كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي

أَحَدُهُمَا : يَنْعَقِدُ بِمَا نَذَرَهُ مِنَ الصَّلَاةِ فِي الْحَرَمِ إِذَا قِيلَ : إِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ دُخُولُ الْحَرَمِ أَحَدُهُمَا : لَا تَتَعَيَّنُ وَيَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَهَا فِي أَيِّ مَوْضِعٍ شَاءَ مِنَ الْحَرَمِ ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ جَمِيعِ الْحَرَمِ وَاحِدَةٌ ، وَلَأَنْ يُشَاهِدَ الْكَعْبَةَ فِي صَلَاتِهِ أَفْضَلُ مِنْ أَنْ لَا يُشَاهِدَهَا ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : النَّظَرُ إِلَى الْكَعْبَةِ عِبَادَةٌ . وَالثَّانِي : يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ فِعْلُهَا فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ ، وَلَا يُجْزِئُهُ فِي غَيْرِهِ اعْتِبَارًا بِصَرِيحِ نَذْرِهِ ، وَإِنْ نَذَرَ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى لَا تُجْزِئُهُ فِي غَيْرِهِ ؛ لِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : لَوْ كُنْتُ امْرَأً مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ مَا أَتَى عَلَيَّ سَبْتٌ حَتَّى آتِيَ مَسْجِدَ الْخَيْفِ فَأُصَلِّيَ فِيهِ فَهَذَا حُكْمُ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ إِذَا قِيلَ : إِنَّ نَذْرَهُ مُنْعَقِدٌ بِمَا نَذَرَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يَلْتَزِمَ بِانْعِقَادِ نَذْرِهِ أَنْ يُحْرِمَ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ إِذَا قِيلَ : إِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ دُخُولُ الْحَرَمِ إِلَّا بِإِحْرَامٍ ، فَعَلَى هَذَا فِي الْتِزَامِهِ مَا عَقَدَ بِهِ نَذْرَهُ مِنَ الصَّلَاةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَلْزَمُهُ فِعْلُ الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ قَدْ نَقَلَ نَذْرَهُ إِلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ ، فَلَمْ يَجْمَعْ عَلَيْهِ بَيْنَ بَدَلٍ وَمُبْدَلٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ فِعْلَ الصَّلَاةِ لَا تَسْقُطُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ مُلْتَزِمٌ بِهَا بِنَذْرِهِ ، وَمُلْتَزِمُ الْإِحْرَامِ بِدُخُولِ الْحَرَمِ ، فَصَارَتِ الصَّلَاةُ وَاجِبَةً عَلَيْهِ بِالنَّذْرِ ، وَالْإِحْرَامُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ بِالشَّرْعِ ، فَلَمْ يَجْتَمِعْ فِيهِ بَدَلٌ وَمُبْدَلٌ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَنْحَرَ بِمَكَّةَ لَمْ يُجْزِئْهُ بِغَيْرِهَا وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَنْحَرَهُ بِغَيْرِهَا لَمْ يُجْزِئْهُ إِلَّا حَيْثُ نَذَرَ ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ لِمَسَاكِينِ ذَلِكَ الْبَلَدِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَمَّا نَذْرُ النَّحْرِ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَنْذِرَ النَّحْرَ لِنَفْسِهِ ، فَلَا يَنْعَقِدُ بِهِ النَّذْرُ ، وَلَا يَلْزَمُ فِيهِ الْوَفَاءُ ؛ لِأَنَّ النَّذْرَ مَا اخْتَصَّ بِالْقُرْبَةِ وَلَا نَذْرَ فِيمَا تَجَرَّدَ عَنْهَا ، وَهَذَا عَائِدٌ إِلَيْهِ فَتَجَرَّدَ عَنْ قُرْبَةٍ فَلَمْ يَلْزَمْ كَمَا لَوْ نَذَرَ أَنْ يَأْكُلَ طَعَامًا أَوْ يَلْبَسَ ثَوْبًا . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ يَنْذِرَ نَحْرَهُ لِلْمَسَاكِينِ ؛ فَهَذَا نَذْرٌ لَازِمٌ لِاخْتِصَاصِهِ بِالْقُرْبَةِ ، فَإِنْ نَذَرَهُ لِقَوْمٍ مُعَيَّنِينَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْدِلَ إِلَى غَيْرِهِمْ ، وَلَزِمَهُ نَحْرُهُ قَبْلَ دَفْعِهِ إِلَيْهِمْ ، وَإِنْ دَفَعَهُ حَيًّا إِلَيْهِمْ لَمْ يَجُزْ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لِمَا فِي إِرَاقَةِ دَمِ الْهَدْيِ مِنَ الْقُرْبَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ جَعَلَ حَقَّهُمْ فِي لَحْمِهِ ، وَيَدْفَعُ إِلَيْهِمْ لَحْمَهُ نِيئًا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُطْبَخَ قَبْلَ دَفْعِهِ إِلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّ انْتِفَاعَهُمْ بِهِ نِيئًا يَصْنَعُونَ بِهِ مَا شَاءُوا أَعَمُّ مِنِ انْتِفَاعِهِمْ بِهِ

مَطْبُوخًا ؛ فَإِنْ دَفَعَهُ إِلَيْهِمْ مَطْبُوخًا صَارَ مُتَعَدِّيًا فِي حَقِّهِمْ ، فَضَمِنَ لَهُمْ بَيْنَ قِيمَتِهِ نِيئًا وَمَطْبُوخًا إِنْ كَانَ الطَّبْخُ قَدْ نَقَصَ مِنْهُ ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ مُسْتَحِقُّهُ مِنَ الْمَسَاكِينِ جَازَ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ إِنْ كَانُوا ثَلَاثَةً فَصَاعِدًا ، وَيَجُوزُ أَنْ يُسَاوِيَ بَيْنَهُمْ وَيُفَاضِلَ ؛ فَإِنْ نَذَرَ نَحْرَهُ لِأَغْنِيَاءَ خَاصَّةً مُعَيَّنِينَ ، أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنِينَ ، نُظِرَ فَإِنِ اقْتَرَنَ بِهِ نَوْعٌ مِنَ الْقُرْبِ ، لِيَتَأَسَّى بِهِ الْأَغْنِيَاءُ فِي التَّوَسُّعِ ؛ لَزِمَ نَذْرُهُ ، وَإِنْ تَجَرَّدَ عَنِ الْقُرْبَةِ وَقُصِدَ بِهِ الْمُبَاهَاةُ وَالتَّطَوُّلُ ، لَمْ يَلْزَمْ نَذْرُهُ فَلَوْ أَطْلَقَ مَنْ نَذَرَ نَحْرَهُ لَهُمُ انْصَرَفَ إِلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ ؛ لِاخْتِصَاصِهِمْ بِالْقُرَبِ ، وَجَازَ أَنْ يُصْرَفَ فِي سِتَّةِ أَصْنَافٍ فِي مُسْتَحِقِّي الزَّكَاةِ مِنَ الْفُقَرَاءِ ، وَالْمَسَاكِينِ ، وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ، وَسَقَطَ مِنْهُمْ صِنْفَانِ ، الْعَامِلُونَ عَلَيْهَا ، وَالْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ يُطْلِقَ نَذْرَ نَحْرِهِ فَلَا يَجْعَلُهُ لِنَفْسِهِ وَلَا لِغَيْرِهِ فَيُحْمَلُ مَعَ الْإِطْلَاقِ عَلَى الْعُرْفِ الْمَقْصُودِ بِالنَّذْرِ وَعُرْفُ النَّذْرِ مُتَوَجِّهٌ إِلَى غَيْرِهِ ، فَصَارَ نَذْرُ نَحْرِهِ لِغَيْرِهِ ، فَيَنْعَقِدُ النَّذْرُ لَازِمًا .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ بِمَا فَصَّلْنَاهُ وُجُوبُ نَحْرِهِ ، وَتَفْرِقَةُ لَحْمِهِ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى مَحَلِّ النَّحْرِ ، وَتَفْرِقَةِ اللَّحْمِ ، وَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُعَيِّنَ نَحْرَهُ فِي الْحَرَمِ . وَالثَّانِي : أَنْ يُعَيِّنَ نَحْرَهُ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يُطْلِقَ مَحَلَّ نَحْرِهِ ، وَلَا يُعَيِّنَ فِي حِلٍّ وَلَا حَرَمٍ . فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ ؛ إِذَا عَيَّنَ نَحْرَهُ فِي الْحَرَمِ ، المنذر فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَنْذِرَ نَحْرَهُ فِي الْحَرَمِ ، وَتَفْرِقَةَ لَحْمِهِ فِي الْحَرَمِ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فِي الْحَرَمِ النَّحْرِ وَتَفْرِقَةِ اللَّحْمِ فَإِنْ نَحَرَهُ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ ، أَوْ فَرَّقَ لَحْمَهُ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ لَمْ يَجُزْ ، وَكَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قُرْبَةٌ مَقْصُودَةٌ بِالنَّذْرِ . الْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَنْذِرَ نَحْرَهُ فِي الْحَرَمِ ، وَتَفْرِيقَ لَحْمِهِ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ فَقَدْ صَارَ مُعَيَّنًا لِمَسَاكِينِ غَيْرِ الْحَرَمِ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُفَرِّقَهُ فِي مَسَاكِينِ الْحَرَمِ وَفِي وُجُوبِ نَحْرِهِ فِي الْحَرَمِ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَحَدُهُمَا : يَجِبُ نَحْرُهُ فِيهِ ؛ لِانْعِقَادِ نَذْرِهِ بِهِ مَعَ اخْتِصَاصِ الْحَرَمِ بِقُرْبَةِ النَّحْرِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يَجِبُ نَحْرُهُ فِيهِ ؛ اعْتِبَارًا بِمُسْتَحِقِّي لَحْمِهِ وَيُسْتَحَبُّ لَهُ نَحْرُهُ فِي الْحَرَمِ إِنْ وَصَلَ إِلَيْهِمْ طَرِيًّا ، وَلَا يُسْتَحَبُّ إِنْ لَمْ يَصِلْ طَرِيًّا . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَنْذِرَ نَحْرَهُ فِي الْحَرَمِ وَيُطْلِقَ تَفْرِيقَ لَحْمِهِ ، وَلَا يَجْعَلُهُ لِمَسَاكِينِ الْحَرَمِ وَلَا لِغَيْرِهِمْ ، فَيَلْزَمُهُ نَحْرُهُ فِي الْحَرَمِ عَلَى مُوجِبِ نَذْرِهِ .

وَفِي تَفْرِيقِ لَحْمِهِ وَجْهَانِ ، حَكَاهُمَا الْإِسْفَرَايِينِيُّ ، أَصَحُّهُمَا فِي الْحَرَمِ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ عَلَى خِيَارَةٍ فِي تَفْرِيقِهِ فِي الْحَرَمِ وَغَيْرِهِ اعْتِبَارًا بِالْإِطْلَاقِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يُعَيِّنَ نَحْرَهُ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ المنذر كَأَنَّهُ عَيَّنَ نَحْرَهُ بِالْبَصْرَةِ ، فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ أَيْضًا : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَنْذِرَ نَحْرَهُ بِالْبَصْرَةِ ، وَتَفْرِيقَ لَحْمِهِ بِالْبَصْرَةِ ، فَقَدْ لَزِمَهُ بِالنَّذْرِ تَفْرِيقُ لَحْمِهِ بِالْبَصْرَةِ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ لِمَسَاكِينِهَا ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُفَرِّقَهُ فِي غَيْرِهِمْ ، وَفِي وُجُوبِ نَحْرِهِ بِالْبَصْرَةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَظَاهِرُ مَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ - أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَنْحَرَهُ بِالْبَصْرَةِ ، وَيَصِيرُ النَّحْرُ بِهَا لَازِمًا بِالنَّذْرِ ، كَمَا لَوْ نَذَرَ نَحْرَهُ بِالْحَرَمِ ، فَإِنْ نَحْرَهُ بِغَيْرِ الْبَصْرَةِ ضَمِنَهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَلْزَمُهُ نَحْرُهُ بِالْبَصْرَةِ ، وَيُسْتَحَبُّ لَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ دَخَلَ فِي نَذْرِهِ فَلَيْسَ لِلنَّحْرِ بِالْبَصْرَةِ قُرْبَةٌ ، لَا تُوجَدُ بِغَيْرِهَا ، وَلِلنَّحْرِ بِمَكَّةَ قُرْبَةٌ لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِهَا ؛ لِاخْتِصَاصِهَا بِنَحْرِ الْهَدَايَا ؛ فَلِذَلِكَ تَعَيَّنَ النَّحْرُ فِي الْحَرَمِ ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَنْذِرَ نَحْرَهُ بِالْبَصْرَةِ وَتَفْرِيقَ لَحْمِهِ فِي غَيْرِ الْبَصْرَةِ ، المنذر النحر فَلَا يَلْزِمُهُ نَحْرُهُ بِالْبَصْرَةِ ، إِذَا كَانَ تَفْرِيقُ لَحْمِهِ مُسْتَحَقًّا فِي غَيْرِهَا ، لِأَنَّهُ لَا فَضْلَ لِنَحْرِهِ فِيهَا عَلَى نَحْرِهِ فِي غَيْرِهَا ، بِخِلَافِ نَحْرِهِ فِي الْحَرَمِ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ نَحْرُهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ فِيهِ تَفْرِيقَهُ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ فِي نَذْرِهِ ، وَلَهُ نَحْرُهُ حَيْثُ شَاءَ وَإِنْ كَانَتِ الْبَصْرَةُ لِأَجْلِ التَّسْمِيَةِ أَوْلَى ، وَإِذَا وَصَلَ لَحْمُهُ طَرِيًّا إِلَى مُسْتَحَقِّهِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَنْذِرَ نَحْرَهُ بِالْبَصْرَةِ ، وَيُطْلِقَ تَفْرِقَةَ لَحْمِهِ ، فَلَا يَجْعَلُهُ لِمَسَاكِينِ الْبَصْرَةِ وَلَا لِغَيْرِهِمْ . فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : يَلْزَمُهُ نَحْرُهُ بِالْبَصْرَةِ ، وَتَفْرِقَةُ لَحْمِهِ بِالْبَصْرَةِ ، اعْتِبَارًا بِالنَّذْرِ وَالْعُرْفِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَلْزَمُهُ نَحْرُهُ بِالْبَصْرَةِ ، وَيَجُوزُ تَفْرِقَةُ لَحْمِهِ فِي غَيْرِ الْبَصْرَةِ ، اعْتِبَارًا بِالنَّذْرِ دُونَ الْعُرْفِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : يَلْزَمُهُ تَفْرِقَةُ لَحْمِهِ بِالْبَصْرَةِ ، وَيَجُوزُ لَهُ نَحْرُهُ فِي غَيْرِ الْبَصْرَةِ ، اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ دُونَ النَّذْرِ ، لِأَنَّهُ لَا فَضِيلَةَ فِي تَعْيِينِهَا بِالنَّذْرِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ يُطْلِقَ مَحَلَّ نَحْرِهِ ، فَلَا يُعَيِّنُهُ فِي الْحَرَمِ ، وَلَا

فِي غَيْرِهِ ، المنذر فَفِيهِ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي زَكَاةِ الْمَالِ . هَلْ يَكُونُ مَصْرِفُهَا فِي بَلَدِ الْمَالِ مُسْتَحَقًّا ؟ أَوْ مُسْتَحَبًّا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مُسْتَحَبٌّ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ نَحْرُ نَذْرِهِ ، وَتَفْرِقَةُ لَحْمِهَا مُسْتَحَبًّا فِي بَلَدِهِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعْدِلَ بِهِمَا إِلَى غَيْرِهِ ، فَيَنْحَرُ فِي غَيْرِ بَلَدِهِ وَيُفَرِّقُ لَحْمَهُ فِي مَسَاكِينِ غَيْرِ بَلَدِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ مَصْرِفَ الزَّكَاةِ فِي بَلَدِهِ مُسْتَحَقٌّ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ تَفْرِقَةُ لَحْمِهِ فِي مَسَاكِينِ بَلَدِهِ مُسْتَحَقًّا ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْدِلَ بِهِمْ إِلَى غَيْرِهِمْ ، وَفِي وُجُوبِ نَحْرِهِ فِي بَلَدِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجِبُ . وَالثَّانِي : يُسْتَحَبُّ ، وَتَعْلِيلُهُمَا قَدْ تَقَدَّمَ .

إِذَا نَذَرَ أَنْ يَأْتِيَ إِلَى مَوْضِعٍ مِنَ الْحَرَمِ مَاشِيًا أَوْ رَاكِبًا

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِذَا نَذَرَ أَنْ يَأْتِيَ إِلَى مَوْضِعٍ مِنَ الْحَرَمِ مَاشِيًا أَوْ رَاكِبًا ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ الْحَرَمَ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ إِذَا نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ إِلَى مَوْضِعٍ مِنَ الْحَرَمِ ، انْعَقَدَ نَذْرُهُ ، وَلَزِمَهُ أَنْ يَمْشِيَ إِلَيْهِ حَاجًّا ، أَوْ مُعْتَمِرًا ، سَوَاءٌ كَانَ مَا سَمَّاهُ مِنْ مَوَاضِعِ الْحَرَمِ مُخْتَصًّا بِنُسُكٍ ، أَمْ لَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَنْعَقِدُ نَذْرُهُ إِلَّا إِذَا نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ ، أَوْ إِلَى مَكَّةَ ، وَلَا يَنْعَقِدُ بِذِكْرِ غَيْرِهَا مِنْ بِقَاعِ الْحَرَمِ احْتِجَاجًا بِأَنَّ مَا عَدَاهُمَا مِنَ الْحَرَمِ ، لَا يَلْزَمُ إِتْيَانُهُمَا شَرْعًا ، فَلَمْ يَلْزَمْ إِتْيَانُهَا نَذْرًا كَالْحِلِّ ، وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ إِلَّا مَا خَصَّهُ دَلِيلٌ ، وَلِأَنَّهُ مَوْضِعٌ يَلْزَمُ الْإِحْرَامُ لَهُ ، فَانْعَقَدَ النَّذْرُ بِهِ كَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَلِأَنَّهُ مَوْضِعٌ يُلْزِمُ جَزَاءَ صَيْدٍ ، فَانْعَقَدَ النَّذْرُ بِقَصْدِهِ قِيَاسًا عَلَى مَكَّةَ ، وَفَارَقَ الْحِلَّ بِهَذَا الْمَعْنَى ، وَلِأَنَّ الْحَرَمَ أَعَمُّ ، فَكَانَ النَّذْرُ بِهِ أَلْزَمَ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَأْتِيَ عَرَفَةَ أَوْ نَمِرَةً أَوْ مِنًى أَوْ قَرِيبًا مِنَ الْحَرَمِ لَمْ يَلْزَمْهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ إِلَى مَوْضِعٍ مِنَ الْحِلِّ ، لَمْ يَنْعَقِدْ بِهِ النَّذْرُ سَوَاءٌ تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ شَيْءٌ ، أَوْ لَمْ يَتَعَلَّقْ كَعَرَفَةَ ، وَالْمَوَاقِيتِ لِأَنَّهَا حِلٌّ لَا يُضْمَنُ صَيْدُهَا ، وَلَا يَلْزَمُ الْإِحْرَامُ لَهَا ، فَسَاوَتْ غَيْرَهَا مِنْ بِقَاعِ الْحِلِّ ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ قَصْدُهَا مُقْتَرِنًا بِغَيْرِهَا مِنِ انْعِقَادِ النُّسُكِ الَّذِي أَوْجَبَ قَصْدَهَا ، وَعَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ يَلْزَمُ أَنْ يَجِبَ النَّذْرُ بِالْمَشْيِ إِلَى عَرَفَةَ ، وَلِأَنَّ قَصْدَهَا يَجِبُ بِالشَّرْعِ ، فَوَجَبَ النَّذْرُ .

فَأَمَّا الْمَوَاقِيتُ فَلَا يَقْتَضِي لُزُومُ النَّذْرِ بِقَصْدِهَا ، لِانْعِقَادِ الْإِحْرَامِ قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا ، وَلَوْ قِيلَ بِوُجُوبِ النَّذْرِ بِقَصْدِ عَرَفَةَ ، كَانَ مَذْهَبًا وَيَكُونُ الْمُنْعَقِدُ بِنَذْرِهِ الْحَجَّ دُونَ الْعُمْرَةِ ، لِاخْتِصَاصِ عَرَفَةَ بِالْحَجِّ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

النَّذْرُ فِي الْمَتَاعِ الْمَنْقُولِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَهْدِيَ مَتَاعًا لَمْ يُجْزِئْهُ إِلَّا أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى مَسَاكِينِ الْحَرَمِ ، فَإِنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ أَنْ يُعَلِّقَهُ سِتْرًا عَلَى الْبَيْتِ ، أَوْ يَجْعَلَهُ فِي طِيبِ الْبَيْتِ جَعَلَهُ حَيْثُ نَوَاهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ النَّذْرُ فِي الْمَتَاعِ الْمَنْقُولِ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَقُولَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَجْعَلَ هَذَا الْمَتَاعَ هَدْيًا ، فَيَتَوَجَّهُ مُطْلَقُ هَذَا الْهَدْيِ إِلَى وُجُوبِ نَقْلِهِ إِلَى الْحَرَمِ ، لِأَنَّهُ مَحِلُّ الْهَدْيِ فِي الشَّرْعِ ، فَانْصَرَفَ إِلَيْهِ فِي النَّذْرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ [ الْمَائِدَةِ : 95 ] . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَقُولَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَهْدِيَ هَذَا الْمَتَاعَ ، وَلَا يَجْعَلُهُ هَدْيًا ، فَقَدْ تَقَابَلَ فِيهِ عُرْفَانِ ، عُرْفُ اللَّفْظِ أَنْ يَكُونَ هَدِيَّةً ، وَعُرْفُ الشَّرْعِ أَنْ يَكُونَ هَدْيًا ، فَإِنْ أَرَادَ عُرْفَ اللَّفْظِ أَنْ يَكُونَ هَدِيَّةً بَيْنَ الْمُتَوَاصِلَيْنِ ، لَمْ يَنْعَقِدْ بِهِ النَّذْرُ إِلَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِقُرْبَةٍ تَخْتَصُّ بِثَوَابٍ ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ عُرْفَ الشَّرْعِ أَنْ يَكُونَ هَدْيًا ، وَجَبَ عَلَيْهِ إِيصَالُهُ إِلَى الْحَرَمِ ، وَإِنْ أَطْلَقَ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ إِرَادَةٌ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُحْمَلُ عَلَى عُرْفِ الشَّرْعِ ، فَيَكُونُ هَدْيًا يُوصِلُ إِلَى الْحَرَمِ ، فَيَصِيرُ النَّذْرُ بِهِ مُنْعَقِدًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يُحْمَلَ عَلَى عُرْفِ اللَّفْظِ ، لِأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَنَ بِهِ عُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ ، فَيَكُونُ هَدِيَّةً وَلَا يَكُونُ هَدْيًا ، فَلَا يَنْعَقِدُ بِهِ النَّذْرُ ، لِأَنَّ النَّذْرَ لَا يَلْزَمُ مَعَ الِاحْتِمَالِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا صَحَّ انْعِقَادُ هَذَا النَّذْرِ ، وَجَبَ إِيصَالُهُ إِلَى الْحَرَمِ المتاع المنقول المنذور وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَجْعَلَهُ لِلْكَعْبَةِ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَخُصَّ بِهِ الْكَعْبَةَ ، وَلَا يَصْرِفَهُ إِلَى الْمَسَاكِينِ ، فَإِنْ كَانَ ثَوْبًا كَسَاهَا بِهِ ، وَجَعَلَهُ سِتْرًا عَلَيْهَا ، وَإِنْ كَانَ طِيبًا جَعَلَهُ طِيبًا لَهَا ، وَإِنْ كَانَ شَمْعًا أَشْعَلَهُ لَهَا ، وَإِنْ كَانَ ذَهَبًا جَعَلَهُ لِمَصَابِيحِهَا ، وَإِنْ كَانَ مِنْ صُنُوفِ الْمَتَاعِ الَّتِي لَا تُسْتَعْمَلُ فِي الْكَعْبَةِ ، بَاعَهُ وَصَرَفَ ثَمَنَهُ فِي مَصَالِحِهَا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَجْعَلَهُ لِأَهْلِ الْحَرَمِ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَصْرِفَهُ فِي مَصَالِحِ الْكَعْبَةِ ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَصْرِفَهُ فِي الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ، وَهُمْ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ ، لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الصَّدَقَاتِ ، وَفِي جَوَازِ صَرْفِهِ فِي ذَوِي الْقُرْبَى مِنْهُمْ وَجْهَانِ :

أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ لِوُجُوبِهِ كَالزَّكَوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجُوزُ صَرْفُهُ فِيهِمْ ، لِأَنَّهُ تَطَوَّعَ بِنَذْرِهِ فَأَشْبَهَ تَطَوُّعَ الصَّدَقَاتِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يُطْلِقَ نَذْرَهُ ، فَلَا يَجْعَلُهُ مُخْتَصًّا بِمَصَالِحِ الْكَعْبَةِ ، وَلَا مَصْرُوفًا فِي مَسَاكِينِ الْحَرَمِ ، فَيَجِبُ صَرْفُهُ إِلَى الْمَسَاكِينِ ، لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الصَّدَقَاتِ فِي الشَّرْعِ ، فَكَانُوا أَحَقَّ بِقُرْبِ النَّذْرِ فَعَلَى هَذَا يُنْظَرُ فِي مَتَاعِ النَّذْرِ ، فَإِنْ كَانَ تَفْرِيقُهُ عَلَيْهِمْ مُمْكِنًا وَنَافِعًا ، كَالطَّعَامِ وَالثِّيَابِ وَجَبَ تَفْرِيقُهُ عَلَيْهِمْ ، وَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ ، وَصَرْفُ ثَمَنِهِ فِيهِمْ ، كَمَا لَوْ كَانَتْ دَرَاهِمَ ، أَوْ دَنَانِيرَ ، لِأَنَّ إِخْرَاجَ الْقِيَمِ ، فِيمَا اسْتُحِقَّ أَعْيَانُهُ لَا يَجُوزُ ، كَالزَّكَوَاتِ . وَإِنْ كَانَ الْمَتَاعُ مِمَّا لَا يُمْكِنُ تَفْرِيقُهُ فِيهِمْ ؛ لِأَنَّهُ بِغَيْرِهِ أَنْفَعُ كَالطِّيبِ وَاللُّؤْلُؤِ وَالْجَوْهَرِ ، كَانَ حَقُّهُمْ فِي قِيمَتِهِ . وَهَلْ يَلْزَمُ النَّاذِرَ بَيْعُهُ ؟ أَوْ دَفْعُ قِيمَتِهِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْعَبْدِ الْجَانِي هَلْ يَفْدِيهِ السَّيِّدُ بِقِيمَتِهِ ؟ أَوْ بِثَمَنِهِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَفْدِيهِ بِقِيمَتِهِ ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ لِلنَّاذِرِ أَنْ يَصْرِفَ قِيمَتَهُ إِلَيْهِمْ ، وَإِنْ لَمْ يَبِعْهُ . وَالثَّانِي : أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَ الْعَبْدَ الْجَانِيَ لِجَوَازِ ابْتِيَاعِهِ بِأَكْثَرَ مَنْ قِيمَتِهِ ، فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهُ بَيْعُ هَذَا الْمَتَاعِ بِأَكْثَرَ لِجَوَازِ أَنْ يَرْغَبَ فِيهِ مَنْ يَشْتَرِيهِ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالثَّمَنِ الْمَبْذُولِ فِيهِ جَازَ .

إِذَا نَذَرَ أَنْ يَهْدِيَ مَا لَا يُحْمَلُ مِنَ الْأَرَضِينِ وَالدُّورِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا نَذَرَ أَنْ يَهْدِيَ مَا لَا يُحْمَلُ مِنَ الْأَرَضِينِ وَالدُّورِ بَاعَ ذَلِكَ وَأَهْدَى ثَمَنَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا فِي حُكْمِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْأَحْكَامِ ، وَعَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَقْسَامِ ، وَإِنَّمَا يُخَالِفُهُ فِي أَنَّهُ غَيْرُ مَنْقُولٍ ، فَيَكُونُ الْهَدْيُ مُتَوَجِّهًا إِلَى قِيمَتِهِ ، أَوْ ثَمَنِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ فَإِنْ أَرَادَ بِهَدْيِهِ أَنْ يَكُونَ وَقْفًا عَلَى مَسَاكِينِ الْحَرَمِ ، أَوْ مَصَالِحِ الْكَعْبَةِ ، جَعَلْنَاهُ عَلَى مَا أَرَادَهُ بِقَوْلِهِ أَوْ نِيَّتِهِ ، فَإِنْ كَانَ الْهَدْيُ نَخْلًا فَأَثْمَرَ ، فَإِنْ حَدَثَتْ ثَمَرَتُهُ قَبْلَ وُجُودِ شَرْطِ نَذْرِهِ ، كَانَ الثَّمَرُ خَارِجًا مِنْ نَذْرِهِ ، وَالزَّكَاةُ فِيهِ وَاجِبَةً ، وَإِنْ حَدَثَتِ الثَّمَرَةُ بَعْدَ وُجُودِ شَرْطِ نَذْرِهِ كَانَ دَاخِلًا فِي نَذْرِهِ وَلَا زَكَاةَ فِيهِ ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَنْقِلَ ثَمَنَهُ أَوْ قِيمَتَهُ دُونَ عَيْنِهِ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُفَرَّقُ عَلَيْهِمْ بِعَيْنِهِ دُونَ قِيمَتِهِ لَمْ يَجُزْ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُفَرَّقُ عَلَيْهِمْ قِيمَتُهُ دُونَ عَيْنِهِ نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ فِي مَوْضِعِ النَّذْرِ أَكْثَرَ جَازَ ، وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ لَمْ يَجُزْ ، فَإِنِ اسْتَهْلَكَهُ وَجَبَتْ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ فِي أَكْثَرِ حَالَتَيْهِ مِنْ مَوْضِعِ الِاسْتِهْلَاكِ ، أَوْ مِنَ الْحَرَمِ لِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ إِيصَالِهِ إِلَى الْحَرَمِ .

نَذْرَ الْهَدْيِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَمَنْ نَذَرَ بَدَنَةً لَمْ يُجْزِهِ إِلَّا ثَنِيٌّ أَوْ ثَنِيَّةٌ وَالْخَصِيُّ يُجْزِئُ ، وَإِذَا لَمْ يَجِدْ بَدَنَةً فَبِكْرٌ ثَنِيَّةٌ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَسَبْعٌ مِنَ الْغَنَمِ تُجْزِي ضَحَايَا ، وَإِنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ عَلَى بَدَنَةٍ مِنَ الْإِبِلِ لَمْ يُجْزِئْهُ مِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ إِلَّا بِقِيمَتِهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ نَذْرَ الْهَدْيِ يَنْقَسِمُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا ، فَلَا يَلْزَمُهُ غَيْرُ مَا عُيِّنَ وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْهَدْيِ الْمَشْرُوعِ ، كَالْمَتَاعِ الْمَنْقُولِ ، وَالْعَقَارِ ، غَيْرِ الْمَنْقُولِ وَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَهُمَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ الْهَدْيِ الْمَشْرُوعِ ، كَمَنْ نَذَرَ هَدْيَ بَدَنَةٍ ، أَوْ بَقَرَةٍ ، أَوْ شَاةٍ بِعَيْنِهَا فَعَلَيْهِ إِيصَالُهَا إِلَى الْحَرَمِ ، سَوَاءٌ أَجْزَأَتْ فِي الضَّحَايَا لِسَلَامَتِهَا وَكَمَالِ سِنِّهَا ، أَوْ لَمْ تُجْزِئْ فِي الضَّحَايَا ، لِعَيْبٍ ، أَوْ صِغَرٍ ، فَإِنْ أَرَادَ الْعُدُولَ عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا ، لَمْ يُجْزِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَعْدُولُ إِلَيْهِ عَنْهَا أَفَضَلَ ، أَوْ أَنْقَصَ ، وَعَلَيْهِ عَلَفُهَا ، وَمَؤُونَتُهَا ، حَتَّى تَصِلَ إِلَى مَحَلِّهَا ، فَإِنْ تَلِفَتْ قَبْلَ وُصُولِهَا ، لَمْ يَخْلُ تَلَفُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُتْلِفَ لَهَا ، فَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهَا أَوْ مِثْلِهَا ، لِأَنَّ أَكْثَرَهَا حَقُّ الْمَسَاكِينِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُتْلِفَهَا غَيْرُهُ ، فَلَيْسَ عَلَى الْمُتْلِفِ إِلَّا قِيمَتُهَا ، فَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ الْأَمْرَيْنِ صَرَفَهَا فِي مِثْلِهَا ، وَفِي مَصْرِفِ الزِّيَادَةِ عَلَى مِثْلٍ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : فِي مِثْلٍ آخَرَ ، أَوْ جُزْءٍ مِنْ مِثْلٍ آخَرَ . وَالثَّانِي : يَصْرِفُهَا إِلَى الْمَسَاكِينِ وَرِقًا . وَإِنْ كَانَتِ الْقِيمَةُ أَقَلَّ الْأَمْرَيْنِ ، فَهَلْ يَلْزَمُ النَّاذِرَ تَمَامُ ثَمَنِ مِثْلِهَا ، أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَلْزَمُهُ تَمَامُ ثَمَنِ الْمِثْلِ ، لِاسْتِحْقَاقِ الْمَسَاكِينِ لَهُ بِالنَّذْرِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَشْبَهُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إِتْمَامُ الثَّمَنِ ، لِأَنَّهُ قَدْ سَاقَ مَا نَذَرَ . فَعَلَى هَذَا فِي مَصْرِفِ الْقِيمَةِ النَّاقِصَةِ عَنِ الْمِثْلِ ، مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ فِي زِيَادَةِ الْقِيمَةِ : أَحَدُهُمَا : يُصْرَفُ فِي بَعْضِ الْمِثْلِ . وَالثَّانِي : يُصْرَفُ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَرِقًا . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ تَتْلَفَ بِنَفْسِهَا ، فَفِي ضَمَانِهَا عَلَيْهِ وَجْهَانِ :

أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الْأَصَحُّ ، أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهَا بَعْدَ النَّذْرِ كَالْأَمَانَةِ ، وَكَمَا لَوْ نَذَرَ عِتْقَ عَبْدٍ ، فَمَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ عِتْقِهِ ، لَا يَضْمَنُهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَضْمَنُهَا ، لِتَعَلُّقِ نَذْرِهَا بِذِمَّتِهِ لِجِهَةٍ بَاقِيَةٍ ، وَخَالَفَ نَذْرَ الْعِتْقِ لِعَدَمِ الْجِهَةِ الْمُسْتَحِقَّةِ لَهُ ، فَعَلَى هَذَا فِيمَا يَضْمَنُهَا بِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : بِمِثْلِهَا . وَالثَّانِي : بِقِيمَتِهَا . وَالثَّالِثُ : بِأَكْثَرِ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْمِثْلِ وَالْقِيمَةِ : فَهَذَا حُكْمُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فِي الْهَدْيِ الْمُعَيَّنِ .

فَصْلٌ : وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ لَا يُعَيِّنَ هَدْيَهُ ، وَيُسَمِّي جِنْسًا يَعُمُّ أَنْوَاعًا المنذر الهدي كَقَوْلِهِ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُهْدِيَ بَدَنَةً ، فَاسْمُ الْبَدَنَةِ يُطْلَقُ فِي الْعُرْفِ عَلَى الْوَاحِدِ مِنَ الْإِبِلِ ، وَلَا يَعُمُّ أَنْوَاعًا ، وَيُطْلَقُ فِي الشَّرْعِ عَلَى الْوَاحِدِ مِنَ الْإِبِلِ ، وَعَلَى الْوَاحِدِ مِنَ الْبَقَرِ ، وَعَلَى سَبْعٍ مِنَ الْغَنَمِ ، لِحَدِيثِ جَابِرٍ فَنَحَرْنَا الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ ، فَيَصِيرُ اسْمُ الْبَدَنَةِ فِي الشَّرْعِ جِنْسًا ، يَعُمُّ أَنْوَاعًا ، فَيُحْمَلُ نَذْرُهُ عَلَى مُوجِبِ الشَّرْعِ دُونَ الْعُرْفِ ، فَيَلْزَمُهُ فِي نَذْرِ هَدْيِ بَدَنَةٍ ، أَنْ يَنْحَرَ بَعِيرًا ، أَوْ بَقَرَةً ، أَوْ سَبْعًا مِنَ الْغَنَمِ ، وَفِي كَيْفِيَّةِ لُزُومِهَا وَجْهَانِ ، كَمَا قُلْنَاهُمَا فِي إِفْسَادِ الْحَجِّ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا تَلْزَمُهُ عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ فِي نَحْرِ أَيِّهَا شَاءَ مِنْ بَعِيرٍ أَوْ بَقَرَةٍ ، أَوْ سَبْعٍ مِنَ الْغَنَمِ ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقُومُ مَقَامَ الْآخَرِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا تَلْزَمُهُ عَلَى وَجْهِ التَّرْتِيبِ ، فَيَنْحَرُ بَعِيرًا ، فَإِنْ عَدِمَهُ نَحَرَ بَقَرَةً ، فَإِنْ عَدِمَهَا ، نَحَرَ سَبْعًا مِنَ الْغَنَمِ ، لِأَنَّ اسْمَ الْبَدَنِ يَنْطَلِقُ عَلَى الْإِبِلِ عُرْفًا ، وَشَرْعًا فَصَارَتْ أَصْلًا . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا [ الْحَجِّ : 36 ] . يُرِيدُ بِهَا الْإِبِلَ فَإِذَا تَقَرَّرَ الْوَجْهَانِ ، فَهَلْ يُرَاعِي فِيهَا شُرُوطَ الضَّحَايَا فِي السِّنِّ وَالسَّلَامَةِ مِنَ الْعُيُوبِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُرَاعِي شُرُوطَ الضَّحَايَا اعْتِبَارًا بِمُطْلَقِ الِاسْمِ ، فَيُجْزِئُ صَغِيرُهَا وَكَبِيرُهَا وَسَلِيمُهَا وَمَعِيبُهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُرَاعِي شُرُوطَ الضَّحَايَا مِنْ سِنِّهَا وَسَلَامَتِهَا وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ اعْتِبَارًا بِعُرْفِ الشَّرْعِ ، فَلَا يُجْزِئُ مِنْهَا إِلَّا السَّلِيمَ مِنْ عُيُوبِ الضَّحَايَا ، وَيُجْزِئُ الْخَصِيُّ فِيهَا لِإِجْزَائِهِ فِي الضَّحَايَا ، وَلَا يُجْزِئُ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ ، إِلَّا الثَّنِيَّ ، فَصَاعِدًا ، وَيُجْزِئُ الضَّأْنُ الْجَذَعُ ، فَإِنْ عَدِمَ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ الثَّلَاثَةَ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْدِلَ عَنْهَا إِلَى الْإِطْعَامِ ، وَإِنْ كَانَ فِي الشَّرْعِ بَدَلًا مِنْهَا لِانْتِفَاءِ اسْمِ الْبَدَنَةِ عَنْهَا وَنَحْنُ نُرَاعِي فِي النَّذْرِ

عُرْفَ الشَّرْعِ مَعَ وُجُودِ الِاسْمِ ، إِمَّا حَقِيقَةً ، أَوْ مَجَازًا ، لِتَكُونَ مَعَانِيهَا لَهَا ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الشَّرْعِ تَبَعًا لِمَعَانِيهَا ، وَاسْمُ الْبَدَنَةِ لَا يَنْطَلِقُ عَلَى الطَّعَامِ حَقِيقَةً ، وَلَا مَجَازًا وَإِنْ كَانَتْ تَنْطَلِقُ عَلَى الْبَقَرِ ، وَالْغَنَمِ ، إِمَّا حَقِيقَةً ، وَإِمَّا مَجَازًا ، فَصَارَ الطَّعَامُ مَسْلُوبَ الِاسْمِ ، وَإِنْ كَانَ بَدَلًا مَشْرُوعًا ، كَمَا لَوْ نَذَرَ عِتْقَ عَبْدٍ فَعَدِمَهُ لَمْ يَعْدِلْ عَنْهُ إِلَى الصِّيَامِ ، وَإِنْ كَانَتْ بَدَلًا مِنَ الْعِتْقِ فِي الْكَفَّارَاتِ .

فَصْلٌ : وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَخُصَّ اسْمَ هَدْيِهِ بِنَوْعٍ مِنْ أَجْنَاسِهِ المنذر الهدي فَيَقُولُ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُهْدِيَ بَدَنَةً مِنَ الْإِبِلِ ، فَيَصِيرُ نَذْرُ هَدْيِهِ مَقْصُورًا عَلَى مَا نَوَاهُ مِنْ خُصُوصِهِ ، فَلَا يُجْزِئُهُ مِنْ غَيْرِ الْإِبِلِ مَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْإِبِلِ ، وَفِي اعْتِبَارِ سِنِّهِ وَسَلَامَتِهِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ ، فَإِذَا لَمْ يَجِدِ الْإِبِلَ فَفِي عُدُولِهِ إِلَى بَدَلِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا بَدَلَ لَهَا ، لِأَنَّهُ عَيَّنَهَا فِي الْوُجُوبِ ، فَلَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ إِلَى غَيْرِ مَا أَوْجَبَ ، وَكَانَتِ الْبَدَنَةُ بَاقِيَةً فِي ذِمَّتِهِ حَتَّى يَجِدَهَا ، كَمَا لَوْ نَذَرَ عِتْقَ عَبْدٍ ، فَلَمْ يَجِدْهُ كَانَ فِي ذِمَّتِهِ حَتَّى يَجِدَهُ ، وَلَا يَعْدِلُ عَنْهُ إِلَى بَدَلٍ مِنْ صِيَامٍ ، أَوْ إِطْعَامٍ ، وَإِنْ كَانَ بَدَلًا مِنْهُ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يَعْدِلَ عَنْهَا إِلَى بَدَلِهَا ، وَهِيَ بَقَرَةٌ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالنَّذْرِ نَفْعُ الْمَسَاكِينِ بِلَحْمِهَا ، وَهُمْ مُنْتَفِعُونَ بِلُحُومِ الْبَقَرِ ، كَانْتِفَاعِهِمْ بِلُحُومِ الْإِبِلِ ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى فَارَقَ نَذْرَ الْعِتْقِ ، فَعَلَى هَذَا فِي حُكْمِ انْتِقَالِهِ إِلَى الْبَقَرَةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَيْهَا عَلَى وَجْهِ الْبَدَلِ دُونَ الْقِيمَةِ ، فَيَنْتَقِلُ إِلَى الْبَقَرَةِ قَلَّ ثَمَنُهَا أَوْ كَثُرَ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْبَقَرَةَ ، انْتَقَلَ عَنْهَا إِلَى سَبْعٍ مِنَ الْغَنَمِ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْدِلَ إِلَى إِطْعَامٍ وَلَا صِيَامٍ ، وَإِنْ كَانَا بَدَلًا مِنْهَا ، فِي تَكْفِيرِ مَنْ أَفْسَدَ حَجَّهُ ، لِأَنَّ اسْمَ الْبَدَنَةِ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِمَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَعْدِلُ إِلَى الْبَقَرَةِ بِأَكْثَرِ الْأَمْرَيْنِ مِنْهُمَا ، أَوْ مِنْ قِيمَةِ الْبَدَنَةِ ، فَإِنْ كَانَتِ الْبَقَرَةُ أَكْثَرَ مِمَّا لَزِمَهُ ، نَحَرَ بَقَرَةً ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْبَدَنَةِ أَكْثَرَ صَرَفَهَا فِيمَا أَمْكَنَ مِنَ الْبَقْرِ وَلَوْ فِي عَشْرِ بَقَرَاتٍ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْبَقَرَ عَدَلَ إِلَى الْغَنَمِ ، وَفِيهِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَعْدِلُ عَنْهَا إِلَى سَبْعٍ مِنَ الْغَنَمِ ، مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ قِيمَةٍ ، قَلَّ ثَمَنُهَا أَوْ كَثُرَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَعْدِلُ إِلَى الْغَنَمِ بِالْقِيمَةِ ، وَفِي الْقِيمَةِ الَّتِي يَعْدِلُ عَنْهَا إِلَى الْغَنَمِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهَا أَكْثَرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَةِ الْبَدَنَةِ ، أَوْ سَبْعٍ مِنَ الْغَنَمِ ، لِأَنَّ الْبَدَنَةَ هِيَ الْأَصْلُ الْمَنْذُورُ .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُعْتَبَرُ أَكْثَرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَةِ الْبَقَرَةِ ، أَوْ سَبْعٍ مِنَ الْغَنَمِ ، لِأَنَّهُ يَنْتَقِلُ عَنِ الْبَقَرَةِ إِلَى الْغَنَمِ ، فَكَانَتِ الْبَقَرَةُ أَصْلًا لِلْغَنَمِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : يُعْتَبَرُ أَكْثَرُ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ مِنْ قِيمَةِ الْبَدَنَةِ ، أَوْ قِيمَةِ الْبَقَرَةِ ، أَوْ سَبْعٍ مِنَ الْغَنَمِ ؛ لِأَنَّ الْبَدَنَةَ أَصْلُ الْبَقَرَةِ ، وَالْبَقَرَةَ أَصْلُ الْغَنَمِ ، فَاعْتُبِرَ أَعْظَمُهَا . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ يُطْلِقَ اسْمَ الْهَدْيِ ، وَلَا يُقَيِّدَهُ بِجِنْسٍ وَلَا نَوْعٍ ، المنذر بالهدي فَيَقُولُ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُهْدِيَ هَدْيًا ، فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْأُمِّ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يُهْدِيَ مَا يَجُوزُ فِي الضَّحَايَا مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ خَاصَّةً ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُهْدِيَ غَيْرَهُمَا حَمْلًا لِإِطْلَاقِ الْهَدْيِ عَلَى مَا قَيَّدَهُ الشَّرْعُ ، فَعَلَى هَذَا فِي اعْتِبَارِ شَرْطِ الضَّحَايَا مِنَ السِّنِّ ، وَالسَّلَامَةِ وَجْهَانِ ذَكَرْنَاهُمَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأَمَالِي مِنَ الْحَجِّ وَالْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ يَجُوزُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى هَدْيِ مَا شَاءَ مِنْ قَلِيلٍ ، وَكَثِيرٍ يَجُوزُ فِي الضَّحَايَا مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ ، أَوْ لَا يَجُوزُ فِي الضَّحَايَا مِنَ الطَّعَامِ وَالثِّيَابِ ، وَصُنُوفِ الْأَمْوَالِ ، لِأَنَّ اسْمَ الْهَدْيِ مُشْتَقٌّ مِنَ الْهَدِيَّةِ الَّتِي لَا تَخْتَصُّ بِنَوْعٍ مِنَ الْأَمْوَالِ ، وَقَدْ جَاءَ الشَّرْعُ بِهَدْيِ مَا قَلَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ [ الْمَائِدَةِ : 95 ] . وَقَدْ يَهْدِي جَزَاءَ صَيْدٍ عَنْ عُصْفُورٍ وَجَرَادَةٍ ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي التَّبْكِيرِ إِلَى الْجُمُعَةِ وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً . قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " فِي هَذَا الْقَوْلِ وَعَلَيْهِ أَنْ يَهْدِيَ مَا كَانَ وَلَوْ بَيْضَةً أَوْ تَمْرَةً ، أَوْ قَبْضَةً مِنْ حِنْطَةٍ " ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَالَهُ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ ، وَالْمُعْتَبَرُ فِيهِ أَنْ يَهْدِيَ أَقَلَّ مَا يَكُونُ ثَمَنًا لِمَبِيعٍ ، أَوْ مَبِيعًا لِثَمَنٍ ، وَلَا تَكُونُ الثَّمَرَةُ الْوَاحِدَةُ ثَمَنًا وَلَا مَبِيعًا ، اعْتِبَارًا بِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي أَقَلِّ الصَّدَاقِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ قَالَهُ عَلَى وَجْهِ التَّحْقِيقِ فِي إِجْزَاءِ هَدْيِ التَّمْرَةِ وَالْبَيْضَةِ ، وَالْقَبْضَةِ مِنَ الْحِنْطَةِ ، لِأَنَّ الثَّمَرَةَ قَدْ تَكُونُ هَدْيًا فِي جَزَاءِ جَرَادَةٍ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَأَسْتَحِبُّ أَنْ لَا يَنْقُصَ مِنَ الْمُدِّ ، لِأَنَّهُ أَقَلُّ مَا يُوَاسَى بِهِ ، وَإِنْ أَجْزَأَ مَا دُونَهُ ، فَأَمَّا إِذَا قَالَ : " لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُهْدِيَ الْهَدْيَ " فَأَدْخَلَ الْأَلِفَ وَاللَّامَ ، فَقَدْ كَانَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ يَقُولُ : يَلْزَمُهُ أَنْ يُهْدِيَ مَا يَجُوزُ فِي الضَّحَايَا قَوْلًا وَاحِدًا ، لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ يَدْخُلَانِ لِجِنْسٍ أَوْ مَعْهُودٍ ، فَلَمَّا لَمْ يَنْصَرِفَا إِلَى عُمُومِ الْجِنْسِ انْصَرَفَا إِلَى مَعْهُودِ الشَّرْعِ ، وَهُوَ الضَّحَايَا وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى اسْتِوَاءِ الْحُكْمِ فِي الْأَمْرَيْنِ مَعَ

دُخُولِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ وَحَذْفِهِمَا ؛ لِأَنَّ مَعْهُودَ الشَّرْعِ فِيهِ مُخْتَلِفٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ .

فَصْلٌ : وَيَتَفَرَّعُ عَلَى نَذْرِ الْهَدَايَا إِذَا نَذَرَ أَنْ يَذْبَحَ وَلَدَهُ ، أَوْ نَفْسَهُ ، أَوْ عَبْدَهُ ، وَعَيَّنَهُ ، نذر المعصية فَنَذْرُهُ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ لَهُ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْوَفَاءُ بِهِ ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِيهِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ . وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ : يَلْزَمُهُ فِي هَذَا النَّذْرِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ، وَيَكُونُ النَّذْرُ مُنْعَقِدًا بِالْكَفَّارَةِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَلْزَمُهُ شَاةٌ إِذَا نَذَرَ ذَبْحَ وَلَدِهِ وَذَبْحَ نَفْسِهِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ إِذَا نَذَرَ ذَبْحَ وَالِدِهِ وَعَبْدِهِ . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : تَلْزَمُهُ الشَّاةُ فِي وَلَدِهِ وَعَبْدِهِ خَاصَّةً ، وَيَكُونُ نَذْرًا مُنْعَقِدًا بِشَاةٍ احْتِجَاجًا ، بِأَنَّ خَلِيلَ اللَّهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْتَزَمَ ذَبْحَ وَلَدِهِ ، فَأَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ يَفْدِيَهُ بِشَاةٍ ، فَقَالَ تَعَالَى : وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [ الصَّافَّاتِ : 107 ] . وَبِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ : مَنْ نَذَرَ ذَبْحَ ابْنِهِ فَعَلَيْهِ شَاةٌ ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ فَصَارَ إِجْمَاعًا . وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ ، وَلَا نَذْرَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ وَهَذَا نَذْرٌ فِي مَعْصِيَةٍ ، وَنَذْرٌ فِيمَا لَا يَمْلِكُ ، وَرَوَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِي اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ وَالْتِزَامُ هَذَا النَّذْرِ مَعْصِيَةٌ ، وَتَرْكُهُ طَاعَةٌ ، وَلِأَنَّهُ نَذْرٌ لَا يَنْعَقِدُ بِالْوَفَاءِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَنْعَقِدَ بِغَيْرِهِ ، كَالنَّذْرِ فِي جَمِيعِ الْمَعَاصِي ، وَلِأَنَّ حُرْمَةَ الْوَالِدِ أَعْظَمُ مِنْ حُرْمَةِ الْوَلَدِ ، فَلَمَّا لَمْ تَلْزَمْهُ الشَّاةُ إِذَا نَذَرَ ذَبْحَ وَالِدِهِ ، فَأَوْلَى أَنْ لَا تَلْزَمَهُ ، إِذَا نَذَرَ ذَبْحَ وَلَدِهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِحَالِ الْخَلِيلِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَهُوَ أَنَّهُ رَأَى فِي الْمَنَامِ أَنَّهُ يَذْبَحُ ابْنَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ [ الصَّافَّاتِ : 102 ] . وَرُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ فِي الْمَنَامِ كَالْوَحْيِ فِي الْيَقَظَةِ ، فَصَارَ ذَلِكَ أَمْرًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِيَخْتَبِرَ صَبْرَهُ وَطَاعَةَ ابْنِهِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ : يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [ الصَّافَّاتِ : 102 ] . فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ أَصْلًا فِي النُّذُورِ ، كَمَا لَمْ يُجْعَلِ الشُّرُوعُ فِي الذَّبْحِ أَصْلًا فِيهَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَالرِّوَايَةُ مُخْتَلِفَةٌ ، فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ عَلَيْهِ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ عَلَيْهِ شَاةً ، وَلَيْسَتْ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْأُخْرَى وَقَدْ سَقَطَتْ إِحْدَاهُمَا ، فَوَجَبَ أَنْ تَسْقُطَ الْأُخْرَى ، ثُمَّ لَوِ انْفَرَدَتِ الرِّوَايَةُ لَمَا صَارَتْ إِجْمَاعًا إِلَّا بِانْتِشَارِهَا وَلَمْ تَنْتَشِرْ ، فَلَمْ تَكُنْ إِجْمَاعًا .

مَسْأَلَةٌ إِذَا نَذَرَ صِيَامَ أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ نَذَرَ عَدَدَ صَوْمٍ صَامَهُ مُتَفَرِّقًا أَوْ مُتَتَابِعًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : لَا يَخْلُو إِذَا نَذَرَ صِيَامَ أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ مِنْ أَنْ يُعَيِّنَ زَمَانَهَا ، أَوْ يُطْلِقَهُ فَإِنْ عَيَّنَهُ ، فَقَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ الْعَشْرَ الْأُوَلَ مِنْ رَجَبٍ ، أَوِ الْعَشْرَ الْأَخِيرَ مِنْ شَعْبَانَ ، لَزِمَهُ أَنْ يَصُومَ الْعَشْرَ الَّذِي عَيَّنَهُ ، لَا يُجْزِئُهُ أَنْ يُقَدِّمَهُ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَخِّرَهُ ، وَيَكُونُ فِيهِ التَّتَابُعُ مُسْتَحَقًّا ، لِأَنَّ أَيَّامَهُ مُتَتَابِعَةً . وَإِنْ أَطْلَقَ الْعَشْرَ وَلَمْ يُعَيِّنْهُ ، وَقَالَ : " لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ ، فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَشْتَرِطَ فِيهَا التَّتَابُعَ إِمَّا بِقَوْلِهِ أَوْ بِقَلْبِهِ ، فَيَلْزَمُهُ تَتَابُعُهَا ، وَيَكُونُ عَلَى التَّرَاخِي دُونَ الْفَوْرِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ فِيهَا الْفَوْرَ ، فَيَجِبُ فِي شَرْطِهِ أَنْ يُعَجِّلَ صِيَامَهَا عَلَى الْفَوْرِ ، فَإِنْ فَرَّقَ صِيَامَهَا لَمْ يُجْزِهِ وَأَعَادَهَا مُتَتَابِعَاتٍ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَشْتَرِطَ صِيَامَهَا مُتَفَرِّقَةً ، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفَرِّقَهَا ، وَأَقَلُّ التَّفْرِقَةِ أَنْ يُفَرِّقَ كُلَّ يَوْمَيْنِ بِيَوْمٍ ، فَإِنْ تَابَعَ صِيَامَهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُجْزِئُهُ ، لِأَنَّ الْمُتَابَعَةَ أَغْلَظُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا تُجْزِئُهُ ، لِأَجْلِ الشَّرْطِ ، فَإِنْ شَرَطَ أَنْ يُتَابِعَ فِيهَا خَمْسَةَ أَيَّامٍ ، وَيُفَرِّقَ خَمْسَةَ أَيَّامٍ ، صَامَهَا عَلَى مَا شَرَطَ ، وَكَانَ مُخَيَّرًا فِي تَقْدِيمِ مَا شَاءَ مِنْ صِيَامِ الْمُتَتَابِعَاتِ أَوِ الْمُتَفَرِّقَاتِ وَيَخْتَارُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الصَّوْمَيْنِ بِيَوْمٍ ، فَإِنْ تَابَعَ بَيْنَ الْخَمْسَةِ الْمُتَفَرِّقَاتِ ، وَالْخَمْسَةِ الْمُتَتَابِعَاتِ جَازَ ؛ لِأَنَّ التَّفْرِقَةَ مَشْرُوطَةٌ فِي الْخَمْسَةِ وَلَيْسَتْ مَشْرُوطَةً بَيْنَ الْخَمْسَتَيْنِ ، فَإِنْ تَابَعَ الصِّيَامَ الْعَشْرَةَ كُلَّهَا أَجَزَأَهُ الْخَمْسَةُ الْمُتَتَابِعَةُ ، وَفِي إِجْزَاءِ الْخَمْسَةِ الْمُتَفَرِّقَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ فَلَوْ قَالَ : " لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ عَشْرَةَ أَيَّامٍ " بَعْضُهَا مُتَتَابِعًا ، وَبَعْضُهَا مُتَفَرِّقًا ، فَأَقَلُّ مَا عَلَيْهِ أَنْ يُتَابِعَ بَيْنَ يَوْمَيْنِ ، وَأَقَلُّ مَا لَهُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ يَوْمَيْنِ ، وَهُوَ فِيمَا عَدَاهُمَا بِالْخِيَارِ بَيْنَ التَّفْرِقَةِ وَالْمُتَابَعَةِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يُطْلِقَ صِيَامَ الْعَشْرَةِ أَيَّامٍ ، وَلَا يُشْتَرَطَ فِيهَا مُتَابَعَةً ، وَلَا تَفْرِقَةَ فَالْأَوْلَى بِهِ وَالْأَفْضَلُ لَهُ أَنْ يَصُومَهَا مُتَتَابِعَةً ، أَمَّا الْفَضِيلَةُ فَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ وَأَمَّا الْأَوْلَى فَلِأَنَّهُ يَأْمَنُ الْفَوَاتَ ، فَإِنْ فَرَّقَ صَوْمَهَا أَجْزَأَهُ . وَقَالَ دَاوُدُ : لَا يُجْزِئُهُ حَتَّى يُتَابِعَهَا ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ التَّتَابُعَ فِي صِيَامِ كَفَارَّةِ الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ ، فَحُمِلَ عَلَيْهِ كُلُّ مُطْلَقٍ مِنَ الصِّيَامِ ، وَهَذَا فَاسِدٌ ، لِأَنَّ مُطْلَقَ الصِّيَامِ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ أَصْلَيْنِ ، شَرْطُ التَّتَابُعِ فِي أَحَدِهِمَا ، وَهُوَ كَفَّارَةُ الْقَتْلِ ، وَالظِّهَارِ ، وَشَرْطُ التَّفْرِقَةِ فِي الْآخَرِ ، وَهُوَ صَوْمُ التَّمَتُّعِ ، فَلَمْ يَكُنِ الصَّوْمُ الْمُطْلَقُ فِي اعْتِبَارِهِ بِأَحَدِهِمَا

أَوْلَى مِنِ اعْتِبَارِهِ بِالْآخَرِ ، فَوَجَبَ مَعَ تَرَدُّدِهِ ، بَيْنَ الْأَصْلَيْنِ أَنْ يَكُونَ عَلَى إِطْلَاقِهِ فِي جَوَازِ تَفْرِقَتِهِ وَتَتَابُعِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ إِذَا نَذَرَ صِيَامَ سَنَةٍ مُعَيَّنَةٍ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ نَذَرَ صِيَامَ سَنَةٍ بِعَيْنِهَا صَامَهَا إِلَّا رَمَضَانَ ، فَإِنَّهُ يَصُومُهُ لِرَمَضَانَ وَيَوْمَ الْفِطَرِ وَالْأَضْحَى وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ فِيهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا نَذَرَ صِيَامَ سَنَةٍ مُعَيَّنَةٍ كَأَنْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ابْتَدَأَ لِصِيَامِهَا مِنْ أَوَّلِ الْمُحَرَّمِ ، وَخَرَجَ مِنْهُ لِانْسِلَاخِ ذِي الْحِجَّةِ ، وَخَرَجَ مِنْ نَذْرِهِ صِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ ، لِاسْتِحْقَاقِهِ عَنْ فَرْضِهِ ، وَلَمْ يَقْضِهِ لِاسْتِثْنَائِهِ مِنْ نَذْرِهِ بِالشَّرْعِ ، وَأَفْطَرَ مَا مَنَعَ الشَّرْعُ مِنْ صِيَامِهِ ، وَهِيَ خَمْسَةُ أَيَّامٍ يَوْمُ الْفِطْرِ ، وَيَوْمُ الْأَضْحَى ، وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ الثَّلَاثَةِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ قَضَاؤُهَا ، لِأَنَّ تَحْرِيمَ صِيَامِهَا مَنَعَ مِنِ انْعِقَادِ النَّذْرِ بِهَا ، فَإِنْ صَامَ جَمِيعَهَا إِلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ الشَّرْعُ مِنْهَا ، فَقَدْ وَفَّى بِنَذْرِهِ ، وَسَقَطَ عَنْهُ بِأَدَائِهِ ، وَإِنْ أَفْطَرَ فِيهَا ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُفْطِرَ فِيهَا بِغَيْرِ عُذْرٍ ، فَقَضَاءُ مَا أَفْطَرَهُ ، وَاجِبٌ عَلَيْهِ ، لِاسْتِحْقَاقِهِ بِنَذْرِهِ . فَأَمَّا مَا صَامَهُ مِنْهَا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَرَطَ تَتَابُعَهَا فِي نَذْرِهِ أَجْزَأَهُ مَا صَامَهُ مِنْهَا ، لِأَنَّ تَتَابُعَهَا كَانَ مُسْتَحِقًّا بِالزَّمَانِ دُونَ الشَّرْطِ ، كَمَا اسْتَحَقَّ تَتَابُعَ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ ، فَلَمْ يَبْطُلْ مَا صَامَ فِيهِ بِالْفِطْرِ ، فَكَذَلِكَ صِيَامُ هَذِهِ السَّنَةِ الْمَنْذُورَةِ مُسْتَحَقٌّ تَتَابُعُهَا لِزَمَانِهَا ، فَلَمْ يَبْطُلْ صِيَامُهَا بِالْفِطْرِ فِي بَعْضِهَا ، وَجَازَ أَنْ يَقْضِيَ مَا أَفْطَرَهُ مُتَفَرِّقًا ، وَمُتَتَابِعًا ، كَقَضَاءِ رَمَضَانَ ، وَإِنْ شَرَطَ تَتَابُعَ صِيَامِهَا فِي نَذْرِهِ ، صَارَ التَّتَابُعُ مُسْتَحَقًّا بِالشَّرْطِ وَالزَّمَانِ فَيَبْطُلُ مَا صَامَهُ مِنْهَا بِفِطْرِهِ فِيهَا ؛ لِأَجْلِ الشَّرْطِ دُونَ الزَّمَانِ ، كَالصِّيَامِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ ، لَمَّا كَانَ التَّتَابُعُ فِيهِ مُسْتَحَقًّا بِالشَّرْطِ ، بَطَلَ بِالْفِطْرِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ صَوْمٍ ، وَوَجَبَ أَنْ يُسْتَأْنَفَ الْقَضَاءُ بِصِيَامِ سَنَةٍ مُتَتَابِعَةٍ ، إِلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ الشَّرْعُ مِنْهَا ، وَهُوَ شَهْرُ رَمَضَانَ ، وَالْعِيدَانِ ، وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ .

فَصْلٌ : وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يُفْطِرَ فِيهَا بِعُذْرِ ، وَالْأَعْذَارُ الَّتِي يُسْتَبَاحُ بِهَا الْفِطْرُ فى أيام النذر أَرْبَعَةٌ : الْحَيْضُ ، وَالنِّفَاسُ ، وَهُمَا مُخْتَصَّانِ بِالنِّسَاءِ دُونَ الرِّجَالِ ، فَأَمَّا الْحَيْضُ فَلَا يُبْطِلُ تَتَابُعَ الصَّوْمِ سَوَاءٌ كَانَ مُسْتَحَقًّا بِالشَّرْطِ ، أَوِ الزَّمَانِ لِأَنَّهُ مَعْهُودٌ ، وَلَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ ، وَفِي وُجُوبِ قَضَاءِ أَيَّامِ الْحَيْضِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجِبُ قَضَاؤُهَا ، لِاسْتِثْنَائِهَا بِالشَّرْعِ كَاسْتِثْنَاءِ رَمَضَانَ وَالْعِيدَيْنِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يَجِبُ قَضَاؤُهَا كَمَا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ مِنْ قَضَاءِ أَيَّامِ الْحَيْضِ فِي صَوْمِ

الْفَرْضِ ، وَخَالَفَ مَا عَدَاهُ مِنَ الْأَيَّامِ الْمُسْتَثْنَاةِ لِعُمُومِ اسْتِثْنَائِهَا فِي حَقِّ كُلِّ نَادِرٍ ، وَخُصُوصِ اسْتِثْنَاءِ الْحَيْضِ فِي حَقِّ الْحَائِضِ ، وَحُكْمُ الْفِطْرِ بِالنِّفَاسِ كَحُكْمِ الْفِطْرِ بِالْحَيْضِ ، وَإِنْ خَالَفَهُ فِي اشْتِرَاكِهِمَا فِي أَحْكَامِ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ جَعَلْتُمْ قَضَاءَ أَيَّامِ الْحَيْضِ مُوجِبًا لِدُخُولِهِ فِي نَذْرِهَا ، وَلَوْ نَذَرَتْ صِيَامَ أَيَّامِ حَيْضِهَا ، بَطَلَ نَذْرُهَا ، وَلَمْ يَلْزَمْهَا الْقَضَاءُ ، فَهَلَّا كَانَتْ هَذِهِ كَذَلِكَ ! قِيلَ : لِأَنَّ إِفْرَادَهَا بِالنَّذْرِ يَجْعَلُهُ مَعْقُودًا عَلَى مَعْصِيَةٍ ، فَيَبْطُلُ ، وَلَا يَجْعَلُهُ إِذَا دَخَلَ فِي الْعُمُومِ مَعْقُودًا عَلَى مَعْصِيَةٍ فَلَزِمَ . وَأَمَّا الْفِطْرُ بِالْمَرَضِ فَلَا يَبْطُلُ بِهِ التَّتَابُعُ الْمُسْتَحَقُّ بِالزَّمَانِ ، وَفِي إِبْطَالِهِ التَّتَابُعَ الْمُسْتَحَقَّ بِالشَّرْطِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَبْطُلُ بِهِ كَمَا لَا يَبْطُلُ بِالْحَيْضِ ، لِأَنَّهُ عُذْرٌ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يَبْطُلُ بِهِ التَّتَابُعُ ، وَإِنْ لَمْ يَبْطُلْ بِالْحَيْضِ ، لِأَنَّ فِطْرَ الْحَيْضِ مَعْهُودٌ ، وَفِطْرَ الْمَرَضِ نَادِرٌ . فَإِنْ قِيلَ : بِأَنَّهُ يَبْطُلُ التَّتَابُعُ لَزِمَهُ أَنْ يَسْتَأْنِفَ قَضَاءَ سَنَةٍ كَامِلَةٍ إِلَّا شَهْرَ رَمَضَانَ ، وَالْخَمْسَةَ الْمُحَرَّمَةَ . وَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ غَيْرُ مُبْطِلٍ لِلتَّتَابُعِ كَالْحَيْضِ ، فَفِي وُجُوبِ قَضَاءِ مَا أَفْطَرَ بِالْمَرَضِ قَوْلَانِ كَالْفِطْرِ بِالْحَيْضِ . وَأَمَّا الْفِطْرُ بِالسَّفَرِ فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ كَالْمَرَضِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي إِبَاحَةِ الْفِطْرِ شَرْعًا ، فَيَكُونُ الْفِطْرُ بِهِ كَالْفِطْرِ بِالْمَرَضِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ كَالْفِطْرِ بِغَيْرِ عُذْرٍ ، لِقُدْرَتِهِ عَلَى الصِّيَامِ ، فَخَالَفَ الْمَرَضُ الْعَاجِزُ عَنْهُ ، فَيَكُونُ الْفِطْرُ بِهِ كَفِطْرِ غَيْرِ الْمَعْذُورِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ نَذَرَ سَنَةً بِغَيْرِ عَيْنِهَا قَضَى هَذِهِ الْأَيَّامَ كُلَّهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا كَانَ النَّذْرُ مَعْقُودًا عَلَى صِيَامِ سَنَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ ، فَالسَّنَةُ تَجْمَعُ شُهُورًا وَالشَّهْرُ يَجْمَعُ أَيَّامًا ، فَشُهُورُ السَّنَةِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا ، وَأَيَّامُ الشَّهْرِ مَا بَيْنَ هِلَالَيْهِ ، فَإِنْ تَمَّ كَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ، لَا يَزِيدُ عَلَيْهَا ، وَإِنْ نَقَصَ كَانَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا ، لَا يَنْقُصُ مِنْهَا ، فَإِنْ فَاتَ هِلَالُهُ كَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا لَا يَنْقُصُ مِنْهَا ، فَتَصِيرُ شُهُورُ السَّنَةِ بِفَوَاتِ أَهِلَّتِهَا ثَلَاثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ يَوْمًا ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَنَذْرُ صِيَامِهَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : مُطْلَقٌ ، وَمُتَتَابِعٌ .

فَأَمَّا الْمُطْلَقُ فَيَجُوزُ أَنْ يَصُومَهَا مُتَتَابِعًا وَمُتَفَرِّقًا ، فَإِنْ صَامَهَا مُتَفَرِّقًا ، نُظِرَتْ فَإِنْ صَامَ كُلَّ شَهْرٍ مِنْهَا بِأَسْرِهِ ، وَلَمْ يُفْطِرْ فِي شَيْءٍ مِنْ أَيَّامِهِ ، اعْتَدَّ بِمَا بَيْنَ هِلَالَيْهِ شَهْرًا سَوَاءٌ كَانَ الشَّهْرُ كَامِلًا أَوْ نَاقِصًا ، وَإِنْ أَفَطَرَ يَوْمًا مِنْهُ اسْتَوْفَاهُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا كَامِلَةً ، لِفَوَاتِ هِلَالِهِ ، فَإِنْ كَانَ كَامِلًا قَضَى يَوْمَ فِطْرِهِ وَحْدَهُ ، وَإِنْ كَانَ نَاقِصًا صَامَ يَوْمَيْنِ يَوْمَ فِطْرِهِ وَيَوْمَ نُقْصَانِهِ ، وَيَكُونُ فِي صِيَامِهِ كُلَّ شَهْرٍ عَلَى هَذَا الْحُكْمِ ، حَتَّى يَسْتَكْمِلَ صِيَامَ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا ، سَوَاءٌ تَابَعَ شُهُورَهَا أَوْ فَرَّقَهَا فَلَوْ صَامَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ عَشْرَةَ أَيَّامٍ ، وَجَبَ أَنْ يَسْتَكْمِلَ صِيَامَ ثَلَاثَةٍ وَسِتِّينَ يَوْمًا ، لِأَنَّهُ قَدْ فَاتَ هِلَالُ كُلِّ شَهْرٍ بِصِيَامِ بَعْضِهِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْمُتَتَابِعُ بِالشَّرْطِ ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ : " لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ سَنَةً مُتَتَابِعَةً النذر المشروط " فَهُوَ عَلَى التَّرَاخِي دُونَ الْفَوْرِ ، لِأَنَّ تَرْكَ التَّعْيِينِ لَهَا قَدْ جَعَلَ نَذْرَ صِيَامِهَا مَضْمُونًا فِي ذِمَّتِهِ ، وَلَهُ إِذَا شَرَعَ فِي صِيَامِهَا أَنْ يَبْتَدِئَهَا بِأَيِّ شَهْرٍ شَاءَ مِنْ شُهُورِهَا ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ أَنْ يَبْتَدِئَهَا بِالْمُحَرَّمِ ، لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ أَوَّلُ السَّنَةِ الْمُعَيَّنَةِ ، وَهَذِهِ السَّنَةُ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ ، وَإِذَا نَذَرَ صِيَامَهُ شَهْرًا كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يَبْتَدِئَهُ بِصِيَامِ أَوَّلِهِ ، وَبَيْنَ أَنْ يَبْتَدِئَ صِيَامَهُ بَعْدَ ذَهَابِ بَعْضِهِ ، لِأَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُتَابِعَ الصِّيَامَ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهِ ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ مَا تَقَدَّمَهُ فَإِذَا صَامَ سَنَةً مُتَوَالِيَةَ الْأَهِلَّةِ سَقَطَ مِنَ الِاعْتِدَادِ بِهَا مَا اسْتَثْنَاهُ الشَّرْعُ مِنْهَا ، وَهُوَ شَهْرُ رَمَضَانَ ، لِأَنَّ صِيَامَهُ عَنْ فَرْضِهِ دُونَ نَذْرِهِ ، وَالْخَمْسَةُ أَيَّامٍ الَّتِي مَنَعَ الشَّرْعُ مِنْ صِيَامِهَا ، وَهِيَ : الْعِيدَانِ ، وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ الثَّلَاثَةُ ، وَلَا يَنْقَطِعُ تَتَابُعُ صِيَامِهِ لِفِطْرِهِ فِيهَا ، لِأَنَّهُ لَا يُعْذَرُ فِي صِيَامِ السَّنَةِ الْمُتَتَابِعَةِ عَلَى التَّحَرُّزِ مِنْهَا ، وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَقْضِيَ مَا لَمْ يَعْتَدَّ بِصِيَامِهِ مِنْ نَذْرِهِ مُتَّصِلًا بِصِيَامِهِ ، فَإِنْ كَانَ شَوَّالٌ وَذُو الْحِجَّةِ تَامَّيْنِ ، فَيَقْضِي خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ يَوْمًا مِنْهُمَا عَنْ رَمَضَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا سَوَاءٌ كَانَ رَمَضَانُ تَامًّا أَوْ نَاقِصًا ، لِأَنَّ نُقْصَانَهُ قَدْ فَاتَ هِلَالُهُ ، وَيَوْمَ فِطْرِهِ مِنْ شَوَّالٍ وَأَرْبَعَةِ أَيَّامٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ . وَإِنْ كَانَ شَوَّالٌ ، وَذُو الْحِجَّةِ ، نَاقِصَيْنِ ، قَضَى سَبْعَةً وَثَلَاثِينَ يَوْمًا ، لِأَنَّ شَوَّالًا وَذَا الْحِجَّةِ قَدْ فَاتَهُ هِلَالُهُمَا بِالْفِطْرِ فِي بَعْضِهِمَا ، فَلَزِمَهُ إِتْمَامُهُمَا . فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا سَقَطَ عَنْهُ قَضَاءُ هَذِهِ الْأَيَّامِ فِي صِيَامِ السَّنَةِ الْمُطْلَقَةِ كَمَا سَقَطَ عَنْهُ قَضَاؤُهَا فِي الْمُعَيَّنَةِ ، قِيلَ : لِأَنَّ نَذْرَهُ فِي السَّنَةِ الْمُعَيَّنَةِ تَعَلَّقَ بِالزَّمَانِ ، فَانْعَقَدَ عَلَى مَا يَجُوزُ صِيَامُهُ فِي النَّذْرِ ، وَخَرَجَ مِنْهَا مَا لَا يَجُوزُ صِيَامُهُ فِيهِ ، وَنَذْرُهُ فِي السَّنَةِ الْمُطْلَقَةِ تَعَلَّقَ بِذِمَّتِهِ ، فَانْعَقَدَ عَلَى كَمَالِ الْمُدَّةِ .

فَصْلٌ : فَإِنْ عَقَدَ نَذْرَهُ عَلَى صِيَامِ رَمَضَانَ ، وَالْعِيدَيْنِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ ، لَمْ يَنْعَقِدْ نَذْرُهُ وَلَمْ يَلْزَمْهُ قَضَاؤُهُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : يَنْعَقِدُ نَذْرُهُ وَيَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُ ، فَإِنْ صَامَ ذَلِكَ عَنْ نَذْرِهِ أَجْزَأَهُ الْعِيدَانِ ، وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ ، فَأَمَّا رَمَضَانُ فَيُجْزِئُهُ إِنْ كَانَ مُسَافِرًا وَلَا يُجْزِئُهُ إِنْ

كَانَ حَاضِرًا ، وَيُجْزِئُهُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ مُسَافِرًا كَانَ أَوْ حَاضِرًا اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ فِي نَذْرِهِ إِذَا عَمَّ وَجَبَ أَنْ يَنْعَقِدَ عَلَيْهِ النَّذْرُ إِذَا خَصَّ . وَالثَّانِي : أَنَّ أَوَّلَ نَذْرِهِ بَدَأَ بِعَقْدِهِ عَلَى صِيَامِ شَهْرٍ وَأَيَّامٍ وَإِذَا وَصَلَهُ فِي تَعْيِينِهِ بِرَمَضَانَ وَالْأَيَّامِ الْمُحَرَّمَةِ سَقَطَ حُكْمُ الْمَعْصِيَةِ ، وَلَمْ يَبْطُلْ حُكْمُ النَّذْرِ ، كَمَا لَوْ قَالَ : " لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُصَلِّيَ فِي دَارٍ مَغْصُوبَةٍ " لَزِمَتْهُ الصَّلَاةُ وَسَقَطَ فِعْلُهَا فِي دَارٍ مَغْصُوبَةٍ . وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَلَا نَذْرَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَسْتَحِقَّ صَوْمُهُ عَنِ النَّذْرِ لَمْ يَنْعَقِدْ بِهِ النَّذْرُ كَأَيَّامِ الْحَيْضِ ، وَلِأَنَّهُ زَمَانٌ يُنَافِي صِيَامَ نَذْرِهِ فَلَمْ يَنْعَقِدْ عَلَيْهِ نَذَرُهُ كَاللَّيْلِ . وَالْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِدُخُولِهِ فِي عُمُومِ نَذْرِهِ ، فَجَازَ أَنْ يَنْعَقِدَ عَلَى خُصُوصِ النَّذْرِ ، فَكَذَلِكَ حُكْمُ مَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ فَدَخَلَ فِي عُمُومِ نَذْرِهِ ، وَلَا يَنْعَقِدُ عَلَيْهِ خُصُوصُ نَذْرِهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِنَذْرِهِ الصَّلَاةَ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ ، فَيُحْتَمَلُ انْعِقَادُ نَذْرِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلٌ فَسَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ صَحِيحٌ وَيُصَلِّيهَا فِي غَيْرِ الْمَغْصُوبَةِ ، وَيُجْزِئُهُ إِنْ صَلَّاهَا فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ تَعْيِينَ الزَّمَانِ مِنَ الصِّيَامِ الْمَنْذُورِ لَازِمٌ ، وَتَعْيِينَ الْمَكَانِ فِي الصَّلَاةِ الْمَنْذُورَةِ غَيْرُ لَازِمٍ . وَالثَّانِي : مَا أَجْمَعْنَا عَلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ لَوْ نَذَرَ صَوْمَ يَوْمٍ مُطْلَقٍ ، فَصَامَهُ فِي يَوْمِ عِيدٍ ، لَمْ يُجْزِهِ . وَلَوْ نَذَرَ صَلَاةً مُطْلَقَةً فَصَلَّاهَا فِي دَارٍ مَغْصُوبَةٍ أَجْزَأَهُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَحُجَّ عَامِي هَذَا فَحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ عُذْرٌ أَوْ سُلْطَانٌ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ حَدَثَ بِهِ مَرَضٌ أَوْ خَطَأُ عَدَدٍ أَوْ نِسْيَانٍ أَوْ تَوَانٍ قَضَاهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : الْحَجُّ الْمَنْذُورُ ضَرْبَانِ : مُطْلَقٌ ، وَمُعَيَّنٌ . فَأَمَّا الْمُطْلَقُ : فَهُوَ أَنْ يَقُولَ : " إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَحُجَّ " وَلَا يُعَيِّنُ

عَامَ حَجِّهِ فَإِذَا شَفَى اللَّهُ مَرِيضَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ ، لِوُجُودِ شَرْطِ النَّذْرِ ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِي وُجُوبِهِ وُجُودُ الزَّادِ ، وَالرَّاحِلَةِ . وَفِي اعْتِبَارِ وَجُودِهِمَا فِي أَدَائِهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَحَدُهُمَا : يُعْتَبَرُ وُجُودُهُمَا فِي الْأَدَاءِ ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ شَرَائِطِ الْإِمْكَانِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يُعْتَبَرُ وُجُودُهُمَا فِي الْأَدَاءِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ بِهِ فِي نَذْرِهِ ، وَهُوَ قَوْلُ مَنْ لَا يَطْرَحُ الْغَلَبَةَ فِي الْأَيْمَانِ فَلَمْ يَطْرَحْهَا فِي النُّذُورِ ، وَفِي وُجُوبِ تَعْجِيلِهِ عَلَى الْفَوْرِ وَجْهَانِ مَضَيَا . وَأَمَّا الْمُعَيَّنُ ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ : إِنْ قَدِمَ غَائِبِي ، فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَحُجَّ فِي عَامِي هَذَا ، فَلَا يَخْلُو قُدُومُ غَائِبِهِ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ وَقْتِ الْحَجِّ فِي عَامِهِ أَوْ بَعْدَهُ ، فَإِنْ قَدِمَ بَعْدَ عَامِهِ سَقَطَ ، وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَجُّ لِانْقِضَاءِ وَقْتِهِ ، وَإِنْ قَدِمَ قَبْلَ حَجِّ عَامِهِ ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْوَقْتُ مُتَّسِعًا لِحَجِّهِ ، فَقَدْ لَزِمَهُ النَّذْرِ ، وَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ فِي عَامِهِ الْحَجُّ لِإِمْكَانِ أَدَائِهِ فِيهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَضِيقَ الْوَقْتُ عَنْ إِمْكَانِ الْحَجِّ فِي عَامِهِ لِقُصُورِ زَمَانِهِ ، فَفِي لُزُومِ نَذْرِهِ وَوُجُوبِ الْحَجِّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَلْزَمُهُ النَّذْرُ . وَالثَّانِي : يَلْزَمُهُ النَّذْرُ ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ ، وَيَقْضِيهِ بَعْدَ عَامِهِ ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ قَادِرًا عَلَى اسْتِثْنَائِهِ فِي نَذْرِهِ ، وَهُوَ قَوْلُ مَنْ لَا يَطْرَحُ الْغَلَبَةَ ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ فِي وُجُودِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ فِي عَامِهِ لِتَعْيِينِهِ فِي نَذْرِهِ ، فَإِنْ حَجَّ فِيهِ أَجْزَأَهُ ، وَإِنْ تَأَخَّرَ عَنْهُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ تَأَخُّرُهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ ، فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ فِي الْعَامِ الثَّانِي ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ تَأْخِيرُهُ عَنْهُ ، لِأَنَّ فَرْضَهُ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْفَوْرِ دُونَ التَّرَاخِي . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يُؤَخِّرَهُ عَنْ عَامِهِ لِعُذْرٍ ، فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَمُوتَ قَبْلَ وَقْتِ الْحَجِّ ، فَلَا حَجَّ عَلَيْهِ لِمَوْتِهِ قَبْلَ وَقْتِ الْأَدَاءِ ، فَصَارَ كَمَوْتِ الْمُزَكِّي قَبْلَ الْحَوْلِ ، وَمَوْتِ الْمُصَلِّي قَبْلَ الْوَقْتِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يُؤَخِّرَهُ بِإِحْصَارِ سُلْطَانٍ قَاهِرٍ ، وَعَدُوٍّ غَالِبٍ ، فَحُكْمُ الْإِحْصَارِ فِي حَجَّةِ الْإِسْلَامِ ، فَإِنْ كَانَ عَامًّا سَقَطَ بِهِ الْقَضَاءُ ، وَإِنْ كَانَ خَاصًّا فَفِي سُقُوطِ الْقَضَاءِ قَوْلَانِ .

فَأَمَّا حُكْمُ الْإِحْصَارِ فِي حَجَّةِ النَّذْرِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ - إِنَّهُ عَلَى حُكْمِهِ فِي حَجَّةِ الْإِسْلَامِ إِنْ كَانَ عَامًّا سَقَطَ عَنْهُ الْقَضَاءُ ، وَإِنْ كَانَ خَاصًّا فَعَلَى قَوْلَيْنِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ - إِنَّهُ عَلَى الْعَكْسِ فِي حَجَّةِ الْإِسْلَامِ إِنْ كَانَ الْإِحْصَارُ خَاصًّا ، وَجَبَ بِهِ الْقَضَاءُ ، وَإِنْ كَانَ عَامًّا فَعَلَى قَوْلَيْنِ ، وَهَذَا أَشْبَهُ ، لِأَنَّ حَجَّةَ النَّذْرِ أَغْلَظُ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يُؤَخِّرَهُ لِعُذْرٍ يَعُودُ إِلَيْهِ مِنْ مَرَضٍ ، أَوْ نِسْيَانٍ ، أَوْ تَلَفِ مَالٍ ، أَوْ خَطَأِ عَدَدٍ ، أَوْ ضَلَالِ طَرِيقٍ ، فَالْقَضَاءُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ لِاخْتِصَاصِ الْأَعْذَارِ بِهِ ، كَمَا لَا يَسْقُطُ عَنْهُ صِيَامُ رَمَضَانَ بِمَرَضِهِ وَإِعْذَارِهِ مَعَ إِمْكَانِ اسْتِثْنَائِهَا فِي نَذْرِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ الْيَوْمَ الَّذِي يَقْدِمُ فِيهِ فُلَانٌ ، فَقَدِمَ لَيْلًا فَلَا صَوْمَ عَلَيْهِ ، وَأُحِبُّ لَوْ صَامَ صَبِيحَتَهُ ، وَلَوْ قَدِمَ نَهَارًا هُوَ فِيهِ صَائِمٌ تَطَوُّعًا كَانَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ ؛ لِأَنَّهُ نَذْرٌ ، وَقَدْ يَحْتَمِلُ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ بِأَنْ يَكُونَ فِيهِ صَائِمًا عَنْ نَذْرِهِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) يَعْنِي أَنَّهُ لَا صَوْمَ لِنَذْرِهِ إِلَّا بِنِيَّةٍ قَبْلَ الْفَجْرِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ سَبِيلٌ إِلَى أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ عَلَيْهِ صَوْمًا إِلَّا بَعْدَ مَقْدِمِهِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : قَضَاؤُهُ عِنْدِي أَوْلَى بِهِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : وَكَذَلِكَ الْحَجُّ إِذَا أَمْكَنَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ ، فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ صَوْمَ شَهْرِ رَمَضَانَ بِعَيْنِهِ ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِعَجْزِهِ عَنْهُ بِمَرَضِهِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - : قَالَ اللَّهُ : فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَأَجْمَعُوا أَنَّهُ لَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ الشَّهْرُ كُلُّهُ ، فَلَمْ يَعْقِلْ فِيهِ أَنَّ عَلَيْهِ قَضَاءَهُ وَالنَّذْرُ عِنْدَهُ وَاجِبٌ ، فَقَضَاؤُهُ إِذَا أَمْكَنَهُ ، وَإِنْ ذَهَبَ وَقْتُهُ وَاجِبٌ ، وَقَدْ قَطَعَ بِهَذَا الْقَوْلِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَوْ أَصْبَحَ فِيهِ صَائِمًا مِنْ نَذْرٍ غَيْرِ هَذَا أَحْبَبْتُ أَنْ يَعُودَ لِصَوْمِهِ لِنَذْرِهِ وَيَعُودَ لِصَوْمِهِ لِقُدُومِ فُلَانٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَفِي انْعِقَادِ هَذَا النَّذْرِ ، إِذَا قَالَ : " لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ الْيَوْمَ الَّذِي يَقَدَمُ فِيهِ فُلَانٌ " قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ نَذْرَهُ بَاطِلٌ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ ؛ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ تَقْدِيمَ النِّيَّةِ فِي صِيَامِ النَّذْرِ مُسْتَحَقٌّ فِي اللَّيْلِ ، وَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا قَبْلَ الْعِلْمِ بِوُجُوبِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ قُدُومَهُ فِيهِ يَمْنَعُ مِنْ إِجْزَاءِ الصَّوْمِ قَبْلَهُ ، وَقَدْ مَضَى مِنَ النَّهَارِ بَعْضُهُ ،

فَلَمْ يَجُزْ لِتَقَدُّمِهِ وَبَقَاءِ بَعْضِهِ ، فَلَمْ يَصِحَّ صَوْمُ بَعْضِهِ ، وَهَذَا تَعْلِيلُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ فَلِهَذَيْنِ التَّعْلِيلَيْنِ بَطَلَ نَذْرُهُ وَلَمْ يَلْزَمْهُ قَضَاؤُهُ ، كَمَنْ نَذَرَ صِيَامَ الْأَيَّامِ الْمُحَرَّمَةِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ الْأَصَحُّ ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ أَنَّ نَذْرَهُ مُنْعَقِدٌ وَقَضَاءَهُ وَاجِبٌ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْمُزَنِيُّ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ نَذْرٌ انْعَقَدَ عَلَى اسْتِقْبَالِ صِيَامٍ فِي زَمَانٍ يَجُوزُ فِيهِ الصِّيَامُ ، فَصَارَ كَسَائِرِ الْأَيَّامِ ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ التَّفْرِيعُ ، فَإِنْ قُدِمَ بِفُلَانٍ مَيِّتًا ، سَقَطَ فَرْضُ الصِّيَامِ لِعَدَمِ الشَّرْطِ ، وَإِنْ قَدِمَ فُلَانٌ حَيًّا ، لَمْ يَخْلُ مَقْدِمُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا ، فَإِنْ قَدِمَ لَيْلًا ، سَقَطَ فَرْضُ الصِّيَامِ لِأَنَّهُ لَمَّا عَلَّقَهُ بِالْيَوْمِ صَارَ النَّهَارُ شَرْطًا فِي وُجُوبِهِ ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى وُجُوبِ الصِّيَامِ عَلَيْهِ فِي غَدِهِ تَعْلِيلًا بِأَنَّ الْعَرَبَ تُعَبِّرُ بِاللَّيَالِي عَنِ الْأَيَّامِ ، وَعَنِ اللَّيَالِي بِالْأَيَّامِ ، وَلِذَلِكَ مَا اسْتَحَبَّ الشَّافِعِيُّ أَنْ يَصُومَ صَبِيحَةَ لَيْلَتِهِ . وَلَوْ قَدِمَ نَهَارًا لَمْ يَخْلُ حَالُ النَّاذِرِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ صَائِمًا ، أَوْ مُفْطِرًا ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ مُفْطِرًا ، فَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُمْسِكَ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ كَالْمُسَافِرِ إِذَا قَدِمَ فِي يَوْمٍ قَدْ أَفْطَرَ فِي أَوَّلِهِ ، اسْتَحْبَبْنَا لَهُ أَنْ يُمْسِكَ فِي بَقِيَّتِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ ، وَإِنْ كَانَ النَّاذِرُ فِي يَوْمِ الْقُدُومِ صَائِمًا لَمْ يَخْلُ صَوْمُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ تَطَوُّعًا ، فَيَكُونُ فِيهِ عَلَى حُكْمِ تَطَوُّعِهِ ، وَلَا يُجْزِئُهُ عَنْ نَذْرِهِ ، وَفِي انْحِتَامِ صِيَامِهِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَنْحَتِمُ صَوْمُهُ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مُسْتَحِقًّا فِي نَذْرِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَنْحَتِمُ صَوْمُهُ عَلَيْهِ ، وَيَكُونُ عَلَى اخْتِيَارِهِ فِيهِ ، وَهُوَ أَظْهَرُ اعْتِبَارًا بِمَا انْعَقَدَتْ نِيَّتُهُ عَلَيْهِ مِنْ تَطَوُّعِهِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ صِيَامُهُ عَنْ فَرْضٍ وَجَبَ عَلَيْهِ فى صيام النذر فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ فَرْضَ صِيَامٍ مُتَعَيِّنًا فِي يَوْمٍ ، وَذَلِكَ صِيَامَانِ : أَحَدُهُمَا : فَرْضُ رَمَضَانَ . وَالثَّانِي : لِنَذْرٍ تَقَدَّمَ مِنْهُ ، تَعَيَّنَ عَلَيْهِ فِي يَوْمِهِ ، فَيَسْتَكْمِلُ صَوْمَ يَوْمِهِ عَنْ فَرْضِهِ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ ، لِعَدَمِ اسْتِحْقَاقِهِ ، وَيُسْتَحَبُّ لَوْ أَعَادَهُ ، وَلَا يَكُونُ فَرْضُهُ مُشْتَرَكًا ، وَعَلَيْهِ قَضَاءُ نَذْرِهِ الْمُسْتَقْبَلِ فَيَصُومُ يَوْمَيْنِ فَرْضًا وَيَوْمًا مُسْتَحَبًّا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَصُومَهُ عَنْ فَرْضٍ لَمْ يَتَعَيَّنْ فِيهِ ، كَقَضَاءِ رَمَضَانَ ، وَصَوْمِ الْكَفَّارَةِ ، فَعَلَيْهِ إِتْمَامُهُ عَنْ فَرْضِهِ الَّذِي نَوَاهُ ، وَفِي وُجُوبِ قَضَائِهِ عَنْ ذَلِكَ الْفَرْضِ وَجْهَانِ :

أَحَدُهُمَا : - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ - يَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُ ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ ، لِدُخُولِهِ فِيهِ عَنْ نِيَّةٍ انْعَقَدَتْ بِهِ ، ثُمَّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ صَوْمَ نَذْرِهِ ، وَيَصُومَ عَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ : يَوْمًا عَنْ فَرْضِهِ ، وَيَوْمًا عَنْ نَذْرِهِ ، وَيَوْمًا مُسْتَحَبًّا . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَصُومَ عَنْ نَذْرِهِ فِي يَوْمِ الْقُدُومِ وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ لَا يَعْلَمَ بِقُدُومِهِ فِيهِ ، فَلَا يُجْزِئُهُ صِيَامُهُ عَنْ نَذْرِهِ ، لِعَدَمِ عِلْمِهِ كَمَا لَا يُجِزِئُهُ صِيَامُ يَوْمِ الشَّكِّ مَعَ عَدَمِ عِلْمِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ سَيَدْخُلُ فِيهِ لِقُرْبِهِ مِنْهُ فَفِي إِجْزَائِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ - إِنَّهُ يُجْزِئُهُ لِأَنَّهُ قَدْ نَوَاهُ عَلَى عِلْمٍ بِهِ . وَالثَّانِي : - وَهُوَ مُقْتَضَى تَعْلِيلِ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ - أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ ، لِأَنَّهُ قَدْ صَامَ أَوَّلَهُ قَبْلَ مَقْدِمِهِ ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْهُ ، مَعَ الِاخْتِيَارِ مِنْهُ ، فَلَا يَصِيرُ عَالِمًا بِمَقْدِمِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ الْيَوْمَ الَذِي يَقْدُمُ فِيهِ فُلَانٌ أَبَدًا ، فَقَدِمَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ كُلَّ اثْنَيْنِ يَسْتَقْبِلُهُ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ يَوْمَ فِطْرٍ أَوْ أَضْحَى أَوْ تَشْرِيقٍ ، فَلَا يَصُومُهُ وَلَا يَقْضِيهِ ، وَقَالَ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ : عَلَيْهِ الْقَضَاءُ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - : لَا قَضَاءَ أَشْبَهُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِوَقْتٍ لِصَوْمٍ عِنْدَهُ لِفَرْضٍ وَلَا لِغَيْرِهِ ، وَإِنْ نَذَرَ صَوْمَهَا نَذْرَ مَعْصِيَةً ، وَكَذَلِكَ لَا يَقْضِي نَذْرَ مَعْصِيَةٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا عَقَدَ نَذْرَهُ عَلَى صِيَامِ الْيَوْمِ الَّذِي يَقْدَمُ فِيهِ فُلَانٌ أَبَدًا ، فَقَدِمَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ كَانَ نَذْرُهُ فِي الْأَثَانِينِ الْمُسْتَقْبَلَةِ مُنْعَقِدًا ، لِإِمْكَانِ صِيَامِهَا وَفِي انْعِقَادِهِ فِي الِاثْنَيْنِ الَّذِي قَدِمَ فِيهِ فُلَانٌ قَوْلَانِ ، عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُمَا فَيَصِيرُ صَوْمُ الِاثْنَيْنِ مُسْتَحَقًّا بِنَذْرِهِ ، فَإِنْ مَنَعَهُ عَنْ صِيَامِهِ فِي النَّذْرِ عُذْرٌ ، فَالْأَعْذَارُ الْمَانِعَةُ مِنْهُ خَمْسَةٌ : أَحَدُهَا : فَرْضُ رَمَضَانَ ، لِأَنَّ فِيهِ مِنَ الِاثْنَيْنِ مَا قَدِ اسْتَحَقَّ صِيَامَهُ عَنْ فَرْضِهِ ، فَخَرَجَ عَنْ جُمْلَةِ نَذْرِهِ ، فَيَلْزَمُهُ صِيَامُ اثْنَيْنِ رَمَضَانَ عَنْ رَمَضَانَ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَصُومَهَا عَنْ نَذْرِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ قَضَاؤُهَا عَنِ النَّذْرِ ، لِاسْتِثْنَائِهَا بِالشَّرْعِ مَعَ إِحَاطَةِ الْعِلْمِ بِوُجُودِهَا فِيهِ ، فَإِنْ صَامَهَا عَنْ نَذْرِهِ لَمْ يَكُنْ نَذْرًا ، وَلَا فَرْضًا ، وَلَزِمَهُ قَضَاؤُهَا عَنِ الْفَرْضِ دُونَ النَّذْرِ . وَالْعُذْرُ الثَّانِي : أَنْ يُصَادِفَ بَعْضُ الْأَثَانِينِ مَا يَحْرُمُ صِيَامُهُ مِنَ الْعِيدَيْنِ ، وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ صِيَامُهُ ، عَنِ النَّذْرِ كَمَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَصُومَهُ عَنْ غَيْرِ النَّذْرِ ، وَفِي وُجُوبِ قَضَائِهِ عَنْ نَذْرِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الْأَظْهَرُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي النُّذُورِ ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ ، أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُ لِأَمْرَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : لِأَنَّ الشَّرْعَ قَدِ اسْتَثْنَاهُ فَصَارَ كَاثْنَيْنِ رَمَضَانَ . وَالثَّانِي : لِأَنَّهُ صَادَفَ أَيَّامَ التَّحْرِيمِ فَصَارَ نَذْرَ مَعْصِيَةٍ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ أَنَّ عَلَيْهِ قَضَاءَهُ ؛ لِأَنَّ نَذْرَهُ قَدِ انْعَقَدَ عَلَى طَاعَةٍ ، وَقَدْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ لَا يُصَادِفَ أَيَّامَ التَّحْرِيمِ ، فَلَزِمَ قَضَاؤُهُ لِانْعِقَادِ النَّذْرِ ، وَفَارَقَ أَثَانِينَ رَمَضَانَ الَّتِي لَا يَنْفَكُّ مِنْهَا . وَالْعُذْرُ الثَّالِثُ : الْمَرَضُ الْمَانِعُ مِنْ صِيَامِهِ بِالْعَجْزِ ، فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ ، لِأَنَّ مَا وَجَبَ بِالنَّذْرِ مُعْتَبَرٌ بِمَا وَجَبَ بِالشَّرْعِ ، فَلَمَّا لَمْ يَسْقُطْ بِالْمَرَضِ قَضَاءُ مَا وَجَبَ مِنْ رَمَضَانَ ، لَمْ يَسْقُطْ بِهِ قَضَاءُ مَا وَجَبَ بِالنَّذْرِ . وَالْعُذْرُ الرَّابِعُ : الْجُنُونُ الطَّارِئُ عَلَيْهِ ، فَيَسْقُطُ بِهِ قَضَاءُ النَّذْرِ كَمَا يَسْقُطُ بِهِ قَضَاءُ الْفَرْضِ . وَالْعُذْرُ الْخَامِسُ : الْإِغْمَاءُ فَلَا يَسْقُطُ قَضَاءُ النَّذْرِ بِهِ ، كَمَا لَا يَسْقُطُ بِهِ قَضَاءُ الْفَرْضِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ صَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ صَامَهُمَا ، وَقَضَى كُلَّ أَثَانَيْنٍ فِيهِمَا وَلَا يُشْبِهُ شَهْرَ رَمَضَانَ لِأَنَّ هَذَا شَيْءٌ أَدْخَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ بَعْدَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ صَوْمُ الْأَثَانِينِ وَشَهْرُ رَمْضَانَ أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ لَا بِشَيْءٍ أَدْخَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ صَوْمُ الْأَثَانِينِ عَنْ نَذْرٍ ، وَصَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ عَنْ كَفَّارَةٍ ، صَامَ أَثَانِينَ الشَّهْرَيْنِ الْمُتَتَابِعَيْنِ عَنْ كَفَّارَتِهِ ، دُونَ نَذْرِهِ ، لِأَنَّ قَضَاءَ أَثَانِينِ نَذْرِهِ مُمْكِنٌ وَقَضَاءَ تَتَابُعِ صِيَامِهِ بِغَيْرِ الْأَثَانِينِ غَيْرُ مُمْكِنٍ ، وَمَا أَمْكَنَ مَعَهُ أَدَاءُ الْحَقَّيْنِ كَانَ أَوْلَى مِنْ إِسْقَاطِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ ، فَإِذَا فَعَلَ هَذَا ، وَصَامَ أَثَانِينَ الشَّهْرَيْنِ عَنْ كَفَّارَتِهِ ، حَتَّى تَتَابَعَ شَهْرَا صِيَامِهِ أَجْزَأَتْهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ ، وَإِنْ كَانَ صِيَامُ أَثَانِينِهِ مُسْتَحَقًّا عَنْ غَيْرِهَا ، لِمَا قَدَّمْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ . فَأَمَّا قَضَاءُ أَثَانِينِهِ عَنِ النَّذْرِ فَمُعْتَبَرٌ بِأَسْبَقِهِمَا وُجُوبًا ، فَإِنْ تَقَدَّمَ وُجُوبُ النَّذْرِ عَلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ أَثَانِينَ الشَّهْرَيْنِ عَنْ نَذْرِهِ ، لِأَنَّهُ أَدْخَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِإِيجَابِ الْكَفَّارَةِ مَا مَنَعَهُ مِنْ صِيَامِ النَّذْرِ قَضَاءً كَالْفِطْرِ بِعُذْرٍ ، أَوْ غَيْرِ عُذْرٍ ، فَإِنْ تَقَدَّمَ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ عَلَى وُجُوبِ النَّذْرِ فَفِي قَضَاءِ أَثَانِينِ الْكَفَّارَةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَلْزَمُهُ قَضَاؤُهَا ، لِتَقَدُّمِ اسْتِحْقَاقِهَا عَنْهُ كَأَثَانِينِ رَمَضَانَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَلْزَمُهُ قَضَاؤُهَا بِخِلَافِ أَثَانِينِ رَمَضَانَ ، لِأَنَّهُ أَدْخَلَ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ عَلَى نَفْسِهِ ، وَقَدِ الْتَزَمَ بِالنَّذْرِ أَثَانِينَهَا فَقَضَاهَا ، لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَسْتَثْنِهَا ، وَصِيَامُ رَمَضَانَ

أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَقْضِ أَثَانِينَهُ ، لِأَنَّ الشَّرْعَ قَدِ اسْتَثْنَاهَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ كَانَ النَّاذِرُ امْرَأَةً فَهِيَ كَالرَّجُلِ وَتَقْضِي كُلَّ مَا مَرَّ عَلَيْهَا مِنْ حَيْضِهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا حَيْضُهَا فِي شَهْرَيِ الْكَفَّارَةِ ، نذرت صيام شهرين متتابعين فَلَا يَمْنَعُ مِنْ تَتَابُعِهَا ، لِأَنَّ عَادَتَهَا فِي الْحَيْضِ تَمْنَعُ مِنْ صِيَامِ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ بِغَيْرِ حَيْضٍ ، وَلِذَلِكَ لَوْ نَذَرَتْ صِيَامَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ لَمْ يَقْطَعِ الْحَيْضُ تَتَابُعَ الصِّيَامِ فِي نَذْرِهَا ، كَمَا لَمْ يَقْطَعْ تَتَابُعَهُ فِي كَفَّارَتِهَا ، وَعَلَيْهَا أَنْ تَقْضِيَ أَيَّامَ حَيْضِهَا فِي صِيَامِ الْكَفَّارَةِ مُتَتَابِعَةً ، كَمَا كَانَ عَلَيْهَا مُتَابَعَةُ الْأَدَاءِ ، وَفِي وُجُوبِ قَضَائِهَا فِي صِيَامِ النَّذْرِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : تَقْضِي أَيَّامَ حَيْضِهَا فِي النَّذْرِ كَمَا قَضَتْهَا فِي الْكَفَّارَةِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَيْسَ عَلَيْهَا قَضَاؤُهَا ، فِي صِيَامِ النَّذْرِ ، وَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهَا قَضَاؤُهَا فِي صِيَامِ الْكَفَّارَةِ لِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِالشَّرْعِ ، وَوُجُوبِ النَّذْرِ بِالشَّرْطِ . فَأَمَّا إِذَا أَلْزَمَهَا صِيَامُ كُلِّ اثْنَيْنِ بِالنَّذْرِ ، فَحَاضَتْ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ فَهِيَ بِالْحَيْضِ مُفْطِرَةٌ ، لَا يُجْزِئُهَا إِمْسَاكُهَا فِيهِ عَنِ النَّذْرِ ، لِأَنَّ الصَّوْمَ فِي الْحَيْضِ مَعْصِيَةٌ . وَالصَّحِيحُ أَنَّ عَلَيْهَا قَضَاءَهُ عَنْ نَذْرِهَا ، كَمَا كَانَ عَلَيْهَا قَضَاءُ أَيَّامِ حَيْضِهَا فِي فَرْضِ رَمَضَانَ ، لِيَكُونَ حُكْمُ النَّذْرِ مَحْمُولًا عَلَى مُوجَبِ الشَّرْعِ ، وَقَدْ خَرَّجَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا قَوْلًا آخَرَ أَنَّهَا لَا تَقْضِيهِ كَمَا لَا تَقْضِي إِذَا صَادَفَ أَيَّامَ الْعِيدِ وَالتَّشْرِيقِ ، وَهَذَا التَّخْرِيجُ غَيْرُ صَحِيحٍ ، لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْعِيدَيْنِ وَالتَّشْرِيقِ عَامٌّ فِي جَمِيعِ النَّاسِ وَتَحْرِيمَ الْحَيْضِ خَاصٌّ فِيهَا دُونَ غَيْرِهَا فَافْتَرَقَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَتْ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ أَيَّامَ حَيْضِي فَلَا يَلْزَمُهَا شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهَا نَذَرَتْ مَعْصِيَةً ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - : هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنْ لَا يَقْضِيَ نَذْرَ مَعْصِيَةٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا إِذَا نَذَرَتْ أَنْ تَصُومَ أَيَّامَ حَيْضِهَا ، فَهُوَ مَعْصِيَةٌ ، لَا يَنْعَقِدُ بِهِ نَذْرٌ ، وَلَا يَلْزَمُ بِهِ قَضَاءٌ كَالنَّذْرِ فِي صِيَامِ الْأَيَّامِ الْمُحَرَّمَةِ ، وَقَدْ وَافَقَ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَيَّامِ الْحَيْضِ وَإِنْ خَالَفَ فِي أَيَّامِ التَّحْرِيمِ ، وَحَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ ، وَلَا نَذْرَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ عَامٌّ فِي الْأَمْرَيْنِ . وَلَوْ نَذَرَتْ أَنْ تَصُومَ أَيَّامَ اسْتِحَاضَتِهَا كَانَ نَذْرًا صَحِيحًا لِإِبَاحَةِ الصِّيَامِ فِي الِاسْتِحَاضَةِ ، وَإِنْ حَرُمَ فِي الْحَيْضِ ، وَلَوْ نَذَرَتْ أَنْ تَصُومَ أَيَّامَ نِفَاسِهَا ، لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ

الصَّوْمَ فِيهِ حَرَامٌ كَالْحَيْضِ ، وَلَوْ نَذَرَتْ أَنْ تَصُومَ عَدَدَ أَيَّامِ حَيْضِهَا ، صَحَّ النَّذْرُ ، وَلَزِمَهَا الصَّوْمُ ، لِأَنَّهَا جَعَلَتْ أَيَّامَ الْحَيْضِ مِقْدَارًا ، وَلَمْ تَجْعَلْهَا زَمَانًا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا نَذَرَ الصَّلَاةَ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا ، كَمَنْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَ الصُّبْحِ ، وَقَبْلَ ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ ، وَعِنْدَ قِيَامِ الظَّهِيرَةِ ، وَقَبْلَ الزَّوَالِ ، وَبَعْدَ الْعَصْرِ ، وَقَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ النَّذْرَ بَاطِلٌ لَا يَنْعَقِدُ بِوَفَاءٍ وَلَا قَضَاءٍ ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ فِيهَا مَعَ النَّهْيِ مَعْصِيَةٌ وَالنَّذْرُ لَا يَنْعَقِدُ بِمَعْصِيَةٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ النَّذْرَ صَحِيحٌ ، يَنْعَقِدُ عَلَى الْوَفَاءِ بِالصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ ، فَيُصَلِّي فِيهَا وَلَا يَقْضِي لِتَوَجُّهِ الْمَنْهِيِّ إِلَى مَا لَا سَبَبَ لَهُ مِنَ الصَّلَوَاتِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ النَّذْرَ صَحِيحٌ ، يَنْعَقِدُ بِالْقَضَاءِ دُونَ الْوَفَاءِ ، فَيَلْزَمُهُ أَنْ يُصَلِّيَهَا فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ ، وَلَا يَجُوزَ أَنْ يُصَلِّيَهَا فِيهَا ، لِيَفِيَ بِالنَّذْرِ ، وَيَسْلَمَ مِنَ الْمَعْصِيَةِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا بَطَلَ نَذْرُ الْمَعْصِيَةِ ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَى النَّاذِرِ فِيهِ . قَالَ الرَّبِيعُ : فِيهِ قَوْلٌ آخَرُ عَلَيْهِ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْ نَذْرِ الْمَعْصِيَةِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ ، لِأَنَّ الزُّهْرِيَّ رَوَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ، وَهَذَا التَّخْرِيجُ مِنَ الرَّبِيعِ لَيْسَ بِقَوْلٍ لِلشَّافِعِيِّ ، وَإِنَّمَا قَالَهُ تَخْرِيجًا عَنْ نَفْسِهِ ، لِأَنَّ غَيْرَهُ لَمْ يَحْكِهِ عَنْهُ ، وَلَا وُجِدَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِهِ ، وَلَا تَقْتَضِيهِ أُصُولُ مَذْهَبِهِ ، وَكَانَ الرَّبِيعُ إِذَا أَلْزَمَ شَيْئًا قَالَ : وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ لِقُصُورِهِ عَنِ الِانْفِصَالِ عَنْهُ ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ بِرِوَايَتِهِ دُونَ تَخْرِيجِهِ ، وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى نَذْرِ الْأَيْمَانِ الَّتِي يُخَيَّرُ فِيهَا بَيْنَ الْوَفَاءِ وَالتَّكْفِيرِ ، وَلَا يُحْمَلُ عَلَى نَذْرِ الْجَزَاءِ وَالتَّبَرُّرِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ ، فَإِنَّهُ جَعَلَ بُطْلَانَ نَذْرِهَا ، إِذَا نَذَرَتْ أَنْ تَصُومَ أَيَّامَ حَيْضِهَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهَا فِي نَذْرِ صِيَامِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ أَنْ تَقْضِيَ مَا وَافَقَ أَيَّامَ الْحَيْضِ ، وَأَيَّامَ التَّحْرِيمِ ، وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ فَاسِدٌ ، لِأَنَّ نَذْرَ الِاثْنَيْنِ انْعَقَدَ عَلَى طَاعَةٍ ، فَجَازَ أَنْ يَلْزَمَ فِيهِ الْقَضَاءُ ، وَنَذْرُ الْحَيْضِ وَأَيَّامِ التَّحْرِيمِ انْعَقَدَ عَلَى مَعْصِيَةٍ ، فَلَمْ يَلْزَمْ فِيهِ الْقَضَاءُ ، لِافْتِرَاقِ حُكْمِ الْعَقْدَيْنِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ : " وَإِذَا نَذَرَ الرَّجُلُ صَوْمًا أَوْ صَلَاةً وَلَمْ يَنْوِ عَدَدًا ، فَأَقَلُّ مَا يَلْزَمُهُ مِنَ الصَّلَاةِ رَكْعَتَانِ وَمِنَ الصَّوْمِ يَوْمٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا إِذَا نَذَرَ عَدَدًا مِنْ صَلَاةٍ ، أَوْ صِيَامٍ ، لَزِمَهُ الْعَدَدُ الَّذِي قَالَهُ ، أَوْ

نَوَاهُ ، فَأَمَّا إِذَا أَطْلَقَ نَذْرَهُ ، وَلَمْ يَذْكُرْ عَدَدًا وَلَا نَوَاهُ ، وَقَالَ : " لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمٌ ، أَوْ صَلَاةٌ " لَزِمَهُ صِيَامُ يَوْمٍ وَاحِدٍ ، لِأَنَّهُ يُسْتَحَقُّ شَرْعًا ، فَاسْتُحِقَّ نَذْرًا . وَلَوْ قِيلَ : يَلْزَمُهُ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ كَانَ مَذْهَبًا ، لِأَنَّهُ أَقَلُّ صَوْمٍ وَرَدَ فِي الشَّرْعِ نَصًّا ، فَأَمَّا الصَّلَاةُ فَفِيمَا يَلْزَمُهُ مِنْهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الْأَصَحُّ نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ وَالرَّبِيعُ يَلْزَمُهُ مِنْهَا رَكْعَتَانِ ، لِأَنَّهَا أَقَلُّ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : تَفَرَّدَ الرَّبِيعُ بِنَقْلِهِ ، تَلْزَمُهُ رَكْعَةٌ وَاحِدَةٌ ، لِأَنَّ أَقَلَّ الْوِتْرِ رَكْعَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَلَا اعْتِبَارَ بِهَذَا التَّعْلِيلِ ، لِأَنَّ الْفَرْضَ أَصْلٌ ، وَالْوِتْرُ تَبَعٌ ، فَوَجَبَ إِلْحَاقُهُ بِالْأَصْلِ دُونَ التَّوَابِعِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : وَإِذَا نَذَرَ صَلَاةَ رَكْعَتَيْنِ فِي مَوْضِعٍ بِعَيْنِهِ فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا لَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ فِعْلُ الصَّلَاةِ ، وَيَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ الصَّلَاةِ فِيهِ ، وَفِي غَيْرِهِ ، وَهُوَ إِذَا نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي مَسْجِدِ الْبَصْرَةِ ، جَازَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي مَسْجِدِ الْكُوفَةِ . وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي مَسْجِدِ الْكُوفَةِ ، جَازَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي مَسْجِدِ الْبَصْرَةِ ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَالصَّلَاةِ فِي الْآخَرِ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ بِنَذْرِهِ فِيهِ ، وَلَا يُجْزِئُهُ فِي غَيْرِهِ ، وَهُوَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ الْمُخْتَصُّ بِوُجُوبِ الْفَضْلِ فِي الشَّرْعِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا تَلْزَمُهُ الصَّلَاةُ فِيهِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَهَا فِي غَيْرِهِ كَمَا لَوْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي جَامِعِ الْبَصْرَةِ أَوِ الْكُوفَةِ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ يَلْزَمُ فِي الشَّرْعِ الصَّلَاةُ فِي مَوْضِعٍ بِعَيْنِهِ فَلَمْ يَلْزَمْ فِي النَّذْرِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ [ النَّحْلِ : 91 ] . فَكَانَ إِذًا عَلَى عُمُومِهِ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : مَنْ نَذَرَ نَذْرًا يُطِيقُهُ فَلْيَفِ بِهِ ، وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا سَمَّاهُ فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : صَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ صَلَاةٍ فِي مَسْجِدِي وَصَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ فَجَعَلَ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ فِي غَيْرِهِ ، فَصَارَ النَّاذِرُ لِلصَّلَاةِ فِيهِ ، كَالنَّاذِرِ لِمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ ، فَلَمْ يُجْزِهِ عَنْهَا صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى فَارَقَ نَذْرَ الصَّلَاةِ فِي غَيْرِهِ ، لِأَنَّهُ لَا فَضْلَ لِغَيْرِهِ مِنَ الْمَوَاضِعِ عَلَى غَيْرِهِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي وُجُوبِ الصَّلَاةِ فِيهِ ، وَهُوَ إِذَا نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى أَوْ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ ، فَفِي وُجُوبِ الصَّلَاةِ فِيهِ قَوْلَانِ ، بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي وُجُوبِ النَّذْرِ بِالْمَشْيِ إِلَيْهِمَا :

أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ وَاجِبٌ كَالْحَرَمِ ، فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهُ الصَّلَاةُ فِيهِمَا كَمَا تَلْزَمُهُ الصَّلَاةُ فِي الْحَرَمِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يَجِبُ ، كَمَا لَا يَجِبُ نَذْرُ الْمَشْيِ إِلَى غَيْرِهِمَا مِنْ بِلَادِ الْحِلِّ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُهُ الصَّلَاةُ فِيهِمَا وَيَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي غَيْرِهِمَا مِنَ الْبِلَادِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ فِي زَمَانٍ بِعَيْنِهِ ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَجْعَلَهُ أَجَلًا لِوَقْتِ النَّذْرِ ، فَيَسْتَحِقُّ فِعْلَ الصَّلَاةِ فِيهِ كَقَوْلِهِ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُصَلِّيَ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ الْمُسْتَقْبَلِ ، فَإِنْ صَلَّاهَا فِيهِ فَقَدْ أَدَّاهَا ، وَإِنْ صَلَّاهَا بَعْدَهُ فَقَدْ قَضَاهَا ، وَإِنْ صَلَّاهَا قَبْلَهُ لَمْ يُجْزِهِ ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ قَبْلَ الْوُجُوبِ تَطَوُّعًا ، كَالْمَفْرُوضَاتِ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِهَا ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْحَجِّ الْمَنْذُورِ ، فِي جَوَازِ تَقْدِيمِهِ ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ لِجَوَازِ تَقْدِيمِ الْحَجِّ قَبْلَ وُجُوبِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَقْصِدَ بِهِ تَفْضِيلَ ذَلِكَ الزَّمَانِ عَلَى غَيْرِهِ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ فَضِيلَةٌ عَلَى غَيْرِهِ كَقَوْلِهِ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُصَلِّيَ فِي يَوْمِ السَّبْتِ ، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي يَوْمِ الْأَحَدِ ، لِأَنَّهُ لَا فَضِيلَةَ لِلسَّبْتِ عَلَيْهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ لَهُ فَضِيلَةٌ عَلَى غَيْرِهِ ، كَقَوْلِهِ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُصَلِّيَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ، فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُصَلِّيَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ وَلَا تُجْزِئُهُ الصَّلَاةُ فِي غَيْرِهَا ، وَلَيْلَةُ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأُخَرِ مِنْ رَمَضَانَ ، وَهِيَ لَا تَتَعَيَّنُ قَطْعًا فِي إِحْدَى اللَّيَالِي الْعَشْرِ ، فَيَلْزَمُهُ أَنْ يُصَلِّيَهَا فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِي الْعَشْرِ لِيُصَادِفَهَا فِي إِحْدَى لَيَالِيهِ كَمَنْ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ خَمْسِ صَلَوَاتٍ لَا يَعْرِفُهَا ، قَضَى جَمِيعَهَا لِيَكُونَ مُؤَدِّيًا لَهَا ، فَإِنْ لَمْ يُصَلِّهَا فِي الْعَشْرِ كُلِّهِ لَمْ يَقْضِهَا إِلَّا فِي مِثْلِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ نَذَرَ عِتْقَ رَقَبَةٍ ، فَأَيَّ رَقَبَةٍ أَعْتَقَ أَجْزَأَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا إِذَا نَذَرَ عِتْقَ رَقَبَةٍ مُعَيَّنَةٍ ، وَجَبَ عَلَيْهِ عِتْقُهَا بِنَذْرِهِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْدِلَ عَنْهَا إِلَى عِتْقِ غَيْرِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ أَفْضَلَ مِنْهَا ، وَسَوَاءٌ أَجْزَأَتْ فِي الْكَفَّارَةِ ، أَوْ لَمْ تُجْزِ ، لِأَنَّ الْعِتْقَ حَقٌّ قَدْ تَعَيَّنَ لَهَا بِالنَّذْرِ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهَا بَعْدَ وُجُودِ شَرْطِ النَّذْرِ ، وَيَجُوزُ لَهُ بَيْعُهَا قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَقَوْلِهِ : إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي ، فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتِقَ عَبْدِي سَالِمًا ، فَلَهُ بَيْعُهُ قَبْلَ شِفَاءِ مَرِيضِهِ ، لِأَنَّ عِتْقَهُ لَمْ يَجِبْ ، وَيَسْقُطُ النَّذْرُ إِنْ شُفِيَ مَرِيضُهُ ، لِخُرُوجِهِ عَنْ مِلْكِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ عِتْقُ غَيْرِهِ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهُ ، بَعْدَ شِفَاءِ مَرِيضِهِ ، لِوُجُوبِ عِتْقِهِ ، وَإِنْ بَاعَهُ بَطَلَ بَيْعُهُ . فَأَمَّا إِذَا أَطْلَقَ النَّذْرَ وَلَمْ يُعَيِّنْهُ ، وَقَالَ : " لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتِقَ رَقَبَةً " فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُجْزِئُهُ عِتْقُ أَيِّ رَقَبَةٍ شَاءَ مِمَّا يُجْزِئُ فِي الْكَفَّارَةِ ، أَوْ لَا يُجَزِئُ ، وَهُوَ

الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ هَاهُنَا لِأَنَّ اسْمَ الرَّقَبَةِ ، يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا مَعَ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهَا ، فَرُوعِيَ مَا انْطَلَقَ عَلَيْهِ الِاسْمُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُعْتِقَ مَا يُجْزِئُ ، فِي الْكَفَّارَةِ فَتَكُونُ مُؤْمِنَةً سَلِيمَةً مِنَ الْعُيُوبِ الْمُضِرَّةِ بِالْعَمَلِ إِضْرَارًا بَيِّنًا ، وَلَا يُجْزِئُ عِتْقُ كَافِرَةٍ ، وَلَا ذَاتُ عَيْبٍ يَضُرُّ بِالْعَمَلِ ، لِأَنَّ النَّذْرَ مَحْمُولٌ عَلَى عُرْفِ الشَّرْعِ ، وَتَأَوَّلَ قَائِلُ هَذَا الْوَجْهِ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ : " فَأَيُّ رَقَبَةٍ أَعْتَقَ أَجْزَاهُ " يَعْنِي : مِنْ صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ ، لِأَنَّ عِتْقَ الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ فِي الْكَفَّارَاتِ سَوَاءٌ . وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِيمَنْ نَذَرَ الْهَدْيَ ، هَلْ يُجْزِئُ فِيهِ مَا أُطْلِقَ عَلَيْهِ الِاسْمُ ، أَوْ مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ عُرْفُ الشَّرْعِ ، وَعَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ فِي نَذْرِ الصَّلَاةِ هَلْ يُجْزِئُ فِيهِ أَقَلُّ مَفْرُوضَاتِهَا ، أَوِ الْأَقَلُّ مِنْ جَمِيعِهَا ؟

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَ رَجُلٌ لَآخَرَ يَمِينِي فِي يَمِينِكَ فَحَلَفَ فَالْيَمِينُ عَلَى الْحَالِفِ دُونَ صَاحِبِهِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - : فَقُلْتُ لَهُ : فَإِنْ قَالَ : يَمِينِي فِي يَمِينِكَ بِالطَّلَاقِ فَحَلَفَ ، أَعَلَيْهِ شَيْءٌ ؟ فَقَالَ : لَا يَمِينَ إِلَّا عَلَى الْحَالِفِ دُونَ صَاحِبِهِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - : قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ مَعْبَدٍ : فِي الْمَشْيِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ عَنْ زَيْدٍ وَابْنِ عُمَرَ وَحَفْصَةَ وَمَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَالْحَسَنِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْجَوْزِيِّ ، وَرِوَايَةٍ عَنْ مُحْمَدِ بْنِ الْحَسَنِ وَالْحَسَنِ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ : لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ أَصْلًا ، وَعَطَاءٌ وَشَرِيكٌ ، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ ذَلِكَ ، وَذُكِرَ عَنِ اللَّيْثِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إِلَّا سَعِيدٌ ، فَإِنَّهُ قَالَ لَا كَفَّارَةَ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحَجَبِيِّ ، عَنْ أُمِّهِ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ ، أَنَّ ابْنَ عَمٍّ لَهَا جَعَلَ مَالَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، أَوْ فِي رِتَاجِ الْكَعْبَةِ ، فَقَالَتْ : قَالَتْ عَائِشَةُ : هِيَ يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا مَا يُكَفِّرُ الْيَمِينَ . وَحَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي رَوَّادٍ ، عَنِ الْمُثَنَّى بْنِ الصَّبَاحِ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ، قَالَ فِيمَنْ جَعَلَ مَالَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ : يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا مَا يُكَفِّرُ الْيَمِينَ . قَالَ الْحُمَيْدِيُّ : وَسَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ وَسُفْيَانَ يُفْتِيَانِ بِهِ . قَالَ الْحُمَيْدِيُّ : وَهُوَ قَوْلِي " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا قَوْلُهُ : " يَمِينِي فِي يَمِينِكَ " أَيْ عَلَى مِثْلِ يَمِينِكَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَحْلِفْ وَأَرَادَ كُلَّ يَمِينٍ يَحْلِفُ بِهَا مِنْ بَعْدُ ، فَعَلَى مِثْلِهَا وَأَنَا مُلْتَزِمٌ لَهَا مَا حُكِمَ لِهَذَا الْقَوْلِ ، فَلَا يَلْزَمُهُ فَلَا يَحْلِفُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ ،

سَوَاءٌ اسْتَأْنَفَ يَمِينًا بِاللَّهِ أَوْ بِطَلَاقٍ ، أَوْ عَتَاقٍ ، لِأَنَّهُ أَشَارَ بِالْقَوْلِ إِلَى مَعْدُومٍ ، فَبَطَلَ حُكْمُ الْإِشَارَةِ ، وَإِلَى مَجْهُولٍ فَبَطَلَ حُكْمُ الْجَهَالَةِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ لِمَنْ قَدْ حَلَفَ يَمِينًا ، فَقَالَ : لَهُ بَعْدَ يَمِينِهِ عَلَى مِثْلِ يَمِينِكَ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ يَمِينُهُ بِاللَّهِ تَعَالَى ، فَلَا يُلْزَمُ هَذَا الْقَائِلُ يَمِينَ الْحَالِفِ ، لِأَنَّهُ قَدْ كَنَّى عَنِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَالْأَيْمَانُ بِاللَّهِ لَا تَنْعَقِدُ إِلَّا بِالصَّرِيحِ دُونَ الْكِنَايَةِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ يَمِينُ الْحَالِفِ بِطَلَاقٍ ، أَوْ عَتَاقٍ ، فَإِنْ أَرَادَ هَذَا الْقَائِلُ بِمَا قَالَ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ ، لَزِمَهُ وَإِنْ لَمْ يُرِدْ بِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ يَقَعُ بِالْكِنَايَةِ مَعَ الْإِرَادَةِ ، وَهَذَا الْقَوْلُ كِنَايَةٌ فَلَزِمَتِ الْإِرَادَةُ ، وَلَمْ تَلْزَمْ مَعَ عَدَمِ الْإِرَادَةِ . فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَ انْعَقَدَ بِالْكِنَايَةِ يَمِينُ الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ ، وَلَمْ تَنْعَقِدْ بِهَا الْيَمِينُ بِاللَّهِ تَعَالَى . قِيلَ : لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا صَحَّتِ النِّيَابَةُ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ ، وَلَمْ تَصِحَّ النِّيَابَةُ فِي الْأَيْمَانِ بِاللَّهِ ، وَقَامَتِ الْكِنَايَةُ مَقَامِ الصَّرِيحِ فِي الطَّلَاقِ ، وَلَمْ يَقُمْ مَقَامَ الصَّرِيحِ فِي الْأَيْمَانِ ؛ فَافْتَرَقَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ تَعَالَى مُخْتَصَّةٌ بِذَاتِهِ ، لَا تَقِفُ عَلَى إِرَادَةِ مُسَمِّيهِ ، فَاخْتُصَّ بِالصَّرِيحِ دُونَ الْكِنَايَةِ ، وَأَسْمَاءُ غَيْرِهِ تَقِفُ عَلَى إِرَادَةِ مُسَمِّيهِ ، فَجُمِعَ فِيهَا بَيْنَ الصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا قَالَ رَجُلٌ يَمِينُ الْبَيْعَةِ لَازِمَةٌ لِي ، فَقَدْ كَانَتِ الْبَيْعَةُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَقْصُورَةً عَلَى الْمُصَافَحَةِ بِمَا اسْتَقَرَّ مِنْ عَهْدٍ ، وَعَلَيْهِ كَانَتْ سِيرَةُ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - ثُمَّ أَحْدَثَ الْحَجَّاجُ فِيهَا يَمِينًا بِاللَّهِ تَعَالَى ، وَبِالطَّلَاقِ ، وَالْعَتَاقِ ، وَالْحَجِّ ، وَصَدَقَةِ الْمَالِ ، وَلَعَلَّهُ اسْتَنَابَ فِيهَا رَجُلًا مِنْ هُذَيْلٍ ، حَتَّى قَالَ فِيهِ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : رَأَيْتُ هُذَيْلًا أَحْدَثَتْ فِي يَمِينِهَا طَلَاقَ نِسَاءٍ لَمْ يَسُوقُوا لَهَا مَهْرًا

لَمْ يَقُلْ بِطَلَاقِهَا وَعَتَاقِهَا ، صَارَتْ يَمِينُهُ كِنَايَةً فِيهِمَا يَلْزَمُهُ الْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ ، وَإِنْ أَرَادَهُمَا وَلَا يَلْزَمَاهُ إِنْ لَمْ يُرِدْهُمَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

_____كِتَابُ أَدَبِ الْقَاضِي _____

الْقَوْلُ فِي حُكْمِ الْقَضَاءِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابُ أَدَبِ الْقَاضِي [ الْقَوْلُ فِي حُكْمِ الْقَضَاءِ ] . الْأَصْلُ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ وَتَنْفِيذِ الْحُكْمِ بَيْنَ الْخُصُومِ كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِجْمَاعُ الْأُمَمِ عَلَيْهِ . الدَّلِيلُ مِنَ الْكِتَابِ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : يَادَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ ص : ] . الْآيَةَ . أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى : إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : خَلِيفَةٌ لَنَا ، وَتَكُونُ الْخِلَافَةُ هِيَ النُّبُوَّةُ . وَالثَّانِي : خَلِيفَةٌ لِمَنْ تَقَدَّمَكَ فِيهَا ، وَتَكُونُ الْخِلَافَةُ هِيَ الْمُلْكُ . وَقَوْلُهُ : فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَفِيمَا أُخِذَ مِنْهُ الْحُكْمُ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْحِكْمَةِ الَّتِي تُوجِبُ وَضْعَ الشَّيْءِ فِي مَوْضِعِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ إِحْكَامِ الشَّيْءِ وَمِنْهُ حَكْمَةُ اللِّجَامِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِلْزَامِ . وَفِي قَوْلِهِ : بِالْحَقِّ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : بِالْعَدْلِ . وَالثَّانِي : الْحَقُّ الَّذِي ألْزَمَكَ اللَّهُ . وَفِي قَوْلِهِ : وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى ، وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : الْمَيْلُ مَعَ مَنْ يَهْوَاهُ . وَالثَّانِي : أَنْ تَحْكُمَ بِمَا تَهْوَاهُ . وَفِي قَوْلِهِ : فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : عَنْ دِينِ اللَّهِ . وَالثَّانِي : عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ . وَفِي قَوْلِهِ : بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ وَجْهَانِ :

أَحَدُهُمَا : بِمَا تَرَكُوا مِنَ الْعَمَلِ لِيَوْمِ الْحِسَابِ . وَالثَّانِي : بِمَا أَعْرَضُوا عَنْ يَوْمِ الْحِسَابِ . وَقَالَ تَعَالَى : وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ [ الْأَنْبِيَاءِ : ] . قَالَ قَتَادَةُ : النَّفْشُ : رَعْيُ اللَّيْلِ ، وَالْهَمَلُ : رَعْيُ النَّهَارِ . وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ وَكَانَ الْحُكْمُ فِي غَنَمٍ رَعَتْ كَرْمَ آخَرَ ، وَقِيلَ زَرْعَهُ ، فَحَكَمَ دَاوُدُ بِالْغَنَمِ لِصَاحِبِ الْكَرْمِ أَوِ الزَّرْعِ ، وَحَكَمَ سُلَيْمَانُ بِأَنْ تُدْفَعَ الْغَنَمُ إِلَى صَاحِبِ الْكَرْمِ لِيَنْتَفِعَ بِدَرِّهَا وَنَسْلِهَا وَيُدْفَعَ الْكَرْمُ إِلَى صَاحِبِ الْغَنَمِ لِيُعَمِّرَهُ حَتَّى يَعُودَ إِلَى حَالَتِهِ ثُمَّ يَرُدَّ الْكَرْمَ وَيَسْتَرْجِعَ الْغَنَمَ . - فَقَالَ تَعَالَى : فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ فَكَانَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا قَضَاهُ سُلَيْمَانُ ، فَرَجَعَ دَاوُدُ عَنْ حُكْمِهِ إِلَى حُكْمِ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - . فَإِنْ قِيلَ فَكَيْفَ نَقَضَ دَاوُدُ حُكْمَهُ بِاجْتِهَادِ سُلَيْمَانَ ؟ فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ دَاوُدَ كَانَ قَدْ أَفْتَى بِهَذَا الْحُكْمِ وَلَمْ يُنَفِّذْهُ فَلِذَلِكَ رَجَعَ عَنْهُ . الثَّانِي : أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ سُلَيْمَانَ عَنْ وَحْيٍ فَيَكُونُ نَصًّا يَبْطُلُ بِهِ الِاجْتِهَادُ . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ آتَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ الْحُكْمِ وَالْعِلْمِ مِثْلَ مَا آتَاهُ لِلْآخَرِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ آتَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ الْحُكْمِ وَالْعِلْمِ غَيْرَ مَا آتَاهُ لِلْآخَرِ . وَفِي الْمُرَادِ بِالْحُكْمِ وَالْعِلْمِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْحُكْمَ الِاجْتِهَادُ وَالْعِلْمَ النَّصُّ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْحُكْمَ : الْقَضَاءُ وَالْعِلْمَ : الْفُتْيَا . قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : لَوْلَا هَذِهِ الْآيَةُ لَرَأَيْتَ الْحُكَّامَ قَدْ هَلَكُوا لَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَذَرَ هَذَا بِاجْتِهَادِهِ وَأَثْنَى عَلَى هَذَا بِصَوَابِهِ . وَقَالَ تَعَالَى : فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [ النِّسَاءِ : ] . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ وَعُرْوَةُ ابْنَا الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الزُّبَيْرِ وَرَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا ، وَقِيلَ إِنَّهُ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ ، تَخَاصَمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي شِرَاجِ الْحَرَّةِ كَانَا يَسْقِيَانِ بِهِ نَخْلًا لَهُمَا فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِلْ إِلَى جَارِكَ " فَغَضِبَ الْأَنْصَارِيُّ وَقَالَ إِنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ ؟ ! فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى

عُرِفَ أَنَّهُ قَدْ سَاءَهُ ثُمَّ قَالَ : " يَا زُبَيْرُ احْبِسِ الْمَاءَ إِلَى الْجَدْرِ أَوْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ثُمَّ خَلِّ سَبِيلَ الْمَاءِ " فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ أَيْ لَا يَعْلَمُونَ بِمَا يُوجِبُهُ الْإِيمَانُ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ أَيْ يَرْجِعُوا إِلَى حُكْمِكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ، أَيْ فِيمَا تَنَازَعُوا فِيهِ . وَسُمِّيَتِ الْمُنَازَعَةُ مُشَاجَرَةً لِتَدَاخُلِ كَلَامِهِمَا كَتَدَاخُلِ الشَّجَرِ الْمُلْتَفِّ . ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا : شَكًّا ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ . وَالثَّانِي : إِنَّمَا قَالَهُ الضَّحَّاكُ : وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُسَلِّمُوا مَا تَنَازَعُوا فِيهِ لِحُكْمِكَ . وَالثَّانِي : يَسْتَسْلِمُوا إِلَيْكَ تَسْلِيمًا لِأَمْرِكَ . وَقَالَ تَعَالَى : إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ [ النِّسَاءِ : ] . وَقَالَ تَعَالَى : وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ [ الْمَائِدَةِ : ] . وَأَمَّا السُّنَّةُ : فَرَوَى بِشْرُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي قَيْسٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ " وَإِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ " وَرَوَاهُ أَبُو سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ . فَجَعَلَ لَهُ فِي الْإِصَابَةِ أَجْرَيْنِ هُمَا عَلَى الِاجْتِهَادِ وَالْآخَرِ عَلَى الْإِصَابَةِ ، وَجَعَلَ لَهُ فِي الْخَطَأِ أَجْرًا وَاحِدًا عَلَى الِاجْتِهَادِ دُونَ الْخَطَأِ . وَرَوَى أَبُو هَاشِمٍ عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : " الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ : اثْنَانِ فِي النَّارِ وَوَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ : قَاضٍ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ وَقَاضٍ قَضَى بِجَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ وَقَاضٍ عَرَفَ الْحَقَّ فَجَارَ فَهُوَ فِي النَّارِ " . وَرَوَى عَمْرُو بْنُ الْأَسْوَدِ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، إِنَّ اللَّهَ مَعَ الْقَاسِمِ حِينَ يَقْسِمُ وَمَعَ الْقَاضِي حِينَ يَقْضِي

وَرَوَى ابْنُ عَوْنٍ الثَّقَفِيُّ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَصْحَابِ مُعَاذٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِمُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ : " كَيْفَ تَقْضِي إِنْ عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ ؟ " . قَالَ : أَقْضِي بِكِتَابِ اللَّهِ ، قَالَ " فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ " قَالَ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ . قَالَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ " قَالَ أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَلَا آلُو ، قَالَ : فَضَرَبَ صَدْرَهُ وَقَالَ : " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللَّهِ . وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " إِذَا جَلَسَ الْقَاضِي لِلْحُكْمِ بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِ مَلَكَيْنِ يُسَدِّدَانِهِ فَإِنْ عَدَلَ أَقَامَا وَإِنْ جَارَ عَرَجَا وَتَرَكَاهُ " وَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ الْمُتَنَازِعَيْنِ وَحَكَمَ بَيْنَ الْمُتَشَاجِرَيْنِ . وَقَلَّدَ الْقَضَاءَ صلى الله عليه وسلم ؛ فَوَلَّى عَلِيًّا قَضَاءَ نَاحِيَةِ الْيَمَنِ وَقَالَ لَهُ : " إِذَا حَضَرَ الْخَصْمَانِ إِلَيْكَ فَلَا تَقْضِ لِأَحَدِهِمَا حَتَّى تَسْمَعَ مِنَ الْآخَرِ " قَالَ عَلِيٌّ فَمَا أَشْكَلَتْ عَلَيَّ قَضِيَّةٌ بَعْدَهَا وَقَدِمَ مِنْهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ . وَاسْتَخْلَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الولاة والقضاة عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ عَلَى مَكَّةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَالِيًا وَقَاضِيًا وَقَالَ " يَا عَتَّابُ انْهَهُمْ عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يَقْبِضُوا وَعَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يَضْمَنُوا " . وَقَلَّدَ مُعَاذًا قَضَاءَ بَعْضِ الْيَمَنِ وَقَالَ لَهُ مَا قَدَّمْنَا . وَقَلَّدَ دِحْيَةَ الْكَلْبِيَّ قَضَاءَ نَاحِيَةِ الْيَمَنِ وَكَانَ يُشَبِّهُهُ بِجِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - . وَكَانَ إِذَا أَسْلَمَ قَوْمٌ أَقَامَ عَلَيْهِمْ مَنْ يُعَلِّمُهُمْ شَرَائِعَ الدِّينِ وَيَقْضِي بَيْنَ الْمُتَنَازِعِينَ . وَقَدْ حَكَمَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ بَيْنَ النَّاسِ وَقَلَّدُوا الْقُضَاةَ وَالْحُكَّامَ . فَحَكَمَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَيْنَ النَّاسِ وَاسْتَخْلَفَ الْقُضَاةَ ، وَبَعَثَ أَنَسًا إِلَى الْبَحْرَيْنِ قَاضِيًا . وَحَكَمَ عُمَرُ بَيْنَ النَّاسِ ، وَبَعَثَ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ إِلَى الْبَصْرَةِ قَاضِيًا ، وَبَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ إِلَى الْكُوفَةِ قَاضِيًا . وَحَكَمَ عُثْمَانُ بَيْنَ النَّاسِ ، وَقَلَّدَ شُرَيْحًا الْقَضَاءَ . وَحَكَمَ عَلِيٌّ بَيْنَ النَّاسِ وَبَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ إِلَى الْبَصْرَةِ قَاضِيًا وَنَاظِرًا . فَصَارَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِمْ إِجْمَاعًا

دَلِيلُ الْعَقْلِ وَالْعُرْفِ : وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ أَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ [ التَّوْبَةِ : ] . الْآيَةَ . وَلِأَنَّ النَّاسَ لِمَا فِي طِبَاعِهِمْ مِنَ التَّنَافُسِ وَالتَّغَالُبِ وَلِمَا فُطِرُوا عَلَيْهِ مِنَ التَّنَازُعِ وَالتَّجَاذُبِ يَقِلُّ فِيهِمُ التَّنَاصُرُ وَيَكْثُرُ فِيهِمُ التَّشَاجُرُ وَالتَّخَاصُمُ ، إِمَّا لِشُبْهَةٍ تَدْخُلُ عَلَى مَنْ تَدَيَّنَ أَوْ لِعِنَادٍ يُقْدِمُ عَلَيْهِ مَنْ يَجُورُ . فَدَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَى قَوْدِهِمْ إِلَى الْحَقِّ وَالتَّنَاصُفِ بِالْأَحْكَامِ الْقَاطِعَةِ لِتَنَازُعِهِمْ وَالْقَضَايَا الْبَاعِثَةِ عَلَى تَنَاصُفِهِمْ . وَلِأَنَّ عَادَاتِ الْأُمَمِ بِهِ جَارِيَةٌ وَجَمِيعَ الشَّرَائِعِ بِهِ وَارِدَةٌ . وَلِأَنَّ فِي أَحْكَامِ الِاجْتِهَادِ مَا يَكْثُرُ فِيهِ الِاخْتِلَافُ فَلَمْ يَتَعَيَّنْ أَحَدُهُمَا بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ فِيهِ إِلَّا بِالْحُكْمِ الْفَاصِلِ وَالْقَضَاءِ الْقَاطِعِ .

فَصْلٌ شُرُوطُ وِلَايَةِ الْقَضَاءِ

الْمُوَلِّي

فَصْلٌ : [ شُرُوطُ وِلَايَةِ الْقَضَاءِ ] . فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا فَوِلَايَةُ الْقَضَاءِ تَشْتَمِلُ عَلَى خَمْسَةِ شُرُوطٍ : مُوَلٍّ وَمُوَلًّى وَعَمَلٍ وَنَظَرٍ وَعَقْدٍ . [ الْمُوَلِّي ] فَأَمَّا الشَّرْطُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الْمُوَلِّي فَيُرْجَعُ فِيهِ إِلَى أَصْلٍ وَفَرْعٍ . فَأَمَّا الْأَصْلُ فَهُوَ الْإِمَامُ الْمُسْتَخْلَفُ عَلَى الْأُمَّةِ تقليد القضاء من جهته ، فَتَقْلِيدُ الْقَضَاءِ مِنْ جِهَتِهِ فَرْضٌ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لِدُخُولِهِ فِي عُمُومِ وِلَايَتِهِ . وَالثَّانِي : لِأَنَّ التَّقْلِيدَ لَا يَصِحُّ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَقَّفَ حَتَّى يَسْأَلَ لِأَنَّهُ مِنَ الْحُقُوقِ الْمُسْتَرْعَاةِ . وَأَمَّا الْفَرْعُ : فَهُوَ قَاضِي الْإِقْلِيمِ إِذَا عَجَزَ عَنِ النَّظَرِ فِي جَمِيعِ النَّوَاحِي لَزِمَهُ تَقْلِيدُ الْقَضَاءِ فِيمَا عَجَزَ عَنْ مُبَاشَرَةِ النَّظَرِ فِيهِ . فَإِنْ بَعُدَ عَنِ الْإِمَامِ تَعَيَّنَ فَرْضُ التَّقْلِيدِ عَلَى الْقَاضِي وَإِنْ قَرُبَ مِنْهُ كَانَ فَرْضُ التَّقْلِيدِ مُشْتَرِكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِمَامِ . وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِمَا دُونَ غَيْرِهِمَا فَأَيُّهُمَا انْفَرَدَ بِالتَّقْلِيدِ سَقَطَ فَرْضُهُ عَنْهُمَا . فَإِنْ تَفَرَّدَ الْقَاضِي بِالتَّقْلِيدِ كَانَ فِيهِ عَلَى عُمُومِ وِلَايَتِهِ . وَإِنْ تَفَرَّدَ الْإِمَامُ بِالتَّقْلِيدِ كَانَ عَزْلًا لِلْقَاضِي عَنْهُ إِلَّا أَنْ يُصَرِّحَ فِي التَّقْلِيدِ بِاسْتِنَابَتِهِ عَنْهُ فَيَكُونُ بَاقِيًا عَلَى وِلَايَتِهِ .

عَزْلُ الْقَاضِي : وَيَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَعْزِلَ مَنْ قَلَّدَهُ وَلَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَعْزِلَ مَنْ قَلَّدَهُ الْإِمَامُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَابًا عَنْهُ . فَفِي جَوَازِ تَفَرُّدِ الْقَاضِي بِعَزْلِهِ من قلده الإمام وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ كَمَا لَوْ كَانَ هُوَ الْمُسْتَنِيبَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ لِافْتِيَاتِهِ عَلَى الْإِمَامِ فِي اخْتِيَارِهِ لَهُ . تَقْلِيدُ أَهْلِ الْبَلَدِ لِلْقَاضِي : فَلَوْ خَلَا بَلَدٌ مِنْ قَاضٍ فَقَلَّدَ أَهْلُ الْبَلَدِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ قَاضِيًا مِنْهُمْ كَانَ تَقْلِيدُهُمْ لَهُ بَاطِلًا إِنْ كَانَ فِي الْعَصْرِ إِمَامٌ لِافْتِيَاتِهِمْ عَلَيْهِ فِيمَا هُوَ أَحَقُّ بِهِ . وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْظُرَ بَيْنَهُمْ مُلْزَمًا فَإِنْ نَظَرَ بَطَلَتْ أَحْكَامُهُ وَصَارَ بِهَا مَجْرُوحًا ، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْظُرَ بَيْنَهُمْ مُتَوَسِّطًا مَعَ التَّرَاضِي . وَالْأَوْلَى أَنْ يَعْتَزِلَ الْوَسَاطَةَ بَيْنَهُمْ لِئَلَّا يَتَشَبَّهَ بِذَوِي الْوِلَايَاتِ الصَّحِيحَةِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّقْلِيدِ . فَإِنْ خَلَا الْعَصْرُ مِنْ إِمَامٍ ، فَإِنْ كَانَ يُرْجَى أَنْ يَتَجَدَّدَ لِإِمَامٍ نُظِرَ بَعْدَ زَمَانٍ قَرِيبٍ كَانَ تَقْلِيدُ الْقَاضِي بَاطِلًا كَمَا لَوْ كَانَ الْإِمَامُ مَوْجُودًا لِقُرْبِ زَمَانِهِ . وَإِنْ لَمْ يُرْجَ تَجْدِيدُ إِمَامٍ قَرِيبٍ نُظِرَتْ أَحْوَالُهُمْ فَإِنْ أَمْكَنَهُمْ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى قَاضِي أَقْرَبِ الْبِلَادِ إِلَيْهِمْ كَانَ تَقْلِيدُهُمْ لِلْقَاضِي بَاطِلًا . وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُمُ التَّحَاكُمُ إِلَى غَيْرِهِ نُظِرَ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُمْ أَنْ يَنْصُرُوهُ عَلَى تَنْفِيذِ أَحْكَامِهِ كَانَ تَقْلِيدُهُمْ لَهُ بَاطِلًا لِقُصُورِهِ عَنْ قُوَّةِ الْوُلَاةِ وَإِنْ أَمْكَنَهُمْ نَصْرُهُ وَتَقْوِيَةُ يَدِهِ كَانَ تَقْلِيدُهُ جَائِزًا حَتَّى لَا يَتَغَالَبُوا عَلَى الْحُقُوقِ إِذَا اجْتَمَعَ عَلَى تَقْلِيدِهِ جَمِيعُ أَهْلِ الِاخْتِيَارِ مِنْهُمْ وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ فِي تَقْلِيدِ الْإِمَامِ اجْتِمَاعُ أَهْلِ الِاخْتِيَارِ كُلِّهِمْ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ وِلَايَةَ الْإِمَامِ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُ أَهْلِهَا عَلَى الِاخْتِيَارِ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ اجْتِمَاعِهِمْ لِتَعَذُّرِهِ ، وَوِلَايَةُ الْقَاضِي خَاصَّةً عَلَى بَلَدٍ وَاحِدٍ يُمْكِنُ اجْتِمَاعُ أَهْلِ الِاخْتِيَارِ عَلَيْهِ فَلَزِمَ اعْتِبَارُ اجْتِمَاعِهِمْ لِإِمْكَانِهِ . فَعَلَى هَذَا إِنْ قَلَّدَهُ بَعْضُ أَهْلِ الِاخْتِيَارِ مِنْهُمْ نُظِرَ فِي بَاقِيهِمْ فَإِنْ ظَهَرَ مِنْهُمُ الرِّضَا بِالسُّكُوتِ وَعَدَمِ الِاخْتِلَافِ صَحَّ التَّقْلِيدُ وَصَارُوا بِالرِّضَا كَالْمُجْتَمِعِينَ عَلَيْهِ . لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُبَاشِرَهُ جَمِيعُهُمْ ، وَإِنْ ظَهَرَ مِنْهُمُ الْإِنْكَارُ بَطَلَ التَّقْلِيدُ لِعَدَمِ شَرْطِهِ فِي الِاجْتِمَاعِ . فَإِنْ كَانَ لِلْبَلَدِ جَانِبَانِ فَرَضِيَ بِتَقْلِيدِهِ أَهْلُ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ دُونَ الْآخَرِ صَحَّ تَقْلِيدُهُ فِي الْجَانِبِ الْمُرْتَضَى فِيهِ وَبَطَلَ فِي الْجَانِبِ الْمَكْرُوهِ فِيهِ ، لِأَنَّ تَمَيُّزَ الْجَانِبَيْنِ كَتَمَيُّزِ الْبَلَدَيْنِ . فَإِذَا صَحَّتْ وِلَايَةُ هَذَا الْقَاضِي نَفَذَتْ أَحْكَامُهُ وَلَزِمَتْ طَوْعًا وَجَبْرًا لِانْعِقَادِ وِلَايَتِهِ .

تَجَدُّدُ الْإِمَامِ : فَإِنْ تَجَدَّدَ بَعْدَهُ إِمَامٌ لَمْ يَنْقُضْ لَهُ حُكْمًا نَفَذَ عَلَى الصِّحَّةِ . وَلَهُ عَزْلُهُ وَإِقْرَارُهُ وَلَمْ يَجُزْ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْتَأْنِفَ النَّظَرَ إِلَّا بَعْدَ إِذْنِ الْإِمَامِ . وَلَوْ كَانَ تَقْلِيدُهُ عَنْ إِمَامٍ تَقَدَّمَ لَمْ يَلْزَمْهُ الِاسْتِئْذَانُ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وُجُودُ الضَّرُورَةِ فِي تَقْلِيدِ أَهْلِ الِاخْتِيَارِ وَعَدَمِهَا فِي تَقْلِيدِ الْإِمَامِ . وَيَكْتَفِي هَذَا الْقَاضِي بِإِذْنِ الْإِمَامِ عَنْ تَجْدِيدِ تَقْلِيدٍ ، وَيَقُومُ الْإِذْنُ لَهُ مَقَامَ التَّقْلِيدِ . وَإِنْ لَمْ يَجُزِ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْإِذْنِ وَالْوِلَايَاتِ الْمُسْتَجَدَّةِ لِمَا تَقَدَّمَ لِهَذَا الْقَاضِي مِنْ شُرُوطِ التَّقْلِيدِ وَكَانَ حُكْمُهُ أَخَفَّ .

فَصْلٌ الْمُوَلَّى

فَصْلٌ : [ الْمُوَلَّى ] . وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّانِي وَهُوَ الْمُوَلَّى : فَتَقْلِيدُ الْقَضَاءِ مِنْ جِهَتِهِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ ، لِأَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ فِي وَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ ، وَيَدْخُلُ فِي فَرْضِهِ كُلُّ مَنْ تَكَامَلَتْ فِيهِ شُرُوطُ الْقَضَاءِ حَتَّى يَقُومَ بِهِ أَحَدُهُمْ فَيَسْقُطَ فَرْضُهُ عَنْ جَمَاعَتِهِمْ . فَإِنْ لَمْ تَكْمُلْ شُرُوطُهُ فِي الْوَقْتِ إِلَّا فِي وَاحِدٍ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ فَرْضُ الْإِجَابَةِ إِذَا دُعِيَ إِلَى الْقَضَاءِ ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ طَلَبُ الْقَضَاءِ لِأَنَّ فَرْضَ التَّقْلِيدِ عَلَى الْمُوَلِّي دُونَ الْمُوَلَّى وَلَا يَصِيرُ لِتَفَرُّدِهِ فِي عَصْرِهِ وَالِيًا حَتَّى يُوَلَّى . وَلَوْ تَكَامَلَتْ شُرُوطُ الْإِمَامَةِ فِي وَاحِدٍ انْفَرَدَ بِهَا عَنْ غَيْرِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ : هَلْ تَنْعَقِدُ إِمَامَتُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْقِدَهَا لَهُ أَهْلُ الْعَقْدِ وَالْحِلِّ ؟ فَذَهَبَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهَا لَا تَنْعَقِدُ إِمَامَتُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْقِدَهَا لَهُ أَهِلُ الْعَقْدِ وَالْحِلِّ إِلَّا بِعَقْدٍ كَوِلَايَةِ الْقَضَاءِ . وَذَهَبَ آخَرُونَ مِنْ فُقَهَاءِ الْعِرَاقِ وَبَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ إِلَى انْعِقَادِ إِمَامَتِهِ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ . لِأَنَّ عَقْدَ أَهْلِ الْعَقْدِ إِنَّمَا يُرَادُ لِتَمْيِيزِ الْمُسْتَحِقِّ . فَإِذَا تَمَيَّزَ بِصِفَتِهِ اسْتَغْنَى عَنْ عَقْدِهِمْ . وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْقَضَاءِ وَالْإِمَامَةِ . بِأَنَّ الْقَضَاءَ نِيَابَةٌ خَاصَّةٌ يَجُوزُ صَرْفُهُ عَنْهَا مَعَ بَقَائِهِ عَلَى صِفَتِهِ فَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى عَقْدٍ وَمُوَلٍّ وَإِنْ شَذَّ بَعْضُ أَهْلِ الْمَذْهَبِ فَسَوَّى بَيْنَ الْإِمَامَةِ وَالْقَضَاءِ . وَجَعَلَ وِلَايَةَ الْقَضَاءِ فِيمَنْ تَفَرَّدَ بِشُرُوطِهِ مُنْعَقِدَةً مِنْ غَيْرِ عَاقِدٍ كَالْإِمَامَةِ . وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الصِّحَّةِ أَفْسَدُ ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْبُطْلَانِ أَصَحُّ ، لِأَنَّ الْوِلَايَاتِ عُقُودٌ فَافْتَقَرَتْ إِلَى عَاقِدٍ . فَإِنِ امْتَنَعَ هَذَا الْمُنْفَرِدُ بِشُرُوطِ الْقَضَاءِ مِنَ الْإِجَابَةِ إِلَيْهِ أَجْبَرَهُ الْإِمَامُ عَلَيْهِ لِتَعَيُّنِ

فَرْضِهِ عَلَيْهِ وَمَنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ فَرْضٌ أُخِذَ بِهِ جَبْرًا . وِلَايَةُ الْمَفْولاضُولِ مَعَ وُجُودِ الْأَفْضَلِ : وَإِذَا تَكَامَلَتْ شُرُوطُ الْقَضَاءِ فِي جَمَاعَةٍ كَانَ الْأَوْلَى بِالْإِمَامِ أَنْ يُقَلِّدَ أَفْضَلَهُمْ . فَإِنْ عَدَلَ عَنِ الْأَفْضَلِ إِلَى الْمُقَصِّرِ انْعَقَدَتْ وِلَايَتُهُ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى كَمَالِ الشُّرُوطِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ . وَلَوْ تَكَامَلَتْ شُرُوطُ الْإِمَامَةِ فِي جَمَاعَةٍ وَجَبَ عَلَى أَهْلِ الِاخْتِيَارِ مِنْ أَهْلِ الْعَقْدِ أَنْ يُقَلِّدُوا أَفْضَلَهُمْ . وَإِنْ عَدَلُوا عَنِ الْأَفْضَلِ إِلَى الْمَفْضُولِ لِعُذْرٍ صَحَّ الْعَقْدُ . وَإِنْ عَدَلُوا عَنْهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ إِمَامَتِهِ فَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إِلَى صِحَّتِهَا كَالْقَضَاءِ ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى فَسَادِهَا لِفَسَادِ الِاخْتِيَارِ فِي الْعُدُولِ عَنِ الْأَفْضَلِ إِلَى الْمَفْضُولِ . وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْإِمَامَةِ وَالْقَضَاءِ بِأَنَّ الْقَضَاءَ نِيَابَةٌ خَاصَّةٌ فَجَازَ أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا عَلَى اخْتِيَارِ الْمُسْتَنِيبِ كَالْوَكَالَةِ ، وَالْإِمَامَةُ وِلَايَةٌ عَامَّةٌ وَلَمْ يَصِحَّ فِيهَا تَفْرِيطُ أَهْلِ الِاخْتِيَارِ لِافْتِيَاتِهِمْ عَلَى غَيْرِهِمْ . تَقْلِيدُ طَالِبِ الْقَضَاءِ : وَإِذَا تَكَافَأَتِ الْجَمَاعَةُ فِي شُرُوطِ الْقَضَاءِ وَكَانَ فِيهِمْ طَالِبٌ لِلْوِلَايَةِ وَفِيهِمْ مُمْسِكٌ عَنْهَا فَالْأَوْلَى بِالْإِمَامِ أَنْ يُقَلِّدَ الْمُمْسِكَ دُونَ الطَّالِبِ . لِأَنَّهُ أَرْغَبُ فِي السَّلَامَةِ . فَإِنِ امْتَنَعَ لِعُذْرٍ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ . وَإِنِ امْتَنَعَ لِغَيْرِ عُذْرٍ فَفِي جَوَازِ إِجْبَارِهِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ : لِأَنَّهَا نِيَابَةٌ لَا يَدْخُلُهَا الْإِجْبَارُ كَالْوَكَالَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُجْبَرُ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِطَاعَةٍ إِنْ تُرِكَ فِيهَا عَلَى امْتِنَاعِهِ جَازَ أَنْ يَكُونَ حَالُ غَيْرِهِ مِثْلَ حَالِهِ فَيُفْضِي الْأَمْرُ إِلَى تَعْطِيلِ الْقَضَاءِ . وَخَالَفَ حَالَ الْوَكَالَةِ الَّتِي لَا تَتَعَلَّقُ بِطَاعَةٍ . فَإِنْ عَدَلَ الْإِمَامُ عَنِ الْمُمْسِكِ إِلَى الطَّالِبِ جَازَ وَصَحَّ تَقْلِيدُهُ بَعْدَ أَنِ اعْتَبَرَ حَالَ الطَّالِبِ فِي طَلَبِهِ . وَلَهُ فِيهِ خَمْسَةُ أَحْوَالٍ ، مُسْتَحَبٌّ وَمَحْظُورٌ وَمُبَاحٌ وَمَكْرُوهٌ وَمُخْتَلَفٌ فِيهِ . فَأَمَّا الْحَالُ الْأُولَى : وَهُوَ الطَّلَبُ الْمُسْتَحَبُّ طلب القضاء فَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْحُقُوقُ مُضَاعَةً بِجَوْرٍ أَوْ عَجْزٍ وَالْأَحْكَامُ فَاسِدَةٌ بِجَهْلٍ أَوْ هَوًى ؛ فَيَقْصِدُ بِطَلَبِهِ حِفْظَ الْحُقُوقِ وَحِرَاسَةَ الْأَحْكَامِ فَهَذَا

الطَّلَبُ مُسْتَحَبٌّ وَهُوَ بِهِ مَأْجُورٌ ، لِأَنَّهُ يَقْصِدُ أَمْرًا بِمَعْرُوفٍ وَنَهْيًا عَنْ مُنْكَرٍ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : وَهُوَ الطَّلَبُ الْمَحْظُورُ طلب القضاء : أَنْ يَقْصِدَ بِطَلَبِهِ انْتِقَامًا مِنْ أَعْدَاءٍ أَوْ تَكَسُّبًا بِارْتِشَاءٍ ، فَهَذَا الطَّلَبُ مَحْظُورٌ يَأْثَمُ بِهِ لِأَنَّهُ قَصَدَ بِهِ مَا يَأْثَمُ بِفِعْلِهِ . وَأَمَّا الْحَالُ الثَّالِثَةُ : وَهُوَ الطَّلَبُ الْمُبَاحُ طلب القضاء فَهُوَ أَنْ يَطْلُبَهُ لِاسْتِمْدَادِ رِزْقِهِ أَوِ اسْتِدْفَاعِ ضَرَرٍ ، فَهَذَا الطَّلَبُ مُبَاحٌ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ مُبَاحٌ . وَأَمَّا الْحَالُ الرَّابِعَةُ : وَهُوَ الطَّلَبُ الْمَكْرُوهُ طلب القضاء ، فَهُوَ أَنْ يَطْلُبَهُ لِلْمُبَاهَاةِ وَالِاسْتِعْلَاءِ بِهِ فَهَذَا الطَّلَبُ مَكْرُوهٌ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ مَكْرُوهٌ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [ الْقَصَصِ : ] . وَأَمَّا الْحَالُ الْخَامِسَةُ : وَهُوَ الطَّلَبُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ طلب القضاء فَهُوَ أَنْ يَطْلُبَهُ رَغْبَةً فِي الْوِلَايَةِ وَالنَّظَرِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ مَعَ اخْتِلَافِ السَّلَفِ قَبْلَهُمْ ، وَاخْتِلَافُ أَصْحَابِنَا مَعَهُمْ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : يُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ طَالِبًا وَيُكْرَهُ أَنْ يُجِيبَ إِلَيْهِ مَطْلُوبًا ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ وَمَكْحُولٍ وَأَبِي قِلَابَةَ وَمَنْ تَخَشَّنَ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَطَلَبَ السَّلَامَةَ لِرِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " مَنِ اسْتَقْضَى فَكَأَنَّمَا ذَبَحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ " وَلِأَنَّهَا أَمَانَةٌ يَتَحَمَّلُهَا رُبَّمَا قَصَّرَ فِيهَا أَوْ عَجَزَ عَنْهَا وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ [ الْآيَةَ الْأَحْزَابِ : ] . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ لَهُ طَالِبًا ، وَأَنْ يُجِيبَ إِلَيْهِ مَطْلُوبًا وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ وَالْحَسَنِ وَمَسْرُوقٍ وَمَنْ تَسَاهَلَ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَمَالَ إِلَى التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى لِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : " مَنْ طَلَبَ الْقَضَاءَ حَتَّى يَنَالَهُ فَإِنْ غَلَبَ عَدْلُهُ جَوْرَهُ فَلَهُ الْجَنَّةُ ، وَإِنْ غَلَبَ جَوْرُهُ عَدْلَهُ فَلَهُ النَّارُ " . وَلِأَنَّهُ فَرْضٌ لَا يُؤَدَّى إِلَّا بِالتَّعَاوُنِ وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [ الْمَائِدَةِ : ] . وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَعْدَلُهَا : يُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ طَالِبًا وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُجِيبَ إِلَيْهِ مَطْلُوبًا وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُتَوَسِّطِينَ فِي الْأَمْرِ مِنَ الْفُقَهَاءِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ

سَمُرَةَ " لَا تَطْلُبِ الْإِمَارَةَ فَإِنْ أُوتِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا وَإِنْ أُوتِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا " وَلِأَنَّ الطَّلَبَ تَكَلُّفٌ وَالْإِجَابَةَ مَعُونَةٌ . بَذْلُ الْمَالِ عَلَى طَلَبِ الْقَضَاءِ : فَإِنْ بَذَلَ عَلَى طَلَبِ الْقَضَاءِ مَالًا : انْقَسَمَ حَالُ طَلَبِهِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا لِتَعَيُّنِ فَرْضِهِ عَلَيْهِ عِنْدَ انْفِرَادِهِ بِشُرُوطِ الْقَضَاءِ أَوْ مُسْتَحِبًّا لَهُ لِيُزِيلَ جَوْرَ غَيْرِهِ أَوْ تَقْصِيرِهِ فَبَذْلُهُ عَلَى هَذَا الطَّلَبِ مُسْتَحَبٌّ لَهُ وَقَبُولُهُ مِنْهُ مَحْظُورٌ عَلَى الْقَابِلِ لَهُ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ طَلَبُهُ مَحْظُورًا أَوْ مَكْرُوهًا فَبَذْلُهُ عَلَى هَذَا الطَّلَبِ مَحْظُورٌ وَمَكْرُوهٌ ، بِحَسْبِ حَالِ الطَّلَبِ لِامْتِزَاجِهِمَا ، وَقَبُولُهُ مِنْهُ أَشَدُّ حَظْرًا وَتَحْرِيمًا . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ طَلَبُهُ مُبَاحًا فَيُعْتَبَرُ الْحُكْمُ ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ التَّقْلِيدِ لَمْ يَحْرُمْ عَلَى الْبَاذِلِ وَحَرُمَ عَلَى الْقَابِلِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " هَدَايَا الْأُمَرَاءِ غُلُولٌ " وَإِنْ كَانَ الْبَذْلُ قَبْلَ التَّقْلِيدِ حَرُمَ عَلَى الْبَاذِلِ وَالْقَابِلِ جَمِيعًا لِأَنَّهَا مِنَ الرِّشَا الْمَحْظُورَةِ عَلَى بَاذِلِهَا وَقَابِلِهَا لِرِوَايَةِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَعَنَ الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي وَالرَّائِشَ . فَالرَّاشِي بَاذِلُ الرِّشْوَةِ وَالْمُرْتَشِي قَابِلُهَا وَالرَّائِشُ الْمُتَوَسِّطُ بَيْنَهُمَا . فَإِنْ كَانَ هَذَا الطَّالِبُ قَدْ عَدِمَ شُرُوطَ الْقَضَاءِ أَوْ بَعْضَهَا حَرُمَ عَلَيْهِ الطَّلَبُ وَحَرُمَ عَلَى الْإِمَامِ الْإِجَابَةُ لِفَسَادِ التَّقْلِيدِ وَتَحْرِيمِ النَّظَرِ وَصَارَ بِالطَّلَبِ مَجْرُوحًا .

فَصْلٌ الْعَمَلُ

فَصْلٌ : [ الْعَمَلُ ] . وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّالِثُ وَهُوَ الْعَمَلُ : فَيَلْزَمُ الْإِمَامُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَى الْبَلَدِ الَّذِي يُقَلِّدُهُ قَاضِيًا فَيَقُولُ : قَلَّدْتُكَ قَضَاءَ الْبَصْرَةِ أَوْ يَقُولُ : قَلَّدْتُكَ قَضَاءَ الْكُوفَةِ لِيَكُونَ الْعَمَلُ مَعْلُومًا .

فَإِنْ قَالَ : قَلَّدْتُكَ قَضَاءَ الْبَصْرَةِ أَوِ الْكُوفَةِ لَمْ يَجُزْ لِلْجَهْلِ بِالْعَمَلِ . وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : قَلَّدْتُكَ قَضَاءَ أَيِّ بَلَدٍ شِئْتَ أَوْ أَيِّ بَلَدٍ رَضِيَكَ أَهْلُهُ ألفاظ تولية القضاء لَمْ يَجُزْ وَكَانَ التَّقْلِيدُ فَاسِدًا لِلْجَهْلِ بِالْعَمَلِ وَإِذَا قَلَّدَهُ قَضَاءَ الْبَصْرَةِ لَمْ يَخْلُ حَالُ نَوَاحِيهَا وَسَوَادِهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَنُصَّ عَلَى دُخُولِهِ فِي تَقْلِيدِهِ فَتَصِيرُ وِلَايَتُهُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْبَصْرَةِ وَجَمِيعِ نَوَاحِيهَا وَأَعْمَالِهَا الْمَنْسُوبَةِ إِلَيْهَا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَنُصَّ عَلَى خُرُوجِهِ مِنْ تَقْلِيدِهِ فَتَكُونُ وِلَايَتُهُ مَقْصُورَةً عَلَى دُخُولِهِ فِي تَقْلِيدِهِ فَتَصِيرُ وِلَايَتُهُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْبَصْرَةِ دُونَ أَعْمَالِهَا وَنَوَاحِيهَا . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يُمْسِكَ عَنْ ذِكْرِ نَوَاحِيهَا وَأَعْمَالِهَا فَيَعْتَبِرُ حَالَ أَعْمَالِهَا ، فَإِنْ كَانَ الْعُرْفُ فِيهَا جَارِيًا بِإِفْرَادِهَا عَنْ قَاضِي الْبَصْرَةِ لَمْ تَدْخُلْ فِي وِلَايَتِهِ وَإِنْ جَرَى الْعُرْفُ بِإِضَافَتِهَا إِلَى قَاضِي الْبَصْرَةِ دَخَلَتْ فِي وِلَايَتِهِ . فَإِنِ اخْتَلَفَ الْعُرْفُ فِي إِفْرَادِهَا وَإِضَافَتِهَا رُوعِيَ أَكْثَرُهَا عُرْفًا فَإِنِ اسْتَوَيَا رُوعِيَ أَقْرَبُهَا عَهْدًا فَإِنْ كَانَ الْأَكْثَرُ أَوِ الْأَقْرَبُ إِفْرَادَهَا خَرَجَتْ مِنْ وِلَايَتِهِ وَإِنْ كَانَ الْأَكْثَرُ أَوِ الْأَقْرَبُ إِضَافَتَهَا دَخَلَتْ فِي وِلَايَتِهِ . التَّقْلِيدُ الْعَامُّ وَالْخَاصُّ تقليد القضاء : وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْلِيدُ عَامًّا وَمَخْصُوصًا . فَالْعَامُّ : أَنْ يُقَلِّدَهُ قَضَاءَ جَمِيعِ الْبَلَدِ وَالْقَضَاءَ بَيْنَ جَمِيعِ أَهْلِهِ وَالْقَضَاءَ فِي جَمِيعِ الْأَيَّامِ ؛ فَتَشْتَمِلُ الْوِلَايَةُ عَلَى الْأَحْوَالِ الثَّلَاثِ ، فِي جَمِيعِ الْبَلَدِ وَعَلَى جَمِيعِ أَهْلِهِ وَفِي جَمِيعِ الْأَيَّامِ . وَالْمَخْصُوصُ : يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا فِي بَعْضِ الْبَلَدِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا فِي بَعْضِ أَهْلِهِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ . تَحْدِيدُ الْعَمَلِ بِالْمَكَانِ : فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ التَّقْلِيدُ مَقْصُورًا عَلَى قَضَاءِ بَعْضِ الْبَلَدِ وظائف القاضي باعتبار العمل فَيَجُوزُ إِذَا كَانَ مُعَيَّنًا سَوَاءٌ اقْتَصَرَ بِهِ عَلَى أَكْثَرِ الْبَلَدِ أَوْ عَلَى أَقَلِّهِ وَلَوْ مَحِلَّةً مِنْ مَحَالِّهِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَعُمُّ وَيَخُصُّ . فَإِذَا قَلَّدَهُ مِنَ الْبَصْرَةِ الْقَضَاءَ فِي جَانِبِ رَبِيعَةَ أَوِ الْقَضَاءَ فِي جَانِبِ مُضَرَ كَانَ مَقْصُورَ الْوِلَايَةِ عَلَى الْجَانِبِ الَّذِي قَلَّدَهُ سَوَاءٌ كَانَ لِلْجَانِبِ الْآخَرِ قَاضٍ أَوْ لَمْ يَكُنْ .

فَإِنْ قَلَّدَهُ جَانِبَ رَبِيعَةَ وَقُلِّدَ آخَرُ جَانِبَ مُضَرَ كَانَتْ وِلَايَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْصُورٌ عَلَى جَانِبِهِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِهِ دُونَ الطَّارِئَيْنِ إِلَيْهِ فَلَا يَتَعَدَّاهُمْ وَيَقِفُ نَظَرُهُ عَلَى مَا قُلِّدَ . فَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْجَانِبَيْنِ مَوْضِعٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهَا رُوعِيَ الْأَغْلَبُ عَلَيْهِ فِي إِضَافَتِهِ إِلَى أَحَدِهِمَا فَجُعِلَ دَاخِلًا فِيهِ فَإِنِ اسْتَوَى الْأَمْرَانِ فِيهِ رُوعِيَ الْقُرْبُ ، فَمَا كَانَ مِنْهُ أَقْرَبُ إِلَى جَانِبِ رَبِيعَةَ دَخَلَ فِي وِلَايَةِ قَاضِيهِ وَمَا كَانَ مِنْهُ أَقْرَبُ إِلَى جَانِبِ مُضَرَ دَخَلَ فِي وِلَايَةِ قَاضِيهِ . فَلَوْ تَحَاكَمَ مِنَ الْجَانِبَيْنِ رَجُلَانِ فَدَعَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى قَاضِي جَانِبِهِ نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ عِنْدَ التَّنَازُعِ قَدِ اجْتَمَعَا فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ أُجِيبُ قَوْلُ مَنْ هُوَ فِي جَانِبِهِ فِي التَّحَاكُمِ إِلَى قَاضِيهِ لِأَنَّ خَصْمَهُ فِيهِ ، طَالِبًا كَانَ أَوْ مَطْلُوبًا . وَإِنْ كَانَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي جَانِبِهِ عِنْدَ التَّنَازُعِ فَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُجْبِرَ الْآخَرَ عَلَى التَّحَاكُمِ إِلَى قَاضِيهِ لِأَنَّ قَاضِيَهُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يُعْدِيَهُ عَلَى خَصْمِهِ لِخُرُوجِهِ عَنْ نَظَرِهِ طَالِبًا كَانَ أَوْ مَطْلُوبًا . فَإِنْ أَرَادَ الطَّالِبُ أَنْ يَسْتَعْدِيَ قَاضِي الْمَطْلُوبِ عَلَى خَصْمِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُعْدِيَهُ وَيَحْكُمَ بَيْنَهُمَا فِي جَانِبِهِ لِحُصُولِهِمَا فِي عَمَلِهِ . فَإِنْ حَصَلَ أَحَدُ الْقَاضِيَيْنِ فِي جَانِبِ الْآخَرِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ فِيهِ بَيْنَ مَنْ تَنَازَعَ إِلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَهْلِ عَمَلِهِ أَوْ غَيْرِ عَمَلِهِ لِأَنَّ حُكْمَهُ لَا يَنْفُذُ إِلَّا فِي عَمَلِهِ . وَإِذَا قَلَّدَ الْإِمَامُ قَاضِيَيْنِ فِي بَلَدٍ لِيَنْظُرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيْنَ جَمِيعِ أَهْلِهِ فَفِي جَوَازِهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ لِمَا يُفْضِي إِلَيْهِ أَمْرُهَا مِنَ التَّجَاذُبِ فِي تَنَازُعِ الْخُصُومِ إِلَيْهِمَا وَتَبْطُلُ وِلَايَتُهُمَا إِنْ جُمِعَ بَيْنِهِمَا فِي التَّقْلِيدِ وَتَصِحُّ وِلَايَةُ الْأَوَّلِ إِنْ قُلِّدَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْآخَرِ . وَالثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِأَنَّهَا اسْتِنَابَةٌ كَالْوَكَالَةِ الَّتِي يَجُوزُ أَنْ يَجْتَمِعَ فِيهَا وَكِيلَانِ عَلَى اجْتِمَاعٍ وَانْفِرَادٍ . فَإِنِ اخْتَصَمَ خَصْمَانِ وَجَذَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَصْمَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا عُمِلَ عَلَى قَوْلِ الطَّالِبِ مِنْهُمَا دُونَ الْمَطْلُوبِ وَحَاكَمَهُ إِلَى مَنْ أَرَادَهُ مِنْهُمَا ، لِأَنَّ حُكْمَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَاضِيَيْنِ نَافِذٌ عَلَيْهِمَا بِخِلَافِ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْقَاضِيَيْنِ إِذَا كَانَا فِي جَانِبَيْنِ لِقُصُورِ نَظَرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى جَانِبِهِ وَعُمُومِ نَظَرِ هَذَيْنِ الْقَاضِيَيْنِ فِي جَمِيعِ الْبَلَدِ .

فَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَنَازِعَيْنِ طَالِبًا وَمَطْلُوبًا لِتَحَاكُمِهِمَا فِي قِسْمَةِ مِلْكٍ أَوِ اخْتِلَافِهِمَا فِي ثَمِنِ مَبِيعٍ أَوْ قَدْرِ صَدَاقٍ يُوجِبُ تَحَالُفُهُمَا فِيهِ عُمِلَ عَلَى قَوْلِ مَنْ دَعَا إِلَى أَقْرَبِ الْقَاضِيَيْنِ إِلَيْهِمَا . فَإِنِ اسْتَوَيَا فِي الْقُرْبِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا وَيُعْمَلُ بِقَوْلِ مَنْ قُرِعَ مِنْهُمَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُقْطَعُ التَّنَازُعُ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَتَّفِقَا عَلَى الرِّضَا بِأَحَدِهِمَا . وَإِذَا قُلِّدَ الْقَاضِي جَمِيعَ الْبَلَدِ لِيَنْظُرَ فِي أَحَدِ جَانِبَيْهِ أَوْ فِي مَحَلَّةٍ مِنْهُ أَوْ فِي جَامِعِهِ لَمْ يَصِحَّ لِعُمُومِ وِلَايَتِهِ ، وَكَانَ التَّقْلِيدُ بَاطِلًا إِنْ جُعِلَ ذَلِكَ شَرْطًا فِيهِ كَقَوْلِهِ قَلَّدْتُكَ عَلَى أَنْ تَنْظُرَ فِيهِ لِتَنَافِي حُكْمِ الشَّرْطِ وَالْإِطْلَاقِ . وَإِنْ خَرَجَ عَنِ الشَّرْطِ إِلَى الْأَمْرِ كَقَوْلِهِ : قَلَّدْتُكَ قَضَاءَ الْبَصْرَةِ فَانْظُرْ فِي جَامِعِهَا صَحَّ التَّقْلِيدُ وَبَطَلَ الشَّرْطُ وَجَازَ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ فِي الْجَامِعِ وَغَيْرِ الْجَامِعِ : لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْحَجْرَ عَلَيْهِ فِي مَوَاضِعَ جُلُوسِهِ . وَلَكِنْ لَوْ قَالَ ، قَلَّدْتُكَ عَلَى أَنْ تَحْكُمَ فِي الْجَامِعِ بَيْنَ مَنْ جَاءَكَ فِيهِ صَحَّ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ فِي غَيْرِهِ ، بِخِلَافِ الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ لِأَنَّ جَعْلَ الْوِلَايَةِ مَقْصُورَةٌ هَاهُنَا عَلَى مَنْ جَاءَ الْجَامِعَ وَهُمْ لَا يَتَعَيَّنُونَ إِلَّا فِيهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ فِي غَيْرِهِ لِخُرُوجِهِمْ مِنْ وِلَايَتِهِ .

فَصْلٌ : تَحْدِيدُهُ بِالْأَشْخَاصِ وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ التَّقْلِيدُ مَقْصُورًا عَلَى بَعْضِ أَهْلِ الْبَلَدِ دُونَ جَمِيعِهِمْ وظائف القاضي باعتبار العمل فَيَجُوزُ إِذَا تَمَيَّزُوا عَنْ غَيْرِهِمْ ، فَيَقُولُ قَلَّدْتُكَ لِتَقْضِيَ بِالْبَصْرَةِ بَيْنَ الْعَرَبِ دُونَ الْعَجَمِ وَيُقَلِّدُ آخَرَ الْقَضَاءَ بَيْنَ الْعَجَمِ دُونَ الْعَرَبِ فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَاضِيَيْنِ وَالِيًا عَلَى مَنِ اخْتَصَّ بِنَظَرِهِ . فَلَا يَجُوزُ لِقَاضِي الْعَرَبِ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَ الْعَجَمِ وَلَا لِقَاضِي الْعَجَمِ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَ الْعَرَبِ وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَ مَنْ لَيْسَ مِنَ الْعَرَبِ وَلَا مِنَ الْعَجَمِ كَالنَّبَطِ لِخُرُوجِهِمْ عَنْ نَظَرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا . فَإِنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ عَرَبِيُّ النَّسَبِ عَجَمِيُّ اللِّسَانِ وَعَجَمِيُّ النَّسَبِ عَرَبِيُّ اللِّسَانِ ، اعْتُبِرَتْ شَوَاهِدُ الْبَلَدِ ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى إِرَادَةِ النَّسَبِ دُونَ اللِّسَانِ أَوِ اللِّسَانِ دُونَ النَّسَبِ عُمِلَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ عَلَى إِرَادَةِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ مَحْمُولًا عَلَى اعْتِبَارِ النَّسَبِ دُونَ اللِّسَانِ لِأَنَّ النَّسَبَ صِفَةٌ لَازِمَةٌ وَاللِّسَانُ صِفَةٌ زَائِلَةٌ . فَإِنْ كَانَ فِي الْعَجَمِ مُوَالٍ لِلْعَرَبِ فَفِي أَحَقِّ الْقَاضِيَيْنِ بِالنَّظَرِ فِي أَحْكَامِهِمْ وَجْهَانِ

مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي مَوَالِي ذَوِي الْقُرْبَى هَلْ يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ مِنَ الصَّدَقَاتِ مَا يَحْرُمُ عَلَى ذَوِي الْقُرْبَى ، عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ مَا يَحْرُمُ عَلَى ذَوِي الْقُرْبَى تَغْلِيبًا لِلْوَلَاءِ عَلَى النَّسَبِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَاضِي الْعَرَبِ أَحَقَّ بِالنَّظَرِ بَيْنَهُمْ مِنْ قَاضِي الْعَجَمِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ مَا يَحْرُمُ عَلَى ذَوِي الْقُرْبَى تَغْلِيبًا لِلنَّسَبِ عَلَى الْوَلَاءِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَاضِي الْعَجَمِ أَحَقَّ بِالنَّظَرِ بَيْنَهُمْ مِنْ قَاضِي الْعَرَبِ . وَإِذَا وَقَعَ التَّنَازُعُ بَيْنَ عَرَبِيٍّ وَعَجَمِيٍّ فَلَهُمَا حَالَتَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى التَّحَاكُمِ إِلَى قَاضِي أَحَدِهِمَا : فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى قَاضِي الْمَطْلُوبِ فَيَنْفُذُ حُكْمُهُ بَيْنَهُمَا : لِأَنَّهُ مَنْدُوبٌ إِلَى اسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ مِنْ أَهْلِ نَظَرِهِ ، وَالْحَقُّ مُسْتَوْفً مِنَ الْمَطْلُوبِ لِلطَّالِبِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى التَّحَاكُمِ إِلَى قَاضِي الطَّالِبِ فَفِي نُفُوذِ حُكْمِهِ بَيْنَهُمَا وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي نُفُوذِ حُكْمِ مَنْ تَرَاضَيَا بِهِ مِنْ غَيْرِ الْحُكَّامِ : أَحَدُهُمَا : يَنْفُذُ حُكْمُهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَنْفُذُ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَتَجَاذَبَ الْمُتَنَازِعَانِ وَيَدْعُوَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى نَظَرِ قَاضِيهِ . فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُوقِفُ تَنَازُعَهُمَا وَيَقْطَعُ تَخَاصُمَهُمَا حَتَّى يَتَّفِقَا عَلَى قَاضِي أَحَدِهِمَا فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى قَاضِي الْمَطْلُوبِ جَازَ وَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى قَاضِي الطَّالِبِ كَانَ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يَجْتَمِعَ الْقَاضِيَانِ عَلَى سَمَاعِ الدَّعْوَى ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَوْجُودًا بَيْنَ أَهْلِ نَظَرِهِ ، وَلَيْسَ لَهُ الِانْفِرَادُ فِي هَذَا النَّظَرِ فَلَزِمَ اجْتِمَاعُهُمَا عَلَيْهِ . فَإِذَا اجْتَمَعَا عَلَى سَمَاعِ الدَّعْوَى تَفَرَّدَ بِالْحُكْمِ بَيْنَهُمَا قَاضِي الْمَطْلُوبِ دُونَ الطَّالِبِ . وَإِنِ اقْتَضَى الْحُكْمُ سَمَاعَ الْبَيِّنَةِ تَفَرَّدَ بِسَمَاعِهَا قَاضِي الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ دُونَ الْمَشْهُودِ لَهُ . وَإِنْ وَقَفَ الْحُكْمُ عَلَى يَمِينٍ اسْتَوْفَاهَا قَاضِي الْحَالِفِ دُونَ الْمُسْتَحْلِفِ لِيَكُونَ الْحُكْمُ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا نَافِذًا مِنْ قَاضِي الْمَطْلُوبِ دُونَ الطَّالِبِ .

فَإِنِ امْتَنَعَ الْقَاضِيَانِ مِنْ الِاجْتِمَاعِ أَثِمَا بِالِامْتِنَاعِ ، وَكَانَ قَاضِي الْمَطْلُوبِ أَغْلَظَهُمَا مَأْثَمًا وَأَخَذَهُمَا الْأَمِيرُ بِالِاجْتِمَاعِ جَبَرًا . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي مَقْصُورَ الْوِلَايَةِ عَلَى النَّظَرِ بَيْنَ خَصْمَيْنِ مُعَيَّنَيْنِ فَيَخْتَصُّ بِالنَّظَرِ بَيْنَهُمَا وَلَا يَنْظُرُ بَيْنَ غَيْرِهِمَا وظائف القاضي باعتبار العمل ، وَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : إِحْدَاهَا : أَنْ يَرُدَّ النَّظَرَ إِلَيْهِ بَيْنَهُمَا فِي كُلِّ تَنَازُعٍ يَحْدُثُ مِنْهُمَا فَيَكُونُ بَعْدَ فَصْلِ الْحُكْمِ بَيْنَهُمَا بَاقِي الْوِلَايَةِ عَلَى مَا يَتَجَدَّدُ مِنْ تَنَازُعِهِمَا . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَقْتَصِرَ بِهِ عَلَى الْمَنْظَرِ فِي الْحُكْمِ الَّذِي تَنَازَعَاهُ فِي الْوَقْتِ ، فَإِذَا فَصَلَ الْحُكْمَ بَيْنَهُمَا انْعَزَلَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمَا فِيمَا يَتَجَدَّدُ مِنْ تَنَازُعِهِمَا . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ تَقْلِيدَهُ مُطْلَقًا فَيُحْمَلُ عَلَى الْعُمُومِ دُونَ الْخُصُوصِ وَيَحْكُمُ بَيْنَهُمَا فِي كُلِّ مَا تَجَدَّدَ مِنْ نِزَاعِهِمَا . وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا أَنْ يُقَلِّدَهُ الْإِمَامُ قَضَاءَ بَلَدٍ عَلَى أَنْ يَسْتَخْلِفَ عَلَيْهِ وَلَا يَنْظُرَ فِيهِ بِنَفْسِهِ ، فَهَذَا تَقْلِيدُ اخْتِيَارٍ وَمُرَاعَاةٍ ، وَلَيْسَ بِتَقْلِيدِ حُكْمٍ وَلَا نَظَرٍ . فَإِذَا قَلَّدَ مَنِ اخْتَارَهُ ثَبَتَتْ وِلَايَةُ الْمُخْتَارِ ، وَلَمْ يَكُنْ لِمَنِ اخْتَارَهُ عَزْلُهُ وَلَهُ الْإِشْرَافُ عَلَيْهِ وَالْمُرَاعَاةُ لَهُ . وَلَوْ كَانَ الْإِمَامُ قَدْ عَيَّنَ لَهُ عَلَى مَنْ يَسْتَخْلِفُهُ جَازَ وَكَانَ هَذَا تَقْلِيدُ إِنْفَاذٍ وَإِشْرَافٍ وَلَيْسَ بِتَقْلِيدِ حُكْمٍ وَلَا اخْتِيَارٍ .

فَصْلٌ : [ تَحْدِيدُ الْعَمَلِ بِالزَّمَانِ ] . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ التَّقْلِيدُ مَقْصُورًا عَلَى بَعْضِ الْأَيَّامِ دُونَ جَمِيعِهَا وظائف القاضي باعتبار العمل فَيَجُوزُ إِذَا عُيِّنَ عَلَى الْيَوْمِ الَّذِي يَحْكُمُ فِيهِ ، وَلَا يَجُوزُ إِنْ لَمْ يُعَيِّنْهُ ، لِأَنَّ النَّظَرَ مَقْصُورٌ عَلَى الْمُتَحَاكِمَيْنِ فِيهِ فَوَجَبَ تَعْيِينُ الْيَوْمِ لِيَتَعَيَّنَ بِهِ الْخُصُومُ . فَإِذَا قَلَّدَهُ النَّظَرَ فِي يَوْمِ السَّبْتِ لَمْ يَخْلُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَجْعَلَهُ نَاظِرًا فِي كُلِّ سَبْتٍ فَيَكُونُ عَلَى وِلَايَتِهِ بَعْدَ انْقِضَاءِ السَّبْتِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ فِي غَيْرِهِ لِبَقَاءِ نَظَرِهِ عَلَى أَمْثَالِهِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَجْعَلَهُ نَاظِرًا فِي سَبْتٍ وَاحِدٍ فَيَنْعَزِلُ بَعْدَ غُرُوبِ شَمْسِهِ وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ فِي أَمْثَالِهِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَجْمَعَ فِي نَظَرِ السَّبْتِ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لِاخْتِصَاصِ الْيَوْمِ بِالنَّهَارِ دُونَ اللَّيْلِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يُطْلِقَ تَقْلِيدَهُ فِي يَوْمِ السَّبْتِ فَيُحْمَلُ عَلَى الْخُصُوصِ دُونَ

الْعُمُومِ ، وَلَيْسَ لَهُ النَّظَرُ إِلَّا فِي سَبْتٍ وَاحِدٍ ، وَهُوَ أَوَّلُ سَبْتٍ يَكُونُ بَعْدَ التَّقْلِيدِ ، فَإِذَا نَظَرَ فِيهِ انْعَزَلَ بِغُرُوبِ شَمْسِهِ ، وَلَوْ لَمْ يَنْظُرْ فِيهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْظُرَ فِي غَيْرِهِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يُقَلِّدَهُ النَّظَرَ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَيُحْمَلُ إِطْلَاقُهُ عَلَى الْعُمُومِ فِي كُلِّ تَنَازُعٍ ، وَبَيْنَ أَنْ يُقَلِّدَهُ النَّظَرَ فِي يَوْمِ السَّبْتِ فَيُحْمَلُ إِطْلَاقُهُ عَلَى الْخُصُوصِ فِي سَبْتٍ وَاحِدٍ هُوَ بَقَاءُ الْخَصْمَيْنِ فَحُمِلَ النَّظَرُ بَيْنَهُمَا عَلَى الْعُمُومِ وَانْقِضَاءِ السَّبْتِ فَحُمِلَ النَّظَرُ فِيهِ عَلَى الْخُصُوصِ . فَلَوْ قَلَّدَ قَاضِيًا أَنْ يَنْظُرَ فِي يَوْمِ السَّبْتِ وَقَلَّدَ آخَرَ أَنْ يَنْظُرَ فِي يَوْمِ الْأَحَدِ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْصُورَ النَّظَرِ عَلَى يَوْمِهِ . فَإِنْ تَرَافَعَ خَصْمَانِ فِي يَوْمِ السَّبْتِ إِلَى قَاضِيهِ وَلَمْ يَنْفَصِلِ الْحُكْمُ بَيْنَهُمَا فِيهِ حَتَّى رَجَعَا فِي يَوْمِ الْأَحَدِ كَانَ قَاضِي الْأَحَدِ أَحَقَّ بِالنَّظَرِ بَيْنَهُمَا مِنْ قَاضِي السَّبْتِ . وَلَوْ تَنَازَعَ خَصْمَانِ فَدَعَا أَحَدُهُمَا إِلَى قَاضِي السَّبْتِ وَدَعَا الْآخَرُ إِلَى قَاضِي الْأَحَدِ ، فَإِنْ كَانَ تَنَازُعُهُمَا فِي يَوْمِ السَّبْتِ كَانَ قَاضِيهِ أَحَقُّ بِالنَّظَرِ بَيْنَهُمَا . وَإِنْ كَانَ تَنَازُعُهُمَا فِي يَوْمِ الْأَحَدِ كَانَ قَاضِيهِ أَحَقَّ بِالنَّظَرِ بَيْنَهُمَا . وَإِنْ كَانَ التَّنَازُعُ فِي غَيْرِهِمَا مِنَ الْأَيَّامِ لَمْ يَتَرَجَّحْ قَوْلُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَتَّى يَسْتَأْنِفَا التَّرَافُعَ فِي أَحَدِ الْيَوْمَيْنِ فَيَصِيرُ قَاضِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَحَقَّ بِالنَّظَرِ بَيْنَهُمَا . وَهَكَذَا الْحُكْمُ إِذَا قَلَّدَهُ النَّظَرَ فِي شَهْرٍ مِنَ السَّنَةِ فَيَكُونُ مَقْصُورَ الْوِلَايَةِ عَلَى ذَلِكَ الشَّهْرِ لَيْلًا وَنَهَارًا لِأَنَّ الشَّهْرَ يَجْمَعُهُمَا . فَهَذَا حُكْمُ الشَّرْطِ الثَّالِثِ وَمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ أَقْسَامِهِ الثَّلَاثَةِ .

فَصْلٌ النَّظَرُ

فَصْلٌ : [ النَّظَرُ ] . وَأَمَّا الشَّرْطُ الرَّابِعُ وَهُوَ النَّظَرُ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ عَامٌّ وَخَاصٌّ : فَأَمَّا الْعَامُّ : فَهُوَ أَنْ يُقَلِّدَهُ النَّظَرَ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ فَتَكُونُ وِلَايَتُهُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى جَمِيعِ مَا يَخْتَصُّ بِنَظَرِ الْقُضَاةِ وَتَشْتَمِلُ عَلَى عَشَرَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : تَثْبِيتُ الْحُقُوقِ من ظائف القاضي باعتبار النظر عِنْدَ التَّنَاكُرِ مِنْ دُيُونٍ فِي الذِّمَمِ وَأَعْيَانٍ فِي الْيَدِ بَعْدَ سَمَاعِ الدَّعْوَى وَسُؤَالِ الْخَصْمِ ، وَثُبُوتُهَا يَكُونُ مِنْ أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ : إِقْرَارٌ أَوْ بَيِّنَةٌ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : اسْتِيفَاءُ الْحُقُوقِ بَعْدَ ثُبُوتِهَا عِنْدَ التَّمَانُعِ وَالتَّدَافُعِ فَإِنْ كَانَتْ فِي الذِّمَّةِ أَلْزَمَ الْخُرُوجَ مِنْهَا وَحَبَسَ بِهَا وَإِنْ كَانَتْ أَعْيَانًا سَلَّمَهَا إِنِ امْتَنَعَ الْخَصْمُ مِنْ تَسْلِيمِهَا . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : النَّظَرُ فِي الْعُقُودِ مِنَ الْمَنَاكِحِ وَالْبُيُوعِ وَغَيْرِهَا عِنْدَ الِاخْتِلَافِ فِيهَا من ظائف القاضي باعتبار النظر لِيَحْكُمَ بِاجْتِهَادِهِ فِي صِحَّتِهَا وَفَسَادِهَا وَالتَّحَالُفِ عَلَيْهَا .

وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : فَصْلُ التَّشَاجُرِ فِي حُقُوقِ الْأَمْلَاكِ مِنَ الشُّفْعَةِ وَالْمِيَاهِ وَالْحُدُودِ وَالِاسْتِطْرَاقِ وَالْعَمَلِ بِشَوَاهِدِ الْأَبْنِيَةِ من ظائف القاضي باعتبار النظر . فَأَمَّا مَخَارِجُ الْأَبْنِيَةِ وَالْأَجْنِحَةِ إِلَى الطُّرُقَاتِ وَمَقَاعِدِ الْأَسْوَاقِ . فَإِنْ جَاءَهُ فِيهِ مُتَظَلِّمٌ نَظَرَ فِيهِ وَدَخَلَ فِي وِلَايَتِهِ . وَإِنْ لَمْ يَأْتِ فِيهِ مُتَظَلِّمٌ دَخَلَ فِي الْحِسْبَةِ وَكَانَ أَحَقَّ بِالنَّظَرِ فِيهِ فَإِنْ لَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى اجْتِهَادٍ تَفَرَّدَ الْمُحْتَسِبُ بِهِ وَإِنِ افْتَقَرَ إِلَى اجْتِهَادٍ كَانَ الْقَاضِي أَحَقَّ بِالِاجْتِهَادِ فِيهِ وَأَوْلَى مِنَ الْمُحْتَسِبِ يَكُونُ الْمُحْتَسِبُ فِيهِ مُنَفِّذًا لِحُكْمِ الْقَاضِي . وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ : الْوِلَايَةُ عَلَى الْأَيَامَى فِي عُقُودِ مَنَاكِحِهِنَّ لِأَكْفَائِهِنَّ عِنْدَ عَدَمِ أَوْلِيَائِهِنَّ أَوْ غَفْلِهِنَّ من ظائف القاضي باعتبار النظر . وَأَسْقَطَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا الْقِسْمَ مِنْ وِلَايَتِهِ مَعَ الْبُلُوغِ لِتَجْوِيزِهِ لَهُنَّ أَنْ يَنْفَرِدْنَ بِالْعَقْدِ عَلَى أَنْفُسِهِنَّ . وَالْقِسْمُ السَّادِسُ : الْوِلَايَةُ عَلَى ذَوِي الْحَجْرِ بِصِغَرٍ أَوْ جُنُونٍ إِذَا عُدِمَ أَوْلِيَاءُ النَّسَبِ أَوْ لِسَفَهٍ يُوقَعُ بِهِ الْحَجْرُ لَا تُعْتَبَرُ فِيهِ وِلَايَةُ ذِي النَّسَبِ وَيَرْتَفِعُ بِإِينَاسِ الرُّشْدِ وَفَكِّ الْحَجْرِ من ظائف القاضي باعتبار النظر . فَأَمَّا أَمْوَالُ الْغَائِبِينَ عَنْهَا : فَإِنْ عَلِمُوا بِهَا فَلَا نَظَرَ لِلْقَاضِي فِيهَا لِوُقُوفِهَا عَلَى اخْتِيَارِ أَرْبَابِهَا وَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا بِهَا ، لِأَنَّهُمْ وَرِثُوهَا وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي نَظَرِ الْقَاضِي وَعَلَيْهِ حِفْظُهَا حَتَّى يَقْدَمُوا أَوْ يُوكِلُوا فَتَخْرُجَ حِينَئِذٍ مِنْ نَظَرِهِ . الْقِسْمُ السَّابِعُ : الْحُكْمُ بِنَفَقَاتِ الْأَقَارِبِ وَالزَّوْجَاتِ وَالْعَبِيدِ وَتَقْدِيرُهَا بِرَأْيهِ وَاجْتِهَادِهِ من ظائف القاضي باعتبار النظر . وَالْقِسْمُ الثَّامِنُ : النَّظَرُ فِي الْوُقُوفِ وَالْوَصَايَا إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا نَاظِرٌ تَوَلَّاهَا من ظائف القاضي باعتبار النظر وَإِنْ كَانَ فِيهَا نَاظِرٌ وَاعَاهَا فَإِنْ كَانَتْ لِمُعَيَّنِينَ سَقَطَ الِاجْتِهَادُ فِيهِمْ وَإِنْ كَانَتْ لِمَوْصُوفِينَ تَعَيَّنُوا بِاجْتِهَادِ النَّاظِرِ قَبْلَ الْحُكْمِ وَبِاجْتِهَادِ الْقَاضِي عِنْدَ الْحُكْمِ . وَالْقِسْمُ التَّاسِعُ : النَّظَرُ فِي التَّعْدِيلِ وَالْجَرْحِ وَالتَّقْلِيدِ وَالْعَزْلِ من ظائف القاضي باعتبار النظر يَعْمَلُ فِيهِ عَلَى اجْتِهَادِهِ سَوَاءٌ وَافَقَ فِيهِ اجْتِهَادَ مَنْ قَلَّدَهُ أَوْ خَالَفَهُ إِلَّا فِي التَّقْلِيدِ وَالْعَزْلِ فَيَكُونُ اجْتِهَادُ مَنْ قَلَّدَهُ فَفِيهِ أَنْفَذَ . وَالْقِسْمُ الْعَاشِرُ : إِقَامَةُ الْحُدُودِ عَلَى مُسْتَحِقِّيهَا فِيمَا تَعَلَّقَ بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ من ظائف القاضي باعتبار النظر مِنْ إِقَامَةِ حَدِّ الْقَذْفِ بِالزِّنَا وَالْقِصَاصِ فِي الْجِنَايَاتِ عَلَى النُّفُوسِ وَالْأَطْرَافِ . فَأَمَّا مَا تَعَلَّقَ مِنْهَا بِحُقُوقِ اللَّهِ الْمَحْضَةِ كَحَدِّ الزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَتَارِكِ الصَّلَاةِ فَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِاجْتِهَادٍ كَانَ الْقَاضِي أَحَقَّ بِهَا لِاخْتِصَاصِهِ بِالِاجْتِهَادِ فِي الْأَحْكَامِ وَيَأْمُرُ وُلَاةَ الْمُعَاوِنِ بِاسْتِيفَائِهَا وَهُوَ أَوْلَى مِنْ مُبَاشَرَتِهَا بِنَفْسِهِ ، وَعَلَيْهِمْ أَنْ يَعْمَلُوا بِأَمْرِهِ فِيهَا .

وَإِنْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِاجْتِهَادٍ كَانَ الْأَمِيرُ أَحَقَّ بِهَا لِتَعَلُّقِهَا بِتَقْوِيمِ السَّلْطَنَةِ فَإِنْ تَعَلَّقَ بِهَا سَمَاعُ الْبَيِّنَةِ سَمِعَهَا الْقَاضِي وَاسْتَوْفَاهَا الْأَمِيرُ . فَأَمَّا قَبْضُ الصَّدَقَاتِ وَتَفْرِيقُهَا فِي ذَوِي السُّهْمَانِ التقليد على القضاء . فَإِنْ قَلَّدَ الْإِمَامُ عَلَيْهَا نَاظِرًا كَانَ أَحَقَّ بِهَا مِنَ الْقَاضِي . وَإِنْ لَمْ يُقَلِّدْ عَلَيْهَا نَاظِرًا فَفِي اسْتِحْقَاقِ الْقَاضِي النَّظَرُ فِيهَا بِمُطْلَقِ وِلَايَتِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا لَهُ النَّظَرُ فِيهَا لِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ فِيمَنْ أَسْمَاهُ لَهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَيْسَ لَهُ النَّظَرُ فِيهَا ، لِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِ الْأَمْوَالِ الَّتِي تُحْمَلُ عَلَى اجْتِهَادِ الْأَئِمَّةِ . فَأَمَّا أَمْوَالُ الْفَيْءِ فَلَيْسَ لَهُ التَّعَرُّضُ لَهَا وَجْهًا وَاحِدًا ، لِأَنَّ وُجُوهَ مَصْرِفِهَا مَوْقُوفٌ عَلَى اجْتِهَادِ الْأَئِمَّةِ . فَأَمَّا الْإِمَامَةُ فِي صَلَاةِ الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ ، فَإِنْ نُدِبَ لَهَا إِمَامٌ كَانَ أَحَقَّ بِهَا مِنَ الْقَاضِي . وَإِنْ لَمْ يُنْدَبْ لَهَا إِمَامٌ فَفِي اخْتِصَاصِ الْقَاضِي بِإِقَامَتِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُقِيمُهَا لِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ الْعَامَّةِ . وَالثَّانِي : لَا حَقَّ لَهُ فِي إِقَامَتِهَا ، لِأَنَّ الْأُمَرَاءَ بِهَا أَخَصُّ فَهَذَا حُكْمُ النَّظَرِ الْعَامِّ . تَحْدِيدُ سُلُطَاتِ الْقَاضِي : فَأَمَّا النَّظَرُ الْخَاصُّ عمل القاضي : فَهُوَ أَنْ يُقَلِّدَ النَّظَرَ فِي الْمُدَايَنَاتِ دُونَ الْمَنَاكِحِ أَوِ الْحُكْمِ بِالْإِقْرَارِ مِنْ غَيْرِ سَمَاعِ بَيِّنَةٍ أَوْ فِي نِصَابٍ مُقَدَّرٍ مِنَ الْمَالِ لَا يَتَجَاوَزُهُ فَهَذَا جَائِزٌ وَيَكُونُ مَقْصُورَ النَّظَرِ عَلَى مَا قَلَّدَهُ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ : لَمْ يَزَلِ الْأُمَرَاءُ عِنْدَنَا بِالْبَصْرَةِ بُرْهَةً مِنَ الدَّهْرِ يَسْتَقْضُونَ عَلَى الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ قَاضِيًا يُسَمُّونَهُ قَاضِيَ الْمَسْجِدِ يَحْكُمُ فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَعِشْرِينَ دِينَارًا فَمَا دُونَهَا وَيَفْرِضُ النَّفَقَاتِ وَلَا يَتَعَدَّى بِهَا مَوْضِعَهُ وَلَا مَا قُدِّرَ لَهُ . وَإِذَا قُلِّدَ النَّظَرَ فِي الْمَنَاكِحِ جَازَ أَنْ يَحْكُمَ بِجَمِيعِ مَا تَعَلَّقَ بِهَا مِنْ صَدَاقٍ وَفَرْضٍ وَنَفَقَةٍ وَسُكْنَى وَكِسْوَةٍ وَيُزَوِّجُ الْأَيَامَى وَلَا يَحْكُمُ فِيمَا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مِنَ الْمُدَايَنَاتِ وَيَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بِأُجْرَةِ الرَّضَاعِ وَلَا يَحْكُمَ بِنَفَقَةِ الْأَوْلَادِ وَيَحْكُمُ بِنَفَقَةِ خَادِمِ الزَّوْجَةِ وَلَا يَحْكُمُ بِنَفَقَةِ خَادِمِ الزَّوْجِ . وَإِذَا قُلِّدَ النَّظَرَ فِي نِصَابٍ مُقَدَّرٍ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَنَظَرَ فِيهَا بَيْنَ خَصْمَيْنِ جَازَ أَنْ يَنْظُرَ بَيْنَهُمَا ثَانِيَةً فِي هَذَا الْقَدْرِ وَثَالِثَةً .

وَإِذَا كَانَ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ أَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ فَأَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ فِيهَا جَازَ إِذَا كَانَتْ دَعْوَى الشَّرِيكَيْنِ مُتَفَرِّقَةً ، وَلَمْ يَجُزْ إِنْ كَانَتْ دَعْوَاهُمَا وَاحِدَةً . وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ فِي عُرُوضٍ قِيمَتُهَا مِائَتَا دِرْهَمٍ جَازَ إِلَّا عَنْ نَهْيٍ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ التَّقْدِيرِ دُونَ الْجِنْسِ فَهَذَا حُكْمُ الشَّرْطِ الرَّابِعِ .

فَصْلٌ الْعَقْدُ

فَصْلٌ : [ الْعَقْدُ ] . وَأَمَّا الشَّرْطُ الْخَامِسُ وَهُوَ الْعَقْدُ الَّذِي يَصِحُّ بِهِ التَّقْلِيدُ تقليد القضاء : فَيَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا : مُقَدِّمَةُ الْعَقْدِ . وَالثَّانِي : صِفَةُ الْعَقْدِ . وَالثَّالِثُ : لُزُومُ الْعَقْدِ . فَأَمَّا الشَّرْطُ الْأَوَّلُ فِي مُقَدِّمَةِ الْعَقْدِ : فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُوَلِّي عَارِفًا بِتَكَامُلِ شُرُوطِ الْقَضَاءِ فِي الْمُوَلَّى لِيَقَعَ الْعَقْدُ صَحِيحًا بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ بِهِ . فَإِنْ عَرِفَ تَكَامُلَهَا فِيهِ جَازَ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى عِلْمِهِ بِهِ . وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ تَكَامُلَهَا فِيهِ سَأَلَ عَنْهُ . فَإِنِ اسْتَفَاضَ الْخَبَرَ بِمَعْرِفَتِهِ كَانَتْ الِاسْتِفَاضَةُ أَوْكَدَ مِنَ الشَّهَادَةِ فَلَمْ يَحْتَجْ مَعَهَا إِلَّا الِاخْتِبَارَ . وَإِنْ لَمْ يَسْتَفِضْ بِهِ الْخَبَرُ جَازَ أَنْ يَقْتَصِرَ فِيهِ عَلَى شَهَادَةِ عَدْلَيْنِ بِتَكَامُلِ شُرُوطِ الْقَضَاءِ فِيهِ وَيَخْتَبِرُهُ الْمُوَلِّي لِيَتَحَقَّقَ بِاخْتِبَارِهِ صِحَّةَ مَعْرِفَتِهِ . وَهَلْ يَكُونُ اخْتِبَارُهُ بَعْدَ الشَّهَادَةِ وَاجِبًا أَوِ اسْتِحْبَابًا : عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ اسْتِحْبَابٌ يَسْتَظْهِرُ بِهِ ، لِأَنَّ صِحَّةَ الشَّهَادَةِ تُوجِبُ الْعَمَلَ بِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ اخْتِبَارَهُ وَاجِبٌ لِجَوَازِ أَنْ يَطْرَأَ عَلَيْهِ نِسْيَانٌ أَوِ اخْتِلَالٌ . فَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ بِتَكَامُلِ صِفَاتِهِ شَاهِدَانِ لَزِمَ اخْتِبَارُهُ قَبْلَ تَقْلِيدِهِ فِي كُلِّ شَرْطٍ يُعْتَبَرُ فِي صِحَّةِ تَقْلِيدِهِ مِنْ أُصُولٍ وَفُرُوعٍ . فَإِنْ عَرَفَ صِحَّتَهَا مِنْ أَجْوِبَتِهِ قَلَّدَهُ حِينَئِذٍ ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اخْتَبَرَ مُعَاذًا حِينَ قَلَّدَهُ قَضَاءَ الْيَمَنِ ، وَلَمْ يَخْتَبِرْ عَلِيًّا عِنْدَ تَقْلِيدِهِ لِأَنَّهُ أَخْبَرُ مِنْهُ بِمُعَاذٍ . وَإِنْ قَلَّدَهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ تَكَامُلَ الشُّرُوطِ فِيهِ ثُمَّ عَلِمَهَا كَانَ التَّقْلِيدُ بَاطِلًا ، حَتَّى يَسْتَأْنِفَهُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِتَكَامُلِهَا لِوُقُوعِ التَّقْلِيدِ مَعَ الشَّكِّ فِيهِ .

فَصْلٌ : صِفَةُ الْعَقْدِ التقليد على القضاء وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّانِي وَهُوَ صِفَةُ الْعَقْدِ : فَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِاللَّفْظِ مَعَ الْحُضُورِ وَبِالْمُكَاتَبَةِ مَعَ الْغِيبَةِ لِلضَّرُورَةِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى الْمُكَاتَبَةِ مَعَ الْحُضُورِ لِارْتِفَاعِ الضَّرُورَةِ . [ لَفْظُ الْعَقْدِ ] : وَلَفْظُ الْعَقْدِ : يَشْتَمِلُ عَلَى صَرِيحٍ وَكِنَايَةٍ وَمُخْتَلَفٍ فِيهِ . فَأَمَّا الصَّرِيحُ : فَأَرْبَعَةُ أَلْفَاظٍ : قَلَّدْتُكَ الْقَضَاءَ وَوَلَّيْتُكَ الْقَضَاءَ أَوِ اسْتَخْلَفْتُكَ عَلَى الْقَضَاءِ أَوِ اسْتَنَبْتُكَ عَلَى الْقَضَاءِ فَلَا يَحْتَاجُ مَعَ أَحَدِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْأَرْبَعَةِ إِلَى زِيَادَةٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ تَأْكِيدًا . وَأَمَّا الْكِنَايَةُ : فَأَرْبَعَةُ أَلْفَاظٍ : قَدِ اعْتَمَدْتُ عَلَيْكَ فِي الْقَضَاءِ أَوْ عَوَّلْتُ عَلَيْكَ أَوْ عَهِدْتُ إِلَيْكَ بِالْقَضَاءِ أَوْ وَكَّلْتُ إِلَيْكَ الْقَضَاءَ فَلَا يَنْعَقِدُ التَّقْلِيدُ بِأَحَدِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْأَرْبَعَةِ لِاحْتِمَالِهَا حَتَّى يَقْتَرِنَ بِهَا مَا يَزُولُ بِهِ الِاحْتِمَالُ بِإِحْدَى نُقْطَتَيْنِ إِمَّا أَنْ يَقُولَ فَاحْكُمْ أَوْ فَانْظُرْ فَيَكُونُ بِالْقَرِينَةِ كَالصَّرِيحِ فِي صِحَّةِ التَّقْلِيدِ . وَأَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ فَأَرْبَعَةُ أَلْفَاظٍ : قَدْ فَوَّضْتُ إِلَيْكَ الْقَضَاءَ وَرَدَدْتُ إِلَيْكَ الْقَضَاءَ وَجَعَلْتُ إِلَيْكَ الْقَضَاءَ وَأَسْنَدْتُ إِلَيْكَ الْقَضَاءَ فَفِيهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا صَرِيحٌ فِي التَّقْلِيدِ . وَالثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّهَا كِنَايَةٌ . مَا يَفْتَقِرُ إِلَيْهِ عَقْدُ التَّقْلِيدِ : وَالَّذِي يَفْتَقِرُ عَقْدُ التَّقْلِيدِ إِلَى ذِكْرِهِ فِيهِ شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : ذِكْرُ الْبَلَدِ الَّذِي يُقَلِّدُهُ فِيهِ . وَالثَّانِي : صِفَةُ الْحُكْمِ مِنْ عُمُومٍ وَخُصُوصٍ . فَإِنْ أَطْلَقَ كَانَ عَلَى الْعُمُومِ دُونَ الْخُصُوصِ فِي الْمُنَازَعَاتِ وَعَلَى الْخُصُوصِ دُونَ الْعُمُومِ فِي الْوِلَايَاتِ . ثُمَّ تَمَامُ الْعَقْدِ مُعْتَبَرٌ بِقَوْلِ الْمُوَلَّى . فَإِنْ كَانَ حَاضِرًا كَانَ قَبُولُهُ بِالْقَوْلِ عَلَى الْفَوْرِ فَيَقُولُ قَدْ قَبِلْتُ أَوْ قَدْ تَقَلَّدْتُ فَيَتِمُّ عَقْدُ التَّقْلِيدِ . وَلِصِحَّةِ هَذَا الْقَبُولِ شَرْطَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْمُوَلِّي عَالِمًا بِأَنَّ الْمُوَلَّى مُسْتَحِقٌّ لِلْوِلَايَةِ الَّتِي اسْتَنَابَهُ فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ اسْتِحْقَاقَهُ لَهَا لَمْ يَصِحَّ قَبُولُهُ .

وَالثَّانِي : أَنْ يَعْلَمَ الْمُوَلَّى مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ مُسْتَكْمِلٌ لِلشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْقَضَاءِ فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَكْمِلْهَا لَمْ يَصِحَّ قَبُولُهُ وَكَانَ بِالْقَبُولِ مَجْرُوحًا . وَإِنْ كَانَ غَائِبًا جَازَ أَنْ يَكُونَ قَبُولُهُ عَلَى التَّرَاخِي . فَإِنْ شَرَعَ فِي النَّظَرِ قَبْلَ الْقَبُولِ فَهَلْ يَكُونُ شُرُوعُهُ فِيهِ قَبُولًا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ قَبُولًا كَالنُّطْقِ فَعَلَى هَذَا تَكُونُ أَحْكَامُهُ نَافِذَةً . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَكُونُ قَبُولًا حَتَّى يُصَرِّحَ بِالْقَبُولِ نُطْقًا لِأَنَّ الشُّرُوعَ فِي النَّظَرِ فَرْعٌ لِعَقْدِ الْوِلَايَةِ فَلَمْ يَفْقِدْ بِهِ قَبُولَهَا ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ أَحْكَامُهُ مَرْدُودَةً .

فَصْلٌ : لُزُومُ الْعَقْدِ وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّالِثُ وَهُوَ لُزُومُ الْعَقْدِ التقليد على القضاء : فَهُوَ مُعْتَبَرٌ فِي لُزُومِهِ لِأَهْلِ الْعَمَلِ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي لُزُومِهِ لِلْمُوَلِّي وَالْمُوَلَّى لِأَنَّهُ فِي حَقِّهِمَا مِنَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ دُونَ اللَّازِمَةِ لِأَنَّهَا اسْتِنَابَةٌ كَالْوَكَالَةِ . وَلَا يَلْزَمُ فِي حَقِّ الْمُسْتَنِيبِ وَلَا فِي حَقِّ الْمُسْتَنَابِ . وَيَجُوزُ لِلْمُوَلِّي أَنْ يَعْزِلَهُ إِذَا شَاءَ . وَالْأَوْلَى بِالْمُوَلِّي أَنْ لَا يَعْزِلَهُ إِلَّا مِنْ عُذْرٍ . وَأَنْ لَا يَعْزِلَ الْمُوَلَّى نَفْسَهُ إِلَّا لِعُذْرٍ . فَإِنْ كَانَ الْعَزْلُ مِنَ الْمُوَلِّي إِشَاعَةً حَتَّى لَا يَنْظُرَ الْمُوَلَّى بَعْدَ الْعَزْلِ فَإِنْ نَظَرَ بَعْدَهُ وَقَبْلَ عِلْمِهِ بِالْعَزْلِ كَانَ فِي نُفُوذِ أَحْكَامِهِ وَجْهَانِ كَعَقْدِ الْوَكِيلِ بَعْدَ عَزْلِهِ وَقَبْلَ عِلْمِهِ . وَإِنْ كَانَ الِاعْتِزَالُ مِنَ الْمُوَلَّى إِشَاعَةً لِيُقَلِّدَ الْمُوَلِّي غَيْرَهُ فَإِنْ حَكَمَ بَعْدَ اعْتِزَالِهِ رُدَّ حُكْمُهُ . فَأَمَّا أَهْلُ الْعَمَلِ فَالتَّقْلِيدُ لَازِمٌ فِي حُقُوقِهِمْ بِإِظْهَارِ الطَّاعَةِ وَالْتِزَامِ الْحُكْمِ . فَإِنِ امْتَنَعُوا مِنِ الْتِزَامِهِ لِعُذْرٍ أَوْضَحُوهُ وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ أُرْهِبُوا . فَإِنْ أَقَامُوا عَلَى الِامْتِنَاعِ حُورِبُوا لِأَنَّ الْتِزَامَ الْقَضَاءِ مِنَ الْفُرُوضِ فَإِذَا امْتَنَعُوا مِنِ الْتِزَامِهِ حُورِبُوا عَلَيْهِ كَمَا يُحَارَبُونَ عَلَى امْتِنَاعِهِمْ مِنَ الْفُرُوضِ ، وَلُزُومُ الطَّاعَةِ صِحَّةُ التَّقْلِيدِ . وَعِلْمُهُمْ بِهَا مُخْتَلِفٌ بِقُرْبِهِمْ وَبُعْدِهِمْ . فَإِنْ بَعُدُوا مِنْ أَنْ يَشِيعَ خَبَرُ التَّقْلِيدِ فِيهِمْ أَشْهَدَ الْمَوْلَى عَلَى نَفْسِهِ شَاهِدَيْنِ بِالتَّقْلِيدِ وَالْعَهْدِ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ الْوِلَايَةُ بَعْدَ قِرَاءَتِهِ عَلَيْهِمَا وَعِلْمِهِمَا بِمَا فِيهِ حَتَّى يَشْهَدَا بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْعَمَلِ ، فَإِنْ عَرَفُوا عَدَالَتَهُمَا لَزِمَتْهُمُ الطَّاعَةُ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفُوهَا لَمْ تَلْزَمْهُمُ الطَّاعَةُ حَتَّى يَكْشِفُوا عَنِ الْعَدَالَةِ .

وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ بِهَا شَاهِدَانِ وَوَرَدَ الْقَاضِي الْمُوَلَّى فَأَخْبَرَهُمْ بِوِلَايَتِهِ لَا تَلْزَمُهُمُ الطَّاعَةُ إِنْ لَمْ يُصَدِّقُوهُ . وَفِي لُزُومِهَا لَهُمْ إِنْ صَدَّقُوهُ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : تَلْزَمُهُمْ لِأَنَّهُمُ اعْتَرَفُوا بِحَقِّهِ عَلَيْهِمْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا تَلْزَمُهُمْ لِمَا يَتَضَمَّنُهَا مِنْ إِقْرَارِهِمْ عَلَى الْمُوَلَّى . وَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ قَرِيبًا مِنَ الْمُوَلَّى أَشَاعَ الْوِلَايَةَ حَتَّى يَسْتَفِيضَ بِهَا الْخَبَرُ . وَفِي اكْتِفَائِهِ بِالْإِشَاعَةِ عَنِ الشَّهَادَةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَكْتَفِي بِهَا لِأَنَّهَا أَوْكَدُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَكْتَفِي بِهَا حَتَّى يَشْهَدَ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ أَخَصُّ . فَإِنْ جُعِلَتِ الْإِشَاعَةُ كَافِيَةً لَزِمَتِ الطَّاعَةُ وَإِنْ لَمْ تُجْعَلْ كَافِيَةً لَمْ تَلْزَمِ الطَّاعَةُ . وَلَيْسَ كَتْبُ الْعَهْدِ شَرْطًا فِي التَّقْلِيدِ ، قَدْ كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ كِتَابًا وَلَمْ يَكْتُبْ لِمُعَاذٍ ، وَاقْتَصَرَ عَلَى وَصِيَّتِهِ وَإِنَّمَا يُرَادُ الْعَهْدُ لِيَكُونَ شَاهِدًا بِمَا تَضَمَّنُهُ مِنْ صِفَاتِ التَّقْلِيدِ وَشُرُوطِهِ .

هَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبُ الْقَاضِي مُوَافِقًا لِمَذْهَبِ الْإِمَامِ

هَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبُ الْقَاضِي مُوَافِقًا لِمَذْهَبِ الْإِمَامِ ؟ وَلَا يَلْزَمُ فِي تَقْلِيدِ الْقَضَاءِ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبُ الْمُوَلَّى مُوَافِقًا لِمَذْهَبِ الْمُوَلِّي ، وَلَا يَمْنَعُ اخْتِلَافُ مَذْهَبَيْهِمَا مِنَ التَّقْلِيدِ بَيْنَهُمَا فَيَجُوزُ لِلشَّافِعِيِّ أَنْ يُقَلِّدَ حَنَفِيًّا وَلِلْحَنَفِيِّ أَنْ يُقَلِّدَ شَافِعِيًّا لِأَنَّ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ بِمَذْهَبِهِ لَا بِمَذْهَبِ غَيْرِهِ وَيَعْمَلَ عَلَى اجْتِهَادِ نَفْسِهِ لَا عَلَى اجْتِهَادِ غَيْرِهِ .

حُكْمُ الْقَاضِي بِغَيْرِ مَذْهَبِهِ

حُكْمُ الْقَاضِي بِغَيْرِ مَذْهَبِهِ : فَإِنْ كَانَ شَافِعِيًّا فَأَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ فِي قَضِيَّةٍ أَنْ يَحْكُمَ بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ جَازَ ، وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَمْنَعُ مَنِ اعْتَزَى إِلَى مَذْهَبٍ أَنْ يَحْكُمَ بِغَيْرِهِ لِتَوَجُّهِ التُّهْمَةِ إِلَيْهِ وَهَذَا وَإِنْ كَانَتِ السِّيَاسَةُ تَقْتَضِيهِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْمَذَاهِبِ وَتَمَيُّزِ أَهْلِهَا . فَحُكْمُ الشَّرْعِ لَا يُوجِبُهُ لِمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الِاجْتِهَادِ فِي كُلِّ حُكْمٍ طَرِيقَةُ الِاجْتِهَادِ . فَإِذَا قَضَى فِي حُكْمٍ بِاجْتِهَادٍ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَقْضِيَ فِيهِ مِنْ بَعْدُ لَزِمَهُ إِعَادَةُ الِاجْتِهَادِ . فَإِنْ أَدَّاهُ إِلَى خِلَافِ الْأَوَّلِ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْحُكْمَيْنِ مَاضِيًا وَقَدْ شَرِكَ عُمَرُ فِي عَامٍ ، وَلَمْ يَشْرَكْ فِي عَامٍ وَقَالَ هَذِهِ عَلَى مَا قَضَيْنَا وَتِلْكَ عَلَى مَا قَضَيْنَا . هَلْ لِلْإِمَامِ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى الْقَاضِي الْقَضَاءَ بِمَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ ؟ فَإِنْ شَرَطَ الْمُوَلِّي عَلَى الْمُوَلَّى فِي عَقْدِ التَّقْلِيدِ أَنْ لَا يَحْكُمَ إِلَّا بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ

أَوْ بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ عَامًّا . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ خَاصًّا . فَإِنْ كَانَ عَامًّا : فَقَالَ لَا يَحْكُمُ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ إِلَّا بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَوْ بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ كَانَ هَذَا الشَّرْطُ بَاطِلًا سَوَاءٌ كَانَ مُوَافِقًا لِمَذْهَبِ الْمُوَلَّى أَوْ مُخَالِفًا ، لِأَنَّهُ قَدْ مَنَعَهُ مِنَ الِاجْتِهَادِ فِيمَا يَجِبُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ . فَأَمَّا صِحَّةُ التَّقْلِيدِ وَفَسَادُهُ فَمُعْتَبَرٌ بِشَرْطِهِ . فَإِنْ عَدَلَ بِهِ عَنْ لَفْظِ الشَّرْطِ وَأَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْأَمْرِ فَقَالَ احْكُمْ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَوْ أَخْرِجْهُ مَخْرَجَ النَّهْيِ فَقَالَ لَا تَحْكُمْ بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ صَحَّ التَّقْلِيدُ وَإِنْ بَطَلَ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَاهُ عَنْهُ . وَإِنْ جَعَلَهُ بِلَفْظِ الشَّرْطِ فِي الْعَقْدِ فَقَالَ عَلَى أَنْ تَحْكُمَ بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ إِنْ جَعَلَهُ أَمْرًا أَوْ عَلَى أَنْ لَا تَحْكُمَ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ، إِنْ جَعَلَهُ نَهْيًا بَطَلَ التَّقْلِيدُ لِفَسَادِ الشَّرْطِ لِأَنَّهُ مَعْقُودٌ عَلَى شَرْطٍ فَاسِدٍ . وَقَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ لَا يَبْطُلُ التَّقْلِيدُ وَإِنْ بَطَلَ الشَّرْطُ كَمَا لَوْ لَمْ يَخْرُجْ فِي الْعَقْدِ مَخْرَجَ الشَّرْطِ . وَفَرْقُ مَا بَيْنَهُمَا يَمْنَعُ مِنْ تَسَاوِي حُكْمِهِمَا . وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ خَاصًّا فِي حُكْمٍ بِعَيْنِهِ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا أَوْ نَهْيًا . فَإِنْ كَانَ أَمْرًا فَقَالَ أَفْدِ الْمُسْلِمَ بِالْكَافِرِ وَمِنَ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ كَانَ أَمْرُهُ بِهَذَا الشَّرْطِ فَاسِدًا . فَإِنْ تَجَرَّدَ عَنْ لَفْظِ الشَّرْطِ صَحَّ التَّقْلِيدُ مَعَ فَسَادِ الشَّرْطِ . وَإِنْ قَرَنَهُ بِلَفْظِ الشَّرْطِ بَطَلَ التَّقْلِيدُ لِفَسَادِ الشَّرْطِ . وَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ نَهْيًا : فَعَلَى ضَرْبَيْنِ . أَحَدُهُمَا : أَنْ يَنْهَاهُ عَنِ الْحُكْمِ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ وَالْحُرِّ بِالْعَبْدِ وَلَا يَقْضِي فِيهِ بِوُجُوبِ قَوَدٍ وَلَا بِإِسْقَاطِهِ فَهَذَا شَرْطٌ فَاسِدٌ وَتَقْلِيدٌ صَحِيحٌ لِأَنَّهُ اقْتَصَرَ بِوِلَايَتِهِ عَلَى مَا عَدَاهُ فَصَارَ خَارِجًا مِنْ نَظَرِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَنْهَاهُ عَنِ الْحُكْمِ فِيهِ وَيَنْهَاهُ عَنِ الْقَضَاءِ بِالْقِصَاصِ : فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا النَّهْيِ هَلْ يُوجَبُ صَرْفُهُ عَنِ النَّظَرِ فِيهِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : يَكُونُ صَرْفًا عَنِ النَّظَرِ فِيهِ فَلَا يَحْكُمُ فِيهِ بِإِيجَابِ قَوَدٍ وَلَا بِإِسْقَاطِهِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ التَّقْلِيدُ صَحِيحًا فِيمَا عَدَاهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي الصَّرْفَ وَيَصِيرُ النَّهْيُ عَنْهُ أَمْرًا بِضِدِّهِ أَنْ يَقْتَصَّ مِنَ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ وَمِنَ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ . فَإِنْ تَجَرَّدَ عَنْ لَفْظِ الشَّرْطِ صَحَّ التَّقْلِيدُ مَعَ فَسَادِ الشَّرْطِ وَحَكَمَ فِيهِ بِمَا يُؤَدِّيهِ اجْتِهَادُهُ إِلَيْهِ مِنْ وُجُوبِ الْقَوَدِ أَوْ إِسْقَاطِهِ . وَإِنِ اقْتَرَنَ بِلَفْظِ الشَّرْطِ بَطَلَ التَّقْلِيدُ لِفَسَادِ الشَّرْطِ ، وَإِنْ حَكَمَ الْعِرَاقِيُّونَ بِصِحَّتِهِ مَعَ فَسَادِ الشَّرْطِ .

فَصْلٌ سَبْرُ الْإِمَامِ أَحْوَالَ الْبِلَادِ قَبْلَ التَّقْلِيدِ

فَصْلٌ : سَبْرُ الْإِمَامِ أَحْوَالَ الْبِلَادِ قَبْلَ التَّقْلِيدِ : فَإِذَا اسْتَقَرَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَحْكَامِ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ وَأَقْسَامِهَا فَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَسْبُرَ أَحْوَالَ الْبِلَادِ فِي الْقَضَاءِ وَيَكْشِفَ عَنْ أَحْوَالِ الْقُضَاةِ فِيهَا . فَإِذَا عَلِمَ أَنَّ فِي الْبَلَدِ قَاضِيًا مُسْتَحِقًّا لِلنَّظَرِ سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُهُ . وَإِنْ عَلِمَ أَنْ لَا قَاضِيَ فِيهِ أَوْ فِيهِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ النَّظَرَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُقَلِّدَ فِيهِ قَاضِيًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَرْضًا مُتَعَيِّنًا . فَإِنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ مَنْ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ كَانَ تَقْلِيدُهُ لِمَعْرِفَتِهِ بِهِ وَبِأَهْلِهِ أَوْلَى مِنْ تَقْلِيدِ الْغَرِيبِ . فَإِنْ عَدَلَ عَنْهُ إِلَى غَرِيبٍ صَحَّ تَقْلِيدُهُ . تَقْلِيدُ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ للقضاء : فَإِنْ قَلَّدَ الْإِمَامُ غَيْرَ مُعَيَّنٍ فَقَالَ مَنْ نَظَرَ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ فِي قَضَائِهَا فَهُوَ مُقَلَّدٌ مِنْ جِهَتِي لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ . فَإِنْ قَالَ : مَنْ نَظَرَ فِيهِ مِنْ عُلَمَائِهِ فَقَدْ قَلَّدْتُهُ لَمْ يَجُزْ لِلْجَهْلِ بِهِ . فَإِنْ ذَكَرَ عَدَدَ الصُّوَرِ فَقَالَ إِنْ نَظَرَ فِيهِ يَزِيدُ أَوْ عَمْرٌو أَوْ بَكْرٌ فَقَدْ قَلَّدْتُهُ لَمْ يَجُزْ أَيْضًا لِأَنَّ الْمُقَلَّدَ مِنْهُمْ مَجْهُولٌ . وَلَوْ قَالَ إِنْ نَظَرَ فِي قَضَاءِ الْبَصْرَةِ زَيْدٌ فَقَدْ قَلَّدْتُهُ لَمْ يَصِحَّ تَقْلِيدُهُ وَإِنْ نَظَرَ فِيهِ لِأَنَّهُ عَقْدٌ عُلِّقَ بِشَرْطٍ . وَلَكِنْ لَوْ ذَكَرَ عَدَدًا أَسْمَاهُمْ وَقَلَّدَهُمْ ثُمَّ قَالَ فَأَيُّهُمْ نَظَرَ فِيهِ فَهُوَ الْقَاضِي دُونَ غَيْرِهِ صَحَّ التَّقْلِيدُ فِي النَّاظِرِ سَوَاءٌ قَلَّ الْعَدَدُ أَوْ كَثُرَ لِأَنَّهُ جَعَلَ نَظَرَهُ عَزْلًا لِغَيْرِهِ ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ شَرْطًا فِي تَقْلِيدِهِ .

وَلَوْ جَعَلَهُمْ جَمِيعًا نَاظِرِينَ فِيهِ بَطَلَ تَقْلِيدُهُمْ إِنْ كَثُرُوا ، وَفِي صِحَّتِهِ وَإِنْ قَلُّوا وَجْهَانِ عَلَى مَا مَضَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ الْقَضَاءُ فِي مَوْضِعٍ بَارِزٍ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : أُحِبُّ أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي فِي مَوْضِعٍ بَارِزٍ لِلنَّاسِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . وَهُوَ مِنْ آدَابِ الْقَضَاءِ دُونَ أَحْكَامِهِ . فَأَوَّلُ آدَابِهِ إِذَا وَرَدَ بَلَدَ عَمَلِهِ أَنْ يُعْلِمَهُمْ قَبْلَ دُخُولِهِ بِوُرُودِهِ قَاضِيًا فِيهِ إِمَّا بِكِتَابٍ أَوْ رَسُولٍ لِيَعْلَمَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ مُوَافَقَةٍ أَوِ اخْتِلَافٍ . فَإِنِ اتَّفَقُوا جَمِيعًا عَلَى طَاعَتِهِ دَخَلَ . وَإِنِ اتَّفَقُوا جَمِيعًا عَلَى مُخَالَفَتِهِ تَوَقَّفَ ، وَاسْتَطْلَعَ رَأْيَ الْإِمَامِ . اسْتِصْحَابُ كِتَابِ الْإِمَامِ : وَالْأَوْلَى أَنْ يَسْتَصْحِبَ الْقَاضِي كِتَابَ الْإِمَامِ إِلَى أَمِيرِ الْبَلَدِ بِتَقْلِيدِهِ الْقَضَاءَ من آداب القاضي حَتَّى يَجْمَعَهُمْ عَلَى طَاعَتِهِ جَبْرًا إِنْ خَالَفُوهُ . فَإِنْ وَافَقَهُ بَعْضُهُمُ اعْتُبِرَ حَالُ مُوَافَقِيهِ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ عَدَدًا مِنْ مُخَالِفِيهِ وَأَقْوَى يَدًا دَخَلَ . تَوْطِيدُ الْإِمَامِ السُّبُلَ لِلْقَاضِي : وَإِنْ كَانُوا أَقَلَّ عَدَدًا وَأَضْعَفَ يَدًا تَوَقَّفَ وَعَلَى الْإِمَامِ رَدُّ مُخَالِفِيهِ إِلَى طَاعَتِهِ وَلَوْ بِقِتَالِهِمْ عَلَيْهِ حَتَّى يُذْعِنُوا بِالطَّاعَةِ وَلْيُعِنْهُ بِمَا يَنْفُذُ أَمْرُهُ فِيهِمْ وَيَبْسُطُ يَدَهُ عَلَيْهِمْ لِيَقْدِرَ عَلَى الِانْتِصَافِ مِنَ الْقَوِيِّ لِلضَّعِيفِ وَمِنَ الشَّرِيفِ لِلْمَشْرُوفِ فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " إِنَّ اللَّهَ لَا يُقَدِّسُ أُمَّةً لَا يُؤْخَذُ لِلضَّعِيفِ فِيهِمْ حَقُّهُ " . ثُمَّ يُنَادِي فِي الْبَلَدِ إِنِ اتَّسَعَ بِوُرُودِهِ لِيَعْلَمَ بِهِ الدَّانِي وَالْقَاصِي وَالْخَاصُّ وَالْعَامُّ وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ ، فَيَكُونُ أَهْيَبَ فِي النُّفُوسِ وَأَعْظَمَ فِي الْقُلُوبِ . وَيُخْتَارُ أَنْ يَكُونَ دُخُولُهُ إِلَى الْبَلَدِ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ من آداب القاضي اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي دُخُولِهِ الْمَدِينَةَ عِنْدَ هِجْرَتِهِ إِلَيْهَا . وَيُخْتَارُ أَنْ يَسْكُنَ فِي وَسَطِ الْبَلَدِ لِيَقْرُبَ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِهِ من آداب القاضي كَمَا يُقْبِلُ الْإِمَامُ بِوَجْهِهِ فِي الْخُطْبَةِ قَصْدَ وَجْهِهِ لِيَعُمَّ جَمِيعَ النَّاسِ .

وَيُخْتَارُ أَنْ يَبْدَأَ بِقِرَاءَةِ عَهْدِهِ قَبْلَ نَظَرِهِ من آداب القاضي لِيَعْلَمَ النَّاسُ مَا تَضَمَّنُهُ مِنْ حُدُودِ عَمَلِهِ وَمِنْ صِفَةِ وِلَايَتِهِ فِي عُمُومٍ أَوْ خُصُوصٍ فَيَجْمَعُ النَّاسَ لِقِرَاءَتِهِ فِي أَفْسَحِ بِقَاعِهِ مِنْ جَوَامِعِهِ وَمَسَاجِدِهِ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ طَاعَةَ اللَّهِ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ . ثُمَّ يَنْظُرُ بَعْدَ قِرَاءَتِهِ وَلَوْ بَيْنَ خَصْمَيْنِ من آداب القاضي لِتَسْتَقِرَّ [ بِهِ ] . وِلَايَتُهُ بِالنَّظَرِ وَيَتَوَطَّأُ لَهُ الْخُصُومُ فِي الْحُكْمِ وَلِيَعْلَمَ النَّاسُ قَدْرَ عِلْمِهِ وَضَعْفِهِ .

فَصْلٌ : ثُمَّ يُقَرِّرُ أَمْرَيْنِ يَعْتَمِدُهَا الْخُصُومُ فِي نَظَرِهِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَجْعَلَ مَجْلِسَ نَظَرِهِ مِنْ بَعْدِ مَعْرُوفِ الْمَكَانِ مَخْصُوصًا بِالنَّظَرِ فِي الْأَحْكَامِ حَتَّى لَا يَسْأَلُوا عَنْهُ إِنْ خَفِيَ عَلَيْهِمْ وَلَا يَعْدِلُوا عَنْهُ إِنْ نَظَرَ فِي غَيْرِ أَحْكَامِهِمْ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ زَمَانُ نَظَرِهِ مُعَيَّنًا عَلَيْهِ مِنَ الْأَيَّامِ لِيَتَأَهَّبُوا فِيهِ لِلتَّحَاكُمِ إِلَيْهِ . فَإِنْ كَثُرَتِ الْمُحَاكَمَاتُ وَلَمْ يَتَّسِعْ لَهَا بَعْضُ الْأَيَّامِ لَزِمَهُ النَّظَرُ فِي كُلِّ يَوْمٍ . وَيَكُونُ وَقْتُ نَظَرِهِ مِنَ الْيَوْمِ مَعْرُوفًا من آداب القاضي لِيَكُونَ بَاقِيهِ مَخْصُوصًا بِالنَّظَرِ فِي أُمُورِ نَفْسِهِ وَرَاحَتِهِ وَدَعَتِهِ . وَإِنْ قَلَّتِ الْمُحَاكَمَاتُ وَاتَّسَعَ لَهَا بَعْضُ الْأَيَّامِ جَعَلَ يَوْمَ نَظَرِهِ فِي الْأُسْبُوعِ مَخْصُوصًا بِحَسَبِ الْحَاجَةِ فِيهِ مِنْ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ ، مُعْتَبِرًا بِقَدْرِ الْحَاجَةِ حَتَّى يَسْتَعِدَّ النَّاسُ لِلتَّحَاكُمِ فِيهِ . فَإِنْ تَجَدَّدَ فِي غَيْرِ يَوْمِ النَّظَرِ مَا لَا يُمْكِنُ تَأْخِيرُهُ فِيهِ ، نَظَرَ فِيهِ وَلَمْ يُؤَخِّرْهُ . وَيَخْتَارُ أَنْ تَكُونَ أَيَّامَ نَظَرِهِ مِنَ الْأُسْبُوعِ : السَّبْتُ وَالِاثْنَيْنُ وَالْخَمِيسُ .

فَصْلٌ : الْقَضَاءُ فِي مَوْضِعٍ بَارِزٍ قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَأُحِبُّ أَنْ يَقْضِيَ فِي مَوْضِعٍ بَارِزٍ لِلنَّاسِ . وَمُرَادُهُ بِهَذَا شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ لَا يَخْرُجَ مَعَ الْبُرُوزِ إِلَى الِاسْتِئْذَانِ عَلَيْهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ فَسِيحًا تَرْتَاحُ فِيهِ النُّفُوسُ وَلَا يُسْرَعُ فِيهِ الْمَالُ فَقَدْ قِيلَ : خَيْرُ الْمَجَالِسِ مَا سَافَرَ فِيهِ الْبَصَرُ وَاتَّدَعَ فِيهِ الْجَسَدُ . وَبِحَسَبِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ فِي نَقْلِ الْمُزَنِيِّ فِي مَوْضِعٍ بَارِزٍ لِلنَّاسِ فَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ بِالْخَفْضِ وَجَعَلَهُ صِفَةً لِلْمَوْضِعِ فِي الْفَسَاحَةِ وَالسَّعَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ رَوَاهُ بِالنَّصْبِ بَارِزًا لِلنَّاسِ وَجَعَلَهُ صِفَةً لِلْقَاضِي فِي ظُهُورِهِ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ .

وَلَئِنْ لَمْ يَحْتَجْ مَعَ بُرُوزِهِ إِلَى الْإِذْنِ عَلَيْهِ فَمِنْ أَدَبِ الْمُتَنَازِعِينَ أَنْ لَا يُبْدَأَ بِالدَّعْوَى إِلَّا بَعْدَ إِشْعَارِهِ وَإِذْنِهِ . فَإِنْ نَظَرَ بَيْنِهِمْ فِي دَارِهِ الَّتِي لَا يَدْخُلُهَا أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ جَازَ وَلَمْ يُكْرَهْ وَإِنْ قَلَّ . رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ قَالَتِ اخْتَصَمَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : رَجُلَانِ مِنَ الْأَنْصَارِ فِي مَوَارِيثَ مُتَقَادِمَةٍ ، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَهُمَا فِي بَيْتِي " وَكَانَ بَيْنَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مُنَازَعَةٌ فَأَتَيَا زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فِي بَيْتِهِ فَقَضَى بَيْنَهُمَا وَقَالَ لِعُمَرَ : لَوْ أَمَرْتَنِي لَجِئْتُ فَقَالَ عُمَرُ : فِي بَيْتِهِ يُؤْتَى الْحَكَمُ . فَإِنْ كَثُرَتِ الْمُحَاكَمَاتُ عَدَلَ عَنِ النَّظَرِ فِي دَارِهِ الَّتِي تُحْوِجُ إِلَى الِاسْتِئْذَانِ إِلَى الْمَجْلِسِ الَّذِي وَصَفْنَاهُ بِالشَّرْطَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ وَإِنْ كَانَ حُكْمُهُ نَافِذًا فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا .

كَرَاهَةُ اتِّخَاذِ الْحَاجِبِ

كَرَاهَةُ اتِّخَاذِ الْحَاجِبِ : مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " لَا يَكُونُ دُونَهُ حِجَابٌ اتخاذ الحاجب من قبل القاضي " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ يُكْرَهُ لِلْقَاضِي أَنْ يَكُونَ مُحْتَجِبًا لِمَا ذَكَرْنَاهُ . وَيُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَاجِبٌ عَلَى إِذْنِهِ يَكُونُ وَصُولُ الْمُتَنَازِعِينَ إِلَيْهِ مَوْقُوفًا عَلَى إِذْنِهِ . رَوَى الْقَاسِمُ بْنُ مُخَيْمِرَةَ عَنْ أَبِي مَرْيَمَ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " مَنْ وَلِيَ مِنْ أُمُورِ النَّاسِ شَيْئًا فَاحْتَجَبَ دُونَ حَاجَتِهِمْ وَفَاقَتِهِمُ احْتَجَبَ اللَّهُ دُونَ فَاقَتِهِ وَفَقْرِهِ " . وَقَلَّدَ عُمَرُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ الْكُوفَةَ فَقَضَى فِيهَا زَمَانًا بِغَيْرِ حَاجِبٍ ثُمَّ اتَّخَذَ حَاجِبًا فَعَزَلَ عُمَرُ حَاجِبَهُ ، وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا مَنَعَ الْحَاجِبُ ذَا ظُلَامَةٍ لِهَوًى ، وَرُبَّمَا اسْتَعْجَلَ عَلَى الْإِذْنِ وَارْتَشَى . فَإِنِ اتَّخَذَ حَاجِبًا فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْحُكْمِ لَمْ يُكْرَهْ لَهُ . بَلْ إِذَا احْتَجَبَ عَنِ النَّاسِ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْحُكْمِ وَزَمَانِهِ كَانَ أَحْفَظَ لِحِشْمَتِهِ وَأَعْظَمَ لِهَيْبَتِهِ . وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَقُولُ : إِنَّمَا يُكْرَهُ لِلْقَاضِي اتِّخَاذُ الْحَاجِبِ فِي زَمَانِ الِاسْتِقَامَةِ

وَسِدَادِ أَهْلِهِ فَأَمَّا فِي زَمَانِ الِاخْتِلَاطِ وَالتَّهَارُجِ وَاسْتِطَالَةِ السُّفَهَاءِ وَالْعَامَّةِ فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَتَّخِذَ حَاجِبًا يَحْفَظُ هَيْبَةَ نَظَرِهِ وَيَمْنَعُ مِنِ اسْتِطَالَةِ الْخُصُومِ . فَأَمَّا الْأَئِمَّةُ فَلَا يُكْرَهُ لَهُمُ اتِّخَاذُ الْحُجَّابِ بَلْ يُسْتَحَبُّ لَهُمْ بِخِلَافِ الْقُضَاةِ لِأَنَّهُمْ يَنْظُرُونَ فِي عُمُومِ الْأُمُورِ فَاحْتَاجُوا أَنْ يُفْرِدُوا لِكُلِّ نَظَرٍ وَقْتًا يَحْرُسُهُ الْحُجَّابُ عَلَيْهِمْ وَيَمْنَعُوا مِنْ دُخُولِ أَصْنَافِ النَّاسِ فِي غَيْرِ أَوْقَاتِهِمْ ، وَقَدْ كَانَ يَرْفَأُ حَاجِبًا - لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَاجْتَمَعَ عَلَى بَابِهِ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَسَلْمَانُ وَبِلَالٌ وَصُهَيْبٌ وَجَمَاعَةٌ مِنْ وُجُوهِ الْعَرَبِ فَأَذِنَ لِسَلْمَانَ وَبِلَالٍ وَصُهَيْبٍ فَتَمَعَّرَ وَجْهُ أَبِي سُفْيَانَ فَقَالَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو : يَا أَبَا سُفْيَانَ : إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ دُعُوا وَدُعِيتَ فَأَجَابُوا وَتَأَخَّرْتَ ، وَلَئِنْ حَسَدْتَهُمُ الْيَوْمَ عَلَى بَابِ عُمَرَ لَأَنْتَ غَدًا أَشَدُّ حَسَدًا لَهُمْ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ وَلَوْلَا الْحُجَّابُ لَمَا تَمَيَّزَ هَؤُلَاءِ بِالسَّابِقَةِ وَلَا تَرَتَّبَ النَّاسُ بِحَسَبِ فَضَائِلِهِمْ وَأَقْدَارِهِمْ ، وَاسْتَصْعَبَ الْإِذْنُ عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةِ فِي خَلْوَةٍ أَرَادَهَا مَعَ عُمَرَ - فَرَشَا يَرْفَأَ حَتَّى سَهَّلَ لَهُ الْإِذْنَ عَلَيْهِ ، وَكَانَ يَسْأَلُ يَرْفَأَ أَنْ يُجْلِسَهُ فِي الدِّهْلِيزِ إِذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْوُصُولُ حَتَّى يَظُنَّ النَّاسُ أَنَّهُ قَدْ وَصَلَ حَتَّى تَبْدُوَ لَهُ مَنْزِلَةُ الِاخْتِصَاصِ بِعُمَرَ فَكَانَ الْمُغِيرَةُ أَوَّلَ مَنْ رَشَا وَيَرْفَأُ أَوَّلَ مَنِ ارْتَشَى فِي الْإِسْلَامِ . وَمِنْ مِثْلِ هَذَا كُرِهَ الْحُجَّابُ لِأَنَّ الْحَاجِبَ رُبَّمَا فَعَلَ مَا لَا يَرَاهُ الْمُحْتَجِبُ ، وَقَدْ كَانَ الْحَسَنُ حَاجِبَ عُثْمَانَ وَقَنْبَرٌ حَاجِبَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - . شُرُوطُ الْحَاجِبِ : وَالشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي هَذَا الْحَاجِبِ اتخاذ القاضي للحاجب نَوْعَانِ : وَاجِبٌ وَمُسْتَحَبٌّ . فَأَمَّا الْوَاجِبُ : فَثَلَاثَةٌ : الْعَدَالَةُ وَالْعِفَّةُ وَالْأَمَانَةُ . وَأَمَّا الْمُسْتَحَبُّ : فَخَمْسَةٌ : أَنْ يَكُونَ حَسَنَ الْمَنْظَرِ جَمِيلَ الْمَخْبَرِ عَارِفًا بِمَقَادِيرِ النَّاسِ بَعِيدًا عَنِ الْهَوَى وَالْعَصَبِيَّةِ مُعْتَدِلَ الْأَخْلَاقِ بَيْنَ الشَّرَاسَةِ وَاللِّينِ .

الْقَضَاءُ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ وَكَرَاهَةُ الْقَضَاءِ فِيهِ

الْقَضَاءُ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ وَكَرَاهَةُ الْقَضَاءِ فِيهِ : مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَأَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ لِكَثْرَةِ الْغَاشِيَةِ وَالْمُشَاتَمَةِ بَيْنَ الْخُصُومِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْقَضَاءُ فِي الْمَسْجِدِ حكمه فَلَا يُكْرَهُ فِي حَالَتَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي تَغْلِيظِ الْأَيْمَانِ بِهِ إِذَا لَزِمَ تَغْلِيظُهَا بِالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَلَّظَ لِعَانَ الْعَجْلَانِيِّ فِي مَسْجِدِهِ ، وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَحْضُرَ الْقَاضِي الصَّلَاةَ فَيَتَّفِقُ حُضُورُ خَصْمَيْنِ إِلَيْهِ فَلَا يُكْرَهُ لَهُ تَعْجِيلُ النَّظَرِ بَيْنَهُمَا فِيهِ قَدْ قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

فِي مَسْجِدِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَكَذَلِكَ مَنْ قَضَى مِنَ الْأَئِمَّةِ بَعْدَهُ : لِأَنَّ حُضُورَهُمْ فِي الْمَسَاجِدِ لَمْ يَكُنْ مَقْصُورًا عَلَى الْقَضَاءِ فِيهِ . وَأَمَّا مَا عَدَا هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ أَنْ يَجْعَلَ الْمَسْجِدَ مَجْلِسًا لِقَضَائِهِ بَيْنَ الْخُصُومِ فَمَكْرُوهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ . وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ : لَا يُكْرَهُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي كَرَاهَتِهِ رِوَايَتَانِ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ الشَّعْبِيِّ قَالَ : رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ مُسْتَنِدًا إِلَى الْقِبْلَةِ يَقْضِي فِي الْمَسَاجِدِ . وَقَالَ الْحَسَنُ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَرَأَيْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ قَدْ أَلْقَى رِدَاءَهُ عَلَى كَوْمَةِ خَطَّارٍ وَنَامَ عَلَيْهِ وَأَتَاهُ سَقَّاءٌ بِقِرْبَتِهِ وَمَعَهُ خَصْمٌ فَجَلَسَ عُثْمَانُ وَقَضَى بَيْنَهُمَا . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ كَانَ يَقْضِي بَيْنَ النَّاسِ فِي الْمَسْجِدِ . وَإِذَا كَانَ هَذَا مِنْ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْأَئِمَّةِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِهِ لَمْ يُكْرَهْ . وَدَلِيلُنَا عَلَى كَرَاهَتِهِ مَا رَوَاهُ ابْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعَ رَجُلًا يَنْشُدُ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ : " لَا وَجَدْتَهَا إِنَّمَا بُنِيَتِ الْمَسَاجِدُ لِذِكْرِ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ " فَدَلَّ عَلَى كَرَاهَةِ مَا عَدَاهُمَا فِيهِ . وَرَوَى مُعَاذٌ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ وَرَفْعَ أَصْوَاتِكُمْ وَخُصُومَاتِكُمْ وَحُدُودَكُمْ وَسَلَّ سُيُوفِكُمْ وَشِرَاءَكُمْ وَبَيْعَكُمْ " . وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَتَبَ إِلَى الْقُضَاةِ أَنْ لَا تَقْضُوا فِي الْمَسَاجِدِ . وَسَمِعَ عُمَرُ رَجُلًا يَصِيحُ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ لَهُ أَتَدْرِي أَيْنَ أَنْتَ : وَلِأَنَّ حُضُورَ الْخُصُومِ لَا يَخْلُو مِنْ لَغَطٍ وَمُنَابَذَةٍ وَرُبَّمَا تَعَدَّى إِلَى سَبٍّ وَمُشَاتَمَةٍ ، وَالْمَسَاجِدُ تُصَانُ عَنْ هَذَا ، وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ فِي الْخُصُومِ جُنُبٌ وَحَائِضٌ يَحْرُمُ عَلَيْهِمَا دُخُولُ الْمَسْجِدِ ، وَلِأَنَّ لَغَطَ الْخُصُومِ يَمْنَعُ خُشُوعَ الْمُصَلِّينَ ، وَسَوَاءٌ صَغُرَ الْمَسْجِدُ أَوْ كَبُرَ . فَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ مِنَ النَّظَرِ فِيهِ فَإِنَّمَا كَانَ نَادِرًا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : فِي أَرْفَقِ الْأَمَاكِنِ بِهِ وَأَحْرَاهَا أَنْ لَا تُسْرِعَ مَلَالَتُهُ فِيهِ صفة المكان . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : يُرِيدُ بِأَرْفَقِ الْأَمَاكِنِ بِهِ أَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ إِنِ احْتَاجَ فِيهِ إِلَى الْغَائِطِ أَوِ الْبَوْلِ قَدَرَ عَلَيْهِ وَإِنْ عَطَشَ شَرِبَ الْمَاءَ فِيهِ وَإِنْ جَاعَ أَكَلَ فِيهِ الطَّعَامَ ، لِأَنَّهَا أَحْوَالٌ لَا يَسْتَغْنِي الْقَاضِي عَنْهَا . وَيُرِيدُ بِقَوْلِهِ وَأَحْرَاهَا أَنْ لَا تُسْرِعَ مَلَالَتُهُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ يَقِي مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالشَّمْسِ وَالْمَطَرِ كَثِيرَ الضَّوْءِ حَتَّى لَا يَنَالَهُ أَذًى فَيَضَّجِرُ وَلَا سَآمَةٌ فَيَمَلَّ لِيَكُونَ عَلَى أَكْمَلِ أَحْوَالِهِ .

كَرَاهَةُ إِقَامَةِ الْحُدُودِ فِي الْمَسَاجِدِ

كَرَاهَةُ إِقَامَةِ الْحُدُودِ فِي الْمَسَاجِدِ : مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : وَأَنَا لِإِقَامَةِ الْحَدِّ فِي الْمَسْجِدِ أَكْرَهُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ أَنَّ إِقَامَةَ الْحُدُودِ فِي الْمَسَاجِدِ مَكْرُوهَةٌ . وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا غَيْرُ مَكْرُوهَةٍ لِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهَا أَشْهَرُ نَكَالًا وَأَبْلَغُ زَجْرًا كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ وَالثَّانِي أَنَّهُمَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ فَكَانَتِ الْمَسَاجِدُ بِهَا أَخَصَّ كَالْعِبَادَاتِ . وَدَلِيلُنَا مَا رَوَى عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " لَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي الْمَسَاجِدِ " وَقَدْ رَوَى حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى أَنْ تَقَعَ الْحُدُودُ فِي الْمَسَاجِدِ وَأَنْ يُسْتَقَادَ فِيهَا وَلِأَنَّ الْحُدُودَ رُبَّمَا أَرْسَلَتْ حَدَثًا وَأَنْهَرَتْ دَمًا ؛ وَصِيَانَةُ الْمَسْجِدِ مِنَ الْأَنْجَاسِ وَاجِبَةٌ ، وَلِأَنَّ صِيَاحَ الْمَحْدُودِ قَاطِعٌ لِخُشُوعِ الْمُصَلِّينَ . وَاسْتِدْلَالُهُ بِالْأَمْرَيْنِ مَدْخُولٌ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ فِيهِ مَا يَخَافُ مِنَ الْحُدُودِ .

لَا يَحْكُمُ وَهُوَ غَضْبَانُ

لَا يَحْكُمُ وَهُوَ غَضْبَانُ : مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : وَمَعْقُولٌ فِي قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " لَا يَحْكُمُ الْحَاكِمُ وَلًا يَقْضِي الْقَاضِيَ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ " أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي حِينَ يَحْكُمُ

فِي حَالٍ لَا يَتَغَيَّرُ فِيهَا خُلُقُهُ وَلَا عَقْلُهُ ؛ وَالْحَاكِمُ أَعْلَمُ بِنَفْسِهِ فَأَيُّ حَالٍ أَتَتْ عَلَيْهِ تَغَيَّرَ فِيهَا عَقْلُهُ أَوْ خُلُقُهُ انْبَغَى لَهُ أَنْ لَا يَقْضِيَ حَتَّى يَذْهَبَ وَأَيُّ حَالٍ صَارَ إِلَيْهِ فِيهَا سُكُونُ الطَّبِيعَةِ وَاجْتِمَاعُ الْعَقْلِ حَكَمَ وَإِنْ غَيَّرَهُ مَرَضٌ أَوْ حُزْنٌ أَوْ فَرَحٌ أَوْ جُوعٌ أَوْ نُعَاسٌ أَوْ مَلَالَةٌ تَرَكَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَعْتَمِدَ بِنَظَرِهِ ، الْوَقْتَ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ سَاكِنَ النَّفْسِ مُعْتَدِلَ الْأَحْوَالِ لِيَقْدِرَ عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي النَّوَازِلِ وَيَحْتَرِسَ مِنَ الزَّلَلِ فِي الْأَحْكَامِ . فَإِنْ تَغَيَّرَتْ حَالُهُ بِغَضَبٍ أَوْ حَرْدٍ تَغَيَّرَ فِيهَا عَقْلُهُ وَخُلُقُهُ تَوَقَّفَ عَنِ الْحُكْمِ احْتِرَازًا مِنَ الزَّلَلِ فِيهِ لِرِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي . أَنْ يَقْضِيَ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ " . وَرَوَى قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ وَأَبُو مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَيْهِ وَهُوَ بِسِجِسْتَانَ : أَمَّا بَعْدُ فَلَا تَقْضِ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَأَنْتَ غَضْبَانُ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : لَا يَحْكُمُ الْحَاكِمُ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ . لَا يَحْكُمُ إِلَّا وَهُوَ شَبْعَانُ رَيَّانُ : فَإِذَا لَحِقَ الْقَاضِي حَالٌ تَغَيَّرَ فِيهَا عَقْلُهُ أَوْ خُلُقُهُ أَوْ فَهْمُهُ مِنْ غَضَبٍ أَوْ حُزْنٍ أَوْ فَرَحٍ أَوْ مَرِضٍ أَوْ جُوعٍ أَوْ عَطَشٍ تَوَقَّفَ عَنِ الْحُكْمِ حَتَّى يَعُودَ إِلَى سُكُونِ نَفْسِهِ وَكَمَالِ عَقْلِهِ وَهُدُوءِ طَبْعِهِ وَظُهُورِ فَهْمِهِ وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " لَا يَقْضِي الْقَاضِي إِلَّا وَهُوَ شَبْعَانُ رَيَّانُ " . وَرَوَى أَبُو عَوَانَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ مَهْمُومٌ وَلَا مُصَابٌ مَحْزُونٌ ، وَلَا يَقْضِي وَهُوَ جَائِعٌ .

وَلَمَّا نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ وَهُوَ يُدَافِعُ الْأَخْبَثَيْنِ وَالصَّلَاةُ لَا تَحْتَاجُ مِنْ الِاجْتِهَادِ إِلَى مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الْأَحْكَامِ فَكَانَ . مَنْعُ الْأَخْبَثَيْنِ مِنَ الْقَضَاءِ أَوْلَى ، وَكَانَ الشَّعْبِيُّ يَأْكُلُ قَبْلَ الْفَجْرِ ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ آخُذُ حُكْمِي ثُمَّ أَخْرُجُ فَأَقْضِي بَيْنَ النَّاسِ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : وَالْحَاكِمُ أَعْلَمُ بِنَفْسِهِ فَأَيُّ حَالٍ أَتَتْ عَلَيْهِ تَغَيَّرَ بِهَا عَقْلُهُ أَوْ خُلُقُهُ انْبَغَى لَهُ أَنْ لَا يَقْضِيَ حَتَّى تَذْهَبَ . فَعَلَى هَذَا إِنْ قَضَى فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ الَّتِي مُنِعَ مِنَ الْقَضَاءِ فِيهَا نَفَذَ حُكْمُهُ إِنْ وَافَقَ الْحَقَّ ؛ لِأَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ وَرَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ اخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي شِرَاجِ الْحَرَّةِ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : اسْقِ زَرْعَكَ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ : أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ فَتَمَعَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ : اسْقِ زَرْعَكَ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ حَتَّى يَبْلُغَ أُصُولَ الْجَدْرِ فَكَانَ فِي الْحُكْمِ الْأَوَّلِ اسْتَنْزَلَ فِيهِ الزُّبَيْرَ عَنْ كَمَالِ حَقِّهِ ثُمَّ وَفَّاهُ فِي الْحُكْمِ الثَّانِي وَقَدْ أَمْضَاهُ فِي غَضَبِهِ فَدَلَّ عَلَى نُفُوذِ حُكْمِهِ .

فَصْلٌ : اسْتِيفَاءُ الْقَاضِي حَاجَاتِهِ الْأَسَاسِيَّةَ : فَإِذَا مَا ذَكَرْنَا فَيُخْتَارُ لِلْحَاكِمِ أَنْ لَا يَجْلِسَ لِلْحُكْمِ الْعَامِّ إِلَّا بَعْدَ سُكُونِ نَفْسِهِ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ حَتَّى لَا تَتُوقَ نَفْسُهُ إِلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَيَتَعَرَّضَ لِلْأَخْبَثَيْنِ وَيَسْتَوْفِيَ حَظَّهُ مِنَ النَّوْمِ وَالدَّعَةِ وَيَقْضِيَ وَطَرَهُ مِنَ الْجِمَاعِ حَتَّى يَغُضَّ طَرْفَهُ عَنِ الْحُرُمِ ، وَيَلْبِسَ مَا يَسْتَدْفِعُ بِهِ أَذَى وَقْتِهِ مِنْ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ وَيَفْرَغَ مِنْ مُهِمَّاتِ أَشْغَالِهِ لِئَلَّا يَهْتَمَّ بِمَا يَشْغَلُ خَاطِرَهُ عَنْ الِاجْتِهَادِ فِي الْأَحْكَامِ . وَيُصَلِّي عِنْدَ التَّأَهُّبِ لِلْجُلُوسِ رَكْعَتَيْنِ ، فَإِنْ كَانَ جُلُوسُهُ فِي مَسْجِدٍ كَانَتِ الصَّلَاةُ تَحِيَّةً مَسْنُونَةً فَيُصَلِّيهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَوْقَاتِ النَّهْيِ ، وَإِنْ كَانَ جُلُوسُهُ فِي غَيْرِ مَسْجِدٍ كَانَتِ الصَّلَاةُ تَطَوَّعًا فَيُصَلِّيهَا فِي غَيْرِ أَوْقَاتِ النَّهْيِ وَيَدْعُو اللَّهَ بَعْدَهَا بِمَا رَوَاهُ عَاصِمُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ قَالَ : " اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ أَوْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ " . وَكَانَ الشَّعْبِيُّ يَقُولُهُنَّ وَيَزِيدُ عَلَيْهِنَّ : أَوْ أَعْتَدِي أَوْ يُعْتَدَى عَلَيَّ ، اللَّهُمَّ أَعِنِّي بِالْعِلْمِ وَزَيِّنِّي بِالْحِلْمِ وَأَكْرِمْنِي بِالتَّقْوَى حَتَّى لَا أَنْطِقَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا أَقْضِيَ إِلَّا بِالْعَدْلِ ؛ وَيُسْتَحَبُّ

أَنْ يَقُولَ هَذَا إِذَا جَلَسَ لِلْحُكْمِ ثُمَّ يَشْرَعُ فِي نَظَرِهِ بَعْدَ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ فِي مَسْجِدٍ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيْرُ الْمَجَالِسِ مَا اسْتُقْبِلَ بِهِ الْقِبْلَةُ .

فَصْلٌ الْقَوْلُ فِيمَا يَبْدَأُ بِهِ الْقَاضِي بَعْدَ اسْتِقْرَارِ وِلَايَتِهِ

دِيوَانُ الْحُكْمِ

فَصْلٌ : [ الْقَوْلُ فِيمَا يَبْدَأُ بِهِ الْقَاضِي بَعْدَ اسْتِقْرَارِ وِلَايَتِهِ ] : فَإِذَا تَصَدَّى لِلْحُكْمِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ وِلَايَتِهِ وَانْقِيَادِ النَّاسِ إِلَى طَاعَتِهِ كَانَ أَوَّلُ مَا يَبْدَأُ بِهِ فِي نَظَرِهِ القاضي مَا اخْتَصَّ بِأَمَانَاتِ الْحُكْمِ . وَأَمَانَاتُهُ : مَا يَلْزَمُهُ النَّظَرُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ مُسْتَعِدٍّ إِلَيْهِ وَذَلِكَ خَمْسُ أَمَانَاتٍ . [ الْقَوْلُ فِي أَمَانَاتِ الْحُكْمِ أول ما ينظر فيه القاضي ] : أَوَّلًا دِيوَانُ الْحُكْمِ : أَوَّلُهَا أَنْ يَتَسَلَّمَ دِيوَانَ الْحُكْمِ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَهُ أَوْ مِنْ أَمِينٍ إِنْ كَانَ فِي يَدِهِ ، وَدِيوَانُ الْحُكْمِ هُوَ حُجَجُ الْخُصُومِ مِنَ الْمَحَاضِرِ وَالسِّجِلَّاتِ وَكُتُبِ الْوُقُوفِ لِأَنَّ الْحُكَّامَ يَسْتَظْهِرُونَ فِي حِفْظِ الْحُقُوقِ عَلَى أَرْبَابِهَا بِحِفْظِ حُجَجِهِمْ وَوَثَائِقِهِمْ فِي نُسْخَتَيْنِ يَتَسَلَّمُ الْمَحْكُومُ لَهُ إِحْدَاهُمَا وَتَكُونُ الْأُولَى فِي دِيوَانِهِ حُجَّةً يَرْجِعُ إِلَيْهَا إِذَا احْتَاجَ لِيَكُونَ عَلَى نَفْسِهِ مِمَّا فِي يَدِهِ . فَإِذَا تَسَلَّمَهَا وَاتَّسَعَ لَهُ الزَّمَانُ تَصَفَّحَهَا وَعَمِلَ بِمُوجَبِ مَا تَضَمَّنَهَا إِذَا دَعَتْهُ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ . وَلَا يَحْكُمُ بِمَا فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشْهَدَ بِهِ شَاهِدَانِ وَلَا يَحْكُمُ بِخَطِّ الْقَاضِي قَبْلَهُ وَلَا بِخَطِّ نَفْسِهِ إِلَّا أَنْ يُذَكِّرَهُ لِاشْتِبَاهِ الْخُطُوطِ وَإِمْكَانِ التَّزْوِيرِ عَلَيْهَا .

فَصْلٌ الْقَوْلُ فِي تَصَفُّحِ أَحْوَالِ الْمَحْبُوسِينَ

فَصْلٌ : [ الْقَوْلُ فِي تَصَفُّحِ أَحْوَالِ الْمَحْبُوسِينَ ] . وَالْأَمَانَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ أَوَّلَ مَا يَنْظُرُ فِيهِ أَنْ يَتَصَفَّحَ أَحْوَالَ الْمَحْبُوسِينَ . وَلَا يَحْتَاجُ فِي تَصَفُّحِ أَحْوَالِهِمْ إِلَى مُتَظَلِّمٍ إِلَيْهِ لِعَجْزِ الْمَحْبُوسِينَ عَنِ التَّظَلُّمِ . فَيُنْفِذُ إِلَى الْحَبْسِ ثِقَةً أَمِينًا وَمَعَهُ شَاهِدٌ عَدْلٌ . فَيُثْبِتُ بِالْقُرْعَةِ اسْمَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَحْبُوسِينَ وَمَا حُبِسَ بِهِ وَاسْمَ خَصْمِهِ حَتَّى يَسْتَوْعِبَ جَمِيعَهُمْ . وَيَتَصَفَّحُهُ الْقَاضِي . ثُمَّ يُنَادِي فِي النَّاسِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِنِ اتَّسَعَ الْبَلَدُ أَوْ يَوْمًا إِنْ صَغُرَ : إِنَّ الْقَاضِيَ قَدْ بَدَأَ فِي أُمُورِ الْمَحْبُوسِينَ فَمَنْ كَانَ لَهُ عَلَى مَحْبُوسٍ حَقٌّ فَلْيَحْضُرْ فِي يَوْمِ كَذَا وَيُعَيِّنُ لَهُمْ عَلَى الْيَوْمِ . وَيَكُونُ عُقَيْبَ فَرَاغِهِ مِنَ النِّدَاءِ لِيَتَعَجَّلَ أَمْرَهُمْ وَلَا يَتَأَخَّرَ فَيَجْعَلَهُ الْيَوْمَ الرَّابِعَ مِنْ نِدَائِهِ .

فَإِذَا اجْتَمَعَ الْخُصُومُ أَقْرَعَ بَيْنَ الْمَحْبُوسِينَ فِيمَنْ يُقَدِّمُهُ فِي النَّظَرِ ، وَلَمْ يُقْرِعْ بَيْنَ الْخُصُومِ ، لِأَنَّ نَظَرَهُ لِلْمَحْبُوسِينَ عَلَى خُصُومِهِمْ وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى الْقُرْعَةِ الْأُولَى فِي إِثْبَاتِ أَسْمَائِهِمْ . فَإِذَا فَرَغَ أَحَدُهُمْ أَمَرَ بِإِخْرَاجِهِ وَنَادَى بِإِحْضَارِ خَصْمِهِ . وَلَا يَفْتَقِرُ فِي إِخْرَاجِ الْمَحْبُوسِينَ إِلَى إِذْنِ خَصْمِهِ ، لِأَنَّهُ يَخْرُجُ فِي حَقِّهِ لَا فِي حَقِّ حَابِسِهِ . وَإِنْ كَانَ الْحَبْسُ بَعِيدًا مِنْ مَجْلِسِ الْحُكْمِ أَخْرَجَ بِالْقُرْعَةِ جَمِيعَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى النَّظَرِ بَيْنَهُمْ فِي يَوْمِهِ قَبْلَ شُرُوعِهِ فِي النَّظَرِ . فَإِذَا تَكَامَلُوا بَدَأَ بِالنَّظَرِ فِي أَمْرِ الْأَسْبَقِ بِالْقُرْعَةِ الْمَاضِيَةِ وَلَمْ يَسْتَأْنِفْ قُرْعَةً ثَانِيَةً لِأَنَّ الْقُرْعَةَ لِإِخْرَاجِهِ إِنَّمَا كَانَتْ لِلنَّظَرِ فِي أَمْرِهِ . وَإِنْ كَانَ الْحَبْسُ قَرِيبًا مِنْ مَجْلِسِ الْحُكْمِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ ثَانِيًا إِلَّا بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ النَّظَرِ فِي أَمْرِ الْأَوَّلِ : لِأَنَّ الْمَقْصُودَ اتِّصَالُ نَظَرِهِ وَقَدْ لَا يَتَّصِلُ مَعَ الْبُعْدِ إِلَّا بِإِخْرَاجِ جَمِيعِهِمْ ، وَيَتَّصِلُ مَعَ الْقُرْبِ بِإِخْرَاجِ وَاحِدٍ بَعْدَ وَاحِدٍ . فَإِذَا تَقَدَّمَ الْمَحْبُوسُ إِلَيْهِ سَأَلَهُ عَنْ سَبَبِ حَبْسِهِ وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى السُّؤَالِ الْأَوَّلِ فِي الْحَبْسِ وَعَارَضَهُ بِهِ فَإِنِ اتَّفَقَا وَإِلَّا عَمِلَ عَلَى أَغْلَظِ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي فَإِنْ ثَبَتَ فِي دِيوَانِ الْحُكْمِ سَبَبُ حَبْسِهِ قَابَلَهُ بِمَا قَالَهُ فِي الْأَوَّلِ وَالثَّانِي وَعَمِلَ عَلَى أَغْلَظِ الثَّلَاثَةِ . فَإِذَا اسْتَقَرَّ الْعَمَلُ بِأَحَدِهَا كَانَ لَهُ فِيمَا يَذْكُرُهُ مِنْ سَبَبِ حَبْسِهِ خَمْسَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَقُولَ حَبَسَنِي تَعْزِيرًا لِلَّذِي كَانَ مِنِّي وَلَمْ يَحْبِسْنِي لِخَصْمٍ ، فَقَدِ اسْتَوْفَى حَبْسَ التَّعْزِيرِ بِعَزْلِ الْأَوَّلِ وَإِنْ لَمْ يَسْتَكْمِلْ مُدَّةَ حَبْسِهِ مَعَ بَقَاءِ نَظَرِ الْأَوَّلِ : لِأَنَّ الثَّانِيَ لَا يُعَزَّرُ لِذَنْبٍ كَانَ مَعَ غَيْرِهِ . وَلَمْ يُطْلِقْهُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لَهُ خَصْمٌ لَمْ يَذْكُرْهُ حَتَّى يُنَادِيَ فِي النَّاسِ أَيَّامًا بِأَنَّ الْقَاضِيَ قَدْ رَأَى إِطْلَاقَ فُلَانٍ مِنْ حَبْسِهِ فَإِنْ كَانَ لَهُ خَصْمٌ قَدْ حُبِسَ لَهُ فَلْيَحْضُرْ وَلَا يُنَادِي بِأَنْ يَحْضُرَ كُلَّ خَصْمٍ لَهُ مِمَّنْ لَمْ يُحْبَسْ فِي حَقِّهِ . فَإِذَا مَضَتْ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَلَمْ يَحْضُرْ لَهُ خَصْمٌ أَطْلَقَهُ بَعْدَ إِحْلَافِهِ أَنَّهُ مَا حُبِسَ بِحَقِّ خَصْمٍ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَقُولَ حَبَسَنِي لِتَعْدِيلِ بَيِّنَةٍ شُهِدَتْ عَلَيَّ ؛ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِ حَبْسِهِ بِذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : يَجُوزُ حَبْسُهُ عَلَى تَعْدِيلِ الْبَيِّنَةِ لِأَنَّ عَلَى الْمُدَّعِي إِقَامَةَ الْبَيِّنَةِ ، وَعَلَى الْقَاضِي الْكَشْفَ عَنِ الْعَدَالَةِ فَلَمْ يَمْنَعْ مَا عَلَى الْقَاضِي مِنْ حَبْسِهِ فِي حَقِّ الْمُدَّعِي .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْبَسَ عَلَى تَعْدِيلِ الْبَيِّنَةِ لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَلْزَمُ إِلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ عَدَالَتِهِمَا . فَإِنْ قِيلَ : بِجَوَازِ حَبْسِهِ لَمْ يَجُزْ إِطْلَاقُهُ وَلَا إِعَادَتُهُ إِلَى حَبْسِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِدْعَاءٍ لِخُصُومِهِ لِبَقَائِهِ عَلَى حَالِهِ . وَإِنْ قِيلَ : بِأَنَّ حَبْسَهُ لَا يَجُوزُ نَظَرَ : فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي قَالَ قَدْ حَكَمْتُ بِحَبْسِهِ لَزِمَ حَبْسُهُ بِاجْتِهَادِهِ وَلَمْ يَجُزْ إِطْلَاقُهُ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ قَدْ حَكَمْتُ بِحَبْسِهِ وَجَبَ إِطْلَاقُهُ لَكِنْ لَا يُعَجِّلُ بِإِطْلَاقِهِ حَتَّى يُنَادِيَ فِي النَّاسِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَنَّ الْقَاضِيَ قَدْ حَكَمَ بِإِطْلَاقِ فُلَانٍ مِنْ حَبْسِهِ فَإِنْ كَانَ لَهُ خَصْمٌ قَدْ حُبِسَ لَهُ فَلْيَحْضُرْ ثُمَّ يُطْلِقُهُ بَعْدَ الثَّلَاثَةِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَقُولَ حَبَسَنِي تَعَدِّيًا بِغَيْرِ حَقٍّ وَلِغَيْرِ خَصْمٍ فَقَدِ ادَّعَى مَا يُخَالِفُ الظَّاهِرَ مِنْ أَحْوَالِ الْقُضَاةِ وَحَبْسُهُ حُكْمٌ فَلَا يُنْقَضُ إِلَّا بِيَقِينِ الْفَسَادِ وَعَمَلٍ عَلَى بَيِّنَةٍ إِنْ كَانَتْ . فَإِنْ شَهِدَتْ أَنَّهُ حُبِسَ بِحَقٍّ عَزَّرَ فِي جَرْحِهِ لِحَابِسِهِ . وَإِنْ شَهِدَتْ أَنَّهُ حُبِسَ لِظُلْمٍ نَادَى ثَلَاثًا فِي حُضُورِ خَصْمٍ إِنْ كَانَ لَهُ ثُمَّ أَطْلَقَ بَعْدَ ثَلَاثَةٍ إِنْ لَمْ يَحْضُرْ . وَإِنْ لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ أَعَادَهُ إِلَى حَبْسِهِ وَيَكْشِفُ عَنْ حَالِهِ وَكَانَ مُقِيمًا فِي حَبْسِهِ حَتَّى يَيْأَسَ الْقَاضِي بَعْدَ الْكَشْفِ مِنْ ظُهُورِ حَقٍّ عَلَيْهِ ، وَطَالَبَهُ بِكَفِيلٍ بِنَفْسِهِ ثُمَّ أَطْلَقَهُ . فَإِنْ قِيلَ : فَالْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ لَا تَصِحُّ إِلَّا مِمَّنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ حَقٌّ قَبْلَ الْحَبْسِ مِنْ جُمْلَةِ الْحُقُوقِ . فَإِنْ عَدَمَ كَفِيلًا اسْتَظْهَرَ فِي بَقَاءِ حَبْسِهِ عَلَى طَلَبِ كَفِيلٍ ثُمَّ أَطْلَقَهُ عِنْدَ إِعْوَازِهِ وَهُوَ غَايَةُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْقَاضِي مِنِ اسْتِظْهَارِهِ . وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَقُولَ : حَبَسَنِي لِخَصْمٍ بِمَا لَا يَسْتَحِقُّ لِأَنَّنِي أَرَقْتُ عَلَيْهِ خَمْرًا أَوْ قَتَلْتُ لَهُ خِنْزِيرًا . فَإِنْ كَانَ الْخَصْمُ مُسْلِمًا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقٌّ بِاسْتِهْلَاكِ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَكَانَ حَبْسُهُ بِهِ ظُلْمًا يَجِبُ إِطْلَاقُهُ مِنْهُ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى سُقُوطِ غُرْمِهِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ . وَإِنْ كَانَ الْخَصْمُ ذِمِّيًّا فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي شَافِعِيًّا لَا يَرَى وُجُوبَ غُرْمِهِ كَانَ حُكْمُهُ بَاطِلًا لِأَنَّهُ حَكَمَ بِمَا لَا يَرَاهُ فِي اجْتِهَادِهِ ، وَصَارَ الْقَاضِي الثَّانِي هُوَ الْحَاكِمَ . فَإِنْ كَانَ شَافِعِيًّا أَيْضًا لَا يَرَى وُجُوبَ الْغُرْمِ كَالْأَوَّلِ حَكَمَ بِإِطْلَاقِ الْمَحْبُوسِ .

وَإِنْ كَانَ حَنَفِيًّا وَحَكَمَ بِمَذْهَبِهِ فِي وُجُوبِ الْغُرْمِ حَكَمَ بِحَبْسِهِ إِنِ امْتَنَعَ . وَإِنْ كَانَ الْقَاضِي الْأَوَّلُ حَنَفِيًّا يَرَى وُجُوبَ الْغُرْمِ وَالْحَبْسِ ، فَإِنْ كَانَ رَأْيُ الْقَاضِي الثَّانِي مِثْلَ رَأْيِهِ كَانَ الْمَحْبُوسُ عَلَى حَبْسِهِ . وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لَهُ فِي رَأْيِهِ يَرَى مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ فِي سُقُوطِ غُرْمِهِ لَمْ يُنْقَضْ حُكْمُ الْأَوَّلِ لِنُفُوذِهِ فِي اجْتِهَادٍ مُسَوِّغٍ . وَفِي وُجُوبِ إِمْضَائِهِ عَلَى الثَّانِي قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُمْضِيَهُ وَلَا يَحْكُمَ بِهِ وَيُلْزِمَ الْمَحْبُوسَ حُكْمَ إِقْرَارِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يُمْضِيهِ لِبُطْلَانِهِ عِنْدَهُ وَيُعِيدُهُ إِلَى حَبْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُلْزِمَهُ الْقَضَاءَ ، لِأَنَّهُ لَا يَرَاهُ ، وَلَمْ يُطْلِقْهُ ، لِأَنَّهُ لَا يُنْقَضُ الْحُكْمُ بِهِ ، وَأَقَرَّهُ فِيهِ حَتَّى يَصْطَلِحَا وَالْحَالُ الْخَامِسَةُ : أَنْ يَقُولَ حَبَسَنِي لِخَصْمٍ بِحَقٍّ فَيَسْأَلُ عَنْ خَصْمِهِ وَعَنِ الْحَقِّ الَّذِي حُبِسَ بِهِ فَإِذَا أُحْضِرَ وَطَالَبَ لَمْ يَخْلُ الْحَقُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي مَالٍ أَوْ عَلَى بَدَنٍ . فَإِنْ كَانَ مِنْ حُقُوقِ الْأَبْدَانِ كَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ فَالْحَبْسُ بِهِ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ لِأَنَّ تَعْجِيلَ اسْتِيفَائِهِ مِنْهُ مُمْكِنٌ فَيُسْتَوْفَى وَيُخَلَّى بَعْدَ النِّدَاءِ عَلَيْهِ . وَإِنْ كَانَ مِنْ حُقُوقِ الْأَمْوَالِ فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ عَيْنًا . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ فِي الذِّمَّةِ . فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ عَيْنًا : لَمْ تَخْلُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَحَقَّةً بِعَقْدٍ أَوْ عَنْ غَصْبٍ فَإِنِ اسْتَحَقَّ بِعَقْدٍ كَالْمَبِيعِ إِذَا لَمْ يُقْبَضْ حَكَمَ فِيهِ بِمَا يُوجِبُهُ حُكْمُ الْعَقْدِ مِنْ بَقَاءِ الثَّمَنِ أَوْ قَبْضِهِ . وَإِنِ اسْتُحِقَّ بِغَيْرِ عَقْدٍ كَالْمَغْصُوبِ ، فَإِنْ ثَبَتَ غَصْبُهُ بِبَيِّنَةٍ حَكَمَ الْقَاضِي بِتَسْلِيمِهِ وَإِنْ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ رَفَعَ يَدَهُ عَنْهُ ، وَلَمْ يَمْنَعِ الْمُدَّعِيَ مِنْهُ وَلَمْ يَحْكُمْ لَهُ بِتَسْلِيمِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِ . وَإِنْ كَانَ مَالًا فِي الذِّمَّةِ : أَمَرَهُ بِقَضَائِهِ إِنْ كَانَ مَلِيئًا . وَإِنِ ادَّعَى عُسْرَةً نَظَرَ فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ ، فَإِنْ كَانَ عَنْ مُقَابَلَةِ مَالٍ صَارَ إِلَيْهِ كَثَمَنِ مَبِيعٍ قَبَضَهُ وَمَالٍ اقْتَرَضَهُ لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ دَعْوَى الْإِعْسَارِ إِلَّا بَعْدَ الْكَشْفِ . وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ مَالٍ صَارَ إِلَيْهِ ، لِأَنَّهُ قِيمَةٌ لِمُتْلَفٍ أَوْ مَهْرٍ وَصَدَاقٍ قَبِلَ قَوْلَهُ فِي الْعُسْرَةِ مَعَ يَمِينِهِ وَوَجَبَ إِطْلَاقُهُ بِهَا بَعْدَ النِّدَاءِ عَلَيْهِ لِجَوَازِ حُضُورِ خَصْمٍ آخَرَ إِنْ كَانَ لَهُ .

فَإِنْ أَقَامَ صَاحِبُ الدَّيْنِ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّ لِلْمَحْبُوسِ مَالًا نَظَرَ فَإِنْ لَمْ تُعَيِّنِ الْبَيِّنَةُ الْمَالَ لَمْ تُسْمَعِ الشَّهَادَةُ لِلْجَهْلِ بِهَا . وَإِنْ عَيَّنَتِ الْمَالَ وَشَهِدَتْ بِأَنَّ لَهُ هَذِهِ الدَّارَ سُئِلَ الْمَحْبُوسُ عَنْهَا ، فَإِنِ اعْتَرَفَ بِهَا لِنَفْسِهِ حَكَمَ عَلَيْهِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ فَإِنِ امْتَنَعَ مِنْ قَضَائِهِ بَاعَهَا عَلَيْهِ الْقَاضِي وَقَضَى دَيْنَهُ . وَإِنْ أَنْكَرَهَا فَلَهُ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ لَا يُقِرَّ بِهَا لِغَيْرِهِ فَلَا يُؤَثِّرُ إِنْكَارُهُ وَتُبَاعُ عَلَيْهِ فِي قَضَاءِ دَيْنِهِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُقِرَّ بِهَا لِغَيْرِهِ فَيَقُولُ هِيَ لِزَيْدٍ ، فَيُسْأَلُ زَيْدٌ عَنْهَا فَإِنْ أَنْكَرَهَا وَأَكْذَبَهُ فِي إِقْرَارِهِ بِهَا بِيعَتْ عَلَيْهِ فِي قَضَاءِ دَيْنِهِ وَوَكَّلَ الْقَاضِي عَنْهُ وَكَيْلًا يَبِيعُهَا عَلَيْهِ وَلَا يَتَوَلَّى الْقَاضِي بَيْعَهَا مَعَ إِنْكَارِهِ . وَإِنْ صَدَّقَهُ زِيدٌ عَلَى إِقْرَارِهِ بِهَا لَهُ وَادَّعَى مِلْكًا لِنَفْسِهِ قِيلَ لَهُ : أَلَكَ بَيِّنَةٌ بِأَنَّ الدَّارَ لَكَ مِلْكٌ ؟ فَإِنْ أَقَامَهَا حُكِمَ لَهُ بِالدَّارِ دُونَ الْمَحْبُوسِ : لِأَنَّ مَعَهُ بِإِقْرَارِ الْمَحْبُوسِ بَيِّنَةً وَيَدًا فَكَانَ أَوْلَى مِنْ بَيِّنَةِ الْمَحْبُوسِ مَعَ زَوَالِ يَدِهِ بِالْإِنْكَارِ . وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَفِي الْحُكْمِ بِهَا لِزَيْدٍ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَحْكُمُ بِهَا لِزَيْدٍ لِأَنَّ الْمَحْبُوسَ قَدْ أَبْطَلَ بَيِّنَتَهُ بِإِقْرَارِهِ فَبَطَلَتْ شَهَادَتُهَا لَهُ وَصَارَ مُقِرًّا بِهَا لِزَيْدٍ فَلَزِمَ إِقْرَارُهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَحْكُمَ بِهَا لِزَيْدٍ وَتَكُونَ الدَّارُ فِي حُكْمِ مِلْكِ الْمَحْبُوسِ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ شَهِدَتْ لَهُ بِالْمِلْكِ وَلِصَاحِبِ الدَّيْنِ بِالْقَضَاءِ ، فَإِذَا كَذَّبَهَا رُدَّتْ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَلَمْ تُرَدَّ فِي حَقِّ صَاحِبِ الدَّيْنِ .

فَصْلٌ النَّظَرُ فِي أُمُورِ الْأَوْصِيَاءِ

فَصْلٌ : [ النَّظَرُ فِي أُمُورِ الْأَوْصِيَاءِ ] : وَالْأَمَانَةُ الثَّالِثَةُ : النَّظَرُ فِي أُمُورِ الْأَوْصِيَاءِ لِمَا يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِمْ مِنْ حُقُوقِ مَنْ تَوَلَّى عَلَيْهِ الْقَاضِي مِنَ الْأَطْفَالِ وَالْمَجَانِينَ وَفِي حُقُوقِ مَنْ لَا يَتَعَيَّنُ مِنَ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ فَيَنْظُرُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَيَبْدَأُ بِمَنْ يَرَى مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ بِخِلَافِ الْمَحْبُوسِينَ ، لِأَنَّ هَذَا مِنْهُ نَظَرُ اجْتِهَادٍ ، وَلِأَنَّ النَّظَرَ فِيهِ عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ . وَلِلْوَصِيِّ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ وَصِيًّا فِي الْوِلَايَةِ عَلَى الْأَطْفَالِ فَتَلْزَمُهُ فِي حَقِّهِمْ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ : الْأَوَّلُ : حِفْظُ أُصُولِ أَمْوَالِهِمْ . وَالثَّانِي : تَمْيِيزُ فُرُوعِهَا . وَالثَّالِثُ : النَّفَقَةُ عَلَيْهِمْ بِالْمَعْرُوفِ .

وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ وَصِيًّا فِي تَفْرِيقِ الثُّلُثِ وَقَضَاءِ الدَّيْنِ فَلَا يَتَعَدَّاهُ إِلَى وِلَايَةِ الْأَطْفَالِ ، وَنَظَرَ فِي الْوَصِيَّةِ : فَإِنْ كَانَتْ لِمُعَيَّنِينَ سَقَطَ اجْتِهَادُهُ فِيهَا وَصَرَفَ الدَّيْنَ وَالثُّلُثَ فِي الْمُسَمِّينَ وَإِنْ كَانَتْ فِي مَوْصُوفِينَ غَيْرِ مُعَيَّنِينَ اجْتَهَدَ رَأْيَهُ فِي دَفْعِهَا إِلَى الْمَوْصُوفِينَ وَصَارُوا بَعْدَ الدَّفْعِ فِيهَا كَالْمُعَيَّنِينَ فَإِنْ عَدَلَ بِالثُّلُثِ عَنْ أَهْلِ تِلْكَ الصِّفَةِ إِلَى غَيْرِهِمْ لَمْ يَجُزْهُ وَإِنْ كَانُوا أَمَسَّ حَاجَةً وَضَمِنَ الثُّلُثَ لِأَهْلِ تِلْكَ الصِّفَةِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ اسْتِرْجَاعُ مَا دَفَعَهُ إِلَّا أَنْ يُصَدِّقُوهُ عَلَى الْوَصِيَّةِ وَالصِّفَةِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ وَصِيًّا ، فِي الْأَمْرَيْنِ مِنْ وِلَايَةِ الْأَطْفَالِ وَتَفْرِيقِ الثُّلُثِ فَهِيَ الْوَصِيَّةُ الْعَامَّةُ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَعْمَلَ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَا كَانَ يَعْمَلُهُ لَوِ انْفَرَدَ بِهِ . فَإِذَا عَرَفَ الْقَاضِي مَا إِلَى الْوَصِيِّ اخْتَبَرَ حَالَهُ فِي أَمَانَتِهِ وَقُوَّتِهِ : فَسَيَجِدُهُ لَا يَخْلُو فِيهَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ : إِحْدَاهَا : أَنْ يَكُونَ أَمِينًا قَوِيًّا وَهُوَ أَكْمَلُ الْأَوْصِيَاءِ حَالًا فَيُقِرُّهُ الْقَاضِي عَلَى وَصِيَّتِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَبْدِلَ بِهِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنَّهُ يَكُونُ أَمِينًا ضَعِيفًا لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّفَرُّدِ بِتَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ فَعَلَى الْقَاضِي أَنْ يَضُمَّ إِلَيْهِ مِنْ أُمَنَائِهِ مَنْ يَقْوَى بِهِ فِي تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ وَلَا يَرْفَعُ يَدَهُ لِضَعْفِهِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ خَائِنًا فِي الْأَمَانَةِ فَاسِقًا فِي الدِّيَانَةِ فَلَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يُقِرَّهُ عَلَيْهَا وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهَا إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأُمَنَاءِ . وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَكُونَ ثِقَةً فِي الْأَمَانَةِ فَاسِقًا فِي الدِّيَانَةِ فَيَنْظُرُ فِي الْوَصِيَّةِ فَإِنْ كَانَتْ بِالْوِلَايَةِ عَلَى الْأَطْفَالِ أَوْ تَفْرِيقِ الثُّلُثِ فِي غَيْرِ مُعَيَّنِينَ انْتَزَعَهَا مِنْهُ الْقَاضِي وَرَدَّهَا إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأُمَنَاءِ الْعُدُولِ وَإِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ فِي تَفْرِيقِ الثُّلُثِ لِمُعَيَّنِينَ أَوْ قَضَاءِ الدَّيْنِ لِمُسَمِّينَ جَازَ أَنْ يُقِرَّهَا فِي يَدِهِ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا : إِنَّ فِي تِلْكَ وِلَايَةً وَاجْتِهَادًا وَلَيْسَ الْفَاسِقُ مِنْ أَهْلِهَا وَهَذِهِ مَقْصُورَةٌ بِالتَّعْيِينِ عَلَى التَّنْفِيذِ دُونَ الِاجْتِهَادِ . فَإِذَا أُبْطِلَتِ الْوَصِيَّةُ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْخِيَانَةِ وَالْفِسْقِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ فِي الْوَصِيَّةِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَصَرَّفَ فِيهَا أَوْ كَفَّ عَنْهَا . فَإِنْ كَفَّ عَنْهَا وَلَمْ يَتَصَرَّفْ فِيهَا رَفْعَ الْقَاضِي يَدَهُ عَنْهَا وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهَا . وَإِنْ تَصَرَّفَ فِيهَا اعْتَبَرَ حَالَ فِسْقِهِ فَإِنْ كَانَ خَفِيًّا يَفْتَقِرُ إِلَى اجْتِهَادٍ نَفَّذَ تَصَرُّفَهُ وَلَمْ يُضْمَنْ إِلَّا بِالتَّعَدِّي مَا لَمْ يَحْكُمِ الْقَاضِي بِفِسْقِهِ ، وَإِنْ كَانَ فِسْقُهُ ظَاهِرًا لَا يَفْتَقِرُ إِلَى اجْتِهَادٍ رُدَّ تَصَرُّفُهُ وَلَمْ يُنَفَّذْ . فَإِنْ بَاعَ فَسَخَ بَيْعَهُ وَإِنْ فَرَّقَ الثُّلُثَ فِي مُعَيَّنِينَ أَوْ قَضَى دَيْنًا لِمُسَمِّينَ لَمْ يَضْمَنْهُ وَأَمْضَى فِعْلَهُ لِوُصُولِهِ إِلَى مَنْ تَعَيَّنَ حَقُّهُ فِيهِ وَإِذَا كَانَ الثُّلُثُ لِمَنْ لَا يَتَعَيَّنُ مِنَ الْفُقَرَاءِ

وَالْمَسَاكِينِ رَدَّهُ الْقَاضِي وَلَمْ يَضُمَّهُ وَأَغْرَمَهُ مَا فَرَّقَهُ وَرَدَّ تَفْرِيقَ مَا تَغَرَّمَهُ إِلَى أَمِينِهِ ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمَسَاكِينِ بِمَا فَرَّقَهُ وَإِنْ صَدَّقُوهُ عَلَى الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِوُصُولِهِ إِلَيْهِمْ بِحَقٍّ .

فَصْلٌ النَّظَرُ فِي أَحْوَالِ أُمَنَاءِ الْقُضَاةِ

فَصْلٌ : [ النَّظَرُ فِي أَحْوَالِ أُمَنَاءِ الْقُضَاةِ ] . وَالْأَمَانَةُ الرَّابِعَةُ : النَّظَرُ فِي أَحْوَالِ أُمَنَاءِ الْقُضَاةِ فَيُعْتَبَرُ فِيهِمْ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا : مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ قُوَّةٍ وَأَمَانَةٍ . وَالثَّانِي : مَا يَتَصَرَّفُونَ فِيهِ مِنَ الْوِلَايَةِ عَلَى أَطْفَالٍ وَالنَّظَرِ فِي أَمْوَالٍ . وَالثَّالِثُ : مَا فَعَلُوهُ فِيهَا مِنْ قَبْلُ وَمَا يَسْتَأْنِفُونَ مِنَ الْعَمَلِ فِيهَا مِنْ بَعْدُ . وَيَبْدَأُ بِمَنْ يَرَاهُ مِنْهُمْ مَنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ كَالْأَوْصِيَاءِ . وَلَا يَخْلُو حَالُ الْأَمِينِ فِيهَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ عَدْلًا ، وَقَدْ فَعَلَ مَا جَازَ فَيَكُونُ عَلَى وِلَايَتِهِ وَنَفَاذِ قَوْلِهِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ عَدْلًا وَقَدْ فَعَلَ مَا لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ أَتَاهُ عَلَى جَهَالَةٍ فَيَكُونُ عَلَى وِلَايَتِهِ وَيَرُدُّ مَا فَعَلَهُ فَإِنْ أَمْكَنَ اسْتِدْرَاكُهُ لَمْ يُغَرِّمْهُ ، وَإِنْ فَاتَ اسْتِدْرَاكُهُ غَرَّمَهُ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ فَاسِقًا وَقَدْ فَعَلَ مَا جَازَ فَوِلَايَتُهُ بَاطِلَةٌ بِفِسْقِهِ وَلَا يَضْمَنُ مَا تَعَيَّنَ وَيَضْمَنُ مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ كَالْوَصِيِّ . وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَكُونَ فَاسِقًا وَقَدْ فَعَلَ مَا لَمْ يَجُزْ فَوِلَايَتُهُ بَاطِلَةٌ وَعَمَلُهُ مَرْدُودٌ وَعَلَيْهِ غُرْمُ مَا تَصَرَّفَ فِيهِ . فَإِنْ وَجَدَ مِنْ أَحَدِ الْأُمَنَاءِ ضَعِيفًا كَانَ فِيهِ بَيْنَ خِيَارَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَضُمَّ إِلَيْهِ قَوِيًّا مِنْ أُمَنَائِهِ وَإِمَّا أَنْ يَنْتَزِعَهَا مِنْهُ إِلَى قَوِيٍّ بِخِلَافِ الْوَصِيِّ . وَإِذَا ادَّعَى الْأَمِينُ الْوَصِيَّ بِهِ أَنْفَقَ عَلَى الْيَتِيمِ مَالًا أَوْ عَمَّرَ لَهُ عَقَارًا وَكَانَ مَا ادَّعَاهُ مُحْتَمَلًا قَبْلَ قَوْلِهِ فِيهِ فَإِنِ اتَّهَمَهُ الْقَاضِي أَحْلَفَهُ عَلَيْهِ . فَإِنِ ادَّعَى فِي مَالِ الْيَتِيمِ أُجْرَةً جَعَلَهَا لَهُ الْحَاكِمُ قَبْلَهُ فَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً أَعْطَاهُ إِذَا لَمْ تَزِدْ عَلَى أُجْرَةِ مِثْلِهِ . وَإِنْ عُدِمَ الْبَيِّنَةَ فَفِي اسْتِحْقَاقِهَا وَجْهَانِ مِنِ اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي صَاحِبِ الدَّابَّةِ إِذَا رَكِبَهَا ثُمَّ ادَّعَى إِعَارَتَهَا ، وَادَّعَى الْمَالِكُ إِجَارَتَهَا . أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ أَنَّ لِلْأَمِينِ أُجْرَةَ مِثْلِهِ . إِذَا قِيلَ إِنَّ لِصَاحِبِ الدَّابَّةِ أُجْرَتَهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا أُجْرَةَ لِلْأَمِينِ إِذَا قِيلَ لَيْسَ لِصَاحِبِ الدَّابَّةِ أُجْرَتُهَا .

وَعَلَى الْقَاضِي بَعْدَ تَصَفُّحِ أَحْوَالِ الْأُمَنَاءِ وَالْأَوْصِيَاءِ أَنْ يُثْبِتَ فِي دِيوَانِهِ حَالَ كُلِّ أَمِينٍ وَوَصِيٍّ فِيمَا بِيَدِهِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَمَنْ يَلِي عَلَيْهِ مِنَ الْأَيْتَامِ لِيَكُونَ حُجَّةً لِلْجِهَتَيْنِ ، فَإِنْ وَجَدَ ذِكْرَ ذَلِكَ فِي دِيوَانِ الْقَاضِي الْأَوَّلِ عَارَضَ بِهِ وَعَمِلَ بِأَحْوَطِهِمَا .

فَصْلٌ النَّظَرُ فِي الْوُقُوفِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ

فَصْلٌ : [ النَّظَرُ فِي الْوُقُوفِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ ] : وَالْأَمَانَةُ الْخَامِسَةُ : النَّظَرُ فِي الْوُقُوفِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ . أَمَّا الْعَامَّةُ فَلِأَنَّ مُسْتَحِقِّيهَا لَا يَتَعَيَّنُونَ فَلَمْ يَقِفِ النَّظَرُ عَلَى مَطَالِبَ . وَأَمَّا الْخَاصَّةُ : فَلِأَنَّ مُفْضَاهَا إِلَى مَنْ لَا يَتَعَيَّنُ مِنَ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ لِيَنْظُرَ هَلْ أَفْضَتْ إِلَيْهِمْ وَهَلْ يَسْتَحِقُّ الْوِلَايَةَ عَلَى مَنْ تَعَيَّنَ مِنْهُمْ لِصِغَرٍ أَوْ جُنُونٍ أَوْ سَفَهٍ وَلِيَعْلَمَ سُبُلَهَا فَيَحْمِلَ عَلَى شُرُوطِ وَاقِفِهَا . وَإِنْ تَغَيَّرَ حَالُ الْوَالِي عَلَيْهَا ، فَعَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْأَوْلِيَاءِ وَالْأُمَنَاءِ وَالْأَسْجَالِ بِهِ عِنْدَ تَطَاوُلِ مُدَّتِهُ لِتَكُونَ الْحُجَّةُ بَاقِيَةً وَمُثْبَتَةً فِي دِيوَانِهِ عَلَى مَا مَضَى فِي الْأُمَنَاءِ وَالْأَوْصِيَاءِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .

كَرَاهَةُ مُبَاشَرَةِ الْقَاضِي الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ لِنَفْسِهِ

[ كَرَاهَةُ مُبَاشَرَةِ الْقَاضِي الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ لِنَفْسِهِ ] : مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَأَكْرَهُ لَهُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ خَوْفَ الْمُحَابَاةِ بِالزِّيَادَةِ وَيَتَوَلَّاهُ لَهُ غَيْرُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَإِنَّمَا كَرِهَ لَهُ أَنْ يُبَاشِرَ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ فِي خَاصِّ نَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَرِهَهُ أَبُو حَنِيفَةَ لِرِوَايَةِ أَبِي الْأَسْوَدِ الْمَالِكِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ . أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " مَا عَدَلَ وَالٍ اتَّجَرَ فِي رَعِيَّتِهِ أَبَدًا " . وَرُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ قَالَ شَرَطَ عَلَيَّ عُمَرُ حِينَ وَلَّانِي الْقَضَاءَ أَنْ لَا أَبِيعَ وَلَا أَبْتَاعَ وَلَا أَرْتَشِيَ وَلَا أَقْضِيَ وَأَنَا غَضْبَانُ ، وَلَمَّا بُويِعَ أَبُو بَكْرٍ بِالْخِلَافَةِ خَرَجَ بَعْدَ ثَلَاثٍ بِرِزْمَةِ ثِيَابٍ إِلَى السُّوقِ فَقِيلَ لَهُ مَا هَذَا ؟ فَقَالَ أَنَا كَاسِبٌ أَهْلِي فَأَجْرَوْا لَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ كُلَّ يَوْمٍ دِرْهَمَيْنِ ، وَلِأَنَّهُ إِذَا بَاعَ وَاشْتَرَى لَمْ يُؤْمَنْ أَنْ يُسَامِحَ وَيُحَابِيَ فَتَمِيلَ نَفْسُهُ عِنْدَ الْمُحَاكَمَةِ إِلَيْهِ إِلَى مُمَايَلَةِ مَنْ سَامَحَهُ وَحَابَاهُ ، وَلِأَنَّ فِي مُبَاشَرَتِهِ بِذِلَّةٍ تَقِلُّ بِهَا هَيْبَتُهُ فَكَانَ تَصَاوُنُهُ عَنْهَا أَوْلَى . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَبِيعُ وَيَشْتَرِي فَعَنْهُ أَجْوِبَةٌ :

أَحَدُهَا : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ نَزَّهَ رَسُولَهُ مِمَّا يَتَوَجَّهُ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ التُّهْمَةِ فَقَالَ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ وَالثَّانِي : أَنَّهُ مَا فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ إِلَّا نَادِرًا قَصَدَ بِهِ بَيَانَ الْأَحْكَامِ فَإِنَّهُ ابْتَاعَ مِنْ أَعْرَابِيٍّ فَرَسًا وَقَالَ لَهُ اخْتَرْ . وَاسْتَامَ مِنْ جَابِرٍ بَعِيرًا لَهُ فَقَالَ هُوَ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ بَلْ بِعْنِيهِ فَتَمَاكَسَا فِي ثَمَنِهِ حَتَّى اسْتَقَرَّ فَلَمَّا قَدِمَا الْمَدِينَةَ دَفَعَ إِلَيْهِ الثَّمَنَ وَأَعَادَ إِلَيْهِ الْبَعِيرَ وَقَالَ : أَتَظُنُّ أَنَّنِي كَسَبْتُكَ أَيْ غَبِنْتُكَ . فَدَلَّ بِهَذَا عَلَى أَحْكَامٍ . مِنْهَا جَوَازُ الِاسْتِطْلَاعِ فِي الْأَثْمَانِ وَإِنَّ الْمُغَابَنَةَ فِيهَا مُمْضَاةٌ لِأَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِهِ . وَمِنْهَا : أَنَّ مُخَالَفَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِالشَّرْعِ لَيْسَتْ بِمَعْصِيَةٍ لِأَنَّ جَابِرًا مَا أَجَابَهُ إِلَى مَا طَلَبَهُ مِنْهُ حَتَّى زَادَهُ . فَإِنِ احْتَاجَ الْقَاضِي إِلَى بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ وَكَّلَ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ ، وَلَا يَكُونُ مَعْرُوفًا بِهِ ، فَإِنْ عُرِفَ اسْتَبْدَلَ بِهِ مَنْ لَا يُعْرَفُ حَتَّى لَا يُحَابَى فَتَعُودَ الْمُحَابَاةُ إِلَيْهِ . فَإِنْ لَمْ يُحَدَّ فِي مُبَاشَرَتِهِ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ بَدَأَ وَاحْتَكَمَ إِلَيْهِ مَنْ بَايَعَهُ وَشَارَاهُ اخْتَرْنَا لَهُ أَنْ لَا يَنْظُرَ فِي حُكُومَتِهِ بِنَفْسِهِ وَيَسْتَخْلِفَ مَنْ يَنْظُرُ فِيهَا فَيَكُونَ بَعِيدًا مِنَ التُّهْمَةِ فَإِنَّهُ وَإِنْ حَكَمَ بِالْحَقِّ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَكُونَ قَلْبُهُ إِلَيْهِ أَمْيَلَ مِنْ خَصْمِهِ إِنْ بَاشَرَهُ أَوْ إِلَى خَصْمِهِ أَمْيَلَ إِنْ عَاشَرَهُ . فَإِنْ خَالَفَ مَا اخْتَرْنَا وَتَفَرَّدَ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فَأَحْكَامُهُ نَافِذَةٌ كَحُكْمِهِ فِي الْغَضَبِ .

حُضُورُ الْقَاضِي الْوَلَائِمَ

[ حُضُورُ الْقَاضِي الْوَلَائِمَ ] . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَلَا أُحِبُّ أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنِ الْوَلِيمَةِ إِمَّا أَنْ يُجِيبَ كُلًّا وَإِمَّا أَنْ يَتْرُكَ كُلًّا وَيَعْتَذِرُ وَيَسْأَلُهُمُ التَّحْلِيلَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا حُضُورُ الْوَلَائِمِ إِذَا دُعِيَ إِلَيْهَا فَيَجُوزُ أَنْ يُجِيبَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " لَوْ دُعِيتَ إِلَى كُرَاعٍ لَأَجَبْتُ وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ لَقَبِلْتُ " رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ تَعَلَّقَتْ عَلَيْهِ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَالْقُضَاةِ هَلْ يَكُونُونَ فِي حُضُورِ الْوَلَائِمِ مَنْدُوبِينَ إِلَيْهَا كَغَيْرِهِمْ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُمْ مَنْدُوبُونَ إِلَى حُضُورِهَا مَعَهُمْ لِعُمُومِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ " أَجِيبُوا الدَّاعِيَ فَإِنَّهُ مَلْهُوفٌ " . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ " مَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّاعِيَ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ " .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُمْ لِاخْتِصَاصِهِمْ بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ يَسْقُطُ عَنْهُمْ فَرْضُ الْإِجَابَةِ بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَا أُحِبُّ أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنِ الْوَلِيمَةِ وَأَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الِاسْتِحْبَابِ دُونَ الْوُجُوبِ لِأَنَّ أَمْرَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَحْتَمِلُ الْعُمُومَ وَيَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ فِيمَا عَدَا الْوُلَاةَ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ إِنْ كَانَ مُرْتَزِقًا لَمْ يَحْضُرْ لِأَنَّهُ أَجِيرٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُفَوِّتَ عَلَيْهِمْ حَقَّهُمْ مِنْ زَمَانِهِ ، وَإِنْ كَانَ مُتَطَوِّعًا غَيْرَ مُرْتَزِقٍ حَضَرَ وَكَانَ كَغَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ . فَتَكُونُ الْإِجَابَةُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَرْضًا يَأْثَمُ بِتَرْكِهِ وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي مُسْتَحَبَّةً يُكْرَهُ لَهُ تَرَكُهَا ، وَلَا يَأْثَمُ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ مُفَصَّلَةً بِاعْتِبَارِ حَالِهِ فِي الِارْتِزَاقِ وَالتَّطَوُّعِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا وَدُعِيَ إِلَى وَلِيمَةٍ فَإِنِ مُنِعَ مِنْهَا القاضي لَمْ يَحْضُرْ عَلَى الْأَحْوَالِ كُلِّهَا . وَنَظَرَ فِي الْمُرْتَزَقِ فَإِنْ قَلَّ زَمَانُ حُضُورِهِ فِيهَا كَالْيَوْمِ أَوْ مَا قَارَبَهُ لَمْ يُلْزِمْهُ رَدَّ شَيْءٍ مِنْ رِزْقِهِ . وَإِنْ طَالَ زَمَانُ حُضُورِهِ لَهَا وَأَقَلُّ زَمَانٍ طُولُهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا رَدَّ مِنْ رِزْقِهِ بِقِسْطِ مَا أَخَلَّ بِنَظَرِهِ . وَإِنْ أُمِرَ بِالْحُضُورِ وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِوَلِيمَةِ الْعُرْسِ دُونَ غَيْرِهَا نَظَرَ فَإِنْ كَانَ يَنْقَطِعُ بِهَا عَنِ النَّظَرِ فِي أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ . أَوْ كَانَتْ تَكْثُرُ فَتُفْضِي إِلَى الْبِذْلَةِ امْتَنَعَ مِنَ الْحُضُورِ وَلَمْ يُجِبْ تَوَفُّرًا عَلَى الْأَحْكَامِ وَحِفْظًا لِلْهَيْبَةِ . وَإِنْ قَلَّتْ : وَلَمْ تَقْطَعْهُ عَنِ النَّظَرِ وَلَا أَفْضَتْ بِهِ إِلَى الْبِذْلَةِ حَضَرَهَا اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ وَاقْتِدَاءً بِالرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - . فَإِنْ قَطَعَهُ عَنِ الْحُضُورِ عُذْرٌ فَذَكَرَهُ وَسَأَلَهُمُ التَّحْلِيلَ . وَإِذَا أَجَابَ عَمَّ بِالْإِجَابَةِ كُلَّ دَاعٍ ، وَإِذَا امْتَنَعَ عَمَّ بِالِامْتِنَاعِ كُلَّ دَاعٍ وَلَمْ يَخُصَّ بِالْإِجَابَةِ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ لِظُهُورِ الْمُمَايَلَةِ فِيهِ وَتَوَجُّهِ الظِّنَّةِ إِلَيْهِ ، وَالْأَوْلَى بِهِ عِنْدِي فِي مِثْلِ هَذَا الزَّمَانِ أَنْ يَعُمَّ بِامْتِنَاعِهِ جَمِيعَ النَّاسِ ، لِأَنَّ السَّرَائِرَ قَدْ خَبُثَتْ وَالظُّنُونَ قَدْ تَغَيَّرَتْ .

عِيَادَتُهُ الْمَرْضَى وَحُضُورُ الْجَنَائِزِ وَمَقْدَمِ الْغَائِبِ

[ عِيَادَتُهُ الْمَرْضَى وَحُضُورُ الْجَنَائِزِ وَمَقْدَمِ الْغَائِبِ ] . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : وَيَعُودُ الْمَرْضَى وَيَشْهَدُ الْجَنَائِزَ القاضي وَيَأْتِي مَقْدَمَ الْغَائِبِ القاضي . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . وَهَذِهِ قُرَبٌ يُنْدَبُ إِلَيْهَا جَمِيعُ النَّاسِ فَكَانَ الْوُلَاةُ فِيهَا كَغَيْرِهِمْ . لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا طَاعَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَطَاعَةُ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَطَلَبُ ثَوَابِهِ ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : " عَائِدُ الْمَرِيضِ فِي مَخْرَفٍ مِنْ مَخَارِفِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَرْجِعَ "

وَعَادَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَعْدًا وَجَابِرًا فِي مَرَضِهِمَا ، وَعَادَ غُلَامًا يَهُودِيًّا فِي جِوَارِهِ وَعَرَضِ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ فَأَجَابَ . وَيَجُوزُ لِلْقَاضِي فِي الْعِيَادَةِ وَشُهُودِ الْجِنَازَةِ أَنْ يَعُمَّ وَيَخُصَّ بِخِلَافِ الْوَلَائِمِ الَّتِي يَعُمُّ بِهَا وَلَا يَخُصُّ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْوَلَائِمَ مِنْ حُقُوقِ الدَّاعِي فَاسْتَوَى جَمِيعُهُمْ فِي اسْتِحْقَاقِ الْإِجَابَةِ وَالْعِيَادَةِ وَحُضُورِ الْجَنَائِزِ مِنْ حُقُوقِهِ لِأَنَّهُ يَقْصِدُ بِهِ الثَّوَابَ فَجَازَ أَنْ يَخُصَّ . وَالثَّانِي : أَنَّ فِي الْوَلَائِمِ ظِنَّةً لَيْسَتْ فِي الْعِيَادَةِ وَالْجَنَائِزِ فَكَانَ الْعُمُومُ فِيهَا مُزِيلًا لِلظِّنَّةِ . وَكَذَلِكَ إِتْيَانُهُ مَقْدَمَ الْغَائِبِ يَجُوزُ أَنْ يَعُمَّ بِهِ وَيَخُصَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِلْغَائِبِ خَصْمٌ فَلَا يَأْتِي مَقْدَمَهُ لِئَلَّا تَضْعُفَ بِهِ نَفْسُ خَصْمِهِ بِظُهُورِ الْمُمَايَلَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

هَيْبَةُ مَجَالِسِ الْحُكَّامِ وَصِيَانَتُهَا

هَيْبَةُ مَجَالِسِ الْحُكَّامِ وَصِيَانَتُهَا . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : وَإِذَا بَانَ لَهُ مِنْ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ لَدَدٌ نَهَاهُ فَإِنْ عَادَ زَجَرَهُ وَلَا يَحْبِسُهُ وَلَا يَضْرِبُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ مَا يَسْتَوْجِبُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : مَجْلِسُ الْحُكَّامِ فِي الْأَحْكَامِ يَتَمَيَّزُ عَنْ مَجَالِسِ غَيْرِهِمْ وَعَنْ مَجَالِسِ أَنْفُسِهِمْ فِي غَيْرِ الْأَحْكَامِ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : فَضْلُ وَقَارِ الْقَاضِي فِيهَا عَنْ أَنْ يَبْدَأَ أَحَدًا بِكَلَامٍ أَوْ سَلَامٍ أَوْ إِكْرَامٍ وَلْيَكُنْ فِي دُخُولِ جَمِيعِ الْمُتَنَازِعِينَ إِلَيْهِ مِنْ شَرِيفٍ وَمَشْرُوفٍ مُطْرِقًا فَقَدْ حُكِيَ أَنَّ الْمَهْدِيَّ وَهُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ تَقَدَّمَ مَعَ خُصُومٍ لَهُ بِالْبَصْرَةِ إِلَى قَاضِيهَا عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيِّ فَلَمَّا رَآهُ الْقَاضِي مُقْبِلًا أَطْرَقَ إِلَى الْأَرْضِ حَتَّى جَلَسَ مَعَ خُصُومِهِ مَجْلِسَ الْمُتَحَاكِمِينَ فَلَمَّا انْقَضَتِ الْحُكُومَةُ قَامَ الْقَاضِي فَوَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ الْمَهْدِيُّ : وَاللَّهِ لَوْ قُمْتَ حِينَ دَخَلْتُ إِلَيْكَ لَعَزَلْتُكَ وَلَوْ لَمْ تَقُمْ حِينَ انْقَضَى الْحُكْمُ لَعَزَلْتُكَ . وَإِنَّمَا كَانَ يَعْزِلُهُ بِالْقِيَامِ قَبْلَ الْحُكْمِ لِمُمَايَلَتِهِ ، وَيَعْزِلُهُ بِالْقُعُودِ بَعْدَ الْحُكْمِ لِتَرْكِ حَقِّهِ فَيَكُونُ الْعَزْلُ الْأَوَّلُ مُسْتَحَقًّا وَالثَّانِي أَدَبًا فَهَذَا وَجْهٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يُبْعِدَ مَجَالِسَ الْخُصُومِ مِنْهُ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي الْهَيْبَةِ وَالثَّانِي لِئَلَّا تَسْبِقَ إِلَيْهِ تُهْمَةَ أَنْ يُشِيرَ إِلَى أَحَدِهِمَا أَوْ يُشِيرَ إِلَيْهِ أَحَدُهُمَا بِمَا يُخَالِفُ الْحَقَّ . وَلْيَكُنِ الْبِسَاطُ الَّذِي يَجْلِسُ عَلَيْهِ مُتَمَيِّزًا عَنْ بِسَاطِ الْخُصُومِ لِيَكُونَ أَهْيَبَ لَهُ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنْ لَا يَحْضُرَ فِي مَجْلِسِهِ مَعَ الْخُصُومِ إِلَّا مَنْ لَهُ بِالْحُكْمِ تَعَلُّقٌ فَإِنَّنَا

نَسْتَحِبُّ أَنْ لَا يَخْلُوَ مَجْلِسُ حُكْمِهِ مِنْ شُهُودٍ وَفُقَهَاءٍ : أَمَّا الشُّهُودُ فَلْيَشْهَدُوا مَا جَرَى فِيهِ مِنْ إِقْرَارٍ وَمَا نَفَذَ فِيهِ مِنْ حُكْمٍ . وَأَمَّا الْفُقَهَاءُ فَلْيَرْجِعَ إِلَيْهِمْ وَيُشَاوِرَهُمْ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ وَلِيُنَبِّهُوهُ عَلَى زَلَلٍ إِنْ كَانَ مِنْهُ ، وَلَا يَرُدُّوا عَلَيْهِ مَا يُخَالِفُونَهُ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ وَيَمْنَعُ أَنْ يَحْضُرَ مَعَ الْخَصْمِ مَنْ لَيْسَ بِوَكِيلٍ لَهُ فِي الْمُحَاكَمَةِ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ . وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنْ يُسَاوِيَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فِي مَقْعَدِهِمَا وَالنَّظَرِ إِلَيْهِمَا وَكَلَامِهِ لَهُمَا وَلَا يَخُصُّ أَحَدَهُمَا بِتَرْتِيبٍ وَلَا نَظَرٍ وَلَا كَلَامٍ ، كَتَبَ عُمَرُ فِي عَهْدِهِ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَلَى قَضَاءِ الْبَصْرَةِ : آسِ بَيْنَ النَّاسِ فِي وَجْهِكَ وَعَدْلِكَ وَمَجْلِسِكِ حَتَّى لَا يَطْمَعَ شَرِيفٌ فِي حَيْفِكَ وَلَا يَيْأَسَ ضَعِيفٌ مِنْ عَدْلِكَ فَأَمَرَهُ بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمْ فِي وَجْهِهِ وَعَدْلِهِ وَمَجْلِسِهِ ، وَلْيَكُنْ جُلُوسُ الْخُصُومِ بَيْنَ يَدَيْهِ جُثَاةً عَلَى الرُّكَبِ لِيَتَمَيَّزَ عَنْ جُلُوسِ غَيْرِ الْخُصُومِ فَيَكُونُ أَجْمَعَ لِلْهَيْبَةِ . وَالْوَجْهُ الْخَامِسُ : أَنْ يَكُونَ كَلَامُ الْخَصْمِ مَقْصُورًا عَلَى الدَّعْوَى وَالْجَوَابِ وَكَلَامُ الْقَاضِي مَقْصُورًا عَلَى الْمَسْأَلَةِ وَالْحُكْمِ . وَحُضُورُ الْخُصُومِ فِي الْمُحَاكَمَةِ يُسْقِطُ عَنْهُمْ سُنَّةَ السَّلَامِ . فَإِنْ سَلَّمَا جَمِيعًا رَدَّ الْقَاضِي عَلَيْهِمَا . وَإِنْ سَلَّمَ أَحَدُهُمَا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي فَرْضِ رَدِّهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ فِي الْحَالِ . وَالثَّانِي : يَرُدُّ عَلَيْهِ بَعْدَ الْحُكْمِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَرُدَّهُ فِي الْحَالِ عَلَيْهِمَا مَعًا . وَمَنَعَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الرَّدِّ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا ، لِأَنَّ الْخَصْمَ أَوْقَعَ السَّلَامَ فِي غَيْرِ مَوْقِعِهِ فَلَمْ يَسْتَحِقَّ الرَّدَّ عَلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : [ لَدَدُ الْخُصُومِ ] . فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ آدَابِ مَجْلِسِهِ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الْخَمْسَةِ فَكَانَ مِنْ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ لَدَدٌ وَفِي اللَّدَدِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ شِدَّةُ الْخُصُومَةِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ، [ الْبَقَرَةِ : ] . وَهَذَا قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ الِالْتِوَاءُ عَنِ الْحَقِّ وَمِنْهُ أُخِذَ لَدُودُ الْفَمِ ، لِأَنَّهُ فِي أَحَدِ جَانِبَيِ الْفَمِ ،

وَقَدْ قَالَ تَعَالَى وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا [ مَرْيَمَ : ] . وَهَذَا قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ ، فَيَنْهَى الْقَاضِي الْخَصْمَ عَنْ لَدَدِهِ وَلَا يَبْدَأُهُ قَبْلَ النَّهْيِ بِزَجْرٍ وَلَا زَبْرٍ فَإِنْ كَفَّ بِالنَّهْيِ كَفَّ عَنْهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُفَّ عَنْهُ قَابَلَهُ وَغَلَبَهُ بِالزَّجْرِ ، وَالزَّبْرُ قَوْلًا لَا يَتَعَدَّاهُ إِلَى ضَرْبٍ وَلَا حَبْسٍ . وَيَكُونُ زَجْرُهُ وَزَبْرُهُ مُعْتَبَرًا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : بِحَسَبِ لَدَدِهِ . وَالثَّانِي : عَلَى قَدْرِ مَنْزِلَتِهِ . فَإِنْ لَمْ يُكَفَّ بِالزَّجْرِ وَالزَّبْرِ بَعْدَ الثَّانِيَةِ حَتَّى عَادَ إِلَى ثَالِثَةٍ جَازَ أَنْ يَتَجَاوَزَ زَوَاجِرَ الْكَلَامِ إِلَى الضَّرْبِ وَالْحَبْسِ تَعْزِيرًا وَأَدَبًا يَجْتَهِدُ رَأْيَهُ فِيهِ بِحَسْبِ اللَّدُودِ وَعَلَى قَدْرِ الْمَنْزِلَةِ . فَإِنْ كَانَ فِي لَدَدِهِ شَتْمٌ وَفُحْشٌ وَكَانَ غَمْرًا سَفِيهًا ضَرَبَهُ إِمَّا بِالْعَصَا أَوْ بِالنَّعْلِ عَلَى مِقْدَارِهِ . وَإِنْ كَانَ لَدَدُهُ تَمَانُعًا مِنَ الْحَقِّ وَخُرُوجًا عَنِ الْوَاجِبِ وَكَانَ سَاكِتًا حَبَسَهُ . فَإِنْ جَمَعَ فِي لَدَدِهِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ جَازَ أَنْ يَجْمَعَ فِي تَعْزِيرِهِ بَيْنَ الضَّرْبِ وَالْحَبْسِ . قَدْ تَحَاكَمَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الزُّبَيْرُ مَعَ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ فَلَمَّا قَالَ الْأَنْصَارِيُّ بَعْدَ حُكْمِهِ عَلَيْهِ لِلزُّبَيْرِ فِي شُرْبِ أَرْضِهِ أَنَّهُ ابْنُ عَمَّتِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلزُّبَيْرِ أَمِرَّ الْمَاءَ عَلَى بَطْنِهِ وَاحْبِسْهُ حَتَّى يَبْلُغَ أُصُولَ الْجَدْرِ فَكَانَ قَوْلُهُ أَمِرَّ الْمَاءَ عَلَى بَطْنِهِ تَعْزِيزًا وَفِيهِ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [ النِّسَاءِ : ] . وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقَسِّمُ الصَّدَقَاتِ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : اعْدِلْ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيْلَكَ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ فَمَنْ يَعْدِلُ ؟ فَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ تَعْزِيرًا لَهُ وَفِيهِ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ [ التَّوْبَةِ : ] . وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي فِي التَّعْزِيرِ عَسُوفًا خَرِقًا وَلَا ضَعِيفًا مَهِينًا وَلْيَكُنْ مُعْتَدِلَ الْأَحْوَالِ وَقُورًا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا يَصْلُحُ لِأُمُورِ الْأُمَّةِ إِلَّا رَجُلٌ قَوِيٌّ فِي غَيْرِ عُنْفٍ لَيِّنٌ مِنْ غَيْرِ ضَعْفٍ لَا تَأْخُذُهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

الْقَوْلُ فِي مُشَاوَرَةِ الْقُضَاةِ

[ الْقَوْلُ فِي مُشَاوَرَةِ الْقُضَاةِ ] : مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَيُشَاوِرُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ [ الشُّورَى : ] . وَقَالَ لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ

[ آلِ عِمْرَانَ : ] . قَالَ الْحَسَنُ إِنْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ مُشَاوَرَتِهِمْ لَغَنِيًّا وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَسْتَنَّ بِذَلِكَ الْحُكَّامُ بَعْدَهُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْمُشَاوَرَةُ من القاضي فَمَنْدُوبٌ إِلَيْهَا فِي الْأُمُورِ الْمُشْتَبِهَةِ لِمَا أَوْرَدَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَفْسِيرِ الْحَسَنِ وَلِسُنَّةِ نَبِيِّهِ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ " الْمُسْتَشِيرُ مُعَانٌ وَالْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ " وَقَدْ شَاوَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْحَابَهُ فِي أَسْرَى بَدْرٍ فَأَشَارَ أَبُو بَكْرٍ بِالْفِدَاءِ وَأَشَارَ عُمَرُ بِالْقَتْلِ فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرَأْيٍ أَبِي بَكْرٍ وَفَادَى فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ [ الْأَنْفَالِ : ] . الْآيَةَ ، وَالَّتِي بَعْدَهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " لَوْ نَزَلَ عَذَابٌ مِنَ السَّمَاءِ لَمَا نَجَا مِنْهُ إِلَّا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ " وَشَاوَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهْلَ الْمَدِينَةِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فِي أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي حَفْرِ الْخَنْدَقِ حَتَّى اتَّفَقُوا عَلَيْهِ . وَالثَّانِي : فِي صُلْحِ الْأَحْزَابِ عَلَى ثُلُثِ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ فَقَالُوا إِنْ كَانَ اللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا فَالسَّمْعُ وَالطَّاعَةُ لِأَمْرِ اللَّهِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا تُطْمِعْهُمْ فِينَا فَإِنَّهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَكُونُوا يَصِلُونَ إِلَى ثَمَرِهِ إِلَّا بِشِرَاءٍ أَوْ قِرًى فَامْتَنَعَ وَشَاوَرَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الصَّحَابَةَ فِي الْجَدَّةِ أُمِّ الْأُمِّ ، وَشَاوَرَ عُمَرُ فِي الْجَدَّةِ أُمِّ الْأَبِّ حَتَّى فَرَضَا لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا السُّدُسَ . وَشَاوَرَ عُمَرُ فِي دِيَةِ الْجَنِينِ وَفِي الَّتِي أَجْهَضَتْ مَا فِي بَطْنِهَا ، وَشَاوَرَ عُثْمَانُ فِي الْأَحْكَامِ ، وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَلِيلَ الِاسْتِشَارَةِ فِيهَا فَقِيلَ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِي عَصْرِهِ عَدِيلٌ يُشَاوِرُهُ وَقِيلَ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ شَاهَدَ اسْتِشَارَةِ قَرِينِهِ فَاكْتَفَى بِهَا ، وَأَمَّا اسْتِشَارَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدْ كَانَ يُشَاوِرُ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا وَمَصَالِحِهَا . وَاخْتَلَفُوا فِي اسْتِشَارَتِهِ فِي الدِّينِ وَالْأَحْكَامِ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِهِمْ هَلْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَجْتَهِدَ رَأْيَهُ فِيهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : مَا اسْتَشَارَ فِي الدِّينِ وَلَا فِي الْأَحْكَامِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [ النَّجْمِ : - ] . وَهَذَا قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ رَأْيَهُ فِيهَا وَقَالَ آخَرُونَ قَدِ اسْتَشَارَهُمْ فِي الدِّينِ

وَالْأَحْكَامِ فَمِنْهُ مَا شَاوَرَهُمْ فِي عَلَامَةٍ تَكُونُ لِأَوْقَاتِ صَلَوَاتِهِمْ فَأَشَارَ بَعْضُهُمْ بِالنَّاقُوسِ فَقَالَ ذَلِكَ مِزْمَارُ النَّصَارَى ، وَأَشَارَ بَعْضُهُمْ بِالْقَرْنِ فَقَالَ ذَاكَ مِزْمَارُ الْيَهُودِ وَأَشَارَ بَعْضُهُمْ بِالنَّارِ فَقَالَ مَا تَصْنَعُونَ بِالنَّهَارِ وَأَشَارَ بَعْضُهُمْ بِالرَّايَةِ فَقَالَ مَا تَصْنَعُونَ بِاللَّيْلِ حَتَّى أَخْبَرَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ بِمَا رَآهُ فِي الْمَنَامِ مِنَ الْأَذَانِ فَأَخَذَ بِهِ وَعَمِلَ عَلَيْهِ . وَشَاوَرَ أَصْحَابَهُ فِي حَدِّ الزَّانِي وَالسَّارِقِ فَقَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَقَالَ : " هُنَّ فَوَاحِشُ وَفِيهِنَّ عُقُوبَاتٌ " حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمَا مَا أَنْزَلَ وَهَذَا قَوْلُ مَنْ جَعَلَ لَهُ اجْتِهَادَ رَأْيِهِ فِيهَا . فَأَمَّا غَيْرُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ صَحَابَتِهِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ سَائِرِ أُمَّتِهِ فَمُشَاوَرَتُهُمْ تَعُمُّ فِي مَصَالِحِ الدُّنْيَا وَأَحْكَامِ الدِّينِ فَمَا اخْتَصَّ عَنْهَا بِالدُّنْيَا نُدِبَ إِلَيْهِ عَقْلًا وَمَا اخْتَصَّ مِنْهَا بِالدِّينِ نُدِبَ إِلَيْهِ شَرْعًا .

فَصْلٌ : [ فِي أَيِّ الْمَسَائِلِ يُشَاوِرُ ] : فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِالْمُشَاوَرَةِ من القاضي فِي أَحْكَامِهِ وَقَضَايَاهُ . وَهِيَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : ظَاهِرٌ جَلِيٌّ قَدْ حَصَلَ الِاتِّفَاقُ فِيهِ ، وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ ، فَلَا يَحْتَاجُ فِي مِثْلِ هَذَا إِلَى مُشَاوَرَةٍ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : نَوَازِلُ حَادِثَةٌ لَمْ يَتَقَدَّمْ فِيهَا قَوْلٌ لِمَتْبُوعٍ أَوْ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ فَهُوَ الَّذِي يُؤْمَرُ بِالْمُشَاوَرَةِ فِيهَا ، لِيَتَنَبَّهَ بِمُذَاكَرَتِهِمْ وَمُنَاظَرَتِهِمْ عَلَى مَا يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ ، حَتَّى يَسْتَوْضِحَ بِهِمْ طَرِيقَ الِاجْتِهَادِ فَيَحْكُمُ بِاجْتِهَادِهِ دُونَ اجْتِهَادِهِمْ . فَإِنْ لَمْ يُشَاوِرْ ، وَحَكَمَ نُفِّذَ حُكْمُهُ ، إِذَا لَمْ يُخَالِفْ فِيهِ نَصًّا أَوْ إِجْمَاعًا أَوْ قِيَاسًا جَلِيًّا غَيْرَ مُحْتَمَلٍ . [ بَيْنَ الْقَاضِي وَأَهْلِ الشُّورَى ] : وَلَيْسَ عَلَى أَهْلِ الشُّورَى إِذَا خَالَفُوهُ فِي حُكْمِهِ أَنْ يُعَارِضُوهُ فِيهِ وَلَا يَمْنَعُوهُ مِنْهُ إِذَا كَانَ مُسَوِّغًا فِي الِاجْتِهَادِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ كَانَ أَعْلَمَ مِنْ مُخَالِفِهِ عَمِلَ عَلَى اجْتِهَادِ نَفْسِهِ ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفُهُ أَعْلَمَ مِنْهُ عَمِلَ عَلَى اجْتِهَادِ مُخَالِفِهِ : لِقَوْلِ اللَّهِ : فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [ النَّحْلِ : ] .

وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [ النِّسَاءِ : ] . وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ اجْتَهَدُوا فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ، وَلَمْ يُقَلِّدْ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، مَعَ تَفَاضُلِهِمْ فِي الْعِلْمِ : وَلِأَنَّ مَعَهُ آلَةَ الِاجْتِهَادِ لِتُوَصِّلَهُ إِلَى دَرْكِ الْمَطْلُوبِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ التَّقْلِيدُ كَالتَّقْلِيدِ فِي التَّوْحِيدِ . وَالْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى تَقْلِيدِ الْعَامِّيِّ لِأَنَّهُ قَالَ : إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى سُؤَالِ الْمُسْتَشَارِ فِي الْمُذَاكَرَةِ وَالْكَشْفِ . فَلَوْ لَمْ يَصِلِ الْقَاضِي بِاجْتِهَادِهِ إِلَى حُكْمِ الْحَادِثَةِ فَفِي جَوَازِ تَقْلِيدِهِ فِيهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ يَجُوزُ أَنْ يُقَلِّدَ فِيهَا ، لِلضَّرُورَةِ ، وَيَحْكُمَ لِأَنَّهُ مَا مِنْ عَالَمٍ إِلَّا وَيَجُوزُ أَنْ يُشْكَلَ عَلَيْهِ أَحْكَامُ بَعْضِ الْحَوَادِثِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَلِّدَ فِي قَضَائِهِ وَيَسْتَخْلِفَ عَلَيْهَا مَنْ يَحْكُمُ بِاجْتِهَادِهِ إِنْ ضَاقَ وَقْتُ الْحَادِثَةِ لِأَنَّ الْحَاكِمَ مُلْزَمٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَلْزَمَ مَا لَا يَعْتَقِدُ لُزُومَهُ .

شُرُوطُ مَنْ يُشَاوِرُهُ الْقَاضِي

شُرُوطُ مَنْ يُشَاوِرُهُ الْقَاضِي : مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : وَلَا يُشَاوِرُ إِذَا نَزَلَ بِهِ الْمُشْكِلُ إِلَّا عَالِمًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْآثَارِ وَأَقَاوِيلِ النَّاسِ وَالْقِيَاسِ وَلِسَانِ الْعَرَبِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ وَهَذِهِ شُرُوطُ مَنْ يُشَاوِرُهُ الْقَاضِي فِي الْأَحْكَامِ وَمَجْمُوعِهَا : إِنَّ كُلَّ مَنْ صَحَّ أَنْ يُفْتِيَ فِي الشَّرْعِ صَحَّ أَنْ يُشَاوِرَهُ الْقَاضِي فِي الْأَحْكَامِ فَتُعْتَبَرُ فِيهِ شُرُوطُ الْمُفْتِي وَلَا تُعْتَبَرُ فِيهِ شُرُوطُ الْقَاضِي . فَيَجُوزُ أَنْ يُشَاوِرَ الْأَعْمَى وَالْعَبْدَ وَالْمَرْأَةَ حكم مشورة وَإِنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاضِيًا : لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَفْتَى وَيُفْتِيَ . وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْمُفْتِي شَرْطَانِ : أَحَدُهُمَا : الْعَدَالَةُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْمُخْبِرِ دُونَ الشَّاهِدِ ، لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ وَسَلَامَةَ الْبَصَرِ يُعْتَبَرَانِ فِي الشَّاهِدِ وَلَا يُعْتَبَرَانِ فِي الْمُفْتِي وَالْمُخْبِرِ . وَالشَّرْطُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِي النَّوَازِلِ وَالْأَحْكَامِ . وَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ إِذَا أَحَاطَ عِلْمُهُ بِخَمْسَةِ أُصُولٍ :

أَحَدُهَا : عِلْمُهُ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فِي مَعْرِفَةِ نَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ وَمُحْكَمِهِ وَمُتَشَابِهِهِ وَمُفَسِّرِهِ وَمُجْمَلِهِ وَعُمُومِهِ وَخُصُوصِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَقُمْ بِتِلَاوَتِهِ . وَالثَّانِي : عِلْمُهُ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَعْرِفَةِ أَخْبَارِ التَّوَاتُرِ وَالْآحَادِ وَصِحَّةِ الطُّرُقِ وَالْإِسْنَادِ ، وَمَا تَقَدَّمَ مِنْهَا وَمَا تَأَخَّرَ ، وَمَا كَانَ عَلَى سَبَبٍ وَغَيْرِ سَبَبٍ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْهَا مُسْنَدَةً إِذَا عَرَفَهَا مِنْ وُجُوهِ الصِّحَّةِ . وَالثَّالِثُ : عِلْمُهُ بِالْإِجْمَاعِ وَالِاخْتِلَافِ وَأَقَاوِيلِ النَّاسِ لِيَتْبَعَ الْإِجْمَاعَ وَيَجْتَهِدَ فِي الْمُخْتَلِفِ . وَالرَّابِعُ : عِلْمُهُ بِالْقِيَاسِ مَا كَانَ مِنْهُ جَلِيًّا أَوْ خَفِيًّا وَقِيَاسِ الْمَعْنَى وَقِيَاسِ الشَّبَهِ وَصِحَّةِ الْعِلَلِ وَفَسَادِهَا . وَالْخَامِسُ : عِلْمُهُ بِالْعَرَبِيَّةِ فِيمَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَيْهِ مِنَ اللُّغَةِ وَالْإِعْرَابِ ، لِأَنَّ لِسَانَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَرَبِيٌّ ، فَيَعْرِفُ لِسَانَ الْعَرَبِ ، مِنْ صِيغَةِ أَلْفَاظِهِمْ وَمَوْضُوعِ خِطَابِهِمْ لِيُفَرِّقَ بَيْنَ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ ، وَحُكْمِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي ، وَالنَّدْبِ وَالْإِرْشَادِ ، وَالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ . فَإِذَا أَحَاطَ عِلْمًا بِهَذِهِ الْأُصُولِ الْخَمْسَةِ وَأَشْرَفَ عَلَيْهَا وَإِنْ لَمْ يَصِرْ أَعْلَمَ النَّاسِ بِهَا إِذَا تَبَيَّنَهَا عَلِمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ - جَازَ أَنْ يُفْتِيَ وَجَازَ أَنْ يُسْتَفْتَى . وَجَازَ أَنْ يُشَاوِرَهُ الْقَاضِي فِي الْأَحْكَامِ النَّازِلَةِ ، وَسَوَاءٌ وَافَقَ الْقَاضِي عَلَى مَذْهَبِهِ أَوْ خَالَفَهُ ، لِأَنَّهُ لَا يَقْتَنِعُ مِنْهُ بِالْجَوَابِ حَتَّى يَسْأَلَهُ عَنِ الدَّلِيلِ وَالتَّعْلِيلِ . فَإِنْ كَانَ فَاسِقًا لَمْ يَعْمَلْ عَلَى قَوْلِهِ فِيمَا تَعَلَّقَ بِالنَّقْلِ وَالرِّوَايَةِ وَالْفُتْيَا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [ الْحُجُرَاتِ : ] . وَاخْتُلِفَ فِي جَوَازِ مُبَاحَثَتِهِ فِيمَا تَعَلَّقَ بِالْمَعَانِي وَالِاسْتِنْبَاطِ فَمَنَعَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ مُبَاحَثَتِهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَوْثُوقٍ بِهِ حَذِرًا مِمَّا يَسْتَحْدِثُهُ مِنْ شُبْهَةٍ فَاسِدَةٍ ، وَأَجَازَهُ آخَرُونَ لِأَنَّهُ رُبَّمَا انْكَشَفَ بِمُنَاظَرَتِهِ وَجْهُ الصَّوَابِ إِذْ لَيْسَ يُؤْخَذُ بِقَوْلِهِ وَإِنَّمَا يُعْمَلُ عَلَى مَا تَنْتَهِي إِلَيْهِ الْمُنَاظَرَةُ مِنْ وُضُوحِ الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ . وَلَا يُعَوِّلُ الْقَاضِي عَلَى مُشَاوَرَةِ الْوَاحِدِ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَ عَدَدٍ يَنْكَشِفُ بِمُنَاظَرَتِهِمْ مَا غَمُضَ وَيَتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى مَا خَفِيَ وَلَا يُقَلِّدُهُمْ وَإِنْ كَانُوا عَدَدًا حَتَّى يَصِلَ إِلَى عِلْمِ الْحَادِثَةِ بِمَا يَقْتَضِيهِ الدَّلِيلُ وَيُوجِبُهُ التَّعْلِيلُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَلَا يَقْبَلُ وَإِنْ كَانَ أَعْلَمَ مِنْهُ حَتَّى يَعْلَمَ كَعِلْمِهِ أَنَّ ذَلِكَ لَازِمٌ لَهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ تَخْتَلِفِ الرِّوَايَةُ فِيهِ أَوْ بِدَلَالَةٍ عَلَيْهِ أَوْ أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ وَجْهًا أَظْهَرَ مِنْهُ .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ القاضي بِالْمُشَاوَرَةِ لِلتَّقْلِيدِ وَإِنَّمَا أُمِرَ بِهَا لِأَمْرَيْنِ بِالْمُشَاوَرَةِ لِلتَّقْلِيدِ وَإِنَّمَا أُمِرَ بِهَا لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لِيَتَوَصَّلَ بِهَا إِلَى مَعْرِفَةِ مَا لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ مِنَ الْأَدِلَّةِ ، وَرُبَّمَا خَفِيَتْ عَلَيْهِ سُنَّةٌ عَلِمَ بِهَا الْمُسْتَشَارُ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهَا الْمُسْتَشِيرُ . وَالثَّانِي : لِيَسْتَوْضِحَ بِمُنَاظَرَتِهِمْ طُرُقَ الِاجْتِهَادِ وَالتَّوَصُّلِ إِلَى غَوَامِضِ الْمَعَانِي ، فَإِنَّ بِاجْتِمَاعِ الْخَوَاطِرِ فِي الْمُنَاظَرَةِ يَكْمُلُ الِاسْتِيضَاحُ وَالْكَشْفُ فَلِذَلِكَ كَانَ مَأْمُورًا بِهَا .

الْقَوْلُ فِي التَّقْلِيدِ

[ الْقَوْلُ فِي التَّقْلِيدِ ] : مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : " فَأَمَّا أَنْ يُقَلِّدَهُ فَلَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ ذَلِكَ لِأَحَدٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - . أَمَّا التَّقْلِيدُ تعريفه فَهُوَ قَبُولُ قَوْلٍ بِغَيْرِ دَلِيلٍ . مَأْخُوذٌ مِنْ قِلَادَةِ الْعُنُقِ ، لِأَنَّهُ قَدْ جَعَلَ قَبُولَ قَوْلِهِ كَالْقِلَادَةِ فِي عُنُقِهِ . وَهُوَ ضَرْبَانِ : ضَرْبٌ : أُمِرْنَا بِهِ وَضَرْبٌ نُهِينَا عَنْهُ . فَأَمَّا الْمَأْمُورُ بِهِ فَالتَّقْلِيدُ فِي الْأَخْبَارِ وَالشَّهَادَةِ وَتَقْلِيدِ الْعَامِّيِّ لِلْعَالَمِ مأمور به فِيمَا يَخْتَصُّ بِهِ مِنْ عِلْمٍ ، وَقَدِ اسْتَوْفَيْنَاهُ مَشْرُوحًا فِي أَوَّلِ كِتَابِنَا هَذَا . فَأَمَّا الْمَنْهِيُّ عَنْهُ : فَهُوَ التَّقْلِيدُ فِيمَا يَعْتَقِدُهُ عِلْمًا ، أَوْ يَقْضِي بِهِ حُكْمًا منهي عنه ، وَيُفْتِي بِهِ إِخْبَارًا ، فَهُوَ مَحْظُورٌ ، لَا يَسْتَقِرُّ بِهِ عِلْمٌ ، وَلَا يَصِحُّ بِهِ حُكْمٌ ، وَلَا تَجُوزُ بِهِ فُتْيَا ، وَيَسْتَوِي فِي حَظْرِهِ تَقْلِيدُ مَنْ عَاصَرَهُ وَمَنْ تَقَدَّمَهُ وَسَوَاءٌ سَاوَاهُ فِي الْعِلْمِ أَوْ زَادَ عَلَيْهِ . وَجَوَّزَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ تَقْلِيدَ عُلَمَاءِ السَّلَفِ . وَمَنْ عَاصَرَهُ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَيْهِ فِي الْعِلْمِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [ النَّحْلِ : ] . وَجَوَّزَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ تَقْلِيدَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ حكمه ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ " . وَجَوَّزَ آخَرُونَ مِنْهُمْ تَقْلِيدَ الصَّحَابَةِ دُونَ التَّابِعِينَ حكمه لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ " .

وَجَوَّزَ آخَرُونَ مِنْهُمْ تَقْلِيدَ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ مِنَ الصَّحَابَةِ دُونَ غَيْرِهِمْ حكمه لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي " . وَجَوَّزَ آخَرُونَ تَقْلِيدَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - خَاصَّةً لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ " . وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ التَّقْلِيدِ ، وَوُجُوبِ الرُّجُوعِ إِلَى أَدِلَّةِ الْأُصُولِ الدليل على ذم التقليد ، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [ الشُّورَى : ] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى : لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ " [ النِّسَاءِ : ] . فَنَفَى أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِ الْمُسْتَنْبِطِ عِلْمٌ . وَرُوِي أَنَّ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي عُنُقِهِ صَلِيبٌ أَوْ وَثَنٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ . فَقَالَ عَدِيٌّ : مَا اتَّخَذُوهُمْ أَرْبَابًا فَقَالَ : أَلَيْسَ يُحَرِّمُونَ عَلَيْهِمْ مَا حَلَّ وَيُحِلُّونَ لَهُمْ مَا حُرِّمَ ؟ " قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ " فَتِلْكَ الْعِبَادَةُ . وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ الْمُقَلِّدِ مِنْ أَنْ يُقَلِّدَ جَمِيعَ النَّاسِ أَوْ بَعْضَهُمْ فَإِنْ قَلَّدَ جَمِيعَ النَّاسِ لَمْ يُمْكِنْهُ لِاخْتِلَافِهِمْ ، وَإِنْ قَلَّدَ بَعْضَهُمْ لَمْ يَكُنْ قَوْلُ مَنْ قَلَّدَهُ بِأَوْلَى مِنْ تَرْكِهِ فَإِنْ رَجَّحَ صَارَ مُسْتَدِلًّا . ثُمَّ يُقَالُ لِمَنْ قَلَّدَ : صِرْتَ إِلَى التَّقْلِيدِ بِدَلِيلٍ أَوْ بِغَيْرِ دَلِيلٍ ؟ فَإِنْ قَالَ بِدَلِيلٍ نَاقَضَ قَوْلَهُ صَارَ مُسْتَدِلًّا وَغَيْرَ مُقَلِّدٍ . وَإِنْ قَالَ بِغَيْرِ دَلِيلٍ قِيلَ : فَهَلَّا قَلَّدْتَ مَنْ قَالَ بِإِبْطَالِ التَّقْلِيدِ فَلَا يَجِدُ مِنْهُ انْفِصَالًا إِلَّا بِدَلِيلٍ فَبَطَلَ التَّقْلِيدُ بِالدَّلِيلِ . وَفِي أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالِاقْتِدَاءِ بِأَصْحَابِهِ مَا يُوجِبُ تَرْكَ التَّقْلِيدِ لِأَنَّهُمْ حِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْجِدِّ وَالْعَوْلِ وَغَيْرِهِ اسْتَدَلُّوا وَلَمْ يُقَلِّدْ بَعْضُهُمْ بَعْضًا .

فَصْلٌ الْقَوْلُ فِي وُجُوبِ النَّظَرِ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ

فَصْلٌ : [ الْقَوْلُ فِي وُجُوبِ النَّظَرِ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ حكمه بالنسبة للقاضي ] . فَإِذَا تَقَرَّرَ فَسَادُ التَّقْلِيدِ وَجَبَ النَّظَرُ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ لِيَصِلَ إِلَى الْعِلْمِ بِمُوجَبِهَا . وَأَبْطَلَ قَوْمٌ وُجُوبَ النَّظَرِ وَعَوَّلُوا عَلَى الْإِلْهَامِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا [ الْحَجِّ : ] . فَحَمَلُوهُ عَلَى إِلْهَامِ الْقُلُوبِ هل يصح اعْتِبَارِهَا للإستدلال الشرعي ؟ دُونَ اعْتِبَارِهَا . وَهَذَا تَأْوِيلٌ فَاسِدٌ وَقَوْلٌ مُطَّرِحٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ

[ فُصِّلَتْ : ] . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ رُؤْيَةَ الْآيَاتِ تَدُلُّ عَلَى الْحَقِّ دُونَ الْإِلْهَامِ ، وَقَالَ تَعَالَى : وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [ الشُّورَى : ] . يَعْنِي إِمَّا بِالنَّصِّ عَلَى حُكْمِهِ ، وَإِمَّا بِالنَّصِّ عَلَى أَصْلِهِ ، وَلَمْ يَجْعَلْ لِإِلْهَامِ الْقُلُوبِ عِلْمًا بِغَيْرِ أَصْلٍ . ثُمَّ يُقَالُ : لِمَنْ أَثْبَتَ الْمَعَارِفَ بِالْإِلْهَامِ لِمَ قُلْتَ بِالْإِلْهَامِ ؟ فَإِنِ اسْتَدَلَّ نَاقَضَ ، وَإِنْ قَالَ قُلْتُهُ بِالْإِلْهَامِ فَعَنْهُ سُئِلَ ، فَيُقَالُ لَهُ انْفَصِلْ عَمَّنِ ادَّعَى الْإِلْهَامَ فِي إِبْطَالِ الْإِلْهَامِ ، وَانْفَصِلْ عَمَّنِ ادَّعَى الْإِلْهَامَ بِخِلَافِ إِلْهَامِكَ فِي جَمِيعِ أَقْوَالِكَ .

فَصْلٌ السَّبَبُ الْمُؤَدِّي إِلَى مَعْرِفَةِ الْأُصُولِ الشَّرْعِيَّةِ

فَصْلٌ : [ السَّبَبُ الْمُؤَدِّي إِلَى مَعْرِفَةِ الْأُصُولِ الشَّرْعِيَّةِ ] . فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ النَّظَرِ فِي الْأُصُولِ الشَّرْعِيَّةِ فَالسَّبَبُ الْمُؤَدِّي إِلَى مَعْرِفَتِهَا وَالْعَمَلِ بِهَا شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : عِلْمُ الْحَقِّ وَهُوَ الْعَقْلُ : لِأَنَّ حُجَجَ الْعَقْلِ أَصْلٌ لِمَعْرِفَةِ الْأُصُولِ إِذْ لَيْسَ تُعْرَفُ صِحَّةُ الْأُصُولِ إِلَّا بِحُجَجِ الْعُقُولِ . وَلِذَلِكَ لَمْ يَرِدِ الشَّرْعُ إِلَّا بِمَا أَوْجَبَهُ الْعَقْلُ أَوْ جَوَّزَهُ وَلَمْ يَرِدْ بِمَا حَظَرَهُ الْعَقْلُ وَأَبْطَلَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [ الْعَنْكَبُوتِ : مَعْنَاهُ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَاقِلُونَ لِقَوْلِهِ : إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى [ طه : ] . يَعْنِي أُولِي الْعُقُولِ . فَصَارَتْ حُجَجُ الْعُقُولِ قَاضِيَةً عَلَى حُجَجِ السَّمْعِ وَمُؤَدِّيَةً إِلَى عِلْمِ الِاسْتِدْلَالِ ، وَلِذَلِكَ سَمَّى كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْعَقْلَ أُمَّ الْأُصُولِ . وَالسَّبَبُ الثَّانِي فِي مَعْرِفَةِ الْأُصُولِ الشَّرْعِيَّةِ مَعْرِفَةُ لِسَانِ الْعَرَبِ : وَهُوَ مُعْتَبَرٌ فِي حُجَجِ السَّمْعِ خَاصَّةً ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [ إِبْرَاهِيمَ : ] . لِأَنَّهُ لَا يُخَاطِبُهُمْ إِلَّا بِمَا يُفْهَمُ عَنْهُ لِيَكُونَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ وَلَهُمْ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [ النَّحْلِ : ] . فَاحْتَاجَ النَّاظِرُ إِلَى مَعْرِفَةِ لِسَانِهِمْ ، وَمَوْضُوعِ خِطَابِهِمْ ، لِيُفَرِّقَ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ ، وَبَيْنَ الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ ، وَبَيْنَ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ ، وَبَيْنَ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ ، وَبَيْنَ الْمُفَسَّرِ وَالْمُجْمَلِ ، وَبَيْنَ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ ، وَيُفَرِّقَ بَيْنَ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ ، وَيَعْرِفُ صِيغَةَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي . فَإِنْ قَصُرَ عَنْهَا لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ النَّظَرُ . وَلَسْنَا نَعْنِي أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِجَمِيعِ لُغَتِهِمْ وَإِعْرَابِ كَلَامِهِمْ ، لِأَنَّ التَّشَاغُلَ بِهِ يَقْطَعُهُ عَنْ عِلْمِ مَا سِوَاهُ ، وَإِنَّمَا نُرِيدُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِمَوْضُوعِ كَلَامِهِمْ وَمَشْهُورِ خِطَابِهِمْ وَهُوَ

مُشْتَمِلٌ عَلَى أَرْبَعَةِ وُجُوهٍ : أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَخَبَرٌ وَاسْتِخْبَارٌ . فَأَمَّا مَنْ لَا يَقْصِدُ النَّظَرَ الْمُؤَدِّيَ إِلَى الْعِلْمِ فَالَّذِي يَلْزَمُهُ مِنْ مَعْرِفَةِ الْعَرَبِيَّةِ مَا يَجِبُ أَنْ يَتْلُوَهُ فِي صَلَاتِهِ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْأَذْكَارِ دُونَ غَيْرِهِ . فَإِذَا جَمَعَ النَّاظِرُ بَيْنَ هَذَيْنِ الشَّيْئَيْنِ مِنْ عِلْمِ الْحَوَاسِّ وَلِسَانِ الْعَرَبِ صَحَّ مِنْهُ النَّظَرُ فِي الْأُصُولِ وَكَانَا أَصْلَيْنِ فِي الْعِلْمِ بِهَا . وَقَدِ اخْتَلَفَ فِي الْعِبَارَةِ عَنِ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ والمراد منهما ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : الْأَصْلُ مَا دَلَّ عَلَى غَيْرِهِ ، وَالْفَرْعُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ غَيْرُهُ . فَعَلَى هَذِهِ الْعِبَارَةِ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ فَرْعٌ لِعِلْمِ الْحِسِّ ، لِأَنَّهُ الدَّالُّ عَلَى صِحَّتِهِ . وَقَالَ آخَرُونَ : الْأَصْلُ مَا تَفَرَّعَ عَنْهُ غَيْرُهُ ، وَالْفَرْعُ مَا تَفَرَّعَ عَنْ غَيْرِهِ فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ فَرْعٌ لِعِلْمِ الْحِسِّ ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَوَلَّاهُ وَجَعَلَهُ أَصْلًا دَلَّ الْعَقْلُ عَلَيْهِ .

فَصْلٌ الْأُصُولُ الشَّرْعِيَّةُ

الْكِتَابُ

فَصْلٌ : [ الْأُصُولُ الشَّرْعِيَّةُ ] . فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فَالْأُصُولُ الشَّرْعِيَّةُ أَرْبَعَةٌ : الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ الأصول الشرعية . أَوَّلًا : الْكِتَابُ . فَالْأَصْلُ الْأَوَّلُ هُوَ كِتَابُ اللَّهِ : الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ [ الْجَاثِيَةِ : ] . وَقَالَ : مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [ الْأَنْعَامِ : ] . وَقَالَ : وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [ الشُّورَى : ] . مَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ : وَكِتَابُ اللَّهِ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ وُجُوهٍ : أَمْرٍ وَنَهْيٍ وَخَبَرٍ . وَلَيْسَ فِيهِ اسْتِخْبَارٌ لِعِلْمِهِ بِمَا كَانَ وَيَكُونُ . وَمَا وَرَدَ فِيهِ عَلَى صِيغَةِ الِاسْتِخْبَارِ وَالِاسْتِفْهَامِ فَالْمُرَادُ بِهِ تَقْرِيرٌ أَوْ وَعِيدٌ . وَقَدْ حُدَّ مَا فِيهِ بِأَخَصَّ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ فَقِيلَ : إِنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى إِعْلَامٍ وَإِلْزَامٍ . فَالْإِعْلَامُ : وَعْدٌ أَوْ وَعِيدٌ ، وَلَيْسَ يَخْلُو مَا فِيهِ مِنَ النُّصُوصِ مِنْ أَنْ يُرَادَ بِهِ وَعْدٌ أَوْ وَعِيدٌ . وَالْإِلْزَامُ أَمْرٌ وَنَهْيٌ . فَالْأَمْرُ مَا تُعُبِّدَ بِفِعْلِهِ .

وَالنَّهْيُ مَا تُعُبِّدَ بِتَرْكِهِ . أَقْسَامُ الْأَمْرِ : وَالْأَمْرُ : يَنْقَسِمُ بِالْقَرَائِنِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : وَاجِبٌ وَاسْتِحْبَابٌ وَمُبَاحٌ . فَإِنْ تَجَرَّدَ عَنْ قَرِينَةٍ كَانَ مَحْمُولًا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ عَلَى الْوُجُوبِ إِلَّا بِدَلِيلٍ يَصْرِفُهُ إِلَى الِاسْتِحْبَابِ أَوِ الْإِبَاحَةِ . وَذَهَبَ غَيْرُهُ إِلَى أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى الْوُجُوبِ . وَقَالَ آخَرُونَ : هُوَ مَوْقُوفٌ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى الْمُرَادِ بِهِ لِاحْتِمَالِهِ . وَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ أَوْلَى ، لِفِرَقِ مَا بَيْنَ وُرُودِ الْأَمْرِ وَعَدَمِهِ . أَقْسَامُ النَّهْيِ : وَالنَّهْيُ يَنْقَسِمُ بِالْقَرَائِنِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : تَحْرِيمٌ وَكَرَاهَةٌ وَتَنْزِيهٌ : فَإِنْ تَجَرَّدَ عَنْ قَرِينَةٍ كَانَ مَحْمُولًا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ عَلَى التَّحْرِيمِ وَفَسَادِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ إِلَّا أَنْ يَصْرِفَهُ دَلِيلٌ إِلَى غَيْرِهِ . وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي فِعْلَ الْمَأْمُورِ مَرَّةً وَاحِدَةً ، وَلَا يُحْمَلُ عَلَى التَّكْرَارِ إِلَّا بِدَلِيلٍ . وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي تَرْكَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ عَلَى الدَّوَامِ وَلَا يُجْعَلُ مُوَقَّتًا إِلَّا بِدَلِيلٍ . وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَوْرَ ، وَلَا يُحْمَلُ عَلَى التَّرَاخِي إِلَّا بِدَلِيلٍ . وَفِيمَا يَقْتَضِيهِ مُطْلَقُ الْأَمْرِ مِنَ الْفَوْرِ أَوِ التَّرَاخِي وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْفَوْرِ كَالنَّهْيِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى التَّرَاخِي . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى التَّرَاخِي حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى الْفَوْرِ . وَقَدْ يَرِدُ الْأَمْرُ بِلَفْظِ الْخَبَرِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ [ الْبَقَرَةِ : ] . فَيُحْمَلُ عَلَى حُكْمِ الْأَمْرِ . وَيَجُوزُ أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ النَّسْخُ . وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ مَا وَرَدَ بِلَفْظِ الْخَبَرِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ نَسْخٌ كَالْخَبَرِ . وَهَذَا فَاسِدٌ ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ فَكَانَ عَلَى حُكْمِهِ . وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مُتَوَجِّهٌ إِلَى جَمِيعِ الْأَحْرَارِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ . وَفِي دُخُولِ الْعَبِيدِ فِي مُطْلَقِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : يَدْخُلُونَ فِيهِ لِتَوَجُّهِ التَّكْلِيفِ إِلَيْهِمْ وَلَا يَخْرُجُونَ مِنْهُ إِلَّا بِدَلِيلٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِمْ وَيَخْرُجُونَ مِنْهُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ لِأَنَّهُمْ أَتْبَاعٌ .

وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ إِنْ تَضَمَّنَ الْخِطَابُ وَعِيدًا تَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ كَالْأَحْرَارِ وَلَمْ يَخْرُجُوا مِنْهُ إِلَّا بِدَلِيلٍ وَإِنْ تَضَمَّنَ مِلْكًا أَوْ عَقْدًا أَوْ وِلَايَةً خَرَجُوا مِنْهُ وَلَمْ يَدْخُلُوا فِيهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ . وَإِذَا وَرَدَ الْكِتَابُ بِاللَّفْظِ الْمُذَكَّرِ تَوَجَّهَ إِلَى الرِّجَالِ وَلَمْ تَدْخُلْ فِيهِ النِّسَاءُ إِلَّا بِدَلِيلٍ ، كَمَا لَوْ وَرَدَ بِلَفْظِ الْمُؤَنَّثِ تَوَجَّهَ إِلَى النِّسَاءِ وَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الرِّجَالُ إِلَّا بِدَلِيلٍ . وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَذَلِكَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ . وَالْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ مِنِ افْتِرَاقِهِمَا فِي اللَّفْظِ الْمُؤَنَّثِ دَلِيلٌ يُوجِبُ افْتِرَاقَهُمَا فِيمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ اللَّفْظِ الْمُذَكَّرِ . وَأَمَّا مَا تَضَمَّنَتْهُ شَرَائِعُ مَنْ قَبْلَنَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي ما يلزمنا منه فَمَا لَمْ يَقُصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْنَا فِي كِتَابِهِ لَمْ يَلْزَمْنَا حُكْمُهُ لِانْتِفَاءِ الْعِلْمِ بِصِحَّتِهِ ، وَمَا قَصَّهُ عَلَيْنَا فِي كِتَابِهِ لَزِمَنَا مِنْهُ مَا شَرَعَهُ إِبْرَاهِيمُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [ النَّحْلِ : ] . وَفِي لُزُومِ مَا شَرَعَهُ غَيْرُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَلْزَمُ مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى نَسْخِهِ لِكَوْنِهِ حَقًّا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَلْزَمُ إِلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِهِ وَلَيْسَ فِي أَصْلِهِ مَنْسُوخًا .

مَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ

الْقِسْمُ الْأَوَّلُ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ

فَصْلٌ : وَالَّذِي يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ كِتَابُ اللَّهِ مِنَ النُّصُوصِ فِي الْأَحْكَامِ قِيلَ إِنَّهَا خَمْسُمِائَةِ آيَةٍ . تَنْقَسِمُ سِتَّةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ . وَالثَّانِي : الْمُجْمَلُ وَالْمُفَسَّرُ . وَالثَّالِثُ : الْمُطْلَقُ وَالْمُقَيَّدُ . وَالرَّابِعُ : الْإِثْبَاتُ وَالنَّفْيُ . وَالْخَامِسُ : الْمُحْكَمُ وَالْمُتَشَابِهُ . وَالسَّادِسُ : النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ . [ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ ] . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ : فَالْعُمُومُ مأخذه وأقله هُوَ الْجَمْعُ وَالِاشْتِرَاكُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ قَدْ عَمَّ الْأَمْنُ وَالْخِصْبُ .

وَأَقَلُّ الْعُمُومِ ثَلَاثَةٌ هِيَ أَقَلُّ الْجَمْعِ ، وَمَنْ جَعَلَ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَيْنِ جَعَلَهُمَا أَقَلَّ الْعُمُومِ . وَالْخُصُوصُ مأخذه وأقله : هُوَ الِانْفِرَادُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ زَيْدٌ مَخْصُوصٌ بِالشَّجَاعَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أَشْجَعُ مِنْهُ . وَأَقَلُّ الْخُصُوصِ وَاحِدٌ . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخُصُوصُ مَخْرَجًا لِأَقَلِّ الْعُمُومِ وَأَكْثَرِهِ إِذَا انْطَلَقَ عَلَى الْبَاقِي اسْمُ الْعُمُومِ كَالِاسْتِثْنَاءِ وَيَكُونُ الْمَخْصُوصُ غَيْرَ مُرَادٍ بِالْعُمُومِ بِخِلَافِ النَّسْخِ ، وَيَصِيرُ الْمُرَادُ بِالْعُمُومِ هُوَ لِلْبَاقِي مِنْهُ بَعْدَ الْمَخْصُوصِ . وَيَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ الْمُطْلَقِ . وَمَنَعَ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ تَخْصِيصِ مَا أُكِّدَ ؛ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِوُجُودِ الِاحْتِمَالِ بَعْدَ التَّأْكِيدِ كَوُجُودِهِ مِنْ قَبْلُ . فَأَمَّا الْأَحْوَالُ : فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا لَمْ يَخْلُ الْعُمُومُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ مِنَ الدَّلَائِلِ أَوْ شَوَاهِدِ الْأَحْوَالِ مَا يُوجِبُ حَمْلَهُ عَلَى عُمُومِهِ فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى مُقْتَضَى الْعُمُومِ ، مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ [ النِّسَاءِ : ] . وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْعُمُومِ فِي تَحْرِيمِ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَخْصِيصِهِ ، مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الْآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ [ الْمَائِدَةِ : ، ] . فَخَصَّ مِنْ عُمُومِ الْقَتْلِ التَّائِبَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ ؛ فَوَجَبَ أَنْ يُسْتَعْمَلَ هَذَا الْعُمُومُ عَلَى مَا اقْتَضَاهُ التَّخْصِيصُ . الْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ الْعُمُومُ مُطْلَقًا لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ . فَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَا يُوجِبُهُ إِطْلَاقُهُ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الظَّاهِرِ أَنَّهُ لَا صِيغَةَ لِلْعُمُومِ تُوجِبُ الْعَمَلَ بِهَا ، وَالْوَاجِبُ فِيهِ التَّوَقُّفُ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى الْمُرَادِ بِهِ كَالْمُجْمَلِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ الِاحْتِمَالِ . وَالثَّانِي - وَهُوَ مَذْهَبُ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّ الْوَاجِبَ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى عُمُومِهِ مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى تَخْصِيصِهِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ وَلَا اجْتِهَادٍ امْتِثَالًا لِمُوجَبِ الْأَمْرِ . وَالثَّالِثُ : وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْعِرَاقِ أَنَّهُ قَبْلَ التَّخْصِيصِ مُسْتَعْمَلٌ عَلَى عُمُومِهِ مِنْ

غَيْرِ اجْتِهَادٍ وَلَا نَظَرٍ ، وَبَعْدَ التَّخْصِيصِ مُجْمَلٌ لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا بَعْدَ الْبَيَانِ : لِأَنَّهُ قَبْلَ التَّخْصِيصِ جَلِيٌّ ، وَبَعْدَ التَّخْصِيصِ خَفِيٌّ . وَالرَّابِعُ : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ لِمُطْلَقِ الْعُمُومِ صِيغَةً تُوجِبُ النَّظَرَ وَالِاجْتِهَادَ فِي أَدِلَّةِ تَخْصِيصِهِ ، فَإِنْ وُجِدَ مَا يَخُصُّهُ اسْتُعْمِلَ بَاقِيهِ بَعْدَ تَخْصِيصِهِ ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مَا يَخُصُّهُ أُجْرِيَ عَلَى عُمُومِهِ ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ قَبْلَ النَّظَرِ وَلَا يَصِيرُ مُجْمَلًا بَعْدَ التَّخْصِيصِ ، لِأَنَّهُ قَبْلَ النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ مُتَكَافِئُ الِاحْتِمَالِ ، وَبَعْدَ إِمْعَانِ النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ مُتَرَجِّحُ الِاسْتِعْمَالِ ، وَلَيْسَ لِزَمَانِ النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ وَقْتٌ مُقَدَّرٌ وَإِنَّمَا هُوَ مُعْتَبِرٌ بِمَا يُؤَدِّيهِ الِاجْتِهَادُ إِلَيْهِ مِنَ الرَّجَاءِ وَالْإِيَاسِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأَدِلَّةُ التَّخْصِيصِ تُؤْخَذُ مِنْ أَرْبَعَةِ أُصُولٍ : الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ . فَأَمَّا تَخْصِيصُ الْكِتَابِ : فَمِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ [ الْبَقَرَةِ : ] . فَاقْتَضَى عُمُومُهُ إِيجَابَ الْعِدَّةِ عَلَى كُلِّ مُطَلَّقَةٍ فَخَصَّ مِنْهُ الْمُطَلَّقَةَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا [ الْأَحْزَابِ : ] . وَأَمَّا تَخْصِيصُ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ : فَمِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [ الْمَائِدَةِ : ] . خَصَّهُ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " لَا قَطْعَ فِي أَقَلَّ مِنْ رُبْعِ دِينَارٍ " وَلَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا أَكْثَرَ ، وَمِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ، [ التَّوْبَةِ : ] . وَنَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ . وَأَمَّا تَخْصِيصُ الْكِتَابِ بِالْإِجْمَاعِ : فَمِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى : يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [ النِّسَاءِ : ] . خَصَّهُ الْإِجْمَاعُ فِي أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَرِثُ . وَخَصَّتْهُ السُّنَّةُ فِي أَنَّ الْقَاتِلَ وَالْكَافِرَ لَا يَرِثَانِ فَصَارَا بَعْضَهَا مَخْصُوصًا بِالسُّنَّةِ وَبَعْضَهَا مَخْصُوصًا بِالْإِجْمَاعِ . وَأَمَّا تَخْصِيصُ الْكِتَابِ بِالْقِيَاسِ : فَمِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى : الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [ النُّورِ : ] . ثَمَّ خُصَّتِ الْأَمَةُ بِنِصْفِ الْحَدِّ نَصًّا بِقَوْلِهِ : فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ، [ النِّسَاءِ : ] . ثُمَّ خُصَّ الْعَبْدُ بِنِصْفِ الْحَدِّ قِيَاسًا عَلَى الْأَمَةِ فَصَارَ بَعْضُ الْآيَةِ مَخْصُوصًا بِالْكِتَابِ وَبَعْضُهَا مَخْصُوصًا بِالْقِيَاسِ ، وَمِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ إِلَى قَوْلِهِ فَكُلُوا مِنْهَا [ الْحَجِّ : ] . ثُمَّ خَصَّ الْإِجْمَاعُ تَحْرِيمَ الْأَكْلِ مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ وَخَصَّ الْقِيَاسُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَحْرِيمَ الْأَكْلِ مِنْ هَدْيِ الْمُتْعَةِ ، وَالْقُرْآنُ قِيَاسًا عَلَى جَزَاءِ الصَّيْدِ ؛ فَصَارَ بَعْضُ الْآيَةِ مَخْصُوصًا بِالْإِجْمَاعِ وَبَعْضُهَا مَخْصُوصًا بِالْقِيَاسِ .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110