةٌ مِنَ الرَّقْشِ فِي أَنْيَابِهَا السُّمُّ نَاقِعُ وَمُسَاوَرَةُ الدَّمِ هُوَ مَا يُسَمِّيهِ الطِّبُّ الْحُمْرَةَ ، وَهُوَ أَنْ يَغْلِبَ الدَّمُ بِزِيَادَتِهِ ، فَلَا يَسْكُنُ بِالْفَصْدِ ، وَرُبَّمَا حَدَثَ مِنْهُ الْخِنَاقُ وَالذَّبْحَةُ فَيُوصِي صَاحِبُهُ فَهُوَ مَخُوفٌ . وَأَمَّا الْمِرَارُ إِذَا غَلَبَ عَلَيْهِ فَهُوَ مَخُوفٌ المريض ، فَإِنِ انْقَلَبَ الْمِرَارُ إِلَى السَّوْدَاءِ فَهُوَ غَيْرُ مَخُوفٍ ؛ لِأَنَّ السَّوْدَاءَ قَدْ تُفْضِي بِصَاحِبِهَا إِلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا تَغَيُّرُ الْعَقْلِ وَإِمَّا ظُهُورُ حَكَّةٍ وَبُثُورِ وَذَلِكَ فِي الْأَغْلَبِ غَيْرُ مَخُوفٍ . وَأَمَّا الْبَلْغَمُ إِذَا غَلَبَ فَمَخُوفٌ ، فَإِنِ اسْتَمَرَّ فَصَارَ فَالِجًا فَهُوَ غَيْرُ مَخُوفٍ ؛ لِأَنَّ الْمَفْلُوجَ قَدْ تَسْتَرْخِي بَعْضُ أَعْضَائِهِ فَيَعِيشُ دَهْرًا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَالسُّلُّ غَيْرُ مَخُوفٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ السُّلَّ قَدْ يَطُولُ بِصَاحِبِهِ فَيَعِيشُ الْمَسْلُولُ دَهْرًا ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ شَيْخًا ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَخُوفَ مَا كَانَ مُوحِيًا ، فَإِنِ اسْتَدَامَ بِصَاحِبِهِ حَتَّى اسْتَسْقَى وَسَقَطَ فَهُوَ مَخُوفٌ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَالطَّاعُونُ مَخُوفٌ حَتَّى يَذْهَبَ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ إِذَا حَدَثَ فِي الْإِنْسَانِ وَخَافَ لَمْ يَتَطَاوَلْ ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ وَخْزٌ مِنْ وَخْزِ الشَّيْطَانِ ، فَإِنْ ظَهَرَ الطَّاعُونُ فِي بَلَدٍ حَتَّى لَا يَتَدَارَكَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا الوصية في المرض وَكَفَى اللَّهُ حُسْنَ الْكِفَايَةِ فَمَا لَمْ يُقِعِ الْإِنْسَانَ فَلَيْسَ بِمَخُوفٍ وَإِنْ وَقَعَ بِهِ صَارَ مَخُوفًا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَمَنْ أَنْفَذَتْهُ الْجِرَاحُ الوصية في المرض فَمَخُوفٌ ، فَإِنْ لَمْ تَصِلْ إِلَى مَقْتَلٍ وَلَمْ تَكُنْ فِي مَوْضِعِ لَحْمٍ وَلَمْ يَغْلِبْهُ لَهَا وَجَعٌ وَلَا ضَرْبَانِ وَلَمْ يَأْتَكِلْ وَيَرِمْ فَغَيَرُ مَخُوفٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَالْجِرَاحُ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَصِلَ إِلَى جَوْفِهِ فِي صَدْرٍ ، أَوْ ظَهْرٍ ، أَوْ خَصْرٍ ، أَوْ إِلَى الدِّمَاغِ ، فَهَذَا مَخُوفٌ ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا دَخَلَ مِنْهَا إِلَى الْجَوْفِ رِيحٌ تَصِلُ إِلَى الْقَلْبِ ، أَوْ تَمَاسَّ الْكَبِدَ فَيُقْتَلُ ، أَوْ رُبَّمَا خَرَجَ بِهَا مِنَ الْجَوْفِ مَا يَقْتُلُ ، وَهَكَذَا كَانَتْ حَالُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ جُرِحَ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَلَّا تَصِلَ إِلَى الْجَوْفِ وَلَا إِلَى الدِّمَاغِ فَيُنْظَرُ : فَإِنْ وَرِمَتْ ، أَوِ اتَّكَلَتْ ، أَوِ اقْتَرَنَ بِهَا وَجَعٌ ، أَوْ ضَرَبَانٌ فَمَخُوفٌ ؛ لِأَنَّ أَلَمَ وَجَعِهَا إِذَا وَصَلَ إِلَى الْقَلْبِ قَتَلَ ، وَوَرَمُهَا وَأَكَلَتُهَا تَسْرِي إِلَى مَا يَلِيهَا ، فَتَقْتُلُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ فَهِيَ غَيْرُ مَخُوفَةٍ ؛ لِأَنَّ السَّلَامَةَ مِنْهَا أَغْلَبُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَإِذَا الْتَحَمَتِ الْحَرْبُ فَمَخُوفٌ ، فَإِنْ كَانَ فِي أَيْدِي مُشْرِكِينَ يَقْتُلُونَ الْأَسْرَى فَمَخُوفٌ ( وَقَالَ ) فِي الْإِمْلَاءِ إِذَا قَدِمَ مَنْ عَلَيْهِ قِصَاصٌ غَيْرَ مَخُوفٍ مَا لَمْ يَجْرَحُوا ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُتْرَكُوا فَيَحْيَوْا ، ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) الْأَوَّلُ أَشْبَهُ بِقَوْلِهِ وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَسْلَمَ مِنَ الْتِحَامِ الْحَرْبِ وَمِنْ كُلِّ مَرَضٍ مَخُوفٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا ثَلَاثَ مَسَائِلَ فِيمَنِ الْتَحَمَ فِي الْحَرْبِ ، فَهَذَا يُنْظَرُ ، فَإِنْ تَكَافَأَ الْفَرِيقَانِ فَمَخُوفٌ عَلَيْهِمَا ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ عَدَدًا مِنَ الْآخَرِ فَلَيْسَ بِمَخُوفٍ عَلَى الْأَكْثَرِينَ وَهُوَ مَخُوفٌ عَلَى الْأَقَلِّينَ . وَسَوَاءٌ كَانَ الْقِتَالُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مَعَ الْمُشْرِكِينَ فَجَعَلَ الشَّافِعِيُّ الْتِحَامَ الْقِتَالِ مَخُوفًا . وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : إِذَا حُمِلَ الْمُسْلِمُ أَسِيرًا فِي أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ ، فَإِنْ كَانُوا لَا يَقْتُلُونَ الْأَسْرَى عَلَى عَادَةٍ قَدْ عُرِفَتْ لَهُمْ فِي اسْتِيفَائِهِمْ لِمَنْ رَقَّ أَوْ فَدَى فَغَيْرُ مَخُوفٍ ، وَإِنْ عُرِفُوا بِقَتْلِ الْأَسْرَى قَالَ الشَّافِعِيُّ : هُوَ مَخُوفٌ ، فَجَعَلَ الْأَسْرَ خَوْفًا كَالْتِحَامِ الْقِتَالِ . وَالْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : مَنْ قَدِمَ لِلْقِصَاصِ وَجَبَ عَلَيْهِ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : هُوَ غَيْرُ مَخُوفٍ مَا لَمْ يُجْرَحْ ، فَلَمْ يَجْعَلِ التَّقْدِيمَ لِلْقِصَاصِ مَخُوفًا ، بِخِلَافِ الْتِحَامِ الْقِتَالِ وَالْأَسِيرِ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبُو حَامِدٍ

الْمَرْوَزِيُّ وَطَائِفَةٌ كَبِيرَةٌ يَجْمَعُونَ بَيْنَ الْجَوَابَيْنِ فِي الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ وَيُخْرِجُونَهَا عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مَخُوفًا ، الْحَالَ فِي الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [ آلِ عِمْرَانَ : 143 ] فَجَعَلَ خَوْفَ الْقَتْلِ الوصية في المرض كَخَوْفِ الْمَرَضِ فِي رُؤْيَةِ الْمَوْتِ فِيهِمَا فَدَلَّ عَلَى اسْتِوَائِهِمَا ، وَلِأَنَّ نَفْسَ الْمَرِيضِ أَسْكَنُ مِنْ هَؤُلَاءِ لِمَا يَرْجُو مِنْ صَلَاحِ الدَّوَاءِ ، فَكَانَ ذَلِكَ بِالْخَوْفِ أَحَقَّ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَكُونُ مَخُوفَ الْحَالِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ ؛ لِأَنَّ خَوْفَ الْمَرَضِ حَالٌّ فِي جِسْمِهِ وَمُمَاسٌّ لِجَسَدِهِ ، فَصَارَ حُكْمُهُ فِيهِ مُسْتَقِرًّا وَلَيْسَتْ حَالُهُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يَخَافُ مِنْ قُرْبِ أَجَلِهِ بِحُلُولِ مَا يَحْدُثُ فِي جَسَدِهِ وَيَنَالُهُ فِي يَدِهِ ، وَذَلِكَ غَيْرُ حَالٍ وَلَا مُسْتَقِرٍّ وَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الشَّيْخِ الْهَرِمِ الَّذِي هُوَ لِعُلُوِّ السِّنِّ مُنْتَظِرُ الْمَوْتِ فِي يَوْمٍ بَعْدَ يَوْمٍ وَعَطَايَاهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ ، فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ . وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا : بَلْ جَوَابُ الشَّافِعِيِّ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ ، فَيَكُونُ الْأَسْرُ وَالْتِحَامُ الْقِتَالِ خَوْفًا وَلَا يَكُونُ التَّقْدِيمُ لِلْقِصَاصِ خَوْفًا . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ يَرَوْنَ قَتْلَ الْأَسْرَى دِينًا وَنِحْلَةً فَالْعَفْوُ مِنْهُمْ غَيْرُ مَوْجُودٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَلِيُّ الْقِصَاصُ ؛ لِأَنَّ مَا وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ وَنَدَبَهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْأَخْذِ بِالْعَفْوِ هُوَ الْأَغْلَبُ مِنْ أَحْوَالِهِمْ وَالْأَشْبَهُ بِأَحْوَالِهِمْ ، فَكَانَ ذَلِكَ فَرْقًا بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ ، وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ : الْمَسَائِلُ الثَّلَاثُ كُلُّهَا عَلَى سَوَاءٍ فِي اعْتِبَارِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَالُ وَتَشْهَدُ بِهِ الصُّورَةُ مِنْ أَنْ يُنْظَرَ ، فَإِنْ كَانَ وَلِيُّ الْقِصَاصُ قَاسِيًا جَنِفًا فَالْأَغْلَبُ مِنْ حَالِهِ التَّشَفِّي وَأَنَّهُ مِمَّنْ لَا يَمُنُّ وَلَا يَعْفُو ، فَتَكُونُ حَالُ الْمُقْتَصِّ مِنْهُ مَخُوفَةً كَالْأَسِيرِ إِذَا كَانَ فِي يَدِ مَنْ لَا يَعْفُو عَنْ أَسِيرٍ . وَإِنْ كَانَ وَلِيُّ الْقِصَاصِ رَحِيمًا وَمِنَ الْحَنَقِ وَالْقُوَّةِ بَعِيدًا ، فَالْأَغْلَبُ مِنْ حَالِهِ الْعَفْوُ وَأَنْ يَكُنْ عَنْ قُدْرَةٍ ، فَتَكُونُ حَالُ الْمُقْتَصِّ مِنْهُ غَيْرَ مَخُوفَةٍ ، كَالْأَسِيرِ إِذَا كَانَ فِي يَدِ مَنْ يَعْفُو عَنِ الْأَسْرَى .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَالْأُمُورُ الْمَخُوفَةُ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا دَخَلَ فِي الْحُسْنِ وَمَاسَّ الْبَدَنَ كَالْأَمْرَاضِ فَهِيَ مَخُوفَةٌ إِذَا كَانَ عَلَيْهَا التَّوْحِيَةُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مَا فَارَقَ الْجِسْمَ وَاخْتَصَّ بِحَالِهِ كَالْأَسِيرِ وَالْمُلْتَحِمِ فِي الْقِتَالِ الوصية في المرض ، فَإِنْ تَرَدَّدَتْ حَالُهُ بَيْنَ خَوْفٍ وَرَجَاءٍ فَغَيْرُ مَخُوفٍ ، وَإِنْ كَانَ الْخَوْفُ أَغْلَبَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَقْتَرِضَهُ الْأَسَدَ فَلَا يَجِدُ مَحِيصًا ، فَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً لَمْ تَكُنْ حَالُهُمْ مَخُوفَةً ؛ لِأَنَّ الْأَسَدَ لَا يَفْتَرِسُ فِي الْحَالِ إِلَّا أَحَدَهُمْ ، فَلَمْ يَكُنِ الْأَغْلَبُ مِنْ حَالِ كُلِّ وَاحِدٍ التَّلَفَ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْهَالِكَ .

وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فَإِنْ بَاشَرَهُ الْأَسَدُ بِالْأَخْذِ فَحَالُهُ مَخُوفَةٌ ، فَأَمَّا قَبْلَ الْمُبَاشَرَةِ فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ . وَمِنْ ذَلِكَ مَنْ غَشِيَهُ سَيْلٌ أَوْ غَشِيَتْهُ نَارٌ ، فَإِنْ وَجَدَ مِنْهُمَا نَجَاةً فَحَالُهُ غَيْرُ مَخُوفَةٍ ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ مِنْهَا نَجَاةً ، فَإِنْ أَدْرَكَهُ السَّيْلُ وَلَحِقَتْهُ النَّارُ ، فَحَالُهُ مَخُوفَةٌ لِأَجْلِ الْمَحَاسَّةِ . وَفِيمَا قَبْلَ إِدْرَاكِ السَّيْلِ وَلَفْحِ النَّارِ قَوْلَانِ : وَكَذَلِكَ مَنْ طَوَّقَتْهُ أَفْعَى ، فَإِنْ نَهَشَتْهُ فَمَخُوفَةٌ وَقَبْلَ نَهْشَتِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ مِنْ حَيَّاتِ الْمَاءِ الَّتِي قَدْ يَقْتُلُ سُمُّهَا وَقِيلَ لَا يَقْتُلُ ، فَلَا تَكُونُ مَخُوفَةً قَوْلًا وَاحِدًا . وَمِنْ ذَلِكَ : أَنْ يَقِيَهُ فِي مَغَارَةٍ لَا يَجِدُ فِيهِمَا طَعَامًا وَلَا شَرَابًا ، فَإِنْ جُوِّزَ أَنْ يَجِدَ الْمَاءَ إِلَى أَقْصَى مُدَّةٍ يَتَمَاسَكُ بِهَا رَمَقُهُ طَعَامًا أَوْ شَرَابًا ، أَوْ مَا يَمْسِكُ رَمَقَهُ مِنْ حَشِيشٍ أَوْ مَيْتَةٍ إِمَّا بِالْوُصُولِ إِلَى عِمَارَةٍ ، أَوْ بِالْحُصُولِ عَلَى جَارَةٍ ، أَوْ بِأَنْ يُدْرِكَهُ سَائِرٌ فَحَالُهُ غَيْرُ مَخُوفَةٍ لِتَرَدُّدِهَا بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ : وَإِنْ يَئِسَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَاشْتَدَّ جُوعُهُ وَعَطَشُهُ فَعَلَى قَوْلَيْنِ . وَكَذَلِكَ رَاكِبُ الْبَحْرِ ، فَإِنْ كَانَتِ الرِّيحُ سَاكِنَةً وَالْأَمْوَاجُ هَادِئَةً فَهُوَ غَيْرُ مَخُوفٍ ، وَهَكَذَا لَوِ اشْتَدَّتْ بِهِمْ رِيحٌ مَعْهُودَةٌ وَأَمْوَاجٌ مَأْلُوفَةٌ فَغَيْرُ مَخُوفَةٍ وَإِنْ عَصَفَتْ بِهِمُ الرِّيحُ وَتَلَاطَمَتْ بِهِمُ الْأَمْوَاجُ حَتَّى خَرَجُوا عَنْ مَعْهُودِ السَّلَامَةِ ، فَإِنْ كُسِرَ بِهِمُ الْمَرْكَبُ حَتَّى صَارُوا عَلَى الْمَاءِ فَمَخُوفٌ ؛ لِأَنَّ الْأَغْلَبَ مِنْهُ سُرْعَةُ الْهَلَكَةِ ، فَأَمَّا قَبْلَ حُمُولِهِمْ عَلَى الْمَاءِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ ، وَمِنْ ذَلِكَ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الرَّجْمُ فِي الزِّنَا ، أَوِ الْقَتْلُ فِي الْحِرَابَةِ ، فَإِنْ كَانَتْ بِإِقْرَارِهِ فَحَالُهُ فِي مَخُوفَةٍ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ رَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ لَمْ يُرْجَمْ وَلَمْ يَتَحَتَّمْ قَتْلُ الْحِرَابَةِ عَلَيْهِ وَصَارَ إِلَى أَخْيَارِ وَلِيِّ الدَّمِ ، وَإِنْ كَانَ بِمُشَاهَدَةِ الْإِمَامِ لَهُ فَمَخُوفٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى سَلَامَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ بِنِيَّةٍ عَادِلَةٍ قَامَتْ عَلَيْهِ قَدْ يَجُوزُ فِي النَّادِرِ رُجُوعُهَا فَعَلَى قَوْلَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ تَمَامُ الشَّهَادَةِ وَوُجُوبُ الْقَتْلِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَإِذَا ضَرَبَ الْحَامِلَ الطَّلْقُ الوصية في المرض فَهُوَ مَخُوفٌ ؛ لِأَنَّهُ كَالتَّلَفِ وَأَشَدَّ وَجَعًا ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : حُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الْحَامِلَ إِذَا أَثْقَلَتْ بِمَعْنَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حَمْلِهَا فَهُوَ مَخُوفٌ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا [ الْأَعْرَافِ : 189 ] . وَعِنْدَنَا أَنَّهُ مَا لَمْ يَضُرَّ بِهَا الطَّلْقُ فَغَيْرُ مَخُوفٍ ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنْ حَالِهَا السَّلَامَةُ ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ حَالُهَا عِنْدَ ثَقْلِهَا مَخُوفَةً ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَئُولُ إِلَى الْخَوْفِ أَنْ يَكُونَ حَالُ الْخَوْفِ مِنْ أَوَّلِ الْحَمْلِ .

لِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ [ الْأَعْرَافِ : 189 ] . فَأَمَّا إِذَا ضَرَبَهَا الطَّلْقُ عِنْدَ حُضُورِ الْوِلَادَةِ فَحَالُهَا مَخُوفَةٌ ، سَوَاءٌ كَانَتَ بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا . وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : إِنَّنَا نَخَافُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الْأَبْكَارِ وَالْأَحْدَاثِ ، فَأَمَّا مَنْ تَوَالَتْ وِلَادَتُهَا مِنْ كِبَارِ النِّسَاءِ فَغَيْرُ مَخُوفٍ لِسُهُولَةِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ لِاعْتِيَادِهِنَّ وَأَنَّ الْأَغْلَبَ سَلَامَتُهُنَّ . فَأَمَّا بَعْدَ وَضْعِ الْحَمْلِ فَمَا لَمْ تَنْفَصِلِ الْمَشِيمَةُ وَيَسْكُنْ أَلَمُ الْوِلَادَةِ فَمَخُوفٌ ، فَإِذَا أَثْقَلَتِ الْمَشِيمَةُ وَسَكَنَ أَلَمُ الْوِلَادَةِ فَغَيْرُ مَخُوفٌ . فَأَمَّا إِلْقَاءُ السَّقْطِ ، فَإِنْ كَانَ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَمَخُوفٌ وَإِنْ كَانَ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَقَبْلَ حَرَكَتِهِ فَغَيْرُ مَخُوفٍ وَإِذَا كَانَ بَعْدَ حَرَكَتِهِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ مَخُوفٌ . وَالثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ أَنَّهُ غَيْرُ مَخُوفٍ إِلْحَاقًا بِمَا قَبْلَ الْحَرَكَةِ . وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ إِلْحَاقَ الْمُتَحَرِّكِ بِمَا بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ أَشْبَهُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

بَابُ الْأَوْصِيَاءِ

مَسْأَلَةٌ وَلَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ إِلَّا إِلَى بَالِغٍ مُسْلِمٍ حُرٍّ عَدْلٍ

بَابُ الْأَوْصِيَاءِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ إِلَّا إِلَى بَالِغٍ مُسْلِمٍ حُرٍّ عَدْلٍ أَوِ امْرَأَةٍ كَذَلِكَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : الْأَصْلُ فِي قَبُولِ الْوَصَايَا وَالتَّعَاوُنِ عَلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [ الْمَائِدَةِ : 2 ] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى : وَافْعَلُوا الْخَيْرَ [ الْحَجِّ : 77 ] . وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : أُمَّتِي كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا وَقَدْ أَوْصَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى عَلِيٍّ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ - ، وَأَوْصَى أَبُو بَكْرٍ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا " . إِذَا كَانَ ذَلِكَ مَنْدُوبًا إِلَيْهِ وَمَأْمُورًا بِهِ ، فَيُخْتَارُ لِمَنْ عَلِمَ فِي نَفْسِهِ الْقُدْرَةَ وَالْأَمَانَةَ أَنْ يَقْبَلَهَا ، وَلِمَنْ عَلِمَ فِي نَفْسِهِ الْعَجْزَ وَالْخِيَانَةَ أَنْ يَرُدَّهَا . ثُمَّ الْكَلَامُ فِيهَا يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ : أَحَدُهُمَا : فِي الْوَصِيِّ . وَالثَّانِي : فِي الْمُوصِي . وَالثَّالِثُ : فِي الْمُوصَى بِهِ . فَأَمَّا الْوَصِيُّ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ اسْتِكْمَالُ خَمْسَةِ شُرُوطٍ وَلَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ إِلَيْهِ إِلَّا بِهَا ، وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِالْوِلَايَةِ عَلَى أَطْفَالٍ أَوْ بِتَفْرِيقِ مَالٍ ، وَهِيَ : الْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالْإِسْلَامُ وَالْعَدَالَةُ . وَهِيَ الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي جَوَازِ الشَّهَادَةِ . فَأَمَّا الشَّرْطُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الْبُلُوغُ فَلِأَنَّ الْقَلَمَ عَنْ غَيْرِ الْبَالِغِ مَرْفُوعٌ ، وَلِأَنَّ تَصَرُّفَهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ مَرْدُودٌ ، فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ مَرْدُودًا . فَلَوْ جُعِلَ الصَّبِيُّ وَصِيًّا بَعْدَ بُلُوغِهِ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ لَهَا فِي الْحَالِ قَابِلٌ لَهَا .

وَالثَّانِي : أَنْ لَا يَكُونَ . فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْحَالِ مَنْ يَقْبَلُهَا ، بَلْ قَالَ : قَدْ أَوْصَيْتُ إِلَى هَذَا الصَّبِيِّ إِذَا بَلَغَ ، فَالْوَصِيَّةُ إِلَيْهِ بَاطِلَةٌ فِي الْحَالِ وَبَعْدَ بُلُوغِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَالِ بِأَهْلٍ لَوْ مَاتَ الصَّبِيُّ قَامَ بِهَا ؛ فَلِذَلِكَ بَطَلَتْ . فَإِنْ كَانَ لَهَا فِي الْحَالِ مَنْ يَقْبَلُهَا ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : قَدْ أَوْصَيْتُ إِلَى فُلَانٍ حَتَّى يَبْلُغَ وَلَدِي ، فَإِذَا بَلَغَ فَهُوَ وَصِيٌّ ، جَازَ وَلَا يَجُوزُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْوَكَالَةِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ عَقْدَ الْوَكَالَةِ مُعَجَّلٌ ، فَلَمْ يَصِحَّ بِحُدُوثِ شَرْطٍ مُؤَجَّلٍ وَعَقْدُ الْوَصِيَّةِ مُؤَجَّلٌ ، فَجَازَ أَنْ يَصِحَّ بِحُدُوثِ شَرْطٍ مُؤَجَّلٍ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّانِي وَهُوَ الْعَقْلُ فَلِأَنَّ الْجُنُونَ يَرْفَعُ الْقَلَمَ وَيَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ التَّصَرُّفِ . فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُجَنُّ فِي زَمَانٍ وَيَفِيقُ فِي زَمَانٍ فَالْوَصِيَّةُ إِلَيْهِ بَاطِلَةٌ ، سَوَاءٌ قَلَّ زَمَانُ جُنُونِهِ أَوْ كَثُرَ . فَلَوْ أَوْصَى إِلَى عَاقِلٍ حَتَّى إِذَا أَفَاقَ هَذَا الْمَجْنُونُ كَانَ وَصِيًّا لَهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ كَالصَّبِيِّ إِذَا بَلَغَ . وَالثَّانِي : لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ بُلُوغَ الصَّبِيِّ لَازِمٌ وَإِفَاقَةُ الْمَجْنُونِ مُجَوَّزَةٌ . فَلَوْ أَوْصَى إِلَى عَاقِلٍ وَطَرَأَ عَلَيْهِ جُنُونٌ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَسْتَدِيمَ بِهِ فَالْوَصِيَّةُ إِلَيْهِ بَاطِلَةٌ . وَالثَّانِي : أَنْ يَفِيقَ مِنْهُ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَطْرَأَ الْجُنُونُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي . فَالْوَصِيَّةُ إِلَيْهِ قَدْ بَطَلَتْ ، كَالْوَكَالَةِ وَالْوَكَالَةُ تَبْطُلُ بِحُدُوثِ الْجُنُونِ ، فَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ حُدُوثُ الْجُنُونِ وَالْإِفَاقَةِ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي ، فَفِي بُطْلَانِ الْوَصِيَّةِ إِلَيْهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : قَدْ بَطَلَتْ كَمَا تَبْطُلُ بِحُدُوثِ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا تَبْطُلُ ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَمْنُوعًا بِحُدُوثِ الْجُنُونِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ حَالُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّالِثُ وَهُوَ الْحُرِيَّةُ فَلِأَنَّ الْعَبْدَ مُوَلَّى عَلَيْهِ بِالرِّقِّ ، فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ وَالِيًا ، وَلِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ لِحَقِّ السَّيِّدِ ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى التَّصَرُّفِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ عَبْدَ نَفْسِهِ أَوْ عَبْدَ غَيْرِهِ . وَقَالَ مَالِكٌ : تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ إِلَى عَبْدِ نَفْسِهِ وَعَبْدِ غَيْرِهِ .

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَجُوزُ إِلَى عَبْدِ نَفْسِهِ إِذْ كَانَ وَلَدُهُ أَصَاغِرَ ، وَلَا تَجُوزُ إِلَى عَبْدِ غَيْرِهِ ، وَلَا إِذَا كَانَ وَلَدُهُ أَكَابِرَ ، تَحْلِيلًا بِأَنَّ عَبْدَهُ مَعَ أَصَاغِرِ وَلَدِهِ مُحْتَبِسُ الرَّقَبَةِ مَمْنُوعٌ مِنْ بَيْعِهِ ، فَصَحَّ نَظَرُهُ عَلَيْهِمْ وَدَامَتْ وِلَايَتُهُ إِلَى بُلُوغِهِمْ . وَهَذَا التَّعْلِيلُ فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ احْتِبَاسَ رَقَبَتِهِ عَلَيْهِمْ وَالْمَنْعَ مِنْ بَيْعِهِ فِي حَقِّهِمْ لَا يَصِحُّ ، لِأَنَّهُمْ لَوِ احْتَاجُوا إِلَى نَفَقَةٍ لَا يَجِدُونَهَا إِلَّا مِنْ ثَمَنِهِ جَازَ لِلْحَاكِمِ بَيْعُهُ فِي نَفَقَاتِهِمِ . وَالثَّانِي : أَنَّ احْتِبَاسَ الرَّقَبَةِ لَا يُجِيزُ مِنَ التَّصَرُّفِ مَا كَانَ مَمْنُوعًا مِنْهُ ، كَالْمَجْنُونِ وَلِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ . فَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَلَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ إِلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ وَجَوَّزَهَا أَبُو حَنِيفَةَ . وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ إِلَى الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ فَفِي جَوَازِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : تَصِحُّ ، لِأَنَّهُمَا يُعْتَقَانِ بِالْمَوْتِ الَّذِي يَكُونُ تَصَرُّفُهَا بَعْدَهُ . وَالثَّانِي : لَا يَصِحُّ اعْتِبَارًا بِحَالِهَا عِنْدَ الْوَصِيَّةِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الشَّرْطُ الرَّابِعُ وَهُوَ الْإِسْلَامُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً [ التَّوْبَةِ : 10 ] . وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ [ آلِ عِمْرَانَ : 118 ] . وَهَذِهِ الْآيَةُ كَتَبَ بِهَا عُمَرُ إِلَى أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حِينَ اتَّخَذَ كَاتِبًا نَصْرَانِيًّا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْوَصِيَّةُ إِلَيْهِ غير المسلم مَوْقُوفَةٌ عَلَى فَسْخِ الْحَاكِمِ ، فَإِنْ تَصَرَّفَ قَبْلَ أَنْ يَفْسَخَهَا الْحَاكِمُ عَلَيْهِ كَانَ تَصَرُّفُهُ نَافِذًا . وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ تَكُونَ الْوَصِيَّةُ إِلَيْهِ جَائِزَةً ، فَلَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَفْسَخَهَا عَلَيْهِ ، أَوْ تَكُونُ بَاطِلَةً ، فَلَا يَجُوزُ فِيهَا تَصَرُّفُهُ . وَإِذَا كَانَ هَكَذَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَصَرُّفُهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِعَقْدٍ أَوِ اجْتِهَادٍ مَرْدُودًا ، فَأَمَّا مَا تَعَيَّنَ مِنْ دَيْنٍ قَضَاهُ ، أَوْ وَصِيَّةٍ بِمُعَيَّنٍ لِمُعَيَّنٍ دَفَعَهَا ، فَلَا يَضْمَنُهَا ، لِوُصُولِ ذَلِكَ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَهُ مُسْتَحِقُّهُ مِنْ غَيْرِ نَائِبٍ أَوْ وَسِيطٍ صَارَ إِلَى حَقِّهِ وَلَيْسَ كَالَّذِي يَعْقِدُهُ مِنْ بَيْعٍ ، أَوْ يَجْتَهِدُ فِيهِ مِنْ تَفْرِيقِ ثُلُثٍ ، بَلْ ذَلِكَ كُلُّهُ مَرْدُودٌ وَهُوَ لِمَا دَفَعَهُ مِنْ ذَلِكَ ضَامِنٌ . فَأَمَّا وَصِيَّةُ الْكَافِرِ إِلَى الْمُسْلِمِ فَجَائِزَةٌ لِظُهُورِ أَمَانَتِهِ فِيهَا . وَأَمَّا وَصِيَّةُ الْكَافِرِ إِلَى الْكَافِرِ فَفِيهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : تَجُوزُ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَافِرُ وَلِيًّا لِكَافِرٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا تَجُوزُ ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ تُقْبَلَ شَهَادَةُ الْكَافِرِ لِكَافِرٍ وَلَا مُسْلِمٍ ، فَهَكَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَافِرُ وَصِيًّا لِكَافِرٍ وَلَا مُسْلِمٍ .



فَصْلٌ : وَأَمَّا الشَّرْطُ الْخَامِسُ وَهُوَ الْعَدَالَةُ : فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ [ السَّجْدَةِ : 18 ] . فَكَانَ مَنْعُ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمْ مُوصِيًا لِمَنْعِ الْمُسَاوَاةِ فِي أَحْكَامِهِمْ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا مَنَعَهُ الْفِسْقُ مِنَ الْوِلَايَةِ عَلَى أَوْلَادِهِ كَانَ أَوْلَى أَنْ يَمْنَعَهُ مِنَ الْوِلَايَةِ عَلَى أَوْلَادِ غَيْرِهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْوَصِيَّةُ إِلَيْهِ الفاسق مَوْقُوفَةٌ عَلَى فَسْخِ الْحَاكِمِ ، يَمْضِي فِيهَا تَصَرُّفُهُ قَبْلَ فَسْخِهَا عَلَيْهِ كَمَا قَالَ فِي الْكَافِرِ ، وَفِيمَا مَضَى مِنَ الْكَافِرِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ فِي الْفَاسِقِ . فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا جَازَتِ الْوَصِيَّةُ إِلَيْهِ كَمَا جَازَتِ الْوَكَالَةُ لَهُ ؟ قِيلَ لَهُ : لِأَنَّ الْوَكَالَةَ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ الْإِذْنِ وَالْوَصِيَّةُ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَذِنَ لِوَكِيلِهِ فِي التَّوْكِيلِ فَوَكَّلَ الْوَكِيلُ فَاسِقًا ، فَفِي جَوَازِ وَكَالَتِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ الْغَيْرِ ، فَأَشْبَهَ الْوَصِيَّةَ . وَالثَّانِي : يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ الَّذِي لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ الْعَدَالَةُ . فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُرَاعَى فِيهِ عَدَالَةُ الْوَصِيِّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ يُرَاعَى عَدَالَتُهُ عِنْدَ مَوْتِ الْمُوصِي وَلَا يَضُرُّ أَنْ يَكُونَ فَاسِقًا عِنْدَ عَقْدِ الْوَصِيَّةِ كَمَا تُرَاعَى عَدَالَةُ الشَّاهِدِ عِنْدَ الْأَدَاءِ دُونَ التَّحَمُّلِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُرَاعَى عَدَالَةُ الْوَصِيِّ فِي الطَّرَفَيْنِ عِنْدَ الْوَصِيَّةِ وَعِنْدَ الْمَوْتِ ، وَلَا يَضُرُّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْوَصِيَّةِ وَالْمَوْتِ غَيْرَ عَدْلٍ ؛ لِأَنَّ وَقْتَ الْوَصِيَّةِ هُوَ حَالُ التَّقْلِيدِ وَوَقْتُ الْمَوْتِ هُوَ حَالُ التَّصَرُّفِ ، فَاعْتُبِرَ فِيهِمَا الْعَدَالَةُ وَلَمْ تُعْتَبَرْ فِي غَيْرِهِمَا ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ وَهُوَ أَصَحُّهَا : أَنَّهُ تُعْتَبَرُ عَدَالَتُهُ مِنْ حِينِ الْوَصِيَّةِ إِلَى مَا بَعْدُ ؛ لِأَنَّ كُلَّ زَمَانٍ مِنْهُ قَدْ يُسْتَحَقُّ فِيهِ التَّصَرُّفُ لَوْ حَدَثَ فِيهِ الْمَوْتُ ، فَإِنْ طَرَأَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْهُ فِسْقٌ ، بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ إِلَيْهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَكَامَلَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ الْخَمْسَةُ فِي شَخْصٍ ، كَانَ مَوْضِعًا لِلْوَصِيَّةِ إِلَيْهِ ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ وَصِيًّا فِي مَالٍ ، أَوْ عَلَى أَطْفَالٍ ، سَوَاءٌ كَانَ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً . وَحُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ : أَنَّ الْوَصِيَّةَ إِلَى الْمَرْأَةِ لَا تَصِحُّ ؛ لِأَنَّ فِيهَا وِلَايَةً يَعْجِزُ النِّسَاءُ عَنْهَا . وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ وِلَايَةً فَالْمُغَلَّبُ فِيهَا الْأَمَانَةُ وَجَوَازُ الشَّهَادَةِ وَقَدْ تَجُوزُ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : لِهِنْدٍ : خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ .

فَجَعَلَهَا الْقَيِّمَةَ عَلَى أَوْلَادِهَا فِي النَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ فِي بَعْضِ الْمَغَازِي فَأَوْدَعَ أَمْوَالَا كَانَتْ عِنْدَهُ عِنْدَ أُمِّ أَيْمَنَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ اسْتِنَابَةِ الْمَرْأَةِ فِي الْمَالِ وَعَلَى الْأَطْفَالِ وَكَانَ لَهَا الْحَضَانَةُ عَلَيْهِمْ ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَعْنَى الْوِلَايَةِ . فَإِذَا ثَبَتَ أَلَّا فَرْقَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالْمَرِيضِ إِذَا لَمْ يُغَيِّرْهُ الْمَرَضُ عَنْ فَضْلِ النَّظَرِ . وَلَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِ الْوَصِيَّةِ إِلَى الْأَعْمَى عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : تَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا تَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُفْتَقَرُ فِي الْوَصَايَا إِلَى عُقُودٍ لَا تَصِحُّ مِنَ الْأَعْمَى وَفَضْلِ نَظَرٍ لَا يُدْرَكُ إِلَّا بِالْمُعَايَنَةِ . فَهَذَا حُكْمُ الْوَصِيِّ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُوصِي فَلَا يَخْلُو مَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَالًا ، أَوْ وِلَايَةً عَلَى أَطْفَالٍ . فَإِنْ كَانَ الْمُوصَى بِهِ مَالًا يُفَرَّقُ فِي أَهْلِ الْوَصَايَا ، فَالْمُعْتَبَرُ فِي الْمُوصِي شَرْطَانِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا وَشَرْطَانِ مُخْتَلَفٌ فِيهِمَا ، فَأَحَدُ الشَّرْطَيْنِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِمَا التَّمْيِيزُ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُمَيِّزُ لِصِغَرٍ ، أَوْ جُنُونٍ ، لَمْ تَصِحَّ وَصِيَّتُهُ . وَالثَّانِي : الْحُرِّيَّةُ ، فَإِنْ كَانَ عَبْدًا لَمْ تَصِحَّ وَصِيَّتُهُ . وَأَمَّا الشَّرْطَانِ الْمُخْتَلَفُ فِيهِمَا : فَأَحَدُهُمَا الْبُلُوغُ . وَالثَّانِي : الرُّشْدُ وَفِيهِمَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمَا شَرْطَانِ ، فَلَا تَصِحُّ وَصِيَّةُ غَيْرِ بَالِغٍ وَلَا سَفِيهٍ . وَالثَّانِي : لَيْسَا بِشَرْطٍ فِي جَوَازِ الْوَصِيَّةِ وَتَصِحُّ مِنْ غَيْرِ الْبَالِغِ وَالسَّفِيهِ ، وَلَكِنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ وَصِيَّةِ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ وَالْعَدْلِ وَالْفَاسِقِ وَالرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ .

فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِالْوِلَايَةِ عَلَى أَطْفَالٍ ، اعْتُبِرُ فِي الْمُوصَى بِهَا سِتَّةُ شُرُوطٍ ، لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ مِنْهُ إِلَّا بِهَا : أَحَدُهُمَا : جَرَيَانُ الْقَلَمِ عَلَيْهِ وَصِحَّةُ التَّكْلِيفِ لَهُ ؛ لِأَنَّ مَنْ لَا يَجْرِي عَلَيْهِ قَلَمٌ بِجُنُونٍ ، أَوْ صِغَرٍ ، لَا تَكُونُ لَهُ وِلَايَةٌ وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ تَوْلِيَةٌ . وَالثَّانِي : الْحُرِّيَّةُ ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ تُنَافِي الرِّقَّ . وَالثَّالِثُ : الْإِسْلَامُ فِي الطِّفْلِ إِذَا كَانَ مُسْلِمًا وَفِي اعْتِبَارِهِ فِي الطِّفْلِ إِذَا كَانَ مُشْرِكًا وَجْهَانِ . وَالرَّابِعُ : الْعَدَالَةُ ؛ لِأَنَّ الْفَاسِقَ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةٌ ، فَكَانَ أَوْلَى أَلَّا تَصِحَّ مِنْهُ تَوْلِيَةٌ .

وَالْخَامِسُ : أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَلِي عَلَى الطِّفْلِ فِي حَيَاتِهِ بِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ يُقِيمُ الْوَصِيَّةَ مَقَامَ نَفْسِهِ فَلَمْ تَصِحَّ إِلَّا مِمَّنْ قَدِ اسْتَحَقَّ الْوِلَايَةَ بِنَفْسِهِ ، وَذَلِكَ فِي الْوَالِدَيْنِ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْإِخْوَةِ وَالْأَعْمَامِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِالْوِلَايَةِ عَلَى الْأَطْفَالِ مِنْ غَيْرِ الْآبَاءِ ، كَمَا تَصِحُّ مِنَ الْآبَاءِ . وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ فِي الْوَالِدِ بَعْضِيَّةً بَايَنَ بِهَا غَيْرَهُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ لِلْوَالِدِ فِي حَيَاتِهِ وِلَايَةً لَا يَسْتَحِقُّهَا غَيْرُهُ ، فَمِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ اخْتَصَّتِ الْوَصِيَّةُ بِالْآبَاءِ دُونَ غَيْرِهِمْ . وَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَالَّذِي يَسْتَحِقُّ الْوِلَايَةَ فِي حَيَاتِهِ وَيُوصِي بِهَا عِنْدَ وَفَاتِهِ هُوَ الْأَبُ وَآبَاؤُهُ ، فَأَمَّا الْأُمُّ فَفِي وِلَايَتِهَا عَلَى صِغَارِ وَلَدِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ : أَنَّهُ لَهَا عَلَيْهِمْ وِلَايَةٌ كَالْأَبِ ، لِمَا فِيهَا مِنَ الْبَعْضِيَّةِ وَأَنَّهَا بِرَأْفَةِ الْأُنُوثَةِ أَحَنُّ عَلَيْهِمْ وَأَشْفَقُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : لَا وِلَايَةَ لَهَا ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا قَصُرَتْ بِنَقْصِ الْأُنُوثَةِ عَنْ وِلَايَةِ النِّكَاحِ الَّتِي تَسْرِي فِي جَمِيعِ الْعَصَبَاتِ ، كَانَ أَوْلَى أَنْ تُقْصَرَ عَمَّا يَخْتَصُّ مِنَ الْوِلَايَةِ بِالْآبَاءِ دُونَ سَائِرِ الْعَصَبَاتِ . فَعَلَى هَذَا إِنْ قِيلَ إِنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهَا ، لَمْ تَصِحَّ مِنْهَا الْوَصِيَّةُ بِالْوِلَايَةِ عَلَى أَطْفَالِهَا ، وَإِذَا قِيلَ إِنَّ لَهَا الْوِلَايَةُ بِنَفْسِهَا ، فَكَذَلِكَ أُمَّهَاتُهَا وَأُمَّهَاتُ الْأَبِ ، وَهَلْ يَسْتَحِقُّهَا أَبُو الْأُمِّ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَسْتَحِقُّهَا كَأُمِّ الْأُمِّ لِمَا فِيهِ مِنَ الْوِلَادَةِ وَأَنَّهُ أَحَقُّ بِالْوِلَايَةِ عَلَى الْأُمِّ مِنْ أُمِّهَا . وَالثَّانِي : لَا وِلَايَةَ لَهُ ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ مِيرَاثِهِ قَدْ حَطَّهُ مِنْ مَنْزِلَةِ أُمِّ الْأُمِّ . فَعَلَى هَذَا يَكُونُ بَعْدَ الْآبَاءِ لِلْأُمِّ ، فَإِذَا اجْتَمَعَ بَعْدَ الْأُمِّ أُمُّ أَبٍ وَأُمُّ أُمٍّ ، فَفِي أَحَقِّيَّتِهِمَا بِالْوِلَايَةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أُمُّ الْأَبِ ؛ لِأَنَّ الْأَبَ بِالْوِلَايَةِ أَحَقُّ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أُمُّ الْأُمِّ ؛ لِأَنَّهَا بِالْحَضَانَةِ أَحَقُّ . فَإِذَا أَوْصَتْ مُسْتَحِقَّةُ الْوِلَايَةِ مِنَ الْأُمَّهَاتِ ، بِالْوِلَايَةِ عَلَى الْأَطْفَالِ صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ . وَالشَّرْطُ السَّادِسُ : أَلَّا يَكُونَ لِلطِّفْلِ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْوِلَايَةَ بِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ مُسْتَحِقَّ الْوِلَايَةِ بِنَفْسِهِ ، أَوْلَى مِنْ مُسْتَحِقِّهَا بِغَيْرِهِ فَعَلَى هَذَا لَوْ أَوْصَى الْأَبُ بِالْوِلَايَةِ عَلَى أَطْفَالٍ وَهُنَاكَ جَدٌّ ، كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةً .

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا اعْتِبَارَ بِهَذَا الشَّرْطِ وَيَجُوزُ لِلْأَبِ أَنْ يُوصِيَ بِالْوِلَايَةِ عَلَى أَطْفَالِهِ إِلَى أَجْنَبِيٍّ وَهُنَاكَ جَدٌّ ، كَمَا يَجُوزُ فِي إِنْفَاذِ الْوَصَايَا . وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ الْوَصَايَا لَا يَسْتَحِقُّهَا الْجَدُّ بِنَفْسِهِ وَلَيْسَ كَالْوِلَايَةِ عَلَى الْأَطْفَالِ ؛ لِأَنَّ الْجَدَّ يَسْتَحِقُّهَا بِنَفْسِهِ ، فَكَانَ أَحَقَّ مِنَ الْوَصِيِّ . فَلَوْ أَوْصَى الْأَبُ بِهَا وَهُنَاكَ أُمٌّ ، فَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلْأُمِّ ، صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ إِلَى غَيْرِهَا . وَإِنْ قِيلَ لَهَا تَصِحُّ ، وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يُوصِيَ بِتَفْرِيقِ ثُلُثِهِ إِلَى مَنْ شَاءَ مَعَ وُجُودِ الْآبَاءِ ، فَهَذَا حُكْمُ الْمُوصِي .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْمُوصَى بِهِ ، فَإِنْ كَانَ مَالًا ، فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَاسْتَقْصَيْنَا شَرْحَهُ ، وَإِنْ كَانَ وِلَايَةً ، فَلَا تَصِحُّ إِلَّا عَلَى صَغِيرٍ لَمْ يَبْلُغْ ، أَوْ مَجْنُونٍ لَا يَفِيقُ ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ الِابْنُ بَالِغًا عَاقِلًا لَمْ تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ بِالنَّظَرِ فِي مَالِهِ ، سَوَاءٌ كَانَ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِالْوِلَايَةِ عَلَى مَالِ الْبَالِغِ إِذَا كَانَ غَائِبًا ، وَهَكَذَا إِذَا كَانَ حَاضِرًا وَشَرِيكُهُ فِي الْمِيرَاثِ طِفْلٌ ، وَيَجُوزُ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَبِيعَ عَلَى الْكَبِيرِ مَالَهُ إِذَا رَأَى بَيْعَ مَالِ الطِّفْلِ . وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ : هَذَا قَوْلٌ لَا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ ، وَلَوْ أَنَّ حَاكِمًا حَكَمَ بِهِ نُقِضَ حُكْمُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنِ لِلْمُوصِي وِلَايَةٌ عَلَى الْبَالِغِ فِي حَيَاتِهِ ، فَكَيْفَ يَجُوزُ لِوَصِيِّهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ ؟ وَأَمَّا إِذَا كَانَ الِابْنُ بَالِغًا عَاقِلًا ، لَكِنْ قَدْ حُجِرَ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ ، فَلَا يَصِحُّ مِنَ الْأَبِ أَنْ يُوصِيَ بِالْوِلَايَةِ عَلَيْهِ ، بِخِلَافِ الْمَجْنُونِ ؛ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ عَلَى الْمَجْنُونِ بِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَقْتَصِرُ إِلَى حُكْمِ حَاكِمٍ وَوِلَايَتُهُ عَلَى صَغِيرٍ لَا تَكُونُ بِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهَا تَفْتَقِرُ إِلَى حُكْمِ حَاكِمٍ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " فَإِنْ تَغَيَّرَتْ حَالُهُ أُخْرِجَتِ الْوَصِيَّةُ مِنْ يَدِهِ وَضُمَّ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ ضَعِيفًا أَمِينًا مَعَهُ ، فَإِنْ أَوْصَى إِلَى غَيْرِ ثِقَةٍ فَقَدْ أَخْطَأَ عَلَى غَيْرِهِ ، فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا تَغَيَّرَ حَالُ الْوَصِيِّ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ الشُّرُوطِ فِيهِ ، فَذَلِكَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا خَرَجَ بِهِ مِنَ الْوَصِيَّةِ . وَالثَّانِي : مَا عَجَزَ بِهِ عَنْهَا . فَأَمَّا الَّذِي يَخْرُجُ بِهِ مِنَ الْوَصِيَّةِ : فَالطَّارِئُ عَلَيْهِ مِنْ جُنُونٍ ، أَوْ فِسْقٍ ، أَوْ مَرَضٍ يُؤَثِّرُ فِي صِحَّةِ تَدْبِيرِهِ وَفَضْلِ نَظَرِهِ ، فَهَذِهِ أُمُورٌ يُخْرَجُ بِهَا مِنَ الْوَصِيَّةِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : طَرْؤُ الْفِسْقِ لَا يُخْرِجُهُ مِنَ الْوَصِيَّةِ ، كَمَا أَنَّ فِسْقَ مَنْ حُكِمَ بِشَهَادَتِهِ لَا يُوجِبُ نَقْضَ الْحُكْمِ بِهَا ، وَلَكِنْ يُضَمُّ إِلَيْهِ بَعْدَ فِسْقِهِ عَدْلٌ . وَهَذَا الْقَوْلُ لَا وَجْهَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْفِسْقُ مَانِعًا مِنَ ابْتِدَاءِ الْوَصِيَّةِ كَانَ مَانِعًا مِنْ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110