كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي

الزَّرْعِ ، فَلَوْ كَانَ الْبَاقِي مِنْ مُدَّةِ الزَّرْعِ بَعْدَ جِزَازِهِ خَمْسَةَ أَشْهُرٍ فَزَرَعَهَا مَا يُحْصَدُ فِي خَمْسَةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَجُزْ ، وَكَانَتِ الْأُجْرَةُ عَلَيْهِ وَاجِبَةً ، وَإِنْ رَضِيَ الْمُشْتَرِي بِتَرْكِهِ ، وَلَوْ كَانَ الزَّرْعُ مِمَّا لَوْ جُزَّ قَبْلَ حَصَادِهِ قَوِيَ أَصْلُهُ وَاسْتَخْلَفَ وَفَرَّخَ كَالدُّخْنِ ، فَجَزَّهُ قَبْلَ حَصَادِهِ كَانَ لَهُ اسْتِبْقَاءُ الْأَصْلِ الْبَاقِي إِلَى وَقْتِ الْحَصَادِ : لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ الزَّرْعِ ، وَلَيْسَ لَهُ اسْتِبْقَاءُ مَا اسْتُخْلِفَ وَفَرَّخَ بَعْدَ الْحَصَادِ : لِأَنَّهُ غَيْرُ ذَلِكَ الزَّرْعِ ، وَعَلَى الْبَائِعِ قَلْعُهُ وَلَا يَمْلِكُهُ الْمُشْتَرِي كَمَا لَا يَمْلِكُ أَصْلَ الْقَتِّ الَّذِي يُجَزُّ مِرَارًا : لِأَنَّ الْقَتَّ أَصْلٌ ثَابِتٌ ، وَالزَّرْعُ فَرْعٌ زَائِلٌ وَاسْتِخْلَافُ بَعْضِهِ نَادِرٌ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا ابْتَاعَ أَرْضًا مَزْرُوعَةً ، وَشَرَطَ دُخُولَ الزَّرْعِ فِي الْبَيْعِ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الزَّرْعِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : - إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدِ اشْتَدَّ وَبَلَغَ الْحَصَادَ أَوْ لَا . - فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ حَالَ الْحَصَادِ وَكَانَتْ بَقْلًا أَوْ قَصِيلًا صَحَّ الْبَيْعُ فِي الْأَرْضِ وَالزَّرْعِ ، وَلَا يَلْزَمُ فِي الزَّرْعِ اشْتِرَاطُ الْقَطْعِ : لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي الْعَقْدِ تَبَعًا لِلْأَرْضِ فُقِدَ الْغَرَرُ بِهِ ، فَسَقَطَ اشْتِرَاطُ الْقَطْعِ فِيهِ ، وَصَارَ كَالثَّمَرَةِ الَّتِي لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهَا إِذَا بِيعَتْ مَعَ نَخْلِهَا صَحَّ الْعَقْدُ ، وَإِنْ لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهَا الْقَطْعُ . وَإِنْ كَانَ الزَّرْعُ قَدِ اشْتَدَّ وَاسْتُحْصِدَ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مُشَاهَدَ الْحَبِّ لَيْسَ دُونَهُ حَائِلٌ يَمْنَعُ مِنْ رُؤْيَتِهِ كَالشَّعِيرِ ، فَالْبَيْعُ فِيهِ صَحِيحٌ : لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ بَيْعُ هَذَا الزَّرْعِ مُنْفَرِدًا فَأَوْلَى أَنْ يَجُوزَ بَيْعُهُ تَبَعًا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الزَّرْعُ غَيْرَ مُشَاهَدِ الْحَبِّ بِكِمَامٍ يَمْنَعُ مِنْ رُؤْيَتِهِ ، كَالْحِنْطَةِ وَالْعَدَسِ ، فَفِي بَيْعِهِ لَوْ كَانَ مُفْرَدًا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ ، فَعَلَى هَذَا بَيْعُهُ مَعَ الْأَرْضِ أَوْلَى أَنْ يَجُوزَ . وَالثَّانِي : بَيْعُهُ لَا يَجُوزُ ، فَعَلَى هَذَا فِي جَوَازِ بَيْعِهِ تَبَعًا لِلْأَرْضِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ : لِأَنَّ مَا كَانَ فِي الْبَيْعِ تَبَعًا لِغَيْرِهِ جَازَ فَقْدُ رُؤْيَتِهِ وَجْهًا لَهُ قُدْرَةٌ كَأَسَاسِ الْبِنَاءِ وَلَبَنِ الضَّرْعِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْبَيْعَ فِيهِ بَاطِلٌ : لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ تَبَعًا لِغَيْرِهِ ، فَهُوَ مَقْصُودٌ فِي نَفْسِهِ بِخِلَافِ الْأَسَاسِ وَاللَّبَنِ . فَإِذَا بَطَلَ الْبَيْعُ فِي الزَّرْعِ ، فَفِي بُطْلَانِهِ فِي الْأَرْضِ قَوْلَانِ فِي تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ . وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ أَبْطَلَهُ فِي الْأَرْضِ قَوْلًا وَاحِدًا لِلْجَهْلِ بِحِصَّةِ مَا قَابَلَ الزَّرْعَ الْمَجْهُولَ مِنَ الثَّمَنِ ، وَهَذَا مِنَ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي تَعْلِيلِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَإِنْ كَانَ زَرْعًا يُجَزُّ مِرَارًا فَلِلْبَائِعِ جَزَةٌ وَاحِدَةٌ وَمَا بَقِيَ فَكَالْأَصْلِ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الزَّرْعَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : - ضَرْبٌ يُجَزُّ مَرَّةً فَيَذْهَبُ أَصْلُهُ ، كَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ ، فَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ . - وَضَرْبٌ يُجَزُّ مِرَارًا وَهُوَ بَاقِي الْأَصْلِ ، كَالْقَتِّ وَالْأُشْنَانِ وَأَنْوَاعٍ مِنَ الْبُقُولِ . فَإِذَا بِيعَتْ أَرْضٌ فِيهَا مِنْهُ ، كَانَ مَا ظَهَرَ مِنْ نَبَاتِهِ غَيْرَ دَاخِلٍ فِي الْبَيْعِ ، وَكَانَ الْأَصْلُ الْبَاقِي تَبَعًا لِلْأَرْضِ كَالنَّخْلِ وَالشَّجَرِ ، وَهَلْ يُنْتَظَرُ بِمَا ظَهَرَ مِنْ نَبَاتِهِ تَنَاهِي جِزَازِهِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَنْتَظِرُ بِهِ تَنَاهِي الْجِزَازِ . وَالثَّانِي : لَا يُنْتَظَرُ بِهِ ، بَلْ لَا حَقَّ لِلْبَائِعِ إِلَّا فِيمَا كَانَ ظَاهِرًا وَقْتَ الْعَقْدِ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ ، وَقَدْ مَضَى تَوْجِيهُهُمَا ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ النَّوْعُ مِنَ الزَّرْعِ بَذْرًا لَمْ يَظْهَرْ بَعْدُ ، فَمَنِ انْتَظَرَ فَمَا ظَهَرَ مِنْهُ تَنَاهِي الْجِزَازِ جَعَلَ مَا ثَبَتَ مِنْ هَذَا الْبَذْرِ أَوَّلَ جَزِّهِ لِلْبَائِعِ ، وَمَنْ لَمْ يَنْتَظِرْ بِهِ التَّنَاهِي وَجَعَلَ حَقَّ الْبَائِعِ مَقْصُورًا عَلَى مَا ظَهَرَ جَعَلَ الْبَذْرَ وَجَمِيعَ مَا يَظْهَرُ مِنْ نَبَاتِهِ لِلْمُشْتَرِي .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْبِطِّيخُ وَالْخِيَارُ وَالْقِثَّاءُ ، وَمَا تُؤْخَذُ ثَمَرَتُهُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى لَكِنْ فِي عَامٍ وَاحِدٍ للبائع من ثمرته ما قد ظهر ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي حُكْمِهِ إِذَا بِيعَتِ الْأَرْضُ ، وَهُوَ فِيهَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ ، أَنَّهُ يَكُونُ فِي حُكْمِ الشَّجَرِ ، فَيَكُونُ لِلْبَائِعِ مِنْ ثَمَرَتِهِ مَا قَدْ ظَهَرَ ، وَلِلْمُشْتَرِي الْأَصْلُ الْبَاقِي وَمَا يَظْهَرُ : لِأَنَّ ثَمَرَتَهُ لَا تُوجَدُ دُفْعَةً فَصَارَ بِالشَّجَرِ أَشْبَهُ . وَالْوَجْهِ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّهُ يَكُونُ فِي حُكْمِ الزَّرْعِ فَيَكُونُ لِلْبَائِعِ أَصْلُهُ وَثَمَرُهُ : لِأَنَّهُ زَرْعُ عَامٍ وَاحِدٍ وَلَوْ تَفَرَّقَ لُقَاطُ ثَمَرِهِ ، وَالشَّجَرُ مَا بَقِيَ أَعْوَامًا فَأُلْحِقَ بِهِ فِي الْحُكْمِ مَا بَقِيَ أَعْوَامًا كَالْعَلَفِ ، وَلَمْ يَلْحَقْ بِهِ مَا لَمْ يَبْقَ إِلَّا عَامًا وَاحِدًا كَالزَّرْعِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمَوْزُ الْمَوْجُودُ وَقْتَ الْعَقْدِ لَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ كَالزَّرْعِ فَأَصْلُهُ لَا يُحْمَلُ إِلَّا سَنَةً وَاحِدَةً ، ثُمَّ يَمُوتُ بَعْدَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ مَكَانَهُ فَرْخًا يَحْمِلُ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْأَصْلُ الْمَوْجُودُ وَقْتَ الْعَقْدِ لَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ كَالزَّرْعِ : لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى بَعْدَ سَنَتِهِ ، وَالْفَرْخُ الَّذِي يُسْتَخْلَفُ كَالشَّجَرِ يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَإِنْ كَانَ فِيهَا حَبٌّ قَدْ بَذَرَهُ ، فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ ، إِنْ أَحَبَّ نَقْضَ الْبَيْعِ أَوْ تَرْكَ الْبَذْرِ حَتَّى يَبْلُغَ فَيُحْصَدَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . إِذَا ابْتَاعَ أَرْضًا فِيهَا بَذْرٌ لِزَرْعٍ لَا يَبْقَى لَهُ بَعْدَ حَصَادِهِ أَصِلٌ كَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ ، فَالْبَذْرُ لِلْبَائِعِ خَارِجٌ مِنَ الْعَقْدِ : لِأَنَّهُ مُسْتَوْدَعٌ فِي الْأَرْضِ لِتَكَامُلِ الْمَنْفَعَةِ لَا لِلِاسْتِدَامَةِ ، فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي عَالِمًا بِهِ فَلَا خِيَارَ لَهُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ عَالِمٍ فَهُوَ بِالْخِيَارِ ، فَإِنْ أَقَامَ كَانَ الْبَذْرُ مَقَرًّا فِي الْأَرْضِ إِلَى وَقْتِ حَصَادِهِ كَمَا قُلْنَا فِي الزَّرْعِ ، فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا كَانَ بَيْعُ الْأَرْضِ الْمَبْذُورَةِ أَوِ الْمَزْرُوعَةِ بَاطِلًا فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ كَالْأَرْضِ الْمُسْتَأْجَرَةِ : لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْمَبِيعِ فِي الْحَالَيْنِ مُسْتَحَقَّةٌ .

قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْأَرْضَ الْمَشْغُولَةَ بِزَرْعِ الْبَائِعِ مَقْدُورٌ عَلَى تَسْلِيمِهَا : لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهَا لِغَيْرِهِ يَدٌ مَانِعَةٌ فَصَحَّ بَيْعُهَا قَوْلًا وَاحِدًا ، وَالْأَرْضُ الْمُسْتَأْجَرَةُ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَى تَسْلِيمِهَا : لِأَنَّ عَلَيْهَا لِلْمُسْتَأْجِرِ يَدٌ مَانِعَةٌ ، فَبَطَلَ بَيْعُهَا عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْنِ . فَلَوْ شُرِطَ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ دُخُولُ الْبَذْرِ : فَإِنْ كَانَ يَجْهَلُ حَالَ الْبَذْرِ فِي جِنْسِهِ وَصِفَتِهِ أو كان يعلمه لَمْ يَجُزْ ، وَإِنْ عَلِمَهُ فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ : لِأَنَّهُ تَبَعٌ . وَالثَّانِي : لَا يَجُوزُ : لِأَنَّهُ مَقْصُودٌ ، فَعَلَى هَذَا إِذَا بَطَلَ الْبَيْعُ فِي الْبَذْرِ فَفِي بُطْلَانِهِ فِي الْأَرْضِ قَوْلَانِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ . وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ أَبْطَلَ الْبَيْعَ فِيهَا قَوْلًا وَاحِدًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَإِنْ كَانَتْ فِيهَا حِجَارَةٌ مُسْتَوْدَعَةٌ فَعَلَى الْبَائِعِ نَقْلُهَا وَتَسْوِيَةُ الْأَرْضِ عَلَى حَالِهَا ، لَا يَتْرُكُهَا حُفَرًا ، وَلَوْ كَانَ غَرَسَ عَلَيْهَا شَجَرًا فَإِنْ كَانَتْ تُضِرُّ بِعُرُوقِ الشَّجَرِ فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تُضِرُّ بِهَا وَيَضُرُّهَا إِذَا أَرَادَ قَلْعَهَا ، قِيلَ لِلْبَائِعِ : أَنْتَ بِالْخِيَارِ إِنْ سَلَّمْتَهَا فَالْبَيْعُ جَائِزٌ ، وَإِنْ أَبَيْتَ ، قِيلَ لِلْمُشْتَرِي : أَنْتَ بِالْخِيَارِ فِي الرَّدِ أَوْ يَقْلَعُهُ ، وَيَكُونَ عَلَيْهِ قِيمَةُ مَا أَفْسَدَ عَلَيْكَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا ابْتَاعَ أَرْضًا فَظَهَرَتْ فِيهَا حِجَارَةٌ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ مَخْلُوقَةً فِي الْأَرْضِ . وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ مَبْنِيَّةً فِيهَا . وَالثَّالِثُ : أَنْ تَكُونَ مُسْتَوْدَعَةً فِيهَا . فَإِنْ كَانَتِ الْحِجَارَةُ مَخْلُوقَةً فِي الْأَرْضِ ، فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي الْبَيْعِ كَمَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ قَرَارُ الْأَرْضِ وَطِينُهَا ، ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُهَا إِذَا كَانَتْ مَخْلُوقَةً مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ الْحِجَارَةُ مُضِرَّةً بِالْأَرْضِ فِي الْغَرْسِ وَالزَّرْعِ جَمِيعًا ، فَهَذَا عَيْبٌ يَسْتَحِقُّ الْمُشْتَرِي بِهِ خِيَارَ الْفَسْخِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ مَبِيعَةً لِغَيْرِ الْغِرَاسِ وَالزَّرْعِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ تَكُونَ الْحِجَارَةُ غَيْرَ مُضِرَّةٍ بِالْغِرَاسِ وَلَا بِالزَّرْعِ لِبُعْدِ مَا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ وَجْهِ الْأَرْضِ بِحَيْثُ لَا يَصِلُ إِلَيْهَا عِرْقُ زَرْعٍ وَلَا غَرْسٍ ، فَلَيْسَ هَذَا بِعَيْبٍ وَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ تَكُونَ الْحِجَارَةُ مُضِرَّةً بِالْغِرَاسِ لِوُصُولِ عُرُوقِهِ إِلَيْهَا ، وَغَيْرَ مُضِرَّةٍ بِالزَّرْعِ لِبُعْدِ عُرُوقِهِ مِنْهَا ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ عَيْبًا يُوجِبُ الْخِيَارَ لِلْمُشْتَرِي عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : هُوَ عَيْبٌ لِأَنَّهُ قَدْ مَنَعَ بَعْضَ مَنَافِعِهَا .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ ، أَنَّهُ لَيْسَ بِعَيْبٍ وَلَا خِيَارَ فِيهِ : لِأَنَّ الْأَرْضَ إِذَا كَانَتْ تَصْلُحُ لِلْغَرْسِ دُونَ الزَّرْعِ أَوْ تَصْلُحُ لِلزَّرْعِ دُونَ الْغَرْسِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَيْبًا : لِكَمَالِ الْمَنْفَعَةِ بِأَحَدِهِمَا ، كَذَلِكَ مَا وُجِدَ فِيهَا مَانِعًا مِنَ الْغَرْسِ دُونَ الزَّرْعِ لَمْ يَكُنْ عَيْبًا وَلَا خِيَارَ . وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنْ يَنْظُرَ فِي أَرْضِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ ، فَإِنْ كَانَتْ مُرْصَدَةً لِلزَّرْعِ ، أَوْ بَعْضُهَا لِلْغَرْسِ وَبَعْضُهَا لِلزَّرْعِ فَلَيْسَ هَذَا عَيْبًا وَلَا خِيَارَ فِيهِ . وَإِنْ كَانَتْ مُرْصَدَةً لِلْغَرْسِ فَهَذَا عَيْبٌ وَفِيهِ الْخِيَارُ : لِأَنَّ الْعُرْفَ الْمُعْتَادَ يَجْرِي فِي الْعُقُودِ مَجْرَى الشَّرْطِ ، وَلَعَلَّ اخْتِلَافَ الْوَجْهَيْنِ مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ ، فَلَا يَكُونُ فِي الْجَوَابِ اخْتِلَافٌ ، لَكِنْ ذَكَرْتُ مَا حَكَى وَبَيَّنْتُ مَا اقْتَضَتْهُ الدَّلَالَةُ عِنْدِي .

فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَتِ الْحِجَارَةُ مَبْنِيَّةً فِي الْأَرْضِ هل تدخل في البيع حال البيع أم لا فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي الْبَيْعِ : لِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلِاسْتِدَامَةِ كَالْبِنَاءِ الظَّاهِرِ ، وَغَالِبُ الْحَالِ فِيمَا بُنِيَ فِي الْأَرْضِ مِنْ حَجَرٍ أَنَّهُ غَيْرُ مُضِرٍّ بِغَرْسٍ وَلَا زَرْعٍ : لِأَنَّ الْعُرْفَ جَارٍ بِبُنْيَانِهِ فِي مُسِنَّاتِ الْأَرْضِ وَمَشَارِبِهَا وَمَجَارِي مِيَاهِهَا ، فَإِنْ كَانَتْ كَذَلِكَ فَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي فِيهَا : لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ غَيْرُ مُضِرَّةٍ ، فَإِنْ كَانَتِ الْحِجَارَةُ مَبْنِيَّةً بِخِلَافِ الْعُرْفِ فِي مَوْضِعٍ مُضِرٍّ بِالْغَرْسِ وَالزَّرْعِ ، فَلِلْمُشْتَرِي خِيَارُ الْفَسْخِ عَلَى مَا مَضَى إِلَّا أَنْ يَسْهُلَ قَلْعُهَا لِقِصَرِ الْمُدَّةِ وَقِلَّةِ الْمُؤْنَةِ فَلَا خِيَارَ .

فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَتِ الْحِجَارَةُ مُسْتَوْدَعَةً فِي الْأَرْضِ هل تدخل في البيع حال البيع أم لا ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ ، فَهِيَ غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي الْبَيْعِ : لِأَنَّ مَا أُودِعَ فِي الْأَرْضِ لِلْحِرْزِ وَلَمْ يُوضَعْ لِلِاسْتِدَامَةِ وَالتَّأْبِيدِ فَهُوَ كَالْكَنْزِ الْمَدْفُونِ ، يَكُونُ لِلْبَائِعِ وَلَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْحِجَارَةِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ تَرْكُهَا غَيْرَ مُضِرٍّ وَقَلْعُهَا غَيْرَ مُضِرٍّ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ تَرْكُهَا مُضِرًّا وَقَلْعُهَا مُضِرًّا . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ تَرْكُهَا غَيْرَ مُضِرٍّ وَقَلْعُهَا مُضِرًّا . وَالرَّابِعُ : أَنْ يَكُونَ قَلْعُهَا غَيْرَ مُضِرٍّ وَتَرَكُهَا مُضِرًّا . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ تَرْكُهَا غَيْرَ مُضِرٍّ : لِبُعْدِهَا مِنْ عُرُوقِ الْغِرَاسِ وَالزَّرْعِ ، وَقَلْعُهَا غَيْرَ مُضِرٍّ بِهِ : لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ فِي الْأَرْضِ غِرَاسٌ وَلَا زَرْعٌ ، فَالْبَيْعُ لَازِمٌ ، وَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي لِارْتِفَاعِ الضَّرَرِ ، وَعَلَى الْبَائِعِ قَلْعُ حِجَارَتِهِ ، فَإِنْ سَمَحَ بِهَا لِلْمُشْتَرِي لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهَا : لِأَنَّهَا هِبَةٌ مَحْضَةٌ ، وَيُؤْخَذُ الْبَائِعُ بِقَلْعِهَا ، فَإِذَا قَلَعَهَا ، فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي عَالِمًا بِالْحِجَارَةِ فَلَا أُجْرَةَ لَهُ عَلَى الْبَائِعِ فِي مُدَّةِ الْقَلْعِ : لِأَنَّ عِلْمَهُ بِهَا يَجْعَلُ زَمَانَ قَلْعِهَا مُسْتَثْنًى ، كَمَا نُقِرُّ ثَمَرَةَ الْبَائِعِ عَلَى نَخْلِ الْمُشْتَرِي بِغَيْرِ أُجْرَةٍ : لِأَنَّ الْعِلْمَ بِهَا يَجْعَلُ زَمَانَ بَقَائِهَا مُسْتَثْنًى .

وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي غَيْرَ عَالِمٍ بِالْحِجَارَةِ اعْتُبِرَ زَمَانُ الْقَلْعِ ، فَإِنْ كَانَ يَسِيرًا لَا يَكُونُ لِمِثْلِهِ أُجْرَةٌ كَيَوْمٍ أَوْ بَعْضِهِ فَلَا أُجْرَةَ عَلَى الْبَائِعِ ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا يَكُونُ لِمِثْلِهِ أُجْرَةٌ نُظِرَ فِيهِ : فَإِنْ كَانَ بَعْدَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي وَجَبَ عَلَى الْبَائِعِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ لِتَفْوِيتِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي مَنْفَعَةَ تِلْكَ الْمُدَّةِ ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ أَيْضًا تَسْوِيَةُ الْأَرْضِ وَإِصْلَاحُ حُفَرِهَا بِقَلْعِ الْحِجَارَةِ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي ، فَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْبَائِعِ الْأُجْرَةُ أَمْ لَا ، عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : تَجِبُ عَلَيْهِ الْأُجْرَةُ : لِتَفْوِيتِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي مَا مَلَكَهُ مِنَ الْمَنْفَعَةِ ، كَمَا لَوْ كَانَ بَعْدَ الْقَبْضِ . وَالثَّانِي : وَهُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا لَا أُجْرَةَ عَلَيْهِ : لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْأَرْضِ قَبْلَ الْقَبْضِ مُفَوَّتَةٌ عَلَى الْمُشْتَرِي بِيَدِ الْبَائِعِ عَلَى الْأَرْضِ . فَأَمَّا تَسْوِيَةُ الْأَرْضِ وَإِصْلَاحُ حُفَرِهَا فَلَا تَجِبُ عَلَى الْبَائِعِ وَجْهًا وَاحِدًا ، لَكِنْ يَجِبُ بِذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي خِيَارُ الْفَسْخِ : لِأَنَّهُ عَيْبٌ وَنَقْصٌ كَمَا لَوِ اشْتَرَى عَبْدًا فَقَطَعَ الْبَائِعُ يَدَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ ، لَمْ يَجِبْ لِلْمُشْتَرِي أَرْشٌ ، لَكِنْ يَسْتَحِقُّ بِهِ خِيَارَ الْفَسْخِ : لِأَنَّهُ عَيْبٌ وَنَقْصٌ ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْقَبْضِ لَزِمَتْهُ تَسْوِيَةُ الْحُفَرِ وَجْهًا وَاحِدًا ، وَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي ، كَمَا لَوِ اشْتَرَى عَبْدًا وَقَبَضَهُ فَقَطَعَ الْبَائِعُ يَدَهُ فَلَيْسَ لَهُ الْأَرْشُ وَجْهًا وَاحِدًا ، وَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي لِحُدُوثِ النَّقْصِ ، فَهَذَا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ تَرْكُهَا مُضِرًّا لِقُرْبِهَا مِنْ عُرُوقِ الْغِرَاسِ وَالزَّرْعِ ، وَقَلْعُهَا مُضِرًّا لِمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ غِرَاسٍ وَزَرْعٍ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُشْتَرِي مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْحِجَارَةِ وَبِضَرَرِهَا ، أَوْ غَيْرَ عَالِمٍ بِالْحِجَارَةِ وَلَا بِضَرَرِهَا ، أَوْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْحِجَارَةِ غَيْرَ عَالِمٍ بِضَرَرِهَا . فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِالْحِجَارَةِ وَبِضَرَرِهَا فَلَا خِيَارَ لَهُ فِي الْفَسْخِ وَلَا أُجْرَةَ لَهُ فِي الْقَلْعِ : لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالْمَعِيبِ يَمْنَعُ مِنَ الْخِيَارِ ، وَالْعِلْمَ بِالْحِجَارَةِ يَمْنَعُ مِنَ اسْتِحْقَاقِ الْأُجْرَةِ . وَإِنْ كَانَ غَيْرَ عَالِمٍ بِالْحِجَارَةِ وَبِضَرَرِهَا فَلَهُ الْخِيَارُ فِي الْفَسْخِ : لِأَجْلِ مَا يَلْحَقُهُ مِنَ الضَّرَرِ وَالنَّقْصِ ، فَإِنْ فَسَخَ رَجَعَ بِالثَّمَنِ ، وَإِنْ أَقَامَ كَانَتِ الْأُجْرَةُ مُسْتَحِقَّةً عَلَى مَا مَضَى ، وَهُوَ أَنْ يَنْظُرَ فِي الزَّمَانِ فَإِنْ كَانَ يَسِيرًا فَلَا أُجْرَةَ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقَبْضِ اسْتَحَقَّ الْأُجْرَةَ وَتَسْوِيَةَ الْأَرْضِ . وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَفِي اسْتِحْقَاقِ الْأُجْرَةِ وَجْهَانِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ تَسْوِيَةُ الْأَرْضِ . وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي عَالِمًا بِالْحِجَارَةِ غَيْرَ عَالِمٍ بِضَرَرِهَا إِنْ كَانَتِ الْحِجَارَةُ مُسْتَوْدَعَةً فِي الْأَرْضِ أثناء البيع اسْتَحَقَّ الْخِيَارَ فِي الْفَسْخِ : لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِالضَّرَرِ ، وَلَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ إِنْ أَقَامَ لِعِلْمِهِ بِالْحِجَارَةِ ، وَأَنَّ الْعِلْمَ بِهَا يَجْعَلُ زَمَانَ قَلْعِهَا مُسْتَثْنًى .

وَعَلَى جَمِيعِ الْأَحْوَالِ لَيْسَ لِلْبَائِعِ إِقْرَارُ الْحِجَارَةِ فِي الْأَرْضِ إِنْ أَقَامَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَيْعِ فَهَذَا الْقِسْمُ الثَّانِي .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ تَرْكُهَا غَيْرَ مُضِرٍّ : لِبُعْدِهَا مِنْ عُرُوقِ الْغَرْسِ وَالزَّرْعِ ، وَقَلْعُهَا مُضِرًّا : لِمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ غِرَاسٍ وَزَرْعٍ ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُشْتَرِي مِنْ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْحَالِ أَوْ غَيْرَ عَالِمٍ . فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِالْحَالِ ، فَلِلْبَائِعِ قَلْعُ حِجَارَتِهِ وَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي من الأرض المباعة وَلَا أُجْرَةَ لِأَجْلِ عِلْمِهِ ، فَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ غَرَسَ عَلَيْهَا ، أَوْ زَرَعَ كَانَ لِلْبَائِعِ قَطْعُ غَرْسِهِ وَزَرْعِهِ لِيَصِلَ إِلَى قَلْعِ حِجَارَتِهِ . وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي غَيْرَ عَالِمٍ بِالْحَالِ ، قِيلَ لِلْبَائِعِ : تَسْمَحُ بِتَرْكِ الْحِجَارَةِ ، فَإِنْ سَمَحَ بِهَا لَزِمَ الْبَيْعُ ، وَسَقَطَ خِيَارُ الْمُشْتَرِي ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ قَبُولِهِمَا لِيَثْبُتَ لَهُ الْفَسْخُ . فَإِنْ قِيلَ : فَهَذِهِ هِبَةٌ وَالْهِبَةُ لَا يَلْزَمُ قَبُولُهَا . قِيلَ : لَيْسَ الْمَقْصُودُ بِتَرْكِهَا الْهِبَةَ حَتَّى لَا يَلْزَمَ قَبُولُهَا ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ بِتَرْكِهَا إِسْقَاطُ الضَّرَرِ عَلَى الْمُشْتَرِي فِيمَا يَلْحَقُهُ بِالْقَلْعِ ، فَخَرَجَ عَنْ مَعْنَى الْهِبَةِ وَسَقَطَتْ فِيهِ الْمُكَافَأَةُ وَالْمِنَّةُ ، ثُمَّ لَيْسَ لِلْبَائِعِ إِذَا سَمَحَ بِهَا أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا سَوَاءٌ وَجَدَ مِنَ الْمُشْتَرِي الْقَبُولَ أَمْ لَا ؟ لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْإِبْرَاءِ الَّذِي لَا يَجُوزُ فِيهِ الرُّجُوعُ ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْقَبُولَ . وَإِنْ قَالَ الْبَائِعُ : أُرِيدُ قَلْعَهَا وَلَسْتُ أَسْمَحُ بِهَا . قِيلَ لِلْمُشْتَرِي : هَذَا عَيْبٌ تَسْتَحِقُّ بِهِ الْخِيَارَ ، فَإِنْ فَسَخَ رَجَعَ بِالثَّمَنِ ، وَإِنْ أَقَامَ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْأَرْضِ الَّتِي يَضُرُّ بِهَا قَلْعُ الْحِجَارَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِيهَا غَرْسٌ مُتَقَدَّمٌ قَدْ دَخَلَ فِي الْبَيْعِ ، أَوْ يَكُونُ فِيهَا غَرْسٌ قَدِ اسْتَحْدَثَهُ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْبَيْعِ ، أَوْ يَكُونُ فِيهَا زَرْعٌ . فَإِنْ كَانَ فِيهَا غَرْسٌ مُتَقَدَّمٌ قَبْلَ الْبَيْعِ يَضُرُّ بِهِ قَلْعُ الْحِجَارَةِ ، فَلِلْبَائِعِ قَلْعُ حِجَارَتِهِ وَيَنْظُرُ فَإِنْ قَلَعَهَا بَعْدَ الْقَبْضِ فَعَلَيْهِ أُجْرَةُ مِثْلِ الْمُدَّةِ وَإِنْ طَالَتْ ، وَأَرْشُ مَا نَقَصَ الْغَرْسُ بِالْقَلْعِ وَتَسْوِيَةِ الْأَرْضِ . وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَمْ يَلْزَمْهُ أَرْشُ نَقْصِ الْغَرْسِ ، وَلَا تَسْوِيَةِ الْأَرْضِ ، وَهَلْ يَلْزَمُهُ الْأُجْرَةُ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ . وَإِنْ كَانَ الْغَرْسُ قَدِ اسْتَحْدَثَهُ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْبَيْعِ ، فَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الْقَبْضِ فَنُلْزِمُهُ الْأُجْرَةَ وَنَقْصَ الْغَرْسِ وَتَسْوِيَةَ الْأَرْضِ ، وَلَا يَلْزَمُ الْبَائِعُ تَرْكَ حِجَارَتِهِ إِلَى مُضِيِّ مُدَّةِ الْغِرَاسِ . وَإِنْ كَانَ فِيهَا زَرْعٌ فَزَرْعُ الْمُشْتَرِي يَكُونُ بَعْدَ قَبْضِ الْأَرْضِ ، وَعَلَى الْبَائِعِ تَرْكُ حِجَارَتِهِ إِلَى مُضِيِّ الزَّرْعِ : لِأَنَّهُ زَرْعٌ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ فَلَا يُقْلَعُ زَرْعُهُ قَبْلَ حَصَادِهِ .

وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغَرْسِ ، أَنَّ الْغَرْسَ مَوْضُوعٌ لِلِاسْتِدَامَةِ وَلَيْسَ لِمُدَّتِهِ حَدٌّ وَغَايَةٌ ، وَالزَّرْعُ مَوْضُوعٌ لِلْأَخْذِ وَلِمُدَّتِهِ غَايَةٌ وَحَدٌّ ، فَإِذَا حَصَدَ الْمُشْتَرِي زَرْعَهُ قَلَعَ الْبَائِعُ حِينَئِذٍ حِجَارَتَهُ وَلَزِمَتْهُ الْأُجْرَةُ وَتَسْوِيَةُ الْأَرْضِ ، فَهَذَا الْقِسْمُ الثَّالِثُ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ تَرْكُهَا مُضِرًّا لِقُرْبِهَا مِنْ عُرُوقِ الْغِرَاسِ وَالزَّرْعِ ، وَقَلْعُهَا غَيْرَ مُضِرٍّ : لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهَا غِرَاسٌ وَلَا زَرْعٌ ، فَالْبَائِعِ فِي هَذَا مَجْبُورٌ عَلَى قَلْعِ الْحِجَارَةِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ الْمُشْتَرِي للأرض التي بها حجارة أثناء البيع ، وَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي : لِأَنَّ الْبَائِعَ مَأْخُوذٌ بِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ ، ثُمَّ الْقَوْلُ فِي الْأُجْرَةِ وَتَسْوِيَةِ الْأَرْضِ عَلَى مَا مَضَى إِنْ كَانَ بَعْدَ الْقَبْضِ لَزِمَتْهُ الْأُجْرَةُ وَتَسْوِيَةُ الْأَرْضِ . وَفِي الْأُجْرَةِ وَجْهَانِ . وَإِنْ كَانَ تَرْكُ الْحِجَارَةِ مُضِرًّا بِالْغِرَاسِ دُونَ الزَّرْعِ ، لَزِمَ الْبَائِعَ قَلْعُهَا وَجْهًا وَاحِدًا ، بِخِلَافِ الْحِجَارَةِ الْمَخْلُوقَةِ : لِأَنَّ الْحِجَارَةَ الْمُسْتَوْدَعَةَ تَدْلِيسٌ مِنَ الْبَائِعِ يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ ، وَالْمَخْلُوقَةُ بِخِلَافِهِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابٌ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الثَّمَرِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ

بَابٌ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الثَّمَرِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تُزْهِيَ ، قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا تُزْهِي ؟ قَالَ " حَتَى تَحْمَرَّ " وَرَوَى عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنُ عُمَرَ " حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا " ، وَرَوَى غَيْرُهُ " حَتَى تَنْجُوَ مِنَ الْعَاهَةِ " ( قَالَ ) فَبِهَذَا نَأْخُذُ . وَفِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِذَا مَنَعَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ الثَّمَرَةَ فَبِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ ؟ " دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا نَهَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ الَّتِي تُتْرَكُ حَتَى تَبْلُغَ غَايَةَ إِبَّانِهَا ، لَا أَنَّهُ نَهَى عَمَا يُقْطَعُ مِنْهَا ، وَذَلِكَ أَنَّ مَا يُقْطَعُ مِنْهَا لَا آفَةَ تَأْتِي عَلَيْهِ تَمْنَعُهُ إِنَمَا يُمْنَعُ مَا تُتْرَكُ مُدَةً يَكُونُ فِي مِثْلِهَا الْآفَةُ كَالْبَلَحِ ، وَكُلُّ مَا دُونَ الْبُسْرِ يَحِلُّ بَيْعُهُ عَلَى أَنْ يُقْطَعَ مَكَانَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا فِي الْبَابِ الْمَاضِي الْحُكْمَ فِي بَيْعِ النَّخْلِ دُونَ الثَّمَرَةِ ، وَفَى بَيْعِ الثَّمَرَةِ مَعَ النَّخْلِ ، وَهَذَا الْبَابُ مَقْصُورٌ عَلَى بَيْعِ الثَّمَرَةِ دُونَ النَّخْلِ ، وَلَا يَخْلُو حَالُ الثَّمَرَةِ الْمَبِيعَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ تَكُونَ بَادِيَةَ الصَّلَاحِ ، أَوْ غَيْرَ بَادِيَةِ الصَّلَاحِ . فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ بَادِيَةِ الصَّلَاحِ الثمرة . فَلَا يَخْلُو حَالُ بَيْعِهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تُبَاعَ بِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ . وَالثَّانِي : أَنْ تُبَاعَ بِشَرْطِ الْقَطْعِ . الثَّالِثُ : أَنْ تُبَاعَ بَيْعًا مُطْلَقًا . فَأَمَّا الْقَسَمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ تُبَاعَ بِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ وَالتَّرْكِ فَبَيْعُهَا بَاطِلٌ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَى تُزْهِيَ ، قِيلَ وَمَا تُزْهِي ؟ قَالَ حَتَى تَحْمَرَّ " وَرَوَى سَعِيدٌ عَنْ جَابِرٍ قَالَ " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُبَاعَ ثَمَرَةٌ حَتَى تَشْقَحَ . قِيلَ : وَمَا تَشْقَحُ ؟ قَالَ تَحْمَارَّ وَتَصْفَارَّ ، وَيُؤْكَلَ مِنْهَا " .

وَرَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا " . وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " نَهَى عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يُحْرَزَ مِنْ كُلِّ عَارِضٍ " . وَرَوَى حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَى تَنْجُوَ مِنَ الْعَاهَةِ " وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَرَأَيْتَ إِنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ فَبِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ " فَهَذِهِ خَمْسَةُ أَحَادِيثَ تَمْنَعُ مِنْ بَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ ، وَأَلَفَاظُهَا - وَإِنْ كَانَتْ مُخْتَلِفَةً - فَمَعَانِيهَا مُتَّفِقَةٌ ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ الْمُخْتَلِفَةَ فِي أَزْمَانٍ مُخْتَلِفَةٍ ، فَنَقَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الرُّوَاةِ مَا سَمِعَهُ مِنْ لَفْظِهِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَحَدَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ فَنَقَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الرُّوَاةِ الْمَعْنَى ، وَعَبَّرَ عَنْهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ اللَّفْظِ ، فَكَانَ اخْتِلَافُ الْأَلْفَاظِ مِنْ جِهَةِ الرُّوَاةِ ، وَيَجُوزُ عِنْدَنَا مِثْلُ هَذَا أَنْ يُعَبِّرَ الرَّاوِي عَنِ الْمَعْنَى بِغَيْرِ اللَّفْظِ الْمَسْمُوعِ إِذَا كَانَ الْمَعْنَى جَلِيًّا . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ تُبَاعَ بِشَرْطِ الْقَطْعِ ، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ : لِأَنَّهُ لَا مَنْعَ مِنْ بَيْعِهَا لِأَنْ تَنْجُوَ مِنَ الْعَاهَةِ ، وَأَنْ لَا تَعْطَبَ ، فَيَأْخُذُ الرَّجُلُ مِلْكَ أَخِيهِ . وَكَانَ اشْتِرَاطُ قَطْعِهَا يُؤْمَنُ مَعَهُ عَطَبُهَا وَحُدُوثُ الْعَاهَةِ بِهَا صَحَّ الْبَيْعُ . فَلَوْ سَمَحَ الْبَائِعُ بَعْدَ اشْتِرَاطِ الْقَطْعِ عَلَى الْمُشْتَرِي بِتَرْكِ الثَّمَرَةِ إِلَى بُدُوِّ الصَّلَاحِ جَازَ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ ، وَلَوْ طَالَبَهُ بِالْقَطْعِ لَزِمَهُ ذَلِكَ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ تُبَاعَ بَيْعًا مُطْلَقًا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّبْقِيَةُ وَالتَّرْكُ ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَطْعُ . فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ الْبَيْعُ جَائِزٌ ، وَيُؤْخَذُ الْمُشْتَرِي بِقَطْعِهَا فِي الْحَالِ ، بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ إِطْلَاقَ الْعَقْدِ يَقْتَضِي تَعْجِيلَ الْقَطْعِ : لِأَنَّ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرِ ، وَالتَّسْلِيمُ لَا يَتِمُّ بِالْقَطْعِ ، وَإِذَا كَانَ إِطْلَاقُ الْعَقْدِ فِيهَا يَقْتَضِي تَعْجِيلَ قَطْعِهَا ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُمَا لَوْ شَرَطَ تَعْجِيلَ الْقَطْعِ صَحَّ الْعَقْدُ ، وَكَذَا مَعَ إِطْلَاقِ الْعَقْدِ الْمُقْتَضِي تَعْجِيلَ الْقَطْعِ .

قَالَ : وَلِأَنَّ الْعَقْدَ إِذَا أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى وَجْهٍ يَصِحُّ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى وَجْهِ الْفَسَادِ ، فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ إِطْلَاقُ الْعَقْدِ عَلَى الْقَطْعِ لِيَصِحَّ ، وَلَا يُحْمَلُ عَلَى التَّبْقِيَةِ لِيَفْسُدَ . وَلِأَنَّهَا ثَمَرَةٌ لَمْ يُشْتَرَطْ تَرْكُهَا فَجَازَ بَيْعُهَا كَالْمَشْرُوطِ قَطْعُهَا ، وَلِأَنَّ كُلَّ ثَمَرَةٍ جَازَ بَيْعُهَا بِشَرْطِ الْقَطْعِ جَازَ بَيْعُهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ كَالْبَادِيَةِ الصَّلَاحِ . وَدَلِيلُنَا : مَا رَوَيْنَاهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْخَمْسَةِ بِاخْتِلَافِ أَلْفَاظِهَا وَاتِّفَاقِ مَعَانِيهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا فَكَانَ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ النَّهْيَ تَوَجَّهَ إِلَى الْمَعْهُودِ مِنَ الْبَيْعَاتِ ، وَالْمَعْهُودُ مِنَ الْبَيْعِ إِطْلَاقُ الْعَقْدِ دُونَ تَقَيُّدِهِ بِالشَّرْطِ ، فَصَارَ النَّهْيُ بِالْعُرْفِ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ دُونَ الْمُقَيِّدِ . وَالِاسْتِدْلَالُ الثَّانِي : أَنَّ النَّهْيَ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَى بَيْعِهَا بِشَرْطِ الْقَطْعِ ، أَوْ عَلَى شَرْطِ التَّرْكِ ، أَوْ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى شَرْطِ الْقَطْعِ لِجَوَازِهِ إِجْمَاعًا ، وَلَا عَلَى شَرْطِ التَّرْكِ لِأَنَّ النَّهْيَ وَرَدَ مُطْلَقًا ، فَثَبَتَ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ . وَلِأَنَّ إِطْلَاقَ الْعَقْدِ يَقْتَضِي التَّبْقِيَةَ وَالتَّرْكَ : لِأَنَّ الْعُرْفَ فِي الْقَبْضِ يَجْرِي مَجْرَى الشَّرْطِ ، وَالْعُرْفَ فِي الثِّمَارِ أَنْ تُؤْخَذَ وَقْتَ الْجِدَادِ فَصَارَ الْمُطْلَقُ كَالْمَشْرُوطِ تَرْكُهُ ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ اشْتِرَاطَ تَرْكِهَا مُبْطِلٌ لِلْبَيْعِ ، فَكَذَا إِطْلَاقُ عَقْدِهَا الَّذِي يَجْرِي بِالْعُرْفِ مَجْرَى اشْتِرَاطِ تَرْكِهَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُبْطِلًا لِلْبَيْعِ . وَلِأَنَّهَا ثَمَرَةً لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهَا فَوَجَبَ أَنْ يَصِحَّ إِفْرَادُ بَيْعِهَا مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ قَطْعِهَا قِيَاسًا عَلَى بَيْعِهَا بِشَرْطِ التَّرْكِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرُوهُ فِي أَنَّ إِطْلَاقَ عَقْدِهَا يَقْتَضِي تَعْجِيلَ قَطْعِهَا ، فَهُوَ أَنَّهَا دَعْوَى تُخَالَفُ فِيهَا ، وَلَيْسَ التَّسْلِيمُ بِالْقَطْعِ وَالتَّحْوِيلِ ، وَإِنَّمَا هُوَ بِرَفْعِ الْيَدِ وَالتَّمْكِينِ . وَأَمَّا حَمْلُهُ عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ ، وَإِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ إِطْلَاقُهُ ، ثُمَّ يَعْتَبِرُ حُكْمَهُ فِي الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْمَشْرُوطِ قَطْعُهُ فَلَا يَصِحُّ : لِأَنَّ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي التُّرْكَ فَبَطَلَ ، وَالْمُشْتَرَطُ قَطْعُهُ لَا يَقْتَضِي التَّرْكَ فَصَحَّ . وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى مَا بَدَا صَلَاحُهُ فَلَا يَصِحُّ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَرْفَعُ النَّصَّ فَكَانَ مَطْرُوحًا . وَالثَّانِي : أَنَّ مَا بَدَا صَلَاحُهُ قَدْ نَجَا مِنَ الْعَاهَةِ ، وَجَازَ بَيْعُهُ بِشَرْطِ التَّرْكِ ، فَلِذَلِكَ جَازَ مُطْلَقًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَا لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ .



فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا ابْتَاعَ ثَمَرَةً لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهَا وَهُوَ يَمْلِكُ نَخْلَهَا الَّتِي هِيَ عَلَيْهِ بَيْعَ مُتَقَدَّمٍ أَوْ هِبَةً أَوْ وَصِيَّةً ، فَهَلْ يَلْزَمُ اشْتِرَاطُ الْقَطْعِ فِي ابْتِيَاعِهَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَلْزَمُ ، وَإِنْ لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهَا الْقَطْعُ فَسَدَ الْبَيْعُ : لِأَنَّهَا ثَمَرَةٌ قَدْ أُفْرِدَتْ بِعَقْدِ الْبَيْعِ . وَالْوَجْهِ الثَّانِي : أَنَّ اشْتِرَاطَ قَطْعِهَا لَا يَلْزَمُ : لِأَنَّهَا تَصِيرُ تَبَعًا لِلنَّخْلِ فِي الْمِلْكِ كَمَا لَوِ اشْتَرَاهَا مَعَ النَّخْلِ هَذَا الْكَلَامُ فِيمَا لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا مَا بَدَا صَلَاحُهُ مِنَ الثِّمَارِ بيعه فَلَا يَخْلُو بَيْعُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُبَاعَ بِشَرْطِ الْقَطْعِ فَيَجُوزُ بَيْعُهَا إِجْمَاعًا . الْقِسْمِ الثَّانِي : أَنْ يُبَاعَ بِشَرْطِ التَّرْكِ إِلَى وَقْتِ الْجِدَادِ فَيَجُوزُ بَيْعُهَا وَيَلْزَمُ تَرْكُهَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : بَيْعُهَا بَاطِلٌ : احْتِجَاجًا بِأَنَّهَا عَيْنٌ بِيعَتْ بِشَرْطِ تَأْخِيرِ الْقَبْضِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَيْعُهَا بَاطِلٌ كَالْعُرُوضِ وَالْأَمْتِعَةِ . وَلِأَنَّهَا ثَمَرَةٌ بِيعَتْ بِشَرْطِ التَّرْكِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَيْعُهَا بَاطِلًا ، كَالثَّمَرَةِ الَّتِي لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهَا وَدَلِيلُنَا : نَهْيُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهَا فَجَعَلَ غَايَةَ النَّهْيِ بُدُوَّ الصَّلَاحِ ، وَالْحُكْمُ بَعْدَ الْغَايَةِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا لِمَا قَبْلَهَا ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزِ اشْتِرَاطُ التَّرْكِ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ اشْتِرَاطُهُ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ . وَلِأَنَّ الشَّرْطَ إِذَا كَانَ مُوَافِقًا لِلْعُرْفِ لَمْ يَقْدَحْ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْعُرْفَ فِي الثَّمَرِ تَرْكُهَا إِلَى وَقْتِ الْجِدَادِ ، وَهَذَا لَا يُفْسِدُ الْعَقْدَ ، وَكَذَا مَا وَافَقَهُ مِنَ الشَّرْطِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّهُ مَبِيعُ شَرْطٍ فِيهِ تَأْخِيرُ الْقَبْضِ ، فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقَبْضَ يَتَأَخَّرُ : لِأَنَّ الْقَبْضَ فِي الثِّمَارِ بِالتَّمْكِينِ مِنْهَا كَالْعَقَارِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْعُرْفُ فِي الثِّمَارِ تَأْخِيرُ قَبْضِهَا جَازَ اشْتِرَاطُهُ فِيهَا ، وَلَمَّا لَمْ يَجُزِ الْعُرْفُ فِي الْعُرُوضِ بِتَأْخِيرِ قَبْضِهَا لَمْ يَجُزِ اشْتِرَاطُهُ فِيهَا . وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى مَا لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ فَلَا يَصِحُّ : لِأَنَّ السُّنَّةَ قَدْ فَرَّقَتْ بَيْنَهُمَا فِي الْجَوَازِ وَالْمَنْعِ ، فَهَذَا حُكْمُ الْقِسْمِ الثَّانِي . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : فَهُوَ أَنْ يَبِيعَهَا مُطْلَقًا ، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ وَلِلْمُشْتَرِي تَرَكُهَا إِلَى وَقْتِ الْجِدَادِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : بَيْعُهَا جَائِزٌ وَعَلَى الْمُشْتَرِي قَطْعُهَا فِي الْحَالِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ إِطْلَاقَ الْعَقْدِ يَقْتَضِي الْقَطْعَ ، وَإِطْلَاقُهُ عِنْدَنَا يَقْتَضِي التَّرْكَ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَإِذَا أَذِنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْعِهِ إِذَا صَارَ أَحْمَرَ أَوْ

أَصْفَرَ فَقَدْ أَذِنَ فِيهِ إِذَا بَدَا فِيهِ النُّضْجُ وَاسْتُطِيعَ أَكْلُهُ خَارِجًا مِنْ أَنْ يَكُونَ كُلُّهُ بَلَحًا ، وَصَارَ عَامَّتُهُ فِي تِلْكِ الْحَالِ يَمْتَنِعُ فِي الظَّاهِرِ مِنَ الْعَاهَةِ لِغَلَظِ نَوَاتِهِ فِي عَامَّتِهِ وَبُسْرِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ بُدُوَّ الصَّلَاحِ شَرْطٌ فِي جَوَازِ الْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ الْقَطْعِ ، وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي بُدُوِّ الصَّلَاحِ الذي يعتبر به بدو الصلاح في الثمار . فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ بُدُوَّ الصَّلَاحِ فِي الثِّمَارِ بِطُلُوعِ الثُّرَيَّا . وَحُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّ بُدُوَّ الصَّلَاحِ بِأَنْ يُوجَدَ فِي الثَّمَرِ مَا يُؤْكَلُ . وَحُكِيَ عَنِ النَّخَعِيِّ أَنَّ بُدُوَّ الصَّلَاحِ بِقُوَّةِ الثَّمَرَةِ وَاشْتِدَادِهَا . وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ بُدُوَّ الصَّلَاحِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَجْنَاسِ ، فَبَدُوَّ الصَّلَاحِ فِي النَّخْلِ بِالِاحْمِرَارِ وَالِاصْفِرَارِ ، وَفِي الْكَرْمِ بِالتَّمَوُّهِ إِلَى الْحُمْرَةِ أَوِ السَّوَادِ : اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تُزْهِيَ ، قِيلَ : وَمَا تُزْهِي ؟ قَالَ حَتَّى تَحْمَرَّ أَوْ تَصْفَرَّ . فَأَمَّا اعْتِبَارُهُ بِطُلُوعِ الثُّرَيَّا ، فَلَا يَصِحُّ : لِأَنَّ مِنَ الْبِلَادِ مَا يَتَعَجَّلُ طُلُوعَ الثُّرَيَّا فِيهِ ، وَيَتَأَخَّرُ صَلَاحُ ثَمَرِهِ ، وَمِنْهَا مَا يَتَأَخَّرُ طُلُوعُ الثُّرَيَّا فِيهِ وَيَتَعَجَّلُ صَلَاحُ ثِمَارِهِ . وَلِأَنَّ الْبَلَدَ الْوَاحِدَ قَدْ يَتَعَجَّلُ صَلَاحَ ثِمَارِهِ فِي عَامٍ لِاشْتِدَادِ الْحَرِّ وَدَوَامِهِ ، وَيَتَأَخَّرُ فِي عَامٍ آخَرَ لِاشْتِدَادِ الْبَرْدِ وَدَوَامِهِ ، وَطُلُوعُ الثُّرَيَّا لَا يَخْتَلِفُ بِالْحَرِّ وَالْبَرْدِ . وَأَمَّا مَنِ اعْتَبَرَهُ بِوُجُودِ مَا يُؤْكَلُ مِنْهُ فَلَا يَصِحُّ : لِأَنَّ ثِمَارَ النَّخْلِ قَدْ تُؤْكَلُ طَلْعًا ثُمَّ تُؤْكَلُ بَلَحًا وَحَالًا ، وَالْكَرْمُ قَدْ يُؤْكَلُ حِصْرِمًا ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ صَلَاحًا . وَأَمَّا مَنِ اعْتَبَرَهُ بِالْقُوَّةِ وَالِاشْتِدَادِ فَغَالَطَ : لِأَنَّ قُوَّةَ الثِّمَارِ قَبْلَ صَلَاحِهَا فَإِذَا صَلَحَتْ لَانَتْ وَنَضِجَتْ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ بُدُوَّ الصَّلَاحِ بِمَا ذَكَرْنَا ، فَبَدَأَ صَلَاحُ نَخْلَةٍ مِنْ حَائِطٍ كَانَ بُدُوُّ الصَّلَاحِ جَارِيًا عَلَى جَمِيعِ نَخْلِ الْحَائِطِ ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ غَيْرِهِ مِنْ ثِمَارِ الْبَلَدِ الَّذِي لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهَا ، وَلَا بَيْعَ مَا فِي الْحَائِطِ مِنْ غَيْرِ ثِمَارِ النَّخْلِ الَّتِي لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهَا . وَقَالَ مَالِكٌ : إِذَا بَدَا صَلَاحُ نَخْلَةٍ مِنْ حَائِطٍ جَازَ بَيْعُ ثِمَارِ الْبَلَدِ كُلِّهِ . وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ : إِذَا بَدَا صَلَاحُ جِنْسٍ فِي ثِمَارِ الْحَائِطِ جَازَ بَيْعُ جَمِيعِ أَجْنَاسِ الثِّمَارِ الَّتِي فِي الْحَائِطِ حَتَّى إِذَا بَدَا صَلَاحُ النَّخْلِ جَازَ بَيْعُ الْكَرْمِ وَالْفَوَاكِهِ . وَاسْتَدَلَّ مَالِكٌ بِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ صَلَاحُ نَخْلَةٍ مِنْ حَائِطٍ كَصَلَاحِ جَمِيعِ الْحَائِطِ لِتَقَارُبِ بَعْضِهِ مِنْ بَعْضٍ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ صَلَاحُ نَخْلِ حَائِطٍ مِنْ بَلَدٍ كَصَلَاحِ جَمِيعِ نَخْلِ الْبِلَادِ لِتَقَارُبِ بَعْضِهِ مِنْ بَعْضٍ : لِأَنَّ الْهَوَاءَ لَيْسَ يَخْتَلِفُ فِيهِ ، وَاسْتَدَلَّ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ بِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُمَيَّزِ الْجِنْسَ الْوَاحِدَ فِي الصَّلَاحِ إِجْمَاعًا خَوْفًا مِنْ سُوءِ الْمُشَارَكَةِ وَاخْتِلَافِ الْأَيْدِي لَمْ تُمَيَّزِ الْأَجْنَاسُ الْمُخْتَلِفَةُ فِي الصَّلَاحِ حِجَاجًا وَخَوْفًا مِنْ سُوءِ الْمُشَارَكَةِ بِاخْتِلَافِ الْأَيْدِي .

وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تَنْجُوَ مِنَ الْعَاهَةِ وَالثَّمَرَةُ لَا تَنْجُو مِنَ الْعَاهَةِ بِصَلَاحِ غَيْرِهَا حَتَّى تَصْلُحَ هِيَ فِي نَفْسِهَا . ثُمَّ يُقَالُ لِمَالِكٍ : إِنَّمَا جَازَ فِي الْحَائِطِ الْوَاحِدِ إِذَا بَدَا صَلَاحُ بَعْضِهِ : لِأَنَّهُ يَتَسَاوَى فِي الْغَالِبِ فِي السَّقْيِ وَالْعِمَارَةِ الَّتِي يَتَعَجَّلُ الصَّلَاحُ بِهَا وَيَتَأَخَّرُ آخَرُ بِعَدَمِهَا وَثِمَارُ الْبَلَدِ كُلُّهُ لَا تَتَسَاوَى فِي السَّقْيِ وَالْعِمَارَةِ ، بَلْ تَخْتَلِفُ فَاخْتَلَفَ لِذَلِكَ زَمَانُ صَلَاحِهَا . وَيُقَالُ لِلَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ : إِنَّمَا جَازَ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ إِذَا بَدَا صَلَاحُ بَعْضِهِ لِمَا يَلْحَقُ مِنَ الْمَشَقَّةِ فِي تَمَيُّزِهِ ، وَلَمْ يَجُزْ فِي الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ لِارْتِفَاعِ الْمَشَقَّةِ فِي تَمْيِزِهَا .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا اعْتَبَرْتَ بُدُوَّ الصَّلَاحِ فِي ضَمِّ بَعْضِ الثِّمَارِ إِلَى بَعْضٍ بِمَا اعْتَبَرْتَ بِهِ التَّأْبِيرَ فِي ضَمِّ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ . فَإِذَا بَدَا صَلَاحُ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ النَّخْلِ ، هَلْ يَكُونُ صَلَاحًا لِجَمِيعِ مَا فِي الْحَائِطِ مِنْ أَنْوَاعِ النَّخْلِ عَلَى وَجْهَيْنِ . وَإِذَا بَدَا صَلَاحُ بَعْضِ الْحَائِطِ فَأُفْرِدَ بِالْعَقْدِ مَا لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ كَانَ عَلَى وَجْهَيْنِ . وَلَوْ كَانَ لَهُ حَائِطَانِ فَبَدَا صَلَاحُ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ فَبَاعَهُمَا مَعًا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ لَزِمَ اشْتِرَاطُ الْقَطْعِ فِيمَا لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ دُونَ الْآخَرِ ، وَإِنْ بَاعَهُمَا عَلَى الْإِطْلَاقِ بَطَلَ الْبَيْعُ فِيمَا لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ ، وَفِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ فِيمَا بَدَا صَلَاحُهُ قَوْلَانِ مِنْ تَفْرِيقِ الصِّفَةِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَكَذَلِكَ كُلُّ ثَمَرَةٍ مِنْ أَصْلٍ يُرَى فِيهِ أَوَّلُ النُّضْجِ لَا كِمَامَ عَلَيْهَا وَلِلْخِرْبِزِ نُضْجٌ كَنُضْجِ الرُّطَبِ ، فَإِذَا رُئِيَ ذَلِكَ فِيهِ حَلَّ بَيْعُ خِرْبِزِهِ ، وَالْقِثَّاءُ يُؤْكَلُ صِغَارًا طَيِّبًا ، فَبُدُوُّ صَلَاحِهِ أَنْ يَتَنَاهَى عِظَمُهُ أَوْ عِظَمُ بَعْضِهِ ، ثُمَّ يُتْرَكُ حَتَّى يَتَلَاحَقَ صِغَارُهُ بِكِبَارِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَاعْلَمْ أَنَّ بُدُوَّ الصَّلَاحِ قَدْ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الثِّمَارِ ، وَجُمْلَتُهَا أَنَّهَا عَلَى ثَمَانِيَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا يَكُونُ بُدُوُّ الصَّلَاحِ فِيهِ بِاللَّوْنِ ، وَذَلِكَ فِي النَّخْلِ بِالِاحْمِرَارِ وَالِاصْفِرَارِ ، وَفِي الْكَرْمِ بِالْحُمْرَةِ وَالسَّوَادِ وَالصَّفَاءِ وَالْبَيَاضِ ، فَأَمَّا الْفَوَاكِهُ الْمُتَلَوِّنَةُ فَمِنْهَا مَا يَكُونُ صَلَاحُهُ بِالصُّفْرَةِ كَالْمِشْمِشِ ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ بِالْحُمْرَةِ كَالْعُنَّابِ ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ بِالسَّوَادِ كَالْإِجَّاصِ وَمِنْهَا مَا يَكُونُ بِالْبَيَاضِ كَالتُّفَّاحِ . الْقِسْمُ الثَّانِي : مَا يَكُونُ بُدُوُّ صَلَاحِهِ بِالطَّعْمِ ، فَمِنْهُ مَا يَكُونُ بِالْحُلْوَةِ كَقَصَبِ السُّكَّرِ ، وَمِنْهُ مَا يَكُونُ بِالْحُمُوضَةِ كَالرُّمَّانِ ، فَإِذَا زَالَتْ عَنْهُ الْمَرَارَةُ بِالْحَلَاوَةِ أَوِ الْحُمُوضَةِ فَقَدْ بَدَا صَلَاحُهُ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا يَكُونُ بُدُوُّ صَلَاحِهِ بِالنُّضْجِ وَاللِّينِ ، كَالتِّينِ وَالْبِطِّيخِ ، فَإِذَا لَانَتْ صَلَابَتُهُ فَقَدْ بَدَا صَلَاحُهُ .

وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : مَا يَكُونُ بُدُوُّ صَلَاحِهِ بِالْقُوَّةِ وَالِاشْتِدَادِ كَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ ، فَإِذَا بَدَتْ قُوَّتُهُ وَاشْتَدَّ فَقَدْ بَدَا صَلَاحُهُ . وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ : مَا يَكُونُ بُدُوُّ صَلَاحِهِ بِالطُّولِ وَالِامْتِلَاءِ كَالْعَلَفِ ، وَالْبُقُولِ وَالْقَصَبِ ، فَإِذَا تَنَاهَى طُولُهُ وَامْتِلَاؤُهُ إِلَى الْحَدِّ الَّذِي يَجُزْ عَلَيْهِ فَقَدْ بَدَا صَلَاحُهُ . وَالْقِسْمُ السَّادِسُ : مَا يَكُونُ بُدُوُّ صَلَاحِهِ بِالْعِظَمِ وَالْكِبَرِ ، كَالْقِثَّاءِ وَالْخِيَارِ وَالْبَاذِنْجَانِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَالْقِثَّاءُ يُؤْكَلُ صِغَارًا طَيِّبًا ، يُرِيدُ أَنَّهُ يُخَالِفُ الثِّمَارَ كُلَّهَا الَّتِي لَا يَطِيبُ أَكْلُهَا إِلَّا بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا ، وَالْقِثَّاءُ يَطِيبُ أَكْلُهُ صِغَارًا قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ ، وَلَا يَكُونُ اسْتِطَابَةُ أَكْلِهِ صَلَاحًا لَهُ حَتَّى يَتَنَاهَى كِبَرُهُ وَعِظَمُهُ ، لِأَنَّهُ عِنْدَ كِبَرِهِ يَنْجُو مِنَ الْعَاهَةِ فَلَا وَجْهَ لِإِنْكَارِ مُحَمَّدِ بْنِ دَاوُدَ عَلَى الشَّافِعِيِّ قَوْلَهُ إِنَّ الْقِثَّاءَ يُؤْكَلُ صِغَارًا طَيِّبًا ، وَإِنَّ ذَلِكَ إِخْبَارٌ عَنِ الْمَحْسُوسَاتِ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ قَصْدِ الشَّافِعِيِّ بِهِ . وَالْقِسْمُ السَّابِعُ : مَا يَكُونُ بُدُوُّ صَلَاحِهِ بِانْشِقَاقِ كِمَامِهِ كَالْقُطْنِ وَالْجَوْزِ ، فَإِذَا انْشَقَّ جَوْزُ الْقُطْنِ ، وَسَقَطَتِ الْقِشْرَةُ الْعُلْيَا عَنْ جَوْزِ الْأَكْلِ فَقَدْ بَدَا صَلَاحُهُ . وَالْقِسْمُ الثَّامِنُ : مَا يَكُونُ بُدُوُّ صَلَاحِهِ بِانْفِتَاحِهِ وَانْقِشَارِهِ كَالْوَرْدِ ، وَالنَّيْلُوفَرِ ، فَإِذَا انْفَتَحَ الْقِسْمُ الْمُنْضَمُّ مِنْهُ وَانْقَشَرَ فَقَدْ بَدَا صَلَاحُهُ ، وَوَرَقُ التُّوتِ فَبُدُوُّ صَلَاحِهِ بِأَنْ يَصِيرَ كَأَرْجُلِ الْبَطِّ ، هَكَذَا قَالَ عَطَاءٌ وَالنَّخَعِيُّ . وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي بُدُوِّ الصَّلَاحِ أَنْ تَنْتَهِيَ الثَّمَرَةُ أَوْ بَعْضُهَا إِلَى أَدْنَى أَحْوَالِ كَمَالِهَا فَتَنْجُوَ مِنَ الْعَاهَةِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَا وَجْهَ لِمَنْ قَالَ يَجُوزُ إِذَا بَدَا صَلَاحُهُمَا وَيَكُونُ لِمُشْتَرِيهِمَا مَا ثَبَتَ أَصْلُهُمَا أَنْ يَأْخُذَ كُلَّ مَا خَرَجَ مِنْهُمَا ، وَهَذَا مُحَرَّمٌ ، وَكَيْفَ لَمْ يَجُزْ بَيْعَ الْقِثَّاءِ وَالْخِرْبِزِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُمَا كَمَا لَا يُحِلُّ بَيْعُ الثَّمَرِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ ، وَيُحِلُّ مَا لَمْ يُرَ وَلَمْ يُخْلَقَ مِنْهُمَا ، وَلَوْ جَازَ لِبُدُوِّ صَلَاحِهِمَا شِرَاءُ مَا لَمْ يُخْلَقْ مِنْهُمَا ، لَجَازَ لِبُدُوِّ صَلَاحِ ثَمَرِ النَّخْلِ شِرَاءُ مَا لَمْ يَحْمِلِ النَّخْلُ سِنِينَ وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ السِّنِينَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا بَدَا صَلَاحُ مَا خَرَجَ مِنَ الْقِثَّاءِ وَالْبِطِّيخِ بَيْعُ مَا لَمْ يُخْلَقْ مِنْهُ تَبَعًا لِمَا خُلِقَ لَمْ يَجُزْ بَيْعُ مَا لَمْ يُخْلَقْ مِنْهُ تَبَعًا لِمَا خُلِقَ وَوَجَبَ إِفْرَادُ الْعَقْدِ بِالْمَوْجُودِ . وَقَالَ مَالِكٌ : يَجُوزُ بَيْعُ مَا لَمْ يُخْلَقْ مِنْهُ تَبَعًا لِمَا خُلِقَ : اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ شُرُوطَ الْعَقْدِ مُعْتَبَرَةٌ بِالضَّرُورَةِ فَبُيُوعُ الْعُرُوضِ لَا يَجُوزُ قَبْلَ وُجُودِهَا لِارْتِفَاعِ الضَّرُورَةِ ، وَإِمْكَانِ بَيْعِهَا بَعْدَ وُجُودِهَا ، وَالْإِجَارَةُ هِيَ بُيُوعٌ لِلْمَنَافِعِ قَبْلَ وُجُودِهَا لِوُجُودِ الضَّرُورَةِ وَتَعَذُّرِ بَيْعِهَا بَعْدَ وُجُودِهَا ، فَلَمَّا كَانَ مَا لَمْ يُخْلَقْ مِنَ الْقِثَّاءِ وَالْبِطِّيخِ يَتَعَذَّرُ بَيْعُهُ إِذَا خُلِقَ لِاخْتِلَاطِهِ بِالْأَوَّلِ دَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَى بَيْعِهِ قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ تَبَعًا لِمَا خُلِقَ .

قَالَ وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَا لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ تَبَعًا لِمَا بَدَا صَلَاحُهُ فِي الْبَيْعِ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَا لَمْ يُخْلَقْ تَبَعًا لِمَا خُلِقَ فِي الْبَيْعِ . قَالَ : وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَدْخُلَ فِي الْبَيْعِ مَا يَحْدُثُ مِنَ الزِّيَادَةِ الَّتِي لَا تَتَمَيَّزُ كَالطُّولِ وَالْكِبَرِ جَازَ أَنْ يَدْخُلَ فِي الْبَيْعِ مَا يَحْدُثُ مِنَ الزِّيَادَةِ الَّتِي تَتَمَيَّزُ : لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا بَيْعُ مَا لَمْ يُخْلَقْ . وَدَلِيلُنَا نَهْيُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ . وَهَذَا الْبَيْعُ مِنْ أَعْظَمِ الْغَرَرِ : لِأَنَّهُ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ وَبَيْنَ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ ، بَيْنَ الرَّدَاءَةِ وَالْجَوْدَةِ . وَلِأَنَّ النَّخْلَ أَثْبَتُ مِنَ الْبِطِّيخِ أَصْلًا ، وَحَمْلَهُ أَقَلَّ مِنَ الْبِطِّيخِ خَطَأٌ ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ بَيْعُ مَا لَمْ يُخْلَقْ مِنْ غَيْرِ النَّخْلِ تَبَعًا لِمَا خُلِقَ ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يَجُوزَ بَيْعُ مَا لَمْ يُخْلَقْ مِنَ الْبِطِّيخِ تَبَعًا لِمَا خُلِقَ . وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّهَا ثَمَرَةٌ لَا يَجُوزُ إِفْرَادُهَا بِالْعَقْدِ فَوُجُوبُ ذَلِكَ إِذَا لَمْ تَدْخُلْ فِي الْبَيْعِ بِغَيْرِ شَرْطٍ أَنْ لَا تَدْخُلَ فِيهِ بِالشَّرْطِ كَالنَّخْلِ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ بَيْعُ مَا لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ مَعَ وُجُودِهِ وَقِلَّةِ غَرَرِهِ فَبَيْعُ مَا لَمْ يُخْلَقْ أَوْلَى أَنْ لَا يَجُوزَ مَعَ عَدَمِهِ وَكَثْرَةِ غَرَرِهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِالضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَيْهِ فَدَعْوَى يَرْفَعُهَا الْعَيَّابُ : لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِ مَا خُلِقَ وَبَيْعِهِ حَالًا بَعْدَ حَالٍ ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى مِثْلِ هَذَا فِي الْإِجَازَةِ ، وَيُمْكِنُهُ بَيْعُ مَا خُلِقَ وَالسَّمَاحَةُ بِمَا لَمْ يُخْلَقْ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَا لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ تَبَعًا لِمَا بَدَا صَلَاحُهُ ، كَذَلِكَ مَا لَمْ يُخْلَقْ يَكُونُ تَبَعًا لِمَا خُلِقَ ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ مَا لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ لَمَّا جَازَ إِفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ جَازَ أَنْ يَنْضَمَّ فِي الْعَقْدِ إِلَى غَيْرِهِ ، وَمَا لَمْ يُخْلَقْ لَمَّا لَمْ يَجُزْ إِفْرَادُهُ فِي الْعَقْدِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْضَمَّ فِي الْعَقْدِ إِلَى غَيْرِهِ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِالزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ : لِأَنَّ الزِّيَادَةَ الْمُتَّصِلَةَ تَحْدُثُ عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَلِذَلِكَ دَخَلَتْ فِي الْبَيْعِ بِغَيْرِ شَرْطٍ ، وَلَوْ شَرَطَ خُرُوجَهَا مِنَ الْبَيْعِ فَسَدَ الْعَقْدُ ، وَالزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ تَحْدُثُ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ ، وَلِذَلِكَ لَمْ تَدْخُلْ فِي الْبَيْعِ بِغَيْرِ شَرْطٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ اشْتِرَاطُ دُخُولِهَا فِي الْبَيْعِ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَكُلُّ ثَمَرَةٍ وَزَرْعٍ دُونَهَا حَائِلٌ مِنْ قِشْرٍ أَوْ كِمَامٍ وَكَانَتْ إِذَا صَارَتْ إِلَى مَا يُكِنُّهَا أَخْرَجُوهَا مِنْ قِشْرِهَا وَكِمَامِهَا بِلَا فَسَادٍ عَلَيْهَا إِذَا ادَّخَرُوهَا ، فَالَّذِي اخْتَارَ فِيهَا أَنْ لَا يَجُوزَ بَيْعُهَا فِي شَجَرِهَا وَلَا مَوْضُوعَةً بِالْأَرْضِ لِلْحَائِلِ ، وَقِيَاسُ ذَلِكَ عَلَى شِرَاءِ لَحْمِ شَاةٍ مَذْبُوحَةٍ عَلَيْهَا جِلْدُهَا لِلْحَائِلِ دُونَ لَحْمِهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الثِّمَارَ كُلَّهَا ضَرْبَانِ : ضَرْبٌ يَكُونُ بَارِزًا فِي شَجَرَةٍ مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ يَمْنَعُ مِنْ مُشَاهَدَتِهِ بيع الثمار الذي حاله كذلك كَالتُّفَّاحِ وَالْمِشْمِشِ وَالْخَوْخِ وَالْكُمِّثْرَى ، فَبَيْعُهُ إِذَا بَدَا صَلَاحُهُ جَائِزٌ قَائِمًا فِي شَجَرِهِ وَبَعْدَ اجْتِنَابِهِ .

وَضَرْبٌ يَكُونُ مَسْتُورًا بِقِشْرٍ وَكِمَامٍ يَمْنَعُ مِنْ مُشَاهَدَتِهِ بيع الثمار الذي حاله كذلك وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مَسْتُورًا بِقِشْرَةٍ وَاحِدَةٍ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مَسْتُورًا بِقِشْرَتَيْنِ . فَأَمَّا مَا كَانَ مَسْتُورًا بِقِشْرَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ : أَحَدُهُمَا : نَوْعٌ لَا يَنْحَفِظُ إِلَّا بِقِشْرَةِ ، فَإِذَا خَرَجَ مِنْهُ ذَهَبَتْ رُطُوبَتُهُ وَتَغَيَّرَ طَعْمُهُ وَأَسْرَعَ فَسَادَهُ كَالرُّمَّانِ وَالْبَاذِنْجَانِ ، فَبِيعُ هَذَا فِي قُشُورِهِ جَائِزٌ : لِمَا فِيهِ مِنْ كَمَالِ مَنْفَعَتِهِ وَدَوَامِ مَصْلَحَتِهِ . وَنَوْعٌ يَنْحَفِظُ بِغَيْرِ قِشْرِهِ كَالْقُطْنِ وَالسِّمْسِمِ وَالْعَدَسِ ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ فِي قِشْرِهِ : لِأَنَّهُ حَائِلٌ لَيْسَ مِنْ مَصْلَحَتِهِ ، كَمَا لَوْ كَانَ مَسْتُورًا بِثَوْبٍ فَإِذَا أَخْرَجُوهُ مِنْ قِشْرِهِ جَازَ بَيْعُهُ . وَأَمَّا مَا كَانَ عَلَيْهِ قِشْرَتَانِ فَيَتَنَوَّعُ أَيْضًا إِلَى نَوْعَيْنِ : - نَوْعٌ لَا يَبْقَى فِي رَطْبِهِ بِقِشْرَتَيْهِ نَفْعٌ وَلَا يُؤْكَلُ مَعَهُمَا ، كَالْفُسْتُقِ وَالْبُنْدُقِ وَالْجَوْزِ ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ فِي قِشْرَتَيْهِ يَابِسًا وَلَا رَطْبًا ، فَإِذَا زَالَتْ عَنْهُ الْقِشْرَةُ الْعُلْيَا ، جَازَ بَيْعُهُ بِالْقِشْرَةِ السُّفْلَى الَّتِي يُدَّخَرُ بِهَا : لِأَنَّهُ يَنْحَفِظُ بِهَا . - وَنَوْعٌ يَبْقَى فِي رَطْبِهِ بِقِشْرَتَيْهِ وَيُؤْكَلُ مَعَهُمَا عُرْفًا ، كَالْبَاقِلَّى وَاللَّوْزِ الرَّطْبِ ، فَإِذَا يَبِسَ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ فِي قِشْرَتَيْهِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَتْ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِ بَيْعِهِ فِيهِمَا ، فَذَهَبَ الْبَصْرِيُّونَ مِنْ أَصْحَابِنَا إِلَى جَوَازِ بَيْعِهِ فِي قِشْرَتَيْهِ رَطْبًا اعْتِبَارًا بِكَمَالِ نَفْعِهِ وَاسْتِطَابَةِ أَكْلِهِ ، وَهُوَ أَيْضًا قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ . وَذَهَبَ الْبَغْدَادِيُّونَ إِلَى الْمَنْعِ مِنْ بَيْعِهِ فِي قِشْرَتَيْهِ رَطْبًا ، كَمَا يُمْنَعُ مِنْهُ إِذَا كَانَ يَابِسًا ، فَهَذَا شَرْحُ مَذْهَبِنَا فِيمَا كَانَ مِنَ الثِّمَارِ مَسْتُورًا بِقِشْرَةٍ أَوْ كِمَامٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : كُلُّ قِشْرٍ أَوْ كِمَامٍ كَانَ سَاتِرًا لِلثَّمَرَةِ جَازَ بَيْعُهَا مَعَهُ بِكُلِّ حَالٍ ، سَوَاءٌ كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ أَمْ لَا ، تَعْوِيلًا عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَصْلِهِ الْخَلَقَةُ فَجَرَى مَجْرَى أَجَلِ الثَّمَرَةِ . وَتَعْلِيقًا بِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ بَيْعُهُ بِإِحْدَى قِشْرَتَيْهِ ، وَهِيَ مَانِعَةٌ مِنْ مُشَاهَدَتِهِ ، جَازَ بَيْعُهُ فِي قِشْرَتَيْهِ : إِذْ لَيْسَ فِيهِمَا أَكْثَرُ مِنَ الْمَنْعِ مِنْ مُشَاهَدَتِهِ : لِأَنَّ مَا كَانَتْ رُؤْيَتُهُ شَرْطًا لَمْ يَقَعِ الْفَرْقُ فِيهِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَسْتُورًا بِحَائِلٍ أَوْ حَائِلَيْنِ فِي بُطْلَانِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ ، كَالْعُرُوضِ الْمَبِيعَةِ ، وَمَا لَمْ تَكُنْ رُؤْيَتُهُ شَرْطًا لَمْ يَقَعِ الْفَرْقُ فِيهِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَسْتُورًا بِحَائِلٍ أَوْ حَائِلَيْنِ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ كَالْمَنْكُوحَةِ . وَدَلِيلُنَا : نَهْيُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ ، وَفِي بَيْعِهِ مَسْتُورًا بِقِشْرَةٍ لَيْسَتْ مِنْ مَصْلَحَتِهِ غَرَرٌ ، لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ مَعْرِفَةِ جَيِّدِهِ وَرَدِيئِهِ ، وَلِأَنَّ مَا مَنَعَ مِنْ مُشَاهَدَتِهِ وَلَيْسَ مِنْ مَصْلَحَتِهِ فَلَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَصْلِ خِلْقَتِهِ أَوْ مِنْ غَيْرِ خِلْقَتِهِ فِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ بِهِ ، كَلَحْمِ الشَّاةِ الْمَذْبُوحَةِ فِي جِلْدِهَا وَالْحِنْطَةِ فِي تَبْنِهَا وَالْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ فِي تُرَابِ مَعْدَنِهَا ، فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ كُلُّهَا بُيُوعًا فَاسِدَةً : لِأَنَّهَا مَسْتُورَةٌ بِمَا يَمْنَعُ مِنْ مُشَاهَدَتِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ خِلْقَةِ أَصْلِهَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الثِّمَارِ مِثْلَهَا .

وَقَدْ يُتَحَرَّزُ مِنَ اعْتِلَالِ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قِيَاسَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مَسْتُورٌ بِمَا لَيْسَ مِنْ مَصْلَحَتِهِ ، فَوَجَبَ أَنَّ مُبْطِلًا لِبَيْعِهِ كَمَا لَوْ كَانَ مَسْتُورًا بِثَوْبٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مَبِيعٌ يَبْطُلُ بِمَا يَسْتُرُهُ مِنْ غَيْرِ الْخِلْقَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ بِسَتْرِ مَا لَا مَصْلَحَةَ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةَ كَاللَّحْمِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ بِأَنَّ الْقِشْرَ مِنْ أَجْزَائِهِ فَفَاسِدٌ بِالْجِلْدِ ، وَهُوَ مِنْ أَجْزَاءِ اللَّحْمِ ، وَيَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ الْبَيْعِ : لِأَنَّ الْمُعْتَبِرَ بِرُؤْيَتِهِ الْأَجْزَاءُ الْمَقْصُودَةُ دُونَ مَا لَيْسَ بِمَقْصُودٍ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ تَعْلِيقِهِ بِأَنَّهُ مَسْتُورٌ بِإِحْدَى قِشْرَتَيْهِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَسْتُورًا بِالْقِشْرَةِ الْأُخْرَى ، وَهُوَ أَنَّ إِحْدَى الْقِشْرَتَيْنِ مِنْ مَصْلَحَتِهِ ، وَفِي رُؤْيَتِهِمَا تَنْبِيهٌ عَلَى جَوْدَتِهِ وَرَدَاءَتِهِ ، وَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ جَوَازُ سَتْرِهِ بِحَائِلٍ مِنْ ثَوْبٍ ، فَكَذَا بِالْقِشْرَةِ الْعُلْيَا الَّتِي هِيَ بِهَذَا الْحُكْمِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَمْ أَجِدْ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَأْخُذُ عُشْرَ الْحُبُوبِ فِي أَكْمَامِهَا ، وَلَا يُجِيزُ بَيْعَ الْحِنْطَةِ بِالْحِنْطَةِ فِي سُنْبُلِهَا حكمها ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَأَنَا أُجِيزُ بَيْعَ الْحِنْطَةِ فِي سُنْبُلِهَا ، لَزِمَهُ أَنْ يُجِيزَهُ فِي تِبْنِهَا أَوْ فِضَّةٍ فِي تُرَابٍ بِالتُّرَابِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا بَيْعُ الزَّرْعِ بَقْلًا أَوْ فَصِيلًا قَبْلَ اشْتِدَادِهِ وَيَبْسِهِ فَلَا يَجُوزُ مُطْلَقًا ، وَلَا بِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ : لِمَا يُخَافُ عَلَيْهِ مِنَ الْجَائِحِ ، وَيَجُوزُ بِشَرْطِ الْقَطْعِ كَالثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ . فَأَمَّا إِذَا اشْتَدَّ وَاسْتَحْصَدَ فَإِنْ كَانَ الزَّرْعُ مِمَّا يُبْرِزُ الْحَبُّ مِنْهُ بِغَيْرِ كِمَامٍ يَسْتُرُهُ كَالشَّعِيرِ ، جَازَ بَيْعُهُ فِي سُنْبُلِهِ قَبْلَ دِيَاسَتِهِ وَتَصْفِيَتِهِ لِظُهُورِهِ وَمُشَاهَدَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْحَبُّ فِي كِمَامٍ يَسْتُرُهُ كَالْحِنْطَةِ ، فَقَدْ حُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ جَوَازُ بَيْعِهِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَوَافَقَهُ فِي مَوْضِعٍ مِنَ الْمَبْسُوطِ عَلَى صِحَّةِ الْحَدِيثِ . وَنَصَّ فِي الْجَدِيدِ وَسَائِرِ كُتُبِهِ عَلَى بُطْلَانِ بَيْعِهِ فِي سُنْبُلِهِ . وَدَلِيلُ مِنْ قَالَ بِجَوَازِ بَيْعِهِ : رِوَايَةُ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ ، عَنْ حُمَيْدٍ ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْعِنَبِ حَتَى يَسْوَدَّ وَعَنْ بَيْعِ الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ " . فَجَعَلَ غَايَةَ النَّهْيِ أَنْ يَشْتَدَّ فَاقْتَضَى جَوَازُ بَيْعِهِ مِنْ بَعْدِ اشْتِدَادِهِ كَالْعِنَبِ إِذَا اسْوَدَّ ، وَبِرِوَايَةِ أَيُّوبَ عِنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " نَهَى عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يَزْهَى وَعَنِ السُّنْبُلِ حَتَّى يَبْيَضَّ وَيَأْمَنَ الْعَاهَةَ " . وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ كَالْأَوَّلِ وَزِيَادَةُ تَعْلِيلٍ : وَلِأَنَّ بَقَايَا الْحِنْطَةِ فِي سُنْبُلِهَا إِبْقَاءٌ لَهَا وَأَمْنَعُ

مِنْ فَسَادِهَا ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ يُوسُفَ : فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ وَإِذَا كَانَ بَقَاءُ الْحِنْطَةِ فِي سُنْبُلِهَا أَمْنَعُ مِنْ فَسَادِهَا ، جَرَى مَجْرَى الْجَوْزِ وَاللَّوْزِ فِي قِشْرِهِ الَّذِي قَدِ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ بَيْعِهِ إِجْمَاعًا ، فَكَذَا الْحِنْطَةُ فِي سُنْبُلِهَا حِجَاجًا . وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ أَنَّهُ مَجْهُولٌ بِمَا يُصْلِحُهُ مِنْ أَصْلِهِ فَجَازَ بَيْعُهُ فِيهِ ، كَالْجَوْزِ وَاللَّوْزِ فِي قِشْرِهِ . وَدَلِيلُ قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ ، أَنَّ بَيْعَهُ بَاطِلٌ ، مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ وَبَيْعُ الْحِنْطَةِ فِي سُنْبُلِهَا غَرَرٌ : لِأَنَّهُ تَرَدُّدٌ بَيْنَ الْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ وَالصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يَفْرَكَ " يَعْنِي بِفَتْحِ الرَّاءِ وَمَعْنَى الْفَرَكِ التَّصْفِيَةُ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَى يَجْرِيَ فِيهِ الصَّاعَانِ " وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْرِيَ فِيهِ الصَّاعُ إِلَّا بَعْدَ التَّصْفِيَةِ . وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْعَقْدِ مَسْتُورٌ بِمَا لَا يُدَّخَرُ غَالِبًا فِيهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَيْعُهُ بَاطِلًا كَتُرَابِ الْفِضَّةِ وَالشَّاةِ الْمَذْبُوحَةِ . وَلِأَنَّ الْحِنْطَةَ بَعْدَ الدَّرْسِ فِي تِبْنِهَا أَقْرَبُ إِلَى تَصْفِيَتِهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ فِي سُنْبُلِهَا . فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا فِي أَقْرَبِ الْحَالَيْنِ إِلَى التَّصْفِيَةِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَجُوزَ فِي أَبْعَدِهِمَا مِنَ التَّصْفِيَةِ . وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ أَخْذُ الْقِشْرِ مِنْهَا إِذَا كَانَتْ فِي سُنْبُلِهَا لِلْجَهْلِ بِهَا وَالْقِشْرُ مُسَاوَاةٌ ، فَالْبَيْعُ أَوْلَى أَنْ لَا يَجُوزَ ، لِأَنَّ الْمُعَاوَضَةَ أَفْسَدُ بِالْجَهَالَةِ مِنَ الْمُسَاوَاةِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ نَهْيِهِ عَنْ بَيْعِ الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ مَعَ تَفَرُّدِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بِرِوَايَتِهِ ، فَهُوَ أَنَّ هَذِهِ غَايَةٌ قَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَهَا غَايَةً أُخْرَى ، وَهِيَ قَوْلُهُ " يَفْرَكُ " ، وَالْحُكْمُ إِذَا عُلِّقَ بِغَايَتَيْنِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِوُجُودِ إِحْدَاهُمَا حَتَّى يُوجَدَا مَعًا كَمَا قَالَ تَعَالَى : فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [ الْبَقَرَةِ : ] . فَكَانَ النِّكَاحُ غَايَةَ التَّحْرِيمِ فَاقْتَضَى أَنْ يَحِلَّ بَعْدَهُ ، فَلَمَّا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ " صَارَتْ هَذِهِ غَايَةً ثَانِيَةً فَلَا يَحِلُّ إِلَّا بَعْدَ وُجُودِهِمَا ، وَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ : فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَهَا وَتَذُوقَ عُسَيْلَتَهُ . فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا لَمْ يَحِلَّ بَيْعُهُ بَعْدَ أَنْ يَشْتَدَّ إِلَى أَنْ يُفْرَكَ فَلِمَ جُعِلَ غَايَةُ النَّهْيِ الْأَوَّلِ حَتَّى يَشْتَدَّ ؟

قِيلَ : إِنَّ النَّهْيَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْغَايَتَيْنِ لِمَعْنًى غَيْرِ الْغَايَةِ الْأُخْرَى ، فَنَهْيُهُ عَنْ بَيْعِهِ حَتَّى يَشْتَدَّ لِأَنْ يَنْجُوَ مِنَ الْعَاهَةِ ، وَعَنْ بَيْعِهِ حَتَّى يَفْرَكَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْغَرَرِ بِفَقْدِ الرُّؤْيَةِ ، فَصَارَ كَقَوْلِهِ : أَلَا لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ ، وَلَا حَائِلٌ حَتَّى تَحِيضَ ، وَهِيَ بَعْدَ الْحَمْلِ ، وَوُجُودِ الْحَيْضِ لَا تَحِلُّ حَتَّى تَغْتَسِلَ بَعْدَ مُضِيِّ النِّفَاسِ وَالْحَيْضِ إِلَّا أَنَّ النَّهْيَ الْأَوَّلَ لِحِفْظِ النَّسَبِ ، وَالنَّهْيَ بَعْدَهُ لِأَجْلِ الْأَذَى ، وَهَذَا أَصِلٌ فَلِهَذَا بَسَطْنَا الْكَلَامَ فِيهِ ، وَبِمِثْلِهِ يَكُونُ الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَعَ تَفَرُّدِ أَيُّوبَ بِرِوَايَتِهِ . أَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِأَنَّ تَرْكَهُ السُّنْبُلَ إِبْقَاءً كَتَرْكِ الْجَوْزِ وَاللَّوْزِ فِي قِشْرِهِ ، فَجَمْعٌ لَا يَسْلَمُ : لِوُجُودِ الْفَرْقِ بِتَرْكِ الْجَوْزِ وَاللَّوْزِ فِي قِشْرِهِ ، وَتَصْفِيَةِ الْبُرِّ مِنْ سُنْبُلِهِ ، فَلَمَّا اخْتَلَفَ الْعُرْفُ فِيهَا اخْتَلَفَ حُكْمُ مَا مَنَعَ مِنْ رُؤْيَتِهِمَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَعَلَى الْجَوْزِ قِشْرَتَانِ وَاحِدَةٌ فَوْقَ الْقِشْرَةِ الَّتِي يَرْفَعُهَا النَّاسُ عَنْهَا فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَعَلَيْهِ الْقِشْرَةُ الْعُلْيَا : لِأَنَّهُ يَصْلُحُ أَنْ يُرْفَعَ بِدُونِ الْعُلْيَا وَكَذَلِكَ الرَّانِجُ وَمَا كَانَتْ عَلَيْهِ قِشْرَتَانِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْجَوْزِ فِي قِشْرَتَيْهِ مَعًا يَابِسًا كَانَ أَوْ رَطْبًا ، فَإِذَا زَالَتِ الْقِشْرَةُ الْعُلْيَا جَازَ بَيْعُهُ بِالْقِشْرَةِ الْبَاقِيَةِ : لِأَنَّهُ يُدَّخَرُ فِيهَا رَطْبًا كَانَ أَوْ يَابِسًا ، وَكَذَلِكَ الرَّانِجُ وَهُوَ النَّارِجِيلُ يَكُونُ عَلَيْهِ قِشْرَتَانِ ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ فِي الْقِشْرَةِ الْعُلْيَا ، وَإِذَا أُزِيلَتْ عَنْهُ جَازَ بَيْعُهُ فِي الثَّانِيَةِ : لِأَنَّهُ يُدَّخَرُ فِيهَا . فَأَمَّا اللَّوْزُ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْبَاقِلَّى عَلَيْهِ قِشْرَتَانِ ، فَإِنْ كَانَ مُشْتَدًّا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ فِي قِشْرَتَيْهِ حَتَّى تَزُولَ عَنْهُ الْعُلْيَا ثُمَّ يَجُوزُ بَيْعُهُ فِي الثَّانِيَةِ . وَإِنْ كَانَ رَطْبًا فَفِي جَوَازِ بَيْعِهِ فِي قِشْرَتَيْهِ وَجْهَانِ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي بَيْعِ الْبَاقِلَّى الرَّطْبِ : لِأَنَّ قِشْرَةَ اللَّوْزِ الْعُلْيَا يُسْتَطَابُ أَكْلُهَا مَعَ اللَّوْزِ قَبْلَ اشْتِدَادِهِ لِمَزَازَةٍ فِيهَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَثْنِيَ مِنَ التَّمْرِ مُدًّا : لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي كَمِ الْمُدِّ مِنَ الْحَائِطِ ، أَسَهْمٌ مِنْ أَلْفِ سَهْمٍ أَوْ مِنْ مِائَةٍ أَوْ أَقَلُّ أَوْ أَكْثَرُ فَهَذَا مَجْهُولٌ ، وَلَوِ اسْتُثْنِيَ رُبْعَهُ أَوْ نَخْلَاتٍ بِعَيْنِهَا فَجَائِزٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . وَجُمْلَةُ الِاسْتِثْنَاءِ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُهُ وَحَالُ مَا بَقِيَ مِنَ الْبَيْعِ بَعْدَهُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ في بيع الثمر مَعْلُومًا ، وَالْمَبِيعُ بَعْدَهُ مَعْلُومًا ، وَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : مُشَاعٌ وَمُجَوَّزٌ .

فَالْمُجَوَّزُ : أَنْ يَقُولَ بِعْتُكَ ثَمَرَةَ هَذَا الْحَائِطِ إِلَّا ثَمَرَةَ هَذِهِ النَّخْلَاتِ الْعَشْرِ بِعَيْنِهَا ، فَهَذَا بَيْعٌ جَائِزٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَالْمُشَاعُ : أَنْ يَقُولَ بِعْتُكَ ثَمَرَةَ هَذَا الْحَائِطِ إِلَّا رُبْعَهَا ، فَهَذَا بَيْعٌ صَحِيحٌ ، وَيَكُونُ الْمَبِيعُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهَا مُشَاعًا . وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : هَذَا بَيْعٌ بَاطِلٌ : لِأَنَّهُ بَيْعٌ عَلَى شَرْطِ الشَّرِكَةِ . وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَوْ قَالَ بِعْتُكَ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهَا صَحَّ ، وَكَذَا فَلَوْ قَالَ بِعْتُكَهَا إِلَّا رُبْعَهَا : لَأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي الْحَالَتَيْنِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ عُشْرَ الْمَسَاكِينِ جَازَ ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَحِقًّا مَجْهُولَ الْعَيْنِ ، فَأَوْلَى أَنْ يَجُوزَ الِاسْتِثْنَاءُ لِنَفْسِهِ لِأَنَّ مُسْتَحِقَّهُ مُعَيَّنٌ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مَجْهُولًا ، وَالْمَبِيعُ بَعْدَهُ مَجْهُولًا ، وَهُوَ ضَرْبَانِ : مُشَاعٌ وَمُجَوَّزٌ . فَالْمُشَاعُ : أَنْ يَقُولَ بِعْتُكَ هَذِهِ الثَّمَرَةَ إِلَّا قُوتَ نَفْسِي ، أَوْ إِلَّا مَا يَأْكُلُهُ عَبِيدِي ، فَهَذَا بَاطِلٌ بِاتِّفَاقٍ : لِأَنَّ قَدْرَ قُوتِهِ مَجْهُولٌ ، وَمَا يَأْكُلُهُ عَبِيدُهُ مَجْهُولٌ ، فَصَارَ الْمَبِيعُ الثَّانِي مَجْهُولًا . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ بَاعَ حَائِطًا ، وَاسْتَثْنَى مِنْهُ قُوتَ غِلْمَانِهِ . قِيلَ : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْتَثْنَى مِنْهُ قَدْرًا مَعْلُومًا جَعَلَهُ قُوتَ غِلْمَانِهِ . وَكَذَا لَوْ قَالَ : بِعْتُكَ هَذِهِ الثَّمَرَةَ إِلَّا عَشْرَ قَوَاصِرَ مِنْهَا ، أَوْ فِي كُلِّ يَوْمٍ سَلَّةً مِنْ رُطَبِهَا ، كَانَ الْمَبِيعُ بَاطِلًا : لِلْجَهْلِ بِالْمَبِيعِ الثَّانِي . وَأَمَّا الْمُجَوَّزُ فَهُوَ أَنْ تَقُولَ بِعْتُكَ هَذِهِ الثَّمَرَةَ إِلَّا عَشْرَ نَخْلَاتٍ مِنْهَا لَا بِعَيْنِهَا ، وَهَذَا بَيْعٌ بَاطِلٌ . وَقَالَ مَالِكٌ : إِنْ كَانَ قَدْرَ ثُلْثِ الثَّمَرَةِ فَمَا دُونَ جَازَ الْبَيْعُ ، وَكَانَ لَهُ عَشْرُ نَخْلَاتٍ وُسَطَاءُ . وَهَذَا غَلَطٌ : لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يُوقِعُ جَهَالَةً فِي الْمَبِيعِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ ثَمَرَ النَّخْلِ يَخْتَلِفُ فِي الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمُسْتَثْنَى غَيْرُ مُجَوَّزٍ وَلَا مُشَاعٍ فِي الْجُمْلَةِ ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَهْلِكَ النَّخْلُ إِلَّا عَدَدَ مَا اسْتَثْنَى ، فَيَخْتَلِفَانِ فِي الْبَاقِي هَلْ هُوَ الْمَبِيعُ أَوِ الْمُسْتَثْنَى ، وَهَذَا مِنْ أَكْبَرِ الْجَهَالَاتِ غَرَرًا فَكَانَ بِبُطْلَانِ الْبَيْعِ أَوْلَى . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مَعْلُومًا ، وَالْمَبِيعُ بَعْدَهُ مَجْهُولًا ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ : بِعْتُكَ هَذِهِ الثَّمَرَةَ إِلَّا صَاعًا مِنْهَا ، فَهَذَا بَاطِلٌ .

وَقَالَ مَالِكٌ : هُوَ بَيْعٌ جَائِزٌ : لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ اسْتِثْنَاءُ رُبْعِهَا ، وَالرُّبْعُ مَجْهُولُ الْكَيْلِ كَانَ اسْتِثْنَاءُ مَا هُوَ مَعْلُومُ الْكَيْلِ أَوْلَى بِالْجَوَازِ . وَدَلِيلُنَا عَلَى فَسَادِهِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَنَّهُ نَهَى عَنِ الثُّنْيَا فِي الْبَيْعِ " وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا . وَلِأَنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ يُوقِعُ جَهَالَةً فِي الْبَيْعِ : لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ قَدْرُ مَا خَرَجَ بِالِاسْتِثْنَاءِ ، هَلْ هُوَ عُشْرٌ أَوْ رُبْعٌ ، وَلَا مَا بَقِيَ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ ، هَلْ هُوَ تِسْعَةُ أَعْشَارٍ أَوْ أَقَلُّ ، وَالْمَبِيعُ إِذَا كَانَ مَجْهُولًا بَطَلَ الْبَيْعُ . وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَهْلَكَ الثَّمَرَةُ إِلَّا قَدْرَ مَا اسْتَثْنَيَا ، فَيَخْتَلِفَانِ هَلْ هُوَ الْمَبِيعُ أَوِ الْمُسْتَثْنَى ، وَإِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ الْمَبِيعُ مِنَ الْمُسْتَثْنِي كَانَ بَاطِلًا ، وَهَذَا مَأْمُونٌ فِي اسْتِثْنَاءِ جُزْءٍ شَائِعٍ مِنْهَا : لِأَنَّ التَّالِفَ مِنْهَا وَالْبَاقِي فِيهَا . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَن يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مَجْهُولًا وَالْمَبِيعُ بَعْدَهُ مَعْلُومًا ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ بِعْتُكَ مِنْ هَذِهِ الثَّمَرَةِ مِائَةَ صَاعٍ وَالْبَاقِي لِي ، فَإِنْ عَلِمَا أَنَّ مَا فِيهَا مِائَةُ صَاعٍ فَصَاعِدًا صَحَّ الْبَيْعُ إِنْ أَمْكَنَ كَيْلُ الثَّمَرَةِ ، وَبَطَلَ إِنْ لَمْ يُمْكِنْ كَيْلُهَا ، وَلَا يَصِحُّ الْخَرْصُ فِيهَا ، وَلِأَنَّ الْمَبِيعَ بِالْخَرْصِ لَا يَجُوزُ ، لِأَنَّهُ تَخْمِينٌ وَحَدْسٌ ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ فِي حَقِّ الْمَسَاكِينِ لِأَنَّهُ مُوَاسَاةٌ . وَإِنْ لَمْ يَعْلَمَا أَنَّ مَا فِي الثَّمَرَةِ مِائَةُ صَاعٍ كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا لِلْجَهْلِ بِوُجُودِ الْمَبِيعِ ، فَلَوْ كِيلَتْ مِنْ بَعْدُ فَكَانَتْ مِائَةَ صَاعٍ فَصَاعِدًا لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ بَعْدَ فَسَادِهِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا بَاعَ ثَمَرَةَ حَائِطٍ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ ، وَاسْتَثْنَى مِنْهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، فَإِنْ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ بِسِعْرِ مَا بَاعَ في حائطه صَحَّ الْبَيْعُ ، وَكَانَ كَاسْتِثْنَاءِ رُبْعِهَا ، وَإِنْ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ بِسِعْرِ يَوْمِهِ لَمْ يَجُزْ وَكَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا : لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ بِسِعْرٍ زَائِدًا أَوْ نَاقِصًا ، فَيَصِيرُ الِاسْتِثْنَاءُ مَجْهُولًا وَالْمَبِيعُ الْبَاقِي مَجْهُولًا ، فَلَوْ قَالَ : بِعْتُكَ ثَمَرَةَ هَذَا النَّخْلِ إِلَّا النَّوْعَ الْمَعْقِلِيَّ فَإِنْ شَاهَدَا الْمَعْقِلِيَّ الْمُسْتَثْنَى وَعَلِمَا قَدْرَهُ صَحَّ الْبَيْعُ ، وَإِنْ جَهِلَاهُ فَسَدَ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : وَلَوْ بَاعَ قُطْنًا وَاسْتَثْنَى حَبَّهُ حكم بيع من ، أَوْ سِمْسِمًا وَاسْتَثْنَى كُسْبَهُ ، أَوْ شَاةً وَاسْتَثْنَى جِلْدَهَا ، كَانَ الْبَيْعُ فِي هَذَا كُلِّهِ بَاطِلًا : لِأَنَّ الْبَيْعَ بَعْدَمَا اسْتُثْنِيَ مِنْهُ يَصِيرُ غَيْرَ مَعْلُومٍ بِالْمُشَاهَدَةِ ، وَلَا مُقَيَّدًا بِالصِّفَةِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَإِنْ بَاعَ ثَمَرَ حَائِطٍ ، وَفِيهِ الزَّكَاةُ ، فَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ فِي أَنْ يَأْخُذَ مَا جَاوَزَ الصَّدَقَةَ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ أَوِ الرَّدِّ . وَالثَّانِي : إِنْ شَاءَ أَخَذَ الْفَضْلَ عَنِ الصَّدَقَةِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ أَوِ الرَّدِّ ، وَلِلسُّلْطَانِ أَخْذُ الْعُشْرِ مِنَ الثَّمَرَةِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) هَذَا خِلَافُ قَوْلِهِ فِيمَنِ اشْتَرَى مَا فِيهِ الزَّكَاةُ أَنَّهُ يَجْعَلُ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ الْبَيْعَ فِيهِ بَاطِلٌ وَلَمْ يَقُلْهُ هَاهُنَا " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ مُسْتَوْفَاةٌ ، وَسَنَذْكُرُ هَاهُنَا مَا يَقْتَضِيهِ الْمَوْضِعُ ، وَيُسْعِدُنَا بِهِ الْخَاطِرُ ، فَنَقُولُ : إِذَا بَاعَ ثَمَرَةَ حَائِطِهِ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهَا وَقَبْلَ أَدَاءِ الزَّكَاةِ مِنْهَا ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدِهِمَا : أَنْ يَسْتَثْنِيَ مِنَ الْبَيْعِ قَدْرَ الزَّكَاةِ . وَالثَّانِي : أَلَّا يَسْتَثْنِيَهُ . فَإِنِ اسْتَثْنَى قَدْرَ الزَّكَاةِ مِنْهَا فَهُوَ بَيْعٌ جَائِزٌ ، وَيَكُونُ الْمَبِيعُ هُوَ الْبَاقِي مِنْهَا بَعْدَ قَدْرِ الزَّكَاةِ ، وَذَلِكَ تِسْعَةُ أَعْشَارِهَا إِنْ كَانَتْ سَيْحًا فَقَدْرُ زَكَاتِهَا الْعُشْرُ ، أَوْ تِسْعَةُ أَعْشَارٍ وَنِصْفٌ ، إِنْ كَانَتْ نَضْحًا فَقَدْرُ زَكَاتِهَا نِصْفَ الْعُشْرِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ قَدْرِ الزَّكَاةِ فِي الْبَيْعِ أَعُشْرٌ هُوَ أَوْ نِصْفُ عُشْرٍ . وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَيْسَ يَلْزَمُ ذِكْرُ الْقَدْرِ : لِإَنَّ الْعِلْمَ بِهِ شَرْعًا يُغْنِي عَنْ ذِكْرِهِ شَرْطًا . وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ : لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عِلْمُهُ بِالشَّرْعِ يُغْنِي عَنِ اسْتِثْنَائِهِ بِالشَّرْطِ ، لَكَانَ الْعِلْمُ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ يُغْنِي عَنِ اشْتِرَاطِ الزَّكَاةِ ، فَلَمَّا لَمْ يُغْنِ ذَلِكَ فِي الْأَصْلِ لَمْ يُغْنِ فِي الْقَدْرِ . فَإِذَا اسْتَثْنَى الْبَائِعُ قَدْرَ الزَّكَاةِ عَلَى الْمُشْتَرِي فَعَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَهَا مِنَ الثَّمَرَةِ بَعْدَ الْجِدَادِ ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَدْفَعَ قَدْرَ الزَّكَاةِ مِنْ غَيْرِ تِلْكَ الثَّمَرَةِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ : لِأَنَّهُ يَحُلُّ مَحَلَّ الْبَائِعِ وَقَدْ كَانَ لِلْبَائِعِ دَفْعُ الزَّكَاةِ مِنْ غَيْرِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ : لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمْ يَمْلِكْ قَدْرَ الزَّكَاةِ بِعَقْدٍ وَلَا غَيْرِهِ ، وَإِنَّمَا هُوَ كَالْوَكِيلِ فِيهَا بِخِلَافِ الْبَائِعِ الَّذِي كَانَ مَالِكًا لَهَا ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيمَا لَمْ يَجُزْ لَهُ عَلَيْهِ مِلْكٌ . فَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدِ اسْتَهْلَكَ جَمِيعَ الثَّمَرَةِ رَطْبًا ، كَانَ فِيمَا يُطَالِبُ بِهِ الْمُشْتَرِي مِنْ حَقِّ الزَّكَاةِ ، وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُطَالَبُ بِعُشْرِ الثَّمَرَةِ تَمْرًا ، وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُجِيزُ لَهُ دَفَعُ الزَّكَاةِ مِنْ غَيْرِهَا ، فَيَجْعَلُ ذَلِكَ مِنْهُ ضَمَانًا لِعُشْرِهَا تَمْرًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُطَالَبُ بِقِيمَةِ عُشْرِهَا رَطْبًا وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَمْنَعُهُ مِنْ أَنْ يَدْفَعَ الزَّكَاةَ مِنْ غَيْرِهِ : لِأَنَّهُ اسْتَهْلَكَ حَقَّ الْمَسَاكِينِ رَطْبًا فَيَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ . فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ قِيمَةُ عُشْرِهَا رَطْبًا أَقَلَّ مِنْ قِيمَةِ عُشْرِهَا تَمْرًا فَهَلْ يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِفَضْلِ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ النَّقْصِ عَلَى وَجْهَيْنِ مُخْرَجَيْنِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الزَّكَاةِ هَلْ وَجَبَتْ فِي الذِّمَّةِ أَوْ فِي الْعَيْنِ . فَإِنْ قِيلَ بِوُجُوبِهَا فِي الذِّمَّةِ رَجَعَ عَلَيْهِ بِقَدْرِ النَّقْصِ لِاشْتِغَالِ الذِّمَّةِ بِهَا . وَإِنْ قِيلَ بِوُجُوبِهَا فِي الْعَيْنِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ بِقَدْرِ النَّقْصِ لِزَوَالِ يَدِهِ عَنِ الْعَيْنِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .



فَصْلٌ : وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي ، وَهُوَ أَنْ يَبِيعَهَا جُمْلَةً مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ الزَّكَاةِ فِيهَا ، فَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ ، وَالْبَيْعُ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ عَلَى قَوْلَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الزَّكَاةِ ، هَلْ وُجِّهَتْ فِي الذِّمَّةِ أَوْ فِي الْعَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ بَاطِلٌ إِذَا قِيلَ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْعَيْنِ وُجُوبَ اسْتِحْقَاقٍ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ جَائِزٌ إِذَا قِيلَ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الذِّمَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ مُرْتَهِنَةً بِالْعَيْنِ . فَإِذَا قِيلَ : إِنَّ الْبَيْعَ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ جَائِزٌ ، فَهُوَ فِي الْبَاقِي أَجْوَزُ . وَإِذَا قِيلَ : إِنَّهُ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ بَاطِلٌ ، فَفِي بُطْلَانِهِ فِي الْبَاقِي قَوْلَانِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لِلْمُشْتَرِي فِيهِ الْخِيَارُ لِتَفْرِيقِ الصِّفَةِ عَلَيْهِ ، فَإِنْ أَحَبَّ الْفَسْخَ رَجَعَ بِالثَّمَنِ ، وَإِنْ أَقَامَ عَلَى الْبَيْعِ فِيمَا بَقِيَ بَعْدَ قَدْرِ الزَّكَاةِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدِهِمَا : يُقِيمُ عَلَيْهِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ . وَالثَّانِي : بِحِسَابِهِ مِنَ الثَّمَنِ وَقِسْطِهِ . فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ لَمَّا رَأَى الشَّافِعِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَوَّزَ الْبَيْعَ هَاهُنَا فِيمَا سِوَى الزَّكَاةِ ، وَأَبْطَلَهُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ فِي إِغْفَالِ الْقَوْلِ الْآخَرِ ، وَهَذَا اعْتِرَاضٌ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ : لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِذَا كَانَ لَهُ قَوْلَانِ فِي مَسْأَلَةٍ ، فَلَيْسَ يَلْزَمُهُ إِعَادَتُهُمَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ ، فَإِذَا فَرَّعَ عَلَى أَحَدِهِمَا لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا عَنِ الْآخَرِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَا يَرْجِعُ مَنِ اشْتَرَى الثَّمَرَةَ وَسُلِّمَتْ إِلَيْهِ بِالْجَائِحَةِ عَلَى الْبَائِعِ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ سُفْيَانُ وَهَنَ حَدِيثُهُ فِي الْجَائِحَةِ لَصِرْتُ إِلَيْهِ ، فَإِنِّي سَمِعْتُهُ مِنْهُ ، وَلَا يَذْكُرُ الْجَائِحَةَ ثُمَّ ذَكَرَهَا ، وَقَالَ : كَانَ كَلَامٌ قَبْلَ وَضْعِ الْجَوَائِحِ لَمْ أَحْفَظْهُ وَلَوْ صِرْتُ إِلَى ذَلِكَ لَوَضَعْتُ كُلَّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ أُصِيبَ مِنَ السَّمَاءِ بِغَيْرِ جِنَايَةِ أَحَدٍ ، فَإِمَّا أَنْ يُوضَعَ الثُّلْثُ فَصَاعِدًا وَلَا يُوضَعُ مَا دُونَهُ ، فَهَذَا لَا خَبَرَ وَلَا قِيَاسَ وَلَا مَعْقُولَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ بَاعَ ثَمَرَةً عَلَى رُءُوسِ نَخْلِهَا ، وَسُلِّمَتْ إِلَى الْمُشْتَرِي ، وَتَلَفَتْ بِالْجَائِحَةِ قَبْلَ جِدَادِهَا ، فَقَدْ كَانَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّهَا مِنْ ضَمَانِ بَائِعِهَا وَأَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ ، وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ . وَرَجَعَ عَنْ هَذَا فِي الْجَدِيدِ ، وَقَالَ : تَكُونُ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي فَلَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ ، بِتَلَفِهَا وَبِهِ قَوْلُ أَبُو حَنِيفَةَ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ . وَقَالَ مَالِكٌ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إِنْ كَانَ تَلَفُهَا بِجِنَايَةِ آدَمِيٍّ ، فَهِيَ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي وَإِنْ

كَانَتْ بِجَائِحَةٍ مِنَ السَّمَاءِ ، فَإِنْ كَانَتْ قَدْرَ الثُّلْثِ فَصَاعِدًا فَهِيَ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ ، وَإِنْ كَانَتْ دُونَ الثُّلْثِ فَهِيَ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي . وَاسْتَدَلَّ مَنْ جَعَلَ الْجَوَائِحَ مَضْمُونَةً عَلَى الْبَائِعِ بِحَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ قَيْسٍ ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عَتِيقٍ ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " نَهَى عَنْ بَيْعِ السِّنِينَ وَأَمَرَ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ " . وَبِحَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ ، عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِنْ بِعْتَ مِنْ أَخِيكَ ثَمَرًا فَأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ فَلَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا ، بِمَ تَأْخُذُ مَالَ أَخِيكَ بِغَيْرِ حَقٍّ " وَهَذَا نَصٌّ . قَالُوا : وَلِأَنَّ الثَّمَرَةَ لَا يَتِمُّ قَبْضُهَا إِلَّا بِحَدِّهَا مِنْ نَخْلِهَا ، بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَوْ عَطِشَتْ وَأَضَرَّ ذَلِكَ بِهَا ، كَانَ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ فِي الْفَسْخِ بِحُدُوثِ هَذَا الْعَيْبِ ، وَمَا حَدَثَ مِنَ الْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْمُشْتَرِي الْخِيَارَ ، وَإِذَا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ مَقْبُوضَةٍ ، وَجَبَ أَنْ تَكُونَ بَالِغَةً مِنْ مَالِ بَائِعِهَا : لِأَنَّ مَا لَمْ يُقْبَضْ مَضْمُونٌ عَلَى الْبَائِعِ دُونَ الْمُشْتَرِي . قَالُوا : وَلِأَنَّ قَبْضَ الثَّمَرَةِ مُلْحَقٌ بِمَنَافِعِ الدَّارِ الْمُسْتَأْجَرَةِ : لِأَنَّ الْعُرْفَ فِي الثِّمَارِ أَنْ تُأْخَذَ لُقَطَةً بَعْدَ لُقَطَةٍ ، كَمَا تُسْتَوْفَى مَنَافِعُ الدَّارِ مُدَّةً بَعْدَ مُدَّةٍ ، فَلَمَّا كَانَ تَلَفُ الدَّارِ الْمُسْتَأْجَرَةِ قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ مُبْطِلًا لِلْإِجَارَةِ وَإِنْ حَصَلَ التَّمْكِينُ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَلَفُ الثَّمَرَةِ الْمَبِيعَةِ قَبْلَ الْجِدَادِ مُبْطِلًا لِلْبَيْعِ وَإِنْ حَصَلَ التَّمْكِينُ . وَدَلِيلُ قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ أَنَّ الْجَوَائِحَ لَا يَضْمَنُهَا الْبَائِعُ ، وَلَا يَبْطُلُ بِهَا الْبَيْعُ ، مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تَزْهَى ، قِيلَ وَمَا تَزْهَى ؟ قَالَ : حَتَّى تَحْمَرَّ . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَرَأَيْتَ إِنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ فَبِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ " فَمَوْضِعُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ هُوَ أَنَّهُ لَوْ كَانَتِ الْجَائِحَةُ مَضْمُونَةً عَلَى الْبَائِعِ لَمَا اسْتَضَرَّ الْمُشْتَرِي بِالْجَائِحَةِ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ ، وَلَمَا كَانَ لِنَهْيِهِ عَنْهُ حِفْظًا لِمَالِ الْمُشْتَرِي وَجْهًا : لِأَنَّهُ مَحْفُوظٌ إِنْ تَلَفَ فِي الْحَالَيْنِ بِالرُّجُوعِ عَلَى الْبَائِعِ ، فَلَمَّا نَهَى عَنِ الْبَيْعِ فِي الْحَالِ الَّتِي يَخَافُ مِنَ الْجَائِحَةِ فِيهَا : لِأَنْ لَا يَأْخُذَ مَالَ الْمُشْتَرِي بِغَيْرِ حَقٍّ ، عَلِمَ أَنَّ الْجَائِحَةَ لَا تَكُونُ مَضْمُونَةً عَلَى الْبَائِعِ ، وَأَنَّهَا مَضْمُونَةً فِيمَا صَحَّ بَيْعُهُ عَلَى الْمُشْتَرِي . وَرَوَتْ عَمْرَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ تَارَةً مُرْسَلًا وَتَارَةً مُسْنَدًا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ ابْتَاعَ مِنْ رَجُلٍ ثَمَرَةً فَأُصِيبَ فِيهَا فَسَأَلَ الْبَائِعَ أَنْ يَحُطَّهُ شَيْئًا فَحَلَفَ بِاللَّهِ أَنْ

لَا يَفْعَلَ ، فَأَتَتْ أُمُّهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَتْهُ بِذَلِكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَأَلَّى فُلَانٌ أَنْ لَا يَفْعَلَ خَيْرًا " . فَمَوْضِعُ الدَّلَالَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدِهِمَا : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْرَجَ الْحَطَّ عَنِ الْمُشْتَرِي مَخْرَجَ الْخَيْرِ وَالْفَضْلِ ، لَا مَخْرَجَ الْوُجُوبِ وَالْحَتْمِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمْ يُجْبِرِ الْبَائِعَ عَلَى الْحَطِّ عَنِ الْمُشْتَرِي حَتَّى بَلَغَ الْبَائِعَ ذَلِكَ فَتَطَوَّعَ بِحَطِّهِ عَنْهُ ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَأَجْبَرَهُ عَلَيْهِ . وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ حَسَّانٍ ، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَجُلًا اشْتَرَى ثَمَرًا فَأُصِيبَ فِيهَا فَكَثُرَ دَيْنُهُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ " . فَتَصَدَّقَ النَّاسُ عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ وَفَاءَ دَيْنِهِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ وَلَيْسَ لَكُمْ إِلَّا ذَلِكَ " . فَلَوْ أَنَّ الْجَوَائِحَ مَضْمُونَةٌ عَلَى الْمُشْتَرِي لَمَا أَحْوَجَهُ إِلَى الصَّدَقَةِ ، وَجَعَلَ لِغُرَمَائِهِ مَا وَجَدُوهُ ، وَلَكَانَ يَجْعَلُهَا مَضْمُونَةً عَلَى بَائِعِهَا وَيَضَعُهَا عَلَى الْمُشْتَرِي . وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّ الثَّمَرَةَ تَصِيرُ مَقْبُوضَةً عَلَى رُءُوسِ نَخْلِهَا بِالتَّمْكِينِ وَالتَّخْلِيَةِ ، بِدَلِيلِ أَنَّ لِلْمُشْتَرِي بَيْعَهَا بَعْدَ التَّمْكِينِ مِنْهَا ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ مَقْبُوضَةً لَمْ يَجُزْ ، وَتَلَفُ بَعْدَ الْقَبْضِ كَانَ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ . ثُمَّ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ : أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مَضْمُونًا عَلَى الْمُشْتَرِي فِيمَا دُونَ الثُّلُثِ ، كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ قِيَاسًا عَلَى غَيْرِ الثِّمَارِ . فَإِنْ قَالَ مَالِكٌ : إِنْ مَا دُونَ الثُّلُثِ يَلْقُطُهُ الطَّيْرُ ، وَتَنْشُرُهُ النَّحْلَةُ غَالِبًا فَضَمِنُهُ الْمُشْتَرِي لِلْعُرْفِ فِيهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَبِالْجَائِحَةِ . قِيلَ : هَذَا غَلَطٌ : لِأَنَّ مَا يَكُونُ مِنْ ضَمَانِ أَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ لَا يَقَعُ الْفَرْقُ فِيهِ بَيْنَ تَلَفِ قَلِيلِهِ أَوْ كَثِيرِهِ بِعُرْفٍ مُعْتَادٍ أَوْ غَيْرِهِ . ثُمَّ يُقَالُ : لِمَ جَعَلْتَهُ مُحَدَّدًا بِالثُّلُثِ ؟ وَهَلَّا حَدَّدْتَهُ بِأَقَلَّ مِنْهُ أَوْ وَأَكْثَرَ .

فَإِنْ قَالَ : لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ الثُّلُثَ فِي حَدِّ الْكَثْرَةِ ، وَمَا دُونَهُ فِي حَدِّ الْقِلَّةِ فَقَالَ " الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ " . قِيلَ : فَالثُّلُثُ جَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حُكْمِ مَا دُونَهُ فِي جَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِهِ ، وَأَنْتَ جَعَلْتَهُ فِي حُكْمِ مَا زَادَ عَلَيْهِ فَقَدْ خَالَفْتَ فِيمَا تَعَلَّقْتَ بِهِ ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ ، أَيْ كَثِيرُ الْقَلِيلِ لِأَجْلِ أَنَّهُ مُلْحَقٌ بِمَا هُوَ أَقَلُّ مِنْهُ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ أَنَّهُ أَمَرَ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ ، فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدِهَا : مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ أَنَّهُ حَدِيثٌ مَعْلُولٌ لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ : لِأَنَّ سُفْيَانَ وَهَّنَهُ : لِأَنَّهُ قَالَ قَدْ كَانَ بَعْدَ نَهْيِهِ عَنْ بَيْعِ السِّنِينَ ، وَقَبْلَ أَمْرِهِ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ كَلَامًا لَمْ أَحْفَظْهُ ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيمَا لَمْ يَحْفَظْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى مُرَادِهِ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ ، وَبِصَرْفِ حُكْمِهِ عَنْ ظَاهِرِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى وَضْعِ الْجَوَائِحِ فِي بَيْعِ السِّنِينَ الْمُقْتَرِنِ بِهِ ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ بُيُوعِ الثِّمَارِ الْفَاسِدَةِ . وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ : لِبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا : أَنَّ أَمْرَهُ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ مَحْمُولٌ عَلَى وَضْعِهَا عَنِ الْبَائِعِ دُونَ الْمُشْتَرِي : لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ الثَّانِي قَوْلُهُ " فَلَا يَأْخُذُ مِنْهُ شَيْئًا " فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدِهِمَا : وَهُوَ جَوَابُ الطَّحَاوِيِّ ، أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا قَبْلَ التَّسْلِيمِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ وَالْإِرْشَادِ ، كَمَا قَالَ : " تَأَلَّى فُلَانٌ أَنْ لَا يَفْعَلَ خَيْرًا " . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : إِنَّهَا عَلَى رُءُوسِ نَخْلِهَا غَيْرُ مَقْبُوضَةٍ لِأَجْلِ مَا ثَبَتَ مِنَ الْخِيَارِ بِحُدُوثِ الْعَطَشِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدِهِمَا : وَهُوَ جَوَابُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ ثُبُوتَ الْخِيَارِ لَا يَمْنَعُ مِنْ ثُبُوتِ الْقَبْضِ ، قَالَ : لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ فِي خِيَارِ الثَّلَاثِ يَسْتَحِقُّ رَدَّهُ بِمَا حَدَثَ مِنَ الْعُيُوبِ فِي زَمَانِ الْخِيَارِ ، وَإِنْ كَانَ الْقَبْضُ تَامًّا فَكَذَا الثَّمَرَةُ ، وَلَا يَكُونُ الْخِيَارُ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ الْقَبْضِ . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّ خِيَارَ الْعَطَشِ إِنَّمَا اسْتَحَقَّهُ الْمُشْتَرِي لِوُجُوبِ السَّقْيِ عَلَى الْبَائِعِ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بِالتَّلَفِ رُجُوعٌ : لِأَنَّ الْحَطَّ لَا يَجِبُ عَلَى الْبَائِعِ . وَقَوْلُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةُ رَحِمَهُ اللَّهُ إِنَّ مَا حَدَثَ بِيَدِ الْمُشْتَرِي مِنَ الْعَيْبِ مِنْ زَمَانِ الْخِيَارِ

يُسْتَحَقُّ بِهِ الرَّدُّ ، فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ عِنْدِي ، بَلْ لَا خِيَارَ لَهُ فِيهِ : لِأَنَّهُ بِالْقَبْضِ قَدْ صَارَ مَضْمُونًا عَلَى الْمُشْتَرِي ، فَمَا حَدَثَ فِي النَّقْصِ كَانَ مِنْ مَالِهِ لِأَنَّهُ مِنْ ضَمَانِهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِالدَّارِ الْمُؤَجَّرَةِ فَلَا يَصِحُّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا ، لِأَنَّ مَا يَحْدُثُ مِنْ مَنَافِعِ الدَّارِ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْحَالِ وَلَا يَقْدِرُ الْمُسْتَأْجِرُ عَلَى قَبْضِهِ ، فَبَطَلَتِ الْإِجَارَةُ بِتَلَفِ الدَّارِ قَبْلَ الْمُدَّةِ وَلَيْسَتِ الثَّمَرَةُ كَذَلِكَ : لِأَنَّهَا مَوْجُودَةٌ يُمْكِنُ الْمُشْتَرِي أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا ، وَيَحْدُثُ فِي الْحَالِ جَمِيعُهَا ، فَلَمْ يَبْطُلِ الْبَيْعُ بِتَلَفِهَا بَعْدَ التَّمْكِينِ مِنْهَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : وَإِذَا قَدْ تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا ، فَنَسْتَوْفِي حُكْمَ تَلَفِهَا فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهَا ، فَنَقُولُ : إِنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ تَلَفِهَا بَعْدَ الْعَقْدِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَتْلَفَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ الثمرة . وَالثَّانِي : بَعْدَ التَّسْلِيمِ وَقَبْلَ الْجِدَادِ . وَالثَّالِثُ : بَعْدَ التَّسْلِيمِ وَالْجِدَادِ . فَإِنْ تَلَفَتْ قَبْلَ التَّسْلِيمِ لَمْ يَخْلُ تَلَفُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : - إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِجَائِحَةٍ مِنَ السَّمَاءِ ، أَوْ بِجِنَايَةِ آدَمِيٍّ ، أَوْ بِجِنَايَةِ الْبَائِعِ . - فَإِنْ تَلَفَتْ بِجَائِحَةٍ مِنَ السَّمَاءِ كَانَتْ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ فَبَطَلَ الْبَيْعُ لَا يُخْتَلَفُ : لِأَنَّ تَلَفَ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ مُبْطِلٌ لِلْبَيْعِ . - وَإِنْ تَلَفَتْ بِجِنَايَةِ آدَمِيٍّ غَيْرَ الْبَائِعِ ، فَفِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : قَدْ يَبْطُلُ كَمَا لَوْ تَلَفَتْ بِجَائِحَةِ سَمَاءٍ . وَالثَّانِي : لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ وَيَكُونُ بَدَلُهَا مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْجَانِي ، لَكِنْ يَكُونُ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ ، بِحُدُوثِ الْجِنَايَةِ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالرُّجُوعِ بِالثَّمَنِ ، وَبَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ بِالثَّمَنِ وَمُطَالَبَةِ الْجَانِي بِمِثْلِ الثَّمَرَةِ ، أَوْ قِيمَتِهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مِثْلٌ . وَإِنْ تَلَفَتْ بِجِنَايَةِ الْبَائِعِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ جِنَايَةَ الْبَائِعِ كَجَائِحَةٍ مِنَ السَّمَاءِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْبَيْعُ بَاطِلًا قَوْلًا وَاحِدًا . وَالثَّانِي : أَنَّهَا كَجِنَايَةِ الْأَجْنَبِيِّ ، فَعَلَى هَذَا فِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ بِهَا قَوْلَانِ : فَهَذَا الْحُكْمُ فِي تَلَفِهَا قَبْلَ التَّسْلِيمِ . - وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ تَلَفُهَا بَعْدَ التَّسْلِيمِ وَقَبْلَ الْجِدَادِ الثمرة ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدِهِمَا : أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي قَدْ تَمَكَّنَ مِنْ جِدَادِهَا بَعْدَ التَّسْلِيمِ فَأَخَّرَهُ حَتَّى تَلَفَتْ ، فَتَكُونُ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي وَلَا يَبْطُلُ بِهِ الْبَيْعُ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا ، سَوَاءٌ كَانَ تَلَفُهَا بِجَائِحَةٍ أَوْ جِنَايَةٍ : لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْجِدَادِ مَعَ الْإِمْكَانِ تَفْرِيطٌ مِنْهُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَتَمَكَّنَ الْمُشْتَرِي مِنْ جِدَادِهَا حَتَّى تَلَفَتْ ، فَنَنْظُرُ فِي سَبَبِ تَلَفِهَا ، فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنَ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ : إِمَّا بِجَائِحَةِ سَمَاءٍ ، أَوْ جِنَايَةِ أَجْنَبِيٍّ ، أَوْ جِنَايَةِ الْبَائِعِ . فَإِنْ كَانَ تَلَفُهَا بِجَائِحَةِ سَمَاءٍ ، فَفِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ بِهِ قَوْلَانِ مَضَيَا . وَإِنْ كَانَ تَلَفُهَا بِجَائِحَةِ أَجْنَبِيٍّ : فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْبَيْعَ لَا يَبْطُلُ بِجَائِحَةِ السَّمَاءِ ، فَيَكُونُ أَنْ يَبْطُلَ بِجِنَايَةِ أَجْنَبِيٍّ ، وَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ يَبْطُلُ بِجَائِحَةِ السَّمَاءِ ، فَفِي بُطْلَانِهِ بِجِنَايَةِ الْآدَمِيِّ قَوْلَانِ : وَإِنْ كَانَ تَلَفُهَا بِجِنَايَةِ الْبَائِعِ ، فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ : أَنَّهَا تَكُونُ كَجَائِحَةِ السَّمَاءِ ، فَيَكُونُ فِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ قَوْلَانِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا كَجِنَايَةِ الْأَجْنَبِيِّ عَلَى مَا مَضَى . فَهَذَا الْحُكْمُ فِي تَلَفِهَا بَعْدَ التَّسْلِيمِ وَقَبْلَ الْجِدَادِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ تَلَفُهَا بَعْدَ الْجِدَادِ الثمرة ، فَالْبَيْعُ مَاضٍ لَا يَبْطُلُ بِتَلَفِهَا عَلَى الْأَحْوَالِ كُلِّهَا لِاسْتِقْرَارِ الْقَبْضِ وَانْقِضَاءِ عَلْقِ الْعَقْدِ ، وَتَكُونُ مَضْمُونَةً عَلَى الْآدَمِيِّ بِالْمِثْلِ أَوْ بِالْقِيمَةِ ، إِنْ يَكُنْ لَهَا مِثْلٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ
القول في بيع المحاقلة

بَابُ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ ، وَاالْمُحَاقَلَةُ صورتها أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ الزَّرْعَ بِمِائَةِ فَرَقٍ حِنْطَةٍ ، وَالْمُزَابَنَةُ صورتها أَنْ يَبِيعَ التَّمْرَ فِي رُءُوسِ النَّخْلِ بِمِائَةِ فَرَقٍ تَمْرٍ . ( قَالَ ) وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، قُلْتُ لِعَطَاءٍ : مَا الْمُحَاقَلَةُ ؟ قَالَ : الْمُحَاقَلَةُ فِي الْحَرْثِ كَهَيْئَةِ الْمُزَابَنَةِ فِي النَّخْلِ ، سَوَاءٌ بَيْعُ الزَّرْعِ بِالْقَمْحِ . قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ فَقُلْتُ لِعَطَاءٍ : أَفَسَّرَ لَكُمْ جَابِرٌ الْمُحَاقَلَةَ كَمَا أَخْبَرْتَنِي ؟ قَالَ : نَعَمْ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) وَبِهَذَا نَقُولُ إِلَّا فِي الْعَرَايَا ، وَجِمَاعُ الْمُزَابَنَةِ أَنْ يُنْظَرَ كُلُّ مَا عَقْدُ بَيْعِهِ مِمَّا الْفَضْلُ فِي بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ يَدًا بِيَدٍ رِبًا فَلَا يَجُوزُ مِنْهُ شَيْءٌ يُعْرَفُ بِشَيْءٍ مِنْهُ جُزَافًا وَلَا جُزَافًا بِجُزَافٍ مِنْ صِنْفِهِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، ثَبَتَ بِهَذَا الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ جَابِرٍ : نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ وَرَوَى حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ : نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ وَالْمُخَابَرَةِ وَالْمُعَاوَمَةِ . وَعَنِ الثُّنْيَا وَرَخَّصَ فِي الْعَرَايَا ، فَأَمَّا الْمُحَاقَلَةُ فَهُوَ بَيْعُ الطَّعَامِ فِي سُنْبُلِهِ بِطَعَامٍ مُصَفًّى ، وَالْمُحْقِلُ هُوَ الْمُسَنْبَلُ ، وَهُوَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَكُونُ الشَّيْءُ فِيهِ كَالْمَعْدِنِ ، وَقَدْ جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ فِي مُحْقَلِهِ يَعْنِي فِي سُنْبُلِهِ . الْقَوْلُ فِي حُكْمِ " بَيْعِ الْمُحَاقَلَةِ " فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَبَيْعُ الطَّعَامِ فِي مُحْقَلِهِ يَعْنِي : فِي سُنْبُلِهِ بِالطَّعَامِ الْمُصَفَّى ، لَا يَجُوزُ لِعِلَّتَيْنِ : إِحْدَاهُمَا : خَوْفُ الرِّبَا لِلْجَهْلِ ، وَالثَّانِيَةُ : فَقْدُ مُشَاهَدَةِ مَا فِي سُنْبُلِهِ ، وَهَكَذَا سَائِرُ الزُّرُوعِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ الْجِنْسُ مِنْهَا قَائِمًا مِنْ زَرْعِهِ بِمَا قَدْ صُفِّيَ مِنْ جِنْسِهِ ، فَإِنْ كَانَ مَسْتُورًا فِي كِمَامٍ كَالْأُرْزِ وَالْعَدَسِ لَمْ يَجُزْ لِعِلَّتَيْنِ كَالْحِنْطَةِ ، وَإِنْ كَانَ بَارِزَ الْأَكْمَامِ كَالشَّعِيرِ لَمْ يَجُزْ لِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ خَوْفُ الرِّبَا ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِالدَّرَاهِمِ لِزَوَالِ هَذِهِ الْعِلَّةِ ، وَمَا حُرِّمَ بَيْعَهُ لِعِلَّتَيْنِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ بِالدَّرَاهِمِ : لِبَقَاءِ إِحْدَى الْعِلَّتَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

الْقَوْلُ فِي بَيْعِ الْمُزَابَنَةِ

فَصْلٌ : [ الْقَوْلُ فِي بَيْعِ الْمُزَابَنَةِ ] وَأَمَّا الْمُزَابَنَةُ فَهِيَ بَيْعُ الرُّطَبِ عَلَى نَخْلِهِ بِتَمْرٍ فِي الْأَرْضِ ، وَالْمُزَابَنَةُ فِي كَلَامِهِمُ الْمُدَافَعَةُ ، وَلِهَذَا سُمُّوا زَبَانِيَةً : لِأَنَّهُمْ يَدْفَعُونَ أَهْلَ النَّارِ إِلَى النَّارِ ، وَقَالُوا زَبَنَتِ النَّاقَةُ بِرِجْلِهَا إِذَا دَفَعَتْ قَالَ الشَّاعِرُ : وَمُسْتَعْجِبٍ مِمَّا يَرَى مِنْ أَنَاتِنَا فَلَوْ زَبَنَتْهُ الْحَرْبُ لَمْ يَتَرَمْرَمِ فَسُمِّيَ بَيْعُ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ مُزَابَنَةً : لِأَنَّهُ قَدْ دَفَعَ التَّمْرَ بِالرُّطَبِ ، وَبَيْعُهُ لَا يَجُوزُ لِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ حُدُوثُ الرِّبَا بِعَدَمِ تَمَاثُلِهِ ، وَيَجُوزُ بِالدَّرَاهِمِ لِعَدَمِ هَذِهِ الْعِلَّةِ ، ثُمَّ هَكَذَا بَيْعُ الْعِنَبِ فِي كَرْمِهِ بِالزَّبِيبِ لَا يَجُوزُ ، وَكَذَا بَيْعُ سَائِرِ الثِّمَارِ فِي شَجَرِهَا بِجِنْسِهَا يَابِسَةً ، لَا يَجُوزُ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ كَانَ بَيْعُهَا غَيْرَ جَائِزٍ لِدُخُولِهَا فِي اسْمِ الْمُزَابَنَةِ أَوْ قِيَاسًا عَلَيْهَا ، وَهَكَذَا اخْتَلَفُوا فِي سَائِرِ الزُّرُوعِ هَلْ مُنِعَ مِنْ بَيْعِهَا بِجِنْسِهَا لِدُخُولِهَا فِي الْمُحَاقَلَةِ أَوْ قِيَاسًا عَلَيْهَا فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ بَيْعَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزِ لِدُخُولِ سَائِرِ الثِّمَارِ فِي اسْمِ الْمُزَابَنَةِ ، وَدُخُولُ سَائِرِ الزُّرُوعِ فِي اسْمِ الْمُحَاقَلَةِ ، وَكَانَ تَحْرِيمُهُ نَصًّا لَا قِيَاسًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّصَّ فِي الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ مُخْتَصٌّ بِالْحِنْطَةِ وَالنَّخْلِ ، وَسَائِرُ الزُّرُوعِ مَقِيسَةٌ عَلَى الْحِنْطَةِ فِي الْمُحَاقَلَةِ ، وَسَائِرُ الثِّمَارِ مَقِيسَةٌ عَلَى النَّخْلِ فِي الْمُزَابَنَةِ ، فَكَانَ تَحْرِيمُهُ قِيَاسًا لَا نَصًّا ، وَأَمَّا الْمُخَابَرَةُ فَهُوَ اسْتِكْرَاءُ الْأَرْضِ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا ، وَلَهُ بَابٌ . فَأَمَّا الْمُعَاوَمَةُ فَهُوَ فِي مَعْنَى بَيْعِ السِّنِينَ فَسَنَذْكُرُهُ ، وَأَمَّا بَيْعُ الثَّنَيَا فَقَدْ مَضَى ، وَأَمَّا الْعَرَايَا فَتَأْتِي . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ الضَّمَانُ فِي الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ

مَسْأَلَةٌ : الضَّمَانُ فِي الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " فَأَمَّا أَنْ يَقُولَ أَضْمَنُ لَكَ صُبْرَتِكَ هَذِهِ بِعِشْرِينَ صَاعًا ، فَمَا زَادَ فَلِي وَمَا نَقَصَ فَعَلَيَّ تَمَامُهَا فَهَذَا مِنَ الْقِمَارِ وَالْمُخَاطَرَةِ وَلَيْسَ مِنَ الْمُزَابَنَةِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا أَتَى صُبْرَةَ طَعَامٍ لِغَيْرِهِ فَقَالَ لِرَبِّهَا أَنَا أَضْمَنُهَا لَكَ بِعِشْرِينَ صَاعًا فَإِنْ نَقَصَ فَعَلَيَّ نُقْصَانُهَا وَإِنْ زَادَتْ فَلِي زِيَادَتُهَا أَوْ أَتَى قِرَاحًا فِيهِ بِطِّيخٌ فَقَالَ لِرَبِّهِ أَنَا أَضْمَنَهُ لَكَ بِأَلْفِ بِطِّيخَةٍ فَإِنْ زَادَتْ فَلِي وَإِنْ نَقَصَتْ فَعَلَيَّ أَوْ أَخَذَ ثَوْبًا لِرَجُلٍ فَقَالَ : أَنَا أَقْطَعُهُ لَكَ قَمِيصًا فَإِنْ نَقَصَ أَتْمَمْتُهُ وَإِنْ زَادَ أَخَذْتُ الزِّيَادَةَ فَهَذَا فَاسِدٌ وَحَرَامٌ بِاتِّفَاقٍ ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي جِهَةِ فَسَادِهِ فَقَالَ مَالِكٌ : لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمُزَابَنَةِ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إِنَّمَا يَفْسُدُ لِأَنَّهُ مُخَاطَرَةٌ وَقِمَارٌ وَلَيْسَ بِمُزَابَنَةٍ : لِأَنَّ الْمُزَابَنَةَ مُبَايَعَةٌ وَهَذَا مَوْضُوعٌ عَلَى أَنْ يَدْفَعَ عَنْهُ النُّقْصَانَ مَا لَا يَأْخُذُ عِوَضَهُ وَيَأْخُذُ عَنْهُ الزِّيَادَةَ مَا لَا يُعْطِي بَدَلَهُ فَصَارَ بِالْقِمَارِ وَالْمُخَاطَرَةِ أَشْبَهَ مِنْهُ بِالْبَيْعِ وَالْمُزَابَنَةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ الْعَرَايَا

بَابُ الْعَرَايَا أَخْبَرَنَا الْمُزَنِيُّ قَالَ الشَّافِعِيُّ : أَخْبَرَنَا مَالِكٌ ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ مَوْلَى ابْنِ أَبِي أَحْمَدَ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْخَصَ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ أَوْ فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ الشَّكُّ مِنْ دَاوُدَ . وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ إِلَّا أَنَّهُ أَرْخَصَ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) وَرَوَى الشَّافِعِيُّ حَدِيثًا فِيهِ . قُلْتُ لِمَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ : أَوْ قَالَ مَحْمُودُ بْنُ لَبِيدٍ لِرَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، إِمَّا زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَإِمَّا غَيْرِهِ مَا عَرَايَاكُمْ هَذِهِ ؟ فَقَالَ فُلَانٌ وَفُلَانَةُ وَسَمَّى رِجَالًا مُحْتَاجِينَ مِنَ الْأَنْصَارِ شَكَوْا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الرُّطَبَ يَأْتِي وَلَا نَقْدَ بِأَيْدِيهِمْ يَبْتَاعُونَ بِهِ رُطَبًا ، يَأْكُلُونَهُ مَعَ النَّاسِ ، وَعِنْدَهُمْ فُضُولٌ مِنْ قُوتِهِمْ مِنَ التَّمْرِ ، فَرَخَّصَ لَهُمْ أَنْ يَبْتَاعُوا الْعَرَايَا بِخَرْصِهَا مِنَ التَّمْرِ الَّذِي فِي أَيْدِيهِمْ يَأْكُلُونَهَا رُطَبًا ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) وَحَدِيثُ سُفْيَانَ يَدِلُ عَلَى مِثْلِ هَذَا ، أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ ، عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ إِلَّا إِنَّهُ أَرْخَصَ فِي الْعَرَايَا أَنْ تُبَاعَ بِخَرْصِهَا مِنَ التَّمْرِ يَأْكُلُهَا أَهْلُهَا رُطَبًا ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) اخْتَلَفَ مَا وَصَفَ الشَّافِعِيُّ فِي الْعَرَايَا وَكَرِهْتُ الْإِكْثَارَ فَأَصَحُّ ذَلِكَ عِنْدِي مَا جَاءَ فِيهِ الْخَبَرُ ، وَمَا قَالَ فِي كِتَابِ " اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ " وَفِي الْإِمْلَاءِ أَنَّ قَوْمًا شَكَوْا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَا نَقْدَ عِنْدَهُمْ وَلَهُمْ تَمْرٌ مِنْ فَضْلِ قُوتِهِمْ فَأَرْخَصَ لَهُمْ فِيهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْعَرَايَا فَجَمْعُ عَرِيَّةٍ ، وَالْعَرِيَّةُ فِي اللُّغَةِ مَا انْفَرَدَ بِذَاتِهِ ، وَتَمَيَّزَ عَنْ غَيْرِهِ ، يُقَالُ : عَرِيَ الرَّجُلُ إِذَا تَجَرَّدَ عَنْ ثِيَابِهِ ، وَسُمِّيَ سَاحِلُ الْبَحْرِ بِالْعَرَاءِ : لِأَنَّهُ قَدْ خَلِيَ مِنَ النَّبَاتِ وَتَمَيَّزَ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَرْضِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ [ الصَّافَّاتِ : ] ، وَقَالَ الشَّاعِرُ : فَكَانَ الْعَرَايَا فِي النَّخْلِ أَنْ يُفْرَدَ بَعْضُ مَحَلِّ الْحَائِطِ عَمَّا سِوَاهُ حَتَّى يَصِيرَ مُتَمَيِّزًا مِنَ الْجُمْلَةِ ، وَالْعَرَايَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ :

الْقَوْلُ فِي أَقْسَامِ الْعَرَايَا

الْقَوْلُ فِي أَقْسَامِ الْعَرَايَا مُوَاسَاةٌ ، وَمُحَابَاةٌ ، وَمُرَاضَاةٌ ، فَأَمَّا الْمُوَاسَاةُ فَهِيَ أَنْ يَتَصَدَّقَ الرَّجُلُ بِبَعْضِ نَخْلِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ ، أَوْ يَمْنَحَ بِهِ قَوْمًا بِأَعْيَانِهِمْ مِنَ الْمَسَاكِينِ ، وَيُفْرِدُهُ عَنْ بَاقِي مِلْكِهِ فَيَصِيرُ عَرِيَّةً مُتَمَيِّزَةً ، وَهَذَا مُسْتَحَبٌّ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لِخُرَّاصِهِ : خَفِّفُوا الْخَرْصَ فَإِنَّ فِي الْمَالِ الْعَرِيَّةَ وَالْوَصِيَّةَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمُوَاسَاةِ . وَأَمَّا الْمُحَابَاةُ : وَهُوَ أَنَّ الْخُرَّاصَ كَانُوا إِذَا خَرَصُوا نَخْلَ رَجُلٍ تَرَكُوا بَعْضَ نَخْلِهِ عَرِيَّةً لَا تَخْرَصُ عَلَيْهِ لِيَأْكُلَهَا ، عِلْمًا بِأَنَّهُ سَيَتَصَدَّقُ مِنْهَا بِأَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِهَا ، وَهَذَا جَائِزٌ قَدْ رَوَى سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِذَا خَرَصْتُمْ فَدَعُوا لَهُمُ الثُّلُثَ فَدَعُوا لَهُمُ الرُّبُعَ " وَأَمَّا الْمُرَاضَاةُ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا وَفِي الْمُرَادِ مِنْهَا ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهَا بَيْعُ الرُّطَبِ خَرْصًا عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ بِمِكْيَلَةٍ تَمْرًا عَلَى الْأَرْضِ فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ أَوْ أَقَلَّ مَعَ تَعْجِيلِ الْقَبْضِ . وَقَالَ مَالِكٌ : " الْعَرِيَّةُ أَنْ تَهَبَ رَجُلًا ثَمَرَ نَخْلَاتٍ مِنْ حَائِطٍ فَتَتِمُّ الْهِبَةُ عِنْدَهُ بِالْقَبُولِ وَحْدَهُ ، ثُمَّ يَكْرَهُ مُشَارَكَةَ غَيْرِهِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى الرُّجُوعِ فِي هِبَتِهِ ، فَلَهُ أَنْ يَبْتَاعَ ذَلِكَ جَبْرًا بِخَرْصِهِ تَمْرًا ، وَيُجْرِيَهُ مَجْرَى الشُّفْعَةِ خَوْفًا مِنْ سُوءِ الْمُشَارَكَةِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : بَلْ هَذِهِ الْعَرِيَّةُ أَنْ تَهَبَ الرَّجُلَ ثَمَرَ نَخْلَاتٍ لَا يَقْبِضُهَا ثُمَّ يَبْدُو لَهُ فِكْرَةَ الرُّجُوعِ فِيهَا فَيَتَرَاضَيَا عَلَى تَرْكِهَا وَدَفْعِ خَرْصِهَا تَمْرًا مَكَانَهَا ، فَيَجُوزُ ، فَأَمَّا بَيْعُ الرُّطَبِ عَلَى النَّخْلِ خَرْصًا بِمِثْلِهِ مِنَ التَّمْرِ كَيْلًا فَلَا يَجُوزُ : اسْتِدْلَالًا بِحَدِيثِ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " نَهَى عَنِ الْمُزَابَنَةِ " وَالْمُزَابَنَةُ بَيْعُ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ كَيْلًا وَبَيْعُ الْكَرْمِ بِالزَّبِيبِ كَيْلًا وَهَذَا عَامٌّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ . وَقَدْ رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ كُلِ ثَمَرَةٍ تَخْرُصَ " وَهَذَا أَحَقُّ قَالَ : وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ بَيْعُ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ خَرْصًا ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يَجُوزَ عَلَى النَّخْلِ ، وَتَجْوِيزُهُ قِيَاسًا أَنَّهُ بَيْعُ رُطَبٍ بِتَمْرٍ خَرْصًا فَأَشْبَهَ إِذَا كَانَ عَلَى الْأَرْضِ : وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُ كَثِيرِهِ بِالْخَرْصِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُ قَلِيلِهِ كَالْبُرِّ بِالْبُرِّ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ . قَالَ : وَلِأَنَّ كُلَّ جِنْسٍ وَجَبَ اعْتِبَارُ التَّمَاثُلِ فِيهِ لَمْ يَخْتَلِفْ حَالُهُ بِاخْتِلَافِ أَمَاكِنِهِ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ . وَدَلِيلُنَا بِثُبُوتِ السُّنَّةِ الْوَارِدَةِ مِنْ خَمْسِ طُرُقٍ مِنْهَا : مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الْمُزَابَنَةِ . وَالْمُزَابَنَةُ بَيْعُ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ إِلَّا أَنَّهُ أَرْخَصَ فِي الْعَرَايَا . وَالثَّانِي : مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ ، عَنْ مَالِكٍ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَرْخَصَ لِصَاحِبِ الْعَرِيَّةِ أَنْ يَبِيعَهَا بِخَرْصِهَا . وَالثَّالِثُ : مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ ، عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ ، عَنْ

سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ قَالَ : " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ إِلَّا أَنَّهُ أَرْخَصَ فِي الْعَرِيَّةِ بِأَكْلِهَا رُطَبًا . وَالرَّابِعُ : مَا رَوَاهُ الْمُزَنِيُّ فِي الْمُخْتَصَرِ عَنِ الشَّافِعِيِّ : أَنَّهُ رَوَى حَدِيثًا فِيهِ ، قُلْتُ لِمَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ أَوْ قَالَ مَحْمُودُ بْنُ لَبِيدٍ لِرَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِمَّا زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَإِمَا غَيْرِهِ مَا عَرَايَاكُمْ هَذِهِ ؟ فَقَالَ : وَسَمَّى رِجَالًا مُحْتَاجِينَ مِنَ الْأَنْصَارِ شَكَوْا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الرُّطَبَ يَأْتِي وَلَا نَقْدَ بِأَيْدِيهِمْ يَتَبَايَعُونَ بِهِ رُطَبًا يَأْكُلُونَهُ مَعَ النَّاسِ وَعِنْدَهُمْ فُضُولٌ مِنْ قُوتِهِمْ مِنَ التَّمْرِ فَرَخَّصَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبْتَاعُوا الْعَرَايَا بِخَرْصِهَا مِنَ التَّمْرِ الَّذِي فِي أَيْدِيهِمْ يَأْكُلُونَهَا رُطَبًا . الْخَامِسُ : مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي صَدْرِ الْبَابِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْخَصَ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ الشَّكُّ مِنْ دَاوُدَ . فَدَلَّتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ الْخَمْسَةُ عَلَى مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ فِي الْعَرَايَا مِنْ خَمْسَةِ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ اسْتَثْنَى الْعَرِيَّةَ مِنَ الْمُزَابَنَةِ ، فَلَمَّا كَانَتِ الْمُزَابَنَةُ الْمَنْهِيُّ عَنْهَا هِيَ بَيْعُ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ فِي نَخْلِهِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْعَرِيَّةُ الْمُسْتَثْنَاةُ مِنْهُمَا هِيَ بَيْعُ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ فِي نَخْلِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَجَازَ الْعَرِيَّةَ بِلَفْظِ الرُّخْصَةِ ، وَالرُّخْصَةُ مَا كَانَتْ بَعْدَ حَظْرٍ سَابِقٍ ، وَلَا تَكُونُ الْعَرِيَّةُ رُخْصَةً بَعْدَ حَظْرٍ إِلَّا عَلَى مَذْهَبِنَا دُونَ مَذْهَبِ مَنْ خَالَفْنَاهُ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ أَرْخَصَ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا ، وَالْبَيْعُ مَا يَتَنَاوَلُ عِوَضًا وَمُعَوِّضًا ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى قَوْلِنَا . وَالرَّابِعِ : أَنَّهُ اعْتَبَرَ فِيهَا الْمُسَاوَاةَ بِالْخَرْصِ وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلَّا فِي بَيْعِهَا بِالْجِنْسِ . وَالْخَامِسِ : أَنَّهُ أَبَاحَهَا فِي قَدْرٍ مَخْصُوصٍ ، وَالْمُخَالِفُ لَا يَعْتَبِرُ فِيهَا عَلَى مَذْهَبِهِ قَدْرًا مَخْصُوصًا ، ثُمَّ حَدِيثُ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ مُفَسَّرًا لَا احْتِمَالَ فِيهِ وَلَمْ يُسْنِدْهُ الشَّافِعِيُّ : لِأَنَّهُ رَوَاهُ مِنَ السِّيَرِ وَجَعَلَهُ مَعَ مَا أَسْنَدَهُ شَاهِدًا لِصِحَّةِ مَذْهَبِهِ فَإِنْ قِيلَ : فَهَذِهِ أَحَادِيثُ وَارِدَةٌ قَبْلَ تَحْرِيمِ الرِّبَا ، وَمِنْهَا أَنَّهُ اعْتُبِرَ فِيهَا التَّسَاوِي بِالْخَرْصِ ، وَهَذَا قَبْلَ تَحْرِيمِ الرِّبَا غَيْرُ مُعْتَبِرٍ ، وَمِنْهَا أَنَّهُ أَبَاحَهَا فِي قَدْرٍ مَخْصُوصٍ ، وَهَذَا قَبْلَ تَحْرِيمِ الرِّبَا غَيْرُ مُقَدَّرٍ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ أَدِلَّتِهِمْ فَهُوَ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْهَا مَخْصُوصٌ بِظَوَاهِرِنَا ، وَالْأَقْيِسَةُ مَدْفُوعَةٌ بِنُصُوصِنَا ، ثُمَّ نَقُولُ إِنَّمَا جَازَتِ الْعَرِيَّةُ فِيمَا كَانَ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ ، وَلَمْ يَجُزْ فِيمَا هُوَ عَلَى الْأَرْضِ : لِأَنَّ مَا عَلَى النَّخْلِ مُسْتَدَامُ الْمَنْفَعَةِ ، وَمَا عَلَى الْأَرْضِ مَسْلُوبُ الْمَنْفَعَةِ ، وَجَازَتْ فِي الْقَلِيلِ لِلْحَاجَةِ إِلَيْهَا ، وَلَمْ تَجُزْ فِي الْكَثِيرِ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهَا ، وَجَازَتْ بِالْخَرْصِ وَإِنْ لَمْ يَجُزِ الْخَرْصُ فِي الْبُرِّ : لِأَنَّ كَيْلَ مَا عَلَى النَّخْلِ مُتَعَذَّرٌ ، وَكَيْلُ الْبُرِّ غَيْرُ مُتَعَذَّرٍ ، وَاخْتِلَافُ حُكْمِ حَالِهَا كَاخْتِلَافِ أَمَاكِنِهَا ، وَلَكِنْ لِاخْتِلَافِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا .

فَصْلٌ جَوَازُ الْعَرَايَا مَعَ اخْتِلَافِ أَنْوَاعِ التَّمْرِ

فَصْلٌ : جَوَازُ الْعَرَايَا مَعَ اخْتِلَافِ أَنْوَاعِ التَّمْرِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ بَيْعَ الْعَرَايَا هُوَ بَيْعُ الرُّطَبِ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ بِكَيْلِهَا تَمْرًا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي النَّوْعِ كَالتَّمْرِ الْبَرْنِيِّ بِالرُّطَبِ الْبَرْنِيِّ ، أَوْ يَخْتَلِفَا فِي النَّوْعِ كَالتَّمْرِ الْبَرْنِيِّ بِالرُّطَبِ الْمَعْقِلِيِّ فِي جَوَازِ ذَلِكَ كُلِّهِ ، فَأَمَّا بَيْعُ الرُّطَبِ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ بِرُطَبٍ فِي الْأَرْضِ أَوْ بِرُطَبٍ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِحَالٍ : لِأَنَّ وُجُودَ الرُّطَبِ مُغْنِي عَنْ بَيْعِهِ بِرُطَبٍ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ . وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ : يَجُوزُ بَيْعُ الرُّطَبِ عَلَى الْأَرْضِ بِرُطَبٍ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ : لِأَنَّهُ أَدْوَمُ نَفْعًا ، وَيَجُوزُ بَيْعُ الرُّطَبِ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ بِرُطَبٍ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ سَوَاءٌ كَانَ نَوْعًا أَوْ أَنْوَاعًا . وَقَالَ أَبُو إِسْحَقَ الْمَرْوَزِيُّ : لَا يَجُوزُ بَيْعُ رُطَبٍ عَلَى الْأَرْضِ بِرُطَبٍ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ ، فَأَمَّا بَيْعُ الرُّطَبِ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ بِرُطَبٍ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ ، فَإِنْ كَانَا مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ كَالْمَعْقِلِيِّ بِالْمَعْقِلِيِّ لَمْ يَجُزْ ، وَإِنْ كَانَا نَوْعَيْنِ كَالْمَعْقِلِيِّ بِالْإِبْرَاهِيمِيِّ جَازَ . وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : يَجُوزُ بَيْعُ الرُّطَبِ عَلَى الْأَرْضِ بِرُطَبٍ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ حكمه : لِأَنَّهُ أَدْوَمُ نَفْعًا ، وَيَجُوزُ بَيْعُ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنَ النَّخْلِ بِمَا عَلَى النَّخْلِ إِذَا كَانَا مِنْ نَوْعَيْنِ لِاخْتِلَافِ الشَّهْوَةِ . وَلَا يَجُوزُ إِذَا كَانَا مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ لِفَقْدِ الْغَايَةِ . وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ فَاسِدٌ ، وَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا بُطْلَانُ ذَلِكَ كُلِّهِ أَصَحُّ : لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْخَصَ فِي الْعَرَايَا أَنْ تُبَاعَ بِخَرْصِهَا تَمْرًا : وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ بَيْعُ الرُّطَبِ بِالرُّطَبِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مَعَ قِلَّةِ تَفَاضُلِهِ وَقُرْبِ تَمَاثُلِهِ ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يَجُوزَ عَلَى النَّخْلِ : لِأَنَّ عَدَمَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ تَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ الْغَرَرِ فِيهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ الْقَوْلُ فِي مِقْدَارِ الْعَرِيَّةِ

مَسْأَلَةٌ : [ الْقَوْلُ فِي مِقْدَارِ الْعَرِيَّةِ ] قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ تَكُونَ الْعَرِيَّةُ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ وَلَا أَفْسَخُهُ فِي الْخَمْسَةِ وَأَفْسَخُهُ فِي أَكْثَرَ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) يَلْزَمُهُ فِي أَصْلِهِ أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ : لِأَنَّهُ شَكٌّ وَأَصْلُ بَيْعِ التَّمْرِ فِي رُءُوسِ النَّخْلِ بِالتَّمْرِ حَرَامٌ بِيَقِينٍ ، وَلَا يَحِلُّ مِنْهُ إِلَّا مَا أَرْخَصَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَقِينٍ فَأَقَلُّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ يَقِينٌ عَلَى مَا جَاءِ بِهِ الْخَبَرُ وَلَيْسَتِ الْخَمْسَةُ بِيَقِينٍ فَلَا يَبْطُلُ الْيَقِينُ بِالشَّكِّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَقْصُورٌ عَلَى قَدْرِ مَا أُبِيحَ مِنَ الْعَرِيَّةِ ، فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّ الْعَرِيَّةَ لَا تَجُوزُ فِيمَا زَادَ عَلَى خَمْسَةِ أَوْسُقٍ لِعُمُومِ نَهْيِهِ عَنِ الْمُزَابَنَةِ ، وَتَجُوزُ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ ، وَلَوْ بِمَدٍّ لِإِبَاحَةِ الْعَرِيَّةِ . وَفِي جَوَازِهَا فِي خَمْسَةٍ أَوْسُقٍ قَوْلَانِ :

أَحَدُهُمَا : نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الصَّرْفِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ : لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْمُزَابَنَةِ عَامٌّ ، وَإِبَاحَةُ الْعَرِيَّةِ خَاصٌّ ، وَالْخَمْسَةُ شَكٌّ وَالْعُمُومُ لَا يَخْتَصُّ بِالشَّكِّ . وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا صَدَقَةَ فِي الْعَرِيَّةِ وَالْخَمْسَةُ وَصَاعِدًا فِيهَا الصَّدَقَةُ " فَلَمْ تَجُزْ أَنْ يَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ الْعَرِيَّةِ : وَلِأَنَّ الْعَرِيَّةَ تَخْتَصُّ بِالْقَلِيلِ دُونَ الْكَثِيرِ ؛ لِتَحْرِيمِهَا فِيمَا زَادَ عَلَى الْخَمْسَةِ لِكَثْرَتِهِ وَإِبَاحَتِهَا فِيمَا دُونَ الْخَمْسَةِ لِقِلَّتِهِ ، وَالْخَمْسَةُ فِي حَدِّ الْكَثْرَةِ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهَا ، وَمَا دُونَهَا فِي حَدِّ الْقِلَّةِ لِانْتِفَاءِ الزَّكَاةِ عَنْهَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " جَوَازُ الْعَرِيَّةِ فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ : لِأَنَّ تَحْرِيمَ مَا زَادَ عَلَى الْخَمْسَةِ إِنَّمَا كَانَ لِدُخُولِهِ فِي الْمُزَابَنَةِ قَطْعًا ، وَتَحْلِيلُ مَا دُونُ الْخَمْسَةِ لِدُخُولِهِ فِي الْعَرِيَّةِ يَقِينًا ، وَالْخَمْسَةُ وَإِنْ كَانَتْ شَكًّا فَلَا يَجُوزُ إِلْحَاقُهَا بِالْمُزَابَنَةِ دُونَ الْعَرِيَّةِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لِمَا فِيهِ مِنْ نَفْيِ الشَّكِّ عَنْهَا بَعْدَ ثُبُوتِهِ فِيهَا . وَالثَّانِي : أَنَّ عُمُومَ الْمُزَابَنَةِ قَدْ صَارَ مَجْهُولًا بِاسْتِثْنَاءِ الْعَرِيَّةِ الْمَجْهُولَةِ مِنْهَا ، وَإِذَا لَمْ يَجُزْ إِلْحَاقُهَا بِالْمُزَابَنَةِ وَجَبَ إِلْحَاقُهَا بِالْعَرِيَّةِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْبُيُوعِ الْإِبَاحَةُ : لِعُمُومِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [ الْبَقَرَةِ : ] . وَالثَّانِي : رِوَايَةُ عَطَاءٍ ، عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْخَصَ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا فَعَمَّ وَلَمْ يَخُصَّ ، وَاحْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ رِوَايَةُ مَنْ رَوَى فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ أَوْ دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ : لِأَنَّهَا قَدْ تُسْتَعْمَلُ فِي التَّخْيِيرِ كَمَا تُسْتَعْمَلُ فِي الشَّكِّ .

فَصْلٌ الْقَوْلُ فِي جَوَازِ الْعَرِيَّةِ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ

فَصْلٌ : [ الْقَوْلُ فِي جَوَازِ الْعَرِيَّةِ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ ] فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ ، فَإِنْ قُلْنَا بِجَوَازِ الْعَرِيَّةِ فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ ، فَإِنَّمَا نَعْنِي خَمْسَةَ أَوْسُقٍ تَمْرًا تُبَاعُ بِهَا رُطَبًا تَعُودُ إِلَى خَمْسَةِ أَوْسُقٍ تَمْرًا عَلَى مَا نَصِفُهُ ، فَلَوْ زَادَ عَلَى خَمْسَةِ أَوْسُقٍ تَمْرًا لَمْ يَجُزْ ، وَكَانَ عَقْدًا فَاسِدًا ، فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا أَبْطَلْتُمُوهُ فِيمَا زَادَ عَلَى الْخَمْسَةِ وَجَوَّزْتُمُوهُ فِي الْخَمْسَةِ . قِيلَ : لِأَنَّهُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْخَمْسَةِ قَدْ صَارَ مُزَابَنَةً ، وَالْمُزَابَنَةُ كُلُّهَا فَاسِدَةٌ ، وَإِنْ قُلْنَا : إِنَ الْعَرِيَّةَ لَا تَجُوزُ إِلَّا فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ ، فَلَوْ نَقَصَ مِنَ الْخَمْسَةِ مُدٌّ جَازَ وَكَانَ الْعَقْدُ صَحِيحًا ، فَلَوِ ابْتَاعَ رَجُلَانِ مِنْ رَجُلٍ عَشْرَةَ أَوْسُقٍ إِلَّا مُدًّا جَازَ : لِأَنَّ ابْتِيَاعَ الرَّجُلَيْنِ إِنَّمَا يَكُونُ بِعَقْدَيْنِ ، فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَأَنَّهُ قَدِ اشْتَرَى خَمْسَةَ أَوْسُقٍ إِلَّا نِصْفَ مُدٍّ ، وَكَذَا لَوِ ابْتَاعَ رَجُلٌ مِنْ رَجُلَيْنِ عَشْرَةَ أَوْسُقٍ إِلَّا مُدًّا جَازَ ، وَكَأَنَّهُ قَدِ اشْتَرَى مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسَةَ أَوْسُقٍ إِلَّا نِصْفَ مُدٍّ ، فَلَوِ ابْتَاعَ رَجُلَانِ مِنْ رَجُلَيْنِ عِشْرِينَ وَسْقًا إِلَّا مُدًّا جَازَ : لِأَنَّ ابْتِيَاعَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ رَجُلَيْنِ إِنَّمَا يَكُونُ بِأَرْبَعَةِ عُقُودٍ فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الرَّجُلَيْنِ قَدِ ابْتَاعَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الرَّجُلَيْنِ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ إِلَّا رُبْعَ مُدٍّ فَصَحَّ ، وَلَوِ ابْتَاعَا عِشْرِينَ وَسْقًا لَمْ يَجُزْ .
جواز البيع في العرية معتبر بثلاثة شروط



مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَا يَبْتَاعُ الَّذِي يَشْتَرِي الْعَرِيَّةَ بِالتَّمْرِ إِلَا بِأَنْ يَخْرُصَ الْعَرِيَّةَ كَمَا يَخْرُصُ الْعُشْرَ ، فَيُقَالُ فِيهَا الْآنَ رُطَبًا كَذَا ، وَإِذَا يَبِسَ كَانَ كَذَا ، فَيَدْفَعُ مِنَ التَّمْرِ مَكِيلَةَ خَرْصِهَا تَمْرًا ، وَيَقْبِضُ النَّخْلَةَ بِتَمْرِهَا قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا ، فَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ دَفْعِهِ فَسَدَ الْبَيْعُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ جَوَازَ الْبَيْعِ فِي الْعَرِيَّةِ مُعْتَبَرٌ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ : أَحَدِهَا : الْقَدْرُ الَّذِي لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ العرية . وَالثَّانِي : التَّسَاوِي الَّذِي لَا يَجُوزُ الْإِخْلَالُ بِهِ . وَالثَّالِثُ : التَّقَابُضُ الَّذِي لَا يَجُوزُ الِافْتِرَاقُ دُونَهُ . فَأَمَّا الشَّرْطُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ الْقَدْرُ فَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ . وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّانِي : وَهُوَ التَّسَاوِي ، فَلِتَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِيمَا يُدْخِلُهُ الرِّبَا ، وَالتَّسَاوِي مُعْتَبَرٌ فِي التَّمْرِ بِالْكَيْلِ : لِأَنَّ الْكَيْلَ فِيهِ مُمْكِنٌ وَفِي الرُّطَبِ الَّذِي عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ بِالْخَرْصِ : لِأَنَّ كَيْلَهُ مُتَعَذِّرٌ ، وَيَجُوزُ فِيهِ خَارِصٌ وَاحِدٌ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ : لِأَنَّ الْخَرْصَ هَاهُنَا بَدَلٌ مِنَ الْكَيْلِ عِنْدَ تَعَذُّرِهِ ، فَلَمَّا جَازَ كَيَّالٌ وَاحِدٌ جَازَ خَارِصٌ وَاحِدٌ ، فَيَأْتِي الْخَارِصُ النَّخْلَةَ فَيَخْرُصُهَا بَعْدَ الْإِحَاطَةِ بِهَا ، فَإِذَا بَلَغَتْ قَدْرًا يَكُونُ ثَمَرُهَا خَمْسَةَ أَوْسُقٍ ، أَوْ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ ، دَفَعَ مِثْلَهُ تَمْرًا كَأَنْ يَقُولُ : خَرْصُهَا رُطَبًا سِتَّةُ أَوْسُقٍ وَإِذَا يَبِسَ تَمْرًا أَرْبَعَةُ أَوْسُقٍ ، فَيَدْفَعُ إِلَيْهِ بِالْكَيْلِ أَرْبَعَةَ أَوْسُقٍ تَمْرًا ، فَإِنْ زَادَ عَلَى الْأَرْبَعَةِ مُدًّا أَوْ نِصْفَ مُدٍّ ، لَمْ يَجُزْ لِظُهُورِ التَّفَاضُلِ فِيهِ . وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّالِثُ : وَهُوَ التَّقَابُضُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ شروط بيع العرايا : فَلِأَنَّ مَا فِيهِ الرِّبَا لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْقَبْضِ فِيهِ ، فَيَقْبِضُ الْمُشْتَرِي الرُّطَبَ عَلَى رُءُوسِ نَخْلِهِ وَيَدْفَعُ التَّمْرَ إِلَى بَايِعِهِ ، وَقَدْ تَمَّتِ الْعَرِيَّةُ فِيهِمَا ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْخِيَارُ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا بِأَبْدَانِهِمَا ، فَإِذَا افْتَرَقَا لَزِمَتِ الْعَرِيَّةُ وَلَا خِيَارَ ، ثُمَّ لِلْمُشْتَرِي بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَجْتَنِيَ ثَمَرَةَ نَخْلِهِ حَالًا بَعْدَ حَالٍ عِنْدَ إِدْرَاكِهَا وَقْتَ إِبَّانِهَا ، وَلَا تَجُوزُ الْعَرِيَّةُ إِلَّا فِيمَا بَدَا صَلَاحُهُ بُسْرًا كَانَ أَوْ رُطَبًا . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَبَيْعُ صَاحِبِ الْحَائِطِ لِكُلِّ مَنْ أَرْخَصَ لَهُ وَإِنْ أَتَى عَلَى جَمِيعِ حَائِطِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " وَغَيْرِهِ جَوَازُهَا لِلْمُضْطَرِّ الْمُعْسِرِ ، وَلِلْغَنِيِّ الْمُوسِرِ ، وَهُمَا فِي إِبَاحَتِهِمَا سَوَاءٌ ، وَقَالَ الْمُزَنِيُّ : لَا تَجُوزُ الْعَرِيَّةُ إِلَّا لِلْمُضْطَرِّ الْمُعْسِرِ ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي " الْإِمْلَاءِ " وَفِي " اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ " لِأَنَّ السَّبَبَ فِي إِبَاحَةِ الْعَرِيَّةِ حَاجَةُ ذَوِي الضَّرُورَاتِ ، وَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى سَبَبِهِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يُخَرِّجُ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَامْتَنَعَ جُمْهُورُهُمْ مِنْ تَخْرِيجِ الْقَوْلَيْنِ ، وَصَرَّحُوا بِجَوَازِهِ لِلْكَافَّةِ قَوْلًا وَاحِدًا تَعْوِيلًا عَلَى غَالِبِ نَصِّهِ ، وَتَأَوَّلُوا مَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي " الْإِمْلَاءِ " وَاخْتِلَافُ الْحَدِيثِ عَلَى الْأَخْبَارِ عَنْ سَبَبِهِ : اسْتِدْلَالًا بِإِرْخَاصِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَرِيَّةِ مِنْ غَيْرِ

تَقْيِيدٍ بِالضَّرُورَةِ ، وَلِأَنَّ الضَّرُورَةَ لَا تُتَصَوَّرُ فِيهِ : لِأَنَّ مَعَهُ التَّمْرَ فَهُوَ غَيْرُ مُضْطَرٍّ إِلَى الرُّطَبِ ، فَإِنَّمَا يُرِيدُهُ شَهْوَةً ، وَلَوْ كَانَ إِلَيْهِ مُضْطَرًّا لَزَالَتْ ضَرُورَتُهُ بِصَاعٍ مِنْهُ ، وَقَدْ أُبِيحَ لَهُ أَكْثَرُ مِنْهُ فَعُلِمَ أَنَّ اعْتِبَارَ الضَّرُورَةِ فِيهِ غَيْرُ صَحِيحٍ فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُهُ لِلْمُضْطَرِّ وَغَيْرِهِ جَازَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَبِيعَ جَمِيعَ حَائِطِهِ عَرَايَا فِي عُقُودٍ شَتَّى ، وَلَوْ كَانَ فِيهِ أَلْفَ وَسْقٍ ، إِذَا وَفَّى كُلَّ عَقْدٍ شَرْطَهُ ، وَكَذَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَشْتَرِيَ بِأَلْفِ وَسْقٍ مِنْ تَمْرٍ عَرَايَا فِي عُقُودٍ شَتَّى ، إِذَا أَوْفَى كُلَّ حَقٍّ شَرْطَهُ : لِأَنَّ حُكْمَ كُلِّ عَقْدٍ مُعْتَبَرٌ بِنَفْسِهِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِغَيْرِهِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَالْعَرَايَا مِنَ الْعِنَبِ كَهِيَ مِنَ التَّمْرِ ، لَا يَخْتَلِفَانِ : لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَّ الْخَرْصَ فِي ثَمَرَتِهِمَا وَلَا حَائِلَ دُونَ الْإِحَاطَةِ بِهِمَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . الْعَرِيَّةُ جَائِزَةٌ فِي الْكَرْمِ بِجَوَازِهَا فِي النَّخْلِ ، لَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ جَازَتْ فِي الْكَرْمِ نَصًّا أَوْ قِيَاسًا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّهَا جَازَتْ فِي الْكَرْمِ نَصًّا مَرْوِيًا عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْخَصَ فِي الْعَرَايَا وَالْعَرَايَا بَيْعُ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ وَالْعِنَبِ بِالزَّبِيبِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَطَائِفَةٍ مِنَ الْبَغْدَادِيِّينَ ، أَنَّهَا جَازَتْ فِي الْكَرْمِ قِيَاسًا عَلَى النَّخْلِ : لِبُرُوزِ ثَمَرَتِهَا وَإِمْكَانِ الْخَرْصِ فِيهِمْ ، وَتَعَلُّقِ الزَّكَاةِ بِهِمَا . ثُمَّ يُعْتَبَرُ فِي بَيْعِ الزَّبِيبِ بِالْعِنَبِ الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي بَيْعِ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ ، فَأَمَّا الْعَرَايَا فِي سَائِرِ الثِّمَارِ كَالتُّفَّاحِ وَالْمِشْمِشِ وَالْإِجَّاصِ وَالْخَوْخِ ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا غَيْرُ جَائِزَةٍ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ الْكَبِيرِ فِي " الْأُمِّ " : وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ : يَجُوزُ التَّحَرِّي فِيهَا كَانَ مَذْهَبًا . وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا لِأَجْلِ هَذَا الْكَلَامِ يُخَرِّجُ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَامْتَنَعَ سَائِرُهُمْ مِنْ تَحْرِيمِ الْقَوْلَيْنِ ، وَأَبْطَلُوا الْعَرِيَّةَ فِيمَا سِوَى النَّخْلِ وَالْكَرْمِ قَوْلًا وَاحِدًا لِمُبَايَنَةِ النَّخْلِ وَالْكَرْمِ مَا سِوَاهُمَا مِنَ الْأَشْجَارِ مِنْ بُرُوزِ الثَّمَرَةِ ، وَإِمْكَانِ الْخَرْصِ ، وَوُجُوبِ الزَّكَاةِ وَحُصُولِ الِاقْتِيَاتِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

بَابُ الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ

بَابُ الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " أَخْبَرَنَا مَالِكٌ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ " وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَمَّا الَّذِي نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الطَّعَامُ أَنْ يُبَاعَ حَتَّى يُكْتَالَ ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِرَأْيِهِ : وَلَا أَحْسَبُ كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا مِثْلَهُ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) وَإِذَا نَهَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يُقْبَضَ : لِأَنَّ ضَمَانَهُ مِنَ الْبَائِعِ ، وَلَمْ يَتَكَامَلْ لِلْمُشْتَرِيَ فِيهِ تَمَامُ مِلْكٍ فَيَجُوزُ بِهِ الْبَيْعُ ، كَذَلِكَ قِسْنَا عَلَيْهِ بَيْعَ الْعُرُوضِ قَبْلَ الْقَبْضِ : لِأَنَّهُ بَيْعُ مَا لَمْ يُقْبَضْ وَرِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : كُلُّ مَنِ ابْتَاعَ شَيْئًا مِنْ طَعَامٍ أَوْ غَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ . وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَجُوزُ بَيْعُ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ ، وَيَجُوزُ بَيْعُ مَا لَيْسَ بِطَعَامٍ مَأْكُولٍ قَبْلَ قَبْضِهِ ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : لَا يَجُوزُ بَيْعُ مَا يُكَالُ وَيُوزَنُ قَبْلَ قَبْضِهِ ، وَيَجُوزُ بَيْعُ مَا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ قَبْلَ قَبْضِهِ ، وَبِهِ قَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجُوزُ بَيْعُ مَا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ قَبْلَ قَبْضِهِ ، وَيَجُوزُ بَيْعُ مَا لَا يُنْقَلُ وَلَا يُحَوَّلُ قَبْلَ قَبْضِهِ . وَاسْتَدَلُّوا جَمِيعًا فِي الْجُمْلَةِ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ " . فَحَمَلَهُ مَالِكٌ عَلَى الْمَطْعُومِ ، وَحَمَلَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَلَى أَنَّهُ مُكَيَّلٌ مَوْزُونٌ ، وَحَمَلَهُ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَنَّهُ مَحْمُولٌ مَنْقُولٌ ، وَكُلٌّ مُسْتَنْبَطٌ مِنْهُ مَعْنَى مَذْهَبِهِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّ الْبَيْعَ يَجْمَعُ ثَمَنًا وَمُثَمَّنًا ، فَلَمَّا جَازَ بَيْعُ الثَّمَنِ قَبْلَ قَبْضِهِ حَتَّى إِنْ كَانَ الثَّمَنُ دَرَاهِمَ جَازَ أَنْ يَأْخُذَ مَكَانَهَا مَتَاعًا أَوْ عِوَضًا ، وَجَبَ أَنْ يَجُوزَ بَيْعُ الْمُثَمَّنِ قَبْلَ قَبْضِهِ ، حَتَّى إِنْ كَانَ مَتَاعًا جَازَ أَنْ يَأْخُذَ مَكَانَهُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ ، وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ عِلَّةً أَنَّهُ أَخَذَ عِوَضَ الْبَيْعِ فَجَازَ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ كَالثَّمَنِ ، وَلِأَنَّ بَيْعَ مَا لَمْ يُقْبَضْ إِنَّمَا هُوَ إِزَالَةُ مِلْكِهِ عَنْهُ . فَلَمَّا جَازَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُزِيلَ مِلْكَهُ عَمَّا لَمْ يَقْبِضْهُ بِالْعِتْقِ وَالِاسْتِهْلَاكِ ، جَازَ أَنْ يُزِيلَ

مِلْكَهُ عَنْهُ بِالْبَيْعِ ، وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ عِلَّةً أَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْنِ مَا يُزِيلُ بِهِ الْمِلْكَ فَجَازَ فِيمَا لَمْ يَقْبِضْ كَالْعِتْقِ . ثُمَّ انْفَرَدَ أَبُو حَنِيفَةَ مُسْتَدِلًّا لِمَذْهَبِهِ بِأَنْ قَالَ : حَقِيقَةُ الْقَبْضِ هُوَ النَّقْلُ وَالتَّحْوِيلُ فِيمَا يُمْكِنُ نَقْلُهُ وَتَحْوِيلُهُ تَنْتَفِي عَنْهُ حَقِيقَةُ الْقَبْضِ ، فَاقْتَضَى أَنْ لَا يَكُونَ لِقَبْضِهِ تَأْثِيرٌ فِي جَوَازِ التَّصَرُّفِ فِيهِ بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ ، قَالَ : وَلِأَنَّ مَا لَا يُنْقَلُ مَأْمُونَ الْهَلَاكِ ، فَلَا يَلْحَقُ الْعَقْدَ فَسْخٌ بِتَلَفِهِ فِي يَدِ بَائِعِهِ ، فَجَازَ بَيْعُهُ لِلْأَمْنِ مِنْ فَسْخِهِ ، وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّهُ مَمْلُوكٌ بِعَقْدٍ لَا يُخْشَى انْفِسَاخُهُ بِهَلَاكِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَجُوزَ تَصَرُّفُهُ فِيهِ بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ كَالْمَقْبُوضِ ، وَلِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ مَأْمُونُ الْفَسَادِ فَجَازَ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ كَالْمِيرَاثِ . وَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يُزِيلُ مِلْكَهُ بِالْبَيْعِ كَمَا يُزَالُ مِلْكُهُ بِالشُّفْعَةِ فَلَمَّا جَازَ أَخْذُهُ بِالشُّفْعَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ جَازِ بَيْعُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّهُ عَقَارُ مِلْكٍ عَلَى الْمُشْتَرِي بِعِوَضٍ فَلَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ تَأَخُّرُ الْقَبْضِ كَالشُّفْعَةِ . وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِصْمَةَ أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ حَدَّثَهُ أَنَّهُ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَشْتَرِي بُيُوعًا فَمَا يَحِلُّ لِي مِنْهَا وَمَا يَحْرُمُ ؟ قَالَ : " إِذَا اشْتَرَيْتَ بَيْعًا فَلَا تَبِعْهُ حَتَّى تَقْبِضَهُ ، وَلَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ " . فَكَانَ هَذَا النَّصُّ عَامًّا فِي كُلِّ مَبِيعٍ ، وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ " . وَالْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى الْمُشْتَرِي بِدَلِيلِ أَنَّ مَا حَدَثَ بِهِ مِنْ عَيْبٍ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْمُشْتَرِي الْفَسْخَ : لِأَنَّهُ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ ، ثُمَّ قَدْ مَنَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طَلَبِ الرِّبْحِ فِيهِ بِالْبَيْعِ ، وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَمَّا بَعَثَ عَتَّابَ بْنَ أُسَيْدٍ إِلَى مَكَّةَ قَالَ لَهُ : " انْهَهُمْ عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يَقْبِضُوا وَرِبْحِ مَا لَمْ يَضْمَنُوا " وَهَذَا نَصٌّ : وَلِأَنَّهُ بَيْعُ مَا لَمْ يَقْبِضْهُ الْمُشْتَرِي ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ بَيْعُهُ كَالْمَطْعُومِ مَعَ مَالِكٍ ، وَالْمَنْقُولِ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَلِأَنَّ مِلْكَ الْمَبِيعِ لَا يَسْتَقِرُّ إِلَّا بِالْقَبْضِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا [ الْبَقَرَةِ : ] فَفَصَلَ بَيْنَ مَا قُبِضَ ، فَلَمْ يُوجِبْ رَدَّهُ لِاسْتِقْرَارِ مِلْكِهِ وَبَيْنَ مَا لَمْ يُقْبَضْ فَأَوْجَبَ رَدَّهُ لِعَدَمِ مِلْكِهِ ، وَلِأَنَّ الصَّرْفَ يَزُولُ فِيهِ مِلْكُ الْمُشْتَرِي بِتَأَخُّرِ الْقَبْضِ ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَقِرَّ الْمِلْكُ عَلَى مَا لَمْ يَقْبِضْ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ : لِأَنَّ بَيْعَ مَا لَمْ يَسْتَقِرَّ مِلْكُهُ بَاطِلٌ ، وَلِأَنَّ بَيْعَ مَا لَمْ يَقْبِضْ غَيْرَ مَقْدُورٍ عَلَى تَسْلِيمِهِ ، وَبَيْعَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ بَاطِلٌ ، كَالْعَبْدِ الْآبِقِ وَالْجَمَلِ الشَّارِدِ ، وَعَلَى أَبِي حَنِيفَةَ خَاصَّةً أَنَّ كُلَّ حُكْمٍ كَانَ الْقَبْضُ فِيهِ مُعْتَبِرًا بِالنَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ إِنْ كَانَ مَنْقُولًا كَانَ الْقَبْضُ فِيهِ مُعْتَبَرًا بِالتَّخْلِيَةِ وَالتَّمْكِينِ ، إِنْ لَمْ يَكُنْ مَنْقُولًا . أَصْلُهُ تَمَامُ الْهِبَةِ وَلُزُومُ الرَّهْنِ

وَانْتِقَالُ ضَمَانِ الْمَبِيعِ إِلَى الْمُشْتَرِي يَسْتَوِي فِيهِ مَا يُنْقَلُ وَمَا لَا يُنْقَلُ فِي اعْتِبَارِ الْقَبْضِ فِيهِ كَذَلِكَ الْبَيْعُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ ، فَهُوَ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَنَّهُ بَعْضُ مَا شَمِلَهُ عُمُومُ خَبَرِنَا فَلَمْ يُعَارِضْهُ : لِأَنَّهُ لِمَ يُنَافِيهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ تَعَلُّقَهُ لَا يُحَجُّ ، وَدَلِيلُ الْخِطَابِ فِيهِ لَا يَسْلَمْ : لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ إِنَّمَا يَجْعَلُ الْخِطَابَ دَلِيلًا إِذَا عُلِّقَ بِعَدَدٍ أَوْ صِفَةٍ ، فَتَعَلُّقُهُ بِالْعَدَدِ كَقَوْلِهِ " فِي أَرْبَعِينَ شَاةٍ شَاةً " " وَإِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ خَبَثًا " ، وَتَعْلِيقُهُ بِالصِّفَةِ كَقَوْلِهِ فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ زَكَاةٌ " وَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ ، وَأَمَّا دَلِيلُ الْخِطَابِ فِي الْأَسْمَاءِ فَلَا نَقُولُ بِهِ وَهُوَ هَاهُنَا مُعَلَّقٌ بِالِاسْمِ ، وَإِنَّمَا كَانَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الدَّقَّاقِ مِنْ أَصْحَابِنَا يَقُولُ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ فِي الْأَسْمَاءِ ، وَلَوِ الْتَزَمَ هَذَا الْمَذْهَبَ فِي دَلِيلِ الْخِطَابِ ، لَمْ نُسَلِّمْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ : لِأَنَّ الْخَبَرَ تَنْبِيهًا يَدْفَعُ دَلِيلَ خِطَابِهِ ، وَهُوَ أَنَّ تَعْلِيقَهُ النَّهْيَ بِالطَّعَامِ مَعَ كَثْرَةِ بَيَاعَاتِهِ وَحُدُوثِ الْحَاجَةِ إِلَى الْمُسَامَحَةِ فِي عُقُودٍ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ غَيْرَ الطَّعَامِ أَوْلَى بِالنَّهْيِ فَكَانَ دَلِيلُ الْخِطَابِ مَدْفُوعًا بِهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ جَمْعِهِمْ بَيْنَ الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ وَاسْتِشْهَادِهِمْ بِجَوَازِ الْمُعَاوَضَةِ عَلَى الثَّمَنِ قَبْلَ قَبْضِهِ ، فَمُنْتَقِضٌ عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ بِالْمَطْعُومِ ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بِالْمَنْقُولِ ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الثَّمَنِ اسْتِقْرَارُ مِلْكِ الْبَائِعِ عَلَيْهِ ، قَبْلَ قَبْضِهِ فَجَازَ أَنْ يُعَاوَضَ عَلَيْهِ بِأَخْذِ بَدَلِهِ ، وَالْمُثَمَّنُ لَمْ يَسْتَقِرَّ مِلْكُ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ قَبْلَ قَبْضِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَاوَضَ عَلَيْهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْعِتْقِ فَالْمَعْنَى فِي الْعِتْقِ أَنَّهُ اسْتِهْلَاكٌ لَا تُعْتَبَرُ فِيهِ الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْعُقُودِ ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَهْلِكَ الْمَطْعُومَ وَالْمَنْقُولَ قَبْلَ قَبْضِهِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَهُ قَبْلَ قَبْضِهِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِ أَبِي حَنِيفَةَ مَا لَا يُنْقَلُ عَلَى الْمَقْبُوضِ بِعِلَّةٍ أَنَّهُ لَا يُجِيزُ انْفِسَاخَ الْعَقْدِ بِهَلَاكِهِ ، فَيَنْتَقِضُ بِمَنِ اشْتَرَى طَعَامًا كَيْلًا وَقَبَضَهُ جُزَافًا قَدْ أَمِنَ فَسْخَ الْبَيْعِ بِهَلَاكِهِ ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ كَيْلِهِ ، وَفِي الْعَكْسِ مَنِ اشْتَرَى عُلُوَّ دَارٍ لَيْسَ يَأْمَنُ فَسْخَ الْعَقْدِ بِهَلَاكِهِ ، وَيَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ ، ثُمَّ يَقُولُ الْمَعْنَى فِي الْمَقْبُوضِ أَنَّهُ صَارَ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي ، فَجَازَ بَيْعُهُ وَمَا لَمْ يَقْبِضْ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَنْقُولٍ ، لَيْسَ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ ، وَكَذَا الْجَوَابُ عَنِ الْمِيرَاثِ أَنَّهُ جَازَ لَهُ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ : لِأَنَّهُ مِنْ ضَمَانِهِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الشُّفْعَةِ فَهُوَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ عَلَى أَصْلِهِمْ : لِأَنَّ مَذْهَبَهُمْ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ بِالشُّفْعَةِ مِنَ الْبَائِعِ دُونَ الْمُشْتَرِي ، وَكَذَلِكَ يَجِبُ عِنْدَهُمْ عُهْدَةُ الشَّفِيعِ عَلَى الْبَائِعِ دُونَ الْمُشْتَرِي ، ثُمَّ عَلَى أَصْلِنَا أَنَّ الشُّفْعَةَ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَى الْمُشْتَرِي لَا نُسَلِّمُ بِهَذَا الْقِيَاسِ : لِأَنَّ الشُّفْعَةَ تَسْتَحِقُّ جَبْرًا فَلَمْ يَفْتَقِرْ

ثُبُوتُهَا إِلَى جَوَازِ التَّصَرُّفِ فَجَازَ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَإِنَّ عَدَمَ التَّصَرُّفِ وَالْبَيْعِ عَقْدُ تَرَاضٍ يَفْتَقِرُ ثُبُوتُهُ إِلَى جَوَازِ التَّصَرُّفِ ، فَلَمْ يَجُزْ قَبْلَ الْقَبْضِ لِعَدَمِ التَّصَرُّفِ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ مَا لَا يَنْفُذُ فِيهِ تَصَرُّفُهُ فِيهِ فَهُوَ مَا كَانَ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ ، كَصَدَاقِ الزَّوْجَاتِ ، أَوْ أُجُورِ الْمُسْتَأْجِرَاتِ ، أَوْ عُقُودِ الْإِجَارَاتِ ، أَوْ صُلْحٍ فِي حُقُوقٍ وَمُطَالَبَاتٍ ، فَكُلُّ هَذَا وَمَا شَاكَلَهُ بَاطِلٌ ، فَإِذَا جَعَلَ الْمَبِيعَ صَدَاقًا لِزَوْجَةٍ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ بَطَلَ الصَّدَاقُ ، وَلَمْ يَبْطُلِ النِّكَاحُ ، وَلَوْ جَعَلَهُ أُجْرَةً لِدَارٍ اسْتَأْجَرَهَا كَانَتِ الْإِجَارَةُ بَاطِلَةً : لِوَهَاءِ تَصَرُّفِهِ فِي الْأُجْرَةِ ، وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ دَارًا فَأَجَّرَهَا بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ لِوَهَاءِ تَصَرُّفِهِ فِي الدَّارِ الْمُؤَجَّرَةِ ، وَلَوْ جَعَلَهُ صُلْحًا عَلَى دَيْنٍ كَانَ صُلْحًا بَاطِلًا : لِأَنَّ الصُّلْحَ بَيْعٌ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ مَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيهِ : فَالْكِتَابَةُ ، وَالرَّهْنُ ، وَالْهِبَةُ ، فَإِذَا كَاتَبَ الْعَبْدُ الَّذِي ابْتَاعَهُ قَبْلَ قَبْضِهِ ، فَفِي الْكِتَابَةِ قَوْلَانِ : أَصَحُّهُمَا بَاطِلَةٌ : لِأَنَّهَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ . وَالثَّانِيَةُ : صَحِيحَةٌ : لِأَنَّ الْمُغَلَّبَ فِيهَا الْعِتْقُ . وَأَمَّا الرَّهْنُ فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ بَاقِيًا عَلَى الْمُشْتَرِي أَوْ بَعْضَهُ كَانَ رَهْنُهُ بَاطِلًا : لِأَنَّهُ مَرْهُونٌ عَلَى ثَمَنِهِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ دَفَعَ جَمِيعَ ثَمَنِهِ فَفِي جَوَازِ رَهْنِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلٌ : لِأَنَّهُ مَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لَا يَجُوزُ رَهْنُهُ . وَالثَّانِي : جَائِزٌ : لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَكُونَ مَرْهُونًا عَلَى ثَمَنِهِ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَرْهُونًا عَلَى غَيْرِ ثَمَنِهِ . وَأَمَّا هِبَتُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ فَفِيهَا قَوْلَانِ : مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ هَلْ يَلْزَمُ فِيهَا الْمُكَافَأَةُ أَمْ لَا ، فَإِذَا قِيلَ : بِوُجُوبِ الْمُكَافَأَةِ فِيهَا بَطُلَتِ الْهِبَةُ : لِأَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ . وَإِذَا قِيلَ : إِنَّ الْمُكَافَأَةَ لَا تَجِبُ فِيهَا صَحَّتِ الْهِبَةُ ، فَإِنْ كَانَتْ لِأَجْنَبِيٍّ احْتَاجَ الْوَاهِبُ أَنْ يَقْبِضَهَا مِنَ الْبَائِعِ بِنَفْسِهِ ، أَوْ وَكِيلِهِ لِيَسْتَقِرَّ لَهُ مِلْكُهَا وَيَسْقُطُ عَنِ الْبَائِعِ ضَمَانُهَا ، ثُمَّ يَدْفَعَا إِلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ لِيَتِمَّ لَهُ هِبَتُهَا ، فَلَوْ أَذِنَ الْوَاهِبِ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ أَنْ يَقْبِضَهَا مِنَ الْبَائِعِ قَبَضَهَا مِنْهُ لَمْ يَصِحَّ : لِأَنَّهُمَا عَقْدَانِ يَلْزَمُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْقَبْضُ ، فَلَمْ يَكُنِ الْعَقْدُ وَاحِدًا نَايِبًا عَنْ عَقْدَيْنِ ، ثُمَّ يَنْظُرُ فَإِنْ كَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ قَبَضَهَا لِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَبْضًا لَا عَنِ الْبَيْعِ وَلَا عَنِ الْهِبَةِ ، أَمَّا عَنِ الْبَيْعِ فَلِأَنَّ الْقَبْضَ لَمْ يَكُنْ لِلْمُشْتَرِي ، وَأَمَّا عَنِ الْهِبَةِ فَلِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ إِلَّا بَعْدَ قَبْضِ الْمَبِيعِ ، وَالْبَائِعُ ضَامِنٌ لَهَا بِالثَّمَنِ ، حَتَّى لَوْ تَلَفَ بَطَلَ الْبَيْعُ لِعَدَمِ الْقَبْضِ فِيهِ ، وَالْمُشْتَرِي الْوَاهِبُ ضَامِنٌ لَهَا بِالْقِيمَةِ حَتَّى إِنْ تَلِفَتْ غَرَّمَهَا لِلْبَائِعِ : لِأَنَّهَا مَقْبُوضَةٌ عَنْ أُجْرَةٍ بِوَجْهِ مُعَاوَضَةٍ . وَهَلْ يَكُونُ الْمَوْهُوبُ لَهُ ضَامِنًا بِالْقَبْضِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ لَيْسَ مُعَاوَضَةً . وَالثَّانِي : عَلَيْهِ الضَّمَانُ : لِأَنَّ يَدَهُ دَخَلَتْ مِنْ جِهَةِ الْوَاهِبِ ، فَإِنْ كَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ قَبَضَهَا لِلْوَاهِبِ الْمُشْتَرِي صَحَّ الْقَبْضُ فِي الْبَيْعِ وَبَرِئَ الْبَائِعُ مِنَ الضَّمَانِ وَضَمِنَهَا الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ

وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ بِالْقَبْضِ : لِأَنَّهُ وَكَيْلٌ لِلْوَاهِبِ فِيهِ : وَيَحْتَاجُ إِلَى اسْتِيثَاقِ قَبْضٍ لِتَتِمَّ بِهِ الْهِبَةُ ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ الْوَاهِبُ فِي قَبْضِ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ قَابِضًا مِنْ نَفْسِهِ مُقْبِضًا لَهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : وَإِذَا ابْتَاعَ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَقَبَضَهُ ، ثُمَّ إِنَّ الْبَائِعَ نَقَصَ الْمُشْتَرِي مِنَ الثَّمَنِ مِائَةَ دِرْهَمٍ ، فَإِنْ كَانَ هَذَا النُّقْصَانُ بَعْدَ التَّفْرِقَةِ كَانَ أَمْرًا مَحْضًا يَصِحُّ فإن عاد المشتري في البيع نتيجة عيب رد عليه الألف ، وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ بَاعَ الْعَبْدَ أَوْ وَهَبَهُ أَوْ أَعْتَقَهُ ، أَوْ كَاتَبَهُ لِأَنَّهُ أَبْرَأَ مِنْ دَيْنٍ لَا تَعَلُّقَ فِيهِ بِالْعَبْدِ ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الْعَبْدُ قَدْ مَاتَ فِي يَدِهِ ، فَلَوْ كَانَ بَاقِيًا وَرَدَّهُ بِعَيْبٍ رَجَعَ بِالْأَلْفِ كُلِّهَا : لِأَنَّ الثَّمَنَ أَلْفٌ وَإِنْ أَبْرَأَهُ مِنْ بَعْضِهِ . وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ : أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِتِسْعِمِائَةٍ وَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي أَدَّاهُ ، فَخَرَجَ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الزَّوْجَةِ إِذَا أَبْرَأَتْ زَوْجَهَا مِنْ صَدَاقِهَا ثُمَّ طَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ هَلْ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِهِ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ : فَإِنْ كَانَ قَدْ دَفَعَ إِلَيْهِ بِأَلْفٍ عِوَضًا فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ إِذَا رَدَّهُ مَعِيبًا بِالْأَلْفِ الثَّمَنِ دُونَ الْعِوَضِ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْمَذْهَبُ ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ النُّقْصَانُ قَبْلَ التَّفَرُّقِ ، وَهَذَا فَسْخٌ لِلْبَيْعِ الْأَوَّلِ وَاسْتِيثَاقُ بَيْعِهِ بِتِسْعِمِائَةٍ ، فَلَوْ رَدَّهُ بِعَيْبٍ رَجَعَ بِتِسْعِمِائَةٍ لَا غَيْرَ لِأَنَّهَا جَمِيعُ الثَّمَنِ . فَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ بَاعَهُ أَوْ وَهَبَهُ أَوْ أَعْتَقَهُ أَوْ كَاتَبَهُ لَمْ يَصِحَّ هَذَا النُّقْصَانُ ، وَكَانَ عَلَى الْمُشْتَرِي جَمِيعُ الْأَلْفِ : لِأَنَّ فَسْخَ الْبَيْعِ بَعْدَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ لَا يَصِحُّ ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الْعَبْدُ قَدْ تَلَفَ فَلَوْ لَمْ يَنْقُصْهُ لَكَانَ أَعْطَاهُ قَبْلَ التَّفَرُّقِ بِالثَّمَنِ عِوَضًا ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ أَنْ بَاعَ الْعَبْدَ أَوْ أَعْتَقَهُ أَوْ وَهَبَهُ لَمْ يَجُزْ : لِأَنَّهُ يَكُونُ فَسْخًا لِلْبَيْعِ بِالْأَلْفِ وَاسْتِيثَاقُ بَيْعِهِ بِالْعِوَضِ ، وَالْفَسْخُ بَعْدَ هَذِهِ الْأُمُورِ لَا يَصِحُّ . وَإِنْ كَانَ مَعَ بَقَاءِ الْعَبْدِ عَلَى حَالِهِ جَازَ وَكَانَ اسْتِيثَاقُ بَيْعٍ مُبْتَدَأٍ لِلْعَبْدِ بِالْعِوَضِ ، فَلَوْ رَدَّهُ بِعَيْبٍ رَجَعَ بِالْعِوَضِ : لِأَنَّهُ الثَّمَنُ وَلَا يَكُونُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَبْضِ الْمُشْتَرِي لِلْعَبْدِ مُحَرَّمًا حَتَّى يُحْدِثَ لَهُ الْبَائِعُ قَبْضًا بَعْدَ تَقْدِيرِ الْعِوَضِ ، أَوْ بَعْدَ النُّقْصَانِ ، إِنْ كَانَ نَقْصٌ : لِأَنَّهُ لَمَّا ارْتَفَعَ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ بِالنَّقْصِ مِنَ الثَّمَنِ أَوْ بِالْعِوَضِ الْمَأْخُوذِ عَنِ الثَّمَنِ وَصَارَ ذَلِكَ بَيْعًا مُبْتَدَأً افْتَقَرَ إِلَى قَبْضٍ بَعْدَهُ ، وَلَمْ يَصِحَّ فِيهِ قَبْضٌ تَقَدَّمَهُ، فَلَوْ تَلَفَ الْعَبْدُ قَبْلَ إِحْدَاثِ قَبْضٍ ثَانٍ بَطَلَ الْبَيْعُ لِتَلَفِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَيَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى الْمُشْتَرِي بِالْقِيمَةِ دُونَ الثَّمَنِ : لِأَنَّ بُطْلَانَ الْبَيْعِ قَدْ أُسْقِطَ عَنْهُ لَا الثَّمَنُ ، وَلَزِمَتْهُ الْقِيمَةُ : لِأَنَّهُ كَانَ فِي قَبْضِهِ بِعِوَضٍ ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ زَادَ الْبَائِعَ فِي الثَّمَنِ مِائَةً ، كَانَ عَلَى مَا مَضَى ، إِنْ كَانَ بَعْدَ التَّفَرُّقِ وَكَانَتِ الزِّيَادَةُ مِائَةً هِبَةً لَا يَرْجِعُ بِهَا الْمُشْتَرِي إِنَّ رَدَّ بِعَيْبٍ ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ التَّفَرُّقِ كَانَ فَسْخًا لِلْبَيْعِ وَاسْتِيثَاقًا بِأَلْفٍ وَالْمِائَةُ لِلزِّيَادَةِ وَيَرْجِعُ بِهَا مَعَ الْأَلْفِ إِنْ رَدَّهُ بِعَيْبٍ ، وَلَا يَصِحُّ بَعْدَ تَلَفِ الْعَبْدِ أَوْ عِتْقِهِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا ابْتَاعَ عَبْدًا بِعَبْدٍ فَقَبَضَ الْعَبْدُ الَّذِي ابْتَاعَهُ ، وَلَمْ يُسَلِّمِ الْعَبْدَ الَّذِي بَاعَهُ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَبِيعَ الْعَبْدَ الَّذِي قَدِ ابْتَاعَهُ : لِأَنَّهُ قَدْ قَبَضَهُ وَلَا يَجُوزُ لِلْآخَرِ أَنْ يَبِيعَ مَا قَدِ ابْتَاعَهُ : لِأَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْهُ ، فَلَوْ تَلَفَ فِي يَدِهِ هَذَا الْعَبْدُ الَّذِي قَدِ ابْتَاعَهُ وَلَمْ يُسَلِّمْهُ بَعْدَ أَنْ بَاعَ الْعَبْدَ الَّذِي قَدِ ابْتَاعَهُ وَ تَسَلَّمَهُ ، بَطَلَ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ فِي الْعَبْدِ الَّذِي قَدْ بَاعَهُ لِتَلَفِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَلَمْ يَبْطُلِ الْبَيْعُ

الثَّانِي فِي الْعَبْدِ الَّذِي قَدِ ابْتَاعَهُ ، لَكِنَّ عَلَيْهِ دَفْعُ قِيمَتِهِ إِلَى بَايَعَهُ الَّذِي بَاعَهُ : لِأَنَّهُ لَمَّا بَطَلَ الْبَيْعُ اسْتَحَقَّ الرُّجُوعَ بِهِ ، وَقَدْ خَرَجَ بِالْبَيْعِ مِنْ مِلْكِهِ فَلَزِمَهُ دَفْعُ قِيمَتِهِ ، فَلَوْ تَلَفَ الْعَبْدَانِ جَمِيعًا فِي يَدِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ فِيمَا ابْتَاعَهُ غُرْمُ قِيمَةِ الْأَوَّلِ ، وَرَدُّ ثَمَنِهِ عَلَى الثَّانِي : لِبُطْلَانِ الْبَيْعَيْنِ فِيهِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا ابْتَاعَ عَبْدًا فَذَهَبَ عُضْوٌ مِنْهُ فِي يَدِ الْبَائِعِ قَبْلَ تَسَلُّمِهِ لَمْ يَخْلُ ذَهَابُ عُضْوِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ جِنَايَةِ آدَمِيٍّ : فَإِنْ كَانَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ فَالْمُشْتَرِي لِأَجَلِهِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ فَسْخِ الْبَيْعِ لِحُدُوثِ الْآفَةِ بِهِ مَعَ ضَمَانٍ عَلَى بَايِعِهِ ، وَبَيْنَ الرِّضَا بِهِ وَإِمْضَاءِ الْبَيْعِ فِيهِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِجِنَايَةِ آدَمِيٍّ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْجَانِي مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْبَائِعُ ، أَوِ الْمُشْتَرِي ، أَوْ أَجْنَبِيٌّ ، فَإِنْ كَانَ الْجَانِي عَلَى عُضْوِ الْعَبْدِ أَجْنَبِيًّا كَانَ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ فِيهِ لِحُدُوثِ النَّقْصِ فِي يَدِ بَايِعِهِ ، فَإِنْ فَسَخَ كَانَ لِلْبَائِعِ مُطَالَبَةُ الْجَانِي بِالْأَرْشِ : لِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ رَجَعَ إِلَى مِلْكِهِ بِالْفَسْخِ ، فَإِنْ لَمْ يَفْسَخِ الْمُشْتَرِي وَأَحَبَّ الْإِمْضَاءَ فَالْمُشْتَرِي هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ مُطَالَبَةَ الْجَانِي بِالْأَرْشِ ، لَكِنْ بَعْدَ قَبْضِ الْعَبْدِ ، فَأَمَّا قَبْلَ قَبْضِهِ فَلَا مُطَالَبَةَ لَهُ بِجَوَازِ أَنْ يَمُوتَ الْعَبْدُ فِي يَدِ بَائِعِهِ فَيَبْطُلُ الْبَيْعُ فِيهِ ، وَتَجِبُ أَرْشُ الْجِنَايَةِ لِبَائِعِهِ وَإِنْ كَانَ الْجَانِي عَلَى عُضْوِ الْعَبْدِ هُوَ الْمُشْتَرِي فَجِنَايَتُهُ مَضْمُونَةٌ عَلَيْهِ وَلَا خِيَارَ لَهُ بِهَا . فَإِنْ تَلَفَ الْعَبْدِ بَعْدَ جِنَايَتِهِ فِي يَدِ الْبَائِعِ بِحَادِثِ سَمَاءٍ فَقَدْ بَطَلَ الْبَيْعُ فِيهِ لِتَلَفِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَصَارَ الْمُشْتَرِي ضَامِنًا أَرْشَ جِنَايَتِهِ لِلْبَائِعِ ، وَفِي كَيْفِيَّةِ ضَمَانِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَضْمَنُهَا بِالْأَرُوشِ الْمُقَدَّرَةِ فِي الْأَعْضَاءِ كَالْأَجْنَبِيِّ ، وَالثَّانِي : يَضْمَنُهَا بِمَا نَقَصَتْ مِنْ قِيمَتِهِ : لِأَنَّ الْجِنَايَةَ كَانَتْ فِي مِلْكِهِ بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيِّ ، وَإِنْ كَانَ الْجَانِي عَلَى عُضْوِ الْعَبْدِ هُوَ الْبَائِعُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جِنَايَتِهِ هَلْ يَجْرِي مَجْرَى حَادِثٍ مِنْ سَمَاءٍ أَوْ مَجْرَى جِنَايَةِ آدَمِيٍّ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا تَجْرِي مَجْرَى حَادِثٍ مِنْ سَمَاءٍ ، فَوَجَبَ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ ، وَلَا رُجُوعَ لَهُ بِالْأَرْشِ إِنْ أَحَبَّ الْمُقَامَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا مَضْمُونَةٌ كَجِنَايَةِ الْآدَمِيِّ فَوَجَبَ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ ، وَلَا رُجُوعَ لَهُ بِالْأَرْشِ إِنْ أَحَبَّ الْمُقَامَ . وَالثَّانِي : فَإِنْ أَحَبَّ الْمُقَامَ عَلَى الْبَيْعِ رَجَعَ عَلَى الْبَائِعِ بِأَرْشِ جِنَايَتِهِ بَعْدَ قَبْضِ الْعَبْدِ فَأَمَّا قَبْلَهُ فَلَا . وَفِي كَيْفِيَّةِ رُجُوعِهِ بِالْأَرْشِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : بِالْمُقَدَّرِ فِي الْأَعْضَاءِ . وَالثَّانِي : بِقَدْرِ النَّقْصِ مِنَ الْقِيمَةِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِنْ قُتِلَ الْعَبْدُ فِي يَدِ بَائِعِهِ ، فَإِنْ كَانَ قَتَلَهُ بِحَقٍّ لَا يُضْمَنُ كَالْقَوَدِ وَالْقَتْلِ بِالرِّدَّةِ ، فَقَدْ بَطَلَ الْبَيْعُ فِيهِ كَمَا لَوْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ ، وَإِنْ كَانَ قَتَلَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ لَمْ يَخْلُ حَالُ قَاتِلِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْبَائِعُ أَوِ الْمُشْتَرِي أَجْنَبِيًّا ، فَإِنْ قَتَلَهُ الْمُشْتَرِي كَانَ ذَلِكَ قَبْضًا وَلَا خِيَارَ لَهُ ، وَإِنْ قَتْلَهُ أَجْنَبِيٌّ فَفِي الْبَيْعِ قَوْلَانِ :

أَحَدُهُمَا : قَدْ بَطَلَ لِتَلَفِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ كَالْمَوْتِ ، وَلِلْبَائِعِ مُطَالَبَةُ الْقَاتِلِ بِقِيمَتِهِ ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْبَيْعَ لَا يَبْطُلُ : لِأَنَّهُ قَدِ انْتَقَلَ بِالْجِنَايَةِ إِلَى بَلَدٍ بِخِلَافِ الْمَوْتِ ، لَكِنْ يَكُونُ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ ، فَإِنْ فَسَخَ كَانَ الْبَائِعُ هُوَ الْمُطَالِبُ لِلْقَاتِلِ بِالْقِيمَةِ لِعَوْدِهِ إِلَى مِلْكِهِ ، وَإِنْ أَقَامَ عَلَى الْبَيْعِ كَانَ الْمُشْتَرِي هُوَ الْمُطَالِبُ لِلْقَاتِلِ بِالْقِيمَةِ : لِاسْتِقْرَارِهِ فِي مِلْكِهِ . فَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ هُوَ الْبَائِعُ فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدِهِمَا : أَنَّ جِنَايَتَهُ لِحَادِثٍ مِنْ سَمَاءٍ فَعَلَى هَذَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ كَمَا لَوْ مَاتَ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا كَجِنَايَةِ الْآدَمِيِّ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ فِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى .

فَصْلٌ : فَلَوِ اشْتَرَكَ الْمُشْتَرِي وَالْبَائِعُ فِي قَتْلِهِ لَزِمَ الْبَيْعُ فِي نِصْفِهِ العبد ، وَهُوَ مَا قَابَلَ جِنَايَةَ الْمُشْتَرِي : لِأَنَّهُ كَالْقَابِضِ لَهُ بِجِنَايَتِهِ ، فَأَمَّا الْبَيْعُ فِي النِّصْفِ الثَّانِي الْمُقَابِلِ لِجِنَايَةِ الْبَائِعِ ، فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ جِنَايَتَهُ كَآفَةٍ مِنْ سَمَاءٍ بَطَلَ الْبَيْعُ فِيهِ ، وَرَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ ، وَلَا خِيَارَ لَهُ فِي فَسْخِ مَا قَدْ لَزِمَهُ بِجِنَايَتِهِ وَإِنْ تَنَقَّصَتِ الصَّفْقَةُ بِهِ لِفَوَاتِ رَدِّهِ ، وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ جِنَايَةَ الْبَائِعِ كَجِنَايَةِ الْأَجْنَبِيِّ ، فَفِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ فِي نِصْفِهِ الثَّانِي قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : قَدْ بَطَلَ عَلَى مَا مَضَى . وَلِلْمُشْتَرِي اسْتِرْجَاعُ نِصْفِ الثَّمَنِ . وَالثَّانِي : لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ فِيهِ ، وَلَكِنْ يَكُونُ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ فِيهِ ، وَاسْتِرْجَاعِ نِصْفِ الثَّمَنِ أَوْ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ فِيهِ وَأَخْذِ نِصْفِ الْقِيمَةِ كَمَا لَوْ كَانَ شَرِيكُ الْمُشْتَرِي أَجْنَبِيًّا .

فَصْلٌ : وَلَوِ ابْتَاعَ جَارِيَةً بِكْرًا فَوَطِئَهَا فَأَذْهَبَ بِكَارَتَهَا فِي يَدِ الْبَائِعِ ، ثُمَّ مَاتَتِ الْجَارِيَةُ قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ الْبَيْعُ فِيهَا ، وَوَجَبَ عَلَى الْمُشْتَرِي أَرْشُ بَكَارَتِهَا ، وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ مَهْرُهَا : لِأَنَّ الْمَهْرَ مِنْ كَسْبِهَا وَالْكَسْبُ لِلْمُشْتَرِي وَأَرْشُ الْبَكَارَةِ لِاسْتِهْلَاكِ مَا زَالَ مِلْكُ الْمُشْتَرِي عَنْهُ .

مَسْأَلَةٌ حَقِيقَةُ الْقَبْضِ

مَسْأَلَةٌ : حَقِيقَةُ الْقَبْضِ وَمَنِ ابْتَاعَهُ جُزَافًا فَقَبْضُهُ أَنْ يَنْقُلَهُ مِنْ مَوْضِعِهِ ، وَقَدْ رَوَى عُمَرُ وَابْنُ عُمَرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَبَايَعُونَ الطَّعَامَ جُزَافًا ، فَيَبْعَثُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ يَأْمُرُهُمْ بِنَقْلِهِ مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي ابْتَاعُوهُ فِيهِ إِلَى مَوْضِعٍ غَيْرِهِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَطْلَقَ ذِكْرَ الْقَبْضِ كَمَا أَطْلَقَ التَّفَرُّقَ فِي الْبَيْعِ ، وَالْإِحْيَاءَ فِي الْمَوَاتِ ، وَالْإِحْرَازَ فِي السَّرِقَةِ ، لِاخْتِلَافِهَا وَأَنَّ لِلنَّاسِ عُرْفًا مُعْتَبَرًا فِيهَا ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْقَبْضُ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْمَبِيعِ ، فَالْمَبِيعُ لَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَنْقُولًا ، أَوْ غَيْرَ مَنْقُولٍ ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَنْقُولٍ كَالْعَقَارِ وَالْأَرْضِينَ فَقَبْضُ ذَلِكَ بِتَخْلِيَةِ الْبَائِعِ

وَتَمْكِينِ الْمُشْتَرِي ، وَتَخْلِيَةُ الْبَائِعِ تَرْفَعُ يَدَهُ وَتَصَرُّفَهُ ، فَإِنْ وُجِدَتِ التَّخْلِيَةُ مِنَ الْبَائِعِ وَلَمْ يُوجَدِ التَّمْكِينُ مِنَ الْمُشْتَرِي لَمْ يَتِمَّ الْقَبْضُ ، وَإِنْ وُجِدَ التَّمْكِينُ مِنَ الْمُشْتَرِي وَلَمْ تُوجَدِ التَّخْلِيَةُ مِنَ الْبَائِعِ فَتَمْكِينُ الْمُشْتَرِي غَيْرُ كَامِلٍ ، وَالْقَبْضُ غَيْرُ تَامٍّ ، فَلَوْ بَاعَهُ الْأَرْضَ مُزَارَعَةً فَتَمَامُ الْقَبْضِ يَكُونُ بِالزَّرْعِ مَعَ التَّخْلِيَةِ وَالتَّمْكِينِ .

فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ مَنْقُولًا ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ جُزَافًا أَوْ مُقَدَّرًا بِكَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ ، فَإِنْ كَانَ جُزَافًا غَيْرَ مُكَيَّلٍ وَلَا مَوْزُونٍ كَصُبْرَةٍ مِنْ طَعَامٍ ، أَوْ ثَوْبٍ ، أَوْ عَبْدٍ ، أَوْ دَابَّةٍ ، أَوْ سَفِينَةٍ فَقَبْضُ ذَلِكَ تَحْوِيلُهُ وَنَقْلُهُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : قَبْضُ هَذَا بِالتَّخْلِيَةِ وَالتَّمْكِينِ دُونَ النَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ ، كَالدُّورِ وَالْعَقَارِ . وَهَذَا خَطَأٌ : لِرِوَايَةِ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : رَأَيْتُ النَّاسَ يَضْرِبُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اشْتَرَوُا الطَّعَامَ جُزَافًا أَنْ يَبِيعَهُ حَتَّى يَنْقُلَهُ إِلَى رَحْلِهِ وَلِأَنَّهُ مَنْقُولٌ فَلَمْ يَتِمَّ قَبْضُهُ بِمُجَرَّدِ التَّمْكِينِ كَالْمُكَيَّلِ . وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ قَبْضَهُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالنَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ بيع الجزاف نُظِرَ : فَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ قَدْ قَبَضَ ثَمَنَهُ جَازَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَنْفَرِدَ بِنَقْلِهِ مِنْ غَيْرِ حُضُورِ الْبَائِعِ وَلَا إِذْنِهِ : لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْبَائِعِ فِي مَنْعِهِ ، فَلَمْ يَفْتَقِرِ الْمُشْتَرِي فِي الْقَبْضِ إِلَى إِذْنِهِ . فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْبَائِعُ قَدْ قَبَضَ الثَّمَنَ أَوْ بَقِيَتْ لَهُ مِنْهُ بَقِيَّةٌ لَمْ يَكُنْ لِلْمُشْتَرِي نَقْلُهُ إِلَّا عَنْ إِذْنِ الْبَائِعِ دُونَ حُضُورِهِ : لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ حَبْسَهُ عَلَى ثَمَنِهِ ، ثُمَّ لَا يَسْتَقِرُّ الْقَبْضُ بِالتَّحْوِيلِ إِلَّا بَعْدَ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْحِرْزِ الَّذِي كَانَ فِيهِ إِلَى غَيْرِهِ ، فَإِنْ نَقْلَهُ مِنْ أَحَدِ جَانِبَيِ الدَّارِ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ لَمْ يَتِمَّ الْقَبْضُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ نَقَلَهُ مِنْ عُلُوِّ الدَّارِ إِلَى سُفْلِهَا ، أَوْ مِنْ سُفْلِهَا إِلَى عُلُوِّهَا لَمْ يَتِمَّ الْقَبْضُ : لِأَنَّ الْحِرْزَ وَاحِدٌ ، وَلَوْ نَقَلَهُ مِنْ بَيْتٍ فِي الدَّارِ إِلَى بَيْتٍ آخَرَ فِيهَا لَمْ يَجُزْ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الدَّارُ خَانَاتٍ لِلتُّجَّارِ ، وَكُلُّ بَيْتٍ فِيهَا حِرْزٌ مُفْرَدٌ لِرَجُلٍ ، فَيَتِمُّ الْقَبْضُ لِاخْتِلَافِ الِاحْتِرَازِ ، فَإِذَا نَقَلَهُ عَنِ الْحِرْزِ الَّذِي كَانَ فِيهِ اسْتَقَرَّ الْقَبْضُ وَإِنْ لَمْ يُجْعَلْ فِي حِرْزِ الْمُشْتَرِي ، فَلَوْ لَمْ يَنْقُلْهُ الْمُشْتَرِي مِنْ حِرْزِ الْبَائِعِ حَتَّى اشْتَرَى الْحِرْزَ مِنْهُ لَمْ يُلْزِمْهُ نَقْلُهُ وَاسْتَقَرَّ قَبْضُ الطَّعَامِ بِالتَّمْكِينِ مِنْ حِرْزِهِ الَّذِي ابْتَاعَهُ : لِأَنَّهُ إِذَا مَلَكَ الْمَوْضِعَ مَعَ مَا فِيهِ لَمْ يَلْزَمْهُ نَقْلُ مَا فِيهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوِ اشْتَرَى دَارًا مَعَ مَا فِيهَا مِنَ الْمَتَاعِ لَمْ يَفْتَقِرْ قَبْضُ الْمَتَاعِ إِلَى تَحْوِيلِهِ مِنَ الدَّارِ ، وَكَانَ تَمْكِينُهُ مِنَ الدَّارِ قَبْضًا لِلدَّارِ ، وَلِمَا فِيهَا مِنَ الْمَتَاعِ ، فَلَوِ اسْتَعَارَ الْحِرْزَ وَلَمْ يَشْتَرِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَبْضًا وَلَوِ اسْتَأْجَرَهُ كَانَ فِيهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ قَبْضًا لِأَنَّهُ بِالْإِجَارَةِ قَدْ مَلَكَ الْمَنَافِعَ . وَالثَّانِي : لَا يَكُونُ ذَلِكَ قَبْضًا حَتَّى يُنْقَلَ لِأَنَّ مِلْكَ الْحِرْزِ لَمْ يَنْتَقِلْ .

فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ مُكَيَّلًا أَوْ مَوْزُونًا قَبْضُهُ يَتِمُّ بِشَيْئَيْنِ : أَحَدِهِمَا : كَيْلُ الْمُكَيَّلِ وَوَزْنُ الْمَوْزُونِ . وَالثَّانِي : النَّقْلُ وَالتَّحْوِيلُ . فَإِنْ نَقَلَهُ عَنْ مُكَيَّلٍ مِنْ غَيْرِ كَيْلٍ وَلَا وَزْنٍ صَارَ مِنْ ضَمَانِهِ لَكِنْ لَمْ يَتِمَّ الْقَبْضُ ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهُ حَتَّى يُكَالَ أَوْ يُوزَنَ ، وَإِنِ اكْتَالَهُ أَوْ وَزَنَهُ وَلَمْ يُحَوِّلْهُ لَمْ

يَتِمَّ الْقَبْضُ وَلَمْ يَصِرْ مَضْمُونًا عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ يَدِ بَائِعِهِ ، ثُمَّ لَا يَصِحُّ هَذَا الْقَبْضُ إِلَّا بِحُضُورِ الْبَائِعِ كَيْلَهُ أَوْ حُضُورِ وَكِيلِهِ فِيهِ ، وَحُضُورِ الْمُشْتَرِي لِاكْتِيَالِهِ أَوْ حُضُورِ وَكِيلِهِ فِيهِ ، وَحُضُورِ الْمُشْتَرِي سَوَاءٌ تَقَابَضَا الثَّمَنَ أَمْ لَا . فَلَوْ أَذِنَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَكْتَالَهُ لِنَفْسِهِ لَمْ يَصِحَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الْكَيْلِ مُقْبِضٌ مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ ، وَقَابِضٌ مِنْ جِهَةِ الْمُشْتَرِي ، وَيَكُونُ الْكَيَّالُ أَمِينًا يَرْضَيَانِ بِهِ ، فَلَوْ قَالَ الْبَائِعُ : أَنَا أَكِيلُهُ لِنَفْسِي ، لَمْ يَلْزَمِ الْمُشْتَرِي الرِّضَا بِهِ ، وَلَوْ قَالَ الْمُشْتَرِي : أَنَا أَكْتَالُهُ لِنَفْسِي ، لَمْ يَلْزَمِ الْبَائِعُ الرِّضَا بِهِ . فَإِنْ تَرَاضَيَا بِكَيَّالٍ وَإِلَّا نَصَبَ الْحَاكِمُ لَهُمَا كَيَّالًا أَمِينًا ، وَأُجْرَةُ الْكَيَّالِ وَاجِبَةٌ عَلَى الْبَائِعِ : لِأَنَّ الْكَيْلَ مِنْ حُقُوقِ التَّسْلِيمِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : أُجْرَةُ الَّذِي يَمْلَأُ الْقَفِيزَ عَلَى الْبَائِعِ ، وَأُجْرَةُ الَّذِي يُفْرِغُ عَلَى الْمُشْتَرِي . وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ : لِأَنَّ تَفْرِيغَ الْقَفِيزِ مِنْ تَمَامِ التَّسْلِيمِ ، فَأَمَّا أُجْرَةُ وَزَّانِ الثَّمَنِ فَلَازِمَةٌ لِلْمُشْتَرِي : لِأَنَّ وَزَّانَ الثَّمَنِ مِنْ حُقُوقِ التَّسْلِيمِ ، وَأَمَّا أُجْرَةُ نَاقِدِ الثَّمَنِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : عَلَى الْمُشْتَرِي أَيْضًا مَعَ أُجْرَةِ الْوَزَّانِ : لِأَنَّ النَّقْدَ مِنْ كَمَالِ التَّسْلِيمِ . وَالثَّانِي : عَلَى الْبَائِعِ : لِأَنَّهُ يَسْتَظْهِرُ بِذَلِكَ لِنَفْسِهِ . وَمَا اشْتُرِيَ كَيْلًا فَلَا يَتِمُّ قَبْضُهُ بِالْوَزْنِ ، وَكَذَا مَا اشْتُرِيَ وَزْنًا لَا يَتِمُّ قَبَضُهُ بِالْكَيْلِ ، وَلَوِ اشْتَرَى مِنْهُ بِمِكْيَالٍ فَاكْتَالَهُ بِغَيْرِ جِنْسِ ذَلِكَ الْمِكْيَالِ لَمْ يَجُزْ ، مِثْلَ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ مِائَةَ صَاعٍ مِنْ طَعَامٍ قَدِ اكْتَالَهُ بِالْقَفِيزِ لَمْ يَتِمَّ الْقَبْضُ ، كَمَا لَوْ قَبَضَ الْمُكَيَّلَ بِالْوَزْنِ ، وَلَكِنْ لَوِ اشْتَرَى مِنْهُ قَفِيزًا مِنْ طَعَامٍ فَاكْتَالَهُ مِنْهُ بِالْمُكَيَّلِ الَّذِي هُوَ رُبْعُ الْقَفِيزِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ . وَكَذَا لَوِ اكْتَالَ الصَّاعَ بِالْمُدِّ كَانَ عَلَى وَجْهَيْنِ ، فَأَمَّا الْمَعْدُودُ فَيَقْبِضُهُ بِالْعَدَدِ وَالتَّحْوِيلِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا مَا بَاعَهُ الْأَبُ لِنَفْسِهِ عَلَى ابْنِهِ الصَّغِيرِ بِحَقِّ وِلَايَتِهِ عَلَيْهِ قبض فَفِي كَيْفِيَّةِ قَبْضِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : بِالنَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ كَمَا ذَكَرْنَا . وَالثَّانِي : بِالنِّيَّةِ إِذَا كَانَ تَحْتَ قُدْرَتِهِ مِنْ غَيْرِ نَقْلٍ وَلَا تَحْوِيلٍ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُكَيَّلًا أَوْ مَوْزُونًا فَلَا بُدَّ مِنْ كَيْلِهِ أَوْ وَزْنِهِ . فَلَوْ أَرْسَلَ الْأَبُ عَبْدَهُ فِي حَاجَةٍ ثُمَّ بَاعَهُ عَلَى ابْنِهِ الصَّغِيرِ بِنَفْسِهِ ، فَتَلِفَ الْعَبْدُ قَبْلَ أَنْ يَعُودَ مِنَ الرِّسَالَةِ بَطَلَ الْبَيْعُ ، وَكَانَ تَالِفًا مِنْ مَالِ الْأَبِ ، وَسَقَطَ عَنِ الِابْنِ الثَّمَنُ : لِأَنَّهُ مَبِيعٌ تَلَفَ فِي يَدِ بَائِعِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ عَادَ إِلَى يَدِ الْوَالِدِ ، وَجَرَتْ عَلَيْهِ قُدْرَتُهُ ثُمَّ مَاتَ كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا ، وَكَانَ تَالِفًا مِنْ مَالِ الِابْنِ ، وَعَلَيْهِ جَمِيعُ الثَّمَنِ ، وَلَوْ عَادَ إِلَى يَدِ الْوَالِدِ بَعْدَ بُلُوغِ الِابْنِ رُشْدَهُ ، ثُمَّ مَاتَ بَطَلَ الْبَيْعُ ، وَكَانَ تَالِفًا مِنْ مَالِ الْأَبِ : لِأَنَّ الِابْنَ إِذَا بَلَغَ لَمْ يَصِحَّ الْقَبْضُ فِيمَا اشْتَرَى لَهُ إِلَّا بِنَفْسِهِ دُونَ أَبِيهِ ، وَإِنْ كَانَ أَبُوهُ قَدْ تَوَلَّى الْعَقْدَ . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : إِذَا كَانَ الْأَبُ قَدْ تَوَلَّى الْعَقْدَ فِي صِغَرِ ابْنِهِ ، صَحَّ أَنْ يَتَوَلَّى الْعَقْدَ بَعْدَ كِبَرِ ابْنِهِ . وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ تَوَلِّي الْأَبِ الْعَقْدَ وَالْقَبْضَ عَنِ ابْنِهِ إِنَّمَا يَصِحُّ لِتَعَذُّرِ ذَلِكَ مِنَ الِابْنِ بِالصِّغَرِ ، فَإِذَا كَبُرَ الِابْنُ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ مِنَ الْأَبِ : لِإِمْكَانِ ذَلِكَ مِنَ الِابْنِ بِالْكِبَرِ ، فَلَوْ كَانَ الْأَبُ حِينَ أَرْسَلَ عَبْدَهُ فِي حَاجَةٍ وَهَبَهُ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ ثُمَّ مَاتَ الْأَبُ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِ الْعَبْدُ ،

بَطَلَتِ الْهِبَةُ ، وَكَانَ الْعَبْدُ مِيرَاثًا بَيْنَ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ : لِفَوَاتِ الْقَبْضِ الَّذِي تَتِمُّ بِهِ الْهِبَةُ . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : يَكُونُ الْعَبْدُ لِلِابْنِ ، وَلَا يَفْتَقِدُ إِلَى قَبْضٍ بِخِلَافِ الْبَيْعِ ، وَأَنَّ الْبَيْعَ مَضْمُونٌ وَالْهِبَةُ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ ، أَلَّا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَهَبَ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ عَبْدًا آبِقًا جَازَ ، وَلَوْ بَاعَهُ عَبْدًا آبِقًا لَمْ يَجُزْ ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ : إِنَّمَا جَازَتْ هِبَةُ الْآبِقِ ، وَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ : لِأَنَّ الْإِبَاقَ غَرَرٌ يَجُوزُ فِي الْهِبَةِ ، وَلَا يَجُوزُ فِي الْبَيْعِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَمَنْ وَرِثَ طَعَامًا كَانَ لَهُ بَيْعُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ : لِأَنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى غَيْرِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، بَيْعُ الْمِيرَاثِ قَبْلَ قَبْضِهِ حكمه جَائِزٌ لِعِلَّتَيْنِ : إِحْدَاهُمَا : أَنَّ تَلَفَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يُبْطِلُ بِسَبَبِ مِلْكِهِ ، وَهُوَ الْمِيرَاثُ ، وَتَلَفُ الْمَبِيعِ قَبْلَ قَبْضِهِ يُبْطِلُ بِسَبَبِ مِلْكِهِ ، وَهُوَ الْبَيْعُ . وَالْعِلَّةُ الثَّانِيَةُ : أَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ ، إِنْ تَلَفَ قَبْلَ قَبْضِهِ ، وَلَيْسَ مَضْمُونًا عَلَى غَيْرِهِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا بَيْعُ الشَّيْءِ الْمُوصَى بِهِ حكمه فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَبُولِ لَمْ يَجُزْ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقَبُولِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ جَازَ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْعِلَّتَيْنِ فِي الْمِيرَاثِ لِاسْتِقْرَارِ الْمِلْكِ بِالْقَبُولِ .

فَصْلٌ الْقَوْلُ فِي بَيْعِ الْوَدِيعَةِ قَبْلَ اسْتِرْجَاعِهَا

فَصْلٌ : الْقَوْلُ فِي بَيْعِ الْوَدِيعَةِ قَبْلَ اسْتِرْجَاعِهَا وَأَمَّا بَيْعُ الْوَدِيعَةِ قَبْلَ اسْتِرْجَاعِهَا بِالْقَبْضِ فَجَائِزٌ مِنَ الْمُودِعِ وَغَيْرِهِ ، فَمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ ، لَكِنْ إِنْ بَاعَهَا مِنَ الْمُودِعِ ، فَهَلْ يُعْتَبَرُ فِي قَبْضِهَا النَّقْلُ وَالتَّحْوِيلُ أَمْ لَا ، عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُعْتَبَرُ فِيهَا النَّقْلَ : لِأَنَّهَا فِي قَبْضِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَصِحُّ قَبْضُهَا إِلَّا بِالنَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ : لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي قَبْضَةِ الْمَالِكِ ، وَهُوَ إِنَّمَا يَقْبِضُهَا لِنَفْسِهِ بِالْبَيْعِ ، فَأَمَّا إِذْنُ الْبَائِعِ لَهُ فِي الْقَبْضِ ، فَإِنْ كَانَ قَدْ دَفَعَ الثَّمَنَ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى إِذْنِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَدْفَعِ الثَّمَنَ فَلَا بُدَّ مِنْ إِذْنِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ الْقَوْلُ فِي بَيْعِ الْعَارِيَةِ قَبْلَ اسْتِرْجَاعِهَا

فَصْلٌ : الْقَوْلُ فِي بَيْعِ الْعَارِيَةِ قَبْلَ اسْتِرْجَاعِهَا وَأَمَّا بَيْعُ الْعَارِيَةِ قَبْلَ اسْتِرْجَاعِهَا فَجَائِزٌ لِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ ، وَذَلِكَ أَنَّ تَلَفَهَا قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يُبْطِلُ سَبَبَ الْمِلْكِ ، وَلَا يَكُونُ ضَمَانُهَا عَلَى الْمُسْتَعِيرِ مَانِعًا مِنْ جَوَازِ الْبَيْعِ ، كَمَا لَا يَكُونُ ضَمَانُهَا بِالسَّوْمِ مَانِعًا مِنْ جَوَازِ الْبَيْعِ ، فَإِنْ بِيعَتْ عَلَى غَيْرِ الْمُسْتَعِيرِ كَانَ قَبْضُهَا مَوْقُوفًا عَلَى إِذْنِ الْبَائِعِ سَوَاءٌ قَبَضَ الثَّمَنَ أَمْ لَا وَيَكُونُ الْإِذْنُ مُسْقِطًا لِضَمَانِ الْمُسْتَعِيرِ ، فَإِنْ قَبَضَهَا الْمُشْتَرِي مِنَ الْمُسْتَعِيرِ بِغَيْرِ إِذْنِ الْبَائِعِ الْمُعِيرِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الثَّمَنُ مَقْبُوضًا لَمْ يَصِحَّ الْقَبْضُ فِي الْبَيْعِ : لِعَدَمِ الْإِذْنِ ، وَضَمِنَهَا الْمُشْتَرِي بِالْيَدِ وَضَمِنَهَا الْمُسْتَعِيرُ بِالدَّفْعِ ، وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ مَقْبُوضًا صَحَّ الْقَبْضُ فِي الْبَيْعِ . وَهَلْ يَسْقُطُ ضَمَانُهَا عَنِ الْمُسْتَعِيرِ عَلَى وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : لَا يَسْقُطُ عَنْهُ ضَمَانُهَا : لِأَنَّهُ دَفَعَهَا مِنْ غَيْرِ إِذْنِ مَالِكِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : قَدْ سَقَطَ عَنْهُ الضَّمَانُ : لِزَوَالِ مِلْكِ الْمُعِيرِ عَنْهَا وَحُصُولِهَا فِي يَدِ مَالِكِهَا ، فَلَوِ ابْتَاعَهَا الْمُسْتَعِيرُ صَحَّ الْبَيْعُ . وَهَلْ يَفْتَقِرُ قَبْضُهَا إِلَى النَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ فِي الْوَدِيعَةِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا بَيْعُ الْمَغْصُوبِ قَبْلَ اسْتِرْجَاعِهِ ، فَإِنْ بِيعَ عَلَى غَاصِبِهِ جَازَ : لِأَنَّهُ فِي قَبْضَتِهِ وَتَحْتَ قُدْرَتِهِ ، وَهَلْ يَحْتَاجُ فِي قَبْضِهِ عَنِ الْبَيْعِ إِلَى النَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ ، وَإِنْ بِيعَ عَلَى غَيْرِ غَاصِبِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْبَائِعُ قَادِرًا عَلَى انْتِزَاعِهِ مِنْ غَاصِبِهِ ، وَلَا الْمُشْتَرِي أَيْضًا قَادِرًا عَلَى قَبْضِهِ ، فَبَيْعُهُ بَاطِلٌ كَالْعَبْدِ الْآبِقِ فَتَعَذَّرَ قَبْضُهُ ، فَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ قَادِرًا عَلَى انْتِزَاعِهِ صَحَّ الْبَيْعُ ، وَعَلَيْهِ انْتِزَاعُهُ مِنْ يَدِ غَاصِبِهِ وَإِقْبَاضِهِ لِلْمُشْتَرِي ، وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى انْتِزَاعِهِ ، لَكِنَّ الْمُشْتَرِيَ قَادِرٌ عَلَى أَخْذِهِ وَانْتِزَاعِهِ صَحَّ الْبَيْعُ أَيْضًا ، فَإِنِ انْتَزَعَهُ ثَبَتَ الْبَيْعُ وَاسْتَقَرَّ الْمِلْكُ ، وَلَوْ قَالَ الْمُشْتَرِي : لَسْتُ أَقْدِرُ عَلَى انْتِزَاعِهِ لَمْ يَبْطُلِ الْبَيْعُ ، لَكِنْ يَكُونُ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ : لِأَنَّ ذَلِكَ عَيْبٌ ، فَإِنِ ادَّعَى الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى انْتِزَاعِهِ وَجَبَ عَلَى الْمُشْتَرِي الثَّمَنُ وَلَهُ الْفَسْخُ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا بَيْعُ مَا مُلِكَ بِالصُّلْحِ قَبْلَ قَبْضِهِ ، فَإِنْ كَانَ صُلْحًا يَجْرِي مَجْرَى الْإِبْرَاءِ ، جَازَ مِنَ الْمَصَالِحِ وَإِنْ كَانَ فِي مَعْنَى بَيْعِ الدَّيْنِ بِالْعَيْنِ ، لَمْ يَجُزْ مِنْ غَيْرِهِ : لِأَنَّهُ بَيْعُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ ، فَإِنْ كَانَ صُلْحًا يَجْرِي مَجْرَى الْبَيْعِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ مِنَ الْمَصَالِحِ وَلَا غَيْرِهِ كَالْبَيْعِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا بَيْعُ مَا مُلِكَ بِالْخُلْعِ وَالصَّدَاقِ قَبْلَ قَبْضِهِ ، فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي تَلَفِ ذَلِكَ قَبْلَ قَبْضِهِ ، هَلْ يُوجِبُ الرُّجُوعَ بِقِيمَتِهِ أَوْ بِمَهْرٍ ؟ فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ : يُوجِبُ الرُّجُوعَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ كَالْبَيْعِ : لِأَنَّ تَلَفَهُ يُبْطِلُ سَبَبَ مِلْكِهِ . وَالثَّانِي : يُوجِبُ الرُّجُوعَ بِقِيمَتِهِ ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ : لِأَنَّ سَبَبَ مِلْكِهِ لَا يَبْطُلُ بِتَلَفِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَوْ أَسْلَمَ فِي طَعَامٍ ، وَبَاعَ طَعَامًا آخَرَ فَأَحْضَرَ الْمُشْتَرِي مَنِ اكْتَالَهُ مِنْ بَائِعِهِ وَقَالَ أَكْتَالُهُ لَكَ ، لَمْ يَجُزْ : لِأَنَّهُ بَيْعُ الطَّعَامِ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صُورَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : فَقَالَ بَعْضُهُمْ : صُورَتُهَا فِي رَجُلٍ أَسْلَمَ فِي طَعَامٍ إِلَى رَجُلٍ فَلَمَّا حَلَّ الطَّعَامُ بَاعَهُ عَلَى آخَرَ قَبْلَ قَبْضِهِ ، فَهَذَا بَيْعٌ بَاطِلٌ : لِرِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ " .

وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ صُورَتُهَا فِي رَجُلٍ أَسْلَمَ إِلَى رَجُلٍ فِي طَعَامٍ إِلَى أَجَلٍ وَأَسْلَمَ إِلَيْهِ غَيْرَهُ فِي طَعَامٍ إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ الْأَجَلِ ، فَحَلَّ الطَّعَامُ الَّذِي لَهُ وَحَلَّ الطَّعَامُ الَّذِي عَلَيْهِ ، فَقَالَ لِمَنْ لَهُ عَلَيْهِ الطَّعَامُ : احْضَرْ مَعِي إِلَى مَنْ لِي عَلَيْهِ الطَّعَامُ حَتَّى أَكْتَالَهُ لَكَ مِنْهُ وَأَقْبِضَهُ ، لَمْ يَجُزْ : لِرِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ الصَّاعَانِ " وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ سِيرِينَ مُسْنَدًا عَنْ أَنَسٍ ، وَمَعْنَى الصَّاعَيْنِ صَاعُ الْبَائِعِ وَصَاعُ الْمُشْتَرِي : وَلِأَنَّهُمَا عَقْدَانِ يَفْتَقِرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى قَبْضٍ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْقَبْضُ الْوَاحِدُ نَايِبًا عَنِ الْعَقْدَيْنِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْقَبْضُ نَايِبًا عَمَّا ابْتَاعَهُ وَلَا يَنُوبُ عَمَّا بَاعَهُ حَتَّى يَسْتَأْنِفَ كَيْلَهُ عَلَيْهِ ، فَإِنْ تَسَلَّمَهُ الْمُشْتَرِي مِنْهُ بِذَلِكَ الْكَيْلِ صَارَ مِنْ ضَمَانِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْقَبْضُ فَاسِدًا : فَإِنْ زَادَ الطَّعَامُ بِالْكَيْلِ الثَّانِي كَانَتِ الزِّيَادَةُ لَهُ ، وَإِنْ نَقَصَ كَانَ النُّقْصَانُ عَلَيْهِ إِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ بَيْنَ الْكَيْلَيْنِ .

مَسْأَلَةٌ إِجْرَاءُ الْكَيْلَيْنِ فِي السَّلَمِ

مَسْأَلَةٌ : إِجْرَاءُ الْكَيْلَيْنِ فِي السَّلَمِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " فَإِنْ قَالَ : أَكْتَالُهُ لِنَفْسِي وَخُذْهُ بِالْكَيْلِ الَّذِي حَضَرْتَهُ لَمْ يَجُزْ : لِأَنَّهُ بَاعَ كَيْلًا فَلَا يَبْرَأُ حَتَّى يَكِيلَهُ لِمُشْتَرِيهِ وَيَكُونَ لَهُ زَيَادَتُهُ وَعَلَيْهِ نُقْصَانُهُ وَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى تَجْرِيَ فِيهِ الصِّيعَانُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ لَهُ طَعَامٌ مِنْ سَلَمٍ ، وَحَلَّ عَلَيْهِ طَعَامٌ مِنْ سَلَمٍ ، فَقَالَ لِمَنْ لَهُ عَلَيْهِ الطَّعَامُ : احْضَرْ مَعِي عِنْدَ مَنْ لِي عَلَيْهِ الطَّعَامُ حَتَّى أَكَتَالَهُ لِنَفْسِي ، ثُمَّ تَأْخُذُهُ بِذَلِكَ الْكَيْلِ ، فَفَعَلَ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْخُذَهُ بِذَلِكَ الْكَيْلِ حَتَّى يَسْتَأْنِفَ عَلَيْهِ كَيْلَهُ ثَانِيَةً : لِأَنَّ ذَلِكَ الْكَيْلَ عَنْ عَقْدٍ أَوَّلٍ ، فَلَا بُدَّ مِنَ اسْتِيثَاقِ كَيْلٍ عَنْ عَقْدٍ ثَانٍ ، فَإِنْ قَبَضَهُ بِذَلِكَ الْكَيْلِ كَانَ قَبْضًا فَاسِدًا ، وَيَسْتَأْنِفَانِ كَيْلَهُ ، فَإِنْ زَادَ فَالزِّيَادَةُ لِمَنْ عَلَيْهِ الطَّعَامُ لَا يَرُدُّهَا عَلَى الْأَوَّلِ إِذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ مِثْلُهَا بَيْنَ الْكَيْلَيْنِ ، فَإِنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مِثْلُهَا بَيْنَ الْكَيْلَيْنِ لِكَثْرَتِهَا ، لَزِمَهُ رَدُّهَا عَلَى الْأَوَّلِ لِعِلْمِنَا بِأَنَّهَا غَلَطٌ عَلَيْهِ ، وَإِنْ نَقَصَ فَالنُّقْصَانُ عَلَيْهِ وَلَا يُرَاجِعُ بِهِ عَلَى الْأَوَّلِ إِذَا كَانَ مِثْلُ النُّقْصَانِ مُحْتَمَلًا ، وَإِنْ كَانَ نُقْصَانُهَا لَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِثْلُهُ بَيْنَ الْكَيْلَيْنِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الْأَوَّلِ : لِاسْتِيفَاءِ ذَلِكَ مِنْهُ بِالْكَيْلِ ، فَإِنْ كَانَ الْقَابِضُ الثَّانِي حَاضِرًا لِلْكَيْلِ لَمْ يَقْبَلْ مِنْ هَذَا النُّقْصَانِ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُهُ الْكَيْلَانِ ، وَإِنْ كَانَ غَايِبًا قَبِلَ مِنْهُ وَرَجَعَ النُّقْصَانُ ، فَإِنِ اتُّهِمَ أُحْلِفَ ، فَلَوْ كَانَ الطَّعَامُ الَّذِي قَدِ ابْتَاعَهُ صَاعًا وَاحِدًا وَالطَّعَامُ الَّذِي قَدْ بَاعَهُ صَاعًا وَاحِدًا فَاكْتَالَ الصَّاعَ الَّذِي قَدِ ابْتَاعَهُ ثُمَّ سَلَّمَهُ فِي صَاعِهِ مُكَيَّلًا إِلَى مَنْ بَاعَهُ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ حَتَّى يُفْرِغَهُ مِنَ الصَّاعِ ثُمَّ يَسْتَأْنِفَ كَيْلَهُ ثَانِيَةً كَمَا اكْتَالَهُ لِنَفْسِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجُوزُ إِذَا سَلَّمَهُ مُكَيَّلًا فِي صَاعِهِ : لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْكَيْلِ مَعْرِفَةُ قَدْرِهِ بِالْمِكْيَالِ ، فَإِذَا كَانَ فِي الْمِكْيَالِ صَارَ مِقْدَارٌ بِهِ وَلَمْ يَلْزَمْهُ تَفْرِيقُهُ وَاسْتِئْنَافُ كَيْلِهِ وَهَذَا أَصَحُّ .



فَصْلٌ : فَلَوْ حَلَّ لَهُ طَعَامٌ مِنْ سَلَمٍ وَحَلَّ عَلَيْهِ طَعَامٌ مِنْ سَلَمٍ ، فَقَالَ لِمَنْ لَهُ الطَّعَامُ : اقْبِضْ مِمَّنْ لِي عَلَيْهِ الطَّعَامَ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَقُولَ اقْبِضْهُ لِي ثُمَّ خُذْهُ لِنَفْسِكَ بِذَلِكَ الْكَيْلِ فَيَكُونُ الْقَبْضُ لَهُ صَحِيحًا ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَهُ الْقَابِضُ لِنَفْسِهِ بِذَلِكَ الْكَيْلِ حَتَّى يَسْتَأْنِفَ كَيْلَهُ عَلَيْهِ ، وَيَكُونُ لَهُ زِيَادَتُهُ الْمُحْتَمَلَةُ ، وَعَلَيْهِ نُقْصَانُهُ الْمُحْتَمَلُ ، ثُمَّ هُوَ قَبْلَ اسْتِيثَاقِ كَيْلِهِ مَضْمُونٌ عَلَى قَابِضِهِ : لِأَنَّهُ أَخَذَهُ لِنَفْسِهِ عَنْ قَبْضٍ فَاسِدٍ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَقُولَ اقْبِضْ مِمَّنْ لِي عَلَيْهِ الطَّعَامُ لِنَفْسِكَ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَقْبُوضًا لِهَذَا الَّذِي اكْتَالَهُ لِنَفْسِهِ . وَهَلْ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَقْبُوضًا لِلْأَوَّلِ حَتَّى تَبْرَأَ مِنْهُ ذِمَّةُ مَنْ كَانَ الطَّعَامُ عَلَيْهِ : عَلَى وَجْهَيْنِ خَرَّجَهُمَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَحَدُهُمَا : يَصِحُّ الْقَبْضُ الْأَوَّلُ وَتَبْرَأُ مِنْهُ ذِمَّةُ مَنْ كَانَ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ عَنْ إِذْنِ مُسْتَحَقِّهِ وَيَكُونُ الْقَبْضُ الثَّانِي فَاسِدًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ كِلَا الْقَبْضَيْنِ فَاسِدٌ : لِأَنَّ الْقَبْضَ لَمْ يَكُنْ لِمُسْتَحَقِّهِ ، لَكِنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَى الْآخَرِ : لِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ عَنْ إِذْنِهِ وَمَضْمُونٌ عَلَى قَابِضِهِ : لِأَنَّهُ قَدْ أَخَذَهُ مِنْ حَقِّهِ أَوْ يَسْتَأْنِفَانِ كَيْلَيْنِ كَيْلًا لِلْأَوَّلِ ، وَكَيْلًا لِلثَّانِي فَمَا زَادَ بِالْكَيْلِ الْأَوَّلِ أَوْ نَقَصَ ، فَفِي حَقِّ الدَّافِعِ وَمَا زَادَ بِالْكَيْلِ فِي الثَّانِي أَوْ نَقَصَ ، فَفِي حَقِّ الْآمِرِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَا يَقْبِضُ الَّذِي لَهُ طَعَامٌ مِنْ طَعَامٍ يَشْتَرِيهِ لِنَفْسِهِ : لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ وَكِيلًا لِنَفْسِهِ مُسْتَوْفِيًا لَهَا قَابِضًا مِنْهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُصَوَّرَةٌ فِيمَنْ حَلَّ عَلَيْهِ طَعَامٌ مِنْ سَلَمٍ فَدَفَعَ إِلَى مَنْ لَهُ عَلَيْهِ الطَّعَامُ دَرَاهِمَ لِيَشْتَرِيَ بِهَا طَعَامًا ، فَلَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ دَافِعُ الدَّرَاهِمِ قَدْ أَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا طَعَامًا لِنَفْسِهِ وَيَقْبِضَهُ لِنَفْسِهِ - أَعْنِي لِدَافِعِ الدَّرَاهِمِ - ثُمَّ يَأْخُذُ بِالْكَيْلِ الَّذِي قَدِ اكْتَالَهُ ، فَهَذَا الشَّرْطُ جَائِزٌ ، وَالْقَبْضُ صَحِيحٌ لِلدَّافِعِ : لِأَنَّهُ ابْتَاعَ وَقَبَضَ عَنْ وِكَالَةٍ صَحِيحَةٍ ، وَلَا يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَأْخُذَ ذَلِكَ الطَّعَامَ لِنَفْسِهِ بِالْكَيْلِ الْأَوَّلِ حَتَّى يَسْتَأْنِفَ دَافِعُ الدَّرَاهِمِ كَيْلَهُ عَلَيْهِ ، فَإِنْ أَخَذَهُ بِذَلِكَ الْكَيْلِ صَارَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِقَبْضٍ فَاسِدٍ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَأْمُرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ الطَّعَامَ لِنَفْسِهِ - أَعْنِي لِدَافِعِ الدَّرَاهِمِ - وَيَقْبِضُهُ الْوَكِيلُ لِنَفْسِهِ بَدَلًا مِنْ طَعَامِهِ فَالشِّرَاءُ جَائِزٌ أَيْضًا لِلدَّافِعِ الْمُوَكِّلِ ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَقْبِضَهُ الْوَكِيلُ لِنَفْسِهِ ، وَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ مَقْبُوضًا لِلدَّافِعِ الْمُوَكِّلِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ . وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَأْمُرَهُ بِالشِّرَاءِ لِيَكُونَ الشِّرَاءُ لِلْوَكِيلِ حَتَّى يَشْتَرِيَهُ لِنَفْسِهِ بَدَلًا مِنْ طَعَامِهِ ، فَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ : لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَشْتَرِيَ شَيْئًا لِنَفْسِهِ بِمَالِ غَيْرِهِ ، فَإِذَا اشْتَرَى الْوَكِيلُ بِتِلْكَ

الدَّرَاهِمِ طَعَامًا نُظِرَ : فَإِنْ كَانَ قَدِ اشْتَرَاهُ بِعَيْنِ الْمَالِ كَانَ الشِّرَاءُ بَاطِلًا ، وَإِنْ كَانَ قَدِ اشْتَرَاهُ فِي ذِمَّتِهِ وَنَقَدَ الدَّرَاهِمَ فِي ثَمَنِهِ كَانَ الشِّرَاءُ صَحِيحًا ، وَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا نَقَدَهُ مِنَ الدَّرَاهِمِ فِي ثَمَنِهِ وَطَعَامُهُ بَاقٍ فِي ذِمَّةِ دَافِعِ الدَّرَاهِمِ .

فَصْلٌ : فَلَوْ قَالَ مَنْ عَلَيْهِ الطَّعَامُ لِمَنْ لَهُ الطَّعَامُ : اخْتَرْ طَعَامًا اشْتَرِهِ لَكَ لِتَأْخُذَهُ مِنْ حَقِّكَ فَاخْتَارَهُ صُبْرَةَ طَعَامٍ فَاشْتَرَاهَا لَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهَا إِنْ كَانَتْ أَنْقَصَ مِنْ حَقِّهِ ، وَلَا يَلْزَمُ مَنْ عَلَيْهِ الطَّعَامُ أَنْ يُعْطِيَهُ تِلْكَ الصُّبْرَةَ بِعَيْنِهَا وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ حَقِّهِ .

فَصْلٌ : فَلَوْ قَالَ مَنْ لَهُ الطَّعَامُ لِمَنْ عَلَيْهِ الطَّعَامُ : اقْضِ عَلَى طَعَامِي أَنْ أَبِيعَكَ إِيَّاهُ فَقَضَاهُ بِهَذَا الشَّرْطِ مِثْلَ طَعَامِهِ أَوْ دُونَهُ جَازَ ، وَلَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ : لِأَنَّ الْقَضَاءَ لَيْسَ بِعَقْدٍ فَيَفْسُدُ بِالشَّرْطِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ بَيْعُهُ عَلَيْهِ : لِأَنَّ هَذَا مَوْعِدٌ وَعَدَهُ إِيَّاهُ ، فَلَوْ كَانَ أَعْطَاهُ خَيْرًا مِنْ طَعَامِهِ لَمْ يَجُزْ : لِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ غَيْرُ لَازِمٍ قَدْ أَخَذَ عَلَيْهِ فَضْلًا ، وَعَلَيْهِ رَدُّهُ وَالْمُطَالَبَةُ بِمِثْلِ طَعَامِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَوْ حَلَّ لَهُ عَلَيْهِ طَعَامٌ فَأَحَالَ بِهِ عَلَى رَجُلٍ لَهُ عَلَيْهِ طَعَامُ أَسْلَفَهُ إِيَّاهُ ، لَمْ يَجُزْ مِنْ قِبَلِ أَنَّ أَصْلَ مَا كَانَ لَهُ بَيْعٌ ، وَإِحَالَتَهُ بِهِ بَيْعٌ مِنْهُ لَهُ بِطَعَامٍ عَلَى غَيْرِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا : فِي رَجُلٍ أَقْرَضَ رَجُلًا طَعَامًا ، وَهِيَ مَعْنَى قَوْلِهِ أَسْلَفَهُ إِيَّاهُ : لِأَنَّ الْقَرْضَ بِلُغَةِ الْحِجَازِ يُسَمَّى سَلَفًا ، ثُمَّ إِنَّ الْمُقْرِضَ حُمِلَ عَلَيْهِ طَعَامٌ قَدْ حَلَّ مِنْ سَلَمٍ ، فَأَحَالَ مَنْ لَهُ عَلَيْهِ الطَّعَامُ مِنْ سَلَمٍ عَلَى مَنْ لَهُ عَلَيْهِ الطَّعَامُ مِنْ قَرْضٍ ، فَهَذَا بَاطِلٌ : لِأَنَّ الْحِوَالَةَ بَيْعٌ ، فَكَانَ مُسْتَحِقُّ الطَّعَامِ مِنْ سَلَمٍ قَدْ بَاعَ طَعَامَهُ قَبْلَ قَبْضِهِ بِمَا يَأْخُذُهُ بِالْحِوَالَةِ مِنْ طَعَامِ الْقَرْضِ ، وَكَذَا لَوْ كَانَ كِلَا الطَّعَامَيْنِ مِنْ سَلَمٍ هُوَ بَاطِلٌ مِنَ الْوَجْهَيْنِ مَعًا : لَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَائِعٌ طَعَامَهُ قَبْلَ قَبْضِهِ ، وَلَكِنْ لَوْ كَانَ الطَّعَامَانِ مَعًا قَرْضًا كَانَ فِيهِ وَجْهَانِ مِنْ بَيْعِ الْقَرْضِ قَبْلَ قَبْضِهِ عَلَى غَيْرِ مَقْبُوضِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَوْ أَعْطَاهُ طَعَامًا فَصَدَقَهُ فِي كَيْلِهِ لَمْ يَجُزْ فَإِنْ قَبَضَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَابِضِ مَعَ يَمِينِهِ فِيمَا وُجِدَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا حَلَّ لَهُ عَلَى رَجُلٍ طَعَامٌ مِنْ سَلَمٍ ، فَدَفَعَ مَنْ عَلَيْهِ الطَّعَامُ إِلَيْهِ طَعَامًا وَقَالَ : هَذَا مَكِيلٌ بِقَدْرِ حَقِّكَ ، فَقَبَضَهُ مِنْهُ وَصَدَّقَهُ عَلَى كَيْلِهِ ، كَانَ هَذَا الْقَبْضُ فَاسِدًا : لِأَنَّ كَيْلَهُ مُسْتَحَقٌّ لِاسْتِقْرَارِ الْمِلْكِ ، وَقَدْ صَارَ مِنْ ضَمَانِهِ بِهَذَا الْقَبْضِ : لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بَدَلًا مِنْ حَقِّهِ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهُ قَبْلَ كَيْلِهِ ، فَإِنْ بَاعَهُ أَوْ بَعْضَهُ قَبْلَ الْكَيْلِ كَانَ بَيْعُهُ بَاطِلًا : لِأَنَّ الْمَبِيعَ إِذَا لَمْ يَتِمَّ قَبْضُهُ ، لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ وَعَلَيْهِمَا اسْتِئْنَافُ كَيْلِهِ ، فَإِنْ وُجِدَ زَائِدًا رُدَّتِ الزِّيَادَةُ عَلَى صَاحِبِ الطَّعَامِ ، وَإِنْ وُجِدَ نَاقِصًا رَجَعَ عَلَيْهِ بِالنُّقْصَانِ سَوَاءٌ كَانَ النُّقْصَانُ قَلِيلًا مُحْتَمَلًا أَوْ كَثِيرًا غَيْرَ

مُحْتَمَلٍ : لِأَنَّ قَابِضَ الطَّعَامِ لَمْ يَحْضُرْ كَيْلَهُ ، فَلَوِ اسْتَهْلَكَ الطَّعَامَ قَبْلَ كَيْلِهِ رَجَعَ إِلَى قَوْلِهِ فِي قَدْرِ مَا اسْتَهْلَكَ ، وَبَرِئَ مِنْهُ مَنْ عَلَيْهِ الطَّعَامُ : لِأَنَّ قَبْضَهُ كَانَ مِنْ حَقِّهِ ، فَإِنِ ادَّعَى نُقْصَانًا قَبْلَ قَوْلِهِ فِيهِ مَعَ يَمِينِهِ إِنْ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَيْهِ وَرَجَعَ بِهِ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ الطَّعَامُ .

فَصْلٌ : فَلَوْ كَانَ الطَّعَامُ مِنْ قَرْضٍ فَصَدَقَ الدَّافِعُ فِي كَيْلِهِ ، لَمْ يَجُزْ : لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِي كَيْلِهِ ، فَيَكُونُ قَدِ اسْتَوْفَى حَقَّهُ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا ، فَلَا يَكُونُ مُسْتَوْفِيًا لِحَقِّهِ . وَإِنْ بَاعَهُ قَبْلَ كَيْلِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ كَمَا لَوْ كَانَ الطَّعَامُ مُسْتَحَقًّا عَنْ بَيْعٍ . وَالثَّانِي : يَجُوزُ : لِأَنَّ مِلْكَ الْقَرْضِ مُسْتَقِرٌّ بِخِلَافِ الْبَيْعِ ، وَهَذَا أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي " الْأُمِّ " .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَوْ كَانَ الطَّعَامُ سَلَفًا جَازَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ مَا شَاءَ يَدًا بِيَدٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا أَقْرَضَ رَجُلٌ طَعَامًا لِرَجُلٍ جَازَ لِلْمُقْرِضِ أَنْ يَبِيعَ ذَلِكَ الطَّعَامَ عَلَى الْمُسْتَقْرِضِ قَبْلَ قَبْضِهِ : لِاسْتِقْرَارِ مِلْكِ الْمُقْرِضِ عَلَى مَا أَقْرَضَ ، بِخِلَافِ الْمَبِيعِ الَّذِي لَا يَسْتَقِرُّ مِلْكُ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، فَإِنْ بَاعَهُ عَلَيْهِ مِمَّا يُدْخِلُهُ الرِّبَا بِتِلْكَ الْعِلَّةِ ، وَجَبَ أَنْ يَتَقَابَضَا الثَّمَنَ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ مِثْلَ أَنْ يَبِيعَهُ الطَّعَامَ الَّذِي أَقْرَضَهُ بِشَعِيرٍ أَوْ بِذُرَةٍ ، فَلَا بُدَّ مِنْ قَبْضِهِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ لِأَجْلِ الرِّبَا ، وَإِنِ افْتَرَقَا قَبْلَ الْقَبْضِ كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا ، وَإِنْ بَاعَهُ بِثَوْبٍ أَوْ عَبْدٍ أَوْ بِدَرَاهِمَ أَوْ بِدَنَانِيرَ فَفِي جَوَازِ افْتِرَاقِهِمَا قَبْلَ الْقَبْضِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ : لِانْتِفَاءِ الرِّبَا عَنْهُ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ . وَالثَّانِي : لَا يَجُوزُ : لِأَنَّهُ يَصِيرُ فِي مَعْنَى بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ ، فَأَمَّا إِنْ أَرَادَ مُقْرِضُ الطَّعَامِ أَنْ يَبِيعَهُ قَبْلَ قَبْضِهِ عَلَى أَجْنَبِيٍّ غَيْرِ الْمُسْتَقْرِضِ ، فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ : أَخْرَجَهُمَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ . أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ كَمَا يَجُوزُ بَيْعُهُ عَلَى الْمُسْتَقْرِضِ . وَالثَّانِي : لَا يَجُوزُ : لِأَنَّهُ بَيْعُ مَا لَمْ يُقْبَضْ .

فَصْلٌ : وَإِذَا أَقْرَضَهُ طَعَامًا بِالْبَصْرَةِ ثُمَّ رَآهُ بِبَغْدَادَ فَطَالَبَهُ بِمِثْلِ طَعَامِهِ بِبَغْدَادَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُ ، وَقِيلَ : لَكَ الْمُطَالَبَةُ بِمِثْلِ طَعَامِكَ حَيْثُ أَقْرَضْتَهُ بِالْبَصْرَةِ ، فَإِنْ طَالَبَهُ بِبَغْدَادَ بِقِيمَةِ الطَّعَامِ لَزِمَ الْمُسْتَقْرِضُ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ بِبَغْدَادَ قَدْرَ قِيمَةِ الطَّعَامِ بِالْبَصْرَةِ زَائِدًا كَانَ أَوْ نَاقِصًا ، وَلَوْ أَنَّ الْمُسْتَقْرِضَ سَأَلَ الْمُقْرِضَ حَيْثُ رَآهُ بِبَغْدَادَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ الطَّعَامَ بِمَا لَمْ يَلْزَمِ الْمُقْرِضُ أَنْ يَأْخُذَهُ هُنَاكَ : لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ قَبْضَهُ بِالْبَصْرَةِ ، وَلَوْ قَالَ لَهُ : خُذْ مِنِّي قِيمَةَ الطَّعَامِ لَمْ يَلْزَمْهُ أَخْذُهَا : لِأَنَّ

حَقَّهُ فِي غَيْرِهَا ، وَلَوْ غَصَبَ رَجُلٌ طَعَامًا بِالْبَصْرَةِ وَاسْتَهْلَكَهُ ، ثُمَّ رَآهُ مَالِكُهُ بِبَغْدَادَ فَطَالَبَهُ بِطَعَامِهِ ، فَإِنْ كَانَ الْغَاصِبُ قَدِ اسْتَهْلَكَ الطَّعَامَ بِالْبَصْرَةِ ، لَمْ يَكُنْ لِرَبِّ الطَّعَامِ مُطَالَبَتُهُ بِمِثْلِ مِكْيَلَتِهِ بِبَغْدَادَ كَالْقَرْضِ ، وَقِيلَ : إِمَّا أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ مِثْلَ طَعَامِكَ بِالْبَصْرَةِ ، أَوْ تَأْخُذَ مِنْهُ بِبَغْدَادَ قِيمَةَ طَعَامِكَ بِالْبَصْرَةِ ، وَإِنْ كَانَ الْغَاصِبُ قَدِ اسْتَهْلَكَ الطَّعَامَ بِبَغْدَادَ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى مَالِكِهِ مِثْلَ طَعَامِهِ بِبَغْدَادَ : لِأَنَّ الْغَاصِبَ يَضْمَنُ مِثْلَ مَا غَصَبَهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي قَدِ اسْتَهْلَكَهُ ، فَلَوْ قَالَ صَاحِبُ الطَّعَامِ لِلْغَاصِبِ حِينَ رَآهُ بِبَغْدَادَ : أُرِيدُ قِيمَةَ الطَّعَامِ ، لَمْ يَلْزَمِ الْغَاصِبُ ذَلِكَ : لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْمِثْلِ فَلَا يَصِحُّ الْعُدُولُ إِلَى الْقِيمَةِ إِلَّا بِالْمُرَاضَاةِ ، فَلَمَّا قَالَ صَاحِبُ الطَّعَامِ لِلْغَاصِبِ : لَسْتُ أَقْبِضُ مِنْكَ طَعَامِي بِبَغْدَادَ وَأُرِيدُ مِثْلَهُ بِالْبَصْرَةِ ، كَانَ ذَلِكَ لَهُ : لِأَنَّهُ مَغْصُوبٌ مِنْهُ بِالْبَصْرَةِ فَيَصِيرُ مَالِكُ الطَّعَامِ إِذَا غُصِبَ مِنْهُ بِالْبَصْرَةِ وَاسْتُهْلِكَ بِبَغْدَادَ مُخَيَّرًا بَيْنَ مُطَالَبَةِ الْغَاصِبِ بِمِثْلِ طَعَامِهِ بِالْبَصْرَةِ : لِأَنَّهُ مَوْضِعُ غَصْبِهِ ، وَمِنْ مُطَالَبَتِهِ بِمِثْلِ طَعَامِهِ بِبَغْدَادَ : لِأَنَّهُ مَوْضِعُ اسْتِهْلَاكِهِ ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ كَانَ الْغَصْبُ مُخَالِفًا لِلْقَرْضِ ، فَأَمَّا إِذَا أَسْلَمَ فِي طَعَامِهِ بِالْبَصْرَةِ ثُمَّ رَأَى مَنْ عَلَيْهِ الطَّعَامُ بِبَغْدَادَ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِطَعَامِهِ بِبَغْدَادَ : لِأَنَّهُ غَيْرُ مَوْضِعِ اسْتِحْقَاقِهِ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُمَا دَفْعُ قِيمَتِهِ : لِأَنَّهُ بَيْعُ الْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا أَسْلَمَ إِلَى رَجُلٍ فِي طَعَامٍ فَحَلَّ الطَّعَامُ ، فَقَالَ مَنْ عَلَيْهِ الطَّعَامُ لِمَنْ لَهُ الطَّعَامُ يَعْنِي طَعَامًا مِثْلَ طَعَامِكَ لَأَقْضِيَكَ حَقَّكَ بِثَمَنٍ حَالٍّ أَوْ مُؤَجَّلٍ ، فَإِنْ عَقَدَ الْبَيْعَ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ كَانَ بَاطِلًا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَنْ شَرْطٍ فِي الْعَقْدِ صَحَّ الْبَيْعُ ، وَكَانَ مُشْتَرِي الطَّعَامِ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ قَضَاهُ ذَلِكَ الطَّعَامَ وَإِنْ شَاءَ قَضَاهُ مِنْ غَيْرِهِ .

فَصْلٌ : وَلَوْ أَسْلَمَ رَجُلٌ فِي طَعَامٍ مَوْصُوفٍ فَحَلَّ فَسَأَلَهُ رَجُلٌ أَنْ يُقْرِضَهُ إِيَّاهُ وَأَمَرَ السَّائِلَ أَنْ يَتَقَاضَى ذَلِكَ الطَّعَامَ ، فَإِذَا صَارَ فِي يَدِهِ أَقْرَضَهُ إِيَّاهُ جَازَ . وَكَانَ بَعْدَ اقْتِضَاءِ الطَّعَامِ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَقْرَضَهُ وَإِنْ شَاءَ مَنَعَهُ ، فَإِنْ مَنَعَهُ وَكَانَ قَدْ شَرَطَ أَنَّهُ إِذَا تَقَاضَاهُ أَقْرَضَهُ كَانَ لِلْمُقْتَضِي أُجْرَةُ مِثْلِهِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا بَاعَ رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ طَعَامًا بِدِينَارٍ ، ثُمَّ إِنَّ الْبَائِعَ ابْتَاعَ مِنَ الْمُشْتَرِي بِالدِّينَارِ طَعَامًا أَزْيَدَ مِنْ طَعَامِهِ أَوْ أَنْقَصَ ، جَازَ وَلَمْ يُكْرَهْ ، وَقَالَ مَالِكٌ : لَا خَيْرَ فِي هَذَا : لِأَنَّهُ يَصِيرُ بَائِعًا الطَّعَامَ بِطَعَامٍ إِلَى أَجَلٍ ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ : لِأَنَّ التَّبَايُعَ بِالدِّينَارِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الطَّعَامَ الثَّانِي لَوِ اسْتَحَقَّ وَجَبَ الرُّجُوعُ بِالدِّينَارِ لَا بِالطَّعَامِ ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

بَابُ بَيْعِ الْمُصَرَّاةِ

بَابُ بَيْعِ الْمُصَرَّاةِ حكم مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " أَخْبَرَنَا مَالِكٌ ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ ، عَنِ الْأَعْرَجِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَا تُصَرُّوا الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ لِلْبَيْعِ ، فَمَنِ ابْتَاعَهَا بَعْدَ ذَلِكَ ، فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْلِبَهَا ، إِنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا ، وَإِنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ " ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) وَالتَّصْرِيَةُ أَنْ تَرْبِطَ أَخْلَافَ النَّاقَةِ أَوِ الشَّاةِ ثَمَّ تَتْرُكَ مِنَ الْحِلَابِ الْيَوْمَ وَالْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ حَتَّى يَجْتَمِعَ لَهَا لَبَنٌ فَيَرَاهُ مُشْتَرِيهَا كَثِيرًا فَيَزِيدَ فِي ثَمَنِهَا لِذَلِكَ ، ثُمَّ إِذَا حَلَبَهَا بَعْدَ تِلْكَ الْحَلْبَةِ حَلْبَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ ، عَرَفَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِلَبَنِهَا لِنُقْصَانِهِ كُلَّ يَوْمٍ عَنْ أَوَّلِهِ ، وَهَذَا غُرُورٌ لِلْمُشْتَرِي ، وَالْعِلْمُ يُحِيطُ أَنَّ أَلْبَانَ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ مُخْتَلِفَةٌ فِي الْكَثْرَةِ وَالْأَثْمَانِ فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدَلَهَا ثَمَنًا وَاحِدًا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا التَّصْرِيَةُ فَهِيَ الْجَمْعُ ، يُقَالُ صَرَيْتُ الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ ، إِذَا جَمَعْتَهُ ، قَالَ الْأَغْلَبُ : رُبَّ غُلَامٍ قَدْ صَرَى فِي فِقْرَتِهْ مَاءَ الشَّبَابِ عُنْفُوَانَ سَنْبَتِهْ وَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ الصُّرَّةُ : لِأَنَّهَا تَجْمَعُ مَا فِيهَا ، قَالَ الشَّاعِرُ : إِنَّا صَرَيْنَا حُبَّ لَيْلَى فَانْبَتَرْ وَغَرَّنَا مِنْهُ وَكَانَ مِنْ شَعَرْ فَقِيلَ : شَاةٌ مُصَرَّاةٌ : لِأَنَّ اللَّبَنَ قَدْ صَرَى فِي ضَرْعِهَا ، أَيْ جُمِعَ ، وَيُقَالُ : مُحَفَّلَةٌ أَيْضًا ، وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ الْعِرَاقِ مَأْخُوذَةٌ مِنْ قَوْلِهِمْ قَدِ احْتَفَلَ الْقَوْمُ إِذَا اجْتَمَعُوا ، وَهَذَا مَحْفِلٌ مِنَ النَّاسِ أَيْ جَمْعٌ ، فَالتَّصْرِيَةُ غِشٌّ وَخِدَاعٌ لِلْمُشْتَرِي ، وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ شَاةً فَحَلَبَهَا فَبَانَتْ مُصَرَّاةً كَانَتْ عَيْبًا وَلَهُ الرَّدُّ وَهُوَ قَوْلُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ . إِلَّا أَبَا حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدًا فَإِنَّهُمَا خَالَفَا الْكَافَّةَ ، وَقَالَا : لَا رَدَّ لَهُ ، فَمِنْ أَصْحَابِهِمَا مَنْ قَالَ : هِيَ عَيْبٌ ، لَكِنَّ حِلَابَ اللَّبَنِ نَقْصٌ يَمْنَعُ مِنَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ ، وَاسْتِدْلَالُهُمْ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : دَفْعُ الْخَبَرِ الْمَعْمُولِ عَلَيْهِ فِي التَّصْرِيَةِ بِوُجُوهٍ نَذْكُرُهَا مِنْ بَعْدُ .

وَالثَّانِي : أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِالْمَعْنَى فِي أَنَّ التَّصْرِيَةَ لَيْسَتْ بِعَيْبٍ وَذَلِكَ بِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : إِنْ كَبِرَ الضَّرْعُ بِالتَّصْرِيَةِ ، وَظَنَّ الْمُشْتَرِي أَنَّ لَبَنَ الْعَادَةِ يَجْرِي مَجْرَى كَبِيرَةِ اللَّحْمِ وَالسِّمَنِ ، وَظَنَّ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ لِكِبَرَةِ اللَّبَنِ ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ هَذَا عَيْبًا يُوجِبُ الرَّدَّ لَمْ تَكُنِ التَّصْرِيَةُ عَيْبًا تُوجِبُ الرَّدَّ ، كَمَا لَوْ كَانَ الْجَوْفُ مَلِيًّا بِالْعَلَفِ فَظَنَّ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ حَمْلٌ . وَالثَّانِي : أَنَّ كِبَرَ الضَّرْعِ بِالتَّصْرِيَةِ لَوْ كَانَ عَيْبًا إِذَا شَاهَدَهُ الْمُشْتَرِي لَكَانَ عَيْبًا وَإِنْ لَمْ يُشَاهِدْهُ كَسَائِرِ الْعُيُوبِ ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ عَيْبًا مَعَ فَقْدِ الْمُشَاهَدَةِ لَمْ يَكُنْ عَيْبًا مَعَ الْمُشَاهَدَةِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ : وُرُودُ السُّنَّةِ مِنْ ثَلَاثَةِ طُرُقٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَابْنِ مَسْعُودٍ ، وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ . فَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَوَارِدٌ مِنْ طَرِيقَيْنِ : أَحَدُهُمَا : رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ ، عَنْ مَالِكٍ ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ ، عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَا تُصَرُّوا الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ لِلْبَيْعِ فَمَنِ ابْتَاعَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْلِبَهَا إِنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا وَإِنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ " . وَالثَّانِي : رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ أَيُّوبَ ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنِ اشْتَرَى مُصَرَّاةً أَوْ مُحَفَّلَةً فَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، إِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا ، وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ لَا سَمْرَاءَ " . وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ ، فَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " مَنِ اشْتَرَى مُحَفَّلَةً فَلْيَحْلِبْ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً فَإِنْ رَضِيَ أَمْسَكَ وَإِلَّا فَإِنْ رَدَّهَا يَرُدُّ مَعَهَا صَاعًا " . وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ ، فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ ، عَنْ أَبِي كَامِلٍ ، عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ ، عَنْ صَدَقَةَ بْنِ سَعِيدٍ ، عَنْ جُمَيْعِ بْنِ عُمَيْرٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ بَاعَ مُحَفَّلَةً فَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، فَإِنْ رَدَّهَا رَدَّ مَعَهَا مِثْلَ أَوْ مِثْلَيْ لَبَنِهَا قَمْحًا " . فَدَلَّتْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ كُلُّهَا عَلَى أَنَّ التَّصْرِيَةَ عَيْبٌ يُوجِبُ الرَّدَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : نَهْيُهُ عَنِ التَّصْرِيَةِ لِلْبَيْعِ ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ التَّصْرِيَةَ تَدْلِيسٌ وَعَيْبٌ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ جَعَلَهُ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ فِي الرَّدِّ وَالْإِمْسَاكِ ، وَالرَّدُّ إِنَّمَا يَكُونُ بِعَيْبٍ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ أَوْجَبَ بَدَلًا مِنْ لَبَنِ التَّصْرِيَةِ رَدَّ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ لَبَنُ

التَّصْرِيَةِ قَدْ تَنَاوَلَهُ الْعَقْدُ ، وَحَصَلَ لَهُ مِنَ الثَّمَنِ قِسْطٌ يَسْتَحِقُّ بِنَقْصِهِ الرَّدَّ ، وَقَدْ يَتَحَرَّرُ مِنْ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ قِيَاسٌ ، فَيُقَالُ : لِأَنَّهُ تَدْلِيسٌ يَخْتَلِفُ بِهِ الثَّمَنُ فَاقْتَضَى أَنْ يَسْتَحِقَّ بِهِ الرَّدَّ كَتَسْوِيدِ الشَّعْرِ . فَأَمَّا دَفْعُهُمْ لِلْخَبَرِ فِي الْمَنْعِ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَدْحٌ فِيهِ . وَالثَّانِي : اسْتِعْمَالٌ لَهُ . فَأَمَّا قَدْحُهُمْ فِيهِ : فَلِأَنَّهُ خَبَرٌ وَاحِدٌ قَدْ خَالَفَ الْأُصُولَ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ أَوْجَبَ غُرْمَ اللَّبَنِ مَعَ إِمْكَانِ رَدِّهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَوْجَبَ غُرْمَ قِيمَتِهِ وَوُجُوبَ مِثْلِهِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ جَعَلَ الْقِيمَةَ تَمْرًا وَهِيَ إِنَّمَا تَكُونُ ذَهَبًا أَوْ وَرِقًا . وَالرَّابِعُ : أَنَّهُ جَعَلَهَا مُقَدَّرَةً لَا تَزِيدُ بِزِيَادَةِ اللَّبَنِ وَلَا تَنْقُصُ بِنُقْصَانِهِ ، وَمِنْ حُكْمِ الْقِيمَةِ أَنْ تَخْتَلِفَ بِاخْتِلَافِ الْمُقَوَّمِ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ . وَالْخَامِسُ : أَنَّهُ جَعَلَ لَهُ الرَّدُّ مَعَ مَا حَدَثَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي مِنَ النَّقْصِ . قَالُوا : فَلَمَّا كَانَ خَبَرُ التَّصْرِيَةِ مُخَالِفًا لِلْأُصُولِ مِنْ هَذِهِ الْأَوْجُهِ الْخَمْسَةِ وَجَبَ الْعُدُولُ عَنْهُ إِلَى مَا اقْتَضَتْهُ الْأُصُولُ : لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " مَا جَاءَكُمْ عَنِّي فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنْ وَافَقَهُ فَخُذُوا بِهِ وَإِنْ خَالَفَهُ فَاتْرُكُوهُ " . وَأَمَّا اسْتِعْمَالُهُمْ لَهُ فَهُوَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّ الْبَائِعَ وَالْمُشْتَرِيَ شَرَطَا فِي عَقْدِ الْبَيْعِ أَنَّ الشَّاةَ تُحْلَبُ فِي كُلِّ يَوْمٍ عَشَرَةُ أَرْطَالٍ فَيَكُونُ هَذَا شَرْطًا يُفْسِدُ الْبَيْعَ ، فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى رَدِّ هَذَا الشَّرْطِ وَإِبْطَالِهِ فِي مُدَّةِ الثَّلَاثِ ، صَحَّ الْبَيْعُ ، وَإِنْ لَمْ يُبْطِلَاهُ حَتَّى مَضَتِ الثَّلَاثُ بَطَلَ الْبَيْعُ ، فَهَذِهِ جُمْلَةٌ عَوَّلُوا عَلَيْهَا فِي دَفْعِنَا عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْخَبَرِ ، وَهَذِهِ جُمْلَةٌ فَاسِدَةٌ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَدْفَعَ سُنَّةً ثَابِتَةً . أَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ خَبَرٌ وَاحِدٌ ، فَيُقَالُ هَذَا خَبَرٌ قَدْ رَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ ، وَابْنُ مَسْعُودٍ ، وَابْنُ عُمَرَ ، وَتَلَقَّاهُ الْبَاقُونَ بِالْقَبُولِ ، وَانْتَشَرَ الْعَمَلُ بِهِ فِي الصَّحَابَةِ انْتِشَارًا وَاسِعًا صَارَ كَالْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ ، فَصَارَ بِأَخْبَارِ التَّوَاتُرِ أَشْبَهَ ، عَلَى أَنَّ أَخْبَارَ الْآحَادِ إِذَا وَرَدَتْ مَوْرِدًا صَحِيحًا لَمْ يَمْنَعِ الشَّرْعُ مِنَ الْعَمَلِ بِهَا ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ فَفِيهَا جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَا وَرَدَ فِي التَّصْرِيَةِ فَهُوَ أَصْلٌ بِذَاتِهِ ، لَا تُعْتَبَرُ فِيهِ مُوَافَقَةُ الْأُصُولِ ، كَالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَالْغُرَّةِ فِي الْجَنِينِ ، وَإِنَّمَا يَبْطُلُ الْقِيَاسُ لِمُخَالَفَةِ الْأُصُولِ . فَأَمَّا التَّصْرِيَةُ فَلَا وَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ هَذَا بَاطِلًا لِمُخَالَفَةِ الْأُصُولِ مَعَ كَوْنِهِ أَصْلًا ، لَجَازَ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْأُصُولُ بَاطِلَةً بِهَذَا الْأَصْلِ ، وَإِذَا صَحَّ قَلْبُ هَذَا الْأَصْلِ ، وَهَذَا الْقَوْلِ كَانَ مُطَّرَحًا

وَلَزِمَ اعْتِبَارُ كُلِّ أَصْلٍ بِذَاتِهِ ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ : كَيْفَ اسْتَخَرْتُمُ اسْتِعْمَالَ الْخَبَرِ فِي الْقَهْقَهَةِ وَالنَّبِيذِ مَعَ مُخَالَفَتِهِمَا الْأُصُولَ ، وَامْتَنَعْتُمْ مِنْ هَذَا ! فَإِنْ قَالُوا لِوُرُودِ الرِّوَايَةِ ، قِيلَ فَكَذَلِكَ التَّصْرِيَةُ . فَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَا جَاءَكُمْ عَنِّي فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى " فَمَعْنَاهُ مَا لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ نَصٌّ يَدْفَعُهُ فَخُذُوا بِهِ ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الْأَمْرُ مِنْ أَمْرِي مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ ، فَيَقُولُ : لَا أَدْرِي مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى اتَّبَعْنَاهُ " ، هَذَا مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [ الْحَشْرِ : ] . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّ خَبَرَ التَّصْرِيَةِ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِلْأُصُولِ مِنَ الْأَوْجُهِ الَّتِي ذَكَرُوهَا بَلْ فِي الْأُصُولِ مَا يَشْهَدُ لَهُ وَيُعَاضِدُهُ . أَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ غُرْمَ الْقِيمَةِ مَعَ إِمْكَانِ الرَّدِّ لَا يَجُوزُ ، فَالرَّدُّ فِي لَبَنِ التَّصْرِيَةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : نَقْصُ قِيمَتِهِ بَعْدَ الْحَلْبِ وَذَهَابُ كَثِيرٍ مِنْ مَنَافِعِهِ بِطُولِ الْمُكْثِ ، وَالثَّانِي : أَنَّ لَبَنَ التَّصْرِيَةِ قَدْ خَالَطَهُ مَا حَدَثَ فِي الضَّرْعِ بَعْدَهُ عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي ، فَلَمْ يُمْكِنْ رَدُّهُ مَعَ الْجَهْلِ بِمَا خَالَطَهُ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ أَوْجَبَ غُرْمَ قِيمَتِهِ مَعَ وُجُودِ مِثْلِهِ ، وَجَعَلَهُ مُقَدَّرًا مَعَ اخْتِلَافِ قَدْرِهِ فِي الضَّرْعِ ، فَالْجَوَابُ أَنَّ مَا كَانَ مَجْهُولَ الْقَدْرِ مَجْهُولَ الْوَصْفِ ، جَازَ الرُّجُوعُ فِيهِ إِلَى بَدَلٍ مُقَدَّرٍ بِالشَّرْعِ مِنْ غَيْرِ مِثْلٍ وَلَا تُقَوَّمُ كَالْغُرَّةِ فِي الْجَنِينِ يَسْتَوِي فِيهَا الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ دِيَاتُهُمَا ، وَمَا قَدَّرَهُ الشَّرْعُ فِي الشِّجَاجِ كَالْمُوَضَّحَةِ الَّتِي تَسْتَوِي دِيَةُ مَا صَغُرَ مِنْهَا وَمَا كَبُرَ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ فِيهِ عُدُولًا عَنِ التَّقْوِيمِ إِلَى الثَّمَنِ ، فَلَيْسَ بِمُنْكَرٍ أَنْ يَرِدَ الشَّرْعُ فِي الْقِيمَةِ بِمَا يُخَالِفُ جِنْسَ الْأَثْمَانِ ، كَمَا جَاءَ الشَّرْعُ فِي الدِّيَاتِ بِالْإِبِلِ ، وَفِي جَزَاءِ الصَّيْدِ بِالْغَنَمِ وَفِي الْجَنِينِ بِالْغُرَّةِ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ يُوجِبُ الرَّدَّ مَعَ مَا حَدَثَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي مِنَ النَّقْصِ فَفِيهِ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ النَّقْصَ حَادِثٌ فِي اللَّبَنِ دُونَ الشَّاةِ وَهُوَ إِنَّمَا يَرُدُّ الشَّاةَ دُونَ اللَّبَنِ . وَالثَّانِي : أَنَّ النَّقْصَ الْحَادِثَ الَّذِي لَا يُوصِلُ إِلَى مَعْرِفَةِ الْعَيْبِ إِلَّا بَدَلًا يَمْنَعُ مِنَ الرَّدِّ كَالَّذِي يَكُونُ مَأْكُولُهُ فِي جَوْفِهِ إِذَا كَرَّ . وَأَمَّا اسْتِعْمَالُهُمُ الْحَدِيثَ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الشَّرْطِ فَغَلَطٌ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ :

أَحَدُهَا : أَنَّ نَهْيَهُ عَنِ التَّصْرِيَةِ لَا يَقْتَضِيهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ جَعَلَ الرَّدَّ لِلْمُشْتَرِي وَحْدَهُ وَلَوْ كَانَ لِلشَّرْطِ كَانَ لَهُمَا . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ جَعَلَ الرِّضَا مُوجِبًا لِلْإِمْضَاءِ وَالسَّخَطَ مُوجِبًا لِلرَّدِّ ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ مُعَلَّقًا بِإِسْقَاطِ الشَّرْطِ . وَالرَّابِعُ : أَنَّهُ أَوْجَبَ فِيهِ رَدَّ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ ، وَإِسْقَاطُ الشَّرْطِ لَا يُوجِبُ رَدَّ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ هَذَا ظَنٌّ مِنَ الْمُشْتَرِي كَمَا لَوْ ظَنَّ سِمَنَ ضَرْعِهَا لَبَنًا ، وَانْتِفَاخَ جَوْفِهَا حَمْلًا ، فَهُوَ أَنَّ سِمَنَ الضَّرْعِ لَيْسَ بِتَدْلِيسٍ مِنْهُ فَلَمْ يَكُنْ عَيْبًا ، وَالتَّصْرِيَةُ تَدْلِيسٌ مِنْهُ فَكَانَتْ عَيْبًا ، وَأَمَّا انْتِفَاخُ جَوْفِهَا بِالْعَلَفِ فَهُوَ وَإِنْ كَانَ مِنْ فِعْلِهِ فَهُوَ مَنْدُوبٌ إِلَى إِكْثَارِ عَلَفِهَا وَغَيْرُ مَنْهِيٍّ عَنْهُ ، فَلَمْ يَكُنْ تَدْلِيسًا . وَالتَّصْرِيَةُ مَنْهِيٌّ عَنْهَا ، فَكَانَتْ تَدْلِيسًا ، فَكَذَا لَوِ ابْتَاعَ غُلَامًا قَدْ أَخَذَ دَوَاةً وَأَقْلَامًا وَسَوَّدَ يَدَهُ لِيُوهِمَ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ كَاتِبٌ فَكَانَ غَيْرَ كَاتِبٍ ، فَلَيْسَ هَذَا عَيْبًا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْمُشْتَرِي الرَّدَّ : لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ يُمْكِنُهُ اخْتِبَارُهُ قَبْلَ الشِّرَاءِ ، وَلِكَوْنِ ذَلِكَ مِنْهُ مُحْتَمَلًا : لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَاتِبًا ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غُلَامًا لِكَاتِبٍ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَيْبًا مَعَ الرُّؤْيَا لَكَانَ عَيْبًا مَعَ فَقْدِ الرُّؤْيَا كَسَائِرِ الْعُيُوبِ ، فَهُوَ أَنَّنَا نَقُولُ إِنَّهُ عَيْبٌ مَعَ الرُّؤْيَا وَفَقْدِ الرُّؤْيَا كَسَائِرِ الْعُيُوبِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ التَّصْرِيَةَ عَيْبٌ لَا يُوجِبُ الرَّدَّ هل ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُشْتَرِي عِنْدَ الْعَقْدِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالتَّصْرِيَةِ أَوْ غَيْرَ عَالِمٍ : فَإِنْ كَانَ غَيْرَ عَالِمٍ بِالتَّصْرِيَةِ فَلَهُ الرَّدُّ إِذَا عَلِمَ التَّصْرِيَةَ إِلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ : لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْلِبَهَا ثَلَاثًا " . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا الْخِيَارِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ ، أَنَّهُ خِيَارُ شَرْعٍ : لِأَنَّهُ يَمْتَدُّ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَوْ كَانَ خِيَارَ عَيْبٍ لَكَانَ عَلَى الْفَوْرِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : أَنَّهُ خِيَارُ عَيْبٍ : لِأَنَّهُ مَوْضُوعُ الْكَشْفِ ، وَالتَّدْلِيسُ بِالتَّصْرِيَةِ لَا يُعْلَمُ قَبْلَ مُضِيِّ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ : لِأَنَّهُ إِذَا حَلَبَهَا فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ لَمْ يَعْلَمْ بِالتَّصْرِيَةِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لَبَنُهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ مِثْلَهُ ، فَإِذَا حَلَبَهَا الْحَلْبَةَ الثَّانِيَةَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فَرَآهُ نَاقِصًا جَازَ أَنْ يَكُونَ نَقْصُهُ لِأَنَّهَا مُصَرَّاةٌ ، وَجَازَ أَنْ يَكُونَ نَقْصُهُ لِقِلَّةِ إِمْكَانٍ أَوْ تَغْيِيرِ مَكَانٍ ، فَإِذَا حَلَبَهَا الثَّالِثَةَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَكَانَ نَاقِصًا عَنِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ ، يَتَيَقَّنُ حِينَئِذٍ أَنَّهَا مُصَرَّاةٌ ، فَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِالتَّصْرِيَةِ حَتَّى مَضَتْ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ ثُمَّ عَلِمَ ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لَا رَدَّ لَهُ : لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّرَ بِالشَّرْعِ ، وَقُلْنَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَثْبُتَ بَعْدَ ثَلَاثٍ ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي لَهُ الرَّدُّ كَمَا لَوْ عَلِمَ بِغَيْرِهِ مِنَ الْعُيُوبِ بَعْدَ ثَلَاثٍ ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ عَالِمًا بِالتَّصْرِيَةِ عِنْدَ الْعَقْدِ فَهَلْ يَثْبُتُ لَهُ خِيَارُ الرَّدِّ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : لَهُ الْخِيَارُ فِي الرَّدِّ ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ خِيَارُ شَرْعٍ . وَالثَّانِي : لَا خِيَارَ لَهُ فِي الرَّدِّ ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ خِيَارُ عَيْبٍ .

فَصْلٌ : فَإِذَا رَدَّ بِالتَّصْرِيَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ مَعَهَا بَدَلًا مِنْ لَبَنِ التَّصْرِيَةِ صَاعًا ، وَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَطَائِفَةٍ : أَنْ يَرُدَّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْدِلَ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَقْوَاتِ ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " صَاعًا مِنْ تَمْرٍ لَا سَمْرَاءَ " فَعَلَى هَذَا لَوْ أَعْوَزَ التَّمْرَ أَعْطَى قِيمَتَهُ وَفِي مَحَلِّ قِيمَتِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : قِيمَتُهُ فِي أَقْرَبِ بِلَادِ التَّمْرِ مِنْهُ ، وَالثَّانِي : قِيمَتُهُ بِالْمَدِينَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنْ يُعْطِيَ صَاعًا مِنْ أَيِّ الْأَقْوَاتِ الْمُزَكَّاةِ : تَمْرًا أَوْ زَبِيبًا ، أَوْ شَعِيرًا : لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي خَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ " صَاعًا مِنْ تَمْرٍ " ، وَقَالَ : فِي خَبَرِ ابْنِ عُمَرَ : إِعْطَاءُ مِثْلٍ أَوْ مِثْلَيْ لَبَنِهَا قَمْحًا ، فَعُلِمَ أَنَّهُ عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ ، وَقَوْلُهُ مِثْلَيْ لَبَنِهَا قَمْحًا لِأَنَّهُ فِي الْغَالِبِ يَكُونُ صَاعًا : لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي الْغَنَمِ أَنْ تَكُونَ الْحَلْبَةُ نِصْفَ صَاعٍ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : وَهُوَ قَوْلٌ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ : أَنَّهُ يُعْطِي صَاعًا مِنْ غَالِبِ قُوتِ بَلَدِهِ ، اعْتِبَارًا بِزَكَاةِ الْفِطْرِ .

فَصْلٌ : فَلَوِ اشْتَرَى شَاةً بِصَاعٍ ، ثُمَّ أَرَادَ رَدَّهَا بِالتَّصْرِيَةِ فَفِي قَدْرِ مَا يَرُدُّ مَعَهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَرُدَّهَا وَيَرُدَّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ إِنْ شَاءَ : لِأَنَّ الشَّرْعَ قَدْ قَدَّرَ لَبَنَ التَّصْرِيَةِ بِصَاعٍ فَلَا اعْتِبَارَ بِزِيَادَةِ الثَّمَنِ وَنَقْصِهِ ، كَمَا لَا اعْتِبَارَ بِقِلَّةِ اللَّبَنِ وَكَثْرَتِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَرُدُّ مِنَ الصَّاعِ بِقَدْرِ نَقْصِ التَّصْرِيَةِ مِنَ الثَّمَنِ : لِأَنَّ الْمُبْتَغَى مِنَ الرَّدِّ اسْتِدْرَاكُ النَّقْصِ ، فَعَلَى هَذَا تَقُومُ الشَّاةُ لَوْ لَمْ تَكُنْ مُصَرَّاةً ، فَإِذَا قِيلَ : عَشَرَةُ دَرَاهِمَ قُوِّمَتْ وَهِيَ مُصَرَّاةٌ ، فَإِذَا قِيلَ : ثَمَانِيَةُ دَرَاهِمَ ، عُلِمَ أَنْ نَقَصَ التَّصْرِيَةِ هِيَ الْخُمْسُ فَيَرُدُّ الْمُشْتَرِي مَعَهَا خُمْسَ الصَّاعِ الَّذِي اشْتَرَاهَا بِهِ .

فَصْلٌ : فَلَوْ كَانَ لَبَنُ التَّصْرِيَةِ إن طلبه البائع لم يلزم المشتري دفعه له بَعْدَ حَلْبِهِ بَاقِيًا ، وَأَرَادَ الْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّهُ مَعَهَا ، لَمْ يَلْزَمِ الْبَائِعَ قَبُولُهُ : لِنَقْصِهِ بِالْحَلْبِ وَبِغَيْرِهِ ، وَلَوْ طَلَبَهُ الْبَائِعُ لَمْ يَلْزَمِ الْمُشْتَرِي دَفْعُهُ ، لِمَا حَدَثَ فِي الضَّرْعِ مِنْ زِيَادَةِ اللَّبَنِ قَبْلَ الْحَلْبِ وَوَجَبَ رَدُّ بَدَلِهِ صَاعًا إِلَّا أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى رَدِّ اللَّبَنِ فَيَجُوزُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَكَذَلِكَ الْبَقَرُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . وَحُكْمُ التَّصْرِيَةِ فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ سَوَاءٌ : لِأَنَّ التَّصْرِيَةَ فِي الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا بَيْنَهُمَا لَاحِقٌ بِهِمَا ، وَلِأَنَّ الْبَقَرَ مِنْ جُمْلَةِ النَّعَمِ الَّتِي تُقْصَدُ أَلْبَانُهَا ، وَأَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ إِنْ رَدَّهَا بِالتَّصْرِيَةِ رَدَّ مَعَهَا صَاعًا بَدَلًا مِنْ لَبَنِ التَّصْرِيَةِ فَأَمَّا

التَّصْرِيَةُ فِي غَيْرِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ ، فَهَلْ يَكُونُ عَيْبًا يُوجِبُ الرَّدَّ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا ، وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ : أَنَّهُ لَيْسَ بِعَيْبٍ : لِأَنَّ الْأَلْبَانَ لَا يُقْصَدُ غَالِبًا إِلَّا مِنَ النَّعَمِ فَلَمْ يَكُنْ نَقْصُ اللَّبَنِ فِيمَا عَدَا الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ عَيْبًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ ، أَنَّ التَّصْرِيَةَ فِي كُلِّ الْحَيَوَانِ عَيْبٌ : لِأَنَّ فِي كَثْرَةِ أَلْبَانِهَا نَفْعًا وَغَرَضًا ، فَكَانَ نَقْصُهُ عَيْبًا كَالنَّقْصِ فِي أَلْبَانِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ ، فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَوِ اشْتَرَى أَمَةً فَبَانَتْ مُصَرَّاةً ، فَأَرَادَ رَدَّهَا بِالتَّصْرِيَةِ ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَرُدَّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ بَدَلًا مِنْ لَبَنِ التَّصْرِيَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَرُدُّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ لِعُمُومِ الْخَبَرِ . وَالثَّانِي : لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ لِأَنَّ أَلْبَانَ الْإِمَاءِ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ ، بَلِ الْحَضَانَةُ مَقْصُودَةٌ وَاللَّبَنُ تَبَعٌ . وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي إِنَاثِ الْخَيْلِ ، فَأَمَّا إِنَاثُ الْحَمِيرِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي أَلْبَانِهَا ، فَمَذْهَبُ جُمْهُورِهِمْ أَنَّهَا نَجِسَةٌ ، فَعَلَى هَذَا إِذَا رَدَّهَا بِالتَّصْرِيَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ رَدُّ صَاعٍ مَعَهَا : لِأَنَّهُ لَا عِوَضَ لِأَلْبَانِهَا . وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ : هِيَ طَاهِرَةٌ يَجُوزُ شُرْبُهَا ، فَعَلَى هَذَا إِذَا رَدَّهَا بِالتَّصْرِيَةِ ، فَهَلْ يَرُدُّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ عَلَى وَجْهَيْنِ كَالْإِمَاءِ وَإِنَاثِ الْخَيْلِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " فَإِنْ كَانَ رَضِيَهَا الْمُشْتَرِي وَحَلَبَهَا زَمَانًا ، ثُمَّ أَصَابَ بِهَا عَيْبًا غَيْرَ التَّصْرِيَةِ فَلَهُ رَدُّهَا بِالْعَيْبِ ، وَيَرُدُّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ ثَمَنًا لِلَبَنِ التَّصْرِيَةِ ، وَلَا يَرُدُّ اللَّبَنَ الْحَادِثَ فِي مِلْكِهِ : لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى أَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ اشْتَرَى شَاةً مُصَرَّاةً فَرَضِيَ بِالتَّصْرِيَةِ ، ثُمَّ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا غَيْرَ التَّصْرِيَةِ ، فَلَهُ الْخِيَارُ فِي رَدِّهَا بِالْعَيْبِ الْآخَرِ : لِأَنَّ مَنْ رَضِيَ بِعَيْبٍ ، ثُمَّ وَجَدَ غَيْرَهُ لَمْ يَمْنَعْهُ الرِّضَا بِمَا عَلِمَ مِنَ الرَّدِّ بِمَا لَمْ يَعْلَمْ ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تَخْلُ حَالُ عِلْمِهِ بِالتَّصْرِيَةِ وَرِضَاهُ بِهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ تَكُونَ مَعَ الْعَقْدِ أَوْ بَعْدَهُ : فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْعَقْدِ عَلِمَ بِالتَّصْرِيَةِ وَرَضِيَ بِهَا ، ثُمَّ وَقَفَ عَلَى عَيْبٍ آخَرَ ، فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهَا بِالْعَيْبِ الْآخَرِ وَلَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا فِيهِ ، فَإِذَا رَدَّهَا بِالْعَيْبِ الْآخَرِ رَدَّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ بَدَلًا مِنْ لَبَنِ التَّصْرِيَةِ : لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ مَعْقُودًا عَلَيْهِ ، وَلَا يَرُدُّ عَنِ اللَّبَنِ الْحَادِثِ فِي يَدِهِ عِوَضًا : لِأَنَّهُ حَدَثَ فِي مِلْكِهِ وَبَعْدَ ضَمَانِهِ ، وَقَدْ قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ ، أَمَّا إِنْ كَانَ عَالِمًا بِالتَّصْرِيَةِ وَرِضَاهُ بِهَا مَعَ الْعَقْدِ ، ثُمَّ وَقَفَ عَلَى عَيْبٍ آخَرَ ، فَفِي جَوَازِ رَدِّهَا بِهِ وَجْهَانِ ، أَخْرَجَهُمَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي تَقْرِيرِ الصَّفْقَةِ : أَحَدُهُمَا : يَرُدُّهَا بِالْعَيْبِ ، وَيَرُدُّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ بَدَلًا مِنْ لَبَنِ التَّصْرِيَةِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجِيزُ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ .

وَالثَّانِي : لَا يَرُدُّهَا بِهَذَا الْعَيْبِ وَيَرْجِعْ بِأَرْشِهِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَمْنَعُ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَفْرِيقِ بَعْضِ الصَّفْقَةِ مِنْ فَسْخِ بَعْضِهَا : لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْرِيقِهَا ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ حُكْمُ الرِّضَا بَعْدَ الْعَقْدِ : لِأَنَّ الصَّفْقَةَ لَمْ تَكُنْ قَدْ أَوْجَبَتْ لُزُومَ النَّقْصِ .

فَصْلٌ : فَلَمَّ اشْتَرَى شَاةً غَيْرَ مُصَرَّاةٍ فَكَانَ فِي ضَرْعِهَا لَبَنٌ فَحَلَبَهُ ، ثُمَّ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا جَازَ أَنْ يَرُدَّهَا بِهِ ، لَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا فِيهِ : لِأَنَّ مَا كَانَ فِي الضَّرْعِ غَيْرُ مَقْصُودٍ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَبَنَ التَّصْرِيَةِ ، وَعَلَيْهِ إِذَا رَدَّهَا بِالْعَيْبِ أَنْ يَرُدَّ مَعَهَا قِيمَةَ ذَلِكَ اللَّبَنِ : لِأَنَّهُ يَأْخُذُ قِسْطًا مِنَ الثَّمَنِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ رَدُّ صَاعٍ لِأَنَّ الصَّاعَ عِوَضٌ عَنْ لَبَنِ التَّصْرِيَةِ ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ مُصَرَّاةٌ ، فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَا قَدْرُهُ ، وَإِلَّا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ : لِأَنَّهُ غَارِمٌ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

بَابُ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ

بَابُ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ مَسْأَلَةٌ : الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " أَخْبَرَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ مَخْلَدِ بْنِ خُفَافٍ أَنَّهُ ابْتَاعَ غُلَامًا فَاسْتَغَلَّهُ ، ثُمَّ أَصَابَ بِهِ عَيْبًا ، فَقَضَى لَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِرَدِّهِ وَغَلَّتِهِ ، فَأَخْبَرَ عُرْوَةُ عُمَرَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي مِثْلِ هَذَا أَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ فَرَدَّ عُمَرُ قَضَاءَهُ ، وَقَضَى لِمَخْلَدِ بْنِ خُفَافٍ بِرَدِّ الْخَرَاجِ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) فَبِهَذَا نَأْخُذُ فَمَا حَدَثَ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي مِنْ غَلَّةٍ وَنَتَاجٍ مَاشِيَةٍ وَوَلَدِ أَمَةٍ فَكُلُّهُ فِي مَعْنَى الْغَلَّةِ لَا يُرَدُّ مِنْهَا شَيْئًا وَيُرَدُّ الَّذِي ابْتَاعَهُ وَحْدَهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ نَاقِصًا عَمَّا أَخَذَهُ بِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . أَمَّا قَوْلُهُ : أَخْبَرَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ ، فَقَدْ قِيلَ : إِنَّهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي يَحْيَى ، وَقِيلَ : هُوَ مَنْ عَرَفَ ثِقَتَهُ ، وَتَسَمَّى اسْمَهُ ، وَقِيلَ : بَلْ هُمْ جَمَاعَةٌ لَمْ يَجِبْ أَنْ يَخُصَّ أَحَدَهُمْ بِالذِّكْرِ فَكَنَّى عَنْهُمْ . فَإِذَا ابْتَاعَ رَجُلٌ شَيْئًا فَاسْتَعْمَلَهُ ثُمَّ وَجَدَهُ مَعِيبًا فَأَرَادَ رَدَّهُ ، فَإِنْ كَانَتِ الْغَلَّةُ مَنَافِعَ كَالسُّكْنَى وَالِاسْتِخْدَامِ وَالرُّكُوبِ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَالْمَنَافِعِ لَهُ ، وَإِنْ كَانَتِ الْغَلَّةُ أَعْيَانًا كَالنَّتَاجِ وَالثِّمَارِ فَمَذْهَبُنَا أَنَّهُ يَرُدُّ الْأَصْلَ بِعَيْنِهِ وَيُمْسِكُ مَا حَدَثَ بِيَدِهِ مِنَ النَّتَاجِ وَالثِّمَارِ لِنَفْسِهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجُوزُ لَهُ الرَّدُّ لِأَجْلِ مَا حَدَثَ بِيَدِهِ مِنَ الثِّمَارِ وَيَرْجِعُ بِالْأَرْشِ . وَقَالَ مَالِكٌ : يَرُدُّ الْأَصْلَ وَيَرُدُّ مَعَهُ مِنَ النَّمَاءِ مَا كَانَ مِنْ جِنْسِهِ كَالنَّتَاجِ وَلَا يُرَدُّ مَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ كَالثِّمَارِ . وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ يَرْفَعُ الْعَقْدَ مِنْ أَصِلِهِ : لِأَنَّهُ يَكُونُ جَبْرًا بِخِلَافِ الْإِقَالَةِ ، وَلَا يَكُونُ قَطْعًا لِلْمِلْكِ فِي الْحَالِ ، بِدَلِيلِ أَنْ لَا تَجِبَ فِيهِ الشُّفْعَةُ ، وَرَفْعُ الْعَقْدِ مِنْ أَصْلِهِ يُوجِبُ رَدَّ النَّمَاءِ ، فَلَمَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ رَدُّ النَّمَاءِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الرَّدُّ ، وَقَدْ جَمَعُوا بَيْنَ النَّمَاءِ الْمُنْفَصِلِ وَالنَّمَاءِ الْمُتَّصِلِ ، فَقَالُوا : لِأَنَّهُ نَمَاءٌ مِنْ نَفْسِ الْمَبِيعِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ رَدُّهُ دُونَ النَّمَاءِ كَالْكِبَرِ وَالسِّمَنِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّ الْوَلَدَ قَبْلَ انْفِصَالِهِ بِمَنْزِلَةِ أَعْضَائِهَا ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُعْتَقُ بِعِتْقِهَا فَانْفِصَالُهُ عَنْهَا يَمْنَعُ مِنَ الرَّدِّ كَانْفِصَالِ بَعْضِ أَعْضَائِهَا . وَأَمَّا مَالِكٌ فَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَرُدُّ النِّتَاجَ وَلَا يَرُدُّ الثَّمَرَةَ ، فَإِنَّ النِّتَاجَ مِنْ أَجْزَاءِ الْأُمِّ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَرُدَّهَا إِلَّا بِبَعْضِ أَجْزَائِهَا وَلَيْسَتِ الثَّمَرَةُ مِنْ أَجْزَاءِ النَّخْلَةِ فَجَازَ أَنْ يَرُدَّهَا دُونَ ثَمَرَتِهَا

وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهَا مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى أَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ ، وَالْخَرَاجُ اسْمٌ لِمَا خَرَجَ مِنَ الشَّيْءِ مِنْ عَيْنٍ وَمَنْفَعَةٍ ، وَهَذَا الْقَوْلُ مَعَ بَقَاءِ الشَّيْءِ عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي غَيْرُ مُعْتَبَرٍ : لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ بِالِاتِّفَاقِ ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ بِهِ مَعَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ ، وَلِأَنَّهَا فَائِدَةٌ حَدَثَتْ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَوَجَبَ أَنْ لَا يُمْنَعَ مِنَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ ، قِيَاسًا عَلَى كَسْبِ الْعَبْدِ ، وَلِأَنَّ الْفَسْخَ بِالْعَيْبِ قَطْعٌ لِلْعَقْدِ مِنْ حِينِ الرَّدِّ ، وَلَيْسَ رَفْعٌ لَهُ مِنَ الْأَصْلِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْفَسْخَ قَدْ يَكُونُ بِالْإِقَالَةِ كَمَا يَكُونُ بِالْعَيْبِ ، ثُمَّ كَانَ الْفَسْخُ بِالْإِقَالَةِ قَطْعًا لِلْمِلْكِ ، وَلَمْ يَكُنْ رَفْعًا لَهُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْفَسْخُ بِالْعَيْبِ مِثْلَهُ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْفَسْخَ بِالْعَيْبِ لَوْ كَانَ رَفْعًا لِلْعَقْدِ مِنْ أَصْلِهِ لَأَبْطَلَ حَقَّ الشَّفِيعِ فَلَمَّا لَمْ يُبْطِلْ حَقَّ الشَّفِيعِ بِالْفَسْخِ بِالْعَيْبِ ، دَلَّ عَلَى أَنَّ الْفَسْخَ بِالْعَيْبِ قَطْعٌ لِلْعَقْدِ مِنْ حِينِ الرَّدِّ وَلَيْسَ بِرَافِعٍ مِنَ الْأَصْلِ ، فَإِذَا ثَبَتَ بِهَذَيْنِ أَنَّ الْفَسْخَ لَا يَرْفَعُ الْعَقْدَ مِنْ أَصْلِهِ ثَبَتَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَمْلِكُ النَّمَاءَ الْحَادِثَ فِي مِلْكِهِ وَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ مِنْ فَسْخِ عَقْدِهِ كَالْإِقَالَةِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : إِنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ رَافِعٌ لِلْعَقْدِ بِدَلِيلِ أَنَّ الشُّفْعَةَ لَا تَجِبُ فِيهِ ، فَهُوَ أَنَّهُ فَاسِدٌ بِالْإِقَالَةِ ، وَلَا تَجِبُ فِيهِ الشُّفْعَةُ ، وَلَيْسَ بِرَافِعٍ لِلْعَقْدِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْكِبَرِ وَالسِّمَنِ فَيَغْلِبُ عَلَيْهِ ، فَنَقُولُ : لِأَنَّهُ نَمَاءٌ مِنْ نَفْسِ الْمَبِيعِ ، فَلَمْ يَمْنَعْ مِنَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ كَالطُّولِ وَالسِّمَنِ ، ثُمَّ يُقَالُ : الْمَعْنَى فِي الطُّولِ وَالسِّمَنِ ، اتِّصَالُهُ وَفِي النَّتَاجِ انْفِصَالُهُ . وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ انْفِصَالَ الْوَلَدِ كَانْفِصَالِ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ ، فَالْمَعْنَى فِي انْفِصَالِ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ أَنَّهَا عَيْبٌ يُوكِسُ الثَّمَنَ فَمُنِعَتْ مِنَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ ، وَانْفِصَالُ الْوَلَدِ لَيْسَ بِعَيْبٍ يُوكِسُ الثَّمَنَ ، فَلَمْ يُمْنَعْ مِنَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ . وَأَمَّا مَالِكٌ فِي اسْتِدْلَالِهِ بِأَنَّ النَّتَاجَ مِنْ أَجْزَاءِ أَصْلِهِ بِخِلَافِ الثَّمَرَةِ فَعَكْسُهُ لَازَمٌ : لِأَنَّ النَّتَاجَ مُنْفَصِلٌ وَالثَّمَرَةَ مُتَّصِلَةٌ ، فَلَوْ جَازَ رَدُّ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ لَكَانَ رَدُّ الْمُتَّصِلِ مِنَ الثِّمَارِ أَوْلَى مِنْ رَدِّ الْمُنْفَصِلِ مِنَ النَّتَاجِ ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ تَعْلِيلِهِ وَوَهَاءِ أَصْلِهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ جَمِيعَ مَا حَدَثَ بِيَدِ الْمُشْتَرِي مِنَ النَّمَاءِ الْمُنْفَصِلِ في الماشية ونحوها لا يلزمه رده لَا يَلْزَمُهُ رَدُّهُ ، وَكَانَ قَدِ اشْتَرَى شَاةً حَامِلًا فَوَضَعَتْ عِنْدَهُ ثُمَّ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا أَرَادَ رَدَّهَا بِهِ ، فَإِنْ كَانَتِ الْوِلَادَةُ قَدْ نَقَصَتْهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ الرَّدُّ ، وَرَجَعَ بِالْأَرْشِ ، وَإِنْ لَمْ تُنْقِصْهَا الْوِلَادَةُ رَدَّهَا بِالْعَيْبِ ، وَأَمَّا الْوَلَدُ فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْحَمْلَ يَأْخُذُ قِسْطًا مِنَ الثَّمَنِ رَدَّهُ مَعَهَا : لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ كَانَ تَنَاوَلَهُمَا ، وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْحَمْلَ بَيْعٌ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ لِلْمُشْتَرِي لَا يَلْزَمُهُ رَدُّهُ مَعَهَا : لِأَنَّهُ بَعْدَ الِانْفِصَالِ لَا يَكُونُ تَبَعًا وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَرُدُّهُ مَعَ الْأُمِّ : لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَتِهَا حِينَ كَانَ الْعَقْدُ عَلَيْهَا ، أَلَّا تَرَى لَوْ كَانَ عَلَيْهَا صُوفٌ حِينَ اشْتَرَاهَا فَجَزَّهُ ثُمَّ رَدَّهَا بِعَيْبٍ كَانَ عَلَيْهِ رَدُّ مَا جَزَّ مِنْ صُوفِهَا ، فَلَوْ كَانَ قَدِ اشْتَرَى

شَاةً حَايَلًا فَحَمَلَتْ عِنْدَهُ ثُمَّ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا أَرَادَ أَنْ يَرُدَّهَا بِهِ . فَإِنْ كَانَ الْحَمْلُ مُوكِسًا فِي ثَمَنِهَا أَوْ مُخَوَّفًا عَلَيْهَا فِي وِلَادَتِهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ الرَّدُّ وَرَجَعَ بِالْأَرْشِ ، وَإِنْ لَمْ يُوكِسْهَا فِي ثَمَنِهَا وَلَمْ يَكُنْ مُخَوَّفًا عَلَيْهَا فِي وِلَادَتِهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ الرَّدُّ وَرَجَعَ بِالْأَرْشِ ، وَإِنْ لَمْ تُوكَسْ فِي ثَمَنِهَا وَلَمْ يَكُنْ مُخَوَّفًا عَلَيْهَا فِي وِلَادَتِهَا رَدَّهَا حَامِلًا ، فَإِذَا وَضَعَتْ وَلَدَهَا ، فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْحَمْلَ يَكُونُ تَبَعًا كَانَ الْوَلَدُ لِلْبَائِعِ وَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي ، فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْحَمْلَ يَأْخُذُ قِسْطًا مِنَ الثَّمَنِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْبَائِعَ لَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي أَيْضًا : لِاتِّصَالِهِ بِالْأُمِّ عِنْدَ الرَّدِّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَقْيَسُ ، أَنَّ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الْبَائِعِ بنتاج الماشية ، لِحُدُوثِهِ فِي مِلْكِهِ ، وَغَيْرُهُ فِي حُكْمِهِ . وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي حَبَسَ الشَّاةَ الْمَعِيبَةَ حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا لَمْ يَمْنَعْهُ ذَلِكَ مِنَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ : لِأَنَّهُ حَبَسَهَا لَأَخْذِ مِلْكِهِ مِنْهَا ، وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَمْنَعُهُ ذَلِكَ مِنَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ : لِأَنَّهُ حَبَسَهَا وَلَا مِلْكَ لَهُ فِيهَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ . فَرْعٌ : ذَكَرَ الْمُزَنِيُّ فِي مَسَائِلِهِ الْمَنْثُورَةِ أَنَّ رَجُلًا لَوِ اشْتَرَى غَنَمًا بِعَشَرَةِ أَقْسَاطٍ مِنْ لَبَنٍ وَصُوفٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ ، فَلَمْ يَتَقَاضَاهَا حَتَّى احْتَلَبَ الْبَائِعُ مِنْهَا عَشَرَةَ أَقْسَاطٍ مِنْ لَبَنٍ ، ثُمَّ مَاتَتِ الْغَنَمُ ، أَنَّ الْبَيْعَ يَبْطُلُ وَيَسْقُطُ الثَّمَنُ مِنْ ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي وَيَأْخُذُ مِنَ الْبَائِعِ مَا احْتَلَبَتْ مِنَ اللَّبَنِ ، وَهَذَا صَحِيحٌ : لِأَنَّ تَلَفَ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ يُبْطِلُ الْبَيْعَ وَيُوجِبُ سُقُوطَ الثَّمَنِ ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ مِلْكِ النَّمَاءِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ إِنْ كَانَتْ أَمَةً ثَيِّبًا فَوَطِئَهَا فَالْوَطْءُ أَقَلُّ مِنَ الْخِدْمَةِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً ثَيِّبًا فَوَطِئَهَا فَالْوَطْءُ أَقَلُّ مِنَ الْخِدْمَةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . وَطْءُ الْمُشْتَرِي لِلْأَمَةِ الثَّيِّبِ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ رَدِّهَا بِالْعَيْبِ ، وَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ ، وَهُوَ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : وَطْؤُهُ مَانِعٌ مِنَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَيَرْجِعُ بِالْأَرْشِ . وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى : يَرُدُّهَا وَيَرُدُّ مَعَهَا عُقْرَهَا ، وَهُوَ الْمَهْرُ . وَرُوِيَ بِنَحْوِهِ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : وَعُقْرُهَا إِنْ كَانَتْ بِكْرًا عُشْرُ قِيمَتِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا نِصْفُ الْعُشْرِ " وَاسْتَدَلَّ مَنْ جَعَلَ الْوَطْءَ مَانِعًا مِنَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ ، بِأَنَّهُ وَطْءٌ وَيَكْمُلُ بِهِ الْمَهْرَ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُدُوثُهُ مِنَ الْمُشْتَرِي مَانِعًا مِنَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ قِيَاسًا عَلَى وَطْءِ الْبِكْرِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّ الْوَطْءَ كَالْجِنَايَةِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا يُسْتَبَاحُ بِالْإِبَاحَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَنْفَكُّ مِنْ وُجُوبِ مَا لَهُ أَوْ وُجُوبِ حَقٍّ فِي بَدَنٍ يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ .

فَإِذَا ثَبَتَ بِهَذَيْنِ أَنَّهُ كَالْجِنَايَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَانِعًا مِنَ الرَّدِّ كَالْعَيْبِ كَالْجِنَايَةِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنْ لَا يُمْنَعَ مِنَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ ، أَنَّ الْوَطْءَ أَقَلُّ مِنَ الْخِدْمَةِ : لِأَنَّ الْوَطْءَ يُلِذُّ وَيُطْرِبُ ، وَالْخِدْمَةَ تُكَدِّرُ وَتُتْعِبُ ، فَلَمَّا جَازَ لَهُ الرَّدُّ مَعَ مَا أَكَدَّ وَأَتْعَبَ ، فَأَوْلَى أَنْ يَجُوزَ مَعَ مَا أَلَذَّ وَأَطْرَبَ ، وَقَدْ يَتَحَرَّرُ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ قِيَاسًا ، فَيُقَالُ : لِأَنَّهُ مَعْنًى لَمْ يُؤَثِّرْ فِي الْعَيْنِ وَالْقِيمَةِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُمْنَعَ مِنَ الرَّدِّ كَالْخِدْمَةِ : وَلِأَنَّ وَطْءَ الْأَجْنَبِيِّ بِالزِّنَا كَرْهًا أَغْلَظُ مِنْ وَطْءِ الْمُشْتَرِي بِالْمِلْكِ طَوْعًا ، فَلَمَّا كَانَ زِنَا الْأَجْنَبِيِّ بِهَا لَا يُمْنَعُ مِنَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ ، فَوَطْءُ الْمُشْتَرِي أَحْرَى أَنْ لَا يُمْنَعَ مِنَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ ، وَتَحْرِيرُهُ أَنَّهُ اسْتِمْتَاعٌ لَمْ يَتَضَمَّنْ إِتْلَافًا فَوَجَبَ أَنْ لَا يَمْنَعَ مِنَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ قِيَاسًا عَلَى الْأَجْنَبِيِّ ، وَلِأَنَّهَا أَوْلَى لَوْ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ لَمْ يَكُنْ وَطْءُ الزَّوْجِ مَانِعًا لِلْمُشْتَرِي مِنَ الرَّدِّ ، فَوَطْءُ الْمُشْتَرِي أَوْلَى أَنْ لَا يَمْنَعَهُ مِنَ الرَّدِّ كَالزَّوْجِ ، وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّهُ وَطْءٌ لَوْ كَانَ حَرَامًا ، لَمْ يُمْنَعْ مِنَ الرَّدِّ ، فَأَوْلَى إِذَا كَانَ حَلَالًا أَنْ لَا يُمْنَعَ مِنَ الرَّدِّ كَالزَّوْجِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَعْنًى لَوْ حَدَثَ عِنْدَ الْبَائِعِ بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ لَمْ يَثْبُتْ لِلْمُشْتَرِي الْفَسْخُ ، وَجَبَ إِذَا كَانَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي أَنْ لَا يَمْنَعَهُ مِنَ الرَّدِّ كَالْقُبْلَةِ . وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهَا لَوْ وُطِئَتْ فِي يَدِ الْبَائِعِ بِشُبْهَةٍ ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَيْبًا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْمُشْتَرِي الْفَسْخَ ، فَكَذَلِكَ إِذَا وَطِئَهَا الْمُشْتَرِي لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَيْبًا يَمْنَعُهُ مِنَ الرَّدِّ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى وَطْءِ الْبِكْرِ ، فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ نَقْصٌ يُوكِسُ مِنْ ثَمَنِهَا ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الثَّيِّبُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ أَنَّ الْوَطْءَ كَالْجِنَايَةِ ، فَغَلَطٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْجِنَايَةَ نَقْصٌ يُوكِسُ الْقِيمَةَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْوَطْءُ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْجِنَايَةَ لَمَّا لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُهَا فِي وُجُودِهَا مِنَ الْمُشْتَرِي وَغَيْرِهِ فِي الْمَنْعِ مِنَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ ، وَاخْتَلَفَ عِنْدَهُمْ وَطْءُ الْمُشْتَرِي وَغَيْرِهِ فِي الْمَنْعِ مِنَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ ، دَلَّ عَلَى اخْتِلَافِ حُكْمِهَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا فَافْتَضَّهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا نَاقِصَةً

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا فَافْتَضَّهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا نَاقِصَةً كَمَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَنْ يَقْبَلَهَا نَاقِصَةً ، وَيَرْجِعُ بِمَا بَيْنَ قِيمَتِهَا مَعِيبَةً وَصَحِيحَةً مِنَ الثَّمَنِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . إِذَا كَانَتِ الْجَارِيَةُ الْمَعِيبَةُ بِكْرًا ، فَافْتَضَّهَا الْمُشْتَرِي وَأَذْهَبَ بَكَارَتَهَا ، ثُمَّ وَجَدَهَا مَعِيبَةً فَأَرَادَ رَدَّهَا ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُ : لِأَنَّ إِذْهَابَ الْبَكَارَةِ نَقْصٌ فِيهَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي الْبَدَنِ . وَالثَّانِي : فِي الثَّمَنِ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ الرَّدُّ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ بِالْأَرْشِ ، لِيَصِيرَ إِلَى بَدَلِ مَا ظَهَرَ عَلَيْهِ مِنَ النَّقْصِ ، وَاعْتِبَارُ الْأَرْشِ أَنْ تَقُومَ الْجَارِيَةُ وَهِيَ لَا عَيْبَ بِهَا فِي أَوَّلِ حَالَتِهَا فِيهِ مِنْ

وَقْتِ الْعَقْدِ إِلَى وَقْتِ الْقَبْضِ : لِأَنَّهُ إِنْ حَدَثَ بِهَا بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ نَقْصٌ كَانَ مَضْمُونًا عَلَى الْبَائِعِ ، وَإِنَّ حَدَثَ زِيَادَةٌ كَانَتْ مِلْكًا لِلْمُشْتَرِي ، وَلِذَلِكَ وَجَبَ تَقْوِيمُهَا فِي أَوَّلِ الْحَالَيْنِ قِيمَةً . فَإِذَا قِيلَ : قِيمَتُهَا فِي تِلْكَ الْحَالِ بَكْرًا لَا عَيْبَ بِهَا مِائَةُ دِينَارٍ ، قُوِّمَتْ بِكْرًا وَبِهَا ذَلِكَ الْعَيْبُ ، فَإِذَا قِيلَ : قِيمَتُهَا تِسْعُونَ دِينَارًا كَانَ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ مِنَ النَّقْصِ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ ، وَهِيَ عُشْرُ الْقِيمَةِ ، فَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِعُشْرِ الثَّمَنِ ، وَلَا يَرْجِعُ بِعُشْرِ الْقِيمَةِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الثَّمَنَ وَمَا زَادَ عَلَى الْقِيمَةِ أَوْ نَقَصَ فَلَوْ كَانَ الْأَرْشُ مُعْتَبَرًا مِنَ الْقِيمَةِ ، لَكَانَ رُبَّمَا اسْتَوْعَبَ الثَّمَنَ إِنْ كَانَ نَاقِصًا ، أَوْ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ إِنْ كَانَ زَائِدًا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا كَانَ جَمِيعُ الْمَبِيعِ فِي مُقَابَلَةِ جَمِيعِ الثَّمَنِ ، وَجَبَ أَنْ تَكُونَ أَجْزَاؤُهُ النَّاقِصَةُ فِي مُقَابَلَةِ أَجْزَاءِ الثَّمَنِ ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ نُظِرَ قَدْرُ الثَّمَنِ ، فَإِنْ كَانَ خَمْسِينَ دِينَارًا رَجَعَ الْمُشْتَرِي بِعُشْرِهَا ، وَذَلِكَ خَمْسَةُ دَنَانِيرَ ، وَإِنْ كَانَ مِائَتَيْ دِينَارٍ رَجَعَ بِعُشْرِهَا وَذَلِكَ عِشْرُونَ دِينَارًا .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ اعْتِبَارَ الْأَرْشِ مَا ذَكَرْنَا وَكَذَلِكَ فِي أَرْشِ كُلِّ عَيْبٍ ، فَلَوِ امْتَنَعَ الْبَائِعُ مِنْ دَفْعِ الْأَرْشِ ، وَقَالَ : أَنَا أَسْتَرِدُّ الْجَارِيَةَ ثَيِّبًا ، كَانَ لَهُ ذَلِكَ ، وَقِيلَ لِلْمُشْتَرِي : لَا أَرْشَ لَكَ وَأَنْتَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الرَّدِّ وَالْإِمْسَاكِ بِالْعَيْبِ : لِأَنَّنَا مَنَعْنَا مِنَ الرَّدِّ عَلَى الْبَائِعِ : لِأَنْ لَا يَلْحَقَهُ نَقْصٌ وَأَوْجَبْنَا لِلْمُشْتَرِي الْأَرْشَ لِيَسْتَدْرِكَ بِهِ الْعَيْبَ ، فَإِذَا رَضِيَ الْبَائِعُ بِقَبُولِ الْعَيْبِ بَطَلَ الْأَرْشُ ، وَوَجَبَ الرَّدُّ إِنْ شَاءَ الْمُشْتَرِي ، وَلَكِنْ لَوِ اسْتَحَقَّ الْمُشْتَرِي الرَّدَّ فَبَذَلَ الْبَائِعُ الْأَرْشَ ، لَمْ يَلْزَمِ الْمُشْتَرِي قَبُولُهُ ، وَكَانَ لَهُ الرَّدُّ ، وَلَوْ طَلَبَ الْمُشْتَرِي الْأَرْشَ لَمْ يَلْزَمِ الْبَائِعَ بَذْلُهُ ، وَكَانَ لِلْمُشْتَرِي الْإِمْسَاكُ أَوِ الرَّدُّ ، وَلَوْ تَرَاضَيَا جَمِيعًا عَلَى دَفْعِ الْأَرْشِ بَدَلًا مِنَ الرَّدِّ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ مَا اسْتَحَقَّ رَدُّهُ ثَبَتَ فِيهِ الْخِيَارُ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْتَقِلَ عَنْهُ إِلَى الْأَرْشِ : لِأَنَّهُ إِسْقَاطُ خِيَارٍ بِعِوَضٍ كَمَا لَوْ أُسْقِطَ خِيَارُ الثَّلَاثِ ، وَخِيَارُ الشُّفْعَةِ بِعِوَضٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ جَائِزٌ لِأَنَّ الْعَيْبَ قَدْ يُوجِبُ تَارَةً الرَّدَّ وَتَارَةً الْأَرْشَ فَلَمَّا جَازَ الرَّدُّ مَعَ اسْتِحْقَاقِ الْأَرْشِ اقْتَضَى أَنْ يَجُوزَ الْأَرْشُ مَعَ اسْتِحْقَاقِ الرَّدِّ وَلَا يُشْبِهُ خِيَارَ الثَّلَاثِ وَالشُّفْعَةَ لِأَنَّهُمَا لَا يَرْجِعَانِ إِلَى بَدَلِهِ وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى بَدَلٍ ، فَإِذَا قِيلَ بِجَوَازِ أَخْذِ الْأَرْشِ اعْتُبِرَ عَلَى مَا مَضَى وَإِذَا قِيلَ أَخْذُ الْأَرْشِ لَا يَجُوزُ فَهَلْ يَسْقُطُ خِيَارُ الْمُشْتَرِي عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَسْقُطُ خِيَارُهُ لِأَنَّ طَلَبَهُ لِلْأَرْشِ رِضًا مِنْهُ بِالْعَيْبِ . وَالثَّانِي : لَا يَسْقُطُ خِيَارُهُ : لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَمْسَكَ عَنِ الرَّدِّ لِمَّا ظَنَّهُ مِنْ حُصُولِ الْأَرْشِ ، فَإِذَا لَمْ يَحْصُلِ الْأَرْشُ كَانَ حَقُّهُ مِنَ الرَّدِّ .



فَصْلٌ : فَإِذَا اشْتَرَى عَبْدًا قَدْ سَرَقَ ، وَهُوَ غَيْرُ عَالِمٍ بِسَرِقَتِهِ حَتَّى قُطِعَ فِي يَدِهِ ، فَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ : لَهُ رَدُّهُ وَاسْتِرْجَاعُ ثَمَنِهِ . وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : لَا يَرُدُّهُ وَيَرْجِعُ بِنُقْصَانِ عَيْبِهِ . فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عِنْدِي نَظَرٌ ، وَلِقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَجْهٌ ، وَلَكِنْ لَوْ قُطِعْتَ يَدُهُ قَوَدًا لَمْ يَكُنْ لَهُ الرَّدُّ اتِّفَاقًا : لَأَنَّ الْقَوَدَ لَا يَتَحَتَّمُ وَيَصِحُّ الْعَفْوُ عَنْهُ ، وَالْقَطْعُ فِي السَّرِقَةِ لَا يَصِحُّ الْعَفْوُ عَنْهُ .

فَصْلٌ : وَإِذَا اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ عَصِيرًا حُلْوًا ، وَكَانَ مَعِيبًا فَلَمْ يَعْلَمِ الْمُشْتَرِي بِعَيْبِهِ حَتَّى صَارَ خَمْرًا ، فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرْجِعَ بِأَرْشِ عَيْبِهِ ، وَلَيْسَ لَهُ رَدُّ الْخَمْرِ وَاسْتِرْجَاعُ ثَمَنِهِ سَوَاءٌ رَضِيَ الْبَائِعُ بِقَبُولِهِ خَمْرًا أَمْ لَا : لِتَحْرِيمِ الْمُعَاوَضَةِ عَلَى الْخَمْرِ ، فَلَوْ صَارَ الْخَمْرُ خَلًّا ، فَقَالَ الْبَائِعُ : أَنَا أَسْتَرْجِعُ الْخَلَّ وَأَرُدُّ الثَّمَنَ وَلَا أَدْفَعُ الْأَرْشَ ، كَانَ لَهُ ذَلِكَ : لِأَنَّ الْخَلَّ هُوَ عَيْنُ الْعَصِيرِ ، وَلَيْسَ فِيهِ مَعْنًى يَمْنَعُ مِنَ الْمُعَاوَضَةِ عَلَيْهِ ، وَلَا لِلْمُشْتَرِي فِيهِ عَمَلٌ يَمْنَعُ مِنَ الرَّدِّ خَوْفًا مِنْ تَفْوِيتِ عَامِلِهِ عَلَيْهِ ، وَهَذَا مِنْ تَفْرِيعِ أَبِي الْعَبَّاسِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا اشْتَرَى نَصْرَانِيٌّ مِنْ نَصَرَانِيٍّ خَمْرًا ، ثُمَّ أَسْلَمَا فَوَجَدَ الْمُشْتَرِي بِالْمَبِيعِ عَيْبًا بِنَقْصِ الْعُشْرِ مِنْ ثَمَنِهِ ، قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ : لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْبَائِعِ بِأَرْشِ عَيْبِهِ ، وَهُوَ عُشْرُ الثَّمَنِ ، وَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ بِإِسْلَامِهِمَا ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ . فَإِنْ قَالَ الْبَائِعُ : أَنَا آخُذُ الْخَمْرَ وَأَرُدُّ الثَّمَنَ ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَرْجِعِ الْمُشْتَرِي بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ حَتَّى صَارَ الْخَمْرُ خَلًّا فِي يَدِ الْمُشْتَرِي ، فَقَالَ الْبَائِعُ أَنَا آخُذُ الْخَلَّ وَأَرُدُّ الثَّمَنَ جَازَ ، وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي وَقَفَ عَلَى عَيْبِ الْخَمْرِ قَبْلَ إِسْلَامِهِمَا ، فَلَمْ يَرُدَّهُ بِالْعَيْبِ حَتَّى أَسْلَمَا ، لَمْ يَكُنْ لِلْمُشْتَرِي بَعْدَ إِسْلَامِهِ الرَّدُّ وَلَا الرُّجُوعُ بِالْأَرْشِ ، أَمَّا الرَّدُّ فَلِحُدُوثِ الْإِسْلَامِ ، وَأَمَّا الْأَرْشُ فَلِإِمْكَانِ الرَّدِّ قَبْلَ الْإِسْلَامِ . وَلَوْ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ الْبَائِعُ وَحْدَهُ بَعْدَ تَبَايُعِ الْخَمْرِ لَمْ يَجُزْ لِلْمُشْتَرِي رَدَّهُ عَلَيْهِ بِالْعَيْبِ ، وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ أَسْلَمَ وَحْدَهُ جَازَ أَنْ يَرُدَّهُ بِالْعَيْبِ لِاسْتِرْجَاعِ تَمَلُّكِهِ الْخَمْرَ وَالْمُسْلِمُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَمَلَّكَ الْخَمْرَ ، وَرَدُّ الْمُشْتَرِي إِزَالَةُ الْمِلْكِ ، وَالْمُسْلِمُ يَجُوزُ أَنْ يُزِيلَ تَمَلُّكَهُ عَنِ الْخَمْرِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا اشْتَرَى شَاةً فَذَبَحَهَا ، ثُمَّ وَجَدَ بِهَا بَعْدَ الذَّبْحِ عَيْبًا من ، فَلَهُ الرُّجُوعُ بِأَرْشِهَا ، فَإِنْ رَضِيَ الْبَائِعُ بِقَبُولِهَا مَذْبُوحَةً فَلَا أَرْشَ لِلْمُشْتَرِي لِإِمْكَانِ الرَّدِّ ، وَلَا أُجْرَةَ عَلَى الْبَائِعِ لِلذَّبْحِ إِنْ رُدَّتْ عَلَيْهِ : لِأَنَّ الذَّبْحَ أَثَرٌ هُوَ نَقْصٌ . وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ ثَوْبًا قَدْ خَاطَهُ الْمُشْتَرِي اسْتَحَقَّ أَرْشَهُ بِالْعَيْبِ ، وَإِنْ رَضِيَ الْبَائِعُ بِقَبُولِهِ مَخِيطًا : لِأَنَّ فِي الْخِيَاطَةِ عَيْبًا قَائِمَةً وَأَثَرًا زَائِدًا . وَلَكِنْ لَوْ كَانَ الْمَبِيعُ غَزْلًا فَنَسَجَهُ الْمُشْتَرِي ، ثُمَّ وُجَدَ فِيهِ عَيْبًا ، كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ بِأَرْشِهِ ، فَإِنْ رَضِيَ الْبَائِعُ بِقَبُولِهِ مَنْسُوجًا بِعَيْنِهِ ، فَفِيهِ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارَ إِنْ شَاءَ رَدَّهُ مَنْسُوجًا وَلَا أُجْرَةَ لَهُ عَلَى الْبَائِعِ ، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهُ مَعِيبًا : لِأَنَّ النِّسَاجَةَ أَثَرٌ لَا يُمْتَلَكُ .

وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْبَائِعَ إِنْ بَذَلَ أُجْرَةَ النَّسِيجِ كَانَ لَهُ اسْتِرْجَاعُ الْغَزْلِ مَنْسُوجًا ، فَإِنْ أَبَى لَزِمَهُ الْأَرْشُ : لِأَنَّ النِّسَاجَةَ زِيَادَةُ عَمَلٍ فِي مُقَابَلَةِ عِوَضٍ .

فَصْلٌ : وَلَوِ اشْتَرَى عَبْدًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَأَخَذَ بِالْمِائَةِ ثَوْبًا ، ثُمَّ وَجَدَ بِالْعَبْدِ عَيْبًا فَرَدَّهُ ، كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْبَائِعِ بِالْمِائَةِ وَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالثَّوْبِ : لِأَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ يُوجِبُ الرُّجُوعَ بِالثَّمَنِ ، وَالثَّمَنُ هُوَ الْمِائَةُ دُونَ الثَّوْبِ ، وَلَكِنْ لَوْ بَانَ الْعَبْدُ حُرًّا أَوْ مَغْصُوبًا رَجَعَ بِالثَّوْبِ دُونَ الْمِائَةِ لِفَسَادِ الْعَقْدِ وَبُطْلَانِ الثَّمَنِ ، وَكَانَ لَهُ الرُّجُوعُ بِمَا رَفَعَ ، وَلَوْ مَاتَ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْبَائِعِ قَبْلَ قَبْضِهِ مِنْهُ انْفَسَخَ الْبَيْعُ ، قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ : وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرْجِعَ بِالْمِائَةِ دُونَ الثَّوْبِ : لِأَنَّ الْفَسْخَ بِتَلَفِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ قَطَعَ الْعَقْدَ وَلَيْسَ لَهُ بِرَافِعٍ مِنْ أَصْلِهِ بِخِلَافِ الْعَيْبِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَوْ أَصَابَ الْمُشْتَرِيَانِ صَفْقَةً وَاحِدَةً مِنْ رَجُلٍ بِجَارِيَةٍ - عَيْبًا ، فَأَرَادَ أَحَدُهُمَا الرَّدَّ وَالْآخَرُ الْإِمْسَاكَ فَذَلِكَ لَهُمَا لِأَنَّ مَوْجُودًا فِي شِرَاءِ الِاثْنَيْنِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُشْتَرٍ لِلنِّصْفِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا اشْتَرَى رَجُلَانِ سِلْعَةً مِنْ رَجُلٍ فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ فأرادا ردها ، ثُمَّ وَجَدَا بِهَا عَيْبًا فَإِنْ رَدَّاهَا مَعًا كَانَ ذَلِكَ لَهُمَا ، وَإِنْ أَمْسَكَاهَا مَعًا كَانَ ذَلِكَ لَهُمَا ، وَإِنْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا رَدَّ حِصَّتِهِ ، وَأَرَادَ الْآخَرُ إِمْسَاكَ حِصَّتِهِ جَازَ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجُوزُ لِأَحَدِهِمَا الرَّدُّ حَتَّى يُرَدَّا مَعًا ، وَيُمْسِكَا مَعًا . وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو ثَوْرٍ ، عَنِ الشَّافِعِيِّ ، احْتِجَاجًا بِأَنَّ الْمَبِيعَ خَرَجَ مِنْ يَدِ بَايِعِهِ صَفْقَةً ، فَلَمْ يَجُزْ تَبْعِيضُهَا عَلَيْهِ ، وَبَعْضُ الصَّفْقَةِ كَالْمُشْتَرِي الْوَاحِدِ ، قَالَ : وَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَيْنِ مِنَ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ يَجْرِي عَلَى ابْتِيَاعِهِمَا حُكْمُ الْعَقْدِ الْوَاحِدِ ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِهِمَا قَبُولُ الْعَقْدِ دُونَ الْآخَرِ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ بَدَلٌ وَاحِدٌ يَضْمَنُهُ ثَمْنٌ وَاحِدٌ ، كَمَا لَوْ كَانَ لِمُشْتَرٍ وَاحِدٍ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : جَوَازُ رَدِّ أَحَدِ الْمُشْتَرِيَيْنِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْعَقْدَيْنِ . فَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ رَدِّ أَحَدِ الْمُشْتَرِيَيْنِ ، فَهُوَ أَنَّهُ رَدَّ بِالْعَيْبِ جَمِيعَ مَا لَزِمَهُ ثَمَنُهُ بِالْعَقْدِ ، فَجَازَ لَهُ الرَّدُّ كَالْمُشْتَرِي الْوَاحِدِ . وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْعَقْدَيْنِ ، فَهُوَ أَنَّهُ عَقْدٌ اجْتَمَعَ فِي أَحَدِ طَرَفَيْهِ عَاقِدَانِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي حُكْمِ الْعَقْدَيْنِ كَالْمُشْتَرِي الْوَاحِدِ مِنْ بَايِعَيْنِ ، وَلِأَنَّهُمَا لَوِ اشْتَرَيَا شِقْصًا تَجْرِي فِيهِ الشُّفْعَةُ ، لَكَانَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ حِصَّةَ أَيِّهِمَا شَاءَ ، وَلَوْ كَانَتْ صَفْقَةً وَاحِدَةً لَمْ يَجُزْ ، وَلَوْ تَصَارَفَا مِنْ رَجُلٍ فَقَبَضَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الِافْتِرَاقِ وَلَمْ يَقْبِضِ الْآخَرُ جَازَتْ فِي حِصَّةِ مَنْ قَبَضَ ، وَبَطَلَتْ فِي حِصَّةِ مَنْ لَمْ يَقْبِضْ ، وَلَوْ كَانَتْ صَفْقَةً وَاحِدَةً لَبَطَلَ جَمِيعُهَا ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا صَفْقَتَانِ ، وَجَازَ لِأَحَدِهِمَا الْقَبُولُ دُونَ الْآخَرِ .

وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : إِنَّ فِيهِ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ عَلَى بَائِعِهِ كَالْمُشْتَرِي الْوَاحِدِ ، فَهُوَ أَنَّ الْبَائِعَ فَرَقَّ صَفْقَةَ نَفْسِهِ بِالْبَيْعِ عَلَى اثْنَيْنِ ، وَلَمْ يُفَرِّقْهَا بِالْبَيْعِ عَلَى وَاحِدٍ ، عَلَى أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَقُولُ فِي الْمُشْتَرِي الْوَاحِدِ إِذَا وَجَدَ بِأَحَدِ الْعَبْدَيْنِ عَيْبًا أَنَّ لَهُ رَدَّ الْمَعِيبِ مِنْهُمَا دُونَ السَّلِيمِ ، وَفِيهِ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ الْوَاحِدَةِ فَأَوْلَى أَنْ يَقُولَ بِمِثْلِهِ فِي مَسْأَلَتِنَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْعَقْدِ الْوَاحِدِ : لِأَنَّ الثَّمَنَ فِيهِ وَاحِدٌ ، فَهُوَ أَنَّ الثَّمَنَ إِذَا قَابَلَ جِنْسًا وَاحِدًا كَانَ الثَّمَنُ مُقَسَّطًا عَلَى أَجْزَائِهِ ، فَجَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ التَّبْعِيضِ وَإِنْ كَانَ جُمْلَةً ، وَإِذَا قَابَلَ أَعْيَانًا مُخْتَلِفَةً كَانَ حُكْمُهُ بِخِلَافِهِ ، فَلَوْ كَانَ - لِأَنَّ الثَّمَنَ وَاحِدٌ - يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ فِي حُكْمِ الْعَقْدِ الْوَاحِدِ ، لَوَجَبَ إِذَا ابْتَاعَ رَجُلَانِ عَبْدَيْنِ مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ بِأَلْفٍ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُشْتَرٍ لِأَحَدِ الْعَبْدَيْنِ أَنْ يَصِحَّ كَمَا لَوِ اشْتَرَاهُمَا رَجُلٌ وَاحِدٌ ، فَلَمَّا بَطَلَ فِي الْجَهْلِ ثَمَنُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَبْدَيْنِ ، وَلَمْ يَبْطُلْ إِذَا اشْتَرَاهُمَا رَجُلٌ وَاحِدٌ ، دَلَّ عَلَى ابْتِيَاعِ الِاثْنَيْنِ فِي حُكْمِ الْعَقْدَيْنِ وَإِنْ كَانَ بِثَمَنٍ وَاحِدٍ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ الرَّدُّ ، فَرَدَّ أَحَدُهُمَا وَاسْتَرْجَعَ مَا دَفَعَ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَصَحُّهُمَا : أَنَّ الشَّرِكَةَ بَيْنَ الْمُشْتَرِكَيْنِ قَدْ بَطَلَتْ بِالرَّدِّ فَيَكُونُ لِلْمُمْسِكِ نِصْفُ الْعَبْدِ وَلِلرَّادِّ نِصْفُ الثَّمَنِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الشَّرِكَةَ بَيْنَهُمَا عَلَى حَالِهَا : لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا قِسْمَةٌ فَعَلَى هَذَا نِصْفُ الْعَبْدِ بَيْنَهُمَا وَنِصْفُ الْعَبْدِ الثَّمَنِ بَيْنَهُمَا .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا اشْتَرَى رَجُلٌ عَبْدًا مِنْ رَجُلَيْنِ ، فَوَجَدَ بِهِ عَيْبًا ، كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ جَمِيعَ الْعَبْدِ عَلَيْهِمَا ، وَلَهُ أَنْ يُمْسِكَهُ ، وَلَا يَرُدُّ شَيْئًا مِنْهُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَلَهُ أَنْ يَرُدَّ نِصْفَهُ عَلَى أَحَدِهِمَا ، وَيُمْسِكَ النِّصْفَ الْآخَرَ ، وَهَذَا يُوَافِقُ عَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ .

فَصْلٌ : وَلَوِ اشْتَرَى رَجُلَانِ عَبْدًا مِنْ رَجُلَيْنِ ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُشْتَرِيَيْنِ أَنْ يَرُدَّ رُبْعَ الْعَبْدِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْبَايِعَيْنِ : لِأَنَّ هَذِهِ الصَّفْقَةَ حُكْمُهَا حُكْمُ الْعُقُودِ الْأَرْبَعَةِ ، فَكَذَا لَوِ اشْتَرَى ثَلَاثَةُ أَنْفُسٍ عَبْدًا مِنْ ثَلَاثَةِ أَنْفُسٍ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ أَنْ يَرُدَّ تُسْعَ الْعَبْدِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْبَاعَةِ الثَّلَاثَةِ : لِأَنَّ هَذِهِ الصَّفْقَةَ حُكْمُهَا حُكْمُ الْعُقُودِ التِّسْعَةِ .

فَصْلٌ : وَلَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ وَكَّلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فِي ابْتِيَاعِ عَبْدٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ ثم وجد به عيبا ، فَابْتَاعَ الْوَكِيلُ عَبْدًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُوَكِّلِهِ صَفْقَةً وَاحِدَةً ، ثُمَّ وَجَدَا بِهِ عَيْبًا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا الرَّدُّ دُونَ الْآخَرِ : لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ وَاحِدٌ ، وَالْبَائِعَ وَاحِدٌ فَكَانَتِ الصَّفْقَةُ فِي حُكْمِ الْعَقْدِ الْوَاحِدِ ، فَلَمْ يَجُزْ تَبْعِيضُهَا .

فَصْلٌ : وَلَوْ كَانَ عَبْدٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَوَكَّلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فِي بَيْعِهِ فوجد المشتري به عيبا فَبَاعَ الْوَكِيلُ جَمِيعَ الْعَبْدِ عَلَى رَجُلٍ صَفْقَةً وَاحِدَةً نِصْفَهُ بِحَقِّ الْمِلْكِ وَنِصْفَهُ بِحَقِّ الْوِكَالَةِ ، ثُمَّ إِنَّ الْمُشْتَرِيَ وَجَدَ بِالْعَبْدِ عَيْبًا ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ حُكْمَ هَذِهِ الصَّفْقَةِ حُكْمُ الْعَقْدِ الْوَاحِدِ : لِأَنَّ الْبَائِعَ فِيهِمَا وَاحِدٌ وَالْمُشْتَرِيَ وَاحِدٌ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَرُدَّ جَمِيعَهُ بِالْعَيْبِ أَوْ يُمْسِكَ جَمِيعَهُ وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ هَذِهِ الصَّفْقَةَ فِي حُكْمِ الْعَقْدَيْنِ وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّ إِحْدَى الْحِصَّتَيْنِ

لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْبَائِعَيْنِ قَدْ كَانَ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْعَبْدِ ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ شَرِيكَهُ الَّذِي بَاعَ مِنْهُ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ شَرِيكَ الْمُشْتَرِي ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ تَوْكِيلِ أَحْدِ الْمُشْتَرِينَ لِصَاحِبِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ .

فَصْلٌ : وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا اشْتَرَى نِصْفَ عَبْدٍ فِي عَقْدٍ ، ثُمَّ اشْتَرَى بَاقِيهِ فِي عَقْدٍ آخَرَ ، ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا ، فَإِنْ كَانَ حُدُوثُ هَذَا الْعَيْبِ بَعْدَ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ ، وَقَبْلَ الْعَقْدِ الثَّانِي ، فَلَهُ أَنْ يَرُدَّ الْحِصَّةَ الثَّانِيَةَ بِالْعَيْبِ دُونَ الْحِصَّةِ الْأُولَى ، وَإِنْ كَانَ مُتَقَدِّمًا قَبْلَ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ ، فَالْمُشْتَرِي مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَرُدَّ الْعَبْدَ كُلَّهُ بِالْعَقْدَيْنِ وَبَيْنَ أَنْ يُمْسِكَهُ كُلَّهُ بِالْعَقْدَيْنِ وَبَيْنَ أَنْ يَرُدَّ الْحِصَّةَ الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ وَبَيْنَ أَنْ يَرُدَّ الْحِصَّةَ الثَّانِيَةَ دُونَ الْأُولَى .

فَصْلٌ : وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا اشْتَرَى عَبْدًا ثُمَّ مَاتَ وَخَلَّفَ اثْنَيْنِ فَوَجَدَا بِالْعَبْدِ عَيْبًا ، فَأَمْسَكَ أَحَدُهُمَا وَأَرَادَ الْآخَرُ الرَّدَّ ، فَالْبَائِعُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَسْتَرْجِعَ نِصْفَهُ بِنِصْفِ الثَّمَنِ أَوْ يُعْطِيَ نِصْفَ الْأَرْشِ ، وَلَا يُخَيَّرُ الَّذِي يُرِيدُ الرَّدَّ عَلَى إِسْقَاطِ حَقِّهِ .

فَصْلٌ : وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا اشْتَرَى عَبْدًا صَفْقَةً ، ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَأَرَادَ بَعْضَهُ لَمْ يَجُزْ : لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ ، وَكَانَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُمْسِكَهُ كُلَّهُ أَوْ يَرُدَّهُ كُلَّهُ ، وَلَوِ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ صَفْقَةَ رَجُلٍ ثُمَّ وَجَدَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا ، فَإِنْ رَدَّهُمَا مَعًا كَانَ لَهُ ذَلِكَ ، وَإِنْ أَرَادَ رَدَّ السَّلِيمِ دُونَ الْمَعِيبِ لَمْ يَجُزْ ، وَإِنْ أَرَادَ رَدَّ الْمَعِيبِ دُونَ السَّلِيمِ فَإِنْ رَضِيَ بِهِ الْبَائِعُ جَازَ ، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ بِهِ الْبَائِعُ ، فَفِيهِ قَوْلَانِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ إِذَا قِيلَ بِجَوَازِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ . وَالثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ ، لَا يَجُوزُ ، إِذَا قِيلَ إِنَّهُ لَا يَجُوزُ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ ، ثُمَّ إِذَا قُلْنَا : بِجَوَازِهِ فَاخْتَلَفَا فِي حِصَّةِ الْمَعِيبِ الْمَرْدُودِ مِنَ الثَّمَنِ ، وَكَانَ السَّلِيمُ مَعْدُومًا فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي اخْتِلَافِ الْعِرَاقِيِّينَ ، أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْبَائِعِ : لِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَ جَمِيعَ الثَّمَنِ بِالْعَقْدِ ، فَلَمْ يُسْتَرْجَعْ مِنْهُ إِلَّا مَا اعْتَرَفَ بِهِ . وَالثَّانِي : ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الصَّرْفِ : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُشْتَرِي : لِأَنَّهُ غَارِمٌ ، فَأَمَّا التَّحَالُفُ فَلَا يَجِبُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى أَصْلِ الْعَقْدِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَوِ اشْتَرَاهَا جَعْدَةً فَوَجَدَهَا سَبْطَةً فَلَهُ الرَّدُّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . إِذَا اشْتَرَى جَارِيَةً جَعْدَةَ الشَّعْرِ فَوَجَدَهَا سَبْطَةَ الشَّعْرِ ، فَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَرَى شَعْرَهَا عِنْدَ الِابْتِيَاعِ أَوْ لَا يَرَاهُ ، فَإِنْ رَأَى شَعْرَهَا عِنْدَ عَقْدِ الْبَيْعِ ، وَكَانَ جَعْدًا صَحَّ الْبَيْعُ ، وَإِنْ بَانَ الشَّعْرُ سَبْطًا وَأَنَّ تَجْعِيدَهُ كَانَ مُزَوَّرًا فَهَذَا عَيْبٌ ، وَلَهُ الْخِيَارُ سَوَاءٌ شَرَطَ فِي الْبَيْعِ أَنَّهَا جَعْدَةٌ أَوْ لَمْ يَشْرُطْ : لِأَنَّ رُؤْيَتَهَا جَعْدَةً يُغْنِي عَنِ اشْتِرَاطِهَا أَنَّهَا جَعْدَةٌ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَيْسَ هَذَا بِعَيْبٍ لَهُ سَوَاءٌ شَرَطَهُ أَوْ لَمْ يَشْرُطْهُ : لِأَنَّ عَدَمَ التَّجْعِيدِ لَا يَسْلُبُ

مَنْفَعَةً وَلَا يَنْقُصُ قِيمَةً ، وَهَذَا خَطَأٌ : بَلْ فَقْدُهُ نَقْصٌ : لِأَنَّ تَجْعِيدَ الشَّعْرِ دَلِيلٌ عَلَى قُوَّةِ الْجِسْمِ ، وَفَقْدِهِ دَلِيلٌ عَلَى ضَعْفِ الْجِسْمِ ، وَلِأَنَّهُ أَحْسَنُ فِي النَّظَرِ وَأَزْيَدُ فِي الثَّمَنِ ، وَإِنِ ابْتَاعَهَا فَلَمْ يَرَ وَجْهَهَا فَفِي بُطْلَانِ الْمَبِيعِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلٌ ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ لِعَدَمِ الرُّؤْيَةِ فِيمَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ كَسَائِرِ الْجَسَدِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ جَائِزٌ ، وَهُوَ أَصَحُّ : لِأَنَّ الشَّعْرَ تَبَعٌ فَلَمْ يَكُنْ فَقْدُ رُؤْيَتِهِ مُبْطِلًا لِلْبَيْعِ ، فَعَلَى هَذَا إِذَا لَمْ يَشْتَرِطْ عَلَى الْبَائِعِ إِنَّهَا جَعْدَةُ الشَّعْرِ فَلَا خِيَارَ لَهُ : لِأَنَّ فَقْدَ الرُّؤْيَةِ وَعَدَمَ الرُّؤْيَةِ يَمْنَعَانِ مِنَ الرَّدِّ فِيمَا لَيْسَ يَنْقُصُ عَنْ حَالِ السَّلَامَةِ ، فَإِنْ كَانَ وُجُودُهُ زِيَادَةً كَمَا لَوِ اشْتَرَى عَبْدًا فَظَنَّهُ كَاتِبًا ، وَكَانَ غَيْرَ كَاتِبٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ الرَّدُّ ، وَلَكِنْ لَوِ اشْتَرَطَ أَنَّهَا جَعْدَةٌ كَانَ لَهُ الرَّدُّ لِأَجْلِ الشَّرْطِ ، كَمَا لَوِ اشْتَرَى عَبْدًا عَلَى أَنَّهُ كَاتِبٌ فَبَانَ غَيْرَ كَاتِبٍ كَانَ لَهُ الرَّدُّ لِأَجْلِ الشَّرْطِ ، وَإِنْ كَانَ لَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ أَنَّهُ كَاتِبٌ لَمْ يَسْتَحِقَّ الرَّدَّ .

فَصْلٌ : وَلَوِ اشْتَرَى جَارِيَةً عَلَى أَنَّهَا سَبْطَةٌ فَكَانَتْ جَعْدَةً ، فَفِي اسْتِحْقَاقِ الرَّدِّ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ : لَيْسَ لَهُ الرَّدُّ : لِأَنَّ تَجْعِيدَ الشَّعْرِ زِيَادَةٌ ، وَاشْتِرَاطُ الْمُشْتَرِي أَنْ يَكُونَ سَبْطًا إِنَّمَا هُوَ لِطَلَبِ الرُّخْصِ أَوْ لِسُوءِ الِاخْتِيَارِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ لَهُ الرَّدَّ لِفَقْدِ الشَّرْطِ وَاخْتِلَافِ الْأَغْرَاضِ .

فَصْلٌ : وَلَوِ اشْتَرَى جَارِيَةً عَلَى أَنَّهَا بِكْرٌ فَكَانَتْ ثَيِّبًا ، فَلَهُ الرَّدُّ وَلَوِ اشْتَرَاهَا يَظُنُّهَا بِكْرًا وَكَانَتْ ثَيِّبًا ، فَلَيْسَ لَهُ الرَّدُّ : لِأَنَّ الثَّيِّبَ سَلِيمَةٌ وَالْبَكَارَةُ زِيَادَةٌ ، وَلَوِ اشْتَرَاهَا عَلَى أَنَّهَا ثَيِّبٌ فَكَانَتْ بَكْرًا فَفِي اسْتِحْقَاقِ الرَّدِّ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا رَدَّ : لِأَنَّ الْبَكَارَةَ زِيَادَةٌ . وَالثَّانِي : لَهُ الرَّدُّ : لِأَجْلِ الشَّرْطِ وَاخْتِلَافِ الْأَغْرَاضِ ، وَلَكِنْ لَوِ اشْتَرَى جَارِيَةً وَكَانَ شَعْرُهَا أَبْيَضًا كَانَ لَهُ الرَّدُّ ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ سَوَادَ الشَّعْرِ لِأَنَّ بَيَاضَ الشَّعْرِ نَقْصٌ ، وَلَوِ اشْتَرَاهَا عَلَى أَنَّ شَعْرَهَا أَبْيَضٌ فَكَانَ أَسْوَدًا كَانَ فِي الرَّدِّ وَجْهَانِ .

فَصْلٌ : إِذَا اشْتَرَى أَمَةً فَكَانَتْ زَانِيَةً أَوْ بِفَمِهَا بَخَرٌ هل يكون ذلك عيبا ؟ ، فَهَذَانِ عَيْبَانِ وَلَهُ فِيهِمَا الرَّدُّ : لِأَنَّ الزِّنَا يُفْسِدُ النَّسَبَ وَيُوجِبُ الْحَدَّ وَبَخَرُ الْفَمِ يَمْنَعُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ وَيُوكِسُ الثَّمَنَ ، وَلَوِ اشْتَرَى عَبْدًا فَكَانَ زَانِيًا أَوْ فِي فَمِهِ بَخَرٌ كَانَ عَيْبًا وَلَهُ الرَّدُّ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الزِّنَا وَبَخَرُ الْفَمِ لَيْسَ بِعَيْبٍ فِي الْعَبْدِ ، وَإِنْ كَانَ عَيْبًا فِي الْأَمَةِ : لِأَنَّ مَقْصُودَ الْعَبْدِ هُوَ الْعَمَلُ ، وَالزِّنَا وَالْبَخَرُ لَا يُؤَثِّرَانِ فِي عَمَلِهِ . وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ مَا كَانَ عَيْبًا فِي الْأَمَةِ كَانَ عَيْبًا فِي الْعَبْدِ كَالسَّرِقَةِ ، وَلِأَنَّ زِنَا الْعَبْدِ يُوجِبُ عَلَيْهِ الْحَدَّ فَرُبَّمَا أَتْلَفَهُ وَبَخَرُ فَمِهِ يَمْنَعُ مِنِ مُقَارَبَتِهِ وَيُؤْذِي عِنْدَ مُجَالَسَتِهِ ، وَلَكِنْ لَوِ اشْتَرَى عَبْدًا أَوْ أَمَةً ، فَكَانَتْ وَلَدَ زِنَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَيْبًا يُوجِبُ الرَّدَّ : لِأَنَّ أَكْثَرَ الرَّقِيقِ أَوْلَادُ زَنْيَةٍ وَلَيْسَ لِذَلِكَ تَأْثِيرٌ فِي أَثْمَانِهِمْ .



فَصْلٌ : إِذَا اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَجَدَهَا تُحْسِنُ الْغِنَاءَ وَتَضْرِبُ بِالْعُودِ أَوْ تَنْفُخُ فِي الْمِزْمَارِ هل يكون ذلك عيبا ؟ لَمْ يَكُنْ عَيْبًا وَلَا رَدَّ لَهُ . وَقَالَ مَالِكٌ : هَذَا عَيْبٌ وَلَهُ الرَّدُّ : لِأَنَّ ذَلِكَ يُخْلِقُهَا وَيَدُلُّ عَلَى قِلَّةِ صِيَانَتِهَا . وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ الْغِنَاءَ صَنْعَةٌ تَزِيدُ فِي ثَمَنِهَا ، وَالْمُبْتَغَى مِنَ الرَّقِيقِ تَوْفِيرُ الْأَثْمَانِ ، فَإِنْ كَرِهَ ذَلِكَ مِنْهَا أَمْكَنَهُ أَنْ يَكُفَّهَا وَيَمْنَعَهَا مِنْهُ .

فَصْلٌ : وَإِذَا اشْتَرَى عَبْدًا فَبَانَ أَنَّهُ بِيعَ بِجِنَايَةٍ جَنَاهَا ، لَمْ تَخُلُ الْجِنَايَةُ الَّتِي بِيعَ فِيهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً ، فَإِنْ كَانَتْ خَطَأً لَمْ تَخْلُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ تَتَكَرَّرَ مِنْهُ أَمْ لَا ، فَإِنْ كَانَتْ تَتَكَرَّرُ مِنْهُ كَثِيرًا ، فَهَذَا عَيْبٌ يُوجِبُ الرَّدَّ ، وَإِنْ كَانَتْ مَرَّةً وَاحِدَةً لَمْ تَتَكَرَّرْ مِنْهُ فَلَيْسَ بِعَيْبٍ ، وَلَا رَدَّ لَهُ : لِأَنَّ النَّادِرَ مِنْ جِنَايَاتِ الْخَطَأِ لَا يَخْلُو مِنْهُ فِي الْغَالِبِ أَحَدٌ . وَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَمْدًا فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْعَبْدُ قَدْ تَابَ مِنْهَا فَهَذَا عَيْبٌ وَلَهُ الرَّدُّ ، وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ قَدْ تَابَ مِنْهَا ، فَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ بَعْدَ تَوْبَتِهِ عَيْبًا يُوجِبُ الرَّدَّ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُوجِبُ الرَّدَّ : لِأَنَّ التَّوْبَةَ قَدْ رَفَعَتْ ذَنْبَهُ ، وَالثَّانِي : لَهُ الرَّدُّ : لِأَنَّ التَّوْبَةَ تَرْفَعُ الْإِثْمَ وَلَا تَرْفَعُ النَّقْضَ .

فَصْلٌ : فَإِذَا اشْتَرَى عَبْدًا وَكَانَ آبِقًا ، فَلَهُ الرَّدُّ ، لَكِنْ إِنْ أَبَقَ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي ، فَلَا مُخَاصَمَةَ لَهُ مَعَ الْبَائِعِ حَتَّى يُحْضِرَ الْعَبْدَ سَوَاءٌ عَلِمَ بِقِدَمِ إِبَاقِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ . وَقَالَ مَالِكٌ : لَهُ مُخَاصَمَةُ الْبَائِعِ إِذَا عَلِمَ بِقِدَمِ إِبَاقِهِ وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ . وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ حَالَ الْآبِقِ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْبَقَاءِ وَالتَّلَفِ ، فَإِنْ كَانَ بَاقِيًا اسْتَحَقَّ الرَّدَّ وَاسْتِرْجَاعَ الثَّمَنِ ، وَإِنْ كَانَ تَالِفًا اسْتَحَقَّ أَخْذَ الْأَرْشِ وَمَا جَهِلَ اسْتِحْقَاقَهُ لَمْ يَصِحَّ الْمُطَالَبَةُ .

فَصْلٌ : وَإِنِ اشْتَرَى عَبْدًا ، وَكَانَ يَبُولُ إِذَا نَامَ هل يكون ذلك عيبا ؟ ، كَانَ عَيْبًا يُوجِبُ الرَّدَّ ، فَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِحَالِهِ حَتَّى كَبِرَ الْعَبْدُ لَمْ يَكُنْ لَهُ الرَّدُّ وَرَجَعَ بِالْأَرْشِ : لِأَنَّ عِلَاجَهُ بَعْدَ الْكِبَرِ عَسِيرٌ فَصَارَ كِبَرُهُ عِنْدَهُ كَالْعَيْبِ الْحَادِثِ فِي يَدِهِ ، وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ غَيْرَ مَخْتُونٍ ، فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ صَغِيرًا فَلَا رَدَّ لَهُ : لِأَنَّ فَقْدَ الْخِتَانَةِ فِي الصِّغَرِ لَيْسَتْ نَقْصًا : لِأَنَّهَا غَالِبُ أَحْوَالِ الصِّغَارِ ، فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ كَبِيرًا كَانَ عَيْبًا يُوجِبُ الرَّدَّ : لِأَنَّ فَقْدَ الْخِتَانَةِ فِيهِ نَقْصٌ وَعَلَيْهِ فِيهَا وَكْسٌ .

فَصْلٌ : وَلَوِ اشْتَرَى عَبْدًا فَكَانَ رَطْبَ الْكَلَامِ ، أَوْ غَلِيظَ الصَّوْتِ ، أَوْ ثَقِيلَ النَّفَسِ ، أَوْ بَطِيءَ الْحَرَكَةِ ، أَوْ كَثِيرَ النَّهَمِ ، أَوْ فَاسِدَ الرَّأْيِ ، أَوْ قَلِيلَ الْأَدَبِ ، فَلَا رَدَّ لَهُ بِهَذَا كُلِّهِ لِسَلَامَةِ بَدَنِهِ وَصِحَّةِ جِسْمِهِ ، وَلَكِنْ لَوْ كَانَ بِهِ بَلَهٌ ، أَوْ خَبَلٌ ، أَوْ عَتَهٌ ، أَوْ سُدُدٌ ، أَوْ كَانَ مُؤَنَّثًا ، أَوْ خُنْثَى مُشْكِلٍ ، أَوْ غَيْرَ مُشْكِلٍ ، أَوْ فِي كَفِّهِ إِصْبَعٌ زَائِدَةٌ ، أَوْ نَاقِصَةٌ ، أَوْ بِهِ بَرَصٌ ، أَوْ حَرُّ كَبِدٍ ، أَوْ نَفْحَةُ طِحَالٍ ، أَوْ كَانَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ أَوْ يَقْذِفُ الْمُحْصَنَاتِ ، أَوْ يَدَعُ الصَّلَوَاتِ ، أَوْ كَانَ أَصَمَّ ، أَوْ أَخْشَمَ ، أَوْ أَخْرَسَ ، أَوْ أَرْثَهُ لَا يُفْهَمُ ، أَوْ فِي فَمِهِ سِنٌّ زَائِدَةٌ ، أَوْ مَقْلُوعَةٌ ، فَكُلُّ هَذِهِ عُيُوبٌ تُوجِبُ الرَّدَّ فى البيع : لِأَنَّهَا وَمَا أَوْجَبَ الْحَدَّ نَقْصٌ فِي بَدَنِهِ .

وَكَذَلِكَ لَوِ اشْتَرَى عَبْدًا وَكَانَ ذَا زَوْجَةٍ ، أَوْ أَمَةً فَكَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ هل يرد البيع بذلك ؟ ، كَانَ لَهُ الرَّدُّ : لِأَنَّ زَوْجَةَ الْعَبْدِ تَسْتَحِقُّ مِنْ كَسْبِهِ النَّفَقَةَ ، وَزَوْجَ الْأَمَةِ يَمْنَعُ مِنَ اسْتِمْتَاعِ الْمُشْتَرِي بِهَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتِ الْأَمَةُ فِي عِدَّةٍ أَوْ مُحَرَّمَةً كَانَ الرَّدُّ لَهُ ، وَلَوْ كَانَتْ صَائِمَةً لَمْ يَكُنْ لَهُ الرَّدُّ : لِأَنَّ الْخُرُوجَ مِنْهُ قَرِيبٌ . وَلَكِنْ لَوْ كَانَتْ أُخْتَهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ الرَّدُّ : لِأَنَّهَا وَإِنْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ فَقَدْ تَحِلُّ لِغَيْرِهِ ، فَخَالَفَتِ الْمُعْتَدَّةَ الَّتِي تَحْرُمُ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ ، وَلَوْ كَانَتْ أُخْتَهُ مِنَ النَّسَبِ فَلَا رَدَّ لَهُ كَأُخْتِهِ مِنَ الرَّضَاعِ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَلَوْ كَانَتْ مِنْ وَالِدَيْهِ أَوْ مَوْلُودَيْهِ عُتِقَتْ ، وَلَا رَدَّ لَهُ وَلَا أَرْشَ : لِأَنَّ الْعَيْبَ هُوَ النَّقْصُ الْمُخْتَصُّ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ دُونَ الْعَاقِدِ ، وَعِتْقُ هَذِهِ لِمَعْنًى فِي الْعَاقِدِ فَلَمْ يَكُنْ عَيْبًا ، وَلَوِ اشْتَرَى عَبْدًا فَكَانَ فِي ذِمَّتِهِ دُيُونٌ عَنْ مُعَامَلَةٍ فَلَا رَدَّ لَهُ ، وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ : لَهُ الرَّدُّ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ : لِأَنَّ دُيُونَهُ فِي ذِمَّتِهِ لَا يُلْزَمُ أَدَاءَهَا إِلَّا بَعْدَ عِتْقِهِ .

فَصْلٌ : وَلَوِ اشْتَرَى دَارًا أَوْ عَبْدًا ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّ الْبَائِعَ لَهَا وَكِيلٌ ، أَوْ أَمِينُ حَاكِمٍ ، أَوْ وَصِيُّ مَيِّتٍ هل له الرد بذلك ؟ ، أَوْ أَبٌ يَلِي عَلَى مَالِ ابْنِهِ ، فَفِي الرَّدِّ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا رَدَّ : لِجَوَازِ بُيُوعِهِمْ وَصِحَّةِ عُقُودِهِمْ . وَالثَّانِي : لَهُ الرَّدُّ : لِمَا يُخَافُ مِنْ فَسَادِ النِّيَابَةِ وَاسْتِحْقَاقِ الرَّدِّ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَوْ كَانَ بَاعَهَا أَوْ بَعْضَهَا ثُمَّ عَلِمَ بِالْعَيْبِ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْبَائِعِ بِشَيْءٍ ، وَلَا مِنْ قِيمَةِ الْعَيْبِ وَإِنَّمَا لَهُ قِيمَةُ الْعَيْبِ إِذَا فَاتَتْ بِمَوْتٍ أَوْ عِتْقٍ أَوْ حَدَثَ بِهَا عِنْدَهُ عَيْبٌ لَا يَرْضَى الْبَائِعُ أَنْ يُرَدَّ بِهِ إِلَيْهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا بَاعَ الْمُشْتَرِي السِّلْعَةَ وَقَدْ كَانَ بِهَا عَيْبٌ مُتَقَدِّمٌ قَبْلَ الشِّرَاءِ ، لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ عَلِمَ بِالْعَيْبِ قَبْلَ بَيْعِهَا ، أَوْ لَمْ يَعْلَمْ . فَإِنْ عَلِمَ بِالْعَيْبِ قَبْلَ بَيْعِهَا فَقَدْ سَقَطَ حَقُّ الْمُشْتَرِي مِنَ الْعَيْبِ سُقُوطًا مُسْتَقِرًّا ، فَلَا رَدَّ لَهُ وَلَا أَرْشَ ، سَوَاءٌ عَادَتْ إِلَيْهِ السِّلْعَةُ أَمْ لَا : لِأَنَّ بَيْعَهَا بَعْدَ عِلْمِهِ بِعَيْبِهَا رِضًى مِنْهُ . وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِالْعَيْبِ قَبْلَ بَيْعِهِ ، فَقَدْ ذَهَبَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحُسَيْنِ ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى ، إِلَى أَنَّ لِلْمُشْتَرِي الرُّجُوعَ بِالْأَرْشِ عَلَى الْبَائِعِ لِيَسْتَدْرِكَ بِهِ نَقْصَ الْعَيْبِ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَسَائِرُ الْفُقَهَاءِ : لَا أَرْشَ فِي الْحَالِ ، وَلَا رَدَّ لَهُ ، لَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْعِلَّةِ الْمَانِعَةِ مِنَ اسْتِحْقَاقِ الْأَرْشِ ، فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ : الْعِلَّةُ فِيهِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَدِ اسْتَدْرَكَ ظُلَامَةَ الْعَيْبِ بِمَا حَصَلَ مِنْ سَلَامَةِ الْعِوَضِ . وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : الْعِلَّةُ فِيهِ إِمْكَانُ الرَّدِّ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ ، وَكِلَا الْعِلَّتَيْنِ حُجَّةٌ عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنْ لَا أَرْشَ لَهُ نُظِرَ فِي الْمُشْتَرِي الثَّانِي فَإِنْ وَقَفَ عَلَى الْعَيْبِ وَرَضِيَ بِهِ فَقَدِ اسْتَقَرَّ سُقُوطُ الْأَرْشِ وَالرَّدُّ ، وَإِنْ رَدَّهُ بِهِ كَانَ لِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ حِينَئِذٍ أَنْ يَرُدَّهُ بِهِ عَلَى الْعِلَّتَيْنِ مَعًا : لِأَنَّهُ لَمْ يَسْلَمْ لَهُ اسْتِدْرَاكُ الظُّلَامَةِ بِحُصُولِ الْعِوَضِ عَلَى تَعْلِيلِ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110