كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي

الْمَسْأَلَةِ فِيمَا تَقَدَّمَ بِفُرُوعِهَا .


مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَمَنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْكَفَّارَةِ وَالزَّكَاةِ ، فَلَهُ أَنْ يَصُومَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ وَلَا يَعْتِقَ ، فَإِنْ فَعَلَ أَجْزَأَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ مَصْرِفَ الْكَفَّارَاتِ فِي الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ خَاصَّةً ، وَمَصْرِفَ الزَّكَاةِ فِي الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ، وَفِي بَقِيَّةِ أَهْلِ السُّهْمَانِ الثَّمَانِيَةِ ، فَاشْتَرَكَ الْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ فِي الْكَفَّارَاتِ وَالزَّكَاةِ ، وَاخْتُصَّتِ الزَّكَاةُ بِبَقِيَّةِ الْأَصْنَافِ دُونَ الْكَفَّارَاتِ . هَذَا الْكَلَامُ فِي مَصْرِفِهَا . فَأَمَّا وُجُوبُهَا ، فَكُلُّ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ ، وَقَدْ يَجِبُ التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ عَلَى مَنْ لَا تُجِبْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ إِذَا مَلَكَ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ ، وَقَدْ يَجِبُ التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ عَلَى مَنْ يَحِلُّ لَهُ الزَّكَاةُ وَالْكَفَّارَةُ ، وَهُوَ مَنْ وَجَدَهَا فَاضِلَةً عَنْ قُوتِهِ وَقُوتِ عِيَالِهِ ، وَلَا يَصِيرُ بِفَضْلِهَا غَنِيًّا ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ دُونَ الصِّيَامِ ، لِوُجُودِهَا فِي مِلْكِهِ فَاضِلَةً عَنْ كِفَايَةِ وَقْتِهِ ، وَيَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الزِّكْوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ لِدُخُولِهِ فِي حُكْمِ الْفَقْرِ وَالْمَسْكَنَةِ بِعَدَمِ الْكِفَايَةِ الْمُسْتَدِيمَةِ ، وَقَدْ يُسْقِطُ التَّكْفِيرَ بِالْمَالِ وَيَعْدِلُ عَنْهُ إِلَى الصِّيَامِ مَنْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَخْذُ الزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ ، وَهُوَ الْجَلْدُ الْمُكْتَسِبُ قَدْرَ كِفَايَتِهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ يُكَفِّرُ بِالصِّيَامِ دُونَ الْمَالِ لِعَدَمِهِ فِي مِلْكِهِ ، وَتَحْرُمُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَالزَّكَاةُ ، لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْهَا بِمَكْسَبِهِ . فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ ، فَلِمَ قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَمَنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْكَفَّارَةِ وَالزَّكَاةِ فَلَهُ أَنْ يَصُومَ ، وَقَدْ قُلْتُمْ فِيمَا فَضَّلْتُمْ : إِنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ مَنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَصُومَ عَنْهُ فِي الْكَفَّارَةِ ، فَمِنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الشَّافِعِيَّ أَشَارَ إِلَى الْأَغْلَبِ مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ ، وَالْأَغْلَبُ مَا قَالَهُ . وَالثَّانِي : أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَصَدَ بِهِ أَبَا حَنِيفَةَ حَيْثُ اعْتَبَرَ الْغِنَى وَالْفَقْرَ بِوُجُودِ النِّصَابِ وَعَدَمِهِ ، وَهُوَ عِنْدَهُ مُعْتَبَرٌ بِوُجُودِ الْكِفَايَةِ الْمُسْتَدِيمَةِ فَيَكُونُ غَنِيًّا ، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ نِصَابًا إِذَا كَانَ مُكْتَسِبًا بِيَدَيْهِ ، وَيَكُونُ فَقِيرًا وَإِنْ مَلَكَ نِصَابًا إِذَا كَانَ دُونَ كِفَايَتِهِ ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا ذَلِكَ فِي قِسْمَةِ الصَّدَقَاتِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا وَمَالُهُ غَائِبٌ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُكَفِّرَ حَتَى يَحْضُرَ مَالُهُ ، إِلَّا بِالْإِطْعَامِ أَوِ الْكِسْوَةِ أَوِ الْعِتْقِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَالَ الْمُزَنِيُّ جُعِلَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمُوسِرِ إِذَا كَانَ الْمُكَفِّرُ ذَا مَالٍ غَائِبٍ ، إِمَّا بِأَنْ سَافَرَ عَنْ مَالٍ خَلَّفَهُ بِبَلَدِهِ ، وَإِمَّا بِأَنْ سَافَرَ بِالْمَالِ ، وَهُوَ مُقِيمٌ فِي بَلَدِهِ ، فَلَمْ

يَقْدِرْ عَلَى التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ لِغَيْبَتِهِ عَنْهُ ، فَهُوَ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي حُكْمِ الْمُوسِرِ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ الصِّيَامُ حَتَّى يَقْدِرَ عَلَى مَالِهِ فَيُكَفِّرَ بِالْمَالِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : هُوَ فِي حُكْمِ الْمُعْسِرِينَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُكَفِّرَ بِالصِّيَامِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا حَلَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ لِحَاجَتِهِ جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْفَقْرِ مِنْ كَفَّارَتِهِ ، وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الْحَاجَةَ مُخْتَصَّةٌ بِمَكَانِهِ ، وَالْكَفَّارَةَ مُعْتَبَرَةٌ بِإِمْكَانِهِ . فَإِنْ قِيلَ : أَفَلَيِسَ الْمُتَمَتِّعُ فِي الْحَجِّ إِذَا كَانَ مُعْسِرًا فِي مَكَّةَ مُوسِرًا فِي بَلَدِهِ كَفَّرَ بِالصِّيَامِ كَالْمُعْسِرِ ، فَهَلَّا كَانَ كَذَلِكَ فِي كَفَّارَةِ الْأَيْمَانِ قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَكَانَ الدَّمِ فِي التَّمَتُّعِ مُسْتَحَقٌّ بِمَكَّةَ ، فَاعْتُبِرَ يَسَارُهُ أَوْ إِعْسَارُهُ بِهَا ، وَمَكَانُ الْإِطْعَامِ فِي غَيْرِهِ مُطْلَقٌ فَاعْتُبِرَ يَسَارُهُ وَإِعْسَارُهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الصَّوْمَ فِي كَفَّارَةِ التَّمَتُّعِ مُعَيَّنٌ لِلزَّمَانِ فِي صَوْمِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعَ ، فَكَانَ فِي تَأْخِيرِهِ فَوَاتُ بَدَلِهِ ، وَلَيْسَ لِصِيَامِ الْيَمِينِ زَمَانٌ مُعَيَّنٌ يَفُوتُ بِتَأْخِيرِهِ فَافْتَرَقَا .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا لَمْ يَخْلُ حَالُهُ فِي كَمَالِ فُرُوضِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا يَفُوتُ بِتَأْخِيرِهِ إِلَى حَالِ الْكَمَالِ ، وَذَلِكَ مِثْلُ صَلَاةِ الْعُرْيَانِ وَالْمُتَيَمِّمِ وَكَفَّارَةِ الْمُتَمَتِّعِ ، فَفَرْضُهُ تَعْجِيلُ أَدَائِهِ عَلَى غِنًى . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَا لَا يَفُوتُ بِتَأْخِيرِهِ وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ ضَرَرٌ بِالتَّأْخِيرِ مِثْلُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَالْقَتْلِ وَزَكَاةِ الْفِطْرِ ، فَفَرْضُهُ إِذَا قَدِرَ عَلَى الْكَمَالِ أَنْ يُؤَخِّرَهُ إِلَى حَالِ الْإِمْكَانِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا لَا يَفُوتُ بِتَأْخِيرِهِ ، لَكِنْ يَلْحَقُهُ بِالتَّأْخِيرِ ضَرَرٌ مِثْلُ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ يَلْحَقُهُ بِتَأْخِيرِهَا ضَرَرٌ فِي امْتِنَاعِهِ مِنَ الْجِمَاعِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجِبُ تَأْخِيرُهَا بِالْيَسَارِ فِي بَلَدِهِ حَتَّى يَعْتِقَ لِأَنَّهُ غَنِيٌّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجُوزُ أَنْ يُعَجِّلَ التَّكْفِيرَ بِالصِّيَامِ حكم من : لِأَنَّهُ مُسْتَضَرٌّ ، وَهَكَذَا حُكْمُهُ لَوْ كَانَ ضَالًّا أَوْ مَغْصُوبًا لَا يَجُوزُ أَنْ يُكَفِّرَ حَتَّى يَقْدِرَ عَلَى مَالِهِ فَيُكَفِّرَ بِهِ ، فَإِنْ تَلَفَ مَالُهُ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَيْهِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَقْدِرَ عَلَى التَّكْفِيرِ لَهُ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَيْهِ بِأَنْ يُكَاتِبَ أَوْ يُرَاسِلَ إِلَى بَلَدِ الْمَالِ بِالتَّكْفِيرِ عَنْهُ ، فَلَا يَفْعَلُ حَتَّى يَتْلَفَ الْمَالُ ، فَهَذَا فِي حُكْمِ مَنْ كَانَ مُوسِرًا عِنْدَ الْوُجُوبِ مُعْسِرًا عِنْدَ الْأَدَاءِ ، فَيَكُونُ فِي تَكْفِيرِهِ بِالصِّيَامِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ أَنْ يُكَفِّرَ بِهِ إِذَا اعْتُبِرَ بِهَا حَالُ الْأَدَاءِ .

وَالثَّانِي : لَا يَجُوزُ أَنْ يُكَفِّرَ إِلَّا بِالْمَالِ إِذَا اعْتُبِرَ بِهَا حَالُ الْوُجُوبِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ حَتَّى يَتْلَفَ ، فَيُجْزِئُهُ التَّكْفِيرُ بِالصِّيَامِ قَوْلًا وَاحِدًا لِإِعْسَارِهِ فِي حَالَتَيْ وُجُوبِهَا وَأَدَائِهَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ مَا يُجْزِئُ مِنَ الْكِسْوَةِ فِي الْكَفَّارَةِ

بَابُ مَا يُجْزِئُ مِنَ الْكِسْوَةِ فِي الْكَفَّارَةِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَأَقَلُّ مَا يُجْزِئُ مِنَ الْكِسْوَةِ كُلُّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ كِسْوَةٍ مِنْ عِمَامَةٍ أَوْ سَرَاوِيلَ أَوْ إِزَارٍ أَوْ مِقْنَعَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ لِرَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ أَوْ صَبِيٍّ ، وَلَوِ اسْتَدَلَّ بِمَا يَجُوزُ فِيهِ الصَّلَاةُ مِنَ الْكِسْوَةِ عَلَى كِسْوَةِ الْمَسَاكِينِ لَجَازَ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِمَا يَكْفِيهِ فِي الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ أَوْ فِي السَّفَرِ مِنَ الْكِسْوَةِ ، وَقَدْ أَطْلَقَهُ اللَّهُ فَهُوَ مُطْلَقٌ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : خَيَّرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُكَفِّرَ عَنِ الْيَمِينِ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : إِطْعَامِ عَشَرَةِ ، أَوْ كِسْوَةِ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ ، أَوْ عِتْقِ رَقَبَةٍ ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الْإِطْعَامِ ، فَأَمَّا الْكِسْوَةُ فَلَيْسَ لَهَا أَقَلُّ تُعْتَبَرُ بِهِ في الكفارة ، فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا عَلَى خَمْسَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ : أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ فِيهَا أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ ، قَمِيصٍ وَمِئْزَرٍ وَرِدَاءٍ ما يجزئ من الكسوة في الكفارة . وَالثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ فِيهَا أَقَلُّ مِنْ ثَوْبَيْنِ ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ ، وَالْحَسَنُ ، وَابْنُ سِيرِينَ . وَالثَّالِثُ : وَهُوَ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ إِلَّا كِسْوَةُ ثَوْبٍ جَامِعٍ كَالْمِلْحَفَةِ وَالْكِسَاءِ . وَالرَّابِعُ : وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ : إِنَّهُ لَا يُجْزِئُ مِنَ الْكِسْوَةِ إِلَّا مَا تُجْزِئُ فِيهِ الصَّلَاةُ ، إِنْ كَانَ لِرَجُلٍ فَمَا يَسْتُرُ بِهِ مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ وَرُكْبَتِهِ ، وَإِنْ كَانَتِ امْرَأَةً فَمَا تَسْتُرُ بِهِ جَمِيعَ بَدَنِهَا . وَالْخَامِسُ : وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ : إِنَّهُ كِسْوَةُ ثَوْبٍ وَاحِدٍ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْكِسْوَةِ سَتَرَ الْعَوْرَةَ أَوْ لَمْ يَسْتُرْهَا ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَطَاوُسٌ وَعَطَاءٌ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ أَصَحَّ الْأَقَاوِيلِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ مِنْ ثَوْبٍ وَاحِدٍ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْكِسْوَةِ سَوَاءٌ سَتَرَ الْعَوْرَةَ ، وَأَجْزَأَتْ فِيهِ الصَّلَاةُ أَمْ لَا : لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : الْتِزَامٌ يُقِيمُهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَمَا يُجَاوِزُهُ الْتِزَامُ زِيَادَةٍ يُخْتَلَفُ فِيهَا ، فَاعْتُبِرَ الْأَصْلُ فِي بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَخْلُو إِطْلَاقُ الْكِسْوَةِ مِنَ اعْتِبَارِهَا بِمَا انْطَلَقَ عَلَيْهِ الِاسْمُ أَوْ بِمَا

دَعَتْ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ فَلَمْ يَلْزَمِ اعْتِبَارُهَا بِمَا دَعَتْ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ : لِأَنَّهَا تَدْعُو إِلَى مَا يُدْفِئُ مِنَ الْبَرْدِ فِي الشِّتَاءِ ، وَيَقِي مِنَ الْحَرِّ فِي الصَّيْفِ ، وَإِذَا لَمْ يُغَيِّرْ مَا دَعَتْ إِلَيْهِ حَاجَةُ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ كَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يُغَيِّرَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ مِنْ سِتْرِ الْعَوْرَةِ وَإِجْزَاءِ الصَّلَاةِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أْحَدُهُمَا : خُرُوجُهُ مِنَ اعْتِبَارِ الِاسْمِ وَهُوَ أَصْلٌ عَنِ اعْتِبَارِ الْكِفَايَةِ وَهِيَ عُرْفٌ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ أَعْطَاهُ مِنْ رَقِيقِ الثِّيَابِ مَا يَعُمُّ الْعَوْرَةَ وَلَا يَسْتُرُهَا لِرِقَّتِهِ أَجْزَأَهُ ، وَإِنْ لَمْ تَجُزْ فِيهِ الصَّلَاةُ ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَوَى قَدْرُ الْإِطْعَامِ فِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ قَدْرُ الْكِسْوَةِ فِيهِمَا ، وَفِي اعْتِبَارِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْقَدْرِ فِيهِمَا لِاخْتِلَافِ الْعَوْرَةِ مِنْهُمَا ، فَكَانَ ذَلِكَ مَدْفُوعًا ، وَإِذَا بَطَلَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنْ يُعْتَبَرَ مَا زَادَ عَلَى انْطِلَاقِ الِاسْمِ ثَبَتَ أَنَّ مَا انْطَلَقَ اسْمُ الْكِسْوَةِ عَلَيْهِ هُوَ الْمُعْتَبَرُ فَنَقُولُ : كَسَاهُ قَمِيصًا أَوْ كَسَاهُ مِنْدِيلًا وَكَسَاهُ سَرَاوِيلَ وَكَذَلِكَ الْمِقْنَعَةُ وَالْخِمَارُ فَأَجْزَاهُ ذَلِكَ كُلُّهُ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا تُجْزِئُهُ السَّرَاوِيلُ ؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِغَيْرِهِ ، وَهَذَا فَاسِدٌ بِالْعِمَامَةِ وَالْمِنْدِيلِ ، فَأَمَّا الْقَلَنْسُوَةُ فَفِي إِجْزَائِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ : لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ مَا يُكْتَسَى . وَالثَّانِي : لَا يَجُوزُ : لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ وَلَا يَنْفَرِدُ بِلِبَاسِهَا ، وَقَالَ أَبُو الْغِيَاضِ الْبَصْرِيُّ : إِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً تُغَطِّي نِصْفَ الرَّأْسِ لَمْ تَجُزْ وَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً تَعُمُّ الرَّأْسَ وَتُغَطِّي الْآذَانَ وَالْقَفَا أَجْزَأَتْ وَلَا يُجْزِئُ أَنْ يُعْطِيَ خُفَّيْنِ وَلَا نَعْلَيْنِ وَلَا تِكَّةً ، وَلَا مَا يُلْبَسُ مِنَ الْعَصَائِبِ وَلَا تُجْزِئُ مِنْطَقَةٌ وَلَا مُكَعَّبٌ وَلَا هِمْيَانُ لِخُرُوجِ ذَلِكَ عَنِ الْكِسْوَاتِ الْمَلْبُوسَةِ .

فَصْلٌ : وَمَا أَعْطَى مِنْ ثِيَابِ قُطْنٍ أَوْ كَتَّانٍ أَوْ شَعْرٍ في الكفارة أَجْزَأَ ، فَأَمَّا ثِيَابُ الْحَرِيرِ وَالْإِبِرِيسَمِ في الكفارة ، فَيَجُوزُ أَنْ يُعْطَاهُ النِّسَاءُ لِإِحْلَالِهِ لَهُنَّ ، وَكَذَلِكَ الصِّبْيَانُ ، وَفِي جَوَازِ إِعْطَائِهِ لِلرِّجَالِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ لِتَحْرِيمِ لُبْسِهِ عَلَيْهِمْ . وَالثَّانِي : يَجُوزُ وَهُوَ أَصَحُّ : لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى لِلرِّجَالِ ثِيَابُ النِّسَاءِ ، وَيُعْطَى النِّسَاءُ ثِيَابَ الرِّجَالِ ، وَسَوَاءٌ بَيَاضُ الثِّيَابِ وَمَصْبُوغُهَا ، وِخَامُهَا وَمَقْصُورُهَا ، وَجَدِيدُهَا وَغَسِيلُهَا ، فَأَمَّا اللَّبِيسُ مِنْهَا ، فَإِنْ أَذْهَبَ اللُّبْسُ أَكْثَرَ مَنَافِعِهِ لَمْ يَجْزِهِ ، وَإِنْ أَذَهَبَ أَقَلَّهَا أَجْزَأَهُ كَالرَّقَبَةِ الْمَعِيبَةِ إِنْ كَانَ عَيْبُهَا يَضُرُّ بِالْعَمَلِ إِضْرَارًا بَيِّنًا لَمْ يُجْزِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَضُرَّ بِالْعَمَلِ إِضْرَارًا بَيِّنًا أَجْزَأَهُ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهُمْ ثَوْبًا نَجِسًا في الكفارة ؛ لِأَنَّهُ يُطَهَّرُ بِالْغَسْلِ ، لَكِنْ عَلَيْهِ أَنْ يُعْلِمَهُمْ بِنَجَاسَتِهِ حَتَّى لَا يُصَلُّوا فِيهِ إِلَّا بَعْدَ غَسْلِهِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهُمْ مَا نُسِجَ مِنْ

صُوفٍ مَيِّتَةٍ في الكسوة الكفارة ، وَلَا مِنْ شَعْرِهَا : لِعُمُومِ تَحْرِيمِهِ وَخُصُوصِ الِانْتِفَاعِ بِهِ ، وَأَنْ لَا سَبِيلَ إِلَى طَهَارَتِهِ .

فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ الزُّلَالِيَّ وَالْبُسُطَ وَالْأَنْطَاعَ في كسوة الكفارة ، لِخُرُوجِهَا عَنِ اسْمِ الْكِسْوَةِ وَالْمَلْبُوسِ ، وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهُمْ غَزْلًا غَيْرَ مَنْسُوجٍ ، فَأَمَّا لِبَاسُ الْجُلُودِ وَالْفِرَاءِ في كسوة الكفارة ، فَإِنْ كَانَ فِي بَلَدٍ يَلْبِسُ أَهْلُهُ ذَلِكَ أَجْزَأَ ، وَإِنْ كَانَ فِي بَلَدٍ لَا يَلْبَسُهُ أَهْلُهُ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي أَجْنَاسِ الْحُبُوبِ فِي الْإِطْعَامِ هَلْ يَكُونُ مُخَيَّرًا فِيهَا أَوْ يُعْتَبَرُ بِالْغَالِبِ مِنْهَا ، وَكَذَلِكَ قَمِيصُ اللُّبُودِ في كسوة الكفارة ، وَلَكِنْ يُجْزِئُ أَنْ يُعْطِيَهُمُ الْأَكْسِيَةَ لِأَنَّهَا تُلْبَسُ دِثَارًا ، وَإِنْ لَمْ تُلْبَسْ شِعَارًا ، وَلَوْ أَعْطَى عَشَرَةَ مَسَاكِينَ ثَوْبًا طَوِيلًا ، فَإِنْ دَفْعَهُ إِلَيْهِمْ بَعْدَ قَطْعِهِ أَجْزَأَهُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَتْ كُلُّ قِطْعَةٍ مِنْهُ كِسْوَةً ، وَإِنْ دَفَعَهُ إِلَيْهِمْ صَحِيحًا لَمْ يُجْزِهِ ؛ لِأَنَّهُ ثَوْبٌ وَاحِدٌ ، فَلَمْ يَكُنْ إِلَّا كِسْوَةً وَاحِدَةً ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابٌ مَا يَجُوزُ فِي عِتْقِ الْكَفَّارَاتِ وَمَا لَا يَجُوزُ

بَابٌ مَا يَجُوزُ فِي عِتْقِ الْكَفَّارَاتِ وَمَا لَا يَجُوزُ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَلَا يُجْزِئُ رَقَبَةٌ فِي كَفَّارَةٍ وَلَا وَاجِبٍ إِلَّا مُؤْمِنَةً " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْعِتْقَ فِي الْكَفَّارَاتِ هل لابد من الرقبة المؤمنة لَا يُجْزِئُ إِلَّا فِي رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُجْزِئُ عِتْقُ الْكَافِرَةِ فِي جَمِيعِهَا إِلَّا فِي كَفَّارَةِ الْقِتَالِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ إِيمَانَهَا ، فَحُمِلَ الْمَشْرُوطُ عَلَى تَقْيِيدِهِ ، وَالْمُطْلَقُ عَلَى إِطْلَاقِهِ ، وَمِنْ أَصْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ كُلَّ مُطْلَقٍ قُيِّدَ بَعْضُ جِنْسِهِ بِشَرْطٍ كَانَ جَمِيعُ الْمُطْلَقِ مَحْمُولًا عَلَى تَقْيِيدِ ذَلِكَ الشَّرْطِ ، كَمَا أُطْلِقَ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ [ الْبَقَرَةِ : 282 ] ، وَقَيَّدَ قَوْلَهُ : وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [ الطَّلَاقِ : 12 ] فَحُمِلَ ذَلِكَ الْمُطْلَقُ عَلَى هَذَا الْمُقَيَّدِ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ ، هَلْ قَالَهُ لُغَةً أَوْ شَرْعًا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَالَهُ مِنْ طَرِيقِ اللُّغَةِ وَمَا يَقْتَضِيهِ لِسَانُ الْعَرَبِ الَّذِي جَاءَ بِهِ الشَّرْعُ مَا لَمْ يَصْرِفْ عَنْهُ دَلِيلٌ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ قَالَهُ مِنْ طَرِيقِ الشَّرْعِ وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَاخْتَلَفَ مَنْ قَالَ بِهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِالْإِطْلَاقِ إِلَّا إِنْ تَفَرَّقَا فِي الْمَعْنَى . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ لَا يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا إِلَّا بَعْدَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمَعْنَى ، ثُمَّ مِنَ الدَّلِيلِ أَنَّهُ عِتْقٌ فِي كَفَّارَةٍ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُجْزِئَ فِيهِ إِلَّا مُؤْمِنَةٌ ، كَالْعِتْقِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ . وَلِأَنَّ كُلَّ رَقَبَةٍ لَا يُجْزِئُ عِتْقُهَا فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ لَمْ يَجُزْ عِتْقُهَا فِي سَائِرِ الْكَفَّارَاتِ ، قِيَاسًا عَلَى الْمَعِيبَةِ وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ الظِّهَارِ مُسْتَوْفَاةً .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَأَقَلُّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْإِيمَانِ عَلَى الْأَعْجَمِيِّ أَنْ يَصِفَ الْإِيمَانَ إِذَا أُمِرَ بِصِفَتِهِ ثُمَّ يَكُونَ بِهِ مُؤْمِنًا .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْإِيمَانَ شَرْطٌ فِي عِتْقِ الْكَفَّارَةِ فَإِيمَانُهَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : إِيمَانُ فِعْلٍ . وَالثَّانِي : إِيمَانُ حُكْمٍ ، فَأَمَّا إِيمَانُ الْفِعْلِ فَلَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ بَالَغٍ عَاقِلٍ ، تُؤْخَذُ عَلَيْهِ شُرُوطُ الْإِيمَانِ قَطْعًا ، وَشُرُوطُهُ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِالشَّهَادَتَيْنِ الإيمان فَيَقُولَ : أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَيُقِرُّ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ ، وَيَبْرَأُ مِنْ كُلِّ دِينٍ خَالَفَ الْإِسْلَامَ من شروط اليمان ، فَأَمَّا إِقْرَارُهُ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ فَمُسْتَحَبٌّ ، وَلَيْسَ يَقِفُ إِيمَانُهُ عَلَى إِقْرَارِهِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ مُوجِبَاتِ الْإِيمَانِ ، وَأَمَّا بَرَاءَتُهُ مِنْ كُلِّ دِينٍ خَالَفَ الْإِسْلَامَ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ شَرْطٌ فِيهِ كَالشَّهَادَتَيْنِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ كَالْبَعْثِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ إِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ يُنْكِرُونَ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، كَانَ إِقْرَارُهُ بِنُبُوَّتِهِ يُغْنِي عَنْ بَرَاءَتِهِ مِنْ كُلِّ دِينٍ خَالَفَ الْإِسْلَامَ نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وَيَكُونُ اشْتِرَاطُ ذَلِكَ فِيهِ مُسْتَحَبًّا ، وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ مَبْعُوثٌ إِلَى قَوْمِهِ مِنَ الْعَرَبِ دُونَ غَيْرِهِمْ كَيَهُودِ خَيْبَرَ ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ : هُوَ مَبْعُوثٌ إِلَى الْأُمِّيِّينَ مِنَ الْعَرَبِ دُونَنَا ، وَإِنَّمَا نَنْتَظِرُ مَبْعُوثًا إِلَيْنَا مِنْ وَلَدِ إِسْحَاقَ ، فَتَكُونُ الْبَرَاءَةُ مِنْ كُلِّ دِينٍ خَالَفَ الْإِسْلَامَ شَرْطًا فِي صِحَّةِ إِيمَانِهِ ، وَبِهَذَا قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَإِذَا صَحَّ مَا يَكُونُ شَرْطًا فِي إِيمَانِهِ نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ عَرَبِيَّ اللِّسَانِ تَلَفَّظَ بِهِ نُطْقًا وَلَا نَقْتَنِعُ مِنْهُ بِالْإِشَارَةِ مَعَ سَلَامَةِ لِسَانِهِ وَفَهْمِ كَلَامِهِ ، وَإِنْ كَانَ أَعْجَمِيَّ اللِّسَانِ نُظِرَ ، فَإِنْ حَضَرَ مَنْ يَفْهَمُ لِسَانَهُ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا إِلَّا بِالنُّطْقِ دُونَ الْإِشَارَةِ كَالْعَرَبِيِّ ، وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ مَنْ يَفْهَمُ لِسَانَهُ دَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَى أَنْ تُؤْخَذَ عَلَيْهِ شُرُوطُ الْإِسْلَامِ ، بِالْإِشَارَةِ دُونَ النُّطْقِ كَالْأَخْرَسِ ، وَرُوِيَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ الْحَكَمِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعَبْدٍ أَعْجَمِيٍّ جَلِيبٍ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ : إِنِّي نَذَرْتُ أَنْ أَعْتِقَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً فَيُجْزِئُ هَذَا فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ رَبُّكَ ، فَأَشَارَ إِلَى السَّمَاءِ ، أَيْ : رَبُّ السَّمَاءِ ؟ فَقَالَ : مَنْ نَبِيُّكُ ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اعْتِقْهُ فَإِنَّهُ مُؤْمِنٌ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَيُجْزِئُ فِيهِ الصَّغِيرُ إِذَا كَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا في اعتبار الإيمان . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَمَّا إِيمَانُ الْحُكْمِ ، فَمُعْتَبَرٌ فِيمَنْ لَا يُحْكُمُ بِقَوْلِهِ فِي صَغِيرٍ أَوْ مَجْنُونٍ ، فَيَكُونُ الصَّغِيرُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ أَبَوَيْهِ . وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَصِيرُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ أُمِّهِ وَحْدَهَا ، وَإِنْ صَارَ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ أَبِيهِ

وَحْدَهُ ، اعْتِبَارًا بِلُحُوقِ نَسَبِهِ بِأَبِيهِ دُونَ أُمِّهِ ، كَذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّ أَحْكَامَهُ فِي اتِّبَاعِ أَبَوَيْهِ تَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ : أَحَدُهَا : مَا كَانَ فِيهَا تَابِعًا لِأَبِيهِ دُونَ أُمِّهِ ، وَهُوَ النَّسَبُ . وَالثَّانِي : مَا كَانَ فِيهَا تَابِعًا لِأُمِّهِ دُونَ أَبِيهِ ، وَهُوَ الْحُرِّيَّةُ وَالرِّقُّ ، فَأَمَّا مَا يَنْفَرِدُ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَبَوَيْنِ فَخَارِجٌ مِنَ الْقِسْمَيْنِ ، وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [ الطُّورِ : 21 ] ، فَأَخْبَرَ أَنَّ الْأَوْلَادَ يَتَّبِعُونَ الْآبَاءَ وَالْأُمَّهَاتَ فَيَ الْإِيمَانِ ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْإِسْلَامُ يَعْلُو ، وَلَا يُعْلَى ، وَقَدْ خُلِقَ وَلَدٌ مِنْ مَاءِ الْأَبَوَيْنِ ، فَإِذَا اجْتَمَعَ فِيهِ إِسْلَامُ أَحَدِهِمَا وَكُفْرُ الْآخَرِ وَجَبَ أَنْ يَعْلُوَ الْإِسْلَامُ عَلَى الْكُفْرِ ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ فَجَعَلَ اجْتِمَاعَ أَبَوَيْهِ سَبَبًا لِشُهُودِهِ ، فَخَرَجَ بِإِسْلَامِ أَحَدِهِمَا مِنَ الْيَهُودِيَّةِ : وَلِأَنَّهُ لَوِ افْتَرَقَ حُكْمُ أَبَوَيْهِ فِي إِسْلَامِهِ لَكَانَ اعْتِبَارُهُ بِأُمِّهِ أَحَقُّ ؛ لِأَنَّهُ مِنْهَا قَطْعًا ، وَمِنْ أَبِيهِ ظَنًّا . فَأَمَّا السَّبَبُ فَلَا يَلْزَمُ لِأَنَّ حُكْمَهُ فِي التَّحْرِيمِ مُعْتَبَرٌ لِكُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَصَارَ بِالدِّينِ أَشْبَهَ ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِتَقْسِيمِ الْحُكْمَيْنِ فَقَدْ يَقْتَرِنُ بِهِمَا ثَالِثٌ ، وَهُوَ أَنَّ حُرِّيَّةَ الْأَبِ تُوجِبُ حُرِّيَّةَ الْوَلَدِ إِذَا وَطِئَهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ ، وَرِقُّ الْأُمِّ يُوجِبُ رِقَّ الْوَلَدِ إِذَا وَطِئَهَا بِعَقْدِ النِّكَاحِ ، فَصَارَتِ الْحُرِّيَّةُ وَالرِّقُّ مُعْتَبَرَيْنِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ ، فَكَذَلِكَ الْإِسْلَامُ وَيَصِيرُ هَذَا قِسْمًا ثَالِثًا .

فَصْلٌ : فَإِذَا صَحَّ إِسْلَامُ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ بِإِسْلَامِ كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْ أَبَوَيْهِ ، فَعِتْقُ الصَّغِيرِ فِي الْكَفَّارَةِ هل يجزئ مُجْزِئٌ ، وَإِنْ كَانَ نَاقِصَ الْعَمَلِ بِخِلَافِ الزَّمِنِ : لِأَنَّ نَقْصَ الصَّغِيرِ يَزُولُ ، وَنَقْصِ الزَّمَانَةِ لَا يَزُولُ ، سَوَاءٌ كَانَ الصَّغِيرُ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ ، مُسْتَغْنِيًا عَنِ التَّرْبِيَةِ كَالْمُرَاهِقِ ، أَوْ كَانَ طِفْلًا يُرَبَّى كَالرَّضِيعِ : لِأَنَّهُ يَنْشَأُ وَيَسْتَكْمِلُ وَنَفَقَتُهُ بَعْدَ عِتْقِهِ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَفِي الصَّدَقَاتِ وَلَا يَجِبُ عَلَى مُعْتِقِهِ ، وَلَوْ تَبَرَّعَ بِهَا حَتَّى يَبْلُغَ هُوَ الِاكْتِسَابَ كَانَ أَوْلَى وَإِنْ لَمْ تَجِبْ ، فَأَمَّا عِتْقُ الْمَجْنُونِ في الكفارة فَلَا يُجْزِئُ إِنْ كَانَ جُنُونُهُ مُسْتَدِيمًا طَبْعًا ، وَكَذَلِكَ الْمَعْتُوهُ حكم عتقه في الكفارة ، وَإِنْ كَانَ يُجَنُّ فِي زَمَانٍ ، وَيُفِيقُ فِي زَمَانٍ ، فَإِنْ كَانَ زَمَانُ جُنُونِهِ أَكَثُرَ مِنْ زَمَانِ إِفَاقَتِهِ ، أَوْ كَانَا سَوَاءً لَمْ يُجْزِهِ عِتْقُهُ ، وَإِنْ كَانَ زَمَانُ إِفَاقَتِهِ أَكْثَرَ مِنْ جُنُونِهِ ، فَفِي إِجْزَاءِ عِتْقِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُجْزِئُ كَمَا يُجْزِئُ عِتْقُ مَنْ قَلَّ عَيْبُهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يُجْزِئُ ؛ لِأَنَّ قَلِيلَ الْجُنُونِ يَصِيرُ كَثِيرًا ، فَأَمَّا عِتْقُ الْأَحْمَقِ فَيُجْزِئُ ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ بِتَدْبِيرِ غَيْرِهِ ، وَأَمَّا عِتْقُ الْفَاسِقِ فَمُجْزِئٌ لِإِجْرَاءِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَوَلَدُ الزِّنَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الْأَنْسَابِ فِي عِتْقِ الْكَفَّارَاتِ حكم غَيْرُ مُعْتَبَرٍ : وَلِأَنَّ سَلَامَةَ بَدَنِهِ وَصِحَّةَ عَمَلِهِ مُمَاثِلٌ لِذَوِي الْأَنْسَابِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَيْبًا فِي نُقْصَانِ ثَمَنِهِ ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ عَيْبًا فِي إِجْزَاءِ عِتْقِهِ ، وَأَحْسَبُ الشَّافِعِيَّ قَالَ ذَلِكَ ، وَنَصَّ عَلَيْهِ ، بِخِلَافٍ شَذَّ مِنْ بَعْضِ السَّلَفِ تَمَسُّكًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَلَدُ الزِّنَا شَرُّ الثَّلَاثَةِ وَلَا دَلِيلَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ عَلَى ظَاهِرِهِ ، وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ شَرُّهُمْ نَسَبًا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ شَرُّهُمْ إِذَا زَنَا ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَعَ شَرِّ نَسَبِهِ زَانِيًا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَكُلُّ ذِي نَقْصٍ بِعَيْبٍ لَا يَضُرُّ بِالْعَمَلِ إِضْرَارًا بَيِّنًا جاز عتقه في الكفارة مِثْلُ الْعَرَجِ الْخَفِيفِ وَالْعَوَرِ وَالشَّلَلِ فِي الْخِنْصَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَلَا يُجْزِئُ الْمُقْعَدُ وَلَا الْأَعْمَى ، وَلَا الْأَشَلُّ الرِّجْلِ ، وَيُجْزِئُ الْأَصَمُّ وَالْخِصِيُّ وَالْمَرِيضُ الَّذِي لَيْسَ بِهِ مَرَضُ زَمَانَةٍ مِثْلُ الْفَالَجِ وَالسُّلِّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَطْلَقَ عِتْقَ الرَّقَبَةِ فِي الْكَفَّارَةِ فَاقْتَضَى إِطْلَاقُهَا أَحَدَ أَمْرَيْنِ إِمَّا السَّلَامَةُ مِنْ جَمِيعِ الْعُيُوبِ كَالْغِرَّةِ فِي الْجَنِينِ وَالْإِبِلِ مِنَ الدِّيَةِ ، وَإِمَّا جَوَازُهَا مَعَ كُلِّ الْعُيُوبِ اعْتِبَارًا بِمُطْلَقِ الِاسْمِ كَالنُّذُورِ ، لَكِنِ انْعَقَدَ فِيهَا إِجْمَاعٌ مَنَعَ مِنَ اعْتِبَارِ أَحَدِ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ : لِأَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مِنْ ذَوَاتِ الْعُيُوبِ مَا يُجْزِئُ ، وَهِيَ الْعَوْرَاءُ وَالْبَرْصَاءُ وَالْجَدْعَاءُ ، وَمِنْ ذَوَاتِ الْعُيُوبِ مَا لَا يُجْزِئُ ، وَهِيَ الْعَمْيَاءُ وَالْقَطْعَاءُ ، وَالشَّلَّاءُ ، فَاعْتَبَرْنَا مَعْنَى مَا أَجَازُوهُ ، وَمَعْنَى مَا رَدُّوهُ ، فَوَجَدْنَاهُمْ قَدْ أَجَازُوا مِنْهَا مَا لَا يَضُرُّ بِالْعَمَلِ إِضْرَارًا بَيِّنًا ، وَرَدُّوا مِنْهَا مَا يَضُرُّ بِالْعَمَلِ إِضْرَارًا بَيِّنًا ، فَصَارَ هَذَا أَصْلًا عَقَدَهُ الْإِجْمَاعُ فِي الْكَفَّارَةِ خَارِجًا عَنِ الْأَصْلَيْنِ فِي إِطْلَاقِهَا ، فَاعْتَبَرُوا كَمَالَ الْمَنْفَعَةِ دُونَ كَمَالِ الصِّفَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْعِتْقِ تَمْلِيكُ الرَّقَبَةِ مَنَافِعَ نَفْسِهَا ، فَاعْتَبَرْنَا كَمَالَ مَا تَوَجَّهَ إِلَيْهِ التَّمْلِيكُ مِنَ الْمَنَافِعِ دُونَ الصِّفَاتِ ، فَإِذَا صَارَ هَذَا أَصْلًا مُعْتَبَرًا انْسَاقَ عَلَيْهِ التَّفْرِيعُ ، فَقُلْنَا : إِنَّ الْعَوْرَاءَ تُجْزِئُ بِكَمَالِ مَنَافِعِهَا ، وَإِنَّهَا تُدْرِكُ بِإِحْدَى الْعَيْنَيْنِ مَا تُدْرِكُهُ بِهِمَا ، فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ مَنَعَ الشَّرْعُ مِنَ الْأُضْحِيَّةِ بِالْعَوْرَاءِ قِيلَ : لِأَنَّهُ قَصَدَ بِهِ كَمَالَ اللَّحْمِ وَاسْتَطَابَتِهِ فِي الْأُضْحِيَّةِ وَالْعَوَرُ مُؤَثِّرٌ فِيهِ ، فَمَنَعَ مِنْهُ ، وَلَمْ يَمْنَعْ مِمَّا قَصَدَ بِهِ كَمَالَ الْمَنْفَعَةِ فِي الْعِتْقِ فَأُجِيزَ فِيهِ . وَإِذَا أَجْزَأَتِ الْعَوْرَاءُ فِي عِتْقِ الرَّقَبَةِ فَأَوْلَى أَنْ يُجْزِئَ عِتْقُ الْحَوْلَاءِ وَالْخَيْفَاءِ وَالْمَقْطُوعَةِ الْأَنْفِ وَالْأُذُنَيْنِ وَالْبَرْصَاءِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ هَذِهِ الْعُيُوبِ غَيْرُ مُضِرَّةٍ بِالْعَمَلِ ، وَكَذَلِكَ يُجْزِئُ عِتْقُ الْخَرْسَاءِ ، وَعِتْقُ الصَّمَّاءِ في الكفارة ؛ لِأَنَّ عَمَلَهَا كَامِلٌ وَالْإِشَارَةَ مَعَهُمَا تَقُومُ مَقَامَ النُّطْقِ ، فَإِنْ لَمْ يَفْهَمَا الْإِشَارَةَ لَمْ يَجُزْ عِتْقُهُمَا ، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ

أَجَازَ فِي مَوْضِعٍ عَتَقَهُمَا وَمَنَعَ مِنْهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالِهِمَا فِي فَهْمِ الْإِشَارَةِ ، فَأَمَّا إِنِ اجْتَمَعَ فِيهِمَا الْخَرَسُ وَالصَّمَمُ المعتقة في الكفارة لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ اجْتِمَاعَهُمَا مُؤَثِّرٌ مِنَ الْعَمَلِ وَمُقْتَضَى عُرْفِهِمُ الْإِشَارَةُ وَلَا يُجْزِئُ عِتْقُ الْعَمْيَاءِ في الكفارة لِإِضْرَارِ الْعَمَى بِالْعَمَلِ ، وَلَا يَجُوزُ عِتْقُ الْمَقْطُوعَةِ الْيَدَيْنِ أَوْ إِحْدَاهُمَا في الكفارة وَلَا عِتْقُ الْمَقْطُوعَةِ الرِّجْلَيْنِ أَوْ إِحْدَاهُمَا في الكفارة ، بِخِلَافِ الْعَوْرَاءِ لِأَنَّ ذَهَابَ إِحْدَى الْيَدَيْنِ مُضِرٌّ بِالْعَمَلِ ، وَكَذَلِكَ إِحْدَى الرِّجْلَيْنِ وَذَهَابَ إِحْدَى الْعَيْنَيْنِ غَيْرُ مُضِرٍّ بِالْعَمَلِ ، وَيُجْزِئُ عِتْقُ الْعَرْجَاءِ في الكفارة إِذَا كَانَ عَرَجُهَا قَلِيلًا ، وَلَا يُجْزِئُ إِذَا كَانَ كَثِيرًا ؛ لِأَنَّ قَلِيلَهُ غَيْرُ مُضِرٍّ وَكَثِيرَهُ مُضِرٌّ ، وَتُجْزِئُ الْمَقْطُوعَةُ الْخِنْصَرِ أَوِ الْبِنْصِرِ مِنْ إِحْدَى الْأَطْرَافِ المعتقة في الكفارة ، أَوِ الْخَنَاصِرِ وَالْبَنَاصِرِ مِنَ الْأَطْرَافِ كُلِّهَا ، وَلَا يُجْزِئُ إِذَا اجْتَمَعَ قَطْعُ الْخِنْصَرِ وَالْبِنْصِرِ مِنْ طَرَفٍ وَاحِدٍ ، وَيَجُوزُ إِنْ كَانَا مِنْ طَرَفَيْنِ : لِأَنَّ اجْتِمَاعَهُمَا مُضِرٌّ وَافْتِرَاقَهُمَا غَيْرُ مُضِرٍّ ، وَلَا تُجْزِئُ الْمَقْطُوعَةُ الْإِبْهَامِ أَوِ السَّبَّابَةِ أَوِ الْوُسْطَى ؛ لِأَنَّ قَطْعَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْأَصَابِعِ الثَّلَاثِ مُضِرٌّ ، فَأَمَّا قَطْعُ الْأُنْمُلَةِ الْوَاحِدَةِ فَيُمْنَعُ مِنْهَا إِنْ كَانَتْ فِي الْإِبْهَامِ وَلَا يُمْنَعُ مِنْهَا إِنْ كَانَتْ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْأَصَابِعِ ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ مِنْ أَنَامِلِ غَيْرِ الْإِبْهَامِ أَكْثَرُ ، بِخِلَافِ الْإِبْهَامِ ، وَالشَّلَلُ فِي الْأَطْرَافِ كَالْقَطْعِ فَمَا مُنِعَ مِنْهُ الْقَطْعُ مُنِعَ مِنْهُ الشَّلَلُ ، وَمَا جَازَ مَعَ الْقَطْعِ جَازَ مَعَ الشَّلَلِ عتق الكفارات ، فَإِذَا لَمْ تُجْزِ الْقَطْعَاءُ فَأَوْلَى أَنْ لَا تُجْزِئَ الْمُقْعَدَةُ وَلَا ذَاتُ الزَّمَانَةِ ، وَأَمَّا الْمَرِيضَةُ فَإِنْ كَانَ مَرَضُهَا مَرْجُوًّا كَالْحُمَّى وَالصُّدَاعِ أَجْزَأَتْ وَإِنْ مَاتَتْ ، وَإِنْ كَانَ مَرَضُهَا غَيْرَ مَرْجُوٍّ كَالسُّلِّ وَالْفَالِجِ لَمْ تُجْزِ وَإِنْ صَحَّتْ ، وَأَمَّا عِتْقُ الشَّيْخِ وَالْعَجُوزِ ، فَعِتْقُهُمَا مُجْزِئٌ ، مَا لَمْ يَنْتَهِيَا إِلَى الْهِرَمِ الْمُضِرِّ بِالْعَمَلِ فَلَا يُجْزِئُ ، وَسَوَاءٌ فِي الْإِجْزَاءِ أَعَتَقَ ذَاتَ الضَّعَةِ وَغَيْرَ ذَاتِ الضَّعَةِ ، وَيُجْزِئُ عِتْقُ الْخَصِيِّ وَالْمَجْبُوبِ لِكَمَالِ عَمَلِهِمَا ، وَكَذَلِكَ يُجْزِئُ عِتْقُ الْخُنْثَى ، فَأَمَّا عِتْقُ الْجَذْمَاءُ فَإِنْ كَانَ الْجُذَامُ فِي الْأَنْفِ وَالْأُذُنِ أَوِ الشَّفَةِ أَجْزَأَتْ ، وَإِنْ كَانَ فِي أَطْرَافِ الْبَدَنِ وَالرِّجْلَيْنِ لَمْ يُجْزِ ؛ لِأَنَّهُ مُضِرٌّ بِالْعَمَلِ فِي الْأَطْرَافِ وَغَيْرُ مُضِرٍّ بِالْعَمَلِ فِي غَيْرِ الْأَطْرَافِ وَيُجْزِئُ عِتْقُ الْأَبْرَصِ وَالْبَرْصَاءِ : لِأَنَّهُ غَيْرُ مُضِرٍّ بِالثَّمِلِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوِ اشْتَرَى مِنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ لَمْ يُجْزِهِ وَلَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ إِلَّا الْوَالِدَانِ وَالْمَوْلُودُونَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَنْ مَلَكَ أَحَدًا مِنْ وَالِدَيْهِ أَوْ مَوْلُودَيْهِ عَتَقَ عَلَيْهِ ، وَلَا يَعْتِقُ عَلَيْهِ غَيْرُهُمَا مِنْ ذَوِي الْأَنْسَابِ ، وَأَعْتَقَ عَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ كُلَّ ذِي رَحِمٍ مُحَرَّمٍ ، وَسَائِرُ الْكَلَامِ مَعَهُ فِي كِتَابِ الْعِتْقِ ، وَإِنْ مَضَى فِي كِتَابِ الظِّهَارِ ، وَذَكَرْنَا أَنَّ مَنِ اشْتَرَى مَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ نَاوِيًا بِهِ الْعِتْقَ عَنْ كَفَّارَتِهِ لَمْ تَجْزِهِ ، وَأَجَازَهُ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِي كِتَابِ الظِّهَارِ لَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَعْلِيلِ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْمَنْعِ مِنْ إِجْزَائِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَيْهِ تَحْرِيرَ رَقَبَةٍ ، وَهَذَا يَعْتِقُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ تَحْرِيرٍ مِنْهُ ، فَلَمْ يُجْزِهِ لِعَدَمِ مَا لَزِمَهُ مِنْ فِعْلِ التَّحْرِيرِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ تَعْلِيلَ الْمَنْعِ مِنْ إِجْزَائِهِ أَنَّ الرَّقَبَةَ الْوَاحِدَةَ لَا يُجْزِئُ عِتْقُهَا بِسَبَبَيْنِ حَتَّى يَكُونَ مَقْصُورًا عَلَى أَحَدِهِمَا ، وَهَذَا عِتْقٌ بِسَبَبَيْنِ ، فَكَانَ مَقْصُورًا عَلَى أَثْبَتِهِمَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوِ اشْتَرَى رَقَبَةً بِشَرْطٍ يُعْتِقُهَا حكم لَمْ تُجْزِ عَنْهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ إِذَا اشْتَرَى عَبْدًا بِشَرْطِ الْعِتْقِ ، فَلِلشَّافِعِيِّ فِي الْبَيْعِ وَالشَّرْطِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْبَيْعَ وَالشَّرْطَ بَاطِلَانِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ أَعْتَقَهُ عَنْ كَفَّارَةٍ لَمْ يُجْزِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَعْتَقَ مَا لَمْ يَمْلِكْ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُجْزِئُهُ ، وَيَكُونُ مَأْخُوذًا بِعِتْقِهِ ، لِأَجْلِ الشَّرْطِ حَكَاهُ أَبُو ثَوْرٍ عَنِ الشَّافِعِيِّ احْتِجَاجًا بِأَنَّ عَائِشَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهَا اشْتَرَتْ بَرِيرَةَ بِشَرْطِ الْعِتْقِ ، فَأَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْبَيْعَ وَأَمْضَى الشَّرْطَ ، فَعَلَى هَذَا لَا يُجْزِئُهُ عِتْقُهُ عَنْ كَفَّارَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ عِتْقًا بِسَبَبَيْنِ ، وَلَا يُجْزِئُ فِي الْكَفَّارَةِ إِلَّا عِتْقُ رَقَبَةٍ يَخْتَصُّ بِسَبَبِهَا . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ وَالشَّرْطَ بَاطِلٌ وَلَا يَلْزَمُهُ عِتْقُهَا عَنْ غَيْرِ الْكَفَّارَةِ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ أَعْتَقَهَا فِي الْكَفَّارَةِ ، فَفِي إِجْزَائِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : تُجْزِئُ ؛ لِأَنَّهُ عِتْقٌ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ ، وَهُوَ التَّكْفِيرُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا لَا تُجْزِئُ لِأَنَّ الشَّرْطَ قَدْ أَخَذَ مِنَ الثَّمَرِ قِسْطًا ، فَصَارَ الْعِتْقُ فِي مُقَابَلَةِ عِوَضٍ فَجَرَى مَجْرَى الْعِتْقِ بِسَبَبَيْنِ ، وَخَرَجَ عَمَّا انْفَرَدَ عِتْقُهُ عَنِ التَّكْفِيرِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَيُجْزِئُ الْمُدَبَّرُ وَلَا يَجُوزُ الْمُكَاتَبُ حَتَّى يَعْجِزَ فَيُعْتَقَ بَعْدَ الْعَجْزِ ، وَيُجْزِئُ الْمُعْتَقُ إِلَى سِنِينَ ، وَاحْتَجَّ فِي كِتَابِ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ عَلَى مَنْ أَجَازَ عِتْقَ الذِّمِّيِّ فِي الْكَفَّارَةِ بِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمَّا ذَكَرَ رَقَبَةً فِي كَفَّارَةٍ فَقَالَ : " مُؤْمِنَةٍ " ثُمَّ ذَكَرَ رَقَبَةً أُخْرَى فِي كَفَّارَةٍ كَانَتْ مُؤْمِنَةً ؛ لِأَنَّهُمَا يَجْتَمِعَانِ فِي أَنَّهُمَا كَفَّارَتَانِ وَلَمَّا رَأَيْنَا مَا فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ مَنْقُولًا إِلَى الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ مَالِهِ فَرْضًا عَلَيْهِ ، فَيَعْتِقَ بِهِ ذِمِّيًّا وَيَدَعَ مُؤْمِنًا . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْمُدَبَّرُ عتقه عن الكفارة فَيُجْزِئُ عِتْقُهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ لِبَقَائِهِ عَلَى الرِّقِّ وَجَوَازِ

بَيْعِهِ ، وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ إِجْزَائِهِ لِمَنْعِهِ مِنْ جَوَازِ بَيْعِهِ ، وَسَائِرُ الْكَلَامِ مَعَهُ فِي كِتَابِ الْمُدَبَّرِ ، وَكَذَلِكَ الْمُعَلَّقُ عِتْقُهُ بِصِفَةٍ إِذَا عَجَّلَ عِتْقَهُ عَنْ كَفَّارَةٍ أَجْزَأَهُ سَوَاءٌ كَانَتِ الصِّفَةُ مُعَلَّقَةً بِالزَّمَانِ ، كَقَوْلِهِ : إِذَا هَلَّ شَهْرُ كَذَا فَأَنْتَ حُرٌّ كَانَتِ الصِّفَةُ مُعَلَّقَةً بِالْفِعْلِ ، كَقَوْلِهِ : إِنْ دَخَلْتَ الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ ، وَإِنَّمَا أَجْزَأَهُ ، إِلْحَاقًا لَهُ بِالْمُدَبَّرِ ، كَمَا أَنَّ بَيْعَهُ يَجُوزُ كَالْمُدَبَّرِ ، وَلَكِنْ لَوْ نَوَى فِيهِ أَنْ يَصِيرَ بِمَجِيءِ الصِّفَةِ حُرًّا عَنْ كَفَّارَتِهِ لَمْ يُجْزِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُعْتَقًا بِسَبَبَيْنِ ، وَتَعْجِيلُ عِتْقِهِ قَبْلَ الصِّفَةِ يَجْعَلُهُ مُعْتَقًا بِسَبَبٍ وَاحِدٍ ، فَأَمَّا عِتْقُ أُمِّ الْوَلَدِ فَلَا يُجْزِئُ عَنِ الْكَفَّارَةِ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَعْلِيلِ هَذَا الْمَنْعِ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : التَّحْرِيمُ بَيْعُهَا ، وَقَالَ آخَرُونَ : اسْتِحْقَاقُ عِتْقِهَا بِالْوِلَادَةِ يَجْعَلُهَا مُعْتَقَةً بِسَبَبَيْنِ ، وَأَمَّا عِتْقُ الْمَكَاتَبِ قَبْلَ عَجْزِهِ بسبب الكفارة فَلَا يُجْزِئُ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ لَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا مِنْ نُجُومِهِ أَجْزَأَهُ ، وَإِنْ أَدَّى شَيْئًا مِنْهَا لَمْ يُجْزِهِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الظِّهَارِ . فَأَمَّا إِنْ عَجَزَ عَنِ الْأَدَاءِ فَأَعْتَقَهُ بَعْدَ التَّعْجِيزِ أَجْزَأَهُ : لِأَنَّهُ قَدْ عَادَ إِلَى الرِّقِّ فِي جَوَازِ الْبَيْعِ ، وَجَمِيعِ الْأَحْكَامِ ، فَأَمَّا إِذَا أَعْتَقَ شِخْصًا لَهُ مِنْ عَبْدٍ يَنْوِي بِهِ الْكَفَّارَةَ ، وَكَانَ مُوسِرًا عَتَقَ عَلَيْهِ جَمِيعُهُ وَأَجْزَأَهُ مِنْهُ قَدَّرَ حِصَّتِهِ ، وَفِي إِجْزَاءِ حِصَّةِ شَرِيكِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : لَا يُجْزِئُهُ لِأَنَّهُ يُعْتَقُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ التَّكْفِيرِ فَصَارَ عِتْقًا بِسَبَبَيْنِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُجْزِئُهُ ؛ لِأَنَّ عِتْقَهُ تَبَعٌ لِعِتْقِ حِصَّتِهِ ، فَجَرَى عَلَيْهِ حُكْمُهَا فِي الْإِجْزَاءِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ إِنْ نَوَى عِنْدَ عِتْقِ حِصَّتِهِ عِتْقَ جَمِيعِهِ عَنْ كَفَّارَتِهِ أَجْزَأَهُ ، وَإِنْ قَصَرَ نِيَّتَهُ عَلَى عِتْقِ حِصَّتِهِ وَحْدَهَا لَمْ يُجْزِهِ ، وَإِذَا أَكْمَلَ عِتْقَ رَقَبَةٍ مِنْ عَبْدَيْنِ حكم أَعْتَقَ مِنْ كُلٍّ وَاحِدٍ نِصْفَهُ ، وَفِي إِجْزَائِهِ وَجْهَانِ مَضَيَا . وَفِيهِ وَجْهٌ رَابِعٌ : أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْبَاقِي مِنْ كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُرًّا أَجْزَأَهُ ، وَإِنْ كَانَ الْبَاقِي مِنْهُمَا مَمْلُوكًا لَمْ يُجْزِهِ ، فَأَمَّا إِذَا أَعْتَقَ عَبْدًا مَرْهُونًا أَوْ جَانِيًا ، فَإِنْ قِيلَ بِبُطْلَانِ عِتْقِهِمَا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَقَاوِيلِ فِيهَا لَمْ يُجْزِهِ ، وَإِنْ قِيلَ بِجَوَازِ عِتْقِهِمَا أَجْزَأَهُ عَنْ كَفَّارَتِهِ ، ثُمَّ خَتَمَ الْمُزَنِيُّ الْبَابَ بِالِاحْتِجَاجِ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ وَالْمَنْعِ مِنْ إِجْزَاءِ عِتْقِ الْكَافِرِ بِمَا مَضَى ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .

بَابُ الصِّيَامِ فِي كَفَّارَةِ الَأَيْمَانِ الْمُتَتَابِعِ وَغَيْرِهِ

بَابُ الصِّيَامِ فِي كَفَّارَةِ الَأَيْمَانِ الْمُتَتَابِعِ وَغَيْرِهِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " كُلُّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ صَوْمٌ لَيْسَ بِمَشْرُوطٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ مُتَتَابِعًا أَجَزَاهُ مُتَفَرِّقًا قِيَاسًا عَلَى قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَالْعِدَّةُ أَنْ يَأْتِيَ بِعَدَدِ صَوْمٍ لَا وَلَاءٍ ، وَقَالَ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ : إِنَّ صِيَامَ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ مُتَتَابِعٌ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : هَذَا أَلْزَمُ لَهُ : لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ شَرَطَ صَوْمَ كَفَّارَةِ الْمُتَظَاهِرِ مُتَتَابِعًا ، وَهَذَا صَوْمُ كَفَّارَةٍ مِثْلُهُ ، كَمَا احْتَجَ الشَّافِعِيُّ بِشَرْطِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ رَقَبَةَ الْقَتْلِ مُؤْمِنَةً ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) فَجَعَلَ الشَّافِعِيُّ رَقَبَةَ الظِّهَارِ مِثْلَهَا مُؤْمِنَةً : لِأَنَّهَا كَفَّارَةٌ شَبِيهَةٌ بِكَفَّارَةٍ ، فَكَذَلِكَ الْكَفَّارَةُ عَنْ ذَنْبٍ بِالْكَفَّارَةِ عَنْ ذَنْبٍ أَشْبَهُ مِنْهَا بِقَضَاءِ رَمَضَانَ الَّذِي لَيْسَ بِكَفَّارَةٍ عَنْ ذَنْبٍ فَتَفَهَّمْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّوْمَ فِي كَفَّارَةِ الْأَيْمَانِ مُتَرَتِّبٌ لا يجزئ إلا بعد العجز عما قبله من الكفارات لَا يُجْزِئُ إِلَّا بَعْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْإِطْعَامِ وَالْكِسْوَةِ وَالْعِتْقِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ [ الْمَائِدَةِ : 89 ] ، وَهَلْ يَكُونُ تَتَابُعُ صَوْمِهَا شَرَطًا فِي صِحَّتِهَا أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعِرَاقِيِّينَ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ ، أَنَّ التَّتَابُعَ شَرْطٌ فِي صِيَامِهَا ، فَإِنْ صَامَ مُتَفَرِّقًا لَمِ يُجْزِهِ اسْتِدْلَالًا بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ ( فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ ) وَقِرَاءَةِ أُبِيٍّ ( فَصِيَامُ ثَلَاثَةٍ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَةٍ ) وَالْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ تَقُومُ مَقَامَ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ ؛ لِأَنَّهَا مَنْقُولَةٌ عَنِ الرَّسُولِ ؛ وَلِأَنَّهُ صَوْمُ تَكْفِيرٍ فِيهِ عِتْقٌ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ التَّتَابُعُ مِنْ شَرْطِهِ قِيَاسًا عَلَى كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ ، وَلِمَا ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ أَنَّ مِنْ أَصْلِ الشَّافِعِيِّ حَمْلَ الْمُطْلَقِ عَلَى مَا قُيِّدَ مِنْ جِنْسِهِ كَمَا حُمِلَ إِطْلَاقُ الْعِتْقِ فِي كَفَّارَةِ الْأَيْمَانِ عَلَى مَا قُيِّدَ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ مِنَ الْأَيْمَانِ فَلَزِمَهُ أَنْ يَحْمِلَ إِطْلَاقَ هَذَا الصِّيَامِ عَلَى مَا قُيِّدَ مِنْ تَتَابُعِهِ فِي الْقَتْلِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : نَصَّ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالْحِجَازِيِّينَ أَنَّ التَّتَابُعَ اسْتِحْبَابٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ في صيام الكفارة ، وَأَنَّ صَوْمَهُ مُتَفَرِّقًا جَائِزٌ اسْتِدْلَالًا بِمَا وَرَدَ بِهِ الْقِرَانُ مِنْ إِطْلَاقِ صِيَامِهَا فَاقْتَضَى الظَّاهِرُ إِجْزَاءَ صِيَامِهَا فِي حَالَتَيْ تَتَابُعِهَا وَتَفْرِيقِهَا ، وَلَا يَجِبُ

حَمْلُهُ عَلَى الْمُقَيَّدِ مِنْ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ كَمَا أَلْزَمَهُ الْمُزَنِيُّ لِتَرَدُّدِ هَذَا الْإِطْلَاقِ بَيْنَ أَصْلَيْنِ يَجِبُ التَّتَابُعُ فِي أَحَدِهَا وَهُوَ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ ، وَلَا يَجُبْ فِي الْآخَرِ وَهُوَ قَضَاءُ رَمَضَانَ فَلَمْ يَكُنْ أَحَدُ الْأَصْلَيْنِ فِي التَّتَابُعِ بِأَوْلَى مِنَ الْآخَرِ فِي التَّفَرُّقِ . وَلِأَنَّهُ صَوْمٌ يَتَرَدَّدُ مُوجِبُهُ بَيْنَ إِبَاحَةٍ وَحَظْرٍ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُسْتَحَقَّ فِيهِ التَّتَابُعُ قِيَاسًا عَلَى قَضَاءِ رَمَضَانَ ، فَأَمَّا قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيٍّ فَإِنَّمَا تَجْرِي فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهَا مَجْرَى خَبَرِ الْوَاحِدِ ، إِذَا أُضِيفَتْ إِلَى التَّنْزِيلِ وَإِلَى سَمَاعِهَا مِنَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَّا إِذَا أُطْلِقَتْ جَرَتْ مَجْرَى التَّأْوِيلِ دُونَ التَّنْزِيلِ ، ثُمَّ لَوْ سَلِمَتْ لَحُمِلَتْ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَإِطْلَاقُهَا عَلَى الْجَوَازِ ، وَأَمَّا كَفَّارَةُ الْقَتْلِ فَلَمَّا تَغَلَّظَ صَوْمُهَا بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ تَغَلَّظَ بِالتَّتَابُعِ ، وَلِمَّا تَخَفَّفَ صَوْمُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بِنُقْصَانِ الْعَدَدِ تَخَفَّفْ بِالتَّفْرِقَةِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِذَا كَانَ الصَّوْمُ مُتَتَابِعًا فَأَفْطَرَ فِيهِ الصَّائِمُ أَوِ الصَّائِمَةُ مِنْ عُذْرٍ وَغَيْرِ عُذْرٍ صيام الكفارة اسْتَأْنَفَا الصِّيَامَ إِلَّا الْحَائِضَ فَإِنَّهَا لَا تَسْتَأَنِفُ ، وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ : الْمَرَضُ كَالْحَيْضِ ، وَقَدْ يَرْتَفِعُ الْحَيْضُ بِالْحَمْلِ وَغَيْرِهِ كَمَا يَرْتَفِعُ الْمَرَضُ . قَالَ : وَلَا صَوْمَ فِيمَا لَا يَجُوزُ صَوْمُهُ تَطَوُّعًا في الصوم المتتابع في الكفارة مِثْلَ يَوْمِ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ صَوْمٌ مُتَتَابِعٌ فِي كَفَّارَةِ قَتْلٍ أَوْ ظِهَارٍ فَيُفْطِرَ فِي أَثْنَاءِ صِيَامِهِ ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ بَاقِيهِ فَلَا يَخْلُو فِطْرُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِ عُذْرٍ ، فَإِنْ أَفْطَرَ بِغَيْرِ عُذْرٍ أَبْطَلَ بِهِ التَّتَابُعَ ، وَلَمْ يَعْتَدَّ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ صِيَامِهِ ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ بَاقِيهِ ، وَاسْتَأْنَفَ صَوْمَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ، وَإِنْ أَفْطَرَ بِعُذْرٍ فَالْأَعْذَارُ ضَرْبَانِ في صيام الكفارة : أَحَدُهُمَا : مَا كَانَ مِنْ أَعْذَارِ الْأَبْدَانِ . وَالثَّانِي : مَا كَانَ مِنْ أَعْذَارِ الزَّمَانِ ، فَأَمَّا أَعْذَارُ الْأَبْدَانِ فَأَرْبَعَةُ أَعْذَارٍ الافطار بعذر بدني في صيام الكفارة : أَحَدُهَا : الْحَيْضُ ، فَهُوَ مُنَافٍ لِلصَّوْمِ ، فَإِذَا دَخَلَتِ الْمَرْأَةُ فِي صِيَامِ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ بِكَفَّارَةِ قَتْلٍ ، ثُمَّ حَاضَتْ فِي تَضَاعِيفِهَا لَا يَبْطُلُ بِهِ تَتَابُعُ صِيَامِهَا ، وَتَبْنِي عَلَى مَا مَضَى مِنْ صِيَامِهَا بَعْدَ انْقِطَاعِ حَيْضِهَا لِعِلَّتَيْنِ : إِحْدَاهُمَا : أَنَّهُ فِطْرٌ بِعُذْرٍ ، لَا يُقْدَرُ مَعَهُ عَلَى الصِّيَامِ . وَالثَّانِيَةُ : أَنَّ طَرْقُ الْحَيْضِ مُعْتَادٌ لَا يَسْلَمُ لَهَا فِي الْعُرْفِ صِيَامُ شَهْرَيْنِ لَا حَيْضَ فِيهَا . وَالْعُذْرُ الثَّانِي : الْمَرَضُ تُفْطِرُ بِهِ فِي تَضَاعِيفِ صِيَامِهَا ، فَهَلْ يَنْقَطِعُ بِهِ التَّتَابُعُ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الْقَدِيمُ أَنَّهُ يَجُوزُ مَعَهُ الْبِنَاءُ وَلَا يَنْقَطِعُ بِهِ التَّتَابُعُ كَالْحَيْضِ ، تَعْلِيلًا بِأَنَّهُ فِطْرٌ بِعُذْرٍ ، لَا يُمْكِنُ مَعَهُ الصَّوْمُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ الْجَدِيدُ يَجِبُ مَعَهُ الِاسْتِئْنَافُ ، وَيَنْقَطِعُ بِهِ التَّتَابُعُ ، تَعْلِيلًا بِأَنَّهُ لَا يُعْتَادُ اسْتِمْرَارُهُ . وَالْعُذْرُ الثَّالِثُ : الْفِطْرُ بِالسَّفَرِ . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْفِطْرَ بِالْمَرَضِ يَقْطَعُ التَّتَابُعَ ، فَالْفِطْرُ بِالسَّفَرِ أَوْلَى أَنْ يَقْطَعَهُ . وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْفِطْرَ بِالْمَرَضِ لَا يَقْطَعُ التَّتَابُعَ فَفِي قَطْعِهِ بِالسَّفَرِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَقْطَعُهُ وَيَجُوزُ مَعَهُ الْبِنَاءُ ؛ لِأَنَّهُ فِطْرٌ بِعُذْرَيْنِ قَدْ جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا فِي الْإِبَاحَةِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يَقْطَعُ التَّتَابُعَ وَيُوجِبُ الِاسْتِئْنَافَ ؛ لِأَنَّ فِطْرَهُ بِالْمَرَضِ ضَرُورَةٌ وَبِالسَّفَرِ عَنِ اخْتِيَارٍ ، وَلِذَلِكَ إِذَا مَرِضَ فِي يَوْمٍ كَانَ صَحِيحًا فِي أَوَّلِهِ أَفْطَرَ ، وَلَوْ سَافَرَ فِي يَوْمٍ كَانَ سَقِيمًا فِي أَوَّلِهِ لَمْ يُفْطِرْ . وَالْعُذْرُ الرَّابِعُ : أَنْ يَطْرَأَ عَلَيْهِ فِي تَضَاعِيفِ صِيَامِهِ جُنُونٌ أَوْ إِغْمَاءٌ ، فَإِنْ قِيلَ فِي الْمَرَضِ يَبْنِي فَهَذَا أَوْلَى ، وَإِنْ قِيلَ فِي الْمَرَضِ يَسْتَأْنِفُ فَفِي الِاسْتِئْنَافِ بِالْجُنُونِ وَالْإِغْمَاءِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَسْتَأْنِفُ كَالْمَرِيضِ . وَالثَّانِي : يَبْنِي وَلَا يَسْتَأْنِفُ لِأَنَّ الصَّوْمَ مَعَ الْمَرَضِ حكم يَصِحُّ ، وَمَعَ الْجُنُونِ وَالْإِغْمَاءِ حكم الصوم لَا يَصِحُّ ، وَأَمَّا أَعْذَارُ الزَّمَانِ المسببة للفطر في صيام الكفارة فَهُوَ أَنْ يَتَخَلَّلَ مُدَّةَ صِيَامِهِ زَمَانٌ لَا يَجُوزُ صِيَامُهُ مِثْلَ يَوْمِ الْفِطْرِ ، وَيَوْمِ النَّحْرِ ، فَهَذَا قَاطِعٌ لِلتَّتَابُعِ وَمُوجِبٌ لِلِاسْتِئْنَافِ ؛ وَلِأَنَّ الِاحْتِرَازَ مِنْهُ مُمْكِنٌ ، وَهَكَذَا لَوْ تَخَلَّلَ صِيَامَهُ شَهْرُ رَمَضَانَ قُطِعَ التَّتَابُعُ ، فَأَمَّا أَيَّامُ التَّشْرِيقِ فَمَا تَقَدَّمَهُ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ قُطِعَ التَّتَابُعُ ، فَأَمَّا الِابْتِدَاءُ بِصِيَامِهَا فِي الْكَفَّارَةِ فَقَدْ كَانَ الشَّافِعِيُّ يَرَى فِي الْقَدِيمِ جَوَازَ صِيَامِهَا فِي كَفَّارَةِ تَمَتُّعِهِ ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ [ الْبَقَرَةِ : 196 ] ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ فِي الْجَدِيدِ ، وَمَنَعَ مِنْ صِيَامِهَا لِلْمُتَمَتِّعِ وَغَيْرِهِ لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ صِيَامِهَا ، وَقَوْلِهِ : إِنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَبِعَالٍ ، فَلَا تَصُومُوهَا فَإِنْ مَنَعَ مِنْ صِيَامِهَا لِلْمُتَمَتِّعِ ، كَانَ غَيْرُ الْمُتَمَتِّعِ أَوْلَى بِالْمَنْعِ ، وَإِنْ جَوَّزَ صِيَامَهَا لِلْمُتَمَتِّعِ لَمْ يَجُزْ أَنْ تُصَامَ تَطَوُّعًا لِغَيْرِ سَبَبٍ ، وَفِي جَوَازِ صِيَامِهَا بِسَبَبٍ مُوجِبٍ أيام التشريق وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ كَالْمُتَمَتِّعِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي السَّبَبِ الْمُوجِبِ .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا تُجْزِئُ لِأَنَّ صِيَامَ التَّمَتُّعِ مُخْتَصٌّ بِأَيَّامِ الْحَجِّ ، وَصِيَامَ غَيْرِهِ لَا يَخْتَصُّ بِهَا ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ عَلَيْهِ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ ، فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ التَّتَابُعَ فِيهَا غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ لَمْ يَمْنَعِ الْفِطْرُ فِي تَضَاعِيفِهَا مِنْ جَوَازِ الْبِنَاءِ . وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ التَّتَابُعَ فِيهَا شَرْطٌ مُسْتَحَقٌّ كَانَ الْفِطْرُ فِيهَا بِالْحَيْضِ قَاطِعًا لِلتَّتَابُعِ قَوْلًا وَاحِدًا ، بِخِلَافِهِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ ؛ لِأَنَّ التَّحَرُّزَ مِنْهُ بِصِيَامِهَا فِي أَوَّلِ الطُّهْرِ مُمْكِنٌ ؛ لِأَنَّ أَقَلَّهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، وَإِنْ أَفْطَرَ فِيهَا بِمَرَضٍ ، كَانَ الْبِنَاءُ عَلَى قَوْلَيْنِ كَفِطْرِهِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ ؛ لِأَنَّ التَّحَرُّزَ مِنْ هُجُومِ الْمَرَضِ غَيْرُ مُمْكِنٍ ، وَكَذَلِكَ يَكُونُ حُكْمُ فِطْرِهِ بِالسَّفَرِ وَالْجُنُونِ ، كَحُكْمِهِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ سَوَاءٌ ، وَلَا يُجْزِئُ صَوْمُهُ فِي الْكَفَّارَةِ إِلَّا بِنْيَةٍ قَبْلَ الْفَجْرِ ، وَتُجَدَّدُ النِّيَّةُ لِكُلِّ يَوْمٍ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ الْوَصِيَّةِ بِكَفَّارَةِ الْأَيْمَانِ وَالزَّكَاةِ

بَابُ الْوَصِيَّةِ بِكَفَّارَةِ الْأَيْمَانِ وَالزَّكَاةِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " مَنْ لَزِمَهُ حَقُّ الْمَسَاكِينِ فِي زَكَاةٍ أَوْ كَفَّارَةِ يَمِينٍ أَوْ حَجٍّ ، فَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ يُحَاصُ بِهِ الْغُرَمَاءُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَا أَخَصُّ الْحُقُوقِ بِتَرِكَةِ الْمَيِّتِ فَهُوَ الْكَفَنُ وَمَئُونَةُ الدَّفْنِ يُقَدَّمُ عَلَى حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ ، وَإِنِ اسْتَوْعَبَتْ جَمِيعَ التَّرِكَةِ . وَأَمَّا غَيْرُهُ مِنَ الْحُقُوقِ فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ كَالدُّيُونِ فَلَا خِلَافَ أَنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ [ النِّسَاءِ : 11 ] ، وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : نَفْسُ الْمَيِّتِ مُعْلَقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى وَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الزِّكْوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالْحَجِّ وَالنُّذُورِ هل تسقط بالموت ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ ، سَوَاءٌ وَجَبَتْ بِاخْتِيَارِهِ كَالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ أَوْ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ كَالزَّكَوَاتِ وَالْحَجِّ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَسْقُطُ جَمِيعُهَا بِالْمَوْتِ ، وَفَرَّقَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بَيْنَ مَا وَجَبَ بِاخْتِيَارِهِ فَسَقَطَ بِالْمَوْتِ ، وَمَا وَجَبَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَلَا يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ ، وَعَكَسَ بَعْضُهُمْ هَذَا فَأَسْقَطَ بِالْمَوْتِ مَا وَجَبَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ لَمْ يُسْقِطْ بِهِ مَا وَجَبَ بِاخْتِيَارِهِ ، وَقَدْ حَكَى الشَّافِعِيُّ هَذِهِ الْمَذَاهِبَ كُلَّهَا فِي كِتَابِ الْأُمِّ ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ بِمَا أَغْنَى عَنِ الْإِعَادَةِ فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ فِيمَا لَزِمَهُ مِنَ الْحُقُوقِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهَا مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ التي على الميت لهم أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَتَعَلَّقَ جَمِيعُهَا بِالذِّمَّةِ ، فَجَمِيعُ أَرْبَابِهَا أُسْوَةٌ فِي التَّرِكَةِ ، إِنِ اتَّسَعَتْ لَهَا قُضِيَ جَمِيعُهَا ، وَإِنْ ضَاقَتْ عَنْهَا تَحَاصُّوهَا بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ دُيُونِهِمْ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهَا مُتَعَلِّقَةً بِالْعَيْنِ كَالرَّهْنِ وَالْعَبْدِ الْجَانِي ، فَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْعَيْنَانِ اخْتَصَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالْعَيْنِ الَّتِي تَعَلَّقَ حَقُّهُ بِهَا ، وَإِنْ تَعَلَّقَتْ حُقُوقُهُمْ بِعَيْنٍ وَاحِدَةٍ اشْتَرَكُوا فِيهَا بِقَدْرِ حُقُوقِهِمْ مِنْهَا . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْحُقُوقِ ثَابِتًا فِي الذِّمَّةِ ، وَبَعْضُهَا مُتَعَلِّقًا بِالْعَيْنِ

فَيُقَدَّمُ مَا تَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ عَلَى مَا تَعَلَّقَ بِالذِّمَّةِ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْعَيْنِ قَدْ جَمَعَ بَيْنَ حَقَّيْنِ ، وَتَفَرَّدَ صَاحِبُ الذِّمَّةِ بِأَحَدِهِمَا .

فَصْلٌ : الْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ التي على الميت : أَحَدُهَا : أَنْ يَتَعَلَّقَ جَمِيعُهَا بِالذِّمَّةِ كَالْحَجِّ وَالْكَفَّارَةِ وَالزَّكَاةِ بَعْدَ تَلَفِ الْحَالِ وَالنُّذُورِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالذِّمَّةِ ، فَإِنِ اتَّسَعَتِ التَّرِكَةُ لِجَمِيعِهَا قُضِيَتْ ، فَإِنْ فَضُلَ عَنْهَا شَيْءٌ كَانَ لِلْوَرَثَةِ ، وَإِنِ اسْتَوْعَبَتِ التَّرِكَةَ فَلَا شَيْءَ لِلْوَرَثَةِ ، وَإِنْ ضَاقَتِ التَّرِكَةُ عَنْهَا قُسِّمَتِ التَّرِكَةُ عَلَى الْحُقُوقِ بِالْحِصَصِ ، فَإِنْ كَانَ مَا خَرَجَ بِقِسْطِ الْحَجِّ يُمْكِنُ أَنْ يُحَجَّ بِهِ عَنْهُ مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ أُخْرِجَ عَنْهُ ، إِنْ لَمْ يُمْكِنْ سَقَطَ ، وَتَدَبَّرَ مِنَ التَّرِكَةِ عَلَى مَا سِوَاهُ مِنَ الْحُقُوقِ ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْعِتْقِ فِي الْكَفَّارَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَخْيِيرٌ حكم كَالْعِتْقِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ إِذَا ضَاقَ قِسْطُهُ عَنْ تَحْرِيرِ رَقَبَةٍ سَقَطَ حُكْمُهُ ، وَعَادَ عَلَى مَا سِوَاهُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهَا مُتَعَلِّقَةً بِالْعَيْنِ ، كَالزَّكَاةِ فِي نِصَابٍ مَوْجُودٍ وَالنَّذْرِ فِي عِتْقِ عَبْدٍ مُعَيَّنٍ ، أَوِ الصَّدَقَةِ بِمَالٍ مُعَيَّنٍ ، فَإِنْ تَغَايَرَتِ الْأَعْيَانُ اخْتَصَّتْ كُلُّ عَيْنٍ بِالْحَقِّ الْمُتَعَلِّقِ بِهَا ، وَإِنِ اتَّفَقَتْ قُسِّطَتْ عَلَى الْحُقُوقِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ يَخْتَصَّ بَعْضُهَا بِالذِّمَّةِ وَيَتَعَلَّقَ بَعْضُهَا بِالْعَيْنِ ، فَالْمُتَعَلِّقُ بِالْعَيْنِ أَحَقُّ أَنْ يُقَدَّمَ عَلَى مَا تَعَلَّقَ بِالذِّمَّةِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ .

فَصْلٌ : وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ تُجْمَعَ فِي تَرِكَتِهِ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ الميت فَهَذَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى مُتَعَلِّقَةً بِالْعَيْنِ ، وَحُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ مُخْتَصَّةً بِالذِّمَّةِ ، فَيُقَدَّمَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَعَلِّقَ بِالْعَيْنِ عَلَى حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالذِّمَّةِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى مُتَعَلِّقَةً بِالذِّمَّةِ وَحُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ مُتَعَلِّقَةً بِالْعَيْنِ ، فَيُقَدَّمَ حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ عَلَى حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ تَكُونَ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ مُتَعَلِّقَةً بِالذِّمَّةِ ، فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : أَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى مُقَدَّمَةٌ عَلَى حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى وَلِأَنَّهَا حُقُوقٌ لَا تَسْقُطُ بِالْإِبْرَاءِ ، فَكَانَتْ أَوْكَدَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ السَّاقِطَةِ بِالْإِبْرَاءِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَمْرَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّ نُفُوسَ الْآدَمِيِّينَ أَشَحُّ ، وَاللَّهُ تَعَالَى بِحُقُوقِهِ أَسْمَحُ ، وَلِذَلِكَ جَعَلَ لَهَا أَبْدَالًا وَأَسْقَطَهَا بِالشُّبَهَاتِ . وَالثَّانِي : أَنَّ مُسْتَحِقِّيهَا مُتَعَيَّنُونَ ، وَحُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَتَعَيَّنُ مُسْتَحِقُّهَا ، وَمَا تَعَيَّنَ مُسْتَحِقُّهُ أَوْكَدُ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّ كِلَا الْحَقَّيْنِ سَوَاءٌ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْوُجُوبِ وَتَسَاوِيهِمَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ ، فَتُقَسَّطُ التَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ الْحَقَّيْنِ . وَالضَّرْبُ الرَّابِعُ : أَنْ تَكُونَ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ مُتَعَلِّقَةً بِالْعَيْنِ ، فَإِنْ تَغَايَرَتِ اخْتَصَّتْ كُلُّ عَيْنٍ بِمُسْتَحَقِّهَا ، وَإِنِ اتَّفَقَتْ فِي عَيْنٍ وَاحِدَةٍ فَقَدْ أَشَارَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَكُونُ عَلَى الْأَقَاوِيلِ الثَّلَاثَةِ كَالْمُتَعَلِّقِ بِالذِّمَّةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُقَدِّمُ فِيهَا حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ عَلَى حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى قَوْلًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّهَا فِي أَيْدِيهِمْ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : ( فَإِنْ أَوْصَى بِأَنْ يُعْتَقَ عَنْهُ فِي كَفَّارَةٍ الميت ، فَإِنْ حَمَلَ ثُلُثُهُ الْعِتْقَ أُعْتِقَ عَنْهُ ، فَإِنْ لَمْ يَحْمِلْهُ الثُّلُثُ أُطْعِمَ عَنْهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا مَاتَ وَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا أَنْ تَكُونَ عَلَى التَّرْتِيبِ أَوْ عَلَى التَّخْيِيرِ ، فَإِنْ كَانَتْ عَلَى التَّرْتِيبِ مِثْلَ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ فِيهَا مِنْ أَنْ يُوصِيَ بِهَا أَوْ لَا يُوصِيَ ، فَإِنْ لَمْ يُوصِ أُخْرِجَتِ الْكَفَّارَةُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ ، فَإِنِ احْتَمَلَ الْعِتْقَ صَارَ مِنْ أَهْلِهِ فَأُعْتِقَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ تَحْتَمِلْ تَرِكَتُهُ الْعِتْقَ صَارَ مُعْسِرًا بِهِ ، فَلَا يَعْدِلُ عَنْهُ إِلَى الصِّيَامِ : لِأَنَّهُ لَا تَصِحُّ مِنْهُ النِّيَابَةُ ، وَعَدَلَ عَنْهُ إِلَى الْإِطْعَامِ ، وَإِنْ أَوْصَى بِالتَّكْفِيرِ عَنْهُ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ فِي الْوَصِيَّةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَجْعَلَهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ ، فَيَكُونَ مِنْ أَصْلِ التَّرِكَةِ ، وَتَكُونَ الْوَصِيَّةُ بِهِ تَأْكِيدًا . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَجْعَلَهُ مِنْ ثُلُثِهِ فَتَصِيرَ الْوَصِيَّةُ فِي الثُّلُثِ ، وَهُوَ بِهَا مُرَفَّهٌ عَلَى وَرَثَتِهِ ، فَإِنْ وَفَّى الْعِتْقَ مِنَ الثُّلُثِ وَإِلَّا كَمَّلَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يُطْلِقَ الْوَصِيَّةَ بِهِ وَلَا يُسَمِّيَهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَلَا مِنَ الثُّلُثِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : يَكُونُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ حَمْلًا لِلْوَصِيَّةِ عَلَى التَّأْكِيدِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَكُونُ مِنَ الثُّلُثِ حَمْلًا لِلْوَصِيَّةِ عَلَى التَّأْثِيرِ وَالتَّرْفِيهِ .

وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنْ يُنْظَرَ فَإِنْ قَرَنَ لَهُ فِي الْوَصِيَّةِ بِمَا يَكُونُ فِي الثُّلُثِ ، صَارَ الْعِتْقُ فِي الثُّلُثِ ، وَإِنْ قَرَنَ بِهِ مَا يَكُونُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ صَارَ الْعِتْقُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ اعْتِبَارًا بِالْجَمْعِ .

فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَتِ الْكَفَّارَةُ عَلَى التَّخْيِيرِ مِثْلَ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ فِيهَا مِنْ أَنْ يُوصِيَ بِهَا أَوْ لَا يُوصِيَ الميت ، فَإِنْ لَمْ يُوصِ بِهَا وَجَبَ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ أَقَلَّ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْإِطْعَامِ أَوِ الْكِسْوَةِ ، فَإِنْ عَدَلَ الْوَارِثُ إِلَى أَعْلَاهُمَا أَجْزَأَهُ ، وَإِنْ عَدَلَ عَنْهُمَا إِلَى الْعِتْقِ ، فَفِي إِجْزَائِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُجْزِئُ لِأَنَّهُ يَقُومُ فِي التَّكْفِيرِ مَقَامَ الْمَوْرُوثِ فَاسْتَحَقَّ التَّخْيِيرَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ لِأَنَّهُ أُدْخِلَ فِي وِلَايَةِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ عِتْقَهُ ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَانِ الْوَجْهَانِ مُخَرَّجَيْنِ مِنَ اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِيمَا أَوْجَبَهُ التَّخْيِيرُ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ . فَإِنْ قِيلَ بِوُجُوبِ أَحَدِهِمَا لَا بِعَيْنِهِ لَمْ يَجُزِ الْعِتْقُ : لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ فِي الْوُجُوبِ ، وَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ مُوجِبٌ لِجَمِيعِهَا وَلَهُ إِسْقَاطُ وُجُوبِهَا بِإِخْرَاجِ أَحَدِهَا أَجْزَأَ ، وَإِنْ وَصَّى بِالتَّكْفِيرِ عَنْهُ ، فَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ مِمَّا يُكَفِّرُ بِهِ كَانَ كَمَنْ لَمْ يُوصِ فِيمَا يُكَفِّرُ بِهِ عَنْهُ ، فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى ، وَتَكُونُ الْوَصِيَّةُ إِذْكَارًا أَوْ تَوْكِيدًا ، وَإِنْ عَيَّنَ مَا يُكَفِّرُ بِهِ عَنْهُ لَمْ يَخْلُ مَا عَيَّنَهُ مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُعَيِّنَ الْإِطْعَامَ الَّذِي هُوَ أَقَلُّ ، فَيُكَفِّرُ عَنْهُ بِالْإِطْعَامِ وَيَكُونُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ إِلَّا أَنْ يَجْعَلَهُ فِي الثُّلُثِ فَيَصِيرَ بِالْوَصِيَّةِ مِنَ الثُّلُثِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُوصِيَ بِالْكِسْوَةِ وَهُوَ فَوْقَ الْإِطْعَامِ وَدُونَ الْعِتْقِ ، فَيَكُونُ مَا زَادَ عَلَى قِيمَةِ الْإِطْعَامِ مِنَ الثُّلُثِ ، وَهَلْ يَصِيرُ قِدْرُ قِيمَةِ الْإِطْعَامِ بِذَلِكَ مِنَ الثُّلُثِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ نَذْكُرُهُمَا . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يُوصِيَ بِالْعِتْقِ فَيَكُونَ مَا زَادَ عَلَى قِيمَةِ الْإِطْعَامِ مِنَ الْعِتْقِ مِنَ الثُّلُثِ . وَفِي قَدْرِ قِيمَةِ الْإِطْعَامِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ فِي الثُّلُثِ أَيْضًا ، فَيَصِيرُ جَمِيعُ قِيمَةِ الْعِتْقِ مِنَ الثُّلُثِ ، فَإِنِ امْتَنَعَ لَهُ الثُّلُثُ أُعْتِقَ عَنْهُ ، وَإِنْ ضَاقَ عَنْهُ الثُّلُثُ بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ بِالْعِتْقِ ، وَأُطْعِمَ عَنْهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَيِّمَ قِيمَةَ الْإِطْعَامِ إِلَى مَا عَجَزَ عَنْهُ الثُّلُثُ مِنَ الْعِتْقِ لِيَسْتَكْمِلَ بِهِ جَمِيعَ الْعِتْقِ هَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ، وَالْمُعَوَّلُ مِنْ قَوْلِ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ يَجْعَلُ فِي الثُّلُثِ مِنْ قِيمَةِ الْعِتْقِ مَا زَادَ عَلَى قِيمَةِ الْإِطْعَامِ ، وَيَكُونُ قَدْرُ قِيمَةِ الْإِطْعَامِ

مُسْتَحَقًّا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ لِاسْتِحْقَاقِ إِخْرَاجِهِ مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ ، فَإِذَا ضَاقَ الثُّلُثُ عَنْ قِيمَةِ الْعِتْقِ ، وَكَانَ فِي قِيمَةِ الْإِطْعَامِ مَا يَسْتَكْمِلُ بِهِ قِيمَةَ الْعِتْقِ أُعْتِقَ عَنْهُ ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ قِيمَةِ الْعِتْقِ بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ بِالْعِتْقِ وَعُدِلَ عَنْهُ إِلَى الْإِطْعَامِ الَّذِي هُوَ فَرْضُهُ مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ وَيَكُونُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ ؛ لِأَنَّ الثُّلُثَ مَحَلُّ الْوَصَايَا دُونَ الْفُرُوضِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ كَفَّارَةِ يَمِينِ الْعَبْدِ بَعْدَ أَنْ يُعْتَقَ

بَابُ كَفَّارَةِ يَمِينِ الْعَبْدِ بَعْدَ أَنْ يُعْتَقَ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : ( لَا يُجْزِئُ الْعَبْدَ فِي الْكَفَّارَةِ إِلَّا الصَّوْمُ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ مَالًا ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا وَجَبَتْ عَلَى الْعَبْدِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ أَوْ ظِهَارٍ أَوْ قَتْلٍ لَمْ يُجْزِهِ إِذَا لَمْ يُمَلِّكْهُ السَّيِّدُ مَالًا أَنْ يُكَفِّرَ إِلَّا بِالصِّيَامِ : لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَالِ وَهُوَ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْحُرِّ الْمُعْسِرِ الَّذِي يَصِحُّ مِنْهُ تَمَلُّكُ الْمَالِ ، وَإِنْ مَلَّكَهُ السَّيِّدُ مَالًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُكَفِّرَ بِهِ إِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ السَّيِّدُ فِي التَّكْفِيرِ بِهِ ، سَوَاءٌ حُكِمَ لَهُ بِمِلْكِ الْمَالِ أَوْ لَمْ يُحْكَمْ : لِأَنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فِي حَقِّ السَّيِّدِ وَإِنْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يُكَفِّرَ بِالْمَالِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْعَبْدِ هَلْ يَمْلِكُ إِذَا مُلِّكَ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَمْلِكُ إِذَا مُلِّكَ ، وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالْحِجَازِيِّينَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يَمْلِكُ وَإِنْ مُلِّكَ ، وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعِرَاقِيِّينَ ، وَقَدْ مَضَى تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ . فَإِنْ قِيلَ بِالْجَدِيدِ أَنْ لَا يَمْلِكَ لَمْ يُكَفِّرْ إِلَّا بِالصِّيَامِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُكَفِّرَ بِإِطْعَامٍ وَلَا كِسْوَةٍ وَلَا عِتْقٍ ، وَإِنْ قِيلَ بِالْقَدِيمِ أَنَّهُ يَمْلِكُ إِذَا مُلِّكَ جَازَ أَنْ يُكَفِّرَ بِالْإِطْعَامِ وَالْكِسْوَةِ لِقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ مَعَ مِلْكِهِ ، وَفِي جَوَازِ تَكْفِيرِهِ بِالْعِتْقِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ كَالْإِطْعَامِ وَالْكِسْوَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ لِمَا فِيهِ مِنَ اسْتِحْقَاقِ الْوَلَاءِ الَّذِي لَا يَسْتَقِرُّ لَهُ عَلَيْهِ مِلْكٌ ، وَلَا يَثْبُتُ لَهُ بِهِ وِلَايَةٌ وَلَا إِرْثٌ ، وَإِذَا قِيلَ بِجَوَازِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ، فَفِي وَلَائِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لِلسَّيِّدِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى مَا يُفْضِي إِلَيْهِ حَالُهُ مِنْ عِتْقٍ فَيَصِيرُ الْوَلَاءُ لَهُ أَوْ يَمُوتُ عَلَى رِقِّهِ ، فَيَكُونُ لِسَيِّدِهِ ، وَهَكَذَا حُكْمُ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُعْتَقِ بِالصِّفَةِ ، فَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ إِذَا مُلِّكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُكَفِّرَ إِلَّا بِالصِّيَامِ ، وَإِنْ أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ فَفِي جَوَازِ تَكْفِيرِهِ بِالْمَالِ قَوْلَانِ :

أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ كَالْعَبْدِ وَلَيْسَ بِأَسْوَأِ حَالًا مِنْهُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ أَنْ يُكَفِّرَ إِلَّا بِالصِّيَامِ ، وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ أَنْ يُكَفِّرَ بِالْمَالِ ؛ لِأَنَّ مِلْكَ السَّيِّدِ لِمَالِ مُكَاتَبِهِ ضَعِيفٌ ، فَضَعُفَ إِذْنِهِ مَعَهُ ، وَمِلْكَهُ لِمَالِ عَبْدِهِ قَوِيٌّ فَقَوِيَ إِذْنُهُ مَعَهُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : ( وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَصُومَ إِلَّا بِإِذْنِ مَوْلَاهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَا لَزِمَهُ بِإِذْنِهِ ، وَلَوْ صَامَ فِي أَيِّ حَالٍ أَجْزَأَهُ ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا أَنْ يَجِبَ عَلَى الْعَبْدِ الصِّيَامُ فِي كَفَّارَةِ يَمِينٍ ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ إِذَا أَضَرَّ الصِّيَامُ بِخِدْمَةِ السَّيِّدِ فِي عَقْدِ يَمِينِهِ وَحِنْثِهِ صيام العبد للكفارة مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَحْلِفَ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ وَيَحْنَثَ بِإِذْنِهِ ، فَلِلْعَبْدِ أَنْ يَصُومَ عَنِ الْكَفَّارَةِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ ؛ لِأَنَّ مُوَجَبِي الْكَفَّارَةِ عَنْ إِذْنِهِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَحْلِفَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَيَحْنَثَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ ، فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَصُومَ إِلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ ، لِمَا فِيهِ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي خِدْمَتِهِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَحْلِفَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ ، وَيَحْنَثَ بِإِذْنِهِ ، فَلِلْعَبْدِ أَنْ يَصُومَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الصِّيَامِ بِإِذْنِهِ . وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَحْلِفَ بِإِذْنِهِ وَيَحْنَثَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ ، فَفِي جَوَازِ صِيَامِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ لِأَنَّ عَقْدَ يَمِينِهِ بِإِذْنِهِ ، فَصَارَ مَا أَفْضَى إِلَيْهِ مِنَ الْحِنْثِ دَاخِلًا فِي حُكْمِ إِذْنِهِ ، كَمَا لَوْ أَذِنَ لِعَبْدِهِ فِي النِّكَاحِ كَانَ إِذْنًا لَهُ بِالنَّفَقَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ أَنْ يَصُومَ إِلَّا بِإِذْنِهِ : لِأَنَّ عَقْدَ الْيَمِينِ مَانِعَةٌ مِنْ فِعْلِ الْحِنْثِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْإِذْنِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ مَمْنُوعًا مِنَ الصَّوْمِ إِلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ عَلَى مَا فَصَّلْنَاهُ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ الصَّوْمُ فِيهِ مُؤَثِّرًا فِي الضَّعْفِ كَالصَّيْفِ أَوْ غَيْرَ مُؤَثِّرٍ فِيهِ كَالشِّتَاءِ ، فَإِنْ كَانَ الزَّمَانُ صَائِفًا يُؤَثِّرُ فِي ضَعْفِ الصَّائِمِ ، فَهُوَ الْمَمْنُوعُ مِنَ الصِّيَامِ فِيهِ إِلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ العبد ، وَإِنْ كَانَ الزَّمَانُ شَاتِيًا لَا يُؤَثِّرُ صِيَامُهُ فِي ضَعْفِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ اسْتِئْذَانُ سَيِّدِهِ فِي صِيَامِهِ لِعَدَمِ تَأْثِيرِهِ فِي عَمَلِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَلْزَمُهُ اسْتِئْذَانُهُ وَلِلسَّيِّدِ مَنْعُهُ ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ قَلَّ تَأْثِيرُهُ فِي إِضْعَافِهِ ، فَالْفِطْرُ أَنْشَطُ لِعَمَلِهِ وَأَبْلَغُ فِي تَوَفُّرِهِ ، فَإِنْ خَالَفَ الْعَبْدُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي نُهِيَ عَنِ الصِّيَامِ

إِلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ فَصَامَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ أَجْزَأَهُ : لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ لَا يَقِفُ انْعِقَادُهَا عَلَى إِذْنِهِ فَصَحَّتْ ، وَإِنْ جَازَ لِلسَّيِّدِ مَنْعُهُ مِنْهَا كَالْحَجِّ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ حَنِثَ ثُمَّ أَعْتَقَ وَكَفَّرَ كَفَّارَةَ حُرٍّ أَجْزَأَهُ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مَالِكٌ ، وَلَوْ صَامَ أَجْزَأَهُ : لِأَنَّ حُكْمَهُ يَوْمَ حَنِثَ حُكْمُ الصِّيَامِ " قَالَ الْمُزَنِيُّ " رَحِمَهُ اللَّهُ : قَدْ مَضَتِ الْحُجَّةُ أَنَّ الْحُكْمَ يَوْمَ يُكَفِّرُ لَا يَوْمَ يَحْنَثُ ، كَمَا قَالَ : إِنَّ حُكْمَهُ فِي الصَّلَاةِ حِينَ يُصَلِّي كَمَا يُمْكِنُهُ لَا حِينَ وَجَبَتْ عَلَيْهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي عَبْدٍ حَلَفَ فِي حَالِ رِقِّهِ ، ثُمَّ حَنِثَ وَأُعْتِقَ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ حِنْثِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي رِقِّهِ أَوْ بَعْدَ عِتْقِهِ . فَإِنْ حَنِثَ بَعْدَ عِتْقِهِ ، فَهُوَ فِي الْكَفَّارَةِ كَالْحُرِّ لِوُجُوبِهَا عَلَيْهِ وَهُوَ حُرٌّ ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا كَفَّرَ بِالْمَالِ ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا كَفَّرَ بِالصِّيَامِ ، فَإِنْ عَدَلَ عَنْهُ إِلَى الْمَالِ أَجْزَأَهُ ، سَوَاءٌ كَانَ إِطْعَامًا أَوْ عِتْقًا ، وَإِنْ حَنِثَ فِي حَالِ رِقِّهِ وَقَبْلَ عِتْقِهِ وَلَمْ يُكَفِّرْ حَتَّى أُعْتِقَ ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ عِتْقِهِ مُعْسِرًا كَفَّرَ بِالصِّيَامِ ، وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا فَعَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُكَفِّرُ إِلَّا بِالْمَالِ مِنْ إِطْعَامٍ أَوْ كِسْوَةٍ أَوْ عِتْقٍ إِذَا قِيلَ : إِنَّ الْمُعْتَبَرَ بِالْكَفَّارَةِ حَالُ الْأَدَاءِ ، أَوْ أَغْلَظُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ حَالِ الْوُجُوبِ أَوْ حَالِ الْأَدَاءِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يَجُوزُ أَنْ يُكَفِّرَ بِالصِّيَامِ إِذَا قِيلَ : إِنَّ الْمُعْتَبَرَ بِالْكَفَّارَةِ حَالُ الْوُجُوبِ . فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَعْدِلَ عَنِ الصِّيَامِ إِلَى الْمَالِ مِنْ إِطْعَامٍ أَوْ كِسْوَةٍ أَوْ عِتْقٍ ، فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْعَبْدَ يَجُوزُ أَنْ يُكَفِّرَ بِالْمَالِ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ أَنَّهُ يَمْلِكُ إِذَا مُلِّكَ ، كَانَ بَعْدَ عِتْقِهِ أَوْلَى بِالْجَوَازِ ، وَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْعَبْدِ أَنْ يُكَفِّرَ بِالْمَالِ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إِذَا مُلِّكَ ، فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ بَعْدَ عِتْقِهِ أَنْ يُكَفِّرَ بِالْمَالِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ تَكْفِيرِهِ حُرٌّ فَأَشْبَهَ الْحُرَّ الْمُعْسِرَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ التَّكْفِيرَ بِالْمَالِ عِنْدَ الْوُجُوبِ لَمْ يُجْزِهِ ، بِخِلَافِ الْحُرِّ الْمُعْسِرِ الَّذِي لَوْ كَفَّرَ بِالْمَالِ أَجْزَأَهُ ، فَلَزِمَهُ اسْتِصْحَابُ هَذَا الْحُكْمِ بَعْدَ عِتْقِهِ لِاسْتِقْرَارِ وُجُوبِهِ فِي حَالِ رِقِّهِ ، فَصَارَ فِي مَحْصُولِ تَكْفِيرِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : لَا يُكَفِّرُ إِلَّا بِالْمَالِ . وَالثَّانِي : لَا يُكَفِّرُ إِلَّا بِالصِّيَامِ .

وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ أَوْ بِالصِّيَامِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ ، وَنِصْفُهُ عَبْدٌ وَنِصْفُهُ حُرٌّ ، وَكَانَ فِي يَدَيْهِ مَالٌ لِنَفْسِهِ الكفارة على العبد لَمْ يُجْزِئْهُ الصَّوْمُ ، وَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُكَفِّرَ مِمَّا فِي يَدَيْهِ لِنَفْسِهِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : إِنَمَا الْمَالُ لِنِصْفِهِ الْحُرِّ لَا يَمْلِكُ مِنْهُ النِّصْفُ الْعَبْدُ شَيْئًا ، فَكَيْفَ يُكَفِّرُ بِالْمَالِ نِصْفٌ عَبْدٌ لَا يَمْلِكُ مِنْهُ شَيْئًا ، فَأَحَقُّ بِقَوْلِهِ أَنَّهُ كَرَجُلٍ مُوسِرٍ بِنِصْفِ الْكَفَّارَةِ ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا الصَّوْمُ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَالَ الْمُزَنِيُّ : إِذَا حَنِثَ عَنْ نِصْفِهِ حُرٍّ وَنِصْفِهِ عَبْدٍ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِنِصْفِهِ الْحُرِّ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا ، فَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَفَرْضُهُ التَّكْفِيرُ بِالصِّيَامِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا صَامَ بِالْإِعْسَارِ مَعَ كَمَالِ حُرِّيَّتِهِ كَانَ صِيَامُهُ مَعَ تَبْعِيضِ الْحَرِيَّةِ أَوْلَى ، وَإِنْ كَانَ بِنِصْفِهِ الْحُرِّ مُوسِرًا ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا : كَفَّرَ بِالْمَالِ فَقَلَبَ حُكْمَ الْحُرِّيَّةِ عَلَى حُكْمِ الرِّقِّ فِي الْكَفَّارَةِ ، وَإِنْ كَانَ يَغْلِبُ حُكْمُ الرِّقِّ عَلَى حُكْمِ الْحُرِّيَّةِ فِي النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالنَّفَقَةِ وَالْمِيرَاثِ وَالشَّهَادَةِ . فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي كَفَّارَتِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ يُكَفِّرُ بِالْمَالِ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ أَنَّهُ يَمْلِكُ إِذَا مُلِّكَ وَعَلَيْهِ خَرَّجَ الْجَوَابَ ، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ : إِنَّهُ لَا يَمْلِكُ إِذَا مُلِّكَ فَلَا يُكَفِّرُ إِلَّا بِالصِّيَامِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : - قَالَهُ الْمُزَنِيُّ وَسَاعَدَهُ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا - أَنَّهُ لَا يُكَفِّرُ إِلَّا بِالصِّيَامِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا ، وَأَنَّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ تَكْفِيرِهِ بِالْمَالِ مُخَالِفٌ لِأُصُولِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا غَلَبَ فِيمَا عَدَا الْكَفَّارَةِ حُكْمُ الرِّقِّ عَلَى الْحُرِّيَّةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ فِي الْكَفَّارَةِ . وَالثَّانِي : مَا ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ مِنْ أَنَّ نُقْصَانَ الْمُكَفِّرِ إِذَا كَانَ بَعْضُهُ حُرًّا مَمْلُوكًا كَنُقْصَانِ التَّكْفِيرِ ، إِذَا وُجِدَ بَعْضُ الْإِطْعَامِ وَعُدِمَ بَعْضُهُ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَجْزُهُ بِبَعْضِ بَدَنِهِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى جَمِيعِ الْكَفَّارَةِ كَعَجْزِهِ عَنْ بَعْضِ الْكَفَّارَةِ مَعَ قُدْرَتِهِ بِجَمِيعِ بَدَنِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ وَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا ، أَنَّهُ لَا يُكَفِّرُ إِلَّا بِالْمَالِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا ؛ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْحُرِّيَّةِ عَلَى الرِّقِّ ، وَإِنْ غَلَبَ حُكْمُ الرِّقِّ عَلَى الْحُرِّيَّةِ فِي غَيْرِ الْكَفَّارَةِ ، اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ [ الْمَائِدَةِ : 89 ] وَهَذَا وَاحِدٌ فَلَمْ يُجْزِهِ الصِّيَامُ ؛ وَلِأَنَّ تَكْفِيرَ الْحُرِّ الْمُوسِرِ بِالْمَالِ وَتَكْفِيرَ الْعَبْدِ الْقِنِّ بِالصَّوْمِ ، فَلَمْ يَخْلُ حَالُ مَنْ تَبَعَّضَتْ فِيهِ الْحُرِّيَّةُ وَالرِّقُّ عند التكفير مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ ، إِمَّا أَنْ يَغْلِبَ حُكْمُ الْحَرِيَّةِ مِنْ تَكْفِيرٍ بِالْمَالِ ، أَوْ يَغْلِبَ حُكْمُ الرِّقِّ فِي تَكْفِيرِهِ .

بِالصِّيَامِ ، أَوْ بِبَعْضِ تَكْفِيرِهِ بِالْمَالِ وَالصِّيَامِ بِحَسْبِ مَا فِيهِ مِنْ حُرِّيَّةٍ وَرِقٍّ ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى إِبْطَالِ التَّبْعِيضِ ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا تَغْلِيبُ أَحَدِهَا فَكَانَ تَغْلِيبُ الْحَرِيَّةِ عَلَى الرِّقِّ فِي التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ أَوْلَى مِنْ تَغْلِيبِ الرِّقِّ عَلَى الْحُرِّيَّةِ فِي التَّكْفِيرِ بِالصِّيَامِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا تَغَلَّبَ حُرِّيَّةُ بَعْضِهِ فِي السَّرَايَةِ إِلَى عِتْقِ جَمِيعِهِ تَغَلَّبَ حُكْمُهَا فِي تَكْفِيرِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ التَّكْفِيرَ بِالْمَالِ أَصْلٌ ، وَبِالصِّيَامِ بَدَلٌ ، وَلِذَلِكَ كَانَ لِمَنْ فَرْضُهُ الصِّيَامُ أَنْ يُكَفِّرَ بِالْمَالِ وَلَمْ يَجُزْ لِمَنْ فَرْضُهُ الْمَالُ أَنْ يُكَفِّرَ بِالصِّيَامِ ، فَكَانَ تَغْلِيبُ مَا أَوْجَبَ الْأَصْلُ مِنَ الْمَالِ أَوْلَى مِنْ تَغْلِيبِ مَا أَوْجَبَ الْبَدَلُ مِنَ الصِّيَامِ ، أَمَّا تَغْلِيبُ الرِّقِّ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ ، فَلِأَنَّ تَبْعِيضَ الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ مُوجِبٌ لِتَغْلِيبِ أَغْلَظِ حُكْمَيْهِ ، فَكَانَ أَغْلَظُهُمَا مِنَ الْكَفَّارَةِ حُكْمَ الْجِزْيَةِ ، وَأَغْلَظُهُمَا فِيمَا عَدَاهَا حُكْمَ الرِّقِّ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الْمُزَنِيُّ مِنْ أَنَّ نُقْصَانَ الْمُكَفِّرِ كَنُقْصَانِ الْكَفَّارَةِ ، فَهُوَ أَنَّ نُقْصَانَ الْكَفَّارَةِ مُفْضٍ إِلَى التَّبْعِيضِ فَسَقَطَ ، وَنُقْصَانَ الْمُكَفِّرِ مُوجِبٌ لِكَمَالِ الْكَفَّارَةِ ، فَافْتَرَقَا فِي النَّقْصِ لِافْتِرَاقِهِمَا فِي الْمُوجَبِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .

بَابُ جَامِعِ الْأَيْمَانِ

بَابُ جَامِعِ الْأَيْمَانِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَإِذَا كَانَ فِي دَارٍ فَحَلَفَ أَنْ لَا يَسْكُنَهَا أَخَذَ فِي الْخُرُوجِ مَكَانَهُ ، وَإِنْ تَخَلَّفَ سَاعَةً يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ مِنْهَا فَلَمْ يَفْعَلْ ، حَنِثَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا كَانَ سَاكِنًا فِي دَارٍ ، فَحَلَفَ أَنْ لَا يُسْكِنَهَا ، فَإِنْ بَادَرَ بِالْخُرُوجِ مِنْهَا عَقِيبَ يَمِينِهِ بَرَّ وَلَمْ يَحْنَثْ ، وَإِنْ تَوَقَّفَ عَنِ الْخُرُوجِ مَعَ قُدْرَةٍ عَلَيْهِ حَنِثَ ، سَوَاءٌ قَلَّ مُقَامُهُ أَوْ كَثُرَ ، وَشَرَعَ فِي إِخْرَاجِ رِجْلِهِ ، أَوْ لَمْ يَشْرَعْ ، وَقَالَ مَالِكٌ : إِنْ أَقَامَ بَعْدَ يَمِينِهِ يَوْمًا وَلَيْلَةً حَنِثَ ، وَإِنْ أَقَامَ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لَمْ يَحْنَثْ : لِأَنَّهُ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ السُّكْنَى إِلَّا بِاسْتِكْمَالِ هَذَا الزَّمَانِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ أَقَامَ لِنَقْلِ رَحْلِهِ وَجَمْعِ مَتَاعِهِ لَمْ يَحْنَثْ ، وَإِنْ أَقَامَ لِغَيْرِ ذَلِكَ حَنِثَ ؛ لِأَنَّهُ بِإِخْرَاجِ مَتَاعِهِ مُفَارِقٌ لِحُكْمِ السُّكْنَى ، وَقَالَ زُفَرُ بْنُ الْهُذَيْلِ : قَدْ حَنِثَ بِنَفْسِ الْيَمِينِ ، وَلَا يَبَرُّ أَنْ يُبَادِرَ بِالْخُرُوجِ ؛ لِأَنَّهُ مُقِيمٌ عَلَى السُّكْنَى قَبْلَ مُفَارَقَتِهَا . وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ اسْتِدَامَةَ الْمُقَامِ فِيهَا سُكْنَى لِاسْتِصْحَابِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَالِهِ ، فَحَنِثَ لِانْطِلَاقِ اسْمِ السَّكَنِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَإِذَا بَادَرَ بِالْخُرُوجِ فَهُوَ تَارِكٌ وَلَا يَكُونُ تَرْكُ الْفِعْلِ جَارِيًا مَجْرَى الْفِعْلِ ؛ لِأَنَّهُمَا ضِدَّانِ ، فَيَبْطُلُ بِهِ قَوْلُ زُفَرَ ، ثُمَّ يُقَالُ لِمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ : قَدْ وَافَقْتُمَا أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا أُقِيمُ فِي هَذِهِ الدَّارِ فَلَبِثَ فِيهَا بَعْدَ يَمِينِهِ حَنِثَ ، كَذَلِكَ إِذَا حَلَفَ لَا يُسْكِنُهَا ؛ لِأَنَّ الْمُقَامَ فِيهَا سُكْنَى وَالسُّكْنَى فِيهَا مُقَامٌ ، وَيَتَحَرَّرُ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ قِيَاسًا فَيُقَالُ : إِنَّ مَا حَنِثَ بِهِ فِي الْمُقَامِ حَنِثَ بِهِ فِي السُّكْنَى ، قِيَاسًا عَلَى الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مَعَ مَالِكٍ وَعَلَى مَنْ أَمْسَكَ عَنْ جَمِيعِ رَحْلِهِ وَقِيَاسُهُ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَيَخْرُجُ بِبَدَنِهِ مُتَحَوِّلًا وَلَا يَضُرُّهُ أَنْ يَتَرَدَّدَ عَلَى حَمْلِ مَتَاعِهِ وَإِخْرَاجِ أَهْلِهِ : لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِسُكْنَى " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ دَارًا هُوَ سَاكِنُهَا ، بِمَاذَا يَبَرُّ فِي يَمِينِهِ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَبَرُّ إِذَا انْتَقَلَ مِنْهَا بِبَدَنِهِ وَلَا اعْتِبَارَ بِنَقْلِ عِيَالِهِ وَمَالِهِ . وَالثَّانِي : وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَبَرُّ إِلَّا أَنْ يَنْتَقِلَ بِبَدَنِهِ وَعِيَالِهِ ، وَلَا اعْتِبَارَ بِنَقْلِ مَالِهِ . وَالثَّالِثُ : وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ، أَنَّهُ لَا يَبَرُّ ، حَتَّى يَنْتَقِلَ بِبَدَنِهِ وَعِيَالِهِ وَمَالِهِ ؟ فَمَتَّى خَلَّفَ أَحَدَهَا حَنِثَ . وَالرَّابِعُ : وَهُوَ مَذْهَبُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّ بِرَّهُ مُعْتَبَرٌ بِنَقْلِ بَدَنِهِ وَعِيَالِهِ ، وَأَنْ يَنْقُلَ مِنْ مَالِهِ مَا يَسْتَقِلُّ بِهِ ، وَإِنْ خَلَّفَ فِيهَا مَا لَا يَسْتَقِلُّ بِهِ فِي سُكْنَاهَا بَرَّ ، وَإِنْ خَلَّفَ مَا يَسْتَقِلُّ بِهِ فِي سُكْنَاهَا حَنِثَ ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى اخْتِلَافِ مَذَاهِبِهِمْ فِي أَنَّ الْبِرَّ لَا يَخْتَصُّ بِبَدَنِهِ دُونَ عِيَالِهِ وَمَالِهِ بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَنِ اسْتَضَافَ رَجُلًا بِبَدَنِهِ لَمْ يُنْسَبْ إِلَى السُّكْنَى عِنْدَهُ لِخُرُوجِهِ عَنْ عُرْفِ السُّكْنَى ، فَصَارَ الْعِيَالُ وَالْمَالُ مِنْ جُمْلَةِ السُّكْنَى . وَالثَّانِي : أَنَّ مَنْ خَلَّفَ عِيَالَهُ وَمَالَهُ فِي دَارِهِ ، وَخَرَجَ مِنْهَا إِلَى دُكَّانِهِ ، أَوْ بُسْتَانِهِ لَا يُشَارُ بِسُكْنَاهُ إِلَى مَكَانِهِ ، وَيُشَارُ بِهِ إِلَى دَارِهِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى عِيَالِهِ وَمَالِهِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ [ إِبْرَاهِيمَ : 37 ] ، فَكَانَ بِالشَّامِ وَوَلَدُهُ وَأُمُّهُ بِمَكَّةَ ، فَلَمْ يَخْرُجْ عَنْ سُكْنَى الشَّامِ ، وَإِنْ كَانَ عِيَالُهُ فِي غَيْرِهَا . وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ سَاكِنًا فِيهَا بَعْدَ الِانْتِقَالِ عَنْهَا بِبَدَنِهِ ، لِبَقَاءِ عِيَالِهِ وَمَالِهِ لَوَجَبَ إِذَا سَافَرَ بِبَدَنِهِ أَنْ يَكُونَ كَالْمُقِيمِ فِي الْمَنْعِ مِنْ قَصْرِهِ وَفِطْرِهِ ، فَلَمَّا أُجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ السَّفَرِ وَجَبَ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الِانْتِقَالِ ؛ وَلِأَنَّ الْمُتَمَتِّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ لَوْ أَقَامَ بِمَكَّةَ كَانَ كَالْمُسْتَوْطِنِ لَهَا فِي سُقُوطِ الدَّمِ عَنْهُ ، وَإِنْ كَانَ عِيَالُهُ وَمَالُهُ فِي غَيْرِهَا ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِبَدَنِهِ دُونَ عِيَالِهِ وَمَالِهِ ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : أَنَا مُقِيمٌ بِمِصْرَ ، وَأَهْلِي وَوَلَدِي وَكُتُبِي بِمَكَّةَ أَفَتَرَانِي سَاكِنًا بِمَكَّةَ ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ يَمِينَهُ بِفِعْلِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهَا مَوْقُوفًا عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ تَتَعَلَّقُ بِحَقَائِقِ الْأَسْمَاءِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِشْهَادِهِمْ بِالضَّيْفِ فَهُوَ أَنَّهُ نَزَلَهَا ضَيْفًا ، فَلَمْ يَنْطَلِقْ عَلَيْهِ اسْمُ السُّكْنَى ، وَإِنْ كَانَ مَعَ عِيَالِهِ وَمَالِهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا قَصَدَ السُّكْنَى ، فَكَانَ اخْتِلَافُ الِاسْمَيْنِ

لِاخْتِلَافِ الْمَقْصِدَيْنِ مُوجِبًا لِاخْتِلَافِ الْحُكْمَيْنِ ، وَبِمَثَلِهِ يُجَابُ عَنِ اسْتِشْهَادِهِمُ الثَّانِي مِنَ الْخَارِجِ إِلَى دُكَّانِهِ وَبُسْتَانِهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ شَرْطِ بِرِّهِ أَنَّهُ يَكُونُ مُعْتَبِرًا بِتَعْجِيلِ خُرُوجِهِ بِنَفْسِهِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى الْخُرُوجِ أَوْ مَمْنُوعًا فيمن حلف لا يسكن دارا هو ساكنها ، فَإِنْ كَانَ مَمْنُوعًا مِنَ الْخُرُوجِ ، إِمَّا لِحَبْسِهِ فِي دَارِهِ الْمُغْلَقِ أَبْوَابُهُ ، أَوْ لِتَقْيِيدِهِ وَإِمْسَاكِهِ ، أَوْ لِزَمَانَتِهِ ، وَهُوَ لَا يَجِدُ مَنْ يَحْمِلُهَا مِنْهَا لَمْ يَحْنَثْ مَا كَانَ بَاقِيًا عَلَى عَجْزِهِ وَمَنْعِهِ ؛ لِأَنَّ وُجُودَ الْمُكْنَةِ شَرْطٌ فِي الْأَفْعَالِ الْمُسْتَحَقَّةِ وَخَرَّجَ فِيهَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ قَوْلًا آخَرَ أَنَّهُ يَحْنَثُ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي حَنْثِ النَّاسِ ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِمَا عَلَّلْنَا . وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْخُرُوجِ فَتَوَقَّفَ لِلُبْسِ ثِيَابِهِ الَّتِي جَرَتْ عَادَتُهُ فِي الْخُرُوجِ بِهَا لَمْ يَحْنَثْ ، وَلَوْ تَوَقَّفَ لِأَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ حَنِثَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَوَقَّفَ لِطَهَارَةٍ أَوْ صَلَاةٍ حَنِثَ ؛ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى فِعْلِ ذَلِكَ فِي غَيْرِهَا إِلَّا أَنْ يَضِيقَ عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلَاةِ ، وَيَعْلَمُ أَنَّهُ إِنْ خَرَجَ مِنْهَا فَاتَتْهُ فَلَا يَحْنَثُ بِالصَّلَاةِ فِيهَا ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ قَدْ مَنَعَهُ مِنَ الْخُرُوجِ قَبْلَ الصَّلَاةِ ، فَكَانَ أَوْكَدَ مِنْ مَنَعَ الْمَخْلُوقِينَ ، وَلَوْ تَوَقَّفَ فِيهَا لِغَلْقِ أَبْوَابِهِ ، أَوْ إِحْرَازِ مَا يَخَافُ عَلَيْهِ تَلَفَهُ مِنْ أَمْوَالِهِ ، فَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى اسْتِنَابَةِ أَمِينٍ فِيهِ حَنِثَ ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الِاسْتِنَابَةِ لَمْ يَحْنَثْ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ ؛ لِأَنَّ أَخْذَهُ فِي ذَلِكَ شُرُوعٌ فِي الْخُرُوجِ ، وَيَحْتَمِلُ وَجْهًا آخَرَ أَنَّهُ يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّهُ مَنْعٌ لَا يَخْتَصُّ بِبَدَنِهِ ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْخُرُوجِ وَارْتَفَعَتْ عَوَارِضُ الْمَنْعِ حَنِثَ بِقَلِيلِ الْمُقَامِ وَكَثِيرِهِ ، فَإِنْ كَانَ لِخُرُوجِهِ بَابَانِ يَقْرُبُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَيَبْعُدُ مِنَ الْآخَرِ كَانَ مُخَيَّرًا فِي الْخُرُوجِ مِنْ أَيِّهِمَا شَاءَ ، وَلَا يَحْنَثُ بِالْخُرُوجِ مِنْ أَبْعَدِهِمَا ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ فِي الْخُرُوجِ وَإِنْ بَعُدَ مَسْلَكُهُ ، فَإِنْ صَعِدَ إِلَى عُلُوِّهَا لِلْخُرُوجِ مِنْ سَطْحِهِمَا ، وَلَهُ بَابٌ يَخْرُجُ مِنْهُ حَنِثَ ؛ لِأَنَّهُ بِالصُّعُودِ فِي حُكْمِ الْمُقِيمِ ، وَلَوْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ بَابِهِ لَمْ يَحْنَثْ بِالصُّعُودِ لِلْخُرُوجِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا خَرَجَ مِنْهَا ، ثُمَّ عَادَ إِلَيْهَا لِنَقْلِ عِيَالِهِ ، أَوْ مَالِهِ فيمن لا يسكن دارا هو ساكنها ، سَوَاءٌ قَدَرَ عَلَى الِاسْتِنَابَةِ فِي ذَلِكَ ، أَوْ لَمْ يَقْدِرْ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ بِالْعَوْدِ بَعْدَ الْخُرُوجِ لِنَقْلِ أَهْلٍ أَوْ رَحْلٍ سَاكِنًا ، فَإِنْ لَبِثَ بَعْدَ الْعَوْدِ لِغَيْرِ نَقْلِ أَهْلٍ أَوْ رَحْلٍ حَنِثَ ، قَلَّ زَمَانُ لُبْثِهِ أَوْ كَثُرَ ، وَيُرَاعَى فِي لُبْثِهِ لِنَقْلِ الرَّحْلِ وَالْأَهْلِ مَا جَرَى بِهِ الْعُرْفُ مِنْ غَيْرِ إِرْهَاقٍ ، وَلَا اسْتِعْجَالٍ . فَإِنْ قَالَ : " أَرَدْتُ بِيَمِينِي لَا سَكَنْتُ هَذِهِ الدَّارَ شَهْرًا " فَإِنْ كَانَتْ بِاللَّهِ ، حُمِلَتْ عَلَى مَا نَوَاهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا ؛ لِأَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِحَقِّ اللَّهِ الَّذِي يَحْمِلُ فِيهِ عَلَى نِيَّتِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ بِطَلَاقٍ ، أَوْ عَتَاقٍ حُمِلَ عَلَى التَّأْبِيدِ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ لِوُجُودِ خَصْمٍ فِيهِ ، وَكَانَ فِي الْبَاطِنِ مَدِينًا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَمَحْمُولًا عَلَى مَا نَوَاهُ ، وَلَوْ قَالَ : لَا سَكَنْتُهَا يَوْمًا ، كَانَتْ مُعَلَّقَةً إِلَى مِثْلِ وَقْتِهِ مِنْ غَدِهِ ، وَلَوْ قَالَ : " لَا سَكَنَتْهَا يَوْمِي هَذَا " انْقَضَتْ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ

مِنْ يَوْمِهِ ، لِيَكُونَ فِي الْأُولَى مُسْتَوْفِيًا لِلْيَوْمِ ، وَفِي الثَّانِيَةِ مُسْتَوْفِيًا لِبَقِيَّةِ الْيَوْمِ : لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْإِطْلَاقِ وَالتَّعْيِينِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يُسَاكِنَهُ وَهُوَ سَاكِنٌ لا يساكن أحدا ، فَإِنْ أَقَامَا جَمِيعًا سَاعَةً يُمْكِنُهُ التَّحْوِيلُ عَنْهُ حَنِثَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْمُسَاكَنَةُ فَهِيَ الْمُفَاعَلَةُ بَيْنَ اثْنَيْنِ ، فَأَكْثَرَ ، فَإِذَا حَلَفَ لَا سَاكَنْتُ فُلَانًا ، فَالْيَمِينُ مُنْعَقِدَةٌ عَلَى أَنْ لَا يَجْتَمِعَا فِي مَسْكَنٍ وَاحِدٍ ، وَبَرَّ الْحَالِفُ بِخُرُوجِ أَحَدِهِمَا ، فَإِنْ خَرَجَ الْحَالِفُ ، وَبَقِيَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ بَرَّ ، وَإِنْ خَرَجَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ ، وَبَقِيَ الْحَالِفُ بَرَّ . وَإِنْ خَرَجَا مَعًا كَانَ أَوْكَدَ فِي الْبِرِّ ، وَإِنْ بَقِيَا فِيهَا مَعًا ، حَنِثَ الْحَالِفُ ، وَإِنْ قَالَ : " وَاللَّهِ لَا سَكَنْتُ مَعَ زَيْدٍ " فَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْبَصْرِيِّينَ - أَحْسَبُهُ أَبَا الْفَيَّاضِ - إِلَى أَنَّ الْيَمِينَ تَكُونُ مُتَعَلِّقَةً بِفِعْلِ الْحَالِفِ وَحْدَهُ ، فَإِنْ خَرَجَ الْحَالِفُ بَرَّ ، وَإِنْ خَرَجَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ ، لَمْ يَبَرَّ ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْفِعْلَ إِلَى نَفْسِهِ ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ : " وَاللَّهِ لَا سَكَنَ مَعِي زَيْدٌ " كَانَ تَعَلُّقُ الْبِرِّ بِفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَحْدَهُ ، فَإِنْ خَرَجَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ بَرَّ ، وَإِنْ خَرَجَ الْحَالِفُ لَمْ يَبَرَّ ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْفِعْلَ إِلَى الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ إِلَى نَفْسِهِ وَفَرْقٌ بَيْنَ هَذَيْنِ ، وَبَيْنَ الْمُسَاكَنَةِ ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ لَهُ وَجْهٌ فَهُوَ ضَعِيفٌ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَبَرُّ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ بِخُرُوجِ أَحَدِهِمَا ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ مَعَهَا مَعْقُودَةٌ عَلَى الْإِجْمَاعِ فِيهَا ، وَبِخُرُوجِ أَحَدِهِمَا يَزُولُ الِاجْتِمَاعُ ، فَوَجَبَ أَنْ يَقَعَ لَهُ الْبِرُّ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ : وَاللَّهِ لَا سَكَنْتُ زَيْدًا وَعَمْرًا بَرَّ بِخُرُوجِ أَحَدِهِمَا . وَلَوْ قَالَ : وَاللَّهِ لَا سَاكَنْتُ زَيْدًا ، وَلَا عَمْرًا ، لَمْ يَبَرَّ بِخُرُوجِ أَحَدِهِمَا ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَحْلُوفٌ عَلَيْهِ ، وَكَانَ بَرُّهُ بِخُرُوجِهِ دُونَهُمَا ، أَوْ بِخُرُوجِهِمَا مَعًا دُونَهُ ، وَفِي الْأُولَى يَبَرُّ بِخُرُوجِهِ ، أَوْ بِخُرُوجِ أَحَدِهِمَا لِأَنَّ يَمِينَهُ فِي الْأُولَى مَعْقُودَةٌ عَلَى الِاجْتِمَاعِ ، وَفِي الثَّانِيَةِ مَعْقُودَةٌ عَلَى الْإِفْرَادِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ كَانَا فِي بَيْتَيْنِ فَجَعَلَ بَيْنَهُمَا حَدًّا ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْحُجْرَتَانِ بَابٌ ، فَلَيْسَتْ هَذِهِ بِمُسَاكَنَةٍ وَإِنْ كَانَا فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ ، وَالْمُسَاكَنَةُ أَنْ يَكُونَا فِي بَيْتٍ أَوْ بَيْتَيْنِ حُجْرَتُهُمَا وَاحِدَةٌ وَمَدْخَلُهُمَا وَاحِدٌ ، وَإِذَا افْتَرَقَ الْبَيْتَانِ أَوِ الْحُجْرَتَانِ فَلَيْسَتْ بِمُسَاكَنَةٍ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ نِيَّةٌ فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى ، فَإِنْ قِيلَ : مَا الْحُجَّةُ فِي أَنَّ النُّقْلَةَ بِبَدَنَهِ دُونَ مَتَاعِهِ وَأَهْلِهِ وَمَالِهِ ؟ قِيلَ : أَرَأَيْتَ إِذَا سَافَرَ أَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ السَّفَرِ فَيُقْصِرَ ؟ أَوْ رَأَيْتَ لَوْ تَقَطَّعَ إِلَى مَكَةَ بِبَدَنِهِ أَيَكُونُ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِينَ إِنْ تَمَتَّعُوا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ دَمٌ ؟

فَإِذَا قَالَ : نَعَمْ ، فَإِنَّمَا النُّقْلَةُ وَالْحُكْمُ عَلَى الْبَدَنِ لَا عَلَى مَالٍ وَأَهْلٍ وَعِيَالٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا حَلَفَ لَا يُسَاكِنُهُ ، وَقَدْ جَمَعَتْهُمَا دَارٌ وَاحِدَةٌ حكم من لَمْ يَخْلُ حَالُهُمَا فِي وَقْتِ الْيَمِينِ مِنْ أَنْ يَكُونَا مُجْتَمِعَيْنِ ، أَوْ غَيْرَ مُجْتَمِعَيْنِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُونَا مُجْتَمِعَيْنِ ، وَكَانَا خَارِجَيْنِ ، أَوْ أَحَدَهُمَا فَقُسِّمَتِ الدَّارُ بَيْنَهُمَا بِحَائِطٍ بُنِيَ فِي وَسَطِهَا ، وَسَكَنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَحَدَ الْجَانِبَيْنِ بِبَابٍ مُفْرَدٍ ، يَدْخُلُ وَيَخْرُجُ مِنْهُ ، بَرَّ فِي يَمِينِهِ ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ مُسَاكَنَةً ، وَإِنَّمَا هِيَ مُجَاوِرَةٌ ، وَإِنْ كَانَا فِي وَقْتِ الْيَمِينِ مُجْتَمِعَيْنِ فَشَرَعَا فِي بِنَاءِ حَائِطٍ بَيْنَهُمَا ، حَنِثَ ؛ لِأَنَّهُمَا قَبْلَ كَمَالِ مَا يَقَعُ بَيْنَهُمَا مُتَسَاكِنَانِ وَلَوْ كَانَ فِي الدَّارِ حُجْرَةٌ ، فَسَكَنَ أَحَدَهُمَا فِي الْحُجْرَةِ ، وَالْآخِرُ فِي الدَّارِ نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ بَابُ الْحُجْرَةِ إِلَى الدَّارِ ، حَنِثَ لِأَنَّهُمَا مُتَسَاكِنَانِ ، وَإِنِ انْفَرَدَتِ الْحُجْرَةُ بِبَابٍ غَيْرِ بَابِ الدَّارِ نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ بَابُهَا إِلَى الدَّارِ مَسْدُودًا بَرَّ ، وَإِنْ كَانَ بَابُهَا إِلَى الدَّارِ مَفْتُوحًا حَنِثَ ، وَلَوْ كَانَ فِي الدَّارِ حُجْرَتَانِ فَسَكَنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي إِحْدَى الْحُجْرَتَيْنِ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنِ الدَّارُ مَعَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَرَّ ، وَإِنْ كَانَ بَابُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى الدَّارِ صَارَتْ كَالْخَانِ الَّذِي فِيهِ حُجَرٌ ، فَلَا يَحْنَثُ إِذَا سَكَنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي حُجْرَةٍ مِنَ الْخَانِ ، كَذَلِكَ الدَّارُ ، وَإِنْ كَانَتِ الدَّارُ مَعَ أَحَدِهِمَا ، فَهُوَ عَلَى مَا مَضَى ، إِذَا كَانَ فِي الدَّارِ حُجْرَةٌ وَاحِدَةٌ ، فَإِنَّهُ لَا يَبَرُّ حَتَّى تَنْفَرِدَ الْحُجْرَةُ عَنِ الدَّارِ بِبَابٍ لِلدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ مِنْهَا بَعْدَ قَطْعِ مَا بَيْنَ الْحُجْرَةِ وَالدَّارِ . وَلَوْ كَانَا فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ فَاخْتَصَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِبَيْتٍ مِنْهَا ، فَإِنْ كَانَتِ الدَّارُ صَغِيرَةً ، حَنِثَ : لِأَنَّهَا مَسْكَنٌ وَاحِدٌ ، وَإِنْ كَانَتْ وَاسِعَةً فَإِنِ اعْتَزَلَا الدَّارَ ، وَتَفَرَّدَا بِالْبَابَيْنِ مِنْهَا بِبَابٍ يَغْلِقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى نَفْسِهِ ، بَرَّ وَصَارَا كَسَاكِنَيْ بَيْتَيْنِ مِنْ خَانٍ جَامِعٍ ، فَلَا يَحْنَثُ بِسُكْنَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي بَيْتٍ مِنْهُ ، كَذَلِكَ هَذِهِ الدَّارُ ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلَا الدَّارَ ، حَنِثَ وَلَوْ كَانَتِ الدَّارُ وَاحِدَةً ، فَسَكَنَ أَحَدُهُمَا فِي عُلُوِّهَا ، وَسَكَنَ الْآخَرُ فِي سِفْلِهَا ، فَإِنْ كَانَ مَدْخَلُهُمَا وَمَخْرَجُهُمَا وَاحِدًا حَنِثَ ، وَإِنِ انْفَرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَدْخَلٍ وَمَخْرَجٍ ، وَانْقَطَعَ مَا بَيْنَ الْعُلُوِّ وَالسِّفْلِ بَرَّ .

فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ نِيَّةٌ ، فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى " يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّ مَا بَيَّنَهُ مِنَ اعْتِزَالِهِمَا فِي حُجْرَتَيْنِ ، أَوْ بَيْتَيْنِ مِنْ دَارٍ ، إِذَا كَانَتْ يَمِينُهُ مُطْلَقَةً عَلَى الْمُسَاكَنَةِ ، فَأَمَّا إِذَا اقْتَرَنَتْ بِنِيَّةِ أَلَّا يُجَاوِرَهُ فِي مَوْضِعٍ ، أَوْ فِي مَحَلَّةٍ ، أَوْ فِي قَبِيلَةٍ ، أَوْ فِي بَلَدٍ كَانَتْ يَمِينُهُ مَحْمُولَةً عَلَى مَا نَوَاهُ ، وَلَا يَبَرُّ بِانْفِرَادِهِمَا فِي حُجْرَتَيْنِ مِنْ دَارٍ ، ثُمَّ ذَكَّرَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى أَنَّ الِانْتِقَالَ بِالْبَدَنِ دُونَ الْعِيَالِ وَالْمَالِ ، مُزِيلٌ لِحُكْمِ السُّكْنَى ، وَالْمُسَاكَنَةِ ضابط المساكنة على من حلف لايساكن أحدا ما ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُهَا فَرَقِيَ فَوْقَهَا أي الدار لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَدْخُلَ بَيْتًا مِنْهَا أَوْ عَرْصَتَهَا " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا حَلَفَ لَا يَدْخُلُ الدَّارَ فَرَقِيَ عَلَى سَطْحِهَا ، وَالسَّطْحِ غَيْرُ مُحْجِزٍ لَمْ يَحْنَثْ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَحْنَثُ احْتِجَاجًا ، بِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِهَا ، وَإِنَّ سُورَهَا مُحِيطٌ بِهِ فَأَشْبَهَ قَرَارَهَا . وَدَلِيلُنَا شَيْئَانِ أَحَدُهُمَا ، أَنَّ السَّطْحَ حَاجِزٌ فَأَشْبَهَ سُورَهَا ، فَصَارَ الرَّاقِي عَلَيْهِ كَالرَّاقِي عَلَى السُّورِ ، وَقَدْ وَافَقَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ ، بِارْتِقَائِهِ عَلَى السُّورِ ، كَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ لَا يَحْنَثَ بِارْتِقَائِهِ عَلَى السَّطْحِ . وَالثَّانِي : هُوَ أَنَّ الدَّارَ حِرْزٌ لِمَا فِيهَا ، يُقْطَعُ سَارِقُهُ ، وَمَا فَوْقَ السَّطْحِ لَيْسَ بِحِرْزٍ ، وَلَا قَطْعَ عَلَى سَارِقِهِ ، فَلَمَّا خَرَجَ عَنْ حُكْمِ الْحِرْزِ فِي الْقَطْعِ وَجَبَ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ حُكْمِ الدَّارِ فِي الْحِنْثِ . وَاسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِهَا يَبْطُلُ بِارْتِقَائِهِ عَلَى سُورِهَا . وَاسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّهُ مُحِيطٌ بِهَا كَالسُّورِ فَصَحِيحٌ ، لَكِنْ مَا فَوْقَ السَّطْحِ جَارٍ مَجْرَى مَا وَرَاءَ السُّورِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا كَانَ عَلَى السَّطْحِ تَحْجِيزٌ فرقى عليه وقد حلف لا يدخل الدار ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَانِعٍ كَالْقَصَبِ ، وَمَا ضَعُفَ مِنَ الْخَشَبِ ، فَلَا يَحْنَثُ بِارْتِقَائِهِ عَلَيْهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مَانِعًا بِبِنَاءٍ يَمْتَنِعُ بِمِثْلِهِ ، وَيَتَحَرَّزُ مِنْ بِنَاءٍ أَوْ خَشَبٍ وَثِيقٍ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي حِنْثِهِ بِارْتِقَائِهِ عَلَيْهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : يَحْنَثُ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ قَوْلَ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ ؛ لِأَنَّ إِحَاطَةَ السَّطْحِ بِالدَّارِ تَحْجِزُ عَمَّا فَوْقَهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَحْنَثُ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ لِأَنَّ السُّتْرَةَ مُحِيطَةٌ بِالدَّارِ ، فَأَشْبَهَتِ السُّورَ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : وَهُوَ طَرِيقَةُ أَبِي الْغِيَاضِ ، إِنْ كَانَتِ السُّتْرَةُ عَالِيَةً يَحْجِزُ مِثْلُهَا ، لَوْ كَانَ فِي الْعَرْصَةِ حَنِثَ ، وَإِنْ كَانَتِ السُّتْرَةُ قَصِيرَةً لَا يَحْجِزُ مِثْلُهَا ، لَوْ كَانَ فِي الْعَرْصَةِ ، لَمْ يَحْنَثْ ، وَلَوْ كَانَ فِي السَّطْحِ غُرْفَةٌ فَدَخَلَهَا يَحْنَثُ ، وَلَوْ نَزَلَ مِنَ السَّطْحِ إِلَى مَرْقَاةٍ مِنْ دَرَجَتِهَا الدَّاخِلَةِ فِيهَا ، حَنِثَ . وَلَوْ صَعِدَ مِنْ دَرَجِ الدَّارِ إِلَى سَطْحِهَا ، وَالدَّرَجَةُ خَارِجَ الدَّارِ مَعْقُودَةٌ ، أَوْ غَيْرُ مَعْقُودَةٍ ، فَإِنْ لَمْ تَدْخُلْ فِي سُورِ الدَّارِ ، لَمْ يَحْنَثْ ، وَإِنْ دَخَلَتْ فِي سُورِ الدَّارِ ، حَتَّى تَجَاوَزَتْهُ فِي الدُّخُولِ حَنِثَ ، وَإِنْ لَمْ تَتَجَاوَزْ حَدَّ السُّورِ لَمْ يَحْنَثْ ،

وَإِنْ رَقِيَ عَلَى شَجَرَةٍ خَارِجَ الدَّارِ ، وَأَغْصَانُهَا فِي الدَّارِ ، وَعَدَلَ عَنْ أَغْصَانِهَا الدَّاخِلَةِ لَمْ يَحْنَثْ ، وَإِنْ صَارَ فَوَقَ أَغْصَانِهَا الدَّاخِلَةِ نُظِرَ فِيهَا ، فَإِنْ كَانَتِ الْأَغْصَانُ فَوْقَ السَّطْحِ ، لَمْ يَحْنَثْ ، وَإِنْ كَانَتْ دُونَ السَّطْحِ حَنِثَ ، وَلَوْ جَلَسَ خَارِجَ الدَّارِ فِي مَاءٍ يَجْرِي إِلَى الدَّارِ ، فَحَمَلَهُ الْمَاءُ إِلَيْهَا حَنِثَ ، وَصَارَ الْمَاءُ كَالدَّابَّةِ ، إِذَا رَكِبَهَا فَأَدْخَلَتْهُ الدَّارُ حَنِثَ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِهِمَا دَاخِلًا إِلَى الدَّارِ ، وَلَوْ رَقِيَ عَلَى سُورِهَا فَأَلْقَتْهُ الرِّيحُ إِلَيْهَا لَمْ يَحْنَثْ ، إِنْ بَادَرَ بِالْخُرُوجِ مِنْهَا ؛ لِأَنَّ دُخُولَهَا مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ ، وَلَوْ أَدْخَلَ إِحْدَى رِجْلَيْهِ مِنْ بَابِ الدَّارِ دُونَ الْأُخْرَى ، لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ الدُّخُولَ لَمْ يَكْمُلْ ، وَلَوْ ثَقَبَ حَائِطَ الدَّارِ ، وَدَخَلَ إِلَيْهَا مِنْ ثُقْبِهَا ، حَنِثَ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ نِيَّةٌ أَنْ لَا يَدْخُلَهَا مِنْ بَابِهَا ، فَيُحْمَلُ عَلَى مَا نَوَاهُ ، وَلَا يَحْنَثُ بِالدُّخُولِ مِنْ غَيْرِ الْبَابِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا وَهُوَ لَابِسُهُ وَلَا يَرْكَبُ دَابَّةً وَهُوَ رَاكِبُهَا ، فَإِنْ نَزَعَ أَوْ نَزَلَ مَكَانَهُ ، وَإِلَّا حَنِثَ وَكَذَلِكَ مَا أَشْبَهَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَفْعَالِ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا يَحْنَثُ فِيهِ بِابْتِدَاءِ الْفِعْلِ ، وَاسْتَدَامَتِهِ ما حلف عليه من الأفعال ، وَهُوَ خَمْسَةُ أَشْيَاءَ : السُّكْنَى ، وَاللِّبَاسُ ، وَالرُّكُوبُ ، وَالْغَصْبُ ، وَالْجِمَاعُ ، فَإِذَا حَلَفَ لَا سَكَنْتُ دَارًا حَنِثَ بِأَنْ يَبْتَدِئَ سُكْنَاهَا ، وَحَنِثَ بِأَنْ يَكُونَ سَاكِنًا فِيهَا ، فَيَسْتَدِيمُ سُكْنَاهَا إِلَّا أَنْ يُبَادِرَ بِالْخُرُوجِ مِنْهَا . وَلَوْ حَلَفَ : لَا لَبِسْتُ ثَوْبًا حَنِثَ بِأَنْ يَبْتَدِئَ لِبَاسَهُ ، وَحَنِثَ أَنْ يَكُونَ لَابِسَهُ ، فَيَسْتَدِيمُ لِبَاسُهُ إِلَّا أَنْ يُبَادِرَ بِنَزْعِهِ . وَحَلَفَ : لَا يَرْكَبُ دَابَّةً ، حَنِثَ بِأَنْ يَبْتَدِئَ رُكُوبَهَا ، وَحَنِثَ بِأَنْ يَكُونَ رَاكِبًا ، فَيَسْتَدِيمُ رُكُوبُهَا إِلَّا أَنْ يُبَادِرَ بِالنُّزُولِ عَنْهَا ، وَلَوْ حَلَفَ : لَا غَصَبْتُ مَالًا : حَنِثَ بِأَنْ يَبْتَدِئَ بِالْغَصْبِ ، وَحَنِثَ بِأَنْ يَكُونَ غَاصِبًا ، فَيَسْتَدِيمُ الْغَصْبُ إِلَّا أَنْ يُبَادِرَ بِرَدِّهِ . وَلَوْ حَلَفَ : لَا جَامَعْتُ ، حَنِثَ بِأَنْ يَبْتَدِئَ الْجِمَاعَ ، وَحَنِثَ بِأَنْ يَكُونَ مُجَامِعًا ، فَيَسْتَدِيمُ الْجِمَاعُ إِلَّا أَنْ يُبَادِرَ بِالْإِخْرَاجِ . وَإِنَّمَا حَنِثَ فِي هَذِهِ الْخَمْسَةِ بِالِابْتِدَاءِ ، وَالِاسْتِدَامَةِ لِأَنَّ اسْمَ الْفِعْلِ مُنْطَلِقٌ عَلَيْهِ فِي الْحَالَيْنِ ، فَاسْتَوَى حُكْمُهُمَا فِي الْحِنْثِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَا يَحْنَثُ بِابْتِدَاءِ الْفِعْلِ ، وَلَا يَحْنَثُ بِاسْتِدَامَتِهِ ، وَهُوَ خَمْسَةُ أَشْيَاءَ : النِّكَاحُ وَالْإِحْرَامُ ، وَالرَّهْنُ وَالشِّرَاءُ ، وَالْوَقْفُ ، فَإِذَا حَلَفَ لَا يَنْكِحُ ، وَقَدْ نَكَحَ ، وَأَنْ لَا يُحْرِمَ وَقَدْ أَحْرَمَ ، أَوْ لَا يَرْهَنَ ، وَقَدْ رَهَنَ ، أَوْ لَا يَقِفَ وَقَدْ وَقَفَ ، لَمْ يَحْنَثْ ، حَتَّى يَسْتَأْنِفَ نِكَاحًا ، وَإِحْرَامًا ، وَرَهْنًا ، وَشِرَاءً ، وَوَقْفًا ؛ لِأَنَّهَا عُقُودٌ . فَلَمْ يَحْنَثْ بِاسْتِدَامَتِهَا لِتَقَدُّمِ الْعَقْدِ فِيهَا .

وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا اخْتَلَفَ هَلْ تَكُونُ الِاسْتِدَامَةُ فِيهِ كَالِابْتِدَاءِ ما حلف عليه من الأفعال ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ : الدُّخُولُ ، وَالطِّيبُ وَالسَّفَرُ ، هَلْ يَكُونُ الِاسْتِدَامَةُ كَالِابْتِدَاءِ ، فَإِذَا حَلَفَ لَا دَخَلْتُ هَذِهِ الدَّارَ حَنِثَ بِأَنْ يَسْتَأْنِفَ دُخُولَهَا ، إِذَا كَانَ خَارِجًا ، وَفِي حِنْثِهِ بِاسْتِدَامَةِ دُخُولِهَا ، إِذَا كَانَ فِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ مُقْتَضَى نَصِّهِ فِي كِتَابِ الْأُمِّ . وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ أَنَّهُ يَحْنَثُ بِاسْتِدَامَةِ جُلُوسِهِ فِيهَا ، كَمَا يَحْنَثُ بِاسْتِئْنَافِ دُخُولِهَا ، كَالسُّكْنَى ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : حَلَفَ لَا يَدْخُلُهَا فَأُكْرِهَ عَلَى دُخُولِهَا ، فَإِنْ عَجَّلَ الْخُرُوجَ مِنْهَا بَعْدَ الْمُكْنَةِ ، لَمْ يَحْنَثْ وَإِنْ أَقَامَ حَنِثَ ، فَجَعَلَ اسْتِدَامَةَ الدُّخُولِ كَالدُّخُولِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ حَرْمَلَةَ ، وَقَالَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ ، لَا يَحْنَثُ بِاسْتِدَامَةِ الدُّخُولِ ، حَتَّى يَسْتَأْنِفَهُ ؛ لِأَنَّ الدُّخُولَ يَكُونُ بَعْدَ خُرُوجٍ . وَلَوْ حَلَفَ لَا تَطَيَّبْتُ حَنِثَ بِأَنْ يَسْتَأْنِفَ الطِّيبَ ، وَفِي حَنِثِهِ بِاسْتِدَامَةِ طِيبٍ مُتَقَدِّمٍ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : يَحْنَثُ بِاسْتِدَامَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إِلَى التَّطَيُّبِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَحْنَثُ بِالِاسْتِدَامَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَحْدِثْ فِعْلًا . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ إِنْ كَانَ أَثَرُ طِيبِهِ بَاقِيًا ، حَنِثَ ، وَإِنْ بَقِيَتِ الرَّائِحَةُ دُونَ الْأَثَرِ لَمْ يَحْنَثْ ، وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي الْغِيَاضِ اعْتِبَارًا بِبَقَاءِ الْعَيْنِ ، وَزَوَالِهَا وَلَوْ حَلَفَ : لَا يُسَافِرُ ، حَنِثَ بِأَنْ يَسْتَأْنِفَ السَّفَرَ طَوِيلًا ، كَانَ أَوْ قَصِيرًا فَأَمَّا إِذَا حَلَفَ ، وَهُوَ مُسَافِرٌ ، فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَأْخُذَ فِي الْعَوْدِ مِنْ سَفَرِهِ ، فَلَا يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَخَذَ فِي تَرْكِ السَّفَرِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا عَلَى وَجْهِهِ فِي السَّفَرِ ، فَيَحْنَثُ بِاسْتِدَامَةِ مَسِيرِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ فِي السَّفَرِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يُقِيمَ بِمَكَانِهِ مِنْ سَفَرِهِ ، فَفِي حِنْثِهِ بِاسْتِدَامَتِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهَا : يَحْنَثُ كَالتَّوَجُّهِ ، لِبَقَائِهِ عَلَى السَّفَرِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَحْنَثُ لِكَفِّهِ عَنِ السَّيْرِ ، فَصَارَ كَالْعَوْدِ . وَكُلُّ مَا لَمْ نُسَمِّهِ ، فَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِمَا سَمَّيْنَاهُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ ، فَيَكُونُ مُلْحَقًا بِأَشْبَهِهَا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ بَيْتًا وَهُوَ بَدَوِيٌّ أَوْ قَرَوِيٌّ وَلَا نِيَّةَ لَهُ ، فَأَيُّ بَيْتٍ مِنْ شَعَرٍ أَوْ أَدَمٍ أَوْ خَيْمَةٍ أَوْ بَيْتٍ مِنْ حِجَارَةٍ أَوْ مَدَرٍ أَوْ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ بَيْتٍ سَكَنَهُ ، حَنِثَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ بُيُوتَ السُّكْنَى تَخْتَلِفُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهَا : بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ . وَالثَّانِي : بِاخْتِلَافِ الْعَادَاتِ . فَأَمَّا الْمُخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ ، فَلِلْبَوَادِي بُيُوتُ النُّقْلَةِ مِنَ الْأَدَمِ ، وَالشَّعْرِ ؛ لِأَنَّهُمْ يَنْتَجِعُونَ فِي طَلَبِ الْكَلَأِ ، فَيَسْكُنُونَ مِنَ الْبُيُوتِ مَا يَنْتَقِلُ مَعَهُمْ فِي النَّجْعَةِ مِنَ الْخِيَامِ وَالْفَسَاطِيطِ ، وَلِأَهْلِ الْقُرَى بُيُوتُ الِاسْتِقْرَارِ فَيَسْكُنُونَ مَا يَدُومُ ثُبُوتُهُ فِي أَوْطَانِهِمْ مِنَ الْأَبْنِيَةِ الْمُسْتَقِرَّةِ . وَأَمَّا مَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْعَادَاتِ ، فَهُوَ أَنَّ بُيُوتَ أَهْلِ الْأَمْصَارِ لِتَشْيِيدِهَا ، وَقِسْمَةِ مَسَاكِنِهَا ، مُخَالِفَةٌ لِبُيُوتِ أَهْلِ الْقُرَى فِي ذَهَابِهَا ، وَاحْتِلَالٍ قَسْمِهَا ، وَتَخْتَلِفُ الْعَادَاتُ ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَبْنِي بِالْأَحْجَارِ وَالنُّورَةِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْنِي بِالْآجُرِّ وَالْجَصِّ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْنِي بِاللَّبِنِ ، وَالطِّينِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْنِي بِالْخَشَبِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْنِي بِالْقَصَبِ ، وَاخْتِلَافُ الْعَادَاتِ لَا تُؤَثِّرُ فِي الْأَيْمَانِ وَجَمِيعُهَا بُيُوتٌ لِمَنِ اعْتَادَهَا ، وَمَنْ لَمْ يَعْتَدْهَا ، فَإِذَا حَلَفَ لَا يَسْكُنُ بَيْتًا ، حَنِثَ بِسُكْنَى كُلِّ بَيْتٍ مِنْهَا ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَدْ سُكْنَاهُ مِنْ حَجَرٍ أَوْ آجُرٍّ أَوْ طِينٍ أَوْ خَشَبٍ ، أَوْ قَصَبٍ مُحْكَمٍ يَدُومُ عَلَى مَرِّ السِّنِينَ ، وَلَا يَحْنَثُ أَنْ يَسْكُنَ بُيُوتَ الرُّعَاةِ مِنَ الْهَشِيمِ وَالْجَرِيدِ ، وَالْحَشِيشِ ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَدْفِعُ بِهِ أَذَى وَقْتٍ مِنْ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ ، وَلَا يُسْتَدَامُ سُكْنَاهَا . فَأَمَّا إِنْ سَكَنَ مَسْجِدًا أَوْ حَمَّامًا ، لَمْ يَحْنَثْ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ انْطِلَاقَ اسْمِ الْبَيْتِ عَلَيْهِمَا مَجَازٌ لَا حَقِيقَةٌ . وَالثَّانِي : أَنَّهُمَا لَا يُسْكَنَانِ فِي الْعُرْفِ ، فَلِهَذَا لَمْ يَحْنَثْ لِسُكْنَاهُمَا .

فَصْلٌ : وَأَمَّا مَا اخْتَلَفَ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ مِنْ بُيُوتِ النُّقْلَةِ لِلْبَوَادِي وَبُيُوتِ الِاسْتِقْرَارِ لِأَهْلِ الْأَمْصَارِ ، فَلَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَسَائِرِ أَصْحَابِهِ ، أَنَّ بُيُوتَ الِاسْتِقْرَارِ ، مِنْ أَبْنِيَةِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى يَحْنَثُ الْحَالِفُ بِسُكْنَاهَا بَدَوِيًّا ، كَانَ أَوْ قَرَوِيًّا ، لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : انْطِلَاقُ اسْمِ الْحَقِيقَةِ عَلَيْهَا ، وَوُجُودُ عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ فِيهَا ، فَاقْتَرَنَ بِحَقِيقَةِ الِاسْمِ عُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ . وَأَمَّا بُيُوتُ النُّقْلَةِمِنْ خِيَمِ الشَّعْرِ ، وَفَسَاطِيطِ الْأَدَمِ ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ يَحْنَثُ بِسُكْنَاهَا الْبَدَوِيُّ ، وَالْقَرَوِيُّ ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ أَصْحَابُهُ أَنَّ الْحَالِفَ لَا يَسْكُنُ بَيْتًا ، إِذَا كَانَ

بَدَوِيًّا حَنِثَ بِسُكْنَاهَا ، لِانْطِلَاقِ اسْمِ الْحَقِيقَةِ عَلَيْهَا وَوُجُودِ عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ فِيهَا ، وَإِنْ كَانَ الْحَالِفُ قَرَوِيًّا ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ هَلْ يَحْنَثُ بِسُكْنَاهَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : - وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ - لَا يَحْنَثُ بِسُكْنَاهَا ، إِذَا كَانَ قَرَوِيًّا لَمْ تَجْرِ عَادَتُهُ بِسُكْنَاهَا ، وَحَمَلَ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَهْلِ قُرًى عَرَبِيَّةٍ ، يَسْكُنُ أَهْلُهَا بُيُوتَ الْمَدَرِ تَارَةً ، وَبُيُوتَ الشَّعْرِ أُخْرَى ، فَأَمَّا مَنْ لَا يَسْكُنُ إِلَّا بُيُوتَ الْمَدَرِ ، فَلَا يَحْنَثُ بِسُكْنَى بُيُوتِ الشَّعْرِ وَالْأَدَمِ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لِخُرُوجِهَا عَنِ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رُءُوسًا ، لَمْ يَحْنَثْ بِرُءُوسِ الطَّيْرِ وَالْجَرَادِ ، حَتَّى يَأْكُلَ رَأْسَ النَّعَمِ مِنَ الْإِبِلِ ، وَالْبَقَرِ ، وَالْغَنَمِ وَإِنِ انْطَلَقَ اسْمُ الْحَقِيقَةِ عَلَى جَمِيعِهَا اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ بَيْضًا لَمْ يَحْنَثْ بِبَيْضِ السَّمَكِ وَالْجَرَادِ ، وَإِنِ انْطَلَقَ اسْمُ الْبَيْضِ عَلَيْهَا حَقِيقَةً ، حَتَّى يَأْكُلَ مِنَ الْبَيْضِ مَا فَارَقَ بَائِضَهُ حَيًّا اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ ، وَأَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهُ يَحْنَثُ الْقَرَوِيُّ بِسُكْنَاهَا ، كَمَا يَحْنَثُ الْبَدَوِيُّ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : انْطِلَاقُ اسْمُ الْحَقِيقَةِ عَلَيْهَا . وَالثَّانِي : اقْتِرَانُ عُرْفِ الِاسْتِعْمَالَ فِيهَا ، وَإِنْ خَرَجَتْ عَنْ عَادَةِ الْحَالِفِ لِوُجُودِهَا فِي غَيْرِهِ كَمَا حَنِثَ الْبَدَوِيُّ بِسُكْنَى بُيُوتِ الْمَدَرِ . وَإِنْ خَرَجَتْ عَنْ عَادَتِهِ ، لِوُجُودِهَا فِي غَيْرِهِ ، وَكَمَا لَوْ حَلَفَ عِرَاقِيٌّ مِنْ أَهْلِ الْيَسَارِ ، أَنْ لَا يَأْكُلَ خُبْزًا حَنِثَ بِخُبْزِ الذُّرَةِ ، وَالْأُرْزِ ، وَإِنْ خَرَجَ عَنْ عُرْفِهِ وَعَادَتِهِ ، لِوُجُودِهَا فِي غَيْرِهِ فَلَا يُعْتَبَرُ فِي الْأَيْمَانِ عَادَةُ الْحَالِفِ إِذَا وُجِدَتْ فِي غَيْرِهِ ، وَيُعْتَبَرُ فِي الْوَكَالَةِ عَادَةُ الْمُوَكِّلِ دُونَ غَيْرِهِ ، فَإِذَا وَكَّلَهُ فِي شِرَاءِ الْخُبْزِ ، وَعَادَتُهُ أَكْلُ الْبُرِّ فَاشْتَرَى لَهُ حَبَّ الْأُرْزِ لَمْ يَلْزَمْهُ ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الْخُبْزَ وَعَادَتُهُ أَكْلُ الْبُرِّ فَأَكَلَ حَبَّ الْأُرْزِ حَنِثَ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَأْكُلَ طَعَامًا اشْتَرَاهُ فُلَانٌ فَاشْتَرَاهُ فُلَانٌ وَآخَرُ مَعَهُ طَعَامًا وَلَا نِيَّةَ لَهُ ، فَأَكَلَ مِنْهُ لَمْ يَحْنَثْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُوَ كَمَا قَالَ ، إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ طَعَامًا اشْتَرَاهُ زَيْدٌ ، فَاشْتَرَى زَيْدٌ وَعَمْرٌو طَعَامًا صَفْقَةً وَاحِدَةً ، فَأَكَلَ مِنْهُ لَمْ يَحْنَثْ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَحْنَثُ احْتِجَاجًا بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَدْ أَكَلَ طَعَامًا قَدِ اشْتَرَاهُ زَيْدٌ ، وَعَمْرٌو ، فَوَجَبَ أَنْ يَحْنَثَ كَمَا لَوِ اشْتَرَيَاهُ فِي صَفْقَتَيْنِ .

وَالثَّانِي : إِلْزَامٌ لَنَا أَنَّهُ لَمَّا أَجْرَى الشَّافِعِيُّ عَلَى اجْتِمَاعِهِمَا فِي الشِّرَاءِ حُكْمَ الصَّفْقَتَيْنِ فِي انْفِرَادِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ ، وَجَبَ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الصَّفْقَتَيْنِ فِي الْحِنْثِ . وَدَلِيلُنَا شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الشِّرَاءَ عَقْدٌ إِذَا اشْتَرَكَا فِيهِ ، لَمْ يَنْفَرِدْ أَحَدُهُمَا بِهِ وَاخْتَصَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْعُرْفِ بِنِصْفِهِ ، فَلَمْ تَكْمُلِ الصِّفَةُ ، فَلَمْ يَقَعِ الْحِنْثُ لِأَنَّ الْأَسْمَاءَ فِي الْأَيْمَانِ يَخْتَصُّ بِالْعُرْفِ . وَالثَّانِي : أَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنَ الطَّعَامِ لَمْ يَخْتَصَّ الْحَالِفُ بِشِرَائِهِ ، فَإِنْ قَلَّ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَقَعَ لَهُ الْحِنْثُ كَمَا لَوْ حَلَفَ ، لَا دَخَلْتُ دَارَ زَيْدٍ ، فَدَخَلَ دَارًا بَيْنَ زَيْدٍ وَعَمْرٍو ، أَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبَ زَيْدٍ ، فَلَبِسَ ثَوْبًا بَيْنَ زَيْدٍ وَعَمْرٍو لَمْ يَحْنَثْ بِوِفَاقِ أَبِي حَنِيفَةَ ، كَذَلِكَ يَلْزَمُهُ أَنْ لَا يَحْنَثَ بِطَعَامٍ اشْتَرَاهُ زَيْدٌ وَعَمْرٌو . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِالشِّرَاءِ فِي صَفْقَتَيْنِ مُشَاعًا فَهُوَ أَنَّ كُلَ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الطَّعَامِ قَدِ اشْتَرَى زَيْدٌ نِصْفَهُ ، بِعَقْدٍ تَامٍّ فَوُجِدَ شَرْطُ الْحِنْثِ ، وَإِذَا كَانَ بِعَقْدٍ وَاحِدٍ فَهُوَ مُشْتَرَكٌ ، فَلَمْ يُكْمَلْ شَرْطُ الْحِنْثِ فَافْتَرَقَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ مِنَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ ، فَهُوَ أَنَّ الْأَيْمَانَ وَالْأَحْكَامَ وَإِنِ اشْتَرَكَا فِي اعْتِبَارِ الْأَسْمَاءِ فَقَدِ افْتَرَقَا فِي غَيْرِهَا ، فَاعْتُبِرَ الْعُرْفُ فِي الْأَيْمَانِ ، وَاعْتُبِرَ الْمَعْنَى فِي الْأَحْكَامِ ، فَصَارَ هَذَا الْفَرْقُ مَانِعًا مِنَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِهِمَا عَلَى سَوَاءٍ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا اشْتَرَى زَيْدٌ طَعَامًا انْفَرَدَ بِهِ ، وَاشْتَرَى عَمْرٌو طَعَامًا انْفَرَدَ بِهِ ، وَخَلَطَاهُ فَأَكَلَ مِنْهُ الْحَالِفُ ، فَفِي حِنْثِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ - أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِحَالٍ ، وَإِنْ أَكَلَ جَمِيعَ الطَّعَامَيْنِ ؛ لِأَنَّ اخْتِلَاطَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ بِغَيْرِهِ خَارِجٌ فِي الْعُرْفِ عَنِ اسْمِ الِانْفِرَادِ ، فَخَرَجَ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ الْأَيْمَانِ ، حَتَّى قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ : لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ جُبْنًا فَأَكَلَ خُبْزًا وَجُبْنًا لَمْ يَحْنَثْ ، وَزَعَمَ مِنْ نَصِّ قَوْلِهِ بِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَدْ نَصَّ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ لِلْمُزَنِيِّ : أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ زَيْتًا فَأَكَلَ خُبْزًا وَزَيْتًا لَمْ يَحْنَثْ ، وَهَذَا الْمَحْكِيُّ عَنْهُ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ سَهْوٌ مِنْ حَاكِيهِ ، وَالْمَوْجُودُ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ لِلْمُزَنِيِّ عَنِ الشَّافِعِيِّ " أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا آكُلُ خُبْزًا وَجُبْنًا ، فَأَكَلَ خُبْزًا وَزَيْتًا ، لَمْ يَحْنَثْ " وَرُدَّ بِهَذَا الْقَوْلِ عَلَى مَالِكٍ حَيْثُ حَنَّثَهُ بِذَلِكَ ، فَهَذَا وَجْهٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ - أَنَّهُ إِذَا اخْتَلَطَ الطَّعَامَانِ وَكَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْقَدْرِ فَأَكَلَ مِنْهُمَا أَكْثَرَ مِنَ النِّصْفِ حَنَّثَهُ ؛ لِعِلْمِنَا أَنَّهُ قَدْ أَكَلَ مِمَّا اشْتَرَاهُ

زَيْدٌ ، وَإِنْ أَكْلَ أَقَلَّ مِنَ النِّصْفِ ، لَمْ يَحْنَثْ لِلِاحْتِمَالِ وَجَوَازِ أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ أَكَلَ مَا اشْتَرَاهُ زَيْدٌ ؛ لِأَنَّ الْحِنْثَ لَا يَقَعُ بِالِاحْتِمَالِ ، وَالْجَوَازِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ الطَّعَامُ مَائِعًا ، كَاللَّبَنِ ، وَالْعَسَلِ ، حَنِثَ بِأَكْلِ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ ، لِامْتِزَاجِهِ ، وَكَذَلِكَ الدَّقِيقُ ؛ لِأَنَّهُ كَالْمَانِعِ فِي الِامْتِزَاجِ ، وَإِنْ كَانَ مُتَمَيِّزًا مِثْلَ التَّمْرِ ، وَالرُّطَبِ ، لَمْ يَحْنَثْ ، حَتَّى يَأْكُلَ مِنْهُ أَكْثَرَ مِنَ النِّصْفِ لِدُخُولِ الِاحْتِمَالِ فِي الْمُتَمَيِّزِ ، وَانْتِفَائِهِ عَنِ الْمُمْتَزِجِ . وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : " لَوْ حَلَفَ عَلَى تَمْرَةٍ أَنْ لَا يَأْكُلَهَا فَوَقَعَتْ فِي تَمْرٍ كَثِيرٍ ، فَأَكَلَهُ كُلَّهُ إِلَّا تَمْرَةً ، لَمْ يَحْنَثْ " لِجَوَازٍ أَنْ تَكُونَ الْبَاقِيَةُ هِيَ التَّمْرَةَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهَا .

فَصْلٌ : وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ طَعَامًا اشْتَرَاهُ زَيْدٌ ، فَأَكَلَ مِنْ طَعَامٍ وَرِثَهُ زَيْدٌ ، أَوِ اسْتَوْهَبَهُ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الشِّرَاءَ شَرْطًا فِي الْحِنْثِ . وَقَالَ مَالِكٌ : يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مَلِكُ زَيْدٍ ، وَلَوْ كَانَ زَيْدٌ فِي الشِّرَاءِ وَكِيلًا ، فَأَكَلَ مِنْهُ الْحَالِفُ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ مِنْ غَيْرِهِ ، وَحَنَّثَهُ مَالِكٌ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ مِلْكِهِ وَلَوْ تَوَكَّلَ زَيْدٌ لِغَيْرِهِ فَاشْتَرَى طَعَامًا لِمُوَكِّلِهِ ، حَنِثَ الْحَالِفُ بِأَكْلِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْهُ زَيْدٌ ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ مَعْقُودَةٌ عَلَى الشِّرَاءِ ، دُونَ الْمِلْكِ ، وَهَذَا إِذَا كَانَتِ الْيَمِينُ مُطْلَقَةً ، فَأَمَّا إِنْ كَانَتْ لَهُ نِيَّةٌ ، فَإِنَّهُ يُحْمَلُ فِي الْحِنْثِ عَلَى نِيَّتِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ دَارَ فُلَانٍ هَذِهِ بِعَيْنِهَا فَبَاعَهَا فُلَانٌ حَنِثَ بِأَيِّ وَجْهٍ سَكَنَهَا إِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ ، فَإِنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ مَا كَانَتْ لِفُلَانٍ لَمْ يَحْنَثْ إِذَا خَرَجَتْ مِنْ مَلِكِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا حَلَفَ عَلَى دَارِ زَيْدٍ أَنْ لَا يَسْكُنَهَا ، وَلَا يَدْخُلَهَا فَذَلِكَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُعَيِّنَ الدَّارَ ، فَيَقُولَ : لَا دَخَلْتُ دَارَ زَيْدٍ هَذِهِ ، فَتَكُونَ الْيَمِينُ مُنْعَقِدَةً عَلَى عَيْنِ الدَّارِ ، وَتَكُونَ إِضَافَتُهَا إِلَى زَيْدٍ تَعْرِيفًا فَإِنْ دَخَلَهَا ، وَهِيَ عَلَى مِلْكِ زَيْدٍ حَنِثَ ، بِإِجْمَاعٍ ، وَإِنْ دَخَلَهَا بَعْدَ أَنْ بَاعَهَا زَيْدٌ حَنِثَ عِنْدَنَا ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ ، وَزُفَرَ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْعَيْنِ دُونَ الْإِضَافَةِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَبُو يُوسُفَ : لَا يَحْنَثُ بِزَوَالِ مِلْكِ زَيْدٍ عَنْهَا ، وَجَعْلُ إِضَافَتِهَا إِلَى زَيْدٍ شَرْطًا فِي عَقْدِ الْيَمِينِ احْتِجَاجًا بِأَمْرَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذِهِ الْيَمِينِ قَطْعُ الْمُوَالَاةِ ، وَإِظْهَارُ الْعَدَاوَةِ وَالدَّارُ لَا تُوَالِي وَلَا تُعَادِي فَصَارَ صَاحِبُهَا مَقْصُودًا ، فَكَانَ بَقَاءُ مِلْكِهِ فِي الْيَمِينِ شَرْطًا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا كَانَ دُخُولُهَا مَوْقُوفًا عَلَى إِذْنِهِ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَقَاءُ مِلْكِهِ شَرْطًا فِي حِنْثِهِ . وَدَلِيلُنَا شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْيَمِينَ إِذَا تَعَلَّقَتْ بِعَيْنٍ مُضَافَةٍ وَجَبَ أَنْ يَغْلِبَ حُكْمُ الْعَيْنِ عَلَى الْإِضَافَةِ ، وَيَقَعُ بِهِمَا الْحِنْثُ مَعَ زَوَالِ الْإِضَافَةِ كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ زَوْجَةَ زَيْدٍ ، فَطَلَّقَهَا زَيْدٌ حَنِثَ بِكَلَامِهَا ، تَغْلِيبًا لِلْعَيْنِ عَلَى الْإِضَافَةِ ، كَذَلِكَ إِذَا قَالَ : لَا دَخَلْتُ هَذِهِ الدَّارَ ، الَّتِي لَزَيْدٍ ، وَجَبَ أَنْ يَحْنَثَ بِدُخُولِهَا ، وَإِنْ خَرَجَتْ عَنْ مِلْكِ زَيْدٍ ، فَإِنْ قِيلَ : الزَّوْجَةُ تُوَالِي وَتُعَادِي فَغَلَبَ حُكْمُ الْعَيْنِ عَلَى الْإِضَافَةِ ، وَالدَّارُ لَا تُوَالِي وَلَا تُعَادِي فَغَلَبَ حُكْمُ الْإِضَافَةِ عَلَى الْعَيْنِ . قِيلَ : اعْتِبَارُ هَذَا التَّعْلِيلِ فِي إِيقَاعِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ بَاطِلٌ فِي الْفَرْعِ بِأَنْ يَقُولَ : لَا دَخَلْتُ الدَّارَ مِنْ غَيْرِ إِضَافَةٍ ، فَيَحْنَثُ بِدُخُولِهَا ، وَإِنْ كَانَتِ الدَّارُ لَا تُوَالِي وَلَا تُعَادِي وَبَاطِلٌ فِي الْأَصْلِ بِأَنْ يَقُولَ : لَا كَلَّمْتُ عَبْدَ زَيْدٍ فَيَحْنَثُ عِنْدَهُ بِكَلَامِهِ ، إِذَا بَاعَهُ زَيْدٌ ، وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ لَا يُوَالِي وَلَا يُعَادِي ، وَإِذَا بَطَلَ التَّعْلِيلُ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ سَقَطَ . وَالدَّلِيلُ الثَّانِي : أَنَّ الْعَيْنَ إِذَا أُضِيفَتْ إِلَى صِفَةٍ ، كَانَتِ الصِّفَةُ تَعْرِيفًا وَلَمْ تَكُنْ شَرْطًا ، كَمَا لَوْ قَالَ : لَا كَلَّمْتُ هَذَا الرَّاكِبَ ، لَمْ يَكُنْ بَقَاءُ رُكُوبِهِ شَرْطًا فِي حِنْثِهِ ، وَحَنِثَ بِكَلَامِهِ رَاكِبًا ، وَنَازِلًا لِأَنَّهُمَا إِضَافَةُ تَعْرِيفٍ ، كَذَلِكَ دَارُ زَيْدٍ ، وَقَدْ مَضَى الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْمُوَالَاةِ ، وَالْمُعَادَاةِ . فَالْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ دُخُولَهَا مَوْقُوفٌ عَلَى إِذْنِ مَالِكِهَا ، فَهُوَ أَنَّ الْإِذْنَ فِي الدُّخُولِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي الْبِرِّ ، وَالْحِنْثِ ، فَكَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يَعْتَبِرَ بِهِ مُسْتَحِقُّ الْإِذْنِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يُعَيِّنَ الدَّارَ بِأَنْ يَقُولَ : لَا دَخَلْتُ دَارَ زَيْدٍ ، فَتَكُونَ الْيَمِينُ مُنْعَقِدَةً عَلَى مِلْكِ زَيْدٍ لِلدَّارِ ، فَأَيُّ دَارٍ دَخَلَهَا ، وَزَيْدٌ مَالِكُهَا حَنِثَ بِدُخُولِهَا ، فَإِنْ بَاعَهَا زَيْدٌ بَعْدَ مِلْكِهِ لَهَا ، فَدَخَلَهَا الْحَالِفُ لَمْ يَحْنَثْ بِوِفَاقٍ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْإِطْلَاقِ وَالتَّعْيِينِ ، أَنَّ عَدَمَ الْعَيْنِ فِي الْإِطْلَاقِ أَوْجَبَ عَقْدَ الْيَمِينِ عَلَى الْإِضَافَةِ ، وَوُجُودُ الْعَيْنِ فِي التَّعْيِينِ ، أَوْجَبَ عَقْدَهَا عَلَى الْعَيْنِ ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ أَسْلَمَ فِي ثَوْبٍ هَرَوِيٍّ . كَانَ الْعَقْدُ مُخْتَصًّا بِالصِّفَةِ ، وَلَوِ اشْتَرَى هَذَا الثَّوْبَ الْهَرَوَيَّ ، كَانَ الْعَقْدُ مُخْتَصًّا بِالْعَيْنِ دُونَ الصِّفَةِ ، فَإِنْ وَجَدَهُ هَرَوِيًّا لَمْ يَبْطُلِ الْبَيْعُ ، فَإِنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ زَيْدٍ ، فَدَخَلَ دَارًا بَيْنَ زَيْدٍ وَعَمْرٍو لَمْ يَحْنَثْ قَلَّ سَهْمُ زَيْدٍ فِيهَا ، أَوْ كَثُرَ ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ لَمْ يَكْمُلْ ، وَإِنْ أَعَارَ زَيْدٌ

دَارَهُ ، أَوْ رَهَنَهَا حَنِثَ ، بِدُخُولِهَا ، لِبَقَائِهَا عَلَى مِلْكِهِ ، وَلَوْ وَقَفَهَا لَمْ يَحْنَثْ لِخُرُوجِ الْوَقْفِ عَنْ مَلْكِ وَاقِفِهِ . وَلَوْ دَخَلَ دَارًا اسْتَأْجَرَهَا زَيْدٌ مِنْ مَالِكِهَا ، يَحْنَثُ بِدُخُولِهَا لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْإِضَافَةِ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْمِلْكِ دُونَ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ ، وَهَذَا مَعَ إِطْلَاقِ يَمِينِهِ ، وَإِنْ حَنَّثَهُ مَالِكٌ بِهَذَا كُلِّهِ فَأَمَّا إِنْ كَانَتْ لَهُ نِيَّةٌ ، فَحِنْثُهُ مَحْمُولٌ عَلَى نِيَّتِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُهَا فَانْهَدَمَتْ حَتَى صَارَتْ طَرِيقًا لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِدَارٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا حَلَفَ ، لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ ، فَانْهَدَمَتْ وَصَارَتْ عِرَاصًا ، فَدَخَلَهَا لَمْ يَحْنَثْ ، وَهَكَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذَا الْبَيْتَ فَانْهَدَمَ ، وَصَارَ بَرَاحًا لَمْ يَحْنَثْ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِذَا دَخَلَ عَرْصَةَ الدَّارِ بَعْدَ انْهِدَامِهَا حَنِثَ ، وَإِذَا دَخَلَ عَرْصَةَ الْبَيْتِ بَعْدَ انْهِدَامِهِ ، لَمْ يَحْنَثْ فَوَافَقَ فِي الْبَيْتِ ، وَخَالَفَ فِي الدَّارِ ، إِلَّا أَنْ يَبْنِيَ مَسْجِدًا أَوْ حَمَّامًا ، أَوْ يَجْعَلَ بُسْتَانًا ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ اسْمَ الدَّارِ يَنْطَلِقُ عَلَى الْعَرْصَةِ بَعْدَ ذَهَابِ الْعِمَارَةِ ، كَمَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا مَعَ الْعِمَارَةِ كَمَا يَقُولُونَ هَذِهِ دِيَارُ عَادٍ ، وَدِيَارُ ثَمُودَ ، وَدِيَارُ رَبِيعَةَ ، وَدِيَارُ مُضَرَ ، وَإِنْ ذَهَبَتْ عِمَارَتُهَا ، وَبَقِيَتْ عِرَاصُهَا ، وَهُوَ وَاضِحٌ فِي أَشْعَارِ الْعَرَبِ قَالَ النَّابِغَةُ : يَا دَارَ مَيَّةَ بِالْعَلْيَاءِ فَالسَّنَدِ أَقْوَتْ وَطَالَ عَلَيْهَا سَالِفُ الْأَمَدِ وَقَالَ لَبِيَدٌ : عَفَتِ الدِّيَارُ مَحَلُّهَا فَمُقَامُهَا بِمِنًى تَأَبَّدَ غَوْلُهَا فَرِجَامُهَا فَسَمَّاهَا دَارًا بَعْدَ إِقْوَاتِهَا وَالْعَفَا : الدَّرْسُ ، فَسَمَّاهَا دِيَارًا بَعْدَ دُرُوسِهَا ، فَكَانَ بَقَاءُ الِاسْمِ عَلَى عَرْصَتِهَا مُوجِبًا ، لِوُقُوعِ الْحِنْثِ بِدُخُولِهَا ؛ وَلِأَنَّهُ لَوِ انْهَدَمَ مِنْ سُورِهَا ، فَأُدْخِلَ مِنْهُ إِلَى عَرْصَةٍ ضِمْنَهَا حَنِثَ ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي بِنَاءٍ ، وَلَا صَارَ فِي عِمَارَةٍ فَكَذَلِكَ ، إِذَا انْهَدَمَ جَمِيعُ بِنَائِهَا حَنِثَ بِدُخُولِ عَرْصَتِهَا . وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ مَا تَنَاوَلَهُ الِاسْمُ مَعَ الْبِنَاءِ زَالَ عَنْهُ حُكْمُ الْحِنْثِ بِذَهَابِ الْبِنَاءِ ، كَالْبَيْتِ ، فَإِنْ قِيلَ : الْبَيْتُ لَا يُسَمَّى بَعْدَ انْهِدَامِهِ بَيْتًا ، وَتُسَمَّى الدَّارُ بَعْدَ انْهِدَامِهَا دَارًا بِطُلَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا [ النَّمْلِ : 52 ] ، فَسَمَّاهَا بَعْدَ الْخَرَابِ بُيُوتًا ؛ وَلِأَنَّ مَا مَنَعَ مِنَ الْحِنْثِ بِدُخُولِ عَرْصَةِ الْبَيْتِ ، مَنَعَ مِنْهُ بِدُخُولِ عَرْصَةِ الدَّارِ ، كَمَا لَوْ بَنَى الْعَرْصَةَ مَسْجِدًا ؛ وَلِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَدْ وَافَقَنَا ، أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارًا ، وَلَمْ يُعَيِّنْهَا ، فَدَخَلَ عَرْصَةَ دَارٍ قَدِ انْهَدَمَ بِنَاؤُهَا لَمْ يَحْنَثْ كَذَلِكَ إِذَا عَيَّنَهَا .

وَتَحْرِيرُهُ أَنَّ كُلَّ مَا لَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ الْحَقِيقِيُّ ، مَعَ عَدَمِ التَّعْيِينِ ، لَمْ يَتَنَاوَلْهُ مَعَ وُجُودِ ، التَّعْيِينِ كَالْبَيْتِ . فَإِنْ قِيلَ : قَدْ فَرَّقَ الشَّرْعُ فِي الْأَيْمَانِ بَيْنَ التَّعْيِينِ وَالْإِبْهَامِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ ، فَقَالَ : لَا جَلَسْتُ فِي سِرَاجٍ فَجَلَسَ فِي الشَّمْسِ لَمْ يَحْنَثْ ، وَإِنْ سَمَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى سِرَاجًا ، وَلَوْ عَيَّنَ فَقَالَ : لَا جَلَسْتُ فِي هَذَا السِّرَاجِ إِشَارَةً إِلَى الشَّمْسِ حَنِثَ بِجُلُوسِهِ فِيهَا ، وَلَوْ حَلَفَ لَا جَلَسْتُ عَلَى بِسَاطٍ ، فَجَلَسَ عَلَى الْأَرْضِ لَمْ يَحْنَثْ ، وَإِنْ سَمَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى بِسَاطًا ، وَلَوْ عَيَّنَ ، فَقَالَ : لَا جَلَسْتُ عَلَى هَذَا الْبِسَاطِ مُشِيرًا إِلَى الْأَرْضِ ، فَجَلَسَ عَلَيْهَا حَنِثَ ، فَصَارَتِ الشَّمْسُ سِرَاجًا مَعَ التَّعْيِينِ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ سِرَاجًا مَعَ الْإِبْهَامِ ، وَصَارَتِ الْأَرْضُ بِسَاطًا مَعَ التَّعْيِينِ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ بِسَاطًا مَعَ الْإِبْهَامِ ، كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْعَرْصَةُ دَارًا مَعَ التَّعْيِينِ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ دَارًا مَعَ الْإِبْهَامِ . قُلْنَا : لَيْسَ يَفْتَرِقُ التَّعْيِينُ ، وَالْإِبْهَامُ فِي حَقَائِقِ الْأَسْمَاءِ ، فَإِنَّ اسْمَ السِّرَاجِ يَنْطَلِقُ عَلَى الشَّمْسِ مَجَازًا فِي الْإِبْهَامِ ، وَالتَّعْيِينِ ، وَاسْمُ الْبِسَاطِ يَنْطَلِقُ عَلَى الْأَرْضِ مَجَازًا فِي الْإِبْهَامِ ، وَالتَّعْيِينِ ، وَإِنَّمَا جُعِلَ التَّعْيِينُ مَقْصُودًا وَالِاسْمُ مُسْتَعَارًا ، فَإِذَا أُبْهِمَ الِاسْمُ اعْتُبِرَ فِيهِ الْحَقِيقَةُ ، دُونَ الْمَجَازِ الْمُسْتَعَارِ وَالتَّعْيِينِ فِي الدَّارِ تَوَجَّهَ إِلَى شَيْئَيْنِ جَمْعَهُمَا حَقِيقَةُ الِاسْمِ وَهِيَ الْعَرْصَةُ وَالْبِنَاءُ ، فَإِذَا ذَهَبَ الْبِنَاءُ زَالَ شَطْرُ الْعَيْنِ ، فَارْتَفَعَ حَقِيقَةُ الِاسْمِ وَلِأَنَّ الْإِبْهَامَ إِذَا حَلَفَ لَا دَخَلْتُ دَارًا ، أَعَمُّ مِنَ التَّعْيِينِ ، إِذَا حَلَفَ لَا دَخَلْتُ هَذِهِ الدَّارَ ؛ لِأَنَّهُ يَحْنَثُ فِي الْإِبْهَامِ بِدُخُولِ دَارٍ ، وَلَا يَحْنَثُ فِي التَّعْيِينِ ، إِلَّا بِدُخُولِ تِلْكَ الدَّارِ فَلَمَّا ارْتَفَعَ بِالْهَدْمِ حُكْمُ الْأَعَمِّ ، كَانَ أَوْلَى أَنْ يَرْتَفِعَ بِهِ حُكْمُ الْأَخَصِّ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ بِأَنَّ اسْمَ الدَّارِ يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا بَعْدَ انْهِدَامِهَا هُوَ أَنَّ الِاسْمَ يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا بَعْدَ الْهَدْمِ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إِمَّا عَلَى الِاسْتِعَارَةِ وَالْمَجَازِ ، وَالْأَيْمَانُ تُرَاعَى فِيهَا حَقَائِقُ الْأَسْمَاءِ دُونَ مَجَازِهَا ، وَإِمَّا لِأَنَّهَا كَانَتْ دَارًا فَاسْتُصْحِبَ اسْمُهَا اتِّسَاعًا ، وَالْأَسْمَاءُ فِي الْأَيْمَانِ مُعْتَبَرَةٌ ، بِالْحَالِ دُونَ مَا سَلَفَ ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا كَلَّمْتُ عَبْدًا فَكَلَّمَهُ مُعْتِقًا ، ثُمَّ يُقَالُ لِأَبِي حَنِيفَةَ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ ، وَالتَّعْيِينُ يَفْسَدُ بِالْإِطْلَاقِ فِي الْإِبْهَامِ وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِدُخُولِهِ إِلَى صَحْنِهَا مِنْ هَدْمٍ فِي سُورِهَا ، فَسَنَشْرَحُ مِنْ مَذْهَبِنَا فِيهِ مَا يَكُونُ انْفِصَالًا عَنْهُ ، وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ يَخْلُو حَالُ مَا انْهَدَمَ مِنْهَا ، وَبَقِيَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ لَا يُمْنَعَ مِنْ سُكْنَى شَيْءٍ مِنْهَا ، فَيَحْنَثَ بِدُخُولِهِ مِنَ الْمُسْتَهْدَمِ وَالْعَامِرِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يُمْنَعَ بِالْهَدْمِ مِنْ سُكْنَى الْبَاقِي ، وَسُكْنَى الْمُسْتَهْدَمِ ، فَلَا يَحْنَثُ بِدُخُولِ مَا بَقِيَ ، وَلَا بِدُخُولِ مَا انْهَدَمَ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَمْنَعَ الْهَدْمُ مِنْ سُكْنَى مَا اسْتُهْدِمَ ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ سُكْنَى مَا بَقِيَ عَلَى عِمَارَتِهِ ، وَلَمْ يُسْتَهْدَمْ فَلَا يَحْنَثُ بِدُخُولِ الْمُسْتَهْدَمِ مِنْهَا ، وَيَحْنَثُ بِدُخُولِ الْبَاقِي

مِنْ عَامِرِهَا ، وَلَوِ انْهَدَمَتْ بُيُوتُهَا ، وَبَقِيَ سُورُهَا ، فَإِنْ كَانَ السُّورُ مَانِعًا لِعُلُوِّهِ حَنِثَ بِدُخُولِهِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَانِعٍ لِقِصَرِهِ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِدُخُولِهِ ، وَخَرَّجَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَجْهًا آخَرَ فَمَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ الدَّارَ ، وَرَقِيَ عَلَى سَطْحِهَا أَنَّهُ يَحْنَثُ ، إِذَا كَانَتْ عَلَيْهِ سُتْرَةٌ وَلَيْسَ هَذَا التَّحْرِيمُ صَحِيحًا ؛ لِأَنَّ السَّطْحَ مُمْتَنِعٌ بِسُكْنَى أَسْفَلِهِ ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ قِصَرُ سُتْرَتِهِ مَانِعًا فَخَالَفَ الْبَاقِيَ مِنْ سُتْرَةِ الدَّارِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا انْهَدَمَتِ الدَّارُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهَا ، فَبُنِيَتْ مَسْجِدًا ، أَوْ حَمَّامًا ، لَمْ يَحْنَثْ بِدُخُولِهِ ، سَوَاءٌ كَانَ الْبِنَاءُ لِتِلْكَ الْآلَةِ ، أَوْ بِغَيْرِهَا لِزَوَالِ اسْمِ الدَّارِ عَنْهَا . وَإِنْ أُعِيدَ بِنَاؤُهَا دَارًا ، لَمْ يَخْلُ أَنْ تُبْنَى بِتِلْكَ الْآلَةِ ، أَوْ بِغَيْرِهَا ، فَإِنْ بُنِيَتْ بِغَيْرِ تِلْكَ الْآلَةِ ، لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ غَيْرَ تِلْكَ الدَّارِ ، وَإِنْ بُنِيَتْ بِتِلْكَ الْآلَةِ ، فَفِي حِنْثِهِ بِدُخُولِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، لَا يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّ غَيْرَ ذَلِكَ الْبِنَاءِ يَجْعَلُهَا غَيْرَ تِلْكَ الدَّارِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَحْنَثُ لِأَنَّ تِلْكَ الْعَرْصَةَ ، وَتِلْكَ الْآلَةَ تَجْعَلُهَا تِلْكَ الدَّارُ ، وَجَرَى تَغْيِيرُ بِنَائِهَا مَجْرَى تَغْيِيرِ سُقُوفِهَا وَأَبْوَابِهَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ مِنْ بَابِ هَذِهِ الدَّارِ فِي مَوْضِعٍ فَحَوَّلَ ، لَمْ يَحْنَثْ ، إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ أَنْ يَدْخُلَهَا ، فَيَحْنَثَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ مَنْ حَلَفَ ، لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُطْلِقَ يَمِينَهُ فِي دُخُولِهَا ، وَلَا يُسَمِّيَ مَوْضِعَ دُخُولِهِ إِلَيْهَا ، فَيَحْنَثُ بِدُخُولِهَا مِنْ بَابِهَا ، وَغَيْرِ بَابِهَا ، مِنْ ثُقْبٍ فِيهَا ، أَوْ جِدَارٍ تَسَوَّرَهُ ، حَتَّى دَخَلَهَا لِأَنَّ عَقْدَ الْيَمِينِ فِي الْإِطْلَاقِ مَقْصُورٌ عَلَى الدُّخُولِ ، دُونَ الْمَدْخَلِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَحْلِفَ : " لَا دَخَلْتُهَا مِنْ هَذَا الْبَابِ " ، فَإِنْ دَخَلَهَا مِنْهُ حَنِثَ ، وَإِنْ دَخَلَهَا مِنْ بَابٍ اسْتُحْدِثَ لَهَا ، لَمْ يَحْنَثْ ، سَوَاءٌ فُعِلَ ذَلِكَ الْبَابُ مِنَ الْأَوَّلِ إِلَى الْمُسْتَحْدَثِ ، أَوْ تُرِكَ . وَحَكَى أَبُو حَامِدٍ الْإِسَفَرَايِينِيُّ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ إِنْ نَقَلَ بَابَ الْأَوَّلِ إِلَى الثَّانِي ، حَنِثَ بِدُخُولِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ ، وَإِنْ تَرَكَ عَلَى الْأَوَّلِ حَنِثَ بِدُخُولِ الْأَوَّلِ ، وَلَمْ يَحْنَثْ بِدُخُولِ الثَّانِي فَجَعَلَ الْبَابَ مُعْتَبَرًا بِالْخَشَبِ الْمَنْحُوتِ دُونَ الْفَتْحِ الْمَعْقُودِ ، وَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا هُوَ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْبَابَ مُعْتَبَرٌ بِالْفَتْحِ الْمَعْقُودِ ، دُونَ الْخَشَبِ الْمَنْصُوبِ ؛ لِأَنَّ الْبَابَ عَلَى مَا يَكُونُ مِنْهُ الدُّخُولُ ، وَالْخُرُوجُ ، وَذَلِكَ مِنَ الْفَتْحِ الْمَعْقُودِ ، فَكَانَ أَحَقَّ بِالِاسْمِ مِنَ الْخَشَبِ الْمَنْصُوبِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَحْلِفَ لَا دَخَلْتُ هَذِهِ الدَّارَ مِنْ بَابِهَا ، وَلَا يُشِيرُ إِلَى بَابٍ

بِعَيْنِهِ ، فَإِنْ تَسَوَّرَ عَلَيْهَا مِنْ جِدَارِهَا ، أَوْ دَخَلَ مِنْ ثُقْبٍ فِي حَائِطِهَا لَمْ يَحْنَثْ ، وَإِنْ دَخَلَ مِنْ بَابِهَا الْمَوْجُودِ لَهَا وَقْتَ يَمِينِهِ حَنِثَ ، وَإِنِ اسْتُحْدِثَ لَهَا بَابٌ غَيْرُهُ فَدَخَلَ مِنْهُ ، فَفِي حِنْثِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ ظَاهِرُ مَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ، أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ انْعَقَدَتْ عَلَى بَابٍ مَوْجُودٍ ، فَكَانَ شَرْطًا فِي الْحِنْثِ ، كَمَا لَوْ حَلَفَ : " لَا دَخَلْتُ دَارَ زَيْدٍ " فَبَاعَهَا زَيْدٌ ، لَمْ يَحْنَثْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَظْهَرُهُمَا وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ أَنَّهُ يَحْنَثُ : لِأَنَّ الْحَادِثَ بَابٌ لَهَا فَصَارَ دَاخِلًا مِنْ بَابِهَا فَصَارَ كَمَا لَوْ حَلَفَ : " لَا دَخَلْتُ هَذِهِ الدَّارَ الَّتِي لِزَيْدٍ " فَبَاعَهَا زَيْدٌ ، حَنِثَ بِدُخُولِهَا ، فَيَكُونُ نَصُّ الشَّافِعِيِّ مَحْمُولًا عَلَى تَعْيِينِ الْبَابِ دُونَ إِبْهَامِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا وَهُوَ رِدَاءٌ ، فَقَطَعَهُ قَمِيصًا أَوِ ائْتَزَرَ بِهِ ، أَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ سَرَاوِيلَ ، فَائْتَزَرِ بِهِ أَوْ قَمِيصًا فَارْتَدَى بِهِ ، فَهَذَا كُلُّهُ لُبِسَ يَحْنَثُ بِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ نِيَّةٌ فَلَا يَحْنَثُ إِلَّا عَلَى نِيَّتِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ اخْتَلَطَ فِيهَا كَلَامُ أَصْحَابِنَا ، حَتَّى خَبَطُوا خَبْطَ عَشْوَاءَ : وَسَنَذْكُرُ مَا يَسَرَّهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ بِالصَّوَابِ مَقْرُونًا ، فَإِذَا حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا ، وَهُوَ عَلَى صِفَةٍ ، فَلَبِسَهُ وَهُوَ عَلَى خِلَافِهَا ، كَمَنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا هُوَ رِدَاءٌ فَأْتَزَرَ بِهِ ، أَوْ قَطَعَهُ قَمِيصًا ، أَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ قَمِيصًا ، فَارْتَدَى بِهِ ، أَوْ قَطَعَهُ سَرَاوِيلَ ، أَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ سَرَاوِيلَ ، فَأْتَزَرَ بِهِ ، أَوْ حَوَّلَهُ مِنْدِيلًا ، أَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ طَيْلَسَانًا ، فَتَعَمَّمَ بِهِ ، أَوْ قَطَعَهُ مَلْبُوسًا ، فَلَا يَخْلُو حَالُ يَمِينِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَعْقِدَهَا عَلَى عَيْنِ الثَّوْبِ ، وَيُلْغِيَ صِفَتَهُ ، وَصِفَةَ لُبْسِهِ ، فَهَذَا يَحْنَثُ عَلَى أَيِّ حَالٍ لَبِسَهُ ، وَعَلَى أَيِّ صِفَةٍ لَبِسَهُ مَعَ تَغَيُّرِ أَحْوَالِهِ وَأَوْصَافِهِ ، اعْتِبَارًا بِعَقْدِ الْيَمِينِ عَلَى عَيْنِهِ ، دُونَ صِفَتِهِ ، وَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَيْهِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَعْقِدَ يَمِينَهُ عَلَى صِفَةِ الثَّوْبِ وَصِفَةِ لُبْسِهِ ، فَيَحْنَثُ بِلُبْسِهِ إِذَا كَانَ عَلَى حَالِهِ ، وَعَلَى الصِّفَةِ الْمُعْتَادَةِ فِي لُبْسِهِ ، وَلَا يَحْنَثُ إِنْ جَعَلَ الْإِزَارَ قَمِيصًا ، أَوِ اتَّزَرَ بِهِ ، وَلَا إِنْ جَعَلَ الْقَمِيصَ سَرَاوِيلَ ، أَوِ ارْتَدَى بِهِ وَلَا إِنْ جَعَلَ السَّرَاوِيلَ مَنْدِيلًا ، أَوِ اتَّرَزَ بِهِ ، حَتَّى يَجْمَعَ فِي لُبْسِهِ بَيْنَ بَقَائِهِ عَلَى صِفَتِهِ ، وَبَيْنَ الْمَعْهُودِ فِي لُبْسِهِ ، اعْتِبَارًا بِمَا عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَيْهِ ، مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ ، وَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ أَيْضًا عَلَيْهِ أَصْحَابُنَا . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ الَّذِي اخْتَلَطَ فِيهِ الْكَلَامُ ، وَاخْتَلَفَ فِيهِ الْجَوَابُ ، وَهُوَ أَنْ يَعْقِدَ يَمِينَهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، فَيَقُولُ : لَا لَبِسْتُ هَذَا الثَّوْبَ ، أَوْ هَذَا الْقَمِيصَ ، أَوْ هَذِهِ السَّرَاوِيلَ ،

فَيُغَيِّرَهُ عَنْ صِفَتِهِ ، أَوْ يَلْبَسُهُ عَلَى غَيْرِ عَادَتِهِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا يَقَعُ بِهِ حِنْثُهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ يَحْنَثُ بِلُبْسِهِ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَتْ ، فَإِنْ غَيَّرَ الْقَمِيصَ سَرَاوِيلَ أَوِ ارْتَدَى بِهِ أَوْ غَيَّرَ السَّرَاوِيلَ مَنْدِيلًا ، أَوِ اتَّزَرَ بِهِ حَنِثَ ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنْ أَصْحَابِنَا ، تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْعَيْنِ عَلَى الصِّفَةِ وَلِحُكْمِ الْفِعْلِ عَلَى الْعَادَةِ ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ ، فَهَذَا كُلُّهُ لَيْسَ يَحْنَثُ بِهِ وَيَكُونُ قَوْلُهُ : لَا لَبِسْتُ ثَوْبًا وَهُوَ رِدَاءٌ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ ، صِفَةً لِلثَّوْبِ ، وَلَيْسَ مِنْ كَلَامِ الْحَالِفِ شَرْطًا فِي الْحِنْثِ ؛ لِأَنَّ الْحَالِفَ لَوْ قَالَ : هَذَا لَمْ يَحْنَثْ إِذَا لَبِسَهُ وَهُوَ غَيْرُ رِدَاءٍ " . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى الْمُزَنِيِّ ، وَطَائِفَةٍ مِنْ مُتَقَدِّمِي أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِلُبْسِهِ ، إِذَا غَيَّرَهُ عَنْ صِفَتِهِ ، وَلَا إِذَا لَبِسَهُ عَلَى غَيْرِ عَادَتِهِ ، فَإِنْ جَعَلَ الرِّدَاءَ قَمِيصًا ، أَوِ الْقَمِيصَ سَرَاوِيلَ ، وَارْتَدَى بِالْقَمِيصِ ، أَوِ اتَّزَرَ بِالسَّرَاوِيلِ ، لَمْ يَحْنَثْ ، حَتَّى يَتَقَمَّصَ بِالْقَمِيصِ ، وَيَتَسَرْوَلَ بِالسَّرَاوِيلِ وَيَرْتَدِيَ بِالرِّدَاءِ ، فَيَجْمَعَ بَيْنَ بَقَائِهِ عَلَى صِفَتِهِ ، وَبَيْنَ لُبْسِهِ عَلَى عَادَتِهِ ، حَتَّى حُكِيَ عَنِ الْمُزَنِيِّ ، أَنَّهُ قَالَ : لَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ خَاتَمًا ، فَلَبِسَهُ فِي غَيْرِ الْخِنْصَرِ مِنْ أَصَابِعِهِ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّهُ عَدَلَ بِهِ عَنْ عَادَةِ لُبْسِهِ ، وَالْعُرْفُ وَالْعَادَةُ فِي الْأَيْمَانِ شَرْطٌ مُعْتَبَرٌ ؛ وَلِأَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ لُبْسِ الْقَمِيصِ ، وَالسَّرَاوِيلِ ، وَلَوِ ارْتَدَى بِالْقَمِيصِ وَاتَّزَرَ بِالسَّرَاوِيلِ ، جَازَ وَلَمْ يُكَفِّرْ . وَتَأَوَّلَ قَائِلُ هَذَا الْوَجْهِ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ ، فَهَذَا كُلُّهُ لَيْسَ بِحِنْثٍ عَلَى النَّفْيِ أَيْ لَا يَحْنَثُ بِهِ ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ لِكَلَامِهِ زَلَلٌ مِنْ قَائِلِهِ ؛ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ بَعْدَهُ ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ لَهُ نِيَّةٌ وَلَا نَحْسُبُهُ إِلَّا عَلَى نِيَّتِهِ ، وَهَذَا اسْتِثْنَاءٌ ، وَحُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ ضِدُّ حُكْمِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ ، فَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ نَفْيٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعُودَ إِلَى نَفْيٍ ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُسْتَثْنَى النَّفْيُ مِنَ الْإِثْبَاتِ ، وَيُسْتَثْنَى الْإِثْبَاتُ مِنَ النَّفْيِ ، فَدَلَّ عَلَى فَسَادِ هَذَا التَّأْوِيلِ ، وَإِنْ كَانَ لِمَا قَالَهُ مِنَ الْحُكْمِ وَجْهٌ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ - أَنَّهُ إِنْ كَانَتْ يَمِينُهُ عَلَى الثَّوْبِ حَنِثَ بِلُبْسِهِ ، عَلَى جَمِيعِ الْأَحْوَالِ ، فَإِنِ اشْتَمَلَ بِهِ أَوِ ارْتَدَى أَوْ تَعَمَّمَ ، أَوْ قَطَعَهُ قَمِيصًا ، أَوْ سَرَاوِيلَ حَنِثَ ، وَإِنْ كَانَتْ يَمِينُهُ عَلَى قَمِيصٍ لَمْ يَحْنَثْ إِذَا غَيَّرَهُ فَجَعَلَهُ سَرَاوِيلَ ، أَوِ ارْتَدَى بِهِ ، وَلَمْ يَتَقَمَّصْ ، وَفَرَّقَ بَيْنَ اسْمِ الثَّوْبِ وَالْقَمِيصِ بِأَنَّ اسْمَ الثَّوْبِ عَامٌّ ، يَنْطَلِقُ عَلَى كُلِّ مَلْبُوسٍ ، وَلَا يَزُولُ عَنْهُ اسْمُ الثَّوْبِ وَإِنْ تَغَيَّرَتْ أَوْصَافُهُ ، وَاسْمَ الْقَمِيصِ خَاصٌّ ، يَزُولُ عَنْهُ اسْمُ الْقَمِيصِ ، إِذَا غَيَّرَهُ فَجُعِلَ سَرَاوِيلَ ، أَوْ يَخْرُجُ عَنِ الْعُرْفِ ، إِذَا لُبِسَ عَلَى غَيْرِ الْمَعْهُودِ مِنَ الِارْتِدَاءِ بِهِ ، فَلَمْ يَحْنَثْ بِتَغْيِيرِ لُبْسِهِ ، وَلَا بِتَخْيِيرِ قَطْعِهِ ، لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِبَقَاءِ الِاسْمِ عَلَى الثَّوْبِ إِذَا غُيِّرَ لِعُمُومِهِ وَزَوَالِهِ عَنِ الْقَمِيصِ ، إِذَا غُيِّرَ

لِخُصُوصِهِ ، وَمَنْ حَكَى عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ غَيْرَ هَذَا حَرَّفَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ شَرْحَهُ دَالٌّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبَ رَجُلٍ مَنَّ عَلَيْهِ ، فَوَهَبَهُ لَهُ ، فَبَاعَهُ وَاشْتَرَى بِثَمَنِهِ ثَوْبًا لَبِسَهُ ، لَمْ يَحْنَثْ ، إِلَّا أَنْ يَلْبَسَ الَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ ، وَإِنَّمَا أَنْظُرُ إِلَى مَخْرَجِ الْيَمِينِ ، ثُمَّ أُحْنِثُ صَاحِبَهَا أَوْ أُبِرُّهُ ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَسْبَابَ مُتَقَدِّمَةٌ وَالْأَيْمَانَ بَعْدَهَا مُحَدَثَةٌ قَدْ يَخْرُجُ عَلَى مِثَالِهَا وَعَلَى خِلَافِهَا ، فَأُحْنِثُهُ عَلَى مَخْرَجِ يَمِينِهِ : أَرَأَيْتَ رَجُلًا لَوْ كَانَ قَالَ : وَهَبْتُ لَهُ مَالِي ، فَحَلَفَ لِيَضْرِبَنَّهُ ، أَمَا يَحْنَثُ إِنْ لَمْ يَضْرِبْهُ ؟ وَلَيْسَ يُشْبِهُ سَبَبَ مَا قَالَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ عَقْدَ الْأَيْمَانِ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا ابْتَدَأَ الْحَالِفُ عَقْدَ يَمِينِهِ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَقَدَّمَهَا سَبَبٌ يَدْعُو إِلَيْهِ ، فَيَقُولُ مُبْتَدِئًا " وَاللَّهِ لَا كَلَّمْتُ زَيْدًا " فَلَا يَحْنَثُ بِغَيْرِ كَلَامِهِ ، أَوْ يَقُولُ : لَا أَكَلْتُ طَعَامَهُ . فَلَا يَحْنَثُ بِغَيْرِ أَكْلِ طَعَامِهِ ، أَوْ لَا لَبِسْتُ لَهُ ثَوْبًا ، فَلَا يَحْنَثُ بِغَيْرِ لُبْسِ ثِيَابِهِ ، أَوْ لَا رَكِبْتُ لَهُ دَابَّةً ، فَلَا يَحْنَثُ بِغَيْرِ رُكُوبِ دَوَابِّهِ . وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ لَمْ يُخَالِفْنَا مَالِكٌ فِي شَيْءٍ . وَتَكُونُ الْيَمِينُ مَقْصُورَةً عَلَى مَا اقْتَضَاهُ الِاسْمُ مِنْ خُصُوصٍ وَعُمُومٍ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَتَقَدَّمَ الْيَمِينَ أَسْبَابٌ دَعَتْ إِلَيْهَا ، مِثْلَ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِ رَجُلٌ بِإِحْسَانٍ أَوْ صِلَةٍ إِلَيْهِ ، أَوْ بِمَالٍ أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ ، فَبَعَثَهُ ذَلِكَ عَلَى الْيَمِينِ فَيَقُولُ : وَاللَّهِ لَا لَبِسْتُ لَكَ ثَوْبًا ، وَلَا شَرِبْتُ لَكَ مَاءً مِنْ عَطَشٍ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذَا ، هَلْ تَكُونُ الْيَمِينُ مَحْمُولَةً عَلَى السَّبَبِ الْمُتَقَدِّمِ أَوْ مَقْصُورَةً عَلَى الْعَقْدِ الْمُتَأَخِّرِ ؟ فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهَا مَقْصُورَةٌ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ لَفْظُ الْحَالِفِ فِي عُقُودِهَا ، وَلَا اعْتِبَارَ بِمَا تَقَدَّمَهُ مِنْ سَبَبِهَا ، فَإِذَا حَلَفَ لَا يَلْبَسُ لَهُ ثَوْبًا لَمْ يَحْنَثْ بِرُكُوبِ دَوَابِّهِ ، وَلَا بِأَكْلِ طَعَامِهِ . وَلَا بِدُخُولِ دَارِهِ . وَإِذَا حَلَفَ لَا شَرِبْتُ لَكَ مِنْ عَطَشٍ لَمْ يَحْنَثْ بِشُرْبِ غَيْرِ الْمَاءِ مِنَ الشَّرَابِ وَلَا بِلُبْسِ الثِّيَابِ وَلَا بِرُكُوبِ الدَّوَابِّ ، وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - : إِنَّ يَمِينَهُ مَحْمُولَةٌ عَلَى السَّبَبِ الدَّاعِي إِلَيْهَا ، فَإِذَا كَانَ سَبَبُهَا الْمِنَّةَ عَامَّةً ، حَنِثَ بِكُلِّ نَفْعٍ عَادَ إِلَيْهِ . فَإِنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ لَهُ ثَوْبًا حَنِثَ بِأَكْلِ طَعَامِهِ وَرُكُوبِ دَوَابِّهِ ، وَسُكْنِ دَارِهِ ، وَلَوْ حَلَفَ لَا شَرِبْتُ لَكَ مَاءً مِنْ عَطَشٍ حَنِثَ بِكُلِّ أَقْوَالِهِ ، وَحَنِثَ إِنِ اسْتَظَلَّ بِجِدَارِ دَارِهِ اعْتِبَارًا بِعُمُومِ السَّبَبِ ، وَإِلْغَاءِ الْخُصُوصِ فِي الْيَمِينِ اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا جَازَ فِي الْأَيْمَانِ تَخْصِيصُ عُمُومِهَا بِالْعُرْفِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهَا بَعْضُ مَا انْطَلَقَ عَلَيْهِ الِاسْمُ جَازَ أَنْ يَتَجَاوَزَ خُصُوصُهَا بِالْعُرْفِ إِلَى غَيْرِ مَا انْطَلَقَ عَلَيْهِ الِاسْمُ .

وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا جَازَ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ فِي قَتْلِ الْمُشْرِكِينَ مَعَ وُجُودِ الِاسْمِ ، وَجَازَ تَجَاوُزُ النَّصِّ فِي ثُبُوتِ الرِّبَا فِي الْبُرِّ أَنَّ مَا لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْبُرِّ وَجَبَ اعْتِبَارُ مِثْلِهِ فِي الْأَيْمَانِ ، فَيَخُصُّ عُمُومَهَا بِالْعُرْفِ تَارَةً مَعَ وُجُودِ الِاسْمِ ، وَيَتَخَطَّاهُ بِالْعُرْفِ تَارَةً مَعَ عَدَمِ الِاسْمِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى اعْتِبَارِ الِاسْمِ وَإِسْقَاطِ السَّبَبِ هُوَ أَنَّ السَّبَبَ قَدْ يَتَجَرَّدُ عَنِ الْيَمِينِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ ، وَقَدْ تَنْفَرِدُ الْيَمِينُ عَنْ سَبَبٍ فَيَتَعَلَّقُ بِهَا الْحُكْمُ ، فَوَجَبَ إِذَا اجْتَمَعَا وَهُمَا مُخْتَلِفَانِ أَنْ يَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِالْيَمِينِ دُونَ السَّبَبِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهَا : لِقُوَّةِ الْيَمِينِ عَلَى السَّبَبِ . وَالثَّانِي : لِحُدُوثِ الْيَمِينِ وَتَقَدُّمِ السَّبَبِ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ [ الْمَائِدَةِ : 89 ] ؛ وَلِأَنَّ مَا لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ حَقِيقَةُ الِاسْمِ الْمُظْهَرِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَيْمَانِ مُعْتَبَرًا ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ : وَاللَّهِ لَا ، وَقَطَعَ كَلَامَهُ ، وَقَالَ : أَرَدْتُ : لَا كَلَّمْتُ زَيْدًا ، لَمْ تَنْعَقِدْ يَمِينُهُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ كَلَامِهِ ، وَإِنْ أَرَادَهُ بِقَلْبِهِ وَقَرَنَهُ بِيَمِينِهِ فَلِأَنْ لَا تَنْعَقِدَ عَلَى السَّبَبِ الَّذِي يَقْتَرِنُ بِالْيَمِينِ وَلَمْ يَعْتَقِدْ بِالْقَلْبِ أَوْلَى ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّمَا أَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ وَيَتَوَلَّى اللَّهُ السَّرَائِرَ . وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى إِلْغَاءِ السَّبَبِ بِأَنَّ رَجُلًا لَوْ وَهَبَ لِرَجُلٍ مَالًا فَحَلَفَ الْمَوْهُوبُ لَهُ لِيَضْرِبَنَّ الْوَاهِبَ ، حَنِثَ إِنْ لَمْ يَضْرِبْهُ ، وَإِنْ كَانَ يَمِينُهُ مُخَالِفَةً لِمَا تَقَدَّمَهَا مِنَ السَّبَبِ ، وَقَدْ كَانَ يَلْزَمُ مِنَ اعْتِبَارِ الْأَسْبَابِ أَنْ لَا يُحَنِّثَهُ فِيهَا وَإِنْ لَمْ نَقُلْهُ فَدَلَّ عَلَى فَسَادِ اعْتِبَارِهِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ فِي الْأَيْمَانِ تَخْصِيصُ عُمُومِهَا بِالْعُرْفِ جَازَ تَخَطِّي خُصُوصِهَا بِالْعُرْفِ ، فَهُوَ أَنَّ الْعُرْفَ مِنْ تَخْصِيصِهَا مُقَارَنٌ بِعَقْدِهَا ، فَجَازَ اعْتِبَارُهُ ، وَالْعُرْفُ فِي تَخَطِّي خُصُوصِهَا مُفَارِقٌ فَلَمْ يَجُزِ اعْتِبَارُهُ ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ مَعَ وُجُودِ الِاسْمِ ، وَجَازَ تَجَاوُزُ النَّصِّ فِي ثُبُوتِ الرِّبَا فِي الْبُرِّ إِلَى مَا لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْبُرِّ كَذَلِكَ فِي الْأَيْمَانِ ، فَهُوَ أَنَّ أَحْكَامَ الشَّرْعِ يُجْمَعُ فِيهَا بَيْنَ اعْتِبَارِ الْأَسَامِي وَالْمَعَانِي ، وَأَحْكَامَ الْأَيْمَانِ مُعْتَبَرَةٌ بِالْأَسَامِي دُونَ الْمَعَانِي ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ دَعَتْ فِي الْمَسْكُوتِ عَنْهُ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ إِلَى اعْتِبَارِ الْمَعَانِي وَتَجَاوُزِ الْأَسَامِي ، وَلَمْ تَدْعُ الضَّرُورَةُ فِي الْأَيْمَانِ إِلَى اعْتِبَارِ الْمَعَانِي ، فَوَقَفَتْ عَلَى اعْتِبَارِ الْأَسَامِي ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَدْخُلَ بَيْتَ فُلَانٍ فَدَخَلَ بَيْتًا يَسْكُنُهُ فُلَانٌ بِكِرَاءٍ ، لَمْ يَحْنَثْ ، إِلَّا بِأَنْ يَكُونَ نَوَى مَسْكَنَ فُلَانٍ ، فَيَحْنَثَ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا إِذَا قَالَ : وَاللَّهِ لَا دَخَلْتُ مَسْكَنَ زَيْدٍ ، فَدَخَلَ دَارًا يَسْكُنُهَا زَيْدٌ بِمِلْكٍ أَوْ إِجَارَةٍ أَوْ غَصْبٍ ، حَنِثَ : لِأَنَّهَا مَسْكَنٌ لَهُ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ زَيْدٍ ، فَدَخَلَ دَارًا يَمْلِكُهَا زَيْدٌ حَنِثَ . سَوَاءٌ كَانَ يَسْكُنُهَا أَوْ لَا يَسْكُنُهَا . وَلَوْ كَانَ زَيْدٌ يَمْلِكُ نِصْفَهَا أَوْ أَكْثَرَهَا لَمْ يَحْنَثْ ، وَلَوْ دَخَلَ دَارًا يَسْكُنُهَا زَيْدٌ بِإِجَارَةٍ ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُهَا لَمْ يَحْنَثْ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ يَحْنَثُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ [ الْأَنْفَالِ : 5 ] ، وَكَانَ قَدْ أَخْرَجَهُ مِنْ بَيْتِ خَدِيجَةَ : فَأَضَافَ الْبَيْتَ إِلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْهُ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ سَاكِنَهُ . وَقَالَ تَعَالَى : وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [ الطَّلَاقِ : 1 ] أَيْ مِنْ بُيُوتِ أَزْوَاجِهِنَّ ، فَأَضَافَهَا إِلَيْهِنَّ بِسُكْنَاهُنَّ : لِأَنَّ مِلْكَهَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ بِالْفَاحِشَةِ الْمُبَيِّنَةِ وَلَا بِغَيْرِهَا : وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْإِذْنُ فِي دُخُولِهَا مَقْصُورًا عَلَيْهِ دُونَ مَالِكِهَا صَارَ بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ أَحَقَّ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بِالْحِنْثِ أَلْزَمَ . وَدَلِيلُنَا أَنَّ إِضَافَةَ الْأَمْلَاكِ بِلَامِ التَّمْلِيكِ تَقْتَضِي إِضَافَةَ الْمِلْكِ لِلرِّقَابِ دُونَ الْمَنَافِعِ أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ : هَذِهِ الدَّارُ لِزَيْدٍ كَانَ هَذَا إِقْرَارًا مِنْهُ لَهُ بِالْمِلْكِ دُونَ الْمَنْفَعَةِ ، فَلَوْ قَالَ : أَرَدْتُ أَنَّهُ مَالِكٌ لِمَنَافِعِهَا لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ ، فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الْإِقْرَارِ مُوجِبًا لِلْمِلْكِ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَيْمَانِ مَحْمُولًا عَلَى الْمِلْكِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ سَكَنَ زَيْدٌ دَارَ عَمْرٍو ، فَحَلَفَ رَجُلٌ أَلَّا يَدْخُلَ دَارَ زَيْدٍ وَحَلَفَ آخَرُ لَا يَدْخُلُ دَارَ عَمْرٍو ، ثُمَّ دَخَلَهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْحَالِفَيْنِ ، قَالُوا : يَحْنَثَانِ جَمِيعًا ، فَجَعَلُوهَا كُلَّهَا دَارَ زَيْدٍ ، وَجَعَلُوهَا كُلَّهَا دَارَ عَمْرٍو ، وَمِنَ الْمُسْتَحِيلِ أَنْ يَكُونَ كُلُّ الدَّارِ لِزَيْدٍ وَكُلُّهَا لِعَمْرٍو ، فَوَجَبَ أَنْ تُضَافَ إِلَى أَحَقِّهِمَا بِهَا وَالْمَالِكُ أَحَقُّ بِهَا مِنَ السَّاكِنِ ؛ لِأَنَّ السَّاكِنَ لَوْ حَلَفَ أَنَّ الدَّارَ لَهُ ، حَنِثَ ، وَالْمَالِكَ إِنْ حَلَفَ أَنَّ الدَّارَ لَهُ ، لَمْ يَحْنَثْ . فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحَانِثُ مِنَ الْحَالِفَيْنِ مَنِ اخْتَصَّ بِالْمِلْكِ دُونَ السَّاكِنِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْآيَتَيْنِ فِي إِضَافَةِ الدَّارِ إِلَى سَاكِنِهَا ، فَهُوَ أَنَّهَا إِضَافَةُ مَجَازٍ لَا حَقِيقَةٍ كَمَا يُقَالُ : مَالُ الْعَبْدِ وَسَرْجُ الدَّابَّةِ ، وَالْأَيْمَانُ مَحْمُولَةٌ عَلَى حَقَائِقِ الْأَسْمَاءِ دُونَ مَجَازِهَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْإِذْنِ ، فَهُوَ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْإِذْنِ لَا يُغَيِّرُ حُكْمَ الْمِلْكِ ، كَمَا لَوْ حَلَفَ الْمَالِكُ : لَا دَخَلْتُ دَارِي ، فَدَخَلَ دَارًا قَدْ أَجَّرَهَا ، حَنِثَ ، وَإِنْ كَانَ الْإِذْنُ فِي دُخُولِهَا حَقًّا لِغَيْرِهِ ، فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي الْحُكْمِ مَعَ عَدَمِ النِّيَّةِ ، فَأَمَّا إِنْ كَانَتْ لَهُ نِيَّةٌ تُخَالِفُ هَذَا الْإِطْلَاقَ حُمِلَ فِي الْحِنْثِ عَلَى نِيَّتِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ حُمِلَ فَأُدْخِلَ فِيهِ لَمْ يَحْنَثْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ تَرَاخَى أَوْ لَمْ يَتَرَاخَ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا إِذَا حَلَفَ أَنْ لَا يَدْخُلَ دَارًا ، فَدَخَلَهَا مُخْتَارًا ذَاكِرًا ، حَنِثَ بِدُخُولِهَا مَاشِيًا كَانَ أَوْ رَاكِبًا : لِأَنَّهُ دَخَلَ إِلَيْهَا حَقِيقَةً ، وَلَوْ دَخَلَهَا نَاسِيًا كَانَ عَلَى قَوْلَيْنِ نَذْكُرُهُمَا مِنْ بَعْدُ ، وَلَوْ حُمِلَ فَأُدْخِلَ إِلَيْهَا مَحْمُولًا فَلَا يَخْلُو فِيهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ ، فَإِنْ كَانَ قَدْ أَمَرَ بِحَمْلِهِ فَعَلَى الدُّخُولِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِهِ فَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ عَنْ أَمْرِهِ ، فَأَشْبَهَ دُخُولَهُ إِلَيْهَا رَاكِبًا . فَإِنْ قِيلَ : لَوْ حَلَفَ لَا بَاعَ ، وَلَا ضَرَبَ فَأَمَرَ غَيْرَهُ بِالضَّرْبِ وَالْبَيْعِ لَمْ يَحْنَثْ . فَهَلَّا كَانَتْ فِي الْأَمْرِ بِالدُّخُولِ كَذَلِكَ . قِيلَ : لِأَنَّ الْبَيْعَ وَالضَّرْبَ ، وَإِنْ كَانَ عَنْ أَمْرِهِ ، فَالْفِعْلُ مَوْجُودٌ مِنْ غَيْرِهِ ، فَكَانَ مِثَالُهُ مِنْ دُخُولِ الدَّارِ أَنْ يَأْمُرَ غَيْرَهُ بِالدُّخُولِ فَلَا يَحْنَثُ . فَهَذَا إِذَا دَخَلَ الدَّارَ بِأَمْرِهِ سَوَاءٌ أُدْخِلَ عَقِيبَ الْأَمْرِ أَوْ بَعْدَ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ ، تَسْوِيَةً بَيْنَ الْفَوْرِ وَالتَّرَاخِي ، لِإِضَافَتِهِ إِلَى أَمْرِهِ فِي الْحَالَيْنِ ، فَأَمَّا إِذَا حُمِلَ وَأُدْخِلَ الدَّارَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ الدار التي حلف ألا يدخلها لَمْ يَحْنَثْ ، اسْتَصْعَبَ أَوْ تَرَاخَى ، وَقَالَ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إِنِ اسْتَصْعَبَ عَلَى الْحَامِلِ لَمْ يَحْنَثْ ، وَإِنْ تَرَاخَى حَنِثَ لِأَنَّهُ مَعَ الِاسْتِصْعَابِ كَارِهٌ وَمَعَ التَّرَاخِي مُخْتَارٌ ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ فَاعِلٍ وَلَا آمِرٍ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُضَافَ إِلَيْهِ مَا لَمْ يَفْعَلْهُ ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يُضَافَ إِلَيْهِ لَاسْتَوَى حُكْمُهُ فِي حَالَتَيِ الِاسْتِصْعَابِ وَالتَّرَاخِي ؛ لِأَنَّ يَمِينَهُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْفِعْلِ دُونَ الِاخْتِيَارِ وَالْكَرَاهِيَةِ ، فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ : " تَرَاخَى أَوْ لَمْ يَتَرَاخَ " فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الرَّدِّ عَلَى مَالِكٍ فِي سُقُوطِ الْحِنْثِ مَعَ الِاسْتِصْعَابِ وَالتَّرَاخِي ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْأَمْرِ فِي وُقُوعِ الْحِنْثِ عَلَى الْفَوْرِ وَالتَّرَاخِي ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ إِذَا حُمِلَ نُظِرَ ، فَإِنْ بَادَرَ بِالْخُرُوجِ مِنْهُ عَقِبَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْخُرُوجِ فَهُوَ عَلَى بِرِّهِ ، وَإِنْ مَكَثَ بَعْدَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْخُرُوجِ ، فَفِي حِنْثِهِ قَوْلَانِ عَلَى مَا بَيَّنَاهُ مِنْ قَبْلُ ، هَلْ يَكُونُ اسْتِدَامَةُ الدُّخُولِ جَارِيًا مَجْرَى ابْتِدَائِهِ أَمْ لَا ؟ وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا عَلَى أَنَّهُ يَحْنَثُ بِهِ ، فَكَانَ أَوْلَاهُمَا بِمَذْهَبِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَلَوْ قَالَ : نَوَيْتُ شَهْرًا في الدار التي حلف ألا يدخلها لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ فِي الْحُكْمِ إِنْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ ، وَدِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْيَمِينُ الْمُطْلَقَةُ أَنْ لَا يَدْخُلَ الدَّارَ فَمَحْمُولَةٌ عَلَى التَّأْبِيدِ ، فَإِنْ قَيَّدَهَا نُطْقًا فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ دُخُولِهَا شَهْرًا لَمْ يَحْنَثْ بِدُخُولِهَا بَعْدَ انْقِضَائِهِ ، وَلَوْ نَوَى مَعَ إِطْلَاقِ يَمِينِهِ أَنْ لَا يَدْخُلَهَا شَهْرًا لَمْ تَخْلُ الْيَمِينُ مِنْ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ آدَمِيٍّ أَوْ لَا يَتَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ آدَمِيٍّ ، وَهِيَ الْيَمِينُ بِاللَّهِ تَعَالَى فِي غَيْرِ الْإِيلَاءِ ، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى نِيَّتِهِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ لِاخْتِصَاصِهَا بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَحْضَةِ ، فَكَانَتْ مَوْكُولَةً إِلَى دِيَانَتِهِ ، وَإِنْ تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ آدَمِيٍّ كَالْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَبِاللَّهِ فِي الْإِيلَاءِ مِنَ الزَّوْجَةِ حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِ

الْحُكْمِ عِنْدَ نِزَاعِهِ عَلَى مَا اقْتَضَاهُ ظَاهِرُ لَفْظِهِ مِنَ التَّأْبِيدِ دُونَ مَا نَوَاهُ مِنَ التَّقْيِيدِ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ مَحْمُولٌ عَلَى الظَّاهِرِ فَيَقَعُ الْحِنْثُ بِوُجُودِ ذَلِكَ عَلَى التَّأْبِيدِ ، وَهُوَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْبَاطِنِ مَحْمُولٌ ، عَلَى مَا نَوَى مِنَ التَّقْيِيدِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ عَلَى فُلَانٍ بَيْتًا فَدَخَلَ عَلَى رَجُلٍ غَيْرِهِ بَيْتًا ، فَوَجَدَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ فِيهِ لَمْ يَحْنَثْ : لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ عَلَى ذَلِكَ ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ فِي الْبَيْتِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ حَنِثَ فِي قَوْلِ مَنْ يُحَنِّثُ عَلَى غَيْرِ النِّيَةِ وَلَا يَرْفَعُ الْخَطَأَ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : قَدْ سَوَّى الشَّافِعِيُّ فِي الْحِنْثِ بَيْنَ مَنْ حَلَفَ فَفَعَلَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا أَنْ يَقُولَ : وَاللَّهِ لَا دَخَلْتُ عَلَى زَيْدٍ بَيْتًا فَيَدْخُلُ عَلَيْهِ ، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ فِي بَيْتِهِ الَّذِي هُوَ سَاكِنُهُ إِمَّا بِمِلْكٍ أَوْ إِجَارَةٍ أَوْ غَصْبٍ ، فَإِنْ كَانَ ذَاكِرًا لِيَمِينِهِ حَنِثَ ، وَإِنْ كَانَ نَاسِيًا فَفِي حِنْثِهِ قَوْلَانِ ، وَكَذَلِكَ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ مُكْرَهًا عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ تَوْجِيهِ الْقَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَحْنَثُ بِنَفْسِ الدُّخُولِ . وَالثَّانِي : لَا يَحْنَثُ بِنَفْسِ الدُّخُولِ ، وَلَا بِاسْتِدَامَتِهِ مَعَ تَعَذُّرِ الْخُرُوجِ ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ الْخُرُوجُ فَأَقَامَ وَلَمْ يَخْرُجْ حَنِثَ بِاسْتِدَامَةِ الدُّخُولِ قَوْلًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وُجِدَ مِنْهُ الْعَقْلُ وَتَجَدَّدَ مِنْهُ الذِّكْرُ فَصَارَ كَالْعَمْدِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ فِي مَسْجِدٍ رجل حلف ألا يدخل عليه بيتا فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ اسْمَ الْبَيْتِ يَنْطَلِقُ عَلَى الْمَسْجِدِ مَجَازًا ، وَالْحَقِيقَةُ أَنْ يُسَمَّى مَسْجِدًا ، فَحُمِلَ عَلَى الْحَقِيقَةِ دُونَ الْمَجَازِ ، وَعِنْدَ مَالِكٍ يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَبِرُ الْأَسْبَابَ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَدْخُلَ عَلَى عَمْرٍو بَيْتًا ، فَيَكُونَ زَيْدٌ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ عِنْدَهُ فِي بَيْتِهِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ فِي حِنْثِهِ بِهَذَا الدُّخُولِ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : - وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ - أَنَّهُ يَحْنَثُ عَلِمَ أَنَّهُ بِالْبَيْتِ أَوْ لَمْ يَعْلَمِ اعْتِبَارًا بِالْفِعْلِ دُونَ الْقَصْدِ ، وَهُوَ قَوْلُ مَنْ حَنَّثَ الْعَامِدَ وَالنَّاسِيَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ اخْتِيَارُ الرَّبِيعِ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ عَلِمَ أَنَّهُ فِي الْبَيْتِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ ؛ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ عَلَى غَيْرِهِ اعْتِبَارًا بِالْمَقَاصِدِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ يَحْنَثُ إِنْ عَلِمَ أَنَّهُ فِي الْبَيْتِ

وَلَا يَحْنَثُ إِنْ لَمْ يَعْلَمْ ؛ لِأَنَّهُ مَعَ الْعِلْمِ قَاصِدٌ وَمَعَ الْجَهْلِ غَيْرُ قَاصِدٍ ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ . وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ : وَهُوَ مَذْهَبُ عَطَاءٍ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ أَوْ عَلِمَ فَاسْتَثْنَاهُ بِقَلْبِهِ لَمْ يَحْنَثْ ، وَإِنْ عَلِمَ وَلَمْ يَسْتَثْنِهِ ، حَنِثَ ، تَخْرِيجًا مِمَّنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ زَيْدًا ، فَسَلَّمَ عَلَى الْجَمَاعَةِ وَهُوَ فِيهِمْ ، وَاسْتَثْنَاهُ بِنِيَّتِهِ لَمْ يَحْنَثْ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ شَرْحِ الْمَذْهَبِ فِيهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ تَعْلِيلُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ هَذِهِ الْأَوْجُهِ الْأَرْبَعَةِ ، فَإِنْ قِيلَ : بِوُقُوعِ الْحِنْثِ بِهَذَا الدُّخُولِ حَنِثَ إِذَا جَمَعَهُمَا بَيْتٌ وَاحِدٌ ، فَإِنْ كَانَا فِي بَيْتَيْنِ مِنْ دَارٍ وَاحِدَةٍ من حلف ألا يدخل عليه بيتا لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ دَاخِلًا عَلَيْهِ بَيْتًا ، وَإِنْ جَمَعَتْهُمَا دَارٌ وَاحِدَةٌ ، فَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً لَا يُفَرِّقُ الْمُتَبَايِعَانِ فِيهَا حَنِثَ ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْبَيْتِ مُنْطَلِقٌ عَلَى الدَّارِ عُرْفًا ؛ لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْمَبِيتِ ، وَإِنْ كَانَتِ الدَّارُ كَبِيرَةً ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَكَانٍ يَفْتَرِقُ الْمُتَبَايِعَانِ مِنْهُ لَمْ يَحْنَثْ ، وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ يَرَى أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ حَتَّى يَدْخُلَ عَلَيْهِ ، وَهُوَ فِي بَيْتٍ مِنَ الدَّارِ ، فَإِنْ دَخَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي صَحْنِهَا أَوْ صُفَّتِهَا لَمْ يَحْنَثِ اعْتِبَارًا بِحَقِيقَةِ اسْمِ الْبَيْتِ أَنَّهُ مُنْطَلِقٌ عَلَى مَا تَمَيَّزَ مِنَ الدَّارِ بِهَذَا الِاسْمِ كَمَا لَوْ قَالَ : وَاللَّهِ لَا دَخَلْتُ بَيْتًا فَدَخَلَ صَحْنَ الدَّارِ أَوْ صُفَّتَهَا ، أَوِ اسْتَطْرَقَ دِهْلِيزَهَا لَمْ يَحْنَثْ ، وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ يَمْنَعُ مِنَ التَّسَاوِي ، وَإِنْ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يُسَوِّي بَيْنَهُمَا فِي الْحِنْثِ كَمَا سَوَّى أَبُو الْعَبَّاسِ بَيْنَهُمَا فِي الْبِرِّ . وَإِنْ قِيلَ : بِأَنَّ الْحِنْثَ لَا يَقَعُ بِهَذَا الدُّخُولِ ، فَإِنْ بَادَرَ بِالْخُرُوجِ سَاعَةَ دُخُولِهِ أَوْ بَادَرَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ بِالْخُرُوجِ لَمْ يَحْنَثْ ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فِي الْحَالِ فَفِي حِنْثِهِ قَوْلَانِ ، فَمَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارًا وَهُوَ دَاخِلُهَا ، هَلْ يَحْنَثُ بِالِاسْتِدَامَةِ كَمَا يَحْنَثُ بِالِابْتِدَاءِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَحْنَثُ هَذَا إِذَا جَعَلَ الِاسْتِدَامَةَ كَالِابْتِدَاءِ . وَالثَّانِي : لَا يَحْنَثُ إِذَا فَرَّقَ بَيْنَ الِاسْتِدَامَةِ وَالِابْتِدَاءِ ، فَلَوْ دَخَلَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ بَيْتًا عَلَى الْحَالِفِ فَإِنْ بَادَرَ الْحَالِفُ بِالْخُرُوجِ مِنْهُ لَمْ يَحْنَثْ ، وَإِنْ أَقَامَ فِيهِ ، فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ اسْتِدَامَةَ الدُّخُولِ لَا تَكُونُ دُخُولًا لَمْ يَحْنَثِ الْحَالِفُ هَاهُنَا . وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ اسْتِدَامَةَ الدُّخُولِ تَكُونُ كَابْتِدَائِهِ ، فَفِي حِنْثِ الْحَالِفِ هَاهُنَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَحْنَثُ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ كَالدَّاخِلِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ مَدْخُولٌ عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ بِدَاخِلٍ عَلَى الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَلَوْ حَلَفَ لَيَأْكُلَنَّ هَذَا الطَّعَامَ غَدًا ، فَهَلَكَ قَبْلَ غَدٍ ، لَمْ يَحْنَثْ لِإِكْرَاهٍ ، قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ : مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ

فَعَقَلْنَا أَنَّ قَوْلَ الْمُكْرَهِ كَمَا لَمْ يَكُنْ فِي الْحُكْمِ ، وَعَقَلْنَا أَنَّ الْإِكْرَاهَ هُوَ أَنْ يُغْلَبَ بِغَيْرِ فِعْلٍ مِنْهُ ، فَإِذَا تَلَفَ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ لَيَفْعَلَنَّ فِيهِ شَيْئًا بِغَيْرِ فِعْلٍ مِنْهُ ، فَهُوَ فِي أَكْثَرَ مِنَ الْإِكْرَاهِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَمُقَدِّمَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا فَفَعَلَهُ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا أَوْ مُكْرَهًا ، فَفِي حِنْثِهِ قَوْلَانِ : أْحَدُهُمَا : يَحْنَثُ بِهِ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يَحْنَثُ ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَالزُّهْرِيُّ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ . فَإِذَا قِيلَ : يَحْنَثُ ، فَدَلِيلُهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ [ الْمَائِدَةِ : 89 ] فَكَانَ عَقْدُهَا مُوجِبًا لِلْمُؤَاخَذَةِ بِالْكَفَّارَةِ عَلَى عُمُومِ الْأَحْوَالِ مِنْ عَمْدٍ وَخَطَأٍ وَعِلْمٍ وَجَهْلٍ وَاخْتِيَارٍ وَإِكْرَاهٍ وَلِأَنَّ إِطْلَاقَ عَقْدِهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِثْنَاءِ النِّسْيَانِ وَالْإِكْرَاهِ فِيهَا مُوجِبٌ لِحَمْلِهَا فِي الْحِنْثِ عَلَى إِطْلَاقِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا ، كَمَا أَنَّ تَقْيِيدَهَا مُوجِبٌ لِتَقْيِيدِ الْحِنْثِ فِيهَا اعْتِبَارًا بِالنُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ فِي حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى إِطْلَاقِهِ وَالْمُقَيَّدِ عَلَى تَقْيِيدِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ إِطْلَاقَ قَوْلِهِ تَعَالَى : لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [ الْمَائِدَةِ : 95 ] ، مُوجِبٌ لِلْجَزَاءِ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ ، وَإِطْلَاقَ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكَحُ مُوجِبٌ لِإِبْطَالِ النِّكَاحِ مَعَ الذِّكْرِ وَالنِّسْيَانِ ؛ وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ تَطْهِيرٌ فَأَشْبَهَتْ طَهَارَةَ الْحَدَثِ ، فَلَمَّا اسْتَوَى حُكْمُ الْحَدَثِ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ ، وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُ الْحِنْثِ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ ، وَإِذَا قِيلَ : لَا يَحْنَثُ ، فَدَلِيلُهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ [ الْأَحْزَابِ : 5 ] ، فَكَانَ رَفْعُ الْجَنَاحِ فِي الْخَطَأِ مُوجِبًا لِإِسْقَاطِ الْكَفَّارَةِ عَنِ الْخَاطِئِ ، وَبِمَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَنِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ فَكَانَ حُكْمُ الْأَيْمَانِ دَاخِلًا فِي عُمُومِ هَذَا التَّجَاوُزِ ؛ وَلِأَنَّ مُطْلَقَ النَّوَاهِي فِي الشَّرْعِ مَحْمُولٌ عَلَى الْعَمْدِ دُونَ السَّهْوِ ، كَالْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ وَالْأَكْلِ فِي الصِّيَامِ ، كَذَلِكَ فِي الْأَيْمَانِ ؛ وَلِأَنَّ عَقْدَ الْأَيْمَانِ لَمَّا لَمْ يَلْزَمْ إِلَّا بِالْقَصْدِ وَالِاخْتِيَارِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَلُّهَا بِالْحِنْثِ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ قَصْدٍ وَاخْتِيَارٍ فَهَذَا تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ ، وَالْبَغْدَادِيُّونَ مِنْ أَصْحَابِنَا يَذْهَبُونَ إِلَى تَصْحِيحِ الْقَوْلِ بِأَنْ لَا حِنْثَ عَلَى النَّاسِي ، لِمَا يَرْتَكِبُونَهُ مِنْ خِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَمَّا الْبَصْرِيُّونَ فَقَالَ لِي أَبُو الْقَاسِمِ الصَّيْمَرِيُّ : مَا أَفْتَيْتُ فِي يَمِينِ النَّاسِي بِشَيْءٍ قَطُّ ، وَحَكَى عَنْ شَيْخِهِ أَبِي الْغِيَاضِ أَنَّهُ لَمْ يُفْتِ فِيهَا بِشَيْءٍ قَطُّ ، وَحَكَى أَبُو الْغِيَاضِ عَنْ شَيْخِهِ أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ لَمْ يُفْتِ فِيهَا بِشَيْءٍ قَطُّ ، فَاقْتَدَيْتُ بِهَذَا السَّلَفِ وَلَمْ أُفْتِ فِيهَا بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ التَّوَقِّي أَحْوَطُ مِنْ وَرَطَاتِ الْإِقْدَامِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا يَمِينُ الْمُكْرَهِ فَلَا تَنْعَقِدُ قَوْلًا وَاحِدًا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَنْعَقِدُ كَالْمُخْتَارِ ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ . وَدَلِيلُهُ فِي الْأَيْمَانِ مَا رُوِيَ أَنَّ الْيَمَانَ وَالِدَ حُذَيْفَةَ حَلَّفَهُ الْمُشْرِكُونَ أَنْ لَا يُعِيرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ ، فَقَالَ : " أَوْفِ بِعَهْدِكَ " فَسَوَّى بَيْنِ يَمِينِ الْمُكْرَهِ وَالْمُخْتَارِ ؛ وَلِأَنَّهَا يَمِينُ مُكَلَّفٍ فَانْعَقَدَتْ كَالْمُخْتَارِ . وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ مَكْحُولٍ ، عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ ، وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ ، قَالَا : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَيْسَ عَلَى مَقْهُورٍ يَمِينٌ ؛ وَلِأَنَّ مَا مَنَعَ ثُبُوتُ الْكُفْرِ مِنَ انْعِقَادِ الْيَمِينِ كَالْجُنُونِ ، وَأَمَّا يَمِينُ الْيَمَانِ فَحَلَفَ بِهَا مُخْتَارًا ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُشْرِكًا . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمُخْتَارِ ، فَلَا يَصِحُّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا ، كَمَا لَا يَصِحُّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْكُفْرِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا فِي هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ ، فَصُورَةُ مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ أَنْ يَحْلِفَ لَيَأْكُلَنَّ هَذَا الطَّعَامَ غَدًا ، أَوْ لَيَرْكَبَنَّ هَذِهِ الدَّابَّةَ غَدًا ، أَوْ لَيَلْبِسَنَّ هَذَا الثَّوْبَ غَدًا حكمه ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ فِي ذَلِكَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي وَقْتِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يُقَدِّمَهُ عَلَى وَقْتِهِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يُؤَخِّرَهُ عَنْ وَقْتِهِ . وَالرَّابِعُ : أَنْ يَفُوتَهُ فِعْلُهُ فِي وَقْتِهِ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي وَقْتِهِ ، وَهُوَ أَنْ يَأْكُلَ الطَّعَامَ فِي غَدِهِ ، وَيَرْكَبَ الدَّابَّةَ ، وَيَلْبَسَ فِيهِ الثَّوْبَ ، فَقَدْ بَرَّ فِي يَمِينِهِ إِذَا جَعَلَ ذَلِكَ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَغُرُوبِ الشَّمْسِ ؛ لِأَنَّ الْغَدَ هُوَ يَوْمٌ يَسْتَوْعِبُ مَا بَيْنَ طُلُوعِ فَجْرِهِ وَغُرُوبِ شَمْسِهِ ، وَلَيْسَ مَا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَبَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنَ الْغَدِ وَلَا هُمَا وَقْتَ الْبِرِّ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يُقَدِّمَ فِعْلَ ذَلِكَ قَبْلَ وَقْتِهِ ، فَهُوَ أَنْ يَأْكُلَ الطَّعَامَ فِي يَوْمِهِ ، وَيَرْكَبَ فِيهِ الدَّابَّةَ ، وَيَلْبَسَ فِيهِ الثَّوْبَ ، فَلَا يَبَرُّ بِذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ، وَيَحْنَثُ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى فِعْلِهِ فِيهِ . وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ : يَبَرُّ وَلَا يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ يَمِينِهِ أَنْ لَا يُؤَخِّرَ فِعْلَ ذَلِكَ عَنْ غَدِهِ ، وَهُوَ فِي التَّقْدِيمِ غَيْرُ مُؤَخِّرٍ لَهُ ، فَبَرَّ فِيهِ . وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ الْبِرَّ مُقَيَّدٌ بِزَمَانٍ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا فِيهِ كَالْمُقَيَّدِ بِالْمَكَانِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ تَقْدِيمُ الْمَكَانِ كَتَأْخِيرِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَقْدِيمُ الزَّمَانِ كَتَأْخِيرِهِ ، وَإِذَا لَمْ يَبَرَّ بِفِعْلِ

ذَلِكَ فِي يَوْمِهِ ، فَإِنْ كَانَ طَعَامًا قَدْ أَكَلَهُ حَنِثَ ، إِذْ لَا سَبِيلَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَهُ فِي غَدِهِ إِلَّا أَنَّ حِنْثَهُ لَا يَقَعُ إِلَّا فِي غَدِهِ ، وَهَلْ يَتَعَلَّقُ حِنْثُهُ بِطُلُوعِ فَجْرِهِ أَوْ بِغُرُوبِ شَمْسِهِ ، عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَحْنَثُ بِطُلُوعٍ فَجْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ وَقْتِ الْبِرِّ فِيمَا فَاتَ ، فَأَشْبَهَ الصَّلَاةَ الَّتِي يَكُونُ خُرُوجُ وَقْتِهَا دَلِيلًا عَلَى وُجُوبِهَا بِأَوَّلِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَحْنَثُ بِغُرُوبِ شَمْسِهِ لِبَقَاءِ زَمَانِ الْبِرِّ قَبْلَ الْغُرُوبِ ، فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حُكْمُ الْفَوَاتِ كَأَوَّلِهِ ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ دَابَّةً إِنْ رَكِبَهَا فِي غَدِهِ أَوْ ثَوْبًا يَلْبَسُهُ فِيهِ لَمْ يَحْنَثْ بِرُكُوبِ الدَّابَّةِ وَلُبْسِ الثَّوْبِ فِي يَوْمِهِ ، لِإِمْكَانِ ذَلِكَ فِي غَدِهِ ، فَإِنْ رَكِبَ وَلَيْسَ فِي غَدِهِ فِيمَا بَيْنَ طُلُوعِ فَجْرِهِ وَغُرُوبِ شَمْسِهِ بَرَّ فِي يَمِينِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ حَنِثَ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ وَجْهًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّ إِمْكَانَ الْفِعْلِ يَمْنَعُ مِنَ الْقَطْعِ بِالْحِنْثِ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ يُؤَخِّرَ فِعْلَ ذَلِكَ عَنْ وَقْتِهِ ، فَإِنْ أَخَّرَهُ عَامِدًا حَنِثَ ، وَإِنْ أَخَّرَهُ نَاسِيًا فَفِي حِنْثِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَحْنَثُ . وَالثَّانِي : لَا يَحْنَثُ ، وَلَا يَلْزَمُهُ فِعْلُهُ بَعْدَ فَوَاتِ وَقْتِهِ ، فَلَوْ أَكَلَ بَعْضَ الطَّعَامِ فِي يَوْمِهِ وَبَاقِيَهُ فِي غَدِهِ حَنِثَ ؛ لِأَنَّ إِكْمَالَ الْأَكْلِ فِي غَدِهِ شَرْطٌ فِي بِرِّهِ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ : وَهُوَ أَنْ يَفُوتَهُ فِعْلُ ذَلِكَ فِي وَقْتِهِ ، فَهَذَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَفُوتَ ذَلِكَ بِمَوْتِ الْحَالِفِ قَبْلَ الْغَدِ ، فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ لِزَوَالِ تَكْلِيفِهِ بِالْمَوْتِ . الضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَفُوتَهُ ذَلِكَ بِاسْتِهْلَاكِهِ لَهُ قَبْلَ غَدِهِ بِاخْتِيَارِهِ ، فَيَحْنَثُ فِي غَدِهِ قَوْلًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ قَادِرًا عَلَى فِعْلِهِ فِي الْغَدِ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ يَتْلَفَ قَبْلَ غَدِهِ بِفِعْلِ غَيْرِهِ ، فَفِي حِنْثِهِ قَوْلَانِ لِزَوَالِ قُدْرَتِهِ وَعَدَمِ مُكْنَتِهِ . وَالضَّرْبُ الرَّابِعُ : أَنْ يَفُوتَهُ فِعْلُهُ مَعَ بَقَاءِ ذَلِكَ وَوُجُودِهِ إِمَّا بِحَبْسٍ أَوْ إِكْرَاهٍ أَوْ مَرَضٍ ، فَيَكُونُ حِنْثُهُ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالْمُكْرَهِ ، فَأَمَّا إِنْ قَدَرَ عَلَى فِعْلِهِ فِي غَدِهِ فَلَمْ يَفْعَلْهُ مَعَ الْقُدْرَةِ حَتَّى تَلَفَ فِي بَقِيَّةِ غَدِهِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا ، هَلْ يَجْرِي عَلَى فَوَاتِهِ فِيهِ حُكْمُ الْمُخْتَارِ أَوْ حُكْمُ الْمُكْرَهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْمُخْتَارِ لِإِمْكَانِ فِعْلِهِ فِي وَقْتِهِ ، فَعَلَى هَذَا يَحْنَثُ قَوْلًا وَاحِدًا .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْمُكْرَهِ لِبَقَاءِ وَقْتِهِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ فِي حِنْثِهِ قَوْلَانِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ حَلَفَ لَيَقْضِيَهُ حَقَّهُ لِوَقْتٍ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ أَنْ يُؤَخِّرَهُ ، فَمَاتَ قَبْلَ يَشَاءُ أَنْ يُؤَخِّرَهُ أَنَّهُ لَا حِنْثَ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : إِلَّا أَنْ يَشَاءَ فُلَانٌ فَمَاتَ فُلَانٌ الَّذِي جَعَلَ الْمَشِيَئَةَ إِلَيْهِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) هَذَا غَلَطٌ ، لَيْسَ فِي مَوْتِهِ مَا يَمْنَعُ إِمْكَانَ بِرِّهِ ، وَأَصْلُ قَوْلِهِ : إِنْ أَمْكَنَهُ الْبِرُّ فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَى فَاتَهُ الْإِمْكَانُ أَنَّهُ يَحْنَثُ ، وَقَدْ قَالَ : لَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ الدَّارَ إِلَّا بِإِذْنِ فُلَانٍ ، فَمَاتَ الَّذِي جَعَلَ الْإِذْنَ إِلَيْهِ ، أَنَّهُ إِنْ دَخَلَهَا حَنِثَ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) وَهَذَا وَذَاكَ سَوَاءٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَاتَانِ مَسْأَلَتَانِ جَمَعَ الْمُزَنِيُّ بَيْنَهُمَا ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ قَبْلَ شَرْحِهِمَا مَسْأَلَتَيْنِ لِيَكُونَا أَصْلًا يَتَمَهَّدُ بِهِ جَوَابُ مَسَائِلِهِمْ ، فَتَصِيرُ الْمَسَائِلُ أَرْبَعًا . فَالْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : أَنْ يَقُولَ : وَاللَّهِ لَأَقْضِيَنَّكَ حَقَّكَ ، وَلَا يُعَيِّنُ لِلْقَضَاءِ وَقْتًا ، فَيَكُونُ بِرُّهُ مُعْتَبَرًا بِقَضَائِهِ قَبْلَ مَوْتِ الْغَرِيمِ وَصَاحِبِ الْحَقِّ ، فِي قَرِيبِ الزَّمَانِ وَبِعِيدِهِ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ إِطْلَاقَ الْيَمِينِ يَتَنَاوَلُ مُدَّةَ الْحَيَاةِ ، فَإِنْ مَاتَ صَاحِبُ الْحَقِّ قَبْلَ قَضَائِهِ حَنِثَ الْحَالِفُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ الْغَرِيمُ الْحَالِفُ قَبْلَ الْقَضَاءِ حَنِثَ أَيْضًا ، فَيَقَعُ الْحِنْثُ بِمَوْتِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَبْلَ الْقَضَاءِ لِحُدُوثِ الْمَوْتِ مَعَ إِمْكَانِ الْبِرِّ . وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَحْلِفَ لَأَقْضِيَنَّكَ حَقَّكَ فِي يَوْمِ الْجُمْعَةِ ، فَيَجْعَلَ لِلْقَضَاءِ وَقْتًا ، فَلَا يَبَرُّ الْحَالِفُ إِلَّا بِقَضَائِهِ فِيهِ ، فَإِنْ قَضَاهُ قَبْلَ يَوْمِ الْجُمْعَةِ أَوْ بَعْدَهُ حَنِثَ ، فَلَوْ مَاتَ الْحَالِفُ قَبْلَ يَوْمِ الْجُمْعَةِ لَمْ يَحْنَثْ قَوْلًا وَاحِدًا لِمَوْتِهِ قَبْلَ إِمْكَانِ بِرِّهِ ، وَإِنْ مَاتَ صَاحِبُ الْحَقِّ قَبْلَ يَوْمِ الْجُمْعَةِ ، فَفِي حِنْثِ الْحَالِفِ قَوْلَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِيمَنْ حَلَفَ لِيَأْكُلَنَّ هَذَا الطَّعَامَ غَدًا ، فَهَلَكَ الطَّعَامُ الْيَوْمَ : أَحَدُهُمَا : يَحْنَثُ . وَالثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ ، لَا يَحْنَثُ ، وَعَلَيْهِ يَكُونُ التَّفْرِيعُ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ إِطْلَاقِ الْيَمِينِ ، فَيَحْنَثُ بِمَوْتِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَبَيْنَ تَقْيِيدِهَا بِوَقْتٍ ، فَلَا يَحْنَثُ بِمَوْتِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَبْلَ الْوَقْتِ هُوَ إِمْكَانُ الْبِرِّ مَعَ الْإِطْلَاقِ ، وَتَعَذُّرُ إِمْكَانِهِ مَعَ التَّوْقِيتِ . وَالْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : وَهِيَ أُولَى الْمَنْصُوصَيْنِ أَنْ يَحْلِفَ لَيَقْضِيَنَّهُ حَقَّهُ فِي يَوْمِ الْجُمْعَةِ ، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ صَاحِبُ الْحَقِّ أَنْ يُؤَخِّرَهُ فَبِرُّهُ مُعْتَبَرٌ بِأَحَدِ شَرْطَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَشَاءَ صَاحِبُ الْحَقِّ أَنْ يُؤَخِّرَهُ قَبْلَ انْقِضَاءِ يَوْمِ الْجُمْعَةِ ، وَإِمَّا أَنْ يَقْضِيَهُ حَقَّهُ فِي يَوْمِ الْجُمْعَةِ إِلَّا أَنَّ مَشِيئَةَ تَأْخِيرِهِ حَلٌّ لِيَمِينِهِ وَالْقَضَاءُ بِرٌّ فِي يَمِينِهِ ، فَإِنْ مَاتَ الْحَالِفُ قَبْلَ يَوْمِ الْجُمْعَةِ يَحْنَثُ

بِفَوَاتِ الْقَضَاءِ فِيهِ ، وَإِنْ مَاتَ صَاحِبُ الْحَقِّ قَبْلَ يَوْمِ الْجُمْعَةِ لَمْ يَحْنَثِ الْحَالِفُ أَيْضًا ، لَكِنَّهُ إِنْ مَاتَ بَعْدَ مَشِيئَتِهِ ارْتَفَعَ الْحِنْثُ بِحَلِّ الْيَمِينِ ، وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ مَشِيئَتِهِ ارْتَفَعَ الْحِنْثُ بِتَعَذُّرِ إِمْكَانِ الْبِرِّ ، وَإِنِ احْتَمَلَ تَخْرِيجَ الْحِنْثِ . وَالْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَحْلِفَ لَيَقْضِينَّهُ حَقَّهُ فِي يَوْمِ الْجُمْعَةِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ زَيْدٌ تَأْخِيرَهُ ، فَارْتِفَاعُ حِنْثِهِ يَكُونُ بِأَحَدِ شَرْطَيْنِ إِمَّا بِمَشِيئَةِ زَيْدٍ لِلتَّأْخِيرِ فَتَحِلُّ بِهِ الْيَمِينُ ، وَإِمَّا بِقَضَاءِ الْحَقِّ فِي يَوْمِ الْجُمْعَةِ فَيَبَرُّ فِي الْيَمِينِ ، فَإِنْ مَاتَ الْحَالِفُ قَبْلَ يَوْمِ الْجُمْعَةِ لَمْ يَحْنَثْ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَإِنْ مَاتَ صَاحِبُ الْحَقِّ قَبْلَهُ لَمْ يَحْنَثْ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ ، وَإِنِ احْتَمَلَ تَخْرِيجَ الْحِنْثِ ، وَإِنْ مَاتَ زَيْدٌ صَاحِبُ الْمَشِيئَةِ - وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ - فَلَهُ قَبْلُ مَوْتِهِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَمُوتَ بَعْدَ مَشِيئَةِ التَّأْخِيرِ ، فَالْيَمِينُ قَدِ انْحَلَّتْ وَلَا يَقَعُ الْحِنْثُ فِيهَا بِتَأْخِيرِ الْقَضَاءِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَمُوتَ قَبْلَ مَشِيئَةِ التَّأْخِيرِ ، فَالْيَمِينُ مُنْعَقِدَةٌ وَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ ؛ لِأَنَّ زَمَانَ الْبِرِّ مُنْتَظَرٌ ، وَهُوَ بِإِمْكَانِ الْقَضَاءِ مُعْتَبَرٌ ، فَإِنْ قَضَاهُ فِي يَوْمِ الْجُمْعَةِ بَرَّ ، وَإِنْ لَمْ يَقْضِهِ حَنِثَ لِإِمْكَانِ الْبِرِّ ، فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ لَمَّا رَأَى الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : إِنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِمَوْتِ صَاحِبِ الْمَشِيئَةِ كَمَا لَوْ كَانَتِ الْمَشِيئَةُ مَرْدُودَةً إِلَى صَاحِبِ الْحَقِّ ظَنَّ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي سُقُوطِ الْحِنْثِ بِمَوْتِهِمَا فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا ، فَقَالَ : كَيْفَ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي سُقُوطِ الْحِنْثِ بِمَوْتِهِمَا وَالْبِرُّ فِي مَوْتِ صَاحِبِ الْحَقِّ مُتَعَذِّرٌ وَفِي مَوْتِ صَاحِبِ الْمَشِيئَةِ مُمْكِنٌ ؟ فَيُقَالُ لَهُ : إِنَّمَا جَمَعَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بَيْنَهُمَا فِي أَنَّ الْحِنْثَ لَا يَقَعُ فِي حَالِ مَوْتِهِمَا ؛ لِأَنَّ وَقْتَ الْقَضَاءِ لَمْ يَأْتِ فَصَارَا فِيهِ سَوَاءً فِي الْحَالِ ، وَإِنِ افْتَرَقَا بِتَأْخِيرِ الْقَضَاءِ ، فَيَحْنَثُ بِتَأْخِيرِهِ إِذَا كَانَتِ الْمَشِيئَةُ إِلَى غَيْرِ صَاحِبِ الْحَقِّ ، وَلَا يَجِبُ تَأْخِيرُهُ إِذَا كَانَتِ الْمَشِيئَةُ إِلَى صَاحِبِ الْحَقِّ بِمَا عَلَّلَ الْمُزَنِيُّ مِنْ تَعَذُّرِ الْقَضَاءِ بِمَوْتِ صَاحِبِ الْحَقِّ أَوْ إِمْكَانِهِ بِمَوْتِ غَيْرِهِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ مِنْ أَحْوَالِ صَاحِبِ الْمَشِيئَةِ قَبْلَ مَوْتِهِ أَنْ يَقَعَ الشَّكُّ فِي مَشِيئَتِهِ ، فَلَا يَعْلَمُ هَلْ شَاءَ التَّأْخِيرَ أَوْ لَمْ يَشَأْهُ فَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا ، وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ مَنْ لَمْ يَشَأِ التَّأْخِيرَ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْمَشِيئَةِ حَتَّى يَعْلَمَ حُدُوثَهَا ، فَيَكُونُ الْحُكْمُ عَلَى مَا مَضَى . وَحَكَى أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ التَّأَنِّي ، فَلَا يَحْنَثُ الْحَالِفُ بِتَأْخِيرِ الْقَضَاءِ اعْتِبَارًا بِالظَّاهِرِ مِنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ ، وَاحْتِجَاجًا بِأَنَّ الْحِنْثَ لَا يَقَعُ بِالشَّكِّ ، وَهَذَا زَلَلٌ : لِأَنَّ الْيَمِينَ مُنْعَقِدَةٌ ، فَلَا تَحِلُّ بِالشَّكِّ .

فَصْلٌ : ثُمَّ إِنَّ الْمُزَنِيَّ وَصَلَ احْتِجَاجَهُ عَلَى مَا وَهِمَ فِي تَأْوِيلِهِ وَإِنْ أَصَابَ فِي جَوَابِهِ

بِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ : إِنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ الدَّارَ إِلَّا بِإِذْنِ فُلَانٍ ، فَمَاتَ الَّذِي جَعَلَ الْإِذْنَ إِلَيْهِ ، أَنَّهُ إِنْ دَخَلَهَا حَنِثَ ، وَهَذَا وَذَاكَ سَوَاءٌ ، وَهَذَا صَحِيحٌ . وَالْجَوَابُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ، وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ فِيهِمَا اخْتِلَافٌ ، وَإِنَّمَا وَهِمَ فِيمَا أَطْلَقَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ جَوَابِ الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، فَإِذَا حَلَفَ لَا يَدْخُلُ الدَّارَ إِلَّا بِإِذْنِ زَيْدٍ فَدَخَلَهَا بَعْدَ مَوْتِ زَيْدٍ ، فَإِنْ كَانَ زَيْدٌ قَدْ أَذِنَ قَبْلَ مَوْتِهِ لَمْ يَحْنَثْ ، وَيَكُونُ إِذْنُهُ شَرْطًا فِي الْبِرِّ ، وَتَكُونُ الْمَشِيئَةُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ شَرْطًا فِي حَلِّ الْيَمِينِ : لِأَنَّ الْيَمِينَ فِي دُخُولِ الدَّارِ مَعْقُودَةٌ عَلَى الْإِذْنِ ، وَفِي الْمَشِيئَةِ مَعْقُودَةٌ عَلَى الْقَضَاءِ ، وَإِنْ مَاتَ زَيْدٌ قَبْلَ إِذْنِهِ حَنِثَ فِي الدُّخُولِ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْبِرِّ لَمْ يُوجَدْ ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى شَكٍّ مِنْ وُجُودِ إِذْنِهِ وَعَدَمِهِ حَنِثَ وَجْهًا وَاحِدًا عَلَى قَوْلِ جَمِيعِ أَصْحَابِنَا ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْإِذْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، وَبَيْنَ الْمَشِيئَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، حَيْثُ خَرَجَ فِيهَا بَعْضُ أَصْحَابِنَا مِنَ الِاحْتِمَالِ عَلَى مَا خَرَجَ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْإِذْنَ ظَاهِرٌ وَالْمَشِيئَةَ بَاطِنَةٌ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْإِذْنَ فِي هَذِهِ شَرْطٌ فِي الْبِرِّ ، وَالْمَشِيئَةَ فِي تِلْكَ شَرْطٌ فِي الْحَلِّ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَلَوْ حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّهُ عِنْدَ رَأْسِ الْهِلَالِ أَوْ إِلَى رَأْسِ الْهِلَالِ ، فَرَأَى فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي يَهِلُّ فِيهَا الْهِلَالُ ، حَنِثَ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : وَقَدْ قَالَ فِي الَّذِي حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّهُ إِلَى رَمَضَانَ ، فَهَلْ إِنَّهُ حَانَثٌ لِأَنَّهُ حَدَّ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : هَذَا أَصَحُّ ، كَقَوْلِهِ : إِلَى اللَّيْلِ ، فَإِذَا جَاءَ اللَّيْلُ حَنِثَ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ كَقَوْلِهِ إِلَى اللَّيْلِ ، فَإِذَا جَاءَ اللَّيْلُ حَنِثَ ، نَقَلَ الْمُزَنِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ ، اتَّفَقَ الْجَوَابُ فِي مَسْأَلَتَيْنِ وَاخْتَلَفَ فِي الثَّالِثَةِ ، إِحْدَى الْمَسَائِلِ الَّتِي اتَّفَقَ الْمَذْهَبُ فِي الْجَوَابِ عَلَيْهَا إِذَا حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّهُ حَقَّهُ عِنْدَ رَأْسِ الْهِلَالِ ، أَوْ عِنْدَ رَأْسِ الشَّهْرِ حكمه ، فَوَقْتُ بَرِّهِ مُعَيَّنٌ بَيْنَ زَمَانَيْ حِنْثٍ ، وَهُوَ أَنْ يَقْضِيَهُ مَعَ رَأْسِ الشَّهْرِ وَرُؤْيَةِ الْهِلَالِ ، فَإِنْ قَضَاهُ قَبْلَ الْهِلَالِ حَنِثَ ، وَإِنْ قَضَاهُ بَعْدَ الْهِلَالِ وَبَعْدَ إِمْكَانِ الْقَضَاءِ مَعَهُ ، حَنِثَ بِمُضِيِّ زَمَانِ الْإِمْكَانِ بَعْدَ الْهِلَالِ . وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَحْنَثُ بِقَضَائِهِ قَبْلَ انْقِضَاءِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ، وَجَعَلَ زَمَانَ الْقَضَاءِ بَعْدَ الْهِلَالِ مُعْتَبَرًا بِيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ، وَاعْتَبَرَهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِالْإِمْكَانِ وَهُوَ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ مَقَادِيرَ الزَّمَانِ إِنْ لَمْ تُؤْخَذْ عَنْ نَصٍّ أَوْ قِيَاسٍ بَطَلَتْ لِمَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهَا مِنَ الْمُعَاوَضَةِ ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ مُعْتَبَرٌ بِالْإِمْكَانِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ فِي الْقَضَاءِ مَعَ رَأْسِ الشَّهْرِ فَيَسْتَوِي حُكْمُ قَوْلِهِ : عِنْدَ رَأْسِ الشَّهْرِ مَعَ رَأْسِ الشَّهْرِ ، وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ مِمَّا لَا يَكُونُ زَمَانُ قَضَائِهِ كَوَزْنِهِ مِنْ ذَهَبٍ

أَوْ فِضَّةٍ ، ضَاقَ زَمَانُ بِرِّهِ لِإِمْكَانِ وَزْنِهِ فِي أَوَّلِ زَمَانٍ بَعْدَ رَأْسِ الشَّهْرِ ، فَإِنْ أَخَّرَهُ عَنْهُ بِأَقَلِّ زَمَانٍ حَنِثَ ، فَإِنْ شَرَعَ فِي حَمْلِهِ إِلَيْهِ مَعَ رَأْسِ الشَّهْرِ ، وَكَانَ بَعِيدَ الدَّارِ مِنْهُ حَتَّى مَضَتِ اللَّيْلَةُ أَوْ أَكْثَرُهَا لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّهُ مُعْتَبَرٌ فِي الْإِمْكَانِ ، وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ مِمَّا يَطُولُ زَمَانُ قَضَائِهِ كَمِائَةِ كُرٍّ مِنْ بُرٍّ اتَّسَعَ زَمَانُ بِرِّهِ إِذَا شَرَعَ فِي الْقَضَاءِ مَعَ رَأْسِ الشَّهْرِ ، وَامْتَدَّ بِحَسْبِ الْوَاقِعِ مِنْ كَيْلِ هَذَا الْقَدْرِ ، حَتَّى رُبَّمَا امْتَدَّ أَيَّامًا ، فَإِنْ أَخَّرَ عِنْدَ رَأْسِ الشَّهْرِ فِي جَمْعِ مَا يَقْضِيهِ وَتَحْصِيلِهِ لِلْقَضَاءِ حَنِثَ ، وَلَوْ أَخَذَ فِي نَقْلِهِ إِلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ نَقْلَهُ مَشْرُوعٌ فِي الْقَضَاءِ ، وَلَيْسَ جَمْعُهُ مَشْرُوعًا فِيهِ ، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَرَأَى فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي يَهِلُّ فِيهَا الْهِلَالُ حَنِثَ ، يَعْنِي إِذَا لَمْ يَقْضِهِ فِيهَا ، فَإِنْ قَضَاهُ بَرَّ ، وَلَيْسَ رُؤْيَةُ الْهِلَالِ شَرْطًا ، وَإِنَّمَا دُخُولُ الشَّهْرِ بِأَوَّلِ جُزْءٍ مِنْ لَيْلَتِهِ هُوَ الزَّمَانُ الْمُعْتَبَرُ ؛ لِأَنَّ الْهِلَالَ رُبَّمَا غُمَّ بِسَحَابٍ مَنَعَ مِنْ رُؤْيَتِهِ إِلَّا أَنْ يُغَمَّ فِي لَيْلَةِ شَكٍّ ، فَلَا يَكُونَ مِنَ الشَّهْرِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا ، فَهِيَ أَنْ يَحْلِفَ لَيَقْضِيَنَّهُ حَقَّهُ إِلَى رَمَضَانَ وقت بره ، فَجَعَلَ رَمَضَانَ غَايَةً وَحَدًّا ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَهُ بِحَرْفٍ وُضِعَ لِلْغَايَةِ وَالْحَرْفُ هُوَ " إِلَى " ، فَيَكُونُ زَمَانُ بِرِّهِ مِنْ وَقْتِ يَمِينِهِ إِلَى أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْ لَيْلَةِ رَمَضَانَ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [ الْبَقَرَةِ : 187 ] ، فَكَانَ زَمَانُ الصِّيَامِ إِلَى أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ اللَّيْلِ ، فَإِنْ لَمْ يَقْضِهِ حَقَّهُ حَتَّى دَخَلَ أَوَّلُ جُزْءٍ مِنْ لَيْلَةِ رَمَضَانَ حَنِثَ ، وَيَجِيءُ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ إِلَّا بِانْقِضَاءِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مِنْهُ ، فَإِنْ شَرَعَ فِي قَضَاءِ الْحَقِّ قَبْلَ رَمَضَانَ وَكَمَّلَهُ فِي رَمَضَانَ لِطُولِ زَمَانِهِ بَرَّ ؛ لِأَنَّ الشُّرُوعَ فِي الْقَضَاءِ كَالْقَضَاءِ ، فَإِنْ أَخَّرَ الْقَضَاءَ فِي لَيْلَةِ شَكٍّ فِي دُخُولِ رَمَضَانَ ، ثُمَّ بَانَ أَنَّهَا مِنْ رَمَضَانَ ، فَفِي حِنْثِهِ قَوْلَانِ كَالنَّاسِي وَالْمُكْرَهِ ، فَإِنْ قَالَ : أَرَدْتُ بِقَوْلِي إِلَى رَمَضَانَ أَيْ : فِي رَمَضَانَ ، دِينَ فِي الْبَاطِنِ لِاحْتِمَالِ مَا أَرَادَ لِأَنَّهَا حُرُوفٌ تُقَامُ بَعْضُهَا مَقَامَ بَعْضٍ ، كَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [ طه : 71 ] ، أَيْ : عَلَيْهَا فَأَمَّا فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ فَيَحْنَثُ إِذَا تَعَلَّقَ بِيَمِينِهِ حَقُّ آدَمِيٍّ مِنْ طَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ اعْتِبَارًا بِحَقِيقَةِ اللَّفْظِ دُونَ مَجَازِهِ ، فَإِنْ حَلَفَ لَأَقْضِيَنَّكَ حَقَّكَ عِنْدَ رَمَضَانَ لَمْ يَبَرَّ بِقَضَائِهِ قَبْلَ رَمَضَانَ ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ " عِنْدَ " مَوْضُوعَةٌ لِلْمُقَارَبَةِ ، فَإِذَا أَهَلَّ رَمَضَانُ احْتَمَلَ مَا يُعْتَبَرُ فِي بِرِّهِ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُعْتَبَرُ بِإِمْكَانِ الْقَضَاءِ عِنْدَ دُخُولِهِ ، فَإِنْ أَخَّرَهُ حَنِثَ كَمَا لَوْ قَالَ عِنْدَ رَأْسِ الشَّهْرِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَكُونُ جَمِيعُ الشَّهْرِ وَقْتًا لِلْبِرِّ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْ عَلَى جُزْءٍ مِنْهُ ، فَصَارَ حُكْمُ آخِرِهِ كَحُكْمِ أَوَّلِهِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا ، فَهُوَ أَنْ يَحْلِفَ لَيَقْضِيَنَّهُ حَقَّهُ عِنْدَ رَأْسِ الْهِلَالِ ، أَوْ إِلَى رَأْسِ الْهِلَالِ ، فَالَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ فِيهَا عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ قَوْلِهِ : إِلَى رَأْسِ الْهِلَالِ ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ : عِنْدَ رَأْسِ الْهِلَالِ فِي أَنَّهُ يَحْنَثُ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ ، لِيَكُونَ زَمَانُ الْبِرِّ فِيهَا بَيْنَ وَقْتَيْ حِنْثٍ بِتَقَدُّمِ أَحَدِهِمَا عَلَى رَأْسِ الْهِلَالِ وَبِتَأَخُّرِ الْآخَرِ عَنْهُ ، وَجَمَعَ الْمُزَنِيُّ بَيْنَ قَوْلِهِ إِلَى رَأْسِ الْهِلَالِ ، وَإِلَى رَمَضَانَ فِي أَنَّ زَمَانَ الْبِرِّ مِنْ وَقْتِ يَمِينِهِ ، وَإِلَى رَأْسِ الْهِلَالِ ، كَمَا كَانَ فِي وَقْتِ يَمِينِهِ إِلَى رَمَضَانَ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى مَا قَالَهُ الْمُزَنِيُّ مِنَ اخْتِلَافِ الْحُكْمِ بَيْنَ قَوْلِهِ : عِنْدَ رَأْسِ الْهِلَالِ ، فِي أَنَّ وَقْتَ الْبِرِّ يَكُونُ مَعَ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ بَيْنَ زَمَانَيْ حِنْثٍ ، وَقَوْلِهِ : عِنْدَ رَأْسِ الْهِلَالِ ، أَنَّ الْبِرَّ مِنْ وَقْتِ يَمِينِهِ وَإِلَى رُؤْيَةِ الْهِلَالِ ، فَيَكُونُ رُؤْيَةُ الْهِلَالِ وَقْتًا لِحِنْثِهِ ، وَرُؤْيَتُهُ فِي قَوْلِهِ : إِلَى رَأْسِ الْهِلَالِ وَقْتًا لِبَرِّهِ : لِأَنَّ لَفْظَةَ " إِلَى " مَوْضُوعَةٌ فِي اللُّغَةِ لِلْحَدِّ وَالْغَايَةِ ، وَلَفْظَةَ : عِنْدَ مَوْضُوعَةٌ لِلْمُقَارَبَةِ ، فَاخْتَلَفَ حُكْمُهُمَا لِاخْتِلَافِ مَوْضُوعِهِمَا ، كَمَا اخْتَلَفَ حُكْمُ قَوْلِهِ : إِلَى رَمَضَانَ ، وَعِنْدَ رَمَضَانَ ، وَأَجَابَ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْوَجْهِ عَنْ جَمْعِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ جَوَابَهُ وَإِنْ كَانَ مَعْطُوفًا عَلَيْهِمَا فَهُوَ عَائِدٌ إِلَى قَوْلِهِ : عِنْدَ رَأْسِ الْهِلَالِ وَلَمْ يَعُدْ إِلَى قَوْلِهِ : إِلَى رَأْسِ الْهِلَالِ ، وَلِلشَّافِعِيِّ عَادَةٌ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ مَسْأَلَتَيْنِ يَعْطِفُ بِالْجَوَابِ عَلَيْهِمَا ، فَيُرِيدُ بِهِ إِحْدَاهُمَا اكْتِفَاءً بِمَا عُرِفَ مِنْ مَذْهَبِهِ فِي الْأُخْرَى ، وَلَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ أَنَّ " إِلَى " وَ " عِنْدَ " مُخْتَلِفَا الْمَعْنَى فِي اللُّغَةِ ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَا مُخْتَلِفَيْنِ فِي الْحُكْمِ فِي الشَّرْعِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ جَمْعَ الشَّافِعِيِّ بَيْنَ عِنْدَ رَأْسِ الْهِلَالِ ، وَإِلَى رَأْسِ الْهِلَالِ صَحِيحٌ . وَأَنَّ كِلَيْهِمَا فِي الْبِرِّ وَالْحِنْثِ وَاحِدٌ ، وَأَنَّ رَأْسَ الْهِلَالِ وَقْتُ الْبِرِّ فِيهِمَا ، وَأَنَّ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ وَقْتُ الْحِنْثِ فِيهِمَا ؛ لِأَنَّ لَفْظَةَ إِلَى قَدْ تُسْتَعْمَلُ لِلْحَدِّ تَارَةً وَلِلْمُقَارَبَةِ تَارَةً كَمَا قَالَ تَعَالَى : مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ [ الصَّفِّ : 14 ] ، أَيْ : مَعَ اللَّهِ ، وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [ الْمَائِدَةِ : 6 ] أَيْ : مَعَ الْمَرَافِقِ ، فَلَمَّا احْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ لِلْحَدِّ تَارَةً ، وَلِلْمُقَارَبَةِ أُخْرَى ، صَارَ الْحِنْثُ فِي جَعْلِهَا لِلْحَدِّ مَشْكُوكًا فِيهِ ، وَفِي جَعْلِهَا لِلْمُقَارَبَةِ مُتَيَقِّنًا ، فَحَنِثَ بِالْيَقِينِ دُونَ الشَّكِّ ، وَفَرَّقَ أَبُو إِسْحَاقَ وَمَنْ تَابَعَهُ ، بَيْنَ قَوْلِهِ إِلَى رَأْسِ الشَّهْرِ فَيَكُونُ لِلْمُقَارَبَةِ ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ : إِلَى رَمَضَانَ فَيَكُونُ لِلْحَدِّ بِأَنَّ رَأْسَ الشَّهْرِ مُعَيَّنٌ لِلْقَضَاءِ ، فَغَلَبَ حُكْمُ الْوَقْتِ عَلَى حُكْمِ اللَّفْظِ فَحُمِلَ

إِلَى الْمُقَارَبَةِ ، وَرَمَضَانُ غَيْرُ مُعَيَّنٍ لِلْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ جَمِيعُهُ وَقْتًا لَهُ ، فَغَلَبَ حُكْمُ اللَّفْظِ عَلَى حُكْمِ الْوَقْتِ فَحُمِلَ عَلَى الْحَدِّ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ جَمَعَ بَيْنَ " عِنْدَ " ، وَ " إِلَى " فِي الْحِنْثِ ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي الْبِرِّ ، فَإِذَا قَالَ عِنْدَ رَأْسِ الشَّهْرِ لَمْ يَبَرَّ إِلَّا بِدَفْعِهِ مَعَ رَأْسِ الشَّهْرِ ، وَإِذَا قَالَ : إِلَى رَأْسِ الشَّهْرِ بَرَّ بِدَفْعِهِ فِي وَقْتِهِ ، وَإِلَى عِنْدِ رَأْسِ الشَّهْرِ ؛ لِأَنَّ عِنْدَ لَمْ تُوضَعْ إِلَّا لِلْمُقَارَبَةِ ، وَإِلَى قَدْ وُضِعَتْ لِلْمُقَارَبَةِ تَارَةً ، وَلِلْحَدِّ أُخْرَى ، فَاجْتَمَعَ فِيهِمَا حُكْمُ الْمُقَارَبَةِ وَحُكْمُ الْحَدِّ ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِمَا الْحُكْمَانِ مَعًا ، فَصَارَا لِأَجْلِ ذَلِكَ مُجْتَمِعَيْنِ فِي الْحِنْثِ إِنْ لَمْ يَقْضِهِ حَتَّى جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ حَنِثَ ، وَمُفْتَرِقَيْنِ فِي الْبِرِّ إِنْ قَضَاهُ فِي قَوْلِهِ : إِلَى رَأْسِ الشَّهْرِ قَبْلَ الشَّهْرِ بَرَّ ، وَإِنْ قَضَاهُ فِي قَوْلِهِ : عِنْدَ رَأْسِ الشَّهْرِ قَبْلَ الشَّهْرِ لَمْ يَبَرَّ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَ إِلَى حِينٍ فَلَيْسَ بِمَعْلُومٍ : لِأَنَّهُ يَقَعُ عَلَى مُدَّةِ الدُّنْيَا وَيَوْمٍ ، وَالْفُتْيَا أَنْ يُقَالُ لَهُ : الْوَرَعُ لَكَ أَنْ تَقْضِيَهُ قَبْلَ انْقِضَاءِ يَوْمٍ : لِأَنَّ الْحِينَ يَقَعُ عَلَيْهِ مِنْ حِينِ حَلَفْتَ وَلَا نُحَنِّثُكَ أَبَدًا : لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ لِلْحِينِ غَايَةً " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْحِينُ مِنَ الزَّمَانِ فَجَمْعُهُمْ لَا حَدَّ لَهُ فِي الشَّرْعِ عِنْدَنَا ، وَحَدَّهُ أَبُو حَنِيفَةَ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ ، وَحَدَّهُ مَالِكٌ بِسَنَةٍ ، فَإِذَا حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّهُ حَقَّهُ إِلَى حِينٍ لَمْ يَحْنَثْ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ إِلَّا بِفَوَاتِ الْقَضَاءِ بِمَوْتِهِ أَوْ مَوْتِ صَاحِبِ الْحَقِّ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ قَضَاهُ فِي سِتَّةِ أَشْهُرِ بَرَّ ، وَإِنْ قَضَاهُ بَعْدَهَا حَنِثَ ، وَقَالَ مَالِكٌ : إِنْ قَضَاهُ إِلَى سَنَةٍ بَرَّ ، وَإِنْ قَضَاهُ بَعْدَهَا حَنِثَ ، وَاسْتِدْلَالُنَا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا فَقَدَّرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ ؛ لِأَنَّهَا فِي النَّخْلِ مُدَّةُ حَمْلِهَا مِنْ أَوَّلِ طَلْعِهَا إِلَى آخِرِ جِذَائِهَا ، وَقَدَّرَهُ مَالِكٌ بِسَنَةٍ ؛ لِأَنَّهَا تَحْمِلُ مِنْ كُلِّ سَنَةٍ ، فَتَكُونُ مِنَ الْإِطْلَاعِ إِلَى الْإِطْلَاعِ سِتَّةً . وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ الْحِينَ اسْمٌ مُبْهَمٌ ، يَنْطَلِقُ عَلَى قَلِيلِ الزَّمَانِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ [ الرُّومِ : 17 ] ، وَأَرَادَ بِهِ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ ، وَيَنْطَلِقُ عَلَى مُدَّةِ الدُّنْيَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ [ ص : 88 ] ، يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَيَنْطَلِقُ عَلَى مَا بَيْنَ الزَّمَانَيْنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ [ الْإِنْسَانِ : 1 ] يَعْنِي تِسْعَةَ أَشْهُرٍ هِيَ مُدَّةُ حَمْلِهِ ، وَقِيلَ : هِيَ أَرْبَعُونَ سَنَةً إِشَارَةً إِلَى آدَمَ أَنَّهُ صُوِّرَ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ وَطِينٍ لَازِبٍ ، ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً ، وَإِذَا اخْتَلَفَ الْمُرَادُ بِهِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ لَا يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ دُونَ غَيْرِهِ ، وَيَنْطَلِقُ عَلَى قَلِيلِ الزَّمَانِ وَكَثِيرِهِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَقَضَاهُ قَبْلَ مَوْتِهِ ،

وَلَوْ بِطَرْفَةِ عَيْنٍ بَرَّ فِي يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَضَاهُ فِي زَمَانٍ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْحِينِ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَأُفْتِيهِ وَرَعًا أَنْ يَقْضِيَهُ فِي يَوْمِهِ ، وَأَنْ يُحَنِّثَ نَفْسَهُ إِنْ قَضَاهُ بَعْدَ انْقِضَائِهِ ، لِيُحْمَلَ عَلَى أَقَلِّ مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ ، وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْ ذَلِكَ فِي الْحُكْمِ .

فَصْلٌ : قَالَ : وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا إِذَا حَلَفَ لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا إِلَّا بَعْدَ حِينٍ فَكَلَّمَهُ بَعْدَ سَاعَةٍ مِنْ يَمِينِهِ بَرَّ لِوُجُودِ الْكَلَامِ بَعْدَ زَمَانٍ يَنْطَلِقُ اسْمُ الْحِينِ عَلَيْهِ . وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَبَرُّ حَتَّى يُكَلِّمَهُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ . وَعِنْدَ مَالِكٍ لَا يَبَرُّ حَتَّى يُكَلِّمَهُ بَعْدَ سَنَةٍ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِهِمْ فِي مُدَّةِ الْحِينِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَالَّتِي تَقَدَّمَتْ أَنَّ هَذِهِ نَفْيٌ وَتِلْكَ إِثْبَاتٌ ، فَإِذَا وُجِدَ الْفِعْلُ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فِي زَمَانٍ يَنْطَلِقُ اسْمُ الْحِينِ عَلَيْهِ بَرَّ ، وَقَلِيلُ الزَّمَانِ حِينٌ ، فَبَرَّ فِي النَّفْيِ ، وَكَثِيرُهُ حِينٌ ، فَبَرَّ فِي الْإِثْبَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَكَذَلِكَ زَمَانٌ وَدَهْرٌ وَأَحْقَابٌ وَكُلُّ كَلِمَةٍ مُفْرَدَةٍ لَيْسَ لَهَا ظَاهِرٌ يَدُلُّ عَلَيْهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّهُ حَقَّهُ بَعْدَ زَمَانٍ أَوْ بَعْدَ دَهْرٍ أَوْ بَعْدَ أَحْقَابٍ بَرَّ إِذَا قَضَاهُ بَعْدَ قَلِيلِ الزَّمَانِ وَكَثِيرِهِ كَالْحِينِ ؛ لِأَنَّهَا أَسْمَاءٌ مُبْهَمَةٌ يَنْطَلِقُ عَلَى مَا قَلَّ وَكَثُرَ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : أَقَلُّ الزَّمَانِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَأَقَلُّ الْحِقَبِ ثَمَانُونَ سَنَةً ، وَقَالَ مَالِكٌ : أَقَلُّهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً ، وَلَيْسَ لِهَذَا التَّحْدِيدِ وَجْهٌ لِعَدَمِ النَّصِّ فِيهِ وَالْقِيَاسِ ، وَهُوَ فِي الْجُمْلَةِ عِبَارَةٌ عَنْ زَمَانٍ غَيْرِ مَحْدُودٍ ، وَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ : وَلَوْ حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّهُ حَقَّهُ قَرِيبًا أَوْ بَعِيدًا ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مَحْدُودٍ ، فَجَازَ أَنْ يَقْضِيَهُ فِي قَلِيلِ الزَّمَانِ وَكَثِيرِهِ ، وَكَذَلِكَ قَرِيبُ الزَّمَانِ وَبِعِيدُهُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْقَرِيبِ : إِنَّهُ أَقَلُّ مِنْ شَهْرٍ ، وَفِي الْبَعِيدِ : إِنَّهُ أَكْثَرُ مِنْ شَهْرٍ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ قَرِيبًا بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا هُوَ أَبْعَدُ وَيَكُونُ بَعِيدًا بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا هُوَ أَقْرَبُ ، فَصَارَ كَقَوْلِهِ : لَهُ عَلَيَّ مَالٌ كَثِيرٌ أَوْ قَلِيلٌ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي فَأَمَرَ غَيْرَهُ أَوْ لَا يُطَلِّقُ فَجَعَلَ طَلَاقَهَا إِلَيْهَا فَطُلِّقَتْ ، أَوْ لَا يَضْرِبُ عَبْدَهُ فَأَمَرَ غَيْرَهُ فَضَرَبَهُ ، لَا يَحْنَثُ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ نَوَى ذَلِكَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ مَنْ حَلَفَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا فَأَمَرَ غَيْرَهُ حَتَّى فَعَلَهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ :

أَحَدُهَا : أَنْ يَنْوِيَ لَا يَفْعَلُهُ بِنَفْسِهِ ، فَلَا يَحْنَثُ إِذَا أَمَرَ غَيْرَهُ بِفِعْلِهِ ، لَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ فِيهِ اعْتِبَارًا بِنِيَّتِهِ ، سَوَاءٌ جَلَّ قَدْرُ الْحَالِفِ أَوْ قَلَّ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَنْوِيَ أَنَّهُ لَا كَانَ مِنْهُ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ الْفِعْلَ وَلَا كَانَ بَاعِثًا عَلَيْهِ فَيَحْنَثُ إِذَا أَمَرَ غَيْرَهُ بِفِعْلِهِ كَمَا يَحْنَثُ إِذَا فَعَلَهُ بِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ بَاعِثًا عَلَيْهِ سَوَاءٌ جَلَّ قَدْرُ الْحَالِفِ أَوْ قَلَّ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ تَكُونَ يَمِينُهُ مُطْلَقَةً لَمْ تَقْتَرِنْ بِهَا نِيَّةٌ ، فَيَنْقَسِمُ ذَلِكَ الْفِعْلُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ . أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ الْعُرْفُ فِي فِعْلِهِ جَارِيًا بِالْأَمْرِ دُونَ الْمُبَاشَرَةِ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ ، كَقَوْلِهِ : وَاللَّهِ لَا احْتَجَمْتُ ، وَلَا افْتَصَدْتُ ، وَلَا حَلَقْتُ رَأْسِي ، وَلَا بَنَيْتُ دَارِي ، فَإِذَا أَمَرَ غَيْرَهُ بِالْحِجَامَةِ وَفَصَدَهُ وَحَلَقَ رَأْسَهُ ، وَبَنَى دَارَهُ حَنِثَ سَوَاءٌ جَلَّ قَدْرُ الْحَالِفِ أَوْ قَلَّ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْرِ فِي الْعُرْفِ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ جَلِيلٍ أَنْ يُبَاشِرَ فِعْلَهَا فِي نَفْسِهِ إِلَّا بِأَمْرِهِ ، فَصَارَ الْعُرْفُ فِيهِ شَرْطًا يَصْرِفُ حَقِيقَةَ الْفِعْلِ إِلَى مَجَازِهِ فَيَصِيرُ اعْتِبَارُ الْمَجَازِ إِذَا اقْتَرَنَ بِالْعُرْفِ أَوْلَى مِنَ اعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ إِذَا فَارَقَ الْعُرْفَ : لِأَنَّ الْعُرْفَ نَاقِلٌ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْعُرْفُ فِي فِعْلِهِ جَارِيًا بِمُبَاشَرَتِهِ دُونَ أَمْرِهِ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ كَقَوْلِهِ : وَاللَّهِ لَا كَتَبْتُ ، وَلَا قَرَأْتُ وَلَا حَجَجْتُ ، وَلَا اعْتَمَرْتُ فَإِذَا أَمَرَ غَيْرَهُ بِالْكِتَابَةِ وَالْقِرَاءَةِ وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ لَمْ يَحْنَثْ سَوَاءٌ جَلَّ قَدْرُ الْحَالِفِ أَوْ قَلَّ ؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ جَارٍ بَيْنَ النَّاسِ بِمُبَاشَرَةِ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ قَلِيلٍ وَجَلِيلٍ ، فَصَارَ الْعُرْفُ مُقْتَرِنًا بِالْحَقِيقَةِ دُونَ الْمَجَازِ فَخَرَجَ مَجَازُهُ عَنْ حُكْمِهِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ الْعُرْفُ مُخْتَلِفًا فِي مُبَاشَرَةِ فِعْلِهِ فَيُبَاشِرُهُ مَنْ دَنَا ، وَلَا يُبَاشِرُهُ مَنْ عَلَا ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَقْتَرِنَ بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ فِي الِاخْتِلَافِ بَيْنَهُمَا عُرْفُ الشَّرْعِ ، وَهُوَ إِقَامَةُ الْحُدُودِ الَّتِي لَا يُقِيمُهَا فِي الشَّرْعِ وَالْعُرْفِ إِلَّا أُولُو الْأَمْرِ مِنْ ذِي وِلَايَةٍ وَسُلْطَانٍ ، فَيَحْنَثُ الْآمِرُ بِهَا إِنْ كَانَ مِنْ أُولِي الْأَمْرِ وَإِنْ لَمْ يُبَاشِرْهَا ، كَمَا قِيلَ : جَلَدَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَانِيًا ، وَرَجَمَ مَاعِزًا وَقَطَعَ سَارِقًا ، وَلَا يَحْنَثُ بِهَا غَيْرُ أُولِي الْأَمْرِ حَتَّى يُبَاشِرَهَا بِفِعْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ نَافِذِ الْأَمْرِ فِيهِمَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَنْفَرِدَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمَا بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ دُونَ عُرْفِ الشَّرْعِ ، فَيُبَاشِرُهُ مَنْ دَنَا ، وَلَا يُبَاشِرُهُ مَنْ عَلَا تَنَزُّهًا وَتَصَوُّنًا كَعُقُودِ الْبُيُوعِ وَالْأَشْرِبَةِ وَتَأْدِيبِ الْعَبِيدِ وَالْخَدَمِ ، فَيَنْقَسِمُ حَالُ الْحَالِفِ وَالْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ عُرْفُ الْحَالِفِ جَارِيًا بِمُبَاشَرَتِهِ ، كَرَجُلٍ مِنْ عَوَامِّ السُّوقَةِ حَلَفَ

لَا بَاعَ وَلَا اشْتَرَى ، وَلَا تَزَوَّجَ وَلَا طَلَّقَ ، وَلَا ضَرَبَ عَبْدًا ، وَلَا أَدَّبَ خَادِمًا ، فَإِذَا أَمَرَ غَيْرَهُ بِأَنْ بَاعَ لَهُ وَاشْتَرَى ، وَزَوَّجَهُ وَطَلَّقَ عَنْهُ ، وَضَرَبَ عَبْدَهُ وَأَدَّبَ خَادِمَهُ ، لَمْ يَحْنَثْ فِي هَذَا كُلِّهِ . وَقَالَ مَالِكٌ : يَحْنَثُ فِي هَذَا كُلِّهِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ كَانَ هَذَا الْعَقْدُ مِمَّا إِذَا بَاشَرَهُ الْوَكِيلُ أَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ كَالشِّرَى ، يَقُولُ : اشْتَرَيْتُ هَذِهِ الدَّارَ لِمُوَكِّلِي لَمْ يَحْنَثِ الْمُوَكِّلُ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُضِيفُهُ إِلَى نَفْسِهِ كَالنِّكَاحِ يَقُولُ : قَبِلْتُ هَذَا النِّكَاحَ لِمُوَكِّلِي ، وَلَا يَقُولُ : نَكَحْتُ لِمُوَكِّلِي ، كَمَا يَقُولُ : اشْتَرَيْتُ لِمُوَكِّلِي حَنِثَ الْمُوَكِّلُ ، وَكِلَا الْمَذْهَبَيْنِ مَدْخُولٌ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ جَمِيعَهَا سَوَاءٌ فِي أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ الْآمِرُ بِهَا وَالْمُوَكِّلُ فِيهَا إِذَا كَانَ الْعُرْفُ بِمُبَاشَرَتِهِ لَهَا جَارِيًا ؛ لِأَنَّ الْأَيْمَانَ تُحْمَلُ عَلَى حَقَائِقِ الْأَسْمَاءِ وَالْأَفْعَالِ ، مَا لَمْ يَنْقُلْهَا عُرْفُ الْحَقِيقَةِ فِي هَذِهِ الْأَفْعَالِ بِمُبَاشَرَتِهَا ، وَالْعُرْفُ مُقْتَرِنٌ بِهَا ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْدِلَ فِي الْأَمْرِ بِهَا عَنِ الْحَقِيقَةِ وَالْعُرْفِ إِلَى مَجَازٍ تَجَرَّدَ عَنِ الْعُرْفِ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ حَلَفَ عَلَى امْرَأَتِهِ أَنَّهُ لَا يُطَلِّقُهَا ، فَرَدَّ إِلَيْهَا الطَّلَاقَ ، فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُطَلِّقًا ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مُخَيِّرًا فِي الطَّلَاقِ ، وَلَوْ قَالَ لَهَا : إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَدَخَلَتْهَا طُلِّقَتْ وَحَنِثَ ؛ لِأَنَّهُ مُطَلِّقٌ لَهَا عَلَى صِفَةٍ وَقَعَتْ مِنْهَا فَلِذَلِكَ افْتَرَقَا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ عُرْفُ الْحَالِفِ جَارِيًا بِالِاسْتِنَابَةِ دُونَ مُبَاشَرَتِهِ ، وَإِنْ بَاشَرَهُ اسْتَنْكَرَتْهُ النُّفُوسُ مِنْهُ ، كَالسُّلْطَانِ أَوْ مَنْ قَارَبَهُ فِي رُتْبَتِهِ إِذَا حَلَفَ ، لَا بَاعَ وَلَا اشْتَرَى ، وَلَا ضَرَبَ عَبْدًا ، وَلَا أَدَّبَ خَادِمًا ، فَإِذَا وَكَّلَ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَأَمَرَ بِضَرْبِ عَبْدِهِ وَبِأَدَبِ خَادِمِهِ فَفِي حِنْثِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : تَفَرَّدَ الرَّبِيعُ بِنَقْلِهِ وَتَفَرَّدَ بِهِ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ، أَنَّهُ يَحْنَثُ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ ؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ قَدْ صَارَ مُقْتَرِنًا بِالْمَجَازِ دُونَ الْحَقِيقَةِ ، وَالْعُرْفُ نَاقِلٌ ، كَمَا لَوْ حَلَفَ : لَا أَكَلْتُ رُءُوسًا ، لَمْ يَحْنَثْ بِرُءُوسِ الطَّيْرِ وَالْجَرَادِ ، وَإِنْ وُجِدَ حَقِيقَةُ الِاسْمِ فِيهَا ؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ لَمَّا اخْتَصَّ بِرُءُوسِ الْغَنَمِ نَقَلَ عَمَّا عَدَاهَا حَقِيقَةَ الِاسْمِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ الْأَظْهَرُ ، وَمَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ فِيهَا الْمُبَاشَرَةُ لَهَا دُونَ الْأَمْرِ بِهَا ، وَالْحَقِيقَةُ لَا تُنْقَلُ إِلَّا بِعُرْفٍ عَامٍّ ، كَمَا قِيلَ فِي الرُّءُوسِ ، وَهَذَا عُرْفٌ خَاصٌّ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْتَقِلَ بِهِ الْحَقِيقَةُ ، كَمَا لَوْ حَلَفَ سُلْطَانٌ : لَا أَكَلْتُ خُبْزًا وَلَا لَبِسْتُ ثَوْبًا ، فَأَكَلَ خُبْزَ الذُّرَةِ وَلَبِسَ عَبَاءَةً حَنِثَ وَإِنْ لَمْ تَجْرِ عَادَتُهُ بِأَكْلِ الذُّرَةِ وَلُبْسِ الْعَبَاءَةِ ؛ لِأَنَّهُ عُرْفٌ خَاصٌّ وَلَيْسَ بِعَامٍّ ، فَلِذَلِكَ سَاوَى فِيهِ عُرْفَ الْعُمُومِ فَكَذَلِكَ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ عُرْفُ الْحَالِفِ جَارِيًا بِالِاسْتِنَابَةِ فِيهِ ، لَكِنْ إِنْ بَاشَرَهُ لَمْ تَسْتَنْكِرْهُ النُّفُوسُ مِنْهُ ، وَلَا تَسْتَقْبِحْهُ ، كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ ، لَا يُسْتَقْبَحُ مِنَ السُّلْطَانِ أَنْ يُبَاشِرَهُ بِنَفْسِهِ ، فَإِذَا حَلَفَ سُلْطَانٌ لَا نَكَحَ وَلَا طَلَّقَ ، وَلَا أَعْتَقَ ، فَوَكَّلَ فِي

النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يُعْتَبَرُ حُكْمُ عُرْفِهِ أَوْ يُعْتَبَرُ مَا لَا تَسْتَنْكِرُهُ النُّفُوسُ مِنْ فِعْلِهِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُعْتَبَرُ حُكْمُ عُرْفِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَخَصُّ بِهِ ، فَعَلَى هَذَا فِي حِنْثِهِ قَوْلَانِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُعْتَبَرُ مَا لَا تَسْتَنْكِرُهُ النُّفُوسُ مِنْ فِعْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَعَمُّ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَحْنَثُ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَمَنْ حَلَفَ لَا يَفْعَلُ فِعْلَيْنِ أَوْ لَا يَكُونُ أَمْرَانِ ، لَمْ يَحْنَثْ حَتَى يَكُونَا جَمِيعًا وَحَتَى يَأْكُلَ كُلَّ الَّذِي حَلَفَ أَنْ لَا يَأْكُلَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : عَقْدُ الْيَمِينِ عَلَى فِعْلَيْنِ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَعْقِدَ عَلَى إِثْبَاتِهِمَا . وَالثَّانِي : أَنْ يَعْقِدَ عَلَى نَفْيِهِمَا . فَإِنْ كَانَتْ مَعْقُودَةً عَلَى إِثْبَاتِهِمَا كَقَوْلِهِ : وَاللَّهِ لَآكُلَنَّ هَذَيْنِ الرَّغِيفَيْنِ ، وَلَأَلْبَسَنَّ هَذَيْنِ الثَّوْبَيْنِ ، وَلِأَرْكَبَنَّ هَاتَيْنِ الدَّابَّتَيْنِ ، فَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْقَضَاءِ أَنَّهُ لَا يَبَرُّ إِلَّا بِفِعْلِهِمَا فَيَأْكُلُ الرَّغِيفَيْنِ ، وَيَلْبَسُ الثَّوْبَيْنِ وَيَرْكَبُ الدَّابَّتَيْنِ ، فَإِنْ أَكَلَ أَحَدَ الرَّغِيفَيْنِ وَلَبِسَ أَحَدَ الثَّوْبَيْنِ وَرَكِبَ إِحْدَى الدَّابَّتَيْنِ لَمْ يَبَرَّ ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَتِ الْيَمِينُ مَعْقُودَةً عَلَى نَفْيٍ فَقَالَ : وَاللَّهِ لَا أَكَلْتُ هَذَيْنِ الرَّغِيفَيْنِ ، وَلَا لَبِسْتُ هَذَيْنِ الثَّوْبَيْنِ ، وَلَا رَكِبْتُ هَاتَيْنِ الدَّابَّتَيْنِ ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ إِلَّا بِهِمَا ، كَمَا لَا يَبَرُّ إِلَّا بِهِمَا ، فَإِنْ أَكَلَ أَحَدَ الرَّغِيفَيْنِ ، وَلَبِسَ أَحَدَ الثَّوْبَيْنِ ، وَرَكِبَ إِحْدَى الدَّابَّتَيْنِ لَمْ يَحْنَثْ . وَقَالَ مَالِكٌ : يَحْنَثُ بِفِعْلِ أَحَدِهِمَا ، وَإِنْ لَمْ يَبَرَّ إِلَّا بِهِمَا وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْإِثْبَاتَ إِبَاحَةٌ ، وَالنَّفْيَ حَظْرٌ ، وَالْحَظْرَ أَغْلَبُ مِنَ الْإِبَاحَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْأَيْمَانَ مَوْضُوعَةٌ عَلَى التَّغْلِيظِ ، وَالتَّغْلِيظُ فِي النَّفْيِ أَنْ يَحْنَثَ بِأَحَدِهِمَا ، وَفِي الْإِثْبَاتِ أَنْ لَا يَبَرَّ إِلَّا بِهِمَا ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ فِعْلَ بَعْضِ الشَّيْءِ لَا يَقُومُ مَقَامَ فِعْلِ جَمِيعِهِ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ مَعًا وِفَاقًا وَشَرْعًا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ ، فَأَدْخَلَ رَأْسَهُ أَوْ إِحْدَى رِجْلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ . وَلَوْ حَلَفَ لَيَدْخُلَنَّهَا ، فَأَدْخَلَ رَأْسَهُ أَوْ إِحْدَى رِجْلَيْهِ لَمْ يَبَرَّ ، وَهَذَا وِفَاقٌ قَدْ وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ ، قَدِ اعْتَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَسَاجِدِهِ فَأَدْخَلَ رَأْسَهُ مِنْهُ إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهَا لِتَغْسِلَهُ ، وَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي اعْتِكَافِهِ .

وَقَالَ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ ، وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ : لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آيَةٌ لَمْ تَنْزِلْ عَلَى أَحَدٍ قَبْلِي إِلَّا عَلَى أَخِي سُلَيْمَانَ ، قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَيُّ آيَةٍ هِيَ ؟ قَالَ : لَا أَخْرُجُ مِنَ الْمَسْجِدِ حَتَّى أُعَلِّمَكَ فَتَوَجَّهَ لِلْخُرُوجِ ، وَقَدَّمَ إِحْدَى رِجْلَيْهِ فَأَخْرَجَهَا ، ثُمَّ قَالَ لِلرَّجُلِ : بِمَ تَسْتَفْتِحُ صَلَاتَكَ قَالَ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، قَالَ : " هِيَ ، هِيَ " . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ إِخْرَاجَ إِحْدَى رِجْلَيْهِ لَا يَكُونُ خُرُوجًا ، وَإِذَا كَانَ بَعْضُ الْفِعْلِ لَا يَقُومُ مَقَامَ جَمِيعِ الْفِعْلِ في اليمين ، فَأَحَدُ الْفِعْلَيْنِ أَوْلَى أَنْ لَا يَقُومَ مَقَامَ الْفِعْلَيْنِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا اسْتَوَى الْفِعْلَانِ فِي شَرْطِ الْبِرِّ وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي شَرْطِ الْحِنْثِ ، لِتَرَدُّدِ الْيَمِينِ بَيْنَ بِرٍّ وَحِنْثٍ ، وَفَرْقُ مَا بَيْنَهُمَا مُنْتَقِضٌ بِفِعْلِ بَعْضِ الشَّيْءِ حَيْثُ لَمْ يَقُمْ مَقَامَ جَمِيعِهِ فِي الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ مَعًا مَعَ وُجُودِ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ فِيهِمَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَ : وَاللَّهِ لَا أَشْرَبُ مَاءَ هَذِهِ الْإِدَاوَةِ ، أَوْ مَاءَ هَذَا النَّهْرِ ، لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَشْرَبَ مَاءَ الْإِدَاوَةِ كُلَّهُ ، وَلَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى شُرْبِ مَاءِ النَّهْرِ كُلِّهِ ، وَلَوْ قَالَ : مِنْ مَاءِ هَذِهِ الْإِدَاوَةِ ، أَوْ مِنْ مَاءِ هَذَا النَّهْرِ ، حَنِثَ إِنْ شَرِبَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا إِذَا حَلَفَ لَا شَرِبْتُ مِنْ مَاءِ هَذِهِ الْإِدَاوَةِ ، وَلَا شَرِبْتُ مِنْ مَاءِ هَذَا النَّهْرِ ، فَالْيَمِينُ مَعْقُودَةٌ عَلَى بَعْضِ مَاءِ الْإِدَاوَةِ وَبَعْضِ مَاءِ النَّهْرِ ، لِدُخُولِ حَرْفِ التَّبْعِيضِ عَلَيْهَا ، وَهُوَ قَوْلُهُ : " مِنْ " فَأَيُّ قَدْرٍ شَرِبَ مِنْ مَاءِ الْإِدَاوَةِ وَمَاءِ النَّهْرِ حَنِثَ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ ، وَكَذَا فِي الْإِثْبَاتِ لَوْ حَلَفَ لَيَشْرَبَنَّ مِنْ مَاءِ هَذِهِ الْإِدَاوَةِ أَوْ مِنْ مَاءِ هَذَا النَّهْرِ ، فَأَيُّ قَدْرٍ شَرِبَ مِنْهُمَا مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ بَرَّ فِي يَمِينِهِ ارْتَوَى بِهِ أَوْ لَمْ يَرْتَوِ . فَأَمَّا إِذَا حَذَفَ مِنْ يَمِينِهِ حَرْفَ التَّبْعِيضِ فَأَطْلَقَهَا ، فَقَالَ : وَاللَّهِ لَأَشْرَبَنَّ مَاءَ هَذِهِ الْإِدَاوَةِ لَمْ يَحْنَثْ بِشُرْبِ بَعْضِهِ ، وَإِنْ حَنَّثَهُ مَالِكٌ ؛ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ فِي إِطْلَاقِ الْيَمِينِ تُوجِبُ الِاسْتِيعَابَ فَإِنْ قِيلَ : أَفَلَيْسَ لَوْ قَالَ : وَاللَّهِ لَا أَكَلْتُ طَعَامًا اشْتَرَاهُ زَيْدٌ ، فَأَكَلَ بَعْضَهُ حَنِثَ ، فَهَلَّا حَنِثَ بِشُرْبِ بَعْضِ الْمَاءِ ، كَمَا حَنِثَ بِأَكْلِ بَعْضِ الطَّعَامِ . قِيلَ : لَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِشُرْبِ بَعْضِ الْمَاءِ وَفِي حِنْثِهِ بِأَكْلِ بَعْضِ الطَّعَامِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ كَمَا لَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ بَعْضِهِ فَعَلَى هَذَا قَدِ اسْتَوَيَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّهُ يَحْنَثُ بِأَكْلِ بَعْضِ الطَّعَامِ ، وَإِنْ لَمْ يَحْنَثْ إِلَّا بِشُرْبِ جَمِيعِ الْمَاءِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَاءَ فِي الْإِدَاوَةِ مِقْدَارٌ يَنْطَلِقُ عَلَى جَمِيعِهِ ، وَلَا يَنْطَلِقُ عَلَى بَعْضِهِ ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَحْنَثْ بِشُرْبِ بَعْضِهِ وَشِرَاءُ زَيْدٍ لِلطَّعَامِ صِفَةٌ تَنْطَلِقُ عَلَى بَعْضِهِ ، كَمَا تَنْطَلِقُ عَلَى جَمِيعِهِ ، فَلِذَلِكَ حَنِثَ بِأَكْلِ بَعْضِهِ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْحِنْثَ فِي الْإِدَاوَةِ يَقَعُ بِشُرْبِ مَائِهَا كُلِّهِ ، وَلَا يَحْنَثُ بِشُرْبِ بَعْضِهِ ، فَذَهَبَ

مِنْ مَاءِ الْإِدَاوَةِ قَطْرَةٌ انْحَلَّتِ الْيَمِينُ لِأَنَّهُ لَا حِنْثَ فِيهَا إِنْ شَرِبَ بَاقِيَ مَائِهَا ، فَلَوْ شَكَّ أَذَهَبَ مِنْهَا قَطْرَةٌ أَوْ لَمْ يَذْهَبْ ، فَشَرِبَ جَمِيعَ مَائِهَا ، فَفِي حِنْثِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّ ذَهَابَ الْقَطْرَةِ مَشْكُوكٌ فِيهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّ الْحِنْثَ مَشْكُوكٌ فِيهِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا حَلَفَ ، لَا شَرِبْتُ مَاءَ هَذَا النَّهْرِ ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَا سَبِيلَ إِلَى شُرْبِ مَاءِ النَّهْرِ كُلِّهِ ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِبَرِّهِ وَلَا لِحِنْثِهِ فِيمَا شَرِبَ مِنْهُ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي شُرْبِهِ مِنْهُ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ يَحْنَثُ بِمَا شَرِبَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَحَالَ شُرْبُ جَمِيعِهِ ، صَارَتِ الْيَمِينُ مَعْقُودَةً عَلَى مَا لَا يَسْتَحِيلُ : لِأَنْ لَا يَصِيرَ بِيَمِينِهِ بَعْدَ الْعَقْدِ لَغْوًا . أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ : وَاللَّهِ لَا شَرِبْتُ الْمَاءَ حَنِثَ بِشُرْبِ مَا قَلَّ مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَ دُخُولُ الْأَلِفِ وَاللَّامِ يَقْتَضِي اسْتِيعَابَ جَمِيعِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ شُرْبُ جَمِيعِهِ مِنَ الْمُسْتَحِيلِ ، حُمِلَ عَلَى شُرْبِ مَا لَا يَسْتَحِيلُ ، كَذَلِكَ مَاءُ النَّهْرِ لَمَّا اسْتَحَالَ شُرْبُ جَمِيعِهِ ، حُمِلَ عَلَى مَا لَا يَسْتَحِيلُ مِنْ شُرْبِ بَعْضِهِ ، وَتَأَوَّلَ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَا سَبِيلَ إِلَى شُرْبِ مَاءِ النَّهْرِ كُلِّهِ عَلَى حَمْلِ يَمِينِهِ عَلَى مَا يَجِدُ سَبِيلَ إِلَيْهِ ، وَهُوَ أَنْ يَشْرَبَ مِنْ مَاءِ النَّهْرِ ، فَعَلَى هَذَا : أَيُّ شَيْءٍ شَرِبَ مِنْ مَائِهِ حَنِثَ بِهِ مِمَّا يَرْوِي أَوْ لَا يَرْوِي . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الظَّاهِرَ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِشُرْبٍ بِشَيْءٍ مِنْ مَائِهِ ؛ لِأَنَّ يَمِينَهُ تَوَجَّهَتْ إِلَى شُرْبِ جَمِيعِهِ ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَهَا عَلَى مَاءِ النَّهْرِ ، وَلَمْ يُطْلِقْ فَصَارَ النَّهْرُ مِقْدَارًا كَالْإِدَاوَةِ ، وَلَيْسَ إِذَا اسْتَحَالَ شُرْبُ الْجَمِيعِ وَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى شُرْبِ مَا لَا يَسْتَحِيلُ . أَلَا تَرَاهُ لَوْ حَلَفَ لَأَصْعَدَنَّ السَّمَاءَ ، وَهُوَ مُسْتَحِيلٌ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى صُعُودِ السَّقْفِ ، وَقَدْ يُسَمَّى سَمَاءً ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحِيلٍ ، وَوَجَبَ حَمْلُ يَمِينِهِ فِي صُعُودِ السَّمَاءِ عَلَى الْحَقِيقَةِ دُونَ الْمَجَازِ كَذَلِكَ فِي شُرْبِ مَاءِ النَّهْرِ ، فَأَمَّا إِذَا قَالَ : لَا شَرِبْتُ الْمَاءَ ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ لَفْظُ تَعْرِيفٍ وُضِعَ لِاسْتِيعَابِ الْجِنْسِ تَارَةً وَلِلْمَعْهُودِ أُخْرَى وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا ، فَإِذَا اسْتَحَالَ اسْتِيعَابُ الْجِنْسِ حُمِلَ عَلَى الْمَعْهُودِ ، وَكَانَ حَقِيقَةً فِيهِ ، وَفَارَقَ مَاءَ النَّهْرِ لِأَنَّ الِاسْمَ حَقِيقَةٌ فِي جَمِيعِهِ وَمَجَازٌ فِي بَعْضِهِ ، وَتَأَوَّلَ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ : " وَلَا سَبِيلَ إِلَى شُرْبِ مَاءِ النَّهْرِ كُلِّهِ " بِسُقُوطِ حِنْثِهِ . ثُمَّ يَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فِي النَّفْيِ أَنْ يَعْقِدَ يَمِينَهُ عَلَى الْإِثْبَاتِ فَيَقُولَ : وَاللَّهِ لَأَشْرَبَنَّ مَاءَ هَذَا النَّهْرِ ، فَعَلَى مُقْتَضَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ : مَتَى شَرِبَ بَعْضَ مَائِهِ بَرَّ ؛ لِأَنَّهُ

لَمَّا حَنِثَ بِشُرْبِ بَعْضِهِ فِي النَّفْيِ وَجَبَ أَنْ يَبَرَّ بِشُرْبِ بَعْضِهِ فِي الْإِثْبَاتِ ، وَعَلَى مُقْتَضَى قَوْلِ الْمَرْوَزِيِّ لَا يَبَرَّ فِي الْإِثْبَاتِ بِشُرْبِ بَعْضِهِ كَمَا لَا يَحْنَثُ فِي النَّفْيِ بِشُرْبِ بَعْضِهِ ، وَإِذَا لَمْ يَبَرَّ صَارَ مَحْكُومًا بِحِنْثِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى بِرِّهِ ، فَصَارَ كَقَوْلِهِ : وَاللَّهِ لَأَصْعَدَنَّ السَّمَاءَ ، يَكُونُ حَانِثًا ؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى الْبِرِّ ، وَفِي زَمَانِ حِنْثِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : عَقِيبَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ اسْتِحَالَةَ الْبِرِّ يَمْنَعُ مِنْ تَأْخِيرِ الْحِنْثِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَحْنَثُ مِنْ آخِرِ حَيَاتِهِ ؛ لِأَنَّ عَقْدَ يَمِينِهِ عَلَى التَّرَاخِي ، فَكَانَ تَحْقِيقُ الْحِنْثِ عَلَى التَّرَاخِي .

فَصْلٌ : وَإِذَا حَلَفَ : لَأَشْرَبُ مِنْ مَاءِ دِجْلَةَ ، فَشَرِبَ مِنْ مَاءِ الْفُرَاتِ ، أَوْ لَأَشْرَبُ مِنْ مَاءِ الْفُرَاتِ ، فَشَرِبَ مِنْ مَاءِ دِجْلَةَ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ التَّعْيِينَ يَخُصُّ الْيَمِينَ ، وَلَوْ قَالَ : وَاللَّهِ لَأَشْرَبُ مَاءَ الْفُرَاتِ حَنِثَ بِشُرْبِهِ مِنْ دِجْلَةَ وَمِنَ الْفُرَاتِ ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ الْفُرَاتَ هُوَ الْعَذْبُ ، فَحَنِثَ بِشُرْبِ كُلِّ مَاءٍ عَذْبٍ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا [ الْمُرْسَلَاتِ : 27 ] ، أَيْ : عَذْبًا ، وَلَا فَرْقَ إِذَا حَلَفَ لَأَشْرَبُ مِنْ مَاءِ دِجْلَةَ بَيْنَ أَنْ يَشْرَبَهُ مِنْ إِنَاءٍ اغْتَرَفَ بِهِ ، وَبَيْنَ أَنْ يَشْرَبَهُ كَرْعًا بِفِيهِ كَالْبَهِيمَةِ . فَأَمَّا إِذَا حَلَفَ ، لَا شَرِبْتُ مِنْ دِجْلَةَ ، فَإِنْ شَرِبَ مِنْهَا كَرْعًا بِفَمِهِ حَنِثَ بِإِجْمَاعٍ ، وَإِنِ اغْتَرَفَ مِنْهَا بِإِنَاءٍ وَشَرِبَ مِنَ الْإِنَاءِ حَنِثَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَحْنَثُ حَتَّى يَكْرَعَ مِنْهَا بِفَمِهِ ، وَلَا يَبَرُّ إِنِ اغْتَرَفَ بِيَدِهِ احْتِجَاجًا بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ : لَأَشْرَبُ مِنْ هَذَا الْإِنَاءِ ، فَاغْتَرَفَ مِنْ مَائِهِ ، وَشَرِبَهُ لَمْ يَحْنَثْ كَذَلِكَ إِذَا حَلَفَ : لَا شَرِبْتُ مِنْ دِجْلَةَ ، فَاغْتَرَفَ مَا شَرِبَهُ مِنْ مَائِهَا ، لَمْ يَحْنَثْ بِوُقُوعِ الْيَمِينِ عَلَى مُسْتَقَرِّ الْمَاءِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الشُّرْبَ مِنْهَا حَقِيقَةٌ ، وَمِنْ مَائِهَا مَجَازٌ ، وَحَمْلُ الْأَيْمَانِ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهَا عَلَى الْمَجَازِ . وَدَلِيلُنَا أُمُورٌ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْمَاءَ الْمَشْرُوبَ مُضْمَرٌ فِي اللَّفْظِ ؛ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالشُّرْبِ ، كَمَا يُقَالُ : شَرِبَ أَهْلُ بَغْدَادَ مِنْ دِجْلَةَ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ مِنَ الْفُرَاتِ ، أَيْ مِنْ مَاءِ دِجْلَةَ وَمَاءِ الْفُرَاتِ ، فَصَارَ إِضْمَارُهُ كَإِظْهَارِهِ ، فَلَمَّا كَانَ لَوْ حَلَفَ : لَأَشْرَبُ مِنْ مَاءِ دِجْلَةَ حَانِثًا ، فَشَرِبَهُ مِنْهَا عَلَى جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَجَبَ إِذَا حَلَفَ ، لَأَشْرَبُ مِنْ دِجْلَةَ أَنْ يَحْنَثَ بِشُرْبِهِ مِنْهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ ؛ لِأَنَّ الْمُضْمَرَ مَقْصُودٌ كَالْمُظْهَرِ .

وَالثَّانِي : أَنَّ إِجْمَاعَنَا مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ : لَا شَرِبْتُ مِنَ الْبِئْرِ ، وَلَا أَكَلْتُ مِنَ النَّخْلَةِ أَنَّهُ يَحْنَثُ بِشُرْبِ مَا اسْتَقَاهُ مِنَ الْبِئْرِ ، وَبِأَكْلِ مَا لَقَطَهُ مِنَ النَّخْلَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَكْرَعْ مَاءَ الْبِئْرِ بِفَمِهِ ، وَلَا تَنَاوَلَ ثَمَرَةَ النَّخْلَةِ بِفَمِهِ ، كَذَلِكَ الدِّجْلَةُ . وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا ، أَنَّ مَا كَانَ حِنْثًا فِي مَاءِ الْبِئْرِ كَانَ حِنْثًا فِي مَاءِ الدِّجْلَةِ قِيَاسًا عَلَى أَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : إِذَا كَرَعَ مِنْهُمَا . وَالثَّانِي : إِذَا تَلَفَّظَ بِاسْمِ الْمَاءِ فِيهِمَا . فَإِنْ قِيلَ : مَاءُ الْبِئْرِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُشْرَبَ إِلَّا بِاسْتِقَائِهِ ، وَثَمَرُ النَّخْلَةِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤْكَلَ إِلَّا بِلِقَاطِهِ . قِيلَ : يُمْكِنُ أَنْ يُشْرَبَ مَاءُ الْبِئْرِ بِنُزُولِهِ إِلَيْهَا ، وَيُؤْكَلُ مِنَ النَّخْلَةِ بِصُعُودِهِ إِلَيْهَا ، وَإِنْ كَانَ تَلْحَقُهُ الْمَشَقَّةُ كَمَا يُمْكِنُ أَنْ يَكْرَعَ مِنَ الدِّجْلَةِ بِالْمَشَقَّةِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ حَقِيقَةَ الدِّجْلَةِ اسْمٌ لِقَرَارِهَا ، وَالْحَقِيقَةُ فِي هَذَا الِاسْمِ مَعْدُولٌ عَنْهَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقَرَارَ غَيْرُ مَشْرُوبٍ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَا بَاشَرَ الْقَرَارَ لَا يَصِلُ إِلَى كَرْعِهِ لِعُمْقِهِ ، وَإِذَا سَقَطَ حَقِيقَةُ الِاسْمِ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ وَجَبَ الْعُدُولُ إِلَى مَجَازِهِ ، وَهُوَ الْمَاءُ ؛ لِأَنَّ اسْمَ الدِّجْلَةِ حَقِيقَةٌ فِي قَرَارِهَا ، وَمَجَازٌ فِي مَائِهَا ، وَالْمَجَازُ الْمُسْتَعْمَلُ أَوْلَى مِنَ الْحَقِيقَةِ الْمَتْرُوكَةِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ إِذَا حَلَفَ : لَا يَشْرَبُ مِنْ هَذَا الْإِنَاءِ ، فَهُوَ أَنَّ الْإِنَاءَ آلَةٌ لِلشُّرْبِ ، فَصَارَتِ الْيَمِينُ مَعْقُودَةً عَلَيْهِ ، وَلَيْسَتِ الدِّجْلَةُ آلَةً لِلشُّرْبِ ، فَصَارَتِ الْيَمِينُ مَعْقُودَةً عَلَى مَائِهَا ، أَلَا تَرَاهُ إِذَا قَالَ : وَاللَّهِ لَا شَرِبْتُ مِنْ هَذِهِ النَّاقَةِ حَنِثَ إِذَا شَرِبَ مِنْ لَبَنِهَا ، وَإِنْ لَمْ يَمْتَصَّهُ مِنْ أَخْلَافِ ضُرُوعِهَا . وَلَوْ قَالَ : وَاللَّهِ لَا شَرِبْتُ مِنْ هَذَا الْإِنَاءِ ، فَشَرِبَ مِنْ لَبَنِ الْإِنَاءِ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ مِنْهُ لَمْ يَحْنَثْ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الشُّرْبَ مِنْهَا حَقِيقَةٌ ، وَمِنْ مَائِهَا مَجَازٌ ، فَهُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمَجَازَ الْمُسْتَعْمَلَ أَوْلَى مِنَ الْحَقِيقَةِ الْمَتْرُوكَةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

بَابُ مَنْ حَلَفَ عَلَى غَرِيمِهِ لَا يُفَارِقُهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ

بَابُ مَنْ حَلَفَ عَلَى غَرِيمِهِ لَا يُفَارِقُهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " مَنْ حَلَفَ عَلَى غَرِيمِهِ لَا يُفَارِقُهُ حَتَى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ ، فَفَرَّ مِنْهُ لَمْ يَحْنَثْ : لِأَنَّهُ لَمْ يُفَارِقْهُ ، وَلَوْ قَالَ : لَا أَفْتُرِقُ أَنَا وَأَنْتَ حَنِثَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَصْلُ هَذَا الْبَابِ أَنَّ كُلَّ يَمِينٍ عُلِّقَتْ عَلَى فِعْلِ فَاعِلٍ كَانَتْ مَقْصُورَةً عَلَى فِعْلِهِ ، وَلَمْ تَتَعَلَّقْ بِفِعْلِ غَيْرِهِ ، فَيَكُونُ الْبِرُّ وَالْحِنْثُ مُعْتَبَرًا بِفِعْلِ مَنْ قَصَدَ بِالْيَمِينِ ، فَإِذَا لَازَمَ صَاحِبُ الدَّيْنِ غَرِيمَهُ ، وَحَلَفَ أَنْ لَا يَفْتَرِقَا حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ لَمْ يَخْلُ يَمِينُهُ مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَعْقِدَهَا عَلَى فِعْلِهِ . وَالثَّانِي : عَلَى فِعْلِ غَرِيمِهِ . وَالثَّالِثُ : عَلَى فِعْلِهِمَا . فَأَقَامَ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ : وَهُوَ أَنْ يَعْقِدَهَا عَلَى فِعْلِهِ ، فَهُوَ أَنْ يَقُولَ : وَاللَّهِ لَا فَارَقْتُكَ حَتَّى أَسْتَوْفِيَ حَقِّي مِنْكَ ، فَالْبِرُّ وَالْحِنْثُ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ الْحَالِفِ دُونَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ ، فَإِنْ فَارَقَهُ الْحَالِفُ مُخْتَارًا ذَاكِرًا حَنِثَ ، وَإِنْ فَارَقَهُ مُكْرَهًا أَوْ نَاسِيًا ، فَفِي حِنْثِهِ قَوْلَانِ ، عَلَى مَا مَضَى فِي حِنْثِ الْمُكْرَهِ وَالنَّاسِي ، فَأَمَّا إِنْ فَارَقَهُ الْغَرِيمُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ ، وَفَرَّ مِنْهُ لَمْ يَحْنَثِ الْحَالِفُ ، سَوَاءٌ قَدَرَ عَلَى إِمْسَاكِهِ أَوْ لَمْ يَقْدِرْ ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ مَعْقُودَةٌ عَلَى فِعْلِهِ فَكَانَ حِنْثُهُ بِأَنْ يَكُونَ الْفِرَاقُ مَنْسُوبًا إِلَى فِعْلِهِ ، وَهَذَا الْفِرَاقُ مَنْسُوبٌ إِلَى فِعْلِ غَرِيمِهِ ، فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حِنْثٌ ، وَوَهِمَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَخَرَجَ حِنْثُهُ بِفِرَاقِ الْغَرِيمِ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ حِنْثِ الْمُكْرَهِ وَالنَّاسِي ، وَهُوَ خَطَأٌ لِمَا ذَكَرْنَا . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يَعْقِدَ يَمِينَهُ عَلَى فِعْلِ غَرِيمِهِ ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ : وَاللَّهِ لَا فَارَقْتَنِي حَتَّى أَسْتَوْفِيَ حَقِّي مِنْكَ ، فَإِنْ فَارَقَهُ الْغَرِيمُ مُخْتَارًا ذَاكِرًا حَنَّثَهُ ، وَإِنْ فَارَقَهُ مُكْرَهًا أَوْ نَاسِيًا ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْإِكْرَاهِ إِذَا كَانَ فِي فِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ ، هَلْ يَجْرِي مَجْرَى الْإِكْرَاهِ فِي فِعْلِ الْحَالِفِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ أَنَّ الْإِكْرَاهَ فِيهِمَا عَلَى سَوَاءٍ ، فَعَلَى هَذَا فِي حِنْثِ الْحَالِفِ قَوْلَانِ .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ الْإِكْرَاهَ مُعْتَبَرٌ فِي فِعْلِ الْحَالِفِ وَغَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي فِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ ، فَعَلَى هَذَا يَحْنَثُ الْحَالِفُ قَوْلًا وَاحِدًا ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ الْحَالِفُ هُوَ الْمُفَارِقَ لِلْغَرِيمِ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ : لِأَنَّ يَمِينَهُ مَعْقُودَةٌ عَلَى فِعْلِ غَرِيمِهِ ، لَا عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ ، وَهَذَا الْفِرَاقُ مَنْسُوبٌ إِلَيْهِ ، وَلَيْسَ بِمَنْسُوبٍ إِلَى الْغَرِيمِ ، فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حِنْثٌ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ يَعْقِدَ يَمِينَهُ عَلَى فِعْلِهِ ، وَفِعْلِ غَرِيمِهِ ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ : وَاللَّهِ لَا افْتَرَقْنَا أَنَا وَأَنْتَ ، أَوْ وَاللَّهِ لَا فَارَقَ وَاحِدٌ مِنَّا صَاحِبَهُ ، حَتَّى أَسْتَوْفِيَ حَقِّي مِنْكَ ، فَالْحِنْثُ هَاهُنَا وَاقِعٌ بِفِرَاقِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ ، لِانْعِقَادِ الْيَمِينِ عَلَى فِعْلِهِمَا ، فَإِنْ فَارَقَهُ الْحَالِفُ حَنِثَ إِنْ كَانَ ذَاكِرًا مُخْتَارًا ، وَفِي حِنْثِهِ إِنْ كَانَ مُكْرَهًا أَوْ نَاسِيًا قَوْلَانِ ، وَإِنْ فَارَقَهُ الْغَرِيمُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ ذَاكِرًا مُخْتَارًا حَنِثَ الْحَالِفُ ، وَإِنْ فَارَقَهُ مُكْرَهًا أَوْ نَاسِيًا ، فَفِي حِنْثِ الْحَالِفِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ خِلَافِ الْبَغْدَادِيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ فِي مَعَانِي هَذِهِ الْأَقْسَامِ فِي الْيَمِينِ إِذَا كَانَتْ فِي الْكَلَامِ أَنْ يَقُولَ : وَاللَّهِ لَا كَلَّمْتُكَ ، فَإِنْ كَلَّمَهُ الْحَالِفُ ، حَنِثَ لِعَقْدِ الْيَمِينِ عَلَى كَلَامِ الْحَالِفِ ، وَإِنْ كَلَّمَهُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ ، وَلَوْ قَالَ : وَاللَّهِ لَا كَلَّمْتَنِي فَكَلَّمَهُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ حَنِثَ ، وَلَوْ كَلَّمَهُ الْحَالِفُ لَمْ يَحْنَثْ لِعَقْدِ الْيَمِينِ عَلَى كَلَامِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ ، وَلَوْ قَالَ : وَاللَّهِ لَا تُكَلِّمُنَا أَوْ لَا كَلَّمَ وَاحِدٌ مِنَّا صَاحِبَهُ ، فَأَيُّهُمَا كَلَّمَ الْآخَرَ حَنِثَ : لِأَنَّ الْيَمِينَ مَعْقُودَةٌ عَلَى كَلَامِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ أَفْلَسَ قَبْلَ أَنْ يُفَارِقَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا رَاجِعٌ إِلَى مَنْ حَلَفَ لَا يُفَارِقُهُ غَرِيمُهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ مِنْهُ فَأَفْلَسَ الْغَرِيمُ فَفَارَقَهُ لِأَجْلِ الْفَلَسِ الْمُوجِبِ لِإِطْلَاقِهِ لَا لِخَدِيعَةٍ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ فِرَاقِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِحُكْمٍ أَوْ بِغَيْرِ حُكْمٍ ، فَإِنْ فَارَقَهُ بِنَفْسِهِ لِمَا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ مِنْ إِنْظَارِ الْمُعْسِرِ حَنِثَ ؛ لِأَنَّ أَحْكَامَ الشَّرْعِ إِذَا خَالَفَتْ عَقْدَ الْيَمِينِ لَمْ يَمْنَعْ مِنَ الْحِنْثِ كَمَنْ غَصَبَ مَالًا ، وَحَلَفَ لَا رَدَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ حَنِثَ بِرَدِّهِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ رَدُّهُ بِالشَّرْعِ وَاجِبًا ؛ لِأَنَّهُ رَدَّهُ عَلَيْهِ مُخْتَارًا ، وَهَكَذَا لَوْ دَخَلَ دَارَ غَيْرِهِ وَحَلَفَ لَا خَرَجَ مِنْهَا حَنِثَ بِخُرُوجِهِ ، وَإِنْ أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ ، فَأَمَّا إِنْ حَكَمَ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ بِمُفَارَقَتِهِ لَمَّا حَكَمَ بِهِ مِنْ فَلَسِهِ ، فَهُوَ فِي هَذَا الْفِرَاقِ مُكْرَهٌ غَيْرُ مُخْتَارٍ ؛ لِأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إِلَى إِجْبَارِ الْحَاكِمِ ، فَيَكُونُ فِي حِنْثِهِ قَوْلَانِ مِنْ حِنْثِ الْمُكْرَهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " أَوِ اسْتَوْفَى حَقَّهُ فِيمَا يَرَى فَوَجَدَ فِي دَنَانِيرِهِ زُجَاجًا أَوْ نُحَاسًا حَنِثَ فِي قَوْلِ مَنْ لَا يَطْرَحُ الْغَلَبَةَ وَالْخَطَأَ عَنِ النَّاسِ لِأَنَّ هَذَا لَمْ يَعْمَدْهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا اسْتَوْفَى حَقَّهُ فِي الظَّاهِرِ ثُمَّ وَجَدَ فِيهِ بَعْدَ فِرَاقِهِ نُحَاسًا حلف الرجل على غريمه الا يبرحه حتى يستوفى حقه أَوْ

رَصَاصًا أَوْ زُجَاجًا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ صَارَ فِيهِ كَالْمَغْلُوبِ وَالنَّاسِي ، فَيَكُونُ فِي حِنْثِهِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا : يَحْنَثُ اعْتِبَارًا بِوُجُودِ الْفِعْلِ وَاطِّرَاحًا لِلْقَصْدِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يَحْنَثُ اعْتِبَارًا بِالْقَصْدِ وَاطِّرَاحًا لِلْفِعْلِ . وَأَمَّا إِذَا وَجَدَهُ مَعِيبًا ، وَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْحَقِّ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ عَيْبُهَا يُخْرِجُهَا مِنَ انْطِلَاقِ اسْمِ الْحَقِّ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ دَنَانِيرُ مَغْرِبِيَّةٌ ، فَأَعْطَاهُ دَنَانِيرَ مَشْرِقِيَّةً ، فَتَكُونُ خِلَافَ الصِّفَةِ فِي الْيَمِينِ جَارِيًا مَجْرَى خِلَافِ الْجِنْسِ ، فَإِنْ عَلِمَ بِهِ قَبْلَ فِرَاقِهِ حَنِثَ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ إِلَّا بَعْدَ فِرَاقِهِ كَانَ حِنْثُهُ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ عَيْبُهَا لَا يُخْرِجُهَا مِنَ انْطِلَاقِ اسْمِ الْحَقِّ عَلَيْهَا ، بِأَنْ تَكُونَ دَنَانِيرَ مَغْرِبِيَّةً لَكِنَّهَا مَعِيبَةٌ نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ عَيْبُهَا مِمَّا يُسْمَحُ بِهِ فِي الْأَغْلَبِ لِقِلَّةٍ أَرْشِهِ بَرَّ فِي يَمِينِهِ ، وَإِنْ كَانَ ضِدَّ ذَلِكَ لِكَثْرَةِ أَرْشِهِ حَنِثَ . فَإِنْ قِيلَ : نُقْصَانُ الْقَدْرِ مُوجِبٌ لِلْحِنْثِ فِيمَا قَلَّ وَكَثُرَ ، فَهَلَّا كَانَ نُقْصَانُ الْأَرْشِ بِمَثَابَتِهِ فِي وُقُوعِ الْحِنْثِ بِمَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ قِيلَ : لِأَنَّ نُقْصَانَ الْقَدْرِ مُسْتَحَقٌّ يَمْنَعُ مِنَ التَّمَاثُلِ فِي الرِّبَا ، وَنُقْصَانَ الْأَرْشِ مَظْنُونٌ لَا يَمْنَعُ مِنَ التَّمَاثُلِ فِي الرِّبَا ، وَيَمْنَعُ مِنَ الْبِرِّ فِي الْيَمِينِ . فَإِنْ قِيلَ : فَهَذَا يَنْكَسِرُ بِكَثِيرِ الْأَرْشِ لَا يَمْنَعُ مِنَ التَّمَاثُلِ فِي الرِّبَا وَيَمْنَعُ مِنَ الْبِرِّ فِي الْيَمِينِ ، قِيلَ : لِأَنَّ الظَّنَّ فِي كَثِيرِهِ أَقْوَى ، وَفِي قَلِيلِهِ أَضْعَفُ فَافْتَرَقَا فِي بِرِّ الْيَمِينِ ، وَإِنِ اسْتَوَيَا فِي تَمَاثُلِ الرِّبَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ أَخَذَ بِحَقِّهِ عَرَضًا فَإِنْ كَانَ قِيمَةَ حَقِّهِ لَمْ يَحْنَثْ ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ حَنِثَ إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ حَتَّى لَا يَبْقَى عَلَيْكَ مِنْ حَقِّي شَيْءٌ ، فَلَا يَحْنَثُ " ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : لَيْسَ لِلْقِيمَةِ مَعْنًى لِأَنَّ يَمِينَهُ إِنْ كَانَتْ عَلَى عَيْنِ الْحَقِّ لَمْ يَبَرَّ إِلَّا بِعَيْنِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى الْبَرَاءَةِ ، فَقَدْ بَرِئَ ، وَالْعَرَضُ غَيْرُ الْحَقِّ سَوَّى أَوْ لَمْ يُسَوِّ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا أَنْ يَحْلِفَ صَاحِبُ الْحَقِّ عَلَى غَرِيمِهِ أَنْ لَا يُفَارِقَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ مِنْهُ فَيَأْخُذَ مِنْهُ عِوَضَ حَقِّهِ مَتَاعًا أَوْ عَرُوضًا أَوْ يَأْخُذَ بَدَلَ الدَّرَاهِمَ دَنَانِيرَ أَوْ بَدَلَ الدَّنَانِيرِ دَرَاهِمَ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بِرِّهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّهُ لَا يَبَرُّ فِي يَمِينِهِ ، وَيَحْنَثُ سَوَاءٌ كَانَ مَا أَخَذَهُ بِقِيمَةِ حَقِّهِ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ . وَالثَّانِي : - وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ - أَنَّهُ يَبَرُّ فِي يَمِينِهِ وَلَا يَحْنَثُ ، سَوَاءٌ كَانَ بِقِيمَةِ حَقِّهِ ، أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ .

وَالثَّالِثُ : وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ يَبَرُّ إِنْ كَانَ بِقِيمَةِ حَقِّهِ ، وَيَحْنَثُ إِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ قِيمَةِ حَقِّهِ ، وَوَهِمَ الْمُزَنِيُّ فَنَقَلَ هَذَا الْمَذْهَبَ عَنِ الشَّافِعِيِّ ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : لَيْسَ لِلْقِيمَةِ مَعْنًى ؛ لِأَنَّ يَمِينَهُ إِنْ كَانَتْ عَلَى غَيْرِ الْحَقِّ لَمْ يَبَرَّ إِلَّا بِعَيْنِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى الْبَرَاءَةِ فَقَدْ بَرِئَ ، وَالْعِوَضُ غَيْرُ الْحَقِّ ، سَوَّى أَوْ لَمْ يُسَاوِ ، فَيُقَالُ لِلْمُزَنِيِّ : نَقْلُكَ خَطَأٌ وَجَوَابُكَ صَحِيحٌ ، وَإِنَّمَا حَكَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ ، وَقَدْ أَفْصَحَ بِمَذْهَبِهِ فِي كِتَابِ الْأُمِّ أَنَّهُ يَحْنَثُ ، وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى بِرِّهِ بِأَخْذِ الْبَدَلِ بِأَنَّهُ إِذَا أَخَذَ عَنْ مِائَةِ دِينَارٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ صَارَ عَلَيْهِ بِأَخْذِ الْأَلْفِ مِائَةُ دِينَارٍ ، فَصَارَ مُسْتَوْفِيًا لِحَقِّهِ . وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ سُقُوطَ الْحَقِّ إِنَّمَا هُوَ بِالْمَأْخُوذِ وَهُوَ دَرَاهِمُ وَالْحَقُّ دَنَانِيرُ ، فَصَارَ أَخْذًا لِبَدَلِ الْحَقِّ ، وَلَيْسَ بِآخِذٍ لِلْحَقِّ ؛ وَلِأَنَّنَا أَجْمَعْنَا وَأَبُو حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ حَقُّ الْحَالِفِ ثَوْبًا فَصَالَحَ عَنْهُ بِدَرَاهِمَ أَخَذَهَا مِنْهُ أَنَّهُ يَحْنَثُ ، فَكَذَلِكَ إِذَا أَخَذَ عَنِ الدَّرَاهِمِ ثَوْبًا أَوْ أَخَذَ عَنِ الدَّنَانِيرِ دَرَاهِمَ حَنِثَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَخَذَ فِي الْحَالَيْنِ بَدَلَ حَقِّهِ ، وَلَمْ يَأْخُذْ بِعَيْنِهِ ، وَفِيهِ جَوَابٌ .


فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا حَلَفَ لَا يُفَارِقُهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مَا عَلَيْهِ وَلَمْ يَقُلْ : أَسْتَوْفِي حَقِّي فَأَخَذَ بِحَقِّهِ بَدَلًا بَرَّ فِي يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِأَخْذِ الْبَدَلِ مُسْتَوْفِيًا مَا عَلَيْهِ ، وَلَوْ أَبْرَأَهُ مِنَ الْحَقِّ حَنِثَ ؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ لَيْسَ بِاسْتِيفَاءٍ ، وَلَوْ أَخَذَ بِهِ رَهْنًا حَنِثَ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ ، وَلَوْ أَحَالَهُ بِالْحَقِّ حَنِثَ ؛ لِأَنَّهُ مَا اسْتَوْفَى مَا عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا نَقَلَهُ إِلَى ذِمَّةِ غَيْرِهِ ، وَلَوْ أَحَالَهُ صَاحِبُ الْحَقِّ عَلَى الْغَرِيمِ بَرَّ : لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَوْفَى بِالْحَوَالَةِ حَقَّهُ ، وَلَوْ جَنَى عَلَيْهِ جِنَايَةً أَرْشُهَا بِقَدْرِ حَقِّهِ فَإِنْ كَانَتْ خَطَأً لَمْ يَبَرَّ ؛ لِأَنَّ أَرْشَهَا عَلَى عَاقِلَتِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ عَمْدًا فَأَرْشُهَا فِي ذِمَّتِهِ ، وَحَقُّهُ فِي ذِمَّةِ غَرِيمِهِ ، فَإِنْ كَانَا مِنْ جِنْسَيْنِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَقَاضَاهُ ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ دَيْنٍ بِدَيْنٍ ، فَيَحْنَثُ لِبَقَاءِ حَقِّهِ عَلَى غَرِيمِهِ ، وَإِنْ كَانَا جِنْسًا وَاحِدًا فَهَلْ يَكُونُ قِصَاصًا فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : يَكُونُ قِصَاصًا ، وَإِنْ لَمْ يَتَرَاضَيَا ، فَعَلَى هَذَا فَقَدَ بَرَّ فِي يَمِينِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يَكُونُ قِصَاصًا وَإِنْ تَرَاضَيَا ، فَعَلَى هَذَا قَدْ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : يَكُونُ قِصَاصًا مَعَ التَّرَاخِي ، وَلَا يَكُونُ قِصَاصًا مَعَ عَدَمِ التَّرَاخِي ، فَعَلَى هَذَا إِنْ تَرَاضَيَا قَبْلَ الِافْتِرَاقِ بَرَّ ، وَإِنْ لَمْ يَتَرَاضَيَا حَنِثَ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " حَدُّ الْفِرَاقِ أَنْ يَتَفَرَّقَا عَنْ مَقَامِهِمَا الَّذِي كَانَا فِيهِ أَوْ مَجْلِسِهِمَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِالْعُرْفِ أَنْ يَصِيرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَكَانٍ لَا يُنْسَبُ إِلَى مَكَانِ صَاحِبِهِ ، وَجُمْلَتُهُ أَنَّ كُلَّ مَا جَعَلْنَاهُ افْتِرَاقًا فِي الْبَيْعِ فِي سُقُوطِ

الْخِيَارِ فِي الْمَجْلِسِ جَعَلْنَاهُ افْتِرَاقًا فِي الْيَمِينِ فِي وُقُوعِ الْحِنْثِ ، وَقَدْ أَوْضَحْنَاهُ فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ ، فَلَوْ أُكْرِهَ الْحَالِفُ عَلَى الِافْتِرَاقِ وقد حلف ألا يفارقه حتى يقضي حقه كَانَ فِي حِنْثِهِ قَوْلَانِ ، وَلَوْ مَاتَ الْحَالِفُ قَبْلَ فِرَاقِهِ لَمْ يَحْنَثْ ، وَلَوْ مَاتَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ مُفَارِقًا لَهُ بِالْمَوْتِ بِخِلَافِ الِافْتِرَاقِ بِالْبَيْعِ حَتَّى يُفَارِقَهُ بِبَدَنِهِ ، فَإِذَا فَارَقَهُ بِبَدَنِهِ ، فَفِي حِنْثِهِ حِينَئِذٍ قَوْلَانِ كَالْمُكْرَهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّهُ حَقَّهُ غَدًا فَقَضَاهُ الْيَوْمَ حَنِثَ : لِأَنَّ قَضَاءَهُ غَدًا غَيْرُ قَضَائِهِ الْيَوْمَ ، فَإِنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ أَنْ لَا يَخْرُجَ غَدٌ حَتَّى أَقْضِيَكَ حَقَّكَ فَقَدْ بَرَّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ إِذَا حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّهُ حَقَّهُ غَدًا ، فَقَضَاهُ الْيَوْمَ أَنَّهُ يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّ قَضَاءَهُ الْيَوْمَ لَيْسَ بِقَضَاءٍ فِي غَدٍ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ : لَا يَحْنَثُ ، وَلَكِنْ لَوْ نَوَى بِيَمِينِهِ أَنْ لَا يَخْرُجَ غَدًا حَتَّى أَقْضِيَكَ بَرَّ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ خُرُوجَ الْغَدِ حَدًّا ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ وَقْتًا وَلَوْ حَلَفَ ، لَأَدْخُلَنَّ الدَّارَ فِي غَدٍ فَدَخَلَهَا الْيَوْمَ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى دُخُولِهَا فِي غَدٍ ، فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْهَا فِي غَدٍ حَنِثَ ، وَلَوْ حَلَفَ لَيَبِيعَنَّ عَبْدَهُ فِي غَدٍ فَبَاعَهُ الْيَوْمَ لَا يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى ابْتِيَاعِهِ بَعْدَ بَيْعِهِ ، ثُمَّ يَبِيعُهُ فِي غَدٍ ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَإِلَّا حَنِثَ حِينَئِذٍ ، وَلَوْ أَعْتَقَهُ قَبْلَ غَدٍ حَنِثَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى بَيْعِهِ بَعْدَ عِتْقِهِ ، وَلَوْ دَبَّرَهُ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى بَيْعِهِ ، وَلَوْ كَاتَبَهُ لَمْ يَتَعَجَّلْ حِنْثَهُ لِجَوَازِ أَنْ يَعْجِزَ الْعَبْدُ نَفْسُهُ قَبْلَ غَدٍ ، فَيَقْدِرَ عَلَى بَيْعِهِ فِي غَدٍ . وَلَوْ حَلَفَ لَيُطَلِّقَنَّ زَوْجَتَهُ فِي غَدٍ ، فَطَلَّقَهَا الْيَوْمَ ، فَإِنِ اسْتَوْفَى بِهِ جَمِيعَ طَلَاقِهَا حَنِثَ ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَوْفِهِ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى طَلَاقِهَا فِي غَدٍ . وَلَوْ حَلَفَ لَيَتَزَوَّجَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ فِي غَدٍ فَتَزَوَّجَهَا الْيَوْمَ ، وَلَمْ يَتَعَجَّلْ حِنْثَهُ ؛ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى طَلَاقِهَا وَاسْتِئْنَافِ نِكَاحِهَا فِي غَدٍ ، فَإِنْ فَعَلَ وَإِلَّا حَنِثَ . وَلَوْ حَلَفَ لَيُعْتِقَنَّ عَبْدَهُ فِي غَدٍ فَأَعْتَقَهُ الْيَوْمَ حَنِثَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى اسْتِئْنَافِ عِتْقِهِ بَعْدَ نُفُوذِهِ الْيَوْمَ بِخِلَافِ النِّكَاحِ ، وَإِذَا حَنِثَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، فَفِي زَمَانِ حِنْثِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : حَكَاهُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ احْتِمَالًا ، أَنَّهُ يَحْنَثُ لِوَقْتِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى الْبِرِّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَحْنَثُ فِي أَوَّلِ دُخُولِ غَدِهِ : لِأَنَّهُ أَوَّلُ أَوْقَاتِ بِرِّهِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ إِلَّا بِخُرُوجِ غَدِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَخَّرَ أَوْقَاتَ بِرِّهِ ، فَصَارَ وَقْتًا لِحِنْثِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " هَكَذَا لَوْ وَهَبَهُ لَهُ رَبُّ الْحَقِّ حَنِثَ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ نَوَى أَنْ

لَا يَبْقَى عَلَيَّ غَدًا مِنْ حَقِّكَ شَيْءٌ فَيَبَرَّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَلِسُقُوطِ الْحَقِّ عَنْهُ بِغَيْرِ أَدَاءٍ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : هِبَةٌ تَتَوَجَّهُ إِلَى الْأَعْيَانِ . وَالثَّانِي : إِبْرَاءٌ يَتَوَجَّهُ إِلَى الذِّمَّةِ ، فَأَمَّا الْهِبَةُ فَهِيَ تَمْلِيكٌ مَحْضٌ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْقَبُولِ بَعْدَ الْبَدَلِ وَالْقَبْضِ بَعْدَ الْعَقْدِ ، فَإِذَا حَلَفَ لَيَقْضِينَّهُ حَقَّهُ فِي غَدٍ أَوْ لَيَدْفَعَنَّ إِلَيْهِ حَقَّهُ فِي غَدٍ ، فَوَهَبَهُ صَاحِبُ الْحَقِّ لَهُ حَنِثَ الْحَالِفُ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ سَقَطَ بِغَيْرِ دَفْعٍ ، وَقَدِ اخْتَارَ التَّمَلُّكَ فَصَارَ مُخْتَارًا لِلْحِنْثِ ، فَحَنِثَ وَلَوْ كَانَ الْحَقُّ فِي الذِّمَّةِ فَأَبْرَأَهُ مِنْهُ ، فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْإِبْرَاءَ تَمْلِيكٌ يَقِفُ عَلَى الْقَبُولِ حَنِثَ كَالْهِبَةِ ، وَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ إِسْقَاطٌ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى الْقَبُولِ ، فَفِي حِنْثِهِ قَوْلَانِ ، كَالْمَغْلُوبِ عَلَى الْحِنْثِ ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ : وَاللَّهِ لَا فَارَقْتُكَ وَلِي عَلَيْكَ حَقٌّ ، فَوَهَبَهُ لَهُ أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْهُ بَرَّ فِي يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ بَعْدَ الْهِبَةِ ، وَالْإِبْرَاءِ حَقٌّ . وَلَوْ كَانَ لَهُ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ ، فَفَارَقَهُ قَبْلَ اسْتِرْجَاعِهَا نُظِرَ مَخْرَجُ يَمِينِهِ ، فَإِنْ قَالَ : لَا أُفَارِقُكَ وَلِي عَلَيْكَ حَقٌّ بَرَّ مَعَ بَقَاءِ الْوَدِيعَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَتْ عَلَيْهِ ، وَإِنْ قَالَ : لَا أُفَارِقُكَ وَلِي عِنْدَكَ حَقٌّ حَنِثَ بِبَقَاءِ الْوَدِيعَةِ ؛ لِأَنَّهَا حَقٌّ لَهُ عِنْدَهُ . وَلَوْ كَانَ لَهُ عِنْدَهُ عَارِيَةٌ حَنِثَ فِي الْحَالَيْنِ سَوَاءٌ قَالَ : عَلَيْهِ أَوْ عِنْدَهُ ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ ضَمَانَهَا وَعِنْدَهُ عَيْنَهَا .

فَصْلٌ : وَلَوْ حَلَفَ : لَا بِعْتُ لِزَيْدٍ مَتَاعًا ، فَوُكِّلَ زَيْدٌ فِي بَيْعِ مَتَاعِهِ فَبَاعَهُ الْحَالِفُ لَمْ يَحْنَثْ ، وَعَلَى مَذْهَبٍ مَالِكٍ يَحْنَثُ ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْمَتَاعَ إِلَى زَيْدٍ بِلَامِ التَّمْلِيكِ ، فَصَارَتْ يَمِينُهُ مَقْصُورَةً عَلَى مِلْكِ زَيْدٍ ، وَهَذَا الْمَتَاعُ مِلْكٌ لِغَيْرِ زَيْدٍ ، وَلَوْ قَالَ : وَاللَّهِ لَا بِعْتُ مَتَاعًا فِي يَدِ زَيْدٍ ، فَوُكِّلَ زَيْدٌ فِي بَيْعِ مَتَاعِهِ ، فَبَاعَهُ الْحَالِفُ نُظِرَ فِي تَوْكِيلِ زَيْدٍ ، فَإِنْ وُكِّلَ أَنْ يَبِيعَهُ كَيْفَ رَأَى بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ حَنِثَ الْحَالِفُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَاعَ مَتَاعًا فِي يَدِ زَيْدٍ ، وَإِنْ وُكِّلَ أَنْ يَبِيعَهُ بِنَفْسِهِ ، فَدَفَعَهُ إِلَى الْحَالِفِ حَتَّى بَاعَهُ كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا ، وَلَمْ يَحْنَثْ بِهِ الْحَالِفُ ، وَيَكُونُ الْحِنْثُ وَاقِعًا بِمَا يَصِحُّ مِنَ الْبَيْعِ دُونَ مَا فَسَدَ ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْعُقُودِ إِذَا حَلَفَ لَا يَعْقِدُهَا ، فَعَقَدَهَا عَقْدًا فَاسِدًا لَمْ يَحْنَثْ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَحْنَثُ بِالصَّحِيحِ مِنْهَا وَالْفَاسِدِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْعَقْدَ فِعْلٌ ، وَالصِّحَّةَ وَالْفَسَادَ حُكْمٌ ، وَعَقْدَ يَمِينِهِ عَلَى الْفِعْلِ دُونَ الْحُكْمِ . وَدَلِيلُنَا : هُوَ أَنَّ الْعَقْدَ مَا تَمَّ ، وَالْفَسَادَ يَمْنَعُ مِنْ تَمَامِهِ ، وَإِذَا لَمْ يَتِمَّ شَرْطُ الْحِنْثِ لَمْ يَقُمْ كَالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ ، فَإِنَّهُ وَافَقَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِهِ ، وَخَالَفَ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ

فَأَوْقَعَ الْحِنْثَ بِهِ ، فَإِنِ اعْتَبَرَ الْحِنْثَ بِفِعْلِ الْعَقْدِ بَطَلَ النِّكَاحُ ، وَإِنِ اعْتَبَرَهُ بِصِحَّةِ الْعَقْدِ بَطَلَ بِالْبَيْعِ ، فَلَمْ يَسْلَمْ لَهُ دَلِيلٌ ، وَلَمْ يَصِحَّ لَهُ تَعْلِيلٌ .

فَصْلٌ : فَإِذَا حَلَفَ لَا يَصُومُ ، فَدَخَلَ فِي الصِّيَامِ حَنِثَ بِالدُّخُولِ فِيهِ ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَكْمِلْ جَمِيعَ الْيَوْمِ ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يُصَلِّي حَنِثَ بِإِحْرَامِهِ بِالصَّلَاةِ ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَكْمِلْهَا . وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ : لَا يَحْنَثُ حَتَّى يَقْرَأَ بَعْدَ الْإِحْرَامِ ، وَيَرْكَعَ ، فَيَأْتِيَ بِأَكْثَرِ الرَّكْعَةِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَحْنَثُ حَتَّى يَسْتَكْمِلَ رَكْعَةً بِسَجْدَتِهَا يَسْتَوْعِبُ بِهَا جِنْسَ ، أَفْعَالِ الصَّلَاةِ . وَدَلِيلُنَا : هُوَ أَنْ يَكُونَ مُصَلِّيًا بِالدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ ، كَمَا يَكُونُ صَائِمًا بِالدُّخُولِ فِي الصِّيَامِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الْحِنْثِ بِالدُّخُولِ ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ إِذَا تَعَلَّقَتْ بِاسْمٍ اسْتَقَرَّ حُكْمُهَا بِالدُّخُولِ فِي أَوَّلِ الِاسْمِ كَمَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ الدَّارَ ، فَدَخَلَ أَوَّلَ دِهْلِيزِهَا حَنِثَ ، وَاسْتِدْلَالُهُ يَفْسُدُ بِالْجُلُوسِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ ، فَإِنَّهُ مِنْ جِنْسِ أَفْعَالِهَا ، وَلَمْ تَشْتَمِلْ عَلَيْهِ الرَّكْعَةُ الْأُولَى ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

بَابُ مَنْ حَلَفَ عَلَى امْرَأَتِهِ لَا تَخْرُجُ إِلَّا بِإِذْنِهِ

بَابُ مَنْ حَلَفَ عَلَى امْرَأَتِهِ لَا تَخْرُجُ إِلَّا بِإِذْنِهِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ خَرَجْتِ إِلَّا بِإِذْنِي أَوْ حَتَّى آذَنَ لَكِ ، فَهَذَا عَلَى مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ ، وَإِذَا خَرَجَتْ بِإِذْنِهِ فَقَدَ بَرَّ وَلَا يَحْنَثُ ثَانِيَةً إِلَّا أَنْ يَقُولَ كُلَّمَا خَرَجْتِ إِلَّا بِإِذْنِي ، فَهَذَا عَلَى كُلِّ مَرَّةٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ أَلْفَاظَ يَمِينِهِ إِذَا حَلَفَ عَلَى زَوْجَتِهِ أَنْ لَا تَخْرُجَ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهَا تَنْعَقِدُ عَلَى مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ ، وَلَا تُوجِبُ التَّكْرَارَ ، وَذَلِكَ لَفْظَتَانِ " إِلَى " وَ " حَتَّى " . فَإِذَا قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ خَرَجْتِ إِلَى أَنْ آذَنَ لَكِ ، أَوْ حَتَّى آذَنَ لَكِ ، فَتَنْعَقِدُ يَمِينُهُ عَلَى خُرُوجِهَا مَرَّةً وَاحِدَةً بِإِذْنِهِ ، فَإِنْ خَرَجَتْ مَرَّةً وَاحِدَةً بِإِذْنِهِ بَرَّ ، وَانْحَلَّتْ يَمِينُهُ وَلَا يَحْنَثُ ، وَإِنْ خَرَجَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْعِلَّةِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ فِي الْحُكْمِ . فَعَلَّلَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَنَّهُمَا لَفْظَتَا غَايَةٍ ارْتَفَعَ حُكْمُهَا بِانْقِضَائِهَا . وَعَلَّلَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِأَنَّهُمَا لَمَّا لَمْ يَتَكَرَّرَا فِي الْحِنْثِ لَمْ يَتَكَرَّرَا فِي الْبِرِّ . وَتَأْثِيرُ هَذَا الِاخْتِلَافِ فِي التَّعْلِيلِ يَتَبَيَّنُ فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ ، فَهَذَا الْحُكْمُ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا تَنْعَقِدُ عَلَى التَّكْرَارِ فِي الْبِرِّ وَالْحِنْثِ ، وَهِيَ لَفْظَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ : كُلَّمَا دَخَلْتِ الدَّارَ بِغَيْرِ إِذْنِي ، فَأَنْتِ طَالِقٌ . فَلَفْظَةُ " كُلَّمَا " مَوْضُوعَةٌ لِلتَّكْرَارِ ، فَبِرُّهُ يَكُونُ بِإِذْنِهِ لَهَا فِي كُلِّ مَرَّةٍ ، وَحِنْثُهُ يَكُونُ بِأَنْ لَا يَأْذَنَ لَهَا فِي كُلِّ مَرَّةٍ ، وَإِنْ خَرَجَتْ مَرَّةً بِغَيْرِ إِذْنِهِ حَنِثَ ، وَطُلِّقَتْ وَاحِدَةً ، وَلَمْ تَسْقُطْ يَمِينُهُ ، وَإِنْ خَرَجَتْ ثَالِثَةً بِغَيْرِ إِذْنِهِ حَنِثَ ، وَطُلِّقَتْ ثَالِثَةً ، وَسَقَطَتْ يَمِينُهُ بَعْدَهَا لِاسْتِيفَاءِ مَا مَلَكَهُ مِنْ طَلَاقِهَا . وَلَوْ أَذِنَ لَهَا بِالْخُرُوجِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ ثَلَاثِ خَرْجَاتٍ بَرَّ ، وَلَمْ تُحَلَّ يَمِينُهُ ، لِبَقَاءِ الطَّلَاقِ .

فَإِنْ خَرَجَتْ رَابِعَةً بِغَيْرِ إِذْنِهِ ، طُلِّقَتْ ، فَيُقَدَّرُ الْحِنْثُ بِالثَّلَاثِ ، وَلَمْ يَتَقَدَّرْ بِهَا الْبِرُّ ، لِاعْتِبَارِ الْحِنْثِ بِمَا مَلَكَهُ مِنْ عَدَدِ الطَّلَاقِ ، فَلَوْ خَرَجَتْ مَرَّةً بِإِذْنِهِ ، وَثَانِيَةً بِغَيْرِ إِذْنِهِ ، وَثَالِثَةً بِإِذْنِهِ ، وَرَابِعَةً بِغَيْرِ إِذْنِهِ بَرَّ فِي خَرْجَتَيْنِ الْأُولَى وَالثَّالِثَةِ . وَحَنِثَ فِي خَرْجَتَيْنِ فِي الثَّانِيَةِ وَالرَّابِعَةِ ثُمَّ عَلَى هَذِهِ الْعِبْرَةِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا اخْتُلِفَ فِيهِ : هَلْ تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ عَلَى مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ عَلَى التَّكْرَارِ ، وَذَلِكَ فِيمَا عَدَا الْقِسْمَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ مِنَ الْأَلْفَاظِ ، وَهِيَ خَمْسَةُ أَلْفَاظٍ : أَحَدُهَا : إِنْ خَرَجْتِ مِنَ الدَّارِ إِلَّا بِإِذْنِي ، فَأَنْتِ طَالِقٌ . وَالثَّانِيَةُ : إِنْ خَرَجْتِ مِنَ الدَّارِ إِلَّا أَنْ آذَنَ لَكِ ، فَأَنْتِ طَالِقٌ . وَالثَّالِثَةُ : إِنْ خَرَجْتِ مِنَ الدَّارِ بِغَيْرِ إِذْنِي ، فَأَنْتِ طَالِقٌ . وَالرَّابِعَةُ : أَيَّ وَقْتٍ خَرَجْتِ مِنَ الدَّارِ بِغَيْرِ إِذْنِي ، فَأَنْتِ طَالِقٌ . وَالْخَامِسَةُ : مَتَى خَرَجْتِ مِنَ الدَّارِ بِغَيْرِ إِذْنِي ، فَأَنْتِ طَالِقٌ . فَاخْتَلَفُوا فِي انْعِقَادِ الْيَمِينِ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ هَلْ تُوجِبُ التَّكْرَارَ فِي الْبِرِّ وَالْحِنْثِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهَا تَنْعَقِدُ عَلَى مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ فِي الْبِرِّ وَالْحِنْثِ ، وَلَا تُوجِبُ التَّكْرَارَ فِي بِرٍّ وَلَا حِنْثٍ . فَإِنْ خَرَجَتْ مَرَّةً وَاحِدَةً بِإِذْنٍ بَرَّ وَانْحَلَّتِ الْيَمِينُ ، وَلَا يَحْنَثُ إِنْ خَرَجَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ . وَإِنْ خَرَجَتْ مَرَّةً وَاحِدَةً بِغَيْرِ إِذْنٍ حِنْثٍ ، وَسَقَطَتِ الْيَمِينُ ، وَلَا يَعُودُ الْحِنْثُ إِنْ خَرَجَتْ بَعْدَهُ بِغَيْرِ إِذْنٍ . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : وَهُوَ مُقْتَضَى مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّهَا تَنْعَقِدُ عَلَى التَّكْرَارِ فِي الْبِرِّ وَالْحِنْثِ ، وَإِنْ خَرَجَتْ مَرَّةً بِإِذْنٍ بَرَّ ، وَلَمْ تُحَلَّ الْيَمِينُ ، وَإِنْ خَرَجَتْ مَرَّةً بِغَيْرِ إِذْنٍ حَنِثَ ، وَلَمْ تَسْقُطِ الْيَمِينُ . وَالثَّالِثُ : وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا تَنْعَقِدُ عَلَى الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ فِي الْحِنْثِ ، وَعَلَى التَّكْرَارِ فِي الْبِرِّ ، فَإِذَا خَرَجَتْ مَرَّةً بِغَيْرِ إِذْنٍ حَنِثَ وَسَقَطَتِ الْيَمِينُ ، وَلَمْ يَحْنَثْ إِنْ خَرَجَتْ مَرَّةً مِنْ بَعْدُ بِغَيْرِ إِذْنٍ . وَإِنْ خَرَجَتْ مَرَّةً بِإِذْنٍ بَرَّ ، وَلَمْ تُحَلَّ الْيَمِينُ ، وَحَنِثَ إِنْ خَرَجَتْ بَعْدَهُ بِغَيْرِ إِذْنٍ . وَلِأَصْحَابِهِ فِي هَذَا طَرِيقَانِ :

مِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّ قَوْلَهُ : " إِلَّا بِإِذْنِي " اسْتِثْنَاءٌ يُوجِبُ خُرُوجَ الْمُسْتَثْنَى ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ بِرٌّ وَلَا حِنْثٌ ، وَبِرُّهُ بِأَنْ يَكُونَ لَا تَخْرُجُ ، وَحِنْثُهُ يَكُونُ بِأَنْ تَخْرُجَ بِغَيْرِ إِذْنٍ ، لِيَكُونَ بَارًّا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ ، وَحَانِثًا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ بِهِ ، وَلَا يَكُونُ بَارًّا مِنْ وَجْهَيْنِ : وَحَانِثًا مِنْ وَجْهٍ ، كَمَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ : إِنْ كَلَّمْتِ زَيْدًا ، فَأَنْتِ طَالِقٌ كَانَ بِكَلَامِهَا لِزَيْدٍ حَانِثًا وَبِتَرْكِ كَلَامِهِ بَارًّا ، وَبِكَلَامِهَا لِغَيْرِهِ غَيْرَ بَارٍّ ، وَلَا حَانِثٍ ، وَهَذِهِ أَشْبَهُ بِطَرِيقَةِ الْمُحَقِّقِينَ مِنْهُمْ ، وَهِيَ فَاسِدَةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ يَمِينَهُ تَضَمَّنَتْ مَنْعًا ، وَتَمْكِينًا ، فَالْمَنْعُ خُرُوجُهَا بِغَيْرِ إِذْنٍ ، وَالتَّمْكِينُ خُرُوجُهَا بِإِذْنٍ . فَلَمَّا حَنِثَ بِالْجَمْعِ وَجَبَ أَنْ يَبَرَّ بِالتَّمْكِينِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ تَضَمَّنَتْهُ الْيَمِينُ ، وَخَالَفَ مَا اسْتَشْهَدَ بِهِ مِنْ يَمِينِهِ عَلَى كَلَامِهَا لِزَيْدٍ ؛ لِأَنَّ كَلَامَهَا لِغَيْرِهِ لَمْ يَدْخُلْ فِي يَمِينِهِ مِنْ مَنْعٍ وَلَا تَمْكِينٍ ، فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ بِرٌّ وَلَا حِنْثٌ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْبِرَّ وَالْحِنْثَ يَتَعَلَّقَانِ فِي الْأَيْمَانِ بِشَيْءٍ وَاحِدٍ ، فَإِنْ كَانَتْ عَلَى إِثْبَاتٍ كَقَوْلِهِ : وَاللَّهِ لَأَدْخُلَنَّ الدَّارَ ، كَانَ بِرُّهُ بِدُخُولِهَا ، وَحِنْثُهُ بِأَنْ لَا يَدْخُلَهَا . وَإِنْ كَانَتْ عَلَى نَفْيٍ كَقَوْلِهِ : وَاللَّهِ لَا دَخَلْتُ الدَّارَ كَانَ بِرُّهُ بِأَنْ لَا يُدْخِلَهَا وَحِنْثُهُ بِأَنْ يَدْخُلَهَا . فَلَمَّا كَانَ حِنْثُهُ فِي قَوْلِهِ : إِنْ خَرَجْتِ إِلَّا بِإِذْنِي ، فَأَنْتِ طَالِقٌ ، يَكُونُ بِخُرُوجِهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ بِرُّهُ بِخُرُوجِهَا بِإِذْنِهِ ، فَنُثْبِتُ بِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ فَسَادَ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ . وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ لَهُمْ أَنْ يُسَلِّمُوا وُقُوعَ الْبِرِّ بِالْخُرُوجِ بِإِذْنٍ كَمَا أَنَّ وُقُوعَ الْحِنْثِ بِالْخُرُوجِ بِغَيْرِ إِذْنٍ ، وَيَسْتَدِلُّوا عَلَى وُجُوبِ تَكْرَارِ الْبِرِّ ، وَإِنْ لَمْ يَتَكَرَّرَ الْحِنْثُ بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : إِنَّمَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ لِزَوْجَتِهِ : إِنْ خَرَجْتِ مِنَ الدَّارِ إِلَّا رَاكِبَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ ، أَنَّ الْبِرَّ يَتَكَرَّرُ ، وَالْحِنْثَ لَا يَتَكَرَّرُ ، وَيَلْزَمُهَا أَنْ تَخْرُجَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ رَاكِبَةً ، وَإِنْ خَرَجَتْ مَرَّةً غَيْرَ رَاكِبَةٍ حَنِثَ وَسَقَطَتِ الْيَمِينُ ، وَإِنْ خَرَجَتْ مَرَّةً رَاكِبَةً بَرَّ وَلَمْ تُحَلَّ الْيَمِينُ ، وَلَزِمَهَا الْخُرُوجُ بَعْدَ هَذَا الْبِرِّ رَاكِبَةً أَبَدًا . كَذَلِكَ مَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ مِنْ قَوْلِهِ : إِنْ خَرَجْتِ إِلَّا بِإِذْنٍ ، فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَخَرَجَتْ مَرَّةً بِإِذْنِهِ ، لَمْ تُحَلَّ الْيَمِينُ ، وَلَزِمَهَا أَنْ تَخْرُجَ كُلَّ مَرَّةٍ بِإِذْنِهِ . وَلَوْ خَرَجَتْ مَرَّةً بِغَيْرِ إِذْنِهِ حَنِثَ ، وَسَقَطَتِ الْيَمِينُ ، فَيَكُونُ الْإِجْمَاعُ فِي اشْتِرَاطِ الرُّكُوبِ دَلِيلًا عَلَى الْخِلَافِ فِي اشْتِرَاطِ الْإِذْنِ ، إِذْ لَيْسَ بَيْنَ الشَّرْطَيْنِ فَرْقٌ فِي الْحُكْمِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْبِرُّ يَتْرُكُ الْخُرُوجَ مُؤَبَّدًا ، وَالْحِنْثُ بِالْخُرُوجِ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ مُقَيَّدًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْبِرُّ بِالْخُرُوجِ بِالْإِذْنِ مُتَكَرِّرًا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْحِنْثُ بِالْخُرُوجِ بِغَيْرِ إِذْنٍ مُتَكَرِّرًا .

وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَمَّا كَانَ عَقْدُ الْيَمِينِ بِلَفْظِ الْغَايَةِ يُوجِبُ اسْتِوَاءَ الْبِرِّ وَالْحِنْثِ فِي سُقُوطِ التَّكْرَارِ ، وَكَانَ عَقْدُهَا بِقَوْلِهِ : " كُلَّمَا " يُوجِبُ اسْتِوَاءَ الْبِرِّ وَالْحِنْثِ فِي وُجُوبِ التَّكْرَارِ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَقْدُهَا بِمَا اخْتَلَفَا فِيهِ مِنْ قَوْلِهِ : إِنْ خَرَجْتِ إِلَّا بِإِذْنِي ، مُلْحَقًا بِأَحَدِهِمَا فِي اسْتِوَاءِ الْبِرِّ وَالْحِنْثِ فِي وُجُوبِ التَّكْرَارِ وَسُقُوطِهِ ، فَلَمَّا سَقَطَ التَّكْرَارُ فِي الْحِنْثِ وَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ التَّكْرَارُ فِي الْبِرِّ . وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا : أَنَّ كُلَّ يَمِينٍ اشْتَمَلَتْ عَلَى مَنْعٍ وَتَمْكِينٍ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْبِرُّ فِيهَا مُقَابِلًا لِلْحِنْثِ فِي وُجُوبِ التَّكْرَارِ وَسُقُوطِهِ كَالْمَعْقُودِ بِلَفْظِ الْغَايَةِ فِي سُقُوطِ التَّكْرَارِ ، وَكَالْمَعْقُودَةِ بِ " كُلَّمَا " فِي وُجُوبِ التَّكْرَارِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْبِرَّ وَالْحِنْثَ فِي الْأَيْمَانِ مُعْتَبَرَانِ بِالْعَقْدِ ، فَإِنْ أَوْجَبَ تَكْرَارَ الْمَنْعِ وَالتَّمْكِينِ أَوْجَبَ تَكْرَارَ الْبِرِّ وَالْحِنْثِ ، وَإِنْ لَمْ يُوجِبْ تَكْرَارَهُمَا لَمْ يَتَكَرَّرِ الْبِرُّ وَالْحِنْثُ . وَلَفْظُ التَّكْرَارِ مَعْدُومٌ فِي قَوْلِهِ : إِنْ خَرَجْتِ إِلَّا بِإِذْنِي ، فَانْعَقَدَ عَلَى مَرَّةٍ ، وَمَوْجُودٌ فِي قَوْلِهِ : كُلَّمَا خَرَجْتِ بِغَيْرِ إِذْنِي ، فَانْعَقَدَ عَلَى كُلِّ مَرَّةٍ . أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ لَهَا : إِنْ خَرَجْتِ بِإِذْنِي ، فَأَنْتِ طَالِقٌ ، انْعَقَدَتْ عَلَى مَرَّةٍ ، وَلَوْ قَالَ : كُلَّمَا خَرَجْتِ بِإِذْنِي فَأَنْتِ طَالِقٌ ، انْعَقَدَتْ عَلَى مَرَّةٍ ، وَلَوْ قَالَ : كُلَّمَا خَرَجْتِ بِإِذْنِي انْعَقَدَتْ عَلَى التَّكْرَارِ وَمَا انْعَقَدَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ سَوَاءٌ فِي الْبِرِّ وَالْحِنْثِ فِي التَّكْرَارِ وَالِانْفِرَادِ ؛ لِأَنَّ عَقْدَهَا إِنْ قَابَلَتْ مُقْتَضَاهَا كَانَ حُكْمُهَا مَقْصُورًا عَلَيْهِ . وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا : أَنَّ مَا انْعَقَدَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهِ الْبِرُّ وَالْحِنْثُ قِيَاسًا عَلَى تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِالْإِذْنِ ، تَسْوِيَةً بَيْنَ الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِقَوْلِهِ : إِنْ خَرَجْتِ إِلَّا رَاكِبَةً ، فَهُوَ أَنَّ هَذَا تَعْلِيقُ طَلَاقٍ بِصِفَةٍ ، وَهِيَ خُرُوجُهَا مَاشِيَةً ، فَوَقَعَ بِوُجُودِ الصِّفَةِ ، وَلَيْسَتْ يَمِينًا تُوجِبُ مَنْعًا ، وَتَمْكِينًا ، فَافْتَرَقَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اجْتِمَاعِهِمْ بِامْتِدَادِ الْبِرِّ فِي الْمَقَامِ إِلَى الْمَوْتِ ، وَتَوْقِيتِ الْحِنْثِ بِالْخُرُوجِ ، فَهُوَ أَنَّ الْمَقَامَ فِي مَنْزِلِهَا تَرْكٌ مُطْلَقٌ ، فَحُمِلَ عَلَى التَّأْبِيدِ فِي الْبِرِّ ، وَالْخُرُوجُ فِعْلٌ مُقَيَّدٌ بِوَقْتِهِ ، فَتُقَدِّرُ بِهِ الْبِرَّ وَالْحِنْثَ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْبِرُّ فِيهِ مُسَاوِيًا لِلْحِنْثِ .

فَصْلٌ : وَيَتَفَرَّعُ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ أَنْ يَقُولَ لَهَا : إِنْ خَرَجْتِ إِلَى غَيْرِ الْحَمَّامِ بِغَيْرِ إِذْنِي ، فَأَنْتِ طَالِقٌ . فَخُرُوجُهَا إِلَى الْحَمَّامِ مُسْتَثْنًى مِنْ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى إِذْنٍ ، وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ بِرٌّ وَلَا حِنْثٌ ، فَالْيَمِينُ مُنْعَقِدَةٌ عَلَى خُرُوجِهَا إِلَى غَيْرِ الْحَمَّامِ . فَإِنْ خَرَجَتْ إِلَيْهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ حَنِثَ وَسَقَطَتِ الْيَمِينُ ، فَإِنْ خَرَجَتْ إِلَيْهِ بِإِذْنِهِ بَرَّ ، وَانْحَلَّتِ الْيَمِينُ .

فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يُحَلَّ خُرُوجُهَا بِغَيْرِ إِذْنٍ إِذَا جَمَعَتْ فِيهِ بَيْنَ الْحَمَّامِ وَغَيْرِ الْحَمَّامِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَخْرُجَ إِلَى الْحَمَّامِ ، ثُمَّ تَعْدِلُ إِلَى غَيْرِ الْحَمَّامِ ، فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ اعْتِبَارًا بِقَصْدِ الْخُرُوجِ أَنَّهُ كَانَ إِلَى الْحَمَّامِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَخْرُجَ إِلَى غَيْرِ الْحَمَّامِ ، ثُمَّ تَعْدِلُ إِلَى الْحَمَّامِ ، فَيَحْنَثُ اعْتِبَارًا بِقَصْدِ الْخُرُوجِ أَنَّهُ كَانَ إِلَى غَيْرِ الْحَمَّامِ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ تَخْرُجَ جَامِعَةً فِي قَصْدِهَا بَيْنَ الْحَمَّامِ وَغَيْرِ الْحَمَّامِ ، فَيَحْنَثُ ؛ لِأَنَّ خُرُوجَهَا إِلَى غَيْرِ الْحَمَّامِ مَوْجُودٌ ، فَلَمْ يَمْنَعِ اقْتِرَانُهُ بِالْخُرُوجِ إِلَى الْحَمَّامِ مِنْ وُقُوعِ الْحِنْثِ بِهِ . وَوَهِمَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ ، فَقَالَ : لَا يَحْنَثُ بِهِ تَغْلِيبًا لِمَا لَا يُوجِبُ الْحِنْثَ عَلَى مَا يُوجِبُهُ ، وَزَلَلُهُ فِيهِ وَاضِحٌ ، لِمَا عَلَّلْنَاهُ . أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ لَهَا : إِنْ كَلَّمْتِ زَيْدًا ، فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَكَلَّمَتْ زَيْدًا وَعَمْرًا مَعًا طُلِّقَتْ ، وَلَمْ يَمْنَعْ كَلَامُهَا لِعَمْرٍو مِنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِكَلَامِهَا لِزَيْدٍ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْإِذْنُ ، فَقَدْ يَكُونُ تَارَةً بِالْقَوْلِ ، وَتَارَةً بِالْكِنَايَةِ ، وَتَارَةً بِالرِّسَالَةِ ، وَتَارَةً بِالْإِشَارَةِ وَجَمِيعُهُ يَكُونُ إِذْنًا اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ فِيهِ . وَسَوَاءٌ ابْتَدَأَ الزَّوْجُ بِالْإِذْنِ أَوْ سَأَلَتْهُ ، فَأَذِنَ . فَإِنِ اسْتَأْذَنَتْهُ وَأَمْسَكَ ، فَلَمْ يَكُنْ مِنْهُ إِذْنٌ وَلَا مَنْعٌ ، لَمْ يَكُنِ السُّكُوتُ إِذْنًا إِلَّا أَنْ تَقْتَرِنَ بِهِ إِشَارَةٌ ، فَتَصِيرَ الْإِشَارَةُ إِذْنًا . فَإِنْ أَذِنَ لَهَا ، ثُمَّ رَجَعَ فِي إِذْنِهِ ، لَمْ يَسْقُطْ حُكْمُ الْإِذْنِ بِرُجُوعِهِ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْبِرِّ وُجُودُ الْإِذْنِ ، وَلَيْسَ بَقَاؤُهُ عَلَيْهِ شَرْطًا فِيهِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ رُجُوعُهُ قَبْلَ الْخُرُوجِ أَوْ بَعْدَهُ . فَإِنْ شَرَطَ إِذْنًا بَاقِيًا ، فَرَجَعَ فِيهِ حَنِثَ إِنْ كَانَ رُجُوعُهُ قَبْلَ الْخُرُوجِ ، وَلَمْ يَحْنَثْ إِنْ كَانَ رُجُوعُهُ بَعْدَ الْخُرُوجِ . وَلَوْ شَرَطَ فِي يَمِينِهِ أَنْ يَكُونَ خُرُوجُهَا بِإِذْنِ غَيْرِهِ من علق طلاق امرأته بخروجها بغير إذنه ، اعْتُبِرَ إِذْنُ ذَلِكَ الْغَيْرِ دُونَ الْحَالِفِ . وَلَوْ شَرَطَ إِذْنَهُمَا مَعًا حَنِثَ بِخُرُوجِهَا عَنْ إِذْنِ أَحَدِهِمَا ، فَإِنْ أَذِنَ لِلْغَيْرِ أَنْ يَأْذَنَ لَهَا ، فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَقُولَ : ائْذَنْ لَهَا عَنْ نَفْسِكَ ، فَلَا يُجْزِئُ فِي الْبِرِّ أَنْ يَأْذَنَ لَهَا الْغَيْرُ ،

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110